تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

أبو السعود

مقدمة سبحان من أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وبين له من الشعائر الشرائع كلِّ ما جلَّ ودقَّ أنزل عليه أظهر بينات وأبهر حجج قرآنا عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتاب ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب ناطقاً بكلِّ أمرٍ رشيدٍ هاديا إلى الصراط العزيز الحميد آمرا بعبادة الصمد المعبود كتابا متشابها مثاني تقشعر منه الجلود تكاد الرواسي لهيبته تمور ويذوب منه الحديد ويميع صم الصخور حقيقا بأن يسير به الجبال وييسر به كل صعب محال معجزا أفحم كل مصقع من مهرة قحطان وبكت كل مفلق من سحرة البيان بحيث لو اجتمعتِ الإنسُ والجن على معارضته ومباراته لعجزُوا عن الإتيان بمثل آيه من آياته نزل عليه على فترة من الرسل ليرشد الأمة إلى أقوم السبل فهداهم إلى الحق وهم في ضلال مبين فاضمحل دجى الباطل وسطع نور اليقين فمن أتبع هداه فقد فاز بمناه وأما من عانده وعصاه وإتخذ إلهه هواه فقد هام في موامي الردى وتردى في مهاوي الزور وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله له نورا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ صلى الله عليه وعلى آله الأخيار وصحبه الأبرار ما تناوبت الأنواء وتعاقبت الظلم والأضواء وعلى من تبعهم بإحسان مدى الدهور والأزمان وبعد فيقول العبد الفقير إلى رحمة ربه الهادي أبو السعود محمد بن محمد العمادي إن الغاية القصوى من تحرير نسخة العالم وما كان حرف منها مسطورا والحكمة الكبرى في تخمير طينة آدم ولم يكن شيئا مذكورا ليست إلا معرفة الصانع المجيد وعبادة البارئ المبدئ المعيد ولا سبيل إلى ذاك المطلب الجليل سوى الوقوف على مواقف التنزيل فإنه عز سلطانه وبهر برهانه وإن سطر آيات قدرته في صحائف الأكوان ونصب رايات وحدته في صفائح الأعراض والأعيان وجعل كلُّ ذرةٍ من ذرات العالم وكل قطرة من قطرات العلم وكل نقطة جرى عليها قلم الإبداع وكل حرف رقم في لوح الإختراع مرآة لمشاهدة جماله ومطالعة صفات كماله حجَّةٌ نيِّرةٌ واضحة المكنونِ وآيةٌ بيِّنة لقومٍ يعقلون برهانا جليا لاريب فيه ومنهاجا سويا لا يضِلّ من ينتحيه بل ناطقا يتلو آيات ربه فهل من سامع واعٍ ومجيب صادق فهل له من داعٍ يكلم الناسَ على قدر عقولِهم ويرُدّ جوابَهم بحسب مقولِهم يحاور تارة بأوضح عبارةٍ ويلوّح أخرى

بألطف إشارة لكن الإستدلال بتلك الآيات والدلائل والإستشهاد بتلك الأمارات والمخايل والتنبيه لتلك الإشارات السرية والتفطن لمعاني تلك العبارات العبقرية وما في تضاعيفها من رموز أسرار القضاء والقدر وكنوز آثار التعاجيب والعبر مما لا يطيق به عقول البشر إلا بتوفيق خلاق القوى والقدر فإذن مدار المراد ليس إلا كلام رب العباد إذ هو المظهر لتفاصيل الشعائر الدينية والمفسر لمشكلات الآيات التكوينية والكاشف عن خفايا حظائر القدس والمطلع على خبايا سرائر الأنس وبه تكتسب الملكات الفاخرة وبه يتوصل إلى سعادةِ الدُّنيا والآخرةِ كما وأنه أيضا من علو الشأنِ وسموِّ المكان ونهاية الغموض والإعضال وصعوبة المأخذ وعزة المنال في غايةُ الغاياتِ القاصيةِ ونهايةُ النهايات النائية أعز من بَيْض الأَنُوق وأبعدُ من مَناط العَيُّوق لا يتسنى العروج إلى معارجه الرفيعة ولا يتأتى الرقى إلى مدارجه المنيعة كيف لا وأنه مع كونه متضمنا لدقائق العلوم النظرية والعملية ومنطوبا على دقائق الفنون الخفية والجلية حاويا لتفاصيل الأحكام الشرعية ومحيطا بمناط الدلائل الأصلية والفرعية منبئا عن أسرار الحقائق والنعوت مخبرا بأطوار الملك والملكوت عليه يدور فلك الأوامر والنواهي وإليه يستند معرفة الأشياء كما هي قد نسج على أغرب منوال وأبدع طراز واحتجبت طلعته بسبحات الإعجاز طويت حقائقه الأبية عن العقول وزويت دقائقه الخفية عن أذهان الفحول يرد عيون العقول سبحانه ويخطف أبصار البصائر بريقه ولمعانه ولقد تصدى لتفسير غوامض مشكلاته أساطين أئمة التفسير في كل عصر من الأعصار وتولى لتيسير عويصات معضلاته سلاطين أسرة التقرير والتحرير في كل قطر من الأقطار فغاصوا في لججه وخاضوا في ثبجه فنظموا فرائده في سلك التحرير وأبرزوا فوائده في معرض التقرير وصنفوا كتبا جليلة الأقدار وألفوا زبرا جميلة الآثار أما المتقدمون المحققون فاقتصروا على تمهيد المعاني وتشييد المباني وتبيين المرام وترتيب الأحكام حسبما بلغهم من سيد الأنام عليه شرائف التحية والسلام وأما المتأخرون المدققون فراموا مع ذلك إظهار مزاياه الرائقة وإبداء خباياه الفائقة ليعاين الناس دلائل إعجازه ويشاهدوا شواهد فضله وامتيازه عن سائر الكتب الكريمة الربانية والزبر العظيمة السبحانية فدونوا أسفارا بارعة جامعة لفنون المحاسن الرائعة يتضمن كل منها فوائد شريفة تقر بها عيون الأعيان وعوائد لطيفة يتشنف بها آذان الأذهان لا سيما الكشاف وأنوار التنزيل المتفردان بالشأن الجليل والنعت الجميل فإن كلا منهما قد أحرز قصب السبق أي إحراز كأنه مرآة لا جتلاء وجه الإعجاز صحائفهما مرايا المزايا الحسان وسطورهما عقود الجمان وقلائد العقبان ولقد كان في سوابق الأيام وسوالف الدهور والأعوام أوأن اشتغالي بمطالعتهما وممارستهما وزمان انتصابي لمفاوضتهما ومدارستهما يدور في خلدي على استمرار آناء الليل وأطراف النهاران أنظم درر فوائدهما في سمط دقيق وأرتب غرر فرائدهما على ترتيب أنيق وأضيف إليها ما ألفيته في تضاعيف الكتب الفاخرة من جواهر الحقائق وصادفته في أصداف العيالم الزاخرة من زواهر الدقائق وأسلك خلالها بطريق الترصيع على نسق أنيق وأسلوب بديع حسبما يقتضية جلالة شأن التنزيل ويستدعيه جزالة نظمه الجليل ما سنح الفكر العليل بالعناية الربانية وسمح به

النظر الكليل بالهداية السبحانية من عوارف معارف يمتد إليها أعناق الهمم من كل ماهر لبيب وغرائب رغائب ترنوا إليها أحداق الأمم من كل نحرير أريب وتحقيقات رصينة تقيل عثرات الأفهام في مداحض الإقدام وتدقيقات متينة تزيل خطرات الأوهام من خواطر الأنام في معارك أفكار يشتبه فيها الشؤن ومدارك أنظار يختلط فيها الظنون وأبرز من وراء أستارِ الكمُون من دقائق السر المخزون في خزائن الكتاب المكنون ما تطمئن إليه النفوس وتقر به العيون من خفايا الرموز وخبايا الكنوز وأهديها إلى الخزانة العامرة الغامرة للبحار الزاخرة لجناب من خصه الله تعالى بخلافة الأرض واصطفاه سلطنتها في الطول والعرض ألا وهو السلطان الأسعد الأعظم والخاقان الأمجد الأفخم مالك الإمامة العظمى والسلطان الباهر وارث الخلافة الكبرى كابرا عن كابر رافع رايات الدين الأزهر موضح آيات الشرع الأنور مرغم أنوف الفراعنة والجبابرة معفر جباه القياصره والأكاسرة فاتح بلاد المشارق والمغارب بنصر الله العزيز وجنده الغالب الهمام الذي شرق عزمه المنير فانتهى إلى المشرق الأسنى وغرب حتى بلغ مغرب الشمس أو دنا بخميس عرمرم متزاحم الأفواج وعسكر كخضم متلاطم الأمواج فأصبح ما بين أفقى الطلوع والغروب وما بين نقطتى الشمال والجنوب منتظما في سلك ولاياته الواسعة ومندرجا تحت ظلال راياته الرائعة فأصبحت منابر الربع المسكون مشرفة بذكر اسمه الميمون فياله من ملك استوعب ملكه البر البسيط واستعرق فلكه وجه البحر المحيط فكأنه فضاء ضربت فيه خيامه او نصبت عليه ألويته وأعلامه مالك ممالك العالم ظل الله الظليل على كافة الأمم قاصم القياصرة وقاهر القروم سلطان العرب والعجم والروم وسلطان المشرقين وخاقان الخافقين الإمام المقتدر بالقدرة الربانية والخليفة المعتز بالعزة السبحانيه المفتخر بخدمة الحرمين الجليلين المعظمين وحماية المقامين الجميلين المفخمين ناشر القوانين السلطانية عاشر الخواقين العثمانية السلطان ابن السلطان السلطان سليمان خان بن السلطان المظفر المنصور والخاقان الموقر المشهور صاحب المغازي المشهورة في أقطار الأمصار والفتوحات المذكورة في صحائف الأسفار السلطان سليم خان بن السلطان السعيد والخاقان المجيد السلطان بايزيد خان لا زالت سلسلة سلطنته متسلسلة إلى إنتهاء سلسلة الزمان وأرواح أسلافه العظام متنزهة في روضة الرضوان وكنت أتردد في ذلك بين إقدام وإحجام لقصور شأني وعزة المرام أين الحضيض من الذرى شتان بين الثريا والثرى وهيهات اصطياد العنقاء بالشباك واقتياد الجوزاء من بروج الأفلاكفمضت عليه الدهور والسنون وتغيرت الأطوار وتدلت الشئون فابتليت بتدبير مصالح العباد برهة في قضاء البلاد وأخرى في قضاء العساكر والأجناد فحال بيني وبين ما كنت أخال تراكم المهمات وتزاحم الأشغال وجموم العوارض والعلائق وهجوم الصوارف والعوائق والتردد إلى المغازي والأسفار والتنقل من دار إلى دار وكنت في تضاعيف هاتيك الأمور أقدر في نفسي أن أنتهز نهزة من الدهور ويتسنى لي القرار وتطمئن بي الدار وأظفر حينئذ بوقت خال أتبتل فيه إلى جناب ذي العظمة والجلال وأوجه إليه وجهتي وأسلم له سرى وعلانيتي وأنظر إلى كل شيء بعين الشهود وأتعرف سرِّ الحقِّ في كل موجود تلافيا لما قد فات واستعدادا لما هو آت وأتصدى لتحصيل ما عزمت عليه وأتولى لتكميل ما توجهت إليه برفاهة وأطمئنان وحضور

قلب وفراغ جنان فبينما أنا في هذا الخيال إذ بدا لي ما لم يخطر بالبال تحولت الأحوال والدهر حول فوقعت في أمر أشق من الأول أمرت بحل مشكلات الأنام فيما شجَرَ بينهم من النزاع والخصام فلقيت معضلة طويلة الذيول وصرت كالهارب من المطر إلى السيول فبلغ السيل الزبى وغمرني أي غمر غوارب ما جرى بين زيد وعمرو فأضحيت في ضيق المجال وسعة الأشغال أشهر ممن يضرب بها الأمثال فجعلت اتمثل بقول من قال لقد كنت أشكوك الحوادث برهة وأستمرض الأيام وهي صحائح ... إلى أن تغشتني وقيت حوادث تحقق أن السالفات منائح فلما أنصرمت عرى الآمال عن الفوز بفراغ البال ورأيت أن الفرصة على جناح الفوات وشمل الأسباب في شرف الشتات وقد مسنى الكبر وتضاءلت القوى والقدر ودنا الأجل من الحلول وأشرفت شمس الحياة على الأفول عزمت على إنشاء ما كنت أنويه وتوجهت إلى إملاء ما ظلت أبتغيه ناويا أن أسميه عند تمامه بتوفيق الله تعالى وإنعامه إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم فشرعت فيه مع تفاقم المكاره على وتزاحم المشادة بين يدى متضرعا إلى رب العظمة والجبروت خلاق عالم الملك والملكوت في أن يعصمني عن الزيغ والزلل ويقيني مصارع السوء في القول والعمل ويوفقني لتحصيل ما أرومه وأرجوه ويهديني إلى تكميله على أحسن الوجوه ويجعله خير عدة وعتاد أتمتع به يوم المعاد فيامن توجهت وجوه الذل والإبتهال نحو بابه المنيع ورفعت أيدى الضراعة والسؤال إلى جنابه الرفيع أفض علينا شوارق أنوار التوفيق وأطلعنا على دقائق أسرار التحقيق وثبت أقدامنا على مناهج هداك وأنطقنا بما فيه أمرك ورضاك ولا تكلنا إلى أنفسنا في لحظة ولا آن وخذ بناصيتنا إلى الخير حيث كان جئناك على جباه الإستكانة ضارعين ولأبواب فيضك قارعين أنت الملاذ في كل أمر هم وانت المعاذ في كل خطب مُلم لا رب وغيرك ولا خير إلا خيرك بيدك مقاليد الأمور لك الخلق والأمر وإليك النشور

سورة الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم الفاتحة (7 - 1) سورة فاتحة الكتاب وهي سبع آيات الفاتحة في الأصل أولُ ما مِن شأنه أن يُفتح كالكتاب والثوب أُطلقت عليه لكونه واسطةً في فتحِ الكل ثم أُطلقت على أول كلِّ شيء فيه تدريجٌ بوجه من الوجوه كالكلام التدريجي حصولاً والسطور والأوراق التدريجية قراءةً وعداً والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية أو هي مصدر بمعنى الفتح أطلقت عليه تسميةً للمفعول باسم المصدر إشعاراً بأصالته كأنه نفس الفتح فإن تعلقه به بالذات وبالباقي بواسطته لكنْ لا على مَعْنى أنه واسطة في تعلقه بالباقي ثانياً حتى يرد أنه لا يتسنى في الخاتمة لما أن خَتْم الشيء عبارة عن بلوغ آخره وذلك إنما يتحقق بعد انقطاع الملابسة عن أجزائه الأُوَل بل على مَعْنى أنَّ الفتح المتعلق بالأول فتح له أولاً وبالذات وهو بعينه فتح للجموع بواسطته لكونه جزأ منه وكذا الكلامُ في الخاتمة فإن بلوغَ آخِرِ الشئ يعرِضُ للآخر أولاً وبالذات وللكل بواسطته على الوجه الذي تحقَّقْتَه والمراد بالأول ما يعُم الإضافيَّ فلا حاجة إلى الإعتذار بأن إطلاقَ الفاتحة على السورة الكريمة بتمامها باعتبار جزئها الأول والمرادُ بالكتاب هو المجموع الشخصي لا القدر المشترك بينه وبين أجزائه على ما عليه اصطلاحُ أهل الأصول ولا ضيرَ في اشتهار السورة الكريمة بهذا الاسم في أوائل عهد النبوة قبل تحصل المجموع بنزول الكل لما أن التسمية من جهةِ الله عزَّ اسمه أو من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإذن فيكفي فيها تحصُّلُهُ باعتبار تحققه في علمه عزَّ وجل أو في اللَّوحِ أو باعتبار أنه أُنزل جُملةً إلى السماءِ الدُّنيا وأملاهُ جبريل على السَفَرة ثُمَّ كانَ يُنزِله على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم نجو ما في ثلاثٍ وعشرينَ سنةٍ كما هو المشهور والإضافة بمعنى اللام كما في جزء الشئ لا بمعنى مِنْ كما في خاتم فضة لما عرفت أن المضاف جزء من المضاف إليه لا جزئي له ومدار التسمية كونه مبدأً للكتاب على الترتيب المعهود لا في القراءة في الصلاة ولا في التعليم ولا في

النزول كما قيل أما الأول فبيِّنٌ إذ ليس المرادُ بالكتاب القدرَ المشترك الصادقَ على ما يقرأ في الصلاة حتى تُعتبرَ في التسمية مبدئيتَها له وأما الأخيران فلأن اعتبار المبدئية من حيث التعليمُ أو من حيث النزولُ يستدعي مراعاةَ الترتيب في بقية أجزاء الكتاب من تينك الحيثيتين ولا ريب في أن الترتيب التعليمي والترتيب النزولي ليسا على نسق الترتيب المعهود وتسمى أمَّ القرآن لكونها أصلاً ومنشأً له إما لمبدئيتها له وإما لا شتمالها على ما فيه من الثناء على الله عزَّ وجلَّ والتعبُّدِ بأمره ونهيه وبيانِ وعدِه ووعيده أو على جملة معاينه من الحِكَم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوكُ الصراط المستقيم والاطلاعُ على معارج السعداء ومنازلِ الأشقياء والمرادُ بالقرآن هو المراد بالكتاب وتسمى أمَّ الكتاب أيضاً كما يسمَّى بها اللوحُ المحفوظ لكونِهِ أصلاً لكل الكائنات والآياتُ الواضحةُ الدالة على معانيها لكونها بينةً تُحْمل عليها المتشابهاتُ ومناطُ التسمية ما ذُكر في أم القرآن لا ما أورده الإمامُ البخاري في صحيحه من أنه يُبدأ بقراءتها في الصلاة فإنه مما لا تعلُّقَ له بالتسمية كما أشير إليه وتسمى سورةَ الكنز لقوله صلى الله عليه وسلم إنَّها أُنْزِلَتْ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ أو لِمَا ذكر في أم القرآن كما أنه الوجهُ في تسميتها الأساسَ والكافية والوافية وتسمى سورةَ الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسئلة لاشتمالها عليها وسورةَ الصلاة لوجوب قراءتها فيها وسورةَ الشفاء والشافية لقوله صلى الله عليه وسلم هي شفاءٌ من كُلِّ داءٍ والسبع المثاني لأنها سبعُ آيات تُثَنَّى في الصلاة أو لتكرّر نزولِها على ما رُوي أنها نزلت مرة بمكَّة حين فرضت الصلاة وبالمدينة أخرى حين حُوِّلت القبلة وقد صح أنها مكيةٌ لقوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني وهو مكي بالنص

الفاتحة

{بسم الله الرحمن الرحيم} اختلف الأئمة في شأن التسمية في أوائل السور الكريمة فقيل إنها ليست من القرآن أصلاً وهو قولِ ابنِ مسعودٍ رضيَ الله عنه ومذهبُ مالك والمشهورُ من مذهب قدماء الحنفية وعليه قرّاءُ المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها وقيل إنها آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها وهو الصحيحُ من مذهب الحنفية وقيل هي آية تامة من كل سورة صُدِّرت بها وهو قولُ ابن عبَّاسٍ وقد نُسب إلى ابن عمر أيضا رضي الله عنهم وعليه يُحمل إطلاقُ عبارة ابن الجوزي في زاد المسير حيث قال روي عن ابنِ عمرَ رضيَ الله عنهُما أنها أنزلت مع كل سورة وهو أيضاً مذهبُ سعيد بنِ جبيرٍ والزُّهري وعطاءٍ وعبدِ الله بن المبارك وعليه قُرَّاءُ مكَّة والكوفةِ وفقهاؤهما وهو القولُ الجديد للشافعي رحمة الله ولذلك يُجْهر بها عنده فلا عبرة بما نُقِلَ عن الجصاص من أن هذا القول من الشافعي لم يسبقه إليه أحد وقيل إنها آية من الفاتحة مع كونها قرآناً في سائر السور أيضاً من غير تعرض لكونها جزأ منها أَوْ لا ولا لكونها آية تامَّةً أولا وهو أحدُ قولَي الشافعي على ما ذكره القرطبي ونقل عن الخطابي أنه قول ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم وقيل إنها آية تامة في الفاتحة وبعضٌ في البواقي وقيل بعضُ آية في الفاتحة وآية تامة في البواقي وقيل إنها بعض آية في الكل وقيل إنها آياتٌ من القرآن متعددة بعدد السور المصدرة بها من غير أن تكون جزء منها وهذا القول غير معزى في الكتب إلى أحد وهناك قول آخرُ ذكره بعض المتأخرين ولم ينسُبْه إلى أحد وهو إنها آية تامة في الفاتحة وليست بقرآن في سائر السور ولولا اعتبارُ كونها آيةً تامةً لكان ذلك أحدَ محملَيْ ترددِ الشافعي فإنه قد نقل عنه أنها بعض آية في الفاتحة وأما في غيرها فقوله فيها

متردد فقيل بين أن يكون قرآنا أولا وقيل بين أن يكون آيه تامة اولا قال الإمام الغزالي والصحيح من الشافعي هو التردد الثاني وعن أحمدَ بنِ حنبلٍ في كونها آيةً كاملة وفي كونها من الفاتحة روايتان ذكرهما ابن الجوزي ونقل أنه مع مالك وغيره مما يقول أنها ليست من القرآن هذا والمشهور من هذه الأقاويل هي الثلاث الأُول والاتفاقُ على إثباتها في المصاحف مع الإجماع على أنَّ مَا بُينَ الدفتين كلام الله عز وجل يقضي وبنفي القول الأول وثبوت القدر المشترك بين الأخيرين من غير دلالة على خصوصية أحدهما فإن كونها جزأ من القرآن لا يستدعي كونها حزا من كل سورة منه كما لا يستدعي كونها آية منفردة منه وأمَّا ما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهما من أن مَنْ تركها فقد ترك مائة وأربعَ عشرةً آيةً من كتاب الله تعالى وما روي عن أبي هريرة من أنه صلى الله عليه وسلم قال فاتحةُ الكتاب سبعُ آيات اولا هن بسم الله الرحمن الرحيم وما روي عن أم سلمة من انه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الفاتحة وعدَّ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للَّهِ رَبّ العالمين آية وإن دل كلُ واحد منها على نفي القول الثاني فليس شيء منها نصاً في إثبات القولِ الثالث أما الأول فلأنه لا يدل إلا على كونها آياتٍ من كتاب الله تعالى متعددةً بعدد السور المصدرة بها لا على ما هو المطلوبُ من كونها آية تامة من كل واحدة منها إلا أن يُلْتجأ إلى أن يقال أن كونها آيةً متعددةً بعدد السور المصدرة بها من غير أن تكون جزأ منها قولٌ لم يقل به أحد وأما الثاني فساكت عن التعرض لحالها في بقية السور وأما الثالثُ فناطقٌ بخلافه مع مشاركته للثاني في السكوت المذكور والباء فيها متعلقةٌ بمضمر ينبئ عنه الفعلُ المصدَّرُ بها كما أنها كذلك في تسمية المسافر عند الحلول والارتحال وتسمية كل فاعل عند مباشرة الأفعال ومعناها الإستعانةُ أو الملابسةُ تبركاً أي باسم الله أقرأ أو أتلو وتقديم المعمول للإعتناء به والقصد إلى التخصيص كما في إياك نعبد وتقديرُ أبدأ لاقتضائه اقتصارَ التبرك على البداية مُخلّ بما هو المقصودُ أعني شمولَ البركة للكل وادعاءُ أن فيه امتثالاً بالحديث الشريف من جهة اللفظ والمعنى معاً وفي تقدير أقرأُ من جهة المعنى فقط ليس بشيء فإن مدارَ الامتثالِ هو البدءُ بالتسمية لا تقديرُ فعله إذ لم يقل في الحديث الكريم كلُّ أمرٍ ذي بال لم يُقَل فيه أو لم يُضْمَر فيه أَبدأُ وهذا إلى آخرِ السُّورةِ الكريمةِ مقولٌ على ألسنة العباد تلقيناً لهم وإرشاداً إلى كيفية التبرك باسمه تعالى وهدايةً إلى منهاج الحمد وسؤالِ الفضل ولذلك سُميت السورةُ الكريمة بما ذكر من تعليم المسألة وإنما كُسرت ومن حق الحروف المفردة أن تُفتَحَ لاختصاصها بلزوم الحرفية والجركما كسرت لامُ الأمر ولامُ الإضافة داخلةً على المُظْهَر للفصل بينهما وبين لام الابتداء والاسم عند البصريين من الأسماء المحذوفة الأعْجَاز المبنية الأوائل على السكون قد أُدخلت عليها عند الابتداء همزة لأن مِنْ دأبهم البدءَ بالمتحرِّك والوقفَ على الساكن ويشهد له تصريفُهم على أسماء وسُمَيٌّ وسمَّيتُ وسُميً كهُدىً لغة فيه قال واللَّه أسماكَ سُمى مباركا آثرك اللَّهُ به إيثاركا والقلبُ بعيدٌ غير مطرد واشتقاقه من السُمو لأنه رفعٌ للمُسمَّى وتنويهٌ له وعند الكوفيين من السِّمة وأصله وَسَمَ حذفت الواو وعوضت منها همزةُ الوصل ليقِلَّ إعلالُها ورد عليه لأن الهمزة لم تُعهَدْ داخلةً على ما حُذف صدرُه في كلامهم ومن لغاتهم سِمٌ وسُمٌ قال باسمِ الذي في كلِّ سورةٍ سِمُهْ وإنما لم يقل باللَّهِ للفرق بين اليمين والتيمُّن أو لتحقيق ما هو المقصود بالإستعانة ههنا فإنها تكون تارة بذاته تعالى وحقيقتها طلبُ المعونة على إيقاع

الفعل وإحداثه أي إفاضةُ القدرةِ المفسرةِ عند الأصوليين من أصحابنا بما يتمكن به العبدُ من أداء مالزِمه المنقسمةِ إلى ممكِنة وميسِّرة وهي المطلوبة بإياك نستعين وتارة أخرى باسمه عز وعلا وحقيقتها طلبُ المعونة في كون الفعل معتداً به شرعاً فإنه ما لم يُصَدَّر باسمهِ تعالى يكون بمنزلةِ المعدوم ولما كانت كل واحدة من الإستعانتين واقعةً وجب تعيينُ المراد بذكر الاسم وإلا فالمتبادَرُ من قولنا بالله عند الإطلاق لا سيما عند الوصف بالرحمن الرحيم هي الإستعانة الأولى إن قيل فليُحمل الباء على التبرك وليستَغْنَ عن ذكر الاسم لما أن التبرك لا يكون إلا به قلنا ذاك فرعُ كون المراد بالله هو الاسم وهل التشاجرُ إلا فيه فلا بد من ذكر الاسم لينقطعَ احتمالُ إرادة المسمَّى ويتَعَينُ حمل الباء على الإستعانة الثانية أو التبرك وإنما لم يكتب الألف لكثرة الإستعمال قالوا وطُوِّلتِ الباءُ عوضاً عنها و {الله} أصله الإله فحذفت همزته على غير قياس كما يُنْبِىءُ عنه وجوب الإدغام وتعويض الألف واللام عنها حيث لزماه وجردا عن معنى التعريف ولذلك قيل يالله بالقطع فإن المحذوف القياسيَّ في حكم الثابت فلا يحتاج إلى التدارك بما ذُكِرَ من الإدغام والتعويض وقيل على قياس تخفيف الهمزة فيكون الإدغام والتعويض من خواص الاسم الجليل ليمتاز بذلك عما عداه امتياز مسمّاه عما سواه بمالا يوجد فيه من نعوت الكمال والإله في الأصل اسمُ جنسٍ يقع على كل معبود بحقٍ أو باطل أي مع قطع النظرِ عن وصف الحقية والبطلان لا مع اعتبارِ احدهما لا بعينه ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم والصَّعِقْ وأما الله بحذف الهمزة فعلمٌ مختصٌّ بالمعبود بالحقِّ لم يطلق على غيره أصلاً واشتقاقه من الإلاهة والأُلوهَة والأُلوهِية بمعنى العبادة حسبما نص عليه الجوهري على أنه اسمٌ منها بمعنى المألوه كالكتاب لا على أنه صفة منها بدليل أنه يوصف ولا يوصف به حيث يُقال إله واحد ولا يُقال شيء إلهٌ كما يُقال كتاب مرقوم ولا يقال شيء كتاب والفرق بينهما أن الموضوع له في الصفة هو الذاتُ المبهمةُ باعتبار اتصافِها بمعنىً معيّنٍ وقيامِهِ بها فمدلولها مركبٌ من ذاتٍ مُبهمةٍ لم يُلاحظ معها خصوصية أصلاً ومِن معنىً معينٍ قائمٍ بها على أن مَلاك الأمرِ تلك الخصوصية فبأيِّ ذاتٍ يقومُ ذلك المعنى يصحّ إطلاقُ الصفة عليها كما في الأفعال ولذلك تَعْمَلُ عملها كاسمي الفاعلِ والمفعول والموضوع له في الاسم المذكور هو الذاتُ المعينة والمعنى الخاص فمدلوله مركب من ذَيْنِكَ المعنيين من غيرِ رجحانٍ للمنى على الذات كما في الصفة ولذلك لم يعمل عملها وقيل اشتقاقه من إلِهَ بمعنى تحير لأنه سبحانه يحارُ في شأنه العقول والأفهام وأما أَلَهَ كعَبَدَ وزناً ومعنىً فمشتق من الإلَه المشتق من إلِهَ بالكسر وكذا تألَّه واستَأْلَه اشتقاق استنوق واستحجر من الناقة والحَجَر وقيل من أَلِهَ إلى فلان أي سكن إليه لاطمئنان القلوب بذكره تعالى وسكون الأرواح إلى معرفته وقيل من أَلِهَ إذا فزِع من أمرٍ نزل به وآلَهَهُ غيرُه إذا أجاره إذ العائذُ به تعالى يفزَع إليه وهو يُجيره حقيقة أو في زعمه وقيل أصله لاهٌ على أنه مصدرٌ من لاهَ يَلِيهُ بمعنى احتجب وارتفع أطلق على الفاعل مبالغة وقيل هو اسمُ علمٍ للذات الجليل ابتداء وعليه مدار أمر التوحيد في قولنا لا إله إلاَّ الله ولا يخفى أن اختصاصَ الاسم الجليل بذاته سبحانه بحيث لا يمكن إطلاقُه على غيره أصلاً كافٍ في ذلك ولا يقدَح فيه كونُ ذلك الاختصاصِ بطريق الغَلَبة بعد أن كان اسمَ جنسٍ في الأصل وقيل هو وصف الأصل لكنه لما

غلب عليه بحيث لا يطلق على غيره أصلا صار كالعلم ويردّه امتناعُ الوصف به وأعلم أن المراد بالمنَكَّر في كلمة التوحيد هو المعبودُ بالحق فمعناها لافرادَ من أفراد المعبود بالحق إلا ذلك المعبودُ بالحق وقيل أصلُه لاَهَا بالسريانية فعُرِّب بحذف الألف الثانية وإدخال الألف واللام عليه وتفخيم لامه إذا لم ينكسر ما قبله سنة وقيل مطلقاً وحذفُ ألفِه لحنٌ تفسد به الصلاة ولا ينعقد به صريحُ اليمين وقد جاء لضرورة الشعر في قوله ألا لا بارك اللَّهُ في سُهيل إذا ما اللَّهُ باركَ في الرجال {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} صفتان مبنيتان من رَحِمَ بعد جعله لازماً بمنزلة الغرائز بنقله إلى رَحُمَ بالضمِّ كما هُوَ المشهورُ وقد قيل إن الرحيم ليس بصفة مشبَّهة بل هي صيغة مبالغة نص عليه سِيبَويه في قولهم هو رحيمٌ فلاناً والرحمة في اللغة رقة القلب والانعطاف ومنه الرَّحِمُ لانعطافها على ما فيها والمراد ههنا التفضل والإحسان وإرادتهما بطريق إطلاقِ اسمِ السبب بالنسبة إلينا على مسَبّبِهِ البعيد أو القريب فإنَّ أسماء الله تعالى تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادىء التي هي انفعالات والأولُ من الصفات الغالبة حيث لم يطلق على غيره تعالى وإنما امتنع صرفُه إلحاقاً له بالأغلب في بابه من غير نظر الى الاختصاص العارض فإنه كما حظِر وجود فعلى حُظِر وجود فعلانة فاعتبارُه يوجب اجتماعَ الصرف وعدمَه فلزم الرجوع إلى أصل هذه الكلمة قبل الاختصاص بأن تقاس إلى نظائرها من باب فعل يفعل فإذا كان كلها ممنوعة من الصرف لتحقق وجود فَعْلى فيها علم أن هذه الكلمة أيضاً في أصلها مما تحقق فيها وجود فعلى فتُمنع من الصرف وفيه من المبالغة ما ليس في الرحيم ولذلك قيل يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا وتقديمه مع كون القياسِ تأخيرَه رعايةً لأسلوب الترقي إلى الأعلى كما في قولهم فلانٌ عالمٌ نِحْرير وشجاعٌ باسل وجَوَادٌ فيَّاض لأنه باختصاصه به عز وجل صار حقيقاً بأن يكون قريناً للاسم الجليل الخاص به تعالى ولأن ما يدل على جلائل النعم وعظائمها وأصولها أحقُّ بالتقديم مما يدل على دقائقها وفروعها وإفراد الوصفين الشريفين بالذكر لتحريك سلسلة الرحمة

2

{الحمد للَّهِ} الحمد هو النعتُ بالجميل على الجميل اختيارياً كان أو مبدأً له على وجه يُشْعِرُ ذلك بتوجيهه إلى المنعوت وبهذه الحيثية يمتازُ عن المدحِ فإنَّهُ خالٍ عنها يرشدك إلى ذلك ما ترى بينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول في قولك حمدته ومدحته فإن تعلق الثاني بمفعوله على منهاج تعلق عامة الأفعال بمفعولاتها وأما الأولُ فتعلقه بمفعوله مُنْبىء عن معنى الإنهاء كما في قولك كَلَّمْتُه فإنه مُعْرَبٌ عما يقيده لام التبليغ في قولك قلت له ونظيرُه وشَكَرْتُه وعبدتُه وخدمتُه فإن تعلّق كلَ منها منبىء عن المعنى المذكور وتحقيقُه أن مفعول كلِّ فعلٍ في الحقيقة هو الحدث الصادرُ عن فاعله ولا يُتصور في كيفية تعلق الفعل به أيَّ فعل كان اختلافٌ أصلاً وأما المفعولُ به الذي هو محلُّه وموقِعُه فلما كان تعلقه به ووقوعُه عليه على أنحاءَ مختلفةٍ حسبما يقتضيه خصوصياتُ الأفعال بحسب معانيها المختلفة فإن بعضها يقتضي أن يلابسه ملابسةً تامَّةً مؤثرة فيه كعامة الأفعال وبعضها يستدعي أن يلابسَه أدنى ملابسة إما بالانتهاء إليه كالإعانة مثلاً أو بالإبتداءِ منه كالإستعانة مثلاً اعتبر في كل نحو من أنحاءِ تعلّقِه به كيفية لائقةٌ بذلك النحو مغايرةٌ لما اعتبر في النحْوَيْنِ الأخيرين فنظمُ القسمِ الأول من التعلق في سلك التعلقِ بالمفعولِ الحقيقي مراعاةً لقوة الملابسة وجُعِل كلُّ واحدٍ من القسمين الأخيرين

من قبيل التعلق بواسطة الجارّ المناسب له فإن قولَكَ أعنتُه مشعرٌ بانتهاء الإعانةِ إليه وقولك استعنتُه بابتدائها منه وقد يكون لفعلٍ واحدٍ مفعولان يتعلق بأحدهما على الكيفية الأولى وبالآخَرِ على الثانية أو الثالثة كما في قولك حدثني الحديث وسألني المالَ فإن التحديثَ مع كونه فعلاً واحداً قد تعلّقَ بك على الكيفية الثانية وبالحديث على الأولى وكذا السؤال فإنه فعل واحد وقد تعلّق بك على الكيفية الثالثة وبالمال على الأولى ولا ريب في أن اختلافَ هذه الكيفيات الثلاثِ وتبايُنَها واختصاصَ كلَ من المفاعيلِ المذكورةِ بما نُسِبَ إليه منها مما لا يُتصور فيه تردُّدٌ ولا نَكيرٌ وإن كان لا يتضحُ حقَّ الاتضاح إلا عند الترجمة والتفسير وإن مدارَ ذلك الاختلاف ليس إلا اختلافَ الفعل أو اختلاف المفعول وإذ لاختلاف في مفعول الحمد والمدح تَعَيَّنَ أن اختلافهما في كيفيةِ التعلق لاختلافهما في المعنى قطعاً هذا وقد قيلَ المدحُ مطلقٌ عن قيدِ الإختيار يُقال مدحتُ زيداً على حُسْنِهِ ورشاقةِ قَدِّهِ وأيًّاما كان فليس بينهما ترادفٌ بل أُخوّةٌ من جهةِ الاشتقاق الكبير وتناسبٌ تام في المعنى كالنصر والتأييد فإنهما متناسبان معنىً من غير ترادفٍ لما ترى بينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول وإنما مرادفُ النصر الإعانة ومرادف التأييد التقوية فتدبر ثم أن ما ذُكِرَ من التفسير هو المشهورُ من معنى الحمد واللائق بالإدارة في مقام التعظيم وأما ما ذُكِرَ في كُتُبِ اللغةِ من معنى الرضى مطلقاً كما في قوله تعالى عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا وفي قولهم لهذا الأمر عاقبةٌ حميدةٌ وفي قول الأطباء بُحْرَانٌ محمود مما لا يختص بالفاعل فضلاً عن الإختيار فبمعزل عن استحقاق الإرادة ههنا استقلالاً أو استتباعاً بحملِ الحمدِ على ما يعم المعنيين إذ ليس في إثباته له عز وجل فائدةٌ يُعْتَدُ بها وأما الشكْرُ فهو مقابلة النعمة بالثناء وآداب الجوارح وعقدُ القلبِ على وصفِ المنعم بنعت الكمال كما قال من قال أفادتكم النَّعْمَاءُ مني ثلاثة يدي ولساني والضميرَ المُحجبا فإذن هو أعمُّ منهما من جهة وأخص من أخرى ونقيضُهُ الكفران ولما كان الحمد من بين شُعَبِ الشكر أَدْخَلَ في إشاعةِ النعمةِ والاعتدادِ بشأنِها وأدلَّ على مكانها لِما في عمل القلب من الخفاء وفي أعمال الجوارحِ من الاحتمال جُعِلَ الحمدُ رأسَ الشكر ومِلاكاً لأمره في قوله صلى الله عليه وسلم الحمدُ رأسُ الشُّكرِ ما شكر الله عبده لم يحمدْهُ وارتفاعُهُ بالابتداء وخبرُه الظرف وأصلُه النَصْبُ كما هو شأن المصادر المنصوبة بأفعالها المُضمرة التي لا تكاد تُستعمل معها نحو شُكراً وعجباً كأنه قيل نحمد الله حمداً بنون الحكاية ليوافق ما في قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لاتحاد الفاعل في الكل وأما ما قيل من أنه بيانٌ لحمدِهم له تعالى كأنَّهُ قيل كيف تحمَدون فقيل إياكَ نعبد فمع أنه لا حاجة إليه مما لا صحةَ له في نفسِهِ فإنَّ السؤالَ المقدرَ لا بدَّ أنْ يكون بحيثُ يقتضيهِ انتظامُ الكلامِ وينساقُ إليه الأذهانُ والأفهام ولاريب في أن الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفيةِ اللائقةِ لا يخطر ببال أحد أن يسألَ عن كيفيتهِ على أنَّ ما قُدِرَ من السؤال غيرُ مطابقٍ للجواب فإنه مسوقٌ لتعيين المعبود لا لبيان العبادة حتى يُتَوَهم كونُه بياناً لكيفية حمدهم والاعتذارُ بأن المعنى نخصك بالعبادة وبه يتبين كيفيةُ الحمد تعكيسٌ للأمرِ وتَمَحّلٌ لتوفيق المُنَّزَل المقرَّرِ بالموهومِ المُقدّر وبعدَ اللينا والتي أنْ فُرِضَ السؤال من جهته عزَّ وجلَّ فأتَتْ نُكْتَت الإلتفاتِ التي أجمع عليها السلف والخلف وإن فُرِضَ من جهةِ الغيرِ يختلُ النظام لابتناءِ الجوابِ على خطابِهِ تعالى

وبهذا يتضحُ فسادَ ما قيل أنه استئنافٌ جواباً لسؤال يقتضيه إجراءُ تلك الصفات العظامِ على الموصوف بها فكأنه قيل ما شأنُكم معه وكيف توجُّهكم إليه فأجيب بحصْر العبادة والاستعانة فيه فإن تناسِيَ جانبِ السائل بالكلية وبناءَ الجواب على خِطابه عز وعلا مما يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن أمثاله والحقُّ الذي لا محيدَ عنه أنَّهُ استئنافٌ صدرَ عن الحامد بمحضِ ملاحظةِ اتصافِهِ تعالى بما ذُكِرَ من النعوتِ الجليلةِ الموجبة للإقبال الكليّ عليه من غير أن يتوسط هناك شيء آخرُ كما ستحيطُ به خبرا أو إيثار الرفعِ على النصب الذي هو الأصلُ للإيذان بأن ثبوتَ الحمد له تعالى لذاته لا لإثبات مُثبت وأن ذلك أمرٌ دائمٌ مستمرٌ لا حادثٌ متجددٌ كما تفيده قراءةُ النصب وهو السر في كون تحية الخليل للملائكة عليهم التحيةُ والسَّلامُ أحسنَ منْ تحيتهم له في قولِه تعالَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ وتعريفُه للجنس ومعناه الإشارةُ إلى الحقيقة من حيث هي حاضرةٌ في ذهن السامع والمراد تخصيصُ حقيقةِ الحمدِ به تعالى المستدعي لتخصيص جميعِ أفرادِها به سبحانه على الطريق البرهاني لكنْ لا بناءً عَلى أن أفعال العبادِ مخلوقةٌ له تعالى فتكونَ الأفرادُ الواقعة بمقابلة ما صدرَ عنهُم من الأفعال الجميلة راجعةً إليه تعالى بل بناءً على تنزيل تلك الأفراد ودواعيها في المقام الخطابيّ منزلةَ العدم كيفاً وكماً وقد قيل للإستغراق الحاصل بالقصد إلى الحقيقة من حيث تحققُها في ضمن جميع أفرادها حسبما يقتضيه المقام وقرئ الحمدُ لُلَّهِ بكسر الدال إتباعاً لها باللام وبضم اللام إتباعاً لها بالدال بناء على تنزيل الكلمتين لكثرة استعمالهما مقترنتين منزلة كلمةٍ واحدة مثل المِغِيرة ومُنْحَدُرُ الجبل {رَبّ العالمين} بالجر على أنه صفةٌ لله فإن إضافته حقيقيةً مفيدةٌ للتعريف على كل حال ضرورةَ تعيُّن إرادة الاستمرار وقرئ منصوباً على المدح أو بما دلَّ عليهِ الجملةُ السابقة كأنه قيل نحمد الله ربَّ العالمين ولا مساغَ لنصبه بالحمد لقلة أعمال المصدر المُحلى باللام وللزوم الفصل بين العامل والمعمول بالخبر والرب في الأصل مصدرٌ بمعنى التربية وهي تبليغُ الشئ إلى كمالِه شيئاً فشيئاً وُصف به الفاعل مبالغة كالعدل وقيل صفة مشبهة من ربَّه يرُبُّه مثل نمَّه يُنمُّه بعد جعله لازماً بنقله إلى فعُل بالضمِّ كما هو المشهور سُمّي به المالكُ لأنه يحفظ ما يملِكه ويربيه ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيد كربُّ الدار وربُّ الدابة ومنه قوله تعالى فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وقوله تعالى ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ وما في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم قال لا يَقُل أحدُكم أطعم ربك وضئ ربَّك ولا يَقُلْ أحدُكم ربِّي ولْيَقُل سَيّدي ومولاي فقد قيل إن النهيَ فيه للتنزيه وأما الأ رباب فحيث لم يكن إطلاقُه على الله سبحانه جاز في إطلاقه الإطلاق والتقييد كما في قوله تعالى أأرباب متفرقون خير الآية والعالم اسمٌ لما يُعْلَم به كالخاتَم والقالَب غلب فيما يُعْلَم به الصانعُ تعالى من المصنوعات أي في القَدْرِ المشترك بين أجناسها وبين مجموعِها فإنه كما يُطلق على كل جنسٍ جنسٌ منها في قولهم عالم الأفلاك وعالمُ العناصر وعالمُ النبات وعالم الحيوان إلى غير ذلك يطلق على المجموع أيضاً كما في قولنا العالم بجميع أجزائه مُحْدَث وقيل هو اسم لأولي العلم من الملائكة والثقلين وتناولُه لما سواهم بطريق الاستتباع وقيل أريد به الناسُ فقط فإنَّ كلَّ واحدٍ منهم من حيث اشتمالُه على نظائِر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يُعلم بها الصانع كما يعلم بما فيه عالَم على حِيالِه ولذلك أمُر بالنظر في الأنفس كالنظر في الآفاق فقيل وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ والأول هو الأحق الأظهر وإيثارُ صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع

الأجناس والتعريفُ لاستغراق أفراد كلَ منها بأسرها إذ لو أفرد لربما تُوهِّم أن المقصود بالتعريف هو الحقيقة من حيث هي أو استغراقُ أفرادِ جنسٍ واحد على الوجه الذي أشير إليه في تعريف الحمد وحيث صح ذلك بمساعدة التعريف نُزِّلَ العالم وإن لم ينطلق على آحاد مدلوله منزلة الجمع حتى قيل إنه جمع لا واحد له من لفظه فكما أن الجمعَ المعَرَّفَ يستغرق آحادَ مُفرَدِه وإن لم يصدُقْ عليها كما في مثلِ قولِه تعالى وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي كلَّ محسن كذلك العالمُ يشملُ أفرادَ الجنسِ المسمَّى به وإن لم ينطلق عليها كأنها آحادُ مفردِه التقديريّ ومن قضية هذا التنزيلِ تنزيلُ جمعِه منزلةَ جمعِ الجمع فكما أن الأقاويل يتناول كلَّ واحد من آحادِ الأقوال يتناول لفظُ العالمين كلَّ واحد من آحادِ الجناس التي لا تكاد تُحصى روي عن وهْب ابن منبه أنه قال لله تعالى ثمانيةَ عشرَ ألفَ عالَم والدنيا عالم منها وإنما جُمِع بالواو والنون مع اختصاصِ ذلك بصفاتِ العُقلاء وما في حكمها من الأعلام لدلالته على معنى العَلَم مع اعتبار تغليبِ العقلاء على غيرهم واعلم ان عدم انطلاق اسم العالَم على كل واحدٍ من تلك الآحادِ ليس الاباعتبار الغلبة والاصطلاح واما باعتبارالاصل فلا ريب في صحة الاطلاق قطعا لتحقيق المصداقِ حتماً فإنه كما يُستدل على الله سبحانه بمجموع ما سواه وبكل جنسٍ من أجناسِه يُستدل عليه تعالى بكل جزءٍ من أجزاءِ ذلكَ المجموع وبكل فردٍ من أفراد تلك الأجناس لتحقّق الحاجةِ إلى المؤثِّر الواجب لذاته في الكُلِّ فإنَّ كل ما ظهرَ في المظاهر مما عزو هان وحضَرَ في هذه المحاضر كائناً ما كان دليلٌ لائحٌ على الصانع المجيد وسبيلٌ واضحٌ إلى عالم التوحيد وأما شمولُ ربوبيته عز وجل للكل فما لا حاجةَ إلى بيانه إذ لا شيءَ مما أحدق به نطاقُ الإمكان والوجود من العُلويات والسُفليات والمجرّدات والماديات والروحانيات والجسمانيات إلا وهو في حدّ ذاته بحيث لو فُرض انقطاعُ آثارِ التربية عنه آناً واحداً لما استقر له القَرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم ومهاوي البوار لكن يُفيضُ عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنُه وتقدّس في كل زمانٍ يمضي وكل آنٍ يمرّ وينقضي من فنون الفيوضِ المتعلقةِ بذاته ووجودِه وصفاتِه وكمالاته ما لا يحيطُ به فَلَكُ التعبير ولا يعلمُه إلا العليمُ الخبيرُ ضرورةَ أنه كما لا يستحق شيءٌ من الممكنات بذاتِه الوجودَ ابتداءً لا يستحقه بقاءً وإنما ذلك من جناب المُبدأ الأول عز وعلا فكما لا يُتصور وجودُه ابتداءً ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمِه الأصلي لا يتصور بقاؤُه على الوجود بعد تحققِه بعِلَّته ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمِه الطارىء لما أن الدوام من خصائص الوجودِ الواجبي وظاهرٌ أن ما يتوقف عليه وجودُه من الأمور الوجودية التي هي عِلَلُهُ وشرائِطُه وإن كانت متناهيةً لوجوب تناهي ما دخلَ تحتَ الوجود لكنِ الأمورُ العدميةُ التي لها دخلٌ في وجوده وهي المعبَّر عنها بارتفاع الموانع ليست كذلك إذْ لا استحالةَ في أن يكون لشيءٍ واحدٍ موانعُ غيرُ متناهية يتوقف وجودُه أو بقاؤه على ارتفاعها أي بقائها على العدم مع إمكان وجودها في نفسها فإبقاءُ تلك الموانِع التي لا تتناهى على العدم تربيةٌ لذلك الشيءِ من وجوهٍ غيرِ متناهية وبالجملة فآثار تربيته عز وجل الفائضةُ على كلَّ فردٍ من أفراد الموجودات في كلِّ آنٍ من آنات الوجود غيرُ متناهية فسبحانه سبحانه ما اعظم سلطانه لا تلاحظه العيونُ بأنظارها ولا تطالعُه العقولُ بأفكارها شأنُه لا يُضاهى وإحسانُه لا يتناهى ونحن في معرفته حائِرون وفي إقامة مراسمِ شكرِه قاصرون نسألك اللهم الهدايةَ

إلى مناهج معرفتِك والتوفيقَ لأداء حقوقِ نعمتك لا نُحصي ثناءً عليك لا إله إلا أنت نستغفرُك ونتوب إليك

3

{الرحمن الرحيم} صفتان لله فإن أريد بما فيهما من الرحمة ما يختص بالعقلاء من العالمين أو ما يَفيضُ على الكل بعد الخروج إلى طوْر الوجودِ من النعم فوجهُ تأخيرِهما عن وصف الربوبية ظاهرٌ وإنْ أُريدَ ما يعمّ الكلَّ في الأطوار كلِّها حسبما في قوله تعالى وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فوجهُ الترتيب أن التربية لا تقتضي المقارنة للرحمة فإيرادُهما في عقبها للإيذان بأنه تعالى متفضلٌ فيها فاعلٌ بقضية رحمتِه السابقةِ من غير وجوبٍ عليه وبأنها واقعةٌ على أحسنِ ما يكون والاقتصارُ على نعته تعالى بهما في التسمية لما أنه الأنسبُ بحال المتبرِّك المستعين باسمه الجليل والأوفقُ لمقاصده

4

{مالك يَوْمِ الدين} صفةٌ رابعة له تعالى وتأخيرُها عن الصفات الأُوَل مما لا حاجة إلى بيان وجهِه وقرأ أهلُ الحرمَيْن المحترمَيْن ملِك من المُلْك الذي هو عبارة عن السلطان القاهر والاستيلاء الباهر والغلبةِ التامة والقُدرةِ على التصرف الكليّ في أمور العامة بالأمر والنهي وهو الأنسبُ بمقام الإضافة إلى يوم الدين كما في قوله تعالى لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وقرئ ملك بالتخفيف وملك بلفظ الماضي ومَالِكَ بالنَّصبِ على المدحِ أو الحال وبالرفع منوناً ومضافاً على أنه خبر مبتدأ محذوف وملك مضافا بالرفع والنصب واليومُ في العرف عبارةٌ عما بين طلوعِ الشمس وغروبها من الزمان وفي الشرع عما بين طلوعِ الفجرِ الثاني وغروبِ الشمس والمراد ههنا مطلقُ الوقت والدينُ الجزاءُ خيرا كان أو شرا ومنه الثاني في المثل السائر كما تَدين تُدان والأول في بيت الحماسة ولم يبق سوى العدوان دِنّاهم كما دانوا وأما الأول في الأولِ والثَّاني في الثاني فليس بجزاءٍ حقيقة وإنما سُمّي به مشاكلة أو تسميةٌ للشيء باسم مسبَّبِهِ كما سُميت إرادةُ القيام والقراءة باسمهما في قوله عز اسمُه إِذَا قُمتُم إِلَى الصلاة وقوله تعالى فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بِاللَّهِ ولعلَّه هو السرُّ في بناء المفاعلة من الأفعال التي تقوم أسبابُها بمفعولاتها نحو عاقبتُ اللصَّ ونظائرِه فإن قيام السرقة التي هي سببٌ للعقوبة باللص نُزّل منزلةَ قيام المسبَّبِ به وهي العقوبة فصار كأنها قامت بالجانبين وصدَرَت عنهما فَبُنيت صيغةُ المفاعلةِ الدالَّةِ على المشاركة بين الإثنين وإضافةُ اليوم إليه لأدنى ملابسةٍ كإضافة سائرِ الظروفِ الزمانية إلى ما وقع فيها من الحوادث كيوم الأحزابِ وعامِ الفتح وتخصيصُه منْ بينِ سائرِ ما يقع فيه من القيامة والجمعِ والحسابِ لكونه أدخلَ في الترغيب والترهيب فإنَّ ما ذُكر من القيامة وغيرها من مبادئ الجزاءِ ومقدِّماته وإضافةُ مالك إلى اليوم منْ إضافِه اسمِ الفاعلِ إلى الظرف على نهج الاتساعِ المبنيّ على إجرائه مجرى المفعول به مع بقاء المعنى على حاله كقولهم يا سارق الليلة أهل الدار أي مالِكَ أمورِ العالمين كلِّها في يومِ الدين وخُلوُّ إضافتِه عن إفادة التعريفِ المسوّغ لوقوعه صفةً للمعرفة إنما هو إذا أُريد به الحالُ أو الاستقبالُ وأما عند إرادة الاستمرارِ الثبوتيّ كما هو اللائقُ بالمقام فلا ريب في كونها إضافةً حقيقية كإضافة الصفة المشبهة إلى غير معمولها في قراءة ملك يوم الدين ويومُ الدين وإن لم يكن مستمراً في جميع الأزمنةِ إلا أنه لتحقق وقوعِه وبقائه أبداً أُجْرِيٍ مجرى المتحقّقِ المستمر ويجوزُ أن يُراد بهِ الماضي بهذا الأعتبار كما يشهد به القراءةُ على صيغة الماضي وما ذكر من إجراء الظرفِ مُجرى المفعولِ به إنما هو من حيث المعنى لا من حيث الإعراب حتى يلزمَ كونُ الإضافة لفظية ألا ترى أنك تقول في مالكُ عبدِه

أمسِ إنه مضاف إلى المفعول به على معنى أنه كذلك معنىً لا أنه منصوب محلاً وتخصيصُه بالإضافة إما لتعظيمه وتهويله أو لبيان تفرّدهِ تعالى بإجراء الأمر فيه وانقطاعِ العلائق المجازية بين المُلاَّك والأمْلاَك حينئذٍ بالكلية وإجراءُ هاتيك الصفاتِ الجليلةِ عليه سبحانه تعليلٌ لما سبق من اختصاص الحمدِ به تعالى المستلزمِ لاختصاص استحقاقِه به تعالى وتمهيدٌ لما لَحِقَ من اقتصار العبادةِ والاستعانةِ عليه فإنَّ كلَّ واحدةٍ منها مفصِحةٌ عن وجوب ثبوتِ كلِّ واحدٍ منها له تعالى إمتناع ثبوتِها لما سواه أما الأولى والرابعةُ فظاهرٌ لأنهما متعرِّضتان صراحةً لكونه تعالى رباً مالكاً وما سواه مربوباً مملوكاً له تعالى وأما الثانية والثالثة فلأن اتصافَه تعالى بهما ليس إلا بالنسبة إلى ما سواه من العالمين وذلك يستدعي أن يكون الكلُّ منعماً عليهم فظهر أن كل واحدةٍ من تلك الصفات كما دلت على وجوب ثبوتِ الأمورِ المذكورةِ له تعالى دلت على امتناع ثبوتِها لما عداه على الإطلاق وهو المعنى بالاختصاص

5

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} التفات من الغيبة إلى الخطاب وتلوينٌ للنظم من بابِ إلى بابٍ جارٍ على نهج البلاغة في افتنان الكلام ومسلَكِ البراعة حسبما يقتضي المقام لما أن التنقلَ من أسلوب إلى أسلوب أدخلُ في استجلاب النفوسِ واستمالةِ القلوب يقع من كل واحدٍ من التكلم والخطاب والغَيبة إلى كلِّ واحدٍ من الآخَرَيْن كما في قوله عز وجل {والله الذى أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً} الآية وقولُه تعالى {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} إلى غير ذلك من الالتفاتات الواردةِ في التنزيل لأسرارٍ تقتضيها ومزايا تستدعيها ومما استَأثر به هذا المقام الجليلِ من النُكت الرائقةِ الدالةِ على أن تخصيصَ العبادةِ والاستعانةِ به تعالى لما أُجريَ عليه من النعوت الجليلة التي أوجبت له تعالى أكملَ تميّز وأتمَّ ظهورٍ بحيث تبدّل خفاءُ الغَيبة بجلاءِ الحضور فاستدعى استعمالَ صيغةِ الخطاب والإيذانَ بأن حقّ التالي بعدما تأمل فيما سَلَف من تفرّده تعالى بذاته الأقدس المستوجبِ للعبودية وامتيازِه بذاته عما سواه بالكلية واستبدادِه بجلائل الصفات وأحكام الربوبية المميِّزة له عن جميع أفرادِ العالمين وافتقارِ الكلِّ إليه في الذات والوجودِ ابتداءً وبقاءً على التفصيل الذي مرَّت إليه الإشارةُ أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان وينتقلَ من عالم الغَيبة إلى معالم الشهود ويلاحظَ نفسَه في حظائر القدْسِ حاضراً في محاضر الأنس كأنه واقفٌ لدى مولاه ماثلٌ بين يديه وهو يدعو بالخضوع والإخبات ويقرَعُ بالضَّراعة بابَ المناجاة قائلاً يا من هذه شئون ذاتهِ وصفاتهِ نخصُّك بالعبادة والإستعانة فإن كل ما سواك كائناً ما كانَ بمعزلٍ من استحقاق الوجود فضلاً عن استحقاق أن يعبد أو يستعان ولعل هذا هو السرُ في اختصاص السورةِ الكريمة بوجوب القراءة في كل ركعةٍ من الصلاة التي هي مناجاةُ العبدِ لمولاه ومئنة للتبتل إليه بالكلية وإيا ضميرٌ منفصلٌ منصوبٌ وما يلحَقه من الكاف والياءِ والهاءِ حروفٌ زيدت لتعيين الخطاب والتكلمُ والغَيبةُ لا محلَّ لها من الإعراب كالتاء في أنت والكاف في أرأيتَكَ وما ادعاه الخليلُ من الإضافة محتجاً عليه بما حكاه عن بعض العرب إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيا الشواب فما لا يعول عليه وقيل هي الضمائر وإيا دِعامةٌ لها لتُصيرَها منفصلة وقيل الضمير هو المجموع وقرئ إَيَّاك بالتخفيف وبفتح الهمزة والتشديد وهياك بقلب الهمزة هاء والعبادةُ أقصى غايةِ التذلل والخضوع ومنه طريقٌ معبّدٌ أي مذَلَّل والعبوديةُ أدنى منها وقيل العبادةُ فعلُ ما يرضَى بهِ الله والعبوديةُ

الرضى بما فعلَ الله تعالَى والاستعانةُ طلبُ المعونةِ على الوجه الذي مر بيانه وتقديم المفعول فيهما لما ذُكر من القصر والتخصيص كما في قوله تعالى {وَإِيَّاىَ فارهبون} مع ما فيه من التعظيم والاهتمامِ بِهِ قال ابنُ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا معناهُ نعبدك ولا نعبد غيرَك وتكريرُ الضمير المنصوبِ للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة من العبادة والاستعانة ولإبراز الاستلذاذِ بالمناجاة والخطاب وتقديمُ العبادة لِما أنها من مقتَضَيات مدلولِ الأسم الجليل وان ساعده الصفاتُ المُجْراةُ عليه أيضاً وأما الاستعانةُ فمن الأحكامِ المبنية على الصفات المذكورة ولأن العبادةَ من حقوق الله تعالى والاستعانة من حقوق المُستعين ولأن العبادة واجبة حتماً والاستعانةُ تابعةٌ للمستعان فيه في الوجوب وعدمِه وقيل لأن تقديمَ الوسيلة على المسئول أدعى إلى الإجابة والقبول هذا على تقديرِ كونِ إطلاقِ الاستعانةِ على المفعول فيه ليتناول كلَّ مستعانٍ فيه كما قالوا وقد قيل انه لما ان المسئول هو المعونةَ في العبادة والتوفيق لأقامة مراسمها على ما ينبغي وهو اللائقُ بشأن التنزيل والمناسبُ لحال الحامد فإن استعانتَه مسبوقةٌ بملاحظة فعلٍ من أفعاله ليستعينَه تعالى في إيقاعه ومن البيِّن أنه عند استغراقه في ملاحظة شئونه تعالى واشتغالِهِ بأداء ما يوجبه تلك الملاحظةُ من الحمد والثناء لا يكادُ يخطُر بباله من أفعاله وأحواله إلا الإقبالُ الكليُّ عليه والتوجهُ التامّ إليه ولقد فَعل ذلك بتخصيص العبادةِ به تعالى أولاً وباستدعاء الهدايةِ إلى ما يوصِلُ إليه آخِراً فكيف يُتصور أن يَشتغل فيما بينهما بما لا يَعنيه من أمور دنياه أو بما يعمُّها وغيرَها كأنه قيل وإياك نستعين في ذلك فإنّا غيرُ قادرين على اداء حقوقه من غير إعانةٍ منك فوجهُ الترتيب حينئذٍ واضح وفيه من الإشعار بعلوّ رُتبةِ عبادته تعالى وعزّةِ منالِها وبكونها عند العابدِ أشرفَ المباغي والمقاصدِ وبكونها من مواهبهِ تعالى لا من أعمال نفسِه ومن الملائمة لما يعقبُه من الدعاء ما لا يخفى وقيل الواوُ للحال أي إياك نعبدُ مستعينين بك وإيثارُ صيغةِ المتكلم مع الغير في الفعلين للإيذان بقصورِ نفسه وعدم لياقته بالوقوف في مواقف الكبرياءِ منفرداً وعَرْضِ العبادة واستدعاءِ المعونة والهداية مستقلاً وأن ذلك إنما يُتصور من عصابةٍ هو من جُملتهم وجماعةٍ هو من زُمرتهم كما هو ديدَنُ الملوكِ أو للإشعار باشتراك سائر الموحِّدين له في الحال العارضة له بناءً على تعاضُد الأدلةِ المُلْجئة إلى ذلك وقرئ نِسْتعين بكسر النون على لغة بني تميم

6

{اهدنا الصراط المستقيم} إفراد لمعظم أفراد المعونة المسئولة بالذكر وتعيينٌ لما هو الأهمُ أو بيان لها كأنه قيل كيف أُعينكم فقيل أهدينا والهدايةُ دلالةٌ بلطفٍ على ما يوصلُ إلى البغية ولذلك اختصّتْ بالخير وقولِهِ تَعَالَى {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الجحيم} وارد على نهج التهكم والأصل تعديته بإلى واللام كما في قوله تعالى {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الحق قُلِ الله يَهْدِى لِلْحَقّ} فعومل معاملةَ اختارٍ في قوله تعالى {واختار مُوسَى قَوْمَهُ} وعليه قولُه تعالى {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} وهدايةُ الله تعالى مع تنوعها إلى أنواع لا تكاد تُحصر منحصرةٌ في أجناس مترتبة منها أنفسيةٌ كإفاضة القُوى الطبيعيةِ والحيوانية التي بها يصدُر عن المرء أفاعيله الطبيعية والحيوانية والقوى المدرِكة والمشاعرُ الظاهرةُ والباطنة التي بها يتمكن من إقامة مصالِحه المعاشيةِ والمعاديّة ومنها آفاقيةٌ فإما تكوينيةٌ مُعْرِبة عن الحق بلسان الحال وهي نصبُ الأدلةِ المُودَعةِ في كل فردٍ من أفراد العالم حسبما لُوِّحَ به فيما سلف وإما تنزيليةٌ مُفْصِحةٌ عن تفاصيل الأحكامِ النظريةِ والعمليةِ بلسان المقالِ بإرسال الرسلِ

وإنزال الكتبِ المنطويةِ على فنون الهدايات التي من جملتها الإرشادُ إلى مسلك الاستدلالِ بتلك الأدلة التكوينيةِ الآفاقيةِ والأنفسية والتنبيهُ على مكانها كما أشير إليه مُجملاً في قولِه تعالَى وَفِى الأرضِ آيات لّلْمُوقِنِينَ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ وفي قوله عز وعلا {إِنَّ فِى اختلاف الليل والنهار وَمَا خَلَقَ الله فِى السماوات والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} ومنها الهدايةُ الخاصة وهي كشفُ الأسرارِ على قلب المُهْدَى بالوحي أو الإلهام ولكل مرتبةٍ من هذه المراتبِ صاحبٌ ينتحيها وطالبٌ يستدعيها والمطلوب إما زيادتُها كما في قوله تعالى {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} وإما الثباتُ عليها كما روي عن علي وأبي رضي الله عنهما إهدنا ثبّتنا ولفظ الهداية على الوجه الأخير مَجازٌ قطعاً وأما على الأول فإن اعتُبر مفهومُ الزيادة داخلاً في المعنى المستعمل فيه كان مجازاً أيضاً وإن اعتُبر خارجاً عنه مدلولاً عليه بالقرائنِ كان حقيقة لأن الهداية الزائدةَ هداية كما أن العبادة الزائدةَ عبادة فلا يلزم الجمعُ بين الحقيقة والمجاز وقرئ أرشدنا والصراط الجادة أصله السين قُلبت صاداً لمكان الطاء كمصيطر في مسيطر من سرط الشئ إذا ابتلعه سُمّيت به لأنها تسترِطُ السابلةَ إذا سلكوها كما سميت لَقْماً لأنها تلتقمهم وقد تُشَمُّ الصاد صوت الزائ تحرياً للقرب من المبدَل منه وقد قرئ بهن جميعاً وفُصحاهن إخلاصُ الصاد وهي لغة قريش وهي الثابتةُ في الإمام وجمعه صُرُط ككتاب وكُتب وهو كالطريق والسبيل في التذكير والتأنيث والمستقيم المستوي والمراد به طريقُ الحق وهي الملة الحنفية السمْحة المتوسطةُ بين الإفراط والتفريط

7

{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدلٌ من الأول بدلَ الكل وهو في حكم تكريرِ العامل من حيث إنه المقصودُ بالنسبة وفائدتُه التأكيدُ والتنصيصُ على أن طريق الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم وهم المسلمون هو العَلَمُ في الاستقامة والمشهودُ له بالاستواء بحيث لا يذهب الوهمُ عند ذكر الطريقِ المستقيم إلا إليه وإطلاقُ الإنعامِ لقصد الشمول فإن نِعمةَ الإسلام عنوانُ النعم كلِّها فمن فاز بها فقد حازها بحذافيرها وقيل المراد بهم الأنبياء عليهم السلام ولعل الأظهرَ أنهم المذكورون في قوله عز قائلاً {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} بشهادة ما قبله من قوله تعالى {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً} وقيل هم أصحابُ مُوسى وعيسى عليهما السَّلامُ قبل النسخ والتحريف وقرئ صراطَ مَنْ أنعمتَ عليهم والإنعامُ إيصالُ النعمة وهي في الأصل الحالةُ التي يستلِذُّها الإنسان من النعمة وهي اللينُ ثم أطلقت على ما تستلذّه النَّفسُ من طيّبات الدنيا ونِعَمُ الله تعالى مع استحالة احصائها ينحصر أصولُها في دنيويٍ وأُخروي والأول قسمان وهبيّ وكسبيّ والوهبي أيضاً قسمان روحاني كنفخ الروح فيه وإمدادِه بالعقل وما يتبعه من القُوى المدرِكة فإنها مع كونها من قبيل الهدايات نعمٌ جليلة في أنفسها وجُسماني كتخليق البدن والقُوى الحالَّةِ فيه والهيئاتِ العارضةِ له من الصّحة وسلامةِ الأعضاء والكسبيُّ تخليةُ النفسِ عن الرذائل وتحليتُها بالأخلاقِ السَّنية والملَكات البهيَّة وتزيينُ البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المرضية وحصول الحاه والمال والثاني مغفرةُ ما فَرط منه والرضى عنه وتَبْوئتُه في أعلى عليين مع المقربين والمطلوبُ هو القسم الأخير وما هو ذريعةٌ إلى نيلِه من القسم الأول اللهم ارزُقنا ذلك بفضلك العظيم ورحمتِك الواسعة {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ} صفةٌ للموصول على أنه عبارةٌ عن إحدى الطوائفِ المذكورةِ المشهورةِ بالإنعام عليهم وباستقامة المسْلك ومن ضرورة

هذه الشهرة شهر تهم بالمغايَرَة لما أضيف إليه كلمةُ غير من المتصفين بضدَّي الوصفين المذكورين أعني مطلقَ المغضوب عليهم والضالين فاكتسبت بذلك تَعرُّفاً مصححاً لوقوعها صفةً للمعرفة كما في قولك عليك بالحركة غيرِ السكون وُصفوا بذلك تكملةً لما قبله وإيذاناً بأن السلامة مما ابتُلي به أولئك نعمةٌ جليلةٌ في نفسها أي الذين جمعوا بين النعمة المُطلقة التي هي نعمةُ الإيمان ونعمةُ السلامة من الغضب والضلال وقيل المرادُ بالموصول طائفةٌ من المؤمنين لا بأعيانهم فيكون بمعنى النكرة كذي اللام إذا أريد به الجنسُ في ضمن بعضِ الأفراد لا بعينه وهو المسمى بالمعهود الذهني وبالمغضوب عليهم والضالين اليهودُ والنصارى كما ورد في مسند أحمدَ والترمذي فيبقى لفظُ غير على إبهامه نكرة كمثل موصوفِه وأنت خبير بأن جعْلَ الموصول عبارةَ عما ذُكر من طائفةٍ غيرِ معيَّنة مُخلٌّ ببدليةِ ما أضيف إليه مما قبله فإن مدارَها كونُ صراطِ المؤمنين علَماً في الاستقامة مشهوداً له بالاستواء على الوجه الذي تحقَّقْتَه فيما سلف ومن البيِّن أن ذلك من حيثُ إضافتُه وانتسابُه إلى كلهم لا إلى بعضٍ مُبْهَمٍ منهم وبهذا تبين أن لا سبيل إلى جعل غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بدلاً من الموصول لما عرفتَ من أنَّ شأنَ البدلِ أن يُفيدَ متبوعَهُ مزيدَ تأكيدٍ وتقرير وفضلَ إيضاحٍ وتفسيرٍ ولا ريب في أن قصارى أمرِ مَا نحنُ فيهِ إِنَّ يكتسبَ مما أضيف إليه نوعَ تعرُّفٍ مصحِّحٍ لوقوعه صفةً للموصول وأما استحقاقُ أن يكون مقصوداً بالنسبة مفيداً لما ذُكر من الفوائدِ فكل وقرئ بالنصبِ على الحالِ والعاملُ أنعمتَ أو على المدحِ أو على الاستثناء إنْ فُسّر النعمةُ بما يعمُّ القبيلين والغصب هيجانُ النفس لإرادة الانتقام وعند إسنادِه إلى الله سبحانه يُراد به غايتُه بطريق إطلاقِ اسمِ السبب بالنسبة إلينا على مسببه القريبِ إنْ أريد به إرادةُ الانتقام وعلى مسبّبِهِ البعيدِ إن أريد به نفسُ الانتقام ويجوز حملُ الكلام على التمثيل بأنْ يُشبه الهيئةُ المنتزعةُ من سَخَطه تعالى للعصاة وإرادةُ الانتقام منهم لمعاصيهم بما يُنتَزَعُ من حال الملِك إذا غضِب على الذين عصَوْه وأراد أن ينتقم منهم ويعاقِبَهم وعليهم مرتفِعٌ بالمغضوب قائم مَقامَ فاعلِه والعدولُ عن إسناد الغضب إليه تعالى كالإنعام جرَى على منهاج الآداب التنزيلية في نسبة النعم والخيرات إليه عز وجل دون أضدادها كما في قوله تعالى {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ والذى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} وقوله تعالى {وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رشدا} ولا مزيدةٌ لتأكيد ما أفاده غير من مَعْنَى النَّفي كأنَّه قيلَ لا المغضوبِ عليهم ولا الضالين ولذلك جازانا زيداً غيرُ ضاربٍ جوازَ أنا زيداً لا ضَارِبٌ وإن امتنع أنا زيداً مثلُ ضاربٍ والضلالُ هو العدول عن الصراط السوي وقرئ وغير الضالين وقرئ ولا الضأْلين بالهمزة على لغةِ مَنْ جدَّ في الهربِ من التقاءِ الساكنين {أَمِينٌ} اسم فعلٍ هو استجبْ وعن ابن عباس رضي الله عنهما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى آمِين فقال افعل بُني على الفتح كأينَ لالتقاء الساكنين وفيه لغتان مدُّ ألفه وقصرُها قال ويرحم الله عبداً قال آمينا وقال أمينَ فزاد الله ما بيننا بعداً عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم لقّنني جبريلُ آمينَ عند فراغي من قراءة فاتحةِ الكتاب وقال إنه كالختم على الكتاب وليست من القرآن وِفاقاً ولكن يسن ختمُ السورة الكريمة بها والمشهورُ عن أبي حنيفةَ رحمَهُ الله أن المصلّيَ يأتي بها مخافتةً وعنه أنه لا يأتي بها الإمامُ لأنه الداعي وعنِ الحسنِ رحمَهُ الله مثلُه وروَى الإخفاءَ عبدُ اللَّه بنُ مغفّل وأنسُ بنُ مالك عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم

سورة البقرة (1) وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله يُجهر بها لما روى وائلُ بنُ حجر أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كان اذا قرأولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبيّ بنِ كعب ألا أخبرك بسورة لم ينزِلْ في التوراة والإنجيل والقرآن مثلُها قلت بلى يا رسولَ الله قالَ فاتِحةُ الكتاب إنها السبعُ المثاني والقرآنُ العظيم الذي أوتيتُه وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه إن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قال إن القومَ ليبعثُ الله عليهم العذابَ حتماً مقضياً فيقرأ صبيٌّ من صبيانهم في الكتاب الحمدُ للَّهِ رَبّ العالمين فيسمعه الله تعالى فيرفعُ عنهم بذلك العذابَ أربعين سنة سورة البقرة مدنية وهى مائتان وسبع وثمانون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

البقرة

{الم} الألفاظُ التي يعبّر بها عن حروف المعجمِ التي من جملتها المُقطّعاتُ المرقومةُ في فواتح السورِ الكريمة اسماء لها لا ندراجها تحت حدِّ الاسم ويشهدُ به ما يعتريها من التعريف والتنكيرِ والجمعِ والتصغيرِ وغير ذلك من خصائص الاسم وقد نص على ذلك أساطينُ أئمة العربية وما وقع في عبارات المتقديمن من التصريح بحَرْفيتها محمولٌ على المسامحة وأمَّا ما رُوي عن ابنِ مسعود رضي الله عنه من انه صلى الله عليه وسلم قال من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنةٌ والحسنةُ بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف بل ألفٌ حرفٌ ولامٌ حرفٌ وميمٌ حرف وفي رواية الترمذي والدارمي لا أقول ألم حرفٌ وذلك الكتابُ حرف ولكنِ الألفُ حرفٌ واللامُ حرفٌ والميمُ حرفٌ والذالُ حرفٌ والكافُ حرفٌ فلا تعلّقَ له بما نحن فيه قطعاً فإن إطلاقَ الحرف على ما يقابل الاسمَ والفعلَ عرفٌ جديدٌ اخترعه أئمةُ الصناعة وإنما الحرفُ عند الأوائل ما يتركب منه الكلمُ من الحروف المبسوطة وربما يطلق على الكلمة ايضا تجوزا فأريد بالحديث الشريف دفعُ توهمِ التجوُّز وزيادةُ تعيينِ إرادةِ المعنى الحقيقي ليتبين بذلك أن الحسنةَ الموعودةَ ليست بعدد الكلماتِ القرآنية بل بعدد حروفها المكتوبةِ في المصاحف كما يلوِّح به ذكرُ كتابِ الله دون كلامِ الله أو القرآن وليس هذا من تسمية الشيء باسم مدلولهِ في شيء كما قيل كيف لا والمحكومُ عليه بالحرفية واستتباعِ الحسنةِ إنما هي المسمّياتُ البسيطةُ الواقعةُ في كتاب الله عز وجل سواءٌ عُبّر عنها بأسمائها أو بأنفسها كما في قولك السينُ مهملة والشينُ معجمة مثلثة وغير ذلك مما لا يصدُق المحمولُ إلا على ذات الموضوع لا أسماؤها المؤلفة كما إذا قلت الألف مؤلف من ثلاثة أحرف فكما أن الحسنات في قراءة قوله تعالى ذلك الكتاب بمقابلة حروفهِ البسيطة وموافقةٌ لعددها كذلك في قراءة قوله تعالى الم بمقابلة حروفهِ الثلاثة المكتوبة وموافقةٌ لعددها لا بمقابلة أسمائِها الملفوظة والألفاتِ الموافقة في العدد إذا لحكم بأن كلاً منها حرفٌ واحد مستلزمٌ للحكم بأنه مستتبعٌ لحسنةٍ واحدة فالعبرةُ في ذلك بالمعبَّر عنه دون المعبربه ولعل السرَّ فيه أن استتباعَ الحسنةِ منوطٌ بإفادة المعنى المرادِ بالكلمات القرآنية فكما أن سائرَ الكلماتِ الشريفة لا تفيد معانيَها إلا بتلفظ حروفِها بأنفسها كذلك الفواتحُ المكتوبةُ لا تفيد المعانيَ المقصودةَ بها إلا بالتعبير عنها بأسمائها فجُعل ذلك تلفظاً بالمسمَّيات كالقسم

للأول من غير فرقٍ بينهما ألا يُرى إلى ما في الروايةِ الأخيرة من قوله صلى الله عليه وسلم والذال حرف والكاف حرف كيف عبّر عن طَرَفي ذلك باسميها مع كونهما ملفوظين بأنفسهما ولقد روعيَتْ في هذه التسميةِ نُكتةٌ رائعة حيث جُعِلَ كلُ مسمىً لكونه من قبيل الألفاظ صَدْراً لاسمه ليكون هو المفهومَ منه إثرَ ذي أثير خلا أن الألفَ حيث تعذّر الابتداءُ بها استُعيرت مكانها الهمزة وهي مُعرَبة إذ لا مناسبةَ بينها وبين مبنيِّ الأصل لكنها مالم تلِها العواملُ ساكنةُ الأعجاز على الوقف كأسماء الأعدادِ وغيرِها حين خلت عن العوامل ولذلك قيل صادْ وقافْ مجموعاً فيهما بين الساكنين ولم يعامل معاملةَ أين وكيف وهؤلاءِ وإن وَلِيَها عاملٌ مسها الإعرابُ وقصرُ ما آخِرُه ألفٌ عند التهجي لابتغاء الخِفةِ لا لأن وِزانَه وزانُ لا تقصَرُ تارةً فتكونُ حرفاً وتمُدّ أخرى فيكون اسماً لها كما في قولِ حسَّانَ رضي الله عنه ... ما قال لا قطُّ إلا في تشهُّده ... لولا التشهُّدُ لم تُسْمَعْ له لاءُ ... هذا وقد تكلموا في شأن هذه الفواتح الكريمةِ وما أريد بها فقيل إنها من العلوم المستورةِ والأسرارِ المحجوبة رُوي عن الصدِّيقِ رضيَ الله عنه أنه قال في كل كتاب سرٌّ وسرُّ القرآن أوائلُ السور وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه إن لكل كتابٍ صفوةً وصفوةُ هذا الكتابِ حروفُ التهجّي وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال عجِزتِ العلماءُ عن إدراكها وسُئل الشعبي عنها فقال سرُّ الله عزَّ وجلَّ فلا تطلُبوه وقيل إنها أسماء الله تعالى وقيل كلُّ حرفٍ منها إشارة إلى اسمٍ من أسماءِ الله تعالى أو صفةٍ من صفاتِه تعالى وقيل إنها صفاتُ الأفعال الألفُ آلاؤء واللام لُطفه والميمُ مجدُه ومُلكُه قاله محمدُ بنُ كعبٍ القُرَظي وقيل إنها من قبيل الحساب وقيل الألفُ من الله واللامُ من جبريلَ والميمُ من محمد أي أنزل الله الكتابَ بواسطة جبريلَ على محمدٍ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل هي أقسام من الله تعالى بهذه الحروف المعجمة لشرفها من حيث أنها أصول اللغات ومبادئ كتبِه المنزلة ومباني أسمائِه الكريمة وقيل إشارةٌ إلى انتهاء كلامٍ وابتداءِ كلامٍ آخرَ وقيل وقيل ولكن الذي عليه التعويلُ إما كونُها أسماءً للسور المصدرة بها وعليه إجماعُ الأكثر وإليه ذهب الخليلُ وسيبويه قالوا سمِّيت بها إيذاناً بأنها كلماتٌ عربيةٌ معروفةُ التركيب من مسميات هذه الألفاظ فيكون فيه إيماءٌ إلى الإعجاز والتحدّي على سبيل الإيقاظِ فلولا أنه وحى من الله عز وجل لما عجِزوا عن معارضته ويقرُب منه ما قاله الكلبيُّ والسّدي وقَتادة من أنها أسماءٌ للقرآن والتسمية بثلاثة أسماءٍ فصاعداً إنما تُستنكر في لغة العرب إذا رُكِّبَتْ وجُعلت إسماً واحداً كما في حَضْرَموت فأما إذا كانت منثورة فلا استنكار فيها والمسمى هو المجموع لا الفاتحة فقط حتى يلزمَ اتحادُ الاسمِ والمسمى غايةُ الأمر دخولُ الاسم في المسمى ولا محذورَ فيه كما لا محذورَ في عكسه حسبما تحققْتَه آنفاً وإنما كُتبت في المصاحف صورُ المسميات دون صور الأسماءِ لأنه أدلَّ على كيفية التلفّظ بها وهي أن يكون على نهْج التهجّي دون التركيب ولأن فيه سلامةً من التطويل لا سيما في الفواتحِ الخُماسية على أن خطَّ المُصحف مما لا يناقَشُ فيه بمخالفة القياسِ وإما كونها مسرودة على نمط التعديدِ وإليه جنَح أهلُ التحقيق قالوا إنما وردت هكذا ليكون إيقاظا بمن تُحِدِّيَ بالقرآن وتنبيهاً لهم على أنه منتظمٌ من عين ما ينظِمون منه كلامَهم فلولا أنه خارجٌ عن طوْق البشر نازلٌ من عند خلاّق القُوى والقَدَر لما تضاءلت قوتُهم ولا تساقطت قدرتُهم وهم

فرسانُ حَلْبةِ الحِوار وأُمراءُ الكلام في نادي الفخار دون الإتيانِ بما يُدانيه فضلاً عن المعارَضة بما يُساويه مع تظاهرهم في المضادّة والمضارّة وتهالُكِهم على المعَازة والمعارّة أو ليكونَ مطلَعُ ما يُتلى عليهم مستقلاً بضربٍ من الغرابة أُنموذجاً لما في الباقي من فنون الإعجاز فإن النطقَ بأنفُس الحروفِ في تضاعيف الكلام وإن كان على طرف الثمام يتناولُه الخواصُّ والعوامُّ من الأعراب والأعجام لكن التلفظَ بأسمائها إنما يتأتَّى ممن درَس وخطَّ وأما ممن لم يحُمْ حولَ ذلك قطّ فأعزُّ من بَيْض الأَنُوق وأبعدُ من مَناط العَيُّوق لا سيما إذا كان على نمط عجيب وأسلوب غريب منبئ عن سرَ سِرِّيَ مبنيَ على نهجٍ عبقري بحيث يَحارُ في فهمه أربابُ العقول ويعجِزُ عن إدراكه ألبابُ الفحول كيف لا وقد وردت تلك الفواتحُ في تسعٍ وعشرين سورةً على عدد حروف المُعجم مشتملةً على نصفها تقريباً بحيث ينطوي على أنصاف أصنافِها تحقيقاً أو تقريباً كما يتّضحُ عند الفحص والتنقير حسبما فصّله بعضُ أفاضِلِ أئمةِ التفسير فسبحان من دقّتْ حكمتُه من أن يطالعها النظار وجلّت قُدرتُه عن أن ينالها أيدي الأفكار وإيرادُ بعضِها فرادى وبعضِها ثنائيةً إلى الخماسية جرَى على عادة الافتتان مع مراعاة أبنيةِ الكَلِم وتفريقِها على السور دون إيرادِ كلِّها مرةً لذلك ولما في التكرير والإعارة من زيادة إفادةٍ وتخصيصُ كلَ منها بسُورتها ممَّا لا سبيلَ إلى المطالبة بوجهه وعدُّ بعضِها آيةً دون بعضٍ مبنيٌّ على التوقيف البحت أما الم فآيةٌ حيثما وقعت وقيل في آل عمرانَ ليست بآية والمص آية والمر لم تعد آية والر ليست بآية في شئ من سورها الخمس وطسم آية في سورتيها وطه ويس آيتان وطس ليست بآية وحم آيةٌ في سُوَرِها كلِّها وكهيعص آية وحم عسق آيتان وص وق ون لم تُعَدَّ واحدةٌ منها آية هذا على رأي الكوفيين وقد قيل إن جميعَ الفواتحِ آياتٌ عندهم في السور كلِّها بلا فرقٍ بينها وأما مَنْ عداهم فلم يعُدّوا شيئاً منها آية ثم إنها على تقدير كونها مسرودة على نَمطِ التعديدِ لا تُشَمُّ رائحةَ الإعراب ويوقفُ عليها وقفَ التمام وعلى تقدير كونِها أسماءً للسور أو للقرآنِ كان لها حظٌّ منه إمَّا الرفعُ عَلَى الابتداءِ أو على الخبرية وإما النصبُ بفعل مضمر كا ذكر أو بتقديرِ فعلِ القَسَم على طريقة الله لأفعلن وإما الجرُ بتقدير حرفِه حسبما يتقتضيه المقام ويستدعيه النظام ولا وقف فيما عدا الرفعَ على الخبرية والتلفظُ بالكل على وجه الحكاية ساكنةَ الأعجاز إلا أن ما كانت منها مفردةً مثل ص وق ون يتأتَّى فيها الإعرابُ اللفظيُ أيضاً وقد قُرئت بالنصب على إضمار فعلِ أي اذكُرْ أو اقرأْ صادَ وقافَ ونونَ وإنما لم تنوَّنْ لامتناع الصرف وكذا ما كانت منها موازنةً لمفرد نحو حم ويس وطس الموازنةَ لقابيلَ وهابيلَ حيث أجاز سيبويهِ فيها مثلَ ذلك قال بابِ أسماءِ السُّورِ من كتابه وقد قرأ بعضُهم ياسينَ والقرآنِ وقافَ والقرآنِ فكأنه جعله اسماً أعجمياً ثم قال اذكُرْ ياسينَ انتهى وحكى السير افي أيضاً عن بعضهم قراءةَ ياسينَ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ في الكل تحريكاً لالتقاء الساكنين ولا مَساغَ لنصب بإضمارِ فعلِ القسمِ لأنَّ ما بعدَهَا مَنْ القرآن والقلمِ محلوفٌ بهما وقد استكرهوا الجمعَ بين قَسَمين على مُقسَمٍ عليه واحدٍ قبل انقضاءِ الأوَّلِ وهو السرُّ في جعل ما عدا الواوِ الأولى في قوله تعالى والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى عاطفةً ولا مجال للعطف ههنا للمخالفة بين الأولِ والثاني في الإعراب نعم يجوز ذلك بجعل الأولِ مجروراً

البقرة (2) بإضمارِ الباءِ القسَمية مفتوحاً لكونه غير منصوف وقرئ ص وق بالكسر على التحريك لا لتقاء الساكنين ويجوز في طاسين ميم أن تفتح نونُها وتُجعلَ من قبيل داراً بجَرَد ذكره سيبويه في كتابه وأما ما عدا ذلك من الفواتح فليس فيها إلا الحكايةُ وسيجيء تفاصيلُ سائر أحكامِ كلَ منها مشروحةً في مواقعها بإذن الله عزَّ سلطانُه أما هذه الفاتحةُ الشريفةُ فإن جُعلت اسماً للسورة أو القرآن فمحلُها الرفعُ إما على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ والتقديرُ هذا الم أي مسمًّى به وإنما صحت الإشارةُ إلى القرآن بعضاً أو كلاً معَ عدمِ سبْق ذكرِه لأنه باعتبار كونِه بصدد الذكرِ صار في حكم الحاضِرِ المشاهَد كما يقال هذا ما اشترى فلان وإما على أنه مبتدأ أي المسمَّى به والأولُ هو الأظهر لأن ما يُجعلُ عنوانَ الموضوع حقُه أنْ يكونَ قبلَ ذلكَ معلومَ الانتسابِ إليه عند المخاطَب وإذْ لا عِلْمَ بالتَّسميةِ قبلُ فحقُها الإخبارُ بها وادعاءُ شهرتها يأباه الترددُ في أن المسمَّى هي السورةُ أو كلُّ القرآن

2

{ذلك} ذا اسمُ إشارة واللام عماد جيء به للدلالة على بُعد المشارُ إليه والكافُ للخطاب والمشارُ إليه هو المسمَّى فإنه منزَّلٌ منزلةَ المشاهَدِ بالحسِّ البَصَري وما فيه من معنى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان بعلو شأنه وكونِه في الغايةِ القاصيةِ من الفضل والشرف إثرَ تنويهِه بذكر اسمِه وما قيل من أنَّه باعتبار التقصّي أو باعتبار الوصولِ من المرسِل إلى المرسَل إليه في حكم المتباعِد وإن كان مصححا لا يراده لكنه بمعزل من ترجيحه على إيراد ما وُضع للإشارة إلى القريب وتذكيرُه على تقدير كون المسمى هي السورة لأن المشارَ إليهِ هُوَ المسمَّى بالاسم المذكور من حيث هو مسمّىً به لا من حيث هو مسمًّى بالسورة ولئن ادُّعيَ اعتبارُ الحيثية الثانية في الأوَّلِ بناءً على أن التسمية لتمييز السور بعضِها من بعض فذلك لتذكير ما بعده وهو على الوجه الأولِ مبتدأٌ على حِدَةٍ وعلى الوجه الثاني مبتدأ ثانٍ وقوله عز وعلا {الكتاب} إما خبرٌ له أو صفةٌ أما إذا كان خبراً له فالجملةُ على الوجه الأولِ مستأنفةٌ مؤكِّدةٌ لما أفادته الجملةُ الأولى من نباهةِ شأنِ المسمَّى لا محلَّ لها من الإعراب وعلى الوجه الثَّاني في محلِّ الرَّفعِ على أنها خبرٌ للمبتدأ الأول واسمُ الإشارة مغنٍ عن الضمير الرابطِ والكتابُ إما مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ مبالغةً كالخَلْق والتصوير للمخلوق والمصور وإما فعال بني للمفعول كاللِّباس من الكتب الذي هو ضمُّ الحروف بعضِها إلى بعض وأصله الجمعُ والضمُ في الأمور البادية للحسِّ البصَري ومنه الكتيبةُ للعسكر كما أن أصل القراءة الجمعُ والضمُ في الأشياء الخافية عليه وإطلاقُ الكتاب على المنظوم عبارةً لِما أن مآله الكتابة والمرادُ به على تقدير كون المسمى هي السورة جميع القرآن الكريم وإن لم يتم نزولُه عند نزول السورة إما باعتبار تحققِه في علمِ الله عزَّ وجل أو باعتبار ثبوتِه في اللوح أو اعتبار نزولِه جُملةً إلى السماءِ الدُّنيا حسبَما ذُكر في فاتحةِ الكتاب واللام للعهد والمعنى أن هذه السورة هو الكتاب أي العمدةُ القصوى منه كأنه في إحراز الفضل كلُّ الكتاب المعهودِ الغنيُّ عن الوصف بالكمال لاشتهاره به فيما بين الكتب على طريقة قوله صلى الله عليه وسلم الحجُّ عَرَفة وعلى تقدير كون المسمَّى كلَّ القرآن فالمرادُ بالكتاب الجنسُ واللامُ الحقيقة والمعنى أن ذلك هو الكتابُ

الكاملُ الحقيقُ بأن يُخصَّ به اسم الكتاب لغاية تفوُّقه على بقية الأفراد في حيازة كمالاتِ الجنس كأن ما عداه من الكُتُب السماوية خارجٌ منه بالنسبة إليه كما يقال هو الرجل أي الكاملُ في الرجولية الجامعُ لما يكون في الرجال من مراضي الخِصال وعليهِ قولُ مَنْ قالَ ... هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ ... فالمدحُ كما ترى من جهة حصر كمال الجنس في فرد من أفراده وفي الصورة الأولى من جهة حصر كمال الكلِّ في الجزء ولا مساغَ هناك لحمل الكتاب على الجنس لما أن فردَه المعهود هو مجموعُ القرآن المقابلُ لسائر أفرادِه من الكتب السماوية لا بعضه الذي ينطلق عليه اسمُ الكتاب باعتبار كونه جزأ لهذا الفرد لا باعتبار كونِه جزئياً للجنس على حِياله ولأن حصرَ الكمالِ في السورة مُشعرٌ بنقصان سائرِ السور وإن لم يكن الحصرُ بالنسبة إليها لتحقيق المغايَرَة بينهما هذا على تقديرِ كونِ الكتاب خبراً لذلك وأما إذا كان صفةً له فذلك الكتابُ على تقدير كون ألم خبرُ مبتدإٍ محذوف وإما خبرٌ ثانٍ أو بدلٌ من الخبر الأول أو مبتدأٌ مستقلٌ خبرُه ما بعَدُه وعلى تقدير كونِه مبتدأً إما خبرٌ له أو مبتدأٌ ثانٍ خبرُه ما بعده والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأولِ والمشارُ إليه على كلا التقديرين هو المسمَّى سواءٌ كان هي السورةَ أو القرآن ومعنى البعد ما ذُكر من الإشعارِ بعلوِّ شأنِه والمعنى ذلك الكتاب العجيبُ الشأنِ البالغُ أقصى مراتبِ الكمال وقيل المشارُ إليه هو الكتابُ الموعودُ فمعنى البعدِ حينئذٍ ظاهرٌ خلا أنه إنْ كان المسمَّى هي السورةَ ينبغي أن يُرادَ بالوعد ما في قوله تعالى {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} كما قيل وإن كان هو القرآنَ فهو ما في التوراة والإنجيل هذا على تقديرِ كونِ الم اسماً للسورة أو القرآن وأما على تقدير كونها مسرودة على نمَط التعديدِ فذلك مبتدأ والكتابُ إما خبرُه أو صفتُه والخبرُ ما بعده على نحو ما سلف أو يُقدَّر مبتدأٌ أي المولف من هذه الحروف ذلك الكتاب وقرئ الم تنزيلُ الكتاب وقوله تعالَى {لاَ رَيْبَ فِيهِ} إما في محلِ الرفعِ على أنه خبرٌ لذلك الكتابُ على الصور الثلاثِ المذكورة أو على أنَّه خبرُ ثان لا لم أو لذلك على تقدير كونِ الكتابِ خبرَه أو للمبتدأ المقدرِ آخِراً على رأي من يجوِّز كونَ الخبر الثاني جملةً كما في قوله تعالى فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى وإما في محل النصب على الحالية من ذلك أو من الكتاب والعامل معنى الإشارة وإما جملةٌ مستأنَفة لا محلَّ لها من الإعراب مؤكِّدة لما قبلها وكلمةُ لا نافية للجنس مفيدةٌ للاستغراق عاملةٌ عملَ إنَّ بحملها عليها لكونها نقيضاً لها ولازمةً للاسم لزومَها واسمُها مبنيٌّ على الفتح لكونه مفرداً نكرةً لا مضافاً ولا شبيهاً به وأما ما ذكره الزجاج من أنه معربٌ وإنما حُذف التنوينُ للتخفيف فمما لا تعويلَ عليه وسببُ بنائه تضمُّنه لمعنى من الاستغراقية لا أنه مركب معها تركيبَ خمسةَ عشرَ كما توهم وخبرُها محذوف أي لا ريب موجودٌ أو نحوُه كما في قوله تعالى لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله والظرفُ صفةٌ لاسمها ومعناه نفيُ الكونِ المطلق وسلبُه عن الريب المفروضِ في الكتاب أو الخبرُ هو الظرف ومعناه سلبُ الكونِ فيه عن الريب المطلق وقد جُعل الخبرُ المحذوفُ ظرفاً وجعل المذكور خبرا لما بعده وقرئ لا ريبٌ فيه على أنَّ لا بمعنى ليس والفرق بينه وبين الأول أن ذلك موجبٌ للاستغراق وهذا مجوِّزٌ له والريب في الأصل مصدرُ رابني إذا حصل فيك الرِّيبة وحقيقتُها قلقُ النفس واضطرابُها ثم استعمل في معنى الشك مطلقاً أو معَ تُهمة لأنه يُقلق النفسَ ويزيل الطُمَأْنينة وفي

الحديث (دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلى مالا يَرِيبُك) ومعنى نفيه عن الكتاب أنه في علو الشأن وسطوعِ البرهانِ بحيث ليس فيه مظنةُ أنْ يُرتابَ في حقيقته وكونِه وحياً منزَّلاً من عند الله تعالى لا أنه لا يرتاب فيه أحدٌ أصلا ألا يرى كيف جُوِّز ذلك في قوله تعالى {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا} الخ فإنه في قوَّةِ أنْ يقالَ وإن كان لكم ريبٌ فيما نزلنا أو إنِ ارتبتم فيما نزلنا الخ إلا أنه خُولِفَ في الأسلوب حيث فُرض كونُهم في الريب لا كونُ الريبِ فيه لزيادة تنزيهِ ساحةِ التنزيلِ عنه مع نوع إشعارٍ بأن ذلك من جهتِهِم لا من جهته العالية ولم يقصد ههنا ذلك الإشعارُ كما لم يقصَدِ الإشعارُ بثبوت الريبِ في سائر الكتب ليقتضِيَ المقامُ تقديمَ الظرف كما في قوله تعالى {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} {هُدًى} مصدرٌ من هداه كالسرى والبكى وهو الدَّلالةُ بلطفٍ على ما يوصلُ إلى البغية أي ما مِنْ شأنِه ذلك وقيل هي الدلالة الموصله اليها بليل وقوعِ الضلالة في مقابلته في قوله تعالى {أُوْلَئِكَ الذين اشتروا الضلالة بالهدى} وقوله تعالى {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ} ولا شك في أن عدم الوصولِ معتبرٌ في مفهوم الضلال فيعتبر الوصولُ في مفهوم مقابلهِ ومن ضرورة اعتباره فيه اعبتاره في مفهوم الهدى المتعدّي إذ لا فرق بيهما إلا من حيث التأثيرُ والتأثّر ومحصّلهُ أن الهدى هو التوجيهُ الموصِل لأن اللازم هو التوجُّه الموصِلُ بدليل أنَّ مقابِلَه الذي هو الضلال توجهٌ غيرُ موصل قطعاً وهذا كما ترى مبنيٌّ على أمرين اعتبارِ الوصولِ وجوباً في مفهوم اللازم واعتبارِ وجودِ اللازم وجوباً في مفهوم المتعدّي وكلا الأمرين بمعزل من الثبوت أما الأول فلأن مدارَ التقابل بين الهدى والضلالِ ليس هو الوصولَ وعدمَه على الإطلاق بل هما معتبَران في مفهوميهما على وجهٍ مخصوصٍ به ليتحقق التقابلُ بينهما وتوضيحُه أن الهدى لا بُدَّ فيهِ من اعتبار توجّهٍ عن علم إلى ما من شأنه الإيصالُ إلى البُغية كما أن الضلال لا بد فيه توجّهٍ عن علم إلى ما من شأنه الإيصالُ إلى البُغية كما أن الضلال لا بُدَّ فيهِ من اعتبار الجَوْرِ عن القَصْد إلى ما ليس من شأنه الإيصالُ قطعاً وهذه المرتبةُ من الاعتبار مُسلّمةٌ بين الفريقين ومُحقِّقةٌ للتقابل بينهما وإنما النِّزاعُ في أن إمكان الوصولِ إلى البغية هل هو كاف في تحصل مفهومِ الهدى أو لا بُدَّ فيهِ من خروج الوصولِ من القوةِ إلى الفعلِ كما أن عدم الوصولِ بالفعل معتبرٌ في مفهوم الضلال قطعاً إذا تقرر هذا فنقول إن أريد باعتبار الوصولِ بالفعل في مفهوم الهدى اعتبارُه مقارِناً له في الوجود زماناً حسَبَ اعتبارِ عدمِه في مفهوم مقابلِه فذلك بيِّنُ البُطلان لأن الوصولَ غايةٌ للتوجّه المذكور فينتهي به قطعاً لاستحالة التوجُّهِ إلى تحصيل الحاصِل وما يبقى بعد ذلك فهو إما توجّهٌ إلى الثبات عليه وإما توجّهٌ إلى زيادته ولأن التوجّهَ إلى المقصدِ تدريجيّ والوصولَ إليه دفعيّ فيستحيلُ اجتماعهما في الوجود ضرورة وأما عدمُ الوصولِ فحيث كان أمراً مستمراً مثلَ ما يقتضيه من الضلال وجبَ مقارنتُه له في جميع أزمنةِ وجوده إذ لو فارقه في آنٍ من آنات تلك الأزمنةِ لقارنه في ذلك الآن مقابلة ال 4 ذي هو الوصول فما فرضناه ضلالا لا يكون ضلالها وإن أريد اعتبارُه من حيث إنه غايةٌ له واجبةُ الترتُّب عليه لزِم أن يكون التوجُّهُ المقارِنُ لغاية الجِدِّ في السلوك إلى ما من شأنه الوصولُ عند تخلُّفِه عنه لمانع خارجي كاخترام المِنيَّةِ مثلاً من غير تقصيرٍ ولا جَوْر من قِبَل المتوجِّه ولا خللٍ من جهة المسلكِ ضلالاً إذ لا واسطةَ بينهما مع أنه لاجور فيه عن القصد أصلاً فبطَلَ اعتبارُ وجوبِ الوصولِ في مفهومِ اللازم قطعاً

وتبين منه عدمُ اعتبارِه في مفهوم المتعديّ حتماً وأما اعتبارُ وجودِ اللازم فيه وجوباً وهو الأمرُ الثاني فبيانُه مبنيٌّ على تمهيد أصل وهو أن فعلَ الفاعل حقيقةً هو الذي يصدُر عنه ويتمُّ من قِبَله لكن لمَّا لم يكُن له في تحقُّقه في نفسه بدٌّ من تعلّقه بمفعوله اعتُبر ذلك في مدلول اسمِه قطعاً ثم لما كان له باعتبار كيفيةِ صدورِه عن فاعله وكيفيةِ تعلّقِه بمفعوله وغيرِ ذلك آثارٌ شتّى مترتبةٌ عليه متمايزةٌ في أنفسها مستقلةٌ بأحكامٍ مقتضيةٍ لإفرادها بأسماءٍ خاصة وعُرض له بالقياس إلى كل أثرٍ من تلك الآثارِ إضافةٌ خاصة ممتازة عما عداها من الإضافات العارضة له بالقياس إلى سائرها وكانت تلك الآثارُ تابعةً له في التحقّق غيرَ منفكّةٍ عنه أصلاً إذ لا مؤثِّرَ لها سوى فاعلِه عُدَّت من متمماته واعتُبرت الإضافةُ العارضة له بحسبها داخلة في مدلوله كالاعتماد المتعلِّق بالجسم مثلاً وُضع له باعتبار الإضافةِ العارضةِ له من انكسار ذلك الجسم الذي هو أثرٌ خاصٌّ لذلك الاعتماد اسمُ الكسر وباعتيار الإضافةِ العارضةِ له من انقطاعه الذي هو أثرٌ آخَرُ له اسم القطع إلى غير ذلك من الإضافات العارضة له بالقياس إلى آثاره اللازمةِ له وهذا أمر مطَّرد في آثاره الطبيعية وأما الآثارُ التي له مدخَلٌ في وجودها في الجملة من غير إيجابٍ لها تترتب عليه تارة وتفارقه أخرى بحسب وجودِ أسبابِها الموجبةِ لها وعدمِها كالآثار الاختياريةِ الصادرةِ عن مؤثراتها بواسطة كونهِ داعياً إليها فحيث كانت تلك الآثارُ مستقلةً في أنفسها مستندةً إلى مؤثراتها غيرَ لازمةٍ له لزوم الآثار الطبيعية التابعة له لم تعُدْ من متمماته ولم تُعتبر الإضافةُ العارضة له بحسبها داخلة في مدلوله كالإضافة العارضةِ للأمر بحسَبِ امتثالِ المأمور والإضافةِ العارضةِ للدعوة بحسب إجابةِ المدعوّ فإن الامتثال والإجابة وإن عُدّا من آثار الأمرِ والدعوةِ باعتبار ترتّبهما عليهما غالباً لكنهما حيث كانا فِعلين اختياريين للمأمور والمدعوِّ مستقِلَّيْن في أنفسهما غيرَ لازمين للأمر والدعوة لم يُعَدا من متمماتهما ولم يعتبر الإضافةُ العارضةُ لهما بحسبهما داخلةً في مدلولِ اسمِ الأمرِ والدعوةِ بل جُعلا عبارة عن نفس الطلب المتعلّقِ بالمأمورِ والمدعوّ سواءٌ وجد الامتثال والإجابة أولا إذا تمهّد هذا فنقولُ كما أن الامتثالَ والإجابةَ فعلان مستقلانِ في أنفسهما صادران عن المدعوِّ والمأمورِ باختيارهما غيرُ لازمين للأمر والدعوة لزومَ الآثارِ الطبيعية التابعة للأفعال الموجبة لها وإن كانا مترتِّبين عليهما في الجملة كذلك هُدى المَهْديّ أي توجُّهُه إلى ما ذكر من المسلك فعلٌ مستقلٌ له صادرٌ عنه باختياره غيرُ لازم للهداية أعني التوجيهَ إليه لزومَ ما ذُكر من الآثارِ الطبيعية وإن كان مترتباً عليها في الجملة فلما لم يُعَدّا من متممات الأمر والدعوة ولم يعتبر الإضافةُ العارضةُ لهما بحسبهما داخلةً في مدلولهما عُلم أنه لم يُعدَّ الهدى اللازمُ من متممات الهداية ولم يعتبر الإضافةُ العارضة لها بحسبه داخلةً في مدلولها إن قيل ليس الهُدى بالنسبة إلى الهداية كالامتثال والإجابة بالقياس إلى أصليهما فإنَّ تعلق الأمر والدعوة بالمأمور والمدعوِّ لا يقتضي إلا اتصافهما بكونهما مأموراً ومدعواً وليس من ضرورته اتصافُهما بالامتثال والإجابة إذ لا تلازمَ بينهما وبين الأوّلَيْن أصلاً بخلاف الهدى بالنسبة إلى الهداية فإن تعلقها بالمهديِّ يقتضي اتصافه به لأن تعلقَ الفعل المتعدِّي المبنيِّ للفاعل بمفعوله يدل على اتصافه بمصدره المأخوذِ من المبنيِّ للمفعول قطعاً وهو مستلزِمٌ لاتصافه بمصدرِ الفعل اللازم وهل هو الاعتبار وجودُ اللازم في مدلول المتعدي حتماً قلنا كما أن تعلقَ الأمر والدعوةِ بالمأمور والمدعوِّ لا يستدعي الااتصافهما بما ذكر

من غير تعرّضٍ للامتثال والإجابة إيجاباً وسلباً كذلك تعلقُ الهدايةِ التي هي عبارةٌ عن الدلالة المذكورة بالمهدى لا يستدعى الااتصافه بالمدلولية التي هي عبارةٌ عن المصدر المأخوذ من المبنيّ للمفعول من غير تعرض لقبول تلك الدلالة كما هو معنى الهدى اللازم ولا لعدم قبوله بل الهدايةُ عينُ الدعوة إلى طريق الحق والاهتداءُ عينُ الإجابة فكيف يؤخذ في مدلولها واستلزامُ الاتصافِ بمصدر الفعل المتعدي المبنيِّ للمفعول للاتصاف بمصدر الفعل اللازم مطلقاً إنما هو في الأفعال الطبيعية كالمكسورية والانكسار والمقطوعية والانقطاع وأما الأفعال الاختيارية فليست كذلك كما تحققته فيما سلف إن قيل التعلمُ من قبيل الأفعال الاختياريةِ مع أنه معتبرٌ في مدلول التعليم قطعاً فليكن الهدى مع الهداية كذلك قلنا ليس ذلك لكونه فعلاً اختيارياً على الإطلاق ولا لكون التعليم عبارةً عن تحصيل العلم للمتعلم كما قيل فإن المعلم ليس بمستقل في ذلك ففي إسناده إليه ضربُ تجوّز بل لأن كلاًّ منهما مفتقر في تحققه وتحصُّله إلى الآخر فإن التعليمَ عبارةٌ عن إلقاء المبادئ العلمية على المتعلم وسَوْقِها إلى ذهنه شيئاً فشيئاً على ترتيب يقتضيه الحال بحيث لا يُساق إليه بعضٌ منها إلا بعد تلقِّيه لبعضٍ آخر فكلٌّ منهما متمِّمٌ للآخَر معتبرٌ في مدلوله وأما الهدى الذي هو عبارة عن التوجُّه المذكور ففعلٌ اختياريٌّ يستقل به فاعله لادخل للهداية فيه سوى كونِها داعيةً إلى إيجاده باختياره فلم يكن من متمماتها ولا معتبراً في مدلولها إن قيل التعليمُ نوعٌ من أنواع الهداية والتعلمُ نوعٌ من أنواع الاهتداء فيكون اعتبارُه في مدلول التعليم اعتباراً للهدى في مدلول الهداية قلنا إطلاقُ الهداية على التعليم إنما هو عند وضوحِ المسلك واستبدادِ المتعلم بسلوكه من غير دخلٍ للتعليم فيه سوى كونه داعياً إليه وقد عرفت جليةَ الأمر على ذلك التقدير إن قيل أليس تخلّفُ الهدى عن الهداية كتخلف التعلم عن التعليم فحيث لم يكن ذلك تعليماً في الحقيقة فليكن الهداية أيضاً كذلك وليُحمَلْ تسمية مالا يستتبعُ الهدى بها على التجوز قلنا شتانَ بين التخلّفَيْن فإن تخلف التعلم عن التعليم يكون لقصور فيه كما أن تخلفَ الانكسار عن الضرب الضعيف لذلك وأما تخلفُ الهدى عن الهداية فليس لشائبةِ قصورٍ من جهتها بل إنما هو لفقد سببه الموجبِ له من جهة المهديّ بعد تكاملِ ما يتم من قبل الهادي وبهذا التحريرِ اتَّضحَ طريقُ الهداية وتبين أنها عبارةٌ عن مطلق الدلالةِ على ما من شأنه الإيصالُ إلى البُغية بتعريف معالمهِ وتبيين مسالكِه من غير أن يُشترط في مدلولها الوصولُ ولا القبول وأن الدلالة المقارِنة لهما أو لأحدهما والمفارقة عنهما كلُّ ذلك مع قطع النظرِ عن قيد المقارنة وعدمها افراد حقيقة لها وأن ما في قوله تعالى {إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} وقوله تعالى {وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ} ونحوُ ذلك مما اعتُبر فيه الوصولُ من قبيل المجاز وانكشف أن الدلالاتِ التكوينية المنصوبةِ في الأنفس والآفاق والبيانات التشريعية الواردة في الكتب السماوية على الإطلاق بالنسبة إلى كافة البرية برِّها وفاجرِها هداياتٌ حقيقة فائضة من عند الله سبحانه والحمدُ لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا وما كنا لنهتديَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله {لّلْمُتَّقِينَ} أي المتصفين بالتقوى حالا أو مآ لا وتخصيصُ الهدى بهم لما أنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بآنارة وإن كان ذلك شاملاً لكل ناظرمن مؤمن وكافر وبذلك الاعتبار قال الله هُدًى لّلنَّاسِ والمتقي اسمُ فاعلٍ من باب الافتعال من الوقاية وهي فرْطُ الصيانة والتقوى في عُرف الشرع عبارةٌ عن كمال التوقي عما يضُره في

الآخرة قال عليه السلام جُماعُ التقوى في قوله تعالى إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدلِ والإحسانِ الآية وعن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ أنه تركُ ما حرم الله وأداءُ ما فرضَ الله وعن شَهْر بن حَوْشَب المتقي من يترك مالا بأسَ به حذراً من الوقوع فيما فيه بأسٌ وعن أبي يزيد أن التقوى هو التورعُ عن كل ما فيه شبهة وعن محمد بن حنيف أنه مجانبةُ كلِّ ما يبعدك عن الله تعالى وعن سهل المتقي من تبرأ عَنْ حَوله وقدرته وقيل التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقِدَك حيث أمرك وعن ميمونِ بنِ مهران لا يكون الرجلُ تقياً حتى يكون أشدَّ محاسبةً لنفسه من الشريك الشحيحِ والسُلطانِ الجائر وعن أبي تراب بين يدي التقوى خمس عقبات لا يناله من لا يجاوِزُهن إيثارُ الشدة على النعمة وإيثارُ الضعفِ على القوة وإيثارُ الذلِّ على العزة وإيثارُ الجهد على الراحة وإيثارُ الموتِ على الحياة وعن بعض الحكماء أنه لا يبلغُ الرجل سَنامَ التقوى إلا أن يكون بحيث لوجعل ما في قلبه في طبَقٍ فطِيفَ به في السوق لم يستحْيِ ممن ينظُر إليه وقيل التقوى أن تَزِين سِرَّك للحق كما تَزينُ علانيتَك للخلق والتحقيق أن للتقوى ثلاثَ مراتبَ الأولى التوقي عن العذاب المخلِّد بالتبرؤ عن الكفر وعليه قوله تعالى {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} والثانية التجنبُ عن كلِّ ما يُؤثِمَ من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارَفُ بالتقوى في الشرع وهو المعنيُّ بقوله تعالى {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب آمنوا واتقوا} والثالثة أن يتنزه عن كل ما يشغل سره عن الحق عز وجل ويتبتل إليه بكليته وهو التقوى الحقيقيُّ المأمورُ به في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} ولهذه المرتبة عَرْضٌ عريض يتفاوت فيه طبقاتُ أصحابها حسَب تفاوتِ درجاتِ استعداداتهم الفائضةِ عليهم بموجب المشيئةِ الإلهيةِ المبنيّةِ على الحِكَم الأبيةِ أقصاها ما انتهى إليه هممُ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام حيث جمعوا بذلك بين رياسَتي النبوةِ والولاية وما عاقهم التعلقُ بعالم الأشباحِ عن العروجِ إلى معالم الأرواح ولم يصدهم الملابسةُ بمصالحِ الخلقِ عن الاستغراقِ في شئون الحقِّ لكمال استعدادِ نفوسِهم الزكيةِ المؤيدةِ بالقوة القدسيةِ وهدايةُ الكتابِ المبين شاملةٌ لأرباب هذه المراتب أجمعين فإن أريد بكونه هدىً للمتقين إرشادُه إياهم إلى تحصيل المرتبة الأولى ونيلِها فالمرادُ بهم المشارفون للتقوى مجازاً لاستحالة تحصيلِ الحاصل إيثاره على العبارة المعرِبةِ عن ذلك للإيجاز وتصديرِ السورة الكريمةِ بذكر أوليائه تعالى وتفخيمِ شأنهم وإن أريد به إرشادُه إلى تحصيل إحدى المرتبتين الأخيرتين فإن عنى بالمتقين أصحابَ الطبقةِ الأولى تعيَّنت الحقيقة وإن عنى بهم أصحاب إحدى الطبقتين الأخيرتين تعيَّن المجاز لأن الوصولَ إليهما إنما يتحقق بهدايته المترقَّبة وكذا الحال فيما بين المرتبةِ الثانية والثالثة فإنه إن أريد بالهدى الإرشادُ إلى تحصيل المرتبةِ الثالثة فإن عنى بالمتقين أصحابَ المرتبة الثانيةِ تعيَّنت الحقيقة وإن عنى بهم أصحابَ المرتبةِ الثالثةِ تعيَّن المجاز ولفظُ الهدايةِ حقيقةٌ في جميع الصور وأما إن أريد بكونه هدىً لهم تثبيتُهم على ماهم عليه أو إرشادُهم إلى الزيادة فيه على أن يكون مفهومُها داخلاً في المعنى المستعمل فيه فهو مجازٌ لا محالة ولفظُ المتقين حقيقةٌ على كل حال واللامُ متعلقةٌ بهدىً أو بمحذوف وقع صفة له أو حالاً منه ومحلُ هدى الرفعُ على أنه خبر لمبتدإٍ محذوفٍ أيْ هُوَ هدى أو خبر مع لاريب فيه لذلك الكتاب أو مبتدأٌ خبرُه الظَّرفُ المقدَّمُ كمَا أُشير إليهِ أو النصب على الحالية من ذلك أو من الكتاب والعامل معنى الإشارة أو من الضميرِ في فيه والعاملُ ما في الجار

البقرة (3) والمجرور من معنى الفعل المنفي كأنه قيل لم يحصُلْ فيه الريبُ حال كونه هادياً على أنه قيدٌ للنفي لا للمنفيّ وحاصله انتفى الريبِ فيه حال كونه هادياً وتنكيرُه للتفخيم وحملُه على الكتاب إما للمبالغة كأنه نفسُ الهدى أو لجعل المصدر بمعنى الفاعل هذا والذي يستدعيه جزالةُ التنزيلِ في شأن ترتيب هذه الجُمل أن تكون متناسقةً تقرِّرُ اللاحقةُ منها السابقة ولذلك لم يتخلل بينها عاطف فالم جملةٌ برأسها على أنها خبرٌ لمبتدأ مضمر أو طائفةٌ من حروف المُعجم مستقلةٌ بنفسها دالةٌ على أن المتحدَّى به هو المؤلَّفُ من جنسِ ما يؤلفون منه كلامهم وذلك الكتابُ جملةٌ ثانيةٌ مقرِّرةٌ لجهة التحدي لما دلت عليه من كونه منعوتاً بالكمال الفائق ثم سجل على غاية فضلِه بنفي الريبِ فيه إذ لا فضلَ أعلى مما للحق واليقين وهدى للمتقين مع ما يقدَّر له من المبتدأ جملةٌ مؤكدةٌ لكونه حقاً لا يحوم حوله شائبةُ شكٍ ما ودالةٌ على تكميله بعد كمالِه أو يستتبعُ السابقة منها اللاحقةُ استتباعَ الدليل للمدلول فإنه لما نبَّه أولاً على إعجاز المتحدَّى به من حيث إنه من جنس كلامِهم وقد عجَزوا عن معارضته بالمرة ظهر أنه الكتابُ البالغُ أقصى مراتبِ الكمال وذلك مستلزمٌ لكونه في غاية النزاهة عن مظنّة الريب إذ لا أنقصَ مما يعتريه الشك وما كان كذلك كان لا محالة هدىً للمتقين وفي كلَ منها من النُكت الرائقة والمزايا الفائقة مالا يخفى جلالةُ شأنه حسبما تحققته

3

{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغيب} إما موصولٌ بالمتقين ومحلُّه الجرُّ على أنه صفةٌ مقيِّدةٌ له إن فُسّر التقوى بترك المعاصي فقط مترتبةٌ عليه ترتّبَ التحلية على التَّخْلية وموضِّحةٌ إن فُسِّر بما هو المتعارَفُ شرعاً والمتبادَرُ عُرفاً من فعل الطاعات وتركِ السيئات معاً لأنها حينئذٍ تكون تفصيلاً لما انطوى عليه اسمُ الموصوف إجمالاً وذلك لأنها مشتملة على ماهو عمادُ الأعمال وأساسُ الحسنات من الإيمان والصلاة والصدقة فإنها أمهاتُ الأعمال النفسانية والعباداتِ البدنية والمالية المستتبِعة لسائر القُرَب الداعيةِ إلى التجنب عن المعاصي غالباً ألا يُرى إلى قوله تعالى {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفحشاء والمنكر} وقوله عليه السلام الصلاةُ عمادُ الدين والزكاةُ قنطرةُ الإسلام أو مادحةً للموصوفين بالتقوى المفسَّرِ بما مر من فعل الطاعات وتركِ السيئات وتخصيص ماذكر من الخِصال الثلاثِ بالذكر لإظهار شرفِها وإنافتها على سائر ما انطوى تحت اسمِ التقوى من الحسنات أو النصب على المدح بتقدير أعني أو الرفعُ عليه بتقدير هم وإما مفصولٌ عنه مرفوعٌ بالابتداء خبرُه الجملةُ المصدّرةُ باسمِ الإشارةِ كما سيأتي بيانُه فالوقفُ على المتقين حينئذ وقفٌ تام لأنه وقف على مستقبل مابعده أيضا مستقبل وأما على الوجوه الأول فحسنٌ لاستقلال الموقوف عليه غيرُ تامَ لتعلق مابعده به وتبعيّته له أما على تقدير الجر على الوصفية فظاهر وأما على تقدير النصبِ أو الرفع على المدح فلما تقرَّر من أنَّ المنصوبَ والمرفوعَ مَدحاً وإنْ خرجَا عن التبعية لما قبلها صورةً حيثُ لم يتبعاهُ في الإعرابِ وبذلك سُمّيا قطعاً لكنَّهما تابعانِ له حقيقةً أَلاَ يُرى كيفَ التزمُوا حذفَ الفعلِ والمبتدأ في النَّصبِ والرَّفعِ رَومْاً لتصوير كلَ منهما بصورةِ متعلِّقٍ من متعلقات ماقبله وتنبيهاً على شدَّةِ الاتِّصالِ بينهما قال أبو علي إذا ذكرت صفات للمدح وخولف في بعضها الإعرابُ فقد خولف للافتنان أي للتفنن الموجب لإيقاظ السامع وتحريكه إلى الجِدّ في الإصغاء فإن تغييرَ الكلامِ المَسوقِ لمعنى

من المعاني وصَرْفَه عن سننه المسلوك ينبئ عن اهتمامٍ جديدٍ بشأنه من المتكلِّم ويستجلبُ مزيدَ رغبةٍ فيه من المخاطب إن قيل لا ريبَ في أن حال الموصول عند كونِه خبراً لمبتدأ محذوف كحاله عند كونه مبتدأ خبرُه أولئك على هدى في أنه ينسبك به جملةً اسميةً مفيدة لاتصاف المتقين بالصفات الفاضلة ضرورةَ أن كلاًّ من الضمير المحذوف والموصولِ عبارةٌ عن المتقين وأن كلاًّ من اتصافهم بالإيمان وفروعِه وإحرازهم للهدى والفلاحِ من النعوت الجليلية فما السرُّ في أنه جُعل ذلك في الصورة الأولى من توابع المتقين وعُدَّ الوقفُ غيرَ تام وفي الثانية مقتطعاً عنه وعُدَّ الوقفُ تامًّا قلنا السرُّ في ذلك أن المبتدأ في الصورتين وإن كان عبارة عن المتقين لكن الخبرَ في الأولى لما كان تفصيلاً لما تضمنه المبتدأ إجمالاً حسبما تحققته معلومُ الثبوت له بلا اشتباه غيرُ مفيد للسامع سوى فائدةِ التفصيلِ والتوضيح نُظم ذلك في سلك الصفاتِ مراعاةً لجانب المعنى وإن سمي قطعاً مراعاة لجانب كيف لا وقد اشتهر في الفن أن الخبر إذا كان معلومَ الانتساب إلى المخبر عنه حقه أن يكون وصفاً له كما أن الوصف إذا لم يكن معلومَ الانتساب إلى الموصوف حقُّه أن يكون خبراً له حتَّى قالُوا إن الصفاتِ قبلَ العلمِ بها أخبارٌ والأخبارُ بعدَ العلمِ بها صفات وأما الخبرُ في الثانية فحيث لم يكن كذلك بل كان مشتملاً على مالا ينبئ عنه المبتدأ من المعاني اللائقة كما ستحيطُ به خبرا مفيداً للمخاطب فوائدَ رائقة جُعل ذلك مقتطعاً عما قبله محافظةً على الصورة والمعنى جميعاً والإيمانُ إفعالٌ من الأمن المتعدّي إلى واحد يقال آمنتُه وبالنقل تعدى إلى اثنين يقال آمنَنيه غيري ثم استُعمل في التصديق لأن المصَدِّقَ يؤمِنُ المُصَدَّق أي يجعله أميناً من التكذيب والمخالفة واستعماله بالباء لتضمينه معنى الاعتراف وقد يطلق على الوثوق فإن الواثقَ يصير ذا أمنٍ وطُمأنينة ومنه ما حُكي عن العرب ما آمِنْتُ أن أجد صحابة أي ما صِرْتُ ذا أمنٍ وسكون وكلا الوجهين حسن ههنا وهو في الشرع لا يتحقق بدون التصديق بما عُلم ضرورةَ أنَّه من دين نبينا عليه الصلاة والسلام كالتوحيد والنبوةِ والبعثِ والجزاءِ ونظائرِها وهل هو كافٍ في ذلك او لابد من انضمام الإقرار إليه للمتمكن منه والأول رأيُ الشيخ الأشعري ومن شايعه فإن الإقرارَ عنده منشأٌ لإجراء الأحكام والثاني مذهبُ أبي حنيفة ومن تابعه وهو الحق فإنه جعلهما جزأين له خلا أن الإقرارَ ركنٌ محتمِلٌ للسقوط بعذر كما عند الإكراه وهو مجموعُ ثلاثةِ أمور اعتقادُ الحق والإقرارُ به والعملُ بموجبه عند جمهورِ المحدثين والمعتزلة والخوارج فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق ومن أخل بالإقرارِ فهو كافر ومن أخل بالعمل فهو فاسق اتفاقاً وكافرٌ عند الخوارج وخارجٌ عن الإيمان غيرُ داخلٍ في الكفر عند المعتزلة وقرئ يُومنون بغير همزة والغيبُ إما مصدرٌ وُصف به الغائبُ مبالغةً كالشهادة في قوله تعالى {عالم الغيب والشهادة} أو فيعل خفف كقيل في قيل وهيْنٍ في هيّن وميْتٍ في ميِّت لكن لم يُستعمل فيه الأصلُ كما استعمل في نظائره وأيا ما كان فهو ما غابَ عن الحسِّ والعقلِ غَيْبة كاملةً بحيث لا يُدرَك بواحد منهما ابتداءً بطريق البَداهة وهو قسمان قسم لا دليل عليه وهو الذي أريد بقوله سبحانه {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} وقسم نُصب عليه دليل كالمصانع وصفاتِه والنبواتِ وما يتعلق بها من الأحكام والشرائع واليومِ الآخر وأحوالِه من البعث والنشورِ والحسابِ والجزاء وهو المراد ههنا فالباءُ صلةٌ للإيمان إما بتضمينه معنى الاعتراف أو

يجعله مجازاً من الوثوق وهو واقعٌ موقعَ المفعول به وإما مصدرٌ على حاله كالغيبة متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الفاعلِ كما في قولِه تعالى {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} وقوله تعالى {لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} أي يؤمنون متلبسين بالغيبة إما عن المؤمن به أي غائبين عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم غيرَ مشاهدين لما فيه من شواهد النبوة لما رُوي أن أصحابَ ابنِ مسعود رضي الله عنه ذكروا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيمانهم فقال رضي الله عنه إن أمرَ محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام كان بيِّناً لمن رآه والذي لا إله غيرُه ما آمن مؤمنٌ أفضلَ من الإيمان بغيب ثم تلاَ هذهِ الآيةَ وإما عن الناس أي غائبين عن المؤمنين لا كالمنافقين الذين إذا لقُوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلَوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم وقيل المرادُ بالغيب القلبُ لأنه مستور والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ماليس في قلوبهم فالباءُ حينئذٍ للآلة وتركُ ذكرِ المؤمَن به على التقادير الثلاثةِ إما للقصد إلى إحداث نفس الفعل كما في قولِهم فلانٌ يُعطي ويمنعُ أي يفعلون الإيمان وإما للاكتفاء بما سيجيء فإن الكتبَ الإلهية ناطقةٌ بتفاصيل ما يجبُ الإيمانُ بهِ {وَيُقِيمُونَ الصلاة} إقامتُها عبارةٌ عن تعديل أركانها وحفظِها من أن يقع في شئ من فرائضها وسننها وآدابِها زيغ من أقام العُودِ إذا قوّمه وعدّله وقيل عن المواظبة عليها مأخوذٌ من قامت السُّوق إذا نفَقت وأقمتُها إذا جعلهتا نافقة فإنها إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يُرغب فيه وقيل عن التشمُّر لأدائها عن غير فتور ولاتوان من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جدَّ فيه واجتهد وقيل عن أدائها عبَّر عنه بالإقامة لاشتماله على القيام كما عبَّر عنه بالقنوت الذي هو القيامُ وبالركوع والسجود والتسبيح والأولُ هو الأظهر لأنه أشهرُ وإلى الحقيقة أقربُ والصلاةُ فَعْلةٌ من صلَّى إذا دعا كالزكاة من زكّى وإنما كُتبتا بالواو مراعاة للفظ المفخّم وإنما سُمِّيَ الفعلُ المخصوصُ بها لاشتماله على الدعاء وقيل أصلُ صلى حرَّك الصَّلَوَيْنِ وهما العظمان الناتئان في أعلى الفخِذين لأن المصليَ يفعله في ركوعه وسجوده واشتهارُ اللفظ في المعنى الثاني دون الأول لا يقدح في نقله عنه وإنما سُمِّيَ الداعي مصلياً تشبيهاً له في تخشّعه بالراكع والساجد {ومما رزقناهم ينفقون} الرزق في اللغة العطاءُ ويطلق على الحظ المعطى نحو ذِبْحٍ ورِعْيٍ للمذبوح والمَرْعيِّ وقيل هو بالفتح مصدر وبالكسر اسم وفي العُرف ما ينتفِعُ به الحيوان والمعتزلةُ لما أحالوا تمكينَ الله تعالى من الحرام لأنه منَعَ من الانتفاع به وأمرَ بالزجر عنه قالوا الرزقُ لا يتناول الحرام ألا يرى أنه تعالى أسند الرزقَ إلى ذاته إيذاناً بأنهم ينفقون من الحلال الصرف فإن إنفاقَ الحرام بمعزل من إيجاب المدح وذمَّ المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وحلالا} وأصحابنا جعلوا الإسنادَ المذكورَ للتعظيم والتحريضِ على الإنفاق والذمَّ لتحريم مالم يحرّم واختصاصَ ما رزقناهم بالحلال للقرينة وتمسكوا لشمول الرزق لهما بما رُوي عنه عليه السلام في حديث عَمْرو بن قرَّة حين أتاه فقالَ يا رَسُول الله إنَّ الله كَتَبَ عَلَيَّ الشِّقْوَةَ فلا أرى أُرْزَقُ إلاَّ مِنْ دُفِّي بِكَفِّي فَأْذَنْ لِي فِي الغِنَاءِ من غيرِ فَاحِشَةٍ من أنه قال عليه السلام لاَ آذَنُ لَكَ وَلاَ كَرَامةَ ولا تعمة كَذَبْتَ أيْ عَدُوَّ الله والله لَقَدْ رَزَقَكَ الله حَلاَلاً طَيِّباً فَاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ الله عَلَيْكَ مِنْ رِزْقِهِ مَكَانَ مَا أَحَلَّ الله لَكَ مِنْ حَلاَلِهِ وبأنه لولم يكن الحرامُ رزقاً لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقاً وقد قال الله تعالى {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} والإنفاقُ والإنفادُ أخوانِ خلا أن

البقرة (4) في الثاني معنى الإذهاب بالكلية دون الأول والمرادُ بهذا الإنفاق الصَّرْفُ إلى سبيل الخير فرضاً كان أو نفلاً ومن فسَّر بالزكاة ذكر أفضلَ أنواعه والأصل فيه أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقُها والجملة معطوفة على ماقبلها من الصلة وتقديمُ المفعول للاهتمام والمحافظة على رءوس الآي وإدخال من التبعيضية عليه للكف عن التبذير هذا وقد جوِّز أنْ يراد به الإنفاقُ من جميع المعاون التي منحهم الله تعالى من النعم الظاهرةِ والباطنةِ ويؤيده قوله عليه السلام (إن علماً لا يُنال به ككنز لا يُنفق منه) وإليه ذهب من قال ومما خَصَصْناهم من أنوار المعرفة يَفيضون

4

{والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} معطوفٌ على الموصول الأولِ على تقديري وصلِه بما قبله وفصلُه عنه مندرجٌ معه في زُمرة المتقين من حيث الصورةُ والمعنى معاً أو من حيث المعنى فقط اندراجَ خاصَّيْنِ تحت عام إذ المرادُ بالأولين الذين آمنوا بعد الشركِ والغفلةِ عن جميع الشرائعِ كما يُؤذِن به التعبيرُ عن المؤْمَن به بالغيب وبالآخرين الذين آمنوا بالقرآن بعد الإيمان بالكتب المنزله قبل كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَم وأضرابِه أو على المتقين على أن يراد بهم الأولون خاصة ويكون تخصيصُهم بوصف الاتقاءِ للإيذان بتنزّههم عن حالتهم الأولى بالكلية لما فيها من كمال القباحة والمباينةِ للشرائعِ كلِّها الموجبةِ للاتقاء عنها بخلاف الآخرين فإنهم غيرُ تاركين لما كانوا عليه بالمرة بل متمسكون بأصول الشرائعِ التي لا تكاد تختلف باختلاف الأعصار ويجوز أن يجعل كلا الموصلين عبارةً عن الكل مندرجاً تحت المتقين ولا يكون توسيط العاطف بينمها لا ختلاف الذوات بل لاختلاف الصفات كما في قولِه إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليثِ الكتبيةِ في المُزْدَحَمْ وقوله يالهفَ زيّابةَ للحارثِ الصابحِ فالغانِمِ فالآيبِ للإيذانِ بأنَّ كلَّ واحدٍ من الإيمان بما أشير إليه من الأمور الغائبةِ والإيمان بما يشهد بثبوتها من الكتب السماوية نعتٌ جليلٌ على حِياله له شأنٌ خطيرٌ مستتبِعٌ لأحكامِ جَمةٍ حقيقٌ بأنْ يُفردَ له موصوفٌ مستقلٌّ ولا يُجعل أحدُهما تتمةً للآخر وقد شُفِع الأولُ بأداء الصلاة والصدقة اللتين هما من جملة الشرائعِ المندرجةِ تحت تلك الأمور المؤمَن بها تكملةً له فإن كمال العلم العمل وقُرن الثاني بالإيقان بالآخرة مع كونه منطوياً تحت الأول تنبيهاً على كمال صِحتِه وتعريضاً بما في اعتقاد أهلِ الكتابين من الخلل كما سيأتي هذا على تقدير تعلّقِ الباءِ بالإيمان وقِسْ عليه الحالَ عند تعلّقِها بالمحذوف فإن كلاً من الإيمان الغيبيِّ المشفوعِ بما يصدّقه من العبادتين مع قطع النظرِ عن المؤمَن به والإيمانِ بالكتب المنزلةِ الشارحة لتفاصيل الأمور التي يجب الإيمانُ بها مقروناً بما قُرن فظيلة باهرة مستدعية لما ذكر والله تعالى أعلم وقد حُمل ذلك على معنى أنهم الجامعون بين الإيمانِ بما يدركه العقلُ جملةً والإتيانِ بما يصدّقه من العبادات البدنية والمالية وبين الإيمان بما لا طريقَ إليه غيرُ السمع وتكريرُ الموصول للتنبيه على تغايُر القَبيلَيْن وتباينُ السبيلين فلْيُتأمَّلْ وأن يراد بالموصول الثاني بعد اندراج الكلِّ في الأول فريقٌ خاصٌّ منهم وهم مُؤمنو أهلِ الكتابِ بأن يُخَصّوا بالذكر تخصيص جبريل وميكائيل به إثرَ جَرَيانِ ذكر الملائكة عليهم السلام تعظيماً لشأنهم وترغيباً لأمثالهم وأقرانِهم في تحصيل مالهم من الكمال والإنزالُ النقلُ من الأعلى إلى الأسفل وتعلقه

البقرة (5) بالمعاني إنما هو بتوسّط تعلقه بالأعيان المستتبة لها فنزولُ ما عدا الصحفَ من الكتب الإلهية إلى الرُّسلِ عليهم السَّلامُ والله تعالى أعلم بأن يتلقاها الملَكُ من جنابِه عزَّ وجلَّ تلقياً روحانياً أو يحفَظَها من اللَّوحِ المحفوظِ فينزِلَ بها إلى الرسل فيُلقِيهَا عليهم عليهم السلام والمراد بما أنزل إليك هو القرآنُ بأسره والشريعةُ عن آخرها والتعبيرُ عن إنزاله بالماضي مع كون بعضِه مُترقَّباً حينئذ لتغليب المحقَّقِ على المقدار أو لتنزيل ما في شرَفِ الوقوعِ لتحقُّقه منزلةَ الواقعِ كما في قوله تعالى {إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} مع أن الجنَّ ما كانوا سمعوا الكتابَ جميعاً ولا كان الجميعُ إذ ذاك نازلاً وبما أنزل من قبلك التوراةُ والإنجيلُ وسائرُ الكتب السالفة وعدمُ التعريض لذكر من أُنزل إليه من الأنبياءِ عليهم السلام لقصد الإيجازِ مع عدم تعلُّقِ الغرَض بالتفصيل حسَبَ تعلقِه به في قوله تعالى {قولوا آمنا بالله وما أنزل إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل} الآية والإيمانُ بالكل جملةً فرضٌ وبالقرآنِ تفصيلاً من حيث إنا متعبَّدون بتفاصيله فرضُ كفاية فإن في وجوبه على الكل عَيناً حَرَجاً بيناً وإخلالاً بأمر المعاش وبناءُ الفعلين للمفعول للإيذان تعين الفاعل والجري على شأن الكِبرياء وقد قُرئا على البناء للفاعل {وبالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ} الإيقانُ إتقانُ العلم بالشيء بنفي الشكِّ والشبهةِ عنه ولذلك لا يُسمَّى علمُه تعالى يقيناً أي يعلمون علماً قطعياً مُزيحاً لما كان أهلُ الكتاب عليه من الشكوك والأوهام التي من جملتها زعمُهم أن الجنة لا يدخُلها إلاَّ منْ كانَ هُوداً أو نصارى وأن النارَ لن تمسَّهم إلا أياماً معدوداتٍ واختلافُهم في أن نعيمَ الجنة هل هو من قبيل نعيم الدنيا أو لا وهل هو دائم أو لا وفي تقديم الصلة وبناءِ يوقنون على الضمير تعريضٌ بمن عداهم من أهل الكتاب فإن اعتقادَهم في أمور الآخرة بمعزل من الصحة فضلاً عن الوصول إلى مرتبة اليقين والآخرةُ تأنيثُ الآخِر كما أن الدنيا تأنيثُ الأدنى غَلَبتا على الدارين فجرَتا مجرى الأسماء وقرئ بحذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على اللام وقرئ يوقنون بقلب الواو همزة إجراءً لضم ما قبلها مجرى ضمِّها في وجوه ووقتت ونظيرُه ما في قوله لحب المؤقدان إلى مؤسى ... وجعدة إذ أضاءهما الوقود وقولُه تعالى

5

{أولئك} إشارةٌ إلى الذينَ حُكيت خِصالُهم الحميدةُ من حيث اتصافُهم بها وفيهِ دلالةٌ على أنَّهم متميِّزون بذلك أكمل تميُّزٍ منتطمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبُعد منزلتِهم في الفضلِ وهو مبتدأٌ وقوله عز وعلا {على هُدًى} خبرُه وما فيه من الإبهام المفهومِ من التنكير لكمال تفخيمِه كأنه قيل على أي هدى هدىً لا يُبلَغ كُنهُه ولا يُقادَرُ قدرُه وإيرادُ كلمةِ الاستعلاء بناءً على تمثيل حالهم في ملابستهم بالهدى بحال من يَعْتلي الشيء ويستولى عليه بحيث يتصرف فيه كيفما يريد أو على استعارتها لتمسكهم بالهدى استعارةً تبعية متفرّعةً على تشبيهه باعتلاء الراكبِ واستوائِه على مركوبه أو على جعلها قرينةً للاستعارة بالكناية بين الهدى والمركوبِ للإيذان بقوةِ تمكّنِهم منه وكمالِ رسوخهم فيه وقولُه تعالى {مِنْ رَّبّهِمُ} متعلقٌ بمحذوف وقع صفة له مبينة لفخامته الإضافية إثر بيانِ فخامته الذاتية

مؤكدةً لها أي على هدىً كائنٍ من عنده تعالى وهو شاملٌ لجميع أنواع هدايتِه تعالى وفنونِ توفيقِه والتعرّضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرهم لغاية تفخيمِ الموصوفِ والمضافِ إليهم وتشريفِهما ولزيادة تحقيقِ مضمونِ الجملة وتقريرِه ببيانِ ما يوجبُه ويقتضيه وقد ادمغت النونُ في الراء بغُنةٍ أو بغير غنة والجملةُ على تقدير كونِ الموصولَين موصولَين بالمتقين مستقلةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مقرِّرةٌ لمضمون قولِه تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ مع زيادة تأكيدٍ له وتحقيق كيف لا وكونُ الكتاب هدىً لهم فنٌّ من فنون ما مُنِحوه واستقروا عليه من الهدى حسبما تحققْتَه لا سيما مع ملاحظة ما يستتبعه من الفوز والفلاح وقيل هي واقعةٌ موقعَ الجواب عن سؤالٍ ربما ينشأ مما سبق كأنه قيل ما للمنعوتين بما ذُكِرَ من النعوتِ اختُصّوا بهداية ذَلِكَ الكتابِ العظيمِ الشَّأنِ وهل هم أحقاءُ بتلك الأثرَة فأجيب بأنهم بسبب اتصافِهم بذلك ما لكون لزِمام أصلِ الهدى الجامعِ لفنونه المستتبِع للفوز والفلاح فأيُّ ريبٍ في استحقاقهم لما هو فَرعٌ من فروعه ولقد جار عن سَنن الصواب من قال في تقرير الجواب إن أولئك الموصوفين غيرُ مستبعَدٍ أن يفوزوا دون الناسِ بالهدى عاجلاً وبالفلاح آجلاً وأما على تقدير كونِهما مفصولَين عنه فهي في محلِ الرفعِ على أنها خبرٌ للمبتدأ الذي هُوَ الموصولُ الأول والثاني معطوفٌ عليه وهذه الجملةُ استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الذهنُ من تخصيص ما ذُكر بالمتقين قبل بيان مبادى استحقاقِهم لذلك كأنه قيل ما بالُ المتقين مخصوصين به فأجيب بشرح ما انطوى عليه اسمُهم إجمالاً من نعوت الكمال وبيان ما يستدعيه من النتيجة أي الذين هذه شئؤنهم أحقاءُ بما هو أعظمُ عن ذلك كقولك أُحِبّ الأنصارَ الذين قارعوا دون رسولِ الله صلى الله عليه وسلم زبذلوا مُهجتَهم في سبيل الله أولئك سوادُ عيني وسُوَيْدَاءُ قلبي وأعلم أن هذا المسلك يسلك تارة بإعاد اسمِ مَن استُؤنِفَ عنه الحديثُ كقولك أحسنتُ إلى زيدٍ زيدٌ حقيقٌ بالإحسان وأخرى بإعادةِ صفتِه كقولك أحسنتُ إلى زيدٍ صديقِك القديمِ أهلٌ لذلك ولا ريب في أن هذا أبلغُ من الأول لما فيه من بيان الموجِبِ للحكم وإيرادُ اسمِ الإشارةِ بمنزلة إعادة الموصوفِ بصفاته المذكورة مع ما فيه من الإشعار بكمال تميُّزِه بها وانتظامِه بسببِ ذلكَ في سلكِ الأمور المشاهدة والإيماءِ إلى بُعد منزلتِه كما مر هذا وقد جُوِّز أنْ يكون الموصولُ الأول مُجرىً على المتقين حسبما فُصّل والثاني مبتدأ وأولئك الخ خبرُه ويُجعل اختصاصُهم بالهدى والفلاح تعريضاً بغير المؤمنين من أهل الكتاب حيثُ كانُوا يزعُمون أنَّهم على الهدى ويطمعون في نيل الفلاح {وأولئك هُمُ المفلحون} تكريرُ اسمِ الأشارة لاضهار مزيدِ العنايةِ بشأن المشارِ إليهم وللتنبيه على أن اتصافَهم بتلك الصفات يقتضي نيلَ كلِّ واحدةٍ من تَيْنكَ الأثَرَتين وأن كلاً منهما كاف في تمييزهم بها عمن عداهم ويؤيده توسيطُ العاطف بين الجملتين بخلاف ما في قوله تعالى {أُوْلَئِكَ كالأنعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون} فإن التسجيلَ عليهم بكمال الغفلة عبارةٌ عما يفيده تشبيهُهُم بالبهائم فتكون الجملةُ الثانية مقررةً للأولى وأما الإفلاحُ الذي هو عبارةٌ عن الفوز بالمطلوب فلمّا كان مغايراً للهدى نتيجةً له وكان كلٌّ منهما في نفسه أعزَّ مرامٍ يتنافس فيه المتنافسون فعل ما فعل وهم ضميرُ فصلٍ يفصِلُ الخبرَ عن الصفة ويؤكِّد النسبةَ ويفيد اختصاصَ المسندِ بالمسند إليه أو مبتدأٌ خبرُه المفلحون والجملةُ خبرٌ لأولئك وتعريفُ المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناسُ الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة أو إشارةٌ إلى ما يعرِفه كلُّ أحد من

البقرة (6) حقيقة المفلحين وخصائصِهم هذا وفي بيان اختصاصِ المتقين نبيل هذه المراتبِ الفائقةِ على فنونٍ من الاعتبارات الرائقة حسبما أُشيرَ إليهِ في تضاعيفِ تفسير الآية الكريمة من الترغيب في افتفاء أثرِهم والإرشاد إلى اقتداءِ سيرِهم ما لا يخفى مكانُه والله وليُّ الهداية والتوفيق

6

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} كلامٌ مستأنف سيق لشرح أحوالِ الكَفَرة الغواة المَرَدة العُتاة إثرَ بيانِ أحوالِ أضدادِهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمباغيهم في الحال والمآل وإنما تُرك العاطفُ بينهما ولم يُسلك به مسلكَ قولِه تعالَى {إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ} لِمَا بينهما من التنافي في الأسلوب والتبايُن في الغرض فإن الأولى مَسوقةٌ لبيان رفعةِ شأنِ الكتاب في باب الهداية والإرشاد وأما التعرضُ لأحوال المهتدين به فإنما هو بطريق الاستطراد سواءٌ جُعل الموصولُ موصولاً بما قبله أو مفصولاً عنه فإن الاستئنافَ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الكلام المتقدم فهو من مستتبِعاته لا محالة وأما الثانيةُ فمسوقةٌ لبيان أحوالِ الكفرة أصالةً وترامي أمرِهم في الغَواية والضلالِ إلى حيث لا يُجديهم الإنذارُ والتبشير ولا يؤثّر فيهم العِظةُ والتذكير فهم ناكبون في تيهِ الغيِّ والفساد عن منهاج العقول وراكبون في مسلك المكابرة والعِناد متنَ كل صعب وذلول وإنما أوثرتْ هذه الطريقةُ ولم يؤسَّس الكلامُ على بيان أن الكتابَ هادٍ للأولين وغيرُ مُجدٍ للآخَرِين لأن العنوانَ الأخيرَ ليس مما يورثُه كمالاً حتى يُتعرَّضَ له في أثناء تعدادِ كمالاته وإن من الحروف التي تشابه الفعلَ في عدد الحروف والبناءِ على الفتح ولزومِ الأسماءِ ودخولِ نون الوقاية عليها كإنني ولعلني ونظائرهما وإعطاء معانيه والمتعدى خاصةً في الدخول على اسمين ولذلك أُعملت عملَه الفرْعيَّ وهو نصبُ الأول ورفعُ الثاني إيذاناً بكونه فرعاً في العمل دخيلاً فيه وعند الكوفيين لا عملَ لها في الخبر بل هو باقٍ على حاله بقضية الاستصحاب وأجيب بأن ارتفاعَ الخبر مشروطٌ بالتجرد عن العوامل وإلا لما انتصب خبرُ كان وقد زال بدخولها فتعين إعمالُ الحرف وأثرُها تأكيدُ النسبة وتحقيقُها ولذلك يتلقى بها القسم ويصدر بها الأجوبة ويؤتى بها في مواقع الشكِ والإنكارِ لدفعه وردِّه قال المبّرِد قولُك عبدُ اللَّه قائمٌ إخبارٌ عن قيامه وإن عبدَ اللَّه قائمٌ جوابُ سائلٍ عن قيامه شاكٍ فيه وإن عبدَ اللَّه القائم جوابُ منكرٍ لقيامه وتعريف الموصولُ إما للعهد والمرادُ به ناسٌ بأعيانهم كأبي لهبٍ وأبي جهلٍ والوليدِ بن المُغيرة وأضرابِهم وأحبارِ اليهود أو للجنس وقد خُص منه غيرُ المُصرِّين بما أسند إليه من قوله تعالى سَوَاء عَلَيْهِمْ الخ والكُفْرُ في اللغة سترُ النعمة وأصلُه الكَفْرُ بالفتح أي الستر ومنه قيل للزراع والليلِ كافرٌ قال تعالى {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ} وعليه قول لبيد ... في ليلةٍ كَفَر النجومَ غمامُها ... ومنه المتكفِّرُ بسلاحه وهو الشاكي الذي غطى السلاحُ بدنه وفي الشريعة إنكارُ ما عُلم بالضرورة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به وإنما عُدَّ لبسُ الغيارُ وشد الزنار بغير اضطرار ونظائرُهما كفراً لدلالته على التكذيب فإن مَنْ صدق النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لا يكاد يجترئ على أمثال ذلك إذ لا داعيَ إليه كالزنى وشربِ الخمر واحتجت المعتزلة على حدوث القرآن بما جاء فيه بلفظ الماضي على وجه الإخبار

فإنه يستدعي سابقةَ المُخبَرِ عنه لا محالة وأُجيب بأنه من مقتضيات التعلقِ وحدوثِه لا يستدعي حدوثَ الكلام كما أن حدوثَ تعلّقِ العلم بالمعلوم لا يستدعي حدوثَ العلم {سَوَآء} هو اسمٌ بمعنى الاستواء نُعت به كما يُنعت بالمصادر مبالغةً قال تعالى {تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} وقوله تعالى {عليهم} متعلق به معناه عندهم وارتفاعُه على أنه خبر لأن وقوله تعالى {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} مرتفعٌ به على الفاعليةِ لأن الهمزةَ وأَمْ مجردتان عن معنى الاستفهام لتحقيق الاستواء بين مدخوليهما كما جُرِّد الأمر والنهي لذلك عن معنييهما في قوله تعالى {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وحرفُ النداء في قولك اللهم اغفرْ لنا أيتها العِصابة عن معنى الطلب المجرد التخصيص كأنَّه قيلَ إِنَّ الذين كفروا مستوٍ عليهم إنذارُك وعدمُه كقولك إن زيداً مختصمٌ أخوه وابنُ عمه أو مبتدأ وسواء عَلَيْهِمْ خبرٌ قُدم عليه اعتناء بشأنه والجملة خبرٌ لإن والفعل إنما يمتنعُ الإخبار عنه بقائه على حقيقته أما لو أريد به اللفظُ أو مطلقُ الحدث المدلولِ عليه ضمناً على طريقة الاتساع فهو كالاسم في الإضافة والإسناد إليهِ كما في قولِه تعالى {هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} وقوله تعالى وإذاقيل لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ وفي قولهم بالمُعَيديِّ خيرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ كأنه قيل إنذارُك وعدمه سيان عليهم والعدول إلى الفعل لما فيهِ من إيهامِ التجدُّد والتوصّلُ إلى إدخال الهمزة ومُعادلِها عليه لإفادة تقرير معنى الاستواء وتأكيده كما أشير إليه وقيل سواء مبتدأ ومابعده خبره وليس بذاك لأن مقتضى المقام بيانُ كونِ الإنذار وعدمِه سواءً لا بيان كون المستوي الإنذارَ وعدمَه والإنذارُ إعلامُ المَخوفِ للاحتراز عنه إفعال من نذر بالشئ إذا علِمه فحذِره والمراد ههنا التخويف من عذاب الله وعقابه على المعاصي والاقتصارُ عليه لما أنهم ليسوا بأهل للبشارة أصلاً ولأن الإنذار أوقعُ في القلوب وأشدُّ تأثيراً في النفوس فإن دفع المضارِّ أهم من جلب المنافع فحيث لم يتأثروا به فلأن لايرفعوا للبشارة راسا أولى وقرئ بتوسيط ألفٍ بين الهمزتين مع تحقيقهما وبتوسيطها والثانية بَيْنَ بين وبتخفيف الثانية بين بين بلا توسيط وبحذف حرف الاستفهام وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله كما قرئ قد أفلح وقرئ بقلب الثانية ألفاً وقد نسب ذلك إلى اللحن {لاَ يُؤْمِنُونَ} جملةٌ مستقلةٌ مؤكدة لما قبلها مبينة لما فيه من إجمالِ ما فيه الاستواءُ فلا محلَّ لها من الإعرابِ أو حالٌ مؤكدةٌ له أو بدلٌ منه أو خبرٌ لأن وما قبلها اعتراضٌ بما هو عِلة للحكم أو خبرٌ ثانٍ على رَأْي مَن يجوِّزه عند كونه جملة والآية الكريمة مما استدل به على جواز التكليف بما لا يطاق فإنه تعالى قد أخبر عنهم بأنهم لايؤمنون فظهر استحالةُ إيمانهم لاستلزامه المستحيلَ الذي هو عدمُ مطابقةِ إخباره تعالى للواقع مع كونهم مأمورين بالإيمان باقين على التكليف ولأن من جملة ما كُلفوه الإيمان بعدم إيمانهم المستمر والحق أن التكليف بالمتنع لذاته وإن جاز عقلاً من حيث إن الأحكامَ لا تستدعي أغراضاً لا سيما الامتثالُ لكنه غيرُ واقع للاستقراء والإخبارُ بوقوعِ الشئ أو بعدمه لا ينفي القُدرة عليه كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبدُ باختياره وليس ما كلفوه الإيمانَ بتفاصيلِ ما نطقَ بهِ القرآنُ حتَّى يلزمَ أن يُكلفوا الإيمان بعدم إيمانهم المستمر بل هُوَ الإيمانُ بجميعِ ما جاء به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم إجمالاً على أن كون الموصولِ عبارةً عنهم ليس معلوماً لهم وفائدةُ الإنذار بعد العلم بأنه لا يفيد إلزامَ الحجةِ وإحرازَ الرسول صلى الله عليه وسلم فضل الإبلاغ ولذلك قيل سواء عليهم ولم يقل عليك كما قيل لعبَدة الأصنام {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أنتم صامتون}

البقرة (7) وفي الآية الكريمة إخبارٌ بالغيبِ على ما هُو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات الباهرة

7

{خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} استئنافٌ تعليليٌّ لما سبقَ من الحكمِ وبيانٌ لما يقتضيه أو بيان وتأكيد له والمرادُ بالقلب محلُّ القوة العاقلة من الفؤاد والختم على الشئ الاستيثاقُ منه بضرب الخاتم عليه صيانةً له أو لما فيه من التعرض له كما في البيت الفارغ والكيس المملوء والأولُ هو الأنسب بالمقام إذْ ليسَ المرادُ بهِ صيانةَ ما في قلوبهم بل إحداث حالة تجعلهما بسبب تماديهم في الغي وانهماكِهم في التقليد وإعراضِهم عن منهاج النظر الصحيح بحيث لا يؤثر فيها الإنذار ولا ينفُذُ فيها الحقُّ أصلاً إما على طريقة الاستعارةِ التبعية بأن يُشبّه ذلك بضرب الخاتم على نحو أبوابِ المنازل الخالية المبنية للسُكنى تشبيهَ معقولٍ بمحسوس بجامعٍ عقلي هو الاشتمالُ على منع القابل عما من شأنه وحقه أن يقبَلَه ويستعار له الختمُ ثم يشتق منه صيغةُ الماضي وإما على طريقة التمثيل بأن يُشبه الهيئةُ المنتزعةُ من قلوبهم وقد فُعل بها ما فعل من إحداث تلك الحالة المانعة من أن يصل إليها ما خلقت هي لأجله من الأمور الدينية النافعة وحيل بينها وبينه بالمرة بهيئةٍ منتزعةٍ من محالَ مُعدةٍ لحلول ما يَحُلُّها حُلولاً مستتبعاً لمصالحَ مُهمة وقد مَنَع من ذلك بالختم عليها وحيل بينها وبين ما أعدت لأجله بالكلية ثم يُستعار لها ما يدل على الهيئة المشبَّهِ بها فيكون كلٌّ من طرفي التشبيه مركباً من أمور عدةٍ قد اقتُصر من جانب المشبَّهِ به على ما عليه يدور الأمرُ في تصوير تلك الهيئةِ وانتزاعِها وهو الختم والباقي منويٌّ مرادٌ قصداً بألفاظٍ متخيَّلة بها يتحقق التركيب وتلك الألفاظُ وإن كان لها مدخَلٌ في تحقيق وجهِ الشَّبهِ الذي هو أمرٌ عقلي منتزَع منها وهو امتناعُ الانتفاعِ بما أُعِدَّ له بسبب مانع قوي لكن ليس في شيء منها على الانفراد تجوز باعتبار هذا المجاز بل هي باقية على حالها من كونها حقيقةً أو مجازاً أو كنايةً وإنما التجوُّزُ في المجموع وحيث كان معنى المجموع مجموعَ معاني تلك الألفاظ التي ليس فيها التجوزُ المعهود ولم تكن الهيئةُ المنتزعةُ منها مدلولاً وضعياً لها ليكون مادل على الهيئة المشبه بها عند استعمالِه في الهيئة المشبهة مستعملاً في غير ما وضع له فيندرجَ تحت الاستعارةِ التي هي قسمٌ من المجاز اللغوي الذي هو عبارة عن الكلمة المستعملة في غير ما وضع له ذهب قدماء المحققين كالشيخ عبدِ القاهر وأضرابِه إلى جعل التمثيلِ قسماً برأسه ومن رام تقليلَ الأقسام عَدَّ تلك الهيئةَ المشبَّهَ بها من قبيل المدلولات الوضعية وجعل الكلامَ المفيد لها عند استعمالِه فيما يُشبَّه بها من هيئة أخرى منتزعةٍ من أمور أُخَرَ من قبيل الاستعارة وسماه استعارة تمثيلية وإسنادُ إحداث تلك الحالة في قلوبهم إلى الله تعالى لاستناد جميعِ الحوادث عندنا من حيث الخلقُ إليه سبحانه وتعالى وورودُ الآية الكريمة ناعيةً عليهم سوءَ صنيعهم ووخامةَ عاقبتِهم لكون أفعالِهم من حيث الكسبُ مستندةً إليهم فإن خلْقَها منه سبحانه ليس بطريق الجبر بل بطريق الترتيبِ على ما اقترفوه من القبائح كما يعرب عنه قوله تعالى {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} ونحو ذلك وأما المعتزلةُ فقد سلكوا مسلكَ التأويل وذكروا في ذلك عدةً من الأقاويل منها أن القومَ لمّا أعرضوا عن الحق وتمكنَ ذلك في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم شُبّه بالوصف الخَلْقي المجبول عليه ومنها أن المراد به تمثيلُ قلوبِهم بقلوب البهائم التي خلقها

الله تعالى خاليةً عن الفطن أو بقلوب قدر ختم الله تعالى عليها كما في سال به الوادي إذا هلك وطارت به العنقاءُ إذا طالت غَيْبته ومنها أن ذلك فعلُ الشيطان أو الكافر وإسناده تعالى باعتبار كونه بإقداره تعالى وتمكينه ومنها أن أعراقَهم لما رسَخت في الكفر واستحكمت بحيث لم يبق إلى تحصيل إيمانهم طريقٌ سوى الإلجاءِ والقسرِ ثم لم يَفعَلْ ذلك محافظةً على حكمة التكليف عُبّر عن ذلك بالختم لأنه سدٌّ لطريق إيمانهم بالكلية وفيه إشعارٌ بترامي أمرهم في الغي والعِناد وتناهي انهماكِهم في الشر والفساد ومنها أن ذلك حكايةٌ لما كانت الكفرة يقولونه مثل قولهم {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى آذاننا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} تهكّماً بهم ومنها أن ذلك في الآخرة وإنما أُخبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه ويعضُده قوله تعالى {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا} ومنها أن المراد بالختم وسْمُ قلوبهم بسِمَةٍ يعرِفها الملائكة فيبغضونهم ويتنفرون عنهم {وعلى سَمْعِهِمْ} عطفٌ على ما قبله داخل في حكم الختم لقوله عز وجل {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} وللوفاق على الوقف عليه لا على قلوبهم ولاشتراكهما في الإدراك من جميع الجوانب وإعادةُ الجارّ للتأكيد والإشعار بتغايُر الختمَيْن وتقديمُ ختمِ قلوبهم للإيذان بأنها الأصلُ في عدم الإيمان وللإشعار بأن ختمَها ليس بطريق التبعيةِ بختم سمعِهم بناءً على أنه طريقٌ إليها فالختمُ عليه ختمٌ عليها بل هي مختومةٌ بختم على حِدَة لو فُرض عدمُ الختم على سمعهم فهو باقٍ على حاله حسبما يُفصح عنه قولُه تعالى {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} والسمعُ إدراكُ القوة السامعة وقد يُطلق عليها وعلى العضو الحامل لها وهو المراد ههنا إذ هو المختومُ عليه أصالةً وتقديمُ حاله على حال أبصارِهم للاشتراك بينه وبين قلوبهم في تلك الحال أو لأن جنايتَهم من حيث السمعُ الذي به يتلقى الأحكامُ الشرعية وبه يَتحققُ الإنذارُ أعظمَ منها من حيث البصرُ الذي به يشاهَد الأحوالُ الدالة على التوحيد فبيانُها أحقُّ بالتقديم وأنسبُ بالمقام قالوا السمعُ أفضلُ من البصر لأنه عز وعلا حيث ذكَرهما قدم السمعَ على البصر ولأن السمع شرطُ النبوة ولذلك ما بعث الله رسولاً أصم ولأن السمع وسيلة إلى استكمال العقلِ بالمعارف التي تُتلقف من أصحابها وتوحيدُه للأمن عن اللَّبس واعتبارِ الأصل أو لتقدير المضاف أي وعلى حواسِّ سمعهم والكلامُ في إيقاع الختم على ذلك كما مر من قبل {وعلى أبصارهم غشاوة} الأبصار جمع بصر والكلام فيه كما سمعته في السمع والغِشاوةُ فِعالة من التغشية أي التغطية بُنيت لما يشتمل على الشيء كالعِصابة والعِمامة وتنكيرُها للتفخيم والتهويل وهي على رأي سيبويه مبتدأٌ خبرُه الظرفُ المقدَّمُ والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها وإيثارُ الاسمية للإيذان بدوام مضمونها فإن ما يُدرَك بالقوة الباصرة من الآياتِ المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ حيث كانت مستمرة كان تعامهم من ذلك أيضاً كذلك وأما الآياتُ التي تُتلقَّى بالقوة السامعة فلمّا كان وصولُها إليها حيناً فحيناً أوثر في بيان الختم عليها وعلى ما هي أحدُ طريقي معرفتِه أعني القلبَ الجملةُ الفعلية وعلى رأي الأخفش مرتفعٌ على الفاعلية مما تعلق به الجار وقرئ بالنصب على تقدير فعلٍ ناصب أي وجَعَل على أبصارهم غشاوة وقيل على حذفِ الجارِّ وإيصالِ الختم إليه والمعنى وختم على أبصارهم بغشاوة وقرئ بالضم والرفع وبالفتح والنصب وهما لغتان فيها وغشوة بالكسر مرفوعةٌ وبالفتح مرفوعة ومنصوبة وعشاوةٌ بالعين غير المعجمة والرفع {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} وعيد وبيان لما يستحقونه

البقرة (8) في الآخرة والعذاب كالنَكال بناءً ومعنى يقال أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه ومنه الماءُ العذبُ لما أنه يقمَعُ العطش ويردَعه ولذلك يسمى نُقاخاً لأنه ينقَخُ العطشَ ويكسِرُه وفراتا لأنه يفرته على القلب ويكسره ثم اتُسِع فيه فأطلق على كل ألمٍ فادح وإن لم يكن عقاباً يُراد به ردْعُ الجاني عن المعاودة وقيل اشتقاقُه من التعذيب الذي هو إزالة العذاب كالتقذية والتمريض والعظيم نقيضُ الحقير والكبير نقيضُ الصغير فمن ضرورة كونِ الحقيرِ دونَ الصغير كونُ العظيم فوق الكبير ويستعملان في الجُثث والأحداث تقول رجل عظيم وكبير تريد جثتَه أو خطرَه ووصفُ العذاب به لتأكيد ما يفيده التنكيرُ من التفخيم والهويل والمبالغة في ذلك والمعنى أن على أبصارهم ضرباً من الغِشاوة خارجاً مما يتعارفه الناس وهي غشاوة التعامي عن الآيات ولهم من الآلام العظامِ نوعٌ عظيم لا يبلغ كنهه ولا يدرك غايتُه اللهم إنا نعوذ بك من ذلك كلِّه يا أرحم الراحمين

8

{وَمِنَ الناس} شروعٌ في بيانِ أنَّ بعضَ من حُكيتْ أحوالُهم السالفة ليسوا بمقتصِرين على ما ذكر من محض الإصرارِ على الكفر والعناد بل يضُمّون إليه فنوناً أُخَرَ من الشر والفساد وتعديدٌ لجناياتهم الشنيعةِ المستتبعة لأحوال هائلةٍ عاجلة وآجلة وأصلُ ناسٍ أُناسٌ كما يشهد له إنسانٌ وأناسيُّ وإنسٌ حُذفت همزته تخفيفاً كما قيل لوقة في ألوقة وعُوّض عنها حرفُ التعريف ولذلك لا يُكاد يُجمع بينهما وأمَّا ما في قولِه ... إن المنايا يطَّلِعْنَ على الأُناسِ الآمنينا ... فشاذ سموا بذلك لظهورهم وتعلق الاناس بهم كما سُمّي الجنُ جناً لاجتنانهم وذهب بعضُهم إلى أن أصلَه النَّوَسُ وهو الحركة انقلبت واوه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها وبعضُهم إلى أنه مأخوذ من نِسيَ نقلت لامه إلى موضع العين فصار نَيَساً ثم قلبت ألفاً سُمّوا بذلك لنسيانهم ويُروى عن ابن عباس أنه قال سُمي الإنسانُ إنساناً لأنه عُهد إليه فنِسي واللام فيه إما للعهد أو للجنس المقصور على المُصرّين حسبما ذكر في الموصول كأنه قيل ومنهم أو من أولئك والعدولُ إلى الناس للإيذان بكثرتهم كما ينبئ عنه التبعيضُ ومحلُ الظرفِ الرفعُ على أنه مبتدأ باعتبار مضمونِه أو نعتٌ لمبتدإٍ كما في قوله عز وجل وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ أي وجمعٌ منا الخ ومِنْ في قولِه تعالَى {من يِقُولُ} موصولةٌ أو موصوفة ومحلُها الرفعُ على الخبرَّيةِ والمعنى وبعضُ النَّاسِ أو وبعضٌ من الناس الذي يقول كقوله تعالى {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى} الآية أو فريق يقول كقوله تعالى {مّنَ المؤمنين رِجَالٌ} الخ على أن يكون مناطُ الإفادةِ والمقصودُ بالأصالةِ اتِّصافُهم بما في حِّيزِ الصلة أو الصفة وما يتعلق به من الصفات جميعا لاكونهم ذواتِ أولئك المذكورين وأما جعلُ الظرف خبراً كما هو الشائعُ في موارد الاستعمال فيأباه جزالةُ المعنى لأن كونَهم من الناس ظاهرٌ فالإخبارُ به عارٍ عن الفائدة كما قيل فإن مباه توهمُ كونِ المرادِ بالناس الجنسَ مطلقاً وكذا مدارُ الجواب عنه بأن الفائدةَ هو التنبيهُ على أن الصفات المدكورة تنافي الإنسانية فحقُّ من يتصف بها أن لا يُعلمَ كونُه من الناس فيُخبَرَ به ويُتعجَّبَ منه وأنت خبير بأن الناسَ عبارة عن المعهودين أو عن الجنس المقصور على المصرّين وأياً ما كان فالفائدةُ ظاهرة بل لأن خبريةَ الظرف تستدعي أن يكون اتصافُ هؤلاء بتلك الصفاتِ القبيحةِ المفصَّلة في ثلاثَ عشْرةَ آيةٍ عنواناً

البقرة (9) للموضوع مفروغاً عنه غيرَ مقصودٍ بالذات ويكونُ مناطَ الإفادة كونُهم من أولئك المذكورين ولا ريب لأحدٍ في أنه يجب حملُ النظم الجليلِ على أجزلِ المعاني وأكملِها وتوحيدُ الضمير في يقول باعتبار لفظةِ مَن وجمعُه في قوله {آمنا بالله وباليوم الأخر} وما بعده باعتبار معناها والمرادُ باليوم الآخِرِ من وقت الحشر الى مالا يتناهى أو إلى أن يدخُلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النار النارَ إذ لا حدَّ وراءه وتخصيصُهم للإيمان بهما بالذكر مع تكرير الباءِ لادعاء أنهم قد حازوا الإيمانَ من قُطريه وأحاطوا به من طرفيه وأنهم قد آمنوا بكلَ منهما على الأصالة والاستحكام وقد دسوا تحته ماهم عليه من العقائد الفاسدة حيث لم يكن إيمانُهم بواحد منهما إيماناً في الحقيقة إذ كانوا مشركين بالله بقولهم عَزِيزٌ ابن الله وجاحدين باليوم الآخر بقولهم لَن تَمَسَّنَا النار إلا أياما معدودة ونحوذلك وحكايةُ عبارتهم لبيان كمالِ خبثهم ودعارتِهم فإن ما قالوا لو صدر عنهم لا على وجه الخِداعِ والنفاقِ وعقيدتُهم عقيدتُهم لم يكن ذلك إيماناً فكيف وهم يقولونه تمويهاً على المؤمنين واستهزاءً بهم {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} ردٌّ لما ادعَوْه ونفيٌ لما انتحلوه وما حجازية فإن جوازَ دخولِ الباء في خبرها لتأكيد النفي اتفاقيٌّ بخلاف التميمية وإيثارُ الجملة الاسميةِ على الفعلية الموافقةِ لدعواهم المردودةِ للمبالغة في الرد بإفادة انتفاءِ الإيمانِ عنهم في جميع الأزمنة لا في الماضي فقط كما يفيده الفعلية ولا يُتوهمَن أن الجملة الاسمية الإيجابية تفيد دوام الثبوت فعند دخول النفي عليها يتعين الدلالة على نفي الدوام فإنها بمعونة المقام تدل على دوام النفي قطعاً كما أن المضارعُ الخاليَ عن حرف الامتناع يدل على استمرار الوجود وعند دخول حرف الامتناع عليه يدل على استمرار الامتناع لا على امتناع الاستمرار كما في قوله عز وجل وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فإن عدم قضاءِ الأجلِ لاستمرار عدم التعجيل لا لعدم استمرارِ التعجيل وإطلاقُ الإيمان عما قيدوه به الإيذان بأنهم ليسوا من جنس الإيمان في شيء أصلاً فضلاً عن الإيمان بما ذكروا وقد جُوز أن يكون المراد ذلك ويكون الإطلاق للظهور ومدلولُ الآية الكريمة أن من أظهر الإيمان واعتقادُه بخلافه لا يكون مؤمناً فلا حجة فيها على الكرامية القائلين بأن من تفوّه بكلمتي الشهادة فارغَ القلب عما يوافقه أو ينافيه مؤمنٌ

9

{يخادعون الله والذين آمنوا} بيانٌ ليقولُ وتوضيحٌ لما هو غرضُهم مما يقولون أو استئنافٌ وقعَ جَواباً عن سؤال ينساق إليه الذهنُ كأنه قيل مالهم يقولون ذلك وهم غيرُ مؤمنين فقيل يخادعون الله الخ أي يخدعون وقد قرئ كذلك وإيثارُ صيغة المفاعلةِ لإفادة المبالغةِ في الكيفية فإن الفعل متى غولب فيه بولغ فيه قطعاً أو في الكمية كما في الممارسة والمزاولة فإنهم كانوا مداومين على الخَدْع والخِدْعُ أن يوهم صاحبَه خلاف ما يريد به من المكروء ليوقعَه فيه مِن حيثُ لاَ يحتسبُ أو يوهمَه المساعدةَ على ما يريد هو به ليغترّ بذلك فينجوا منه بسهولة من قولهم ضبٌّ خادع وخُدَع وهو الذي إذا أمر الحارش يده على باب جُحره يوهمه الإقبالَ عليه فيخرج من بابه الآخر وكلا المعنيين مناسبٌ للمقام فإنهم كانوا يريدون بما صنعوا أن يطّلعوا على أسرار المؤمنين فيذيعوها إلى المنابذين وأن يدفعوا عن أنفسهم ما يصيب سائر

البقرة (10) الكفرة واياما كان فنسبتُه إلى الله سبحانه إما على طريق الاستعارة والتمثيل لإفادة كمال شناعةِ جنايتهم أي يعامِلون معاملة الخادعين وإما على طريقة المجاز العقلي بأن يُنسب إليه تعالى ما حقه أن يُنسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إبانةً لمكانته عنده تعالى كما ينبئ عنه قوله تعال {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وقوله تعالى {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} مع إفادة كمال الشناعةِ كما مر وإما لمجرد التوطئةِ والتمهيد لما بعده من نِسبته إلى الذين آمنوا والإيذانِ بقوةِ اختصاصِهم به تعالى كما في قوله تعالى {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} وقوله تعالى {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} وإبقاءُ صيغة المخادعةِ على معناها الحقيقي بناءً على زعمهم الفاسدِ وترجمةٌ عن اعتقادهم الباطل كأنه قيل يزعمون أنهم يخدعون الله والله يخدعهم أو على جعلها استعارة تَبَعِيّة أو تمثيلاً لما أن صورةَ صُنعِهم مع الله تعالى والمؤمنين وصنعِه تعالى معهم بإجراء أحكامِ الإسلام عليهم وهم عنده أخبثُ الكفرة وأهلُ الدَّرْك الأسفلِ من النار استدراجاً لهم وامتثالُ الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأمر الله تعالى في ذلك مجازاةٌ لهم بمثل صنيعهم صورةَ صنيعِ المتخادعين كما قيل مما لا يرتضيه الذوق السليم أما الأولُ فلأن المنافقين لو اعتقدوا أن الله تعالى يخدعُهم بمقابلة خَدْعِهم له لم يُتصَّور منهم التصدّي للخدْع وأما الثاني فلأن مقتضى المقام إيرادُ حالهم خاصةً وتصويرُها بما يليقُ بَها منَ الصورة المستهجنة وبيان غائلتها آيلةٌ إليهم من حيث لا يحتسبون كما يُعرب عنه قوله عز وجل {وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ} فالتعرضُ لحال الجانب الآخر مما يُخِل بتوفية المقامِ حقَّه وهو حالٌ من ضمير يخادعون أي يفعلُون ما يفعلُون والحالُ أنهم ما يُضرون بذلك إلا أنفسَهم فإن دائرةَ فعلِهم مقصورةٌ عليهم أو ما يخدعون حقيقة إلا أنفسهم حيث يُغرونها بالأكاذيب فيُلْقُونها في مهاوي الردى وقرئ وما يخادعون والمعنى هو المعنى ومن حافظ على الصيغة فيما قبلُ قال وما يعلمون تلك المعاملةَ الشبيهةَ بمعاملة المخادِعين إلا أنفسَهم لأن ضررَها لا يحيق إلا بهم أو ما يخادعون حقيقة إلا أنفسهم حيث يُمنّوُنها الأباطيل وهي أيضاً تغرُهم وتمنّيهم الأمانيَّ الفارغةَ وقرئ وما يخادعون من التخديع وما يخدعون أي يختدعون ويُخدَعون ويُخادَعون على البناء للمفعول ونصبُ أنفسَهم بنزع الخافض والنفسُ ذاتُ الشيء وحقيقتُه وقد يقال للروح لأن نفس الحيِّ به وللقلب أيضاً لأنه محلُ الروح أو مُتعلَّقُه وللدم أيضاً لأن قِوامَها به وللماء أيضاً لشدة حاجتها إليه والمراد هنا هو المعنى الأولُ لأن المقصودَ بيانُ أن ضرر مخادعتهم راجعٌ إليهم لا يتخطَّاهم إلى غيرِهم وقوله تعالى {وَمَا يَشْعُرُونَ} حال من ضمير ما يخدعون أي يقتصرون على خِدْع أنفسِهم والحالُ أنهم ما يشعُرون أي ما يُحسّون بذلك لتماديهم في الغَواية وحذفُ المفعولِ إما لظهوره أو لعمومه أي ما يشعرون بشيء أصلاً جُعل لُحوقُ وبالِ ما صنعوا بهم في الظهور بمنزلة الأمر المحسوسِ الذي لا يخفى إلا على مَؤوفِ الحواس مختلِّ المشاعر

10

{فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} المرض عبارة عما يعرِضُ للبدن فيُخرجه عن الاعتدال اللائق به ويوجب الخللَ في أفاعيله ويؤدّي إلى الموت استُعير ههنا لما في قلوبهم من الجهل وسوءِ العقيدة وعداوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم

وغير ذلك من فنون الكفر المؤدي إلى الهلاك الروحاني والتنكيرُ للدلالة على كونه نوعاً مُبهماً غيرَ ما يتعارفه الناس من الأمراض والجملةُ مقرِّرة لما يفيده قوله تعالى {وَمَا هُم بمؤمنين} من استمرارعدم إيمانهم أو تعليلٌ له كأنه قيل ما لهم لا يؤمنون فقيل في قلوبهم مرض يمنعه {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} بأن طُبع على قلوبهم لعلمه تعالى بأنه لا يؤثر فيها التذكيرُ والإنذار والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها والفاء للدِلالة على ترتيب مضمونِها عليه وبه اتضح كونُهم من الكفرة المختومِ على قلوبهم مع زيادة بيانِ السبب وقيل زادهم كفراً بزيادة التكاليف الشرعية لأنهم كانوا كلما ازداد التكاليفُ بنزول الوحي يزدادون كفراً ويجوز أن يكون المرض مستعاراً لما تداخلَ قلوبَهم من الضعف والجُبن والخَوَر عند مشاهدتهم لعزة المسلمين فزيادتُه تعالى إياهم مرضاً ما فعل بهم من إلقاء الرَّوْع وقذف الرعب في قلوبهم عند إعزازِ الدين بإمداد النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بإنزال الملائكة وتأييدِه بفنون النصر والتمكين فقولُه تعالى فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ الخ حينئذ استئنافٌ تعليلي لقوله تعالى يخادعون الله الخ كأنه قيل ما لهم يخادعون ويداهنون ولم لا يجاهرون بِمَا فِي قُلُوبِهِم من الكفر فقيل في قلوبهم ضَعفٌ مضاعَف هذه حالُهم في الدنيا {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي مؤلم يقال ألمٌ وهو أليم كوجعٍ وهو وجيع وُصف به العذابُ للمبالغةِ كما في قولِهِ ... تحيةٌ بينِهم ضربٌ وجيع ... على طريقةِ جَدَّ جِدُّه فإن الألم والوجعَ حقيقةٌ للمؤلم والمضروب كما أن الجِدّ للجادّ وقيل هو بمعنى المؤلم كالسميع بمعنى المُسمع وليس ذلك بثبْتٍ كما سيجيء في قوله تعالى {بديع السماوات والارض} {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} الباء للسببية أو للمقابلة وما مصدرية داخلة في الحقيقة على يكذبون وكلمة كانوا مقحمة لإفادة دوامِ كذِبهم وتجدُّدِه أي بسبب كذبهم أو بمقابلة كذبهم المتجددِ المستمرِّ الذي هو قولهم آمنا بالله وباليوم الأخر وهم غير مؤمنين فإنه إخبارٌ بإحداثهم الإيمانَ فيما مضى لا إنشاءٌ للإيمان ولو سلم فهو متضمن للإخبار بصدوره عنهم وليس كذلك لعدم التصديق القلبي بمعنى الإذعان والقبولِ قطعاً ويجوزأن يكون محمولاً على الظاهر بناءً على رأي من يجوِّز أن يكون لكان الناقصةِ مصدر كما صُرِّح به في قول الشاعر ... ببذل وحلم وساد في قومه الفتى وكونُك إياه عليك يسيرُ ... أي لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بسببِ كونهم يكذِبون على الاستمرار وترتيبُ العذاب عليه من بين سائر موجباته القويةِ إما لأن المرادَ بيانُ العذاب الخاصّ بالمنافقين بناءً على ظهور شِركتِهم للمجاهرين فيما ذُكِرَ من العذابِ العظيم حسبَ اشتراكهم فيما يوجبه من الإصرار على الكفر كما ينبئ عنه قولُهُ تعالَى {وَمِنَ الناس} الخ وإما للإيذان بأن لهم بمقابلة سائرِ جناياتِهم العظيمةِ من العذاب مالا يوصف وإما للرمز إلى كمال سماجةِ الكذب نظراً إلى ظاهر العبارةِ المخيّلةِ لانفراده بالسببية مع إحاطة علمِ السامعِ بأن لحوقَ العذاب بهم من جهات شتى وأن الاقتصارَ عليه للإشعار بنهاية قُبحه والتنفير عنه عن الصدِّيقِ رضيَ الله عنه ويروى مرفوعاً أيضاً إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إياكم والكذبَ فإنه مجانبٌ للإيمان وما روي أن إبراهيمَ عليه السلام كذَبَ ثلاثَ كَذَباتٍ فالمرادُ به التعريضُ وإنما سمِّي به لشَبَهه به صورةً وقيل ما موصولةٌ والعائدُ محذوفٌ اي بالذي يكذبونه وقرىء يكذبون والمفعول محذوف وهو إما للنبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن وما مصدرية أي سبب تكذيبهم إياه عليه السلام أو القرآن أو موصولة أي بالذي يكذبونه على أن العائد محذوف ويجوز أن يكون صيغةُ التفعيل للمبالغة كما في بيَّن بان وقلص

البقرة (12 - 11) في قلص أو لتكثير كما في موَّتت البهائمُ وبرَّكت الإبل وأن يكون من قولهم كذب الوحشى إذا جرى شوطاً ثم وقف لينظرَ ما وراءه فإن المنافق متوقِّفٌ في أمره متردِّد في رأيه ولذلك قيل له مُذَبْذب

11

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض} شروعٌ في تعديد بعضٍ من قبائحهم المتفرعةِ على ما حُكي عنهم من الكفر والنفاق وإذا ظرفُ زمنٍ مستقبلٍ ويلزمها معنى الشرط غالباً ولا تدخل إلا في الأمر المحقق أو المرجح وقوعُه واللامُ متعلّقة بقيل ومعناها الإنهاءُ والتبليغ والقائمُ مقامَ فاعلِه جملة لا تفسدوا على أنَّ المرادَ بها اللفظ وقيل هو مُضمرٌ يفسِّرُه المذكورُ والفسادُ خروجُ الشيء عن الحالة اللائقة به والصلاحُ مقابلُه والفساد في الأرض هَيْجُ الحروب والفتنِ المستتبعة لزوال الاستقامة عن أحوال العباد واختلالِ أمر المعاش والمعاد والمراد بما نهُوا عنه ما يؤدي إلى ذلك من إفشاء أسرار المؤمنين إلى الكفار وإغرائِهم عليهم وغيرِ ذلك من فنون الشرور كما يقال للرجل لا تقتُلْ نفسَك بيدك ولا تلقِ نفسك في النار إذا أقدم على ما تلك عافيته وهو إما معطوفٌ على يقول فإن جُعلت كلمة مَنْ موصولةً فلا محلَّ له من الإعراب ولا بأس بتخلل البيان أو الاستئنافِ وما يتعلق بهما بين أجزاء الصلةِ فإن ذلك ليس توسيطاً بالأجنبيّ وإن جعلت موصوفة فمحله الرفع والمعنى ومن الناس من إذا نهوا من جهة المؤمنين عمَّا هُم عليهِ من الإفساد في الارض {قالوا} اراءة للناهين أن ذلك غيرُ صادر عنهم مع أن مقصودهم الأصليَّ إنكارُ كونِ ذلك إفساداً وادعاءُ كونِه إصلاحاً محضاً كما سيأتي توضيحه {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أي مقصورون على الإصلاح المحض بحيث لا يتعلق به شائبةُ الإفساد والفساد مشيرين بكلمة إنما إلى أنَّ ذلك من الوضوح بحيث لا ينبغي أن يُرتاب فيه وإما كلامٌ مستأنَفٌ سيق لتعديد شنائعِهم وأما عطفهُ على يكذبون بمعنى ولهم عذاب أليم بكذبهم وبقولهم حين نهوا عن الإفساد إنما نحن مصلحون كما قيل فيأباه أن هذا النحْوَ من التعليل حقُه أن يكون بأوصافٍ ظاهرةِ العِلّية مُسلَّمةِ الثبوت للموصوف غنيةٍ عن البيان لشهرة الاتصافِ بها عند السامع أو لسبق ذكرِه صريحاً كما في قوله تعالى {بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} فإن مضمونه عبارةٌ عما حُكي عنهم من قولهم آمنا بالله وباليوم الأخر أو لذكر ما يستلزمه استلزاماً ظاهراً كما في قوله عز وجل {إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب} فإنَّ ما ذُكر من الضَّلالَ عن سبيل الله مما يوجب حتماً نسيان جانب الآخرةِ التي من جُملتِها يوم الحساب وما لم يكن كذلكَ فحقُّه أنْ يخبَر بعليته قصداً كما في قوله تعالى ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار الآية وقوله ذلك بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق الآية إلى غير ذلك ولا ريب في أن هذه الشرطيةَ وما بعدها من الشرطيتين المعطوفتين عليها ليس مضمونُ شيء منها معلومَ الانتساب إليهم عند السامعين بوجه من الوجوه المذكورة حتى تستحقَ الانتظامَ في سلك التعليل المذكور فإذن حقُها أن تكونَ مَسوقةً على سنن تعديدِ قبائحِهم على أحد الوجهين مفيدةً لا تصافهم بكل واحد من تلك الأوصاف قصداً واستقلالاً كيف لا وقوله عز وجل

12

{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون} ينادى بذلك نداء

البقرة (13) جلياً فإنه ردٌ من جهته تعالى لدعواهم المحكية أبلغَ رد وأدلَّه على سَخَط عظيم حيث سُلك فيه مسلك الاستئنافِ المؤدي إلى زيادة تمكّنِ الحكم في ذهن السامع وصدرت الجملة بحر في التأكيد ألا المنبّهة على تحقق ما بعدها فإن الهمزة الإنكارية الداخلةَ على النفي تفيد تحقيق الإثبات قطعاً كما في قولِه تعالى {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} ولذلك لا يكاد يقع ما بعدها من الجملة إلا مصدرةً بما يلتقي به القسمُ وأختها التي هي أمَا من طلائع القسم وقيل هما حرفان بسيطان موضوعان للتنبيه والاستفتاح وان المقرِّرة للنسبة وعُرفُ الخبر ووسَطُ ضمير الفصل لردِّ ما في قصر أنفسهم على الإصلاح من التعريض بالمؤمنين ثم استُدرك بقوله تعالى {ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} للإيذان بأن كونهم مفسدين من الأمور المحسوسة لكن لا حسَّ لهم حتى يُدركوه وهكذا الكلامُ في الشرطيتين الآتيتين وما بعدهما من ردِّ مضمونهما ولولا أن المراد تفصيلُ جناياتهم وتعديدُ خبائثهم وهَناتِهم ثم إظهارُ فسادِها وإبانة بُطلانها لما فُتح هذا البابُ والله أعلم بالصواب

13

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} من قِبَل المؤمنين بطريق الأمر بالمعروف إثرَ نهيِهم عن المنكر إتماماً للنُصح وإكمالاً للإرشاد {آمنوا} حُذف المؤمَنُ به لظهوره أو أريدَ افعلوا الإيمان {كما آمن الناس} الكاف في محل النصب على أنه نعت لمصدرٍ مؤكدٍ محذوفٍ أي آمنوا إيماناً مماثلاً لإيمانهم فما مصدرية أو كافة كما في ربما فإنها تكف الحرف عن العمل وتصحح دخولَها على الجملة وتكون للتشبيه بين مضموني الجملتين أي حققوا إيمانَكم كما تحقق إيمانُهم واللام للجنس والمراد بالناس الكاملون في الإنسانية العاملون بقضية العقل فإن اسمَ الجنس كما يُستعمل في مسماه يستعمل فيما يكون جامعاً للمعاني الخاصة به المقصودةِ منه ولذلك يُسلب عما ليس كذلك فيقال هو ليس بإنسان وقد جمعهما من قال ... إذ الناسُ ناسٌ والزمانُ زمان ... أو للعهد والمرادُ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم ومن معه أو مَنْ آمنَ مِنْ أهلِ جِلْدتهم كابن سلام وأضرابِه والمعنى آمنوا إيماناً مقروناً بالإخلاص متمحّضاً عن شوائب النفاق مماثلاً لإيمانهم {قَالُواْ} مقابِلين للأمر بالمعروف والانكار المنكر واصفين للمراجيح الرِّزانِ بضد أوصافِهم الحسانِ {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء} مشيرين باللام إلى من أشير إليهم في الناس من الكاملين أو المعهودين أو إلى الجنس بأسره وهم مندرجون فيه على زعمهم الفاسد والسَّفهُ خِفةٌ وسخافةُ رأيٍ يُورِثهما قصورُ العقل ويقابله الحِلْم والأناة وإنما نسبوهم إليه مع أنهم في الغايةِ القاصيةِ من الرشد والرزانةِ والوقار لكمال انهماكِ أنفسِهم في السفاهة وتماديهم في الغَواية وكونِهم ممن زُين لَهُ سوءُ عَمَلِهِ فرآه حسناً فمن حسِب الضلالَ هدىً يسمِّي الهدى لامحالة ضلال أو لتحقير شأنهم فإن كثيراً من المؤمنين كانوا فقراءَ ومنهم مَوالٍ كصهيب وبلال أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم على تقدير كونِ المرادِ بالناس عبدَ اللَّهِ بنُ سَلاَم وأمثاله وأياما كان فالذي يقتضيه جزالةُ التنزيل ويستدعيه فخامةُ شأنه الجليل أن يكون صدورُ هذا القول عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جواباً

عن نصيحتهم وحيث كان فحواه تسفيهَ أولئك المشاهيرِ الأعلام والقدحَ في إيمانهم لزم كونهم مجاهرين لامنافقين وذلك مما لا يكاد يساعده السِباق والسِياق وعن هذا قالوا ينبغي أن يكون ذلك فيما بينهم لا على وجه المؤمنين قال الإمام الواحدي إنهم كانوا يُظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين فأخبر الله تعالى نبي عليه السلام والمؤمنين بذلك عنهم وأنت خبير بأن إبرازَ ما صدر عن أحد المتحاورَيْن في الخلاء في معرِض ما جرى بينهما في مقام المحاورة مما لا عهدَ به في الكلام فضلاً عما هو في منصِب الإعجاز فالحق الذي لا محيد عنه أن قولهم هذا وإن صدر عنهم بمحضر من الناصحين لا يقتضي كونَهم مجاهرين فإنه ضربٌ من الكفر أنيقٌ وفنّ في النفاق عريق مصنوعٌ على شاكلة قولِهم واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ فكما أنه كلامٌ ذو وجهين مثلَهم محتمل للشر بأن يحمل على معنى اسمعْ منا غير مسمع كلاما ترضاه ونحوِه وللخير بأن يُحمل على معنى اسمَعْ غيرَ مسمع مكروها كانوا يخاطبون به رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزأ به مظهرين إرادةَ المعنى الأخير وهم مضمرون في أنفسهم المعنى الأولَ مطمئنون به ولذلك نُهوا عنه كذلك هذا الكلامُ محتملٌ للشر كما ذكر في تفسيره وللخير بأن يُحملَ على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكارِ ما اتُّهموا به من النفاق على معنى أنؤمن كما آمن السفهاءُ والمجانينُ الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا ولا نؤمنُ كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك قد خاطبوا به الناصحين استهزاءً بهم مُرائين لإرادة المعنى الأخير وهم معوّلون على الأول فرُدّ عليهِم ذلكَ بقولِه عز قائلاً {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاءُ ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} أبلغَ ردَ وجُهِّلوا أشنعَ تجهيل حيث صدرت الجملة بحر في التأكيد حسبما أُشيرَ إليهِ فيما سلفَ وجعلت السفاهةُ مقصورةً عليهم وبالغةً إلى حيث لايدرون أنهم سفهاء ومن هذا اتضح سرُ ما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} فإن حمله على المعنى الأخير كما هو رأيُ الجمهورِ منافٍ لحالهم ضرورةَ أن مشافهتَهم للناصحين بادعاء كونِ ما نُهوا عنه من الإفساد إصلاحاً كما مر إظهارٌ منهم للشقاق وبروز اشخاصهم من نَفَق النفاق والاعتذارُ بأن المرادَ بما نُهوا عنه مداراتُهم للمشركين كما ذكر في بعض التفاسير وبالإصلاح الذي يدْعونه إصلاحَ ما بينهم وبينَ المؤمنينَ ان معنى قولُه تعالى {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون} أنهم في تلك المعاملة مفسدون لمصالح المؤمنين لإشعارها بإعطاء الدنِيّة وإنبائِها عن ضعفهم الملجئ إلى توسيط مَنْ يتصدى لإصلاح ذاتِ البين فضلاً عن كونهم مصلحين مما لا سبيل إليه قطعاً فإنَّ قولَه تعالى {ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} ناطقٌ بفساده كيف لا وانه يقتضي أن يكون المنافقون في تلك الدعوى صادقين قاصدين للإصلاح ويأتيهم الإفسادُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ولا ريبَ في أنَّهم فيها كاذبون لا يعاشرونهم إلا مضارّةً للدين وخيانةً للمؤمنين فإذن طريقُ حلِّ الأشكال ليس إلا ما أشير إليه فإن قولَهم إنما نحن مصلحون محتملٌ للحَمْلِ على الكذب وإنكارِ صدورِ الإفساد المنسوب إليهم عنهم على معنى إنما نحن مصلحون لا يصدُر عنا ما تنهوننا عنه من الإفساد وقد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم واراءة لإرادة هذا المعنى وهم معرِّجون على المعنى الإول فرُد عليهم بقولِه تعالى {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون} الآية والله سبحانه أعلم بما أودعه في تضاعيف كتابهِ المكنونِ من السر المخزون نسأله العصمةَ والتوفيق والهداية إلى سَواءِ الطريق وتفصيلُ هذه الآية الكريمةِ بلا يعلمون لما أنه أكثرُ طِباقاً لذكر السفه الذي هو فنٌّ من فنون الجهل ولأن الوقوفَ على أن المؤمنين ثابتون على الحق وهم على

البقرة (14) الباطل مَنوطٌ بالتمييز بين الحق والباطل وذلك مما لا يتسنى إلا بالنظر والاستدلال وأما النفاقُ وما فيه من الفتنةِ والإفسادِ وما يترتبُ عليهِ من كون مَنْ يتصفُ به مفسِداً فأمرٌ بديهيٌّ يقف عليه من له شعور ولذلك فُصلت الآية الكريمةُ السابقة بلا يشعرون

14

{وإذا لقُوا الذين آمنوا قالوا آمنا} بيانٌ لتبايُن أحوالِهم وتناقضِ أقوالهم في أثناء المعاملة والمخاطبة حسب تباين المخاطبين ومَساقِ ما صُدِّرت به قصتُهم لتحرير مذهبهم والترجمةِ عن نفاقهم ولذلك لم يُتعرَّضْ ههنا لِمُتَعَلَّق الإيمان فليس فيه شائبةُ التكرير رُوِيَ أنَّ عبدَ اللَّه بن أبيّ وأصحابَه خرجوا ذاتَ يوم فاستقبلهم نفرٌ من الصحابة فقال ابن أبيَ أنظروا كيف أردُ هؤلاءِ السفهاءَ عنكم فلما دنَوْا منهم أخذ بيد أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ فقال مرحباً بالصّدّيق سيدِ بني تميم وشيخِ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار الباذلِ نفسَه وما له لرسول الله ثم أخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال مرحباً بسيد بني عديّ الفاروقِ القويّ في دينه الباذلِ نفسَه ومالَه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذ بيد عليٌّ كرم الله وجهه فقال مرحباً بابن عمِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وخَتَنِه وسيدِ بني هاشم ما خلا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فنزلت وقيل قالَ له عليٌّ رضيَ الله عنه يا عبدَ الله اتق الله ولا تنافقْ فإن المنافقين شرُ خلق الله تعالى فقال له مهلاً يا أبا الحسن أفيَّ تقول هذا والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقَنا كتصديقكم ثم افترقوا فقال ابن أبيَ لأصحابه كيف رأيتموني فعلت فإذا رأيتموهم فافعلوا مثل ما فعلت فأثنَوْا عليه خيرا وقالوا ما نزالُ بخير ما عشتَ فينا فرجع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك فنزلت واللقاءُ المصادفة يقال لقِيته ولاقَيْته أي صادفته واستقبلته وقرئ إذا لاقَوْا {وَإِذَا خَلَوْاْ} من خلوتُ إلى فلان أي انفردت معه وقد يستعمل بالباء أو من خلا بمعنى مضى ومنه القرونُ الخالية وقولُهم خلاك ذمٌّ أي جاوزك ومضى عنك وقد جُوّز كونُه من خلوتُ به إذا سخِرْتُ منه على أن تعديته بإلى في قولِه تعالَى {إلى شياطينهم} لتضمُّنه معنى الإنهاء أي وإذا أَنهَوْا إليهم السخرية الخ وأنت خبير بأن تقييدَ قولهم المحكيّ بذلك الإنهاءِ مما لا وجهَ لَهُ والمرادُ بشياطينهم المماثلون منهم للشيطان في التمرد والعناد المظهرون لكفرهم وإضافتُهم إليهم للمشاركة في الكفر أو كبارُ المنافقين والقائلون صغارُهم وجعل سيبويهِ نونَ الشيطان تارةً أصلية فوزنُه فَيْعالٌ على أنه من شطَنَ إذا بعُدَ فإنه بعيدٌ من الخير والرحمة ويشهد له قولُهم تَشَيْطن وأخرى زائدة فوزنه فعلان على أنه من شاط أي هلك أو بطَل ومن أسمائه الباطل وقيل معناه هاج واحترق {قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ} أي في الدين والاعتقاد لا نفارقكم في حالٍ من الأحوالِ وإنما خاطبوهم بالجملة الاسمية المؤكدة لأن مُدّعاهم عندهم تحقيقُ الثبات على ما كانُوا عليهِ من الدين والتأكيدُ للإنباء عن صدق رغبتهم ووفورِ نشاطِهم لا لإنكار الشياطين بخلاف معاملتهم مع المؤمنين فإنهم إنما يدّعون عندهم إحداثَ الإيمان لجزمهم بعد رواج ادعاء الكمال فيه أو الثبات عليه إِنَّمَا نَحْنُ أي في إظهار الإيمان عند المؤمنين مُسْتَهْزِءونَ بهم من غير أن يخطرُ ببالنا الإيمانُ حقيقةً وهو استئنافٌ مبني على سؤال ناشئ من ادعاء المعية كأنه قيل لهم عند قولهم إنا معكم فما بالُكم توافقون المؤمنين في الإتيان بكلمة الإيمان فقالوا إنما نحن مستهزءون بهم فلا يقدح ذلك في

البقرة (15) كوننا معكم بل يؤكده وقد ضمِنوا جوابهم أنهم يُهينون المؤمنين ويُعدّون ذلك نُصرةً لدينهم أو تأكيدٌ لما قبله فإن المستهزئ بالشيء مُصرٌّ على خلافه أو بدلٌ منه لأن مَنْ حَقّر الإسلامَ فقد عظّم الكفرَ والاستهزاءُ بالشيء السخرية منه يقال هَزَأتُ واستهزأت بمعنى وأصله الخِفة من الهُزء وهو القتل السريع وهزأ يهزأ مات على مكانه وتَهْزأُ به ناقتُه أي تُسرع به وتخف

15

{الله يستهزئ بِهِمْ} أي يجازيهم على استهزائهم سمِّي جزاؤه باسمه كما سُمي جزاءُ السيئة سيئةً إما للمشاكلة في اللفظ أو المقارنة في الوجود أو يرجِعُ وبالُ الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم أو يُنزل بهم الحقارةَ والهوانَ الذي هو لازمُ الاستهزاءِ أو يعاملهم معاملة المستهزئ بهم أما في الدنيا فبإجراء أحكامِ المسلمين عليهم واستدراجِهم بالإمهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان وأما في الآخرة فبما يروى أنه يفتح لهم بابٌ إلى الجنة فيُسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سُدَّ عليهم الباب وذلك قوله تعالى {فاليوم الذين آمنوا مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} وإنما استؤنف للإيذان بأنهم قد بلغوا في المبالغة في استهزاء المؤمنين إلى غاية ظهرت شناعته عند السامعين وتعاظَمَ ذلك عليهم حتى اضْطَرَّهم إلى أن يقولوا ما مصيرُ أمرِ هؤلاء وما عاقبةُ حالهم وفيه أنه تعالى هو الذي يتولى أمرَهم ولا يُحوجهم إلى المعارضة بالمثل ويستهزئ بهم الاستهزاءَ الأبلغَ الذي ليس استهزاؤهم عنده من باب الاستهزاء حيث ينزلُ بهم من النَكال ويحِلُّ عليهم من الذل والهوان ما لا يوصف وإيثارُ صيغة الاستقبال للدِّلالةِ على التَّجددِ والاستمرارِ كما يعرب عنه قوله عز قائلاً {أَوْ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} وما كانوا خالين في أكثر الأوقات من تهتكِ أستارٍ وتكشف اسرار ونزول في شأنهم واستشعارِ حذَرٍ من ذلك كَمَا أنبأ عَنْهُ قولُه عزَّ وجلَّ {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا في قلوبهم قل استهزؤوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُون} {وَيَمُدُّهُمْ} أي يزيدهم ويقويهم مِنْ مدَّ الجيش وأمده إذا زاده وقواه ومنه مددتُ الدواةَ والسِراج إذا أصلحتهما بالحِبْر والزيت وإيثارُه على يزيدهم للرمز إلى أن ذلك منوطٌ بسوء اختيارهم لما أنه إنما يتحقق عند الاستمداد ومَا يَجري مَجراه من الحاجة الداعية إليه كما في الأمثلة المذكورة وقرئ يُمِدُّهم من الإمداد وهو صريح في أن القراءة المشهورة ليست من المد في العمر على أنه يستعمل في اللام كالإملاء قال تعالى {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} وحذفُ الجارِّ وإيصالُ الفعلِ إلى الضمير خلافُ الأصل لا يصار إليه إلا بدليل {فِي طغيانهم} متعلق بيمُدُّهم والطغيانُ مجاوزة الحد في كل أمر والمراد إفراطُهم في العتو وغلوُّهم في الكفر وقرئ بكسر الطاء وهي لغة فيه كلِقْيانٍ لغةٌ في لُقيانٍ وفي إضافته إليهم إيذانٌ باختصاصه بهم وتأييدٌ لما أشير إليه من ترتب المدِّ على سوء اختيارِهم {يَعْمَهُونَ} حالٌ من الضمير المنصوب أو المجرور لكون المضاف مصدراً فهو مرفوع حكماً والعَمَهُ في البصيرة كالعمى في البصر وهو التحيرُ والتردد بحيث لايدري أين يتوجه وإسنادُ هذا المد إلى الله تعالى مع إسناده في قوله تعالى وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى محققٌ لقاعدة أهلِ الحقِ من أن جميعَ الأشياء مستند من حيث الخلقُ إليه سبحانه وإن كانت أفعالُ العباد من حيث الكسبُ مستندةً إليهم والمعتزلةُ لمّا تعذر عليهم إجراءُ النظم الكريم على

البقرة (16) مسلكه نكَبوا إلى شعاب التأويل فأجابوا أولاً بأنهم لما أصرّوا على كفرهم خذلهم الله تعالى ومنعهم ألطافَه فتزايد الرَّيْنُ في قلوبهم فسُمِّي ذلك مدداً في الطغيان فأُسند إيلاؤه إليه تعالى ففي السند مجازٌ لغوي وفي الإسناد مجاز عقلي لأنه إسناد للفعل إلى المسبِّب له وفاعله الحقيقي هم الكفرة وثانياً بأنه أريد بالمد في الطغيان ترك القسر والإلحاد إلى الإيمان كما في قوله تعالى {وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} فالمجاز في المسند فقط وثالثاً بأن المراد معناه الحقيقي وهو فعل الشيطان لكنه أُسند إليه سبحانه مجازاً لأنه بتمكينه تعالى وإقداره

16

أولئك إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات الشنيعة المميِّزة لهم عمن عداهم أكملَ تمييز بحيث صاروا كأنهم حُضّارٌ مشاهِدون على ما هم عليه وما فيه من معنى البعد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الشر وسوء الحال ومحلُه الرفعُ على الابتداء خبرُه قوله تعالى {الذين اشتروا الضلالة بالهدى} والجملة مَسوقةٌ لتقرير ما قبلها وبيانٌ لكمال جهالتِهم فيما حُكيَ عنهم من الأقوال والأفعال بإظهار غايةِ سماجتها وتصويرِها بصورةِ مالا يكاد يتعاطاه مَنْ له أدنى تمييزٍ فضلاً عن العقلاء والضلالةُ الجَوْرُ عن القصد والهدى التوجهُ إليه وقد استعير الأول للعدول عن الصواب في الدين والثاني للاستقامة عليه والاشتراء استبدال السلعة بالثمن أي أخذُها به لا بذلُه لتحصيلها كما قيل وإن كان مستلزِماً له فإن المعتبرَ في عقد الشراء ومفهومِه هو الجلبُ دون السلب الذي هو المعتبرُ في عقد البيع ثم استعير لأخذ شيءٍ بإعطاء ما في يده عيناً كان كلٌّ منهما أو معنى لا للإعراض عما في يده محصَّلاً به غيرُه كما قيل وإن استلزمه لما مر سرُّه ومنه قوله أخذت بالجُمّة رأسا أزعرا ... وبالثنايا الواضحاتِ الدردرا وبالطويل العُمْرِ عُمْرا جيدرا ... كما اشترى المسلمُ إذ تنصَّرا فاشتراءُ الضلالة بالهدى مستعارٌ لأخذها بدلاً منه أخذاً منوطاً بالرغبة فيها والإعراض عنه ولمّا اقتضى ذلكَ أن يكونَ ما يجري مجرى الثمن حاصلاً للكفرة قبل العقد وما يجري مجرى المبيعِ غيرَ حاصلٍ لهم إذ ذاك حسبما هو في البيت ولا ريبَ في أنَّهم بمعزل من الهدى مستمرون على الضلالة استدعى الحالُ تحقيقَ ما جرى مَجرى العِوضَيْن فنقول وبالله التوفيق ليس المرادُ بما تعلق به الاشتراءُ ههنا جنسَ الضلالة الشاملةِ لجميع أصناف الكفرة حتى تكون حاصلةً لهم من قبل بل هو فردُها الكاملُ الخاصُّ بهؤلاء على أن اللامَ للعهد وهو عَمَهُهم المقرونُ بالمد في الطغيان المترتبُ على ما حُكي عنهُم من القبائحِ وذلك إنما يحصُل لهم عند اليأس من اهتدائهم والختم على قلوبهم وكذا ليس المرادُ بما في حيز الثمن نفسَ الهدى بل هو التمكنُ التام منه بتعاضد الأسباب ونأخذ المقدماتُ المستتبِعةُ له بطريق الاستعارة كأنه نفس الهدى بجامعِ المشاركة في استتباعِ الجدوى ولا مرية في أن هذه المرتبة من التمكن كانت حاصلةً لهم بما شاهدُوه من الآياتِ الباهرةِ والمعجزاتِ القاهرةِ من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وبما سمعوه من نصائحِ المؤمنين التي من جُملتِها ما حكي من النهي عن الإفساد في الأرض والأمرُ بالإيمان الصحيح وقد نبذوها وراء ظهورهم وأخذوا بدلها الضلالة الهائلةَ التي هي العمهُ في تيه الطغيان وحملُ الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أَنَّ إضاعتَها غيرُ مختصة بهؤلاء ولئن حملت على الإضاعة التامة الواصلة إلى حد الختم على القلوب المختصة

بهم فليس في إضاعتها فقط من الشناعة ما في إضاعتها مع مؤيدها من المؤيدات العقليةِ والنقلية على أن ذلك يقضي إلى كون ذكر ما فُصّل من أوَّلِ السورة إلى هنا ضائعاً وأبعدُ منه حملُ اشتراء الضلالة بالهدى على مجرد اختيارها عليه من غير اعتبار كونِه في أيديهم بناءً على أنه يستعمل اتساعاً في إيثار أحدِ الشيئين الكائنين في شرَف الوقوع على الآخر فإنه مع خلوِّه عن المزايا المذكورة بالمرة مُخِلٌّ برونق الترشيح الآتي هذا على تقدير جعل الاشتراءِ المذكور عبارةً عن معاملتهم السابقة المحكية وهو الأنسبُ بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم وأما إذا جُعل ترجمةً عن جناية أخرى من جناياتهم فالمراد بالهدى ما كانوا عليه من معرفة صحةِ نبوةِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وحقيقة دينه بما كانُوا يُشاهدونَهُ من نعوته عليه الصلاة والسلام في التوراة وقد كانوا على يقين منه حتى كانوا يستفتحون به على المشركين ويقولون اللهم انصرنا بالنبيِّ المبعوثِ في آخرِ الزمان الذي نجد نعته في التوراة ويقولون لهم قد أظلَّ زمانُ نبيَ يخرجُ بتصديقِ ما قلنَا فنقتلُكُم مَعَهُ قتلَ عادٍ وإِرَم فلما جاءهم ما عَرَفوا كفروا به كما سيأتي ولا مَساغَ لحملِ الهدى على ما كانوا يُظهرونه عند لقاء المؤمنين فإنها ضلالة مضاعفة {فَمَا رَبِحَت تجارتهم} عطفٌ على الصلة داخلٌ في حيزها والفاءُ للدلالة على ترتب مضمونِه عليها والتجارةُ صناعة التجار وهو التصدي للبيع والشراءِ لتحصيل الربح وهو الفضلُ على رأس المال يقال ربِحَ فلان في تجارته أي استشفّ فيها وأصاب الربح وإسناد عدمِه الذي هو عبارة عن الخسران إليها وهو لأربابها بناءً على التوسع المبني على ما بينهما من الملابسة وفائدتُه المبالغةُ في تخسيرهم لما فيه من الإشعار بكثرة الخَسار وعمومِه المستتبع لسرايته إلى ما يُلابِسُهم وإيرادُهما إثرَ الاشتراء المستعار للاستبدال المذكور ترشيحٌ للاستعارة وتصويرٌ لما فاتهم من فوائدِ الهدى بصورة خسار التجارة الذي يتحاشا عنه كلُّ أحد للإشباع في التخسير والتحسير ولا ينافي ذلك أن التجارة في نفسها استعارةٌ لانهماكهم فيما هم عليه من إيثار الضلالة على الهدى وتمرنهم عليه معربة عن كون ذلك صناعةً لهم راسخة إذ ليس من ضروريات الترشيح أن يكون باقياً على الحقيقة تابعاً للاستعارة لا يقصد به إلا تقويتُها كما في قولك رأيت أسد وافيَ البراثن فإنك لا تريد به إلا زيادة تصويرٍ للشجاع وأنه أسد كاملٌ من غير أن تريد بلفظ البراثن معنىً آخرَ بل قد يكون مستعار من ملائم المستعارِ منه لملائم المستعار له ومع ذلك يكون ترشيحاً لأصل الاستعارة كما في قوله فلما رأيتُ النَّسرَ عَزَّ ابنَ دأْية ... وعششَّ في وَكْرَيه جاش له صدري فإن لفظ الوَكرين مع كونه مستعاراً من معناه الحقيقي الذي هو موضعٌ يتخذه الطائر للتفريخ للرأس واللحية أو للفَوْدين أعني جانبي الرأس ترشيحٌ باعتبار معناه الأصلي لاستعارة لفظِ النسر للشيب ولفظ ابن دأية للشعر الأسود وكذا لفظُ التعشيش مع كونه مستعاراً للحلول والنزول المستمِرَّين ترشيحٌ لتينك الاستعارتين بالاعتبار المذكور وقرىء تجارتهم وتعدُّدها لتعدد المضاف إليهم {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} أي إلى طرق التجارة فإن المقصود منها سلامةُ رأس المال مع حصول الربح ولئن فات الربح في صفقة فربما يُتدارَك في صفقة أخرى لبقاء الأصل وأما إتلافُ الكل بالمرة فليس من باب التجارة قطعاً فهؤلاء الذين كان رأسُ مالهم الهدى قد استبدلوا بها الضلالة فأضاعوا كلتا الطِّلْبتين فبقُوا خائبين خاسرين نائين عن طريق التجارة بألف منزلٍ فالجملة راجعة إلى الترشيح معطوفةٌ على ما قبلها مشاركةٌ له في الترتيب على الاشتراء

البقرة (17) المذكور والأَوْلى عطفُها على اشتروا الخ

17

{مّثْلُهُمْ} زيادة كشف لحالهم وتصوير لها غِبَّ تصويرِها بصورة ما يؤدي إلى الخساربحسب المآل بصورة ما يفضي إلى الخَسار من حيث النفسُ تهويلاً لها وإبانةً لفظاعتها فإن التمثيلَ ألطفُ ذريعةٍ إلى تسخير الوهم للعقل واستنزالِه من مقام الاستعصاء عليه وأقوى وسيلةٍ إلى تفهيم الجاهل الغبي وقمع سورة الجامع الآبي كيف لا وهو رفعُ الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية وإبرازٌ لها في معرض المحسوسات الجلية وإبداءٌ للمنكر في صورة المعروف وإظهارٌ للوحشي في هيئة المألوف والمَثَل في الأصل بمعنى المِثْل والنظير يقال مِثْل ومَثَل ومثيل كشِبْهٍ وشَبَه وشبيه ثم أطلق على القول السائر الذي يُمثّل مضرِبُه بمورده وحيثُ لم يكن ذلك إلا قولاً بديعاً فيه غرابةٌ صيَّرتْه جديراً بالتسيير في البلاد وخليقاً بالقبول فيما بين كل حاضرٍ وباد استعير لكل حال أو صفةٍ أو قصة لها شأن عجيب وخطرٌ غريب من غير أن يلاحَظ بينها وبين شيءٍ آخرَ تشبيهٌ ومنه قوله عز وجل {وَلِلَّهِ المثل الاعلى} أي الوصفُ الذي له شأن عظيم وخطر جليل وقوله تعالى {مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون} أي قصتها العجيبةُ الشأن {كَمَثَلِ الذى} أي الذين كما في قوله تعالى {وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ} خلا أنه وُحِّد الضَّمير في قولِه تعالى {استوقد نَاراً} نظراً إلى الصورة وإنما جاز ذلك مع عدم جوازِ وضعِ القائمِ مَقام القائمين لأن المقصود بالوصف هي الجملة الواقعةُ صلةً له دون نفسه بل إنما هو وصلة لوصف المعارف بها ولأنه حقيق بالتخفيف لاستطالته بصلته ولذلك بولغ فيه فحُذف ياؤه ثم كسرتُه ثم اقتُصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين ولأنه ليس باسم تام بل هو كجزئه فحقه ان لايجمع ويستوي فيه الواحد والمتعدد كما هو شأن أخواته وليس الذين جمعَه المصحح بل النونُ فيه مزيدة للدلالة على زيادة المعنى ولذلك جاء بالياء أبداً على اللغة الفصيحة أو قصد به جنسُ المستوقد أو الفوجُ أو الفريقُ المستوقد والنارُ جوهرٌ لطيف مُضيء حارٌّ محرق واشتقاقها من نارينور إذا نفَر لأن فيها حركة واضطراباً واستيقادُها طلبُ وُقودها أي سطوعها وارتفاع لهبها وتنكيرها للتفخيم {فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ} الإضاءة فرطُ الإنارة كما يعرب عنه قوله تعالى {هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُوراً} وتجيء متعدية ولازمة والفاء للدلالة على ترتبها على الاستيقاد أي فلما أضاءت النار ما حول المستوقد أو فلما أضاء ما حوله والتأنيث لكونه عبارةً عن الأماكن والأشياء أو أضاءت النارُ نفسها فيما حوله على أن ذلك ظرف لإشراق النارِ المنزّلِ منزلتَها لا لنفسها أو ما مزيدةٌ وحوله ظرف وتأليفُ الحول للدوران وقيل للعام حَوْلٌ لأنه يدور {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} النور ضوءُ كل نيِّر واشتقاقه من النار والضمير للذي والجمع باعتبار المعنى أي أطفأ الله نارهم التي هي مدار نورِهم وإنما علق الإذهاب بالنور دون نفس النار لأنه المقصود بالإستيقاد لاالاستدفاء ونحوه كما ينبئ عنه قوله تعالى {فَلَمَّا أَضَاءتْ} حيث لم يقل فلما شب ضِرامُها أو نحو ذلك وهو جوابُ لمّا أو استئنافٌ أجيب به عن سؤال سائل يقول

البقرة (18) ما بالُهم أشبَهَتْ حالهم حالَ مستوقدٍ انطفأت ناره او بدله من جملة التمثيل على وجه البيان والضمير على الوجهين للمنافقين والجواب محذوفٌ كما في قوله تعالى {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} للإيجاز والأمن من الإلباس كأنه قيل فلما أضاءت ما حوله خمَدَت فبقُوا في الظلمات خابطين متحيِّرين خائبين بعد الكدح في إحيائها وإسنادُ الإذهاب إلى الله تعالى إما لأن الكل بخلقه تعالى وإما لأن الانطفاءَ حصل بسبب خفيّ أو أمر سماوي كريح أو مطر وإما للمبالغة كما يؤذن به تعديةُ الفعل بالباء دون الهمزة لما فيه من معنى الاستصحاب والإمساك يقال ذهب السلطان بما له إذا أخذه وما أخذه الله عز وجل فأمسكه فلا مرسلَ له من بعده ولذلك عُدل عن الضوء الذي هو مقتضى الظاهر إلى النور لأن ذهابَ الضوء قد يجامع بقاءَ النور في الجملة لعدم استلزام عدم القوي لعدم الضعيف والمراد إزالتُه بالكلية كما يفصحُ عنه قولُه تعالى {وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ} فإن الظلمةَ التي هي عدمُ النور وانطماسُه بالمرة لا سيما إذا كانت متضاعفة متراكمة متراكباً بعضُها على بعض كما يفيده الجمع والتنكير التفخيمي وما بعدها من قولِه تعالَى {لاَّ يُبْصِرُونَ} لا يتحقق الا بعد ان لا يبقى من النور عينٌ ولا أثرٌ وأما لأن المراد بالنور مالا يَرضى بهِ الله تعالَى من النار المجازية التي هينار الفتنة والفساد كما في قوله تعالى كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله ووصفُها بإضاءة ما حول المستوقد من باب الترشيح او النار الحقيقة التي يوقدها الغواة ليتوصلوا بها إلى بعض المعاصي ويهتدوا بها في طرق العيث والفساد فأطفأها الله تعالى وخيب آمالهم وترك في الأصل بمعنى طرَح وخلَّى وله مفعول واحد فضُمِّن معنى التصيير فجرى مَجرى أفعال القلوب قال فتركتُه جَزَرَ السِّباع ينُشْنَه ... يقضَمْنَ حُسنَ بنانِه والمِعصَمِ والظلمة مأخوذة من قولهم ما ظلمك أن تفعل كذا أي ما منعك لأنها تسد البصرَ وتمنعه من الرؤية وقرئ في ظُلْمات بسكون اللام وفي ظلمة بالتوحيد ومفعول لا يبصرون من قبيل المطروح كأن الفعل غير متعد والمعنى أن حالهم العجيبة التي هي اشتراؤهم الضلالةَ التي هي عبارةٌ عن ظلمتي الكفر والنفاق المستتبعين لظُلمة سخط الله تعالى وظلمةِ يوم القيامة يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم وظلمةِ العقاب السرمدي بالهدى الذي هو النورُ الفطري المؤيد بما شاهدوه من دلائل الحق أو بالهدى الذي كانوا حصّلوه من التوراة حسبما ذكر كحال من استوقد ناراً عظيمة حتى يكاد ينتفع بها فأطفأها الله تعالى وتركه في ظلمات هائلة لا يتسنى فيها الإبصار

18

{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} أخبارٌ لمبتدأ محذوفٍ هو ضمير المنافقين أو خبر واحد بالتأويل المشهور كما في قولهم هذا حلوٌ حامض والصممُ آفةٌ مانعة من السماع وأصلُه الصلابة واكتنازُ الأجزاء ومنه الحجرُ الأصم والقناةُ الصماء وصَمام القارورة سِدادُها سمي به فقدانُ حاسة السمع لما أن سببه اكتنازُ باطن الصّماخ وانسدادُ منافذه بحيث لا يكاد يدخله هواءٌ يحصل الصوت بتموجه والبُكم الخُرس والعمى عدم البصر عما من شأنه أن يُبصَر وُصفوا بذلك مع سلامة مشاعرهم المعدودة لما أنهم حيث سدوا مسامعهم عن الإصاخة لما يتلى عليهم من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ وأبَوْا أن يتلقَّوْها بالقبول ويُنطِقوا بها ألسنتهم ولم يجتلوا ما شاهدوا من المعجزات الظاهرةُ على يدَيْ رسولِ

البقرة (19) الله صلى الله عليه وسلم ولم ينظروا إلى آيات التوحيد المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ بعين التدبر وأصروا على ذلك بحيث لم يبقَ لهم احتمالُ الارعواء عنه صاروا كفاقدي تلك المشاعر بالكلية وهذا عند مُفْلقي سَحَرة البيان من باب التمثيل البليغ المؤسس على تناسي التشبيه كما في قول من قال ويصعَدُ حتى يظنَّ الجهول ... بأن له حاجةً في السماءْ لما أن المقدر في النظم في حكم الملفوظ لا من قبيل الاستعارة التي يطوى فيها ذكرُ المستعار له بالكلية حتى لو لم يكن هناك قرينة لحمل على المعنى الحقيقي كما في قولِ زُهيرٍ لدى أسدٍ شاكي السلاحِ مُقذَّف ... له لِبَدٌ أظفارُه لم تُقَلَّمِ {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} الفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها أي هم بسبب اتصافِهم بالصفات المذكورة لا يعودون إلى الهدى الذي تركوه وضيّعوه أو عن الضلالة التي أخذوها والآيةُ نتيجةٌ للتمثيل مفيدةٌ لزيادة تهويلٍ وتفظيع فإن قصارى أمرِ التمثيل بقاؤهم في ظلماتٍ هائلة من غير تعرضٍ لمَشْعَريْ السمع والنطق ولاختلال مَشعَرِ الإبصار وقيل الضمير المقدر وما بعده للموصول باعتبار المعنى كالضمائر المتقدمة فالآية الكريمة تتَّمةٌ للتَّمثيل وتكميلٌ له بأن ما أصابهم ليس مجردَ انطفاء نارهم وبقائهم في ظلمات كثيفة هائلة مع بقاء حاسة البصر بحالها بل اختلت مشاعرُهم جميعاً واتصفوا بتلك الصفات على طريقة التشبيه أو الحقيقة فبقوا جامدين في مكاناتهم لا يرجعون ولا يدْرون أيتقدّمون أم يتأخرون وكيف يرجِعون إلى ما ابتدأوا منه والعدولُ إلى الجُملةِ الاسميَّةِ للدَلالة على استمرار تلك الحالة فيهم وقرئ صماً بكماً عمياً إما على الذم كما في قوله تعالى {حَمَّالَةَ الحطب} والمخصوصُ بالذم هم المنافقون أو المستوقدون وإما على الحاليةِ من الضميرِ المنصوب في تَرَكهم أو المرفوع في لا يبصرون وإما على المفعولية لتركهم فالضميران للمستوقدين

19

{أَوْ كَصَيّبٍ} تمثيلٌ لحالهم إثرَ تمثيل ليعُم البيانُ منها كل دقيق وجليل ويوفيَ حقها من التفظيع والتهويل فإن تفنُّنهم في فنون الكفر والضلال وتنقّلَهم فيها من حال إلى حال حقيقٌ بأن يُضربَ في شأنه الأمثال ويرخى في حلبته أعِنّةُ المقال ويُمدَّ لشرحه أطنابُ الإطناب ويُعقَدَ لأجله فصولٌ وأبواب لما أن كل كلام له حظ من البلاغة وقسط من الجزالة والبراعة لا بد أن يُوفَّى فيه حقُّ كلَ من مقامي الإطناب والإيجاز فما ظنُّك بما في ذُروة الإعجاز من التنزيل الجليل ولقد نُعيَ عليهم في هذا التمثيل تفاصيلُ جناياتهم وهو عطف على الأول على حذف المضاف لما سيأتي من الضمائر المستدعية لذلك أي كمثل ذوي صيِّب وكلمة أو للإيذان بتساوي القصتين في الاستقلال بوجه التشبيه وبصحة التمثيل بكل واحدة منهما وبهما معاً والصيب فيعل من الصَوْب وهو النزول الذي له وقع وتأثير يطلق على المطر وعلى السحاب قال الشماخ عفا آيَةُ نسجُ الجنوب مع الصَّبا ... وأسحمُ دانٍ صادقُ الوعد صيِّبُ ولعل الأول هو المراد ههنا لاستلزامه الثاني وتنكيره لما أنه أريد به نوع منه شديدٌ هائل كالنار في التمثيل الأول وأُمِدَّ به مَا فيهِ منْ المبالغات من جهة مادة الأولى التي هي الصادُ المستعليةُ والياء المشددة والباء الشديدة ومادتِه

الثانية اعنى الصوب المنبئ عن شدة الانسكاب ومن جهة بنائه الدال على الثبات وقرئ أو كصائب {مّنَ السماء} متعلق بصيب أو بمحذوفٍ وقع صفة له والمرادُ بالسماء هذه المِظلة وهي في الأصل كل ما علاك من سقف ونحوه وعن الحسن أنها موجٌ مكفوف أي ممنوع بقدرة الله عزَّ وجلَّ من السيلان وتعريفها للإيذان بأن انبعاث الصيب ليس من أفق واحد فإن كل أفق من آفاقها أي كلَّ ما يحيطُ بهِ كلُّ أفقٍ منها سماءٌ على حِدَة قال ومن بعدِ أرضٍ بيننا وسماءِ كما أن كل طبقة من طباقها سماء قال تعالى {وأوحى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا} والمعنى أنه صيّب عام نازل من غمام مطبِقٍ آخذٍ بالآفاق وقيل المراد بالسماء السحاب واللام لتعريف الماهية {فِيهِ ظلمات} أي أنواع منها وهي ظُلمةُ تكاثُفِه وانتساجِه بتتابع القطر وظلمةُ إظلال ما يلزمه من الغمام الأسحمِ المطبق الآخذ بالآفاق مع ظلمة الليل وجعلُه محلاً لها مع أن بعضها لغيره كظلمتي الغمام والليل لما أنهما جُعلتا من توابع ظلمتِه مبالغةً في شدته وتهويلاً لأمره وإيذاناً بأنه من الشدة والهول بحيث تغمر ظلمتُه ظلماتِ الليل والغمام وهو السر في عدم جعل الظلمات هو الأصلَ المستتبعَ للبواقي مع ظهور ظرفيتها للكل إذ لو قيل أو كظلمات فيها صيب الخ لما أفاد أن للصيب ظلمةً خاصة به فضلاً عن كونها غالبة على غيرها {وَرَعْدٌ} وهو صوتٌ يُسمع من السحاب والمشهور أنه يحدث من اصطكاك أجرام السحاب بعضِها ببعض أو من انقلاع بعضِها عن بعض عند اضطرابها بسوق الرياحِ إياه سوقاً عنيفاً {وَبَرْقٌ} وهو ما يلمع من السحاب من بَرَق الشيءُ بريقاً أي لمع وكلاهما في الأصل مصدرٌ ولذلك لم يجمعا وكونُهما في الصيب باعتبار كونِهما في أعلاه ومصبِّه ووصول أثرِهما إليه وكونِهما في الظلمات الكائنةِ فيه والتنوين في الكل للتفخيم والتهويل كأنه قيل فيه ظلماتٌ شديدة داجية ورعدٌ قاصفٌ وبرق خاطف وارتفاع الجميع بالظرف على الفاعلية لتحقق شرط العملِ بالاتفاق وقيل بالابتداء والجملةُ إما صفةٌ لصيب أو حالٌ منهُ لتخصُّصه بالصفة أو بالعمل فيما بعده من الجار أو من المستكنّ في الظرف الأول على تقديرِ كونِه صفةً لصيب والضمائر في قولِه عزَّ وجلَّ {يجعلون أصابعهم في آذانهم} للمضاف الذي أقيم مُقامه المضافُ إليه فإن معناه باقٍ وإن حذف لفظه تعويلاً على الدليل كما في قوله تعالى {وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها فَجَاءهَا بَأْسُنَا بياتا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} فإن الضمير للأهل المدلول عليه بما قام مقامه من القرية قال حسَّانَ رضَي الله عنْهُ يَسْقون من وَرَدَ البريصَ عليهم ... بردى يُصفَّقُ بالرَّحيقِ السلسلِ فإن تذكير الضمير المستكن في يُصفَّق لرجوعه إلى الماء المضاف إلى بردى وإلا لأنّث حتماً وإيثارا لجعل المنبئ عن دوام الملابسة واستمرارِ الاستقرار على الإدخال المفيدِ لمجرد الانتقال من الخارج إلى الداخل للمبالغة في بيان سدِّ المسامع باعتبار الزمان كما أن إيرادَ الأصابع بدلَ الأنامل للإشباع في بيان سدِّها باعتبار الذات كأنهم سدوها بحملتها لا بأناملها فحسب كما هو المعتاد ويجوز أن يكون هذا إيماءً إلى كمال حَيْرتهم وفرْطِ دهشتهم وبلوغهم إلى حيثُ لا يهتدونَ إلى استعمال الجوارحِ على النهج المعتاد وكذا الحال في عدم تعيين الأصبع المعتادِ أعني السبابة وقيل ذلك لرعاية الأدب والجملة استئناف لامحل لها من الإعراب مبني على سؤال نشأ من الكلامِ كأنَّه قيلَ عند بيان أحوالهم الهائلة فماذا يصنعون في تضاعيف تلك الشدة فقيل يجعلون الخ وقوله تعالى {مّنَ الصواعق} متعلق بيجعلون أي من أجل الصواعقِ المقارنةِ للرعد من قولهم سقاه من

البقرة (20) العيمة والصاعقة قصفة رعد هائل تنقض معها بثقة نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه من الصَّعَق وهو شدةُ الصوت وبناؤها إما أن يكون صفةً لقصفة الرعد أو للرعد والتَّاءُ للمبالغة كَما في الرواية او مصدرا كالعافية وقد تطلق على كل هائلٍ مسموع أو مشاهد يقال صَعَقَتْه الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق أو بشدة الصوت ولاالآذان إنما يفيد على التقدير الثاني دون الاول وقرئ من الصواقع وليس ذلك بقلب من الصواعق لاستواء كلا البناءين في التصرف يقال صقَع الديكُ وخطيب مِصْقَع أي مُجهِرٌ بخطبته {حَذَرَ الموت} منصوب بيجعلون على العلة وإن كان معرفة بالإضافة كقوله وأغفِرُ عوراءَ الكريم ادِّخارَه ... وأصفَحُ عن شتم اللئيم تكرما ولا ضير في تعدد المفعول له فإن الفعل يعلل بعلل شتى وقيل هو نصب على المصدرية أي يحذرون حذراً مثل حذر الموت والحَذر والحذار هو شدة الخوف وقرئ حذارَ الموت والموتُ زوال الحياة وقيل عرَضُ يُضادُّها لقوله تعالى {خَلَقَ الموت والحياة} ورُدّ بأن الخلق بمعنى التقدير والإعدام مقدرة {والله مُحِيطٌ بالكافرين} أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاطُ به المحيطَ شبه شمولَ قدرته تعالى لهم وانطواءَ ملكوتِه عليهم بإحاطة المحيط بما أحاط به في استحالة الفوْت أو شَبَّه الهيئةَ المنتزعة من شئونه تعالى معهم بالهيئة المنتزعة من أحوال المحيط مع المحاط فالاستعارة المبنيةُ على التشبيه الأول استعارة تبعيةٌ في الصفة متفرِّعة على ما في مصدرها من الاستعارة والمبنية على الثاني تمثيلية قد اقتُصِر من طرف المشبَّه به على ما هو العُمدة في انتزاع الهيئة المشبه بها أعني الإحاطة والباقي منويٌّ بألفاظ متخيلة بها يحصل التركيب المعتبر في التمثيل كما مر تحريره في قولِه عزَّ وجلَّ {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} والجملة اعتراضية منبهة على أن ما صنعوا من سد الآذان بالأصابع لا يُغني عنهُم شيئاً فإن القدَرَ لا يدافعُه الحذر والحِيَل لا ترد بأس الله عز وجل وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير الراجعِ إلى أصحاب الصيب الإيذانُ بأن ما دَهَمهم من الأمور الهائلة المحكية بسبب كفرهم على منهاج قوله تعالى {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} فإن الإهلاك الناشىءَ من السُخط أشدُّ وقيل هذا الاعتراض من جملة أحوالِ المشبّهِ على أن المراد بالكافرين المنافقون قد دل به على أنه لا مدافع لهم من عذابِ الله تعالى في الدنيا والآخرة وإنما وُسِّط بين أحوال المشبه مع أن القياس تقديمُه أو تأخيره لإظهار كمال العنايةِ وفرطِ الاهتمام بشأن المشبه

20

{يَكَادُ البرق} استئناف آخرُ وقع جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل فكيف حالُهم مع ذلك البرق فقيل يكاد ذلك {يَخْطَفُ أبصارهم} أي يختلسها ويستلها بسرعة وكاد من أفعال المقاربة وُضعت لمقاربة الخبر من الوجود لتآخذَ أسبابَه وتعاضِدَ مباديَه لكنه لم يوجد بعدُ لفقد شرطٍ أو لعُروض مانع ولا يكون خبرها إلامضارعا عارياً عن كلمة أن وشذ مجيئه اسماً صريحاً كما في قوله ... {فأُبْتُ إلى فهمٍ وما كِدْتُ آيبا ... } وكذا مجيئه مع أنْ حملاً لها على عسى كما في قول رؤبة ... قد كاد من طول البِلى أن يُمْحَصَا ... كما تحمل

هي عليها بالحذف لما بينهما من المقارنة في أصل المقاربة وليس فيها شائبة الانشائية كما في عسى وقرئ يخطِف بكسر الطاء ويختطف بفتح الياء والخاء بنقل فتحة التاء إلى الخاء وإدغامها في الطاء ويِخِطف بكسرهما على إتباع الياء والخاء ويُخَطِّف من صيغة التفعيل ويتخطف من قوله تعالى {وَيُتَخَطَّفُ الناسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم} كل ظرف وما مصدرية والزمان محذوف أي كلَّ زمان إضاءةً وقيل ما نكرة موصوفة معناها الوقت والعائد محذوف أي كل وقت أضاء لهم فيه والعامل في كلما جوابها وهو استئناف ثالث كأنه قيل ما يفعلون في أثناء ذلك الهول أيفعلون بأبصارهم ما فعلوا بآذانهم أم لا فقيل كلما نوّر البرقُ لهم ممشىً ومسلكاً على أن أضاء متعدٍ والمفعول محذوف أو كلما لمع لهم على أنه لازم ويؤيد قراءة كُلَّمَا أَضَاء {مَّشَوْاْ فِيهِ} أي في ذلكَ المسلك أو في مطرح نوره خطوات يسيرة مع خوف أن يخطَف أبصارهم وإيثارُ المشي على ما فوقه من السعي والعدو للإشعار بعدم استطاعتهم لهما {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} أي خفي البرقُ واستتر والمظلم وإن كان غيرَه لكن لمّا كان الإظلامُ دائراً على استتاره أُسند إليه مجازاً تحقيقاً لما أريد من المبالغة في موجبات تخبُّطِهم وقد جوز أن يكون متعدياً منقولاً من ظلم الليل ومنه ما جاء في قول أبي تمام هما أظلما حاليَّ ثُمّتَ أجليا ... ظلامَيْهما عن وجهِ أمردَ أشيبِ ويعضُده قراءة أُظلِم على البناء للمفعول {قَامُواْ} أي وقفوا في أماكنهم على ما كانُوا عليهِ من الهيئة متحيرين مترصدين لخفقة أخرى عسى يتسنى لهم الوصول إلى المقصد أو الالتجاء إلى ملجأ يعصِمُهم وإيرادُ كلما مع الإضاءة وإذ مع الظلام للإيذان بأنهم حِراصٌ على المشى مترقيون لما يصححه فكلما وجدوا فرصة انتهزوها ولا كذلك الوقوف وفيه من الدلالة على كمال التحير وتطاير اللب مالا يوصف {وَلَوْ شَاء الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم} كلمة لو لتعليق حصولِ أمرٍ ماض هو الجزاءُ بحصول أمرٍ مفروض فيه هو الشرط لما بينهما ن الدوران حقيقة أو ادعاء ومن قضية مفروضية الشرطِ دلالتُها على انتفائه قطعاً والمنازِعُ فيه مكابر وأما دلالتها على انتفاءِ الجزاء فقد قيل والحقُّ الذي لا محيدَ عنه أنه إن كان ما بينهما من الدوران كلياً أو جزئياً قد بُني الحكم على اعتباره فهي دالةٌ عليه بواسطة مدلولها الوضعيّ لا محالة ضرورة استلزام انتفاء العلة لا نتفاء المعلول أما في مادة الدوران الكلي كما في قوله عز وجل {وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وقولك لو جئتني لأكرمتُك فظاهرٌ لأن وجودَ المشيئة علةٌ لوجود الهداية حقيقةً ووجود المجئ علةٌ لوجود الإكرام ادعاءً وقد انتفيا بحكم المفروضية فانتفى معلولاهما حتماً ثم إنه قد يساق الكلامُ لتعليل انتفاء الجزاء بانتفاءالشرط كما في المثالين المذكورين وهو الاستعمال الشائعُ لكلمة لو ولذلك قيل هي لامتناع الثاني لامتناع الأول وقد يساق للاستدلال بانتفاء الثاني لكونه ظاهراً أو مسلّماً على ابتغاء الأولِ لكونه خفياً أو متنازعاً فيهِ كما في قوله سبحانه {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} وفي قوله تعالى {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سبقونا} فإن فسادهما لازمٌ لتعدد الآلهةِ حقيقةً وعدمُ سبقِ المؤمنين إلى الإيمان لازمٌ لخيريته في زعم الكفرة ولاريب في انتفاء اللازمين انتفاءُ الملزومين حقيقة في الأول وادعاءً باطلاً في الثاني ضرورةَ استلزامِ انتفاءِ اللازم لانتفاء الملزوم لكن لا بطريق السببية الخارجية كما في المثالين الأولين بل بطريق الدلالةِ العقلية الراجعةِ إلى سببية العلم بانتفاء الثاني للعلم بانتفاء الأول ومَن لَم يَتَنَبَّه لَه زعَم أنه لانتفاء الأولِ لانتفاء الثاني وأما

في مادة الدوران الجزئي كما في قولك لو طلعت الشمسُ لوُجد الضوء فلأن الجزاءَ المنوطَ بالشرط الذي هو طلوعُها ليس وجودَ أي ضوء كان كضوء القمر المجامعِ لعدم الطلوع مثلاً بل إنما وجود الضوء الخاص الناشئ من الطلوع ولا ريب في انتفائه بانتفاءِ الطلوع هذا إذا بُني الحكمُ على اعتبار الدوران وأما إذا بني على عدمه فإما أن يعتبرَ هناك تحققُ مدار آخر له أولا فإن اعتبر فالدلالةُ تابعةٌ لحال المدار فإن كان بينه وبين انتفاءِ الأول منافاةٌ تُعيِّن الدلالة كما إذا قلت لو لم تطلُع الشمس يوجد الضوء فإن وجود الوضوء وإن عُلِّق صورةً بعدم الطلوع لكنه في الحقيقة بسبب آخرَ له ضرورةَ أن عدم الطلوعِ من حيث هو هو ليس مداراً لوجود الضوء قي الحقيقة وإنما وضع موضعَ المدار لكونه كاشفاً عن تحقق مدار آخر له فكأنه قيل لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء بسبب آخرَ كالقمر مثلاً ولا ريب في أن هذا الجزاءَ منتفٍ عند انتفاء الشرط لاستحالة وجودِ الضوء القمَري عند طلوع الشمس وإن لم يكن بينهما منافاةٌ تعيِّن عدمَ الدلالة كما في قوله صلى الله عليه وسلم في بنت أبي سلمة لو لم تكن ربيبتي في حِجْري ما حلَّت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة فإن المدار المعتبرَ في ضمن الشرط أعني كونها ابنةِ أخيهعليه السلام من الرضاعة غيرُ مناف لانتفائه لانتفائه الذي هو كونُها كونها ربيبته عليه السلام بل مجامعٌ له ومن ضرورته مجامعةُ أثرَيهما أعني الحرمة الناشئةَ من كونها ربيبته عليه السلام والحرمةَ الناشئة من كونها ابنةَ أخيه من الرضاعة وإن لم يعتبر هناك تحققُ مدارٍ آخرَ بل بني الحكمُ على اعتبار عدمِه فلا دلالة لها على ذلك أصلاً كيف لا ومساق الكلام حينئذ لبيانِ ثبوتِ الجزاء على كل حال يتعليقه بما ينافيه ليُعلم ثبوتُه عند وقوع مالا ينافيه بالطريق الأولى كما في قوله عز وجل {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ} وقوله عليه السلام {لو كان الإيمانُ في الثريا لناله رجالٌ من فارس} وقول علي رضي الله عنه لو كُشفَ الغطاءُ ما ازددتُ يقيناً فإن الأجزيةَ المذكورة قد نيطت بما ينافيها ويستدعي نقائضَها إيذاناً بأنها في أنفسها بحيث يجب ثبوتُها مع فرض انتفاءِ أسبابها أو تحققِ أسباب انتفائها فكيف إذا لم يكن كذلك على طريقة لو الوصلية في مثلِ قولِه تعالى {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} ولها تفاصيلُ وتفاريعُ حررناها في تفسيرِ قولِه تعالى {قال أَوَلَوْ كُنَّا كارهين} وقول عمر رضي الله عنه نعم العبدُ صهيبٌ لو لم يخَفِ الله لم يعصِه إنْ حُمل على تعليق عدمِ العصيان في ضمن عدمِ الخوف بمدارٍ آخرَ نحوُ الحياء والإجلالِ وغيرهما مما يجامِعُ الخوفَ كان من قبيل حديث ابنةِ أبي سلمة وإن حمل على بيانُ استحالة عصيانه مبالغةً كان من هذا القبيل والآية الكريمة واردة على الاستعمال الشائعِ مفيدةٌ لكمال فظاعة حالِهم وغايةِ هول ما دهَمهم من المشاقّ وأنها قد بلغت من الشدة إلى حيث لو تعلَّقتْ مشيئةُ الله تعالى بإزالة مشاعرِهم لزالت لتحقق ما يقتضيه اقتضاءً تاماً وقيل كلمة لو فيها لربط جزائها بشرطِها مجردةً عن الدلالة على انتفاء أحدِهما لانتفاء الآخر بمنزلة كلمة أن ومفعولُ المشيئة محذوفٌ جرياً على القاعدة المستمرَّةِ فإنها إذا وقعت شرطاً وكان مفعولُها مضموناً للجزاء فلا يكاد يُذكر إلاَّ أنْ يكونَ شيئاً مستغرباً كما في قوله فلو شئتُ أن أبكِي دماً لبَكَيْتُه ... عليه ولكن ساحةُ الصبر أوسعُ أي لو شاء أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لفعل ولكن لم يشأ لما يقتضيه من الحِكَم والمصالح وقرئ لأذهب بأسماعهم على زيادة الباء كما في قوله تعالى {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} والإفرادُ في المشهورة لأن السمع مصدر في الأصل والجملة الشرطية معطوفةٌ على ما قبلها من الجمل الاستئنافية وقيل على كلما أضاء الخ وَقَولُهُ

عزَّ وَجَلَّ {إِنَّ الله على كل شَىْء قَدِيرٌ} تعليلٌ للشرطية وتقريرٌ لمضمونها الناطقِ بقدرته تعالى على إزالة مشاعرِهم بالطريق البرهاني والشيءُ بحسب مفهومِه اللغوي يقعُ على كل ما يصِحّ أن يُعلم ويُخبَرَ عنه كائناً ما كان على أنه في الأصلِ مصدر شاء أُطلِقَ على المفعول واكتُفي في ذلك باعتبار تعلقِ المشيئةِ به من حيث العلمُ والإخبارُ عنه فقط وقد خصَّ ههنا بالممكن موجوداً كان أو معدوماً بقضية اختصاصِ تعلقِ القدرة به لما أنها عبارةٌ عن التمكن من الإيجاد والإعدام الخاصَّيْن به وقيل هي صفةٌ تقتضي ذلك التمكن والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأْ لم يفعل والقديرُ هو الفعّال لكل ما يشاءُ كما يشاءُ ولذلك لم يوصَفْ به غيرُ الباري جل جلاله ومعنى قدرتِه تعالى على الممكن الموجود حالَ وجوده أنه إن شاء إبقاءَه على الوجود أبقاه عليه فإن علةَ الوجود هي علةُ البقاء وقد مرَّ تحقيقُه في تفسير قوله تعالى {رَبّ العالمين} وإن شاء إعدامَه أعدمه ومعنى قدرته على المعدوم حالَ عدمِه أنه إن شاء إيجادَه أوجده وإن لم يشأْ لم يوجِدْه وقيل قدرةُ الإنسان هيئةٌ بها يتمكن من الفعل والترك وقدرةُ الله تعالى عبارة عن نفي العجز واشتقاقُ القدرة من القَدْر لأن القادر يوقع الفعل بقدْر ما تقتضيه إرادته أو بقدر قوتِه وفيه دليلٌ على أنَّ مقدورَ العبد مقدورٌ لله تعالى حقيقة لأنه شئ وكل شئ مقدورٌ له تعالى واعلم أنَّ كلَّ واحدٍ من التمثيلين وإن احتمل أنْ يكونَ من قبيلِ التمثيل المفرق كما في قوله كأنْ قلوبَ الطير رَطْباً ويابسا ... لدى وَكرها العُنّابُ والحَشَفُ البالي بأن يُشبَّه المنافقون في التمثيل الأول بالمستوقدين وهُداهم الفطريُّ بالنار وتأييدُهم إياه بما شاهدوه من الدلائل باستيقادها وتمكنِهم التامِّ من الانتفاع به بإضاءتها ما حولهم وإزالته بإذهاب النور الناري وأخذ الضلالة بمقابلته بملابستهم الظلماتِ الكثيفة وبقائهم فيها ويشبهوا في التمثيل الثاني بالسابلة والقرآنُ وما فيه من العلومِ والمعارفِ التي هي مدارُ الحياة الأبدية بالصيب الذي هو سببُ الحياة الأرضيةِ وما عَرَض لهم بنزوله من الغموم والأحزان وانكساف البال بالظلمات وما فيهِ من الوعدِ والوعيدِ بالرعدِ والبرقِ وتصامِّهم عما يقرَع أسماعَهم من الوعيد بحال من يَهُولُه الرعدُ والبرق فيخاف صواعقَه فيسدُّ أذنه عنها ولاخلاص له منها واهتزازُهم لِمَا يلمع لهم من رَشَدٍ يدركونه أو رِفد يُحرِزونه بمشيهم في مَطْرَحِ ضوء البرق كلما أضاء لهم وتحيُّرهم في أمرهم حين عنَّ لهم مصيبةٌ بوقوفهم إذا أظلم عليهم لكن الحملَ على التمثيل المركب الذي لا يعتبر فيه تشبيهُ كلِّ واحدٍ من المفردات الواقعة في أحد الجانبين بواحدٍ من المفردات الواقعة في الجانب الآخر على وجه التفصيل بل يُنتزع فيه من المفردات الواقعة في جانب المشبَّه هيئةٌ فتُشبَّهُ بهيئةٍ أخرى منتزعةٍ من المفردات الواقعة في جانب المشبَّه به بأن يُنتزع من المنافقين وأحوالهم المفصلة في كلِّ واحدٍ من التمثيلين هيئةٌ على حدة وينتزع من كل واحدٍ من المستوقدين وأصحاب الصيب وأحوالهم المحكية هيئة بحيالها فتشبية كلَّ واحدةٍ من الأوليين بما يضاهيها من الأُخْرَيين هو الذي يقتضيهِ جزالةُ التنزيل ويستدعيه فخامةُ شأنه الجليلِ لاشتماله على التشبيه الأولِ إجمالاً مع أمرٍ زائدٍ هو تشبيهُ الهيئة وإيذانُه بأن اجتماعَ تلك المفردات مستتبعٌ لهيئة عجيبةٍ حقيقةٍ بأن تكون مثلاً في الغرابة

البقرة (21)

21

{يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} إثرَ ما ذكر الله تعالى علو طبقة كتابه الكريم وتخزب الناس في شأنه إلى ثلاث فرقٍ مؤمنةٍ به محافظةٍ على ما فيه من الشرائع والأحكام وكافرةٍ قد نبذتْه وراءَ ظهرِها بالمجاهرة والشقاق وأخرى مذبذبةٍ بينهما بالمخادعة والنفاق ونعْتِ كل فرقةٍ منها بما لَها من النعوت والأحوال وبين مالهم من المصير والمآل أقبل عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزاً لهم إلى الإصغاء وتوجيها لقوبهم نحو التلقي وجبراً لما في العبادة من الكُلفة بلذة الخطاب فأمرهم كافةً بعبادته ونهاهم عن الإشراك به ويا حرفٌ وضع لنداء البعيد وقد ينادى به القريبُ تنزيلاً له منزلةَ البعيد إما إجلالاً كما في قول الداعي يا ألله ويا ربِّ وهو أقربُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد استقصاراً لنفسه واستبعاداً لها من محافل الزلفى ومنازلِ المقربين وإما تنبيهاً على غفلته وسوءِ فهمِه وقد يُقصد به التنبيهُ على أنَّ ما يعقبُه أمرٌ خطير يعتنى بشأنه وأي اسمٌ مبهمٌ جعل وصلُه إلى نداء المعروف باللام لا على أنه المنادى أصالةً بل على أنه صفةٌ موضحة له مزيلة لإبهامه والتزام رفعُه مع انتصاب موصوفه محلاً إشعاراً بأنه المقصود بالنداء وأُقحمَتْ بينهما كلمةُ التنبيه تأكيداً لمعنى النداء وتعويضاً عما يستحقه أي من المضاف إليه ولِما ترى من استقلالِ هذه الطريقة بضروبٍ من أسباب المبالغةِ والتأكيد كثُر سلوكُها في التنزيل المجيد كيف لا وكلُّ ما ورد في تضاعيفه على العباد من الأحكام والشرائعِ وغير ذلك خطوبٌ جليلةٌ حقيقةٌ بأن تقشعِرَّ منها الجلودُ وتطمئنَّ بها القلوبُ الأبية ويتلَقَّوْها بآذانٍ واعية وأكثرهم عنها غافلون فاقتضى الحالُ المبالغةَ والتأكيدَ في الإيقاظ والتنبيه والمرادُ بالناس كافةُ المكلفين الموجودين في ذلك العصر لما أن الجموعَ وأسماءَها المحلاة باللام للعموم بدليل صحة الاستثناءِ منها والتأكيدِ بما يفيد العمومَ كمَا في قولِهِ تعالى {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} واستدلالِ الصَّحابةِ رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين بعمومها شائعاً ذائعاً وأما مَنْ عداهم ممن سيوجد منهم فغيرُ داخلين في خطاب المشافهة وإنما دخولُهم تحت حُكْمِه لما تواتر من دينه صلى الله عليه وسلم ضرورةَ أن مقتضى خطابه وأحكامِه شاملٌ للموجودين من المكلفين ولمن سيوجد منهم إلى قيام الساعة ولا يَقدح في العموم ما رُوي عن علقمةَ والحسنِ البصري من أن كلَّ ما نزل فيه يا أَيُّهَا الناس فهو مكي إذ ليس من ضرورة نزولِه بمكةَ شرَّفها الله تعالَى اختصاصُ حُكمِه بأهلها ولا من قضية اختصاصِه بهم اختصاصُه بالكفار إذ لم يكن كلُّ أهلها حئينئذ كفرةً ولا ضيرَ في تحقق العبادة في بعض المكلفين قبل ورود هذا الأمر لما أن المأمورَ به القدرُ المشترك الشاملُ لإنشاء العبادةِ والثباتِ عليها والزيادةِ فيها مع أنها متكررة حسب تكررِ أسبابها ولا في انتفاء شرطها في الآخرين منهم أعني الإيمان لأن الأمرَ بها منتظِمٌ للأمر بما لا تم إلا به وقد عُلم من الدين ضرورةً اشتراطُها به فإن أمرَ المحْدِث بالصلاة مستتبع للأمرِ بالتوضّي لا محالة وقد قيل المراد بالعبادة ما يعُمّ أفعالَ القلبِ أيضاً لما أنها عبارةٌ عن غاية التذلُّلِ والخضوعِ ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ كلُّ ما وردَ في القرآنِ من العبادات فمعناها التوحيد وقيل معنى اعبدوا وحِّدوا وأطيعوا ولا في كون بعضٍ من الفِرْقتين الأخيرتين ممن لا يُجدي فيهم الإنذارُ بموجب النصِّ القاطعِ لما أن الأمرَ لقطع الأعذار

ليس فيه تكليفُهم بما ليس في وُسعهم من الإيمان بعدم إيمانهم أصلاً إذ لاقطع لأحدٍ منهم بدخوله في حكم النص قطعا وورود النص بذلك لكونهم في أنفسهم بسوء اختيارهم كذلك لا أن كونَهم كذلك لورود النص بذلك فلا جبر أصلاً نعم لتخصيص الخطاب بالمشركين وجهٌ لطيفٌ ستقف عليه عند قوله تعالى {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} وإيراده تعالى بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد موجب الأمرِ بالإشعار بعلّيتها للعبادة {الذى خَلَقَكُمْ} صفة أُجريت عليه سبحانه للتبجيل والتعليل إثرَ التعليل وقد جُوِّز كونُها للتقييد والتوضيح بناءً على تخصيص الخطاب بالمشركين وحملِ الربِّ على ما هو أعمُّ من الرب الحقيقي والآلهة التي يسمونها أرباباً والخلق إيجاد الشيء على تقديرٍ واستواءٍ وأصله التقدير يقال خلق النعلَ أي قدَّرها وسواها بالمقياس وقرئ خلقكم بإدغام القاف في الكاف {والذين مِن قَبْلِكُمْ} عطفٌ على الضمير المنصوبِ ومتممٌ لما قصد من التعظيم والتعليل فإن خلقَ أصولهم من موجبات العبادة كخلق أنفسهم ومن ابتدائية متعلقةٌ بمحذوف أي كانوا من زمان قبلَ زمانكم وقيل خلقَهم من قبلِ خلقِكم فحُذف الخلقُ وأقيم الضمير مكانه والمرادُ بهم مَنْ تقدّمهم من الأمم السالفة كافة ومن ضرورة عمومِ الخطابِ بيانُ شمولِ خلقِه تعالى للكل وتخصيصُه بالمشركين يؤدي إلى عدم التعرضِ لخلقِ من عاداهم من معاصريهم وإخراجُ الجملةُ مُخرجَ الصلةِ التي حقُها أن تكونَ معلومةَ الانتسابِ إلى الموصول عندهم أيضاً مع أنهم غيرُ معترفين بغاية الخلق وإن اعترفوا بنفسه كما ينطِق به قوله تعالى {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} للإيذان بأن خلقهم التقوى من الظهور بحيث لايتأتى لأحد إنكاره وقرئ وخلق من قبلكم وقرئ والذين مَنْ قبلكم بإقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته توكيداً كإقحام اللام بين المضافين في لاأبالك أو بجعله موصوفاً بالظرف خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ أيْ الذين هم أناس كائنون مِن قَبْلِكُمْ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} المعنى الوضعي لكلمة لعل هو إنشاءُ توقع أمرٍ مترددٍ بين الوقوع وعدمِه مع رجحان الأول وأما محبوبٍ فيسمى ترجياً أو مكروهٍ فيسمَّى إشفاقاً وذلك المعنى قد يعتبر تحققُه بالفعل إما من جهة المتكلم كما في قولك لعل الله يرحمني وهو الأصلُ الشائعُ في الاستعمال لأن معانيَ الانشاءاتِ قائمةٌ به وإما من جهة المخاطب تنزيلاً له منزلةَ المتكلم في التلبّس التام بالكلام الجاري بينهما كما في قوله سبحانه {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} وقد يعتبر تحققُه بالقوة بضربٍ من التجوز إيذاناً بأن ذلك الأمرَ في نفسه مَئنّةٌ للتوقع متصفٌ بحيثية مصححةٍ له من غيرِ أن يعتبر هناك توقعٌ الفعل من توقع أصلاً فإن روعِيَتْ في الآية الكريمة جهةُ المتكلم يستحيلُ إرادةُ ذلك المعنى لامتناع التوقعِ من علاّم الغيوب عز وجل فيُصار إما إلى الاستعارة بأن يُشبَّه طلبُه تعالى من عباده التقوى مع كونهم مئنةً لها لتعاضُد أسبابها برجاء الراجي من المرجوَّ منه أمراً هيِّنَ الحصول في كون متعلَّقِ كلَ منهما متردداً بين الوقوع وعدمِه مع رجحان الأول فيستعار له كلمةُ لعل استعارةً تبعية حرفيةً للمبالغة في الدلالة على قوة الطلب وقُربِ المطلوب من الوقوع وإما إلى التمثيل بأن يلاحَظَ خلقُه تعالى إياهم مستعدين للتقوى وطلبه إياها منه وهم متمكنون منها جامعون لأسبابها ويُنتزَعُ من ذلك هيئةٌ فتُشبَّه بهيئةٍ منتزَعةٍ من الراجي ورجائه من المرجو منه شيئاً سهلَ المنال فيستعمل في الهيئة الأولى ما حقه أن يستعمل في الثانية فيكون هناك استعارةٌ تمثيلية قد صُرِّح من ألفاظها بما هو العمدة في انتزاع الهيئة المشبه بها أعني كلمةَ الترجي والباقي منويٌّ بألفاظ متخيلة بها

البقرة (22) يحصل التركيب المعتبر في التمثيل كما مر مراراً وأما جعلُ المشبهِ إرادتَه تعالى في الاستعارة والتمثيل فأمرٌ مؤسَّسٌ على قاعدة الاعتزالِ القائلة بجواز تخلّفِ المراد عن إرادتِه تعالى فالجملةُ حالٌ إما من فاعل خلقكم طالباً منكم التقوى أو من مفعوله وما عُطف عليه بطريق تغليبِ المخاطبين على الغائبين لأنهم المأمورون بالعبادة أي خلقكم وإياهم مطلوباً منكم التقوى أو علةٌ له فإن خلقَهم على تلك الحال في معنى خلقِهم لأجل التقوى كأنه قيل خلقكم لتتقوا أو كي تتقوا إما بناءً على تجويز تعليلِ أفعاله تعالى بأغراضٍ راجعةٍ إلى العباد كما ذهب إليه كثيرٌ من أهل السنة وإما تنزيلاً لترتُّب الغايةِ عَلى مَا هيَ ثمرةٌ لَهُ منزلةَ ترتبِ الغرضِ عَلى ما هُو غرضٌ لَهُ فإنَّ استتباعَ أفعاله تعالى لغاياتِ ومصالحَ متقنةٍ جليلة من غير أن تكون هي علةٌ غائيةٌ لها بحيث لولاها لما أَقدَم عليها ممَّا لاَ نزاعَ فيهِ وتقييدُ خلقهم بما ذكر من الحال أو العلة لتكميل عِلّيته للمأمورِ به وتأكيدِها فإن إتيانَهم بما خُلقوا له أدخَلُ في الوجوب وإيثارُ تتقون على تعبُدون مع موافقته لقوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} للمبالغة في إيجابِ العبادةِ والتشديدِ في إلزامها لما أن التقوى قُصارى أمرِ العابد ومنتهى جُهده فإذا لزمتهم التقوى كان ما هو أدنى منها ألزمَ والإتيانُ به أهونَ وإن روعيت جهةُ المخاطبِ فلعل في معناها الحقيقي والجملةُ حالٌ من ضمير اعبدوا كأنه قيل اعبدوا ربكم راجين للانتظام في زُمرة المتقين الفائزين بالهدى والفلاح على أن المرادَ بالتقوى مرتبتُها الثالثة التي هي التَّبتلِ إلى الله عزَّ وجلَّ بالكلية والتنزُّه عن كل ما يشغل سره عن مراقبته وهي أقصى غايات العبادة التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ وبالانتظام القدرَ المشتركَ بين إنشائه والثباتِ عليه ليرتجيَه أربابُ هذه المرتبة وما دونها من مترتبتي التوقي عن العذاب المخلد والتجنّبِ عن كلِّ ما يُؤثِّمُ من فعل أو تركٍ كما مر في تفسير المتقين ولعل توسيطَ الحال من الفاعل بين وصْفي المفعول لما في التقديم من فوات الإشعارِ بكون الوصفِ الأول معظمَ أحكام الربوبية وكونِه عريقاً في إيجاب العبادة وفي التاخيرمن زيادة طول الكلام هذا على تقدير اعتبارِ تحققِ التوقعِ بالفعل فأما إن اعتُبر تحققُه بالقوة فالجملةُ حال من مفعول خلقكم وما عُطف عليه على الطريقة المذكورة أي خلقكم وإياهم حالَ كونكم جميعاً بحيث يرجو منكم كلُّ راج أن تتقوا فإنه سبحانه وتعالى لما بَرَأهم مستعدين للتقوى جامعين لمباديها الآفاقية والأنفسية كان حالهم بحيث يرجو منهم كلُّ راجٍ أن يتقوا لا محالة وهذه الحالة مقارنةٌ لخلقهم وإن لم يتحقق الرجاء قطعاً واعلم أن الآية الكريمةَ مع كونها بعبارتها ناطقةً بوجوب توحيده تعالى وتحتّم عبادتِه على كافة الناس مرشدةٌ لهم بإشارتها إلى أن مطالعةَ الآياتِ التكوينيةِ المنصوبةِ في الأنفس والآفاق ومما يقضي بذلك قضاءً متقناً وقد بين فيها أولاً من تلك الآيات ما يتعلق بأنفسهم من خلقهم وخلقِ أسلافِهم لما أنه أقوى شهادةً وأظهرُ دلالة ثم عقب بما يتعلق بمعاشهم فقيل

22

{الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً} وهو في محل النصبِ على أنَّه صفةٌ ثانيةٌ لربكم موضحة أو مادحة أو على تقدير أخُص أو أمدَح أو في محلِ الرفعِ

على المدح والتعظيم بتقدير المبتدأ قال ابن مالك التُزم حذفُ الفعل في المنصوب على المدح إشعاراً بأنه إنشاء كما في المنادى وحُذف المبتدأ في المرفوع إجراءً للوجهين على سَننٍ واحد وأما كونُه مبتدأً خبرُه فلا تجعلوا كما قيل فيستدعي أن يكونَ مناطُ النهي مَا في حيزِ الصِّلةِ فقط من غيرِ أن يكون لما سلف من خلقهم وخلقِ مَنْ قبلهم مدخلٌ في ذلك مع كونه أعظمَ شأناً وجعل بمعنى صيّر والمنصوبان بعده مفعولاه وقيل هو بمعنى خلق وانتصابُ الثاني على الحالية والظرفُ متعلقٌ به على التقديرين وتقديمُه على المفعولِ الصريحِ لتعجيل المسَرَّة ببيان كونِ ما يعقُبه من منافع المخاطبين وللتشويق إليه لأن النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لا سيَّما بعد الإشعار بمنفعته مترقبةً له فيتمكن لديها عند ورودِه عليها فضلُ تمكن أو لما في المؤخَّر وما عُطف عليهِ من نوع طول فلو قدُم لفات تجاوبُ أطرافِ النظم الكريم ومعنى جعلها فراشاً جعل بعضَها بارزاً من الماء مع اقتضاء طبعها الرسوبَ وجعلها متوسطةً بين الصلابة واللين صالحةً للقعود عليها والنوم فيها كالبساط المفروش وليس من ضرورة ذلك كونُها سطحاً حقيقيا فإن كرية شكلِها مع عظم جِرْمها مصححة لافتراشها وقرئ بساطاً ومِهاداً {والسماء بِنَاء} عطفٌ على المفعولين السابقين وتقديمُ حالِ الأرض لما أن احتياجَهم إليها وانتفاعَهم بها أكثرُ وأظهر أي جعلها قُبة مضروبةً عليكم والسماءُ اسم جنسٍ يُطلق على الواحد والمتعدد أو جمع سماوة أو سماءة والبناء في الاصل مصدرسمى به المبنيُّ بيتاً كان أو قُبةً أو خِباءً ومنه قولُهم بنى على امرأته لما أنهم كانوا إذا تزوجوا امرأةً ضربوا عليها خِباءً جديداً {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} عطفٌ على جعل أي أنزل من جهتها أو منها إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض كما رُوي ذلك عنه عليه الصلاة والسلام أو المرادُ بالسماء جهةُ العلو كما بنبئ عنه الإظهارُ في موضع الإضمار وهو على الأولين لزيادة التقرير ومن لابتداء الغايةِ متعلقةٌ بأنزل أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المفعول أي كائناً من السماء قُدِّم عليه لكونه نكرةً وأما تقديمُ الظرفِ على الوجه الأول مع أنَّ حقَّهُ التأخيرُ عن المفعول الصريح فإما لأن السماءَ أصلُه ومبدؤه وإما لما مر من التشويق إليه مع ما فيه من مزيد انتظامٍ بينه وبينَ قولِهِ تعالى {فَأَخْرَجَ بِهِ} أي بسبب الماء {مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} وذلك بأن أوْدَعَ في الماء قوةً فاعلةً وفي الأرض قوةً منفعلة فتولَّد من تفاعُلِهما أصنافُ الثمار أو بأن أجرى عادتَه بإفاضة صورِ الثمار وكيفيتها المتخالفة على المادة الممتزجة منها وإن كان المؤثرَ في الحقيقة قدرتُه تعالى ومشيئتُه فإنه تعالى قادر على أن يوجِدَ جميعَ الأشياء بلا مباد وموادَّ كما ابدع نفوس المبادي والاسباب لكن له عز وجل في إنشائها متقلبةً في الأحوال ومتبدلةً في الأطوار من بدائعَ حِكَمٌ باهرةٌ تُجَدِّدُ لأولي الأبصار عِبراً ومزيدَ طُمَأنينة إلى عظيم قدرتِه ولطيفِ حكمتِه ما ليس في إبداعها بغتة ومن للتبعيض لقوله تعالى {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ} ولوقوعها بين مُنكَّرين أعني ماءً ورزقاً كأنه قيل وأنزل من السماء بعضَ الماء فأخرج به بعضَ الثمرات ليكون بعضَ رزقكم وهكذا الواقعُ إذ لم ينزل من السماء كلُّ الماء ولا أخرج من الأرض كل الثمرات ولا جعل كلَّ المرزوق ثماراً أو للتبيين ورزقاً مفعول بمعنى المرزوق ومن الثمرات بيانٌ له أو حال منه كقولك أنفقت من الدراهم ألفاً ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ الثمرات مفعولاً ورزقاً حالاً منه أو مصدراً من أخرج لأنه بمعنى رزق وإنما شاع ورودُ الثمرات دون الثمار مع أن الموضع موضعُ

كثرة لأنه أريد بالثمرات جماعة الثمرة في قولك أدركتْ ثمرةُ بستانه ويؤيده القراءة على التوحيد أو لأن الجموعَ يقعُ بعضها موقعَ بعض كقوله تعالى {كَمْ تَرَكُواْ مِن جنات وَعُيُونٍ} وقوله تعالى {ثلاثة قُرُوء} أو لأنها مُحلاة باللام خارجةٌ عن حد القِلة واللامُ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع صفة لرزقا على تقدير كونه المرزوق أي رزقاً كائناً لكم أو دِعامةً لتقوية عمل رزقاً على تقدير كونِه مصدراً كأنه قيل رزقاٍ إياكم {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} إما متعلقٌ بالأمر السابق مترتِّبٌ عليه كأنه قيل إذا أمرتم بعبادة مَنْ هذا شأنه من التفرد بهذه النعوت الجليلة والأفعال الجميلة فلا تجعلوا له شريكاً وإنما قيل أنداداً باعتبار الواقع لا لأن مدارَ النهي هو الجمعية وقرئ نِدّا وإيقاعُ الاسم الجليل موقعَ الضمير لتعيين المعبودِ بالذاتِ إثرَ تعيينه بالصفات وتعليلِ الحُكمِ بوصفِ الألوهيةِ التي عليَها يدورُ أمرُ الوحدانية واستحالةُ الشِّرْكة والإيذانِ باستتباعها لسائر الصفات وإما معطوفٌ عليهِ كما في قولِهِ تعالى اعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً والفاء للإشعار بعِلّية ما قبلها من الصفات المُجراة عليه تعالى للنهي أو الانتهاء أو لأن مآلَ النهْي هو الأمر بتخصيص العبادة به تعالى المترتبُ على أصلها كأنه قيل اعبدوه فخُصُّوها به والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ لما مر آنفاً وقيل هو نفيٌ منصوبٌ بإضمار أن جواباً للأمر ويأباه أن ذلك فيما يكون الأول سبباً للثاني ولا ريب في أن العبادة لا تكون سبباً للتوحيد الذي هو أصلُها ومبناها وقيل هو منصوبٌ بلعل نصبَ فَأَطَّلِعَ في قوله تعالى لَّعَلّى أَبْلُغُ الاسباب أسباب السموات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى أي خلقكم لتتقوا وتخافوا عقابه فلا تُشْبِهوه بخلقه وحيث كان مدارُ هذا النصب تشبيهَ لعل في بُعْد المرجوِّ بليت كان فيه تنبيهٌ على تقصيرهم بجعلهم المرجوِّ القريبَ بمنزلة المتمنى البعيد وقيل هو متعلِّق بقولِه تعالى الذى جَعَلَ الخ على تقدير رفعِه على المدح أي هو الذي حفكم بهذه الآياتِ العظامِ والدلائل النيِّرة فلا تتخذوا له شركاءَ وفيه ما مر من لزوم كون خلقهم وخلقِ أسلافِهم بمعزل من مناطية النهي مع عراقتهما فيها وقيل هو خبرٌ للموصول بتأويل مَقولٍ في حقه وقد عرفتَ ما فيه مع لزوم المصير إلى مذهب الأخفش في تنزيل الاسم الظاهرِ منزلةَ الضمير كما في قولك زيدٌ قام أبو عبد الله إذا كان ذلك كنيتَه والند المثل المساوي من ندّ ندُوداً إذا نفر ونادَدْتُه خالفته خُص بالمخالف المماثل بالذات كما خص المساوي بالمماثل في المقدار وتسميةَ ما يعبده المشركون من دون الله أنداداً والحال أنهم ما زعموا أنها تماثله تعالى في صفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله لما أنهم لما تركوا عبادته تعالى إلى عبادتها وسمَّوْها آلهةً شابهتْ حالُهم حالَ من يعتقد أنها ذواتٌ واجبةُ بالذات قادرة على أن تدفع عنهم بأسَ الله عز وجل وتمنحهم ما لم يُرد الله تعالى بهم من خير فتهكّمٌ بهم وشُنِّع عليهم أن جعلوا أنداداً لمن يستحيل أن يكونَ له ندٌّ واحد وفي ذلك قال موحِّد الجاهلية زيدِ بنِ عمروِ بن نفيل أربّاً واحداً أم ألفَ رب ... أدينُ إذا تقسَّمت الأمورُ تركتُ اللاتَ والعزّى جميعا ... كذلك يفعل الرجلُ البصير وقوله تعالى {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} حالٌ من ضميرِ لا تجعلوا بصرف التقييد إلى ما أفاده النهي من قُبح المنهي عنه ووجوبِ الاجتنابِ عنه ومفعول تعلمون مطروحٌ بالكُلِّية كأنَّه قيل لا تجعلوا ذلك فإنه قبيحٌ واجبُ الاجتناب عنه والحال أنكم من اهل العلم بدقائق الأمورِ وإصابة الرأي أو مقدرٌ حسبما يقتضيه المقام نحو وأنتم تعلمون بطلان ذلك أو تعلمون انه لا يماثله شئ أو تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت أو

البقرة (23) تعلمون أنها لا تفعل مثلَ أفعاله كما في قوله تعالى {هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء} أو غير ذلك وحاصلُه تنشيطُ المخاطبين وحثُّهم على الانتهاءِ عمَّا نُهوا عنْهُ هذا الذي يستدعيه عمومُ الخطاب في النهي بجعل المنهي عنه القدرَ المشتركَ المنتظِمَ لإنشاء الانتهاءِ كما هو المطلوبُ من الكفرة وللثبات عليه كما هو شأن المؤمنين حسبما مر مثلُه في الأمر وأما صرفُ التقييد إلى نفس النهي فيستدعي تخصيصَ الخطاب بالكفرة لا محالة إذ لا يتسنى ذلك بطريق قصرِ النهي على حالة العلمِ ضرورةَ شمولِ التكليفِ للعالم والجاهلِ المتمكنِ من العلم بل إنما يتأتى بطريق المبالغة في التوبيخ والتقريع بناءً على أن تعاطيَ القبائحِ من العالمِين بقُبحها أقبحُ وذلك إنما يُتصور في حق الكفرة فمَنْ صرف التقييد إلى نفس النهي مع تعميم الخطاب للمؤمنين أيضاً فقد نأى عن التحقيق إن قلت أليس في تخصيصه بالكفرة في الأمر والنهي خلاصٌ من أمثالِ ما مر من التكلفات وحسنُ انتظامٍ بين السباقِ والسياق إذ لا محيدَ في آية التحدي من تجريد الخطابِ وتخصيصُه بالكفرة لا محالة مع ما فيه من رِباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن جبر الانتظام في سلك الكفرة والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة حسبما مر في صدرِ السورةِ الكريمةِ مستغنون في ذلك عن الأمر والنهي قلت بلى إنه وجهٌ سَرِيٌّ ونهج سوي لا يضِلُّ من ذهب إليه ولا يزِلُّ من ثبَّت قدمَه عليه فتأمل

23

{وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} شروع في تحقيق أن الكتابَ الكريم الذي من جُملته ما تلي من الآيتين الكريمتين الناطقتين بوجوب العبادةِ والتوحيدِ منزلٌ من عندِ الله عزَّ وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم كما أن ما ذكر فيهما من الآياتِ التكوينيةِ الدالةِ على ذلك صادرة عنه تعالى لتوضيح اتصافِه بما ذكر في مطلَعِ السورةِ الشريفة من النعوتِ الجليلةِ التي من جملتها نزاهتُه عن أن يعتريَه ريبٌ ما والتعبيرُ عن اعتقادِهم في حقه بالريب مع أنهم جازمون بكونه من كلام البشر كما يُعرب عنه قوله تعالى إِن كُنتُمْ صادقين إما للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدورُه عنهم وإن كانوا في غايةِ ما يكونُ من المكابرة والعِناد هو الارتيابُ في شأنه وأما الجزمُ المذكورُ فخارجٌ من دائرة الاحتمال كما أن تنكيرَه وتصديرَه بكلمة الشكِّ للإشعار بأن حقَّه أن يكون ضعيفاً مشكوكَ الوقوع وإما للتنبيه على أن جزمَهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمالِ وضوحِ دلائلِ الإعجازِ ونهايةِ قوتِها وإنما لم يقل وإن ارتبتم فما نزلنا الخ لما أُشيرَ إليهِ فيما سَلَف من المبالغة في تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن شائبة وقوعِ الريب فيه حسْبما نطَق به قولُه تعالَى لاَ رَيْبَ فِيهِ والإشعار بأن ذلك إنْ وقع فمن جهتهم لا من جهته العاليةِ واعتبارُ استقرارِهم فيه وإحاطتُه بهم لا ينافي اعتبارَ ضعفِه وقِلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوامُ ملابستهم به لا قوته وكثرته ومن في مما ابتدائيةٌ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع صفة لريب وحملُها على السببية ربما يوهمُ كونَه محلاً للريب في الجملة وحاشاه ذلك وما موصولةً كانت أو موصوفة عبارةٌ عن الكتاب الكريم لا عن القدر المشتركِ بينه وبين ابعاضه ليس معنى كونِهم

في ريب منه ارتيابَهم في استقامة معانيه وصحةِ أحكامِه بل في نفس كونِه وحياً منزَّلاً من عندِ الله عزَّ وجل وإيثار التنزيل المنبئ عن التدريج على مطلقِ الإنزالِ لتذكيرِ منشأ ارتيابِهم وبناءُ التحدي عليه إرخاءٌ للعِنان وتوسيعاً للميدان فإنهم كانوا اتخذوا نزولَه منجّماً وسيلةً إلى إنكاره فجُعل ذلك من مبادي الاعتراف به كأنه قيل إن ارتبتم في شأن ما نزلناه على مهل وتدريجٍ فهاتوا أنتم مثلَ نَوْبةٍ فذةٍ من نُوَبه ونَجْم فَرْدٍ من نجومه فإنه أيسرُ عليكم من أن يُنزلَ جُملةً واحدة ويُتحدَّى بالكل وهذا كما ترى غايةُ ما يكون في التبكيت وإزاحةِ العلل وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوانِ العبوديةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ الجلالة من التشريفِ والتنويه والتنبيهِ على اختصاصه به عز وجل وانقيادة لأوامره تعالى مالا يخفى وقرئ على عبادنا والمرادُ هو صلى الله عليه وسلم وأمتُه أو جميعُ الأنبياءِ عليهم السلام ففيه إيذانٌ بأن الارتيابَ فيه ارتيابٌ فيما أنزل مَنْ قبلَه لكونه مصدِّقاً له ومهيمِناً عليه والأمرُ في قولِهِ تعالَى {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ} من باب التعجيز وإلقامِ الحجر كما في قوله تعالى {فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} والفاءُ للجواب وسببيةُ الارتياب للأمر أو الإتيانِ بالمأمور به لما أشير إليه من أنه عبارةٌ عن جزمهم المذكور فإنه سببٌ للأول مطلقاً وللثاني على تقدير الصدقِ كأنَّه قيلَ إنْ كانَ الأمرُ كَما زعمتم من كونه كلامَ البشر فأتوا بمثله لأنكم تقدِرون على ما عليه سائرُ بني نوعِكم والسُورة الطائفةَ من القرآن العظيم المترجمة وأقلها ثلاثُ آيات وواوُها أصليةٌ منقولةٌ من سُور البلد لأنها محيطةٌ بطائفةٍ من القرآن مفرَزةٍ مَحُوزةٍ على حِيالها أو محتويةٍ على فنون رائقةٍ من العلوم احتواءَ سور المدينة على مافيها أو من السَّوْرة التي هي الرتبة قال ولرهط حرّابٍ وقذّ سَوْرة ... في المجد ليس غرابُها بمُطارِ فإن سور القرآن مع كونِها في أنفسِها رُتباً من حيث الفضلُ والشرفُ أو من حيث الطولُ والقِصَر فهي من حيث انتظامُها مع أخواتها في المصحف مراتب برتقى إليها القارئ شيئاً فشيئاً وقيل واوها مُبدلةٌ من الهمزة فمعناها البقية من الشئ ولا يخفى ما فيه ومن في قوله {مّن مّثْلِهِ} بيانيةٌ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع صفةً لسورة والضمير لما نزلنا أي بسورة كائنةٍ من مثله في علوّ الرتبة وسموِّ الطبقة والنظمِ الرائق والبيانِ البديع وحيازةِ سائرِ نعوتِ الإعجاز وجعلُها تبعيضيةً يوهم أن له مثلاً محققاً قد أريد تعجيزُهم عن الإتيان ببعضه كأنه قيل فأتوا ببعضِ ما هو مثل له يُفهم منه كونُ المماثلة من تتمة المعجوز عنه فضلاً عن كونها مداراً للعجز مع أنه المراد وبناءُ الأمر على المجاراة معهم بحسب حُسبانِهم حيث كانوا يقولون لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا أو على التهكم بهم يأباه ما سبق من تنزيله منزلةَ الريب فإن مبنى التهكم على تسليم ذلك منهم وتسويفِه ولو بغير جِدّ وقيل هي زائدة على ما هو رأيُ الأخفش بدليل قوله تعالى {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ} {بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ} وقيل هي ابتدائية فالضميرُ حينئذ للمُنْزل عليه حتماً لما أن رجوعَه إلى المنزَلِ يوهم أن له مثلاً محققاً قد ورد الأمرُ التعجيزيُّ بالإتيان بشئ منه وقد عرفتَ ما فيه بخلاف رجوعِه إلى المنزل عليه فإن تحققَ مثلِه عليه السلام في البشرية والعربية والأمية يهوِّن الخطب في الجملة خلا أن تخصيص التحدى يفرد يشاركُه عليه السلام فيما ذكرَ من الصفات المنافية للإيتان بالمأمور به لا يدلُّ على عجز مَنْ ليس كذلك من علمائهم بل ربما يوهم قدرتَهم على ذلك في الجملة فرادى أو مجتمعين مع أنه يستدعي عراءَ المُنْزَل عما فُصِّل من النعوت الموجبةِ لاستحالة وجود مثلِه فأين هذا من تحدي أمةٍ جمّةٍ وأمرِهم بأن يحتشدوا في حلبة المعارضة

بخيلهم ورَجِلِهم حسبما ينطِق به قوله تعالى {وادعوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله} ويتعاونوا على الإتيان بقدْر يسسير مماثلٍ في صفات الكمال لما أتى بجملته واحدٌ من أبناء جنسهم والشهداءُ جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة أو الناصر ومعنى دون أدنى مكانٍ من شيء يقال هذا دون ذاك إذا كان أحطَّ منه قليلاً ثم استعير للتفاوت في الأحوال والرتبِ فقيل زيد دون عمرو أي في الفضل والرتبة ثم اتَّسع فاستُعمل في كل تجاوز حدَ إلى حد وتخطِّي حُكم إلى حكم من غير ملاحظةِ انحطاطِ أحدهما عن الآخر فجرى مَجرى أداةِ الاستثناء وكلمة من إما متعلقةٌ بادعوا فتكونُ لابتداءِ الغاية والظرفُ مستقرٌّ والمعنى ادعوا متجاوزين الله تعالى للاستظهار من حضَركم كائناً مَن كان أو الحاضرين في مشاهدكم ومحاضرِكم من رؤسائكم وأشرافِكم الذين تَفْزَعون إليهم في المُلمّات وتعوِّلون عليهم في المُهِمّات أو القائمين بشهاداتكم الجاريةِ فيما بينكم من أمنائكم المتولّين لاستخلاص الحقوقِ بتنفيذ القولِ عند الولاة أو القائمين بنُصرتكم حقيقةً أو زعماً من الإنس والجن ليعينوكم وإخراجُه سبحانه وتعالى من حُكم الدعاء في الأول مع اندراجه في الحضورِ لتأكيد تناولِه لجميع ما عداه لا لبيان استبدادِه تعالى بالقدرة على ما كُلِّفوه فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دَعَوْه تعالى لأجابهم إليه وأما في سائر الوجوه فللتصريح من أول الأمرِ ببراءتهم منه تعالى وكونِهم في عُدْوة المحادة والمشاقة له قاصرين استظهارَهم على ما سواه والاتفات لإدخال الروعةِ وتربيةِ المهابةِ وقيل المعنى ادعوا من دون أولياءِ الله شهداءَكم الذين هم وجوهُ الناس وفرسان المقالة والمناقلةِ ليشهدوا لكم أن ما أتيتم به مثلُه إيذانا يأنهم يأبَوْن أن يرضَوْا لأنفسهم الشهادةَ بصحة ما هو بيِّنُ الفسادِ وجَليُّ الاستحالة وفيه أنه يؤذِنُ بعدم شمولِ التحدي لأولئك الرؤساءِ وقيل المعنى ادعوا شهداءكم فصححوا بهم دعواكم ولا تستشهدوا بالله تعالى قائلين الله يشهد أن ما ندعيه حقٌ فإن ذلك دَيدَنُ المحجوج وفيه أنه إن أريد بما يدّعون حقِّية ما هم عليه من الدين الباطلِ فلا مِساسَ له بمقام التحدي وإن أريد مثلية ما أتَوْا به للمتحدى به فمعَ عدمِ ملاءمتِه لابتداء التحدي يوهم أنهم قد تصَدَّوا للمعارضة وأتَوْا بشيءٍ مشتبه الحال متردد بين المِثلية وعدمِها وأنهم ادعواها مستشهدين في ذلك بالله سبحانه وتعالى إذ عند ذلك تمَسُّ الحاجةُ إلى الأمر بالاستشهاد بالناس والنهي عن الاستشهاد به تعالى وأنى لهم ذلك وما نبَضَ لهم عِرقٌ ولا نَبَسوا ببنتِ شَفَةٍ وإما متعلقةٌ بشهداءَكم والمراد بهم الأصنامُ ودون بمعنى التجاوزِ على أنها ظرفٌ مستقِرٌ وقع حالا من ضميرِ المخاطَبين والعاملُ ما دل عليه شهداءكم أي ادعوا أصنامَكم الذين أتخذتوهم آلهةً متجاوزين الله تعالى في اتخاذها كذلك وكلمةُ من ابتدائيته فإن الاتخاذَ ابتداءٌ من التجاوز والتعبيرُ عن الأصنام بالشهداء لتعيين مدارِ الاستظهارِ بها بتذكير ما زعَموا من أنها بمكانٍ من الله تعالى وأنها تنفعُهم بشهادتها لهم أنهم على الحق فإن ما هذا شأنُه يجب أن يكون مَلاذاً لهم في كل أمرٍ مُهم وملجأً يأوُون إليه في كل خطب مُلم كأنه قيل أولئك عُدّتُكم فادعوهم لهذه الداهية التي دَهَمتكم فوجهُ الالتفاتِ الإيذانُ بكمال سخافةِ عقولِهم حيث آثرَوُا على عبادة من له الألوهيةُ الجامعةُ لجميع صفات الكمال ما لا أحقرَ منه وقيل لفظه دون مستعار من معناها الوضعي الذي هو أدنى مكانٍ من شيء لِقُدّامِه كما في قولِ الأَعْشَى ... تُريك القَذى منْ دُونِها وهي دونَهُ ... أي تريك القذى قُدّامها وهي قُدّامَ القذى فتكون ظرفا لغوا معمولا لشهدائكم لكفاية رائحةِ الفعل فيه منْ غيرِ حاجةٍ إلى

البقرة (24) اعتماد ولا إلى تقدير يشهدون أي ادعوا شهداءَكم الذين يشهدون لكم بين يدَي الله تعالى ليعينوكم في المعارضة وإيرادُها بهذا العنوان لما مر من الإشعار بمناطِ الاستعانةِ بها ووجهُ الالتفات تربيةُ المهابة وترشيحُ ذلك المعنى فإنَّ ما يقوم بهذا الأمر في ذلك المقام الخطيرِ حقه أن يستعان له في كل مَرام وفي أمرِهم على الوجهين بأن يستظهروا في معارضة القرآن الذي أخرسَ كلَّ مِنْطيقٍ بالجماد من التهكم بهم مالا يوصف وكلمة من ههنا تبعيضية لما أنهم يقولون جلس بين يديه وخلفَه بمعنى في لأنهما طرفان للفعل ومن بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفِه لأن الفعل إنما يقع في بعض تَيْنِك الجهتين كما تقول جئتُه من الليل تريد بعضَ الليل وقد يقال كلمةُ من الداخلةُ على دون في جميع المواقعِ بمَعْنَى في كَما في سائر الظروف التي لا تتصرف وتكون منصوبةً على الظرفية أبداً ولا تنجرُّ إلا بمن خاصة وقيل المرادُ بالشهداء مداره لقوم ووجوهُ المحافل والمحاضِر ودون ظرفٌ مستقر ومن ابتدائية أي ادعوا الذين يشهدون لكم أن ما أتيتم به مثلُه متجاوزين في ذلك أولياءَ الله ومحصله شهداء مغايرين لهم إيذاناً بأنهم أيضاً لا يشهدون بذلك وإنما قُدر المضافُ إلى الله تعالى رعايةً للمقابلة فإن أولياءَ الله تعالى يقابِلون أولياءَ الأصنام كما أن ذكرَ الله تعالى يقابل ذكرَ الأصنام بهذا الأمر إرخاءُ العِنان والاستدراجُ إلى غاية التبكيت كأنه قيل تركنا إلزامَكم بشهداءَ لا ميلَ لهم إلى أحدِ الجانبين كما هو المعتاد واكتفينا بشهدائكم المعروفين بالذب عنكم فإنهم أيضاً لا يشهدون لكم حذراً من اللائمة وأَنَفةً من الشهداة البيِّنة البُطلان كيف لا وأمرُ الإعجاز قد بلَغ من الظُّهورِ إلى حيثُ لم يبقَ إلى إنكاره سبيلٌ قطعاً وفيه ما مرَّ من عدم الملاءمةِ لابتداء التحدّي وعدمِ تناولِه لأولئك الشهداء وإبهام أنهم تعرضوا لمعارضة وأتَوْا بشيء احتاجوا في إثبات مِثْلِيَّتِه للمتحدى به إلى الشهادة وشتانَ بينهم وبين ذلكَ {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في زعمكم أنه من كلامه عليه السلام وهو شرطٌ حذفَ جوابُه لدلالةِ ما سبق عليهِ أيْ إنْ كنتُم صادقين فأتوا بسورة من مثله الخ واستلزامُ المقدَّم للتالي من حيث إن صدقَهم في ذلك الزَّعم يستدعي قدرتَهم على الإتيانِ بمثله بقضيةِ مشاركتِهم لهُ عليهِ السَّلامُ في البشريةِ والعربيةِ مع ما بهم من طولِ الممارسةِ للخُطب والأشعارِ وكثرةِ المزاولةِ لأساليبِ النظمِ والنثرِ والمبالغةِ في حفظِ الوقائعِ والأيام لاسيما عند المظاهرة والتعاونِ ولا ريب في أن القدرة على الشئ منْ موجباتِ الإتيانِ به ودواعي الأمرِ به

24

{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} أي ما أُمرتم بهِ منَ الإتيان بالمثل بعد ما بذلتم في السعي غايةَ المجهود وجاوزتم في الحد كلَّ حدَ معهود متشبثين بالذيول راكبين متنَ كل صَعْب وذَلول وإنما لم يصرَّح به إيذانا بعدم الحاجة إليه بناءً على كمالِ ظهورِ تهالُكِهم على ذلك وإنما أُورد في حيز الشرط مطلق لفعل وجعل مصدر الفعل المأمورِ به مفعولاً له للإيجاز البديعِ المغني عن التطويل والتكرير مع سِرَ سَرِيَ استَقلَّ به المقامَ وهو الإيذان بالمقصود بالتكليف هو إيقاعُ نفسِ الفعل المأمور به لإظهار عجزِهم عنه لا لتحصيل المفعول أي المأتي به ضرورةَ استحالته وأن مناطَ الجوابِ في الشرطية أعني الأمر باتقاءِ النار هو عجزُهم عن إيقاعه لا فوتُ حصولِ المفعول فإن مدلول لفظ

الفعل هو أنفُسُ الأفعال الخاصة لازمةً كانت أو متعديةً من غير اعتبارِ تعلقاتِها بمفعولاتها الخاصة فإذا عُلِّق بفعل خاصَ متعدَ فإنما يُقصَدُ به إيقاعُ نفس الفعل وإخراجُه من القوةِ إلى الفعلِ وأما تعلقُه بمفعوله المخصوصِ فهو خارج عن مدلول الفعلِ المطلقِ وإنما يستفاد ذلك من الفعل الخاص ولذلك تراهم يتوسلون بذلك إلى تجريد الأفعالِ المتعديةِ عن مفعولاتها وتنزيلِها منزلةَ الأفعالِ اللازمة فيقولون مثلاً معنى فلانٌ يُعطي ويَمنعُ يفعل الإعطاء والمنع يرشدك إلى هذا قولِهُ تَعَالى {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ} بعد قوله تعالى {ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ} فإنه لما كان مقصودُ يوسفَ عليه السلام بالأمر ومَرْمَى غرضِه بالتكليف منه استحضارَ بنيامين لم يكتفِ في الشرطية الداعية لهم إلى الجِد في الامتثال والسعْيِ في تحقيق المأمورِ به بالإشارة الإجماليةِ إلى الفعل الذي ورد به الأمر بأن يقول فإن لم تفعلوا بل أعاده بعينه متعلقاً بمفعوله تحقيقاً لمطلبه وإعراباً عن مقصِده هذا وقد قيل أُطلق الفعلُ وأريد به الإتيانُ مع ما يتعلق به إما على طريقة التعبير عن الأسماء الظاهرةِ بالضمائر الراجعةِ إليها حذراً من التكرار أو على طريقة ذكر اللازمِ وإرادةِ الملزوم لما بينهما من التلازمِ المصححِ للانتقال بمعونة قرائنِ الحال فتدبروا إيثار كلمة إنْ المفيدةِ للشك على إذا مع تحقُّق الجزم بعدم فعلِهم مجاراةٌ معهم بحسَب حُسبانهم قبل التجربة أو التهكمُ بهم {وَلَن تَفْعَلُواْ} كلمة لن لنفي المستقبلِ كَلاَ خلا أن في لن زيادةَ تأكيدٍ وتشديد وأصلُها عند الخليل لاإن وعند الفراء لا أُبدلت ألفُها نوناً وعند سيبويه حرفٌ مقتَضَبٌ للمعنى المذكور وهي إحدى الروايتين عن الخليل والجملة اعتراضٌ بين جزأي الشرطية مقرِّر لمضمون مُقدَّمِها ومؤكِّدٌ لإيجاب العمل بتاليها وهذه معجزة باهرةٌ حيث أُخبر بالغيب الخاصِّ علمه به عز وجل وقد وقع الأمر كذلك كيف لا ولو عارضوه بشيءٍ يُدانيه في الجملة لتناقَلَه الرواةُ خلفاً عن سلف {فاتقوا النار} جوابٌ للشرط على أن اتقاءَ النار كناية عن الاعتراز من العِناد إذ بذلك يتحقق تسبُّبه عنه وترتُبه عليه كأنه قيل فإذا عجَزتم عن الإتيان بمثله كما هو المقررُ فاحترزوا من إنكار كونِه منزَّلاً من عند الله سبحانه فإنه مستوجِبٌ للعقاب بالنار لكنْ أوثر عليه الكنايةُ المذكورة المبنيةُ على تصوير العنادِ بصورة النارِ وجُعل الاتصافُ به عينَ الملابسة بها للمبالغة في تهويل شأنِه وتفظيعِ أمرِه وإظهارِ كمال العنايةِ بتحذير المخاطبين منه وتنفيرِهم عنه وحثِّهم على الجد في تحقيق المكنِي عنه وفيه من الإيجاز البديع مالا يخفى حيث كان الأصلُ فإن لم تفعلوا فقد صح صِدْقُه عندكم وإذا صح ذلك كان لزومُكم العنادَ وتركُكم الإيمانَ به سببا لاستحقاكم العقاب بالنار فاحتزروا منه واتقوا النار {التى وَقُودُهَا الناس والحجارة} صفةٌ للنار مُورثةٌ لها زيادةَ هولٍ وفظاعةٍ أعاذنا الله من ذلك والوَقودُ ما يوقد به النارُ وتُرفع من الحطب وقرئ بضم الواو وهو مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ مبالغةً كما يقال فلان فخرُ قومِه وزَيْنُ بلدِه والمعنى أنها من الشدة بحيث لاتمس شيئاً من رَطْبٍ أو يابس إلا أحرقته لا كنيران الدنيا تفتقرفي الالتهاب إلى وَقودٍ من حطب أو حشيش وإنما جُعل هذا الوصفُ صلةً للموصول مقتضيةً لكون انتسابها إلى ما نسبت هي إليه معلوم للمخاطَب بناءً على أنهم سموه من أهل الكتاب قبل ذلك أو من الرسول صلى الله عليه وسلم أو سمِعوا قبل هذه الآية المدنية قولَه تعالى {نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة} فأُشير ههنا إلى ما سمعوه أولاً وكونُ سورةِ التحريم مدنيةً لا يستلزِمُ كون

البقرة (25) جميعِ آياتها كذلك كما هو المشهورُ وأما أن الصفةَ أيضاً يجبُ أن تكون معلومةَ الانتسابِ إلى الموصوف عند المخاطَبِ فالخطبُ فيه هيِّن لما أن المخاطَب هناك المؤمنون وظاهرٌ أنهم سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد بالحجارة الأصنامُ وبالناس أنفسُهم حسبما ورد في قولِه تعالى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية {أُعِدَّتْ للكافرين} أي هيئت للذين كفروا بما نزلناه وجعلت عِدةً لعذابهم والمرادُ إما جنسُ الكفار والمخاطَبون داخلونَ فيهم دُخولاً أولياً وإما هم خاصةً ووضعُ الكافرينَ موضعَ ضميرِهِم لذمهم وتعليلِ الحكم بكفرهم وقرئ أُعتِدت من العَتاد بمعنى العِدة وفيه دلالة على أن النارَ مخلوقةٌ موجودة الآن والجملة استئناف لامحل لها من الإعراب مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلها ومؤكدةٌ لإيجاب العمل به ومبيِّنةٌ لمن أريد بالناس دافعةٌ لاحتمال العموم وقيل حالٌ بإضمارِ قَدْ من النار لا من ضميرها في وَقودها لما في ذلك من الفصل بينهما بالخبر وقيل صلةٌ بعد صلةٍ أو عطفٌ على الصلة بترك العاطف

25

{وبشر الذين آمنوا} أي بأنه منزلٌ من عندِ الله عزَّ وجل وهو معطوفٌ على الجملة السابقة لكن لا على أن المقصودَ عطفُ نفس الأمرِ حتى يُطلبَ له مَشاكِلٌ يصِحُّ عطفَه عليه بل على أنَّه عطفُ قصةِ المؤمنين بالقرآن ووصفِ ثوابهم على قصة الكافرين به وكيفيةِ عقابهم جرياً على السُنة الإلهية من شفْع الترغيب بالترهيب والوعدِ بالوعيد وكأنَّ تغييرُ السَّبكِ لتخييل كمالِ التباين بين حال الفريقين وقرئ وبُشرِّ على صيغة الفعل مبنياً للمفعول عطفاً على أعِدَّت فيكونُ استئنافاً وتعليقُ التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلَّلٌ بما في حيز الصلة من الإيمان والعملِ الصالحِ لكن لا لذاتهما فإنها لا يكافِئان النعمَ السابقة فضلاً من أن يقتضِيا ثواباً فيما يستقبل بل بجعل الشارعِ ومقتضى وعدِه وجعل صلتِه فعلاً مفيداً للحدوث بعد إيرادِ الكفارِ بصيغة الفاعل لحثِّ المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان وتحذيرِهم من الاستمرار على الكفر والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل لكلِّ مَنْ يتأتَّى منْهُ التبشير كما في قولِه عليه السلام بشر المشّائين إلى المساجد في ظلم الليالي بالنور التام يوم القيامة فإنه عليه السلام لم يأمُر بذلك واحداً بعينه بل كلَّ أحد ممن يتأتى منه ذلك وفيه رمزٌ إلى أنَّ الأمر لعِظَمه وفخامة شأنه حقيقٌ بأن يتولى التبشيرَ به كلُّ من يقدر عليه والبِشارة الخبرُ السار الذي يظهر به أثر السرور في البشرة وتباشيرُ الصبح أوائلُ ضوئه {وَعَمِلُواْ الصالحات} الصالحة كالحسنة في الجريان مَجرى الاسم وهي كلُّ ما استقام من الأعمال بدليل العقلِ والنقلِ واللام للجنس والجمعُ لإفادة أن المرادَ بها جملةٌ من الأعمال الصالحة التي أشير إلى أمهاتها في مطلع السورةِ الكريمة وطائفةٌ منها متفاوتةٌ حسبَ تفاوتِ حال المكلفين في مواجب التكليف وفي عطف العملِ على الإيمان دلالةٌ على تغايرهما وإشعارٌ بأن مدار استحقاقِ البشارةِ مجموعُ الأمرين فإن الإيمان أساسٌ والعملُ الصالح كالبناء عليه ولا غَناءَ بأساس لا بناءَ به {أَنَّ لَهُمْ جنات} منصوبٌ بنزع الخافض وإفضاءِ الفعل إليه أو مجرور بإضماره مثل الله لأفعلنّ والجنةُ هي المرةُ من مصدرِ

جَنَّه إذا سترَهُ تُطلق على النخلِ والشجرِ المتكاثفِ المُظللِ بالتفافِ أغصانِه قالَ زهير كأنَّ عيني في غَرْبيِّ مقتلة ... منَ النواضِحِ تَسقِي جنةً سَحَقا أي نخلاً طوالاً كأنها لفرطِ تكاثفِها والتفافِها وتغطيتها لما تحتها بالمرة نفسُ السُترة وعَلَى الأرضِ ذاتُ الشجرِ قال الفَرَّاءُ الجنةُ ما فيهِ النخيلُ والفِردوسُ ما فيه الكَرْم فحقُ المصدر حينئذ أن يكونَ مأخوذاً من الفعل المبني للمفعول وإنما سميت دارَ الثواب بها مع أن فيها مالا يوصف من الغُرفات والقصور لما أنها مناطُ نعيمها ومعظمُ ملاذها وجمعها مع التنكير لأنها سبعٌ على ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما جنةُ الفردوس وجنة عدْن وجنة النعيم ودارُ الخلد وجنةُ المأوى ودارُ السلام وعليون وفي كل واحد منها مراتبُ ودرجاتٌ متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال وأصحابها {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} في حيز النصبِ على أنه صفةُ جنات فإن أُريد بها الأشجارُ فجريانُ الأنهارِ من تحتها ظاهرٌ وإنْ أُريد بها الأرضُ المشتملةَ عليَها فلا بُدَّ من تقدير مضافٍ أي من تحت أشجارِها وإنْ أُريدَ بها مجموعِ الأرضِ والأشجارِ فاعتبارُ التَّحتيَّةِ بالنَّظرِ إلى الجزءِ الظاهِرِ المصحِّح لإطلاقِ اسمِ الجنة على الكل عن مسروق أن أنهارَ الجنة تجري في غير أخدود واللامُ في الأنهار للجنس كما في قولك لفلان بستانٌ فيه الماءُ الجاري والتينُ والعنب أو عِوَضٌ عن المضافِ إليهِ كما في قوله تعالى {واشتعل الرأس شَيْباً} أو للعهد والإشارة إلى ما ذكر في قوله عز وعلا {أنهار من ماءٍ غيرِ آسنٍ} الآية والنهَرُ بفتح الهاء وسكونها المجرَى الواسعُ فوق الجَدْول ودون البحر كالنيل والفرات والتركيبُ للسَّعة والمرادُ بها ماؤها على الإضمار أو على المجاز اللغوي أو المجاري أنفسُها وقد أسند إليها الجريانُ مجازاً عقلياً كما في سال الميزاب {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رزقنا من قبل} صفة أخرى لجنات أخِّرت عن الأولى لأن جريان الأنهار من تحتها وصفٌ لها باعتبار ذاتها وهذا وصف لها باعتبارأهلها المتنعِّمين بها أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أو جملة مستأنفة كأنه حين وُصفت الجناتُ بما ذكر من الصفة وقع في ذهن السامعِ أثمارها كثمار جناتِ الدنيا أولاً فبيّن حالُها وكلما نصبٌ على الظرفية ورزقاً مفعول به ومن الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقعَ الحال كأنه قيل كلَّ وقت رزقوا مرزوقاً مبتدأ من الجنات مبتدأً من ثمرة على أن الرزق مقيد بكونه مبتدأ من الجنات وابتداؤه منها مقيدٌ بكونه مبتدأً من ثمرة فصاحبُ الحال الأولى رزقاً وصاحبُ الثانية ضميرُه المستكنّ في الحال ويجوز كونُ من ثمرة بياناً قُدّم على المبين كما في قولك رأيتُ منك أسداً وهذا إشارةٌ إلى ما رزقوا وإن وقعت على فرد معين منه كقولك مشيراً إلى نهر جارٍ هذا الماءُ لا ينقطع فإنك إن أشرتَ إلى ما تعايِنهُ بحسب الظاهر لكنك إنما تعني بذلك النوعَ المعلومَ المستمر فالمعنى هذا مثلُ الذي رزقناه مِن قَبْلُ أي من قبل هذا في الدنيا ولكن لما استحكم الشبَهُ بينهما جُعل ذاتُه ذاتَه وإنما جُعل ثمرُ الجنة كثمار الدنيا لتميل النفسُ إليه حين تراه فإن الطباعَ مائلة إلى المألوف متنفِّرة عن غير معروف وليتبين لها مزّيته وكُنهُ النعمة فيه إذ لو كان جنساً غيرَ معهود لظُن أنه لا يكون إلا كذلك أو مثلُ الذي رزقناه من قبل في الجنة لأن طعامَها متشابهُ الصور كما يحكى عن الحسن رضي الله عنه إن أحدَهم يؤتى الصَّحْفة فيأكلُ منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثلَ الأولى فيقول ذلك فيقول الملكُ كلْ فاللونُ واحدٌ والطعمُ مختلف أو كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسي بيدِه إنَّ الرجلَ من أهل الجنة ليتناول الثمرةَ ليأكُلَها فما هي واصلةٌ إلى فيه حتى يُبدِّلَ

الله تعالى مكانها مثلَها والأول أنسبُ لمحافظة عمومِ كلما فإنه يدل على ترديدهم هذه المقالةَ كلَّ مرة رزقوا لافيما عدا المرةَ الأولى يُظهرون التبجحَ وفرطَ الاستغراب لما بينهما من التفاوت العظيم من حيث اللذةُ مع اتحادهما في الشكل واللون كأنهم قالوا هذا عينُ مارزقناه في الدنيا فمن أين له هذه الرتبةُ من اللذة والطيب ولا يقدُح فيه ما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهما من أنه ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الاسمُ فإن ذلك لبيان كمالِ التفاوتِ بينهما من حيث اللذةُ والحسن لا لبيان ان لا تشابُهَ بينهما أصلاً كيف لا وإطلاقُ الأسماء منوطٌ بالاتحاد النوعيّ قطعاً هذا وقد فُسّرت الآيةُ الكريمة بأن مستلذاتِ أهلِ الجنة بمقابلة مارزقوه في الدنيا من المعارف والطاعات متفاوتةُ الحال فيجوز أن يريدوا هذا ثوابُ الذي رزقناه في الدنيا من الطاعات ولا يساعده تخصيصُ ذلك بالثمرات فإن الجنَّةَ وَمَا فِيْهَا منْ فنونِ الكرامات من قبيل الثواب {وَأُتُواْ بِهِ متشابها} اعتراضٌ مقرر لما قبله والضميرُ المجرورُ على الأول راجعٌ إلى ما دل عليه فحوى الكلام مما رزقوا في الدارين كما في قوله تعالى {إن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} أي بجنسي الغني والفقير وعلى الثاني إلى الرزق {وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} أي مما في نساء الدنيا من الأحوال المستقذرة كالحيْض والدَرن ودنَس الطبع وسوءِ الخلق فإن التطهرَ يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال وقرئ مطهَّراتٌ وهما لغتان فصيحتان يقال النساءُ فعلت وفعلن وهن فاعلة وفواعل قال وإذا العذارى بالدُّخان تقنَّعت ... واستعجلت نصبَ القدور فمَلَّتِ فالجمع على اللفظ والإفراد على تأويل الجماعة وقرئ مطَّهِرة بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى متطهرة ومطَّهِرة أبلغُ من طاهرة ومتطهرة للإشعار بأن مُطَهِّراً طهرهن وما هو إلا الله سبحانه وتعالى وأما التطهر فيحتمل أن يكون من قبل أنفسهن كما عند اغتسالهن والزوجُ يطلق على الذكر والأنثى وهو في الأصلِ اسمُ لماله قرينٌ من جنسه وليس في مفهومه اعتبارُ التوالد الذي هو مدارُ بقاءِ النوعِ حتى لا يصِحَّ إطلاقُه على أزواج أهلِ الجنة لخلودهم فيها واستغنائهم عن الأولاد كما أن الدارية لبقاء الفردِ ليست بمعتبرة في مفهومِ اسمِ الرزق حتى يُخِلَّ ذلك بإطلاقه على ثمارالجنة {وَهُمْ فِيهَا خالدون} أي دائمون والخلودُ في الأصل الثباتُ المديد دامَ أو لم يدُمْ ولذلك قيل للأثافي والأحجارِ الخوالدُ وللجُزءِ الذي يبقى من الإنسان على حاله خلد ولو كان وضعه الدوام لما قُيِّد بالتأبيد في قوله عز وعلا خالدين فِيهَا أَبَداً ولَما استُعمل حيث لا دوام فيه لكن المرادَ ههنا الدوامُ قطعاً لما يُفضي به من الآيات والسنن وما قيل من أن الأبدانَ مؤلفةٌ من الأجزاءِ المتضادة في الكيفية معرَّضة للاستحالات المؤديةِ إلى الانحلال والانفكاكِ مدارُه قياسُ ذلك العالمِ الكاملِ بما يشاهَد في عالم الكوْن والفساد على أنه يجوز أن يُعيدَها الخالق تعالى بحيث لا يعتوِرُها الاستحالة ولا يعتريها الانحلالُ قطعاً بأن تُجعلَ أجزاؤها متفاوتةً في الكيفيات متعادلةً في القوى بحيث لا يقوى شئ منها عند التفاعُل على إحالةِ الآخر متعانقةً متلازمةً لا ينفك بعضُها عن بعض وتبقى هذه النسبةُ منخفظة فيما بينها أبدا يعتريها التغيير بالأكل والشرب والحركات وغيرِ ذلك واعلم أن معظمَ اللذاتِ الحسية لما كان مقصوراً على المساكن والمطاعم والمناكح حسبما يقتضى به الاستقراءُ وكان مَلاكُ جميع ذلك الدوامَ والثباتَ إذ كلُّ نعمة وإن جلت حيت كانت في شرف الزوال ومعرِضِ الاضمحلال فإنها منغِّصةٌ غيرُ صافيةٍ من شوائب

البقرة (26) الألم بَشَّر المؤمنين بها وبدوامها تكميلاً للبهجة والسرور اللهم وفقنا لمراضيك وثبتنا على ما يُؤدِّي إليها من العقْد والعمل

26

{إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بَعُوضَةً} شروع في تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن تعلق ريبٍ خاصَ اعتراهم من جهة ما وقع فيه من ضرب الأمثال وبيانٌ لحكمته وتحقيقٌ للحق إثرَ تنزيهها عما اعتراهم من مطلق الريب بالتحدِّي وإلقامِ الحجر وإفحامِ كافة البلغاء من أهل المدَر والوبَر روى أبو صالحٍ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أن المنافقون طعَنوا في ضرب الأمثال بالنارِ والظلماتِ والرعدِ والبرق وقالوا الله أجلُّ وأعلى من ضرب الأمثال وروى عطاء رضي الله عنه إن هذا الطعن كان من المشركين ورُوي عنه أيضاً أنه لمَّا نزل قوله تعالى يا ايها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ الآية وقوله تعالى مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء الآية قالت اليهود أيُّ قدْرٍ للذباب والعنكبوت حتى يضرِب الله تعالى بهما الأمثال وجعلوا ذلك ذريعة إلى إنكار كونِه من عند الله تعالى مع أنه لا يخفى على أحد ممن له تمييزٌ أنه ليس مما يُتصوَّر فيه الترددُ فضلاً عن النكير بل هو أوضح أدلةِ كونِه خارجاً عن طَوْق البشرِ نازلاً من عند خلاق القُوى والقدَر كيف لا وإن التمثيل كما مر ليس الآ ابراز المعنى المقصودِ في معرض الأمرِ المشهود وتحلية المعقولِ بحِلْية المحسوس وتصويرُ أوابد المعاني بهيئة المأنوس لاستمالة الوهم واستنزالِه عن معارضتِه للعقل واستعصائه عليه في إدراك الحقائق الخفية وفهمِ الدقائق الأبية كي يتابعَه فيما يقتضيه ويشايعُه إلى ما يرتضيه ولذلك شاعت الأمثالُ في الكتب الإلهية والكلمات النبويةِ وذاعت في عبارات البلغاء وإشارات الحكماء ومن قضية وجوبِ التماثل بين الممثَّل والممثَّل به في مناط التمثيل تمثيلُ العظيم بالعظيم والحقير بالحقير وقد مثل بالإنجيل غلُّ الصدر بالنُخالة ومعارضةُ السفهاء بإثارة الزنابير وجاء في عبارات البلغاء أجمعُ مِنْ ذرةٍ وأجرأ من الذباب وأسمع من قُراد وأضعفُ من بعوضة إلى غير ذلك ما لا يكاد يحصر والحياء تغيُر النفس وانقباضُها عما يُعاب به أو يُذم عليه يقال حي الرجل وهو حي واشتقاقه من الحياة اشتقاقَ شظِي وحشِي ونسِيَ من الشظي والنسْي والحشي يقال شظِي الفرس ونسي وحشي إذا اعتلت منه تلك الأعضاء كأن من يعتريه الحيا تعتل قوتُه الحيوانية وتنتقص واستحيا بمعناه خلا أنه يتعدى بنفسه وبحرف الجر يقال استحييتُه واستحييتُ منه والأول لا يتعدى إلا بحرف الجر وقد يحذف منه احدى اليائين ومنه قوله ألا يستحي منا الملوك ويتقى ... محارمَنا لا يبوء الدمُ بالدم وقولُه إذا ما استحَيْنَ الماءَ يعرِضُ نفسه ... كَرَعن بسبْتٍ في إناءٍ من الورد فكما أنه إذا أسند إليه سبحانه بطريق الإيجاب في مثل قوله صلى الله عليه وسلم ان الله يستحي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه وقوله عليه السلام إن الله حي كريم يستحي إذا رفع إليه العبدُ يده أن يُردَّهما صِفراً حتى يضع فيهما خيراً يراد به الترك الخاصُّ على طريقة التمثيل حيث مُثل فيه

الحديثين الكريمين تركهُ تعذيبَ ذي الشيبة وتخييبُ العبد من عطائه بترك مَنْ يتركهما حياءً كذلك إذا نُفي عنه تعالى في المواد الخاصة كما في هذه الآية الشريفة وفي قوله تعالى {والله لاَ يستحيي مِنَ الحق} يراد به سلبُ ذلك التركِ الخاصِّ المضاهي لترك المستحي عنه لاسلب وصفِ الحياء عنه تعالى رأساً كما في قولك إن الله لا يوصف بالحياء لأن تخصيصَ السلب ببعض الموادِّ يوهم كونَ الإيجاب من شأنه تعالى في الجملة فالمراد ههنا عدمُ ترك ضربِ المثل المماثل لترك من يستحي مِنْ ضَرْبه وفيه رمز إلى تعاضُد الدواعي إلى ضربه وتآخُذ البواعث إليه إذ الاستحياءُ إنما يُتصور في الأفعال المقبولة للنفس المرضية عندها ويجوز أن يكون ورودُه على طريقة المشاكلة فإنهم كانوا يقولون أما يستحي ربُّ محمدٍ أن يضرِب مثلاً بالأشياء المُحَقّرة كما في قول من قال مَنْ مبلغٌ أفناءَ يعرُبَ كلَّها ... أني بنيتُ الجارَ قبل المنزل وضرب المثل استعمالُه في مضرِبه وتطبيقُه به لا صنعُه وإنشاؤه في نفسه وإلا لكان إنشاء الأمثال السائرةِ في مواردها ضرباً لها دون استعمالها بعد ذلك في مضاربها لفقدان الإنشاء هناك والأمثالُ الواردة في التنزيل وإن كان استعالها في مضاربها عينَ إنشائها في أنفسها لكن التعبيرَ عنه بالضرب ليس بهذا الاعتبار بل بالاعتبار الأولِ قطعا وهوما وهو مأخوذإما من ضرب الخاتم بجامع التطبيق فكما أن ضربَه تطبيقُه بقالبه كذلك استعمالُ الأمثال في مضاربها تطبيقُها بها كأن المضاربَ قوالبُ تُضرب الأمثالُ على شاكلتها لكنْ لا بمعْنى أنها تنشأ بحسَبها بعد أن لم تكن كذلك بل بمعنى أنها تورَدُ منطبقة عليها سواءٌ كان إنشاؤها حينئذ كعامة الأمثالِ التنزيلية فإن مضاربها قوالبُها أو قبل ذلك كسائر الأمثال السائرة فإنها وإن كانت مصنوعةً من قبلُ إلا أن تطبيقها أي إيرادَها منطبقةً على مضاربها إنما يحصُل عند الضرب وإما من ضرب الطين عى الجدار ليلتزق به بجامع الإلصاق كأن من يستعملها يُلصِقها بمضاربها ويجعلها ضربةَ لازب لا تنفك عنها لشدة تعلّقها بها ومحلُّ أن يضرب على تقدير تعدية يستحي بنفسه النصبُ على المفعولية وأما على تقدير تعديته بالجار فعند الخليل الخفضُ بإضمار مِن وعند سيبويه النصبُ بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها ومثلا مفعول ليضرب وما اسمية إبهامية تزيد ما تقارنه من الاسم المنكر إبهاماً وشياعاً كما في قولك أعطني كتاباً ما كأنه قيل مثلاً ما من الأمثال أيَّ مثلٍ كان فهي صفة لما قبلها أو حرفية مزيدة لتقوية النسبةِ وتوكيدها كما في قوله تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله} وبعوضةً بدل من مثلاً أو عطف بيان عند من يجوز في النكرات أو مفعول ليضرب ومثلاً حال تقدمت عليها لكونها نكرة أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل والتصيير وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هُو بعوضة والجملة على تقدير كونِ ما موصولةً صلة لها محذوفة الصدر كما في قوله تعالى {تَمَامًا عَلَى الذى أَحْسَنَ} على قراءة الرفع وعلى تقدير كونها موصوفة صفة لها كذلك ومحل ما على الوجهين النصبُ على أنه بدل من مثلاً أو على أنَّه مفعولٌ ليضرب وعلى تقدير كونِها إبهاميةً صفةٌ لمثَلاً كذلك وأما على تقدير كونِها استفهاميةً فهي خبرٌ لها كأنه لما ورد استبعادُهم ضربَ المثل قيل ما بعوضة وأيُّ مانع فيها حتى لا يُضرب بها المثل بل له تعالى أن يمثل بما هو أصغر منها وأحقر كجناحها على ما وقع في قوله صلى الله عليه وسلم لوكانت الدُّنيا تزنُ عندَ الله جناح بعوضة ماسقى الكافرَ منها شَرْبةَ ماءٍ والبعُوض فعُول من البعض وهو القطع كالبَضْع والعَضْب غلب على هذا النوع كالخُموش في لغة هذيل من الخمش وهو الخَدْش {فَمَا فَوْقَهَا} عطف على بعوضة على

تقدير نصبها على الوجوه المذكورة وما موصولةٌ أو موصوفةٌ صلتها الظرفُ وأما على تقدير رفعها فهو عطفٌ على ما الأولى على تقدير كونِها موصولةً أو موصوفة وأما على تقدير كونِها استفهاميةً فهو عطفٌ على خبرها أعني بعوضة لا على نفسها كما قيل والمعنى ما بعوضة فالذي فوقها او فشئ فوقها حتى لا يُضْرَب بها المثل وكذا على تقدير كونِها صفةً للنكرة أو زائدة وبعوضة خبرٌ للمضمر وذكرُ البعوضة فما فوقها من بين أفراد المَثَل إنما هو بطريق التمثيل دون التعيين والتخصيص فلا يُخل بالشيوع بل يقرّره ويؤكده بطريق الأولوية والمراد بالفوقية إما الزيادةُ في المعنى الذي أريد بالتمثيل أعني الصِّغَر والحقارة وإما الزيادةُ في الحجم والجُثة لكن لا بالغاً ما بلغ بل في الجملة كالذباب والعنكبوت وعلى التقدير الأول يجوز ان يكون ما الثانية خاصة استفهاميةً إنكارية والمعنى أن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما بعوضة فأي شئ فوقها في الصغر والحقارة فإذن له تعالى أن يمثّل بكل ما يريد ونظيرُه في احتمال الأمرين ما رُوي أن رجلاً بمِنىً خرَّ على طُنُب فسطاط فقالت عائشةَ رضيَ الله عنها حين ذكر لها ذلك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من مسلم يُشاك شوْكةً فما فوقها إلا كُتبت له بها درجة ومُحِيَتْ عنه بها خطيئة فإنه يحتمل ما يجاوز الشوكة في القِلة كنَخْبة النملة بقولِه عليهِ السَّلامُ مَا أصاب المؤمن من مكروه فهو كفارةٌ لخطاياه حتى نَخبةُ النملة وما تجاوزها من الألم كأمثال ما حكي من الحرور {فأما الذين آمنوا} شروعٌ في تفصيل ما يترتب على ضرب المثل من الحُكم إثرَ تحقيق حقية صدوره عنه تعالى والفاءُ للدِلالة على ترتب ما بعدها على ما يدل عليه ما قبلها كأنه قيل فيضرِبه فأما الذين الخ وتقديمُ بيانِ حال المؤمنين عَلى ما حُكي من الكفرة مما لا يفتقر إلى بيان السبب وفي تصدير الجُملتين بأما من إحْماد أمرِ المؤمنين وذمِّ الكفرة مالا يخفى وهو حرف متضمنٌ لمعنى اسم الشرط وفعلُه بمنزلة مهما يكن من شئ ولذلك يُجاب بالفاء وفائدتُه توكيد ما صُدِّر به وتفصيلُ ما في نفس المتكلم من الأقسام فقد تُذكر جميعاً وقد يُقتصر على واحد منها كما في قوله عز وجل من قائل {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} الخ قال سيبويه أما زِيد فذاهب معناه مهما يكن من شئ فهو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة وكان الأصلُ دخولَ الفاء على الجملة لأنها الجزاءُ لكن كرِهوا إيلاءَها حرفَ الشرط فأدخلوها الخبرَ وعُوِّض المبتدأ عن الشرط لفظاً والمراد بالموصول فريقُ المؤمنين المعهودين كما أن المرادَ بالموصول الآتي فريقُ الكفرة لا مَنْ يؤمِنُ بضرب المثل ومَنْ يكفرُ به لاختلال المعنى أي فأما المؤمنون {فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحقُّ مِن رَّبّهِمْ} كسائر ما وردَ منْه تعالَى والحقُّ هو الثَّابتُ الذي يحِق ثبوتُه لا محالة بحيث لا سبيل للعقل إلى إنكاره لا الثابتُ مطلقاً واللامُ للدلالة على أنه مشهود له بالحقية وأن له حِكَماً ومصالحَ ومن لابتداء الغايةِ المجازية وعاملُها محذوفٌ وقع حالاً من الضَّمير المستكنِّ في الحق أو من الضمير العائد إلى المثَل أو إلى ضَرْبه أي كائناً وصادراً من ربهم والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم وللإيذان بأن ضرْبَ المَثَل تربيةٌ لهم وإرشادٌ إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم والجملةُ سادّةٌ مسدَّ مفعوليْ يعلمون عند الجمهور ومسد مفعوله الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش أي فيعلمون حقيتَه ثابتةً ولعل الاكتفاءَ بحكاية علمهم المذكورِ عن حكاية اعترافِهم بموجبه كما في قوله تعالى {والراسخون في العلم يقولون آمنا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} للإشعار بقوة ما بينهما من التلازم وظهورِه المُغني عن الذكر {وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ} ممن حُكيت

أقوالُهم وأحوالُهم {فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} أُوثر يقولون على لا يعلمون حسبما يقتضيه ظاهرُ قرينِه دلالةً على كمال غلوِّهم في الكفر وترامي أمرِهم في العتو فإن مجردَ عدمِ العلم بحقيته ليس بمثابة إنكارِها والاستهزاءُ به صريحاً وتمهيداً لتعداد ما نُعيَ عليهم في تضاعيف الجواب من الضلال والفِسقِ ونقضِ العهد وغيرِ ذلك من شنائعهم المترتبةِ على قولهم المذكور على أن عدمَ العلم بحقيّته لا يعمُّ جميعَهم فإن منهم من يعلم بها وإنما يقول ما يقول مكابرةً وعناداً وحملُه على عدم الإذعان والقبولِ الشاملِ للجهل والعنادِ تعسفٌ ظاهر هذا وقد قيل كان من حقه وأما الذين كفروا فلا يعلمون ليطابقَ قرينَه ويقابلَ قسيمَه لكن لمَّا كانَ قولُهم هذا دليلاً واضحاً على جهلهم عُدل إليه على سبيل الكنايةِ ليكون كالبرهان عليه فتأمل وكن على الحق المبين وماذا إما مؤلفةٌ من كلمة استفهامٍ وقعتْ مبتدأ خبرُه ذا بمعنى الذي وصلتُه ما بعده والعائدُ محذوف فالأحسنُ أن يجيء جوابُه مرفوعاً وإما مُنَزَّلةٌ منزلةَ اسمٍ واحد بمعنى أيُّ شيء فالأحسنُ في جوابه النصبُ والإرادةُ نزوعُ النفسِ وميلُها إلى الفعل بحيث يحمِلها إليه أو القوةُ التي هي مبدوؤة والأول مع الفعل والثاني قبله وكلاهما ممَّا لا يُتصور في حقه تعالى ولذلك اختلفوا في إرادته عز وجل فقيل إرادتُه تعالى لأفعاله كونه غير ساة فيه ولامكره ولأفعال غيرِه أمرُه بها فلا تكون المعاصي بإرادته تعالى وقيل هي علمُه باشتمال الأمر على النظام الأكمل والوجه الأصلح فإنه يدعو القادرَ إلى تحصيله والحق أنها عبارةٌ عن ترجيح أحد طرفي المقدورِ على الآخر وتخصيصُه بوجه دون وجه أو معنى يوجبه وهي أعمُّ من الاختيار فإنه ترجيحٌ مع تفضيل وفي كلمة هذا تحقيرٌ للمشار إليه واستر ذال له ومثَلاً نُصب على التمييز أو على الحال كما في قوله تعالى {ناقة الله لكم آية} وليس مرادُهم بهذه العظيمة استفهامَ الحكمةِ في ضرب المثل ولا القدْحَ في اشتماله على الفائدة مع اعترافهم بصدوره عنه جل وعلا بل غرضُهم التنبيهُ بادعاء أنه من الدناءة والحقارةِ بحيث لا يليق بأن يتعلقَ به أمرٌ من الأمور الداخلية تحت إرادته تعالى على استحالة أن يكون ضربُ المثل به عنده سبحانه فقوله عز من قائل {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} جوابٌ عن تلك المقالة الباطلة وردٌّ لها ببيان أنه مشتملٌ على حكمةٍ جليلة وغايةٍ جميلة هي كونُه ذريعةً إلى هداية المستعدِّين للهداية وإضلالِ المنهمكين في الغَواية فوُضِعَ الفعلان موضعَ الفعل الواقع في الاستفهام مبالغةٌ في الدلالة على تحقيقهما فإن إرادتَهما دون وقوعِهما بالفعل وتجافياً عن نظم الإضلال مع الهداية في سلك الإرادة لأبهامه تساويهما في تعلقهما وليس كذلك فإن المرادَ بالذات من ضرب المثل هو التذكر والاهتداء كما ينبئ عنه قولُهُ تعالى {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ونظائره وأما الإضلال فهو أمر عارضٌ مترتب على سوء اختيارهم وأوثر صيغة الاستقبال إيذانا بالتجدد والاستمرار وقيل وُضع الفعلان موضع مصدريهما كأنه قيل أراد إضلالَ كثيرٍ وهدايةَ كثير وقُدِّم الإضلالُ على الهداية مع تقدم حال المهتدين على حال الضالين فيما قبله ليكون أولُ ما يقرَعُ أسماعَهم من الجواب أمراً فظيعاً يسوءُهم ويفُتَّ في أعضادهم وهو السرُّ في تخصيص هذه الفائدة بالذكر وقيل هو بيانٌ للجملتين المصدّرتين بأما وتسجيلٌ بأن العلم بكونه حقاً هدى وأن الجهلَ بوجهِ إيرادِه والإنكارِ لحُسن موردِه ضلالٌ وفسوقٌ وكثرةُ كل فريقٍ إنما هي بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابلهم فلا يقدح في

البقرة (27) ذلك أقيلة أهل الهدى بالنسبة إلى أهل الضلالِ حسبما نطَق به قولُه تعالى {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} ونحو ذلك واعتبار كثرتهم الذاتية دون قلتهم الإضافة لتكميل فائدة ضربِ المثل وتكثيرِها ويجوز أن يراد في الأولين الكثرةُ من حيث العددُ وفي الآخَرين من حيث الفضلُ والشرفُ كما في قول من قال إن الكرامَ كثيرٌ في البلاد ... وإن قَلُّوا كما غيرهم قُلٌّ وإن كثروا وإسنادُ الإضلال أي خلق الضلال إليه سبحانه مبنيٌّ على أن جميع الشياء مخلوقةٌ له تعالى وإن كان أفعالُ العباد من حيث الكسبُ مستندةً إليهم وجعلُه من قبيلِ إسنادِ الفعلِ إلى سببه يأباه التصريحُ بالسبب وقرئ يُضَلُّ به كثيرٌ ويهدى به كثير على البناء للمفعول وتكرير به مع جواز الاكتفاء بالأول لزيادة تقريرِ السببية وتأكيدِها {وَمَا يُضِلُّ بِهِ} أي بالمثل أو بضربه {إِلاَّ الفاسقين} عطف على ما قبله وتكلمة للجواب والردِّ وزيادةُ تعيينٍ لمن أريد إضلالُهم ببيان صفاتهم القبيحةِ المستتبعةِ له وإشارةٌ إلى أن ذلك ليس إضلالاً ابتدائياً بل هو تثبيتٌ على ما كانُوا عليهِ من فنون الضلال وزيادة فيه وقرئ وما يُضَل به إلا الفاسقون على البناء للمفعول والفِسق في اللغة الخروج يقال فسَقت الرُّطْبة عن قشرها والفأرةُ من جُحرها أي خرجت قال رؤية يذهبْن في نجدٍ وغَوْرا غائرا ... فواسقاً عن قصدها جوائرا وفي الشريعة الخروجُ عن طاعةِ الله عزَّ وجلَّ بارتكاب الكبيرة التي من جملتها الإصرارُ على الصغيرة وله طبقاتٌ ثلاثٌ الأولى التغابي وهو ارتكابُها أحياناً مستقبِحاً لها والثانية الانهماكُ في تعاطيها والثالثةُ المثابرة عليها مع جحود قُبحها وهذه الطبقةُ من مراتب الكفر فما لم يبلُغْها الفاسقُ لا يُسلب عنه اسمُ المؤمن لاتصافه بالتصديق الذي عليه يدور الإيمان ولقوله تعالى {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} والمعتزلةُ لما ذهبوا إلى أن الايمان عبارة عن مجموعة تصديق والإقرارِ والعملِ والكفرَ عن تكذيب الحق وجحوده ولم يتسنَّ لهم إدخالُ الفاسقِ في أحدهما فجعلوه قسماً بين قسمي المؤمن والكافر لمشاركة كلَّ واحدٍ منهما في بعض أحكامه والمرادُ بالفاسقين ههنا العاتون الماردون في الكفر الخارجون عن حدوده ممن حُكي عنهم ما حُكي من إنكار كلامِ الله تعالى والاستهزاءِ به وتخصيصُ الإضلالِ بهم مترتباً على صفة الفسق وما أجريَ عليهم من القبائح للإيذانِ بأنَّ ذلك هو الذي أعدَّهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرَهم وعدولَهم عن الحق وإصرارهم على الباطل صرفت وجوهَ أنظارِهم عن التدبر في حكمة المثَل إلى حقارة الممثَّل به حتى رسَخت به جهالتُهم وازدادت ضلالتُهم فأنكروه وقالوا فيه ما قالوا

27

{الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ الله} صفةٌ للفاسقين للذم وتقريرِ ماهم عليه من الفسق والنقضُ فسخُ التركيب من المركبات الحسية كالحبْل والغزل ونحوهما واستعمالُه في إبطال العهد من حيث استعارةُ الحبل له لما فيه من ارتباط أحد كلامي المتعاهدين بالآخر فإن شُفِعَ بالحبل وأريد به العهدُ كان ترشيحاً للمجاز وإن قُرن بالعهد كان رمزاً إلى ما هو من روادفه وتنبيهاً على مكانه وأن المذكور قد استُعير له كما يقال شجاعٌ يفترس أقرانه

البقرة (28) وعالمٌ يغترف منه الناسُ تنبيهاً على أنه أسدٌ في شجاعته وبحرٌ في إفاضته والعهدُ المَوْثِقُ يقال عهِد إليه كذا إذا وصّاه به ووثّقه عليه والمرادُ ههنا إما العهدُ المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمةُ على عباده الدالةُ على وجوده ووَحدتِه وصدقِ رسولِه عليه السلام وبه أُوّل قولُه تعالى {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى} أو المعنى الظاهرُ منه أو المأخوذُ من جهة الرُّسلُ عليهم السَّلامُ على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسولٌ مصدِّقٌ بالمعجزات صدّقوه واتبعوه ولم يكتُموا أمرَه وذِكرُه في الكتب المتقدمة ولم يخالفوا حكمه كما ينبئ عنه قولُه عزَّ وجلَّ {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} ونظائرُه وقيل عهودُ الله تعالى ثلاثة الأولُ ما أخذه على جميع ذريةِ آدمَ عليه السلام بأن يقروا على ربوبيته والثاني ما أخذه على الأنبياءِ عليهم السلامُ بأن يُقيموا الدينَ ولا يتفرقوا فيه والثالث ما أخذه على العلماء بأن يُبينوا الحق ولا يكتموه {مِن بَعْدِ ميثاقه} الميثاقُ إما اسمٌ لما يقع به الوَثاقة والإحكام وإما مصدرٌ بمعنى التوثقة كالميعاد بمعنى الوعد فعلى الأول إن رجع الضمير إلى العهد كان المرادُ بالميثاق ما وثّقوه به من القَبول والالتزام وإن رجع إلى لفظ الجلالة يُراد به آياتُه وكتبُه وإنذارُ رسلِه عليهم السلام والمضافُ محذوفٌ على الوجهين أي من بعد تحقّق ميثاقِه وعلى الثاني إن رجَع الضميرُ إلى العهد والميثاقُ مصدرٌ من المبنيّ للفاعل فالمعنى من بعد أن وثّقوه بالقبول والالتزام أو من بعد أن وثقه اللَّهِ عزَّ وجلَّ بإنزالِ الكتب وإنذارِ الرسل وإن كان مصدرٌ من المبنيِّ للمفعولِ فالمعنى من بعد كونه مُوَثقاً إما بتوثيقهم إياه بالقَبول وإما بتوثيقه تعالى إياه بإنزال الكتب وإنذارِ الرسل {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} يحتمل كلَّ قطيعة لا يرضى بها الله سبحانه وتعالى كقطع الرحم وموالاة المؤمنين والتفرقةِ بين الأنبياءِ عليهم السلام والكتب في التصديق وتركِ الجماعات المفروضةِ وسائرِ ما فيه رفضُ خيرٍ أو تعاطي شر فإنه يقطع مابين الله تعالى وبين العبد من الوصلة التي هي المقصودةُ بالذات من كل وصلٍ وفصل والأمر هو القولُ الطالبُ للفعل مع العلو وقيل بالاستعلاء وبه سمِّي الأمرُ الذي هو واحدُ الأمور تسميةً للمفعول بالمصدر فإنه مما يؤمَر به كما يقال له شأنٌ وهو القصدُ والطلب لما أنه أثَرٌ للشأن وكذا يقال له شيء وهو مصدرُ شاء لما أنه أثرٌ للمشيئة ومحلُّ أن يوصل إما النصبُ على أنه بدل من الموصول أو من ضميره والثاني أولى لفظاً ومعنى {وَيُفْسِدُونَ فِى الارض} بالمنع عن الإيمان والاستهزاءِ بالحق وقطعِ الوصل التي عليها يدورُ فلكُ نظام العالم وصلاحُه {أولئك} إشارة إلى الفاسقين باعتبار اتصافِهم بما فُصل من الصفاتِ القبيحة وفيه إيذانٌ بأنهم متميزون بها أكملَ تميز ومنتظمون بسببِ ذلكَ في سلكِ الأمور المحسوسة وما فيه من معنى البُعد للدِلالة على بُعد منزلتهم في الفساد {هُمُ الخاسرون} الذين خسروا بإهمال العقلِ عن النظر واقتناصِ ما يفيدهم الحياةَ الأبدية واستبدالِ الإنكار والطعنِ في الآيات بالإيمان بها والتأملِ في حقائقها والاقتباسِ من أنوارها واشتراءِ النقض بالوفاءِ والفسادِ بالصلاح والقطيعةِ بالصلة والعقاب بالثواب

28

{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} التفات إلى خطاب المذكورين مبنيٌّ على ايراد ما عدد من

البقرة (29) قبائحهم السابقة لتزايد السَخَط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع والاستفهامُ إنكاريٌّ لا بمعنى إنكارُ الوقوعِ كما في قوله تعالى {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} الخ بل بمعنى إنكارُ الواقعِ واستبعادُه والتعجيبُ منه وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكارِ إلى نفس الكفرِ بأن يقال أتكفرون لأن كلَّ موجودٍ يجب أن يكون وجودُه على حال من الأحوال قطعاً فإذا انتفى جميعُ أحوال وجودِه فقد انتفى وجودُه على الطريق البرهاني وقوله عز وجل {وَكُنتُمْ أمواتا} إلى آخر الآية حالٌ من ضمير الخطاب في تكفرون مؤكدةٌ للإنكار والاستبعادِ بما عُدِّد فيها من الشئون العظيمة الداعيةِ إلى الإيمان الرادعة عن الكفر من حيث كونُها نعمةً عامة ومن حيث دلالتُها على قدرة تامةٍ كقوله تعالى {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} وكيف منصوبةٌ على التشبيه بالظرف عند سيبويه وبالحال عند الأخفش أي في أي حال أو على أي حالٍ تكفُرون به تعالى والحالُ أنكم كنتم أمواتاً أيْ أجساماً لا حياة لها عناصرَ وأغذيةً ونُطفاً ومُضَغاً مخلّقةٍ وغيرَ مخلّقةٍ والأمواتُ جمع ميت كأقوال جمع قيل وإطلاقُها على تلك الأجسام باعتبار عدمِ الحياةِ مطلقاً كما في قوله تعالى {بَلْدَةً مَّيْتاً} وقوله تعالى {وآية لَّهُمُ الارض الميتة} {فأحياكم} بنفْخِ الأرواحِ فيكم والفاء للدلالة على التعقيب فإنّ الإحياءَ حاصلٌ إثرَ كونِهم أمواتاً وإنْ توارد عليهم في تلك الحالة أطوارٌ مترتبةٌ بعضُها متراخٍ عن بعض كما أشير إليه آنفاً {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} أي عند انقضاءِ آجالِكم وكونُ الإماتة من دلائل القدرةِ ظاهر وأما كونُها من النعم فلكونها وسيلةً إلى الحياة الثانية التي هي الحيَوان والنعمةُ العظمى والتراخي المستفادُ من كلمة ثم بالنسبة إلى زمان الإحياءِ دون زمان الحياة فإن زمانَ الإماتةِ غيرُ متراخٍ عنه {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بالنشور يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور أو للسؤال في القبور واياما كان فهو متراخٍ من زمان الإماتة وإن كان إثرَ زمانِ الموتِ المستمر {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بعد الحشرِ لا إلى غيره فيجازيكم بأعمالكم إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرا فشر واليه تُنْشرون من قبوركم للحساب وهذه الأفعالُ وإن كان بعضُها ماضياً وبعضُها مستقبلاً لا يتسنى مقارنة شئ منها لما هو حالٌ منه في الزمان لكن الحالَ في الحقيقة هو العلم المتعلّقُ بها كأنه قيل كيف تكفرون بالله وأنتم عالمون بهذه الأحوال المانعةِ منه ومآلُه التعجيبُ من وقوعِه مع تحقق ما ينفيه وإنما نُظم ما ينكرونه من الإحياء الأخيرِ والرَّجْعِ في سِلك ما يعترفون به من الإحياء الأولِ والإماتةِ تنزيلاً لتمكّنهم من العلم لما عاينوه من الدلائل القاطعةِ منزلةَ العلمِ بذلك بالفعل في إزاحة العللِ والأعذار والحياةُ حقيقةٌ في القوة الحساسة أو ما يقتضيها وبها سُمي الحيوان حيواناً مجازٌ في القوة النامية لكونها من طلائعها وكذا فبما يخصُّ الإنسانَ من العقل والعلم والإيمان من حيث إنه كمالُها وغايتُها والموتُ بإزائها يطلق على ما يقابل كلَّ مرتبة من تلك المراتب قال تعالى {قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} وقال تعالى {اعلموا أن الله يحيي الارض بَعْدَ مَوْتِهَا} وقال تعالى {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى الناس} وعند وصفِه تعالى بها يُراد صِحةَ اتصافِه تعالى بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوة فينا أو معنى قائمٌ بذاته تعالى مقتض لذلك وقرئ تَرجِعون بفتح التاء والأولُ هو الأليقُ بالمقامِ

29

{هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً}

تقريرٌ للإنكار وتأكيدٌ له من الحيثيتين المذكورتين غُيِّر سبكُه عن سبك ما قبله مع اتحادهما في المقصود إبانةً لما بينهما من التفاوت فإن ما يتعلق بذواتهم من الإحياءِ والإمانة والحشرِ أدخلُ في الحث على الإيمان والكفِّ عن الكفر مما يتعلق بمعايشهم وما يجري مَجراها وفي الضمير مبتدأً والموصولِ خبراً من الدلالة على الجلالة مالا يخفى وتقديمُ الظرفِ على المفعولِ الصريح لتعجيل المسرة ببيان كونِه نافعاً للمخاطبين وللتشويق إليه كما سلف أي خلق لأجلكم جميعَ ما فى الأرض من الموجودات لتنتفعوا بها في أمور دنياكم بالذات أو بالواسطة وأمورِ دينكم بالاستدلال بها على شئون الصانعِ تعالى شأنُه والاستشهادِ بكل واحد منها على ما يلائمُه من لذّات الآخرة وآلامِها وما يعمُّ جميعَ ما في الأرضِ لا نَفْسَها إلا أن يُرادَ بها جهةُ السفل كما يراد بالسماء جهةُ العلو نعم يعمُّ كل جزءٍ من أجزائها فإنَّه من جملةِ ما فيها ضرورةُ وجودِ الجزءِ في الكل وجميعا حال من الموصول الثاني مؤكدةٌ لما فيه من العموم فإن كلَّ فردٍ من أفرادِ ما في الأرض بل كلُّ جزءٍ من أجزاءِ العالم له مدخَلٌ في استمراره على ما هو عليه من النظام اللائق الذي عليه يدور انتظامُ مصالحِ الناس أما من جهة المعاشِ فظاهرٌ وأما من جهة الدينِ فلما أنه ليس في العالم شئ مما يتعلق به النظرُ وما لا يتعلق به إلا وهو دليلٌ على القادر الحكيم جل جلاله كما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى {رَبّ العالمين} وإن لم يستدِلَّ به أحد بالفعل {ثُمَّ استوى إِلَى السماء} أي قصَدَ إليها بإرادته ومشيئته قصداً سوياً بلا صارفٍ يَلويه ولا عاطفٍ يَثنيه من ارادة خلق شئ آخَرَ في تضاعيف خلقِها أو غير ذلك مأخوذ من قولهم استوى إليه كالسهم المُرْسل وتخصيصُه بالذكر ههنا إما لعدم تحققِه في خلق السُفليات لما رُوي مِنْ تخلّل خلقِ السموات بين خلقِ الأرضِ ودحوها عن الحسن رضي الله عنه خلق الله تعالى الأرضَ في موضعِ بيتِ المقدس كهيئة الفِهْرِ عليها دخانٌ يلتزقُ بها ثمَّ أصعدَ الدخانَ وخلقَ منهُ السمواتِ وأمسكَ الفِهْرَ في موضعِها وبسَط منها الأرَضين وذلكَ قولُه تعالى {كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما} وإما لإظهار كمالِ العنايةِ بإبداع العُلويات وقيل استوى استولى وملك والأولُ هو الظاهر وكلمةُ ثم للإيذان بما فيه من المزِية والفضل على خلق السفليات لا للتراخي الزماني فإن تقدّمَه على خلقُ ما في الأرض المتأخرِ عن دَحْوها مما لا مِريةَ فيه لقولِه تعالى {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} ولما رُوي عن الحسن والمرادُ بالسماء إما الأجرامُ العلوية فإن القصداليها بالإرادة لا يستدعي سابقةَ الوجود وإما جهاتُ العلو {فَسَوَّاهُنَّ} أي أتمهنّ وقوَّمهن وخلقهنّ ابتداءً مصونةً عن العِوَج والفُطورِ لا أنه تعالى سواهن بعد أن لم يكن كذلك ولا يَخْفَى ما في مقارنة التسوية والاستواءِ من حُسن الموقع وفيه إشارة إلى أن لا تغيير فيهن بالنمو والذُّبول كما في السُفليات والضميرُ على الوجه الاول للسماء فإنها في معنى الجنس وقيل هي جمعُ سماءةٍ أو سماوة وعلى الوجه الثاني منهم يفسّره قولُه تعالى {سَبْعَ سماوات} كما في قولهم رُبَّه رجلاً وهو على الوجه الأولِ بدلٌ من الضمير وتأخيرُ ذكرِ هذا الصُنع البديعِ عن ذكر خلقِ ما في الأرض مع كونه أقوى منه في الدِلالة على كمالِ القدرةِ القاهرةِ كما نُبه عليه لما أنَّ المنافعَ المنوطةَ بما في الأرض أكثرُ وتعلقَ مصالحِ الناسِ بذلكَ أظهر وإن كان في إبداع العلوياتِ أيضاً من المنافع الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ مالا يُحصى هذا ما قالوا وسيأتي في حم السجدة مزيدُ تحقيقٍ وتفصيلٍ بإذن الله تعالى {وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لما قبله

البقرة (30) من خلقِ السمواتِ والأرضِ وما فيها على هذا النمط البديعِ المنطوي على الحِكَم الفائقةِ والمصالحِ اللائقة فإن علمه عز وجل بجميع الأشياءِ ظاهرِها وباطنِها بارزِها وكامنِها وما يليق بكل واحد منها يستدعي أن يخلُق كلَّ ما يخلُقه على الوجه الرائق وقرئ وهْو بسكون الهاء تشبيهاً له بعَضْد

30

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} بيان لأمرٍ آخرَ من جنس الأمورِ المتقدمةِ المؤكدةِ للإنكار والاستبعادِ فإن خلقَ آدمَ عليه السلام وما خصّه به من الكرامات السنية المحْكية من أجل النعم الداعيةِ لذريته إلى الشكر والإيمان الناهيةِ عن الكفرِ والعصيان وتقريرٌ لمضمونِ ما قبله من قوله تعالى {خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً} وتوضيحٌ لكيفية التصرفِ والانتفاعِ بما فيها وتلوينُ الخطاب بتوجيهه إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم خاصةً للإيذان بأن فحوى الكلامِ ليس مما يهتدى إليه بأدلة العقلِ كالأمور المشاهدة التي نبه عليها الكفَرَةَ بطريق الخطاب بل إنما طريقُه الوحيُ الخاصُّ به عليه السلام وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبيلغ الى الكمال مع الضافة إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ من الإنباء عن تشريفه عليه السلام ما لا يخفى وإذْ ظرفٌ موضوعٌ لزمانِ نسبةٍ ماضيةٍ وقعَ فيه نسبةٌ أخرى مثلها كما أن إذا موضوعٌ لزمانِ نسبةٍ مستقبلةٍ يقع فيه أخرى مثلُها ولذلك يجب إضافتُهما إلى الجمل وانتصابه بمُضمرٍ صُرِّح بمثله في قولِه عزَّ وجلَّ {واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} وقوله تعالى {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ} وتوجيهُ الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرِها لما أن إيجابَ ذكر الوقت إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهانيِّ ولأن الوقتَ مشتملٌ عليها فإذا استُحضِر كانت حاضرةً بتفاصيلها كأنها مشاهَدةٌ عِياناً وقيل ليس انتصابُه على المفعولية بل على تأويل اذكُرِ الحادث فيه بحذف المظروفِ وإقامةِ الظرفِ مقامه وأياما كان فهو معطوفٌ على مضمر آخرَ ينسحبُ عليه الكلامُ كأنَّه قيل له عليه السَّلامُ غب ماأوحى إليه ما خوطب به الكفرةُ من الوحي الناطقِ بتفاصيل الأمورِ السابقةِ الزاجرة عن الكفر به تعالى ذكِّرهم بذلك واذكُرْ لهم هذه النعمةَ ليتنبهوا بذلك لبطلان ما هم فيه وينتهوا عنه وأما ما قيل من أن المقدَّرَ هواشكر النعمةَ فِى خَلْقِ السمواتِ والأرض أو تدبَّرْ ذلك فغيرُ سديدٍ ضرورةَ أن مقتضى المقام تذكير المخلين بمواجب الشكرِ وتنبيهُهم على ما يقتضيه وأين ذاك من مقامه الجليل صلى الله عليه وسلم وقيل انتصابُه بقوله تعالى قالوا ويأباه أنه يقتضي أن يكون هو المقصودَ بالذات دون سائرِ القصة وقيل بما سبقَ من قولِه تعالى {وَبَشّرِ الذين آمنوا} ولا يخفى بُعدُه وقيل بمضمرٍ دلَّ عليه مضمونُ الآية المتقدمة مثل وبدأ خلقَكم إذ قال الخ ولا ريب في أنه لا فائدةَ في تقييد بدءِ الخلقِ بذلك الوقت وقيل بخلقكم أو بأحياكم مضمراً وفيه ما فيه وقيل إذْ زائدة ويْعزى ذلك إلى أبي عبيد ومَعْمَر وقيل إنه بمعنى قد واللامُ في قوله عز قائلاً {للملائكة} للتبليغ وتقديمُ الجارِّ والمجرور في هذا الباب مطَّرِدٌ لما في المقول من الطول غالباً مع ما فيه من

الاهتمامِ بما قُدِّمَ والتشويقِ إلى ما أُخِّر كما مرَّ مراراً أو الملائكة جمعُ ملك باعتبار أصلِه الذي هو مَلأك على أن الهمزة مزيدة كالشمائل في جمع شمأل والتاء لتأكيد تأنيثِ الجماعة واشتقاقُه من مَلَك لما فيه من معنى الشدة والقوة وقيل على أنه مقلوبٌ من مأْلَكٍ من الألوكة وهي الرسالة أي موضعَ الرسالة أو مرسلٌ على أنه مصدرٌ بمعنى المفعول فإنهم وسائطُ بين الله تعالى وبين الناسِ فهم رسله عز وجل أو بمنزلة رسلِه عليهم السلام واختلف العقلاءُ في حقيقتهم بعد اتفاقِهم على أنها ذواتٌ موجودةٌ قائمةٌ بأنفسها فذهب أكثرُ المتكلمين إلى أنها أجسامٌ لطيفةٌ قادرةٌ على التشكل بأشكال مختلفة مستدلين بأن الرسلَ كانوا يرَوُنهم كذلك عليهم السلام وذهب الحكماءُ إلى أنها جواهرٌ مجردةٌ مخالفةٌ للنفوس الناطقةِ في الحقيقة وأنها أكملُ منها قوة وأكثر علما تجرى منها مَجرى الشمس من الأضواء منقسمةٌ إلى قسمين قِسمٌ شأنُهم الاستغراقُ في معرفة الحقِّ والتنزُّهِ عن الاشتغال بغيره كما نعتَهم الله عزَّ وجلَّ بقولِهِ {يُسَبّحُونَ الليلَ والنهارَ لاَ يَفْتُرُونَ} وهم العِلِّيُّون المقرَّبون وقسمٌ يدبِّرُ الأمرَ مِنَ السماء إلى الأرض حسبما جرى عليه قلمُ القضاء والقدرِ وهم المدبِّراتُ أمراً فمنهم سماويةٌ ومنهم أرضية وقالت طائفة من النصارى هي النفوسُ الفاضلةُ البشرية المفارِقةُ للأبدان ونُقل في شرح كَثرتِهم أنه عليه السلام قال أَطَّتِ السَّمَاءُ وحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ ما فيها مَوضِعُ قدم إلا وفيه مَلَكٌ ساجدٌ أو راكع وروي أن بني آدمَ عشرُ الجن وهما عشرُ حيوانات البَرّ والكلُّ عشرُ الطيور والكلُّ عشرُ حيوانات البحار وهؤلاءِ كلُّهم عشرُ ملائكةِ الأرض الموكلين وهؤلاءِ كلُّهم عشرُ ملائكةِ السماءِ الدنيا وكلُّ هؤلاءِ عشرُ ملائكةِ السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة ثم كلُّ أولئك في مقابلة ملائكةِ الكُرسيِّ نَزْرٌ قليل ثم جميعُ هؤلاءِ عشرُ ملائكةِ سُرادقٍ واحدٍ من سُرادقاتِ العرش التي عددُها ستمائة ألفٍ طولُ كلِّ سُرادقٍ وعَرضُه وسَمكُه إذا قوبلت به السمواتُ والأرضُ وما فيهما وما بينهما لا يكونُ لها عنده قَدْرٌ محسوسٌ وما منه من مقدارِ شبرٍ إلا وفيه ملك ساجد أو راكعٌ أو قائم لهم زجَلٌ بالتسبيح والتقديس ثم كلُّ هؤلاءِ في مقابلة الملائكةِ الذين يحومون حولَ العرش كالقَطْرةِ في البحر ثم ملائكةُ اللوحِ الذين هم أشياعُ إسرافيلَ عليه السلام والملائكةُ الذين هم جنودُ جبريلَ عليه السلام لا يُحصي أجناسَهم ولا مُدةُ أعمارِهم ولا كيفياتُ عباداتهم إلا بارِئهُم العليمُ الخبير على ما قال تعالى وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وروي أنه عليه السلام حين عُرج به إلى السماء رأى ملائكةً في موضعٍ بمنزلةِ شرفٍ يمشي بعضُهم تُجاهَ بعض فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريلَ عليه السَّلامُ إِلَىَّ أين يذهبون فقال جبريلُ لا أدري إلا أني أراهم منذ خلقتُ ولا أرى واحداً منهم قد رأيته قبل ذلك ثم سألا واحداً منهم منذ كم خلقتَ فقال لا أدري غير أن الله عز وجل يخلُق في كل أربعمائة ألفِ سنةٍ كوكباً وقد خلق منذ خلقني أربعَمائة ألفِ كوكب فسبحانه مِنْ إلهٍ ما أعظمَ قدرَه وما أوسعَ ملكوتَه واختُلف في الملائكة الذين قيل لهم ما قيل فقيل هم ملائكةُ الأرضِ ورَوَى الضحَّاكُ عنِ ابنِ عباس رضي الله عنهما أنهم المختارون مع إبليسَ حين بعثه الله عز وجل لمحاربة الجنِّ حيث كانوا سكانَ الأرض فأفسدوا فيها وسفَكوا الدماءَ فقتلوهم إلا قليلاً قد أخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائرِ البحار وقُلل الجبالِ وسكنوا الأرض وخفف الله تعالى عنهم البابدة وأعطى إبليسَ مُلك الأرض ومُلك السماءِ الدنيا وخِزانةَ الجنة فكان يعبُد الله تعالى تارةً في الأرض

وتارةً في السماء وأخرى في الجنة فأخذه العُجب فكان من أمره ما كان وقال أكثر الصحابة والتابعين رضوانُ الله تعالَى عليهم في أنهم كلُّ الملائكة لعموم اللفظ وعدمِ المُخصِّص وقولُه تعالى {إِنّي جَاعِلٌ فِى الارض خَلِيفَةً} في حيِّز النصبِ على أنه مقولُ قال وصيغةُ الفاعل بمعنى المستقبل ولذلك عمِلت عملَه وفيها ماليس في صيغة المضارعِ من الدلالة على أنه فاعلٌ ذلك لا محالةَ وهي من الجَعْل بمعنى التصيير المتعدِّي إلى مفعولين فقيل أولُهما خليفةٌ وثانيهما الظرفُ المتقدم على ما هو مقتضى فإن مفعولي التصيير في الحقيقة اسمُ صارَ وخبرُه أولُهما الأول وثانيهما الثاني وهما مبتدأٌ وخبرٌ والأصل في الأرض خليفةٌ ثم قيل صارَ في الأرض خليفةٌ ثم قيل صارَ في الأرض خليفةٌ ثم مصيرٌ في الأرض خليفةٌ فمعناه بعد اللتيا والتي إني جاعل خليفةً من الخلائف أو خليفةً بعينه كائناً في الأرض فإن خبرَ صار في الحقيقة هو الكونُ المقدَّر العامل في الظروف ولا ريب في أن ذلك ليس مما يقتضيه المقامُ أصلاً وإنما الذي يقتضيه هو الإخبارُ بجعل آدم خليفةً فيها كما يعرب عنه جوابُ الملائكة عليهم السلام فإذن قولُه تعالى خليفةً مفعولٌ ثانٍ والظرفُ متعلقٌ بجاعل قُدّم على المفعول الصريحِ لما مر من التشويق إلى ما أخر أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً مما بعده لكونه نكرة وأما المفعولُ الأولُ فمحذوفٌ تعويلاً على القرينة الدالة عليهِ كما في قولِهِ تعالى {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} حُذف فيه المفعول الاول وهوضمير الأموالِ لدلالة الحالِ عليه وكذا في قولِه تعالى {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم} حيث حُذف فيه المفعولُ الأول لدلالة يبخلون عليه أي لا يحسبنَّ البخلاءُ بخلَهم هو خيراً لهم ولا ريب في تحقيق القرينةِ ههنا أما إنْ حُمل على الحذف عند وقوعِ المحكيِّ فهي واضحةٌ لوقوعه في أثناء ذِكْرِه عليه السَّلامُ على ما سنفصله كأنه قيل إني خالقٌ بشراً من طين وجاعلٌ في الأرض خليفة وإما إنْ حُمل على أنه لم يُحذفْ هناك بل قيل مثَلاً وجاعلٌ إياه خليفةً في الأرض لكنه حُذفَ عند الحكاية فالقرينةُ ما ذُكِرَ من جواب الملائكة عليهم السلام قَالَ العلامة الزمخشري في تفسيرِ قولِه تعالى {إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إني خالقٌ بشراً من طين} إن قلت كيف صح أن يقول لهم بشراً وما عرَفوا ما البشرُ ولا عهِدوا به قلت وجهُه أن يكون قد قال لهم اني خالقٌ خلقاً من صفته كيتَ وكيتَ ولكنه حين حكاه اقتصَر على الاسم انتهى فحيث جاز الاكتفاءُ عند الحكاية عن ذلك التفصيلِ بمجرد الاسمِ من غير قرينةٍ تدل عليه فما ظنُك بما نحن فيه ومعه قرينةٌ ظاهرةٌ ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ الجعل بمعنى الخلق المتعدي إلى مفعولٍ واحد هو خليفةً وحالُ الظرفِ في التعلق والتقديم كما مر فحينئذلا يكون ما سيأتي من كلام الملائكةِ مترتباً عليه بالذات بل بالواسطة فإنه رُوي أنه تعالى لما قال لهم إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً قالوا ربنا وما يكون ذلك الخليفة قال تعالى يكون له ذريةٌ يفسدون في الأرض ويتحاسَدون ويقتُلُ بعضُهم بعضاً فعند ذلك قالوا ما قالوا والله تعالى أعلم والخليفةُ من يخلُفُ غيرَه وينوب مَنابَه فعيل بمعنى الفاعل والتاء للمبالغة والمراد به إما آدمُ عليه السلام وبنوه وإنما اقتُصر عليه استغناءً بذكره عن ذكرهم كما يستغنى عن ذكر القبيلةِ بذكر أبيها كمُضَرَ وهاشمٍ ومنه الخلافةُ في قريش وإما مَنْ يخلُف أو خلف يخلُف فيعمُّه عليه السلام وغيرَه من خلفاءِ ذريتِه والمرادُ بالخلافة إما الخلافةُ من جهته سبحانه في إجراء أحكامِه وتنفيذِ أوامره بين الناس وسياسةِ الخلقِ لكن لا لحاجةٍ به تعالى إلى ذلك بل لقصور استعدادِ المستخلَف عليهم وعدمِ لياقتِهم لقبول الفيضِ بالذات فتختصُّ

بالخواصِّ من بنيه وإما الخلافةُ ممن كان في الأرض قبل ذلك فتعمُّ حينئذ الجميع {قَالُواْ} استئنافٌ وقع جوابا عما ينساقُ إليه الأذهانُ كأنَّه قيلَ فماذا قالتْ الملائكة حينئذ فقيل قالوا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} وهو أيضاً من الجعل المتعدي إلى اثنين فقيل فيهما ما قيل في الأول والظاهرُ أن الأولَ كلمةُ مَنْ والثاني محذوفٌ ثقةً بما ذكر في الكلام السابق كما حُذف الأولُ ثَمةَ تعويلاً على ما ذُكر هنا قال قائلهم لا تَخَلْنا على عزائك إنا ... طالما قد وشَى بنا الأعداءُ بحذف المفعول الثاني أي لا تخَلْنا جازعين على عزائك والمعنى أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فيها خليفةً والظرفُ الأولُ متعلقٌ بتجعلُ وتقديمُه لما مر مراراً والثاني بيُفسِدُ وفائدتُه تأكيدُ الاستبعادِ لما أن في استخلاف المفسِدِ في محل إفساده من البعد ما ليس في استخلافه في غيره هذا وقد جوز كونه من الجعل بمعنى الخلق المتعدي الى المفعول واحدٍ هو كلمةُ مَنْ وأنت خبيرٌ بأن مدارَ تعجُّبِهم ليس خلقَ من يُفسد في الأرض كيف لا وأنَّ ما يعقُبه من الجملة الحالية الناطقة بدعوى أحقِّيتِهم منه يقضي ببُطلانه حتماً إذ لا صِحَّة لدعوى الأحقية منه بالخلق وهم مخلوقون بل مدارُه أن يُستخلف لعمارة الأرض وإصلاحِها بإجراء أحكامِ الله تعالى وأوامرِه أو يُستخلفَ مكان المطبوعين على الطاعة مَنْ مِنْ شأنِ بني نوعِه الإفسادُ وسفكُ الدماء وهو عليه السلامُ وإن كان منزهاً عن ذلك إلا أن استخلافَه مستتبِعٌ لاستخلاف ذرّيتِه التي لا تخلو عنه غالباً وإنما أظهروا تعجُّبَهم استكشافاً عما خفِيَ عليهم من الحِكَم التي بدت على تلك المفاسد وألغَتْها واستخباراً عما يُزيح شبهتَهم ويرشدهم إلى معرفة ما فيه عليه السلام من الفضائل التي جعلتْه أهلاً لذلك كسؤال المتعلم عما ينقدِحُ في ذهنه لا اعتراضاً على فعل الله سبحانه ولا شكاً في اشتماله على الحِكمة والمصلحة إجمالاً ولا طعناً فيه عليه السلام ولا في ذريته على وجه الغَيْبة فإن منصِبَهم أجلُّ من أن يُظَنَّ بهم أمثالُ ذلك قال تعالى {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} وإنما عَرفوا ما قالوا إما بإخبارٍ من الله تعالى حسبما نُقل من قبلُ أو بتلقٍ من اللوح أو باستنباطٍ عما ارتكز في عقولهم في اختصاص العِصْمةِ بهم أو بقياسٍ لأحد الثقلين على الآخر {وَيَسْفِكُ الدماء} السفكُ والسفحُ والسبكُ والسكْبُ أنواع من الصب والأ ولان مختصانِ بالدم بل لا يستعمل أولُهما إلا في الدم المحرّم أي يقتل النفوسَ المحرمة بغير حق والتعبيرُ عنه بسفك الدماء لما أنه أقبحُ أنواعِ القتل وأفظعه وقرئ يُسفِك بضم الفاء ويُسفِك ويَسْفِك من أسفك وسَفَك وقرئ يُسفَكُ على البناء للمفعول وحُذف الراجع إلى مَنْ موصولةٌ أو موصوفةٌ أي يسفك الدماء فيهم {وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ} جملة حالي مقررة للتعجب السابق ومؤكدةٌ له على طريقة قول من يجِدُّ في خدمة مولاه وهو يأمرُ بها غيرَه أتستخدمُ العُصاةَ وأنا مجتهدٌ فيها كأنه قيل أتستخلف من من شأنُ ذريته الفسادُ مع وجود مَنْ ليس من شأنه ذلك أصلاً والمقصودُ عرضُ أحقيتِهم منهم بالخلافة واستفسارٌ عما رجَّحهم عليهم مع ما هو متوقَّعٌ منهم من الموانع لا العُجبُ والتفاخرُ فكأنهم شعَروا بما فيهم من القوة الشهوية التي رذيلتُها الإفراطيةُ الفسادُ في الأرض والقوةِ الغضبيةِ التي رذيلتُها الإفراطية سفكُ الدماء فقالوا ما قالوا وذَهِلوا عما إذا سخر تهما القوةُ العقلية ومرَّنتْهما على الخير يحصل ذلك من علو الدرجةِ ما يقصر عن البلوغ رُتبةِ القُوةِ العقلية عند أنفرادها فيب أفاعيلها كالإحاطة بتفاصيل أحوالِ الجزئيات واستنباطِ الصناعات واستخراج منافع الكائنات من

البقرة (31) القوة إلى الفعل وغير ذلك مما نيط به أمر الخلافة والتسبيح تنزيهُ الله تعالى وتبعيدُه اعتِقاداً وقَولاً وعملاً عمَّا لاَ يليقُ بجنابِه سُبحانَهُ مِنْ سبَح في الأرضِ والماءِ إذا أبعد وأمعنَ ومنه فرسٌ سَبُوحٌ أي واسع الجرْي وكذلك تقديسُه تعالى من قدَّسَ في الأرض إذا ذهَب فيها وأبعدَ ويقال قدَّسه أي طهَّره فإن مُطَهِّر الشئ مبعده عن القذار والباء في بحمدك متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الضمير أي ننزِّهُك عن كل ما لا يليقُ بشأنك ملتبسين بحمدك على ما أنعمت به علينا من فنونِ النعمِ التي من جملتها توفيقُنا لهذه العبادة فالتسبيحُ لإظهار صفاتِ الجلالِ والحمدُ لتذكير صفاتِ الإنعام واللامُ في لك إما مزيدة والمعنى نقدّسك وإما صلةٌ للفعل كما في سجدت لله وإما للبيان كما في سقيالك فتكون متعلقةً بمحذوف أي نقدّس تقديساً لك أي نصِفُك بما يليق بك من العلوّ والعزةِ وننزِّهُك عما لا يليق بك وقيل المعنى نطهِّر نفوسَنا عن الذنوب لأجلك كأنهم قابلوا الفسادَ الذي أعظمُه الإشراكُ بالتسبيح وسفكِ الدماء الذي هو تلويثُ النفس بأقبح الجرائمِ بتطهير النفسِ عن الآثام لا تمدُّحاً بذلك ولا إظهار للمِنة بل بياناً للواقع {قَالَ} استئناف كما سبق {إني أعلم ما لا تعلمون} ليس المرادَ بيانَ أنَّه تعالى يعلم مالا يعلمونه من الأشياءِ كائناً ما كان فإن ذلك مما لا شُبهة لهم فيه حتى يفتقِروا إلى التنبيه عليه لاسيما بطريق التوكيد بل بيانَ أن فيه عليه الصلاة والسلام معانيَ مستدعيةً لاستخلافه إذ هو الذي خفيَ عليهم وبنَوا عليه ما بنَوْا من التعجّب والاستبعاد فما موصولةً كانت أو موصوفةً عبارةٌ عن تلك المعاني والمعنى إني أعلم ما لا تعلمونه من دواعي الخلافة فيه وإنما لم يقتصِرْ على بيان تحققِها فيه عليه السلام بأن قيل مثلاً إن فيه ما يقتضيه من غير تعرض لإحاطته تعالى به وغفلتِهم عنه تفخيماً لشأنه وإيذاناً بابتناء أمرِه تعالى على العلم الرصينِ والحكمةِ المتقنة وصدورِ قولِهم عن الغفلة وقيل معناه إني أعلمُ من المصالحِ في استخلافه ما هو خفيٌّ عليكم وأنَّ هذا إرشادٌ للملائكة إلى العلم بأن أفعالَه تعالى كلَّها حسنةٌ وحِكمةٌ وإن خفي عليهم وجهُ الحسْنِ والحِكمة وأنت خبيرٌ بأنه مُشعِرٌ بكونهم غيرَ عالمين بذلك من قبلُ ويكون تعجبُهم مبنياً على تردّدهم في اشتمال هذا الفعلِ لحكمةٍ ما وذلك مما لا يليق بشأنهم فإنهم عالمون بأن ذلك متضمِّنٌ لحكمةٍ ما ولكنهم متردّدون في أنها ماذا هل هو أمرٌ راجعٌ إلى محض حُكم الله عزَّ وجلَّ أو إلى فضيلةٍ من جهة المستخلَف فبيّن سبحانه وتعالى لهم أولاً على وجه الإجمالِ والإبهامِ أن فيه فضائلَ غائبةً عنهم ليستشرفوا إليها ثم أبرَزَ لهم طرفاً منها ليعاينوه جَهرةً ويظهَرَ لهم بديعُ صنعِه وحكمتِه وينزاحَ شبهتُهم بالكلية

31

{وعلم آدم الاسماء كُلَّهَا} شروعٌ في تفصيل ما جَرى بعد الجواب الإجماليِّ تحقيقاً لمضمونه وتفسيراً لإبهامه وهو عطفٌ على قال والابتداءُ بحكاية التعليم يدل بظاهره على أن ما مرَّ من المقاولة المحكيةِ إنما جرت بعد خلقِه عليه السلام بمحضَرٍ منه وهو الأنسبُ بوقوف الملائكة على أحواله عليه السلام بأن قيل إثرَ نفخِ الروح فيه إني جاعلٌ إياه خليفةً فقيل ما قيل

كما أشير إليه وإيرادُه عليه السلام باسمه العِلْميِّ لزيادة تعيين المرادِ بالخليفة ولأن ذكرَه بعنوان الخلافة لا يلائم مقامَ تمهيدِ مباديها وهو اسمٌ أعجميٌّ والأقربُ أن وزنه فاعلٌ كشالَخ وعاذَرَ وعابَرَ وفالغَ لا أفعل والتصدى لا شتقاقه من الأذمة أو الأَدَمة بالفتح بمعنى الأسوة أو من أديم الأرض بناء على ما روى عنه صلى الله عليه وسلم من أنه تعالى قبض قبضةً من جميع الأرض سهلِها وحَزْنها فخلق منها آدم ولذلك اختلفت ألوانُ ذريته أو من الأَدْم والأدمة بمعنى الألفة تعسفٌ كاشتقاق إدريسَ من الدَّرْس ويعقوبَ من العقِب وإبليس من الإبلاس والاسمُ باعتبار الاشتقاقِ ما يكون علامةً للشئ ودليلاً يرفعُه إلى الذهن من الألفاظ والصفات والأفعال واستعمالُه عرفاً في اللفظ الموضوع لمعنى مُفرداً كانَ أو مُركباً مُخبَراً عنه أو خبراً أو رابطةً بينهما واصطلاحاً في المفرد الدال على معنى في نفسه غيرَ مقترنٍ بالزمان والمراد ههنا إما الأولُ أو الثاني وهو مستلزمٌ للأول إذ العلمُ بالألفاظ من حيث الدلالةُ على المعاني مسبوقٌ بالعلم بها والتعليمُ حقيقةً عبارةٌ عن فعلٍ يترتب عليه العلمُ بلا تخلف عنه ولا يحصل ذلك بمجرد إضافة المعلم بل يتوقف على استعداد المتعلم لقبول الفيضِ وتلقّيه من جهته كما مر في تفسير الهدى وهو السرُّ في إيثاره على الإعلام والإنباء فإنهما إنما يتوقفان على سماع الخبر الذي يشترك فيه البشرُ والمَلك وبه يظهر أحقيتُه بالخلافة منهم عليهم السلام لما أن جباتهم غيرُ مستعدةٍ للإحاطة بتفاصيلِ أحوالِ الجزئيات الجُسمانية خُبْراً فمعنى تعليمِه تعالى إياه أن يخلُقَ فيه إذ ذاك بموجب استعداده علماً ضرورياً تفصيلياً بأسماء جميعِ المسميات وأحوالِها وخواصِّها اللائقةِ بكلَ منها أو يُلقيَ في رُوعه تفصيلاً أن هذا فرس وشأنُه كيت وكيت وذاك بعيرٌ وحالُه ذَيْت وذَيْت إلى غير ذلك من أحوال الموجودات فيتلقاها عليه السلام حسبما يقتضيه استعدادُه ويستدعيه قابليتُه المتفرعةُ على فطرته المنطويةِ على طبائعَ متباينة وقوى متخالفةٍ وعناصرَ متغايرة قال ابنُ عباس وعكرمةُ وقتادةُ ومجاهدٌ وابنُ جُبيرٍ رضي الله عنهم علّمه أسماءَ جميعِ الأشياءِ حتى القصعةَ والقصيعةَ وحتى الجفنةَ والمِحْلَب وأنحى منفعة كل شئ إلى جنسِه وقيل أسماءَ ما كان وما سيكونُ إلى يومِ القيامةِ وقيلَ معنى قولَه تعالى وعلم آدمَ الأسماءَ خلقه من أجزاءَ مختلفةٍ وقوىً متباينةٍ مستعداً لإدراكِ أنواع المُدرَكات من المعقولات والمحسوسات والمتخيَّلات والموهومات وألهمه معرفةَ ذواتِ الأشياءِ وأسمائها وخواصِها ومعارفِها وأصولَ العلم وقوانينَ الصناعاتِ وتفاصيلَ آلاتِها وكيفياتِ استعمالاتها فيكونُ ما مرَّ من المقاولةِ قبل خلقه عليه السلام وقيل التعليمُ على ظاهره ولكنَّ هناك جملاً مطوية عطف عليهاالمدلول المدكور أي فخلقه فسواه ونفخ فيه الروح وعلمه الخ (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة) الضمير للمسميات المدلول عليها بالأسماء كما في قوله تعالى {واشتعل الرأس شَيْباً} والتذكيرُ لتغليبِ العقلاءِ على غيرِهم وقرئ عرَضَهن وعرضَها أي عرضَ مسمَّياتِهن أو مسمياتها في الحديث أنه تعالى عرضهم امثال الذر ولعله عز وجل عرضَ عليهم من أفراد كلِّ نوعٍ ما يصلحُ أنْ يكونَ أنموذجاً يُتعرفُ منه أحوالَ البقيةِ وأحكامها {فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء} تبكيتاً لهم وإظهاراً لعجزهم عن إقامة ما علّقوا به رجاءَهم من أمرِ الخلافةِ فإن التصرفَ والتدبيرَ وإقامةَ المعدلةِ بغير وقوفِ على مراتبِ الاستعداداتِ ومقاديرِ الحقوق مما لا يكاد يمكنُ والإنباءُ إخبارُ فيه إعلامُ ولذلك يجري مجرى كل منهما والمرادُ ههنا ما خلا عنه وإيثاره

البقرة (32) على الإخبار للإيذان برفعة شأنِ الأسماء وعظمِ خطرها فإن النبأَ إنَّما يطلق على الخبرِ الخطيرِ والأمرِ العظيم {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في زعمكم أنكم أحقاءُ بالخلافة ممن استخلفته كما ينبئ عنه مقالُكم والتصديق كما يتطَّرقُ إلى الكلامِ باعتبار منطوقه قد يتطرَّقُ إليه باعتبارِ ما يلزمُه من الإخبارِ فإن أدنى مراتبِ الاستحقاق هو الوقوفُ على أسماءِ ما في الأرض وأما ما قيل من أن المعنى في زعمكم أني أستخلفُ في الأرض مفسدين سفاكين للدماء فليس مما يقتضيه المقامُ وإن أُوِّلَ بأنْ يقالَ في زعمِكم أنِّي أستخلفُ مَنْ غالبُ أمرِه الإفسادُ وسفكُ الدماءِ منْ غيرِ أنْ يكونَ له مزيةٌ من جهةٍ أخرى إذ لا تعلق له بأمرهم بالإنباءِ وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكورِ عليه

32

{قَالُواْ} استئنافٌ واقعٌ موقعَ الجواب كأنه قيل فماذا قالوا حينئذ هل خرجوا عن عهده ماكلفوه أولا فقيل قالوا {سبحانك} قيل هو علمٌ للتسبيح ولا يكاد يستعملُ إلا مضافاً وقد جاءَ غيرَ مضافٍ على الشذوذِ غيرَ منصرفٍ للتعريف والألفِ والنون المزيدتين كما في قوله ... سُبحانَ مِنْ علقمَةَ الفاخرِ ... وأمَّا ما في قولِه ... سبحانه ثم سبحانا نعوذ به ... فقيل صَرَفه للضرورة وقيل إنه مصدر منكرٌ كغفران لا اسمُ مصدر ومعناه على الأول نسبحك عما لا يليق بشأنك الأقدسِ من الأمور التي من جملتها خلوُّ أفعالِك من الحِكَم والمصالحِ وعنَوا بذلك تسبيحاً ناشئاً عن كمال طمأنينة النفس والإيقان باشتمال استخلاف آدمَ عليه السَّلامُ على الحِكَم البالغة وعلى الثاني تنزهّتَ عن ذلك تنزها ناشئا عن ذاتك وأراد به أنهم قالوه عن إذعان لما عملوا إجمالاً بأنه عليه السلام يُكلَّف ما كُلِّفوه وأنه يقدِر على ما قد عجزوا عنه مما يتوقف عليه الخلافة وقوله عز وعلا {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} اعتراف منهم بالعجز عما كُلِّفوه إذ معناه لا علم لنا إلا ما عملتناه بحسب فابليتنا من العلوم المناسبة لعالمنا ولا قُدرة بنا على ما هو خارجٌ عن دائرة استعدادِنا حتى لو كنا مستعدّين لذلك لأفَضْتَه علينا وما في ما علمتنا موصولةٌ حذف من صلتها عائدُها أو مصدرية ولقد نفَوْا عنهم العلمَ بالأسماء على وجه المبالغة حيث لم يقتصِروا على بيان عدمِه بأن قالوا مثلاً لا علم لنا بها بل جعلوه من جُملة مالا يعلمونه وأشعروا بأن كونَه من تلك الجملة غنيٌّ عن البيان {إِنَّكَ أَنتَ العليم} الذي لا يَخفى عليهِ خافيةٌ وهذا إشارةٌ إلى تحقيقهم لقوله تعالى {إني أعلم ما لا تَعْلَمُونَ} {الحكيم} أي المحكِمُ لمصنوعاته الفاعلُ لها حسبما يقتضيه الحِكمةُ والمصلحة وهو خبرٌ بعد خبر أو صفةٌ للأول وانت ضميرُ الفصل لا محلَّ له من الإعراب أو له محل منه مشارِكٌ لما قبله كما قالَهُ الفَرَّاءُ أو لما بعده كما قاله الكسائي وقيل تأكيد للكاف كما في قولِك مررتُ بك أنت وقيل مبتدأ خبرُه ما بعده والجملة خبرأن وتلك الجملةُ تعليلٌ لما سبق من قصر علمِهم بما علّمهم الله تعالى وما يفهم من ذلك من علم آدمَ عليه السلام بما خفيَ عليهم فكأنهم قالوا أنت العالمُ بكل المعلوماتِ التي // مِنْ جُملتِها استعدادُ آدمَ عليه السَّلامُ لما نحن بمعزلٍ من الاستعداد له من العلوم الخفيةِ المتعلقةِ بما في الأرضِ من أنواع المخلوقات التي عليها يدورُ فَلَكُ خلافةِ الحكيمِ الذي لا يفعلُ إلا ما تقتضيهِ الحِكمةُ ومن جملته تعليمُ آدمَ عليه السلام ما هو قابل من العلوم الكليةِ والمعارفِ الجزئيةِ المتعلقة بالأحكام الواردةِ على ما في الأرض وبناء امر الخلافة

البقرة (33) عليها

33

{قال} استئناف كما سلف {يا آدم أَنبِئْهُم} أي أعلِمْهم أُوثرَ على أنبئى كما وقع في أمر الملائكة مع حصول المراد معه أيضاً وهو ظهورُ فضلِ آدمَ عليهم عليهم السلام إبانةً لما بين الأمرين من التفاوت الجليّ وإيذاناً بأن عِلْمَه عليه السلام بها أمرٌ واضحٌ غيرُ محتاجٍ إلى ما يجري مَجرى الامتحان وأنه عليه السلام حقيقٌ بأن يعلمها وغيره وقرئ بقلب الهمزة ياءً وبحذفِها أيضاً والهاء مكسورةٌ فيهما {بِأَسْمَائِهِمْ} التي عجَزوا عن علمها واعترفوا بتقاصُر هممِهم عن بلوغِ مرتبتها {فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم} الفاء فصيحةٌ عاطفةٌ للجملة الشرطية على محذوفٍ يقتضيهِ المقامُ وينسحِبُ عليه الكلام للإيذان بتقروة وغِناه عن الذكر وللإشعارِ بتحقُّقه في أسرع ما يكون كما في قوله عز وجل {فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه} بعد قوله سبحانه {أنا آتيك بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إليك طرفك} وإظهارُ الأسماءِ في موقع الإضمارِ لإظهار كمالِ العنايةِ بشأنها والإيذانِ بأنه عليه السلام أنبأهم بها على وجه التفصيلِ دون الإجمالِ والمعنى فأنبأهم بأسمائهم مفصّلةً وبيّن لهم أحوالَ كلَ منهم وخواصَّه وأحكامَه المتعلقة بالمعاش والمعاد فعلِموا ذلك لمّا رأَوْا أنه عليه السلام لم يتلعثم في شئ من التفاصيل التي ذكرها مع مساعدة ما بين الأسماءِ والمسميات من المناسبات والمشاكلات وغيرِ ذلك من القرائن الموجبةِ لصدق مقالاتِه عليه السلام فلما أنبأهم بذلك {قال} عزَّ وجلَّ تقريراً لما مر من الجواب الإجماليِّ واستحضاراً له {ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض} لكن لا لتقرير نفسِه كما في قوله تعالى أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً ونظائرِه بل لتقرير ما يفيده من تحقق دواعي الخلافةِ في آدمَ عليه السلام لظهور مِصْداقه وإيرادُ ما لا يعلمون بعنوان الغيبِ مضافاً إلى السموات والأرض للمبالغة في بيان كمالِ شمولِ علمِه المحيطِ وغايةِ سَعته مع الإيذانِ بأنَّ ما ظهر من عجزهم وعلم آدمَ عليه السلام من الأمور المتعلقة بأهل السموات وأهل الأرض وهذا دليلٌ واضحٌ على أنَّ المرادَ بما لا تعلمون فيما سبق ما أشير إليه هناك كأنه قيل ألم أقل لكم إني أعلم فيه من دواعي الخلافة مالا تعلمونه فيه هو هذا الذي عاينتموه وقوله تعالى {وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} عطفٌ على جملة ألم أقل لكم لا على اعلم اذهوا غيرُ داخلٍ تحت القول وما في الموضعين موصولةٌ حذفَ عائدُها أيْ أعلم ما تبدونه وما تكتمونه وتغييرُ الأسلوب للإيذان باستمرار كَتْمِهم قيل المراد بما يبدون قولُهم أتجعل الخ وبما يكتمون استبطانُهم أنهم أحِقّاءُ بالخلافة وأنه تعالى لا يخلُق خلقاً أفضل مِنْهُمْ رُوي أنَّه تعالى لما خلقُ آدم عليه السلام رأت الملائكةُ فِطرتَه العجيبةَ وقالوا ليكن ما شاء فلن يخلُقَ ربُنا خلقاً إلا كنا أكرمَ عليه منه وقيل هو ما أسره إبليسُ في نفسه من الكِبْر وتركِ السجود فإسنادُ الكِتمان حينئذ إلى الجميعِ من قبيلِ قولِهم بنُو فلان قتلُوا فلانا والقاتل واحدٌ من بينهم قالوا في الآية الكريمة دلالة على شرف الإنسان ومزية العلمِ وفضلِه على العبادة وأن ذلك هو المناطُ للخلافة وأن التعليم يصحُّ إطلاقُه على الله تعالى وإن لم يصح إطلاقُ المعلِّم عليه لاختصاصه عادة

البقرة (34) بمن يحترِفُ به وأن اللغاتِ توقيفيةٌ إذ الأسماءُ تدل على الألفاظ بخصوص أو بعموم وتعليمُها ظاهرٌ في إلقائها على المتعلم مبيناً له معانيَها وذلك يستدعي سابقةَ وضعٍ وما هو إلا من الله تعالى وأن مفهوم الحِكمة زائدٌ على مفهوم العلم والإلزام التكرارُ وأن علومَ الملائكة وكمالاتِهم تقبل الزيادة والحكماءُ منعوا ذلك في الطبقة العليا منهم وحملوا على ذلك قولَه تعالى {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} وأن آدمَ أفضلُ من هؤلاء الملائكة لأنه عليه السلام أعلمُ منهم وأنه تعالى يعلمُ الأشياءَ قبل حدوثِها

34

{وَإِذْ قُلْنَا للملائكة} عطفٌ على الظرف الأول منصوبٌ بما نصبه من المضمر أو بناصب مستقلٍ معطوفٍ على ناصبه عطفَ القصة على القصة أي واذكر وقتَ قولِنا لهم وقيل بفعل دل عليه الكلامُ أي أطاعوا وقت قولِنا الخ وقد عرفت ما في أمثاله وتخصيصُ هذا القول بالذكر مع كون مقتضى الظاهرِ إيرادَه على منهاج ما قبله من الأقوال المحكيةِ المتصلةِ به للإيذان بأن مافي حيّزه نعمةٌ جليلةٌ مستقلة حقيقةٌ بالذكر والتذكيرِ على حِيالها والالتفاتُ إلى التكلم لإظهار الجلالةِ وتربيةِ المهابةِ مع ما فيه من تأكيد الاستقلال وكذا إظهارُ الملائكة في موضع الإضمار والكلام في اللام وتقديمِها مع مجرورها على المفعول كما مر وقرئ بضم تاء الملائكة إتباعاً لضم الجيم في قوله تعالى {اسجدوا لاِدَمَ} كما قرئ بكسر الدال في قوله تعالى {الحمد للَّهِ} إتباعاً لكسر اللام وهي لغة ضعيفة والسجودُ في اللغة الخضوعُ والتطامُن وفي الشرع وضعُ الجبهة على الأرض على قصد العبادة فقيل أُمِروا بالسجود له عليه السلام على وجه التحية والتكرمة تعظيماً له واعترافاً بفضله وأداءً لحق التعليم واعتذاراً عما وقع منهم في شأنه وقيل أمروا بالسجود له تعالى وإنما كان آدمُ قِبلةً لسجودهم تفخيماً لشأنه أو سبباً لوجوبه فكأنه تعالى لما بَرَأه أُنموذَجاً للمُبدَعات كلِّها ونسخةً منطويةً على تعلق العالم الروحاني بالعالم الجسماني وامتزاجها على نمط بديعٍ أمرهم بالسجود له تعالى لما عاينوا من عظيم قدرتِه فاللام فيه كما في قولِ حسَّانَ رضي الله عنه أليس أولَ من صلَّى لقِبلتكم ... وأعرفَ الناسِ بالقرآنِ والسننِ أو في قوله تعالَى {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} والأولُ هو الأظهر وقوله عز وجل {فَسَجَدُواْ} عطف على قلنا والفاء لإفادة مسارعتِهم إلى الامتثال وعدمِ تلعثُمِهم في ذلك رُوي عن وهْب أن أولَ من سجد جبريلُ ثم ميكائيلُ ثم إسرافيلُ ثم عزرائيلُ ثم سائرُ الملائكة عليهم السلام وقوله تعالى {إِلاَّ إِبْلِيسَ} استثناءٌ متَّصل لما أنه كانَ جنِّياً مفرَداً مغموراً بألوفٍ من الملائكة متصفاً بصفاتهم فغَلبوا عليه في فسجدوا ثمَّ استُثنِيَ استثناءَ واحدٍ منُهم أو لأنَّ من الملائكة جنساً يتوالدون يقال لهم الجنُّ كما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهما وهو منهم أو لأن الجن أيضاً كانوا مأمورين بالسجود له لكن استُغني بذكر الملائكة عن ذكرهم أو منقطع وهو اسم أعجميٌ ولذلك لم ينصرِف ومن جعله مشتقاً من الإبلاس وهو إلباس قال إنه مُشبَّهٌ بالعجمة حيث لم يُسمَّ به أحدٌ فكان كالاسم الأعجميّ واعلم أن الذي تقتضيهِ هذه الآيةُ الكريمةُ والتي في سُورة الأعرافِ من قوله

تعالى {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ} الآية والتي في سورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه من قوله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا} الآية أن سجودَ الملائكة إنما ترتب على الأمر التنجيزيّ الوارد بعد خلقِه وتسويتِه ونفخِ الروحِ فيه ألبتة كما يلوح به حكاية امتث الهم بعبارة السجود دون الوقوعِ الذي به ورد الأمرُ التعليقي ولكن ما في سورة الحِجْرِ من قوله عز وعلا {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالقٌ بَشَرًا مِّن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} وما في سورة ص من قوله تعالى {إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّى خالقٌ بَشَراً من طِينٍ} إلى آخر الآية يستدعيان بظاهرهما ترتُّبَه على ما فيهما من الأمر التعليقيِّ من غيرِ أنْ يتوسَّط بينهما شئ غير ما تُفصحَ عنه الفاءُ الفصيحةٌ من الخلق والتسويةِ ونفخِ الروحِ فيه عليه السلام وقد رُوي عن وهْبٍ أنه كان السجود كما نفخ فيه الروح بلا تأخير وتأويلُ الآيات السابقة يحمل ما فيها من الأمر على حكاية الأمر التلعيقي بعد تحققِ المعلَّقِ به إجمالاً فإنه حينئذ يكون في حكم التنجيز يأباه ما في سُورة الأعرافِ من كلمة ثم المناديةِ بتأخر ورودِ الأمرِ عن التصوير المتأخرِ عن الخلق المتأخر عن الأمر التعليقي والاعتذارُ بحمل التراخي على الرُتبيّ أو التراخي في الإخبار أو بأن الأمرَ التَّعليقيُّ قبل تحققِ المعلَّق به لمّا كان في عدم إيجابِ المأمورِ به بمنزلة العدم جُعل كأنَّه إنَّما حدَث بعد تحقُّقهِ فحُكي على صورةِ التجيز يؤدى بعد اللتيا واللتي إلى أن ما جَرى بينَهُ وبينهم عليهم السلام في شأن الخلافة وما قالوا فيه وما سمعوا إنما جرى بعد السجود المسبوقِ بمعرفة جلالة منزلتِه عليه السلام وخروجِ إبليسَ من البين باللعن الؤبد لعِناده وبعد مشاهدتهم لذلك كله عياناً وهل هو إلا خرقٌ لقضية العقل والنقل والالتجاء في التفصى عنه إلى تأويل نفخِ الروحِ بحمله على ما يعُمُّ إفاضةَ ما به حياةُ النفوس التي من جملتها تعليم السماء تعسف ينبئ عن ضيق المجال فالذي يقتضيِه التحقيقُ ويستدعيهِ النظرُ الأنيقُ بعد التصفح في مستودعات الكتاب المكنونِ والتفحصِ عما فيه من السر المخزون أن سجودَهم له عليه السلام إنما ترتب على الأمر التنجيزيّ المتفرعِ على ظهور فضلِه عليه السلام المبنى على المجاورة المسبوقةِ بالإخبار بخلافته المنتظمِ جميعَ ذلك في سلك ما نِيط به الأمرُ التعليقيُّ من التسوية ونفخِ الروحِ إذ ليس من قضيته وجوبُ السجود عقيبَ نفخِ الروحِ فيه فإن الفاءَ الجزائيةَ ليست بنصَ في وجوب وقوعِ مضمونِ الجزاء عقيبَ وجودِ الشرط من غير تراخٍ للقطع بعدم وجوبِ السعي عقيبَ النداء لقوله تعالى {إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن يوم الجمعة فاسعوا} الآية وبعدم وجوب إقامةِ الصلاة غِبَّ الاطمئنانِ لقوله تعالى {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة} بل إنما الوجوبُ عند دخول الوقت كيف لا والحكمة الداعية إلى ورود ما نحن فيه من الأمر التعليقيِّ إثرَ ذي أثيرٍ إنما هي حملُ الملائكة عليهم السلام على التأمُّل في شأنه عليه السلام لتدبروا في أحواله طراً ويُحيطوا بما لديه خُبراً ويستفهموا ما عسى يستَبْهم عليهم في أمره عليه السلام لابتنائه على حِكَم أبيّة وأسرارٍ خفية طُويت عن علومهم ويقفوا على جلية الحال قبل ورود الأمر التنجيزي وتحتُّمِ الامتثال وقد قالوا بحسب ذلك ما قالوا وعاينوا ما عاينوا وعدمُ نظمِ الأمر التنجيزيّ في سلك الأمور المذكورةِ في السورتين عند الحكاية لا يستلزمُ عدمَ انتظامِه فيه عند وقوعِ المحكيِّ كما أن عدمَ ذكرِ الأمرِ التعليقي عند حكايةِ الأمرِ التنجيزيِّ

في السورة الكريمة المذكورة لا يوجب عدمَ مسبوقيتِه به فإن حكايةَ كلامٍ واحدٍ على أساليبَ مختلفةٍ حسبما يقتضيه المقام ويستدعيه حسنُ الانتظامِ ليست بعزيزة في الكتاب العزيز وناهيك بما نقل في توجيه قولِه تعالى بَشَرًا مع عدم سبقِ معرفةِ الملائكةِ عليهم السلام بذلك وحيث صِيَر إليه مع أنه لم يرِدُ به نقلٌ فما ظنك بما قد وقع التصريحُ به في مواضعَ عديدةٍ فلعله قد أُلقي إليهم ابتداءً جميعُ ما يتوقفُ عليه الأمرُ التنجيزيُّ إجمالاً بأن قيل مثلاً إني خالقٌ بشراً من كذا وكذا وجاعلٌ إياه خليفةً في الأرض فإذا سويتُه ونفختُ فِيهِ مِن رُّوحِى وتبيَّن لكم شأنُه فقَعوا له ساجدين فخلقه فسواه ونفخ فيه الروح فقالوا عند ذلك ما قالوا أو ألقيَ إليهم خبرُ الخلافةِ بعد تحققِ الشرائطِ المعدودة بأن قيل إثرَ نفخِ الروح فيه إني جاعلٌ هذا خليفةً في الأرض فهناك ذكروا في حقه عليه السلام ما ذكروا فأيده الله عز وجل بتعليم الأسماءِ فشاهدوا منه ما شاهدوا فعند ذلك ورد الأمرُ التنجيزيّ اعتناء بشأن المأمور به وتعييناً لوقته وقد حُكي بعضُ الأمور في بعض المواطنِ وبعضُها في بعضِها اكتفاء بما ذكر في كل موطنٍ عما تُرك في موطن آخرَ والذي يحسم مادةَ الاشتباهِ أن ما في سورة ص من قوله تعالى {إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} الخ بدل من قول تعالى {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} فيما قبله من قوله تعالى {مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الاعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي بكلامهم عند اختصامِهم والمرادُ بالملأ الأعلى وآدمُ عليهم السَّلامُ وإبليسُ حسبما أطبق عليه جمهورُ الأمة وباختصامِهم ما جرى بينهم في شأن خلافةِ آدم عليه السلام من التقاول الذي من جملته ما صدر عنه عليه السلام من الإنباء بالأسماء ومن قضية البدلية وقوعُ الاختصامِ المذكورِ في تضاعيف ما ذكر فيه تفصيلاً من الأمر التعليقيّ وما عُلِّق به من الخلق والتسويةِ ونفخِ الروحِ فيه وما ترتب عليه من سجود الملائكةِ عليهم السلام وعنادِ إبليسَ وما تبِعه من لعنه وإخراجِه من بَيْن الملائكةِ وما جرى بعده من الأفعالِ والأقوالِ وإذ ليس تمامُ الاختصامِ بعد سجودِ الملائكة ومكابرةِ إبليسَ بالأسماء حينئذ فهو إذن بعد نفخِ الروحِ وقبل السجود حتماً بأحد الطريقين والله سبحانه أعلمُ بحقيقة الأمر {أبى واستكبر} استئنافٌ مبين لكيفية عدمِ السّجودِ المفهومِ من الاستثناءِ وأنه لم يكن للتردد أو للتأمل والإباءُ الامتناعُ بالاختيار والتكبرُ أن يرى نفسه أكبرَ من غيره والاستكبارُ طلب ذلك بالتشبّع أي امتنع عما أُمر به واستكبر من أن يعظِّمه أو يتخذه وصلةً في عبادة ربِّه وتقديمُ الإباءِ على الاستكبار مع كونه مسبِّباً عنه لظهوره ووضوحِ أثرِه واقتُصر في سورة ص على ذكر الاستكبار اكتفاءً به وفي سورة الحجر على ذكر الإباءِ حيث قيل أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين {وَكَانَ مِنَ الكافرين} أي في علم الله تعالى إذ كان أصلُه من كفرة الجنِّ فلذلك ارتكب ما ارتكبه على ما أفصح عنه قولُه تعالى {كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} فالجملةُ اعتراضيةٌ مقرِّرةٌ لما سبق من الإباء والاستكبار أو صار منهم باستقباح أمرِه تعالى إياه بالسجود لآدمَ عليه السلام زعماً منه أنه أفضلُ منه والأفضلُ لا يُحسِنُ أن يؤمَرَ بالخضوع للمفضول كما يفصحُ عنه قولُه {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} حين قيل له {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} لا بترك الواجب وحده فالجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها وإيثارُ الواو على الفاء للدلالة على أن محضَ الإباءِ والاستكبار كفر لا أنهما سببان له كما تفيد الفاء

البقرة (35)

35

{وَقُلْنَا} شروعٌ في حكايةِ ما جَرَى بينَهُ تعالى وبين آدمَ عليه السلام بعد تمام ما جرى بينه تعالى وبين الملائكة وإبليسَ من الأقوال والأفعالِ وقد تُركت حكايةُ توبيخِ ابليس وجوابه ولعنه واستظهاره وإنظارُه اجتزاءً بما فُصّل في سائرِ السورِ الكريمةِ وهو عطفٌ على قلنا للملائكة ولا يقدحُ في ذلك اختلافُ وقتيهما فإن المراد بالزمان المدلولِ عليه بكلمة إذْ زمانٌ ممتدٌ واسعٌ للقولين وقيل هو عطفٌ على إذ قلنا بإضمار إذ وهذا تذكيرٌ لنعمة أخرى موجبةٍ للشكر مانعةٍ من الكفرَ وتصديرُ الكلام بالنداء في قوله تعالى {يا آدم اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة} للتنبيه على الاهتمام بتلقّي المأمورِ به وتخصيصُ أصل الخطابِ به عليه السلام للإيذان بأصالته في مباشرة المأمورِ به واسكن من السكنى وهو اللُّبث والإقامةُ والاستقرارُ دونَ السكونِ الذي هو ضدُّ الحركة وأنت ضميرأ كد به المستكنُّ ليصحَّ العطفُ عليه واختلف في وقت خلقِ زوجِه فذكر السدي عن ابن مسعود وابن عباس وناسٍ من الصَّحابةِ رضوانُ الله تعالى عليهم اجمعين ان الله تعالى لما أخرج إبليسَ من الجنة وأسكنها آدمَ بقيَ فيها وحدَه وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ يستأنسُ به فألقى الله تعالى عليه النومَ ثم أخذ ضِلْعاً من جانبه الأيسرِ ووضع مكانه لحماً وخلق حواءَ منه فلما استيقظ وجدها عند رأسه قاعدةً فسألها ما أنت قالت امرأة قال ولم خلقتِ قالت لتسكُنَ إلي فقالت الملائكةُ تجْربةً لعلمه من هذه قال امرأة قالوا لم سُمِّيت امرأةً قال لأنها من المَرءِ أُخِذَت فقالوا ما اسمُها قال حواء قالوا لم سميت حواء قال لأنها خلقت من شئ حيّ ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال بعث الله تعالى جنداً من الملائكة فحملوا آدمَ وحواءَ على سريرٍ من ذهب كما يُحمل الملوك ولباسُهما النور حتى أدخلوهما الجنة وهذا كما ترَى يدلُّ على خلقها قبل دخول الجنة والمراد بها دارُ الثواب لأنها المعهودة وقيل هي جنةٌ بأرض فلسطين أو بين فارسَ وكَرْمان خلقها الله تعالى امتحاناً لآدمَ عليه السلام وحُمل الإهباطُ على النقل منهَا إلى أرضِ الهندِ كما في قوله تعالى اهبطوا مِصْرًا لما أن خلقه عليه السلام كان في الأرض بلا خلاف ولم يذكر في هذه القصة رفعُه إلى السماء ولو وقع ذلك لكان أولى بالذكر والتذكير لما أنه من أعظم النعمِ ولأنها لو كانت دارَ الخلد لما دخلها إبليسُ وقيل إنها كانت في السماء السابعة بدليل اهبِطوا ثم إن الإهباطَ الأولَ كان منها إلى السماء الدنيا والثاني منها إلى الأرض وقيل الكلُّ ممكنٌ والأدلةُ النقلية متعارضةٌ فوجب التوقفُ وتركُ القطع {وَكُلاَ مِنْهَا} أي من ثمارها وانما وجِّه الخطاب إليهما تعميماً للتشريف والترفيه ومبالغة في إزالة العِلل والأعذار وإيذاناً بتساويهما في مباشرة المأمورِ به فإن حواءَ أُسوةٌ له عليهِ السَّلامُ في الأكلِ بخلاف السكنِ فإنها تابعة له في {رَغَدًا} صفةٌ للمصدر المؤكَّد أي أكلاً واسعاً رافهاً {حَيْثُ شِئْتُمَا} أي أيَّ مكان أردتما منها وهذا كما ترى إطلاقٌ كليٌّ حيث أبيحَ لهما الأكلُ منها على وجه التوسعةِ البالغةِ المزيحةِ للعلل ولم يحضر عليهما بعضُ الأكلُ ولا بعضُ المواضع الجامعةِ للمأكولات حتى لايبقى

البقرة (36) لهما عذرٌ في تناول ما منعا منه بقوله تعالى {وَلاَ تَقْرَبَا} بفتح الراء من قرِبْتُ الشيء بالكسر أقربه بالفتح إذ التيست به وتعرضتُ له وقال الجوهري قَرُبَ بالضم يَقْرُبُ قُرْباً إذا دنا وقَرِبْتُه بالكسر قُرْبَاناً دنوتُ منه {هذه الشجرة} نصبٌ على أنه بدل من اسم الإشارةِ أو نعتٌ له بتأويلها بمشتقٍ أي هذه الحاضرة من الشجرة أي لاتأكلا منها وإنما عُلّق النهي بالقُربان منها مبالغةً في تحريم الأكلِ ووجوب الاجتناب عنه والمرادُ بها الحنطةُ أو العِنبَةُ أو التينة وقيل هي شجرةٍ مَنْ أكلَ منها أحْدَث والأَوْلى عدمُ تعيينها من غير قاطع وقرئ هذا بالياء وبكسر شين الشِّجَرة وتاء تقربا وقرئ الشِيَرةَ بكسر الشين وفتح الياء {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} مجزوم على أنه معطوفٌ على تقرَبا أو منصوبٌ على أنه جواب للنهي واياما كان فالقُرب أي الأكلُ منها سببٌ لكونهما من الظالمين أي الذين ظلموا أنفسَهم بارتكاب المعصية أو نقَصوا حظوظَهم بمباشرة ما يُخِلُّ بالكرامة والنعيم أو تعدَّوا حدود الله تعالى

36

{فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا} أي أصدر زلَّتَهما أي زلَقَهما وحملهما على الزلة بسببها ونظيره عن هذا ما في قوله تعالى {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى} أو أزلهما عن الجنة بمعنى أذهبَهما وأبعدهما عنها يقال زلَّ عني كذا إذا ذهب عنك ويعضدُه قراءة أزالهما وهما متقاربان في المعنى فإن الإزلالَ أي الإزلاق يقتضي زوالَ الزال عن موضعه ألبتة وإزلالُه قوله لهما هل ادلكم على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى وقوله مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ الشجرة إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين ومقاسَمتُه لهما إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين وهذه الآياتُ مشعرةٌ بأنه عليه السلام لم يؤمر بسُكنى الجنةِ على وجه الخلود بل على وجه التكرمةِ والتشريفِ لما قُلِّد من خلافة الأرض إلى حين البعث إليها واختُلف في كيفية توصُّله إليهما بعدَ ما قيلَ له اخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ فقيل إنه إنما مُنع من الدخول على وجه التكرمة كما يدخُلها الملائكةُ عليهم السلام ولم يُمنَعْ من الدخول للوسوسة ابتلاءً لآدمَ وحواءَ وقيل قام عند الباب فناداهما وقيل تمثل بصورة دابةٍ فدخل ولم يعرِفْه الخَزَنة وقيل دخل في فم الحية فدخَل معها وقيل أرسل بعضَ أتباعه فأزلّهما والعلم عند الله سبحانه {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} أي من الجنة إن كان ضمير عنها للشجرة والتعبير عنها بذلك للإيذان بفخامتها وجلالتِها وملابستِهما له أي من المكان العظيم الذي كانا مستقِرَّيْن فيه أو من الكرامة والنعيم إن كان الضميرُ للجنة {وَقُلْنَا اهبطوا} الخطابُ لآدمَ وحواءَ عليهما السلام بدليل قوله تعالى {اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً} وجُمعَ الضمير لأنهما أصلُ الجنس فكأنهما الجنسُ كلُّهم وقيل لهما وللحية وإبليسَ على انه اخرج منها ثانية بعد ما كان يدخلها للوسوسة أو يدخلها مسارقة أو اهبط من السماء وقرئ بضم الباء {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} حالٌ استغني فيها عن الواو بالضمير أي متعادِين يبغي بعضُكم على بعض بتضليله أو استئنافٌ لا محلَّ له من الإعراب وإفراد العدوّ إما للنظر إلى لفظ البعض وإما لأن وزانة وازن المصدر كالقبول {وَلَكُمْ فِى الارض} التي هي محلُّ الإهباط والظرفُ متعلقٌ بما تعلَّق بهِ الخبرُ أعني لكم من

البقرة (38 - 37) الاستقرار {مُّسْتَقِرٌّ} أي استقرارٌ أو موضعُ استقرارٍ {ومتاع} أي تمتّعٌ بالعيش وانتفاعٌ به {إلى حِينٍ} هو حينُ الموت على أن المُغيَّا تمتُّع كلِّ فردٍ من المخاطبين أو القيامة على أنه تمتع الجنس في ضمن بعض الأفراد والجملة كما قبلها في كونها حالاً أي مستحقين للاستقرار والتمتع أو استئنافاً

37

{فتلقى آدم مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} أي استقبلها بالأخذ والقبولِ والعملِ بها حين علِمَها ووُفّق لها وقرئ بنصب آدمَ ورفع كلماتٌ دلالةً على أنها استقبلته بلغته وهي قوله تعالى {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} الآية وقيل سُبحانَكَ اللَّهم وبحمدِك وتباركَ اسمُك وتعالى جدُّك لا إله إلا أنت ظلمتُ نفسي فاغفرْ لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال يا رب ألم تخلُقْني بيدك قال بلى قال يا رب ألم تنفُخْ فيَّ من روحك قال بلى قال يا رب ألم تسبِقْ رحمتُك غضبك قال بلى قال ألم تسكنّي جنتَك قال بلى قال يا رب اني تبتُ وأصلحتُ أراجعي أنت إلى الجنة قال نعم والفاءُ للدِلالة على أن التوبة حصلت عَقيب الأمر بالهبوط قبل تحقق المأمور به والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إليه عليه السلام للتشريف والإيذان بعلّيته لإلقاء الكلمات المدلول عليه بتلقيها {فَتَابَ عَلَيْهِ} أي رجع عليه بالرحمة وقَبولِ التوبةِ والفاء للدلالة على ترتبه على تلقي الكلمات المتضمن لمعنى التوبة التي هي عبارةٌ عن الاعتراف بالذنب والندمِ عليه والعزمِ على عدم العود إليه واكتُفي بذكر شأن آدمَ عليه السَّلامُ لما أن حواءَ تبَعٌ له في الحُكم ولذلك طُوي ذكرُ النساء في أكثر مواقع الكتاب والسنة {إِنَّهُ هُوَ التواب} أي الرجّاع على عباده بالمغفرة أو الذي يُكثر إعانتَهم على التوبة وأصلُ التوب الرجوع فإذا وصف به العبد كان رجوعا عن المعصية وإذا وصف به الباري عز وعلا أريد به الرجوعُ عن العقاب إلى المغفرة {الرحيم} المبالِغُ في الرحمة وفي الجمع بين الوصفين وعدٌ بليغٌ للتائب بالإحسان مع العفو والغفران والجملة تعليلٌ لقوله تعالى {فتاب عليه}

38

{قُلْنَا} استئناف مبنيٌ على سؤال ينسحبُ عليه الكلامُ كأنَّه قيل فماذا وقع بعد قَبولِ توبتِه فقيل قلنا {اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا} كُرِّر الأمرُ بالهبوط إيذاناً بتحتم مقتضاه وتحقُّقه لا محالة ودفعاً لما عسى يقعُ في أمنيَّتِه عليه السلام من استتباع قبول التوبةِ للعفو عن ذلك واظهار لنوع رأفةٍ به عليه السلام لما بين الأمرين من الفرق النيّر كيف لا والأولُ مشوبٌ بضرب سخطٍ مذيلٍ ببيان أن مهبِطهم دارُ بليةٍ وتعادٍ لا يخلدون فيها والثاني مقرون بوعد إيتاء الهدى المؤدي إلى النجاة والنجاح وأما ما فيه من وعيد العقاب فليس بمقصود من التكليف قصداً أولياً بل إنما هو دائرٌ على سوء اختيارِ المكلفين قيل وفيه تنبيه على أن الحازم يكفيه بالردع عن مخالفةَ حكمِ الله تعالى مخافةُ الإهباط المقترنِ بأحد هذين الأمرين فكيف بالمقترن بهما فتأمل وقيل الأول من الجنة إلى السماء الدنيا والثاني منها إلى الأرض ويأباه التعرضُ لاستقرارهم في الأرض في الأول ورجوع الضمير

البقرة (39) إلى الجنة في الثاني وجميعا حال في اللفظ وتأكيدٌ في المَعَنى كأنَّه قيلَ اهبطوا أنتم أجمعون ولذلك لا يستدعي الاجتماعَ على الهبوط في زمان واحد كما في قولك جاؤوا جميعاً بخلاف قولك جاءوا معاً {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى} الفاءُ لترتيب ما بعدها على الهبوط المفهوم من الأمر به وإما مركبةٌ من إنِ الشرطيةِ وما المزيدة المؤكدة لمعناها والفعل في محل الجزم بالشرط لأنه مبنيٌّ لاتصاله بنون التأكيد وقيل معرب مطلقاً وقيل مبني مطلقاً والصحيحُ التفصيل إن باشرَتْه النونُ بُني وإلا أُعرب نحو هل يقومانِّ وتقديمُ الظرفِ على الفاعلِ لما مرَّ غيرَ مرة والمعنى إن يأتينكم مني هدى برسول أبعثُه إليكم وكتابٍ أُنزله عليكم وجواب الشرط قوله تعالى {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} كما في قولك إن جئتني فإن قدِرْت أحسنتُ إليك وإيرادِ كلمة الشَّكِّ مع تحقيق الإتيان لا محالة للإيذان بأن الإيمانَ بالله والتوحيد لا يشترط فيه بعثةُ الرسلِ وإنزالُ الكتب بل يكفي في وجوبه إفاضةُ العقل ونصب الأدلة الآفاقية والأنفسية والتمكينُ من النظر والاستدلال أو للجري على سَنن العظماء في إيراد عسى ولعل في مواقعِ القطعِ والجزم والمعنى أن من تبع هدايَ منكم فلا خوفٌ عَلَيْهِمْ في الدارين من لُحوق مكروهٍ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ من فواتِ مطلوبِ أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم نفسُ الخوف والحُزن أصلاً بل يستمرون على السرور والنشاط كيف لا واستشعارُ الخوفِ والخشيةِ استعظاماً لجلال الله سبحانه وهيبتِه واستقصاراً للجد والسعي في إقامة حقوقِ العبوديةِ من خصائص الخواصِّ والمقرَّبين والمرادُ بيانُ دوامِ انتفائِهما لا بيانُ انتفاءِ دوامها كما يُتوهم من كون الخبر في الجملة الثانية مضارعاً لما تقرر في موضعه أن النفيَ وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرارَ بحسب المقام وإظهارُ الهدى مضافاً إلى ضمير الجلالةِ لتعظيمِه وتأكيدِ وجوب اتّباعه أو لأن المراد بالثاني ما هو أعمُّ من الهدايات التشريعية وما ذكر من إفاضة العقل ونصب الأدلة الآفاقيةِ والأنفسية كما قيل وقرئ هُدَيَّ على لغة هذيل ولا خوفَ بالفتح

39

{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا} عطف على من تِبعَ الخ قسيمٌ له كأنه قيل ومن لم يتْبَعْه وإنما أوثر عليه ما ذكر تفظيعاً لحال الضلالةِ وإظهار لكمالِ قُبحِها وإيراد الموصولِ بصيغة الجمعِ للإشعار بكثرة الكفرة والجمعُ بين الكفر والتكذيب للإيذان بتنوّع الهدى إلى ما ذكر من النوعين وإيراد نونِ العظمةِ لتربيةِ المهابةِ وإدخال الروعة وإضافةُ الآياتِ إليها لإظهار كمالِ قبحِ التكذيبِ بها أي والذين كفروا برُسُلنا المرسلةِ إليهم وكذبوا بآياتنا المنزلة عليهم وقيل المعنى كفروا بالله وكذبوا بآياته التي أنزلها على الأنبياءِ عليهم السلامُ أو أظهَرها بأيديهم من المعجزات وقيل كفروا بالآيات جَناناً وكذبوا بها لساناً فيكون كلا الفعلين متوجهاً إلى الجار والمجرور والآية في الأصل العلامة الظاهرة قال النابغة توهمْتُ آياتٍ لها فعرَفتُها ... لستة أعوامٍ وذا العامُ سابعُ ويقال للمصنوعات من حيث دلالتُها على الصانع تعالى وعلمِه وقدرتِه ولكل طائفةٍ من كلمات القرآنِ المتميِّزة عن غيرها بفصل لأنها علامةٌ لانفصال ما قبلها مما بعدها وقيل لأنها تُجْمَعُ كلماتٌ منه فيكون من قولهم خرج فلان بآيتهم أي

البقرة (40) بجماعتهم قال خرجْنا من البيتين لاحى مثلُنا ... بآيتِنا نُزجي النِّعاجَ المَطافِلا واشتقاقُها من أَيْ لأنها تبين أياً من أي أو أوى إليه أي رجَع وأصلُها أَوْية أو أيّة فأبدلت عينها ألفاً على غير قياس أو أوَيَة أو أبيه كرمكه فأعلت أو آتية كقائلة فحُذفت الهمزة تخفيفاً {أولئك} إشارة إلى الموصوف باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتكذيب وفيه إشعارٌ بتميزهم بذلك الوصف تميزاً مصحِّحاً للإشارة الحسية وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم فيه وهو مبتدأ وقوله عز وجل {أصحاب النار} أيْ مُلازمُوهَا وملابسوها بحيث لا يفارقونها خبره والجملة خبرٌ للموصول أو اسمُ الإشارةِ بدلٌ من الموصول أو عطفُ بيان له وأصحاب النار خبرٌ له وقوله تعالى {هُمْ فِيهَا خالدون} في حيز النصبِ على الحالية لورود التصريح به في قوله تعالى {أصحاب النار خالدين فِيهَا} وقد جُوِّز كونُه حالاً من النار لاشتماله على ضميرها والعاملُ معنى الإضافةِ أو اللامُ المقدرة أو في محلِ الرفعِ على أنه خبر آخر لألئك على رأي من جوّز وقوع الجملة خبراً ثانياً وفيها متعلق بخالدون والخلودُ في الأصل المكثُ الطويلُ وقد انعقد الإجماع على أن المرادَ به الدوام

40

{يا بني إسرائيل} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى طائفة خاصةٍ من الكفرة المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم لتذكيرهم بفنون النعم الفائضة عليهم بعد توجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرِه بتذكير كلهم بالنعمة العامة لبني آدم قاطبة بقوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ} الخ {وَإِذْ قُلْنَا للملائكة} الخ لأن المعنى كما أشير إليه بلّغهم كلامي واذكر لهم إذ جعلنا أباهم خليفةً في الأرض ومسجوداً للملائكة عليهم السلام وشرفناه بتعليم الأسماءِ وقبِلْنا توبتَه والابنُ من البِناء لأنه مَبْنَى أبيه ولذلك ينسب المصنوع إلى صانعه فيقال أبو الحرب وبنتُ فكرٍ وإسرائيلُ لقبُ يعقوبَ عليه السلام ومعناه بالعبرية صفوةُ الله وقيل عبد الله وقرئ اسرائيل بحذف الياء وإسرالَ بحذفهما واسرائيل بقلب الهمزة ياء واسرائيل بهمزة مفتوحة واسرائيل بهمزة مكسورة بين الراء واللام وتخصيصُ هذه الطائفة بالذكر والتذكير لما أنهم أوفرُ الناس نعمةً وأكثرهم كفراً بها {اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} بالتفكر فيها والقيام بشكرها وفيه إشعار بأنهم قد نسُوها بالكلية ولم يُخطروها بالبال لا أنهم أهملوا شكرها فقط وإضافةُ النعمة إلى ضمير الجلالةِ لتشريفها وإيجابِ تخصيصِ شكرها به تعالى وتقييد النعمة بهم لما أن الإنسان مجبولٌ على حب النعمة فإذا نظرَ إلى ما فاض عليه من النعم حملَه ذلك على الرضا والشُكر قيل أريد بها ما أنعم به على آبائهم من النعم التي سيجىء تفصيلُها وعليهم من فنونِ النعمِ التي أجلُّها إدراكُ عصر النبي عليه السلام وقرئ اذَّكِروا من الافتعال ونعمتيْ بإسكان الياء وإسقاطها في الدرْج وهو مذهبُ من لا يحرك الياءَ المكسورَ ما قبلها {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى} بالإيمان والطاعة {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} بحسن الإثابة والعهد يضاف إلى كل واحد ممن يتولى طرفيه ولعل الأولَ مضافٌ إلى الفاعل والثاني إلى المفعول فإنه تعالى عَهِد إليهم بالإيمان والعملِ الصالح

البقرة (41) بنصب الدلائلِ وإرسالِ الرسل وإنزال الكتبِ ووعد لهم بالثواب على حسناتهم وللوفاء بهما عَرْضٌ عريض فأولُ مراتبه منا هو الإتيانُ بكلمتي الشهادة ومن الله تعالى حقنُ الدماء والأموال وآخرُها منا الاستغراقُ في بحر التوحيد بحيث نغفُل عن أنفسنا فضلاً عن غيرنا ومن الله تعالى الفوزُ باللقاء الدائم وأمَّا ما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهما أوفوا بعهدي في اتباع محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم أوفِ بعهدكم في رفع الآصارِ والأغلال وعن غيره أوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر أوفِ بالمغفرة والثواب أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم أوفِ بالكرامة والنعيم المقيم فبالنظر إلى الوسائط وقيل كلاهما مضافٌ إلى المفعول والمعنى أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان والتزام الطاعةِ أوفِ بما عاهدتُكم من حُسن الإثابةِ وتفصيلُ العهدين قوله تعالى {وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بني إسرائيل} إلى قوله {وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جنات} الخ وقرئ أوَفِّ بالتشديد للمبالغة والتأكيد {وإياى فارهبون} فيمَا تأتونَ وما تذرونَ خصوصاً في نقض العهد وهو آكد في إفادة التخصيصِ من إياك نعبد لما فيه مع التقديم من تكرير المفعول والفاء الجزائية الدالةِ على تضمن الكلام معنى الشرطِ كأنه قيل إن كنتم راهبين شيئاً فارهَبوني والرهبة خوف معه تحر زو الآية متضمنة للوعد والوعيد ودالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد وأن المؤمن ينبغي ان لا يخاف إلا الله تعالى

41

{وآمنوا بِمَا أَنزَلْتُ} أفرد الإيمانَ بالقرآن بالأمر به لما أنه العُمدةُ القصوى في شأن الوفاء بالعهود {مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ} من التوراة والتعبير عنها بذلك للإيذان بعلمهم بتصديقه لها فإن المعيةَ مِئنّةٌ لتكرر المراجعة إليها والوقوفِ على ما في تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكونه مصدقاً لها ومعنى تصديقِه للتوراة أنه نازلٌ حسبما نُعت فيها أو من حيث إنه موافقٌ لها في القصص والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وأما ما يتراءى من مخالفته لها في بعض جزئياتِ الاحكام المتفاوته بسبب تفاوتِ الأعصارِ فليست بمخالفةٍ في الحقيقة بل هي موافقة لها من حيث إن كلا منها حق بالإضافة إلى عصره وزمانِه متضمِّنٌ للحكم التي عليها يدورُ فلكُ التشريع وليس في التوراة دلالة على أبدية أحكامِها المنسوخةِ حتى يخالفَها ما ينسخها وإنما تدلُّ على مشروعيتها مُطلقاً من غيرِ تعرضٍ لبقائها وزوالها بل نقول هي ناطقةٌ بنسخ تلك الأحكام فإن نُطقها بصحة القرآن الناسخِ لها نطقٌ بنسخها فإذن مناطُ المخالفة في الأحكام المنسوخةِ إنما هو اختلافُ العصر حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم قطعا ولذلك قال عليه السلام {لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي} وتقييدُ المُنْزَلِ بكونه مصدقاً لما معهم لتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأمرِ فإن إيمانهم بما معهم مما يقتضي الإيمانَ بما يصدِّقه قطعاً {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ به} أي لاتسارعوا إلى الكفر به فإن وظيفتكم أن تكونوا أولَ من آمنَ به لما أنكم تعرِفون شأنَه وحقِّيتَه بطريق التلقي مما معكم من الكتُب الإلهيةِ كما تعرِفون أبناءكم وقد كنتم تستفتحون به وتبشرون

البقرة (42) بزمانه كما سيجيء فلا تضعوا موضعَ ما يُتوقّع منكم ويجب عليكم مالا يُتوهم صدورُه عنكم من كونكم أولَ كافر به ووقوع أول كافر به خبراً من ضمير الجمع بتأويل أولِ فريق أو فوج أوبتأويل لا يكنْ كلُّ واحد منكم أو كافر به كقولك كسانا حُلةً ونهيُهم عن التقدم في الكفر به مع أن مشركي العربِ أقدمُ منهم لما أنَّ المرادَ به التعريضُ لا الدلالةُ على ما نطق به الظاهر كقولك أما أنا فلستُ بجاهل لأن المراد نهيهم عن كونهم أو كافر من أهل الكتاب أو ممن كفر بما عنده فإن مَنْ كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدِّقه أو مثلُ من كفر من مشركي مكةَ وأول أفعلُ لا فِعلَ له وقيل أصله أوْأَل من وَأَل إليه إذا نجا وخلُص فأُبدلت الهمزةُ واواً تخفيفاً غيرَ قياسي أو أَأْوَل من آلَ فقلبت همزتُه واواً وأدغمت {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي} أي لا تأخُذوا لأنفسكم بدلاً منها {ثَمَناً قَلِيلاً} من الحظوظ الدنيوية فإنها وإن جلت قليلةٌ مسترذلة بالنسبة إلى ما فات عنهم من حظوظ الآخرةِ بترك الإيمان قيل كانت لهم رياسةٌ في قومهم ورسوم وهدايا فخافوا عليها لو اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختاروها على الإيمان وإنما عبر عن المشتري الذي هو العمدة في عقود المعاوضة والمقصودُ فيها بالثمن الذي شأنُه أن يكون وسيلةً فيها وقُرنت الآياتُ التي حقُّها أنْ يتنافسَ فيها المتنافسون بالباء التي تصحَبُ الوسائل إيذاناً بتعكيسهم حيث جعلوا ما هو المقصد الأصلي وسيلة والوسيلة مقصداً {وإياى فاتقون} بالإيمان واتباعِ الحقِ والإعراض عن حطام الدنيا ولما كانت الآية السابقةُ مشتملةً على ما هو كالمبادى لما في الآية الثانيةِ فُصِّلت بالرهبة التي هي من مقدِّمات التقوى أو لأن الخطابَ بها لما عمَّ العالِمَ والمقلِّدَ أُمر فيها بالرهبة المتناولةِ للفريقين وأما الخطابُ بالثانية فحيث خُصَّ بالعلماء أُمر فيها بالتقوى الذي هو المنتهى

42

{وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} عطف على ما قبله واللَّبْسُ الخَلْطُ وقد يلزمه الاشتباه بين المختلطين والمعنى لا تخلِطوا الحقَّ المُنْزَلَ بالباطل الذي تخترعونه وتكتُبونه حتى يشتبِهَ أحدُهما بالآخر أو لا تجعلوا الحق ملتبسا بسب الباطل الذي تكتُبونه في تضاعيفه أو تذكُرونه في تأويله {وَتَكْتُمُواْ الحق} مجزوم داخلٌ تحت حكمِ النهي كأنهم أُمروا بالإيمان وتركِ الضلال ونُهوا عن الإضلال بالتلبيس على من سمع الحقَ والإخفاءِ عمن لم يسمعه أو منصوبٌ بإضمار أن على أن الواوَ للجمع أي لا تجمعوا بين لَبْس الحقِّ بالباطل وبين كتمانِه ويعضُده أنه في مصحف ابن مسعودٍ وتكتُمون أي وأنتم تكتمون أي كاتمين وفيه إشعارٌ بأن الستقباح اللَبسِ لما يصحبُه من كتمان الحق وتكريرُ الحق إما لأن المرادَ بالأخير ليس عينَ الأول بل هو نعت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم الذي كتَموه وكتبوا مكانه غيرَه كما سيجىء في قولِه تعالَى {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} وإما لزيادةِ تقبيحِ المنهيِّ عنه إذ في التصريح باسمِ الحق ما ليس في ضميره {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي كونِكم عالمين بأنكم لابسون كاتمون أو وأنتم تعلمون أنه حق أو وأنتم من أهل العلم وليس إيرادُ الحالِ لتقييد النهي به كما في قوله تعالى {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى} بل لزيادة تقبيح حالهم إذ الجاهل عسى يعذر

البقرة (44 - 43)

43

{وَأَقِيمُواْ الصلاة وآتَوْا الزَّكَاةَ} أي صلاةَ المسلمين وزكاتَهم فإن غيرَهما بمعزلٍ من كونه صلاةً وزكاةً أمرهم الله تعالى بفروع السلام بعد الأمرِ بأصوله {واركعوا مَعَ الراكعين} أي في جماعتهم فإن صلاةَ الجماعةِ تفضل على صلاة الفذِ بسبعٍ وعشرين درجة لما فيها من تظاهُر النفوسِ في المناجاة وعُبِّر عن الصلاة بالركوع احترازاً عن صلاة اليهود وقيل الركوع الخضوع والانقيادُ لما يُلزِمُهم الشارعُ قال الضبط بنُ قُريع السعدي لا تحقِرَنّ الضعيفَ عَلَّك أن ... تركَعَ يوماً والدهرُ قد رَفَعَهْ

44

{أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} تجريدٌ للخطابِ وتوجيهٌ لهُ إلى بعضهم بعد توجيه إلى الكل والهمزةُ فيها تقريرٌ مع توبيخٍ وتعجيبٍ والبِرُّ التوسُّعُ في الخير من البَرّ الذي هو الفضاءُ الواسعُ يتناول جميعَ أصنافِ الخيرات ولذلك قيل البر ثلاثة بِرٌّ في عبادة الله تعالى وبِرٌّ في مراعاة الأقارب وبِرٌّ في معاملة الأجانب {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} أي تتركونها من البر كالمَنْسيات عن ابن عباس رضي اللع عنهما أنها نزلتْ في أحبارِ المدينة كانوا يأمُرون سراً من نصَحُوه باتباع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ولا يتبعونه طمعاً في الهدايا والصِلاتِ التي كانت تصلُ إليهم من أتباعهم وقيل كانوا يأمُرون بالصدقة ولا يتصدقون وقال السدي أنهم كانوا يأمرون الناسَ بطاعة الله تعالى وينهَوْنَهم عن معصيته وهم يتركون الطاعة ويُقْدِمون على المعصية وقال ابن جريج كانوا يأمرون الناسَ بالصلاة والزكاة وهم يتركونهما ومدارُ الإنكارِ والتوبيخِ هي الجملةُ المعطوفة دون ما عُطفت هي عليه {وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب} تبكيت لهم وتقريح كقوله تعالى {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي والحالُ أنكم تتلون التوراة الناطقة بنعوته صلى الله عليه وسلم الآمرةِ بالإيمان به أو بالوعد بفعل الخيرِ والوعيدِ على الفسادِ والعنادِ وتركِ البِر ومخالفةِ القولِ العملَ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي أتتلونه فلا تعقِلون ما فيه أو قبحَ ما تصنعون حتى ترتدعوا عنه فالإنكارُ متوجِّهٌ إلى عدم العقل بعد تحققِ ما يوجبه فالمبالغة من حيث الكيفُ أو ألا تتأملون فلا تعقلون فالإنكارُ متوجِّه إلى كلا الأمرين والمبالغةُ حينئذ من حيث الكم والعقلُ في الأصل المنعُ والإمساك ومنه العِقالُ الذي يُشدُّ به وظيفُ البعير إلى ذراعه لحبسِه عن الحَراك سُمّي به النورُ الروحاني الذي به تُدرِك النفسُ العلومَ الضرورية والنظريةَ لأنه يحسبه عن تعاطي ما يقبُح ويعقِله على ما يحسُن والآية كما ترى ناعيةٌ على كل من يعِظُ غيرَه ولا يتعظ بسوء صنيعِه وعدمِ تأثره وإن فعله الجاهلِ بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل والمرادُ بها كما أشير إليه حثُّه على تزكية النفس والإقبالُ عليها بالتكميل لتقوم بالحقِّ فتقيمَ غيرَها لا منعُ الفاسق عن الوعظ يروى أنه كان عالم من العلماء مؤثِّرُ الكلام قويُّ التصرف في القلوب وكان كثيراً ما يموتُ من أهل مجلسه واحدا أو اثنان من شدة تأثير وعظِه وكان في بلده عجوزٌ لها ابنٌ صالحٌ رقيقُ القلب سريعُ الانفعال وكانت تحترز عليه وتمنعُه من حضور مجلس الواعظِ فحضَره يوماً على حين غفلةٍ منها فوقع مَنْ أمرِ الله تعالَى ما وقع ثم إن العجوز لقِيت الواعظَ يوماً في الطريق فقالت ... لتهتدى الأنام

البقرة (47 - 45) ولا تهتدي ... ألا إنّ ذلك لا ينفعُ ... فيا حَجَرَ الشَّحْذ حتى متى ... تسُنُّ الحديدَ ولا تقطع فلما سمعه الواعظ شهَق شهقة فخر من فرسه مفشيا عليه فحلموه إلى بيته فتُوفّي إلى رحمة الله سبحانه

45

{واستعينوا بالصبر والصلاة} متصلٌ بما قبله كأنهم لما كُلفوا ما فيه من ترك الرياسةِ والإعراضِ عن المال عولجوا بذلك والمعنى استعينوا على حوائجكم بانتظار النُّجْحِ والفرَج توكلاً على الله تعالى أو بالصوم الذي هو الصبرُ عن المفطِرات لما فيه من كسر الشهوةِ وتصفيةِ النفس والتوسل في الصلاة والاتجاء إليها فإنها جامعةٌ لأنواع العبادات النفسانية والبدنية من الطهارة وسترِ العورة وصرفِ المال فيهما والتوجهِ إلى الكعبة والعكوفِ على العبادة وإظهارِ الخشوعِ بالجوارحِ وإخلاصِ النية بالقلب ومجاهدةِ الشيطان ومناجاة الحقِّ وقراءةِ القرآنِ والتكلمِ بالشهادة وكفِّ النفسِ عن الأطيبَيْنِ حتى تجابوا إلى تحصيل المآرب وجبر المصائب روي أنه عليه السلام كان إذا حزَبه أمرٌ فزِعَ إلى الصلاة ويجوزُ أنْ يُرادَ بها الدعاء {وَإِنَّهَا} أي الاستعانةَ بهما أو الصلاة وتخصيصَها بردِّ الضمير إليها لعِظم شأنِها واشتمالِها على ضروبٍ من الصبر كما في قوله تعالى {وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} أو جُملةِ ما أُمروا بها ونُهوا عنها {لَكَبِيرَةٌ} لثقيلة شاقةٌ كقوله تعالَى {كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} {إِلاَّ عَلَى الخاشعين} الخشوعُ الإخباتُ ومنه الخشْعةُ للرملة المتطامنةِ والخضوعُ اللين والانقيادُ ولذلك يقال الخشوعُ بالجوارح والخضوعُ بالقلب وإنما لم تثقُلْ عليهم لأنهم يتوقعون ما أُعد لهم بمقابلتها فتهونُ عليهم ولأنهم يستغرقون في مناجاة ربِّهم فلا يُدركون ما يجري عليهم من المشاقِّ والمتاعبِ ولذلك قال عليه السلام وقرة عيني في الصَّلاة والجملةُ حاليةٌ أو اعتراضٌ تذييلي

46

{الذين يظنون أنهم ملاقو رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون} أي يتوقعون لقاءَه تعالى ونيلَ ما عنده من المثوبات والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إليهم للإيذان بفيضَان إحسانِه إليهم أو يتيقنون أنهم يُحشرون إليه للجزاءِ فيعمَلون على حسب ذلك رغبةً ورهبة وأما الذين لا يوقنون بالجزاء ولا يرجُون الثوابَ ولا يخافون العقابَ كانت عليهم مشقةً خالصةً فتَثْقُلُ عليهم كالمنافقين والمرائين فالتعرُضُ للعنوان المذكور للإشعار بعلِّية الربوبيةِ والمالكيةِ للحُكْم ويؤيده أن في مصحف ابن مسعودٍ رضي الله عنه يعملون وكأن الظنَّ لما شابه العلم في الرُّجحان أطلق عليه لتضمين معنى التوقع قال فأرسلْتُه مستيقِنَ الظنِّ إنه ... مخالطُ ما بين الشراسيفِ جائفُ وجعل خبر إن في الموضعين اسماً للدلالة على تحقيق اللقاء والرجوعِ وتقرُّرِهما عندهم

47

{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عَلَيْكُمْ} كُرر التذكيرُ للتأكيد ولربط ما بعده من الوعيد الشديدِ به {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ} عطفٌ على نعمتيَ عطف الخاصِّ على العام لكماله أي فضلتُ آباءَكم {عَلَى العالمين} أي عالَمِي زمانِهم بما منحتُهم من العلم والإيمانِ والعملِ الصالحِ وجعلتُهم أنبياءَ وملوكاً مُقسِطين وهم آباءهم

البقرة (49 - 48) الذين كانوا في في عصر موسى عليه السلام وبعده قبل أن يغيّروا

48

{واتقوا يَوْمًا} أي حسابَ يومٍ أو عذابَ يوم {لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} أي لا تقضي عنها شيئاً من الحقوق فانتصابُ شيئاً على المفعولية أو شيئاً من الجزاء فيكون نصبُه على المصدرية وقرئ لا تجتزئ أي لا تغني عنها فيتعين النصبُ على المصدرية وإيرادُه منكراً مع تنكير النفسِ للتعميم والإقناطِ الكليّ والجملة صفةُ يوماً والعائد منها محذوف أي لا تَجْزي فيه ومن لم يجوز الحذفَ قال اتُسع فيه فحُذف الجارُّ وأُجرِيَ المجرورُ مجرى المفعولِ به ثم حذف كما حُذِفَ في قول من قال فما أدري أغَيَّرهمْ تناء ... وطولُ العهدِ أم مالٌ أصابوا أي أصابوه {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي من النفس الثانية العاصيةِ أو من الأولى والشفاعةُ من الشفْع كأن المشفوعَ له كان فرداً فجعله الشفيعُ شفعاً والعدلُ الفدية وقيل البدل وأصله التسوية سُمي به الفديةُ لأنها تساوي المَفْدِيَّ وتَجزي مَجزاه {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} أي يُمنعون من عذاب الله عز وجل والضميرُ لما دلت عليه النفسُ الثانية المنَكّرة الواقعةُ في سياق النفي من النفوس الكثيرة والتذكيرُ لكونها عبارةً عن العبّاد والأَناسيِّ والنُصرةُ ههنا أخصُّ من المعونة لاختصاصها بدفع الضرر وكأنه أريد بالآية نفيُ أن يَدفعَ العذابَ أحدٌ عن أحد من كل وجهٍ محتمل فإنه إما أن يكون قهرا أولا والأول النُّصرة والثاني إما أن يكون مجانا أولا والأولُ الشفاعة والثاني إما أن يكونَ بأداء عينِ ما كان عليه وهو أن يجزيَ عنه أو بأداء غيرِه وهو أن يُعطيَ عنه عَدْلاً وقد تمسكت المعتزلةُ بهذه الآية على نفي الشفاعةِ لأهل الكبائرِ والجوابُ أنها خاصة بالكفار للآيات الواردة في الشفاعة والأحاديثِ المرويةِ فيها ويؤيده أن الخطابَ معهم ولردهم عمَّا كانوا عليه من اعتقاد أن آباءَهم الأنبياءَ يشفعون لهم

49

{وإذ نجيناكم من آل فِرْعَوْنَ} تذكيرٌ لتفاصيلِ ما أُجمل في قولِه تعالَى {نعمتي التى أنعمت عليكم} من فنونِ النَعماء وصنوفِ الآلاءِ أي واذكروا وقت تنجيتِنا إياكم أي آباءَكم فإن تنجيتَهم تنجيةٌ لأعقابهم وقرئ أنجيتُكم وأصلُ آلٍ أهْلٌ لأن تصغيره أُهيل وخص بالإضافة إلى أولي الأخطارِ كالأنبياء عليهم السلام والملوك وفرعونُ لقبٌ لمن ملك العمالقة ككسرى لملِك الفرسِ وقيصرَ لملك الروم وخاقانَ لملك التُرك ولعُتُوِّه اشتُق منه تفر عن الرجلُ إذا عتا وتمرَّد وكان فرعونُ موسى عليه السلام مُصعبُ بنُ ريانَ وقيل ابنهُ وليداً من بقايا عادٍ وقيل إنه كان عطّاراً أصفهانياً ركبتْه الديونُ فأفلس فاضطُر إلى الخروج فلحِقَ بالشام فلم يتسنَّ له المقامُ به فدخل مصْرَ فرأى في ظاهره حِمْلاً من البطيخ بدرهم وفي نفسه بِطِّيخةٌ بدرهم فقال في نفسه إن تيسر لي أداءُ الدين فهذا طريقُه فخرج إلى السواد فاشترى حملاً

البقرة (50) بدرهم فتوجه به إلى السوق فكل من لقِيه من المكاسين أخذوا منه بطيخا فدخل البلد وما معه إلا بطيخة فذة باعها بدرهم ومضى لوجهه ورأى أهلَ البلد متروكين سُدى لا يتعاطى أحدٌ سياستهم وكان قد وقع بهم وباءٌ عظيمٌ فتوجه نحوَ المقابر فرأى ميْتاً يُدفن فتعرَّض لأوليائه فقال أنا المقابرِ فلا أدعُكم تدفِنونه حتى تعطوني خمسةَ دراهمَ فدفعوها إليه ومضى لآخرَ وآخرَ حتى جمع في مقدار ثلاثة أشهرٍ مالاً عظيماً ولم يُتعرضْ له أحد قطُّ إلى أن تعرَّض يوماً لأولياء ميتٍ فطلب منهم ما كان يطلب من غيرهم فأبَوْا ذلك فقالوا من نصَّبك هذا المنصِبَ فذهبوا به إلى فرعون فقال من أنت ومن أقامك بهذا المَقام قال لم يُقِمْني أحد وإنما فعلتُ ما فعلتُ ليُحضِرَني أحد إلى مجلسك فأنبهك على اختلال قومِك وقد جمعتُ بهذا الطريق هذا المقدارَ من المال فأحضَره ودفعه إلى فرعون فقال ولِّني أمورَك ترَني أميناً كافياً فولاه إياها فسار بهم سيرةً حسنة فانتظمتْ مصالحُ العسكر واستقامت أحوالُ الرعية ولبث فبهم دهراً طويلاً وترامى أمرُه في العدل والصلاحِ فلما مات فرعون أقاموه مُقامه فكان من أمره ما كان وكان فرعونَ يوسفَ ريانُ وكان بينهما أكثرُ من أربعمائة سنة {يَسُومُونَكُمْ} أي يبغونكم مِنْ سامه خَسفاً إذا أولاه ظلماً وأصله الذهاب في طلب الشئ {سُوء العذاب} أي أفظعَه وأقبحه بالنسبة إلى سائره والسُوء مصدرٌ من ساء يسوءُ ونصبُه على المفعولية ليسومونكم والجلمة حال من الضمير في نجيانكم أو من آلِ فرعونَ أو منهما جميعاً لاشتمالها على ضميريهما {يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} بيانٌ ليسومونكم ولذلك تُرك العطف بينهما وقرئ يَذْبحون بالتخفيف وإنما فعلوا بهم ما فعلوا لما أن فرعونَ رأى في المنام أو أخبره الكهنةُ أنه سيولد منهم من يذهب بمُلكه فلم يردَّ اجتهادُهم من قضاءُ الله عزَّ وجلَّ شيئاً قيل قتلوا بتلك الطريقة تسعمائة ألف مولود وتسعين ألفاً وقد أعطى الله عز وجل نفس موسى عليه السلام من القوة على التصرف ما كان يعطيه أولئك المقتولين لو كانوا أحياء ولذلك كانت معجزاته ظاهرةً باهرة {وَفِى ذلكم} إشارةٌ إلى ما ذكر من التذبيح والاستحياء أو إلى الإنجاء منه وجمعُ الضمير للمخاطبين فعلى الأول معنى قوله تعالى {بَلاء} محنةٌ وبلية وكونُ استحياءِ نسائهم أي استبقائهن على الحياة محنةً مع أنه عفو وتركٌ للعذاب لما أن ذلك كان للاستعمال في الأعمال الشاقة وعلى الثاني نعمةٌ وأصلُ البلاء الاختبار ولكن لما كان ذلك في حقه سبحانه مُحالاً وكان ما يجري مَجرى الاختبارِ لعباده تارةً بالمحنة وأخرى بالمنحنة أُطلق عليهما وقيل يجوز أن يُشارَ بذلكم إلى الجملة ويرلد بالبلاء القدرُ المشترك الشاملُ لهما {عظِيمٌ} صفةٌ لبلاءٌ وتنكيرُهما للتفخيم وفي الآية الكريمة تنبيهٌ على أن ما يصيب العبدَ من السرَّاء والضراءِ من قبيل الاختبارِ فعليه الشكرُ في المسار والصبرُ على المضارِّ

50

{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} بيان لسبب التنجيةِ وتصويرٌ لكيفيتها إثرَ تذكيرها وبيانُ عظمها وهو لها وقد بَيّن في تضاعيف ذلك نعمةً جليلةً أخرى هي الأنجاءُ من الغرق أي واذكروا إذ فلقناه بسلوككم أو متلبسا بكم كقوله تعالى {تَنبُتُ بالدهن} أو بسبب إنجائكم وفصَلْنا بين بعضِه وبعضٍ حتى حصلت مسالك وقرئ

البقرة (52 - 51) بالتشديد للتكثير لأن المسالك كانت اثني عشَرَ بعدد الأسباط {فأنجيناكم} أي من الغرق بإخراجكم إلى الساحل كما يلوح به العدولُ إلى صيغة الإفعال بعد إيرادِ التخليصِ من فرعون بصيغة التفعيل وكذا قوله تعالى {وأغرقنا آل فرعون} أريد فرعونُ وقومُه وإنما اقتُصر على ذكرهم للعلم بأنه أولى به منهم وقيل شخصُه كما روُي أن الحسن رضي الله عنه كان يقول اللهم صلَّ على آل محمدٍ أي شخصِه واستُغنى بذكره عن ذكر قومه {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} ذلك أوغرقهم وإطباقَ البحر عليهم أو انفلاقَ البحر عن طرق يابسة مذللة أوجثثهم التي قذفها البحرُ إلى الساحل أو ينظرُ بعضُكم بعضاً روي أنه تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسريَ ببني إسرائيلَ فخرج بهم فصبحهم فرعونُ وجنوده وصادفوهم على شاطئ البحر فأَوْحَى الله تعالى إليه أَنِ اضرِبْ بّعَصَاكَ البحر فضربه بها فظهر فيه اثنا عشر طريقاً يابساً فسلكوها فقالوا نخاف أن يغرَقَ بعضُ أصحابنا فلا نعلم ففتح الله تعالى فيها كُوىً فتراءَوْا وتسامعوا حتى عبروا البحرَ فلما وصل إليه فرعونُ فرآه منفلقاً اقتحمه هو وجنودُه فغشِيَهم ما غشيهم واعلم أن هذه الواقعة كما أنها لموسى معجزةٌ عظيمة تخِرُّ لها أطُمُ الجبال ونعمةٌ عظيمة لأوائل بني إسرائيلَ موجبةٌ عليهم شكرَها كذلك اقصاصها على ماهي عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزةٌ جليلةٌ تطمئن بها القلوبُ الأبية وتنقاد لها النفوس الغبية موجبةً لأعقابهم أن يتلقَّوْها بالإذعان فلا تأثرت أوائلُهم بمشاهدتها ورؤيتها ولا تذكرت أو اخرهم بتذكيرهاوروايتها فيالها من عصابة ما أعصاها وطائفةٍ ما أطغاها

51

{وَإِذْ واعدنا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} لما عادوا إلى مصرَ بعد مهلك فرعونَ وعد الله موسى عليه السلام أن يعطيه التوراة وضرب له ميقاتاً ذا القعدة وعشر ذي الحجة وقيل وعد عليه السلام بني إسرائيلَ وهو بمصرَ إن أهلك الله عدوَّهم أتاهم بكتاب مّنْ عِندِ الله تعالى فيه بيانُ ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعونُ سأل موسى ربه الكتابَ فأمره بصومِ ثلاثين وهو شهرُ ذي القَعدة ثم زاد عشراً من ذي الحجة وعبر عنها بالليالي لأنها غُررُ الشهور وصيغة المفاعلة بمعنى الثلاثي وقيل على أصلها تنزيلاً لقبول موسى عليه السلام منزلةَ الوعدِ وأربعين ليلةً مفعول ثانٍ لواعدنا على حذفِ المضافِ أي بمقام أربعين ليلة وقرئ وعَدْنا {ثُمَّ اتخذتم العجل} بتسويل السامري إلهاً ومعبوداً وثم للتراخي الرتبي {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد مضية إلى الميقات على حذف المضاف {وَأَنتُمْ ظالمون} بإشراككم ووضعِكم للشئ في غير موضعِه وهو حالٌ من ضمير اتخذتم أو اعتراضٌ تذييليّ أي وأنتم قوم عادتكم الظلم

52

{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ} حين تبتم والعفوُ محوُ الجريمة من عفاه درَسه وقد يجيء لازماً قال عرفتُ المنزلَ الخالي ... عفا من بعد أحوالِ عفاه كلُّ هتان ... كثير الوبل هطال وقوله تعالى {مِن بَعْدِ ذلك} أي من بعد الاتخاذ الذي هو متناهٍ في القُبح للإيذان بكمال بعد العفو بعد تلك المرتبة من الظلم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكي تشكروا نعمةَ العفو وتستمرّوا بعد ذلك على الطاعة

البقرة (54 - 53)

53

{وإذ آتينا مُوسَى الكتاب والفرقان} أي التوراةَ الجامعةَ بين كونِها كتاباً وحُجةً تفرق بين الحق والباطلِ وقيل أريد بالفرقان معجزاتُه الفارقةُ بين المحق والمبطل في الدعوى أو بين الكفر والإيمان وقيل الشرعُ الفارقُ بين الحلالِ والحرام أو النصرُ الذي فرّق بينه وبين عدوِّه كقوله تعالى يوم الفرقان يريد به يومَ بدر {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لكي تهتدوا بالتدبر فيه والعمل بما يحويه

54

{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} بيانٌ لكيفية وقوعِ العفو المذكور {يا قوم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ باتخاذكم العجل} أي معبوداً {فَتُوبُواْ} أي فاعزِموا على التوبة {إلى بَارِئِكُمْ} أي إلى مَنْ خلقَكم بريئاً من العُيوب والنقصان والتفاوت وميّز بعضَكم من بعض بصور وهيئات مختلفة وأصلُ التركيب الخلوصُ عن الغير إما بطريق التفصى كما في برئ المريضُ أو بطريق الإنشاء كما في بَرَأ الله آدم من الطين والتعرض لعنوان البارئية للإشعار بأنهم بلغوا من الجهالة أقصاها ومن الغواية منتهاها حيث تركوا عبادةَ العليمِ الحكيم الذي خلقهم بلطيف حكمتِه بريئاً من التفاوت والتنافُرِ إلى عبادة البقر الذي هو مثلٌ في الغباوة وأن من لم بعرف حقوقَ مُنعِمِه حقيقٌ بأن تُستردّ هي منه ولذلك أُمروا بالقتل وفك التركيب {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} تماماً لتوبتكم بالبَخْع أو بقطع الشهوات وقيل أُمروا أن يقتُلَ بعضُهم بعضاً وقيل أُمر من لم يعبد العجل بقتل مَنْ عَبَده يروى أن الرجلَ كان يرى قريبَه فلم يقدِرْ على المُضِيِّ لأمر الله تعالى فأرسل الله ضَبابةً وسحابة سوداءَ لا يتباصَرون بها فأخذوا يقتلون من الغداة إلى العشي حتى دعا موسى وهارونُ عليهما السَّلامُ فكُشفت السحابةُ ونزلت التوبةُ وكانت القتلى سبعين ألفاً والفاء الأولى للتسبيب والثانية للتعقيب {ذلكم} إشارةٌ إلى ما ذكر من التوب والقتل {خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ} لما أنه طُهرةٌ عن الشرك ووَصْلةٌ إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} عطفٌ على محذوف على أنه خطابٌ منه سبحانه على نهج الالتفاتِ من التكلم الذي يقتضيهِ سباقُ النظمِ الكريمِ وسياقهِ فإنَّ مبنى الجميعِ على التكلم إلى الغَيْبة ليكون ذريعة إلى إسناد الفعلِ إلى ضمير بارئِكم المستتبع للإيذان بعلّية عنوانِ البارئية والخلق والإحياءِ لقبول التوبة التي هي عبارةٌ عن العفو عن القتل تقديرُه فعلتم ما أمرتم به فتابَ عليكم بارئُكم وإنما لم يقل فتابَ عليهم على أنَّ الضميرَ للقوم لما أن ذلك نعمةٌ أريد التذكيرُ بها للمخاطبين لا لأسلافهم هذا وقد جوِّز أنْ يكون فتاب عليكم متعلقاً بمحذوفٍ على إنه من كلام موسى عليه السلام لقومه تقديرُه إن فعلتم ما أُمِرْتم به فقد تاب عليكم ولا يخفى أنه بمعزلٍ من اللَّياقة بجلالة شأنِ التنزيلِ كيف لا وهو حينئذ حكايةٌ لوعد موسى عليه السلام قومَه بقَبول التوبةِ منه تعالى لا لقبوله تعالى حتماً وقد عرفتَ أن الآيةَ الكريمةَ تفصيلٌ لكيفية القبول المحكيِّ فيما قبل وأن المراد تذكيرُ المخاطبين بتلك النعمة {إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} تعليل

البقرة (57 - 55) لما قبله أيْ إنَّ الذي يُكثر توفيقَ المذنبين لتوبة ويبالِغُ في قبولها منهم وفي الإنعام عليهم

55

{وإذ قلتم يا موسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} تذكيرٌ لنعمة أخرى عليهم بعد ما صدرَ عنهم ما صدر من الجناية العظيمةِ التي هي اتخاذُ العجل أي لن نؤمنَ لأجل قولِك ودعوتِك أو لن نُقرَّ لك والمؤمَنُ به إعطاءُ الله إياه التوراةَ أو تكليمَه إياه أو أنه نبيٌّ أو أنه تعالى جعل توبتَهم بقتلهم أنفسَهم {حتى نَرَى الله جَهْرَةً} أي عياناً وهي في الأصل مصدرُ قولِك جهَرتُ بالقراءة استُعيرت للمعاينة لما بينهما من الاتحاد في الوضوح والانكشافِ إلا أن الأولَ في المسموعات والثاني في المُبْصَرات ونصبُها على المصدرية لأنها نوع من الرؤية أو حالٌ من الفاعلِ أو المفعول وقرئ بفتح الهاء على أنها مصدر كالغَلَبة أو جمعٌ كالكَتَبة فيكون حالاً من الفاعل لا غير والقائلون هم السبعون المختارون لميقات التوبةِ عن عبادة العجل روُي أنهم لما ندِموا على ما فعلوا وقالوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا ويغفرْ لنا لنكونن من الخاسرين أمر الله موسى عليه السلام أن يجمع سبعين رجلاً ويحضُرَ معهم الطورَ يُظهرون فيه تلك التوبةَ فلما خرجوا إلى الطور وقع عليه عمودٌ من الغمام وتغشاه كله فكلم الله موسى عليه السلام يأمره وينهاه وكان كلما كلمه تعالى أوفع على جبهته نوراً ساطعاً لا يستطيع أحدٌ من السبعين النظرَ إليه وسمِعوا كلامَه تعالى معَ مُوسى عليهِ السَّلامُ افعل ولا تفعل فعند ذلك طمِعوا في الرؤية فقالوا ما قالوا كما سيأتي في سورة الأعراف إنْ شاءَ الله تعالى وقيل عشرة آلاف من قومه {فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة} لفرط العنادِ والتعنّتِ وطلب المستحيل فإنهم ظنوا أنه سبحانه وتعالى مما يشبه الأجسامَ وتتعلق به الرؤيةُ تعلُّقَها بها على طريق المقابلة في الجهات والأحياز ولا ريبَ في استحالته إنما الممكنُ في شأنه تعالى الرؤيةُ المنزهة عن الكيفيات بالكلية وذلك للمؤمن ين في الآخرة وللأفرادِ من الأنبياء الذين بلغوا في صفاء الجوهر إلى حيث تراهم كأنهم وهم في جلابيبَ من أبدانهم قد نَضَوْها وتجرّدوا عنها إلى عالم القدس في بعض الأحوال في الدنيا قيل جاءت نارٌ من السماء فأحرقتهم وقيل صيحة وقيل جنودٌ سمعوا بحسيسها فخرّوا صعِقين ميتين يوماً وليلة وعن وهْبٍ أنهم لم يموتوا بل لما رأَوْا تلك الهيئة الهائلةَ أخذتهم الرعدةُ ورَجَفوا حتى كادت تبِينُ مفاصلُهم وتنقضُّ ظهورُهم وأشرفوا على الهلاك فعند ذلك بكى موسى عليه السلام ودعا ربه فكشف الله عز وجل عنهم ذلك فرجعت إليهم عقولُهم ومشاعرُهم ولم تكن صعقةُ موسى عليه السلام موتاً بل غَشْيةً لقوله تعالى {فلما أفاق} {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} أي ما أصابكم بنفسه أوبآثاره

56

{ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} بتلك الصاعقة قيدُ البعثُ به لما أنه قد يكون من الإغماء وقد يكون من النوم كما في قوله تعالى {ثُمَّ بعثناهم لِنَعْلَمَ} الخ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي نعمةَ البعث أو ما كفرتموه بما رأيتم من بأس الله تعالى

57

{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام} أي جعلناها بحيث تُلقي عليكم ظلَّها وذلك أنه تعالى سخر

البقرة (58) لهم السحابَ يسير بسيرهم وهم في التيه يُظلهم من الشمس وينزل بالليل عمودٌ من نار يسيرون في ضوئه وثيابُهم لا تتسخ ولا تَبْلى {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} أي الترنجبين والسمانى وقيل كان ينزل عليهم المنُّ مثلَ الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسانٍ صاعٌ وتبعَثُ الجَنوبُ عليهم السمانى فيذبح الرجلُ منه ما يكفيه {كُلُواْ} على إرادةِ القولِ أيْ قائلين لهم أو قيل لهم كلوا {مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم} من مستلذاته وما موصولةً كانت أوموصوفة عبارةٌ عن المن والسلوى {وَمَا ظَلَمُونَا} كلامٌ عدَل به عن نهج الخطابِ السابقِ للإيذان باقتضاء جناياتِ المخاطبين للإعراض عنهم وتَعدادِ قبائحهم عند غيرهم على طريق المباثة معطوفٌ على مضمر قد حذف للإيجار والإشعارِ بأنه أمرٌ محققٌ غنيٌّ عن التصريح به أي فظلموا بأن كفروا تلك النعمَ الجليلةَ وما ظلمونا بذلك {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالكُفران إذ لا يتخطاهم ضرورة وتقديمُ المفعول للدلالة على القصْرِ الذي يقتضيه النفيُ السابقُ وفيه ضربُ تهكّمٍ بهم والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على تماديهم في الظلم واستمرارِهم على الكفر

58

{وَإِذْ قُلْنَا} تذكيرٌ لنعمةٍ أخرى من جَنابه تعالى وكَفْرةٌ أخرى لأسلافهم أي واذكروا وقت قولِنا لآبائكم إثرَ ما أنقذناهم من التيه {ادخلوا هذه القرية} منصوبةٌ على الظرفية عند سيبويه وعلى المفعولية عند الأخفش وهي بيتُ المقدِس وقيل أريحا {فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} أي واسعاً هنيئاً ونصبُه على المصدرية أو الحالية من ضمير المخاطبين وفيه دلالة على أن المأمورَ به الدخولُ على وجه الإقامة والسُكنى فيؤول إلى ما في سورة الأعراف من قولِه تعالى {اسكنوا هذه القرية} {وادخلوا الباب} أي بابَ القرية على ما رُوي من أنهم دخلوا أريحاءَ في زمن موسى عليه السلام كما سيجىء في سورة المائدة أو بابُ القُبة التي كانوا يصلون إليها فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام {سُجَّدًا} أي متطامنين مُخْبتين أو ساجدين لله شكراً على إخراجهم من التيه {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} أي مسألتُنا أو أمرُك حِطة وهي فِعلة من الحَطّ كالجِلسة وقرئ بالنصب على الأصل بمعنى حُطَّ عنا ذنوبَنا حِطة أو على أنها مفعولٌ قولوا أي قولوا هذه الكلمة وقيل معناه أرنا حِطة أي أن نحُطَّ رحالنا في هذه القرية ونقيمَ بها {نَّغْفِرْ لَكُمْ خطاياكم} لما تفعلون من السجود والدعاء وقرئ بالياء والتاء على البناء للمفعول وأصلُ خطايا خطايىءُ كخضايع فعند سيبويه أُبدلت الياءُ الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف واجتمعت همزتان وأُبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفاً وكانت الهمزة بين ألفين فأُبدلت ياءً وعند الخليل قُدمت الهمزة على الياء ثم فُعل بها ما ذكر {وَسَنَزِيدُ المحسنين} ثواباً جعل الامتثالَ توبة للمسئ وسبباً لزيادة الثواب للمُحْسِنِ وأُخرج ذلك عن صورة الجواب إلى الوعد إيذاناً بأن المحسنَ بصدد ذلك وإن لم يفعله فكيف إذا فعله وأنه يفعله لا محالة

البقرة (60 - 59)

59

{فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} بما أُمروا به من التوبة والاستغفار بأن أعرضوا عنه وأوردوا مكانه {قَوْلاً} آخرَ مما لا خيرَ فيه رُوي أنهم قالوا مكانَ حِطة حِنْطة وقيل قالوا بالنبطية حطا سمقاثا يعنون حنطةً حمراءَ استخفافاً بأمر الله عزَّ وجلَّ {غَيْرَ الذى قِيلَ لَهُمْ} نعتٌ لقولا وإنما صُرِّح به مع استحالة تحقُّق التبديلِ بلا مغايَرةٍ تحقيقاً لمخالفتهم وتنصيصاً على المغايرة من كلِّ وجه {فَأَنزَلْنَا} أي عقيب ذلك {عَلَى الذين ظَلَمُواْ} بما ذكر من التبديل وإنما وُضِعَ الموصولُ موضعَ الضَّميرِ العائد إلى الموصول الأول للتعليل والمبالغةِ في الذم والتقريع وللتصريح بأنهم بما فعلوا قد ظلموا أنفسَهم بتعريضها لسخط الله تعالى {رِجْزًا مّنَ السماء} أي عذاباً مقدّراً منها والتنوينُ للتهويل والتفخيم {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} بسببِ فِسقهم المستمرِّ حسبما يفيده الجمعُ بينَ صيغتي المَاضِي والمستقبل وتعليلُ إنزال الرجزِ به بعد الإشعار بتعليله بظلمهم للإيذان بأن ذلك فسقٌ وخروجٌ عن الطاعة وغلوٌّ في الظلم وأن تعذيبَهم بجميع ما ارتكبوه من القبائح لا بعدم توبتهم فقط كما يُشعِرُ به ترتيبُه على ذلك بالفاء والرِّجْزُ في الأصل ما يُعاف عنه وكذلك الرجس وقرئ بالضم وهو لغة فيه والمراد به الطاعونُ روي أنه مات به في ساعة واحدةٍ أربعةٌ وعشرون ألفاً

60

{وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ} تذكير لنعمةٍ أخرى كفروها وكان ذلك في التيه حين استولى عليهم العطشُ الشديد وتغييرُ الترتيب لما أشير إليه مراراً من قصد إبرازِ كلَ من الأمور المعدودة في معرِض أمرٍ مستقلَ واجبِ التذكير والتذكرِ ولو رُوعي الترتيبُ الوقوعيُّ لفُهم أن الكلَّ أمرٌ واحد أُمر بذكره واللام متعلقة بالفعل أي استسقى لأجل قومه {فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر} رُوي أنه كان حَجَراً طورياً مكعباً حمله معه وكان ينبُع من كل وجه منه ثلاث اعين يسيل كلُّ عين في جدول إلى سبط وكانوا ستمائة ألفٍ وسعةَ المعسكر اثنيْ عشَرَ ميلاً أو كان حجَراً أهبطه الله تعالى مع آدمَ عليه السلام من الجنة ووقع إلى شُعيبٍ عليه السَّلام فأعطاه موسى عليه السلام مع العَصا أو كان هو الحجرَ الذي فرَّ بثوبِه حينَ وضعَه عليه ليغتسل وبرّأه الله تعالى به عما رمَوْه به من الأَدَرَة فأشار إليه جبريلُ عليهِ السَّلامُ أنْ يحمِلَه أو كان حَجَراً من الحجارة وهو الأظهر في الحجة قيل لم يؤمَرْ عليه السلام بضرب حجر بعينه ولكن لما قالوا كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة بها حَملَ حجَراً في مخلاتِه وكان يضربه بعصاه إذا نزل فيتفجَّر ويضرِبُه إذا ارتحل فييبَس فقالوا إنْ فقَد موسى عصاه مِتْنا عطشاً فأَوْحَى الله تعالى إليه أن لا تقرَعِ الحجَر وكلِّمْه يُطِعْك لعلهم يعتبرون وقيل كان الحجر من رُخام حجمُه ذِراعٌ في ذراع والعصا عشرةُ أذرُعٍ على طوله عليه السلام

البقرة (61) من آسِ الجنة ولها شُعبتان تتقدان في الظلمة {فانفجرت} عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلامُ قد حُذف للدِلالة على كمال سُرعة تحقُّق الانفجار كأنه حصلَ عَقيبَ الأمرِ بالضرب أي فضُرب فانفجَرَتْ {مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا} وأما تعلقُ الفاءِ بمحذوفٍ أي فإنْ ضَرَبْتَ فقد انفجرت فغيرُ حقيقٍ بجلالة شأن النظمِ الكريم كما لا يَخْفى على أحد وقرئ عشِرة بكسر الشين وفتحها وهما أيضاً لغتان {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} كل سبط {مَّشْرَبَهُمْ} عينُهم الخاصةُ بهم {كُلُواْ واشربوا} على إرادةِ القولِ {مِن رّزْقِ الله} هو مارزقهم من المنّ والسلوى والماء وقيل هو الماءُ وحده لأنه يؤكَلُ ما ينبُت به من الزروع والثمار ويأباه أن المأمورَ به أكلُ النعمة العتيدة لا ما سيطلُبونه وإضافتُه إليه تعالى مع استناد الكلِّ إليه خلقاً وملكاً إما للتشريف وإما لظهوره بغير سبب عاديّ وإنما لم يقُلْ من رزقنا كما يقتضيهِ قولُهُ تعالى فقلنا إلخ إيذاناً بأن الأمرَ بالأكل والشرب لم يكن بطريق الخِطاب بل بواسطة موسى عليه السلام {ولا تَعْثَوْاْ فِى الأرض} العثْيُ أشدُّ الفساد فقيل لهم لاتتمادوا في الفساد حال كونكم {مُفْسِدِينَ} وقيل إنما قيد به لأن العَثْيَ في الأصل مطلقُ التعدي وإن غلب في الفساد وقد يكون في غير الفساد كما في مقابلة الظالم المعتدي بفعله وقد يكون فيه صلاحٌ راجح كقتل الخَضِر عليه السلام للغلام وخرقه للسفينة ونظيره العبث خلا أنه غالبٌ فيما يدرك حِساً

61

{وَإِذْ قُلْتُمْ} تذكيرٌ لجناية أخرى لأسلافهم وكُفرانهم لنعمة الله عز وجل وإخلادِهم إلى ما كانُوا فيه من الدناءة والخساسةِ وإسنادُ القول المحكّى إلى أخلاقهم وتوجيهُ التوبيخ إليهم لما بينهم من الاتحاد {يا موسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد} لعلهم لم يريدوا بذلك جمعَ ما طلبوا مع ما كانَ لَهُم منْ النعمة ولا زوالَها وحصولَ ما طلبوا مكانها إذ يأباه التعرض لوحدة بل أرادوا أن يكون هذا تارةً وذاك أخرى رُوي أنهم كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم فأجمعوا ما كانُوا فيه من النعمة العتيدة لوحدتها النوعية وإطرادها وتاقت أنفسُهم إلى الشقاء {فادع لَنَا رَبَّكَ} أي سله لأجلنا بدعائك إياه والفاء لسببية عدمِ الصبر للدعاء والتعرضُ لعنوان الربوبية لتمهيد مبادي الإجابة {يُخْرِجْ لَنَا} أي يُظهِرْ لنا ويوجِدْ والجزم لجواب الأمر {مِمَّا تُنبِتُ الارض} إسناد مجازيٌّ بإقامَةِ القابلِ مُقامَ الفاعل ومن تبعيضيةٌ والتي في قوله تعالى {مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} بيانية واقعةٌ موقعَ الحال أي كائناً من بقلها الخ وقيل بدلٌ بإعادة الجارِّ والبقلُ ما تنبتُ الأرضُ من الخضر والمراد أطايبُه التي تؤكلُ كالنَّعناع والكُرفُس والكُرَّاث وأشباهِها والفومُ الحنطة وقيل الثوم وقرئ قُثائها بضم القاف وهو لغة فيه {قَالَ} أي الله تعالى أوموسى عليه السلام

إنكاراً عليهم وهو استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال مقدر كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ لهم فقيل قال {أَتَسْتَبْدِلُونَ} أي أتأخُذون لأنفسِكم وتختارون {الذى هُوَ أدنى} أي أقربُ منزلةً وأدون قدراً سهلُ المنال وهينُ الحصول لعدم كونه مرغوباً فيه وكونه تافهاً مرذولاً قليلَ القيمة وأصلُ الدنوّ القُرب في المكان فاستعير للخِسة كما استعير البُعدُ للشرف والرفعة فقيل بعيدُ المحل وبعيد الهمة وقرئ أدنأُ من الدناءة وقد حملت المشهورة على أن ألفها مبدلة من الهمزة {بالذى هُوَ خَيْرٌ} أي بمقابلة ما هو خيرٌ فإن الباء تصحب الذاهبَ الزائل دون دون الآتي الحاصل كما في التبديل في مثل قوله عز وجل {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان} وقوله {وبدلناهم بجنتيهم جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ} وليس فيه ما يدل قطعاً على أنهم أرادوا زوالَ المنِّ والسلوى بالمرة وحصولُ ما طلبوا مكانه كتحقيق الاستبدال فيما مر من صورة المناوبة {اهبطوا مِصْرًا} أُمروا به بياناً لدناءة مطلَبِهم أو إسعافاً لمرامهم أي انحدروا إليه من التّيه يقال هبَط الواديَ وقرئ بضم الباء والمِصرُ البلدُ العظيم وأصله الحدُّ بين الشيئين وقيل أريد به العلُم وإنما صُرف لسكون وسَطِه أو لتأويله بالبلد دون المدينة ويؤيده أنه في مصحف ابن مسعودٍ رضي الله عنه غيرُ منون وقيل أصلُه مِصْراييم فعرب {فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ} تعليلٌ للأمر بالهبوط أي فإن لكم فيه ما سألتموه ولعل التعبير عن الأشياء المسئولة بما للاستهجان بذكرها كأنه قيل فإنه كثيرٌ فيه مبتذلٌ يناله كلُّ أحد بغير مشقة {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} أي جعلتا محيطتين بهم إحاطةَ القُبة بمن ضربت عليه أو ألصِقتا بهم وجعلتا ضربةَ لازبٍ لا تنفكان عنهم مجازاةً لهم على كُفرانهم من ضرب الطين على الحائط بطريق الاستعارة بالكناية واليهودُ في غالب الأمر أذلاءُ مساكينُ إما على الحقيقة وإما لخوف أن تضاعف جزيتهم {وباؤوا} أي رجعوا {بِغَضَبٍ} عظيم وقولُه تعالى {مِنَ الله} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لغضبٍ مؤكِّدٌ لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي بغضب كائن من الله تعالى أو صاروا أحقاءَ به من قولهم باءَ فلانٌ بفلان أي صار حقيقاً بأن يُقتلَ بمقابلته ومنه قولُ مَن قالَ بُؤْ بشِسْعِ نعلِ كُلَيبٍ وأصل البَوْء المساواة {ذلك} إشارةٌ إلى ما سلف من ضرب الذِلة والمسكنةِ والبَوْءِ بالغضب العظيم {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {كَانُواْ يَكْفُرُونَ} على الاستمرار {بآيات الله} الباهرة التي هي المعجزاتُ الساطعة الظاهرةِ على يد موسى عليه السلام مماعد وما لا يُعَدَّ {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حق} كشَعْيا وزكريا ويحيى عليهم السلام وفائدةُ التقييد مع أن قتل الأنبياءِ يستحيل أن يكون بحق الإيذانُ بأن ذلك عندهم أيضاً بغير الحق إذ لم يكن أحد معتقداً بحقية قتلِ أحدٍ منهم عليهم السلام وإنما حملهم على ذلك حبُّ الدنيا واتباعُ الهوى والغلوُّ في العصيان والاعتداءُ كما يفصحُ عنه قولُه تعالى {ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} أي جرَّهم العصيانُ والتمادي في العُدوان إلى ما ذُكر من الكفر وقتلِ الأنبياءِ عليهم السلام فإن صِغارَ الذنوب إذا دُووِمَ عليها أدتْ إلى كبارها كما أن مداومةَ صغارِ الطاعات مؤديةٌ إلى تحرّي كبارِها وقيل كُرِّرت الإشارةُ للدلالة على أن ما لَحِقَهم كما أنه بسبب الكفر والقتلِ فهو بسببِ ارتكابِهم المعاصيَ واعتدائهم حدودَ الله تعالى وقيل الإشارةُ إلى الكفر والقتل والباء بمعنى مع ويجوز الإشارة إلى المتعدِّد بالمفرد بتأويلِ ما ذُكر أو تقدم كما في قول رؤبة بنِ العجاج فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَق ... كأَنَّهُ فِي الجلدِ توليعُ البهقْ أي كان ما ذُكر والذي حسَّن ذلك في المضْمَرات والمبهمات

البقرة (62) أن تثنيتها وجمعَها ليسا على الحقيقة ولذلك جاء الذي بمعنى الذين

62

{إن الذين آمنوا} أي بألسنتهم فقط وهم المنافقون بقرينة انتظامِهم في سِلك الكفرةِ والتعبيرُ عنهم بذلك دون عُنوانِ النفاقِ للتصريح بأن تلك المرتبةَ وإن عُبِّر عنها بالإيمان لا تُجديهم نفعاً أصلاً ولا تُنْقِذُهم من ورطة الكفر قطعاً {والذين هَادُواْ} أي تهوَّدوا من هادَ إذا دخَل في اليهودية ويهودُ إما عربي من هاد إذا تاب سُموا بذلك حين تابوا من عبادة العجل وخُصوا به لما كانت توبتهم هائلة وإما معرَّبُ يهوذا كأنهم سُمّوا باسم أكبرِ أولاد يعقوب عليه الصلاة والسلام {والنصارى} جمع نَصرانٍ كندامَى جمعُ ندمانٍ يقال رجلٌ نصرانٌ وامرأة نصرانةٌ والياء في نصراني للمبالغة كما في أحمريّ سُموا بذلك لأنهم نَصَروا المسيحَ عليهِ السَّلامُ أو لأنهمُ كانوا معه في قرية يقال لها نَصرانُ فسُمّوا باسمها أو نُسبوا إليها والياء للنسبة وقال الخليل واحدُ النصارى نَصري كمَهْري ومهارى {والصابئين} هم قومٌ بين النصارى والمجوس وقيل أصلُ دينهم دينُ نوحٍ عليه السلام وقيل هم عبدةُ الملائكة وقيل عبدةُ الكواكب فهو إن كان عربياً فمن صَبأ إذا خرج من دين إلى آخرَ وقرئ بالياء إما للتخفيف وإما لأنه من صَبَا إذا مال لما أنهم مالوا من سائر الأديان إلى ماهم فيه أو من الحق إلى الباطل {من آمن بالله واليوم الآخر} أي من أحدث من هذه الطوائف إيمانا خالصا بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق {وَعَمِلَ} عملاً {صالحا} حسبما يقتضيه الإيمانُ بما ذكر {فلهم} بمقابلة ذلك {أَجْرَهُمْ} الموعودُ لهم {عِندَ رَبّهِمْ} أي مالكَ أمرِهم ومُبلّغُهم إلى كمالهم اللائقِ فمَنْ إما في محلِ الرفعِ على الابتداء خبرُه جملةُ فلهم أجرُهم والفاءُ لتضمُّن الموصولِ معنى الشرط كما في قوله تعالى {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين} الآية وجُمع الضمائرُ الثَّلاثةِ باعتبارِ معنى الموصول كما أن إفرادَ ما في الصلة باعتبار لفظِه والجملةُ كما هي خبرُ إن والعائد إلى اسمها محذوف أي من آمن الخ وإما في محل النصبِ على البدلية من اسم إن وما عطف عليه وخبرُها فلهم أجرهم وعند متعلقٌ بما تعلقَ بهِ لهم من معنى الثبوت وفي إضافته إلى الرب المضافِ إلى ضميرهم مزيدُ لُطفٍ بهم وإيذانٌ بأن أجرَهم مُتَيقَّنُ الثبوت مأمونٌ من الفَوات {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} عطف على جملة فلهم اجرهم أي لاخوف عليهم حين يخاف الكفارُ العقاب {ولا هم يحزنون} حين يحزن المقصِّرون على تضييع العمر وتفويت الثواب والمرادُ بيانُ دوامِ انتفائِهما لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يُوهمه كونُ الخبرِ في الجملة الثانية مضارعا لما مرَّ منْ أنَّ النفيَ وإن دخل على نفس المضارع يُفيد الدوام والاستمرارَ بحسب المقام هذا وقد قيل المرادُ بالذين آمنوا المتديّنون بدين الإسلام المُخلِصون منهم والمنافقون فحينئذ لا بد من تفسير مَنْ آمن بمن اتصف منهم بالإيمان الخالص بالمبدأ والمعاد على الإطلاق سواءٌ كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه كإيمان المُخلصين أو بطريق إحداثه وإنشائه كإيمان مَنْ عداهم من المنافقين وسائر الطوائف وفائدةُ التعميم للمخلصين مزيدُ ترغيبِ الباقين في الإيمان ببيان ان تأخيرهم

البقرة (64 - 63) في الاتصاف به غيرُ مخل بكونهم أسوة لأ ولئك الأقدمين في استحقاق الأجرِ وما يتبعه من الأ من الدائم وأما ما قيل في تفسيره من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملاً بمقتضى شرعه فمما لا سبيلَ إليه أصلاً لأن مقتضى المقام هو الترغيبُ في دينِ الإسلامِ وأما بيانُ حال من مضى على دين آخرَ قبل انتساخِه فلا ملابسةَ له بالمقام قطعاً بل ربما يُخِلُّ بمقتضاه من حيث دَلالتُه على حقِّيته في زمانه في الجملةِ على أنَّ المنافقين والصابئين لا يتسنى في حقهم ما ذكروا أما المنافقون فإن كانوا من أهل الشرك فالأمرُ بيِّن وإن كانوا من أهل الكتاب فمن مضى منهم قبل النسخِ ليسوا بمنافقين وأما الصابئون فليس لهم دينٌ يجوز رعايتُه في وقتٍ من الأوقاتِ ولو سَلِم أنه كان لهم دينٌ سماوي ثم خرجوا عنه فمن مضى من أهل ذلك الدين قبل خروجِهم منه فليسوا من الصابئين فكيف يُمكِنُ إرجاعُ الضمير الرابطِ بين اسم وإن وخبرِها إليهم أو إلى المنافقين وارتكابُ إرجاعِه إلى مجموعة الطوائفِ من حيثُ هو مجموعٌ لا إلى كل واحدةٍ منها قصداً إلى درج الفريقِ المذكور فيه ضرورةَ أن من كان من أهل الكتاب عاملاً بمقتضى شرعِه قبل نسخِه من مجموع الطوائفِ بحُكم اشتمالِه على اليهود والنصارى وإن لم يكن من المنافقين والصابئين مما يجبُ خبرها عينٌ ولا أثر فتأمل وكن على الحق المبين

63

{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم} تذكيرٌ لجناية أخرى لأسلافهم أي واذكروا وقت أخْذِنا لميثاقكم بالمحافظة على ما في التوراة {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} عطفٌ على قوله أخذْنا أو حال أي أي وقد رفعنا فوقَكم الطورَ كأنه ظُلة رُوي أن موسى عليه السلام لمّا جاءهم بالتوراة فرأَوْا ما فيها من التكاليف الشاقةِ كبُرت عليهم فأبَوْا قَبولها فأُمر جبريلُ عليه السلام فقلَعَ الطورَ فظلله عليهم حتى قبِلوا {خُذُواْ} على إرادة القول {مَا آتيناكم} من الكتاب {بِقُوَّةٍ} بجدَ وعزيمة {واذكروا مَا فِيهِ} أي احفَظوه ولا تنسَوْه أو تتفكروا فيه فإنه ذكرٌ بالقلب أو اعملوا به {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لكي تتقوا المعاصيَ أو لتنجُوا من هلاك الدارين أو رجاءً منكم أن تنتظِموا في سلك المتقين أو طلباً لذلك وقد مر تحقيقُه

64

{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أي أعرضْتم عن الوفاء بالميثاق {مِن بَعْدِ ذلك} من بعد أخذِ ذلك الميثاقِ المؤكد {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بتوفيقكم لتوبة أو بمحمد صلى الله عليه وسلم حيث يدْعوكم إلى الحق ويهديكم إليه {لَكُنتُم مّنَ الخاسرين} أي المغبونين بالانهمالك في المعاصي والخبْطِ في مهاوي الضلال عند الفترة وقيل لولا فضل تعالى عليكم بالإمهال وتأخيرِ العذاب لكنتم من الهالكين وهو الأنسبُ بما بعده وكلمةُ لولا إما بسيطةٌ أو مركبة من لو الامتناعية وحرف النفي ومعناها امتناع الشئ لوجود غيرِه كما أن لو لامتناعه لامتناعِ غيرِه والاسم الواقعُ بعدها عند سيبويه مبتدأٌ خبرُه محذوف وجوباً لدلالة الحال عليه وسد الجواب

البقرة (67 - 65) مسدَّه والتقديرُ لولا فضلُ الله حاصلٌ وعند الكوفيين فاعل فعلٍ محذوف أي لولا ثبَتَ فضلُ الله تعالى عليكم

65

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ} أي عرفتم {الذين اعتدوا مِنكُمْ فِى السبت} رُوي أنهم أُمروا بأن يتمحَّضوا يوم السبت للعبادة ويتجرَّدوا لها ويتركوا الصيدَ فاعتدى فيه أناسٌ منهم في زمن داودَ عليه السلام فاشتغلوا بالصيد وكانوا يسكُنون قريةً بساحل البحر يقال لها أَيْلة فإذا كان يومُ السبت لم يبقَ في البحر حوتٌ إلا برزَ وأخرج خُرطومه فإذا مضى تفرقت فحفَروا حِياضاً وشرَعوا إليها الجداولَ وكانت الحيتانُ تدخلُها يوم السبت فيصطادونها يوم الأحد فالمعنى وبالله لقد علمتموهم حين فعلوا من قَبيل جناياتكم ما فعلوا فلم نُمهِلْهم ولم نؤخِّرْ عقوبتَهم بل عجلناها {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين} أي جامعين بين صورةِ القردةِ والخسُوء وهو الطرد والصَّغار على أن حاسئين نعتٌ لقِردة وقيل حال من اسم كونوا عند من يُجيز عملَ كان في الظروفِ والحالِ وقيل من الضَّمير المستكِّنِ في قِردة لأنه في معنى ممسوخين وقال مجاهد ما مسخت صورهم ولكن فلوبهم فمُثلوا بالقِردة كما مُثِّلوا بالحمار في قوله تعالى {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} والمرادُ بالأمر بيانُ سرعةِ التكوين وأنهم صاروا كذلك كما أراده عز وجل وقرىء قَرِدةً بفتح القاف وكسر الراء وخاسين بغير همز

66

{فَجَعَلْنَاهَا} أي المَسخةَ والعقوبة {نكالا} عبرةً تُنكّل المعتبِرَ بها أي تمنعُه وتردعُه ومنه النِّكْلُ للقيد {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} لما قبلها وما بعدها من الأمم إذ ذُكِرَتْ حالُهم في زبُر الأولين واشتهرت قصصُهم في الآخِرين أو لمعاصريهم ومَنْ بعدهم أو لِما بحضرتها من القُرى وما تباعد عنها أو لأهل تلك القرية وما حواليها أو لأجل ما تقدم عليها من ذنوبهم وما تأخَّر منها {وَمَوْعِظَةً لّلْمُتَّقِينَ} من قومهم أو لكلِّ مُتقٍ سمِعَها

67

{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} توبيخ آخرُ لإخلاف بني إسرائيلَ بتذكير بعضِ جناياتٍ صدرت عن أسلافهم أي واذكروا وقت قولِ موسى عليه السلام لأجدادكم {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} وسببه أنَّهُ كانَ في بني إسرائيلَ شيخٌ موسر فقتلَه بنو عمِّه طمعاً في ميراثه فطرَحوه على باب المدينة ثم جاءوا يطالبون بديته فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرةً ويضرِبوه ببعضها فيَحْيَا فيُخْبِرَهم بقاتله {قَالُواْ} استئنافٌ وقع جوابا عما ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنَّه قيل فماذا صنعوا هل سارعوا إلى الامتثال أو لا فقيل قالوا {أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} بضم الزاء وقلب الهمزة واوا وقرئ بالهمزة مع الضم والسكون أي أتجعلنا مكان هزؤ أو أهل هزؤ أو مهزوء ابنا أو الهزؤ نفسه استبعاداً لما قاله واستخفافاً به {قَالَ} استئناف كما سبق {أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} لأن الهُزْؤ في أثناء تبليغ أمر الله سبحانه جهلٌ وسفَهٌ نفى عنه عليه السلام

البقرة (69 - 68) ما توهموه من قبله على أبلغِ وجهٍ وآكدِه بإخراجه مخرج مالا مكروهَ وراءَه بالاستعاذة منه استفظاعاً له واستعظاماً لما أقدَموا عليه من العظيمة التي شافهوه عليه السلام بها

68

{قَالُواْ} استئنافٌ كما مر كأنه قيل فماذا قالوا بعد ذلك فقيل توجهوا نحو الامتثال وقالوا {ادع لَنَا} أي لأجلنا {رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ} ما مبتدأ وهي خبرُه والجملةُ في حيز النصبِ يبين أي يبين لنا جوابَ هذا السؤال وقد سألوا عن حالها وصفتها لِما قرَعَ أسماعَهم ما لم يعهدوه من بقرةٍ ميتةٍ يضرب ببعضها ميت فيحيا فإنَّ ما وإنْ شاعتْ في طلبِ مفهومِ الاسمِ والحقيقة كما في ما الشارحة والحقيقةِ لكنَّها قد يُطلب بَها الصفةُ والحالُ تقولُ ما زيد فيقال طبيبٌ أو عالم وقيل كان حقُه ان يستفحم بأيَ لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حالة مغايرة لما عليه الجنس أخرجوه عن الحقيقة فجعلوه جنساً على حياله {قَالَ} أي موسى عليه السلام بعدما دعا ربه عز وجل بالبيان وأتاه الوحْيُ {أَنَّهُ} تعالى {يَقُولُ إِنَّهَا} أي البقرةُ المأمورُ بذبحها {بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ} أي لا مُسنة ولا فتية يقال فرَضَت البقرةُ فروضاً أي أسنت من الفرْض بمعنى القطع كأنها قطعَتْ سنها وبلغت آخرَها وتركيبُ البكر للأولية ومنه البَكرة والباكورة {عَوَانٌ} أي نصف لا قحم ولا ضَرْع قال طِوالٌ مثلُ أعناقِ الهوادي ... نواعمْ بين أبكارٍ وعُونِ {بَيْنَ ذلك} إشارة إلى ما ذكر من الفارض والبِكْر ولذلك أضيف إليه بين لاختصاصه بالإضافة إلى المتعدد {فافعلوا} أمرٌ من جهة موسى عليه السلام متفرِّع على ما قبله من بيان صفةِ المأمور به {مَا تُؤْمَرونَ} أي ما تؤمرونه بمعنى تؤمَرون به كما في قوله أمرتُك الخيرَ فافعلْ ما أمرت بهِ فإن حذفَ الجار قد شاع في هذا الفعل حتى لَحِق بالأفعال المتعدية إلى مفعولين وهذا الأمرُ منه عليه السلام لحثِّهم على الامتثال وزجرِهم عن المراجعة ومع ذلك لم يقتنعوا به وقوله تعالى

69

{قَالُواْ} استئنافٌ كما مر كأنه قيل ماذا صنعوا بعد هذا البيان الشافي والأمرِ المكرَّرِ فقيل قالوا {ادع لنا ربك يبين لَّنَا مَا لَوْنُهَا} حتى يتبين لنا البقرةُ المأمور بها {قَالَ} أي موسى عليه السلام بعد المناجاةِ إلى الله تعالى ومجىءِ البيان {أَنَّهُ} تعالى {يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا} إسنادُ البيان في كل مرةٍ إلى الله عزَّ وجلَّ لإظهار كمالِ المساعدةِ في إجابة مسئولهم بقولهم يبينْ لنا وصيغةُ الاستقبال لاستحضارِ الصورة والفُقوعُ نصوعُ الصُّفرةِ وخلوصُها ولذلك يؤكَّد به ويقال أصفرُ فاقعٌ كما يقال أسودُ حالك واحمر قانئ وفي إسناده إلى اللون مع كونِه من أحوال الملون لملابسته به مالا يخفى من فضل تأكيدٍ كأنه قيل صفراءُ شديدُ الصُفرةِ صُفرتها كما في جَدّ جِدّه وعن الحسنِ رضيَ الله عنه سوداءُ شديدةُ السواد وبه فسر قوله تعالى

البقرة (71 - 70) {جمالة صُفْرٌ} قيل ولعل التعبير عن السواد بالصفر لما أنها من مقدماته وإما لأن سَواد الإبل يعلوه صُفْرةٌ ويأباه وصفُها بقوله تعالى {تَسُرُّ الناظرين} كما يأباه وصفُها بفقوع اللون والسرورُ لذةٌ في القلب عند حصول نفعٍ أو توقُّعِه من السر عن عليَ رضيَ الله عنه من لبِسَ نعلاً صفراءَ قل همُّه

70

{قَالُواْ} استئنافٌ كنظائره {ادع لنا ربك يبين لنا مَا هِىَ} زيادةُ استكشافٍ عن حالها كأنهم سألوا بيانَ حقيقتها بحيث تمتاز عن جميع ما عداها مما تشاركها في الأوصاف المذكورة والأحوالِ المشروحة في أثناء البيان ولذلك علّلوه بقولهم {إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا} يعنُون أن الأوصافَ المعدودةَ يشترك فيها كثير من البقر ولا نهتدي بها إلى تشخيص ما هو المأمور بها بل صادقةً على سائر افراد الجنس وقرئ إنَّ الباقِرَ وهو اسمٌ لجماعة البَقر والأباقر والبواقر ويتشابه بالياء والتاء وَيشّابه بطرح التاء والإدغام على التذكير والتأنيث وتَشَابهت مخففاً ومشدداً وتَشَبَّهُ بمعنى تتشبه وتشبه بالتذكير ومتشابِهٌ ومتشابهةٌ ومُتَشَبِّهٌ ومُتَشَبِّهَةٌ وفيهِ دلالةٌ على أنَّهم ميَّزوها عن بعض ما عداها في الجملة وإنما بقي اشتباهٌ بشرف الزوال كما ينبئ عنه قولهم {وَإِنَّا إِن شَاء الله لَمُهْتَدُونَ} مؤكداً بوجوه من التوكيد أي لمهتدون بما سألنا من البيان الى الأمور بذبحها وفي الحديث لولم يستثنوا لما بُيِّنَتْ لهم آخرَ الأبد

71

{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الارض وَلاَ تَسْقِى الحرث} أي لم تُذلَّلْ للكِراب وسقى الحرث ولا ذلول صفةٌ لبقرةٌ بمعنى غير ذلول ولا الثانية لتأكيد الأولى والفعلان صفتا ذلول كأنه قيل لا ذلولٌ مثيرةٌ وساقية وقرئ لا ذلول بالفتح أي حيث هي كقولك مررت برجل لا بخيلٍ ولا جبان أي حيث هو وقرئ تُسْقي من أسقى {مُّسَلَّمَةٌ} أي سلَّمها الله تعالى من العيوب أو أهّلها من العمل أو خلص لها لونها من سَلِم له كذا إذا خَلَص له ويؤيده قوله تعالى {لاَّ شِيَةَ فِيهَا} أي لا لونَ فيها يخالف لونَ جلدِها حتى قَرْنُها وظِلْفُها وهي في الأصل مصدرُ وشاه وشّياً وشِيةً إذا خلَط بلونه لوناً آخر {قالوا} عند ما سمعوا هذه النعوت {الآن جئت بالحق} أي بحقيقة وصفِ البقرةِ بحيث ميَّزْتها عن جميع ما عداها ولم يبقَ لنا في شأنها اشتباهٌ أصلاً بخلاف المرتين الأوليين فإن ما جئتَ به فيهما لم يكن في التعيين بهذه المرتبة ولعلهم كانوا قبلَ ذلك قد رأَوْها ووجدوها جامعةً لجميع ما فُصِّل من الأوصاف المشروحةِ في المرات الثلاثِ من غير مشارِكٍ لها فيما عُدَّ في المرَّةِ الأخيرةِ وإلا فمن أين عرَفوا اختصاصَ النعوت الأخيرةِ بها دون غيرها وقرئ الآنَ بالمد على الاستفهام والآنَ بحذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على اللام {فَذَبَحُوهَا} الفاء فصيحة كما في فانفجَرت أي فحصّلوا البقرةَ فذبحوها {وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} كاد

البقرة (72) من أفعال المقاربة وُضع لدنوِّ الخبر من الحصول والجملةُ حالٌ من ضمير ذبحوا أي فذبحوها والحال إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ بمعزل منه أو اعتراضٌ تذييلي ومآلُه استثقالُ استعصائِهم واستبطاءٌ لهم وأنهم لفَرْط تطويلِهم وكثرةِ مراجعاتِهم ما كاد ينتهي خيط اسهابهم فيها قيل مضى من أول الأمرِ إلى الامتثال اربعون سنة وقيل وما كادوا يفعلون ذلك لغلاء ثمنها رُوي أنَّهُ كانَ في بني إسرائيلَ شيخٌ صالح له عجلة فأني بها الغَيْضة وقال اللهم اني استودعتكها لا بني حتى يكبَرَ وكان برّاً بوالدَيه فتُوفِّيَ الشيخُ وشبَّتِ العِجْلة فكانت من أحسن البقرِ وأسمنِها فساوَموها اليتيمَ وأمَّه حتى اشتَرَوْها بملء مَسْكِها ذهباً لمّا كانت وحيدةً بالصفات المذكورة وكانت البقرةُ إذ ذاك بثلاثة دنانيرَ واعلم أنه لا خلافَ في أن مدلولَ ظاهرِ النظمِ الكريم بقرةٌ مطلقةٌ مُبْهمة وأن الامتثالَ في آخرِ الأمرِ إنما وقعَ بذبح بقرةٍ معيّنة حتى لو ذبحوا غيرَها ما خَرَجوا عن عُهدة الأمرِ لكن اختُلفَ في أن المرادَ المأمورُ به إثرَ ذي أثيرٍ هل هي المعينةُ وقد أُخِّر البيانُ عن وقت الخطاب أو المبهمةُ ثم لَحِقها التغييرُ إلى المعيَّنة بسبب تثاقلِهم في الامتثال وتماديهم في التعمق والاستكشاف فذهب بعضُهم إلى الأول تمسكاً بأن الضمائرَ في الأجوبة أعني أنها بقرةٌ إلى آخر للمعيَّنة قطعاً ومن قضيتِه أن يكونَ في السؤال أيضاً كذلك ولا ريبَ في أن السؤالَ إنما هو عن البقرة المأمور بذبحها فتكونُ هي المعينةُ وهو مدفوعٌ بأنهم لما تعجّبوا من بقرة ميتةٍ يضرب ببعضها ميت فيحيا ظنُّوها معيّنةً خارجةً عما عليه الجنسُ من الصفات والخواصِّ فسألوا عنها فرجعت الضمائرُ إلى المعيَّنة في زعمهم واعتقادِهم فعيّنها الله تعالى تشديداً عليهم وإن لم يكن المرادُ من أول الأمرِ هي المعينة والحقُّ أنها كانت في أول الأمر مُبْهمةً بحيث لوذبحوا أيةَ بقرةٍ كانت لحصل الامتثالُ بدِلالة ظاهرِ النظم الكريمِ وتكرير الأمرِ قبل بيان اللون وما بعدَه من كونها مسلّمةً الخ وقد قال صلى الله عليه وسلم لو اعترَضوا أدنى بقرةٍ فذبحوها لكفَتْهم ورُوي مثلُه عن رئيس المفسرين عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ثم رجع الحكمُ الأولُ منسوخاً بالثاني والثاني بالثالث تشديداً عليهم لكنْ لا على وجهِ ارتفاعِ حكمِ المُطْلقِ بالكلية وانتقالِه إلى المعيّن بل على طريقة تقييده وتخصصه به شيئاً فشيئاً كيف لا ولو لم يكُن كذلكَ لما عُدّت مراجعاتُهم المَحْكيةُ من قَبيل الجنايات بل من قبيل العبادة فإن الامتثالَ بالأمر بدون الوقوفِ على المأمورَ به مما لا يكاد يتسنّى فتكونُ سؤالاتُهم من باب الاهتمام بالامتثال

72

{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} منصوبٌ بمُضْمر كما مرت نظائرُه والخطابُ لليهود المعاصِرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإسنادُ القتلِ والتدارُؤ إليهم لما مر من نسبة جنايات الأسلاف إلى الأخلاف توبيخاً وتقريعاً وتخصيصُهما بالإسناد دون ما مر من هناتهم لظهور قُبْحِ القتلِ وإسناده إلى الغير أي اذكروا وقت قتلِكم نفساً محرمة {فادارأتم فِيهَا} أي تخاصمتم في شأنها إذ كلُّ واحد من الخصماء يدافع الآخرَ أو تدافعتم بأن طرَح كلُّ واحد قتلها إلى آخر وأصله ئداراتم فأدغمت التاءُ في الدال واجتُلبت لها همزةُ الوصل {والله مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} أي مظهر لما تكتمونه لا محالة والجمعُ

البقرة (73) بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار وإنما أُعمِلَ مُخرجٌ لأنه حكايةُ حالٍ ماضية

73

{فَقُلْنَا اضربوه} عطف على فادار اتم وما بينهما اعتراضٌ والالتفاتُ لتربية المهابةِ والضميرُ للنفس والتذكيرُ باعتبار أنها عبارةٌ عن الرجل أو بتأويل الشخصِ أو القتيل {بِبَعْضِهَا} أيْ ببعض البقرة أيِّ بعضٍ كان وقيل بأصغَرَيها وقيل بلسانها وقيل بفخِذِها اليُمنى وقيل بأذُنها وقيل بعُجبها وقيل بالعظم الذي يلي الغُضْروف وهذا أولُ القصة كما ينبئ عنه الضمير الراجعُ إلى البقرة كأنه قيل وإذ قتلتم نفسا فادار اتم فيها فقلنا اذبحوا بقرةً فاضرِبوه ببعضها وإنما غُيّر الترتيبُ عند الحكاية لتكرير التوبيخِ وتثنيةِ التقريعِ فإن كلَّ واحدٍ من قتل النفس المحرَّمة والاستهزاءِ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم والافتياتِ على أمره وتركِ المسارعةِ إلى الامتثال به جنايةٌ عظيمة حقيقة بأن تنعى عليهم بحيالها ولو حُكيت القصةُ على ترتيب الوقوعِ لما علم استقلالُ كلَ منها بما يُخَصُّ بها من التوبيخ وإنما حُكي الأمر بالذبح عن موسى عليه السلام مع انه من الله عز وجل كالأمر بالضرب لما أن جناياتِهم كانت بمراجعتهم إليه عليه السلام والافتياتِ على رأيه {كذلك يحيي الله الموتى} على إرادة قولٍ معطوفٍ على مقدَّر ينسحب عليه الكلام أي فضرَبوه فحَيِيَ وقلنا كذلك يُحيي الخ فحذفت الفاءُ الفصيحة في فحِييَ مع ما عطف بها وما عُطف هو عليه لدلالة كذلك على ذلك فالخطابُ في كذلك حينئذ للحاضرين عند حياة القتيل ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ للحاضرين عند نزولِ الآيةِ الكريمة فلا حاجةَ حينئذٍ إلى تقدير القولِ بل تنتهي الحكايةُ عند قوله تعالى ببعضها مع ما قُدّر بعده فالجملة معترضة أي مثلَ ذلك الإحياءِ العجيبِ يُحيي الله الموتى يوم القيامه {ويريكم آياته} ودلائلَه الدالةَ على أنِه تعالَى على كُلِّ شئ قدير ويجوز أن يُراد بالآياتِ هذا الإحياءُ والتعبيرُ عنه بالجمع لاشتماله على أمورٍ بديعةٍ من ترتّب الحياة على عضو ميتٍ وإخبارِه بقاتله وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادة {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تكمُلَ عقولُكم وتعلموا أن من قدَرَ على إحياء نفسٍ قدَر على إحياء الأنفس كلها أو تعلم على قضية عقولِكم ولعل الحكمة في اشتراط ما اشتُرط في الإحياء مع ظُهور كمالِ قُدرته على إحيائه ابتداءً بلا واسطة أصلاً اشتمالُه على التقربِ إلى الله تعالى وأداءِ الواجب ونفعِ اليتيم والتنبيهُ على برَكة التوكلِ على الله تعالى والشفقةِ على الأولاد ونفعِ برِّ الوالدين وأن من حق الطالب أن يقدّم قُربة ومن حق المتقرِّب أن يتحرَّى الأحسن ويغاليَ بثمنه كما يُروى عن عمر رضيَ الله عنه أنَّه ضحّى بنَجيبةٍ اشتراها بثلثمائة دينار وأن المؤثرّ هو الله تعالى وإنما الأسبابُ أَماراتٌ لا تأثيرَ لها وأن من رام أن يعرف أعدى عدوِّه الساعي في إماتتِه الموتَ الحقيقيَّ فطريقُه أن يذبَحَ بقرةَ نفسِه التي هي قوتُه الشهويةُ حين زال عنها شَرَهُ الصِّبا ولم يلحَقها ضَعف الكِبَر وكانت معجِبةً رائقةَ المنظرَ غيرَ مذللةٍ في طلب الدنيا مسلَّمةً عن دنسها لا سمة بها من قبائحها بحيث يتَّصلُ أثرُه إلى نفسه فيحيا بها حياةً طيبةً ويُعربَ عما به ينكشف الحالُ ويرتفعُ ما بين العقل والوهم من التدارُؤ والجدال

74

{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ} الخطاب لمعاصري النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم والقسوةُ عبارةٌ عن الغِلَظ والجفاء والصَّلابة كما في الحَجَر استُعيرت لنُبوِّ قلوبهم عن التأثر

البقرة (74) بالعِظات والقوارعِ التي تميعُ منها الجبالُ وتلينُ بها الصخور وإيرادَ الفعل المفيدِ لحدوث القساوة مع أن قلوبَهم لم تزل قاسيةً لما أن المراد بيان بلوغِهم إلى مرتبةٍ مخصوصةٍ من مراتبِ القساوة حادثةٍ وإما لأن الاستمرارَ على سئ بعد ورود ما يوجب الإقلاعَ عنه أمرٌ جديد وصنع حادث وثم لاستبعاد القسوةِ بعد مشاهدةِ ما يُزيلها كقوله تعالى {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} {مِن بَعْدِ ذلك} إشارة إلى ما ذكر من إحياء القتيلِ أو إلى جميع ما عُدِّد من الآيات الموجبة للين القلوب وتوجيهها نحوَ الحقِّ أيْ من بعد سماعِ ذلك وما فيه من معنى البعدِ للإيذان ببُعد منزلتِه وعلوِّ طبقتِه وتوحيدُ حرفِ الخطاب مع تعدُّد المخاطبين إما بتأويل الفريقِ أو لأن المرادَ مجردُ الخطاب لا تعيينُ المخاطَب كما هو المشهور {فَهِىَ كالحجارة} في القساوة {أَوْ أَشَدَّ} منها {قَسْوَةً} أي هي في القسوة مثلُ الحجارة أو زائدةٌ عليها فيها أو أنها مثلُها أو مثلُ ما هو أشدُّ منها قسوة كالحديد وحذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليهِ مُقامه ويعضُده القراءة بالجر عطفاً على الحجارة وإيرادُ الجملة اسميةً مع كون ما سبق فعليةً للدلالة على استمرارِ قساوةِ قلوبهم والفاء إما لتفريع مشابَهتِها لها على ما ذكر من القساوة تفريعَ التشبيه على بيان وجه الشبه في قولك أحمرُ خدُّه فهو كالورد وإما للتعليلِ كَما في قولِكَ اعبُدْ ربَّكَ فالعبادةُ حقٌّ له وإنما لم يقل أو أقسى منها لما في التصريح بالشدة من زيادةِ مبالغةٍ ودلالةٍ ظاهرة على اشتراك القسوتين في الشدة واشتمالِ المفضَّل على زيادة وأو للتخيير أو للترديدِ بمعنى أن مَنْ عرَفَ حالَها شبَّهها بالحجارة أو بما هو أقسى أو من عَرَفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة وترْكُ ضميرِ المفضَّل عليه للأمن من الالتباس {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانهار} بيانٌ لأشَدِّية قلوبِهم من الحجارة في القساوة وعدمِ التأثر واستحالةِ صدورِ الخيرِ منها يعني أن الحجارةَ ربما تتأثر حيث يكون منها ما يتفجر منه المياهُ العظيمة {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ} أي يتشقق {فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء} أي العيونُ {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} أي يتردَّى من الأعلى إلى الأسفل بقضية ما أودعه الله عز وجل فيها من الثِقل الداعي إلى المرْكز وهو مجازٌ من الانقياد لأمره تعالى والمعنى أن الحجارةَ ليس منها فردٌ إلا وهو منقادٌ لأمره عز وعلا آتٍ بما خُلق له من غير استعصاء وقلوبُهم ليست كذلك فتكونُ أشدَّ منها قسوةً لا محالة واللام في لَما لامُ الابتداء دخلت على اسم إن لتقدم الخبر وقرئ أن على أنَّها مُخفّفة مِن الثقيلة واللامُ فارقةٌ وقرئ يهبُط بالضم {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} عن متعلقة بغافل وما موصلة والعائدُ محذوف أو مصدرية وهو وعيدٌ شديد على ما هم عليه من قساوة القلوب وما يترتبُ عليها من الأعمال السيئة وقرئ بالياء على الالتفات وقوله تعالى

البقرة (75)

75

{أَفَتَطْمَعُونَ} تلوينٌ للخطاب وصرْفٌ له عن اليهود إثرَ ما عدت هناتهم ونُعيتْ عليهم جناياتُهم إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ والهمزةُ لإنكار الواقِع واستبعادِه كما في قولك أتضرب أباك لا لإنكار الوقوعِ كما في قوله أأضرِب أبي والفاء للعطف على مقدّرٍ يقتضيه المقامُ ويستدعيه نظامُ الكلام لكن لا على قصد توجيهِ الإنكارِ إلى المعطوفين معاً كما في أفلا تبصرون على تقدير المعطوفِ عليه منفياً أي ألا تنظُرون فلا تبصرونَ فالمُنْكَر كلا الأمرين بل إلى ترتب الثاني على الأول مع وجوب أن يترتبَ عليه نقيضُه كما إذا قُدِّر الأول مُثْبتاً أي أتنظرون فلا تبصرون فالمنْكَر ترتُّبُ الثاني على الأول مع وجوب أن يترتبَ عليه نقيضه أي أتسمعون أخبارَهم وتعلمون أحوالَهم فتطمعون ومآلُ المعنى أبَعْدَ أنْ علِمتم تفاصيلَ شؤونِهم المُؤْيِسةِ عنهم تطمعون {أَن يُؤْمِنُواْ} فإنهم متماثلون في شدة الشكيمةِ والأخلاقِ الذميمة لا يتأتى من أخلاقهم إلا مثلُ ما أتى من أسلافِهم وأنْ مصدريةٌ حذف عنها الجارُّ والأصلُ في أن يؤمنوا وهيَ مع ما في حيزها في محل النصبِ أو الجرِّ على الخلاف المعروف واللام في لَكُمْ لتضمين معنى الاستجابة كما في قوله عز وجل {فآمن لَهُ لُوطٌ} أي في إيمانهم مستجيبين لكم أو للتعليل أي في أن يُحدثوا الإيمان لأجل دعوتِكم وصلةُ الإيمان محذوفةٌ لظهور أن المرادَ به معناه الشرعيُّ وستقف على ما فيه من المزية بإذن الله تعالى {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ} الفريقُ اسمُ جمع لا واحد له من لفظه كالرهط والقوم والجار والمجرور في محل الرفعِ أي فريق كائنٌ منهم وقوله تعالى {يَسْمَعُونَ كلام الله} خبرُ كان وقرئ كلِمَ الله والجملة حاليةٌ مؤكِّدة للإنكار حاسمةٌ لمادة الطمَع مثلُ أحوالِهم الشنيعةِ المحْكيةِ فيما سلف على منهاج قوله {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} بعد قوله تعالى {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى} أي والحالُ أن طائفةً منهم قال ابن عباس رضي الله عنهما هم قومٌ من السبعين المختارين للميقات كانوا يسمعون كلامَه تعالى حين كلَّم مُوسى عليه السلامُ بالطور وما أُمِرَ به ونُهيَ عنه {ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ} عن مواضعه لا لقصورِ فهمِهم عن الإحاطة بتفاصيله على ما ينبغي لاستيلاء الدهشةِ والمهابةِ حسبما يقتضيه مقامُ الكبرياء بل {مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أي فهِموه وضبَطوه بعقولهم ولم تبقَ لهم في مضمونه ولا في كونه كلامَ ربِّ العزةِ رِيبةٌ أصلاً فلما رجَعوا إلى قومهم أدّاه الصادقون إليهم كما سمعوا وهؤلاء قالوا سمعنا الله تعالى يقول في آخر كلامه إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياءَ فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس فثُم للتراخِي زماناً أو رتبةً وقال القفال سمِعوا كلامَ الله وعقَلوا مرادَه تعالى منه فأوّلوه تأويلاً فاسداً وقيل هم رؤساءُ أسلافِهم الذين تولَّوْا تحريفَ التوراة بعد ما أحاطوا بما فيها علماً وقيل هم الذين غيروا نعت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في عصره وبدّلوا آيةَ الرجْم ويأباه الجمعُ بينَ صيغتي المَاضِي والمستقبل الدالِّ على وقوع السماعِ والتحريفِ فيما سلف الاأن يُحملَ ذلك على تقدّمه على زمانِ نزولِ الآية الكريمةِ لا على تقدمه على عهدِه عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ هذا والأول هو الأنسبُ بالسماع والكلام إذ

البقرة (76) التوراةُ وإن كانت كلامَ الله عز وعلا لكنها باسم الكتاب أشهرُ وأثرُ التحريفِ فيه أظهر ووصفُ اليهودِ بتلاوتها أكثر لا سيما رؤساؤُهم المباشرون للتحريف فإن وظيفتهم التلاوةُ دون السماع فكان الأنسبَ حينئذ أن يقالَ يتلون كتابَ الله تعالى فالمعنى أفتطمعون في أن يؤمنَ هؤلاءِ بواسطتكم ويستجيبوا لكم والحالُ أن أسلافَهم الموافقين لهم في خِلال السوءِ كانوا يسمعون كلامَ الله بلا واسطةٍ ثم يحرِّفونه من بعد ما علِموه يقيناً ولا يستجيبون له هيهاتَ ومن ههنا ظهر ما في إيثار لكم على بالله من الفخامة والجزالة وقوله عز وجل {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ يحرّفونه مفيدةٌ لكمال قباحةِ حالِهم مُؤْذِنةٌ بأن تحريفَهم ذلك لم يكن بناءً على نسيان ما عقَلوه أو على الخطأ في بعض مقدِّماته بل كان ذلك حالَ كونهم عالمين مستحضِرين له اووهم يعلمون أنهم كاذبون ومفترون

76

{وَإِذَا لَقُواْ} جملةٌ مستأنفة سيقتْ إثرَ بيانِ ما صدر عن أشباههم لبيان ما صدرَ عنهم بالذات من الشنائع المُؤْيسةِ عن إيمانهم من نفاق بعضٍ وعتابِ آخَرين عليهم أو معطوفةٌ على ما سبق من الجلمة الحالية والضميرُ لليهود لما ستقف على سره لالمنافقيهم خاصةً كما قيل تحرّياً لاتحاد الفاعل في فعلي الشرط والجزاءِ حقيقةً {الذين آمنواْ} من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم {قالوا} أي الاقون لكن لا بطريق تصدّي الكلِّ للقول حقيقةً بل بمباشرة منافقهم وسكوتِ الباقين كما يقال بنُو فلان قتلُوا فُلاناً والقاتلُ واحدٌ منهم وهذا أدخلُ في تقبيح حال الساكتين أولاً العاتبين ثانياً لما فيهِ منَ الدلالةِ على نفاقهم واخلاف أحوالهم وتناقضِ آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصةً بتقدير المضافِ أي قال منافقوهم {آمنا} لم يقتصروا على ذلك بل عللوه بأنهم وجدوا نعتَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في التوراة وعلموا أنه النبيُّ المبشَّر به وإنما لم يصرَّحْ به تعويلاً على شهادة التوبيخِ الآتي {وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ} أي بعض المذكورين وهم الساكتون منهم أي إذا فرَغوا من الاشتغال بالمؤمنين متوجِّهين ومنضمَّين {إلى بَعْضِ} آخرَ منهم وهم منافقوهم بحيث لم يبقَ معهم غيرُهم وهذا نصٌّ على اشتراك الساكتين في لقاء المؤمنين كما أشير إليه آنفاً إذِ الخلوُّ إنما يكون بعد الاشتغال ولأن عتابَهم معلقٌ بمحض الخلوِّ ولولا أنهم حاضرون عند المقاولة لوجب أن يُجعلَ سماعُهم لها من تمام الشرط ولأن فيه زيادةَ تشنيعٍ لهم على ما أتَوْا من السكوت ثم العتاب {قَالُواْ} أي الساكتون موبّخين لمنافقيهم على ما صنعوا {أَتُحَدّثُونَهُم} يعنون المؤمنين {بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} ما موصولةٌ والعائدُ محذوفٌ أي بيَّنه لكم خاصةً في التوراة من نعْت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم والتعبيرِ عنه بالفتْح للإيذان بأنه سرٌّ مكنونٌ وباب مغلَقٌ لا يقف عليه أحدٌ وتجويزُ كونِ هذا التوبيخ من جهة المنافقين لأعقابهم إراءةً للتصلُّب في دينهم كما ذهب إليه عصابةٌ مما لا يليق بشأن التنزيل الجليلِ واللامُ في قولِه عزَّ وجلَّ {لِيُحَاجُّوكُم بِهِ} متعلقةٌ بالتحديث دون الفتح والمرادُ تأكيدُ النكير وتشديدُ التوبيخ فإن التحديثَ بذلك وإن كان مُنْكراً في نفسه لكن التحديثَ به لأجل هذا الغرض

البقرة (77) مِمَّا لا يكادُ يصدُرُ عن العاقل أي أتحدِّثونهم بذلك ليحتجوا عليكم فيُبَكِّتوكم والمحدّثون به وإن لم يحوموا حولَ ذلك الغرضِ لكن فعلَهم ذلك لما كان مستتبِعاً له ألبتة جُعلوا فاعلين للغرض المذكور وإظهارا لكمال سخافةِ عقولِهم وركاكةِ آرائِهم {عِندَ رَبّكُمْ} أي في حُكمه وكتابه كما يقال هو عند الله كذا إى في يدفعه إذ هم عالمون بأنهم محجوجون يومئذ حدَّثوا به أو لم يحدثوا والاعتذار إلزام المؤمنين كتابه وشرعه وقيل عند ربكم يومَ القيامة ورُدَّ عليه بأن الإخفاءَ لا إياهم وتبكيتَهم بأن يقولوا لهم ألم تحدِّثونا بما في كتابكم في الدنيا من حقّية دينِنا وصدقِ نبيِّنا أفحشُ فيجوز أن يكون المحذورُ عندهم هذا الإلزامَ بإرجاع الضمير في به إلى التحديث دون المحدَّث به ولا ريب في أنه مدفوعٌ بالإخفاء لا تسادعه الآية الكريمة الايتة كما ستقف عليه بإذنِ الله عزَّ وجلَّ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} من تمام التوبيخ والعتابِ والفاءُ للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي أَلاَ تلاحظونَ فلا تعقِلون هذا الخطأَ الفاحشَ أو شيئاً من الأشياء التي من جملتها هذا فالمنْكرُ عدمُ التعقُّل ابتداءً أو أتفعلون ذلك فلا تعقلون بُطلانَه مع وضوحة حتى تحتاجون إلى التنبيه عليه فالمنكرُ حينئذ عدمُ التعقل بعد الفعل هذا وأمَّا مَا قيلَ من أنه خطابٌ من جهة الله سبحانه للمؤمنين متصلٌ بقوله تعالى {أَفَتَطْمَعُونَ} والمعنى أفلا تعقلون حالَهم وأن لا مطْمَعَ لكم في إيمانهم فيأباه قولُه تعالى

77

{أَوْ لاَ يَعْلَمُونَ} فإنه إلى آخره تجهيلٌ لهم من من جهته تعالى فيما حكى عنهم فيكون إيرادُ خطاب المؤمنين في أثنائه من قبيل الفصل بين الشجرِ ولِحائِه على أن في تخصيص الخطاب بالمؤمنين من التعسف وفي تعميمِه للنبي أيضا صلى الله عليه وسلم كما في أفتطمعون من سوء الأدب مالا يخفى والهمزةُ للإنكار والتوبيخ كما قبلها والواوُ للعطفِ على مقدرٍ ينساق إليه الذهنُ والضميرُ للموبَّخين أي أيلومونهم على التحديث المذكورِ مخافةَ المُحاجَّةِ ولا يَعْلَمُونَ {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} أي يُسرُّونه فيما بينهم من المؤمنين أو ما يضمرونه في قلوبهم فيثبتُ الحكمُ في ذلك بالطريق الأولى {وَمَا يُعْلِنُونَ} أي يظهرونه للمؤمنين لأصحابهم حسبما سبق فحينئذ يظهر الله تعالى ما أرادوا إخفاءَه بواسطة الوحى إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فتحصُلُ المحاجَّة ويقعُ التبكيت كما وقع في آية الرجم وتحريمِ بعضِ المحرماتِ عليهم فأيُّ فائدةٍ في اللوم والعتاب ومن ههنا تبين أن المحذور عندهم هو المُحاجّة بما فتحَ الله عليهم وهي حاصلةٌ في الدارَيْن حدَّثوا به أم لا لا بالتحديث به حتى يندفعَ بالإخفاء وقيل الضميرُ للمنافقين فقط أولهم وللموبَّخين أو لآبائهم المحرِّفين أي أيفعلون ما يفعلون ولا يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ جميعَ مَا يُسِرُّون وَمَا يُعْلِنُونَ ومن جملته إسرارُهم الكفرَ وإظهارُهم الإيمانَ وإخفاءُ ما فتح الله عليهم وإظهارُ غيرِه وكتمُ أمرِ الله وإظهارُ ما أظهروه افتراءً وإنما قُدم الإسرارُ على الإعلان للإيذانِ بافتضاحِهِم ووقوعِ ما يحذَرونه من أولِ الأمرِ والمبالغةِ في بيانِ شمولِ علمِه المحيطِ لجميعِ المعلوماتِ كأنَّ علمَه بما يُسرونه أقدمُ منه بما يعلنونه مع كونِهِما في الحقيقةِ على السويةِ فإنَّ علمَه تعالَى بمعلوماتهِ ليسَ بطريقِ حصولِ صُورِها بل وجودُ كلِّ شئ في نفسِه عِلْمٌ بالنِّسبةِ إليه تعالى وفي

البقرة (78) هذا المعنى لا يختلفُ الحال بين الشياء البارزةِ والكامنةِ ونظيره قولُه عز وعلا {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله} حيث قُدم فيه الإخفاءُ على الإبداء لما ذُكر من السر على عكس ما وقع في قوله تعالى {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} فإن الأصلَ في تعلق المحاسبة به هو الأمورُ الباديةُ دون الخافية ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ باعتبار أن مرتبةَ السرِّ متقدمةٌ على مرتبة العلنِ إذ ما من شئ يُعلَنُ إلا وهُو أو مباديهِ قبل ذلك مضمرٌ في القلبِ يتعلقُ بهِ الإسرارُ غالباً فتعلُقُ علمِه تعالَى بحالتِهِ الأُولى متقدمٌ على تعلقهِ بحالتِهِ الثانية

78

{ومنهم أميون} وقرئ بتخفيف الياء جمع أُمِّيّ وهو من لا يقدرُ على الكتابة والقراءة واختُلف في نسبته فقيل إلى الأم بمعنى أنه شبيهٌ بها في الجهل بالكتابة والقراءة فإنهما ليستا من شئوون النساء بل من خِلال الرجال أو بمعنى أنه على الحالة التي ولدتْه أمُه في الخلوِّ عن العلم والكتابة وقيل إلى الأُمّة بمعنى أنه باقٍ على سذاجتها خالٍ عن معرفة الأشياء كقولهم عامّي أي على عادة العامة روي عن عكرمة والضحاك أن المراد بهم نصارى العربِ وقيل هم قومٌ من أهل الكتاب رُفع كتابُهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أمّيين وعَنْ عليَ رضيَ الله تعالى عنه هم المجوسُ والحقُّ الذي لا محيدَ عنه أنهم جَهلةُ اليهودِ والجملةُ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان قبائحِهم إثرَ بيانِ شنائعِ الطوائفِ السالفة وقيل هي معطوفةٌ على الجملة الحالية وما بعدها فإن الجهل بالكتاب في منافاة الإيمان ليس بمثابة تحريفِ كلامِ الله بعد سماعِه والعلمِ بمعانيه كما وقع من الأولين أو النفاق والنهي عن إظهار ما في التوراة كما وقع من الفِرقتين الأخْرَيين أي ومنهم طائفةٌ جهَلةٌ غيرُ قادرين على الكتابة والتلاوة {لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب} أي لا يعرِفون التوراةَ ليطالعوها ويتحقَّقوا ما في تضاعيفها من دلائل النبوة فيؤمنوا وحَملُ الكتاب على الكتابة يأباه سباقُ النظم الكريم وسياقُه {إِلاَّ أَمَانِىَّ} بالتشديد وقرئ بالتخفيف جمع أمنية أصلُها أُمنُوية أفعولة من منَّى قدِّر أو بمعنى تلا كَتَمَنَّى في قوله ... تمنَّى كتاب الله أو ليله ... فأُعلَّت إعلالَ سيِّد وميِّت ومعناها على الأول ما يقدّره الإنسان في نفسه ويتمناه وعلى الثاني ما يتلوه وعلى التقديرين فالاستثناءُ منقطع إذ ليس ما يُتمنَّى وما يُتلى من جنس علم الكتاب أي لا يعلمون الكتابَ لكن يتمنَّوْن أمانيَّ حسبما منَّتْهم أحبارُهم من أن الله سبحانه يعفو عنهم وأن آباءَهم الأنبياءَ يشفعون لهم وغيرُ ذلك من أمانيهم الفارغةِ المستندة إلى الكتاب على زعم رؤسائِهم أو لا يعلمون الكتابَ لكن يتلقَّوْنه قدْرَ ما يُتلى عليهم فيقْبَلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر فيه وأما حملُ الأمانيَّ على الأكاذيبِ المختلفة على الإطلاق من غير أن يكون لها ملابسةٌ بالكتاب فلا يساعدُه النظمُ الكريمُ {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} ما هُم إلا قومٌ قُصارى أمرِهم الظنُّ والتقليدُ من غير أن يصِلوا إلى رتبة العلمِ فأنَّى يرجى منهم الإيمانُ المؤسَّسُ على قواعد اليقينِ ولما بين حالَ هؤلاء في تمسكهم بحبال الأمانيّ واتباعِ الظن عقَّب ببيان حال الذين أو قعوهم في تلك الورطةِ وبكشف كيفية إضلالِهم وتعيين مرجعِ بالآخر فقيل على وجه الدعاء

البقرة (79) عليهم

79

{فَوَيْلٌ} هو وأمثالُه من ويحٍ وويسٍ وويبٍ وويهٍ وويكٍ وعوْلٍ من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها لا يجوز إظهارُها البتة فإن أضيف نُصب نحو ويلك وويحك عن الإضافة رُفع نحوُ ويلٌ له ومعنى الويلِ شدةُ الشر قاله الخليل وقال الأصمعيُّ الويلُ التفجُّع والويحُ الترحُّم وقال سيبويه ويلٌ لمن وقع في الهَلَكة وويحٌ زجرٌ لمن أشرف على الهلاك وقيل الويلُ الحزن وهل ويح وويب وويس بذلك المعنى أو بينه وبينها فرق وقيل ويل في الدعاء عليه وويح وما بعده في الترحم عليه وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهما الويلُ العذاب الأليم وعن سفيان الثوري أنه صديدُ أهلِ جهنم ورَوى أبو سعيدٍ الخدريُّ رضيَ الله تعالى عنه عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال الويلُ وادٍ في جهنمَ يهوي فيه الكافرُ أربعينَ خريفاً قبل أنْ يبلُغ قَعْرَه وقال سعيد ابن المسيب إنه وادٍ في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لماعت من شدة حرِّه وقال ابن بريدة جبلُ قيحٍ ودمٍ وقيل صهريج في جهنم وحكى الزهراوي أنه باب من أبواب جهنم وعلى كل حالٍ فهو مبتدأً خبرُه قوله عز وعلا {لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب} أي المحرَّفَ أو ما كتبوه من التأويلات الزائغة {بِأَيْدِيهِمْ} تأكيدٌ لدفع توهمِ المجاز كقولك كتبتُه بيميني {ثُمَّ يَقُولُونَ هذا} أي جميعاً على الأول وبخصوصه على الثاني {مِنْ عِندِ الله} رُوي أن أحبارَ اليهودِ خافوا ذهابَ مآكلِهم وزوالَ رياستهم حين قدِم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم المدينةَ فاحتالوا في تعويق أسافلِ اليهودِ عن الإيمان فعمَدوا إلى صفة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في التوراة وكانت هي فيها حسنُ الوجهِ حسَنُ الشعر اكحل العينيين رَبْعةٌ فغيّروها وكتبوا مكانها طوُالٌ أزرقُ سِبَطُ الشعر فإذا سألَهم سَفَلتُهم عن ذلك قرءوا عليهم ما كتبوا فيجدونه مخالف لصفته عليه السلام فيكذِّبونه وثم للتراخي الرتبيّ فإن نسبةَ المحرف والتأويل الزايغ إلى الله سبحانه صريحاً أشدُّ شناعةً من نفس التحريفِ والتأويلِ {لِيَشْتَرُواْ بِهِ} أي يأخذوا لأنفسهم بمقابلته {ثَمَناً} هو ما أخذوه من الرشى بمقابلة ما فعلوا من التحريف والتأويل وإنما عُبر عن المشتري الذي هو المقصودُ بالذات في عقد المعاوضة بالثمن الذي هو وسيلةٌ فيه إيذاناً بتعكيسهم حيث جعلوا المقصود بالذات وسيلة والوسيلة بالذات {قَلِيلاً} لا يُعبأ به فإن ذلك وإن جل في نفسه فهو أقلُّ قليلاً عندما استوجبوا به من العذاب الخالد {فَوَيْلٌ لَّهُمْ} تكريرٌ لما سبق للتأكيد وتصريحٌ بتعليله بما قدمت أيديهم بعد الإشعار به فيما سلف بإيراد بعضِه في حيِّز الصلةِ وبعضِه في معرِضِ الغرض والفاءُ للإيذان بترتُّبه عليه ومن في قولِه عزَّ وجلَّ {مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} تعليليةٌ متعلقةٌ بويل أو بالاستقرار في الخبر وما موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوف أي كتَبَتْه أو مصدرية والأول أدخَلُ في الزجر عن تعاطي المحرَّفِ والثاني في الزجر عن التحريف {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} الكلام فيه كالذي فيما قبله والتكريرُ لما مر من التأكيد والتشديد إلى التعليل بكل من الجانبين وعدم التعرض لقولهم هذا من عند الله لما أنه من مبادي ترويجِ ما كتبت أيديهم فهو

البقرة (81 - 80) داخل في التعليل به

80

{وَقَالُواْ} بيانٌ لبعضٍ آخرَ من جناياتهم وفصلُه عما قبله مُشعرٌ بكونه من الأكاذيب التي اختلفوها ولم يكتبوها في الكتاب {لَن تَمَسَّنَا النار} في الآخرة {إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} قليلةً محصورةً عددَ أيام عبادتِهم العجلَ أربعين يوماً مُدةَ غَيْبةِ موسى عليه السلام عنهم وحَكى الأصمعي عن بعض اليهود أن عدد أيام عبادتهم العجل سبعة ورُوي عن ابن عبَّاسٍ ومجاهدٍ أن اليهودَ قالوا عُمرُ الدنيا سبعةُ آلاف سنة وإنما نعذَّب بكل ألفِ سنةٍ يوماً واحداً ورَوى الضحَّاكُ عنِ ابنِ عباس رضي الله تعالى عنهما أن اليهود زعمت أنهم وجدوا في التوراة أن ما بين طرفي جهنمَ مسيرةُ أربعين سنةً إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم وأنهم يقطعون في كل مسيرةَ سنة فيكملونها {قُلْ} تبكيتاً لهم وتوبيخاً {اتخذتم} بإسقاط الهمزةِ المجتَلَبة لوقوعها في الدرج وبإظاهر الذال وقرئ بإدغامها في التاء {عِندَ الله عَهْدًا} خبَراً أو وعداً بما تزعمون فإن ما تدّعون لا يكون إلا بناءً على وعدٍ قوي ولذلك عَبَّر عنه بالعهد {فَلَن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ} الفاءُ فصيحة معربة عن شرطٍ محذوفٍ كما في قول مَن قالَ قالُوا خراسانُ أقْصَى ما يُراد بنا ... ثمَّ القُفولُ فقد جئنا خراسان أي إن كان الأمر كذلك فلن يُخلِفَه والجملةُ اعتراضيةٌ وإظهارُ الاسمِ الجليل للإشعارِ بعلَّةِ الحُكم فإنَّ عدم الإخلاف من قضية الألوهية وإظهارُ العهدِ مضافاً إلى ضميره عزَّ وجلَّ لكا ذكر أو لأنَّ المرادَ بهِ جميع عهدوه لعمومه بالإضافة فيدخل فيه العهدُ المعهودُ دخولاً أولياً وفيه تجافٍ عن التصريح بتحقق مضمونِ كلامِهم وإن كان معلقاً بما لم يكَدْ يشَمُّ رائحةَ الوجود قطعاً أعني اتخاذَ العهد {أَمْ تَقُولُونَ} مفترين {عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وقوعَه وإنما عُلّق التوبيخ بإسنادهم إليه سبحانه مالا يعلمون وقوعَه مع أن ما أسندوه إليه تعالى من قبيل ما يعلمون عدمَ وقوعِه للمبالغة في التوبيخ والتنكير فإن التوبيخَ على الأدنى مستلزِمٌ للتوبيخ على الأعلى بالطريق الأَوْلى وقولُهم المحكيُّ وإن لم يكن تصريحاً بالافتراء عليه سبحانه لكنه مستلزِمٌ له لأن ذلك الجزمَ لا يكون إلا بإسناد سببِه إليه تعالى وام متصلةٌ والاستفهام للتقرير المؤدي إلى التبكيت لتحقق العلمِ بالشق الأخيرِ كأنه قيل أم لم تتخذوه بل تتقوّلون عليه تعالى وإما منقطعةٌ والاستفهام لإنكار الاتخاذِ ونفيِه ومعنى بل فيها الإضرابُ والانتقال من التوبيخ بالإنكار على اتخاذ العهدِ إلى ما تفيد همزتُها من التوبيخ على التقوُّل على الله سبحانه كما في قوله عز وجل {قل آلله أذِنَ لكم أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ}

81

{بلى} إلى آخره جوابٌ عن قولهم المحكيِّ وإبطالٌ له من جهته تعالى وبيانٌ لحقيقة الحالِ تفصيلاً في ضمن تشريعٍ كليَ شاملٍ لهم ولسائر الكَفَرة بعد إظهار كذِبِهم إجمالاً وتفويضُ ذلك إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لما أن المُحاجَّةَ والإلزامَ من وظائفه عليه السلام مع ما فيه من الإشعار

البقرة (83 - 82) بأنه أمر هين لايتوقف على التوقيف وبلى حرفُ إيجابٍ مختصٌّ بجواب النفي خبراً واستفهاماً {مَن كَسَبَ سَيّئَةً} فاحشةً من السيئات أي كبيرةً من الكبائر كدأب هؤلاء الكَفَرة والكسبُ استجلابُ النفعِ وتعليقُه بالسيئة على طريقة فبشِّرْهم بعذاب أليم {وأحاطت بِهِ} من جميع جوانبِه بحيثُ لم يبقَ له جانبٌ من قلبه ولسانه وجوارحِه إلا وقد اشتملت واستولت عليه {خَطِيئَتُهُ} التي كسَبها وصارت خاصةً من خواصّه كما تنبئ عنه الإضافةُ إليه وهذا إنما يتحقق في الكافر ولذلك فسرها السلفُ بالكفر حسبما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم وابنُ جرير عن أبي وائل ومجاهدٌ وقَتادةُ وعطاءٌ والربيعُ وقيل السيئةُ الكفرُ والخطيئةُ الكبيرة وقيل بالعكس وقيل الفرق بينهما أن الأُولى قد تطلق على ما يُقصَد بالذات والثانيةُ تغلِبُ على ما يُقصَدُ بالعَرَض لأنها من الخطأ وقرئ خَطِيَّتُه وخطِيّاتُه على القلب والإدغام فيهما وخطيئاتُه وخَطاياه وفي ذلك إيذانٌ بكثرة فنون كفرهم {فَأُوْلَئِكَ} مبتدأ {أصحاب النار} خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ والفاءُ لتضمُّنه معنى الشَّرطِ وإيرادُ اسمِ الإشارة المنبئ عن استحضار المشارِ إليه بماله من الأوصاف للإشعار بعلِّيتها لصاحبيّة النار وما فيه من معنى البُعد للتَّنبيهِ على بُعد منزلتهم في الكفر والخطايا وإنما أشير إليهم بعنوان الجَمْعية مراعاةً لجانب المعنى في كلمة مَنْ بعدَ مراعاة جانبِ اللفظ في الضمائر الثلاثةِ لما أن ذلك هو المناسبُ لما أسند إليهم في تَيْنِك الحالتين فإن كسب السيئة وأحاطت خطيئتِه به في حالة الانفراد وصاحية النارِ في حالة الاجتماع أي أولئك الموصوفون بما ذكر من كسب السيئات وإحاطة خطاياهم بهم أصحابُ النار أيْ مُلازمُوهَا في الآخرة حسب ملازمتهم في الدنيا لما يستوجبُها من الأسباب التي من جملتها ما هم عليه من تكذيبِ آياتِ الله تعالى وتحريفِ كلامِه والافتراءِ عليه وغيرِ ذلك وإنما لم يُخَصَّ الجوابُ بحالهم بأن يقال مثلاً بلى إنهم أصحابُ النار الخ لما في التعميم من التهويل وبيانِ حالِهم بالبرهان والدليل مع مامر من قصد الإشعار بالتعليل {هُمْ فِيهَا خالدون} دائماً أبداً فأنَّى لهم التفَصِّي عنها بعد سبعة أيام أو أربعين كما زعموا فلا حجةَ في الآيةِ الكريمةِ على خلود صاحبِ الكبيرة لما عرفت من اختصاصها بالكافر ولا حاجة إلى حمل الخلودِ على اللُبْث الطويل على أن فيه تهوينَ الخطب في مقام التهويل

82

{والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون} جرت السنةُ الإلهيةُ على شفْع الوعدِ بالوعيد مراعاةً لما تقتضيه الحِكمةُ في إرشاد العبادِ من الترغيب تارةً والترهيبِ أخرى والتبشيرِ مرةً والإنذارِ أخرى

83

{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاق بَنِى إسرائيل} شروع

البقرة (84) في تَعداد بعضٍ آخرَ من قبائح أسلافِ اليهودِ مما ينادي بعدم إيمانِ أخلافِهم وكلمةُ إذ نُصب بإضمار فعلٍ خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم والمؤمنون ليؤدِّيَهم التأملُ في أحوالهم إلى قطع الطمَع عن إيمانهم أو اليهودُ الموجودون في عهد النبوة توبيخاً لهم بسوء صنيعِ أسلافِهم أي اذكروا إذ أخذنا ميثاقهم {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} على إرادةِ القولِ أيْ قلنا أو قائلين لا تعبدون إلخ وهو إخبارٌ في معنى النهي كقوله تعالى {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شهيد} وكما يقول تذهب إلى فلان وتقول كيتَ وكيتْ وهو أبلغُ من صريح النهي لما فيهِ من إيهامِ أن المنهيَّ حقُّه أن يسارعَ إلى الانتهاء عما نُهي عنه فكأنه انتهى عنه فيُخبرُ به الناهيَ ويؤيده قراءةُ لا تعبدوا وعطفُ قولوا عليه وقيل تقديره أن لا تعبدوا إلخ فحُذِف الناصبُ ورُفع الفعلِ كما في قولِه أَلاَ أيُهذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى ... وأنْ أشهدَ اللذاتِ هل أنت مُخْلِدي ويعضُدُه قراءةُ أن لا تعبُدوا فيكون بدلاً من الميثاق أو معمولاً له بحذف الجار وقيل إنه جوابُ قسمٍ دل عليه المعنى كأنه قيل وحلّفناهم لا تعبدون إلا الله وقرئ بالياء لأنهم غُيَّبٌ {وبالوالدين إحسانا} متعلق بمضمر أي وتحسنون او احسنوا {وَذِى القربى واليتامى والمساكين} عطفٌ على الوالدين ويتامى جمع يتيم كندمي جمع نديم وهو قليل ومسكين مغعيل من السكون كأن الفقرَ أسكنه من الحَراك وأثخنه عن التقلب {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} أي قولاً حسناً سماه حسنا مبالغة وقرئ كذلك وحُسُناً بضمتين وهي لغةُ أهلِ الحجازِ وحُسْنى كبُشرى والمراد به ما فيه تخلّقٌ وإرشاد {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} هما ما فُرض عليهم في شريعتهم {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} إن جُعل ناصبُ الظرف خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فهذا التفاتٌ إلى خطاب بني إسرائيلَ جميعاً بتغليب أخلافِهم على أسلافهم لجريان ذكرى كلِّهم حينئذ على نهْج الغَيْبة فإن الخطاباتِ السابقةَ لأسلافهم محْكيةٌ داخلةٌ في حيز القول المقدّر قبل لاتعبدون كأنهم استُحضِروا عند ذكرِ جناياتهم منعيت هي عليهم وإنْ جعل خطابا لليهود المعاصرين للرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فهذا تعميمٌ للخطاب بتنزيل الأسلافِ منزلةَ الأخلاف كما أنه تعميمٌ للتولي بتنزيل الأخلافِ منزلةَ الأسلاف للتشديد في التوبيخ أي أعرضتم عن المُضِيِّ على مقتضى الميثاقِ ورفضتموه {إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ} وهم من الأسلاف مَنْ أقام اليهوديةَ على وجهها قبل النسخِ ومن الأخلاف مَنْ أسلم كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَم وأضرابه {وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} جملةٌ تذييلية أي وأنتم قوم عادتكم الإعراضُ عن الطاعة ومراعاةِ حقوق الميثاق أصل الإعراض الذهابُ عن المواجهة والإقبالُ إلى جانب العَرْض

84

{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم} منصوب بفعل مُضمرٍ خوطب به اليهودُ قاطبةً على ما ذكر من التغليب ونُعي عليهم إخلالُهم بمواجب الميثاق المأخوذِ منهم في حقوق العبادِ على طريقة النهي إثرَ بيانِ ما فعلوا بالميثاق المأخوذِ منهم في حقوق الله سبحانه وما يجرى مجراها على سبيل الأمرِ فإن المقصودَ الأصليَّ من النهي عن عبادةَ غيرِ الله تعالى هو الأمرُ بتخصيص العبادةِ به تعالى أي واذكروا وقت أخذِنا ميثاقَكم

البقرة (85) في التوراة وقوله تعالى {لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دياركم} كما قبله إخبارٌ في معنى النهي غُيِّر السبكُ إليه لما ذَكر من نُكتة المبالغة والمرادُ به النهيُ الشديدُ عن تعرُّض بعض بنى أسرئيل لبعضٍ بالقتل والإجلاءِ والتعبيرُ عن ذلك بسفك دماءِ أنفسِهم وإخراجِها من ديارهم بناءً على جَرَيان كلِّ واحدٍ منهم مجرى أنفسِهم لما بينهم من الاتصال القويِّ نسَباً وديناً للمبالغة في في الحمل على مراعاة حقوقِ الميثاق بتصوير المنهيِّ عنه بصورةٍ تكرَهها كلُّ نفس وتنفر عنه كلُّ طبيعةٍ فضميرُ أنفسَكم للمخاطبين حتماً إذ به يتحقق تنزيلُ المخْرِجين منزلتَهم كما أن ضميرَ ديارِكم للمخرَجين قطعاً إذ المحذورُ إنما هو إخراجُهم من ديارهم لا من ديار المخاطَبين من حيث إنهم مخاطَبون كما يفصحُ عنه ما سيأتِي من قولِه تعالى {مِن ديارهم} وإنما الخطابُ ههنا باعتبار تنزيلِ ديارِهم منزلةَ ديارِ المخاطَبين بناءً على تنزيل أنفسِهم منزلتَهم لتأكيد المبالغةِ وتشديدِ التشنيع وأما ضميرُ دماءَكم فمحتمل لوجهين مفاد الأول كون كون المسفوك دماء ادعايئة للمخاطَبين حقيقةً ومَفادُ الثاني كونُه دماءً حقيقيةً للمخاطبين ادعاءً وهما متقاربان في إفادة المبالغةِ فتدَّبرْ وأمَّا ما قيل من أنَّ المعنى لا تباشروا ما يؤديّ إلى قتل أنفسِكم قِصاصاً أو ما يبيح سفكَ دمائِكم وإخراجَكم من دياركم أو لا تفعلُوا ما يُرديكم ويصرِفُكم عن الحياة الأبدية فإنه القتلُ في الحقيقة ولا تقترفوا ما تُحْرَمون به عن الجنة التي هي دارُكم فإنه الجلاءُ الحقيقيُّ فممَّا لا يساعده سياقُ النظمِ الكريم بل هو نصٌّ فيما قلناه كما ستقف عليه {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} أي بالميثاق وبوجوب المحافظةَ عليه {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} توكيدٌ للإقرار كقولك أقرَّ فلانٌ شاهداً على نفسه وأنتم أيها الحاضرون تشهدون اليوم على إقرار أسلافِكم بهذا الميثاق

85

{ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء} خطابٌ خاص في الحاضرين فيه توبيخ شديدٌ واستبعادٌ قويٌّ لما ارتكبوه بعد ما كان من الميثاق به والشهداة عليه فأنتم مبتدأ وهؤلاء خبرُه ومَناطُ الإفادةِ اختلافُ الصفات المنزل منزلةَ اختلافِ الذات والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاءِ المشاهِدون الناقضون المتناقضون حسبما تُعربُ عنه الجملُ الآتية فإنَّ قولَه عزَّ وجلَّ {تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} الخ بيانٌ له وتفصيلٌ لأحوالهم المُنْكَرة المندرجةِ تحت الإشارةِ ضمناً كأنهم قالوا كيف نحن فقيل تقتُلون أنفسَكم أي الجارين مَجرى أنفسِكم كما أسير اليه وقرئ تُقتّلون بالتشديد للتكثير {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم} الضمير إما للمخاطبين والمضافُ محذوفٌ أي من أنفسكم وإما للمقتولين والخطابُ باعتبار أنهم جُعلوا أنفُسَ المخاطَبين وإلا فلا يتحقق التكافُؤُ بين المقتولين والمخرجين في ذلك العنوان الذي عليه يدورُ فلَكُ المبالغة في تأكيد الميثاقِ حسبما نُصَّ عليه ولا يظهر كمالُ قباحةِ

جناياتِهم في نقضه {مِن ديارهم} الضمير للفريق وإيثارُ الغَيْبة مع جواز الخِطاب أيضاً بناءً على اعتبار العنوان المذكورِ كما مرَّ في الميثاق للاحتراز عن توهم كونِ المرادِ إخراجَهم من ديار المخاطَبين من حيث هي ديارُهم لا من حيث هي ديارُ المخرِجين وقيل هؤلاءِ موصولٌ والجملتان في حيّز الصلةِ والمجموعُ هو الخبرُ لأنتم {تظاهرون علَيْهِم} بحذف إحدى التاءين وقرئ بإثباتهما وبالإدغام وتظّهرون بطرح إحدى التاءين من تتظهرون ومعنى الكل تتعاونون وهي حالٌ من فاعل تَخرجون أوْ منْ مفعولِه أو منهما جميعا مبنية لكيفية الإخراج دافعةٌ لتوهم اختصاصِ الحُرمة بالإخراج بطريق الأصالةِ والاستقلالِ دون المظاهرةِ والمعاونة {بالإثم} متعلقٌ بتظاهرون حال من فاعله أي ملتبسين بالإثم وهو الفعلُ الذي يستحق فاعلُه الذمَّ واللومَ وقيل هو ما ينفِرُ عنه النفسُ ولا يطمئن إليه القلب {والعدوان} وهو التجاوزُ في الظلم {وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى} جمعُ أسير وهو من يؤخذ قهراً فعيل بمعنى مفعول من الأسر أي الشدّ أو جمعُ أسرى وهو جمع أسير كجرحى وجريح وقد قرئ أسْرى ومحلُّه النصبُ عَلى الحاليّةِ {تفادوهم} أي تخرجوهم من الأسر بإعطاء الفداء وقرئ تَفْدوهم قال السدي إن الله تعالى أخذ عَلى بني إسرائيلَ فِى التوراة الميثاقَ أن لا يقتُلَ بعضُهم بعضاً ولا يُخرجَ بعضُهم بعضاً من ديارهم وأيُّما عبدٍ أو أمةٍ وجدتموه من بني إسرائيلَ فاشترُوه وأعتِقوه وكانت قريظةُ حلفاءَ الأوسِ والنضيرُ حلفاءَ الخزرج حين كان بينهما ما كان من العداوة والشَنَآن فكان كلُّ فريقٍ يقاتل مع حُلفائه فإذا غَلَبوا خرَّبوا ديارَهم وأخرجوهم منها ثم إذا أُسر رجل من الفريقين جمعوا له مالاً فيَفُدونه فعيَّرتهم العربُ وقالت كيف تقاتلونهم ثم تَفْدونهم فيقولون أُمرنا أن نفديَهم وحُرِّم علينا قتالُهم ولكن نستحي أن ندل حلفاء نا فذ مهم الله تعالى على المناقضة {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} هو ضميرُ الشأن وقع مبتدأ ومحرمٌ فيه ضمير قائم مقامَ الفاعلِ وقع خبراً من إخراجهم والجملة خبرٌ لضمير الشأن وقيل محرَّمٌ خبرٌ لضمير الشأن وإخراجُهم مرفوع على انه مفعول مالم يُسمَّ فاعلُه وقيل الضميرُ مهم يفسّره إخراجهم أو راجعٌ إلى ما يدل عليه تُخرجون من المصدر وإخراجُهم تأكيدا وبيان والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في تخرجون أو من فريقاً أو منهما كما مر بعد اعتبار القيد بالحال السابقة وتخصيصُ بيان الحرمةِ ههنا بالإخراج مع كونه قريناً للقتل عند أخذ الميثاقِ لكونه مِظنّةً للمساهلة في أمره بسبب قِلة خَطَره بالنسبة إلى القتل ولأن مساقَ الكلام لذمّهم وتوبيخِهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم معاً وذلك مختص بصورة الإجراج حيث لم يُنقلْ عنهم تدارك القتلى بشئ من دِيَةِ أو قِصاصٍ هو السر في تخصيص التظاهرِ به فيما سبق وأما تأخيرُه من الشرطية المعترضةِ مع أن حقه التقديمُ كما ذكره الواحدي فلأن نظْمَ أفاعيلِهم المتناقضةِ في سَمْطٍ واحدٍ من الذكر أدخَلُ في إظهار بطلانها {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب} أي التوراة التي أُخذ فيها الميثاقُ المذكور والهمزةُ للإنكار التوبيخي والفاءُ للعطف على مقدر يستدعيه المقام أي أتفعلون ذلك فتؤمنون ببعض الكتاب وهو المفاداة {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} وهو حرمةُ القتالِ والإخراج مع أن مِن قضية الإيمان ببعضه الإيمانُ بالباقي لكون الكلِّ من عند الله تعالى داخلاً في الميثاق فمناطُ التوبيخ كفرُهم بالبعض مع إيمانهم بالبعض حسبما يفيده ترتيبُ النظمِ الكريم فإن التقديمَ يستدعي في المقام الخطابي أصالةَ المقدَّم وتقدُّمَه بوجهٍ من الوجوه حتماً وإذ ليس ذلك ههنا باعتبار الإنكارِ والتوبيخ عليه وهو باعتبار الوقوعِ قطعاً

البقرة (87 - 86) لا إيمانُهم بالبعض مع كفرهم بالبعض كما هو المفهوم لوقيل أفتكفرون ببعض الكتاب وتؤمنون ببعض ولا مجردُ كفرِهم بالبعض وإيمانِهم بالبعض كما يفيده أن يقال أفتَجْمعون بين الإيمان ببعض الكتابِ والكفرِ ببعضٍ أو بالعكس {فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذلك} ما نافية ومن إن جُعلت موصولةً فلا محلَّ ليفعلُ من الإعراب وإن جعلت موصوفة فمحله الجر على أنه صفتُها وذلك إشارةٌ إلى الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان ببعضٍ أو إلى ما فعلوا من القتل والإجلاء مع مُفاداةِ الأسارى {مّنكُمْ} حالٌ من فاعل يفعل {إِلاَّ خِزْىٌ} استثناءٌ مُفرَّغٌ وقع خبراً للمبتدأ والخزيُ الذلُّ والهوانُ مع الفضيحة والتكير للتفخيم وهو قتلُ بني قريظة وإجلاء بني النضير إلى أذْرِعاتَ وأريحاءَ من الشام وقيل الجزية {فِي الحياة الدنيا} في حيز الرفعِ على أنه صفةٌ خزيٌ أي خزيٌ كائن في الحياة الدنيا أو في حيزِ النصبِ على أنه ظرف لنفس الخزي ولعل بيانَ جزائِهم بطريق القصر على ما ذكر لقطع أطماعِهم الفارغةِ من ثمرات إيمانهم ببعض الكتاب وإظهارِ أنه لا أثرَ له أصلاً مع الكفر ببعض {وَيَوْمَ القيامة يردون} وقرئ بالتاء أوثرَ صيغةُ الجمع نظراً إلى معنى مَنْ بعد ما أوثِرَ الإفرادُ نظراً إلى لفظها لما أن الردَّ إنما يكون بالاجتماع {إلى أَشَدّ العذاب} لما أن معصيتَهم أشدُّ المعاصي وقيل أشدُّ العذاب بالنسبة إلى ما لَهُم في الدُّنيا من الخزي والصَّغار وإنما غُيّر سبكُ النظمِ الكريم حيث لم يقُلْ مثلاً وأشدُّ العذاب يوم القيامة للإيذان بكمال التنافي بين جزاءَي النشأتين وتقديم يوم القيامة على ما ذكر ما يقع فيه لتهويل الخطبِ وتفظيعِ الحال من أول الأمر {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} من القبائح التي من جملتها هذا المنكر وقرئ بالياء على نهج يُردّون وهو تأكيد الموعيد

86

{أولئك} الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحةِ وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى {الذين اشتروا} أي آثروا {الحياة الدنيا} واستبدلوها {بالاخرة} وأعرضوا عنها مع تمكنهم من تحصيلها فإنَّ ما ذُكر من الكفر ببعض أحكامِ الكتاب إنما كان لمراعاة جانبِ حلفائِهم لما يعود إليهم منهم من بعض المنافع الدنية الدنيوية {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} دنيويا كان أو أخرويا {ولا هم ينصرون} بدفعه عنهم شفاعةً أو جبراً والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها عطفَ الاسمية على الفعلية أو ينصرون مفسِّرٌ لمحذوف قبل الضمير فيكونُ من عطف الفعلية على مثلها

87

{ولقد آتينا موسى الكتاب} شروعٌ في بيان بعض آخر من جناياتهم وتصديرُه بالجملة القَسَمية لإظهار كمالِ الاعتناءِ به والمراد بالكتاب التوراة عن ابن عباس رضي الله تعالَى عنُهمَا أنَّ التوراة لما نزلت جُملةً واحدة أمر الله تعالى موسى عليه السلام بحملها فلم يطق بذلك فبعث الله بكل حرفٍ منها مَلَكاً فلم يطيقوا بحملها فخففها الله تعالى لموسى عليه السلام فحملها {وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل} يقال قفّاه به إذا

البقرة (88) أتبعه إياه أي أرسلناهم على أَثَرِه كقوله تعالى ثُمَّ {أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تترا} وهم يوشَعُ وأشمَويلُ وشمعونُ وداودُ وسليمانُ وشَعْيا وأرميا وعُزيرٌ وحزْقيل وإلياسُ واليسعُ ويونسُ وزكريا ويحيى وغيرُهم عليهم الصلاة والسلام {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} المعجزاتِ الواضحاتِ من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبارِ بالمغيّبات أو الإنجيلَ وعيسى بالسرناية إيشوُعُ ومعناه المبارك ومريم بمعنى الخادم وهو بالعبرية من النساء كالزير من الرجال وبه فُسر قولُ رؤبة قلتُ لزيرٍ لم تصِلْه مَرْيمُه ... ضليلِ أهواءِ الصِّبا تندّمُهْ ووزنه مِفْعل إذ لم يثبت فعيل {وأيدناه} أي قويناه وقرئ وآيدناه {بِرُوحِ القدس} بضم الدال وقرئ بسكونها أي بالروح المقدسة وهي روحُ عيسى عليه السلام كقولك حاتمُ الجود ورجلُ صدقٍ وإنما وُصِفت بالقدْس لكرامته أو لأنه عليه السلام لم تضمه الأصلابُ ولا أرحامُ الطوامِث وقيل بجبريلَ عليه السلام وقيل بالإنجيل كما قيل في القرآن {رُوحاً من أمرنا} وقيل باسم الله الاعظم الذي كان يُحيي الموتى بذكره وتخصيصُه من بين الرسل عليهم السلام بالذكر ووصفُه بما ذكر من إيتاء البينات والتأييدِ بروح القدسِ لما أن بِعْثتَهم كانت لتنفيذ أحكامِ التوراة وتقريرِها وأما عيسى عليه السلام فقد نُسخ بشرعه كثيرٌ من أحكامها ولحسم مادةِ اعتقادِهم الباطلِ في حقه عليه السلام ببيان حقّيتِه وإظهارِ كمالِ قُبح ما فعلوا به عليه السلام {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ} من أولئك الرسل {بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم} من الحق الذي لا محيدَ عنه أي لا تحبُّه من هِويَ كفرح إذا أحب والتعبيرُ عنه بذلك للإيذان بأن مدارَ الردِّ والقبولِ عندهم هو المخالفةُ لأهواء أنفسِهم والموافقةُ لها لا شيءٍ آخرَ وتوسيطُ الهمزة بين الفاء وما تعلّقت به من الأفعال السابقةِ لتوبيخهم على تعقيبهم ذلك بهذا وللتعجيب من شأنهم ويجوز كونُ الفاءُ للعطف على مقدر يناسب المقام أي ألم تطيعوهم فكلما جاءكم رسولٌ منهم بما لا تهوى أنفسكم {استكبرتم} عن الاتباع له والإيمانِ بما جآء به من عند الله تعالى {فَفَرِيقًا} منهم {كَذَّبْتُمْ} منْ غيرِ أنْ تتعرضُوا لهم بشيء آخر من المضارِّ والفاءُ للسببية أو للتعقيب {وَفَرِيقًا} آخرَ منهم {تَقْتُلُونَ} غيرَ مكتفين بتكذيبهم كزكريا ويحيى وغيرهما عليهم السلام وتقديمُ فريقاً في الموضعين للاهتمام وتشويق السامعِ إلى ما فعلوا بهم لا للقصر وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في القتل لاستحضار صورتِه الهائلةِ أو للإيماء إلى أنهم بعْدُ على تلك النية حيث همُّوا مما لم ينالوه من جهته عليه السلام وسحروه وسمموا له الشاةَ حتى قال صلى الله عليه وسلم ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري

88

{وَقَالُواْ} بيانٌ لفنٍ آخرَ من قبائحهم على طريق الالتفاتِ إلى الغَيْبة إشعاراً بإبعادهم عن رُتبة الخِطاب لِمَا فُصِّل من مخازيهم الموجبةِ للإعراض عنهم وحكايةِ نظائرِها لكل من يفهم بُطلانها وقباحتَها من أهل الحق والقائلون هم الموجودون في عصر النبي عليه الصلاةَ والسلام {قلوبنا غلف} جمع أغلف مستعار من الأغلف الذي لم يُختَنْ أي مُغشّاة بأغشية جِبِلِّيةٍ لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم ولا تفقه كقولهم {قلوبُنا فِى أكِنّة مِمَّا تدعونا إليه} وقيل هو تخفيف غلف جمع غِلاف ويؤيده ما رُوي عن أبي عمرو من القراءة بضمتين يعنون أن قلوبنا أوعيةٌ للعلوم فنحن مستغنون بماعندنا عن

البقرة (89) غيره قاله ابن عباس وعطاء وقال الكلبي يعنون أن قلوبَنا لا يصل إليها حديث إلا وعته ولو كان في حديثك خير لوعته أيضا {بل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} ردٌّ لما قالوه وتكذيبٌ لهم في ذلك والمعنى على الأول بل أبعدهم الله سبحانه عن رحمته بأن خذلهم وخلاّهم وشأنَهم بسبب كفرهم العارضِ وإبطالِهم لاستعدادهم بسوء اختيارِهم بالمرة وكونِهم بحيث لا تنفعهم الإلطاف أصلاً بعد أن خلقهم على الفطرة والتمكنِ من قبول الحق وعلى الثاني بل أبعدهم من رحمته فأنى لهم ادعاءُ العلمِ الذي هو أجلُّ آثارِها وعلى الثالث بل أبعدهم من رحمته فلذلك لا يقبلون الحق المؤديَ إليها {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} ما مزيدة للمبالغة أي فإيماناً قليلاً يؤمنون وهو إيمانُهم ببعض الكتاب وقيل فزماناً قليلاً يؤمنون وهو ما قالوا آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجهَ النهار واكفُروا آخره وكلاهما ليس بإيمان حقيقةً وقيل أريد بالقِلة العدمُ والفاءُ لسببية اللعن لعدم الإيمان

89

{وَلَمَّا جَاءهُمْ كتاب} هو القرآن وتنكيرُه للتفخيم ووصفُه بقوله عز وجل {مِنْ عِندِ الله} أي كائن من عنده تعالى للتشريف {مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} من التوراة عبر عنها بذلك لما أن المعيةَ من موجبات الوقوفِ على ما في تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكونه مصدقاً لها وقرئ مصدّقاً على أنه حال من كتاب لتخصيصه بالوصف {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ} أي من قبل مجيئِه {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} أيْ وقد كانوا قبل مجيئه يستفتحون به على المشركين ويقولون اللهم انصرنا بالنبيِّ المبعوثِ في آخرِ الزمان الذي نجد نعته في التوراة ويقولون لهم قد أظلَّ زمانُ نبيَ يخرجُ بتصديقِ ما قلنَا فنقتلُكُم مَعَهُ قتلَ عادٍ وإرم وقالَ ابنُ عبَّاسٍ وقَتَادةُ والسدي نزلت في بني قُرَيظةَ والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم قبل مبعثِه وقيل معنى يستفتحون يفتتحون عليهم ويُعرِّفونهم بأن نبياً يُبعث منهم قد قرُب أوانُه والسين للمبالغة كما في استعجب أي يسألون من أنفسهم الفتحَ عليهم أو يسأل بعضُهم بعضاً أنْ يَفتحَ عليهم وعلى التقديرين فالجملة حاليةٌ مفيدةٌ لكمال مكابرتِهم وعنادِهم وقولُه عز وعلا {فَلَمَّا جَاءهُمُ} تكريرٌ للأول لطول العهد بتوسط الجملةِ الحاليةِ وقولُه تعالى {مَّا عَرَفُواْ} عبارةٌ عما سلف من الكتاب لأن معرفةَ من أنزل هو عليه معرفةٌ له والاستفتاحُ به استفتاح به وإيرادُ الموصولِ دون الاكتفاء بالإضمار لبيان كمالِ مكابرتِهم فإن معرفةَ ما جاءهم من مبادى الإيمان به ودواعيه لا محالةَ والفاء للدلالة على تعقيب مجيئِه للاستفتاح به من غير أن يتخلل بينهما مدةٌ منسيةٌ له وقوله تعالى {كَفَرُواْ بِهِ} جوابُ لمّا الأولى كما هو رأيُ المبرِّد أو جوابُهما معاً كما قاله أبو البقاء وقيل جوابُ الأولى محذوفٌ لدلالة المذكورِ عليه فيكونُ قولُه تعالَى وكانوا الخ جملةً معطوفةً على الشرطية عطفَ القصة على القصة والمرادُ بما عرفوا النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كما هو المراد بما كانوا يستفتحون به فالمعنى ولما جاءهم كتابٌ مصدقٌ لكتابهم كذّبوه وكانوا من قبل مجيئِه يستفتحون بمن أُنزل عليه ذلك الكتابُ فلما جاءهم النبيُّ الذي عرَفوه كفروا به {فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} اللامُ للعهد

البقرة (91 - 90) أي عليهم ووضعُ المظهرِ موضعَ المضمرِ للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرِهم كما أن الفاءَ للإيذان بترتبها عليه أو للجنس وهم داخلون في الحكم دخولا أولياء إذ الكلام فيهم وأياما كان فهو محقِّقٌ لمضمون قوله تعالى بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ

90

{بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ} ما نكرة بمعنى شئ منصوبة مفسرة لفاعل بئس واشتروا صفته أي بئس شيئاً باعُوا به أنفسَهم وقيل اشترَوْها به في زعمهم حيث يعتقدون أنهم بما فعلوا خلّصوها من العقاب ويأباه أنه لا بد أن يكون المذمومُ ما كان حاصلاً لهم لا ما كان زائلاً عنهم والمخصوصُ بالذم قولُه تعالى {أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ الله} أي بالكتاب المصدّقِ لما معهم بعد الوقوف على حقيقته وتبديلُ الإنزال بالمجيء للإيذان به {بَغِيّاً} حسداً وطلباً لما ليس لهم وهو علةٌ لأن يكفُروا حتماً دون اشتروا لما قيل بما هو أجنبيٌّ بالنسبة إليه وإن لم يكن أجنبياً بالنسبة إلى فعل الذمِّ وفاعلِه ولأن البغيَ مما لا تعلُّقَ له بعنوان البيع قطعا لاسيما وهو معلَّلٌ بما سيأتي من تنزيل الله تعالى من فضله على من يشاؤه وإنما الذي بينه وبينه علاقةٌ هو كفرُهم بما أنزل الله والمعنى بئس شيئاً باعُوا به أنفسَهم كفرُهم المعلَّلُ بالبغي الكائنِ لأجل {أَن يُنَزّلُ الله مِن فَضْلِهِ} الذي هو الوحى {على مَن يَشَاء} أي يشاؤه ويصطفيه {مِنْ عِبَادِهِ} المستأهِلين لتحمُّل أعباءِ الرسالةِ ومآلُه تعليلُ كفرِهم بالمنزل بحسدهم للمنزل عليه وإيثارُ صيغةِ التفعيل ههنا للإيذان بتجدد بغْيهم حسَب تجدُّدِ الإنزالِ وتكثُّره حسب تكثره {فباؤوا بِغَضَبٍ على غَضَبٍ} أي رجعوا ملتبسين بغضبٍ كائن على غضب مستحقين له حسب ما اقترفوا مِنْ كفر على كفر فإنهم كفروا بنبيّ الحقِّ وبغَوْا عليه وقيل كفروا بمحمَّدٍ عليهِ الصَّلاة والسَّلام بعد عيسى وقيل بعد قولهم عزيزا ابن الله وقولِهم يدُ الله مغلولةٌ وغير ذلك من فنون كفرهم {وللكافرين} أي لهم والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ للإشعار بعلية كفرهم لما حاق بهم {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يراد به إهانتُهم وإذلالُهم لما أن كفرَهم بما أنزل الله تعالى كان مبنيا على الحسد المبنيّ على طمع المنزولِ عليهم وادعاءِ الفضلِ على الناس والاستهانةِ بمن أنزل عليه عليه السلام

91

{وَإِذَا قِيلَ} من جانب المؤمنين {لهم} أي اليهود وتقديم الجار والمجرور وقد مر وجهة لاسيما في لام التبليغ {آمنوا بِمَا أَنزَلَ الله} مِن الكتب الإلهية جميعاً والمرادُ به الأمرُ بالإيمان بالقرآن لكن سُلك مسلكُ التعميم إيذاناً بتحتُّم الامتثالِ من حيث مشاركتُه لما آمنوا به فيما في حيِّز الصلةِ وموافقتِه له في المضمون وتنبيهاً على أن الإيمانَ بما عداه من غير إيمانٍ به ليس بإيمان بما أنزل الله {قَالُواْ نُؤْمِنُ} أي نستمر على الإيمان {بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} يعنون به التوراةَ وما نزل على

البقرة (92) أنبياءِ بني إسرائيلَ لتقرير حكمَها ويدسُّون فيه أن ما عدا ذلك غيرُ منزّلٍ عليهم ومرادُهم بضمير المتكلم إما أنفسُهم فمعنى الإنزالِ عليهم تكليفُهم بما في المنزَّل من الأحكام وإما أنبياءُ بني إسرائيلَ وهو الظاهرُ لاشتماله على مزيَّة الإيذانِ بأن عدمَ إيمانِهم بالفُرقان لما مرَّ من بغيهم وحَسَدِهم على نزوله على من ليس منهم ولأن مرادَهم بالموصول وإن كان هو التوراةُ وما في حكمها خاصةً لكنّ إيرادَها بعنوان الإنزالِ عليهم مبنيٌّ على ادعاء أن ما عداها ليس كذلك على وجه التعريضِ كما أشير إليه فلو أريد بالإنزال عليهم ما ذكر من تكليفهم يلزَمُ من مغايرَةَ القرآنِ لما أُنزل عليهم حسبما يُعرب عنه قوله عز وجل {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ} عدمُ كونِهم مكلَّفين بما فيه كما يلزَم عدمَ كونِه نازلاً على واحد من بني إسرائيلَ على الوجه الأخير وتجريد الموصول عند الإضمارِ عما عرَّضوا به تعسُّفٌ لا يخفى والوراء في الأصل مصدر جُعل ظرفاً ويضاف إلى الفاعل فيرادُ به ما يتوارى به وهو خلْفُه وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو أمامُه والجملةُ حالٌ من ضمير قالوا بتقدير مبتدأ أي ما قالوا وهم يكفرون بما عداه وليس المرادُ مجردَ بيانِ أن إفرادَ إيمانِهم بما أنزل عليهم بالذكر لنفي إيمانِهم بما وراء بل بيانِ أن ما يدّعون من الإيمان ليس بإيمانٍ بما أنزل عليهم حقيقةً فإن قولَه عز اسمُه {وَهُوَ الحق} أي المعروف بالحقية الحقيقُ بأن يُخصَّ به اسمُ الحقِ على الإطلاق حال من فاعل يكفُرون وقوله تعالى {مُصَدّقاً} حالٌ مؤكدة لمضمون الجملةِ صاحبُها إما ضميرُ الحق وعاملَها ما فيه من معنى الفعل قاله أبو البقاء وإما ضميرٌ دل عليه الكلامُ وعاملها فعلٌ مضمرٌ أي أُحِقُّه مصدِّقاً {لّمَا مَعَهُمْ} من التوراة والمعنى قالوا نؤمن بما أنزل علينا وهم يكفُرون بالقرآن والحال أنه حقٌّ مصدِّق لما آمنوا به فيلزمهم الكفرُ بما آمنوا به ومآله أنهم ادَّعَوا الإيمانَ بالتوراة والحال أنهم يكفُرون بما يلزم من الكفرُ بها {قُلْ} تبكيتاً لهم من جهةِ الله عزَّ من قائل ببيان التناقض بين أقوالهم {فَلَمْ} أصلُه لِمَا حُذفت عنه الألفُ فرقاً بين الاستفهامية والخبرية {تَقْتُلُونَ أنبياء الله من قبل} الخطابُ للحاضرين من اليهود والماضين على طريق التغليب وحيث كانوا مشاركين في العقد والعمل كان الاعتراضُ على أسلافهم اعتراضاً على أخلافِهم وصيغةُ الاستقبال لحكايةَ الحالِ الماضية وهو جوابُ شرطٍ محذوفٍ أيْ قل لهم إن كنتم مؤمنين بالتوراة كما تزعُمون فلأيِّ شيء كنتم تقتلون أنبياءَ الله من قبلُ وهو فيها حرام وقرئ أنبياء الله مهموزاً وقولُه تعالى {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} تكريرٌ للاعتراض لتأكيد الإلزامِ وتشديدِ التهديدِ أي إن كنتم مؤمنين فلم تقتلون وقد حُذف من كل واحدة من الشرطيتين ما حُذف ثقةً بما أُثبتَ في الأخرى وقيل لا حذفَ فيه بل تقديمُ الجواب على الشرط وذلكَ لا يتأتَّى إلا على رأي الكوفيين وأبي زيد وقيل إن نافية ما كنتم مؤمنين وإلا لما قتلتموهم

92

{وَلَقَدْ جَاءكُم موسى بالبينات} من تمام التبكيت والتوبيخِ داخلٌ تحت الأمر لا تكريرٌ لما قُصَّ في تضاعيف تعدادِ النِّعمِ التي من جُملتها العفوُ عن عبادة العجلِ واللامُ للقسم أي وبالله لقد جاءكم موسى ملتبسا بالمعجزات الظاهرةِ التي هي العصا واليدُ والسِّنونَ ونقصُ الثمراتِ والدمُ والطوفانُ والجَرادُ والقُمّلُ والضفادعُ وفلْقُ البحرِ وقد عُدَّ منها التوراةُ وليس بواضح فإن المجيءَ

البقرة (94 - 93) بها بعد قصةِ العجل {ثُمَّ اتخذتم العجل} أي إلها {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد مجيئِه بها وقيل من بعد ذهابِه إلى الطور فتكون التورارة حينئذ من جملة البيناتِ وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ والدلالة على نهايةِ قُبْحِ ما صنعوا {وَأَنتُمْ ظالمون} حالٌ من ضمير اتخذتم بمعنى اتخذتمُ العجلَ ظالمين بعبادته واضعين لها في غير موضعِها أو بإخلال بحقوق آياتِ الله تعالى أو غير اعتراض أي وأنتم قوم عادتُكم الظلمُ

93

{وَإِذْ أَخَذْنَا ميثاقكم} توبيخ من جهة الله تعالى وتكذيبٌ لهم في ادعائهم الإيمان بما أنزل عليهم بتذكير جناياتِهم الناطقةِ بكَذِبهم أي واذكروا حين أخذنا ميثاقَكم {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} قائلين {خذوا ما آتيناكم بِقُوَّةٍ واسمعوا} أي خذوا بما أُمرتم به في التوراة واسمعوا ما فيها سمعَ طاعةٍ وقَبول {قَالُواْ} استئناف مبني على سؤال سائلٍ كأنه قيل فماذا قالوا فقيل قالوا {سَمِعْنَا} قولَك {وَعَصَيْنَا} أمرَك فإذا قابل أسلافُهم مثلَ ذلك الخطابِ المؤكدِ مع مشاهدتهم مثلَ تلك المعجزةِ الباهرةِ بمثل هذه العظيمةِ الشنعاءِ وكفروا بما في تضاعيف التوبةِ فكيف يُتصوّر من أخلافِهم الإيمانُ بما فيها {وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ العجل} على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامُه للمبالغة أي تَداخَلَهم حبُّه ورسَخَ في قلوبهم صورتُه لفَرْط شغَفِهم به وحِرصِهم على عبادته كما يَتداخل الصبغ الثوبَ والشرابُ أعماقَ البدن وفي قلوبهم بيانٌ لمكان الإشرابِ كما في قوله تعالى {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً} والجملةُ حالٌ من ضمير قالوا بتقديم قد {بِكُفْرِهِمْ} بسبب كفرِهم السابقِ الموجبِ لذلك قيل كانوا مجسِّمة أو حلولية ولم يرَوا جسماً أعجبَ منه فتمكّن في قلوبهم ما سوَّل لهم السامريُّ {قُلْ} توبيخاً لحاضري اليهود إثرَ ما تبين من أحوال رؤسائِهم الذين بهم يقتدون في كلِّ ما يأتُون وما يذرون {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانكم} بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدّعون والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي ما ذكر من قولهم سمعنا وعصينا وعبادتِهم العجلَ وفي إسناد الأمرِ إلى الإيمان تهكّمٌ بهم وإضافةُ الإيمانِ إليهم للإيذان بأنه ليس بإيمانٍ حقيقة كما ينبئ عنه قوله تعالى {إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإنه قدْحٌ في دعواهم الإيمانَ بما أنزل عليهم من التزراة وإبطالٌ لها وتقريرُه إن كنتم مؤمنين بها عاملين فيما ذُكر من القول والعملِ بما فيها فبئسما يأمرُكم به إيمانُكم بها وإذ لايسوغ الإيمانَ بها مثلُ تلك القبائحِ فلستم بمؤمنين بها قطعاً وجوابُ الشرط كما ترى محذوفٌ لدلالةِ ما سبق عليه

94

{قُلْ} كَرر الأمرَ مع قرب العهد بالأمر السابق لما أنه أمرٌ بتبكيتهم وإظهارِ كذِبهم في فنٍ آخرَ من أباطيلهم لكنه لم يُحْكَ عنهم قبل الأمر بإبطاله بل اكتُفيَ بالإشارة إليه في تضاعيف الكلام حيث قيل {إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الاخرة} أي الجنةُ أو نعيمُ الدار

البقرة (96 - 95) الآخرة {عِندَ الله خَالِصَةً} أي سالمة لكم خاصة بكم كما تدّعون أنه لنْ يدخلَ الجنةَ إلاَّ من كان هودا أو نصارى ونصبُها على الحالية من الدار وعند ظرفٌ للاستقرار في الخبر أعني لكم وقوله تعالى {مّن دُونِ الناس} في محل النصبِ بخالصة يقال خلَص لي كذا من كذا واللامُ للجنس أي الناس كافة أو للعهد أي المسلمين {فَتَمَنَّوُاْ الموتَ} فإنَّ مَنْ أيقن بدخول الجنة اشتاقَ إلى التخلص إليها من دار البوار وقرارة الأكدار لاسيما إذا كانت خالصة له كما قال عليٌّ كرم الله وجهه لا أبالي أسقطتُ على الموت أو سقط الموت على وقال عمار بن ياسر بصفين ... الآن ألاقي الأحبة ... محمدا وحزبه ... وقال حذيفة بن اليمان حين احتصر وقد كان يتمنى الموت قبل ... جاء حبيب على فاقة ... فلا أفلح اليوم من قد ندم ... أي على التمنى وقوله تعالى {إن كنتم صادقين} تكرير للكلام لتشديد الإلزام وللتنبيه على أن ترتب الجواب ليس على تحقق الشرط في نفس الأمر فقط بل في اعتقادهم أيضا وأنهم قدادعوا ذلك والجوابُ محذوفٌ ثقةً بدلالة ما سبقَ عليهِ أيْ إنْ كنتُم صادقين فتمنوه وقوله تعالى

95

{ولن يتمنوه أبدا} كلامٌ مستأنفٌ غيرُ داخلٍ تحت الأمر سيق من جهته سبحانه لبيان ما يكون منهم من الإحجام عما دعوا إليه الدال على كذبهم في دعواهم {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بسببِ ما عملُوا من المعاصي الموجبة لدخول النار كالكفر بالنبي عليه السلام والقرآن وتحريف التوراة ولما كانتِ اليدُ من بينِ جوارحِ الإنسانِ مناطَ عامة صنائعة ومدار أكثر منافعة عبَّرَ بها تارةً عن النفسِ وأُخرى عنِ القدرةِ {والله عَلِيمٌ بالظالمين} أيْ بهِم وإيثارُ الإظهارِ على الإضمار لذمِّهم والتسجيلِ عليهِم بأنَّهم ظالمون في جميعَ الأمورِ التي من جملتها ادعاء ما ليس لهم ونفيه من عيرهم والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها مقررةٌ لمضمونِهِ أيْ عليمٌ بهِم وبِمَا صدَرَ عَنْهُم من فنونِ الظلمِ والمعَاصِي المفضيةِ إلى أفانينِ العذابِ وبِمَا سيكونُ منهُم منَ الاحترازِ عَمَّا يؤدِّي إلى ذلكَ فوقعَ الأمرُ كما ذكرَ فلم يتمنَّ منهُم موته أحد إذ لو وقع ذلك لنقل واشتهر وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقى يهوديَ على وجه الأرض

96

{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس} من الوُجدان العقليّ وهو جار مجرى العلم خلا أنه مختصٌّ بما يقع بعد التجربة ونحوهما ومفعولاه الضميرُ وأحرصَ والتنكيرُ في قوله تعالى {على حياة} للإيذان بأن مرادهم نوعٌ خاص منها وهي الحياة المتطاولة وقرئ بالتعريف {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} عطف على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل أحرصَ من الناس ومن الذين أشركوا وإفرادُهم بالذكر مع دخولهم في الناس للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرصِ للمبالغة في توبيخ اليهودِ فإن حرصَهم وهم معترفون بالجزاء لمّا كان أشدَّ من حرص المشركين المنكرين له دلّ ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار ويجوز أن يُحملَ على حذف المعطوف ثقةً بإنباء المعطوفِ عليه عنه أي وأحرصَ من الذين أشركوا فقوله تعالى

البقرة (97) {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} بيان لزيادة حرصِهم على طريقة الاستئناف ويجوز أن يكون في حيز الرفعِ صفةً لمبتدإٍ محذوفٍ خبرُه الظرفُ المتقدم على أن يكون المرادُ بالمشركين اليهود لقولهم عزيز بنُ الله أي ومنهم طائفة يودُّ أحدُهم أيَّهم كان أي كلُّ واحد منهم {لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} وهو حكاية لودادتهم كأنه قيل ليتني أُعَمَّرُ وإنما أُجريَ على الغَيبة لقوله تعالى يود كما تقول ليفعلَنّ ومحلُه النصبُ على أنَّه مفعولُ يود إجراءً له مجرى القول لأنه فعل قلبيٌّ {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب} ما حجازيةٌ والضميرُ العائد على أحدُهم اسمُها وبمُزَحْزحِه خبرُها والباء زائدة {أَن يُعَمَّرَ} فاعلُ مزحزحِه أي وما أحدهم بمَنْ يزحزِحُه أي يُبعده وينْجيه من العذاب تعميرُه وقيل الضَّميرُ لما دلَّ عليه يعمر من المصدر وأن يعمر بدلٌ منه وقيل هو مبهم وأن يعمّر مفسرةٌ والجملةُ حال من أحدهم والعامل يود لا يُعمَّر على أنَّها حالٌ من ضميره لفساد المعنى أو اعتراض وأصلُ سنة سَنْوَة لقولهم سنَوَات وسَنْية وقيل سَنْهة كجبهة لقولهم سانهتُه وسُنَيهة وتسنّهت النخلة إذا أتت عليها السنون {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} البصيرُ في كلام العرب العالم بكنه الشي الخبيرُ به ومنه قولهم فلان بصيرٌ بالفقه أي عليم بخفيات أعمالهم فهو مجازيهم بها لا محالة وقرئ بتاء الخطاب التفاتاً وفيه تشديد للوعيد

97

{قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ} نزل في عبدِ اللَّه بنِ صوريا من اخبار فدَك حاجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عمن نزل عليه الوحى فقال عليه السلام جبريلُ عليه السَّلامُ فقال هو عدوُّنا لو كان غيرُه لآمنّا بك وفي بعض الروايات ورسولنا وميكائيل فلو كان هو الذي يأتيك لآمنا بك وقد عادانا مِراراً وأشدُّها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدِس سيُخْرِبُه بُخْتَ نَصَّرُ فبعثنا من يقتلُه فلقِيه ببابل غلاماً مسكيناً فدفع عنه جبريلُ عليه السلام وقال إن كان ربكم أمره بهلا ككم فإنه لا يسلِّطكم عليه وإلا فبأيِّ حق تقتلونه وقيل أمرَهُ الله تعالى أنْ يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا وروي أنه كان لعمر رضي الله عنه أرض بأعلى المدينة وكان ممرُّه على مدارس اليهود فكان يجلس إليهم ويسمع كلامَهم فقالوا يا عمرُ قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال والله ما أجيئكم ولا سألكم لشكٍ في ديني وإنما أدخُلُ عليكم لأزداد بصيرةً في أمر محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وأرى آثارَه في كتابكم ثم سألهم عن جبريلَ عليه السلام فقالوا ذاك هو عدوُّنا يُطلِعُ محمداً على أسرارنا وهو صاحبُ كلِّ خسفٍ وعذاب وميكائيلُ يجيء بالخِصْب والسلام فقال لهم وما منزلتُهما عند الله تعالى قالوا جبريلُ أقربُ منزلةً هو عن يمينه وميكائيلُ عن يساره وهما متعاديان فقال عمرُ رضي الله عنه إن كانا كما تقولون فما هما بعدوَّيْن ولأنتم أكفرُ من الحمير ومن كان عدو الأحدهما فهو عدوٌّ للآخر ومن كان عدواً لهما كان عدوا لله سبحانه ثم رجع عمرُ فوجد جبرئيل عليه السلام قد سبقه بالوحى فقال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لقد وافقك ربُّك يا عمر فقال عمرُ رضي الله عنه لقد رأيتُني في ديني بعد ذلك أصلبَ من الحجر وقرئ جبرئيل كسلسبيل وجبريل كجَحْمَرِشٍ وجِبريلَ وجِبْرئلَ وجِبرائيل كجبراعيل وجبرائل كجبراعل

البقرة (99 - 98) ومَنْعُ الصرفِ فيه للتعريف والعُجمة وقيل معناه عبد اللَّه {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} تعليل لجواب الشرط قائم مقامه والبارزُ الأولُ لجبريل عليه السلام والثاني للقرآن أُضمر من غير ذكرٍ إيذاناً بفخامة شأنِه واستغنائه عن الذكر لكمالِ شهرتِه ونباهتِه لاسيما عند ذكر شئ من صفاته {على قَلْبِكَ} زيادةُ تقريرٍ للتنزيل ببيان محلِّ الوحي فإنه القائلُ الأول له ومدارُ الفهم والحفظ وإيثارُ الخطاب على التكلم المبنيّ على حكاية كلام الله تعالى بعينه كما في قوله تعالى {قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} لما في النقل بالعبارة من زيادة تقريرٍ لمضمون المقالةِ {بِإِذُنِ الله} بأمره وتيسيرِه مستعارٌ من تسهيل الحجاب وفيه تلويحٌ بكمال توجُّه جبريلَ عليه السَّلامُ إِلَىَّ تنزيله وصدقِ عزيمتِه عليه السلام وهو حالٌ من فاعلِ نزّله وقوله تعالى {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتب الإلهية التي معظمُها التوراةُ حالٌ من مفعوله وكذا قوله تعالى {وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ} والعاملُ في الكل نزّله والمعنى من عادى جبريلَ من أهل الكتاب فلا وجهَ لمعاداته بل يجب عليه محبتُه فإنه نزل عليك كتاباً مصدِّقاً لكُتُبهم أو فالسبب في عداوته تنزيلُه لكتاب مصدّقٍ لكتابهم موافقٍ له وهم له كارهون ولذلك حرفوا كتابهم وجحَدوا موافقتَه له لأن الاعترافَ بها يوجب الإيمانَ به وذلك يستدعى التكاس أحوالِهم وزوالَ رياستهم وقيل إن الجواب فقد خلَع رِبْقةَ الإنصافِ أو فقد كفر بما معه من الكتب أو فليمُتْ غيظاً أو فهو عدوٌّ لي وأنا عدوٌّ له

98

{من كان عدوا لله} أريد بعداوته تعالى مخالفةُ أمرِه عِناداً والخروجُ عن طاعته مكابرة أوعداوة خواصِّه ومقرَّبيه لكنْ صُدّر الكلامُ بذكره الجليل تفخيماً لشأنهم وإيذانا بان عداوتُه عز وعلا كما في قوله عز وجل {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} ثم صرح بالمرام فقيل {وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} وإنما أفردا بالذكر مع أنهما أولُ من يشمَلُه عنوانُ المَلَكية والرسالة لإظهار فضلِهما كأنهما عليهما السلام من جنسٍ آخَرَ أشرفَ مما ذكر تنزيلاً للتغايُر في الوصف منزلةَ التغايرِ في الجنس وللتنبيه على أن عداوةَ أحدِهما عداوةٌ للآخر حسماً لمادة اعتقادِهم الباطلَ في حقهما حيث زعَموا أنهما متعاديان وللإشارة إلى أن معاداةَ الواحدِ والكلِّ سواءٌ في الكفر واستتباع العدواة من جهة الله سبحانه وأن من عادى أحدَهم فكأنما عادى الجميعَ وقولُه تعالى {فَإِنَّ الله عَدُوٌّ للكافرين} أي لهم جوابُ الشرط والمعنى من عاداهم عاداه الله وعاقبه أشدَّ العقاب وإيثارُ الاسميةِ للدلالةِ على التحققِ والثباتِ ووضعُ الكافرين موضعَ المضمرِ للإيذان بأن عداوةَ المذكورين كفر وأن ذلك بيِّنٌ لا يحتاج إلى الإخبار به وأن مدارَ عداوتِه تعالى لهم وسخطِه المستوجبِ لأشدِّ العقوبة والعذاب وهو كفرهم المذكور وقرئ ميكائيل كميكاعِلَ وميكائيلَ كميكاعيلَ وميكئِلَ كميكعِلَ وميكَئيلَ كميكَعيل

99

{ولقد أنزلنا إليك آيات بَيّنَاتٍ} واضحاتِ الدِلالة على معانيها وعلى كونِها من عندِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ {وما يكفر بها إلا الفاسقون} أي المتمردون في الكفر الخارجون عن حدوده فإن من

البقرة (101 - 100) ليس على تلك الصفة من الكفرة لايجترئ على الكفر بمثل هاتيك البينات قال الحسنُ إذا استُعمل الفسقُ في نوعٍ من المعاصي وقع على أعظمِ أفرادِ ذلك النوع من كفرٍ أو غيره وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال قال ابنُ صوريا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما جئتنا بشئ نعرِفُه وما أُنزل عليك من آية فنتّبعَك لها فنزلت واللام للعهد أي الفاسقون المعهودون وهم أهلُ الكتاب المحرِّفون لكتابهم الخارجون عن دينهم أو للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أوليا

100

{أَوْ كُلَّمَا عاهدوا عَهْدًا} الهمزةُ للإنكارِ والواوُ للعطفِ على مقدر يقتضيه المقام أي أكفَروا بها وهي غاية الوضوحِ وكلما عاهدوا عهداً ومن جملة ذلك ما أشير إليه في قوله تعالى {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} من قولهم للمشركين قد أظلَّ زمانُ نبيَ يخرجُ بتصديقِ ما قلنَا فنقتلُكُم مَعَهُ قتلَ عادٍ وإرم وقرئ بسكون الواو على أن تقدير النظم الكريم وما يكفر بها إلا الذين فسقوا أو نقضوا عهودَهم مرارا كثيرة وقرئ عوُهِدوا وعهِدوا وقوله تعالى عهداً إما مصدرٌ مؤكد لعاهَدوا من غير لفظِه أو مفعولٌ له على أنه بمعنى أعطَوُا العهدَ {نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم} أي راموا بالزمام ورفضوه وقرئ نَقَضَه وإسنادُ النبذِ إلى فريق منهم لأن منهم من لم ينبِذْه {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} أي بالتوراة وهذا دفعٌ لما يُتوَهَّم من أن النابذين هم الأقلون وأن من لم ينبِذْ جِهاراً فهم يؤمنون بها سراً

101

{وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ} هو النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ولتنكير للتفخيم {مِنْ عِندِ الله} متعلق بحاء أو بمحذوف وقع صفة لرسول لإفادة مزيدِ تعظيمِه بتأكيد ما أفاده التنكيرُ من الفخامةِ الذاتية بالفخامة الإضافية {مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} من التوراة من حيث أنه صلى الله عليه وسلم قرر صِحتها وحقق حَقّيةَ نبوة موسى عليهِ الصلاةُ والسلامُ بمَا أُنزل عليه أو من حيث إنه عليه السلام جاء على وَفق ما نُعت فيها {نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} أي التوراةَ وهم اليهودُ الذين كانوا في عهد النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ممن كانوا يستفتحون به قبل ذلك لا الذين كانو في عهد سليمانَ عليه السلام كما قيل لأن النبذَ عند مجيءِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لا يتصور منهم وإفراد هذا النبذُ بالذِّكرِ مع اندراجِه تحتَ قوله عز وجل {أَوْ كُلَّمَا عاهدوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم} لأنه معظمُ جناياتِهم ولأنه تمهيدٌ لذكر اتّباعهم لما تتلو الشياطينُ وإيثارِهم له عليه والمرادُ بإيتائها إما إيتاءُ علمِها بالدراسة والحفظ والوقوفِ على ما فيها فالموصولُ عبارة عن علمائهم وإما مجردُ إنزالِها عليهم فهو عبارةٌ عن الكل وعلى التقديرين فوضعُه موضِع الضمير لللإ يذان بكمال التنافي بين ما أُثبت لهم في حيز الصلةِ وبين ما صدرَ عنهُم من النبذ {كتاب الله} أي الذي أوُتوه قال السدي لما جاءهم محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراةُ والفرقانُ فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصَفَ وسحرِ هاروتَ وماروتَ فلم يوافق القرآنَ فهذا قوله تعالى {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ الله} الخ وإنما عَبَّر عنها بكتاب الله تشريفاً لها وتعظيماً لحقِها عليهم وتهويلا لما اجترؤا عليه من الكفر

البقرة (102) بها وقيل كتابَ الله القرآنُ نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول لاسيما بعد ما كانوا يستفتحون به من قبل فإن ذلك قَبولٌ له وتمسُّكٌ به فيكون الكفرُ به عند مجيئه نبذاً له كأنه قيل كتابَ الله الذي جاء به فإن مجيءَ الرسول مُعربٌ عن مجيء الكتاب {وَرَاء ظُهُورِهِمْ} مَثَلٌ لتركهم وإعراضِهم عنه بالكلية مثل بما يرمى به وراء الظهر استغناءً عنه وقلّةَ التفاتٍ إليه {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} جملةٌ حاليةٌ أي نبذوه وراء ظهورِهم مُشبَّهين بمن لا يعلمه فإن أريد بهم أحبارُهم فالمعنى كأنهم لايعلمونه على وجه الإيقان ولا يعرفون مَا فيهِ منْ دلائلِ نبوتِه عليه الصلاةُ والسلامُ ففيه إيذانٌ بأن علمَهم به رصينٌ لكنهم يتجاهلون أو كأنهم لا يعلمون أنه كتابُ الله أو لا يعلمونه أصلاً كما إذا أريد بهم الكل وفي هذين الوجهين زيادةُ مبالغةٍ في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة هذا وإن أريد بما نبذوه من كتاب الله القرآنَ فالمرادُ بالعلم النَّفيِ في قوله تعالى {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} هو العلمُ بأنه كتابُ الله ففيه ما في الوجه الأول من الإشعار بأنهم مُتيقِّنون في ذلك وإنما يكفُرون به مكابرةً وعِناداً قيل إن جيل اليهود أربعُ فرقٍ ففِرقةٌ آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهلِ الكتاب وهم الأقلون المشار إليهم بقوله عز وجل {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وفِرقةٌ جاهروا بنبذ العهودِ وتعدّي الحدود تمرُّداً وفسُوقاً وهم المعنيُّون بقوله تعالى {نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم} وفِرقةٌ لم يجاهروا بنبذها ولكن نبذوها لجهلهم بها وهم الأكثرون وفِرقةٌ تمسكوا بها ظاهراً ونبذوها خُفْيةً وهم المتجاهلون

102

{واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} عطف على جواب لما أي نبذوا كتابَ الله واتبعوا كتبَ السَحَرة التي كانت تقرأها الشياطين وهم المتمرِّدون من الجن وتتلو حكايةُ حالٍ ماضيةٍ والمرادُ بالاتباع التوغلُ والتمحُّض فيه والإقبال عليه بالكلية وإلا فأصل الاتياع كان حاصلا قبل مجئ الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يتسنّى عطفُه على جواب لما ولذلك قيل هو معطوف على الجملة وقيل على أُشربوا {على مُلْكِ سليمان} أي في عهد مُلكِه قيل كانت الشياطينُ يسترقون السمعَ ويضُمُّون إلى ما سمِعوا أكاذيبَ يُلفِّقونها ويُلْقونها إلى الكهنة وهم يدوِّنونها ويعلّمونها الناسَ وفشا ذلك في عهد سليمانَ عليه السلام حتى قيل إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون هذا عِلمُ سليمان وما تم له مُلكُه إلا بهذا العلم وبه سَخَّر الإنسَ والجنّ والطيرَ والريحَ التي تجري بأمره وقيل أن سليمانَ عليه السلام كان قد دفنَ كثيراً من العلوم التي خصّه الله تعالى بها تحت سريرِ مُلكه فلما مضت على ذلك مدةٌ توصَّل إليها قومٌ من المنافقين فكتبوا في خلال ذلك أشياءَ من فنون السحرِ تناسب تلك

الأشياءَ المدفونةَ من بعض الوجوه ثم بعد موته واطلاعِ الناس على تلك الكتب أو هموهم أنه من عملِ سُليمانَ عليه السلام وأنه ما بلغ هذا المبلغَ إلا بسبب هذه الأشياء {وَمَا كَفَرَ سليمان} تنزيهٌ لساحته عليه السلام عن السحر وتكذيبٌ لمن افترى عليه بأنه كان يعتقده ويعمل به والتعرُّضُ لكونه كُفراً للمبالغة في إظهار نزاهتِه عليه لسلام وكذِبِ باهِتيهِ بذلك {ولكن الشياطين} وقرئ بتخفيف لكنّ ورفع الشياطين والواو عاطفةٌ للجملة الاستدراكية على ما قبلها وكونُ المخففة عند الجمهور للعطف إنما هو عند عدم الواو وكون ما بعدها مفرداً {كَفَرُواْ} باستعمال السحر وتدوينِه {يُعَلّمُونَ الناس السحر} إغواءً وإضلالاً والجملةُ في محل النصب على الحالية من ضمير كفروا أو من الشياطين فإن ما في لكنّ من رائحة الفعل كافٍ في العمل في الحال أو في محلِ الرفعِ على أنه خبرٌ ثانٍ للكنّ أو بدلٌ من الخبر الأول وصيغةُ الاستقبال للدِلالة على استمرار التعليمِ وتجدُّدِه أو جملةٌ مستأنفة هذا على تقديرِ كونِ الضميرِ للشياطين وأما على تقدير رجوعِه إلى فاعل اتبعوا فهي إما حالٌ منه وإما استئنافيةَ فحسب واعلم أن السحرَ أنواعٌ منها سحْرَ الكَلدانيين الذين كانوا في قديم الدهر وهم قوم يعبُدون الكواكبَ ويزعُمون أنها هي المدبِّرةُ لهذا العالم ومنها تصدرُ الخيراتُ والشرورُ والسعادةُ والنحوسةُ ويستحدثون الخوارقَ بواسطة تمزيج القُوى السماوية بالقوى الأرضية وهم الذين بعث اللَّهُ تعالى إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام لإبطال مقالتهم وهم ثلاثُ فِرقٍ ففِرقةٌ منهم يزعُمون أن الأفلاكَ والنجومَ واجبةُ الوجود لذواتها وهم الصائبة وفرقةٌ يقولون بإلهية الأفلاكِ ويتخذون لكل واحدٍ منها هيكلاً ويشتغلون بخدمتها وهم عبَدَةُ الأوثان وفرقة أثبتوا للأفلاك وللكواكب فاعلاً مختاراً لكنهم قالوا إنه أعطاها قوةً عالية نافذةً في هذا العالم وفَوَّضَ تدبيرَه إليها ومنها سحْرَ أصحابِ الأوهام والنفوسِ القوية فإنهم يزعُمون أن الإنسانَ تبلُغُ روحُه بالتصفية في القوة والتأثير إلى حيث يقدِرُ على الإيجاد والإعدام والإحياءِ وتغييرِ البُنية والشكل ومنها سحرُ من يستعين بالأرواحِ الأرضيةِ وهو المسمّى بالعزائم وتسخيرِ الجن ومنها التخييلاتُ الآخذة بالعيون وتسمَّى الشَّعْوذةَ ولا خلاف بين الأمة في أن من اعتقد الأول فقد كفر وكذا من اعتقد الثانيَ وهو سحر أصحاب الأوهام والنفوس القويةِ وأما من اعتقد أن الإنسان يبلُغ بالتصفية وقراءةِ العزائم والرقى إلى حيث يخلق الله سبحانه وتعالى عَقيبَ ذلك على سبيل جَرَيان العادةِ بعضَ الخوارق فالمعتزلةُ اتفقوا على أنه كافر لأنه لا يمكنه بهذا الاعتقاد معرفةُ صدقِ الأنبياءِ والرسلِ بخلاف غيرهم ولعل التحقيق أن ذلك الإنسانَ إن كان خيرا متشرعا ف يكل مايأتى ويذر وكان من يستعين به من الأرواح الخيِّرة وكانت عزائمُه ورُقاه غيرَ مخالفةٍ لأحكام الشريعة الشريفةِ ولم يكن فيما ظهَرَ في يده من الخوارق ضررٌ شرعيٌّ لأحد فليس ذلك من قبيل السحر وإن كان شرِّيراً غيرَ متمسِّكٍ بالشريعة الشريفة فظاهرٌ أن من يستعين به من الأرواحِ الخبيثةِ الشريرة لا محالة ضرورةَ امتناعِ تحقق التضام والتعاون بينهما من غير اشتراك في الخبث والشرارة فيكون كافراً قطعاً وأما الشعوذةُ وما يجري مجراها من إظهار الأمور العجيبةِ بواسطة ترتيبِ الآلات الهندسيةِ وخفة اليدو الاستعانة بخواصِّ الأدوية والأحجارِ فإطلاقُ السحر عليها بطريق التجوزِ أو لِما فيها

من الدقة لأنه في الأصل عبارةٌ عن كل ما لَطُف مأخذُه وخفيَ سببُه أو من الصرْف عن الجهة المعتادة لما أنه في أصل اللغة الصرفُ على ما حكاه الأزهري عن الفراء ويونس {وما أنزل على الملكين} عطفٌ على السحر أي ويعلمونهم ما أنزل عليهما والمرادُ بهما واحدٌ والعطفُ لتغايرِ الاعتبارِ أو هو نوعٌ أقوى منه أو على ما تتلو وما بينهما اعتراضٌ أيْ واتَّبعوا ما أنزل الخ وهما ملكانِ أنزلا لتعليم السحر ابتلاءً من الله للناس كما ابتليَ قومُ طالوتَ بالنهر أو تمييزاً بينه وبين المعجزة لئلا يغترَّ به الناسُ أو لأن السحرَة كثُرتْ في ذلك الزمان واستنبطتْ أبواباً غريبةً من السحر وكانوا يدّعون النبوةَ فبعث الله تعالى هذين الملكينِ ليعلّما الناسَ أبوابَ السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الكذابين وإظهارِ أمرِهم على الناس وأما ما يُحكى من أن الملائكةِ عليهم السلام لما رأَوْا ما يصعَد من ذنوب بني آدمَ عيّروهم وقالوا لله سبحانه هؤلاء الذين اخترتَهم لخلافة الأرضِ يعصونك فيها فقال عز وجل لو ركّبتُ فيكم ما ركبتُ فيهم لعصيتموني قالوا سبحانك ما ينبغي لنا أن نعصيَك قال تعالى فاختاروا من خياركم ملكين فاختاروا هاروتَ وماروتَ وكانا من أصلحهم وأعبدِهم فأُهبطا إلى الأرض بعد ما ركب فيهما ما ركب في البشر من الشهوة وغيرها من القوى ليقضيا بين الناس نهاراً ويعرُجا إلى السماء مساءً وقد نُهيا عن الإشراك والقتل بغير الحق وشرب الخمر والزنا وكانا يقضيان بينهم نهاراً فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم فصَعِدا إلى السماء فاختصمت إليهما ذاتَ يوم امرأةٌ من أجمل النساءِ تسمّى زهرةَ وكانت من لَخْم وقيل كانت من أهل فارسَ ملكةً في بلدها وكانت خصومتها مع زوجها فلما رأياها افتُتنا بها فراوداها عن نفسها فأبت فألحا عليها فقالت لا إلا أن تقضيا لي على خصمي ففعلا ثم سألاها ما سألا فقالت لا إلا أن تقتُلاه ففعلا ثم سألاها ما سألا فقالت لا إلا أن تشربا الخمرَ وتسجدا للصَّنم ففعلا كلاً من ذلك بعد اللتيا والتي ثم سألاها ما سألا فقالت لا إلا أن تعلماني ما تصعَدانِ به إلى السماء فعلماها الاسمَ الأعظم فدعَتْ به وصعِدَتْ إلى السماء فمسخها الله سبحانه كوكباً فهمّا بالعروج حسب عادتهما فلم تطِعْهما أجنحتُهما فعلما ما حل بهما وكان في عهد إدريس عليه السلام فالتجآ إليه ليشفَعَ لهما ففعل فخيّرهما الله تعالى بين عذابَ الدنيا وعذابَ الآخرة فاختارا الأول لانقطاعه عما قليل فهما معذبان ببابلَ قيل معلقان بشعورهما وقيل منكوسان يُضربان بسياطِ الحديد إلى قيام الساعة فمما لا تعويلَ عليه لما أن مدارَه روايةُ اليهود مع ما فيه من المخالفة لأدلة العقل والنقلِ ولعله من مقولة الأمثال والرموز التي قصد بها إرشادُ اللبيب الأريبِ بالترغيب والترهيب وقيل هما رجلان سُمِّيا ملكين لصلاحهما ويعضُده قراءة الملِكين بالكسر {بِبَابِلَ} الباء بمعنى في وهي متعلقة بأنزل أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الملكين أو من الضميرِ في أنزل وهي بابلُ العراق وقالَ ابنُ مسعودٍ رضيَ الله عنه بَابِلُ أرضُ الكوفة وقيل جبلُ دماوند ومَنعَ الصرفَ للعجمة والعَلَمية أو للتأنيث والعلمية {هاروت وماروت} عطفُ بيان للملكين علمان لهما ومُنِعَ صرفهما للعجمية والعلمية ولو كانا من الهرْت والمرْت بمعنى الكسر لانصرفا وأما من قرأ الملِكين بكسر اللام أو قال كانا رجلين صالحين فقال هما اسمان لهما وقيل هما اسما قبيلتين من الجن هما المرادُ من الملكين بالكسر وقرئ بالرفع على هما هاروت وماروت {وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} مِنْ مزيدة في المفعول به لإفادة تأكيد الاستغراقِ الذي يفيده أحدٍ لا لإفادة نفس الاستغراق كما في قولك

ما جاءني من رجل وقرئ يُعْلِمانِ من الإعلام {حتى يقولا إنما نحن فتنة} الفتنةُ الاختبارُ والامتحانُ وإفرادُها مع تعددهما لكونهما مصدراً وحملُها عليهما مواطأةٌ للمبالغة كأنهما نفسُ الفتنة والقصرُ لبيان أنه ليس لهما فيما يتعاطيَانِه شأنٌ سواها لينصرِفَ الناسُ عن تعلّمه أي وما يُعلّمان ما أنزل عليهما من السحر أحداً من طالبيه حتى ينصَحاه قبل التعليم ويقولا له إنما نحن فتنةٌ وابتلاء من الله عز وجل فمن عمِل بما تعلم منا واعتقد حقّيته كفَر ومن تَوقَّى عن العمل به أو اتخذه ذريعةً للاتقاءِ عن الاغترار بمثله بقيَ على الإيمان 6 - {فَلاَ تَكْفُرْ} باعتقاد حقّيتهِ وجوازِ العمل به والظاهرُ أن غاية النفي ليست هذه المقالةَ فقط بل من جملتها التزامُ المخاطب بموجب النهي لكن لم يُذكَرْ لظهُوره وكونِ الكلامِ في بيان اعتناءِ الملكين بشأن النُصح والإرشاد والجملةُ في محل النصب على الحالية من ضمير يعلمون لا معطوفةٌ عليه كما قيل أي ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناسَ السحرَ وما أنزل على الملكين ويحمِلونهم على العمل به إغواءً وإضلالاً والحال أنهما ما يعلمان أحداً حتى ينهيَاهُ عن العمل به والكفرِ بسببه وأما ما قيل من أن ما في قوله تعالى وما أنزل الخ نافيةٌ والجملةُ معطوفةٌ على قولِه تعالى وَمَا كفر سليمان جئ بها لتكذيب اليهودِ في القصة أي لم يُنزَّل على الملكين إباحةُ السحر وأن هاروتَ وماروتَ بدلٌ من الشياطين على أنهما قبيلتان من الجن خُصتا بالذكر لأصالتهما وكونِ باقي الشياطينِ أتباعاً لهما وأن المعنى ما يعلّمان أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفرْ فتكونَ مثلَنا فيأباه أن مقام وصف الشيطان بالكفر وإضلال الناس مما لا يلائمه وصفُ رؤسائهم بما ذكر من النهي عن الكفر مع ما فيه من الإخلال بنظام الكلامِ فإن الإبدالَ في حُكم تنحيةِ المبدَل منه {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} عطفٌ على الجملةِ المنفيَّةِ فإنها في قوة المثبتة كأنه قيل يعلمانهم بعد قولِهما إنما نحن الخ والضميرُ لأحدٍ حَمْلاً على المَعْنى كَما في قوله تعالى فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين {مَا يُفَرّقُونَ بِهِ} أي بسببه وباستعماله {بَيْنَ المرء} وقرئ بضم الميم وكسرِها مع الهمزة وتشديد الراء بلا همزة {وَزَوْجِهِ} بأن يُحدث الله تعالى بينهما التباغضَ والفرك والنشوز عند ما فعلُوا ما فعلُوا من السحر على حسب جري العادةِ الإلهية من خلق المسببيات عقيب حصول الأسباب العاديةِ ابتلاءً لا أن السحرَ هو المؤثرُ في ذلك وقيل فيتعلمون منهما ما يعملون به فيراه الناسُ ويعتقدون أنه حق فيكفرون فتَبينُ أزواجهم {وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ} أي بما تعلّموه واستعملوه من السحر {مّنْ أَحَدٍ} أي أحداً ومن مزيدة لما ذُكر في قوله تعالى وَمَا يعلمان من احد والمعهود وإن كان زيادتها في معمول فعلٍ منفي إلا أنه حُملت الاسميةُ في ذلك على الفعلية كأنه قيل وما يضرون به من أحد {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} لأنه وغيرَه من الأسباب بمعزل من التأثير بالذات وإنما هو بأمره تعالى فقد يُحدِث عند استعمالهم السحرَ فعلاً من أفعاله ابتلاءً وقد لا يُحدِثه والاستثناءُ مفرَّغٌ والباءُ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ضمير ضارِّين أو من مفعوله وإن كان نكرةً لاعتمادها على النفي أو الضمير المجرورِ في به أي وما يُضرون به أحداً إلا مقروناً بإذن الله تعالى وقرئ بضارِّي على الإضافة بجعل الجارِّ جزءاً من المجرور وفصلِ ما بين المُضافين بالظرف {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ} لأنهم يقصِدون به العمل أو لأن العلم يجرُّ إلى العَمل غالباً {وَلاَ يَنفَعُهُمْ} صرح بذلك إيذاناً بأنه ليس من الأمور المشوبة بالنفع والضرر بل هو شرٌّ بحتٌ وضررٌ محضٌ لأنهم لا يقصدون به التخلّصَ عن الاغترار بأكاذيبِ من يدّعي النبوةَ

البقرة (103) مثلاً من السَحَرة أو تخليصَ الناس منه حتى يكون فيه نفعٌ في الجملة وفيه أن الاجتنابَ عما لا يؤمن غوائلُه خيرٌ كتعلم الفلسفةِ التي لا يؤمن أن تجُرَّ إلى الغواية وإن قال من قال ... عرفتُ الشرَّ لا للشر ... رولكن لتوقِّيه ... ومن لا يعرِفِ الشرَّ ... من الناس يقَعْ فيهِ ... {وَلَقَدْ عَلِمُواْ} أي اليهود الذين حُكِيت جناياتُهم {لَمَنِ اشتراه} أي استبدلَ ما تتلوا الشياطين بكتاب الله عز وجل واللامُ الأولى جوابُ قسمٍ محذوفٍ والثانيةُ لامُ ابتداءٍ عُلِّقَ به علِموا عن العمل ومَنْ موصولة في حيز الرفعِ بالابتداء واشتراه صلتها وَقولُه تعالَى {مَا لَهُ فِى الأخرة مِن خلاق} أي من نصيبٍ جملةٌ من مبتدإٍ وخبر ومِنْ مزيدة في المبتدأ وفي الآخرة متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً منه ولو أُخِّرَ عنه لكان صفةً له والتقدير ماله خلاقٌ في الآخرة وهذه الجملةُ في محلِّ الرفعِ على أنها خبرٌ للموصول والجملةُ في حيز النصبِ سادَّةٌ مسَدَّ مفعولَيْ علموا إن جعل متعديا إلى اثنين أو مفعولِه الواحدِ إن جعل متعديا إلى واحد فجملة ولقد علموا الخ مُقْسَمٌ عليها دون جملة لمن اشتراه الخ هذا ما عليه الجمهورُ وهو مذهب سيبويه وقال الفرّاءُ وتبعه أبو البقاء إن اللامَ الأخيرة موطئةٌ للقسم ومَنْ شرطية مرفوعةٌ بالابتداء واشتراه خبرُها وماله فى الاخرة من خلاق جوابُ القسم وجوابُ الشرطِ محذوفٌ اكتفاءً عنه بجواب القسم لأنه إذا اجتمع الشرطُ والقسمُ يُجاب سابقُهما غالباً فحينئذ يكون الجملتان مُقْسماً عليهما {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ} أي باعوها واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي وبالله لبئسما باعوا به أنفسَهم السحرُ أو الكفرُ وفيه إيذانٌ بأنهم حيث نبذوا كتابَ الله وراء ظهورِهم فقد عرَّضوا أنفسهم للهَلكة وباعوها بما لا يزيدهم إلا تَباراً وتجويزُ كونِ الشراء بمعنى الاشتراء مما لا سبيلَ إليه لأن المشترى متعين وهو ما تتلوا الشياطين ولأن متعلَّق الذمِّ هو المأخوذُ لا المنبوذُ كما أشير إليه في تفسيره قوله سبحانه بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنزَلَ الله {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي يعملون بعلمهم جُعلوا غيرَ عالمين لعدم عملِهم بموجب علمِهم أوْ لو كانوا يتفكرون فيه أو يعلمون قبحَه على اليقين أو حقيقةَ ما يتْبعُه من العذاب عليه على أن المُثبَتَ لهم أو لا على التوكيد القسميِّ العقلُ الغريزيُّ أو العلمُ الإجماليُّ بقبح الفعل أو ترتبِ العقاب من غير تحقيق وجوابُ لو محذوفٌ أي لما فعلوا ما فعلوا

103

{ولو أنهم آمنوا} أي بالرسول المومى إليه في قوله تعالى وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ الله الخ أو بما أنزل إليه من الآيات المذكورةُ في قولِه تعالى وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيات بينات وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفاسقون أو بالتوراةِ التي أريدتْ بقولِه تعالى نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كتاب الله وَرَاء ظُهُورِهِمْ فإن الكفر بالقرآن والرسول عليه السلام كفرٌ بها {واتقوا} المعاصيَ المحكيةَ عنهم {لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ الله خَيْرٌ} جواب لو وأصله لأيثبوا مَثوبةً من عند الله خيراً مما شرَوْا به أنفسَهم فحُذفَ الفعلُ وغُيِّر السبكُ إلى مَا عليهِ النظمُ الكريمُ دلالةً على ثبات المثوبةِ لهم والجزمِ بخيريّتها وحُذف المفضَّلُ عليه إجلا لا للمفضَّل من أن يُنسبَ إليه وتنكيرُ المثوبة للتقليل ومن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً تشريفيةً لِمثوبةٌ أي لشئ ما من المثوبة كائنة من عنده تعالى خير وقيل جواب لو محذوفٌ أي لأثيبوا وما بعده جملة مستأنفة فإن وقوعَ

البقرة (105 - 104 الجملة الابتدائة جوابا للوغير معهود في كلام العرب وقيل لو للتمني ومعناه أنهم من فظاعة الحال بحيث يتمنى العارفُ إيمانَهم واتقاءهم تلهفا عليهم وقرئ لمثوبة وإنما سمي الجزاء ثواباً ومثوبةً لأن المحسن يثوب إليه {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أن ثواب الله خيرٌ نُسبوا إلى الجهل لعدم العملِ بموجب العلم

104

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} خطابٌ للمؤمنينً فيه إرشادٌ لهم إلى الخير وإشارةٌ إلى بعض آخر من جنايات اليهود {لاَ تَقُولُواْ راعنا} المراعاةُ المبالغةُ في الرعى وهو حِفظُ الغير وتدبيرُ أموره وتدارُكُ مصالحِه وكان المسلمون إذا ألقى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من العلم يقولون راعنا يارسول الله أي راقبْنا وانتظِرْنا وتأنَّ بنا حتى نفهمَ كلامَك ونحفظَه وكانت لليهود كلمة عبرانية أو سريانية يتسابُّون بها فيما بينهم وهي راعينا قيل معناها اسمعْ لا سمِعْت فلما سمعوا بقول المؤمنين ذلك افترضوه واتخذوه ذريعةً إلى مقصِدهم فجعلوا يخاطبون به النبيَّ صلَّى الله عليهِ وسلم يعنون به تلك المسبةَ أو نسبته صلى الله عليه وسلم إلى الرَعَن وهو الحمَقُ والهوَج روي أن سعد بن عبادة رضي الله عنه سمعها منهم فقال يا أعداءَ الله عليكم لعنةُ الله والذي نفسي بيدهِ لئن سمعتُها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه قالوا أو لستم تقولونها فنزلت الآية ونُهيَ فيها المؤمنون عن ذلك قطعاً لألسنة اليهود عن التدليس وأُمروا بما في معناها ولا يقبل التلبيس فقيل {وَقُولُواْ انظرنا} أي انظر إلينا بالحذف والإيصال أو انتظرنا على أنه من نظرة إذا انتظره وقرئ أنظرنا من النظرة أي أمهلنا حتى نحفظ وقرئ راعونا على صيغة الجمع للتوقير وراعنا على صيغةِ الفاعلِ أي قولا ذا رَعَنٍ كدارعٍ ولابنٍ لأنه لما أشبه قولَهم راعينا وكان سببا للسبب بالرَعَن اتَّصفَ به {واسمعوا} وأحسنوا سماع ما يكلمكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلقى عليكم من لمسائل بآذان واعية وأذهانٍ حاضرةٍ حتى لاتحتاجوا إلى الاستعاذة وطلبِ المراعاة أو واسمعوا ما كُلفتموه من النهي والأمر بجدَ واعتناء حتى لا ترجِعوا إلى ما نهيتم عنه أو واسمعوا سماعَ طاعةٍ وقَبول ولا يكن سماعُكم مثل سماعِ اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا {وللكافرين} أي اليهود الذين توسلوا بقولكم المذكور إلى كفرياتهم وجعلوه سبباً للتهاون برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وقالوا له ما قالوا {عَذَابٌ أَلِيمٌ} لما اجترءوا عليه من العظيمة وهو تذييلٌ لما سبق فيه وعيدٌ شديد لهم ونوعُ تحذير للنخاطبين عما نُهُوا عنه

105

{مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} الود حب الشئ مع تمنيه ولذلك يستعمل في كلَ منهما ونفيُه كنايةٌ عن الكراهة ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ للإشعار بعلية مَا في حيزِ الصلةِ لعدم وُدِّهم ولعل تعلقَه بما قبله من حيث إن القولَ المنهيَّ عنه كثيراً ما كان يقع عند تنزيل الوحْي المعبَّرِ عنه في هذه الآية بالخير فكأنه أُشير إلى أن سببَ تحريفِهم له إلى ما حُكي عنهم لوقوعه في أثناء حصولِ ما يكرهونه من تنزيلِ الخير وقيل كان فريق من اليهود يُظهرون للمؤمنين محبةً ويزعُمون أنهم يَودُّون لهم الخير فنزلت تكذيباً لهم في ذلك ومن في

البقرة (106) قوله تعالى {مِنْ أَهْلِ الكتابِ وَلاَ المشركين} للتبيين كما في قوله عز وعلا {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} ولا مزيدةٌ لما ستعرفه {أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم} في حيز النصبِ على أنه مفعول يود وبناءُ الفعل للمفعول للثقة بتعيُّن الفاعل والتصريحُ الآتي في قوله تعالى {مّنْ خَيْرٍ} هو القائمُ مقامَ فاعلِه ومن مزيدة للاستغراق والنفيُ وإن لم يباشرْه ظاهراً لكنه منسحبٌ عليه معنىً والخيرُ الوحيُ وحملُه على ما يعمُّه وغيرَهُ من العلم والنُّصرة كما قيل يأباه وصفُه فيما سيأتي بالاختصاص وتقديم الظرف عليه مع أنَّ حقَّهُ التأخيرُ عنه لإظهار كمال العنايةِ به لأنه المدارُ لعدم ودِّهم ومِنْ في قولِه تعالَى {مّن رَّبّكُمْ} ابتدائية والتعرُّضُ لعنوان الربوبية للإشعار بعليته لتنزيل الخيرِ والإضافة إلى ضمير المخاطبين لتشريفهم وليست كراهتُهم لتنزيله على المخاطبين من حيث تعبُّدُهم بما قبله وتعرضهم بذلك لسعادة الدارين كيف لا وهم من تلك الحيثية من جملة مَنْ نزَلَ عليهم الخيرُ بل من حيث وقوعُ ذلك التنزيل على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وصيغةُ الجمعِ للإيذان بأن مدارَ كراهتهم ليس معنى خاصا بالنبى صلى الله عليه وسلم بل وصفٌ مشترك بين الكل وهو الخلوُّ عن الدراسة عند اليهود وعن الرياسة عند المشركين والمعنى أنهم يرَوْن أنفسَهم أحقَّ بأن يوحى إليهم ويكرهون فيحسُدونكم أن ينْزِل عليكم شئ من الوحي أما اليهودُ فبناءً على أنهم أهلُ الكتاب وأبناءُ الأنبياءِ الناشئون في مهابط الوحي وأنتم أُميِّوّن وأما المشركون فإدلالاً بما كان لهم من الجاه والمال زعماً منهم أن رياسةَ الرسالةِ كسائر الرياساتِ الدنيويةِ منوطةٌ بالأسباب الظاهرة ولذلك قالُوا {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآنُ على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} ولما كانت اليهودُ بهذا الداء أشهر لاسيما في أثناء ذكرِ ابتلائِهم به لم يلزَمْ من نفي ودادتِهم لما ذكِرَ نفيُ ودادةِ المشركين له فزيدت كلمةُ لا لتأكيد النفي {والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} جملة ابتدائية سيقت لتقرير ما سبق من تنزيل الخيرِ والتنبيه على حكمتِه وإرغامِ الكارهين له والمرادُ برحمته الوحيُ كما في قوله سبحانه {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ} عبّر عنه باعتبار نزولِه على المؤمنين بالخير وباعتبار إضافتِه إليه تعالى بالرحمة قال علي رضي الله عنه بنبوته خَصَّ بها محمداً صلى الله عليه وسلم فالفعل متعد وصيغته الافتعال للإنباء عن الاصطفاء وإيثارُه على التنزيل المناسبِ للسياق الموافقِ لقوله تعالى {أَن يُنَزّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَاء} لزيادة تشريفه صلى الله عليه وسلم وإقناطِهم ممَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ والباءُ داخلةٌ على المقصود أي يؤتي رحمته {مَن يَشَآء} من عباده ويجعلها مقصورةً عليه لاستحقاقه الذاتي الفائضِ عليه بحسب إرادتِه عز وعلا تفضّلاً لا تتعداه إلى غيره وقيل الفعلُ لازمٌ ومَنْ فاعله والضميرُ العائد إلى مَنْ محذوفٌ على التقديرين وقولُه تعالى {والله ذُو الفضل العظيم} تذييلٌ لما سبق مقررٌ لمضمونه وفيه إيذان بأن إيتاءَ النبوةِ من فضله العظيم كقوله تعالى {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} وأن حِرمان من حُرم ذلك ليس لضيق ساحةِ فضلِه بل لمشيئته الجاريةِ على سَننِ الحِكْمةِ البالغةِ وتصديرُ الجملتين بالاسم الجليل للإيذان بفخامة مضمونَيْهما وكونِ كلَ منهما مستقلةً بشأنها فإن الإضمارَ في الثانية منبئ عن توقُّفِها على الأولى

106

{ما ننسخ من آية أَوْ نُنسِهَا} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيانِ سرِّ النسخِ الذي هو فردٌ من أفراد تنزيلِ الوحي وإبطالِ مقالةِ الطاعنين فيه إثْرَ تحقيق

البقرة (107) حقيقةِ الوحي وردِّ كلامِ الكارهين له رأساً قيل نزلت حين قال المشركون أو اليهود ألا ترون إلى محمد يأمُر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمُر بخلافه والنسخُ في اللغة الإزالةُ والنقلُ يقال نسخَت الريحُ الأثرَ أي أزالته ونسخْتُ الكتابَ أي نقلتُه ونسخُ الآيةِ بيانُ انتهاءِ التعبّدِ بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أوبهما جميعاً وإنساؤُها إذهابُها من القلوب وما شرطيةٌ جازمة لننسَخْ منتصبةٌ به على المفعولية وقرئ نُنْسِخْ من أنسخ أي نأمرك أو جبريل بنسخها أو نجدها منسوخة ونَنْسأْها من النَّسء أي نؤخّرْها ونُنَسِّها بالتشديد وتَنْسَها وتُنْسِها على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم مبنيا للفاعل وللمفعول وقرئ ما ننسخ من آية أو ننسكها وقرئ ما نُنْسِكَ من آية أو نَنْسَخها والمعنى أن كل آيةٍ نذهب بها على ماتقتضيه الحكمةُ والمصلحة من إزالة لفظِها أو حكمِها أو كليهما معاً إلى بدل أو إلى غير بدل {نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا} أي نوع آخرَ هو خيرٌ للعباد يحسب الحال في النفع والثوابِ من الذاهبة وقرئ بقلب الهمزة ألفاً {أَوْ مِثْلِهَا} أي فيما ذكر من النفع والثواب وهذا الحكمُ غيرُ مختصَ بنسخ الآية التامة فما فوقها بل جار في مادونها أيضاً وتخصيصُها بالذكر باعتبار الغالب والنصُّ كما ترى دالٌّ على جواز النسخ كيف لا وتنزيلُ الآيات التي عليها يدورُ فلكُ الأحكام الشرعية إنما هو بحسب ما يقتضيه من الحِكَم والمصالح وذلك يختلف باختلاف الأحوال ويتبدّل حسب تبدل الأشخاص والأعصار كأحوال المعاش فرب حكمٍ تقتضيه الحكمةُ في حال تقتضي في حالٍ أخرى نقيضَه فلو لم يُجزِ النسخُ لاختل ما بين الحِكمة والأحكام من النظام {أَلَمْ تَعْلَمْ} الهمزة للتقرير كما في قوله سبحانه {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} وقوله تعالى {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} والخطابُ للنبيِّ عليه الصَّلاة والسلام وقوله تعالى {إن الله على كل شَىْء قَدِيرٌ} سادٌّ مسَدَّ مفعوليْ تعلم عند الجمهور ومسد مفعوله الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش والمرادُ بهذا التقرير الاستشهادُ بعلمه بما ذكر على قدرتِهِ تعالَى على النسخ وعلى الإيتان بما هو خيرٌ من المنسوخ وبما هو مثله لأن ذلك من جملة الأشياء المقهورةِ تحت قدرته سبحانه فمِنْ علم شمولِ قدرتِه تعالى لجميعِ الأشياء علمُ قدرته على ذلك قطعاً والالتفاتُ بوضع الاسمِ الجليلِ موضعَ الضَّميرِ لتربية المهابة والإشعار بمناط الحكم فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من الأحكام الألوهية وكذا الحالُ في قولِه عز سلطانه

107

{ألم تعلمَ إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والارض} فإن عنوان الألوهية مدار أحكام ملكوتهما والجار والمجرور خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأٌ والجملةُ خبرٌ لإن إيثاره على أنْ يقالَ إنِ للَّهِ مُلْكُ السموات والأرض للقصد إلى تقوّي الحُكم بتكرر الإسناد وهو إما تكريرٌ للتقرير وإعادةٌ للاستشهادِ على ما ذُكر وإنما لم يعطَفْ أن مع ما في حيزها على ما سبق من مثلها روما لزيادة التأكيد وإشعاراً باستقلال العلم بكلَ منهما وكفايتِه في الوقوف على ما هو المقصودُ وإما تقريرٌ مستقل للاستشهاد على قدرتِهِ تعالَى على جميع الأشياء أي ألم تعلمَ أَنَّ الله له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما إيجاداً وإعداماً وأمراً ونهياً حسبما تقتضيهِ مشيئتُه لا مُعارِضَ لأمره ولا معقِّبَ لحُكمه فَمْن هذا شأنُه كيف يخرُج عن قدرته شئ من الأشياء وقولُه تعالَى {وَمَا لَكُم من دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نصير}

معطوف على الجملة الواقعةِ خبراً لأن داخل معها تحت تعلقِ العلم المقرِّرِ وفيه إشارة إلى تناول الخطابين السابقين للأمة أيضاً وإنما إفرادُه عليه السلام بهما لما أن علومَهم مستنِدةٌ إلى علمه عليه السلام ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضِعَ الضمير الراجعِ إلى اسم أن لتربية المهابة والإيذانِ بمقارنة الولاية والنصرةِ للقوة والعزة والمرادُ به الاستشهادُ بما تعلق به من العلم على تعلُّق إرادتِه تعالى بما ذُكر من الإتيان بما هو خيرٌ من المنسوخ أو بمثله فإن مجرَّد قدرته تعالى على ذلك لا يستدعي حصولَه اْلبتة وإنما الذي يستدعيه كونُه تعالى مع ذلك ولياً ونصيراً لهم فمن علم أنه تعالى وليُّه ونصيرُه على الاستقلال يعلم قطعاً أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له فيفوِّضُ أمرَه إليه تعالى ولا يخطُر بباله ريبةٌ في أمر النسخ وغيرِه أصلاً والفرق بين الوليِّ والنصيرِ أن الوليَّ قد يضعُفُ عن النُصرة والنصيرُ قد يكون أجنبياً من المنصور وما إما تميمية لاعمل لها ولكم خبرٌ مقدم ومن وليَ مبتدأ مؤخر زيدت فيه كلمة من للاستغراق وإما حجازية ولكم خبرها المنصوب عند من يُجيزُ تقديمَه واسمُها من ولي ومن مزيدة لما ذكر ومن دون الله في حيز النصبِ على الحالية من اسمها لأنَّه في الأصلِ صفةٌ له فلما قدم انتصب حالا ومعناه سوى الله والمعنى أن قضية العلم بما ذكرَ من الأمورِ الثلاثة هو الجزمُ والإيقانُ بأنه تعالى لا يفعل بهم في أمر من أمور دينهم أو دنياهم إلا ما هو خيرٌ لهم والعملُ بموجبه من الثقة به والتوكلِ عليه وتفويضِ الأمر إليه من غير إصغاءٍ إلى أقاويل الكفرةِ وتشكيكاتهم التي من جملتها ماقالوا في أمر النسخ وقوله تعالى

108

{أَمْ تُرِيدُونَ} تجريدٌ للخطاب عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم وتخصيصٌ له بالمؤمنين وأمْ منقطعةً ومعنى بل فيها الإضرابُ والانتقال من حملهم على العمل بموجب علمهم بما ذكر عند ظهور بعض مخابل المساهلةِ منهم في ذلك وأمارات التأثر من أقاويل الكفرة إلى التحذير من ذلك ومعنى الهمزةِ إنكارُ وقوعِ الإرادة منهم واستبعادُه لما أن قضية الإيمان وازعةٌ عنها وتوجيهُ الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها للمبالغة في إنكاره واستبعادِه ببيان انه مما لايصدر عن العاقل إرادتُه فضلاً عن صدور نفسِه والمعنى بل أتريدون {أن تسألوا} وأنتم مؤمنون {رَسُولَكُمُ} وهو في تلك الرتبة من علو الشأن وتقترحوا عليه ماتشتهون غيرَ واثقين في أموركم بفضل الله تعالى حسبما يوجبه قضية علمكم بشئونه سبحانه قيل لعلهم كانوا يطلبون منه عليه الصلاة والسلام بيانَ تفاصيلِ الحكم الداعية إلى النسخ وقيل سأله عليه السلام قومٌ من المسلمين أن يجعل لهم ذاتَ أنواط كما كانت للمشركين وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلّقون عليها المأكول والمشروب وقوله تعالى {كَمَا سُئِلَ موسى} مصدرٌ تشبيهيٌّ أي نعتٌ لمصدرٍ مؤكدٍ محذوف وما مصدرية أي سؤال مُشْبَهاً بسؤال موسى عليه السلام حيث قيل له اجعلْ لنا إلها وأرِنا الله جهرةً وغيرَ ذلك ومقتضى الظاهرِ أن يقال كما سألوا موسى لأن المشبَّه هو المصدرُ من المبنى للفاعل أعنى سائلية المخاطبين لا من المبني للمفعول أعنى مسئولية

البقرة (109) الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يشبه بمسئولية موسى عليه السلام فلعله أريد التشبيهُ فيهما معاً ولكنه أوجز النظم فذكر في جانب المشبه السائليةَ وفي جانب المشبَّه به المسئولية واكتُفي بما ذكر في كل موضع عما تُرك في الموضع الآخر كَما ذُكر في قولِهِ تعالَى {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} وقد جُوِّز أن تكون ما موصولةً على أن العائد محذوفٌ أي كالسؤال الذي سُئِله موسى عليه السلام وقوله تعالى {من قبل} متعلِّقٌ بسُئِل جيءَ به للتأكيد وقرئ سِيل بالياء وكسر السين وبتسهيل الهمزة بين بين {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر} أي يختر ويأخذْه لنفسه {بالإيمان} بمقابَلتِه بدلا منه وقرئ ومن يُبْدلْ من أَبدل وكان مقتضى الظاهرِ أن يقال وَمَن يفعلْ ذلك أي السؤالَ المذكورَ أو إرادتَه وحاصلُه ومن يترُكِ الثقةَ بالآيات البينةِ المنْزلةِ بحسب المصالحِ التي منْ جُملتها الآياتُ الناسخةُ التي هي خيرٌ محضٌ وحقٌّ بحتٌ واقترح غيرَها {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل} أي عدَلَ وجارَ من حيث لا يدري عن الطريق المستقيم الموصِل إلى معالم الحق والهدى وتاه في تيه الهوى وتردى في مهاوي الردى وإنما أوُثر على ذلك مَا عليهِ النظمُ الكريمُ للتصريح من أول الأمرِ بأنه كفرٌ وارتدادٌ وأن كونَه كذلك أمرٌ واضحٌ غنيٌ عن الإخبارية بأن يقال ومن يفعلْ ذلك يكفُرْ حقيقٌ بأن يُعدَّ من المسلّمات ويُجعلَ مقدَّماً للشرْطية رَوْماً للمبالغة في الزجر والإفراط في الردع وسواء السبيل من باب إضافةِ الوصفِ إلى الموصوف لقصد المبالغة في بيان قوة الاتصافِ كأنه نفسُ السواءِ على منهاج حصولِ الصورة في الصورة الحاصلة وقيل الخطابُ لليهود حين سألوا أن يُنزِّل الله عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء وقيل للمشركين حين قالوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الارض يَنْبُوعًا الخ فإضافة الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم على القولين باعتبار أنهم من أمة الدعوةِ ومعنى تبدّلِ الكفر بالإيمان وهم بمعزل من الإيمان تركُ صَرْفِ قدرتِهم إليه مع تمكنِّهم من ذلك وإيثارُهم للكفر عليه

109

{وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب} هم رهطٌ من أحبار اليهود رُوي أن فِنحاصَ بنَ عازوراءَ وزيدَ بنَ قيسٍ ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمارِ بن ياسر رضي الله عنهما بعد وقعة أحُد ألم ترَوْا ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هُزمتم فارجِعوا إلى ديننا فهو خيرٌ لكم وأفضلُ ونحن أهدى منكم سبيلاً فقال عمارٌ كيف نقضُ العهد فيكم قالوا شديد قال فإني عاهدتُ أن لا أكفر بمحمَّدٍ عليهِ الصَّلاة والسَّلام ما عشتُ فقالت اليهود أما هذا فقد صَبَأ وقال حذيفةُ أما أنا فقد رضِيتُ بالله رباً وبمحمد نبياً وبالإسلامِ ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قِبلةً وبالمؤمنين إخواناً ثم أتَيَا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال أصبتما خيراً وأفلحتما فنزلت {لَوْ يَرُدُّونَكُم} حكاية لو دادتهم ولوُ في مَعْنَى التمنِّي وصيغةُ الغَيْبة كما في قوله حلف ليَفعلَن وقيلَ هي بمنزلةِ أَن الناصبةِ فلا يكونُ لها جوابٌ وينْسبكُ منها ومما بعدها مصدرٌ يقع مفعولا لودّوا التقدير ودُّوا ردَّكم وقيل هي على حقيقتها وجوابُها محذوف تقديره لويردونكم كفاراً لسُرُّوا بذلك و {من بعد إيمانكم}

البقرة (111 - 110) متعلق بيردّونكم وقوله تعالى {كَفَّاراً} مفعول ثانٍ له على تضمين الرد معنى التصيير أي يصيِّرونكم كفاراً كما في قوله رَمَى الحِدْثانُ نِسْوةَ آلِ سَعْد بمقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُوداً ... فردَّ شعورَهُنَّ السودَ بيضا ورد وجوهَهن البيضَ سودا وقيلَ هُو حالٌ من مفعوله والأول أدخلُ لما فيهِ منَ الدلالةِ صريحاً على كون الكفر المفروضِ بطريق القسر وإيراد الظرف مع عدم الحاجة إليه ضرورةَ كونِ المخاطبين مؤمنين واستحالةِ تحققِ الردِّ إلى الكفر بدون سبق الإيمان مع توسيطه بين المفعولين لإظهارِ كمالِ شناعةِ ما أرادوه وغايةِ بُعدِه من الوقوع إما لزيادة قبحه الصارفِ للعاقل عن مباشرته وإما لممانعة الإيمانِ له كأنه قيل من بعد إيمانكم الراسخ وفيه من تثبيت المؤمنين مالا يخفى {حَسَدًا} علةٌ لودّ أو حال أريد به نعتُ الجمع أي حاسدين لكم والحسَدُ الأسفُ على من له خيرٌ بخيره {مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} متعلق بود أي ودوا ذلك من أجل تشهّيهم وحظوظِ أنفسِهم لا من قِبَل التدين والميل مع الحق ولو على زعمهم أو بحسد أي حسداً منبعثاً من أصل نفوسهم بالغاً أقصى مراتبه {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق} بالمعجزات الساطعةِ وبما عاينوا في التوراة من الدلائل وعلموا أنكم متمسّكون به وهم منهمكون في الباطل {فاعفوا واصفحوا} العفوُ تركُ المؤاخذة والعقوبةِ والصفحُ تركُ التثريب والتأنيب {حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} الذي هو قتلُ بني قريظة وإجلاء بني النضير واذ لا لهم بضرب الجزية عليهم أو الإذنُ في القتال وعن ابن عباس رضي الله عنهما إنه منسوخٌ بآية السيف ولا يقدحُ في ذلك ضرب الغاية لأنها لا تُعْلم إلا شرعاً ولا يخرُجُ الواردُ بذلك من أن يكون ناسخاً كأنه قيل فاعفوا واصفحوا إلى ورورد الناسخ {إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ} فينتقمُ منهم إذا حان حينُه وآن أوانُه فهو تعليلٌ لما دلَّ عليه ما قبله

110

{وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} عطفٌ على فاعفوا أُمروا بالصبر والمداراةِ واللَّجَإ إلى الله تعالى بالعبادة البدنية والمالية {وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ} كصلاة أو صدقةٍ أو غيرِ ذلك أيْ أيُّ شيءٍ من الخيرات تقدّموه لمصلحة أنفسِكم {تَجِدُوهُ عِندَ الله} أي تجدوا ثوابه وقرئ تُقْدِموا من أقدم {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يَضيعُ عنده عملٌ فهو وعد للمؤمنين وقرئ بالياء فهو وعيدٌ للكافرين

111

{وَقَالُواْ} عطف على ود والضميرُ لأهل الكتابين جميعاً {لنْ يدخلَ الجنةَ إلاَّ من كان هودا أو نصارى} أي قالت اليهودُ لنْ يدخلَ الجنةَ إلاَّ من كان هُوداً وقالت النصارى لنْ يدخُلَ الجنةَ إلاَّ من كان نصارى فلفّ بين القولين ثقةً أن السامعَ يردُّ كلاً منهما إلى قائله ونحوُه وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا وليس مرادُهم بأولئك مَنْ أقام اليهوديةَ والنصرانية قبل النسخ

البقرة (112) والتحريف على وجهها بل أنفسهم على ماهم عليه لأنهم إنما يقولونه لإضلال المؤمنين وردِّهم إلى الكفر والهوُدُ جمعُ هائِدٍ كعوذٍ جمعُ عائذ وبُزْلٍ جمعُ بازل والإفرادُ في كان باعتبار لفظ مَنْ والجمع في خبرِه باعتبار معناه وقرئ إلا من كان يهودياً أو نصرانياً {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} الاماني جميع أُمنية وهي ما يُتمنّى كالأُعجوبة والأُضْحوكة والجملةُ معترِضةٌ مبنية لبطلان ما قالوا وتلك إشارةٌ إليه والجمعُ باعتبار صدوره عن الجميع وقيل فيه حذفُ مضافٍ أي أمثالُ تلك الأُمنية أمانيُّهم وقيل تلك إشارةٌ إليه وإلى ما قبله مِن أن لا ينزِلَ على المؤمنين خيرٌ من ربهم وأن يردَّهم كفاراً ويردُّه قوله تعالَى {قُلْ هَاتُواْ برهانكم إِن كُنتُمْ صادقين} فإنهما ليسا مما يُطلب له البرهانُ ولا مما يَحتملُ الصِّدق والكذِبَ قيل هاتوا أصلُه آتوا قُلبت الهمزةُ هاءً أي أَحضروا حُجتَكم على اختصاصكم بدخول الجنة إِن كُنتُمْ صادقين في دعواكم هذا ما يقتضيه المقامَ بحسب النظرِ الجليلِ والذي يستدعيه إعجازُ التنزيل أن يُحمل الأمرُ التبكيتيُّ على طلب البرهان على أصل الدخولِ الذي يتضمنه دعوى الاختصاص به فإن قوله تعالى

112

{بلى} الخ إثباتٌ منْ جهتِه تعالَى لِمَا نفَوْه مستلزمٌ لنفْي ما أثبتوه وإذْ ليس الثابتُ به مجردَ دخولِ غيرِهم الجنةَ ولو معهم ليكون المنفيُّ مجردَ اختصاصِهم به مع بقاءِ أصلِ الدخولِ على حاله بل هو اختصاصُ غيرِهم بالدخول كما ستعرفه بإذن الله تعالى ظهرَ أن المنفيَّ أصلُ دخولِهم ومن ضرورته أن يكون هو الذي كُلِّفوا إقامةَ البُرهانِ عليه لا اختصاصُهم به ليتّحدَ موردُ الإثباتِ والنفي وإنما عدَلَ عن ابطال ما ادَّعَوْه وسَلك هذا المسلكَ إبانةً لغاية حِرمانِهم مما علقوا به أطماعَهم واظهار لكمال عجزِهم عن إثباتِ مُدَّعاهم لأن حِرمانَهم من الاختصاص بالدخول وعجزَهم عن إقامة البرهان عليه لا يقتضيان حرمانَهم من أصل الدخولِ وعجزَهم عن إثباته وأما نفسُ الدخولِ فحيث ثبت حِرمانُهم منه وعجزُهم عن إثباته فهم من الاختصاص به أبعدُ وعن إثباته أعجزُ وإنما الفائزُ به من انتظمه قوله سبحانه {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أي أخلص نفسه له تعالى لا يشرك به شيئاً عبّر عنها بالوجه لأنه أشرف الأعضاء ومجمعُ المشاعرِ وموضعُ السجود ومظهَرُ آثارِ الخضوعِ الذي هو من أخص خصائِص الإخلاص أو توجّهُه وقصدُه بحبث لا يلوي عزيمتَه إلى شيءٍ غيره {وَهُوَ مُحْسِنٌ} حال من ضمير أسلم أي والحالُ أنه مُحسنٌ في جميع أعمالِه التي من جملتها الإسلامُ المذكورُ وحقيقةُ الإحسانِ الإتيانُ بالعمل على الوجه اللائقِ وهو حُسنُه الوصفيُّ التابعُ لحسنه الذاتي وقد فسره صلى الله عليه وسلم بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّه يراكَ {فله أجره} الذي وعده له على عمله وهو عبارةٌ عن دخول الجنة أو عما يدخُلُ هو فيه دخولاً أوليا واياما كان فتصويرُه بصورة الأجرِ للإيذان بقوة ارتباطِه بالعمل واستحالةِ نيلِه بدونه وقوله تعالى {عِندَ رَبّهِ} حالٌ من أجره والعاملُ فيه معنى الاستقرارِ في الظرف والعِنديةُ للتشريف ووضعُ اسمِ الربِّ مُضافاً إلى ضمير من أسلم موضعَ ضميرِ الجلالة لإظهار مزيدِ اللُطفِ به وتقريرِ مضمونِ الجملة أي فله أجره

البقرة (113) عتد مالكِه ومدبِّرِ أموره ومبلِّغِه إلى كماله والجملةُ جوابُ مَنْ إن كانت شرطيةً وخبرُها إن كانت موصولة والفاءُ لتضمنها معنى الشرط فيكون الردُّ بقوله تعالى بلى وحده ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ فاعلاً لفعل مقدرٍ أي بلى يدخلها من أسلم وقوله تعالى فَلَهُ أَجْرُهُ معطوفٌ على ذلك المقدر وأياً ما كان فتعلق ثبوتِ الأجرِ بما ذكر من الإسلام والإحسانِ المختصَّيْن بأهل الإيمان قاضٍ بأن أولئك المدّعين من دخول الجنة بمعزل ومن الاختصاص به بألف معزل {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الدارين من لُحوق مكروهٍ {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} من فواتِ مطلوب أي لايعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لايخافون ولايحزنون والجمعُ في الضَّمائرِ الثَّلاثةِ باعتبارِ معنى مَنْ كما أن الإفرادَ في الضمائرِ الأُوَلِ باعتبار اللفظ

113

{وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَىْء} بيانٌ لتضليل كلِّ فريقٍ صاحَبه بخصوصه إثرَ بيانِ تضليله كلَّ من عداه على وجه العموم نزلت لما قدِم وفدُ نجرانَ على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم وأتاهم أحبارُ اليهود فتناظروا فارتفعت أصواتُهم فقالوا لهم لستم على شئ أي أمرٍ يُعتدُّ به من الدين أو على شئ ما منه أصلاً مبالغةً في ذلك كما قالوا أقل من لاشئ وكفروا بعيسى والإنجيل {وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَىْء} على الوجه المذكورِ وكفروا بموسى والتوراةِ لا أنهم قالوا ذلك بناءً للإمر على منسوخية التوراة {وهم يتلون الكتاب} الواو للحال واللامُ للجنس أي قالوا ما قالوا والحال أن كلَّ فريقٍ منهم من أهل العلم والكتاب أي كان حقُّ كلَ منهم أن يعترف بحقية دينِ صاحبه حسبما ينطِقُ به كتابُه فإن كتبَ الله تعالى متصادقة {كذلك} أي مثلَ ذلك الذي سمعت به والكافُ في محل النصب إما على أنها نعتٌ لمصدر محذوف قُدّم على عامله لإفادة القصر أي قولاً مثلَ ذلك القول بعينه لاقولا مغايراً له {قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} من عبَدَة الأصنام والمعطِّلة ونحوِهم من الجهَلة أي قالوا لأهل كل دين ليسوا على شئ وإما على أنَّها حالٌ من المصدر المضمر المعرف الدال عليه قال أي قال القول الذين لايعلمون حال كونه مثلَ ذلك القولِ الذي سمعْتَ به {مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} إما بدلٌ من محل الكاف وإما مفعولٌ للفعل المنفيِّ قبله أي مثلَ ذلك القول قال الجاهلون بمثل مقالةِ اليهودِ والنصارى وهذا توبيخٌ عظيم لهم حيث نظَموا أنفسهم مع علمهم في سلك مَنْ لا يعلم أصلاً {فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي بين اليهود والنصارى فإن مساقَ النظمِ لبيان حالِهم وإنما التعرُّضُ لمقالة غيرِهم لإظهار كمالِ بطلانِ مقالهم ولأن المُحاجَّةَ المُحوِجَةَ إلى الحكم إنما وقعت بينهم {يَوْمُ القيامة} متعلقٌ بيحكم وكذا ماقبله وما بعده ولاضير فيه لاختلاف المعنى {فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} بما يقسم لكل فريق مايليق به من العقاب وقيل حكمُه بينهم أن يكذِّبَهم وبدخلهم النارَ والظرفُ الأخير متعلقٌ بيختلفون قُدِّم عليه للمحافظة على رءوس الآى لا بكانوا

البقرة (114)

114

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله} إنكارٌ واستبعاد لأن يكون أحدٌ أظلمَ ممن فعل ذلك أومساويا له وإن لم يكن سبكُ التركيب متعرضاً لإنكار المساواة ونفيُها يشهد به العرف الفاشي والاستعمال المطرد فإذا قيل مَنْ أكرمُ من فلان أولا أفضلَ من فلان فالمرادُ به حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضل من كل فاضل وهذا الحكم عامٌ لكل من فعل ذلك في أي مسجد كان وإن كان سببَ النزول فعلُ طائفةٍ معينة في مسجد مخصوص رُوي أن النصارى كانوا يطرَحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناسَ أن يصلوا فيه وأن الرومَ غزَوُا أهلَه فخرَّبوه وأحرقوا التوراة وقتلوا وسبوا وقد نُقلَ عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ طِيطَيُوسَ الروميَّ ملكَ النصارى وأصحابَه غزوا بني إسرئيل وقتلوا مُقاتِلَتَهم وسبَوُا ذرارِيَهم وأحرقوا التوراةَ وخرَّبوا بيتَ المقدس وقذفوا فيه الجيفَ وذبحوا فيه الخنازيرَ ولم يزل خراباً حتى بناه المسلمون في عهد عمرَ رضي الله عنه وإنما أُوقعَ المنعُ على المساجد وإن كان الممنوعُ هو الناسَ لما أن فعلَهم من طرح الأذى والتخريب ونحوِهما متعلقٌ بالمسجد لا بالناس مع كونه على حاله وتعلقُ الآيةِ الكريمة بما قبلها من حيث إنها مبطلةٌ لدعوى النصارى اختصاصَهم بدخول الجنة وقيل هو منعُ المشركين من جُملة الجاهلين القائلين لكل مَنْ عداهم ليسوا على شئ {أن يذكر فيها اسمه} ثاني مفعولي منع كقوله تعالى {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ} وقوله تعالى {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاولون} ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ بحذف الجارِّ مع أن وأن يكون ذلك مفعولاً له أي يُذكر فيها اسمُه {وسعى فِى خَرَابِهَا} بالهدم أو التعطيل بانقطاع الذكر {أولئك} المانعون الظالمون الساعون في خرابها {مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} أي ما كان ينبغي لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ بخشية وخضوعٍ فضلاً عن الاجتراء على تخريبها أوتعطيلها أوما كان الحق أن يدخلوها إلا على حال التهيُّب وارتعادِ الفرائصِ من جهة المؤمنين أن يبطِشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويَلوُها ويمنعوهم منها أو ما كان لَهُمْ في علم الله تعالى وقضائه بالآخرة إلا ذلك فيكونُ وعداً للمؤمنين بالنُصرة واستخلاص ما استولَوْا عليه منهم وقد أُنجز الوعدُ ولله الحمد روى أنه لايدخل بيتَ المقدس أحدٌ من النصارى إلا متنكراً مسارقةً وقيل معناه النهيُ عن تمكينهم من الدخول في المسجد واختلف الأئمة في ذلك فجوّزه أبو حنيفة مطلقاً ومنعه مالك مطلقاً وفرَّق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره {ولهم} أي لأولئك المذكورين {فِى الدنيا خِزْىٌ} أي خزي فظيعٌ لا يوصف بالقتل والسبي والإذلال بضرب الجزية عليهم {وَلَهُمْ فِى الأخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو عذابُ النار لما أن سببه أيضاً وهو ما حُكي من ظلمهم كذلك في العِظَم وتقديمُ الظَّرفِ في الموضعينِ لتشويق إلى ما يذكر بعدَه من الخزي والعذاب لما مرَّ منْ أنَّ تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ موجبٌ لتوجه النفس إليه فيتمكن فيها عند وروده فضلَ تمكن كما في

البقرة (116 - 115) قوله تعالى {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} {وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعامِ ثمانية أزواج} إلى غير ذلك

115

{وَلِلَّهِ المشرق والمغرب} أي له كلُّ الأرض التي هي عبارةٌ عن ناحيتي المشرقِ والمغربِ لا يختصّ به من حيث الملكُ والتصرفُ ومن حيث المحلّيةُ لعبادته مكانٌ منها دون مكان فإن مُنعتم من إقامة العبادةِ في المسجد الأقصى أو المسجد الحرام {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} أي ففي أي مكان فعلتم توليةَ وجوهِكم شطرَ القبلة {فَثَمَّ وَجْهُ الله} ثَمَّ اسمُ إشارة للمكان البعيد خاصة مبنيٌّ على الفتح ولا يتصرَّف سوى الجر بمن وهو خبر مقدمٌ ووجهُ الله مبتدأ والجملة في محل الجزم على أنها جواب الشرط أي هناك جهتُه التي أمر بها فإن إمكان التوليةِ غيرُ مختصَ بمسجد دون مسجد أو مكان دون آخر أو فثَمَّ ذاتُه بمعنى الحضورِ العلميّ أي فهو عالم بما يُفعل فيه ومثيبٌ لكم على ذلك وقرئ بفتح التاء واللام أي فأينما توجهوا القبلة {إِنَّ الله واسع} بإحاطته بالأشياء أو برحمته يريد التوسعةَ على عباده {عَلِيمٌ} بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلِّها والجملة تعليلٌ لمضمون الشرطية وعن ابن عمرَ رضي الله عنهما نزلت في صلاة المسافرين على الراحلة أينما توجّهوا وقيل في قوم عمِيت عليهم القِبلةُ فصلُّوا إلى أنحاءَ مختلفةٍ فلما أصبحوا تبينوا خطأهم وعلى هذا لو أخطأ المجتهدُ ثم تبين له الخطأ لم يلزمه التدارُك وقيل هي توطئة لنسخ القِبلة وتنزيهٌ للمعبود عن أن يكون في جهة

116

{وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا} حكاية لطرفٍ آخرَ من مقالاتهم الباطلةِ المحكية فيما سلف معطوفةٌ على ما قبلها من قوله تعالى وَقَالَت الخ لا على صلةِ مَنْ لما بينهما من الجمل الكثيرة الأجنبيةِ والضميرُ لليهود والنصارى ومن شاركهم فيما قالوا من الذين لا يعلمون وقرئ بغير واو على الاستئناف نزلت حين قالت اليهودُ عزيز ابنُ الله والنصارى المسيحُ ابنُ الله ومشركو العربِ الملائكةُ بناتُ الله والاتخاذُ إما بمعنى الصُنع والعمل فلا يتعدَّى إلا إلى واحد وإما بمعنى التصيير والمفعولُ الأول محذوف أي صير بعض مخلوقاته ولداً {سبحانه} تنزيهٌ وتبرئةٌ له تعالى عما قالوا وسبحانَ عَلَمٌ للتسبيح كعُثمانَ للرجل وانتصابُه على المصدريّةِ ولا يكاد يُذكر ناصبُه أي أُسبِّحُ سبحانَه أي أنزّهُه تنزيهاً لائقاً به وفيه من التنزيه البليغِ من حيث الاشتقاقُ من السبْح الذي هو الذهابُ والإبعادُ في الأرض ومن جهة النقلِ إلى التَّفعيلِ ومن جهة العدولِ إلى المصدر إلى الاسمِ الموضوعِ له خاصة لاسيما العلمُ المشيرُ إلى الحقيقةِ الحاضرةِ في الذِّهنِ ومن جهة إقامتهِ مُقامَ المصدرِ مع الفعل مالا يخفى وقيل هو مصدرٌ كغُفرانٍ بمعنى التنزُّه أي تنَزَّهَ بذاتِه تنزُّهاً حقيقاً به ففيه مبالغةٌ من حيث إسنادُ البراءةِ إلى الذات المقدسة وإن كان التنزيهُ اعتقادَ نزاهتِه تعالى عما لا يليق به لا إثباتَها له تعالى وقولُه تعالى {بَل لَّهُ ما في السماوات والارض} رد لما زعموا وتنبيهٌ على بطلانه وكلمةُ بل للإضراب عما تقتضيه مقالتُهم الباطلةُ من مجانسته سبحانه وتعالى لشئ من المخلوقات ومن سرعة فَنائِه المَحوِجة إلى اتخاذ ما يقوم مَقامه فإن مجرد الإمكان والفَناء لا يوجب ذلكَ ألا يُرى أن الأجرامَ الفَلَكيةَ مع إمكانها وفَنائِها بالآخرة مستغنيةٌ

البقرة (118 - 117) بدوامها وطولِ بقائها عما يجري مجرَى الولدِ من الحيوان أي ليس الأمرُ كما زعموا بل هو خالقٌ جميعَ الموجودات التي من جملتها عزيز والمسيحُ والملائكة {كُلٌّ} التنوين عوضٌ عن المضافِ إليهِ أي كلُّ ما فيهما كائناً ما كانَ منْ أولي العلم وغيرِهم {لَّهُ قانتون} منقادون لا يستعصي شئ منهم على تكوينه وتقديره ومشيئتِه ومن كان هذا شأنُه لم يُتصوَّرْ مجانستُه لشئ ومن حق الولدِ أن يكون من جنس الوالد وإنما جيءَ بما المختصةِ بغير أولي العلم تحقيراً لشأنهم وإيذانا بكمال بُعدِهم عما نسَبوا إلى بعضٍ منهم وصيغةُ جمعِ العقلاءِ في قانتون للتغليب أو كلُّ مَنْ جعلوه لله تعالى ولداً له قانتون أي مطيعون عابدون له معترفون بربوبيته تعالى كقوله تعالى {أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة}

117

{بديع السماوات والارض} أي مُبدِعُهما ومخترِعُهما بلا مثالٍ يَحتذيه ولا قانونٍ ينتجه فإن البديعَ كما يُطلقُ على المبتدِع يُطلق على المبدع نصَّ عليه أساطينُ أهل اللغة وقد جاء بَدَعَه كمنعه بمعنى أنشأه كابتدعه كما ذُكر في القاموس وغيرِه ونظيرُه السميعُ بمعنى المسمِع في قوله أَمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعي السميعُ وقيل هو من إضافة الصفةِ المشبّهةِ إلى فاعلها للتخفيف بعد نصبه على تشبيهها باسم الفاعِلِ كما هو المشهورُ أي بديعُ سمواتِه من بَدَع إذا كان على شكل فائقٍ وحُسْنٍ رائق وهو حجة أخرى لإبطال مقالتِهم الشنعاءِ تقريرُها أن الوالدَ عنصرُ الولدِ المنفعل بانفصال مادته عنه والله سبحانه مُبدعُ الأشياء كلِّها على الإطلاق منزَّه عن الانفعال فلا يكون والداً ورفعُه على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف أي هو بديعُ الخ وقرئ بالنصبَ على المدح وبالجرِّ على أنه بدلٌ من الضمير في له على رأي من يجوز الإبدالَ من الضمير المجرور كما في قوله ... على جودِه لَضَنَّ بالماء حاتِمُ ... {وَإِذَا قضى أَمْرًا} أي أرادَ شيئاً كقوله تعالى إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً وأصلُ القضاءِ الإحكام أطلق على الإرادة الإلهية المتعلقة بوجود الشئ لإيجابها إياه البتة وقيل الأمر ومنه قوله تعالى {وقضى رَبُّكَ} الخ {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيكون} كلاهما من الكون التام أي أحدث فيحدث وليس المرادُ به حقيقةَ الأمرِ والامتثال وإنما هو تمثيلٌ لسهولة تأتّي المقدورات بحسَب تعلّقِ مشيئتِه تعالى وتصويرٌ لسرعة حدوثِها بما هو عَلَمٌ في الباب من طاعة المأمورِ المطيعِ للآمر المطاعِ وفيه تقريرٌ لمعنى الإبداع وتلويحٌ لحجة أخرى لإبطال ما زعموه بأن اتخاذَ الولدِ شأنُ مَن يفتقرُ في تحصيل مرادِه إلى مباد يستدعي ترتيبُها مرورَ زمانٍ وتبدلَ أطوارٍ وفعلُه تعالى متعالٍ عن ذلك

118

{وَقَالَ الذَين لاَ يَعْلَمُونَ} حكايةٌ لنوعٍ آخرَ من قبائحهم وهو قدحُهم في أمر النبوة بعد حكاية قدحِهم في شأن التوحيد بنسبة الولدِ إليه سبحانَه وتعالى واختُلف في هؤلاء القائلين فقال ابن عباس رضي الله عنهما اليهودُ وقال مجاهد هم النصارى ووصفُهم بعدم العلم لعدم علمِهم بالتوحيد والنبوة كما ينبغي أو لعدم علمِهم بموجب عمَلِهم أو لأن ما يحكى عنهم لا يصدرُ عمن له شائبةُ علمٍ أصلاً وقال قتادة

البقرة (120 - 119) وأكثرُ أهل التفسير هم مشركو العربِ لقوله تعالى {فليأتنا بآية كَمَا أرسل الأولون} وقالوا {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} {لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله} أي هلا يكلمُنا بلا واسطة أمراً أو نهياً كما يكلم الملائكةَ أو هلا يكلمنا نتصيصا على نُبوَّتِك {أو تأتينا آية} حجةٌ تدل على صدقك بلغوا من العُتوِّ والاستكبارِ إلى حيثُ أمَّلوا نيلَ مرتبةِ المفاوضةِ الإلهيةِ من غير توسط الرسولِ والملَك ومن العنادِ والمكابرة إلى حيث لم يعُدّوا ما آتاهم من البينات الباهرة التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال من قَبيل الآيات قاتلهم الله أنَّي يُؤفكون {كَذَلِكِ} مثلَ ذلكَ القولِ الشنيعِ الصادرِ عن العِناد والفساد {قَالَ الذين مِن قَبْلِهِم} من الأمم الماضية {مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} هذا الباطلِ الشنيعِ فقالوا {أَرِنَا الله جهرة} قالوا {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد} الآية وقالوا هَلْ يستطيع ربك الخ قالوا اجْعَلْ لَّنَا إِلَهًا الخ {تشابهت قُلُوبُهُمْ} أي قلوبُ هؤلاءِ وأولئك في العمى والعِناد وإلا لما تشابهت أقاويلُهم الباطلة {قَدْ بَيَّنَّا الآيات} أي نزلناها بينةً بأن جعلناها كذلك في أنفسِها كما في قولِهم سبحانَ من صغر البغوض وكبَّر الفيلَ لا أنا بيناها بعد أن لم تكن بينةً {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي يطلُبون اليقين ويوقنون بالحقائق لا يعتريهم شُبهةٌ ولا رِيبة وهذا ردٌّ لطلبهم الآيةَ وفي تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين المُفصِح عن كمال التوضيح مكانَ الإتيان الذي طلبوه ما لا يَخفْى من الجزالة والمعنى أنهم اقترحوا آيةً فذَّةً ونحن قد بينا الآياتِ العظامَ لقوم يطلُبون الحقَّ واليقين وإنما لم يُتعرَّضْ لرد قولِهم لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله إيذانا بأنه من ظهور البطلانِ بحيث لا حاجة إلى الرد والجواب

119

{إِنَّا أرسلناك بالحق} أي متلبسا بالقرآن كما في قوله تعالى {كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ} أو بالصدق كما في قوله تعالى {أَحَق هو} وقولُه تعالى {بَشِيراً وَنَذِيراً} حال من مفعول باعتبار تقييدِه بالحال الأولى أي أرسلناك متلبسا بالقرآن حالَ كونك بشيراً لمن آمن بما أُنزِل عليك وعمِل به ونذيراً لمن كفَر به أو أرسلناك صادقاً حال كونِك بشيراً لمن صدّقك بالثواب ونذيراً لمن كذّبك بالعذاب ليختاروا لأنفسهم ما أحبّوا لا قاسرَ لهم على الإيمان فلا عليك إنْ أصروا وكابروا {ولا تسأل عَنْ أصحاب الجحيم} ما لهم لم يؤمنوا بعد ما بلّغْتَ ما أُرسلتَ به وقرئ لن تسأل وما تسأل وقرئ لا تَسْألْ على صيغة النهي إيذاناً بكمال شدةِ عقوبةِ الكفار وتهويلاً لها كأنها لغاية فظاعتها لا يقدِرُ المخبِرُ على إجرائها على لسانه أو لا يستطيع السامعُ أن يسمع خبرَها وحملُه على نهي النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم عن السؤال عن حال أبويه مما لايساعده النظمُ الكريمُ والجحيمُ المتأججُ من النار وفي التعبير عنهم بصاحبية الجحيم دون الكفر والتكذيب ونحوهما وعيدٌ شديد لهم وإيذانٌ بأنهم مطبوعٌ عليهم لا يرجى منهم الإيمانُ قطعاً وقوله تعالى

120

{وَلَن ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} بيانٌ لكمال شدةِ شكيمةِ هاتين الطائفتين خاصة إثْرَ بيانِ ما يعُمُّهما والمشركين من الإصرار على ما هم عليه إلى الموت وإيراد لا

البقرة (122 - 121) النافية بين المعطوفَيْن لتأكيد النفي لما مرَّ منْ أنَّ تصلُّبُ اليهودِ في أمثال هذه العظائم أشدُّ من النصارى والإشعارِ بأن رضى كلَ منهما مباينٌ لرضى الأخرى أي لن ترضى عنك اليهودُ ولو خلَّيتَهم وشأنَهم حتى تتبعَ ملّتهم ولا النصارى ولو تركتم ودينَهم حتى تتبع مِلَّتَهم فأُوجِزَ النظمُ ثقةً بظهور المراد وفيهِ من المبالغةِ في إقناطه صلى الله عليه وسلم من إسلامهم ما لا غايةَ وراءَه فإنهم حيث لم يرضَوْا عنه عليه السلام ولو خلاّهم يفعلون ما يفعلون بل أملّوا منه صلى الله عليه وسلم مالا يكاد يدخُل تحت الإمكان من اتِّباعِه عليه السَّلامُ لمِلّتهم فكيف يُتوهم اتباعُهم لملته عليه السلام وهذه حالتُهم في أنفسهم ومقالتُهم فيما بينهم وأما أنهم أظهروها للنبي صلى الله عليه وسلم وشافهوه بذلك وقالوا لن نرضى عنك وإن بالغْتَ في طلب رضانا حتى تتبعَ مِلَّتنا كما قيل فلا يساعدُهُ النظمُ الكريمُ بل فيه ما يدل على خلافه فإنَّ قولَه عزَّ وجلَّ {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} صريحٌ في أنَّ ما وقع هذا جواباً عنه ليس عينَ تلك العبارةِ بل ما يستلزم مضمونَها أو يلزمه من الدعوة إلى اليهودية والنصرانية وادعاء أن الاهتداءَ فيهما كقوله عز وجل حكايةً عنهم {كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} أي قل رداً عليهم إِنَّ هُدَى الله الذي هو الإسلامُ هو الهدى بالحق والذي يحِقُّ ويصح أن يُسمَّى هُدىً وهو الهدى كلُّه ليس وراءه هُدىً وما تدْعون إليه ليس بهُدىً بل هو هوىً كما يعرب عنه قوله تعالى {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} أي آراءَهم الزائغةَ الصادرةَ عنهم بقضية شهواتِ أنفسِهم وهي التي عُبّر عنها فيما قبلُ بملتهم إذ هي التي ينتمون إليها وأما ما شرعه الله تعالى لهم من الشريعة على لسان الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام وهو المعنى الحقيقيُّ للملة فقد غيّروها تغييراً {بَعْدَ الذي جَاءكَ مِنَ العلم} أي الوحي أو الدين المعلومِ صحتُه {مَا لَكَ مِنَ الله} مِن جهته العزيزة {مِن وَلِىّ} يلي أمرَك عموماً {وَلاَ نَصِيرٍ} يدفعُ عنك عقابَه وحيث لم يستلزم نفيُ الوليِّ نفيَ النصيرِ وُسِّط لا بين المعطوفين لتأكيد النفي وهذا باب التهييج والإلهابِ وإلا فأنى يُتوهم إمكانُ اتباعِه عليه السلام لمِلّتهم وهو جوابٌ للقسم الذي وطّأه اللامُ واكتُفي به عن جواب الشرط

121

{الذين آتيناهم الكتاب} هُم مُؤمنو أهلِ الكتابِ كعبدِ اللَّه بن سلام وأضرابِه {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} بمراعاة لفظِه عن التحريف وبالتدبّر في معانيه والعمل بما فيه وهو حال مقدرةٌ والخبرُ ما بعدَهُ أو خبرٌ وما بعده مقرِّرٌ له {أولئك} إشارةٌ إلى الموصوفينَ بإيتاء الكتاب وتلاوتِه كما هو حقُّه وما فيه من معنى البعد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الفضل {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي بكتابهم دون المحرِّفين فإنهم بمعزل من الإيمان به فإنه لا يجامِعُ الكفرَ ببعضٍ منه {وَمن يَكْفُرْ بِهِ} بالتحريف والكفرِ بما يصدِّقه {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} حيثُ اشترَوُا الكفرَ بالإيمانِ

122

{يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التى أنعمت عَلَيْكُمْ} ومن جملتها التوراةُ وذكر النعمة إنما

البقرة (124 - 123) يكون بشكرها وشكرُها الإيمانُ بجميع ما فيها ومن جملته نعت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ومن ضرورة الإيمان بها الإيمان به عليه الصلاة والسلام {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} أفرِدَتْ هذه النعمةُ بالذكر مع كونها مندرجةً تحت النعمة السالفةِ لإنافتها فيما بين فنونِ النعم

123

{واتقوا} إن لم تؤمنوا {يَوْمًا لاَّ تَجْزِى} في ذلك اليوم {نَفْسٌ} من النفوس {عَن نَّفْسٍ} أخرى {شَيْئاً} من الأشياءِ أو شيئاً من الجزاء {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} أي فدية {وَلاَ تَنفَعُهَا شفاعة وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} وتخصيصُهم بتكرير التذكيرِ وإعادةِ التحذير للمبالغة في النُصحِ وللإيذان بأن ذلك فذلكةُ القضية والمقصودُ من القصة لِما أن نعم الله عز وجل عليهم أعظمُ وكفرَهم بها أشدُّ وأقبحُ

124

{وَإِذِ ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات} شروع في تحقيق إن هُدى الله هو ما عليه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من التوحيد والإسلام الذي هو ملةُ إبراهيمَ عليه السلام وأن ما عليه أهلُ الكتابين أهواءٌ زائغةٌ وأن ما يدّعونه من أنهم على ملَّته عليه الصلاة والسلام فريةٌ بلا مريةٍ ببيان ما صدر عن إبراهيم وأبنائه الأنبياءِ عليهم السلام من الأقاويل والأفاعيل الناطقة بحقية التوحيدِ والإسلام وبُطلان الشركِ وبصحة نبوةِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وبكونه ذلك النبيِّ الذي استدعاه إبراهيم واسمعيل عليهما الصلاة والسلام بقولهما {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ} الآية فإذْ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ مقدمٍ خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم بطريقِ التلوينِ أيْ واذكُر لهم وقت ابتلائِه عليه السلام ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الدَّاعيةِ إلى التوحيد الوازعةِ عن الشرك فيقبلوا الحقَّ ويتركوا ماهم فيه من الباطل وتوجيهُ الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات قد مرَّ وجهُه في أثناء تفسير قولِه عزَّ وجلَّ {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً} وقيل على الظرفية بمُضمر مؤخَّرٍ أي وإذ ابتلاه كان كيتَ وكيت وقيل بما سيجيء من قوله تعالى قَالَ الخ والأول هو اللائق بجزالة التنزيل ولا يبعُد أن ينتصِبَ بمضمرٍ معطوف على اذكُروا خُوطب به بنو إسرائيلَ ليتأملوا فيما يُحْكى عمن ينتمون الى ملته من إبراهيمَ وأبنائه عليهم السلام من الأفعال والأقوال فيقتدوا بهم ويسيروا سيرتَهم والابتلاءُ في الأصل الاختبارُ أي تطلب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشُقُّ عليه غالباً فِعلُه أو تركُه وذلك إنما يتصور حقيقة ممن لا وقوفَ له على عواقب الأمور وأما من العليم الخبير فلا يكون إلا مجازا من تمكينه للعبد من اختيار أحدِ الأمرين قبل أن يرتب عليه شيئا هو من مباديه العادية كمن يختبرُ عبدَه ليتعرَّف حاله من الكِياسة فيأمُره بما يليق بحاله من مَصالحه وإبراهيمُ اسمٌ أعجميٌّ قال السُهيلي كثيراً ما يقع الاتفاقُ أو التقاربُ بين

السرياني والعربي الا يرى أن إبراهيمَ تفسيره أبْ رَاحِم ولذلك جُعل هو وزوجتُه سارةُ كافِلَيْن لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغاراً إلى يوم القيامةِ على ما رَوى البُخاريُّ في حديث الرؤيا أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم رأى في الروضة إبراهيمَ عليه السلام وحوله أولادُ الناس وهو مفعولٌ مقدَّم لإضافة فاعلِه إلى ضميره والتعرُّضُ لعنوان الربوبية تشريفٌ له عليه السلام وإيذانٌ بأن ذلك الابتلاء تربيةٌ له وترشيحٌ لأمر خطير والمعنى عاملَه سبحانه معاملةَ المختبِرَ حيث كلّفه أوامر ونواهي يظهر بحسن قيامِه بحقوقها قُدرتُه على الخروج عن عُهدة الإمامةِ العظمى وتحمّلِ أعباءِ الرسالة وهذه المعاملة وتذكيرها للناس لإرشادهم إلى طريق إتقانِ الأمور ببنائها على التجربة وللإيذان بأن بِعثةَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أيضاً مبنيةٌ على تلك القاعدة الرصينة واقعةٌ بعد ظهور استحقاقِه عليه السلام للنبوة العاملة كيف لا وهي التي أُجيب بها دعوةُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ كما سيأتي واختُلف في الكلمات فقال مجاهد هي المذكورة بعدَها ورُدَّ بأنه يأباه الفاء في فأتمهن ثم الاستئناف وقال طاوسُ عن ابن عباس رضي الله عنهما هي عشرُ خصال كانت فرضاً في شرعه وهُن سنةٌ في شرعنا خمسٌ في الرأس المضمضةُ والاستنشاقُ وفرقُ الرأس وقصُّ الشارب والسواكُ وخمس في البدن الخِتانُ وحلقُ العانة ونتفُ الإبْطِ وتقليمُ الأظفار والاستنجاءُ بالماء وفي الخبر أن إبراهيمَ عليه السلام أولُ من قص الشاربَ وأولُ من اختَتَن وأولُ من قلم الأظفار وقال عكرمة عن ابن عباس لم يُبْتلَ أحدٌ بهذا الدين فأقامه كلَّه إلا إبراهيم ابتلاه الله تعالى بثلاثين خَصلةً من خصال الإسلام عشرٌ منها في سورة براءة التائبون الخ وعشر في الأحزاب إن المسلمين والمسلمات الخ وعشر في المؤمنون وسأل سائل الى قوله عز وجل وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ وقيل ابتلاه الله سبحانه بسبعة أشياءَ بالشمس والقمرِ والنجوم والاختتان على الكِبَر والنار وذبحِ الولدِ والهِجْرة فوفى بالكل وقيل هن مُحاجَّتُه قومَه والصلاةُ والزكاةُ والصوم والضيافة والصبرُ عليها وقيل هي مناسك كالطواف والسعي والرمي والإحرام والتعريف وغيرِهن وقيل هي قوله عليه السلام {الذي خلقني فهو يهدين} الآيات ثم قيل إنما وقع هذا الابتلاءُ قبل النبوة وهو الظاهرُ وقيل بعدها لأنه يقتضي سابقةَ الوحي وأجيب بأن مطلق الوحي لا يستلزمُ البعثةَ إلى الخلق وقرئ برفع إبراهيمُ ونصبِ ربَّه أي دعاه بكلماتٍ من الدعاء فعل المختبِر هل يجيبه اليهن أولا {فَأَتَمَّهُنَّ} أي قام بهن حق القيام وأداهن أحسنَ التأديةِ من غير تفريط وتوانٍ كما في قوله تعالى {وإبراهيم الذى وفى} وعلى القراءة الأخيرة فأعطاه الله تعالى ما سأله من غير نقص ويعضدُه ما روي عن مقاتل أنه فسَّر الكلماتِ بما سأل إبراهيمُ ربه بقوله رب اجعل الآيات وقوله عز وجل {قَالَ} على تقدير انتصاب إذْ بمضمر جملةٌ مستأنفةٌ وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الكلام فإن الابتلاء تمهيدٌ لأمر معظَّم وظهورُ فضيلة المبتلى من دواعي الإحسان إليه فبعد حكايتها تترقب النفسُ إلى ما وقع بعدهما كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك فقيل قال {إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا} أو بيانٌ لقوله تعالى ابتلي على رأي من جعل الكلماتِ عبارةً عما ذُكر أثرُه من الإمامة وتطهيرِ البيت ورفعِ قواعدِه وغير ذلك وعلى تقدير انتصابِ إذ بقال فالجملة معطوفةٌ على ما قبلها عطفَ القِصة على القصة والواو في المعنى داخلةٌ على قال أي وقال ابتلى الخ والجعلُ بمعنى التصيير أحدُ مفعوليه الضميرُ والثاني إماماً واسم الفاعل بمعنى المضارع وأوكد منه لدلالته على أنه جاعل

البقرة (125) له اُلبتةَ منْ غيرِ صارفٍ يلويهِ ولا عاطفٍ يثنيهِ وللناس متعلق بحاعلك أي لأجل الناس أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من إماماً إذ لو تأخر عنه لكان صفةً له والإمام اسم لمن يؤتم به وكلُّ نبي إمامٌ لأمته وإمامته عليه السلام عامةٌ مؤبدةٌ إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته مأموراً باتباع ملته {قَالَ} استئناف مبنيٌّ على سؤال مقدر كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ إبراهيم عليه السلام عنده فقيل قال {وَمِن ذُرّيَتِى} عطف على الكاف ومن تبعيضيةٌ متعلقة بجاعل أي وجاعل بعضَ ذريتي كما تقول وزيداً لمن يقول سأكرمك أو بمحذوف أي واجعل فريقاً من ذريتي إماماً وتخصيصُ البعض بذلك لبَداهة استحالة إمامةِ الكلِّ وإن كانوا على الحق وقيل التقدير وماذا يكون من ذرتيى والذرية نسلُ الرجل فُعّولة من ذروت أو ذريت والأصل ذرووة أو ذُرّوْية فاجتمع في الأولى واوان زائدة وأصلية فقلبت الأصلية ياء فصارت كالثانية فاجتمعت واوٌ وياء وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون فقُلبت الواوُ ياء وأُدغمت الياءُ في الياء فصارت ذرية أو فعلية منهما والأصل في الولى ذُرِّيوة فقلبت الواو ياء لما سبق من اجتماعهما وسَبْقِ إحداهما بالسكون فصارت ذرّيْيَة كالثانية فأدغمت الياء في مثلها فصارت ذرّية أو فُعيلة من الذرْء يمعنى الخلق والأصل ذُريئة فخففت الهمزةُ بإبدالها ياءً كهمزة خطيئة ثم أُدغمت الياء الزائدةُ في المبدلةِ أو فعيلة من الذرّ بمعنى التفريق والأصل ذُرّيرة قلبت الراء الأخيرة ياء لتوالي الأمثال كما في تسري وتفضى وتظني فأدغمت الياء في الياء كما مر أو فعولة منه والأصل ذُرّورة فقلبت الراء الأخيرة ياءً فجاء الإدغام وقرئ بكسر الذال وهي لغة فيها وقرأ أبو جعفر المدني بالفتح وهي أيضاً لغة فيها {قَالَ} استئناف مبني على سؤال ينساق إليه الذهنُ كما سبق {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} ليس هذا رداً لدعوتِه عليهِ السلامُ بلْ إجابةً خفيةً لها وعِدَةً إجماليةً منه تعالى بتشريف بعضِ ذريتِه عليه السلام بنيل عهدِ الإمامةِ حسبما وقع في استدعائه عليه السلام من غير تعيين لهم بوصفٍ مميزٍ لهم عن جميع مَنْ عداهم فإن التنصيصَ على حرمانِ الظالمين منه بمعزلٍ من ذلك التمييزِ إذ ليس معناه أنه ينالُ كلَّ من ليس بظالم منهم ضرورةَ استحالةِ ذلك كما أشير إليه ولعل إيثارَ هذه الطريقةِ على تعيين الجامعين لمبادئ الإمامة من ذريته إجمالاً أو تفصيلاً وإرسالَ الباقين لئلا ينتظمَ المقتدون بالأئمةِ من الأمةِ في سلك المحرومين وفي تفصيل كل فرقة من الإطناب مالا يخفى مع ما في هذه الطريقة من تخييبِ الكفرةِ الذين كانوا يتمنَّوْن النبوة وقطعِ أطماعهمَ الفارغةِ من نيلها وإنما أوثِرَ النيلُ على الجعلِ إيماءً إلى أن إمامة الأنبياءِ عليهم السلام من ذريته عليه السلام كإسماعيلَ وإسحقَ ويعقوبَ ويوسفَ وموسى وهارونَ وداودَ وسليمانَ وأيوبَ ويونسَ وزكريا ويحيى وعيسى وسيدنا محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم تسليماً كثيراً ليست بجعل مستقل بل هي حاصلة في ضمن إمامة إبراهيمَ عليه السلام تنال كلا منهم في وقت قدر الله عز وجل وقرئ الظالمون على أن عهدي مفعولٌ قُدم على الفاعل اهتماماً ورعايةً للفواصلِ وفيه دليلٌ على عصمةِ الأنبياءِ عليهم السلام من الكبائر على الإطلاق وعدم صلاحية الظالمِ لِلإمامة وقوله تعالى

125

{وإذ جعلنا البيت} أي الكعبةَ المعظمةَ غلب عليها غلبةَ النجم على الثريا معطوفٌ

على إذِ ابتلى على أن العامل فيه هو العاملُ فيه أو مضمرٌ مستقل معطوف على المضمر الأول والجعلُ إما بمعنى التصييرِ فقوله عز وجل {مَثَابَةً} أي مرجعاً يثوب إليه الزوار بعد ما تفرقوا عنه أو أمثالُهم أو موضِعَ ثوابٍ يثابون بحجِّه واعتمارِه مفعولُه الثاني وإما بمعنى الإبداع فهو حال من مفعول واللام في قوله تعالى {لِلنَّاسِ} متعلقةٌ بمحذوف وقعَ صفة لمثابة أي كائنة للناس أو بجعلنا أي جعلناه لأجل الناس وقرئ مثابات باعتبار تعدد الثائبين {وَأَمْناً} أي آمِنا كما في قوله تعالى حَرَماً آمنا على إيقاع المصدرِ موقعَ اسمِ الفاعلِ للمبالغة أو على تقدير المضافِ أي ذا أمنِ أو على الإسنادِ المجازي أي آمِنا من حجه من عذابِ الآخرةِ من حيث أن الحجَّ يجُبُّ ما قبله أو مَنْ دخله من التعرُّض له بالعقوبة وإن كان جانياً حتى يخرجَ على ما هو رأى أبي حنفية ويجوز أن يُعتبر الأمنُ بالقياس إلى كل شئ كائناً ما كان ويدخل فيه أمنُ الناس دخولاً أولياً وقد اعتيدَ فيه أمنُ الصيد حتى إن الكلبَ كان يهُمُّ بالصيد خارجَ الحرم فيفِرُّ منه وهو يتبعه فإذا دخل الصيد الحرمَ لم يتبعْه الكلبُ {واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى} على إرادةِ قولٍ هو عطفٌ على جعلنا أو حالٌ من فاعلِه أي وقلنا أو قائلين لهم اتخذوا الخ وقيل هو بنفسهِ معطوفٌ على الأمرِ الذي يتضمنه قوله عز وجل مَثَابَةً لّلنَّاسِ كأنه قيل ثوبوا إليه واتخذوا الخ وقيل على المضمرِ العاملِ في إذ وقيل هي جملةٌ مستأنفةٌ والخطابُ على الوجوه الأخيرةِ له عليه السلام ولأمتهِ والأولُ هو الأليقُ بجزالةِ النظم الكريم والأمرُ صريحاً كان أو مفهوماً من الحكاية للاستحباب ومن تبعيضه والمقام اسمُ مكانٍ وهو الحجَرُ الذي عليه أثر قدمُه عليه السلام والموضعُ الذي كان عليه حين قام ودعا الناسَ إلى الحج أوحين رفع قواعدَ البيت وهو موضعُه اليوم والمراد بالمصلى إما موضعُ الصلاة أو موضعُ الدعاء رُوي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عمر رضي الله عنه فقال هذا مقامُ إبراهيم فقال رضي الله عنه أفلا نتخذهُ مصلًّى فقال لم أُومرْ بذلك فلم تغِبْ الشمسُ حتى نزلتْ وقيل المرادُ به الأمرُ بركعتي الطواف لما روى جابرٌ رضيَ الله عْنهُ أنَّه عليهِ السلامُ لما فرَغ من طوافه عمَد إلى مقامِ إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ واتخذوا على صيغة الماضي عطفاً على جعلنا أي واتخذ الناسُ من مكان إبراهيمَ الذي وُسِمَ به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قِبلةً يصلّون إليها {وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم وإسماعيل} أي أمرناهما أمراً مؤكداً {أَن طَهّرَا بَيْتِىَ} بأن طهِّراه على أنّ أنْ المصدريةَ حذف عنها الجارُّ حذفاً مطرداً لجوازِ كون صلتِها أمرا ونهياً كما في قوله عزَّ وجل وَإِن أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا لأن مدارَ جوازِ كونِها فعلاً إنما هو دِلالتُه على المصدر وهي متحققةٌ فيهما ووجوبُ كونِها خبريةً في صلةِ الموصولِ الاسميِّ إنَّما هُو لتوصل إلى وصفِ المعارفِ بالجملِ وهي لا يوصف بها إلا إذا كانت خبريةً وأما الموصولُ الحرفيُّ فليس كذلك ولما كان الخبرُ والإنشاءُ في الدلالةِ على المصدرِ سواءً ساغَ وقوعُ الأمرِ والنهي صلةً حسب وقوعِ الفعلِ فيتجرد عند ذلك معنى الأمر والنهي نحوُ تجردِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضيّ والاستقبال أو أي طهراه على أنَّ أنْ مفسرةٌ لتضمين العهدِ معنى القولِ وإضافةُ البيت إلى ضمير الجلالة للتشريف وتوجيهُ الأمر بالتطهيرِ ههنا إليهما عليهما السلام لا ينافي سورةِ الحج من تخصيصِه بإبراهيم

البقرة (126) عليه السلامُ فإنَّ ذلك واقعٌ قبلَ بناءِ البيتِ كما يفصحُ عنه قولُه تعالى {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت} وكان إسماعيلُ عليه السلام حينئذ بمعزلٍ من مثابةِ الخطابِ وظاهرٌ أنَّ هذا بعدَ بلوغِه مبلغَ الأمرِ والنهي وتمامِ الباء بمباشرته كما ينبئ عنه إيرادُهُ إثرَ حكايةِ جعلهِ مثابةً للناسِ الخ والمرادُ تطهيرُه من الأوثانِ والأنجاسِ وطواف الجنُب والحائضِ وغير ذلك مما لا يليقُ به {لِلطَّائِفِينَ} حوله {والعاكفين} المجاورين المقيمين عنده أو المعتكفين أو القائمين في الصلاة كما في قوله عز وعلا {لِلطَّائِفِينَ والقائمين} {والركع السجود} جمع راكع وساجد أي للطائفين والمصلين لأنَّ القيامَ والركوعَ والسجودَ من هيئاتِ المصلي ولتقاربِ الأخيرين ذاتاً وزماناً ترك العاطف بين موصوفيهما أو أخلِصاه لهؤلاءِ لئلا يغشاهُ غيرُهم وفيه إيماءٌ إلى أن ملابسةَ غيرِهم به وإن كانت مع مقارنةِ أمرٍ مباحٍ مِن قبيلِ تلويثِه وتدنيسِه

126

{وَإِذْ قَالَ إبراهيم} عطفٌ على ما قبله من قولِه وإذ جعلنا الخ إما بالذاتِ أو بعاملِه المضمرِ كما مرَّ {رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا} ذا أمنٍ كعيشةٍ راضيةٍ أو آمناً أهلُهُ كليلةِ نائم أي اجعل هذا الواديَ من البلادِ الآمنة وكان ذلك أولَ ما قَدِمَ عليه السلام مكةَ كما روى سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه عليه الصلاةُ والسلام لما أسكن إسماعيلَ وهاجَر هناك وعادَ متوجهاً إلى الشام تَبعتْه هاجرُ تقول إلى من تَكِلُنا في هذا البلقَعِ وهو لا يرد عليهما جواباً حتى قالت آلله أمرك بهذا فقال نعمْ قالت إذنْ لا يُضيِّعُنا فرضِيَتْ ومضى حتى إذا استوى على ثَنِيّةِ كَداءٍ أقبل على الوادي فقال رَّبَّنَا إِنَّى أسكنت الآية وتعريفُ البلدِ مع جعلِه صفة لهذا في سورة إبراهيم إن حُمل على تعدد السؤال لما أنه عليه السلام سأَلَ أولاً كلا الأمرين البلديةِ والأمنِ فاسْتُجيبَ له في أحدِهما وتأخرَ الآخرُ إلى وقته المقدر له لما تقتضيه الحكمةُ الباهِرَةُ ثمَّ كرَّرَ السؤالَ حسبما هو المعتادُ في الدعاءِ والابتهالِ أو كان المسئول أولاً البلديةَ ومجردَ الأمنِ المصححِ للسُكنى كما في سائرِ البلاد وقد أجيبَ إلى ذلك وثانياً الأمنُ المعهودُ أو كان هو المسئول أولاً أيضاً وقد أجيب إليه لكنَّ السؤالَ الثانيَ لاستدامتِه والاقتصارُ على سؤالِه مع جعلِ البلدِ صفةً لهذا لأنهُ المقصِدُ الأصليُّ أو لأنَّ المعتادَ في البلدية الاستمرارُ بعد التحقق بخلافِ الأمنِ وإن حمل على وحدةِ السؤالِ وتكرُرِ الحكايةِ كما هو المتبادرُ فالظاهر أن المسئول كِلا الأمرين وقد حُكي ذلك ههنا واقتُصرَ هناك على حكايةِ سؤالِ الأمنِ اكتفاءً عن حكايةِ سؤالِ البلديةِ بحكايةِ سؤال جعل أفئدة الناس تهوي إليه كما سيأتي تفصيلُه هناك بإذنِ الله عزَّ وجلَّ {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} من أنواعها بأن تجعلَ بقربٍ منه قرُىً يحصُل فيها ذلك أو يجبى إليه من الأقطارِ الشاسعةِ وقد حصل كلاهما حتى إنه يجتمعُ فيه الفواكهُ الربيعيةُ والصيفيةُ والخريفيةُ في يومٍ واحدٍ روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ الطائفَ كانت من أرض فلِسطينَ فلما دعا إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بهذه الدعوة رفعها الله تعالى فوضعَها حيث وضعها رزقاً للحرَم وعن الزهري أنه تعالى نقل قرية من

البقرة (127) قرى الشامِ فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {من آمن مِنْهُم بالله واليوم الأخر} بدلٌ من أهلِه بدلَ البعض خصهم بالدعاء إظهاراً لشرفِ الإيمان وإبانةً لخطره واهتماماً بشأن أهلِهِ ومراعاةً لحسنِ الأدبِ وفيه ترغيب لقومِه في الإيمان وزجر عن الكفر كما أن في حكايتِه ترغيباً وترهيباً لقريش وغيرهم من أهل الكتاب {قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال كما مرَّ مِراراً وقولُه تعالى {وَمَن كَفَرَ} عطفٌ على مفعولِ فعلٍ محذوف تقديره ارزقْ من آمن ومن كفر وقولُه تعالى {فَأُمَتّعُهُ} معطوفٌ على ذلك الفعل أو في محل رفع بالابتداء قوله تعالى فأمتعه خبرُه أي فأنا أمتعُهُ وإنما دخلته الفاءُ تشبيهاً له بالشرط والكفرُ وإن لم يكنْ سبباً للتمتيعِ المطلقِ لكنه يصلح سبباً لتقليلِه وكونِه موصولاً بعذابِ النار وقيلَ هو عطفٌ على من آمن عطفَ تلقينٍ كأنه قيلَ قلْ وارزقْ من كفرَ فإنه أيضاً مجابٌ كأنَّهُ عليه السلامُ قاسَ الرزقَ على الإمامة فنبههُ تعالى على أنهُ رحمةٌ دنيويةٌ شاملةٌ للبَرِّ والفاجرِ بخلاف الإمامة الحاصلة بالخواص وقرئ فأمتعه من أمتع وقرئ فنمُتِّعُه {قَلِيلاً} تمتيعاً قليلاً أوزمانا قليلاً {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار} أي أَلُزُّهُ إليه لزَّ المضطرِ لكفرِه وتضييعه ما متعه به من النعم وقرئ ثمَّ نضطَرُّه على وفق قراءة فنمتعه وقرئ فأَمتِعْه قليلاً ثم اضْطَرَّهُ بلفظ الأمرِ فيهما على أنهما من دعاء إبراهيمَ عليه السلامُ وفي قال ضميره وإنما فصلُه عما قبله لكونِه دعاءً على الكفرة وتغيير سبكهِ للإيذانِ بأن الكفر سببٌ لاضطرارهم إلى عذابِ النار وأما رزقُ من آمن فإنما هو على طريقة التفضيل والإحسان وقرئ بكسر الهمزةِ على لغةِ من يكسرُ حرفَ المضارعةِ وأَطَّرُّه بإدغام الضادِ في الطاء وهي لغةٌ مرذولةٌ فإنَّ حروفَ ضم شفر يُدغمُ فيها ما يجاورُها بلا عكسِ {وَبِئْسَ المصير} المخصوص بالذم محذوفٌ أي بئس المصيرُ النارُ أو عذابُها

127

{وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت} عطفٌ على ما قبله من قوله عز وجلا وَإِذْ قَالَ إبراهيم على أحد الطريقين المذكورين في وإذ جعلنا وصيغةُ الاستقبال لحكاية الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها العجيبة المنبئة عن المعجزةِ الباهرةِ والقواعدُ جمع قاعدة وهي الأساسُ صفةٌ غالبة من القعود بمعنى الثبات ولعله مجازٌ من مقابل القيام ومنه قعدك الله ورفعها البناءَ عليها لأنه ينقُلها من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاعِ والمرتفعُ حقيقة وإن كان هو الذي بُني عليها لكنهما لمّا التأما صارا شيئاً واحداً فكأنها نمت وارتفعت وقيل المراد بها سافات البناء فإن كل ساف قاعدةٌ لما يبنى عليها وبرفعها بناءَ بعضِها على بعض وقيل المرادُ برفعها رفعُ مكانةِ البيت وإظهارُ شرفِه ودعاءُ الناس إلى حجِّه وفي إبهامها أولاً ثم تبيينِها من تفخيم شأنها مالا يخفى وقيل المعنى وإذ يرفع إبراهيمُ ما قعد من البيت واستوطأ يعني يجعل هيئةَ القاعدةِ المستَوطَأةِ مرتفعةً عالية بالبناء رُوي أن الله عز وجل أنزل البيتَ ياقوتةً من يواقيت الجنة له بابانِ من زمرد شرقي وغربي وقال لآدمَ أهبطتُ لك ما يُطاف به كما يطاف حول عرشي فتوجه آدمُ من أرض الهند إليه ماشياً وتلقَتْه الملائكةُ فقالوا بَرَّ حجَّك يا آدمُ لقد حجَجْنا هذا البيتَ قبلك بألفي عام وحج آدمُ عليه السلام أربعينَ حجةً من أرض الهند إلى مكةَ على رجليه فكان على ذلك إلى أنْ رفعه الله أيامَ الطوفان إلى السماءِ الرابعةِ فهو البيتُ المعمور

وكان موضعُه خالياً إلى زمن إبراهيمَ عليه السلام فأمره سبحانه ببنائه وعرَّفه جبريلُ عليه السلام بمكانه وقيل بعث الله السكينةَ لتدلَّه عليه فتبعها إبراهيم عليه السلام حتى أتيا مكة المعظّمة وقيل بعث الله تعالى سَحابةً على قدْرِ البيت وسار إبراهيمُ في ظلها إلى أن وافت مكةَ المعظمة فوقفت في موضع البيت فنُودي أنِ ابْنِ على ظلّها ولا تزدْ ولا تنقُصْ وقيل بناه من خمسة أجبُل طورِ سَيْناء وطورِ زيتا ولبنانَ والجُوديِّ وأسّسه من حِراءَ وجاء جبريلُ عليه السلام بالحجر السود من السماء وقيل تمخّض أبو قُبَيْس فانشقَّ عنه وقد خبئ فيه في أيام الطوفان وكان ياقوتةً بيضاءَ من يواقيتِ الجنة فلما لمستْه الحُيَّضُ في الجاهلية اسودّ وقال الفاسيّ في مثير الغرام في تاريخ البلد الحرام والذي يتحصل من جملة ما قيل في عدد بناء الكعبة أنها بنيت عشرَ مرات منها بناءُ الملائكة عليهم السلام وذكره النووي في تهذيب الأسماءِ واللغات والأزرقيُّ في تاريخه وذكر أنه كان قبل خلقُ آدم عليه السلام ومنها بناءُ آدمَ عليه السلام ذكره البيهقي في دلائل النبوة وروى فيه عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أن رسول اله صلى الله عليه وسلم قال بعث الله عز وجل حبريل إلى آدمَ عليهما السلام فقال له ولحواءَ ابنِيا لي بيتا فخط جبريلُ وجعل آدمُ يحفِرُ وحواءُ تنقُل الترابَ حتى إذا أصاب الماء نودي من تحته حسبُك آدمُ فلما بنياه أوحى إليه أن يطوفَ به فقيل له أنت أولُ الناس وهذا أولُ بيتٍ وهكذا ذكره الأزرقي في تاريخه وعبدُ الرزاق في مصنفه ومنها بناءُ بني آدم عند ما رُفعت الخيمة التي عزّى الله تعالى بها آدم عليه السلام وكانت ضُربت في موضع البيت فبنى بنوه مكانَها بيتاً من الطين والحجارة فلم يزل معموراً يعمرُونه هم ومن بعدهم إلى أن مسَّه الغرق في عهد نوح عليه السلام ذكره الأزرقيُّ بسنده إلى وهْب بن منبه ومنها بناءُ الخليل عليه السلام وهو منصوصٌ عليه في القرآن مشهور في ما بين قاصٍ ودان ومنها يناء العمالقة ومنها بناء جُرْهُم ذكرهما الأزراقي بسنده إلى عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه ومنها بناءُ قصيِّ بنِ كلاب ذكره الزبيرُ بن بكار في كتاب النَّسَب ومنها بناءُ قريشٍ وهو مشهور ومنها بناءُ عبدِ اللَّه بن الزُّبيرِ رضي اللَّه عنهما ومنها بناءُ الحجاج بنِ يوسُفَ وما كان ذلك بناءً لكلِّها بل لجدار من جدرانها وقال الحافظ السهيلي إن بناءها لم يكن في الدهر إلا خمسَ مرات الأولى حين بناها شيْثُ عليه السلام انتهى والله سبحانه أعلم {وإسماعيل} عطف على إبراهيمَ ولعل تأخيرَه عن المفعول للإيذان بأن الأصلَ في الرفع هو إبراهيم وإسمعيل تبعٌ له قيل إنه كان يناوله الحجارةَ وهو يبنيها وقيل كانا يبنيانِه من طرفين {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} على إرادةِ القولِ أيْ يقولان وقد قرئ به على أنه حالٌ منهما عليهما السلام وقيل على أنه هو العاملُ في إذْ والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها والتقديرُ يقولان ربنا تقبلْ منا إذ يرفعان أيْ وقتَ رفعِهما وقيل وإسمعيل مبتدأٌ خبرُه قولٌ محذوفٌ وهو العامل في ربنا تقبل منا فيكون إبراهيمُ هو الرافع وإسمعيل هو الداعيَ والجملةُ في محل النصب على الحالية أي وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيمُ القواعد والحال أن إسمعيل يقولُ ربنا تقبل منا والتعرضُ لوصفِ الربوبيةِ المنبئةِ عن إفاضة ما فيه صلاحُ المربوبِ مع الإضافة إلى ضميرها عليهما السلام لتحريك سلسلةِ الإجابةِ وتركُ مفعول تقبّل مع ذكرُه في قوله تعالى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء وغيره من القُرَب والطاعات التي من جملتها ما هما بصدده من البناء كما يُعرب عنه جعلُ الجملة الدعائية حالية {إِنَّكَ أَنتَ السميع} لجميع المسموعاتِ التي من جُملتها دعاؤُنا {العلم} بكل

البقرة (129 - 128) المعلومات التي من زمرتها نياتُنا في جميع أعمالِنا والجملة تعليلٌ لاستدعاء التقبّل لا من حيثُ أن كونه تعالى سمعيا لدعائهما عليماً بنياتهما مصححٌ للتقبل في الجملة بل من حيثُ إنَّ علمَه تعالى بصحة نياتهما وإخلاصِهما في أعمالهما مستدعٍ له بموجَب الوعدِ تفضُّلاً وتأكيدُ الجملة لغرض كمالِ قوةِ يقينِهما بمضمونها وقصرُ نعتي السمع والعلم عليه تعالى لإظهار اختصاصِ دعائهما به تعالى وانقطاعِ رجائهما عما سواه بالكلية واعلم أن الظاهر أن أولَ ما جرى من الأمور المحكية هو الابتلاءُ وما يتبعه ثم دعاءُ البلديةِ والأمنِ وما يتعلق به ثم رفعُ قواعدِ البيت وما يتلوه ثم جعلُه مثابةً للناس والأمرُ بتطهيره ولعل تغيير الترتيب الوقوعيِّ في الحكاية لنظم الشئون الصادرةِ عن جنابه تعالى في سلك مستقلٍ ونظمِ الأمور الواقعةِ من جهة إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام من الأفعال والأقوال في سلك آخرَ وأما قولِهِ تَعَالَى وَمَن كَفَرَ الخ فإنما وقع في تضاعيف الأحوال المتعلقةِ بإبراهيم لاقتضاءِ المقام واستيجابِ ما سبق من الكلام ذلك بحيث لم يكن بد منه اصلاكما أن وقوعَ قوله عليه السلام ومن ذريتي في خلال كلامِه سبحانه لذلك

128

{رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} مخلِصين لك أو مستسلمين من أَسلم إذا استسلم وانقاد وأياما كان فالمطلوبُ الزيادةُ والثباتُ على ما كان عليه من الإخلاص والإذعان وقرئ مسلِمين على صيغة الجمع بإدخال هاجَرَ معهما في الدعاء أو لأن التثنية من مراتب الجمع {وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} أب واجعل بعضَ ذريتنا وإنما خصاهم بالدعاء لأنهم أحقُّ بالشفقة ولأنهم إذا صلَحوا صلَح الأتباع وإنما خَصّا به بعضَهم لمّا علما أن منهم ظلمةً وأن الحكمة الإلهية لا تقتضي اتفاقَ لكل على الإخلاص والإقبالَ الكلي على الله عزَّ وجلَّ فإن ذلك مما يُخلُّ بأمر المعاش ولذلك قيل لولا الحمقى لخَرِبَتِ الدنيا وقيل أراد بالأمة المسلمة أمة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وقد جوز أن يكون من مبينة قدّمت على المبين وفُصل بها بين العاطف والمعطوف كما في قوله تعالى {وَمِنَ الارض مِثْلَهُنَّ} والأصلُ وأمةً مسلمةً لك من ذريتنا {وَأَرِنَا} من الرؤية بمعنى الإبصارِ أو بمعنى التعريفِ أي بصِّرنا أو عرِّفنا {مَنَاسِكَنَا} أي متعبداتِنا في الحج أو مذابحَنا والنُسُك في الأصل غايةُ العبادة وشاعَ في الحج لما فيه من الكُلفة والبعد عن العادة وقرئ أرنا قياساً على فخذ في فخذ وفيه إحجاف لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطةِ دليل عليهما وقرئ بالاختلاس {وَتُبْ عَلَيْنَا} استتابة لذريتهما وحكايتُها عنهما لترغيب الكفرةِ في التوبة والإيمانِ أو توبةٌ لهما عما فرط منهما سهوا ولعلمهما قالاه هضماً لأنفسهما وإرشاداً لذريتهما {إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم} وهو تعليلٌ للدعاء ومزيدُ استدعاء للإجابة قيل إذا أراد العبدُ أن يُستجاب له فليدع الله عز وجل بما يناسبه من أسمائه وصفاتِه

129

{رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ} أي في الأمة المسلمة

البقرة (130) {رَسُولاً مّنْهُمْ} أي من أنفسهم فإن البعث فيهم لا يستلزم البعثَ منهم ولم يُبعث من ذريتهما غير النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فهو الذي أُجيب به دعوتُهما عليهما السَّلامُ رُوي أنَّه قيل له قد استُجيب لك وهو في آخر الزمان قال عليه السَّلامُ أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ وبُشرى عيسى ورُؤيا أمي وتخصيصُ إبراهيمَ عليه السلام بالاستجابة له لما أنه الأصلُ في الدعاء وإسمعيل تبعٌ له عليه السلام {يتلو عليهم آياتك} يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى إليه من البينات {وَيُعَلّمُهُمُ} بحسب قوتِهم النظرية {الكتاب} أي القرآن {والحكمة} وما يُكمل به نفوسَهم من أحكام الشريعة والمعارف الحقة {وَيُزَكّيهِمْ} بحسب قوتهم العملية أي يطهرها عن دنس الشرك وفنون المعاصي {إِنَّكَ أَنتَ العزيز} الذي لا يُقهر ولا يغلب على ما يريد {الحكيم} الذي لا يفعلُ إلا ما تقتضيهِ الحِكمةُ والمصلحةُ والجملة تعليلٌ للدعاء وإجابة المسئول فإن وصفَ الحكمةِ مقتضٍ لإفاضة ما تقتضيه الحِكمةُ من الأمور التي من جملتها بعثُ الرسول ووصفُ العزة مستدعٍ لامتناع وجود المانِع بالمرة

130

{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم} إنكارٌ واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغبُ عن ملته التي هي الحقُّ الصريحُ والدين الصحيحُ أي لا يرغب عن ملته الواضحةِ الغراء {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} أي أذلّها واستمهَنها واستخَفّ بها وقيل خسِر نفسه وقيل أوبقَ أو أهلكَ أو جهَّلَ نفسَه قال المبرِّدُ وثعلبٌ سفِه بالكسر متعدَ وبالضم لازم ويشهد له ما ورد في الخبر الكبر أن تسفه الحق وتغمض النَّاسَ وقيل معناه ضل من قِبَل نفسِه وقيل أصلُه سفِه نفسُه بالرفع فنصب على التمييز نحو غَبِن رأيُه وألِمَ رأسُه ونحو قوله ... ونأخُذُ بعده بذِناب عيش ... أجبِّ الظهرِ ليس له سَنامُ ... وقوله ... وما قومي بثعلبةَ بن سعد ... ولا بفزارةَ الشُّعْرَ الرقابا ... ذلك لأنه إذا رغب عما لا يرغب عنه أحدٌ من العقلاء فقد بالغ في إذلالِ نفسه وإذالتها وإهانتِها حيث خالف بها كلَّ نفس عاقلة رُوِيَ أنَّ عبدَ اللَّه بن سلام دعا ابني أخيه سلمةَ ومُهاجِراً إلى الإسلام فقال لهما قد علمنا أن الله تعالى قال في التوراة إني باعثٌ من ولد اسمعيل نبياً اسمُه أحمدُ فمن آمن به فقد اهتدى ورشَد ومن لم يؤمن به فهو ملعون فأسلم سلمةُ وأبي مهاجر فنزلت {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا} أي اخترناه بالنبوة والحكمة من بين سائر الخلق وأصله اتخاذُ صفوة الشيء كما أن أصلَ الاختيارِ اتخاذُ خيره واللام لجواب قسم محذوف والواو اعتراضية والجملة مقررة لمضمون ما قبلها أي وبالله لقد اصطفيناه وقوله تعالى {وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين} أي من المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح معطوفٌ عليها داخلٌ في حيز القسم مؤكدٌ لمضمونها مقرر لما تقرِّره ولا حاجة إلى جعله اعتراضاً آخرَ أو حالاً مقدرة فإن مَنْ كان صفوةً للعباد في الدنيا مشهوداً له بالصلاح في الآخرة كان حقيقاً بالاتباع لا يَرغبُ عن ملته إلا سفيهٌ أو متسفّهٌ أذل نفسَه بالجهل والإعراض عن النظر والتأمل وإيثارُ الاسمية لما أن انتظامه في زُمرة صالحي أهلِ الآخرة أمرٌ مستمرٌ في الدارين لا أنه

البقرة (132 - 131) يحدُث في الآخرة والتأكيدُ بإن واللام لما أن الأمورَ الأخروية خفية عند المخاطبين فحاجتُها إلى التأكيد أشدُّ من الأمور التي تُشاهد آثارُها وكلمة في متعلقةٌ بالصالحين على أنَّ اللامَ للتعريفِ وليست بموصولة حتى يلزم تقديمُ بعض الصلة عليها على أنه قد يُغتفر في الظرف مالا يغتفر في غيره كما في قوله ... ربيته حتى إذا تمعددا ... كان جزائي بالعصا أن أُجلَدا ... أو بمحذوف من لفظه أي وأنه لصالحٌ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين أو من غير لفظِه أي أعني في الآخرة نحو لك بعدَ رَعْياً وقيل هي متعلقةٌ باصطفيناه على أن في النظم الكريم تقديماً وتأخيراً تقديرُه ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين

131

{إِذْ قَالَ لَهُ} ظرفٌ لاصطفيناه لما أن المتوسِّط ليس بأجنبي بل هو مقرِّر له لأن اصطفاءه في الدنيا إنما هو للنبوة وما يتعلق بصلاح الآخرة أو تعليل له أو منصوب باذكُرْ كأنه قيل اذكر ذلك الوقتَ لتقف على أنه المصطفى الصالحُ المستحِقُّ للإمامة والتقدم وأنه ما نال إلا بالمبادرة إلى الإذعان والانقياد لما أُمر به وإخلاصِ سرِّه على أحسنِ ما يكون حين قال له {رَبُّهُ أَسْلِمْ} أي لربك {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ العالمين} وليس الأمرُ على حقيقته بل هو تمثيلٌ والمعنى أخطر بباله دلائلَ التوحيد المؤديةَ إلى المعرفة الداعيةَ إلى الإسلام من الكوكب والقمر والشمسِ وقيل أسلم أي أذعِنْ وأطع وقيل اثبُتْ على ما أنت عليه من الإسلام والإخلاصِ أو استقمْ وفوِّضْ أمورك إلى الله تعالى فالأمرُ على حقيقته والالتفاتُ مع التعرض لعنوان الربوبيةِ والإضافةِ إليه عليه السلام لإظهارِ مزيدِ اللطفِ به والاعتناءِ بتربيته وإضافةُ الرب في جوابِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى العالمين للإيذان بكمال قوةِ إسلامِه حيث أيقنَ حين النظر بشمولِ ربوبيتِه للعالمين قاطبةً لا لنفسِه وحده كما هو المأمور به

132

{ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ} شروعٌ في بيان تكميلِه عليه السلام لغيره إثرَ بيانِ كماله في نفسه وفيه توكيدٌ لوجوب الرغبة في مِلته عليه السلام والتوصيةُ التقدمُ إلى الغير بما فيه خيرٌ وصلاح للمسلمين من فعلٍ أو قولٍ وأصلُها الوَصْلة يقال وصّاه إذا وصَله وفصّاه إذا فَصَله كأن الموصِيَ يصِلُ فعلُه بفعل الوصيّ والضمير في بها للمِلّة أو قولِه أسلمتُ لرب العالمين بتأويل الكلمة كما عبر بها عن قوله تعالى {إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذى فَطَرَنِى} في قولِه عزَّ وجلَّ {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً باقية فِى عقبه} وقرئ أوصى والأول أبلغُ {وَيَعْقُوبَ} عطفٌ على إبراهيمُ أي وصَّى بها هو أيضاً وقرئ بالنصب عطفاً على بنيه {يا بَنِى} على إضمار القولِ عند البصريين ومتعلق بوصَّى عند الكوفيين لأنه في معنى القول كما في قوله ... رَجْلانِ من ضَبَّةَ أخبرانا ... إنا رأَيْنا رَجُلاً عُريانا ... فهو عند الأولين بتقدير القول وعند الآخرين متعلق بالإخبار الذي هو في معنى القول وقرئ أن يا بني وبنو إبراهيمَ عليه السلام كانوا أربعةً إسماعيلُ وإسحاقُ ومدينُ ومدان وقيل ثمانيةٌ وقيل أربعةً وعشرين وكان بنو يعقوبَ اثني عشرَ روبين وشمعون ولاوي ويهوذا ويشسوخور وزبولون وزوانا وتفتونا

البقرة (133) وكوزا وأوشير وبنيامين ويوسف عليه السلام {إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين} دينَ الإسلامِ الذي هو صفوةُ الأديان ولا دينَ غيرُه عنده تعالى {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} ظاهرُه النهيُ عن الموت على خلاف حال الإسلام والمقصودُ الأمرُ بالثبات على الإسلام إلى حين الموتِ أي فاثبُتوا عليه ولا تفارقوه أبداً كقولك لا تصلِّ إلا وأنت خاشِعٌ وتغييرُ العبارة للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موتٌ لاخير فيه وأن حقه أن لا يِحلَّ بهم وأنه يجب أن يحذَروه غايةَ الحذَر ونظيرُه مُتْ وأنت شهيدٌ رُوي أن اليهودَ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألستَ تعلم أن يعقوبَ أوصى باليهودية يوم مات فنزلت

133

{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت} أم منقطعة مقدرة ببل والهمزة والخطابُ لأهل الكتاب الراغبين عن ملة إبراهيمَ وشهداءَ جمع شهيد أو شاهد بمعنى الحاضر وإذ ظرفٌ لشهداءَ والمرادُ بحضور الموت حضورُ أسبابه وتقديمُ يعقوبَ عليه السلام للاهتمام به إذ المراد كيفية وصيته لبنيه بعد ما بين ذلك إجمالاً ومعنى بل الإضرابُ والانتقال عن توبيخهم على رغبتهم عن ملة إبراهيمَ عليه السلام إلى توبيخهم على افترائهم على يعقوبَ عليه السلام باليهودية حسبما حُكي عنهم وأما تعميمُ الافتراء ههنا لسائر الأنبياءِ عليهم السَّلامُ كما قيل فيأباه تخصيصُ يعقوبَ بالذكر وما سيأتي من قولهِ عزَّ وجلَّ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إبراهيم الخ ومعنى الهمزة إنكارُ وقوع الشهود عند اختصاره عليه السلام وتبكيهم وقولُه تعالى {إِذْ قَالَ} بدلٌ من إذ حَضَر أي ما كنتم حاضرين عند احتضارِه عليه السلام وقولِه {لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ من بعدي} أبي أي شئ تعبدُونه بعد موتي فمن أين لكم أن تدّعوا عليه السلام ما تدّعون رجماً بالغيب وعند هذا تم التوبيخُ والإنكار والتبكيتُ ثم بَيّن أنَّ الأمرَ قد جرى حينئذ على خلاف ما زعموا وأنه عليه السلام أراد بسؤاله ذلك تقريرَ بنيه على التوحيد والإسلامِ وأخذَ ميثاقِهم على الثبات عليهما إذ به يتِمُّ وصيّتُه بقوله فلا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون وما يُسأل به عن كل شئ ما لم يُعرَّفْ فإذا عرف خص العقلاء بمَنْ إذا سئل عن شئ بعينه وإنْ سُئل عن وصفِه قيل ما زيدٌ أفقيهٌ أم طبيبٌ فقوله تعالى {قَالُواْ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ عن حكاية سؤال يعقوبَ عليه السلام كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قالوا {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} حسبما كان مرادُ أبيهم بالسؤال أي نعبدُ الإله المتفَّقَ على وجوده وإلهيته ووجوبِ عبادته وعَدُّ إسمعيل من آبائه تغليباً للأب والجد لقوله عليه الصلاة والسلام عمُ الرجل صِنْوُ أبيه وقولِه عليه السلام في العباس هذا بقيةُ آبائي وقرىء وقرئ أبيك على أنه جمع بالواو والنون كما في قوله ... فلما تَبَيَّنَّ أصواتَنا ... بكَيْنَ وفَدَّيْننا بالأبينا ... وقد سقطت النون بالإضافة أو مفردٌ وإبراهيمُ عطفُ بيانٍ له وإسمعيل وإسحق معطوفان على أبيك {إلها واحدا} بدل من إله آبائك كقوله تعالى بالناصية نَاصِيَةٍ كاذبة وفائدته التصريحُ بالتوحيد ودفع التوهم الناشئ من تكرير المضافِ لتعذر العطفِ على المجرور أو نصب

البقرة (135 - 134) على الاختصاص {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} حال من فاعل نعبدُ أو من مفعوله أومنهما معاً ويُحتمل أن يكون اعتراضاً محقّقاً لمضمون ما سبق

134

{تِلْكَ أُمَّةٌ} مبتدأٌ وخبرٌ والإشارةُ إلى إبراهيمَ ويعقوبَ وبَنِيهما الموحِّدين والأمةُ هي الجماعة التي تؤمّها فِرقُ الناس أي يقصدونها ويقتدون بها {قَدْ خَلَتْ} صفة للخبر أي مضت بالموت وانفردت عمن عداها وأصلُه صارت إلى الخلاء وهي الأرضُ التي لا أنيس بها {لَهَا مَا كَسَبَتْ} جملةٌ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب أو صفة أخرى لأمة أوحال من الضمير في خلت وما موصولةٌ أو موصوفةٌ والعائدُ إليها محذوف أي لها ما كسبَتْه من الأعمال لصالحة المحكية لاتتخطاها إلى غيرها فإن تقديمَ المُسندِ يوجب قصْرَ المُسند إليه كما هو المشهور {وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم} عطف على نظيرتها على الوجه الأول وجملةٌ مبتدأة على الوجهين الأخيرين إذ لا رابطَ فيها ولا بد منه في الصفة ولا مقارنة في الزمان ولابد منها في الحال أي لكم ما كسبتموه لا ما كسبه غيرُكم فإن تقديمَ المسند قد يُقصد به قصرُه على المسند إليه كما قيل في قوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ أي ولي دينى لادينكم وحملُ الجملة الأولى على هذا القصر على معنى أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا كما قيل مما لا يساعده المقام إذ لا يتوهم متوهِّم انتفاعَهم بكسب هؤلاء حتى يُحتاج إلى بيان امتناعِه وإنما الذي يُتوهم انتفاعُ هؤلاء بكسبهم فبين امتناعَه بأن أعمالَهم الصالحة مخصوصة بهم لاتتخطاهم إلى غيرهم وليس لهؤلاء إلا ما كسبوا فلا ينفعُهم انتسابُهم إليهم وإنما ينفعهم اتباعُهم لهم في الأعمال كما قال عليه السلام يا بني هاشم لا يأتيني الناسُ بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم {ولا تسألون عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} إن أجريَ السؤالُ على ظاهره فالجملة مقررة لمضمون ما مرَّ من الجملتين تقريراً ظاهراً وأن أريد به مسببه أعني الجزاءَ فهو تتميمٌ لما سبق جارٍ مَجرى النتيجةِ له وأيا ما كان فالمرادُ تخييبُ المخاطَبين وقطعُ أطماعِهم الفارغةِ عن الانتفاع بحسناتِ الأمةِ الخاليةِ وإنما أُطلق العملُ لإثبات الحكم بالطريقِ البرهاني في ضمن قاعدة كليةٍ هذا وقد جعل السؤال عبارةً عن المؤاخذة والموصول عن السيئات فقيل أي لا تؤاخَذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم ولا ريب في أنه مما لا يليق بشأن التنزيلِ كيف لاوهم منزّهون من كسب السيئاتِ فمن أين يُتصوَّر تحميلُها على غيرهم حتى يُتصَدَّى لبيان انتفاعِه

135

{وَقَالُواْ} شروعٌ في بيان فنٍ آخرَ من فنون كفرِهم وهو إضلالُهم لغيرهم إثرَ بيانِ ضلالِهم في أنفسهم والضمير لأهل الكتابين على طريقة الالتفاتِ المُؤْذن باستيجاب حالِهم لإبعادهم من مقام المخاطبةِ والإعراضِ عنهم وتعديدِ جناياتهم عند غيرهم قالوا للمؤمنين {كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى} ليس هذا القول مقولا لكلهم أولاى طائفةٍ كانت من الطائفتين بل هو موزَّعٌ عليهما على وجه خاصَ يقتضيه حالُهما اقتضاءً مُغنياً عن التصريح به أي قالت اليهودُ كونوا هوداً والنصارى كونوا نصارى ففَعل بالنظم الكريم ما فَعل بقوله تعالى وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنةَ إلاَّ من كان هُودًا أَوْ نصارى اعتماداً على ظهور المرام {تهتدوا} جواب

البقرة (136) للأمر أي إن تكونوا كذلك {قل} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي قل لهم على سبيل الردِّ عليهم وبيانِ ما هو الحقُّ لديهم وإرشادِهم إليه {بَلْ مِلَّةَ إبراهيم} أي لا نكون كما تقولون بل نكون أهلَ ملتِه عليه السلام وقيل بل نتبعُ مِلّته عليه السلام وقد جُوِّز أن يكون المعنى بل اتَّبعوا أنتم ملَّتَه عليه السلام أو كونوا أهلَ ملته وقرئ بالرفع أي بل ملتُنا أو أمرُنا مِلّتَه أو نحن مِلَّتُه أي أهلُ ملتِه {حَنِيفاً} أي مائلاً عن الباطل إلى الحق وهو حالٌ من المضاف إليه كما في رأيتُ وجهَ هندٍ قائمةً أو المضافِ كما في قوله تعالى وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا الخ {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} تعريضٌ بهم وإيذانٌ ببُطلان دعواهم اتباعَه عليه السلام مع إشراكهم بقولهم عزيرٌ ابنُ الله والمسيحُ ابن الله

136

{قُولُواْ} خطابٌ للمؤمنين بعد خِطابه عليه السلام بردِّ مقالتِهم الشنعاءِ على الإجمال وإرشادٌ لهم إلى طريق التوحيد والإيمان على ضربٍ من التفصيل أي قولوا لهم بمقابلة ما قالوا تحقيقا وارشاد ضمنياً لهم إليه {آمنَّا بالله وما أنزل إلينا} يعني القرآن قُدِّم على سائر الكتب الإلهية مع تأخرُّه عنها نزولاً لاختصاصِه بنا وكونِه سبباً للإيمان بها {وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والاسباط} الصُحُف وإن كانت نازلةً إلى إبراهيم عليه السلام لكن من بعده حيث كانوا متعبَّدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامِها جُعلت منزلة إليهم كما جعل القرآنُ منزلاً إلينا والأسباطُ جمع سبط وهو الحافد والمراد بهم حفدة يعقوبَ عليه السلام أَوْ أبناؤه الا ثنا عشر وذراريهم فإنهم حفدة ابراهيم واسحق {وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى} من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الباهرة الظاهرة بأيديهما حسبما فُصّل في التنزيل الجليل وإيرادُ الإيتاء لما أشير إليه من التعميم وتخصيصُهما بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى {وَمَا أُوتِيَ النبيون} أي جملةُ المذكورين وغيرُهم {مّن رَّبّهِمُ} من الآيات البيناتِ والمعجزاتِ الباهراتِ {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} كدأب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض وإنما اعتبروا عدمُ التفريق بينهم مع أن الكلامَ فيما أوتوه لاستلزام عدم التفريق بينهم بالتصديق والتكذيب لعدم التفريقِ بين ما أوُتوه وهمزةُ أحدٍ إما أصلية فهو اسم موضوع لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المفردُ والمثنى والمجموعُ والمذكرُ والمؤنث ولذلك صح دخولُ بين عليه كما في مثل المال بين الناس ومنه ما في قوله صلى الله عليه وسلم ما أُحِلَّتِ الغنائمُ لأحدٍ سود الرءوس غيرِكم حيثُ وصف بالجمع وإما مبدلة من الواو فهو بمعنى واحد وعمومُه لوقوعه في حيز النفي وصحة دخول بين عليه باعتبار معطوفٍ قد حُذف لظهوره أي بين أحدٍ منهم وبين غيره كما في قول النَّابغةِ ... فمَا كانَ بين الخير لوجاء سالما ... أبُو حَجَرٍ إلاَّ ليالٍ قلائلُ ... أي بين الخيرِ وبينِي وفيه من الدلالة صريحاً على تحقق عدم التفريق بين كل فردٍ فرد منهم وبين من عداه كائنا من كان ما ليس في أن يقال لا نفرِّق بينهم والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في آمنا وقوله عز وجل {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي مخلصون له ومُذعنون حالٌ أُخرى منْهُ أو عطفٌ على آمنا

البقرة (137)

137

{فإن آمنوا} الفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ما تقدم من إيمانِ المخاطَبين على الوجه المحرَّرِ مَظِنَّةٌ لإيمان أهلِ الكتابين لما أنه مشتملٌ على ما هو مقبولٌ عندهم {بمثل ما آمنتم بِهِ} أي بما آمنتم به على الوجهِ الذي فُصل على أن المِثْلَ مُقحَمٌ كما في قوله تعالى وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسرائيل على مِثْلِهِ أي عليه ويعضُده قراءةُ ابنِ مسعود بما آمنتم به وقراءة أُبيّ بالذي آمنتم به ويجوزُ أن تكون الباء للاستعانة على أن المؤمَنَ به محذوف لظهوره بمرووه آنفاً أو على أن الفعلَ مُجرىً مجرى اللازمِ أي فإن آمنوا بما مر مفصلاً أو فإنْ فعلوا الإيمانَ بشهادةٍ مثلِ شهادتكم وأن تكون الأولى زائدةً والثانية صلةً لآمنتم وما مصدرية أي فإن آمنوا إيماناً مثلَ إيمانِكم بما ذُكر مفصَّلاً وأن تكون للملابسة أي فإن آمنوا ملتبسين بمثل ما آمنتم ملتبسين به أو فإن آمنوا إيمانا ملتبسا بمثل ما آمنتم إيماناً ملتبساً به من الإذعان والإخلاص وعدم التفريق بين الأنبياءِ عليهم السلام فإن ما وُجد فيهم وصدَر عنهم من الشهادة والإذعان وغير ذلك مثلُ ما للمؤمنين لاعينة بخلاف المؤمَنِ به فإنه لا يُتصوَّرُ فيه التعدّد {فَقَدِ اهتدوا} إلى الحق وأصابوه كما اهتديتم وحصل بينكم الاتحادُ والاتفاق وأما ما قيل من أن المعنى فإن تحرَّوُا الإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثلِ طريقِكم فقد اهتدوا فإن وَحدَة المقصِد لا تأبي تعدد الطريق فيأباه أن مقام تعيين طريق الحقِّ وإرشادُهم إليه بعينه لا يلائم تجويزَ أن يكون له طريقٌ آخرُ وراءه {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا عن الإيمان على الوجه المذكور بأن أخلّوا بشئ من ذلك كأن آمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض كما هو دينُهم ودَيْدَنُهم {فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ} المُشاقّة والشِقاقُ من الشِق كالمخالفة والخِلاف من الخُلف والمعاداة والعداء من العدوة أي الجانب فإن أحدَ المخالِفين يُعرِض عن الآخر صورةً أو معنى ويُولِيه خَلفَه ويأخُذُ في شِقٍ غيرِ شِقّه وعَدْوةٍ غيرِ عَدْوَتِه والتنوينُ للتفخيم أي هم مستقرون في خلاف عظيمٍ بعيدٍ من الحق وهذا لدفع ما يُتوهم من احتمال الوِفاق بسبب إيمانِهم ببعضِ ما آمن به المؤمنونَ والجملةُ إما جوابُ الشرط كما هي على أن المرادَ مُشاقّتُهم الحادثةُ بعد توليتهم عن الإيمان كجزاب الشرطية الأولى وإنما أُوثرت الجملة الاسمية لدلالة على ثباتِهم واستقرارِهم في ذلك وإما بتأويل فاعلَموا إنما هم في شقاق هَذَا هُو الذي يستدعيه فخامة شان التنزيلِ الجليل وقد قيلَ قولُه تعالى فإن آمنوا الخ من باب التعجيز والتبكيتِ على منهاج قولِه تعالى فَأْتُواْ بِسُورَةٍ من مّثْلِهِ والمعنى فإن حصّلوا ديناً آخرَ مثل دينِكم مماثلاً له في الصِحة والسَّداد فقد اهتَدوا وإذ لا إمكانَ له فلا إمكانَ لاهتدائهم ولا ريب في أنه مما لا يليق بحمل النظمِ الكريم عليه ولمّا دل تنكيرُ الشِقاق على امتناعِ الوفاقِ وأن ذلك مما يؤدي إلى الجدال والقتالِ لا محالة عقَّب ذلك بتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفريحِ المؤمنين بوعد النصر والغلبة وضمان التأييد والإعزاز وعبّر بالسين الدالةِ على تحقق الوقوعِ اْلبتَةَ فقيل {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} أي سيكفيك شِقاقَهم فإن الكفاية لا تتعلق بالأعيان بل بالأفعال وقد أنجز عز وجل وعدَه الكريمِ بقتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بنى

البقرة (139 - 138) النضير وتلوينُ الخطاب بتجريده للنبي صلى الله عليه وسلم مع أن ذلك كفايةٌ منه سبحانه للكلِّ لما أنه الأصلُ والعُمدة في ذلك وللإيذانِ بأن القيامَ بأمورِ الحروب وتحمُّلَ المُؤَن والمشاقِّ ومقاساةَ الشدائد في مناهضة الأعداد من وظائف الرؤساء فنعمته تعالى في الكفاية والنصر في حقه عليه السلام أتم وأكملُ {وَهُوَ السميع العليم} تذييلٌ لما سبق من الوعد وتأكيدٌ له والمعنى أنه تعالى يسمع ما تدعون به ويعلم ما في نِيَّتك من إظهار الدينِ فيستجيب لك ويوصلك إلى مرادك أو وعيد للكفرة أي يسمع ما ينطِقون به ويعلم ما يضمرونه في قلوبهم مما لا خير فيه وهو معاقبهم عليه ولا يَخْفى ما فيهِ من تأكيد الوعد السابقِ فإن وعيدَ الكفرة وعد للمؤمنين

138

{صِبْغَةَ الله} الصِّبغة من الصِّبْغ كالجلسة من الجلوس وهي الحالة التي يقع عليها الصَّبْغُ عبر بها عن الإيمان بما ذكر على الوجه الذي فصل لكونه تطهيراً للمؤمنين من أوضار الكفر وحليةً تُزَيِّنُهم بآثاره الجميلة ومتداخِلاً في قلوبهم كما أن شأن الصَّبْغ بالنسبة إلى الثوب كذلك وقيل للمشاركة التقديرية فإن النصارى كانوا يغمِسون أولادَهم في ماء أصفرَ يسمونه المعمودية ويزعُمون أنه تطهيرٌ لهم وبه يحق نصرانيتهم وإضافته إلى الله عزَّ وجلَّ مع استناده فيما سلف إلى ضمير المتكلمين للتشريفِ والإيذانِ بأنها عطية منه سبحانه لا يستقِلُّ العبدُ بتحصيلها فهى إذن مؤكد لقوله تعالى آمنا داخلٌ معه في حيزِ قولوا منتصبٌ عنه انتصابَ وعد الله عما تقدمه لكونه بمثابة فعلِه كأنه قيل صبغة الله صِبغةً وقيل هي منصوبةٌ بفعل الإغراء أي الزموا صبغةَ الله وإنما وسط بينهما الشرطيتانوما بعدهما اعتناءً ببيان أنه الإيمانُ الحقُّ وبه الاهتداءُ ومسارعة إلى تسليتِه عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله} مبتدأ أو خبر والإستفهام للإنكار والنفي وقولُه تعالى {صبغة} نصب على تمييز من أحسنُ منقولٌ من المبتدأ والتقديرُ ومن صبغتُه أحسنُ من صبغته تعالى فالتفضيلُ جارٍ بين الصِّبغتين لابين فاعليهما أي لا صبغةَ أحسنُ من صبغته تعالى على معنى أنها أحسنُ من كل صبغة على ما أشيرَ إليهِ في قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ الخ وحيث كان مدارُ التفضيل على تعميم الحسن الحقيقي والفَرَضي المبني على زعم الكفرة لم يلزم منه أن يكون في صبغة غيرِه تعالى حُسْنٌ في الجملة والجملةُ اعتراضية مقرِّرة لما في صبغة الله من معنى التبجّح والابتهاج {وَنَحْنُ لَهُ} أي لله الذي أولانا تلك النعمةَ الجليلةَ {عابدون} شكراً لها ولسائر نعمة وتقدير الظرف للاهتمام ورعايةِ الفواصل وهو عطفٌ على آمنا داخلٌ معه تحت الأمرِ وإيثارُ الاسميةِ للإشعار بدوام العبادةِ أو على فعل الإغراء بتقدير القول أي الزمَوا صِبغة الله وقولوا نحن له عابدون فقوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً حينئذ يجري مَجرى التعليل للإغراء

139

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا} تجريدُ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم عقيب الكلام الداخلِ تحت الأمر الواردِ بالخطاب العام لما أن المأمورَ به من الوظائف الخاصةِ به عليه الصلاة والسلام وقرئ بإدغام النونِ والهمزةُ للإنكار أي أتجادلوننا {فِى الله} أي في دينه وتدّعون أن دينَه الحقَّ هو اليهودية

البقرة (140) والنصراينة وتبنون دخولَ الجنة والاهتداءَ عليهما وتقولون تارة لنْ يدخلَ الجنةَ إلاَّ من كان هودا أو نصارى وتارة كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} جملة حالية وكذلك ما عطف عليها أي أتجادلوننا والحالُ أنه لا وجه للمجادلة أصلاً لأنه تعالى ربُنا أي مالكُ أمرنا وأمرِكم {وَلَنَا أعمالنا} الحسنةُ الموافقةُ لأمره {وَلَكُمْ أعمالكم} السيئةُ المخالفة لحُكمه {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} في تلك الأعمال لا نبتغي بها إلا وجهَه فأنّى لكم المُحاجّةُ وادعاء حقية ما أنتم عليه والطمعِ في دخول الجنة بسببه ودعوةِ الناس إليه وكلمةُ أم في قوله تعالى

140

{أَمْ تَقُولُونَ} إما معادلة للهمزة في قوله تعالى أَتُحَاجُّونَنَا داخلةٌ في حيز الأمر على معنى أيَّ الأمرين تأتون إقامةَ الحجة وتنويرَ البرهان على حقية ما أنتم عليه والحال ما ذكر أم التشبّثَ بذيل التقليد والافتراءِ على الأنبياء وتقولون {إِنَّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط كَانُواْ هُودًا أَوْ نصارى} فنحن بهم مقتدون والمرادُ إنكارُ كِلا الأمرين والتوبيخُ عليهما وإما منقطعةٌ مقدرةٌ ببل والهمزة دالةٌ على الإضرابُ والانتقال من التوبيخ على المُحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياءِ عليهم السلامُ وقرئ أم يقولون على صيغة الغَيْبة فهي منقطعةٌ لا غير غيرُ داخلةٍ تحتَ الأمرِ واردةٌ من جهته تعالى توبيخاً لهم وإنكاراً عليهم لا من جهته عليه السلام على نهج الالتفات كما قيل هذا وأما ماقيل من أن المعنى أتحاجوننا في شأن الله واصطفائِه نبياً من العرب دونكم لما رُوي أن أهلَ الكتاب قالوا الأنبياءُ كلُهم منا فلو كنت نبياً لكنت منا فنزلت ومعنى قوله تعالى {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم} أنه لا اختصاصَ له تعالى بقوم دون قومٍ يصيب برحمته من يشآء من عباده فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا كما أكرمَكم بأعمالكم كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحونه إفحاماً وتبكيتاً فإن كرامة البنوة إما تفضلٌ من الله تعالَى على من يشاء فالكل فيه سواء وإما إفاضةُ حقَ على المستحقين لها بالمواظبة على الطاعة والتجلى بالإخلاص فكما أن لكم أعمالاً ربما يعتبرها الله تعالى في إعطائها فلنا أيضاً أعمالٌ ونحن له مخلصون أي لا أنتم فمَعَ عدم ملاءمتِه لسياق النظم الكريم وسياقه لاسيما على تقدير كونِ كلمةِ أم معادلةً للهمزة غيرُ صحيح في نفسه لما أن المرادَ بالأعمال من الطرفين ما أشيرَ إليهِ من الأعمال الصالحة والسيئة ولا ريب في أن أمرَ الصلاحِ والسوءِ يدورُ على موافقة الدين المبنيِّ على البعثة ومخالفته فكيف يتصور اعتبارُ تلك الأعمال في استحقاق النبوة واستعدادِها المتقدم على البعثة بمراتِبَ {قل أأنتم أَعْلَمُ أَمِ الله} إعادةُ الأمر ليست لمجرد تأكيدِ التوبيخِ وتشديدِ الإنكار عليهم بل للإيذان بأن ما بعده ليس متصلاً بما قبله بل بينهما كلامٌ للمخاطبين مترتب على ما سبق مستتبِعٌ لما لحق قد ضُرب عنه الذكرُ صفحاً لظهوره وهو تصريحُهم بما وُبِّخوا عليه من الافتراء على الأنبياءِ عليهم السلامُ كما في قوله عز وجل قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون وقولِه عز قائلاً قال أأسجد لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أرأيتك هذا الذى كَرَّمْتَ عَلَىَّ فإن تكريرَ قال في الموضعين وتوسيطَه بين قولي قائل واحد

البقرة (142 - 141) للإيذان بأن بينهما كلاماً لصاحبه متعلقاً بالأول والثاني بالتبعية والاستتباع كما حُرر في محله أي كذِبُهم في ذلك وبكتهم قائلاً إن الله يعلم وأنتم لاتعلمون وقد نَفَى عن إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ كلا الأمرين حيث قال مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا واحتُج عليه بقوله تعالى وَمَا أُنزِلَتِ التوراة والإنجيل إِلاَّ مِن بَعْدِهِ وهؤلاء المعطوفون عليه عليه السلام أتباعُه في الدين وِفاقاً فكيف تقولون ما تقولون سبحان الله عما تصفون {وَمَنْ أَظْلَمُ} إنكار لأن يكون أحدٌ أظلمَ {مِمَّنْ كَتَمَ شهادة} ثابتة {عِندَهُ} كائنة {مِنَ الله} وهي شهادتُه تعالى له عليه السَّلامُ بالحنيفية والبراءةِ من اليهودية والنصرانية حسبما تلى آنفاً فعنده صفةٌ لشهادة وكذا من الله جيء بهما لتعليل الإنكار وتأكيدِه فإن ثبوتَ الشهادةِ عنده وكونَها من جناب الله عزَّ وجلَّ من أقوى الدواعي إلى إقامتها وأشدِّ الزواجر عن كِتمانها وتقديمُ الأول مع أنه متأخرٌ في الوجود لمراعاة طريقةِ الترقي من الأدنى إلى الأعلى والمعنى أنه لا أحدَ أظلمُ من أهل الكتاب حيث كتموا هذه الشهادةَ وأثبتوا نقيضَها بما ذُكر من الافتراء وتعليقُ الأظلمية بمُطلق الكِتمان للإيماء إلى أن مرتبةَ مَنْ يردُّها ويشهد بخلافها في الظلم خارجةٌ عن دائرة البيان أولا أحدَ أظلمُ منا لو كتمناها فالمرادُ بكتمها عدمُ إقامتها في مقامِ المُحاجة وفيه تعريضٌ بغاية أظلمية أهلِ الكتابِ على نحو ما أشير إليه وفي إطلاق الشهادة مع أن المرادَ بها ما ذكر من الشهادة المعنية تعريض بكتمانهم شهادة الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} من فنون السيئاتِ فيدخُل فيها كتمانُهم لشهادته سبحانه وافتراؤهم على الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسلام دُخولاً أولياً أي هو محيطٌ بجميعِ ما تأتونَ وما تذرونَ فيعاقبُكم بذلك أشد عقاب وقرئ عما يعملون على صيغة الغَيْبة فالضميرُ إما لمن كَتَم باعتبار المعنى وإما لأهلِ الكتاب وقولُه تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ إلى آخر الآية مسوقٌ من جهتِه تعالَى لوصفهم بغاية الظلمِ وتهديدِهم بالوعيد

141

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم ما كسبتم ولا تسألون عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تكريرٌ للمبالغة في الزجرُ عمَّا هُم عليهِ من الافتخارِ بالآباء والاتكالِ على أعمالهم وقيل الخطابُ السابق لهم وهذا لنا تحذيرٌ عن الاقتداء بهم وقيل المرادُ بالأُمة الأولى الأنبياءُ عليهم السلام وبالثانيةِ أسلافُ اليهود

142

{سَيَقُولُ السفهاء} أي الذين خفّت أحلامُهم واستمهنوها بالتقليد والإعراضِ عن التدبر والنظرِ من قولهم ثوبٌ سفيهٌ إذا كان خفيفَ النسج وقيل السفيهُ البهّاتُ الكذابُ المتعمدُ خلافَ ما يَعلم وقيل الظلومُ الجهولُ والمراد بالسفهاء هم اليهودُ على ما رُوي عن ابنُ عباس ومجاهدٌ رضي الله عنهم قالوه إنكاراً للنسخ وكراهةً للتحويل حيث كانوا يأنَسون بموافقته عليه الصلاة والسلام لهم في القبلة وقيل هم المنافقون وهو الأنسب بقوله عز وعلا أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاءُ وإنما قالوه لمجرد الاستهزاء والطعن لا لاعتقادهم حقية القِبلة الأولى وبُطلان الثانية إذ ليس

البقرة (143) كلُّهم من اليهود وقيل هم المشركون ولم يقولوه كراهة للتحويل إلى مكةَ بل طعناً في الدين فإنهم كانوا يقولون رغِبَ عن قِبلة آبائه ثم رجع ولَيَرْجِعَنّ إلى دينهم أيضاً وقيل هم القادحون في التحويل منهم جميعاً فيكون قوله تعالى {مِنَ الناس} أي الكفرةِ لبيانِ أن ذلك القول المَحْكيِّ لم يصدُر عن كل فردٍ فردٍ من تلك الطوائف الثلاث بل عن اشيقائهم المعتادين للخوض في فنون الفساد وهو الأظهر إذ لو أريد بهم طائفة مخصوصة منهم لما كان لبيان كونِهم من الناس مزيدُ فائدة وتخصيصُ سفهائهم بالذكر لا يقتضي تسليمَ الباقين للتحويل وارتضاءَهم إياه بل عدم التفوه بالقدح مطلقاً أو بالعبارة المحكية {مَا ولاهم} أي أيُّ شئ صرفهم والاستفهامُ للإنكار والنفي {عَن قِبْلَتِهِمُ} القبلة فِعلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة وهي الحال التي يقابل الشئ غيرَه عليها كالجِلسة للحالة التي يقع عليها الجلوسُ يقال لا قِبلة له ولا دِبْرَةَ إذا لم يهتدِ لجهة أمرِه غلَبت على الجهة التي يستقبلها الإنسانُ في الصلاة والمراد بها ههنا بيتُ المقدس وإضافتُها إلى ضمير المسلمين ووصفُها بقوله تعالى {التى كَانُواْ عَلَيْهَا} أي ثابتين مستمرين على التوجه إليها ومراعاتها واعتقاد حقيقتها لتأكيد الإنكار فإن الاختصاصَ بالشئ والاستمرارَ عليه باعتقاد حقّيتِه مما ينافي الانصرافَ عنه فإن أريد بالقائلين اليهودُ فمدَارُ الإنكارِ كراهتُهم للتحويل عنها وزعمُهم أنه خطأ وإن أريد بهم المشركون فمدارُه مجردُ القصدِ إلى الطعن في الدين والقدحِ في أحكامه وإظهارُ أن كلاً من التوجه إليها والانصرافِ عنها واقعٌ بغير داعٍ إليه لا لكراهتهم الانصرافَ عنها أو التوجهَ إلى مكةَ وتعليقُ الإنكار بما يولّيهم عنها لا بما يوجههم الى غيرهما مع تلازمها في الوجود لما أن تركَ الدين القديمِ أبعدُ عند العقول وإنكارُ سببه أدخلُ لا للإيذان بأن المنكِرين هم اليهودُ بناءً على أن المنكرَ عندهم هو التحويلُ عن خصوصية بيتِ المقدس الذي هو القِبلة الحقَّةُ عندهم لا التوجهُ إلى خصوصية قبلةٍ أخرى أو هم المشركون بناءً على أن المنكرَ عندهم تركُ القبلة القديمةِ على وجه الطعن والقدحِ لا التوجهُ إلى الكعبة لأنه الحقُّ عندهم فإنَّه بمعزلٍ عن ذلك كيف لا والمنافقون من أحد الفريقين لا محالة والإخبارُ بذلك قبل الوقوعِ مع كونه من دلائل النبوة حيث وقع كما أُخبر لتوطين النفوس وإعدادِ ما يُبَكّتُهم فإن مفاجأةَ المكروهِ على النفس أشقُّ وأشدُّ والجوابُ العتيد لشغَب الخصمِ الألدِّ ارد وقوله عز وجل {قُل لّلَّهِ المشرق والمغرب} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنه قيل فماذا أقول عند ذلك فقيل قل الخ أي لله تعالى ناحيتا الأرضِ أي الجهاتُ كلها ملكا وملكا وتصرفاً فلا اختصاصَ لناحيةٍ منها لذاتها بكونها قبلةً بدون ما عداها بل إنما هو بأمر الله سبحانه ومشيئتِه {يَهْدِى مَن يَشَآء} أنْ يهديَه مشيئةٌ تابعةٌ للحِكَم الخفية التي لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصلٍ إلى سعادة الدارين وقد هدانا إلى ذلك حيث أمرنا بالتوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى حسبَما تقتضيهِ مشيئتُه المقارِنة لحِكَم أبيّةٍ ومصالِحَ خفية

143

{وكذلك جعلناكم} توجيه للخطاب إلى المؤمنين

بين الخطابين المختصين بالرسول صلى الله عليه وسلم لتأييد ما في مضمون الكلامِ من التشريف وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ جعلناكم لا إلى جعل آخرَ مفهوم مما سبق كما قيل وتوحيدُ الكاف مع القصد إلى المؤمنين لِما أن المرادَ مجردُ الفَرْق بين الحاضرِ والمنقضِي دون تعيين المخاطبين وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الفضل وكمال تميزه وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهَدة والكافُ لتأكيدِ ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلُها في الأصلِ النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصل التقدير جعلناكم أمة وسَطاً جَعْلاً كائناً مثل ذلك الجعلِ فقُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً للنكتة المذكورة فصار نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتاً له أي ذلك الجعلَ البديعَ جعلناكم {أُمَّةً وَسَطًا} لا جعلاً آخرَ أدنى منه والوسَطُ في الأصل اسمٌ لما يستوي نِسبةُ الجوانبِ إليه كمركز الدائرة ثم استُعير للخصال المحمودةِ البشرية لكن لا لأن الأطرافَ يتسارع إليها الخللُ والإعوازُ والأوساطُ محميّةٌ مَحوطَةٌ كما قيل واستُشهد عليه بقول ابن أوسٍ الطائي ... كانت هي الوسَطَ المَحْمِيَّ فاكتَنَفَت ... بها الحوادثُ حتى أصبحت طَرَفا ... فإن تلك العلاقةَ بمعزل من الاعتبار في هذا المقام إذ لا ملابَسةَ بينها وبين أهليةِ الشهادة التي جُعلت غايةً للجعل المذكور بل لكون تلك الخصالِ أوساطاً للخصال الذميمةِ المكتنفة بها من طرفي الإفراطِ والتفريطِ كالعِفة التي طرفاها الفجورُ والخمودُ وكالشجاعة التي طرفاها الظهور والجُبن وكالحِكمة التي طرفاها الجربزة والبَلادةُ وكالعدالة التي هي كيفية متشابهةٌ حاصلةٌ من اجتماع تلك الأوساط المحفوفة بأطرافها ثم أطلقَ على المتصِّف بها مبالغةً كأنه نفسُها وسُوّي فيه بين المفرد والجمعِ والمذكرِ والمؤنث رعايةً لجانب الأصلِ كدأب سائر الأسماءِ التي يوصف بها وقد روُعيت ههنا نُكتةٌ رائقةٌ هي أن الجعلَ المشارَ إليه عبارةٌ عما تقدم ذكرُه من هدايته تعالى إلى الحق الذي عبَّر عنه بالصراط المستقيم الذي هو الطريقُ السويُ الواقعُ في وسط الطرُق الجائرةِ عن القصد الى الجوانب فإنا إذا فرضنا خطوطاً كثيرةً واصلةً بين نُقطتين متقابلتين فالخطُ المستقيم إنما هو الخطُ الواقعُ في وسط تلك الخطوطِ المنحنية ومن ضرورة كونِه وسطاً بين الطرُق الجائرةِ كونُ الأمةِ المَهْديّة إليه أمةً وسطاً بين الأمم السالكة إلى تلك الطرق الزائغة أي متصفةً بالخصال الحميدةِ خياراً وعدُولاً مُزَكَّيْنَ بالعلم والعمل {لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس} بان الله عز وجل قد أوضح السبُل وأرسل الرُسل فبلّغوا ونصَحوا وذكّروا فهل من مُدَكِّرٍ وهي غاية للجعل المذكور مترتبةٌ عليه فإن العدالة كما أشير إليه حيث كانت هي الكيفيةُ المتشابهةُ المتألّفةُ من العفة التي هي فضيلةُ القوة الشَّهْوية البهيمية والشجاعة التي هي فضيلةُ القوةِ الغضبيةِ السَّبُعية والحكمة التي هي فضيلةُ القوةِ العقلية المَلَكية المشارِ إلى رتبتها بقوله عز وعلا وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا كان المتّصِفُ بها واقفاً على الحقائقِ المودَعةِ في الكتاب المبين المنطوي على أحكام الدين وأحوالِ الأممِ أجمعين حاويا لشرائط الشهادةَ عليهم رُوي أن الأممَ يوم القيامة يجحدون تبليغَ الأنبياءِ عليهم السلام فيطالبهم الله تعالى بالبينة وهو أعلم إقامةً للحجة على المنكرين وزيادةً لخِزْيهم بأن كذَّبهم مَنْ بعدهم من الأمم فيؤتى بأمةِ محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم فيشهدون فيقول الأممُ من أين عرفتم فيقولون علمنا ذلك بإخبار الله تعالَى في كتابِه الناطقِ على لسان نبيِّه الصادقِ فيؤتى عند ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم ويُسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قولُه عز قائلاً {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وكلمةُ

الاستعلاءِ لما في الشهيد من معنى الرقيب والمهيمِن وقيل لتكونوا شهداءَ على الناس في الدنيا فيما لا يُقبل فيه الشهادةُ إلا من العدول الأخيار وتقديم الظرف لدلالة على اختصاص شهادتِه عليه السلام بهم {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا} جرد الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم رمزاً إلى أن مضمونَ الكلام من الأسرار الحقيقةِ بأن يخص معرفته به عليه السلام وليس الموصولُ صفةً للقِبلة بل هو مفعولٌ ثانٍ للجعل وما قيل من أن الجعلَ تحويل الشئ من حالة إلى أخرى فالملتبسُ بالحالة الثانية هو المفعول الثاني كما في قولك جعلتُ الطينَ خَزَفاً فينبغي أن يكون المفعولُ الأول هو الموصولَ والثاني هو القبلة فكلام صناعي ينساق إليه الذهن بحسب النظرِ الجليلِ ولكنَّ التأملَ اللائقَ يهدي إلى العكس فإن المقصودَ إفادتُه ليس جعلَ الجهة قبلةً لا غيرُ كما يفيده ما ذُكر بل هو جعلُ القبلةِ المحققةِ الوجود هذه الجهةَ دون غيرِها والمرادُ بالموصولِ هي الكعبةُ فإنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان يصلي إليها أولاً ثم لما هاجرَ أُمِر بالصلاة إلى الصخرة تألّفاً لليهود أو هي الصخرةُ لِما روي عن ابن عباس رضيَ الله عنُهمَا مَنْ أن قِبلته عليه السلام بمكة كانت بيتَ المقدس إلا أنه كان يجعلُ الكعبةَ بينه وبينه وعلى هذه الرواية لا يمكن أن يرادَ بالقبلة الأولى الكعبةُ وأما الصخرةُ فيتأتى إرادتُها على الروايتين والمعنى على الأول وما جعلنا القِبلة الجهةَ التي كنت عليها آثر ذي أثير وهي الكعبة وعلى الثاني وما جعلناها التي كنت عليها قبل هذا الوقت وهي الصخرة {إلا لنعلم} استثاء مفرغٌ من أعم العلل أي وما جعلنا ذلك لشئ من الأشياء إلا لنمتحنَ الناسَ أي نعاملهم معاملةَ من يمتحنُهم ونعلم حينئذ {مَن يَتَّبِعُ الرسول} في التوجّه إلى مَا أُمر بهِ من الدين أو القبلة والالتفات إلى الغيبة مع إيراده عليه السلام بعنوان الرسالة للإشعار بعلة الاتباعِ {مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ} يرتدُّ عن دين الإسلامِ أو لايتوجه إلى القِبلة الجديدة أو لنعلمَ الآن مَن يتبعُ الرسول مِمَّن لايتبعه وما كان لعارضٍ يزول بزواله وعلى الأول مارددناك إلى ما كنت عليه إلا لنعلم الثابتَ على الإسلام والناكصَ على عَقِبيه لقلقه وضعفِ إيمانِه والمرادُ بالعلم ما يدور عليه فلَكُ الجزاءِ من العلم الحالي أي ليتعلّق علمُنا به موجوداً بالفعلِ وقيل المرادُ علمُ الرسولِ عليه السلام والمؤمنين وإسنادُه إليه سبحانه لما أنهم خواصه وليتميز الثابت عن المتزلزل كقوله تعالى {لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} فوضَع العلمَ موضِعَ التمييزِ الذي هو مسبَّبٌ عنه ويشهد له قراءةُ ليُعْلَمَ على بناء المجهول من صيغة الغَيبة والعلمُ إما بمعنى المعرفة أو متعلقٌ بما في مَنْ من معنى الاستفهام أو مفعوله الثاني ممن ينقلب الخ أي لِنَعْلَمَ مَن يتبعُ الرسولَ متميِّزاً مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} أي شاقة ثقيلة وإنْ هيَ المخففةُ منَ الثقيلةِ دخَلتْ على ناسخ المبتدأ والخبر واللامُ هي الفارقةُ بينها وبين النافية كما في قوله تعالى إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً وزعم الكوفيون أنها نافيةٌ واللامُ بمعنى إلا أي ما كانت إلا كبيرة والضميرُ الذي هو اسم كان راجعٌ إلى ما دل عليه قوله تعالى وَمَا جَعَلْنَا القبلة التى كُنتَ عَلَيْهَا من الجعلة أو التولية أو التحويلة أو الردة أوالقبلة وقرئ لكبيرةٌ بالرفعِ على أنَّ كانَ مزيدةٌ كما في قولِه ... وإخوانٍ لنا كانوا كرامِ ... وأصله وإنْ هي لكبيرةٌ كقوله إن زيدٌ لمنطلقٌ {إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} أي إلى سرِّ الأحكام الشرعية المبنيةِ على الحِكمَ والمصالحِ إجمالاً وتفصيلاً وهم المهديّون إلى الصراط المستقيم الثابتون على الإيمان واتباعِ الرسول عليه السلام {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم} أي ما صحَّ وما استقام له

البقرة (144) أن يُضيعَ ثباتَكم على الإيمان بل شكرَ صنيعَكم وأعدَّ لكم الثوابَ العظيمَ وقيل أيمانَكم بالقِبلة المنسوخةِ وصلاتَكم إليها لما رُوي أنه عليه السلام لما توجّه إلى الكعبة قالوا كيف حالُ إخوانِنا الذين مضَوْا وهم يصلون إلي بيت المقدس فنزلت واللام في ليُضيعَ إما متعلقةٌ بالخبر المقدر لكان كما هو رأي البصرية وانتصاب الفعل بعدها بأن المقدرة أي ما كان الله مريداً أو متصدياً لأن يُضيعَ الخ ففي توجيه النفي إلى إادة الفعل تأكيدٌ ومبالغةٌ ليس في توجهه إلى نفسه وإما مزيدةٌ للتأكيد ناصبةٌ للفعل بنفسها كما هو رأيُ الكوفية ولا يقدحُ في ذلك زيادتُها كما لا يقدح زيادة حروف الجر في عملها وقوله تعالى {إِنَّ الله بالناس لرؤوف رَّحِيمٌ} تحقيقٌ وتقريرٌ للحُكم وتعليلٌ له فإن اتصافَه عز وجل بهما يقتضي لا محالة أن لا يُضيعَ أجورَهم ولا يدَعَ ما فيه صلاحهم والباء متعلقة برءوف وتقديمُه على رحيم مع كونه أبلغَ منه لما مر في وجه تقديمِ الرحمن على الرحيم وقيل أكثرُ من الرأفة في الكمية والرأفةُ أقوى منها في الكيفية لأنها عبارة عن إيصال النعم الصافية عن الآلام والرحمةُ إيصالُ النعمة مطلقاً وقد يكون مع الألم كقطعِ العضوِ المتأكّل وقرئ رءوف بغير مد كندس

144

{قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء} أي تردُّدَه وتصرُّفَ نظرِك في جهتها تطلعاً للوحي وذلكَ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كان يقع في رَوْعة ويتوقع من ربه عز وجل أن يحوله إلى الكعبة لأنها قِبلةُ إبراهيمَ وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتُهم ومزارُهم ومَطافُهم ولمخالفة اليهود فكان يُراعي نزولَ جبريلَ بالوحي بالتحويل {فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً} الفاء للدلالة على سببية ما قبلَها لما بعدَها وهي في الحقيقة داخلةٌ على قسمٍ محذوف يدل عليه اللام أي فو الله لنولِّينَّك أي لنُعطِينَّكها ولنُمَكِّنَنَّك من استقبالها من قولك ولتيه كذا أي صيّرته والياً له أو لنَجْعَلَنك تلي جِهتَها أو لنُحَوِّلنَّك على أن نَصْبَ قبلةً بحذف الجار أي إلى قبلة وقيل هو متعدٍ إلى مفعولين {تَرْضَاهَا} تحبها وتشتاق إليها لمقاصدَ دينيةٍ وافقتْ مشيئتَه تعالى وحِكْمتَه {فَوَلّ وَجْهَكَ} الفاء لتفريع الأمرِ بالتولية على الوعد الكريمِ وتخصيصُ التوليةِ بالوجه لما أنه مدارُ التوجه ومعيارُه وقيل المرادُ به كلُّ البدنِ أي فاصرِفْه {شَطْرَ المسجد الحرام} أي نحوَه وهو نصبٌ على الظرفية من ول أو على نزع الخافض أو على مفعول ثانٍ له وقيل الشطرُ في الأصل اسمٌ لما انفصل من الشئ ودارٌ شَطورٌ إذا كانت منفصلةً عن الدور ثم استعمل لجانبه وإن لم ينفصِلْ كالقُطر والحرامُ المُحرَّم أي محرم فيه القتالُ أو ممنوعٌ من الظَلَمة أن يتعرضوا له وفي ذكر المسجد الحرامِ دون الكعبة إيذانٌ بكفاية مراعاةِ الجهةِ لأن في مراعاةِ العينِ من البعيد حرجاً عظيماً بخلاف القريب رُوي عن البراء بن عازبٍ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قدِم المدينةَ فصلَّى نحوَ بيت المقدس ستة عشرة شهراً ثم وُجِّه إلى الكعبة وقيل كان ذلك في رجبٍ بعد زوال الشمس قبيل قتال بدر بشهرين ورسوله الله صلى الله عليه وسلم في

البقرة (145) مسجد بني سَلَمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحوَّل في الصلاة واستقبل الميزاب وحوّل الرجالَ مكانَ النساء والنساءَ مكانَ الرجال فسُمِّيَ المسجدُ مسجد القبلتين {وحيث ما كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} خص الرسول صلى الله عليه وسلم بالخطاب تعظيما لجنابه وإيذان بإسعاف مرامِه ثم عُمّم الخطابُ للمؤمنين مع التعرُّض لاختلاف أماكنِهم تأكيداً للحُكم وتصريحاً بعُمومه لكافة العباد من كل حاضر باد وحثاً للأمة على المتابعة وحيثما شرطية وكنتم في محل الجزم بها وقوله تعالى فَوَلُّواْ جوابُها وتكون هي منصوبةً على الظرفية بكنتم نحوُ قوله تعالى أياما تَدْعُواْ فَلَهُ الأسماء الحسنى {وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب} من فريقي اليهود والنصارى {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ} أي التحويل أو التوجهَ المفهومَ من التولية {الحق} لاغير لعلمهم بأن عادتَه سبحانه وتعالى جاريةٌ على تخصيص كلِّ شريعةٍ بقِبلة ومعاينتِهم لما هو مسطورٌ في كتبهم من أنه عليه الصلاةُ والسلام يصلِّي إلى القِبلتين كما يُشعر بذلك التعبيرُ عنهم بالاسم الموصول بإيتاء الكتاب وأن مع اسمها وخبرِها سادٌ مسدَّ مفعولي يعلمون أو مسدَّ مفعولِه الواحد على أن العلم بمعنى المعرفة وقولُه تعالى {مّن رَّبّهِمُ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الحق أي كائنا من ربهم أوصفة له على رأي من يجوِّز حذفَ الموصول مع بعض صلتِه أي الكائنَ من ربهم {وَمَا الله بغافل عما تعملون} وعد ووعيد للفريقين والخطابُ للكل تغليبا وقرئ على صيغة الغيبة فهو وعيدٌ لأهل الكتاب

145

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب} وضْعُ الموصولِ موضِعَ المضمرِ للإيذان بكمالِ سوءِ حالِهم من العناد مع تحقق ما يُرْغِمُهم منه من الكتاب الناطق بحقِّية ما كابروا في قبوله {بِكُلّ آية} أي حجةٍ قطعيةٍ دالةٍ على حقيقة التحويل واللامُ موطئةٌ للقسمِ وقولُه تعالى {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} جوابٌ للقسم المضمَر سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط والمعنى أنهم ماتركوا قبلَتك لشُبهةٍ تُزيلها الحجةُ وإنما خالفوك مكابرةً وعِناداً وتجريد الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم بعد تعميمِه للأمة لما أن المُحاجةَ والإتيانَ بالآية من الوظائف الخاصةُ به عليه السلام وقوله تعالى {وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} جملةٌ معطوفةٌ على الجملة الشرطية لا على جوابها مسوقةٌ لقطع أطماعِهم الفارغةِ حيث قالت اليهودُ لو ثبتَّ على قبلتنا لكنا نرجوا أن تكون صاحبَنا الذي ننتظره تغريرا له عليه الصلاة والسلام وطمعاً في رجوعه وإيثارُ الجملة الاسمية للدلالة على دوامِ مضمونِها واستمرارِه وإفراد قبلتَهم مع تعدُّدِها باعتبار اتحادِها في البُطلان ومخالفةِ الحق ولئلا يُتوَهّم أن مدارَ النفي هو التعدُّدُ وقرئ يتابع قبلتِهم على الإضافة {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} فإن اليهودَ تستقبلُ الصخرةَ والنصارى مطلع الشمس لا يرجى توافقُهم كما لا يرجى موافقتُهم لك لتصلُّب كلِّ فريقٍ فيما هو فيه {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} الزائغةَ المتخالفة {مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} ببطلانها وحقّيةِ ما أنت عليه وهذه الشرطيةُ الفرَضية واردةٌ على منهاج التهييج والإلهابِ للثبات على الحق أي ولئن اتبعت أهواءَهم فرضاً {إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظالمين} وفيه لطفٌ للسامعين وتحذير لهم عن

البقرة (147 - 146) متابعة الهوى فإن مَنْ ليس من شأنه ذلك إذا نُهيَ عنه ورُتِّبَ على فرض وقوعِه ما رُتِّبَ من الانتظام في سِلكِ الراسخين في الظلم فما ظنُّ من ليس كذلك وإذن حرفُ جوابٍ وجزاءٍ توسطت بين اسمِ إنَّ وخبرِها لتقرير ما بينهما من النسبة إذ كان حقهاأن تتقدمَ أو تتأخر فلم تتقدمْ لئلا يُتوَهَّم أنها لتقرير النسبةِ التي بين الشرط وجوابِه المحذوفِ لأن المذكورَ جوابُ القسم ولم تتأخرْ لرعاية الفواصل ولقد بولغ في التأكيد من وجوهٍ تعظيماً للحق المعلومِ وتحريضاً على اقتفائه وتحذيراً عن متابعة الهوى واستعظاماً لصدورِ الذنبِ من الأنبياءِ عليهم السلام

146

{الذين آتيناهم الكتاب} أي علماءهم إذهم العمدةُ في إيتائه ووضعُ الموصول موضعَ المضمرِ مع قرب العهد للإشعار بعلية مَا في حيزِ الصِّلةِ للحكم والضميرُ المنصوبُ في قوله تعالى {يَعْرِفُونَهُ} للرسول صلى الله عليه وسلم والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذانِ بأن المراد ليس معرفتَهم له عليهِ السلامُ منْ حيثُ ذاتُه ونسبُه الزاهرُ بل من حيث كونُه مسطوراً في الكتاب منعوتاً فيه بالنعوت التي من جملتها أنه عليه السلام يصلي إلى القبلتين كأنه قيل الذين آتيناهم الكتابَ يعرِفون مَنْ وصفناه فيه وبهذا يظهر جزالةُ النظمِ الكريم وقيل هو إضمارٌ قبل الذكر للإشعار بفخامة شأنِه عليه الصلاةُ والسلام أنه عِلْمٌ معلوم بغير إعلامٍ فتأمل وقيل الضميرُ للعلم أو سببِه الذي هو الوحيُ أو القرآنُ أو التحويل ويؤيد الأولَ قوله عز وجل {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ} أي يعرفونه عليه الصلاة والسلام بأوصافه الشريفة المكتوبة في كتابهم ولا يشتبه علهيم كما لا يشتبه أبناؤُهم وتخصيصُهم بالذكر دون ما يعم البناتِ لكونهم أعرفَ عندهم منهن بسبب كونِهم أحبَّ إليهم عن عمرَ رضيَ الله عنه أنَّه سأل عبدُ اللَّه بنَ سلامٍ رضيَ الله عنْهُ عنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنا أعلم به مني بابني قال ولِمَ قال لأني لست أشكُّ فيه أنه نبي فأما ولدي فلعل والدتَه خانت فقبل عمر رأسه رضي الله عنهما {وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} هم الذين كابروا وعاندوا الحقَّ والباقون هم الذين آمنوا منهم فإنهم يُظهرون الحقَّ ولا يكتُمونه وأما الجهلةُ منهم فليست لهم معرفةٌ بالكتاب ولا بما في تضاعيفه فما هم بصدد الإظهارِ ولا بصدد الكَتْم وإنما كفرُهم على وجه التقليد

147

{الحقُّ} بالرفع على أنه مبتدأ وقولُه تعالى {مِن رَبّكَ} خبرُه واللامُ للعهد والإشارةِ إلى ما عليه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أو إلى الحقِّ الذي يكتُمونه أو للجنس والمعنى أن الحقَّ ما ثبت أنَّه من اللَّهِ تعالى كالذي أنت عليه لاغيره كالذي عليه أهلُ الكتاب أو على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هُو الحقُّ وقولُه تعالى مِن رَبّكَ إما حالٌ أو خبرٌ بعد خبر وقرئ بالنَّصبِ على أنَّه بدلٌ من الأول أو مفعولٌ ليعلمون وفي التعرُّض لوصفِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام من إظهار اللطفِ به عليه السلام ما لا يخفى {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي الشاكّين في كتمانهم الحقَّ عالمين به وقيل في أنه من ربك وليس المراد به نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشك فيه لأنه غير متوقع

البقرة (150 - 148) منه عليه السلام وليس بقصد واختيار بل إما تحقيقُ الأمر وأنه بحيث لا يشك فيه ناظر أو أمرُ الأمةِ باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ

148

{وَلِكُلّ} أي ولكل أمةٍ من الأمم على أن التنوين عوضٌ من المضاف إليه {وِجْهَةٌ} أي قِبلة وقد قرئ كذلك أو لكل قومٍ من المسلمين جانبٌ من جوانب الكعبة {هُوَ مُوَلّيهَا} أحدُ المفعولين محذوفٌ أي موليها وجهَه أو الله موليها إياه وقرئ ولكلِّ وِجهةٍ بالإضافة والمعنى ولكلَ وجهةٌ الله مولِّيها أهلَها واللام مزيدة للتأكيد وجبر ضعف العامل وقرئ مولاها أي مولى تلك الجهةِ قد وَلِيهَا {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} أي تسابقوا إليها بنزع الجار كما في قوله ... ثنائي عليكم آلَ حربٍ ومنْ يمِل ... سواكم فإني مهتدٍ غيرُ مائلِ ... وهو أبلغَ من الأمر بالمسارعة لما فيه من الحث على إحراز قصَبِ السبْقِ والمرادُ بالخيرات جميعُ أنواعِها من أمر القِبلة وغيرِه مما يُنال به سعادةُ الدارين أو الفاضلاتُ من الجهات وهي المسامتة للكعبة {أين ما تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعًا} أي في أيّ موضعٍ تكونوا من موافِقٍ أو مخالفٍ مجتمعِ الأجزاء أو متفرقِها يحشُرُكم الله تعالى إلى المَحْشَر للجزاء أو أينما تكونوا من أعماق الأرضِ وقُلل الجبال يقبضُ أرواحَكم أو أينما تكونوا من الجهات المختلفةِ المتقابلةِ يجعلُ صلواتِكم كأنها صلاةٌ إلى جهة واحدة {إِنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدِر على الإماتة والإحياء والجمعِ فهو تعليل للحكم السابق

149

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} تأكيدٌ التحويل وتصريحٌ بعدم تفاوت الأمرِ في حالتي السفر والحضَر ومنْ متعلقة بقوله تعالى {فَوَلّ} أو بمحذوفٍ عُطف هو عليه أي من أي مكان خرجت إليه للسفر فولِّ {وَجْهَكَ} عند صلاتك {شَطْرَ المسجد الحرام} أو افعلْ ما أُمرت بِه من أي مكانٍ خرجت إليه فول الخ {وَأَنَّهُ} أي هذا الأمرَ {لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ} أي الثابتُ الموافق للحِكمة {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} فيجازيكم بذلك أحسنَ جزاءٍ فهو وعدٌ للمؤمنين وقرئ يعملون على صيغة الغيبة فهو وعيد للكافرين

150

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} إليه في أسفارك ومغازيك من المنازل القريبةِ والبعيدةِ {فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} الكلامُ فيه كما مرَّ آنفا {وحيث ما كُنتُمْ} من أقطار الأرضِ مقيمين أو مسافرين حسبما يعرب عنه إيثار

البقرة (151) كنتم على خرجتم فإن الخطابَ عامٌ لكافة المؤمنين المنتشرين في الآفاق من الحاضرين والمسافرين فلو قيل وحيثما خرجتم لما تناول الخطابُ المقيمين في الأماكن المختلفة من حيث إقامتُهم فيها {فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} من مَحالِّكم {شَطْرَهُ} والتكريرُ لما أن القِبلةَ لها شأنٌ خطير والنسخُ من مظانِّ الشبهةِ والفتنة فبالحَريِّ أن يؤكد أمرها مرة غب أخرى مع أنه قد ذُكر في كل مرة حِكمةٌ مستقلة {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} متعلقٌ بقوله تعالى فَوَلُّواْ وقيل بمحذوفٍ يدلُّ عليه الكلام كأنه قيل فعلنا ذلك لئلا الخ والمعنى أن التوليةَ عن الصخرة تدفع احتجاجَ اليهود بأن المنعوتَ في التوراة من أوصافه أنه يحوِّلُ إلى الكعبة واحتجاجُ المشركين بأنه يدَّعي ملة إبراهيم يخالف قِبلتَه {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} وهم أهلُ مكةَ أي لئلا يكونَ لأحد من الناس حجةٌ إلا المعاندين منهم الذين يقولون ما تحوَّلَ إلى الكعبة إلا مَيْلاً إلى دين قومِه وحباً لبلده أو بَدا لَهُ فرجَع إلى قِبلةِ آبائِه ويوشك أن يرجع إلى دينهم وتسمية هذه الكلمة الشنعاء حجة مع انها أفحش الأباطيل من قبيل ما في قوله تعالى حجتهم داحضة حيث كانوا يسوقونها مساق الحجة وقيل الحجة بمعنى مطلق الاحتجاج وقيل الاستثناء للمبالغة في نفى الحجة رأسا كالذي في قولهِ ... ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم ... بهن فُلولٌ من قراع الكتائبِ ... ضرورة أن لا حجة للظالم وقرئ ألا الذين بحرف التنبيه على أنه استئناف {فلا تخشوهم} فإن مطاعنهم لاتضركم شيئا {واخشوني} فلا تخالفوا أمرى {ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون} علة لمحذوف يدل عليه النظم الكريم أي وأمرتكم بما مر لإتمام النعمة عليكم لما أنه نعمة جليلة ولإرادتي اهتدائكم لما أنه صراط مستقيم مؤد إلى سعادةِ الدَّارينِ كما أشير إليه في قولِه عزَّ وجلَّ يَهْدِى مَن يَشَاء إلى صراط مستقيم وفي التعبير عن الإرادة بكلمة لعل الموضوعة للترجي على طريقة الاستعارةِ التبعية من الدلالةِ عَلى كمالِ العناية بالهداية مالا يخفى أو عطفٌ على علة مقدرةٍ أي واخشوني لأحفظكم عنهم واتم الخ أو عَلى قولِه تعالَى لئلا يكون وتوسط قوله تعالى فلا تخشوهم الخ بينهما للمسارعة الى التسلية والتثبيت وفي الخبر تمام النعمة دخول الجنة وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه تمام النعمة الموت على الاسلام

151

{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ} متصلٌ بما قبله والظرفُ الأول متعلقٌ بالفعل قُدِّم على مفعوله الصريحِ لما في صفاته من الطول والظرفُ الثاني متعلقٌ بمُضمرٍ وقع صفةً لرسولاً مبينةً لتمام النعمةِ أي ولأتمَّ نعمتي عليكم في أمر القِبلة أو في الآخرة إتماماً كائناً كإتمامي لها بإرسال رسولٍ كائنٍ منكم فإن إرسالَ الرسول لاسيما المجانسُ لهم نعمةٌ لا يكافئُها نعمة قطُّ وقيل متصلٌ بما بعده أي كما ذُكِّرْتم بالإرسال فاذكروني الخ وإيثارُ صيغةِ المتكلم مع الغير بعد التوحيد فيما قبله افتنانٌ وجَرَيانٌ على سَنن الكبرياء {يَتْلُو عليكم آياتنا} صفة ثانيةٌ لرسول كاشفةٌ لكمال النعمة {وَيُزَكِيكُمْ} عطفٌ على يتلو أي يحمِلُكم على ما تصيرون به أزكياءَ {وَيُعَلّمُكُمُ الكتاب والحكمة} صفةٌ أُخْرَى مترتبةٌ في الوجودِ عَلَى التِّلاوةِ وإنَّما وَسَّطَ بينَهُما التزكية التي

البقرة (154 - 152) هيَ عبارةٌ عنْ تكميلِ النفسِ بحسَبِ القوةِ العمليةِ وتهذيبِهَا المتفرعِ عَلَى تكميلِهَا بحسبِ القوةِ النظريةِ الحاصلِ بالتعليمِ المترتبِ على التلاوةِ للإيذانِ بأنَّ كلاً منَ الأمورِ المترتبةِ نعمةٌ جليلةٌ على حيالِهَا مستوجبةٌ للشكرِ فَلَو رُوعِي ترتيبَ الوجودِ كما في قوله تعالى وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يتلو عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم لتبادَر إلى الفهمِ كونُ الكلِّ نعمةً واحدةً كمَا مر نظيرُه في قصة البقرةِ وهُوَ السرُّ في التعبيرِ عن القرآنِ تارةً بالآياتِ وَأُخْرَى بالكتابِ والحِكمة رمزاً إلى أنَّه باعتبارِ كلِّ عنوانٍ نعمةٌ عَلى حدةٍ ولا يقدحُ فيهِ شمولُ الحكمةِ لِمَا في تضاعيف الأحاديثِ الشريفةِ من الشرائع وقولُه عز وجل {وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} صريحٌ في ذلك فإن الموصولَ مع كونه عبارةً عن الكتاب والحِكمة قطعاً قد عُطف تعليمُه على تعليمهما وما ذلك إلا لتفصيل فنونِ النعم في مقامٍ يقتضيه كما في قوله تعالى وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ عقيب قولِه تعالى نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا والمراد بعدم علمِهم أنه ليس من شأنهم أن يعلموه بالفكر والنظر وغيرِ ذلك من طرق العلم لانحصار الطريقِ في الوحي

152

{فاذكرونى} الفاءُ للدلالة على ترتب الأمرِ على ما قبله من موجباته أي فاذكروني بالطاعة {أَذْكُرْكُمْ} بالثواب وهو تحريضٌ على الذكر مع الإشعار بما يوجبُه {واشكروا لِي} ما أنعمتُ به عليكم من النعم {وَلاَ تَكْفُرُونِ} بجَحدها وعِصيان ما أمرتُكم به

153

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} وصفَهم بالإيمان إثرَ تعدادِ ما يوجبه ويقتضيه تنشيطاً لهم وحثاً على مراعاة ما يعقُبه من الأمر {استعينوا} في كل ما تأتون وما تذرون {بالصبر} على الأمور الشاقةِ على النفس التي من جملتها معاداةُ الكَفَرة ومقابلتُهم المؤديةُ إلى مقاتلتهم {والصلاة} التي هي أمُّ العبادات ومِعراجُ المؤمنين ومناجاةُ ربِّ العالمين {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} تعليل للأمر بالاستعانة بالصبر خاصة لما أنه المحتاجُ إلى التعليل وأما الصلاةُ فحيث كانت عند المؤمنين اجل المطالب كما ينبئ عنه قولُه عليه السلام وجُعلت قُرةُ عيني في الصلاة لم يفتقر الأمرُ بالاستعانة بها إلى التعليل ومعنى المعية الولايةُ الدائمةُ المستتبِعة للنُصرة وإجابةِ الدعوة ودخول مع على الصابرين لما أنهم المباشِرون للصبر حقيقةً فهم متبوعون من تلك الحيثية

154

{وَلاَ تَقُولُواْ} عطف على استعينوا الخ مَسوقٌ لبيان ان لا غائلة للمأمور به وأن الشهادةُ التي ربما يؤدي إليها الصبرُ حياةٌ أبدية {لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ} أي هم أموات {بَلْ أَحْيَاء} أي بل هم أحياءٌ {وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} بحياتهم وفية رمزٌ إلى أنها ليست مما يُشعِر به بالمشاعر الظاهرةِ من الحياة الجُسمانية وإنما هي أمرٌ روحاني لا يُدرَكُ بالعقل بل بالوحي وعنِ الحسنِ رحمَهُ الله أن الشهداءَ أحياءٌ عند الله تُعرَضُ أرزاقُهم على أرواحِهم فيصلُ إليهم الرَّوْحُ والفَرَحُ كما تُعرض النارُ على آل فِرعونَ غدُوّاً وعشياً فيصلُ إليهم الألمُ والوجَع قلت رأيت في المنام سنة

البقرة (157 - 155) تسعٍ وثلاثين وتسعمائة أني أزور قبورَ شهداءِ أُحدٍ رضي الله تعالى عنهم اجمعين وانا أتلوا هذه الآيةَ وما في سورة آلِ عمرانَ وأردّدهما متفكراً في أمرهم وفي نفسي أن حياتَهم روحانية لا جسمانية فبينما أنا على ذلك إذ رأيتُ شاباً منهم قاعداً في قبره تامَّ الجسدِ كامِلَ الخِلْقة في أحسنُ ما يكونُ من الهيئة والمنظر ليس عليه شيءٌ من اللباس قد بدا منه ما فوق السُرةِ والباقي في القبر خلا أني أعلم يقيناً أن ذلك أيضاً كما ظهر وإنما لا يظهر لكونه عورةً فنظرت إلى وجهه فرأيته ينظُر إلي مبتسما كأنه ينبِّهُني على أن الأمر بخلاف رأيي فسُبحان من عَلَتْ كلمتُه وجلّت حِكمتُه وقيل الآية نزلت في شهداءِ بدرٍ وكانوا اربعة عشر وفيهَا دلالةً على أنَّ الأرواحَ جواهرُ قائمةٌ بأنفسها مغايرةٌ لما يُحَسُّ به من البدن تبقى بعد الموت دراكة وعليه جمهورُ الصحابة والتابعين رضوانُ الله تعالَى عليهم اجمعين وبه نطقت الآيات والسنن وعلى هذا فتخصيصُ الشهداء بذلك لما يستدعيه مقامُ التحريض على مباشرة مباديَ الشهادةِ ولاختصاصهم بمزيد القُرب من الله عز وعلا

155

{وَلَنَبْلُوَنَّكُم} لنُصيبنَّكم إصابةَ من يختبرُ أحوالَكم أتصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء {بِشَيْء مّنَ الخوف والجوع} أي بقليلٍ من ذلك فإن ما وقاهم عنه أكثرُ بالنسبة إلى ما أصابهم بألف مرة وكذا ما يصيبُ به معانديهم وإنما أَخبرَ به قبل الوقوعِ ليُوطِّنوا عليه نفوسَهم ويزدادَ يقينُهم عند مشاهدتهم له حسبما أَخبرَ به وليعلموا أنه شيءٌ يسير له عاقبةٌ حميدة {وَنَقْصٍ مّنَ الاموال والانفس والثمرات} عطفٌ على شيءٍ وقيل على الخوف وعن الشافعي رحمه الله الخوفُ خوفُ الله والجوعُ صومُ رمضانَ ونقصٌ من الأموال الزكاةُ والصدقاتُ ومن الأنفس الأمراضُ ومن الثمرات موتُ الأولاد وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إذا مات ولدُ العبد قال الله تعالى للملائكة أقبضتم روح ولد عبدي فيقولون نعم فيقول عز وجل أقبضتم ثمرةَ قلبِه فيقولون نعم فيقول الله تعالى ماذا قال عبدي فيقولون حمِدَك واسترجَع فيقول الله عز وعلا ابنُوا لعبدي بيتاً في الجنة وسمُّوه بيتَ الحمد {وَبَشّرِ الصابرين}

156

{الذين إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون} الخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكلِّ مَنْ يتأتَّى منْهُ البِشارة والمصيبةُ ما يصيب الإنسانَ من مكروه لقوله عليه السلام كلُّ شيءٍ يؤذي المؤمنَ فهو له مصيبةٌ وليس الصبرُ هو الاسترجاعُ باللسان بل بالقلب بأن يَتصوَّرَ ما خُلق له وأنه راجِعٌ إلى ربه ويتذكرَ نِعمَ الله تعالى عليه ويرى أن ما أبقى عليه اضعاف ما استرده منه فيهونُ ذلك على نفسه ويستسلم والمبشَّرُ به محذوفٌ دلَّ عليه ما بعده

157

{أولئك} إشارة إلى الصابرين باعتبار اتصافهم بما ذُكِرَ من النعوتِ ومعنى البعد فيه للإيذان بعلوِّ رُتبتِهم {عَلَيْهِمْ صلوات مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ}

الصلاةُ من الله سبحانه المغفرةُ والرأفةُ وجمعُها للتنبيه على كثرتها وتنوُّعِها والجمعُ بينهما وبين الرحمةِ للمبالغةِ كما في قولِهِ تعالى رَأْفَةً ورحمة رءوف رَّحِيمٌ والتنوين فيهما للتفخيم والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرهم لإظهارِ مزيدِ العناية بهم أي أولئك الموصوفون بما ذكر من النعوت الجليلةِ عليهم فنونُ الرأفةِ الفائضةِ من مالك أمورِهم ومبلِّغِهم إلى كمالاتهم اللائقةِ بهم وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من استرجعَ عند المصيبةِ جَبر الله مصيبَته وأحسن عُقباه وجعل له خَلَفاً صالحاً يرضاه {وَأُوْلئِكَ} إشارةٌ إليهم إما بالاعتبار السابقِ والتكريرُ لإظهارِ كمالِ العناية بهم وإما باعتبار حيازتِهم لما ذُكر من الصلوات والرحمة المترتبِ على الاعتبار الأول فعلى الأول المرادُ بالاهتداء في قولِه عزَّ وجلَّ {هُمُ المهتدون} هو الاهتداءُ للحق والصواب مطلقاً لا الاهتداءُ لما ذكر من الاسترجاعِ والاستسلامِ خاصة لما أنه متقدمٌ عليهما فلا بدّ لتأخيره عما هو نتيجةٌ لهما من داعٍ يوجبُه وليس بظاهر والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَهُ كأنَّه قيلَ وأولئك هم المختصون بالاهتداء لكل حقَ وصواب ولذلك استرجعوا واستسلموا لقضاء الله تعالى وعلى الثاني هو الاهتداءُ والفوزُ بالمطالب والمعنى أولئك هم الفائزون بمباغيهم الدينيةِ والدنيويةِ فإن مَنْ نال رأفةَ الله تعالى ورحمتَه لم يفُتْه مَطلبٌ

158

{إِنَّ الصفا والمروة} علمانِ لجبلين بمكةَ المعظمةِ كالصَّمّان والمُقَطَّم {مِن شَعَائِرِ الله} من أعلام مناسكِه جمعُ شعيرةٍ وهي العلامة {فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر} الحجُّ في اللغة القصدُ والاعتمارُ الزيارة غلباً في الشريعة على قصدِ البيت وزيارتِه على الوجهين المعروفين كالبيت والنجم في الأعيان وحيث أُظهر البيتُ وجب تجريدُه عن التعلق به {فلا جناح عليه أن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أي في أن يطوفَ بهما أصلُه يتطوف قلبت التاءُ طاءً فأدغمت الطاءُ في الطاء وفي إيراد صيغةِ التفعُّل إيذانٌ بأن من حق الطائفِ أن يتكلف في الطواف ويبذُل فيه جُهدَه وهذا الطواف واجبٌ عندنا والشافعي وعن مالك رحمهما الله أنه ركنٌ وإيرادُه بعدم الجُناح المشعرِ بالتخيير لما أنه كان في عهد الجاهلية على الصفا صنمٌ يقال له إساف وعلى المروة آخرُ اسمُه نائلة وكانوا إذا سعَوْا بينهما مسَحوا بهما فلما جاء الإسلامُ وكسَّر الأصنامَ تحرَّج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك فنزلت وقيل هو تطوُّع ويعضُده قراءةُ ابنِ مسعود فلا جُناحَ عليه أن لا يطوفَ بهما {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} أي فعلَ طاعةً فرضاً كان أو نفلاً أو زاد على ما فُرض عليه من حج أو عمرةٍ أو طوافٍ وخيراً حينئذ نُصب على أنه صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي تطوعاً خيراً أو على حذفِ الجارِّ وإيصالِ الفعل إليه أو على تضمين معنى فعل وقرئ يَطوَّع وأصلُه يتطوع مثل يطوف وقرئ ومن يَتَطَوَّع بخيرٍ {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ} أي مُجازٍ على الطاعة عُبّر عن ذلك بالشكر مبالغةً في الإحسان إلى العباد {عَلِيمٌ} مبالغٌ في العلمِ بالأشياء فيعلم مقاديرَ أعمالِهم وكيفياتِها فلا يَنْقُصُ من أجورهم شيئاً وهو علةٌ لجواب الشرطِ قائم مقامَه كأنه قيل ومن تطوعَ خيراً جازاه الله وأثابه فإن الله شاكر عليم

البقرة (160 - 159)

159

{إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ} قيل نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا ما في التوراة من نُعوت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وغيرُ ذلك من الأحكام وعن ابن عبَّاسٍ ومُجاهدٍ وقَتادةَ والحسنِ والسُّدي والربيع والأصمِّ أنها نزلت في أَهْلَ الكتاب من اليَّهودِ والنصارى وقيل نزلت في كل من كتم شيئاً من أحكام الدين لعموم الحكمِ للكل والأقربُ هو الأول فإن عمومَ الحُكم لا يأبى خصوصَ السبب والكَتم والكتمان تركُ إظهارِ الشيء قصداً مع مساس الحاجة إليه وتحققِ الداعي الى اظهار وذلك قد يكون بمجرد سَترِه وإخفائِه وقد يكون بإزالته ووضْعِ شيءٍ آخرَ في موضعه وهو الذي فعله هؤلاء {مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات} من الآيات الواضحة الدالةِ على أمر محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم {والهدى} أي والآياتِ الهاديةِ إلى كُنه أمرِه ووجوب اتباعِه والإيمانِ به عَبَّر عنها بالمصدر مبالغةً ولم يُجمَعْ مراعاةُ للأصل وهي المرادة بالبينات أيضاً والعطفُ لتغايُر العنوان كما في قوله عز وجل هُدًى لّلنَّاسِ وبينات الخ وقيل المراد بالهدى الأدلةُ العقلية ويأباه الإنزالُ والكتم {مِن بَعْدِ مَا بيناه لِلنَّاسِ} متعلق بيكتمون والمرادُ بالناس الكلُّ لا الكاتمون فقط واللام متعلقة ببيناه وكذا الظرف في قولِه تعالى {فِى الكتاب} فإن تعلقَ جارَّيْن بفعلٍ واحدٍ عند اختلافِ المعنى مما لا ريب في جوازه أو الأخيرُ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعوله أي كائناً في الكتاب وتبيينه لهم تلخيصُه وإيضاحُه بحيث يتلقاه كلُّ أحد منهُم منْ غيرِ أنْ يكون له فيه شُبهةٌ وهذا عنوانٌ مغايرٌ لكونه بيناً في نفسه وهدى مؤكد لقبح الكتم أو تفهيمُه لهم بواسطة موسى عليه السلام والأول أنسبُ بقوله تعالى في الكتاب والمرادُ بكتمه إزالتُه ووضعُ غيرِه في موضعه فإنهم محو انعته عليه الصلاة والسلام وكتبوا مكانه ما يخالفه كما ذكرناه في تفسير قولِه عزَّ وعلا فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب الخ {أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبارِ ما وصفوا به للإشعار بعلِّيته لما حاق بهم وما فيه من معنى البعدُ للإيذان بتَرامي أمرهم وبُعد منزلتِهم في الفساد {يَلْعَنُهُمُ الله} أي يطرُدهم ويبعدهم من رحمته والالتفاتُ إلى الغَيبة بإظهار اسمِ الذاتِ الجامعِ للصفاتِ لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعةِ والإشعارِ بأن مبدأ صدورِ اللعن عنه سبحانه صفةُ الجلالِ المغايرةِ لما هو مبدأ الإنزال والتبيينِ من وصَفِ الجمالِ والرحمة {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} أي الذين يتأتى منهم اللعنُ أي الدعاءُ عليهم باللعن من الملائكة ومؤمني الثقلين والمرادُ بيانُ دوام اللعنِ واستمرارُه وعليه يدور الاستثناءُ المتصلُ في قوله تعالى

160

{إلا الذين تابوا} أي عن الكِتمان {وَأَصْلَحُواْ} أي ما أفسدوا بأن أزالوا الكلام المحرف وكتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التحريف {وَبَيَّنُواْ} للناس معانيَه فإنه غير الإصلاح المذكور أو بينوا لهم ما وقع منهم أولاً وآخراً فإنه أدخلُ في إرشاد الناس إلى الحق وصرفُهم عن طريق الضلال الذي كانوا أوقعوهم فيه أو بيّنوا توبتَهم ليمحُوا به سِمةَ ما كانوا فيه ويقتديَ بهم أضرابهم

البقرة (163 - 161) وحيث كانت هذه التوبة المقرونةُ بالإصلاح والتبيين مستلزمةً للتوبة عن الكفر مبنية عليها لم يصرَّحْ بالإيمان وقولُه تعالى {أولئك} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة للإشعار بعلّيته للحكم والفاءُ لتأكيد ذلك {أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أي بالقَبول وإفاضةِ المغفرةِ والرحمةِ وقولُه تعالَى {وَأَنَا التواب الرحيم} أي المبالغُ في قبول التوْب ونشرِ الرحمةِ اعتراضٌ تذييليٌّ محققٌ لمضمون ما قبله والالتفاتُ إلى التكلم للافتيان في النظمِ الكريم مع ما فيه من التلويحِ والرمزِ إلى ما مرَّ من اختلاف المبدأ في فِعليه تعالى السابقِ واللاحِقِ

161

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} جملةٌ مستأنفة سيقت لتحقيق بقاءِ اللعن فيما وراء الاستثناءِ وتأكيدِ دوامِه واستمرارِه على غير التائبين حسبما يفيده الكلام والاقتصارُ على ذكر الكفر في الصلة من غير تعرضٍ لعدم التوبة والإصلاحِ والتبيينِ مبنيٌّ على ما أشيرَ إليهِ فكما أن وجودَ تلك الأمور الثلاثةِ مستلزِمٌ للإيمان الموجبِ لعدم الكفر كذلك وجودُ الكفر مستلزمٌ لعدمها جميعاً أي إن ذلك استمرار على الكفر المستتبِع للكتمان وعدمِ التوبة {وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} لا يرعوون عن حالتهم الأولى {أولئك} الكلامُ فيه كما فيما قبله {عَلَيْهِمْ} أي مستقِرٌّ عليهم {لعنة الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} ممن يُعتَدُّ بلعنتهم وهذا بيانٌ لدوامها الثبوتي بعد بيان دوامِها التجدّدي وقيل الأولُ لعنتَهم أحياءً وهذا لعنتهم أمواتا وقرئ والملائكةُ والناسُ أجمعون عطفاً على محلِّ اسم الله لأنه فاعلٌ في المعنى كقولك أعجبني ضربُ زيدٍ وعمروٍ تريد مِنْ أنْ ضرب زيد وعمر وكأنه قيل أولئك عليهم أنْ لعنهم الله والملائكةُ الخ وقيل هو فاعل لفعل مقدرٍ أي ويلعنهم الملائكة

162

{خالدين فِيهَا} أي في اللعنة أو في النار على أنها أُضمرت من غير ذكرٍ تفخيماً لشأنها وتهويلاً لأمرِها {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} إما مستأنفٌ لبيان كثرة عذابِهم من حيث الكيفُ إثرَ بيانِ كثرتِه من حيث الكمُّ أو حال من الضمير في خالدين على وجه التداخُل أو من الضميرِ في عليهم على طريقة الترادُف {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} عطف على ما قبله جار فيه ما جرى فيه وإيثارُ الجملةِ الاسميةِ لإفادة دوامِ النفي واستمراره أي لا يُمهلون ولا يُؤجّلون أو لا يُنتظرون ليعتذروا أو لا يُنظر إليهم نَظَر رحمة

163

{وإلهكم} خطابٌ عام لكافة الناس أي المستحِقُّ منكم للعبادة {إله واحد} أي فرد في الإلهيه لاصحة لتسمية غيرِه إلها أصلاً {لاَ إله إِلاَّ هو} خبرٌ ثانٍ للمبتدأ أو صفةٌ أخرى للخبر أو اعتراض وأياما كان فهو مقرِّرٌ للوحدانية ومزيح لما عسى يُتوهّم أن في الوجود إلها لكن لا يستحق العبادة {الرحمن الرحيم} خبران آخران لمبتدأ محذوفٍ وهو تقريرٌ للتوحيد فإنه تعالى حيث كان مُولياً لجميع النعم أصولِها وفروعِها جليلِها ودقيقِها وكان ما سواه كائناً ما كان مفتقراً إليه في وجوده وما تتفرع عليه من كمالاته تحققتْ وحدانيتُه بلا ريب وانحصر استحقاقُ العبادةِ فيه تعالى قطعاً قيل كان للمشركين

البقرة (164) حول الكعبة المكرمة ثلثُمائة وستون صنماً فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا أو قالوا إن كنت صادقاً فأتِ بآيةٍ نعرِفْ بها صدقك فنزلت

164

{إن في خلق السماوات والارض} أي في إبداعهما على ما هما عليه مع ما فيهما من التعاجيب العِبَر وبدائِع صنائعَ يعجِزُ عن فهمها عقولُ البشر وجمعُ السموات لما هو المشهورُ من أنها طبقاتٌ متخالفة الحقائقِ دون الأرض {واختلاف الليل والنهار} أي اعتقابِهما وكونِ كلَ منهما خلَفاً للآخر كقولِه تعالى وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً أو اختلافُ كل منهما في أنفسهما ازدياداً وانتقاصاً على ما قدّره الله تعالى {والفلك التى تَجْرِى فِى البحر} عطفٌ على ما قبله وتأنيثُه إما بتأويل السفينة أو بأنه جمعٌ فإن ضمةَ الجمعِ مغايرةٌ لضمة الواحد في التقدير إذا الأُولى كما في حُمُر والثانية كما في قُفْل وقرئ بضم اللام {بِمَا يَنفَعُ الناس} أي متلبسه بالذي ينفعُهم مما يُحمل فيها من أنواع المنافعِ أو بنفعهم {وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء مِن مَّاء} عطفٌ على الفلك وتأخيرُه عن ذكرها مع كونه أعمَّ منها نفعاً لما فيه من مزيد تفصيلٍ وقيل المقصودُ الاستدلالُ بالبحر وأحوالِه وتخصيصُ الفلك بالذكر لأنه سببُ الخوض فيه والاطلاعِ على عجائبه ولذلك قدِّم على ذكر المطرِ والسحابِ لأن منشأهما البحرُ في غالب الأمر ومن الأولى ابتدائيةٌ والثانية بيانية أو تبيعضية وأياما كان فتأخيرُها لما مرَّ مرارا من التشويقِ والمرادُ بالسماء الفَلَكُ أو السحابُ أو جهةُ العلوِّ {فأحيا بِهِ الارض} بأنواع النباتِ والإزهارِ وما عليها من الأشجار {بَعْدَ مَوْتِهَا} باستيلاء اليُبوسةِ عليها حسبما تقتضيه طبيعتُها كما يوزن به إيرادُ الموت في مقابلة الإحياء {وَبَثَّ فِيهَا} أي فرَّق ونشر {مِن كُلّ دَابَّةٍ} من العقلاء وغيرهم والجملة معطوفةٌ على أنزل داخلةٌ تحت حكمِ الصلةِ وقوله تعالى فأحيا الخ متصلٌ بالمعطوف عليه بحيث كانا في حكم شئ واحد كأنه قيل وما أَنزل في الأرض من ماءٍ وبثَّ فيها الخ أو على أحيا بحذف الجارِّ والمجرور العائدِ إلى الموصول وإن لم يتحقق الشرائط المعهودة كما قي قوله ... وإن لساني شَهْدةٌ يشتفى بها ... ولكنْ على مَنْ صَبَّه الله علقمُ ... أي علقمٌ عليه وقولِه ... لعلَّ الذي أصْعَدْتَني أن يرُدَّني ... إلى الأرضِ إن لم يقدِرِ الخيرَ قادِرُهْ ... على معنى فأحيا بالماء الأرضَ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دابةٍ فإنهم ينمُون بالخصب ويعيشون بالحَيا {وَتَصْرِيفِ الرياح} عطف على ماأنزل أي تقليبها من مهب إلى آخر أومن حال إلى أخرى وقرئ على الإفراد {والسحاب} عطفٌ على تصريفِ أو الرياحِ وهو اسمُ جنسٍ واحده سَحابةٌ سمي بذلك لانسحابه في الجو {المسخر بَيْنَ السماء والارض} صفةٌ للسحاب باعتبار لفظه وقد يُعتبر معناه فيوصف بالجمع كما في قوله تعالى سَحَابًا ثِقَالاً وتسخيرُه تقليبُه في الجو بواسطة الرياحِ حسبما تقتضيه مشيئةُ الله تعالى ولعل تأخيرَ تصريفِ الرياحِ وتسخيرِ السحاب في الذكر عن جريان الفُلك وإنزال الماء مع انعكاس الترتيب الخارجيّ لما مرَّ في قصَّةِ البقرةِ من الإشعار باستقلال كلَ من الأمور المعدودة في

البقرة (165) كونها آيةً ولو رُوعيَ الترتيبُ الخارجيُّ لربما تُوهُم كونُ المجموعِ المترتبِ بعضُه على بعضٍ آيةً واحدة {لاَيَاتٍ} اسمُ إن دخلته اللام لتأخره عن خبرها والتنكيرُ للتفخيم كماً وكيفاً أي آياتٍ عظيمةً كثيرةً دالة على القدرة والحِكمة الباهرةِ والرحمةِ الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به سبحانه {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي يتفكرون فيها وينظرون إليها بعيون العقول وفيه تعريضٌ بجهل المشركين الذين اقترحوا على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم آيةً تصدِّقه في قوله تعالى وإلهكم إله واحد وتسجيلٌ عليهم بسخافة العقولِ وإلا فمن تأمل في تلك الآيات وجدَ كلاً منها ناطقةً بوجوده تعالى ووحدانيته وسائرِ صفاتِه الكماليةِ الموجبةِ لتخصيصِ العبادةِ بهِ تعالى واستُغني بها عن سائرها فإن كلَّ واحدٍ من الأمور المعدودةِ قد وجد على وجه خاصَ من الوجوه الممكنةِ دون ما عداه مستتبعاً لآثار معينةٍ وأحكامٍ مخصوصةٍ من غير أن تقتضي ذاتُه وجودَه فضلاً عن وجوده على نمطٍ معين مستتبعٍ لحكمٍ مستقل فإذن لا بدله حتماً من موجدٍ قادر حكيمٍ يوجده حسبما تقتضيه حكمتُه وتستدعيه مشيئتُه متعالٍ عن معارضة الغير إذ لو كان معه آخرُ يقدِر على ما يقدرُ عليه لزمَ إما اجتماعُ المؤثِّرَيْن على أثر واحدٍ أو التمانعُ المؤدي إلى فساد العالم

165

{وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله} بيانٌ لكمال ركاكةِ آراءِ المشركين إثرَ تقريرِ وحدانيتِه سبحانه وتحريرِ الآياتِ الباهرةِ المُلجئةِ للعقلاء إلى الاعتراف بها الفائضةِ باستحالة أن يشاركَه شئ من الموجودات في صفة من صفات الكمالِ فضلاً عن المشاركة في صفة الألوهية والكلامُ في إعرابه كما فُصِّل في قولِه تعالى وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله وباليوم الأخر الخ ومن دون الله متعلقٌ بيتخذ أي من الناس من يتخذ من دون ذلك الإله الواحدِ الذي ذكرت شئونه الجليلةُ وإيثارُ الاسمِ الجليل لتعيينه تعالى بالذات غِبَّ تعيينه بالصفات {أَندَاداً} أي أمثالاً وهم رؤساؤُهم الذين يتبعونهم فيما يأتُون وما يَذَرُون لاسيما في الأوامر والنواهي كما يفصح عنه ماسيأتى من وصفهم بالتبرِّي من المتّبعين وقيل هي الأصنام وإرجاعُ ضميرِ العقلاءِ إليها في قوله عز وعلا {يُحِبُّونَهُمْ} مبنيٌّ على آرائهم الباطلة في شانها من وصفهم بمالا يوصف به إلا العقلاءُ والمحبةُ ميلُ القلب من الحب استُعير لحبَّة القلبِ ثم اشتُق منه الحبُ لأنه أصابها ورسخ فيها والفعل منها حبَّ على حدمد لكن الاستعمالَ المستفيضَ على أحب حباً ومحبةً فهو مُحِب وذاك محبوبٌ ومُحَبّ قليل وحابّ أقلُ منه ومحبةُ العبد لله سبحانه إرادةُ طاعتِهِ في أوامرِهِ ونواهيهِ والاعتناءُ بتحصيل مراضيه فمعنى يُحبونهم يطيعونهم ويعظمونهم والجملةُ في حيز النصبِ إما صفةٌ لأنداداً أو حالا من فاعل يتخذ وجمعُ الضميرِ باعتبارِ مَعْنى من كما أن إفرادَه باعتبار لفظِها {كَحُبّ الله} مصدرٌ تشبيهيٌّ أي نعتٌ لمصدر مؤكدٍ للفعل السَّابقِ ومن قضية كونِه مبنياً للفاعل كونُه أيضاً كذلك والظاهرُ اتحادُ فاعلِهما فإنهم كانوا يُقِرّون به تعالى أيضاً ويتقربون إليه فالمعنى يحبونهم حباً كائناً كحبهم لله تعالى أي يسوّون بينه تعالى وبينهم في الطاعة والتعظيم وقيل فاعلُ الحبِّ المذكور هم

البقرة (166) المؤمنون فالمعنى حباً كائناً كحب المؤمنين له تعالى فلا بُدَّ من اعتبارِ المشابهة بينهما في أصل الحبِّ لا في وصفِه كماً أو كيفاً لما سيأتي من التفاوت البين وقيل هو مصدرٌ من المبنيِّ للمفعولِ أي كما يُحب الله تعالى ويعظم وإنما استُغني عن ذكر مَنْ يحبه لأنه غير ملبس وأنت خبيرٌ بأنه لا مشابهة بين محبيتهم لأندادهم وبين محبوبيتِه تعالى فالمصيرُ حينئذ ما أسلفناه في تفسير قولِه عزَّ قائلاً كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في مقام الإضمار لتربية المهابة وتفخيمِ المضاف وإبانةِ كمال قُبحِ ما ارتكبوه {والذين آمنوا أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ} جملة مبتدأة جئ بها توطئةً لما يعقُبها من بيان رخاوةِ حبِّهم وكونِه حسرة عليهم والمفضلُ عليه محذوف أي المؤمنين أشدُّ حباً له تعالى منهم لأندادهم ومآلُه أن حبَّ أولئك له تعالى أشدُّ من حب هؤلاءِ لأندادهم فيهِ منَ الدَلالة عَلى كون الحبِّ مصدراً من المبنى للفاعل مالا يخفى وإنما لم يُجعل المفضلُ عليه حبَّهم لله تعالى لما أنَّ المقصودَ بيانُ انقطاعِه وانقلابِه بغضاً وذلك إنما يُتصور في حبهم لأندادهم لكونه منوطاً بمبانٍ فاسدةٍ ومبادٍ موهومةٍ يزول بزوالها قيل ولذلك كانوا يعدلون عنها عند الشدائد إلى الله سبحانه وكانوا يعبُدون صنماً أياماً فإذا وجدوا آخَرَ رفضوه إليه وقد أكلت باهلةُ إلهها عام المجاعةِ وكان من حيس وأنت خبيرٌ بأن مدارَ ذلك اعتبارُ اختلال حبِّهم لها في الدنيا وليس الكلام فيه بل في انقطاعه في الآخرة عند ظهورِ حقيقةِ الحال ومعاينةِ الأهوال كما سيأتي بل اعتبارُه مخِلٌّ بما يقتضيه مقامُ المبالغةِ في بيان كمالِ قبحِ ما ارتكبوه وغايةِ عظم ما اقترفوه وإيثارُ الإظهار في موضعِ الإضمارِ لتفخيمِ الحُبِّ والإشعارِ بعلّته {وَلَوْ يَرَى الذين ظَلَمُواْ} أي باتخاذ الأنداد ووضعِها موضعَ المعبود {إِذْ يَرَوْنَ العذابَ} المُعدَّ لهم يومَ القيامة أي لو علِموا إذا عاينوه وإنما أوثر صيغةُ المستقبل لجريانها مجرى الماضي في الدلالة على التحقيق في أخبار علامِ الغيوب {أَنَّ القوة لِلَّهِ جَمِيعًا} سادّ مسدَّ مفعولي يرى {وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب} عطفٌ عليه وفائدتُه المبالغةُ في تهويل الخطبِ وتفظيعِ الأمر فإن اختصاصَ القوة به تعالى لا يوجب شدةَ العذاب لجواز تركِه عفواً مع القدرة عليه وجوابُ لو محذوفٌ للإيذان بخروجه عن دائرة البيانِ إما لعدم الإحاطةِ بكنهه وإما لضيق العبارةِ عنه وإما لإيجاب ذكره مالا يستطيعه المعبِّر أو المستمِعُ من الضجر والتفجُّع عليه أي لو علموا إذ رأوُا العذابَ قد حل بهم ولم يُنقِذْهم منه أحدٌ من أندادهم أن القوة لله جميعاً ولا دخل لاحد في شئ أصلاً لوقعوا من الحسرة والندم فيما لا يكاد يوصف وقرئ ولو ترى بالتاء الفوقانية على أن الخطابَ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب فالجوابُ حينئذ لرأيتَ أمراً لا يوصَف من الهول والفظاعة وقرئ إذ يُرَوْن على البناء للمفعول {وأن الله شديد العذاب} على الاستئناف وإضمارِ القول

166

{إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا} بدلٌ من إذ يرون أي إذ تبرأ الرؤساء {مِنَ الذين اتبعوا} من الأتْباع بأن اعترفوا ببطلان ما كانوا يدّعونه في الدنيا ويدْعونهم إليه من فنون الكفر والضلالِ واعتزلوا عن مخالطتهم وقابلوهم باللعن كقول إبليس إِنّى كَفَرْتُ بما اشر كتموني من قبل وقرئ بالعكس أي تبرأ الأتْباعُ من الرؤساء والواو في قولِه عزَّ وجلَّ {وَرَأَوُاْ العذاب}

حالية وقد مضمرةٌ وقيل عاطفةٌ على تبرأ والضمير في رأوا للموصوفين جميعاً {وتقطعت بهم الأسباب} والوصل التي كانت بينهم من التبعية والمتبوعيةِ والاتّفاقِ على الملة الزائغةِ والأغراضِ الداعيةِ إلى ذلك وأصلُ السبب الحبلُ الذي يرتقى به الشجر ونحوه معطوفةٌ على تبرأ وتوسيطُ الحال بينهما للتنبيه على علة التبرّي وقد جُوّز عطفُها على الجملة الحالية

167

{وَقَالَ الذين اتبعوا} حين عاينوا تبرُؤَ الرؤساءِ منهم وندِموا على ما فعلوا من اتّباعهم لهم في الدنيا {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي ليت لنا رجعةً إلى الدنيا {فَنَتَبَرَّأَ منهم} هناك {كما تبرؤوا منا} اليوم {كذلك} إشارةٌ إلى مصدرِ الفعل الذي بعده لا الى شئ آخر مفهوم مما سبق وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه مع كمال تميُّزِه عما عداه وانتظامِه في سلك الأمور المشاهدة والكاف مُقحَمَةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلُّه النصبُ على المصدرية أي ذلك الإراءَ الفظيعَ {يُرِيهِمُ الله أعمالهم حسرات عَلَيْهِمْ} أي نداماتٍ شديدةً فإن الحسرةَ شدةُ الندم والكمَدِ وهي تألمُ القلبِ وانحسارُه عما يؤلمه واشتقاقها من قولهم بعير حسيرٌ أي منقطعٌ القوة وهي ثالثُ مفاعيلِ يُري إن كان من رؤية القلبِ وإلا فهي حالٌ والمعنى أن أعمالَهم تنقلبُ حسراتٍ عليهم فلا يرَوْن إلا حسراتٍ مكانَ أعمالِهم {وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار} كلامٌ مستأنفٌ لبيان حالِهم بعد دخولِهم النارَ والأصلُ وما يخرجون والعدولُ إلى الاسمية لإفادة دوامِ نفي الخروج والضميرُ للدَلالة على قوةِ أمرِهم فيما أُسند إليهم كما في قوله ... هُمُ يفرُشون اللِّبْدَ كُلَّ طمرة ... واجرد سباق يبذ المغاليا ...

168

{يا أيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِى الارض} أي بعضِ ما فيها من أصناف المأكولات التي من جملتها ما حرّمتموه افتراءً على الله من الحرْثِ والأنعام قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في قوم من ثقيفٍ وبني عامرِ بنِ صَعْصَعةَ وخُزاعةَ وبني مدلج حرَّموا على أنفسهم ما حرموه من الحرْث والبحائرِ والسوائبِ والوصائل والحامِ وقولُه تعالى {حلالا} حالٌ من الموصولِ أي كلوه حال كونه حلالاً أو مفعولٌ لكلوا على أنّ مِنْ ابتدائيةٌ وقد جُوِّز كونُه صفةً لمصدر مؤكَّدٍ أي أكلاً حلالاً ويؤيد الأولَيْن قولُه تعالى {طَيّباً} فإنه صفةٌ له ووصفُ الأكل به غيرُ معتاد وقيل نزلت في قوم من المؤمنين حرموا على أنفسهم رفيعَ الأطعمة والملابس ويردّه قوله عز وجل {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} أي لا تقتدوا بها في اتباع الهوى فإنه صريحٌ في أن الخطابَ للكفرة كيف لا وتحريمُ الحلال على نفسه تزهدا ليس من باب اتباع خطواتِ الشيطانِ فضلاً عن كونه تقوُّلاً وافتراءً على الله تعالى وإنما نزل فيهم ما في

البقرة (170 - 169) سورة المائدة من قوله تعالى بأيها الذين آمنوا لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ الآية وقرئ خُطْواتِ بسكون الطاء وهما لغتان في جمع خُطْوة وهي ما بين قدمي الخاطى وقرئ بضمتين وهمزة جعلت الضمةُ على الطاء كأنها على الواو وبفتحتين على أنها جمعُ خَطْوة وهي المرة من الخَطْو {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} تعليلٌ للنَّهي أيْ ظاهر العدواة عند ذوي البصيرة وإن كان يُظهر الولاية لمن يُغويه ولذلك سُمِّي ولياً في قوله تعالى أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت

169

{إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بالسوء والفحشاء} استئنافٌ لبيان كيفيةِ عداوتِه وتفصيلٌ لفنون شرِّه وإفسادِه وانحصارِ معاملتِه معهم في ذلك والسوءُ في الأصل مصدرُ ساءه يسوؤُه سُوءاً ومَساءةً إذا أحزنه يُطلقُ على جميع المعاصي سواءٌ كانت من أعمال الجوارحِ أو أفعالِ القلوب لاشتراك كلِّها في أنها تسوءُ صاحبَها والفحشاءُ أقبحُ أنواعِها وأعظمُها مساءةً {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} عطفٌ على الفحشاء أي وبأن تفتروا على الله بأنه حرّم هذا وذاك ومعنى مالا تعلمون مالا تعلمون إنَّ الله تعالَى أمرَ به وتعليقُ أمرِه بتقوُّلِهم على الله تعالى مالا يعلمون وقوعَه منه تعالى لا بتقوُّلهم عليه ما يعلمون عدمَ وقوعِه منه تعالى مع أن حالَهم ذلك للمبالغة في الزجر فإن التحذيرَ من الأول مع كونه في القُبْحِ والشناعةِ دون الثاني تحذيرٌ عن الثاني على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه وللإيذان بأن العاقلَ يجبُ عليهِ أنْ لا يقولَ على الله تعالى مالا يعلم وقوعَه منه تعالى مع الاحتمال فضلاً عن أن يقول عليه ما يعلم عدمَ وقوعِه منه تعالى قالُوا وفيه دليلٌ على المنع من اتباع الظنِّ رأساً وأما اتباعُ المجتهدِ لما أدَّى إليه ظنُّه فمستنِدٌ إلى مَدْرَكٍ شرعيَ فوجوبُه قطعيٌّ والظنُّ في طريقه

170

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله} التفاتٌ إلى الغَيْبة تسجيلاً بكمال ضلالِهم وإيذاناً بإيجاب تعدادِ ما ذكر من جناياتهم لصرف الخطاب عنهم وتوجيهِه إلى العقلاء وتفصيلُ مساوي أحوالِهم لهم على نهج المباثة أي إذا قيل لهم على وجه النصيحةِ والإرشادِ اتبعوا كتاب الله الذي أنزله {قَالُواْ} لا نتبعه {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عليه آباءنا} أي وجدناهم عليه إما على أن الظرفَ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من آباءَنا وألفَيْنا متعدَ إلى واحد وإما على أنه مفعولٌ ثانٍ له مقدمٌ على الأول نزلت في المشركين أُمروا باتباع القرآنِ وسائرِ ما أنزل الله تعالى من الحجج الظاهرةِ والبينات الباهرةِ فجنحوا للتقليد والموصولُ إما عبارةٌ عمَّا سبقَ من اتخاذ الأندادِ وتحريمِ الطيبات ونحوِ ذلك وإما باقٍ على عمومه وما ذكره داخلٌ فيه دخولا أوليا وقيل نزلت في طائفة من اليهود دعاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا بَلْ نتبعُ مَا وجدْنا عليه آباءَنا لأنهم كانوا خيراً منا وأعلم فعلى هذا يعُمّ ما أنزل الله تعالى التوراةَ لأنها أيضاً تدعو إلى الإسلام وقوله عز وجل {أولو كَانَ آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شيئا ولا يهتدون} استئنافٌ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى رداً لمقالتهم الحمقاءِ وإظهاراً لبطلان آرائِهم والهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه والتعجيب منه لا

لإنكار الوقوعِ كالتي في قولِه تَعالَى أَوْ لَّوْ كُنَّا كارهين وكلمة لو في أمثالِ هذا المقامِ ليست لبيان انتفاء الشئ في الزمان الماضي لانتفاء غيرِه فيه فلا يلاحظ لها جوابٌ قد حُذف ثقةٍ بدلالةِ ما قبلها عليه بل هي لبيان تحققِ ما يفيده الكلامُ السابقُ بالذَّاتِ أو بالواسطةِ من الحُكم الموجَبِ أو المنفي على كل حالٍ مفروض من الأحوال المقارنةِ له على الإجمال بإدخالِها على أبعدِها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهرَ بثبوتهِ أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤه مع ماعداه من الأحوال بطريق الأولية لما أن الشئ متى تحقَّقَ مع المنافي القويَّ فلأنْ يتحقَّقَ مع غيره أولى ولذلك لا يذكر معه شئ من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواوِ العاطفةِ للجُملة على نظيرتها المقابلةِ لها المتناولة لجميع الأحوالِ المغايرة لها وهذا معنى قولِهم أنها لاستقصاء الأحوالِ على سبيلِ الإجمالِ وهذا المعنى ظاهرٌ في الخبر الموجَبِ والمنفيِّ والأمرِ والنهي كما في قولك فلانٌ جوادٌ يُعطي ولو كان فقيراً وبخيلٌ لا يُعطي ولو كان غنياً وقولِك أحسنْ إليه ولو أساءَ إليك ولا تُهِنْه ولو أهانك لبقائه على حاله وأما فيما نحن فيه نوع خفاء ناشئ من ورود الإنكارِ عليه لكن الأصلَ في الكل واحدٌ إلا أن كلمةَ لو في الصور المذكورةِ متعلقةٌ بنفس الفعل المذكورِ قبلها وأن ما يُقصدُ بيانُ تحققِه على كل حالٍ هو نفسُ مدلولِه وأن الجملةَ حالٌ من ضميره أو مما يتعلق به وأن ما في حيِّز لو باقٍ على ما هو عليه من الاستبعاد غالباً بخلاف ما نحن فيه لما أن كلمةَ لو متعلقةٌ فيه بفعل مقدرٍ يقتضيه المذكورُ وأن ما يُقصد بيانُ تحققِه على كل حال مدلولُه لا مدلولُ المذكورِ من حيث هو مدلولُه وأن الجملةَ حالٌ مما يتعلق به لا مما يتعلق بالمذكور من حيث هو متعلِّقٌ به وأن المقصودَ الأصليَّ إنكارُ مدلولِه باعتبار مقارنتُه للحالة المذكورةِ وأما تقديرُ مقارنته لغيرها فلتوسيع الدائرةِ وأن ما في حيز لولا يُقصد استبعادُه في نفسه بل يقصد الإشعارُ بأنه أَمْرٌ محقَّق إلا أنه أُخرج مُخرَجَ الاستبعادِ معاملةً مع المخاطَبين على معتقدَهم لئلا يلبَسوا من التصريح بنسبة آبائهم إلى كمال الجهالةِ والضلالةِ جلدَ النَّمِرِ فيركبوا متنَ العِناد ومبالغةً في الإنكار من جهة اتباعهم لآبائهم حيث كان منكراً مستقبحاً عند احتمالِ كونِ آبائهم كما ذُكر احتمالاً بعيداً فلأَنْ يكونَ مُنْكراً عند تحققِ ذلك أولى والتقديرُ أيتبعون ذلك لو لم يكن آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا من الدين ولا يهتدون للصواب ولو كانوا كذلك فالجملةُ في حيز النصبِ على الحالية من آبائهم على طريقة قوله تعالى أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا كأنه قيل أيتبعون دين آبائهم حالَ كونِهم غافلين وجاهلين ضالّين إنكاراً لما أفاده كلامُهم من الاتّباع على أي حالةٍ كانت من الحالتين غيرَ أنه اكتُفيَ بذكر الحالةِ الثانية تنبيهاً على أنها هي الواقعةُ في نفس الأمر وتعويلاً على اقتضائها للحالة الأولى اقتضاءً بيّناً فإن اتباعهم الذي تعلق به الإنكارُ حيث تحقق مع كونه آبائِهم جاهلين ضالين فلأَنْ يتحقّقَ مع كونهم عاقلين ومُهتدين أوْلى إن قلتَ الإنكارُ المستفادُ من الاستفهام الإنكاريِّ بمنزلة النفي ولا ريب في أن الأولويةَ في صورة النفي معتبرةٌ بالنسبة إلى النفي ألا يُرى أن الأولى بالتحقق فيما ذُكر من مثال النفي عند الحالةِ المسكوتِ عنها أعني عدمَ الغِنى هو عدمُ الإعطاءِ لا نفسُه فكان ينبغي أن يكون الأولى بالتحقق فيما نحن فيه عند الحالةِ المسكوتِ عنها وهي حالة كونِ آبائهم عاقلين ومهتدين إنكار الا تباع لا نفسُه إذ هو الذي يدل عليه أيتبعون االخ فلم اختلفت الحالُ بينهما قلتُ لِما أن مناطَ الأولويةِ هو الحكمُ الذي أريد بيانُ تحققه على كل حال وذلك

البقرة (172 - 171) في مثال النفي عدمُ الإعطاءِ المستفادِ من الفعل المنفيِّ المذكور وأما فيما نحن فيه فهو نفسُ الاتباعِ المستفادِ من الفعل المقدرِ إذ هو الذي يقتضيه الكلامُ السابقُ أعني قولَهم بل نتبعُ الخ وأما الاستفهامُ فخارجٌ عنه وارد عليه الإنكار ما يُفيدُه واستقباحِ ما يقتضيه لا أنه تمامه كما في الصورة النفي وكذا الحالُ فيما إذا كانت الهمزةُ لإنكار الوقوعِ ونفْيِه مع كونه بمنزلة صريح النفي كما سيأتي تحقيقُه في قوله تعالى أَوَلَوْ كُنَّا كارهين وقيل الواوُ حالية ولكن التحقيقَ أن المعنى يدور على معنى العطفِ في سائر اللغات أيضاً

171

{وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ} جملةٌ ابتدائيةٌ واردة لتقرير ما قبلها بطريق التصوير وفيها مضافٌ قد حُذف لدِلالة مَثَلُ عليه ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ الراجع إلى ما يرجع إليه الضمائر السابقةُ لذمِّهم بما في حيزِ الصلة وللإشعار بعِلّة ما أثبت لهم من الحُكم والتقديرُ مثلُ ذلك القائلِ وحالِه الحقيقةِ لغرابتها بأنْ تسمَّى مَثَلاً وتسيرَ في الآفاق فيما ذُكر من دعوته إياهم إلى اتباع الحقِّ وعدمِ رفعِهم إليه رأساً لانهماكهم في التقليد وإخلادِهم إلى ماهم عليه من الضلالة وعدمِ فهمهم من جهة الداعي إلى الدعاء من غير أن يُلقوا أذهانَهم إلى ما يلقى عليهم {كَمَثَلِ الذى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء} من البهائم فإنها لا تسمع إلا صوتَ الراعي وهَتفَه بها من غير فهم لكلامه أصلاً وقيل إنما حُذف المضافُ من الموصول الثاني لدلالة كلمة ما عليه فإنها عبارةٌ عنه مُشعِرَةٌ مع مَا في حيزِ الصِّلةِ بما هو مدارُ التمثيل أي مَثَلُ الذين كفروا فيما ذُكر من انهماكَهم فيما هم فيه وعدمِ التدبر فيما أُلقيَ إليهم من الآيات كمثل بهائمِ الذي ينعِق بها وهي لا تسمع منه إلا جرسَ النغمة ودويَّ الصوت وقيل المرادُ تمثيلُهم في اتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته وقيل تمثيلُهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه وهو تصويتُه على البهائم وهذا غنيٌّ عن الإضمار لكن لا يساعدُه قولُه إلا دعاءً ونداءً فإن الأصنام بمعزلٍ من ذلك وقد عرفتَ أن حسنَ التمثيل فيما إذا تشابه أفرادُ الطرفين {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} بالرفع على الذم أي هم صمّ الخ {فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} شيئاً لأن طريقَ التعقل هو التدبّر في مبادي الأمورِ المعقولة والتأمل في ترتيبها وذلك إنما يحصُلُ باستماعِ آياتِ الله ومشاهدةِ حُججِه الواضحةِ والمفاوضة مع من يؤخَذ منه العُلوم فإذا كانوا صماً بكماً عمياً فقد انسدّ عليهم أبوابُ التعقل وطرُقُ الفهم بالكلية

172

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ كلوا مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم} أي مستلَذّاتِه {واشكروا للَّهِ} الذي رزقَكُموها والالتفاتُ لتربية المهابة {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فإن عبادتَه تعالى لاتتم إلا بالشكر له وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يقولُ الله عزَّ وجلَّ إني والإنسُ والجنُ في نبإٍ عظيمٍ أخلُقُ ويُعبد غيري وأرزُقُ ويُشكَر غيري

البقرة (174 - 173)

173

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} أي أكلها والانتفاعَ بها وهي التي ماتت على غير ذَكاةٍ والسمكُ والجرادُ خارجان عنها بالعُرف أو استثناء الشرع وخرج الطحال من الدم {والدم وَلَحْمَ الخنزير} إنما خُصّ لحمُه مع أن سائر أجزائه أيضاً في حكمه لأنه معظمُ ما يؤكل من الحيوان وسائرُ أجزائِه بمنزلة التابع له {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} أي رافع به الصوتُ عند ذبحه للصنم والإهلالُ أصلُه رؤيةُ الهلالِ لكن لما جرت العادةُ برفع الصوتِ بالتكبير عندها سمِّي ذلك إهلالاً ثم قيل لرفع الصوت وإن كان لغيره {فَمَنِ اضطر غير باغ} بالاستثناء على مضطر آخرَ {وَلاَ عَادٍ} سدَّ الرمق والجَوْعة وقيل غير باغ على الوالي ولاعاد بقطع الطريق وعلى هذا لايباح للعاصي بالسفر وهو ظاهرُ مذهب الشافعي وقولُ أحمدَ رحمهما الله {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} في تناوله {إِنَّ الله غَفُورٌ} لِمَا فعل {رَّحِيمٌ} بالرخصة إن قيل كلمة إنما تفيد قصرَ الحكم على ما ذكروكم من حرام لم يُذكَرْ قلنا المرادُ قصرُ الحرمة على ما ذُكر مما استحلوه لا مطلقاً أو قصرُ حرمتِه على حالة الاختيارِ كأنه قيل إنما حُرِّم عليكم هذه الأشياءُ مالم تضطروا إليها

174

{إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله من الكتاب} المشتمل على فنون الأحكامِ التي من جُملتها أحكامُ المحلَّلات والمحرَّمات حسبما ذكر آنفاً وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهما نزلت في رؤساء اليهود حين كتموا نعت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} أي يأخذون بدلَه {ثَمَناً قَلِيلاً} عِوَضاً حقيراً وقد مر سرُّ التعبير عن ذلك الثمن الذي هو وسيلة في عقود المعاوضة وقولُه تعالى {أولئك} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الوصفَين الشنيعين المميَّزين لهم عمن عداهم أكملَ تمييز الجاعلَيْن إياهم بحيث كأنهم حُضّارٌ مشاهِدون على ماهم عليه وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بغايةِ بُعدِ منزلتِهم في الشر والفساد وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار} والجملةُ خبرٌ لإن أو اسمُ الإشارة مبتدأٌ ثانٍ أو بدلٌ من الأول والخبر ما يأكلون الخ ومعنى أكلِهم النارَ أنهم يأكلون في الحال ما يستتبِعُ النار ويستلزمُها فكأنه عينُ النار وأكلُه أكلُها كقوله ... أكلتُ دماً إن لم أَرُعْكِ بضَرَّة ... بعيدةِ مهوى القُرط طيّبةِ النشْرِ ... أو يأكلون في المآل يوم القيامة عينَ النار عقوبةً على أكلهم الرِّشا في الدنيا وفي بطونهم متعلقٌ بيأكلون وفائدتُه تأكيدُ الأكلِ وتقريرُه ببيان مقرِّ المأكول وقيل معناه ملءَ بطونهم كما في قولهم أكل في بطنه وأكل في بعض بطنه ومنه كُلوا في بعض بطنِكم تعفّوا فلا بد من الالتجاء إلى تعليقه بمحذوف وقعَ حالاً مقدّرة من النار مع تقديمه على حرف الاستثناء وإلا فتعليقُه بيأكلون يؤدّي إلى قصْر ما يأكلونه إلى الشبع على النار والمقصود قصرُ ما يأكلونه مطلقاً عليها

البقرة (177 - 175) {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة} عبارة عن غضبه العظيم عليهم وتعريض بحر مانهم ما أتيح للمؤمنين من فُنُونِ الكراماتِ السنيةِ والزلفى {ولا يزكيهم} لايثنى عليهم {وَلَهُمْ} معَ ما ذُكر {عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم

175

{أولئك} إشارة إلى ما أُشير إليه بنظيره بالاعتبار المذكور خاصة لا مع ما يتلوه من أحوالهم الفظيعةِ إذ لا دخل لها في الحكم الذي يراد إثباتُه ههنا فإن المقصود تصويرُ ما باشروه من المعاملة بصورة فبيحة تنفِر منها الطباعُ ولا يتعاطاها عاقلٌ أصلاً ببيان حقيقةِ ما نبذوه وإظهار كُنهِ ما أخذوهُ وإبداءِ فظاعة تِبعاتِه وهو مبتدأ خبرُه الموصولُ أي أولئك المشترون بكتاب الله عز وجل ثمناً قليلاً ليسوا بمشترين للثمن وإن قل بل هم {الذين اشتروا} بالنسبة إلى الدنيا {الضلالة} التي ليست مما يمكن أن يشترى قطعاً {بالهدى} الذي ليس من قبيل ما يبذل بمقابلة شئ وإن جل {والعذاب} أي اشتروا إلى الآخرة العذاب الذي لا يُتوَهَّم كونُه مما يشترى {بالمغفرة} التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} تعجيبٌ من حالهم الهائلة التي هي ملابستُهم بما يوجب النارَ إيجاباً قطعياً كأنه عينها وما عند سيبويهِ نكرةٌ تامة مفيدة لمعنى التعجب مرفوعة بالابتداء وتخصصها كتخصص شر في أَهَرَّ ذَا نَابٍ خبرُها ما بعدها أي شئ ما عظيم جعلهم صابرين على النار وعند الفراء استفهامية وما بعدها خبرها أي أي شئ أصبرَهم على النار وقيل هي موصولة وقيل موصوفة بما بعدها والخبر محذوف أي الذي أصبرهم على النار او شئ أصبرهم على النار أمرٌ عجيب فظيع

176

{ذلك} العذاب {بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب} أي جنسَ الكتابِ {بالحق} أي ملتبساً به فلا جرم يكون من يرفضه بالتكذيب والكتمان ويركب متنَ الجهل والغَواية مُبتلىً بمثل هذا من أفانينِ العذاب {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِى الكتاب} أي في جنس الكتابِ الإلهي بأن آمنوا ببعض كتبِ الله تعالى وكفروا ببعضها أو في التوراة بأن آمنوا ببعض آياتِها وكفروا ببعضٍ كالآيات المُغيَّرة المشتملةِ على أمر بعثه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ونعوته الكريمة فمعنى الاختلافِ التخلفُ عن الطريق الحق أو الاختلافُ في تأويلها أو في القرآن بأن قال بعضهم أنه سحرٌ وبعضُهم أنه شعرٌ وبعضهم أساطيرُ الأولين كما حكى عن المفسرين {لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} عن الحقِّ والصوابِ مستوجب لأشد العذاب

177

{لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب}

البِرُّ اسمٌ جامع لمراضِي الخصالِ والخطابُ لأهل الكتابين فإنهم كانوا أكثروا الخوضَ في أمر القِبلة حين حُوِّلت إلى الكعبة وكان كلُّ فريقٍ يدّعي خيريةَ التوجُّه إلى قبلته من القُطرين المذكورين وتقديمُ المشرق على المغرب مع تأخر زمانِ الملّةِ النصرانية إما لرعاية ما بينهما من الترتيب المتفرِّع على ترتيب الشروق والغروب وإما لأن توجّه اليهودِ إلى المغرب ليس لكونه مَغرِباً بل لكون بيتِ المقدس من المدينة المنورة واقعاً في جانب الغرب فقيل لهم ليس البر ما ذكرتم من التوجه إلى تينك الجهتين على أن البر خبرُ ليس مقدما على اسمها كما في قوله ... سلي إن جهِلتِ الناس عني وعنهم ... فليس سواءً عالمٌ وجَهولُ ... وقوله ... أليس عظيماً أن تُلمَّ مُلِمَّة ... وليس علينا في الخطوب مقولُ ... وإنما أخر ذلك أن المصدرَ المؤولَ أعرفُ من المحلَّى باللام لأنه يُشبهُ الضمير من حيثُ إنَّه لا يوصف ولا يوصف به والأعرفُ أحق بالاسمية ولأن في الاسم طولاً فلو روعيَ الترتيبُ المعهود لفات تجاوبُ أطرافِ النظم الكريم وقرئ برفع البرُّ على أنه اسمها وهو أقوى بحسب المعنى لأن كل فريق يدعي أن البرَّ هذا فيجب أن يكون الردُّ موافقاً لدعواهم وما ذلك إلا بكَوْن البِرِّ اسماً كما يُفصح عنه جعلُه مُخْبَراً عنه في الاستدراك بقوله عز وجل {ولكن البر من آمن بالله} وهو تحقيقٌ للحق بعد بيان بطلان الباطلِ وتفصيلٌ لخِصال البِر مما لا يختلف باختلاف الشرائعِ وما يختلف باختلافها أي ولكن البِرَّ المعهود الذي يحِقّ أن يُهتَمَّ بشأنه ويُجَدَّ في تحصيله بِرُّ مَنْ آمن بالله وحده إيماناً بريئاً من شائبة الإشراكِ لا كإيمان اليهود والنصارى والمشركين بقولهم عَزِيزٌ ابن الله وقولِهم المسيحُ ابن الله {واليوم الآخر} أي على ما هو عليه لا كما يزعُمون من أن النار لاتمسهم إلا أياما معدودة وأن آباءَهم الأنبياءَ يشفعون لهم ففيه تعريضٌ بأن إيمانَ أهلِ الكتابين حيث لم يكن كما ذكر من الوجه الصحيحِ لم يكن إيماناً وفي تعليق البِرِّ بهما من أول الأمر عَقيبَ نفيه عن التوجُّه إلى المشرق والمغرب من الجزالة مالا يخفى كأنه قيل ولكن البِر هو التوجُّه إلى المبدأ والمَعاد اللذيْن هما المشرِقُ والمغرِب في الحقيقة {والملائكة} أي وآمن بهم وبأنهم عبادٌ مُكْرَمون متوسِّطون بينه تعالى وبين أنبيائِه بإلقاء الوحي وإنزالِ الكتب {والكتاب} أي بجنس الكتابِ الذي من أفراده الفرقانُ الذي نبذوه وراءَ ظهورِهم وفيه تعريضٌ بكِتمانهم نعوتَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم واشترائِهم بما أنزل الله تعالى ثمناً قليلاً {والنبيين} جميعاً من غير تفرقةٍ بين أحدٍ منهم كما فعل أهلُ الكتابَيْن ووجهُ توسيط الكتابِ بين حَمَلةِ الوحي وبين النبيين واضحٌ وسيأتي في قولِه تعالى كُلُّ آمن بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ {وآتى المالَ عَلَى حُبِّه} حالٌ من الضمير في آتى والضميرُ المجرور للمال أي آتاه كائناً على حب المال في قوله صلى الله عليه وسلم حين سُئِل أيُّ الصدقةِ افضل لان تؤتيه وأنت صحيح شحيح وقول ابن مسعود رضي الله عنه أن تؤتيه وأنت صحيح شحيحٌ تأمُلُ العيشَ وتخشى الفقرَ ولا تُمهِلَ حتى إذا بلغت الحُلقومَ قلت لفلانٍ كذا ولفلانٍ كذا وقيل الضَّميرُ لله تعالى أي آتاه كائناً على محبته تعالى لا على قصد الشرِّ والفساد ففيه نوع تعريض لباذلي الرشي وآخذيها لتغيير التوارة وقيل للمصدرِ أي كائناً على حب الإيتاء {ذَوِى القربى} مفعولٌ أولٌ لآتى قُدِّم عليه مفعولُه الثاني أعني المالَ للاهتمام به أو لأن في الثاني معَ ما عُطف عليه طُولاً لو رُوعي الترتيبُ لفات تجاوبُ الأطرافِ

في الكلام وهو الذي اقتضى تقديمَ الحال أيضاً وقيل هو المفعولُ الثاني {واليتامى} أي المحاويجَ منهم على ما يدلُّ عليهِ الحال وتقديمُ ذوي القربى عليهم لما أن إيتاءَهم صدقةٌ وصِلَة {والمساكين} جمعُ مِسكينٍ وهو الدائمُ السُكون لما أن الخَلّة أسكنَتْهُ بحيث لا حَراكَ به أو دائمُ السكون إلى الناس {وابن السبيل} أي المسافرَ سُمي به لملازمته إياه كما سمِّي القاطِعُ ابنالطريق وقيل الضيف {والسائلين} الذين أَلْجأتهم الحاجةُ والضرورةُ إلى السؤال قال عليه الصلاة والسلام أعطوا السائل ولو على فرَسٍ {وَفِي الرقاب} أي وضَعَه في فكّ الرقابِ بمعاونة المكاتَبين حتى يفُكّوا رِقابَهم وقيل في فك الأُسارى وقيل في ابتياع الرقاب وإعتاقها واياما كان فالعدولُ عن ذكرِهم بعنوان مُصححٍ للمالكية كالذين من قبلهم إما للإيذان بعدم قرارِ مِلكِهم فيما أوتوا كما في الوجهين الأولين أو بعدم ثبوتِه رأساً كما في الوجه الأخير وإما للإشعار برسوخهم في الاستحقاق والحاجةِ لما أن في للظرفية المُنْبئة عن محلِّيتهم لما يؤتى {وأقامَ الصَّلاَةَ} أي المفروضةَ منها {وآتَى الزَّكَاةَ} أي المفروضة على أنَّ المرادَ بما مرَّ من إيتاءِ المالِ التنفّلُ بالصدقات قُدِّم على الفريضة مبالغةٌ في الحثِّ عليه أو المرادُ بهما المفروضةُ والأول لبيان المصارفِ والثاني لبيان وجوب الأداءِ {والموفون بِعَهْدِهِمْ} عطفٌ على مَنْ آمن فإنه في قوَّةِ أنْ يقالَ ومَنْ أوفَوْا بعهدهم وإيثارُ صيغة الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاءِ والمرادُ بالعهد مالا يحرِّم حلالاً ولا يُحلِّل حَراماً من العهود الجارية فيما بين الناس وقولُه تعالى {إِذَا عاهدوا} للإيذان بعدمِ كونِه من ضروريات الدين {والصابرين} نُصب على الاختصاص غُيِّر سبكُه عما قبله تنبيهاً على فضيلة الصبر وميزيته وهو في الحقيقة معطوفٌ على ما قبله قال أبو علي إذا ذكرت صفات للمدح أو للذم فخولفَ في بعضها الإعرابُ فقد خولف للافتنان ويسمَّى ذلك قطعاً لأن تغييرَ المألوفِ يدل على زيادة ترغيبٍ في استماع المذكورِ ومزيدِ اهتمامٍ بشأنه كما مرَّ في صدرِ السورة وقد قرئ والصابرون كما قرىء والموفين {فِى البأساء} أي في الفقر والشدة {والضراء} أي المرض والزَّمانة {وَحِينَ البأس} أي وقتَ مجاهدةِ العدوِّ في مواطن الحرب وزيادةُ الحينِ للإشعار بوقوعه أحياناً وسرعةِ انقضائِه {أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار اتّصافِهم بالنعوت الجميلةِ المعدودة وما فيه من معنى البُعد لما مر مرارا من التنبيه على علوِّ طبقتِهم وسُموِّ رُتبتِهم {الذين صَدَقُوا} أي في الدين واتباعِ الحقِّ وتحرَّى البِرِّ حيث لم تغيِّرْهم الأحوالُ ولم تُزلزلهم الأهوال {وَأُولَئِكَ هُمُ المتقون} عن الكفر وسائرِ الرذائلِ وتكريرُ الإشارة لزيادة تنويهِ شأنِهم وتوسيطُ الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم والآيةُ الكريمة كما ترى حاويةٌ لجميع الكمالات البشرية برُمَّتها تصريحاً أو تلويحاً لما أنها مع تكثُّر فنونها وتشعُّب شجونِها منحصرةٌ في خِلالِ ثلاث صحةِ الاعتقاد وحسنِ المعاشرة مع العباد وتهذيبِ النفس وقد أشير إلى الأولى بالإيمان بما فُصِّل وإلى الثانية بإيتاء المالِ وإلى الثالثة بإقامة الصلاة الخ ولذلك وُصف الحائزون لها بالصدق نظراً إلى إيمانهم واعتقادِهم وبالتقوى اعتباراً بمعاشرتهم مع الخلق ومعاملتهم مع الحق وإليه يشير قوله صلى الله عليه وسلم من

البقرة (178) عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان

178

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} شروع في بيان بعض الأحكامِ الشرعية على وجه التلافي لما فرَط من المُخِلّين بما ذكر من أصول الدين وقواعدِه التي عليها بُنيَ أساسُ المَعاش والمَعاد {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} أي فُرض وأُلزم عند مطالبةِ صاحبِ الحق فلا يقدَحُ فيه قدرةُ الوليِّ على العفو فإن الوجوبَ إنما اعتُبر بالنسبة إلى الحكّام والقاتلين {القصاص فِي القتلى} أي بسبب قتلِهم كما في قوله صلى الله عليه وسلم إن امرأةً دخلت النارَ في هِرَّةٍ رَبَطَتْها أي بسبب ربطها إياها {الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والانثى بالانثى} كان في الجاهلية بين حيَّيْنِ من أَحياء العربِ دماءٌ وكان لأحدهما طَوْلٌ على الآخر فأقسموا لنقتُلَنَّ الحرَّ منكم بالعبد والذكرَ بالأنثى فلما جاء الإسلامُ تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فأمرهم أن يتبوءوا وليس فيها دِلالةٌ على عدم قتل الحرِّ بالعبد عند الشافعي أيضاً لأن اعتبارَ المفهومِ حيث لم يظهر للتخصيص بالذكر وجهٌ سوى اختصاصِ الحُكم بالمنطوقِ وقد رأيتَ الوجهَ ههنا وإنما يتمسك في ذلك هو ومالكٌ رحمهما الله بما روى علي رضي الله عنه أن رجلاً قتل عبدَه فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفاه سنةً ولم يُقِدْه وبما روى عنه رضيَ الله عنه أنَّه قال من السنة أن لايقتل مسلمٌ بذي عهدٍ ولا حرٌّ بعبد وبأن أبا بكر وعمررضي الله عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة من غير نكيرٍ وبالقياس على الأطراف وعندنا يُقتل الحرُّ بالعبد لقوله تعالى أَنَّ النفس بالنفس فإن شريعة مَنْ قبلَنا إذا قُصَّتْ علينا من غير دلالة على نسخها فالعملُ بها واجبٌ على أنها شريعةٌ لنا ولأن القصاصَ يعتمدُ المساواةُ في العصمة وهي بالدين أو بالدار وهما سيان فيهما وقرئ كتب على البناءِ للفاعلِ ونصْبِ القصاص {فَمَنْ عُفِىَ له من أخيه شىء} أي شئ من العفو لأن عفا لازمٌ وفائدتُه الإشعار بأن بعض العفو بمنزلة كلّه في إسقاط القصاصِ وهو الواقع أيضاً في العادة إذ كثيراً ما يقعُ العفوُ من بعض الأولياءِ فهو شئ من العفو وقيل معنى عفى ترك وشئ مفعولٌ به وهو ضعيف إذ لم يثبُتْ عفاه بمعنى تركه بل أعفاه وحُمل العفو على المحو كما في قول من قال ... ديارٌ عفاها جَوْرُ كل معاندِ ... وقوله ... عفاها كل حنان ... كثيرِ الوبل هَطّالِ ... فيكونُ المعنى فمن مُحيَ له من أخيه شئ صرف للعبارة المتداولة في الكتاب والسنةِ عن معناها المشهور المعهودِ إلى ما ليس بمعهود فيهما وفي استعمال الناس فإنهم لا يستعملون العفوَ في باب الجنايات إلا فيما ذكرَ من قبلُ وعفا يُعدَّى بعن إلى الجاني والذنب قال تعالى عفا الله عنك وقال عَفَا الله عَنْهَا فإذا تعدَّى إلى الذنب قيل عفوْتُ لفلان عما جنى كأنه قيل فمن عُفي له عن جنايته من جهة أخيه يعني وليَّ الدم وإيرادُه بعنوان الأخوّة الثابتةِ بينهما بحكم كونِهما من بني آدمَ عليه السلام لتحريك سلسلة الرقةِ والعطف عليه {فاتباع} بالمعروف فالأمرُ اتباعٌ أو فليكن اتباع والمراد

البقرة (180 - 179) وصية العافي بالمسامحة ومطالبة الدية بالمعروف من غير تعسفٍ وقوله عزوجل {وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان} حثٌّ المعفو عنه على أن يؤدِّيَها بإحسان من غير مما طلة وبخس {ذلك} أي ما ذكر من الحُكم {تَخْفِيفٌ مّن ربكم ورحمة} لمافيه من التسهيل والنفعِ وقيل كُتب على اليهود القصاصُ وحده وحرِّم عليهم العفوُ والدية وعلى النصارى العفوُ على الإطلاق وحرِّم عليهم القصاص والدية وخبرات هذه الأمةُ بين الثلاث تيسيراً عليهم وتنزيلاً للحُكم على حسَب المنازل {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك} بأن قتلَ غيرَ القاتل بعد ورود هذا الحُكم أو قتلَ القاتلَ بعد العفو أو أخذِ الدية {فَلَهُ} باعتدائه {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أما في الدنيا فبا لاقتصاص بما قتله بغير حقَ وأما في الآخرة فبالنار

179

{وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} بيانٌ لمحاسِنِ الحُكم المذكور على وجهٍ بديعٍ لا تناله غايته حيث جعل الشئ محلاً لضِدِّه وعُرِّف القصاص ونُكِّر الحياةُ ليدل على أن في هذا الجنس نوعاً من الحياة عظيماً لا يبلُغه الوصفُ وذلك لأن العلمَ به يردَعُ القاتلَ عن القتل فيتسبَّب لحياةِ نفسَيْن ولأنهم كانوا يقتُلون غيرَ القاتل والجماعةَ بالواحد فتثورُ الفتنةُ بينهم فإذا اقتُصَّ من القاتل سلِم الباقون فيكون ذلك سبباً لحياتهم وعلى الأول فيه إضمارٌ وعلى الثاني تخصيصٌ وقيل المرادُ بالحياة هي الأُخروية فإن القاتلَ إذا اقتُصَّ منه في الدنيا لم يؤاخذ به في الآخرة والظَّرْفان إما خبرانِ لحياةٌ أو أحدُهما خبرٌ والآخَرُ صِلةٌ له أو حالٌ من المستكنِّ فيه وقرئ في القَصَصِ أي فيما قُصَّ عليكم من حُكم القتل حياة أو القرآن حياة للقلوب {يا أولي الالباب} أي ذوي العقولِ الخالصةِ عن شَوْب الأوهام خوطبوا بذلك بعد ما خُوطبوا بعنوان الإيمان تنشيطاً لهم إلى التأمل في حِكمة القصاص {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي تقون أنفسَكم من المساهلة في أمره والإهمالِ في المحافظة عليه والحُكمِ به والإذعانِ أو في القصاص فتكُفّوا عن القتل المؤدِّي إليه

180

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ} بيانٌ لحكمٍ آخَرَ من الأحكام المذكورة {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} أي حضر أسبابُه وظهرَ أماراتُه أو دنا نفسُه من الحضور وتقديمُ المفعول لإفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت وروده عليها {إِن تَرَكَ خَيْرًا} أي مالاً وقيل مالاً كثيراً لما رُوي عن عليَ رضيَ الله عنه أن مولىً له أراد أن يوصِيَ وله سبعُمائة درهمٍ فمنعه وقال قال الله تعالَى إنْ تركَ خيراً وإن هذا لشئ يسيرٌ فاترُكْه لعيالك وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها أن رجلاً أراد الوصيةَ وله عيالٌ وأربعُمائة دينارٍ فقالت ما أرى فيه فضلاً وأراد آخرُ أن يوصِيَ فسألته كم مالُك فقال ثلاثةُ آلافِ درهم قالت كم عيالُك قال أربعة قالت إنما قال الله تعالَى إنْ تركَ خيراً وإن هذا لشئ يسيرٌ فاترُكْه لعيالك {الوصية للوالدين والاقربين} مرفوعٌ بكُتِبَ أُخِّر عما بينهما لما مر مرار وإيثارُ تذكيرِ الفعلِ مع جواز تأنيثه أيضا للفعل أو على تأويل أن يوصى أو الإبصار ولذلك ذُكّر الضميرُ في قولِه تعالى فَمَن بَدَّلَهُ بعد ما سَمِعَهُ وإذا ظرفٌ محضٌ والعاملُ فيه كُتب لكن لامن حيث

البقرة (181) صدورُ الكتْب عنه تعالى بل من حيث تعلُّقُه بهم تعلقاً فِعلياً مستتبِعاً لوجوب الأداء كما ينبئ عنه البناءُ للمفعول وكلمةُ الإيجاب ولا مساغَ لجعل العامل هو الوصيةُ لتقدّمه عليها وقيلَ هو مبتدأٌ خبرُه للوالدين والجملةُ جوابُ الشرط بإضمار الفاءِ كما في قوله ... من يفعل الحسناتِ الله يشكُرُها ... ورد بانه إن صحّ فمن ضرورةِ الشعر ومعنى كُتب فُرض وكان هذا الحكمُ في بدءِ الإسلامِ ثم نسخ عند نزول آيةِ المواريثِ بقوله عليه السَّلامُ أنْ الله قد أعطى كلَّ ذي حقه ألا لاوصية لوارثٍ فإنه وإن كان من أخبار الآحادِ لكن حيثُ تلقته الأمةُ بالقَبول انتظم في سلك المتواتِر في صلاحيته للنسخ عند ائمتنا على أن التحقيقَ أن الناسخَ حقيقةً هي آيةُ المواريث وإنما الحديثُ مُبيّنٌ لجهة نسخِها ببيانِ أنه تعالى كان قد كتب عليكم أن تؤدوا إلى الوالدين والأقربين حقوقَهم بحسب استحقاقهم من غير تبيين لمراتب استحقاقِهم ولا تعيين لمقادير أنصبائِهم بل فوض ذلك إلى آرائكم حيث قال {بالمعروف} أي بالعدْل فالآن قد رَفَعَ ذلك الحُكمَ عنكم لتبيين طبقاتِ استحقاقِ كلِّ واحدٍ منهم وتعيينِ مقاديرِ حقوقِهم بالذات وأعطى كلَّ ذي حق منهم حقه الذي يستحقه بحكم القرابة من غير نقصٍ ولا زيادة ولم يدَعْ ثمةَ شيئاً فيه مدخلٌ لرأيكم أصلاً حسبما يعرب عنه الجملةُ المنفيَّةُ بلا النافية للجنس وتصويرها بكلمة التنبيه إذا تحققتَ هذا ظهر لك أن ما قيل من أن آيةَ المواريثِ لا تعارضُه بل تحقِّقه وتؤكّدُه من حيث إنها تدلُ على تقديمِ الوصيةِ مطلقاً والحديثُ من الآحاد وتلقّي الأمةِ إياه بالقَبول لا يُلحِقُه بالمتواتر ولعله احترَز عنه مَنْ فسَّر الوصيةَ بما أوصى به الله عزَّ وجلَّ من توريث الوالدين والقربين بقوله تعالى يُوصِيكُمُ الله أو بإيصاءِ المُحتَضَرِ لهم بتوفير ما أوصى به الله تعالى عليهم بمعزلٍ من التحقيق وكذا ماقيل من أن الوصيةَ للوارث كانت واجبةً بهذه الآية من غير تعيينٍ لأنصبائهم فلما نزلت آيةُ المواريثِ بيانا للانصباء فُهم منها بتنبيه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أن المراد هذه الوصيةُ التي كانت واجبة كأنَّه قيل إنَّ الله تعالى أوصى بنفسه تلك الوصيةَ ولم يُفَوِّضْها إليكم فقام الميراثُ مقامَ الوصيةِ فكان هذا معنى للنسخ لا أن فيها دلالةً على رفع ذلك الحُكمِ فإن مدلولَ آيةِ الوصيةِ حيث كان تفويضاً للأمر إلى آراء المكلَّفين على الإطلاق وتسنّي الخروجِ عن عُهدة التكليف بأداءِ ما أدَّى إليه آراؤُهم بالمعروف فتكون آيةُ المواريثِ الناطقةِ بمراتب الاستحقاقِ وتفاصيل مقاديرِ الحقوقِ القاطعةِ بامتناعِ الزيادةِ والنقصِ بقوله تعالى فَرِيضَةً مّنَ الله ناسخةً لها رافعةً لحُكمها مما لا يَشتبهُ على أحد وقولُه تعالى {حَقّا عَلَى المتقين} مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا

181

{فَمَن بَدَّلَهُ} أي غيَّره من الأوصياء والشهود {بَعْدِ مَا سَمِعَهُ} أي بعد ما وصل إليه وتحقّق لديه {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ} أي إثم الإيصار المُغيِّر أو إثمُ التبديل {عَلَى الذين يُبَدّلُونَهُ} لأنهم خانوا وخالفوا حكمَ الشرعِ ووضعُ الموصولِ في موضع الضميرِ الراجعِ إلى مَنْ لتأكيد الإيذان بعِلّية مَا في حيزِ الصِّلةِ الأولى وإيثار الجمع للإشعار بتعداد المبدّلين أنواعاً أو كثرتِهم أفراداً والإيذانِ بشمول الإثمِ لجميع الأفراد {إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وعيدٌ شديد للمبدلين

البقرة (184 - 182)

182

{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ} أي توقعَ وعلِم من قولهم أخاف أن يُرسِلَ السماء وقرئ من مُوَصَ {جَنَفًا} أي ميلاً بالخطأ في الوصية {أَوْ إِثْماً} أي تعمداً للجنف {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} أي بين الموصى لهم بإجرائهم على منهاج الشريعةِ الشريفةِ {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي في هذا التبديل لأنه تبديلُ باطلٍ إلى حق بخلاف الأول {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وعدٌ للمُصْلِح وذكرُ المغفرة لمطابقة ذكرِ الإثم وكونِ الفعل من جنس ما يؤثم

183

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} بيان لحكم آخر من الأحكام الشرعية وتكريرُ النداء لإظهارِ مزيدِ الاعتناءِ والصيامُ والصومُ في اللغة الإمساك عما تنزع إليه النفسُ ومنه قوله تعالى إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلّمَ الآية وقيل هو الإمساك عن الشئ مطلقاً ومنه صامت الريحُ إذا أمسكت عن الهبوب والفرسُ إذا أمسكت عن العدْو قال ... خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمة ... تحت العَجاجِ وأُخرى تعلِكُ اللُّجُما ... وفي الشريعة هو الإمساكُ نهاراً مع النية عن المفطِرات المعهودة التي هي معظمُ ما تشتهيه الأنفس {كَمَا كُتِبَ} في حيِّز النصبِ على أنه نعت للمصدر المؤكَّد أي كتاباً كائناً كما كُتب أو على أنه حالٌ من المصدر المعْرِفة أي كتب عليكم الصيامُ الكَتْبَ مُشْبَهاً بما كُتب فما على الوجهين مصدرية أوعلى أنه نعتٌ لمصدر من لفظ الصيام أي صوماً مماثلاً للصوم المكتوبِ على مَنْ قبلَكم فما موصولةٌ أو على أنه حالٌ من الصيام أي حالَ كونِه مماثلاً لما كتِب {عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأممِ من لدُنْ آدمَ عليهِ السلام وفيه تأكيدٌ للحكم وترغيبٌ فيه وتطييبٌ لأنفس المخاطبين به فإن الشاقَّ إذا عمّ سهُل عملُه والمرادُ بالمماثلة إما المماثلةُ في أصل الوجوب وإما في الوقت والمقدار كما يروى أن صومَ رمضانَ كان مكتوباً على اليهود والنصارى أما اليهودُ فقد تركتْه وصامَتْ يوماً من السنة زعَموا أنه يومَ غرِقَ فرعونُ وكذبوا في ذلك فإنه كان يوم عاشوراء وأما النصارى فإنهم صاموا رمضانَ حتى صادفوا حرّاً شديداً فاجتمعت آراءُ علمائهم على تعيين فصلٍ واحدٍ بين الصيف والشتاء فجعلوه في الربيع وزادوا عليه عشَرةَ أيامِ كفارةً لما صنعوا فصار أربعين ثم مرِضَ ملكُهم أو وقع فيهم موتان فزادوا عشرةَ أيامٍ فصار خمسين {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي المعاصيَ فإن الصومَ يكسِرُ الشهوةَ الداعيةَ إليها كَما قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسلام فعليه بالصوم فإن الصوم لَهُ وِجاءٌ أو تتقون الإخلالَ بأدائه لأصالته أو تصِلون بذلك إلى رتبة التقوى

184

{أياما معدودات} موقتات بعدد معلومٍ أو قلائلَ فإن القليلَ من المال يُعدّ عداً والكثير يُهال هَيْلاً والمرادُ بها إما رمضانُ أو ما وجب في بدءِ الإسلامِ ثم نُسخ به من صوم عاشوراءَ وثلاثةِ أيامٍ من كل شهر وانتصابه

البقرة (185) ليس بالصيام كما قيل لوقوع الفصلِ بينهما بأجنبي بل بمضمرٍ دل هو عليه أعني صوموا إما على الظرفية أو المفعولية اتساعاً وقيل بقوله تعالى كتب على أحد الوجهين وفيه أن الأيامَ ليست محلاً له بل للمكتوب فلا تتحققُ الظرفيةُ ولا المفعولية المتفرِّعةُ عليها اتساعاً {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} أي مرَضاً يضُره الصومُ أو يعسُر معه {أَوْ على سَفَرٍ} مستمرّين عليه وفيه تلويحٌ ورمزٌ إلى أن من سافر في أثناء اليوم لم يُفطر {فَعِدَّةٌ} أي عليه صومُ عدةِ أيامِ المرضِ والسفر {مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} إن أفطر فحُذِفَ الشرطُ والمضاف ثقة بالظهور وقرئ بالنصب أي فليصُم عِدةً وهذا على سبيل الرخصة وقيل على الوجوب وإليه ذهب الظاهرية وبه قال أبو هريرةَ رضيَ الله عنه {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} أي وعلى المطيقين للصيام وإن أفطروا {فِدْيَةٌ} أي إعطاءَ فدية وهي {طعام مسكين} وهو نصفُ صاعٍ منْ بُرَ أو من غيره عند أهل العراق ومُدٌّ عند أهل الحجاز وكان ذلك في بدء الإسلامِ لما أنَّه قد فُرض عليهم الصومُ وما كانوا متعوِّدين له فاشتد عليهم فرُخِّص لهم في الإفطار والفدية وقرئ يطيقونه أي يكلَّفونه أو يُقلَّدونه ويتطوَّقونه ويطَّوَقونه بإدغام التاء في الطاء ويطيقونه بمعنى يتطيقونه وأصلهما يطوقونه ويتطوقونه من فعيل وتفعيل من الطوْق فأُدغمت الياء في الواو وبعد قلبها ياء كقولهم تدبّر المكان وما بها ديّار وفيه وجهان أحدُهما نحوُ معنى يُطيقونه والثاني يكلَّفونه أو يَتَكلفونه على جهدٍ منهم وعسورهم الشيوخُ والعجائزُ وحكمُ هؤلاءِ الإفطارُ والفديةُ وهو حينئذ غيرُ منسوخٍ ويجوز أن يكون هذا معنى يطيقونه أي يصومونه جهدَهم وطاقتَهم ومبلغَ وسعهم {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} فزاد في الفدية {فَهُوَ} أي التطوُّعُ أو الخيرُ الذي تطوَّعه {خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ} أيها المُطيقون أو المُطوِّقون وتحمِلوا على أنفسكم وتجهَدوا طاقتَكم أو المرَخَّصون في الإفطار من المرضى والمسافرين {خيرا لَّكُمْ} من الفدية أو من تطوُّعَ الخير أو منهما أو من التأخير إلى أيام أُخَرَ والالتفاتُ إلى الخطاب للهز والتنشيط {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي ما في صومِكم مع تحقّق المبيحِ للإفطار من الفضيلة والجوابُ محذوفٌ ثقةٍ بظهورِه أي اخترتموه أو سارعتم إليه وقيل معناه إنْ كنتُم من أهلِ العلم والتدبير علمتم أن الصومَ خيرٌ من ذلك

185

{شَهْرُ رَمَضَانَ} مبتدأٌ سيأتي خبرُه أو خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ أي ذلك شهرُ رمضانَ أو بدلٌ من الصيام على حذفِ المضافِ أي صيامُ شهرِ رمضانَ وقرئ بالنصب على إضمار صُوموا أو على أنَّه مفعولٌ تصوموا أو بدلٌ من أياماً معدودات ورمضانُ مصدرُ رمِضَ أي احترق من الرمضاء فأضيفَ إليه الشهرُ وجُعل علماً ومُنع الصرفَ للتعريف والألفِ والنون كما قيل ابنُ دأْيةَ للغراب فقولُه عليه السلام من صام رمضان الحديث وأراد على حذف المضافِ للأمن من الالتباس وإنما سُمِّي بذلك إما لارتماضِهم فيه من الجوع والعطش أو لإرتماض الذنوب في الصيام فيه أو لوقوعه في أيام رَمَضِ الحرِّ عند

البقرة (186) نَقْل أسماء الشهور عن اللغة القديمة {الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن} خبرٌ للمبتدأ على الوجه الأول وصفةٌ لشهر رمضانَ على الوجوه الباقية ومعنى إنزالِه فيه أنه أبتدى إنزالُه فيه وكان ذلك ليلةَ القدرِ أو أنزل فيه جملةَ إلى السماءِ الدُّنيا ثم نزل مُنَجَّماً إلى الأرض حسبما تقتضيه المشيئةُ الربانية أو أُنزل في شأنه القرآنُ وهو قوله عز وجل كُتِبَ عَلَيْكُمْ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم نزلتْ صحفُ إبراهيمَ أولَ ليلةٍ من رمضانَ وأُنزلت التوراةُ لستٍ مضَيْن منه والإنجيلُ لثلاثَ عشرةَ منه والقرآنُ لأربع وعشرين {هُدًى لّلنَّاسِ وبينات مِّنَ الهدى والفرقان} حالان من القرآن أي أُنزل حال كونه هدية للناس بما فيه من الإعجاز وغيرِه وآياتٍ واضحةٍ مرشدةً إلى الحق فارقةً بينه وبين الباطل بما فيه من الحُكم والأحكام {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ} أي حضرَ فيه ولم يكن مسافراً ووضعُ الظاهر موضعَ الضمير للتعظيم والمبالغة في البيان والفاءُ للتفريعِ والترتيب أو لتضمُّن المبتدأِ معنى الشَّرطِ أو زائدةٌ على تقدير كونِ شهرُ رمضانَ مبتدأً والموصولُ صفة له وهذه الجملةُ خبرٌ له وقيل هي جزائية كأنه قيل لما كُتب عليكم الصيامُ في ذلك الشهر فمنْ حضَرَ فيه {فَلْيَصُمْهُ} أي فليصم فيه بجذف الجارِّ وإيصالِ الفعلِ إلى المجرور اتساعاً وقيل من شهد منكم هلالَ الشهرِ فليصمْه على أنه مفعولٌ به كقولك شهِدتُ الجمعةَ أي صلاتها فيكونُ ما بعده مخصِّصاً له كأنه قيل {وَمَن كَانَ مَرِيضًا} وإن كان مقيماً حاضِراً فيه {أَوْ على سَفَرٍ} وإن كان صحيحاً {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فعليه صيامُ أيامٍ أخَرَ لأن المريضَ والمسافرَ ممن شهد الشهرَ ولعل التكريرَ لذلك أو لئلا يُتَوَهم نسخُه كما نُسخ قرينُه {يُرِيدُ الله} بهذا الترخيص {بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بكم العسر} لغاية رأفتُه وسعةُ رحمتِه {وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علل لفعلٍ محذوفٌ يدلُّ عليه ما سبق أي ولهذه الأمورِ شُرِعَ ما مرَّ من أمرِ الشاهد بصوْمِ الشهر وأمرِ المرخَّص لهم بمراعاة عدةِ ما أَفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر فقوله تعالى لتكلموا علةُ الأمر بمراعاة العِدة ولتكبروا علةُ ما عَلِمه من كيفية القضاء وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علةُ الترخيص والتيسير وتديه فعل التكبير بعلى لتضمُّنه معنى الحمد كأنه ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم ويجوز أن يكون معطوفةً على علة مقدرةٍ مثلُ ليُسهل عليكم أو لتعلموا ما تعلمون ولتكملوا الخ ويجوز عطفُها على اليُسرَ أي يريد بكم لتكلموا الخ كقوله تعالى يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ الخ والمعنى بالتكبير تعظيمُه تعالى بالحمد والثناءِ عليه وقيل تكبيرُ يومِ العيد وقيل التكبيرُ عند الإهلال وما تحتمل المصدرية والموصولة أي على هدايتِه أيَّاكم أو على الذي هداكم إليه وقرئ ولِتُكَمِّلوا بالتشديد

186

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي} في تلوينِ الخطابِ وتوجيهِه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يَخفْى من تشريفِه ورفعِ محله {فَإِنّي قَرِيبٌ} أي فقل لهم إني قريبٌ وهو تمثيلٌ لكمال علمِه بأفعال العبادِ وأقوالِهم واطلاعِه على أحوالهم بحال من قُرب مكانُه رُوي أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيدٌ فنناديَه فنزلت {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ}

تقريرٌ للقُرب وتحقيقٌ له ووعدٌ للداعي بالإجابة {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى} إذا دعوتُهم للإيمان والطاعةِ كما أجيبهم إذا دعَوْني لمُهمّاتهم {وَلْيُؤْمِنُواْ بِى} أمرٌ بالثبات على ما هم عليه {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} راجين إصابةَ الرُشْد أي الحق وقرئ بفتح الشين وكسرِها ولمّا أمرهم الله تعالى بصوم الشهر ومرعاة العِدةِ وحثَّهم على القيام بوظائف التكبير عقّبه بهذه الآيةِ الكريمةِ الدالة على أنه تعالى خبيرٌ بأحوالهم سميعٌ لأقوالهم مجيبٌ لدعائهم مجازيهم على أعمالهم تأكيداً له وحثاً عليه ثم شرَع في بيان أحكام الصيام فقال

187

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَائِكُمْ} رُوي أن المسلمين كانوا إذا أمسَوْا حلَّ لهم الأكلُ والشربُ والجِماعُ إلى أن يُصلّوا العشاءَ الأخيرة أو يرقُدوا ثم أن عمرَ رضي الله عنه باشر بعد العِشاء فندِم وأتى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم واعتذر إليه فقام رجالٌ فاعترفوا بما صنعوا بعد العِشاء فنزلت وليلةُ الصيام الليلةُ التي يصبِحُ منها صائماً والرفثُ كنايةٌ عن الجماع لأنه لا يكاد يخلو من رفث وهو الإفصاحُ بما يجب أن يكنَّى عنه وعُدِّي بإلى لتضمُّنه معنى الإفضاءِ والإنهاء وإيثارُه ههنا لاستقباح ما ارتكبوه ولذلك سمِّي خيانةً وقرئ الرُفوث وتقديمُ الظرف على القائم مَقامَ الفاعلِ لما مرَّ مراراً من التشويق فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبة إليه فيتمكن عندها وقتَ ورودِه فضلَ تمكِّنٍ {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} استئنافٌ مبينٌ لسبب الإحلالِ وهو صعوبةُ الصبر عنهنّ مع شِدة المخالطة وكَثرةِ الملابَسة بهن وجُعل كلٌّ من الرجل والمرأة لِباساً للآخرَ لاعتناقهما واشتمال كلَ منهما على الآخر بالليل قال ... إذا ما الضجيعُ ثَنَى عِطفَها ... تثنَّتْ فكانت عليه لِباساً ... أو لأن كلاً منهما يستُر حالَ صاحبِه ويمنعُه من الفجور {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} استئنافٌ آخرُ مبين لما ذُكر من السبب والاختيانُ أبلغُ من الخيانة كالاكتساب من الكسْب ومعنى تختانون تظلِمونها بتعريضها للعقاب وتنقيصِ حظَّها من الثواب {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} عطفٌ على علِم أي تابَ عليكم لما تُبتم مما اقترفتموه {وَعَفَا عَنكُمْ} أي محا أثرَه عنكم {فالآن} لما نُسخ التحريمُ {باشروهن} المباشرةُ إلزاقُ البَشَرة بالبَشَرة كُنِّي بها عن الجماع الذي يستلزِمُها وفيه دليلٌ على جواز نسخِ الكتاب للسنة {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} أي واطلُبوا ما قدّره الله لكم وقرَّره في اللوحِ من الوَلدِ وفيه أن المباشِرَ ينبغي أنْ يكونَ غرضُه الولدَ فإنه الحكمةُ في خلق الشهوة وشرع النكاحِ لا قضاءِ الشهوة وقيل فيه نهيٌ عن العَزْل وقيل عن غير المأتيّ والتقديرُ وابتغوا المحلَ الذي كتب

البقرة (188) الله لكم {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الابيض مِنَ الخيط الاسود مِنَ الفجر} شبه أول مايبدو من الفجر المعترِض في الأفق وما يمتدّ معه عن غلس الليل بخيطين الأبيض والأسود واكتُفي ببيان الخيط الأبيض بقوله تعالى مِنَ الفجر عن بيان الخيطِ الأسودِ لدلالته عليه وبذلك خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ للتبعيض فإن ما يبدوا بعضُ الفجر وما رُوي من أنَّها نزلت ولم ينزلْ من الفجر فعمَد رجالٌ إلى خيطين أبيضَ وأسودَ وطفِقوا يأكلون ويشربون حتى يتبيَّنا لهم فنزلت فلعل ذلك كان قبل دخولِ رمضانَ وتأخيرُ البيان إلى وقت الحاجة جائز أو اكتفى أو لا باشتهارهما في ذلك ثم صُرِّح بالبيان لما التَبَس على بعضهم وفي تجويز المباشرةِ إلى الصبح دلالةٌ على جواز تأخيرِ الغُسل إليه وصحةِ صومِ من أصبح جُنباً {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إلى الليل} بيانٌ لآخِرِ وقتِه {وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد} أي معتكِفون فيها والمرادُ بالمباشرة الجِماعُ وعن قتادةَ كان الرجلُ يعتكِفُ فيخرُجُ إلى امرأته فيباشرُها ثم يرجِع فنُهوا عن ذلك وفيه دليلٌ على أنَّ الاعتكافَ يكون في المسجد غيرَ مختص ببعضٍ دون بعضٍ وأن الوطءَ فيه حرامٌ ومفسدٌ له لأن النهيَ في العبادات يوجبُ الفساد {تِلْكَ حُدُودُ الله} أي الأحكامُ المذكورةُ حدود وضعها اله تعالى لعباده {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} فضلاً عن تجاوُزها نهْيٌ أن يُقرَبَ الحدُّ الحاجزُ بين الحقِّ والباطل مبالغةً في النهي عن تخطِّيها كما قال صلى الله عليه وسلم إن لكل ملكٍ حِمىً وحِمى الله محارمُه فمن رتَعَ حولَ الحِمى يُوشك أن يقَعَ فيه ويجوز أن يراد بحدود الله تعالى محارمُه ومناهيه {كذلك} أي مثلَ ذلك التبيينِ البليغ {يُبَيّنُ الله آيَاتِهِ} الدالةَ على الأحكام التي شرعها {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} مخالفةَ أوامرِه ونواهيه

188

{وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل} نهيٌ عن أكل بعضِهم أموالَ بعضٍ على خلاف حُكم الله تعالى بعد النهيِ عن أكل أموالِ أنفسِهم في نهار رمضان أي لايأكل بعضكم أموال بعض بالوجه الذي لم يُبِحْه الله تعالى وبين نصب على الظرفية أو الحالية من أموالكم {وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام} عطفٌ على المنهيِّ عنه أو نُصِبَ بإضمار أن والإدلاءُ الإلقاءُ أي ولا تُلقوا حكومتَها إلى الحكام {لِتَأْكُلُواْ} بالتحاكم إليهم {فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم} بما يوجبُ إثماً كشهادة الزورِ واليمين الفاجرة أو متلبسين بالإثم {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنكم مُبْطلون فإن ارتكابَ المعاصي مع العلم بها أقبحُ رُوي أن عبدانَ الحضْرمي ادعى على امرئ القيسِ الكنديِّ قطعةَ أرضٍ ولم يكن له بينةٌ فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلِفَ امرُؤُ القيسِ فهم به فقرأ عليه الصلاة والسلام إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا الآية فارتدَعَ عن اليمين فسلّم الأرضَ إلى عبدان فنزلت ورُوي أنه اختصم إليه خصمان فقال عليه السلام إنما أنا بشرٌ مثلُكم وأنتم تختصِمون إلي ولعل بعضَكم ألحنُ بحجَّته من بعضٍ فأقضِيَ له على نحو ما أسمَع منه فمن قضَيْتُ له بشيءٍ من حقِّ أخيه فإنما أقضي له قطعة من نار فبَكَيا فقال كلُّ واحدٍ منهما حقي لصاحبي

البقرة (190 - 189) فقال اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كلُّ واحدٍ منكما صاحبَه

189

{يسألونك عَنِ الأهلة} سألهُ معاذُ بنُ جبلٍ وثعلبةُ بنُ غنم فقالا ما بالُ الهلالِ يبدو رقيقاً كالخيط ثم يزيد حتى يستويَ ثم لا يزال ينقُص حتى يعودَ كما بدأ {قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} كانوا قد سألوه عليه الصلاة والسلام عن الحِكمة في اختلاف حالِ القمرِ وتبدُّل أمرِه فأمره الله العزيزُ الحكيمُ أن يُجيبهم بأن الحِكمةَ الظاهرةَ في ذلك أن تكون معالِمَ للناس في عبادتهم لا سيما الحجُّ فإن الوقتَ مراعىً فيه أداءً وقضاءً وكذا في معاملاتهم على حسب ما يتّفقون عليه والمواقيتُ جمع ميقاتٍ من الوقت والفرقُ بينه وبين المدة والزمان أن المدةَ المطلقةَ امتدادُ حركةِ الفلك من مبدَئها إلى منتهاها والزمانُ مدةٌ مقسومةٌ إلى الماضي والحالِ والمستقبل والوقتُ الزمان المفروضُ لأمرٍ {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} كانت الأنصارُ إذا أحْرَموا لم يدخُلوا داراً ولا فُسطاطاً من بابه وإنما يدخُلون ويخرُجون من نَقْبٍ أو فُرجةٍ وراءَها ويعدّون ذلك بِرَّاً فبين لهم أنه ليس ببر فقيل {ولكن البر من اتقى} أي بِرَّ من اتقى المحارمَ والشهواتِ ووجهُ اتصالِه بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين أو أنه لما ذكر أنها مواقيتُ للحج ذكر عقيبة ماهو من أفعالهم في الحجِّ استطراداً أو أنهم لمّا سألوا عما لا يَعنيهم ولا يتعلَّق بعِلمِ النبوة فإنه عليه الصلاة والسلام مبعوثٌ لبيان الشرائعِ لا لبيان حقائِقِ الأشياءِ وتركوا السؤال عما يَعنيهم ويختصُّ بعلم الرسالةِ عقّبَ بذكره جوابَ ما سألوا عنه تنبيهاً على أن اللائقَ بهم أن يسألوا عن أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها أو أريد به التنبيهُ على تعكيسهم في السؤال وكونِه من قبيل دخولِ البيتِ من ورائه والمعنى وليس البرُّ بأن تعكسوا في مسائِلكم ولكنّ البرَّ من اتقى ذلك ولم يجترئ على مثله {وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها} إذ ليس في العُدول بِرٌّ أو باشروا الأمورَ من وجوهها {واتقوا الله} في تغيير أحكامِه أو في جميع أموركم أمرَ بذلك صريحاً بعد بيان أن البِرَّ برٌّ من اتقى إظهاراً لزيادة الاعتناءِ بشأن التقوى وتمهيداً لقوله تعالى {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لكي تظفَروا بالبرِّ والهدى

190

{وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله} أي جاهِدوا لإعزاز دينِه وإعلاءِ كلمتِه وتقديمُ الظرفِ على المفعولِ الصريحِ لإبراز كمالِ العنايةِ بشأن المقدّم {الذين يقاتلونكم} قيل كان ذلك قبل ما أُمِروا بقتال المشركين كافةَ المقاتلين منهم والمحاجزين وقيل معناه الذين يناصبونكم القتالَ ويُتوقعُ منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ والصبيان والرهابنة والنساء أو الكفَرَةُ جميعاً فإن الكلَّ بصدد قتالِ المسلمين ويؤيد الأولَ ما رُوي أن المشركين صدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ الحُديبية وصالحوه على أن يرجِع من قابل فيُخَلّوا له مكةَ شرَّفها الله تعَالَى ثلاثةَ أيامٍ فرجَع لعمُرة القضاء فخاف المسلمون أن لا يفوا لهم ويقاتلوهم في الحَرم والشهرِ الحرام وكرِهوا ذلك فنزلت ويعضُده إيرادُه في أثناء بيان أحكامِ الحج {وَلاَ تَعْتَدُواْ} بابتداء

البقرة (194 - 191) القتالِ أو بقتال المعاهَد والمفاجأة به من غير دعوةٍ أو بالمُثلة وقتلِ من نُهيتم عن قتلِه من النساء والصِّبيان ومن يجري مَجراهم {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} أي لا يريد بهم الخير وهو تعليل للنهي

191

{واقتلوهم حيث ثقفتموهم} أي حَيْثُ وجدتمُوهم من حِلَ أو حَرَم وأصلُ الثقَفِ الحذَقُ في إدراك الشيء علماً أو عملاً وفيه معنى الغلبة ولذلك استعمل فيها قال ... فإما تَثْقَفوني فاقتُلوني ... فمَنْ أثقَفْ فليس إلى خلود ... {وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي من مكةَ وقد فُعل بهم ذلك يوم الفتح بمن لم يُسلم من كفارها {والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} أي المحنة التي يُفتتن بها الإنسانُ كالإخراج من الوطن أصعبُ من القتل لدوام تعبها وبقاء تألم النفس بها وقيل شركُهم في الحرم وصدُّهم لكم عنه أشدُّ من قتلكم إياهم فيه {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام} أي لا تفاتحوهم بالقتل هناك ولا تهتِكوا حرمةَ المسجد الحرام {حتى يقاتلوكم فِيهِ فَإِن قاتلوكم} ثمَةَ {فاقتلوهم} فيه ولا تُبالوا بقتالهم ثمةَ لأنهم الذين هتَكوا حُرمتَه فاستحقُّوا أشدَّ العذاب وفي العُدول عن صِيغة المفاعَلة التي بها وردَ النهيُ والشرطُ عِدَةً بالنصر والغلبة وقرئ ولا تقتُلوهم حتى يقتُلوكم فإن قتلوكم فاقتلوهم والمعنى حتى يقتُلوا بعضَكم كقولهم قتلتْنا بنو أسدٍ {كذلك جَزَاء الكافرين} يُفعلُ بهم مثلُ ما فعلوا بغيرهم

192

{فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عن القتال والكفر بعد ما رأَوا قتالَكم {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفرُ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ

193

{وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي شِرْكٌ {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} خالصاً ليس للشيطان فيه نصيب {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} بعد مقاتَلتِكم عن الشِّرك {فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين} أي فلا تعتَدوا عليهم إذ لا يحسُن الظلمُ إلا لمن ظَلَم فوضعُ العلة موضعَ الحُكم وتسميةُ الجزاءِ بالعُدوان للمشاكلة كما في قوله عز وجل فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ أو إنكم إنْ تعرَّضتم للمنتهين صِرْتم ظالمين وتنعكس الحالُ عليكم والفاءُ الأولى للتعقيب والثانيةُ للجزاء

194

{الشهر الحرام بالشهر الحرام} قاتلَهم المشركون عامَ الحُديبية في ذي القَعدة فقيل لهم عند خروجِهم لعُمرة القضاء في ذي القَعدة أيضاً وكراهتِهم القتالَ فيه هذا الشهرُ الحرامُ بذلك الشهر الحرامِ وهتكُه بهتكه فلا تبالوا به {والحرمات قِصَاصٌ} أي كلُّ حرمةٍ وهي ما يجب المحافظةُ عليه يجري فيها القصاصُ فلما هتكوا حُرمة شهرِكم بالصَّد فافعلوا بهم مثلَه وادخُلوا عليهم عُنوةً فاقتُلوهم إن قاتلوكم كما قال تعالى {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عليكم}

وهو فذلَكةٌ مقرِّرة لما قبلها {واتقوا الله} في شأن الانتصار واحذروا أن تعتدوا الى مالم يُرَخَّصْ لكم {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} فيحرُسُهم ويصلح شئونهم بالنصر والتمكين

195

{وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله} أمرٌ بالجهاد بالمال بعد الأمرِ به بالأنفس أي ولا تُمسِكوا كلَّ الإمساك {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} بالإسراف وتضييعِ وجهِ المعاش أو بالكفِّ عن الغزو والإنفاق فيه فإن ذلك مما يقوِّي العدوَّ ويسلطهم عليكم ويؤيدُه ما رُوي عن أبي أيوب الأنصاري رضيَ الله عنه أنَّه قال لما أعزَّ الله الإسلامَ وكثُر أهلُه رجعنا إلى أهالينا وأموالنا نُقيمُ فيها ونُصلِحها فنزلت أو بالإمساك وحبِّ المال فإنه يؤدّي إلى الهلاك المؤبَّد ولذلك سُمي البخلُ هلاكاً وهو في الأصل انتهاءُ الشيء في الفساد والإلقاءُ طرحُ الشيء وتعديتُه بإلى لتضمُّنه معنى الانتهاء والباءُ مزيدةٌ والمرادُ بالأيدي الأنفسُ والتهلُكة مصدر كالتنصُرَة والتسترة وهي والهلك والهلاك واحدٌ أي لا توقِعوا انفسكم في الهلاك وقيل معناه لا تجعلوها آخذة بأيديكم أولا تلقوا بأيديكم أنفسَكم إليها فحُذِف المفعول {وَأَحْسِنُواْ} أي أعمالَكم وأخلاقَكم أو تفضّلوا على الفقراء {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} أي يريد بهم الخيرَ وقوله تعالى

196

{وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ} بيانٌ لوجوب إتمامِ أفعالهما عند التصدي لأدائهما وإرشادٍ للناس إلى تدارُك ما عسى يعتريهم من العوارض المُخِلَّة بذلك من الإحصار ونحوه من غير تعرُّضٍ لحالها في أنفسهما من الوجوب وعدمِه كما في قوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام الى الليل فإنه بيانٌ لوجوب مدِّ الصيام إلى الليل من غيرِ تعرُّضٍ لوجوبِ أصلِه وإنما هو بقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام الآية كما أن وجوبَ الحج بقوله تعالى وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت الآية فإن الأمرَ بإتمام فعلٍ من الأفعال ليس أمراً بأصله ولا مستلزماً له أصلاً فليس فيه دليل على وجوب العُمرة قطعاً وادعاءُ أن الأمرَ بإتمامهما أمرٌ بإنشائهما تامين كاملين حسبما تقتضيه قراءةُ وَأَقِيمُواْ الحج والعمرة وأن الأمرَ للوجوب مالم يدلَّ على خلافه دليل مما لا سَدادَ له ضرورةَ أنْ ليس البيانُ مقصوراً على أفعال الحجِّ المفروضِ حتى يُتصوَّرَ ذلك بل الحقُّ أن تلك القراءةُ أيضاً محمولةٌ على المشهورة ناطقةٌ بوجوب إقامةِ أفعالهما كما ينبغي من غير تعرُّضٍ لحالهما في أنفسهما فالمعنى أكمِلوا أركانَهما وشرائطَهما وسائرَ أفعالِهما المعروفةِ شرعاً لوجهِ الله تعالى من غير إخلالٍ منكم بشيء منها هذا وقد قيل إتمامُهما أن تحرِمَ

بهما من دُوَيرَة أهلِك رُوي ذلكَ عن عليَ وابن عباسٍ وابنِ مسعودٍ رضيَ الله عنهم وقيل أن تُفرِدَ لكل واحدٍ منها سَفَراً كما قال محمد حَجةٌ كوفية وعُمرةٌ كوفية أفضلُ وقيل هو جعلُ نفقتِهما حلالاً وقيل أن تُخلِصوهما للعبادة ولا تشوبوهما بشئ من الأعراض الدنيوية وأياً ما كانَ فلا تعرُّضَ في الآية الكريمة لوجوب العُمرة أصلاً وأما ما رُوي أن ابن عباس رضي الله عنهما قال إن العمرةَ لقرينةُ الحج وقول عمر رضي الله عنه هُديتَ لسنة نبيِّك حين قال له رجلٌ وجدتُ الحج العمرة مكتوبين على أهللت بهما وفي رواية فأهللتُ بهما جميعاً فبمعزلٍ من إفادة الوجوب مع كونه معارَضاً بما رُوي عن جابرٍ أنه قالَ يا رسولَ الله العمرةُ واجبةٌ مثلَ الحجِّ قال لا ولكن أن تعتمِرَ خيرٌ لك وبقوله عليه السلام الحجُّ جهاد والعُمرةُ تطوُّعٌ فتدبر {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} أي مُنعتم من الحج يقال حصره العدو وأحصره إذا حبَسه ومنعه من المُضيِّ لوجهه مثلُ صَدَّه وأصدّه والمرادُ منعُ العدو عند مالك والشافعي رضي الله عنهما لقوله تعالى فَإِذَا أَمِنتُمْ ولنزوله في الحديبية ولقولِ ابنِ عباسٍ لا حصْرَ إلا حصرُ العدوِّ وكلُّ منعٍ من عدو أو مرضٍ أو غيرهما عند أبي حنيفة رضى الله عنه لما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من كُسِر أو عَرَج فعليه الحجُّ من قابل {فَمَا استيسر مِنَ الهدى} أي فعليكم أو فالواجبُ ما استيسر أو فاهدوا ما استيسر والمعنى أن المُحرِم إذا أُحصر وأراد أن يتحلّل تحلَّل بذبح هدى تيسر عليه من بدَنة أو بقرةٍ أو شاة حيث أُحصر عند الأكثر وعندنا يَبعث به إلى الحرَم ويجعلُ للمبعوث بيده يوم أمارة فإذا جاء اليومُ وظن أنه ذبح تحلّل لقوله تعالى {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يَبْلُغَ الهدى مَحِلَّهُ} أي لا تُحِلوا حتى تعلموا أن الهديَ المبعوثَ إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن يُنْحَر فيه وحمل الأولون بلوغَ الهدْي مَحِلّه على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حِلاًّ كان حَرَماً ومرجعُهم في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبحَ عامَ الحديبية بها وهي من الحِل قلنا كان محصرة عليه الصلاة والسلام طرفَ الحديبية الذي إلى أسفلِ مكةَ وهو من الحَرَم وعن الزُهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحرَ هديَه في الحَرَم وقال الواقديُّ الحديبيةُ هي طرفُ الحرم على تسعة أميالٍ من مكةَ والمَحِلُّ بالكسر يُطلق على المكان والزمان والهدْيُ جمع هَدْية كجدى وجدية وقرئ من الهَدِيّ جمع هَديّة كمَطِيّ ومطية {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} مرَضاً مُحوجاً إلى الحَلْق {أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ} كجراحة أو قُمَّلٍ {فَفِدْيَةٌ} أي فعليه فديةُ إن حلق {مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أو نسك} بيان الجنس الفدية وأما قدرُها فقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لكعب بنِ عُجرةَ لعلك آذاك هو أمك قال نعم يا رسولَ الله قالَ احلِقْ وصُم ثلاثةَ أيام أو تصدّقْ بفَرْقٍ على ستةِ مساكينَ أو انسُك شاةً والفَرْقُ ثلاثة آصُع {فَإِذَا أَمِنتُمْ} أي الإحصار أو كنتم في حال أمن أو سعة {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج} أي فمن انتفع بالتقرُّب إلى الله تعالى بالعُمرة قبل الانتفاعِ بتقرّبه بالحج في أشهره وقيل من استمتع بعد التحلُّل من عُمرته باستباحة محظوراتِ الإحرام إلى أن يُحرِم بالحج {فَمَا استيسر مِنَ الهدى} أي فعليه دمٌ استيسر عليه بسبب التمتع وهو دمُ جُبرانٍ يذبحه إذا أحرَمَ بالحج ولا يأكلُ منه عند الشافعي وعندنا هو كالأضحية {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أيْ الهديَ {فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج} أي في أشهره بين الإحرامين وقال الشافعيُّ في أيام الاشتغالِ بأعماله بعد الإحرام وقبل التحلل والأحب أن يصومَ سابعَ ذي الحِجة وثامنَه وتاسعَه فلا يصح يومَ النحرِ وأيامَ التشريق {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} أي نفَرْتم وفرغتم من

البقرة (197) أعماله وفي أحدِ قولي الشافعيِّ إذا رجعتم إلى أهليكم وقرئ وسبعةً بالنَّصبِ عطفاً على محلِّ ثلاثةِ أيام {تِلْكَ عَشَرَةٌ} فذلكةُ الحسابِ وفائدتُها أن لا يُتَوَهّم أن الواوَ بمعنى أو كما في قولك جالسِ الحسنَ وابنَ سيرين وأن يُعلم العددُ جملةً كما عُلم تفصيلاً فإن أكثرَ العرب لا يعرِفُ الحسابَ وأن المرادَ بالسبعة هو العددُ المخصوصُ دون الكثرة كما يراد بها ذلك أيضاً {كَامِلَةٌ} صفةٌ مؤكدةٌ لعشَرة تفيد المبالغةَ في المحافظة على العدد أو مبيِّنةٌ لكمال العشرة فإنها أولُ عددٍ كاملٍ إذْ بهِ ينتهي الآحادُ ويتم مراتبُها أو مقيِّدة تفيدُ كمالَ بَدَليتها من الهدْي {ذلك} إشارةٌ إلى التمتع عندنا وإلى الحكم المذكورِ عند الشافعي {لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المسجد الحرام} وهو مَنْ كان من الحرَم على مسافة القصْرِ عند الشافعي ومن كان مسكنُه وراءَ الميقاتِ عندنا وأهلُ الحل عند طاوس وغيرُ أهل مكةَ عند مالك {واتقوا الله} في المحافظة على أوامره ونواهيه لا سيما في الحج {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} لمن لم يَتَّقْهِ كي يصُدَّكم العلمُ به عن العِصيان وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمار لتربية المهابةِ وإدخالِ الرَّوْعة

197

{الْحَجُّ} أي وقته {أَشْهُرٌ معلومات} معروفاتٌ بين الناس هي شوَّالٌ وذو القَعدة وعشرُ ذي الحِجة عندنا وتسعةٌ بليلةِ النحر عند الشافعي وكلُّه عند مالكٍ ومدارُ الخلافِ أن المرادَ بوقته وقتُ إحرامِه أو وقتُ أعماله ومناسِكهُ أو مالا يحسُن فيه غيرُه من المناسِك مطلقاً فإن مالِكاً كرِه العُمرةَ في بقية ذي الحِجة وأبو حنيفةَ وإن صحَّح الإحرامَ به قبل شوالٍ فقد استكرهه وإنما سمى شهرين وبعضُ شهرٍ أشهراً إقامةً للبعض مقام الكل أوإطلاقا للجمع على ما فرق الواحدِ وصيغةُ جمعِ المذكر في غير العقلاء تجئ بالألف والتاء {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} أي أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن أو بالتلبية أو بسَوْق الهدْي {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} أي لا جِماعَ أو فلا فحشَ من الكلام ولا خروجَ من حدود الشرعِ بارتكاب المحظوراتِ وقيل بالسباب والتنابذ بالألقاب {وَلاَ جِدَالَ} أي لا مِراءَ مع الخدَم والرِفقة {فِي الحج} أي في أيامه والإظهارُ في مقامِ الإضمارِ لإظهار كمالِ الاعتناءِ بشأنه والإشعارِ بعِلة الحُكم فإن زيارةَ البيت المعظَّم والتقرُّبَ بها إلى الله عزَّ وجلَّ من موجبات تركِ الأمورِ المذكورة وإيثارُ النفي للمبالغة في النهي والدَلالة على أن ذلك حقيقٌ بأن لا يكون فإن ما كان مُنْكراً مستقبَحاً في نفسه ففي تضاعيفِ الحجِّ أقبحُ كلبُس الحريرِ في الصلاة والتطريبِ بقراءة القرآن لأنه خروجٌ عن مقتضى الطبعِ والعادةِ إلى محض العبادة وقرئ الأولان بالرفع على معنى لا يكونن رَفثٌ ولا فسوقٌ والثالثُ بالفتح على معنى الإخبار بانتفاء الخلافِ في الحج وذلك أن قريشاً كانت تخالف سائرَ العرب فتقفُ بالمشعَر الحرام فارتفعَ الخلافُ بأن أُمروا بأن يقفوا أيضاً بعَرَفاتٍ {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} فيجزي به خيرَ جزاءٍ وهو حثٌّ على فعل الخيرِ إِثرَ النهْي عن الشر {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} أي تزوّدوا لمِعَادكم التقوى فإنه خيرُ زادٍ وقيل نزلت في أهل اليمن كانوا يحُجُّون ولا يتزوّدون ويقولون

198 - 199 البقرة نحن متوكلون فيكونون كَلاًّ على الناس فأُمروا أن يتزوّدوا ويتقوا الإبرامَ في السؤال والتثقيل على الناس {واتقون يا أولي الالباب} فإن قضيةَ اللُبِ استشعار خشية الله عز وجل وتقواه حثهم على التقوى ثم أمرَهم بأن يكون المقصودُ بذلك هو الله تعالى فيتبرءوا من كل شئ سواه وهو مقتضى العقلِ المعرَّى عن شوائبِ الهوى فلذلك خُصَّ بهذا الخطاب أُولوا الألباب

198

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ} أي في أن تبتغوا أي تطلُبوا {فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ} عطاءً ورزقاً منه أي الربحَ بالتجارة وقيل كان عُكاظُ ومَجنّةُ وذو المَجازِ أسواقَهم في الجاهلية يُقيمونها أيامَ مواسمِ الحج وكانت معايشُهم منها فلما جاء الإسلامُ تأثّموا منه فنزلت {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات} أي دفعتم منها بكثرة من أفضتُ الماء إذا صبَبْتُه بكثرة وأصلُه أفضتم أنفسَكم فحُذِفَ المفعولُ حذفَه من دفعتُ من البَصْرة وعَرَفاتٌ جمعٌ سُمّي به كأذرِعات وإنما نوّن وكُسر وفيه علميةٌ وتأنيثٌ لما أن تنوين الجمعِ تنوينُ المقابلة لا تنوينُ التمكن ولذلك يُجمع مع اللام وذهابُ الكسرة تبعُ ذهابِ التنوين من غير عِوَض لعدم الصرْف وههنا ليس كذلك أو لأن التأنيثَ إما بالتاء المذكورة وهي ليست بتاء التأنيث وإنما هي مع الألف التي قبلها علامةُ جمعِ المؤنَّث أو بتاءٍ مقدَّرةٍ كما في سُعادَ ولا سبيل إليه لأن المذكور تأبى تقديرَها لما أنها كالبدل منها لاختصاصِها بالمؤنث كتاءِ بنت وإنما سمي الموقفُ عَرَفة لأنه نُعِتَ لإبراهيمَ عليه السلام فلما أبصره عَرَفه أو لأن جبريلَ عليه السلام كان يدور به في المشاعر فلما رآه قال عرَفتُ أو لأن آدمَ وحواءَ التقيا فيه فتعارَفا أو لأن الناسَ يتعارفون فيه وهي من الأسماءِ المُرْتجلة إلا من يجعلها جمعَ عارف قيل وفيه دليلٌ على وجوب الوقوف بها لأن الإفاضةَ لا تكون إلا بعده وهي مأمور بها بقوله تعالى ثُمَّ أَفِيضُواْ وقد قال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم الحجُّ عَرَفةُ فمن أدرك عَرَفةَ فقد أدرك الحجَّ أو مقدمة للذكر المأمور به وفيه نظرٌ إذ الذكرُ غيرُ واجب والأمرُ به غيرُ مطلق {فاذكروا الله} بالتلبية والهليل والدعاء وقيل بصلاة العشاءين {عِندَ المشعر الحرام} هو جبلٌ يقف عليه الإمامُ ويسمى قُزَح وقيل ما بين مأزمي عرفةَ ووادي مُحسِّر ويؤيد الأول ما روى جابر أنه عليه الصلاةُ والسلام لما صلى الفجرَ يعني بالمزدَلِفةِ بغَلَسٍ ركِب ناقتَه حتى أتى المشعَرَ الحرامَ فدعا فيه وكبّر وهلَّل ولم يزَلْ واقفاً حتى اسفرو إنما سُمِّي مَشعَراً لأنه مَعْلمُ العبادة ووُصِف بالحرام لحُرمته ومعنى عند المشعر الحرامِ ما يليه ويقرُب منه فإنه أفضلُ وإلا فالمزدلفةُ كلها موقف الا وادي مُحَسِّر {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} أي كما علَّمكم أو اذكُروه ذِكراً حسناً كما هداكم هدايةً حسَنةً إلى المناسك وغيرِها وما مصدرية أو كافّة {وَإِن كُنتُمْ مِن قَبْلِهِ} من قبلِ ما ذُكر من هدايتِه إياكم {لَمِنَ الضالين} غيرِ العاملين بالإيمان والطاعة وإنْ هيَ المخففةُ واللامُ هيَ الفارقة وقيل هي نافيةٌ واللامُ بمعنى إلا كما في قوله عز وعلا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين

199

{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس}

أي من عرَفةَ لا من المزدَلِفة والخطابُ لقريش لمّا كانوا يقفون بجمعٍ وسائرُ الناس بعرَفةَ ويرَوْن ذلك ترفعاً عليهم فأُمروا بأن يساووهم وثمَّ لتفاوتِ ما بينَ الإفاضتين كما في قولك أحسِنْ إلى الناس ثم لا تُحسِنْ إلا إلى كريم وقيل من مزدلفةَ إلى مِنىً بعد الإفاضةِ من عرَفة إليها والخطابُ عام وقرئ الناسِ بكسر السين أي الناسي على أن يراد به آدمُ عليه السلام من قوله تعالى فَنَسِىَ والمعنى أن الإفاضةَ من عرفه شرعٌ قديم فلا تغيِّروه {واستغفروا الله} من جاهليتكم في تغيير المناسكِ {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفرُ ذنبَ المستغفِر ويُنعِمُ عليه فهو تعليلٌ للاستغفار أو للأمر به

200

{فإذا قضيتم مناسككم} عباداتكم المتعلّقةَ بالحج وفرَغتم منها {فاذكروا الله كذكركم آباءكم} أي فاكثِروا ذكرَه تعالى وبالغوا في ذلك كما تفعلون بذكر آبائِكم ومفاخرِهم وأيامِهم وكانت العربُ إذا قضَوْا مناسكهم وقفوا بمنىً بين المسجد والجبل فيذكرون مفاخِرَ آبائِهم ومحاسِنَ أيامِهم {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} إما مجرورٌ معطوفٌ على الذكر بجعله ذاكراً على المجاز والمعنى فاذكروا الله ذكراً كائناً مثلَ ذكرِكم آباءَكم أو كذكرٍ أشدَّ منه وأبلغَ أو على ما أضيفَ إليهِ بمعنى أو كذكر قومٍ أشدَّ منكم ذكراً أو منصوبٌ بالعطف على آباءَكم وذكراً من فعل المذكور بمعنى أو كذكركم أشدَّ مذكورٍ من آبائكم أو بمضمرٍ دلَّ عليهِ تقديرُه أو كونوا أشدَّ ذكراً لله منكم لآبائكم {فَمِنَ الناس} تفصيلٌ للذاكرين الى من لا يطلب بذكر الله الا الدنيا وإلى من يطلُب به خيرَ الدارَيْن والمرادُ به الحثُّ على الإكثار والانتظامِ في سلك الآخَرين {مَن يِقُولُ} أي في ذكره {ربنا آتِنا في الدنيا} أي اجعل إيتاءَنا ومِنحَتَنا في الدنيا خاصة {وَمَا لَهُ فِى الأخرة من خلاق} أي من حظَ ونصيبٍ لاقتصار همِّه على الدنيا فهو بيانٌ لحاله في الآخرة أو من طلبِ خَلاقٍ فهو بيانٌ لحاله في الدنيا وتأكيدٌ لقصر دعائه على المطالب الدنيوية

201

{وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنا في الدنيا حسنةً} هي الصِّحةُ والكَفاف والتوفيقُ للخير {وَفِي الاخرة حَسَنَةً} هي الثوابُ والرحمة {وَقِنَا عَذَابَ النار} بالعفو والمغفرةِ وروى عن عليَ رضيَ الله عنه أن الحسنةَ في الدنيا المرأةُ الصالحة وفي الآخرةِ الحوراء وعذابُ النار امرأةُ السوءِ وعن الحَسَن أن الحسنةَ في الدنيا العلمُ والعبادة وفي الآخرة الجنة وقنا عذابَ النار معناه احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدِّية إلى النار

202

{أولئك} إشارةٌ إلى الفريق الثاني باعتبار اتصافِهم بما ذُكر من النعوتِ الجميلةِ وما فيه من معنى البعد لمامر مراراً من الإشارة إلى علوِّ درجتِهم وبُعْدِ منزلتِهم في الفضلِ وقيل إليهما معاً فالتنوينُ في قولِهِ تعالَى {لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ} على الأول للتفخيم وعلى الثاني للتنويعِ أي لكل منهم نوع نصيب

203 - 204 البقرة من جنس ما كسَبوا أو من أجله كقوله تعالى مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ أو مما دَعَوْا به نعطيهم منه ما قدّرناه وتسميةُ الدعاء كسْباً لما أنه من الأعمال {والله سَرِيعُ الحساب} يحاسبُ العبادَ على كثرتهم وكثرةِ أعمالهم في مقدار لمحة فاحذَروا من الإخلال بطاعةِ مَنْ هذا شأنُ قدرتِه أو يوشك أن يُقيمَ القيامةَ ويحاسِبَ الناسَ فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات

203

{واذكروا الله} أي كبِّروه في أعقاب الصلواتِ وعند ذبحِ القرابينِ ورمي الجمارِ وغيرِها {فِى أَيَّامٍ معدودات} هي أيامُ التشريق {فَمَن تَعَجَّلَ} أي استعجَلَ في النفر أو النفْرَ فإن التفعّل والاستفعال يجيئان لازمين ومتعدّيين يقال تعجل في الأمر واستعجل فيه وتعجله واستعجله والأول أوفقُ للتأخر كما في قوله قد يُدرك المتأني بعضَ حاجتِه ... وقد يكون من المستعجل الزللُ {فِى يَوْمَيْنِ} أي في تمامِ يومين بعد يوم النحر هو يوم النحر ويوم الرءؤس واليومُ بعده ينفِر إذا فرَغ من رمي الجمار {وَمَن تَأَخَّرَ} في النفر حتى رمى في اليوم الثالثِ قبل الزوالِ أو بعده وعند الشافعيّ بعده فقط {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} بما صنعَ من التأخُّرِ والمرادُ التخييرُ بين التعجل والتأخر ولا يقدح فيه أفضليةُ الثاني وإنما ورد بنفي الإثم تصريحاً بالرد على أهل الجاهلية حيث كانوا مختلفين فمن مُؤثِّمٍ للمتعجل ومؤثمٍ للمتأخر {لِمَنِ اتقى} خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي الذي ذُكر من التخيير ونفي الإثم عن المتعجّل والمتأخر أو من الأحكام لمن اتقى لأنه الحاج على الحقيقة والمنتفع به أو لأجله حتى لا يتضرِّرَ بترك ما يُهمُّه منهما {واتقوا الله} في مَجامِع أمورِكم بفعل الواجبات وترك المحضورات ليعبأبكم وتنظموا في سلك المغتنمين بالأحكام المذكورة والرُخَص أو احذروا الإخلالَ بما ذُكر من الأحكام وهو الأنسبُ بقوله عز وجل {واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي للجزاء على أعمالكم بعد الإحياءِ والبعث وأصلُ الحشر الجمع وضم المتفرّق وهو تأكيدٌ للأمر بالتقوى وموجب للامتثال به فإن من علِم بالحشر والمحاسبة والجزاءِ كان ذلك من أَقْوى الدَّواعي إلى ملازمة التقوى

204

{وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} تجريدٌ للخطابِ وتوجيهٌ لهُ إليه عليه الصلاة والسلام وهو كلامٌ مبتدأ سيق لبيان تحزُّب الناسِ في شأن التقوى إلى حِزبين وتعيينِ مآلِ كلَ منهما ومَن موصولةٌ أو موصوفةٌ وإعرابُه كما بُيّن في قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله واليوم الاخر أي ومنهم من يروقْك كلامُه ويعظُم موقعُه في نفسك لما تشاهد فيه من ملاءمة الفحوى ولُطف الأداءِ والتعجُّب حِيْرةٌ تعرِضُ للإنسان بسبب عدمِ الشعور بسبب ما يتعجّب منه {في الحياة الدنيا} متعلق يقوله أي ما يقوله في حق الحياة الدنيا ومعناها فإنها الذي يريده بما يدّعيه من الإيمان ومحبةِ الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه إشارة إلى أن له قولاً آخرَ ليس بهذه الصفة أو بيُعجبُك أي يعجبك قولُه في الدنيا بحلاوته

205 - 206 207 البقرة وفصاحته لافي الآخرة لما أنه يظهر هناك كذِبُه وقُبحُه وقيل لما يُرهِقه من الحبْسة واللُكنة وأنت خبيرٌ بأنه لا مبالغة حينئذ في سوء حالِه فإن مآلَه بيانُ حسنِ كلامِه في الدنيا وقبُحِه في الآخرة وقيل معنى في الحياة الدنيا مدة الحياة الدنيا أي لا يصدُر منه فيها إلا القولُ الحسن {وَيُشْهِدُ الله على ما فى قلبه} أي بحسَب ادِّعائِه حيث يقول الله يعلم أن ما في قلبي موافِقٌ لما في لساني وهو عطف على يعجبك وقرئ ويُشهدُ الله فالمرادُ بما في قلبه ما فيه حقيقةً ويؤيده قراءةُ ابنِ عبَّاسً رضي الله عنهما والله يشهَدُ على ما في قلبه على أن كلمةَ على لكون المشهودِ به مُضِرّاً له فالجملةُ اعتراضية وقرئ ويستشهدُ الله {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} أي شديد العدواه والخصومةِ للمسلمين على أن الخِصامَ مصدرٌ وإضافة ألدُّ اليه بمعنى في كقولهم ثبْتُ العذرِ أو أشدُّ الخصوم لهم خصومةً على أنه جمع خَصْم كصَعْب وصِعاب قيل نزلتْ في الأخنسِ بنِ شُرَيقٍ الثقفي وكان حسنَ المنظر حلوَ المنطق يوالي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ويدعي الإسلامَ والمحبة وقيل في المنافقين والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ المجرور في قوله أو من المستكنّ في يُشهد وعطف على ما قبلها على القراءتين المتوسطتين

205

{وَإِذَا تولى} أي من مجلسك وقيل إذا صار والياً {سعى فِى الارض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} كما فعله الأخنسُ بثقيفٍ حيث بيتهم وأحرَق زروعَهم وأهلَك مواشيَهم أو كما يفعله ولاةُ السوء بالقتل والإتلاف أو بالظلم حتى يمنع الله تعالى بشؤمه القَطْرَ فيهلِكَ الحرثَ والنسل وقرئ ويَهلِكَ الحرثُ والنسلُ على إسناد الهلاك إليهما عطفاً على سعى وقرئ بفتح اللام وهي لغة وقرئ على البناءِ للمفعولِ من الإهلاك {والله لاَ يُحِبُّ الفساد} أي لا يرتضيه ويبعضه ويغضَبُ على من يتعاطاه وهو اعتراضٌ تذييلي

206

{وَإِذَا قِيلَ لَهُ} على نهْج العِظة والنصيحة {اتق الله} واترُكْ ما تباشِرُه من الفساد أو النفاق واحذرْ سوءَ مغبَّتِه {أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} أي حملتْه الأَنَفةُ وحَمِيةُ الجاهلية على الإثم الذي نُهِيَ عنه لَجاجاً وعِناداً من قولك أخذتُه بكذا إذا حملتُه عليه أوألزمته إياه {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} مبتدأٌ وخبر أي كافِيهِ جهنَّمُ وقيل جهنمُ فاعلٌ لحسبُه سادٌّ مسدَّ خبرِه وهو مصدر بمعنى الفاعل وقويَ لاعتماده على الفاء الرابطة للجملة بما قبلها وقيل حسبُ اسمُ فعلٍ ماضٍ أي كفتْه جهنَّمُ {وَلَبِئْسَ المهاد} جوابُ قسمٍ مقدَّرٍ والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ لظهوره وتعيُّنه والمِهادُ الفِراش وقيل ما يوطأ للجَنْب والجملةُ اعتراض

207

{وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ} مبتدأ وخبرٌ كما مر أي يبيعها ببذْلِها في الجهاد ومشاقِّ الطاعات وتعريضِها للمهالك في الحروب أو يأمرُ بالمعروف وينهى عن المنكر وإن ترتب عليه القتلُ {ابتغاء مرضات الله} أي طالبا لرضاه وهذا كمالُ التقوى وإيرادُه قسيماً للأول من حيث إن ذلك يأنفُ من الأمر بالتقوى وهذا يأمرُ بذلك وإن أدى إلى الهلاك وقيل نزلت في صهيبِ بنِ سنانٍ الروميّ أخذه المشركون وعذبوه ليرتدَّ فقال إني شيخٌ كبير

208 - 209 210 البقرة لاأنفعكم إن كنت معكم ولا أضرُّكم إن كنت عليكم فخلُّوني وما أنا عليه وخُذوا مالي فقَبِلوا منه مالَه فأتى المدينة فيشري حينئذٍ بمعنى يشتري لجريان الحال على صورة الشرى {والله رؤوف بالعباد} ولذلك يكلفهم التقوى ويعرِّضهم للثواب والجملةُ اعتراضٌ تذييلى

208

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم} أي الاستسلام والطاعةِ وقيل الإسلام وقرئ بفتح السين وهي لغة فيه بفتح اللام أيضاً وقوله تعالى {كَافَّةً} حال من الضمير في ادخلو اأو من السِّلم أو منهما معاً كما في قولِهِ ... خرجتُ بها تمشي تجرُّ وراءَنا ... على أَثَريْنا ذيلَ مِرْطٍ مُرَجَّل ... وهي في الأصل اسمُ لجماعة تكفُّ مُخالِفَها ثم استعملت في معنى جميعاً وتاؤُها ليست للتأنيت حتى يُحتاجَ إلى جعل السِّلم مؤنثاً مثلَ الحربِ كما في قوله عز وجل وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وفي قوله ... السلم تأخذ منها مارضيت به ... والحربُ يكفيكَ من أنفاسها جُرَعُ ... وإنَّما هي للنقل كما في عامة وخاصة وقاطبة والمعنى استسلموا لله تعالى وأطيعوه جملةً ظاهراً وباطناً والخطابُ للمنافقين أو ادخُلوا في الإسلام بكلّيته ولا تخلِطوا به غيَره والخطابُ لمؤمني أهلِ الكتاب فإنهم كانوا يراعون بعضَ أحكام دينهم القديمِ بعد إسلامهم أو شرائع الله تعالى كلِّها بالإيمان بالأنبياء عليهم السلام والكتب جيعا والخطابُ لأهل الكتاب كلِّهم ووصفُهم بالإيمان إما على طريقة التغليب وإما بالنظر إلى إيمانهم القديم أو في شعب الإسلام وأحكامِه كلها فلا يخلوا بشئ منها والخطاب للمسلمين وإنما خوطب أهلُ الكتاب بعنوان الإيمان مع أنه لا يصِح الإيمانُ إلا بما كلَّفوه الآن إيذاناً بأن ما يدّعونه لا يتمّ بدونه {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} بالتفرُّق والتفريقِ أو بمخالفة ما أُمرتم به {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظاهرُ العداوة أو مُظْهِرٌ لها وهو تعليلٌ للنهي أو الانتهاءِ

209

{فَإِن زَلَلْتُمْ} أي عن الدخول في السلم وقرئ بكسر اللام وهي لغة فيه {مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ} الآياتُ {البينات} والحججُ القطعية الدالَّةُ على حقيقته المُوجبة للدخول فيه {فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ} غالبٌ على أمره لا يعجزه الانتقام منكم {حكيم} لايترك ما تقتضيه الحِكمةُ من مؤاخذة المجرمين المستعصين على أوامره

210

{هَلْ يَنظُرُونَ} استفهامٌ إنكاري في معنى النفي أي ما ينتظرون بما يفعلون من العِناد والمخالفة في الامتثال بما أُمروا به والانتهاءِ عمَّا نُهوا عنهُ {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} أي أمرُه وبأسُه أو يأتيَهم اللَّهُ بأمره وبأسِه فحُذف المأتيُّ به لدِلالة الحال عليه والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذانِ بأن سوءَ صنيعهم موجبٌ للإعراض عنهم وحكايةُ جنايتهم لمن عداهم من أهل الإنصاف على طريقة المباثة وإيرادُ الانتظارِ للإشعار بأنهم لانهماكهم فيمَا هُم فيهِ من موجبات العقوبة

211 - 212 البقرة كأنهم طالبون لها مترقبون لوقوعها {في ظلل} كقلل في جمع قُلَّة وهي ما أظلك وقرئ في ظلال كقلال في جمع قلة {مّنَ الغمام} أي السحاب الأبيض وإنما أتاهم العذابُ فيه لما أنه مظنة الرحمة فإذا أتى منه العذاب كان أفظعَ وأقطعَ للمطامع فإن إتيان الشر مِن حيثُ لاَ يُحتسب صعبٌ فكيف بإتيانه من حيث يرجى منه الخير {والملائكة} عطف على الاسم الجليل أي ويأتيهم الملائكة فإنهم وسائط في إتيان أمره تعالى بل هم الآتون ببأسه على الحقيقة وتوسيط الظرف بينهما للإيذان بأن الآتي أو لا من جنس ما يلابس الغمام ويترتب عليه عادة وأما الملائكة وإن كان إتيانهم مقارناً لما ذكر من الغمام لكن ذلك ليس بطريق الاعتياد وقرئ بالجر عطفا على ظلل أوالغمام {وقضي الأمر} أي اتم أمرُ إهلاكهم وفُرغ منه وهو عطفٌ على يأتيَهم داخل في حيز الانتظار وإنما عُدل إلى صيغة الماضي دَلالة على تحققه فكأنه قد كان أو جملةٌ مستأنفةٌ جِيءَ بها إنباءً عن وقوع مضمونها وقرئ وقضاءُ الأمر عطفاً على الملائكةُ {وإلى الله} لا إلى غيره {تُرْجَعُ الامور} بالتأنيث على البناءِ للمفعولِ من الرجع وقرئ بالتذكير وعلى البناء للفاعل بالتأنيث من الرجوع

211

{سل بني إسرائيل} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ من أهل الخطابِ والمرادُ بالسؤال تبكيتهم وتقريعهم بذلك وتقريرلمجيء البينات {كَمْ آتيناهم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ} مُعجِزَةٌ ظاهرة على أيدي الأنبياءِ عليهم السلام وآيةٌ ناطقة بحقّية الإسلامِ المأمورِ بالدخول فيه وكم خبريةٌ أو استفهاميةٌ مقرِّرةٌ ومحلها النصبُ على المفعولية أو الرفع بالابتداء على حذف العائدِ من الخبر وآيةٍ مميِّزُها {وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ الله} التي هي آياته الباهرةِ فإنها سببٌ للهدى الذي هو أجلُّ النعم وتبديلُها جعلُها سبباً للضلالة وازديادِ الرِّجس أو تحريفها أو تأويلها الزائغ {مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ} ووصلتْ إليه وتمكَّن من معرفتها والتصريحُ بذلك مع أنَّ التبديلَ لا يُتصوَّرُ قبل المجيءِ للإشعار بأنهم قد بدَّلوها بعد ما وقفوا على تفصيلها كما في قوله عز وجلَّ ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يعلمون قيل تقديره فبذلوها ومن يبدل وإنما حُذف للإيذان بعدمِ الحاجةِ إلى التَّصريحِ بهِ لظهوره {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} تعليلٌ للجواب كأنه قيل ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشدَّ عقوبةٍ فإنه شديدُ العقاب وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابة وإدخال الروعة

212

{زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا} أي حسُنت في أعيانهم وأُشرِبت محبتُها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وتهافتوا فيها معرِضين عن غيرها والتزيينُ من حيث الخلقُ والإيجاد مستند الى الله سبحانه كما يُعرِبُ عنه القراءةُ على البناء للفاعل اذا ما مِنْ شيءٍ إلا وهو خالقُه وكلٌّ من الشيطان والقُوى الحيوانية وما في الدنيا من الأمور البهيَّة والأشياءِ الشهيةِ مُزيَّنٌ بالعَرْض {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمنوا} عطفٌ على زُين وإيثارُ صيغة الاستقبال للدلالة

213 - البقرة على استمرار السُّخريةِ منهم وهم فقراء المؤمنين كبلالٍ وعمار وصهيب رضي الله عنهم كانوا يسترذلونهم ويستهزءون بهم على رفضهم الدُّنيا وإقبالِهم على العقبى ومن ابتدائية فكأنهم جعلوا السخرية مبتدأة منهم {والذين اتقوا} هم الذين آمنوا بعينهم وإنما ذُكروا بعنوان التقوى للإيذان بأن إعراضَهم عن الدنيا للاتقاء عنها لكونها مُخِلَّةً بتبتُّلهم إلى جناب القدس شاغلة عنهم {فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة} لأنَّهم في أعلى عِلّيين وهم في أسفل سافلين أو لأنهم في أوج الكرامةِ وهم في حضيض الذلِّ والمهانةِ أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخَرون منهم كما سخِروا منهم في الدنيا والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها وإيثارُ الاسمية للدلالة على دوام مضمونِها {والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء} أي في الدارين {بِغَيْرِ حِسَابٍ} بغير تقدير فيوسِّعُ في الدنيا استدراجاً تارةً وابتلاءً أخرى

213

{كَانَ الناس أُمَّةً واحدة} متفقين على كلمة الحق ودينِ الإسلام وكان ذلك بين آدمَ وإدريسَ أو نوحٍ عليهم السَّلام أو بعدَ الطوفان {فَبَعَثَ الله النبيين} أي فاختلفوا فبَعَثَ إلخ وهي قراءةُ ابنِ مسعود رضي الله عنه وقد حُذف تعويلاً على ما يُذكر عَقيبه {مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} عن كعب الذي علمتُه من عددُ الأنبياءِ عليهم السلام مئة وأربعةٌ وعشرون ألفاً والمرسَلُ منهم ثلثُمائةٍ وثلاثة عشرَ والمذكورُ في القرآن ثمانيةٌ وعشرون وقيل كَانَ الناسُ أُمَّةً واحدة متفقةً على الكفر والضلال في فترة إدريسَ أو نوحٍ فبعث اللَّهُ النبيين فاختلفوا عليهم والأولُ هو الأنسبُ بالنظم الكريم {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب} أي جنسَ الكتابِ أو مع كل واحد منهم ممن له كتابٌ كتابُه الخاصُّ به لا مع كلِّ واحدٍ منهم على الإطلاق إذ لم يكنْ لبعضهم كتابٌ وإنما كانوا يأخُذون بكتب مَن قبلَهم وعمومُ النبيين لا ينافي خصُوصَ الضمير العائد إليه بمعونة المقام {بالحق} حال من الكتاب أي ملتبساً بالحق أو متعلقا بأنزل كقوله عزَّ وعلاَّ وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ {لِيَحْكُمَ} أي الكتابُ أو الله سُبحانه وتعالى أو كلُّ واحد من النبيين {بَيْنَ الناس} أي المذكورين والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ لزيادة التعيين {فِيمَا اختلفوا فِيهِ} أي في الحق الذي اختلفوا فيه أو فيما التَبَس عليهم {وَمَا اختلف فِيهِ} أي في الحق أو في الكتاب المُنْزل ملتبساً به والواوُ حالية {إِلاَّ الذين أُوتُوهُ} أي الكتابَ المنزلَ لإزالة الاختلاف وإزاحةِ الشقاق والتعبيرُ عن الإنزال بالإيتاء للتنبيه منْ أولِ الأمرِ عَلى كمال تمكُّنِهم من الوقوف على ما في تضاعيفِه من الحق فإن الإنزالَ لا يفيد تلك الفائدةَ أي عكسوا الأمرَ حيث جعلوا ما أُنزل لإزالة الاختلافِ سبباً لاستحكامه ورسوخِه {مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات} أي رَسَخَتْ في عقولهم ومن متعلِّقة بمحذوف يدل عليه الكلامُ أي فاختلفوا وما اختلف فيه إلخ وقيل بالملفوظ بناءً على عدم منع إلا عنه كما في قولك ما قام إلا زيد يوم

214 - 215 البقرة الجمعة {بَغْياً بَيْنَهُمْ} متعلِّقٌ بما تعلقتْ به من أي اختلفوا بغياً وتهالُكاً على الدنيا {فَهَدَى الله الذين آمنوا لِمَا اختلفوا فِيهِ} أي للحق الذي اختَلَف فيه من اختَلَف {مِنَ الحق} بيانٌ لما وفي إبهامه أولاً وتفسيرِه ثانياً ما لا يَخفْى من التفخيم {بِإِذْنِهِ} بأمره أو بتيسيره ولطفهِ {والله يَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} موصِلٍ إلى الحقّ وهو اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما سبق

214

{أَمْ حَسِبْتُمْ} خُوطب به رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ حثًّا لهم على الثبات على المصابرة على مخالفة الكفَرَة وتحمُّل المشاقِّ من جهتهم إثر بيانِ اختلافِ الأممِ على الأنبياءِ عليهم السلامُ وقد بُيّن فيه مآلُ اختلافِهم وما لَقِيَ الأنبياء ومن معهم من قبلهم من مكابدة الشدائد ومقاساة الهموم وأن عاقبة أمرِهم النصرُ وأم منقطعة والهمزةُ فيها للإنكار والاستبعاد أي بل حَسِبْتُمْ {أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين أي والحال أنه لم يأتِكم مثلُهم بعد ولم تبتلوا بما بتلوا به من الأحوالِ الهائلةِ التي هي مَثَلٌ في الفظاعة والشدّة وهو متوقَّعٌ ومنتظَرٌ {مَسَّتْهُمْ} استئنافٌ وقعَ جوابا عما ينساق إليه الذهنُ كأنَّه قيلَ كيفَ كان مثلهم فقيل مسَّتْهم {البأساء} أي الشدَّةُ من الخوف والفاقةِ {والضراء} أي الآلامُ والأمراضُ {وَزُلْزِلُواْ} أي أزْعجوا إزعاجاً شديداً بما دَهَمهم من الأهوال والأفزاعِ {حتى يقول الرسول والذين آمنوا مَعَهُ} أي انتهى أمرُهم من الشدة إلى حيث اضطَرَّهم الضَّجرُ إلى أن يقول الرسولُ وهو أعلمُ الناس بشئون اللَّهِ تعالى وأوثقُهم بنصره والمؤمنون المقتدون بآثاره المستضيئون بأنواره {متى} أي متى يأتي {نَصْرُ الله} طلباً وتمنياً له واسْتطالةً لمدة الشدة والعناء وقرئ حتى يقولُ بالرفع على أنه حكاية حال ما ضية وهذا كما ترى غايةُ الغاياتِ القاصيةِ ونهايةُ النهايات النائيةِ كيف لا والرسلُ مع علوّ كعبهم في الثبات والاصطبارِ حيث عيلَ صبرُهم وبلغوا هذا المبلغَ من الضجر والضجيج عُلم أن الأمرَ بلغ إلى غاية لامطمح وراءَها {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} على تقدير القولِ أي فقيل لهم حينئذٍ ذلك إسعافاً لمرامهم بالقرب القُربُ الزمانيُّ وفي إيثار الجملة الاسميةِ على الفعلية المناسبة لما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه والتأكيد من الدلالة على تحقيق مضمونها وتقريره مالا يخفى واختيارُ حكاية الوعد بالنصر لنا أنها في حكم إنشاء الوعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتصارُ على حكايتها دون حكايةِ نفسِ النصر مع تحققه للإيذان بعدم الحاجةِ إلى ذلك لاستحالة الخُلْف ويجوز أن يكون هذا وارداً من جهته تعالى عند الحكاية على نهج الاعتراض لا وارداً عند وقوعِ المحكي وفيه رمزٌ إلى أنَّ الوصولَ إلى جناب القدسِ لا يتسنَّى إلا برفض اللذات ومكايدة المشاق كما ينبئ عنه قوله صلى الله عليه وسلم حضت الجنة بالمكارة وحضت النار بالشهوات

215

{يسألونك مَاذَا يُنفِقُونَ}

أي من أصناف أموالِهم {قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ} ما إما شرطية وإما موصولة حُذف العائدُ إليها أي ما أنفقتموه من خير أي خير كان ففيه تجويزُ الإنفاق من جميع أنواعِ الأموالِ وبيانٌ لما في السؤال إلا أنه جُعل من جُملةِ ما في حيز الشرطِ أو الصلة وأُبرِز في معرِض بيانِ المصرِفِ حيث قيل {فللوالدين والاقربين} للإيذان بأن الأهمَّ بيانُ المصارفِ المعدودة لأن الاعتدادَ بالإنفاق بحسب وقوعِه في موقعه وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاء عمْرُو بنُ الجموح وهو شيخ هرم له مالٌ عظيم فقال يارسول الله ماذا نُنفق من أموالنا أين نضعُها فنزلت {واليتامى} أي المحتاجين منهم {والمساكين وابن السبيل} ولم يتعرضْ للسائلين والرقاب إما اكتفاء بما ذكر في المواقع الأُخَرِ وإما بناءً على دخولهم تحت عموم قوله تعالى {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} فإنه شاملٌ لكل خير واقعٍ في أي مصرِفٍ كان {فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} فيوفّي ثوابَه وليس في الآية ما ينافيه فرض الزكاة لينسخ له كما نُقل عن السُدي

216

{كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال} ببناء الفعل للمفعول ورفعِ القتال أي قتال الكفرة وقرئ ببنائه للفاعل وهو اللَّهُ عز وجل ونصب القتال وقرئ كُتِب عليكم القَتْلُ أي قتلُ الكفرة والواو في قولِه تعالى {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} حالية أي والحال أنه مكروهٌ لكم طبعاً على أن الكُرهَ مصدرٌ وُصف به المفعولُ مبالغة أو بمعنى المفعولِ كالخُبز بمعنى المخبوز وقرئ بالفتح على أنه بمعنى المضموم كالضَّعف والضُّعف أو على أنَّه بمعنى الإكراه مَجازاً كأنهم أُكرهوا عليه لشدة كراهتِهم له ومشقتِه عليهم {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} وهو جميعُ ما كُلّفوه من الأمور الشاقةِ التي من جملتها القتالُ فإن النفوسَ تكرَهُه وتنفِرُ عنه والجملة اعتراضية دالَّةٌ على أن في القتال خيراً لهم {وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} وهو جميع ما نُهوا عنه من الأمور المستلَذة وهو معطوفٌ على ما قبله لا محلَّ لهما من الإعراب {والله يَعْلَمُ} ما هو خيرٌ لكم فلذلك يأمركم به {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أي لا تعلَمونه ولذلك تكرَهونه أو واللَّهُ يعلم ما هو خيرٌ وشرٌّ لكم وأنتم لا تعلمونهما فلا تتبعوا في ذلك رأيَكم وامتثلوا بأمره تعالى

217

{يسألونك عَنِ الشهر الحرام} رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد اللَّه بن جَحْشٍ على سرية في جُمادى الآخِرَة قبل قتالِ بدرٍ بشهرين ليترصَّدوا عِيراً لقُريش فيهم عمرُو بنُ عبدِ اللَّه الحَضْرمي وثلاثةٌ معه فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العِير بما فيها من تجارة الطائفِ وكان ذلك أولَ يوم من رجبٍ وهم يظنونه من جمادى

الآخرة فقالت قريش وقد استحل محمَّدٌ الشهرَ الحرامَ شهراً يأمنُ فيه الخائفُ ويبذعِرُ فيه الناسُ إلى معايشهم فوقف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم العِيرَ وعظَّم ذلك على أصحاب السرية وقالوا ما نبرح حتى تنزِلَ توبتُنا ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم العِيرَ والأُسارى وعن ابن عباس رضي الله عنُهمَا لما نزلتْ أخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة والمعنى يسألك الكفارُ أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرامِ على أن قوله عز وجل {قِتَالٍ فِيهِ} بدلُ اشتمالٍ من الشهر وتنكيرُه لما أن سؤالهم كان عن مُطلق القتال الواقعِ في الشهر الحرام لا عن القتال المعهودِ ولذلك لم يقل يسألونك عن القتال في الشهر الحرام وقرئ عن قتال فيه بتكرير العامل كما في قوله تعالى للذين استضعفوا لمن آمن منهم وقرئ قتل {قُلْ} في جوابهم {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ محلّها النصبُ بقل وإنما جاز وقوعُ قتالٌ مبتدأً مع كونه نكرةً لتخصُّصه إما بالوصف إنْ تعلق الظرفُ بمحذوفٍ وقعَ صفةً له أي قتالٌ كائن فيه وإما بالعمل إن تعلق به وإنما أوثر التكير احترازاً عن توهم التعيين وإيذاناً بأن المرادَ مطلقُ القتال الواقعِ فيه أيِّ قتالٍ كان عن عطاءٍ أنه سُئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف بالله ما يحِلّ للناس أن يغزوا في الحَرَم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وما نُسخت وأكثرُ الأقاويل أنها منسوخةٌ بقوله تعالى فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله} مبتدأ قد تخصَّصَ بالعمل فيما بعده أي ومَنْعٌ عن الإسلام الموصِلِ للعبد إلى الله تعالى {وَكُفْرٌ بِهِ} عطفٌ على صدٌّ عاملٌ فيما بعده مثلَه أي وكفرٌ بالله تعالى وحيث كان الصدُ عَن سَبِيلِ الله فرداً من أفراد الكفرِ به تعالى لم يقدَحِ العطفُ المذكورُ في حسن عطفِ قوله تعالى {والمسجد الحرام} على سبيل الله لأنه ليس بأجنبيَ محضٍ وقيل هو أيضاً معطوف على صدٌ بتقدير المضاف أي وصدُ المسجدِ الحرام {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} وهو النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم والمؤمنون {مِنْهُ} أي من المسجد الحرام وهو عطفٌ على وكفر به {أَكْبَرُ عِندَ الله} خبرٌ للأشياء المعدودةِ أي كبائرُ السائلين أكبر عند الله مما عنوا بالسؤال وهو ما فعلته السريةُ خطأً وبناءً على الظن وأفعلُ يستوي فيه الواحدُ والجمعُ والمذكرُ والمؤنثُ {والفتنة} أي ما ارتكبوه من الإخراج والشركِ وصدِّ الناسِ عن الإسلام ابتداءً وبقاءً {أَكْبَرُ مِنَ القتل} أي أفظعُ من قتل الحَضْرميّ {وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم} بيانٌ لاستحكام عداوتهم وإصرارِهم على الفتنة في الدين {حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} الحقِّ إلى دينهم الباطلِ وإضافةُ الدين إليهم لتذكير تأكُّدِ ما بينهما من العلاقة الموجبةِ لامتناع الافتراق {إِنِ اسْتَطَاعُواْ} إشارةٌ إلى تصلُّبهم في الدين وثباتِ قدمِهم فيه كأنه قيل وأنى لهم ذلك {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} تحذيرٌ من الارتداد أي ومن يفعلْ ذلك بإضلالهم وإغوائهم {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} بأن لم يرجِعْ إلى الإسلام وفيه ترغيبٌ في الرجوعِ إلى الإسلام بعد الارتداد {فأولئك} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيِّز الصلةِ من الارتداد والموتِ عليه وما فيه من معنى البُعد للإشعارِ ببُعد منزلتهم في الشر والفساد والجمعُ للنظر إلى المعنى أي أولئك المُصِرُّون على الارتداد إلى حينِ الموتِ {حَبِطَتْ أعمالهم} الحسنةُ التي كانوا عمِلوها في حالة الإسلام حبوطا لاتلافى له قطعاً {فِى الدنيا والاخرة} بحيثُ لم يبْقَ لها حكمٌ من الأحكام الدنيوية والأخروية {وَأُوْلئِكَ} الموصوفون بما ذكر سابقاً ولاحقاً من القبائح {أصحاب النار} أي مُلابِسوها ومُلازِموها {هُمْ فيها خالدون} كدأب

218 - 219 البقرة سائرِ الكَفَرة

218

{إِنَّ الذين آمنوا} نزلت في أصحاب السريةِ لما ظُنَّ بهم أنهم إنْ سلِموا من الإثم فلا أجرَ لهم {والذين هَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله} كرَّر الموصولَ مع أن المرادَ بهما واحدٌ لتفخيم شأنِ الهجرةِ والجهاد فكأنهما مستقلانِ في تحقيق الرجاء {أولئك} المنعوتون بالنُّعوتِ الجليلةِ المذكورة {يرجعون} بما لهم من مبادئ الفوزِ {رَّحْمَةِ الله} أي ثوابه أثبت لهم الرجاءَ دون الفوز بالمرجوِّ للإيذان بأنهم عالمون بأن العملَ غيرُ موجبٍ للأجر وإنما هو على طريق التفضُّلِ منه سبحانه لا لأن في فوزهم اشتباهاً {والله غَفُورٌ} مبالِغٌ في مغفرةِ ما فرَط من عباده خطأً {رَّحِيمٌ} يُجزِل لهم الأجرَ والثوابَ والجملةُ اعتراضٌ محقَّقٌ لمضمون ما قبلها

219

{يسألونك عَنِ الخمر والميسر} تواردَتْ في شأن الخمر أربعُ آياتٍ نزلت بمكة وَمِن ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا فطفق المسلمون بشربونها ثم إن عمرَ ومُعاذاً ونفراً من الصَّحابةِ رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعين قالوا أَفْتِنا يا رسولَ الله في الخمر فإنها مُذهبةٌ للعقل فنزلت هذه الآية فشرِبها قومٌ وتركها آخرون ثم دعا عبدُ الرحمن بنُ عَوْف ناساً منهم فشربوا فسكروا فأقام أحدُهم فقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ فنزلت لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى الآية فقلَّ من يشرَبُها ثم دعا عتبانُ بن مالك سعدَ بنَ أبي وقاصٍ في نفرٍ فلما سكِروا تفاخَروا وتناشدوا حتى أنشد سعدٌ شعراً فيه هجاءٌ الأنصار فضرَبه أنصاريٌّ بلَحْي بعيرٍ فشجه موُضِحَة فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت إِنَّمَا الخمر والميسر إلى قوله تعالى فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ فقال عمرُ رضي الله عنه انتهينا يا رب وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه لو وقعت قطرةٌ منها في بئر فبُنيت في مكانها مَنارةٌ لم أؤذّنْ عليها ولو وقعت في بحر ثم جَفَّ فنبت فيه الكلأُ لم أَرْعَه وعن ابنِ عمرَ رضي الله الله عنهما لو أدخلتُ أُصبَعي فيها لم تَتْبَعْني وهذا هو الإيمانُ والتقى حقاً رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين والخمرُ مصدرُ خمرَه أي ستره سُمّي به من عصير العنب ما غلى واشتد وقذف بالزبد لتغطيتها العقلَ والتمييزَ كأنها نفسُ السَّتر كما سُميت سكَراً لأنها تسكُرهما أي تحجزهما والميسِرُ مصدرٌ ميميٌّ من يَسَر كالموعِد والمرجِع يقال يسَرْته إذا قمَرْته واشتقاقه إما من اليُسر لأنه أخذُ المال بيُسرٍ من غير كد وإما من اليَسار لأنه سلبٌ له وصفتُه أنه كانت لهم عشرة أقداح هي الأزلام زالاقلام الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافسُ والمُسبِلُ والمعلى والمَنيح والسَفيح والوغد لكل منها نصيبٌ معلوم من جَزور ينحرونها ويُجزّئونها عشرةَ أجزاء وقيل ثمانيةً وعشرين إلا الثلاثة هي المنيحُ والسفيحُ والوغدُ للفذ سهمٌ وللتوأم

سهمان وللرقيب ثلاثة وللحلس أربعة وللنافس خمسة وللمُسبل ستة وللمعلَّى سبعة يجعلونها في الربابة وهي خريطةٌ ويضعونها على يديْ عدلٍ ثم يجلجلها ويُدخِلُ يده فيُخرِج باسم رجلٍ رجلٍ قِدْحاً قدحاً فمن خرج له قِدْحٌ من ذوات الأنصباء أخذ النصيب المعيّنَ لها ومن خرج له من تلك الثلاثة غَرِم ثمنَ الجزور مع حِرمانه وكانوا يدفعون تلك الأنصباءَ إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لايدخل فيه ويسمّونه البرم وفي حكمه جميعُ أنواعِ القمارِ من النرْدِ والشطرنج وغيرهما وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه قال إياكم وهاتين اللعبتين المشئومتين فإنهما مياسِرُ العجم وعن عليٌّ كرم الله وجهه أن النرد والشطرنج من الميسر وعن ابن سيرين كلُّ شيء فيه خطرٌ فهو من الميسر والمعنى يسألونك عن حُكمهما وعما في تعاطيهما {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} أي في تعاطيهما ذلك لما أن الأولَ مسلبةٌ للعقول التي هي قطبُ الدين والدنيا مع كونِ كلَ منهما مَتلفةً للأموال {ومنافع لِلنَّاسِ} من كسب الطرَب واللذة ومصاحبةِ الفتيان وتشجيعِ الجبان وتقوية الطبيعة وقرئ إثمٌ كثير بالمثلثة وفي تقديم بيانِ إثمِه ووصفُه بالكِبَر وتأخيرِ ذكر منافعِه مع تخصيصهما بالناس من الدِلالة على غلبة الأول مالا يخفى على ما نطقَ به قولُه تعالى {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} أي المفاسدُ المترتبةُ على تعاطيهما أعظمُ من الفوائد المترتبة عليه وقرئ أقرب من نفعهما {ويسألونك ماذا ينفقون} عطفٌ على يسألونك عن الخمر الخ عطفَ القصة على القصة أي أيُّ شيءٍ ينفقونه قيل هو عمْرو بنُ الجموح أيضاً سأل أولا لا من أيّ جنسٍ ينفق من أجناس الأموال فلما بُيّن جوازُ الإنفاق من جميع الأجناس سأل ثانياً من أي أصنافها نُنفِقُ أمن خيارها أم من غيرها أو سأل عن مقدار ما يُنفقه منه فقيل {قُلِ العفو} بالنصب أي ينفقون العفوَ أو انفقوا العفو وقرئ بالرفع على أن ما استفهامية وذا موصولةٌ صلتُها ينفقون أي الذي ينفقونه العفوُ قال الواحدي أصلُ العفوِ في اللغة الزيادة وقال القفال العفوُ ما سُهل وتيسر مما فضَل من الكفاية وهو قول قتادةَ وعَطاءٍ والسدي وكانت الصَّحابةِ رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين يكسِبون المالَ ويُمسكون قدرَ النفقة ويتصدقون بالفضل ورُوي أن رجلاً أتى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال خذها مني صدقة فأعرض عنه فكرر ذلك مراراً حتى قال عليه السلام مغضبا هاتها فأخذها فخذفها عليه خذفا لو أصابته لشجته ثم قال يأتي أحدُكم بماله كلِّه يتصدق به ويجلِس يتكفّف الناسَ إنما الصدقةُ عن ظهر غنى {كذلك} إشارةٌ إلى مصدرِ الفعل الآتي وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجةِ المشارِ إليه في الفضلِ مع كمال تميّزِه وانتظامِه بسببِ ذلكَ في سلكِ الأمور المشاهَدة والكافُ لتأكيدِ ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة وإفرادُ حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين باعتبار القَبيل أو الفريق أو لعدم القصد إلى تعيين المخاطب كما مر ومحلُه النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي مثل ذلك البيان الواضحِ الذي هو عبارةٌ عمَّا مضى في أجوبة الأسئلة المارّة {يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} الدالة على الأحكام الشرعية المذكورة لا بياناً أدنى منه وقد مر تمامُ تحقيقِه في قوله تعالى وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا وتبيين الآياتِ تنزيلها مبينة الفحوى واضحةَ المدلول لا أنَّه تعالى يبينها بعد أن كانت مشْتبهةً ملتبسةً وصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} لكي تتفكروا فيها

220 - البقرة 221 البقرة وتقِفوا على مقاصدها وتعملوا بمَا في تضاعيفِها وقولُه تعالى

220

{فِى الدنيا والاخرة} متعلقٌ إما بيُبيْن أي يبين لكم فيما يتعلق بالدنيا والآخرة الآيات وإما بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الآيات أي يبينها لكم كائنةً فيهما أي مبيِّنةً لأحوالكم المتعلقةِ بهما وإنما قدم عليه التعليلُ لمزيد الاعتناءِ بشأن التفكر وإما بقوله تعالى تَتَفَكَّرُونَ أي تتفكرون في الأمور المتعلقة بالدنيا والآخرة في الأحكام الواردةِ في أجوبة الأسئلة المارّة فتختارون منها ما يصلُح لكم فيهما وتجتنبون عن غيره وهذا التخصيصُ هو المناسبُ لمقام تعدادِ الأحكام الجزئيةِ ويجوزُ التعميمُ لجميع الأمور المتعلقة بالدنيا والآخرة فذلك حينئذ إشارةٌ إلى ما مرَّ من البيانات كلاً أو بعضاً لا إلى مصدر ما بعده فإنه حينئذ فعلٌ مستقلٌ ليس عن تلك البيانات والمرادُ بالآيات غيرُ ما ذكر والمعنى مثلَ ذلك البيان الوارد في الأجوبة المذكورة يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات والدلائلَ لعلكم تتفكرون في أموركم المتعلقة بالدنيا والآخرة وتأخذون بما يصلح لكم وينفعُكم فيهما وتذرون ما يضرُّكم حسبما تقتضيهِ تلك الآياتُ المبينة {ويسألونك عن اليتامى} عطفٌ على ما قبله من نظيره رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً الآية تحامى الناسُ عن مخالطة اليتامى وتعهُّد أموالهم فشق عليهم ذلك فذكروه للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} أي التعرضُ لأحوالهم وأموالهم على طريق الإصلاح خيرٌ من مجانبتهم اتقاءً {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ} وتعاشِروهم على وجهٍ ينفعهم {فَإِخوَانُكُمْ} أي فهم إخوانُكم أيْ في الدينِ الذي هُو أقوى من العلاقة النسبية ومن حقوق الأخوة ومواجبها المخالطةُ بالأصلاح والنفعِ وقد حُمل المخالطةُ على المصاهرة {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} العلم بمعنى المعرفة المتعدية الى واحد ومن لتضمينه معنى التمييز أي يعلم مَنْ يفسد في أمورهم عند المخالطة أو مَنْ يقصِد بمخالطته الخيانةَ والافساد مميزا له ممن يُصلح فيها أو يقصد الإصلاح فيجازي كلاً منهما بعمله ففيه وعدٌ ووعيد خلا أن في تقديم المفسد مزيدَ تهديد وتأكيد للوعيد {وَلَوْ شَاء الله لاعْنَتَكُمْ} أي لو شاء أن يعنتكم أي يكلفَكم ما يشق عليكم من العنت وهو المشقة لفعل ولم يجوِّزْ لكم مداخلتَهم {أَنَّ الله عَزِيزٌ} غالبٌ على أمره لا يعِزُّ عليه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتُكم فهو تعليلٌ لمضمون الشرطية وقوله عز وجل {حَكِيمٌ} أي فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمةُ الداعيةُ إلى بناء التكليف على أساس الطاقة دليلٌ على ما تفيده كلمة لو من انتفاء مقدمها

221

{وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} أي لا تتزوجوهن وقرئ بضم التاء من الإنكاح أي لا تُزوِّجوهن

من المسلمين {حتى يُؤْمِنَّ} والمرادُ بهن إما ما يعم الكتابياتِ أيضاً حسبما يقتضيه عمومُ التعليلين الآتيين لقوله تعالى وَقَالَتِ اليهودُ عُزَيْرٌ ابنُ الله وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله إلى قوله سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ فالآية منسوخةٌ بقوله تعالى والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وأما غيرُ الكتابيات فهي ثابتة ورُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعث مَرْثدَ بنَ أبي مرثد الغنوي إلى مكةَ ليُخرج منها ناساً من المسلمين وكان يهوى امرأةً في الجاهلية اسمُها عَنَاق فأتته فقالت ألا تخلو فقال ويحك إن الإسلامَ حال بيننا فقال هل لك أن تتزوّجَ بي قال نعم ولكن ارجع الى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فاستأمَره فنزلت {وَلأمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ} تعليل للنهي عن مواصلتهن وترغيبٌ في مواصلة المؤمنات صُدِّر بلام الابتداء الشبيهةِ بلام القسم في إفادة التأكيد مبالغة في الحمل على الانزجار وأصلُ أمة أمو حذفت لامها على غير قياس وعوِّض منه تاء التأنيث ودليلُ كون لامها واوا رجعوها في الجمع قال الكلابي أما الإماءُ فلا يدعونني ولدا ... إذا تداعى بنو الأمواتِ بالعار وظهورُها في المصدر يقال هي أَمةٌ بيِّنة الأُموَّة وأقرَّتْ له بالأموّة وقد وقعت مبتدأ لما فيها من لام الابتداء والوصف أي ولأمة مؤمنة مع ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر {خَيْرٌ} بحسب الدين والدنيا {مّن مُّشْرِكَةٍ} أي امرأة مشركة مع مالها من شرف الحرية ورفعة الشأن {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} قد مر أن كلمةَ لو في أمثالِ هذهِ المواقعِ ليستْ لبيان انتفاءِ الشيءِ في الماضي لانتفاء غيرِه فيه فلا يُلاحظ لها جوابٌ قد حُذف ثقةٍ بدلالةِ ما قبلها عليه من انصباب المعنى على تقديره بل هي لبيان تحققِ ما يفيده الكلام السابق من الحُكم على كل حالٍ مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالِها على أبعدِها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهرَ بثبوته معه ثبوتُه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشيءَ متى تحقق مع المنافي القويَّ فلأنْ يتحققَ مع غيره أولى ولذلك لا يذكر معه شيءٌ من سائرِ الأحوالِ ويكتفى عنه بذكر الواوِ العاطفةِ للجُملة على نظيرتها المقابلةِ لها المتناولة لجميع الأحوال المغايرة لها وهذا معنى قولِهم أنها لاستقصاء الأحوال على وجه الإجمال كأنه قيل لو لم تعجبْكم ولو أعجبتكم والجملةُ في حيز النصبِ على الحالية من مشركة إذ المآل وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خيرٌ مّن امرأة مشركة حال عدمِ اعجابها وحال إعجابها إياكم بجمالها ومالِها ونسبها وبغير ذلك من مبادي الإعجابِ وموجباتِ الرغبة فيها أي على كل حال وقد اقتُصر على ذِكْر ما هو أشدُّ منافاةً للخيرية تنبيهاً على أنها حيث تحققت معه فلأَنْ تتحققَ مع غيره أولى وقيل الواوُ حاليةٌ وليس بواضح وقيل اعتراضيةٌ وليس بسديد والحقُّ أنها عاطفة مستتبعةٌ لما ذكر من الاعتبار اللطيف نعم يجوز أن تكونَ الجملةُ الأولى مع ما عطف عليها مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها فتدبر {وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين} من الإنكاح والمراد بهم الكفار على الإطلاق لما مر أي لا تُزوِّجوا منهم المؤمناتِ سواءٌ كن حرائرَ أو إماءً {حتى يؤمنوا} ويتركوا ماهم فيه من الكفر {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ} مع ما به من ذل المملوكية {خَيْرٌ من مشرك} مع ماله من عز المالكية {وَلَوْ أعجبكم} مما فيه من دواعي الرغبة فيه الراجعةِ إلى ذاته وصفاته {أولئك} استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمون التعليلين المارَّيْن أي أولئك المذكورون من المشركات والمشركين {يَدَّعُونَ} من يقارِنُهم ويعاشِرُهم {إِلَى النار} أيْ إلى ما يُؤدِّي إليها من الكفر والفسوق فلا بد من الاجتناب عن مقارنتهم ومقاربتِهم {والله يَدْعُو} بواسطة عباده

222 - البقرة المؤمنين مَنْ يقارِنُهم {إِلَى الجنة والمغفرة} أي إلى الاعتقاد الحق والعملِ الصالحِ الموصلَيْن إليهما وتقديمُ الجنة على المغفرة مع أن حق التخلية أن تُقدَّم على التحلية لرعاية مقابلة النار ابتداءً {بِإِذْنِهِ} متعلق بيدعو أي يدعو ملتبساً بتوفيقه الذي من جملته إرشادُ المؤمنين لمقارِنيهم إلى الخير ونصيحتُهم إياهم فهم أحقاءُ بالمواصلة {ويبين آياته} المستملة على الأحكام الفائقةِ والحِكَمِ الرائقة {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي لكى يتذكروا ويعملوا بما فيها فيفوزوا بما دُعوا إليه من الجنة والغفران هذا وقد قيل معنى والله يدعوا وأولياءُ الله يدْعون وهم المؤمنون على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مقامه تشريفاً لهم وأنت خبيرٌ بأن الضميرَ في المعطوف على الخبر أعني قوله تعالى ويبين لله تَعَالَى فيلزم التفكيكُ وقيل معناه والله يدعو بأحكامه المذكورة إلى الجنة والمغفرة فإنها موصلةٌ لمن عمِل بها إليهما وهذا وإن كان مستدعياً لاتحاد مرجِع الضميرين الكائنين في الجملتين المتعاطفتين الواقعتين خبراً للمبتدأ لكنْ يفوِّت حينئذ حسنَ المقابلة بينه وبينَ قولِهِ تعالى أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النار ولعل الطريق الأسلمَ ما أوضحناه أولاً وإيرادُ التذكر ههنا للإشعار بأنه واضحٌ لا يحتاج إلى التفكر كما في الأحكام السابقة

222

{ويسألونك عَنِ المحيض} عطفٌ على ما تقدم من مثله ولعل حكايةَ هذه الأسئلة الثلاثةِ بالعطف لوقوع الكلِّ عند السؤال عن الخمر وحكاية ما عداها بغير عطف لوقوع كلَ من ذلك في وقت على حِدَة والمحيض مصدر من حاضت المراة كالمجئ والمبيت روي أن أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحُيَّضَ ولا يؤاكلونهن كدأب اليهودِ والمجوسِ واستمر الناسُ على ذلك إلى أنْ سأل عن ذلك أبو الدحاح في نفر من الصَّحابةِ رضوانُ الله عليهم فنزلت {قُلْ هُوَ أَذًى} أي شئ يُستقذرُ منه ويؤذي من يقرَبُه نفرةً منه وكراهةً له {فاعتزلوا النساء فِي المحيض} أي فاجتنبوا مجامعتَهن في حالة المحيض قيل لأخذ المسلمون بظاهر الاعتزال فأخرجوهن من بيوتهم فقال ناسٌ من الأعراب يارسول الله البردُ شديدٌ والثيابُ قليلة فإن آثرناهن هلك سائرُ أهل البيت وإن استأثرنا بها هلكت الحُيَّض فقال صلى الله عليه وسلم إنما أُمِرْتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حِضْنَ ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم وقيل إن النصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض واليهودُ كانوا يفرِّطون في الاعتزال فأُمر المسلمون بالاقتصاد بين الأمرَيْن {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} تأكيدٌ لحكم الاعتزال وتنبيه على أن المرادَ به عدم قربانهن لاعدم القربِ منهن وبيانٌ لغايته وهو انقطاعُ الدم عندَ أبي حنيفةَ رحمَهُ الله فإن كان ذلك في أكثر المدة حلَّ القُربان كما انقطع وإلا فلا بدَّ من الاغتسال أو من مُضيِّ وقت صلاة وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله أن يغتسلن بعد الانقطاع كما تُفصح عنه القراءة بالتشديد ويبنى عنه قولُه عزَّ وجلَّ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فإن التطهرَ هو الاغتسال {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} من المأتى الذي حلله لكم وهو القُبُل {إِنَّ الله يحب التوابين} مما عسى يندر منهم من ارتكاب بعض ما نُهوا عنه ومن سائر الذنوب {وَيُحِبُّ المتطهرين} المتنزِّهين عن الفواحش والأقذار وفي ذكر التوبة إشعارٌ بمِساس الحاجة إليها بارتكاب بعض الناس لما

223 - 224 البقرة نُهوا عنه وتكريرُ الفعل لمزيد العناية بأمر التطهر

223

{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} أي مواضعُ حرثٍ لكم شُبِّهن بها لما بين ما يلقى في أرحامهن وبين البذورِ من المشابهة من حيث إن كلا منهما مادةٌ لما يحصُل منه {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} لما عبّر عنهن بالحرث عبّر عن مجامعتهن بالإتيان وهو بيانٌ لقوله تعالى فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله {أنى شِئْتُمْ} من أيِّ جهة شئتم روي أن اليهود كانوا يزعُمون أن مَنْ أتى امرأتَه في قبُلها من دبرها يأتي ولده أحول فذُكِر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت {وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ} أي ما يُدخَّر لكم من الثواب وقيل هو طلبُ الولد قيل هو التسمية عند المباشرة {واتقوا الله} بالاجتناب عن معاصيه التي من جملتها ما عُدَّ من الأمور {واعلموا أَنَّكُم ملاقوه} فتعرَّضوا لتحصيل ما تنتفعون به حينئذ واجتنبوا اقترافَ ما تُفتَضَحون به {وَبَشّرِ المؤمنين} الذين تلقَّوا ما خُوطِبوا بهِ من الأوامر والنواهي بحسن القَبول والامتثال بما يقصُر عنه البيانُ من الكرامة والنعيم المقيم أو بكل ما يُبشَّر به من الأمور التي تُسرُّ بها القلوب وتَقَرُّ بها العيونُ وفيه مع ما في تلوين الخطاب وجعلِ المبشِّرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من المبالغة في تشريف المؤمنين مالا يخفى

224

{وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لايمانكم} قيل نزلتْ في عبدُ اللَّه بنِ رَواحةَ حينَ حلفَ أنْ لا يكلم ختنه بشير بنَ النعمان ولا يُصلِحَ بينه وبين أخته وقيل في الصدِّيقِ رضيَ الله عنه حينَ حلفَ أنْ لا يُنفِقَ على مِسْطَحٍ لخوضه في حديث الأفك والعُرضة فُعلة بمعنى مفعول كالقُبضة والغرفة تطلق على ما يعرض دون الشئ فيصير حاجزاً عنه كما يقال فلان عُرضة للخير وعلى المَعْرِض للأمر كما في قوله ... فلا تجعلوني عُرضة لِلَّوائمِ ... فالمعنى على الوجه الأول لاتجعلوا الله مانعا للأمور الحسنة التي تحلِفون على تركها وعبر عنها بالإيمان لملابستها بها كما في قولِه عليه السلام لعبد اللَّه بنِ سَمُرةَ إذا حَلَفتَ على يمينٍ فرأيتَ غيرَها خيراً منها فأتِ الذي هو خيرٌ وكفِّر عن يمينك وقوله تعالى {أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بَيْنَ الناس} عطفُ بيانٍ لأَيْمانكم أو بدلٌ منها لما عرفت أنها عبارةٌ عن الأمور المحلوف عليها واللام في لأيمانكم متعلقة بالفعل أو بعُرضةً لما فيها من معنى الاعتراض أي لاتجعلوا الله لبركم وتقوا كم وإصلاحكم بين الناس عُرضةً أي برزخاً حاجزاً بأن تحلِفوا به تعالى على تركها أولا تجعلوه تعالى عرضة أي شيئاً يَعترِض الأمورَ المذكورة ويحجُزُها بما ذُكر من الحَلِف به تعالى على تركها وقد جُوِّز أن تكون اللامُ للتعليل ويتعلق أن تبروا الخ بالفعل أو بعرضة فيكون الأيمانُ بمعناها وأنت خبير بأنه يؤدي إلى الفصلُ بين العامل ومعمولِه بأجنبي وعلى الوجه الثاني لا تجعلوا الله مَعْرِضاً لأيمانكم تبتذلونه بكثرة الحلف به ولذلك ذُمَّ من نزلت فيه وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ بأشنعِ المذامِّ وجُعل الحلاف مقدمتها وأن تَبَرُّواْ حينئذ علة للنهي أي إرادةَ أن تبرّوا وتتقوا وتصلحوا لأن الحلافَ مجترئ على الله سبحانه غيرُ معظِّمٍ له فلا يكون برا متقيا ثقة

225 - 226 227 البقرة بين الناس فيكون بمعزل من التوسط في إصلاح ذاتِ البين {والله سَمِيعٌ} يسمع أَيْمانكم {عَلِيمٌ} يعلم نياتِكم فحافظوا على ما كُلفتموه

225

{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم} اللغوُ ما سقط من الكلام عن درجة الاعتبارِ والمرادُ به في الإيمان مالا عقدَ معه ولا قصْدَ كما ينبئ عنه قوله تعالى ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايمان وهو المعنى بقوله عز وجل {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وقد اختُلف فيه فعندنا هو أن يحلِف على شئ يظنُّه على ما حلف عليه ثم يظهرُ خلافُه فإنه لا قصْدَ فيه إلى الكذبَ وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله هو قولُ العرب لا والله وبلى مما يؤكِّدون به كلامَهم من غير إخطار الحلِف بالبال فالمعنى على الأول لا يؤاخذُكم الله أي لا يعاقبُكم بلغو اليمين الذي يحلِفه أحدُكم ظاناً أنه صادقٌ فيه ولكن يعاقبُكم بما اقترفتْه قلوبُكم من إثم القصْد إلى الكذب في اليمين وذلك في الغَموس وعلى الثاني لا يلزمُكم الكفارةُ بما لا قصدَ معه إلى اليمين ولكن يلزمُكُموها بما نوَتْ قلوبُكم وقصَدَتْ به اليمينَ ولم يكن كسبَ اللسان فقط {والله غَفُورٌ} حيث لم يؤاخذْكم باللغو مع كونه ناشئاً من عدم التثبّت وقلةِ المبالاة {حَلِيمٌ} حيث لم يعجَلْ بالمؤاخذة والجملة اعتراض مقر لمضمونِ قولِه تعالى لا يؤاخذكم الخ وفيه إيذانٌ بأن المرادَ بالمؤاخذة المعاقبة لا إيجابُ الكفارة إذ هي التي يتعلق بها المغفرةُ والحِلْمُ دونه

226

{لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ} الإيلاءُ الحلِفُ وحقُّه أن يستعمل بعلى واستعمالى بمن لتضمينه معنى البُعد أي للذين يحلِفون متباعدين من نسائهم ويُحتمل أن يراد لهم من نسائهم {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} كقولك لى منك كذا وقرئ آلوا من نسائهم وقرئ يُقسمون من نسائهم والإيلاءُ من المرأة أن يقول والله لا أقرَبُك أربعةَ أشهرٍ فصاعداً على التقييد بالأشهر أولا أقربك على الإطلاق ولا يكون فيما دون ذلك وحكمه أنه إن فاء إليها في المدة بالوطء إن أمكن أوبالقول إن عجِز عنه صح الفئ وحنِث القادرُ ولزِمَتْه كفارةُ اليمين ولاكفارة على العاجز وإن مضت الأربعةُ بانت بتطليقه والتربُّص الانتظارُ والتوقف أضيف إلى الظرف اتساعاً أي لهم أن ينتظروا في هذه المدة من غير مطالبة بفئ أو طلاق {فإن فاؤوا} أي رجعوا عن اليمن بالحِنْث والفاء للتفصيل كما إذا قلت أنا نزيلُكم هذا الشهر فإن أحمدتكم أقمتُ عندكم إلى آخره والالم أبث إلا ريثا أتحوّل {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفرُ للمُولي بفيئته التي هي كتوبته إثم حنثه عند تكفيره أو ما قصَد بالإيلاء من ضرار المرأة

227

{وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} وأجمعوا عليه {فَإِنَّ الله سَمِيعٌ} بما جرى منهم من الطلاق وما يتعلق به من الدمدمة والمقاولةِ التي لا تخلوا عنها الحالُ عادة {عَلِيمٌ} بنياتهم وفيه من الوعيد على الإصرار وترك الفَيئة ما لا يخفى

228 - البقرة

228

{والمطلقات} أي ذواتُ الأقراءِ من الحرائر المدخولِ بهن لما قد بُين أن لا عدةَ على غير المدخولِ بها وأنَّ عدَّةَ من لا تحيضُ لصِغَرٍ أو كِبَرٍ أو حملٍ بالأشهر ووضعِ الحمل وأن عدة الأمة قرءان أو شهران {يَتَرَبَّصْنَ} خبرٌ في مَعْنى الأمرِ مفيدٌ للتأكيد بإشعاره بأن المأمور به مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى الإيتان به فكأنهن امتثلن بالأمر فتخبر به موجوداً متحققاً وبناؤه على المبتدأ مفيدٌ لزيادة تأكيد {بِأَنفُسِهِنَّ} الباء للتعدية أي يقمَعْنها ويحمِلْنها على مالا تشتهيه بل يشق عليها من التربص وفيه مزيدُ حثَ لهن على ذلك لما فيه من الإنباء عن الاتصاف بما يستنكفْن منه من كون نفوسِهن طوامِحَ إلى الرجال فيحملُهن ذلك على الإقدام على الإتيان بما أمرن به {ثلاثة قُرُوء} نُصب على الظرفية أو المفعولية بتقدير مضافٍ أي يتربصن مدةَ ثلاثةِ قروء أو يتربصن مُضِيَّ ثلاثةِ قروءٍ وهو جمع قُرءٍ والمراد به الحيضُ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم دعي الصَّلاةَ أيامَ أقرائِك وقوله صلى الله عليه وسلم طلاقُ الأمَةِ تطليقتانِ وعِدَّتُها حَيْضتان وقوله تعالى واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ ولأن المقصودَ الأصليَّ من العدة استبراءُ الرحِم ومدارُه الحيضُ دون الطهر ويقال أقْرَأت المرأة إذا حاضت وقوله تعالى فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ معناه مستقبلاتٍ لعدتهن وهي الحِيَضُ الثلاثُ وإيرادُ جمع الكثرة في مقام جمع القِلة بطريق الاتساع فإن إيراد كلَ من الجمعين مكانَ الآخر شائع ذائع وقرئ ثلاثة قُرو بغير همز {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ} من الحَيْض والولد استعجالا في العدة وإبطالاً لحقِّ الرَّجْعة وفيه دليل على قبول قولهِن في ذلك نفياً وإثباتاً {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر} جوابُ الشرط محذوفٌ يدل عليه ما قبله دَلالةً واضحة أي فلا يجترئن على ذلك فإنَّ قضيةَ الإيمانِ بالله تعالى واليومِ الآخِرِ الذي يقع فيه الجزاءُ والعقوبةُ منافيةٌ له قطعاً {وَبُعُولَتُهُنَّ} البعولةُ جمعُ بعلٍ وهو في الأصل السيدُ المالك والتاءُ لتأنيث الجمع كما في الحزونة والسهولة أو مصدرٌ بتقدير مضافٍ أي أهلُ بعولتهن أي أزواجُهن الذين طلقوهن طلاقاً رَجْعياً كما ينبئ عنه التعبيرُ عنهم بالبعولة والضميرُ لبعض أفراد المطلقات {أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ} إلى مِلْكهم بالرَّجْعة إليهن {فِي ذَلِكَ} أي في زمانِ التربُّص وصيغة التفضيلِ لإفادة أن الرجلَ إذا أراد الرجعةَ والمرأة تأباها وحب إيثارُ قولِه على قولها لا أن لها أيضاً حقاً في الرجعة {إِنْ أَرَادُواْ} أي الأزواجُ بالرجعة {إصلاحا} لما بينهم وبينهن وإحساناً إليهن ولم يريدوا مضارَّتَهن وليس المرادُ به شرطيةَ قصْدِ الإصلاح بصحة الرجعة بل هو الحثُّ عليه والزجرُ عن قصد الضِّرار {وَلَهُنَّ} عليهم من الحقوق {مِثْلُ الذى} لهم {عَلَيْهِنَّ بالمعروف} من الحقوق التي يجب مراعاتُها ويتحتم المحافظةُ عليها {وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أي زيادةٌ في الحق لأن حقوقَهم في أنفسهن وحقوقَهن في المَهْر

229 - البقرة والكَفاف وتركِ الضِّرار ونحوها أو مزيةٌ في الفضل لما أنهم قوامون عليهن حُرَّاسٌ لهن ولما في أيديهن يشاركونهن فيما هو الغرَض من الزواج ويستبدّون بفضيلة الرعاية والإنفاق {والله عَزِيزٌ} يقدِرُ على الانتقام ممن يخالفُ أحكامَه {حَكِيمٌ} تنطوي شرائعهُ على الحِكَم والمصالح

229

{الطلاق} هو بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم والمراد به الرجعى لما أنه السابقَ الأقربُ حكمُه ولما روى لأنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن الثالثة فقال صلى الله عليه وسلم أو تسريحٌ بإحسان وهو مبتدأ بتقدير مضافٍ خبرُه ما بعده أي عددُ الطلاق الذي يستحقُّ الزوجُ فيه الردَّ والرجعة حسبما بيّن آنفاً مَرَّتَانِ أي ثبان وإيثارُ ما ورد به النظمُ الكريم عليه للإيذان بأن حقَّهما أن يقعا مرة بعد مرة لادفعة واحدة وإن كان حكمُ الرد ثابتاً حينئذٍ أيضاً {فإمساك} أي فالحكمُ بعدهما إمساكٌ لهن بالرجعة {بِمَعْرُوفٍ} أي بحسن عِشرةٍ ولطفِ معاملة {أَوْ تسريح بإحسان} بالطلقة الثالة كما روى عنه صلى الله عليه وسلم أو بعدم الرجعةِ إلى أن تنقضيَ العِدَّةُ فَتَبينُ وقيل المرادُ به الطلاقُ الشرعيُّ وبالمرتين مطلقُ التكرير لا التثنيةُ بعينها كما في قوله تعالى ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي كرة والمعنى أن التطليق الشرعيَّ تطليقةٌ بعد تطليقةٍ على التفريق دون الجمع بين الطلقتين أو الثلاثِ فإن ذلك بدعةٌ عندنا فقوله تعالى فَإِمْسَاكٌ الخ حُكمٌ مبتدأٌ وتخييرٌ مستأنف والفاء فيه للترتيب على التعليم كأنه قيل إذا علمتم كيفية التطليق فأمرُكم أحدُ الأمرين {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ} منهن بمقابلة الطلاق {مما آتيتموهن} أي من الصدقات وتخصيصُها بالذكر وإن شاركها في الحكم سائرُ أموالِهن إما لرعاية العادة أو للتنبيه على أنه إذا لم يحِلَّ لهم أن يأخُذوا مما آتَوْهن بمقابلة البُضْع عند خروجه عن ملكهم فلأَنْ لا يحِلَّ أن يأخذوا مما لا تعلُّقَ له بالبُضع أولى وأحرى {شَيْئاً} أي نزْراً يسيراً فضلاً عن الكثير وتقديمُ الظرفِ عليه لما مر مرارا أو الخطاب مع الحكام وإسنادُ الأخذِ والإيتاءِ إليهم لأنهم الآمرون بهما عند المرافعة وقيل مع الأزواج وما بعده مع الحكام وذلك مما يشوش النظمَ الكريمَ على القراءة المشهورة {إِلاَّ أَن يخافا} أي الزوجان وقرئ يظنا وهو مؤيد لتفسير الخوف بالظن {ألا يُقِيمَا حُدُودَ الله} أي أن لايراعيا مواجب أحكام الزوجية وقرئ يخافا على البناء للفعول وإبدال أن بصلته من الضمير بدل الاشتمال وقرئ تخافا وتُقيما بتاء الخطاب {فَإِنْ خِفْتُمْ} أيها الحكامُ {ألا يقيما} أي على الزوجين {حُدُودَ الله} بمشاهدة بعض الأماراتِ والمخايل {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي على الزوجين {فِيمَا افتدت بِهِ} لا على الزوج في أخذ ما افتدت به ولا عليهما في إعطائه إياه وروى أن جميلة بنتَ عبدِ الله بن أبي بن سلول كانت تبعض زوجَها ثابتَ بنَ قيس فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ورأسه شئ والله ما أعيبُ عليه في دين ولا خلُق ولكن أكره الكفرَ بعد الإسلام ما أُطيقه بغضاً إني رفعت جانبَ الخِباء فرأيتُه أقبلَ في عِدَّةٍ فإذا هو أشدُهم سواداً

230 - 231 البقرة وأقصرُهم قامة وأقبحُهم وجهاً فنزلت فاختلعَتُ منه بحديقة كان أصْدقَها إياها {تِلْكَ} أي الأحكام المذكور {حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} بالمخالفة والرفض {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَأُوْلَئِكَ} المتعدّون والجمعُ باعتبار معنى الموصول {هُمُ الظالمون} أي لأنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعقابه ووضعُ الاسمِ الجليل في المواقعِ الثلاثةِ الأخيرةِ موقعَ الضمير لتربية المهابةِ وإدخال الروعةِ وتعقيبُ النهي بالوعيد للمبالغة في التهديد

230

{فَإِن طَلَّقَهَا} أي بعد الطلقتين {فَلاَ تَحِلُّ} هي {لَهُ مِن بَعْدُ} أي من بعد هذا الطلاقِ {حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أي تتزوج غيره فإن النكاحَ أيضاً يُسند إلى كلَ منهما وتعلَّقَ بظاهره من اقتصر على العقد والجمهورُ على اشتراط الإصابة لما رُوي أن امرأة رُفاعةَ قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن رُفاعةَ طلقني فبتَّ طلاقي وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإن ما معه مثلُ هُدْبة الثوب فقال صلى الله عليه وسلم أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة قالت نعم قال صلى الله عليه وسلم لا إلا أن تذوقي عُسَيْلَتَه ويذوقَ عُسَيْلَتَكِ وبمثله تجوز الزيادةُ على الكتاب وقيل النكاحُ بمعنى الوطء والعقدُ مستفاد من لفظ الزوج والحكمةُ من هذا التشريع الردعُ عن المسارعة إلى الطلاق والعودُ إلى المطلقة ثلاثاً والرغبة فيها والنكاحُ بشرط التحليل مكروهٌ عندنا ويُروى عدمُ الكراهة فيما لم يكن الشرطُ مصرَّحاً به وفاسدٌ عند الأكثرين لقوله صلى الله عليه وسلم لعن الله المحلِّل والمحلَّل له {فَإِن طَلَّقَهَا} أي الزوجُ الثاني {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي على الزوج الأول والمرأة {أَن يَتَرَاجَعَا} أن يرجِعَ كلٌّ منهما إلى الآخَر بالعقد {إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله} التي أوجب مراعاتِها على الزوجين من الحقوق ولا وجهَ لتفسير الظنِّ بالعلم لما أن العواقبَ غيرُ معلومةٍ ولأن أن الناصية للتوقع المنافي للعلم ولذلك لا يكاد يقال علمتُ أن يقومَ زيد {وَتِلْكَ} إشارةٌ إِلى الأحكامُ المذكورة إلى هنا {حُدُودَ الله} أي أحكامُه المعيّنة المحمية من التعرض لها بالتغير والمخالفة {يُبَيّنُهَا} بهذا البيان اللائق أو سيبينها فيما سيأتي بناءً على أن بعضَها يلحقُه زيادةُ كشفٍ وبيانٌ بالكتاب والسنةَ والجملة خبرٌ ثانٍ عند من يجوِّزُ كونَه جملةً كما في قوله تعالى فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى أو حالٌ من حدود الله والعامل معنى الإشارة {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي يفهمون وتخصيصُهم بالذِّكرِ مع عموم الدعوة والتبليغِ لما أنهم المنتفعون بالبيان أو لأن ما سيلحق بعضَ النصوص من البيان لا يقف عليه إلا الراسخون في العلم

231

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي آخِرَ عدَّتِهن فإن الأجل كما ينطلِقُ

على المدة ينطلق على منتهاها والبلوغُ هو الوصولُ إلى الشئ وقد يقال للدنو منه اتساعا وهو المراد ههنا لقوله عز وجل {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بمعروف} إذ لا مكان للإمساك بعد تحققِ بلوغِ الأجلِ أي فراجعوهن بغير ضِرارٍ أو خلُّوهن حتى ينقضِيَ أجلُهن بإحسان من غير تطويل وهذا كما ترى إعادةٌ للحكم في بعض صورِه اعتناءً بشأنه ومبالغةً في إيجاب المحافظةِ عليه {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} تأكيدٌ للأمر بالإمساك بمعروف وتوضيح لمعناه وزجر صريحٌ عما كانوا يتعاطَوْنه أي لا تراجعوهن إرادة الإضرار بهن كان المطلق يترُكَ المعتدةَ حتى إذا شارفت انقضاءَ الأجلِ يراجعها لا لرغبة فيها بل ليطوِّل عليها العدةَ فنُهي عنه بعد ما أُمر بضده لما ذكر وضِراراً نُصب على العِلّية أو الحالية أي لا تمسكوهن للمضارة أو مضارّين واللام في قوله {لّتَعْتَدُواْ} متعلقة بضراراً أي لتظلموهن لالإلجاء إلى الافتداء {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي ما ذكر من الإمساك المؤدّي إلى الظلم وما فيه من معنى البُعد للدِلالة على بُعد منزلتِه في الشرِّ والفساد {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} في ضمن ظلمِه لهن بتعريضها للعقاب {وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله} المنطويةَ على الأحكام المذكورة أو جميعَ آياتهِ وهي داخلةٌ فيها دخولاً أولياً {هُزُواً} أي مَهُزوًّا بها بأن تُعرِضوا عنها وتتهاونوا في المحافظة على ما في تضاعيفها من الأحكام والحدود من قولهم لمنْ لَمْ يجِدَّ فِي الأمر أنت هازئ كأنه نُهي عن الهُزْؤ بها وأريد ما يستلزمه من الأمر بضده أي جِدُّوا في الأخذ بها والعملِ بما فيها وارعَوْها حقَّ رعايتها وإلا فقد أخذتموها هُزُؤاً ولعباً ويجوزُ أن يرادَ بهِ النهيُ عن الإمساك ضراراً فإن الرجعةَ بلا رغبة فيها عملٌ بموجب آياتِ اللَّهِ تعالى بحسب الظاهر دون الحقيقة وهو معنى الهزء وقيل كان الرجل ينكِحُ ويطلِّقُ ويُعتِقُ ثم يقول إنما كنت ألعَبُ فنزلت ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ثلاثٌ جِدُّهن جدٌ وهزلُهن جدٌّ النكاحُ والطلاقُ والعِتاق {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} حيث هداكم إلى ما فيه سعادتُكم الدينية والدنيوية أي قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها والظرفُ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من نعمة الله أي كائنةً عليكم أو صفةٌ لها على رأي من يجوِّز حذفَ الموصول مع بعض صلته أي الكائنة عليكم ويجوز أن يتعلق بنفسها إن أريد بها الإنعام لأنها اسم مصدر كنبات من أنبت ولا يقدح في عمله تاء التأنبث لأنه مبنيٌّ عليها كما في قولِه فلولا رجاءُ النصر منك ورهبة ... عقابك قد كانوا لنا كالموارد وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم عطفٌ على نعمة الله وما موصولةً حُذف عائدُها من الصلة ومن في قولِه عزَّ وجلَّ {مّنَ الكتاب والحكمة} بيانية أي من القرآن والسنة أو القرآن الجامع للعنوانين على أن العطف لتغايُر الوصفين كما في قولِه إلى الملكِ القَرْم وابن الهُمام وفي إبهامه أولاً ثم بيانه من التفخيم مالا يخفى وفي إفراده بالذكر مع كونه أولَ ما دخل في النعمة المأمورِ بذكرها إبانةٌ بخطره ومبالغةٌ في البعث على مرعاة ما ذكر قبله من الأحكام {يَعِظُكُمْ بِهِ} أي بما أنزل حال من فاعل أنزل أو مفعوله أو منهما معاً {واتقوا الله} في شأن المحافظة عليه والقيام بحقوقه الواجبة {واعلموا أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عليم} فلا يخفى عليه شئ مما تأتون وما تذرون فيؤاخذكم بأفانين العقاب

232 - البقرة

232

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} بيانٌ لحكم ما كانوا يفعلونه عند بلوغِ الأجل حقيقةً بعد بيانِ حُكمِ ما كانوا يفعلونه عند المشارفة إليه والعضْلُ الحبسُ والتضييقُ ومنه عضَلت الدجاجةُ إذا نشِبَ بيضُها ولم يخرج والمراد المنعُ والخطاب إما للأولياء لما رُوي أنَّها نزلتْ في معقِل بنِ يسارَ حين عضل أخته جملا أن ترجِع إلى زوجها الأول بالنكاح وقيل نزلت في جابرِ بن عبدِ اللَّه حين عضَل ابنةَ عمَ له وإسنادُ التطليق إليهم لتسبُّبهم فيه كما ينبى عنه تصدّيهم للعضل ولعل التعرضَ لبلوغ الأجل مع جواز التزوج بالزوج الأول قبله أيضاً لوقوع العضلِ المذكور حينئذ وليس فيه دلالةٌ على أن ليس للمرأة أن تزوِّج نفسَها وإلا لما احتيج إلى نهي الأولياء عن العضل لما أن النهيَ لدفع الضرر عنهن فإنهن وإن قدَرْن على تزويج أنفسِهن لكنهن يحترزن عن ذلك مخافة اللوم والقطيعة وإما للأزواج حيث كانوا يعضُلون مطلقاتِهم ولا يدَعونهن يتزوجْن ظُلما وقسراً لحمية الجاهلية وإما للناس كافة فإن إسناد ما فعله واحد منهم إلى الجميع شائعٌ مستفيضٌ والمعنى إذا وجد فيكم طلاق فلا يقعْ فيما بينكم عضلٌ سواء كان ذلك من قبل الأولياء أو من جهة الأزواج أو من غيرهم وفيه تهويلٌ لأمر العضل وتحذيرٌ منه وإيذانٌ بأن وقوع ذلك بين ظهرانهم وهم ساكتون عنه بمنزلة صدوره عن الكل في استتباع اللأئمة وسرابة الغائلة {أَن يَنكِحْنَ} أي مِنْ أن ينكِحن فمحلُه النصبُ عند سيبويهِ والفرَّاءِ والجرُّ عند الخليل على الخلاف المشهور وقيل هو بدلُ اشتمالٍ من الضميرِ المنصوبِ في تعضُلوهن وفيه دَلالةٌ على صحة النكاح بعبارتهن {أزواجهن} إن أريد بهم المطلقون فالزوجية إما باعتبار ماكان وإما باعتبار ما يكون والا فبالا عتبار الأخير {إِذَا تراضوا} ظرفٌ لِلا تعضُلوا وصيغةُ التذكير باعتبار تغليبِ الخطاب على النساء والتقييدُ به لأنه المعتاد لا لتجويز المنع قبل تمام التراضي وقيل ظرفٌ لأن ينكحن وقوله تعالى {بَيْنَهُمْ} ظرفٌ للتراضي مفيدٌ لرسوخه واستحكامه {بالمعروف} الجميلِ عند الشرع المستحسنِ عند الناس والباءُ إما متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل تراضوا أو نعتاً لمصدر محذوفٍ أي تراضِياً كائناً بالمعروف وإما بتراضَوا أي يتراضوا بما يحسُن في الدين والمروءة وفيه إشعارٌ بأن المنعَ من التزوج بغير كفؤ أو بما دون مَهرِ المثل ليس من باب العضْل {ذلك} إشارةٌ إلى ما فصل منَ الأحكامِ وما فيهِ من معنى البُعد لتعظيم المشار إليه والخطابُ لجميع المكلفين كما فيما بعده والتوحيدُ إما باعتبارِ كلِّ واحدٍ منهم وإما بتأويل القَبيل والفريق وإما لأن الكافَ لمجرد الخطابِ والفرقِ بين الحاضِرِ والمنقضي دون تعيين المخاطبين أو للرسول صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء للدلالة على أن حقيقةَ المشارِ إليه أمرٌ لا يكاد يعرِفه كلُّ أحد {يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} فيسارع إلى الامتثال بأوامر ونواهيه إجلالاً له وخوفاً من عقابه وقوله تعالى

233 - البقرة مّنكُمْ إما متعلق بكان عند من يجوز عملها في الظروف وشبهها وإما بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل يؤمن أي كائناً منكم {ذلكم} أي الاتعاظُ به والعملُ بمقتضاه {أزكى لَكُمْ} أي أنمى وأنفعُ {وَأَطْهَرُ} من أدناس الآثام وأوضارِ الذنوب {والله يَعْلَمُ} ما فيه من الزكاة والطُهر {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ذلك أو والله يعلمُ ما فيه صلاحُ أمورِكم من الأحكام والشرائعَ التي من جملتها ما بينه ههنا وأنتم لا تعلمونها فدعُوا رأيكم وامتثِلوا أمرَه تعالى ونهيَه في كل ما تأتون وما تذرون

233

{والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن} شروعٌ في بيان الأحكام المتعلقة بأولادهن خصوصاً واشتراكاً وهو أمرٌ أُخرِجَ مُخرجَ الخبر مبالغة في الحمل على تحقيق مضمونِه ومعناه الندبُ أو الوجوبُ إن خص بمادة عدم قَبول الصبيِّ ثديَ الغير أو فقدانِ الظِئْر أو عجزِ الوالدِ عن الاستئجار والتعبيرُ عنهن بالعنوان المذكور لِهزّ عَطفِهن نحوَ أولادِهن والحكمُ عام للمطلقات وغيرهن وقيل خاصٌّ بهن إذ الكلامُ فيهن {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} التأكيدُ بصفة الكمال لبيان أن التقديرَ تحقيقيٌّ لا تقريبيٌّ مبني على المسامحة المعتادة {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} بيانٌ لمن يُتوجّه إليه الحكمُ أي ذلك لمن أراد إتمامَ الرضاعة وفيه دلالةٌ على جواز النقص وقيل اللام متعلقة بيرضعن فإن الأبَ يجبُ عليه الإرضاعُ كالنفقة والأمُ ترضع له كما يقال أرضعت فلانةٌ لفلان ولدَه {وَعلَى المولود لَهُ} أي الوالد فإن الولد يولد له ويُنسَب إليه وتغييرُ العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضي لوجوب الإرضاع ومؤنة المرضعة عليه {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} أجرةٌ لهن واختلف في استئجار الأمِّ وهو غيرُ جائز عندنا ما دامت في النكاح أو العدة جائز عند الشافعيِّ رحمَهُ الله {بالمعروف} حسبما يراه الحاكم ويفي به وسعَه {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} تعليل لإيجاب المُؤَن بالمعروف أو تفسيرٌ للمعروف وهو نص على أنَّه تعالى لا يكلف العبد مالا يُطيقُه وذلك لا ينافي إمكانه {لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} تفصيلٌ لما قبلَه وتقريرٌ لهُ أي لا يكلِّف كلُّ واحد منهما الآخر مالا يُطيقه ولا يُضارُّه بسبب ولده وقرئ لا تضارُّ بالرفع بدلاً من لاتكلف وأصله على القراءتين لا تضارر بالكسر على البناء للفاعل وبالفتح على البناء للمفعول وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون بمعنى تضرّ والباء من صلته أي لا يُضَر الوالدان بالولد فيُفَرَّط في تعهده ويُقصَّر فيما ينبغي له وقرئ لا تضارّ بالسكون مع التشديد على نية الوقف وبه مع التخفيف على أنه من ضاره يَضيرُه وإضافة الولد إلى كل منهما لاستعطافهما إليه وللتنبيه على أنه جدير بأن يتفقا على استصلاحه ولا ينبغي أن يضرابه أو يُتضارّا بسببه {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك}

عطف على قوله تعالى وعلى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ الخ وما بينهما تعليل أو تفسيرٌ معترِضٌ والمرادُ به وارثُ الصبيِّ ممن كان ذا رحِمٍ محرَمٍ منه وقيل عَصَباتُه وقال الشافعي رحمه الله هو وارثُ الأب وهو الصبيُّ أي تُمأنُ المرضعةُ من ماله عند موت الأب ولا نزاعَ فيه وإنما الكلام فيما إذا لم يكن للصبيِّ مالٌ وقيل الباقي من الأبوين من قولُه عليهِ الصَّلاةُ والسلام واجعله الوارثَ منا وَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما وجب على الأب من الرزق والكسوةِ {فَإِنْ أَرَادَا} أي الوالدان {فِصَالاً} أي فِطاماً عن الرَّضاع قبل تمام الحولين والتنكيرُ للإيذان بأنه فصال غيرُ معتاد {عَن تَرَاضٍ} متعلقٌ بمحذوف ينساق إليه الذهنُ أي صادراً عن تراض {مِنْهُمَا} أي من الوالدين لا من أحدهما فقط لاحتمال إقدامه على ما يضُرُّ بالولد بأن تمَلَّ المرأةُ الإرضاعِ ويبخَلَ الأبُ بإعطاء الأجرة {وَتَشَاوُرٍ} في شأن الولد وتفحُّصٍ عن أحواله وإجماعٍ منهما على استحقاقه للفِطام والتشاور من المَشورة وهي استخراجُ الرأي من شُرتُ العسلَ إذا استخرجته وتنكيرُهما للتفخيم {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} في ذلك لما أن تراضِيَهما إنما يكون بعد استقرار رأيِهما أو اجتهادِهما على أن صلاحَ الولدِ في الفِطام وقلما يتفقان على الخطأ {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ} بيان لحكم عدم اتفاقِهما على الفطام والالتفاتُ إلى خطاب الآباء لهزهم إلى الامتثال بما أُمروا به {أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم} بحذف المفعول الأول استغناءً عنه أي أن تسترضعوا المراضِعَ لأولادكم يقال أرضعتِ المرأةُ الصبيَّ واسترضعتُها إياه وقيل إنما يتعدَّى إلى الثاني بحرف الجرِّ يقال استرضعتُ المرأةَ للصبيِّ أي أن تسترضعوا المراضِعَ لأولادكم فحُذف حرفُ الجر أيضاً كَما في قولِه تعالى وَإِذَا كَالُوهُمْ أي كالوا لهم {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي في الاسترضاع وفيه دلالة على أن للأب أن يسترضِعَ للولد ويمنعَ الأمَّ من الإرضاع {إِذَا سَلَّمْتُم} أي إلى المراضع {ما آتيتم} أي ما أردتم إيتاءَه كما في قوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله وقرئ ما أَتيتم من أتى إليه إحساناً إذا فعله وقرئ ما أُوتيتم أي من جهةِ الله عزَّ وجلَّ كما في قولِه تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ وفيه مزيدُ بعثٍ لهم إلى التسليم {بالمعروف} متعلقٌ بسلَّمتم أي بالوجه المتعارَفِ المستحسَن شرعاً وجوابُ الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه وليس التسليمُ بشرطٍ للصحة والجواز بل هو ندب الى ماهو الأليقُ والأَولى فإن المراضعَ إذا أُعطين ما قُدّر لهن ناجزاً يداً بيد كان ذلك أدخلَ في استصلاح شئون الأطفال {واتقوا الله} في شأن مراعاةِ الأحكامِ المذكورة {واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكُم بذلك واظهار الاسم في موضع الإضمار لتربية المهابة وفيه من الوعيد والتهديد مالا يخفى

234

{والذين} على حذفِ المضافِ أي وأزواجُ الذين {يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} أي تُقبض أرواحُهم بالموت فإن التوفيَ هو القبضُ يقال توفّيتُ مالي من فلان واستوفيتُه منه أي أخذته وقبضته والخطاب لكافة الناس بطريق التلوينِ {وَيَذَرُونَ أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} أو على حذف العائدِ إلى المبتدأ في الخبر

235 - البقرة أي يتربصن بعدَهم كَما في قولِهم السمنُ مَنَوانِ بدرهم أي مَنَوانِ منه وقرئ يَتَوفون بفتح الياء أي يستوفون آجالهم وتأنيث العشر باعتبار الليالي لأنها غُررُ الشهور والأيام ولذلك تراهم لا يكادون يستعملون التذكير في مثله أصلاً حتى إنهم يقولون صُمت عشراً ومن البين في ذلك قولُه تعالى إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ثم ان لبثتم الايوما ولعل الحكمةَ في هذا التقديرِ أن الجنينَ إذا كان ذكراً يتحرك غالباً لثلاثة أشهر وإن كان أنثى يتحرك لأربعة فاعتُبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشر استظهاراً إذ ربما تضعف الحركة فلا يُحس بها وعمومُ اللفظ يقتضي تساوي المسلمة والكتابية والحرة والأمة في هذا الحكم ولكن القياسَ اقتضى التنصيفَ في الامة وقوله عز وجل وأولات الاحمال خَصَّ الحاملَ منه وعن علي وابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهم أنها تعتدُّ بأبعد الأجلين احتياطاً {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي انقضت عدتُهن {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أيها الحكامُ والمسلمون جميعاً {فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ} من التزيُّن والتعرُّض للخُطّاب وسائرِ ما حُرِّم على المعتدة {بالمعروف} بالوجه الذي لا ينكره الشرعُ وفيه إشارةٌ إلى أنهن لو فعلن ما ينكره الشرعُ فعليهم أن يكفّوهن عن ذلك وإلا فعليهم الجُناحُ {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فلا تعملوا خلافَ ما أُمرتم به

235

{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} خطابٌ للكل {فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ} التعريضُ والتلويحُ إبهامُ المقصودِ بما لم يوضَعْ له حقيقةً ولا مجازاً كقول السائل جئتُك لأُسلِّم عليك وأصلُه إمالةُ الكلام عن نهجه إلى عُرُضٍ منه أي جانب والكناية هي الدِلالةُ على الشيء بذكر لوازمِه وروادِفه كقولك طويلُ النِّجاد للطويل وكثيرُ الرماد للمِضْياف {مِنْ خِطْبَةِ النساء} الخِطبة بالكسر كالقِعدة والجِلسة ما يفعلُه الخاطبُ من الطلب والاستلطاف بالقول والفعل فقيل هي مأخوذةٌ من الخَطْب أي الشأن الذي له خطرٌ لما أنها شأن من الشئون ونوع من الخُطوب وقيل من الخطاب لأنها نوعُ مخاطبة تجري بين جانب الرجل وجانب المرأة والمرادُ بالنساء المعتداتُ للوفاة والتعريضُ لخطبتهن أن يقول لها إنك لجميلةٌ أو صالحةٌ أو نافعة ومن غرضي أن أتزوَّجَ ونحوُ ذلك مما يوهم أنه يريد نِكاحَها حتى تحبِسَ نفسَها عليه إن رغبت فيه ولا يصرح بالنكاح {أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ} أي أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه تصريحاً ولا تعريضاً {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} ولا تصبِرون على السكوت عنهن وعن إظهار الرغبة فيهن وفيه نوعُ توبيخٍ لهم على قلة التثبت {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا} استدراك عن محذوفٌ دل عليه سَتَذْكُرُونَهُنَّ أي فاذكُروهن ولكن لا تواعدوهن نِكاحاً بل اكتفوا بما رُخّص لكم من التعريض والتعبيرُ عن النكاح بالسر لأن مُسبَّبَه الذي هو الوطء مما يُسرّ به وإيثارُه على اسمه للإيذان بأنه مما ينبغي أن يُسرّ به ويكتَم وحملُه على الوطء ربما يُوهم الرُّخصة في المحظور الذي هو التصريحُ بالنكاح وقيل انتصابُ سراً على الظرفية أي لا تواعدوهن في السر على أَنَّ المرادَ بذلكَ

236 - البقرة المواعدةُ بما يُستهجن وفيه ما فيه {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} استثناءٌ مفرَّغ مما يدل عليه النهي أي لا تواعدهن مواعدةً ما إلا مواعدةً معروفة غيرَ منْكرةٍ شرعاً وهي ما يكون بطريق التعريض والتلويح أو إلا مواعدةً بقول معروف أو لا تواعدوهن بشيءٍ من الأشياءِ إلا بأن تقولوا قولاً معروفاً وقيل هو استثناءٌ منقطعٌ من سراً وهو ضعيف لأدائه إلى جعل التعريض موعوداً وليس كذلك {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح} من عزم الأمرَ إذا قصده قصداً جازماً وحقيقتُه القطع بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لا صيامَ لمن لم يعزِمِ الصيامَ من الليل وروي لمن لم يبيّت الصيام والنهي عنه للمبالغةِ في النَّهيِ عن مباشرة عقدِ النكاح أي لا تعزموا عقد عُقدة النكاح {حتى يَبْلُغَ الكتاب أجله} أي العدةُ المكتوبة المفروضةُ آخِرَها وقيل معناه لا تقطعوا عقدة النكاحِ أي لا تُبرِموها ولا تلزَموها ولا تَقَدَّموا عليها فيكونُ نهياً عن نفس الفعل لا عن قصده {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ} من ذواتِ الصُدور التي من جملتها العزمُ على ما نُهيتم عنه {فاحذروه} بالاجتناب عن العزم ابتداءً أو إقلاعاً عنه بعد تحققِه {واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ} يغفِرُ لمن يُقلعُ عن عزمه خشيةً منه تعالى {حَلِيمٌ} لا يعاجلُكم بالعقوبة فلا تستدلوا بتأخيرها على أن ما نُهيتم عنه من العزم ليس مما يستتبعُ المؤاخذةَ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمار لإدخال الروعة

236

{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي لا تِبعةَ من مهرٍ وهو الأظهرُ وقيل من وِزْر إذ لا بدعةَ في الطلاق قبل المسيس وقيل كان النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يكثر النهيَ عن الطلاق فظُن أن فيه جُناحاً فنُفيَ ذلك {إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} أي مالم تجامعوهن وقرئ تُماسُّوهن بضم التاء في جميع المواقع أي مدة عدمِ مِساسِكم إياهن عَلى أنَّ مَا مصدريةٌ ظرفية بتقدير المضاف ونقل أبو البقاءِ أنها شرطية بمعنى إن فيكون من باب اعتراض الشرط على الشرط فيكون الثاني قيداً للأول كما في قولك إن تأتِني إن تُحسِنْ إلي أكرمْك أي إن تأتني محسِناً إليَّ والمعنى إن طلقتموهن غير ما سين لهن وهذا المعنى أقعَدُ من الأول لما أن ما الظرفية إنما يحسُن موقعُها فيما إذا كان المظروفُ أمراً ممتداً منطبقاً على ما أضيف إليها من المدة أو الزمان كما في قوله تعالى خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والارض وقوله تعالى وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ولا يخفى أن التطليقَ ليس كذلك وتعليقُ الظرف بنفي الجُناحِ ربما يوهم إمكانَ المسيسِ بعد الطلاق فالوجهُ أن يقدَّرَ الحالُ مكان الزمان والمدة {أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} أي إلا أن تفرضوا لهن أو حتى تفرضوا لهن عند العقد مَهراً على أن فريضة فعلية بمعنى مفعول والتاءُ لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية وانتصابُه على المفعولية ويجوزُ أنْ يكونَ مصدراً صيغةً وإعراباً والمعنى أنه لا تِبعَةَ على المطلِّق بمطالبة المَهر أصلاً إذا كان الطلاقُ قبل المسيس على كل حالٍ إلا في حال تسمية المهرِ فإن عليه حينئذٍ نصفَ المسمَّى وفي حال عدمِ تسميتِه عليه المتعة لانصف مَهرِ المثل وأما إذا كان بعد المساس فعليه في صورة التسمية تمامُ المسمَّى وفي صورة عدمها تمامُ مَهر المثل وقيل كلمةُ أو عاطفةٌ لمدخولها على

237 - البقرة ما قبلها من الفعل المجزومِ على معنى ما لم يكن منكم مسيسٌ ولا فرضُ مَهرٍ {وَمَتّعُوهُنَّ} عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلام أي فطلِّقوهن ومتِّعوهن والحكمةُ في إيجاب المتعة جبرُ إيحاش الطلاقِ وهي دِرعٌ ومِلْحفة وخِمار على حسب الحال كما يفصحُ عنه قولُه تعالى {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} أي ما يليق بحال كلَ منهما وقرئ بسكون الدال وهي جملةٌ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مبينةٌ لمقدار المتعة بالنظر إلى حال المطلِّق إيساراً وإقتاراً أو حالٌ من فاعل متِّعوهن بحذف الرابط أي على الموسع منكم الخ أو على جعل الألف واللام عوضاً من المضاف إليه عند من يجوّزه أي على موسعكم الخ وهذا إذَا لم يكُن مهرُ مثلها أقا من ذلك فإن كان أقل فلها الأقلُ من نصف مهر المثل ومن المتعة ولا يُنقص عن خمسةِ دراهم {متاعا} أي تمتيعاً {بالمعروف} أي بالوجه الذي تستحسنه الشريعةُ والمروءة {حَقّاً} صفةٌ لمتاعاً أو مصدرٌ مؤكدٌ أي حق ذلك حقا {عَلَى المحسنين} أي الذين يُحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال أو إلى المطلقات بالتمتيع بالمعروف وإنما سموا محسنين اعتبارا للمشاركة وترغيباً وتحريضاً

237

{وإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ} قبل ذلك {فَرِيضَةً} أي وإن طلقتموهن من قبل المسيسِ حال كونِكم مُسمِّين لهن فيما سبق أي عند النكاحِ مَهراً على أنَّ الجملةَ حالٌ من فاعل طلقتُموهن ويجوزُ أن تكون حالاً من مفعوله لتحقيق الرابطِ بالنسبة إليهما ونفس الفرض من المبني للفاعل أو للمفعول وإن لم يقارِنْ حالةَ التطليق لكن اتصاف المطلقِ بالفارضية فيما سبق مما لا ريب في مقارنته لها وكذا الحال في اتصاف المطلقة بكونها مفروضاً لها فيما سبق {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أي فلهن نصف ماسميتم لهن من المهر أو فالواجبُ عليكم ذلك وهذا صريحٌ في أنَّ المنفي في الصورة السابقة إنما هو تبعة المهر وقرئ بالنصب أي فأدوا نصفَ ما فرَضتم ولعل تأخيرَ حكمِ التسمية مع أنها الأصلُ في العقد والأكثرُ في الوقوع لما أن الآية الكريمة نزلت في أنصاريَ تزوج امرأةً من بني حنيفةَ وكانت مفوضةً فطلقها قبل الدخول بها فتخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم عند إظهار أن لا شئ له متِّعْها بقَلَنْسُوتك {إَّلا أَن يَعْفُونَ} استثناءٌ مفرغٌ من أعم الأحوال أي فلهن نصفُ المفروض معيناً في كل حالٍ إلا حالَ عفوِهن فإنه يسقُط ذلك حينئذ بعد وجوبه وظاهرُ الصيغة في نفسها يحتمل التذكيرَ والتأنيث وإنما الفرقُ في الاعتبار والتحقيق فإن الواوَ في الأولى ضميرٌ والنون علامة الرفع وفي الثانية لامُ الفعل والنون ضمير والفعل مبنيّ لذلك لم يؤثر فيه أن تأثيرُه فيما عُطِفَ على محله من قوله تعالى {أَوَ يعفو} بالنصب وقرئ بسكون الواو {الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} أي يتركُ الزوجُ المالك لعقده وحَلّه ما يعود إليه من نصفِ المَهر الذي ساقه إليها كاملاً على ما هو المعتادُ تكرماً فإن ترك حقه عليها عفو بلا شُبهة أو سمي ذلك عفواً في صورة عدم السوق

238 - البقرة مشاكلةً أو تغليباً لحال السَوْق على حال عدمِه فمرجِعُ الاستثناء حينئذ إلى منع الزيادةِ في المستثنى منه كما أنه في الصورة الأولى إلى منع النقصانِ فيه أي فلهن هذا القدر زيادة ولا نقصان في جميعِ الأحوال إلاَّ في حال عفوهن فإنه حينئذ لا يكون لهن القدرُ المذكور بل ينتفي ذلك أو ينحطّ أو في حال عفو الزوج فإنه حينئذ يكون لهن الزيادة على ذلك القدر هذا على التفسير الأول وأما على التفسير الثاني فلا بد من المصير إلى جعل الاستثناء منقطعاً لأن في صورة عفوِ الزوجِ لا يُتصور الوجوبُ عليه هذا عندنا وفي القول القديم للشافعي رحمه الله أن المراد عفوُ الولي الذي بيده عقدةُ نكاحِ الصغيرة وهو ظاهرُ المأخذ خلا أن الأولى أنسبُ بقوله تعالى {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى} إلى آخره فإن إسقاط حقِّ الصغير ليس في شئ من التقوى وعن جُبير بن مُطعِم أنه تزوج امرأةً وطلقها قبل الدخول وأكمل لها الصَّداقَ وقال أنا أحق بالعفو وقرئ بالياء {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} أي لا تتركوا أن يتفضل بعضُكم على بعض كالشئ المنسى وقرئ بكسر الواو والخطاب في الفعلين للرجال والنساء جميعاً بطريق التغليب {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا يكاد يُضيع ما عمِلتم من التفضل والإحسان

238

{حافظوا عَلَى الصلوات} أي داوموا على أدائها لأوقاتها من غير إخلالٍ بشيء منها كما تنبئ عنه صيغةُ المفاعلة المفيدة للمبالغة ولعل الأمرَ بها في تضاعيف بيان أحكامِ الأزواج والأولاد قبل الإتمام للإيذان بأنها حقيقةٌ بكمال الاعتناءِ بشأنها والمثابرة عليها من غير اشتغال عنها بشأنهم بل بشأن أنفسهم أيضاً كما يفصحُ عنهُ الأمر بها في حالة الخوف ولذلك أمر بها في خلال بيان ما يتعلق بهم من الأحكام الشرعية المتشابكةِ الآخذِ بعضها بحجزة بعض {والصلاة الوسطى} أي المتوسطة بينها أو الفُضلى منها وهي صلاةُ العصر لقوله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب شغَلونا عن الصلاة الوسطى صلاةِ العصر ملأ الله تعالى بيوتَهم نارا وقال صلى الله عليه وسلم إنها الصلاةُ التي شُغل عنها سليمانُ بنُ داود عليهما الصلاة والسلام وفضلُها لكثرة اشتغال الناسِ في وقتها بتجاراتهم ومكاسبهم واجتماعِ ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار حينئذ وقيل هي صلاةُ الظهر لأنها في وسط النهار وكانت أشقَّ الصلواتِ عليهم لما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يصليها بالهاجرة فكانت افضلها لقوله صلى الله عليه وسلم أفضلُ العبادات أحمزُها وقيل هي صلاة الفجر لأنها بين صلاتي الليل والنهار والواقعةُ في الحد المشترك بينهما ولأنها مشهودةٌ كصلاة العصر وقيل هي صلاةُ المغرب لأنها متوسطة من حيث العددُ ومن حيث الوقوعُ بين صلاتي النهار والليل ووتر النهار ولا تُنقص في السفر وقيل هي صلاة العِشاء لأنها بين الجهريتين الواقعتين في طرفي الليل وعن عائشة وابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهُم أنَّهُ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ والصلاة الوسطى وصلاة العصر فتكون حينئذ إحدى الأربعِ قد خُصت بالذكر مع العصر لانفرادها بالفضل وقرئ وعلى الصلاة الوسطى وقرئ بالنصب على المدح وقرئ الوسطى {وَقُومُواْ لِلَّهِ} أي في الصلاة {قانتين} ذاكرين له تعالى في القيام لأن القنوتَ هو الذكر فيه وقيل هو إكمالُ الطاعة وإتمامُها بغير إخلال بشيء من أركانها وقيل خاشعين وقال ابن المسيِّب المراد به القنوتُ في الصبح

239 - البقرة 240 البقرة

239

{فَإِنْ خِفْتُمْ} أي من عدو أو غيرِه {فَرِجَالاً} جمع راجل كقيام وقائم أو رجل بمعنى راجل وقرئ بضم الراء مع التخفيف وبضمها مع التشديد أيصا وقرئ فرَجِلاً أي راجلاً {أَوْ رُكْبَانًا} جمع راكب أي فصلو راجلين أو راكبين حسبما يقتضيه الحال له ولا تخلوا بها ماأمكن الوقوفُ في الجملة وقد جوز الشافعي رحمه الله أداءها حال المسايفة أيصا {فَإِذَا أَمِنتُمْ} بزوال الخوف {فاذكروا الله} أي فصلّوا صلاة الأمن عبر عنها بالذكر لأنه معظمُ أركانِها {كَمَا عَلَّمَكُم} متعلق بمحذوف وقع وصفاً لمصدر محذوف أي ذكراً كائناً كما علمكم أي كتعليمه إياكم {ما لم تكونوا تَعْلَمُونَ} من كيفية الصلاة والمرادُ بالتشبيه أن تكون الصلاةُ المؤداة موافقةً لما علّمه الله تعالى وإيرادُها بذلك العنوانِ لتذكير النعمةِ أو اشكُروا الله تعالى شكراً يوازي تعليمَه إياكم ما لم تكونوا تعلمونه من الشرائع والأحكامِ التي من جملتها كيفيةُ إقامةِ الصلاة حالتي الخوفِ والأمن هذا وفي إيراد الشرطية الأولى بكلمة إن المفيدةِ لمشكوكية وقوعِ الخوفِ ونُدرته وتصديرِ الشرطيةِ الثانية بكلمة إذا المنبئة عن تحقيق وقوعِ الأمن وكثرته مع الإيجاز في جواب الولى والإطناب في جواب في جواب الثانية المبنيّين على تنزيل مقامِ وقوعِ المأمور به فيهما منزلةَ مقامِ وقوعِ الأمر تنزيلاً مستدعياً لإجراءِ مقتضى المقام الأولِ في كل منهما مُجرى مقتضى المقام الثاني من الجزالة ولطفِ الاعتبار ما فيه عبرةٌ لأولي الأبصار

240

{والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا} عَودٌ إلى بيانِ بقيةِ الأحكامِ المفصَّلة فيما سلف إثرَ بيانِ أحكامٍ وسطت بينهما لما أشير إليه منَ الحكمةِ الداعيةِ إلى ذلك {وَصِيَّةً لاّزْوَاجِهِم} أي يوصون أوليوصوا أو كتب الله عليهم وصية ويؤيد مَنْ قرأ كتب عليكم الوصية لأزواجكم وقرئ بالرفع على تقدير مضاف في المبتدأ أو الخبر أي حُكمُ الذين يُتوفون مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا وصيةٌ لأزواجهم أو والذين يُتوفون أهل وصية لأزواجهم أوكتب عليهم وصيةٌ أو عليهم وصية وقرئ مناع لاّزْوَاجِهِم بدل وصية {متاعا إِلَى الحول} منصوبٌ بيوصون إن أضمَرْته وإلا فبالوصية أو بمتاع على القراءة الأخيرة {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} بدل منه أومصدر مؤكدٌ كما في قولك هذا القولُ غيرُ ما تقول أو حال من أزواجهم أي غيرَ مُخرَجاتٍ والمعنى يجب على الذين يُتوفَّوْن أن يوصوا قبل الاختصار لأزواجهم بأن يُمتّعْنَ بعدهم حولاً بالنفقة والسكنى وكان ذلك أولَ الإسلام ثم نُسخت المدة بقوله تعالى أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فإنه وإن كان متقدماً في التلاوة متأخرٌ في النزول وسقطت النفقة بتوريثها الربعَ أو الثمنَ وكذلك السكنى عندنا وعند الشافعيّ هي باقية {فَإِنْ خَرَجْنَ} عن منزل الأزواج باختيارهن {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أيها الأئمة {فِيمَا فعلن في أنفسهن بالمعروف} لاينكرة الشرْعُ كالتزيُّن والتطيُّب وتركِ الحِدادِ والتعرّضِ للخُطّاب وفيه دلالةٌ على أن المحظورَ إخراجُها عند إرادة القرارِ وملازمةِ مسكنِ الزوجِ والحداد من غير أن يجب

241 - 242 243 البقرة عليها ذلك وأنها كانت مخيّرة بين الملازمة مع أخذ النفقةِ وبين الخروج مع تركها {والله عَزِيزٌ} غالبٌ على أمره يعاقِبُ من خالفه {حَكِيمٌ} يراعي في أحكامه مصالحَ عباده

241

{وللمطلقات} سواءٌ كن مدخولاً بهن أولا {متاع} أي مطلقُ المتعة الشاملة للواجبة والمستحبة وأوجبها سعيدُ بنُ جبير وأبو العالية والزُهري للكل وقيل المراد بالمتاع نفقةُ العِدة وقيل اللام للعهد والمراد غيرُ المدخول بهن والتكريرُ للتأكيد {بالمعروف} شرعاً وعادة {حَقّا عَلَى المتقين} أي مما ينبغي

242

{كذلك} أي مثلَ ذلك البيانِ الواضح {يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} الدالةَ على أحكامه التي شرعها لعباده {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لكي تفهموا ما فيها وتعلموا بموجبها

243

{أَلَمْ تَرَ} تقريرٌ لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب الأخبار وتعجيب من شأنهم البديع فإن سماعَهم لها بمنزلة الرؤية النظريةِ أو العلمية أو لكل أحد من له حظٌّ من الخطاب إيذاناً بأن قصتهم من الشهرة والشيوع بحيث يحِقُّ لكل أحد أن يُحمل على الإقرار برؤيتهم وسماع قصتهم ويعجب بها وإن لم يكن رآهم أو سمع بقصتهم فإن هذ الكلامَ قد جرى مجرى المَثلِ في مقام التعجيب لما أنه شُبّه حالُ غير الرائي لشئ عجيب بحال الرائي له بناءً على ادعاء ظهورِ أمره وجلائِه بحيث استوى في إدراكه الشاهدُ والغائبُ ثم أُجريَ الكلامُ معه كما يجري مع الرائي قصداً إلى المبالغة في شهرته وعَراقتِه في التعجب وتعديةُ الرؤيةِ بإلى في قولِه تعالَى {إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم} على تقدير كونها بمعنى الابصار باعتبار معنى النظر وعلى تقدير كونها إ دراكا قلبياً لتضمين معنى الوصول والانتهاء على معنى ألم ينتهِ علمُك إليهم {وَهُمْ أُلُوفٌ} أي ألوف كثيرة قيل عشرةُ آلاف وقيل ثلاثون وقيل سبعون ألفاً والجملةُ حالٌ من ضمير خرجوا وقوله عز وجل {حَذَرَ الموت} مفعول له رُوي أن أهلَ داوردان قرية قبل واسِط وقع فيهم الطاعونُ فخرجوا منها هاربين فأماتهم الله ثم احياهم ليعتبروا ويعلموا أن لا مفرَّ من حكم الله عز سلطانه وقضائه وقيل مر عليهم حز قيل بعد زمان طويل وقد عرِيَتْ عظامُهم وتفرقت أوصالُهم فلوى شدقيه وأصابعَه تعجباً مما رأى من أمرهم فأُوحيَ إليه نادِ فيهم أن قوموا بإذن الله فنادى فإذا هم قيام يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت وقيل هم قومٌ من بني إسرائيلَ دعاهم ملكُهم إلى الجهاد فهربوا حذراً من الموت فأماتهم الله تعالى ثمانية أيامٍ ثم احياهم وقوله عز وجل {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ} إما عبارةٌ عن تعلق إرادتِه تعالى بموتهم دفعةً وإما تمثيلٌ لإماتته تعالى إياهم مِيتةَ نفسٍ واحدة في أقرب وقتٍ وأدناه وأسرعِ زمان وأوحاه بأمر آمرٍ مطاعٍ لمأمور مطيع كما في قوله تعالى

244 - 245 البقرة إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ {ثُمَّ أحياهم} عطفٌ إما على مقدَّر يستدعيهِ المقامُ أي فماتوا ثم أحياهم وإنما حُذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلُّف مرادِه تعالى عن إرادته وإما على قال لما أنه عبارة عن الإمانة وفيه تشجيعٌ للمسلمين على الجهاد والتعرُّضِ لأسباب الشهادةِ وأن الموتَ حيث لم يكن منه بدٌّ ولم ينفعْ منه المفرُّ فأولى أن يكون في سبيلِ الله تعالى {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ} عظيمٍ {عَلَى الناس} قاطبةً أما أولئك فقد أحياهم ليعتبروا بما جرى عليهم فيفوزوا بالسعادة العظمى وأما الذين سمِعوا قِصتَهم فقد هداهم إلى مسلك الاعتبارِ والاستبصار {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} أي لا يشكرون فضلَه كما ينبغي ويجوز أن يراد بالشكر الاعتبارُ والاستبصارُ وإظهارُ الناس في مقام الإضمار لمزيد التشنيع

244

{وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله} عطفٌ على مقدر يعيِّنه ما قبلَهُ كأنَّه قيلَ فاشكروا فضلَه بالاعتبار بما قص عليكم وقاتلوا في سبيله لما علمتم أن الفِرارَ لا يُنْجي من الحِمام وأن المقدرَ لا مردَّ له فإن كان قد حان الأجلُ فموتٌ في سبيل الله عز وجل وإلا فنصرٌ عزيزٌ وثواب {واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ} يسمعُ مَقالة السابقين والمتخلّفين {عَلِيمٌ} بما يُضمِرونه في أنفسهم وهو من وراء الجزاء خيرا وشرا فسارعوا إلى الامتثال واحذروا المخالفة والمساهلة

245

{مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله} من استفهامية مرفوعةُ المحلِّ بالابتداء وذا خبرُه والموصولُ صفة له أو بدلٌ منه وإقراضُ الله تعالى مَثَلٌ لتقديم العمل العاجل طلباً للثواب الآجل والمراد ههنا إما الجهادُ الذي هو عبارةٌ عن بذل النفسِ والمالِ في سبيل الله عز وجل ابتغاءً لمرضاته وإما مطلقُ العملِ الصالحِ المنتظمُ له انتظاماً أولياً {قَرْضًا حَسَنًا} أي إقراضاً مقروناً بالإخلاصِ وطيبِ النفسِ أو مقرضاً حلالاً طيباً {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} بالنصب على جواب الاستفهام حملاً على المعنى فإنه في معنى أيقرضه وقرئ بالرفع أي يضاعفُ أجرَه وجزاءَه جعل ذلك مضاعفةً له بناءً على ما بينهما من المناسبة بالسببية ظاهراً وصيغةُ المفاعلة للمبالغة وقرئ فيضعفه بالرفع وبالنصب {أَضْعَافًا} جمعُ ضِعف ونصبُه على أنه حال من الضمير المنصوبِ أو مفعولٌ بأن يضمن المضاعفة معى التصيير أو مصدرٌ مؤكد على أن الضِعْفَ اسم للمصدر والجمع للتنوين {كَثِيرَةٍ} لا يعلم قدرَها إلا الله تعالى وقيل الواحد بسبعمائة {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} أي يقتّر على بعض ويوسّع على بعض أو يقتِّر تارةً ويوسّع أخرى حسبَما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَم والمصالحِ فلا تبخلوا عليه بما وسَّع عليكم كي لا يبدِّل أحوالَكم ولعل تأخيرَ البسط عن القبض في الذكر للإيماء إلى أنه يعقُبه في الوجود تسليةً للفقراء وقرئ يبصُط بالصاد لمجاورة الطاء {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازِيكم على ما قدَّمتُم من الأعمالِ خيرا وشرا

246 - البقرة

246

{أَلَمْ تَرَ} تقريرٌ وتعجيب كما سبق قُطع عنه للإيذان باستقلاله في التعجب مع أن له مزيدَ ارتباطٍ بما وُسِّط بينهما من الأمر بالقتال {إِلَى الملإ من بني إسرائيل} الملأُ من القوم وجوهُهم وأشرافهم وهو اسمٌ للجماعة لا واحدَ له من لفظه كالرهط والقوم سْموا بذلك لما أنهم يملئون العيونَ مهابةً والمجالسَ بهاءً أو لأنهم مليئون بما يبتغى منهم ومن تبعيضية ومِنْ في قولِه تعالَى {مِن بَعْدِ موسى} ابتدائيةٌ وعاملُها مقدرٌ وقع حالاً من الملأ أي كائنين بعضَ بني إسرائيلَ من بعد وفاة موسى ولا ضيرَ في اتحاد الحرفين لفظا عند اختلافهما معنى {إِذْ قَالُواْ} منصوبٌ بمُضمر يستدعيه المقامُ أي ألم ترَ إلى قصة الملأ أو حديثهم حين قالوا {لِنَبِىّ لَّهُمُ} هو يوشَعُ بنُ نونِ بنِ أفرائيم بن يوسف عليهما السلام وقيل شمعون بنُ صعبة بنِ علقمة من ولد لاوي بنِ يعقوبَ عليهما السَّلامُ وقيل وقيل أشمويلُ بنُ بالِ بنِ علقمة وهو بالعبرانية اسمعيل قال مقاتل هو من نسل هرون عليه السلام وقال مجاهد أشمويلُ بنُ هلقايا {ابعث لَنَا مَلِكًا نقاتل فِى سَبِيلِ الله} أي أَنهِضْ للقتال معنا أميراً نُصدِرُ في تدبير أمرِ الحرب عن رأيه وقرئ نقاتلُ بالرفع على أنَّه حالٌ مقدَّرةٌ أي ابعثه لنا مقدّرين القتالَ أو استئنافٌ مبنيُّ على السؤال وقرئ يقاتلْ بالياء مجزوماً ومرفوعاً على الجواب للأمر والوصف لملِكاً {قَالَ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الذهنُ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ لهم النبيُّ حينئذ فقيل قال {قال هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تقاتلوا قالوا} فُصل بين عسى وخبرِه بالشرط للاعتناء به أي هل قاربتم ان لا تقاتلوا كما أتوقعه منكم والمرادُ تقريرُ أن المتوقَّعَ كائنٌ وإنما لم يُذكر في معرض الشرط ما التمسوه بأن قيل هل عسَيتم إن بعثتُ لكم ملكاً الخ مع أنه أظهر تعلقاً بكلامهم بل ذَكَر كتابةَ القتالِ عليهم للمبالغة في بيان تخلّفِهم عنه فإنهم إذا لم يقاتلوا عند فرضيةِ القتالِ عليهم بإيجاب الله تعالى فلأَن لا يقاتلوا عند عدم فرضيتِه أولى ولأن إيراد ما ذكروه ربما يوهِمُ أن سبب تخلفِهم عن القتال هو المبعوث لانفس القتال وقرئ عسِيتم بكسر السين وهي ضعيفة {قَالُواْ} استئنافٌ كما سبق {وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل} أي أيُّ سبب لنا في أَن لا نقاتل {فِى سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا} أي والحال أنه قد عَرَض لنا ما يوجب القتالَ إيجاباً قوياً من الإخراج عن الديار والأوطان والاغترابِ من الأهل والأولاد وإفرادُ الأبناء بالذكر لمزيد تقوية أسبابِ القتال وذلك أن جالوت رأسَ العمالقةِ وملكهم وهو جبارٌ من أولاد عمليق بن عاد كان هُو ومَنْ مَعَهُ من العمالقة يسكنون ساحلَ بحرِ الرومِ بين مصر وفلسطين وظهروا على بني إسرائيلَ وأخذوا ديارَهم وسبَوْا أولادهم وأسرُوا من أبناء ملوكهم أربعمائة

247 - البقرة وأربعين نفساً وضربوا عليهم الجزيةَ وأخذوا توراتَهم {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} بعد سؤال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ذلك وبعْثِ الملك {تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا وتخلفوا لكنْ لا في ابتداء الأمرِ بل بعدَ مشاهدةِ كثرةِ العدو وشوكته كما سيجئ تفصيله وإنما ذكر ههنا مآل أمرهم إجمالا إظهار لما بين قولِهم وفعلهم من التنافي والتبايُن {إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ} وهم الذين اكتفَوا بالغُرفة من النهر وجاوزوه وهم ثلثُمائةٍ وثلاثةَ عَشرَ بعدد أهل بدر {والله عَلِيمٌ بالظالمين} وعيد لهم على ظلمهم بالتولي عن القتال وتركِ الجهاد وتنافي أقوالِهم وأفعالِهم والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ

247

{وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ} شروعٌ في تفصيل ما جرى بينه عليه السَّلامُ وبينهم من الأقوال والأفعال إثرَ الإشارةِ الإجمالية إلى مصير حالِهم أي قال لهم بعد ما أُوحي إليه ماأوحى {إِنَّ الله قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} طالوتُ علمٌ عِبْريٌّ كداودَ وجعلُه فَعْلوتاً من الطول يأباه منع صرفه وملكا حال منه رُوي أنه عليه السلام لما دعا ربه أن يجعل لهم ملِكاً أتى بعصاً يُقاس بها من يملِكُ عليهم فلم يساوِها إلا طالوتُ {قَالُواْ} استئنافٌ كما مر {أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا} أي من أين يكون أو كيف يكون ذلك {وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ المال} الواو الأولى حاليةٌ والثانيةُ عاطفةٌ جامعةٌ للجملتين في الحُكم أي كيف يتملّك علينا والحالُ أنه لا يستحِقُّ التملكُ لوجود من هو أحقُّ منه ولعدم ما يتوقف عليه الملكُ من المال وسبب هذا الاستبعادِ أن النبوةَ كانت مخصوصةً بسِبطٍ معينٍ من أسباط بني إسرائيلَ وهو سِبطُ لاوى بنِ يعقوبَ عليه السلام وسبط المملكة بسبط يهودا ومنه داودُ وسليمانُ عليهما السلام ولم يكن طالوتُ من أحد هذين السِبطين بل من ولد بنيامين قيل كان راعياً وقيل دبّاغاً وقيل سقّاءً {قَالَ إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ} لمّا استبعدوا تملُّكَه بسقوط نسَبِه وبفقره ردَّ عليهم ذلك أولا مَلاكَ الأمرِ هو اصطفاءُ الله تعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم وثانياً بأن العُمدة فيه وُفورُ العلم ليتمكَّنَ به من معرفة أمورِ السياسةِ وجسامةُ البدن ليعظُم خطرُه في القلوب ويقدِرَ على مقاومة الأعداءِ ومكابدةِ الحروب وقد خصه الله تعالى منهما بحظَ وافرٍ وذلك قوله عز وجل {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم} أي العلمِ المتعلِّقِ بالمُلك أو به وبالديانات أيضاً وقيل قد أوحي إليه ونبئ {والجسم} قيل بطول القامة فإنه كان أطولَ من غيره برأسه ومنكبيه حتى إن الرجلَ القائم كان يمديده فينال رأسه وقيل بالجمال وقيل بالقوة {والله يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاء} لما أنه مالِكُ المُلكِ والملَكوتِ فعّالٌ لما يريد فله أن يؤتِيَه من يشاءُ من عباده {والله واسع} يوسِّع على الفقير ويُغنيه {عَلِيمٌ} بمن يليقُ بالملك ممن لا يليق به وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابة

248 - البقرة

248

{وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ} توسيطُه فيما بين قوليه المحكِيَّيْن عنه عليه السلام للإشعار بعدم اتصالِ أحدِهما بالآخر وتخلُّلُ كلامٍ من جهة المخاطبين متفرِّعٌ على السابق مستتبِعٌ للاحق كأنهم طلبوا منه عليه السلام آيةً تدل على أنه تعالى اصطفى طالوتَ وملّكه عليهم رُوي أنهم قالوا ما آية ملكة فقال {إن آية ملكِه أن يأتيكم التابوت} أي الصُندوقُ وهو فَعْلوتٌ من التَّوْب الذي هو الرجوعُ لما أنه لا يزال يرجِعُ إليه ما يخرُج منه وتاؤه مزيدةٌ لغير التأنيث كمَلَكوت ورَهَبوت والمشهورُ أن يوقف على تائه من غير أن تُقلبَ هاءً ومنهم من يقلِبُها إياها والمراد به صُندوقُ التوراةِ وكان قد رفعه الله عزَّ وجلَّ بعدَ وفاةِ موسى عليه السلام سُخطاً على بني إسرائيلَ لما عَصَوا واعتدَوْا فلما طلب القوم من نبيهم آيةً تدل على مُلك طالوتَ قال لهم إن آية ملكِه أن يأتيَكم التابوتُ من السماءِ والملائكةُ يحفَظونه فأتاهم كما وصف والقومُ ينظرون إليه حتى نزل عند طالوتَ وهَذا قولُ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما وقال أربابُ الأخبارِ إن الله تعالى أنزل على آدمَ تابوتاً فيه تماثيلُ الأنبياءِ عليهم السلام من أولاده وكان من عُود الشمشاد نحواً من ثلاثة أذرُعٍ في ذراعين فكان عند آدمَ عليهِ السَّلامُ إلى أن توفي فتوارثه أولادُه واحدٌ بعد واحدٍ إلى أن وصلَ إلى يعقوبَ عليه السلام ثم بقي في أيدي بني إسرائيلَ إلى أن وصلَ إلى مُوسى عليهِ السَّلامُ فكان علية الصلاة والسلام يضعُ فيه التوراةَ وكان إذا قاتل قدّمه فكانت تسكُن إليه نفوسُ بني إسرائيلَ وكان عنده إلى أن توُفي ثم تداولتْه إيدى بنى إسرئيل وكانوا إذا اختلفوا في شئ تحاكَموا إليه فيكلِّمهم ويحكُم بينهم وكانوا إذا حضروا القتالَ يقدِّمونه بين أيديهم ويستفتِحون به على عدوهم وكانت الملائكةُ تحمِلُه فوق العسكر ثم يقاتلون العدوَّ فإذا سمعوا من التابوت صيحةً استيقنوا النصرَ فلما عصَوا وأفسدوا سلّط الله عليهم العمالقةَ فغلبوهم على التابوت وسلبوه وجعلوه في موضع البولِ والغائطِ فلما أراد الله تعالى أنْ يُملِّك طالوتَ سلط عليهم البلاء حتى إن كلَّ من بال عنده ابتُلي بالبواسير وهلكت من بلادهم خمسُ مدائنَ فعلم الكفارُ أن ذلك بسبب استهانتهم بالتابوت فأخرجوه وجعلوه على ثورَيْن فأقبل الثورانِ يسيران وقد وكل الله تعالى بهما أربعةً من الملائكة يسوقونهما حتى أتَوا منزلَ طالوت فلما سألوا نبيَّهم البينةَ على مُلك طالوتَ قال لهم النبيُّ إن آيةَ مُلكِه أنكم تجِدون التابوتَ في داره فلما وجدوه عنده يقنوا بمُلكه {فِيهِ سَكِينَةٌ مّن رَّبّكُمْ} أي في إتيانِه سكونٌ لكم وطُمَأْنينةٌ كائنةٌ من ربكم أو في التابوت ما تسكُنون إليه وهو التوراةُ المُودَعة فيه بناء على مامر من أن موسى عليه السلام إذا قاتل قدَّمه فتسكُن إليه نفوسُ بني إسرائيلَ وقيل السكينةُ صورةٌ كانت فيه من زَبَرْجَدٍ أو ياقوتٍ لها رأسٌ وذنبٌ كرأس الهرِّ وذنبِه وجناحان فتئن فيزف التابوتُ نحوَ العدوِّ وهم يمضُون معه فإذا استقر ثبتوا وسكَنوا ونزل النصرُ وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه كان لها وجهٌ كوجه الإنسان وفيها ريحٌ هفّافة {وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون}

249 - البقرة هي رضاض الألواحِ وعصا موسى وثيابه من التوراة وكان قد رفعه الله تعالى بعد وفاةِ موسى عليه السلام وآلُهما أبناؤُهما أو أنفسُهما والآلُ مقحَمٌ لتفخيم شأنهما أو أنبياءُ بني إسرائيلَ {تَحْمِلُهُ الملائكة} حال من التابوت أي إن آيةَ ملكِه إتيانُه حال كونِه محمولاً للملائكة وقد مر كيفيةُ ذلك ولعل حملَ الملائكةِ على الرواية الأخيرة عبارةٌ عن سَوْقهم للثورين الحاملين له {إِنَّ فِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذكر من شأن التابوت فهو من تمام كلامِ النبي عليه السلام لقومه أو إلى نَقلِ القصة وحكايتها فهو ابتداءُ كلامٍ من جهة الله تعالى جيءَ به قبل تمامِ القصةِ إظهاراً لكمال العنايةِ به وإفرادُ حرفِ الخطاب مع تعدُّد المخاطَبين على التقديرين بتأويل الفريق أو غيرِه كما سلف {لآيَةً} عظمة {لَكُمْ} دالةً على مُلك طالوتَ أو على نبوة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم حيث أخبر بهذه التفاصيل على ما هي عليه من غير سماعٍ من البشر {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي مصدقين بتمليكه عليكم أو بشيءٍ من الآيات وإن شرطيةٌ والجواب محذوفٌ ثقةً بما قبله وقيل هي بمعنى إذ

249

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود} أي انفصل بهم عن بيت المقدسِ والأصلُ فصلَ نفسَه ولما اتحد فاعلُه ومفعولُه شاع استعمالُه محذوفَ المفعول حتى نزل منزِلة القاصِرِ كانفصل وقيل فصَل فصُولاً وقد جُوّز كونه أصلاً برأسه ممتازاً من المتعدي بمصدره كوقف وقوفاً ووقَفه وقفاً وكصدَّ صُدوداً ورجَع رجوعاً ورجَعه رجعاً والباءُ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من طالوت أي ملتبساً بهم ومصاحباً لهم رُوي أنه قال لقومه لايخرج معي رجل بنى بناءً لم يفرُغْ منه ولا تاجرٌ مشتغلٌ بالتجارة ولا متزوجٌ بامرأة لم يبْنِ عليها ولا أبتغي إلا الشابَّ النشيطَ الفارغ فاجتمع اليه ممن اختاره ثمانون ألفاً وكان الوقت قَيظاً وسلكوا مفازةً فسألوا أن يُجرِيَ الله تعالى لهم نهراً فبعد ما ظهر له ما تعلقت به مشيئتُه تعالى من جهة النبي عليه السلام أو بطريق الوحي عند من يقول بنبوته {قَالَ إِنَّ الله مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ} بفتح الهاء وقرئ بسكونها {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ} أي ابتدأ شُربه من النهر بأن كرَع لأنه الشرب منه حقيقة {فَلَيْسَ مِنّي} أي من جُملتي وأشياعي المؤمنين وقيل ليس بمتصلٍ بي ومتحدٍ معي من قولهم فلان مني كأنه بعضُه لكمال اختلاطِهما {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} أي لم يذُقه من طعِم الشيءَ إذا ذاقه مأكولاً كان أو مشروباً أو غيرَهما قال وإن شئتِ حرمتُ النساءَ سواكم ... وإن شئت لم أطعَمْ نُقاخاً ولا بردا أي نوماً {فَإِنَّهُ مِنّى إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ} استثناءٌ من قولِهِ تعالى فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي وإنما أُخّر عن الجملة الثانية لإبراز كمالِ العناية بها ومعناه الرخصةُ في اغتراف الغرفةِ باليد دون الكروع والغرفة ما يغرف وقرئ بفتح الغين على أنها مصدرٌ والباء متعلقةٌ باغترف أو بمحذوف وقع صفة لغرفة أي غرفةً كائنةً بيده يروى أن الغرفة كانت

تكفي الرجل لشربه وإدواتِه ودوابِّه وأما الذين شرِبوا منه فقد اسودت شفاهُهم وغلبهم العطشُ {فَشَرِبُواْ مِنْهُ} عطفٌ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي فابتلُوا به فشرِبوا منه {إِلاَّ قَلِيلاً منهم} وهو المشارُ إليهم فيما سلف بالاستثناء من تولى وقرئ إلا قليلٌ منهم ميلاً إلى جانب المعنى وضرباً عن عُدوة اللفظِ جانباً فإن قوله تعالى فَشَرِبُواْ مِنْهُ في قوَّةِ أنْ يقالَ فلم يُطيعوه فحُقَّ أن يرد المستثنى مرفوعاً كما في قول الفرزدق وعض الزمان ياابن مروانَ لم يدَع ... مِنَ المالِ إلا مُسْحَتٌ أو مُجلِّفُ فإن قوله لم يدع في حكم لم يبق {فَلَمَّا جَاوَزَهُ} أي النهرَ {هُوَ} أي طالوتُ {والذين آمنوا مَعَهُ} عطفٌ على الضمير المتصلِ المؤكدِ بالمنفصل والظرفُ متعلقٌ بجاوزَ لا بآمنوا وقيل الواوُ حالية والظرفُ متعلقٌ بمحذوف وقع خبراً من الموصول كأنه قيل فلما جاوزه والحالُ أن الذين آمنوا كائنون معه وهم أولئك القليلُ وفيه إشارةٌ إلى أن مَنْ عداهم بمعزل من الإيمان {قَالُواْ} أي بعضُ مَنْ معهُ منَ المُؤمنينَ لبعضٍ {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} أي بمحاربتهم ومقاومتِهم فضلاً عن أن يكونَ لنا غلبةٌ عليهم لِما شاهدُوا منُهم من الكثرة والشدة قيل كانوا مائةَ ألفِ مقاتلٍ شاكي السِّلاح {قَالَ} استئناف مبني على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قال مخاطبُهم فقيل قال {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُواْ الله} قيل أي الخُلَّصُ منهم الذين يتيقنون لقاءِ الله تعالى بالبعث ويتوقّعون ثوابَه وإفرادُهم بذلك الوصف لا ينافي إيمانَ الباقين فإن درجاتِ المؤمنين في التيقن والتوقع مُتفاوتةٌ أو الذين يعلمون أنهم يُستشهدون عما قريب فيلقَوْن الله تعالى وقيل الموصولُ عبارةٌ عن المؤمنينَ كافةً والضميرُ في قالوا للمنخذِلين عنهم كأنهم قالوه اعتذاراً عن التخلُّف والنهرُ بينهما {كَم مّن فِئَةٍ} أي فِرْقة وجماعة من الناس من فأَوْتُ رأسَه إذا شققتها أو من فاء إليه إذا رجَع فوزنُها على الأول فِعةٌ وعلى الثاني فِلَةٌ {قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً} وكم خبرية كانت أواستفهامية مفيدةٌ للتكثير وهي في حيز الرفعِ بالابتداء خبرُها غلبتْ أي كثيرٌ من الفئات القليلةِ غلبت الفئاتِ الكثيرةَ {بِإِذُنِ الله} أي بحُكمه وتيسيرِه فإن دورانَ كافةِ الأمور على مشيئته تعالى فلا يذِلُّ من نصرَه وإن قل عددُه ولا يعِزُّ مَنْ خَذله وإن كثر أسبابُه وعُددُه وقد روُعيَ في الجواب نُكتةٌ بديعة حيث لم يقُلْ أطاقت بفئة كثيرةٍ حسبما وقع في كلام أصحابهم مبالغةً في رد مقالتِهم وتسكينِ قلوبهم وهذا كما ترى جواب ناشئ من كمال ثقتِهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل في ذلك لظن لقاءِ الله تعالى بالبعث لاسيما بالاستشهاد فإن العلمَ به ربما يورِثُ اليأسَ من الغَلَبة ولا لتوقُّع ثوابِه تعالى ولاريب في أن ما ذُكر في حيز الصلةِ ينبغي أن يكونَ مداراً للحكم الواردِ على الموصول فلا أقلَّ من أن يكون وصفاً ملائماً له فلعل المرادَ بلقائه تعالى لقاءُ نصرِه وتأييدُه عُبر عنه بذلك مبالغةً كما عُبر عن مقارَنةِ نصرِه تعالى بمقارنته سبحانه حيث قيل {والله مَعَ الصابرين} فإن المرادَ به معيّةُ نصرِه وتوفيقِه حتماً وحملُها على المعية بالإثابة كما فعل يأباه أنهم إنما قالوه تتميا لجوابهم وتأكيدا له بطريق الاعتراضِ التذييليِّ تشجيعاً لأصحابهم وتثبيتاً لهم على الصبر المؤدي إلى الغَلَبة ولا تعلّقَ له بما ذُكر من المعية بالإثابة قطعاً وكذا الحالُ إذا جُعل ذلك ابتداءَ كلامٍ من جهة الله تعالى جئ به تقريراً لكلامهم والمعنى قال الذين يظنون أو يعلمون من جهة النبي أو من جهة التابوتِ والسكينة أنهم ملاقو نصر العزيزِ كم من فئةٍ قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله تعالى فنحن نغلِبُ جالوتَ وجنودَه وإيرادُ خبرِ أن اسماً مع أن اللقاء

250 - 251 البقرة مستقبلٌ للدَلالة على تقرره وتحققه

250

{وَلَمَّا بَرَزُواْ} أي ظهر طالوتُ وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ وصاروا إلى براز من الأرض في موطن الحرب {لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} وشاهدوا ما هم عليه من العَدد والعُدد وأيقنوا أنهم غير مطيقين بهم عادة {قَالُواْ} أي جميعاً عند تقوى قلوب الفريقُ الأولُ منهم بقول الفريق الثاني متضرِّعين إلى الله تعالى مستعينين به {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} على مقاساة شدائِد الحربِ واقتحامِ مواردِه الصعبةِ الضيقة وفي التوسل بوصف الربوبيةِ المُنْبئةِ عن التبليغِ إلى الكمال وإيثارِ الإفراغِ المعرب عن الكثرة وتنكيرِ الصبر المفصح عن التفخيم من الجزالة مالا يخفى {وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} في مداحض القتالِ ومزالِّ النزال وثباتُ القدم عبارةٌ عن كمال القوةِ والرسوخِ عند المقارعة وعدمِ التزلزل وقت المقاومة لا مجرد التقرّر في حيز واحد {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} بقهرهم وهزمِهم ووضعُ الكافرين في موضعَ الضَّميرِ العائد إلى جالوتَ وجنودِه للإشعار بعِلة النصرِ عليهم ولقد راعَوْا في الدعاء ترتيباً بديعاً حيث قدموا سؤالَ إفراغِ الصبر الذي هو مِلاكُ الأمر ثم سؤالَ تثبيتِ القدم المتفرع عليه ثم سؤالَ النصرِ الذي هو الغايةُ القصوى

251

{فَهَزَمُوهُم} أي كسروهم بلا مكث {بِإِذُنِ الله} بنصره وتأييده إجابةً لدعائهم وإيثارُ هذه الطريقة على طريقة قوله عز وجل فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا الخ للمحافظة على مضمون قولِهم غلَبتْ فئةً كثيرةً بإذن الله {وقتل داود جَالُوتَ} كان إيشى أبو داودَ في عسكر طالوتَ معه ستةٌ من بنيه وكان داودُ عليه السلام سابعَهم وكان صغيراً يَرعى الغنم فأوحى الله تعالى إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوتَ فطلبه من أبيه فجاء وقد مر في طريقه بثلاثة أحجار قال له كل منها احمِلنا فإنك بنا تقتُل جالوتَ فحملها في مِخْلاته قيل لما أبطأ على أبيه خبرُ إخوته في المصافِّ أرسل داودُ إليهم ليأتيَه بخبرهم فأتاهم وهم في القراع وقد برز جالوتُ بنفسه إلى البِراز ولا يكاد يبارزه أحدٌ وكان ظلُّه ميلاً فقال داودُ لإخوته أما فيكم من يخرجُ إلى هذا الأقلفِ فزجروه فنحا ناحية أخرى ليس فيها أخوتُه وقد مر به طالوتُ وهو يحرِّض الناسِ على القتال فقال له داودُ ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلفَ قال طالوت أنكحه بنتى وأعطيه شطرَ مملكتي فبرز له داودُ فرماه بما معه من الأحجار بالمِقلاع فأصابه في صدره فنفذ الأحجارُ منه وقتلت بعده ناسا كثيرا وقيل إنما كلمته الأحجارُ عند بروزه لجالوتَ في المعركة فأنجز له طالوتُ ما وعده وقيل إنه حسده وأخرجه من مملكته ثُمَّ ندِمَ عَلَى مَا صنعه فذهب يطلبه إلى أن قُتل ومُلِّك داودُ عليه السلام وأعطيَ النبوةَ وذلك قوله تعالى {وآتاه الله الملك} أي مُلكَ بني إسرائيلَ في مشارقِ الأرض المقدسةِ ومغاربِها {والحكمة} أي البنوة ولم يجتمع في بني إسرائيلَ الملكُ والنبوةُ قبله إلا له بل كان الملكُ في سِبط والنبوة في سبط

252 - 253 البقرة آخرَ وما اجتمعوا قبله على ملك قط {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء} أي مما يشاء الله تعالى تعليمَه إياه لا مما يشاء داودُ عليه السلام كما قيل لأن معظم ما علمه تعالى إياه مما لا يكاد يخطرُ ببال أحد ولا يقع في أمنية بشرٍ ليتمكنَ من طلبه ومشيئته كالسَّرَد بإِلانةِ الحديد ومنطقِ الطير والدوابِّ ونحو ذلك من الأمور الخفية {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم} الذين يباشرون الشر والفساد {بِبَعْضِ} آخرَ منهم بردِّهم عما هم عليه بما قدر الله تعالى من القتل كما في القصة المحكية أو غيره وقرئ دِفاعُ الله على أن صيغة المبالغة للمبالغة {لَفَسَدَتِ الارض} وبطلت منافعُها وتعطلت مصالحُها من الحرْث والنسل وسائر ما يعمُر الأرضَ ويُصلِحها وقيل لولا أن الله ينصُر المسلمين على الكافرين لفسدت الأرضُ بعيثهم وقتلهم المسلمين أولو لم يدفعهم بالمسلمين لعم الكفر ونزلت السخطة فاستؤصلَ أهلُ الأرض قاطبة {ولكن الله ذُو فَضْلٍ} عظِيمٌ لا يقادَر قدرُه {عَلَى العالمين} كافةً وهذا إشارةٌ إلى قياس استثنائي مؤلفٍ من وضع نقيض المقدم منتج لنقيض التالي خلا أنه قد وضع ما يستتبعه ويستوجبه أعني كونه تعالى ذا فضلٍ على العالمين إيذاناً بأنه تعالى متفضِّلٌ في ذلك الدفع من غير أن يجبَ عليه ذلك وأن فضلَه تعالى غيرُ منحصرٍ فيه بل هو فردٌ من أفراد فضلِه العظيم كأنه قيل ولكنه تعالى يدفع فسادَ بعضِهم ببعض فلا تفسد الأرض وتنتطم به مصالِحُ العالمِ وتنصَلِحُ أحوالُ الأمم

252

{تِلْكَ} إشارة إلى ما سلف من حديث الألوفِ وخبرِ طالوتَ على التفصيل المرقومِ وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو شأنِ المشارِ إليه {آيات الله} المنزلةُ من عنده تعالى والجملةُ مستأنفة وقولُه تعالَى {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} أي بواسطة جبريلَ عليهِ السَّلامُ إما حالٌ من الآيات والعامل معنى الإشارة وإما جملةٌ مستقلة لا محلَّ لها من الإعراب {بالحق} في حيز النصبِ على أنه حالٌ من مفعول نتلوها أي ملتبسةً باليقين الذي لا يرتاب فيه أحدٌ من أهل الكتاب وأربابِ التواريخ لما يجدونها موافقة لما في في كتبهم أو من فاعلِه أي نتلوها عليك ملتبسين بالحق والصواب أو من الضمير المجرور أي ملتبساً بالحق والصدق {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} أي من جملة الذين أُرسلوا إلى الأمم لتبيلغ رسالاتِنا وإجراءِ أوامرِنا وأحكامنا عليهم فإن هذه المعاملةَ لا تجري بيننا وبين غيرهم فهي شهادة منه سبحانه برسالته عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إثرَ بيانِ مايستوجبها والتأكيدُ من مقتضيات مقامِ الجاحدين بها

253

{تِلْكَ الرسل} استئنافٌ فيه رمز إلى أنه عليه الصلاةُ والسلام من

أفاضلِ الرسلِ العظامِ عليهم الصلاة والسلام وإثر بيانِ كونِه من جملتهم والإشارةُ إلى الجماعة الذين من جملتهم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فاللام في المآل للاستغراق وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بعلوِّ طبقتِهم وبُعدِ منزلتهم وقيل إلى الذين ثبت علمه صلى الله عليه وسلم بهم {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} في مراتب الكمالِ بأن خصَصْناه حسبما تقتضيه مشيئتُنا بمآثِرَ جليلةٍ خلا عنها غيرُه مّنْهُمْ مَّن كلم الله تفصيل للتفضيل المذكور إجمالاً أي فضله بأن كلمهُ تعالى بغير سفير وهو موسى عليه الصلاة والسلام حيث كلمهُ تعالى ليلةَ الخِيْرة وفي الطور وقرىء كلم الله بالنصب وقرىء كالَمَ الله من المكالمة فإنه كلّم الله تعالى كما أنه تعالى كلمه ويؤيده كليمُ الله بمعنى مكالمِه وإيرادُ الاسمِ الجليلِ بطريق الالتفاتِ لتربية المهابةِ والرمزِ إلى ما بين التكليم والرفعِ وبين ما سبَقَ من مطلق التفضيل وما لحق من إيتاء البينات والتأييد بروحِ القدسِ من التفاوت {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات} أي ومنهم من رفعه على غيره من الرسل المتفاوتين في معارجِ الفضل بدرجات قاصية ومراتب نائبه وتغييرُ الأسلوب لتربية ما بينهم من اختلاف الحالِ في درجات الشرفِ والظاهرُ انه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ينبىء عنه الإخبارُ بكونه عليه الصلاة والسلام منهم فإن ذلك في قوة بعضهم فإنه قد خُصَّ بالدعوة العامة والحُجج الجمة والمعجزاتِ المستمرة والآياتِ المتعاقبة بتعاقُب الدهور والفضائلِ العلمية والعمليةِ الفائتة للحصر والإبهامُ لتفخيم شأنه وللإشعار بأنه العلَمُ الفردُ الغنيُّ عن التعيين وقيل إنه إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حيث خصه تعالى بكرامة الخُلّة وقيل إدريسُ عليه السلام حيث رفعه مكاناً علياً وقيل أوُلو العزم من الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسلام وآتينا عيسى ابن مَرْيَمَ البيِّنات الآياتِ الباهرةَ والمعجزاتِ الظاهرةَ من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبارِ بالمغيّبات أو الإنجيلَ {وأيدناه} أي قويناه {بِرُوحِ القدس} بضم الدال وقرىء بسكونها أي بالروح المقدسة كقولك رجل صدق وهو روحُ عيسى وإنما وصفت بالقدس للكرامة أو لأنه عليه السلام لم تضمه الأصلاب والأرحام والطوامث وقيل بجبريلَ وقيل بالإنجيلِ كما مر وإفرادُه عليه السلام بما ذكر لرد ما بين أهلِ الكتابين في شأنه عليه السلام من التفريط والإفراط والآيةُ ناطقة بأن الأنبياءَ عليهم السلام متفاوتةُ الأقدار فيجوزُ تفضيلُ بعضِهم على بعض ولكن بقاطع {وَلَوْ شَاء الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم} أي جاءوا من بعد الرسلِ من الأمم المختلفة أي لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلَهم متفقين على اتباع الرسلِ المتفقةِ على كلمة الحقِّ فمفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لكونه مضمونَ الجزاءِ على القاعدة المعروفة وقيل تقديرُه ولو شاء هدى الناس جميعاً ما اقتتل الخ وليس بذاك {مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ} من جهة أولئك الرسلِ {البينات} المعجزاتُ الواضحةُ والآياتُ الظاهرة الدالةُ على حقية الحقِّ الموجبةِ لاتباعهم الزاجرةُ عن الإعراض عن سَننهم المؤدِّي إلى الاقتتال فمِنْ متعلقةٌ باقتتل {ولكن اختلفوا} استدراك من الشرطية أُشير به إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع نقيض مقدمها منتج لنقيض تاليها إلا أنه قد وُضع فيه الاختلافُ موضعَ نقيضِ المقدم المترتب عليه للإيذان بأن الاقتتالَ ناشئ من قِبَلهم لا من جهتِه تعالَى ابتداءً كأنه قيل ولكن لم يشأ عدمَ اقتتالِهم لأنهم اختلفوا اختلافاً فاحشاً {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمن} بما جاءت به أولئك الرسل من البينات وعلموا به {وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} بذلك كفراً لا ارعواءَ له عنه فاقتضت الحِكمةُ

254 - 255 البقرة عدمَ مشيئتِه تعالى لعدم اقتتالِهم فاقتتلوا بموجبِ اقتضاءِ أحوالِهم {وَلَوْ شَاء الله} عدمَ اقتتالهم بعد هذه المرتبة أيضاً من الاختلاف والشقاق المستتبعين للاقتتال بحسب العادة {مَا اقتتلوا} وما نبَض منهم عِرقُ التطاول والتعادي لما أن الكل تحت ملَكوتِه تعالى فالتكريرُ ليس للتأكيد كما ظُن بل للتنبيه على أن اختلافهم ذلك ليس موجب لعدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم كما يفهم ذلك من وضعه في الاستدراك موضعه بل هو سبحانه مختار في ذلك حتى لو شاء بعد ذلك عدم اقتتالهم ما اقتتلوا كما يفصح عنه الاستدراك بقوله عز وجل {ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} أي من الأمور الوجودية والعدمية التي من جملتها عدمُ مشيئته عدم اقتتالهم فإن الترك أيضاً من جملة الأفعال أي يفعل ما يريد حسبما يريد من غيرِ أنْ يوجبَه عليه موجب أو يمنعه منه مانع وفيه دليلٌ بيِّنٌ على أن الحوادث تابعة لمشيئته سبحانه خيرا كان أو شرا إيماناً كان أو كفراً

254

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ} في سبيل الله {من ما رزقناكم} أي شيئاً مما رزقنا كموه على أن ما موصولةٌ حُذف عائدُها والتعرضُ لوصوله منه تعالى للحث على الإنفاق كما في قوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ والمرادُ به الإنفاقُ الواجبُ بدلالة ما بعده من الوعيد {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شفاعة} كلمةُ مِن متعلقةٌ بما تعلقت به أختها ولا ضمير فيه لاختلاف معنييهما فإن الأولى تبعيضيةٌ وهذه لابتداء الغايةِ أي أنفِقوا بعضَ ما رزقناكم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يوم لا تقدِرون على تلافي ما فرّطتم فيه إذ لا تبايُعَ فيه حتى تتبايعوا ما تُنفقونه أو تفتدون به من العذاب ولا خُلةٌ حتى يسامحَكم به أخلاؤكم أو يُعينوكم عليه ولا شفاعةٌ إِلاَّ لِمَنْ أذِنَ لَهُ الرحمن ورضِيَ له قولاً حتى تتوسلوا بشفعاءَ يشفعون لكم في حطّ ما في ذمتكم وإنما رُفعت الثلاثةُ مع قصد التعميم لأنها في التقدير جوابُ هل فيه بيعٌ أو خلةٌ أو شفاعة وقرئ بفتح الكل {والكافرون} أي والتاركون للزكاة وأشارة عليه للتغليظ والتهديد كما في قوله تعالى ومن كَفَرَ مكانَ ومَنْ لم يحُجّ وللإيذان بأن تركَ الزكاة من صفات الكفار قال تعالى وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لا يؤتون الزكاة {هُمُ الظالمون} أي الذين ظلموا أنفسَهم بتعريضها للعقاب ووضعوا المالَ في غير موضعِه وصرفوه إلى غير وجهه

255

{الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} مبتدأٌ وخبرٌ أي هو المستحق للمعبودية لا غير وفي إضمارِ خبرِ لا مِثلَ في الوجودِ أو يصِح أن يوجدَ خلافٌ للنحاة معروفٌ {الحى} الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء وهو إما خبرٌ ثانٍ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أو بدل من لا إله إلا هو أو بدلٌ من الله أو صفة له ويعضُده القراءة بالنصب على المدح لاختصاصه بالنعت {القيوم} فَيْعولٌ من قام بالأمر إذا حفِظه أي دائمُ القيام بتدبير الخلق وحفظه وقيل

هو القائمُ بذاته المقيمُ لغيره {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} السِنةُ ما يتقدم النومَ من الفتور قال عديُّ بنُ الرقاعِ العاملي وَسْنانُ أقصده النعاسُ فرنَّقت ... في عينه سِنةٌ وليس بنائمِ والنومُ حالةٌ تعرِضُ للحيوان من استرخاء أعصابِ الدماغِ من رُطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقِف المشاعرُ الظاهرةُ عن الإحساس رأساً والمرادُ بيان انتفاءِ اعتراءِ شيءٍ منهما له سبحانه لعدم كونهما من شأنه تعالى لا لأنهما قاصران بالنسبة إلى القوة الإلهية فإنه بمعزل من مقامِ التنزيهِ فلا سبيلَ إلى حمل النظم الكريمِ على طريقة المبالغةِ والترقي بناءً على أن القادرَ على دفع السِنة قد لا يقدرُ على دفع النوم القويِّ كما في قولك فلانٌ يقِظٌ لا تغلِبُه سِنةٌ ولا نوم وإنما تأخيرُ النوم للمحافظة على ترتيب الوجودِ الخارجي وتوسيطُ كلمةِ لا للتنصيص على شمول النفي لكلَ منهما كما في قوله عز وجل وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً الآية وأما التعبيرُ عن عدم الاعتراءِ والعُروضِ بعدم الأخذ فلمراعاة الواقع إذ عُروضُ السِنةِ والنومِ لمعروضهما إنما يكون بطريق الأخذِ والاستيلاء وقيلَ هو من باب التكميل والجملةُ تأكيدٌ لما قبلها من كونه تعالى حياً قيوما فإن من يعتربه أحدُهما يكونُ موقوفَ الحياةِ قاصراً في الحفظ والتدبيرِ وقيل استئنافٌ مؤكدٌ لما سبق وقيل حال مؤكدةٌ من الضَّمير المستكِّنِ في القيوم {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الارض} تقريرٌ لقيّوميّته تعالى واحتجاجٌ به على تفرّده في الألوهية والمراد بما فيهما ماهو أعمُّ من أجزائهما الداخلةِ فيهما ومن الأمور الخارجةِ عنهما المتمكنة فيهما من العُقلاء وغيرِهم {مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} بيانٌ لكبرياء شأنه وأنه لا يدانيه أحدٌ ليقدِر على تغيير ما يريده شفاعةً وضراعةً فضلاً عن أن يُدافعه عِناداً أو مُناصبةً {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي ما قبلهم وما بعدهم أو بالعكس لأنك مستقبِلُ المستقبَل ومستدبِرُ الماضي أو أمور الدنيا وأمور الآخرة أو بالعكس أوما يُحسّونه وما يعقِلونه أو ما يدركونه ومالا يدركونه والضميرُ لما في السموات والأرض بتغليب ما فيهما من العقلاء على غيرهم أو لما دل عليه من ذا الذي من الملائكةِ والأنبياءُ عليهم الصلاة والسلام {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ} أي من معلوماته {إِلاَّ بِمَا شَاء} أن يعلموه وعطفُه على ما قبله لما أنهما جميعاً دليلٌ على تفرّده تعالى بالعلم الذاتي التامِّ الدالِّ على وحدانيته {وسع كرسيه السماوات والارض} الكرسي ما يُجلَس عليه ولا يفضُلُ عن مقعد القاعد وكأنه منسوبٌ إلى الكِرْس الذي هو المُلبَّد وليس ثمةَ كُرسيٌّ ولا قاعد وإنما هو تمثيل لعظمةِ شأنه عز وجل وسَعة سلطانه وإحاطةِ علمه بالأشياء قاطبةً على طريقة قولُه عز قائلاً وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والارض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسموات مطويات بِيَمِينِهِ وقيل كرسيُّه مجازٌ عن علمِه أخذاً من كرسيِّ العالِم وقيل عن مُلكه أخذاً من كرسيّ المُلك فإن الكرسيَّ كلما كان أعظمَ تكون عظمةُ القاعدِ أكثرَ وأوفرَ فعبر عن شمول علمه أو عن بسطةِ ملكه وسلطانِه بسَعة كرسيِّه وإحاطته بالأقطار العلوية والسفلية وقيل هو جِسمٌ بين يدي العرشِ محيطٌ بالسموات السبع لقوله صلى الله عليه وسلم ما السمواتُ السبعُ والأرضونَ السبعُ مع الكرسي إلا كحلقة في فلان وفضلُ العرشِ على الكرسيِّ كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ولعله الفلَكُ الثامن وعن الحسن البصريّ أنه العرش {وَلاَ يَؤُودُهُ} أي لا يُثقِله ولا يشُقُّ عليه {حِفْظُهُمَا} أي حفظُ السموات والأرضِ وإنما لم يتعرَّضْ لذكر ما فيهما لما أن حفظتهما مستتبعٌ لحفظه {وَهُوَ العلى} المتعالى بذاته عن الأشياء والأنداد {العظيم}

256 - البقرة الذي يُستحْقَر بالنسبة إليه كلُّ ما سواه ولما ترى من انطواء هذه الآيةِ الكريمةِ على أمهات المسائل الإلهية المتعلقةِ بالذات العليةِ والصفاتِ الجلية فإنها ناطقةٌ بأنه تعالى موجودٌ متفردٌ بالإلهية متصفٌ بالحياة واجبُ الوجود لذاته موجدٌ لغيره لما أن القيومَ هو القائمُ بذاته المقيمُ لغيره منزَّهٌ عن التحيز والحلول مبرأٌ عن التغير والفتور لا مناسبةَ بينه وبين الأشباح ولا يعتريه ما يعتري النفوسَ والأرواحَ مالكُ المُلك والملكوتِ ومُبدعُ الأصولِ والفروع ذو البطش الشديد لا يشفَع عنده إِلاَّ مَنْ أذِن لَهُ فيه العالِمُ وحده بجميع الأشياء جليِّها وخفيِّها كليِّها وجزئيِّها واسعُ الملك والقدرة لكل ما مِن شأنه أن يُملَكَ ويُقدَرَ عليه لا يشُقّ عليه شاقٌّ ولا يشغَلُه شأنٌ عن شأنٍ متعالٍ عما تناله الأوهامُ عظيمٌ لا تُحدق به الأفهام تفردت بفضائلَ رائقةٍ وخواصَّ فائقة خلت عنها أخواتها قال صلى الله عليه وسلم إن أعظمَ آيةٍ في القرآن آيةُ الكرسي من قرأها بعث الله تعالى ملِكاً يكتُب من حسناته ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما قُرئت هذه الآيةُ في دار إلا هجرتْها الشياطينُ ثلاثين يوماً ولا يدخُلها ساحرٌ ولا ساحرةٌ أربعين ليلة ياعلي علِّمْها ولدَك وأهلَك وجيرانَك فما نزلت آيةٌ أعظمُ منها وقال صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأ آيةَ الكرسيِّ في دُبُرِ كلِّ صلاة مكتوبةٍ لم يمنعْه من دخول الجنةِ إلا الموتُ ولا يواظِبُ عليها إلا صدِّيق أو عابدٌ ومن قرأها إذا أخذ مضجعَه أَمَّنَه الله تعالى على نفسه وجارِه وجار جاره والابيات حوله وقال عليه الصلاة والسلام سيدُ البشر آدمُ وسيد العربِ محمدٌ ولا فخرٌ وسيدُ الفُرس سلمانُ وسيدُ الرومِ صُهيبٌ وسيدُ الحبشةِ بلالٌ وسيد الجبال الطورُ وسيدُ الأيام يومُ الجمعة وسيد الكلام القرآن وسيدُ القرآنِ سورةُ البقرة وسيدُ البقرةِ آيةُ الكرسي وتخصيص سيادته صلى الله عليه وسلم للعرب بالذكر في أثناء تعدادِ السيادات الخاصةِ لا يدل على نفي مادلت عليه الأخبارُ المستفيضةُ وانعقد عليه الإجماعُ من سيادته صلى الله عليه وسلم لجميع أفرادِ البشر

256

{لا إِكْرَاهَ فِى الدين} جملة مستأنفة جاء بها إثرَ بيانِ تفرُّدِه سبحانه وتعالى بالشئون الجليلةِ الموجبةِ للإيمان به وحده إيذاناً بأن مِنْ حق العاقل أن لايحتاج إلى التكليف والإلزام بل يختارُ الدينَ الحقَّ من غير ترددٍ وتلعثم وقيل هو خبرٌ في معنى النهي أي لا تُكرِهوا في الدين فقيل منسوخٌ بقوله تعالى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وقيل خاصٌّ بأهل الكتاب حيث حصَّنوا أنفسَهم بأداءِ الجزية ورُوي أنه كان لأنصاريَ من بني سالمِ بنِ عوفٍ ابنان قد تنصّرا قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم ثم قدِما المدينة فلزِمهما أبوهما وقال والله لا أدَعُكما حتى تُسلما فأَبَيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فخلاّهما {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} استئنافٌ تعليلي صُدّر بكلمة التحقيقِ لزيادة تقريرِ مضمونِه كما في قوله عز وجل قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً أي إذ قد تبين بما ذُكر من نعوته تعالى التي يمتنع توهُّمُ اشتراك غيرِه في شيء منهما الإيمانُ الذي هو الرشدُ الموصل إلى السعادة الأبدية من الكفر الذي هو الغيُّ المؤدي إلى الشقاوة السرمدية {فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت}

هو بناءُ مبالغة من الطغيان كالمَلَكوت والجَبَروت قُلب مكانُ عينه ولامِه فقيل هو في الأصل مصدر وإليه ذهب الفارسيُّ وقيل اسمُ جنسٍ مُفرَدٍ مذكر وإنما الجمعُ والتأنيثُ لإرادة الآلهةِ وهو رأيُ سيبويه وقيل هو جمعٌ وهو مذهبُ المبرِّد وقيل يستوي فيه المُفرَد والجمعُ والتذكيرُ والتأنيثُ أي فمن يعملْ إثرَ ما تميز الحقُّ من الباطل بموجب الحُججِ الواضحةِ والآياتِ البينة ويكفرْ بالشيطان أو بالأصنام أو بكل ماعبد من دونِ الله تعالَى أو صَدَّ عن عبادته تعالى لِما تبيّن له كونُه بمعزل من استحقاق العبادةِ {وَيُؤْمِن بالله} وحدَه لما شاهد من نعونة الجليلةِ المقتضيةِ لاختصاص الألوهيةِ به عز وجل الموجبةِ للإيمان والتوحيدِ وتقديمُ الكفرِ بالطاغوت على الإيمان به تعالى لتوقفه عليه فإن التخليةَ متقدّمةٌ على التحلية {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} أي بالغَ في التمسُّك بها كأنه وهو ملتبسٌ به يطلُبُ من نفسه الزيادةَ فيه والثباتَ عليه {لاَ انفصام لَهَا} الفصم الكسر بغير إبانة كما أن القَصْم هو الكسر بإبانة ونفيُ الأول يدل على انتفاءِ الثاني بالأولوية والجملةُ إما استئنافٌ مقرِّر لما قبلَها من وَثاقة العُروة وإما حالٌ من العروة والعاملُ استمسك أو من الضمير المستتر في الوثقى ولها في حيز الخبر أي كائن لها والكلامُ تمثيلٌ مبنيٌّ على تشبيه الهيئةِ العقليةِ المنتزَعةِ من ملازمة الاعتقادِ الحقِّ الذي لا يحتمل النقيضَ أصلاً لثبوته بالبراهين النيِّرة القطعية بالهيئة الحِسّية المنتزَعه من التمسُّك بالحبل المُحْكَم المأمونِ انقطاعُه فلا استعارةَ في المفردات ويجوز أن تكونَ العُروةُ الوثقى مستعارةً للاعتقاد الحقِّ الذي هو الإيمانُ والتوحيدُ لا للنظر الصحيح المؤدّي إليه كما قيل فإنه غيرُ مذكورٍ في حيز الشرط والاستمساكُ بها مستعاراً لِما ذكر من الملازمة أو ترشيحاً للاستعارة الأولى {والله سَمِيعٌ} بالأقوال {عَلِيمٌ} بالعزائم والعقائدِ والجملةُ اعتراضٌ تذييلي حاملٌ على الإيمان رادِعٌ عن الكفر والنفاق بما فيهِ من الوعدِ والوعيدِ

257

{الله وليُّ الذين آمنوا} أي مُعينُهم أو متولي أمورِهم والمرادُ بهم الذين ثبت في علمه تعالى إيمانهم في الجملة مالاأو حالاً {يُخْرِجُهُم} تفسيرٌ للولاية أو خبرٌ ثانٍ عند من يجوز كونَه جملة أو حال من الضمير في وليّ {مِنَ الظلمات} التي هي أعمُّ من ظلمات الكفرِ والمعاصي وظلماتِ الشُبَه بل مما في بعض مراتبِ العلوم الاستدلالية من نوعِ ضعفٍ وخفاءٍ بالقياس إلى مراتبها القوية الجليةِ بل مما في جميع مراتبِها بالنظر إلى مرتبة العِيان كما ستعرفه {إِلَى النور} الذي يعمُّ نورَ الإيمان ونورَ الإيقان بمراتبه ونورَ العِيان أي يُخرج بهدايته وتوفيقِه كلَّ واحد منهم من الظُلمة التي وقع فيها إلى ما يقابلها من النور وإفراد النور لوحده الحق كما أن جمعَ الظلمات لتعدد فنون الضلال {والذين كَفَرُواْ} أي الذين ثبت في علمه تعالى كفرهم {أولياؤهم} أي الشياطينُ وسائرُ المضلين عن طريق الحق فالموصولُ مبتدأ وأولياؤُهم مبتدأٌ ثانٍ والطاغوتُ خبرُه والجملةُ خبرٌ للأولِ والجملة معطوفة على ماقبلها ولعل تغييرَ السبك للاحتراز عن وضع الطاغوتِ في

258 - البقرة مقابلة الاسم الجليل ولقصد المبالغة بتكرير الإسناد مع الإيمان إلى التباين بين الفريقين من كل وجهٍ حتى من جهة التعبير أيضاً {يُخْرِجُونَهُم} بالوساوس وغيرِها من طرق الإضلال والإغواء {مّنَ النور} الفِطري الذي جُبل عليه الناسُ كافةً أو من نور البيناتِ التي يشاهدونها من جهة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بتنزيل تمكُّنِهم من الاستضاءة بها منزلةَ نفسِها {إِلَى الظلمات} ظلماتِ الكفر والانهماكِ في الغي وقيل نزلت في قوم ارتدّوا عن الإسلام والجملةُ تفسير لولاية الطاغوت أو خبرٌ ثانٍ كما مر وإسنادُ الإخراجِ من حيث السببيةُ إلى الطاغوت لا يقدَحُ في استناده من حيث الخلقُ إلى قدرته سبحانه {أولئك} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما يتبعه من القبائح {أصحاب النار} أي ملابسوها وملازموها بسبب مالهم من الجرائم {هُمْ فِيهَا خالدون} ما كثون أبداً

258

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم فِى رِبّهِ} استشهادٌ على ما ذكر من أن الكفَرةَ أولياؤُهم الطاغوتُ وتقريرٌ له على طريقة قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ كما أن ما بعده استشهاد على ولايته تعالى للمؤمنين وتقريرٌ لها وإنما بُدىء بهذا الرعاية الاقترانِ بينه وبين مدلولِه ولاستقلاله بأمر عجيبٍ حقيق بأن يُصدَّر به المقالُ وهو اجتراؤه على المُحاجّة في الله عزوجل وما أتى بها في أثنائها من العظيمة المنادية بكمال حماقته ولأن فيما بعده تعدداً وتفصيلاً يورث تقديمُه انتشار النظم على أنه قد أشير في تضاعيفه إلى هداية الله تعالى أيضاً بواسطة إبراهيمَ عليه السلام فإن ما يحكى عنه من الدعوة إلى الحق وإدحاضِ حجةِ الكفار من آثار ولايته تعالى وهمزةُ الاستفهامِ لإنكارِ النفي وتقريرِ المنفي أي ألم تنظُرْ أو ألم ينتهِ علمُك إلى هذا الطاغوت المارد كيف تصدى لإضلال الناس وإخراجهم من النور إلى الظلمات أي قد تحققت الرؤيةُ وتقرَّرت بناءً على أن أمره منَ الظهورِ بحيثُ لا يكاد يخفى على أحد ممن له حظٌّ من الخطاب فظهر أن الكفرة أولئك الطاغوتُ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام تشريفٌ له وإيذانٌ بتأييده في المُحاجة {أَنْ آتاه الله الملك} أي لأن آتاه إياه حيث أبطره ذلك وحملَه على المُحاجّة أو حاجه لأجله وضعاً للمُحاجّة التي هي أقبحُ وجوهِ الكفر موضعَ ما يجبُ عليه من الشكر كما يقال عاديتني لأن أحسنتُ إليك أو وقتَ أن آتاه الله وهو حجةٌ على من منع إيتاءَ الله المُلك للكافر {إِذْ قَالَ إبراهيم} ظرفٌ لحاجَّ أو بدلٌ من آتاه على الوجه الأخير {ربي الذي يُحيي ويميت} بفتح ياء ربي وقرئ بحذفها روى أنه صلى الله عليه وسلم لما كسر الأصنام سجنه ثم أخرجه فقال من ربُّك الذي تدعو إليه قال ربي الذي يُحيي ويميت أي يخلُق الحياةَ والموتَ في الأجساد {قَالَ} استئناف مبني على السؤال كأنه قيل كيف حاجّه في هذه المقالة القوية الحقة فقيل قال {أنا أحيى وأميت} رُوي أنه دعا برجلين فقتل أحد هما وأطلق الآخر فقال ذلك {قَالَ إبراهيم} استئنافٌ كما سلف كأنه قيل

259 - البقرة فماذا قال إبراهيمُ لمن في هذه المرتبة من الحماقة وبماذا أفحمه فقيل قال {فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق} حسبما تقتضيه مشيئتُه {فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} إن كنت قادراعلى مثل مقدور اته تعالى لم يلتفِتْ عليه السلام إلى إبطال مقالةِ اللعين إيذاناً بأن بطلانها من الجلاءِ والظهورِ بحيث لا يكاد يخفى على أحد وأن التصديَ لإبطالها من قبيل السعي في تحصيل الحاصل وأتى بمثال لا يجد اللعين فيه مجالاً للتمويه والتلبيس {فَبُهِتَ الذى كَفَرَ} أي صار مبهوتا وقرئ على بناء الفاعل على أن الموصول مفعوله أي فغلب إبراهيمُ الكافر وأسكته وإيراد الكفر في حيز الصلة للإشعار بعلة الحكم والتنصيص على كون المحاجة كفراً {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} تذبيل مقرر لمضمون ما قبله أي لا يهدي الذين ظلُموا أنفسَهم بتعريضِها للعذابِ المخلد بسبب إعراضِهم عن قبول الهداية إلى مناهج الاستدلالِ أو إلى سبيل النجاةِ أو إلى طريق الجنةِ يوم القيامة

259

{أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ} استشهادٌ على ما ذكر من ولايته تعالى للمؤمنين وتقريرٌ لَهُ معطوفٌ على الموصول السابق وإيثارُ أو الفارقةِ على الواو الجامعة للاحتراز عن توهّم اتحادِ المستشهد عليه من أول الأمر والكاف إما اسميةٌ كما اختاره قوم جيئ بها للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارِها فيما ذُكر كما في قولك الفعلُ الماضي مثلُ نصر وإما زائدة كما ارتضاه آخرون والمعنى اولم ترى إلى مثل الذي أو إلى الذي مرَّ على قرية كيف هداه الله تعالى وأخرجه من ظُلمة الاشتباه إلى نور العِيان والشهود أي قد رأيت ذلك وشاهدت فإذن لا ريبَ في أن الله وليُّ الذين آمنوا الخ هذا وأما جعلُ الهمزةِ لمجرد التعجيبِ على أن يكون المعنى في الأول ألم تنظرُ إلى الذي حاجّ الخ أي انظُر إليه وتعجبْ من أمره وفي الثاني أو أرأيتَ مثلَ الذي مرَّ الخ إيذاناً بأن حالَه وما جرى عليه في الغرابة بحيث لا يُرى له مَثَلٌ كما استقر عليه رأي الجمهور فغيرُ خليقٍ بجزالة التنزيلِ وفخامة شأنه الجليل فتدبر والمارُّ هو عُزيرُ بنُ شرخيا قاله قتادةُ والربيع وعِكْرِمةُ وناجية بن كعب وسليمان بن يزيدَ والضحاك والسدى رضي الله عنهم وقيل هو أرميا بن حلقيا من سبط هرون عليه السلام قاله وهب وعبيدُ اللَّه بنُ عمير وقيل أرميا هو الخَضِرُ بعينه قال مجاهد كان المارُّ رجلاً كافراً بالبعث وهو بعيد والقريةُ بيتُ المقدِس قاله وهْبٌ وعكرِمة والربيع وقيل هي ديرُ هِرَقل على شط دِجْلةَ قال الكلبي هي ديرُ سابر آباد وقال السدي هي ديار سلما باد والأول هو الأظهر والأشهر رُوي إن بني إسرائيلَ لما بالغوا في تعاطي الشرِّ والفسادِ وجاوزوا في العتوِّ والطغيانِ كلَّ حدّ معتادٍ سلط الله تعالى عليهم بختنصر البابليَّ فسار إليهم في ستمائة ألفِ رايةٍ حتى وطئ الشامَ وخرَّب بيتَ المقدِس وجعل بني إسرائيلَ أثلاثاً ثلثٌ منهم قتلَهم وثلثٌ منهم أقرهم بالشام وثلثٌ منهم سباهم وكانوا مائة ألف

259 - البقرة غلام يافعٍ وغيرِ يافع فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل ملك منهم أربعة غِلمة وكان عُزير من جملتهم فلما نجاه الله تعالى منهم بعد حين مرّ بحماره على بيتَ المقدِس فرآه على أفظع مرأىً وأوحشَ منظرٍ وذلك قوله عزوجل {وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} أي ساقطة على سقوفها بأن سقطت العروشُ ثم الحيطانُ من خوَى البيتُ إذا سقط أو من خوَت الأرضُ أي تهدمت والجملةُ حالٌ من ضمير مر أومن قَرْيَةٌ عند من يجوِّز الحالَ من النكرة مطلقاً {قَالَ} أي تلهفاً عليها وتشوقاً إلى عِمارتها مع استشعار اليأس عنها {أنَّى يُحيِى هذه الله} وهي على مايرى من الحالة العجيبةِ المباينة للحياة وتقديمُها على الفاعل للاعتناء بها من حيث أن الاستعباد ناشىء من جهتها لامن جهة الفاعل وأنى نُصب على الظرفية إن كانت بمعنى متى وعلى الحالية من هذه إن كانت بمعنى كيف والعامل يُحيي وأيا ما كان فالمرادُ استبعادُ عمارتها بالبناء والسكان من بقايا أهلها الذين تفرقوا أيديَ سَبَاْ ومن غيرِهم وإنما عبر عنها بالإحياء الذي هو علَمٌ في البعد عن الوقوع عادة تهويلا للخطاب وتأكيداً للاستبعاد كما أنه لأجله عبر عن خرابها بالموت حيث قيل {بَعْدَ مَوْتِهَا} وحيث كان هذا التعبيرُ معرِباً عن استبعاد الإحياء بعد الموت على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه أراه الله عز وجل آثِرَ ذي أثيرٍ أبعدَ الأمرين في نفسه ثم في غيره ثم أراه ما استبعده صريحاً مبالغةً في إزاحة ما عسى يختلِجُ في خلَده وأما حملُ إحيائها على إحياء أهلها فيأباه التعرُّضُ لحال القرية دون حالهم والاقتصارَ على ذكر موتهم دون كونهم تراباً وعظاماً مع كونه أدخلَ في الاستبعاد لشدة مباينتِه للحياة وغايةِ بعدِه عن قَبولها على أنه لم تتعلقْ إرادتُه تعالى بإحيائهم كما تعلقت بعمارتها ومعايية المارِّ لها كما ستحيطُ به خبرا {فَأَمَاتَهُ الله} وألبثه على الموت {مِاْئَةَ عَامٍ} رُوي أنه لما دخل القريةَ ربطَ حمارَه فطاف بها ولم يرَ بها أحدا فقال ماقال وكانت أشجارُها قد أثمرت فتناول من التين والعنب وشرِب من عصيره ونام فأماته الله تعالى في منامه وهو شابٌّ وأماتَ حماره وبقيةُ تينِه وعِنَبه وعصيرِه عنده ثم أعمى الله تعالى عنه عيونَ المخلوقاتِ فلم يرَه أحد فلما مضى من موته سبعون سنةً وجّه الله عز وعلا ملِكاً عظيماً من ملوك فارسَ يقال له يوشَكُ إلى بيت المقدس ليعمُرَه ومعه ألفُ قهرمانٍ ثلثُمائة ألفِ عاملٍ فجعلوا يعمُرونه وأهلك الله تعالى بُخْتَ نَصَّر ببعوضة دخلتْ دماغَه ونجى الله تعالى من بقيَ من بني إسرائيلَ وردَّهم إلى بيت المقدِس وتراجَع إليه من تفرق منهم في الأكناف فعمروه ثلاثين سنة وكثُروا وكانوا كأحسنِ ما كانوا عليه فلما تمت المائةُ من موت عُزير أحياه الله تعالى وذلكَ قولِه تعالى {ثُمَّ بَعَثَهُ} وإيثارُه على أحياه للدلالة على سرعته وسهولةِ تأتِّيه على البارئ تعالى كأنه بعثه من النوم للإيذان بأنه أعاده كهيئته يومَ موته عاقلاً فاهماً مستعداً للنظر والاستدلال {قَالَ} استئنافٌ مبني على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قال له بعد بعثه فقيل قال {كَمْ لَبِثْتَ} ليُظهرَ له عجزة عن الإحاطة بشؤنه تعالى وأن إحيائه ليس بعد مدة يسيرةٍ ربما يُتوَهم أنه هيِّنٌ في الجملة بل بعد مدةٍ طويلةٍ وينحسِم به مادةُ استبعادِه بالمرة ويطلُع في تضاعيفه على أمر آخرَ من بدائعِ آثارِ قُدرتِه تعالى وهو إبقاءُ الغذاء المتسارعِ إلى الفساد بالطبع على ما كان عليه دهراً طويلاً من غير تغيّرٍ ما وكم نُصبَ على الظرفية مميِّزُها محذوفٌ أي كم وقتا لبثت والقائلُ هو اللَّهُ تعالى أو ملَكٌ مأمورٌ بذلك من قِبَله تعالى قيل نُوديَ من السماء يا عزيرُ كم لبثت بعد الموت {قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}

قاله بناءً على التقريب والتخمين أو استقصاراً لمدة لُبثِه وأما ما يقال من أنه مات ضُحىً وبُعث بعد المائة قبيل الغروب فقال قبلَ النظرِ إلى الشمس يوماً فالتفت إليها فرأى منها بقيةً فقال أو بعضَ يوم على وجه الإضراب فبمعزلٍ من التحقيق إذ لاوجه للجزم بتمام اليوم ولو بناءً على حُسبان الغروب لتحقق النُقصان من أوله {قال} استئناف كما سلف {بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} عطفٌ على مقدرٍ أي ما لبثتَ ذلك القدرَ بل هذا المقدارَ {فانظر} لتُعايِنَ أمراً آخرَ من دلائلِ قدرتنا {إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} أي لم يتغيرْ في هذه المدة المتطاولةِ مع تداعيه إلى الفساد رُوي أنه وجد تينَه وعِنَبه كما جَنَى وعصيرَه كما عَصَر والجملة المنفيةُ حالٌ بغير واو كقوله تعالى لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء إما من الطعام والشراب وإفرادُ الضمير لجَرَيانهما مجرى الواحدِ كالغذاء وإما من الأخير اكتفاءً بدلالة حالِه على حال الأول ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ وهذا شرابُك لم يتسنه والهاء أصليةٌ أو هاءُ سَكْتٍ واشتقاقُه من السنة لما أن لامها هاءٌ أو واوٌ وقيل أصلُه لم يتسنّنْ من الحمأ المسنون فقلبت نونُه حرفَ علة كما في تقضى البازي وقد جوز أن يكون معنى لم يتسنهْ لم يمرَّ عليه السنونَ التي مرت لا حقيقةً بل تشبيهاً أي هو على حاله كأنه لم يلبث مائة عام وقرئ لم يَسَّنَّهْ بإدغام التاء في السين وانظر إلى حِمَارِكَ كيف نخِرَتْ عظامُه وتفرقت وتقطعت أوصالُه وتمزقتْ ليتبين لك ماذكر من اللبث المديدِ وتطمئِنَّ به نفسُك وقوله عز وجل {ولنجعلك آية لِلنَّاسِ} عطفٌ على مقدر متعلقٍ بفعل مقدرٍ قبله بطريق الاستئنافِ مقرِّرٌ لمضمون ما سبق أيْ فعلنَا ما فعلنَا من إحيائك بعد ما ذكر لتُعايِنَ ما استبعَدْتَه من الإحياء بعد دهرٍ طويلٍ ولنجعلَك آيةً للناس الموجودين في هذا القرنِ بأن يشاهدوك وأنت من أهل القرونِ الخاليةِ ويأخذوا منك ما طُوِي عنهم منذ أحقابٍ مِنْ علمِ التوراة كما سيأتي أو متعلقٌ بفعلٍ مقدرٍ بعدَهُ أي ولنجعلك آية لهم على الوجه المذكور فعلنا ما فعلنا فهو على التقديرين دليلٌ على ما ذكر من اللُبث المديدِ ولذلك فُرِّق بينه وبين الأمرِ بالنظر إلى حماره وتكريرُ الأمر في قوله تعالى {وانظر إِلَى العظام} مع أن المرادَ عظامُ الحمار أيضاً لما أن المأمور به أولاً هو النظرُ إليها من حيث دلالتها على ما ذكر من اللُبث المديد وثانياً هو النظرُ إليها من حيث تعتريها الحياةُ ومباديها أي وانظرْ إلى عظام الحمار لتشاهِدَ كيفيةَ الإحياء في غيرك بعد ما شاهدتَ نفسَه في نفسك {كَيْفَ نُنشِزُهَا} بالزاي المعجمة أي نرفَعُ بعضها إلى بعض ويردها إلى أما كنها من الجسد فتركبها تركيباً لائقاً بها وقال الكسائي نليها ونُعْظِمُها ولعل من فسره بنُحييها أراد بالإحياء هذا المعنى وكذا من قرأ نُنْشِرُها بالراء من أَنْشَر الله تعالى الموتى أي أحياها لا معناه الحقيقي لقوله تعالى {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} أي نستُرها به كما يُستر الجسدُ باللباس وأما من قرأ نَنشُرُها بفتح النون وضم الشين فلعله أراد به ضِدَّ الطيِّ كما قال الفراء فالمعنى كيف نبسُطها والجملةُ إما حالٌ من العظام أي وانظُر إليها مركبةً مكسُوَّةً لحماً أو بدلُ اشتمالٍ أي وانظُرْ إلى العظام كيفيةِ إنشازِها وبسطِ اللحم عليها ولعل عدمَ التعرض لكيفية نفخِ الروحِ لما أنها مما لا تقتضي الحِكمةُ بيانَه رُوي أنه نودي أيتها العظامُ الباليةُ إن الله يأمرُك يأمرُك أن تجتمعي فاجتمعَ كل جزء من أجزائها التي ذهبَ بها الطيرُ والسِّباعُ وطارت بها الرياح من كل سهلٍ وجبلٍ فانظح بعضُها إلى بعض والتصق كلُّ عضوٍ بما يليق به الضلع بالضلع والذراعُ بمحلها والرأسُ بمَوْضِعها ثم الأعصابُ والعروق ثم انبسط عليه اللحم

260 - البقرة ثم الجلدُ ثم خرجت منه الشعورُ ثمَّ نُفخ فيهِ الروحُ فإذا هو قائم ينهَقُ {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} أي ما دل عليه الأمرُ بالنظر إليه من كيفية الإحياءِ بمباديه والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الأمرُ المذكور وإنما حذف للإيذان بظهور تحققِه واستغنائِه عن الذكر وللإشعار بسرعة وقوعِه كما في قوله عز وجل فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه بعد قوله أنا آتيك بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إليك طرفك كأنه قيل فأنشَزَها الله تعالى وكساها لحماً فنظرَ إليها فتبيّن له كيفيتُه فلما تبين له ذلك أي اتضح اتضاحاً تاماً {قال أعلم أَنَّ الله على كُلّ شىء} من الأشياء التي من جملتها ما شاهده في نفسه وفي غيره من تعاجيبِ الآثارِ {قَدِيرٌ} لا يستعصى عليه أمرٌ من الأمور وإيثارُ صيغةِ المضارعِ للدَلالة على أنَّ علمَه بذلك مستمِرٌّ نظراً إلى أن أصلَه لم يتغيرْ ولم يتبدل بل إنما تبدل بالعيان وصفة إشعارٌ بأنه إنما قال ما قال بناءً على الاستبعاد العادي واستعظاماً للأمر وقد قيل فاعلُ تبيَّن مُضمرٌ يفسرُه مفعولُ أَعْلَمُ أي فلما تبيّن له أَنَّ الله على كُلّ شئ قدير قال أعلم أَنَّ الله على كُلّ شئ قدير فتدبر وقرئ تُبُيِّن له على صيغة المجهول وقرئ قالَ اعْلَمْ على صيغة الأمر رُوي أنه ركب حماره وأتى مَحَلّته وأنكره الناسُ وأنكر الناسَ وأنكر المنازلَ فانطلق على وهْمٍ منه حتى أتى منزلَه فإذا هو بعجوزٍ عمياءَ مُقعَدةٍ قد أدركت زمنَ عزيز فقال لها عزيز يا هذه هذا منزلُ عزيز قالت نعم وأين ذكرى عزير قد فقدناه منذ كذا وكذا فبكت بكاءً شديداً قال فإني عزيرٌ قالت سبحان الله أنى يكونُ ذلك قال قد أماتني الله مائة عام ثم بعثني قالت إن عزيزا كان مستجابَ الدعوة فادعُ الله لي يردُّ عليَّ بصري حتى أراك فدعا ربه ومسَحَ بيده عينيها فصحَّتا فأخذ بيدها فقال لها قومي بإذن الله فقامت صحيحةً كأنها نشِطَتْ من عِقالٍ فنظرت إليه فقالت أشهدُ أنك عزيرٌ فانطلقت إلى مَحَلّة بني إسرائيلَ وهم في أنديتهم وكان في المجلس ابنٌ لعزير قد بلغ مائة وثمانيَ عشْرةَ سنةً وبنو بنيه شيوخ فنادت هذا عزيرٌ قد جاءكم فكذبوها فقالت انظُروا فإني بدعائه رجعت إلى هذه الحالة فنهض الناسُ فأقبلوا إليه فقال ابنه كان لأبي شامةٌ سوداءُ بين كتفيه مثل الهلال فكسف فإذا هو كذلك وقد كان قتل بُختُ نَصَّرُ ببيت المقدس من قرّاء التوراةِ أربعين ألفِ رجل ولم يكن يومئذ بينهم نسخةٌ من التوراة ولا أحدٌ يعرفُ التوراةَ فقرأها عليهم عن ظهر قلبه من غير أن يخْرِم منها حرفاً فقال رجل من أولاد المَسْبيّين ممن ورد بيتَ المقدس بعد مهلِك بُختَ نَصَّرَ حدثني أبي عن جدي أنه دفن التوراةَ يوم سُبينا في خابيةٍ في كَرْم فإن أرَيتُموني كرمَ جدّي أخرجتُها لكم فذهبوا إلى كرم جدِّه ففتشوا فوجدوها فعارضوها بما أملى عليهم عزيز عن ظهر القلب فما اختلفا في حرف واحد فعند ذلك قالوا هو ابنُ الله تعالَى الله عن ذلكَ علواً كبيراً

260

{وَإِذْ قَالَ إبراهيم} دليلٌ آخرُ على ولايته تعالى للمؤمنين وإخراجِه لهم مّنَ الظلمات إِلَى النور وإنما لم يسلُك به مسلكَ

الاستشهاد كما قبله بأن يقال أو كالذي قال ربِّ الخ لجَرَيان ذكره عليه السلام في أثناء المحاجة ولأنه لادخل لنفسه عليه السلام في أصل الدليل كدأب عُزيرٍ عليه السلام فإن ما جَرى عليهِ من إحيائه بعد مائةِ عامٍ من جملة الشواهد على قدرته تعالى وهدايته والظرفُ منتصبٌ بمُضمرٍ صُرِّح بمثله في نحوِ قولِه تعالى واذكروا إِذْ جعلنكم خُلَفَاء أي واذكر وقتَ قوله عليه السلام وما وقع حينئذ من تعاجيب صنعِ الله تعالى لتقِفَ على ما مر من ولايته تعالى وهدايته وتوجيهُ الأمرِ بالذكر في أمثالِ هذهِ المواقعِ إلى الوقت دون ما وقع فيه من الواقعات مع أنها المقصودة بالتذكير لما ذُكر غير مرة من المبالغة في إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهانيِّ ولأن الوقتَ مشتمِلٌ عليها مفصّلةً فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها بحيثُ لا يشِذُّ عنها شئ مما ذكر عند الحكاية أو لم يُذْكَرْ كأنها مشاهدةٌ عِياناً {رَبّ} كلمة استعطافٍ قُدّمت بين يدي الدعاء مبالغةً في استدعاء الإجابة {أَرِنِى} من الرؤية البَصَرية المتعدِّية إلى واحدٍ وبدخول همزةِ النقل طلبَتْ مفعولاً آخرَ هو الجملةُ الاستفهامية المعلِّقةُ لها فإنها تعلِّق كما يُعلَّق النظرُ البصَريُّ أي اجعلني مبصراً {كيف تحيي الموتى} بأن تحيِيهَا وأنا أنظرُ إليها وكيف في محل نصبٍ على التشبيه بالظرف عند سيبويه وبالحال عند الأخفش والعاملُ فيها تحيي أي في أيِّ حال أو على أي حالٍ تحيي قال القرطبيُّ الاستفهامُ بكيف إنما هو سؤال عن حال شئ متقررِ الوجود عند السائلِ والمسئول فالاستفهام ههنا عن هيئة الإحياءِ المتقرّر عند السائل أي بصِّرْني كيفيةَ إحيائِك للموتى وإنما سأله عليه السلام ليتأيّد إيقانُه بالعِيان ويزدادَ قلبُه اطمئناناً على اطمئنان وأما ما قيل من أن نمرودَ لما قال أنا أحي وأميت قال إبراهيمُ عليه السلام إن إحياءَ الله تعالى بردِّ الأرواح إلى الأجساد فقال نمرودُ هل عاينتَه فلم يقدِرْ على أن يقول نعم فانتقل إلى تقريرٍ آخرَ ثم سأل ربه أن يُرِيَه ذلك فيأباه تعليلُ السؤال بالاطمئنان {قَالَ} استئناف كما مر غير مرة {أو لم تُؤْمِن} عطفٌ على مقدرٍ أي ألم تعلمْ ولم تؤمنْ بأني قادرٌ على الإحياء كيف أشاء حتى تسألنى إراءته قاله عز وعلا وهو أعلم بأنه عليه السلام أثبتُ الناسِ إيماناً وأقواهم يقيناً ليجيبَ بما أجاب به فيكون ذلك لطفاً للسامعين {قَالَ بلى} علِمت وآمنتُ بأنك قادر على الإحياء على أي كيفية شئت {ولكن} سألت ما سألت {لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} بمُضامَّة العِيانِ إلى الإيمان والإيقان وأزدادَ بصيرةً بمشاهدته على كيفية معينة {قَالَ فَخُذْ} الفاءُ لجواب شرطٍ محذوفٍ أي إنْ أردت ذلك فخُذ {أَرْبَعَةً مّنَ الطير} قيل هو اسمٌ لجمعِ طائر كرَكْبٍ وسَفْرٍ وقيل جمعٌ له كتاجرٍ وتَجْرٍ وقيل هو مصدرٌ سمي به الجنسُ وقيل هو تخفيفُ طيّرٍ بمعنى طائر كهيْنٍ في هيّن ومِنْ متعلقة بخُذ أو بمحذوف وقع صفة لأربعةً أي أربعةً كائنة من الطير قيل هي طاوس وديكٌ وغرابٌ وحَمامةٌ وقيل نَسْرٌ بدلَ الأخير وتخصيصُ الطير بذلك لأنه أقربُ إلى الإنسان وأجمعُ لخواصِّ الحيوان ولسهولةِ تأتيِّ ما يُفعلُ به من التجزئة والتفريق وغيرِ ذلك {فَصُرْهُنَّ} من صارَه يصورُه أي أماله وقرئ بكسر الصاد من صاره يَصيره أي أمِلْهن واضمُمْهن وقرئ فصُرَّهن بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء من صرَّه ويصره إذا جمعه وقرئ فصَرِّهِنّ من التَّصْرية بمعنى الجمع أي اجمَعْهن {إِلَيْكَ} لتتأملَها وتعرِفَ شِياتِها مفصَّلةً حتى تعلم بعد الإحياءِ أن جزءاً من أجزائها لم ينتقِلْ من موضعه الأول أصلاً روي أنه أُمر بأن يذبَحها وينتِفَ ريشها ويقطعها ويفرق

261 - 262 البقرة أجزاءها ويخلِطَ ريشها ودماءَها ولحومها ويمسك رءوسها ثم أمر بأن يجعل أجزاءها على الجبال وذلكَ قولُه تعالى {ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا} أي جزِّئهن وفرِّق أجزاءَهن على ما بحضرتك من الجبال قيل كانت أربعة أجبُل وقيل سبعة فجعل على كل جبل ربعا أوسبعا من كل طائر وقرئ جُزُؤاً بضمتين وجُزّاً بالتشديد بطرح همزته تخفيفاً ثم تشديدِه عند الوقف ثم إجراءِ الوصل مْجرى الوقف {ثُمَّ ادعهن يَأْتِينَكَ} في حيز الجزمِ على أنَّه جوابُ الأمر ولكنه بُني لاتصاله بنون جمع مؤنث {سَعْيًا} أي ساعيات مسرعات أو ذواتِ سعيٍ طيراناً أو مشياً وإنما اقتصر على حكاية أوامره عزَّ وجلَّ من غيرِ تعرضٍ لامتثاله عليه السلام ولا لما ترتب عليه من عجائب آثارِ قدرتِه تعالى كما روي أنه عليه السلام نادى فقال تعالَيْنَ بإذن لله فجعل كلُّ جزءٍ منهن يطير إلى صاحبه حتى صارت جثثاً ثم أقبلْن إلى رءوسهن فانضمَّتْ كلُّ جثةٍ إلى رأسها فعادت كلُّ واحدة منهن إلى ما كانَتْ عليهِ من الهيئة للإيذان بأن ترتب تلك الأمورِ على الأوامر الجليلةِ واستحالةَ تخلّفها عنها من الجلاء والظهورِ بحيث لا حاجة له إلى الذكر أصلاً وناهيك بالقصة دليلاً على فضل الخليل ويمن الضرعة في الدعاء وحُسنِ الأدب في السؤال حيث أراه الله تعالى ما سأله في الحال على أيسرِ ما يكونُ من الوجوهِ وأرى عزيرا ما أراه بعد ما أماته مائةَ عام {واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ} غالبٌ على أمره لا يعجزه شئ عما يريده {حَكِيمٌ} ذُو حكمةٍ بالغةٍ في أفاعيله فليس بناءُ أفعاله على الأسباب العادية لعجزه عن إيجادها بطريق آخرَ خارقٍ للعادات بل لكونه متضمناً للحِكَم والمصالح

261

{مَّثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِى سَبِيلِ الله} أي في وجوه الخيرات من الواجب والنفل {كَمَثَلِ حبة} لابد من تقرير مضافٍ في أحد الجانبين أي مَثلُ نفقتِهم كمثلِ حبةً أو مَثلُهم كمَثلِ باذرِ حبة {أَنبَتَتْ سَبْعَ سنابل} أي أخرجت ساقاً تشعّب منها سبعُ لكل واحدة منها سنبلة {فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ} كما يشاهَد ذلك في الذُرة والدخن في الأراضي المغلة بل أكثر من ذلك وإسنادُ الإنباتِ إلى الحبة مجازيٌ كإسناده إلى الأرض والربيع وهذا التمثيلُ تصويرٌ للأضعاف كأنها حاضرةٌ بين يدَي الناظر {والله يضاعف} تلك المضاعفةَ أو فوقها إلى ما شاء الله تعالى {لِمَن يَشَاء} أن يضاعِفَ له بفضله على حسب حالِ المنفِق من إخلاصه وتعبِه ولذلك تفاوتت مراتبُ الأعمال في مقادير الثواب {والله واسع} لا يَضيقُ عليه ما يتفضّل به من الزيادة {عَلِيمٌ} بنية المنفقِ ومقدارِ إنفاقِه وكيفيةِ تحصيلِ ما أنفقه

262

{الذين يُنفِقُونَ أموالهم فِي سبيل الله} جملة مبتدأ جئ بها لبيان كيفيةِ الإنفاق الذي بُيِّن فضلُه بالتمثيل المذكور {ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُواْ}

أي ما أنفقوه أو إنفاقَهم {مَنّا وَلا أَذًى} المن أن يَعتدَّ على مَنْ أحسن إليه بإحسانه ويُريَه أنه أوجبُ بذلك عليه حقاً والأذى أن يتطاولَ عليه بسبب إنعامه عليه وإنما قُدم المن لكثرة وقوعِه وتوسيطُ كلمة لا للدَلالة على شمول النفي لإتباع كل واحدٍ منهما وثم لإظهار علوِّ رتبة المعطوف قيل نزلت في عثمانُ رضيَ الله عنْهُ حين جهز جيش العُسرة بألفِ بعير بأقتابها وأحلاسها وعبد الرحمن ابن عوف رضيَ الله عنه حينَ اتى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بأربعة آلاف درهم صدقةً ولم يكد يخطر ببالهما شئ من المن والأذى {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} أي حسبما وُعدَ لهم في ضمن التمثيل وهو جملة مبتدأ وخبر وقعت خبرا عن الموصول وفي تكرير الإسناد وتقييدِ الأجر بقوله عِندَ رَبّهِمْ من التأكيد والتشريفِ ما لا يخفى وتخليةُ الخبر عن الفاءُ المفيدةُ لسببيةِ ما قبلَها لما بعدَها للإيذانِ بأن ترتبَ الأجر على ما ذكر من الإنفاق وتركَ إِتباعِ المن والأذى أمرٌ بين لا يحتاجُ إلى التَّصريحِ بالسببية وأما إبهام أنهم أهلٌ لذلك وإن لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا فيأباه مقامُ الترغيب في الفعل والحث عليه {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} في الدارين من لحوق مكروهٍ من المكاره {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} لفوات مطلوبٍ من المطالب قلَّ أو جلَّ أي لا يعتريهم ما يوجبه لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوفٌ وحزنٌ أصلاً بل يستمرون على النشاط والسرورِ كيف لا واستشعارُ الخوفِ والخشيةِ استعظاماً لجلال الله وهيبتِه واستقصاراً للجد والسعي في إقامة حقوقِ العبوديةِ من خواص الخواصِّ والمقرَّبين والمرادُ بيانُ دوامِ انتفائِهما لا بيانُ انفاء دوامِهما كما يُوهمه كونُ الخبرِ في الجملة الثانية مضارعا لما أن النفيَ وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرارَ بحسب المقام

263

{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} أي كلام جميل تقبله القلوبُ ولا تُنكِره يُرد به السائلُ من غير إعطاء شئ {وَمَغْفِرَةٌ} أي سَترٌ لما وقع من السائل من الإلحاف في المسألة وغيره مما يثقل على المسئول وصفحٌ عنه وإنما صح الابتداءُ بالنكرة في الأول لاختصاصها بالوصف وفي الثاني بالعطف أو بالصفة المقدرة أي ومغفرة كائنة من المسئول {خَيْرٌ} أي للسائل {مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} لكونها مشوبةً بضررِ ما يتبعها وخلوصِ الأولَيْن من الضرر والجملة مستأنفةٌ مقرِّرة لاعتبار ترك إتباعِ المن والأذى وتفسيرُ المغفرة بنيل مغفرةٍ من الله تعالى بسبب الرد الجميل أو بعفو السائل بناءً على اعتبار الخيرية بالنسبة إلى المسئول يؤدّي إلى أن يكون في الصدقة الموصوفةِ بالنسبة إليه خيرٌ في الجملة مع بطلانها بالمرة {والله غَنِىٌّ} لا يُحوِجُ الفقراءَ إلى تحمل مؤنةِ المنِّ والأذى ويرزقُهم من جهةٍ أخرى {حَلِيمٌ} لا يعاجل أصحابَ المن والأذى بالعقوبة لا أنهم لا يستحقونها بسببهما والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها مشتمِلٌ على الوعد والوعيد مقرِّرٌ لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعاً

264

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ}

265 - البقرة أقبل عليهم بالخطاب إثرَ بيان ما بين بطريق الغَيبة مبالغةً في إيجاب العمل بموجب النهي {لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والأذى} أي لاتحبطوا أجرَها بواحدٍ منهما {كالذى} في محل النصب إما على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي لاتبطلوها إبطالا كإبطال الذي {يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء الناس} وإما على أنه حال من فاعل لاتبطلوا أي لا تُبطلوها مشابهين الذي ينفق أي الذي يُبطل إنفاقَه بالرياء وقيل من ضمير المصدر المقدر على ما هو رأى سيبوبه وانتصابُ رئاءَ إما على أنه عِلةٌ لينفق أي لأجل رئائهم أو على أنه حالٌ من فاعله أي ينفق ماله مرائياً والمراد به المنافقُ لقوله تعالى {وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} حتى يرجوا ثواباً أو يخشى عقاباً {فَمَثَلُهُ} الفاء لربط ما بعدها بما قبلها أي فمثل المرائي في الإنفاق وحالته العجيبة {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} أي حَجَرٍ أملسَ {عَلَيْهِ تراب} أي شئ يسير منه {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} أي مطرٌ عظيمُ القطر {فتركه صلدا} ليس عليه شئ من الغبار أصلاً {لاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْء مّمَّا كَسَبُواْ} لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثواباً قطعاً كقوله تعالى فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً والجملةُ استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذا يكونُ حالُهم حينئذٍ فقيل لا يقدِرون الخ ومن ضرورة كونِ مَثَلِهم كما ذُكر كونُ مَثَلِ من يُشبِهُهم وهم أصحابُ المن والأذى كذلك والضميران الأخيران للموصول باعتبار المعنى كما في قوله عز وجل وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ لما أنَّ المرادَ به الجنسُ أو الجمعُ أو الفريق كما أن الضمائرَ الأربعةَ السابقة له باعتبار اللفظ {والله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين} إلى الخير والرشاد والجُملة تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله وفيه تعريضٌ بأن كلاًّ من الرياء والمنِّ والأذى من خصائص الكفارِ ولا بد للمؤمنين أن يجتنبوها

265

{وَمَثَلُ الذين يُنفِقُونَ أموالهم ابتغاء مرضات الله} أي لطلب رضاه {وَتَثْبِيتًا مّنْ أَنفُسِهِمْ} أي ولتثبيت بعضِ أنفسِهم على الإيمان فمن تبعيضية كما في قولهم هزّ مِنْ عِطفه وحرك مِنْ نشاطه فإن المالَ شقيقُ الروح فمن بذل مالَه لوجه الله تعالى فقد ثبّت بعضَ نفسه ومن بذل مالَه وروحَه فقد ثبتها كلها أو وتصديقا للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسِهم فمن ابتدائية كما في قوله تعالى حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ويحتمل أن يكون المعنى وتثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقةُ الإيمان مخلصةٌ فيه ويعضُده قراءةُ مَن قرأَ وتبييناً من أنفسهم وفيه تنبيهٌ على أن حكمةَ الإنفاق للمنفق تزكيةُ النفس عن البخل وحبِّ المال الذي هو رأس كل خطيئة {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} الرَّبوة بالحركات الثلاث وقد قرئت بها المكانُ المرتفع أي مثل نفقتهم في الزكاة كمثل بُستان كائنٍ بمكان مرتفعٍ مأمونٍ من أن يصطلِمَه البردُ لِلطافة هوائهِ بهبوب الرياحِ المُلطّفة له فإن أشجارَ الرُبا تكون أحسنَ منظراً وأزكى ثمراً وأما الأراضي المنخفضةُ فقلما تسلم ثمارُها من البرد لكثافة هوائِها بركود الرياحِ وقرئ كمثل حبةٍ {أَصَابَهَا وَابِلٌ} مطر عظيمُ القطر {فَأَتَتْ أكلها} ثمرتها وقرئ بسكون الكاف تخفيفاً {ضِعْفَيْنِ} أي مِثليْ ما كانت تُثمر في سائر الأوقات بسبب ما أصابها من

266 - البقرة الوابل والمرادُ بالضِعف المِثْلُ وقيل أربعةُ أمثال ونصبُه على الحال من أُكُلُهَا أي مضاعفاً {فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} أي فطلٌ يكفيها لجودتها وكَرَمِ منبتِها ولَطافةِ هوائِها وقيل فيصيبها طلٌّ وهو المطرُ الصغيرُ القطرِ وقيل فالذي يصيبها طلٌّ والمعنى أن نفقاتِ هؤلاءِ زاكيةٌ عندَ الله تعالَى لاَ تَضيعُ بحال وإن كانت تتفاوتُ باعتبار ما يقارنها من الأحوال ويجوزُ أن يعتبر التمثيلُ بين حالهم باعتبار ما صدَر عنهُم من النفقة الكثيرةِ والقليلةِ وبين الجنة المعهودة باعتبار ماأصابها من المطر الكثير واليسير فكما أنَّ كلَّ واحدٍ من المطرين يُضعِفُ أُكُلَها فكذلك نفقتُهم جلّت أو قلَّت بعد أن يُطلَبَ بها وجهُ الله تعالى زاكيةٌ زائدةٌ في زُلفاهم وحسنِ حالهم عند الله {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لا يخفى عليه شئ منه وهو ترغيبٌ في الإخلاص مع تحذير من الرياء ونحوه

266

{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} الوُدُّ حبُّ الشئ مع تمنيه ولذلك يستعمل استعمالها والهمزةُ لإنكار الوقوعِ كما في قوله أأضرب أبي لا لإنكارِ الواقعِ كَما في قولك أتضرب أباك على أنَّ مناطَ الإنكارِ ليس جميعَ ما تعلّق به الوُدّ بل إنما هو إصابةُ الإعصارِ وما يتبعُها من الاحتراق {أَن تكون له جنة} وقرئ جناتٌ {مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي كائنةٍ منهما على أن يكونَ الأصلُ والركنُ فيها هذين الجنسينِ الشريفينِ الجامعين لفنون المنافع والباقي من المستتبِعات لا على أنْ يكونَ فيها غيرُهما كما ستعرِفه والجنَّةُ تطلق على الأشجار الملتفة المتكاثفة قال زهير كأنَّ عيني في غربيِّ مفتلة ... من النواضح تسفى جنَّةً سُحُقاً وعَلَى الأرضِ المشتملةِ عليها والأولُ هو الأنسبُ بقوله عز وجل تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار على الثاني لا بُدَّ من تقدير مضافٍ أي من تحت وشجارها وكذا لابد من جعل إسناد الاحتراق إليها فيما سيأتي مجازياً والجملةُ في محلِ الرفعِ على أنها صفةُ جنةٍ كما أن قوله تعالى مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ كذلك أو في محلِّ النصبِ على أنها حالٌ منها لأنها موصوفة {لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات} الظرفُ الأولُ خبرٌ والثاني حالٌ والثالثُ مبتدأ أي صفة للمبتدأ قائمة مَقامه أي له رزقٌ من كل الثمرات كما في قوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ أي وما منَّا أحدٌ إلا له الخ وليس المرادُ بالثمرات العمومَ بل إنما هو التكثيرُ كما في قوله تعالى وَأُوتِيَتْ مِن كل شئ {وَأَصَابَهُ الكبر} أي كِبَرُ السنِّ الذي هو مَظِنَّةُ شدَّةِ الحاجة إلى منافعها ومئنة كمالِ العجز عن تدارك أسباب المعايش والواو حالية أي وقد أصابه الكبر {وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء} حالٌ من الضمير في أصابه أي أصابه الكِبَرُ والحال أن له ذرية صغار لا يقدرون على الكسب وترتيب مبادى المعاش وقرئ ضعاف {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} أي ريحٌ عاصفةٌ تستدير في الأرض ثم تنعكس منها ساطعةً إلى السماء على هيئة العَمود {فِيهِ نَارٌ} شديدةٌ {فاحترقت} عطفٌ على فأصابها وهذا كما ترى تمثيلٌ لحال من يعمل أعمالَ البرِّ والحسناتِ ويضُمُّ إليها ما يُحبِطُها من القوادح ثم يجدُها يوم القيامة عند كمال حاجته إلى ثوابها هباءً منثوراً في التحسر

267 - 268 البقرة والتأسّف عليها {كذلك} توحيدُ الكاف مع كون المخاطَب جمعاً قد مر وجهُه مرارا أي مثل البيان الواضحِ الجاري في الظهور مجرى الأمورِ المحسوسة {يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} كي تتفكروا فيها وتعتبروا بما فيها من العِبَر وتعملوا بموجبها

267

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ} بيانٌ لحال ما يُنفَقُ منه إثرَ بيانِ أصلِ الإنفاق وكيفيته أي أنفقوا من حلال ما كسبتم وجيادِه لقوله تعالَى {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ الارض} أي من طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والثمار والمعادِن فحذف لدلالة ما قبله عليه {وَلاَ تَيَمَّمُواْ} بفتح التاء أصله ولا تتيمموا وقرئ بضمها وقرئ ولا تأَمّموا والكلّ بمعنى القصد أي لا تقصِدوا {الخبيث} أي الردئ الخسيسَ وهو كالطيب من الصفات الغالبة التي لا تُذكرُ موصوفاتها {مِنْهُ تُنفِقُونَ} الجارُّ متعلق بتنفقون والضميرُ للخبيث والتقديمُ للتخصيص والجملةُ حال من فاعل تيمّموا أي لا تقصدوا الخبيث قاصرين الإنفاقَ عليه أو من الخبيث أي مختصًّا به الإنفاق وأياما كان فالتخصيصُ لتوبيخهم بما كانوا يتعاطَوْنه من إنفاق الخبيثِ خاصة لا لتسويغ إنفاقِه مع الطيب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا يتصدقون بحشَفِ التمر وشِرارِه فنُهوا عنه وقيل متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الخبيث والضميرُ للمال المدلول عليه بحسب المقام أو للموصولَين على طريقة قوله ... كأَنَّهُ فِي الجلدِ توليعُ البَهَقْ ... أو للثاني وتخصيصُه بذلك لما أن التفاوتَ فيه أكثرُ وتنفقون حال من الفاعل المذكور أي ولا تقصِدوا الخبيث كائناً من المال أو مما كسبتم وما أخرجنا لكم أومما أخرجنا لكم منفِقين إياه وقوله تعالى {وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ} حال على كل حال من واو تنفقون أيْ وَالحالُ أنكُم لاَ تأخذونه في معاملاتكم في وقتٍ من الأوقاتِ أو بوجةٍ منِ الوجوهِ {إِلا أَن تغمضوا فيه} أي إلاوقت إغماضكم فيه أو إلا بإغماضكم فيه وهو عبارةٌ عن المسامحة بطريق الكتابة أو الاستعارة يقال أغمضَ بصره إذا غضه وقرئ على البناءِ للمفعولِ على معنى إلا أن تُحمَلوا على الإغماض وتدخُلوا فيه أو توجدوا مغمضين وقرئ تغمضوا وتَغمُضوا بضم الميم وكسرها وقيل تم الكلامُ عند قوله تعالى وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث ثم استُؤنف فقيل على طريقة التوبيخ والتقريع منه تنفِقون والحالُ أنكم لاتأخذونه إلا إذا أغمَضْتم فيه ومآلُه الاستفهامُ الإنكاريُّ فكأنه قيل أمِنْه تنفقون الخ {واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ} عن إنفاقكم وإنما يأمرُكم به لمنفعتكم وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمِهم به توبيخٌ لهم على مايصنعون من إعطاء الخبيث وإيذانٌ بأنَّ ذلك من آثار الجهلِ بشأنه تعالى فإن إعطاءَ مثلِه إنما يكون عادةً عند اعتقادِ المعطي أن الآخذَ محتاجٌ إلى ما يعطيه بل مضطرٌ إليه {حَمِيدٌ} مستحِقٌّ للحمد على نعمه العِظام وقيل حامد بقبول الجيّد والإثابة عليه

268

{الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر} الوعدُ هو الإخبارُ بما سيكون من جهة المخبِر مترتباً

269 - البقرة على شئ من زمان أو غيره يُستعمل في الشر استعمالَه في الخير قال تعالى النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ أي يعدُكم في الإنفاق الفقرَ ويقول إن عاقبة إنفاقِكم أن تفتقِروا وإنما عبر عن ذلك بالوعد مع أن الشيطان لم يضف مجئ الفقرِ إلى جهته للإيذان بمبالغته في الإخبار بتحقق مجيئة كأنه نزوله في تقرّر الوقوعِ منزلةَ أفعالِه الواقعةِ بحسب إرادته أو لوقوعه في مقابلة وعدِه تعالى على طريقة المشاكلة وقرئ بضم الفاء والسكون وبضمتين وبفتحتين {وَيَأْمُرُكُم بالفحشاء} أي بالخَصلة الفحشاء أي ويغريكم على البخل ومنع الصدقاتُ إغراءُ الآمرِ للمأمور على فعل المأمور به والعربُ تسمي البخيلَ فاحشاً قال طرفةُ بن العبد أرى الموتَ يعتامُ الكرامَ ويصطفي ... عقيلةَ مالِ الفاحشِ المتشدِّدِ وقيل بالمعاصي والسيِّئات {والله يَعِدُكُم} أي في الإنفاق {مَغْفِرَةٍ} لذنوبكم والجارُّ في قوله تعالى {مِنْهُ} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفة لمغفرةً مؤكدةٌ لفخامتها التي أفادها تنكيرُها أي مغفرةً أي مغفرة مغفرة كائنة منه عز وجل {وفضلا} صفة محذوفةٌ لدلالة المذكور عليها كما في قولِه تعالى فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مّنَ الله وَفَضْلٍ ونظائرِه أي وفضلاً كائناً منه تعالى أي خلَفاً مما أنفقتم زائداً عليه في الدنيا وفيه تكذيبٌ للشيطان وقيل ثواباً في الآخرة {والله واسع} قدرةً وفضلاً فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلافِ ما تنفقونه {عَلِيمٌ} مبالِغٌ في العلمِ فيعلم إنفاقَكم فلا يكاد يُضيع أجرَكم أو يعلمُ ما سيكون من المغفرة والفضل فلا احتمال للخُلْف في الوعد والجملةُ تذييلٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله

269

{يُؤْتِى الْحِكْمَةَ} قال مجاهد الحِكمةُ هي القرآنُ والعلمُ والفِقهُ روي عن ابن نجيح أنها الإصابة في القول والعمل وعن إبراهيم النخعي أنها معرفة معاني الأشياء وفهمُها وقيل هي معرفةُ حقائِقِ الأشياءِ وقيل هي الإقدامُ على الأفعال الحسنةِ الصائبة وعن مقاتل أنها تفسر في القرآن بأربعة أوجهٍ فتارةً بمواعظِ القرآنِ وأخرى بما فيه من عجائب الأسرار ومرةً بالعلم والفهم وأخرى بالنبوة ولعل الأنسبَ بالمقام ما ينتطم الأحكامَ المبينة في تضاعيفِ الآياتِ الكريمةِ من أحد الوجهين الأولين ومعنى إيتائِها تبيينُها والتوفيقُ للعلم والعمل بها أي بينها ويوفِّقُ للعلم والعمل بها {من يشآء} من عباده أن يؤتيها إياه بموجب سعةِ فضلِه وإحاطةِ علمه كما آتاكم ما بيّنه في ضمن الآي من الحِكَم البالغة التي يدور عليها فلَكُ منافعِكم فاغتنموها وسارعوا إلى العمل بها والموصولُ مفعول أول ليؤتي قدم عليه الثاني للعناية به والجملةُ مستأنفة مقرّرةٌ لمضمون ما قبلها {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} على بناء المفعول وقرئ على البناء للفاعل أي ومن يؤتهِ اللَّهُ الحكمةَ واظهار في مقام الإضمارِ لإظهار الاعتناءِ بشأنها وللإشعار بعِلة الحِكم {فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} أي أيَّ خيرٍ كثير فإنه قد خِيرَ له خيرُ الدارين {وَمَا يَذَّكَّرُ} أي وما يتعظ بما أوتي من الحكمة أو وما يتفكر فيها {إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} أي العقولِ الخالصةِ عن شوائب الوهم والرّكونِ إلى مشايعة الهوى وفيهِ من الترغيبِ في المحافظة على الأحكام الواردةِ في شأن الإنفاق مالا يخفى والجملةُ إما حالٌ أو اعتراض تذييلي

270 - 271 البقرة

270

{وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ} بيانٌ لحكمٍ كلي شاملٍ أفراد النفقاتِ وما في حكمها إثرَ بيانِ حكمِ ما كان منها فِى سَبِيلِ الله وَمَا إما شرطيةٌ أو موصولةٌ حُذف عائدُها من الصلة أي وما أنفقتموه من نفقة أي أيِّ نفقةٍ كانت في حق أو باطلٍ في سرَ أو علانية قليلةٍ أو كثيرة {أَوْ نَذَرْتُم} النذرُ عقدُ الضمير على شئ والتزامُه وفعلُه كضرب ونصر {مّن نَّذْرٍ} أيِّ نذرٍ كان في طاعةٍ أو معصية بشرطٍ أو بغير شرط متعلقٍ بالمال أو بالأفعال كالصيامِ والصلاةِ ونحوهما {فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} الفاء على الأول داخلةٌ على الجواب وعلى الثاني مزيدةٌ في الخبر وتوحيدُ الضمير مع تعدّدِ متعلَّق العلم لاتحاد المرجع بناءً على كون العطف بكلمة أو كما في قولك زيدٌ أو عمرٌو أكرمتُه ولا يقال أكرمتهما ولهذا صير إلى التأويل في قوله عز وعلا وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وأخرى إلى المؤخَّر رعايةً للقُرب كما في هذه الآية الكريمةِ وفي قولِه تعالى وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً وحملُ النظم على تأويلها بالمذكور ونظائِره أو على حذف الأول ثقةً بدلالة الثاني عليهِ كَما في قوله تعالى والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله وقوله نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأيُ مختلفُ ونحوِهما مما عُطف فيه بالواو الجامعةِ تعسفٌ مستغنىً عنه نعم يجوز إرجاعُ الضمير إلى مَا على تقدير كونها موصولة وتصديرُ الجملة بإن لتأكيدِ مضمونِها إفادةً لتحقيق الجزاء فإنه تعالى يجازيكم عليه ألبتةَ إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرًّا فشرٌّ فهو ترغيبٌ وترهيب ووعدٌ ووعيد {وَمَا للظالمين} بالإنفاق والنذر في المعاصي أو بمنع الصدقاتِ وعدمِ الوفاء بالنذر أو بإنفاق الخبيثِ أو بالرياء والمنِ والأذى وغيرِ ذلك ما ينتظمُه معنى الظلم الذي هو عبارة عن وضع الشئ في غير موضعِه الذي يحِقُّ أن يوضعَ فيه {مِنْ أَنصَارٍ} أي أعوان ينصرونهم من بأس الله وعقابه لاشفاعه ولا مدافعةً وإيرادُ صيغة الجمع لمقابلة الظالمين أي وما لظالم من الظالمين نصيرٍ من الأنصار والجملةُ اسئناف مقرِّرٌ لما فيما قبله من الوعيد مفيد لفظاعة حالِ مَنْ يفعل ما يفعل من الظالمين لتحصيل الأعواذ ورعاية الخُلاّن

271

{إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ} نوعُ تفصيلٍ لبعض ما أُجمل في الشرطية وبيان له ولذلك تُرك العطف بينهما أي إن تُظهِروا الصدقاتِ فنِعمَ شيئاً إبداؤُها بعد أن لم يكن رياء وسمعه وقرئ بفتح النون وكسر العين على الأصل وقرئ بكسر النون وسكون العين وقرئ بكسر النون وإخفاءِ حركة العين وهذا في الصدقات المفروضة وأما في صدقة التطوعِ فالإخفاءُ أفضلُ وهي التي أريدتْ بقولِه تعالى {وَإِن تُخْفُوهَا} أي تعطوها خُفية {وَتُؤْتُوهَا الفقراء} ولعل التصريحَ بإيتائها الفقراءَ مع أنه واجبٌ في الإبداء أيضاً لما أن الإخفاءَ مظِنةُ الالتباسِ والاشتباه فإن الغنيَّ ربما يدّعي الفقرَ ويُقدمُ على قَبول الصدقةِ سرا ولا

272 - البقرة يفعل ذلك عند الناس {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي فالإخفاءِ خيرٌ لكم من الإبداء وهذا في التطوع ومن لم يعرف بالمال وأما في الواجب فالأمرُ بالعكس لدفع التهمة عن ابن عباس رضي الله عنهما صدقةُ السر في التطوع تفضُل علانيتها سبعين ضعفاً وصدقة الفريضة علا نيتها أفضلُ من سرّها بخمسة وعشرين ضِعفاً {وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ} أي والله يكفر أو الإخفاء ومن تبعيضية أي شيئاً من سيئاتكم كما سترتموها وقيل مزيدةٌ على رأي الأخَفْشِ وقرئ بالتاء مرفوعاً ومجزوماً على ان الفعل للصدقات وقرئ بالنون مرفوعاً عطفاً على محل ما بعد الفاء أو على أنَّه خبرُ مبتدإٍ محذوف أي ونحن نكفرُ أو على أنها جملةٌ مبتدأةٌ من فعل وفاعل وقرئ مجزوماً عطفاً على محل الفاء وما بعده لأنه جوابُ الشرط {والله بِمَا تَعْمَلُونَ} من الإسرار والإعلان {خَبِيرٌ} فهو ترغيب في الإسرار

272

{لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} أي لا يجب عليك أن تجعلهم مهدبين إلى الإتيان بما أُمروا به من المحاسن والانتهاءِ عمَّا نُهوا عنهُ من القبائح المعدودة وإنما الواجبُ عليك الإرشادُ إلى الخير والحثُ عليه والنهيُ عن الشر والردعُ عنه بما أُوحِىَ إِلَيْكَ من الآياتِ والذكرِ الحكيم {ولكن الله يَهْدِى} هدايةً خاصَّةً موصِلةً إلى المطلوب حتماً {مَن يَشَآء} هدايتَه إلى ذلك ممن يتذكر بما ذُكّر ويتبعُ الحق ويختار الخيرَ والجملةُ معترضة جيء بها على تلوينِ الخطابِ وتوجيهِه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الالتفات إلى الغَيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بالمكلفين مبالغةً في حملهم على الامتثال فإن الإخبارَ بعدم وجوب تدارُك أمرِهم على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم مُؤْذنٌ بوجوبه عليهم حسبما ينطِق به ما بعده من الشرطية وقيل لما كثُر فقراءُ المسلمين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلمين عن التصدق على المشركين كي تحمِلَهم الحاجة على الدخول في الإسلام فنزلت أي ليس عليك هُدى مَنْ خالفك حتى تمنعَهم الصدقةَ لأجل دخولهم في الإسلام فلا التفاتَ حينئذٍ في الكلام وضميرُ الغيبة للمعهودين من فقراءِ المشركين بل فيه تلوينٌ فقط وقوله تعالى {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} على الأول التفات من الغيبة إلى خطاب الملكفين لزيادة هزّهم نحو الامتثال وعلى الثاني تلوينٌ للخطاب بتوجيهه إليهم وصرفهِ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم وما شرطيةٌ جازمةٌ لتنفقوا منتصبةٌ به على المفعولية ومن تبعيضيةٌ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ صفة لاسم الشرط مبيّنةٌ ومخصصةٌ له أي أيِّ شئ تنفقوا كائنٌ من مال {فَلاِنفُسِكُمْ} أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيرُكم فلا تمنوا على من أعطيتموه ولا تؤذوه ولا تنفقوا من الخبيث أو فنفعُه الدينيَّ لكم لا لغيركم من الفقراء حتى تمنعوه ممن لا ينتفع به من حيث الدينُ من فقراء المشركين {وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ الله} استثناءٌ من أعم العللِ أو أعم الأحوال أي ليست نفقتكم لشئ من الأشياء إلالابتغاء وجه الله أو ليست في حالٍ من الأحوالِ إلا حال ابتغاء وجه الله فما بالُكم تمنون بها وتنفقون الخبيثَ الذي لا يوجد مثلُه إلى الله تعالى وقيل هو في معنى النهي {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي أجرُه وثوابُه أضعافاً مضاعفة حسبما فُصّل فيما قبلُ فلا عذرَ لكم في أن ترغبوا عن أنفاقه

273 - 274 البقرة على أحسن الوجوهِ وأجملها فهو تأكيد وبيانٌ للشرطية السابقة أو يوفَّ إليكم ما يُخلِفُه وهو من نتائج دعائه عليه السلام بقوله اللَّهم اجعل للمنفق خلفا وللمسك تلفاً وقيل حجت أسماءُ بنتِ أبي بكرٍ فأتتها أمُّها تسألها وهي مشركة فأبت أن تعطِيَها وعن سعيد بنِ جبير أنهم كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين وروي أن ناساً من المسلمين كانت لهم أصهارٌ في اليهود ورَضاعٌ كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوهم فنزلت وهذا في غير الواجب وأما الواجب فلا يجوز صرفُه إلى الكافر وإن كان ذميًّا {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} لا تنقصون شيئاً مما وُعدتم من الثواب المضاعف أو من الخلَف

273

{لِلْفُقَرَاء} متعلقٌ بمحذوفٍ ينساقُ إليه الكلامُ كما في قوله عز وجل {في تسع آيات إلى فرعون} أي اعمِدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء أو صدقاتِكم للفقراء {الذين أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ الله} بالغزو والجهاد {لاَ يستطيعون} لاشتعغالهم به {ضَرْبًا فِى الارض} أي ذهاباً فيها للكسب والتجارة وقيل هم أهلُ الصفة كانوا رضي الله عنهم نحواً من أربعمائة من فقراء المهاجرين يسكنون صُفّة المسجدِ يستغرقون أوقاتَهم بالتعلم والجهاد وكانوا يخرجون في كل سَريةٍ بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَحْسَبُهُمُ الجاهل} بحالهم {أَغْنِيَاء مِنَ التعفف} أي من أجل تعفّفهم عن المسألة {تَعْرِفُهُم بسيماهم} أي تعرِف فقرَهم واضطرارهم بما تعايِنُ منهم من الضعف ورَثاثةِ الحال والخطابُ للرسول عليه السلام أو لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب مبالغةً في بيان وضوحِ فقرهم {لاَ يسألون الناس إلحافاً} أي إلحاحاً وهو أن يلازِمَ السائلُ المسئول حتى يعطيَه من قولهم لَحفني من فضل لِحافِه أي أعطاني من فضل ما عنده والمعنى لا يسألونهم شيئاً وإن سألوا لحاجةٍ اضْطَرَّتهم إليه لم يُلِحّوا وقيل هو نفيٌ لكلا الأمرين جميعاً على طريقةِ قولِه ... على لا حب لا يُهتدَى لمنارهِ ... أي لا منارَ ولا اهتداء {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} فيجازيكم بذلك أحسن جزاء فهو ترغيبٌ في التصدق لاسيما على هؤلاء

274

{الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سِرّا وَعَلاَنِيَةً} أي يعُمّون الأوقاتَ والأحوالَ بالخير والصدقة وقيل نزلت في شأن الصدِّيقِ رضيَ الله عنه حيث تصدّق بأربعينَ ألفَ دينارٍ عشرةَ آلافٍ منه بالليل وعشرة بالنهار وعشرةٌ سراً وعشرةٌ علانية وقيل في عليَ رضيَ الله عنه حين لم يكن عنده إلا أربعةُ دراهمَ فتصدق بكل واحد منها على وجهٍ من الوجوه المذكورة ولعل تقديمَ الليل على النهارِ والسرّ على العلانية للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار وقيل في رباط الخيل والإنفاق عليها {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ} خبرٌ للموصول والفاء للدلالة على سببية ما قبلَها لما بعدَها وقيل للعطف والخبر محذوف أي ومنهم الذين الخ ولذلك جوز

275 - البقرة الوقفُ على علانية {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} تقدم تفسيره

275

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الربا} أي يأخُذونه والتعبيرُ عنه بالأكل لما أنه معظم ما قُصد به ولشيوعه في المطعومات مع ما فيه من زيادة تشنيعٍ لهم وهو الزيادةُ في المقدار او الأجل حسبما فُصّل في كتب الفقه وإنما كتب بالواو كالصلوة على لغة من يفخّم في أمثالها وزيدت الألفُ تشبيهاً بواو الجمع {لاَ يَقُومُونَ} أي من قبورهم إذا بُعثوا {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذى يَتَخَبَّطُهُ الشيطان} أي إلا قياماً كقيام المصروعِ وهو وارد على ما يزعُمون أن الشيطانَ يخبِط الإنسانَ فيُصرعُ والخبطُ الضربُ بغير استواء خبط العشواء {مِنَ المس} أي الجنون وهذا أيضاً من زَعَماتهم أن الجِنيَّ يمَسّه فيختلِط عقلُه فلذلك يقال جُنَّ الرجل وهو متعلقٌ بما قبلَه من الفعل المنفى أي لايقومون من المس الذي بهم بسبب أكلِهم الربا أو بيقوم أو بيتخبّطه فيكون نهوضهم وسقوطهم كالمصروعين لالاختلال عقولِهم بل لأن الله تعالى أربى في بطونهم ما أكلوا من الربا فأثقلهم فصاروا مُخْبَلين ينهضون ويسقطون تلك سيماهم يُعرَفون بها عند أهل الموقف {ذلك} إشارة إلى ما ذكر من حالهم وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البعد للإيذان بفظاعة المشارِ إليه {بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} أي ذلك العقابُ بسبب أنهم نَظَموا الربا والبيعَ في سلك واحدٍ لإفضائهما إلى الربح فاستحلوه كاستحلاله وقالوا يجوز بيعُ درهمٍ بدرهمين كما يجوز بيعُ ما قيمتُه درهمٌ بدرهمين بل جعلوا الربا أصلاً في الحِل وقاسوا به البيعَ مع وضوح الفرق بينهما فإن أحدَ الدرهمين في الأول ضائعٌ حتماً وفي الثاني منجبرٌ بمِساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقّع رَواجها {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} إنكارٌ من جهة الله تعالى لتسويتهم وإبطالٌ للقياس لوقوعه في مقابلة النص مع ما أشيرَ إليهِ من عدم الاشتراك في المناطِ والجملةُ ابتدائيةٌ لا محلَّ لها من الإعراب {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ} أي فمن بلغه وعظٌ وزجرٌ كالنهي عن الربا وقرئ جاءتْه {مّن رَّبّهِ} متعلق بجاءه أو بمحذوف وقعَ صفة لموعظةٌ والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة للإشعار بكون مجيءِ الموعظةِ للتربية {فانتهى} عطفٌ على جاءه فاتّعظَ بلا تراخٍ وتبِعَ النهيَ {فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي ما تقدم أخذُه قبل التحريم ولا يسترده منه وما مرتفعٌ بالظرف إنْ جُعلت مَنْ موصولةً وبالابتداء إن جُعلت شرطيةً على رأي سيبويهِ لعدم اعتماد الظرفِ على ما قبله {وَأَمْرُهُ إِلَى الله} يجازيه على انتهائه إن كان عن قَبول الموعظةِ وصِدْقِ النية وقيل يَحْكُم في شأنه ولا اعتراضَ لكم عليه {وَمَنْ عَادَ} أي إلى تحليل الربا {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مِنْ عَادٍ والجمعُ باعتبارِ المَعْنى كَما أنَّ الإفرادَ في عاد باعتبار اللفظ وما فيه من معنى البُعد للإشعارِ ببُعد منزلتِهم في الشر والفساد {أصحاب النار} أيْ مُلازمُوهَا {هم فيها خالدون} ما كثون فيها أبداً والجملةُ مقررة لما قبلها

276 - 277 278 279 البقرة

276

{يَمْحَقُ الله الربا} أي يذهب ببركته ويُهلِكُ المالَ الذي يدخُل فيه {وَيُرْبِى الصدقات} يُضاعفُ ثوابَها ويبارُك فيها ويزيدُ المالَ الذي اخرجت منه الصدقةَ ويُربيها كما يربّي أحدكم مهره وعنه عليه الصلاة والسلام ما نقصت زكاة من مال قطُّ {والله لاَ يُحِبُّ} أي لا يرضى لأن الحبَّ مختصٌّ بالتوابين {كُلَّ كَفَّارٍ} مُصِرَ على تحليل المحرَّمات {أَثِيمٍ} مُنهمِكٍ في ارتكابه

277

{إن الذين آمنوا} بالله ورسوله وبما جاءهم {وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وآتوا الزكاة} نخصيصهما بالذكر مع انداراجهما في لاصالحات لإنافتهما على سائر الأعمالِ الصالحة على طريقة ذكرِ جبريلَ وميكالَ عَقيبَ الملائكةِ عليهم السلام {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} جملةٌ من مبتدإٍ وخبر واقعةٌ خبراً لإنَّ أي لهم أجرُهم الموعودُ لهم وقوله تعالى {عِندَ رَبّهِمْ} حال من أجرهم وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإفاضة إلى ضميرهم مزيد لطف وتشريفٍ لهم {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من مكروه آتٍ {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} من محبوب فات

278

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اتقوا الله} أي قوا أنفسَكم عقابَه {وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا} أي واتركوا بقايا ما شرطنم منه على الناس تركاً كلياً {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} على الحقيقة فغن ذلك مستلزِمٌ لامتثال ما أُمِرْتم به اْلبتةَ وهو شرطٌ حُذفَ جوابُه ثقةً بما قبله أي إن كنتم مؤمنين فاتقوا وذرُوه الخ رُوي أنه كان لثقيفٍ مالٌ على بعض قريشٍ فطالبوهم عند المَحِلّ بالمال والربا فنزلت

279

{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} أي ما أُمرتم بهِ منَ الاتقاء وتركِ البقايا إما مع إنكار حُرمتِه وإما مع الاعتراف بها {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} أي فاعلَموا بها من أذن بالشئ إذا علِمَ به أما على الأول فكَحربِ المرتدين وأما على الثاني فكحرب البغاة وقرئ فآذِنوا أي فأَعْلموا غيرَكم قيل هو من الأذان وهو الاستماع فإنه من طرق العلم وقرئ فأيقِنوا وهو مؤيِّد لقراءة العامة وتنكيرُ حربٍ للتفخيمِ ومِنْ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع صفةً لها مؤكدةً لفخامتها أي بنوعٍ من الحرب عظيم لايقادر قدرُه كائنٍ من عندِ الله ورسوله رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ قالت ثقيفٌ لابد لنا بحرب الله ورسوله {وَإِن تُبتُمْ} من الارتباء مع الإيمان بحرمتها بعد ما سمعتموه من الوعيد {فَلَكُمْ رؤوس أموالكم} تأخُذونها كَمَلاً {لاَ تُظْلَمُونَ} غُرماءَكم بأخذ الزيادة والجملةُ إما مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب أو حالٌ من الضمير في لكُم والعاملُ ما تضمّنه الجارُّ من الاستقرار {وَلاَ تُظْلَمُونَ} عطفٌ على ما قبله أي لا تُظلَمون أنتم من قِبَلهم بالمطل

280 - 281 البقرة والنقص ومن ضرورة تعليقِ هذا الحكمِ بتوبتهم عدمُ ثبوته عند عدمها لأن عدمها إن كان مع إنكار الحرمةِ فهم مرتدون وما لهم المكسوبُ في حال الرِّدة فيءً للمسلمين عند أبي حنيفة رضى الله عنه وكذا سائرُ أموالهم عند الشافعيِّ وعندنا هو لورثتهم ولا شئ لهم على حال وإن كان مع الاعتراف بها فإن كان لهم شوكةٌ فهم على شرف القتل لم تسلَم لهم رءوسهم فكيف برءوس أموالهم وإلا فكذلك عند ابن عباس رضي الله عنهما فإنه يقول مَنْ عاملَ الربا يستتاب وإلاضرب عنقُه وأما عند غيرِه فهم محبوسون إلى أن تظهرَ توبتُهم لا يُمَكّنون من التصرفات أصلاً فما لم يتوبوا لم يسلَمْ لهم شئ من أموالهم بل إنما يسلَم بموتهم لورثتهم

280

{وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} أي إن وقع غريمٌ من غرمائكم ذو عسرةٍ على أنَّ كانَ تامةٌ وقرئ ذا عسرةٍ على أنها ناقصة {فَنَظِرَةٌ} أي فالحكمُ نظِرةٌ أو فعليكم نظرةٌ أو فلتكن نظرةٌ وهي الإنظارُ والإمهالُ وقرئ فناظره فالمستحق ناظره أي منتظره أوفصاحب نَظِرَتِه على طريق النسْب وقرئ فناظِرْه أمراً من المفاعلة أي فسامِحْه بالنَّظِرة {إلى مَيْسَرَةٍ} أي إلى يَسار وقرئ بضم السين وهما لغتان كمشرقة ومشارقة وقرئ بهما مضافين بحذف التاء عند الإضافةُ كما في قوله ... وَأَخْلفُوك عِدَ الأمرِ الذي وعدوا ... {وأن تصدقوا} بحذف إحدى التاءين وقرئ بتشديد الصاد أي وأن تتصدقوا على مُعْسري غرمائِكم بالإبراء {خَيْرٌ لَّكُمْ} أي أكثرُ ثواباً من الإنظار أو خيرٌ مما تأخذونه لمضاعفة ثوابه ودوامِه فهو ندبٌ إلى أن يتصدقوا برءوس أموالهم كلاً أو بعضاً على غرمائهم المعسرين كقوله تعالى {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى} وقيل المرادُ بالتصدّق الإنظارُ لقوله عليه السلام لا يحِل دَيْنُ رجل مسلم فيؤخرُه إلا كان له بكل يوم صدقة {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} جوابُه محذوفٌ أي إنْ كنتُم تعلمونَ أنَّه خيرٌ لكُم عمِلتموه

281

{واتقوا يَوْمًا} هو يومُ القيامة وتنكيرُه للتفخيم والتهويلِ وتعليقُ الإتقاءِ به للمبالغة في التحذير عما فيه من الشدائد والأهوال {تُرْجَعُونَ فِيهِ} على البناءِ للمفعولِ من الرجع وقرئ على البناءِ للفاعلِ منْ الرُّجوع والأولُ أدخلُ في التهويلِ وقرئ بالباء على طريق الالتفات وقرئ ترُدّون وكذا تَصيرون {إِلَى الله} لمحاسبة أعمالِكم {ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ} منَ النفوسِ والتعميمُ للمبالغة في تهويل اليوم أي تعطى كملا {مَّا كَسَبَتْ} أي جزاءَ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ أو شر {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} حال من كلِّ نفسٍ تفيد أن المعاقبين وإن كانت عقوباتهم مؤبدة غير مظلومين في ذلك لِما أنَّه من قِبَل أنفسِهم وجمعُ الضميرِ لأنه أنسبُ بحال الجزاء كما أن الإفراد أوفقُ بحال الكسب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها آخِرُ آيةٍ نزل بها جبريلُ عليه السَّلامُ وقال ضَعْها في رأس المائتين والثمانين من البقرة وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحداً وعشرين يوماً وقيل أحداً وثمانين وقيل سبعةَ أيام وقيل ثلاثَ ساعات

282 - البقرة

282

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} شروعٌ في بيان حال المُداينة الواقعةِ في تضاعيف المعاوضات الجاريةِ فيما بينهم ببيع السلعِ بالنقود بعد بيانِ حال الربا أي إذا داين بعضُكم بعضاً وعامله نسيئةً معْطِياً أو آخذاً وفائدةُ ذكرِ الدين دفعُ توهُّمِ كونِ التدايُن بمعنى المُجازاة أو التنبيهُ على تنوعه إلى الحالِّ والمؤجّل وأنه الباعث على الكتبة وتعين المرجع للضمير المنصوب المتصل بالأمر {إلى أَجَلٍ} متعلقٌ بتداينتم أو بمحذوف وقع صفة لدَيْنٍ {مُّسَمًّى} بالأيام أوالأشهر ونظائرِهما مما يفيد العِلمَ ويرْفَعُ الجهالة لا بالحصاد والدّياس ونحوِهما مما لا يرفعها {فاكتبوه} أي الدَّين بأجله لأنه أوثقُ وأرفعُ النزاع والجمهورُ على استحبابه وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ المرادَ به السَّلَم وقال لما حرم الله الربا أباح في السَّلَف {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُم كَاتِبٌ} بيان لكيفية الكتابةِ المأمورِ بها وتعيينٌ لمن يتولاها إثرَ الأمرِ بها إجمالاً وحذفُ المفعول إما لتعيُّنه أو للقصد إلى إيقاع نفسِ الفعل أي الكتابةَ وقوله تعالى بَيْنِكُمْ للإيذان بأن الكاتبَ ينبغي أن يتوسّط بين المتداينين ويكتُبَ كلامَهما ولا يكتفيَ بكلام أحدِهما وقولُه تعالى {بالعدل} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لكاتب أي كاتبٌ كائنٌ بالعدل أي وليكن المتصدِّي للكتابة من شأنه أن يكتُبَ بالسوية من غير مَيل إلى أحد الجانبين لا يزيد ولا ينقُص وهو أمرٌ للمتداينين باختيار كاتبٍ فقيهٍ ديِّن حتى يجيء كتابُه موثوقاً به معدّلاً بالشرع ويجوزُ أنْ يكون حالاً منه أي ملتبساً بالعدل وقيل متعلقٌ بالفعل أي وليكتبْ بالحق {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ} أي ولا يمتنعْ أحدٌ ن الكُتاب {أَن يَكْتُبَ} كتابَ الدين {كَمَا عَلَّمَهُ الله} على طريقة ما علّمه من كتبه الوثاق أو كما بينه بقوله تعالى بالعدل أولا يأب أن ينفعَ الناسَ بكتابته كما نفعه الله تعالى بتعليمِ الكتابة كقوله تعالَى وَأَحْسِن كَمَا {أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} {فَلْيَكْتُبْ} تلك الكتابةَ المُعْلمة أَمَر بها بعد النهي عن إبائها تأكيداً لها ويجوز أن تتعلقَ الكافُ بالأمر على أنْ يكونَ النهيُ عن الامتناع منها مطلقةً ثم الأمرُ بها مقيدة {وَلْيُمْلِلِ الذى عَلَيْهِ الحق}

الإملال هو الإملاءُ أي وليكن المُمْلي مَنْ عليه الحقُّ لأنه المشهودُ عليه فلا بد أن يكون هو المُقِرَّ {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} جُمع ما بين الاسمِ الجليلِ والنعتِ الجميل للمبالغة في التحذير أي وليتقِ المُمْلي دون الكاتِب كما قيل لقوله تعالى {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ} أي من الحق الذي يْمليه على الكاتب {شَيْئاً} فإنه الذي يُتوقع منه البخسُ خاصة وأما الكاتبُ فيُتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقصُ فلو أُريد نهيُه لنهى عن كليهما وقد فَعل ذلك حيث أمَر بالعدل وإنما شُدِّد في تكليف المُمْلي حيث جُمع فيه بين الأمر بالاتقاء والنهي عن البخس لما فيه من الدواعي إلى المنهيِّ عنه فإن الإنسان مجبولٌ على دفع الضرر عن نفسه وتخفيفِ ما في ذمته بما أمكن {فَإن كَانَ الذى عَلَيْهِ الحق} صَرَّح بذلك في موضعِ الإضمارِ لزيادةِ الكشفِ والبيان لا لأن الأمرَ والنهيَ لغيره {سَفِيهًا} ناقصَ العقلِ مبذّراً مجازفاً {أَوْ ضَعِيفًا} صبياً أو شيخاً مختلاً {أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ} أي غيرَ مستطيعٍ للإملاء بنفسه لخرَسٍ أو عَيَ أو جهلٍ أو غيرِ ذلك من العوارض {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} أي الذي يلي أمرَه ويقوم مقامه من قيِّم أو وكيل أو مترجم {بالعدل} أي من غير نقص ولا زيادة لم يكلَّف بعين ما كُلف به من عليه الحقُّ لأنه يُتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ} أي اطلُبوهما ليتحملا الشهادةَ على ما جرى بينكم من المداينة وتسميتها شهيدين لتنزيل المُشارف منزلةَ الكائن {مّن رّجَالِكُمْ} متعلق باستشهدوا ومن ابتدائية أو بمحذوف وقع صفة لشهيدين ومن تبعيضية أي شهيدين كائنين من رجال المسلمين الأحرار إذ الكلامُ في معاملاتهم فإن خطاباتِ الشرعِ لا تنتظمُ العبيدَ بطريق العبارة كما بُيِّن في موضعه وأما إذا كانت المداينةُ بين الكفَرَة أو كان من عليه الحقُّ كافراً فيجوز استشهادُ الكافر عندنا {فَإِن لَّمْ يَكُونَا} أي الشهيدان جميعاً على طريقة نفي الشمولِ لا شُمولِ النفي {رَّجُلَيْنِ} إما لإعوازهما أو لسببٍ آخرَ من الأسباب {فَرَجُلٌ وامرأتان} أي فليشهد رجلٌ وامرأتانِ أو فرجل وامرأتانِ يكفُون وهذا فيما عدا الحدودَ والقصاصَ عندنا وفي الأموال خاصة عند الشافعي {مِمَّن تَرْضَوْنَ} متعلقٌ بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان أي كائنون مرضيّين عندكم وتخصيصُهم بالوصف المذكور مع تحقق اعتباره في كل شهيد لقلة اتصافِ النساء به وقيل نعتٌ لشهيدين أي كائنين ممن ترضَوْن ورُد بأنه يلزم الفصلُ بينهما بالأجنبي وقيل بدل من رجالكم بتكرير العامل ورد بما ذكر من الفصل وقيل متعلقٌ بقوله تعالى فاستشهدوا فيلزم الفصل بين اشتراط المرأتين وبين تعليله وقوله عز وجل {مِنَ الشهداء} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الضمير المحذوف الراجعِ إلى الموصول أي ممن ترضَوْنهم كائنين من بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم وثقتِكم بهم وإدراجُ النساء في الشهداء بطريق التغليب {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاخرى} تعليلٌ لاعتبار العدد في النساء والعلةُ في الحقيقة هي التذكيرُ ولكنَّ الضلالَ لما كان سبباً له نُزّل منزلتَه كما في قولك أعددتُ السلاحَ أن يجيء عدو فأدفعه كأنه قيل أن تذكّر إحداهما الأخرى إن ضلت الشهادة بأن نسيتها ولعل إيثارَ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ على أنْ يقالَ إنِ تضل إحداهما فتذكرَها الأخرى لتأكيد الإبهام والمبالغة في الاحتراز عن توهم اختصاصِ الضلال بإحداهما بعينها والتذكير بالأخرى وقرئ فتذكر من الأذكار وقرئ فتذاكر وقرئ إنْ تضلَّ على الشرط فتذكرُ بالرفع كقوله تعالى وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ {وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ} لأداء

الشهادة أو لتحمُّلها وتسميتُهم شهداءَ قبل التحمل لما مرَّ من تنزيل المُشارف منزلةَ الواقع وما مزيدة عن قتادة أنه كان الرجل يطوف في الحِواء العظيم فيه القوم فلا يتبعُه منهم أحد فنزلت {وَلاَ تسأموا} أي لا تَملُّوا من كثرة مدايناتِكم {أن تكتبوه} أي الدينَ أو الحقَّ أو الكتابَ وقيل كنى به عن الكسل الذي هو صفةُ المنافق كما ورد في قولِه تعالى وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلاةِ قَامُوا كسالى وقد قال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لا يقولُ المؤمن كسِلْتُ {صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا} حالٌ من الضمير أي حالَ كونه صغيراً أو كبيراً أي قليلاً أو كثيراً أو مجملاً أو مفصّلاً {إِلَى أَجَلِهِ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الهاء في تكتبوه أي مستقراً في الذمة إلى وقت حلوله الذي أقربه المديون {ذلكم} إشارةٌ إلى ما أُمر به من الكَتْب والخطابُ للمؤمنين {أَقْسَطُ} أي أعدل {عَندَ الله} أي في حكمه تعالى {وَأَقْوَمُ للشهادة} أي أثبتُ لها وأعونُ على إقامتها وهما مبنيان من أقسطَ وأقامَ فإنه قياسيٌّ عند سيبويه أو من قاسط بمعنى ذي قِسط وقويم وإنما صحت الواو في أقوم كما صحت في التعجيب لجموده {وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ} وأقرب إلى انتفاء رَيبكم في جنس الدَّين وقدرِه وأجله وشهودِه ونحوِ ذلك {إِلاَّ أَن تكون تجارة حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} استثناءٌ منقطع من الأمر بالكتاب أي لكنْ وقتَ كونِ تدايُنِكم أو تجارتكم تجارةً حاضرةً بحضور البدلين تُديرونها بينكم بتعاطيهما يداً بيد {فليس عليكم جناح ألا تَكْتُبُوهَا} أي فلا بأسَ بأن لا تكتبوها لبُعده عن التنازع والنسيان وقرئ برفع تجارةٌ على أنَّها اسمُ كانَ وحاضرةٌ صفتُها وتديرونها خبرُها أو على أنها تامة {وَأَشْهِدُواْ إِذَا تبايعتم} أي هذا التبايُعَ أو مطلقاً لأنه أحوطُ والأوامرُ الواردةُ في الآية الكريمة للندب عند الجمهور وقيل للوجوب ثم اختلف في أحكامها ونسخها {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} نهيٌ عن المضارة محتمل للبناءين كما ينبأ عنه قراءةُ مَن قرأَ ولا يضارر في الكسر والفتح وهو نهيهما عن ترك الإجابة والتغييرِ والتحريفِ في الكتبه والشهادة أو نهيُ الطالب عن الضرار بهما بأن يعجلهما عن مهمهما أو يكلفَهما الخروجَ عما حُدّ لهما أو لا يعطي الكاتب جعله وقرئ في الرفع على أنه نفيٌ في مَعْنى النهي {وَإِن تَفْعَلُواْ} ما نُهيتم عنه من الضرار {فإنه} أي فعلكم ذلك {فُسُوقٌ بِكُمْ} أي خروجٌ عن الطاعة ملتبس بكم {واتقوا الله} في مخالفة أوامرِه ونواهيه التي من جملتها نهيُه عن المضارة {وَيُعَلّمُكُمُ الله} أحكامه المتضمنة لمصالحكم {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} فلا يكاد يخفي عبيه حالُكم وهو مجازيكم بذلك كُرر لفظ الجلالة في الجمل الثلاث لإدخال الروعةِ وتربيةِ المهابةِ وللتنبيه على استقلالِ كلَ منها بمعنى على حياله فإن الأولى حثٌّ على التقوى والثانية وعدٌ بالإنعام والثالثة تعظيمٌ لشأنه تعالى

283

{وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ} أي مسافرين أو متوجهين إليه {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا} في المداينة وقرئ كِتاباً وكُتُباً وكتاباً {فرهان مَّقْبُوضَةٌ} أي فالذي يُستوثق به أو

284 - البقرة فعليكم أو فليؤخَذ أو فالمشروعُ رهانٌ مقبوضة وليس هذا التعليقُ لاشتراط السفر في شرعية الارتهان كما حسِبه مجاهدٌ والضحاكُ لأنه صلى الله عليه وسلم رهَن دِرْعه في المدينة من يهودى بعشرين صاعاص من شعير أخذه لأهله بل لإقامة التوثقِ بالارتهان مقام التوثق بالكتبة في السفر الذي هو مِظنةُ إعوازِها وإنما لم يتعرّض لحال الشاهد لما أنه في حكم الكاتب توثقاً وإعوازاً والجمهورُ على وجوب القبض في تمام الرهن غير مالك وقرئ فرُهُنٌ كسُقُف وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون وقرئ بسكون الهاء نخفيفا {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} أي بعضُ الدائنين بعضَ المديونين لحسن ظنه به واستغنى بأمانته عن الارتهان وقرئ فإن أُومن بعضُكم أي آمنه الناسُ ووصفوه بالأمانة قيل فيكون انتصابُ بعضاً حينئذ على نزع الخافض أي على متاع بعض {فَلْيُؤَدّ الذى اؤتمن} وهو المديون وإنما عبّر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقاً للإعلام ولحمله على الأداء {أمانته} أي دينه وإنما سمّي أمانة لائتمانه بترك الارتهان به وقرئ ايتُمِن بقلب الهمزة ياء وقرئ بإدغام الياء في التاء وهو خطأ لأن المنقلبة من الهمزة لا تدغم لأنها في حكمها {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} في رعاية حقوق الأمانة وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير مالا يخفى {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة} أيها الشهود أو المدينون أي شهادتكم على أنفسكم عند المعاملة {وَمَن يَكْتُمْهَا فإنه آثم قَلْبُهُ} آثم خبر إن وقلبُه مرتفعٌ به على الفاعليةِ كأنه قيل يأثم قلبه أو مرتفع بالابتداء وآثمٌ خبرٌ مقدّمٌ والجملةُ خبرُ إن وإسنادُ الإثم إلى القلبِ لأن الكِتمان مما اقترفه ونظيرُه نسبةُ الزنا إلى العين والأذن أو للمبالغة لأنه رئيسُ الأعضاء وأفعالُه أعظمُ الأفعال كأنه قيل تمكّن الإثمُ في نفسه وملك أشرفَ مكان فيه وفاق سائر ذنوبه عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما إن أكبرَ الكبائر الإشراكُ بالله لقوله تعالى {فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة} وشهادةُ الزور وكتمانُ الشهادة وقرئ قلبَه بالنصب كما في سفه نفسه وقرئ أثمَ قلبه أي جعله آثماً {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فيجازيكم به إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرا فشر

284

{لله ما في السماوات وما في الارض} من الأمور الداخلة في حقيقتهما والخارجة عنهما المتمكنةِ فيهما من أولي العلم وغيرهم أي كلُّها له تعالى خلقا وملكا وتصرفا لاشركة لغيره في شئ منها بوجه من الوجوه {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ} من السوء والعزمِ عليه بأن تُظهروه للناس بالقول أو بالفعل {أو تُخْفُوهْ} بأن تكتُموه منهم ولا تُظهروه بأحد الوجهين ولا يندرج فيه مالا يخلُو عنه البشرُ من الوساوس وأحاديث النفس التي لاعقد ولا عزيمة فيها إذ التكليفُ بحسب الوُسع {يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} يومَ القيامة وهو حجةٌ على منكري الحساب من المعتزلة والروافض وتقديم الجار والمجرور على الفاعل للاعتناء به وأما تقديمُ الإبداء على الإخفاء على عكس ما في قوله عز وجل قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا في الصدوركم أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله فلِما أن المعلَّق بما في أنفسهم ههنا هو المحاسبة والأصلُ فيها الأعمالُ البادية وأما العلمُ فتعلُّقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية

285 - البقرة كيف لا وعلمُه سبحانه بمعلوماته متعالٍ عن أن يكون بطريق حصول الصور بل وجود كل شئ في نفسه في أيّ طور كان علمٌ بالنِّسبةِ إليهِ تعالَى وهذا لا يختلفُ الحالُ بين الأشياء البارزةِ والكامنة خلا أن مرتبة الإخفاءِ متقدمةٌ على مرتبة الإبداء إذ ما من شئ يبدى إلا وهُو أو مباديهِ قبل ذلك مضمرٌ في النفس فتعلقُ علمِه تعالَى بحالتِهِ الأُولى متقدمٌ على تعلقهِ بحالته الثانية وقد مرَّ في تفسيرِ قوله تعالى أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُون {فَيَغْفِرُ} بالرفع على الاستئناف أي فهو يغفرُ بفضله {لِمَن يَشَاء} أنْ يغفرَ له {وَيُعَذّبَ} بعدله {مَن يَشَآء} أنْ يعذَبهُ حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحكم والمصالح وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدّم رحمته على غضبه وقرئ بجزم الفعلين عطفاً على جواب الشرط وقرئ بالجزم من غير فاء على أنهما بدلٌ من الجواب بدلَ البعضِ أو الاشتمالِ ونظيره الجزمُ على البدلية من الشرط في قوله متى تأتِنا تُلمِمْ بنافي ديارِنا ... تجدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تأججا وإدغام الراء في اللام لحنٌ {والله على كل شىء قَدِيرٌ} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله فإن كمالَ قُدرته تعالى على جميع الأشياء مُوجِبٌ لقدرته سبحانه على ما ذُكر من المحاسبة وما فُرِّع عليه من المغفرة والتعذيب

285

{آمن الرسول} لمّا ذُكر في فاتحة السورةِ الكريمة أن ما انزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيمِ الشأنِ هدىً للمتّصفين بما فُصِّل هناك من الصفات الفا ضلة التي من جملتها الإيمانُ به وبما أنزل قبله من الكتب الإلهيةِ وأنهم حائزون لأثَرَتي الهدى والفلاح من غير تعيين لهم بحصوصهم ولا تصريح بتحقيق اتصافِهم بها إذ ليس فيما يُذكر في حيز الصلةِ حُكمٌ بالفعل وعُقّب ذلك ببيانِ حالِ مَن كَفر به من المجاهرين والمنافقين ثم شَرَح في تضاعيفها من فنون الشرائع والأحكام والمواعظِ والحِكَم وأخبارِ سوالف الأمم وغير ذلك ما تقتضي الحكمةُ شرحَه عُيِّن في خاتمتها المتّصفون بها وحُكم باتصافهم بها على طريق الشهادة لهم من جهته عزَّ وجلَّ بكمال الإيمان وحسنِ الطاعةِ وذكر صلى الله عليه وسلم بطريق الغيبة مع ذكر هناك بطريق الخطاب لما أن حقَّ الشهادة الباقيةِ على مرِّ الدُّهورِ أن لا يخاطَبَ بها المشهودُ له ولم يتعرض ههنا لبيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حكي عنهم من الدعوات الآتية إيذاناً بأنه أمرٌ محققٌ غنيٌّ عن التصريح به لاسيما بعد ما نُص عليه فيما سلف وإيراده صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة المنبئة عن كونه صلى الله عليه وسلم صاحبَ كتابٍ مجيد وشرع جديد تمهيدٌ لما يعقُبه منْ قولِه تعالى {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ} ومزيدُ توضيحٍ لاندراجه في الرسل المؤمَنِ بهم عليهم السلام والمرادُ بما انزل إليه ما يعم كله وكل جزء من أجزائه ففيه تحقيق لكيفية إيمانه صلى الله عليه وسلم وتعيين لعنوانه أي آمن عليه السلام بكل ماأنزل إليه {من ربه} والكتُب وغير ذلك من حيث إنه منزلٌ منه تعالى وأما الإيمانُ بحقية أحكامِه وصدقِ أخباره ونحوُ ذلك فمن فروع الإيمان به من الحيثية المذكورة وفي هذا الإجمال إجلالٌ لمحله صلى الله عليه وسلم وإشعارٌ بأن تعلّقَ إيمانِه بتفاصيلِ ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى

عليه منَ الظهورِ بحيثُ لا حاجة إلى ذكره أصلاً وكذا في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام تشريفٌ له وتنبيهٌ على أن إنزاله إليه تربية وتكميلٌ له عليه السلام {والمؤمنون} أي الفريقُ المعروفون بهذا الاسم فاللاَّم عهدية لا موصلة لإفضائها إلى خلو الكلام عن الجدوى وهو مبتدأ وقوله عز وجل {كُلٌّ} مبتدأٌ ثانٍ وقولُه تعالَى {آمن} خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول والرابطُ بينهما الضمير الذي ناب منابَه التنوين وتوحيدُ الضمير في آمن مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المرادَ بيانُ إيمانِ كل فردِ منهم من غير اعتبار الاجتماعِ كما اعتُبر ذلك في قوله تعالى {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين} وتغييرُ سبْكِ النظم الكريمِ عما قبلَه لتأكيد الإشعارِ بما بين إيمانه عليه السلام المبني على المشاهدة والعِيان وبين إيمانِهم الناشئ عن الحجة والبرهانِ من التفاوت البيِّن والاختلاف الجليِّ كأنهما مختلفان من كل وجهٍ حتى في هيئة التركيب الدالِّ عليهما وما فيه من تكرير الإسناد لما في الحُكم بإيمان كلِّ واحدٍ منهم على الوجه الآتي من نوعِ خفاءٍ مُحوِجٍ إلى التقوية والتأكيد أي كلُّ واحد منهم آمن {بالله} وحده من غير شريكٍ له في الأُلوهيَّةِ والمعبودية {وملائكته} أي من حيث إنهم عبادٌ مُكْرمون له تعالى من شأنهم التوسطُ بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاءِ الوحي فإن مدارَ الإيمان بهم ليس من خصوصيات ذواتِهم في أنفسهم بل هو من إضافتهم إليه تعالى من الحيثية المذكورة كما يلُوح به الترتيبُ في النظم {وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} أي من حيث مجيئُهما من عنده تعالى لإرشاد الخلقِ إلى ما شرَع لهم من الدين بالأوامر والنواهي لكنْ لا عَلى الإطلاقِ بل على أن كلَّ واحدٍ من تلك الكتب منزل منه تعالى إلى رسول معيّنٍ من أولئك الرسلِ عليهم الصلاة والسلام حسبما فُصِّل في قولِه تعالى {قولوا آمنا بالله وما أنزل إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والاسباط وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم} الآية ولا على أن مناطَ الإيمان خصوصيةُ ذلك الكتاب أو ذلك الرسولِ بل على أن الإيمانَ بالكل مندرِجٌ في الإيمان بالكتاب المُنْزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ومستنِدٌ إليه لِما تُليَ من الآية الكريمة ولا على أن أحكامَ الكتبِ السالفة وشرائعَها باقيةٌ بالكلية ولا على أن الباقيَ منها معتبرٌ بالإضافة إليها بل على أن أحكامَ كلِّ واحد منها كانت حقة ثابتة إلى ورود كتابٍ آخرَ ناسخٍ له وأن مالم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتة من حيث إنها من أحكام هذا الكتاب المَصونِ عن النسخ إلى يوم القيامة وإنَّما لَمْ يُذكر هَهُنا الإيمانُ باليوم الآخر كَما ذُكر في قولِهِ تعالى {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} لاندراجه في الايمان بكتبه وقرئ وكتابِه على أن المرادَ به القرآنُ أو جنسُ الكتاب كما في قوله تعالى {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب} والفرقُ بينه وبين الجمع أنه شائعٌ في أفراد الجنس والجمعِ في جموعه ولذلك قيل الكتابُ أكثرَ من الكتب وهذا نوعُ تفصيلٍ لَما أُجمل في قولِهِ تعالى {بِمَا أنزل إليه من ربه} اقتُصر عليه إيذاناً بكفايته في الإيمان الإجمالي المتحقِّق في كل فردٍ من أفراد المؤمنين من غير نفيٍ لزيادةٍ ضرورةَ اختلاف طبقاتهم وتفاوتِ إيمانهم بالأمور المذكورة في مراتب التفصيل تفاوتاً فاحشاً فإن الإجمالَ في الحكاية لا يوجب الإجمالَ في المحكيِّ كيف لا وقد أُجمل في حكاية إيمانه عليه السلام بما أنزل إليه من ربه مع بداهة كونهِ متعلقا بتفاصيل مافيه من الجلائل والدقائق ثم إن الأمورَ المذكورةَ

حيث كانت من الأمورِ الغيبيَّةِ التي لا يُوقف عليها إلا من جهة العليم الخبير كان الإيمانُ بها مِصداقاً لما ذُكر في صدرِ السورةِ الكريمةِ من الإيمان بالغيب وأما الإيمان بكتُبه تعالى فإشارة الى مافي قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ هذا هو اللائقُ بشأنِ التنزيل والحقيقُ بمقداره الجليل وقد جُوّز أن يكون قوله تعالى والمؤمنون معطوفاً على الرسول فيوقف عليه والضميرُ الذي عُوّض عنه التنوينُ راجعٌ إلى المعطوفَيْن معاً كأنه قيل آمن الرسولُ والمؤمنون بما أنزل إليه من ربه ثم فصل ذلك وقيل كلُّ واحدٍ من الرسول والمؤمنين آمن بالله الخ خلا أنه قُدّم المؤمَنُ به على المعطوف اعتناءً بشأنه وإيذاناً بأصالته عليه السلام في الإيمان به ولا يخفى أنه مع خلوّه عما في الوجه الاول من كمال اجلال شأنهِ عليه السلام وتفخيمِ إيمانه مخلٌّ بجزالة النظمِ الكريم لأنه إنْ حُمل كلٌّ من الإيمانين على ما يليقُ بشأنه عليهِ السَّلامُ منْ حيثُ الذاتُ ومن حيث التعلقُ بالتفاصيل استحالَ اسنادهما الى غيره عليه السلام وضاع التكريرُ وإن حُملا على ما يليق بشأن آحادِ الأمةِ كان ذلك حطاً لرتبته العليةِ عليه السلام وأما حملُهما على ما يليقُ بكلِّ واحدٍ ممن نُسبا إليه من الآحاد ذاتاً وتعلقاً بأن يُحمَلا بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على الإيمان العياني المتعلقِ بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمةِ على الإيمان المكتسَب من جهته عليه السلام اللائقِ بحالهم في الإجمال والتفصيل فاعتسافٌ بيّن ينبغي تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن أمثاله وقوله تعالى {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أحدٍ من رسلِه} في حيز النصب بقول مقدرٍ على صيغة الجمع رعايةً لجانب المعنى منصوبٌ على أنَّه حالٌ من ضمير آمن أو مرفوعٌ على أنه خبر آخر لكلٌّ أي يقولون لا نفرّق بينهم بأن نؤمنَ ببعض منهم ونكفُرَ بآخَرين بل نؤمنُ بصحة رسالةِ كلِّ واحدٍ منهم قيّدوا به إيمانَهم تحقيقاً للحق وتخطِئةً لأهل الكتابين حيث أجمعوا على الكفر بالرسول صلى الله عليه وسلم واستقلت اليهودُ بالكفر بعيسى عليه السلام أيضاً على أن مقصودَهم الأصليَّ إبرازُ إيمانهم بما كفروا به من رسالته عليه السلام لا لإظهار موافقتهم لهم فيما آمنوا به وهذا كما ترى صريحٌ في أن القائلين آحادُ المؤمنين خاصة إذ لايمكن أن يسند إليه عليه السَّلام أنْ يقولَ لا أفرق بَيْنَ أحدٍ من رُّسُلِهِ وهو يريد به إظهارَ إيمانه برسالة نفسِه وتصديقَه في دعواها وعدمُ التعرض لنفي التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يُعكَسْ مع تحقق التلازم من الطرفين لما أن الأصلى في تفريق المفرِّقين هو الرسلُ وكفرُهم بالكتب متفرِّع على كفرهم بهم وقرئ بالياء على إسنادِ الفعلِ إلى كل وقرئ لا يفرِّقون حَمْلاً على المَعْنى كَما في قوله تعالى {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين} فالجملة نفسُها حال من الضمير المذكور وقيل خبرٌ ثان لكلٌّ كما قيل في القول المقدر فالابد من اعتبار الكلية بعد النفي دون العكس إذ المرادُ شمولُ النفي لا نفيُ الشمول والكلام في همزة أحدٍ وفي دخول بين عليه قد مر تفصيله عند قولِه تعالى {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} وفيه من الدلالة صريحاً على تحقق عدم التفريق بين كل فرد فرد منهم وبين من عداه كائنا من كان ما ليس في أن يقال لا نفرِّق بين رسله وإيثارُ إظهارِ الرسلِ على الإضمار الواقعِ مثلُه في قوله تعالى {وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} إما للاحتراز عن توهم اندارج الملائكةِ في الحُكم أو للإشعار بعلة عدمِ التفريقِ أو للإيماء إلى عنوانه لأن المعتبرَ عدمُ التفريق من حيث الرسالةُ دون سائرِ الحيثيات الخاصة {وَقَالُواْ} عطفٌ على آمن وصيغةُ الجمعِ باعتبار جانب المعنى وهو حكايةٌ لامتثالهم بالأوامر إثر حكاية

286 - البقرة إيمانِهم {سَمِعْنَا} أي فهمنا ما جاءنا من الحق وتيقنا بصحته {وَأَطَعْنَا} ما فيه من الأ وامر والنواهي وقيل سمِعنا أجبنا دعوتك وأطعنا أمرَك {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} أي اغفِرْ لنا غفرانك أو نسألك غُفرانك ذنوبنا المتقدمة او مالا يخلُو عنه البشرُ من التقصير في مراعاة حقوقِك وتقديمُ ذكرِ السمعِ والطاعةِ على طلب الغفران لما أن تقديمَ الوسيلةِ على المسئول أدعى إلى الإجابة والقبول والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إليهم للمبالغةِ في التضرُّع والجُؤار {وَإِلَيْكَ المصير} أي الرجوعُ بالموتِ والبعثِ لا إلى غيرك وهو تذييلٌ لما قبله مقرِّرٌ للحاجة إلى المغفرة لما أن الرجوعَ للحساب والجزاء وقوله تعالى

286

{لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} جملةٌ مستقلة جيءَ بها إثرَ حكايةِ تلقِّيهم لتكاليفه تعالى بحسن الطاعة إظهاراً لما له تعالى عليهم في ضمن التكليف من محاسنِ آثارِ الفضل والرحمة ابتداءً لا بعد السؤال كما سيجئ هذا وقد رُوي أنَّه لمَّا نزلَ قوله تعالى وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله الآية اشتد ذلك على أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأتوه علية السلام ثم برَكوا على الرُكَب فقا لوا أيْ رسولَ الله كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق الصلاةُ والصومُ والحج والجهاد وقد أُنزل إليك هذه الآية ولا نُطيقُها فقال أى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمِعنا وعصَينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غُفرانَك ربنا وإليك المصير فقرأها القوم فأنزل الله عزَّ وجلَّ آمَنَ الرسول بِمَا أُنزِلَ الية من ربة الى قولة تعالى ربنا واليك المصيرفمسئولهم الغفران المعلق بمشئتة عز وجل في قوله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء ثم أنزل الله تعالى لاَ يُكَلّفُ الله نفساإلا وُسْعَهَا تهويناً للخطب عليهم بيان إن المرادَ بما في أنفسهم ما عزَموا عليه من السوء خاصة لا ما يعُمُّ الخواطرَ التي لا يُستطاع الاحتراز عنها والتكليفُ إلزامُ ما فيه كُلفةٌ ومشقة والوُسعُ ما يسَعُ الإنسانَ ولا يَضيقُ علية أى سنتة تعا لى انة لا بكلف نَفْساً من النُّفوسِ إلاَّ ما يتَّسع فيه طَوقُها ويتيسّر عليها دون مدى الطاقة والمجهود منة رحمة لهذة الأمة كقوله تعالى {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} وقرىء وَسعها بالفتح وهذا يدل على عدم وقوعِ التكليفِ بالمحال لا على امتناعه وقوله تعالى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} للترغيب في المحافظة على مواجبِ التكليف والتحذيرِ عن الإخلال بها بيان أن تكليفَ كل نفسٍ مع مقارنته لنعمة التخفيفِ والتيسير تتضمنُ مراعاتُه منفعةً زائدة وأنها تعود إليها لاألى غيرها وبستتبع الإخلالُ به مضرةً تَحيق بها لا بغيرها فإن ذفأن اختصاصَ منفعةِ الفعل بفاعله من أَقْوى الدَّواعي إلى تحصيله واقتصارَ مضرَّتِه عليه من أشد الزواجر عن مباشرته أي لها ثوابُ ما كسبت من الخير والذي كُلّفت فعلَه لا لغيرها استقلالا أواشتراكا ضرورةَ شمُول كلمةِ ما لكل جزءٍ من أجزاءِ مكسوبها وعليها لا على غيرها بأحد الطريقين المذكورين عقابُ ما اكتسبت من الشر الذي كُلِّفت تركه وإيرادُ

الاكتسابِ في جانب الشر لما فيه من اعتمال ناشئ من اعتناء النفسِ بتحصيل الشر وسعيها في طلبه {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} شروعٌ في حكايةِ بقيةِ دعواتِهم إثرَ بيانِ سرِّ التكليف أي لا تؤاخِذنا بما صدر عنا من الأمور المؤدية إلى النسيان أو الخطأ من تفريطٍ وقلةِ مبالاة ونحوِهما مما يدخُل تحت التكليفِ أوبأنفسهما من حيث ترتّبُهما على ما ذكر أو مطلقاً إذ لا امتناعَ في المؤاخذة بهما عقلاً فإن المعاصيَ كالسُّموم فكما أن تناولها ولو سهواً أو أخطأ مؤدَ إلى الهلاك فتعاطي المعاصي أيضاً لا يبعُد أن يفضِيَ إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة ووعدُه تعالى بعدمه لا يوجب استحالةَ وقوعه فإن ذلك من آثار فضله ورحمته كما ينبئ عنه الرفعُ في قولِهِ عليهِ السلامُ رفع عن أُمِّتي الخطأُ والنِّسيانُ وقد روي أن اليهود كانوا إذا نسُوا شيئاً عُجِّلت لهم العقوبة فدعاؤُهم بعد العلم بتحقق الموعود للاستدامة والاعتداد بالنعمة في ذلك كما في قوله تعالى {ربنا وآتنا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} عطفٌ على ما قبله وتوسيطُ النداء بينهما لإبراز مزيدِ الضراعة والإصرُ العِبءُ الثقيلُ الذي يأصِرُ صاحبَه أي يحبِسُه مكانه والمرادُ به التكاليفُ الشاقة وقيل الإصرُ الذنبُ الذي لا توبةَ له فالمعنى اعصِمْنا من اقترافه وقرئ آصاراو قرئ ولا تُحَمِّلْ بالتشديد للمبالغة {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} في حيز النصبِ على أنه صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي حَمْلاً مثلَ حملِك إياه على مَنْ قبلَنا أو على أنه صفةٌ لإصراً أي إصراً مثلَ الإصرِ الذي حَمَلته على مَنْ قبلنا وهو ما كُلّفه بنو إسرائيل من بخْعِ النفس في التوبة وقطع موضِعِ النجاسةِ وخمسينَ صلاةً في يوم وليلة وصرفِ رُبُع المال للزكاة وغيرِ ذلك من التشديدات فإنهم كانوا إذا أتَوْا بخطيئة حَرُم عليهم من الطعام بعضُ ما كان حلالاً لهم قال الله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ وقد عصم الله عز وجل بفضله ورحمته هذه الأمة عن أمثال ذلك وأنزل في شأنهم وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والاغلال التى كَانَتْ عليهم وقال صلى الله عليه وسلم بُعثتُ بالحنيفية السهلة السَّمْحة وعن العقوبات التي عوقب بها الأولون من المسْخِ والخسْف وغيرِ ذلك قال صلى الله عليه وسلم رُفع عن أُمَّتي الخسفُ والمسخُ والغَرَق {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} عطفٌ على ما قبله واستعفاءٌ عن العقوبات التي لا تُطاق بعد الاستعفاء عما يؤدي إليها التفريطُ فيه من التكاليف الشاقةِ التي لا يكاد مَنْ كُلِّفها يخلو عن التفريط فيها كأنه قيل لا تكلِّفْنا تلك التكاليفَ ولا تعاقِبْنا بتفريطنا في المحافظة عليها فيكونُ التعبيرُ عن إنزال العقوباتِ بالتحميل باعتبار ما يؤدي إليها وقيل هو تكريرٌ للأول وتصوير للإصر بصورة مالا يُستطاع مبالغة وقيل هو استعفاءٌ عن التكليف بما لا تفي به الطاقةُ البشرية حقيقة فيكون دليلاً على جواره عقلاً وإلا لما سُئل التخلص عنه والتشديد ههنا لتعدية الفعل إلى مفعول ثانٍ {واعف عَنَّا} أي آثارِ ذنوبنا {واغفر لَنَا} واستُرْ عيوبَنا ولا تفضَحْنا على رءوس الأشهادِ {وارحمنا} وتعطَّفْ بنا وتفضَّلْ علينا وتقديمُ طلبِ العفوِ والمغفرةِ على طلب الرحمةِ لما أن التخلِيَةَ سابقةٌ على التحلية {أَنتَ مولانا} سيدُنا ونحن عبيدُك او ناصرنا اومتولى أمورِنا {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} فإن من حقّ المولى أن ينصُرَ عبده ومن يتولّى أمرَه على الأعداء والمرادُ به عامةُ الكفرة وفيه إشارة إلى أن إعلاء كلمةِ الله والجهادَ في سبيله تعالى حسبما أُمر في تضاعيفِ السورةِ الكريمةِ غايةُ مطالبهم رُوي أنه عليه الصلاة والسلام لمّا دعا

بهذه الدعواتِ قيل له عند كلِّ دعوةٍ قد فعلت وعنه صلى الله عليه وسلم أنزل الله آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق بألفي عام من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأ آيتين من سورة البقرة كفتاه وهو حجةٌ على من استكره أن يقول سورة البقرة وقال ينبغى أن يقال السورةَ التي يُذكر فيها البقرة كما قال صلى الله عليه وسلم السورةَ التي يُذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة قيل وما البطلة قال صلى الله عليه وسلم السحرة تم الجزء الأول ويلية الجزء الثاني وأوله سورة آل عمران

سورة آل عمران مدنية وهي مائتا آية 1 2 آل عمران {بسم الله الرحمن الرحيم}

آل عمران

{الم الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} قد سلف أن مالا تكون من هذه الفواتح مفردةً كصاد وقاف ونون ولا موازِنةً لمفردٍ كحاميم وطاسين وياسين الموازنةِ لقابيلَ وهابيلَ وكطاسين ميم الموازنةِ لداراً بجَرَد حسبما ذكره سيبويهِ في الكتابِ فطريقُ التلفظ بها الحكايةُ فقط ساكنةُ الأعجاز على الوقف سواءٌ جُعلت أسماءً أو مسرودةً على نمط التعديدِ وإن لزِمها التقاءُ الساكنين لما أنه مغتفرٌ في باب الوقف قطعاً فحقُّ هذه الفاتحة أن يوقفَ عليها ثم يُبدأ بما بعدها كما فعله أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه روايةٌ عن عاصم وأما ما فيها من الفتح على القراءة المشهورةِ فإنما هي حركةُ همزة الجلالة ألقيت على الميم لتدل على ثبوتها إذ ليس إسقاطها للدرج بل للتخفبف فهي ببقاء حركتها في حكم الثابتِ المبتدَإِ به والميمُ بكون الحركةِ لغيرها في حكم الوقف على السكون دون الحركة كما توهم واعتُرض بأنه غيرُ معهود في الكلام وقيل هي حركةٌ لالتقاء السواكن التي هي الياء والميم ولام الجلالة بعد سقوطِ همزتها وأنت خبير بأن سقوطَها مبنيٌّ على وقوعها في الدرْج وقد عرفت أن سكون الميم وقفى موجبٌ لانقطاعها عما بعدها مستدعٍ لثبات الهمزةِ على حالها لا كما في الحروف والأسماءِ المبنيةِ على السكون فإن حقَّها الاتصالُ بما بعدها وضعاً واستعمالاً فتسقطُ بها همزةُ الوصلِ وتُحرَّك أعجازُها لالتقاء الساكنين ثم إن جُعلت مسرودةً على نمطِ التعديدِ فلا محلَّ لها من الإعرابِ كسائر الفواتح وإن جُعلت اسماً للسورة فمحلُها إما الرفعِ على أنَّها خبرٌ مبتدإٍ محذوف وإما النصبُ على إضمار فعلٍ يليقُ بالمقام ذكر أو اقرأ أو نحوِهما وأما الرفعُ بالابتداء أو النصبُ بتقديرِ فعلِ القسم أو الجرُّ بتقدير حرفِه فلا مساغ لشئ منها لما أن ما بعدها غير صالح للخيرية ولا للإقسامِ عليه فإن الاسم الجليلَ مبتدأٌ وما بعده خبرُه والجملةُ مستأنفة أي هو المستحقُّ للمعبوديةِ لا غير وقوله عز وجل {الحى القيوم} خبرٌ آخرُ له أو لمبتدإٍ محذوفٍ أيْ هُوَ الحي القيومُ لا غيرُه وقيل هو صفةٌ للمبتدأ أو بدلٌ منه أو من الخبر الأول أو هو الخبرُ وما قبلَهُ اعتراضٌ بين المبتدأ مقرِّر لما يُفيده الاسمُ الجليلُ أو حال منه وأياه ما كان فهو كالدليل على اختصاص استحقاقِ المعبودية به سبحانه وتعالى لما مرَّ منْ أنَّ معنى الحى الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء ومعنى القيوم الدائمُ القيام بتدبير الخلق وحفظِه ومن ضرورة اختصاصِ ذينك الوصفين به تعالى اختصاصُ استحقاقِ المعبودية به تعالى لاستحالة

تحققِه بدونهما وقد رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال اسمُ الله الأعظمِ في ثلاث سور في سورة البقرة الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم وفي آل عمران الم الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم وفي طه وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَىّ القيوم وروي أن بني إسرائيلَ سألوا موسى عليه السلام عن اسم الله الأعظم قال الحى القيوم ويروى إنَّ عيسَى عليهِ السَّلامُ كان إذا أراد إحياء الموتى يدعو يا حي يا قيوم ويقال إن آصفَ بنَ برخيا حين أتى بعرش بِلْقيس دعا بذلك وقرئ الحي القيام وهذا رد على من زعم إنَّ عيسَى عليهِ السَّلامُ كان رباً فإنه روي أن وفد نجران قدِموا على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم وكانوا ستين راكباً فيهم أربعةَ عشرَ رجلاً من أشرافهم ثلاثةٌ منهم أكابرُ إليهم يئول أمرُهم أحدُهم أميرُهم وصاحبُ مشورتهم العاقبُ واسمُه عبدُ المسيحِ وثانيهم وزيرُهم ومشيرُهم السيد واسمُهُ الأيهم وثالثهم حَبرُهم وأُسْقفُهم وصاحبُ مِدْارَسِهِمْ أبو حارثةَ بنُ عَلْقمةَ أحدُ بني بَكْرِ بنِ وائلٍ وقد كان ملوكُ الرومِ شرّفوه وموّلوه وأكرموه لما شاهدوا من علمه واجتهاده في دينهم وبنَوْا له كنائسَ فلما خرجوا من نجرانَ ركِب أبو حارثة بغلته وكان أخوه كُرْزُ بنُ علقمةَ إلى جنبه فبينا بَغْلةُ أبي حارثةَ تسير إذ عثَرت فقال كُرْزٌ تعساً للأبعد يريد به رسول اله صلى الله عليه وسلم فقال له أبو حارثة بل تَعِسَتْ أمُّك فقال كُرْزٌ ولمَ يا أخي قال إنه والله النبيُّ الذي كنا ننتظره فقال له كُرز فما يمنعُك عنه وأنت تعلم هذا قال لأن هؤلاءِ الملوكَ أعطَوْنا أموالاً كثيرةً وأكرمونا فلو آمنا به لأخذوا منا كلَّها فوقع ذلك في قلب كرزٍ وأضمره إلى أن أسلم فكان يُحدِّث بذلك فأتَوا المدينةَ ثم دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر عليهم ثيابُ الحِبَراتِ جُبَبٌ وأرديةٌ فاخرة يقول بعضُ من رآهم من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ما رأينا وفداً مثلَهم وقد حانت صلاتُهم فقاموا ليصلوا في المسجد فقال عليه السلام دعُوهم فصلَّوا إلى المشرق ثم تكلم أولئك الثلاثةُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا تارةً عيسى هو الله لأنه كان يُحيي الموتى ويبرئ الأسقام ويُخبرُ بالغيوب ويخلُق من الطين كهيئة الطير فينفُخُ فيه فيطير وتارة أخرى هو ابنُ الله إذ لم يكن له أبٌ يُعْلَم وتارة أخرى إنه ثالثُ ثلاثةٍ لقوله تعالى فَعَلْنَا وَقُلْنَا ولو كان واحداً لقال فعلت وقلت فقالَ لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أسلموا قالوا أسلمنا قبلك قال صلى الله عليه وسلم كذبتم يمنعُكم من الإسلام دعاؤكم لله تعالى ولداً قالوا إن ام يكن ولداً لله فمن ابوه فقال صلى الله عليه وسلم ألستم تعلمون أنه لا يكون ولدٌ إلا ويُشبِهُ أباه فقالوا بلى قال ألستم تعلمون أن ربنا حيٌّ لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء قالوا بلى قال عليه السلام ألستم تعلمون أن ربنا قيّومٌ على كل شيء يحفَظُه ويرزُقُه قالوا بلى قال عليه السلام فهل يملِك عيسى من ذلك شيئاً قالوا لا فقال عليه السلام ألستم تعلمون أن الله تعالى لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء قالوا بلى قال عليه السلام فهل يعلمُ عيسى من ذلك إلا ما علِم قالوا بلى قال عليه السلام ألستم تعلمون أن ربنا صوَّر عيسى في الرحِم كيف شاء وأن ربنا لا يأكلُ ولا يشرب ولا يُحْدِث قالوا بلى قال عليه السلام ألستم تعلمون أن عيسى حملتْه أمُه كما تحمِل المرأة ووضعته كما تضع المرأةُ ولدها ثم غُذّي كما يُغذَّى الصبيُّ ثم كان يطعَم الطعامَ ويشرَبُ الشراب ويُحْدِثُ الحدث قالوا بلى قال عليه السلام فكيف يكون هذا كما زعمتم فسكتوا وأبَوا إلا جحوداً فأنزل الله عزَّ وجلَّ من أول السورة إلى نيِّفٍ وثمانين آيةً تقريراً لما احتج به عليه السلام عليهم واجاب

34 - آل عمران به عن شُبَهِهم وتحقيقاً للحق الذي فيه يمترون

3

{نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} أي القرآنَ عبّر عنه باسم الجنس إيذاناً بكمال تفوُّقه على بقية الأفراد في حيازة كمالاتِ الجنس كأنه هو الحقيقُ بأن يُطلَقَ عليه اسمُ الكتاب دون ما عداه كما يلوح به التصريحُ باسمي التوراةِ والإنجيل وصيغة التفعيلِ للدَلالة على التنجيم وتقديمُ الظرفِ على المفعولِ لما مر من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والجملةُ إمَّا مستأنفةٌ أو خبرٌ آخرُ عن الاسمِ الجليل أو هي الخبر وقولُه تعالى لاَ إله إِلاَّ هُوَ اعتراض أو حال وقوله عز وجل الحى القيوم صفةٌ أو بدل كما مر وقرئ نَزَلَ عليك الكتابُ بالتخفيف ورفعِ الكتاب فالظاهرُ حينئذ أن تكونَ مستأنفةٌ وقيل يجوزُ كونُها خبراً بحذف العائد أي نزَل الكتابُ من عنده {بالحق} حالٌ من الفاعلِ أو المفعول أي نزّله مُحِقاً في تنزيله على ما هو عليه أو ملتبساً بالعدل في أحكامه أو بالصدق في أخبارِه التي مِن جُملتِها خبرُ التوحيد وما يليه وفي وعده ووعيدِه أو بما يحقِّق أنَّه من عندِ الله تعالى من الحجج البينة {مُصَدّقاً} حال من الكتاب بالاتفاق على تقدير كونِ قولِه تعالى بالحق حالاً من فاعل نزّل وأما على تقدير حاليته من الكتاب فهو عند من يجوِّز تعددَ الحال بلا عطف ولا بدلية حالٌ منه بعد حال وأما عند من يمنعه فقد قيل إنه حالٌ من محل الحال الأولى على البدلية وقيل من المستكنِّ في الجارِّ والمجرور لأنه حينئذ يتحمّل ضميراً لقيامه مقامَ عاملِه المتحمّل له فيكون حالاً متداخلةً وعلى كل حالٍ فهي حالٌ مؤكدة وفائدةُ تقييدِ التنزيل بها حثُّ أهلِ الكتابين على الإيمان بالمُنَزّل وتنبيهُهم على وجوبه فإن الإيمانَ بالمصدَّق موجب للإيمان بما يصدقه حتماً {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} مفعول لمصدقاً واللامُ دِعامةٌ لتقوية العمل نحوُ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ أي مصدقاً لما قبله من الكتب السالفةِ وفيه إيماءٌ إلى حضورها وكمال ظهورِ أمرِها بين الناس وتصديقُه إياها في الدعوةَ إلى الإيمان والتوحيد وتنزيه الله عز وجل عمَّا لا يليقُ بشأنه الجليل والأمرُ بالعدل والإحسان وكذا في أنباء الأنبياءِ والأممِ الخالية وكذا في نزوله على النعت المذكور فيها وكذا في الشَّرائعِ التي لا تختلفُ باختلاف للأمم والأعصار ظاهرٌ لا ريبَ فيه وأمَّا في الشرائع المختلفة باختلافهما فمن حيث أن أحكام كل واحد منها واردةٌ حسبما تقتضيه الحِكمةُ التشريعيةُ بالنسبة إلى خصوصيات الأمم المكلفةِ بها مشتملةٌ على المصالح اللائقةِ بشأنهم {وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} تعيينٌ لما بين يديه وتبيينٌ لرفعة محلِّه تأكيداً لما قبله وتمهيداً لما بعده إذ بذلك يترقى شأنُ ما يصدّقه رفعةً ونباهةً ويزداد في القلوب قبولاً ومهابةً ويتفاحش حالُ من كفرَ بهما في الشناعة واستتباعِ ما سيذكر من العذاب الشديد والانتقام أي أنزلهما جملةً على مُوسى وعيسى عليهما السَّلامُ وإنما لم يُذكرا لأن الكلام في الكتابين لا فيمن أنزِلا عليه وهما اسمان أعجميانِ الأولُ عِبري والثاني سرياني ويعضُده القراءةُ بفتح همزةِ الإنجيل فإن إفعيل ليس من أبنية العربِ والتصدي لاشتقاقهما من الورى والنجْل تعسفٌ

4

{مِن قَبْلُ} متعلق بأنزل

أي أنزلهما من قبل تنزيلِ الكتاب والتصريحُ به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان {هُدًى لّلنَّاسِ} في حيز النصبِ على أنه عِلة للإنزال أي أنزلهما لهداية الناس أو على أنه حالٌ منهما أي أنزلهما حالَ كونهما هدى لهم والإفرادُ لما أنه مصدر جُعلا نفسَ الهدى مبالغةً أو حُذف منه المضاف أي ذوَيْ هدى ثم إنْ أريد هدايتهما بجميع ما فيهما من حيث هو جميعٌ فالمراد بالناس الأمم الماضية من حين نزولهما إلى زمان نسخِهما وإن أريد هدايتُهما على الإطلاق وهو الأنسبُ بالمقام فالناسُ على عمومه لما أن هدايتهما بما عد الشرائعَ المنسوخةَ من الأمور التي يصدّقهما القرآن فيها ومن جملتها البشارةُ بنزوله وبمبعث النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم تعمُّ الناس قاطبة {وَأَنزَلَ الفرقان} الفرقانُ في الأصل مصدرٌ كالغفران أُطلق على الفاعل مبالغة والمرادُ به ههنا أما جنس الكتب إلهية عُبِّر عنها بوصف شامل لما ذكر منها ومالم يُذكر على طريق التتميم بالتعميم إثرَ تخصيصِ بعضِ مشاهيرها بالذكر كما في قوله عز وجل فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً إلى قوله تعالى وفاكهة وإما نفسُ الكتبِ المذكورة أعيد ذكرها بوصف خاص لم يذكر فيما سبق على طريقة العطفِ بتكرير لفظِ الإنزال تنزيلاً للتغاير الوصفيِّ منزلةَ التغايرِ الذاتيِّ كما في قوله سبحانه وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هودا والذين آمنو مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وأما الزبورُ فإنه مشتمِلٌ على المواعظ الفارقة بين الحقِّ والباطِلِ الداعية إلى الخير والرشاد الزاجرةِ عن الشر والفساد وتقديمُ الإنجيل عليه مع تأخره عنه نزولاً لقوة مناسبته للتوراة في الاشتمال على الأحكام والشرائع وشيوع اقترانهما في الذكر وأما القُرآنُ نفسه ذكر بنعت مادحٍ له بعد ما ذكر باسم الجنس تعظيماً لشأنه ورفعاً لمكانه وقد بُين أولاً تنزيلُه التدريجيُّ إلى الأرض وثانياً إنزالُه الدفعيّ إلى السماء الدنيا أو أريد بإنزال القدْرُ المشترك العاري عن قيد التدريج وعدمِه وإما المعجزات المقرونة بغنزال الكتبِ المذكورة الفارقة بين المُحقِّ والمُبْطل {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله} وُضع موضعَ الضَّميرِ العائد إلى ما فُصل من الكتب المنزلة أو منها ومن المعجزات وآيات مضافةً إلى الاسم الجليل تعييناً لحيثية كفرِهم وتهويلاً لأمرهم وتأكيداً لاستحقاقهم العذابَ الشديد وإيذاناً بأن ذلك الاستحقاقَ لا يشترط فيه الكفرُ بالكل بل يكفي فيه الكفرُ ببعضٍ منها والمرادُ بالموصول إما أهلُ الكتابين وهو الأنسبُ بمقام المُحاجةِ معهم أو جنسُ الكفَرة وهم داخلون فيه دخولا أولياً أي إن الذين كفروا بما ذُكر من آيات الله الناطقة بالحق لاسيما بتوحيده تعالى وتنزيهِه عمَّا لا يليقُ بشأنه الجليل كلا أوبعضا مع ما بها من النعوت الموجبةِ للإيمان بها بأن كذبوا بالقرآن أصالةً وبسائر الكتُب الإلهية تبعاً لما أن تكذيبَ المصدق موجب لتكذيب ما يصدِّقُه حتماً وأصالة أيضاً بأن كذبوا بآياتها الناطقةِ بالتوحيد والتنزيه وآياتها المبشرة بنزولِ القرآن ومبعث النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وغيّروها {لَهُمْ} بسبب كفرهم بها {عَذَابِ} مرتفعٌ إما على الفاعلية من الجار والمجرور أو على الابتداء والجملة خبرُ إن والتنوينُ للتفخيم أي أيُّ عذابٌ {شَدِيدٍ} لا يقادَر قدرُه وهو وعيد جئ به إثر تقرير أمرالتوحيد الذاتي والوصفي والإشارةِ إلى ما ينطِقُ بذلك من الكتب الإلهية حملاً على القبول والإذعان وزجراً عن الكفر والعصيان {والله عَزِيزٌ} لا يغالَب يفعلُ مَا يشاءُ ويَحكمُ ما يرد {ذُو انتقام} عظيم خارجٍ عن أفراد جنسه وهو افتعال من النِقْمة وهي السطورة والتسلطُ يقال انتقم منه إذا عاقبه بجنايته والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ للوعيد

5 - 6 آل عمران ومؤكد له

5

{إِنَّ الله لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء} استئنافُ كلامٍ سيق لبيان سعةِ علمِه تعالى وإحاطتِه بجميع ما في العالم من الأشياء التي من جملتها ما صدرَ عنهُم من الكفر والفسوقِ سراً وجهراً إثرَ بيانِ كمالِ قدرتِه وعزته تربيةً لما قبله من الوعيد وتنبيهاً على أن الوقوفَ على بعض المغيبات كما كان في عيسى عليه السلام بمعزل من بلوغ رتبةِ الصفاتِ الإلهية وإنما عبر من علمه عز وجل بما ذُكر بعدم خفائِه عليهِ كما في قولِهِ سبحانه وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَىْء فَى الأرض ولا في السماء إيذاناً بأن علمَه تعالى بمعلوماته وإن كانت في أقصى الغايات الخفيةِ ليس من شأنه أن يكون على وجهُ يمكن أن يقارِنه شائبةُ خفاءٍ بوجهٍ من الوجوه كما في علوم المخلوقين بل هو في غايه الوضوحِ والجلاءِ والجملةُ المنفيةُ خبرٍ لإن وتكريرُ الإسنادِ لتقوية الحُكم وكلمةُ في متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع صفة لشيىء مؤكدة لعمومه المستفادة من وقوعه في سياق النفي أي لا يخفى عليه شيئ ما كائنٌ في الأرض ولا في السماء أعمُّ من أن يكون ذلك بطريق الاستقرار فيهما أو الجزئية منهما وقيل متعلقة بيخفى وإنما عبر بهما عن كل العالم لأنهما قُطراه وتقديمُ الأرض على السماء لإظهار الاعتناء بشأن أحوالِ أهلِها وتوسيطُ حرف النفي بينهما للدَلالة على الترقي من الأدنى إلى الأعلى باعتبار القربِ والبعدِ منا المستدعِيَين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا وقوله عز وجل

6

{هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الارحام كَيْفَ يَشَاء} جملة مستأنفةٌ ناطقةٌ ببعض أحكام قيّومَّيتِه تعالى وجَرَيانِ أحوالِ الخلق في أطوار الوجودِ حسبَ مشيئتِه المبنيةِ على الحكم البالغةِ مقرِّرةٌ لكمال علمِه مع زيادة بيانٍ لتعلقه بالأشياء قبل دخولِها تحت الوجود ضرورةَ وجوبِ علمِه تعالى بالصور المختلفة المترتبة على التصوير المترتِّب على المشيئة قبل تحقّقِها بمراتب وكلمةُ في متعلقةٌ بيصوِّركم أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ضمير المفعولِ أي يصوركم وأنتم في الأرحام مُضَغٌ وكيف معمول ليشاءُ والجملة في محل النصب على الحالية إما من فاعل يصوركم أي يصورُكم كائناً على مشيئته تعالى أي مُريداً أو من مفعولِه أي يصوركم كائنين على مشيئته تعالى تابعين لها في قَبول الأحوالِ المتغايرة من كونكم نُطفاً ثم عَلَقاً ثم مُضَغاً غيرَ مخلّقة ثم مُخلّقة وفي الاتصاف بالصفات المختلفةِ من الذكورة والأنوثة والحُسن والقُبح وغيرِ ذلكَ منَ الصفاتِ وفيه من الدلالة على بطلان زعْم من زَعَم ربوبيةَ عيسى عليه السلام وهو من جملة أبناءِ النواسيتِ المتقلّبين في هذه الأطوار على مشيئة الباري عز وجل وكمال ركاكة عقولهم مالا يخفي وقرئ تَصَوَّركم على صيغة الماضي من التفعل أي صوّركم لنفسه وعبادتِه {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} إذ لا يتصف بشيء مما ذُكر من الشئون العظيمةِ الخاصةِ بالألوهية أحدٌ ليُتَوهَّم ألوهيتُه {العزيز الحكيم} المتناهي في القدرة والحِكمة ولذلك يخلقُكم على ما ذكر من النمط البديع

7 - آل عمران

7

{هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} شروعٌ في إبطال شُبَهِهم الناشئةِ عما نَطَق به القرآن في نعت عيسى عليه السلام بطريق الاستئناف إثرَ بيان اختصاصِ الربوبية ومناطِها به سبحانه وتعالى تارةً بعد أخرى وكونِ كل مَنْ عداه مقهوراً تحت مَلَكوته تابعاً لمشيئته قيل إن وفدَ نجرانَ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألست تزعُم يا محمد أن عيسى كلمةُ الله وروح منه قال صلى الله عليه وسلم بلى قالوا فحسبُنا ذلك فنعى عليهم زيغَهم وفتنتَهم وبيّن أن الكتابَ مؤسسٌ على أصول رصينةٍ وفروعٍ مَبْنية عليها ناطقةٍ بالحق قاضيةٍ ببطلانِ ما هُم عليه من الضلال والمرادُ بالإيزال القدرُ المشتركُ المجرَّدُ عن الدِلالة على قيد التدريج وعدمِه ولامُ الكتاب للعهد وتقديم الظرف عليه لما أشير إليه فيما قبل من الاعتناءِ بشأن بشارتِه عليه السلام بتشريف الإنزال عليه ومن التشويق إلى ما أُنزل فإنَّ النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لا سيما بعد الإشعار برفعة شأنِه أو بمنفعته تبقَى مترقبةً لهُ فيتمكنُ لديها عند ورودِه عليها فضلُ تمكُّنٍ وليتصل به تقسيمه إلى قسيمه {مِنْهُ آيات} الظرفُ خبر وآياتٌ مبتدأ أو بالعكس بتأويل مر تحقيقه في قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ الآية والأولُ أوفقُ بقواعد الصناعة والثاني أدخلُ في جزالة المعنى إذ المقصودُ الأصليّ انقسامُ الكتاب إلى القسمين المعهودين لا كونُهما من الكتاب فتذكر والجملة مستأنفة أو في حيزِ النصبِ على الحاليَّةِ من الكتابِ أي هو الذي أنزل الكتابَ كائناً على هذه الحال أي منقسماً إلى مُحْكَمٍ ومتشابهٍ أو الظرفُ هو الحال وحدَه وآياتٌ مرتفعٌ به على الفاعليةِ {محكمات} صفةُ آياتٌ أي قطعيةُ الدِلالة على المعنى المراد مُحْكمةُ العبارةِ محفوظةٌ من الاحتمال والاشتباه {هُنَّ أُمُّ الكتاب} أي أصلٌ فيه وعُمدةٌ يُردُّ إليها غيرُها فالمرادُ بالكتابِ كلُّه والإضافة بمَعْنَى في كَما في واحد العشرةِ لا بمعنى اللام فإن ذلك يؤدي إلى كون الكتاب عبارةً عما عدا المحكماتِ والجملةُ إما صفة لما قبلها أو مستأنفةٌ وإنما أفرد الأم مع تعدد الآيات لما أن المراد بيانُ أصليةِ كلِّ واحدةٍ منها أو بيانُ أن الكل بمنزلة آية واحدة كما في قوله تعالى وجعلناها وابنها آية للعالمين وقيل اكتُفيَ بالمفرد عن الجمع كما في قول الشاعر ... بها جِيَفُ الحصرى فأما عظامُها ... فبِيضٌ وأما جِلْدُها فصَليبُ ... أي وأما جلودها {وأخر} لمحذوف معطوفٌ على آياتٌ أي وآياتٌ أخَرُ وهي جمع أخرى وإنما لم ينصَرِفْ لأنه وصف معدول عن الآخِر أو عن آخر من {متشابهات} صفة لأخَرُ وفي الحقيقة صفةٌ للمحذوف أي محتمِلاتٌ لمعانٍ متشابهة لا يمتاز بعضها من بعض في استحقاق الإرادة بها ولا يتضح الأمرُ إلا بالنظر الدقيق والتأملِ الأنيق فالتشابه في الحقيقة وصفٌ لتلك المعاني وُصف به الآياتُ على طريقة وصف الدالِّ بوصف المدلول وقيل لما كان من شأن الأمور المتشابهة أن يعجِزَ العقل عن التمييز بينها سُمِّي كل ما لا يهتدي إليه العقل متشابهاً وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه

كما أن المُشكِل في الأصل ما دخل في أشكاله وأمثاله ولم يُعلم بعينه ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضُه من تلك الجهة وإنما جعل ذلك كذلك ليظهر فضلُ العلماء ويزدادَ حِرصهم على الاجتهاد في تدبرها ونحصيل العلوم التي نيط بها استنباطُ ما أريد بها من الأحكام الحقة فينالوا بها وبإتعاب القرائح في استخراج مقاصدها الرائفة ومعانيها اللائقة المدارجَ العالية ويعرِّجوا بالتوفيق بينها وبين المُحْكمات من اليقين والاطمئنان إلى المعارج القاصيةِ وأما قوله عز وجل {الر كتاب أحكمت آياته} فمعناه أنها حُفِظت من اعتراء الخلل أو من النسخ أو أُيِّدت بالحُجج القاطعةِ الدالةِ على حقِّيتها أو جُعلت حكيمةً لانطوائها على جلائل الحِكَم البالغةِ ودقائقِها وقوله تعالى كتابا متشابها مَّثَانِيَ معناه متشابهُ الأجزاء أي يشبه بعضُها بعضاً في صحة المعنى وجزالةِ النظم وحقية المدلول {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي ميلٌ عن الحق إلى الأهواء الباطلة قال الراغبُ الزيغُ الميلُ عن الاستقامة إلى أحد الجانبين وفي جعل قلوبهم مقراً للزيغ مبالغةٌ في عدولهم عن سَنن الرشاد وإصرارِهم على الشر والفساد {فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ} مُعْرضين عن المُحْكمات أي يتعلقون بظاهر المتشابه من الكتاب أو بتأويل باطلٍ لا تحرِّياً للحق بعد الإيمان بكونه من عند الله تعالى بل {ابتغاء الفتنة} أي طلبَ أن يفتِنوا الناسَ عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضةِ المُحكم بالمتشابه كما نُقل عن الوفد {وابتغاء تَأْوِيلِهِ} أي وطلب أن يؤلوه حسبما يشتهونه من التأويلات الزائغةِ والحال أنهم بمعزل من تلك الرتبة وذلك قوله عز وجل {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون فِي العلم} فإنه حالٌ من ضمير فَيَتَّبِعُونَ باعتبار العلة الأخيرة أي يتّبعون المتشابهِ لابتغاء تأويلِه والحالُ أنه مخصوصٌ به تعالى وبمن وفّقه له من عباده الراسخين في العلم أي الذين ثبَتوا وتمكّنوا فيه ولم يتزلزلوا في مزال الأقدام في تعليل الاتّباعِ بابتغاء تأويلِه دون نفسِ تأويلِه وتجريدِ التأويل عن الوصف بالصحة أو الحقية إيذانٌ بأنهم ليسوا من التأويل في شئ وأن ما يبتغونه ليس بتأويل أصلاً لا أنه تأويلٌ غيرُ صحيح قد يُعذر صاحبه ومن وقف على إِلاَّ الله فسّر المتشابهَ بما استأثر الله عز وعلا بعلمه كمدة بقاءِ الدنيا ووقتِ قيام الساعة وخواصِّ الأعداد كعدد الزبانية أو بما دل القاطعُ على عدم إرادة ظاهرِه ولم يدل على ما هو المراد به {يقولون آمنا بِهِ} أي بالمتشابه وعدمُ التعرُّض لإيمانهم بالمُحْكم لظهوره أو بالكتاب والجملة على الأول استئنافٌ موضِّحٌ لحال الراسخين أو حال منه وعلى الثاني خبر لقوله تعالى والراسخون وقوله تعالى {كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} من تمام المَقول مقرِّر لما قبله ومؤكِّد له أي كلُّ واحدٍ منه ومن المحكم أو كلُّ واحد من متشابهه ومحكَمِه منزلٌ من عنده تعالى لا مخالفةَ بينهما أو آمنا به وبحقيته على مراده تعالى {وَمَا يَذَّكَّرُ} حقَّ التذكر {إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} أي العقولِ الخالصةِ عن الركون إلى الأهواء الزائغةِ وهو تذييلٌ سيق من جهته تعالى مدحاً للراسخين بجَوْدة الذهن وحسنِ النظر وإشارةٌ إلى ما به استعدوا للاهتداء إلى تأويله من تجرد العقلِ عن غواشي الحِسِّ وتعلقُ الآيةِ الكريمة بما قبلها من حيث إنها جوابٌ عما تشبّث به النصارى من نحو قوله تعالى وَكَلِمَتُهُ ألقاها إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مّنْهُ على وجه الإجمال وسيجئ الجوابُ المفصل بقوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كمثل آدم خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ

8 - 9 آل عمران

8

{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} من تمام مقالةِ الراسِخين أي لا تُزِغْ قلوبَنا عن نهج الحقِّ إلى اتباع المتشابهِ بتأويلٍ لا ترتضيه قال صلى الله عليه وسلم قلبُ ابن آدمَ بين أصْبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه على الحقّ وإن شاء أزاغه عنه وقيل معناه لا تَبْلُنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} أي إلى الحق والتأويل الصحيح أو إلى الإيمان بالقسمين وبعد نُصبَ بلا تزِغ على الظرف وإذْ في محل الجر بإضافته إليه خارجٌ من الظرفية أي بعد وقت هدايتِك إيانا وقيل إنه بمعنى أنْ {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ} كلا الجارّين متعلق بهَبْ وتقديم الأول لما مر مراراً ويجوز تعلّقُ الثاني بمحذوف هو حالٌ من المفعول أي كائنة من لدنك ومن لابتداء الغاية المجازية ولدُنْ في الأصل ظرفٌ بمعنى أولُ غايةِ زمانٍ أو مكان أو غيرِهما من الذوات نحوُ من لدُنْ زيدٍ وليست مرادفةً لعند إذ قد تكون فضلة وكذا لدى وبعضُهم يخُصُّها بظرف المكان وتضاف إلى صريح الزمان كما في قوله ... تنتفضُ الرّعدةُ في ظُهَيْري ... من لدنِ الظُهرِ إلى العُصَيرِ ... ولا تُقطع عن الإضافة بحال وأكثرُ ما تضاف إلى المفردات وقد تضاف إلى أنْ وصلتِها كما في قوله ... ولم تقْطعَ اصلاً من لدنْ أنْ ولِيتَنا ... قرابةَ ذي رَحْمٍ ولا حقَّ مسلمِ ... أي من لدن ولايتِك إيانا وقد تضاف إلى الجملة الاسميةِ كما في قوله ... تَذَكَّرُ نُعماه لدُنْ أنت يافعُ ... وإلى الجملة الفعلية أيضاً كَما في قولِه ... لزمنا لدن سالتمونا وفاتكم ... فلا يكُ منكم للخِلاف جُنوحُ ... وقلما تخلو عن من كما في البيتين الأخيرين {رَحْمَةً} واسعةً تُزلِفُنا إليك ونفور بها عندك أو توفيقاً للثبات على الحق وتأخيرُ المفعول الصريح عن الجارّين لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً لوروده لاسيما عند الإشعارِ بكونه من المنافعِ باللام فإذا أورده يتمكن عندها فضلُ تمكّنٍ {إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} تعليلٌ للسؤال أو لإعطاء المسئول وأنت إما مبتدأٌ أو فصلٌ أو تأكيدٌ لاسم إنّ وإطلاقُ الوهاب ليتناول كلَّ موهوب وفيه دِلالة على أن الهدى والضلال من قِبله تعالى وأنه متفضّلٌ بما يُنعم به على عباده من غير أن يجب عليه شئ

9

{رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس ليوم} أي الحساب يوم او الجزاء يوم حُذف المضاف وأقيم مُقامه المضافُ إليه تهويلاً له وتفظيعاً لما يقع فيه {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في وقوعه ووقوعِ ما فيه من الحشر والحسابِ والجزاء ومقصودُهم بهذا عرضُ كمالِ افتقارِهم إلى الرحمة وأنها المقصِدُ الأسنى عندهم والتأكيدُ لإظهار ما هم عليه من كمال الطمأنينةِ وقوة اليقينِ بأحوال الآخرة {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} تعليلٌ لمضمون الجملة المؤكدةِ أو لانتفاء الريب والتأكيد لما مر وإظهارُ الاسمِ الجليل مع الالتفات لإبراز كمالِ التعظيم والإجلال الناشئ من ذكر اليوم المَهيب الهائل بخلاف ما في آخرِ السُّورةِ الكريمة فإنه مقامُ طلب الإنعام كما سيأتي وللإشعار بعلة الحُكم فإن الألوهيةَ منافيةٌ للإخلاف وقد جُوِّز أن تكون الجملةُ مَسوقةً من جهته تعالى لتقرير قولِ الراسخين والميعادُ مصدرٌ كالميقات واستُدل به الوعيديه

10 - 11 آل عمران وأجيب بأن وعيدَ الفساقِ مشروطٌ بعدم العفو بدلائلَ مفصلةٍ كما هو مشروط بعدم التوبة وِفاقاٌ

10

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} إثرَ ما بين الدينَ الحقَّ والتوحيد وذكر أحوالَ الكتب الناطقةِ به وشرح شأن القرآنِ العظيم وكيفيةِ إيمانِ العلماء الراسخين به شَرَع في بيان حال مَنْ كفر به والمرادُ بالموصول جنسُ الكفرة الشاملُ لجميع الأصناف وقيل وفدُ نجرانَ أو اليهودُ من قريظةَ والنضِير أو مشركو العرب {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ} أي لن تنفعهم وقرئ بالتذكير وبسكون الياء جِدّاً في استثقال الحركة على حروف اللين {أموالهم} التي يبذُلونها في جلبِ المنافعِ ودفعِ المضارِّ {وَلاَ أولادهم} الذين بهم ينتصرون في الأمور المُهمة وعليهم يعوّلون في الخطوب المُلمة وتأخيرُ الأولاد عن الأموال مع توسيط حرف النفي بينهما إما لعراقة الأولادِ في كشف الكروب أو لأن الأموال أولُ عُدّة يُفزع إليها عند نزول الخطوب {مِنَ الله} من عذابه تعالى {شَيْئاً} أي شيئاً من الإغنياء وقيل كلمة من بمعنى البدل والمعنى بدلَ رحمةِ الله أو بدلَ طاعته كما في قوله تعالى إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا أي بدل الحق ومنه قوله ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدُّ أي لا ينفعه جَدُّه بدلك أي بدلَ رحمتك كما في قوله تعالى وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى وأنت خبير بأن احتمال سدِّ أموالِهم وأولادهم مسدَّ رحمة الله تعالى أو طاعته مما لا يخطُر ببال أحد حتى يُتصدَّى لنفيه والأولُ الأليقُ بتفظيع حال الكفرة وتهويل أمرهم والأنسبُ بما بعدَهُ من قولِه تعالى {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار} ومن قوله تعالى فَأَخَذَهُمُ الله أي أولئك المتّصفون بالكفر حطبُ النار وحصَبُها الذي تُسعّر به فإن أريد بيانُ حالِهم عند التسعير فإيثارُ الجملةِ الاسمية للدِلالة على تحقق الأمر وتقرّره وإلا فهو للإيذان بأن حقيقة حالِهم ذلك وأن أحوالهم الظاهرةَ بمنزلة العدم فَهُمُ حالَ كونهم فِى الدنيا وَقودُ النار بأعيانهم وفيه من الدلالة على كمال ملابستهم بالنار مالا يخفى وهم يحتمل الابتداءَ وأن يكون ضمير الفصل والجملة وإما مستأنفة مقررة لعدم الإغنياء أو معطوفة على خبر إن وأيا ما كان ففيها تعيينٌ للعذاب الذي بيّن أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم منه شيئا وقرئ وُقود النار بضم الواو وهو مصدر أي أهلُ وقودها

11

{كدأب آل فِرْعَوْنَ} الدأبُ مصدرُ دأَبَ في العمل إذا كدح فيه وتعِب غلب استعمالُه في معنى الشأن والحال والعادة ومحلُّ الكاف الرفعُ على أنه خبر لمبتدأ محذوف وقد جوز لنصب بلن تغني أو بالوَقود أي لن تغني عنهم كما لم تغنِ عن أولئك أو توقد بهم النارُ كما توقد بهم وأنتَ خبيرٌ بأنَّ المذكورَ في تفسير الدأب إنما هو التكذيبُ والأخذ من غير تعرُّض لعدم الإغناء لاسيما على تقدير كونِ مِنْ بمعنى البدل كما هو رأيُ المجوِّز ولا لإيقاد النار فيُحمل على التعليل وهو خلاف

12 - آل عمران الظاهر على أنه يلزَمُ الفصل بين العامل والمعمول بالأجنبي على تقدير النصب بلن تغني وهو قوله تعالى وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار إلا أن يُجعل استئنافاً معطوفاً على خبر إن فالوجهُ هو الرفعُ على الخبريةِ أيِ دأبُ هؤلاءِ في الكفر وعدمِ النجاة من أخْذِ الله تعالى وعذابه كدأب آلِ فِرْعَوْنَ {والذين مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبل آلِ فرعونَ من الأمم الكافرة فالموصولُ في محل الجر عطفاً على ما قبله وقوله تعالى {كذبوا بآياتنا} بيانٌ وتفسير لدأبهم الذي فعلوا على طريق الاستئنافِ المبنيِّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ كيف كان دأبهم فقيل كذبوا بآياتنا وقوله تعالى {فَأَخَذَهُمُ الله} تفسيرٌ لدأبهم الذي فُعل بهم أي فأخذهم الله وعاقبهم ولم يجدوا من بأس الله تعالى محيصاً فدأبُ هؤلاء الكفرةِ أيضاً كدأبهم وقيل كذبوا الخ حالٌ من آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ على إضمار قد أي دأبُ هؤلاء كدأب أولئك وقد كذبوا الخ وأما كونه خبر عن الموصول كما قيل فمما يذهب برونق النطم الكريم والالتفاتُ إلى التكلم أولاً للجَريِ على سَنَنِ الكبرياءِ وإلى الغَيبة ثانياً بإظهار الجلالة لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة {بِذُنُوبِهِمْ} إن أريد بها تكذيبُهم بالآيات فالباء للسببية جئ بها تأكيداً لما تفيده الفاء من سببية ما قبلَها لما بعدَها وإن أريد بها سائرُ ذنوبهم فالباء للملابسة جيء بها للدِّلالةِ على أن لهم ذنوبا أخر أي فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غيرَ تائبين عنها كما في قوله تعالى وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون والذنب في الأصل التِلْوُ والتابع وسمي الجريمةُ ذنباً لأنها تتلو أي تتبع عقابُها فاعلَها {والله شَدِيدُ العقاب} تذييلٌ مقرِّر لمضمونِ ما قبله من الأخذ وتكملةٌ له

12

{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} المرادُ بهم اليهودُ لما رويَ عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ يهودَ المدينة لما شاهدوا غلبةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على المشركين يومَ بدرٍ قالوا والله إنه النبيُّ الأميُّ الذي بشرنا به موسى وفي التوراة نعتُه وهموا باتباعه فقال بعضُهم لا تعجَلوا حتى ننظر إلى واقعة له أخرى فلما كان يومُ أحُد شكّوا وقد كان بينهم وبين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ إلى مدة فنقضوه وانطلق كعبُ بن الأشرفِ في ستين راكباً إلى أهل مكة فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت وعن سعيد بن جبير وعكرمة وعن ابن عباس رضي الله عنهم أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لما أصاب قريشاً ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهودَ في سوق بني قَينُقاع فحذّرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش فقالوا لا يغرَّنك أنك لقِيت قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبْتَ منهم فرصة لئن قاتلْتَنا لعلِمْتَ أنا نحنُ الناسُ فنزلت أي قل لهم {سَتُغْلَبُونَ} اْلبتةَ عن قريب في الدنيا وقد صدق الله عز وجل وعدَه بقتل بني قريظة وإجلاءِ بني النضِير وفتح خيبر وضربِ الجزية على مَنْ عداهم وهو من أوضح شواهد النبوة وأمَّا ما رُوِيَ عن مقاتل من أنها نزلت قبل بدر وأن الموصول عبارة عن مشركي مكةَ ولذلك قال لهم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يوم بدر إنَّ الله غالبُكم وحاشرُكم إلى جهنم وبئس المهاد فيؤدي إلى انقطاع الآية الكريمة عما بعدها لنزوله بعد وقعة بدر {وَتُحْشَرُونَ} أي في الآخرة {إلى جهنم} وقرئ الفعلان بالياء على أنه عليهِ السلامُ أُمر بأنْ يحكي لهم ماأخبر الله تعالى به من وعيدهم بعبارته كأنه قيل أدِّ إليهم هذا القول {وَبِئْسَ المهاد} إما من تمامِ ما يُقالُ لهم أو استئنافٌ لتهويل جهنم وتفظيع حالِ أهلها والمخصوصُ بالذم

13 - آل عمران محذوف أي وبئس المهاد جهنمُّ أو ما مَهَدوه لأنفسهم

13

6 - {قَدْ كَانَ لَكُمْ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ وهو من تمام القولِ المأمورِ به جيء به لتقرير مضمونِ ما قبله وتحقيقِه والخطابُ لليهود أيضاً والظرف خبر كان على أنها ناقصة ولتوسطه بينها وبين اسمها ترك التأنيت كما في قوله ... أنْ أمراً غرّه منكن واحدة ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرورُ ... على أن التأنيث ههنا غير حقيقي أو هو متعلق بكان على أنها تامة وإنما قدم على فاعلها لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أُخّر أي والله قد كان لكم أيها المغترون بعددهم وعددهم {آيةً} عظيمةً دالَّةً على صدق ما أقول لكم إنكم ستُغلبون {فِي فِئَتَيْنِ} أي فرقتين أو جماعتين فإن المغلوبة منهما كانت مدلة بكثرتها معجبة بعزتها وقد لقِيَها ما لقيها فسيصيبُكم ما يصيبكم ومحلُ الظرفِ الرفعُ على أنَّه صفةٌ لآيةٌ وقيل النصب على خبرية كان والظرف الأول متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من آية {التقتا} في حيِّز الجرِّ على أنه صفة فئتين أي تلاقتا بالقتال يوم بدر {فِئَةٌ} بالرفع خبرُ مبتدإٍ محذوف أي إحداهما فئة كما في قوله ... إذَا متّ كان الناسُ حزبين شامت ... وآخَرُ مُثنٍ بالذي كنت أصنعُ ... أي أحدهما شامت والآخر مثنٍ وقولِه ... حتى إذا ما استقلّ النجمُ في غلَس ... وغودر البقلُ ملويٌّ ومحصودُ ... والجملةُ مع ما عطف عليها مستأنفةٌ لتقرير ما في الفئتين من الآية وقوله تعالى {تقاتل فِى سَبِيلِ الله} في محلِ الرفعِ على أنَّه صفة فئة كاملة كأنه قيل فئة مؤمنة ولكن ذُكر مكانه من أحكام الإيمان ما يليقُ بالمقام مدحاً لهم واعتداداً بقتالهم وإيذاناً بأنه المدارُ في تحقق الآية وهي رؤية القليل كثيرا وقرئ يقاتل على تأول الفئة بالقوم أو الفريق {وأخرى} نعت لمبتدأ محذوف معطوف على ما حذف من الجملة الأولى أي وفئة أخرى وإنما نكرت والقياس تعريفها كقرينتها لوضوح أن التفريق لنفس المثنى المقدم ذكره وعدم الحاجة إلى التعريف وقوله تعالى {كَافِرَةٌ} خبرُ المبتدأ المحذوف وإنما لم توصف هذه الفئة بما يقابل صفة الفئة الأولى إسقاطاً لقتالهم عن درجة الاعتبار وإيذاناً بأنهم لم يتصدَّوْا للقتال لما اعتراهم من الرعب والهيبة وقيل كلٌّ من المتعاطِفَين بدلٌ من الضمير في التقتا وما بعدهما صفة فلا بد من ضمير محذوفٍ عائدٍ إلى المبدل منه مسوِّغٍ لوصف البدل بالجملة العارية عن ضميره أي فئةٌ منهما تقاتل الخ وفئة أخرى كافرة ويجوز أن يكون كلٌّ منهما مبتدأً وما بعدهما خبرا أي فئةٌ منهما تقاتل الخ وفئة أخرى كافرة وقيل كل منهما مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أيْ منهما فئة تقاتل الخ وقرئ فئةٍ بالجر على البدلية من فئتين بدلَ بعض من كل وقد مر أنه لا بد من ضمير عائد إلى المبدل منه ويسمى بدلاً تفصيلياً كما في قول كثير عزة ... وكنت كذي رِجلين رِجلٍ صحيحة ... ورجلٍ رمى فيها الزمان فشلت ... وقرئ فئة الخ بالنَّصبِ على المدحِ أو الذم أو على الحالية من ضمير التقتا كأنه قيل التقتا مؤمنةً وكافرةً فيكون فئة وأخرى توطئةً لما هو الحال حقيقة إذ المقصودُ بالذكر وصْفاهما كما في قولك جاءني زيدٌ رَجُلاً صالِحاً {يَرَوْنَهُمْ} أي يري الفئةُ الأخيرةُ الفئةُ الأولى وإيثارُ

صيغة الجمعِ للدلالة على شمول الرؤيةِ لكل واحدٍ واحدٍ من آحاد الفئة والجملةُ في محلِ الرفعِ على أنها صفةٌ للفئة الأخيرة أو مستأنفة مبيّنةٌ لكيفية الآية {مّثْلَيْهِمْ} أي مثلي عدد الرائين قريبا من ألفين إذ كانوا قريباً من ألف كانوا تسعمائةٍ وخمسين مقاتلاً رأسَهم عُتْبةُ بنُ ربيعةَ بنِ عَبْد شَمْس وفيهم أبو سفيانَ وأبو جهلٍ وكان فيهم من الخيل والإبل مائةُ فرسٍ وسبعُمائة بعير ومن أصناف الأسلحة عددٌ لا يحصى عن محمد بن أبي الفرات عن سعد بن أوس أنه قال أسرَ المشركون رجلاً من المسلمين فسألوه كم كنتم قال ثلثُمائةٍ وبضعةَ عشرَ قالوا ما كنا نراكم إلا تُضعِفون علينا أو مثلي عددِ المرئيّين أي ستَّمائةٍ ونيفاً وعشرين حيث كانوا ثلثمائة وثلاثةَ عشرَ رجلاً سبعةٌ وسبعون رجلاً من المهاجرين وما ئتان وستة وثلاثون من الأنصار رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين وكان صاحبَ رايةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه وصاحبَ راية الأنصار سعدُ بن عبادة الخزرجي وكان في العسكر تسعون بعيراً وفَرَسان أحدُهما للمِقداد بن عَمْرو والآخر لمَرْثَد بن أبي مَرْثَد وستُّ أدرع وثمانيةُ سيوف وجميع منِ استُشهد يومئذٍ من المسلمين أربعةَ عشرَ رجلاً ستةٌ من المهاجرين وثمانية من الأنصار رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين أراهم الله عز وجل كذلك مع قِلتهم ليَهابوهم ويَجبُنوا عن قتالهم مدداً لهم منه سبحانه كما أمدهم بالملائكة عليهم السلام وكان ذلك عند التقاء الفئتين بعد أن قلَّلَهم في أعينهم عند ترائيهما ليجترئوا عليهم ولا يهرُبوا من أول الأمر حين ينجيهم الهرب وقيل يري الفئةُ الأولى الفئةُ الأخيرةَ مثليْ أنفسِهم مع كونهم ثلاثةَ أمثالِهم ليثبُتوا ويطمئنوا بالنصر الموعودِ في قولِهِ تعالَى فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صابرة يغلبوا ما ئتين والأولُ هو الأولى لأن رؤية المثلين غير المتعينة من جانب المؤمنين بل قد وقعت رؤيةُ المثل بل أقلَّ منه أيضاً فإنه روي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال قد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يُضعِفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً ثم قلّلهم الله تعالى أيضاً في أعينهم حتى رأتهم عدداً يسيراً أقلَّ من أنفسهم قال ابن مسعود رضي الله عنه لقد قُلِّلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين قال أراهم مائة فأسرنا منهم رجلاً فقلنا كم كنتم قال ألفاً فلو أريد رؤية المؤمنين المشركين أقلَّ من عددهم في نفس الأمر كما في سورة الأنفال لكانت رؤيتُهم إياهم أقلَّ من أنفسهم أحقَّ بالذكر في كونها آيةً من رؤيتهم مِثلَيهم على أن إبانةَ آثارِ قُدرةِ الله تعالى وحكمتِه للكفرة بإراءتهم القليلَ كثيراً والضعيفَ قوياً وإلقاءِ الرعب في قلوبهم بسبب ذلك أدخلُ في كونِها آيةً لهم وحجةً عليهم وأقربَ إلى اعتراف المخاطبين بذلك لكثرة مخالطتِهم الكفرةَ المشاهدين للحال وكذا تعلقُ الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول فجعلُ أقربِ المذكورَين السابقَين فاعلاً وأبعدِهما مفعولاً سواءٌ جعلُ الجملة صفةً أو مستأنفة أولى من العكس هذا ما تقتضيه جزالةُ التنزيلِ على قراءة الجُمهور ولا ينبغي جعلُ الخطاب لمشركي مكة كما قيل أما إن جُعل الوعيد عبارةً عن هزيمة بدر كما صرحوا به فظاهر لا سِترةَ به وأما إن جُعل عبارةً عن هزيمة أخرى فلأن الفئةَ التي شاهدت تلك الآيةَ الهائلة هم المخاطبون حينئذ فالتعبير عنهم بفئة مُبهمةٍ تارة وموصوفةٍ أخرى ثم إسنادُ المشاهدة إليها مع كون إسنادها إلى المخاطبين أوقعُ في إلزام الحجة وأدخلُ في التبكيت مما لاَ دَاعيَ إليهِ وبهذا يتبين حال جعلِ الخطابِ الثاني للمؤمنين وأما قراءة ترونهم بتاء

14 - آل عمران الخطاب فظاهرُها وإن اقتضى توجيهَ الخطابِ الثاني إلى المشركين لكنه ليس بنص في ذلك لأنه وإن اندفع به المحذورُ الأخيرُ فالأولُ باقٍ بحاله فلعل رؤية المشركين نزلت منزلةَ رؤيةِ اليهود لما بينهم من الاتحاد في الكفر والأتفاق في الكلمة لاسيما بعد ما وقع بينهم بواسطة كعب بن الأشرف من العهد والميثاق فأُسندت الرؤيةُ إليهم مبالغةً في البيان وتحقيقاً لعُروض مثلِ تلك الحالة لهم فتدبر وقيل المرادُ جميعُ الكفرة ولا ريب في صحته وسداده وقرئ يُرَونهم وتُرَونهم على البناءِ للمفعولِ من الأرادة أي يُريهم أو يريكم الله تعالى كذلك {رَأْىَ العين} مصدر مؤكدٌ ليَرَوْنهم إن كانت الرؤية بصريةً أو مصدر تشبيهيّ إن كانت قلبية أي رؤيةً ظاهرة مكشوفةً جارية مجرى رؤية العين {والله يُؤَيّدُ} أي يقوي {بِنَصْرِهِ مَن يشاء} أن يؤيده من غير توسيط الأسباب العادية كما أيد الفئةَ المقاتلة في سبيله بما ذكر من النصر وهو من تمام القولِ المأمورِ به {إِنَّ فِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذكر من رؤية القليل كثيراً المستتبعةِ لغَلَبة القليل العديمِ العُدة على الكثير الشاكي السلاحِ وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلةِ المُشارِ إليه في الفضلِ {لَعِبْرَةً} العبرة فِعلة من العبور كالرِّكبة من الركوب والجِلْسة من الجلوس والمرادُ بها الاتعاظ فإنه نوعٌ من العبور أي لعبرةً عظيمة كائنة {لاِوْلِى الابصار} لذوي العقولِ والبصائر وقيل لمن أبصرهم وهُو إمَّا من تمامِ الكلام الداخلِ تحت القول مقرِّر لما قبله بطريق التذييل وإما واردٌ من جهته تعالى تصديقاً لمقالته عليه الصلاة والسلام

14

{زُيّنَ لِلنَّاسِ} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان حقارةِ شأن الحظوظ الدنيوية بأصنافها وتزهيدٌ للناس فيها وتوجيه رغباتهم إلى ما عنده تعالى إثرَ بيانِ عدم نفعِها للكفرة الذين كانوا يتعزّزون بها والمرادُ بالناس الجنس {حُبُّ الشهوات} الشهوة نزوعُ النفس إلى ما تريده والمراد ههنا المشتهَيات عبّر عنها بالشهوات مبالغة في كونِها مشتهاةً مرغوباً فيها كأنها نفسُ الشهوات أو أيذانا بانهما كهم في حبها بحيث أحبوا شهواتِها كما في قوله تعالى {إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير} أو استرذالاً لها فإن الشهوة مسترذَلةٌ مذمومة من صفات البهائم والمزيِّنُ هو الباري سبحانه وتعالى إذ هو الخالقُ لجميع الأفعال والدواعي والحكمةُ في ذلك ابتلاؤهم قال تعالى إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الارض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ الآية فإنها ذريعة لنيل سعادة الدارين عند كونِ تعاطيها على نهج الشريعةِ الشريفة وسيلة إلى بقاء النوع وإيثارُ صيغةِ المبنيِّ للمفعولِ للجَريِ على سنَنِ الكبرياءِ وقرئ على البناء للفاعل وقيل المزيِّنُ هو الشيطان لما أن مساقَ الآية الكريمة على ذمها وفرّق الجبائيّ بين المباحات فأسند تزيينها إليه تعالى وبين المحرمات فنسب تزيينها إلى الشيطان {مِنَ النساء والبنين} في محل النصب على أنه حال من الشهوات وهي مفسِّرة لها في المعنى وقيل مِنْ لبيان الجنس وتقديمُ النساء على البنين لعراقتهن في معنى الشهوة فإنهن حبائلُ الشيطان وعدم التعرض للبنات لعدم الاطّراد في حبهن {والقناطير المقنطرة} جمعُ قِنطار وهو المالُ الكثير وقيل مائةُ ألفِ دينار وقيل ملءُ مَسْكِ ثور وقيل

15 - آل عمران سبعون ألفاً وقيل أربعون ألفَ مثقالٍ وقيل ثمانون ألفاً وقيل مائةُ رِطل وقيل ألفٌ ومِائتَا مثقالٍ وقيل ألفا دينار وقيل مائة من ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم وقيل ديةُ النفس واختلف في أن وزنه فعلال أو فنعال ولفظ المقنطرة مأخود منه للتأكيد كقولهم بَدْرةٌ مُبدَرة وقيل المقنطرة المحْكمة المحْصنة وقيل الكثيرة المُنضّدة بعضُها على بعض أو المدفونه وقيل المضروبة المنقوشة {مِنَ الذهب والفضة} بيان للقناطير أو حال {والخيل} عطف على القناطير قيل هي جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط الواحد فرس وقيل واحدُه خائل وهو مشتق من الخُيلاء {المسومة} أي المُعْلمة منَ السُّومةِ وهيَ العلامةُ أو المرْعيّة من أسام الدابة وسوَّمها إذا أرسلها وسيَّبها للرعي أو المُطَهّمة التامةُ الخَلقْ {والانعام} أي الإبل والبقر والغنم {والحرث} أي الزرع مصدر بمعنى المفعول {ذلك} أي ما ذكر من الأشياء المعهودة {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} أيْ ما يتمتعُ بهِ في الحياةِ الدنيا أياماً قلائلَ فتفنى سريعاً {والله عِندَهُ حُسْنُ المأب} حسنُ المرجِع وفيه دلالةٌ على أن ليس فيما عُدّد عاقبةٌ حميدة وفي تكرير الإسناد بجعل الجلالة مبتدأ وإسنادِ الجملة الظرفية إليه زيادةُ تأكيدٍ وتفخيم ومزيدُ اعتناء بالترغيب فيما عند الله عز وجل من النعم المقيم والتزهيدُ في ملاذّ الدنيا وطيباتها الفانية

15

{قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} إثرَ ما بيّن شأنَ مُزخْرَفات الدنيا وذكر ما عنده تعالى من حسن المآب إجمالاً أمر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بتفاصيل ذلك المُجمل للناس مبالغةً في الترغيب والخطابُ للجميع والهمزةُ للتقرير أي أأخبرُكم بما هو خير مما فُصّل من تلك المستلذات المزينة لكم وإبهام الخير لتفخيم شأنِه والتشويق إليه وقوله تعالى {لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات} استئنافٌ مبين لذلك المبْهم على أن جنات مبتدأ والجارّ والمجرور خبر أو على أن جناتٌ مرتفعٌ به على الفاعليةِ عند من لايشترط في ذلك اعتمادَ الجار على ما فصل في محله والمراد بالتقوى هو التبتُل إلى الله تعالى والإعراضُ عما سواه على ما تنبىء عنه النعوتُ الآتيةُ وتعليقُ حصولِ الجنات وما بعدها من فنون الخيراتِ به للترغيب في تحصيله والثبات عليه وعند نصب على الحالية من جنات أو متعلقٌ بما تعلقَ بهِ الجارِّ من معنى الاستقرارِ مفيد لكمال علو رتبة الجنات وسمو طبقتها والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير المتقين لإظهار مزيد اللطفِ بهم وقيل اللامُ متعلقة بخير وكذا الظرفُ وجنات خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ مبينة لخير ويؤيده قراءة جناتٍ بالجر على البدلية من خير ولا يخفى أن تعليق الإخبار والبيان بما هو خير لطائفة رُبَّما يُوهم أنَّ هناك خيراً آخرَ لآخَرين {تَجْرِى} في محل الرفع والجر صفةٌ لجنات على حسب القراءتين {مِن تَحْتِهَا الانهار} متعلق بتجري فإن أريد بالجنات نفسُ الأشجار كما هو الظاهر فجريانُها من تحتها ظاهرٌ وإنْ أُريدَ بها مجموعُ الأرضِ والأشجار فهو باعتبار جزئها الظاهر كما مر تفصيلُه مراراً {خالدين فِيهَا} حالٌ مقدرةٌ من المستكن في لِلَّذِينَ والعاملُ ما فيه من معنى الاستقرار {وأزواج مُّطَهَّرَةٌ} عطفٌ على جناتٍ أي مبرأة مما يستقذر من النساء من

16 - 17 18 آل عمران الأحوال البدنية والطبيعية {وَرِضْوَانٍ} التنوينُ للتفخيم وقولُه تعالى {مِنَ الله} متعلق بمحذوف وقع صفة له مؤكدة لما أفادَه التنوينُ من الفخامة أيْ رضوانٌ وأيُّ رضوان لايقادر قدره كائن من الله عز وجل وقرئ بضم الراء {والله بَصِيرٌ بالعباد} وبأعمالهم فيثيبُ ويعاقب حسبما يليق بها أو بصير بأحوال الذين اتقَوْا ولذلك أعد لهم ما ذكر وفيه إشعار بأنهم المستحقون للتسمية باسم العبد

16

{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمنا} في محلِ الرفعِ على أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل مَنْ أولئك المتقون الفائزون بهذه الكرامات السنية فقيل هم الذين الخ أو النصبِ على المدحِ أو الجرُّ عَلى أنَّه تابعٌ للمتقين نعتاً أو بدلاً أو للعباد كذلك والأول أظهر وقوله تعالى {والله بَصِيرٌ بالعباد} حينئذ معترضةٌ وتأكيد الجملة لإظهار أن إيمانهم ناشئ من وفور الرغبة وكمال النشاط وفي ترتيب الدعاء بقولهم {فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النار} على مجرد الإيمان دَلالةٌ على كفايته في استحقاق المغفرة والوقاية من النار

17

{الصابرين} هو على تقدير كون الموصول في محل الرفع منصوبٌ على المدح بإضمار أعنى وأما تقدير كونه في محل النصبِ أو الجر فهو نعت له والمراد بالصبر هو الصبر على مشاقّ الطاعات وعلى البأساء والضراء وحين البأس {والصادقين} في أقوالهم ونياتهم وعزائمِهم {والقانتين} المداومين على الطاعات المواظبين على العبادات {والمنفقين} أموالهم في سبيلِ الله تعالى {والمستغفرين بالاسحار} قال مجاهد وقتادة والكلبي أي المصلين بالأسحار وعن زيد بن أسلَمَ هم الذين يصلون الصبحَ في جماعة وقال الحسن مدُّوا الصلاة إلى السحر ثم استغفروا وقال نافع كان ابن عمرَ رضي الله عنه يحيي الليلة ثم يقول يا نافع أسْحَرْنا فأقول لا فيعاود الصلاة فإذا قلت نعم قعد يستغفر الله ويدعو حتى يصبح وعن الحسن كانوا يصلون في أول الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار وتخصيصُ الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقربُ إلى الإجابة إذ العبادة حينئذ أشق والنفسُ أصفى والروح أجمعُ لاسيما للمجتهدين وتوسيط الواو بين الصفات المعدودة للدلالة على استقلالِ كلِّ منها وكما لهم فيها أو لتغايُر الموصوفين بها

18

{شَهِدَ الله أَنَّهُ} بفتح الهمزة أي بأنه أو على أَنَّهُ {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أي بيّنَ وحدانيتَه بنصب الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس وإنزالِ الآيات التشريعية الناطقة بذلك عبر عنه بالشهادة على طريقة الاستعارة إيذاناً بقوته في إثبات المطلوبِ وإشعاراً بإنكار المنكر وقرئ إنه بكسر الهمزة إما بإجراء شَهِدَ مُجرى قال وإما بجعل الجملة اعتراضاً وإيقاعِ الفعل على قوله تعالى إِنَّ الدّينَ الخ على قراءة أن بفتح الهمزة كما سيأتى وقرئ شهداءٌ لله بالنصب على أنه

حال من المذكورين أو على المدح وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ومآله الرفع على المدح أي هم شهداء لله وهو إما جمع شهيد كظرفاء في جمع ظريف أو جمع شاهد كشعراء في جمع شاعر {والملائكة} عطف على الاسم الجليل بحمل الشهادة على معنىً مجازيّ شامل للإقرار والإيمان بطريق عموم المجاز أي أقروا بذلك {وَأُوْلُو العلم} أي آمنوا به واحتجوا عليه بما ذكر من الأدلة التكوينية والتشريعية قيل المراد بهم الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيلَ المهاجرون والأنصار وقيل علماء مؤمني أهلِ الكتابِ كعبدِ اللَّه بن سلام وأضرابِه وقيل جميعُ علماء المؤمنين الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل القاطعة وارتفاعُهما على القراءتين الأخيرتين قيل بالعطف على الضمير في شهداء لوقوع الفصل بينهما وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ على قراءة النصبِ على الحالية يؤدي إلى تقييد حالِ المذكورين بشهادة الملائكة وأولي العلم وليس فيه كثيرُ فائدةٍ فالوجه كونُ ارتفاعِهما بالابتداء والخبرُ محذوفٌ لدلالةِ الكلامِ عليهِ أي والملائكة وأو لو العلم شهداء بذلك ولك أن تحمل القراءتين على المدح نصباً ورفعاً فحينئذ يحسُن العطفُ على المستتر على كل حال وقوله تعالى {قَائِمَاً بالقسط} أي مقيماً للعدل في جميع أمورِه بيان لكماله تعالى في أفعاله إثرَ بيانِ كماله في ذاته وانتصابُه عَلى الحاليةِ من الله كما في قولِه تعالى وَهُوَ الحق مُصَدّقًا وإنما جاز إفرادُه مع عدم جواز جاء زيد وعمرو راكباً لعدم اللَّبس كقوله تعالى {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} ولعل تأخيرَه عن المعطوفين للدَلالة على علو رتبتهما وقُرب منزلتهما والمسارعةِ إلى إقامة شهودِ التوحيد اعتناءً بشأنه ورفعاً لمحله والسرُّ في تقديمه على المعطوفين مع ما فيه من الإيذان بأصالته تعالى في الشهادة به كما مرَّ في قوله تعالى {آمَنَ الرسول بِمَا أُنزِلَ إليه من ربه} أو مِنْ هُوَ وهو الأوجه والعامل فيها معنى الجملة أي تفردا وأحقه لأنها حال مؤكدة أو على المدح وقيلَ على أنه صفة للمنفي أي لا إله قائماً الخ والفصل بينهما من قبيل توسعاتهم وهو مندرج في المشهود به إذا جعل صفة أو حالاً من الضمير أو نصباً على المدح منه وقرئ القائمُ بالقسط على البدلية من هُوَ فيلزم الفصلُ بينهما كما في الصفة أو على أنَّه خبرٌ لمبتدأ محذوف وقرئ قيّماً بالقسط {لا إله إِلاَّ هُوَ} تكريرٌ للتأكيد ومزيدِ الاعتناء بمعرفة أدلةِ التوحيد والحُكم به بعد إقامة الحجةِ وليجرِيَ عليه قوله تعالى {العزيز الحكيم} فيُعلمَ أنه المنعوتُ بهما ووجه الترتيب تقدمُ العلمِ بقدرته على العلم بحكمته تعالى ورفعُهما على البدليَّةِ من الضَّميرِ أو الوصفية لفاعل شهد أو الخبرية لمبتدأ مُضمَر وقد روي في فضلها أنه عليه السلام قال يُجاء بصاحبها يومَ القيامة فيقول الله عز وجل إن لعبدي هذا عندي عهداً وأنا أحقُّ من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة وهو دليل على فضل علم أصولِ الدين وشرفِ أهله وروي عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ أنه كان حول البيت ثلثُمائة وستون صنماً فلما نزلت هذه الآية الكريمة خرَرْنَ سُجّداً وقيل نزلت في نصارى نَجرانَ وقال الكلبي قدم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم حَبرانِ من أحبار الشام فلما أبصر المدينة قال أحدهما ماأشبه هذه المدينةَ بصفة مدينة النبي الذي يخرُج في آخرِ الزمانِ فلما دخلا عليه عليه السلام عرفاه بالصفة فقالا له عليه السلام أنت محمد قال صلى الله عليه وسلم نعم قالا وأنت أحمدُ قال عليه السلام أنا محمدٌ وأحمد قالا فإنا نسألك عن شئ فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك قال عليه السلام سلا فقالا أخبِرْنا عن أعظم شهادةٍ في كتاب الله عز وجل فأنزل

19 - 20 آل عمران الله تعالى هذه الآية الكريمة فأسلم الرجلان

19

{أن الدين عِندَ الله الإسلام} جملةٌ مستأنفة مؤكدةٌ للأولى أي لا دينَ مرضياً لله تعالى سوى الإسلام الذي هو التوحيدُ والتدرُّع بالشريعة الشريفة وعن قتادة أنه شهادةُ أَن لاَّ إلَه إِلاَّ الله والإقرارُ بما جاء من عند الله تعالى وقرئ إن الدين عند الله للإسلام وقرئ إن الدين الخ على أنه بدل من أنه بدلُ الكل إن فُسر الإسلامُ بالإيمان أو بما يتضمنه وبدلُ الاشتمال إن فسر بالشريعة أو على أن شهد واقعٌ عليه على تقديرُ قراءةِ إنه بالكسر كما أشير إليه {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلامَ الذي جاء به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم وأنكروا نبوّته والتعبيرُ عنهم بالموصول وجعْلُ إيتاءِ الكتاب صلة له لزيادة تقبيحِ حالهم فإن الاختلاف ممن أوتي ما يزيلُه ويقطع شأفته في غاية القبح والسماحة وقوله تعالى {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} استثناء مفرغ من أعم الأحوال أو أعمِّ الأوقاتِ أيْ وما اختلفوا في حالٍ من الأحوالِ أو في وقتٍ من الأوقات إلا بعد أن علموا بأنه الحقُّ الذي لا محيدَ عنه أو بعد أن علموا حقيقةَ الأمرِ وتمكّنوا من العلم بها بالحُجج النيّرة والآيات الباهرةِ وفيه من الدلالة على ترامي حالِهم في الضلالة ما لا مزيدَ عليه فإن الاختلافَ بعد حصول تلك المرتبه قما لا يصدُر عن العاقل وقوله تعالى {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي حسداً كائناً بينهم وطلباً للرياسة لا لشبهة وخفاءٍ في الأمر تشنيعٌ {وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله} أي بآياته الناطقةِ بما ذُكر من أن الدينَ عند الله تعالى هو الإسلامُ ولم يعمَلْ بمقتضاها أو بأية آيةٍ كانت من آياتِه تعالى على أن يدخل فيها ما نحن فيه دخولاً أولياً {فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} قائمٌ مقامَ جوابِ الشرطِ علةٌ له أي ومن يكفر بآياته تعالى يجازيه ويعاقبه عن قريب فإنه سريعُ الحساب أي يأتي حسابُه عن قريب أو يتم ذلك يسرعة وإظهار الجلالة لتربية المهابة وإدخالِ الروعة وفي ترتيب العقاب على مطلق الكفرِ بآياته تعالى من غيرِ تعرضٍ لخصوصية حالِهم من كون كفرِهم بعد إيتاء الكتاب وحصولِ الاطلاع على ما فيه وكونِ ذلك للبغي دلالةٌ على كمال شدة عقابهم

20

{فَإنْ حَاجُّوكَ} أي في كون الدين عند الله الإسلامَ أو جادلوك فيه بعد ما أقمتَ عليهم الحجج {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ} أي أخلصتُ نفسي وقلبي وجملتي وإنما عبر عنها بالوجه لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهرُ القُوى والمشاعر ومجمع معظم ما يقع به العبادةُ من السجودِ والقراءة وبه يحصل التوجُّه إلى كل شيء {لِلَّهِ} لا أشرك به فيها غيرَه وهو الدينُ القويم الذي قامت عليه الحججُ ودعت إليه الآياتُ والرسلُ عليهم السلام {وَمَنِ اتبعن} عطفٌ على المتصل في أسلمتُ وحسُن ذلك لمكان الفصل الجارى

21 - آل عمران مجرى التأكيد بالمنفصل أي وأسلم من اتبعني أو مفعول معه {وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب} أي من اليهود والنصارى وُضِع الموصولُ موضعَ الضمير لرعاية التقابل بين وصفي المتعاطِفَيْن {والاميين} أي الذين لا كتابَ لهم من مشركي العرب {أأسلمتم} متّبعين لي كما فعل المؤمنون فإنه قد أتاكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه لا محالة فهل أسلمتم وعملتم بقضيتها أو أنتم على كفركم بعدُ كما يقول من لخّص لصاحبه المسألة ولم يدَعْ من طرق التوضيح والبيان مسلكا ألاسلكه فهل فهِمتها على منهاج قوله تعالى {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} إثرَ تفصيلِ الصوارفِ عن تعاطي الخمر والميسِر وفيه من استقصارهم وتعييرهم بالمعاندة وقلةِ الإنصافِ وتوبيخِهم بالبلادة وكلة القريحة مالا يخفى {فَإِنْ أَسْلَمُواْ} أي كما أسلمتم وإنما لم يصرح به كما في قوله تعالى {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم بِهِ} حسماً لباب إطلاق اسم الإسلام على شئ آخر بالكلية {فَقَدِ اهتدوا} أي فازوا بالحظ الأوفر ونجَوْا عن مهاوي الضلال {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي أعرضوا عن الاتباع وقَبول الإسلام {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} قائم مقامَ الجواب أي لم يضرّوك شيئاً إذْ ما عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغُ وقد فعلت على أبلغِ وجه رُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآيةَ على أهل الكتاب قالوا أسلمنا فقال عليه السلام لليهود أتشهدون أن عيسى كلمةُ الله وعبدُه ورسولُه فقالوا معاذ الله وقالَ عليه الصلاةُ والسلام للنصارى أتشهدون أن عيسى عبدُ الله ورسولُه فقالوا معاذ الله أن يكون عيسى عبداً وذلك قولُه عزَّ وجلَّ وَإِن تَوَلَّوْاْ {والله بَصِيرٌ بالعباد} عالم بجميع أحوالهم وهو تذييل فيه وعد ووعيد

21

{إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بآيات الله} أيَّ آيةٍ كانت فيدخُل فيهم الكافرون بالآيات الناطقةِ بحقية الإسلام على الوجه الذي مر تفصيلُه دخولاً أولياً {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقّ} هم أهلُ الكتاب قتل أوّلوهم الأنبياءَ عليهم السلام وقتلو أتباعَهم وهم راضون بما فعلوا وكانوا قاتلهم الله تعالى حائمين حول قتلِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لولا أن عصَم الله تعالى ساحتَه المنيعة وقد أُشير إليه بصيغة الاستقبال وقرئ بالتشديد للتكثير والتقييدُ بغير حق للإيذان بأنه كان عندهم أيضاً بغير حق {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس} أي بالعدل ولعل تكريرَ الفعل للإشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافها في الوقت عن أبي عبيدة بن الجراح قلتُ يا رسولَ الله أي الناسِ أشدُّ عذاباً يوم القيامة قال رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن المنكر ثم قرأها ثم قال يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيلَ ثلاثةً وأربعين نبي من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائةٌ واثنا عشرَ رجلاً من عبّاد بني إسرائيل فأمروا قَتلَتهم بالمعروف ونهَوْهم عن المنكر فقُتلوا جميعاً من آخر النهار وقرئ ويقاتلون الذين {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} خبرٌ إن والفاء لتضمن اسمها معنى الشرط فإنها بالنسخ لاتغير معنى الابتداء بل تزيده تأكيداً وكذا الحال في النسخ بأن المفتوحة كما في قوله تعالى واعلموا إنما غنمتم من شئ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وكذا النسخ بلكن كما في قوله تعالى واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وكذا النسخ بلكن كما في قوله فو الله ما فارقتُكم عن ملالة ... ولكنّ ما يقضى فسوف يكون ... وإنما يتغير معنى الابتداء

22 - 23 آل عمران في النسخ بليت ولعل وقد ذهب سيبويه والأخفش إلى منع دخول الفاء عند النسخ مطلقاً فالخبر عندهما قولِه تعالى

22

{أُولَئِكَ الذين حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والآخرة} كما في قولك الشيطانُ فاحذر عدوٌ مبين وعلى الأول هو استئناف واسم الإشارة مبتدأٌ وما فيهِ من معنى البعد للدلالة على تَرامي أمرهِم في الضلال وبُعد منزلتهم في فظاعة الحال والموصولُ بما في حيز صلته خبرُه أي أولئك المتصفون بتلك الصفات القبيحة أو المبتلون بأسوأ الحال الذين بطلت أعمالُهم التي عمِلوها من البر والحسنات ولم يبق لها أثر في الدارين بل بقي لهم اللعنة والخزيُ في الدنيا وعذاب أليم في الآخرة {وَمَا لَهُم مِن ناصرين} ينصرونهم من بأس الله وعذابِه في إحدى الدارين وصيغةُ الجميع لرعاية ما وقع في مقابلته لا لنفي تعددِ الأنصار من كل واحدٍ منهم كما في قوله تعالى {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ}

23

{أَلَمْ تَرَ} تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكلِّ مَنْ يتأتَّى منْهُ الرؤيةُ من حال أهل الكتاب وسوءِ صنيعِهم وتقريرٌ لما سبقَ من أن اختلافهم في الإسلام إنما كان بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بحقيقة أيْ ألمْ تنظرُ {إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} أي التوراةِ على أن اللامَ للعَهدْ وحملُه على جنس الكتبِ الإلهية تطويلٌ للمسافة إذ تمامُ التقريب حينئذ بكون التوراة من جملتها لأن مدار التشنيع والتعجيب إنما هو إعراضُهم عن المحاكمة إلى ما دُعوا إليه وهم لم يُدْعَوا إلا إلى التوراة والمرادُ بما أوتوه منها ما بُيِّن لهم فيها من العلوم والأحكام التي من جملتها ما علموه من نعوت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وحقية الإسلام والتعبير عنه بالنصيب للإشعار بكمال اختصاصِه بهم وكونِه حقاً من حقوقهم التي يجب مراعاتها والعملُ بموجبها وما فيه من التنكير للتفخيم وحملُه على التحقير لا يساعده مقامُ المبالغة في تقبيح حالِهم {يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله} الذي أوتوا نصيباً منه وهو التوراة والإظهارُ في مقامِ الإضمارِ لإيجاب الإجابة وإضافتُه إلى الاسمِ الجليلِ لتشريفه وتأكيدِ وجوب المراجعةِ إليه والجملةُ استئنافٌ مبيِّنٌ لمحل التعجيب مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم فقيل يُدعون إلى كتابَ اللَّهِ تَعَالَى وَقيلَ حالٌ منْ الموصول {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} وذلكَ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دخل مدارسهم فدعاهم إلى الإيمان فقال له نعيمُ بن عمرو والحرث بن زيد على أيّ دين أنت قال عليه الصلاة والسلام على ملة إبراهيم قالا إن إبراهيمَ كان يهودياً فقال صلى الله عليه وسلم لهما إن بيننا وبينكم التوراةَ فهلُمّوا إليها فأبيا وقيل نزلت في الرجم وقد اختلفوا فيه وقيل كتاب الله القرآنُ فإنهم قد علموا أنه كتابُ الله ولم يشكوا فيه وقرئ ليُحكَم على بناء المجهول فيكون الاختلافُ بينهم بأن أسلم بعضُهم كعبدِ اللَّه بنِ سَلاَم وأضرابه وعاداهم الآخرون {ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ} استبعاد لتولّيهم بعد علمِهم بوجوب الرجوع إليه {وَهُم مُّعْرِضُونَ} إما حالٌ من فَرِيقٌ لتخصصه بالصفة أي يتولون من المجلس وهم معرضون بقلوبهم أو اعتراضٌ أي وهم قوم ديدنُهم الإعراضُ عن الحق والاصرار على الباطل

24 - 25 26 آل عمران

24

{ذلك} إشارة إلى ما مر من التولي والإعراض وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى {بِأَنَّهُمْ} أي حاصلٌ بسبب أنهم {قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار} باقتراف الذنوب وركوب المعاصي {إِلا أَيَّامًا معدودات} وهي مقدارُ عبادتهم العجلَ ورسَخ اعتقادُهم على ذلك وهونوا عليهم الخطوب {وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من قولهم ذلك وما أشبهه من قولهم إن آباءنا الأنبياءَ يشفعون لنا أو إن الله تعالى وعد يعقوب عليه السلام ان لا يعذبَ أولادَه إلا تحِلّةَ القَسَم ولذلك ارتكبوا ما ارتكبوا من القبائح

25

{فَكَيْفَ} ردٌّ لقولهم المذكور وابطال لما غرهم باستعظام ما سيد همهم وتهويلِ ما سيحيقُ بهم من الأهوال أي فكيف يكون حالُهم {إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ} أي لجزاءِ يوم {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في وقوعه ووقوعِ ما فيه روي أن أولَ رايةٍ ترفع يوم القيامة من رايات الكفر رايةُ اليهود فيفضحهم الله عزَّ وجلَّ على رءوس الأشهاد ثم يأمر بهم إلى النار {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي جزاءَ ما كسبت من غير نقص أصلاً كما يزعُمون وإنما وُضِع المكسوبُ موضعَ جزائه للإيذان بكمال الاتصالِ والتلازم بينهما كأنهما شيء واحد وفيه دَلالة على أن العبادة لا تَحْبَط وأن المؤمن لا يخلّد في النار لأن توْفيةَ جزاءِ إيمانِه وعملِه لا تكون في النار ولا قبل دخولها فإذن هي بعد الخلاصِ منها {وهم} أي كل الناس المدلولِ عليهم بكلِّ نفسٍ {لاَ يُظْلَمُونَ} بزيادة عذابٍ أو بنقص ثواب بل يصيب كلاً منهم مقدارُ ما كسبه

26

{قُلِ اللهم} الميم عوضٌ عن حرف النداء ولذلك لا يجتمعان وهذا من خصائص الاسمِ الجليل كدخوله عليه مع حرف التعريفِ وقطعِ همزتِه ودخولِ تاء القسمِ عليه وقيل أصلُه يا ألله أُمَّنا بخير أي اقصدنا به فخُفف بحذف حرف النداء ومتعلقاتِ الفعل وهمزته {مالك الملك} أي مالك جنسِ المُلك على الإطلاق مُلكاً حقيقياً بحيث تتصرف فيه كيفما تشاء إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة وتعذيباً وإثابةً من غير مشارِك ولا ممانعٍ وهو نداءٌ ثانٍ عند سيبويه فإن الميم عنده تمنع الوصفية {تُؤْتِى الملك} بيان لبعض وجوه التصرفِ الذي تستدعيه مالكيةُ الملك وتحقيقٌ لاختصاصها به تعالى حقيقةً وكون مالكية غيرِه بطريق المجاز كما ينبئ عنه إيثارُ الإيتاءِ الذي هو مجردُ الإعطاء على التمليك المؤْذِن بثبوت المالكيةِ حقيقةً {مَن تَشَاء} أي إيتاءه إياه {وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء} أي نزْعَه منه فالملكُ الأولُ حقيقي عام ومملوكيتُه حقيقية والآخرانِ مجازيان خاصان ونِسبتُهما إلى صاحبهما مجازية وقيل الملكُ الأول عام والآخرانِ بعضانِ منه فتأمل وقيل المراد بالملك النبوة ونزعُها نقلُها من قوم إلى آخرين {وَتُعِزُّ مَن تَشَاء} أن تُعِزَّه في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما بالنصر والتوفيق {وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} أن تُذِله في إحداهما أو فيهما من غير ممانعةٍ من الغير ولا مدافعة {بِيَدِكَ الخير} تعريفُ الخير للتعميم وتقديمُ الخبر للتخصيص أي بقدرتك الخيرُ كلُّه لا بقدرة احد غيرك تتصرف

27 - آل عمران فيه قبضاً وبسطاً حسبما تقتضيه مشيئتُك وتخصيصُ الخير بالذكر لما أنه مقضيٌّ بالذات وأما الشرُّ فمقضيٌّ بالعَرَض إذ ما من شر جزئي إلا وهو متضمِّنٌ لخير كلي أو لأن في حصول الشر دخْلاً لصاحبه في الجملة لأنه من أجزية أعماله وأما الخير ففضلٌ محضٌ أو لرعاية الأدب أو لأن الكلام فيه فإنه رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرةٍ من أهل المدينة أربعين ذِراعاً وأخذوا يحفِرونه خرج من بطن الخندق صخرةٌ كالتل لم تعمَلْ فيها المعاوِلُ فوجهوا سلمانَ إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يُخبره فجاء عليه السلام وأخذ منه المِعْول فضربها ضربة صدعَتْها وبرَقَ منها برقٌ أضاء ما بين لابتيها لكأن مِصباحاً في جوف بيت مظلم فكبر وكبر معه المسلمون وقال أضاءت لي منها قصورُ الحِيرة كأنها أنياب الكلاب ثم ضرب الثانية فقال أضاءت لي منها القصورُ الحُمْرُ من أرض الروم ثم ضرب الثالثة فقال أضاءت لي قصورُ صنعاء وأخبرني جبريلُ أن أمتي ظاهرةٌ على كلها فأبشروا فقال المنافقون ألا تعجبون يمينكم ويعِدُكم الباطلَ ويخبركم أنه يُبصر من يثربَ قصورَ الحِيرة ومدائن كسرى وأنها تُفتح لكم وأنتم إنما تحفِرون الخندقَ من الفرَق لا تستطيعون أن تبرُزوا فنزلت {إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} تعليل لما سبق وتحقيقٌ له

27

{تولج الليل فِى النهار} أي تُدخِله فيه بتعقيبه إياه أو بنقص الأول وزيادةِ الثاني {وتولج النهار في الليل} على أحد الوجهين {وَتُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} أي تنشئ الحيواناتِ من موادها أو من النطفة وقيل تخرِجُ المؤمنَ من الكافر {وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} أي تخرج النطفة من الحيوان وقيل تخرج الكافر من المؤمن {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} قال أبو العباس المَقَّرِي ورد لفظُ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجهٍ بمعنى التعب قال تعالى {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} وبمعنى العدد قال تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وبمعنى المطالبة قال تعالى {فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} والباءُ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل ترزق أو من مفعوله وفيه دَلالةٌ على أن من قدر على أمثال هاتيك الأفاعيلِ العظامِ المحيِّرة للعقول والأفهام فقُدرته على أن ينزعَ الملكَ من العجم ويُذِلهم ويُؤتيَه العربَ ويُعِزَّهم أهونُ من كل هيّن عن عليَ رضيَ الله عنه أنه قال قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إن فاتحة الكتاب وآيةَ الكرسيِّ وآيتين من آل عمران شهد الله أَنَّهُ لاَ إله إِلا هو إلى قوله تعالى إِنَّ الدين عند الله الإسلام وقل اللهم مالك الملك إلى قوله بِغَيْرِ حِسَابٍ معلقاتٌ ما بينهن وبين الله تعالى حجابٌ قلن يا رب تُهبِطُنا إلى أرضك وإلى من يعصيك قال الله تعالى إني حلفت أنه لا يقرؤكُنّ أحدٌ دُبُرَ كُلِّ صلاةٍ إلا جعلتُ الجنّةَ مثواه على ما كان منه وأسكنتُه في حظيرة القدس ونظرت اليه بعيني كل يوم سبعين مرةً وقضيتُ له سبعين حاجة أدناها المغفرة وأعذتُه من كل عدو وحاسدٍ ونصرتُه عليهم وفي بعض الكتب أنا الله ملكُ الملوك قلوبُ الملوكِ ونواصِيهم بيدي فإنِ العبادُ أطاعوني جعلتهم لهم رحمة وإنِ العبادُ عصَوْني جعلتهم عليهم عقوبة فلا

28 - 29 آل عمران تشتغلوا بسبِّ الملوك ولكن توبوا إليَّ أُعطِّفْهم عليكم وهو معنى قوله عليه السلام كَما تَكُونُوا يُولَّ عَلَيْكُم

28

{لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء} نُهوا عن موالاتهم لقرابة أو صداقة جاهلية ونحوِهما من أسباب المصادقة والمعاشرة كما في قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} وقولِه تعالى {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء} حتى لا يكونَ حبهم ولابغضهم إلا لله تعالى أو عن الاستعانة بهم في الغزو وسائر الأمور الدينية {مِن دُونِ المؤمنين} في موضع الحالِ أي متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالاً أو اشتراكاً وفيه إشارةٌ إلى أنَّهم الأحقاءُ بالموالاة وأن في موالاتهم مندوحةً عن موالاة الكفرة {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي اتخاذَهم أولياءَ والتعبيرُ عنه بالفعل للاختصار أو لإيهام الاستهجان بذكره {فَلَيْسَ مِنَ الله} أي من ولايته تعالى {فِي شَىْء} يصِح أن يُطلق عليه اسمُ الولاية فإن موالاة المتعاديَيْن مما لا يكادُ يدخُل تحتَ الوقوع قال ... تودُّ عدوِّي ثم تزعُم أنني ... صديقُك ليس النَّوْكُ عنك بعازبِ ... والجملة اعتراضية وقوله تعالى {إَّلا أَن تَتَّقُواْ} على صيغة الخطابِ بطريق الالتفاتِ استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال والعامل فعل النهي معتبَراً فيه الخطابُ كأنه قيل لا تتخذوهم أولياءَ ظاهراً أو باطناً في حالٍ من الأحوالِ إلا حال اتقائكم {مِنْهُمْ} أي من جهتِهم {تقاة} أي انقاء أو شيئاً يجب اتقاؤه على أن المصدر واقعٌ موقعَ المفعول فإنه يجوز إظهارُ الموالاة حينئذ مع اطمئنان النفس بالعدواة والبغضاء وانتظار زوالِ المانع من قَشْر العصا وإظهار ما في الضمير كما قال عيسى عليه السلام كن وسَطاً وامشِ جانباً وأصلُ تقاة وُقْيَةً ثم أبدلت الواو تاءً كتُخمة وتُهمة وقلبت الياء ألفاً وقرئ تُقْيةً {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} أي ذاتَه المقدسة فإن جواز إطلاقِ لفظِ النفسِ مراداً به الذاتُ عليه سبحانه بلا مشاكلة مما لا كلام فيه عند المتقدمين وقد صرح بعضُ محققي المتأخرين بعدم الجواز وإن أريد به الذات إلا مشاكلة وفيه من التَّهديدِ ما لا يخفى عُظْمُه وذكرُ النفس للإيذان بأن له عقاباً هائلاً لا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة {وإلى الله المصير} تذييلٌ مقرِّر لمضمونِ ما قبله ومحقق لوقوعه حتماً

29

{قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ} من الضمائر التي من جملتها ولايةُ الكفرةِ {أَوْ تُبْدُوهُ} فيما بينكم {يَعْلَمْهُ الله} فيؤاخذْكم بذلك عند مصيرِكم إليه وتقديمُ الإخفاء على الإبداء قد مرَّ سرُّه في تفسيرِ قولِه تعالى {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} وقوله تعالى {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} {وَيَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الارض} كلامٌ مستأنفٌ غيرُ معطوفٍ على جواب الشرط وهو من باب إيرادِ العام بعد الخاص تأكيداً له وتقريراً {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدِرُ على عقوبتكم بما لا مزيدَ عليهِ إن لم تنتهوا عما نُهيتم عنه وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمار لتربية المهابةِ وتهويل

30 - 31 آل عمران الخطب وهو تذييلٌ لما قبله مبين لقوله تعالى وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ بأن ذاته المقدسةَ المتميزةَ عن سائر الذوات المتصفةَ بما لا يتصف به شئ منها من العلم الذاتي المتعلقِ بجميع المعلومات متصفةٌ بالقدرة الذاتية الشاملةِ لجميع المقدورات بحيث لا يخرُج من ملكوته شئ قطُّ

30

{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ} أي من النفوس المكلفة {مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا} عندها بأمر الله تعالى وفيه من التهويل ما ليس في حاضراً {وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء} عطف على مَّا عَمِلَتْ والإحضار معتبرٌ فيه أيضاً إلا أنه خُص بالذكر في الخير للإشعار بكون الخير مراداً بالذات وكونِ إحضارِ الشر من مقتضيات الحكمة التشريعية {تَوَدُّ} عامل في الظرف والمعنى تود وتتمنى يوم تجد صحائفَ أعمالُها من الخيرِ والشرِّ أو أجزِيتَها محْضَرة {لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ} أي بين ذلك اليوم {أَمَدَا بَعِيدًا} لغاية هولة وفي إسناد الودادة إلى كل نفس سواءٌ كان لها عمل سئ أو لا بل كانت متمحِّضةً في الخير من الدلالةِ عَلى كمالِ فظاعةِ ذلك اليوم وهول مطلعِه مالا يخفى اللهم إنا نعوذ بك من ذلكَ ويجوزُ أنْ يكون انتصابُ يومَ على المفعولية بإضمار اذكروا وتودّ إما حال من كل نفس أو استئنافٌ مبنيُّ على السؤال أي اذكروا يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ شر محضراً وادّةً أن بينها وبينه أمداً بعيداً أو كأن سائلاً قال حين أمروا بذكر ذلك اليوم فماذا يكون إذ ذاك فقيل تود لو أن بينها الخ أو تَجِدُ مقصورٌ على مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وتود خبرُ ما عملت من سوء ولا تكون ما شرطية لارتفاع تود وقرئ ودّت فحينئذ يجوز كونُها شرطيةً لكن الحمل على الخبر أوقعُ معنىً لأنها حكايةُ حالً ماضية وأوفقُ للقراءة المشهورة {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} تكرير لما سبق وإعادة له لكن لا للتأكد فقط بل لإفادة ما يفيده قوله عز وجل {والله رؤوف بالعباد} من أن تحذيرَه تعالى من رأفته بهم ورحمتِه الواسعةِ أو أن رأفته بهم لا تمنعُ تحقيق ما حذر هموه من عقابه وأن تحذيرَه ليس مبنياً على تناسي صفةِ الرأفة بل هو متحققٌ مع تحققها أيضاً كَما في قولِه تعالى {يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} فالجملة على الأول اعتراضٌ وعلى الثاني حال وتكرير الإسم الجليل لتربية المهابة

31

{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى} المحبة ميلُ النفس إلى الشئ لكمالٍ أدركتْه فيه بحيث يحملها على ما يقر بها إليه والعبدُ إذا علم أن الكمالَ الحقيقيَّ ليس إلا لله عز وجل وأن كلَّ ما يراه كما لا من نفسه أو من غيره فهو من الله وبالله وإلى الله لم يكن حبُّه إلا لله وفي الله وذلك مقتضى إرادةِ طاعته والرغبةِ فيما يقرّبه إليه فلذلك فُسِّرت المحبةُ بإرادة الطاعة وجُعلت مستلزمة لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في عبادته والحرصِ على مطاوعته {يُحْبِبْكُمُ الله} أي يرضَ عنكم {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي يكشفِ الحجبَ عن قلوبكم بالتجاوز عما فرَطَ منكم فيقرّبكم من جناب عزِّه ويبوِّئُكم في جوار قدْسِه عبّر عنه بالمحبة بطريقِ الاستعارةِ أو المُشاكلةِ {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي لمن يتحبّب إليه بطاعته ويتقرب إليه

32 - 33 آل عمران باتباع نبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فهو تذييلٌ مقررٌ لمَا قبلَهُ مع زيادة وعد الرحمةِ ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضعَ الضمير للإشعار باستتباع وصفِ الألوهية للمغفرة والرحمة روي أنها نزلت لما قالت اليهودُ نحنُ أبناءُ الله وأحباؤُه وقيل نزلت في وفد نجرانَ لما قالوا إنا نعبدُ المسيحَ حباً لله تعالى وقيل في أقوام زعَموا على عهدِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ أنهم يُحبون الله تعالى فأُمروا أن يجعلوا لقولهم مصداقا من العمل ورَوَى الضحَّاكُ عنِ ابنِ عباس رضي الله عنهما أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقف على قريش وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام وقد علقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر قريش لقد خالفتم ملة إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام فقالت قريش إنما نعبدها حبا لله تعالى لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى فقال الله تعالى لنبيه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله تعالى وتعبدون الأصنام لتقربكم إليه فاتبعونى أي اتبعوا اشريعتى وسنتى يحببكم الله فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم

32

{قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} أي في جميع الأوامرِ والنواهي فيدخلُ في ذلك الطاعة في أتباعِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ دخولاً أولياً وإيثارُ الإظهار على الإضمار بطريق الالتفات لتعيين حيثية الإطاعة والإشعارِ بعلّتها فإن الإطاعة المأمورَ بها إطاعته عليه الصلاة والسلام من حيث إنه رسولُ الله لا من حيث ذاتُه ولا ريبَ في أن عنوان الرسالة من موجبات الإطاعةِ ودواعيها {فَإِن تَوَلَّوْاْ} إما من تمام مقولِ القول فهي صيغة المضارعِ المخاطَب بحذف إحدى التاءين أي تتولوا وإما كلام متفرِّعٌ عليه مَسوقٌ من جهتِه تعالَى فهي صيغةُ الماضي الغائب وفي ترك ذكر احتمال الإطاعة كما في قوله تعالى فَإِنْ أَسْلَمُواْ تلويحٌ إلى أنه غيرُ محتمَلٍ منهم {فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} نفي المحبة كنايةٌ عن بغضه تعالى لهم وسُخطِه عليهم أي لا يرضى عنهم ولا يثني عليهم وإيثارُ الإظهارِ على الإضمار لتعميم الحكمِ لكل الكفَرَة والإشعار بعلّته فإن سخطه تعالى عليهم بسبب كفرهم والإيذان بأن التولّيَ عن الطاعة كفرٌ وبأن محبته عز وجل مخصوصة بالمؤمنين

33

{إِنَّ الله اصطفى آدَمَ ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران عَلَى العالمين} لما بين الله تعالى أن الدين المرضيِّ عنده هو الإسلامُ والتوحيدُ وأن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو للبغي والحسد وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته منوط باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته شرَعَ في تحقيق رسالته وكونِه من أهل بيت النبوة القديمةِ فبدأ ببيان جلالةِ أقدارِ الرسلُ عليهم الصلاة والسلام كافةً وأتبعه ذكرَ مبدأ أمرِ عيسى عليه الصلاة والسلام وأمِّه وكيفيةِ دعوتِه للناس إلى التوحيد والإسلام تحقيقاً للحق وإبطالاً لما عليه أهلُ الكتابين في شأنهما من الإفراط والتفريط ثم بين بطلانَ مُحاجّتهم في إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وادعائهم الانتماءَ إلى ملته ونزّه ساحتَه العلية عمَّا هُم عليهِ من اليهودية والنصرانية ثم نص على أن جميعَ الرسلُ عليهم الصلاة والسلام دعاةٌ إلى عبادة الله عز وجل وحده وطاعتِه منزَّهون عن احتمال الدعوة إلى عبادة

34 - آل عمران أنفسِهم أو غيرِهم من الملائكة والنبيين وأن أممهم قاطبةً مأمورون بالإيمان بمن جاءهم من رسولٍ مصدقٍ لما معهم تحقيقاً لوجوب الإيمان برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وكتابه المصدِّق لما بين يديهِ من التوراة والإنجيل وتحتم الطاعة له حسبما سيأتي تفصيله وتخصيص آدم عليه الصلاة والسلام بالذكر لأنه أبو البشر ومنشأ النبوة وكذا حالُ نوحٍ عليه السلام فإنه آدمُ الثاني وأما ذكرُ آل إبراهيمَ فلترغيب المعترفين باصطفائهم في الإيمان بنبوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم واستمالتِهم نحوَ الاعترافِ باصطفائه بواسطة كونِه من زُمرتهم مع مامر من التنبيه على كونه عليه الصلاة والسلام عريقاً في النبوة من زمرة المصطفَيْنَ الأخيار وأما ما ذكرُ آلِ عمرانَ مع اندراجهم في آل إبراهيمَ فلإظهار مزيدِ الاعتناء بتحقيق أمر عيسى عليه الصلاة والسلام لكمال رسوخِ الخلاف في شأنه فإن نسبةَ الاصطفاءِ إلى الأب الأقرب أدلُّ على تحققه في الآل وهو الداعي إلى إضافة الآلِ إلى إبراهيمَ دون نوحٍ وآدمَ عليهم الصلاة والسلام والاصطفاء أخذُ ما صفا من الشئ كالاستصفاء مثّل به اختيارَه تعالى إياهم النفوسَ القدسية وما يليق بها من الملكات الروحانيةِ والكمالاتِ الجُسمانية المستتبعةِ للرسالة في نفس المصطفى كما في كافَّةُ الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسلام أو فيمن يلابسه وينشأ منه كما في مريمَ وقيل اصطفى آدم عليه الصلاة والسلام بأن خلقه بيده في أحسنِ تقويمٍ وبتعليم الأسماء وإسجاد الملائكة إياه وإسكانِ الجنة واصطفى نوحاً عليه الصلاة والسلام بكونه أولَ من نسخ الشرائعَ إذ لم يكن قبل ذلك تزويجُ المحارم حراماً وبإطالة عُمره وجعْلِ ذريتِه هم الباقين واستجابةِ دعوتِه في حق الكفرة والمؤمنين وحملِه على متن الماء والمرادُ بآل إبراهيمَ إسمعيل وإسحق والأنبياءُ من أولادهما الذين من جملتهم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وأما اصطفاء نفسه عليه الصلاة والسلام فمفهومٌ من اصطفائهم بطريق الأولوية وعدمُ التَّصريحِ به للإيذانِ بالغنى عنه لكمال شهرةِ أمرِه في الخِلّة وكونه إمام الأنبياء قدوة الرسلُ عليهم الصلاة والسلام وكونِ اصطفاء آله بدعوته بقوله {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ} الآية ولذلك قال عليه الصلاة والسلام أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ وبآل عمرانَ عيسى وأمُّه مريمُ ابنةُ عِمرانَ بنِ ماثان بن عازار بنِ أبي بور بن رب بابل بن ساليان بن يوحنا بن يوشيان بن أمون بن منشا بن حزقيا بن أحز بن يوثم بن عزياهو بن يهورام بن يهوشافاط بن أسا بن رحبعم بن سليمانَ بن داود عليهما الصلاة والسلام ابن بيشا بن عوفيذ بن بوعز بن سلمون بن نحشون بن عميوذب بن رم بن حصرون بن بارص بن يهوذا بن يعقوب عليه الصلاة والسلام وقيل موسى وهرون عليهما الصلاة والسلام ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه الصلاةُ والسلام وبين العمرانين ألفٌ وثمانمائة سنة فيكون اصطفاء عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينئذٍ بالاندارج في آل إبراهيمَ عليه السلام والأولُ هو الأظهرُ بدليل تعقيبِه بقصة مريمَ واصطفاء موسى وهرون عليهما الصلاة والسلام بالانتظام في سلك آلِ إبراهيمَ عليه السلام انتظاماً ظاهراً والمرادُ بالعالمين أهلُ زمان كل واحدٍ منهم أي اصطفى كلِّ واحدٍ منهم على عالمي زمانه

34

{ذُرّيَّةِ} نُصب على البدلية من الآلَيْن أو على الحالية منهما وقد مر بيانُ اشتقاقها في قوله تعالى وَمِن ذُرّيَتِى وقوله

35 - آل عمران تعالى {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} في محل النصبُ على أنَّه صفةٌ لذرية أي اصطفى الآلَيْن حالَ كونهم ذريةً متسلسلةً متشعّبةَ البعضِ من البعض في النسَب كما ينبئ عنه التعرُّضُ لكونه ذرية وقيل بعضُها من بعض في الدين فالاستمالةُ على الوجه الأول تقريبيةٌ وعلى الثاني برهانية {والله سَمِيعٌ} لأقوال العباد {عَلِيمٌ} بأعمالهم البادية والخافية فيصطفي مِن بينِهم لخِدمته مَنْ تظهر استقامتُه قولاً وفعلاً على نهج قوله تعالى الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ والجُملة تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَها

35

{إذ قالت امرأة عمران} في حيِّز النصبِ على المفعولية بفعل مقدَّرٍ على طريقة الاستئنافِ لتقرير اصطفاءِ آلِ عمرانَ وبيانِ كيفيته أي أذكُر لهم وقت قولها ومر مراراً وجهُ توجيهِ التذكيرِ إلى الأوقات مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيها من الحوادث وقيلَ هو منصوبٌ على الظرفية لما قبله أي سميع لقولها المحكيِّ عليمٌ بضميرها المَنْويّ وقيل هو ظرفٌ لمعنى الاصطفاء المدلول عليه باصطفى المذكور كأنه قيل واصطفى آلَ عمران إذ قالت الخ فكان من عطف الجُمل على الجمل دون عطفِ المفردات على المفردات ليلزَمَ كونُ اصطفاءِ الكلِّ في ذلك الوقت وامرأةُ عمرانَ هي حنّةُ بنتُ فاقوذا جدةُ عيسى عليه الصلاة والسلام وكانت لعِمرانَ بنِ يَصْهرَ بنت اسهما مريمُ أكبرُ من موسى وهرون عليهما الصلاة والسلام فظن أن المراد زوجتُه وليس بذاك فإن قضيةَ كفالةِ زكريا عليه الصلاة والسلام قاضيةٌ بأنها زوجةُ عمرانَ بن ماثان لأنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان معاصراً له وقد تزوج إيشاع أختَ حنة أم يحيى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وَأَمَّا قوله عليه الصلاة والسلام في شأن يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام هما ابنا خالة فقيل تأويلُه أن الأختَ كثيراً ما تُطلق على بنت الأخت وبهذا الاعتبار جعلهما عليهما الصلاة والسلام ابنيْ خالة وقيل كانت إيشاعُ أختَ حنةَ من الأم وأختَ مريمَ من الأب على أن عمرانَ نكحَ أولاً أمَّ حنة فولدت له إيشاع ثم نكح حنة بناء على حل نكاح الربائبِ في شريعتهم فولدَتْ مريمَ فكانت إيشاعُ أختَ مريمَ من الأب وخالتَها من الأم لأنها أخت حنة من الأم روي أنها كانت عجوزاً عاقراً فبينما هي ذاتَ يوم في ظل شجرة إذ رأت طائراً يُطعم فرخة خنت إلى الولد وتمنتْه وقالت اللهم إن لك عليَّ نذر إن رَزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكونَ من سَدَنته وكان هذا النذرُ مشروعاً عندهم في الغلمان ثم هلك عِمرانُ وهي حامل وحينئذ فقولها {رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} لا بد من حمله على التكرير لتأكيد نذرِها وإخراجِه عن صورة التعليق إلى هيئة التنجيز والتعرضُ لوصفِ الربوبيةِ المنبئةِ عن إفاضة ما فيه صلاحُ المربوبِ مع الإضافة إلى ضميرها لتحريك سلسلة الإجابة ولذلك قيل إذا أراد العبدُ أن يُستجابَ له دعاؤه فليدعُ الله بما يناسبه من أسمائه وصفاته وتأكيدا الجملة لإبراز وفورِ الرغبة في مضمونها وتقديمُ الجارّ والمجرور لكمال الاعتناءِ به وإنما عُبّر عن الولد بما لإبهام أمرِه وقصورِه عن درجه العقلاء {مُحَرَّرًا} أي مُعْتقاً لخدمة بيتِ المقدس لايشغله شأن آخر أو مُخلَصاً للعبادة ونصبُه

36 - آل عمران على الحالية من الموصول فيه نَذَرْتُ وقيل من ضميره في الصلة والعامل معنى الاستقرار فإنها في قوة ما استقر في بطني ولا يخفى أن المراد تقييدُ فعلِها بالتحرير ليحصُل به التقربُ إليه تعالى لا تقييد مالا دخلَ لها فيه من الاستقرار في بطنها {فَتَقَبَّلْ مِنّي} أي ما نذرتُه والتقبل أخذ الشئ على وجه الرضا وهذا في الحقيقة استدعاءٌ للولد إذ لا يُتصور القَبولُ بدون تحقق المقبول بل للولد الذكَرِ لعدم قَبول الأنثى {إِنَّكَ أَنتَ السميع} لجميع المسموعاتِ التي من جُملتها تضرعي ودعائي {العليم} بكل المعلومات التي من زمرتها ما في ضميرى لاغير وهو تعليلٌ لاستدعاء القبول لا من حيثُ أن كونه تعالى سميعاً لدعائها عليماً بما في ضميرها مصحح للتقبل في الجملة بل من حيثُ إنَّ علمَه تعالى بصحة نيتها وإخلاصِها مستدعٍ لذلك تفضلاً وإحساناً وتأكيدُ الجملة لعرض قوةِ يقينها بمضمونها وقصرُ صفتي السمعِ والعلم عليه تعالى لعرض اختصاص دعائِها به تعالى وانقطاعِ حبل رجائها عما عداه بالكلية مبالغةً في الضراعة والابتهال

36

{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} أي ما في بطنها وتأنيثُ الضمير العائد إليه لما أن المقامَ يستدعي ظهورَ أنوثتِه واعتبارَه في حيز الشرط إذ عليه يترتب جوابُ لما أعني قوله تعالى {قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى} لا على وضع ولدٍ ما كأنه قيل فلما وضعت بنتاً قالت الخ وقيل تأنيثُه لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله تعالى أو لأنه مؤول بالحبلة أو النفْس أو النَّسَمة وأنت خبير بأن اعتبارَ شئ مما ذُكر في حيَّزِ الشرطِ لا يكون مداراً لترتب الجواب عليه وقولُه تعالى أنثى حال مؤكّدة من الضمير أو بدلٌ منه وتأنيثُه للمسارعة إلى عَرْض ما دَهَمها من خيبة الرجاء أو لما مر من التأويل بالحبْلةِ أو النسمة فالحال حينئذ مبيِّنة وإنما قالته تحزُّناً وتحسّراً على خيبة رجائِها وعكسِ تقديرِها لما كانت ترجو أن تلدَ ذكَراً ولذلك نذرَتْه محرّراً للسِّدانة والتأكيد المرد على اعتقادها الباطل {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} تعظيمٌ من جهته تعالى لموضوعها وتفخيمٌ لشأنه وتجهيلٌ لها بقدره أي والله أعلم بالشئ الذي وضعتْه وما علِقَ به من عظائم الأمور وجعله وابنه آية للعالمين وهي غافلةٌ عن ذلك والجملة اعتراضية وقرئ وَضَعَتْ على خطاب الله تعالى لها أي إنك لا تعلمين قدرَ هذا الموهوبِ وما أودع الله فيه من علو الشأنِ وسمو المقدار وقرئ وَضَعَتْ على صيغة التكلم مع الالتفات من الخطاب إلى الغَيبة إظهاراً لغاية الإجلال فيكون ذلك منها اعتذاراً إلى الله تعالَى حيثُ أتت بمولود لا يصلُح لما نذرته من السدانة أو تسليةً لنفسها على معنى لعل الله تعالى فيه سراً وحكمة ولعل هذه الأنثى خيرٌ من الذكر فوجه الالتفات حينئذ ظاهر وقوله تعالى {وَلَيْسَ الذكر كالانثى} اعتراض آخرُ مبيِّن لما في الأول من تعظيم الموضوعِ ورفع منزلتِه واللامُ في الذكر والنثى للعهد أي ليس الذكرُ الذي كانت تطلُبه وتتخيل فيه كما لا قصاراه ان يكون كواحد من السدانه كالأنثى التي وُهِبتْ لها فإن دائرةَ علمِها وأمنيتها لاتكاد تحيط بما فيه من جلائل الأمور هذا على القراءتين الأُولَيَيْن وأما على التفسير الأخير للقراءة

37 - آل عمران الأخيرة فمعناه وليس الذكر كهذه الأنثى في الفضيلة بل أدنى منها وأما على التفسير الأول لها فمعناه تأكيدُ الاعتذارُ ببيان أن الذكر ليس كالأنثى في الفضيلة والمزية وصلاحيةِ خدمة المتعبّدات فإنهن بمعزل من ذلك فاللامُ للجنس وقوله تعالى {وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} عطف على إني وضعتُها أنثى وغرضُها من عَرْضها على علام الغيوب التقربُ إليه تعالى واستدعاءُ العصمة لها فإن مريمَ في لغتهم بمعنى العابدة قال القرطبي معناه خادمُ الرب وإظهارُ أنها غيرُ راجعة عن نيّتها وإن كان ما وضعته أنثى وأنها ان لم تكن خليقةً بسِدانة بيت المقدس فلتكنْ من العابدات فيه {وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ} عطف على إني سميتها وصيغةُ المضارع للدَلالة على الاستمرار أي أُجيرُها بحفظك وقرئ بفتح ياء المتلكم في المواضع التي بعدها همزةٌ مضمومة إلا في موضعين بِعَهْدِى أُوفِ اتُونِى أُفْرِغْ {وَذُرّيَّتَهَا} عطف على الضمير وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عليهِ لإبراز كمالِ العنايةِ به {مِنَ الشيطان الرجيم} أي المطرود وأصلُ الرجم الرميُ بالحجارة عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم ما من مولودٍ يولد إلا والشيطانُ يَمَسه حين يولد فيستهِلُّ صارخاً من مسّه إلا مريمَ وابنَها ومعناه أن الشيطان يطمع في إغواء كلِّ مولود بحيث يتأثر منه إلا مريم وابنها فإن الله عصَمهما ببركة هذه الاستعاذة

37

{فَتَقَبَّلَهَا} أي أخذ مريمَ ورضيَ بها في النذر مكانَ الذكَر {رَبُّهَا} مالكها ومُبلِّغها إلى كمالها اللائق وفيه من تشريفها مالا يخفى {بِقَبُولٍ حَسَنٍ} قيل الباء زائدة والقَبول مصدرٌ مؤكِّد للفعل السابق بحذف الزوائد أي تقبّلها قبولاً حسناً وإنما عدَلَ عن الظاهر للإيذان بمقارنة التقبُّل لكمال الرضا وموافقته للعناية الذاتية فإن صيغة التفعُّل مُشعِرةٌ بحسب أصل الوضعِ بالتكلف وكونِ الفعل على خلاف طبع الفاعل وإن كان المرادُ بها في حقه تعالى ما يترتبُ عليه من كمال قوةِ الفعل وكثرتِه وقيل القبولُ ما يقبل به الشيء كالسَّعوط واللَّدود لما يُسعَط به ويلُدّ وهو اختصاصُه تعالى إياها بإقامتها مُقام الذكَر في النَّذر ولم تُقبلْ قبلها أنثى أو بأنْ تسلمها من أمُّها عَقيبَ الولادة قبل أن تنشأ وتصلُحَ للسِّدانة روي أن حنة حين ولدتها لفّتها في خرقة وحملتها الى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناءِ هارونَ وهم في بيت المقدس كالحَجَبة في الكعبة وقالت لهم دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنتَ إمامِهم وصاحبِ قُربانهم فإن بني ماثانَ كانت رءوس بني إسرائيلَ وملوكَهم وقيل لأنهم وجدوا أمرَها وأمرَ عيسى عليه الصلاة والسلام في الكتب الإلهية فقال زكريا عليه الصلاة والسلام أنا احق بها عندى خالتها فأبو إلا القُرْعةَ وكانوا سبعةً وعشرين فانطلقوا إلى نهر فألقَوْا فيه أقلامَهم فطفا قلمُ زكريا ورسبَتْ أقلامُهم فتكفلها وقيل هو مصدر وفيه مضافٌ مقدرٌ أي فتقبلها بذي قبولٍ أي بأمرٍ ذي قَبول حسن وقيل تقبّل بمعنى استقبل كتقصَّى بمعنى استقصى وتعجَّل بمعنى استعجل أي استقبلها في أول أمرِها حين وُلدت بقبول حسن {وَأَنبَتَهَا} مجاز عن

38 - آل عمران تربيتها بما يُصلِحها في جميع أحوالها {نَبَاتًا حَسَنًا} مصدرٌ مؤكدِّ للفعل المذكور بحذف الزوائد وقيل بل لفعل مُضمر موافقٍ له تقديرُه فنبتت نباتاً حسناً {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} أي جعله عليه الصلاة والسلام كافلاً لها وضامناً لمصالحها قائماً بتدبير أمورِها لا على طريقة الوحي بل على ما ذكر من التفصيل فإن رغبته عليه الصلاة والسلام في كفالتها وطُفوَّ قلمِه ورسوبَ أقلامِهم وغيرَ ذلكَ من الأمورِ الجارية بينهم كلُّها من آثار قدرته تعالى وقرئ اكفلها وقرئ زكرياء بالنصب والمد وقرئ بتخفيف الفاء وكسرِها ورفع زكرياء ممدودا وقرئ وتقبَّلْها ربَّها وأنبِتْها وكفَّلْها على صيغة الأمر في الكل ونصبِ ربها على الدعاء أي فاقبلها يا ربها وربِّها تربيةً حسنةً واجعلْ زكريا كافلاً لها فهو تعيينٌ لجهة التربية قيل بنى عليه الصلاة والسلام لها مِحْراباً في المسجد أي غرفةً يُصعد إليها بسُلّم وقيل المحرابُ أشرفُ المجالس ومُقدَّمُها كأنها وضعت في أشرف موضعٍ من بيت المقدس وقيل كانت مساجدُهم تسمى المحاريب روي أنه كان لا يدخل عليها إلا هو وحده وإذا خرج غلّق عليها سبعة أبواب {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب} تقديمُ الظرف على الفاعل لإظهار كمالِ العناية بأمرِها ونصبُ المحراب على التوسّع وكلمة كُلَّمَا ظرف عَلى أنَّ مَا مصدريةٌ والزمان محذوف أو نكرةٌ موصوفة معناها الوقتُ والعائد محذوفٌ والعامل فيها جوابُها أي كلَّ زمانِ دخولِه عليها أو كلَّ وقتٍ دخل عليها فيه {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} أي نوعاً منه غيرَ معتاد إذ كان ينزل ذلك من الجنة وكان يجد عندها في الصيف فاكهةَ الشتاء وفي الشتاء فاكهةَ الصيف ولم ترضَعْ ثدياً قط {قَالَ} استئنافٌ مبني على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قال زكريا عليه الصلاةُ والسلامُ عند مشاهدةِ هذه الآية فقيل قال {يا مريم أنى لَكِ هذا} أي من اين يجيء لك هذا الذي لا يُشبه أرزاقَ الدنيا والأبوابُ مغلقةٌ دونك وهو دليل على جواز الكرامةِ للأولياء ومن أنكرها جعلَ هذا إرهاصاً وتأسيساً لرسالة عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وَأَمَّا جعلُه معجزةً لزكريا عليه الصلاة والسلام فيأباه اشتباهُ الأمر عليه عليه السلام وإنما خاطبها عليه الصلاة والسلام بذلك مع كونها بمعزلٍ من رتبة الخطاب لما علم بما شاهده أنها مؤيَّدةٌ من عند الله بالعلم والقدرة {قَالَتْ} استئناف كما قبله كأنه قيل فماذا صنعت مريمُ وهي صغيرة لا قُدرةَ لها على فهم السؤال ورد الجواب فقيل قالت {هُوَ مِنْ عِندِ الله} فلا تعجبْ ولا تستبعد {إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء} أنْ يرزُقَه {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أيْ بغيرِ تقدير لكثرته أو بغير استحقاقٍ تفضلاً منه تعالى وهو تعليلٌ لكونِه من عند الله اما من تمام كلامهما فيكونُ في محل النصب واما من كلامه عز وجل فهو مستأنفٌ روي أن فاطمة الزهراء رضي الله عنها أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغيفين وبضعةَ لحم فرجع بها إليها فقال هلُمّي يا بنية فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوءٌ خبزاً ولحماً فقال لها أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حساب فقال عليه الصلاة والسلام الحمدُ لله الذي جعلك شبيهةً بسيدة بني إسرائيلَ ثم جمع علياً والحسنَ والحسينَ وجميعَ أهلِ بيته رضوانُ الله عليهم أجمعين فأكلوا وشبِعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت على جيرانها

38

{هُنَالِكَ} كلامٌ مستأنفٌ وقصةٌ مستقلة سيقت في تضاعيف

39 - آل عمران حكايةِ مريمَ لما بينهما من قوة الارتباطِ وشدةِ الاشتباك مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له حكايتُها من بيان اصطفاءِ آلَ عمران فإن فضائلَ بعض الأقرباء أدلةٌ على فضائل الآخَرين وهنا ظرفُ مكانٍ واللامُ للدِلالة على البُعد والكافُ للخطاب أي في ذلك المكانِ حيث هو قاعدٌ عند مريمَ في المحراب أو في ذلك الوقت إذ يستعار هنا وثمَةَ وحيث للزمان {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} لما رآى كرامةَ مريمَ على الله ومنزلتَها منه تعالى رغِب في أنْ يكونَ لهُ من إيشاعَ ولدٌ مثلُ ولدِ حنّةَ في النجابة والكرامة على الله تعالى وإن كانت عاقِراً عجوزاً فقد كانت خنة كذلك وقيل لما رأى الفواكهَ في غير إِبّانِها تنبه لجواز ولادةِ العجوز العاقرِ من الشيخ الفاني فأقبل على الدعاء من غير تأخير كما ينبئ عنه تقديمُ الظرف على الفعل لا على مَعْنى أنَّ ذلك كان هو الموجبَ للإقبال على الدعاء فقط بل كان جزءاً أخيرا أخيراً من العلة التامة التي من جملتها كِبَرُ سنة عليه الصلاة والسلام وضَعفُ قواه وخوفُ مَواليه حسبما فُصِّل في سورة مريم {قَالَ} تفسيرٌ للدعاء وبيانٌ لكيفيته لا محلَّ له من الإعراب ر {رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ} كلا الجارّين متعلقٌ بهَبْ لاختلاف معنييهما فاللامُ صلةٌ له ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً أي أعطِني من مَحْض قدرتِك من غير وسطٍ معتاد {ذُرّيَّةً طَيّبَةً} كما وهبتَها لحنّةَ ويجوز أن يتعلق مِنْ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ذُرّيَّةِ أي كائنة من لدنك والذريةُ النسلُ تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد ههنا ولدٌ واحد فالتأنيث في الصفة لتأنيث لفظ الموصوف كما في قول من قال ... أبوك خليفةٌ ولدتْه أُخرى ... وأنت خليفةٌ ذاك الكمالُ ... وهذا إذا لم يُقصَدْ به واحدٌ معين أما إذا قُصد به المعيَّنُ امتنع اعتبارُ اللفظِ نحو طلحة وحمزة فلا يجوز أن يقال جاءت طلحة وذهبت حمزة {إِنَّكَ سَمِيعُ الدعاء} أي مجيبُه وهو تعليلٌ لما قبله وتحريكٌ لسلسلة الإجابة

39

{فنادته الملائكة} كان المنادى جبريل عليه الصلاة والسلام كما تُفصح عنه قراءةُ من قرأ فناداه جبريلُ والجمع كما في قولهم فلانٌ يركب الخيل ويلبس الثياب وماله غيرُ فرس وثوب قال الزجاج أي أتاهُ النداءُ من هذا الجنس الذين هم الملائكة وقيل لما كان جبرائيل عليه الصلاة والسلام رئيسَهم عَبّر عنه باسم الجماعة تعظيماً له وقيل الرئيسُ لا بد له من أتباع فأسند النداء إلى الكلِّ مع كونِه صادرا عنه خاصة وقرئ فنادِاه بالإمالة {وَهُوَ قَائِمٌ} جملة حاليَّةٌ من مفعول النداء مقرر لما أفاده الفاءُ من حصول البِشارة عَقيب الدعاء وقوله تعالى {يُصَلّى} إما صفةٌ لقائمٌ أو خبرٌ ثانٍ عند من يرى تعدُّدَه عند كونِ الثاني جملةً كما في قوله تعالى فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى أو حال أخرى منه على القول بتعددها بلا عطف ولا بدلية أو حالٌ من المستكنِّ في قائم وقوله تعالى {فِى المحراب} أي في المسجد أو في غرفةِ مريمَ متعلق بيصلي أو بقائم على تقدير كونِ يصلّي حالاً من ضمير قائمٌ لأن العامل فيه وفي الحال حينئذ شئ واحد فلا يلزم الفصلُ بالأجنبي كما يلزم على التقادير الباقية {أَنَّ الله يُبَشّرُكَ بيحيى} أي بأن الله وقرئ بكسر الهمزة على تقدير القول أو إجراء النداء مجراه لكونه

40 - آل عمران نوعا منه وقرئ يُبْشِرُك من الإبشار ويَبْشُرُك من الثلاثي وأياً ما كان ينبغي أن يكون هذا الكلامُ إلى آخره محكياً بعبارته عن الله عزَّ وجلَّ على منهاجِ قوله تعالى {قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ} الآية كما يلوح به مراجعته عليه الصلاة والسلام في الجواب إليه تعالى بالذات لا بواسطة الملك والعدولُ عن إسناد التبشير إلى نون العظمة حسبما وقع في سورة مريمَ للجَريِ على سَنَنِ الكبرياءِ كما في قول الخلفاء أميرُ المؤمنين يرسُم لك بكذا وللإيذان بأن ما حُكي هناك من النداء والتبشير وما يترتبُ عليهِ من المحاورة كان كلُّ ذلك بتوسط الملك بطريق الحِكاية عنه سبحانه لا بالذات كما هو المتبادر وبهذا يتضح اتحادُ المعنى في السورتين الكريمتين فتأمل ويحيى اسمٌ أعجمي وإن جعل عربياً فمنعُ صرفه للتعريف ووزن الفعل روي عن ابن عباس رضي الله عنهما إنما سُمّي يحيى لأن الله تعالى أحيا به عُقرَ أمِه وقال قتادة لأنه تعالى أحيا قلبه بالإيمان قال القرطبيُّ كان اسمُه في الكتاب الأول حيا ولا بُدَّ من تقدير مضافٍ يعود إليه الحالُ أي بولادة يحيى فإن التبشيرَ لا يتعلق بالأعيان {مُصَدّقاً} حال مقدرة من يحيى {بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} أي بعيسى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وإنَّما سمي كلمة لأنه وجد بكلمة كن من غير أب فشابه البديعيات التى هي عالم الأمر ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لكلمة أي بكلمة كائنةٍ منه تعالى قيل هو أولُ مَن آمنَ به وصدَّقَ بأنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه وقال السدي لقِيَتْ أم يحيى أم عيسى فقالت يا مريم أشَعرتِ بحبَلي فقالت مريم وأنا أيضاً حُبلى قالت فإني وجدتُ ما في بطنى يسجد لما في بطنك فذلك قوله تعالى مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ الخ وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهما أن يحيى كان أكبرَ من عيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهرٍ وقيل بثلاث سنين وقتل قبل رفعِ عيسى عليهما الصلاة والسلام بمدة يسيرةٍ وعلى كل تقديرٍ يكون بين ولادة يحيى وبين البشارة بها زمانٌ مديد لما أن مريمَ ولَدت وهي بنتُ ثلاثَ عشْرةَ سنةً أو بنتُ عشرِ سنين وقيل بِكَلِمَةٍ مّنَ الله أي بكتابِ الله سمّي كلمةً كما قيل كلمة الحويدرة لقصيدته {وَسَيّدًا} عطفٌ على مصدقاً أي رئيساً يسود قومَه ويفوقهم في الشرف وكان فائقاً للناس قاطبةً فإنه لم يُلِمَّ بخطيئة ولم يَهُمَّ بمعصية فيا لها من سيادة ما أسناها {وَحَصُورًا} عطف على ما قبله أي مبالِغاً في حصر النفس وحبسِها عن الشهوات مع القدرة روي أنه مرَّ في صباه بصبيان فدعَوْه إلى اللعب فقال ما للعب خلقت {وَنَبِيّا} عطف على ما قبله مترتب على ما عُدِّد من الخصال الحميدة {مّنَ الصالحين} أي ناشئاً منهم لأنه كان من أصلاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو كائناً من جملة المشهورين بالصلاح كما في قوله تعالى {وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين} والمراد بالصلاح ما فوق الصلاحِ الذي لا بد منه في منصِب النبوة البتة من أقاصي مراتبه وعليه مبنيٌّ دعاءُ سليمانَ عليه السَّلام {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين}

40

{قال} استئناف مبني على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قال زكريا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينئذٍ فقيل قال {رَبّ} لم يخاطِب الملَكَ المناديَ له بملابسة أنه المباشرُ للخطاب وإن كان ذلك بطريق الحكاية عنه تعالى بل جرى على نهجُ دعائه السابق مبالغةً في التضرع والمناجاة وجِدّاً في التبتل إليه تعالى واحترازاً عما عسى يوهم

41 - آل عمران خطابُ الملَكِ من توهُّم أن علمَه سبحانه بما يصدُر عنه يتوقف على توسّطه كما يتوقف وقوفُ البشر على ما يصدر عنه سبحانه على توسّطه في عامة الأحوال وإن لم يتوقف عليه في بعضها {أنى يَكُونُ لِي غلام} فيه دَلالةٌ على أنه قد أخبر بكونه غلاماً عند التبشير كما في قوله تعالى {إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى} وأنى بمعنى كيف أو من أين وكان تامةٌ وأنى واللام متعلقتان بها وتقديمُ الجارِّ على الفاعلِ لما مرَّ مراراً من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر أي كيف أو من أين يحدُث لي غلامٌ ويجوزُ أن تتعلق اللامُ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من غلامٌ إذ لو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ أو ناقصة واسمُها ظاهرٌ وخبرُها إما أنى واللام متعلقة بمحذوف كما مر أو هو الخبر وأنى منصوب على الظرفية {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر} حال من ياء المتكلم أي أدركني كِبَرُ السِّنِّ وأثّر فيَّ كقولهم أدركته السنُّ وأخذته السن وفيه دلالةٌ على أن كبرَ السن من حيث كونُه من طلائع الموت طالبٌ للإنسان لا يكاد يتركه قيل كان له تسعٌ وتسعون سنة وقيل اثنتان وتسعون وقيل مائة وعشرون وقيل ستون وقيل خمس وستون وقيل سبعون وقيل خمس وسبعون وقيل خمس وثمانون ولامرأته ثمانٍ وتسعون {وامرأتى عَاقِرٌ} أي ذاتُ عُقر وهو أيضاً حال من ياء لي عند من يجوز تعدد الحال أو من ياء بَلَغَنِي أي كيف يكون لي ذلك والحال أني وامرأتي على حالة منافية له كلَّ المنافاة وإنما قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع سبق دعائِه بذلك وقوةِ يقينه بقدرة الله تعالى عليه لاسيما بعد مشاهدته عليه الصلاة والسلام للشواهد السالفة استعظاماً لقدرة الله سبحانه وتعجيباً منها واعتداداً بنعمته عز وجل عليه في ذلك لااستبعادا له وقيل بل كان ذلك للاستبعاد حيث كان بين الدعاء والبِشارة ستون سنة وكان قد نسِيَ دعاءَه وهو بعيد وقيل كان ذلك استفهاماً عن كيفية حدوثه {قَالَ} استئناف كما سلف {كذلك} إشارةٌ إلى مصدرِ يَفْعَلُ في قولِه عزَّ وجلَّ {الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء} أي ما يشاء أن يفعله من تعاجيب الأفاعيل الخارقةِ للعادات فالله مبتدأ ويفعل خبره والكاف في محل النصب على أنها في الأصل نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء أن يفعله فعلاً مثلَ ذلك الفعل العجيبِ والصنعِ البديعِ الذي هو خلقُ الولد من شيخٍ فانٍ وعجوزٍ عاقر فقُدِّم على العامل لإفادة القصر بالنسبة إلى ما هو أدنى من المشار إليه واعتبرت الكافُ مُقحَمَةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة وقد مرَّ تحقيقُه في تفسير قوله تعالى وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا أو على أنَّها حالٌ من ضمير المصدرِ المقدر معرِفةٌ أي يفعل الفعل كائنا مثل ذلك أو في محلِ الرفعِ على أنها خبر والجلالة مبتدأ أي على نحو هذا الشأن البديع شأن الله تعالى ويفعل ما يشاء بيانٌ لذلك الشأن المبهم أو كذلك خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي الأمر كذلك وقوله تعالى الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء بيانٌ له

41

{قَالَ رَبّ اجعل لِّى آية} أي علامةً تدلني على تحقق المسئول ووقوعِ الحبَل وإنما سألها لأن العلوقَ أمرٌ خفيٌّ لا يوقف عليه فأراد أن يُطلعه الله تعالى ليتلقّى تلك النعمةَ الجليلة من حين حصولِها بالشكر ولا

42 - آل عمران يؤخِّرَه إلى أن يظهر ظهوراً معتاداً ولعل هذا السؤالَ وقع بعد البشارة بزمانٍ مديد إذ به يظهر ما ذُكر من كونِ التفاوت بين سِني يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهر أو بثلاثِ سنينَ لأن ظهورَ العلامة كان عَقيبَ تعيينها لقوله تعالى في سورة مريم {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب فأوحى إِلَيْهِمْ} الآية اللهم إلا أن تكونَ المجاوَبةُ بين زكريا ومريمَ في حالة كِبَرها وقد عُدت من جملة من تكلم في الصِغَر بموجب قولها المحكي والجعلُ إبداعيٌّ واللامُ متعلقة به والتقديم لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من آية وقيل هو بمعنى التصيير المستدعي لمفعولين اولهما آية وثانيهما لِى والتقديم لأنه لا مسوِّغَ لكون آيةٌ مبتدأً عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديم الجار فلا يتغير حالُهما بعد دخول الناسخ {قَالَ آيتك ألا تُكَلّمَ الناس} أي أن لاتقدر على تكليمهم {ثلاثة أَيَّامٍ} أي متوالية لقوله تعالى في سورة مريم {ثلاث لَيَالٍ سَوِيّاً} مع القدرة على الذكر والتسبيح وإنما جُعلت آيتُه ذلك لتخليص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاءً لحق النعمة كأنه قيل آيةُ حصولِ المطلوب ووصول النعمة أن تحبِسَ لسانك إلا عن شكرها وأحسنُ الجواب ما اشتق من السؤال {إِلاَّ رَمْزًا} أي إشارةً بيد أو رأس أو نحوِهما وأصلُه التحركُ يقال ارتمزَ أي تحرك ومنه قيل للبحر الراموز وهو استثناء منقطعٌ لأن الإشارة ليست من قبيل الكلام أو متصلٌ على أنَّ المراد بالكلام ما فهم منه المرام ولاريب في كون الرمز من ذلك القبيل وقرئ رَمَزاً بفتحتين على أنه جمع رامز كخَدَم وبضمتين على أنه جمع رَموز كرُسُل على أنه حال منه ومن الناس معاً بمعنى مترامزين كقوله ... متى ما تلْقني فردَيْنِ ترجُف ... روانف إليَتَيكَ وتُستطارا ... {واذكر رَّبَّكَ} أي في أيام الحبسة شكراً لحصول التفضُّل والإنعام كما يؤذن به التعرّضُ لعنوان الربوبية {كَثِيراً} أي ذِكراً كثيراً أو زماناً كثيراً {وَسَبّحْ} أي سبحه تعالى أو افعل التسبيحَ {بالعشى} أي من الزوال إلى الغروب وقيل من العصر إلى ذهاب صدر الليل {والإبكار} من طلوع الفجرِ إلى الضحى قيل المرادُ بالتسبيح الصلاةُ بدليل تقييده بالوقت كما في قوله تعالى {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} وقيل الذكر اللساني كما أن المراد بالذكر الذكرُ القلبي وقرئ الأبكار بفتح الهمزة على أنه جمعُ بكَر كسحرَ وأسحار

42

{وإذ قالت الملائكة} شروعٌ في شرح بقيةِ أحكامِ اصطفاء آلِ عمران إثرَ الإشارةِ إلى نُبَذٍ من فضائل بعضِ أقاربهم أعني زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام لاستدعاء المقامِ إياهما حسبما أشير إليه وقرئ بتذكير الفعل والمرادُ بالملائكة جبريل عليه الصلاةُ والسلامُ وقد مرَّ ما فيه من الكلام وإذ منصوبٌ بمُضمر معطوفٍ على المُضمر السابق عطفَ القِصة على القصة وقيل معطوفٌ على الظرف السابق أعني قولَه إذ قالت أمرأة عمران منصوبٌ بناصبة فتدبرْ أي واذكر أيضاً من شواهد اصطفائِهم وقتَ قولِ الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام {يا مَرْيَمَ} وتكريرُ التذكير للإشعار بمزيد الاعتناء بما يحكى من أحكام الاصطفاءِ والتنبيهِ على استقلالها وانفرادِها عن الأحكام السابقة فإنها من أحكام التربية الجُسمانية اللائقة بحال صِغَر مريمَ وهذه من باب التربية

43 - 44 آل عمران الروحانية بالتكاليف الشرعيةِ المتعلقة بحال كِبَرها قيل كلّموها شِفاهاً كرامةً لها أو ارهاصا لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام لمكان الإجماعِ على أنه تعالى لم يستنئ امرأةً وقيل ألهموها {إِنَّ الله اصطفاك} أولاً حيث تقبّلك من أمك بقبولٍ حسن ولم يتقبل غيرَك أنثى وربّاك في حِجْرِ زكريا عليه السلام ورزقك من رزق الجنةِ وخصّك بالكرامات السنية {وَطَهَّرَكِ} أي مما يُستقذر من الأحوال والأفعال ومما قذفك به اليهودُ بإنطاق الطفلِ {واصطفاك} آخِراً {على نِسَاء العالمين} بأن وهبَ لك عيسى عليه الصلاة والسلام من غير أب ولم يكُنْ ذلكَ لأحدٍ من النساء وجعلكما آيةً للعالمين فعلى هذا ينبغي أنْ يكونَ تقديمُ حكاية هذه المقاولة على حكاية بشارتِها بعيسى عليه الصلاة والسلام لما مر مرارا من التَّنبيه على أنَّ كلاً منهما مستحِقٌّ للاستقلال بالتذكير ولو روعيَ الترتيبُ الخارجيُّ لتبادر كونُ الكل شيئاً واحداً وقيل المرادُ بالاصطفاءين واحدٌ والتكريرُ للتأكيد وتبيينِ مَن اصطفاها عليهن فحينئذ لا إشكالَ في ترتيب النظم الكريم إذ يُحمل حينئذ الاصطفاءُ على ما ذُكر أولاً وتُجعل هذه المقاولةُ قبل بشارتها بعيسى عليهِ الصلاةُ والسلامُ إيذاناً بكونها قبل ذلك متوفرةً على الطاعات والعبادات حسبما أُمِرت بها مجتهدةً فيها مُقْبِلةً على الله تعالى مُتبتِّلةً إليه تعالى منسلخةً عن أحكام البشرية مستعدةً لفيضان الروح عليها

43

{ياَ مَرْيَمُ} تكريرُ النداءِ للإيذان بأن المقصودَ بالخطاب ما يرِدُ بعده وأن ما قبله من تذكير النِعم كان تمهيداً لذِكره وترغيباً في العمل بموجبه {اقنتى لِرَبّكِ} أي قومي في الصلاة أو أطيلي القيام فيها له تعالى والتعرضُ لعنوان ربوبيته تعالى لها للإشعار بعلة وجوبِ الامتثالِ بالأمر {واسجدى واركعى مع الراكعين} أُمِرت بالصلاة بالجماعة بذكر أركانها مبالغةً في إيجاب رعايتها وإيذاناً بفضيلة كلَ منها وأصالتِه وتقديمُ السجود على الركوع إما لكون الترتيب في شريعتهم كذلك وإما لكون السجودِ أفضلَ أركانِ الصلاة وأقصى مراتبِ الخضوع ولا يقتضي ذلك كونَ الترتيب الخارجيِّ كذلك بل اللائقُ به الترقي من الأدنى إلى الأعلى وإما لِيَقْترِن اركعي بالراكعين للإشعار بأن من لا ركوعَ في صلاتهم ليسوا مصلّين وأما ما قيل من أن الواوَ لا توجب الترتيبَ فغايتُه التصحيحُ لا الترجيح وتجريدُ الأمر بالرُكنين الأخيرين عما قُيِّد به الأولُ لما أن المراد تقييدُ الأمر بالصلاة بذلك وقد فعل حيث قيد به الركن الأول منها وقيل المرادُ بالقنوت إدامةُ الطاعات كما في قوله تعالى أَمَّنْ هُوَ قانت آناء الليل ساجدا وَقَائِماً وبالسجود الصلاةُ لما مر من أنه أفضلُ أركانها وبالركوع الخشوعُ والإخباتُ قيل لمّا أُمِرَت بذلك قامت في الصلاة حتى ورِمَتْ قدَماها وسالت دماً وقيحاً

44

{ذلك} إشارة إلى ما سلف من الأمور البديعة وما فيه من معنى البعد للتنبيه على علوِّ شأن المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى {مِنْ أَنبَاء الغيب} أي من الأنباء المتعلقةِ بالغيب

45 - آل عمران والجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ وقولُه تعالى {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} جملةٌ مستقلة مبينةٌ للأولى وقيل الخبرُ هو الجملة الثانية ومن أَنبَاء الغيب إما متعلق بنوحيه أو حالٌ من ضميرِه أي نوحي من أنباء الغيب أو نوحيه حال كونه من جملة أنباء الغيب وصيغةُ الاستقبال للإيذان بأن الوحيَ لم ينقطعْ بعد {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي عند الذين اختلفوا وتنازعوا في تربية مريمَ وهو تقريرٌ وتحقيق لكونه وحياً على طريقة التهكم بمُنكِريه كما في قوله تعالى وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى الآية وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ الآية فإن طريقَ معرفةِ أمثالِ هاتيك الحوادثِ والواقعات إما المشاهدةُ وإما السماعُ وعدمُه محققٌ عندهم فبقيَ احتمالُ المعاينة المستحيلةِ ضرورةً فنُفِيَت تهكماً بهم {إِذْ يُلْقُون أقلامهم} ظرفٌ للاستقرارِ العاملِ في لديهم واقلامهم أقداحُهم التي اقترعوا بها وقيل اقترعوا بأقلامهم التي كانوا يكتُبون بها التوراة تبركاً {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} متعلقٌ بمحذوف دلَّ عليه يُلْقُون أقلامهم أي يُلْقونها ينْظرون أو ليعلموا أيُّهم يكفلها {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي في شأنها تنافُساً في كفالتها حسبما ذكر فيما سبق وتكريرُ ما كنت لديهم مع تحقق المقصودِ بعطف إِذْ يَخْتَصِمُونَ على إذ يُلقون كما في قوله عز وجل {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى} للدِلالة على أنَّ كلَّ واحدٍ من عدم حضورِه عليه الصَّلاة والسَّلام عند إلقاءِ الأقلام وعدمِ حضوره عند الاختصام مستقلٌ بالشهادة على نبوَّته عليه الصلاةُ والسلام لا سيما إذا أريد باختصامهم تنازعُهم قبل الاقتراعِ فإن تغييرَ الترتيبِ في الذكر مؤكدٌ له

45

{إذ قالت الملائكة} شروعٌ في قصة عيسى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو بدلٌ من وَإِذْ قالت الملائكة منصوبٌ بناصبه وما بينهما اعتراضٌ جيءَ به تقريراً لما سبق وتنبيهاً على استقلاله وكونِه حقيقاً بأن يعد على حياله من شواهدِ النبوةِ وتركُ العطف بينهما بناءً على اتحاد المخاطب وإيذاناً بتقارُن الخطابين أو تقاربُهما في الزمان وقيل منصوبٌ بمضمرٍ معطوفٍ على ناصبه وقيل بدل من إِذْ يَخْتَصِمُونَ كأنه قيل وما كنت حاضراً في ذلك الزمان المديد الذي وقع في طرفٍ منه الاختصامُ وفي طرفٍ آخرَ هذا الخطابُ إشعاراً بإحاطته عليه الصلاة والسلام بتفاصيلِ أحوالِ مريمَ من أولها إلى آخرها والقائلُ جبريل عليه الصلاة والسلام وإيرادُ صيغة الجمعِ لما مر {يا مريم إِنَّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ} مِنْ لابتداءِ الغايةِ مجازا متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لكلمة أي بكلمة كائنة منه عز وجل {اسمه} ذُكر الضميرُ الراجعُ إلى الكلمة لكونها عبارةً عن مذكّر وهو مبتدأ خبرُه {المسيح} وقوله تعالى {عِيسَى} بدلٌ منه أو عطفُ بيانٍ وقيل خبرٌ آخرُ وقيل خبرُ مبتدأ محذوفٍ وقيل منصوبٌ بإضمار أعني مدحاً وقوله تعالى {ابن مَرْيَمَ} صفة لعيسى وقيل المرادُ بالاسم ما به يتميز المسمَّى عمن سواه فالخبرُ حينئذ مجموعُ الثلاثةِ إذ هو المميّز له عليه الصلاة والسلام تمييزاً عن جميع مَنْ عداه والمسيح لقبه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو من الألقاب

46 - 47 آل عمران المشرّفة كالصّدّيق وأصلُه بالعبرية مشيحاً ومعناه المبارَك وعيسى معرّبٌ من إيشوع والتصدّي لاشتقاقهما من المسْح والعَيْس وتعليلُه بأنَّه عليهِ الصَّلاةُ والسلام مُسِحَ بالبركة أو بما يطهِّره من الذنوب أو مسَحَه جبريلُ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ أو مسَح الأرضَ ولم يُقِمْ في موضع أو كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يمسَح ذا العاهةِ فيبرَأُ وبأنه كان في لونه عيس أي بياض يغلوه حُمرةٌ من قبيل الرَّقْم على الماء وإنما قيل ابنُ مريم مع كون الخطابِ لها تنبيهاً على أنه يُولدُ من غير أبٍ فلا يُنسب إلا إلى أمه وبذلك فُضّلت على نساء العالمين {وَجِيهًا فِي الدنيا والاخرة} الوجيهُ ذو الجاه وهو القوةُ والمنَعةُ والشرَفُ وهو حالٌ مقدرةٌ من كَلِمَةَ فإنها وإن كانت نكرةً لكنها صالحة لأن ينتصِبَ بها الحال وتذكيرُها باعتبار المعنى والوجاهةُ في الدنيا النبوةُ والتقدمُ على الناس وفي الآخرة الشفاعةُ وعلوُّ الدرجة في الجنة {وَمِنَ المقربين} أي من الله عز وجل وقيلَ هُو إشارةٌ إلى رفعه إلى السماء وصُحبةِ الملائكة وهو عطفٌ على الحال الأولى وقد عُطف عليه قولُه تعالى

46

{وَيُكَلّمُ الناس فِى المهد وَكَهْلاً} أي يكلمهم حال كونِه طفلاً وكهلاً كلام الأنبياء من غير تفاوت والمهدُ مصدرٌ سُمِّي به ما يُمْهَد للصبيِّ أي يُسوَّى من مضجعه وقيل انه شاربا رفع والمراد وكهلاً بعد نزوله وفي ذكر أحوالِه المختلفة المتنافيةِ إشارةٌ إلى أنه بمعزلٍ من الألوهية {وَمِنَ الصالحين} حال أخرى من كلمة معطوفة على الأحوال السالفة أو من الضميرِ في يكلم

47

{قَالَتْ} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنه قيل فماذا ظقالت مريمُ حين قالت لها الملائكةُ ما قالت فقيل قالت متضرعةً إلى ربها {رَبّ أنى يَكُونُ} أي كيف يكونُ أو من أين يكون {لِى وَلَدٌ} على وجه الاستبعاد العادي والتعجب واستعظامِ قدرةِ الله عز وجل وقيل على وجه الاستفهامِ والاستفسارِ بأنه بالتزوج أو بغيره ويكون إما تامةٌ وأنى واللام متعلقتان بها وتأخيرُ الفاعل عن الجار والمجرور لما مرَّ من الاعتناء بالمقدَّمِ والتشويق إلى المؤخر ويجوز أن تتعلق اللامُ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ولد إذ لو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ وإما ناقصةٌ واسمُها ولد وخبرها إما أنى واللام متعلقة بمضمر وقع حالاً كما مر أو خبر وأنى نصبَ على الظرفية وقوله تعالى {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} جملةٌ حالية محقّقةٌ للاستبعاد أي والحال أني على حالة منافيةٍ للولادة {قَالَ} اسئناف كما سلف والقائلُ هو اللَّهُ تعالى أو جبريلُ عليه الصلاة والسلام {كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاء} الكلامُ في إعرابه كما مرَّ في قصَّةِ زكريا بعينه خلا أن إيراد يخلق ههنا مكانَ يفعلُ هناك لما أن ولادةَ العذراءِ من غير أن يمسَّها بشرٌ أبدعُ وأغربُ من ولادة عجوزٍ عاقرٍ من شيخ فان فكان الخلق المنبئ عن الاختراع أنسبَ بهذا المقام من مطلق الفعل ولذلك عقّب ببيان كيفيته فقيل {إِذَا قَضَى أَمْرًا} من الأمور أي أراد شيئاً كما في قوله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} وأصلُ القضاءِ الإحكام أطلق على الإرادة الإلهية القطعيةِ المتعلقةِ بوجود الشئ لإيجابها إياه

48 - 49 آل عمران البتة وقيل الأمر ومنه قوله تعالى وقضى ربك {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ} لا غيرُ {فَيَكُونُ} من غير ريث وهو كما ترى تمثيلٌ لكمال قدرته تعالى وسهولةِ تأتى المقدورات حسيما تقتضيه مشيئتُه وتصويرٌ لسرعة حدوثِها بما هو علم فيها من طاعة المأمورِ المطيعِ للآمر القوى وبيانٌ لأنه تعالى كما يقدِر على خلق الأشياءِ مُدرَجاً بأسباب وموادَّ معتادةٍ يقدِر على خلقها دفعةً منْ غيرِ حاجةٍ إلى شيء من الأسباب والمواد

48

{وَيُعَلّمُهُ الكتاب} أي الكتابةَ أو جنسَ الكتُبِ الإلهية {والحكمة} أي العلومَ وتهذيبَ الأخلاق {والتوراة والإنجيل} إفرادُهما بالذكر على تقدير كونِ المرادِ بالكتاب جنسَ الكتب المنزلة لزيادة فضلهما وإناقتها على غيرها والجملةُ عطف على يُبَشّرُكِ أو على وَجِيهاً أو على يخلق أو هو كلام مبتدأ سيق تطييباً لقلبها وإزاحةً لما أهمّها من خوف اللائمةِ لمّا علِمَت أنها تلِدُ من غير زوجٍ وقرىء ونعلِّمه بالنون

49

{ورسولا إلى بني إسرائيل} منصوبٌ بمُضْمر يعود إليه المعنى معطوفٌ على يُعلّمه أي ويجعله رسولاً إلى بني إسرائيلَ أي كلِّهم وقال بعضُ اليهود إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين ثم قيل كان رسولاً حال الصِّبا وقيل بعد البلوغ وكان أولَ أنبياءِ بني إسرائيلَ يوسفُ عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ} معمولٌ لرسولاً لما فيه من معنى النُطقِ أي رسولاً ناطقاً بأني الخ وقيل منصوبٌ بمضمر معمولٍ لقول مضمر معطوف على من يعلِّمه أي ويقول أُرسِلتُ رسولاً بأني قد جئتُكم الخ وقيل معطوفٌ على الأحوال السابقةِ ولا يقدَحُ فيه كونُها في حكم الغَيبة مع كونِ هذا في حكم التكلّم لِما عرَفتَ من أنَّ فيه معنى النُطقِ كأنه قيل حالَ كونه وجيهاً ورسولاً ناطقاً بأني الخ وقرىء ورسولٍ بالجر عطفاً على كَلِمَةَ والباء في قوله تعالى {بِآيَةٍ} متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل الفعلِ على أنها للملابسة والتنوينُ للتفخيم دون الوحدة لظهور تعددها وكثرتها وقرىء بآيات أو بجئتُكم على أنها للتعدية ومِنْ في قولِه تعالَى {مّن رَّبّكُمْ} لابتداء الغايةِ مجازا متعلقةٌ بمحذوف وقعَ صفةً لآيةٍ أي قد جئتُكم ملتبساً بآية عظيمةٍ كائنةٍ مّن رَّبّكُمْ أوأتيتكم بآية عظيمة كائنةٌ منه تعالى والتعرضُ لوصفِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضمير المخاطَبين لتأكيد إيجاب الامتثالِ بما سيأتي من الأوامر وقولُه تعالى {أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} بدلٌ من قوله تعالى {أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ} ومحلُه النصبُ على نزع الجارِّ عند سيبويهِ والفرَّاءِ والجرُّ على رأي الخليلِ والكسائيّ أو بدلٌ من آية وقيل منصوبٌ بفعلٍ مُقدَّر أي أعنى أبى الخ وقيلَ مرفوعٌ على أنه خبر مبتدأ أي هي أَنِى أَخْلُقُ لكم وقرئ بكسر الهمزةِ على الاستئناف أي أقدّرُ لكم أي لأجل تحصيلِ إيمانِكم ودفعِ تكذيبكم إياى من

50 - آل عمران الطين شيئاً مثلَ صورةِ الطير {فَأَنفُخُ فِيهِ} الضمير للكاف أي في ذلك الشئ المماثل لهيئة الطير وقرئ فأنفخ فيها على أن الضميرَ للهيئة المقدّرةِ أي أخلُق لكم من الطين هيئةً كهيئة الطيرِ فأنفخُ فيها {فَيَكُونُ طَيْرًا} حياً طياراً كسائر الطيور {بِإِذُنِ الله} بأمرِه تعالى أشارَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بذلك إلى أن إحياءَه من الله تعالى لا منه قيل لم يَخْلُقْ غيرَ الخفاش رُوي أنه عليه الصلاة والسلام لما ادعى النبوةَ وأظهر المعجزاتِ طالبوه بخلق الخفاشِ فأخذ طيناً وصوَّره ونفخَ فيه فإذا هو يطيرُ بين السماء والأرض قال وهْبٌ كان يطير ما دام الناسُ ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز من خلقِ الله تعالَى قيل إنما طلبوا خلق الخفاشِ لأنه أكملُ الطير خلقاً وأبلغ دلالة على القدرة لأن له ثُدِيّاً وأسناناً وهي تحيض وتطُهر وتلِد كسائر الحيوان وتضحك كما يضحك الإنسانُ وتطير بغير ريش ولا تُبصِرُ في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل وإنما ترى في ساعتين ساعةٍ بعد الغروب وساعةٍ بعد طلوع الفجر وقيل خَلَق أنواعاً من الطير {وأبرئ الاكمه} أي الذي وُلد أعمى أو الممسوحُ العين {والابرص} المبتلى بالبَرَص لم تكن العربُ تنفِرُ من شئ نفرها منه ويقال له الوَضَح أيضاً وتخصيصُ هذين الداءين لأنهما مما أعيا الأطباءَ وكانوا في غاية الحَذاقةِ في زمنه عليه الصلاة والسلام فأراهم الله تعالى المعجزةَ من ذلك الجنس روي أنه عليه الصلاةُ والسلام ربما كان يجتمعُ عليه ألوفٌ من المرضى مَنْ أطاق منهم أتاه ومن لم يُطِقْ أتاه عيسى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وما يداويه إلا بالدعاء {وأحيي الموتى بإذن الله} كرَّره مبالغةً في دفع وَهْمِ مَنْ توهّم فيه اللاهوتية قال الكلبيُّ كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُحيي الموتى بيا حيُّ يا قيُّومُ أحيا عازَرَ وكان صديقاً له فعاش وولد له ومر على ابن عجوز ميت فدعا الله تعالى فنزل عن سريره حياً ورجع إلى أهله وبقي وولد له وبنت العاشر أحياها وولدت بعد ذلك فقالوا إنك تحيي من كان قريبَ العهدِ من الموت فلعلهم لم يموتوا بل أصابهتهم سكتة فأحى لنا سامَ بنَ نوحٍ فقال دُلوني على قبره ففعلوا فقام على قبره فدعا الله عز وجل فقام من قبره وقد شاب رأسه فقال عليه السلام كيف شِبْتَ ولم يكن في زمانكم شيبٌ قال يا روحَ الله لما دعَوْتَني سمعتُ صوتاً يقول أجبْ روحَ الله فظننتُ أن الساعةَ قد قامت فمِنْ هِولِ ذلك شِبْتُ فسأله عن النزْع قال يا روحَ الله إن مرارتَه لم تذهَبْ من حَنْجَرَتي وكان بينه وبين موته أكثرُ من أربعةَ آلافِ سنةٍ وقال للقوم صدِّقوه فإنه نبيُّ الله فآمن به بعضُهم وكذبه آخرون فقالوا هذا سحرٌ فأرِنا آيةً فقال يا فلان أكلتَ كذا ويا فلان خبئ لك كذا وذلك قولُه تعالى {وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ} أي بالمغيَّبات من أحوالكم التي لا تشكّون فيها وقرئ تَذْخَرون بالذال والتخفيف {إِنَّ فِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من الأمورِ العظامِ {لآية} عظيمة وقرئ لآياتٍ {لَكُمْ} دالةً على صِحة رسالتي دَلالةً واضحة {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} جوابُ الشرطِ محذوفٌ لانصباب المعنى إليه أو دِلالةِ المذكورِ عليه أي انتفعتم بها أو إن كنتم ممن يتأتَّى منهم الإيمانُ دلَّتْكم على صحة رسالتي والإيمانِ بها

50

{ومصدقا لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التوراة}

عطفٌ على المضمر الذي تعلق به قوله تعالى بآية أي قد جئتكم ملتبساً بآية الخ {ومصدِّقاً لما بين يديَّ} الخ أو على رَسُولاً على الأوجه الثلاثةِ فإن مصدِّقاً فيه معنى النُطقِ كما في رسولاً أي ويجعله مصدِّقاً ناطقاً بأني أُصَدِّق الخ أو ويقول أُرسلتُ رسولاً بأني قد جئتُكم الخ ومصدقا الخ أو حالَ كونه مصدِّقاً ناطقاً بأني أُصَدِّق الخ أو منصوبٌ بإضمار فعلٍ دلَّ عليه قد جئتكم أي وجئتكم مصدقاً الخ وقولُه مِنَ التوراة إما حالٌ من الموصول والعاملُ مُصَدّقاً وإما من ضميره المستترِ في الظرف الواقعِ صلةً والعاملُ الاستقرارُ المُضْمرُ في الظرف أو نفسُ الظرف لقيامه مَقامَ الفعل {وَلاِحِلَّ لَكُم} معمولٌ لِمُضمرٍ دلَّ عليهِ ما قبلَهُ أيْ وجئتكم لأُحِل الخ وقيل عطفٌ على معنى مصدقاً كقولهم جئتُه معتذراً ولأجتلِبَ رضاه كأنه قيل قد جئتُكم لأصدِّق ولأحِل الخ وقيل عطفٌ على بِآيَةٍ أي قد جئتُكم بآية من ربكم ولأُحِلَّ لكم {بَعْضَ الذي حُرّمَ عَلَيْكُمْ} أي في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام من الشحومِ والثُروبِ والسمكِ ولحومِ الإبلِ والعملِ في السبت قيل أحَلَّ لهم من السمك والطير مالا صئصئة له واختلف في إحلال السبت وقرئ حَرَّم على تسمية الفاعل وهو ما بين يديّ أو الله عز وجل وقرئ حَرُم بوزن كَرُم وهذا يدل على أن شرعَه كان ناسخاً لبعض أحكام التوراةِ ولا يُخِل ذلك بكونه مصدِّقاً لها لما أن النسخَ في الحقيقة بيانٌ وتخصيصٌ في الأزمان وتأخيرُ المفعول عن الجارِّ والمجرور لما مر مرارا من المبادرة إلى ذكر ما يسر المخاطبين والتشويق إلى ما أخر {وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ} شاهدةٍ على صحة رسالتي وقرئ بآيات {فاتقوا الله} في عدم قَبولها ومخالفةِ مدلولها {وَأَطِيعُونِ} فيما آمرُكم به وأنهاكم عنه بأمر الله تعالى وتلك الآية هي قولي

51

{إن الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ} فإنَّه الحقُّ الصريحُ الذي أجمع عليه الرسلُ قاطبةً فيكون آيةً بيِّنة على أنَّه عليه الصلاةُ والسلام من جملتهم وقرئ إِنَّ الله بالفتح بدلاً من آية أو قد جئتكم بآية على إن الله ربى وربكم وقولُه فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ اعتراض والظاهرُ أنه تكريرٌ لما سبق أي قد جئتكم بآية بعد آية مما ذكرتُ لكم من خلق الطير وإبراءِ الأكمهِ والأبرصِ والإحياءِ والإنباءِ بالخفيات ومن غيره من ولادتي بغير أبٍ ومن كلامي في المهد ومن غير ذلك والأولُ لتمهيد الحجة والثاني لتقريبها إلى الحكم ولذلك رُتّب عليه بالفاءِ قولُه فاتقوا الله أي لِمَا جئتُكم بالمعجزات الباهرةُ والآياتِ الظاهرة فاتقوا الله في المخالفة وأطيعونِ فيما أدعوكم إليه ومعنى قراءةِ من فتح ولأن الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه كقوله تعالى لإيلاف قُرَيْشٍ الخ ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل فقال إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ إشارةً إلى أن استكمالَ القوةِ النظريةِ بالاعتقاد الحقِّ الذي غايتُه التوحيدُ وقال فاعبدوه إشارةً إلى استكمال القوةِ العمليةِ فإنه يلازِمُ الطاعة التي هي الإتيانُ بالأوامر والانتهاءُ عن المناهي ثم قرر ذلك بأنْ بيَّن أنَّ الجمعَ بين الأمرين هو الطريقُ المشهودُ له بالاستقامة ونظيرُه قوله عليه الصلاة والسلام قُلْ آمَنْتُ بالله ثم اسْتَقِمْ

52

{فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} شروعٌ في بيان مآلِ

أحوالِه عليه السلام إثرَ ما أُشيرَ إلى طرَفٍ منها بطريق النقلِ عن الملائكة والفاءُ فصيحة تُفصِحُ عن تحقُّق جميعِ ما قالته الملائكةُ وخروجُه من القوةِ إلى الفعلِ حسبما شرحتُه كما في قوله تعالى فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه بعد قوله تعالى {أنا آتيك بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إليك طرفك} كأنه قيل فحمَلته فولدتْه فكان كيتَ وكيت وقال ذيتَ وذيت وإنما لم يذكر اكتفاءً بحكاية الملائكةِ وإيذاناً بعدم الخُلْفِ وثقةً بما فُصّل في المواضع الأُخَرِ وأما عدمُ نظمِ بقية احواله عليه الصلاة السلام في سلك النقلِ فإما للاعتناء بأمرِها أو لعدم مناسبتها لمقام البشارة لما فيها من ذكر مُقاساتِه عليه الصلاة والسلام للشدائد ومعاناتِه للمكايد والمرادُ بالإحساس الإدراكُ القويُّ الجاري مَجرَى المشاهدةِ وبالكفر إصرارُهم عليه وعتوُّهم ومكابرتُهم فيه مع العزيمة على قتلِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كما ينبئ عنه الإحساسُ فإنه إنما يُستعمل في أمثالِ هذهِ المواقعِ عند كونِ مُتعلّقِه أمراً محذوراً مكروهاً كما في قوله عز وجل فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا إِذَا هم منا يَرْكُضُونَ وكلمةُ مِنْ متعلقةٌ بأحسّ والضميرُ المجرورُ لبني إسرائيلَ أي ابتدأ الإحساسَ من جهتهم وتقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريح لما مر غيرَ مرةٍ من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخَّر وقيل متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الكفر {قال} أي لخص لأصحابه لا لجميعِ بني إسرائيلَ لقوله تعالى {كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ} الآية وقوله تعالى {فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة} ليس بنص في توجيه الخطابِ إلى الكل بل يكفي فيه بلوغُ الدعوة إليهم {مَنْ أَنصَارِى} الأنصارُ جمع نصير كأشراف جمع شريف {إِلَى الله} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الياء أي مَنْ أنصاري متوجهاً إلى الله ملتجئاً إليه أو بأنصاري متضمناً معنى الإضافةِ كأنه قيل مَنِ الذين يُضيفون أنفسَهم إلى الله عزَّ وجلَّ ينصُرونني كما ينصُرني وقيل إلى بمعنى في أي في سبيل الله وقيل بمعنى اللام وقيل بمعنى مع {قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال ينساق إليه الذهنُ كأنه قيل فماذا قالوا في جوابِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فقيلَ قال {الحواريون} جمعُ حَواريّ يقال فلان حَواري فلان أي صفوتُه وخالصتُه من الحَوَر وهو البياضُ الخالص ومنه الحوارياتُ للحَضَريات لخُلوص ألوانِهن ونقائِهن سُمّي به أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام لخُلوص نياتِهم ونقاءِ سرائرِهم وقيل لِمَا عليهم من آثار العبادةِ وأنوارِها وقيل كانوا ملوكا يلبسون البيض وذلك أن واحداً من الملوك صنعَ طعاماً وجمع الناسَ عليه وكان عيسى عليه الصلاة والسلام على قصعةٍ لا يزال يأكلُ منها ولا تنقُص فذكروا ذلك للملك فاستدعاه عليه الصلاة والسلام فقال له من أنت قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ فترك مُلكَه وتبِعه مع أقاربه فأولئك هم الحَواريون وقيل كانوا صيادين يصطادون السمكَ يلبَسون الثيابَ البيض فيهم شمعونُ ويعقوبُ ويوحنا فمر بهم عيسى عليه الصلاة والسلام فقال لهم أنتم تصيدون السمكَ فإن اتبعتموني صَرْتم بحيث تصيدون الناسَ بالحياة الأبدية قالوا من أنت قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ عبدُ اللَّه ورسولُه فطلبوا منه المعجزة وكان شمعونُ قد رمى شبكتَه تلك الليلةَ فما اصطاد شيئاً فأمره عيسى عليه الصلاة والسلام بإلقائها في الماء مرةً أخرى ففعل فاجتمع في الشبكة من السمك ما كادَتْ تتمزقُ واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملئوا السفينتين فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السلام وقيل كانوا اثنيْ عشرَ رجلاً آمنوا به عليه الصلاة والسلام واتبعوه وكانوا إذا جاعوا قالوا جُعْنا يا روحَ الله فيضرِب بيده الأرضَ فيخرُجُ منها لكل واحد رغيفان وإذا عطِشوا قالوا

53 - 54 آل عمران عطِشنا فيضرب بيده الأرضَ فيخرُج منها الماءُ فيشربون فقالوا من أفضلُ منا قال عليه الصلاة والسلام أفضلُ منكم من يعمل بيدِه ويأكلُ من كَسْبه فصاروا يغسِلون الثيابَ بالأُجرة فسُمّوا حَواريين وقيل إن أمَّه سلّمتْه إلى صبّاغ فأراد الصباغُ يوماً أن يشتغل ببعض مَهمَّاتِه فقالَ لَهُ عليهِ الصلاةُ والسلام ههنا ثيابٌ مختلفة قد جَعَلْتُ لكل واحدٍ منها علامةً معينةً فاصبِغْها بتلك الألوانِ فغاب فجعلَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ كلَّها في جُبَ واحدٍ وقال كوني بإذن الله كما أُريد فرجع الصبَّاغُ فسأله فأخبره بما صنع فقال أفسدتَ عليّ الثيابَ قال قمْ فانظرْ فجعل يُخرِجُ ثوباً أحمرَ وثوباً أخضرَ وثوباً أصفرَ إلى أن أخرج الجميعَ على أحسنِ ما يكون حسبما كان يريد فتعجَّبَ منه الحاضرون وآمنوا به عليه الصلاة والسلام وهم الحواريون قال القفالُ ويجوزُ أن يكون بعضُ هؤلاء الحواريين الاثنيْ عشرَ من الملوك وبعضُهم من صيادي السمك وبعضُهم من القصّارين وبعضُهم من الصبَّاغين والكلُّ سُمّوا بالحَواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه الصلاة والسلام وأعوانَه والمخلِصين في طاعته ومحبتِه {نَحْنُ أَنْصَارُ الله} أي أنصار دينه ورسولِه {آمنَّا بالله} استئنافٌ جارٍ مَجرى العلةِ لما قبله فإن الإيمانَ بهِ تعالى موجبٌ لنُصرة دينِه والذبِّ عن أوليائه والمحاربةِ مع أعدائه {واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} مخلِصون في الإيمانِ منقادون لما تريد منا من نصرتك طلبوا منه عليه الصلاة والسلام الشهادةَ بذلك يومَ القيامة يوم يشهد الرسلُ عليهم الصلاة والسلام لأُممهم وعليهم إيذاناً بأن مرمى غرضِهم السعادةُ الأخروية

53

{ربنا آمنا بِمَا أَنزَلَتْ} تضرّعٌ إلى الله عزَّ وجلَّ وعرْضٌ لحالهم عليه تعالى بعد عرضِها على الرسول مبالغةً في إظهار أمرِهم {واتبعنا الرسول} أي في كلِّ ما يأتي ويذر من أمور الدينِ فيدخُل فيه الاتّباعُ في النُّصرة دخولاً أولياً {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} أي مع الذين يشهدون بوحدنيتك أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم أو مع أمة محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام فإنهم شهداءُ على الناس قاطبةً وهو حالٌ من مفعول اكتبنا

54

{وَمَكَرُواْ} أي الذين علِمَ عيسى عليه الصلاة والسلام كفرَهم من اليهود بأن وكلّوا به من يقتُله غِيلةً {وَمَكَرَ الله} بأن رفع عيسى عليه الصلاة والسلام وألقى شَبَهَه على من قصد اغتيالَه حتى قُتل والمكرُ من حيث أنه في الأصل حيلةٌ يُجلَب بها غيرُه إلى مَضرّة لا يمكن إسنادُه إليه سبحانه إلا بطريق المشاكلة روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ ملِكَ بني إسرائيلَ لما قصد قتلِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أمره جبريل عليه الصلاة والسلام إن يدخُلَ بيتاً فيه روزنة فرفعه جبريل من تلك الروزنة إلى السماء فقال الملكُ لرجل خبيثٍ منهم أدخُل عليه فاقتُله فدخل البيت فألقى الله عز وجل شَبَهَه عليه فخرج يُخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وقيلَ إنَّه عليه الصَّلاةُ والسلام جمع الحواريين ليلةً وأوصاهم ثم قال لَيَكفرَنّ بي أحدُكم قبل أن يَصيح الديكُ ويَبيعَني بدراهِمَ يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهودُ تطلُبه فنافق أحدُهم فقال لهم ما تجعلون لي إن دَلَلْتُكم على المسيح فجعلوا

55 - آل عمران له ثلاثين درهماً فأخذها ودلهم عليه فألقى الله عز وجل عليه شبه عيسى عليه الصلاة والسلام ورفعه إلى السماء فأخذوا المنافِقَ وهو يقول أنا دليلُكم فلم يلتفتوا إلى قوله وصَلَبوه ثم قالوا وجهُه يُشبه وجهَ عيسى وبَدَنُه يشبه بدنَ صاحبِنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبُنا وإن كان صاحِبَنا فأين عيسى فوقع بينهم قتالٌ عظيم وقيل لما صُلب المصلوب جاءت مريمُ ومعها امرأةٌ أبرأها الله تعالى من الجنون بدعاء عيسى عليه الصلاة والسلام وجعلتا تبكِيان على المصلوب فأنزل الله تعالى عيسى عليه الصلاة والسلام فجاءهما فقال علام تبكيان فقالتا عليك فقال إنَّ الله تعالى رفعني ولم يُصِبني إلا خيرٌ وإن هذا شئ شُبِّه لهم قال محمد بن إسحق إن اليهودَ عذبوا الحواريين بعد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام ولقُوا منهم الجَهْدَ فبلغ ذلك ملكَ الرومِ وكان ملكُ اليهود من رعيته فقيل له إن رجلاً من بني إسرائيلَ ممن تحت أمرِك كان يخبرهم أنه رسولُ الله وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وفعل وفعل فقال لو علِمْتُ ذلك ما خلَّيْتُ بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه الصلاة والسلام فأخبروه فبايعهم على دينهم وأنزل المصلوبَ فغيّبه وأخذ الخشبةَ فأكرمها ثم غزا بني إسرائيلَ وقتل منهم خلقاً عظيماً ومنه ظهر أصلُ النصرانيةِ في الروم ثم جاء بعده ملِكٌ آخر يقال له ططيوس وغزا بيتَ المقدس بعد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام بنحوٍ من أربعين سنةً فقتلَ وسبَى ولم يترُكْ في مدينة بيتِ المقدسِ حجراً على حجر فخرج عند ذلك قريظةُ والنضيرُ إلى الحجاز قال أهلُ التواريخ حملت مريم بعيسى عليه الصلاة والسلام وهي بنتُ ثلاثَ عشرةَ سنةً وولدته ببيتَ لَحْمَ من أرض أورشليم لمُضيِّ خمسٍ وستين سنةً من غلبة الإسكندرِ على أرض بابلَ وأوحى الله تعالى إليه على رأس ثلاثينَ سنةً ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضانَ وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين سنةً وعاشت أمُه بعد رفعِه ستَّ سنين {والله خَيْرُ الماكرين} أقواهم مكراً وأنفذُهم كيداً وأقدرُهم على إيصال الضرر مِن حيثُ لاَ يحتسبُ وإظهارُ الجلالةِ في موقعِ الإضمار لتربية المهابة والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله

55

{إِذْ قَالَ الله} ظرفٌ لمكرَ الله أو لمضمر نحو وقع ذلك {يا عيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ} أي مستوفي أجلِك ومؤخرُك إلى أجلك المسمَّى عاصِماً لك من قتلهم أو قابضُك من الأرض من توفيتُ مالي أومتوفيك نائماً إذ رُوي أنه رُفع وهو نائم وقيل مميتُك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعُك الآن أو مميتُك من الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت وقيل أماته الله تعالى سبعَ ساعاتٍ ثم رفعه إلى السماء وإليه ذهبت النصارى قال القرطبيُّ والصحيحُ أن الله تعالى رفعه من غير وفاةٍ ولا نومٍ كما قال الحسنُ وابنُ زيد وهو اختيارُ الطبري وهو الصحيحُ عن ابن عباس رضي الله عنهما وأصل القصة أن اليهودَ لما عزموا على قتلِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ اجتمع الحواريون وهم اثنا عشرَ رجلاً في غرفة فدخل عليهم المسيحُ من مِشكاة الغرفةِ فأخبر بهم إبليسُ جميعَ اليهود فركِبَ

56 - آل عمران منهم أربعةُ آلافِ رجلٍ فأخذوا باب الغرفة فقال المسيحُ للحواريين أيُكم يخرجُ ويُقتل ويكونُ معي في الجنة فقال واحد منهم أنا يا نبيَّ الله فألقى عليه مدرعة من صوفٍ وعِمامةٍ من صوف وناوله عكّازَه وأُلقيَ عليه شبه عيسى عليه الصلاة والسلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه وأما عيسى عليه الصلاة والسلام فكساه الله الريشَ والنورَ وألبسه النورَ وقطع عنه شهوةَ المطعمِ والمشرب وذلك قوله تعالى إِنّي مُتَوَفّيكَ فطار مع الملائكة ثم إن أصحابه حين رأَوْا ذلك تفرَّقوا ثلاثَ فِرَقٍ فقالت فِرقةٌ كان الله فينا ثم صعِدَ إلى السماء وهم اليعقوبيةُ وقالت فرقة أخرى كان فينا ابنُ الله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهم النسطوريةُ وقالت فرقةٌ أخرى منهم كان فينا عبدُ الله ورسولُه ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهؤلاء هم المسلمون فتظاهرت عليهم الفرقتانِ الكافرتان فقتلوهم فلم يزل الإسلامُ منطمساً إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} أي إلى محل كرامتي ومقرِّ ملائكتي {وَمُطَهّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} أي من سوء جوارِهم وخبثِ صُحبتِهم ودنَسِ معاشرتِهم {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك} قال قتادةُ والربيعُ والشعبيُّ ومقاتِلٌ والكلبيُّ هم أهل الإسلام الذين صدّقوه واتبعوا دينَه من أمة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم دون الذين كذّبوه وكذَبوا عليه من النصارى {فَوْقَ الذين كَفَرُواْ} وهم الذين مكروا به عليه الصلاة والسلام ومن يسير بسيرتهم من اليهود فإن أهلَ الإسلام فوقهم ظاهرين بالعزة والمَنَعة والحُجة وقيل هم الحواريون فينبغي أن تُحمل فوقيتُهم على فوقية المسلمين بحكم الاتحادِ في الإسلام والتوحيد وقيل هم الرومُ وقيل هم النصارى فالمرادُ بالاتباع مجرَّدُ الادعاء والمحبة وإلا فأولئك الكفرةُ بمعزل من أتباعِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {إلى يَوْمِ القيامة} غايةٌ للجعل أو للاستقرار المقدّرِ في الظرف لا على مَعْنى أنَّ الجعلَ أو الفوقيةَ تنتهي حينئذ ويتخلّص الكفرةُ من الذِلة بل على مَعْنى أنَّ المسلمين يعلُونهم إلى تلك الغاية فأما بعدها فيفعل الله تعالى بهم ما يريد {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي رجوعكم بالبعث وثم للتراخي وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ للقصرِ المفيدِ لتأكيد الوعدِ والوعيد والضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام وغيرِه من المتبعين له والكافرين به على تغليبُ المخاطَب على الغائبِ في ضمن الالتفاتِ فإنه أبلغُ في التبشير والإنذار {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يومئذ إثرَ رجوعِكم إليّ {فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمور الذين وفيه متعلقٌ بتختلفون وتقديمُه عليه لرعاية الفواصلِ

56

{فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} تفسيرٌ للحكم الواقعِ بين الفريقين وتفصيلٌ لكيفيته والبدايةُ ببيانِ حالِ الكفرة لما أنَّ مساقَ الكلامِ لتهديدهم وزجرِهم عمَّا هُم عليهِ من الكفر والعِناد وقولُه تعالى {فِى الدنيا والاخرة} متعلقٌ بأعذبهم لا بمعنى إيقاعِ كلِّ واحدٍ من التعذيب في الدنيا والتعذيبِ في الآخرة وإحداثِهما يومَ القيامة بل بمعنى إتمامِ مجموعِهما يومئذ وقيل إن المرجِعَ أعمُّ من الدنيوي والأخروي وقولُه تعالى إلى يَوْمِ القيامة غايةٌ للفوقية لا للجعلِ والرجوعُ متراخٍ عن الجعل وهو غيرُ محدودٍ لا عن الفوقية المحدودةِ على نهج قولِك سأُعيرك سكني هذا البيتَ شهراً ثم أخلَع عليك خلْعةً فيلزَمُ تأخرُ الخُلع عن الإعارة لا عن الشهر {وَمَا لَهُم مِن ناصرين} يُخلِّصونهم من عذابِ الله تعالى في الدارين وصيغةُ الجمعِ لمقابلة ضميرِ الجمعِ أي

57 - 58 59 60 آل عمران ليس لواحدٍ منهم ناصرٌ واحد

57

{وأما الذين آمنوا} بما أُرسِلْتُ به {وَعَمِلُواْ الصالحات} كما هو ديدَنُ المؤمنين {فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي يعطيهم إياها كاملة ولعلالألتفات إلى الغَيبة للإيذان بما بين مصدري التعذيبِ والإثابةِ من الاختلاف من حيث الجلال والجمال وقرئ فنو فيهم جرياً على سَنن العظمةِ والكبرياء {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} أي يبغضهم فإن هذه الكنايةَ فاشيةٌ في جميع اللغاتِ جاريةٌ مجرى الحقيقة وإيراد الضلم للإشعار بأنهم بكفرهم متعدّون متجاوزون على الحدود واضعون للكفر مكانَ الشكرِ والإيمانِ والجملةُ تذييلٌ لما قبله مقرِّرٌ لمضمونه

58

{ذلك} إشارة إلى ما سلف من نبأ عيسى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وما فيه من معنى البعد للدلالة على عظم شأنِ المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الشرف وعلى كونه في ظهور الأمرِ ونباهةِ الشأن بمنزلة المشاهَد المعايَن وهو مبتدأٌ وقولُه عز وجل {نَتْلُوهُ} خبرُه وقولُه تعالى {عَلَيْكَ} متعلقٌ بنتلوه وقولُه تعالى {مِنَ الايات} حالٌ من الضمير المنصوبِ أو خبر بعد خبر أو هو الخبرُ وما بينهما حالٌ من اسمِ الإشارة أو ذلك خبرٌ لمبتدإ مضمرٍ أي الأمرُ ذلك ونتلوه حالٌ كما مر وصيغة الاستقبال إما لا ستحضار الصورةِ أو على معناها إذ التلاوةُ لم تتِمَّ بعدُ {والذكر الحكيم} أي المشتملِ على الحِكَم أو المُحكمِ الممنوعِ من تطرُّق الخللِ إليه والمرادُ به القرآنُ فمن تبعيضيةٌ أو بعضٌ مخصوصٌ منه فمن بيانيةٌ وقيل هو اللوحُ المحفوظُ فمن ابتدائية

59

{إِنَّ مَثَلَ عيسى} أي شأنَه البديعَ المنتظِمَ لغرابته في سلك الأمثال {عَندَ الله} أي في تقديره وحكمه {كمثل آدم} أي كحاله العجيبةِ التي لا يرتاب فيها مرتابٌ ولا ينازِعُ فيها منازِع {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} تفسيرٌ لما أُبهم في المَثَل وتفصيلٌ لما أُجمِلَ فيه وتوضيحٌ للتمثيل ببيان وجهِ الشبهِ بينهما وحسمٌ لمادة شبه الخصومِ فإن إنكارَ خلقِ عيسى عليه الصلاة والسلام بلا أب من أعترف بخلق آدم عليه الصلاة والسلام بغير أبٍ وأمٍ مما لا يكاد يصح والمعنى خلق قالَبَه مِن تُرَابٍ {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن} أي أنشأه بَشَراً كما في قوله تعالى ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقَاً آخَر أو قدّر تكوينَه من التراب ثم كوّنه ويجوز كون ثم لتراخي الإخبار لا لتراخي المُخبَرِ به {فَيَكُونُ} حكايةُ حالٍ ماضية روي إن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مالك تشتمُ صاحبَنا قال وما أقول قالوا تقول إنه عبدٌ قال أجل هو عبدُ الله ورسولُه وكلمتُه ألقاها إلى العذراء البتولِ فغضِبوا وقالوا هل رأيتَ إنساناً من غير أبٍ فحيثُ سلَّمتَ أنه لا أبَ له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله فقالَ عليه الصَّلاةُ والسلام إن آدم عليه الصلاة والسلام ما كان له أبٌ ولا أم ولم يلزم من ذلك كونُه ابناً لله سبحانه وتعالى فكذا حال عيسى عليه الصلاة والسلام

60

{الْحَقُّ مِن رَّبّكَ} خبرُ مبتدأ محذوف أي هو الحقُّ أي ما قصصنا عليك من نبإ عيسى من عليه الصلاة والسلام

61 - آل عمران وأمِّه والظرفُ إما حالٌ أي كائناً من ربك أو خبرٌ ثانٍ أي كائنٌ منه تعالى وقيل هما مبتدأٌ وخبرٌ أي الحقُّ المذكورُ من الله تعالَى والتعّرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطب لتشريفه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والإيذانِ بأن تنزيلَ هذه الآياتِ الحقةِ الناطقةِ بكنه الأمر تربية له عليه الصلاة والسلام ولُطفٌ به {فَلاَ تَكُنْ مّن الممترين} في ذلك والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم على طريقة الإلهابِ والتهييجِ لزيادة التثبيتِ والإشعارِ بأن الامتراءَ في المحذورية بحيث ينبغي أن يُنهى عنه من لا يكاد يمكن صدورُه عنه فكيفَ بمن هو بصدد الامتراء وإما لكل من له صلاحيةُ الخطاب

61

{فَمَنْ حَاجَّكَ} أي من النصارى إذ هم المتصدون للمُحاجّة {فِيهِ} أي في شأن عِيْسى عليه السَّلامُ وأمِّه زعماً منهم أنه ليس على الشأن المحكي {مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} أي ما يُوجِبُه إيجاباً قطعياً من الآيات البينات وسعوا ذلك منك فلم يرعودا عمَّا هُم عليهِ من الغي والضلال {فَقُلْ} لهم {تَعَالَوْاْ} أي هلُمّوا بالرأي والعزيمة {نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ} اكتُفيَ بهم عن ذكر البناتِ لظهور كونِهم أعزَّ منهن وأما النساءُ فتعلُّقُهن من جهة أخرى {وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ} أي ليدعُ كلٌّ منا ومنكم نفسَه وأعِزَّةَ أهلِه وألصقَهم بقلبه إلى المباهَلة ويحمِلْهم عليها وتقديمُهم على النفس في أثناء المباهلةِ التي هي من باب المهالكِ ومضان التلفِ مع أن الرجلَ يخاطرُ لهم بنفسه ويحارب دونهم للإيذان بكمال أمنِه عليه الصلاة والسلام وتمامِ ثقتِه بأمره وقوةِ يقينِه بأنه لن يُصيبَهم في ذلك شائبةُ مكروهٍ أصلاً وهو السرُّ في تقديم جانبِه عليه السلام على جانب المخاطَبين في كل من المقدم والمؤخر مع رعاية الأصلِ في الصيغة فإن غيرَ المتكلم تبع {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي نتباهلْ بأن نلعنَ الكاذبَ منا والبُهلةُ بالضم والفتح اللعنةُ وأصلها الترك له في الإسناد من قولهم بَهَلْتُ الناقةَ أي تركتها بلاصرار {فنجعل لعنة الله عَلَى الكاذبين} عطفٌ على نبتهل مبينٌ لمعناه روي أنهم لما دُعوا إلى المباهلة قالوا حتى نرجع وننظر فلما تخالوا قالوا اللعاقب وكان ذار إيهم يا عبدَ المسيح ما ترى فقال والله لقد عرفتم يا معشرَ النصارى أن محمداً نبيٌّ مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبِكم والله ما باهل قومٌ نبياً قط فعاش كبيرُهم ولا نبت صغيرُهم ولئن فعلتم لتهلِكُنّ فإن أبيتم إلا إلفَ دينِكم والإقامةِ على ما أنتُم عليهِ فوادِعوا الرجلَ وانصرِفوا إلى بلادكم فأتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضِناً الحسينَ آخذاً بيد الحسنِ وفاطمةُ تمشي خلفَه وعليٌّ خلفها رضي الله عنهم أجمعين وهو يقول إذا أنا دعوتُ فأمِّنوا فقال أسقفُ نجرانَ يا معشرَ النصارى إني لأرى وجوهاً لو سألوا الله تعالى أن يُزيل جبلاً من مكانه لأزاله فلا تُباهلوا فتهلكوا ولا يقي على وجه الأرضِ نصرانيٌّ إلى يوم القيامة فقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهِلَك وأن نُقِرَّك على دينك ونثبُتَ على ديننا قال صلى الله عليه وسلم فإذا أبيتم المباهلةَ فأسلِموا يكنْ لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين فأبوا قال عليه الصلاة والسلام فإني أناجِزُكم فقالوا ما لنا بحربِ العربِ طاقةٌ ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تُخيفَنا ولا ترُدَّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كلَّ عام ألفي حلة

62 - 63 64 آل عمران ألفاً في صَفَر وألفاً في رجبٍ وثلاثين درعاً عادية من حديد فصالحهم على ذلك وقال والذي نفسي بيدِه إنَّ الهلاكَ قد تدلَّى على أهل نجران ولولا عنوا لمسخوا قردة وخنازير ولا ضطرم عليهم الوادي نارا ولا ستأصل الله نجرانَ وأهلَه حتى الطير على رءوس الشجر ولما حال الحولُ على النصارى كلِّهم حتى يهلكوا

62

{إِنَّ هَذَا} أي ما قُصّ من نبأ عيسى وأمِّه عليهما السلام {لَهُوَ القصص الحق} دون ما عداه من أكاذيبِ النصارى فهو ضميرُ الفصلِ دخلتْه اللامُ لكونه أقربَ إلى المبتدإ من الخبر وأصلها أن تدخُلَ المبتدأَ وقرىء لهْوَ بسكون الهاء والقصصُ خبرُ إن والحقُّ صفتُه أو هو مبتدأٌ والقصصُ خبرُه والجملةُ خبرٌ لإن {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} صرّح فيه بمن الأستغراقية تأكيد للرد على النصارى في تثليثهم {وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز} القادرُ على جميع المقدوراتِ {الحكيم} المحيطُ بالمعلومات لا أحدَ يشاركُه في القدرة والحِكمة ليشاركَه في الألوهية

63

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} عن التوحيد وقبول الحق الذي قص عليك بعد ما عاينوا تلك الحجج المنيرة والبراهينَ الساطعة {فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين} أي بهم وإنما وُضِعَ موضعَه ما وُضِع للإيذان بأن الإعراضَ عن التوحيد والحقِّ الذي لا محيدَ عنه بعدما قامت به الحججُ إفسادٌ للعالم وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى

64

{قل يا أَهْلِ الكتاب} أمرٌ بخطاب أهلِ الكتابين وقيل بخطاب وفدِ نجْرانَ وقيل بخطاب يهودِ المدينةِ {تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} لا يختلف فيها الرسلُ والكتب وهي {ألا نَعْبُدَ إِلاَّ الله} أي نوحِّدُه بالعبادة ونُخلِصُ فيها {وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} ولا نجعلَ غيرَه شريكاً له في استحقاق العبادةِ ولا نراه أهلاً لأن يُعبد {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا من دُونِ الله} بأن نقولَ عزيرٌ ابنُ الله والمسيحُ ابن الله ولا نُطيعَ الأحبارَ فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلاً منهم بعضُنا بشرٌ مثلُنا رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ {اتَّخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أَرْبَاباً مِن دُونِ الله} قَالَ عديُّ بنُ حاتم ما كنا نعبُدهم يا رسولَ الله فقالَ عليه السلام أليس كانوا يُحِلّون لكم ويحرِّمون فتأخذون بقولهم قال نعم قال عليه السلام هو ذاك {فَإِن تَوَلَّوْاْ} عما دعوتوهم إليه من التوحيد وتركِ الإشراك {فَقُولُواْ} أي قل لهم أنت والمؤمنون {اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي لزِمْتكم الحُجةُ فاعترِفوا بأنا مسلمون دونكم أو اعترِفوا بأنكم كافرون بما نطَقَتْ به الكتُب وتطابقت عليه الرسلُ عليهم السلام تنبيه انظُر إلى ما روعيَ في هذه القصة من المبالغة في الإرشاد وحسنِ التدرُّجِ في المُحاجَّة حيث بيّن أولاً أحوالَ عيسى عليه السلام وما توارد عليه من الأطوار المنافيةِ للإلهية ثم ذُكر كيفيةُ دعوتِه للناس إلى التوحيد والإسلام فلما ظهر عنادهم دُعُوْا إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ثم لما أعرَضوا عنها وانقادوا بعضَ الانقياد دُعوا إلى ما اتفق

65 - 66 67 68 69 آل عمران عليه عيسى عليه السلام والإنجيلُ وسائرُ الأنبياء عليهم السلام والكتُب ثم لما ظهر عدمُ إجدائِه أيضاً أُمِرَ بأن يقال لهم اشهدوا بأنا مسلمون

65

{ياْ أَهْلِ الكتاب} من اليَّهودِ والنصارى {لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إبراهيم} أي في مِلّته وشريعتِه تنازعت اليهودُ والنصارى في إبراهيمَ عليه السلام وزعم كلٌّ منهم أنه عليه السلام منهم وترافَعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت والمعنى لم تدعون أنه عليه السلام كان منكم {وَمَا أُنزِلَتِ التوراة} على موسى عليه الصلاة والسلام {والإنجيل} على عيسى عليه الصلاة والسلام {إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} حيث كان بينه وبين موسى عليهما السلام ألفُ سنةٍ وبين مُوسى وعيسى عليهما السَّلامُ ألفا سنةٍ فكيف يمكن أن يتفوَّهَ به عاقلٌ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي ألا تتفكرون فلا تعقِلون بطلانَ مذهبِكم أو أتقولون ذلك فلا تعقلون بطلانه

66

{ها أنتم هؤلاء} جملةٌ من مبتدإٍ وخبر صدرت بحرف التنبيه ثم بُيِّنت بجملة مستأنفة إشعاراً بكمال غفلتِهم أي أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى حيث {حاججتم فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} في الجملة حيث وجدتموه في التوراة والإنجيل {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أصل إذ لاذكر لدين إبراهيمَ في أحد الكتابين قطعاً وقيل هؤلاء بمعنى الذي وحاججتم صلته وقيل هأنتم اصله أأنتم على على الاستفهام للتعجب قلبت الهمزةُ هاءً {والله يَعْلَمُ} ما حاججتم فيه أو كلَّ شيءٍ فيدخُل فيه ذلك دخولاً أولياً {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أي محلَّ النزاعِ أو شيئاً من الأشياء التي من جملتها ذلك

67

{مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا} تصريحٌ بما نطَق به البرهانُ المقرِّر {وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا} أي مائلاً عن العقائد الزائغةِ كلِّها {مُسْلِمًا} أي منقاداً لله تعالى وليس المرادُ أنه كان على مِلَّة الإسلامِ وإلا لاشترك الإلزامُ {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} تعريضٌ بأنهم مشركون بقولهم عزيرٌ ابنُ الله والمسيحُ ابنُ الله وردٌّ لادعاء المشركين أنَّهم على ملَّةِ إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام

68

{إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم} أي أقربَهم إليه وأخصَّهم به {لَلَّذِينَ اتبعوه} أي في زمانه {وهذا النبى والذين آمنوا} لموافقتهم له في أكثرِ ما شُرع لهم على الأصالة وقرئ والنبي بالنصبِ عطفاً على الضميرِ في اتبعوه وبالجر عطفاً على إبراهيمَ {والله وَلِىُّ المؤمنين} ينصُرهم ويجازيهم الحسنى بإيمانهم وتخصيصُ المؤمنين بالذكر ليثبُتَ الحكمُ في النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بدَلالة النصِّ

69

{وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يُضِلُّونَكُمْ}

نزلت في اليهود حين دعوا حذيفة وعمارا ومعادا إلى اليهودية ولو بمعنى أن {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} جملةٌ حاليةٌ جيء بها للدلالة على كمال رسوخِ المخاطبين وثباتِهم على ما هم عليه من الدينِ القويمِ أي وما يتخطاهم الإضلالُ ولا يعود وبالُه إلا إليهم لما أنه يُضاعفُ به عذابُهم وقيل وما يُضِلّون إلا أمثالَهم ويأباه قوله تعالى {وَمَا يَشْعُرُونَ} أي باختصاص وبالِه وضررِه بهم

70

{يا أهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بأيات الله} أي بما نَطَقتْ به التوراةُ والإنجيلُ ودلت على نبوة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} أي والحالُ أنكم تشهدون أنها آياتُ الله أو بالقرآن وأنتم تشهدون نعتَه في الكتابين أو تعلمون بالمعجزات أنه حق

71

{يا أهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل} بتحريفكم وإبرازِ الباطِلِ في صورته أو بالتقصير في التمييز بينهما وقرئ تلبسون بالتشديد وتلبسون نفتح الباء أي تلبَسون الحقَّ مع الباطل كما في قولِه عليه السلام كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ {وَتَكْتُمُونَ الحق} أي نبوة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم ونعتَه {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي حقِّيتَه

72

{وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب} وهُم رؤساؤهم ومفسدون لأعقابهم {آمنوا بالذي أنزِل على الَّذِينَ آمنُوا} أي أظهِروا الإيمانَ بالقرآن المنْزلِ عليهم {وَجْهَ النهار} أي أولَه {واكفروا} أي أظهِروا ما أنتم عليه من الكفر به {آخره} مُرائين لهم أنكم آمنتم به بادئ الرأي من غير تأملٍ ثم تأملتم فيه فوقَفتم على خلل رأيِكم الأولِ فرجعتم عنه {لَعَلَّهُمْ} أي المؤمنين {يَرْجِعُونَ} عمَّا هُم عليهِ من الإيمان به كما رجعتم والمرادُ بالطائفة كعب بن الأشرف ومالك بنُ الصيفِ قالا لأصحابهما لما حُوِّلت القِبلة آمِنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلّوا إليها أولَ النهار ثم صلوا إلى الصخرة آخِرَه لعلهم يقولون هم أعلمُ منا وقد رجَعوا فيرجِعون وقيلَ هُم اثنا عشرَ رجلاً من أحبار خيبَر تقاولوا بأن يدخُلوا في الإسلام أولَ النهار ويقولوا آخرَه نظرنا في كتابنا وشاوَرْنا علماءَنا فلم نجِدْ محمداً بالنعت الذي ورد في التوراة لعل أصحابه يشكّون فيه

73

{وَلاَ تُؤْمِنُواْ} أي لا تُقِرّوا بتصديقٍ قلبيَ {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} أي لأهل دينكم أولا تُظهِروا إيمانَكم وجهَ النهار إلا لمن كان على دينكم من قبلُ فإن رجوعَهم أرجى وأهمُّ {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} يَهْدِى بِهِ مَن يشاءُ إلى الإيمان ويُثبِّته عليه {أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ أي

74 - 75 آل عمران دبّرتم ذلك وقلتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو بلا تؤمنوا أي ولا تظهِروا إيمانَكم بأن يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا لأشياعكم ولا تُفْشوه إلى المسلمين لئلا يزيدَ ثباتُهم ولا إلى المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام وقولُه تعالى قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله اعتراضٌ مفيدٌ لكون كيدِهم غيرَ مُجدٍ لطائل أو خبرُ إنَّ على إن هُدى الله بدل من الهدى وقرئ أأن يؤتى على الاستفهام التقريعي وهو مؤيدٌ للوجه الأولِ أي ألأن يُؤتى أحدٌ الخ دبرتم وقرئ أن على أنها نافيةٌ فيكونُ من كلام الطائفةِ أي ولا تؤمنوا إلا لمن تبِعَ دينَكم وقولوا لهم ما يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم {أو يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ} عطفٌ على أَن يؤتى على الوجهين الأولين وعلى الثالث معناه حتى يحاجوكم عند ربِّكم فيدحَضوا حُجتَكم والواوُ ضميرُ أَحَدٌ لأنَّه في معنى الجمعِ إذ المرادُ به غيرُ أتباعِهم {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء والله واسع عَلِيمٌ} ردٌّ لهم وإبطالٌ لما زعموه بالحجة الباهرةِ

74

{يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} أي يجعل رحمتَه مقصورةً على {مَن يَشَاء والله ذُو الفضل العظيم} كلاهما تذييلٌ لما قبله مقرِّرٌ لمضمونه

75

{وَمِنْ أَهْلِ الكتاب} شروعٌ في بيان خيانتِهم في المال بعد بيانِ خيانتِهم في الدين والجارُّ والمجرورُ في محلِ الرفعِ على الابتداء حسبما مرَّ تحقيقُه في تفسيرِ قولِه تعالى {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ} الخ خبرُه قوله تعالى {مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ} على أن المقصودَ بيانُ اتّصافِهم بمضمون الجملةِ الشرطية لا كونُهم ذواتِ المذكورين كأنه قيل بعضُ أهلِ الكتاب بحيث إن تأمنْه بقنطار أي بمالٍ كثيرٍ يؤدِّه إليك كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَم استودَعه قرشيٌّ ألفاً ومِائتيْ أو قية ذهبا فأداه إليه {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} كفِنحاصَ بنِ عازوراءَ استودعه قرشيٌّ آخرُ ديناراً فجحَده وقيل المأمونون على الكثير النصارى إذ الغالبُ فيهم الأمانةُ والخائنون في القليل اليهودُ إذ الغالبُ فيهم الخيانة {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} استثناءٌ مفرغ من أعم الأحوال أو الأوقات أي لا يؤده إليك في حالٍ من الأحوالِ أو في وقتٍ من الأوقات إلا في حال دوام قيامِك أو في وقت دوامِ قيامِك على رأسه مبالِغاً في مطالبته بالتقاضي وإقامةِ البينة {ذلك} إشارةٌ إلى ترك الأداءِ المدلولِ عليه بقوله تعالى لاَّ يُؤَدِّهِ وما فيه من معنى البعد للإيذان بكمال غُلوِّهم في الشر والفساد {بِأَنَّهُمْ} أي بسببِ أنَّهم {قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأميين} أيْ في شأنِ مَنْ ليس من أهل الكتاب {سَبِيلٍ} أي عتابٌ ومؤاخذة {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب} بادعائهم ذلك {وهم يعلمون} أنهم كاذبون مفترون على الله تعالى وذلك لأنه أستحلوا أظلم من خالفهم وقالوا لم يُجعل في التوراة في حقهم حُرمةٌ وقيل عامل اليهودُ رجالاً من قريشٍ فلما أسلموا تقاضَوْهم فقالوا سقط حقُّكم حيث تركتم دينَكم وزعَموا أنه كذلك في كتابهم وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه قال عند نزولِها كذب أعداء الله

76 - 77 78 آل عمران ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانةَ فإنها مؤاده إلى البَرِّ والفاجر

76

{بلى} إثباتٌ لما نفَوْه أي بلى عليهم فيهم سبيلٌ وقولُه تعالى {مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ واتقى فَإِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} استئنافٌ مقرِّر للجملة التي سد بلى مسدَّها والضميرُ المجرور لمن أو لله تعالى وعمومِ المتقين نائبٌ منابَ الراجعِ من الجزاء إلى مَنْ ومُشعِرٌ بأن التقوى مَلاكُ الأمرِ عامٌّ للوفاء وغيرِه من أداء الواجباتِ والاجتنابِ عن المناهي

77

{إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ} أي يستبدلون ويأخُذون {بِعَهْدِ الله} أي بدلَ ما عاهدوا عليه من الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والوفاءِ بالأمانات {وأيمانهم} وبما حلفوا به من قولهم والله لنُؤمِنن به ولننصُرَنّه {ثَمَناً قَلِيلاً} هو حُطامُ الدنيا {أولئك} الموصوفون بتلك الصفاتِ القبيحةِ {لاَ خلاق} لا نصيبَ {لَهُمْ فِى الآخرة} من نعيمها {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله} أي بما يسُرّهم أو بشيء أصلاً وإنما يقع ما يقع من السؤال والتوبيخِ والتقريعِ في أثناء الحساب من الملائكةِ عليهمِ السَّلامُ أولا ينتفعون بكلماتِ الله تعالى وآياتِه والظاهرُ أنه كنايةٌ عن شدة غضبِه وسَخَطِه نعوذ بالله من ذلك لقوله تعالى {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة} فإنه مَجازٌ عن الاستهانة بهم والسخطِ عليهم متفرِّعٌ على الكناية في حق من يجوزُ عليه النظرُ لأن مَن اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ثم كثُر حتى صار عبارةً عن الاعتداد والإحسانِ وإن لم يكن ثَمَّةَ نظَرٌ ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظرُ مجرد المعنى الإحسان مَجازاً عما وقع كنايةً عنه فيمن يجوزُ عليه النظر ويومَ القيامة متعلقٌ بالفعلين وفيه تهويل للوعيد {وَلاَ يُزَكّيهِمْ} أي لا يُثني عليهم أو لا يُطَهِّرهم من أوضار الأوزار {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} على ما فعلوه من المعاصي قيل إنَّها نزلتْ في أبي رافعٍ ولُبابةَ بنِ أبي الحقيق وحُيَيِّ بنِ أخطَبَ حرّفوا التوراة وبدلوا نعتَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأخذوا الرِّشوةَ على ذلك وقيل نزلت في الأشعث بنِ قيسٍ حيث كان بينه وبين رجل نزاعٌ في بئر فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له شاهداك أو يمينُه فقال الأشعث إذن يحلف ولا يبالي فقال صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين يستحق بها ما لا هو فيها فاجرٌ لقِيَ الله وهو عليه غضبان وقيل في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يكن اشتراها به

78

{وَإِنَّ مِنْهُمْ} أي من اليهود المحرِّفين {لَفَرِيقًا} ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأضرابِهما {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكتاب} أي يفنلونها بقراءته فيُميلونها عن المُنزّل إلى المحرّف أو يعطِفونها بشبه الكتاب وقرئ يُلوّون بالتشديد ويلُون بقلب الواو المضمومة همزةً ثم تخفيفِها بحذفها وإلقاء حركتها على ما قبلها

79 - آل عمران من الساكن {لِتَحْسَبُوهُ} أي المحرِّفَ المدلولَ عليه بقوله تعالى يلوون الخ وقرئ بالياء والضميرُ للمسلمين {مّنَ الكتاب} أي من جملته وقولُه تعالى {وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب} حالٌ من الضمير المنصوبِ أي والحالُ أنه ليس منه في نفس الأمرِ وفي اعتقادهم أيضاً {وَيَقُولُونَ} مع ما ذكر من اللَّيِّ والتحريف على طريقة التصريحِ لا بالتورية والتعريض {هُوَ} أي المحرفُ {مِنْ عِندِ الله} أي منزلٌ من عند الله {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} حالٌ من ضمير المبتدأ في الخبر أي والحالُ أنه ليس من عنده تعالى في اعتقادهم أيضاً وفيهِ من المبالغةِ في تشنيعهم وتقبيحِ أمرهم وكمال جراءتهم ما لا يخفى وإظهارُ الاسمِ الجليلِ والكتاب في محل الإضمارِ لتهويل ما أقدَموا عليه من القول {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وهم يعلمون} أنهم كاذبون ومفترون على الله تعالَى وهو تأكيدٌ وتسجيلٌ عليهم بالكذبِ على الله والتعمُّد فيه وعن ابن عباس رضي الله عنُهمَا هُم اليهودُ الذين قدِموا على كعب بنِ الأشرف وغيَّروا التوراةَ وكتبوا كتاباً بدَّلوا فيه صِفةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذت قريظةُ ما كتبوا فخلطوه بالكتاب الذي عندهم

79

{مَا كَانَ لِبَشَرٍ} بيانٌ لافترائهم على الأنبياءِ عليهم السلامُ حيث قال نصارى نجرانَ إنَّ عيسَى عليهِ السَّلامُ أمرنا أن نتخِذَه رباً حاشاه عليه السلام وإبطالٌ له إثرَ بيانِ افترائِهم على الله سبحانه وإبطالِه أي ما صح وما استقام لأحد وإنما قيل لِبَشَرٍ إشعاراً بعلة الحُكم فإن البشريةَ منافية للأمر الذي أسنده الكفرَةُ إليهم {أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب} الناطقَ بالحق الآمرَ بالتوحيد الناهيَ عن الإشراك {والحكم} الفهمُ والعلم أو الحكمةُ وهي السنة والنبوة {ثُمَّ يَقُولَ} ذلك البشرُ بعدما شرفه الله عز وجل بما ذُكر من التشريفات وعرّفه الحقَّ وأطلعه على شئونه العالية {لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى} الجارُّ متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ عبادا أي عباداً كائنين {مِن دُونِ الله} متعلقٌ بلفظ عباداً لما فيه من معنى الفعل أو صفةٌ ثانيةٌ له ويحتمِلُ الحاليةَ لتخصيص النكرةِ بالوصف أي متجاوزينَ الله تعالى سواءٌ كان ذلك استقلالاً أو اشتراكاً فإن التجاوزَ متحققٌ فيهما حتماً قيل إن أبا رافعٍ القُرَظيّ والسيدَ النجرانيَّ قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتريد أن نعبُدَك ونتخِذَك رباً فقال عليه السلام معاذَ الله أن يُعبَدَ غيرُ الله تعالى وأن نأمرَ بعبادة غيرِه تعالى فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرَني فنزلت وقيل قال رجلٌ من المسلمين يا رسول الله نسلِّم عليك كما يُسلّم بعضُنا على بعض أفلا نسجُد لك قال عليه السلام لا ينبغي أن يُسجَدَ لأحد من دونِ الله تعالَى ولكن أكرِموا نبيَّكم واعرِفوا الحقَّ لأهله {ولكن كُونُواْ} أي ولكن يقولُ كونوا {ربانيين} الربانيُّ منسوبٌ إلى الرب بزيادة الألف والنون كاللحياني والرقباني وهو الكاملُ في العلم والعمل الشديدُ التمسكِ بطاعة الله عز وجل ودينِه {بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} أي بسبب مُثابرتِكم على تعليم الكتابِ ودراستِه أي قراءتِه فإن جعْلَ خبرِ كان مضارعاً لإفادة الاستمرارِ التجددي وتكريرُ بما كنتم للإيذان باستقلال كلَ من استمرار التعليم واستمرار

80 - 81 آل عمران القراءةِ بالفضل وتحصيلِ الربانية وتقديمُ التعليم على الدراسة لزيادة شرفِه عليها أو لأن الخطابَ الأولَ لرؤسائهم والثاني لمن دونهم وقرئ تَعْلمون بمعنى عالمين وتُدَرِّسون من التدريس وتُدْرِسون من الإدراس بمعنى التدريس كأكرم بمعنى كرُم ويجوز أن تكون القراءةُ المشهورةُ أيضاً بهذا المعنى على تقدير بما تدْرُسونه على الناس

80

{وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا} بالنصب عطفاً على ثم يقولَ ولا مزيدةٌ لتأكيد معنى النَّفيِ في قوله تعالى {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} أي ما كان لبشر أن يستنبِئَه الله تعالى ثم يأمرَ الناس بعبادة نفسِه ويأمرَ باتخاذ الملائكةِ والنبيين أرباباً وتوسيطُ الاستدراك بين المعطوفَين للمسارعة إلى تحقيق الحقِّ ببيان ما يليق بشأنه ويحِقُّ صدورُه عنه إثرَ تنزيهِه عمَّا لا يليقُ بشأنه ويمتنِعُ صدورُه عنه وأما ماقيل من أنها غيرُ مزيدةٍ على معنى أنه ليس له أن يأمُرَ بعبادته ولا يأمرَ باتخاذِ أكفائِه أرباباً بل ينهى عنه وهو أدنى من العبادة فيقضي بفساده ما ذُكِر من توسيط الاستدراكِ بين الجملتين المتعاطفتين ضرورةَ أنهما حينئذ في حكم جملةٍ واحدة وكذا قوله تعالى {أَيَأْمُرُكُم بالكفر} فإنه صريحٌ في أن المرادَ بيانُ انتفاءِ كِلا الأمرَين قصداً لا بيانُ انتفاءِ الأولِ لانتفاءِ الثاني ويعضُده قراءةُ الرفعِ على الاستئناف وتجويزُ الحالية بتقدير المبتدإ أي وهو لا يأمرَكم إلى آخره بيِّنُ الفساد لما عرَفته آنفاً وقولُه تعالى {بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} يدل على أن الخطابَ للمسلمين وهم المستأذنون للسجود له عليه السلام

81

{وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين} منصوبٌ بمضمرٍ خُوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أي اذكر وقت أخذه تعالى ميثاقهم {لما آتيتكم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} قيل هو على ظاهره وإذا كان هذا حكمَ الأنبياءِ عليهم السلام كان الأممُ بذلك أولى وأحرى وقيل معناه أخذُ الميثاقِ من النبيين وأممِهم واستُغنيَ بذكرهم عن ذكرهم وقيل إضافةُ الميثاقِ إلى النبيين إضافةٌ إلى الفاعل والمعنى وإذْ أخذ الله الميثاقَ الذي وثّقه الأنبياءُ على أممهم وقيل المرادُ أولادُ النبيين على حذف المضاف وهم بنو إسرئيل أو سماهم نبيين تهكّماً بهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم لأنا أهلُ الكتاب والنبيون كانوا منا واللام في لَّمّاً موطئةٌ للقسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف وما تحتملُ الشرطيةَ ولتُؤمِنُنّ سادٌّ مسدَّ جوابِ القسم والشرط وتحتمل الخبرية وقرئ لَّمّاً بالكسر عَلى أنَّ مَا مصدريةٌ أي لأجل إيتائي إياكم بعضَ الكتاب ثم لمجئ رسولٍ مصدقٍ أخذَ الله لميثاق لتؤمِنُنَّ به ولتنصُرُنه أو موصولةٌ والمعنى أخذُه الذي آتيتُكموه وجاءكم رسولٌ مصدقٌ له وقرئ لَمّا بمعنى حين آتيتُكم أو لَمِنْ أجل ما آتيتُكم على أن أصله لَمِنْ ما بالإدغام فحُذف إحدى الميمات الثلاثِ استثقالاً {قَالَ} أي الله تعالى بعدَ ما اخذ الميثاق {أأقررتم} بما ذُكر {وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى}

أي عهدي سُمّيَ به لأنه يؤصَرُ أي يُشَدّ وقرئ بضم الهمزة إما لغةٌ كعبر وعبر أو جمع إصار وهو ما يشد به {قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قالوا {أَقْرَرْنَا} وإنما لم يذكر أخذهم الإصر اكتفاءً بذلك {قَالَ} تعالى {فَأَشْهِدُواْ} أي فليشهدْ بعضُكم على بعض بالإقرار وقيل الخطابُ فيه للملائكة {وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين} أي وأنا أيضاً على إقراركم ذلك وتشاهدكم شاهدٌ وإدخالُ مع على المخاطبين لما أنهم المباشِرون للشهادة حقيقةً وفيه من التأكيد والتحذير مالا يخفى

82

{فَمَنْ تولى} أي أعرض عما ذكر {بَعْدَ ذَلِكَ} الميثاقِ والتوكيدِ بالإقرار والشهادة فمعنى البُعد في اسم الإشارةِ لتفخيم الميثاق {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ والجمع باعتبارِ المَعْنى كَما أنَّ الإفراد في تولى باعتبار اللفظ وما فيه من معنى البعد للدلالة على تَرامي أمرهِم في السوءوبعد منزلتهم في الشروالفساد أي فأولئك المُتولُّون المتّصفون بالصفات القبيحةِ {هُمُ الفاسقون} المتمرِّدون الخارجون عن الطاعة من الكَفَرة فإن الفاسقَ من كل طائفةٍ مَنْ كان متجاوزاً عن الحد

83

{أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ} عطفٌ على مقدرٍ أي أيتوَلَّوْن فيبغون غيرَ دينِ الله وتقديمُ المفعولِ لأنه المقصودُ إنكارُه أو على الجملة المتقدمةِ والهمزةُ متوسطةٌ بينهما للإنكار وقرئ بتاء الخطاب على تقدير وقل لهم {وَلَهُ أَسْلَمَ من في السماوات والارض} جملةٌ حاليةٌ مفيدةٌ لوكادة الإنكار {طَوْعًا وَكَرْهًا} أي طائعين بالنظر واتباعِ الحجةِ وكارهين بالسيف ومعاينةِ ما يلجىء الى الأسلام كنَتْق الجبلِ وإدراكِ الغرقِ والإشرافِ على الموت أو مختارين كالملائكة والمؤمنين ومسخَّرين كالكفرة فإنهم لايقدرون على الامتناع عما قُضيَ عليهم {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} أي مَنْ فيهما والجمعُ باعتبار المعنى وقرئ بتاء الخطاب والجملةُ إما معطوفةٌ على ما قبلها منصوبة على الحالية وإما مستأنفةٌ سيقت للتهديد والوعيد

84

{قل آمنا بالله} أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يُخبرَ عن نفسه وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ بالإيمان بما ذُكر وجمعُ الضَّمير في قولِه تعالى {وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} وهو القرآنُ لما أنه منزلٌ عليهم أيضاً بتوسط تبليغِه إليهم أو لأن المنسوبَ إلى واحد من الجماعة قد يُنسَب إلى الكل أو عن نفسه فقط وهو الأنسبُ بما بعده والجمعُ لإظهار جلالةِ قدرِه عليه السلام ورفعةِ محلِّه بأمره بأن يتكلَّم عن نفسه على دَيْدَن الملوكِ ويجوز أن يكون الأمرُ عاماً والإفرادُ لتشريفه عليه السلام والإيذانِ بأنه عليه السلام أصلٌ في ذلك كما في قوله تعالى يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء {وَمَا أُنزِلَ على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالاسْبَاطَ} من الصحُف والنزولُ كما يعدى بإلى لانتهائه إلى الرسل يعدى بعلى لأنه من

85 - 86 آل عمران فوق ومن رام بأن على لكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وإلى لكون الخطاب للمؤمنين فقد تعسف ألا يُرى إلى قوله تعالى {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} الخ وقوله {آمنوا بالذي أنزِل على الذين آمنوا} الخ وإنما قدم المُنْزلُ على الرسول صلى الله عليه وسلم على ما أنزِل على سائر الرسل عليهم السلام مع تقدّمه عليه نزولاً لأنه المعروفُ له والعيار عليه والأسباطُ جمع سِبْط وهو الحافد والمراد بهم حفدة يعقوب عليه السلام وأبناؤه الاثنا عشرَ وذراريهم فإنهم حفدةُ إبراهيمَ عليه السلام {وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى} من التوراة والإنجيل وسائرِ المعجزاتِ الظاهرةِ بأيديهما كما ينبئ عنه إيثارُ الإيتاءِ على الإنزال الخاصِّ بالكتاب وتخصيصُهما بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى {والنبيون} عطفٌ على مُوسى وعيسى عليهما السَّلامُ أي وما أوتي النبيون من المذكورين وغيرهم {من ربهم} من الكتب والمعجزات {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ منهم} كدأب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض بل نؤمن بصِحةِ نبوةِ كلَ منهم وبحقّية ما أُنزل إليهم في زمانهم وعدمُ التعرّضِ لنفي التفريق بين الكتب لاستلزام المذكورِ إياه وقد مر تفصيله في تفسير قولِه تعالى {لاَ نفرِّق بَيْنَ أَحَدٍ من رُّسُلِهِ} وهمزة أحدٍ إما أصلية فهو اسم موضوع لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المفردُ والمثنى والمجموعُ والمذكرُ والمؤنث ولذلك صح دخولُ بين عليه كما في مثل المال بين الناس وإما مُبدلةٌ من الواو فهو بمعنى واحد وعمومُه لوقوعه في حيز النفي وصحة دخول بين عليه باعتبار معطوفٍ قد حُذف لظهوره أي بين أحدٍ منهم وغيرِه كما في قول النَّابغةِ ... فمَا كانَ بين الخيرِ إذ جاءَ سالما ... أبُو حَجَرٍ إلا ليالٍ قلائلُ ... أي بين الخيرِ وبينِي {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي منقادون او مخلصون له تعالى أنفسنا لا نجعلُ له شريكاً فيها وفيه تعريضٌ بإيمان أهلِ الكتاب فإنه بمعزل من ذلك

85

{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام} أي غيرَ التوحيد والانقيادِ لحكم الله تعالى كدأب المشركين صريحاً والمدّعين للتوحيد مع إشراكهم كأهل الكتابين {دِينًا} ينتحِلُ إليه وهو نصب على أنه مفعول ليبتغ وغيرَ الإسلام حال منه لما أنه كان صفةً له فلما قُدِّمت عليه انتصبت حالاً أو هو المفعول ودينا وتمييز لما فيه من الإبهامِ أو بدلٌ من غيرَ الإسلام {فَلَن يُقْبَلَ} ذلك {مِنْهُ} أبداً بل يُردّ أشدَّ ردَ وأقبحَه وقوله تعالى {وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين} إِمَّا حالٌ منَ الضميرِ المجرور أو استئنافٌ لا محلَّ له من الإعراب أي من الواقعين في الخُسران والمعنى أن المعرض عن الإسلامَ والطالبُ لغيره فاقدٌ للنفع واقعٌ في الخسران بإبطال الفطرةِ السليمةِ التي فُطر الناسُ عليها وفي ترتيب الرد والخُسران على مجرد الطلبِ دَلالةٌ على أن حال من تدين بغيرالإسلام واطمأنّ بذلك أفظعُ وأقبحُ واستُدل به على أنَّ الإيمانَ هو الإسلامُ إذْ لو كان غيرَه لم يقبل والجوابُ أنه ينفي قَبولَ كلِّ دينٍ يُغايرُه لا قبولَ كل ما يغاريره

86

{كَيْفَ يَهْدِى الله} إلى الحق

87 - 88 89 90 آل عمران {قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم} قيل هم عشرَةُ رهطٍ ارتدوا بعد ما آمنوا ولحِقوا بمكةَ وقيل هم يهودُ قُريظةَ والنَّضِير ومَنْ دان بدينهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به قبل مَبْعثِه {وَشَهِدُواْ أَنَّ الرسول حَقٌّ وَجَاءهُمُ البينات} استبعادٌ لأن يهديَهم الله تعالى فإن الحائدَ عن الحق بعد ما وضَحَ له منهمِكٌ في الضلال بعيدٌ عن الرشاد وقيل نفيٌ وإنكار له وذلك يقتضي أن لا تقبلَ توبةُ المرتد وقوله تعالى وَشَهِدُواْ عطفٌ على إيمانهم باعتبار انحلالِه إلى جملة فعليةٍ كما في قوله تعالى {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله} الخ فإنه في قوَّةِ أنْ يقالَ بعد أن آمنوا أو حالٌ من ضميرِ كفروا بإضمار قد وهو دليلٌ على أن الإقرارَ باللسان خارجٌ عن حقيقة الإيمان {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} أي الذين ظلموا أنفسَهم بالإخلال بالنظر ووضعِ الكفر موضِعَ الإيمان فكيف مَن جاءه الحقُّ وعرَفه ثم أعرض عنه والجملةُ اعتراضية أو حالية

87

{أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما مر من الصفات الشنيعة وما فيه من معنى البُعد لما مر مرارا وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {جَزَآؤُهُمْ} مبتدأٌ ثانٍ وقولُه تعالَى {أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} خبرُه والجملةُ خبرلأولئك وهذا يدلُّ بمنطوقه على جواز لعنِهم وبمفهومِه ينفي جوازَ لعنِ غيرِهم ولعل الفرقَ بينهم وبين غيرِهم أنهم مطبوعٌ على قلوبهم ممنوعون عن الهدى آيِسون من الرحمة رأساً بخلاف غيرِهم والمرادُ بالناس المؤمنون أو الكلُّ فإن الكافرَ أيضاً يلعن مُنكِرَ الحقِّ والمرتدِّ عنه ولكن لا يعرِف الحقَّ بعينه

88

{خالدين فِيهَا} في اللعنة أو العقوبةِ أو النار وإن لم تُذكر لدَلالة الكلامِ عليها {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي يُمهَلون

89

{إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد الارتدادِ {وَأَصْلَحُواْ} أي ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيَقبلُ توبتَهم ويتفضّلُ عليهم وهو تعليلٌ لما دل عليه الاستثناءُ وقيل نزلت في الحرث بنِ سويد حين ندِم على رِدَّته فأرسل إلى قومه أن يسألوا هل لي من توبة فأرسل إليه أخوه الحلاس الآيةَ فرجَع إلى المدينة فتاب

90

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم ثُمَّ ازدادوا كُفْرًا} كاليهود كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيلِ بعد الإيمانِ بموسى عليه السلام والتوراة ثم ازدادوا كفراً حيث كفروا بمحمَّدٍ عليهِ الصَّلاة والسَّلام والقرآنِ أو كفروا به عليه السلام بعد ما آمنوا به قبل مبعثِه ثم ازدادوا كفراً بالإصرار عليه والطعنِ فيه والصدِّ عن الإيمان ونقضِ الميثاق أو كقوم ارتدوا ولحِقوا بمكةَ ثم ازدادوا كفراً بقولهم نتربّصُ بِهِ رَيْبَ المَنون أو نرجِعُ إليه فننافِقُه بإظهار الإيمان {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} لأنهم لا يتوبون إلا عند إشرافِهم على الهلاك فكنّى عن

91 - 92 آل عمران عدم توبتِهم بعدم قبولِها تغليظاً في شأنهم وإبرازاً لحالهم في صورة حالِ الآيسين من الرحمة أو لأن توبتَهم لا تكونُ إلا نفاقاً لارتدادهم وازديادِهم كفراً ولذلك لم تدخُلْ فيه الفاء {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضالون} الثابتون على الضلال

91

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ من أحدهم ملء الارض ذَهَبًا وَلَوِ افتدى بِهِ} لمّا كان الموتُ على الكفر سبباً لامتناع قبولِ الفدية زيدت الفاء ههنا للإشعار به وملء الشئ ما يُملأ به وذهباً تمييز وقرئ بالرفع على أنه بدلٌ من ملء أو خبرٌ لمحذوفِ وَلَوِ افتدى محمولٌ على المعنى كأنه قيل فلن يقبل من أحدهم فديةٌ ولو افتدى بملء الأرضِ ذهباً أو معطوف على مضمر تقديرُه فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً لو تصدق به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب في الآخرة أو المرادُ ولو افتدى بمثلِه كقوله تعالى {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الارض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ} والمِثلُ يحذف ويراد كثيراً لأن المثلين في حكم شئ واحد {أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار اتصافِهم بالصفات الشنيعةِ المذكورة {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلمٌ اسمُ الإشارةِ مبتدأ والظرفُ خبرُه ولاعتماده على المبتدأ ارتفع به عذابٌ أليم على الفاعلية {وَمَا لَهُم مِن ناصرين} في دفعِ العذابِ عنُهم أو في تخفيفه ومن مزيدةٌ للاستغراق وصيغةُ الجمعِ لمراعاة الضميرِ أي ليس لواحدٍ منهم ناصرٌ واحد

92

{لَن تَنَالُواْ البر} مِنْ ناله نيلاً إذا أصابه والخطابُ للمؤمنين وهو كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان ما ينفعُ المؤمنين ويُقبلُ منهم إثر بيان مالا ينفعُ الكفرةَ ولا يُقبل منهم أي لن تبلُغوا حقيقةَ البِرِّ الذي يتنافس فيه المتنافسون ولن تُدركوا شأوَه ولن تلحَقوا بزُمْرة الأبرارِ أو لن تنالوا برَّ الله تعالى وهو ثوابُه ورحمتُه ورضاه وجنتُه {حتى تُنفِقُواْ} أي في سبيل الله عز وجل رغبة فيما عنده ومِنْ في قولِه تعالَى {مِمَّا تُحِبُّونَ} تبعيضيّة ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ بعضَ ما تحبون وقيل بيانيةٌ وما موصولةٌ أو موصوفةٌ أي مما تهوَوْن ويُعجبُكم من كرائمِ أموالِكم وأحبَّها إليكم كما في قوله تعالى أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ أو مما يعُمّها وغيرَها من الأعمال والمهجة على أن المرادَ بالإنفاق مطلقُ البذلِ وفيه من الإيذان بعزة منالِ البرِّ مالا يخفى وكان السلف رضي الله عنهم إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله عز وجل ورُوي أنَّها لمَّا نزلتْ جاء أبو طلحةَ فقالَ يا رسولَ الله إن أحب أموالى إلى بير حاء فضعْها يا رسولَ الله حيث أراك الله فقال عليه السلام بخٍ بخٍ ذاك مال رايح أو رابحٌ وإني أرى أن تجعلَها في الأقربين فقسَمها في أقاربه وجاء زيدُ بنُ حارثةَ بفرسٍ له كان يحبُّها فقال هذه في سبيل الله فحمل على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم أسامةَ بنَ زيدٍ فكأن زيداً وجَدَ في نفسه وقال إنما أردتُ أن أتصدق به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنَّ الله تعالى قد قبِلها منك قيل وفيه دلالة على أن إنفاقَ أحبِّ الأموالِ على أقربِ الأقاربِ أفضلُ وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أن يشتريَ له جاريةً من سبي جلولاء يوم فُتِحت مدائنُ كسرى فلما جاءت إليه أعجبتْه

93 - آل عمران فقال إنَّ الله تعالى يقول لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ فأعتقها وروي أن عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ كانت لزوجته جاريةٌ بارعةُ الجمال وكان عمرُ راغباً فيها وكان قد طلبها منها مراراً فلم تُعطِها إياه ثم لما وليَ الخِلافةَ زيَّنَتْها وأرسلتها إليه فقالت قد وهبتُكَها يا أميرَ المؤمين فلتخدُمْك قال من أين ملكتِها قالت جئتُ بها من بيت أبي عبدِ الملك ففتش عن كيفية تملكه إياها فقيل إنه كان على فلانٍ العاملِ ديونٌ فلما تُوفيَ أُخِذت من ترِكَته ففتش عن حال العاملِ وأحضر ورثتَه وأرضاهم جميعاً بإعطاء المالِ ثم توجّه إلى الجارية وكان يهواها هوىً شديداً فقال أنت حرةٌ لوجه الله تعالى فقالت لمَ يا أميرَ المؤمنين وقد أزحْتَ عن أمرها كلَّ شُبهة قال لستُ إذن ممن نهى النفسَ عن الهوى {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء} ما شرطيةٌ جازمةٌ لتنفقوا منتصبة به على المفعولية ومن تبعيضية متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لاسم الشرطِ أي أي شئ تنفقوا كائناً من الأشياء فإن المفردَ في مثل هذا الموضعِ واقعٌ موقعَ الجمعِ وقيل محلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز أي أي شيء تنفقوا طيباً تحبُّونه أو خبيثاً تكرَهونه {فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} تعليلٌ لجوابِ الشرطِ واقعٌ موقِعَه أي فمجازيكم بحسبه جيداً كان أو رديئاً فإنه تعالى عليمٌ بكل شيءٍ تُنفِقونه علماً كاملاً بحيثُ لا يخفى عليه شيءٌ من ذاته وصفاته وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصلِ وفيهِ من الترغيبِ في إنفاق الجيدِ والتحذيرِ عن انفاق الرديء مالا يخفى

93

{كُلُّ الطعام} أي كلُّ أفرادِ المطعوم أو كلُّ أنواعِه {كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسرائيل} أي حلالاً لهم فإن الحلَّ مصدرٌ نُعت به ولذلك استوى فيه الواحدُ والجمعُ والمذكرُ والمؤنثُ كما في قوله تعالى {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ} {إِلاَّ ما حرم إسرائيل على نَفْسِهِ} استثناءٌ متصلٌ من اسم كان أي كان كلُّ المطعوماتِ حلالاً لبني إسرائيلَ إلا ما حرم إسرائيلُ أي يعقوبُ عليه السلام على نفسه وهو لحومُ الإبلِ وألبانُها قيل كان به وجعُ النَّسا فنذَرَ لئن شُفِيَ لا يأكلُ أحبَّ الطعامِ إليه وكان ذلك أحبَّه إليه وقيل فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباءِ واحتجَّ به من جوَّز للنبي الاجتهادَ وللمانع أن يقولَ كان ذلك بإذنٍ من الله تعالى فيه فهو كتحريمه ابتداءً {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة} متعلقٌ بقوله تعالى كَانَ حِلاًّ ولا ضيرَ في توسيط الاستثناءِ بينهما وقيل متعلق بحرَّمَ وفيه أن تقييدَ تحريمِه عليه السلام بقَبْلية تنزيلِ التوراة ليس فيه مزيدُ فائدةٍ أي كان ما عدا المستثنى حلالاً لهم قبلَ أَن تنزّلَ التوراةُ مشتمِلةً على تحريمَ ما حُرِّم عليهم لظلمهم وبغيهم عقوبةً لهم وتشديداً وهو ردٌّ على اليهود في دعواهم البراءةَ عما نعى عليهم قولُه تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ وقوله تعالى وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ الآيتين بأن قالوا لسنا أولَ من حرمت عليه وإنما كانت محرمةً على نوح وإبراهيمَ ومَنْ بعدَهما حتى انتهى الأمرُ إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا وتبكيتٌ لهم في منع النسخِ والطعنِ في دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم موافقتَه لإبراهيمَ عليه السلام بتحليله لحومِ الإبلِ وألبانِها {قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها}

أمر عليه السلام بأن يُحاجَّهم بكتابهم الناطقِ بأن تحريمَ ما حُرِّم عليهم تحريمٌ حادثٌ مترتِّبٌ على ظلمهم وبغيهم كلما ارتكبوا معصيةً من المعاصي التي اقترفوها حُرِّم عليهم نوعٌ من الطيبات عقوبةً لهم ويكلّفهم إخراجَه وتلاوتَه ليُبَكِّتَهم ويُلقِمَهم الحجَرَ ويُظهرِ كذِبَهم وإظهارُ اسم التوراةِ لكون الجملةِ كلاماً مع اليهود منقطعاً عما قبله وقوله تعالى {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في دعواكم أنه تحريمٌ قديمٌ وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكور عليهِ أيْ إنْ كنتُم صادقين فأتوا بالتوراة فاتلوها فإن صدْقَكم مما يدعوكم إلى ذلك اْلبتةَ روي أنهم لم يجسَروا على إخراج التوراةِ فبُهتوا وانقلبوا صاغرين وفي ذلك من الحجة النيرة على صدق النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وجوازِ النسخ الذي يجحَدونه مالا يخفى والجملةُ مستأنفةٌ مقرِّرة لما قبلها

94

{فَمَنِ افترَى عَلَى الله الكذبَ} أي اختلقه عليه سبحانه بزعمه أنه حرَّم ما ذُكر قبل نزولِ التوراةِ على بني إسرائيلَ ومن تقدَّمهم من الأمم {مِن بَعْدِ ذلك} مّن بَعْدِ مَا ذُكر من أمرهم بإحضار التوراةِ وتلاوتِها وما ترتب عليه من التبكيت والإلزامِ والتقييدُ به للدَلالة على كمال القبحِ {فَأُوْلَئِكَ} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلةِ والجمعُ باعتبارِ معناه كما أن الإفراد في الصلة باعتبار لفظِه وما فيه من معنى البعد للإيذانِ ببُعد منزلِتهم في الضلال والطُغيان أي فأولئك المُصِرُّون على الافتراء بعد ما ظهرت حقيقةُ الحال وضافت عليهم حَلْبةُ المُحاجَّة والجدالِ {هُمُ الظالمون} المفْرِطون في الظلم والعُدوان المُبْعِدون فيهما والجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مَسوقةٌ من جهته تعالى لبيان كمالِ عُتوِّهم وقيل هي في محل النصبِ داخلةٌ تحت القولِ عطفاً على قوله تعالى فَأْتُواْ بالتوراة

95

{قُلْ صَدَقَ الله} أي ظهر وثبت صِدقُه تعالى فيما أنزل في شأن التحريمِ وقيل في قوله تعالى {مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا} الخ أو صَدَق في كلِّ شأنٍ من الشئون وهو داخلٌ في ذلك دخولاً أولياً وفيه تعريضٌ بكذبهم الصريح {فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم} أيْ ملةَ الإسلامِ التي هي في الأصل ملة إبراهيم عليه السلام فإنكم ما كنتم متّبعين لمِلّته كما تزعُمون أو فاتبعوا مثل مِلَّته حتى تتخلصوا من اليهودية التي اضطَرَّتْكم إلى التحريف والمكابرة وتلفيقِ الأكاذيبِ لتسوية الأغراضِ الدنيئةِ الدنيويةِ وألزمتكم تحريمَ طيباتٍ محلَّلةٍ لإبراهيمَ عليه السلام ومن تبعه والفاءُ للدِلالة على أن ظهورَ صدقِه تعالى موجبٌ للاتباع وتركِ ما كانوا عليه {حَنِيفاً} أي مائلاً عن الأديان الزائغةِ كلِّها {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} أي في أمر من أمور دينِه أصلاً وفرعاً وفيه تعريضٌ بإشراك اليهودِ وتصريحٌ بأنه عليه السلام ليس بينه وبينهم علاقةٌ دينيةٌ قطعاً والغرضُ بيانُ أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم على دين إبراهيمَ عليه السلام في الأصول لأنه لا يدعو إلا إلى التوحيد والبراءةِ عن كل معبودٍ سواه سبحانه وتعالى والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها

96

{إن أوَّلُ بيت وُضع لِلنَّاسِ} شروعٌ في بيان كفرِهم ببعض آخر

97 - آل عمران من شعائر ملتِه عليه السلام إثرَ بيانِ كفرِهم بكون كلِّ المطعومات حِلاًّ له عليه السلام رُوي أنهم قالوا بيتُ المقدس أعظمُ من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة وقال المسلمين بل الكعبةُ أعظمُ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلتْ أي إن أولَ بيتٍ وُضع للعبادة وجُعِل مُتعبَّداً لهم والواضعُ هُو الله تعالَى ويؤيِّده القراءةُ على البناء للفاعل وقوله تعالى {لَلَّذِى بِبَكَّةَ} خبرٌ لإن وإنما أُخبر بالمعرفة مع كونِ اسمِها نكرةً لتخصُّصها بسببين الإضافةِ والوصفِ بالجملة بعدها أي لَلْبيتُ الذي ببكةَ أي فيها وفي ترك الموصوفِ من التفخيم مالا يخفى وبكةُ لغةٌ في مكةَ فإن العربَ تعاقِبُ بين الباء والميم كما في قولهم ضربةُ لازبٍ ولازم والنميطُ والنبيط في اسم موضعٍ بالدَّهناء وقولِهم أمرٌ راتبٌ وراتمٌ وسبّد رأسَه وسمّدها وأغبطت الحمى وأغمطت وهي عَلَم للبلد الحرام من بكّة إذا زحَمه لازدحام الناس فيه وعن قتادة يُبكُّ الناسُ بعضُهم بعضاً أو لأنها تُبكُّ أعناقَ الجبابرة أي تدُقُّها لم يقصِدْها جبارٌ إلاقصمه الله عز وجل وقيل بكةُ اسمٌ لبطن مكةَ وقيل لموضع البيتِ وقيل للمسجد نفسِه ومكةُ اسمٌ للبلد كلِّه وأيَّد هذا بأن التَّباكَّ وهو الازدحامُ إنما يقع عند الطوافِ وقيل مكةُ اسمٌ للمسجد والمطاف وبكةٌ اسمٌ للبلد لقوله تعالى {لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} روي أنه عليه السلام سُئل عن أوَّلُ بيت وُضع للنَّاسِ فقال المسجدُ الحرام ثم بيتُ المقدس وسئل كم بينهما فقال أربعون سنة وقيل أولُ من بناه إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل آدمُ عليه السلام وقد استوفينا ما فيه من الأقاويل في سُورة البقرةِ وقيل أولُ بيتٍ وضعَ بالشرف لا بالزمان {مُبَارَكاً} كثيرَ الخير والنفعِ لِمَا يحصُل لمن حجَّه واعتمره واعتكف دونه وطاف حوله من الثواب وتكفيرِ الذنوب وهو حال من المستكن في الظرف لأن التقديرَ للذي ببكةَ هو والعاملُ فيه ما قُدّر في الظرف من فعل الاستقرار {وهدى للعالمين} لأنه قبلتُهم ومُتعبَّدُهم ولأن فيه آياتٍ عجيبةً دالةٍ على عظيم قدرتِه تعالى وبالغِ حكمتِه كما قال

97

{فيه آيات بينات} واضحاتٌ كانحراف الطيورِ عن موازاة البيتِ على مدى الأعصارِ ومخالطةِ ضواري السباعِ الصيودَ في الحرم من غير تعرُّضٍ لها وقهر الله تعالى لكل جبارٍ قصَده بسوء كأصحاب الفيل والجملةُ مفسرةٌ للهدى أو حالٌ أخرى {مَّقَامِ إبراهيم} أي أثرُ قدميه عليه السلام في الصخرة التي كان عليه السلام يقوم عليها وقتَ رفعِ الحجارةِ لبناء الكعبةِ عند ارتفاعِه أو عند غسلِ رأسِه على مَا رُوي أنَّه عليه السلام جاء زائراً من الشام إلى مكةَ فقالت له امرأةُ إسمعيل عليه السلام انزلْ حتى أغسِلَ رأسَك فلم ينزِل فجاءته بهذا الحجرِ فوضعتْه على شقه الأيمنِ فوضع قدمَه عليه حتى غسَلت شِقَّ رأسِه ثم حولتْه إلى شقه الأيسرِ حتى غسلت الشق الآخر فقى أثرُ قدميه عليه وهو إما مبتدأٌ حُذف خبرُه أي منها مقامُ إبراهيمَ أو بدلٌ من آياتٌ بدلَ البعضِ من الكل أو عطفُ بيانٍ إما وحدَه باعتبار كونِه بمنزلة آياتٍ كثيرةٍ لظهور شأنِه وقوةِ دَلالتِه على قدرة الله تعالى وعلى نبوة إبراهيمَ عليه

الصلاة والسلام كقوله تعالى {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قانتا} أو باعتبار اشتمالِه على آياتٍ كثيرةٍ فإن كلَّ واحدٍ من أثر قدميه في صخرةٍ صمَّاءَ وغوْصِه فيها إلى الكعبين وإلانةِ بعضِ الصخور دون بعضٍ وإبقائِه دون سائرِ آياتِ الأنبياءِ عليهم السلام وحفظِه مع كثرة الأعداء ألوف سنةٍ آيةٌ مستقلةٌ ويؤيده القراءةُ على التوحيد وإما بما يُفهمُ من قولهِ عزَّ وجلَّ {ومن دخله كان آمنا} المعنى فإنه وإن كان جملةً مستأنفةً ابتدائيةً أو شرطيةً لكنها في قوةِ أنْ يقالَ وأَمِنَ مَنْ دَخَله فتكون بحسب المعنى والمآلِ معطوفةً على مقامُ إبراهيمَ ولا يخفى أن الأثنينِ نوعٌ من الجمع فيكتفى بذلك أو يحملُ على أنه ذُكر من تلك الآياتِ اثنتان وطُويَ ذكرُ ما عداهما دَلالةً على كثرتها ومعنى أمْنِ داخلِه أمنُه من التعرُّض له كما في قوله تعالى أو لم يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمنا وَيُتَخَطَّفُ الناسُ مِنْ حَوْلِهِمْ وذلك بدعوة إبراهيمَ عليه السلام رَبّ اجعل هذا البلد امِنًا وكان الرجلُ لوْ جَرَّ كلَّ جريرةٍ ثم لجأ إلى الحرم لم يُطلب وعن عمرَ رضي الله عنه لو ظفِرتُ فيه بقاتل الخطاب مامسسته حتى يخرُجَ منه ولذلك قالَ أبُو حنيفةَ رحمَهُ الله تعالى من لزِمه القتلُ في الحِلّ بقصاص أو رِدَّةً أو زنىً فالتجأ إلى الحرم لم يُتعرَّضْ له إلا أنه لا يؤوى ولايطعم ولايسقى ولا يُبايَع حتى يُضْطَرَّ إلى الخروج وقيل أمنُه من النار وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من مات في أحد الحرَمين بُعث يومَ القيامة آمنا وعنه عليه الصلاة والسلام الحَجونُ والبقيعُ يؤخذ بأطرافهما ويُنثرَانِ في الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة عنِ ابنِ مسعودٍ رضيَ الله عنه وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثنيّة الحَجونِ وليس بها يومئذ مقبرَةٌ فقال يبعث الله تعالى من هذه البقعةِ ومن هذا الحرَم كلِّه سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخُلون الجنة بغير حساب يشفعُ كلُّ واحدٍ منهم في سبعين ألفاً وجوهُهم كالقمر ليلة البدر وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من صَبَر على حرَّ مكةَ ساعةً من نهار تباعدت عنه جهنمُ مسيرةَ مائتي عام {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} جملةٌ من مبتدإٍ هو حِجُّ وخبرٍ هو لله وقولُه تعالى عَلَى الناس متعلقٌ بما تعلَّق بهِ الخبرُ من الاستقرار أو بمحذوفٍ هو حالٌ من الضَّمير المستكنِّ في الجار والعاملُ فيه ذلك الاستقرارُ ويجوز أن يكونَ عَلَى الناس هو الخبرُ ولله متعلقٌ بما تعلَّق بهِ الخبرُ وَلا سبيلَ إلى أن يتعلقَ بمحذوفٍ هو حالٌ من الضمير المستكن في على الناس لاستلزامه تقديم الحال على العامل المعنوي وذلك مما لا مساغَ له عند الجمهور وقد جوّزه ابنُ مالكٍ إذا كانت هي ظرفاً أو حرفَ جر وعاملُها كذلك بخلاف الظرف وحرف الجر فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوي واللامُ في البيت للعهد وحجُّه قصْدُه للزيارة على الوجه المخصوص المعهود وكسر الحاء لغةُ نجدٍ وقيل هو اسمٌ للمصدر وقرئ بفتحها {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} في محل الجرِّ على أنَّه بدلٌ من النَّاسِ بدلَ البعضِ من الكل مخصِّصٌ لعمومه فالضميرُ العائد إلى المُبدْل منه محذوفٌ أي من استطاع منهم وقيل بدلَ الكلِّ على أن المرادَ بالناس هو البعضُ المستطيعُ فلا حاجةَ إلى الضمير وقيل في محلِ الرفعِ على أنه خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ أي هم من استطاع الخ وقيل في حيز النصبِ بتقدير أعني وقيل كلمةُ مِنْ شرطيةٌ والجزاءُ محذوف لدلالة المذكور عليه وكذا العائدُ إلى الناس أي من استطاع منهم إليه سبيلاً فلله عليه حِجُّ البيت وقد رُجِّحَ هذا بكون ما بعده شرطية والضميرُ المجرورُ في إليه راجعٌ إلى البيت أو إلى حِجّ والجارُّ متعلقٌ بالسبيل قُدِّم عليه اهتماماً بشأنه كما في قوله عز وجل فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سبيل وهل إلى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ لما فيه من معنى

98 - آل عمران الإفضاءِ والإيصالِ كيف لا وهو عبارةٌ عن الوسيلة من مال أو غيرِه فإنه قد روى أنسُ بنُ مالكٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال السبيلُ الزادُ والراحلة وروى ابنُ عمرَ رضيَ الله عنهما أنَّ رجلاً قالَ يا رسولَ الله ما السبيلُ قال الزاد والرحلة وهو المراد بما رُوي أنه عليه السلام فسَّر الاستطاعةَ بالزاد والراحلة وهكذا روي عن ابن عباس وابنُ عُمر رضي الله عنهم وعليه أكثرُ العلماء خلا أن الشافعيَّ أخذ بظاهره فأوجب الاستنابةَ على الزَّمِنِ القادر على أُجرة مَنْ ينوب عنه والظاهرُ أن عدمَ تعرُّضِه عليه السلام لصِحة البدنِ لظهور الأمر كيف لا والمفسَّرُ في الحقيقة هو السبيلُ الموصِلُ لنفس المستطيع إلى البيت وذا لا يُتصوَّرُ بدون الصحة وعن ابن الزبير أنه على قدر القوة ومذهب مالك أن الرجل إذا وثق بقوته لزمه وعنه ذلك على قدر الطاقة وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدرُ على السفر وقد يقدر عليه من لا راحلة له ولا زاد وعن الضحاك أنه إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع {ومن كفر} وضع من كفر موضع من لم يحج تأكيدا لوجوبه وتشديدا على تاركه ولذلك قال عليه السلام من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا وروى عن عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضيَ الله عنه أنَّه عليه السلام قال في خطبته أيها الناس إن الله فرض الحج على مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا او مجوسيا {فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين} وعن عبادتهم وحيث كان من كفر من جملتهم داخلا فيها دخولا أوليا اكتفى بذلك عن الضمير الرابط بين الشرط والجزاء ولقد حازت الآية الكريمة من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بامر الحج والتشديد على تاركه مالا مزيد عليه حيث أوثرت صيغة الخبر الدالة على التحقيق أو برزت في صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبات والاستمرار على وجه يفيد أنه حق واجب لله سبحانه في ذمم الناس لا انفكاك لهم عن أدائة والخروج عن عهدته وسلك بهم مسلك التعميم ثم التخصيص والإبهام ثم التبيين والإجمال ثم التفصيل لما في ذلك من مزيد تحقيق وتقرير وعبر عن تركه بالكفر الذي لا قبيح وراءه وجعل جزاءه استغناءه تعالى المؤذن بشدة المقت وعظم السخط لا عن تاركه فقط فإنه قد ضرب عنه صفحا إسقاطا له عن درجة الاعتبار واستهجانا بذكره بل عن جميع العالمين ممن فعل وترك ليدل على نهاية شدة الغضب هذا وقال ابن عباس والحسن وعطاء رضي الله عنهم ومن كفر أي جحد فرض الحج وزعم انه ليس بواجب وعن سعيد بن المسيب نزلت في اليهود فإنهم قالوا الحج إلى مكة غير واجب ورُوي أنَّه لمَّا نزلَ قوله تعالى {وَللَّهِ عَلَى الناس حج البيت} جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا لا نؤمن به ولا نصلى إليه ولا نحجة فنزل ومن كفر وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع إلى السماء في الثالثة وروى حجوا قبل أن يمنع البر جانبه وعن ابن مسعود حجوا هذا البيت قبل ان ينبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت وعن عمر رضي الله عنه لو ترك الناس الحج عاما واحدا مانوظروا

98

{قل يا أهل الكتاب} هم اليهودُ والنصارى

99 - آل عمران وإنما خُوطبوا بعنوان أهليةِ الكتابِ الموجبةِ للإيمان به وبما يصدّقه من القرآن العظيمِ مبالغةً في تقبيح حالِهم في كفرهم بها وقوله عز وجل {لِمَ تَكْفُرُونَ بأيات الله} توبيخٌ وإنكارٌ لأن يكون لكفرهم بها سببٌ من الأسباب وتحقيقٌ لما يوجِبُ الاجتنابَ عنه بالكلية والمرادُ بآياته تعالى ما يعُمُّ الآيات القرآنيةَ التي من جملتها ما تُليَ في شأن الحجِّ وغيرِه وما في التوراة والأنجيلِ من شواهد نبوته عليه السلام وقولُه تعالى {والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} حالٌ من فاعل تكفُرون مفيدةٌ لتشديد التوبيخِ وتأكيدِ الإنكار وإظهارُ الجلالةِ في موقعِ الإضمار لتربية المهابة وتهويل الخطبِ وصيغةُ المبالغةِ في شهيدٌ للتشديد في الوعيد وكلمةُ مَا إما عبارةٌ عن كفرهم أو هي على عمومها وهو داخلٌ فيها دُخولاً أولياً والمعنى لأي سبب تكفُرون بآياته عز وجل والحال أنَّه تعالَى مبالغٌ في الاطلاع على جميع أعمالِكم وفي مجازاتكم عليها ولاريب في أن ذلك يسُدُّ جميعَ أنحاءِ ما تأتونه ويقطع أسبابَه بالكلية

99

{قل يا أهل الكتاب} أمرٌ بتوبيخهم بالإضلال إثرَ توبيخِهم بالضلال والتكريرُ للمبالغة في حَمله عليه السلام على تقريعهم وتوبيخِهم وتركُ عطفِه على الأمر السابقِ للإيذان باستقلالهم كما ان قطع فوله تعالى {لِمَ تَصُدُّونَ} عن قوله تعالى لِمَ تَكْفُرُونَ للإشعار بأن كلَّ واحدٍ من كُفرهم وصدِّهم شناعةٌ على حيالها مستقِلةٌ في استتباع اللائمةِ والتقريعِ وتكريرُ الخطابِ بعنوان أهليةِ الكتابِ لتأكيد الاستقلالِ وتشديدِ التشنيع فإن ذلك العنوانَ كما يستدعي الإيمانَ بما هو مصدِّقٌ لما معهم يستدعي ترغيبَ الناسِ فيه فصدُّهم عنه في أقصى مراتبِ القَباحةِ ولكون صدِّهم في بعض الصورِ بتحريف الكتابِ والكفرِ بالآياتِ الدالةِ على نبوته عليه السلام وقرئ تُصِدّون من أصَدَّه {عَن سَبِيلِ الله} أي دينِه الحقِّ الموصلِ إلى السعادة الأبدية وهو التوحيدُ وملةُ الإسلام {من آمن} مفعول لتصُدُّون قُدِّم عليه الجارُّ والمجرور للاهتمام به كانوا يفتِنون المؤمنين ويحتالون لصدهم عنه ويمنعون من أراد الدخولَ فيه بجُهدهم ويقولون إن صفتَه عليه السلام ليست في كتابهم ولا تقدّمت البِشارةُ به عندهم وقيل أتت اليهودُ الأوسَ والخزرجَ فذكّروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا إلى ماكانوا فيه {تَبْغُونَهَا} على إسقاط الجارِّ وإيصالِ الفعلُ إلى الضمير كما في قوله ... فتولى غلامُهم ثم نادى ... أظليماً أصيدُكم أم حمارا ... بمعنى أصيدُ لكم أي تطلُبون لسبيل الله التي هي أقومُ السبل {عِوَجَا} اعوجاجاً بأن تَلْبِسوا على الناس وتُوهِموا أن فيه ميلاً عن الحق بنفي النسخِ وتغييرِ صفةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك والجملة حال من فاعل تصُدّون وقيل من سبيل الله {وَأَنْتُمْ شُهَدَاء} حالٌ من فاعل تصُدون باعتبار تقييدِه بالحال الأولى أو من فاعل تبغونها أي والحالُ أنكم شهداءُ تشهدون بأنها سبيلُ الله لا يحوم حولَها شائبةُ اعوجاجٍ وأن الصدَّ عنها إضلالٌ قال ابن عباس رضي الله عنهما اى شهداء أن في التوراة إن دينَ الله الذي لا يُقبل غيرُه هو الإسلامُ أو وأنتم عدولٌ فيما بينكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا

100 - آل عمران وعظائمِ الأمور {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} اعتراضٌ تذييليٌ فيه تهديدٌ ووعيدٌ شديدٌ قيل لما كان صدُّهم للمؤمنين بطريق الخُفْية خُتمت الآيةُ الكريمة بما يحسِمُ مادةَ حيلتهم من إحاطة علمِه تعالى بأعمالهم كما أن كفرَهم بآياتِ الله تعالى لمّا كان بطريق العلانيةِ خُتمت الآية السابقةُ بشهادته تعالى على ما يعملون

100

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمانكم كافرين} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى المؤمنين تحذيراً لهم عن طاعة أهلِ الكتابِ والافتتانِ بفتنتهم إثرَ توبيخِهم بالإغواء والإضلالِ ردعاً لهم عن ذلك وتعليقُ الردِّ بطاعة فريقٍ منهم للمبالغة في التحذير عن طاعتهم وإيجابِ الاجتنابِ عن مصاحبتهم بالكلية فإنه في قوَّةِ أنْ يُقال لا تُطيعوا فريقاً الخ كما أن تعميمَ التوبيخِ فيما قبله للمبالغة في الزجر أو للمحافظة على سبب النزولِ فإنه رُوي أن نفراً من الأوس والخزرج كانوا جُلوساً يتحدثون فمرّ بهم شاسُ بنُ قيسٍ اليهوديُّ وكان عظيمَ الكفرِ شديدَ الحسَدِ للمسلمين فغاظه ما رأى منهم من تآلُفِ القلوبِ واتحادِ الكلمةِ واجتماعِ الرأي بعد ما كان بينهم من العداوة والشنَآنِ فأمر شاباً يهودياً كان معه بأن يجلِسَ إليهم ويذكِّرَهم يوم بُعاثَ وكان ذلك يوماً عظيماً اقتتل فيه الحيانِ وكان الظفرُ فيه للأوس ويُنشِدُهم ما قيل فيه من الأشعار ففعل فتفاخرَ القومُ وتغاضبوا حتى تواثبوا وقالوا السلاحَ السلاحَ فاجتمع من القبيلتين خلقٌ عظيم فعند ذلك جاءهم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وأصحابُه فقال أتدْعون الجاهليةَ وأنا بين أظهُرِكم بعد أن أكرمكم الله تعالى بالإسلام وقطع به عنكم أمرَ الجاهلية وألَّف بينكم فعلموا انها نزغة من الشيطان وكيدٌ من عدوهم فألقَوُا السلاح واستغفروا وعانق بعضُهم بعضاً وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الإمامُ الواحديُّ اصطفوا للقتال فنزلت الآيةُ إلى قوله تعالى لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ فجاء النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم حتى قام بين الصفَّيْن فقرأهنّ ورفعَ صوتَه فلما سمعوا صوتَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنصَتوا له وجعلوا يستمعون له فلما فرَغ ألقَوا السلاح وعانق بعضُهم بعضاً وجعلوا يبكون وقوله تعالى كافرين إما مفعولٌ ثانٍ ليردُّوكم على تضمين الردِّ معنى التصيير كما في قوله رَمَى الحِدْثانُ نِسْوةَ آلِ سَعْد بمقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُوداً ... فردَّ شعورَهُنَّ السودَ بيضا ورد وجوههن البيضَ سودا أو حالٌ من مفعول والأول أدخَلُ في تنزيه المؤمنين عن نسبتهم إلى الكفر لما فيه من التصريح بكون الكفرِ المفروضِ بطريق القسر وإيراد الظرف مع عدم الحاجة إليه ضرورةَ سبقِ الخطابِ بعنوان المؤمنين واستحالةِ تحققِ الردِّ إلى الكفر بدون سبق الإيمان مع توسيطه بين المفعولين لإظهار كمال شناعة الكفرِ وغايةِ بُعدِه من الوقوع إما لزيادة قبحه الصارفِ العاقلِ عن مباشرته أو لممانعة الإيمانِ له كأنه قيل بعد إيمانِكم الراسخِ وفيه من تثبيت المؤمنين مالا يخفى

101 - 102 آل عمران

101

{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} استفهامٌ إنكاريٌّ بمعنى إنكارِ الوقوعِ كما في قوله تعالى {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} الخ لا بمعنى إنكار الواقعِ كما في قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا الخ وفي توجيه الإنكارِ والاستبعادِ إلى كيفية الكفرِ من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال أتكفرون لأن كلَّ موجودٍ لا بد أن يكون وجودُه على حال من الأحوال فإذا أُنكِرَ ونُفيَ جميعُ أحوال وجوده فقد انتفى وجودُه بالكلية على الطريق البرهاني وقوله تعالى {وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيات الله} جملةٌ وقعتْ حالاً من ضمير المخاطَبين في تكفُرون مؤكدة للإنكار والاستبعاد بما فيها من الشئون الداعيةِ إلى الثبات على الإيمان الوازعة عن الكفر وقوله تعالى {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} معطوفٌ عليها داخلٌ في حكمها فإن تلاوةَ آياتِ الله تعالى عليهم وكون رسوله عليه الصلاة والسلام بين أظهُرِهم يعلِّمهم الكتابَ والحِكمةَ ويزكِّيهم بتحقيق الحقِّ وإزاحةِ الشُّبَهِ من أقوى الزواجر عن الكفر وعدمُ إسنادِ التلاوة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للإيذانِ باستقلالِ كلَ منهُما في الباب {وَمَن يَعْتَصِم بالله} أي ومن يتمسَّكْ بدينه الحقِّ الذي بيَّنه بآياته على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام وهو الإسلامُ والتوحيدُ المعبَّرُ عنه فيما سبق بسبيل الله {فَقَدْ هُدِىَ} جوابٌ للشرط وقد لإفادة معنى التحقيقِ كأن الهدى قد حصل فهو يُخْبَر عنه حاصلاً ومعنى التوقُّع فيه ظاهرٌ فإن المعتصم به تعالى متوقع للهدى كما أن قاصدَ الكريم متوقّعٌ للندى {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصلٍ إلى المطلوب والتنوينُ للتفخيم والوصفُ بالاستقامة للتصريح بالرد على الذين يبغون له عوجاً وهذا وإن كان هو دينَه الحقَّ في الحقيقة والاهتداءُ إليه هو الاعتصامُ به بعينه لكن لمّا اختلف الاعتبارانِ وكان العنوانُ الأخيرُ مما يتنافس فيه المتنافسون أُبرز في معرِض الجوابِ للحثّ والترغيب على طريقة قولِه تعالى {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فاز}

102

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} تكريرُ الخطابِ بعنوان الإيمانِ تشريفٌ إثرَ تشريفٍ {اتقوا الله} الاتقاءُ افتعالٌ من الوقاية وهي فرْطُ الصيانة {حَقَّ تُقَاتِهِ} أي حقَّ تقواه وما يجب منها وهو استفراغُ الوُسعِ في القيام بالموجب والاجتنابِ عن المحارم كما في قوله تعالى فاتقوا الله مَا استطعتم وعن ابن مسعود رضي الله عنه هو أن يُطاعَ ولا يعصى ويُذكرَ ولا يُنْسَى ويُشكَرَ ولا يُكْفَرَ وقد روي مرفوعاً إليه عليه السلام وقيل هو أن لاتأخذه في الله لومةُ لائمٍ ويقومَ بالقسط ولو على نفسه أو ابنِه أو ابيه وقيل هو أن يُنزِّهَ الطاعةَ عن الالتفات إليها وعن توقع المجازاةِ وقد مر تحقيقُ الحقِّ في ذلك عند قولِه عز وجل {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} والتقاةُ مِن اتقى كالتُّؤَدة من اتّأَدَ وأصلها وُقْيَة قلبت واوُها المضمومةُ تاءً كما في تُهمة وتُخمة وياؤها المفتوحة ألفاً {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} أي مُخلصون نفوسكم

103 - آل عمران لله تعالى لا تجعلون فيها شِرْكةً لما سواه أصلاً كما في قوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وهو استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أي لاتموتن على حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ تحققِ إسلامِكم وثباتكم عليه كما ينبئ عنه الجملةُ الاسميةُ ولو قيل إلا مسلمين لم يفد فائدتها والعاملُ في الحال ما قبل إِلا بعد النقض وظاهرُ النظمِ الكريمِ وإنْ كانِ نهياً عن الموت المقيَّد بقيدٍ هو الكونُ على أي حال من غيرِ حالِ الإسلام لكنَّ المقصودَ هو النهيُ عن ذلك القيدِ عند الموتِ المستلزمِ للأمر بضده الذي هو الكونُ على حال الإسلامِ حينئذ وحيث كان الخطابُ للمؤمنين كان المرادُ إيجابَ الثباتِ على الإسلام إلى الموت وتوجيهه النهي إلى الموت للمبالغةِ في النَّهيِ عن قيده المذكور فإنه النهى عن المقيد في أمثاله نهيٌ عن القيد ورفعٌ له من أصله بالكلية مفيدٌ لما لا يفيده النهيُ عن نفس القيدِ فإن قولَك لاتصل إلا وأنت خاشعٌ يفيد من المبالغة في إيجاب الخشوع في الصلاة مالا يفيده قولُك لا تترُكِ الخشوعِ في الصلاة لما أن هذا نهيٌ عن ترك الخشوعِ فقط وذاك نهيٌ عنه وعما يقارِنُه ومفيدٌ لكون الخشوعِ هو العمدةَ في الصلاة وأن الصلاةَ بدونه حقُّها أن لا تُفعل وفيه نوعُ تحذيرٍ عما وراءَ الموتِ وقوله عز وجل

103

{واعتصموا بِحَبْلِ الله} أي بدين الإسلامِ أو بكتابه لقوله عليه الصلاة والسلام القرآنُ حبلُ الله المتينُ لاتنقضى عجائبُه ولا يخلَقُ من كثرة الردِّ مَنْ قال به صدَقَ ومن عمِل به رَشَد ومن اعتصم به هُديَ إلى صراط مستقيم إما تمثيلٌ للحالة الحاصلةِ من استظهارهم به ووثوقِهم بحمايته بالحالة الحاصلةِ من تمسك المتدلي من مكان رفيعٍ بحبل وثيقٍ مأمونِ الانقطاعِ من غير اعتبار مجازٍ في المفردات وإما استعارةٌ للحبل لما ذُكر من الدين أو الكتاب والاعتصام ترشيحٌ لها أو مستعارٌ للوثوق به والاعتمادِ عليه {جَمِيعاً} حالٌ من فاعلِ اعتصموا أي مجتمعين في الاعتصام {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} أي لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلافِ بينكم كأهل الكتابِ أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية يحارب بعضُكم بعضاً أو لا تحدثوا ما يوجب التفريق ويُزيل الأُلفةَ التي أنتم عليها {واذكروا نِعْمَةَ الله} مصدر مضافٌ إلى الفاعل وقولُه تعالى {عَلَيْكُمْ} متعلقٌ به أو بمحذوفٍ وقع حالا منه وقوله تعالى {إِذْ كُنتُم} ظرفٌ له أو للاستقرار في عليكم أي اذكروا إنعامه عليكم أو اذكروا إنعامة متسقرا عليكم وقت كونِكم {أَعْدَاء} في الجاهلية بينكم إلامن والعداواتُ والحروبُ المتواصلة وقيل هم الأوسُ والخزرجُ كانا أخوَين لأب وأمٍ فوقعت بين أولادِهما العداوةُ والبغضاءُ وتطاولت الحروبُ فيما بينهم مائةً وعشرين سنةً {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} بتوفيقكم للإسلام {فَأَصْبَحْتُم} أي فصِرْتم {بِنِعْمَتِهِ} التي هي ذلك التأليفُ {إِخْوَانًا} خبرُ أصبحتم أي إخواناً متحابّين مجتمعين على الأُخوّة في الله متراحمين متناصحين متفقين على كلمة الحقِّ وقيل معنى فأصبحتم فدخلتم في الصباح فالباء حينئذ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الفاعل وكذا إخوانا أي فأصبحتم

104 - آل عمران ملتبسين حالَ كونِكم إخواناً {وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النار} شفا الحفرةِ وشفَتُها حَرْفها أي كنتم مشرفين على الوقوع في نار جهنم لكفرهم إذ لم أدرككم الموتُ على تلك الحالة لوقعتهم فيها {فَأَنقَذَكُمْ} بأن هداكم للإسلام {مِنْهَا} الضميرُ للحفرة أو للنار أو للشَفا والتأنيثُ للمضاف إليهِ كما في قولِه ... كما شرِقَتْ صدر القتا من الدمِ ... أو لأنه بمعنى الشَّفة فإن شَفا البئرِ وشفَتَها جانبُها كالجانب وأصلُه شَفَوٌ قلبت الواوُ ألفاً في المذكر وحذفت في المؤنث {كذلك} إشارةٌ إلى مصدرِ الفعل الذي بعده وما فيه من معنى البعد بعلو درجة المُشَارِ إليهِ وبُعدِ منزلتِه في الفضل وكمالِ تميُّزِه به عما عداه وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهدة والكاف مُقحَمَةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلُّها النصبُ على أنَّها صفةٌ لمصدر محذوف أي مثلَ ذلك التبيينِ الواضحِ {يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} أي دلائلَه {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} طلباً لثباتكم على الهدى وازديادِكم فيه

104

{وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير} أمرهم الله سبحانه بتكميل الغير وإرشادِه إثرَ أمرِهم بتكميل النفس وتهذيبِها بما قبله من الأوامر والنواهي تثبيتاً للكل على مراعاة ما فيها من الأحكامِ بأن يقومَ بعضُهم بمواجبها ويحافظَ على حقوقها وحدودِها ويذكرَها الناسَ كافةً ويردَعَهم عن الإخلال بها والجمهورُ على إسكان لام الأمر وقرئ بكسرها على الأصل وهو من كان التامة ومِنْ تبعيضيةٌ متعلقةٌ بالأمر أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الفاعل وهو أُمَّةٍ ويدْعون صفتُها أي لِتوجَدْ منكم أمةٌ داعيةٌ إلى الخير والأمة هي الجماعة التي يؤُمُّها فِرَقُ الناسِ أي يقصدنها ويقتدون بها أو من الناقصة وأمةٌ اسمُها ويدْعون خبرُها أي لتكن منكم أمةٌ داعين إلى الخير وأياً ما كان فتوجيهُ الخطابِ إلى الكل مع إسناد الدعوةِ إلى البعض لتحقيق معنى فرضيّتِها على الكفاية وأنها واجبةٌ على الكل لكن بحيث إنْ أقامها البعضُ سقطت عن الباقين ولو أخل بها الكلُّ أثِموا جميعاً لا بحيث يتحتّم على الكل إقامتها على ما ينبئ عنه قولُه عزَّ وجلَّ وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً الآية ولأنها من عظائم الأمورِ وعزائمِها التي لايتولاها إلا العلماءُ بأحكامه تعالى ومراتبِ الاحتساب وكيفية إقامتِها فإن من لايعلمها يوشِكُ أن يأمرَ بمنكر وينهى عن معروف ويُغلِظَ في مقام اللينِ ويُلينَ في مقام الغِلْظة وينكِرَ على من لا يزيده الإنكارُ إلا التماديَ والإصرارَ وقيل مِنْ بيانية كما في قوله تعالى {وَعَدَ الله الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم} الآية والأمرُ من كان الناقصة والمعنى كونوا أمة يدعون الآية كقوله تعالى {كُنتُمْ خير أمة أخرجت للناس} الآية ولا يقتضي ذلك كونَ الدعوةِ فرضَ عينٍ فإن الجهادَ من فروض الكفاية مع ثبوته بالخطابات العامة والدعاءُ إلى الخير عبارةٌ عن الدعاء إلى ما فيه صلاحٌ دينيٌّ أو دنيويٌّ فعطفُ الأمرِ بالمعروف والنهْيِ عن المنكر عليه بقوله تعالى {وَيَأْمُرُونَ بالمعروفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكرِ} مع اندراجهما فيه من باب عطف الخاصِّ على العام لإظهار فضلهما وإنافتهما على سائر الخيراتِ كعطف جبريلَ وميكالَ على الملائكةِ عليهم السلام وحذْفُ المفعولِ الصريحِ من الأفعال الثلاثة إما للإيذان بظهوره أي يدْعون الناسَ ويأمُرونهم وينهَوُنهم

105 - آل عمران وإما للقصد إلى إيجاد نفسِ الفعل كما في قولك فلانٌ يُعطِي ويمنعُ أيْ يفعلون الدعاءَ إلى الخير والأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر {وَأُوْلئِكَ} إشارةٌ إلى الأمة المذكورة باعتبار اتصافِهم بما ذُكر من النعوتِ الفاضلةِ وكمالِ تميُّزِهم بذلك عمنْ عداهم وانتظامِهم بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو طبقتِهم وبُعدِ منزلتِهم في الفضلِ والإفرادُ في كاف الخطابِ إما لأن المخاطَب كلُّ من يصلُح للخطاب وإما لأن التعيينَ غيرُ مقصودٍ أي أولئك الموصوفون بتلك الصفاتِ الكاملة {هُمُ المفلحون} أي هم الأخصاء بكمال الفلاحِ وهم ضميرُ فصلٍ يفصِلُ بين الخبر والصفةِ ويؤكد النسبةَ ويفيد اختصاصَ المسندِ بالمسند إليه أو مبتدأٌ خبرُه المفلحون والجملةُ خبرٌ لأولئك وتعريفُ المفلحون إما للعهد أو للإشارة إلى ما يعرِفُه كلُّ أحد من حقيقة المفلحين روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن خير الناسِ فقال آمَرُهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم الله وأوصلُهم للرحم وعنه عليه السلام من أمر بالمعرف ونهى عن المنكر فهو خليفةُ الله في أرضه وخليفةُ رسولِه وخليفةُ كتابِه وعنه عليه السلام والذي نفسى بيده لتأ بالمعروفِ ولتنهَوُنَّ عن المُنْكَرِ أو لَيُوشِكَنَّ الله أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُم عَذَاباً من عنده ثم لتَدْعُنَّه فلا يُستجاب لكم وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه أفضلُ الجهادِ الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر ومن شنَأَ الفاسقين وغضِب لله غضِبَ الله له والأمرُ بالمعروف في الوجوب والندبِ تابعٌ للمأمور به وأما النهيُ عن المنكر فواجبٌ كلُّه فإن جميعَ ما أنكره الشرعُ حرامٌ والعاصي يجب عليه النهيُ عما ارتكبه إذ يجب عليه تركُه وإنكارُه فلا يسقط بترك أحدهما وجوب شئ منهما والتوبيخُ في قوله تعالى أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ إنما هو على نسيان أنفسِهم لا على أمرهم بالبر وعن السلف مُروا بالخير وإن لم تفعلوا

105

{وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ} هم أهلُ الكتابين حيث تفرقت اليهودُ فِرَقاً والنصارى فِرَقاً {واختلفوا} باستخراج التأويلاتِ الزائغةِ وكتمِ الآياتِ الناطقةِ وتحريفِها بما أخلدوا إليه من حُطام الدُّنيا الدنيئةِ {مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البينات} أي الآياتُ الواضحةُ المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه واتحادِ الكلمة فالنهيُ متوجهٌ إلى المتصدِّين للدعوة أصالةً وإلى أعقابهم تَبَعاً ويجوز تعميمُ الموصولِ للمختلِفين من الأمم السالفةِ المشار إليهم بقوله عز وجل {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات} وقيل هم المبتدِعة من هذه الأمة وقيل هم الحرَورية وعلى كل تقدير فالمنهيُّ عنه إنما هو الاختلافُ في الأصول دون الفروعِ إلا أن يكون مخالفاً للنصوص البيِّنة أو الإجماعِ لقوله عليه الصلاة والسلام اختلافُ أمتي رحمةٌ وقولِه عليه السلام من اجتهد فأصاب فله أجرانِ ومن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ وَأُوْلئِكَ إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار اتصافِهم بما في حِّيزِ الصلة وهو مبتدأٌ وقولُه تعالى {لَهُمْ} خبرُه وقوله تعالى {عَذَابٌ عظِيمٌ} مرتفع بالظرف على الفاعليةِ لاعتمادِه على المبتدأ أو مبتدأٌ والظرفُ خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول وفيه من التأكيد والمبالغةِ في وعيد المتفرِّقين والتشديدِ في تهديد المشبهين بهم مالا يخفى

106 - 107 108 آل عمران

106

{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} أي وجوه كثيرة تبياضُّ {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} كثيرة وقرئ تسْوادُّ وعن عطاءٍ تبيضُّ وجوهُ المهاجرين والأنصارِ وتسْوَدّ وجوهُ بني قرَيظةَ والنَّضير ويومَ منصوبٌ على أنه ظرفٌ للاستقرار في لهم أي لثبوت العذابِ العظيمِ لهم أو على أنَّه مفعولٌ لمضمر خوطب به المؤمنون تحذيراً لهم عن عاقبة التفريق بعد مجئ البيناتِ وترغيباً في الاتفاق على التمسك بالدين أي اذكُروا يوم تبيض الخ وبياضُ الوجهِ وسوادُه كنايتان عن ظهور بهجةِ السرورِ وكآبةِ الخوفِ فيه وقيل يوسَمُ أهلُ الحقِّ ببياض الوجهِ والصحيفةِ وإشراقِ البَشرَة وسعْيِ النورِ بين يديه وبيمينه وأهلُ الباطلِ بأضداد ذلك {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} تفصيلٌ لأحوال الفريقين بعد الإشارةِ إليها إجمالاً وتقديمُ بيانِ هؤلاءِ لما أن المَقام مقامُ التحذيرِ عن التشبه بهم مع ما فيه من الجمع بين الإجمال والتفصيلِ والإفضاءِ إلى ختم الكلامِ بحسن حال المؤمنين كما بدئ بذلك عند الإجمالِ {أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانكم} على إرادةِ القولِ أيْ فيقال لهم ذلك والهمزةُ للتوبيخ والتعجيبِ من حالهم والظاهرُ أنهم أهلُ الكتابين وكفرُهم بعد إيمانِهم كفرُهم برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم بعد إيمانِ أسلافِهم أو إيمانِ أنفسِهم به قبلَ مبعثِه عليه الصلاة والسلام أو جميعُ الكفرة حيث كفروا بعد ما أقروا بالتوحيد يومَ الميثاقِ أو بعد ما تمكنوا من الإيمان بالنظر الصحيحِ والدلائلِ الواضحة والآيات البنية وقيل المرتدون وقيل أهلُ البدعِ والأهواءِ والفاء في قوله عز وعلا {فَذُوقُواْ العذاب} أي العذابَ المعهودَ الموصوف بالعظم الدلالة على أن الأمرَ بذَوْق العذابِ على طريق الإهانةِ مترتبٌ على كفرهم المذكورِ كما أن قولَه تعالى {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} صريحٌ في أن نفسَ الذوْقِ معلَّلٌ بذلك والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار كفرِهم أو على مُضيِّه في الدنيا

107

{وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ الله} أعني الجنةَ والنعيمَ المخلِّدَ عُبِّر عنها بالرحمة تنبيهاً على أن المؤمنَ وإن استغرق عمرَه في طاعة الله تعالى فإنه لا يدخُل الجنةَ إلا برحمته تعالى وقرئ ابياضت كما قرئ اسوادَّتْ {هُمْ فِيهَا خالدون} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ من السياق كأنه قيل كيف يكونون فيها فقيل هُمْ فِيهَا خالدون لا يظعَنون عنها ولا يموتون وتقديمُ الظرفِ للمحافظة على رءوس الآي

108

{تِلْكَ} إشارةٌ إلى الآيات المشتملةِ على تنعيم الأبرارِ وتعذيبِ الكفارِ ومعنى البُعدِ للإيذان بعلو شأنِها وسُمّو مكانِها في الشرف وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {آيات الله} خبرُه وقوله تعالى {نَتْلُوهَا} جملةٌ حالية من الآيات والعاملُ فيها معنى الإشارةِ أو هي الخبرُ وآياتُ الله بدلٌ من اسمِ الإشارةِ والالتفاتُ إلى التكلم

109 - 110 آل عمران بنون العظمةِ مع كون التلاوةِ على لسانِ جبريلَ عليهِ السلام لإبراز كمالِ العناية بالتلاوة وقرئ يتلوها على إسنادِ الفعلِ إلى ضميره تعالى وقوله تعالى {عَلَيْكَ} متعلقٌ بنتلوها وقوله تعالى {بالحق} حالٌ مؤكدةٌ من فاعلِ نتلوها أو من مفعولِه أي ملتبسين أو ملتبسةً بالحق والعدل ليس في حكمها شائبةُ جَوْر بنقص ثوابِ المحسنِ أو بزيادة عقاب المسئ أو بالعقاب من غير جُرْم بل كلُّ ذلك مُوفًّى لهم حسبَ استحقاقِهم بأعمالهم بموجب الوعدِ والوعيدِ وقوله تعالى {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه فإن تنكيرَ الظلم وتوجيهَ النفي إلى إرادته بصيغة المضارعِ دون نفسِه وتعليقَ الحكمِ بآحاد الجمع المعرف والالتفاتُ إلى الإسم الجليل إشعارا بعلة الحكم بيان لكمال نزاهتة عز وجل عن الظلم بما لا مزيدَ عليهِ أي ما يريد فرداً من أفراد الظلم لفرد من أفراد العالمين في وقتٍ من الأوقاتِ فضلاً عن أن يظلِمَهم فإن المضارعَ كما يفيد الاستمرارَ في الإثبات يفيده في النَّفي بحسبِ المقامِ كما أن الجملةَ الاسمية تدل بمعونة المقام على دوام الثبوتِ وعند دخولِ حرفِ النفي تدل على دوام الانتفاءِ لا على انتفاء الدوامِ وفي سبك الجملةِ نوعُ إيماءٍ إلى التعريض بأن الكفرَةَ هم الظالمون ظلُموا أنفسَهم بتعريضِها للعذابِ الخالد كما في قوله تعالى {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}

109

{ولله ما في السماوات وَمَا فِي الأرض} أي له تعالى وحده من غير شِرْكةٍ أصلاً ما فيهما من المخلوقاتِ الفائنة للحصر مُلكاً وخلقاً إحياءً وإماتةً وإثابةً وتعذيباً وإيرادُ كلمةِ مَا إما لتغليب غيرِ العقلاءِ على العقلاءِ وإما لتنزيلهم منزلةَ غيرِهم إظهاراً لحقارتهم في مقام بيانِ عظمتِه تعالى {وإلى الله} أي إلى حُكمه وقضائِه لا إلى غيره شِرْكةً أو استقلالاً {تُرْجَعُ الامور} أي أمورُهم فيجازي كلاً منهم بما وَعد له وأوعده من غير دخلٍ في ذلك لأحد قطُّ فالجملةُ مقررةٌ لمضمون ما ورد في جزاء الفريقين وقيل هي معطوفةٌ على ما قبلها مقرّرةٌ لمضمونه فإن كونَ العالمين عبيدَه تعالى ومخلوقَه ومرزوقَه يستدعي إرادةَ الخير بهم

110

{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} كلامٌ مستأنفٌ سيق لتثبيتِ المؤمنينِ عَلى ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوةِ إلى الخير وكنتم من كان الناقصةِ التي تدل على تحقق شئ بصفة في الزمان الماضي من غير دلالة على عدم سابقٍ أو لاحق كما في قوله تعالى {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} وقيل كنتم كذلك في علم الله أو في اللَّوحِ أو فيما بين الأمم السالفةِ وقيل معناه أنتم خيرُ أمة {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} صفةٌ لأمة واللام متعلقةٌ بأخرجت أي أظهِرَت لهم وقيل بخير أمةٍ أي كنتم خير الناس فهو صريحٌ في أن الخيريةَ بمعنى النفعِ للناس وإن فُهم ذلك من الإخراج لهم أيضاً أي أخرجَتْ لأجلهم ومصلحتِهم قال أبو هريرةَ رضيَ الله عنه معناه كنتم خيرَ الناسِ تأتون بهم في السلاسل فتُدخِلونهم في الإسلام وقال قتادة هم أمةُ محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم لم يؤمر نبى

111 - آل عمران قبله بالقتال فهم يقاتلون الكفارَ فيدخلونهم في الإسلام فهم خيرُ أمةٍ للناس {تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} استئناف مبين لكونم خيرَ أمة كما يقال زيدٌ كريمٌ يطعم الناسَ ويكسوهم ويقوم بمصالحهم أو خبرٌ ثانٍ لكنتم وصيغةُ الاستقبال للدِلالة على الاستمرار وخطابُ المشافهةِ وإن كان خاصاً بمن شاهد الوحيَ من المؤمنين لكن حُكمَه عامٌ للكل قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد أمة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وقال الزجاج أصلُ هذا الخطابِ لأصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمُّ سائرَ أمتِه وروى الترمذيُّ عن بَهْزِ بنِ حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يقول في قوله تعالى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أنتم تُتِمّون سبعين أمةً أنتم خيرُها وأكرمُها على الله تعالى وظاهرٌ أن المرادَ بكل أمةٍ أوائلهم وأواخرهم لاأوائلهم فقط فلا بد أن تكون أعقابُ هذه الأمةِ أيضاً داخلةً في الحكم وكذا الحالُ فيما رُوي أن مالكَ بنَ الصيف ووهب ابن يهوذا اليهوديَّين مرّا بنفرٍ من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فيهم ابنُ مسعود وأبيُّ بنُ كعبٍ ومعاذُ بنُ جبل وسالمٌ مولى حذيفةَ رضوانُ الله عليهم فقالا لهم نحن أفضلُ منكم ودينُنا خيرٌ مما تدعوننا إليه ورَوى سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ورُوي عن الضحاك أنهم أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم خاصةً الرواةُ والدعاةُ الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم {وَتُؤْمِنُونَ بالله} أي إيماناً متعلقاً بكلِّ ما يجبُ أنْ يؤمَنَ به من رسول وكتابٍ وحساب وجزاءٍ وإنما لم يصرح به تفصيلاً لظهور أنه الذي يؤمِن به المؤمنون وللإيذان بأنه هو الإيمانُ بالله تعالى حقيقةً وأن ما خلا عن شئ من ذلك كإيمان أهلِ الكتابِ ليس من الإيمان به تعالى في شئ قال تعالى {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً} وإنما أُخِّر ذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تقدمه عليهما وجوداً ورُتبةً لأن دَلالتَهما على خيريتهم للناس أظهرُ من دلالته عليها وليقترن به قولُه تعالى {وَلَوْ آمن أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} أي لو آمنوا كإيمانكم لكان ذلك خيراً لهم مما هم عليه من الرياسة واستتباعِ العوامِّ ولازدادت رياستُهم وتمتُّعهم بالحظوظ الدنيويةِ مع الفوز بما وُعِدوه على الإيمان من إيتاء الأجرِ مرتين وقيل مما هم فيه من الكفر فالخيريةُ إنما هي باعتبار زعمِهم وفيه ضربُ تهكّمٍ بهم وإنما لم يتعرَّضْ للمؤمَنِ به أصلاً للإشعار بظهور أنه الذي يُطلق عليه اسمُ الإيمانِ لا يذهبُ الوهمُ إلى غيره ولو فُصِّل المؤمَنُ به ههنا أو فيما قبلُ لربما فُهم أن لأهل الكتاب أيضاً إيماناً في الجملة لكن إيمانَ المؤمنين خيرٌ منه وهيهاتَ ذلك {مّنْهُمُ المؤمنون} جملةٌ مستأنفة سيقت جواباً عمَّا نشأَ من الشرطية الدالةِ على انتفاء الخيريةِ لانتفاء الإيمانِ عنهم كأنه قيل هل منهم من آمن أو كلُّهم على الكفر فقيل منهم المؤمنون المعهودون الفائزون بخير الدارين كعبدِ اللَّه بنِ سَلاَم وأصحابُه {وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} المتمردون في الكفر الخارجون عن الحدود

111

{لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} استثناءٌ مفرّغٌ من المصدر العام أي لن يضروكم أبداً ضرراً ما إلا ضررَ أذىً لا يبالى به من طعنٍ وتهديدٍ لا أثر له {وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الادبار} أي ينهزمون من غير أن ينالوا منكم شيئاً من قتل أو أسرٍ {ثُمَّ لا ينصرون} عطف

112 - 113 آل عمران على الشرطية وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ أي لا يُنصرون من جهة أحدٍ ولا يُمنعون منكم قتلاً وأخذاً وفيه تثبيتٌ لمن آمن منهم فإنهم كانوا يؤذونهم بالتلهي بهم وتوبيخِهم وتضليلِهم وتهديدِهم وبشارةٌ لهم بأنهم لا يقدِرون على أن يتجاوزوا الأذى بالقول إلى ضرر يُعبأ به مع أنه وعدهم الغلَبةَ عليهم والانتقامَ منهم وأن عاقبةَ أمرِهم الخِذلانُ والذلُّ وإنما لم يُعطَفْ نفيُ منْصوريّتِهم على الجزاء لأن المقصودَ هو الوعدُ بنفي النصرِ مطلقاً ولو عطف عليه لكان مقيداً بمقاتلتهم كتولية الأدبارِ وكم بين الوعدين كأنه قيل ثم شأنُهم الذي أخبركم عنه وأبشرَكم به أنهم مخذولون مُنتفٍ عنهم النصرُ والقوةُ لا ينهضون بعد ذلك بجَناحٍ ولا يقومون على ساق ولا يستقيم لهم أمرٌ وكان كذلك حيث لقيَ بنو قريظةَ والنضيرِ وبنو قينُقاع ويهودُ خيبرَ ما لقُوا

112

{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة} أي هدرُ النفسِ والمالِ والأهلِ أو ذل التمسكِ بالباطل {أَيْنَمَا ثُقِفُواْ} أي وُجدوا {إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله وَحَبْلٍ مّنَ الناس} استثناءٌ من أعم الأحوال أيْ ضربت عليهم الذلةُ ضربَ القُبةِ على مَنْ هي عليه في جميعِ الأحوال إلاَّ حالَ كونِهم معتصمين بذمة الله أو كتابِه الذي أتاهم وذمةِ المسلمين أو بذمة الإسلام واتباعِ سبيلِ المؤمنين {وباؤوا بِغَضَبٍ مّنَ الله} أي رجعوا مستوجبين له والتنكيرُ للتفخيم والتهويل ومن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لغضب مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ من الفخامة والهول أي كائن من الله عز وجل {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة} فهي محيطةٌ بهم من جميع جوانبِهم واليهودُ كذلك في غالب الحالِ مساكينُ تحت أيدي المسلمين والنصارى {ذلك} إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم والبَوْءِ بالغضب العظيم {بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله} أي ذلك الذي ذكر كائنٌ بسبب كفرِهم المستمرِّ بآياتِ الله الناطقةِ بنبوة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وتحريفِهم لها وبسائر الآياتِ القرآنية {وَيَقْتُلُونَ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ} أي في اعتقادهم ايضا واسناد القتل مع أنه فعلُ أسلافِهم لرضاهم به كما أن التحريفَ مع كونه من أفعال أحبارِهم يُنسَبُ إلى كل من يسير بسيرتهم {ذلك} إشارة إلى ما ذُكر من الكفر والقتل {بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} أي كائنٌ بسبب عصيانِهم واعتدائهم حدود الله تعالى على الاستمرار فإن الإصرارَ على الصغائر يُفضي إلى مباشرة الكبائِر والاستمرارَ عليها يؤدي إلى الكفر وقيل معناه أن ضربَ الذلةِ والمسكنةِ في الدنيا واستيجابَ الغضبِ في الآخرة كما هو معلَّلٌ بكفرهم وقتلِهم فهو مسبَّبٌ عن عصيانهم واعتدائِهم من حيث إنهم مخاطَبون بالفروع من حيث المؤاخذة

113

{لَيْسُواْ سَوَاء} جملةٌ مستأنفة سيقت تمهيداً لتعداد محاسِن مؤمني أهلِ الكتابِ وتذكيراً لقوله تعالى {مّنْهُمُ المؤمنون} والضميرُ في ليسوا لأهل الكتاب جميعاً لا للفاسقين منهم خاصة وهو اسمُ ليس وخبرُه سواءً وإنما أُفرد لأنه في الأصل مصدرٌ

والمرادُ بنفي المساواةِ نفيُ المشاركة في أصل الاتصاف بالقبائح المذكورةِ لا نفيُ المساواةِ في مراتب الاتصافِ بها مع تحقق المشاركة في أصل الاتصافِ بها أي ليس جميعُ أهل الكتابِ متشاركين في الاتِّصافُ بما ذُكر من القبائح والابتلاءِ بما يترتب عليها من العقوبات وقوله تعالى {مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} استئنافٌ مبينٌ لكيفية عدمِ تساويهم ومزيل لما فيه من الإبهامِ كما أن ما سبقَ من قولِه تعالى {تَأْمُرُونَ بالمعروف} الآية مبينٌ لقوله تعالى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} الخ ووضعُ أهلِ الكتابِ موضعَ الضميرِ العائد إليهم لتحقيق ما به الاشتراكُ بين الفريقين والإيذانِ بأن تلك الأمةَ ممن أوتي نصيباً وافراً من الكتاب لا من أرذالهم والقائمةُ المستقيمةُ العادلةُ مِن أقمتُ العودَ فقام بمعنى استقام وهم الذين أسلموا منهم كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَم وثعلبةَ بنِ سعيد وأُسَيْدِ بنِ عبيد وأضرابِهم وقيل هم أربعون رجلاً من أهل نجرانَ واثنان وثلاثون من الحبشة وثلاثةٌ من الروم كانوا على دين عيسى وصدّقوا محمداً عليهما الصلاة والسلام وكان من الأنصار فيهم عدةٌ قبل قدوم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم منهم أسعدُ بنُ زُرارة والبراءُ بن معرورٍ ومحمدُ بنُ مسلمةَ وأبو قيس صرمة ابن أنسٍ كانوا موحّدين يغتسلون من الجنابة ويقومون بما يعرِفون من شرائع الحنيفيةِ حتى بعث الله النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم فصدّقوه ونصَروه وقوله تعالى {يتلون آيات الله} في محلِ الرفعِ على أنه صفةٌ أخرى لأمة وقيل في محل النصب على أنه حال منها لتخصُّصها بالنعت والعاملُ فيه الاستقرارُ الذي يتضمنه الجارُّ أوْ مِنْ ضميرِهَا في قَائِمَةً أو من المستكنِّ في الجارِّ لوقوعه خبراً لأمة والمرادُ بآياتِ الله القرآنُ وقوله تعالى {آناءَ اللَّيْل} ظرفٌ ليتلون أي في ساعاته جمع أَنىً بزنة عصا أو إِنىً بزنة مِعىً أو أنْي بزنة ظبْي أو إنْي بزنة نِحْي أو إنْو بزنة جِرْو {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} أي يصلّون إذ لا تلاوة في السجود قال صلى الله عليه وسلم ألا إني نُهيت أن أقرأ راكعاً وساجداً وتخصيصُ السجودِ بالذكر من بين سائر أركانِ الصلاةِ لكونه أدلَّ على كمال الخضوعِ والتصريحُ بتلاوتهم آياتِ الله في الصلاة مع أنها مشتملةٌ عليها قطعاً لزيادة تحقيقِ المخالفةِ وتوضيحِ عدمِ المساواةِ بينهم وبين الذين وُصفوا آنفاً بالكفر بها وهو السرُّ في تقديم هذا النعتِ على نعت الإيمانِ والمرادُ بصلاتهم التهجدُ اذا هو أدخلُ في مدحهم وفيه يتسنى لهم التلاوةُ فإنها في المكتوبة وظيفةُ الإمامِ واعتبارُ حالِهم عند الصلاةِ على الانفراد يأباه مقامُ المدحِ وهو الأنسبُ بالعدول عن إيرادها باسم الجنسِ المتبادرِ منه الصلاةُ المكتوبة وبالتعبير عن وقتها بالآناء المُبهمة وقيل صلاةُ العِشاءِ لأن أهلَ الكتاب لا يصلّونها لما رُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أخّرها ليلةً ثم خرجَ فإذا الناسُ ينتظرون الصلاةَ فقال أما إنه ليس من أهل الأديان أحدٌ يذكرُ الله هذه الساعةَ غيرُكم وقرأ هذه الآية وإيرادُ الجملةِ اسميةً للدَلالة على الاستمرار وتكريرُ الإسنادِ لتقوية الحكمِ وتأكيدِه وصيغةُ المضارع للدلالة على التجدد والجملة حال من فاعل يتولون وقيل هي مستأنفةٌ والمعنى أنهم يقومون تارةً ويسجدون أخرى يبتغون الفضلَ والرحمةَ بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله عزَّ وجلَّ كما في قوله تعالى وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وقياما وقيل المرادُ بالسجود هو الخضوعُ كما في قوله تعالى {وَللَّهِ يَسْجُدُ من في السماوات والأرض}

114 - 115 آل عمران

114

{يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر} صفةٌ أخرى لأُمةٌ مبينةٌ لمُباينتهم اليهودَ من جهة أخرى أي يؤمنون بها على الوجه الذي نطقَ به الشرعُ والإطلاقُ للإيذان بالغنى عن التقييد لظهور أنه الذي يُطلق عليه الإيمان بهما لا يذهبُ الوهمُ إلى غيره وللتعريض بأن إيمانَ اليهودِ بهما مع قولهم عزيرٌ ابنُ الله وكفرِهم ببعض الكتبِ والرسلِ ووصفِهم اليومَ الآخِرَ بخلاف صفتِه ليس من الإيمان بهما في شئ أصلاً ولو قُيد بما ذكر لربما تُوُهِّم أن المنتفيَ عنهم هو القيدُ المذكورُ مع جواز إطلاقِ الإيمانِ على إيمانهم بالأصل وهيهات {وَيَأْمُرُونَ بالمعروفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكرِ} صفتان أُخْرَيان لأُمةٌ أُجرِيتا عليهم تحقيقاً لمخالفتهم اليهودَ في الفضائل المتعلقةِ بتكميل الغيرِ إثرَ بيانِ مُباينتِهم لهم في الخصائص المتعلقةِ بتكميل النفسِ وتعريضاً بمداهنتهم في الاحتساب بل بتعكيسهم في الأمر بإضلال الناسِ وصدِّهم عن سبيل الله فإنه أمرٌ بالمنكر ونهيٌ عن بالمعروف {ويسارعون فِى الخيرات} صفةٌ أخرى لأمةٌ جامعةٌ لفنون المحاسنِ المتعلقةِ بالنفس وبالغير والمسارعةُ في الخير فرطُ الرغبةِ فيه لأن من رغِب في الأمر سارع في توليته والقيامِ به وآثر الفَورَ على النراخي أي يبادرون مع كمال الرغبةِ في فعل أصنافِ الخيراتِ اللازمةِ والمتعدية وفيه تعريضٌ بتباطؤ اليهودِ فيها بل بمبادتهم إلى الشرور وإيثارُ كلمةِ فِى على ما وقع في قولِه تعالى {وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ} الخ للإيذان بأنهم مستقِرّون في أصل الخيرِ متقلّبون في فنونه المترتبةِ في طبقات الفضلِ لا أنَّهم خارجُون عنها منتهون إليها {وَأُوْلئِكَ} إشارةٌ إلى الأمة باعتبار اتصافِهم بما فُصّل من النُّعوتِ الجليلةِ وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتِهم وسُموِّ طبقتِهم في الفضل وإيثارُه على الضميرِ للإشعارِ بعلةِ الحُكم والمدح أي أولئك المنعوتون بتلك الصفاتِ الفاضلة بسبب اتصافِهم بها {مّنَ الصالحين} أي من جملة من صلَحَت أحوالهم عند الله عز وجل واستحقوا رضاه وثناءَه

115

{وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} كائناً ما كان مما ذُكر أو لم يُذكر {فَلَنْ يُكْفَروهُ} أي لن يعدَموا ثوابَه اْلبتةَ عبّر عنه بذلك كما عبر عن تَوْفية الثوابِ بالشكر إظهاراً لكمال تنزّهِه سبحانه وتعالى عن ترك إثابتِهم بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنه تعالى من القبائح وتعديتُه إلى مفعولين بتضمين معنى الحرمانِ وإيثارُ صيغةِ البناءِ للمفعولِ للجَريِ على سَنَنِ الكبرياءِ وقرئ الفعلانِ على صيغة الخطاب {والله عَلِيمٌ بالمتقين} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله فإن علمَه تعالى بأحوالهم يستدعي تَوْفيةَ أجورِهم لا محالة والمرادُ بالمتقين إما الأمةُ المعهودةُ وضع موضِعَ الضميرِ العائدِ إليهم مدحاً لهم وتعييناً لعُنوان تعلّقِ العلمِ بهم وإشعاراً بمناط اثابتهم وهو التقوى المنطوي على الخصائص السالفةِ وإما جنسُ المتقين عموماً وهم مندرجون تحت حكمه اندارجا أوليا

116 - 117 آل عمران

116

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} أي بما يجبُ أنْ يُؤمن بِهِ قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما هم بنو قُريظةَ والنضير فإن معاندتَهم كانت لأجل المالِ وقيل هم مشركو قريشٍ فإن أبا جهلٍ كان كثيرَ الافتخار بماله وقيل أبو سفيان وأصحابُه فإنه أنفق مالاً كثيراً على الكفار يومَ بدرٍ وأحُد وقيل هم الكفارُ كافةً فإنهم فاخروا بالأموال والأولادِ حيث قالوا نَحْنُ أكثرُ أموالا وأولادا وما نحن بمعذّبين فردَّ الله عز وجل عليهم وقال {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ} أي لن تدفَع عَنْهُمْ {أموالهم وَلاَ أولادهم من الله} أي من عذابِهِ تعالَى {شَيْئاً} أي شيئاً يسيراً منه أو شيئاً من الإغناءِ {وَأُوْلئِكَ أصحاب النار} أي مصاحبوها على الدوام وملازموها {هُمْ فِيهَا خالدون} أبداً

117

{مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هذه الحياةِ الدنيا} بيانٌ لكيفية عدمِ إغناءِ أموالِهم التي كانوا يعوِّلون عليها في جلبِ المنافعِ ودفعِ المضارِّ ويعلِّقون بها أطماعَهم الفارغةَ وما موصولةٌ اسميةٌ حُذف عائدُها أي حالُ ما ينفقه الكفرةُ قربةً أو مفاخرةً وسُمعةً أو المنافقون رياءً وخوفاً وقصتُه العجيبةُ التي مجرى المثل في الغرابة {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} أي بردٌ شديدٌ فإنه في الأصل مصدرٌ وإن شاع إطلاقُه على الريح الباردة كالصر صر وقيل كلمة في تجريدية كما في قوله تعالى {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بالكفر والمعاصي فباءوا بغضب من الله وإنما وُصفوا بذلك لأن الإهلاكَ عن سَخَط أشدُّ وأفظع {فَأَهْلَكَتْهُ} عقوبةً لهم ولم تدَعْ منه أثراً ولا عِثْيَراً والمرادُ تشبيهُ ما أنفقوا في ضياعه وذهابِه بالكلية من غير أن يعودَ إليهم نفعٌ ما بحرث كفارٍ ضربتْه صِرٌّ فاستأصلتْه ولم يبقَ لهم فيه منفعةٌ ما بوجه من الوجوه وَهُوَ من التشبيه المركبَ الذي مرَّ تفصيلُه في تفسيرِ قولِه تعالى {كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً} ولذلك لم يبالِ بإيلاء كلمةِ التشبيهِ الريحَ دون الحرثِ ويجوز أن يرادَ مثَلُ إهلاكِ ما ينفقون كمثَل إهلاكِ ريحٍ أو مثلُ ما ينفقون كمثَل مهلِكِ ريحٍ وهو الحرثُ وقرئ تنفقون {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله} بما بين من ضياع ما أنفقوا من الأموال {ولكن أَنفُسَهُمْ يظلمون} لما أنهم أضاعوها بإنفاقها لا على ما ينبغي وتقديمُ المفعولِ لرعاية الفواصلِ لا للتخصيص إذ الكلامُ في الفعل باعتبار تعلّقِه بالفاعل لا بالمفعول أي ما ظلمهم الله ولكن ظلموا أنفسَهم وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرارِ وقد جُوِّز أن يكون المعنى وما ظلم الله تعالى أصحابَ الحرْثِ بإهلاكه ولكنهم ظلموا أنفسَهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبةَ ويأباه أنه قد مر التعرُّضُ له تصريحا وإشعارا وقرئ ولكنّ بالتشديد على أن أنفسَهم اسمُها ويظلِمون خبرُها والعائدُ محذوفٌ للفاصلة أي ولكنَّ أنفسَهم يظلِمونها وأما تقديرُ ضميرِ الشأن فلا سبيلَ إليه لاختصاصه بالشعر ضرورةٍ كما في قوله ... ولكنَّ منْ يُبصِر جفونَك يعشق ...

118 - 119 البقرة

118

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً} بطانةُ الرجل ووَليجتُه مَنْ يُعرِّفه أسرارَه ثقةً به شُبِّه ببطانة الثوب كما شُبِّه بالشعار قال صلى الله عليه وسلم الأنصارُ شِعار والناسُ دِثار قال ابن عباس رضي الله عنهما كان رجال من المؤمنين يواصلون اليهودَ لما بينهم من القرابة والصداقة والحلف فأنزل الله تعالى هذه الآسية وقال مجاهد نزلتْ في قوم من المؤمنين كانوا يواصلون المنافقين فنهو عن ذلك ويؤيده قوله تعالى {وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلَوا عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ} وهي صفةُ المنافق وإياً ما كان فالحكمُ عامٌ للكفرة كافةً {مّن دُونِكُمْ} أي من دون المسلمين وهو متعلقٌ بلا تتخذوا أو بمحذوف وقع صفة لبِطانة أي كائنةً من دونكم مجاوزةً لكم {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} جملةٌ مستأنفةٌ مبينةٌ لحالهم داعيةٌ إلى الاجتناب عنهم أو صفةُ بطانةً يقال أَلا في الأمر إذا قصّر فيه ثم استُعمل مُعدًّى الى المفعولين في قولهم لا آلوكَ نُصحاً ولا آلوك جُهداً على تضمين معنى المنْعِ والنقصِ والخَبالُ الفسادُ أي لا يُقْصِرون لكم في الفسادِ {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} أي تمنَّوْا عَنَتَكم أي مشقتَكم وشدةَ ضررِكم وهو أيضاً استئنافٌ مؤكدٌ للنهي موجبٌ لزيادة الاجتنابِ عن المنهيِّ عنه {قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم} استئنافٌ آخرُ مفيدٌ لمزيد الاجتنابِ عن المنهيِّ عنه أي قد ظهرت البغضاءُ في كلامهم لِما أنهم لا يتمالكون مع مبالغتهم في ضبط أنفسِهم وتحاملِهم عليها أن ينفلِتَ من ألسنتهم ما يُعلم به بغضُهم للمسلمين وقرئ قد بدا البغضاءُ والأفواهُ جمعُ فم وأصلُه فوهٌ فلامُه هاءٌ يدل على ذلك جمعُه على أفواه وتصغيرُه على فُوَيه والنسبةُ إليه فوهيٌّ {وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} مما بدا لأن بُدُوَّه ليس عن رَويَّة واختيار {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الأيات} الدالة على وجوب الإخلاصِ في الدين وموالاةِ المؤمنين ومعاداةِ الكافرين {إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} أي إنْ كنتُم من أهلِ العقلِ أو إن كنتم تعقِلون ما بُيِّن لكم من الآيات والجوابُ محذوفٌ لدلالة المذكور عليه

119

{ها أنتم أُوْلاء} جملةٌ من مبتدإٍ وخبر صدرت بحرف التنبيه إظهاراً لكمال العنايةِ بمضمونها أي أنتم أولاءِ المخطِئون في موالاتهم وقوله تعالى {تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} بيانٌ لخطئهم في ذلك وهو خبرٌ ثانٍ لأنتم أو خبرٌ لأولاءِ والجملةُ خبرٌ لأنتم كقولك أنت زيدٌ تحبُّه أو صلةٌ له أو حالٌ والعاملُ معنى الإشارةِ ويجوز أن ينتصِبَ أولاءِ بفعلِ يفسِّره ما بعدَهُ وتكونُ الجملةُ خبراً {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ} أي بجنس الكتبِ جميعاً وهو حالٌ من ضميرِ المفعولِ في لا يُحِبُّونَكُمْ والمعنى لا يحبونكم والحالُ أنكم تؤمنون بكتابهم فما بالُكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم وفيه توبيخٌ بأنهم في باطلهم أصلبُ منكم في حقكم {وإذا لقوكم قالوا آمنا} نفاقاً {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ} أي منْ أجله تأسفاً وتحسراً حيث لم يجدوا إلى التشفي سبيلاً {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} دعاءٌ عليهم بدوام الغيظ

120 - 121 آل عمران وزيادته بتضاعيف قوةِ الإسلامِ وأهلِه إلى أن يهلِكوا به أو باشتداده إلى أن يهلكهم {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} فيعلم ما في صدوركم من العداوة والبغضاء والحنَقِ وهو يحتملُ أن يكون من المَقول أي وقل لهم أن الله تعالى عليمٌ بما هو أخفى مما تُخفونه من عض الأنامل عيظا وأن يكون خارجاً عنه بمعنى لا تتعجْب من اطْلاعي إياك على أسرارهم فإني عليمٌ بذات الصدور وقيل هو أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطيب النفسِ وقوة الرجاءِ والاستبشار بوعد الله تعالى أن يَهلِكوا غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به من غير أن يكون ثمةَ قولٌ كأنه قيل حدِّث نفسَك بذلك

120

{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا} بيانٌ لتناهي عداوتِهم إلى حد حسد وامانا لهم من خير ومنفعة وشمِتُوا بما أصابهم من ضر وشدة وذكرُ المسِّ مع الحسنة والإصابة مع السئية إما للإيذان بأن مدارَ مساءتِهم أدنى مراتبِ إصابةِ الحسنةِ ومناطَ فرحِهم تمامُ إصابةِ السيئةِ وإما لأن المسَّ مستعارٌ لمعنى الإصابة {وأن تصبروا} أي على عداتهم أو على مشاقّ التكاليفِ {وَتَتَّقُواْ} ما حرّم الله تعالى عليكم ونهاكم عنه {لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} مكرُهم وحيلتُهم التي دبّروها لأجلكم وقرئ لا يضِرْكم بكسر الضاد وجزم الراء على جواب الشرط من ضارَه يضيرُه بمعنى ضرّه يضُرّه وضمةُ الراءِ في القراءة المشهورة للإتباع كضمة مَدّ {شَيْئاً} نُصب على المصدرية أي لايضركم شيئاً من الضرر بفضل الله وحفظِه الموعودِ للصابرين والمتقين ولأن المُجِدَّ في الأمر المتدرِّبَ بالاتقاء والصبرِ يكون جريئاً على الخصم {إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ} في عداوتكم من الكيد {مُحِيطٌ} علماً فيعاقبهم على ذلك وقرئ بالتاء الفوقائية أي بما تعملون من الصبر والتقوى فيجازيكم بما أنتم أهلُه

121

{وَإِذْ غَدَوْتَ} كلامٌ مستأنفٌ سيق للاستشهاد بما فيه من استتباع عدمِ الصبرِ والتقوى للضرر على أن وجودَهما مستتبِعٌ لما وُعِد من النجاة من مضرَّة كيدِ الأعداءِ وإذْ نُصبَ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطبَ به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم خاصة مع عموم الخطابِ فيما قبله وما بعده له وللمؤمنين لاختصاص مضمونِ الكلامِ به عليه السلام أي واذكر لهم وقت غُدُوِّك ليتذكروا ما وقع فيه من الأحوال الناشئةِ عن عدم الصبر فيعلمون أنهم إن لزِموا الصبرَ والتقوى لا يضرُهم كيدُ الكفرةِ وتوجيهُ الأمرِ بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرها واستحضارِ الحادثةِ بتفاصيلها كما سلف بيانُه في تفسيرِ قولِه تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} الخ والمرادُ به خروجُه عليه السلام إلى أُحد وكان ذلك من منزل عائشةَ رضيَ الله عنها وهو المرادُ بقوله تعالى {مِنْ أَهْلِكَ} أي من عند أهلِك {تبوئ المؤمنين} أي تنزلهم أو تهيئ وتسوى لهم {مقاعد} ويؤيد قراءة من قرأ تبوئ للمؤمنين والجملة حال من فاعل غدوتَ لكنْ لاَ على أنَّها حالٌ مقدرةٌ أي ناوياً وقاصداً للتبْوِئة كما قيل

122 - آل عمران بل على أن المقصودَ تذكيرُ الزمانِ الممتدِّ المتسعِ لابتداء الخروجِ والتبْوِئة وما يترتب عليها إذْ هو المُذكِّرُ للقصة وإنما عُبّر عنه بالغدو الذي هو الخروجُ غُدوةً مع كون خروجِه عليه السلام بعد صلاةِ الجمعةِ كما ستعرفه إذْ حينئذٍ وقعت التبوئةُ التي هي العُمدةُ في الباب إذِ المقصودُ بتذكير الوقت تذكير مخالفتهم لأمرالنبي صلى الله عليه وسلم وتزايُلِهم عن أحيازهم المعيَّنةِ لهم عند التبوئة وعدمِ صبرِهم وبهذا يتبين خللُ رأي من احتج به على جواز أداءِ صلاةِ الجمعة قبل الزوال واللام في قوله تعالى {لِلْقِتَالِ} إما متعلقةٌ بتبوِّيء أي لأجل القتالِ وإما بمحذوف وقع صفة لمقاعدَ أي كائنةً ومقاعدُ القتالِ أماكنُه ومواقِفُه فإن استعمالَ المقعدِ والمقامِ بمعنى المكانِ اتساعاً شائعٌ ذائعٌ كما في قوله تعالى {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} وقوله تعالى {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} روي أن المشركين نزلوا بأُحد يومَ الأربَعاءِ فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه ودعا عبدُ اللَّه بن أبي بن سلول ولم يكن دعاه قبل ذلك فاستشاره فقال عبدُ اللَّه وأكثرُ الأنصار يا رسولَ الله أقِم بالمدينة ولا تخرُجْ إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبْنا منه فكيف وأنت فينا فدَعْهم فإن أقاموا أقاموا بشرِّ مَحبِس وإن دخلوا قاتلهم الرجالُ في وجوههم ورماهم النساءُ والصبيانُ بالحجارة وإن رجعوا رجعوا خائبين وقال بعضُهم يارسول الله اخرُجْ بنا إلى هؤلاء الأكلُبِ لا يرَوْن أنا قد جبُنّا عنهم فقال صلى الله عليه وسلم إني قد رأيت في منامي بقراً مُذَبَّحةً حولي فأوّلتُها خيراً ورأيت في ذُباب سيفي ثُلَماً فأولتُه هزيمةً ورأيتُ كأني أدخلتُ يدي في درعٍ حصينةٍ فأولتُها المدينة فإن رأيتم أن تُقيموا بالمدينة فتدعوهم فقال رجال من المسلمين قد فاتتهم بدرٌ وأكرمهم الله تعالى بالشهادة يومئذ اخرُجْ بنا إلى أعدائنا وقال النعمانُ بنُ مالكٍ الأنصارى رضيَ الله عُنهُ يا رسولَ الله لاتحرمنى الجنةَ فوالذي بعثك بالحق لأدخُلَنَّ الجنة ثم قال بقوليْ أُشْهِدُ أَن لاَّ إلَه إِلاَّ الله وأني لا أفِرُّ من الزحف فلم يزالوا به عليه السلام حتى دخل فلبِس لأمته فلما رأَوْه كذلك ندِموا وقالوا بئسما صنعنا نشير على رسول الله والوحيُ يأتيه وقالوا اصنع يارسول الله ما رأيت فقال ما ينبغي لنبيَ أن يلبس لأمته فيضعَها حتى يقاتل فخرج يومَ الجمعة بعد صلاةِ الجمعةِ وأصبح بالشِّعب من أحُد يوم السبْتِ للنصف من شوالٍ لسنةِ ثلاثٍ من الهجرة فمشى على رجليه فجعل يصُفُّ أصحابَه للقتال فكأنما يقوّم بهم القِدْحَ إن رأى صدراً خارجاً قال تأخَّرْ وكان نزولُه في عُدوة الوادي وجعل ظهرَه وعسكرَه إلى أحُد وأمَّر عبدَ اللَّه بنَ جُبيرٍ على الرماة وقال لهم انضَحُوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا ولا تبرَحوا من مكانكم فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانَكم {والله سَمِيعٌ} لأقوالكم {عَلِيمٌ} بضمائركم والجملةُ اعتراضٌ للإيذان بأنه قد صدر عنهم هناك من الأقوال والأفعال مالا ينبغي صدورُه عنهم

122

{إِذْ هَمَّتْ} بدلٌ من إذ غدوت مبينٌ لما هو المقصودُ بالتذكير أو ظرفٌ لسميعٌ عليمٌ على معنى أنه تعالى جامعٌ بين سماعِ الأقوالِ والعلمِ بالضمائر في ذلك الوقتِ إذ لا وجهَ لتقييد كونِه تعالى سميعاً عليماً بذلك الوقت قال الفراءُ معنى قولِك ضربتُ وأكرمتُ زيداً أن زيداً منصوبٌ بهما تسلّطا عليه معاً {طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} متعلقٌ بهمَّتْ والباءُ محذوفةٌ أي بأن تفشَلا أي تجبُنا وتضعُفا وهما حيانِ من

123 - 124 آل عمران الأنصار بنو سلمةَ من الخزرج وبنو حارثةَ من الأوس وهما الجناحانِ من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ألفَ رجل وقيل تسعَمائةٍ وخمسين وَعَدهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الفتحَ إن صبَروا فلما قاربوا عسكرَ الكفرةِ وكانوا ثلاثةَ آلافٍ انخذل عبدُ اللَّه بنُ أبيَ بثلث الناسِ فقال يا قومُ علامَ نَقتُل أنفسَنا وأولادَنا فتبِعَهم عمروُ بنُ حزم الأنصاري فقال أنشُدكم الله في نبيكم وأنفسِكم فقال عبدُ اللَّه لو نعلم قتالاً لاتّبعناكم فهمّ الحيانِ باتِّباع عبدِ اللَّه فعصمَهم الله تعالى فمضَوْا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما أضمَروا أن يرجِعوا فعزم الله لهم على الرشد فثبَتوا والظاهرُ أنها ما كانت إلا همَّةً وحديثَ نفس قلما تخلو النفسُ عنه عند الشدائدِ {والله وَلِيُّهُمَا} أي عاصِمُهما عن اتباع تلكِ الخَطرةِ والجملةُ اعتراضٌ ويجوز أن تكون حالاً من فاعل همَّتْ أو من ضميرِه في تفشلا مفيدةٌ لاستبعاد فشلِهما أو همِّهما بهِ مع كونِهِما في ولاية الله تعالى وقرئ والله وليُّهم كما في قوله تعالى {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} {وَعَلَى الله} وحده دون ما عداه مطلقاً استقلالاً أو اشتراكاً {فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} في جميع أمورِهم فإنه حسبُهم وإظهارُ الاسمِ الجليلِ للتبرك والتعليل فإن الألوهية من موجبات التوكلِ عليه تعالى واللامُ في المؤمنين للجنس فيدخلُ فيه الطائفتان دخولاً أولياً وفيه إشعارٌ بأن وصفَ الإيمان من دواعي التوكلِ وموجباتِه

123

{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لإيجاب الصبرِ والتقوى بتذكير ما ترتب عليهما من النصر إثرَ تذكيرِ ما ترتب على عدمهما من الضرر وقيل لإيجاب التوكلِ على الله تعالى بتذكير ما يوجبه وبدرٌ اسمُ ماءٍ بين مكةَ والمدينة كان لرجل اسمُه بدرُ بنُ كِلْدةَ فسُمِّيَ باسمِه وقيل سمِّي به لصفائه كالبدر واستدارتِه وقيل هو اسمُ الموضِعِ أو الوادي وكانت وقعةُ بدرٍ في السابعَ عشرَ من شهرِ رمضانَ سنةَ اثنتين من الهجرة {وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} حالٌ من مفعول نصركم وأذلةٌ جمعُ ذليلٍ وإنما جُمع جَمْعُ قِلةً للإيذان باتصافهم حينئذ بوصفي القِلة والذِلة إذ كانوا ثلثَمائةٍ وبضعةَ عشرَ وكان ضعفُ حالِهم في الغاية خرجوا على النواضح يتعقب النفرُ منهم على البعير الواحدِ ولم يكن في العسكر إلا فرسٌ واحدٌ وقيل فرَسانِ للمقداد ومرْثَد وتسعون بعيراً وستُّ أدرعٍ وثمانيةُ سيوفٍ وكان العدو زهاءَ ألفٍ ومعهم مائةُ فرسٍ وشكة وشوْكة {فاتقوا الله} اقتصر على الأمر بالتقوى مع كونه مشفوعاً بالصبر فيما سبقَ وما لحِق للإشعار بأصالته وكونِ الصبرِ من مباديه اللازمةِ له ولذلك قُدم عليه في الذكر وفي ترتيب الأمرِ بالتقوى على الإخبار بالنصر إيذانٌ بأن نصرَهم المذكورَ كان بسبب تقواهم أي إذا كان الأمر كذلك فاتقوا الله كما اتقيتم يومئذ {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي راجين أن تشكُروا ما يُنعِم به عليكم بتقواكم من النصرة كما شكرتم فيما قبلُ أو لعلكم يُنعم الله عليكم بالنصر كما فعل ذلك من قبل فوُضِع الشكرُ موضِعَ سببِه الذي هو الإنعامُ

124

{إِذْ تَقُولُ} تلوينٌ للخطاب بتخصيصه رسول الله صلى الله عليه وسلم لتشريفه والإيذانِ بأن وقوعَ النصرِ كان ببشارته عليه السلام وإذ ظرفٌ لنصَرَكم قدِّم عليه الأمر

125 - آل عمران بالتقوى لإظهار كمالِ العنايةِ به والمرادُ به الوقتُ الممتدُ الذي وقع فيه ما ذكر بعده وما طُويَ ذكرُه تعويلا على شهادة الحالِ مما يتعلق به وجودُ النصرِ وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها أي نصركم وقت قولك {لِلْمُؤْمِنِينَ} حين أظهروا العجزَ عن المقاتلة قال الشعبي بلغ المؤمنين أن كُرْزَ بنَ جابرٍ الحنفي يريد أن يُمِدَّ المشركين فشق ذلك على المؤمنين فنزل حينئذ ثم حكى ههنا {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ ربكم بثلاثة آلافٍ} الكفايةُ سدُّ الخَلّةِ والقيامُ بالأمر والإمدادُ في الأصل إعطاءُ الشئ حالاً بعد حال قال المفضّل ما كان منه بطريق التقويةِ والإعانةِ يقال فيه أمَدَّه يُمِدُّه إمداداً وما كان بطريق الزيادة يقال فيه مَدَّه يمُدّه مداً ومنه والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ وقيل المَدّ في الشر كما في قوله تعالى {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقولِه {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} والإمدادُ في الخير كما في قوله تعالى {وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ} والتعرض لعنوان الربوبية ههنا وفيما سيأتي مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار العنايةِ بهم والإشعارِ بعلةِ الإمداد والمعنى إنكارُ عدمِ كفايةِ الإمدادِ بذلك المقدار ونفيُه وكلمة لَنْ للإشعار بأنهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لضعفهم وقلّتِهم وقوةِ العدوّ وكثرتهم {مِنَ الملائكة} بيانٌ أو صفة لآلافٍ أو لما أُضيف إليه أي كائنين من الملائكة {مُنزَلِينَ} صفةٌ لثلاثةِ آلافٍ وقيل حال من الملائكة وقرئ منزلين بالتشديد للتكثير أو للتدريج قيل امدهم الله تعالى أولا بألف ثم صاروا ثلاثة آلافٍ ثم خمسةِ آلافٍ وقرئ مبنياً للفاعل من الصيغتين أي مُنزِلين النصرَ

125

{بلى} إيجابٌ لما بعدَ لَنْ وتحقيقٌ له أي بلى يكفيكم ذلك ثم وعد لهم الزيادةَ بشرط الصبرِ والتقوى حثاً لهم عليهما وتقويةً لقلوبهم فقال {إِن تَصْبِرُواْ} على لقاء العدو ومناهضتِهم {وَتَتَّقُواْ} معصيةَ الله ومخالفةَ نبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {ويأتوكم} أي المشركين {مّن فَوْرِهِمْ هذا} أي من ساعتهم هذه وهو في الأصل مصدرُ فارَت القِدرُ أي اشتد غَلَيانُها ثم استُعير للسرعة ثم أُطلق على كل حالةٍ لا ريث فيها أصلاً ووصفُه بهذا لتأكيد السرعةِ بزيادة تعيينِه وتقريبِه ونظمُ إتيانِهم بسرعة في سلك شرطَي الإمداد المستتبِعَيْن له وجوداً وعدماً أعني الصبرَ والتقوى مع تحقق الإمدادِ لا محالةَ سواءٌ أسرعوا أو أبطئوا لتحقيق سرعة الإمداد لا لتحقيق أصلِه أو لبيانِ تحقّقِه على أي حال فُرِضَ على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه بتعليقه بأبعدِ التقاديرِ ليُعلم تحقُّقُه على سائرها بالطريق الأوْلى فإن هجومَ الأعداءِ وإتيانَهم بسرعة من مظانّ عدمِ لُحوق المددِ عادةً فعُلِّق به تحققُ الإمدادِ إيذاناً بأنه حيث تحقَّقَ مع ما ينافيه عادةً فلأَنْ يتحقَّقَ بدونه أولى وأحرى كما إذا أردتَ وصفَ درعٍ بغاية الحَصانة تقول إن لبستَها وبارزتَ بها الأعداءَ فضربوك بأيدٍ شدادٍ وسيوفٍ حِدادٍ لم تتأثرْ منها قطعاً {يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مُسَوّمِينَ} من التسويم الذي هو إظهارُ سيما الشيءِ أي مُعْلِمين أنفسَهم أو خيلَهم فقد رُوي أنهم كانوا بعمائمَ بيضٍ إلا جبريلَ عليهِ السَّلامُ فإنَّه كان بعمامة صفراءَ على مثال الزبير بنِ العوام وروى

126 - آل عمران أنهم كانوا على خيل باق قال عروةُ بنُ الزبير كانت الملائكةُ على خيل بُلْق عليهم عمائمُ بيضٌ قد أرسلوها بين أكتافِهم وقال هشامُ بنُ عروة عمائمُ صُفْرٌ وقال قتادة والضحاك وكانوا قد أَعْلموا بالعِهْن في نواصي الخيلِ وأذنابِها رُوي أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قال لأصحابه تسوَّموا فإن الملائكة قد تسومت وقرئ مسوَّمين على البناء للمفعول ومعناه مُعْلِمين من جهته سبحانه وقيل مرسَلين من التسويم بمعنى الإسامة

126

{وَمَا جَعَلَهُ الله} كلامٌ مبتدأٌ غيرُ داخلٍ في حيز القول مَسوقٌ من جنابه تعالى لبيان أن الأسبابَ الظاهرةَ بمعزل من التأثير وأن حقيقةَ النصرِ مختص به عز وجل ليثق به المؤمنون ولا يقنَطوا منه عند فُقدان أسبابِه وأماراتِه معطوفٌ على فعل مقدرٍ ينسحبُ عليه الكلامُ ويستدعيه النظامُ فإن الإخبارَ بوقوع النصرِ على الإطلاق وتذكيرَ وقتِه وحكايةَ الوعدِ بوقوعه على وجه مخصوصٍ هو الإمدادُ بالملائكة مرةً بعد أخرى وتعيينُ وقتِه فيما مضى يقضي بوقوعه حينئذ قضاءً قطعياً لكن لم يصرَّحْ به تعويلاً على تعاضُد الدلائلِ وتآخُذ الأماراتِ والمخايل وإيذاناً بكمال الغِنى عنه بل إحترازا عن شائبة التكريرِ أو عن إيهام احتمالِ الخُلفِ في الوعد المحتومِ كأنه قيل عَقيبَ قولِه تعالى {يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مُسَوّمِينَ} فأمدَّكم بهم {وما جعله الله} الخ والجَعلُ متعدَ إلى واحد وهو الضميرُ العائد إلى مصدر ذلك الفعلِ المقدر وأما عَوْدُه إلى المصدر المذكورِ أعني قولَه تعالى أَن يُمِدَّكُمْ أو إلى المصدر المدلولِ عليه بقوله تعالى يُمْدِدْكُمْ كما قيل فغيرُ حقيقٍ بجزالة التنزيلِ لأن الهيئةَ البسيطةَ متقدمةٌ على المركبة فبيانُ العلةِ الغائبةِ لوجود الإمداد كما هو المرادُ بالنظم الكريم حقُّه أن يكون بعد بيانِ وجودِه في نفسه ولا ريب في أن المصدر بن المذكورين غيرُ معتبَرَيْنِ من حيث الوجودُ والوقوعُ كمصدر الفعلِ المقدرِ حتى يتصدى لبيان أحكامِ وجودِهما بل الأولُ معتبرٌ من حيث الكفايةُ والثاني من حيث الوعدُ على أن الأولَ هو الإمدادُ بثلاثة آلافٍ والواقع هو الإمدادُ بخمسة آلافٍ وقوله تعالى {إِلاَّ بشرى لَكُمْ} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم العللِ وتلوينُ الخطابِ لتشريف المؤمنين وللإيذان بأنهم المحتاجون إلى البِشارة وتسكينِ القلوب بتوفيق الأسبابِ الظاهرةِ وان رسول الله صلى الله عليه وسلم غني عنه بماله من التأييد الروحاني أي وما جعل إمدادَكم بإنزال الملائكةِ عِياناً لشيءٍ من الأشياءِ إلا للبشرى لكم بأنكم تُنْصَرون {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ} أي بالإمداد وتسكُنَ إليه كما كانت السكينةُ لبني إسرائيلَ كذلك فكلاهما عِلةٌ غائيةٌ للجعل وقد نُصب الأولُ لاجتماع شرائطِه من اتحاد الفاعلِ والزمانِ وكونِه مصدراً مَسوقاً للتعليل وبقيَ الثاني على حاله لفُقدانها وقيل للإشارة أيضاً إلى أصالته في العلِّية وأهميتِه في نفسه كما في قوله تعالى {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} وفي قصر الإمدادِ عليهما إشعارٌ بأن الملائكةَ عليهم السلام لم يباشروا يومئذ القتالَ وإنما كان إمدادُهم بتقويةِ قلوبِ المباشرين بتكثير السَّواد ونحوِه كما هو رأيُ بعض السلف رضيَ الله عنه وقيلَ الجعلُ متعدٍ إلى

127 - 128 آل عمران اثنين وقوله عز وجل إِلاَّ بشرى لَكُمْ استثناءٌ من أعمِّ المفاعيلِ أي وما جعله الله تعالى شيئاً من الأشياء إلا بشارةً لكم فاللام في قوله تعالى وَلِتَطْمَئِنَّ متعلقةٌ بمحذوف تقديرُه ولتطمئن قلوبُكم به فُعِل ذلك {وَمَا النصر} أي حقيقةُ النصرِ على الإطلاق فيندرِجُ في حكمة النصرُ المعهودُ اندراجاً أولياً {إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} أي إلا كائنٌ من عنده تعالى من غيرِ أنْ يكون فيه شِرْكةٌ من جهة الأسبابِ والعَدد وإنما هي مظاهرُ له بطريق جَرَيانِ سنتِه تعالى أو وما النصرُ المعهودُ إلا من عنده تعالى لا من عند الملائكةِ فإنهم بمعزلٍ من التأثير وإنما قصارى أمرِهم ما ذُكر من البِشارة وتقويةِ القلوب {العزيز} أي الذي لا يغالَب في حُكمه وأقضيتِه وإجراءُ هذا الوصفِ عليه تعالى للإشعار بعلة اختصاصِ النصرِ به تعالى كما أن وصفَه بقوله {الحكيم} أي الذي يفعلُ كلَّ ما يفعلُ حسبما تقتضيِه الحِكمةُ والمصلحة للإيذان بعلة جعْلِ النصرِ بإنزال الملائكةِ فإن ذلك من مقتَضيات الحِكم البالغةِ

127

{لِيَقْطَعَ} متعلقٌ بقوله تعالى وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ وما بينهما تحقيقٌ لحقيقته وبيانٌ لكيفية وقوعِه والمقصورُ على التعليل بما ذُكر من البُشرى والاطمئنانِ إنما هو الإمدادُ بالملائكة على الوجه المذكورِ فلا يقدح ذلك في تعليل أصلِ النصرِ بالقطع وما عُطف عليه أو بَما تعلَّق به الخبرُ في قوله عز وعلا وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله على تقدير كونِه عبارةً عن النصر المعهودِ وقد أُشير إلى أن المعلَّلَ بالبشارة والاطمئنانِ إنما هو الإمدادُ الصوريُّ لا ما في ضِمنه من النصر المعنويِّ الذي هو مَلاكُ الأمر وأما تغلقه بنفس النصرِ كما قيل فمع ما فيه من الفصلَ بين المصدرِ ومعمولِه بأجنبي هو الخبرُ مُخلٌّ بسَداد المعنى كيف لا ومعناه قصرُ النصرِ المخصوصِ المعلَّلِ بعلل معيّنةٍ على الحصول من جهته تعالى وليس المرادُ إلا قصرَ حقيقةِ النصرِ أو النصرِ المعهودِ على ذلك والمعنى لقد نصركم الله يومئذ أو وما النصرُ الظاهرُ عند إمدادِ الملائكةِ إلا ثابتٌ من عند الله ليقطعَ أي يُهلِكَ ويَنْقُصَ {طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ} أي طائفةٌ منهم بقتل وأسر وقد وقع ذلك حيث قُتل من رؤسائهم وصناديدِهم سبعون وأُسر سبعون {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} أي يخزيَهم ويُغيظَهم بالهزيمة فإن الكبتَ شدةُ غيظٍ أو وهنٌ يقع في القلب من كَبتَه بمعنى كَبده إذا ضرب كِبدَه بالغيظ والحُرقة وقيل الكبتُ الإصابةُ بمكروه وقيل هو الصرعُ للوجه واليدين فالتاء حينئذ غيرُ مُبْدَلةٍ وأو للتنويع {فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ} أي فينهزموا منقطعي الآمالِ غيرَ فائزين من مبتغاهم بشئ كما في قوله تعالى {وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً}

128

{لَيْسَ لَكَ مِنَ الامر شَىْء} اعتراضٌ وُسِّط بين المعطوف عليه المتعلّقِ بالعاجل والمعطوفِ المتعلّقِ بالآجل لتحقيق أن لا تأثير للمنثورين إثرَ بيانِ أن لا تأثيرَ للناصرين وتخصيصُ النفيِ برسول صلى الله عليه وسلم على طريق تلوين الخطاب للدلالة على الانتفاءِ من غيره بالطريق الأولى وإنما خُصّ الاعتراضُ بموقعه لأن ما قبله من القطع والكبْتِ من مظانِّ أن يكونَ فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولسائر مباشري القتالِ مدخَلٌ في الجملة {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ} عطفٌ على يكبِتَهم

والمعنى أن مالِكَ أمرِهم على الإطلاقِ هو الله عزَّ وجلَّ نصرَكم عليهم ليُهلِكَهم أو يكبتَهم أَوْ يتوبَ عَلَيْهِمْ إنْ أسلموا أو يعذبَهم إن أصروا وليس لك من أمرهم شيءٌ إنما أنت عبدٌ مأمورٌ بإنذارهم وجهادِهم والمرادُ بتعذيبهم التعذيب السديد الأخرويُّ المخصوصُ بأشد الكفَرةِ كُفراً وإلا فمطلقُ التعذيبِ الأخرويِّ متحققٌ في الفريقين الأولين أيضاً ونظمُ التوبةِ والتعذيبِ المذكورِ في سلك العلة الغائبة للنصر المترتبةِ عليه في الوجود من حيث إن قبولَ توبتِهم فرْعُ تحققِها الناشئ من علمهم بحقية الإسلامِ بسبب غلبةِ أهلِه المترتبةِ على النصر وأن تعذيبَهم بالعذاب المذكورِ مترتبٌ على إصرارهم على الكفر بعد تبيُّنِ الحقِّ على الوجه المذكورِ هذا وقيل إن عُتبةَ بنَ أبي وقاصٍ شج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ أحُد وكسرَ رَباعِيَتَه فجعل صلى الله عليه وسلم يمسح الدمَ عن وجهه وسالم مولى حُذيفةَ يغسِلُ عن وجهه الدمَ وهو يقول كيف يُفلحُ قومٌ خضَبوا وجهَ نبيِّهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الامر شَىْء} الآية كأنه نوعُ معاتبةٍ على إنكاره عليه السلام لفلاحهم وقيل أراد أن يدعوَ عليهم فنهاه الله تعالى لعلمه بأن منهم من يؤمن فقولُه تعالى {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} حينئذ معطوفٌ على الأمر أو على شيء بإضمار أنْ أي ليس لك من أمرَهم أو مِن التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيءٌ أو ليس لك من أمرهم شيءٌ أو التوبة عليهم او تعذبهم ونُقل عن الفراء وابنِ الأنباري أن أَوْ بمعنى الا ان المهنى ليس لك من أمرهم شيءٌ إلا أن يتوبَ الله عليهم فتفرَحَ به أو يعذبهم فتشفى منهم وأيا ما كان فهو كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان بعضِ الأمورِ المتعلقة بغزوة أحُدٍ إثرَ بيانِ بعضِ ما يتعلق بغزوة بدرٍ لِما بينهما من التناسُب الظاهرِ لأن كلاًّ منهما مبنيٌّ على اختصاص الأمرِ كلِّه بالله تعالى ومنبئ عن سلبه عمن سواه وأما تعلقُ كلِّ القصةِ بغزوة أُحد على أنَّ قولَه تعالى إِذْ تَقُولُ بدلٌ ثانٍ من إذ غدوتَ وأن ما حُكي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقع يومَ أحدٍ وأن الإمدادَ الموعودَ كان مشروطاً بالصبر والتقوى فلما لم يفعلوا لم يتحققِ الموعودُ كما قيل فلا يساعدُه النظمُ الكريمُ أما أوّلاً فلأن المشروطَ بالصبر والتقوى إنما هو الإمدادُ بخمسة آلافٍ لا بثلاثة آلافٍ مع أنه لم يقع الإمدادُ يومئذ ولا بمَلكٍ واحدٍ وأما ثانياً فلأنه كان ينبغي حينئذ أن ينعى عليهم جناياتهم وحِرْمانَهم بسببها تلكَ النعمةَ الجليلة ودعوى ظهورِه مع عدم دِلالةِ السباقِ والسياقِ عليه بل مع دَلالتهما على خلافه مما لا يكاد يُسمع وأما ثالثاً فلأنه لا سبيل إلى جعل الضَّمير في قولِه تعالى وَمَا جَعَلَهُ الله الخ عائداً إلى الإمداد الموعودِ لأنه لم يتحققْ فكيف يبيِّنُ علّته الغائيةَ ولا إلى الوعدِ به على معنى أنه تعالى إنما جعل ذلك الوعدَ لبِشارتكم واطمئنانِ قلوبكم فلم تفعلوا ما شرَطَ عليكم من الصبر والتقوى فلم يقع إنجازُ الموعودِ لما أنَّ قولَه تعالَى وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله العزيز الحكيم صريحٌ في أنه قد وقع الإمدادُ الموعودُ لكن أثرَه إنما هو مجردُ البِشارة والاطمئنانِ وقد حصلا وأما النصرُ الحقيقيُ فليس ذلك إلا من عنده تعالى وجعلُه استئنافاً مقرّراً لعدم وقوعِ الإمداد على معنى أن التصر الموعودَ مخصوصٌ به تعالى فلا ينصُر من خالف أمرَه بترك الصبر والتقوى اعتسافٌ بيّنٌ يجب تنزيهُ التنزيلِ عن أمثالِه على أنَّ قولَه تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفاً الآية متعلقٌ حينئذ بما تعلق به قولُه تعالى مِنْ عِندِ الله من الثبوت والإستقرار وضرورة أن تعلقَه بقوله تعالى وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ الآية مع كون ما بينهما من التفصيل متعلقاً بوقعة أحُدٍ من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه فلا بُدَّ من اعتبارِ وجودِ النصرِ قطعاً لأن تفصيل الأحكام المتريبة على وجود شيء

129 - 130 131 آل عمران بصدد بيانِ انتفائِه مما لم يُعهدْ في كلام الناسِ فضلاً عن الكلام المَجيد فالحق الذي لا محيد عنه أن قولَه تعالى إِذْ تَقُولُ ظرفٌ لنصرَكم وأن ما حُكي في أثنائه إلى قوله تعالى خَائِبِينَ متعلقٌ بيومِ بدرٍ قطعاً وما بعده محتملٌ الوجهين المذكورين وقوله تعالى {فَإِنَّهُمْ ظالمون} تعليلٌ على كل حال لقوله تعالى أَوْ يُعَذّبَهُمْ مبينٌ لكون ذلك من جهتهم وجزاءٌ لظلمهم

129

{ولله ما في السماوات وَمَا فِي الارض} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان اختصاصِ ملكوتِ كلِّ الكائناتِ به عزَّ وجلَّ إثرَ بيانِ اختصاصِ طرَفٍ من ذلك به سبحانه تقريراً لما سبق وتكملةً له وتقديمُ الجارِّ للقصر وكلمةُ مَا شاملةٌ للعقلاء أيضاً تغليباً أي له مَا فِيهمَا مِنَ الموجوداتِ خلقاً ومُلكاً لا مدخَلَ فيه لأحد أصلاً فله الأمرُ كلُّه {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أنْ يغفر له مشيئة مبنية على الحكم والمصالح {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} أنْ يعذِّبَه بعمله مشيئةً كذلك وإيثارُ كلمة مِنْ في الموضعين لاختصاص المغفرةِ والتعذيبِ بالعقلاء وتقديمُ المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق رحمتِه تعالى غضبَه وبأنها من مقتَضيات الذاتِ دونه فإنه من مقتضيات سيئاتِ العُصاة وهذا صريحٌ في نفي وجوبِ التعذيبِ والتقييدُ بالتوبة وعدمِها كالمنافي له {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تذييلٌ مقررٌ لمضمونِ قولِه تعالى يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء مع زيادة وفي تخصيص التذييلِ به دون قرينةٍ من الاعتناء بشأن المغفرةِ والرحمةِ ما لا يخفى

130

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا} كلامٌ مبتدأٌ مشتمِلٌ على ما هو مَلاكُ الأمرِ في كل باب لا سيما في باب الجهادِ من التقوى والطاعةِ وما بعدهما من الأمور المذكورةِ على نهج الترغيبِ والترهيبِ جيء به في تضاعيفِ القصةِ مسارعةً إلى إرشاد المخاطَبين إلى ما فيه وإيذاناً بكمالِ وجوبِ المحافظةِ عليه فيمَا هُم فيهِ من الجهاد فإن الأمورَ المذكورةَ فيه مع كونها مناطاً للفوز في الدارين على الإطلاق عُمدةٌ في أمر الجهادِ عليها يدورُ فلكُ النُّصرةِ والغلَبة كيف لا ولو حافظوا على الصبر والتقوى وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما لقُوا ما لقُوا ولعل إيرادَ النهي عن الربا في أثنائها لِما أن الترغيبَ في الإنفاق في السراء والضراءِ الذي عُمدتُه الإنفاقُ في سبيل الجهادِ متضمنٌ للترغيب في تحصيل المالِ فكان مظِنةَ مبادرة الناس إلى طرق الاكتساب ومن جملتها الربا فنُهوا عن ذلك والمرادُ بأكله أخذُه وإنما عُبر عنه بالأكل لما أنه مُعظم ما يقصَد بالأخذ ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة تشنيع وقوله عز وجل {أضعافا مضاعفة} ليس لتقييد النهي به بل لمراعاةِ ما كانوا عليه من العادة توبيخاً لهم بذلك إذ كان الرجلُ يُرْبي إلى أجلٍ فإذا حل قال للمَدين زدْني في المال حتى أزيدك في الأجل فيفعلُ وهكذا عند محلِّ كلِّ أجلٍ فيستغرق بالشيء الطفيفِ مالَه بالكلية ومحلُّه النصبُ عَلى الحاليّةِ من الربا وقرئ مُضَعَّفَةً {واتقوا الله} فيما نهيتم عنه من الأمور التي من جملتها الربا {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} راجين للفلاح

131

{واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين}

بالتحرز عن متابعتهم وتعاطي ما يتعاطَوْنه كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هي أخوفُ آيةٍ في القرآن حيث أوعدَ الله المؤمنين بالنار المُعَدَّة للكافرين إن لم يتّقوه في اجتناب محارمِه

132

{وَأَطِيعُواْ الله} في كلِّ ما أمركم به ونهاكم عنه {والرسول} الذي يبلّغكم أوامرَه ونواهيَه {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} راجين لرحمته عقّب الوعيدَ بالوعد ترهيباً عن المخالفة وترغيباً في الطاعة وإيرادُ لَعَلَّ في الموضعين للإشعار بعزة منالِ الفلاحِ والرحمة قال محمد بن اسحق هذه الآيةُ معاتبةٌ للذين عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بما أمرهم يومَ أحُد

133

{وَسَارِعُواْ} عطفٌ على أطيعوا وقرئ بغير واو على وجه الاستئنافِ أي بادروا وأقبلوا وقرئ سابقوا {إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ} أي إلى ما يؤدي إليهما وقيل إلى الإسلام وقيل إلى التوبة وقيل إلى الإخلاص وقيل إلى الجهاد وقيل إلى أداء جميعِ الواجباتِ وتركِ جميعِ المنهيَّاتِ فيدخُل فيها ما مر من الأمور المأمور بها والمنهي عنها دخولاً أولياً وتقديمُ المغفرةِ على الجنةِ لما أنَّ التخليةَ متقدِّمةٌ على التحلية ومِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لمغفرة أي كائنةٍ من ربكم والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطبينَ لإظهار مزيدِ اللطفِ بهم وقولُه تعالى {عرضها السماوات والارض} أي كعرضهما صفةٌ لجنةٍ وتخصيصُ العَرْض بالذكر للمبالغة في وصفها بالسِّعة والبسطةِ على طريقة التمثيلِ فإن العَرْضَ في العادة أدنى من الطول وعن ابن عباس رضي الله عنهما كسبع سمواتٍ وسبعِ أرضينَ لو وُصل بعضُها ببعض {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} في حيِّز الجرِّ على أنه صفةٌ أخرى لجنة أو في محلِّ النَّصبِ على الحالية منها لتخصُّصها بالصفة أي هُيِّئَتْ لهم وفيه دليلٌ على أنَّ الجنةَ مخلوقةٌ الآن وأنها خارجةٌ عن هذا العالم

134

{الذين يُنفِقُونَ} في محل الجرِّ على أنه نعتٌ للمتقين مادحٌ لهم أو بدلٌ منه أو بيانٌ أو في حيزِ النصبِ أو الرفع على المدح ومفعولُ ينفقون محذوفٌ ليتناولَ كلَّ ما يصلُح للإنفاق أو متروكٌ بالكلية كما في قولك يُعطي ويمنَع {فِى السَّرَّاء والضراء} في حالتي الرخاءِ والشدة واليُسر والعُسر أو في الأحوال كلِّها إذ الإنسانُ لا يخلو عن مَسَرة أو مضَرَّة أي لا يخلُون في حال ما بإنفاق ما قدَروا عليه من قليل أو كثير {والكاظمين الغيظ} عطفٌ على الموصول والعدولُ إلى صيغة الفاعلِ للدِلالة على الاستمرار وأما الإنفاقُ فحيث كان أمراً متجدداً عبّر عنه بما يفيد الحدوث والتجدد والكظمُ الحبسُ يقال كظَم غيظه أي حبَسه قال المُبرِّدُ تأويلُه أنه كتمه على امتلائه منه يقال كظمتُ السقاءَ إذا ملأتُه وشددتُ عليه أي المُمْسِكين عليه الكافّين عن إمضائه مع القُدرة عليه وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من كظم غيظاً وهو قادرٌ على إنفاذِه ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً {والعافين عن الناس}

135 - آل عمران أي التاركين عقوبةَ من استحق مؤاخذتَه رُوي أنه ينادي منادٍ يومَ القيامة أين الذين كانت أجورُهم على الله تعالى فلا يقوم إلا من عفا وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إن هؤلاءِ في أمتي قليلٌ ألا من عصَم الله وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت وفي هذين الوصفين إشعارٌ بكمال حُسنِ موقعِ عفوِه عليه الصلاة والسلام عن الرماة وتركِ مؤاخذتِهم بما فعلوا مخالفة أمرِه عليه السلام وندبٌ له عليه السَّلامُ إلى ترك ما عزَم عليه من مجازاة المشركين بما فعلوا بحمزة رضي الله عنه حيث قال حين رآه قد مُثِّل به لأمثّلنّ بسبعين مكانك {والله يُحِبُّ المحسنين} اللامُ إما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً وإما للعهد عبّر عنهم بالمحسنين إيذاناً بأن النعوتَ المعدودةَ من باب الإحسانِ الذي هو الإتيانُ بالأعمال على الوجه اللائقِ الذي هو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتي وقد فسره عليه السلام بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّهُ يَرَاكَ والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَها

135

{والذين} مرفوعٌ على الابتداء وقيل مجرورٌ معطوفٌ على ما قبله من صفات المتقين وقوله تعالى {والله يُحِبُّ المحسنين} اعتراضٌ بينهما مشيرٌ إلى ما بينهما من التفاوت فإن درجةَ الأولين من التقوى أعلى من درجة هؤلاءِ وحظِّهم اوفى من حظهم أو على نفس المتقين فيكونُ التفاوتُ أكثرَ وأظهرَ {إِذَا فَعَلُواْ فاحشة} أي فَعلةً بالغةً في القُبح كالزنا {أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} بأن أتَوْا ذنباً أيَّ ذنبٍ كان وقيل الفاحشةُ الكبيرةُ وظلمُ النفسِ الصغيرة أو الفاحشةُ ما يتعدّى إلى الغير وظلمُ النفس ما ليس كذلك قيل قال المؤمنون يا رسولَ الله كانت بنو إسرائيلَ أكرمَ على الله تعالى منا كان أحدُهم إذا أذنب أصبحت كفارةُ ذنبِه مكتوبةً على عَتَبة دارِه افعلْ كذا فأنزل الله تعالى هذه الآيةَ وقيل إن نبهانَ التمار أتتْه امرأةٌ حسناءُ تطلُب منه تمراً فقال لها هذا التمرُ ليس بجيد وفي البيت أجودُ منه فذهب بها إلى بيته فضمّها إلى نفسه وقبّلها فقالت له اتق الله فتركها وندِم على ذلك وأتى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وذكر له ذلك فنزلت وقيل جرى مثلُ هذا بين أنصاري وإمرأة ورجل ثقفي كان بينهما مؤاخاةٌ فندم الأنصاريُّ وحثا على رأسه الترابَ وهام على وجهه وجعل يسيح في الجبال تائباً مستغفِراً ثم أتى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فنزلت وأياً ما كان فإطلاقُ اللفظِ ينتظم ما فعله الزُناةُ انتظاماً أولياً {ذَكَرُواْ الله} تذكّروا حقَّه العظيمَ وجلالَه الموجبَ للخشية والحياء أو وعيدَه أو حُكمَه وعقابَه {فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} بالتوبة والندمِ والفاءُ للدَلالة على أن ذكرَه تعالى مستتبعٌ للاستغفار لا محالة {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب} استفهامٌ إنكاريٌّ والمرادُ بالذنوب جنسُها كما في قولك فلانٌ يلبَس الثيابَ ويركب الخيلَ لا كلُّها حتى يُخِلّ بما هو المقصودُ من استحالة صدورِ مغفرةِ فردٍ منها عن غيره تعالى وقوله تعالى {إِلاَّ الله} بدلٌ من الضَّمير المستكِّنِ في يغفر أي لا يغفرُ جنسَ الذنوبِ أحدٌ إلا الله خلا أن دلالة الإستفهام على الانتفاء أقوى وأبلغُ لإيذانه بأن كلَّ أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب يعرِف ذلك الانتفاءَ فيسارع إلى الجواب به والمرادُ به وصفُه سبحانه بغاية سَعةِ الرحمةِ وعمومِ المغفرةِ والجملةُ معترضةٌ بين المعطوفين أو

136 - 137 آل عمران بين الحالِ وصاحبِها لتقرير الاستغفارِ والحث عليه والإشعارِ بالوعد بالقَبول {وَلَمْ يُصِرُّواْ} عطفٌ على فاستغفروا وتأخيرُه عنه مع تقدم عدمِ الإصرار على الاستغفار رتبةً لإظهار الاعتناءِ بشأن الاستغفارِ واستحقاقِه للمسارعة إليه عَقيبَ ذكرِه تعالى أو حالٌ من فاعلِه أي ولم يُقيموا أو غيرَ مقيمين {على مَا فَعَلُواْ} أي ما فعلوه من الذنوب فاحشةً كانت أو ظلماً أو على فعلهم روى عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليَّومِ سبعينَ مَرَّة وأنه لا كبيرةَ مع الاستغفار ولا صغيرةَ مع الإصرار {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حالٌ منْ فاعل يُصِروا أي لم يصيروا على ما فعلوا وهم عالمون بقُبحه والنهيِ عنه والوعيدِ عليه والتقييدُ بذلك لما أنه قد يُعذر من لا يعلم ذلك إذا لم يكن عن تقصير في تحصيل العلم به

136

{أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين آخِراً باعتبار اتصافِهم بما مرَّ من الصفات الحميدةِ وما فيه من معنى البُعد للإشعارِ ببُعد منزلتِهم وعلوِّ طبقتِهم في الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى {جَزَآؤُهُمْ} بدلُ اشتمالٍ منه وقوله تعالى {مَغْفِرَةٌ} خبرٌ له أو جزاؤهم مبتدأٌ ثانٍ ومغفرةٌ خبر له والجملةُ خبرٌ لأولئك وهذه الجملةُ خبر لقوله تعالى والذين إِذَا فَعَلُواْ الخ على الوجه الأولِ وهو الأظهرُ الأنسبُ بنظم المغفرةِ المنبئةِ عن سابقةِ الذنبِ في سلك الجزاءِ إذ على الوجهين الأخريين يكون قولُه تعالى أولئك الخ جملةٌ مستأنَفةٌ مبينةٌ لما قبلها كاشفةً عن حال كلا الفريقين المحسنين والتائبين ولم يُذكَرْ من أوصاف الأولين ما فيه شائبةُ الذنبِ حتى يُذكَرَ في مطلَع الجزاءِ الشاملِ لها المغفرةُ وتخصيصُ الإشارةِ بالآخِرين مع اشتراكهما في حكم إعدادِ الجنةِ لهما تعسُّفٌ ظاهر {مّن رَّبّهِمُ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقع صفةٌ لمغفرةٌ مؤكدةٌ لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنة من جهته تعالَى والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم للإشعار بعلة الحُكمِ والتشريفِ {وجنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} عطفٌ على مغفرة والتنكر المُشعِرُ بكونها أدنى من الجنة مما يؤيد رُجحانَ الوجهِ الأول {خالدين فِيهَا} حالٌ مقدرةٌ من الضمير في جزاؤهم لأنه مفعولٌ به في المعنى لأنه في قوة يجزيهم الله جناتٌ خالدين فيها ولا مَساغَ لأنْ يكونَ حالاً من جناتٌ في اللفظ وهي لأصحابها في المعنى إذ لو كان كذلك لبرز الضمير {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} المخصوصُ بالمدح محذوفٌ أي ونعم أجرُ العاملين ذلك أي ما ذكر من المغفرة والجناتِ والتعبيرُ عنهما بالأجر المشعرِ بأنهما يُستحقان بمقابلة العمل وإن كان بطريق التفضُّل لمزيد الترغيبِ في الطاعات والزجرِ عن المعاصي والجملةُ تذييلٌ مختصٌّ بالتائبين حسبَ اختصاصِ التذييلِ السابق بالأولين وناهيك مضمونها دليلا على مابين الفريقين من التفاوت النيِّرِ والتبايبن البيِّن شتانَ بين المحسنين الفائزين بمحبة الله عزَّ وجلَّ وبيّن العاملين الحائزين لأُجرتهم وعمالتِهم

137

{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} رجوعٌ إلى تفصيل بقيةِ القصةِ بعد تمهيدِ مبادئ الرشدِ والصلاح وترتيبِ مقدماتِ الفوز والفلاح

138 - 139 آل عمران والخلو المضى والسنن والوقائع وقيل الأممُ والظرفُ إما متعلقٌ بخلَتْ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من سننٌ أي قد مضت من قبل زمانِكم أو كائنةً من قبلكم وقائعُ سنها الله تعالى في الأمم المكذِّبة كما في قوله تعالى وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً سُنَّةَ الله فِى الذين خَلَوْاْ الخ والفاءُ في قوله تعالى {فَسِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} للدِلالة على سببية خلوِّها للسير والنظر أو للأمر بهما وقيل المعنى على الشرط أي إنْ شككتم فسيروا الخ وكيف خبرٌ مقدمٌ لكان معلقٌ لفعلِ النظرِ والجملةُ في محل النصب بعد نزع الخافض لأن الأصلَ استعمالُه بالجار

138

{هَذَا} إشارةٌ إلى ما سلف من قولِه تعالى {قَدْ خَلَتْ} إلى آخره {بَيَانٌ لّلنَّاسِ} أي تبيينٌ لهم على أن اللامَ متعلقةٌ بالمصدر أو كائنٌ لهم على أنها متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة له وتعريفُ الناس للعهد وهم المكذبون أي هذا إيضاحٌ لؤ عاقبةِ ما هُم عليهِ من التكذيب فإن الأمرَ بالسير والنظرِ وإن كان خاصاً بالمؤمنين لكن العملَ بموجبه غيرُ مختصَ بواحد دون واحدٍ ففيه حملٌ للمكذبين أيضاً على أن ينظُروا في عواقب مَنْ قبلَهم من أهل التكذيبِ ويعتبروا بما يعاينون من آثار دمارِهم وإن لم يكن الكلامُ مَسوقاً لهم {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ} أي وزيادةُ بصيرةٍ وموعظةٍ لكم وإنما قيل {لّلْمُتَّقِينَ} للإيذان بعلة الحُكمِ فإن مدارَ كونِه هدىً وموعظةً لهم إنما هو تقواهم ويجوز أن يُرادَ بالمتقين الصائرين إلى التقوى والهدى والموعظة على ظاهرهما أي هذا بيانٌ لمآل أمرِ الناسِ وسوءِ مَغبّتِه وهدايةٌ لمن اتقى منهم وزجرٌ لهم عمَّا هُم عليهِ من التكذيب وأن يُراد به ما يُعمهم وغيرَهم من المتقين بالفعل ويُرادَ بالهدى والموعظةِ أيضاً ما يعُم ابتداءَهما والزيادةَ فيهما وإنما قُدّم كونُه بياناً للمكذبين مع أنه غيرُ مَسوق له على كونه هدىً وموعظةً للمتقين مع أنه المقصودُ بالسياق لأن أولَ ما يترتب على مشاهدة آثارِ هلاكِ أسلافِهم ظهورُ حالِ أخلافِهم وأما زيادةُ الهدى أو أصلِه فأمرٌ مترتبٌ عليه وتخصيصُ البيانِ للناس مع شموله للمتقين أيضاً لما أنَّ المرادَ به مجردُ البيانِ العاري عن الهدى والعظةِ والاقتصار عليهما في جانب المتقين مع ترتّبهما على البيان لما أنهما المقصِدُ الأصليُّ ويجوز أن يكون تعريفُ الناسِ للجنس أي هذا بيانٌ للناس كافةً وهدى وموعظةٌ للمتقين منهم خاصة وقيل كلمةُ هَذَا إشارةٌ إلى ما لُخِّص من أمر المتقين والتائبين والمُصِرِّين وقوله تعالى قَدْ خلت الآية اعتراض للبعث على الإيمان وما يُستحَقّ به ما ذُكر من أجر العاملين وأنت خبيرٌ بأن الاعتراضَ لا بد أن يكون مقرِّراً لمضمون ما وقع في خلاله ومعاينةُ آثارِ هلاكِ المكذبين مما لا تعلُّقَ له بحال أحدِ الأصنافِ الثلاثةِ للمؤمنين وإن كان باعثاً على الإيمان زاجراً عن التكذيب وفيل إشارةٌ إلى القرآن ولا يخفى بُعدُه

139

{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} تشجيعٌ للمؤمنين وتقويةٌ لقلوبهم وتسليةٌ عما أصابهم يوم أحُدٍ من القتل والقرحِ وكان قد قُتل يومئذ خمسةٌ من المهاجرين حمزةُ بنِ عبد المطلبِ ومصعب بنُ عميرٍ صاحبُ رايةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبدُ اللَّه بنُ جحشٍ ابن عمة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وعثمان بن شماس وسعد مولى عتبه

140 - آل عمران رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين ومن الأنصار سبعون رجلا رضي الله عنهم أي لا تضعُفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح ولا تحزَنوا على مَنْ قتل منكم {وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ} جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ الفعلين أي والحالُ أنكم الأعلَوْن الغالبون دون عدوِّكم فإن مصيرَ أمرِهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من أحوال أسلافِهم فهو تصريحٌ بالوعد بالنصر والغلبةِ بعد الإشعار به فيما سبق أو وأنتم المعهودون بغاية علوا الشانِ لما أنكم على الحق وقتالكم لله عز وجل وقَتْلاكم في الجنة وهم على الباطل وقتالُهم للشيطان وقَتْلاهم في النار وقيل وأنتم الأعلَوْن حالاً منهم حيث أصبتم منهم يومَ بدرٍ أكثرَ مما أصابوا منكم اليوم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} متعلقٌ بالنهي أو بالأعلون وجوابُه محذوفٌ لدَلالة ما تعلق به عليهِ أيْ إنْ كنتُم مؤمنين فلا تهِنوا ولا تحزَنوا فإن الإيمانَ يوجب قوةَ القلب والثقةَ بصنع الله تعالى وعدمَ المبالاة بأعدائه أو إن كنتم مؤمنين فأنتم الأعلَوْن فإن الإيمانَ يقتضي العلوَّ لا محالةَ أو إن كنتم مصدقين بوعد الله تعالى فأنتم الأعلَوْن وأيَاً ما كانَ فالمقصودُ تحقيف المعلقِ بناءً على تحقيقُ المعلَّقِ به كما في قولِ الأجير إنْ كنتُ عمِلتُ لك فأعطني أجري ولذلك قيل معناه إذ كنتم مؤمنين وقيل معناه إنْ بقيتم على الإيمان

140

{إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ} القرحُ بالفتح والضم لغتان كالضَّعف والضعف وقد قرئ بهما وقيل هو بالفتح والجراح وبالضم ألمها وقرئ بفتحين وقيل القرح والقرح كالطرد والطرد والمعنى إن نالوا منكم يومَ أحُدٍ فقد نِلتم منهم قبله يومَ بدر ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يُثَبِّطْهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أحقُّ بأن لا تضعُفوا فإنكم ترجون من الله مالا يرجون وقيل كلا المَسَّيْنِ كان يوم أحُد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قَتلوا منهم نيفاً وعشرين رجلاً منهم صاحبُ لوائِهم وجرحوا عدداً كثيراً وعقَروا عامة خيلِهم بالنبل {وَتِلْكَ الايام} إشارةٌ إلى الأيام الجارية فيما بين الأمم الماضية والآتية كافة لا إلى الأيامِ المعهودةِ خاصةً من يوم بدرٍ ويومِ أحدٍ بل هي داخلةٌ فيها دخولاً أولياً والمرادُ بها أوقاتُ الظَفَرِ والغَلَبةِ {نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} نُصَرِّفها بينهم نُديلُ لهؤلاء تارةً ولهؤلاء أخرى كقول من قال ... فيوماً علينا ... ويوماً لنا ويوماً نُساءُ ويوماً نُسَرّ ... والمداولةُ كالمعاورة يقال داولتُه بينهم فتداولوه أي عاورْتُه فتعاوره واسمُ الإشارةِ مبتدأ والأيامُ إما صفةٌ له أو بدلٌ منه أو عطفُ بيان له فنداولها خبره أو خبر فنداولها حالٌ من الأيام والعاملُ معنى اسمِ الإشارةِ أو خبرٌ بعد خبرٍ وصيغةُ المضارعِ الدالةُ على التجدد والاستمرارِ للإيذان بأن تلك المداولةَ سنةٌ مسلوكةٌ فيما بين الأممِ قاطبةً سابقتِها ولاحقتِها وفيه ضربٌ من التسلية وقوله عز وجل {وليعلمَ الله الذين آمنوا} إما من باب التمثيلِ أي ليعامِلَكم معاملةَ من يريد أن يَعلمَ المخلِصين الثابتين على الإيمان من غيرهم أو العلمُ فيه مجاز عن التمييز يطريق إطلاقِ اسمِ السببِ عَلى المسبَّب أي ليُميِّزَ الثابتين على الإيمان من غيرهم كما في قوله تعالى ما كان الله ليذر المؤمنين على مَا أَنتُمْ عليهِ حتى يميز

141 - آل عمران الخبيث مِنَ الطيب أو هو على حقيقته معتبَرٌ من حيث تعلُّقُه بالمعلوم من حيث إنه موجود بالفعل إذْ هُو الذي يدورُ عليه فلك الجزاء لا من حيث أنه موجودٌ بالقوة وإطلاقُ الإيمانِ مع أن المرادَ هو الرسوخُ والإخلاصُ فيه للإيذان بأن اسمَ الإيمانِ لا ينطلق على غيره والالتفاتُ إلى الغَيبة بإسناده إلى اسم الذاتِ المستجمِعِ للصفات لتربية المهابةِ والإشعارِ بأن صدورَ كلِّ واحدٍ مما ذكر بصدد التعليلِ من أفعاله تعالى باعتبار منشإٍ معيّنٍ من صفاته تعالى مغايرٌ لمنشإ الآخَر والجملةُ علةٌ لما هو فردٌ من أفراد مُطلقِ المداولةِ التي نطقَ بها قولُه تعالى نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس من المداولة المعهودةِ الجاريةِ بين لفريقي المؤمنين والكافرين واللامُ متعلقةٌ بما دل عليه المطلقُ من الفعل المقيَّدِ بالوقوع بين الفريقين المذكورين أو بنفس الفعلِ المطلقِ باعتبار وقوعِه بينهما والجملةُ معطوفةٌ على علةٍ أخرى لها معتبرةٍ إما على الخصوص والتعيينِ محذوفة لدَلالة المذكورةِ عليها لكونها من مباديها كأنه قيل نداولها بينكم وبين عدوِّكم ليظهرَ أمرُكم وليَعلَمَ الخ فإن ظهورَ أعمالِهم وخروجَها من القوةِ إلى الفعلِ من مبادى تمييزِهم عن غيرهم ومواجبِ تعلّقِ العلمِ الأزليِّ بها من تلك الحيثيةِ وكذا الحالُ في باب التمثيل فتأملْ وإما على العموم والإبهامِ للتنبيه على أن العللَ غيرُ منحصِرَةٍ فيها عُدِّد من الأمور وأن العبد يسوءه ما يجري عليه من النوائب ولا يشعُر بأن الله تعالى جعل له في ذلك من الألطاف الخفية مالا يخطر بالبال كأنه قيل نداولها بينكم ليكونَ من المصالح كيت وكيت وليَعلَمَ الخ وفيه من تأكيد التسليةِ ومزيدِ التبصرة مالا يخفى وتخصيصُ البيان بعلة هذا الفردِ من مطلقِ المداولةِ دون سائر أفرادِها الجاريةِ فيما بين بقيةِ الأممِ تعييناً أو إبهاماً لعدم تعلقِ الغرضِ العلميِّ ببيانها ولك أن تجعلَ المحذوفَ المبْهَمَ عبارةً عن علل سائرِ أفرادِها للإشارة إجمالاً إلى أن كلَّ فردٍ من أفرادها له علةٌ داعيةٌ إليه كأنه قيل نداولها بين الناس كافةً ليكونَ كيت وكيت من الحِكَم الداعيةِ إلى تلك الأفرادِ وليَعلمَ الخ فاللامُ الأولى متعلقةٌ بالفعل المطلق باعتبار تقييده بتلك اللإفراد والثانية باعتبار تقييده بالفرد المعهودِ وقيل هي متعلقةٌ بمحذوفٍ مؤخَّرٍ تقديرُه وليعلمَ الله الذين آمنوا فَعَل ذلك {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} جمعُ شهيدٍ أي ويُكرِمَ ناساً منكم بالشهادة وهم شهداءُ أحُدٍ فمِنْ ابتدائيةٌ أو تبعيضيةٌ متعلقةٌ بيتخذ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من شهداءَ أو جمعُ شاهدٍ أي ويتخذ منكم شهوداً معدلين بما ظهر منهم من الثبات على الحق والصبرِ على الشدائد وغيرِ ذلك من شواهد الصدقِ ليشهدوا على الأممِ يومَ القيامةِ فمِنْ بيانيةٌ لأن تلك الشهادةَ وظيفةُ الكلِّ دون المستشهَدين فقط وأيا ما كان ففي لفظ الاتخاذ المنبئ عن الاصطفاء والتقريبِ من تشريفهم وتفخيم شأنهم مالا يخفى وقولُهُ تعالى {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله ونفيُ المحبةِ كنايةٌ عن البغض وفي إيقاعه على الظالمين تعريضٌ بمحبته تعالى لمقابليهم والمرادُ بهم إما غيرُ الثابتين على الإيمان فالتقريرُ من حيث إن بغضَه تعالى لهم من دواعي إخراجِ المخلِصينَ المصطَفَيْنَ للشهادة من بينهم وإما الكفرةُ الذين أُديل لهم فالتقريرُ من حيث إن ذلك ليس بطريق النُصرةِ لهم فإنها مختصةٌ بأوليائه تعالى بل لِما ذُكر من الفوائدِ العائدةِ إلى المؤمنين وقوله تعالى

141

{وليمحص الله الذين آمنوا} أي ليُصَفِّيَهم ويُطهرَهم من

142 - آل عمران الذنوب عطفٌ على يتخذ وتكريرُ اللامِ لتذكير التعليلِ لوقوع الفصلِ بينهما بالاعتراض وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمار لإبراز مزيد الاعتناءِ بشأن التمحيصِ وهذه الأمورُ الثلاثة عللٌ للمداولة المعهودةِ باعتبار كونِها على المؤمنين قُدِّمت في الذكر لأنها المحتاجةُ إلى البيان ولعل تأخيرَ العلةِ الأخيرةِ عن الاعتراض لئلا يُتوَهَّمَ اندراجُ المذنبين في الظالمين أو ليقترن بقوله عز وجل {وَيَمْحَقَ الكافرين} فإن التمحيصَ فيه محوُ الآثارِ وإزالةُ الأوضارِ كما أن المَحْقَ عبارة عن النفص والإذهاب قال المفضل وهو أن يذهب الشئ بالكلية حتى لا يرى منه شئ ومنه قولُه تعالى يَمْحَقُ الله الربا أي يستأصله وهذه علة للمداولة باعتبار كونها على الكافرين والمرادُ بهم الذين حاربوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومَ أحُدٍ وأصرّوا على الكفر وقد محقَهم الله عز وجل جميعاً

142

{أَمْ حَسِبْتُمْ} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان ما هي الغايةُ القصوى من المُداولة والنتيجةِ لما ذُكر من تمييز المخلِصين وتمحيصِهم واتخاذِ الشهداءِ وإظهارِ عزةِ منالِها والخطابُ للذين انهزموا يوم أحُدٍ وأمْ منقطعةٌ وما فيها من كلمةِ بل للإضراب عن التسلية ببيان العلل فيما لقُوا من الشدّة إلى تحقيق أنها من مبادى الفوزِ بالمطلب الأسني والهمزةُ للإنكار والاستبعاد أي بل أحسِبتم {أَن تدخلوا الجنة} وتفوزوا بنعيمها وقوله تعالى {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ} حالٌ من ضمير تدخُلوا مؤكدةٌ للإنكار فإن رجاءَ الأجرِ بغير عملٍ ممن يعلم أنه منوطٌ به مستبعَدٌ عند العقولِ وعدمُ العلم كنايةٌ عن عدم المعلومِ لما بينهما من اللزومِ المبنيِّ على لزوم تحققِ الأولِ لتحقق الثاني ضرورةَ استحالةِ تحقق شئ بدون علمِه تعالى به وإيثارُها على التصريح للمبالغة في تحقيق المعنى المرادِ فإنها إثباتٌ لعدم جهادِهم بالبرهان وللإيذان بأن مدارَ ترتبِ الجزاءِ على الأعمال إنما هو علمُ الله تعالى بها كأنه قيل والحالُ أنه لم يوجَد الذين جاهدوا منكم وإنما وجه النفيُ إلى الموصوفين مع أن المنفيَّ هو الوصفُ فقط وكان يكفي أن يقال ولما يعلمِ الله جهادَكم كنايةً عن معنى ولما تجاهدوا للمبالغةِ في بيانِ انتفاءِ الوصفِ وعدمِ تحققِه أصلاً وفي كلمة لما إيذانٌ بأن الجهادَ متوقَّعٌ منهم فيما يُستقبل إلا أنه غيرُ معتبَرٍ في تأكيد الإنكار وقرئ يعلمَ بفتح الميم على أن أصله يعلَمَن فحُذفت النونُ أو على طريقة إِتباعِ الميمِ لما قبلها في الحركة لإبقاء تفخيمِ اسم الله تعالى ومنكم حالٌ من الذين {وَيَعْلَمَ الصابرين} منصوبٌ بإضمار أن على أن الواوَ للجمع كما في قولك لا تأكُلِ السمكَ وتشرَبَ اللبن أي لا يكن منك أكلُ السمك وشربُ اللبن والمعنى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تدخُلوا الجنة والحالُ أنه لم يتحقق منكم الجهادُ والصبرُ أي الجمعُ بينهما وإيثارُ اسمِ الفاعلِ على الموصول للدِلالة على أن المعتبرَ هو الاستمرارُ على الصبر وللمحافظة على الفواصلِ وقيل مجزومٌ معطوفٌ على المجزوم قبله قد حُرِّك لالتقاء الساكنين بالفتح للخِفة والإتباعِ كما مر ويؤيِّده القراءةُ بالكسر على ما هو الأصلُ في تحريك الساكن وقرئ يعلمُ بالرفع على أنَّ الواوُ للحالِ وصاحبُها الموصولُ والمبتدأُ محذوفٌ أي وهو يعلمُ الصابرين كأنه قيل ولما تجاهدوا وأنتم صابرون

143 - 144 آل عمران

143

{وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت} أي تتمنُّون الحربَ فإنها من مبادئ الموتِ أو الموتَ بالشهادة والخطابُ للذين لم يشهدوا بدراً وكانوا يتمنَّوْن أن يشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً لينالوا ما ناله شهداءُ بدرٍ من الكرامة فألحُّوا على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم في الخروج ثم ظهر منهم خلافُ ذلك {مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} متعلقٌ بتَمنَّون مبينٌ لسبب إقدامِهم على التمنى من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا هوله وشدته وقرئ تلاقوه {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} أي ما تتمنَّونه من أسباب الموتِ أو الموتَ بمشاهدة أسبابِه وقولُه تعالى {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} حالٌ من ضميرِ المخاطبينَ وفي إيثار الرؤيةِ على الملاقاة وتقييدِها بالنظر مزيدُ مبالغةٍ في مشاهدتهم له والفاءُ فصيحةٌ كأنه قيل إِن كُنتُمْ صادقين في تمنيكم ذلك فقد رأيتُموه معاينين له حين قُتل بين أيديكم مَنْ قُتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تُقتلوا فلِمَ فعلتم ما فعلتم وهو توبيخٌ لهم على تمنِّيهم الحربَ وتسبُّبهم لها ثم جُبنِهم وانهزامِهم لا على تمني الشهادةِ بناءً على تضمُّنها لغلَبة الكفارِ لما أن مطلبَ من يتمنّاها نيلُ كرامةِ الشهداءِ من غير أن يخطُر بباله شئ غيرُ ذلك فلا يستحِقُّ العتابَ من تلك الجهة

144

{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} مبتدأٌ وخبرٌ ولا عمل لما بالاتفاق لانتقاض نفيِه بإلا وقوله تعالى {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} صفة لرسول منبئة عن كونه في شرف الخُلوِّ فإن خلوَّ مشاركيه في منصِب الرسالةِ من شواهد خلوة عليه الصلاة والسلام لا محالة كأنه قيل قد خلت من قبله أمثالُه فسيخْلو كما خلَوْا والقصرُ قلبيٌّ فإنهم لمّا انقلبوا على أعقابهم فكأنهم اعتقدوا أنه عليه الصلاةُ والسلام رسولٌ لا كسائر الرسلِ في أنه يخلو كما خلوا ويحب التمسكُ بدينه بعده كما يجب التمسك بدينهم بعدَهم فرُدَّ عليهم بأنه ليس إلا رسولاً كسائر الرسلِ فسيخلو كما خلَوْا ويجب التمسكُ بدينه كما يجب التمسكُ بدينهم وقيل هو قصرُ إفرادٍ فإنهم لما استعظموا عدم بقائه عليه الصلاة والسلام لهم نُزِّلوا منزلةَ المستبعِدين لهلاكه كأنهم يعتقدون فيه عليه الصلاة والسلام وصفَيْن الرسالة والبعدَ عن الهلاك فرُدَّ عليهم بأنه مقصور على الرسالة لايتجاوزها إلى البعد عن الهلاك فلا بد حينئذٍ من جعل قوله تعالى قَدْ خَلَتْ الخ كلاماً مبتدأً مَسوقاً لتقرير عدمِ براءتِه عليه الصلاة والسلام من الهلاك وبيانِ كونِه أُسوةً لمن قبلَهُ من الرُّسلِ عليهم السَّلامُ وأياً ما كان فالكلامُ يخرج على خلاف مقتضى الظاهرِ {أفَإِنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلى أعْقَابِكُمْ} إنكارٌ لارتدادهم وانقلابِهم عن الدين بخُلوِّه بموتٍ أو قتلٍ بعد علمِهم بخلوِّ الرسلِ قبله وبقاءِ دينِهم متمسَّكاً به وقيل الفاءُ للسببية والهمزةُ لإنكار أن يجعلوا خُلوَّ الرسلِ قبله سبباً لانقلابهم بعد وفاتِه مع كونه سبباً في الحقيقة لثباتهم على الدين وإيرادُ الموتِ بكلمة إن مع علمهم به اْلبتةَ لتنزيل المخاطبين منزلةَ المتردِّدين فيه لما ذُكر من استعظامهم إياه وهكذا الحالُ في سائر المواردِ فإن كلمةَ إنْ في كلام الله تعالى لا تجري على ظاهرها قطُّ ضرورة علمِه تعالى بالوقوع

أو اللاوقوعِ بل تُحملُ على اعتبار حالِ السامعِ أو أمرٍ آخرَ يناسب المقامَ وتقديمُ تقديرِ الموتِ مع أن تقديرَ القتلِ هو الذي ثار منه الفتنةُ وعظُم فيه المحنةُ لِما أن الموتَ في شرف الوقوعِ فزجرُ الناسِ عن الانقلاب عنده وحملهم على التثبيت هناك أهمُّ ولأن الوصفَ الجامعَ بينه وبين الرسلِ عليهم السلام هو الخلوُّ بالموت دون القتل روي أنه لما التقى الفئتانِ حمل أبو دجانةَ في نفرٍ من المسلمين على المشركين فقاتل قِتالاً شديداً وقاتل عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه قتالاً عظيماً حتى التوى سيفُه وكذا سعدُ بنُ أبي وقاصٍ فقتلوا جماعةً من المشركين وهزموهم فلما نظر الرماةُ إليهم ورأَوْا أنهم قد انهزموا أقبلوا على النَّهْب ولم يلتفتوا إلى نهي أميرهم عبد الله بن جبيرٍ فلم يبقَ منهم عنده إلا ثمانيةُ نفرٍ فلما رآهم خالدُ بنُ الوليدِ قد اشتغلوا بالغنيمة حمل عليهم في مائتين وخمسين فارساً من المشركين من قبل الشعب وقتلوا من بقيَ من الرُماة ودخلوا خلفَ أقفيةِ المسلمين ففرّقوهم وهزموهم وحملوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوهم حتى أصيب هناك نحوُ ثلاثين رجلاً كلٌّ منهم يجثوا بين يديه ويقول وجهي لوجهك وقاء ونفسي لنفسك فداءٌ وعليك سلامُ الله غيرَ مُودَّعٍ ورمى عبدُ اللَّه بنُ قميئةَ الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رَباعيتَه وشجُّ وجهَه الكريمَ فذبّ عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وكان صاحبَ الرايةِ حتى قتله ابنُ قميئة وهو يزعُم أنه قتل النبيَّ صلَّى الله عليهِ وسلم فقال قتلت محمدا وصارخ قيل إنه إبليسُ ألا أن محمداً قد قُتل فانكفأ الناسُ وجعل الرسولُ صلى الله عليه وسلم يدعو إليَّ عبادَ الله قال كعبُ بنُ مالك كنت أولُ من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين فناديت بأعلى صوتي يا معشرَ المسلمين هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه وحموه حتى كشفوا عنه المشركين وتفرّق الباقون وقال بعضُهم ليت بن أُبيَ يأخذ لنا أماناً من أبي سفيانَ وقال ناس من المنافقين لو كانَ نبيَّاً لما قُتل ارجِعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم فقال أنسُ بنُ النضر وهو عمُّ أنسِ بنِ مالكٍ يا قوم إن كان قُتل محمدٌ فإن ربَّ محمدٍ حيٌّ لا يموت وما تصنعون بالحياة بعد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقاتِلوا على ما قاتل عليه وموتوا كِراماً على ما مات عليه ثم قال اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاءِ وأبرَأُ إليك مما جاء به هؤلاء ثم شدّ بسيفه وقاتل حتى قُتل وتجويزهم لقتله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع قوله تعالى {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} لما أن كلَّ آيةٍ ليس يسمعها كلُّ أحدٍ ولا كلُّ من يسمعها يستحضِرُها في كل مقام لاسيما في مثل ذلك المقامِ الهائل وقد غفَل عمرُ رضي الله عنه عن هذه الآية الكريمةِ عند وفاته عليه الصلاة والسلام وقام في الناس فقال إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وإن رسولَ الله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلةً ثم رجع والله ليرجِعَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأُقطِّعن أيديَ رجالٍ وأرجلَهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يزل يكرِّرُ ذلك إلى أن قام أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قال أيها الناسُ من كان يعبُد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبُد الله فإن الله حى لايموت ثم تلا {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} الآية قال الراوي والله لكأن الناسَ لم يعلموا أن هذه الآيةَ نزلت على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم حتى تلاها أبو بكر وقال عمر رضي الله عنه والله ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكرٍ رضيَ الله عنْهُ يتلو فعقرت حتى ماتحملنى رجلاي وعرفتُ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد مات {وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ} بإدباره عما كان يُقبل عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من أمر الجهادِ وغيرِه

145 - آل عمران وقيل بارتداده عن الإسلامِ وما ارتد يومئذ أحدٌ من المسلمين إلا ما كان من المنافقين {فَلَن يَضُرَّ الله} بما فعل من الانقلاب {شَيْئاً} أي شيئا من الضرر وإنما يضُرُّ نفسَه بتعريضها للسُخط والعذاب {وَسَيَجْزِى الله الشاكرين} أي الثابتين على دينَ الإسلامِ الذي هو أجلُّ نعمةٍ وأعزُّ معروفٍ سُمّوا بذلك لأن الثباتَ عليه شكرٌ له وعِرفانٌ لحقه وفيه إيماءٌ إلى كُفران المنقلبين ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ المراد بهم الطائعون لله تعالى من المهاجرين والأنصار وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه أبو بكر وأصحابه رضي الله عنهم وعنْهُ رضيَ الله عنْهُ أنَّه قال أبو بكر من الشاكرين ومن أحبّاء الله تعالَى وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمار لإبراز مزيدِ الاعتناءِ بشأن جزائِهم

145

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ} كلامٌ مستأنفٌ سيق للتنبيه على خطئهم فيما فعلوا حذراً من قتلهم وبناءً على الإرجاف بقتلِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ببيانِ أن موتَ كلِّ نفسٍ منوطٌ بمشيئةِ الله عَزَّ وجَلَّ لايكاد يقع بدون تعلقها به وإن خاضت موارد الخوف واقتحمت مضايقَ كلِّ هولٍ مخوف وقد أشير بذلك إلى أنها لم تكن متعلقةً بموتهم في الوقت الذي حذِروه فيه ولذلك لم يُقتلوا حينئذ لا لإحجامهم عن مباشرة القتالِ وكلمة كان ناقصةٌ اسمُها أن تموت وخبرُها الظرفُ على انه متعلق بمحذف وقوله تعالى {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأسباب أي وما كان الموتُ حاصلاً لنفس من النفوس بسببٍ من الأسبابِ إلا بمشيئه تعالى على أن الإذنَ مَجازٌ منها لكونها من لوازمه أو إلا بإذنه لملك الموتِ في قبض روحِها وسَوْقُ الكلامِ مَساقَ التمثيل بتصوير الموتِ بالنسبة إلى النفوس بصورةِ الأفعالِ الاختياريةِ التي لا يتسنى للفاعل إيقاعُها والإقدامُ عليها بدون إذنِه تعالى أو بتنزيل إقدامِها على مباديه أعني القتالَ منزلةَ الإقدام على نفسه للمبالغة في تحقيق المرامِ فإن موتَها حيث استحال وقوعُه عند إقدامِها عليه أو على مباديه وسعْيِها في إيقاعه فلأَنْ يستحيلَ عند عدمِ ذلك أولى وأظهر وفيه من التحريض على القتال مالا يخفى {كتابا} مصدرٌ مؤكّدٌ لمضمون ما قبله أي كتبه الله كتاباً {مُّؤَجَّلاً} موقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخَّرُ ولو ساعةً وقرئ مُوَجّلاً بالواو بدلَ الهمزةِ على قياس التخفيفِ وبعد تحقيق أن مدار الموتِ والحياةِ محضُ مشيئةِ الله عزَّ وجلَّ من غير أن يكون فيه مدخلٌ لأحد أصلاً أشير إلى أن توفيةَ ثمراتِ الأعمالِ دائرةٌ على إرادتهم ليصْرِفوها عن الأغراض الدنية إلى المطالب السنيةِ فقيل {وَمَن يُرِدِ} أي بعمله {ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ} بنون العظمةِ على طريق الالتفات {منها} أي من ثوابها ما نشاء أن نؤتيَه إياه كما في قوله عز وجل مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ وهو تعريضٌ بمن شغلتهم الغنائمُ يومئذ وقد مر تفصيلُه {وَمَن يُرِدِ} أي بعمله {ثَوَابَ الاخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي من ثوابها ما نشاء من الأضعاف حسبما جريَ به الوعدُ الكريمُ {وَسَنَجْزِى الشاكرين} نعمةَ الإسلامِ الثابتين عليه الصارفين لما آتاهُم الله تعالى من القُوى والقدر إلى ما خُلقت هي لأجله من طاعة الله تعالى لا يلويهم

146 - آل عمران عن ذلك صارفٌ أصلاً والمرادُ بهم إما المجاهدون المعهودون من الشهداءِ وغيرهم وإما جنسُ الشاكرين وهم داخلون فيه دخولا أولياً والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله ووعدٌ بالمزيد عليه وفي تصديرها بالسين وإبهامِ الجزاءِ من التأكيد والدَّلالة على فخامة شأنِ الجزاءِ وكونِه بحيث يقصُر عنه البيان مالا يخفى وقرئ الأفعالُ الثلاثةُ بالياء

146

{وَكَأَيّن} كلامٌ مبتدأٌ ناعٍ عليهم تقصيرَهم وسوءَ صنيعِهم في صدودهم عن سَنن الربانيين المجاهدين في سبيل الله مع الرسلِ الخاليةِ عليهم السلام وكأين لفظةٌ مركبةٌ من كاف التشبيهِ وأي حدث فيها بعد التركيب معنى التكثيرِ كما حدث في كذا وكذا والنون تنوينٌ أُثبتت في الخط على غير قياسٍ وفيها خمسُ لغاتٍ هي إحداهن والثانيةُ كائِنْ مثلُ كاعن والثالثة كأْيِن مثل كعْيِن والرابعةُ كَيْئِن بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة وهي قلبُ ما قبلها والخامسةُ كأْن مثلُ كعن وقد قرئ بكل منها ومحلُّها الرفعُ بالابتداءِ وقولُه تعالى {مّن نَّبِىٍّ} تمييزٌ لها لأنها مثلُ كم الخبرية وقد جاء تمييزُها منصوباً كما في قوله ... أطرُد اليأسَ بالرجاء فكأين ... أملاحم يسره بعد عسره ... وقوله تعالى {قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ} خبرٌ لها على أن الفعلَ مسندٌ إلى الظاهر والرابطُ هو الضمير المجرورُ في معه وقرئ قُتِل وقُتّل على صيغة المبني للمفعول مخففةً ومشددةً والرِّبِّيُّ منسوبٌ إلى الرب كالرَّباني وكسرُ الراء من تغييرات النسب وقرئ بضمها وبفتحها أيضاً على الأصل وقيل هو منسوبٌ إلى الرَّبة وهي الجماعة أي كثيرٌ من الأنبياء قاتلَ معه لإعلاء كلمةِ الله وإعزاز دينِه علماءُ أتقياءُ أو عابدون أو جماعاتٌ كثيرة فالظرفُ متعلقٌ بقاتل أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعله كما في القراءتين الأخيرتين إذ لا احتمالَ فيهما لتعلقه بالفعل أي قُتلوا أو قُتّلوا كائنين معه في القتال لا في القتل قالَ سعيدُ بنُ جُبيرٍ ما سمعنا بنبي قُتل في القتال وقال الحسنُ البصري وجماعةٌ من العظماء لم يقتَلْ نبي في حرب قطُّ وقيل الفعلُ مسندٌ إلى ضمير النبي والظرف متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً منه والرابطُ هو الضميرُ المجرورُ الراجعُ إليه وهذا واضحٌ على القراءة المشهورة بلا خلاف أي كم من نبي قاتلَ كائناً معه في القتال ربيون كثير وأما على القراءتين الأخيرتين فغيرُ ظاهرٍ لا سيما على قراءة التشديد وقد جوّزه بعضُهم وأيّده بأن مدارَ التوبيخ اتخذالهم للإرجاف بقتلِه عليه السلام أي كم من نبي قُتل كائناً معه في القتل أو في القتال ربيون الخ وقوله تعالى {فَمَا وهنوا} عطف عل قاتل على أن المرادَ به عدمُ الوهنِ المتوقَّعِ من القتال كما في قولك وعظتُه فلم يتعظ وصِحْتُ به فلم ينزجِرْ فإن الإتيانَ بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمراراً عليه بحسَب الظاهر لكنه بحسب الحقيقةِ صنعٌ جديدٌ مصحِّحٌ لدخول الفاءِ المرتبةِ له على ما قبله أي فما فتَروا وما انكسرت هِمتُهم {لِمَا أَصَابَهُمْ} في أثناء القتالِ وهو علةٌ للمنفيّ دون النفيِ نعم يُشعِرُ بعلّته قوله تعالى {فِى سَبِيلِ الله} فإن كونَ ذلك في سبيله عز وجل مما يقوِّي قلوبَهم ويُزيلُ وهنَهم وما موصولةٌ أو موصوفةٌ فإن جُعِل الضميران لجميع الرِّبيِّين فهي عبارةٌ عما عدا القتلِ من الجراح وسائرِ المكارِه المعتريةِ

147 - آل عمران للكل وإن جعلاً للبعض الباقين بعد ما قُتل الآخرون كما هو الأنسبُ بمقام توبيخِ المنخذِلين بعد ما استُشهد الشهداءُ فهي عبارةٌ عما ذُكر مع ما اعتراهم من قتل إخوانِهم من الخوف والحُزْن وغيرِ ذلك هذا على القراءة المشهورةِ وأما على القراءتين الأخيرتين فإن أُسندَ الفعلُ إلى الرّبيّين فالضميران للباقين منهم حتماً وإن أُسند إلى ضمير النبي كما هو النسب بالتوبيخ على الانخذال بسبب الإرجاف بقتلِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فهما للباقين أيضاً إن اعتُبر كونُ الرّبيّين مع النبي في القتل وللجميع إن اعتُبر كونُهم معه في القتال {وَمَا ضَعُفُواْ} عن العدو وقيل عن الجهاد وقيل في الدين {وَمَا استكانوا} أي وما خضَعوا للعدو وأصلُه استكنَ من السكون لأن الخاضعَ يسكُن لصاحبه ليفعلَ به ما يريدُه والألفُ من إشباع الفتحةِ أو استكْوَن من الكون لأنه يُطلب أن يكون لمن يُخضَع له وهذا تعريضٌ بما أصابهم من الوهن والانكسارِ عند استيلاءِ الكفرةِ عليهم والإرجاف بقتل النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وبضَعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتِهم لهم حين أرادوا أن يعتضِدوا بابن أُبيّ المنافق في طلب الأمانِ من أبي سفيان {والله يُحِبُّ الصابرين} أي على مقاساة الشدائدِ ومعاناةِ المكاره في سبيل الله فينصرهم ويعظهم قدرَهم والمرادُ بالصابرين إما المعهودون والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ للثناء عليهم بحسن الصبرِ والإشعارِ بعلة الحُكم وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أولياً والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها

147

{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} كلامٌ مبينٌ لمحاسنهم القوليةِ معطوفٌ على ما قبله من الجُمل المبيِّنةِ لمحاسنهم الفعلية وقولهم بالنصب خبرٌ لكان واسمُها أن وما بعدها في قوله تعالى {إلا أن قَالُواْ} والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعم الأشياء ما كانَ قولاً لهم عند أي لقاء للعدو واقتحامِ مضايق الحربِ وإصابةِ ما أصابهم من فنون الشدائد والأهوال شئ من الأشياءِ إِلاَّ أَن قالوا {ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} أي صغائرَنا {وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا} أي تجاوزْنا الحدَّ في ركوب الكبائرِ أضافوا الذنوبَ والإسرافَ إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين برءاء من التفريط في جنب الله تعالى هضما لها واستقصارا لهممهم وإسناداً لما أصابهم إلى أعمالهم وقدّموا الدعاءَ بمغفرتها على ما هو الأهمُّ بحسب الحال من الدعاء بقولهم {وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} أي في مواطن الحربِ بالتقوية والتأييدِ من عندك أو ثبتْنا على دينك الحقِّ {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} تقريباً له إلى حيز القَبول فإن الدعاءَ المقرونَ بالخضوع الصادرَ عن زكاء وطهارةٍ أقربُ إلى الاستجابة والمعنى لم يزالوا مواظبين على هذا الدعاءِ من غير أن يصدُرَ عنهم قولٌ يوهم شائبةَ الجزَعِ والخَوَرِ والتزلزُلِ في مواقف الحربِ ومراصدِ الدين وفيه من التعريض بالمهزمين مالا يخفى وقرأ ابنُ كثير وعاصمٌ في رواية عنهما برفع قَوْلُهُمْ على أنه الاسمُ والخبرُ أنَّ وَمَا في حيزِها أي ما كان قولُهم حينئذ شيئاً من الأشياءِ إلا هذا القول المنبىء عن أحاسن المحاسنِ وهذا كما ترى أقعدُ بحسب المعنى وأوفق بمقتضى المقام لما أن الإخبارَ بكون قولِهم المطلقِ خصوصيةَ قولِهم المحكيِّ عنهم مفصلاً كما تفيده قراءتهما اكثر إفادة للسامع

148 - 149 آل عمران من الإخبار بكون خصوصيةِ قولِهم المذكورِ قولَهم لما أنَّ مصبَّ الفائدةِ وموقِعَ البيانِ في الجُملِ الخبرية هو الخبرُ فالأحقُّ بالخبريَّةِ ما هو أكثرُ إفادةً وأظهرُ دِلالةً على الحدث وأوفرُ اشتمالاً على نِسَب خاصةٍ بعيدةٍ من الوقُوع في الخارج وفي ذهن السامعِ ولا يخفى أن ذلك ههنا في أنْ مع ما في حيُّزها أتمَّ وأكملَ وأما ما تفيدُه الإضافةُ من لنسبة المطلقةِ الإجماليةِ فحيث كانتْ سهلةَ الحصولِ خارجاً وذِهناً كان حقُّها أنْ تلاحَظَ ملاحظة جمالية وتُجعلَ عنواناً للموضوع لا مقصوداً بالذات في باب البيانِ وإنما اختار الجمهورُ ما اختاره لقاعدة صناعيةٍ هي أنه إذا اجتمع معرفتان فالأعراف منهما أحق بالاسمية ولاريب في أعرفية أَن قَالُواْ لدلالته على جهة النسبةِ وزمانِ الحدثِ ولأنه يشبه المضمرَ من حيث أنه لايوصف ولا يوصف به وقولَهم مضافٌ إلى مضمر فهو بمنزلة العَلَم فتأمل

148

{فاتاهم الله} بسبب دعائِهم ذلك {ثَوَابَ الدنيا} أي النصرَ والغنيمةَ والعزَّ والذكرَ الجميلَ {وَحُسْنَ ثَوَابِ الاخرة} أي وثواب الاخرة الحسنُ وهو الجنةُ والنعيمُ المخلّدُ وتخصيصُ وصفِ الحسن به للإيذان بفضله ومزيتِه وأنه المعتدُّ به عنده تعالى {والله يُحِبُّ المحسنين} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله فإن محبةَ الله تعالى للعبد عبارةٌ عن رضاه عنه وإرادةِ الخيرِ به فهي مبدأٌ لكل سعادة واللامُ إما للعهد وإنما وُضع المُظهرُ موضِعَ ضميرِ المعهودين للإشعار بأن ما حُكيَ عنهم من الأفعال والأقوالِ من باب الإحسانِ وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً وهذا أنسبُ بمقام ترغيبِ المؤمنين في تحصيل ما حكي عنهم من المناقب الجليلة

149

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} شروعٌ في زجرهم عن متابعة الكفارِ ببيان استتباعِها لخسران الدنيا والآخرة إثرَ ترغيبِهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان إفضائه إلى فوزهم بسعادة الدارين وتصديرُ الخطابِ بالنداء والتنبيهِ لإظهار الاعتناءِ بما في حيِّزه ووصفُهم بالإيمان لتذكير حالِهم وتثبيتِهم عليها بإظهار مباينتِها لحال أعدائِهم كما أن وصفَ المنافقين بالكفر في قوله تعالى {إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} لذلك قصداً إلى مزيد التنفيرِ عنهم والتحذيرِ عن طاعتهم قال علي رضي الله عنه نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمةِ ارجِعوا إلى إخوانكم وادخُلوا في دينهم فوقوعُ قوله تعالى {يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم} جواباً للشرط مع كونِه في قوَّةِ أنْ يقالَ إن تُطيعوهم في قولهم ارجِعوا إلى إخوانكم وادخُلوا في دينهم يدخلوكم في دينهم باعتبار كونه تمهيداً لقوله تعالى {فَتَنقَلِبُواْ خاسرين} أي للدنيا والآخرة غير فائزين بشئ منهما واقعين في العذاب الخالدِ على أن الارتدادَ على العقب علم في انتكاس الأمرِ ومثَلٌ في الحور بعد الكور وقيل المراد بهم اليهودُ والنصارى حيث كانوا يستغوونهم ويُوقِعون لهم الشُّبَه في الدين ويقولون لو كان نبياً حقاً لما غُلب ولمَا أصابه وأصحابَه ما أصابهم وإنما هو رجلٌ حالُه كحال غيرِه من الناس يوماً عليه ويوماً له وقيل أبو سفيان وأصحابُه والمرادُ بطاعتهم استئمانُهم والاستكانةُ لهم وقيلَ الموصولُ على عمومِهِ والمعنى نهيُ المؤمنين عن طاعتهم في أمرٍ من الأمورِ حتى لا يستجرّوهم إلى الارتداد عن الدين

150 - 151 152 آل عمران فلا حاجةَ على هذه التقاديرِ إلى ما مرَّ من البيان

150

{بَلِ الله مولاكم} إضرابٌ عَمَّا يُفهم منْ مضمون الشرطيةِ كأنه قيل فليسوا أنصارَكم حتى تطيعوهم بل الله ناصرُكم لا غيرُه فأطيعوه واستغنوا به عن موالاتهم وقرئ بالنصب كأنه قيل فلا تطيعوهم بل أطيعوا الله ومولاكم نُصب على أنه صفةٌ له {وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} فخُصّوه بالطاعة والاستعانة

151

{سَنُلْقِى} بنون العظمةِ على طريقة الالتفاتِ جرياً على سنن الكبرياء لتربية المهابة وقرئ بالياء والسين لتأكيد الإلقاءِ {في قلوب الذين كفروا الرعب} بسكون العين وقرئ بضمها على الصل وهو ما قُذف في قلوبهم من الخوف يوم أحُد حتى تركوا القتالَ ورجعوا من غير سببٍ ولهم القوةُ والغلبة وقيل ذهبوا إلى مكةَ فلما كانوا ببعض الطريقِ قالوا ما صنعنا شيئاً قتلنا منهم ثم نركناهم ونحن قاهرون ارجِعوا فاستأصِلوهم فعند ذلك ألقى الله تعالى في قلوبهم الرُّعْبَ فأمسكوا فلا بد من كون نزولِ الآيةِ في تضاعيف الحربِ أو عَقيب انقضائه وقيل هو ما أُلقيَ في قلوبهم من الرعب يومَ الأحزاب {بِمَا أَشْرَكُواْ بالله} متعلقٌ بنُلقي دون الرعب وما مصدريةٌ أي بسبب إشراكِهم به تعالى فإنه من موجبات خِذْلانِهم ونصرِ المؤمنين عليهم وكلاهما من دواعي الرعب {مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ} أبي إشراكه {سلطانا} أي حجةً سمِّيت به لوضوحها وإنارتها أو لقوّتها أو لحِدّتها ونفوذِها وذكرُ عدمِ تنزيلِها مع استحالة تحققِها في نفسها من قبيل قوله ... وَلاَ تَرَى الضبَّ بها ينجر ... أي لاضب ولا انحجار وفيه إيذانٌ بأن المتَّبعَ في الباب هو البرهانُ السماويُّ دون الآراءِ والأهواءِ الباطلة {وَمَأْوَاهُمُ} بيانٌ لأحوالهم في الآخرة إثر بيان أحوالِهم في الدنيا وهي الرعبُ أي ما يأوون إليه في الآخرة {النار} لا ملجأَ لهم غيرَها {وَبِئْسَ مثوى الظالمين} أي مثواهم وإنما وُضع موضعَه المظهرُ المذكورُ للتغليظ والتعليلِ والإشعارِ بأنهم في إشراكهم ظالمون واضعون للشئ في غير موضعِه والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي بئس مثوى الظالمين النارُ وفي جعلها مثواهم بعد جعلِها مأواهم نوعُ رمزٍ إلى خلودهم فيها فإن المثوى مكانُ الإقامةِ المنبئة عن المُكثْ وأما المأوى فهو المكانُ الذي يأوي إليه الإنسان

152

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} نصب على أنه مفعول ثانٍ لصَدَق صريحاً وقيل بنزعِ الجارِّ أي في وعده نزلت حين قال ناسٌ من المؤمنين عند رجوعِهم إلى المدينة من أين أصابنا وقد وعدنا الله تعالى بالنصر وهو ما وعدهم على لسان نبيه غليه السلامُ من النصر حيث قال للرماة لا تبرجوا مكانكم

فلن نزال غالبين ما ثبتُّم مكانَكم وفي رواية أخرى لا تبرَحوا عن هذا المكانِ فإنا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان وقد كان كذلك فإن المشركين لما أقبلوا جعل الرماةُ يرشُقونهم والباقون يضرِبونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمين على آثارهم يقتُلونهم قتلاً ذريعاً وذلكَ قولُه تعالى {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} أي تقتُلونهم قتلاً كثيراً فاشياً من حسَّه إذا أبطل حِسَّه وهو ظرفٌ لصدقكم وقوله تعالى {بِإِذْنِهِ} أي بتيسيره وتوفيقِه لتحقيق أنّ قتلَهم بما وعدهم الله تعالى من النصر وقيل هو ما وعدهم بقوله تعالى {إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} الآية وقد مر تحقيقُ أن ذلك كان يومَ بدر كيف لا والموعودُ بما ذكر إمدادُه عز وجل بإنزال الملائكةِ عليهم السلام وتقييدُ صدقِ وعدِه تعالى بوقت قتلِهم بإذنه تعالى صريحٌ في أن الموعودَ هو النصرُ المعنويُّ والتيسيرُ لا الإمدادُ بالملائكة وقيل هو ما وعده تعالى بقوله سَنُلْقِى الخ وأنت خبيرٌ بأن إلقاءَ الرعبِ كان عند تركِهم القتالَ ورجوعِهم من غير سبب أو بعد ذلك في الطريق على اختلاف الروايتين وأياً ما كانَ فلا سبيل إلى كونه مُغياً بقوله تعالى {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} أي جبُنتم وضعُف رأيُكم أو مِلتم إلى الغنيمة فإن الحرصَ من ضعف القلب {وتنازعتم فِى الامر} فقال بعضُ الرماةِ حين انهزم المشركون وولَّوْا هاربين والمسلمون على أعقابهم قتلاً وضرباً فما موقفنا ههنا بعد هذا وقال أميرُهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه لا نخالف أمرَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فثبت مكانه في نفر دون العشرةِ من أصحابه ونفَرَ الباقون للنهب وذلك قوله تعالى {وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} أي من الظفر والغنيمةِ وانهزامِ العدوِّ فلما رأى المشركون ذلك حَملوا عليهم من قبل الشِّعْبِ وقتلوا أميرَ الرماةِ ومن معه من أصحابه حسبما فُصِّل في تفسيرِ قولِه تعالى {أفَإِنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم} وجوابُ إذا محذوفٌ وهو منعكم نصره وقيل هو امتحنكم ويرده جعل الابتداء غايةً للصَّرْف المترتِّبِ على منع النصرِ وقيل هو انقسمتم إلى قسمين كما ينبئ عنه قوله تعالى {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} وهم الذين تركوا المركزَ وأقبلوا على النهب {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاخرة} وهم الذين ثبتوا مكانَهم حتى نالوا شرفَ الشهادة هذا على تقديرِ كونِ إذا شرطيةً وحتى ابتدائيةً داخلةً على الجملةِ الشرطيةِ وقيل إِذَا اسمٌ كما في قولهم إذا يقوم زيد يقوم عمرو وحتى حرفُ جرٍ بمعنى إلى متعلقة بقوله تعالى صَدَقَكُمُ باعتبار تضمُّنِه لمعنى النصرِ كأنه قيل لقد نصركم الله إلى وقت فشلِكم وتنازُعِكم الخ وعلى هذا فقولُه تعالى {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} عطف على ذلك وعلى الأول عطف على الجواب المحذوف كما أشير إليه والجملتان الظرفيتان اعتراض بين المتعاطفين أي كفكم عَنْهُمْ حتى حالت الحالُ ودالت الدولةُ وفيه من اللطف بالمسلمين مالا يخفى {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي يعاملَكم معاملةَ من يمتحنكم بالمصائب ليَظهرَ ثباتُكم على الإيمان عندها {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} تفضّلاً ولِمَا علم من ندمكم على المخالفة {والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله ومؤْذِنٌ بأن ذلك العفوَ بطريق التفضّلِ والإحسانِ لا بطريق الوجوبِ عليه أي شأنُه أن يتفضلَ عليهم بالعفو أو هو متفضلٌ عليهم في جميع الأحوالِ أديل لهم أو أُديل عليهم إذ الابتلاءُ أيضاً رحمةٌ والتنكيرُ للتفخيم والمرادُ بالمؤمنين إما المخاطبون والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ للتشريفِ والإشعارِ بعلة الحُكم وإما الجنسُ وهم داخلونَ في الحكم دخولاً أولياً

153 - 154 آل عمران

153

{إِذْ تُصْعِدُونَ} متعلق بصَرَفكم أو بقوله تعالى لِيَبْتَلِيَكُمْ أو بمقدّر كما ذكروا والإصعادُ الذهابُ والإبعادُ في الأرض وقرىء تصعدون من الثلاثى أي في الجبل وقرئ تَصَعَّدون من التفعل بطرح إحدى التاءين وقرئ يصعدون بالالتفات إلى الغيبة {وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} أي لا تلتفتون إلى ماوراءكم ولا يقف واحدٌ منكم لواحد وقرئ تلْوُنَ بواو واحدة بقلب الواوِ المضمومةِ همزةً وحذفِها تخفيفا وقرئ يلوون كيصعدون {والرسول يَدْعُوكُمْ} كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يدعوهم إليَّ عبادَ الله إليَّ عبادَ الله أنا رسولُ الله من يكُرُّ فله الجنةُ وإيرادُه عليه السلام بعنوان الرسالة للإبذان بأن دعوتَه عليه السلام كانت بطريق الرسالةِ من جهته سبحانه إشباعاً في توبيخ المنهزمين {فِى أُخْرَاكُمْ} في ساقتكم وجماعتِكم الأخرى {فأثابكم} عطفٌ على صرفَكم اى فجازا كم الله تعالى بما صنعتم {غَمّاً} موصولاً {بِغَمّ} من الاغتمام يالقتل والجرْحِ وظَفَرِ المشركين والإرجافِ بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم وفوْتِ الغنيمة فالتنكيرُ للتكثير أو غماً بمقابلة غمَ أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعِصيانكم له {لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أصابكم} أي لتتمرَّنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزَنوا على نفعٍ فاتَ أو ضُرَ آتٍ وقيل لا زائدة والمعنى لتتأسفوا على مَا فَاتَكُمْ من الظفَر والغنيمةِ وعلى ماأصابكم من الجراح والهزيمةِ عقوبةً لكم وقيل الضميرُ في أثابكم للرسول صلى الله عليه وسلم أي واساكم في الاغتمام فاغتمّ بما نزل عليكم كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يُثرِّبْكم على عِصيانكم تسليةً لكم وتنفيساً عنكم لئلا تحزنزا على مَا فَاتَكُمْ من النصر وما أصابكم من الجراح وغيرِ ذلك {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي عالم بأعمالكم وبما قصدتم بها

154

{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ} عطفٌ على قوله تعالى فأثابكم والخطابُ للمؤمنين حقاً {مّن بَعْدِ الغم} أي الغمِّ المذكور والتصريحُ بتأخُّر الإنزالِ عنه مع دَلالة ثُمَّ عليه وعلى تراخيه عنه لزيادة البيانِ وتذكيرِ عِظَم النعمةِ كما في قوله تعالى ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ الآية {أمنة} أي أمناً نُصب على المفعولية وقوله تعالى {نُّعَاساً} بدلٌ منها أو عطفُ بيانٍ وقيل مفعولٌ له أو هو المفعول وأمنةً حالٌ منه متقدمةٌ عليه أو مفعولٌ له أو حالٌ من المخاطَبين على تقديرِ مضافٍ أي ذوى أمنةٍ أو على أنَّه جمعُ آمن كبارّ وبرَرَة وقرئ بسكون الميم كأنها مرّةٌ من الأمنِ وتقديمُ الظرفين على المفعول الصريح لما مر

غيرَ مرةٍ من الاعتناء بشأن المقدمِ والتشويقِ إلى المؤخر وتخصيصُ الخوفِ من بين فنونِ الغمِّ بالإزالة لأنه المهمُّ عندهم حينئذ لما أن المشركين لما انصرفوا كانوا يتوّعدون المسلمين بالرجوع فلم يأمنوا اكرتهم وكانوا تحت الحَجَفِ متأهّبين للقتال فأنزل الله تعالى عليهم الأمنةَ فأخذهم النعاسُ قال ابن عباس رضي الله عنهما أمنَّهم يومئذ بنعاس تغشّاهم بعد خوفٍ وإنما ينعَسُ من أمِنَ والخائفُ لا ينام وقال الزبير رضيَ الله عنه كنتُ مع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم حين اشتد الخوفُ فأنزل الله علينا النومَ والله لأسمع قولَ مُعتبِ بنِ قشير والنعاسُ يغشاني ما أسمعه إلا كالحُلُم يقول لو كان لنا من ألمر شيء ما قلنا إنى ههنا وقال أبو طلحة رضى الله عنه رفعتُ رأسي يومَ أحُدٍ فجعلتُ لا أرى أحداً من القوم إلا وهو يَميدُ تحت حَجَفَتِه من النعاس قال وكنتُ ممن أُلقِيَ عليه النعاسُ يومئذ فكان السيفُ يسقُط من يدي فآخذُه ثم يسقُط السَّوْطُ من يدي فآخُذه وفيه دلالة على أن من المؤمنين من لم يُلْقَ عليه النعاسُ كما ينبئ عنه قولُه عزَّ وجلَّ {يغشى طَائِفَةً مّنْكُمْ} قال ابن عباس هم المهاجرون وعامةُ الأنصار ولا يقدَح ذلك في عموم الإنزالِ للكل والجملةُ في محل النصب على أنها صفة لنعاسا وقرئ بالتاء على أنها صفة لأمَنةً وفيه أن الصفةَ حقُّها أن تتقدم على البدل وعطفِ البيان وأن لا يُفصل بينها وبين الموصوفِ بالمفعول له وأن المعهودَ أن يحدُث عن البدل دون المُبدلِ منه {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي أوقعتهم في الهموم والأحزانِ أو ما بهم إلا همُّ أنفسِهم وقصدُ خلاصِها من قولهم همّني الشئ أي كان من هِمّتي وقصدي والقصرُ مستفادٌ بمعونة المقامِ وَطَائِفَةٌ مبتدأٌ وما بعدها إما خبرُها وإنما جاز ذلك مع كونها نكرةً لاعتمادها على واو الحال كما في قوله ... سرينا ونجمٌ قد أضاء فمذ بدا ... محياكِ أخفى ضوءه كلَّ شارقِ ... أو لوقوعها في موضع التفصيل كما في قوله ... إذَا ما بكى من خلفها انصرفت له بشِقَ ... وشقٌ عنْدنا لم يُحَوَّلِ ... وإما صفتُها والخبرُ محذوفٌ أي ومعكم طائفة أو وهناك وقيل تقديره ومنكم طائفةٌ وفيه أنه يقتضي دخولَ المنافقين في الخطاب بإنزال الأمنة وأيا ما ما كان فالجملةُ إما حاليةٌ مبيِّنةٌ لفظاعة الهولِ مؤكِّدةٌ لعِظَم النعمةِ في الخلاص عنْهُ كما في قولِه تعالى {أو لم يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمنا وَيُتَخَطَّفُ الناسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} وإما مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان حال المنافقين وقوله عز وجل {يَظُنُّونَ بالله} حال من ضمير أهمتْهم أو من طائفةٌ لتخصصها بالصفةِ أو صفةٌ أُخرى لها أو خبر بعد خبر أو استئنافٌ مبينٌ لما قبله وقوله تعالى {غَيْرَ الحق} في حُكم المصدرِ أي يظنون به تعالى غيرَ الظنِّ الحقِّ الذي يجب أن يُظنَّ به سبحانه وقوله تعالى {ظَنَّ الجاهلية} بدلٌ منه وهو الظنُّ المختصُّ بالملة الجاهليةِ والإضافة كما في حاتم الجودِ ورجلِ صِدْقٍ وقولُه تعالى {يَقُولُونَ} بدلٌ من يظنون لما ان مسئلتهم كانت صادرةً عن الظن أي يقولون لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم على صورة الاسترشاد {هَل لَّنَا مِنَ الامر} أي من أمرالله تعالى ووعدِه من النصر والظفَرِ {مِن شَىْء} أي من نصيب قط أو هل لنا من التدبير من شئ وقوله تعالى {قل إن الامر كُلَّهُ للَّهِ} أي الغلبةَ بالآخرة لله تعالى ولأوليائه فإن حزبَ الله هم الغالبون أو إن التدبيرَ كلَّه لله فإنه تعالى قد دبر الأمرَ كما جرى في سابق قضائِه فلا مردَّ له وقرئ كلُّه بالرفع على الابتداءِ وقولُه تعالَى {يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم} أي يُضمرون فيها أو يقولون فيما بينهم بطريق الخُفية {مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ} استئنافٌ أو حالٌ من ضميرِ يقولون وقوله تعالى إن الأمرالخ اعتراضٌ بين الحال وصاحبِها

155 - آل عمران أي يقولون ما يقولون مُظْهِرين أنهم مسترشِدون طالبون للنصر مُبْطنين الإنكارَ والتكذيبَ وقوله تعالى {يَقُولُونَ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل أي شئ يخفون فقيل يحدثون أنفسَهم أو يقول بعضُهم لبعض فيما بينهم خُفيةً {لَوْ كان لنا من الأمر شَىْء} كما وعد محمد عليه الصلاة والسلام من أن الغلبةَ لله تعالى ولأوليائه وإن الأمرَ كلَّه لله أو لو كان لنا من التدبير والراى شئ {ما قتلنا ها هنا} أي ما غُلبنا أو ما قُتل مَنْ قُتل منا في هذه المعركةِ على أن النفيَ راجعٌ إلى نفس القتلِ لا إلى وقوعه فيها فقط ولما برحنا من منازلنا كما رآه ابنُ أُبي ويؤيده تعيينُ مكانِ القتلِ وكذا قوله تعالى {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ} أي لو لم تخرُجوا إلى أُحُد وقعدتم بالمدينة كما يقولون {لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل} أي في اللوحِ المحفوظِ بسبب من الأسباب الداعيةِ إلى البروز {إلى مَضَاجِعِهِمْ} إلى مصارعهم التي قدَّر الله تعالى قتلَهم فيها وقُتلوا هنالك البتةَ ولم تنفَعِ العزيمةُ على الإقامة بالمدينة قطعاً فإن قضاءَ الله تعالى لا يُرَدّ وحكمُه لا يُعقَّب وفيه مبالغةٌ في رد مقالتِهم الباطلةِ حيث لم يُقتَصرْ على تحقيق نفسِ القتلِ كما في قوله عز وجل أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت بل عُيِّن مكانُه أيضاً ولا ريب في تعيُّن زمانِه أيضاً لقوله تعالى {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} رُوي أنَّ ملكَ الموتِ حضر مجلس سليمان عليه الصلاة والسلام فنظر إلى رجل من أهل المجلسِ نَظرةً هائلة فلما قام قال الرجلُ من هذا فقال سليمانُ عليه السلام ملكُ الموتِ قال أرسِلْني مع الريح إلى عالم آخَرَ فإني رأيتُ منه مرأىً هائلاً فأمرها عليه السلام فألقتْه في قُطر سحيقٍ من أقطار العالم فما لبث أن عاد ملكُ الموتِ إلى سليمانَ عليه السلام فقال كنت أُمِرْتُ بقبض روحِ ذلك الرجلِ في هذه الساعةِ في أرض كذا فلما وجدتُه في مجلسك قلت متى يصِلُ هذا إليها وقد أرسلتَه بالريح إلى ذلك المكانِ فوجدتُه هناك فقُضي أمرُ الله عزَّ وجلَّ في زمانه ومكانِه من غير إخلال بشئ من ذلك وقرئ كتب على البناءِ للفاعلِ ونَصبِ القتل وقرئ كتب عليهم القتال وقرئ لبُرِّز بالتشديد على البناء للمعفول {وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ} أي ليعاملَكم معاملةَ مَنْ يبتلي ما في صدوركم من الإخلاص والنفاقِ ويُظهرَ ما فيها من السرائر وهو علةٌ لفعل مقدرٍ قبلها معطوفةٌ على علل لها أخرى مطويةٍ للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعلَ ما فعل لمصالحَ جمةٍ وليبتليَ الخ وجعلُها عللا لبرز يا باه الذوقُ السليمُ فإن مقتضى المقامِ بيانُ حكمةِ ما وقع يومئذ من الشدة والهولِ لا بيانُ حِكمةِ البروزِ المفروضِ أو لفعلٍ مقدرٍ بعدها أي وللابتلاء المذكورِ فعلَ ما فعل لا لعدم العنايةِ بأمر المؤمنين ونحو ذلك وتقديرُ الفعل مقدماً خالٍ عن هذه المزية {وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ} من مخفيات الأمورِ ويكشِفَها أو يُخلِّصَها من الوساوس {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي السرائر والضمائرِ الخفيةِ التي لا تكاد تفارقُ الصدورَ بل تلازمها وتصاحبها والجمة إما اعتراضٌ للتنبيه على أن الله تعالى غنيٌ إن الابتلاء وإنما يُبرِز صورةَ الابتلاءِ لتمرين المؤمنين وإظهارِ حالِ المنافقين أو حالٌ من متعلَّق الفعلين أي فَعل ما فَعل للابتلاء والتمحيصِ والحال أنه تعالى غنى غنهما مُحيطٌ بخفيات الأمورِ وفيه وعد ووعيد

155

{إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان}

وهم الذين انهزموا يومَ أحُدٍ حسبما مرت حكايتُهم {إِنَّمَا استزلهم الشيطان} أي إنما كان سببَ انهزامِهم أن الشيطانَ طلب منهم الزللَ {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} من الذنوب والمعاصي التي هي مخالفةُ أمرِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وتركُ المركزِ والحِرصُ على الغنيمة أو الحياةِ فحُرِموا التأييدَ وقوةَ القلب وقيل استزلالُ الشيطانِ تولِّيهم وذلك بذنوب تقدمت لهم فإن المعاصيَ يجُرّ بعضُها إلى بعض كالطاعة وقيل استزلّهم بذنوب سبَقتْ منهم وكرِهوا القتلَ قبل إخلاصِ التوبةِ والخروجِ من المظلِمة {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} لتوبتهم واعتذارِهم {أَنَّ الله غَفُورٌ} للذنوب {حَلِيمٌ} لا يعاجل بعقوبة المذنبِ ليتوب والجملةُ تعليلٌ لما قبلها على سبيل التحقيق وفي إظهار الجلالةِ تربيةٌ للمهابة وتأكيدٌ للتعليل

156

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ} وهم المنافقون القائلون لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا ههنا وإنما ذُكر في صدر الصلةِ كفرُهم تصريحاً بمباينة حالِهم لحال المؤمنين وتنفيراً عن مماثلتهم آثِرَ ذي أثيرٍ وقولُه تعالى {وَقَالُواْ لإخوانهم} تعيينٌ لوجه الشبهِ والمماثلةِ التي نُهوا عنها أي قالوا لأجلهم وفي حقهم ومعنى أُخوّتِهم اتفاقُهم نسباً أو مذهباً {إِذَا ضَرَبُواْ فِى الارض} أي سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرِها وإيثارُ إذا المفيدةِ لمعنى الاستقبالِ على إذا المفيدة المعنى لحكاية الحالِ الماضيةِ إذِ المرادُ بها الزمانُ المستمرُّ المنتظمُ للحال الذي عليه يدورُ أمرُ استحضارِ الصورة قال الزجاج إذا ههنا تنوبُ عما مضى من الزمان وما يُستقبل يعني أنها لمجرد الوقتِ أو يُقصد بها الاستمرارُ وظرفيتُها لقولهم إنما هي باعتبار ما وقع فيها بل التحقيقُ أنها ظرفٌ له لا لقولهم كأنه قيل قالوا لأجل ما أصاب إخوانَهم حين ضربوا الخ {أَوْ كَانُواْ} أي إخوانُهم {غزى} جمعُ غازٍ كعُفّىً جمعُ عافٍ قال ... ومُغْبّرةِ الآفاقِ خاشعةِ الصُّوى ... لها قلب عفى الحياض أجون ... وقرئ بتخفيف الزاي على حذف التاء من غُزاة وإفرادُ كونِهم غُزاةً بالذِّكرِ مع اندراجِه تحتَ الضربِ في الأرض لأنه المقصودُ بيانُه في المقام وذكرُ الضربِ في الأرض توطئةٌ له وتقديمُه لكثرة وقوعِه على أنه قد يوجد بدون الضربِ في الأرض إذ المرادُ به السفرُ البعيدُ وإنما لم يقل أو غَزَوْاً للإيذان باستمرار اتصافِهم بعنوان كونِهم غزاةً أو بانقضاء ذلك أي كانوا غزاة فيما مضى وقولُه تعالى {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا} أي مقيمين {مَا مَاتُواْ وَمَا قتلوا} مفعول لقالوا ودليل على أن هناك مضمَراً قد حُذف ثقةً به أي إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزّاً فقُتلوا وليس المقصودُ بالنهي عدمَ مماثلتِهم في النطق بهذا القولِ بل في الاعتقاد بمضمونه والحُكمِ بموجبه كما أنه المنكرُ على قائليه ألا يُرى إلى قوله عز وجل {لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ} فإنه الذي جُعل حسرةً فيها قطعاً وإليه أشير كما نقل عن الزجاج أنه إشارةٌ إلى ظنهم أنهم لو لم يحضُروا القتالَ لم يُقتلوا وتعلّقُه بقالوا ليس باعتبار نطقِهم بذلك القولِ بل باعتبار ما فيه من الحكم والاعتقاد واللام

157 - 158 آل عمران لامُ العاقبة كما في قولِه تعالى لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرةً في قلوبهم والمرادُ بالتعليل المذكورِ بيانُ عدمِ ترتُّبِ فائدةٍ ما على ذلك أصلاً وقيل هو تعليلٌ للنهي بمعنى لا تكونوا مثلَهم في النطق بذلك القولِ واعتقادِه ليجعلَه الله تعالى حسرةً في قلوبهم خاصة ويصونَ منها قلوبَكم فذلك كما مر إشارةٌ إلى ما دل عليه قولُهم من الاعتقاد ويجوز أن يكون إشارةً إلى ما دل عليه النهي أي لا تكونوا مثلَهم ليجعل الله انتفاءَ كونِكم مثلَهم حسرةً في قلوبهم فإن مضادّتَكم لهم في القول والاعتقادِ مما يغُمُّهم ويَغيظهم {والله يحيي ويميت} رد لقولهم الباطل إثرَ بيانِ غائلتِه أي هُو المؤثِّرُ في الحياة والممات وحده من غير أن يكون للإقامة أو للسفر مدخلٌ في ذلك فإنه تعالى قد يُحيي المسافرَ والغازيَ مع اقتحامهما لموارد الحتوفِ ويُميتُ المقيمَ والقاعدَ مع حيازتهما لأسباب السلامة {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تهديدٌ للمؤمنين على أن يماثلوهم وقرئ بالياء على أنه وعيدٌ للذين كفروا وما يَعْمَلُونَ عامٌ متناولٌ لقولهم المذكورِ ولِمُنشئه الذي هو اعتقادُهم ولما ترتب على ذلك من الأعمال ولذلك تعرَّض لعنوان البَصَر لا لعنوان السمعِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتربية المهابةِ وإلقاءِ الرَّوْعةِ والمبالغةِ في التهديد والتشديدِ في الوعيد

157

{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ} شروعٌ في تحقيق أن ما يحذرون ترتُّبَه على الغزو والسفر من القتل والموتِ في سبيلِ الله تعالى ليسَ ممَّا ينبغِي أنْ يُحذر بل مما يجب أن يتنافس المتنافسون إثرَ إبطالِ ترتُّبِه عليهما واللامُ هي الموطئةُ للقسم وما في قوله تعالى {لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرَحْمَةٌ} لامُ الابتداء والتنوينُ في الموضعين للتقليل ومِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً للمبتدأ وقد حُذفت صفةُ رحمةٌ لدِلالة المذكورِ عليها والجملةُ جوابٌ للقسم سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرطِ والمعنى إنْ السفرَ والغزوَ ليس مما يجلُب الموتَ ويقدّم الأجلَ أصلاً ولئن وقع ذلك بأمر الله تعالى لنفحةٌ يسيرةٌ من مغفرة ورحمةً كائنتين من الله تعالى بمقابلة ذلك {خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} أي الكفرةُ من منافعِ الدنيا وطيّباتها مدةَ أعمارِهم وعن ابن عباس رضي الله عنهما خيرٌ من طِلاع الأرضِ ذهبة حمراء وقرئ بالتاء أي مما تجمعونه أنتم لو لم تموتوا والاقتصارُ على بيان خيريتِهما من ذلك بلا تعرّضٍ للإخبار بحصولهما لهم للإيذان بعدم الحاجة إليه بناء على استحالة التخييبِ منه تعالى بعد الإطماعِ وقد قيل لا بد من حذفٍ آخَرَ أي لمغفرةٌ لكم من الله الخ وحينئذ يكون أيضاً إخراجُ المقدَّرِ مُخرَجَ الصفةِ دون الخبر لنحو ما ذُكر من ادعاء الظهورِ والغِنى عن الإخبار به وتغييرُ الترتيب الواقعِ في قولهم ما ماتوا وما قتلوا المبنيِّ على كثرة الوقوعِ وقِلّته للمبالغة في الترغيب في الجهاد ببيان زيادةِ مزيةِ القتلِ في سبيل الله وإنافتِه في استجلاب المغفرةِ والرحمةِ وفيه دَلالةٌ واضحةٌ على ما مر من أن المقصودَ بالنهي إنما هو عدمُ مماثلتِهم في الاعتقاد بمضمون القولِ المذكورِ والعملِ بموجبه لا في النطق به وإضلالِ الناسِ به

158

{وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ} أي على أيِّ وجهٍ اتفق هلاكُكم حسب تعلُّقِ الإرادة الإلهية وقرئ مِتّم بكسر الميمِ من مات

159 - 160 آل عمران يمات {لإِلَى الله} أي إلى المعبود بالحق العظيمِ الشأنِ الواسعِ الرحمةِ الجزيلِ الإحسانِ {تُحْشَرُونَ} لا إلى غيره فيوفيكم أجوركم ويجزل لكم عطاءَكم والكلام في لامَي الجملة كما مر في أختها

159

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والفاءُ لترتيب مضمونِ الكلامِ على ما ينبئ عنه السياقُ من استحقاقهم اللأئمة والتعنيفِ بموجب الجِبلَّةِ البشرية أو من سَعة ساحةِ مغفرتِه تعالى ورحمتِه والباءُ متعلِّقة بلنتَ قُدِّمت عليه للقصر وما مزيدةٌ للتوكيد أو نكرة ورحمة بدلٌ منها مُبينٌ لإبهامها والتنوينُ للتفخيمِ ومِنْ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع صفةً لرحمةٍ أي فبرحمةٍ عظيمة لهم كائنةٍ من الله تعالى وهي ربطُه على جأشه وتخصيصُه بمكارم الأخلاقِ كنتَ ليِّنَ الجانبِ لهم وعامَلْتَهم بالرفق والتلطّفِ بهم حيث اغتمَمْتَ لهم بعد ما كان منهم ما كان من مخالفة أمرِك وإسلامِك للعدو {وَلَوْ} لم تكن كذلك بل {كُنْتَ فَظّاً} جافياً في المعاشرة قولاً وفعلاً وقال الراغبُ الفَظُّ هو الكَرِيهُ الخلُقِ وقال الواحديُّ هو الغليظُ الجانبِ السئ الخلُق {غَلِيظَ القلب} قاسِيَه وقال الكلبي فظَّاً في القول غليظَ القلبِ في الفعل {لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} لَتفرَّقوا من عندك ولم يسكُنوا إليك وتردَّوْا في مهاوي الردى والفاء في قولِه عزَّ وجلَّ {فاعف عَنْهُمْ} لترتيب العفوِ أو الأمرِ به على ما قبله أي إذا كان الأمر كما ذكر فاعفُ عنهم فيما يتعلق بحقوقك كما عفا الله عنهم {واستغفر لَهُمُ} الله فيما يتعلق بحقوقه تعالى إتماماً للشفقة عليهم وإكمالاً للبِرّ بهم {وَشَاوِرْهُمْ فِى الامر} أي في أمر الحربِ إذ هو المعهودُ أو فيه وفي أمثاله مما تجري فيه المشاورةُ عادةً استظهاراً بآرائهم وتطييباً لقلوبهم وتمهيداً لسُنّة المشاورةِ للأمة وقرئ وشاورهم في بعض الأمر {فَإِذَا عَزَمْتَ} أي عَقيبَ المشاورة على شئ واطمأنتْ به نفسُك {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} في إمضاء أمرِك على ما هو أرشد لك وأصلح فإنه عِلمَه مختصٌّ به سبحانه وتعالى وقرئ فإذا عزمتُ على صيغة التكلمِ أي عزمتُ لك على شئ وأرشدتُك إليه فتوكلْ عليَّ ولا تشاوِرْ بعد ذلك أحداً والالتفاتُ لتربية المهابةِ وتعليلِ التوكلِ أو الأمرِ به فإن عنوانَ الألوهيةِ الجامعة لجميع صفات الكمال مستدعٍ للتوكل عليه تعالى أو الأمرِ به {إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} عليه تعالى فينصُرهم ويُرشِدهم إلى ما فيه خير لهم وصلاح والجملةُ تعليلٌ للتوكل عليه تعالى وقولُه تعالى

160

{إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} جملةٌ مستأنفةٌ سيقت بطريق تلوين الخطاب تشريفاً للمؤمنين لإيجاب توكّلِهم عليه تعالى وحثَّهم على اللَّجَأ إليه وتحذيرِهم عما يُفضي إلى خِذلانه أي إن ينصُركم كما نصركم يومَ بدرٍ فلا أحدَ يغلِبُكم على طريق نفي الجنسِ المنتظِم لنفي جميعِ أفرادِ الغالبِ ذاتاً وصفةً ولو قيل فلا يغلبُكم أحدٌ لدل على نفي الصفة فقط ثم المفهومُ من ظاهر النظم

161 - آل عمران الكريمِ وإن كان نفيَ مغلوبيّتِهم من غيرِ تعرضٍ لنفْي المساواةِ أيضاً وهو الذي يقتضيه المقامُ لكن المفهومَ منه فهماً قطعياً هو نفيُ المساواةِ وإثباتُ الغالبيةِ للمخاطبين فإذا قلتَ لا أكرمُ من فلان أولا أفضلُ منه فالمفهومُ منه حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضل من كل فاضلٍ وهذا أمرٌ مطردٌ في جميع اللغات ولا اختصاصَ له بالنفي لصريح بل هو مطردٌ فيما ورد على طريق الاستفهامِ الإنكاريِّ كما في قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً في مواقعَ كثيرةٍ من التنزيل ومما هو نصٌ قاطعٌ فيما ذكرنا ما وقع في سورةِ هودٍ حيث قيل بعده في حقهم لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الأخرة هُمُ الأخسرون فإن كونَهم أخسرَ من كل خاسرٍ يستدعي قطعاً كونَهم أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} كما فعل يوم أحد وقرئ يُخذِلْكم من أخذله إذا جعله مخذولاً {فَمَن ذَا الذى يَنصُرُكُم} استفهامٌ إنكاريٌّ مفيدٌ لانتفاء الناصرِ ذاتاً وصفةً بطريق المبالغة {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد خِذلانه تعالى أو من بعدِ الله تعالى على معنى إذا جاوزتموه {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} تقديمُ الجار والمجرور على الفعل لإفادة قصرِه عليه تعالى والفاءُ لترتيبه أو ترتيبِ الأمرِ به على ما مر من غلبة المخاطَبين على تقدير نُصرتِه تعالى لهم ومغلوبيّتِهم على تقدير خِذلانِه تعالى إياهم فإن العِلمَ بذلك مما يقتضي قصرَ التوكلِ عليه تعالى لا محالة والمرادُ بالمؤمنين إما الجنسُ والمخاطبون داخلون فيه دخولا أوليا وإما هم خاصةً بطريق الالتفاتِ وأيا ما كان ففيه تشريفٌ لهم بعنوان الإيمانِ اشتراكاً أو استقلالاً وتعليلٌ لتحتم التوكلِ عليه تعالى فإن وصفَ الإيمانِ مما يوجبه قطعاً

161

{وَمَا كَانَ لِنَبِىّ} أي وما صح لنبي من الأنبياء ولا استقام له {أَنْ يَغُلَّ} أي يخونَ في المغنم فإن النبوةَ تنافيه منافاةً بيِّنة يقال غَلَّ شيئاً من المغنم يغُل غلولاً وأَغل إغلالاً إذا أخذه خُفْيةً والمرادُ إما تنزيهُ ساحةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عما ظن به الرماةُ يومَ أحُدٍ حين تركوا المركزَ وأفاضوا في الغنيمة وقالوا نخشى أن يقولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئاً فهو له ولا يقسِمَ الغنائمَ كما لم يقسمْها يوم بدرٍ فقال لهم النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم ألم أعهَدْ إليكم أن لا تترُكوا المركزَ حتى يأتيَكم أمري فقالوا تركنا بقيةَ إخوانِنا وقوفاً فقال عليه السلام بل ظننتم أنا نغُلّ ولا نقسِمُ بينكم وإما المبالغةُ في النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما رُوي أنه بعث طلائِعَ فغنِم النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم بعدهم غنائِمَ فقسمها بين الحاضر ولم يترك للطلائع شيئاً فنزلت والمعنى ما كان لنبي أن يعطيَ قوماً من العسكر ويمنَعَ آخَرين بل عليه أن يقسِمَ بين الكلِّ بالسوية وعُبّر عن حِرمان بعضِ الغزاةِ بالغُلول تغليظاً وأما ما قيل من أن المراد تنزيهُه عليه السلام عما تفوَّه به بعضُ المنافقين إذ رُوي أن قَطيفةً حمراءَ فقدت يوم بدر فقال بعضُ المنافقين لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها فبعيد جدا وقرئ على البناءِ للمفعولِ والمعنى ما كان له أن يوجَدَ غالاًّ أو يُنسَبَ إلى الغُلول {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة} يأتِ بالذي غله بعينه يحمِلُه على عنُقه كما ورد في الحديث الشريف وروي أنه عليه السلام قال ألالا أعْرِفَنَّ أحدَكُم يأتي ببعير له رُغاءٌ وببقرةٍ لها خوار وبشارة لها ثُغاءٌ فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملِك لَكَ مِنَ الله شيئاً فقد بلّغتُك أو يأت

162 - 163 164 آل عمران بما احتمل من إثمه ووبالِه {ثُمَّ توفَّى كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي تعطى وافياً جزاءَ ما كسبت خيراً أو شراً كثيراً أو يسيراً ووضعُ المكسوبِ موضعَ جزائِه تحقيقاً للعدْل ببيان ما بينهما من تمام التناسُبِ كمّاً وكيفاً كأنهما شيءٌ واحد وفي إسناد التَوْفيةِ إلى كل كاسبٍ وتعليقِها بكل مكسوبٍ مع أن المقصودَ بيانُ حالِ الغالِّ عند إتيانِه بما غله يوم القيامة من الدلالة على فخامة شأنِ اليومِ وهولِ مطلَعِه والمبالغةِ في بيان فظاعة حال الغال مالا يخفى فإنه حيث وُفيّ كلُّ كاسبٍ جزاءَ ما كسبه ولم يُنْقَصْ منه شيءٌ وإن كان جُرْمُه في غاية القِلّة والحقارةِ فلأَنْ لا يُنقَصَ من جزاء الغالِّ شيءٌ وجُرمُه من أعظم الجرائم وأظهر وأجلى {وَهُمْ} أي كلُّ الناس المدلول عليهم بكلِّ نفسٍ {لاَ يُظْلَمُونَ} بزيادة عقابٍ أو بنقص ثواب

162

{أَفَمَنِ اتبع رضوان الله} أي سعى في تحصيله وانتحى نحوَه حيثما كان بفعل الطاعاتِ وتركِ المنكرات كالنبي ومن يسير بسيرته {كَمَن بَاء} أي رجع {بِسَخْطٍ} عظِيمٌ لا يقادَرُ قَدرُه كائن {من الله} تعالى بسبب معاصيه كالغالِّ ومن يَدين بدينه والمرادُ تأكيدُ نفي الغلولِ عن النبي عليه الصلاةَ والسلام وتقريرُه بتحقيق المباينةِ الكليةِ بينه وبين الغالِّ حيث وصف كل منهما ما وُصف به الآخَرُ فقوبل رضوانُه تعالى بسَخَطه والاتِّباعُ بالبَوْء والجمع بين الهمزةِ والفاءِ لتوجيه الإنكارِ إلى ترتب توهُّمِ المماثلةِ بينهما والحُكمِ بها على ما ذُكر من حال الغالِّ كأنه قيل أبعدَ ظهورِ حالِهِ يكونُ مَنْ ترقّى إلى أعلى عِلِّيين كمَنْ ترَدَّى إلى أسفلِ سافلين وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ لإدخال الرَّوْعةِ وتربيةِ المهابةِ {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} إما كلامٌ مستأنَفٌ مَسوقٌ لبيانِ مآلِ أمْرِ مَنْ باء بسَخَطه تعالى وإما معطوفٌ على قوله تعالى باء بسخط عطفَ الصِلةِ الاسميةِ على الفعلية وأياً ما كانَ فلا محل له من الإعراب {وَبِئْسَ المصير} اعتراضٌ تذييليٌّ والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي وبئس المصيرُ جهنمُ والفرقُ بينه وبين المرجع أن الأولَ يُعتبر فيه الرجوعُ على خلاف الحالةِ الأولى بخلاف الثاني

163

{هُمْ} راجعٌ إلى الموصولَين باعتبار المعنى {درجات عِندَ الله} أي طبقاتٌ متفاوتةٌ في علمه تعالى وحُكمِه شُبِّهوا في تفاوت الأحوالِ وتبايُنِها بالدرجات مبالغةً وإيذاناً بأن بينهم تفاوتاً ذاتياً كالدرجات أو ذوو درجاتٍ {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} من الأعمال ودرجاتِها فيجازيهم بحسبها

164

{لَقَدْ مَنَّ الله} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ والله لقد من أي أنعم {عَلَى المؤمنين} أي من قومه عليه السلام {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ} أي من نسبَهم أو من جنسهم عربياً مثلَهم ليفقهوا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على حاله في الصدق والأمانةِ مفتخرين به وفي ذلك شرف لهم عظيم قال الله تعالَى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وقرئ من أنفسهم أي أشرفهم فإنه عليه السلام

165 - آل عمران كان من أشرف قبائلِ العرب وبطونها وقرئ لَمِنْ منِّ الله على المؤمنين إذ بعث الخ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي منُّه إذ بعث الخ أو على أن إذ في محلِ الرفعِ على الابتداء بمعنى لَمِنْ منِّ الله على المؤمنين من وقتُ بعثِه وتخصيصُهم بالامتنان مع عموم نعمةِ البعثةِ للأسود والأحمرِ لما مرّ من مزيد انتفاعِهم بها وقوله تعالى مّنْ أَنفُسِهِمْ متعلقٌ بمحذوف وقع صفة لرسولاً أي كائناً من أنفسهم وقوله تعالى {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياته} صفةٌ أخرى أي يتلو عليهم القرآن بعدما كانوا أهلَ جاهليةٍ لم يطرُق أسماعَهم شيءٌ من الوحي {وَيُزَكّيهِمْ} عطفٌ على يتلو أي يطهرهم من دنس الطبائعِ وسوءِ العقائدِ وأوضارِ الأوزار {وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة} أي القرآنَ والسنةَ وهو صفةٌ أُخْرَى لرسولاً مترتبةٌ في الوجودِ عَلَى التِّلاوةِ وإنَّما وَسَّطَ بينَهُما التزكيةَ التي هي عبارةٌ عن تكميل النفس بحسب القوةِ العمليةِ وتهذيبِها المتفرِّعِ عَلَى تكميلِهَا بحسبِ القوةِ النظريةِ الحاصلِ بالتعليمِ المترتبِ على التلاوة للإيذانِ بأنَّ كلَّ واحدٍ من الأمورِ المترتبةِ نعمةٌ جليلةٌ على حيالِهَا مستوجبةٌ للشكرِ فَلَو رُوعِي ترتيبَ الوجودِ كما في قوله تعالى رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يتلو عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكّيهِمْ لتبادر إلى الفهم عدُّ الجميعِ نعمةً واحدةً وهو السرُّ في التعبير عن القرآن بالآياتِ تارة وبالكتاب والحكمة أخرى رمزاً إلى أنَّه باعتبارِ كلِّ عنوانٍ نعمةٌ عَلى حدة ولا يقدحُ في ذلك شمولُ الحكمةِ لِمَا في مطاوي الأحاديثِ الكريمةِ من الشرائع كما سلف في سورة البقرة {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ} أي من قبلِ بعثتِه عليه السَّلامُ وتزكيته وتعليمِه {لَفِى ضلال مُّبِينٍ} أي بيِّن لا ريبَ في كونه ضلالاً وإنْ هي المخففةُ من المثقلة وضميرُ الشأنِ محذوفٌ واللامُ فارقةٌ بينها وبين النَّافيةِ والظرفُ الأولُ لغوٌ متعلقٌ بكان والثاني خبرُها وهي مع خبرها خبرٌ لأن المخففة التي حُذف اسمُها أعني ضميرَ الشأن وقيل هي نافيةٌ واللامُ بمعنى إلا أي وما كانوا من قبل إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ وأيا ما كان فالجملةُ إِمَّا حالٌ منَ الضميرِ المنصوب في يعلمهم أو مستأنفةٌ وعلى التقديرين فهي مبيِّنة لكمال النعمةِ وتمامِها

165

{أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا} كلامٌ مبتدأ مَسوقٌ لإبطال بعضِ ما صدرَ عنهُم من الظنون الفاسدةِ والأقاويلِ الباطلةِ الناشئةِ منها إثرَ إبطالِ بعضٍ آخرَ منها والهمزةُ للتقريع والتقريرِ والواو عاطفةٌ لمدخولها على محذوف قبلها ولما ظرف لقلتم مضافٌ إلى ما بعده وقد أَصَبْتُمْ في محلِ الرفعِ على أنه صفةٌ لمصيبة والمرادُ بها ما أصابهم يومَ أحدٍ من قتل سبعين منهم وبمِثْليها ما أصاب المشركين يومَ بدرٍ من قتلِ سبعين منهم وأسر سبعين وأنى هذا مقولُ قلتم وتوسيطُ الظرفِ وما يتعلق به بينه وبين الهمزةِ مع أنه المقصودَ إنكارُه والمعطوفُ بالواو حقيقةً لتأكيد النكيرِ وتشديد التقريعِ فإن فعلَ القبيحِ في غيره وقتِه أقبحُ والإنكارَ على فاعله أدخلُ والمعنى أحين أصابكم من المشركين نصفُ ما قد أصابهم منكم قبل ذلك جزِعتم وقلتم من أين أصابنا هذا وقد تقدم الوعدُ بالنصر على توجيه الإنكارِ والتقريعِ إلى صدور ذلك القولِ عنهم في

166 - 167 آل عمران ذلك الوقتِ خاصة بناءً على عدم كونِه مَظِنةً له داعياً إليه بل على كونه داعياً إلى عدمه فإن كونَ مصيبةِ عدوِّهم ضعفَ مصيبتِهم مما يُهوِّن الخطْبَ ويورث السَّلْوةَ أو أفعلتم ما فعلتم ولما أصابتكم غائلته أنى هذا على توجيه الإنكارِ إلى استبعادهم الحادثةَ مع مباشرتهم لسببها وتذكيرُ اسمِ الإشارةِ في أنى هذا مع كونه إشارةً إلى المصيبة ليس لكونها عبارةً عن القتل ونحوِه بل لما أن إشارتَهم ليست إلا إلى ما شاهدوه في المعركة من حيث هو هو من غيرِ أنْ يخطُر ببالِهم تسميتُه باسمٍ ما فضلاً عن تسميته باسم المصيبةِ وإنما هي عند الحكاية وقوله عز وجل {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُجيب عن سؤالهم الفاسد إثر تحقيق فساد بالإنكار والتقريع ويبكتهم أن ما نالهم إنما نالهم من جهتهم بتركهم المركزَ وحِرصِهم على الغنيمة وقيل باختيارهم الخروجَ من المدينة ويأباه أن الوعدَ بالنصر كان بعد ذلك كما ذكر عند قوله تعالى وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ الآية وأن عملَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بموجبه قد رَفَع الخطرَ عنه وخفف جنايتَهم فيه على أن اختيارَ الخروجِ والإصرارَ عليه كان ممن أكرمهم الله تعالى بالشهادة يومئذ وأين هم من التفوّه بمثل هذه الكلمة وقيل بأخذهم الفداءَ يوم بدر قبل أن يُؤذَن لهم والأولُ هو الأظهرُ الأقوى وإنما يعضُده توسيطُ خطابِ الرسول صلى الله عليه وسلم بين الخِطابين المتوجهَيْن إلى المؤمنين وتفويضُ التبكيتِ إليه عليه السلام فإن توبيخَ الفاعل على الفعل إذا كان ممن نهاه عنه كان أشدَّ تأثيراً {إِنَّ الله على كُلّ شىء قَدِيرٌ} ومن جملته النصرُ عند الطاعةِ والخِذلانُ عند المخالفةِ وحيث خرجتم عن الطاعة أصابكم منه تعالى ما أصابكم والجملةُ تذييلٌ والجُملة تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَها داخلٌ تحت الأمرِ

166

{وَمَا أصابكم} رجوعٌ إلى خطاب المؤمنين إثرَ خطابِه عليه السلام بسر يقتضيه وإرشادٌ لهم إلى طريق الحق فيما سألوا عنه وبيانٌ لبعض ما فيه من الحكم والمصالحِ ودفعٌ لما عسى أن يُتوهمَ من قولِه تعالى هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ من استقلالهم في وقوع الحادثةِ والعدولُ عن الإضمار إلى ما ذكر للتهويل وزيادةِ التقريرِ ببيان وقتِه بقوله تعالى {يَوْمَ التقى الجمعان} أي جمعُكم وجمعُ المشركين {فَبِإِذْنِ الله} أي فهو كائن بقضائه وتخليتِه الكفارَ سُمّيَ ذلك إذناً لكونها من لوازمه {وَلِيَعْلَمَ المؤمنين} عطفٌ على قوله تعالى فَبِإِذْنِ الله عطفَ المسبَّب على السَّببِ والمرادُ بالعلم التمييزُ والإظهارُ فيما بين الناسِ

167

{وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ} عطف على ما قبله من مثله وإعادةُ الفعل لتشريف المؤمنين وتنزيهِهم عن الانتظام في قرن المنافقين وللإيذان باختلاف حالِ العلم بحسب التعلقِ بالفريقين فإنه متعلقٌ بالمؤمنين على نهج تعلقِه السابقِ وبالمنافقين على وجه جديدٍ وهو السرُّ في إيراد الأولِين بصيغة اسمِ الفاعلِ المنبئةِ عن الاستمرار والآخِرين بموصول صِلتُه فعلٌ دالٌ على الحدث والمعنى وما

أصابكم يومئذ فهو كائن لتمييز الثابتين على الإيمان والذين أظهروا النفاقَ {وَقِيلَ لَهُمْ} عطفٌ على نافقوا داخلٌ معه في حيزِ الصلةِ أو كلامٌ مبتدأ قال ابن عباس رضي الله عنهما هم عبد الله بن أُبي وأصحابُه حيث انصرفوا يوم أحُدٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم عبدُ اللَّه بنُ عمرو بنِ حرامٍ أذكركم الله أن لاتخذلوا نبيَّكم وقومَكم ودعاهم إلى القتال وذلك قوله تعالى {تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا} قال السدي ادفعوا عنا العدوَّ بتكثير سوادِنا إن لم تقاتلوا معنا وقيل أو ادفعوا عن أهلكم وبلدِكم وحريمِكم إن لم تقاتلوا في سبيلِ الله تعالى وتركُ العطفِ بين تعالَوْا وقاتِلوا لما أن المقصودَ بهما واحد وهو الثاني وذِكْرُ الأولِ توطئةٌ له وترغيبٌ فيه لما فيهِ منَ الدَلالة على التظاهر والتعاون {قَالُواْ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال ينسحبُ عليه الكلام كأنه قيل فماذا صنعوا حين خُيِّروا بين الخَصْلتين المذكورتين فقيل قالوا {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتبعناكم} أي لو نُحسِن قتالاً ونقدِر عليه وإنما قالوه دغَلاً واستهزاءً وإنما عبّر عن نفي القدرة على القتال بنفي العِلم به لما أن القدرةَ على الأفعال الاختياريةِ مستلزِمةٌ للعلم بها أو لو نعلم ما يصِحُّ أن يسمَّى قِتالاً لاتبعناكم ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتال أصلاً وإنما هو إلقاءُ النفسِ إلى التهلُكة وفي جعلهم التالي مجردَ الاتباعِ دون القتالِ الذي هو المقصودُ بالدعوة دليلٌ على كمال تثبيطهم عن القتال حيث لا ترضى نفوسُهم بجعله تالياً لمقدَّم مستحيلِ الوقوعِ {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإيمان} الضميرُ مبتدأٌ وأقربُ خبرُه واللامُ في للكفر وللإيمان متعلقة به وكذا يومئذٍ ومنهم وعدمُ جوازِ تعلقِ حرفين متّحدين لفظاً ومعنى بعامل واحدٍ بلا عطفٍ أو بدليةٍ إنَّما هو فيما عدا أفعلِ التفضيلِ من العوامل لاتحاد حيثيةِ عملِها وأما أفعلُ التفضيلُ فحيث دل على أصل الفعلِ وزيادتِه جرى مَجرى عاملين كأنه قيل قربهم للكفر زائدة على قربهم للإيمان وقيل تعلقُ الجارَّيْن به لشَبَهِهما بالظرفين أي هم للكفر يوم إذْ قالوا ما قالوا أقربُ منهم للإيمان فإنهم كانوا قبل ذلك يتظاهرون بالإيمان وما ظهرت منهم أَمارةٌ مُؤذِنةٌ بكفرهم فلما انخذلوا عن عسكر المسلمين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنونُ بهم واقتربوا من الكفر وقيل هم لأهل الكفرِ أقربُ نُصرةً منهم لأهل الإيمانِ لأن تقليلَ سوادِ المسلمين بالانخذال تقويةٌ للمشركين وقوله تعالى يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ جملةٌ مستأنفةٌ مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلها وذِكرُ الأفواهِ والقلوبِ تصويرٌ لنفاقهم وتوضيحٌ لمخالفة ظاهرِهم لباطنهم وما عبارةٌ عن القول والمرادُ به إما نفسُ الكلامِ الظاهر في اللسان وتارة وفي القلب أخرى فالمثبَتُ والمنفيُّ متحدان ذاتاً وإن اختلفا مظهراً وإما القولُ الملفوظُ فقط فالمنفيُّ حينئذٍ منشؤُه الذي لا ينفك عنه القولُ أصلاً وإنَّما عبَّر عنه به إبانةً لما بينهما من شدة الاتصالِ أي يتفوّهون بقول لا وجودَ له أو لِمَنشَئه في قلوبهم أصلاً من الأباطيلِ التي من جملتها ما حكي عنهم آنفاً فإنهم أظهروا فيه أمرين ليس في قلوبهم شئ منهما أحدُهما عدمُ العلمِ بالقتال والآخَرُ الاتباعُ على تقدير العِلمِ به وقد كذَبوا فيهما كذِباً بيّناً حيث كانوا عالمين به غيرَ ناوين للاتّباع بل كانوا مُصِرِّين مع ذلك على الانخذال عازمين على الارتداد وقوله عز وجل {والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} زيادةُ تحقيقٍ لكفرهم ونفاقِهم ببيان اشتغالِ قلوبِهم بما يخالف أقوالَهم من فُنون الشرِّ والفسادِ إثرَ بيانِ خُلوِّها عما يوافقها وصيغةُ التفضيلِ لِما أنَّ بعضَ ما يكتُمونه من أحكام النفاقِ وذمِّ المؤمنين وتخطئةِ آرائِهم والشماتةِ بهم وغيرِ ذلك يعلمه المؤمنون على وجه الإجمال وأن تفاصيلَ ذلك

168 - 169 آل عمران وكيفياتِه مختصةٌ بالعلم الإلهي

168

{الَّذِينَ قَالُواْ} مرفوعٌ على أنه بدلٌ من واو يكتُمون أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ وقيل مبتدأ خبرُه قل فادرؤا بحذف العائدِ تقديرُه قُلْ لَهُمْ الخ أو منصوبٌ على الذمِّ أو على أنه نعتٌ للذين نافقوا أو بدلٌ منه وقيل مجرورٌ على أنه بدلٌ من ضمير أفواهم أو قلوبِهم كما في قولِه ... على جودِه لَضَنَّ بالماء حاتمُ ... والمرادُ بهم عبدُ اللَّهِ بنُ أبي وأصحابُه {لإخوانهم} أي لأجلهم وهم من قُتل يومَ أحدٍ من جنسهم أو من أقاربهم فيندرج فيهم بعضُ الشهداءِ {وَقَعَدُواْ} حالٌ من ضمير قالوا بتقدير قد أي قالوا وقد قعدوا عن القتال بالانخذال {لَوْ أَطَاعُونَا} أي فيما أمرناهم به ووافقونا في ذلك {مَا قُتِلُوا} كما لم نُقتلْ وفيه إيذانٌ بأنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا وأغْوَوْهم كما غَوَوْا وحملُ القعودِ على ما استصوبه ابنُ أُبيّ عند المشاورةِ من الإقامة بالمدينة ابتداءً وجعلُ الإطاعةِ عبارةً عن قبول رأيِه والعملِ به يرُده كونُ الجملةِ حاليةً فإنها لتعيين ما فيه العصيانُ والمخالفةُ مع أن ابنَ أبيَ ليس من القاعدين فيها بذلك المعنى على أن تخصيصَ عدمِ الطاعةِ بإخوانهم ينادي باختصاص الأمرِ أيضاً بهم فيستحيل أن يُحمَلَ على ما خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم عند المشاورة {قُلْ} تبكيتاً لهم وإظهار لكذبهم {فادرؤوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ} جوابٌ لشرط قد حُذف تعويلاً على ما بعدَهُ منْ قولِه تعالى {إِن كُنتُمْ صادقين} كما أنه شرطٌ حُذف جوابُه لدِلالة الجوابِ المذكورِ عليهِ أيْ إنْ كنتُم صادقين فيما ينبئ عنه قولُكم من أنكم قادرون على دفع القتلِ عمن كُتب عليه فادفعوا عن أنفسكم الموتَ الذي كُتب عليكم مُعلَّقاً بسبب خاصَ موقتاً بوقت معيّنٍ بدفع سببِه فإن أسبابَ الموتِ في إمكان المدافعةِ بالحيل وامتناعِها سواءٌ وأنفسُكم أعزُّ عليكم من إخوانكم وأمرُها أهمُّ لديكم من أمرهم والمعنى أن عدمَ قتلِكم كان بسبب أنه لم يكن مكتوباً عليكم لا بسبب أنكم دفعتموه بالقُعود ودمع كتابته عليكم فإن ذلك مما لا سبيل إليه بل قد يكون القتالُ سبباً للنجاة والقعود مؤدياً إلى الموت رُوي أنه مات يوم قالوا ما قالوا سبعون منافقاً وقيل أريد إِن كُنتُمْ صادقين في مضمون الشرطية والمعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقُتلوا قاعدين كما قُتلوا مقاتِلين فقوله تعالى فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ حينئذ استهزاءٌ بهم أي إن كنتم رجالاً دفّاعين لأسباب الموت فادرءوا جميعَ أسبابِه حتى لا تموتوا كما درأتم في زعمكم هذا السببَ الخاصَّ

169

{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أمواتا} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أن القتلَ الذي يَحذَرونه ويُحذّرون الناسَ منه ليس مما يُحذر بل هو من أجل المطالبِ التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ إثرَ بيانِ أن الحذرَ لا يجدى ولا يغني وقرئ ولا تحسِبن بكسر السين والمرادُ بهم شهداءُ أحدٍ وكانوا سبعين رجلاً أربعةٌ من المهاجرين حمزةُ بنُ عبد المطالب ومُصعبُ بنُ عميرٍ وعثمانُ بنُ شهابٍ وعبدُ اللَّه بنُ جحشٍ وباقيهم من الأنصار رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن له حظٌّ من الخطاب وقرئ بالياء على

170 - آل عمران الإسناد إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ أو ضمير مَنْ يحسَب وقيل إلى الذين قُتلوا والمفعولُ الأولُ محذوفٌ لأنه في الأصل مبتدأٌ جائز الحذف عندالقرينة والتقديرُ ولا يحسَبنّهم الذين قُتلوا أمواتاً أي لا يحسبن الذين قُتلوا أنفسَهم أمواتاً على أن المرادَ من توجيه النهي إليهم تنبيهُ السامعين على أنهم أحِقاءُ بأن يَسْلُوا بذلك ويَبْشُروا بالحياة الأبديةِ والكرامةِ السنية والنعيمِ المقيمِ لكن لا في جميعِ أوقاتِهم بل عند ابتداءِ القتلِ إذ بعد تبيُّن حالِهم لهم لا يبقى لاعتبار تسليتِهم وتبشيرِهم فائدة ولا لتنبيه السامعين وتذكيرهم وجه وقرئ قتلوا بالتشديد لكثرة المقتولين {بَلْ أَحْيَاء} أي بل هم احياء وقرئ منصوباً أي بلِ احسَبْهم أحياءً على أن الحُسبانَ بمعنى اليقينِ كما في قوله ... حسِبتُ التقي والمجدَ خيرَ تجارة ... رَباحاً إذا ما المرءُ أصبح ثاقلاً ... أو على أنه واردٌ على طريق المشاكلةِ {عِندَ رَبّهِمْ} في محلِ الرفعِ على أنه خبرٌ ثانٍ للمبتدأ المقدرِ أو صفةٌ لأحياءٌ أو في محلِّ النَّصبِ على أنه حال من الضمير في أحياءٌ وقيل هو ظرفٌ لأحياء أو للفعل بعده والمرادُ بالعندية التقربُ والزلفى وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التَّربيةِ والتبليغِ إلى الكمال مع الإضافةِ إلى ضميرِهم مزيدُ تكرمةٍ لهم {يُرْزَقُونَ} أي من الجنة وفيه تأكيدٌ لكونهم أحياءً وتحقيقٌ لمعنى حياتِهم قال الإمام الواحدي الأصحُ في حياة الشهداءِ ما رُوي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم من أنَّ أرواحَهم في أجوافٍ طيورٍ خُضْرٍ وأنهم يُرزقون ويأكْلون ويتنعمون ورُوي عنه عليه السلام أنه قال لما أصيب إخوانُكم بأحُدٍ جعل الله أرواحَهم في أجواف طيور خضر تدور في أنهار الجنة وروي ترِدُ أنهارَ الجنةِ وتأكُل من ثمارها وتسرَح من الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديلَ من ذهب معلقةٍ في ظل العرشِ وفيه دَلالةٌ على أن روحَ الإنسانِ جسمٌ لطيفٌ لا يفنى بخراب البَدَن ولا يتوقف عليه إدراكُه وتألُّمه والتذاذُه ومن قال بتجريد النفوسِ البشريةِ يقول المرادُ أن نفوسَ الشهداءِ تتمثل طيوراً خُضْراً أو تتعلق بها فتلتذّ بما ذكر وقيل المرادُ أنها تتعلق بالأفلاك والكواكبِ فتلتذ بذلك وتكتسب زيادةَ كمال

170

{فرحين بما آتاهم الله من فَضْلِهِ} وهو شرفُ الشهادةِ والفوزُ بالحياة الأبديةِ والزُلفى من الله عز وجل والتمتُّع بالنعيم المخلِّد عاجلاً {وَيَسْتَبْشِرُونَ} يُسِرّون بالبشارة {بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} أي بإخوانهم الذين لم يُقتلوا بعدُ في سبيل الله فيلحقوا بهم {مّنْ خَلْفِهِمْ} متعلقٌ بيلحقوا والمعنى أنهم بقُوا بعدهم وهم قد تقدموهم أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل يلحقوا أيْ لمْ يلحقُوا بهمْ حالَ كونِهم متخلِّفين عنهم باقين في الدنيا {أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} بدلٌ من الذين بدلَ اشتمالٍ مبينٍ لكون استبشارِهم بحال إخوانِهم لا بذواتهم وإنْ هي المخففةُ من أنّ واسمُها ضميرُ الشأنِ المحذوفِ وخبرُها الجملةُ المنفية أي ويستبشرون بما تبين لهم من حسن حالِ إخوانِهم الذين تركوهم وهو أنهم عند قتلِهم يفوزون بحياة أبديةٍ لا يكدرها خوف وقوعُ محذور ولا حزنٌ فوات مطلوبٍ أو لاَ خوفٌ عَلَيْهِمْ في الدنيا من القتل فإنه عينُ الحياةِ التي يجب أن يرغب فيها فضلا

171 - 172 173 آل عمران عن أن تُخافَ وتحذَر أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون والمرادُ بيانُ دوامِ انتفاءِ الخوفِ والحزنِ لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يُوهمه كونُ الخبرِ في الجملة الثانية مضارعا فإن النفيَ وإن دخل على نفس المضارع يُفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام

171

{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ} كُرِّر لبيان أن الاستبشارَ المذكورَ ليس بمجرد عدمِ الخوفِ والحزنِ بل به وبما يقارِنُه من نعمةٍ عظيمةٍ لا يقادَرُ قَدْرُها وهي ثوابُ أعمالِهم وقد جُوِّز أن يكون الأولُ متعلقاً بحال إخوانِهم وهذا بحال أنفسِهم بياناً لبعض ما أُجمل في قولِه تعالَى فَرِحِينَ بما آتاهم الله مِن فَضْلِهِ {مِنَ الله} متعلقٌ بمحذوف وقع صفة لنعمة مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنةٍ منه تعالى {وَفَضَّلَ} أي زيادةٍ عظيمةٍ كما في قوله تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ {وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين} بفتح أن عطفٌ على فضلٍ منتظمٌ معه في سلك المستبشَرِ به والمرادُ بالمؤمنين إما الشهداءُ والتعبيرُ عنهم بالمؤمنين للإيذان بسمو رُتبة الإيمانِ وكونِه مناطاً لما نالوه من السعادة وإما كافةُ أهلِ الإيمانِ من الشهداء وغيرِهم ذُكرت توفيةُ أجورِهم على إيمانهم وعُدَّت من جملة ما يستبشَرُ به الشهداء بحكم الأخُوَة في الدين وقرئ بكسرها على أنه استئنافٌ معترضٌ دالٌّ على أن ذلك أجرٌ لهم على إيمانهم مُشعِرٌ بأن من لا إيمانَ له أعمالُه محبطة لا أجر لها وفيه من الحث على الجهاد والترغيبِ في الشهادة والبعثِ على ازدياد الطاعةِ وبشرى المؤمنين بالفلاح ما لا يخفى

172

{الَّذِينَ استجابوا لِلَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَا أصابهم القرح} صفةٌ مادحةٌ للمؤمنين لا مخصِّصة أو نُصب على المدحِ أو رفع على الابتداءِ والخبرُ قولُه تعالى {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ} بجملته ومن للبيان والمقصودُ من الجمع بين الوصفين المدحُ والتعليلُ لا التقييدُ لأن المستجيبين كلَّهم محسنون ومتقون رُوي أنَّ أبا سفيانَ وأصحابَه لما انصرفوا من أحُد فبلغوا الرّوحاءَ ندِموا وهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهبهم من نفسه وأصحابِه قوةً فندَب أصحابَه للخروج في طلب أبي سفيان وقال لا يخرُجنَّ معنا إلا من حضر يومَنا بالأمس فخرج صلى الله عليه وسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراءَ الأسدِ وهي من المدينة على ثمانية أميالٍ وكان بأصحابه القرْحُ فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتَهم الأجرُ وألقى الله تعالى الرعبَ في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت

173

{الذين قَالَ لَهُمُ الناس} يعني الركب الذين

174 - آل عمران استقبلوهم من عبد قيسٍ أو نُعيم بنِ مسعودٍ الأشجعي وإطلاقُ الناس عليه لما أنه من جنسهم وكلامُه كلامُهم يقال فلانٌ يركبُ الخيلَ ويلبَس الثياب وماله سوى فرسٍ فردٍ وغيرُ ثوبٍ واحد أو لأنه انضم إليه ناسٌ من المدينة وأذاعوا كلامَه {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم} رُوي أنَّ أبا سفيانَ نادى عند انصرافِه من أحُد يا محمدُ موعدُنا موسمُ بدرٍ القابلُ إن شئت فقال عليه السَّلامُ إنَّ شاء الله تعالى فلما كان القابلُ خرج أبو سفيان في أهل مكةَ حتى نزل مرَّ الظهرانِ فألقى الله تعالى في قلبه الرعبَ وبدا له أن يرجِع فمر به ركبٌ من بني عبدِ قيسٍ يُريدون المدينةَ للمِيرَة فشرَط لهم حِملَ بعيرٍ من زبيب إن ثبّطوا المسلمين وقيل لقيَ نُعيمُ بنَ مسعودٍ وقد قدِم معتمِراً فسأله ذلك والتزم له عشراً من الإبل وضمِنها منه سهيلُ بنُ عمرو فخرج نُعيمٌ ووجد المسلمين يتجهزون للخروج فقال لهم أتَوْكم في دياركم فلم يُفلت منكم أحدٌ إلا شريدٌ أفترَوْن أن تخرُجوا وقد جمعوا لكم ففِرُّوا فقال عليه السلام والذي نفسي بيده لأخرُجَنَّ ولو لم يخرُجْ معي أحدٌ فخرج في سبعين راكباً كلُّهم يقولون حسبُنا الله ونعم الوكيل قيل هي الكلمة التى قالها إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين ألقي في النار {فَزَادَهُمْ إيمانا} الضميرُ المستكنّ للمقول أو لمصدرِ قال أو لفاعله إن أُريد به نُعيمٌ وحدَه والمعنى أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك بل ثبَت به يقينُهم بالله تعالى وازداد اطمئنانُهم وأظهروا حميةَ الإسلامِ وأخلصوا النيةَ عنده وهو دليلٌ على أن الإيمانَ يتفاوت زيادةً ونقصاناً فإن ازديادَ اليقينِ بالإلْفِ وكثرةِ التأملِ وتناصُرِ الحجج مما لا ريبَ فيه ويعضُده قولُ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قلنا يا رسولَ الله الإيمانُ يزيدُ وينقص قال نعم يزيد حتى يُدخِلَ صاحبَه الجنةَ وينقُص حتى يدخِلَ صاحبَه النار {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله} أي محسبنا الله وكافيا من أحسبه إذا كفاه والدليلُ على أنه بمعنى المُحسب أنه لا يستفيد بالإضافة تعريفاً في قولك هذا رجلٌ حسبُك {وَنِعْمَ الوكيل} أي نعم الموكولُ إليه والمخصوصُ بالمدح محذوفٌ أي الله عزَّ وجلَّ

174

{فانقلبوا} عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلام أي فخرجوا إليهم ووافَوا الموعِد روي أنه عليه الصلاةُ والسلام وافى بجيشه بدراً وأقام بها ثمانيَ ليالٍ وكانت معهم تجاراتٌ فباعوها وأصابوا خيراً كثيراً والباء في قوله تعالى {بِنِعْمةٍ} متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الضمير في فانقلبوا والتنوينُ للتفخيم أي فرَجَعوا من مقصِدهم ملتبسين بنعمة عظيمةٍ لا يقادَر قدرُها وقوله عز وجل {من الله} متعلق بمحذوف وقع صفة لنعمة مؤكدة لفخامتها الذاتيةِ التي يفيدها التنكيرُ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنةٍ من الله تعالى وهي العافيةُ والثباتُ على الإيمان والزيادةُ فيه وحذَرُ العدوِّ منهم {وَفَضْلٍ} أي ربحٍ في التجارة وتنكيره أيضاً للتفخيم {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء} حالٌ أخرى من الضمير في فانقلبوا أومن المستكنِّ في الحال كأنه قيل منعّمين حالَ كونِهم سالمين عن السوء والحالُ إذا كان مضارعاً منفياً بلم وفيه ضميرُ ذي الحالِ جاز فيه دخولُ الواوِ كما في قوله تعالى أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شئ وعدمُه كما في هذه الآية الكريمةِ وفي قولِه تعالى وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً {واتبعوا} في كل ما أتَوا من قول وفعل {رضوان الله} الذي هو مناطُ الفوزِ بخير الدارين {والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} حيث تفضَّل عليهم

175 - 176 آل عمران بالتثبيت وزيادةِ الإيمانِ والتوفيقِ للمبادرة إلى الجهاد والتصلبِ في الدين وإظهارِ الجراءةِ على العدو وحفِظَهم عن كل ما يسوءهم مع إصابة النفعِ الجليلِ وفيه تحسيرٌ لمن تخلّف عنهم وإظهارٌ لخطأ رأيِهم حيث حرَموا أنفسَهم ما فاز به هؤلاء وروى أنهم قالوا هل يكون هذا غزواً فأعطاهم الله تعالى ثوابَ الغزوِ ورضي عنهم

175

{إِنَّمَا ذلكم} إشارةٌ إلى المثبَّط أو إلى مَنْ حمله على التثبيط والخطابُ للمؤمنين وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {الشيطان} إما خبرُه وقوله تعالى {يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ} جملةٌ مستأنفةٌ مبيِّنة لشيطنته أو حالٌ كما في قوله تعالى فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً الخ وإما صفتُه والجملةُ خبرُه ويجوز أن تكون الإشارةُ إلى قوله على تقديرِ مضافٍ أي إنما ذلكم قولُ الشيطانِ أي إبليسَ والمستكنُّ في يخوف إما المقدار وإما الشيطان بحذف الراجعِ إلى المقدر أي يخوِّف به والمرادُ بأوليائه إما أبو سفيان وأصحابُه فالمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي يخوفكم أولياءَه كما هو قراءةُ ابنِ عباس وابنِ مسعودٍ ويؤيِّده قولُه تعالى {فَلاَ تَخَافُوهُمْ} أي أولياءَه {وَخَافُونِ} في مخالفة أمري وإما القاعدون فالمفعولُ الثاني محذوفٌ أي يخوفهم الخروجَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والضميرُ البارزُ في فَلاَ تَخَافُوهُمْ للناس الثاني أي فلا تخافوهم فتقعُدوا عن لاقتال وتجنبوا وخافوني فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمُركم به والخطابُ لفريقَي الخارجين والقاعدين والفاءُ لترتيب النهي أو الانتهاء على ماقبلها فغن كونَ المَخوفِ شيطاناً مما يوجب عدمَ الخوفِ والنهي عنه {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإنَّ الإيمانَ يقتضي إيثارَ خوفِ الله تعالى على خوف غيرِه ويستدعي الأمنَ من شر الشيطانِ وأوليائِه

176

{وَلاَ يَحْزُنكَ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتشريفه بتخصيصه بالتسلية والإيذانِ بأصالته في تدبير أمورِ الدين والاهتمام بشئونه {الذين يسارعون فى الكفر} أي يقعون فيه سريعاً لغاية حرصِهم عليه وشدةِ رَغبتِهم فيه وإيثارُ كلمةِ فِى على ما وقع في قولِه تعالى وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ الآية للإشعار باستقرارهم في الكفر ودوام ملابستهم له في مبدأ المسارعة ومنتهاها كما في قوله تعالى أُوْلَئِكَ يسارعون فِى الخيرات فإن ذلك مؤذِنٌ بملابستهم للخيرات وتقلّبِهم في فنونها في طرفي المسارعةِ وتضاعيفِها وأما إيثار كلمة إلى في قوله تعالى وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ الخ فلأن المغفرةَ والجنةَ منتهى المسارعةِ وغايتُها والمرادُ بالموصول المنافقون من المتخلفين وطائفةٌ من اليهود حسبما عُيِّن في قوله تعالى {يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِى الكفر مِنَ الذين قالوا آمنا بأفواههم وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذين هِادُواْ} وقيل قوم ارتدوا عن الإسلام والتعبيرُ عنهم بذلك للإشارة بما في حيِّزِ الصلة إلى مَظِنة وجودِ المنهيِّ عنه واعترائِه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي لا يَحْزُنوك بمسارعتهم في الكفر ومبادرتِهم إلى تمشية أحكامِه ومُظاهرتِهم لأهله وتوجيهُ النهي إلى جهتهم مع ان المقصود نهيهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن التأثر منهم للمبالغة في ذلك لما أن

177 - آل عمران النهيَ عن التأثير نهيٌ عن التأثر بأصله ونفيٌ له بالمرة وقد يُوجِّه النهيُ إلى اللازم والمرادُ هو النهيُ عن الملزوم كما في قولك لا أُرَينّك ههنا وقرأ لا يُحزِنْك من أحزَن المنقولِ من حزِن بكسرِ الزَّاي والمعنى واحدٌ وقيل معنى حزَنه جعل فيه حُزْناً كما في دهَنه أي جعل فيه دُهْناً ومعنى أحزنه جعله حزيناً وقيل معنى حزَنه أحدث له الحزَن ومعنى أحزنه عرَّضه للحُزْن {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله} تعليلٌ للنهي وتكميلٌ للتسلية بتحقيق نفيِ ضررِهم أبداً أي لن يضروا بذلك أولياءَ الله البتةَ وتعليقُ نفي الضررِ به تعالى لتشريفهم والإيذانِ بأن مُضارَّتَهم بمنزلة مضارَّتِه سبحانه وفيه مزيدُ مبالغةٍ في التسلية وقوله تعالى {شَيْئاً} في حيز النصبِ على المصدرية أي شيئاً من الضرر والتنكيرُ لتأكيد ما فيه من القلة والحقارةِ وقيل على نزعِ الجارِّ أي بشئ ما أصلاً وقيل المعنى لن يَنقصُوا بذلك من مُلكه تعالى وسلطانِه شيئاً كما روى أبو ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى لو أنَّ أولَكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أتقى قلب رجُلٍ منكم ما زادَ ذلكَ في مُلكي شيئاً ولو أنَّ أولَكم وآخرَكم وجنكم وإنسكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ منكم ما نَقَصَ ذلكَ من مُلكي شيئاً والأولُ هو الأنسبُ بمقام التسليةَ والتعليل {يُرِيدُ الله ألا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاخرة} استئنافٌ مبينٌ لسرّ ابتلائهم بما هُم فيه من الانهماك في الكفر وفي ذكر الإرادةِ من الإيذان بكمال خلوصِ الداعي إلى حرمانهم وتعذيبِهم حيث تعلّقت بهما إرادة أرحم الراحمين مالا يخفى وصيغةُ الاستقبالِ للدِلالة على دوام الإرادةِ واستمرارِها أي يريد الله بذلك أن لا يجعل لهم في الاخرة حظأ من الثواب ولذلك تركهم في طغيانهم يعمهون إلى أن يهلِكوا على الكفر {وَلَهُمْ} مع ذلك الحِرمانِ الكى {عَذَابٌ عظِيمٌ} لا يقادَرُ قَدرُه قيل ما دلت المسارعة في الشئ على عِظَم شأنِه وجلالةِ قدرِه عند المسارِعِ وُصف عذابُه بالعِظَم رعايةً للمناسبة وتنبيهاً على حقارة ما سارعوا فيه وخساستِه في نفسه والجملةُ إما مبتدَأةٌ مبيِّنةٌ لحظهم من العقاب إثر بيان أن لاشئ لهم من الثواب وإما حالٌ من الضمير في لهم أي يريد الله حِرمانَهم من الثواب مُعدّاً لهم عذابٌ عظيم

177

{إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان} أي أخذوه بدلاً منه رعبة فيما أخذوه وإعراضاً عما تركوه وقد مرَّ تحقيقُ القولِ في هذه الاستعارةِ في تفسير قولِه عزَّ وجل {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} مستوفى {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} تفسيرُه كما مر غيرَ أن فيه تعريضاً ظاهراً باقتصار الضررِ عليهم كأنه قيل وإنما يضُرون أنفسَهم فإن جُعل الموصولُ عبارةً عن المسارعين المعهودين بأن يُرادَ باشتراء الكفرِ بالإيمان إيثارُه عليه إما بأخذه بدلاً من الإيمان الحاصلِ بالفعل كما هو حالُ المرتدين أو بالقوة القريبةِ منه الحاصلةِ بمشاهدة دلائلِه في التوراة كما هو شأنُ اليهودِ ومنافقيهم فالتكريرُ لتقرير الحُكم وتأكيدِه ببيان علتِه بتغيير عنوانِ الموضوعِ فإن ما ذكر في حيز الصلة من الاشتراء المذكورِ صريحٌ في لُحوق ضررِه بأنفسِهم وعدم تعدّيه إلى غيرهم أصلاً كيف لا وهو عَلَمٌ في الخسران الكليِّ والحِرمانِ الأبدي دالٌّ على كمال سخافةِ عقولِهم وركاكةِ آرائِهم فكيف يتأتى منهم ما يتوقفُ على قوة الحزمِ ورزانةِ الرأيِ ورصانةِ التدبيرِ من مُضارّة حزبِ الله تعالى وهي أعزُّ من الأبلقِ الفردِ وأمنعُ من عُقاب الجوِّ وإن أجرى الموصول على

178 - آل عمران عمومه بأن يراد بالاشتراء المذكورِ القدرُ المشتركُ الشاملُ للمعنيين المذكورين ولأخذ الكفرِ بدلاً مما نُزل منزلةَ نفسِ الإيمانِ من الاستعداد القريبِ له الحاصلِ بمشاهدة الوحيِ الناطقِ وملاحظةِ الدلائلِ المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ كما هو دأبُ جميعِ الكفرةِ فالجملةُ مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلها تقريرَ القواعدِ الكليةِ لما اندرج تحتها من جزئيات الأحكامِ هذا وقد جوِّز كونُ الموصولِ الأولِ عاماً للكفار والثاني خاصاً بالمعهودين وأنت خبيرٌ بأنه مع خلوّه عن النكَتِ المذكورةِ مما لا يليق بفخامة شأنِ التنزيلِ لما أن صدورَ المسارعةِ في الكفر بالمعنى المذكورِ وكونَها مظِنةً لإيراث الحَزَنِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يفهم من النهي عنه إنما يتصور ممن عُلم اتصافُه بها وأما من لا يُعرف حالُه من الكفرة الكائنين في الأماكن البعيدةِ فإسنادُ المسارعةِ المذكورةِ إليهم باعتبار كونِها من مبادى حزنه عليه السلام ومما لا وجه له وقوله تعالى {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} جملةٌ مبتدأة مبينةٌ لكمال فظاعةِ عذابِهم بذكر غايةِ إيلامِه بعد ذكرِ نهايةِ عِظَمِه قيل لما جرت العادةُ باغتباط المشتري بما اشتراه وسرورِه بتحصيله عند كونِ الصفقةِ رابحةً وبتألمه عند كونِها خاسرةً وُصف عذابُهم بالإيلام مراعاةً لذلك

178

{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ} عطفٌ على قوله تعالى وَلاَ يَحْزُنكَ الذين الآية والفعلُ مسندٌ إلى الموصول وأن بما في حيزها سادةٌ مسدَّ مفعوليه عند سيبويهِ لتمام المقصودِ بها وهو تعلقُ الفعلِ القلبيِّ بالنسبة بين المبتدأ والخبرِ أو مسدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش وما مصدريةٌ أو موصولةٌ حذف عائدها ووصلُها في الكتابة لاتّباع الإمام أي لايحسبن الكافرون إن إملاءنا لهم أو أن ما نمليه لهم خيرلأنفسهم أولا يحسبن الكافرون خيريةَ إملائِنا لهم أو خيريةَ ما نُمليه لهم ثابتةٌ أو واقعةٌ ومآلُه نهيُهم عن السرور بظاهر إملائِه تعالى لهم بناءً على حُسبان خيريّتِه لهم وتحسيرِهم ببيان أنه شرٌّ بحتٌ وضررٌ محضٌ كما أن مآلَ المعطوفِ عليه نهيُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم عن الحزن بظاهر حالِ الكفرةِ بناءً على توهم الضررِ من قِبَلهم وتسليتِه عليه السلام ببيان عجزِهم عن ذلك بالكلية والمرادُ بالموصول إما جنسُ الكفرةِ فيندرج تحت حكمِه الكليِّ أحكامُ المعهودين اندراجاً أولياً وإما المعهود دون خاصة فإيثار الإظهار على الإضمار لرعاية المقارنةِ الدائمة بين الصلةِ وبين الإملاءِ الذي هو عبارةٌ عن إمهالهم وتخليتِهم وشأنَهم دهراً طويلاً فإن المقارنَ له دائماً إنما هو الكفرُ المستمرُّ لا المسارعةُ المذكورةُ ولا الاشتراءُ المذكورُ فإنهما من الأحوال المتجددةِ المنْقضيةِ في تضاعيف الكفرِ المستمر وقرئ لا تحسبن بالتاء والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأنسبُ بمقام التسليةِ أو لكلِّ مَنْ يتأتَّى منْهُ الحُسبانُ قصداً إلى إشاعة فظاعةِ حالِهم والموصولُ مفعول وإنما نُمْلِى لَهُمْ إما بدلٌ منه وحيث كان التعويلُ على البدل وهو سادٌّ مسدَّ المفعولين كما في قوله تعالى أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ اقتُصر على مفعولٍ واحدٍ كما في قولك جعلتُ المتاعَ بعضَه فوق بعضٍ وإما مفعولٌ ثانٍ بتقدير مضافٍ إما فيه أي لاتحسبن

179 - آل عمران الذين كفروا أصحابَ أن الإملاءِ خيرٌ لأنفسهم أو في المفعول الأولِ أي لاتحسبن حالَ الذين كفروا أن الإملاء خيرٌ لأنفسهم ومعنى التفضيلِ باعتبارِ زعمِهم {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} استئنافٌ مبينٌ لحكمةِ الإملاءِ وما كافة واللامُ لامُ الإرادة وعند المعتزلةِ لامُ العاقبة وقرئ بفتح الهمزة ههنا على إيقاع الفعلِ عليه وكسرُها فيما سبق على أنه اعتراضٌ بين 8 الفعل ومعمولِه مفيدٌ لمزيد الاعتناءِ بإبطال الحسبانِ وردِّه على معنى لايحسبن الكافرون أن إملاءنا لهم لازدياد الإثمِ حسبما هو شأنُهم بل إنما هو لتلافي ما فَرَط منهم بالتوبة والدخولِ في الإيمان {وَلَهُمْ} فى الأخرة {عَذَابٌ مُّهِينٌ} لمّا تضمّنَ الإملاءُ التمتيعَ بطيبات الدنيا وزينتِها وذلك مما يستدعي التعزّزَ والتجبّر وُصف عذابُهم بالإهانة ليكون جزاؤهم جزاءً وفاقاً والجملةُ إما مبتدأةٌ مبينة لحالهم إِثرَ بيانِ حالِهم في الدُّنيا وإما حالٌ من الواو ليزيدادوا إثماً مُعداً لهم عذابٌ مهين وهذا متعيِّن على القراءة الأخيرة

179

{ما كان الله ليذر المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لوعده المؤمنين ووعيده المنافقين بالعقوبة الدنيويةِ التي هي الفضيحةُ والخِزْيُ إثرَ بيانِ عقوبتِهم الأخرويةِ والمرادُ بالمؤمنين المخلصون وأما الخطابُ فقد قيل إنه لجمهور المصدِّقين من أهل الإخلاصِ وأهلِ النفاقِ ففيه التفاتٌ في ضمن التلوينِ والمرادُ بما هم عليه اختلاطُ بعضِهم بعضاً واستواؤهم في إجراء أحكامِ الإسلامِ عليهم إذ هو القدرُ المشترك بين الفريقين وقيل إنه للكفار والمنافقين وهو قولُ ابنِ عباسٍ والضحاكِ ومقاتلٍ والكلبيِّ وأكثرِ المفسرين ففيه تلوين فقط ولعل المنافقين عطفٌ تفسيريٌ للكفار وإلا فلا شركةَ بين المؤمنين والمنافقين في أمرٍ من الأمورِ والمرادُ بما هم عليه ما مر من القدر المشتركِ فإنه كما يجوز نسبتُه إلى الفريقين معاً يجوز نسبتُه إلى كل منهما لا الكفرُ والنفاقُ كما قيل فإن المؤمنين ما كانوا مشاركين لهم في ذلك حتى لا يُتركوا عليه وقيل إنه للمؤمنين خاصة وهو قولُ أكثرِ أهلِ المعاني ففيه تلوينٌ والتفاتٌ كما مر والتعرضُ لإيمانهم قبل الخطابِ للإشعار بعلة الحُكم والمرادُ بما هم عليه ما مر غيره مرةٍ والأولُ هو الأقربُ وإليه جنَح المحقِّقون من أهل التفسير لكونه صريحاً في كون المرادِ بما هم عليهِ ما ذُكر من القدر المشتركِ بين الفريقين من حيث هو مشترَكٌ بينهما بخلاف القولين الأخيرين فإنهما بمعزل من ذلك كيف لا والمفهومُ مما عليه المنافقين هو الكفرُ والنفاقُ ومما عليه المؤمنون هو الإيمانُ والإخلاصُ لا القدرُ المشتركُ بينهما ولئن فُهم ذلك فإنما يفهم من حيث الانتسابُ إلى أحدهما لا من حيث الانتسابُ إليهما معاً وعليه يدور أمرُ الاختلاطِ المُحوِجِ إلى الإفراز واللام في ليذر إما متعلقة بالخبر المقدر لكان كما هو رأي البصرية وانتصابُ الفعل بعدها بأن المقدرة أي ما كان الله مريداً أو متصدياً لأن يذَرَ المؤمنين الخ ففي توجيه النفي إلى إرادة الفعل تأكيدٌ ومبالغةٌ ليست في توجيهه إلى نفسه

وإما مزيدةٌ للتأكيد ناصبةٌ للفعل بنفسها كما هو رأيُ الكوفية ولا يقدحُ في ذلك زيادتُها كما لا يقدح زيادةُ حروفِ الجر في عملها وقوله عز وجل {حتى يميز الخبيث من الطيب} غايةٌ لما يفيده النفيُ المذكورُ كأنَّه قيلَ ما يتركهم الله تعالى على ذلك الاختلاطِ بل يقدِّر الأمورَ ويرتب الأسبابَ حتى يعزِلَ المنافقَ من المؤمن وفي التعبير عنهما بما ورد به النظمُ الكريمُ تسجيلٌ على كلَ منهما بما يليق به وإشعارٌ بعلة الحُكمِ وإفرادُ الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل منهما وتكثره لا سيما بعد ذكرِ ما أريد بأحدهما أعني المؤمنين بصيغة الجمعِ للإيذان بأن مدارَ إفرازِ أحدِ الفريقين من الآخر هو اتصافُهما بوصفهما لا خصوصيةُ ذاتِهما وتعددُ آحادِهما كما في مثلِ قولِه تعالى {ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} ونضيره قولُه تعالى {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} حيث قصد الدَلالةَ على الاتصاف بالوصف من غير تعرضٍ لكون الموصوفِ من العقلاء أو غيرِهم وتعليقُ المَيْزِ بالخبيث المعبَّرِ به عن المنافق مع أن المتبادرَ مما سبق من عدم تركِ المؤمنين على الاختلاطِ تعليقه بهم وإفرازُهم عن المنافقين لما أن المَيْزَ الواقع بين الفريقين إنما بالتصرف في المنافقين وتغييرِهم من حال إلى حال مغايرةٍ للأولى مع بقاء المؤمنين على ما كانُوا عليهِ من أصل الإيمانِ وإن ظهر مزيدُ إخلاصِهم لا بالتصرف فيهم وتغييرِهم من حال إلى حال أخرى مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار ولأن فيه مزيدَ تأكيدٍ للوعيد كما أشير إليه في قولَه تعالى {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} وإنما لم يُنسَبْ عدمُ التركِ إليهم لما أنه مشعر بالأعتناء بشأنِ من نُسب إليه فإن المتبادرَ منه عدمُ الترك على حالة غيرِ ملائمةٍ كما يشهد به الذوقُ السليم وقرئ حتى يمسز من التمييز وقوله تعالى {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} تمهيدٌ لبيان المَيزِ الموعودِ على طريق تجريدِ الخطابِ للمخلِصين تشريفاً لهم وقوله عز وجل {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء} إشارةٌ إلى كيفية وقوعِه على سبيل الإجمالِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في الموضعين لتربية المهابةِ فالمعنى ما كان الله ليترُك المخلِصين على الاختلاط بالمنافقين بل يرتبُ المبادئ حتى يُخرِجَ المنافقين من بينهم وما يفعل ذلك باطلاعكم على ما في قلوبِهِم منَ الكفر والنفاقِ ولكنه تعالى يوحي إلى رسوله عليه السلام فيخبرُه بذلك وبما ظهر منهم من الأقوال والأفعال حسبما حُكي عنهم بعضُه فيما سلف فيفضحهم على رءوس الأشهادِ ويخلّصكم من خسة الشركاءِ وسوءِ جوارِهم والتعرضُ للاجتباء للإيذان بأن الوقوفَ على أمثال تلك الأسرار الغيبية لا يتأتي إلى ممن رشحه الله تعالى لمنصِب جليلٍ تقاصرت عنه هممُ الأممِ واصطفاه على الجماهير لإرشادهم وتعميمُ الاجتباء لسائر الرسل عليهم السلام للدِلالة على أن شأنَه عليه السلام في هذا البابِ أمرٌ متينٌ له أصلٌ أصيلٌ جارٍ على سنة الله تعالى المسلوكةِ فيما بين الرسلِ الخاليةِ عليهم السلام وتعميمُ الأمر في قوله تعالى {فَآمِنُوا بالله ورسله} مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني والإشعارِ بأن ذلك مستلزِمٌ للإيمان بالكل لأنه مصدِّقٌ لما بين يديهِ من الرسل وهم شهداء بصحة نبوتِه عليه الصلاةُ والسلامُ والمأمورُ به الإيمانُ بكل ما جاءَ به عليهِ الصلاة والسلام فيدخُل فيه تصديقُه عليه السلام فيما أخبَر به من أحوال المنافقين دخولاً أولياً هذا هو الذي يقتضيهِ جزالةُ النظمِ الكريمِ وقد جوز أن يكون المعنى لا يتركُكم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بأن يكلّفَكم التكاليفَ الصعبةَ التي لا يصبِر عليها إلا الخُلّصُ الذين امتحن الله تعالى قلوبَهم كبذل الأرواحِ في الجهاد وإنفاقِ الأموالِ في سبيلِ الله تعالى

180 - آل عمران فيُجعل ذلك عِياراً على عقائدكم وشاهداً بضمائركم حتى يعلمَ بعضُكم بما في قلب بعض بطريق الاستدلالِ لا من جهة الوقوفِ على ذات الصدورِ فإن ذلك مما استأثر الله تعالى به وأنت خبيرٌ بأن الاستدراك باجتباء الرسل المنبئ عن مزيد مزيتِهم وفضلِ معرفتِهم على الخلق إثرَ بيانِ قصورِ رتبتِهم عن الوقوف على خفايا السرائرِ صريحٌ في أنَّ المرادَ إظهارُ تلك السرائرِ بطريق الوحيِ لا بطريق التكليفِ بما يؤدي إلى خروج أسرارِهم عن رتبة الخفاءِ وأقربُ من ذلك حملُ الآيةِ الكريمةِ على أنَّ تكون مسوقةً لبيان الحِكمة في إملائه تعالى للكفرة إثر بيان شريته لهم فالمعنى ما كان الله ليذر المخلِصين على الاختلاط أبداً كما تركهم كذلك إلى الآن لسرَ يقتضيه بل يفرُز عنهم المنافقين ولذلك فعله يومئذ حيث خلّى الكفرةَ وشأنَهم فأبرز لهم صورةَ الغَلَبةِ فأظهر مَنْ في قلوبهم مرضٌ ما فيها من الخبائث وافتضحوا على رءوس الأشهادِ وقيل قال الكافرون إن كان محمدٌ صادقاً فليُخبِرْنا مَنْ يؤمن منا ومن يكفرُ فنزلت {وَإِن تُؤْمِنُواْ} أي بما ذكر حقَّ الإيمان {وَتَتَّقُواْ} أي عدمَ مراعاةِ حقوقِه أو النفاقَ {فَلَكُمْ} بمقابلة ذلك الإيمانِ والتقوى أَجْرٌ عَظِيمٌ لا يبلغ كنهه

180

{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم} بيانٌ لحال البخلِ ووخامةِ عاقبتِه وتخطئةٌ لأهله في توهم خيريته حسَبَ بيانِ حالِ الإملاءِ وإيرادُ ما بخِلوا به بعنوان إيتاءِ الله تعالى إياه من فضله للمبالغة في بيان سوءِ صنيعِهم فإن ذلك من موجبات بَذلِه في سبيله كما في قوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ والفعلُ مسندٌ إلى الموصولُ والمفعولُ الأولُ محذوفٌ لدِلالة الصلةِ عليه وضميرُ الفصل راجعٌ إليه أي لا يحسَبن الباخلون بما آتاهم الله مِن فَضْلِهِ من غير أن يكون لهم مَدخلٌ فيه أو استحقاقٌ له هو خيراً لهم من إنفاقه وقيل الفعلُ مسندٌ إلى ضمير النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أو إلى ضمير من يحسَبُ والمفعولُ الأولُ هو الموصولُ بتقدير مضافٍ والثاني ما ذُكر كما هو كذلك على قراءة الخِطاب أي ولايحسبن بخلَ الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} التنصيصُ على شرِّيته لهم مع انفهامها من نفي خيريّتِه للمبالغة في ذلك والتنوينُ للتفخيم وقولُه تعالى {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} بيانٌ لكيفية شرِّيته أي سيلزَمون وبالَ ما بخِلوا به إلزام الطوق على أنه حذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليهِ مقامه للإيذان بكمال المناسبة بينهما وروى عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال ما من رجل لا يؤدى زكاة ماله إلا جعل الله له شجاعا في عنقه يوم القيامة وقيل يجعل ما بخل به من الزكاة حيةً في عنقه تنهشُه من قَرنه إلى قدمه وتنقُر رأسَه وتقول أنا مالُك {وَللَّهِ} وحده لا لأحد غيرِه استقلالا أو اشتراكا {ميراث السماوات والارض} أي ما يتوارثه أهلُهما من مال وغيرِه من الرسالات التي يتوارثها أهلُ السمواتِ والأرض فما لهم يبخلون عليه بمُلكه ولا ينفقونه في سبيله أو أنه يرث منهم ما يُمسِكونه ولا ينفقونه في سبيله تعالى عند هلاكهم وتبقى عليهم الحسرةُ والندامة {والله بِمَا تَعْمَلُونَ} من المنع والبخلِ {خَبِيرٌ} فيجازيكم على ذلك وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمار

181 - 182 آل عمران لتربية المهابةِ والالتفاتُ للمبالغة في الوعيد والإشعارِ باشتداد غضب الرحمن الناشئ من ذكر قبائحهم وقرئ بالياء على الظاهر

181

{لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} قالته اليهودُ لمَّا سمعُوا قولَه تعالَى {مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} وروي أنه عليه السلام كتب مع أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ إلى يهودِ بني قَينُقاعَ يدعوهم إلى الإسلام وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ وأن يُقرضوا الله قرضاً حسناً فقال فنحاصُ إن الله فقيرٌ حتى سألنا القَرْضَ فلطمه أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه في وجهه وقال لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عُنقَك فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحد ما قاله فنزلت والجمعُ حينئذ مع كون القائلِ واحداً لرضا الباقين بذلك والمعنى أنه لم يخْفَ عليه تعالى وأعد له من العذاب كفأه والتعبيرُ عنه بالسماع للإيذان بأنه من الشناعة والسماحة بحيث لا يرضى قائلُه بأن يسمَعَه سامعٌ والتوكيدُ القَسَميُّ للتشديد في التهديد والمبالغةِ في الوعيد {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} أي سنكتب ما قالوه من العظيمة الشنعاءِ في صحائف الحفَظةِ أو سنحفظه ونُثبته في علمنا لاننساه ولا نَهمله كما يثبت المكتوب والسين للتأكيد أي لن يفوتنا أبداً تدوينُه وإثباتُه لكونه في غاية العِظم والهولِ كيف لا وهو كفرٌ بالله تعالى واستهزاءٌ بالقرآن العظيم والرسولِ الكريمِ ولذلك عُطف عليه قولُه تعالى {وَقَتْلِهِمُ الانبياء} إيذاناً بأنهما في العِظم إخوانٌ وتنبيهاً على أنه ليس بأول جريمةٍ ارتكبوها بل لهم فيه سوابقُ وأن من اجترأ على قتل الأنبياءِ لم يُستبعَدْ منه أمثالُ هذه العظائمِ والمرادُ بقتلهم الأنبياءَ رضاهم بفعل أسلافِهم وقوله تعالى {بِغَيْرِ حَقّ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من قتلهم أي كائناً بغير حقَ في اعتقادهم أيضاً كما هو في نفس الأمرِ وقرئ سيَكتُب على البناء للفاعل وسيُكتَبُ على البناء للمفعول وقتلُهم بالرفع {وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} أي وننتقم منهم بعد الكَتْبةِ بأن نقول لهم ذوقوا العذابَ المُحرِقَ كما أذقتم المسلمين الغُصَصَ وفيه من المبالغات مالا يخفى وقرئ ويقول بالياء ويُقال على البناء للمفعول

182

{ذلك} إشارةٌ إلى العذاب المذكورِ وما فيه من معنى البعد للدلالة على عِظَم شأنِه وبُعدِ منزلتِه في الهَولِ والفظاعةِ وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي بسبب ما اقترفتموه من قتل الأنبياءِ والتفوُّه بمثل تلك العظيمةِ وغيرِها من المعاصي والتعبيرُ عن الأنفس بالأيدي لما أن عامة أفاعيلِها تزاوَلُ بهن ومحلُّ أنْ في قوله تعالى {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} الرفعُ على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها أي والأمرُ أنَّه تعالى ليس بمعذِّب لعبيدِه بغيرِ ذنبٍ منْ قِبلهم والتعبيرُ عن ذلك بنفيِ الظلمِ معَ أنَّ تعذيبَهم بغيرِ ذنبٍ ليس بظلم مَا تقررَ منْ قاعدةِ أهلِ السنَّةِ فضلاً عن كونِه ظُلماً بالغاً لبيانِ كمالِ نزاهتِه تعالَى عنْ ذلكَ بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنْهُ سبحانه من الظلم كما يعبّر عن ترك الإثابةِ على الأعمال على الأعمال بإضاعتها مع أن الأعمالَ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى يلزَم من تخلفه عنها صياغها وصيغة

183 - 184 آل عمران المبالغةِ لتأكيدِ هَذا المَعْنى بإبرازِ ما ذُكر من التعذيبِ بغيرِ ذنبٍ في صورة المبالغةِ في الظلمِ وقيلَ هيَ لرعايةِ جمعيةِ العبيدِ من قولِهم فلانٌ ظالمٌ لعبدهِ وظلاَّم لعبيدِه عَلى أنها للمبالغة كماً لا كيفاً هذا وقد قيل محل أن الجرُّ بالعطفِ على ما قدَّمت وسببيتُه للعذاب من حيث أن نفيَ الظلمِ مستلزِمٌ للعدل المقتضي لإثابة المحسن ومعاقبة المسئ وفسادُه ظاهرٌ فإن تركَ التعذيبِ من مستحِقه ليس بظلم شرعاً ولا عقلاً حتى ينتهضَ نفيُ الظلم سبباً للتعذيب حسبما ذكره القائلُ في سورة الأنفالِ وقيل سببيةُ ذنوبهم لعذابهم مقيّدةٌ بانضمام انتفاءِ ظلمِه تعالى إليها إذ لولاه لأمكن أن يعذبَهم بغير ذنوبهم وأنت خبير بأن إمكانَ تعذيبِه تعالى لعبيده بغير ذنبٍ بل وقوعُه لا ينافي كونَ تعذيبِ هؤلاءِ الكفرةِ بسبب ذنوبِهم حتى يُحتاجَ إلى اعتبار عدمِه معه وإنما يحتاج إلى ذلك أنْ لو كان المدعى أن جميعَ تعذيباتِه تعالى بسبب ذنوبِ المعذبين

183

{الَّذِينَ قَالُواْ} نُصِب أو رُفع على الذم وهم كعب بن الأشرف ومالك بن صيفي وحُيَيُّ بنُ أخطبَ وفنحاصُ بنُ عازوراءَ ووهْبُ بنُ يهوذا {إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} أي أمرنا في التوراة وأوصانا {ألا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار} كما كان عليه أمرُ أنبياءِ بني إسرائيلَ حيث كان يُقرَّب بالقربان فيقوم النبيُّ فيدعو فتنزل نارٌ من السماء فتأكُله أي تُحيله إلى طبعها بالإحراق وهذا من مُفترَياتهم وأباطيلِهم فإن أكلَ النارِ القربانَ لم يوجب الإيمانَ إلا لكونه معجزةً فهو وسائرُ المعجزاتِ سواء ولماكان مُحصّلُ كلامِهم الباطلِ أن عدمَ إيمانِهم برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم لعدم إتيانه بما قالوا ولو تحقق الإتيانُ به لتحقق الإيمانُ رُدّ عليهم بقوله تعالى {قُلْ} أي تبكيتاً لهم وإظهاراً لكذبهم {قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ} كثيرةُ العددِ كبيرةُ المقدار {مِّن قَبْلِى بالبينات} أي المعجزات الواضحةِ {وبالذى قُلْتُمْ} بعينه من القُربان الذي تأكله النارُ {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كنتم صادقين} فيما يدل عليه كلامُكم من أنكم تؤمنون لرسول يأتِيكم بما اقترحتموه فإن زكريا ويحيى وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد جاءوكم بما قلتم مع معجزات أُخَرَ فما لكم لم تؤمنوا لهم حتى اجترأتم على قتلهم

184

{فَإِن كَذَّبُوكَ} شروعٌ في تسليةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إثرَ ما أوحي إليه ما يحزنه عليه الصلاة والسلام من مقالات الكفرةِ من المشركين واليهود وقوله تعالى {فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} تعليلٌ لجواب الشرطِ أي فتَسَلَّ فقد كُذب الخ ومِنْ متعلقةٌ بكُذب أو بمحذوف صفةٌ لرسلٌ أي كائنةٌ من قبلك {جاؤوا بالبينات} أي المعجزات الواضحات صفةٌ لرسلٌ {والزبر} هو جمعُ زَبورٍ وهو الكتابُ المقصود على الحِكَم من زَبَرْتُه إذا حسنته وقيل زبر المواعظُ والزواجرُ من زبَرتُه إذاز جرته والكتاب قيل أي التوراةِ والإنجيلِ والزبورِ والكتابُ في عرف القرآنِ ما يتضمن الشرائعَ والأحكامَ ولذلك جاء الكتابُ والحكمةُ متعاطِفَيْن في عامة وقرئ وبالزُبُر بإعادة الجارِّ دَلالةً على أنها مغايِرةٌ بالذات

185 - 186 آل عمران للبينات

185

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} وعدٌ ووعيدٌ للمصدِّق والمكذب وقرئ ذائقةٌ الموتَ بالتنوين وعدمِه كما في قوله ... ولا ذاكرُ اللَّهَ إلا قليلاً ... {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} أي تُعطَوْن أجزية أعمالِكم على التمام والكمالِ {يَوْمُ القيامة} أي يوم قيامِكم من القبور وفي لفظ التوفيةِ إشارةٌ إلى أنَّ بعضَ أجورِهم يصل إليهم قبله كما ينبئ عنه قولُه عليه الصَّلاة والسلام القبرُ روضةٌ من رياض الجنةِ أو حُفرةٌ من حُفَر النيرانِ {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار} أي بعُد عنها يومئذ ونجى والزحزحةُ في الأصل تكريرُ الزحِّ وهو الجذبُ بعجلة {وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} بالنجاة ونيلِ المرادِ والفوزِ الظفر بالبُغية وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من أحب أن يُزَحْزحَ عن النار ويدْخَلَ الجنةَ فلتُدْرِكْه منيّتُه وهو يؤمن بالله واليومِ الآخِر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه {وَمَا الحياة الدنيا} أي لذاتها وزخارفُها {إِلاَّ متاع الغرور} شبِّهت بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويُغَرّ حتى يشتريَه وهذا لمن آثرها على الآخرة فأما من طلب بها الآخِرةَ فهي له متاعٌ بلاغٌ والغُرور إما مصدرٌ أو جمعُ غَارٍ

186

{لَتُبْلَوُنَّ} شروعٌ في تسليةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ عما سيلقَوْنه من جهة الكفرةِ من المكاره إثرَ تسليتِهم عما قد وقع منهم ليوطِّنوا أنفسَهم على احتماله عند وقوعِه ويستعدوا للقائه ويقابلوه بحسن الصبرِ والثباتِ فإن هجومَ الأوجالِ مما يزلزل أقدامَ الرجالِ والاستعداد للكروب مما يهوِّن الخطوبَ وأصل الابتلاء الاختبار أي تطلب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشُقُّ عليه غالباً ملابستُه ومقارفته وذلك إنما يتصور حقيقة مما لا وقوفَ له على عواقب الأمور وأما من جهة العليم الخبير فلا يكون إلا مجازا من تمكينه للعبد من اختيار أحدِ الأمرين أو الأمورِ قبل أن يرتب عليه شيئاً هو من مباديه العاديةِ كما مر والجملةُ جوابُ قسمِ محذوفٍ أيْ والله لتُبلونَّ أي لتعاملن معاملة معملة المُختبَرِ ليَظهر ما عندكم من الثبات على الحق والأعمالِ الحسنة وفائدةُ التوكيدِ إما تحقيقُ معنى الابتلاءِ تهويناً للخطب وإما تحقيقُ وقوعِ المبتلى به مبالغةً في الحث على مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن التهيئو والاستعدادِ {فِى أموالكم} بما يقع فيها من ضروب الآفاتِ المؤديةِ إلى هلاكها وأما إنفاقُها في سبيل الخيرِ مطلقاً فلا يليق نظما في سلك الابتلاءِ لما أنه من باب الإضعافِ لا من قبيل الإتلافِ {وأَنفُسَكُمْ} بالقتل والأسرِ والجراحِ وما يرِدُ عليها من أصناف المتاعبِ والمخاوفِ والشدائدِ ونحوِ ذلك وتقديمُ الأموالِ لكثرة وقوعِ الهلكةِ فيها وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ أي من قبل إيتائِكم القرآنَ وهم اليهودُ والنصارى عبّر عنهم بذلك للإشعار بمدار الشقاقِ والإيذان بأن بعضَ ما يسمعونه منهم مستنِدٌ على زعمهم إلى الكتاب كما في قوله تعالى {إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا}

الخ والتصريحُ بالقَبْلية لتأكيد الإشعارِ وتقويةِ المدارِ فإن قِدَمَ نزولِ كتابِهم مما يؤيد تمسّكَهم به {وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً} من الطعن في الدين الحنيف والقدحِ في أحكام الشرعِ الشريفِ وصدِّ من أراد أن يؤمِنَ وتخطئةِ من آمن وما كان من كعب بنِ الأشرفِ وأضرابِه من هجاء المؤمنين وتحريضِ المشركين على مضادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحو ذلكَ مما لا خيرَ فيه {وَإِن تَصْبِرُواْ} أي على تلك الشدائد والبلوى عند ورودِها وتقابلوها بحسن التجمُّل {وَتَتَّقُواْ} أي تتبتلوا إلى الله تعالى بالكلية معرضين عما سواه بالمرة بحيث يتساوى عندكم وصولُ المحبوب ولقاءُ المكروه {فَإِنَّ ذلك} إشارةٌ إلى الصبر والتقوى وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتِهما وبُعدِ منزلتِهما وتوحيدُ حرفِ الخطابِ إما باعتبار كلِّ واحدٍ من المُخاطبينَ وإما لأن المرادَ بالخطاب مجرد التنبيه من غير ملاحظةِ خصوصيةِ أحوالِ المخاطبين {مِنْ عَزْمِ الامور} من معزوماتها التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ أى مما يحب أن يعزِمَ عليه كلُّ أحدٍ لما فيه من كمال المزيَّةِ والشرفِ أو مما عزَم الله تعالى عليه وأمر به وبالغَ فيه يعني أن ذلك عزمةٌ من عَزَمات الله تعالى لا بد أن تصبِروا وتتقوا والجملةُ تعليلٌ لجواب الشرط واقع موقعه كأنه قيل وإن تصبرواوتتقوا فهو خيرٌ لكم أو فافعلوا أو فقد أحسنتم أو فقد أصبتم فإن ذلك الخ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ إشارةً إلى صبر المخاطَبين وتقواهم فالجملةُ حينئذٍ جوابُ الشرط وفي إبراز الأمرِ بالصبر والتقوى في صورة الشرطيةِ من إظهار كمال اللطف بالعبادة ما لا يَخفْى

187

{وَإِذْ أَخَذَ الله} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان بعضِ أذِيّاتِهم وهو كِتمانُهم ما في كتابهم من شواهدِ نبوتِه عليه الصلاةُ والسلامُ وغيرِها وإذْ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمر أُمر به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم خاصة بطريق تجريدِ الخطابِ إثرَ الخطابِ الشامل له عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين لكون مضمونِه من الوظائف الخاصةِ به عليه الصلاة والسلام وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرِها على ما مر بيانُه في تفسيرِ قولِه تعالى وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إنى جَاعِلٌ الخ أي اذكر وقت أخذِه تعالى {ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب} وهم علماءُ اليهودِ والنصارى ذُكروا بعنوان إيتاءِ الكتابِ مبالغةً في تقبيح حالِهم {لَتُبَيّنُنَّهُ} حكايةٌ لما خوطبوا به والضميرُ للكتاب وهو جوابٌ لقسم ينبئ عنه أخذُ الميثاقِ كأنه قيل لهم بالله لتُبيِّنُنه {للناس} تظرن جميعَ ما فيه من الأحكامِ والأخبارِ التي من جُملتها أمرُ نبوتِه عليه الصلاةُ والسلامُ وهو المقصود بالحكاية وقرئ بالياء لأنهم غُيَّب {وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} عطفٌ على الجواب وإنما لم يؤكدْ بالنون لكونه منفياً كما في قولك والله لا يقوم زيد وقيل اكتُفي بالتأكيد في الأول لأنه تأكيدٌ له وقيلَ هُو حالٌ من ضمير المخاطبين إما على إضمار مبتدإٍ بعد الواوِ أي وأنتم لا تكتمونه وأما على رأي مَنْ جوز دخولَ الواوِ على المضارع المنفيِّ عند وقوعِه حالاً أي لتبينُنّه غيرَ كاتمين والنهيُ عن الكتمان بعد الأمرِ بالبيان

188 - آل عمران وإما للمبالغة في إيجاب المأمورِ به وإما المرادَ بالبيان المأمورِ به ذكرُ الآياتِ الناطقةِ بنبوتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبالكتمان المنهيِّ عنه إلقاءُ التأويلاتِ الزائغةِ والشبهاتِ الباطلة وقرئ بالياء كما قبله {فَنَبَذُوهُ} النبذُ الرميُ والإبعادُ أي طرحوا ما أُخذ منهم من الميثاق الموثقِ بفنون التأكيدِ وألقَوْه {وَرَاء ظُهُورِهِمْ} ولم يراعوه ولم يلتفتوا إليه أصلاً فإن نبذَ الشئ وراءَ الظهرِ مَثَلٌ في الاستهانة به والإعراضِ عنه بالكلية كما أن جعلَه نُصبَ العينِ علمٌ في كمال العنايةِ به وفيهِ من الدَلالة على تحتّم بيانِ الحقِّ على علماء الدين وإظهارِ ما مُنحوه من العلم للناس أجمعين وحُرمةِ كتمانِه لغرض من الأغراض الفاسدة أو لطمع في عرض من الأعراض الفانية الكاسدة مالا يخفى وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من كتم علماً عن أهله ألحجم بلجامٍ من نار وعن طاوس أنه قال لوهْب بن منبّه إني أرى الله سوف يعذبك بهذه الكتُب وقال والله لو كنتَ نبياً فكتمتَ العلم كما تكتُمه لرأيت أن الله سيعذبك وعن محمد بن كعب لا يحِلُّ لأحد من العماء أن يسكُت على علمه ولا يحِلُّ لجاهل أن يسكُت على جهله حتى يسأل وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعلِّموا {واشتروا بِهِ} أي بالكتاب الذي أُمروا ببيانه ونُهوا عن كِتمانه فإن ذكرَ نبذِ الميثاقِ يدل على ذلك دَلالةً واضحةً وإيقاعُ الفعل على الكل مع أن المرادَ به كتمُ بعضِه كدلائل نبوتِه عليه الصلاةُ والسلامُ ونحوِها لما أن ذلك كتمٌ للكل إذْ به يتم الكتابُ كما أن رفضَ بعضِ أركانِ الصلاة رفضٌ لكلها أو بمنزلة كتمِ الكلِّ من حيث إنهما سيان في الشناعة واستجرار العقاب كما في قوله تعالى {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} والاشتراءُ مستعارٌ لاستبدال متاعِ الدنيا بما كتَموه أي تركوا ما أُمروا به وأخذوا بدله {ثَمَناً قَلِيلاً} أي شيئاً تافهاً حقيراً من حُطام الدنيا وأعراضِها وفي تصوير هذه المعاملةِ بعقد المعاوضةِ لاسيما بالاشتراء المُؤْذِنِ بالرغبة في المأخوذ والإعراض عن المعطى والتعبيرِ عن المشترى الذي هو العُمدةُ في العقد والمقصودُ بالمعاملة بالثمن الذي شأنُه أن يكون وسيلة إليه وجعلِ الكتابِ الذي حقُّه أن يتنافسَ فيه المتنافسون مصحوباً بالباء الداخلةِ على الآلات والوسائلِ من نهاية الجزالةِ والدلالةِ على كمالِ فظاعةِ حالِهم وغايةِ قبحها بإيثارهم الدنئ الحقير على الشريف الخطيرِ وتعكيسِهم بجعلهم المقصِدَ الأصليَّ وسيلةً والوسيلةَ مقصِداً ما لا يخفى جلالة شأنه ورفعةُ مكانِه {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} مَا نكرةٌ منصوبةٌ مفسرة لفاعل بئس ويشترون صفتُه والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي بئس يشترونه ذلك الثمن

188

{لاَ تَحْسَبَنَّ} الخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلُح له {الذين يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ} أي بما فعلوا كما في قوله تعالى إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ويدل عليه قراءة أُبيّ يفرحون بما فعلوا وقرئ بما آتَوا بمعنى أعطَوا وبما أوتوا أى أي بما أوتوه من علم التوراة قال ابن عباس رضي الله عنُهمَا هُم اليهودُ حرفوا التوراةَ وفرِحوا بذلك وأحبوا أن يوصفوا بالديانة والفضل رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شئ مما في التوراة فكتموا

الحقَّ وأخبروه بخلافه وأرَوْه أنهم قد صدقوه واستحمدوا إليه وفرِحوا بما فعلوا وقيل فرِحوا بكِتمان النصوصِ الناطقة بنبوتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وأحبوا أن يُحمَدوا بأنهم متبعون ملةَ إبراهيمَ عليه السلام فالموصولُ عبارةٌ عن المذكورين أو عن مشاهيرهم وضع موضِعَ ضميرهم والجملةُ مَسوقةٌ لبيان ما تستتبعُه أعمالُهم المحكيةُ من العقاب الأخرويِّ إثرَ بيانِ قباحتِها وقد أُدمج فيها بيانُ بعضٍ آخرَ من شنائعهم وهو إصرارهم على ماهم عليه من القبائح وفرَحُهم بذلك ومحبتُهم لأن يوصَفوا بما ليس فيهم من الأوصاف الجميلةِ وقد نُظم ذلك في سلك الصلةِ التي حقُّها أن تكونَ معلومةَ الثبوتِ للموصولِ عند المخاطَبِ إيذاناً بشهرة اتصافِهم بذلك وقيل هم قومٌ تخلّفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم أو المصلحةَ في ذلك واستحمدوا به وقيل هم المنافقون كافةً وهو الأنسبُ بظاهر قوله تعالى {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} لشهرةِ أنهم كانوا يفرحون بما فعلوا من إظهار الإيمانِ وقلوبُهم مطمئنةٌ بالكفر ويستحمِدون إلى المسلمين بالإيمان وهم عن فعله بألفِ معزل وكانوا يُظهرون محبةَ المؤمنين وهم في الغايةِ القاصيةِ من العداوة فالموصولُ عبارةٌ عن طائفة معهودةٍ من المذكورين وغيرِهم فإن أكثرَ المنافقين كانوا من اليهود ولعل الأولى إجراءُ الموصولِ على عمومه شاملاً لكل من يأتي بشيء من الحسنات فيفرحُ به فرحَ إعجابٍ ويوَدُّ أن يمدحَه الناسُ بما هو عارٍ منه من الفضائل منتظماً للمعهودين انتظاماً أولياً وأيّاً ما كانَ فهو مفعولٌ أولٌ لتحسبن وقوله تعالى {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ} تأكيدٌ له والفاءُ زائدةٌ والمفعولُ الثاني قوله تعالى {بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب} أي ملتبسين بنجاة منه على أن المفازةَ مصدرٌ ميميٌ ولا يضُر تأنيثُها بالتاء لما أنها مبنية عليها وليست للدلالة على الوحدة كما في قوله ... فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبة ... عقابك قد كانوا لنا بالمواردِ ... ولا سبيلَ إلى جعلِها اسمَ مكانٍ على أنَّ الجارَّ متعلِّق بمحذوف وقع صفة لها أي بمفازة كائنةٍ من العذاب لأنها ليست من العذاب وتقديرُ فعلٍ خاصَ ليصِحَّ به المعنى أي بمفازة مُنْجيةٍ من العذاب مع كونه خلافَ الأصلِ تعسفٌ مستغنىً عنه وقرئ بضم الباء في الفعلين على أن الخطابَ شاملٌ للمؤمنين أيضا وقرئ بياء الغَيبة وفتحِ الباءِ فيهما على أن الفعلَ له عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ممن يتأتى منه الحُسبان ومفعولاه كما ذكر وقرئ بضم الباء في الثاني فقط على أن الفعلَ للموصول والمفعولُ الأولُ محذوفٌ لكونه عينَ الفاعلِ والثاني بمفازة أي لا يحسبَنّ الذين يفرحون أنفسَهم فائزين وقوله تعالى فلا يحسبنهم تأكيدٌ للأول والفاءُ زائدةٌ كما مر ويجوزُ أن يُحملَ الفعلُ الأولُ على حذف المفعولين معاً اختصاراً لدِلالة مفعولي الثاني عليهما على عكس ما في قوله ... بأيِّ كتابٍ أو بأيةِ سنة ... ترى حبَّهم عاراً عليَّ وتحسَبُ ... حيث حُذف فيه مفعولا الثاني لدَلالة مفعولي الأولِ عليهما أو على أن الفعلَ الأول للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل حاسب ومفعولُه الأولُ الموصولُ والثاني محذوفٌ لدَلالة مفعولِ الفعلِ الثاني عليه والفعلُ الثاني مسندٌ إلى ضمير الموصولِ والفاءُ للعطف لظهور تفرع عدم حُسبانِهم على عدم حُسبانِه عليه السلام ومفعولاه الضميرُ المنصوب وقوله تعالى بِمَفَازَةٍ وتصديرُ الوعيدِ بنهيهم عن الحسبان المذكورِ للتنبيه على بُطلان آرائِهم الركيكةِ وقطعِ أطماعِهم الفارغةِ حيثُ كانُوا يزعُمون أنَّهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرةِ كما نجَوْا به من المؤاخذة الدنيويةِ وعليه كان مبني فرحِهم وأما نهيُه عليه السلام فللتعريض بحسبانهم المذكور لالاحتمال وقوعِ الحُسبانِ من جهته عليه السلام {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بعد ما أُشير

189 - 190 آل عمران إلى عدم نجاتِهم من مطلق العذابِ حُقِّق أن لهم فردا منه لاغاية له في المدة والشدة كما تلوحُ به الجملةُ الاسميةُ والتنكيرُ التفخيميُّ والوصفُ

189

{وَللَّهِ} أي خاصةً {مُلْكُ السماوات والارض} أي السلطانُ القاهرُ فيهما بحيث يتصرف فيهما وفيما فيهما كيفما يشاء ويريد إيجاداً وإعداماً إحياءً وإماتةً تعذيباً وإثابةً من غير أن يكون لغيره شائبة دخل في شئ من ذلك بوجه من الوجوه فالجملةُ مقرِّرة لما قبلها وقولُه تعالى {والله على كُلّ شيء قدير} تقريرٌ لاختصاص مُلكِ العالَمِ الجثماني المعبَّر عنه بقُطريه به سبحانه وتعالى فإن كونه تعالى قادراً على الكل بحيث لا يشِذ من ملكوته شئ من الأشياء يستدعي كونَ ما سواه كائناً ما كان مقدوراً له ومن ضرورته اختصاصُ القدرةِ به تعالى واستحالةُ أن يشاركَه شئ من الأشياء في القُدرة على شئ من الأشياءِ فضلاً عن المشاركة في ملك السمواتِ والأرض وفيه تقريره لما مر من ثبوت العذابِ الأليمِ لهم وعدمِ نجاتهم منه أثر تقرير وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتربية المهابةِ والإشعار بمناط الحكم فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من أحكام الألولهية مع ما فيه من الإشعار باستقلال كلَ من الجملتين بالتقرير

190

{إن في خلق السماوات} جملةٌ مستأنفة سيقت لتقرير ما سبق من اختصاصه تعالى بالسلطان القاهرِ والقُدرة التامةِ صُدِّرت بكلمة التأكيدِ اعتناءً بتحقيق مضمونِها أي في إنشائها على ما هي عليه في ذواتها وصفاتِها من الأمور التي يَحار في فهم أجلاها العقولُ {والارض} على ما هي عليه ذاتاً وصفةً {واختلاف الليل والنهار} أي في تعاقُبهما في وجه الأرضِ وكونِ كلَ منهما خِلْفةً للآخر بحسَب طلوعِ الشمسِ وغروبِها التابعين لحركات لسموات وسكونِ الأرضِ أو في تفاوتهما بازدياد كلَ منهما بانتقاص الآخرِ وانتقاصِه بازدياده باختلاف حالِ الشمسِ بالنسبة إلينا قُرباً وبُعداً بحسب الأزمنةِ أو في اختلافهما وتفاوتِهما بحسب الأمكنةِ إما في الطول والقِصَر فإن البلادَ القريبةَ من القُطب الشماليِّ أيامُها الصيفيةُ أطولُ ولياليها الصيفيةُ أقصرُ من أيام البلادِ البعيدةِ منه ولياليها وإما في أنفسها فإن كرية الأرض تقتقض أن يكون بعض الوقات في بعضُ الأماكنِ ليلاً وفي مقابله نهاراً وفي بعضها صباحاً وفي بعضها ظهراً أو عصراً أو غيرَ ذلك والليلُ قيل إنه اسمُ جنسٍ يُفرَّق بين واحدِه وجمعِه بالتاء كتمْر وتمرةٍ والليالي جمعُ جمعٍ والصحيحُ أنه مفردٌ ولا يُحفظ له جمعٌ والليالي جمعُ ليلةٍ وهو جمعٌ غريبٌ كأنهم توهموا أنها ليلاةٌ كما في كَيْكة وكياكي كأنها جمعُ كيكاة والنهارُ اسمٌ لما بين طلوعِ الفجرِ وغروبِ الشمسِ قاله الراغب وقال ابن فارس هو ضياءُ ما بينهما وتقديمُ الليلِ على النهار إما لأنه الأصل فإن غُررَ الشهورِ تظهر في الليالي وإما لتقدمه في الخلفية حسبما ينبئ عنه قوله تعالى وآية لهم الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار أي نزيلُه منه فيخلُفه {لاَيَاتٍ} اسمُ إن دخلته اللامُ لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كماً وكيفاً أي لآياتٍ كثيرةً عظيمةٌ لا يُقادر قدرُها دالةٌ على تعاجيب شعونه التي من جملتها ما مر من اختصاص المُلكِ العظيمِ والقدرةُ التامةُ به سبحانه وعدم

191 - آل عمران التعرضِ لما ذُكر في سورةِ البقرةِ من الفُلك والمطرِ وتصريفِ الرياحِ والسحابِ لما أن المقصود ههنا بيانُ استبدادِه تعالى بما ذُكر من المُلك والقدرةِ فاكتُفي بمعظم الشواهدِ الدالةِ على ذلك وأما هناك فقد قُصِد في ضمن بيانِ اختصاصِه تعالى بالألوهية بيانُ اتصافِه تعالى بالرحمة الواسعةِ فنُظمت دلائلُ الفضلِ والرحمةِ في سلك دلائلِ التوحيدِ فإن ما فصل هناك من آيات رحمتِه تعالى كما أنه آيات ألوهيتِه ووحدتِه {لاِوْلِى الالباب} أي لذوي العقول المجلُوَّة الخالصةِ عن شوائب الحسِّ والوهمِ المتجرِّدَين عن العلائق النفسانيةِ المتخلّصين من العوائق الظُلمانيةِ المتأملين في أحوال الحقائقِ وأحكامِ النعوتِ المراقبين في أطوار الملكِ وأسرارِ الملكوتِ المتفكرين في بدائع صنائعِ الملِكِ الخلاق المتدبرين في روائع حُكمِه المودَعةِ في الأنفس والآفاق الناظرين إلى العالم بعين الاعتبارِ والشهودِ المتفحّصين عن حقيقة سرِّ الحقِّ في كل موجود المثابرين على مراقبته وذِكراه غيرَ ملتفتين إلى شئ مما سواه إلا من حيث إنه مرآةٌ لمشاهدة جمالِه وآلةٌ لملاحظة صفاتِ كماله فإن كل كا ظهر في مظاهر الإبداعِ وحضر محاضِرَ التكوينِ والاختراع سبيلٌ سوِيّ إلى عالم التوحيد ودليلٌ قوي على الصانع المجيدِ ناطقٌ بآيات قدرتِه فهل من سامع واعٍ ومخبِرٍ بأنباء علمِه وحكمتِه فهل له من داعٍ يكلم الناسَ على قدر عقولِهم ويرُدّ جوابَهم بحسب مقولِهم يحاور تارة بأوضح عبارةٍ ويلوّح أخرى بألطفِ إشارةٍ مراعياً في الحوار وإبهامهم وتصريحهم وإن من شئ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاتفقهون تَسْبِيحَهُمْ فتأمل في هذه الشئون والأسرارِ إن في ذلك لعبرة لأولى البصار عن عائشةَ رضيَ الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هل لك يا عائشةُ أن تأذني لي الليلةَ في عبادة ربي فقلت يا رسولَ الله إني لأُحِبُّ قُربَك وأحِبُّ هواك قد أذِنت لك فقام إلى قِربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يُكثر من صب الماءِ ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموعُ حِقْوَيه ثم جلس فحمِد الله تعالى وأثنى عليه وجعل يبكي ثم رفع يديه يبكي حتى رأيت دموعَه قد بلت الأرضَ فأتاه بلالٌ يؤْذِنه بصلاة الغداةِ فرآه يبكي فقالَ له يا رسولَ الله أتبكي وقد غفَر الله لك مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وما تأخر فقال يا بلال أفلا أكونُ عبداً شكورا ثم قال وما لى لا أبكي وقد أنزل الله تعالى على في هذه الليلةِ {إن في خلق السماوات والأرض} الخ ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وروي ويلٌ لمن لاكها بين فكّيه ولم يتأملْها وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كان إذا قام من الليل يتسول ثم ينظر إلى السماء ثم يقول {إن في خلق السماوات والأرض}

191

{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله} الموصولُ إما موصولٌ بأولي الألباب مجرورٌ على أنه نعتٌ كاشفٌ له بما في حيز الصلةِ وإما مفصولٌ عنه مرفوعٌ أو منصوبٌ على المدح أو مرفوعٌ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ وقيل هو مرفوعٌ على الابتداء والخبرُ هو القولُ المقدرُ قبل قولِه تعالى رَبَّنَا وفيه من تفكيك النظم الجليل مالا يخفى وأيا ما ما كان فقد أشير بما في حيز صلته أن

المرادَ بهم الذين لا يغفُلون عنه تعالى في عامة أوقاتِهم لاطمئنان قلوبِهم بذكره واستغراف سرائرِهم في مراقبته لما أيقنوا بأنَّ كلَّ ما سواه فائضٌ منه وعائدٌ إليه فلا يشاهدون حالاً من الأحوال في أنفسهم وإليه أُشير بقولِه عزَّ وجلَّ {قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبُهُمْ} ولا في الآفاق وإليه أشير بما بعده إلا وهم يعاينون في ذلك شأنا من شئونه تعالى فالمرادُ به ذكرُه تعالى مطلقاً سواءٌ كان ذلك من حيث الذاتُ أو من حيث الصفاتُ والأفعالُ وسواءٌ قارنه الذكرُ اللساني أولا وأما ما يُحكى عن ابن عمرَ وعروةَ بنِ الزبير وجماعة رضى الله عنهم من أنهم خرجوا يوم العيدِ إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضُهم أما قال الله تعالى {الذين يَذْكُرُونَ الله قياما وَقُعُوداً} فقاموا يذكرون الله على أقدامهم فليس مرادُهم به تفسيرَ الآيةِ وتحقيقَ مِصداقِها على التعيين وإنما أرادوا به التبركَ بنوع موافقةٍ لها في ضمن الإيتان بفرد من أفرادِ مدلولِها وأما حملُ الذكرِ على الصلاة في هذه الأحوالِ حسب الاستطاعةِ كما قال عليه السلام لعِمرانَ بنِ الحصين صلِّ قائماً فإن لم تستطعْ فعلى جنب تومئ إيماءً فمما لا يساعده سباق لنظم الجليل ولا سياقة ولا قيام والقعودُ جمعُ قائمٍ وقاعدٍ كنيام ورقدو جمع نائم وانتصابُهما على الحالية من ضمير يذكرُون أي يذكرونه قائمين وقاعدين وقولُه تعالى وعلى جُنُوبِهِمْ متعلقٌ بمحذوف معطوفٍ على الحالين أي وكائنين على جنوبهم أي مضطجعين والمرادُ تعميمُ الذكرِ للأوقات كما مر وتخصيصُ الأحوالِ المذكورةِ بالذكر ليس لتخصيص الذكرِ بها بل لأنها الأحوالُ المعهودةُ التي لا يخلو عنها الإنسانُ غالباً {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السماوات} عطفٌ على يَذَّكَّرُونَ منتظمٌ معه في حيز الصلةِ فلا محلَّ له من الإعراب وقيل محلُّه النصبُ على أنَّهُ معطوف على الأحوال السابقةِ وليس بظاهر وهو بيانٌ لتفكرهم في أفعاله سبحانه إثرَ بيانِ تفكرِهم في ذاته تعالى على الإطلاق وإشارة إلى نتيجته التي يؤدّي إليها من معرفة أحوالِ المعادِ حسبما نطقتْ به ألسنةُ الرسلِ وآياتُ الكتبِ فكما أنها آياتٌ تشريعيةٌ هاديةٌ للخلق إلى معرفته تعالى ووجوبِ طاعتِه كذلك المخلوقاتُ آياتٌ تكوينيةٌ مرشدةٌ لهم إلى ذلك فالأُولى منبِّهاتٌ لهم على الثانية ودواعٍ إلى الاستشهاد بها كهذه الآيةِ الكريمةِ ونحوِها مما ورد في مواضعَ غيرِ محصورةٍ من التنزيل والثانيةُ مؤيِّداتٌ للأولى وشواهدُ دالةٌ على صحة مضمونِها وحقّيةِ مكنونِها فإن من تأمل في تضاعيف خلقِ العالَمِ على هذا النمطِ البديعِ قضى باتصاف خالقِه تعالى بجميع ما نطقت به الرسلُ والكتبُ من الوجوب الذاتيِّ والوَحدةِ الذاتيةِ والمُلك القاهِرِ والقُدرةِ التامةِ والعلمِ الشاملِ والحِكمةِ البالغةِ وغيرِ ذلك من صفات الكمالِ وحكمَ بأن مَن قدَر على إنشائه بلا مثال يِحتذيه أو قانونٍ ينتحيه فهو على إعادته بالبعث أقدرُ وحكمَ بأن ذلك ليس إلا لحكمة باهرةٍ هي جزاءُ المكلَّفين بحسب استحقاقِهم المنوطِ بأعمالهم أي علومِهم واعتقاداتِهم التابعةِ لأنظارهم فيما نُصب لهم من الحُجج والدلائلِ والأَماراتِ والمَخايلِ وسائرِ أعمالِهم المتفرّعةِ على ذلك فإنَّ العملَ غيرُ مختصَ بعمل الجوارحِ بل متناولٌ للعمل القلبى بل هو أشرفُ أفراده لما أن لكلٍ من القلبِ والقالَب عملا خاصا به ومن قضية كونِ الأولِ أشرفَ من الثَّانِي كونُ عملِه أيضاً أشرفَ من عمله كيف ولا ولا عملَ بدون معرفتِه تعالى التي هي أولُ الواجباتِ على العباد والغايةُ

القُصوى من الخلق على ما نطق به عز وجل {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} أي ليعرفونِ كما أَعرَب عنه قولُه عليه الصَّلاة والسلام يقول الله تعالى كُنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أنْ أُعْرَفَ فخلقتُ الخلقَ لأُعرف وإنما طريقُها النظرُ والتفكرُ فيما ذكر من شئونه تعالى وقَد رُوِيَ عنْهُ عليهِ السلام أنَّهُ قالَ لا تُفضِّلوني على يونسَ بنِ مَتَّى فإنَّهُ كانَ يُرفع لهُ كلَّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرضِ قالُوا وإنَّما كانَ ذلكَ التفكّرَ في أمر الله تعالى ولذلك قال عليه السلام لاعبادة مثلُ التفكر وقد عرفت أنه مستتبِعٌ لتحقيق ما جاءت به الشريعةُ الحقةُ وإلا لما فسَّر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قوله تعالى {وَهُوَ الذى خلق السماوات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} بقوله عليه الصلاة والسلام أيُكم أحسنُ عقلاً وأورَعُ عن محارم الله تعالى فإن التورعَ عن محارمه سبحانه موقوفٌ على معرفة الحلال والحرام المنوط بالكتاب والسنة فحينئذ تتصادقُ الآياتُ التكوينيةُ وتتوافق الأدلةُ السمعيةُ والعقليةُ وهو السرُّ في نظم ما حُكي عن المتفكرين من الأمور المستدعِيةِ للإيمان بالشريعة في سلك نتيجةِ تفكُّرِهم كما ستقف عليه وإظهارُ خلقِ السمواتِ والأرضِ مع كفاية الإضمارِ لإبراز كمالِ العنايةِ ببيان حالِهم والإيذانِ بكون تفكرِهم على وجه التحقيقِ والتفصيلِ وعدمِ التعرضِ لإدراج اختلافِ المَلَوْينِ في سلك التفكر مع ذكره فيما سلف إما للإيذان بظهور اندراجِه فيه لما أن ذلك من الأحوال التابعةِ لأحوال السمواتِ والأرضِ كما أشير إليه وإما للإشعار بمسارعتهم إلى الحُكم بالنتيجة بمجرد تفكرِهم في بعض الآياتِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى بَعْضٍ آخرَ منها فِى إثبات المطلوب والخلقُ مصدرٌ على حاله أي يتفكرون في إنشائهما وإبداعِهما بما فيهما من عجائبِ المصنوعات وقيل بمعنى المخلوقِ على أن الإضافةَ بمعنى في أي يتفكرون فيما خُلق فيهما أعمُّ من أن يكون بطريق الجزئيةِ منهما أو بطريق الحلولِ فيهما أو على أنها بيانية {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا} كلمةُ هذا إشارةٌ إلى السموات والأرضِ متضمّنةٌ لضرب من التعظيم كما في قوله تعالى إن هذا القرآن يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ والتذكيرُ لما أنهما باعتبار تعلّقِ الخلقِ بهما في معنى المخلوق وباطلا إما صفةٌ لمصدرٍ مؤكدٍ محذوفٍ أو حالٌ من المفعولِ بِه أي ما خلقتَ هذا المخلوقَ البديعَ العظيمَ الشأنِ عبثاً عارياً عن الحكمة خالياً عن المصلحة كما ينبئ عنه أوضاعُ الغافلين عن ذلك المعرِضين عن التفكر فيه بل منتظما لحكم جليلية ومصالحَ عظيمةٍ من جملتها أن يكون مداراً لمعايش العبادِ ومناراً يُرشدهم إلى معرفة أحوالِ المبدأ والمعادِ حسبما أَفْصحت عنه الرسلُ والكتبُ الإلهية كما تحققتَه مفصلاً والجملة بتمامها في حيز النصب بقول مقدر هو على تقدير كونِ الموصول نعتا لأولي الألباب استئنافٌ مبينٌ لنتيجة التفكرِ ومدلول الايات ناشئ مما سبق فإن النفسَ عند سماعِ تخصيصِ الآياتِ المنصوبةِ في خلق العالمِ بأولي الألباب ثم وصفَهم بذكر الله تعالَى والتفكرِ في محال الآياتِ تبقى مترقبةً لما يظهر منهم من آثارها وأحكامِها كأنَّه قيلَ فماذا يكونُ عند تفكرِهم في ذلك وماذا يترتب عليه من النتيجة فقيل يقولون كيت وكيت مما ينبئ عن وقوفهم على سر الخلقِ المؤدِّي إلى معرفة صدقِ الرسلِ وحقية الكُتب الناطقةِ بتفاصيل الأحكامِ الشرعيةِ على التفصيل الذي وقفت عليه هذا وأما جعلُه حالا من المستكنِّ في الفعل كما أطبقَ عليه الجمهورُ فمما لا يساعده النظمِ الكريمِ لما أن مَا في حيزِ الصِّلةِ وما هو قيدٌ له حقُّه أن يكون من مبادى

192 - 193 آل عمران الحُكمِ الذي أُجريَ على الموصول ودواعي ثبوته له كذكرهم الله عزَّ وجلَّ في عامة أوقاتِهم وتفكرِهم فِى خَلْقِ السموات والأرض فإنهما مما يؤدي إلى اجتلاء تلك الآياتِ والاستدلالِ بها على المطلوب ولا ريب في أن قولَهم ذلك ليس من مبادى الاستدلال المذكورِ بل من نتائجه المترتبةِ عليه فاعتبارُه قيداً لما في حيّز الصلةِ مما لا يليق بشأن التنزيلِ الجليلِ نعم هو حال من ذلك على تقدير كونِ الموصولِ مرفوعاً أو منصوباً على المدح أو مرفوعاً على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف إذ لااشتباه في أن قولَهم ذلك من مبادى مدحِهم ومحاسنُ مناقبهم وفي إبراز هذا القولِ في معرض الحالِ دون الخبرِ إشعارٌ بمقارنته لتفكرهم من غيرِ تلعثمٍ وترددٍ في ذلكَ وقولُه تعالَى {سبحانك} أي تنزيهاً لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها خلق مالا حكمة فيه اعتراض مؤكدة لمضمون ما قبله وممهد لما بعده من قوله تعالى {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فإن معرفةَ سرِّ خلقِ العالمِ وما فيه من الحكمةِ البالغةِ والغايةِ الحميدةِ والقيامَ بما تقتضيه من الأعمال الصالحةِ وتنزيهَ الصانعِ تعالى عن العبث من دواعي الاستعاذة مما يَحيق بالمُخلِّين بذلك من وجهين أحدُهما الوقوفُ على تحقق العذابِ فالفاءُ لترتيبِ الدعاءِ عَلَى ما ذُكر والثاني الاستعدادُ لقبول الدعاءِ فالفاءُ لترتيب المدعوِّ أعني الوقايةَ على ذلك كأنه قيل وإذ قد عرَفنا سرَّك وأطعنا أمرَك ونزّهناك عما لا ينبغي فقِنا عذابَ النارِ الذي هو جزاءُ الذين لا يعرِفون ذلك

192

{رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} مبالغةٌ في استدعاء الوقايةِ وبيانٌ لسببه وتصديرُ الجملةِ بالنداء للمبالغةِ في التضرعِ والجُؤار وتأكيدُها لإظهار كمالِ اليقينِ بمضمونها والإيذانِ بشدة الخوفِ وإظهارُ النارِ في موضع الإضمارِ لتهويلِ أمرِها وذكرُ الإدخالِ في مورد العذابِ لتعيين كيفيتِه وتبيينِ غاية فظاعتِه قال الواحدي للإخزاء معانٍ متقاربةٌ يقال أخزاه الله أي أبعده وقيل أهانه وقيل أهلكه وقيل فضحه قال ابن الأنباري الخزيُ لغةً الهلاكُ بتلف أو بانقطاع حجةٍ أو بوقوع في بلاء والمعنى فقد أخزيته خِزياً لا غايةَ وراءَه كقولهم من أدرك مرعى الضمان فقد أدرك أي المرعى الذي لا مرى على بعدَه وفيه من الإشعار بفظاعة العذاب الروحاني مالا يخفى وقولُه تعالى {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} تذييلٌ لإظهار نهايةِ فظاعةِ حالِهم ببيان خلودِ عذابِهم بفُقدان من ينصُرهم ويقوم بتخليصهم وغرضُهم تأكيدُ الاستدعاءِ ووضعُ الظالمين موضعَ ضميرِ المُدخَلين لذمهم والإشعارِ بتعليل دخولِهم النارَ بظلمهم ووضعِهم الأشياءَ في غير مواضعِها وجمعُ الأنصارِ بالنظر إلى جمع الظالمين أي ما لظالم من الظالمين نصيرٌ من الأنصار والمرادُ به من ينصُر بالمدافعة والقهر فليس في الآية دِلالةٌ على نفي الشفاعةِ على أن المرادَ بالظالمين هم الكفارُ

193

{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى للإيمان} حكايةٌ لدعاء آخرَ لهم مبنيٌّ على تأملهم في الدليل السمعيِّ بعد حكايةِ دعائِهم السابقِ البمنى على التفكر في الأدلة العقليةِ وتصديرُ مقدمةِ الدعاءِ بالنداء لإظهار كمالِ الضراعةِ والابتهال

194 - آل عمران والتأكيدُ للإيذان بصدور المقالِ عنهم بوفور الرغبةِ وكمالِ النشاطِ والمرادُ بالنداء الدعاءُ وتعديتُهما بإلى لتضمُّنهما معنى الإنهاء وباللام لاشتمالهما على معنى الاختصاص والمراد بالمنادى الرسول صلى الله عليه وسلم وتنوينُه للتفخيم وإيثارُه على الداعي للدلالة على كمال اعتنائِه بشأن الدعوةِ وتبليغِها إلى الداني والقاصي لما فيه من الأيذان برفع الصوت وينادى صفةٌ لمنادياً عند الجمهورِ كما في قولك سمعتُ رجلاً يقول كيت وكيت ولو كان معرفةً لكان حالاً منه كما إذا قلت سمعت زيداً يقول الخ ومفعولٌ ثانٍ لسمعنا عند الفارسي وأتباعِه وهذا أسلوبٌ بديعٌ يُصار إليه للمبالغة في تحقيق السماعِ والإيذانِ بوقوعه بلا واسطةٍ عند صدورِ المسموعِ عن المتكلم وللتوسل إلى تفصيله واستحضارِ صورتِه وقد اختص النظمُ الكريمُ بمزية زائدةٍ على ذلك حيث عبَّر عن المسموع منه بالمنادي ثم وصف بالنداء للإيمان على طريقة قولك سمعت متكلماً يتكلم بالحِكمة لما أنَّ التفسيرَ بعدَ الإبهامِ والتقييدَ بعد الإطلاقِ أوقعُ عند النفسِ وأجدرُ بالقبول وقيل المنادي القرآنُ العظيمُ {أنْ آمِنُوا} أي آمنوا على أن أن تفسيريةٌ أو بأنْ آمِنوا على أنها مصدريةٌ {بِرَبّكُمْ} بما لكم ومتولى أموركم ومبلغكم ومبلِّغِكم إلى الكمال وفي إطلاق الإيمان ثم قييده تفخيم لشأنه {فآمنا} أي فامتثلنا بأمره وأجبنا نداءَه {رَبَّنَا} تكريرٌ للتضرُّع وإظهارٌ لكمال الخضوعِ وعرضٌ للاعتراف بربوبيته مع الإيمان بهِ والفاءُ في قولِه تعالى {فاغفر لنا} لترتيب المغفرةِ أو الدعاءِ بها على الإيمان به تعالى والإقرار بربوبيته فإن ذلك من دواعي المغفرةِ والدعاءِ بها {ذُنُوبَنَا} أي كبائرها فإن الإيمان يجُبُّ ما قبله {وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا} أي صغائرَنا فإنها مكفَّرةٌ عن مجتنب الكبائرَ {وَتَوَفَّنَا مَعَ الابرار} أي مخصوصين بصُحبتهم مغتنمين لجوارهم معدودين من زُمرتهم وفيه إشعارٌ بأنهم كانوا يحبون لقاءَ الله ومن أحب لقاءَ الله أحب الله لقاءَه والأبرارُ جمع بارَ أو بَرَ كأصحاب وأرباب

194

{ربنا وآتنا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} حكايةٌ لدعاءٍ آخرَ لهم مسبوقٍ بما قبله معطوفٍ عليه لتأخّر التحليةِ عن التخلية وتكريرُ النداء لما مر مرارا والمراد بالموعود الثواب وعلى إما متعلقةٌ بالوعد كما في قولك وعد الله الجنةَ على الطاعة أي وعدتَنا على تصديق رسلِك أو بمحذوف وقع صفةٌ لمصدرٍ مؤكدٍ محذوفٍ أي وعدتنا وعداً كائناً على ألسنة رسلِك وقيل التقديرُ منزلاً على رسلك أو محمولاً على رسلك ولا يخفى أن تقديرَ الأفعالِ الخاصةِ في مثل هذه المواقعِ تعسفٌ وجمعُ الرسلِ مع أن المناديَ هو الرسول صلى الله عليه وسلم وحده لما أن دعوتَه عليه السلام لاسيما في باب التوحيدِ وما أجمع عليه الكلُّ من الشرائع منطويةٌ على دعوة الكلِّ فتصديقُه تصديقٌ لهم عليهم السلام كيف لا وقد أخذ منهم الميثاقَ بالإيمان به عليه السلام لقوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا آتيتكم مّن كتاب} الآية وكذا الموعودُ على لسانه من الثواب موعودٌ على ألسنة الكلِّ وإيثارُ الجمعِ لإظهار كمال الثقة بانجاز الموعود بناءً على كثرة الشهود {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} قصَدوا بذلك تذكيرَ وعدِه تعالى بقوله يَوْمٌ لاَّ يخزِى الله النَّبىّ والَّذِينَ آمنُوا مَعَهُ مُظْهرين أنهم ممن آمن معه رجاءً للانتظام في سلكهم يومئذ وقولُه تعالى {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} تعليلٌ لتحقيق ما نَظَموا في سلك الدعاءِ وهذه الدعواتُ وما في تضاعيفها من كمالِ الضراعة

195 - آل عمران والابتهالِ ليست لخوفهم من إخلاف الميعادِ بل لخوفهم من أن لا يكونوا من جملة الموعودين بتغير الحالِ وسوءِ الخاتمةِ والمآلِ فمرجِعُها إلى الدعاء بالتثبيت أو للمبالغة في التعبُّد والخشوعِ والميعادُ الوعدُ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه البعثُ بعد الموت وفي الآثار عن جعفر الصادق من حزبه أمرٌ فقال ربنا خمسَ مراتٍ أنجاه اللَّهُ مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الآية

195

{فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} الاستجابةُ بمعنى الإجابة وقال تاجُ القراء الإجابة عامةٌ والاستجابة خاصة بإعطاء المسئول وتتعدى باللام وبنفسها كما في قوله ... فلم يستجبْهُ عند ذاك مُجيبُ ... وهو عطفٌ على الاستئنافِ المقدَّرِ فيما سلف مترتبٌ على ما في حيِّزِه من الأدعية كما أن قوله عز وجل ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ الخ عطفٌ على قيل المقدَّرِ قبل الآنَ أي قيل لهم آلآْنَ آمنتم به ثم قيل الآية وكما أن قوله تعالى في سُورة الاعراف على قُلُوبِهِمْ معطوفٌ على ما دلَّ عليه معنى أَوَ لَمْ يَهْدِ الخ كأنه قيل يغفُلون عن الهداية ونطبع ونطيع الخ ولا ضيرَ في اختلافهما صيغةً لما أن صيغةَ المستقبلِ هناك للدِلالة على الاستمرار المناسبِ لمقام الدعاء وصيغة الماضي ههنا للإيذان بتحقق الاستجابةِ وتقرّرِها كما لا ضير في الاختلاف بين قوله تعالى إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ وبين ما عُطف عليه من قوله تعالى فاستجاب لَكُمْ كما سيأتي ويجوزُ أنْ يكونَ معطوفاً على مضمَرٍ ينساق إليه الذهنُ أي دَعَوا بهذه الأدعيةِ فاستجاب الخ وأما على تقرير كونِ المقدرِ حالاً فهو عطفٌ على يتفكرون باعتبار مقارنتِه لما وقع حالاً من فاعله أعني قوله تعالى ربنا ربنا الخ فإن الاستجابةَ مترتبةٌ على دَعَواتهم لا على مجرد تفكّرِهم وحيث كانت هي من أوصافهم الجميلةِ المترتبةِ على أعمالهم بالآخرة استحقت الانتظامَ في سلك محاسِنهم المعدودةِ في أثناء مدحِهم وأما على تقدير كون الموصول نعتا لأولي الألباب فلا مَساغَ لهذا العطفِ أصلا لما عرفتَ من أنَّ حقَّ مَا في حيِّز الصلةِ أن يكون من مبادي جَرَيانِ الحُكمِ على الموصول وقد عرفت أن دَعَواتِهم السابقةَ ليست كذلك فأين الاستجابةُ المتأخرةُ عنها وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئةِ عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم من تشريفهم واظهار اللطف بهم مالا يخفى {أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ} أي بأني وهكذا قرأ أُبيٌّ رضي الله عنه والباءُ للسببية كأنه قيل فاستجاب لهم ربُّهم بسبب لأنه لا يُضيع عملَ عامل منهم أي سُنّتُه السنيةُ مستمرَّةٌ على ذلك والالتفاتُ إلى التكلم والخطابُ لإظهار كمالِ الاعتناءِ بشأن الاستجابةِ وتشريفِ الداعين بشرف الخطاب والمرادُ تأكيدُها ببيان سببها والإشعارُ بأن مدارَها أعمالهم التي قدموها على الدعاء لا مجردُ الدعاءِ وتعميمُ الوعدِ لسائر العاملين وإن لم يبلُغوا درجةَ أولي الألبابِ لتأكيد استجابةِ الدعواتِ المذكورةِ والتعبيرُ عن ترْك الإثابةِ بالإضاعة مع أنه ليس بإضاعة حقيقية إذ الأعمالُ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى يلزَم من تخلفه

عنها ضياعُها لبيانِ كمالِ نزاهتِه تعالَى عنْ ذلكَ بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنْهُ من القبائح وإبرازِ الإثابةِ في معرِض الأمور الواجبةِ عليه وقرئ بكسرالهمزة على إرادةِ القولِ أيْ قائلاً إني الخ فلا التفات حينئذ وقرئ لا أُضيِّع بالتشديد ومِنْ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لعامل أي عاملٍ كائنٍ منكم وقولُه تعالى {من ذَكَرٍ أَوْ أنثى} بيانٌ لعامل وتأكيدٌ لعمومه وقوله تعالى {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} جملةٌ معترضةٌ مبينةٌ لسبب انتظامِ النساءِ في سلك الرجالِ في الوعد فإن كونَ كلَ منهما من الآخَر لتشعُّبهما من أصل واحدٍ أو لفرط الاتصالِ بينهما أو لاتفاقهما في الدين والعمل مما يستدعي الشركةَ والاتحادَ في ذلك روي أن أمَّ سلمة رضيَ الله عَنْهَا قالتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني أسمعُ اللَّهَ تعالى يذكرُ الرجالَ في الهجرة ولا يذكرُ النساءَ فنزلت وقوله تعالى {فالذين هاجروا} ضربُ تفصيلٍ لَما أُجمل في العمل وتعدادٌ لبعض أحاسنِ أفرادِه على وجه المدحِ والتعظيمِ أي فالذين هاجروا الشركَ أو الأوطانَ والعشائرَ للدين وقوله تعالى {وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم} على الأول عبارةٌ عن نفس الهجرةِ وعلى الثاني عن كيفيتها وكونِها بالقسر والاضطرار {وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى} أي بسبب إيمانهم بالله ومن أجله وهو متناولٌ لكل أذيةٍ نالتهم من قِبَل المشركين {وَقَاتِلُواْ} أي الكفارَ في سبيلِ اللَّهِ تعالى {وَقُتّلُواْ} استُشهدوا في القتال وقرئ بالعكس لِما أن الواوَ لا تستدعي الترتيبَ أو لأن المرادَ قتلُ بعضِهم وقتالُ آخَرين إذ ليس المعنى على اتصاف كلِّ فردٍ من أفراد الموصولِ المذكورِ بكل واحدٍ مما ذكر في حيز الصلة بل على اتصاف الكلِّ بالكل في الجملة سواءً كان ذلك باتصاف كلِّ فردٍ من الموصول بواحدٍ من الأوصافِ المذكورةِ أو بإثنين منها أو بأكثرَ إما بطريق التوزيعِ أو بطريق حذفِ بعضِ الموصولاتِ من البين كما هو رأيُ الكوفيِّينَ كيف لا ولو أُدير الحُكمُ على اتصاف كلِّ فردٍ بالكل لكان قد أُضيع عملُ من اتصف بالبعض وقرئ وقتِّلوا بالتشديد {لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ واللَّهِ لأكفِّرن والجملةُ القسميةُ خبرٌ للمبتدأ الذي هُوَ الموصولُ وهذا تصريحٌ بوعد ما سأله الداعون بخصوصه بعد ما وَعَد ذلك عموماً وقوله تعالى {وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} إشارة إلى ما عبَّر عنه الداعون فيما قبلُ بقولهم وآتنا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وتفسيرٌ له {ثَوَاباً} مصدرٌ مؤكِّدٌ لما قبله فإن تكفيرَ السيئاتِ وإدخالَ الجنَّةِ في معنى الإثابة وقوله تعالى {مِنْ عِندِ الله} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ له مبينةٌ لشرفه أي لأُثيبنَّهم إثابةً كائنةً أو تثويباً كائناً من عنده تعالى بالغاً إلى المرتبة القاصية من الشرف وقوله تعالى {والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب} اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله والاسمُ الجليلُ مبتدأٌ خبرُه عنده وحسنُ الثوابِ مرتفعٌ بالظرف على الفاعليةِ لاعتمادِه على المبتدأ وهو مبتدأٌ ثانٍ والظرفُ خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول والعنديةُ عبارةٌ عن الاختصاص به تعالى مثلُ كونِه بقدرته تعالى وفضلِه بحيث لا يقدِرُ عليه غيرُه بحال شيءٍ يكون بحضرة أحدٍ لا يدَ عليه لغيره فالاختصاصُ مستفادٌ من التمثيل سواءٌ جُعل عنده خبراً مقدماً لحسن الثوابِ أولا وفي تصدير الوعدِ الكريمِ بعدم إضاعةِ العملِ ثم تعقيبه بمثل هذا الإحسانِ الذي لا يُقَادرُ قدرُه من لُطف المسلكِ المنبئ عن عظم شأنِ المحسِنِ ما لا يخفى

196 - 197 198 آل عمران

196

{لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِى البلاد} بيانٌ لقبح ما أوتي الكفرةُ من حظوظ الدنيا وكشفٌ عن حقارة شأنِها وسوءِ مَغَبَّتِها إثرَ بيانِ حُسنِ ما أوتيَ المؤمنون من الثواب والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على أن المرادَ تثبيتهُ على ما هو عليه كقوله تعالَى {فَلاَ تُطِعِ المكذبين} أو على أنَّ المرادَ نهيُ المؤمنين كما يُوجَّهُ الخطابُ إلى مَدارِهِ القومِ ورؤسائِهِم والمرادُ أفناؤهم أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب من المؤمنين والنهيُ للمخاطب وإنما جُعل للتقلب مبالغةً أي لا تنظُر إلى ما عليه الكفرةُ من السعة ووفورِ الحظِّ ولا تغترَّ بظاهر ما ترى منهم من التبسّط في المكاسب والمتاجرِ والمزارع روي أن بعضَ المؤمنين كانوا يرَوْن المشركين في رخاء ولين عيشٍ فيقولون إن أعداءَ اللَّهِ تعالى فيما نرى من الخير وقد هلَكْنا من الجوع والجهد فنزلت وقرئ ولا غرنك بالنون الخفيفة

197

{متاع قَلِيلٌ} خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي هو متاعٌ قليلٌ لا قدرَ له في جنب ما ذُكر من ثواب اللَّهِ تعالى قال عليه السلام ما الدنيا في الآخرة إلا مثلُ ما يجعل أحدُكم أصبَعَه في اليمّ فلينظُر بم يرجِعُ فإذن لا يُجدي وجودُه لواجديه ولا يضُرُّ فقدانُه لفاقديه {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ} أي مصيرُهم الذي يأوون إليه لا يبرَحونه {جَهَنَّمُ} التي لا يوصف عذابُها وقوله تعالى {وَبِئْسَ المهاد} ذمٌّ لها وإيذانٌ بأن مصيرَهم إليها مما جنته أنفسُهم وكسبتْه أيديهم والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي بئس ما مَهدوا لأنفسهم جهنَّمُ

198

{لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا} بيانٌ لكمال حسنِ حالِ المؤمنين غِبَّ بيانٍ وتكريرٌ له إثر قرير مع زيادة خلودِهم في الجنَّاتِ ليتم بذلك سرورُهم ويزدادَ تبجُّحُهم ويتكاملَ به سوءُ حالِ الكفرةِ وإيرادُ التقوى في حيز الصلةِ للإشعار بكون الخصالِ المذكورةِ من باب التقوى والمرادُ به الاتقاءُ من الشرك والمعاصي فالموصولُ مبتدأ والظرفُ خبرُه وجناتٌ مرتفعٌ به على الفاعليةِ لاعتماده على المبتدإ أو الظرفُ خبرٌ لجناتٌ والجملةُ خبرٌ للموصول وخالدين فِيهَا أي في الجنات حالٌ مقدرةٌ من الضمير أو من جناتٌ لتخصّصها بالوصف والعاملُ ما في الظرف من معنى الاستقرارِ {نُزُلاٍ مّنْ عِندِ الله} وقرئ بسكون الزاي وهو ما يُعدّ للنازلِ من طعام وشرابٍ وغيرِهما قال أبو الشعر الضبي ... وكنا إذا الجبارُ بالجيش ضافنا ... جعلنا القَنا والمرهفاتِ له نُزْلا ... وانتصابُه عَلى الحاليةِ من جنات لتخصصها بالوصف والعامل فيه ما في الظرف من معنى الاستقرارِ وقيل هو مصدرٌ مؤكدٌ كأنه قيل رِزقاً أو عطاءً من عند الله {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ} مبتدأٌ وخبرٌ وقولُه تعالَى {لّلابْرَارِ} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لخيرٌ أي ما عنده تعالى من الأمور المذكورةِ الدائمةِ خيرٌ كائنٌ للأبرار أي مما يتقلب فيه الفجارُ من المتاع القليلِ الزائلِ والتعبيرُ عنهم بالأبرار للإشعار بأن الصفاتِ المعدودَة من أعمال البرِّ كما أنها من قبيل التقوى والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها

199 - 200 آل عمران

199

{وإن من أهل الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله} جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لبيان أن أهلَ الكتابِ ليس كلُّهم كمن حُكِيت هَناتُهم من نبذ الميثاقِ وتحريفِ الكتابِ وغير ذلك بل منهم من له مناقبُ جليلةٌ قيل هم عبدُ اللَّهِ ابن سلامٍ وأصحابُه وقيل هم أربعون من أهل نجرانَ واثنان وثلاثون من الحبشةِ وثمانيةٌ من الروم كانوا نصارى فأسلموا وقيل المرادُ به أصحْمةُ النجاشيُّ فإنه لما مات نعاه جبريلُ إلى النبي عليه السلام فقال عليه السلام أخرُجوا فصلُّوا على أخٍ لكم ماتَ بغير أرضكم فخرج إلى البقيع فنظر إلى أرض الحبشةِ فأبصر سريرَ النجاشيِّ وصلى عليه واستغفر له فقال المنافقون انظُروا إلى هذا يصلي على عِلْج نصراني لم يرَه قطُّ وليس على دينه فنزلت وإنما دخلت لامُ الابتداءِ على اسم إنّ لفصل الظرفِ بينهما كما في قوله تعالى وإن مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ} من القرآن {وما أنزل إليهم} من الكتابَين وتأخيرُ إيمانِهم بهما عن إيمانهم بالقرآن في الذكر مع أن الأمرَ بالعكس في الوجود لما أنه عيارٌ ومهيمِن عليهما فإن إيمانَهم بهما إنما يُعتبر بتبعية إيمانِهم به إذ لا عبرةَ بأحكامهما المنسوخةِ وما لم يُنسَخْ منها إنما يعتبر من حيث ثبوتُه بالقرآن ولتعلّق ما بعده بهما والمرادُ بإيمانهم بهما إيمانُهم بهما من غير تحريفٍ ولا كَتْمٍ كما هو دَيدَنُ المحرِّفين وأتباعِهم من العامة {خاشعين للَّهِ} حالٌ من فاعل يؤمن والجمعُ باعتبار المعنى {لا يشترون بآيات الله ثَمَناً قَلِيلاً} تصريحٌ بمخالفتهم للمحرِّفين والجملةُ حالٌ كما قبله ونظمُها في سلك محاسِنهم ليس من حيث عدمُ الاشتراءِ فقط بل لتضمُّن ذلك لإظهار ما في الكتابَيْن من شواهد نبوته عليه السلام {أولئك} إشارةٌ إليهم من حيث اتصافُهم بما عُدّ من صفاتهم الحميدةِ وما فيه من معنى البُعد للدِلالة على علو رتبتِهم وبُعد منزلتِهم في الشرف والفضيلةِ وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى {لَهُمْ} وقوله {أَجْرَهُمْ} أي المختصُّ بهم الموعودُ لهم بقوله تعالَى {أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} وقولهِ تعالى {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} مرتفعٌ بالظرف على الفاعليةِ أو على الابتداء والظرفُ خبره والجلة خبره لأولئك وقوله تعالى {عِندَ رَبّهِمْ} نُصب على الحالية من أجرُهم والمرادُ به التشريفُ كالصفة {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} لنفوذ علمِه بجميع الأشياءِ فهو عالمٌ بما يستحقه كلُّ عاملٍ من الأجر منْ غيرِ حاجةٍ إلى تأمل والمرادُ بيانُ سرعةِ وصولِ الأجر الموعودِ إليهم

200

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} إثرَ ما بيّن في تضاعيفِ السورةِ الكريمةِ فنونَ الحُكم والأحكامِ خُتمت بما يوجب المحافظة عليها فقيل {اصبروا} أي على مشاقِّ الطاعاتِ وغيرِ ذلك من المكاره والشدائدِ {وَصَابِرُواْ} أي غالبوا أعداءَ اللَّهِ تعالى بالصبر في مواطن الحروبِ وأعدى عدوِّكم بالصبر على مخالفة الهوى وتخصيصُ المصابرةِ بالأمر بعد الأمرِ بمطلق الصبرِ لكونها أشدَّ منه وأشقَّ {وَرَابِطُواْ} أي أقيموا في الثغور رابطين خيلَكم فيها مترصِّدين للغزو مستعدّين له قال تعالى {وَمِن رّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله}

{وعدوكم} وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم مَنْ رابط يوماً وليلةً في سبيل اللَّهِ كان كعَدْل صيامِ شهرِ رمضانَ وقيامه ولا يُفطِرُ ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة {واتقوا الله} في مخالفة أمرِه على الإطلاق فيندرجُ فيه ما ذكر في تضاعيفِ السورةِ الكريمةِ اندراجاً أولياً {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} كي تنتظِموا في زُمرة المفلحين الفائزينَ بكلِّ مطلوبٍ الناجينَ من كل الكروب عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ آلِ عِمرانَ أعطيَ بكل آيةٍ منها أماناً على جسر جهنم وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأ السورةَ التي يُذكر فيها آلُ عمرانَ يوم الجمعة صلى عليه وملائكتُه حتى تُحجَبَ الشَّمسُ والله أعلم سورة النساء مدنية وهي مائة وست وسبعون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}

النساء

{يا أَيُّهَا الناس} خطابٌ يعمُّ حكمُه جميعَ المكلفين عند النزولِ ومَنْ سينتظِمُ في سلكهم من الموجودين حينئذٍ والحادثين بعدَ ذلك إلى يوم القيامةِ عند انتظامِهم فيه لكنْ لا بطريق الحقيقةِ فإن خطابَ المشافهةِ لا يتناول القاصرين عن درجة التكليفِ إلا عند الحنابلةِ بل إما بطريق تغليبِ الفريقِ الأولِ على الأخيرين وإما بطريق تعميمِ حُكمِه لهما بدليل خارجيَ فإن الإجماعَ منعقدٌ على أن آخِرَ الأمةِ مكلفٌ بما كُلّف به أولها كما ينبئ عنه قولُه عليه السلام الحلالُ ما جرى على لساني إلى يوم القيامة والحرامُ ما جرى على لساني إلى يوم القيامة وقد فُصل في موضعه وأما الأممُ الدارجةُ قبل النزول فلاحظ لهم في الخطاب لاختصاص الأوامرِ والنواهي بمن يُتصوَّر منه الامتثالُ وأما اندراجُهم في خطاب ما عداهما مما له دخلٌ في تأكيد التكليفِ وتقويةِ الإيجابِ فستعرِفُ حالَه ولفظُ النَّاسِ ينتظمُ الذكورَ والإناثَ حقيقةً وأما صيغةُ جمعِ المذكرِ في قوله تعالى {اتقوا رَبَّكُمُ} فواردةٌ على طريقة التغليب لعدم تناولِها حقيقةً للإناث عند غيرِ الحنابلة وأما إدخالهن في الأمر بالتقوى بما ذُكر من الدليل الخارجيِّ وإن كان فيه مراعاةُ جانبِ الصيغةِ لكنه يستدعي تخصيصَ لفظِ النَّاسِ ببعض أفرادِه والمأمورُ به إما مطلقُ التقوى التي هي التجنبُ عن كلِّ ما يُؤثِمَ من فعلٍ أو تركٍ وإما التقوى فيما يتعلق بحقوق أبناءِ الجنسِ أي اتقوه في مخالفة أوامره ونواهيه على الإطلاقِ أو في مخالفة تكاليفه الواردة ههنا وأيًّا ما كان فالتعرضُ لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكيةِ والتربيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطبينَ لتأييدِ الأمرِ وتأكيدِ إيجابِ الامتثالِ به على طريقة الترغيبِ

والترهيبِ وكذا وصفُ الربَّ بقولِه تعالَى {الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} فإن خلْقَه تعالى إياهم على هذا النمطِ البديعِ لإنبائه عن قدرة شاملةٍ لجميع المقدُورات التي من جُملتها عقابُهم على معاصيهم وعن نعمة كاملة لا يقادر قدرها من أَقْوى الدَّواعي إلى الاتقاء من موجبات نقمتهِ وأتمِّ الزواجرِ عن كُفران نعمته وكذا جعلُه تعالى إياهم صنوانا مفرغة من أرومةٍ واحدة هي نفسُ آدمَ عليه السَّلامُ من موجبات الاحترازِ عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوةِ وتعميمُ الخطابِ في ربّكم وخلقَكم للأمم السالفة أيضاً مع اختصاصه فيما قبلُ بالمأمورين بناءً على أن تذكيرَ شمولِ ربوبيته تعالى وخلقِه للكل من مؤكِّدات الأمرِ بالتقوى وموجباتِ الامتثالِ به تفكيك للنظم الكريمِ مع الاستغناء عنه لأن خلقَه تعالى للمأمورين من نفسُ آدمَ عليه السَّلامُ حيث كان بواسطة ما بينهم وبينه عليه السلام من الآباء والأمهاتِ كان التعرّضُ لخلقهم متضمِّناً للتعرّض لخلق الوسايطِ جميعاً وكذا التعرضُ لربوبيته تعالى لأصولهم قاطبةً لا سيما وقد نطقَ بذلك قوله عز وجل {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فإنه معَ ما عُطف عليه صريحٌ في ذلك وهو معطوفٌ إما على مقدر ينبئ عنه سَوقُ الكلامِ لأن تفريع الفروعِ من أصل واحد يستدعي إنشاءَ ذلك الأصلِ لا محالة كأنَّه قيل خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة خلقها أولاً وخلق منها زوجَها إلخ وهو استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير وَحدةِ المبدأ وبيانِ كيفيةِ خلْقِهم منه وتفصيلِ ما أُجمل أولاً أو صفةٌ لنفسٍ مفيدةٌ لذلك وإما على خلقَكم داخلٌ معه في حيزِ الصلةِ مقررٌ ومبينٌ لما ذكر وإعادةُ الفعلِ مع جواز عطفِ مفعوله على مفعول الفعلِ الأول كما في قوله تعالى {يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} الخ لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت فإن الأولَ بطريق التفريعِ من الأصل والثاني بطريق الإنشاءِ من المادة فإن تعالى خلقَ حواءَ من ضِلْعِ آدمَ عليه السلام روى أنه عز وجل لما خلقه عليه السلام وأسكنه الجنة ألقى عليه النومَ فبينما هو بين النائمِ واليقظانِ خَلَق حواءَ من ضِلْع من أضلاعه اليسرى فلما انتبه وجدها عنده وتأخيرُ ذكرِ خلقِها عن ذكر خلقِهم لما أن تذكيرَ خلقهم أدخلُ في تحقيق ما هو المقصودُ من حملهم على الامتثال بالأمر بالتقوى من تذكير خلقها وتقديمُ الجار والمجرور للاعتناء ببيان مبدئيتهِ عليه السلام لها مع ما فيه من التَّشويقِ إلى المؤخرِ كما مر مراراً وإيرادُها بعنوان الزوجيةِ تمهيدٌ لما بعده من التناسل {وَبَثَّ مِنْهُمَا} أي نشرَ من تلك النفس وزوجها المخلوقةِ منها بطريقِ التوالدِ والتناسلِ {رِجَالاً كَثِيراً} نعت لرجالا مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ من الكثرةِ والإفرادِ باعتبار معنى الجمع أو العددِ وقيلَ هو نعتٌ لمصدرٍ مؤكدٍ للفعل أي بثاً كثيراً {وَنِسَاء} أي كثيرة وتركُ التصريحِ بها للاكتفاء بالوصف المذكورِ وإيثارُهما على ذكوراً وإناثاً لتأكيد الكثرةِ والمبالغةِ فيها بترشيح كلِّ فردٍ من الأفراد المبثوثةِ لمبدئية غيره وقرئ وخالقٌ وباثٌّ على حذف المبتدأ أي وهو خالقٌ وباث {واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ} تكريرٌ للأمر وتذكير لبعض آخَرَ من موجبات الامتثالِ به فإن سؤالَ بعضِهم بعضاً بالله تعالى بأن يقولوا أسألُك بالله وأنشُدك اللَّهَ على سبيل الاستعطافِ يقتضي الاتقاءَ من مخالفة أوامرِه ونواهيه وتعليقُ الاتقاءِ بالاسمِ الجليلِ لمزيد التأكيدِ والمبالغةِ في الحمل على الامتثال بتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة لوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته وتساءلون أصلُه تتساءلون فطُرحت إحدى التاءين تخفيفيا وقرئ بإدغام تاءِ التفاعلِ في السين لتقاربهما في الهمس

2 - النساء وقرئ تَسْألون من الثلاثي أي تسألون به غيرَكم وقد فسِّر به القراءةُ الأولى والثانية وحملُ صيغةِ التفاعلِ على اعتبار الجمعِ كما في قولك رأيت الهلال وتراءيناه وبه فسر عم يتساءلون على وجه وقرئ تَسَلون بنقل حركةِ الهمزةِ إلى السين {والارحام} بالنَّصبِ عطفاً عَلى محلِّ الجارِّ والمجرورِ كقولك مررتُ بزيد وعمراً وينصره قراءةُ تساءلون به وبالأرحام فإنهم كانوا يقرُنونها في السؤال والمناشدةِ بالله عز وجل ويقولون أسألك بالله وبالرَّحمِ أو عطفاً على الاسم الجليلِ أي اتقوا اللَّهَ والأرحام وصلوها ولاتقطعوها فإن قطيعتها مما يجب أن يُتقّى وهو قولُ مجاهدٍ وقتادة والسدي والضحاك والفراءِ والزجاج وقد جَوّز الواحديُ نصبَه على الإغراء أي والزَموا الأرحام وصلوها وقرئ بالجر عطفاً على الضمير المجرور بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ تقديره والأرحامُ كذلك أي مما يُتقى أو يتساءل به ولقد نبه سبحانه وتعالى حيث قرنها باسمه الجليلِ على أن صلتَها بمكان منه كما في قوله تعالى {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه وبالوالدين إحسانا} وعنه عليه السلام الرحِمُ معلقةٌ بالعرش تقول مَنْ وَصَلني وصله اللَّهُ ومَنْ قَطَعني قَطَعَهُ اللَّه {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} أي مراقباً وهي صيغة مبالغة من رقَب يرقُب رَقْباً إذا أحدّ النظرَ لأمر يريد تحقيقَه أي حافظاً مطلعاً على جميع ما يصدر عنكم من الأفعال والأقوالِ وعلى ما في ضمائركم من النيات مُريداً لمجازاتكم بذلك وهو تعليلٌ للأمر ووجوبِ الامتثالِ به وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتأكيده وتقديمُ الجارِّ والمجرور لرعاية الفواصل

2

{وآتوا اليتامى أموالهم} شروعٌ في تفصيل مواردِ الاتقاءِ ومظانّةِ بتكليف ما يقابلها أمراً ونهيا عقيب الأمر ينفسه مرة بعد أخرى وتقديمُ ما يتعلق باليتامى لإظهار كمالِ العنايةِ بأمرهم ولملابستهم بالأرحام إذ الخِطابُ للأولياء والأوصياءِ وقلما تُفوَّض الوصايةُ إلى الأجانب واليتيمُ من مات أبوه من اليُتم وهو الانفرادُ ومنه الدرةُ اليتيمةُ وجمعُه على يتامى إما لأنه لما جرى مجرى السماء جمع على يتأتم ثم قُلب فقيل يتامى أو لأنه لما كان من وادي الآفاتِ جُمع على يَتْمى ثم جُمع يَتمى على يتامى والاشتقاقُ يقتضي صحةَ إطلاقِه على الكبار أيضاً واختصاصُه بالصغار مبنيٌّ على العُرف وأما قوله عليه السلام لا يُتمَ بعد الحُلُم فتعليمٌ للشريعة لا تعيينٌ لمعنى اللفظِ أي لا يجري على اليتيم بعده حكمُ الأيتام والمرادُ بإيتاء أموالِهم قطعُ المخاطَبين أطماعَهم الفارغةَ عنها وكفُّ أكُفِهم الخاطفةِ عن اختزالها وتركُها على حالها غيرَ مُتعرَّضٍ لها بسوء حتى تأتيَهم وتصلَ إليهم سالمة كما ينبئ عنه ما بعده من النهي عن التبدّل والأكلِ لا الإعطاءِ بالفعل فإنه مشروطٌ بالبلوغ وإيناسِ الرُشدِ على ما ينطِق به قوله تعالى {حتى إِذَا بَلَغُواْ} الآية وإنما عبّر عما ذُكر بالإيتاء مجازاً للإيذان بأنه ينبغي أن يكون مرادهم بذلك إيصالها إليهم لا مجردَ تركِ التعرّضِ لها فالمرادُ بهم إما الصغارُ على ما هو المتبادرُ والأمرُ خاصٌّ بمن يتولى أمرَهم من الأولياء والأوصياءِ وشمولُ حكمِه لأولياء مَن كان بالغاً عند نزولِ الآيةِ بطريق الدِلالةِ دون العبارة وأما من جرى عليه اليتمُ في الجملة مجازاً أعمُّ من

أن يكون كذلك عند النزولِ أو بالغاً فالأمرُ شامل أولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من حفظ أموالِهم والتحفظِ عن إضاعتها مطلقاً وأما وجوبُ الدفعِ إلى الكبار فمستفادٌ مما سيأتي من الأمر به وقيل المرادُ بهم الصغارُ وبالإيتاء الإعطاءُ في الزمان المسقبل وقيل أُطلق اسمُهم على الكبار بطريق الاتساعِ لقرب عهدِهم باليتم حثاً للأولياء على المسارعة إلى دفع أموالِهم إليهم أولَ ما بلغوا قبل أن يزولَ عنهم اسمُهم المعهودُ فالإيتاءُ بمعنى الإعطاءِ بالفعل ويأباهما ما سيأتِي من قولِه تعالى {وابتلوا اليتامى} الخ فإنَّ ما فيهِ من الأمر بالدفع واردٌ على وجه التكليفِ الابتدائيِّ لا على وجه تعيينِ وقتِه أو بيانِ شرطِه فقط كما هو مقتضى القولين وأما تعميمُ الاسمِ للصغار والكبارِ مجازاً بطريق التغليبِ مع تعميم الإيتاءِ للإيتاء حالاً وللإيتاء مآلاً وتعميمِ الخطابِ لأولياء كِلا الفريقين على أن مَنْ بلغ منهم فوليُّه مأمورٌ بالدفع إليه بالفعل وأن من لم يبلُغْ بعدُ فوليُّه مأمورٌ بالدفع إليه عند بلوغه رشيدا فمع ما سبق تكلفٌ لا يخفى فالأنسبُ ما تقدم من حمل إيتاءِ أموالهم إليهم على مايؤدى إليه من ترك التعرضِ لها بسوءٍ كما يلوحُ به التَّعبيرُ عن الإعطاء بالفعل بالدفع سواءٌ أريد باليتامى الصغار أوما يعمُّ الصغارَ والكبارَ حسبما ذُكر آنفاً وأما ما روي من أن رجلاً من غطَفان كان معه مال كثيرٌ لابن أخٍ له فلما بلغ طلب منه مالَه فمنعه فنزلت فلما سمِعها قال أطعنا الله وأطعنا الرسولَ نعوذ بالله من الحُوب الكبير فغيرُ قادحٍ في ذلك لما أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السببِ {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} نهيٌ عن أخذ مالِ اليتيمِ على الوجه المخصوصِ بعد النهي الضِّمني عن أخذه على الإطلاق وتبدل الشئ بالشئ واستبدالُه به أخذُ الأول بدلَ الثاني بعد أن كان حاصلاً له أو في شرف الحصولِ يُستعملان أبداً بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالباء كما في قوله تعالى {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان} الخ وقوله تعالى أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ وأما التبديلُ فيستعمل تارة كذلك كما في قولِه تعالى وبدلناهم بجنتيهم جَنَّتَيْنِ الخ وأخرى بالعكس كما في قولك بدلتُ الحلقةَ بالخاتم إذا أذبتَها وجعلتَها خاتماً نص عليه الأزهري وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعوليه بنفسِه كما في قولِه تعالى يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات والمرادُ بالخبيث والطيبِ إن كان هو الحرامُ والحلالُ فالمنهيُّ عنه استبدالُ مالِ اليتيمِ بمال أنفسهم مطلقا كما قاله الفراءُ والزجاجُ وقيل معناه لا تذَروا أموالَكم الحلالَ وتأكُلوا الحرامَ من أموالهم فالمنهيُّ عنه أكلُ مالِه مكان ما لهم المحقّقِ أو المقدّرِ وقيل هو اختزال ما له مكان حفظِه وأياً ما كان فإنما عبّر عنهما بهما تنفيراً عما أخذوه وترغيباً فيما أُعْطوُه وتصويراً لمعاملتهم بصورة مالا يصدُر عن العاقل وإن كان هو الردئ والجيدُ فموردُ النهي ما كانوا عليه من أخذ الجيّدِ من مال اليتيمِ وإعطاء الردئ من مال أنفسِهم وبه قال سعيدُ بنُ المسيِّب والنخعيُّ والزُّهري والسدي وتخصيصُ هذه المعاملةِ بالنهي لخروجها مَخرجَ العادةِ لا لإباحة ما عداها وأما التعبيرُ عنها بتبدُّل الخبيثِ بالطيب مع أنها تبديلُه به أو تبدلُ الطيبِ بالخبيث فللإيذان بأن الأولياءَ حقُّهم أن يكونوا في المعاوضات عاملين لليتيم لا لأنفسهم مُراعين لجانبه قاصدين لجلب المجلوبِ إليه مشترىً كان أو ثمناً لا لسَلَب المسلوبِ عنه {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم} نهيٌ عن منكر آخر كانوا يتعاطَوْنه أي لا تأكلوها مضمومةً إلى أموالكم ولا تُسوّوا بينهما وهذا حلالٌ وذاك حرامٌ وقد خُصَّ من ذلك مقدارُ أجرِ المثل عند كون

3 - النساء الولي فقيراً {إِنَّهُ} أي الأكلُ المفهومُ من النهي {كَانَ حُوباً} أي ذنباً عظيما وقرئ بفتح الحاء وهو مصدرُ حاب حوبا وقرئ حاباً وهو أيضاً مصدرٌ كقال قولاً وقالا {كَبِيراً} مبالغةٌ في بيان عِظَمِ ذنبِ الأكلِ المذكورِ كأنه قيل من كبار الذنوب العظيمة لا من أفنائها

3

{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى} الإقساطُ العدلُ وقرئ بفتح التاء فقيل هو مِنْ قَسَط أي جار ولا مزيدةٌ كما في قولِه تعالى لّئَلاَّ يَعْلَمَ وقيل هو بمعنى أقسطَ فإن الزجاجَ حَكى أن قسَط يُستعمل استعمالَ أقسطَ والمرادُ بالخوف العلمُ كما في قوله تعالى {فمن خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا} عبّر عنه بذلك إيذاناً بكون المعلومِ مَخوفاً محذوراً لا معناه الحقيقي لأن الذي عُلّق به الجوابُ هو العلمُ بوقوع الجَورِ المَخوفِ لا الخوفُ منه وإلا لم يكنِ الأمرُ شاملاً لمن يُصِرُّ على الجور ولا يخافه وهذا شروعٌ في النَّهي عنِ منكر آخَرَ كانوا يباشرونه متعلقٌ بأنفس اليتامى أصالةً وبأموالهم تبعاً عَقيبَ النهي عما يتعلق بأموالهم خاصةً وتأخيرُه عنه لقلة وقوعِ المنهيِّ عنه بالنسبة إلى الأول ونزولِه منه بمنزلة المركب من المفرد وذلك أنهم كانوا يتزوّجون من تحِلُّ لهم من اليتامى اللاتي يلُونهنّ لكن لا لرغبة فيهن بل في مالهن ويُسيئون في الصحبة والمعاشرةِ ويتربّصون بهن أن يمُتْنَ فيرِثوهن وهذا قولُ الحسنِ وقيل هي اليتيمةُ تكون في حِجْر وليِّها فيرغب في مالها وجمالِها ويريد أن ينكِحَها بأدنى من سُنة نسائِها فنُهوا أن ينكِحوهن إلا أن يُقسِطوا لهن في إكمال الصَّداقِ وأُمروا أن ينحكوا ما سواهن من النساء وهذا قولُ الزهري روايةً عن عروةَ عن عائشةَ رضيَ الله عنها وأما اعتبارُ اجتماعِ عددِ كثيرٍ منهن كما أطبق عليه أكثرُ أهلِ التفسيرِ حيث قالوا كان الرجلُ يجد اليتيمةَ لها مالٌ وجمالٌ ويكون وليَّها فيتزوجها ضَناً بها عن غيره فربما اجتمعت عنده عشرٌ منهن الخ فلا يساعده الأمرُ بنكاح غيرِهن فإن المحذورَ حينئذ يندفع بتقليل عددهن وان خفتم ألا تعدِلوا في حق اليتامى إذا تزوجتم بهن بإساءة العِشرةِ أو بنقصِ الصَّداق {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ} ما موصولةٌ أو موصوفة ما بعدها صلتُها أو صفتها أو أُوثِرَت على مَنْ ذهاباً إلى الوصف وإيذاناً بأنه المقصودُ بالذات والغالبُ في الاعتبار لا بناءً على أن الإناثَ من العقلاء يجرين مَجرى غيرِ العقلاءِ لإخلاله بمقام الترغيبِ فيهن وقرأ ابنُ أبي عَبْلةَ من طاب ومِنْ في قولِه تعالَى {مّنَ النساء} بيانيةٌ وقيل تبيضية والمرادُ بهن غيرُ اليتامى بشهادة قرينةِ المقامِ أي فانكحوا من استطابتها نفوسُكم من الأجنبيات وفي إيثار الأمرِ بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى مع أنه المقصودُ بالذات مزيدُ لطفٍ في استنزالهم عن ذلك فإن النفسَ مجبولةٌ على الحِرص على ما مُنِعت منه كما أن وصفَ النساءِ بالطيب على الوجه الذي أشير إليه فيه مبالغةٌ في الاستمالة إليهن والترغيبِ فيهن وكلُّ ذلك للاعتناء بصَرْفهم عن نكاح اليتامى وهو السرُّ في توجيه النهي الضمنيِّ إلى النكاح المُتَرقَّبِ مع أن سببَ النزولِ هو النكاحُ المحققُ لما فيه من المسارعة إلى دفع الشرِّ قبل وقوعِه

فرب واقعٍ لا يُرفع والمبالغةِ في بيان حالِ النكاحِ المحققِ فإن محظوريةَ المترقَّبِ حيث كانت للجَور المترقَّبِ فيه فمحظوريةُ المحقِّقِ مع تحقق الجَوْر فيه أولى وقيل المرادُ بالطيب الحِلُّ أي ما حل لكم شرعاً لأن ما استطابوه شاملٌ للمحرمات ولا مخصصَ له بمن عداهن وفيه فِرارٌ من محذور من محذور ووقوعٍ فيما هو أفضع منه لأن ماحل لهم مُجملٌ وقد تقرر أن النصَّ إذا تردد بين الإجمالِ والتخصيصِ يُحمل على الثاني لأن العالم المخصوصَ حجةٌ في غير محلّ التخصيصِ والمُجملُ ليس بحجة قبل ورودِ البيانِ أصلاً ولئن جُعل قوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الخ دالاً على التفصيل بناءً على ادعاء تقدّمِه في التنزيل فلْيُجْعل دالاً على التخصيص {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} معدولةٌ عن أعداد مكررةٍ غيرُ منصرفةٍ لما فيها من العدْلين عدلِها عن صِيَغها وعدلِها عن تكرُّرِها وقيل للعدل والصفةِ فإنها بُنيت صفاتٍ وإن لم تكن أصولها كذلك وقرئ وثُلَثَ ورُبَعَ على القصر من ثلاثَ ورُباعَ ومحلُّهن النَّصبِ على أنَّها حالٌ من فاعل طاب مؤكدةٌ لما أفاده وصفُ الطيّبِ من الترغيب فيهن والاستمالةِ إليهن بتوسيع دائرةِ الإذْنِ أى فانحكوا الطيباتِ لكم معدوداتٍ هذا العددَ ثنتين ثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً حسبما تريدون على معنى أن لكل واحدٍ منهم أن يختار أيَّ عددٍ شاء من الأعداد المذكورة لا أن بعضَها لبعض منهم وبعضَها لبعض آخرَ كما في قولك اقتسِموا هذه البَدْرةَ درهمين درهمين وثلاثا ثلاثا وأربعةً أربعة ولو أُفردت لفُهم منه تجويزُ الجمعِ بين تلك الأعدادِ دون التوزيعِ ولو ذكرت بكلمة أو لفات تجويزُ الاختلافِ في العدد هذا وقد قيل في تفسير الآيةِ الكريمةِ لما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالِهم من الحُوب الكبيرِ أخذ الأولياءُ يتحرّجون من ولايتهم خوفاً من لحوق الجوب بترك الإقساطِ مع أنهم كانوا لايتحرجون من ترك العدلِ في حقوق النساءِ حيث كان تحت الرجلِ منهم عشرٌ منهن فقيل لهم إن خفتم تركَ العدلِ في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها فخافوا أيضاً تركَ العدلِ بين النساءِ فقلِّلوا عددَ المنكوحاتِ لأن من تحرّج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكبٌ مثلَه فهو غيرُ متحرِّجٍ ولا تائبٍ عنه وقيل كانوا لا يتحرجون من الزنى وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى فقيل إن خفتم الجَوْرَ في حق اليتامى فخافوا الزنى فانكِحوا ما حل لكم من النساء ولا تحرموا حولَ المحرَّماتِ ولا يخفى أنه لا يساعدهما جزالةُ النظم الكريم لابتنائهما على تقدّم نزولِ الآيةِ الأولى وشيوعِها بين الناسِ مع ظهور توقفِ حُكمِها على ما بعدها من قوله تعالى وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم إلى قوله تعالى وكفى بالله حَسِيباً {فإن خفتم ألا تَعْدِلُواْ} أي فيما بينهن ولو في أقل الأعدادِ المذكورةِ كما خِفتُموه في حق اليتامى أو كما لو تعدِلوا في حقهن أو كما لم تعدِلوا فيما فوق هذه الأعدادِ {فواحدة} أي فالزَموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجميع بالكلية وقرئ بالرفع أي فالمُقنِعُ واحدةٌ أو فحسبُكم واحدةٌ {أَوْ ما ملكت أيمانكم} أيمن السراري بالغةً ما بلغت من مراتب العددِ وهو عطفٌ على واحدةً على أن اللزومَ والاختيارَ فيه بطريق التسرِّي لا بطريق النكاحِ كما فيما عُطف عليه لا ستلزمه ورودَ ملكِ النكاحِ على ملك اليمينِ بموجب اتحادِ المخاطَبين في الموضعين بخلاف ما سيأتِي من قولِه تعالى {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} فإن المأمورَ بالنكاح هناك غيرُ المخاطَبين بملك اليمين وإنما سُوِّي في السهولة واليُسرِ بين الحرةِ الواحدةِ وبين السراري من غير حصرٍ في عدد لقلة تبعتهن

4 - النساء وخِفةِ مؤنتِهن وعدمِ وجوبِ القسم فيهن وقرئ او من مَلَكَتْ أيمانكم وما في القراءة المشهورةِ للإيذان بقصور رتبتِهن عن رتبة العقلاءِ {ذلك} إشارةٌ إلى اختيار الواحدة والتسرى {أدنى ألا تَعُولُواْ} العَول الميلُ من قولهم عال الميزانُ عَوْلاً إذا مال وعال في الحكم أي جار والمرادُ هنا الميلُ المحظورُ المقابلُ للعدل أي ما ذُكر من اختيار الواحدةِ والتسرّي أقربُ بالنسبةِ إلى ما عداهما من أن لا تميلوا ميلاً محظوراً لانتفائه رأساً بانتفاء محلِّه في الأول وانتفاءِ خطرِه في الثاني بخلاف اختيارِ العددِ في المهائر فإن الميلَ المحظورَ متوقَّعٌ فيه لتحقق المحل والخطر ومن ههنا تبين أن مدارَ الأمرِ هو عدمُ العولِ لا تحققُ العدلِ كما قيل وقد فُسِّر بأن لا يكثُر عيالُكم على أنه من عال الرجلُ عيالَه يعولُهم أي مانَهم فعبر عن كثرة العيال بكثرة المؤنة على طريقة الكناية ويؤيده قراءة أن لاتعيلوا من أعال الرجلُ إذا كثُر عيالُه ووجهُ كونِ التسري مَظِنَّةَ قلةِ العِيالِ مع جواز الاستكثارِ من السراري أنه يجوز العزلُ عنهن بغير رضاهن ولا كذلك المهائرُ والجملةُ مستأنفةٌ جارية مما قبلها مجرى التعليل

4

{وآتوا النساء} أي اللاتي أُمر بنكاحهن {صدقاتهن} جمعُ صَدُقة كسمرة وهي المهر وقرئ بسكون الدالِ على التخفيف وبضم الصادِ وسكونِ الدال جمع صدقة كغرفة وبضمها على التوحيد وهو تثقيلُ صُدْقة كظُلُمة في ظُلْمة {نِحْلَةً} قال ابنُ عبَّاسٍ وقتادةُ وابن جريج وابن زيد فريضةً من الله لأنها مما فرضه الله في النِحْلة أي المِلةِ والشِرْعة والديانةِ فانتصابُها على الحالية من الصَّدُقات أي أعطوهن مهورَهن حالَ كونِها فريضةً منه تعالى وقال الزجاجُ تديُّناً فانتصابُها على أنها مفعولٌ له أي أعطوهن ديانة وشرعة وقال الكلبي نحلةً أي هِبةً وعطيةً من الله تعالى وتفضّلاً منه عليهن فانتصابُه على الحالية منها أيضاً وقيل عطيةً من جهة الأزواجِ من نَحَله كذا إذا أعطاه إياه ووهبَه له عن طِيبةٍ من نفسه نِحْلةً ونُحْلاً والتعبير عن إيتاء المهورِ بالنِّحلة مع كونها واجبةً على الأزواج لإفادة معنى الإيتاءِ عن كمال الرضا وطيبِ الخاطرِ وانتصابُها على المصدرية لأن الإيتاءَ والنحلةَ بمعنى الإعطاءِ كأنه قيل وانحَلوا النساءَ صَدُقاتِهن نِحْلةً أي أعطوهن مهورَهن عن طيبةِ أنفسِكم أو على الحالية من ضمير أَتَوْا أي آتوهن صَدُقاتِهن ناحلين طيِّبي النفوسِ بالإعطاء أو من الصَّدُقات أي منحولةً مُعطاةً عن طيبة الأنفسِ فالخطابُ للأزواج وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخُذون مهورَ بناتِهم وكانوا يقولون هنيئاً لك النافجةُ لِمَن يولدُ له بنتٌ يعنون تأخُذ مَهرَها فتنفج به مالَك أي تعظّمه {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ} الضميرُ للصدُقات وتذكيرُه لإجرائه مُجرى ذلك فإنه قد يشار به إلى المتعدد كما في قوله عز وجل قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم بعد ذكر الشهواتِ المعدودةِ وقد رُوي عن رؤية أنه حين قيل له في قوله ... فيها خطواط من سوادٍ وبَلَق ... كأَنَّهُ فِي الجلدِ تَوْليعُ البهق ... إن أردت الخطوطَ ينبغي أن تقول كأنها وإن أردت السوادَ والبلَقَ ينبغي أن تقول كأنهما قال لكني أردتُ كأن ذلك أو للصَّداق الواقعِ موقعَه صدُقاتِهن كأنه قيل وآتوا النساءَ صَداقَهن كما في قوله تعالى {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} حيث عَطفَ أكنْ على ما دلَّ عليه المذكورُ ووقع موقعَه كأنه قيلَ إنْ أخرتنِي أصَّدقْ وأكنْ واللامُ متعلقةٌ بالفعل وكذا عن لكن

50 - النساء بتضمينه معنى التجافي والتجاوزِ ومن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفةً لشئ أي كائنٍ من الصَّداق وفيه بعثٌ لهن على تقليل الموهوبِ {نَفْساً} تمييزٌ والتوحيدُ لما أنَّ المقصودَ بيانُ الجنس أي وإن وهَبْن لكم شيئاً من الصَّداق متجافياً عنه نفوسُهن طيباتٍ غيرَ مُخْبثاتٍ بما يَضطرُّهن إلى البذل من شكاسة أخلاقِكم وسوءِ معاشرتِكم لكن عَدَل عن لفظ الهبةِ والسماحةِ إلى مَا عليهِ النظمُ الكريمُ إيذاناً بأن العُمدة في الأمر إنما هو طيبُ النفسِ وتجافيها عن الموهوب بالمرة {فَكُلُوهُ} أي فخذوا ذلك الشئ الذي طابت به نفوسُهن وتصرفوا فيه تملُّكاً وتخصيصُ الأكلِ بالذكر لأنه معظمُ وجوهِ التصرفاتِ المالية {هَنِيئاً مَّرِيئاً} صفتان من هنُؤَ الطعامُ ومرُؤَ إذا كان سائغاً لا تنغيصَ فيه وقيل الهنئ الذي يلذه الأكل والمرئ ما يحمده عاقبتُه وقيل ما ينساغ في مجراه الذي هو المرء وهو ما بين الحُلْقوم إلى فم المعِدةِ سُمِّي بذلك لمروءِ الطعامِ فيه أي انسياغِه ونصبُهما على أنهما صفتانِ للمصدر أي أكلاً هنيئاً مريئاً أو على أنهما حالانِ من الضمير المنصوب أي كلوة وهو هنئ مرئ وقد يوقف على كلوه ويبتدأ هنيئاً مريئاً على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مُقامَ المصدرين كأنه قيل هنْأً ومَرْأً وهذه عبارةٌ عن التحليل والمبالغةِ في الإباحة وإزالة التبعية وروى أن ناساً كانوا يتأثمون أن يَقْبل أحدُهم من زوجته شيئاً مما ساقه إليها فنزلت

5

{وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم} رجوعٌ إلى بيان بقيةِ الأحكامِ المتعلقةِ بأموال اليتامى وتفصيلُ ما أُجمل فيما سبقَ من شرط إيتائِها ووقتِه وكيفيتِه إثرَ بيانِ بعضِ الأحكامِ المتعلقةِ بأنفسهن أعني نكاحَهن وبيانِ بعضِ الحقوقِ المتعلقةِ بغيرهن من الأجنبيات من حيث النفسُ ومن حيث المالُ استطراداً والخطابُ للأولياء نُهوا أن يؤتوا المبذرين من اليتامى أموالَهم مخافةَ أن يضيِّعوها وإنما أضيفت إليهم وهي لليتامى لا نظراً إلى كونها تحتَ ولايتِهم كما قيل فإنه غيرُ مصحِّحٍ لاتصافها بالوصف الآتي بل تنزيلاً لاختصاصها بأصحابها منزلةَ اختصاصِها بالأولياء فكأن أموالَهم عينُ أموالِهم لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسيِّ والنَّسَبي مبالغةً في حملهم على المحافظة عليها كما في قولِه تعالى {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} أي لا يقتُلْ بعضُكم بعضاً حيث عبّر عن بني نوعِهم بأنفسهم مبالغةً في زجرهم عن قتلهم فكأن قتلَهم قتلُ أنفسِهم وقد أيد ذلك حيث عبر عن جعلها مناطا لمعاش أصحابها بجعلها مناطاً لمعاشِ الأولياء فقيل {التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} أي جعلها الله شيئاً تقومون به وتنتعشون على حذف المفعول الأول فلو ضيَّعتُموه لضِعْتم ثم زيد في المبالغة حتى جُعل ما به القيامُ قياماً فكأنها في أنفسها قيامُكم وانتعاشُكم وقيل إنما أضيفت إلى الأولياء لأنها من جنس ما يقيم به الناسُ معايشَهم حيث لم يُقصَدْ بها الخصوصيةُ الشخصيةُ بل الجنسيةُ التي هي معنى ما يقام به المعاشُ وتميل إليه القلوبُ ويُدّخر لأوقات الاحتياج وهي بهذا الاعتبارِ لا تختص باليتامى وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ بمعزل من حمل الأولياءِ على المحافظة المذكورةِ كيف لا والوحدةُ الجنسيةُ الماليةُ ليست مختصّةً بما بين أموال اليتامى وأموال

6 - النساء الأولياءِ بل هي متحققةٌ بين أموالِهم وأموالِ الأجانبِ فإذن لا وجهَ لاعتبارها أصلا وقرئ اللاتي واللواتي وقرئ قَيْماً بمعنى قياماً كما جاء عَوْذاً بمعنى عِياذاً وقرئ قِواماً بكسر القاف وهو ما يُقام به الشيءُ أو مصدر قاوم وقرئ بفتحها {وارزقوهم فِيهَا واكسوهم} أي واجعلوها مكاناً لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا وتتربحوا حتى تكون نفقاتُهم من الأرباح لا من صُلْب المالِ وقيلَ الخطابُ لكلِّ أحدٍ كائناً مَنْ كان والمرادُ نهيُه عن أن يفوِّض أمرَ مالِه إلى من لا رُشدَ له من نسائه وأولادِه ووكلائِه وغير ذلك ولا يخفى أن ذلكَ مُخِلٌّ بجزالةِ النظمِ الكريم {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} أي كلاماً ليناً تطيب به نفوسُهم وعن سعيد بن جبير ومجاهد وابن جريج عِدوْهم عِدةً جميلةً بأن تقولوا إذا صلحتم ورسدتم سلَّمْنا إليكم أموالَكم وكلُّ ما سكَنت إليه النفسُ لحسنه شرعاً أو عقلاً من قول أو عمل فهو معروفٌ وما أنكَرَتْه لقُبحه شرعاً أو عقلاً فهو منكر

6

{وابتلوا اليتامى} شروعٌ في تعيين وقتِ تسليمِ أموالِ اليتامى إليهم وبيانِ شرطِه بعد الأمرِ بإيتائها على الإطلاق والنهيِ عنه عند كونِ أصحابِها سفهاءَ أي واختبروا من ليس منهم بيِّن السَّفَهِ قبل البلوغِ بتتبُّع أحوالِهم في صلاح الدينِ والاهتداءِ إلى ضبط المالِ وحسنِ التصرفِ فيه وجرِّبوهم بما يليق بحالهم فإن كانوا من أهل التجارةِ فبأن تعطوهم من المال ما يتصرفون فيه بيعا وابتياعا وإن كانوا ممن له ضِياعٌ وأهلٌ وخدَمٌ فبأن تعطوهم منه ما يصرفونه إلى نفقة عبيدِهم وخدمِهم وأُجَرائِهم وسائرِ مصارفِهم حتى تتبين لكم كيفيةُ أحوالِهم {حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ} بأن يحتلموا لأنهم يصلُحون عنده للنكاح {فإن آنستم} أي شاهدتم وتبينتم وقرئ أحَسْتم بمعنى أحسستم كما في قول من قال ... خلا أن العتاقَ من المطايا ... أحَسْنَ به وهنّ إليه شوُسُ ... {مّنْهُمْ رُشْداً} أي اهتداءً إلى وجوه التصرفاتِ من غير عجز وتبذيرٍ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعول للاهتمام بالمقدَّمِ والتَّشويقِ إلى المؤخر أو للاعتداد بمبدئيته له والتنوينُ للدِلالة على كفاية رُشدٍ في الجملة وقرئ بفتح الراء والشين وبضمها {فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم} من غير تأخيرٍ عن حد البلوغِ وفي إيثار الدفعِ على الإيتاء الواردِ في أول الأمرِ إيذانٌ بتفاوتهما بحسسب المعنى كما أُشيرَ إليهِ فيما سلف ونظم الآية الكريمة أن حتى هي التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله ... فما زالت القتلى تمُجُّ دماءَها ... بدِجلةَ حتى ماءُ دِجلةَ أشكلُ ... وما بعدها جملةٌ شرطيةٌ جُعلت غايةً للابتلاء وفعلُ الشرطِ بَلَغُواْ وجوابُه الشرطيةُ الثانيةُ كأنه قيل وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغِهم واستحقاقِهم دفعَ أموالِهم إليهم بشرط إيناسِ الرُشدِ وظاهرُ الآيةِ الكريمةِ أن من بلغ غيرَ رشيدٍ إما بالتبذير أو بالعجز لا يدفع إليه مالُه أبداً وبه أخذ أبو يوسفَ ومحمدٌ وقال أبو حنيفة ينتظر إلى خمس وعشرين سنةً لأن البلوغ بالسن ثماني عشرة سنةً فإذا زادت عليها سبعُ سنين وهي مدةٌ معتبرةٌ في أحوالِ الإنسانِ لما قالَه عليه الصَّلاةُ

7 - النساء والسلام مروهم بالصلاة لسبع دفع إليه مالَه أُونِسَ منه رشد أو لم يُؤْنَس {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} أي مسرفين ومبادرين كِبرَهم إو لإسرافكم ومبادرتِكم كِبرَهم تفرِّطون في إنفاقها وتقولون نُنفق كما نشتهي قبل أن يكبَرَ اليتامى فينتزعوها من أيدينا والجملة تأكيدٌ للأمر بالدفع وتقريرٌ لها وتمهيدٌ لما بعدَها من قوله تعالى {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} الخ أي من كان من الأولياء والأوصياءِ غنياً فليتنزَّهْ عن أكلها وليقنَعْ بما آتاه الله تعالى من الغنى والرزقِ إشفاقاً على اليتيم وإبقاءً على ماله {وَمَن كَانَ} من الأولياء والأوصياءِ {فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} بقدْر حاجتِه الضروريةِ وأُجرةِ سعيِه وخِدمتِه وفي لفظ الاستعفافِ والأكلِ بالمعروف ما يدل على أن للوصيّ حقاً لقيامه عليها عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له إن في حِجري يتيماً أفآكلُ من ماله قال بالمعروف غيرَ متأثِّلٍ مالاً ولا واقٍ مالَك بماله وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن وليَّ يتيمٍ قال له أفأشرب من لبن إبلِه قال إن كنت تبغي ضالّتَها وتلوطُ حوضَها وتهنأ جر باها وتسقيها يوم ورودِها فاشرَبْ غير مضل بنسل ولا ناهكٍ في الحلب وعن محمد بن كعب يتقرَّمُ كما تتقرّم البهيمة ويُنزِل نفسَه منزلةَ ألأجير فيما لابد منه وعن الشعبي يأكلُ من ماله بقدر ما يُعين فيه وعنه كالميتة يتناول عند الضرورة ويقضي وعن مجاهد يستسلف فإذا أيسرَ أدى وعن سعيد بن جبير أن شاء شرِب فضلَ اللبن وركِبَ الظهرَ ولبس ما يستُره من الثياب وأخَذَ القوتَ ولا يجاوزُه فإن أيسر قضاه وإن أعسر فهو في حل وعن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى منزلةَ وليَّ اليتيمِ إن استغنيتُ استعففتُ وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروف وإذا أيسرتُ قضيت واستعفَّ أبلغُ من عفّ كأنه يطلب زيادةَ العفة {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم} بعد ما راعيتم الشرائطَ المذكورةَ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عن المفعول الصريحِ للاهتمام به {فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} بأنهم تَسَلَّموها وقبضوها وبرِئَتْ عنها ذممُكم لما أن ذلك أبعدُ من التهمة وأنفى للخصومة وأدخَلُ في الأمانة وبراءةِ الساحةِ وإن لم يكن ذلك واجباً عند أصحابنا فإن الوصيَّ مُصدِّقٌ في الدفع مع اليمين خلافاً لمالكٍ والشافعيِّ رحمهما الله {وكفى بالله حَسِيباً} أي محاسباً فلا تُخالفوا ما أمركم به ولا تجاوزا ما حَدَّ لكم

7

{لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون} شروعٌ في بيان أحكامِ المواريثِ بعد بيانِ أحكامِ أموالِ اليتامى المنتقلةِ إليهم بالإرث والمرادُ بالأقربين المتوارثون منهم ومِنْ في مما متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لنصيبٌ أي لهم نصيبٌ كائنٌ مما ترَك وقد جُوِّز تعلُّقها بنصيب {وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون} إيرادُ حكمِهن على الاستقلال دون الدرْجِ في تضاعيف أحكامِهم بأن يقالَ للرجال والنساءِ الخ للاعتناء بأمرهن والإيذانِ بأصالتهن في استحقاق الإرثِ والإشارةِ من أول الأمرِ إلى تفاوت ما بين نصيبَي الفريقين والمبالغةِ في إبطال حكمِ الجاهليةِ فإنهم ما كانوا يُورِّثون النساءَ والأطفالَ ويقولون إنما يرث مَنْ يحارِبُ ويذُبُّ عن الحَوْزة روي أن أوسَ بنَ ثابت الأنصاري

8 - 9 النساء خلف زوجته أم كحة وثلاث بنات فزوى ابنا عمِّه سويدٌ وعرفطةُ أو قتادةُ وعَرْفجةُ ميراثَه عنهن على سنة الجاهلية فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه فقال ارجِعي حتى أنظُر ما يُحدِثه الله تعالى فنزلت فأرسل إليهما إن الله قد جعل لهن نصيباً ولم يبيِّنْ فلا تُفرِّقا من مال أوسٍ شيئاً حتى يبين فنزل يوصيكم الله الخ فأعطى أم كحة الثمنَ والبناتِ الثلثين والباقي لا بنى العمِّ وهو دليلٌ على جواز تأخيرِ البيانِ عن الخطاب وقولُه تعالى {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} بدلٌ من مَا الأخيرةِ بإعادة الجارِّ وإليها يعود الضميرُ المجرورُ وهذا البدلُ مرادٌ في الجملة الأولى أيضاً محذوفٌ للتعويل على المذكور وفائدتُه دفعُ توهُّمِ اختصاص بعضِ الأموالِ ببعض الورثةِ كالخيل وآلاتِ الحربِ للرجال وتحقيقُ أن لكلَ من الفريقين حقاً من كلِّ ما جلَّ ودقَّ {نَصِيباً مَّفْرُوضاً} نُصب على أنَّه مصدرٌ مؤكّدٌ كقوله تعالى {فَرِيضَةً مّنَ الله} كأنه قيل قسمةً مفروضةً أو على الحالية إذ المعنى ثبَت لهم نصيبٌ كائنٌ مما ترك الوالدان والاقربون حالَ كونِه مفروضاً أو على الاختصاصِ أيْ أعنِي نصيباً مقطوعاً مفروضاً واجباً لهم وفيه دليلٌ على أنَّ الوارثَ لو أعرض عن نصيبه لم يسقُطْ حقُّه

8

{وَإِذَا حَضَرَ القسمة} أي قسمةَ التركةِ وإنما قُدّمت مع كونها مفعولاً لأنها المبحوثُ عنها ولأن في الفاعل تعدداً فلو رُوعي الترتيب يفوت أطرافِ الكلام {أُوْلُواْ القربى} ممن لا يرث {واليتامى والمساكين} من الأجانب {فارزقوهم مّنْهُ} أي أعطوهم شيئاً من المال المقسومِ المدلولِ عليه بالقسمة وقيل الضميرُ لما وهو أمرُ ندبٍ كُلف به البالغون من الورثة تطييبا لقوب الطوائفِ المذكورةِ وتصدقاً عليهم وقيل أمرُ وجوبٍ ثم اختلف في نَسْخه {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} وهو أن يدعوا لهم ويستقِلّوا ما أعطَوْهم ويعتذروا من ذلك ولا يُمنّوا عليهم

9

{وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا خَافُواْ عَلَيْهِمْ} أمرٌ للأوصياء بأن يخشَوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يُحبون أن يُفعلَ بذراريهم الضعافِ بعد وفاتِهم أو لمن حضر المريضَ من العُواد عند الإيصاء بأن يخشَوا ربَّهم أو يخشوا أولادَ المريضِ ويُشفقوا عليهم شفقتَهم على أولادهم فلا يتركوه أن يُضِرَّ بهم بصرف المالِ عنهم أو للورثة بالشفقة على من حضَر القسمةَ من ضعفاء الأقاربِ واليتامى والمساكينِ متصوّرين أنهم لو كانوا أولادَهم بقُوا خلفهم ضِعافاً مثلَهم هل يجوّزون حِرمانَهم أو للموصين بأن ينظُروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية ولو بما في حيزها صلةٌ للذين على معنى وليخشَ الذين حالُهم وصفتُهم أنهم لو شارفوا أن يخلّفوا ورثةً ضِعافاً خافوا عليهم الضياعَ وفي ترتيب الأمرِ عليه إشارةٌ إلى المقصود إلى المقصود منه والعلةِ فيه وبعث على

10 - 11 النساء الترحم وأن يُحب لأولاد غيرِه ما يحب لأولاد نفسِه وتهديدٌ للمخالف بحال أولادِه وقرئ ضعفاءَ وضعافي وضعافى {فَلْيَتَّقُواّ الله} في ذلك والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلَها {وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} أمرهم بالتقوى التي هي غايةُ الخشيةِ بعد ما أمرهم بها مراعاةً للمبدأ والمنتهى إذ لانفع للأول بدون الثاني ثم أمرهم بان بقولوا لليتامى مثلَ ما يقولون لأولاودهم بالشفقة وحُسنِ الأدبِ أو للمريض ما يصُده عن الإسراف في الوصية وتضييعِ الورثة ويذكره التوبةَ وكلمةَ الشهادةِ أو لحاضري القسمةِ عذراً ووعداً حسناً أو يقولوا في الوصية مالا يؤدّي إلى تجاوز الثلث وقوله تعالى

10

{إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} أي على وجه الظلمِ أو ظالمين استئناف جئ به لتقرير مضمونِ ما فُصِّل من الأوامر والنواهي {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ} أي ملءَ بطونِهم {نَارًا} أي ما يُجرُّ إلى النار ويؤدِّي إليها وعن أبي بردة أنه صلى الله عليه وسلم قال يبعث الله تعالى قوماً من قبورهم تتأجّج أفواهُهم ناراً فقيل من هم فقال عليه السلام ألم ترأن الله يقول إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} أي سيدخُلون ناراً هائلةً مبْهمةَ الوصف وقرئ بضم الياء مخففاً ومشدداً من الإصلاء والتصلية يقال صِليَ النار قاسي حرَّها وصليته شويته وأصليته ألقيته فيها والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعَرتُ النارَ إذا ألهبتُها روي ان آكل مال اليتم يبعث يوم القيامةِ والدخانُ يخرج من قبره ومِنْ فيه وأنفِه وأُذنيه وعينيه فيعرف الناسُ أنه كان يأكلُ مالَ اليتيمِ في الدنيا وروي أنه لمَّا نزلتْ هذهِ الآيةُ ثقُل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمرُ على اليتامى فنزلَ قولُه تعالى وَإِن تُخَالِطُوهُمْ الأية

11

{يُوصِيكُمُ الله} شروعٌ في تفصيل أحكامِ المواريث المجلمة في قوله تعالى {لّلرّجَالِ نَصِيبٌ} الخ وأقسامُ الورثةِ ثلاثةٌ قسمٌ لا يسقُط بحال وهم الآباءُ والأولادُ والأزواج فهؤلاء قسمانِ والثالثُ الكلالة أي يأمركم ويعهَدُ إليكم {فِى أولادكم} أولاد كلِّ واحدٍ منكم أي في شأن ميراثهم بدئ بهم لأنهم أقربُ الورثةِ إلى الميتِ وأكثرُهم بقاءً بعد المورِّث {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} جملةٌ مستأنفةٌ جئ بها لتبيين الوصيةِ وتفسيرِها وقيل محلُّها النصبُ بيوصيكم على أن المعنى يفرِض عليكم ويشرَع لكم هذا الحُكمَ وهذا قريبٌ مما رآه الفراءُ فإنه يجري ما كان بمعنى القولِ من الأفعال مَجراه في حكاية الجملةِ بعدَه ونظيرُه

قولِه تعالى {وَعَدَ الله الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ} الآية وقولُه تعالى لِلذّكْرِ لا بد له من ضمير عائدٍ إلى الأولاد محذوفٍ ثقةً بظهوره كَما في قولِهم السمنُ مَنَوانِ بدرهم أي للذكر منهم وقيل الألفُ واللامُ قائمٌ مقامى والأصلُ لذكرهم ومِثلُ صفةٌ لموصوف محذوفٍ أي للذكر منهم حظ مثل حظُّ الأنثيين والبَداءةُ ببيان حكمِ الذكرِ لإظهار مَزيّتِه على الأنثى كما أنها المناطُ في تضعيف حظِّه وإيثارُ اسمَي الذكرِ والأنثى على ما ذُكر أولاً من الرجال والنساءِ للتنصيص على استواء الكبارِ والصغارِ من الفريقين في الاستحقاق من غير دخلٍ للبلوغ والكِبَرِ في ذلك أصلاً كما هو زعمُ أهلِ الجاهليةِ حيث كانوا لا يورِّثون الأطفالَ كالنساء {فَإِن كُنَّ} أي الأولادُ والتأنيثُ باعتبار الخبرِ وهو قوله تعالى {نِسَاء} أي خُلَّصاً ليس معهن ذكرٌ {فَوْقَ اثنتين} خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ لنساءً أي نساءً زائداتٍ على اثنتين {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} أي المتوفى المدلولُ عليه بقرينة المقامِ {وَإِن كَانَتْ} أي المولودةُ {واحدة} أي امرأةً واحدةً ليس معها أخٌ ولا أختٌ وعدمُ التعرّضِ للموصوف لظهوره مما سبق {فَلَهَا النصف} مما ترك وقرئ واحدةٌ على كان التامة واختلف في الثنتين فقال ابنُ عباس حكمُهما حكمُ الواحدةِ لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما وقال الجمهورُ حكمُهما حكمُ ما فوقهما لأنه تعالى لما بين حظَّ الذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان اقتضى ذلك أن فرضَهما الثلثان ثم لما أوهم ذلك أن يُزاد النصيبُ بزيادة العددِ رُدَّ ذلك بقوله تعالى {فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين} ويؤيد ذلك أن البنتَ الواحدةَ لما استحقَّت الثُلُثَ مع أخيها الأقوى منها في الاستحقاق فلأَنْ تستحِقَّه مع مثلها أولى وأحرى وأن البنتين أمسُّ رَحِماً من الأختين وقد فرض الله لهما الثلثين حيث قال تعالى {فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ} {وَلأَبَوَيْهِ} أي لأبوي الميت غُيِّر النظمُ الكريمُ لعدم اختصاصِ حُكمِه بما قبله من الصور {لِكُلّ واحد مّنْهُمَا} بدلٌ منه بتكرير العاملِ وُسِّط بين المبتدإِ الذي هو قوله تعالى {السدس} وبين خبرِه الذي هو لأبويه ونُقل الخبريةُ إليه تنصيصاً على استحقاق كلَ منهما السدسَ وتأكيداً له بالتفصيل بعد الإجمالِ وقرئ السدْسُ بسكون الدال تخفيفاً وكذلك الثلْثُ والربْعُ والثمْنُ {مّمَّا تَرَكَ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من السدس والعاملُ الاستقرارُ المعتبرُ في الخبر أي كائناً مما ترك المتوفى {إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} أو ولدُ ابن ذكرا كان أوانثى واحداً أو متعدداً غير أن الأبَ في صورة الأنوثةِ بعد ما أخذ فرضَه المذكورَ يأخذ ما بقيَ من ذوي الفروضِ بالعصوبة {فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ} ولا ولدُ ابنٍ {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} فحسْبُ {فَلاِمّهِ الثلث} مما ترك والباقي للأب وإنما لم يُذكَرْ لعدم الحاجةِ إليه لأنه لما فُرض انحصارُ الوارثِ في أبويه وعُيِّن نصيبُ الأم عُلمَ أن الباقيَ للأب وتخصيصُ جانبِ الأمِّ بالذِكر وإحالةُ جانبِ الأبِ على دَلالة الحالِ مع حصولِ البيانِ بالعكس أيضاً لما أنَّ حظَّها أخصَرُ واستحقاقَه أتمُّ وأوفرُ أو لأن استحقاقَه بطريق العصوبةِ دون الفرضِ هذا إذا لم يكن معهما أحدُ الزوجين أما إذا كان معهما ذلك فللأم ثلثُ ما بقيَ بعد فرضِ أحدِهما لا ثلثُ الكلِّ كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما فإنه يُفضي إلى تفضيل الأمِّ على الأب مع كونه أقوى منها في الإرث بدليل إضعافِه عليها عند انفرادِهما عن أحد الزوجين وكونِه صاحبَ فرضٍ وعصبةٍ وذلك خلافُ وضعِ الشرع {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} أي عددٌ ممن له أخوةٌ من غير اعتبارِ التثليثِ سواءٌ كانت من جهة الأبوين أو من جهة أحدِهما وسواءٌ كانوا ذكوراً أو إناثاً

مختلطين وساء كان لهم ميراثٌ أو كانوا محجوبين بالأب {فَلاِمِهِ السدس} وأما السدسُ الذي حجبوها عنه فهو للأب عند وجودِه ولهم عند عدمِه وعليه الجمهورُ وعند ابنِ عباس رضي الله عنهما أنه لهم على كلِّ حالٍ خلا أن هذا الحجبَ عنده لا يتحقق بما دون الثلاثِ وبالأخوات الخلص وقرئ فلإِمِّه بكسر الهمزةِ إتْباعاً لما قبلها {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ} خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ والجملةُ متعلقةٌ بما تقدم جميعاً لا بما يليها وحدَه أي هذه الأنصباءُ للورثة من بعد إخراجِ وصيةٍ {يُوصِى بِهَا} أي الميت وقرئ مبنياً للمفعول مخففاً ومبنياً للفاعل مشددا وفائدةُ الوصفِ الترغيبُ في الوصية والندب إليها أودين عطفٌ على وصيةٍ إلا أنه غيرُ مقيدٍ بما قُيدتْ به من الوصف بل هو مُطلقٌ يتناول ما ثبت بالبينة أو الإقرارِ في الصحةِ وإيثارُ أَوْ المفيدةِ للإباحة على الواو للدِلالة على تساويهما في الوجوب وتقدُّمِهما على القِسْمة مجموعَيْن أو منفردَيْن وتقديمُ الوصيةِ على الديْن ذكراً مع تأخّرها عنه حُكماً لإظهار كمالِ العنايةِ بتنفيذها لكونها مظِنةً للتفريط في أدائها ولاطّرادها بخلاف الدَّين {آباؤكم وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} الخطابُ للورثة فآباؤكم مبتدأ وأبناؤكم عطفٌ عليه ولا يدرون خبرُه وأيُّهم مبتدأٌ وأقربُ خبرُه ونفعاً نُصب على التمييز منه وهو منقول من الفاعلية كأنه قيل أيُّهم أقربُ لكم نفعُه والجملةُ في حيز النصبِ بلا تدرون والجملةُ الكبيرةُ اعتراضيةٌ مؤكِّدةٌ لوجوب تنفيذِ الوصيةِ أي أصولُكم وفروعُكم الذين يُتَوَفَّون لا تدرون أيُّهم أنفعُ لكم أمَنْ يوصي ببعض مالِه فيُعرِّضَكم لثواب الآخرةِ بتنفيذ وصيتِه أم مَنْ لا يوصي بشيء فيوفرَ عليكم عَرَضَ الدنيا وليس المرادُ بنفي الدرايةِ عنهم بيانَ اشتباهِ الأمرِ عليهم وكونَ أنفعيةِ كلَ من الأول والثاني في حيز الاحتمال عندهم من غير رجحانِ أحدِهما على الآخر كما في قولِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مثلُ أمتي مثلُ المطرِ لا يدرى أولُه خيرٌ أمْ آخرُه فإنَّ ذلكَ بمعزلٍ من إفادة التأكيدِ المذكورِ والترغيبِ في تنفيذ الوصيةِ بل تحقيقَ أنفعيةِ الأولِ في ضمن التعريضِ بأن لهم اعتقاداً بأنفعية الثاني مبنياً على عدم الدراية وقد أُشير إلى ذلك حيث عبر عن الأنفعية بأقربيه النفع تذكير المناط زعمِهم وتعييناً لمنشأ خطئِهم ومبالغةً في الترغيب المذكورِ بتصوير الثوابِ الآجلِ بصورة العاجل لما أن الطباعَ مجبولةٌ على حب الخيرِ الحاضرِ كأنه قيل لاتدرون أيُّهم أنفعُ لكم فتحكُمون نظراً إلى ظاهر الحالِ وقربِ المنالِ بأنفعية الثاني مع أن الأمرَ بخلافه فإن ثوابَ الآخرةِ لتحقق وصولِه إلى صاحبه ودوامِ تمتّعِه به مع غاية قصْرِ مدةِ ما بينهما من الحياة الدنيا أقربُ وأحضرُ وعرَضُ الدنيا لسرعة نفادِه وفنائِه أبعدُ وأقصى وقيل الخطابُ للمورِّثين والمعنى لاتعلمون من أنفعُ لكم ممن يرِثُكم من أصولكم وفروعِكم عاجلاً وآجلاً فتحَرَّوا في شأنهم ما أوصاكم الله تعالى به ولا تعمِدوا إلى تفضيلِ بعضٍ وحرمانِ بعض روي أن أحدَ المتوالدين إذا كان أرفعَ درجةً من الآخر في الجنة سأل الله تعالى أن يرفعَ إليه صاحبَه فيُرفعُ إليه بشفاعته قيل فالجملةُ الاعتراضيةُ حينئذ مؤكدةٌ لأمر القِسْمةِ وأنت خبيرٌ بأنه مُشعرٌ بأن مدارَ الإرثِ ما ذُكر من أقربيه النفع مع أنه العلاقةُ النسبية {فَرِيضَةً مّنَ الله} نُصِبت نصْبَ مصدر مؤكد لفعل محذوف أي فرَض الله ذلك فرضاً أو لقوله تعالى {يُوصِيكُمُ الله} فإنه في معنى يأمركم ويفرِض عليكم {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} أي بالمصالح والرُّتَب {حَكِيماً} في كلِّ ما قضَى وقدر فيدخُل فيه الأحكامُ المذكورة دخولا أوليا

12 - النساء

12

{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم} من المال شروعٌ في بيان أحكام القسم الثاني من الورثة ووجهُ تقديمِ حكمِ ميراثِ الرجالِ مما لاحاجة إلى ذكره {إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ} أي ولد وارث من بطنه أو من صُلْب بنيها أو بني بنيها وإن سفَلَ ذكراً كان أو أنثى واحداً كان أو متعدداً لأن لفظ الولدِ ينتظِمُ الجميعَ منكم أو من غيركم والباقى لورثهتن من ذوى الفروض والعصبات أو غيرِهم ولبيت المالِ إن لم يكن لهن وارثٌ آخرُ أصلاً {فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ} على نحو ما فُصِّل والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ذِكرَ تقديرِ عدمِ الولدِ وبيانِ حكمِه مستتبِعٌ لتقدير وجودِه وبيانِ حكمِه {فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ} من المال والباقي لباقي الورثةِ {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ} متعلق بكلتا الصورتين لابما يليه وحده {يُوصِينَ بِهَا} في محل الجرِّ على أنه صفةٌ لوصيةٍ وفائدتُها ما مر من ترغيب الميتِ في الوصية وحثِّ الورثةِ على تنفيذها {أَوْ دَيْنٍ} عطفٌ على وصيةٍ سواءٌ كان ثبوتُه بالبينة أو بالإقرار وإيثارُ أَوْ على الواو لما ذكر من إبراز كمالِ العنايةِ بتنفيذها {وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ} على التفصيل المذكورِ آنفاً والباقي لبقية ورثتِكم من أصحاب الفروضِ والعصباتِ أو ذوي الأرحامِ إو لبيت المالِ إن لم يكن لكم وارثٌ آخرُ أصلاً {فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ} على النحو الذي فُصل {فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم} من المال للباقين {مّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} الكلامُ فيه كما فُصِّل في نظيرَيْه فُرض للرجل بحق الزواجِ ضعفُ ما فرض للمرأة كما في النسب لمزيَّته عليها وشرفِه الظاهِرِ ولذلك اختُص بتشريف الخطابِ وهكذا قياسُ كلِّ رجلٍ وامرأةٍ اشتركا في الجهة ولا يستثنى منه إلا أولادُ الأمِّ والمُعتِقُ والمعتقةُ وتستوي الواحدةُ والعددُ منهن في الربع والثمن {وَإِن كَانَ رَجُلٌ} شروعٌ في بيان أحكامِ القسمِ الثالثِ من الورثة المحتمِلِ للسقوط ووجهُ تأخيرِه عن الأولَيْن بيِّنٌ والمرادُ بالرجل الميتُ وقوله تعالى {يُورَثُ} على البناءِ للمفعولِ من ورِث لامن أَوْرث خبر كان أي يورث منه {كلالة} الكلالةُ في الأصل مصدرٌ بمعنى الكَلالِ وهو ذهابُ القوةِ من الإعياء استُعيرت للقرابة من غير جهة الوالدِ والولد لضعفها بالإضافة إلى قرابتهما وتُطلق على من لم يخلِّفْ ولداً ولا والداً وعلى مَن ليس بوالد ولا ولد من المخلفين بمعنى ذي كلالة كما تطلق القَرابةُ على ذوي القرابة وقد جُوِّز كونُها صفةً كالهَجاجَة والفَقَاقة للأحمق فنصبُها إما على أنها مفعولٌ له أي يورثُ منه لأجل القرابةِ المذكورةِ أو على أنَّها حالٌ من ضمير

يورث أي حالَ كونِه ذا كلالةٍ أو على أنها خبرٌ لكان ويورث صفةٌ لرجل أي إن كان رجلٌ موروثٌ ذا كلالةٍ ليس له والدٌ ولا ولد وقرئ يُورِّثُ على البناء للفاعل مخففا ومشدا فانتصابُ كلالةً إما على أنَّها حالٌ من ضمير الفعلِ والمفعولُ محذوفٌ أي يورَث لأجل الكلالة {أَو امرأة} عطف على رجلٌ مقيدٌ بما قُيِّد به أي أو امرأةٌ تورث كذلك ولعل فَصْلَ ذكرِها عن ذكره للإيذان بشرفه وأصالتِه في الأحكام {وَلَهُ} أي للرجل ففيه تأكيدٌ للإيذان المذكورِ حيث لم يتعرَّضْ لها بعد جَرَيانِ ذكرِها أيضاً وقيل الضميرُ لكل منهما {أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} أي من الأم فحسب وقد قرئ كذلك فإن أحكامَ بني الأعيانِ والعَلاّتِ هي التي ذُكرت في آخرِ السورةِ الكريمةِ والجملةُ في محل النصب على أنها حالٌ من ضمير يورَث أو من رجلٌ على تقدير كون يورث صفة له ومساقها لتصوير المسألةِ وذكرُ الكَلالةِ لتحقيق جريانِ الحكمِ المذكورِ وإن كان مع مَنْ ذُكر ورَثةٌ أخرى بطريق الكلالة وأما جرَيانُه في صورة وجودِ الأمِّ أو الجدةِ مع أن قرابتَهما ليست بطريق الكلالة فبالإجماع {فَلِكُلّ واحد مّنْهُمَا} من الأخ والأختِ {السدس} من غير تفضيلٍ للذكر على الأنثى لأن الإدلاء إلى الميت بمحض الأنوثة {فإن كانوا أكثر من ذلك} أي أكثرَ من الأخ أو الأختِ المنفردَيْن بواحد أو بأكثرَ والفاءُ لما مرَّ منْ أنَّ ذكرَ احتمالِ الانفرادِ مستتبِعٌ لذكر احتمالِ التعدد {فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثلث} يقتسمونه بالسوية والباقي لبقية الورثةِ من أصحاب الفروض والعصبات هذا وأمَّا تجويزُ أنْ يكونَ يُورَث في القراءة المشهورة مبنياً للمفعول من أورث على أن المرادَ به الوارث والمعنى وإن كان رجلٌ يجعل وارثاً لأجل الكلالةِ أو ذا كلالة ة أى غير والده أو ولده ولذلك الوارث أخ أأو أختٌ فلكل واحدٍ من ذلك الوراث وأخيه أو أختِه السدسُ فإن كانوا أكثر مِن ذلك أي من الاثنين بأن كانوا ثلاثةً أو أكثرَ فهم شركاءُ في الثلث الموزع للاثنين لايزاد عليه شئ فبمعزل من السَّداد أما أولاً فلأن المعتبرَ على ذلك التقدير إنما هي الأخوةُ بين الوارثِ وبين شريكِه في الإرث من أخيه أو أختِه لا ما بينه وبين مورِّثه من الأخوة التي عليها يترتبُ حكمُ الإرثِ وبها يتِمُّ تصويرُ المسألةِ وإنما المعتبرُ بينهما الوراثةُ بطريق الكلالةِ وهي عامةٌ لجميع صورِ القَراباتِ التي لا تكون بالولادة فلا يكون نصيبُه ولا نصيبُ شريكِه مما ذكر بعينه ومن ادَّعى اختصاصَها بالإخوة لأمَ متمسكاً بالإجماع على أن المراد بالكلالة ههنا أولادُ الأمِّ فقد اعترف ببطلان رأيه مِن حيثُ لاَ يحتسبُ كيف لا ومبناه إنما هو الإجماعُ على أن المرادَ بالأخوةِ في قوله تعالى {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} هو الإخوةُ لأم خاصةً حسبما شهِدت به القراءةُ المحْكيةُ والآيةُ الآتيةُ في آخرِ السورةِ الكريمةِ ولولا أن الرجلَ عبارةٌ عن الميت والأُخوّةُ معتبرةٌ بينه وبين ورثتِه لما أمكن كونُ الكلِّ أولادَ الأمِّ ثم إن الكلالةَ كما نبّهتُ عليه باقيةٌ على إطلاقها ليس فيها شائبةُ اختصاصٍ بأولاد الأمِّ فضلاً عن الإجماع على ذلك وإلا لاقتصر البيانُ على حكم صورةِ انحصارِ الورثةِ فيهم وإنما الإجماعُ فيما ذكر من أنَّ المرادَ بالأخ والأختِ مَنْ كان لأمَ خاصة وأنتخبير بأن ذلك في قوة الإجماعِ على أن يُورَثَ من ورِث لا من أورث فتدبروا أما ثانياً فلأنه يقتضي أن يكون المعتبرُ في استحقاق الورثةِ في الفرض المذكورِ إخوةً بعضَهم لبعض من جهة الأم لما ذُكر من الإجماع مع

13 - النساء ثبوت الاستحقاقِ على تقدير الأُخوةِ من الجهتين وأما ثالثاً فلأن حُكمَ صورةِ انفرادِ الوارثِ عن الأخ والأختِ يبقى حينئذ غيرَ مُبيِّنٍ وليس من ضرورة كونِ حظِّ كلَ منهما السدسَ عند الإجماع كونُه كذلك عند الانفراد ألا يرى أن حظ كلَ من الأختين الثلثُ عند الاجتماعِ والنصفُ عند الانفراد وأما رابعاً فلأن تخصيصَ أحد الورثة بالتورث وجعل غيره تابعا له فيه مع اتحادِ الكلِّ في الإدلاءِ إلى المُورِّث مما لا عهدَ به {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} الكلامُ فيه كالذي مر في نظائره خلا أن الدين ههنا موصوفٌ بوصف الوصيةِ جرياً على قاعدة تقييدِ المعطوفِ بما قُيِّد به المعطوفُ عليه لاتفاق الجمهورِ على اعتبار عدمِ المُضارَّةِ فيه أيضاً وذلك إنما يتحقق فيما ثبوتُه بالإقرار في المرض كأنه قيل أو دينٍ يوصى به {غَيْرَ مُضَارّ} حالٌ من فاعل فعلٍ مُضمر يدلُّ عليه المذكورُ وما حُذف من المعطوف اعتماداً عليه كما أنّ رجالٌ في قوله تعالى {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال رِجَالٌ} على قراءة المبنيِّ للمفعول فاعل لفعل ينبى عنه المذكورُ ومن فاعل الفعلِ المذكورِ والمحذوفِ اكتفاءً به على قراءة البناءِ للفاعل أي يوصى بما ذكر من الوصية والدَّيْن حالَ كونِه غيرَ مضارَ للورثة أي بأن يوصيَ بما زاد على الثلث أو تكونُ الوصية لقصد الإضرارِ بهم دون القُربةِ وبأن يُقِرَّ في المرض بدَين كاذباً وتخصيصُ هذا القيدِ بهذا المقام لما أن الورثةَ مَظِنةٌ لتفريط الميتِ في حقهم {وَصِيَّةً مّنَ الله} مصدرٌ مؤكدٌ لفعل محذوفٍ وتنوينُه للتفخيم ومن متعلقةٌ بمضمر وقع صفةً له مؤكدةً لفخامته الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي يوصيكم بذلك وصيةً كائنةً من الله كقوله تعالى {فَرِيضَةً مّنَ الله} ولعل السرَّ في تخصيص كلَ منهما بمحله الإشعارُ بما بين الأحكامِ المتعلقةِ بالأصول والفروعِ وبين الأحكامِ المتعلّقةِ بغيرهم من التفاوت حسب تفاوُتِ الفريضةِ والوصية وإن كانت كلتاهما واجبة المراعاةِ أو منصوبٌ بغيرَ مُضارَ على أنه مفعولٌ به فإنه اسمُ فاعلٍ معتمدٍ على ذي الحالِ أو منفيٌّ معنىً فيعمل في المفعول الصريحِ ويعضُده القراءةُ بالإضافة أي غيرَ مضارٍ لوصية اللَّهِ وعهدُه لا في شأن الأولادِ فقط كما قيلَ إذْ لا تعلقَ لهم بالمقام بل في شأن الورثةِ المذكورةِ ههنا فإن الأحكامَ المفصَّلةَ كلَّها مندرجةٌ تحت قوله تعالى {يُوصِيكُمُ الله} جاريةٌ مَجرى تفسيرِه وبيانه ومُضارّتُها الإخلالُ بحقوقهم ونقصُها بما ذُكر من الوصية بما زاد على الثلث والوصيةِ لقصد الإضرارِ دون القُربةِ والإقرارِ بالدين كاذباً وإيقاعُها على الوصية مع أنها واقعةٌ على الورثة حقيقةً كما في قوله يار سارق الليلة أهل الدار للمبالغة في الزجر عنها بإخراجها مخرج مضارة أمرالله تعالى ومضادَّتهِ وجعلُ الوصيةِ عبارةً عن الوصية بالثلث فما دونه يقتضي أن يكونَ غيرَ مضارَ حالاً من ضمير الفعلِ المتعلقِ بالوصية فقط وذلك يؤدي إلى الفصل بين الحالِ وعاملِها بأجنبيَ هو المعطوفُ على وصية مع أنه لا تنحسِمُ به مادةُ المضارة لبقاء الإفرار بالدين على إطلاقه {والله عَلِيمٌ} بالمُضارِّ وغيرِه {حَلِيمٌ} لا يُعاجلُ بالعقوبةِ فلا يَغترَّ بالإمهال وإيرادُ الاسمِ الجليلِ مع كفاية الإضمارِ لإدخال الروعةِ وتربيةِ المهابةِ

13

{تِلْكَ} إشارةٌ إلى الأحكام التى تقدمت في شئون اليتامى والمواريث وغير

14 - 15 النساء ذلك {حُدُودُ الله} أي شرائعه المحدودة التى لاتجوز مجاوزتُها {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} في جميع الأوامرِ والنواهي التي من جملتها ما فصل ههنا وإظهار الاسم الجليل لما ذكر آنفاً {يُدْخِلْهُ جنات} نُصب على الظرفية عند الجمهورِ وعلى المفعولية عند الأخفشِ {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} صفةٌ لجنات منصوبة حسب انتصابِها {خالدين فِيهَا} حالٌ مقدرةٌ من مفعول يدخِلْه وصيغةُ الجمعِ بالنظر إلى جمعية مَنْ بحسب المعنى كما أنَّ إفرادَ الضميرِ بالنظر إلى إفراده لفظاً {وَذَلِكَ} إشارةٌ إِلى مَامرَّ من دخول الجناتِ الموصوفةِ بما ذكرَ على وجه الخلودِ وما فيه من معنى البعد للإيذانب كمال علوِّ درجتِه {الفوز العظيم} الذِي لاَ وصف وراءَه وُصف الفوزُ وهو الظفرُ بالخير بالعظيم إما باعتبار مُتعلّقِه أو باعتبار ذاتهِ فإن الفوزَ بالعظيم عظيمٌ والجملةُ اعتراض

14

{وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} ولو في بعض الأوامرِ والنواهي قال مجاهد فيما اقتُصَّ من المواريث وقال عكرمة عن ابن عباس من لم يرضَ بقَسْم الله تعالى ويتعد ماقاله الله تعالى وقال الكلبي يعني ومن يكفرْ بقسمة اللَّهِ المواريثَ ويتعدَّ حدودَه استحلالاً والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ للمبالغة في الزجر بتهويل الأمرِ وتربيةِ المهابة {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} شرائعَه المحدودة في جميع الأحكامِ فيدخُل فيها ما نحن فيه دخولا أوليا {يدخله} وقرئ بنون العظمةِ في الموضعين {نَارًا} أي عظيمةً هائلةً لايقادر قدرُها {خَالِداً فِيهَا} حال كما سبق ولعل إيثارَ الإفراد ههنا نظراً إلى ظاهر اللفظِ واختيارُ الجمعِ هناك نظراً إلى المعنى للإيذان بأن الخلودَ في دار الثوابِ بصفة الاجتماعِ أجلبُ للأنس كما أن الخلودَ في دار العذاب بصفة الانفرادِ أشدُّ في استجلاب الوحشة {وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} أي وله مع عذاب الحريقِ الجُسماني عذابٌ آخرُ مُبهمٌ لايعرف كُنهُه وهو العذابُ الروحاني كما يُؤْذِنُ به وصفُه والجملةُ حالية

15

{واللاتى يَأْتِينَ الفاحشة مِن نسائكم} شروع في بيان بعضٍ آخَرَ من الأحكام المتعلقةِ بالنساءِ إثرَ بيانِ أحكام المواريث والآتى جمعُ التي بحسب المعنى دون اللفظِ وقيل جمعٌ على غير قياسٍ والفاحشةُ الفَعلةُ القبيحةُ أريد بها الزنا لزيادة قُبحِه والإتيانُ الفعلُ والمباشرةُ يقال أتى الفاحشةَ أي فعلها وباشرها وكذا جاءها ورهَقها وغشِيَها وقرئ بالفاحشة فالإتيانُ بمعناه المشهورِ ومن متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل يأتين أي اللاَّتي يفعلْن الزنا كائناتٍ من نسائكم أي من أزواجكم كما في قوله تعالى {والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ} وقوله تعالى {مّن نِّسَائِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وبه قال السدي {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ} خبر للموصول والفاء للدلالة على سببية مَا في حيزِ الصلةِ للحكم أي فاطلبوا أن يشهَدَ عليهن بإتيانها أربعةٌ من رجال المؤمنين وأحرارِهم {فَإِن شَهِدُواْ} عليهن بذلك {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى البيوت} أي فاحبِسوهن فيها واجعلوها سِجْناً عليهن {حتى يَتَوَفَّاهُنَّ} أي إلى أن يستوفيَ أرواحَهن {الموت} وفيه تهويلٌ للموت وإبرازٌ له في صورة من يتولى قبض الأرواح

16 - 17 النساء وتوفيها أو يتوفاهن ملائكةُ الموتِ {أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} أي يشرع لهن حكماً خاصًّا بهن ولعل التعبيرَ عنه بالسبيل للإيذان بكونه طريقاً مسلوكاً فليس فيه دَلالةٌ على كونه أخفَّ من الحبس كما قاله أبو مسلم

16

{واللذان يأتيانها مِنكُمْ} هما الزاني والزانية بطرق التغليب قال السندي أُريد بهما البِكْران منهما كما ينبىء عنه كونُ عقوبتها أخفَّ من الحبس المخلّد وبذلك يندفع التكرار خلا أنه يبقى حكمُ الزاني المحصَنِ مبهماً لاختصاص العقوبةِ الأولى بالمحصنات وعدمِ ظُهورِ إلحاقهِ بأحد الحكمين دلالةٌ لخفاء الشِرْكة في المناط {فآذوهما} أي بالتوبيخ والتقريعِ وقيل بالضرب بالنعال أيضا وظاهر أن إجراءَ هذا الحكمِ أيضاً إنما يكون بعد الثبوتِ لكنْ ترك ذكره تعويلاً على ما ذُكر آنفاً {فَإِن تَابَا} عما فعلا من الفاحشة بسبب ما لقيا من زواجرِ الأذيةِ وقوارعِ التوبيخِ كما ينبئ عنه الفاء {وَأَصْلَحَا} أي أعمالهما {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} بقطع الأذيةِ والتوبيخِ فإن التوبةَ والصلاحَ مما يمنع استحقاقَ الذمِّ والعقابِ وقد جُوِّز أن يكون الخطابُ للشهود الواقفين على هَناتهما ويراد بالإيذاء ذمُّهما وتعنيفُهما وتهديدُهما بالرفع إلى الولاة وبالإعراض عنهما تُرك التعرُّضُ لهما بالرفع إليهما قيل كانت عقوبةُ الفريقين المذكورين في أوائل الإسلامِ على مامر من التفصيل ثم نُسخ بالحدّ لما رُوي أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قال خُذوا عني خُذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً الثيبُ تُرجم والبِكرُ تُجلد وقيل هذه الآية سابقة على الأولى نزولاً وكانت عقوبةُ الزناةِ مطلقا الأذى ثم الحبسُ ثم الجلدُ ثم الرجمُ وقد جُوِّز أن يكون الأمرُ بالحبس غيرَ منسوخٍ بأن يُتركَ ذكرُ الحدِّ لكونه معلوماً بالكتاب والسنة ويوصى بإمساكهن في البيوت بعد إقامةِ الحدِّ صيانةً لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروجِ من البيوت والتعرُّضِ للرجال ولا يخفى أنه ممَّا لا يساعدُهُ النظمُ الكريمُ وقال أبو مسلم وقد عزاه إلى مجاهد إن الأولى في السّحّاقات وهذه في اللوّاطين وما في سورة النورِ في الزناة والزواني متمسكاً بأن المذكورَ في الولى صيغةُ الإناثِ خاصةً وفي الثانية صيغةُ الذكورِ ولا ضرورة إلى المصير إلى التغليب على أنه لا إمكانَ له في الأولى ويأباه الأمرُ باستشهاد الأربعةِ فإنه غيرُ معهودٍ في الشرع فيما عدا الزنا {إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً} مبالغاً في قبول التوبةِ {رَّحِيماً} واسعَ الرَّحمةِ وهو تعليلٌ للأمر بالإعراض

17

{إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} استئنافٌ مسوقٌ لبيان أن قبولَ التوبةِ من الله تعالى ليس على إطلاقه كما ينبئ عنه وصفُه تعالى بكونه تواباً رحيماً بل هو مقيدٌ بما سينطِق به النصُّ الكريمُ فقولُه تعالى التوبةُ مبتدأٌ وقوله تعالى {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء} خبرُه وقولُه تعالى على الله متعلقٌ بما تعلَّق بهِ الخبرُ من الاستقرار فإن تقديمُ الجار والمجرور على عامله المعنويِّ مما لا نزاعَ في جوازه وكذا الظرفُ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ضمير المبتدإ المستكنِّ فيما تعلقَ بهِ الخبرُ على رأي من جوَّز تقديمَ الحالِ على عاملها المعنويِّ عند كونِها ظرفاً

أو حرفَ جر كما سبق في تفسيرِ قولِه تعالى {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} وَأياً مَا كان فمَعنى كونِ التوبةِ عليه سبحانه صدورُ القَبولِ عنه تعالى وكلمةُ على للدلالة على التحقيق ألبتةَ بحكم جري العادةِ وبسق الوعدِ حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه وهذا مُراد مَنْ قال كلمةُ على بمعنى مِنْ وقيل هي بمعنى عند وعن الحسن يعني التوبةَ التي يقبلُها اللَّهُ تعالى وقيل هي التوبةُ التي أوجب الله تعالى على نفسه بفضله قبولَها وهذا يشير إلى أن قوله تعالى عَلَى الله صفةٌ للتوبة بتقديرر مُتعلَّقِه معرفةً على رأي من جوّز حذفَ الموصولِ مع بعض صلته أي إنما التوبةُ الكائنةُ على الله والمراد بالسؤ المعصيةُ صغيرةً كانت أو كبيرة وقيل الخبرُ على الله وقوله تعالى للذين متعلقٌ بما تعلَّق بهِ الخبرُ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الضَّمير المستكنِّ في مُتعلَّق الخبر وليس فيه ما في الوجه الأولِ من تقديم الحال على العامل المعنويِّ إلا أن الذي يقتضيهِ المقامُ ويستدعيهِ النظامُ هو الأولُ لما أنَّ ما قبلَهُ من وصفه تعالى بكونه تواباً رحيماً إنما يقتضي بيانَ اختصاصِ قبولِ التوبةِ منه تعالى بالمذكورين وذلك إنما يكونُ بجعل قولهِ تعالى للذين الخ خبراً ألا يُرى إلى قوله عز وجل {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} الخ فإنه ناطقٌ بما قلنا كأنه قيل إنما التوبة لهؤلاء لالهؤلاء {بجهالة} متعلق يمحذوف وقع حالاً من فاعل يعملون أي يعملون السوءَ ملتبسين بها أي جاهلين سفهاءَ أو بيعملون على أن الباء سببية أي بعملونه بسبب الجهالةِ لأن ارتكابَ الذنبِ مما يدعو إليه الجهلُ وليس المرادُ به عدمَ العلمِ بكونه سوءاً بل عدمَ التفكرِ في العاقبة كما يفعله الجاهلُ قال قتادة اجتمع أصحابُ الرسول صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شئ عصى به ربَّه فهو جهالةٌ عمداً كان أو خطأ وعن مجاهد من عصى الله تعالى فهو جاهلٌ حتى ينزِعَ عن جهالته وقال الزجاج يعني بقوله بجهالة اختيارَهم اللذة الفانيةَ على اللذة الباقية {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} أي من زمان قريب وهو ما قبلَ حضورِ الموت كما ينبى عنه ما يسأتي من قوله تعالى حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت الخ فإنَّه صريحٌ في أن وقت الاختصار هو الوقتُ الذي لا تقبل فيه التوبةُ فبقيَ ماوراءه في حيِّز القَبول وعن ابن عباس رضي الله عنهما قبل أن ينزِلَ به سلطانُ الموتِ وعن الضحاك كلُّ توبةٍ قبل الموتِ فهو قريبٌ وعن إبراهيمَ النخعى مالم يُؤخَذْ بكَظَمِه وهو مجرى النفَس وروى أبو أيوبَ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أن اللَّهَ تعالى يقبل توبة العبد مالم يغرغر وعن عطاء ولو قبل موته بفُواق ناقة وعن الحسن أن إبليسَ قال حين أُهبط إلى الأرض وعزتِك لا أفارق ابنَ آدمَ ما دام روحُه في جسده فقال تعالى وعزتي لا أُغلق عليه باب التوبة مالم يُغرغِرْ ومن تبعيضيةٌ أي يتوبون بعضَ زمانٍ قريبٍ كأنه سمى مابين وجودِ المعصيةِ وبين حضورِ الموتِ زماناً قريباً ففي أي جُزءٍ تاب من أجزاء هذا الزمانِ فهو تائب {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى المذكورين من حيث اتصافُهم بما ذُكر وما فيهِ من معنى البُعد باعتبار كونِهم بانقضاء ذكرِهم في حكم البعيدِ والخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى {يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} وما فيه من تكرير الإسناد لتقوية الحكم وهذا وعدٌ بقَبول توبتهم إثرَ بيانِ أن التوبة لهم والفاءُ للدِلالة على سببيتها للقَبول {وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} مبالِغاً في العلمِ والحِكمةِ فيبني أحكامَه وأفعالَه على أساس الحِكمةِ والمصلحةِ والجملةُ اعتراضيةٌ مقررة لمضمون ما قبلها وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ للإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ فإنَّ الألوهية منشأ لاتصافه تعالى بصفات الكمالِ

18 - 19 النساء

18

{وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} تصريحٌ بما فُهم من قصر القَبولِ على توبة من تاب من قريب وزيادةُ تعيينٍ له ببيان أن توبةَ مَنْ عداهم بمنزلة العدمِ وجمعُ السيئاتِ باعتبار تكررِ وقوعِها في الزمان المديدلا لأن المراد جميعُ أنواعِها وبما مرّ من السوء نوعٌ منها {حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الان} حتى حرفُ ابتداءٍ والجملةُ الشرطيةُ بعدها غايةٌ لما قبلها أي ليس قبولُ التوبةِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئاتِ إلى حضور موتِهم وقولهم حينئذٍ إني تبتُ الآنَ وذكرُ الآن لمزيد تعيينِ الوقتِ وإيثارُ قال على تاب لإسقاط ذلك عن درجة الاعتبارِ والتحاشي عن تسميته توبةً {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} عطفٌ على الموصول الذي قبله أي ليس قبولُ التوبةِ لهؤلاء ولا لهؤلاء وإنما ذُكر هؤلاء مع أنه لا توبةَ لهم رأساً مبالغة في بيان عدمِ قبولِ توبةِ المُسوِّفين وإيذاناً بأن وجودَها كعدمها بل في تكرير حرفِ النفيِ في المعطوف إشعارٌ خفيٌّ بكون حالِ المسوِّفين في عدم استتباعِ الجدوى أقوى من حال الذين يموتون على الكفر والمرادُ بالموصولَيْن إما الكفارُ خاصةً وإما الفساقُ وحدهم وتسميتُهم في الجملة الحاليةِ كفاراً للتغليظ كما في قوله تعالى {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين} وأما ما يعمُّ الفريقين جميعاً فالتسميةُ حينئذٍ للتغليب ويجوز أن يراد بالأول الفسقَةُ وبالثاني الكفرةُ ففيه مبالغةٌ أخرى {أولئك} إشارةٌ إلى الفريقين وما فيه من معنى البعد للإيذان بترامي حالهم في الفظاعة وبُعدِ منزلتِهم في السوء وهو مبتدأٌ خبرُه {أَعْتَدْنَا لَهُمْ} أي هيأنا لهم {عَذَاباً أَلِيماً} تكريرُ الإسناد لما مر من تقوية الحكم وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بكون العذابِ مُعدًّا لهم وتنكير العذاب ووصفُه للتفخيم الذاتي والوصفي

19

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لا يحل لكم أن تَرِثُواْ النساء كَرْهاً} كان الرَّجلُ إذا مات قريبُه يُلْقي ثوبَه على امرأته أو على خِبائها ويقول أَرِثُ امرأته كما أرث مالَه فيصير بذلك أحقَّ بها من كل أحدٍ ثم إن شاء تزوّجها بلا صَداقٍ غيرَ الصَّداقِ الأولِ وإن شاء زوَّجَها غيرَه وأخذ صَداقَها ولم يُعْطِها منه شيئاً وإن شاء عضلها لتفتدى بما ورِثَتْ من زوجها وإن ذهبت المرأةُ إلى أهلها قبل إلقاءِ الثوبِ فهي أحقُّ بنفسها فنُهوا عن ذلك وقيل لهم لا يحل لكم أن تأخذوا بطريق الإرثِ على زعمكم كما تُحازُ المواريثُ وهن كارهاتٌ لذلك أو مُكْرهاتٌ عليه وقرىء لاتحل بالتاء الفوقانية على أن أنْ ترثوا بمعنى الوراثة وقرئ كُرْهاً بضم الكاف وهي لغة كالضَّعْف والضُّعف وكان الرجلُ إذا تزوج امرأةً ولم تكن من حاجته حَبَسها مع سوء العِشرةِ والقهر وضيق عليها

20 - النساء لتفتدى منه بما لها وتختلِعَ فقيل لهم {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} عطفاً على ترِثوا ولا لتأكيد النفْي والخطابُ للأزواج والعضْلُ الحبسُ والتضييقُ ومنه عضَلت المرأةُ بولدها إذا اختنقت رحِمُها فخرج بعضُه وبقيَ بعضُه أي ولا أن تُضَيِّقوا عليهن {لِتَذْهَبُواْ ببعض ما آتيتموهن} أي من الصَّداق بأن يدفعن إليكم بعضَه اضطراراً فتأخُذوه منهن وإنما لم يُتعرَّضْ لفعلهن إيذاناً بكونه بمنزلة العدمِ لصدوره عنهن اضطراراً وإنما عُبّر عن ذلك بالذهاب به لا بالأخذ ولا بالإذهاب للمبالغة في تقبيحه ببيان تضمُّنِه لأمرين كلٌّ منهما محظورٌ شنيعُ الأخذِ والإذهابِ منهن لأنه عبارةٌ عن الذهاب مستصحباً به {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} على صيغة الفاعلِ من بيَّن بمعنى تبين وقرئ على صيغة المفعولِ وعلى صيغة الفاعل من أبان بمعنى تبين أي بيِّنةِ القُبحِ من النشوز وشكاسةِ الخلُقِ وإيذاءِ الزوجِ وأهلِه بالبَذاء والسَّلاطةِ ويعضُده قراءة أُبي إلا أنْ يُفْحِشْن عليكُم وقيل الفاحشة الزنا وهو استئناءٌ من أعمِّ الأحوالِ أو أعمِّ الأوقاتِ أو أعمِّ العللِ أي ولا يحلِ لكم عضْلُهن في حالٍ من الأحوالِ أو في وقتٍ من الأوقات أولعلة من العِللِ إلا في حال إتيانِهن بفاحشة أو إلا في وقت إتيانِهن أو إلا لإتيانهن بها فإن السببَ حينئذٍ يكون من جهتهن وأنتم معذورن في طلب الخُلْع {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} خطابٌ للذين يُسيئون العشرة معهن والمعروف مالا يُنكِرُه الشرعُ والمروءةُ والمرادُ ههنا النَّصَفَةُ في المبيت والنفقةُ والإجمال في المقال ونحو ذلك {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} وسئِمْتم صُحبتَهن بمقتضى الطبيعةِ من غير أن يكون من قِبَلهن ما يُوجبُ ذلك من الأمور المذكورةِ فلا تفارِقوهن بمجرد كراهةِ النفسِ واصبِروا على معاشرتهن {فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} علةٌ للجزاء أُقيمت مُقامه للإيذان بقوة استلزامِها إياه كأنه قيل فإن كرِهتُموهن فاصبِروا عليهن مع الكراهة فلعل لكم فيما تكرَهونه خيراً كثيراً ليس فيما تُحبّونه وعسى تامةٌ رافعةٌ لما بعدها مُستغنيةٌ عن تقدير الخبر أبي فقد قرَّبتْ كراهتُكم شيئاً وجعل اللَّهُ فيه خيراً كثيراً فإن النفسَ ربما تكره ما هو أصلحُ في الدين وأحمدُ عاقبةً وأدنى إلى الخير وتحبُّ ما هو بخلافه فليكنْ نظرُكم إلى ما فيه خيرٌ وصلاحٌ دون ما تهوى أنفسُكم وذكرُ الفعلِ الأولِ مع الاستغناء عنه وانحصارُ العلية في الثاني للتوسل إلى تعميم مفعولِه ليُفيدَ أن ترتيبَ الخيرِ الكثيرِ من الله تعالى ليس مخصوصاً بمكروه دون مكروهٍ بل هو سنةٌ إلهية جاريةٌ على الإطلاق حسَبَ اقتضاءِ الحكمةِ وأن ما نحن فيه مادةٌ من موادّها وفيهِ من المبالغةِ في الحمل على ترك المفارقةِ وتعميمِ الإرشادِ ما لايخفي وقرى ويجعلُ مرفوعاً على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف والجملة حاليةٌ تقديرُه وهو أي ذلك الشئ يجعل اللَّهُ فيه خيراً كثيراً وقيل تقديرُه واللَّهُ يجعل بوضع المُظهر موضِعَ المُضمرِ وتنوينُ خيراً لتفخيمه الذاتي ووصفُه بالكثرة لبيان فخامته الوصفية والمراد به ههنا الولدُ الصالحُ وقيل الأُلفةُ والمحبة

20

{وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ} أي تزوُّجَ امرأةٍ ترغبون فيها {مَّكَانَ زَوْجٍ} ترغبون عنها بأن تُطلقوها {وآتيتُمْ إحْدَاهُنَّ} أي إحدى الزوجاتِ فإن المرادَ بالزوج هو الجنس

21 - 22 النساء والجملةُ حاليةٌ بإضمار قد لامعطوفة على الشرط أي وقد آتيتم التي تريدون أن تطلقوها {قِنْطَاراً} أي مالاً كثيراً {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ} أي من ذلك القنطارِ {شَيْئاً} يسيراً فضلاً عن الكثير {أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً} استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير النهْي والتنفيرِ عن المنهيِّ عنه والاستفهامُ للإنكار والتوبيخِ أي أتأخذونه باهتين وآثمين أو للبهتان والإثم فإن أحدَهم كان إذا تزوج امرأةً بَهَت التي تحته بفاحشة حتى يُلجِئَها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرِفه إلى تزوج الجديدةِ فنُهوا عن ذلك والبهتانُ الكذبُ الذي يبهَتُ المكذوبَ عليه ويُدهِشه وقد يستعمل في الفعل الباطلِ ولذلك فسر ههنا بالظلم وقوله عز وجل

21

{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} إنكارٌ لأخذه إثرَ إنكارٍ وتنفيرٌ عنه غب تنفيرٍ وقد بولغ فيه حيث وُجّه الإنكارُ إلى كيفية الأخذِ إيذاناً بأنه مما لا سبيل له إلى التحقق والوقوعِ أصلاً لأن ما يدخُل تحت الوجود لابد أن يكون على حال من الأحوال فإذا لم يكن لشيء حالٌ أصلاً لم يكن له حظٌّ من الوجود قطعاً وقوله عز وجل {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} حالٌ من فاعل تأخُذونه مفيدةٌ لتأكيد النكيرِ وتقريرِ الاستبعادِ أي على أيّ حالٍ أو في أي حالٍ تأخُذونه والحالُ أنه قد جرى بينكم وبينهن أحوالٌ منافيةٌ له من الخَلْوة وتقرُّرِ المَهرِ وثبوتِ حقِّ خِدْمتِهن لكم وغير ذلك {وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً} عطفٌ على ما قبله داخلٌ في حُكمهِ أيْ أخذْنَ منكم عهداً وثيقاً وهو حقُّ الصحبةِ والمعاشرةِ أو ما أوثق اللَّهُ تعالى عليهم في شأنهن بقوله تعالى فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان أو ما أشار إليه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بقوله أخذتموهن بأمانة الله واستحللم فروجَهن بكلمة الله تعالى

22

{وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آباؤكم} شروعٌ في بيان من يحْرُم نكاحُها من النساء ومَنْ لا يحرُم وإنما خُصَّ هذا النكاحُ بالنهي ولم يُنْظَمْ في سلك نكاحِ المحرِّماتِ الآتيةِ مبالغةً في الزجر عنه حيث كانوا مُصِرِّين على تعاطيه قال ابنُ عباسٍ وجمهورُ المفسِّرين كان أهلُ الجاهليةِ يتزوّجون بأزواج آبائِهم فنُهوا عن ذلك واسمُ الآباءِ ينتظِمُ الأجدادَ مجازاً فتثبُت حرمةُ ما نكحوها نصاً وإجماعاً ويستقِلُّ في إثبات هذه الحُرمةِ نفس النكاحِ إذا كان صحيحاً وأما إذا كان فاسداً فلا بد في إثباتها من الوطء أو ما يجري مجراه من التقبيل والمسِّ بشهوة ونحوِهما بل هو المثبِتُ لها في الحقيقة حتى لو وقعَ شيءٌ من ذلكَ بحكم مِلكِ اليمينِ أو بالوجه المحرَّمِ تثبتُ به الحُرمةُ عندنا خلافاً للشافعي في المحرّم أي لا تنكحوا التي نكحها آباؤكم وإيثارُ مَا على مَنْ للذهاب إلى الوصف وقيل ما مصدريةٌ على إرادة المفعولِ من المصدر {مّنَ النساء} بيانٌ لما نُكِح على الوجهين {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} استثناءٌ مما نكَحَ مفيدٌ للمبالغة في التحريم بإخراج الكلامِ مُخرَجَ التعليقِ بالمُحال على طريقةِ قولهِ ... ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفيهم ... بهن فُلولٌ من قراع الكتائبِ ... والمعنى لا تنكِحوا حلائلَ آبائِكم إلا من ماتت منهن والمقصودُ سدُّ طريقِ الإباحةِ بالكلية ونظيرُه قوله تعالى {حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط} وقيل هو استثناء مما يستلزِمُه النهي ويستوجبه مباشرةً المنهي عنه

23 - النساء كأنه قيل لا تنكِحوا ما نكح آباؤكم من النساء فإنه موجبٌ للعقاب إلا ما قد مضى فإنه معفوٌّ عنه وقيل هو استثناءٌ منقطعٌ معناه لكنْ ما قد سلف لا مؤاخذةَ عليه لا أنه مقرَّرٌ ويأباهما قولُه تعالى {إِنَّهُ كَانَ فاحشة وَمَقْتاً} فإنه تعليلٌ للنهي وبيانٌ لكون المنهيِّ عنه في غاية القُبحِ مبغوضاً أشدَّ البُغضِ وأنه لم يزَلْ في حُكمِ الله تعالى وعلمِه موصوفاً بذلك ما رَخَّص فيه لأمة من الأمم فلا يلائم أن يُوسَّطَ بينهما ما يُهوِّن أمرَه من ترك المؤاخذة على ماسلف منه {وَسَاء سَبِيلاً} في كلمة سَاء قولانِ أحدُهما أنها جاريةٌ مَجرى بئسَ في الذم والعملِ ففيها ضميرٌ مُبْهمٌ يفسِّره ما بعدَهُ والمخصوصُ بالذم محذوفٌ تقديرُه وساء سبيلاً سبيلُ ذلك النكاحِ كقوله تعالى بِئْسَ الشراب أي ذلك الماءُ وثانيهما أنها كسائر الأفعالِ وفيها ضميرٌ يعود إلى ما عاد إليه ضميرُ أَنَّهُ وسبيلاً تمييز والجملةُ إما مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب أو معطوفة على خبر كان محكيةٌ بقول مُضْمرٍ هو المعطوفُ في الحقيقة تقديرُه ومقولاً في حقه ساء سبيلاً فإن ألسنةَ الأممِ كافةً لم تزَلْ ناطفة بذلك في الأعصار والأمصار قيل مراتبُ القُبحِ ثلاثٌ القبحُ الشرعيُّ والقبحُ العقليُّ والقبحُ العاديُّ وقد وصف الله تعالى هذا النكاحَ بكل ذلك فقولُه تعالى فاحشة مرتبةُ قُبحِه العقليِّ وقولُه تعالى وَمَقْتاً مرتبةُ قبحِه الشرعيِّ وقولُه تعالى وَسَاء سَبِيلاً مرتبةُ قبحِه العاديِّ وما اجتمع فيه هذه المراتبُ فقد بلغَ أقصى مراتبِ القُبحِ

23

{حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وَبَنَاتُ الاخ وَبَنَاتُ الاخت} ليس المرادُ تحريمَ ذواتِهن بل تحريمَ نكاحِهن وما يُقصد به من التمتع بهن وبيانَ امتناعِ ورودِ مِلكِ النكاحِ عليهن وانتفاءِ محلِّيتِهن له رأسا وأما حرمةُ التمتُّع بهن بملك اليمينِ في الموادّ التي يُتصور فيها قرارُ المِلكِ كما في بعض المعطوفاتِ على تقدير رِقِّهن فثابتةٌ بدِلالة النصِّ لاتحاد المدارِ الذي هو عدمُ مَحلّيةِ أبضاعِهن للمِلْك لا بعبارته بشهادة سباقِ النظمِ الكريمِ وسياقِه وإنما لم يوجب المدارُ المذكورُ امتناعَ ورود ملك اليمين رأساً ولا حرمةَ سببِه الذي هو العقدُ أو ما يجري مَجراه كما أوجب حرمةَ عقدِ النكاحِ وامتناعَ ورودِ حُكمِه عليهن لأن مورِدَ مِلكِ اليمينِ ليس هو البُضعَ الذي هو مورِدُ ملكِ النكاحِ حتى يفوتَ بفوات مَحلِّيتِه له كملك النكاحِ فإنه حيث كان موردُه ذلك فات بفوات محلّيتِه له قطعاً وإنما مورِدُه الرقبةُ الموجودةُ في كل رقيق فيتحقق بتحقق محلِّه حتماً ثم يزول بوقوع العِتقِ في المواد التي سببُ حرمتِها محضُ القرابةِ النَّسَبية كالمذكورات ويبقى في البواقي على حاله مستتبِعاً لجميع

أحكامِه المقصودةِ منه شرعاً وأما حلُّ الوطءِ فليس من تلك الأحكامِ فلا ضيرَ في تخلُّفه عنه كما في المجوسية والأمهاتُ تعُمُّ الجداتِ وإن عَلَوْن والبناتُ تتناول بناتِهن وإن سفَلْن والأخواتُ ينتظِمْن الأخواتِ من الجهات الثلاثِ وكذا الباقياتُ والعمةُ كلُّ أنثى ولدَها مَنْ وَلدَ والدَك والخالةُ كلُّ أنثى ولدَها مَنْ ولدَ والدتَك قريباً أو بعيداً وبناتُ الأخِ وبنات الأخت تتناول القربى والبعدى {وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مّنَ الرضاعة} نزّل الله تعالى الرَّضاعة منزلةَ النَسَب حتى سمَّى المُرضِعةَ أماً للرضيع والمراضعة أختاً وكذلك زوجُ المرضعةِ أبوه وأبواه جدّاه وأختُه عمتُه وكلُّ ولدٍ وُلد له من غير المُرْضِعة قبلَ الرّضاعِ وبعده فهم إخوتُه وأخواتُه لأبيه وأمُّ المرضعةِ جدتُه وأختُها خالتُه وكل من ولد من هذا الزوجِ فهم أخوانه وأخواتُه لأبيه وأمه ومِنْ ولدها من غيره فهم إخوتُه وأخواتُه لأمه ومنْهُ قولُه عليهِ السَّلامُ يحرُم من الرضاعة ما يحرُم من النَسَب وهو حكمٌ كليٌّ جارٍ على عمومه وأما أمُّ أخيه لأب وأختُ ابنِه لأم وأمُّ أمِّ ابنِه وأمُّ عمِّه وأمُّ خالِه لأب فليست حرمتُهن من جهة النسبِ حتى يحِلَّ بعمومه ضرورةَ حلِّهن في صور الرضاعِ بل من جهة المصاهرةِ ألا يُرى أن الأولى موطوءةُ أبيه والثانيةَ بنتُ موطوءتِه والثالثةَ أمُّ موطوءتِه والرابعةَ موطوءةُ جدِّه الصحيحِ والخامسةَ موطوءةُ جدِّه الفاسد {وأمهات نِسَائِكُمْ} شروع في بيان المحرمات من جهة المصاهرةِ إثرَ بيان المحرَّماتِ من جهة الرَّضاعةِ التي لها لُحمةٌ كلُحمةِ النَسبِ والمرادُ بالنساء النكوحات على الإطلاق سواءٌ كن مدخولا بهن أولا وعليه جمهورُ العلماء روي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال في رجل تزوج امرأةً ثم طلقها قبل أن يدخل بها إنه لا بأس بأن يتزوجَ ابنتَها ولا يحِلُّ له أن يتزوجَ أمَّها وعن عمرَ وعِمرانَ بنِ الحصين رضيَ الله عنهما أنَّ الأمَّ تحرُم بنفس العقدِ وعن مسروقٍ هي مُرسلةٌ فأرسِلوا ما أرسلَ الله وعن ابن عباس أبهِموا ما أبهم الله خلا أنه روي عنه وعن علي وزيد وابنِ عمر وابن الزبير رضي الله عنهم أنهم قرءوا وأمهاتُ نسائِكم اللاتي دخلتم بهن وعن جابر روايتان وعن سعيد بن المسيب عن زيد أنه إذا ماتت عنده فأخذ ميراثَها كُره أن يخلُفَ على أمها وإذا طلقها قبل أن يدخُل بها فإن شاء فَعَل أقام الموتَ في ذلك مُقام الدخولِ كما قام مقامَه في باب المهرِ والعِدّةِ ويُلحقُ بهن الموطوءاتُ بوجه من الوجوه المعدودةِ فيما سبَق والممسوساتُ ونظائرُهن والأمهاتُ تعم المرضِعاتِ كما تعم الجداتِ حسبما ذكر {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِى حُجُورِكُمْ} الربائبُ جمعُ ربيية فعيل بمعنى مفعول والتَّاءُ للنقلِ إلى الاسميَّةِ والربيبُ ولدُ المرأةِ من آخَرَ سمي به لأنه يرُبُّه غالباً كما يرُبُّ ولدَه وإن لم يكن ذلك أمراً مطَّرِداً وهو المعنيُّ بكونهن في الحُجور فإن شأنهن الغالبَ المعتادَ أن يكنّ في حضانة أمهاتِهن تحت حماية أزواجهن لاكونهن كذلك بالفعل وفائدةُ وصفِهن بذلك تقويةُ عِلةِ الحُرمةِ وتكميلها كما أنها النُّكتةُ في إيرادهن باسم الربائبِ دون بناتِ النساءِ فإن كونَهن بصدد احتضانِهم لهن وفي شرف التقلّبِ في حجورهم وتحت حمايتِهم وتربيتِهم مما يقوِّي الملابسةَ والشبَهَ بينهن وبين أولادِهم ويستدعي إجراءَهن مُجرى بناتِهم لا تقييدُ الحرمةِ بكونهن في حجورهم بالفعل كما رُوي عن عليَ رضيَ الله عنه وبه أخذ داودُ ومذهبُ جمهورِ العلماءِ ما ذكر أولاً بخلاف ما في قوله تعالى {مّن نِّسَائِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فإنه لتقييدها به قطعاً فإن

كلمةَ مِنْ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ربائبكم او من ضميرها المستكنِّ في الظرف لأنه لما وقع صلة تحمل ضميرا أي وربائبكم اللاتي استقرَرْنَ في حجوركم كائناتٍ من نسائكم الخ ولا مساغَ لجعلِه حالاً من أمهاتُ أو مما أضيفت هي إليه خاصةً وهو بيِّنٌ لا سِترةَ به ولا مع ما ذكر أولا ضرورةَ أن حاليتَه من ربائبكم أو من ضمير ما تقتضي كونَ كلمةِ مِنْ ابتدائيةً وحاليتُه من أمهاتُ أو من نسائكم تستدعي كونَها بيانيةً وادعاءُ كونِها اتصاليةً منتظمةٌ لمعنى الابتداءِ والبيان او جعل الموصول صفة للنساء مع اختلاف عاملَيْهما مما يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن أمثاله مع أنه سعيٌ في إسكات ما نطق به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم واتفق عليه الجمهورُ حسبما ذُكر فيما قبلُ وأما ما نقل من القراءة فضعيفةُ الروايةِ وعلى تقدير الصحةِ محمولةٌ على النسخ ومعنى الدخولِ بهن إدخالُهن السِّترَ والباءُ للتعدية وهي كنايةٌ عن الجماع كقولهم بنى عليها وضرَب عليها الحجابَ وفي حكمه اللمسُ ونظائرها كما مر {فَإِن لَّمْ تكونوا} أي فيما فبل {دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} أصلاً {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أي في نكاح الربائبِ وهو تصريحٌ بما أَشعَرَ به ما قبله والفاءُ الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن بيانَ حكمِ الدخولِ مستتبِعٌ لبيانِ حكمِ عدمِه {وحلائل أَبْنَائِكُمُ} أي زوجاتُهم سُمّيت الزوجةُ حليلةً لحِلّها للزوج أو لحلولها في محله وقيل لَحِلّ كلَ منهما إزارَ صاحبِه وفي حكمهن مزْنياتُهم ومَن يجرين مَجراهن من الممسوسات ونظائرِهن وقولُه تعالى {الذين مِنْ أصلابكم} لإخراج الأدعياءِ دون أبناءِ الأولادِ والأبناءِ من الرَّضاع فإنهم وإن سفلوا في حكم الأنباء الصلبية {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين} في حيز الرفعِ عطفاً على ما قبله من المحرمات والمرادُ به جمعُهما في النكاح لا في ملك اليمن وأما جمعُهما في الوطء بملك اليمن فملحقٌ به بطريق الدِلالةِ لاتحادهما في المدار ولقوله عليه الصلاة والسلام مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخرِ فلا يجمَعَنّ ماءَه في رحم أختين بخلاف نفسِ ملكِ اليمينِ فإنه ليس في معنى النكاحِ في الأفضاء إلى الوطء ولا مستلزِماً له ولذلك يصَحُّ شراءُ المجوسيةِ دون نكاحِها حتى لو وطئهما لايحل له وطءُ إحداهما حتى يحرُمَ عليه وطءُ الأخرى بسبب من الأسباب وكذا لو تزوج أختَ أَمَتِه الموطوءةِ لا يحل له وطء إحداهما حتى يحرم عليه الأخرى لأن المنكوحةَ موطوءةٌ حكماً فكأنه جمعهما وطأ وإسنادُ الحرمةِ إلى جمعهما لا إلى الثانية منهما بأن يقال وأخواتُ نسائِكم للاحتراز عن إفادة الحُرْمةِ المؤبدةِ كما في المحرماتِ السابقة ولكونه بمعزلٍ من الدِلالة على حرمة الجمعِ بينهما على سبيل المعية ويشترك في هذا الحكمِ الجمعُ بين المرأةِ وعمتِها ونظائرِها بل أولى فإن العمةَ والخالةَ بمنزلة الأمِّ فقوله عليه السلام لا تُنكحُ المرأةُ على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها من قبيل بيان التفسير لابيان التغييرِ وقيل هو مشهورٌ يجوز به الزيادةُ على الكتاب {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ ما قد مضى لاتؤاخذون به ولا سبيل إلى جعله متصلاً بقصد التأكيدِ والمبالغةِ كما مر فيما سلف لأن قوله تعالى {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} تعليلٌ لما أفاده الاستثناءُ فيتحتم الانقطاعُ وقال عطاء والسدي معناه إلا ما كان من يعقوبَ عليه السلام فإنه قد جمع بين ليا أمِّ يهوذا وبين راحيلَ أم يوسف عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وَلاَ يساعده التعليلُ لأن ما فعله يعقوبُ عليه السلام كان حلالاً في شريعته وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهما أهلُ الجاهليةِ يحرِّمون مَا حَرَّمَ الله

24 - النساء تعالى امرأة الأب والجمع بين الأختين وروى هشامُ بنُ عبدِ اللَّه عن محمد بنِ الحسنِ أنه قال كان أهلُ الجاهلية يعرِفون هذه المحرماتِ إلا اثنتين نكاحَ امرأةِ الأبِ والجمعَ بين الأختين ألا يُرى أنه قد عُقِّب النهيُ عن كل منهما بقوله تعالى إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ وهذا يُشير إلى كون الاستثناءِ فيهما على سَنن واحدٍ ويأباه اختلافُ التعليلين

24

{والمحصنات} بفتح الصاد وهن ذواتُ الأزواجِ أحصنهنّ التزوجُ أو الأزواجُ أو الأولياءُ أَعَفَّهن عن الوقوع في الحرام وقرئ على صيغةِ اسمِ الفاعلِ فإنهن أحصن فروجهن عن غير أزواجِهن أو أحصَنَّ أزواجَهن وقيل الصيغةُ للفاعل على القراءةِ الأولى أيضاً وفتحُ الصادِ محمولٌ على الشذوذ كما في نظيريه مُلقَح ومسهَب من القح وأسهب قيل ورد الإحصانُ في القرآن بإزاء أربعة معانٍ الأولُ التزوجُ كما في هذه الآية الكريمة الثاني العفةُ كما في قوله تعالى مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مسافحين الثالث الحريةُ كما في قوله تعالى ومن لم يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات والرابع الإسلامُ كما في قولِه تعالى فَإِذَا أُحْصِنَّ قيل في تفسيره أي أسلمن وهي معطوفةٌ على المحرمات السابقة وقوله تعالى {مّنَ النساء} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً منها أي كائناتٍ من النساء وفائدتُه تأكيدُ عمومِها لا دفع توهُّمِ شمولِها للرجال بناءً على كونها صفةً للأنفس كما تُوهِّم {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم} استثناءٌ من المحصَنات استثناءَ النوعِ من الجنس أي ملكتُموه وإسنادُ المِلكِ إلى الأَيْمان لما أن سببَه الغالبَ هو الصفةُ الواقعةُ بها وقد اشتهر ذلك في الأرقاء لاسيما في إناثهم وهن المراداتُ ههنا رعايةً للمقابلة بينه وبين مِلكِ النكاحِ الواردِ على الحرائر والتعبيرُ عنهن بما لإسقاطهن بما فيهن من قصور الرقِّ عن رتبة العقلاءِ وهي إما عامةٌ حسب عمومِ صلتِها فالاستثناءُ حينئذ ليس لإخراج جميعِ أفرادِها من حكم التحريمِ بطريق شمولِ النفي بل بطريق نفيِ الشمولِ المستلزِمِ لإخراج بعضِها أي حُرمت عليكم المحصَناتُ على الإطلاق إلا المحصناتِ اللاتي ملكتُموهن فإنهن لسن من المحرمات على الإطلاق بل فيهن من لايحرم نكاحُهن في الجملة وهن المسببات بغير أزواجِهن أو مطلقاً حسب اختلافِ الرأيين وإما خاصةٌ بالمذكورات فالمعنى حُرمت عليكم المحصناتُ إلا اللاتي سُبِين فإن نكاحَهن مشروعٌ في الجملة أي لغير مُلاّكِهن وأما حِلُّهن لهم بحكم ملكِ اليمينِ فمفهومٌ بدِلالة النصِّ لاتحاد المَناطِ لابعبارته لما عرفتَ من أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيانِ حرمةِ التمتعِ بالمحرمات المعدودةِ بحكم ملكِ النكاحِ وإنما ثبوتُ حرمةِ التمتعِ بهن بحكم ملك اليمن بطريق دِلالةِ النصِّ وذلك مما لا يجري فيه الاستثناءُ قطعاً وأما عدُّهن من ذوات الأزواج مع تحقق الفُرقةِ بينهن وبين أزواجهن قطعا بالتباين أو بالسبْي على اختلاف الرأيين فمبنيٌّ على اعتقاد الناسِ حيث كانوا حينئذ غافلين عن الفُرقة ألا يُرى إلى ما رُوي عن أبي سعيدٍ الخدريُّ رضيَ الله عنه من أنه قال أصبْنا يومَ أوطاس سبايا لهن أزواج فكرهنا أن تقع عليهن فسألنا النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وفي رواية عنه قلنا يا رسول الله كيف نقع على

نساء عرَفنا أنسابَهن وأزواجَهن فنزلت والمحصناتُ مّنَ النساء إِلاَّ مَا ملكت إيمانُكم فاستحللناهن وفي رواية أخرى عنه ونادى منادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ألا لاتوطأ حاملٌ حتى تضَعَ ولا حائلٌ حتى تحيضَ فأباح وطأَهن بعد الاستبراءِ وليس في ترتيب هذا الحكمِ على نزول الآيةِ الكريمةِ ما يدل على كونها مَسوقةً له فإن ذلك إنما يتوقف على إفادتها له بوجه من وجوه الدلالة على إفادتها بطريق العبارةِ أو نحوِها هذا وقد روي عن أبي سعيد رضيَ الله عنه أنَّه قال إنها نزلت في نساءٍ كنّ يهاجِرْن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهن أزواجٌ فيتزوجُهن بعضُ المسلمين ثم يقدَمُ أزواجُهن مهاجرين فنهى عن نكاحهن فالمحصناتُ حينئذ عبارةٌ عن مهاجرات يَتَحقق أو يُتوقع من أزواجهن الإسلامُ والمهاجَرَة ولذلك لم يزُلْ عنهن اسمُ الإحصان والنهى لتحريم المحقق وتعرُّفِ حالِ المتوقعِ وإلا فما عداهن بمعزل من الحُرمة واستحقاقِ إطلاقِ الاسمِ عليهن كيف لا وحين انقطعت العلاقةُ بين المسببة وزوجِها مع اتحادهما في الدين فلأَنْ تنقطِعَ ما بين المهاجِرَةِ وزوجِها أحقُّ وأولى كما يُفصح عنه قولُه عز وجل فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاهن حل لهم ولاهم يَحِلُّونَ لَهُنَّ الآية {كتاب الله} مصدرٌ مؤكّدٌ أي كتَبَ الله {عَلَيْكُمْ} تحريمَ هؤلاءِ كتاباً وفرضه فرضاً وقيل منصوبٌ على الإغراء بفعل مضمر أى مؤكد أي الزَموا كتابَ الله وعليكم متعلقٌ إما بالمصدر وإما بمحذوف وقع حالاً منه وقيل هو إغراءٌ آخَرُ مؤكدٌ لما قبله قد حُذف مفعولُه لدِلالة المذكورِ عليه أو بنفس عليكم على رأي من جوّز تقديمَ المنصوبِ في باب الإغراءِ كما في قوله ... يأيها امائح دَلْوي دونكا ... إني رأيتُ الناس يحمدونكا ... وقرئ كُتُبُ الله بالجمع والرفع أي هذه فرائضُ الله عليكم وقرئ كتَبَ الله بلفظ الفعل {وَأُحِلَّ لَكُمْ} عطفٌ على حُرّمت عليكم الخ وتوسيطُ قوله تعالى كتاب الله عَلَيْكُمْ بينهما للمبالغة في الحمل على المحافظة على المحرمات المذكورة وقرئ على صيغة المبنيِّ للفاعلِ فيكون معطوفاً على الفعل المقدّرِ وقيل بل على حرمت الخ فإنهما جملتانِ متقابلتانِ مؤسِّستانِ للتحريم والتحليلِ المنوطَيْن بأمر الله تعالى ولا ضير في اختلاف المُسندِ إليه بحسب الظاهِرِ لاسيما بعد ما أُكّدت الأولى بما يدل على أن المحرِّمَ هو الله تعالى {مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} إشارةٌ إلى ما ذكر من المحرمات المعدودةِ أي أُحِلَّ لكم نِكاحُ ما سواهن انفراداً وجمعاً ولعل إيثارَ اسمِ الإشارةِ المتعرِّضِ لوصفِ المشارِ إليه وعنوانِه على الضمير المتعرِّضِ للذات فقط لتذكير ما في كل واحدةٍ منهن من العنوان الذي عليه يدور حُكمُ الحرمةِ فيُفهم مشاركةُ مَنْ في معناهن لهن فيها بطريق الدلالةِ فإن حرمةَ الجمعِ بين المرأةِ وعمتِها وبينها وبين خالتِها ليست بطريق العبارة بل بطريق الدِلالةِ كما سلف وقيل ليس المرادُ بالإحلالِ الإحلال مطلقاً أي على جميع الأحوالِ حتى يردَ أنه يلزمُ منه حِلُّ الجمعِ بين المرأةِ وعمتِها وبينها وبين خالتِها بل إنما هو إحلالُهن في الجملة أي على بعض الأحوالِ ولا ريب في حل نكاحِهن بطريق الانفرادِ ولا يقدَحُ في ذلك حرمتُه بطريق الجمع إلا يرى أن حرمةَ نكاحِ المعتدّةِ والمطلقةِ ثلاثاً والخامسةِ ونكاحِ الأمةِ على الحرة ونكاحِ الملاعنة لاتقدح في حل نكاحِهن بعد العدةِ وبعد التحليلِ وبعد تطليقِ الرابعةِ وانقضاءِ العدةِ وبعد تطليقِ الحرةِ وبعد إكذابِ الملاعِنِ نفسَه وأنت خبير بأن الحلَّ يجب أن يتعلق ههنا بما تعلق به الحرمةُ فيما سلف وقد تعلق ههنا بالجمع فلا بد أن يتعلق الحل به أيضاً {أَن تَبْتَغُواْ} متعلق بالفعلين المذكورين على أنَّه

مفعول له لكن باعتبار ذاتِهما بل باعتبار بيانِهما وإظهارِهما أي بيّن لكم تحريمَ المحرماتِ المعدودةِ وإحلال ماسواهن إرادةَ أن تبتغوا بأموالكم والمفعولُ محذوفٌ أي تبتغوا النساءَ أو متروكٌ أي تفعلوا الابتغاءَ {بأموالكم} بصَرْفها إلى مهورهن أو بدا اشتمالٍ مما وراءَ ذلكم بتقدير ضميرِ المفعولِ {مُّحْصِنِينَ} حالٌ من فاعل تبتغوا والإحصانُ العفةُ وتحصينُ النفسِ عن الوقوع فيما يوجب اللومَ والعِقابَ {غَيْرَ مسافحين} حال ثانية منه أو حالٌ من الضمير في محصِنين والسِفاحُ الزنا والفجورُ من السَّفْح الذي هو صبُّ المنيِّ سُمّي به لأنه الغرضُ منه ومفعولُ الفعلين محذوفٌ أي محصِنين فروجَكم غيرَ مسافحين الزّواني وهي في الحقيقة حالٌ مؤكدةٌ لأن المحصَنَ غيرُ مسافحٍ ألبتةَ وما في قوله تعالى {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} إما عبارةٌ عن النساء أو عما يتعلق بهن من الأفعال وعلى التقديرين فهي إما شرطيةٌ ما بعدها شرطُها وإما موصولةٌ ما بعدها صلتُها وأياً ما كان فهي مبتدأٌ خبرُها على تقدير كونِها شرطيةً إما فعلُ الشرطِ أو جوابُه أو كلاهما على الخلاف المعروفِ وعلى تقدير كونِها موصولةً قولُه تعالى {فآتوهنَّ أجورهُنَّ} والفاءُ لتضمُّن الموصولِ معنى الشرطِ ثم على تقدير كونِها عبارةً عن النساء فالعائدُ إلى المبتدأ هو الضميرُ المنصوبُ في فآتوهن سواءٌ كانت شرطيةً أو موصولةً ومن بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ محلُّها النصبُ عَلى الحاليةِ منَ الضميرِ المجرورِ في به والمعنى فأيُّ فردٍ استمتعتم به أو فالفردُ الذي استمتعتم به حالَ كونِه من جنس النساءِ أو بعضِهن فآتوهن أجورهن وقد روعيَ تارةً جانبُ اللفظِ فأُفرِدَ الضميرُ أولاً وأخرى جانبُ المعنى فجمع ثانياً وثالثاً وأما على تقدير كونِها عبارةً عما يتعلق بهن فمن ابتدائيةٌ متعلقةٌ بالاستمتاع والعائدُ إلى المبتدأ محذوفٌ والمعنى أيُّ فعلٍ استمتعتم به من جهتهن من نكاح أو خلوةٍ أو نحوِهما أو فالفعلُ الذي استمتعتم به من قِبَلهن من الأفعال المذكورةِ فآتوهن أجورَهن لأجله أو بمقابلته والمرادُ بالأجور المهورُ فإنها أجورُ أبضاعِهن {فَرِيضَةً} حالٌ من الأجور بمعنى مفروضةً أو نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي إيتاءً مفروضاً أو مصدرٌ مؤكدٌ أي فُرض ذلك فريضةً أي لهن عليكم {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ} أي لا إثمَ عليكم فيما تراضيتم به من الحط عن المهر أو الإبراءِ منه على طريقة قولِه تعالى {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ} إثرَ قوله تعالى {وآتوا النساء صدقاتهن} وقوله تعالى {إَّلا أَن يَعْفُونَ} وتعميمُه للزيادة على المسمى لايساعده رفعُ الجُناحِ عن الرجال لأنها ليست مَظِنةَ الجُناحِ إلا أن يجعل الخطاب للأزواج تغليباً فإن أخذَ الزيادةِ على المسمّى مظِنةُ الجُناحِ على الزوجة وقيل فيما تراضيتم به من نفقة ونحوِها وقيل من مقام أو فِراقٍ ولا يساعدُه قولُه تعالى {مِن بَعْدِ الفريضة} إذ لا تعلقَ لهما بالفريضة إلا أن يكون الفِراقُ بطريق المخالعةِ وقيل نزلت في المتعة التي هي النكاحُ إلى وقت معلومٍ من يوم أو أكثرَ سُمِّيت بذلك لأن الغرضَ منها مجردُ الاستمتاعِ بالمرأة واستمتاعِها بما يُعطى وقد أبيحت ثلاثةَ أيامٍ حين فُتحت مكةَ شرَّفها الله تعَالَى ثم نُسخت لما روي أنه عليه السلام أباحها ثم أصبح يقول يا أيها الناسُ إني كنتُ أمرتُكم بالاستمتاع من هذه النساءِ ألا أنَّ الله حَرَّمَ ذلك إلى يومِ القيامةِ وقيلَ أُبيح مرتين وحُرِّم مرتين ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه رجَع عن القول بجوازه عند موتِه وقال اللهم إني أتوبُ إليك من قولي بالمتعة وقولي في الصرْف {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} في مصالح العبادِ {حَكِيماً} فيما شرَع لهم من الأحكام ولذلك شرَع لكم هذه الأحكامَ اللائقة بحالكم

25 - النساء

25

{ومن لم يستطع منكم} مَنْ إما شرطيةٌ ما بعدها شرطُها أو موصولةٌ ما بعدها صلتُها والظرفُ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل يستطِعْ أي حالَ كونِه منكم وقوله تعالى {طولا} أو غنىً وسعة أي اعتلاءً ونيلا وأصله الزيادة أي اعتلاء والفضلُ مفعولٌ ليستطِعْ وَقَولُهُ عزَّ وَجَلَّ {أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات} إما مفعولٌ صريح لطَولاً فإن أعمالَ المصدرِ المنوَّنِ شائعٌ ذائعٌ كما في قوله تعالى أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ كأنه قيل ومن لم يستطعْ منكم أن ينال نكاحَهن وإما بتقدير حرفِ الجرِّ أي ومن لم يستطع منكم غِنىً إلى نكاحهن أو لنكاحهن فالجارُّ في محل النصبِ صفةٌ لطولاً أي طَوْلاً مُوصِلاً إليه أو كائناً له أو على نكاحهن على أن الطَولَ بمعنى القُدرة في القاموس الطَّوْلُ والطائلُ والطائلةُ الفَضْلُ والقُدْرَةُ والغِنَى والسَّعَةُ ومحلُّ أن بعد حذفِ الجارِّ نَصْبٌ عند سيبويهِ والفراءِ وجرٌّ عند الكسائيِّ والأخفشِ وإما بدلٌ من طولاً لأن الطَوْلَ فضلٌ والنكاحُ قدرةٌ وإما مفعولٌ ليستطِعْ وطَوْلاً مصدرٌ مؤكدٌ له لأنه بمعناه إذ الاستطاعةُ هي الطَّوْلُ أو تمييزٌ أي ومن لم يستطع منكم نكاحهن استطاعته أو من جهة الطَوْل والغِنى أي لا من جهة الطبيعةِ والمزاجِ فإن عدمَ الاستطاعةِ من تلك الجهةِ لا تعلقَ له بالمقامِ والمرادُ بالمحصنات الحرائرُ بدليل مقابلتِهن بالمملوكات فإن حريتَهن أحصَنَتْهن عن ذل الرقِّ والابتذالِ وغيرِهما من صفات القصورِ والنقصان وقوله عز وجل {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} إما جوابٌ للشرط أو خبرٌ للموصول والفاءُ لتضمُّنه معنى الشرطِ والجارُّ متعلقٌ بفعل مقدرٍ حُذف مفعولُه وما موصولةٌ أي فلينكِح امرأةً أو أمةً من النوع الذي ملكتْه أيمانُكم وهو في الحقيقة متعلقٌ بمحذوف وقع صفة لذلك المفعول المحذوف ومِنْ تبعيضيةٌ أي فلينكِح امرأةً كائنةً من ذلك النوعِ وقيل مِنْ زائدةٌ والموصولُ مفعولٌ للفعل المقدر أي فلينكِحْ ما ملكتْه أيمانُكم وقولُه تعالى {مّن فتياتكم المؤمنات} في محل النصب على الحالية من الضمير المقدر ملكت الراجعِ إلى ما وقيل هو المفعولُ للفعل المقدر على زيادة من ومما ملكتْ متعلقٌ بنفس الفعلِ ومن لابتداء الغايةِ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فتياتكم ومِنْ للتبعيض أي فلينكِحْ فتياتِكم كائناتٍ بعضَ ما ملكت أيمانُكم والمؤمناتِ صفةٌ لفتياتكم على كل تقدير وقيل هو المفعولُ للفعل المقدرِ ومما ملكت على ما تقدم آنفاً ومن فتياتكم حالٌ من العائد المحذوفِ وظاهرُ النظمِ الكريمِ يفيد عدمَ جواز نكاح الأمة للمستطيع كما ذهب اليه الشافعيِّ رحمَهُ الله تَعَالَى وعدم جوازِ نكاحِ الأمةِ الكتابيةِ أصلاً كما هو رأيُ أهلِ الحجازِ وقد جوزهما أبو حنيفة رحمه الله تعالى متمسكاً بالعمومات فمَحْمَلُ الشرطِ والوصفِ هو الأفضليةُ ولا

نِزاعَ فيها لأحد وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ومما وسع الله على هذه الأمةِ نكاحُ الأمةِ واليهوديةِ والنصرانيةِ وإن كان موسِراً وقولُه تعالى {والله أَعْلَمُ بإيمانكم} جملة معترضة جئ بها لتأنيسهم بنكاح الإماءِ واستنزالِهم من رتبة الاستنكافِ منه ببيان أن مناطَ التفاضُل ومدارَ التفاخُرِ هو الإيمانُ دون الأحساب والأنسابِ على ما نطقَ به قولُه عز قائلا {يا أيها الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} والمعنى أنه تعالى أعلمُ منكم بمراتبكم في الإيمان الذي به تنتظِمُ أحوالُ العبادِ وعليه يدور فلَكُ المصالحِ في المعاش والمعادِ ولا تعلّقَ له بخصوص الحريةِ والرقِّ فرُبّ أمةً يفوق إيمانُها إيمانَ الحرائرِ وقولُه تعالى {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} إن أريد به الاتصالُ من حيث الدينُ فهو بيانٌ لتناسبهم من تلك الحيثيةِ إثرَ بيانِ تفاوتِهم في ذلك وإن أريد به الاتصالُ من حيث النسبُ فهو اعتراضٌ آخرُ مؤكدٌ للتأنيس من جهة أخرى والخطابُ في الموضعين إما لمن كما في الخطاب الذي يعقُبه قد روعيَ فيما سبق جانبُ اللفظ وههنا جانبُ المعنى والالتفاتُ للاهتمام بالترغيب والتأنيس وإما لغيرهم من المسلمين كالخِطابات السابقةِ لحصول الترغيبِ بخطابهم أيضاً وإياما كان فإعادةُ الأمرِ بالنكاح على وُجِّه الخطابِ في قولِه تعالَى {فانكحوهن} مع انفهامه من قوله تعالى {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} حسبما ذُكر لزيادة الترغيبِ في نكاحهن وتقييدُه بقوله تعالى {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} وتصديرُه بالفاء للإيذان بترتبه على ما قبله أي وإذْ قد وقفتم على جلية الأمرِ فانكِحوهن بإذن مواليهن ولاتترفعوا عنهن وفي اشتراط إذنِ الموالي دون مباشرتِهم للعقد إشعارٌ بجواز مباشرتِهن له {وآتوهنَّ أجُورَهُنَّ} أي مهورَهن {بالمعروف} متعلقٌ بآتوهن أي أدّوا إليهن مهورَهن بغير مَطْلٍ وضِرارٍ وإلجاءٍ إلى الاقتضاء واللزِّ حسبما يقتضيه الشرعُ والعادةُ ومن ضرورته أن يكون الأداءُ إليهن بإذن الموالي فيكونُ ذكرُ إيتائِهن لبيان جوازِ الأداءِ إليهن لا لكون المهورِ لهن وقيل أصلُه آتُوا موالِيَهن فحُذف المضافُ وأُوصل الفعلُ إلى المضاف إليه {محصنات} حال من مفعول فانكِحوهن أي حال كونِهن عفائفَ عن الزنا {غَيْرَ مسافحات} حالٌ مؤكدةٌ أي غيرَ مجاهراتٍ به {وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} عطفٌ على مسافحات ولا لتأكيد ما في غَيْرِ من معنى النفى الخدن الصاحُب قال أبو زيد الأخدن الأصدقاءُ على الفاحشة والواحد خِدنٌ وخَدين والجمعُ للمقابلة بالانقسام على معنى ان لا يكونَ لواحدة منهن خِدنٌ لا على مَعْنى أنَّ لا يكونَ لها أخدانٌ أي غيرَ مجاهراتٍ بالزنا ولا مُسِرّاتٍ له وكان الزنا في الجاهلية منقسماً إلى هذين القسمين {فَإِذَا أُحْصِنَّ} أي بالتزويج وقرئ على البناء للفاعل أي أحصن فروجهن أو أزواجَهن {فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة} أي فعلْن فاحشةً وهى الزنا {فعليهن} فثابت عليهن شرعاً {نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} أي الحرائرِ الأبكارِ {مّنَ العذاب} من الحد الذي هو جَلدُ مائةٍ فنصفُه خمسون كما هو كذلك قبل الإحصانِ فالمرادُ بيانُ عدمِ تفاوتِ حدِّهن بالإحصان كتفاوت حدِّ الحرائرِ فالفاءُ في فَإِنْ أَتَيْنَ جواب إذا والثانيةُ جوابُ إنْ والشرطُ الثاني مع جوابه مترتبٌ على وجود الأولِ كما في قولك إذا أتيتَني فإنْ لم أكرِمْك فعبدي حرٌّ {ذلك} أي نكاحُ الإماءِ {لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ} أي لمن خاف وقوعَه في الإثم الذي تؤدّي إليه غلبةُ الشهوةِ وأصلُ العنَتِ انكسارُ العظْمِ بعد الجبْرِ فاستُعير لكل مشقةٍ وضررٍ يعتري الإنسانَ بعد

26 - النساء صلاحِ حالِه ولا ضررَ أعظمُ من مُواقَعه المآثمِ بارتكاب أفحشِ القبائحِ وقيل أريد به الحدُّ لأنه إذا هَوِيَها يخشى أن يواقعها فيحد والأول هو اللائقُ بحال المؤمنِ دون الثاني لإبهامه أن المحذورَ عنده الحدُّ لا ما يوجبه {وَأَن تَصْبِرُواْ} أي عن نكاحهن متعفِّفين كآفّين أنفسَكم عما تشتهيه من المعاصي {خَيْرٌ لَّكُمْ} من نكاحهن وإن سبَقَت كلمةُ الرُّخصةِ فيه لما فيه من تعريض الولدِ للرق قال عمرُ رضي الله عنه أيُّما حرَ تزوّج بأمة فقد أرَقَّ نصفَه وقالَ سعيدُ بنُ جُبَيرٍ ما نكاحُ الأمةِ من الزنا إلا قريبٌ ولأن حقَّ المولى فيها أقوى فلا تخلُصُ للزوج خُلوصَ الحرائرِ ولأن المولى يقدِرُ على استخدامها كيفما يريد في السفر والحضَرِ وعلى بيعها للحاضرِ والبادي وفيه من اختلال حالِ الزوجِ وأولادِه مالا مزيدَ عليه ولأنها مُمتهنةٌ مبتذَلةٌ خرّاجةٌ ولاّجةٌ وذلك كلُّه ذلٌّ ومهانةٌ ساريةٌ إلى الناكح والعزةُ هي اللائقةُ بالمؤمنين ولأن مَهرَها لمولاها فلا تقدِر على التمتع به ولا على هِبته للزوج فلا ينتظم أمرُ المنزلِ وقد قال صلى الله عليه وسلم الحرائِرُ صلاحُ البيتِ والإماءُ هلاكُ البيتِ {والله غَفُورٌ} مبالِغٌ في المغفرة فيغفرُ لمن لم يصبِرْ عن نكاحهن مافى ذلك من الأمور المنافيةِ لحال المؤمنين {رَّحِيمٌ} مبالغٌ في الرحمة ولذلك رَخّص لكم في نكاحهن

26

{يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ} استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير ما سبق من الأحكام وبيانِ كونِها جاريةً على مناهج المهتدين من الأنبياء والصالحين قيل أصلُ النظمِ الكريمِ يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللامُ لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرداة ومفعولُ يبين محذوفٌ ثقةً بشهادة السباقِ والسياقِ أي يريد الله أن يبين لكم ما هو خفيٌ عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالِكم أو ما تعبَّدَكم به من الحلال والحرامِ وقيل مفعولُ يريد محذوفٌ تقديرُه يريد الله تشريعَ ما شرَع من التحريم والتحليلِ لأجل التبيينِ لكم وهذا مذهبُ البصريين ويعزى إلى سيبويهِ وقيل إن اللامَ بنفسها ناصبةٌ للفعل من غير إضمارِ أن وهي وما بعدها مفعولٌ للفعل المتقدمِ فإن اللامَ قد تقام مَقامَ أن في فعل الإرادةِ والأمرِ فيقال أؤدت لأذهبَ وأن أذهبَ وأمرتك لتقومَ وأن تقوم قال تعالى {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله} وفي موضع {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ} وقال تعالى {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} وفي موضع {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ} وفي آخر {وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي أن أعدل بينكم وهذا مذهبُ الكوفيين ومنعه البصريون وقالوا إن وظيفةَ اللامِ هي الجرُّ والنصبُ فيما قالوا بإضمار أن أي أُمِرنا بما أمرنا لنُسلم ويريدون ما يريدون ليطفئو وقيل يؤوّل الفعلُ الذي قبل اللامِ بمصدر مرفوعِ بالابتداء ويُجعل ما بعده خبراً له كما في تسمعُ بالمُعَيديِّ خيرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ أي أن تسمع به ويعزى به هذا الرأيُ إلى بعض البصْريين {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين من قبلكم} من الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم {وَيَتُوبَ عليكم} إذا تبتم إليه تعالى عما يقع منكم من النقصير والتفريط في مراعاة ماكلفتموه من الشرائع فإن المكلفَ قلما يخلو من تقصير يستدعي تلافِيَه بالتوبة ويغفرُ لكم ذنوبَكم أو يُرشدُكم إلى ما يردعكم عن المعاصي ويحثُكم على التوبة أو إلى ما يكون كفارةً لسيئاتكم وليس الخطابُ لجميع المكلفين حتى يتخلفَ مراده تعالى عن إرادته فيمن لم يتُبْ منهم بل لطائفة معينةٍ حصَلت لهم هذه التوبةُ {والله عَلِيمٌ} مبالغٌ في العلم بالأشياء التي من جملتها

27 - 28 29 النساء ما شرَع لكُم من الأحكام {حَكِيمٌ} مُراعٍ في جميع أفعالِه الحكمةَ والمصلحةَ

27

{والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} جملةٌ مبتدأةٌ مَسوقةٌ لبيان كمالِ منفعةِ ما أراده الله تعالى وكمال مضرة مايريد الفجرة لا لبيان إراداته تعالى لتوبته عليهم حتى يكونَ من باب التكريرِ للتقرير ولذلك غُيّر الأسلوبُ إلى الجملة الاسميةِ دلالة على دوام الإرادةِ ولم يُفعلْ ذلك في قوله تعالى {وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات} للإشارة إلى الحدوثِ وللإيماء إلى كمالِ المباينةِ مضموني الجملتين كما مر في قوله تعالى {الله ولي الذين آمنوا} الآية والمراد بمبتعى الشهواتِ الفَجَرةُ فإن اتّباعَها الائتمارُ بها وأما المتعاطي لما سوّغه الشرعُ من المشهيات دون غيرِه فهو متّبعٌ له لا لها وقيل هم اليهودُ والنصارى وقيل هم المجوسُ حيث كانوا يُحِلون الأخواتِ من الأب وبنات الخ وبناتِ الأختِ فلما حرَّمهن الله تعالى قالوا فإنكم تحلون بنت الخالة وبنت العمة مع أن العمةَ والخالةَ عليكم حرامٌ فانكِحوا بناتِ الأخِ والأختِ فنزلت {أَن تَمِيلُواْ} عن الحق بموافقتهم على اتباع الشهواتِ واستحلالِ المحرماتِ وتكونوا زناةً مثلَهم وقرئ بالياء التحتانية والضميرُ للذين يتبعون الشهواتِ {مَيْلاً عَظِيماً} أي بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئةً على نُدرة بلا استحلالٍ

28

{يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ} بما مر من الرخص ما في عهدتكم من مشاقّ التكاليفِ والجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} عاجزاً عن مخالفة هواه غيرَ قادرٍ على مقابلة دواعيه وقواه حيث لا يصبِرُ عن اتباع الشهواتِ ولا يستخدم قواه في مشاقِّ الطاعاتِ وعن الحسن أن المرادَ ضَعفُ الخِلْقةِ ولا يساعده المقام فإن الجلمة اعتراضٌ تذييليٌّ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من التخفيف بالرُخصة في نكاح الإماءِ وليس لضعف البُنيةِ مدخلٌ في ذلك وإنما الذي يتعلق به التخفيفُ في العبادات الشاقةِ وقيل المراد به ضعفُه في أمر النساءِ خاصة حيث لا يصبِرُ عنهن وعن سعيد بن المسيِّب ما أيِسَ الشيطانُ من بني آدمَ قطُّ إلا أتاهم من قبل النساءِ فقد أتى عليَّ ثمانون سنةً وذهبت إحدى عينى وانا أعشوا بالأخرى وإن أخوفَ ما أخاف على فتنةُ النساءِ وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما وخَلَق الإنسانَ على البناء للفاعل والضمير له عز وجل وعنْهُ رضيَ الله عنْهُ ثماني آياتٍ في سورة النساء هنّ خيرٌ لهذه الأمةِ مما طلعت عليه الشمسُ وغربت {يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ} {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} {يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ} {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} {مَّا يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم}

29

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل}

شروع في بيان بعض الحرماتِ المتعلقةِ بالأموال والأنفسِ إثرَ بيانِ الحرماتِ المتعلقةِ بالأبضاع وتصديرُ الخطابِ بالنداء والتنبيه لإظهار كمال العناية بمضمونه والمرادُ بالباطل ما يخالف الشرعَ كالغصب والسرقةِ والخيانةِ والقِمارِ وعقودِ الربا وغير ذلك مما لم يُبِحْه الشرعُ أي لا يأكل بعضكم أموال بعض بغير طريقٍ شرعي {إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ} استثناءٌ منقطِعٌ وعن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لتجارةً أي إلا أن تكون التجارةُ تجارةً صادرةً عن تراض كما في قوله ... إذَا كان يوما ذا كواكب اشنعا ... أي إذا كان اليومُ يوما الخ أو الاأن تكون الأموالُ أموالَ تجارة وقرئ تجارةٌ بالرفعِ على أنَّ كانَ تامةٌ أي ولكن اقصِدوا كونَ تجارةً عن تراض أي وقوعَها أو ولكن وجودَ تجارةً عن تراض غيرِ منهيَ عنه وتخصيصها بالذكر من بيان سائرِ أسبابِ المُلكِ لكونها معظمها وأغلبها وقوعا وأوافقها لذوي المروءاتِ والمرادُ بالتراضي مراضاةُ المتبايعَيْن فيما تعاقدا عليه في حال المبايعةِ وقتَ الإيجابِ والقبولِ عندنا وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله حالة الاقتراق عن مجلس العقد {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} أي مَنْ كان من جنسكم من المؤمنين فإن كلَّهم كنفس واحدة وعن الحسن لاتقتلوا إخوانَكم والتعبيرُ عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم بتصويره بصورةِ ما لا يكاد يفعلُه عاقلٌ أولا تُهلِكوا أنفسَكم بتعريضها للعقاب باقتراف ما يُفضي إليه فإنه القتل الحقيقى لها كما يُشعِرُ به إيرادُه عَقيبَ النهي عن أكل الحرامِ فيكونُ مقرَّراً للنهي السابق وقيل لاتقتلوا أنفسَكم بالبخْع كما يفعله بعضُ الجهلةِ أو بارتكاب ما يؤدي إلى القتل من الجنايات وقيل بإلقائها في التهلُكة وأُيِّد بما روى عن عمر بنِ العاص أنه تأوله بالتيمم لخوف البردِ فلم ينكر عليه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقرئ ولا تُقتِّلوا بالتشديد للتكثير وقد جُمع في التوصية بين حفظِ النفسِ وحفظِ المالِ لما أنه شقيقُها من حيثُ أنَّه سببٌ لقوامها وتحصيل كمالاته واستيفاءِ فضائلِها وتقديمُ النهي عن التعرض له لكثرة وقوعِه {إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} تعليل للنهي بطريق الاستئنافِ أي مبالغاً في الرحمة والرأفةِ ولذلك نهاكم عما نهى فإن ذلك رحمةً عظيمةً لكم بالزجر عن المعاصي وللذين هم في معرِض التعرُّض لهم بحفظ أموالِهم وأنفسِهم وقيل معناه إنه كان بكم يا أمةَ محمدٍ رحيماً حيث أمرَ بني إسرائيلَ بقتلهم أنفسَهم ليكون توبةً لهم وتمحيصاً لخطاياهم ولم يكلِّفْكم تلك التكاليفَ الشاقةَ

30

{وَمَن يَفْعَلْ ذلك} إشارةٌ إلى القتل خاصةً أو لما قبله من أكل الأموالِ وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهما في الفساد {عدوانا وَظُلْماً} أي إفراطاً في التجاوز عن الحد وإتياناً بما لا يستحقّه وقيل أُريد بالعدوان التعدّي على الغير بالظلم الظلمُ على النفس بتعريضها للعقاب ومحلُّها النصبُ عَلى الحاليّةِ أو على العلية أى معتديا وظالما أوللعدوان والظلم وقرئ عدوانا بكسر العين {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ} جوابٌ للشرط أى ندخله وقرئ بالتشديد من صلّى وبفتح النون من صَلاة يَصْليه ومنه شاةٌ مَصْليةٌ ويُصليه بالياء والضمير لله تعالى أو لذلك من حيث غنه سببٌ للصَّلْي {نَارًا} أي ناراً مخصوصةً هائلةً شديدةَ العذابِ {وَكَانَ ذلك} أي إصلاؤُه النار {عَلَى الله يَسِيراً} لتحقق الداعي وعدمِ الصارفِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ بطريق الالتفات لتربيةِ المهابةِ وتأكيدِ استقلالِ الاعتراضِ التذييليِّ

31 - 32 النساء

31

{إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} أي كبائرَ الذنوبِ التي نهاكم الشرعُ عنها مما ذكر ههنا ومالم يذكر وقرئ كبيرَ على إرادة الجنسِ {نُكَفّرْ عَنْكُمْ} بنون العظمةِ على طريقة الالتفات وقرئ بالياء بالإسنادِ إليه تعالى والتكفير إما طة المستحَقِّ من العقاب بثوابٍ أزيد أو بتوبة أي نغفِرْ لكم {سَيّئَاتِكُمْ} صغائرَكم ونمحُها عنكم قال المفسرون الصلاةُ إلى الصلاة والجمعةُ إلى الجمعة ورمضانُ إلى رمضانَ مكفِّراتٌ لما بينهن من الصغائر إذا اجتُنِبَت الكبائرُ واختلف في الكبائر والأقربُ أن الكبيرةَ كلُّ ذنبٍ رتّب الشارعُ عليه الحدَّ او صرح بالوعيد وقيل ما عُلم حرمتُه بقاطع وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنها سبعٌ الإشراكُ بالله تعالى وقتلُ النفسِ التي حرمها الله تعالى وقذفُ المحصناتِ وأكلُ مالِ اليتيمِ والربا والفِرارُ من الزحف وعقوقُ الوالدين وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه التعقب بعد الهجرةِ مكان عقوقِ الوالدين وزاد ابنُ عمر رضى الله عنهما السحرَ واستحلالَ البيتِ الحرامِ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال له الكبائر سبعٌ قال هي إلى سبعمائةٍ أقربُ منها إلى سبع روى عنه إلى سبعين إذْ لا صغيرةَ مع الإصرار ولا كبيرةَ مع الاستغفار وقيل أريد به أنواعُ الشركِ لقوله تعالى {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} وقيل صِغرُ الذنوب وكِبَرُها بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها وبحسب فاعلِها بل بحسب الأوقاتِ والأماكنِ أيضاً فأكبرُ الكبائرِ الشركُ وأصغر الصغار حديثُ النفسِ وما بينهما وسايط يصدق عليه الأمر أن فمن عن له أمر أن منها ودعت نفسُه إليهما بحيث لا يتمالك فكفّها عن أكبرهما كُفّر عنه ما ارتكبه لمااستحق على اجتناب الأكبرِ من الثواب {وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً} بضم الميم اسمُ مكانٍ هو الجنة {كَرِيماً} أي حسَناً مَرْضياً أو مصدرٌ ميميٌّ أي إدخالاً مع كرامةً وقرئ بفتح الميم وهو أيضاً يحتمل المكانَ والمصدر ونصبُه على الثاني بفعل مقدرٍ مطاوِعٍ للمذكور أي ندخلكم فتدخلون مدخلاً أو دخولاً كريماً كما في قوله ... وعضةُ دهر يأبن مروانَ لم تَدَع ... مِنَ المالِ إلا مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ ... أيْ لَم تدعَ فلم يبْقَ إلا مسحتٌ الخ

32

{وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} أي عليكم ولعل إيثارَ الإبهامِ عليه للتفادي عن المواجهة بما يشُقُّ عليهم قال القفال لما نهاهم الله تعالى عن أكل أموالِ الناسِ بالباطل وقتلِ الأنفسِ عقّبه بالنهي عَمَّا يؤدَّي إليهِ منَ الطمع في أموالهم وتمنّيها وقيل نهاهم أولاً عن التعرض لأموالهم بالجوارح ثم عن التعرّض لها بالقلب على سبيل الحسدِ لتطهير أعمالِهم الظاهرةِ والباطنةِ فالمعنى لاتتمنوا ما أعطاه الله تعالى بعضَكم من الأمور الدنيويةِ كالجاه والمالِ وغيرِ ذلك مما يجري فيه التنافسُ دونكم فإن ذلك قسمةٌ من الله تعالى صادرةٌ عن تدبير لائقٍ بأحوال العبادِ مترتبٍ على الإحاطة بجلائل شئونهم ودقائقِها فعلى كلّ أحدٍ من المفضّل عليهم أن يرضى بما قسم الله له ولا يتمنى حظَّ المفضَّلِ ولا يحسُده عليه لما أنه معارَضةٌ لحكمِ القدر المؤسس على

33 - النساء الحكم البالغة لالأن عدمه خير له ولالأنه لو كان خلافَه لكان مفسدةً له كما قيلَ إذْ لا يساعدُه ما سيأتي من الأمر بالسؤال من فضله تعالى فإنه ناطِقٌ بأن المنهيَّ عنه تمنى نصيب الغير لاتمنى مازاد على نصيبه مطلقاً هذا وقد قيل لما جعل الله تعالى في الميراث للذكر مثلُ حظ الأنثيين قالت النساءُ نحن أحوجُ أن يكون لنا سهمانِ وللرجال سهمٌ واحد لأنا ضعفاءُ وهم أقوياءُ وأقدرُ على طلب المعاشِ منا فنزلت وهذا هو الأنسبُ بتعليل النهى بقوله عز وجل {لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبوا وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبن} فإنه صريحٌ في جريان التمني بين فريقي الرجالِ والنساءِ ولعل صيغةَ المذكرِ في النهى لما عبر عنهن بالبعض والمعنى لكلَ من الفريقين في الميراث نصيبٌ معينُ المقدارِ مما أصابه بحسَب استعدادِه وقد عُبّر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارةِ التبعيةِ المبنيةِ على تشبيه اقتضاءِ حالِه لنصيبه باكتسابه إياه تأكيداً لاستحقاق كلَ منهما لنصيبه وتقويةً لاختصاصه به بحيث لايتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجبه الانتهاءُ عن التمني المذكور وقوله تعالى {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} عطفٌ على النهي وتوسيطُ التعليلِ بينهما لتقرير الانتهاءِ مع ما فيه من الترغيب في الامتثالِ بالأمر كأنه قيل لاتتمنوا ما يختصُّ بغيركم من نصيبه المكتَسبِ له واسألوا الله تعالى من خزائن نعمة التى لانفاد لها وحُذف المفعولُ الثاني للتعميم أي واسألوه ما تريدون فإنه تعالى يعطيكُموه أو لكونه معلوماً من السياق أي واسألوه مثلَه وقيل مِنْ زائدةٌ والتقديرُ واسألوه فضلَه وقد جاءَ في الحديثِ لا يتمنّينّ أحدُكم مالَ أخيه ولكن ليقل اللهم ارزُقني اللهم أعطِني مثلَه وعن ابن مسعود رضي الله عنْهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال سَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ فإنَّهُ يُحِبُّ أن يُسألَ وأفضلُ العبادةِ انتظارُ الفرجِ وحملُ النصيبِ على الأجر الأُخرويِّ وإبقاءُ الاكتسابِ على حقيقته بجعل سببِ النزولِ ما رُوي أن أم سلمة رضيَ الله عَنْهَا قالتْ ليت الله كتب علينا الجهادَ كما كتبه على الرجال فيكونَ لنا من الأجر مثلُ ما لَهم على أن المعنى لكلَ من الفريقين نصيبٌ خاصٌّ به من الأجر مترتبٌ على عمله فللرجال أجرٌ بمقابلة ما يليقُ بهم من الأعمال كالجهاد ونحوه وللنساء أجرٌ بمقابلة ما يليق بهن من الأعمال كحفظ حقوق الأزواج ونحوه فلا تتمنى النساءُ خصوصيةَ أجرِ الرجالِ ولْيَسألْنَ من خزائن رحمتِه تعالى ما يليق بحالهن من الأجر لا يساعده سياقُ النظمِ الكريمِ المتعلق بالمواريث وفضائلِ الرجالِ {إِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً} ولذلك جعل الناسَ على طبقات ورفَع بعضَهم على بعض درجاتٍ حسب مراتبِ استعداداتِهم الفائضةِ عليهم بموجب المشيئةِ المبنيةِ على الحِكَم الأبيةِ

33

{وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون} جملةٌ مبتدأةٌ مقرِّرةٌ لمضمون ما قبلها ولكلَ مفعولٌ ثانٍ لجعلنا قُدّم عليه لتأكيد الشمولِ ودفعِ توهُّمِ تعلقِ الجهل بالبعض دون البعض كما في قوله تعالى {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} أي ولكل تركةٍ جعلنا ورثة متفاوتةً في الدرجة يلونها ويُحرِزون منها أنصباءَهم بحسب استحقاقِهم المنوطِ بما بينهم وبين المورِّثِ من العلاقة ومما ترك بيانٌ لكلَ قد فُصل بينهما بما عمل فيه

34 - النساء كما فُصِّل في قولِه تعالى {قُلْ أَغَيْرَ الله أتخذ وليا فاطر السماوات والارض} بين لفظِ الجلالةِ وبين صفتِه بالعامل فيما أضيف إليه أعني غيرَ أو ولكل قومٍ جعلناهم مواليَ أي وراثا نصيبٌ معينٌ مغايرٌ لنصيب قومٍ آخرين مما ترك الوالدان والأقربون على أن جعلنا مواليَ صفةٌ لكلَ والضميرُ الراجعُ إليه محذوفٌ والكلامُ مبتدأٌ وخبرٌ على طريقة قولك لكلِّ مَنْ خلقه الله إنساناً من رزق الله أي حظٌّ منه وأما ما قيل من أن المعنى لكل أحدٍ جعلنا موالي مما ترك أي وُرّاثاً منه على أنَّ مِنْ صلةُ موالي لأنه في معنى الوارث ضميرٌ مستكنٌّ عائدٌ إلى كل وقولُه تعالى {الوالدان والاقربون} استئنافٌ مفسرٌ للموالي كأنه قيل مَنْ هم فقيل الوالدان الخ ففيه تفكيكٌ للنظم الكريمِ لأن ببيان الموالي بما ذُكر يفوتُ الإبهامُ المصحِّحُ لاعتبار التفاوتِ بينهم وبه يتحقق الانتظامُ كما أشير إليه في تقرير الوجهين الأولَيْن مع ما فيه من خروج الأولادِ من الموالي إذ لا يتناولهم الأقربون كما لا يتناول الوالدين {والذين عَقَدَتْ أيمانكم} هم موالي الموالاةِ كان الحليف يورث السدسَ من مال حليفِه فنُسخ بقوله تعالى وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ وعند أبي حنيفةَ رحمَهُ الله إذا أسلم رجلٌ على يد رجلٍ وتعاقدا على أن يرثَه ويعقِلَ عنه صح وعليه عقْلُه وله إرثُه إن لم يكن له وارثٌ أصلاً وإسنادُ العقدِ إلى الأَيْمان لأن المعتادَ هو المماسحةُ بها عند العقدِ والمعنى عقَدَتْ أيمانكم وما سحتموه وهو مبتدأ مضمن لمعنى الشرطِ ولذلك صُدِّر الخبر أعني قوله تعالى {فآتوهم نصيبهم} بالفاء أو منصوبٌ بمضمر يفسّره ما بعده كقولك زيداً فاضرِبْه أو مرفوعٌ معطوفٌ على الوالدان والأقربون وقوله تعالى فآتوهم الخ جملةٌ مبيِّنةٌ للجملة قبلها ومؤكِّدةٌ لها والضميرُ للموالي {إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء} منَ الأشياء التي من جملتها الإيْتاءُ والمنعُ {شَهِيداً} ففيه وعدٌ ووعيد

34

{الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النساء} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ سببِ استحقاقِ الرجالِ الزيادةَ في الميراث تفصيلاً إثرَ بيانِ تفاوتِ استحقاقِهم إجمالاً وإيرادُ الجملةِ اسميةً والخبرِ على صيغة المبالغةِ للإيذان بعراقتهم في الاتصاف بما أُسند إليهم ورسوخِهم فيه أي شأنُهم القيامُ عليهن بالأمر والنهْي قيامَ الولاةِ على الرعية وعلل ذلك بأمرين وهبيٌّ وكسبيٌّ فقيل {بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} الباءُ سببيةٌ متعلقة بقوامون أوبمحذوف وقع حالاً من ضميره وما مصدريةٌ والضميرُ البارزُ لكِلا الفريقين تغليباً أي قوامون عليهن بسبب تفضبل الله تعالى إياهم عليهن أو ملتبسين بتفضيله تعالى الخ ووضعُ البعضِ موضِعَ الضميرين للإشعار بغاية ظهورِ الأمرِ وعدمِ الحاجةِ إلى التصريحِ بالمفضّل والمفضّل عليه أصلا ولمثل ذلك لم يصرَّحْ بما به التفضيلُ من صفات كمالِه التي هي كمالُ العقلِ وحسنُ التدبيرِ ورزانةُ الرأي ومزيدُ القوة في الأعمال والطاعاتِ ولذلك خُصّوا بالنبوة والإمامةِ والولايةِ وإقامةِ الشعائرِ والشهادةِ في جميع القضايا ووجوبِ الجهادِ والجمعةِ وغير ذلك {وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أموالهم}

الباءُ متعلقةٌ بما تعلقت به الأولى وما مصدريةٌ أو موصولةٌ حُذف عائدُها من الصلة ومِنْ تبعيضيةٌ أو ابتدائيةٌ متعلقةٌ بأنفقوا أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً منَ العائدِ المحذوفِ أيْ وبسبب إنفاقِهم من أموالِهم أو بسبب ما أنفقوه من أموالهم أو كائناً من أموالهم وهو ما أنفقوه من المَهر والنفقة روى أن سعد ابن الربيعِ أحدَ نقباءِ الأنصارِ رضي الله عنهم نشَزَت عليه امرأتُه حبيبةُ بنتُ زيدِ بنِ أبي زُهير فلَطَمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا فقال عليه السلام لتقتصَّ منه فنزلت فقال عليه السلام أردْنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراده الله خيرٌ {فالصالحات} شروعٌ في تفصيل أحوالِهن وبيانِ كيفية القيامِ عليهن بحسب اختلافِ أحوالِهن أي فالصالحاتُ منهن {قانتات} أي مطيعاتٌ لله تعالى قائماتٌ بحقوق الأزواج {حافظات للغيب} أى لموجب الغيبِ أي لما يجب عليهن حفظُه في حال غيبةِ الأزواجِ من الفروج والأموال عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم خيرُ النساءِ امرأةٌ إن نظَرتَ إليها سرّتْك وإن أمرتها أطاعتْك وإذا غِبت عنها حفِظَتْك في مالها ونفسها وتلا الآية وقيل لأسرارهم وإضافةُ المالِ إليها ى للإشعار بأن مالَه في حق التصرفِ في حكم مالِها كما في قوله تعالى ولا تؤتوا السفاء أموالكم الآية {بِمَا حَفِظَ الله} ما مصدرية أي بحفظه تعالى إياهم بالأمر بحفظ الغيبِ والحثِّ عليه بالوعد والوعيد والتوفيقِ له أو موصولةٌ أي بالذي حفِظَ الله لهن عليهم من المَهر والنفقةِ والقيامِ بحفظهن والذبِّ عنهن وقرئ بما حفِظ الله بالنصب على حذفِ المضافِ أي بالأمر الذي حفِظ حقَّ الله تعالى وطاعتَه وهو التعفف والشفقة على الرحال {واللاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} خطابٌ للأزواج وإرشادٌ لهم إلى طريق القيام عليهن والخوفُ حالةٌ تحصُل في القلب عند حدوثِ أمرٍ مكروهٍ أو عند الظنِّ أو العلمِ بحدوثه وقد يُراد به أحدُهما أي تظنون عِصيانَهن وترفُّعَهن عن مطاوعتكم من النشَز وهو المرتفع من الأرض {فَعِظُوهُنَّ} فانصحوهن بالترغيب والترهيب {واهجروهن} بعد ذلك إن لم ينفَع الوعظُ والنصيحةُ {فِى المضاجع} أي في المراقد فلا تُدْخِلوهن تحت اللحف ولا تباشِروهن فيكون كنايةً عن الجمع وقيل المضاجعُ المبايتُ أي لا تبايتوهن وقرئ في المضْجَع وفي المُضْطجع {واضربوهن} أن لم ينجح ما فعلتم من العظة والهُجران ضرباً غيرَ مبرِّحٍ ولا شائنٍ {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} بذلك كما هو الظاهرُ لأنه منتهى ما يعد زاجراً {فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} بالتوبيخ والأذيةِ أي فأزيلوا عنهن التعرّضَ واجعلوا ما كان منهن كأنه لم يكن فإنَّ التائبَ منَ الذنبِ كمنْ لا ذنبَ لَهُ {إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} فاحذَروه فإنه تعالى أقدرُ عليكم منكم على مَنْ تحت أيديكم أو أنه تعالى على علو شأنِه يتجاوز عن سيئاتكم ويتوبُ عليكم عند توبتِكم فأنتم أحقُّ بالعفو عن أزواجكم عند إطاعتهن لكم أوأنه يتعالى ويكبُر أن يظلمَ أحداً أو ينقُصَ حقَّه وعدمُ التعرضِ لعدم إطاعتِهن لهم للإيذان بأن ذلك ليسَ ممَّا ينبغِي أنْ يتحققَ أو يُفرضَ تحققُه وأن الذي يُتوقع منهن ويليق بشأنهن لاسيما بعد ما كان من الزواجر هو الإطاعةُ ولذلك صُدِّرت الشرطيةُ بالفاء المُنْبئةِ عن سببية ما قبلَها لما بعدَها

35

{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى الحكام واردٌ على بناء

36 - النساء الأمرِ على التقدير المسكوتِ عنه أعني عدمَ الإطاعةِ المؤدِّي إلى المخاصمة والمرافعةِ إليهم والشقاقُ المخالفةُ إما لأن كلاً منهما يريد ما يشُق على الآخر وإما لأن كلاً منهما في شِق أي جانبٍ غيرِ شق الآخر والخوف ههنا بمعنى العلم قاله ابن عباس والجزمُ بوجود الشقاقِ لا ينافي بعثَ الحَكَمين لأنه لرجاء إزالته لالتعرف وجودِه بالفعل وقيل بمعنى الظن وضمير الثنية للزوجين وإن لم يجْرِ لهما ذكر لجرى مايدل عليها وإضافةُ الشقاقِ إلى الظرف إما على إجرائه مُجرى المفعولِ به كما في قوله ... يا سارق الليلة ... أو مُجرى الفاعل كما في قولك نهارُه صائمٌ أي إن علمتم أو ظننتم تأكّدَ المخالفةِ بحيث لا يقدِر الزوجُ على إزالتها {فابعثوا} أي إلى الزوجين لإصلاح ذاتِ البَينِ {حُكْمًا} رجلاً وسطاً صالحاً للحكومة والإصلاحِ {مّنْ أَهْلِهِ} من أهل الزوج {وَحَكَماً} آخرَ على صفة الأولِ {مّنْ أَهْلِهَا} فإن الأقاربَ أعرفُ ببواطن الأحوالِ وأطلبُ للصلاح وهذا على وجه الاستحبابِ فلو نُصِبا من الأجانب جاز واختلف في أنهما هل يليان الجمعَ والتفريقَ إن رأيا ذلك فقيل لهما ذلك وهو المروى عن عليَ رضيَ الله عنه وبه قال الشعبيُّ وعن الحسن يَجمعان ولا يفرِّقان وقال مالكٌ لهما أن يتخالعا إن كان الصلاحُ فيه {إِن يُرِيدَا} أي الحَكَمان {إصلاحا} أي إن قصدا إصلاحَ ذاتِ البينِ وكانت نيتُهما صحيحةً وقلوبُهما ناصحةً لوجه الله تعالى {يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا} يوقِع بين الزوجين الموافقةَ والأُلفةَ وألقى في نفوسهما المودةَ والرأفةَ وعدمُ التعرضِ لذكر عدمِ إرادتِهما الإصلاحَ لما ذُكر من الإيذان بأن ذلك ليسَ ممَّا ينبغِي أنْ يُفرَضُ صدورُه عنهما وأن الذي يليق بشأنهما ويُتوَقّعُ صدورُه عنهما هو إرادةُ الإصلاحِ وفيه مزيدُ ترغيبٍ للحَكَمين في الإصلاح وتحذير عن المساهلة كيلا يُنسَبَ اختلالُ الأمرِ إلى عدم إرادتِهما فإن الشرطيةَ الناطقة بدور أن وجودِ التوفيقِ على وجود الإرادةِ منبئةٌ عن دوران عدمِه على عدمها وقيل كلا الضميرين للحكَمين أي إن قصد الإصلاحِ يوفقِ الله بينهما فتتّفقَ كلمتُهما ويحصُلَ مقصودُهما وقيل كلاهما للزوجين أي إن أرادا إصلاحَ ما بينَهما من الشقاق أوقع الله تعالى بينهما الأُلفةَ والوِفاقَ وفيه تنبيهٌ على أن من أصلح نيتَه فيما يتوخاه وفقه الله لمبتغاه {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} بالظواهر والبواطنِ فيعلم كيف يرفعُ الشقاقَ ويوقعُ الوفاقَ

36

{واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} كلامٌ مبتدأٌ مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بحقوق الوالدين والأقاربِ ونحوِهم إثرَ بيانِ الأحكامِ المتعلقةِ بحقوق الأ زروج صُدِّر بما يتعلق بحقوق الله عز وجل التي هي آكَدُ الحقوقِ وأعظمهما تنبيهاً على جلالة شأنِ حقوقِ الوالدين بنظمها في سلكها كما في سائر المواقعِ وشيئاً نصب على أنه مفعول أى لاتشركوا به شيئاً من الأشياء صنماً أو غيرَه أو على أنَّه مصدرٌ أي لاتشركوا به شيئاً من الإشراك جلياً أو خفياً {وبالوالدين إحسانا} أى أحسنوا بهما إحسانا

37 - 38 النساء {وَبِذِى القربى} أي بصاحب القرابةِ من أخ أو عمَ أو خالٍ أو نحو ذلك {واليتامى والمساكين} من الأجانب {والجار ذِى القربى} أي الذي قرُب جواره وقيل الذي له مع الجِوار قُربٌ واتصال بنسب أودين وقرئ بالنصب على الاختصاص تعظيماً لحق الجارِ ذي القربى {والجار الجنب} أي البعيدِ أو الذي لا قرابةَ له وعنه عليه الصلاة والسلام الجيرانُ ثلاثةٌ فجارٌ له ثلاثةُ حقوقٍ حقُّ الجِوارِ وحقُّ القرابةِ وحق الإسلامِ وجارٌ له حقان حقُّ الجوارِ وحقُّ الإسلام وجارٌ له حقٌّ واحدٌ وهو حقُّ الجِوارِ وهو الجارُ من أهل الكتاب وقرئ والجار الجنب {والصاحب بالجنب} أي الرفيقِ في أمر حسنٍ كتعلُّم وتصرُّف وصناعةٍ وسفرٍ فإنه صحِبَك وحصل بجانبك ومنهم من قعد بجنبك في مسجد أو مجلسٍ أو غيرِ ذلك من أدنى صحبةٍ التَأَمَتْ بينك وبينه وقيل هي المرأةُ {وابن السبيل} هو المسافرُ المنقطِعُ به أو الضيفُ {وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم} من العبيدِ والإماءِ {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً} أي متكبراً يأنف عن أقاربه وجيرانِه وأصحابه ولايلتفت إليهم {فَخُوراً} يتفاخرُ عليهم والجملةُ تعليلٌ للأمر السابق

37

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} بضم الباءِ وسكون الخاء وقرئ بفتح الأولِ وبفتحهما وبضمِّهما والموصولُ بدلٌ من قوله تعالى من كان أونصب على الذم أو رفعٌ عليه أي هم الذين أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ تقديرُه الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون أحقّاءُ بكل مَلامةٍ {ويكتمون ما آتاهم الله من فَضْلِهِ} أي من المال والغِنى أو من نعوته عليه السلام التي بيّنها لهم في التوراة وهو أنسبُ بأمرهم للناس بالبخل فإن أحبارَهم كانوا يكتُمونها ويأمرون أعقابَهم بكتمها {وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً} وُضع الظاهرُ موضعَ المُضمرِ إشعاراً بأن مَنْ هذا شأنُه فهو كافرٌ بنعمة الله تعالى ومن كان كافراً بنعمة الله تعالى فله عذابٌ يُهينُه كما أهان النعمةَ بالبخل والإخفاءِ والآيةُ نزلت في طائفة من اليهود وكانوا يقولون للأنصار بطريق النصيحةِ لاتنفقوا أموالَكم فإنا نخشى عليكم الفقرَ وقيل في الذين كتموا نعتَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبلها

38

{والذين يُنْفِقُونَ أموالهم رِئَاء الناس} أي للفَخار وليقالَ ما أسخاهم وما أجْودَهم لا لابتغاء وجهِ الله تعالى وهو عطفٌ على الذين يبخلون أو على الكافرين وإنما شاركوهم في الذم والوعيدِ لأن البخل والسَّرَفَ الذي هو الإنفاقُ فيما لا ينبغي من حيث إنهما طرفا تفريطٍ وإفراطٍ سواءٌ في القُبح واستتباعِ اللائمةِ والذمِّ ويجوز أن يكون العطفُ بناءً على إجراء التغايُرِ الوصفيِّ مُجرى التغايُرِ الذاتيِّ كما في قولِه ... إلى الملكِ القَرمِ وابنِ الهُمام ... وليثِ الكتائبِ في المزدَحَمْ ... اومبتدأ خبرُه محذوفٌ يدلُّ عليه قوله تعالى وَمَن يَكُنِ الخ كأنه قيل والذين يُنْفِقُونَ أموالهم رِئَاء الناس {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر}

39 - 40 النساء ليتحرَّوْا بالإنفاق مراضِيَه تعالى وثوابَه وهم مشركو مكةَ المنفقون أموالَهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل المنافقون {وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً} أي فقرينُهم الشيطانُ وإنما حُذف للإيذان بظهوره واستغنائِه عن التَّصريح به والمرادُ به إبليسُ وأعوانُه حيث حملوها على تلك القبائحِ وزيَّنوها لهم كما في قوله تعالى {إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين} ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن الشيطانَ يُقرَنُ بهم في النار

39

{وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} أي على من ذُكر من الطوائف {لو آمنوا بالله واليوم الاخر وَأَنفَقُواْ من ما رَزَقَهُمُ الله} أي ابتغاءَ لوجه الله تعالى وإنَّما لم يصرَّحْ به تعويلاً على التفصيل السابقِ واكتفاءً بذكر الإيمانِ بالله واليومِ الآخرِ فإنه يقتضي أن يكون الإنفاقُ لابتغاء وجهِه تعالى وطلَبِ ثوابه الْبتةَ أي ماالذى عليهم أو وأي تَبعةٍ ووبالٍ عليهم في الإيمان بالله والإنفاقِ في سبيله وهو توبيخٌ لهم على الجهل بمكان المنفعةِ والاعتقادِ في الشئ بخلاف ما هو عليه وتحريضٌ على التفكر لطلب الجوابِ لعله يؤدّي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلةِ والعوائدِ الجميلةِ وتنبيهٌ على أن المدعو إلى أمر لاضرر فيه ينبغي أن يُجيبَ إليه احتياطاً فكيف إذا كان فيه منافع لاتحصى وتقديم الإيمان بهما لأهمية في نفسه ولعدم الاعتدادِ بالإنفاق بدونه وأما تقديمُ إنفاقِهم رئاءَ الناسِ على عدم إيمانِهم بهما مع كون المؤخَّرِ أقبحَ من المقدَّمِ فلرعاية المناسبةِ بين إنفاقِهم ذلك وبين ما قبله من بُخلهم وأمرِهم للناس به {وَكَانَ الله بِهِم} وبأحوالهم المحقّقةِ {عَلِيماً} فهو وعيدٌ لهم بالعقاب أو بأعمالهم المفروضة فهو بيان لإثابته تعالى إياهم لو كانوا قد آمنوا وأنفقوا كما ينبئ عنه قوله تعالى

40

{إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} المثقالُ مِفعالٌ من الثِقْل كالمقدار من القدْر وانتصابُه على أنه نعتٌ للمفعول قائمٌ مَقامَه سواءٌ كان الظلمُ بمعنى النقصِ أو بمعنى وضعِ الشئ في غير موضعِه أي لا ينقُص من الأجر ولايزيد في العقاب شيئاً مقدارَ ذرةٍ أو على أنه نعتٌ للنصدر المحذوفِ نائبٌ منابَه أي لا يظلم ظلماً مقدارَ ذرةٍ وهي النملةُ الصغيرةُ أو كلُّ جزءٍ من أجزاءِ الهَباءِ في الكُوَّة وهو الأنسبُ بمقام المبالغةِ فإن قِلَّته في الثقل أظهرُ من قلة النملة فيه وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أدخَلَ يدَه في التراب ثم نفَخ فيه فقال كل واحد من هؤلاء ذرة {وَإِن تَكُ حَسَنَةً} أي وإن تك مثقالَ ذرةٍ حسنةً أنَّث لتأنيث الخبرِ أو لإضافته إلى الذرة وحُذِف النونُ من غير قياسٍ تشبيهاً بحروف العلةِ وتخفيفاً لكثرة الاستعمال وقرئ حسَنةٌ بالرفعِ على أنَّ كانَ تامةٌ {يضاعفها} أي يضاعفْ ثوابَها جعل ذلك مضاعفةً لنفس الحسَنةِ تنبيهاً على كمال الاتصالِ بينهما كأنهما شئ واحد وقرئ يُضْعِفْها وكلاهما بمعنى واحد وقرئ نُضاعِفْها بنون العظمةِ على طريقة الالتفات عن عثمانَ النهدي أنه قال لأبي هريرةَ رضيَ الله عنه بلغني عنك أنك تقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله تعالى يعطي عبدَه المؤمنَ بالحسنة ألفَ ألفِ حسنةٍ قال أبو هريرة لابل سمعته صلى الله عليه وسلم يقول

41 - 42 النساء يُعطيه ألفَيْ ألفِ حسنةٍ ثم تلاَ هذهِ الآيةَ الكريمة والمرادُ الكثرةُ لا التحديد {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ} ويعطِ صاحِبَها من عنده على نهج التفضُّلِ زائداً على ما وعده في مقابلة العملِ {أَجْراً عَظِيماً} عطاء جزيلاً وإنما سماه أجراً لكونه تابعاً للأجر مَزيداً عليه

41

{فَكَيْفَ} محلُّها إما الرفعُ على أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ وإما النصبُ بفعل محذوفٍ على التشبيه بالحال كما هُو رأيُ سيبويهِ أو على التشبيه بالظرف كما هو رأيُ الأخفشِ أى فكيف حالُ هؤلاءِ الكفرةِ من اليَّهودِ والنَّصارَى وغيرِهم أو كيف يصنعون {إِذَا جِئْنَا} يومَ القيامة مِن كُلّ أمَّةٍ منَ الأُممِ {بِشَهِيدٍ} يشهد عليهم بكا كانوا عليه من فساد العقائدِ وقبائحِ الأعمالِ وهو نبيُّهم كما في قوله تعالى {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} والعاملُ في الظرف مضمونُ المبتدأ والخبرِ من هول الأمرِ وعِظَمِ الشأنِ أو الفعلُ المقدرُ ومِنْ متعلقةٌ بجئنا {وَجِئْنَا بِكَ} يا محمد {على هَؤُلاء} إشارةٌ إلى الشهداء المدلولِ عليهم بما ذكر {شَهِيداً} تشهَدُ على صدقهم لعلمك بعقائدهم لاستجماع شرعِك لمجامعِ قواعدِهم وقيل إلى المكذبين المستفهَمِ عن حالهم تشهد عليهم بالكفر والعصيانِ كما يشهد سائرُ الأنبياء على أممهم وقيل إلى المؤمنين كما في قوله تعالى {لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}

42

{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول} استئنافٌ لبيان حالِهم التي أُشير إلى شدتها وفظاعتها بقوله تعالى فَكَيْفَ فإن أريد بهم المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالتعبير عنهم بالموصول لاسيما بعد الإشارة إليهم بهولاء لذمِّهم بما في حيزِ الصلةِ والإشعارِ بعلة ما اعتراهم من الحال الفظيعةِ والأمرِ الهائلِ وإيرادُه عليه السلام بعنوان الرسالةِ لتشريفه وزيادةِ تقبيحِ حالِ مكذّبيه فإن حق الرسول أن يؤمن به ويطاع لاأن يُكفَرَ به ويعصى وإن أريد بهم جنسُ الكفرَةِ فهم داخلونَ في زُمرتهم دُخولاً أولياء والمرادُ بالرسول حينئذ الجنسُ المنتظِمُ للنبي عليه السلام انتظاما أولياً وأيّاً ما كانَ ففيه من تهويل الأمر وتفظيع الحال مالا يقادَر قدرُه وقوله تعالى وَعَصَوُاْ عطفٌ على كفروا داخلٌ معه في الصلة والمرادُ معاصيهم المغايرةُ لكفرهم ففيه دلالةٌ على أنَّ الكفارَ مخاطَبون بفروع الشرائعِ في حق المؤاخذةِ وقيلَ حالٌ منْ ضميرِ كفروا وقيل صلةٌ لموصول آخرَ أي يودّ في ذلك اليومِ الذين جمعوا بين الكفرِ وعصيانِ الرسولِ أو الذين كفروا وقد عصَوُا الرسول أو الذين كفروا والذين عصوا الرسول ولو في قوله تعالى {لَوْ تسوى بِهِمُ الارض} إن جعلت مصدرية فالجلمة مفعولٌ ليوَدّ أي يودون أن يُدفنوا فتُسوَّى بهم الأرضُ كالموتى وقيل يودّون أنهم لم يُبْعثوا أو لم يحلقوا وكأنهم والأرضَ سواءٌ وقيل تصير البهائمُ تراباً فيودّون حالها وإن جعلت جارية على بابها فالمفعولُ محذوفٌ لدِلالة الجملةِ عليه أي يودون تسوية الأرض وجوابُ لو أيضاً محذوفٌ إيذاناً بغاية ظهورِه أي لسُرُّوا بذلك وقوله تعالى {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} عطف على يود أي ولا يقدِرون على كتمانه لأن جوارحَهم تشهد عليهم وقيل الواو للحال

43 - النساء أى يودون ان يدفنون في الأرض وهم لايكتمون منه تعالى حديثاً ولا يكذبونه بقولهم والله رنبا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ إذ رُوي أنهم إذا قالوا ذلك ختمَ الله على افواهم فتشهدُ عليهم جوارحُهم فيشتد الأمرُ عليهم فيتمنَّوْن أن تسوى بهم الأرض وقرئ تَسَّوَّى على أن أصله تتسوى فأُدغم التاءُ في السين وقرئ تَسَوَّى بحذف التاء الثانية يقال سويته فتسوى

43

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} لما نُهوا فيما سلف عن الإشراك به تعالى نهوا ههنا عَمَّا يؤدَّي إليهِ منَ حيث لايحتسبون فإنه روى أن عبدَ الرحمن بنُ عوف رضى الله عنه صنع طعاماً وشراباً حين كانت الخمرُ مباحةً فدعا نفرا منَ الصحابةِ رضيَ الله عنهم فأكلوا وشربوا حتى ثمِلوا وجاء وقتُ صلاةِ المغربِ فتقدم أحدهمليصلى بهم فقرأ أعبُدُ ما تعبدون فنزلت وتصديرُ الكلامِ بحر في النداءِ والتنبيهِ للمبالغة في حملهم على العمل بموجب النهيُ عن قُربان المساجدِ لقوله عليه السلام جنِّبوا مساجدَكم صِبيانَكم ومجانينَكم ويأباه قوله تعالى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ فالمعنى لا تُقيموها في حالة السُكرِ حتى تعلموا قبل الشروعِ ما تقولونه إذْ بتلك التجرِبةِ يظهر أنهم يعلمون ما سيقرءونه في الصلاة وحملُ ما تقولون على ما في الصلاة يستدعي تقدُّمَ الشروعِ فيها على غاية النهي وحملُ العلمِ على ما بالقوة على معنى حتى تكونوا بحيث تعلمون ما ستقرءون في الصلاة تطويلٌ بلا طائل لأن تلك الحيثيةِ إنما تظهرُ بما ذُكر من التجربة على إيثارَ ما تقولون على ما تقرءون حينئذ يكون عارياً عن الداعي وقيل المرادُ بالسكر سُكرُ النعاسِ وغلبةُ النوم وأيا ما كان فليس مرجِعُ النهي هو المقيدُ مع كأنه قيل يأيها الذين آمنوا لاتسكروا في أوقات الصلاة وقد روي أنهم كانوا بعد مانزلت الآيةُ لا يشربون الخمرَ في أوقات الصلاة فإذا صلَّوُا العِشاءَ شرِبوها فلا يُصْبحون إلا وقد ذهب عنهم السكرُ وعلموا ما يقولون {وَلاَ جُنُباً} عطفٌ على قوله تعالى وَأَنتُمْ سكارى فإنه في حيز النصب كأنه قيل لاتقربوا الصلاةَ سكارى ولا جنباً والجنبُ من أصابه الجنابةُ يستوي فيه المذكرُ والمؤنثُ والواحدُ والجمع لجَرَيانه مجرى المصدر {إِلاَّ عَابِرِى سبِيلِ} استثناء مفرغ من أعم الأحوالِ محلُّه النصبُ على أنَّهُ حال من ضمير لاتقربوا باعتبار تقيُّدِه بالحال الثانيةِ دون الأولى والعاملُ فيه فعلُ النهي أي لا تقربوا الصلاةَ جُنباً في حال من الحوال إلا حالَ كونِكم مسافرين على معنى أن في حالة السفرِ ينتهي حكمُ النهي لكن لا بطريق شمولِ النفْي لجميع صورِها بل بطريق نفي الشمول في الجلمة من غير دلالة على انتفاء خصوصيةِ البعضِ المنتفي ولا على بقاء خصوصيةِ

البعضِ الباقي ولا على ثبوت نقيضِه لا كلياً ولا جزئياً فإن الاستثناءَ لا يدل على ذلك عبارةً نعم يشير إلى مخالفة حكمِ ما بعده لما قبله إشارةً إجماليةً يكتفى بها في المقامات الخِطابيةِ لا في إثبات الأحكامِ الشرعيةِ فإن مَلاكَ الأمرِ في ذلك إنما هو الدليلُ وقد ورد عَقيبَه على طريقة البيانِ وقيل هو صفةٌ لجنُباً على أن إلى بعنى غير أي وإلاجنبا غيرَ عابري سبيل ومن حَملَ الصلاةَ على مواضعها فسر العبور بالا جيتاز بها وجوّز للجنب عُبورَ المسجدِ وبه قال الشافعيُّ رحمَهُ الله وعندَنا لا يجوز ذلك إلا أن يكون الماءُ أو الطريقُ فيه وقيل إن رجالاً من الأنصار كانت أبوابُهم في المسجد وكان يُصيبهم الجنابةُ ولا يجدون ممرّاً إلا في المسجد فرُخِّص لهم ذلك {حتى تَغْتَسِلُواْ} غايةٌ للنهي عن قُربان الصلاةِ حالةَ الجنابة ولعل تقديم الاستشاء عليه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأن حكمَ النهي في هذه الصورةِ ليس على الإطلاق كما في صورة السُّكرِ تشويقاً إلى البيان وروما لزبادة تقرّرِه في الأذهان وفي الآية الكريمةِ إشارةٌ إلى أن المصلِّي حقُّه أن يتحرَّزَ عما يُلْهيه ويشغَلُ قلبَه وأن يزكيَ نفسَه عما يدنسها ولايكتفى بأدنى مراتبِ التزكية عند إمكان أعاليها {وَإِنْ كُنتُم مرضى} شروعٌ في تفصيل ما أجمل في الاستئناف وبيانِ ما هُوَ في حُكمِ المستثنى من الأعذار والاقتصارُ فيما قبلُ على استئناء السفرِ مع مشاركة الباقي له في حكم الترخيصِ للإشعار بأنه العذرُ الغالبُ المنبئ عن الضرورة التي عليَها يدورُ أمرُ الرُخصةِ كأنه قيل ولا جنباً إلا مضْطرين وإليه مرجِعُ ما قيل من أنه جُعل عابري سبيلٍ كنايةً عن مطلق المعذورين والمرادُ بالمرض ما يمنع من استعمال الماءِ مطلقاً سواءٌ كان ذلك بتعذر الوصول التي إليه أو بتعذر استعمالِه {أَوْ على سَفَرٍ} عطفٌ على مرضى أي أو كنتم على سفر ما طال أو قصُر وإيرادُه صريحاً مع سبق ذكرُه بطريق الاستثناءِ لبناء الحكمِ الشرعيِّ عليه وبيانِ كيفيتِه فإن الاستثناءَ كما أشير إليه بمعزلٍ من الدِلالة على ثبوته فضلاً عن الدِلالة على كيفيته وتقديمُ المرضِ عليه للإيذان بأصالته واستقلالِه بأحكام لا توجد في غيره كالاشتداد باستعمال الماءِ ونحوِه {أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط} هو المكانُ الغائرُ المطمئنُّ والمجئ منه كنايةٌ عن الحدث لأن المعتاد أن مَنْ يريدُه يذهب إليه ليُوارِيَ شخصَه عن أعين الناس وإسناد المجئ منه إلى واحد منهم من المخاطبين دونهم للتفادي عن التصريح بنسبتهم إلى ما يُستحيا منه أو يُستهجن التصريحُ به وكذلك إيثارُ الكنايةِ فيما عُطف عليه من قولهِ عزَّ وجلَّ {أَوْ لامستم النساء} على التصريح بالجِماع ونظمُهما في سلك سَبَبَيْ سقوطِ الطهارةِ والمصيرُ إلى التيمم مع كونهما سببَيْ وجوبِها ليس باعتبار أنفسِهما بل باعتبار قيدِهما المستفادِ من قوله تعالى {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً} بل هو السببُ في الحقيقة وإنما ذُكرا تمهيداً له وتنبيهاً على أنه سببٌ للرخصة بعد انعقادِ سببِ الطهارةِ الصغرى والكبرى كأنه قيل أو لم تكونوا مرضى أو مسافرين بل كنتم فاقدين للماء بسبب من الأسباب معَ تحققِ ما يُوجبُ استعمالَه وتخصيصُ ذكرِه بهذه الصورة مع أنه معتبرٌ في صورة المرضِ والسفرِ أيضاً لنُدرة وقوعِه فيها واستغنائِهما عن ذكره إما لأن الجنابة معتبرةٌ فيهما قطعاً فيُعلم من حكمها حكمُ الحدثِ الأصغرِ بدِلالة النصِّ لأن تقديرَ النظمِ لا تقربوا الصلاة في حال الجناية إلا حالَ كونِكم مسافرين فإن كنتم كذلك أو كنتم مرضى الخ وإما لِما قيل من أن عمومَ إعوازِ الماءِ في حق المسافرِ غالبٌ والعجزُ عن استعمال الماءِ القائمِ مَقامَ عدمِه في حق المريض مغنٍ عن ذكره لفظاً وما قيل من أن هذا القيدَ راجعٌ إلى الكل وأن قيدَ وجوبِ التطهرِ المكنى عنه بالمجئ من الغائط والملامسة

44 - النساء معتبرٌ في الكل ممَّا لا يساعدُهُ النظمُ الكريم {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً} فتعمَّدوا شيئاً من وجه الأرضِ طاهراً قال الزجاجُ الصعيدُ وجهُ الأرضِ تراباً أو غيرَه وإن كان صخراً لا ترابَ عليه لو ضرب المتيممُ يدَه عليه ومسَحَ لكان ذلك طَهورَه وهو مذهبُ أبي حنيفةَ رحمَهُ الله وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله لا بد أن يعلَقَ باليد شئ من التراب {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} أي إلى المِرْفقين لما روى أنه صلى الله عليه وسلم تيمّم ومسح يديه إلى مِرْفقيه ولأنه بدلٌ من الوضوء فيتقدر بقَدَره {إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} تعليلٌ للترخيص والتيسيرِ وتقريرٌ لهما فإن مَنْ عادتُه المستمرَّةُ أن يعفوَ عن الخاطئين ويغفرَ للمذنبين لا بد أن يكون ميسِّراً لا معسراً وقيل هو كنايةٌ عنهما فإن الترفيهَ والمسامحةَ من روادف العفوِ وتوابعِ الغُفران

44

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} كلام مسأنف مسوق لتعجيب المؤمنين من سوء حالِهم والتحذيرِ عن موالاتهم والخطابُ لكلِّ مَنْ يتأتَّى منْهُ الرؤيةُ من المؤمنين وتوجيهُه إليه ههنا مع توجيهه فيما بعدُ إلى الكل معاً للإيذان بكمال شهرةِ شناعةِ حالِهم وأنها بلغتْ من الظُّهورِ إلى حيث يتعجّبُ منها كلُّ مِنْ يراها والرؤيةُ بَصَريةٌ أي ألم تنظُرْ إليهم فإنهم أحقا أن تشاهِدَهم وتتعجب من أحوالهم وتجويزُ كونِها قلبيةً على أن إلى لتضمنها معنى الانتهاءِ لما فعلوه يأباه مقامُ تشهيرِ شنائعِهم ونظمِها في سلك الأمورِ المشاهدةِ والمرادُ بهم أحبارُ اليهود روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهُما أنها نزلت في حَبْريْنِ من أحبار اليهودِ كانا يأتيان رأسَ المنافقين عبدَ اللَّه بنَ أُبيَ ورهطَه يُثبِّطانِهم عن الإسلام وعنْهُ رضيَ الله عنْهُ أيضاً أنها نزلت في رُفاعةَ بنِ زيدٍ ومالكِ بنِ دخشم كانا إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لَوَيا لسانَهما وعاباه والمرادُ بالكتاب هو التوراةُ وحملُه على جنس الكتابِ المنتظِمِ لها انتظاماً أولياً تطويلٌ للمسافة وبالذي أوتوه ما بُيِّن لهم فيها من الأحكام والعُلومِ التي من جملتها ما علِموه من نعوت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وحقيقة الإسلام والتعبير عنه بالنصيب المنبئ عن كونه حقاً من حقوقهم التي يجب مراعاتها والمحافظةُ عليها للإيذان بكمال ركاكةِ آرائِهم حيث ضيّعوه تضييعاً وتنوينُه تفخيميٌّ مؤيدٌ للتشنيع عليهم والتعجيبِ من حاله فالتعبيرُ عنهُمْ بالموصولِ للتنبيهِ بما في حيز الصلة على كمال شناعتِهم والإشعارِ بمكان ما طُويَ ذكرُه في المعامله المحكمية عنهم من الهدى الذي هو أحدُ العِوَضَيْنِ وكلمةُ مِنْ متعلقةٌ إما بأُوتوا أو بمحذوف وقع صفة لنصيباً مبينةً لفخامته الإضافيةِ إثر بيان فخامته الذاتية أي نصيباً كائناً من الكتاب وقوله تعالى {يَشْتَرُونَ الضلالة} قيل هو حالٌ مقدرةٌ منْ واوِ أُوتُواْ ولا ريب في أن اعتبار تقدير اشترائِهم وأنت خبيرٌ بأنه خالٍ عن إفادة أن مادةَ التشنيعِ والتعجيبِ هو الاشتراءُ المذكورُ وما عُطف عليه والذي تقتضيهِ جزالةُ النظمِ الكريمِ أنه استئنافٌ مبينٌ لمناط التشنيعِ ومدارِ التعجيبِ المفهومَيْن من صدر الكلامِ على وجه الإجمالِ والإبهام مبنى على سئوال نشأَ منْهُ كأنَّه قيلَ ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم فقيل يأخذون الضلالةَ ويترُكون ما أُوتوه من الهداية وإنما طوى المتروك لغاية ظهورِ الأمرِ لا سيما بعد الإشعار المذكورِ والتعبيرُ عن ذلك بالاشتراء الذي هو عبارةٌ عن

45 - 46 النساء استبدال السلعة بالثمن أي أخذِها بدلاً منه أخذاً ناشئاً عن الرغبة فيها والإعراضِ عنه للإيذان بكمال رغبتِهم في الضلالة التي حقُّها أن يُعرَضَ عنها كلَّ الإعراضِ وإعراضِهم عن الهداية التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ وفيه من التسجيل على نهاية سخافةِ عقولِهم وغايةِ ركاكةِ آرائِهم ما لا يَخفْى حيثُ صُوِّرت حالُهم بصورة ما لا يكادُ يتعاطاه أحدٌ ممن له أدنى تمييزٍ وليس المرادُ بالضلالة جنسَها الحاصلَ لهم من قبلُ حتى يخل بمعنى الاشتراء المنبئ عن تأخُّرِها عنه بل هو فردُها الكاملُ وهو عنادُهم وتماديهم في الكفر بعد ما علموا بشأن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وتيقنوا بحقِّية دينه وأنه هو النبيُّ العربيُّ المبشَّرُ به في التوراة ولا ريب في أن هذه الرتبةَ لم تكن حاصلةً لهم قبل ذلك وقد مرَّ في أوائل سُورة البقرة {وَيُرِيدُونَ} عطفٌ على يشترون شريكٌ له في بيان محل التشنيع والتعجيب وصيغةُ المضارعِ فيهما للدِلالة على الاستمرار التجددي فإن تجددَ حُكمِ اشترائِهم المذكورِ وتكررَ العملِ بموجبه في قوة تجدّدِ نفسِه وتكرُّرِه أي لا يكتفون بضلال أنفسِهم بل يريدون بما فعلوا من كتمان نعوتِه عليه السلام {أَن تَضِلُّواْ} أنتم أيضاً أيها المؤمنون {السبيل} المستقيمَ الموصِلَ إلى الحقِّ

45

{والله أَعْلَمُ} أي منكم {بِأَعْدَائِكُمْ} جميعاً ومن جملتهم هؤلاءِ وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون بكم لتكونوا على حذر منهم ومن مخالطتهم أو هو أعلمُ بحالهم ومآلِ أمرِهم والجملةُ معترضةٌ لتقرير إرادتِهم المذكورةِ {وكفى بالله وَلِيّاً} في جميع أمورِكم ومصالِحِكم {وكفى بالله نَصِيراً} في كل المواطنِ فثِقوا به واكتفُوا بولايته ونُصرتِه ولا تتولوا ولا تُبالوا بهم وبما يسومونَكم من السوء فإنه تعالى يكفيكم مكرَهم وشرَّهم ففيه وعدٌ ووعيدٌ والباءُ مزيدةٌ في فاعل كفَى لتأكيد الاتصالِ الإسناديِّ بالاتصال الإضافيِّ وتكريرُ الفعلِ في الجملتين مع إظهار الجلالةِ في مقام الإضمارِ لا سيما في الثاني لتقوية استقلالها المناسب للإعتراض وتأكيد كفياتة عز وجل في كلَ من الولاية والنصرة والإ شعار بعلّيتهما فإن الألوهية من موجباتهما لا محالة

46

{مّنَ الذين هَادُواْ} قيل هو بيانٌ لأعدائكم وما بينهما اعتراضٌ وفيه أنه لا وجهَ لتخصيص علمِه سبحانه بطائفة من أعدائهم لا سيما في معرِض الاعتراضِ الذي حقُّه العمومُ والإطلاقُ وانتظامُ ما هو المقصودُ في المقام انتظاماً أولياً كما أشير إليه وقيل هو صلة لنصير أي ينصرُكم من الذين هادوا كما في قوله تعالى {فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله} وفيه ما فيه من تحجير واسعِ نُصرتِه عز وجل مع أنه لا داعيَ إلى وضعَ الموصولِ موضِعَ ضميرِ الأعداءِ لأن مَا في حيزِ الصلةِ ليس بوصفٍ ملائمٍ للنصر وقيل هو خبرُ مبتدإٍ محذوف وقع قوله تعالى {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} صفةٌ له أي من الذين هادوا قومٌ أو فريق يحرفون الخ وفيه أنه يقتضي كونَ الفريقِ السابقِ بمعزل من التحريف الذي هو المصداقُ لاشترائهم في الحقيقة فالذي يليق بشأن

التنزيلِ الجليلِ أنه بيانٌ للموصول الأولِ المتناولِ بحسب المفهومِ لأهل الكتابين قد وُسِّط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناءِ ببيان محلِّ التشنيعِ والتعجيبِ والمسارعةِ إلى تنفير المؤمنين منهم وتحذيرِهم عن مخالطتهم والاهتمامِ بحملهم على الثقة بالله عز وجل والاكتفاءِ بولايته ونُصرتِه وأن قولَه تعالى يُحَرّفُونَ وما عُطف عليه بيانٌ لاشترائهم المذكورِ وتفصيلٌ لفنون ضلالتِهم وقدر وعيت في النظم الكريمِ طريقةُ التفسيرَ بعدَ الإبهامِ والتفصيلِ إثر الإجمال وما لزيادة تقريرٍ يقتضيه الحالُ والكَلِمُ اسمُ جنسٍ واحدُه كلِمةٌ كتَمْر وتمرة وتذكيرُ ضميرِه باعتبار إفرادِه لفظاً وجمعيةُ مواضعِه باعتبار تعدُّدِه معنى وقرئ بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفبف كلمة وقرئ يحرِّفون الكلامَ والمرادُ به ههنا إما ما في التوراة خاصةً وإما ما هو أعمُّ منه ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودةِ الصادرةِ عنهم في أثناء المحاورة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مساغَ لإرادة تلك الكلماتِ خاصة بأن يُجعلَ عطفُ قولِه تعالى {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} الخ على ما قبله عطفاً تفسيرياً لما ستقف على سره فإن أريد به الأولُ كما هو رأيُ الجمهورِ فتحريفُه إزالتُه عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم في نعت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أسمرُ رَبعةٌ عن موضعه في التوراة بأن وضعوا مكانه آدمُ طُوالٌ وكتحريفهم الرجمَ بوضعهم بدله الحدَّ أو صرفِه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى مالا صِحةَ له بالتأويلات الزائغةِ الملائمةِ لشهواتهم الباطلةِ وإن أُريد به الثاني فلا بد من أن يُرادَ بمواضعه ما يليق به مطلقاً سواءٌ كان ذلك بتعيينه تعالى صريحاً كمواضِعِ ما في التوراة أو بتعيين العقلِ أو الدين كمواضع غيره وأياما كان فقولُهم سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ينبغي أن يجريَ على إطلاقه من غير تقييدٍ بزمان أو مكانٍ ولا تخصيصٍ بمادة دون مادةٍ بل وأن يُحمَلَ على ما هو أعمُّ من القول الحقيقيِّ ومما يُترجِم عنه عِنادُهم ومكابَرتُهم ليندرجَ فيه ما نَطقَتْ به ألسنةُ حالِهم عند تحريفِ التوراةِ فإن من لا يتفوّه بتلك العظيمةِ لا يكادُ يتجاسرُ على مثل هذه الجنايةُ وإلا فحملُه على ما قالوه في مجلس النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من القبائح خاصةً يستدعي اختصاصَ حُكمِ الشرطيةِ الآتيةِ وما بعدها بهن من غير تعرُّضٍ لتحريفهم التوراةَ مع أنه معظم جنايتهم المعدودة ومن ههنا انكشف لك السرُّ الموعودُ فتأمل أي يقولون في كل أمرٍ مخالفٍ لأهوائهم الفاسدةِ سواءٌ كان بمحضر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أولا بلسان المقالِ أو الحال سمعنا وعصينا عِناداً وتحقيقاً للمخالفة وقوله تعالى {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} عطف على سمِعنا وعصينا داخلٌ تحت القولِ أي ويقولون ذلك في أثناء مخاطبته صلى الله عليه وسلم خاصةً وهو كلامٌ ذو وجهين محتمِلٌ للشر بأن يحمل على معنى اسمع حالَ كونِك غيرَ مسمَعٍ كلاماً أصلاً بصمم أو موت أي مدعواً عليك بلا سمِعْتَ أو غيرَ مسمَعٍ كلاماً ترضاه فحينئذ يجوز أن يكون نصبُه على المفعولية وللخير بأن يُحمل على اسمَعْ منا غير مسمع مكروها كانوا يخاطبون به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم استهزاءً به مُظْهرين له صلى الله عليه وسلم إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون في أنفسهم المعنى الأولَ مطمئنون به {وراعنا} عطفٌ على اسمَعْ غيرَ مسمَعٍ أي ويقولون في أثناء خطابهم له صلى الله عليه وسلم هذا أيضاً يوردون كلاًّ من العظائمِ الثلاثِ في مواقعها وهي أيضاً كلمةٌ ذاتُ وجهينِ محتملة للخير بحملها على معنى ارقُبْنا وانظرنا نكلمك وللشر يحملها على السبّ بالرُّعونة أي الحَمق أو بإجرائها مجرى ما يُشبِهُها من كلمة عبرانيةٍ أو سريانية كانوا يتسابُّون بها وهي راعينا كانوا يخاطبونه صلى الله عليه وسلم بذلك ينوون الشتيمةَ والإهانةَ ويُظهرون التوقيرَ والاحترامَ ومصيرُهم إلى مسلك النفاقِ في

القولين الأخيرَين مع تصريحهم بالعصيان في الأول لما قالوا من أن جميعَ الكفرةِ كانوا يواجهونه بالكفر والعصيانِ ولا يواجهونه بالسبِّ ودُعاءِ السوءِ وقيل كانوا يقولون الأولَ فيما بينهم وقيل يجوز أن لا ينطِقوا بذلك ولكنهم لمّا لم يؤمنوا به جعلوا كأنهم نطَقوا به {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} أي فتْلاً بها وصرفاً للكلام عن نهجه إلى نسبة السبِّ حيث وضعوا غير مسمع موضع لا أسمعت مكروهاً وأجْرَوا راعِنا المشابِهةَ لراعينا مُجْرى انظُرنا أو فتلاً بها وضمّاً لما يُظهرونه من الدعاء والتوقير إلى ما يُضمِرونه من السبِّ والتحقير {وَطَعْناً فِى الدين} أي قدحاً فيه بالإسنهزاء والسخرية وانتصابهما على العلية ليقولون باعتبار تعلّقِه بالقولين الأخيرين أي يقولون ذلك لصرف الكلامِ عن وجهه إلى السب والطعن في الدين أو على الحالية أي لاوين وطاعنين في الدين {وَلَوْ أَنَّهُمْ} عندما سمعوا شيئاً من أوامرِ الله تعالى ونواهيه {قَالُواْ} بلسانِ المقالِ أو بلسانِ الحالِ مكانَ قولِهم سمعنا وعصَينا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} إنما أعيد سمِعْنا مع أنه متحقِّقٌ في كلامهم وإنما الحاجةُ إلى وضْعِ أطعنا مكانَ عصينا لا للتنبيه على عدم اعتبارِه بل على اعتبار عدمه كيف لا وسماعُهم سماعُ الرد ومرادهم بحكايته إعلام عِصيانَهم للأمر بعد سماعِه والوقوفِ عليه فلا بد من إزالته وإقامةِ سماعِ القَبول مُقامَه {واسمع} أي لو قالوا عند مخاطبةِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بدلَ قولِهم اسمَعْ غيرَ مُسمَعٍ اسمع {وانظرنا} أي ولو قالوا ذلك بدلَ قولِهم راعِنا ولم يدُسّوا تحت كلامِهم شراً وفساداً أي لو ثبت أنهم قالوا هذا مكانَ ما قالوا من الأقوال {لَكَانَ} قولُهم ذلك {خَيْراً لَّهُمْ} مما قالوا {وَأَقْوَمُ} أي أعدلَ وأسدَّ في نفسه وصيغةُ التفضيلِ إما على بابها واعتبارِ أصلِ الفضلِ في المفضَّلِ عليه بناءً على اعتقادهم أو بطريق التهكمِ وإما بمعنى اسمِ الفاعلِ وإنما قُدّم في البيان حالُه بالنسبة إليهم على حاله في نفسه لأن هِممَهم مقصورةٌ على ما ينفعهم {وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} أي ولكن لم يقولوا ذلك واستمرُّوا على كفرهم فخذلهم الله تعالى وأبعدَهم عن الهدى بسبب كفرِهم بذلك {فَلاَ يُؤْمِنُونَ} بعد ذلك {إِلاَّ قَلِيلاً} قيل أي إلا إيماناً قليلاً لا يُعبأ به وهو الإيمانُ ببعض الكتُبِ والرسلِ أو إلا زماناً قليلاً وهو زمانُ الاحتضارِ فإنهم يؤمنون حين لا ينفعُهم الإيمانُ قال تعالى وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وكلاهما ليس بإيمان قطعاً وقد جُوِّز أن يراد بالقِلة العدمُ بالكُلِّية على طريقةِ قوله تعالى لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى أي إن كان الإيمانُ المعدومُ إيماناً فهم يُحدِثون شيئاً من الإيمان فهو في المعنى تعليقٌ بالمحال وأنت خبيرٌ بأن الكلَّ يأباه ما يعقُبه من الأمر بالإيمان بالقرآنِ الناطقِ بهذا لإفضائه إلى التكليف بالمُحال الذي هو إيمانُهم بعدم إيمانِهم المستمرِّ أما على الوجه الأخيرِ فظاهرٌ وأمَّا على الأولينِ فلأنَّ أمرَهم بالإيمان المُنْجَزِ بجميع الكتبِ والرسلِ تكليفٌ لهم بإيمانهم بعدم إيمانِهم إلى وقت الاحتضارِ فالوجهُ أن يُحملَ القليلُ على من يؤمن بعد ذلك لكن لا يجعل المستثنى منه ضمير الفاعل في لا يؤمنون لإفضائه إلى وقوعِ إيمانِ مَنْ لعنه الله تعالى وخَذَله مع ما فيه من نسبة القراء إلى الاتفاق على غير المختارِ بل بجعله ضميرَ المفعولِ في لعنهم أي ولكن لعنهم الله إلا فريقاً قليلاً فإنه تعالى لم يلعنْهم فلم ينسَدَّ عليهم بابُ الإيمانِ وقد آمن بعد ذلك فريقٌ من الأحبار كعبدِ اللَّه بنِ سَلاَم وكعبٍ وأضرابِهما كما سيأتي

47 - النساء

47

{يا أيها الذين أُوتُواْ الكتاب} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إما إلى من حُكِيتْ أحوالُهم وأقوالُهم خاصةً بطريق الالتفاتِ ووصفُهم تارةً بإيتاء الكتابِ أي التوراةِ وأخرى بإيتاء نصيبٍ منها لتوفية كلَ من المقامَين حقَّه فإن المقصودَ فيما سبق بيانُ أخذِهم الضلالةَ وإزالةُ ما أُوتوه بمقابلتها بالتحريف وليس ما أزالوه بذلك كلَّها حتى يوصَفوا بإيتائه بل هو بعضُها فوُصِفوا بإيتائه وأما ههنا فالمقصودُ تأكيدُ إيجابِ الامتثالِ بالأمر الذي يعقُبه والتحذيرُ عن مخالفته من حيث أن الإيمانَ بالمصدَّق موجِبٌ للإيمان بما يصدِّقه والكفرَ بالثاني مقتضٍ للكفر بالأول قطعاً ولا ريب في أن المحذورَ عندهم إنما هو لزومُ الكفرِ بالتوراة نفسِها لا ببعضها وذلك إنما يتحقق بجعل القرآنِ مصدِّقاً لكلها وإن كان مناطُ التصديقِ بعضاً منها ضرورةَ أن مصدِّقَ البعضِ مصدَّقٌ للكل المتضمِّن له حتماً وإما إليهم وإلى غيرهم قاطبةً وهو الأظهر وأياما كان فتفصيلُ ما فُصّل لمّا كان من مظانّ إقلاعِ كل من الفريقين عمَّا كانوا عليه من الضلالة عقّب ذلك بالأمر بالمبادرة إلى سلوك محَجّة الهدايةِ مشفوعاً بالوعيد الشديدِ على المخالفة فقيل {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} من القرآن عبّر عنه بالموصولِ تشريفاً له بما في حيز الصلةِ وتحقيقاً لكونه من عنده عز وجل {مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ} من التوراة عبر عنها بذلك للإيذان بكمالِ وقوفِهم على حقيقة الحالِ فإن المعيَّةَ المستدعية لدوام تلاوتها وتكرير المراجعةِ إليها من موجبات العثور على ما في تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكون القرآنِ مصدِّقاً لها ومعنى تصديقِه إياها نزولُه حسبما نُعِتَ لهم فيها أو كونُه موافقاً لها في القصص والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدلِ بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وأما ما يتراءى من مخالفته لها في جزئيات الأحكامِ بسبب تفاوتِ الأممِ والأعصارِ فليست بمخالفة في الحقيقة بل هي عينُ الموافقة من حيث إن كلا منها حق بالإضافة إلى عصره متضمِّنٌ للحكمة التي عليها يدورُ فَلَكُ التشريعِ حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدّمَ قطعاً ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي {مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} متعلقٌ بالأمر مفيدٌ للمسارعة إلى الامتثال به والجِدِّ في الانتهاء عن مخالفته بما فيه من الوعيد الشديدِ الواردِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه حيث لم يعلَّقْ وقوعُ المتوعَّدِ به بالمخالفة ولم يصرَّحْ بوقوعه عندها تنبيهاً على أن ذلك أمرٌ محقَّقٌ غنيَ عنِ الإخبارِ بهِ وأنه على شرف الوقوعِ متوجِّهٌ نحوَ المخاطَبين وفي تنكير الوجوهِ المفيدِ للتكثير تهويلٌ للخطب وفي إبهامها لطف بالمخاطبين وحسن استدعاء لهم إلى الإيمان وأصلُ الطمسِ محوُ الآثارِ وإزالةُ الأعلام أي آمنوا من قبل أن نمحُوَ تخطيطَ صورِها ونزيلَ آثارَها قال ابن عباس رضي الله عنهما نجعلها كخُفّ البعيرِ أو كحافر الدابةِ وقال قتادة والضحاك نُعْميها كقوله تعالى {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} وقيل نجعلها منابتَ الشعرِ كوجوه القِردة {فَنَرُدَّهَا على أدبارها} فنجعلَها على هيئة أدبارِها وأقفائِها مطموسةً مثلَها فالفاءُ للتسبيب أو نُنَكّسَها بعد الطمسِ فنردَّها إلى موضع

الأقفاءِ والأقفاءَ إلى موضعها وقد اكتُفيَ بذكر أشدِّهما فالفاءُ للتعقيب وقيل المرادُ بالوجوه الوجهاءُ على أن الطمْسَ بمعنى مُطلقِ التغييرِ أيْ مِنْ قبلِ أنْ نغيِّرَ أحوالَ وُجَهائِهم فنسلُبَ إقبالَهم ووجاهتَهم ونكسُوَهم صَغاراً وإدباراً أو نردَّهم من حيث جاءوا منه وهي أذرِعاتُ الشام فالمرادُ بذلك إجلاءُ بني النضيرِ ولا يخفى أنه لا يساعدُه مقامُ تشديدِ الوعيدِ وتعميمِ التهديدِ للجميع فالوجهُ ما سبق من الوجوه وقد اختُلف في أن الوعيدَ هل كان بوقوعه في الدنيا أو في الآخرة فقيل كان بوقوعه في الدنيا ويؤيده ما رُوي أنَّ عبدَ الله ابن سلامٍ رضي الله تعالى عنه لما قدِم من الشام وقد سمع هذه الآيةَ أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتيَ أهلَه فأسلم وقال يا رسولَ الله ما كنت أرى أن أصِلَ إليك حتى يتحوّلَ وجهي إلى قفايَ وفي رواية جاء إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ويدُه على وجهه وأسلم وقال ما قال وكذا ما رُوي أن عمرَ رضي الله عنه قرأ هذه الآيةَ على كعب الأحبارِ فقال كعبٌ يا رب آمنتُ يا ربِّ أسلمتُ مخافةَ أن يصيبَه وعيدُها ثم اختلفوا فقيل إنه مُنتَظَرٌ بعْدُ ولابد من طمسٍ في اليهود ومسخٍ وهو قولُ المبرِّد وفيه أن انصرافَ العذابِ الموعودِ عن أوائلهم وهم الذين باشروا أسبابَ نزولِه وموجباتِ حلولِه حيث شاهدوا شواهد النبوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذبوها وفي التوراة فحرّفوها وأصرُّوا على الكفر والضلالةِ وتعلَّقَ بهم خِطابُ المشافهةِ بالوعيد ثم نزولَه على من وُجد بعد مئاتٍ من السنين من أعقابهم الضالّين بإضلالهم العالَمين بما مهّدوا من قوانين الغِوايةِ بعيدٌ من حكمة الله تعالى العزيزِ الحكيم وقيل إن وقوعَه كان مشروطاً بعدمِ الإيمانِ وقد آمن من أحبارهم المذكورانِ وأضرابُهما فلم يقعْ وفيه أن إسلامَ بعضِهم إن لم يكن سبباً لتأكد نزولِ العذابِ على الباقين لتشديدهم النكيرَ والعِنادَ بعد ازديادِ الحقِّ وضوحاً وقيامِ الحجةِ عليهم بشهادة أماثلِهم العدولِ فلا أقل من أن لا يكونَ سبباً لرفعه عنهم وقيل كان الوعيدُ بوقوع أحدِ الأمرين كما ينطِقُ به قوله تعالى {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت} فإن لم يقعِ الأمرُ الأولُ فلا نزاعَ في وقوع الثاني كيف لا وهم ملعونون بكل لسانٍ في كل زمانٍ وتفسيرُ اللعن بالمسخ ليس بمقرَّرٍ الْبتّةَ وأنت خبير بأن المتبادرَ من اللعن المشبَه بلعن أصحابِ السبت هو المسخُ وليس في عطفه على الطمس والردِّ على الأدبارِ شائبةُ دلالةٍ على عدم إرادةِ المسخِ ضرورة أنه تغييرٌ مغايرٌ لما عُطف عليهِ عَلى أنَّ المتوعَّدَ به لا بد أن يكون أمراً حادثاً مترتباً على الوعيد محذوراً عندهم ليكون مَزْجرةً عن مخالفة الأمرِ ولم يُعهَدْ أنه وقع عليهم لعنٌ بهذا الوصف إنما الواقعُ عليهم ما تداولته الألسنةُ من اللعن المستمرِّ الذي ألِفُوه وهو بمعزل من صلاحية أن يكونَ حكماً لهذا الوعيدِ أو مزجرةً للعنيد وقيل إنما كان الوعيدُ بوقوع ما ذُكر في الآخرة عند الحشرِ وسيقع فيها لا محالةَ أحدُ الأمرين أو كلاهما على سبيل التوزيعِ وأمَّا ما رُوِيَ عن عبدُ اللَّه بنِ سَلاَم وكعبٍ فمبنيٌّ على الاحتياط اللائقِ بشأنهما والحق أن النظمَ الكريمَ ليس بنص في أحد الوجهين بل المتبادرُ منه بحسب المقامِ هو الأولُ لأنه أدخلُ في الزجر وعليه مبنيٌّ ما روي عن الحَبْرين لكن لمّا لم يتضِحْ وقوعُه عُلم أن المرادَ هو الثاني والله تعالى أعلم وأياً ما كان فلعل السرَّ في تخصيصهم بهذه العقوبةِ من بين العقوباتِ مراعاةُ المشاكلةِ بينهما وبين ما أوجبها من جنايتهم التي هي التحريفُ والتغييرُ والله هو العليمُ الخبير {وَكَانَ أَمْرُ الله} أي ما أمر به كائناً ما كانَ أو أمرُه بإيقاع شئ ما من الأشياء {مَفْعُولاً} نافذاً كائناً لا محالة فيدخُل فيه ما أُوعِدْتم به

48 - 49 النساء دخولاً أولياً فالجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما سبق ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضعَ الضميرِ بطريق الالتفاتِ لتربيةِ المهابةِ وتعليلِ الحكمِ وتقوية ما في الاعتراض من الاستقلال

48

{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من الوعيد وتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأمر بالإيمان ببيان استحالةِ المغفرةِ بدونه فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من التحريف ويطمَعون في المغفرة كما في قوله تعالى {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى} أي على التحريف {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} والمرادُ بالشرك مُطلقُ الكفرِ المنتظمِ لكفر اليهودِ انتظاماً أولياً فإن الشرْعَ قد نص على إشراك أهلِ الكتابِ قاطبةً وقضى بخلود أصنافِ الكفرةِ في النار ونزولُه في حق اليهود كما قال مقاتل وهو الأنسبُ بسياقِ النظمِ الكريم وسياقِه لا يقتضي اختصاصَه بكفرهم بل يكفي اندراجُه فيه قطعاً بل لا وجهَ له أصلا لاقتضائه جوازَ مغفرةِ ما دون كفرِهم في الشدة من أنواع الكفرِ أي لا يغفِرُ الكفرَ لمن اتصف به بلا توبةٍ وإيمانٍ لأن الحكمةَ التشريعيةَ مقتضيةٌ لسدّ بابِ الكفرِ وجوازُ مغفرتِه بلا إيمان مما يؤدّي إلى فتحه ولأن ظلماتِ الكفرِ والمعاصي إنما يسترها نورُ الإيمانِ فمن لم يكن له إيمانٌ لم يغفَرْ له شيءٌ من الكفر والمعاصي {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} عطفٌ على خبر إن وذلك إشارةٌ إلى الشرك وما فيه من معنى البُعدِ مع قُربه في الذكر للإيذان ببُعدِ درجتِه وكونِه في أقصى مراتبِ القُبحِ أي ويغفر ما دونه في القبح من المعاصي صغيرةً كانت أو كبيرةً تفضلاً من لدنه وإحساناً من غير توبةٍ عنها لكن لا لكل أحدٍ بل {لِمَن يَشَاء} أي لِمَن يَشَاء أنْ يغفرَ له ممن اتصف به فقط لا بما فوقه فإن مغفرتَهما لمن اتصف بهما سواءٌ في استحالة الدخولِ تحت المشيئةِ المبْنيةِ على الحكمةِ التشريعيةِ فإن اختصاصَ مغفرةِ المعاصي من غير توبةٍ بأهل الإيمان من الترغيبِ فيه والزجْرِ عن الكفر ومن علق المشيئةَ بكلا الفعلين وجعل الموصولَ الأولَ عبارةً عمن لم يتُبْ والثاني عمن تاب فقد ضل سواء الصواب كيف لا وإن مساقَ النظمِ الكريمِ لإظهار كمالِ عِظَمِ جريمةِ الكفرِ وامتيازِه عن سائر المعاصي ببيان استحالةِ مغفرتِه وجوازِ مغفرتِها فلو كان الجوازُ على تقدير التوبةِ لم يظهَرْ بينهما فرقٌ للإجماع على مغفرتهما بالتوبة ولم يحصُلْ ما هو المقصودُ من الزجر البليغِ عن الكفر والطغيانِ والحملِ على التوبة والإيمان {وَمَن يُشْرِكْ بالله} إظهارُ الاسمِ الجليل في موضعِ الإضمارِ لزيادةِ تقبيحِ الإشراكِ وتفظيعِ حالِ من يتصف به {فقد افترى إثما عظيما} أي افترى واختلق مرتكباً إثماً لا يقادَر قدْرُه ويُستحقر دونه جميعُ الآثامِ فلا تتعلق به المغفرةُ قطعاً

49

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} تعجيبٌ من حالهم المنافيةِ لِما هم عليه من الكفر والطغيانِ والمرادُ بهم اليهودُ الذين يقولونَ نحنُ أبناءُ الله وأحبّاؤُه وقيل ناسٌ من اليهود جاءوا بأطفالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا هل على هؤلاء ذنب فقال صلى الله عليه وسلم لا قالوا ما نحن إلا كهيئتهم ما عمِلنا بالنهار كفر

50 - 51 سورة النساء عنا بالليل وما عمِلنا بالليل كُفّر عنا بالنهار أي انظُر إليهم فتعجَّبْ من ادعائهم أنهم أزكياءُ عندِ الله تعالى معَ ما هم عليه من الكفر والإثمِ العظيمِ أو من ادعائهم التكفيرَ مع استحالة أن يُغفرَ للكافر شيءٌ من كفره أو معاصيه وفيه تحذيرٌ من إعجاب المرءِ بنفسه وبعمله {بل الله يزكى من يَشَاء} عطفٌ على مقدَّر ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنه قيل هم لا يزكونها في الحقيقة لكَذِبهم وبُطلان اعتقادِهم بل الله يزكي من يشاء تزكيتَه ممن يستأهِلُها من المرتَضَيْن من عباده المؤمنين إذ هو العليمُ الخبيرُ بما ينطوي عليه البشرُ من المحاسن والمساوي وقد وصفهم الله بما هم متصفون به من القبائح وأصلُ التزكيةِ نفيُ ما يستقبح بالفعل أو القول {وَلاَ يُظْلَمُونَ} عطفٌ على جملةٍ قد حُذفت تعويلاً على دِلالة الحالِ عليها وإيذاناً بأنها غنيةٌ عن الذكر أي يعاقَبون بتلك الفَعلةِ القبيحةِ ولا يظلمون في ذلك العقاب {فَتِيلاً} أي أدنى ظُلمٍ وأصغرَه وهو الخيطُ الذي في شِقّ النواةِ يُضرب به المثل في القلة والحقارة وقيل التقديرُ يثاب المزكّون ولا يُنقص من ثوابهم شيءٌ أصلاً ولا يساعده مقامُ الوعيد

50

{انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} كَيْفَ نُصب إما على التشبيه بالظرف أوبالحال على الخلاف المشهورِ بين سيبويه والأخفشِ والعاملُ يفترون وبه تتعلق على أي في أي حال أو على أي حالٍ يفترون عليه تعالى الكَذِب والمرادُ بيان شناعةِ تلك الحالِ وكمالُ فظاعتِها والجملةُ في محل النصبِ بعد نزعِ الخافض والنظر متعلق بها وهو تعجيب إثر تعجيبٌ وتنبيهٌ على أن ما ارتكبوه متضمت لأمرين عظيمين موجبين للتعجب إدعاؤُهم الاتصافَ بما هم متّصفون بنقيضه وافتراؤُهم على الله سبحانه فإن ادعاءهم الزكاء عنده تعالى متضمِّنٌ لادعائهم قبولَ الله وارتضاءَه إياهم تعالى عن ذلك علوا كبير ولكون هذا أشنعَ من الأول جُرماً وأعظمَ قبحاً لما فيه من نسبته سبحانه وتعالى إلى ما يستحيل عليه بالكلية من قَبول الكفرِ وارتضائِه لعباده ومغفرةِ كفرِ الكافرِ وسائرِ معاصيه وُجِّه النظرُ إلى كيفيته تشديداً للتشنيع وتأكيداً للتعجيب والتصريحُ بالكذب مع أن الافتراءَ لا يكون إلا كذبا لللبالغة في تقبيح حالِهم {وكفى بِهِ} أي بافترائهم هذا من حيث هو افتراءٌ عليه تعالى مع قطع النظرِ عن مقارنته لتزكية أنفسِهم وسائرِ آثامِهم العظامِ {إِثْماً مُّبِيناً} ظاهراً بيّناً كونه إثماً والمعنى كفى ذلك وحدَه في كونهم أشدَّ إثماً من كل كَفارٍ أثيم أو في استحقاقهم لأشدِّ العقوباتِ لما مر سرُّه وجعلُ الضميرِ لزعمهم مما لا مساغَ له لإخلاله بتهويل أمرِ الافتراءِ فتدبرْ

51

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} تعجيب من حال أخرى لهم ووصفُهم بما ذكر من إيتاء النصيبِ لما مر من منافاته لما صدَر عنهم من القبائح وقولُه عز وجل {يؤمنون بالجبت والطاغوت} اسئناف مُبينٌ لمادة التعجب مبنيٌّ على سؤال ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنَّه قيل ماذا يفعلون حين يُنظَر إليهم فقيل يؤمنون الخ والجبتُ الأصنامُ وكلُّ ما عُبد من دونِ الله تعالَى فقيل أصلُه الجِبسُ وهو الذي

52 - 53 النساء لاخير عنده فأبدل السين تاءً وقيل الجبتُ الساحرُ بلغة الحبشة والطاغوتُ الشيطانُ قيل هو في الأصل كل ما يُطغي الإنسان روي أن حُيَيَّ بنَ أخطبَ وكعبَ بنَ الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكةَ في سبعين راكباً من اليهود ليحالفوا قريشاً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقُضوا العهدَ الذي كان بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم فقالوا أنتم أهل الكتاب وأنتم أقربُ إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا نطمئنَّ إليكم ففعلوا فهذا إيمانُهم بالجبت والطاغوتِ لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعو إبليسَ فيما فعلوا وقال أبو سفيانَ لكعبٍ إنك امرُؤٌ تقرأ الكتابَ وتعلم ونحن أُميون لا نعلم فأيُنا أهدى طريقاً نحن أم محمدٌ فقال ماذا يقول محمد قال يأمر بعباة الله وحدَه وينهي عن الشرك قال ومادينكم قالوا نحن ولاةُ البيتِ نسقى الحاج ونقرئ الضيفَ ونفُكّ العانيَ وذكروا أفعالَهم فقال أنتم أهدى سبيلاً وذلك قولُه تعالى {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي لأجلهم وفي حقّهم {هَؤُلاء} يعنونهم {أهدى من الذين آمنوا سبيلا} أي أقومُ ديناً وأرشدُ طريقة وإبرادهم بعنوان الإيمانِ ليس من قِبلَ القائلين بل من جهة الله تعالى تعريفاً لهم بالوصف الجميلِ وتخطئةً لمن رجّح عليهم المتصفين بأقبح القبائح

52

{أولئك} غشارة إلى القائلين وما فيه من معنى البعد مع قربهم في الذكر للإشعار ببُعد منزلِتهم في الضلال وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى {الذين لَعَنَهُمُ الله} أيْ أبعدهم عن رحمته وطردهم والجملةُ مستأنفةٌ لبيان حالِهم وإظهارِ مصيرِهم ومآلِهم {وَمَن يَلْعَنِ الله} أي يُبعده عن رحمته {فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} يدفع عنه العذابَ دنيويا كان أو أخرويا لابشفاعة ولا بغيرها وفيه تنصيصٌ على حِرمانهم مما طلبوا من قريش وفي كلمة لن وتوجيهِ الخطابِ إلى كل أحد ممن يتسنى له الخطاب وتوحيد النصر مُنكّراً والتعبيرِ عن عدمه بعدم الوجدان المنبئ عن سبق الطلبِ مُسنداً إلى المخاطبَ العامِّ من الدِلالة على حِرمانهم الأبديِّ بالكلية ما لا يخفى

53

{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ الملك} شروعٌ في تفصيلِ بعضٍ آخرَ من قبائحهم وأمْ منقطعةٌ وما فيها من بل للإضراب والانتقالِ من ذمهم بتزكيتهم أنفسَهم وغيرِها مما حُكي عنهم إلى ذمهم بادّعائهم نصيباً من الملك وبُخلِهم المفرِطِ وشحهم البالغ والهزه لإنكار أن يكون لهم ما يدّعونه وإبطالِ ما زعموا أن المُلك سيصير إليهم وقولُه تعالى {فَإذاَ لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً} بيانٌ لعدم استحقاقِهم له بل لاستحقاقهم الحِرمانَ منه بسب أنهم من البخل والدناءةِ بحيث لو أوتوا شيئاً من ذلك لما أعطَوا الناسَ منه أقلَّ قليلٍ ومن حق مَنْ أوتي المُلكَ أن يُؤثِرَ الغيرَ بشئ منه فالفاءُ للسببية الجزائيةِ لشرط محذوفٍ أي إن جُعل لهم نصيبٌ منه فإذن لا يؤتون الناسَ مقدار ونقير وهو ما في ظهر النواة من النقرة ويضرب به المثل في القلة والحقارةِ وهذا هو البيانُ الكاشفُ عن كُنه حالِهم وإذا كان شأنُهم كذلك وهم مُلوكٌ فما ظنُّك بهم وهو أذلاءُ متفاقرون ويجوز أن لا تكون الهمزةُ لإنكار الوقوعِ بل لإنكار الواقعِ والتوبيخِ عليه أي لعدِّه مُنكراً غيرَ لائقٍ بالوقوع على أن الفاءَ للعطف والإنكارُ متوجهٌ إلى مجموع المعطوفَين على معنى ألهمْ نصيبٌ وافرٌ من الملك حيث

54 - 55 النساء كانوا أصحابَ أموالٍ وبساتينَ وقصورٍ مَشيدةٍ كالملوك فلا يؤتون الناسَ مع ذلك نقيراً كما تقول لغنيَ لا يراعي أباه ألك هذا القدرُ من المال فلا تُنفقُ على أبيك شيئاً وفائدةُ إذن تأكيدُ الإنكارِ والتوبيخِ حيث يجعلون ثبوتَ النصيبِ سبباً للمنع مع كونِه سبباً للإعطاء وهي مُلغاةٌ عن العمل كأنه قيل فلا يؤتون الناس إذن وقرئ فإذن لا يؤتون بالنصيب على إعمالها

54

{أمْ يَحْسُدُونَ الناس} منقطعةٌ أيضاً مفيدةٌ للانتقال من توبيخهم بما سبق إلى توبيخهم بالحسد الذي هو شر الرذائل وأقبحها لاسيما على ما هم بمعزل من استحقاقه واللام في الناس للعهد والإشارةِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وحملُه على الجنس إيذانا بحيازتهم الكمالات البشريةِ قاطبةً فكأنهم هم الناس لا غيره لا يلائمه ذكرُ حديثِ آلِ إبراهيمَ فإن ذلك لتذكير ما بينَ الفريقينِ من العلامة الموجبةِ لاشتراكهما في استحقاق الفضل والهزة لإنكار الواقعِ واستقباحِه فإنهم كانوا يطمعون أن يكون النبيُّ الموعودُ منهم فلما خصَّ الله تعالى بتلك الكرامةِ غيرَهم حسدوهم أي بل أيحسُدونهم {على مَا آتاهم الله من فضله} يعني النبوةَ والكتابَ وازديادَ العزِّ والنصرِ يوماً فيوماً وقوله تعالى تعالى {فقد آتينا} تعليلٌ للإنكار والاستقباحِ وإلزامٌ لهم بما هومسلم عندهم وحسمٌ لمادة حسَدِهم واستبعادِهم المبنيَّيْن على توهّم عدمِ استحقاقِ المحسودِ لِما أوتيَ من الفضل ببيان استحقاقِه له بطريق الوراثةِ كابراً عن كابر وإجراءُ الكلامِ على سَنن الكبرياءِ بطريق الالتفاتِ لإظهار كمالِ العنايةِ بالأمر والمعنى أن حسدَهم المذكورَ في غاية القبحِ والبُطلانِ فإنا قد آتينا من قبلِ هذا {آل إبراهيم} الذين هم أسلافُ محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم أو أبناءُ أعمامِه {الكتاب والحكمة} أى النبوة {وآتيناهم} مع ذلك {مُّلْكاً عَظِيماً} لا يقادَر قدرُه فكيف يستبعدون نوبته صلى الله عليه وسلم ويحسُدونه على إيتائها وتكريرُ الإيتاء لما يقيتضيه مقامُ التفضيلِ مع الإشعار بما بين النبوةِ والمُلكِ من المغايرة فإن أريد به الإيتاءُ بالذات فالمرادُ بآل إبراهيمَ أنبياؤهم خاصة والضميرُ المنصوبُ في الفعل الثاني لبعضهم إما بحذف المضافِ أو بطريق الاستخدامِ لما أن المُلكَ لم يُؤتَ كلَّهم قال ابن عباس رضي الله عنهما الملكُ في آل إبراهيمَ مُلكُ يوسفَ وداودَ وسليمانَ عليهم السلام وإن أريد به ما يعُمّه وغيرَه من الإيتاء بالواسطةِ وهو اللائقُ بالمقام والأوفقُ لما قبله من نسبة إيتاءِ الفضلِ إلى الناس فالمرادُ بآل إبراهيمَ كلُّهم فإن تشريفَ البعضِ بما ذُكر من إيتاء النبوةِ والمُلكِ تشريفٌ للكل لاعتنائهم بآثاره واقتباسِهم من أنواره وفي تفصيل ما أُوتوه وتكريرِ الفعلِ ووصفِ المُلكِ بالعظم وتنكيره التفخيمى منن تأكيد الإلزامِ وتشديدِ الإنكارِ مالا يخفى هذا هو المتبادرُ من النظم الكريمِ وإليه جنحَ جمهورُ أئمةِ التفسيرِ لكن الظاهرَ حينئذٍ أنْ يكونَ قولُه تعالى

55

{فمنهم من آمن بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} حكايةً لما صدر عن أسلافهم عقيب وقع المحكيِّ من غير أن يكون له دخل في الإلزام الذي سيق له الكلامُ أي فمن جنس

56 - النساء هؤلاءِ الحاسدين وآبائِهم مَن آمن بما أوتي آلُ إبراهيمَ ومنهم من أعرضَ عنه وأما جعلُ الضميرين لما ذُكر من حديث آلِ إبراهيمَ فيستدعي تراخيَ الآيةِ الكريمةِ عما قبلها نزولاً كيف لا وحكايةُ إيمانهم بالحديث المذكور وإعراضهم عنه بصيفة الماضي إنما يُتصوّر بعد وقوع الإيمانِ والإعراضِ المتأخِّرَين عن سماع الحديثِ المتأخرِ عن نزوله وكذا جعلُهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إذِ الظاهرُ بيانُ حالِهم بعد هذا الإلزامِ وحملُه على حكاية حاهلم السابقة لاتساعده الفاءُ المرتبةُ لما بعدها على ما قبلها ولا يبعُد كلَّ البعدِ أن تكون الهمزةُ لتقرير حسدِهم وتوبيخِهم بذلك ويكونَ قولُه تعالة فقد آتينا الآية تعليلاً له بدِلالته على إعراضهم عما أوتي آلُ إبراهيم وإن لم يُذكرْ كونُه بطريق الحسدِ كأنه قيل بل أيحسُدون الناسَ على ما آتاهم الله من فضله ولا يؤمنون به وذلك دِيدنُهم المستمرُّ فإنا قد آتينا آلَ إبراهيمَ ما آتينا فمنهم أي من جنسهم مَنْ آمن بما آتيناهم ومنهم من أعرض عنه ولم يؤمن به والله سبحانه أعلمُ وفيه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم {وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} ناراً مسعرةً يعذّبون بها والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها

56

{إن الذين كفروا بآياتنا} إن أريد بهم الذين كفروا برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم فالمرادُ بالآيات إما القرآنُ أوما يعُمّ كلَّه وبعضَه أو ما يعم سائرَ معجزاتِه إيضاً وإن أريد بهم الجنسُ المتناولُ لهم تناولاً أولياً فالمرادُ بالآيات ما يعم المذكوراتِ وسائرَ الشواهدِ التي أوتيَها الأنبياءُ عليهم السلام {سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً} قال سيبويهِ سوف كلمةٌ تُذكر للتهديد والوعيدِ وينوبُ عنها السينُ وقد يُذكران في الوعد فيفيدانِ التأكيدِ أي نُدخلهم ناراً عظيمةً هائلة {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} أي احترقت وكلما ظرفُ زمانٍ والعامل فيه {بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا} من قَبيل بدّله بخوفه أمناً لا من قبيل يبدل الله سئاتهم حسناتٍ أي أعطيناهم مكانَ كلِّ جلدٍ محترقٍ عند احتراقِه جلداً جديداً مغايراً للمحترق صورةً وإن كان عينَه مادةً بأن يُزالَ عنه الاحتراقُ ليعودَ إحساسُه للعذاب والجملةُ في محل النصب على أنها حالٌ من ضمير نُصليهم وقد جوز كونها لناراً على حذف العائدِ أي كلما نضِجت فيها جلودُهم فمعنى قولِه تعالى {ليذوقوا العذاب} ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك لللعزيز أعزَّك الله وقيل يخلُق مكانَه جلداً آخرَ والعذابُ للنفس العاصيةِ لا لآلة إدراكِها قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يُبدَّلون جلوداً بيضاءَ كأمثال القراطيسِ وروي أن هذه الآيةَ قُرئت عند عمرَ رضي الله تعالى عنه فقال للقارئ أعِدْها فأعادها وكان عنده معاذُ بنُ جبلٍ فقال معاذٌ عندي تفسيرُها يُبَدّل في ساعةٍ مائةَ مرةٍ فقال عمرُ رضي الله عنه هكذا سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول وقال الحسنُ تأكلُهم النارُ كلَّ يومٍ سبعين ألفِ مرةٍ كلما أكلتْهم قيل لهم عودوا فيعودون كما كانوا ورَوَى أبُو هُريرةَ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أن بين منكِبَي الكافرِ مسيرةَ ثلاثةِ أيامٍ للراكبِ المسرعِ وعن أبي هريرة أنه قال قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ضِرْسُ الكافرِ أو نابُ الكافرمثل أحُدٍ وغِلَظُ جلدِه مسيرةُ ثلاثةِ أيامٍ والتعبيرُ عن إدراك العذابِ بالذوق ليس لبيان قلته بل

57 - 58 النساء لبيان أن إحساسَهم بالعذاب في كل مرةٍ كإحساس الذائقِ بالمذوق من حيثُ إنَّه لا يدخُله نقصانٌ لدوام الملابَسةِ إو للإشعار بمرارة العذابِ مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيرِه من حيث إن القوةَ الذائقة أشد الحواس تأثيرا أو على سِرايته للباطن ولعل السرَّ في تبديل الجلودِ مع قدرتِه تعالى على إبقاء إدراكِ العذابِ وذوقِه بحاله مع الاحتراق ومع إبقاء أبدانِهم على حالها مَصونةً عن الاحتراق أن النفسَ ربما تتوهّم زوالَ الإدراكِ بالاحتراق ولا تستبعد كلَّ الاستبعادِ أن تكون مصونةً عن التألم والعذابِ بصيانة بدنِها عن الاحتراق {إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً} لا يمتنع عليه ما يريده ولا يمانعه أحدٌ {حَكِيماً} يعاقِب مَنْ يعاقبه على وَفق حكمتِه والجملةُ تعليلٌ لما قبلها من الإصلاء والتبديلِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ بطريق الالتفاتِ لتهويل الأمرِ وتربية المهابةِ وتعليلِ الحكم فإن عنوانَ الألوهيةِ مناطٌ لجميع صفاتِ كمالِه تعالى

57

{والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات} عُقِّب بيانُ سوء حال الكفرة بيان ببيان حُسنِ حالِ المؤمنين تكميلاً لِمَساءة الأولين ومسرَّةِ الآخَرين أي الذين آمنوا بآياتنا وعمِلوا بمقتضياتها وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى {سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} وقرئ سيُدخِلُهم بالياء رداً على الاسم الجليلِ وفي السين تأكيدٌ للوعد {خالدين فِيهَا أَبَداً} حالٌ مقدّرةٌ من الضميرِ المنصوبِ في سندخلهم وقوله عز وعلا {لَّهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} أي مما في نساء الدنيا من الأحوال المستقذَرةِ البدنية والأدناسِ الطبيعية في محل النصب على أنه حال من جناتٍ أو حالٌ ثانيةٌ من الضمير المنصوبِ أو على أنه صفةٌ لجناتٍ بعد صفةٍ أو في محلِ الرفعِ على أنه خبرٌ للموصول بعد خبرٍ {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} أي فيْناناً لا جَوْبَ فيه دائماً لا تنسَخُه شمسٌ اللهم ارزُقنا ذلك بفضلك وكرمِك يا أرحمَ الراحمين والظليلُ صفةٌ مشتقةٌ من لفظ الظلِّ للتأكيد كما في ليلٌ ألْيلُ ويوم أيوم وقرئ يُدخلهم بالياء وهو عطفٌ على سيُدخِلهم لا على أنه غيرُ الإدخالِ الأولِ بالذات بل بالعنوان كما في قوله تعالى {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}

58

{إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا} في تصدير الكلامِ بكلمة التحقيقِ وإظهارِ الاسمِ الجليلِ وإيرادِ الأمرِ على صورة الإخبارِ من الفخامة وتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ به والدِلالةِ على الاعتناء بشأنه ما لا مزيدَ عليه وهو خطابٌ يعُمّ حكمُه المكلفين قاطبة كما أن الأماناتِ تعمُّ جميعَ الحقوقِ المتعلقةِ بذمهم من حقوق الله تعالى وحقوقِ العبادِ سواءٌ كانت فعليةً أو قوليةً إو اعتقاديةً وإن ورد في شأن عثمانَ بنِ طلحة ابن عبدِ الدارِ سادنِ الكعبةِ المعظمةِ وذلكَ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حين دخل مكةَ يوم الفتح أغلق عثمانُ رضيَ الله عنْهُ بابَ الكعبةِ وصعِدَ السطحَ وأبى أن يدفعَ المِفتاحَ إليه وقال لو علمت أنه رسولُ الله لم

59 - النساء أمنعْه فلوى عليُّ بنُ أبي طالبٍ يدَه وأخذه منه وفتح ودخل النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباسُ أن يُعطِيَه المفتاحَ ويجمعَ له السِقاية والسِدانة فنزلت فأمر علياً أن يُردَّه إلى عثمانَ ويعتذرَ إليه فقال عثمان لعليّ أكرهتَ وآذيتَ ثم جئت ترفو فقال لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآناً فقرأ عليه الآية فقال عثمانُ أشهدُ أَن لاَّ إلَه إِلاَّ الله وأشهدُ أنَّ محمداً رسول الله فهبَط جبريلُ عليه الصلاة والسلام وأخبر رسمل الله صلى الله عليه وسلم أن السِّدانةَ في أولاد عثمان أبدا وقرئ الأمانةَ على التوحيد والمرادُ الجنسُ لا المعهودُ وقيل هو أمرٌ للولاة بأداء الحقوقِ المتعلقةِ بذمهم من المناصب وغيرها إلى مستحقها كما أن قوله تعالى {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} أمرٌ لهم بإيصال الحقوقِ المتعلقةِ بذمم الغيرِ إلى أصحابها وحيث كان المأمورُ به ههنا مختصاً بوقت المرافعةِ قُيِّد به بخلاف المأمورِ به أو لا فإنه لما لم يتعلَّقْ بوقت دون وقت أُطلق إطلاقاً فقوله تعالى أَن تَحْكُمُواْ عطفٌ على أن تؤدوا قد فُصِل بين العاطفِ والمعطوفِ بالظرف المعمولِ له عند الكوفيين والمقدرُ يدل هو عليه عند البصريين لأن مَا بعد إنَّ لا يعملُ فيما قبلَها عندهم أي وإن تحكموا إذا حكمتم الخ وقولُه تعالى بالعدل متعلقٌ بتحكموا أو بمقدرٍ وقع حالاً من فاعلِه أيْ ملتبسينَ بالعدل والإنصاف {إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِه} مَا إما منصوبةٌ موصوفةٌ بيعظكم به أو مرفوعةٌ موصولةٌ به كأنه قيل نعم شيئاً يعظكم به أو نعم الشئ الذي يعظكم به والمخصوصُ بالمدح محذوفٌ أي نِعِمّاً يعطكم به ذلك وهو المأمورُ به من أداء الأماناتِ والعدلِ في الحكومات وقرىء نَعِمّاً بفتح النون والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها متضمنه لمزبد لطف بالمخاطبين وحسن استدعاء لهم إلى الامتثال بالأمر وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابة {إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً} لأقوالكم {بَصِيراً} بأفعالكم فهو وعدٌ ووعيدٌ وإظهارُ الجلالةِ لما ذُكر آنفاً فإن فيه تأكيداً لكلَ من الوعد والوعيد

59

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} بعد ما أمر الولاةَ بطريق العمومِ أو بطريق الخصوصِ بأداء الأماناتِ والعدلِ في الحكومات أمرَ سائرَ الناسِ بطاعتهم لكنْ لا مطلقاً بل في ضمن طاعة الله تعالى وطاعة رسول اله صلى الله عليه وسلم حيث قيل {أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الامر مِنْكُمْ} وهم أمراءُ الحقِّ وولاةُ العدلِ كالخلفاء الراشدين ومن يقتدي بهم من المهتدين وأما أمراءُ الجَوْرِ فبمعزل من استحقاق العطفِ على الله تعالى والرسولِ صلى الله عليه وسلم في وجوب الطاعةِ لهم وقيل هم علماءُ الشرعِ لقوله تعالى {وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرسول وإلى أولى الامر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ويأباهُ قولُه تعالى {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى الله} إذ ليس للمقلد أن ينازعَ المجتهدَ في حكمه إلا أن يجعل الخطاب لأولي الأمر بطريق الالتفاتِ وفيه بعد وتصدير الشرطية بالفاء لترتبها على ما قبلها فإن بيانَ حكمِ طاعةِ أولي الأمرِ عند موافقتِها لطاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يستدعي بيانَ حكمِها عند المخالفةِ أي إن اختلفتم أنتم وأولوا الأمرِ منكم في أمرٍ من أمورِ الدِّين فراجعوا فيه إلى كتاب الله {والرسول} أي إلى سنته وقد استدل

60 - النساء به منكرو القياسِ وهو في الحقيقة دليلٌ على حجيته كيف لاورد المختلَفِ فيه إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناءِ عليه وهو المَعنيُّ بالقياس ويؤيده الأمرُ به بعد الأمرِ بطاعة الله تعالى وبطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يدل على أن الأحكامَ ثلاثةٌ ثابتٌ بالكتاب وثابتٌ بالسنة وثابتٌ بالرد إليهما بالقياس {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر} متعلقٌ بالأمر الأخيرِ الواردِ في محل النزاعِ إذ هو المحتاجُ إلى التحذير من المخالفة وجوابُ الشرطِ محذوفٌ عند جمهورِ البصريين ثقةً بدِلالة المذكورِ عليهِ أيْ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليومِ الآخرِ فردوه الخ فإن الإيمانَ بهما يوجب ذلك أما الإيمانُ بالله تعالى فظاهرٌ وأما الإيمانُ باليوم الآخرِ فلما فيه من العقاب على المخالفة {ذلك} أي الرد المأمورُ به {خَيْرٌ} لكم وأصلح {وَأَحْسَنُ} في نفسه {تَأْوِيلاً} أي عاقبةً ومآلاً وتقديمُ خيْريّتِه لهم على أحسنيته في نفسه لما مر من تعلق أنظارِهم بما ينفعهم والمرادُ بيانُ اتصافِه في نفسه بالخيرية الكاملة في حد ذاتِه من غير اعتبار فضلِه على شئ يشاركه في أصل الخيريةِ والحسن كما ينبئ عنه التحذيرُ السابق

60

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يزعمون أنهم آمنوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} تلوينٌ للخطابِ وتوجيهٌ له إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تعجيباً له من حال الذين يخالفون مامر من الأمر المحتومِ ولا يطيعونالله ولا رسولَه ووصفُهم بادعاء الإيمانِ بالقرآن وبما أنزل من قبله أعني التوراةَ لتأكيد التعجيبِ وتشديدِ التوبيخِ والاستقباح ببيان كمالِ المبايَنةِ بين دعواهم وبين ما صدر عنهم وقرئ الفعلانِ على البناء للفاعل وقوله عز وجل {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت} استئنافٌ سيق لبيان محلِّ التعجيبِ مبنيٌّ على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنَّه قيلَ ماذَا يفعلونَ فقيل يريدون الخ روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ منافقاً خاصَم يهودياً فدعاه اليهوديُّ إلى رسول اله صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافِقُ إلى كعبِ بنِ الأشرفِ ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودى فلم يرض به المنافق فدعاه إلى عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه فقال اليهودى قضى لى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرضى بقضائه فقال عمرُ للمنافق أهكذا قال نعم فقال عمرُ مكانَكما حتى أخرُجَ إليكما فدخل فاشتمل على سيفه ثم خرج فضربَ به عُنقَ المنافق حتى بَرَد ثم قال هكذا أقضي لمن لم يرضَ بقضاء الله وقضاء رسولِه فنزلت فهبط جبريل عليه الصلاة والسلام وقال إن عمرَ فرَّق بين الحقِّ والباطلِ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت الفاروقُ فالطاغوتُ كعبُ بنُ الأشرفِ سُمِّيَ به لإفراطه في الطغيان وعداوةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على التشبيه بالشيطان والتسميةِ باسمه أو جُعل اختيارُ التحاكمِ إلى غير النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم على التحاكم إليه تحاكماً إلى الشيطان وقال الضحاك المرادُ بالطاغوت كَهَنةُ اليهودِ وسَحَرتُهم وعن الشعبي أن المنافقَ دعا خصمَه إلى كاهن في جُهَينةَ فتحاكما إليه وعن السدي أن الحادثةَ وقعت في قتيلٍ بين بني قُريظةَ والنَّضِير فتحاكم المسلمون من الفريقين إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وأبى المنافقون منهما إلا التحاكمَ إلى أبي بُرْدةَ الكاهنِ الأسلميِّ فتحاكموا إليه فيكون الاقتصار حينئذ

61 - 62 النساء في معرِض التعجيبِ والاستقباحِ على ذِكر إرادةِ التحاكمِ دون نفسِه مع وقوعِه أيضاً للتنبيه على أن إرادتَه مِمَّا يُقْضَى منه العجَبَ ولا ينبغي أن يدخُلَ تحت الوقوعِ فما ظنُّك بنفسه وهذا أنسبُ بوصف المنافقين بادّعاء الإيمانِ بالتوراة فإنه كما يقتضي كونَهم من منافقي اليهودِ يقتضي كون ماصدر عنهم من التحاكم ظاهِرَ المنافاة لا دعاء الإيمانِ بالتوراة وليس التحاكمُ إلى كعبِ بنِ الأشرفِ بهذه المثابةِ من الظهور وأيضاً فالمتبادِرُ من قوله تعالى {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} كونُهم مأمورين بكفره في الكتابين وما ذاك إلا الشيطانُ وأولياؤُه المشهورون بولاته كالكَهنة ونظائرِهم لا مَنْ عداهم ممن لم يشتهِرْ بذلك وقرئ أَن يَكْفُرُواْ بِهَا على أن الطاغوتَ جمعٌ كما في قوله تعالى {أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُم} والجملةُ حالٌ من ضمير يريدون مفيدةٌ لتأكيد التعجيبِ وتشديد الاستقباحِ كالوصف السابقِ وقولُه عز وجل {وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضلالا بَعِيداً} عطفٌ على يريدون داخلٌ في حُكمِ التعجيبِ فإن اتّباعَهم لمن يريد إضلالَهم وإعراضَهم عمن يريد هدايتَهم أعجبُ من كل عجيب وضلالا وإما مصدرٌ مؤكدِّ للفعل المذكور بحذفِ الزوائدِ كَما في قولُه تعالَى وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا أي إضلالاً بعيداً وإمَّا مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعله المدلولِ عليه بالفعل المذكورِ أى فيضلوا إضلالا وأياما كان فوصفُه بالبُعد الذي هو نُعِت موصوفُه للمبالغة وقولُه تعالى

61

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول} تكملةٌ لمادة التعجيبِ ببيان إعراضِهم صريحاً عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسولِه إثرَ بيانِ إعراضِهم عن ذلك في ضمن التحاكُمِ إلى الطاغوت وقرئ تعالوا بضمِّ الَّلامِ على أنَّه حذفُ لامِ الفعلِ تخفيفاً كما في قولهم ما باليت بالةً أصلُها بالِية كعافية وكما قالوا في آية أن أصلُها آيِيَة فحُذفت اللام ووقعت واوُ الجمعِ بعد اللامِ في تعالى فضُمت فصار تعالُوا ومنه قول أهلِ مكةَ للمرأة تعالِي بكسر اللام وعليه قولُ أبي فراس الحمداني ... أيا جارتى ما أنصف الدهرُ بيننا ... تعالَيْ أُقاسمْك الهمومَ تعالِي ... {رَأَيْتَ المنافقين} إظهارُ المنافقين في مقام الإضمارِ للتسجيل عليهم بالنفاق وذمّهم به والإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ والرؤيةُ بصَريةٌ وقوله تعالى {يَصُدُّونَ عَنكَ} حالٌ من المنافقين وقيل الرؤيةُ قلبيةٌ والجملةُ مفعولٌ ثانٍ لها والأول وهو الأنسبُ بظهور حالِهم وقولُه تعالى {صُدُوداً} مصدرٌ مؤكدٌ لفعله أي يُعرِضون عنك إعراضاً وأيَّ إعراضٍ وقيل هو اسمٌ للمصدر الذي هو الصدُّ والأظهرُ أنه مصدرٌ لصدَّ اللازمِ والصدُّ مصدرٌ للمتعدي يقال صَدَّ عنه صُدوداً أي أعرض عنه وصدَّه عنه صداً أي منعه منه وقوله تعالى

62

{فَكَيْفَ} شروعٌ في بيان غائلة جنايتهم المَحْكيةِ ووخامةِ عاقبتِها أي كيف يكون حالُهم {إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ} أي وقتَ إصابةِ المصيبةِ إياهم بافتضاحهم بظهور نفاقِهم {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بسببِ ما عمِلوا من الجنايات التي من جُملتها التحاكمُ إلى الطاغوت والإعراضُ عن حكمك {ثُمَّ جاؤوك} للاعتذار عما صنعوا

63 - 64 النساء من القبائح وهو عطفٌ على أصابتهم والمرادُ تفظيعُ حالهم وتهويل مادهمهم من الخطب واعتراهم من شدة الأمرِ عند إصابةِ المصيبة وعند المجئ للاعتذار {يَحْلِفُونَ بالله} حالٌ من فاعل جاءوك {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الفصلَ بالوجه الحسَنِ والتوفيقِ بين الخصمين ولم نُرِدْ مخالفة لك ولاتسخطا لحكمك فلا تؤاخِذْنا بما فعلنا وهذا وعيدٌ لهم على ما فعلوا وأنهم سيندمون عليه حين لاينفعهم الندمُ ولا يغني عنهم الاعتذارُ وقيل جاء أولياءُ المنافقِ يطلُبون بدمه وقد أهدره الله تعالى فقالوا ما أردنا أي ما أراد صاحبُنا المقتولُ بالتحاكم إلى عمرَ رضي الله عنه تعالى إلا أن يُحسِن إليه ويوفِّقَ بينه وبين خصمِه

63

{أولئك} إشارةٌ إلى المنافقين وما فيه من معنى البُعد للتَّنبيهِ على بُعد منزلتِهم في الكفر والنفاقِ وهو مبتدأٌ خبرُه {الذين يَعْلَمُ الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ} أي من فنون الشرور والفسادات المنافيةِ لما أظهروا لك من الأكاذيب {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} جوابُ شرطٍ محذوفٍ أيْ إذا كان حالُهم كذلك فأعرِضْ عن قَبول معذرتِهم وقيل عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم ولا تُظهِرْ لهم علمَك بما في بواطنهم ولاتهتك سترَهم حتى يبقَوْا على وجَلٍ وحذر {وَعِظْهُمْ} أي ازجُرْهم عن النفاق والكيد {وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ} في حق أنفسِهم الخبيثةِ وقلوبِهم المُنْطويةِ على الشرور التي يعلمها الله تعالى أو في أنفسهم خالياً بهم ليس معهم غيرُهم مُسارّاً بالنصيحة لأنها في السرّ أنجَعُ {قَوْلاً بَلِيغاً} مؤثراً واصِلاً إلى كُنه المرادِ مطابقاً لما سيق له من المقصود فالظرفُ على التقديرين متعلقٌ بالأمر وقيل متعلقٌ ببليغاً على رأي من يُجيز تقديمَ معمولِ الصفةِ على الموصوف أي قل لهم قولاً بليغاً في أنفسهم مؤثراً في قلوبهم يغتنمون به اغتناما ويستشعرون منه الخوفَ استشعاراً وهو التوعُّدُ بالقتل والاستئصالِ والإيذانُ بأن ما في قلوبِهِم منَ مكنونات الشرِّ والنفاقِ غيرُ خافٍ على الله تعالى وأن ذلك مستوجِبٌ لأشد العقوباتِ وإنما هذه المكافأةُ والتأخيرُ لإظهارهم الإيمانَ والطاعةَ وإضمارِهم الكفرَ ولئن أظهروا الشقاقَ وبرَزوا بأشخاصهم من نفق النفاق لَيَمسَّنهم العذابُ أَنَّ الله شديدُ العقاب

64

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله) كلامٌ مبتدأٌ جيءَ به تمهيداً لبيان خطئِهم في الاشتغال بسَتر جنايتِهم بالاعتذار بالأباطيل وعدمِ تلافيها بالتوبة أي وما أرسلنا رسولاً من الرسل لشئ من الأشياء إلا ليُطاعَ بسبب إذنِه تعالى في طاعته وأمرِه المرسلَ إليهم بأن يُطيعوه ويتبعوه لأنه مؤدَ عنه تعالى فطاعتُه طاعةُ الله تعالى ومعصيتُه معصيتُه تعالى مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله أو بتيسير الله تعالى وتوفيقِه في طاعته {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} وعرضوها لعذاب على عذاب النفاقِ بترك طاعتِك والتحاكمِ إلى غيرك {جاؤوك} من غير تأخير كما يُفصح عنه تقديمُ الظرفِ متوسِّلين بك في التنصُّل عن جنايتهم القديمةِ والحادثةِ ولم يزدادوا جنايةً على جناية بالقصد إلى سترها

65 - النساء بالاعتذار الباطل والإيمان الفاجر {فاستغفروا الله} بالتوبة والإخلاصِ وبالغوا في التضرُّع إليك حتى انتصبت شفيعا لهم إلى الله تعالى واستغفرْتَ لهم وإنما قيل {واستغفر لَهُمُ الرسول} على طريقة لالتفات تفخيماً لشأن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتعظيماً لاستغفاره وتنبيهاً على أن شفاعتَه في حيِّز القَبول {لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً} لعَلِموه مبالغاً في القبول توبتهم والتفضّل عليهم بالرحمة وإن فُسّر الوُجدانُ بالمصادفة كان قوله تعالى تَواباً حالا ورحيما بدل منه أو حالاً من الضمير فيه وأيا ما كان ففيه فضلُ ترغيبٍ للسامعين في المسارعة إلى التوبة والاستغفارِ ومزيدُ تنديمٍ لأولئك المنافقين على ما صنعوا لما أن ظهورَ تباشيرِ قَبولِ التوبةِ وحصولَ الرحمةِ لهم ومشاهدتَهم لآثارهما نعمةٌ زائدةٌ عليهما موجبةٌ لكمال الرغبة في تحصليها وتمامِ الحسرةِ على فواتها

65

{فَلاَ وَرَبّكَ} أي فوربِّك ولا مزيدةٌ لتأكيد معنى القَسَمِ لا لتأكيد النفيِ في جوابه أعني قولَه {لاَ يُؤْمِنُونَ} لأنها تزادُ في الإثبات أيضاً كَما في قولِه تَعَالَى {فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم} ونظائرِه {حتى يُحَكّمُوكَ} أي يتحاكموا إليك ويترافعوا إليك وإنما جئ بصيغة التحكيمِ مع أنه صلى الله عليه وسلم حاكمٌ بأمر الله سبحانه إيذاناً بأن حقَّهم أن يجعلوه حَكَماً فيما بينهم ويرْضَوا بحكمه وإن قُطع النظرُ عن كونه حاكماً على الإطلاق {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي فيما اختَلف بينهم من الأمور واختَلط ومنه الشجرُ لتداخُل أغصانه {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ} عطفٌ على مقدَّر ينساقُ إليهِ الكلامُ أي فتقضي بينهم ثم لا يجدوا {فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً} ضِيقاً {مّمَّا قَضَيْتَ} أي مما قضيت به أو من قضائك وقيل شكاً من أجله إذا الشاكُّ في ضيق من أمره {وَيُسَلّمُواْ} أي ينقادوا لأمرك ويُذعِنوا له {تَسْلِيماً} تأكيدٌ للفعل بمنزلة تكريرِه أي تسليماً تاماً بظاهرهم وباطنِهم يقال سَلَّم لأمرِ الله وأسلم له بمعنىً وحقيقتُه سلّم نفسَه له إذا جعلها سالمةً له خالصةً أي ينقادوا لحكمك انقياداً لا شُبهةَ فيه بظاهرهم وباطنهم وقيل نزلت في شأن المنافق واليهودى وقيل في شأن الزبيرِ ورجلٍ من الأنصار حين اختصما إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في شِراجٍ من الحرة كانا يسقيان بها النخلَ فقال صلى الله عليه وسلم اسقِ يا زبيرُ ثم أرسلِ الماءَ إلى جارك فغضب الأنصارى وقال لأن كان ابنَ عمتِك فتغير وجهُ رسولِ الله ثم قال اسقِ يا زبيرُ ثم احبِس الماءَ حتى يرجِعَ إلى الجُدُر واستوفِ حقّك ثم أرسلْه إلى جارك كان قد أشار على الزبير برأي فيه سعةٌ له ولخصمه فلما أحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم مستوعب للزبير حقَّه في صريح الحُكم ثم خرجا فمرّا على المقدار بن السود فقال لمن القضاءُ فقال الأنصاريُّ قضى لابن عمتِه ولوى شِدْقَه ففطِن يهوديٌّ كان مع المقداد فقال قاتل الله هؤلاءِ يشهدون أنه رسولُ الله ثم يتّهمونه في قضاء يقضي بينهم وايمُ الله لقد أذنبنا ذنباً مرة في حياة موسى فدعانا إلى التوبة منه وقال اقتُلوا أنفسَكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربِّنا حتى رضيَ عنا فقال ثابتُ بنُ قَيْسِ بنِ شماس أما والله إن الله ليعلم مني الصدقَ لو أمرني محمدٌ أن أقتُلَ نفسي لقتلتُها وروي أنه قال ذلك ثابتٌ وابنُ مسعودٍ وعمارُ بن ياسر

66 - 67 68 69 النساء رضى الله عنهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيدِه إنَّ من أمتي رجالاً الإيمانُ أثبتُ في قلوبهم من الجبال الرواسي فنزلت في شأن هؤلاء

66

{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دياركم} أي لو أوجبْنا عليهم مثلَ ما أوجبنا على نبى إسرائيلَ من قتلهم أنفسَهم أو خروجهم من ديارهم حين استتابتِهم من عبادة العجل وأن مصدرية أو مفسرة لأن كتبنا في معنى أمَرْنا {مَّا فَعَلُوهُ} أي المكتوبَ المدلولَ عليه بكتبْنا أو أحدِ مصدرَي الفعلين {إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ} أي إلا أناسٌ قليلٌ منهم وهم المخلِصون من المؤمنين وروي عن عمر رضيَ الله عنه أنَّه قال والله لو أمَرَنا ربُّنا لفعلْنا والحمدُ لله الذي لم يفعلْ بنا ذلك وقيل معنى اقتُلوا أنفسَكم تعرَّضوا بها للقتل بالجهاد وهو بعيدٌ وقرئ إلا قليلاً بالنصب على الاستثناء أوإلا فِعلاً قليلاً {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعتِه والانقيادِ لما يراه ويحكم به ظاهراوباطنا وسُمِّيت أوامرُ الله تعالى ونواهيه مواعظ لاقترانهما بالوعد والوعيد {لَكَانَ} أي فعلُهم ذلك {خَيْراً لَّهُمْ} عاجلاً وآجلاً {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} لهم على الإيمان وأبعدَ من الاضطراب فيه وأشدَّ تثبيتاً لثواب أعمالِهم

67

{وَإِذاً لاتيناهم مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً} جوابٌ لسؤالٍ مقدرٍ كأنَّه قيل وماذا يكون لهم بعد التثبيتِ فقيل وإذن لو ثبتوا لآتيناهم فإن إذن جوابٌ وجزاءٌ

68

{ولهديناهم صراطا مُّسْتَقِيماً} يصِلون بسلوكه إلى عالم القدسِ ويفتح لهم أبوابَ الغيبِ قال صلى الله عليه وسلم من عمِل بما علِم ورَّثه الله تعالى علمَ مالم يعلَمْ

69

{وَمَن يُطِعِ الله والرسول} كلامٌ مستأنفٌ فيه فضلُ ترغيبٍ في الطاعة ومزيدُ تشويقٍ إليها ببيان أن نتيجتَها أقصى ما يَنتهي إليه هممُ الأممِ وأرفعُ ما يمتدُّ إليه أعناقُ عزائمِهم من مجاورة أعظمِ الخلائقِ مقداراً وأرفعِهم مناراً متضمِّنٌ لتفسير ما أُبهم في جواب الشرطيةِ السابقةِ وتفصيل مااجمل فيه والمرادُ بالطاعة هو الانقيادُ التامُّ والامتثالُ الكاملُ لجميع الأوامرِ والنواهي {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى المطيعين والجمعُ باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفرادَ في فعل الشرطِ باعتبار لفظِها وما فيهِ من معنى البعد مع القُرب في الذكر للإيذان بعلوّ درجتِهم وبُعد منزلتِهم في الشرف وهو مبتدأٌ خبرُه {مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} والجملةُ جوابُ الشرطِ وتركُ ذكرِ المنعَمِ به للإشعار بقصور العبارةِ عن تفصيله وبيانِه {مّنَ النبيين} بيانٌ للمنعَم عليهم والتعرّضُ لمعيّة سائرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ مع أنَّ الكلامَ في بيان حكمِ طاعةِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم لجريان ذكرهم في

70 - النساء سبب النزولِ مع ما فيه من الإشارة إلى أن طاعته صلى الله عليه وسلم متضمِّنةٌ لطاعتهم لاشتمالِ شريعتِه على شرائعهم التي لا تتغيرُ بتغيّر الأعصار رُوي أن نفراً من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالوا يا نبيَّ الله إن صِرْنا إلى الجنة تفضُلُنا بدرجات النبوةِ فلا نراك وقال الشعبي جاء رجلٌ من الأنصار إلى رسول الله وهو يبكي فقال ما يُبكيك يا فلان فقالَ يا رسولَ الله بالله الذي لا إلَه إِلاَّ هو لأنت أحبُّ إليّ من نفسي وأهلي ومالي وولدي وإني لأذكرُك وأنا في أهلي فيأخذُني مثلُ الجنونِ حتى أراك وذكرتُ موتي وأنك ترقع مع النبيين وإني إن أُدخِلْتُ الجنةَ كنتُ في منزلة أدنى من منزلتك فلم يرد النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فنزلتْ وروي أن ثوبانَ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديدَ الحبِّ له عليه الصلاة والسلام قليلَ الصبرِ عنه فأتاه يوماً وقد تغيّر وجهُه ونحُل جِسمُه وعُرف الحزُنُ في وجهه فسأله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن حاله فقالَ يا رسولَ الله ما بي من وجع غير إني إذا لم أراك اشتقتُ إليك واستوحشتُ وحشةً شديدةً حتى ألقاك فذكرت الآخرةَ فخِفتُ أن لا أراك هناك لأني عرفتُ أنك ترفع مع النبيين وإن أُدخِلْتُ الجنةَ كنتُ في منزلة دون منزلِك وإن لم أُدْخَلْ فذاك حين لا أراك أبداً فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده لا يؤمنُ عبدٌ حتى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وأبويه وأهلِه وولدِه والناسِ أجمعين وحُكي ذلك عن جماعة منَ الصحابةِ رضيَ الله عنهم وروي أن أنساً قالَ يا رسولَ الله الرجلْ يحب قوماً ولمّا يلحَقْ بهم قال عليه الصلاة والسلام المرءُ مع من أحبّ {والصديقين} أي المتقدمين في تصديقهم المبالغين في الصدق والإخلاصِ في الأقوال والأفعالِ وهم أفاضلُ أصحابِ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام وأماثلُ خواصِّهم المقربين كأبي بكرٍ الصدِّيقِ رضيَ الله عنه {والشهداء} الذين بذلوا أرواحَهم في طاعة الله تعالى وإعلاءِ كلمتِه {والصالحين} الصارفين أعمارَهم في طاعته وأموالَهم في مرضاته وليس المرادُ بالمعية الاتحادَ في الدرجة ولا مطلقَ الاشتراكِ في دخول الجنةِ بل كونَهم فيها بحيث يتمكن كلُّ واحدٍ منهم من رؤية الآخرَ وزيارتِه متى أراد وإن بعُد ما بينهما من المسافةِ {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} الرفيقُ الصاحبُ مأخوذ من الرِّفق وهو لِينُ الجانبِ واللَّطافةُ في المعاشرة قولاً وفعلاً فإن جُعل أولئك إشارة إلى النبين ومَنْ بعدَهم على أنَّ ما فيهِ من معنى البعدِ لما مرَّ مرارا فرفيقاً إما تمييزٌ أو حالٌ على مَعنْى أنَّهم وصفوا بالحسن من وجهة كونِهم رُفقاءَ للمطيعين أو حال كونهم رفقاء لهم وإفرادُه لما أنه كالصِّديق والخليط والرسولُ يستوِي فيه الواحدُ والمتعددُ أو لأنه أريد حُسنُ كلِّ واحدٍ منهم رفيقاً وإن جعل إشارةً إلى المطيعين فهو تمييزٌ على معنى أنهم وُصفوا بحُسن الرفيقِ من النبيين ومَنْ بعدهم لا بنفس الحُسن فلا يجوز دخول من عليه كما يجوز في الوجه الأولِ والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمَا قبلَهُ مؤكدٌ للترغيب والتشويقِ قيل فيه معنى التعجب كأنه قيل وما أحسنَ أولئك رفيقاً ولاستقلاله بمعنى التعجب قرئ وحسن بسكون السين

70

{ذلك} إشارة إلى ما للمطيعين من عظيم الأجرِ ومزيدِ الهدايةِ ومرافقةِ هؤلاءِ المُنعَمِ عليهم أو إلى فضلهم ومزيتههم وما فيه من معنى البُعدِ للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعد منزلتِه في الشرفِ وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {الفضل} صفتُه وقولُه تعالى {مِنَ الله} خبرُه أي ذلك الفضلُ العظيمُ من الله

71 - 72 73 النساء تعالى لا من غيرِه أو الفضل خبره ومن الله متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً منه والعاملُ فيه معنى الإشارةِ أي ذلك الذي ذكر الفضل كائناً من الله تعالى لا أن أعمالَ المكلفين توجبه {وكفى بالله عليما} بحزاء من أطاعه وبمقادير الفضلِ واستحقاق اهله

71

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ} الحِذْرُ والحذَرُ واحدٌ كالإثرْ والأثَرِ والشِبْهِ والشَّبَهِ أي تيقظوا واحترزوا من العدو ولا تُمْكِنوه من أنفسكم يقال أخذ حِذْرَه إذا تيقظ واحترز من المَخُوف كأنه جعَلَ الحذَرَ آلتَه التي يقي بها نفسَه وقيل هو ما يُحذر به من السلاح والحزمِ أي استعدوا للعدو {فانفروا} بكسر الفاءِ وقرئ بضمها أي اخرُجوا إلى الجهاد عند خروجِكم {ثُبَاتٍ} جمعُ ثُبةٍ وهي الجماعةُ من الرجال فوق العشَرةِ ووزنها في الأصل فُعَلة كحُطَمة حُذفت لامُها وعوِّض عنها تاءُ التأنيثِ وهل هي واوٌ أو ياء فيه قولان قيل إنها مشتقةٌ من ثبا يثبو كحلا يحلو أي اجتمعَ وقيل من ثبَيْتُ على الرجل إذا أثنيت عليه كأنك جمعتَ محاسنَه ويُجمع أيضاً على ثُبينَ جبراً لما حُذف من عَجْزه ومحلُّها النصبُ على الحالية أي انفِروا جماعاتٍ متفرقةً سَرِيةً بعد سرية {أَوِ انفروا جَمِيعاً} أي مجتمعين كوكبةً واحدةً ولا تتخاذلوا فتُلقوا بأنفسكم إلى التهلُكة

72

{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ} أي ليتثاقَلَنّ وليتَخَلَّفَنَّ عن الجهاد من بطّأ بمعنى أبطأ كعتّم بمعنى أعتم والخطابُ لعسكر رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كلِّهم المؤمنين منهم والمنافقين والمُبَطِّئون منافقوهم الذين تثاقلوا وتخلّفوا عن الجهاد أو ليبطِّئن غيرَه ويُثَبِّطَنه مِنْ بطَّأ منقولاً من بطُؤ كثقّل من ثقُل كما بطّأ ابنُ أُبيَ ناساً يوم أُحُد والأولُ أنسبُ لما بعده واللامُ الأولى للابتداء دخلت على اسم إنّ للفصل بالخبر والثانيةُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ والقسمُ بجوابه صلةُ مَنْ والراجعُ إليه ما استكنّ في ليبطِّئنَّ والتقديرُ وإن منكم لمَنْ أُقسم بالله ليبطِّئن {فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ} كقتل وهزيمة {قال} أي المبطئ فرحاً بصنعه وحامداً لرأيه {قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَىَّ} أي بالقعود {إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً} أي حاضراً في المعركة فيصيبني ما أصابهم والفاءُ في الشرطية لترتيب مضمونِها على ما قبلها فإن ذِكرَ التبطئةِ مستتبِعٌ لذكر ما يترتب عليها كما أن نفس التبطئة مستدعية لشئ ينتظر المبطئ وقوعَه

73

{وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ} كفتح وغنيمة {مِنَ الله} متعلقٌ بأصابكم أو بمحذوف وقع صفة لفضل أي كائنٍ من الله تعالى ونسبة إصابةِ الفضلِ إلى جناب الله تعالى دون إصابةِ المصيبةِ من العادات الشريفةِ التنزيليةِ كما في قوله سبحانه وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وتقديمُ الشرطيةِ الأولى لِما أن مضمونَها لمقصِدهم أوفقُ وأَثرَ نفاقِهم فيها أظهرُ {لَّيَقُولَنَّ} ندامةً على تثبطه وقعودِه وتهالُكاً على حُطام الدنيا وتحسُّراً على فواته وقرئ ليقولُنَّ بضم اللام إعادةً للضمير إلى مَعْنى مَنْ وقولُه تعالى {كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ}

اعتراضٌ وُسِّط بين الفعلِ ومفعوله الذى هو {يا ليتني كنتُ معهم فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} لئلا يُفهمَ من مطلع كلامِه أن تمنِّيَهُ لمعيّة المؤمنين لنُصرتهم ومظاهَرتِهم حسبما يقتضيه ما في البين من المودة بل هو للحِرص على المال كما ينطِق به آخِرُه وليس إثباتُ المودةِ في البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكّمِ وقيل الجملةُ التشبيهيةُ حالٌ من ضمير ليقولَن أي ليقولن مشبها بمن لامودة بينكم وبينه وقيل هي داخلةٌ في المقول أي ليقولن المثبط من المنافقين وضَعَفة المؤمنين كأن لم تكن بينكم وبين محمدٍ مودةٌ حيث لم يستصحِبْكم في الغزو حتى تفوزا بما فاز ياليتنى كنتُ معهم وغرضُه إلقاءُ العدواة بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام وتأكيدُها وكأنْ مخففةٌ من الثقيلةِ واسمُها ضميرُ الشأنِ وهو محذوف وقرئ لم يكن بالياء والبمادى في ياليتنى محذوفٌ أي يا قومُ قيا يا أُطلق للتنبيه على الاتساع وقولُه تعالى فَأَفُوزَ نصب على جواب التنمنى وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أي فأنا أفوزُ في ذلك الوقتِ أو على أنه معطوفٌ على كنت داخلٌ معه تحت التمني

74

{فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله} قدِّم الظرفُ على الفاعل للاهتمام به {الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالاخرة} أي يبيعونها بها وهم المؤمنون فالفاءُ جوابُ شرطٍ مقدرٍ أي إن بطّأ هؤلاءِ عن القتال فليقاتِلِ المُخلِصون الباذلون أنفسَهم في طلب الآخرةِ أو الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة وهم االمبطئون فالفاءُ للتعقيب أي لِيترُكوا ما كانوا عليه من التثبيط والنفاق وليعقبوه بالقتال في سبيل الله {وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} بنون العظمةِ التفاتاً {أَجْراً عَظِيماً} لا يقادَرُ قَدْرُه وتعقيبُ القتالِ بأحد الأمرين للإشعار بأن المجاهدَ حقُّه أن يوطِّن نفسَه بإحدى الحسنيين ولا يُخطِرَ بباله القسمَ الثالثَ أصلاً وتقديمُ القتلِ للإيذان بتقدّمه في استتباع الأجرِ روى أبو هريرةَ رضيَ الله عنه إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال تكفّل الله تعالى لمن جاهد في سبيله لايخرجه إلا جهادٌ في سبيله وتصديقُ كلمتِه أن يُدخِلَه الجنةَ أو يُرجِعَه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة

75

{وَمَا لَكُمْ} خطابٌ للمأمورين بالقتال على طريقة الالتفاتِ مبالغةً في التحريض عليه وتأكيداً لوجوبه وهو مبتدأٌ وخبر وقوله عز وجل {لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله} حالٌ عاملُها ما في الظرف من معنى الفعلِ والاستفهامُ للإنكار والنفي أى أى شئ لكم غيرَ مقاتِلين أي لا عذرَ لكُم في تركِ المقاتلة {والمستضعفين} عطفٌ على اسم الله أي في سبيل المستضعفين وهو تخليصُهم من الأسر وصونُهم عن العدو أو على السبيل بحذف المضافِ أي في

76 - النساء خلاص المستضعفين ويجوز نصبُه على الاختصاص فإن سبيلَ الله يعُمّ أبوابَ الخيرِ وتخليص ضعفه المؤمنين من أيدي الكفرةِ أعظمُها وأخصُّها {مِنَ الرجال والنساء والولدان} بيانٌ للمستضعفين أو حالٌ منهم وهم المسلمون الذين بقُوا بمكةَ لصدّ المشركين أو لضعفهم عن الهجرة مستذَلّين ممتَهنين وإنما ذُكر الوِلْدان معهم تكميلا للاستعطاف واستجلاب المرحمة وتنبيهاً على تناهي ظلمِ المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيانَ لإرغام آبائِهم وأمهاتِهم وإيذاناً بإجابة الدعاءِ الآتي واقترابِ زمانِ الخَلاصِ ببيان شِرْكتِهم في التضرعِ إِلى الله تعالى كلُّ ذلك للمبالغةِ في الحثِّ على القتال وقيل المرادُ بالوِلدان العبيدُ والإماءُ إذ يقال لهما الوليدُ والوليدةُ وقد غلَب الذكورُ على الإناث فاطلق الوالدن على الولائد أيضاً {الذين} محلُّه الجرُّ على أنه صفةٌ للمستضعفين أو لما في حيز البيانِ أو النصبُ على الاختصاص {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا} بالشرك الذي هو ظلمٌ عظيمٌ وبأذِيَّة المسلمين وهي مكةُ والظالم صفتها وتذكيرة لتذكير ما أسند إليه فإن اسمَ الفاعلِ والمفعولِ إذا أُجريَ على غيرِ مَن هُو له كان كالفعل في التذكير والتأنيثِ بحسب ما عمِل فيه واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً كلا الجارَّيْنِ متعلقٌ باجْعل لاختلاف معنييهما وتقديمُ المجرورين على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بهما وإبرازِ الرغبةِ في المؤخَّر بتقديمِ أحوالِه فإن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ عما هو من أحواله المُرَغّبة فيه كما يورث شوقَ السامعِ إلى وروده ينبئ عن كمال رغبةِ المتكلّمِ فيه واعتنائِه بحصوله لا محالة وتقديمُ اللامِ على مِنْ للمسارعة إلى إبراز كون المسئول نافعاً لهم مرغوباً فيه لديهم ويجوزُ أن تتعلقَ كلمةُ مِن بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ولياً قُدِّمت عليهِ لكونِه نكرةٌ وكذا الكلامُ في قولِه تعالى {واجعل لَّنَا مِن لدنك نَصِيراً} قال ابن عباس رضي الله عنهما أي ولِّ علينا والياً من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفَظ علينا دينَنا وشَرْعَنا وينصُرنا على أعدائنا ولقد استجاب الله عز وجل دعاءَهم حيث يسّر لبعضهم الخروجَ إلى المدينة وجعل لمن بقيَ منهم خيرَ وليَ وأعزَّ ناصِر ففتح مكةَ على يدي نبيِّه صلى الله عليه وسلم فتولاهم أيَّ تولَ ونصرهم أيةَ نُصرةٍ ثم استعمل عليهم عتابَ بنَ أسيد فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعزَّ أهلِها وقيل المرادُ واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ ولايةً ونُصرةً أي كن أنت وليَّنا وناصِرَنا وتكريرُ الفعلِ ومتعلِّقَيْه للمبالغة في التضرع والابتهال

76

{الذين آمنوا يقاتلون فِى سَبِيلِ الله} كلامٌ مبتدأٌ سيق لترغيب المؤمنين في القتال وتشجيعِهم ببيان كمالِ قوتِهم بإمداد الله تعالى ونُصرتِه وغايةِ ضعفِ أعدائِهم أي المؤمنون إنما يقاتلون في دين الله الحقِّ الموصِلِ لهم إلى الله عزَّ وجلَّ وفي إعلاء كلمتِه فهو وليُّهم وناصرُهم لا محالة {والذين كَفَرُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الطاغوت} أي فيما يوصِلُهم إلى الشيطان فلا ناصرَ لهم سواه والفاءُ في قوله تعالى {فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان} لبيان استتباعِ ما قبلَها لما بعدَها وذكرهم بهذا العُنوانِ للدِلالة عَلى أنَّ ذلكَ نتيجةٌ لقتالهم في سبيل الشيطانِ والإشعارِ بأن المؤمنين أولياءُ الله تعالى لما أن قتالَهم في سبيله وكل

77 - النساء ذلك لتأكيد رغبةِ المؤمنين في القتال وتقويةِ عزائمِهم عليه فإن ولايةِ الله تعالى عَلَمٌ في العزة والقوة كما أن ولايةَ الشيطانِ مَثَلٌ في الذلة والضَّعفِ كأنَّه قيلَ إذَا كانَ الأمرُ كذلك فقاتلوا يا أولياء الله أولياءَ الشيطانِ ثم صرح بالتعليل فقيل {إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً} أي في حد ذاتِه فكيف بالقياس إلى قُدرةِ الله تعالى ولم يتعرّضْ لبيان قوةِ جنابِه تعالى إيذاناً بظهورها قالوا فائدةُ إدخالِ كان في أمثالِ هذهِ المواقعِ التأكيدُ ببيان أنه منذ كان كان كذلك فالمعنى أن كيدَ الشيطانِ منذ كان موصوفاً بالضعف

77

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من إحجامهم عن القتال مع إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ راغبين فيه حِراصاً عليه بحيث كادوا يباشرونه كما ينبئ عنه الأمرُ بكفّ الأيدي فإن ذلك مُشعرٌ بكونهم بصدد بسطِها إلى العدو بحيث يكادون يسطون بهم قال الكلبي إن جماعةً من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم منهم عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ الزُّهري والمقداد بنُ الأسودِ الكنديُّ وقُدامةُ بنُ مظعونٍ الجُمَحي وسعدُ بنُ أبي وقاص الزُّهري رضي اله تعالى عنهم كانوا يلقَوْن من مشركي مكةَ قبل الهجرةِ أذى شديداً فيشكون ذلك إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ويقولون ائذنْ لنا في قتالهم ويقول لهم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كُفّوا أيديَكم {وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاة} فإني لم أُومْر بقتالهم وبناءُ القولِ للمفعول مع أن القائلَ هو النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم للإيذان بكون ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى ولأن المقصودَ بالذات والمعتبرَ في التعجيب إنما هو كمالُ رغبتهم في القتال وكونههم بحيث احتاجوا إلى النهي عنه وإنما ذُكر في حيز الصِّلةِ الأمرُ بكف الأيدي لتحقيقه وتصويرِه على طريقة الكنايةِ فلا يتعلق ببيان خصوصة الأمرِ غرضٌ وكانوا في مدة إقامتِهم بمكةَ مستمرِّين على تلك الحالةِ فلما هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأُمروا بالقتال في وقعة بدرٍ كرِهَه بعضُهم وشق ذلك عليه لكن لاشكا في الدين ولا رغبةً بل نفوراً عن الإخطار بالأرواح وخوفاً من الموت بموجَب الجِبِلَّة البشريةِ وذلك قولُه تعالى {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} الخ وهو عطفٌ على قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ باعتبار مدلولِه الكنائيِّ إذْ حينئذٍ يتحقق التبايُنُ بين مدلولَي المعطوفَين وعليه يدور أمرُ التعجيبِ كأنه قيل أَلَمْ ترَ إِلَى الذين كانوا حِراصاً على القتال فلما كُتب عليهم كرِهَه بعضُهم وقولُه تعالى {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس} جوابُ لمّا على أن فريقٌ مبتدأٌ ومنهم متعلقٌ بمحذوف وقع صفة له ويخشَوْن خبرُه وتصديرُه بإذا المفاجَأةِ لبيان مسارعتِهم إلى الخشية آثِرَ ذي أثيرٍ من غيرِ تلعثمٍ وترددٍ أي فاجأ فريقٌ منهم أن يخشوا الكفارَ أن يقتلوهم ولعل توجيهَ التعجيبِ إلى الكل مع صدور الخشيةِ عن بعضهم للإيذان بأنه ما كان ينبغي أن يصدُر عن أحدهم ما ينافي حالتَهم الأولى وقولُه تعالى {كَخَشْيَةِ الله} مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ محلُّه النصبُ على أنَّهُ حال من فاعل يخشَون أي يخشَوْنهم مُشْبِهين لأهل خشيةِ الله تعالى وقوله تعالى {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} عطفٌ عليه بمعنى أو أشدَّ خشيةً من أهل

78 - النساء خشيةِ الله أو على أنَّه مصدرٌ مؤكدٌ على جعل الخشيةِ ذاتَ خشيةٍ مبالغةً كما في جدّ جِدُّه أي يخشَوْنهم خشيةً مثلَ خشيةِ الله أو خشيةً أشدَّ خشيةً من خشية الله وأياً ما كان فكلمةُ أو إما للتنويع على معنى أن خشيةَ بعضِهم كخشية الله وخشيةَ بعضِهم أشدُّ منها وإما للإبهام على السامع وهو قريبٌ مما في قوله تعالى وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أو يزيدون يعني أن من يبصرهم يقول إنَّهم مائةِ ألفٍ أو يزيدونَ {وَقَالُواْ} عطف على جوابُ لمّا أي فلما كتب عليهم القتال فاجأ فريقٌ منهم خشيةَ الناسِ وقالوا {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال} في هذا الوقتِ لا على وجه الاعتراضِ على حكمه تعالى والإنكارِ لإيجابه بل على طريق تمنِّي التخفيفِ {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} استزادةٌ في مُدة الكفِّ واستمهالٌ إلى وقت آخرَ حذراً من الموت وقد جُوِّز أن يكون هذا مما نَطَقت به ألسنةُ حالِهم من غير أن يتفوهوا به صريحاً {قُلْ} أي تزهيداً لهم فيما يؤمِّلونه بالقعود من المتاع الفاني وترغيباً فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي {متاع الدنيا} أي ما يُتَمتّع ويُنتفع به في الدنيا {قَلِيلٌ} سريعُ التقضِّي وشيكُ الانصرامِ وإن أُخِّرتم إلى ذلك الأجلِ {والاخرة} أي ثوابُها الذي من جملته الثوابُ المنوطُ بالقتال {خَيْرٌ} أي لكم من ذلك المتاعِ القليلِ لكثرته وعدمِ انقطاعِه وصفائِه عن الكدورات وإنما قيل {لِمَنِ اتقى} حثاً لهم على اتقاء العصيان والإحلال بمواجب التكليفِ {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلام أي تُجزَوْن فيها ولا تُنقَصون إدنى شئ من أجور أعمالِكم التي منْ جُملتِها مسعاكم في شأن القتالِ فلا ترغبوا عنه والفتيلُ ما في شق النواةِ من الخيط يضرب به المثل في القلة والحقارة وقرئ يظلمون بالياء إعادةً للضمير إلى ظاهر مَنْ

78

{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت} كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ من قِبَله تعالى بطريق تلوينِ الخطابِ وصرفِه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المخاطَبين اعتناءً بإلزامهم إثرَ بيانِ حقارةِ الدنيا وعلوِّ شأنِ الآخرةِ بواسطته صلى الله عليه وسلم فلا محلَّ له من الإعراب أو في محلِّ النصبِ داخلٌ تحت القولِ المأمورِ به أي أينما تكونوا في الحضَر والسفرِ يدركْكم الموتُ الذي لأجله تكرهون القتالَ زعماً منكم أنه من مظانِّه وتُحبُّون القعودَ عنه على زعم انه مَنْجاةٌ منه وفي لفظ الإدراكِ إشعارٌ بأنهم في الهرب من الموت وهو مجد في طلبهم وقرئ بالرفع على حذف الفاءِ كما في قوله ... من يفعل الحسنات الله يشكرها ... أو على اعتبار وقوعِ أينما كنتم في موقع أينما تكونوا أو على أنه كلامٌ مبتدأٌ وأينما تكونوا متصلٌ بلا تظلمون أى لاتنقصون شيئاً مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم الحروبِ ومعاركِ الخطوب {وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} في حصون رفيعةٍ أو قصور مُحصَّنة وقال السدي وقتادة بروجُ السماء يقال شاد البناء وأشادة وشيده رفعه وقرئ مشيدة بكسر الياء وصف لها بفعل فاعلها مجازاً كما في قصيدةٌ شاعرةٌ ومَشِيدةٍ من شاد القصرَ إذا رفعه أو طلاه بالشِّيدِ وهو الجِصُّ وجوابُ لو محذوفٌ اعتماداً على دلالة

79 - النساء مَا قبلَهُ عليهِ أيْ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مشيدةٍ يدرككم الموتُ والجملةُ معطوفةٌ على أخرى مثلِها أي لو لم تكونوا في بروج مشيدةٍ ولو كنتم الخ وقد اطَّرد حذفُها لدِلالة المذكورِ عليها دِلالةً واضحةً فإن الشئ إذا تحقق المانِع فلأَنْ يتحققَ عند عدمِه أولى وعلى هذه النكتةِ يدورُ ما في لو الوصليةِ من التأكيد والمبالغةِ وقد مرَّ تحقيقُه في تفسير قولِه تعالى أَوْ لَوْ كَانَ آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شيئا ولا يَهْتَدُون {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله} كلام مبتدأ جئ به عَقيبَ ما حُكي عن المسلمين لِمَا بينهما من المناسبة في اشتمالها على إسناد ما يكرَهونه إلى بعض الأمورِ وكراهتِهم له بسبب ذلك والضميرُ لليهود والمنافقين روي أنه كان قد بُسط عليهم الرزقُ فلما قدِم النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم المدينةَ فدعاهم إلى الإيمان فكفروا أُمسِك عنهم بعضَ الإمساك فقالوا مازلنا نعرِف النقصَ في ثمارنا ومَزارِعنا منذ قدِمَ هذا الرجلُ وأصحابُه وذلك قوله تعالَى {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ} أي وإن تصبْهم نِعمةٌ ورخاءٌ نسبوها إلى الله تعالى وإن تصبْهم بليةٌ من جَدْب وغلاءٍ أضافوها إليك كما حُكي عن أسلافهم بقوله تعالَى {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} فأُمر النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم بأن يرُدَّ زعمَهم الباطلَ ويُرشِدَهم إلى الحق ويُلقِمَهم الحجر ببيان إسنادِ الكلِّ إليه تعالى على الإجمال إذ لا يجترئون على معارضة أمرِ الله عزَّ وجلَّ حيث قيل {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِندِ الله} أي كلُّ واحدةٍ من النعمة والبليةِ من جهة الله تعالى خلقاً وإيجاداً من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شئ منهما بوجهٍ من الوجوه كما تزعُمون بل وقوعُ الأوُلى منه تعالى بالذات تفضلاً ووقوعُ الثانية بواسطة ذنوبِ من ابتُليَ بها عقوبةً كما سيأتي بيانُه فهذا الجوابُ المُجملُ في معنى ما قيل رداً على أسلافهم من قوله تعالى {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله} أي إنما سببُ خيرِهم وشرِّهم أو سببُ إصابةِ السيئةِ التي هي ذنوبُهم عندَ الله تعالَى لاَ عند غيرِه حتى يسندوها إليه ويَطّيّروا به وقوله تعالى {فما لهؤلاء القوم} الخ كلام معترضٌ بين المُبينِ وبيانِه مَسوقٌ من جهتِه تعالَى لتعييرهم بالجهل وتقبيحِ حالِهم والتعجيبِ من كمال غباوتِهم والفاءُ لترتيبه على ما قبله وقولُه تعالى {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} حالٌ من هؤلاء والعاملُ فيها ما في الظرف من مَعْنى الاستقرارِ أيْ وحيث كان الأمر كذلك فأى شئ حصل لهم حالَ كونِهم بمعزل من أن يفقَهوا حديثاً أو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الاستفهام كأنه قيلَ ما بالُهم وماذا يصنعون حتى يُتعجّبَ منه أو يُسألَ عن سببه فقيل لا يكادون يفقهون حديثاً من الأحاديث أصلاً فيقولون ما يقولون إذ لو فقِهوا شيئاً من ذلك لفهموا هذا النصَّ وما في معناه وما هو أوضحُ منه من النصوص القرآنية الناطقةِ بأن الكلَّ فائضٌ من عند الله تعالى وأن النعمةَ منه تعالى بطريق التفضلِ والإحسانِ والبليةَ بطريق العقوبةِ على ذنوب العباد لاسيما النصُّ الواردُ عليهم فِى صُحُفِ موسى وإبراهيم الذى وفي لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ولم يُسنِدوا جنايةَ أنفسِهم إلى غيرهم وقوله تعالى

79

{مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ} الخ بيانٌ للجواب المُجْملِ المأمور به واجراؤه

80 - النساء على لسان النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ثم سَوْقُ البيانِ من جهته عزَّ وجلَّ بطريقِ تلوينِ الخطابِ وتوجيهِه إلى كلِّ واحدٍ من الناس والالتفاتُ لمزيد الاعتناءِ به والاهتمامُ بردِّ مقالتِهم الباطلةِ والإيذان بأن مضمونَه مبنيٌّ على حكمة دقيقة حقيقية بأن يتولى بيانَها علامُ الغيوبِ وتوجيهُ الخطابِ إلى كل واحدٍ منهم دون كلِّهم كما في قوله تعالى وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ للمبالغة في التحقيق بقطع احتمالِ سببيّة معصيةِ بعضِهم لعقوبة الآخرين أي ما أصابك من نعمة من النعم {فَمِنَ الله} أي فهي منه تعالى بالذات تفصيلا وإحساناً من غير استيجابٍ لها مِنْ قِبَلك كيف لا وأن كلَّ ما يفعله المرءُ من الطاعات التي يُفرض كونُها ذريعةً إلى إصابة نعمةٍ ما فهي بحيث لا تكاد تكافئ نعمةَ حياتِه المقارنةِ لأدائها ولا نعمةَ إقدارِه تعالى إياه على أدائها فضلاً عن استيجابها لنعمة أخرى ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ما أحدٌ يدخُل الجنة إلا برحمة الله تعالى قيل ولا أنت يا رسولَ الله قالَ ولا أنا {وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ} أي بلية من البلايا {فَمِن نَّفْسِكَ} أي فهي منها بسبب اقترافِها المعاصيَ الموجبةَ لها وإن كانت من حيث الإيجادُ منتسبة إليه تعالى نازلةً من عنده عقوبةً كقوله تعالى {وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفو عَن كَثِيرٍ} وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها ما من مسلم يُصيبه وصَبٌ ولا نصَبٌ حتى الشوكةُ يُشاكُها وحتى انقطاعُ شِسْعِ نعلِه إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثرُ وقيل الخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم كما قبلَه وما بعدَهُ لكن لا لبيان حالِه صلى الله عليه وسلم بل لبيان حالِ الكفرةِ بطريق التصويرِ ولعل ذلك لإظهار كمالِ السخطِ والغضبِ عليهم والإشعارِ بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استقاق الخطابِ لا سيما بمثل هذه الحكمةِ الأنيقة {وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً} بيانٌ لجلالة منصبه صلى الله عليه وسلم ومكانته عند الله عز وجل بعد بيانِ بُطلانِ زعمِهم الفاسد في حقه صلى الله عليه وسلم بناءً على جهلهم بشأنه الجليلِ وتعريفُ الناسِ للاستغراق والجارُّ إما متعلقٌ برسولاً قُدّم عليه للاختصاص الناظرِ إلى قيد العمومِ أي مرسَلاً لكل الناس لا لبعضهم فقط كما في قولِه تعالى {وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} وإما بالفعل فرسولاً حالٌ مؤكدةٌ وقد جوز أن يكون مصدرا مؤكدا كما في قوله ... لقد كذَب الواشون ما فُهْتُ عندهم ... بسرَ ولا أرسلتُهم برسولِ ... أي بإرسال بمعنى رسالة {وكفى بالله شَهِيداً} أي على رسالتك بنصب المعجزاتِ التي من جملتها هذا النصُّ الناطقُ والوحيُ الصادِقُ والالتفاتُ لتربية المهابةِ وتقويةِ الشهادة والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ

80

{مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} بيانٌ لأحكام رسالته صلى الله عليه وسلم إثرَ بيانِ تحقّقِها وثبوتِها وإنما كان كذلك لأن الآمرَ والناهيَ في الحقيقةِ هُو الله تعالى وإنما هو صلى الله عليه وسلم مبلِّغٌ لأمره ونهيِه فمرجِعُ الطاعة وعدمها هو الله سبحانه روى أنه صلى الله عليه وسلم قال من أحبّني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاعَ الله فقال المنافقون ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل لقد قارف الشركَ وهو ينهي أن يُعبَدَ غيرُ الله ما يريد إلا أن نتخِذَه رباً كما اتخذت النصارى عيسى فنزلت والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم بالرسول دون الخطابِ للإيذان بأن مناطَ كونِ طاعتِه صلى الله عليه وسلم طاعةً له تعالى ليس خصوصية ذاته صلى الله عليه وسلم بل من حيثية رسالتِه وإظهار الجلالة لتربية المهابة وتأكيد وحوب الطاعةِ بذكر عنوانِ الألوهيةِ وحملُ الرسولِ على الجنس المنتظم له صلى الله عليه وسلم انتظاماً أولياً يأباه تخصيصُ الخطاب

81 - 82 النساء به صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {ومن تولى فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} وجوابُ الشرطِ محذوفٌ والمذكورُ تعليلٌ له أي ومن أعرض عن الطاعة فأعرض عنه إنما أرسلناك رسولاً مبلغا لاحفيظا مهيمِناً تحفَظ عليهم أعمالَهم وتحاسِبُهم عليها وتعاقبهم بحسَبها وحفيظاً حالٌ من الكاف وعليهم متعلقٌ بهِ قُدِّم عليهِ رعايةً للفاصلة وجمعُ الضميرِ باعتبارِ مَعْنى من كما أن الإفراد في تولى باعتبار لفظِه

81

{وَيَقُولُونَ} شروعٌ في بيان معاملتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بيانِ وجوبِ طاعتِه أي يقولون إذا أمرتَهم بشئ {طَاعَةٌ} أي أمرُنا وشأنُنا طاعةٌ أو منا طاعةٌ والأصلُ النصبُ على المصدر والرفعُ للدِلالة على الثبات كسلامٌ {فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ} أي خرجوا من مجلسك {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ} أي من القائلين المذكورين وهم رؤساؤُهم {غَيْرَ الذى تَقُولُ} أي زوَّرتْ طائفةٌ منهم وسوَّتْ خلافَ ما قالت لك من القَبول وضمانِ الطاعةِ لأنهم مُصِرُّون على الرد والعصيانِ وإنما يُظهرون ما يُظهرون على وجه النفاقِ أو خلافَ ما قلتَ لها والتبييتُ إما من البيتوته لأنه قضاءُ الأمرِ وتدبيرُه بالليل يقال هذا أمرٌ بُيِّت بليل وإما من بيت الشِّعر لأن الشاعر يُدبِّره ويسوبه وتذكيرُ الفعلِ لأن تأنيثَ الطائفة غير حقيقى وقرئ بإدغام التاء في الطاء لقُرب المخرَجِ وإسنادُه إلى طائفة منهم لبيان أنهم المتصدّون له بالذات والباقون أتباعٌ لهم في ذلك لا لأن الباقبن ثابتون على الطاعة {والله يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ} أي يكتُبه في جملة ما يوحى إليك فيُطلعُك على أسراراهم فلا يحسَبوا أن مكرَهم يخفى عليكم فيجدوا بذلك إلى الإصرار بكم سبيلاً أو يُثبتُه في صحائفهم فيجازيهم عليهِ وأيَّاً ما كانَ فالجملةُ اعتراضيةٌ {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي لاتبال بهم وبما صنعوا أو تَجافَ عنهم ولا تتصدَّ للانتقام منهم والفاءُ لسببيةِ ما قبلَها لما بعدها {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} في كل ما تأتِي وما تذرُ لاسيما في شأنهم وإظهارُ الجلالةِ في مقام الإضمارِ للإشعار بعلة الحُكمِ {وكفى بالله وكيلا} فيكفيك معرفتهم وينتقم لن منهم والإظهار ههنا أيضا لما مر والتنبية على استقلال الجملةِ واستغنائِها عما عداها من كل وجه

82

{أفلا يتدبرون القرآن} إنكارٌ واستقباحٌ لعدم تدبُّرِهم القرآنَ وإعراضِهم عن التأمل فيما فيه من موجبات الإيمان وتدبر الشئ تأمّلُه والنظرُ في أدباره وما يؤول إليه في عاقبته ومنتهاه ثم استعمل في كل تفكرٍ ونظرٍ والفاءُ للعطف على مقدر أي أيعرضون عن القرآن فلايتأملون فيه ليعلموا كونَه من عند الله تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحيُ الصادقُ والنصُّ الناطقُ بنفاقهم المحكيِّ على ما هو عليه {وَلَوْ كَانَ} أي القرآنُ {مِنْ عِندِ غَيْرِ الله} كما يزعُمون {لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} بأن يكون بعضُ أخبارِه غيرَ مطابقٍ للواقع إذ لا علم با لأمور الغيبيةِ ماضيةً كانت أو مستقبلةً لغيره سبحانه وحيث كانت مطابقةً للواقع تعيَّن كونُه من عندِه تعالَى قال الزجاج ولولا أنَّه من عندِ الله تعالى لكان ما فيه من الإخبار بالغيب مما يُسِرُّه المنافقون وما يُبيِّتونه مختلفاً بعضُه حق وبعضه

83 - النساء باطلٌ لأن الغيبَ لا يعلمه إلا الله تعالى وقال أبو بكرٍ الأصمُّ إن هؤلاءِ المنافقين كانوا يتواطؤون في السر على أنواع كثيرةٍ من الكيد والمكرِ وكان الله تعالى يكلع الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك ويُخبره بها مفصَّلةً فقيل لهم إن ذلك لو ما لم يحصُلْ بإخبار الله تعالى لما اطَّردَ الصِّدقُ فيه ولوقع فيه الاختلافُ فلما لم يقَعْ ذلك قطُّ عُلم أنه بإعلامه تعالى هَذَا هُو الذي يستدعيه جزالةُ النظمِ الكريمِ وأما حملُ الاختلافِ على التناقض وتفاوُتِ النظمِ في البلاغة بأن كان بعضُه دالاً على معنى صحيحٍ عند علماءِ المعاني وبعضُه على معنى فاسدٍ غيرِ ملتئم وبعضه بالغا حدا لإعجاز وبعضُه قاصراً عنه يُمكن معارضتُه كما جنحَ إليه الجمهورُ فمما لا يساعده السباقُ ولا السياقُ ومن رام التقريبَ وقال لعل ذكره ههنا للتنبيه على أن اختلافَ ما سبق من الأحكام ليس لِتناقضٍ في الحِكَم بل لاختلاف في الحِكَم والمصالحِ المقتضيةِ لذلك فقد أبعد عن الحق بمراحلِ

83

{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الامن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ} يقال أذاعَ السِّرَّ وأذاع أي أشاعه وأفشاه وقيل معنى أذاعوا به فعلوا به الإذاعةَ وهو أبلغُ من أذاعوه هو كلامٌ مسوقٌ لدفع ما عسى يُتوهَّم في بعض الموادِّ من شائبة الاختلافِ بناءً على عدم فهمِ المرادِ ببيان أن ذلك لعدم وقوفِهم على معنى الكلامِ لا لتخلف مدلولِه عنه وذلك أن ناساً من ضَعَفة المسلمين الذين لا خِبرةَ لهم بالأحوال كانوا إذا أخبرهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم بما أوحِيَ إليه من وعدٍ بالظفر أو تخويفٍ من لكفرة يُذيعونه من غير فهمٍ لمعناه ولا ضبطٍ لفحواه على حسب ما كانوا يفهمونه ويحمِلونه عليه من المحامل وعلى تقدير الفهمِ قد يكون ذلك مشروطاً بأمور تفوت بالإذاعة فلا يظهر أثرُه المتوقَّعُ فيكون ذلك منشأً لتوهم الاختلافِ فنُعيَ عليهم ذلك وقيل {وَلَوْ رَدُّوهُ} أي ذلك الأمرَ الذي جاءهم {إِلَى الرسول} أي عرَضوه على رأية صلى الله عليه وسلم مستكشفين لمعناه وما ينبغي له من التدبير والالتفاتِ لما أن عنوانَ الرسالةِ من موجبات الردِّ والمراجعةِ إلى رأيه صلى الله عليه وسلم {وإلى أُوْلِى الامر مِنْهُمْ} وهم كبراءُ الصحابةِ البصراءِ في الأمور رضي الله تعالى عنهم {لَعَلِمَهُ} أي لعلم الرادُّون معناه وتدبيرَه وإنَّما وضعَ موضعَ ضميرِهم الموصولُ فقيل {الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} للإيذان بأنه ينبغي أن يكون قصدهم برده إليهم استكشافُ معناه واستيضاحُ فحواه أي لعَلِمه أولئك الرادون الذين يستبطونه أى يتلقونه ويستخرجون علمه وتدبيرَه منهم أي من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وأولي الأمرِ من صحابته رضوانُ الله عليهم أجمعين ولمّا فعلوا في حقه ما فعلوا فلم يقَعْ ما وقع من الاشتباه وتوهّمِ الاختلافِ وقيل لعَلمه الذين يستخرجون تدبيره بفظنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدِها فكلمةُ مِنْ في مِنْهُمْ بيانية وقيل إنهم كانوا إذا بلغهم خبرٌ عن سرايا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أمن وسلامةٍ أو خوفٍ وخللٍ أذاعوا به وكانت إذاعتُهم مفسدةً ولو ردوا ذلك الخبرَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمرِ لعلم تدبيرَ ما أُخبروا به الذين يستنبطونه أى بستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحربِ ومكايدِها وقيل

84 - النساء كانوا يقِفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمرِ على أمن ووثوقٍ بالظهور على بعض الأعداءِ أو على خوف فيُذيعونه فينتشرُ فيبلُغُ الأعداءَ فتعود إذاعتُهم مفسدةً ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمرِ وفوّضوه إليهم وكانوا كأنْ لم يسمعوا العلم الذين يستنبطون تدبيرَه كيف يدبرونه وما يأتون وما يذرون فيه وقيل كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئاً من الخبر عن السرايا مظنوناً غيرَ معلومِ الصِحّةِ فيُذيعونه فيعود ذلك وبالاً على المؤمنين ولو ردوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمرِ وقالوا نسكُتُ حتى نسمَعَه منهم ونعلمَ هل هو مما يُذاع أو لا يذاع لعلم صحته وهل مما يذاع أولا يذاع هؤلاء المذيعون وهم الذين يسنبطونه من الرسول وأولي الأمرِ أي يتلقَّوْنه منهم ويستخرجون عِلمَه من جهتهم فمَساقُ النظمِ الكريمِ حينئذ لبيان جنايةِ تلك الطائفةِ وسوءِ تدبيرِهم إثرَ بيانِ جنايةِ المنافقين ومكرِهم والخطابُ في قولِه تعالَى {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} للطائفة المذكورةِ على طريقة الالتفاتِ أي لولا فضلُه تعالى عليكم ورحمتُه بإرشادكم إلى طريق الحقِّ الذي هو المراجعةُ في مظانِّ الاشتباهِ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأولي الأمرِ {لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان} وعمِلتم بآراء المنافقين فيمَا تأتونَ وما تذرونَ ولم تهتدوا إلى سُنن الصوابِ {إلا قليلا} وهم أولو الأمرِ الواقفون على أسرار الكتابِ الراسخون في معرفة أحكامِه فالاستثناءُ منقطعٌ وقيل ولولا فضلُه تعالى عليكم ورحمتُه بإرسالِ الرسولِ وإنزالِ الكتابِ لاتَّبعتم الشيطانَ وبقِيتم على الكفر والضلالةِ إلا قليلاً منكم قد تفضَّلَ عليه بعقل راجح اهتدى به إلى طريق الحقِّ والصوابِ وعصَمَه من متابعة الشيطان كقس ابن ساعِدةَ الإياديِّ وزيدِ بنِ عمْرو بنِ نُفيل ووَرَقةَ بنِ نوفلٍ وأضرابِهم فالخطابُ للكل والاستثناءُ متصلٌ وقيل المرادُ بالفضل والرحمة النُصرةُ والظفر بالأعداء أى ولولا حصولُ النصرِ والظفرِ على التواتر والتتابع لاتبعتم الشيطانَ وتركتم الدينَ إلا قليلا منكم وهم أولوا البصائر الناقدة والنياتِ القويةِ والعزائمِ الماضيةِ من أفاضل المؤمنين الواقفين على حقية الدينِ البالغين إلى درجة حقِّ اليقينِ المستغنين عن مشاهدة آثارِ حقِّيتِه من الفتْح والظفَرِ وقيل إلا اتباعاً قليلاً

84

{فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الالتفاتِ وهو جوابُ شرطٍ محذوفٍ ينساق إليه النظمُ الكريمُ أي إذا كان الأمرُ كما حُكي من عدم طاعةِ المنافقين وكيدِهم وتقصيرِ الآخَرين في مراعاة أحكامِ الإسلامِ فقاتِلْ أنت وحدَك غيرَ مكترثٍ بما فعلوا وقولُه تعالى {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} أي إلا فِعْلَ نفسِكْ استئناف مقرر لما قبله فإن اختصاص تكليفه صلى الله عليه وسلم بفعل نفسِه من موجبات مباشرتِه للقتال وحدَه وفيه دَلالةٌ على أن ما فعلوا من التثبيط لا يضره صلى الله عليه وسلم ولا يؤاخَذ به وقيلَ هُو حالٌ من فاعل قاتِلْ أي فقاتِلْ غيرَ مكلف إلا نفسك وقرئ لا تُكَلّفُ بالجزم على النهي وقيل على جواب الأمر وقرئ بنون العظمة أى لانكلفك إلا فعلَ نفسِك لا عَلى معنى لا نكلف أحداً إلا نفسَك {وَحَرّضِ المؤمنين} عطفٌ على الأمر السابقِ داخلٌ في حكمه فإن كونَ حالِ الطائفتين كما

85 - 86 النساء حُكي سببٌ للأمر بالقتال وحدَه وبتحريض خُلَّصِ المؤمنين التحريض على الشئ الحثُّ عليه والترغيبُ فيه قال الراغبُ كأنه في الأصل إزالةُ الحرض وهو مالا خير فيه ولا يُعتدُّ به أي رغِّبْهم في القتال ولا تُعنِّفْ بهم وإنما لم يُذكر المُحرَّضُ عليه لغاية ظهورِه وقولُه تعالى {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ} عِدَةٌ منه سبحانه وتعالى محقَّقةُ الإنجازِ بكف شدةِ الكفرة ومكرهم فإن ما صدر بلعل وعسى مقرَّرُ الوقوعِ من جهته عزَّ وجلَّ وقد كانَ كذلكَ حيثُ رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم واعد أبا سفيانَ بعد حربِ أُحدٍ موسِمَ بدرٍ الصغرى في ذي القَعدةِ فلما بلغ الميعادَ دعا الناسَ إلى الخروج فكرِهه بعضُهم فنزلت فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكباً ووافَوا الموعِدَ وألقى الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعبَ فرجعوا من مرِّ الظّهرانِ ورويَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وافى بجيشه بدراً وأقام بها ثمانيَ ليالٍ وكانت معهم تجاراتٌ فباعوها وأصابوا خيراً كثيراً وقد مرَّ في سورةِ آل عمران {والله أَشَدُّ بَأْساً} أي من قريش {وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} أي تعذيباً وعقوبةً تُنكّل مَنْ يشاهدُها عن مباشرة ما يؤدي إليها والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبلها وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابة وتعليل الحكم وتقويةِ استقلالِ الجُملة وتكريرُ الخبرِ لتأكيد التشديدِ وقوله تعالى

85

{مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا} أي من ثوابها جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لبيان أن له صلى الله عليه وسلم فيما أُمر به من تحريض المؤمنين حظاً موفوراً فإن الشفاعةَ هي التوسُّطُ بالقول في وصول شخصٍ إلى منفعة من المنافع الدنيويةِ أو الأخروية أو خلاصِه من مضَرّة ما كذلك من الشفْع كأن المشفوعَ له كان فرداً فجعله الشفيعُ شَفْعاً والحسنةُ منها ما كانت في أمر مشروعٍ رُوعي بها حقُّ مسلمٍ ابتغاءً لوجهِ الله تعالى من غير أن يتضمَّن غرضاً من الأغراض الدنيويةِ وأيُّ منفعة أجلُّ مما قد حصل للمؤمنين بتحريضه صلى الله عليه وسلم على الجهاد من المنافع الدنيويةِ والأخرويةِ وأيُّ مضرةٍ أعظمُ مما تخلّصوا منه بذلك منه بذلك من التثبّط عنه ويندرج فيها الدعاءُ للمسلم فإنه شفاعةٌ إلى الله سبحانه وعليه مَساقُ آيةِ التحيةِ الآتية روي أنه صلى الله عليه وسلم قال من دعا لأخيه المسلمِ بظهر الغيبِ استُجيب له وقال له المَلَكُ ولك مثلُ ذلك وهذا بيانٌ لمقدار النصيبِ الموعود {وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً} وهي ما كانت بخلاف الحسنةِ {يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا} أي نصيب من وِزْرها مساوٍ لها في المقدار من غير أن ينقص منه شئ {وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء مُّقِيتاً} أي مقتدراً من أقات على الشيء إذا اقتدر عليه أو شهيداً حفيظاً واشتقاقُه من القُوت فإنه يقوِّي البدَنَ ويحفَظُه والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لما قبلها على كلا المعنيين

86

{وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ} ترغيبٌ في فرد شائعٍ من أفراد الشفاعةِ الحسنةِ إثرَ ما رُغِّبَ فيها على الإطلاق وحُذِّر عما يقابلها من الشفاعة السيئةِ وإرشادٌ إلى توفية حقِّ الشفيعِ وكيفيةِ أدائِه فإن تحيةَ الإسلامِ من المسلم شفاعةٌ منه لأخيه إلى الله تعالى والتحية مصدر حيى أصلُها تحْيِيَةٌ كتسمية من سمى

87 - النساء وأصلُ الأصلِ تَحْيِيٌّ بثلاث ياءاتٍ فحُذفت الأخيرةُ وعُوِّضَ عنها تاءُ التأنيثِ وأُدغمت الأولى في الثانية بعد نقلِ حركتِها إلى الحاء قال الراغبُ أصلُ التحية الدعاءُ بالحياة وطولِها ثم استعملت في كل دعاءٍ وكانت العربُ إذا لقِيَ بعضُهم بعضاً يقول حياك الله ثم استعملها الشرعُ في السلام وهي تحيةُ الإسلام قال تعالى {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام} وقال {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام} وقال {فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله} قالوا في السلام مزيةٌ على التحية لما أنه دعاءٌ بالسلامة من الآفات الدينيةِ والدنيويةِ وهي مستلزِمةٌ لطول الحياةِ وليس في الدعاء بطول الحياةِ ذلك ولأن السلامَ من أسمائه تعالى فالبَداءةُ بذكره مما لا ريب في فضله ومزّيتِه أي إذا سُلِّم عليكم من جهة المؤمنين {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا} أي بتحيةٍ أحسنَ منها بأن تقولوا وعليكم السلامُ ورحمةُ الله إن اقتصر المُسلمُ على الأول وبأن تزيدوا وبركاته إن جمعها المسلمُ وهي النهايةُ لانتظامها لجميع فنونِ المطالبِ التي هي السلامةُ عن المضارِّ ونيلُ المنافعِ ودوامُها ونماؤُها {أَوْ رُدُّوهَا} أي أجيبوها بمثلها رُوي أن رجالاً قال أحدُهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم السلامُ عليك فقال وعليك السلام ورحمةُ الله وقال الآخرُ السلامُ عليك ورحمةُ الله فقال وعليك السلامُ ورحمةُ الله وبركاتُه وقال الآخرُ السلامُ عليك ورحمةُ الله وبركاتُه فقال وعليك فقال الرجل نقصتَني فأين ما قال الله تعالى وتلا الآية فقال صلى الله عليه وسلم إنك لم تترُكْ ليَ فضلاً فردَدْتُ عليك مثلَه وجوابُ التسليم واجبٌ وإنما التخييرُ بين الزيادةِ وتركِها وعن النخعيّ أن السلامَ سنةٌ والردَّ فريضةٌ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الردُّ واجبٌ وما من رجل يمُرُّ على قوم مسلمين فيسلّم عليهم ولا يردّون عليه إلا نزَع الله منهم روُحَ القُدسِ وردَّت عليه الملائكة ولا يردّ في الخُطبة وتلاوةِ القرآنِ جهراً وروايةِ الحديثِ وعند دراسةِ العلمِ والآذانِ والإقامةِ ولا يسلّم على لاعب النرْدِ والشطرنج والمغنّي والقاعدِ لحاجته ومُطيِّرِ الحَمام والعاري في الحمّام وغيرِه قالوا ويسلم الرجلُ على امرأته لا على الأجنبية والسُّنةُ أن يسلِّم الماشي على القاعد والراكبُ على الماشي وراكبُ الفرسِ على راكب الحمارِ والصغيرُ على الكبير والقليلُ على الكثير وإذا التَقَيا ابتدرا وعن أبي حنيفةَ رضى الله عنه لا يجهر بالرد يعني الجهرَ الكثيرَ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إذا سلَّم عليكُم أهلُ الكتابِ فقولوا وعليكُم أي وعليكم ما قلتم حيث كان يقول بعضُهم السلام عليكم وروي لا تبدأ اليهوديَّ بالسلام وإذا بدأك فقل وعليك وعن الحسن أنه يجوز أن يقول للكافر وعليك السلامُ دون الزيادة وقيل التحيةُ بالأحسن عند كونِ المسلِّمِ مسلماً وردُّ مثلِها عند كونِه كافراً {إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء حَسِيباً} فيحاسبكم على كل شئ من أعمالِكم التي منْ جُملتِها ما أُمرتم بهِ من التحية فحافِظوا على مراعاتها حسبما أُمرتم به

87

{الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} مبتدأٌ وخبرٌ وقولُه تعالَى {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ والله ليحشُرَّنكم من قبوركم إلى يومِ القيامةِ وقيلَ إلى بمعنى في والجملةُ القسميةُ إما مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب أو خبرٌ ثانٍ للمبتدأ أو هي الخبر ولا إله إِلاَّ هُوَ اعتراضٌ وقوله تعالَى {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في يوم القيامةِ أو في الجمع حالٌ من اليوم أو صفةٌ للمصدر أي جمعاً لا ريب فيه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} إنكار لأن يكون أحد أصدقَ منه تعالى في وعده وسائر

88 - النساء أخبارِه وبيانٌ لاستحالته كيف لا والكذِبُ مُحالٌ عليه سبحانه دون غيرِه

88

{فَمَا لَكُمْ} مبتدأٌ وخبرٌ والاستفهامُ للإنكار والنفي والخطابُ لجميع المؤمنين لكنّ ما فيه من معنى التوبيخِ متوجهٌ إلى بعضهم وقولُه تعالى {فِى المنافقين} متعلقٌ إما بما تعلَّق بهِ الخبرُ أي أي شئ كائنٌ لَكُمْ فِيهِمْ أي في أمرهم وشأنِهم فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مُقامَه وإما بما يدلُّ عليه قولُه تعالى {فِئَتَيْنِ} من معنى الافتراقِ أي فما لكم تفترقون في المنافقين وإما بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فئتين أي كائنتين في المنافقين لأنَّه في الأصلِ صفةٌ فلما قدمت انتصبت حالا كما هو شأنُ صفاتِ النكراتِ على الإطلاقِ أو منْ الضمير في تفترقون وانتصابُ فئتين عند البصْريين على الحالية من المخاطَبين والعاملُ ما في لكم من معنى الفعلِ كما في قولِه تعالَى {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} وعند الكوفيين على خبرية كان مُضمرةً أي فما لكم في المنافقين كنتم فئتين والمرادُ إنكارُ أن يكون للمخاطبين شئ مصحح لاختلافهم في أمر المنافقين وبيانِ وجوبِ بتِّ القولِ بكفرهم وإجرائهم مُجرى المجاهرين بالكفر في جميع الأحكامِ وذكرُهم بعنوان النفاقِ باعتبار وصفِهم السابق روي أنهم قومٌ من المنافقين استأذنوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو معتلين باجتواء المدينةِ فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مَرْحلةً فمرحلة حتى لحِقوا بالمشركين فاختلف المسلمون في أمرهم وقيل هم قوم هاجروا من مكةَ إلى المدينةِ ثم بدا لهم فرجعوا وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا على دينك وما أخرَجَنا إلا اجتواءُ المدينةِ والاشتياقُ إلى بلدنا وقيل هم ناسٌ أظهروا الإسلامَ وقعدوا عن الهجرة وقيل هم قومٌ خرجوا مع الرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ثم رجعوا ويأباهُ ما سيأتِي من جعل هِجرتِهم غايةً للنهي عن تولهم وقيل هم العُرَنيّون الذين أغاروا على السَّرْح وقتلوا راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرده ما سيأتي من الآيات الناطقةِ بكيفية المعاملة معهم من السلم والحربِ وهؤلاء قد أُخذوا وفُعل بهم ما فُعل من المُثلةِ والقتلِ ولم يُنقلْ في أمرهم اختلافُ المؤمنين {والله أَرْكَسَهُمْ} حال من المنافقين مفيدةٌ لتأكيد الإنكارِ السابقِ واستبعادِ وقوعِ المنكرِ ببيان وجود الباقى بعد بيانِ عدمِ الداعي وقيل من ضمير المخاطَبين والرابطُ هو الواو أي أى شئ يدعوكم إلى الاختلاف في كفرهم معَ تحققِ ما يُوجبُ اتفاقَكم على كفرهم وهو إنَّ الله تعالى قد ردهم في الكفر كما كانوا {بِمَا كَسَبُواْ} بسبب ما كسَبوه من الارتداد واللحوق بالمشركين ولاحتيال على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم والعائدُ إلى الموصول محذوفٌ وقيل ما صدرية أي بكسبهم وقيل معنى أركسهم نَكّسهم بأن صيَّرهم للنار وأصلُ الرِّكسِ ردُّ الشئ مقلوبا وقرئ رَكَّسهم مشدداً ورَكَسَهم أيضاً مخففاً {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله} تجريدٌ للخطاب وتخصيصٌ له بالقائلين بإيمانهم من الفئتين وتوبيخٌ لهم على زعمهم ذلك وإشعارٌ بأنه يؤدي إلى محاولة المُحالِ الذي هو هدايةُ من أضله الله تعالى وذلك لأن الحُكمَ بإيمانهم وادعاءِ اهتدائِهم وهم بمعزل من ذلك سعيٌ في هدايتهم وإرادةٌ لها ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِ المنافقين لتشديد الإنكارِ

89 - 90 النساء وتأكي استحالةِ الهدايةِ بما ذُكر في حيِّزِ الصلةِ وتوجيهُ الإنكارِ إلى الإرادة لا إلى متعلَّقها بأن يقالَ أتهدون الخ للمبالغة في إنكاره ببيان أنه مما لا يمكن إرادتُه فضلاً عن إمكان نفسِه وحملُ الهدايةِ والإضلالِ على الحُكم بهما يأباه قوله تعالى {وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي ومن يَخْلُقْ فيه الضلالَ كائناً من كان فلن تجدَ له سبيلاً من السبل فضلاً عن أن تهدِيَه إليه وفيه من الإفصاح عن كمال الاستحالةِ مَا ليسَ في قولِه تعالى {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ونظائرِه وحملُ إضلالِه تعالى على حُكمه وقضائِه بالضلال مُخِلٌّ بحسن المقابلة بين الشرطِ والجزاءِ وتوجيهُ الخطابِ إلى كلِّ واحدٍ من المخاطَبين للإشعار بشمول عدمِ الوجدان للكل على طريق التفصيلِ والجملةُ إما حالٌ من فاعل تريدون أو تهتدوا والرابطُ هو الواو أو اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ للإنكار السابق ومؤكده لاستحالة الهدايةِ فحينئذ يجوز أن يكون الخطابُ لكلِّ أحدٍ ممن يصلُح له من المخاطَبين أولاً ومن غيرهم

89

{وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ غلوِّهم وتماديهم في الكفر وتصدِّيهم لإضلال غيرِهم إثرَ بيانِ كفرِهم وضلالِهم في أنفسهم وكلمةُ لو مصدرية غنيةٌ عن الجواب وهي مع ما بعدها نصبٌ على المفعولية أي ودّوا أن تكفروا وقولُه تعالى {كَمَا كَفَرُواْ} نُصب على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أى كفر مثلَ كفرِهم أو حالٌ من ضميرِ ذلك المصدرِ كما هُو رأيُ سيبويهِ وقولُه تعالى {فَتَكُونُونَ سَوَاء} عطفٌ على تكفرُونَ داخلٌ في حُكمهِ أيْ ودوا أن تكفروا فتكونوا سواءً مستوِين في الكفر والضلالِ وقيل كلمةُ لو على بابها وجوابُها محذوفٌ كمفعول ودّوا لتقدير ودوا كفرَكم لو تكفرون كما كفروا لسروا بذلك {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء} الفاء جوابُ شرطٍ محذوفٍ وجمعُ أولياءَ لمراعاة جمعِ المخاطَبين فإن المرادَ نهيُ أن يتخذ واحدٌ من المخاطبين ولياً واحداً منهم أيْ إذا كانَ حالُهم ما ذُكر من وِدادة كفرِكم فلا توالوهم {حتى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ الله} أي حتى يؤمنوا ويحققوا إيمانَهم بهجرةٍ كائنةٍ لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لالغرض من أغراض الدنيا {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحية المستقيمةِ {فَخُذُوهُمْ} أي إذا قدَرتم عليهم {واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} من الحِلّ والحرمِ فإن حُكمَهم حكمُ سائرِ المشركين أسراً وقتلاً {وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} أي جانبوهم مجانبةً كليةً ولا تقبَلوا منهم وِلايةً ولا نُصرةً إبداً

90

{إلا الذين يصلون إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق} استثناءٌ من قولِهِ تعالى {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم} أي إلا الذين يتصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم الأسلميّون كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقت

91 - النساء خروجِه من مكةَ قد وادع هلال بن عويمرالأسلمى على أنه لايعينه ولا يُعينُ عليه وعلى أن من وَصل إلى هلالٍ ولجأ إليه فله من الجِوار مثلُ الذي لهلال وقيل هم بنو بكرِ بنِ زيدِ مَناةَ وقيل هم خُزاعة {أَوْ جاؤوكم} عطفٌ على الصلة أي أو الذين جاءوكم كافّين عن قتالكم وقتالِ قومِهم استُثني من المأمور بأخذهم وقتلِهم فريقان أحدُهما من ترك المحاربين ولحِق بالمعاهَدين والآخرُ من أتى المؤمنين وكفّ عن قتال الفريقين أو على صفةِ قومٍ كأنه قيل إلا الذين يصلون إلى قوم معاهَدين أو إلى قوم كافّين عن القتال لكم والقتالِ عليكم والأول هو الأظهر لما سيأتِي من قولِه تعالى {فَإِنِ اعتزلوكم} الخ فإنَّه صريحٌ في أن كفَّهم عن القتال أحدُ سَبَبي استحقاقِهم لنفي التعرُّضِ لهم وقرئ جاءوكم بغير عاطفٍ على أنه صفةٌ بعد صفةٍ أو بيانٌ ليصِلون أو استئنافٌ {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} حالٌ بإضمار قد يدليل أنه قرئ حَصِرَةٌ صدورُهم وحَصِراتٌ صدورُهم وحاصرات صدورهم وقيل صفة لموصوفٍ محذوف هو حال من فاعل جاءوا أى أو جاءوكم قوما حصرت صدورُهم وقيل هو بيانٌ لجاءوكم وهم بنو مَدلج جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرَ مقاتلين والحصرُ الضيقُ والانقباض {أن يقاتلوكم أَوْ يقاتلوا قَوْمَهُمْ} أي من أن يقاتلوكم أو لأَنْ يقاتلوكم أو كراهةَ أن يقاتلوكم الخ وَلَوْ شاء الله لسلطنهم عَلَيْكُمْ جملةٌ مبتدأةٌ جاريةٌ مجرى التعليل لا ستثناء الطائفةِ الأخيرةِ من حكم الأخذِ والقتلِ ونظمِهم في سلك الطائفةِ الأولى الجاريةِ مَجرى المعاهَدين مع عدم تعلّقِهم بنا ولا بمن عاهدونا كالطائفة الأولى أي وَلَوْ شَاء الله لَسَلَّطَهُمْ عليكم ببسط صدورِهم وتقويةِ قلوبِهم وإزالةِ الرعبِ عنها {فلقاتلوكم} عَقيبَ ذلك ولم يكفّوا عنكم واللامُ جوابُ لو على التكرير أو الإبدال من الأولى وقرئ فلقتلوكم بالخفيف والتشديد {فَإِنِ اعتزلوكم} ولم يتعرضوا لكم {فَلَمْ يقاتلوكم} مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئةِ الله عَزَّ وجَلَّ {وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم} أى الانقياد والاستسلام وقرئ بسكون اللام {فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} طريقاً بالأسر أو بالقتل فإن مكافتهم عن قتالكم وأن يقاتلوا قومَهم أيضاً وإلقاءَهم إليكم السَّلَم وإن لم يعاهدوكم كافيةٌ في استحقاقهم لعدم تعرضكم لهم

91

{ستجدون آخرين يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ} هم قومٌ من أسَد وغطَفانَ كانوا إذا أتَوا المدينةَ أسلموا وعاهَدوا ليأمنوا المسليمن فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكَثوا عُهودَهم ليأمَنوا قومَهم وقيل هم بنو عبدِ الدارِ وكان ديدنَهم ما ذكر {كل ما رُدُّواْ إِلَى الفتنة} أي دُعوا إلى الكفر وقتالِ المسلمين {أُرْكِسُواْ فِيِهَا} قُلبوا فيها أقبحَ قلْبٍ وأشنَعَه وكانوا فيها شراً من كل عدو شرَّيرٍ {فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} بالكف عن التعرُّض لكم بوجه ما {وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السلم} أي لم يُلْقوا إليكم الصُلْحَ والعهدَ بل نَبَذوه إليكم {وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ} أي لم يكفّوها عن قتالكم {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حيث ثقفتموهم} أي تمكّنتم منهم {وَأُوْلَئِكُمْ} الموصوفون بما عُدّد من

92 - النساء الصفات القبيحةِ {جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سلطانا مُّبِيناً} حُجةً واضحةً في الإيقاع بهم قتلا وسببا لظهور عدواتهم وانكشافِ حالِهم في الكفر والغدرِ وإضرارِهم بأهل الإسلامِ أو تسلطاً ظاهراً حيث أذِنّا لكم في أخذهم وقتلِهم

92

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} أي وما صح له ولا لاقَ بحاله {أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً} بغير حقَ فإن الإيمانَ زاجرٌ عن ذلك {إِلا خطأ} فإنه ربما يقع لعدم دخولِ الاحترازِ عنه بالكلية تحت الطاقةِ البشريةِ وانتصابُه إمَّا على أنَّه حالٌ أي وما كان له أن يقتلَ مؤمناً في حالٍ من الأحوالِ إلا في حال الخطأ أو على أنَّه مفعولٌ له أي وما كان له أن يقتله لعِلّة من العلل إلا للخطأ أو على أنه صفةٌ للمصدر أي إلا قتلاً خطأً وقيل إلا بمعنى ولا والتقديرُ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً عمداً ولا خطأً وقيل مَا كَانَ نفيٌ في مَعْنى النهي والاستثناءُ منقطِعٌ أي لكنْ إن قتله خطأً فجزاؤُه ما يُذكر والخطأ مالا يقارِنه القصْدُ إلى الفعل أو إلى الشخص أولا يُقصد به زُهوقُ الروحِ غالباً أو لا يقصد به محظورٌ كرمي مُسلمٍ في صف الكفارِ مع الجهل بإسلامه وقرئ خطأ بالمد وخَطاً كعصا بتخفيف الهمزة روي أن عياشَ بنَ أبي ربيعةَ وكان أخا أبي جهلٍ لأمّه أسلم وهاجر إلى المدينة خوفاً من أهله وذلك قبل هجرة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فأقسمَتْ أمُّه لا تأكلُ ولا تشربُ ولا يَأْويها سقفٌ حتى يرجِع فخرج أبو جهل ومعه الحرث بنُ زيدِ بنِ أبي أنيسةَ فأتياه وهو في أطم ففتل منه أبو جهل في الذُّروة والغارب وقال أليس محمدٌ يحثُّك على صلة الرحِمِ انصرِفْ وبَرَّ أمَّك وأنت على دينك حتى نزل وذهب معهما فلما فسَحا من المدينة كتفاه وجلده فقال للحرث هذا أخي فمن أنت يا حرث لله علي إن وجدتك خالياً أن أقتلَك وقدِما به على أمه فحلفت لا يُحَلُّ كِتافُه أو يرتدَّ ففعل بلسانه ثم هاجر بعد ذلك وأسلم الحرث وهاجر فلقِيَه عياشُ بظهر قُباءَ ولم يشعُرْ بإسلامه فأنحى عليه فقتله ثم أُخبر بإسلامه فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال قتلتُه ولم أشعُرْ بإسلامه فنزلت {وَمَن قَتَلَ مؤمنا خطأ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي فعليه أو فموجبة تحريرُ رقبةٍ أي إعتاقُ نسمةٍ عبّر عنها بها كما يعبر عنها بالرأس {مؤمنة} أى محكوما بإسلامها وإن كانت صغيرة {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} مؤدّاةٌ إلى ورثته يقتسِمونها كسائر المواريث لقول ضحاك بنِ سفيانَ الكِلابيّ كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمُرني أن أُورّث امرأةَ أشيمَ الضبابيّ من عقْل زوجِها {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} أي إلا أن يتصدق أهلُه عليه سمِّي العفوُ عنها صدقةً حثاً عليه وتنبيهاً على فضله وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كل معروف صدقة وقرئ إلا أن يتصدقوا وهو متعلقٌ بعليه أو بمُسلّمة أي تجب الديةُ أو يسلّمها إلى أهله إلا وقت تصدقِهم عليه فهو في محل النصب على الظرفية أو إلا حالَ كونِهم متصدِّقين عليه فهو حالٌ من الأهل أو القاتلِ {فَإن كَانَ} أي المقتولُ {مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ} كفارٍ محاربين {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ولم يَعْلم به القاتلُ لكونه بين أظهُرِ قومه

39 - النساء بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقْهم أو بأن أتاهم بعد ما فارقهم لِمُهمَ من المهمات {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} أي فعلى قاتله الكفارةُ دون الديةِ إذ لا وِراثة بينه وبين أهلِه لأنهم محارَبون {وَإِن كَانَ} أي المقتولُ المؤمنُ {مِن قَوْمٍ} كفرَة {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق} أي عهدٌ مؤقتٌ أو مؤبدٌ {فَدِيَةٌ} أي فعلى قاتله ديةٌ {مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} من أهل الإسلامِ إن وجدوا ولعل تقديمَ هذا الحكم ههنا مع تأخيره فيما سلف لللإشعار بالمسارعة إلى تسليم الديةِ تحاشياً عن توهّم نقضِ الميثاقِ {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً} كما هو حكمُ سائرِ المسلمين ولعل إفرادَه بالذكر مع اندراجه في حكم ما سبقَ من قولِه تعالى وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خطأ الخ لبيان أن كونَه فيما بين المعاهَدين لا يمنع وجوبَ الديةِ كما منعه كونُه فيما بين المحارَبين وقيل المرادُ بالمقتول الذميُّ أو المعاهَدُ لئلا يلزَمَ التكرارُ بلا فائدةٍ ولا التوريثُ بين المسلمِ والكافر وقد عرفت عدم لزومها {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أيْ رقبةً ليُحرِّرها بأن لم يملِكْها ولا ما يُتوصّل به إليها من الثمن {فَصِيَامُ} أيْ فعليهِ صيامُ {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} لم يتخللْ بين يومين من أيامهما إفطارٌ {تَوْبَةً} نُصب على أنَّه مفعولٌ له أي شُرع لكم ذلك توبةً أي قَبولاً لها من تاب الله عليه إذا قبِل توبتَه أو مصدرٌ مؤكد لفعل محذوف أي تاب عليكم توبةً وقيل على أنه حال من الضمير المجرورِ في عليه بحذف المضافِ أيْ فعليهِ صيامُ شهرينِ ذا توبةٍ وقولُه تعالى {مِنَ الله} متعلق بمحذوف وقع صفة لتوبةً أي كائنةً منه تعالى {وَكَانَ الله عَلِيماً} بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جملتها حالُه {حَكِيماً} في كل ما شرَع وقضى من الشرائع والأحكامِ التي من جملتها ما شرعه في شأنه

93

{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً} لمّا بيّن حُكمَ القتلِ خطأً وفصَّل أقسامَه الثلاثةَ عقّب ذلك ببيان القتلِ عمداً خلا أن حكمَه الدنيويَّ لما بُيِّن في سورة البقرة أقتصر ههنا على حُكمه الأخرويِّ روي أن مقيسِ بنِ ضبابةَ الكِناني وكان قد أسلم هو وأخوه هشامٌ وجَد أخاه قتيلاً في بني النجارِ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر له القصةَ فأرسل عليه السلام معه زبيرَ بنَ عِياضٍ الفِهريَّ وكان من أصحاب بدرٍ إلى بني النجار يأمرُهم بتسليم القاتلِ إلى مقيسٍ ليقتصَّ منه إن علموه وبأداء الديةِ إن لم يعلموه فقالوا سمعاً وطاعةً لله تعالى ولرسوله عليه السلام ما نعلم له قاتلاً ولكنا نؤدّي دِيتَه فأتَوْه بمائة من الإبل فانصَرفا راجعَيْن إلى المدينة حتى إذا كانا ببعض الطريقِ أتى الشيطانُ مِقْيَساً فوسوس إليه فقال أتقبل دِيةَ أخيك فيكونَ مَسَبَّةً عليك اقتُل الذي معك فيكونَ نفساً بنفس وفضلَ الديةِ فتغفّل الفِهريَّ فرماه بصخرة فشدَخَه ثم ركِب بعيراً من الإبل واستاق بقيتَها راجعاً إلى مكةَ كافراً وهو يقول ... قتلتُ به فِهراً وحمَّلْتُ عَقُلَه ... سَراةَ بني النجارِ أصحابَ قارعِ ... وأدركتُ ثأري واضطجعتُ موسّدا ... وكنت إلى الأوثان أولَ راجعِ ... فنزلت وهو الذي أستثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتحِ ممن أمّنه فقُتل وهو متعلِّقٌ بأستارِ الكعبةِ وقوله تعالى معتمدا حالٌ من فاعل يقتل وروي عن الكسائي سكونُ التاءِ كأنه فر من توالي الحركات {فَجَزَاؤُهُ} الذي يستحقه بجنايته

{جَهَنَّمَ} وقولُه تعالى {خَالِداً فِيهَا} حالٌ مقدّرةٌ من فاعل فعلٍ مقدرٍ يقتضيه المقامُ كأنه قيل فجزاؤه أن يدخُلَ جهنَّم خالداً فيها وقيلَ هُو حالٌ من ضمير يجزاها وقيل من مفعول جازه وأُيّد ذلك بأنه أنسبُ بعطف ما بعده عليه لموافقته له صيغةً ولا يخفى أن ما يُقدّر للحال أو العطف عليه حقُّه أن يكون مما يقتضيه المقامُ اقتضاءً ظاهراً ويدل عليه الكلامُ دَلالةً بينةً وظاهرٌ أن كونَ جزائِه ما ذُكر لا يقتضي وقوعَ الجزاءِ البتةَ كما ستقف عليه حتى يُقدَّرَ يُجزاها أو جازاه بطريق الإخبارِ عن وقوعه وأما قولُه تعالى {وغضب الله عليه} فعطف على مقدر يدلُّ عليه الشرطيةُ دِلالةً واضحةً كأنه قيل بطريق الاستئنافِ تقريراً وتأكيداً لمضمونها حكمُ الله بأن جزاءَه ذلك وغضِب عليه أي انتقم منه {وَلَعَنَهُ} أي أبعده عن الرحمة بجعل جزائِه ما ذكر وقيل هو وما بعده معطوفٌ على الخبر بتقدير أنّ وحملُ الماضي على معنى المستقبلِ كَما في قولِه تعالى {وَنُفِخَ فِى الصور} ونظائرِه أي فجزاؤُه جهنمُّ وأن يغضَبَ الله عليه الخ {وَأَعَدَّ لَهُ} في جهنم {عَذَاباً عظيما} لا يقادر قدره ولِما ترى في الآية الكريمةِ من التهديد الشديدِ والوعيدِ الأكيدِ وفنونِ الإبراق والإرعادِ وقد تأيدت بما رُوي من الأخبار الشِّداد كقوله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لَزَوالُ الدُّنيا عند الله أهونُ من قتلِ مؤمن وقوله صلى الله عليه وسلم لو أن رجلاً قُتل بالمشرق وآخَرُ رضِي بالمغرب لأَشرَك في دمه وقوله صلى الله عليه وسلم من أعان على قتل مؤمنٍ ولو بشَطْر كلمةٍ جاء يوم القيامةِ مكتوبٌ بين عينيه آيسٌ من رحمة الله تعالى وبنحو ذلك من القوارع تمسكت الخوارجُ والمعتزلةُ بها في خلود مَنْ قتل المؤمنَ عمداً في النار ولا مُتمَسَّك لهم فيها إلا لِما قيل من أنها في حق المستحِلِّ كما هو رأيُ عِكرِمةَ وأضرابِه بدليل أنها نزلت في مقيسِ بنِ ضبابةَ الكِناني المرتدِّ حسبما مرت حكايتُه فإن العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوص السببِ بل لأن المرادَ بالخلود هو المكثُ الطويلُ لا الدوامُ لتظاهر النصوصِ الناطقةِ بأن عصاةَ المؤمنين لا يدوم عذابُهم وما رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لا توبةَ لقاتل المؤمنِ عمداً وكذا ما روي عن سفيانَ أن أهلَ العلم كانوا إذا سُئلوا قالوا لا توبةَ له محمول على الاقتداء بسنة الله تعالى في التشديد والتغليظِ وعليه يُحمل ما روي عن أنسٍ رضيَ الله تعالى عنه أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قال أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمنِ توبة كيفَ لاَ وقد رُويَ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رجلاً سأله ألِقاتلِ المؤمنِ توبةٌ قال لا وسأله آخَرُ ألقاتل المؤمن توبةٌ فقال نعم فقيل له قلت لذلك كذا ولهذا كذا قال كان الأولُ لم يقتُلْ بعد فقلت ما قلت كيلا يقتُلَ وكان هذا قد قتل فقلت له ما قلت لئلا ييأسَ وقد روي عنه جوازُ المغفرةِ بلا توبة أيضاً حيث قال في قوله تعالى فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ الآيةُ هي جزاؤُه فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له ورُوي مرفوعا عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال هو جزاؤُه إن جازاه وبه قال عونُ بنُ عبدِ اللَّهِ وبكرُ بنُ عبدِ اللَّه وأبو صالح قالوا قد يقول الإنسانُ لمن يزجُره عن أمر إن فعلتَه فجزاؤُك القتلُ والضربُ ثم إن لم يجازِه بذلك لم يكن ذلك منه كذباً قال الواحدي والأصلُ في ذلك إِنَّ الله عز وجل يجوزُ أن يُخلِفَ الوعيدَ وإن امتنع أن يُخلِف الوعد بهذا وردت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أنسٌ رضيَ الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال من وعده الله تعالى على عمله ثواباً فهو مُنجِزُه له ومن أوعده على عمله عِقاباً فهو بالخيار والتحقيقُ أنه لا ضرورة إلى تفريع

94 - النساء ما نحن فيه على الأصل المذكورِ لأنه إخبارٌ منه تعالى بأن جزاءَه ذلك لا بأنه يجزيه بذلك كيفَ لا وقَدْ قالَ الله تعالى وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا ولو كان هذا إخباراً بأنه تعالى يجزي كلَّ سيئةٍ بمثلها لعارض قوله تعالى {ويعفو عن كثير}

94

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} إثرَ ما بيّن حكمَ القتلِ بقسميه وأن ما يُتصوّر صدورُه عن المؤمن إنما هو القتلُ خطأً شرَعَ في التحذير عَمَّا يؤدَّي إليهِ منَ قلة المبالاةِ في الأمور {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله} أي سافرتم في الغزو ولِمَا في إذا من معنى الشرطِ صُدِّر قولُه تعالى {فتبينوا} بالفاء أى فاطلُبوا بيانَ الأمرِ في كل ما تأتون وما تذرون ولا تعجَلوا فيه بغير تدبر وروية وقرئ فتثبّتوا أي اطلُبوا إثباته وقوله تعالى {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام} نهيٌ عما هو نتيجةٌ لترك المأمورِ به وتعيينٌ لمادّة مُهمّةٍ من الموادّ التي يجب فيها التبيينُ وقرئ السِّلْمَ بغير ألف وبكسر السين وسكون اللام أي لا تقولوا بغير تأمل لمن حياكم بتحية الإسلامِ أو لمن ألقى إليكم مقاليدَ الاستسلام والانقيادِ {لَسْتَ مُؤْمِناً} وإنما أظهرتَ ما أظهرتَ متعوِّذاً بلِ اقبَلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه وقرئ مُؤمَناً بالفتح أي مبذولاً لك الأمانُ وهذا أنسبُ بالقراءتين الأخرتين ولاقتصار على ذكر تحيةِ الإسلامِ في القراءة الأولى مع كونها مقرونةً بكلمتي الشهادةِ كما سيأتي في سبب النزول للمبالغة في النهي والزجرِ والتنبيهِ على كمال ظهورِ خطئِهم ببيان أن تحية الإسلامِ كانت كافيةً في المُكافّة والانزجارِ عن التعرض لصاحبها فكيف وهي مقرونةٌ بهما وقوله تعالى {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا} حال من فاعل لاتقولوا منبئ عما يحمِلُهم على العَجَلة وتركِ التأنّي لكن لا على أن يكون النهيُ راجعاً إلى القيد فقط كما في قولك لا تطلُبَ العلمَ تبتغي به الجاهَ بل إليهما جميعاً أي لا تقولوا له ذلك حالَ كونِكم طالبين لمالِه الذي هو حُطامٌ سريع النفاذ وقولُه تعالى {فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} تعليلٌ للنهي عن ابتغاء مالِه بما فيه من الوعد الضِّمني كأنه قيل لا تبتغوا مالَه فعند الله مغانمُ كثيرةٌ يُغنِمُكموها فيغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه وقولُه تعالى {كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} تعليلٌ للنهي عن القول المذكورِ ولعل تأخيرَه لما فيه من نوع تفصيل ربَّما يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم مع مافيه من مراعاة المقارنةِ بين التعليلِ السابقِ وبين ما عُلِّل به كما في قوله تعالى {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} الخ وتقديمُ خبرِ كان للقصر المفيد لتأكيد المشابهةِ بين طرفي التشبيهِ وذلك إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلةِ والفاء في فمن للعطف على كنتم أي مثلَ ذلك الذي ألقى إليكم السلامَ كنتم أنتم أيضا في مبادى إسلامكم لايظهر منكم للناس غيرُ ما ظهر منه لكم من تحية الإسلامِ ونحوِها فمنّ الله عليكم بأن قبل منكم تلك المرتبةَ وعصَم بها دماءَكم وأموالَكم ولم يأمُرْ بالتفحُّص عن سرائركم والفاء في قوله تعالى {فَتَبَيَّنُواْ}

فصيحةٌ أي إذا كان الأمرُ كذلك فاطلُبوا بيانَ هذا الأمرِ البيِّنِ وقيسوا حالَه بحالكم وافعلوا به ما فُعل بكم في أوائلِ أمورِكم من قَبول ظاهرِ الحالِ من غيرِ وقوفٍ على تواطُؤِ الظاهِرِ والباطنِ هذا هو الذي تقتضيهِ جزالةُ التنزيلِ وتستدعيه فخامة شأنه الجليل ومن حسِبَ أن المعنى أولُ ما دخلتم في الإسلام سُمعت من أفواهكم كلمةُ الشهادةِ فحصَّنَتْ دماءَكم وأموالَكم من غير انتظارِ الاطلاعِ على مواطأة قلوبِكم لألسنتكم فمنّ الله عليكم بالاستقامة والاشتهارِ بالإيمان والتقدّمِ فيه وأنْ صِرْتم أعلاماً فيه فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فُعل بكم وأن تعتبروا ظاهِرَ الإسلام في المكافة ولا تقولوا الخ فقد أبعدَ عن الحق لأن المراد كما عرفت أن تحصينَ الدماءِ والأموالِ حُكمٌ مترتِّبٌ على ما فيه المماثلةُ بينه وبينهم من مجرد التفوُّه بكلمة الشهادة وإظهارِ أن ترتُّبَه عليه في حقهم يقتضي ترتبه عليه في حقه أيضاً إلزاماً لهم وإظهاراً لخطئهم ولا يخفى أن ذلك إنما يتأتى بتفسيرٍ منه تعالى عليهم المترتب على كونهم مثلَه بتحصين دمائِهم وأموالِهم حسبما ذكر حتى يظهرَ عندهم وجوبُ تحصينِ دمِه ومالِه أيضاً بحكم المشاركةِ فيما يوجبه وحيث لم يفعل ذلك بل فسره بما فسّره به لم يبقَ في النظم الكريم ما يدل على ترتب تحصينِ دمائِهم وأموالِهم على ما ذكر فمِنْ أين له أن يقول فحصَّنَتْ دماءَكم وأموالَكم حتى يتأتى البيانُ وارتكابُ تقديرِه بناءً على اقتضاء ما ذُكر في تفسير المنِّ إياه بناءً على أساس واهٍ كيف لا وإنما ذِكرُه بصدد التفسيرِ وإن كان أمراً متفرعاً على ما فيه المماثلةُ مبنياً عليه في حقهم لكنه ليس بحكم أريد إثباته في وجوب بناءً على ثبوته في حقهم كالتحصين المذكورِ حتى يستحقَّ أن يُتعرَّض له ولا بأمر له دخلٌ في وجوب اعتبارِ ظاهرِ الإسلامِ من الداخلين فيه حتى يصِحَّ نظمُه في سلك ما فُرِّع عليه قولُه فعليكم أن تفعلوا الخ وحملُ الكلامِ على معنى أنكم في أول الأمرِ كنتم مثلَه في قصور الرتبة في الإسلام فمنّ الله عليكم وبلغتم هذه الرتبةَ العاليةَ منه فلا تستقصروا حالتَه نظراً إلى حالتكم هذه بل اعتدّوا بها نظراً إلى حالتكم السابقةِ يردُّه أن قتلَه لم يكن لاستقصار إسلامِه بل لتوهم عدمِ مطابقةِ قلبِه للسانه فإن الآية الكريمة نزلت في شأن مرداس ابن نهيكٍ من أهل فدَكٍ وكان قد أسلم ولم يُسلمْ من قومه غيرُه فغزتْهم سريةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم غالب ابن فَضالةَ الليثي فهربوا وبقيَ مرداسٌ لثقته بإسلامه فلما رأى الخيلَ ألجأ غنمَه إلى عاقول من الجبل وصعِد فلما تلاحقوا وكبّروا وأكبر وقال لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله السلامُ عليكم فقتله أسامةُ بنُ زيدٍ واستاق غنمَه فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجَد وجْداً شديداً وقال قتلتموه إرادةَ ما معه فقال أسامة بن زيد إنه قال بلسانه دون قلبِه وفي رواية إنما قالها خوفاً من السلاح فقال صلى الله عليه وسلم هلا شقَقْتَ عن قلبه وفي رواية أفلا شقَقْتَ عن قلبه ثم قرأ الآيةَ على أسامةَ فقالَ يا رسولَ الله استغفِرْ لي فقال كيف بلا إله إلا الله قال أسامة فما زال صلى الله عليه وسلم يعيدُها حتى ودِدتُ أن لم أكن أسلمتُ إلا يومئذ ثم استغفرَ لي وقال أعتِقْ رقبة وقيل نزلت في رجل قال يارسول الله كنا نطلُب القومَ وقد هزمهم الله تعالى فقصَدْتُ رجلاً فلما أحسَّ بالسيف قال إني مسلمٌ فقتلتُه فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أقتلتَ مسلماً قال إنه كان متعوذا فقال صلى الله عليه وسلم أفلا شقَقْتَ عن قلبه {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} منَ الأعمالِ الظاهرةِ والخفيةِ وبكيفياتها {خَبِيراً} فيجازيكم بحسبها إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشرٌّ فلا تتهاونوا في القتل واحتاطوا فيه والجملةُ تعليلٌ لما قبلها بطريق الاستئناف وقرئ بفتح

95 - النساء إن على أنها معمولُه لِتَبَيَّنوا أو عَلى حذفِ لامِ التعليلِ

95

{لاَّ يَسْتَوِى القاعدون} بيانٌ لتفاوت طبقاتِ المؤمنين بحسب تفاوتِ درجاتِ مساعيهم في الجهاد بعد ما مر من الأمر به وتحريضِ المؤمنين عليه ليأنَفَ القاعدُ عنه ويترفَّعَ بنفسه عن انحطاط رتبته فيهتزله رغبةً في ارتفاع طبقتِه والمرادُ بهم الذين أُذِن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاءً بغيرهم قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هم القاعدون عن بدْر والخارجون إليها وهو الظاهرُ الموافقُ لتاريخ النزولِ لا ما روي عن مقاتل من أنهم الخارجون إلى تبوك فإنه مما لا يوافقه التاريخُ ولا يساعده الحال إذ لم يكن للمتخلّفين يومئذ هذه الرخصةُ وقولُه تعالى {مِنَ المؤمنين} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من القاعدين أي كائنين من المؤمنين وفائدتُها الإيذانُ من أولِ الأمرِ بعدمِ إخلالِ وصفِ القعودِ بإيمانهم والإشعارُ بعلة استحقاقِهم لما سيأتي من الحُسنى {غَيْرُ أُوْلِى الضرر} صفة للقاعدون لجريانه مجرئ النكرةِ حيث لم يُقصَدْ به قومٌ بأعيانهم أو بدل منه وقرئ بالنصب على أنه حال منه أو استثناء وبالجر على أنه صفةٌ للمؤمنين أو بدلٌ منه والضررُ المرضُ أو العاهةُ من عمىً أو عرَجٍ أو زَمانةٍ أو نحوها وفي معناه العجزُ عن الأُهبة عن زيدِ بنِ ثابتٍ رضي الله تعالى عنه أنه قال كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشِيَتْه السكينةُ فوقعت فخِذُه على فخذي حتى خشِيتُ أن ترُضَّها ثم سُرِّيَ عنه فقال اكتبْ فكتبتُ لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين والمجاهدون فقال ابنُ أمِّ مكتومٍ وكان أعمى يا رسول الله وكيف بمن لا يستطيع الجهادَ من المؤمنين فغشيتْه السكينةُ كذلك ثم سُرِّي عنه فقال اكتب {لاَّ} يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر {والمجاهدون} إيرادُهم بهذا العنوانِ دون الخروجِ المقابلِ لوصف المعطوفِ عليه كما وقع في عبارة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكذا تقييدُ المجاهدةِ بكونها {فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ} لمدحهم بذلك والإشعارِ بعلة استحقاقِهم لعلو المرتبةِ مع ما فيه من حسن موقعِ السبيلِ في مقابلة القعودِ وتقديمِ القاعدين في الذكر والإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ القصور الذى ينبئ عنه عدمُ الاستواءِ من جهتِهِم لا من جهةِ مقابلِيهِم فإن مفهومَ عدمِ الاستواءِ بين الشيئينِ المتفاوتينِ زيادةً ونقصاناً وإن جازَ اعتبارُهُ بحسبِ زيادةُ الزائدِ لكنْ المتبادرُ اعتبارُهُ بحسبِ قصورِ القاصر وعليهِ قولُه تعالى {هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات والنور} إلى غير ذلك وأما قولُهُ تعالى {هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} فلعلَّ تقديمَ الفاضلِ فيهِ لأنَّ صلَتَهُ ملكة لصلة المفضول وقوله عز وجل {فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً} استئناف مسوق لتفضيل ما بينَ الفريقينِ من التفاضل المفهومِ من ذكر عدمِ استوائِهما إجمالاً ببيان كيفيتِه وكمِّيتِه مبنيٌّ على سؤال ينساق إليه المقالُ كأنه قيل كيف وقع ذلك فقيل الله الخ وأما تقديرُ ما لهم لا يستووى فإنما يليق بجعل الاستئنافِ

96 - النساء تعليلاً لعدم الاستواءِ مَسوقاً لإثباته وفيه تعكيس ظاهرٌ فإن الذي يحِقُّ أن يكونَ مقصوداً بالذات إنما هو بيانُ تفاضُلِ الفريقين على درجات متفاوتة وأما عدمُ استوائِهما فقُصارى أمرِه أن يكون توطئةً لذكره ولامُ المجاهدين والقاعدين للعهد فقيدُ كونِ الجهادِ في سبيل الله معتبرٌ في الأول كما أن قيدَ عدمِ الضررِ معتبرٌ في الثاني ودرجة نُصب على المصدرية لوقوعها موقعَ المرَّةِ من التفضيل أي فضل الله تفضيلةً أو على نزع الخافض أي بدرجة وقيل على التمييز وقيل على الحالية من المجاهدين أي ذوي درجةٍ وتنوينُها للتفخيم وقوله تعالى {وَكُلاًّ} مفعولٌ أولٌ لما يعقُبه قُدّم عليه لإفادة القصرِ تأكيداً للوعد أي كلَّ واحدٍ من المجاهدين والقاعدين {وَعَدَ الله الحسنى} أي المثوبةَ الحُسنى وهي الجنةُ لا أحدَهما فقط كما في قولِه تعالى وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً على أن اللامَ متعلقةٌ برسولا والجملة اعتراض جئ به تداركاً لما عسى يُوهِمَهُ تفضيلُ أحدِ الفريقين على الآخَر من حرمانِ المفضول وقوله عز وجل {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين} عطفٌ على قوله تعالى فَضَّلَ الله الخ واللامُ في الفريقين مُغْنيةٌ لهما عن ذكر القيودِ التي تُركت على سبيل التدريجِ وقوله تعالى {أَجْراً عَظِيماً} مصدرٌ مؤكّدٌ لفضّل على أنه بمعنى أَجَر وإيثار على ما هو مصدرٌ من فعله للإشعار بكون ذلك التفضيل أجرا لأعمالهم أو مفعولٌ ثانٍ له بتضمينه معنى الإعطاءِ أي أعطاهم زيادةً على القاعدين أجراً عظيماً وقيل هو منصوبٌ بنزعِ الخافضِ أي فضّلهم بأجر عظيم وقولُه تعالى

96

{درجات} بدلٌ من أجراً بدلَ الكلِّ مبينٌ لكمية التفضيلِ وقوله تعالى {مِنْهُ} متعلق بمحذوف وقع صفة لدرجاتٍ دالةً على فخامتها وجلالةِ قدْرِها أي درجاتٍ كائنةً منه تعالى قال ابن محير يزهي سبعون درجةٍ ما بين كلِّ درجتين عدْوُ الفرسِ الجوادِ المُضْمرِ سبعين خريفاً وقال السدي هي سبعُمائةِ درجةٍ وعن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه إن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قال إنَّ في الجنةِ مائةَ درجةٍ أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بينَ السماءِ والأرضِ ويجوز أن يكونَ انتصابُ درجاتٍ على المصدرية كما في قولك ضربه أسواطاً أي ضرباتٍ كأنه قيل فضّلهم تفضيلات وقوله تعالى {وَمَغْفِرَةٌ} بدلٌ من أجراً بدلَ البعضِ لأن بعضَ الأجرِ ليس من باب المغفرة أي مغفرة لَما يفرطُ منهم من الذنوب التي لا سائرُ الحسناتِ التي يأتي بها القاعدون أيضاً حتى تُعدَّ من خصائصهم وقولُه تعالى {وَرَحْمَةً} بدل الكلِّ من أجرا مثل درجاتٍ ويجوز أن يكون انتصابُهما بإضمار فعلِهما أي غَفَر لهم مغفرةً ورحِمَهم رحمة هذا ولعل تكريرَ التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة وتقييدَه تارةً بدرجة وأخرى بدرجاتٍ مع اتحاد المفضّلِ والمفضلِ عليه حسبما يقتضيه الكلامُ ويستدعيه حسن النظام إما لتنزيل الاختلاف العنوانيِّ بين التفضيلين وبين الدرجةِ والدرجاتِ منزلةَ الاختلافِ الذاتي تمهيداً لسلوك طريقِ الإبهامِ ثمَّ التفسيرِ رَوْماً لمزيد التحقيقِ والتقريرِ كما في قوله تعالى فلما جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ كأنه قيل فضّل الله المجاهدين على القاعدين درجةٍ لا يقادَر قدرُها ولا يُبلَغُ كُنهُها وحيث كان تحقّقُ هذا البونِ البعيدِ بينهما مُوهِماً لحِرمان القاعدين قيل وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى ثم أريد تفسيرُ ما أفاده

97 - النساء التنكيرُ بطريق الإبهامِ بحيث يقطَعُ احتمالَ كونِه للوِحْدة فقيل ما قيل ولله درُّ شأنِ التنزيلِ وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجةِ والدرجاتِ على أن المرادَ بالتفضيل الأولِ ما خوّلهم الله تعالى عاجلاً في الدنيا من الغنيمة والظَّفَر والذِكْرِ الجميلِ الحقيقِ بكونه درجةً واحدةً وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العاليةِ الفائتةِ للحصر كما ينبئ عنه تقديمُ الأولِ وتأخيرُ الثاني وتوسيطُ الوعدِ بالجنة بينهما كأنه قيل وفضّلهم عليهم في الدنيا درجةً واحدةً وفي الآخرة درجاتٍ لا تحصى وقد وُسِّط بينهما في الذكر ما هو متوسِّط بينهما في الوجود أعني الواعد بالجنة توضيحاً لحالهما ومسارعةً إلى تسلية المفضولِ والله سبحانه أعلم هذا ما بين المجاهدين وبين القاعدين غيرِ أولي الضررِ وأما أولوا الضررِ فهم مساوون للمجاهدين عند القائلين بمفهوم الصفةِ وبأن الاستثناءَ من النفي إثباتٌ وأما عند من لا يقول بذلك فلا دِلالة لعبارة النصِّ عليه وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد خلّفتم في المدينة أقواماً ما سِرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم وهم الذين صحّت نياتُهم ونصَحَتْ جيوبُهم وكانت أفئدتُهم تهوى إلى الجهاد وبهم ما يمنعهم من المسير من ضرار أو غيره وبعبارة أخرى إن في المدينة لأقواماً ما سِرتم من مسير ولا قطعتم من وادٍ إلا كانوا معكم فيه قالوا يا رسولَ الله وهم بالمدينة قال نعم وهم بالمدينة حبَسهم العُذرُ قالوا هذه المساواة مشروطة بشريطة أخرى سوى الضرر قذ ذكرت في قوله تعالى {لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى} إلى قوله {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} وقيل القاعدون الأُوَلُ هم الأضراءُ والثاني غيرُهم وفيه من تفكيك النظمِ الكريمِ مَا لاَ يخفى ولا ريب في أن الأضّراءَ من غيرهم درجةً كما لا ريب في أنهم دون المجاهدين بحسب الدرجةِ الدنيوية {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} تذليل مقرِّرٌ لما وَعَد من المغفرة والرحمة

97

{إن الذين توفاهم الملائكة} بيانٌ لحال القاعدين عن الهجرة إثر بيانِ حالِ القاعدين عن الجهاد وتوفاهم يحتمل أن يكون ماضيا ويؤيده قرأ توفتْهم وأن يكون مضارعاً قد حُذف منه إحدى التاءينِ وأصلُه تتوفاهم على حكايةِ الحالِ الماضيةِ والقصدِ إلى استحضار صورتِها ويَعضده قراءةُ مَن قرأَ تُوَفاهم على مضارع وُفِّيَتْ بمعنى أن الله تعالى يرفى الملائكةَ أنفسِهم فيتوفّونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها {ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} حالٌ من ضمير تَوَفاهم فإنه وإن كان مضافاً إلى المعرفة إلا أنه نكرةٌ في الحقيقة لأن المعنى على الانفصال وإن كان موصولاً في اللفظِ كما في قولِه تعالى غَيْرَ مُحِلّى الصيد وهديا بالغ الكعبه وثانى عِطْفِهِ أي مُحلّين الصّيدَ وبالغاً الكعبةَ وثانياً عِطْفَه كأنه قيل ظالمين أنفسَهم وذلك بترك الهجرةِ واختيارِ مجاورة الكفرة الموجبةِ للإخلال بأمور الدينِ فإنها نزلتْ في ناسٍ من مكةَ قد أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرةُ فريضة {قَالُواْ} أي الملائكةُ للمُتوفَّيْن تقريراً لهم بتقصيرهم في إظهار إسرمهم وإقامةِ أحكامِه من الصلاة ونحوها وتوبيخها لهم بذلك {فِيمَ كُنتُمْ} أي في أي شئ كنتم من أمور دينِكم {قالوا} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية سؤالِ الملائكةِ كأنه قيل فماذا قالوا في الجواب فقيل قالوا متجانِفين عن الإقرار

98 - 99 النساء الصريحِ بما هُم فيه من التقصير متعلِّلين بما يوجبه على زعمهم {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرض} أي في أرض مكةَ عاجزين عن القيام بمواجب الدينِ فيما بين أهلِها {قَالُواْ} إبطالاً لتعللهم وتبكيتاً لهم {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا} إلى قطر آخر منها تقدِرون فيه على إقامةِ أمورِ الدينِ كما فعله من هاجر إلى المدينة وإلى الحبشة وأما حملُ تعلُّلِهم على إظهار العجزِ عن الهجرة وجعلُ جوابِ الملائكةِ تكذيباً لهم في ذلك فيردوه أن سببَ العجز عنها لا ينحصر في فُقدان دار الهجرةِ بل قد يكون لعدم الاستطاعةِ للخروج بسب الفقرِ أو لعدم تمكينِ الكفَرة منه فلا يكون بيانُ سعةِ الأرضِ تكذيباً لهم ورداً عليهم بلْ لا بدَّ من بيان استطاعتِهم أيضاً حتى يتم التبكيتُ وقيل كانت الطائفةُ المذكورة قد خرجوا مع المشركين إلى بدرٍ منهم قيسُ بنُ الفاكِهِ بنِ المغيرةِ وقيسُ بنُ الوليدِ بنِ المغيرة وأشباهُهما فقُتلوا فيها فضَرَبت الملائكةُ وجوهم وأدبارهم وقالوا لهم ماقالوا فيكون ذلك منهم تقريعاً وتوبيخاً لهم بما كانوا فيه من مساعدة الكَفَرةِ وانتظامِهم في عسكرهم ويكون جوابُهم بالاستضعاف تعلّلاً بأنهم كانوا مقهورين تحت أيديهم وأنهم أخرجوا كارهين فرُدَّ عليهم بأنهم كانوا بسبيل من الخلاص عن قهرهم متمكّنين من المهاجرة {فَأُوْلَئِكَ} الذين حُكِيت أحوالُهم الفظيعةُ {مَأْوَاهُمْ} أي في الآخرة {جَهَنَّمُ} كما أن مأواهم في الدنيا دارُ الكفرِ لتركهم الفريضةَ المحتومة فمأواهم مبتدأوجهنم خبره والجملة خبر لأولئك وهذه الجملةُ خبرُ إن والفاءُ فيه لتضمُّن اسمِها معنى الشرطِ وقولُه تعالى قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ حالٌ من الملائكة بإضمار قد عند من يشترطه أو هو الخبرُ والعائدُ منه محذوفٌ أي قالوا لهم والجملةُ المصدرةُ بالفاء معطوفةٌ عليه مستنتَجَةٌ منه ومما في حيّزه {وَسَاءتْ مَصِيراً} أى مصيرهم أي جهنم وفي الآية الكريمةِ إرشادٌ إلى وجوب المهاجرة من موضع لايتمكن الرجلُ من إقامة أمورِ دينِه بأي سبب كان وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من فرَّ بدينِه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنَّة وكان رفيقَ إبراهيمَ ونبيه محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم

98

{إِلاَّ المستضعفين} استثناءٌ منقطعٌ لعدم دخولِهم في الموصول وضميرِه والإشارةِ إليه ومِنْ في قولِه تعالَى {من الرجال والنساء والولدان} متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المستضعفين أي كائنين منهم وذِكرُ الوِلدان إن أريد بهم المماليكُ أو المراهقون ظاهرٌ وأما إن أريد بهم الأطفالُ فللمبالغة في أمر الهجرة وإبهام انها بحيث لو استطاعها غيرُ المكلفين لوجبت عليهم والإشعارِ بأنهم لا محيصَ لهم عنها البتة عليهم كما بلغوا حتى كأنها واجبةٌ عليهم قبل البلوغِ لو استطاعوا وأن قومهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت وقوله تعالى {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} صفةٌ للمستضعفين فإنَّ ما فيهِ من اللام ليس للتعريف أو حالٌ منْهُ أو من الضميرِ المستكنِّ فيه وقيل تفسيرٌ لنفس المستضعفين لكثرة وجوهِ الاستضعافِ واستطاعةُ الحيلةِ وُجدانُ أسبابِ الهجرةِ ومباديها واهتداءُ السبيلِ معرفةُ طريقِ الموضعِ المهاجَرِ إليه بنفسه أو بدليل

99

{فأولئك}

100 - 101 النساء إشارةٌ إلى المستضعفين الموصوفينَ بما ذُكر من صفاتِ العجزِ {عَسَى الله أَن يعفو عنهم} جئ بكلمة الإطماعِ ولفظِ العفوِ إيذاناً بأن الهجرةَ من تأكُّدِ الوجوبِ بحيث ينبغي أن يُعدَّ تركُها ممن تحقق عدمُ وجوبِها عليه ذنباً يجب طلبُ العفوِ رجاءً وطمعاً لا جزماً وقطعاً

100

{وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً} تذييلٌ مقررٌ لمَا قبلَهُ {وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الارض مُرَاغَماً كَثِيراً} ترغيبٌ في المهاجَرَة وتأنيسٌ لها أي يجدْ فيها متحوَّلاً ومهاجَراً وإنما عبّر عنه بذلك تأكيد للترغيب لما فيه من الإشعار بكون ذلك المتجول بحيث يصل فيه المهاجرُ من الخير والنعمةِ إلى ما يكون سبباً لرغم آنف قومه الذين هاجروهم والرُّغمُ الذلُّ والهوانُ وأصلُه لصوقُ الأنفِ بالرَّغام وهو التراب وقيل يجد فيها طريقاً يراغِمُ بسلوكه قومَه أي يفارقهم على رَغم أنوفهم {وسعة} أي من الرزق {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت} أي قبل أن يصل إلى المقصِد وإن كان ذلك خارج بابه كما ينبئ عنه إيثارُ الخروجِ من بيته على المهاجَرة وهو عطفٌ على فعل الشرطِ وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ وقيل هو حركةُ الهاءِ نُقلت إلى الكاف على نية الوقفِ كما في قوله ... من عنزى سبنى لم أضربه عجيب والدهر كثير عجبه وقرى بالنصب على إضمار أنْ كما في قوله وألحقُ بالحجاز فأستريحا ... {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} أي ثبت ذلك عنده تعالى ثبوتَ الأمرِ الواجبِ رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما بَعَث بالآيات المتقدمةِ إلى مسلمي مكةَ قال جُندُبُ بنُ ضَمْرةَ لبنيه وكان شيخاً كبيراً احمِلوني فإني لستُ من المستضعفين وإني لأهتدي الطريقَ والله لا أبيتُ الليلةَ بمكةَ فحمَلوه على سرير متوجِّهاً إلى المدينة فلما بلغ التنعيمَ أشرفَ على الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايُعك على ما بايعك رسولُك فمات حميداً فبلغ خبرُه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لو تُوفيَ بالمدينة لكان أتمَّ أجراً فنزلت قالوا كلُّ هجرةٍ في غرض دينيَ من طلبِ علمٍ أو حجَ أو جهاد أونحو ذلك فهي هجرةٌ إلى الله عزَّ وجلَّ وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم {وَكَانَ الله غَفُوراً} مبالِغاً في المغفرة فيغفرُ له ما فَرَط منه من الذنوبِ التي من جملتها القعودُ عن الهجرة إلى وقت الخروجِ {رَّحِيماً} مبالِغاً في الرحمة فيرحمه بإكمال ثوابِ هجرتِه

101

{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأرض} شروعٌ في بيانِ كيفيةِ الصلاةِ عند الضروراتِ من السفر ولقاءِ العدوِّ والمرضِ والمطرِ وفيه تأكيدٌ لعزيمة المهاجِرِ على المهاجَرة وترغيبٌ له فيها لما فيه من تخفيف أونه أي إذا سافرتم أيَّ مسافرةٍ كانت ولذلك لم يُقيَّد بما قُيِّد به المهاجَرة {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أى حرج أو اثم {أَن تَقْصُرُواْ} أي في أن تقصُروا والقصرُ خلافُ المد يقال قصرت الشئ أي جعلته قصيراً بحذف بعضِ أجزائِه أو أوصافِه فمُتعلَّقُ القصرِ حقيقةً إنما هو ذلك الشئ لا بعضُه فإنه متعلَّقُ الحذف دون القصرو على هذا فقوله تعالى

{مِنَ الصلاة} ينبغي أن يكون مفعولاً لتقصُروا على زيادة مِنْ حسبما رآه الأخفش وأما على تقديرِ أنْ تكون تبعيضيةً ويكونَ المفعولُ محذوفاً كما هُو رأيُ سيبويهِ أي شيئاً من الصلاة فينبغي أن يُصارَ إلى وصف الجزءِ بصفة الكلِّ أو يرادَ بالقصر معنى الحبْس يقال قصرت الشئ إذا حبستْه أو يرادَ بالصلاة الجنسُ ليكون المقصورُ بعضاً منها وهي الرُّباعياتُ أي فليس عليكم جُناحٌ في أن تقصروا بعضَ الصلاة بتنصيفها وقرئ تُقْصِروا من الإقصار وتُقَصِّروا من التقصير والكل بمعنى وأدنى مدةِ السفرِ الذي ينعلق به القصرُ عند أبي حنيفةَ مسيرةَ ثلاثةِ أيام ولياليها بسير الإبلِ ومشيِ الأقدام بالاقتصاد وعند الشافعيِّ مسيرةَ يومين وظاهرُ الآية الكريمة التخييرُ وأفضليةُ الإتمام وبه تعلق الشافعيّ وبما رُوي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه أتم في السفر وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها أنها أتمت تارةً وقصرت أخرى وعن عثمانُ رضيَ الله عنْهُ أنَّه كان يُتمّ ويَقصُر وعندنا يجب القصرُ لا محالة خلا أن بعضَ مشايخنا سماه عزيمةً وبعضُهم رُخصةَ إسقاطٍ بحيث لا مساغ للإتمام لارخصة ترفيهٍ إذ لا معنى للتخيير بين الأخفِّ والأثقلِ وهو قولُ عمرَ وعليَ وابن عباس وابنِ عمرَ وجابر ورضوان الله عليهم وبه قال الحسنُ وعمرُ بنُ عبد العزيز وقتادةُ وهو قول مالك وقد رُوي عن عمر رضي الله عنه صلاةُ السفر ركعتانِ تمامٌ غيرُ قصرٍ على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وعن أنسٌ رضيَ الله عنه خرجنا مع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من المدينة إلى مكةَ فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة وعن عمرانَ بنِ حُصين رضي الله عنه ما رأيت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يصلي في السفر إلا ركعتين وصلى بمكةَ ركعتين ثم قال أتمُّوا فإنَّا قومٌ سَفْرٌ وحين سمع بن مسعود ان عثمانُ رضيَ الله عنْهُ صلى بمِنىً أربعَ ركعاتٍ استرجع ثم قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ بمنى ركعتين وصليت مع عمر رضي الله عنه بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعاتٍ ركعتان مُتقبَّلتان وقد اعتذر عثمانُ رضيَ الله عنْهُ عن إتمامه بأنه تأهّل بمكة وعن الزهريّ أنه إنما أتمّ لأنه أزمع الإقامةَ بمكة وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها أولُ ما فُرضت الصلاةُ فُرضتْ ركعتين ركعتين فأُقِرَّت في السفر وزيدت في الحضر وفي صحيح البخاري أنها قالت فرضَ الله الصلاةَ حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضَر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر وأما ماروى عنها من الإتمام فقد اعتذرت عنه وقالت أنا أمُّ المؤمنين فحيث حللتُ فهي داري وإنما ورد ذلك بنفي الجُناحِ لما أنهم ألِفوا الإتمامَ فكانوا مظِنةَ أن يخطُر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فصرح بنفي الجناحِ عنهم لتطيب به نفوسُهم ويطمئنوا إليهِ كما في قولِه تعالى فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا مع أن ذلك الطوافَ واجبٌ عندنا ركنٌ عند الشافعيِّ وقوله تعالى {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ} جوابُه محذوفٌ لدِلالة مَا قبلَهُ عليهِ أيْ إنْ خفتم أن يتعرّضوا لكم بما تكرهونه من القتال وغيرِه فليس عليكم جُناح الخ وهو شرطٌ معتبرٌ في شرعية ما يُذكر بعده من صلاة الخوفِ المؤداةِ بالجماعة وأما في حق مُطلقِ القصرِ فلا اعتبار له اتفاقاً لتظاهُر السننِ على مشروعيته حسبما وقفت على تفصيلها وقد ذكر الطحاويُّ في شرح الآثارِ مسنداً إلى يعلى بن أميةَ أنه قال قلت لعمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه إنما قال الله {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ} وقد

102 - النساء أمِن الناسُ فقال عمرُ رضي الله عنه عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقةٌ تصدّقَ الله بها عليكم فاقبَلوا صدقتَه وفيه دليلٌ على عدم جوازِ الإكمالِ لأن التصدقَ بما لا يحتمل التمليكَ إسقاطٌ محضٌ لا يحتمل الردَّ كما حُقّق في موضعه ولا يُتَوهّمنّ أنه مخالفٌ للكتاب لأن التقييدَ بالشرط عندنا إنما يدل على ثبوت الحُكمِ عند وجودِ الشرطِ وأما عدمُه عند عدمه فساكت عنه فإن وجدَ له دليلٌ ثبت عنده أيضاً وإلا يبقى على حاله لعدم تحققِ دليلِه لا لتحقق دليلِ عدمِه وناهيك بما سمعتَ من الأدلة الواضحةِ وأما عند القائلين بالمفهوم فلأنه إنما يدل على نفي الحُكمِ عند عدم الشرط إذا لم يكن له فائدةٌ أخرى وقد خرج الشرط ههنا مخرجَ الأغلبِ كما في قوله تعالى وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً بل نقول إن الآيةَ الكريمةَ مجملةٌ في حق مقدارِ القصرِ وكيفيتِه وفي حق ما يتعلقُ به من الصلوات وفي مقدار مدةِ الضربِ الذي نيط به القصرُ فكل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من القصر في حال الامن من وتخصيصِه بالرُباعيات على وجه التصنيف وبالضرب في المدة المعينة بيانٌ لإجمال الكتابِ وقد قيل إن قوله تعالى إِنْ خِفْتُمْ الخ متعلقٌ بما بعده من صلاة الخوفِ منفصلٌ عما قبله فإنه روي عن أبي أيوبَ الأنصاري رضيَ الله عنه أنَّه قال نزل قولُه تعالى وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الارض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حولٍ فنزل إِنْ خفتم الخ أي إن خفتم أن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ الخ وقد قرئ من الصلاة أن يفتنكم بغير إن خفتم على أنَّه مفعولٌ له لما دل عليه الكلامُ كأنه قيل شرُع لكم ذلك كراهةَ أن يفتنكم الخ فإن استمرارَ الاشتغالِ بالصلاة مَظِنةٌ لاقتدارهم على إيقاع الفتنةِ وقوله تعالى {إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً} تعليلٌ لذلك باعتبار تعلُّلِه بما ذُكر أو لما يُفهم من الكلام من كون فتنتِهم متوقَّعةً فإن كمالَ عداوتِهم للمؤمنين من موجبات التعرُّض لهم بسوء وقولُه تعالى

102

{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} بيانٌ لما قبله من النص المُجملِ الواردِ في مشروعية القصرِ بطريق التفريعِ وتصويرٌ لكيفيته عند الضرورةِ التامةِ وتخصيصُ البيانِ بهذه الصورة مع الاكتفاء فيما عداها بالبيان بطريق السنةِ لمزيد حاجتِها إليه لما فيها من كثرة التغييرِ عن الهيئة الاصلية ومن ههنا ظهر لك أن مورِدَ النصِّ الشريفِ على المقصورة وحكمُ ما عداها مستفادٌ من حكمها والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق التجريدِ وبظاهره يَتعلّق من لا يرى صلاةَ الخوف بعده صلى الله عليه وسلم ولا يخفى أن الأئمةَ بعده نوابه صلى الله عليه وسلم قُوّامٌ بما كان يقوم به فيتناولهم حكمُ الخطابِ الوارد له صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً وقد روي أن سعيدَ بنَ العاصِ لما أراد

أن يصلي بطيرستان صلاةَ الخوفِ قال من شهِد منكم صلاةَ الخوفِ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام حُذيفةُ بنُ اليمانِ رضي الله عنه فوصف له ذلك فصلى بهم كما وصَف وكان ذلك بحضرة الصحابةِ رضيَ الله عنُهم فلم يُنْكِرْه أحدٌ فحل محلَّ الإجماعِ وروي في السنن أنهم غزَوْا معَ عبد الرحمن بنِ سَمُرةَ بابل فصلى بهم صلاةَ الخوفِ {فأقمت لهم الصلاة} أي أردت أن تقيم بهم الصلاة {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ} بعد أن جعلتَهم طائفتين ولتقِف الطائفةُ الأخرى بإزاء العدوِّ ليحرسوكم منهم وإنما لم يصرَّحْ به لظهوره {وَلْيَأْخُذُواْ} أي الطائفةُ القائمة معك {أَسْلِحَتَهُمْ} أي لا يضعوها ولا يلقوها وإنما عبر عن ذلك بالأخذ للإيذان بالاعتناء باستصحابها كأنهم يأخُذونها ابتداءً {فَإِذَا سَجَدُواْ} أي القائمون معك وأتمّوا الركعة {فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ} أي فلينصرِفوا إلى مقابلة العدوِّ للحراسة {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ} بعدُ وهي الطائفةُ الواقفة تجاه العدوِّ للحراسة وإنما لم تُعرَفْ لما أنها لم تُذكرْ فيما قبل {فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} الركعةَ الباقيةَ ولم يبيِّنْ في الآية الكريمة حالَ الركعةِ الباقيةِ لكل من الطائفتين وقد بُيِّن ذلك بالسنة حيث روى عن ابن عمرو ابن مسعود رضي الله عنهم أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم حين صلى صلاةَ الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعةً وبالطائفة الأخرى ركعةً كَما في الآيةِ الكريمةِ ثم جاءت الطائفةُ الأولى وذهبت هذه إلى مقابلة العدوِّ حتى قضت الأولى الركعة الأخيرةَ بلا قراءة وسلّموا ثم جاءت الطائفةُ الأخرى وقضَوا الركعةَ الأولى بقراءة حتى صار لكل طائفة ركعتان {وَلْيَأْخُذُواْ} أي هذه الطائفة {حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} لعل زيادة الأمرِ بالحذرِ في هذه المرة لكونها مظِنّةً لوقوف الكَفَرة على كون الطائفةِ القائمةِ مع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في شغل شاغلً وأما قبلها فربما يظنونهم قائمين للحرب وتكليفُ كلَ من الطائفتين بما ذكر لما أن الاشتغالَ بالصلاة مظنةٌ لإلقاء السلاحِ والإعراض عن غيرها ومئنة لهجوم العدوِّ كما ينطِقُ به قوله تعالى {وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً واحدة} فإنه اسئناف مَسوقٌ لتعليل الأمرِ المذكورِ والخطابُ للفريقين بطريق الالتفاتِ أي تمنَّوا أن ينالوا غِرّةً وينتهزوا فرصةً فيشدّوا عليكم شدةً واحدةً والمرادُ بالأمتعة ما يُتمتع به في الحرب لا مطلقاً وهذا الأمر الموجوب لقوله تعالى {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ} حيث رُخّص لهم في وضعها إذا ثقُل عليهم استصحابها بسبب المطر أو مرضٍ وأُمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياطِ فقيل {وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} لئلا يهجُمَ العدوُّ عليكم غِيلةً روى الكلبيُّ عن أبي صالحٍ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا محاربا وبنى إنما فنزلوا ولا يرَوْن من العدو أحداً فوضع الناسُ أسلحتَهم وخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لحاجة له وقد وضَع سلاحَه حتى قطع الواديَ والسماءُ ترُشّ فحال الوادي بينه صلى الله عليه وسلم وبين أصحابِه فجلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فبصُرَ به غَوْرَثُ بنُ الحرث المحاربي فقال قتلني الله إن لم أقتلْك ثم انحدر من الجبل ومعه السيفُ فلم يشعُرْ به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو قائمٌ على رأسه وقد سل سيفَه من غِمْدِهِ فقال يا محمد من يعصِمك مني الآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عز وجل ثم قال اللهم اكفِني غورث بن الحرث بما شئت ثم أهوى بالسيفِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ليضرِبه فأكبَّ لوجهه من زلخة زلخها بين كتفيه فبدر سيفه فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فأخذه ثم قال يا غَوْرَثُ من يمنعك مني الآن قال لا أحد قال صلى الله عليه وسلم تشهدُ أَن لاَّ إلَه إِلاَّ الله وأن محمداً عبدُه ورسولُه وأعطيك سيفَك قال لا ولكن أشهد أن لا أقاتِلَك أبداً ولا أُعينَ عليك عدواً

103 - 104 النساء فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفَه فقال غورثُ والله لأنت خيرٌ مني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أحقُّ بذلك منك فرجَع غَوْرَثُ إلى أصحابه فقصَّ عليهم قِصتَه فآمن بعضُهم قال وسكن الوادي فقطع عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأخبرهم بالخبر وقوله تعالى {إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً} تعليلٌ للأمر بأخذ الحذرِ أعد لهم عذاباً مهيناً بأن يخذُلهم وينصُرَكم عليهم فاهتموا بأموركم ولا تُهمِلوا في مباشرة الأسباب كى يحل بهم عذابُه بأيديكم وقيل لما كان الأمرُ بالحذر من العدو مُوهماً لتوقّع غلبتِه واعتزازِه نُفي ذلك الإيهامُ بأن الله تعالى ينصُرهم ويُهين عدوَّهم لتقوى قلوبُهم

103

{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة} أي صلاةَ الخوفِ أي أديتموها على الوجه المبيّنِ وفرَغتم منها {فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ} أي فداوموا على ذكر الله تعالى وحافِظوا على مراقبته ومناجاتِه ودعائِه في جميعِ الأحوالِ حَتَّى في حال المسايفة والقتالِ كما في قوله تعالى إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {فَإِذَا اطمأننتم} سكنَت قلوبُكم من الخوف وأمنتم بعد ما وضعت الحربُ أوزارَها {فأقِيمُوا الصَّلاةَ} أي الصلاةَ التي دخل وقتُها حينئذ أي أدُّوها بتعديل أركانِها ومراعاةِ شرائطِها وقيل المرادُ بالذكر في الأحوال الثلاثةِ الصلاةُ فيها أى فإذ أردتم أداءَ الصلاةِ فصلّوا قِياماً عند المسايفةِ وقعوداً جاثين على الرّكَب عند المراماةِ وعلى جنوبكم مُثخَنين بالجِراح فإذا اطمأننتم في الجملة فاقضُوا ما صليتم في تلك الأحوالِ التي هي أحوال القلقِ والانزعاجِ وهو رأى الشافعى رحمه الله وفيه من البعد مالا يخفى {إنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} أى فرضا مؤقتا قال مجاهدٌ وقّته الله عليهم فلا بد من إقامتها في حالة الخوفِ أيضاً على الوجه المشروحِ وقيل مفروضاً مقدّراً في الحضَر أربَعَ ركعاتٍ وفي السفر ركعتين فلا بد أن تؤدى في كل وقتٍ حسبما قُدِّر فيه

104

{وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابتغاء القوم} أى لاتضعفوا ولاتتوانوا في طلب الكفارِ بالقتال والتعرّضِ لهم بالحِراب وقوله تعالى {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ} تعليلٌ للنهي وتشجيعٌ لهم أي ليس ما تقاسونه من الآلام مختصاً بكم بل هو مشترَكٌ بينكم وبينهم ثم إنهم يصبِرون على ذلك فما لكم لاتصبرون مع أنكم أولى به منهم حيث ترجُون من الله من إظهار دينِكم على سائر الأديانِ ومن الثواب في الآخرة مالا يخطر ببالهم وقرئ أن تكونوا بفتح الهمزة أى لاتهنوا لأن تكونوا تألمون وقوله تعالى فَإِنَّهُمْ تعليلٌ للنهي عن الوهن لأجله والآيةُ نزلت في بدرٍ الصُّغرى {وَكَانَ الله عَلِيماً} مبالِغاً في العلم فيعلم أعمالَكم وضمائرَكم {حَكِيماً} فيما يأمُر وينهى فجِدُّوا في الامتثال بذلك فإن فيه عواقب حميدة

105 - 106 107 108 النساء

105

{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق} رُوي أن رجلاً من الأنصار يقال له طُعمةُ بنُ أُبيرِقَ من بني ظفَرٍ سرَق دِرعاً من جاره قتادةَ بنِ النعمانِ في جرابِ دقيقٍ فجعل الدقيقُ ينْتثِرُ من خَرْقٍ فيه فخبأها عند زيد بنِ السمين اليهودي فالتمست الدرعَ عند طعمةَ فلم توجد وحلف ما أخذها وما لَه بها علمٌ فتركوه واتبعوا أثرَ الدقيقِ حتى انتهى إلى منزل اليهوديِّ فأخذوها فقال دفعها إليّ طعمةُ وشهِد له ناسٌ من اليهود فقالت بنو ظفر انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وشهِدوا ببراءته وسرقةِ اليهوديِّ فهمّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل فنزلت وروي أن طعمةَ هرب إلى مكةَ وارتدّ ونقَبَ حائطاً بمكةَ ليسرِقَ أهلَه فسقَط الحائطُ عليه فقتله وقيل نزل على رجل من بني سليم من أهل مكة يقال له الحجّاجُ بنُ علاط فنقَبَ بيتَه فسقط عليه حجرٌ فلم يستطِع الدخولَ ولا الخروجَ فأخذ ليقتل فقيل دعه فإنه قد لجأ إليك فتركه وأخرجوه من مكةَ فالتحق بتجارٍ من قضاعةَ نحوَ الشام فنزلوا منزلاً فسرق بعضَ متاعِهم وهرب فأخذوه ورجموه بالحجارة حتى قتلوه وقيل إنه ركب سفينةً إلى جُدّة فسرَق فيها كيساً فيه دنانيرُ فأُخذ وألقيَ في البحر {لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله} أي بما عرّفك وأوحى به إليك {وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ} أي لأجلهم والذبِّ عنهم وهم طُعمةُ ومن يُعينُه من قومه أو هو ومن يسير بسيرته {خَصِيماً} مخاصماً للبرآء أي لاتخاصم اليهودَ لأجلهم والنهيُ معطوفٌ على أمر ينسحب عليه النظمُ الكريمُ كأنه قيل فاحكم به ولا تكن الخ

106

{واستغفر الله} مما هممتَ به تعويلاً على شهادتهم {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} مُبالغاً في المغفرةِ والرحمةِ لمن يستغفره

107

{وَلاَ تجادل عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} أي يخونونها بالمعصية كقوله تعالى عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ جُعلت معصيةُ العُصاةِ خيانةً منهم لأنفسهم كما جُعلت ظلماً لها لرجوع ضررِها إليهم والمرادُ بالموصول إما طعمةٌ وأمثالُه وأما هو ومن عاونه وشهد ببراءته من قومه فإنهم شركاء له في الإثم والخيانةِ {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً} مُفرِطاً في الخيانة مُصِراً عليها {أَثِيماً} منهمكاً فيه وتعليقُ عدمِ المحبةِ الذي هو كنايةٌ عن البغضِ والسُّخطِ بالمبالِغ في الخيانة والإثمِ ليس لتخصيصه به بل لبيان إفراطِ طُعمةَ وقومِه فيهما

108

{يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس} يستترون منهم حياءً وخوفاً من ضررهم {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله} أيْ لا يستحيون منه سبحانه وتعالى وهو أحقُّ بأن يُستحيا منه ويُخافَ من عقابه {وَهُوَ مَعَهُمْ} عالمٌ بهم وبأحوالهم فلا طريق إلى

109 - 110 111 112 النساء الاستخفاء سوى تركِ ما يستقبِحُه ويؤاخِذُ به {إِذْ يُبَيّتُونَ} يدبرون ويزورون {مَا لاَ يَرْضَى مِنَ القول} مِنْ رمى البرئ والحلِفِ الكاذب وشهادةِ الزور {وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ} من الأعمال الظاهرةِ والخافية {مُحِيطاً} لا يعزُب عنه شئ منها ولا يفوت

109

{ها أنتم هؤلاء} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إليهم بطريقِ الالتفاتِ إيذاناً بأنَّ تعديد جنايتهم يوجب مشافهتَهم بالتوبيخ والتقريعِ والجملةُ مبتدأٌ وخبرٌ وقولُه تعالَى {جادلتم عَنْهُمْ فِى الحياة الدنيا} جملةٌ مبيِّنةٌ لوقوع أولاءِ خبراً ويجوز أن يكون أولاءِ اسماً موصولاً بمعنى الذين وجادلتم الخ صلة له والمجادَلةُ أشدُّ المخاصَمَة والمعنى هَبُوا أنكم خاصمتم عن طُعمةَ وأمثالِه في الدنيا {فَمَن يجادل الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة} فمن يخاصم عنهم يومئذ عند تعذيبهم وعقابِهم {أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} حافظاً ومحامياً من بأس الله تعالى وانتقامه

110

{وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً} قبيحاً يسوء به غيره كما فعلَ طُعمة بقتادةَ واليهوديِّ {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بما يختص به كالحلِف الكاذبِ وقيل السوء مادون الشرك والظلم الشركِ وقيل هما الصغيرةُ والكبيرة {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله} بالتوبة الصادقة {يَجِدِ الله غفورا} لذنوبه كائنة ماكانت {رَّحِيماً} متفضّلاً عليه وفيه مزيدُ ترغيبٍ لطعمةَ وقومِه في التوبة والاستغفارِ لما أن مشاهَدةَ التائبِ لآثار المغفرةِ والرحمةِ نعمةٌ زائدةٌ كما مر

111

{وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً} من الآثام {فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ} حيث لا يتعدّى ضررُه ووبالُه إلى غيره فليحترز عن تعريضها للعقاب والعذابِ عاجلاً وآجلاً {وَكَانَ الله عَلِيماً} مُبالغاً في العلم {حَكِيماً} مراعياً للحكمة في كل ما قَدَّر وقضى ولذلك لا يحمل وازِرَةٌ وزرَ أخرى

112

{وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً} صغيرة أو مالا عمْدَ فيه من الذنوب وقرئ ومن يَكِسِّبْ بكسر الكاف وتشديد السين وأصله يكتسب {أَوْ إِثْماً} كبيرةً أو ما كان من عمد {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} أي يقذِفْ به ويُسنده وتوحيد الضمير مع تعدد المرجِعِ لمكان أَوْ وتذكيره لتغليب الإثم على الخطيئة كأنه قيل ثم يرم بأحدهما وقرئ يرمِ بهما وقيل الضمير للكسبِ المدلولِ عليه بقوله تعالى يَكْسِبْ وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ {بَرِيئاً} أي مما رماه به ليُحمِّلَه عقوبتَه العاجلةَ كما فعله طعمةُ بزيدٍ {فَقَدِ احتمل} أي بما فعل من تحميل جريرته على البرئ {بهتانا} وهو الكذِبُ على الغير بما يُبَهتُ منه ويُتَحيَّر عند سَماعِه لفظاعته وهولِه وقيل هو الكذبُ الذي يُتحيَّر في عِظَمه {وَإِثْماً مُّبِيناً} أي بيناً فاحشاً وهو صفة لإثماً وقد اكتُفي في بيان عِظَمِ البهتانِ بالتنكير التفخيميّ

113 - النساء كأنه قيل بهتاناً لا يقادَرُ قدرُه وإثماً مبيناً على أن وصفَ الإثمِ بما ذُكر بمنزلة وصفِ البهتانِ به لأنهما عبارةٌ عن أمر واحد هو رمى البرئ بجناية نفسِه قد عبّر عنه بهما تهويلاً لأمره وتفظيعاً لحاله فمدارُ العِظَم والفخامةِ كونُ المرميِّ به للرامي فإن رمى البرئ بجناية ما خطيئةً كانت أو إثماً بهتانٌ وإثمٌ في نفسه أما كونُه بهتاناً فظاهرٌ وأما كونُه إثماً فلأن كونَ الذنبِ بالنسبة إلى مَنْ فعله خطيئةً لا يلزم منه كونُه بالنسبة إلى مَنْ نسبه الى البرئ منه أيضاً كذلك بل لا يجوزُ ذلك قطعاً كيف لا وهو كذِبٌ محرَّمٌ في جميع الأديانِ فهو في نفسه بهتانٌ وإثمٌ لا محالةَ وبكون تلك الجنايةِ للرامي يتضاعفُ ذلك شدةً ويزداد قُبحاً لكنْ لا لانضمام جنايتِه المكسوبة الى رمى البرئ وإلا لكان الرميُ بغير جناية مثله في العظم ولا لمجرد اشتماله على تبرئة نفسه الخاطئة وإلا لكان الرميُ بغير جنايةٍ مع تبرئةِ نفسِه كذلك في العِظَم بل لاشتماله على قصد تحميلِ جنايته على البرئ وإجراءِ عقوبتِها عليه كما ينبئ عنه إيثارُ الاحتمالِ على الاكتساب ونحوِه لما فيه من الإيذان بانعكاس تقديرِه على ما فيه من الإشعار بثِقَل الوِزرِ وصعوبةِ الأمرِ نعم بما ذُكر من انضمام كسبِه وتبرئةِ نفسه الى رمى البرئ تزداد الجنايةُ قبحاً لكنّ تلك الزيادةَ وصفٌ للمجموع لا للإثم

113

{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} بإعلامك ما هم عليه بالوحي وتنبيهِك على الحق وقيل بالنبوة والعِصمة {لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ} أي منْ بني ظفَر وهم الذابّون عن طُعمةَ وقد جوز أن يكون المراد بالطائفة كلَّهم ويكونُ الضميرُ راجعاً إلى الناس وقيل هم وفدُ بني ثقيفٍ قدِموا على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم وقالوا جئناك لنبايعَك على أن لا تكسِرَ أصنامَنا ولا تعشِّرَنا فردّهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم {أَن يُضِلُّوكَ} أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق مع علمهم بكُنه الأمرِ والجملةُ جوابُ لولا وإنما نفى همَّهم مع أن المنفيَّ إنما هو تأثيرُه فقط إيذاناً بانتفاء تأثيرِه بالكلية وقيل المراد هو الهمُّ المؤثّر ولا ريب في انتفائه حقيقةً وقيل الجوابُ محذوفٌ أي لأضلوك وقوله تعالى لَهَمَّتْ جملةٌ مستأنفةٌ أي لقد همت طائفة الخ {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ} لاقتصار وبالِ مكرِهم عليهم من غير أن يصيبك منهم شئ والجملةُ اعتراضٌ وقولُه تعالى {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء} عطفٌ عليه ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على المصدرية أي وما يضرونك شيئاً من الضرر لما أنه تعالى عاصمُك وأما ما خطرَ ببالك فكان عملاً منك بظاهر الحالِ ثقةً بأقوال القائلين من غير أن يخطُر ببالك أن الحقيقةَ على خلاف ذلك {وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة} أي القرآنَ الجامعَ بين العنوانين وقيل المرادُ بالحكمة السنة {وَعَلَّمَكَ} بالوحي من خفيّات الأمورِ التي من جملتها وجوهُ إبطالِ كيدِ المنافقين أو من أمور الدين وأحكامِ الشرع {مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} ذلك إلى وقت التعليم {وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} إذ لا فضلَ أعظمُ من النبوة العامةِ ووالرياسة التامّة

114 - 115

114

{لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ} أي في كثير من تناجي الناسِ {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ} أي إلا في نجوى مَنْ أمرَ {بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} وقيل المرادُ بالنجوى المتناجون بطريق المجازِ وقيل النجوى جمع نجى نقله الكرماني وأيَّاً ما كان فالاستثناءُ متصلٌ ويجوز الانقطاعُ أيضاً على معنى لكنْ مَنْ أمر بصدقة الخ ففي نجواه الخير والمعروفُ كلُّ ما يستحسنه الشرعُ ولا يُنكره العقلُ فينتظم أصنافَ الجميلِ وفنونَ أعمالِ البِرِّ وقد فُسِّر ههنا بالقرض وإعاثة الملهوف وصدقةِ التطوعِ على أن المراد بالصدقة الواجبة {أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس} عندوقوع المشاقة والمعاداة بينهم من غير أن يجاوزَ في ذلك حدودَ الشرعِ الشريفِ وبين إما متعلقٌ بنفس إصلاحٍ يقال أصلحتُ بين القوم أو بمحذوف هو صفةٌ له أي كائنٍ بين الناسِ عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له ألا أدلك على صدقةٍ خيرٍ لك من حمر النعم فقال بلى يا رسولَ الله قالَ تُصلح بين الناسِ إذا تفاسدوا وتُقرِّب بينهم إذا تباعدوا قالوا ولعل السرَّ في إفراد هذه الأقسامِ الثلاثةِ بالذكر أن عملَ الخيرِ المتعدِّي إلى الناس إما لإيصال المنفعةِ أو لدفع المضرَّةِ والمنفعةُ إما جُسمانية كإعطاء المالِ واليه الإشارة إلى قولِه تعالى إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بصدفة وإما روحانيةٌ وإليه الإشارةُ بالأمر بالمعروف وأما دفعُ الضرر فقد أشير إليه بقوله تعالى أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} إشارةٌ إلى الأمور المذكورةِ أعني الصدقةَ والمعروفَ والأصلاح فإنه يشاربه إلى متعدد وما فيه من معنى البعد مع قُرب العهدِ بها للإيذان ببُعد منزلتِها ورفعةِ شأنِها وترتيبُ الوعدِ على فعلها إثرَ بيانِ خيريةِ الأمرِ بها لما أن المقصودَ الأصليَّ هو الترغيبُ في الفعل وبيانُ خيريةِ الأمرِ به للدِلالة على خيريته بالطريق الأولى لما أن مدارَ حُسنِ الأمرِ وقُبحِه حسنُ المأمورِ به وقبحُه فحيث ثبت خيريةُ الأمرِ بالأمور المذكورةِ فخيريةُ فعلِها أثبتُ وفيه تحريضٌ للأمر بها على فعلها أو إشارةٌ إلى الأمر بها كأنه قيل ومن يأمْر بها والكلامُ في ترتيب الوعدِ على فعلها كالذي مر في الخيرية فإن استتباع الأمر بها للأجر العظيمِ إنما هو لكونه ذريعة إلى فعلها فاستتباعُه له أولى وأحقُّ {ابتغاء مَرْضَاتَ الله} علةٌ للفعل والتقييدُ به لأن الأعمالَ بالنيات وأن من فعل خيراً لغير ذلك لم يستحِقَّ به غيرَ الحِرْمان {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ} بنون العظمةِ على الالتفات وقرئ بالياء {أَجْراً عَظِيماً} يقصُر عنه الوصفُ

115

{وَمَن يُشَاقِقِ الرسول} التعرُّض لعنوان الرسالةِ لإظهارِ كمالِ شناعةِ ما اجترءوا عليه من المُشاقة والمخالفةِ وتعليلِ الحُكمِ الآتي بذلك {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى} ظهر له الحق بالوقوف على المعجزات الدالة على نبوته {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} أي غيرَ ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل وهو الدين القيم {نُوَلّهِ مَا تولى}

أي نجعله والياً لِمَا تولاه من الضلال ونخذُله بأن نُخلِّيَ بينه وبين ما اختاره {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} أي ندخله إياها وقرئ بفتح النون من صَلاه {وَسَاءتْ مَصِيراً} أي جهنمُ وفيها دِلالةٌ على حجية الإجماعِ وحُرمةِ مخالفتِه

116

{إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} قد مر تفسيرُه فيما سبق وهو تكريرٌ للتأكيد والتشديد أو لقصة طُعمةَ وقد مرّ موتُه كافراً ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما أن شيخاً من العرب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني شيخٌ منهمِكٌ في الذنوب إلا أني لم أشرِكْ بالله شيئاً منذ عرفتُه وآمنتُ به ولم أتخذ من دونه ولياً ولم أواقع المعاصيَ جراءةً على الله تعالى وما توهّمتُ طرفةَ عينٍ أني أُعجِزُ الله هرباً وإني لنادم تائبٌ مستغفرٌ فما ترى حالي عند الله تعالى فنزلت {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بعيدا} عن الحق فإن الشركَ أعظمُ أنواعِ الضلالةِ وأبعدُها عن الصواب والاستقامةِ كما أنه افتراءٌ وإثمٌ عظيمٌ ولذلك جُعل الجزاءُ في هذه الشرطيةِ فقد ضل الخ وفيما سبق فقد افترى إثماً عظيما حسبما يقتضيهِ سياقُ النظمِ الكريمِ وسياقُه

117

{إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} أي ما يعبدون من دونه عز وجل {إِلاَّ إناثا} يعني اللاتَ والعُزَّى ومناةَ ونحوَها عن الحسن أنه لم يكن من أحياء العربِ حيٌّ إلا كان لهم صنمٌ يعبُدونه يسمُّونه أنثى بني فلان قيل لأنهم كانوا يقولون في أصنامهم هن بناتُ الله وقيل لأنهم كانوا يُلْبِسونها أنواعَ الحَلْي ويزينونها على هيآت النِّسوانِ وقيل المرادُ الملائكةُ لقولهم الملائكةُ بناتُ الله وقيل تسميتُها إناثاً لتأنيث أسمائِها أو لأنها في الأصل جمادٌ والجماداتُ تؤنَّثُ من حيث أنها ضاهت الإناثَ لانفعالها وإيرادُها بهذا الاسم للتنبيه على فرط حماقةِ عَبَدتِها وتناهي جهلِهم والإناثُ جمع أنثى كرِباب وربى وقرئ على التوحيد وأُنُثاً أيضاً على أنه جمع أنيث كقليب وقلُب أو جمع إناث كثمار وثمر وقرئ وثنا واثنا بالتخفيف والتثقيل جمع وثن كقولك أسد وأسد وآسد على الأصل وقلبِ الواو ألفاً نحو أُجوه في وجوه {وَإِن يَدْعُونَ} وما يعبدون بعبادتها {إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً} إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها فكانت طاعتُهم له عبادةً والمَريد والمارد هو الذى لا يعلق بخير وأصلُ التركيبِ للملاسة ومنه صرحٌ مُمرّد وشجرةٌ مرداءُ للتي تناثر ورقُها

118

{لَّعَنَهُ الله} صفةٌ ثانيةٌ لشيطاناً {وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} عطفٌ على الجملة المتقدمةِ أي شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنةِ الله وهذا القولِ الشنيعِ الصادرِ عنه عند اللعنِ ولقد برهن على أن عبادةَ الأصنام غايةُ الضلال بطريق التعليلِ بأن ما يعبدونها ينفعل ولا

119 - 120 121 النساء يفعل فعلاً اختيارياً وذلك ينافي الألوهيةَ غايةَ المنافاةِ ثم استُدل عليه بأن ذلك عبادةٌ للشيطان وهو أفظعُ الضلالِ من وجوه ثلاثةٍ الأولُ أنه منهمكٌ في الغي لا يكاد يعلق بشئ من الخير والهدى فتكون طاعتُه ضلالاً بعيداً عن الحق والثاني أنه ملعونٌ لضلاله فلا تستتبعُ مطاوعتُه سوى اللعنِ والضلالِ والثالثُ أنه في غاية السعي في إهلاكهم وإضلالِهم فموالاةُ مَنْ هذا شأنُه غايةُ الضلالِ فضلاً عن عبادته والمفروضُ المقطوعُ أي نصيباً قُدّر لي وفُرض من قولِهم فرَضَ له في العطاء

119

{وَلاَضِلَّنَّهُمْ وَلامَنّيَنَّهُمْ} الأمانيَّ الباطلةَ كطول الحياة وأن لا بعْثَ ولا عقابَ ونحوَ ذلك {ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام} أي فلَيقْطَعُنَّها بموجب أمري ويشُقُّنّها من غير تلعثم في ذلك ولا تأخير وذلك ما كانت العرب تفعله فيه بالبحائر والسوائب {وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ} ممتثلين به {خَلَقَ الله} عن نهجه صورةً أو صفةً وينتظم فيه ما قيل من فقءِ عين الحامي وخِصاءِ العبيدِ والوشمِ والوشْرِ ونحوِ ذلك وعمومُ اللفظِ يمنع الخِصاءَ مطلقاً لكن الفقهاء رخّصوا في البهائم لمكان الحاجةِ وهذه الجملُ المحكيةُ عن اللعين مما نطق به لسانُه مقالاً أو حالاً وما فيها من اللامات كلَّها للقَسَم والمأمورُ به في الموضعين محذوفٌ ثقةً بدلالة النظمِ عليه {وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مّن دُونِ الله} بإيثار ما يدعوا إليه على ما أمر الله تعالى به ومجاوزتِه عن طاعةِ الله تعالَى إلى طاعته {فَقَدْ خَسِرَ خسرانا مبينا} لأنه ضيَّع رأسَ مالِه بالكلية واستبدل بمكانه من الجنة مكانَه من النار

120

{يعدهم} أى مالا يكاد يُنجِزُه {وَيُمَنّيهِمْ} أي الأمانيَّ الفارغةَ أو يفعل لهم الوعدَ والتمنيةَ على طريقة فلان يُعطي ويمنَعُ والضميران لمَنْ والجمعُ باعتبارِ معناهَا كما أن الإفراد في يتخذ وخسر باعتبار لفظها {وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} وهو إظهارُ النفعِ فيما فيه الضررُ وهذا الوعدُ إما بإلقاء الخواطرِ الفاسدةِ أو بألسنة أوليائِه وغروراً إما مفعولٌ ثانٍ للوعد أو مفعولٌ لأجله أونعت لمصدر محذوفٍ أي وعداً ذا غرورٍ أو مصدرٌ على غير لفظِ المصدرِ لأنّ يَعِدُهُمْ في قوة يغرّهم بوعده والجملةُ اعتراضٌ وعدمُ التعرّضِ للتمنية لأنها بابٌ من الوعد

121

{أولئك} إشارةٌ إلى أولياء الشيطان وما فيه من معنى البُعد للإشعارِ ببُعد منزلتِهم في الخُسران وهو مبتدأٌ وقولُه تعالى {مَأْوَاهُمْ} مبتدأٌ ثانٍ وقولُه تعالَى {جَهَنَّمُ} خبرٌ للثانِي والجملةُ خبرٌ للأولِ {وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} أي معدِلاً ومهرَباً من حاص الحمارُ إذا عدَل وقيل خلَص ونجا وقيل الحَيْصُ هو الروغان بنفور وعنها متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من محيصاً أي كائناً عنها ولا مَساغَ لتعلُّقه بمحيصاً أما إذا كان اسمَ مكانٍ فظاهرٌ وأما إذا كان مصدراً فلأنه لا يعملُ فيما قبلَهُ

122 - 123 النساء

122

{والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات} مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى {سندخلهم جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً} قرَن وعيدَ الكفرةِ بوعد المؤمنين زيادةً لمَسرَّة هؤلاءِ ومَساءةِ أولئك {وَعْدَ الله حَقّا} أي وعَده وعداً وحقَّ ذلك حقاً فالأولُ مؤكدٌ لنفسه لأن مضمونَ الجملةِ الاسميةِ وعدٌ والثاني مؤكدٌ لغيره ويجوز أن ينتصِبَ الموصولُ بمضمر يفسِّره ما بعده وينتصب وَعَدَ الله بقوله تعالى سَنُدْخِلُهُمْ لأنه في معنى نعِدُهم إدخالَ جناتٍ الخ وحقاً على أنه حال من المصدر {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} جملةٌ مؤكدةٌ بليغةٌ والمقصودُ من الآية معارضَةُ مواعيدِ الشيطانِ الكاذبةِ لقرنائه بوعد الله الصادقِ لأوليائه والمبالغةُ في تأكيده ترغيباً للعباد في تحصيله والقيلُ مصدرٌ كالقول والقال وقال ابنُ السِّكِّيتِ القيلُ والقالُ اسمانِ لا مصدرانِ ونصبُه على التمييز وقرئ بإشمام الصادِ وكذا كلُّ صادٍ ساكنةٍ بعدها دالٌ

123

{لَّيْسَ بأمانيكم وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ الكتاب} أي ليس ما وعد الله تعالى من الثواب يحصُل بأمانيكم إيها المسلمون ولا بأمانيِّ أهلِ الكتابِ وإنما يحصُل بالإيمان والعملِ الصالحِ ولعل نظمَ أمانيِّ أهلِ الكتابِ في سلك أمانيِّ المسلمين مع ظهور حالِها للإيذان بعدم إجداءِ أمانيِّ المسلمين أصلاً كما في قوله تعالى وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ كما سلف وعن الحسن ليس الإيمانُ بالتمنِّي ولكنْ ما وقر في القلب وصدّقه العملُ إن قوماً ألهتْهم أمانيُّ المغفرةِ حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنةَ لهم وقالوا نُحسِنُ الظنَّ بالله وكذَبوا لو أحسنوا الظنَّ به لأحسنوا العملَ وقيل إن المسلمين وأهلَ الكتاب افتخروا فقال أهلُ الكتاب نبيُّنا قبل نبيِّكم وكتابُنا قبل كتابِكم فنحن أولى بالله تعالى منكم فقال المسلمون نحنُ أولى منكم نبيُّنا خاتمُ النبيين وكتابُنا يقضي على الكتب المتقدمةِ فنزلت وقيل الخطابُ للمشركين ويؤيده تقدّمُ ذكرِهم أي ليس الأمرُ بأمانيِّ المشركين وهو قولُهم لا جَنةَ ولا نارَ وقولُهم إنْ كانَ الأمرُ كَما يزعُم هؤلاء لنكونَنّ خيراً منهم وأحسنَ حالاً وقولُهم لأوتين مالاً وولداً ولا أمانيِّ أهلِ الكتاب وهو قولُهم لنْ يدخلَ الجنةَ إلاَّ من كان هودا أو نصارى وقولُهم لَن تَمَسَّنَا النار إلا أياما معدودة ثم قرر ذلك بقوله تعالى {مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} عاجلاً أو آجلاً لما رُوي أَنَّهُ لمَّا نزلتْ قال أبُو بكرٍ رضيَ الله تعالى عنه فمن ينجو مع هذا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تحزنُ أو تمرَضُ أو يصيبُك البلاء قال بلى يا رسولَ الله قالَ هو ذاك {وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله} أي مجاوزاً لموالاة الله ونُصرتِه {وَلِيّاً} يواليه {وَلاَ نَصِيراً} ينصُره في دفع العذاب عنه

124 - 125 النساء

124

{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} أي بعضَها أو شيئاً منها فإن كلَّ أحدٍ لا يتمكن من كلها وليس مكلَّفاً بها {من ذَكَرٍ أَوْ أنثى} في موضع الحالِ من المستكنِّ في يَعْمَلُ ومن للبيان أو من الصالحات فمن للابتداء أي كائنةً من ذكر الخ {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} حالٌ شرَط اقترانَ العملِ بها في استدعاء الثوابِ المذكورِ تنبيهاً على أنه لا اعتدادَ به دونه {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ بعنوان اتصافِه بالإيمان والعملِ الصالحِ والجمعُ باعتبار معناها كما أنَّ الإفرادَ فيما سبقَ باعتبار لفظِها وما فيهِ من معنى البعدِ لما مرَّ غيرَ مرَّةٍ من الإشعار بعلوِّ رُتبةِ المُشَارِ إليهِ وبُعد منزلتِه في الشَّرفِ {يَدْخُلُونَ الجنة} وقرئ يُدخَلون مبنياً للمفعول من الإدخال {وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} لا يُنقصون شيئاً حقيراً من ثواب أعمالِهم فإن النقيرَ عَلَم في القلة والحَقارةِ وإذا لم يُنقص ثوابُ المطيعِ فلأَنْ لا يزادَ عقابُ العاصي أولى وأحرى كيف لا والمجازي أرحمُ الراحمين وهو السرُّ في الاقتصار على ذكره عَقيبَ الثواب

125

{وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أسلم وجهه لله} أي أخلص نفسَه له تعالى لا يعرِف له رباً سواه وقيل بذل وجهَه له في السجود وقيل أخلص عمله له عز وجل وقيل فوّض أمرَه إليه تعالى وهذا إنكارٌ واستبعادٌ لأن يكون أحدٌ أحسنَ ديناً ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإن لم يكن سبكُ التركيب متعرضاً لإنكار المساواة ونفيها يُرشِدُك إليه العُرفُ المطّردُ والاستعمالُ الفاشي فإنه إذا قيل مَنْ أكرم من فلان أولا أفضلَ من فلان فالمرادُ به حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضل من كل فاضلٍ وعليه مساقُ قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى ونظائرِه وديناً نُصب على التمييز من أحسنُ منقولٌ من المبتدأ والتقديرُ ومن دينُه أحسنُ من دين مَنْ أسلم الخ فالتفضيلُ في الحقيقة جارٍ بين الدينين لا بين صاحبيهما ففيه تنبيهٌ على أن ذلك أقصى ما تنتهي إليه القوةُ البشرية {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي آتٍ بالحسنات تاركٌ للسيئات أو آتٍ بالأعمال الصالحة على الوجه اللائقِ الذي هو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتي وقد فسره صلى الله عليه وسلم بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّه يراكَ والجملة حال من فاعل أسلم {واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم} الموافقةُ لدين الإسلامِ المتّفق عل صحتها وقبولِها {حَنِيفاً} مائلاً عن الأديان الزائغةِ وهو حالٌ من فاعلِ اتبع أو من إبراهيم {واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً} اصطفاه وخصَّه بكرامات تُشبه كراماتِ الخليلِ عند خليله واظهاره صلى الله عليه وسلم في مواقع الإضمار لتفخيم شأنِه والتنصيصِ على أنه الممدوحُ وتأكيدِ استقلالِ الجملةِ الاعتراضية والخُلّةُ من الخِلال فإنه ودٌّ تخلَّل النفسَ وخالطَها وقيل من الخَلَل فإن كلَّ واحدٍ من الخليلين يسد خلَلَ الآخَر أو من الخل وهو الطريقُ في الرمل فإنهما يتوافقان في الطريقة أو من الخَلّة

126 - 127 النساء بمعنى الخَصْلة فإنهما يتوافقان في الخِصال وفائدةُ الاعتراضِ جملة من جملتها الترغيبُ في اتباع ملتِه عليه السلام فإن من بلغ من الزُّلفى عند الله تعالى مَبْلغاً مصحِّحاً لتسميته خليلاً حقيقٌ بأن يكون اتباعُ طريقته أهم مايمتد إليه أعناقُ الهِمم وأشرفَ ما يَرمُق نحوه أحداقُ الأمم قيلَ إنَّه عليه الصلاةُ والسلام بَعث إلى خليل له بمصرَ في أزمة أصابت الناسَ يمتارُ منه فقال خليلُه لو كان إبراهيمُ يطلب المِيرةَ لنفسه لفعلت ولكنه يُريدها للأضياف وقد أصابنا ما أصاب الناسَ من الشدة فرجَع غِلمانُه عليه الصلاة والسلام فاجتازوا ببطحاء لينة فملئوا منها الغرائرَ حياءً من الناس وجاؤا بها إلى منزل إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وألقَوْها فيه وتفرّقوا وجاء أحدُهم فأخبر إبراهيمَ بالقصة فاغتم لذلك غماً شديداً لاسيما لاجتماع الناسِ ببابه رجاءَ الطعام فغلبه عيناه وعمَدت سارةُ إلى الغرائر فإذا فيها أجودُ ما يكون من الحُوَّارَى فاختبزت وفي رواية فأطعمت الناس وانتبه إبراهيم عليه السلام فاشتم رائحةَ الخبزِ فقال من أين لكم قالت سارة من خليلك المِصريِّ فقال بل من عند خليلى الله عز وجل فسماه الله تعالى خليلاً

126

{ولله ما في السماوات وَمَا فِي الارض} جملةٌ مبتدأةٌ سيقت لتقريرٍ وجوبِ طاعة الله تعالى على أهل السموات والأرض ببين أن جميعَ ما فيهما من الموجوداتِ له تعالى خَلْقاً وملكا لايخرج عن ملكوته شئ منها فيجازي كلاًّ بموجب أعماله خيرا وشرا وقيل لبيان أن اتخاذَه عز وجل لإبراهيمَ عليه السلام خليلاً ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك في شأنٍ من شئونه كما هو دأبُ الآدميين فإن مدار خُلَّتِهم افتقارُ بعضِهم إلى بعض في مصالحهم بل لمجرد تكرمتِه وتشريفِه عليه السلام وقيل لبيان أن الخُلة لا تخرجه عن رتبة العبوديةِ وقيل لبيان أن اصطفاءَه عليه السلام للخُلّة بمحض مشيئته تعالى أى تعالى ما فيهما جميعاً يختار منهما ما يشاء وقوله عز وجل {وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء مُّحِيطاً} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ماقبله على الوجوه المذكورةِ فإن إحاطتَه تعالى علماً وقُدرةً بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جملتها ما فيهما من المكلفين وأعمالِهم مما يقرِّرُ ذلك أكملَ تقرير

127

{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء} أي في حقهن على الإطلاق كما ينبئ عنه الأحكامُ الآتية لا في حق ميراثِهن خاصة فإنه صلى الله عليه وسلم قد سُئل عن أحوال كثيرةٍ مما يتعلق بهن فما بُيِّن حكمُه فيما سلف أحيل بيانُه على ماورد في ذلك من الكتاب ومالم يبين حكمه بعد ههنا وذلك قوله تعالى {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عليكم فى الكتاب} بإسناد الإفتاءِ الذي هو تبيين المُبهم وتوضيحُ المُشكلِ إليه تعالى وإلى ما تُليَ من الكتاب فيما سبق باعتبارين على طريقة قولِك أغناني زيدٌ وعطاؤُه بعطف مَا على المبتدأ أو ضميرِه في الخبر لمكان الفصلِ بالمفعول والجارِّ

والمجرور وإيثارُ صيغة المضارعِ للإيذان باستمرار التلاوةِ ودوامِها فِى الكتاب إما متعلقٌ بيُتلى أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المستكنّ فيه أي يتلى كائناً فيه ويجوز أن يكون ما يتلى عليكم مبتدأً وفي الكتاب خبرُه على أن المرادَ به اللوحُ المحفوظُ والجملةُ معترضةٌ مسوقةٌ لبيان عِظَمِ شأن المتلوِّ عليهم وأن العدلَ في الحقوق المبينة فيه من عظائم الأمورِ التى تجب مراعاتها والمحافظة عليها فما يتلى حينئذ متناولٌ لما تُليَ وما سيتلى ويجوز أن يكون مجروراً على القسم المنبئ عن تعظيم المقسَم به وتفخيمِه كأنه قيل قل الله يُفتيكم فيهن وأُقسِم بما يتلى عليكم في الكتاب فالمرادُ بقوله تعالى يُفْتِيكُمْ بيانُه السابقُ واللاحقُ ولا مساغَ لعطفه على المجرور من فيهن لاختلاله لفظاً ومعنى وقولُه تعالى {فِى يتامى النساء} على الوجه الأولِ وهو الأظهرُ متعلقٌ بيتلى أي ما يتلى عليكم في شأنهن وعلى الأخيرين بدلٌ من فيهن وهذه الإضافةُ بمعنى من لأنها إضافة الشئ إلى جنسه وقرئ ييامى على قلب همزةِ أيامى ياءً {اللاتى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} أي ما فُرض لهن من الميراث وغيره {وَتَرْغَبُونَ} عطفٌ على الصلة عطفَ جملةٍ مُثبتةٍ على جملة منفية وقيل حال من فاعل تؤتونهن بتأويل وأنتم ترغبون ولاريب في أنه لا يظهر لتقييدِ عدمِ الإيتاءِ بذلك فائدةٌ إلا إذا أريد بما كُتب لهن صَداقُهن {أَن تَنكِحُوهُنَّ} أي في ان تنكحوهن لالأجل التمتعِ بهن بل لأكل ما لهن أوفي أن تنكحوهن بغير إكمالِ الصَّداقِ وذلك ما رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ رضيَ الله تعالى عنها من أنها اليتيمةُ تكون في حجر وليها هو وليِّها فيرغب في مالها وجمالِها ويريد أن ينكِحَها بأدنى من سُنة نسائِها فنُهوا أن ينكِحوهن إلا أن يُقسِطوا لهن في إكمال الصَّداقِ أو عن أن تنكحوهن وذلك ماروى عنها رضيَ الله عنْهَا أنَّها يتيمةٌ يرغب وليُّها عن نكاحها ولا يُنكِحُها فيعضُلها طمعاً في ميراثها وفي رواية عنها رضى الله عنه هو الرجلُ يكون عنده يتيمة ووارثُها وشريكُها في المال حتى في العِذْق فيرغب أن ينكِحَها ويكره أن يزوِّجَها رجلاً فيَشرُكَه في ماله بما شرَكَتْه فيعضُلها فالمرادُ بما كُتب لهن على الوجه الأولِ والأخير ميراثُهن وبما يتلى في حقهن قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم وقولُه تعالى وَلاَ تَأْكُلُوهَا ونحوُهما من النصوص الدالةِ على عدم التعرّضِ لأموالهم وعلى الوجه الثاني صَداقُهن وبما يتلى فيهن قولهِ تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى اليتامى الآية {والمستضعفين مِنَ الولدان} عطفٌ على يتامى النساءِ وما يتلى في حقهم قولُه تعالى يُوصِيكُمُ الله الخ وقد كانوا في الجاهلية لا يورِّثونهم كما لا يورِّثون النساءَ وإنما يورِّثون الرجالَ القوام بالأمور رُوي أن عيينةَ بنَ حصنٍ الفزاريَّ جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أُخبرنا بأنك تعطي الابنةَ النصفَ والأختَ النصفَ وإنما كنا نورِّث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة فقال صلى الله عليه وسلم كذلك أُمِرْتُ {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} بالجر عطفٌ على ما قبله وما يتلى في حقهم قولُه تعالى وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم ونحوُ ذلك مما لا يكاد يحصر هذا على تقديرِ كونِ فِى يتامى النساء متعلقاً بيتلى وأما على تقدير كونِه بدلاً من فيهن فالوجهُ نصبُه عطفاً على موضع فِيهِنَّ أي يفتيكم أن تقوموا ويجوز نصبُه بإضمار فعلٍ أي ويأمركم وهو خطابٌ للولاة أو للأولياء والأوصياءِ {وَمَا تَفْعَلُواْ} في حقوق المذكورين {مّنْ خَيْرٍ} حسبما أُمرتم به أو ما تفعلوه من خير على الإطلاق فيندرجُ فيه ما يتعلق بهم اندراجاً أولياً {فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً} فيجازيكم بحسبه

128 - النساء

128

{وَإِنِ امرأة خافت} شروعٌ في بيان ما لم يُبيَّن فيما سلف من الأحكام أي إن توقعت امرأةٌ {مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً} أي تجافياً عنها وترفّعاً عن صحبتها كراهةً لها ومنعاً لحقوقها {أَوْ إِعْرَاضاً} بأن يُقِلَّ محادثَتَها ومؤانستَها لما يقتضي ذلك من الدواعي والأسباب {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} حينئذ {أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً} أي في أن يصلحا بينهما بأن تحط له المَهرَ أو بعضَه أو القَسْمَ كما فعلت سَودةُ بنتُ زَمعةٍ حين كرِهت أن يفارِقَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فوهبت يومها لعائشة رضيَ الله عْنُها أو بأن تهَبَ له شيئا تستميله وقرئ يَصّالحا من يتصالحا ويصَّلِحا من يصطلحا ويُصالِحا من المفاعلة وصُلحاً إما منصوبٌ بالفعل المذكورِ على كل تقديرٍ على أنه مصدرٌ منه بحذف الزوائدِ وقد يُعبّر عنه باسم المصدرِ كأنه قيل إصلاحاً أو تصلحا أو إصطلاحا حسبما قرئ الفعل أو بفعل مترتبٍ على المذكور أي فيُصلِح حالَهما صلحاً وبينهما ظرفٌ للفعل أو حال من صُلحاً والتعرُّضُ لنفي الجُناحِ عنهما مع أنه ليسَ من جانبها الأخذُ الذي هو المَظِنَّةُ للجُناح لبيان أن هذا الصلحَ ليس من قبيل الرَّشوةِ المحرمة للمعطي والآخذ {والصلح خَيْرٌ} أي من الفُرقة أو من سوء العِشرةِ أو من الخصومة فاللامُ للعهد أو هو خيرٌ من الخيور فاللامُ للجنس والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما فبله وكذا قوله تعالى {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} أي جعلت حاضرةً له مطبوعةً عليه لا تنفك عنه أبداً فلا المرأةُ تسمح بحقوقها من الرجل ولا الرجلُ يجود بحسن المعاشرةِ مع دمامتها فإن فيه تحقيقاً للصلح وتقريراً له بحثِّ كلَ منهما عليه لكنْ لا بالنظر إلى حال نفسِه فإن ذلك يستدعي التمادي في المماكسة والشقاقِ بل بالنظر إلى حال صاحبِه فإن شحَّ نفسِ الرجلِ وعدمَ ميلِها عن حالتها الجِبِلِّية بغير استمالةٍ مما يحمِل المرأةَ على بذل بعض حقوقِها إليه لاستمالته وكذا شحُّ نفسِها بحقوقها مما يحمل الرجلَ على أن يقتنع من قِبَلها بشيء يسير ولا يُكلّفَها بذلَ الكثيرِ فيتحقق بذلك الصلح {وَإِن تُحْسِنُواْ} في العِشرة {وَتَتَّقُواْ} النشوز والإعراض وإن تعاضدت الأسبابِ الداعيةِ إليهما وتصبِروا على ذلك مراعاةً لحقوق الصُّحبةِ ولم تَضْطَرُّوهن إلى بذل شئ من حقوقهن {فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي من الإحسان والتقوى أو بما تعملون جميعاً فيدخُل ذلك فيه دخولاً أولياً {خبيرا} فيجازيكم ويثيبكم على ذلك البتةَ لاستحالة أن يُضيِّعَ أجرَ المحسنين وفي خطاب الأزواجِ بطريق الالتفاتِ والتعبيرِ عن رعاية حقوقِهن بالإحسان ولفظِ التقوى المنبئ عن كون النشوزِ والإعراض مما يُتوقى منه وترتيبِ الوعدِ الكريمِ عليه من لطف الاستمالةِ والترغيب في حسن المعاملة مالا يخفى رُوِيَ أنَّها نزلتْ في عَمرةَ بنتِ محمدِ بنِ مَسلمةَ وزوجِها سعدِ بنِ الربيع تزوّجها وهي شابةٌ فلما علاها الكِبَرُ تزوج شابةً وآثرها عليها وجفاها فأتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وشكت إليه ذلك وقيل نزلتْ في أبي السائب كانت له امرأةٌ قد كبِرَت وله منها أولادٌ فأراد أن يطلقَها ويتزوجَ غيرَها فقالت لا تُطلِّقَني ودعني على أولادي فاقسِمْ لي من كل شهرين إن شئت وإن شئت فلا تقسِمْ لي فقال إن كان

129 - 130 131 النساء يصلُح ذلك فهو أحبُّ إلي فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فنزلت

129

{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء} أي مُحال أن تقدورا على أن تعدِلوا بينهن بحيث لا يقع ميلٌ ما إلى جانب إحداهن في شأن من الشئون البتةَ وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقسِمُ بين نسائِه فيعدِلُ ثم يقول اللهم هذا قَسْمي فيما أملِك فلا تؤاخِذْني فيما تملِكُ ولا أملِكُ وفي رواية وأنت أعلم بما لاأملك يعني فرطَ محبتِه لعائشة رضى الله عنها {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} أي على إقامة العدلِ وبالغتم في ذلك {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} أي فلا تجوروا على المرغوب عنها كلَّ الجَوْرِ واعدِلوا ما استطعتم فإن عجْزَكم عن حقيقة العدلِ إنما يصحح عدمَ تكليفِكم بها لا بما دونها من المراتب الداخلةِ تحت استطاعتِكم {فَتَذَرُوهَا} أي التي مِلْتم عنها {كالمعلقة} التي ليست ذاتَ بعلٍ أو مطلقة وقرئ كالمسجونة وفي الحديث مَنْ كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحدُ شِقَّيه مائلٌ {وَإِن تُصْلِحُواْ} ما كنتم تُفسِدون من أمورهن {وَتَتَّقُواْ} الميلَ فيما يستقبل {فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً} يغفرُ لكم ما فرَط منكُم من الميل {رَّحِيماً} يتفضل عليكم برحمته

130

{وإن يتفرقا} وقرئ يتفارقا أي وإن يفارقْ كلٌّ منهما صاحبَه بأن لم يتفِقْ بينهما وِفاقٌ بوجه ما من الصلح وغيرِه {يُغْنِ الله كُلاًّ} منهما أي يجعلْه مستغنياً عن الآخر ويكفيه مُهمّاتِه {مّن سَعَتِهِ} من غناه وقُدرته وفيه زجرٌ لهما عن المفارقة رُغماً لصاحبه {وَكَانَ الله واسعا حَكِيماً} مقتدراً متْقِناً في أفعاله وأحكامِه وقولُه تعالى

131

{ولله ما في السماوات وَمَا فِي الأرض} أي من الموجوداتِ كائناً ما كانَ منْ الخلائق وأرزاقُهم وغيرُ ذلك جملةٌ مستأنفةٌ منبّهةٌ على كمال سعتِه وعِظَم قدرتِه {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب من قَبْلِكُمْ} أي أمرناهم في كتابهم وهم اليهودُ والنصارى ومَنْ قبلهم من الأمم واللامُ في الكتاب للجنس ومن متعلقة بوصّينا أو بأوتوا {وإياكم} عطف على الموصول {أَنِ اتقوا الله} أي وصينا كلا منكم بأن اتقوا الله على أنَّ أنْ مصدريةٌ حذف عنها الجارُّ ويجوز أن تكون مفسِّرةً لأن التوصيةَ في معنى القولِ فقوله تعالى {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ ما في السماوات وَمَا فِي الارض} حينئذ من تتمة القولِ المحكيِّ أي ولقد قلنا لهم ولكم اتقوا الله وإن تكفروا إلى آخر الآية وعلى تقدير كونِ أنْ مصدرية مبني الكلام إرادة القول أي أمرناهم وإياكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم إن تكفروا الآية وقيل هي جملةٌ مستأنفةٌ خوطب بها هذه الأمة وأيما ما كان فالمترتبُ على كفرهم ليس مضمونَ قولِه تعالى فإن لله الآية بل هو الأمرُ بعلمه كأنه قيل وإن تكفروا فاعلَموا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السموات وما في الأرض

132 - 133 134 النساء من الخلائق قاطبةً مفتقرون إليه في الوجود وسائرِ النعمِ المتفرِّعةِ عليه لا يستغنون عن فيضه طرفةَ عينٍ فحقُّه أن يُطاع ولا يعصى ويتقى عقابُه ويجى ثوابُه وقد قرر ذلك بقوله تعالى {وَكَانَ الله غَنِيّاً} أي عن الخلق وعبادتِهم {حَمِيداً} محموداً في ذاته حمِدوه أو لم يحْمَدوه فلا يتضرر بكفرهم ومعاصيهم كما لا ينتفع بشكرهم وتقواهم وإنما وصّاهم بالتقوى لرحمته لا لحاجته

132

{ولله ما في السماوات وَمَا فِي الارض} كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ للمخاطبين توطئةً لما بعده من الشرطية غيرُ داخلٍ تحت القول المحكيِّ أي له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقاً ومُلكاً يتصرف فيهم كيفما يشاء إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة {وكفى بالله وَكِيلاً} في تدبير أمورِ الكلِّ وكلِّ الأمور فلا بد من أن يُتوكلَ عَلَيْهِ لا على أحد سواه

133

{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} أي يُفْنِكم ويستأصِلْكم بالمرة {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} أي يوجد دفعةً مكانكم قوماً آخرين من البشر أو خلقاً آخرين مكانَ الإنسِ ومفعولُ المشئية محذوفٌ لكونه مضمونَ الجزاءِ أي إن يشأ إفناءَكم وإيجادَ آخرين يذهبْكم الخ يعني أن إبقاءَكم على أما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم ولعدم تعلقِ مشيئته المبنية على الحكم البالغةِ بإفنائكم لا لعجزه سبحانه تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً {وَكَانَ الله على ذلك} أي على إفناءكم بالمرة وإيجاد آخرين دفعة مكانكم {قديرا} بليغ القدرة وفيه لا سيما في توسيط الخطابِ بين الجزاءِ وما عُطف عليهِ من تشديد التهديد ما لا يخفى وقيل هو خطاب لمن عادى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من العرب أي إن يشأ يُمِتْكم ويأتِ بأناس آخرين يوالونه فمعناه هو معنى قوله تعالى وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم ويروى أنها لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمانَ وقال إنهم قومُ هذا يريد أبناءَ فارسَ

134

{مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا} كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة {فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والاخرة} أي فعنده تعالى ثوابُهما له إن أراده فما له يطلُب أخسَّهما فليطلُبْهما كمن يقول ربنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً أو لِيَطلُبْ أشرفَهما فإن من جاهد خالصاً لوجهِ الله تعالى لم تُخطِئْه الغنيمةُ وله في الآخرة ما هي في جنبه كلا شئ أي فعند الله ثوابُ الدارين فيعطي كلاًّ ما يريده كقوله تعالى مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ الآية {وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً} عالماً بجميع المسموعاتِ والمُبصَرات فيندرج فيها ما صدَر عنهُم من الأقوال والأعمالِ المتعلقةِ بمراداتهم اندراجاً اوليا

135 - 136 النساء

135

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط} مبالِغين في العدْل وإقامةِ القسطِ في جميع الأمورِ مجتهدين في ذلك حقَّ الاجتهاد {شهداء لله} بالحق تقيمون شهاداتِكم لوجه الله تعالى وهو خبرٌ ثانٍ وقيلَ حَالٌ {وَلَوْ على أنفسكم} أى ولو كانت الشهادةُ على أنفسكم بأن تُقِرُّوا عليها على أن الشهادةَ عبارةٌ عن الإخبار بحق الغيرِ سواءٌ كان ذلك عليه أو على ثالث بأن يكون الشهادةُ مستتبِعةً لضرر ينالكم من جهة المشهودِ عليه {أَوِ الوالدين والاقربين} أي ولو كان على والدِيكم وأقاربِكم {إِن يَكُنَّ} أي المشهودُ عليه {غنيا} ينبغى في العادة رضاه ويتقى سَخَطُه {أَوْ فَقَيراً} يُترحّم عليه غالبا وقرئ إن يكن غنيٌّ أو فقيرٌ على أنَّ كانَ تامةٌ وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة قوله تعالى {فالله أولى بهما} عليه أى فلا تمنعوا عنها طلباً لرضا الغِنى أو ترحماً على الفقير فإن الله تعالى أَولى بجنسي الغنيِّ والفقير المدلولِ عليهما بما ذكر ولولا أن الشهادةَ عليهما مصلحةٌ لهما لما شرعها وقرئ أَوْلى بهم {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ} أي مخافةَ أن تعدِلوا عن الحق فإن اتباعَ الهوى من مظانِّ الجَوْرِ الذي حقُّه أن يُخافَ ويُحذر وقيل كراهةَ أن تعدِلوا بين الناسِ أو إرادةَ أن تعدِلوا عن الحق {وَإِن تَلْوُواْ} أي ألسنتَكم عن شهادة الحقِّ أو حكومةِ العدلُ بأن تأتوا بها لا على وجهها وقرئ وإن تلُوا من الولاية والتصدي أي وإن وَلِيتم إقامةَ الشهادة {أَوْ تُعْرِضُواْ} أي عن إقامتها رأساً {فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} مِن لَيِّ الألسنةِ والإعراضِ بالكلية أو من جميعِ الأعمالِ التي من جُملتها ما ذكر {خَبِيراً} فيجازيكم لا محالة على ذلك فهو على القراءة المشهورةِ وعيدٌ محضٌ وعلى القراءة الأخيرةِ متضمِّنٌ للوعيد

136

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} خطابٌ لكافة المسلمين فمعنى قولِه تعالى {آمنُوا بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذى نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذى أَنَزلَ مِن قَبْلُ} اثبُتوا على الإيمان بذلك وداوموا عليه وازدادوا فيه طُمأْنينةً ويقيناً أو آمِنوا بما ذكر مفصلا بناء على أن إيمانَ بعضِهم إجماليٌّ والمرادُ بالكتاب الثاني الجنسُ المنتظِمُ لجميعِ الكتبِ السماوية لقوله تعالى وكتبه بالإيمان به الإيمانُ بأن كلَّ كتاب من تلك الكتبِ مُنزَّلٌ منه تعالى على رسول معينٍ لإرشاد أمتِه إلى ما شرَع لهم من الدين بالأومر والنواهي لكن لا على أن مدارَ الإيمانِ بكل واحد من تلك الكتب خصوصيةُ ذلك الكتابِ ولا على أن أحكامَ تلك الكتبِ وشرائعَها باقيةٌ بالكلية ولا على أن الباقيَ منها معتبرٌ بالإضافة إليها بل على أن الإيمانَ بالكل

137 - 138 النساء مندرجٌ تحت الإيمانِ بالكتاب المنزلِ على رسوله وأن أحكامَ كلَ منها كانت حقة ثابتة إلى ورود ما نسخها وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتةٌ من حيث إنها من أحكام هذا الكتاب الجليلِ المصونِ عن النسخ والتبديلِ كما مر في تفسير خاتمةِ سورة البقرةِ وقرئ نُزل وأُنزل على البناء للمفعول وقيل هو خطابٌ لؤمنى أهل الكتاب لما أنَّ عبدَ اللَّه بنَ سلام وابنَ أختِه سلامةَ وابنَ أخيه سَلَمةَ وأسَداً وأُسيداً ابنى كعبٍ وثعلبةَ بنَ قيسٍ ويامينَ بنَ يامينَ أتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا يا رسولَ الله أنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراةِ وعزيرٍ ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فقال صلى الله عليه وسلم بل آمِنوا بالله ورسولِه محمدٍ وكتابه القرآنِ وبكل كتابٍ كان قبله فقالوا لا نفعل فنزلت فآمنوا كلُّهم فأمرهم بالإيمان بالكتاب المتناوِلِ للتوراة مع أنهم مؤمنون بها من قبلُ ليس لكون المرادِ بالإيمان ما يعُمّ إنشاءَه والثباتَ عليه ولالأن متعلَّقَ الأمر حقيقةً هو الإيمانُ بما عداها كأنه قيل آمِنوا بالكل ولا تخُصُّوه بالبعض بل لأن المأمور به إنما هو الإيمانُ بها في ضمن الإيمانِ بالقرآن على الوجه الذي أشير إليه آنفاً لا إيمانُهم السابقُ ولأن فيه حملاً لهم على التسوية بينهما وبين سائر الكتبِ في التصديق لاشتراك الكلِّ فيما يوجبه وهو النزولُ من عند الله تعالى وقيل خطابٌ لأهل الكتابين فالمعنى آمنوا بالكل لا ببعض دون بعض وأمر كل طائفةٍ بالإيمان بكتابه في ضمن الأمرِ بالإيمان بجنس الكتابِ لما ذكر وقيل هو للمنافقين فالمعنى آمِنوا بقلوبكم لا بألسنتكم فقط {ومن يكفر بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الاخر} أى بشئ من ذلك {فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً} عن المقصِد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه وزيادةُ الملائكةِ واليومِ الآخرِ في جانب الكفر لما أن بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمانُ أصلاً وجمعُ الكتبِ والرسلِ لما أن الكفرَ بكتاب أو برسول كفرٌ بالكل وتقديمُ الرسولِ فيما سبق لذكر الكتابِ بعنوان كونِه منزلاً عليه وتقديمُ الملائكة والكتبِ على الرسل لأنهم وسايط بين الله عزَّ وجلَّ وبيّن الرسلِ في إنزال الكتب

137

{إن الذين آمنوا} قال قتادة هم اليهودُ آمنوا بموسى {ثُمَّ كَفَرُواْ} بعبادتهم العجلَ {ثُمَّ آمنوا} عند عَودِه إليهم {ثُمَّ كَفَرُواْ} بعيسى والإنجيل {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل هم قومٌ تكررَ منهم الارتدادُ وأصرّوا على الكفر وازدادوا تمادياً في الغي {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} لما أنه يُستبعد منهم أن يتوبوا عن الكفر ويثبُتوا على الإيمان فإن قلوبَهم قد ضربت بالكفر وتمرّنت على الرِّدة وكان الإيمانُ عندهم أهونَ شئ وأدونه لاانهم لو أخلصوا الإيمانَ لم يُقبل منهم ولم يغفَرْ لهم وخبرُ كان محذوفٌ أي مريداً ليغفر لهم وقوله عز وجل

138

{بَشّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} يدل على أن المرادَ بالمذكورين الذين آمنوا في الظاهر نِفاقاً وكفروا في السر مرةً بعد أخرى ثم ازدادوا كفرا ونفاقا ووضع

139 - 140 النساء بشر موضع أنذر تهكماً بهم

139

{الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء} في محل النصبِ أو الرفعُ على الذم بمعنى أريد بهم الذين أوهم الذين وقيل نُصب على أنه صفةٌ للمنافقين وقوله تعالى {مِن دُونِ المؤمنين} حال من فاعل يتخذون أي يتخذون الكفرةَ أنصاراً متجاوزين ولايةَ المؤمنين وكانوا يوالونهم ويقول بعضُهم لبعض لايتم أمر محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم فتولَّوا اليهود {أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة} إنكارٌ لرأيهم وإبطالٌ له وبيانٌ لخيبة رجائِهم وقطعٌ لأطماعهم الفارغةِ والجملةُ معترضةٌ مقررةٌ لما قبلها أي أيطلُبون بموالاة الكَفرةِ القوةَ والغلبة قال الواحدي أصلُ العزة الشدةُ ومنه قيل للأرض الشديدة الصُلبة عَزازٌ وقوله تعالى {فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} تعليلٌ لما يفيده الاستفهامُ الإنكاريُّ من بُطلانِ رأيِهم وخَيبةُ رجائِهم فإن انحصارَ جميعِ أفرادِ العزةِ في جنابه عز وعلا بحيث لا ينالها إلا أولياؤُه الذين كُتب لهم العزةُ والغَلَبةُ قال تعالَى وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يقضي ببطلان التعززِ بغيره سبحانه وتعالى واستحالةِ الانتفاعِ به وقيل هو جوابُ شرطٍ محذوفٍ كإنَّه قيل إن يبتغوا عندهم عزة فإن العزةَ لله وجميعاً حال من المستكن في قوله تعالى لِلَّهِ لاعتماده على المبتدأ

140

{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ} خطابٌ للمنافقين بطريق الالتفاتِ مفيدٌ لتشديد التوبيخ الذى بستدعيه تعداد جناياتهم وقرئ مبنَّياً للمفعولِ من التَّنزيلِ والإنزالِ ونزَلَ أيضاً مخففاً والجملةُ حالٌ من ضمير يتخذون أيضاً مفيدةٌ لكمال قباحةِ حالِهم ونهاية استعصائِهم عليه سبحانه بييان أنهم فعلُوا ما فعلُوا من موالاة الكفرة مع تحقق ما يمنعهم من ذلك وهو وردود النهي الصريحِ عن مجالستهم المستلزمِ للنهي عن موالاتهم على أبلغِ وجهٍ وآكدِه إثرَ بيانِ انتفاءِ ما يدعوهم إليه بالجملة المعترضة كأنه قيل تتخذونهم أولياءَ والحالُ أنَّه تعالَى قد نزّل عليكم قبل هذا بمكة {فِى الكتاب} أي القرآن الكريم {أن إذا سمعتم آياتِ الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فلا تقعدوا معهم حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غيره} وذلك قوله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِى آياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ الآية وهذا يقتضي الانزجارَ عن مجالستهم في تلك الحالة القبيحةِ فكيف بموالاتهم والاعتزازِ بهم وأنْ هي المخففةُ من أنَّ وضميرُ الشأنِ الذي هو اسمُها محذوفٌ والجملةُ الشرطية خبرُها وقولُه تعالى يَكْفُرُ بِهَا حالٌ من آياتِ الله وقوله تعالى وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا عطفٌ عليهِ داخلٌ في حكم الحاليةِ وإضافةُ الآياتِ إلى الاسمِ الجليلِ لتشريفها وإبانةِ خطرِها وتهويلِ أمر الكفرِ بها أي نزل عليكم في الكتاب أنه إذا سمعتم آياتِ الله مكفوراً بها ومستهزَأً بها وفيه دِلالةٌ على أن المنزلَ على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وإن خوطب به خاصةً منزلٌ على الأمة وأن مدارَ الإعراضِ عنهم هو العلمُ بخوضهم في الآيات ولذلك عبّر عن ذلك تارة بالرؤية

141 - 142 النساء وأخرى بالسماع وأن المرادَ بالإعراض إظهارُ المخالفةِ بالقيام عن مجالسهم لا الإعراضُ بالقلب أو بالوجه فقط والضميرُ في معهم للكفرة المدلولِ عليهم بقولِه تعالى يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا {إنكم إذا مّثْلُهُمْ} جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لتعليل النهي غيرُ داخلةٍ تحت التنزيلِ وإذن ملغاةٌ عن العمل لوقوعها بين المبتدأ والخبر أي لا تقعدوا معهم في ذلك الوقتِ إنكم إن فعلتموه كنتم مثلَهم في الكفر واستتباعِ العذابِ وإفرادُ المثلِ لأنه كالمصدر أو للاستغناء بالإضافة إلى الجمع وقرئ شاذاً مثلَهم بالفتح لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ كما في قوله تعالى مّثْلَ ماانكم تَنطِقُونَ وقيلَ هو منصوبٌ على الظرفية أي في مثل حالهم وقوله تعالى {إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً} تعليلٌ لكونهم مثلَهم في الكفر ببيان ما يستلزمه من شِرْكتهم لهم في العذاب والمرادُ بالمنافقين إما المخاطَبون وقد وُضع موضِعَ ضميرهم المظهر تسجيلاً بنفاقهم وتعليلاً للحكم بمأخذ الاشتقاقِ وإما الجنسُ وهم داخلون تحته دخولاً أولياً وتقديمُ المنافقين على الكافرين لتشديد الوعيدِ على المخاطبين ونصبُ جميعاً مثلُ ما قبله

141

{الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى المؤمنين بتعديد بعضٍ آخرَ من جنايات المنافقين وقبائحِهم وهو إما بدلٌ من الذين يتخذون أو صفةٌ للمنافقين فقط إذ هم المتربصون دون الكافرين أو موفوع أو منصوبٌ على الذمِّ أي ينتظرون أمرَكم وما يحدُث لكم من ظفَر أو إخفاقٍ والفاء في قوله تعالى {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ الله} لترتيب مضمونِه على ما قبلها فإن حكايةَ تربُّصِهم مستتبعة لحاية ما يقع بعد ذلك كما أن نفس التربُّص يستدعي شيئاً ينتظر المتربَّصُ وقوعَه {قَالُواْ} أي لكم {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} أي مُظاهرين لكم فأسهموا لنا في الغنيمة {وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ} من الحرب فإنها سِجالٌ {قَالُواْ} أي للكفرة {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} أي ألم نغلِبْكم ونتمكنْ من قتالكم وأسرِكم فأبقَينا عليكم {وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ المؤمنين} بأن ثبّطناهم عنكم وخيّلنا لهم ما ضَعُفَت به قلوبُهم ومرِضوا في قتالكم وتوانَينا في مظاهرتهم وإلا لكنتم نُهبةً للنوائب فهاتوا نصيباً لنا مما أصبتم وتسميةُ ظفرِ المسلمين فتحاً وما للكافرين نصيباً لتعظيم شأنِ المسلمين وتخسيس حظ الكافرين وقرئ ونمنعَكم بإضمار أن {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة} حكماً يليق بشأن كلَ منكم من الثواب والعقاب وأما في الدنيا فقد أُجريَ على من تفوه بكلمة الإسلام حُكمُه ولم يضع السيفَ على من تكلم بها نفاقاً {وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً} حينئذ كما قد يجعل ذلك في الدنيا بطريق الابتلاءِ والاستدراجِ أو في الدنيا على أن المرادَ بالسبيل الحجة

142

{إِنَّ المنافقين يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} كلام مبتدأٌ سيق لبيان طرف

143 - 144 النساء آخرَ من قبائح أعمالِهم أي يفعلون ما يفعل المخادِعُ من إظهار الإيمانِ وإبطال نقيضِه والله فاعلٌ بهم ما يفعل الغالبُ في الخدّاع حيث تركهم في الدنيا معصومي الدماء والأموالِ وَأَعَدَّ لَهُمْ في الآخرة الدرك الأسفل من النار وقد مر التحقيق في صدر سورةِ البقرةِ وقيل يُعطَوْن على الصراط نوراً كما يعطى المؤمنون فيمضون بنورهم ثم يُطفأ نورُهم ويبقى نورُ المؤمنين فينادون انظُرونا نقتبِسْ من نوركم {وإذا قَامُوا إلَى الصَّلاةِ قَامُوا كسالى} متثاقلين كالمكره على الفعل وقرئ بفتح الكاف وهما جَمْعا كسلان {يراؤون الناس} ليحسَبوهم مؤمنين والمراءاةُ مفاعلة بمعنى التفعيل كنَعِم وناعم أو للمقابلة فإن المرئى يُري غيرَه عملَه وهو يُريه استحسانَه والجملةُ إمَّا استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيل فماذا يريدون بقيامهم إليها كُسالى فقيل يراءون إلخ أو حالٌ من ضمير قاموا {وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً} عطف على يراءون أي لا يذكرونه سبحانه إلا ذكراً قليلاً وهو ذكرُهم باللسان فإنه بالإضافة إلى الذكر بالقلب قليلٌ أو إلا زماناً قليلاً أو لا يصلّون إلا قليلاً لأنهم لايصلون إلا بمر أى من الناس وذلك قليلٌ وقيل لا يذكرونه تعالى في الصلاة إلا قليلاً عند التكبيرِ والتسليمِ

143

{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك} حال من فاعل يراءون أو منصوبٌ على الذمِّ وذلك إشارةٌ إلى الإيمان والكفرِ المدلولِ عليهما بمعونة المقامِ أى مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطانُ وحقيقةُ المذبذبِ ما يُذَبّ ويُدفع عن كِلا الجانبين مرةً بعد أخرى وقرئ بكسر الذالِ أي مذَبْذِبين قلوبَهم أو رأيَهم أو دينهم او هو بمعنى متذبذبين كما جاء صلصل بمعنى نصلصل وفي مصحف ابن مسعودٍ رضي الله عنه متذبذبين وقرئ مدبدبين بالدال غير المعجمة وكأن المعنى أخذ بهم تارة في دُبَّةٍ أي طريقة وأخرى في أخرى {لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إلى هؤلاء} اى لامنسوبين إلى المؤمنين ولا منسوبين إلى الكافرين أولا صائرين إلى الأولين ولا إلى الآخَرين فمحلُّه النصبُ على أنه حال من ضمير مذبذبين أو على أنه بدلٌ منه أو بيان وتفسيرله {وَمَن يُضْلِلِ الله} لعدم استعدادِه للهداية والتوفيق {فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} موصِلاً إلى الحق والصواب فضلاً عن أن تهديه إليه والخطابُ لكلِّ من يصلُح له كائناً من كانَ

144

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين} نُهوا عن موالاة الكفرةِ صريحاً وإن كان في بيان حال المنافقين مزجرة عن ذلك مبالغةً في الزجر والتحذير {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} أي أتريدون بذلك أن تجعلوا لله عليكم حجةً بيّنةً على أنكم منافقون فإن موالاتَهم أوضحُ أدلةِ النفاقِ أو سلطاناً يُسلِّط عليكم عقابَه وتوجيهُ الإنكار إلى الإرادة دون متعلَّقِها بأن يقال أتجعلون المبالغة في إنكارِه وتهويلِ أمرِه ببيان أنه مما لا يصدُر عن العاقل إرادتُه فضلاً عن صدور نفسِه كما في قوله عز وجل أم تريدون أن تسألوا رسولكم

135 - 146 147 148 النساء

145

{إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} وهو الطبقة التى فى قعر جهنم وإنما كان كذلك لأنهم أخبث الكفرة حيث ضموا إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله وخداعهم وأما قوله صلى الله عليه وسلم ثلاثٌ من كنّ فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان ونحوه فمن باب التشديد والتهديد والتغليظ مبالغة فى الزجر وتسمية طبقاتها السبع دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض وقرئ بفتح الراء وهو لغة كالسطر والسطر ويعضده أن جمعه أدراك {ولن تجد لهم نصيراً} يخلصهم منه والخطاب كما سبق

146

{إلا الذين تابوا} أي عن النفاق وهو استثناء من المنافقين بل من ضميرهم فى الخبر {وأصلحوا} ما أفسدوا من أحوالهم فى حال النفاق {واعتصموا بالله} أى وثقوا به وتمسكوا بدينه {وأخلصوا دينهم} أى جعلوه خالصاً {لله} لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه {فأولئك} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلةِ وما فيهِ منْ مَعْنى البُعدِ للإيذانِ ببعدِ المنزلة وعلو الطبقة {مع المؤمنين} أى المؤمنين المعهودين الذين لم يصدر عنهم نفاق أصلا منذ آمنوا وإلا فهم أيضاً مؤمنون أى معهم فى الدرجات العالية من الجنة وقد بين ذلك بقوله تعالى {وسوف يؤت الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً} لا يُقادر قدره فيساهمونهم فيه

147

{ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم} استئناف مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجوداً وعدماً إنما هو كفرهم لاشئ آخر فيكون مقرراً لما قبله من إثابتهم عن توبيتهم وما استفهامية مفيدة للنفى على أبلغِ وجهٍ وآكدِه أى أى شئ يفعل الله سبحانه بتعذيبكم أيتشفى به من الغيظ أم يدرك به الثأر أم يستجلب به نفعاً أم يستدفع به ضرراً كما هو شأن الملوك وهو الغنى المتعالى عن أمثال ذلك وإنما هوأمر يقتضيه كفركم فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر انتفى التعذيب لامحالة وتقديم الشكر على الإيمان لما أنه طريق موصل إليه فإن النظر يدرك أولا ما عليه من النعم الأنفسية والافاقية فيشكر شكراً مبهماً ثم يترقى إلى معرفة المنعم فيؤمن به وجوابُ الشرط محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه {وكان الله شاكراً} الشكر من الله سبحانه هو الرضا باليسير من طاعة عباده وأضعاف الثواب بمقابلته {عَلِيماً} مُبالغاً في العلمِ بجميعِ المعلوماتِ التي مِنْ جملتها شكركم وإيمانكم فيستحيل أن لا يوفيكم أجوركم

148

{لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول} عدمُ محبتِه تعالى لشيء كنايةٌ عن سَخَطه والباءُ متعلقةٌ بالجهر 148 ومِنْ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من السوء أي لا يحب الله تعالى أن يجهرَ أحدٌ بالسوء كائناً من القول {إَلاَّ مَن ظَلَمَ}

أي إلا جهرَ مَن ظُلم بأن يدعُوَ على ظالمه أو يَتظلَّمَ منه ويذكرَه بما فيه من السوء فإن ذلك غيرُ مسخوط عنده سبحانه وقيل هو أن يبدأ بالشتيمة فيردَّ على الشاتم وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ الآية وقيل ضاف رجلا قوماً فلم يُطعِموه فاشتكاهم فعوتب على الشكاية فنزلت وقرئ إلا من ظَلَم على البناء للفاعل فالاستثناءُ منقطِعٌ أي ولكنِ الظالمُ يرتكب مالا يُحبه الله تعالى فيجهر بالسوء {وَكَانَ الله سَمِيعاً} لجميع المسوعات فيندرجُ فيها كلامُ المظلومِ والظالم {عَلِيماً} بجميعِ المعلوماتِ التي مِنْ جملتها حالُ المظلومِ والظالم فالجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لما يفيده الاستثناء

149

{إِن تُبْدُواْ خَيْراً} أيَّ خير كان من القوال والأفعالِ {أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء} مع ما سُوِّغ لكم من مؤاخذة المسئ والتنصيص عليه مع اندراجه في إبداء الخيرِ وإخفائه لما أنه الحقيقُ بالبيان وإنما ذُكر إبداءُ الخير وإخفاؤه بطريق التسبيب له كما ينبئ عنه قولُه عزَّ وجلَّ {فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} فإن إيرادَه في معرِض جوابِ الشرطِ يدل على أن العُمدة هو العفوُ مع القدرة أي كان مبالِغاً في العفو مع كمال قدرتِه على المؤاخذة وقال الحسن يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسُنة الله تعالى وقال الكلبي هو أقدر على عفو ذنوبِكم منكم على عفو ذنوبِ مَنْ ظلمكم وقيل عفُوّاً عمن عفا قديراً على إيصال الثوابِ إليه

150

{إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ} أي يؤدِّي إليه مذهبهم ويقتضيه رأيهم لاانهم يصرحون بذلك كما ينبئ عنه قولُه تعالى {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ} أي بأن يؤمنوا به تعالى ويكفُروا بهم لكن لا بأن يصرِّحوا بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبةً بل بطريق الاستلزامِ كما يحكيه قوله تعالى {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} أي نؤمن ببعض الأنبياءِ ونكفُر ببعضهم كما قالت اليهود نؤمن بموسى والتوراةِ وعزيرٍ ونكفر بما وراء ذلك وما ذاك إلا كفرٌ بالله تعالى ورسُلِه وتفريقٌ بين الله تعالى ورسُله في الإيمان لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياءِ عليهم السلام وما من نبيَ من الأنبياء إلا وقد أخبر قومَه بحقية دين نبينا محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وعليهم أجعين فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى أيضاً من حيث لايحتسب {وَيُرِيدُونَ} بقولهم ذلك {أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك} أي بين الإيمان والكفرِ {سَبِيلاً} يسلُكونه مع أنه لا واسطةَ بينهما قطعاً إذِ الحق لا يختلف وماذا بعد الحقِّ إلا الضلال

151

{أولئك} الموصوفون بالصفات القبيحةِ {هُمُ الكافرون} الكاملون في الكفر لا عبرة بمايدعونه ويسمونه إيماناً أصلاً {حَقّاً} مصدرٌ مؤكدٌ لمضمون الجملةِ أي حَقَّ ذلك أي كونُهم كاملين في الكفر حقاً أو صفةٌ لمصدر الكافرين أي هم الذين كفروا حقا أى

152 - 153 النساء ثابتاً يقيناً لا ريب فيه {وَأَعْتَدْنَا للكافرين} أي لَهم وإنما وُضع المُظهرُ مكان المضمر ذما وتذكيراً لوصفهم أو لجميع الكافرين وهم داخلونَ في زُمرتهم دخولا أولياء {عَذَاباً مُّهِيناً} سيذوقونه عند حلوله

152

{والذين آمنوا بالله وَرُسُلِهِ} أي على الوجه الذي بُيّن في تفسيرِ قولِه تعالى يَأَيُّهَا الذين آمنوا آمنوابالله وَرَسُولِهِ الآية {وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا بآخَرين كما فعله الكفرة ودخولُ بَيْنَ على أحد قد مرَّ تحقيقُه في سورة البقرة بما لا مزيدَ عليهِ {أولئك} المنعوتون بالنعوت الجليلةِ المذكورةِ {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} الموعودةَ لهم وتصديرُه بسوف لتأكيد الوعدِ والدلالةِ على إنه كائنٌ لا محالةَ وإن تراخى وقرئ نُؤتيهم بنون العظمة {وَكَانَ الله غَفُوراً} لما فرَط منهم {رَّحِيماً} مبالغاً في الرحمة عليهم بتضعيف حسناتِهم

153

{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء} نزلت في أحبار اليهودِ حين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت نبياً فأتِنا بكتاب من السماء جملةً كما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام وقيل كتاباً محرَّراً بخطَ سماويَ على اللوح كما نزلت التوراةُ أو كتاباً نعايته حين يَنزِل أوْ كتاباً إلينا بأعياننا بأنك رسولُ الله وما كان مقصِدُهم بهذه العظيمة إلا التحكمَ والتعنّتَ قال الحسنُ ولو سألوه لكي يتبيَّنوا الحقَّ أعطاهم وفيما آتاهم كفاية {فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك} جوابُ شرطٍ مقدّر أى إن استكبرت ماسألوه منك فقد سألوا موسى شيئا اكبر وقيل تعليلٌ للجوابِ أي فلا تُبالِ بسؤالهم فقد سألوا موسى أكبر وهذه المسألةُ وإن صدَرت عن أسلافهم لكنهم لما كانوا مقتدين بهم في كلِّ ما يأتُون وما يذرون أُسنِدت إليهم والمعنى أن لهم في ذلك عِرْقاً راسخاً وأن ما اقترحوا عليك ليس أولَ جهالاتِهم {فقالوا أرنا الله جهرة} أي أرِناه نَرَهُ جهرةً أي عِياناً أو مجاهرين معاينين له والفاءُ تفسيريةٌ {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} أي النارُ التى جاءت من السماء فأهلكتهم وقرئ الصعقةُ {بِظُلْمِهِمْ} أي بسبب ظلمِهم وهو تعنتُهم وسؤالُهم لما يستحيل في تلك الحالةِ التي كانوا عليها وذلك لا يقتضي امتناعَ الرؤيةِ مطلقاً {ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات} أي المعجزاتِ التى أظهرها لفرعون من العصا واليدِ البيضاءِ وفلْقِ البحر وغيرِها لاالتوراة لأنها لم تنزلْ عليهم بعد {فَعَفَوْنَا عَن ذلك} ولم نستأصِلْهم وكانوا أحقاءَ به قيل هذا استدعاءٌ لهم إلى التوبة كأنه قيل إن أولئك أجرموا تابوا فعفونا عنهم فتوبوا أنتم أيضاً حتى نعفو عنكم {وآتينا موسى سلطانا مبينا} سلطانا ظاهرا عليهم حيث أمرهم بأن يقتُلوا

154 - 155 النساء أنفسَهم توبةً عن معصيتهم

154

{وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بميثاقهم} أي بسبب ميثاقِهم ليُعطوه على ماروى أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع الله تعالى عليهم الطور فقبلوها أو ليخافوا فلا ينقضوه على ما روي أنهم هموا بنقضه فرفع الله تعالى عليهم الجبل فخافوا وأقلعوا عن النقض وهو الأنسبُ بما سيأتي من قولهِ عزَّ وجلَّ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً {وَقُلْنَا لَهُمُ} على لسان موسى عليه السلام والطورُ مظل عليهم {ادخلوا الباب} قال قتادة كنا نحدَّث أنه بابٌ من أبواب بيتِ المقدس وقيل هو إيليا وقيل هو أريحا وقيل هو اسمُ قريةٍ وقيل بابُ القُبة التي كانوا يصلون إليها فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام {سُجَّدًا} أي متطامنين خاضعين {وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ} أي لاتظلموا باصطياد الحيتانِ {فِى السبت} وقرئ لاتعتدوا بفتح العين وتشديد الدال على أن أصله تعتدوا فأدغمت التاءُ في الدال لتقاربهما في المخرج بعد نقل حركتها إلى العين {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ} على الامتثال بما كُلّفوه {ميثاقا غَلِيظاً} مؤكداً وهو العهدُ الذي أخذه الله عليهم في التوراة قيل إنهم أعطَوا الميثاقَ على أنهم إن همّوا بالرجوع عن الدين فالله تعالى يعذِّبهم بأي أنواع العذاب أراد

155

{فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} ما مزيدةٌ للتأكيد أو نكرةٌ تامةٌ ونقضُهم بدلٌ منها والباءُ متعلقةٌ بفعل محذوفٍ أي فبسبب نقضِهم ميثاقَهم ذلك فعلْنا بهمْ مَا فعلنَا من اللعن والمسخِ وغيرِهما من العقوبات النازلةِ عليهم أو على أعقابهم روي أنهم اعتَدَوا في السبت في عهد داودَ عليه السلام فلُعنوا ومُسِخوا قِردةً وقيل متعلقةٌ بحَرَّمْنا على أنَّ قولَه تعالى فَبِظُلْمٍ بدلٌ من قوله تعالى فيما وما عطف عليه فيكون التحريمُ معلّلاً بالكل ولا يخفى أن قولَهم إنا قتلنا المسيحَ وقولَهم على مريمَ البهتانُ متأخرٌ عن التحريم ولامساغ لتعلّقها بما دل عليه قوله تعالى بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ لأنه رد لقولهم قُلُوبُنَا غُلْفٌ فيكون من صلة قولِه تعالى وَقَوْلِهِمْ المعطوفِ على المجرور فلا يعمل في جاره {وكفرهم بآيات الله} أي بالقرآن أو بما في كتابهم {وَقَتْلِهِمُ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ} كزكريا ويحيى عليهما السلام {وَقَوْلِهِمْ قلوبنا غلف} جمع أغلف أي هي مغشاةٌ بأغشية جبلية لايكاد يصل إليها ماجاء به محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم أو هو تخفيفُ غُلُفٌ جمع غِلاف أي هي أوعيةٌ للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره قاله ابن عباس وعطاء وقال الكلبي يعنون أن قلوبَنا بحيث لا يصل إليها حديث إلا وعته ولو كان في حديثك خير لوعته أيضا {بل طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} كلامٌ معترِضٌ بين المعطوفَين جئ به على وجه الاستطرادِ مسارعةً إلى رد زعمِهم الفاسدِ أي ليس كفرُهم وعدمُ وصولِ الحقِّ إلى قلوبهم لكونها غُلفاً بحسب الجِبِلّة بل الأمرُ بالعكس حيث ختم الله عليها بسبب كفرهم أو ليست قلوبهم كما زعموابل هي مطبوع عليها

156 - 157 النساء بسبب كفرِهم {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} منهم كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَم وأضرابه أو إلا إيماناً قليلاً لا يُعبأ به

156

{وَبِكُفْرِهِمْ} أي بعيسى عليه السلام وهو عطفٌ على قولهم وإعادةُ الجارِّ لطول ما بينهما بالاستطراد وقد جُوِّز عطفُه على بكفرهم فيكون هو ما عُطف عليه من أسباب الطبعِ وقيل هذا المجموعُ معطوفٌ على مجموع ما قبلَه وتكريرُ ذكر الكفرِ للإيذان بتكرُّر كفرِهم حيث كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمَّدٍ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ {وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً} لا يقادَر قدرُه حيث نسبوها إلى ما هي عنه بألف منزل

157

{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله} نظمُ قولِهم هذا في سلك سائر جناياتِهم التي نُعيت عليهم ليس لمجرد كونِه كذباً بل لتضمُّنه لابتهاجهم بقتل النبيِّ عليه السلام والاستهزاءِ به فإن وصفَهم له بعنوان الرسالةِ إنما هو بطريق التهكّم به عليهِ السَّلامُ كَما في قوله تعالى يا أيها الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر الخ ولإنبائه عن ذكرهم له عليه السلام بالوجه القبيحِ على ما قيلَ من أن ذلك وُضِع للذكر جميل من جهته تعالى مكان ذكرهم القبيح وقيل نعت له عليه السلام من جهته تعالى مدحاً له ورفعاً لمحله عليه السلام وإظهاراً لغاية جَراءتِهم في تصدِّيهم لقتله ونهايةِ وقاحتِهم في افتخارهم بذلك {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} حالٌ واعتراض {ولكن شُبّهَ لَهُمْ} رُوي أنَّ رهطاً مِنْ اليهود سبُّوه عليه السلام وأُمَّه فدعا عليهم فمسخهم الله تعالى قردةً وخنازيرَ فأجمعت اليهودُ على قتله فأخبره الله تعالى بأنه يرفعه إلى السماء فقال لأصحابه أيُّكم يرضى بأن يُلقى عليه شبهي فيقتل فيصلب ويدخُلَ الجنة فقال رجل منهم أنا فألقَى الله تعالى عليه شبَهَه فقتل وصُلب وقيل كان رجل ينافق عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتلَه قال أنا أدلُّكم عليه فدخل بيتَ عيسى عليه السلام فرُفعَ عيسى عليه السلام وأُلقي شبَهُه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى عليه السلام وقيل إن طيطانوس اليهوديَّ دخل بيتاً كان هو فيه فلم يجده فألقى الله تعالى عليه شبَهه فلما خرج ظُن أنه عيسى عليه السلام فأُخذ وقُتل وأمثالُ هذه الخوارقِ لا تستبعد في عصر النبوةِ وقيل إن اليهودَ لما همّوا بقتله عليه السلام فرفعه الله تعالى إلى السماء خاف رؤساءُ اليهودِ من وقوع الفتنةِ بين عوامِّهم فأخذوا إنسانا فقتلوه وصلبوه ولبّسوا على الناس وأظهروا لهم أنه هو المسيحُ وما كانوا يعرفونه إلا بالاسم لعدم مخالطتِه عليه السلام لهم إلا قليلا وشبه مسندا إلى الجار والمجرور كأنه قيل ولكن وقع لهم التشبيهُ بين عيسى عليه السلام والمقتول أوفى الأمر على قول من قال لم يُقتَلْ أحدٌ ولكنِ أُرجِفَ بقتله فشاع بين الناسِ أو إلى ضمير المقتولِ لدِلالة إِنَّا قَتَلْنَا على أن ثمَّ مقتولاً {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ} أي في شأن عيسى عليه السلام فإنه لما وقعت تلك الواقعةُ اختلف الناسُ فقال بعضُ اليهود إنه كان كذبا فقتلناه حتماً وتردد آخرون فقال بعضُهم إن كان هذا عيسى

158 - 159 النساء فأين صاحبُنا وقال بعضُهم الوجهُ وجهُ عيسى والبدنُ بدنُ صاحبِنا وقال مَنْ سمِع منه عليه السلام إن الله يرفعني إلى السماء إنه رُفع إلى السماء وقال قوم صُلب الناسوتُ وصعِدَ اللاهوت {لَفِى شَكّ مّنْهُ} لفي تردد والشكُ كما يطلق على ما لم يترجح أحدُ طرفيه يُطلق على مطلق الترددِ وعلى ما يقابل العلم ولذلكَ أُكِّدَ بقولِه تعالى {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن} استثناءٌ منقطعٌ أي لكنهم يتبعون الظن ويجوز أن يفسَّر الشكُ بالجهل والعلمُ بالاعتقاد الذي تسمن إليه النفسُ جزماً كان أو غيرَه فالاستثناءُ حينئذ متصلٌ {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أي قتلاً يقيناً كما زعموا بقولهم إنا قتلنا المسيحَ وقيل معناه وما علموه يقيناً كما في قوله من قال كذاك تُخبِرُ عنها العالماتُ بها وقد قَتَلْتُ بعلمي ذلكم يقَناً من قولهم قتلتُ الشيءَ علماً ونحَرتُه علماً إذا تَبالغَ علمُك فيه وفيه تهكمٌ بهم لإشعاره بعلمهم في الجملة وقد نُفيَ ذلك عنهم بالكلية

158

{بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} رد وإنكار لقتله وإثبات الرفعة {وَكَانَ الله عَزِيزاً} لا يغالَب فيما يريده {حَكِيماً} في جميع أفعالِه فيدخُل فيها تدبيراتُه تعالى في أمر عيسى عليه السلام دخولاً أولياً

159

{وإن من أهل الكتابِ} أي من اليهود والنصارى وقوله تعالى {إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} جملةٌ قَسَمية وقعت صفةً لموصوف محذوفٍ إليه يرجع الضميرُ الثاني والأول لعيسى عليه السلام أي وما من أهل الكتاب أحدٌ إلا ليؤمِنَنّ بعيسى عليه السلام قبل أن تَزهَقَ روحُه بأنه عبدُ الله ورسولُه ولات حين إيمان لانقطاع وقت التكليف ويعضده بأنه قرئ ليؤمنن قبل موتهم بضم النون لِما أن أحداً في معنى الجمعِ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهُمَا أنَّه فسّره كذلك فقال له عِكرِمة فإن أتاه رجلٌ فضَرَبَ عُنقَه قال لا تخرُجُ نفسُه حتى يُحرِّك بها شفتيه قال فإن خرَّ من فوق بيت أو احترق أو أكله سبُعٌ قال يتكلم بها في الهواء ولا تخرُجُ روحُه حتى يؤمِنَ به وعن شهرِ بنِ حَوْشبَ قال لي الحجاج آيةٌ ما قرأتُها إلا تَخالَج في نفسي شيءٌ منها يعني هذه الآيةَ وقال إني أوتى بالأسير من اليهود والنصارى فأضربُ عُنقَه فلا أسمعُ منه ذلك فقلت إن اليهوديَّ إذا حضره الموتُ ضربت الملائكةُ دُبُرَه ووجهَه وقالوا يا عدوَّ الله أتاك عيسى عليه السلام نبياً فكذبتَ به فيقول آمنتُ أنه عبدٌ نبيٌّ وتقول للنصراني أتاك عيسى عليه السلام نبياً فزعمتَ أنه الله وابن الله فيؤمنُ أنه عبدُ الله ورسولُه حيث لا ينفعه إيمانُه قال وكان متكئا فاستولا جالساً فنظر إليَّ وقال ممن سمعتَ هذا قلت حدثني محمدُ بنُ عليَ بنِ الحنفيةِ فأخذ ينكُث الأرضَ بقضيبه ثم قال لقد أخذتُها من عين صافية والإخبارُ بحالهم هذه وعيدٌ لهم وتحريضٌ على المسارعة إلى الإيمان به قبل أن يُضْطروا إليه مع انتفاء جدواه وقيل كلا الضميرين لعيسى والمعنى وما من أهل الكتاب الموجودين عند نزولِ عيسى عليه السلام أحدٌ إلا ليؤمنن به قبل موته روي أنه عليه السلام ينزِلُ من السماء في آخر الزمانِ فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمنُ به حتى تكونَ الملةُ واحدةً وهي ملةُ الإسلام ويُهلك الله في زمانه الدجالَ وتقعُ الأمنة

160 - 161 162 النساء حتى ترتعَ الأسودُ مع الإبلِ والنمورُ مع البقر والذئاب مع الغنم ويعلب الصبيانُ بالحيّاتِ ويلبث في الأرض أربعين سنةً ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفِنونه وقيل الضميرُ الأولُ يرجِعُ إلى الله تعالى وقيل إلى محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم {وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ} أي عيسى عليه السلام {عَلَيْهِمْ} على أهل الكتاب {شَهِيداً} فيشهد على اليهود بالتكذيب وعلى النصارى بأنهم دعَوْه ابن الله تعالَى الله عن ذلكَ علواً كبيراً

160

{فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ} لعل ذكرَهم بهذا العنوانِ للإيذان بكمالِ عِظَمِ ظلمهم بتذكير وقوعه بعد أن هادُوا أي تابوا من عبادة العجلِ مثلَ تلك التوبةِ الهائلةِ المشروطةِ ببخْع النفوسِ إثرَ بيانِ عِظَمِه في حد ذاتِه بالتنوين التفخيميِّ أي بسبب ظلمٍ عظيمٍ خارجٍ عن حدود الإشباه والإشكال الصادر عنهم {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ} ولِمن قبلَهم لا بشيء غيرِه كما زعموا فإنهم كانوا كلما ارتكبوا معصيةً من المعاصي التي اقترفوها يُحرَّم عليهم نوعٌ من الطيبات التي كانت محلَّلةً لهم ولمن تقدّمهم من أسلافهم عُقوبةً لهم وكانوا مع ذلك يفترون على الله سبحانه ويقولون لسنا بأولِ مَنْ حرمت عليه وإنما كان على نوح وإبراهيم من بعدَهما حتى انتهى الأمرُ إلينا فكذبهم الله عزَّ وجلَّ في مواقعَ كثيرةٍ وبكّتهم بقوله تعالى كلك الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسرائيلَ إلا ما حرم اسرائيل على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين أي في ادعاكم أنه تحريم قديم روي أنه عليه السلام لما كلفهم إخراجَ التوراةِ لم يجسُرْ أحدٌ على إخراجها لِما أن كونَ التحريمِ بظلمهم كان مسطوراً فيها فبُهتوا وانقلبوا صاغرين {وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً} أي ناساً كثيراً أو صداً كثيراً

161

{وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} فإن الربا كان محرَّماً عليهم كما هو محرَّمٌ علينا وفيه دليلٌ على أنَّ النهيَ يدل على حرمة المنهيِّ عنه {وَأَكْلِهِمْ أموالَ الناس بالباطل} بالرّشوة وسائرِ الوجوهِ المحرَّمةِ {وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ} أي للمُصِرِّين على الكفر لا لمن تاب وآمن من بينهم {عَذَاباً أَلِيماً} سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا في الدنيا عقوبةَ التحريم

162

{لكن الراسخون فى العلم مِنْهُمْ} استدراكٌ من قولِه تعالَى وَأَعْتَدْنَا الخ وبيانٌ لكون بعضِهم على خلاف حالهم عاجلاً أو آجلاً أي لكن الثابتون في العلم منهم المُتقِنون المستبصِرون فيه غيرُ التابعين للظن كأولئك الجَهَلة والمرادُ بهم عبدُ اللَّه بنُ سلام وأصحابُه {والمؤمنون} أي منهم وصفوا بالإيمان بعد ما وُصِفوا بما يوجبُه من الرسوخ في العلم بطريق العطف المنبئ عن المغايرة بين المعطوفَين تنزيلاً للاختلاف العنوانيِّ منزلةَ الاختلافِ الذاتيِّ وقوله تعالى {يؤمنون بما أنزل إليك وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} حال من المؤمنون مبيِّنةٌ لكيفية إيمانِهم وقيل اعتراضٌ مؤكدٌ لما قبله وقوله عز وجل {والمقيمين الصلاة} قيل نُصب بإضمار

163 - النساء فعلى تقديرُه وأعني المقيمين الصلاةَ على أن الجملةَ معترضةٌ بين المبتدأ والخبرِ وقيل هُو عطفٌ على ما أزل إليك على أن المرادَ بهم الأنبياءُ عليهم السلام أي يؤمنون بالكتب وبالأنبياء أو الملائكة قال مكي أي ويؤمنون بالملائكة الذين صفتهم إثامة الصلاةِ لقوله تعالى يُسَبّحُونَ الليلَ والنهارَ لاَ يَفْتُرُونَ وقيل عطفٌ على الكافِ في إليك أي يؤمنون بما أنزل إليه وإلى المقيمين الصلاة وقرئ بالرفع على أنه معطوفٌ على المؤمنون بناءً على ما مر من تنزيل التغاير العنواني في منزلة التغاير الذاتي وكاذ الحالُ فيما سيأتي من المعطوفَين فإن قوله تعالى {والمؤتون الزكاة} عطفٌ على المؤمنون مع اتحاد الكلِّ ذاتاً وكذا الكلامُ في قولِه تعالى {والمؤمنون بالله واليوم الاخر} فإن المراد بالكل مؤمنو أهلِ الكتابِ قد وُصِفوا أولاً بكونهم راسِخين في علم الكتابِ إيذاناً بأن ذلك موجبٌ للإيمان حتماً وأن مَنْ عداهم إنما بقُوا مُصرِّين على الكفر لعدم رسوخِهم فيه ثم بكونهم مؤمنين بجميع الكتبِ المنزلةِ على الأنبياء ثم بكونهم عاملين بما فيها من الشَّرائعِ والأحكامِ واكتُفي من بينها بذكر إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ المستتبعين لسائر العباداتِ البدنيةِ والماليةِ ثم بكونهم مؤمنين بالمبدأ والمعادِ تحقيقاً لحيازتهم الإيمانَ بقطريه وإحاطتِهم به من طرفيه وتعريضاً بأن مَنْ عداهُم من أهلِ الكتابِ ليسوا بمؤمنين بواحد منهما حقيقةً فإنهم بقولهم عزيرٌ ابنُ الله مشركون بالله سبحانه وبقولهم لن تمسنا النارُ إلا أياماً معدودةً كافرون باليوم الآخِرِ وقولُه تعالى {أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتصافِهم بما عُدِّد من الصفات الجميلةِ وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلوّ درجتِهم وبُعدِ منزلَتهِم في الفضلِ وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الذي هو الراسخون وما عطف عليه والسينُ لتأكيد الوعدِ وتنكيرُ الأجرِ للتفخيم وهذا أنسبُ بتجاوُبِ طرَفي الاستدراكِ حيث أُوعِد الأولون بالعذاب الأليم ووُعِد الآخَرون بالأجر العظيم كأنه قيل إثر قولِه تعالى وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً لكنِ المؤمنون منهم سنؤتيهم أجراً عظيماً وأما ما اجتح إليه الجمهورُ من جعل قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ الخ خبراً للمبتدأففي كمال السداد خلا أنه غير معترض لتقابل الطرفين وقرئ سيؤتيهم بالياء مراعاةً لظاهر قوله تعالى والمؤمنون بالله

163

{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ} جوابٌ لأهل الكتابِ عن سؤالهم رسولَ الله عليه الصلاة والسلام إن ينزلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء واحتجاجٌ عليهم بأنه ليس بِدْعاً من الرسل وإنما شأنُه في حقيقة الإرسالِ وأصلِ الوحي كشأن سائرِ مشاهيرِ الأنبياءِ الذين لا ريب لأحد في نبوَّتهم والكافُ في محل النصب على أنه نعب لمصدر محذوفٍ أي إيحاءً مثلَ إيحائِنا إلى نوح أو على أنه

164 - النساء حالٌ من ذلك المصدرِ المقدر معرّفاً كما هُو رأيُ سيبويهِ أي أوحينا الايحاءَ حال كونِه مشبهاً بإيحائنا الخ ومن بعدِه متعلقٌ بأوحينا وإنما بدئ بذكر نوحٍ لأنه أبو البشر وأولُ نبيَ شرَع الله تعالى على لسانه الشرائعَ والأحكامَ وأولُ نبيَ عُذّبت أمتُه لردهم دعوتَه وقد أهلك الله بدعائه أهلَ الأرضِ {وَأَوْحَيْنَا إلى إبراهيم} عطفٌ على أوحينا إلى نوح داخلٌ معه في حكم التشبيهِ أي وكما أوحينا إلى إبراهيم {وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط} وهم أولادُ يعقوبَ عليهم السلام {وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وهارون وسليمان} خُصوا بالذكر مع ظهور انتظامِهم في سلك النبيين تشريفاً لهم وإظهاراً لفضلهم كما في قوله تعالى مَن كَانَ عدوا لله وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال وتصريحاً بمن ينتمي إليهم اليهودُ من الأنبياء وتكريرُ الفعلِ لمزيد تقريرِ الإيحاء والتنبيهِ على أنهم طائفةٌ خاصةٌ مستقلةٌ بنوع مخصوصٍ من الوحي {وآتينا داود زَبُوراً} قال القرطبي كان فيه مائة وخمسون ليس فيها حكم من الأحكام إنما هي حِكَمٌ ومواعظُ وتحميدٌ وتمجيدٌ وثناءٌ على الله تعالى وقرئ بضم الزاءِ وهو جمعُ زِبْرٍ بمعنى مزبور والجملةُ عطف على أوحينا داخلٌ في حكمه لأن إيتاءَ الزبورِ من باب الإيحاءِ أي وكما آتينا داودَ زبورا وإيثاره على وأوحينا إلى داود لتحقيق المماثلة في أمر خاصَ هو إيتاءُ الكتابِ بعد تحقيقِها في مطلق الإيحاءِ ثم أشير إلى تحقيقها في أمر لازمٍ لهما لزوماً كلياً وهو الإرسال فإن قوله تعالى

164

{وَرُسُلاً} نُصب بمضمر يدل عليه أوحينا معطوفٍ عليهِ داخلٌ معه في حكم التشبيهِ كما قبله أي وكما أرسلنا رسلاً لا بما يفسِّره قولُه تعالى {قَدْ قصصناهم عَلَيْكَ} أي وقصصنا رسلاً كما قالوا وفرّعوا عليه إنَّ قولَه تعالَى قَدْ قصصناهم على الوجه الأول منصوبٌ على أنه صفةٌ لرسلاً وعلى الوجه الثاني لا محلَّ له من الإعراب فإنه مما لا سبيل إليه كما ستقف عليه وقرئ برفع رسلٌ وقولُه تعالى {مِن قَبْلُ} متعلقٌ بقصصنا أي قصصنا من قبلِ هذه السورةِ أو اليوم {وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} عطفٌ على رسلاً منصوبٌ بناصبه وقيل كلاهما منصوبٌ بنزع الخافضِ والتقديرُ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نوحٍ وإلى الرسل الخ والحقُّ أن يكون انتصابُهما بأرسلنا فإن فيه تحقيقاً للمماثلة بين شأنِه عليه الصلاةُ والسلام وبين شؤونِ من يعترفون بنبوته من الأنبياءِ عليهم السلام في مطلق الإيحاءِ ثم في إيتاءِ الكتابِ ثم في الإرسال فإن قوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ منتظِمٌ بمعنى آتيناك وأرسلناك حتماً كأنه قيل إنا أوحينا إلى إبراهيمَ ومَنْ بعده وآتيناك وأرسلناك حتماً كأنه قيل إنا أوحينا إليك إيحاءً مثلَ ما أوحينا إلى نوح ومثلَ ما أوحينا إلى إبراهيمَ ومَنْ بعده وآتيناك الفرقانَ إيتاءً مثلَ ما آتينا داودَ زبوراً وأرسلناك إرسالاً مثلَ ما أرسلنا رسلاً قد قصصناهم عليك من قبل رسلنا وآخرين لم نقصُصْهم عليك من غير تفاوت بيك وبينهم في حقيقة الإيحاءِ وأصلِ الإرسالِ فما للكفرة يسألونك شيئاً لم يُعطَه أحدٌ من هؤلاء الرسلِ عليهم السلام ومنْ ههُنا اتضحَ أنَّ رسلاً لا يمكن نصبُه بقصصنا فإن ناصبه أنْ يكونَ معطوفاً على أوحينا داخلاً معه في حكم التشبيه الذي عليه يدورُ فلَكُ الاحتجاجِ على الكفرة ولا ريب في أن قصصنا لا تعلُّقَ له بشيء من الإيحاء والإيتاءِ حتى يمكنَ اعتبارُه في ضمن

165 - النساء قوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثم يعتبرُ بينه وبين المذكورِ مماثلةٌ مصحِّحةٌ للتشبيه على أن تقديرَه في رسلاً الأوّلِ يقتضي تقديرَ نفيِه في الثاني وذلك أشدُّ استحالةً وأظهرُ بطلاناً {وَكَلَّمَ الله موسى} برفع الجلالةِ ونصبِ موسى وقرئ على القلب وقوله تعالى {تَكْلِيماً} مصدرٌ مؤكدٌ رافعٌ لاحتمال المجازِ قال الفراء العربُ تسمِّي ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريق وصَل مالم يؤكَّدْ بالمصدر فإذا أُكّد به لم يكنْ إلا حقيقةُ الكلامِ والجملةُ إما معطوفةٌ على قولِه تعالى إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ عطفَ القصةِ على القصة لا على آتينا وما عطف عليه وإما حالٌ بتقدير قد كما ينبئ عنه تغييرُ الأسلوبِ بالالتفات والمعنى أن التكليمَ بغير واسطةٍ منتهى مراتبِ الوحي خُصَّ به موسى من بينهم فلم يكن ذلك قادحاً في نبوة سائرِ الانبياء علهم السلام فكيف يُتوَّهم كونُ نزول التوراة عليه عليه السلام جملةً قادحاً في صحة نبوةِ من أنزل عليه الكتابُ مفصلاً مع ظهور أن نزولُها كذلك لما آمنوا بها ومع ذلك ما آمنوا بها إلا بعد اللئيا والتي وقد فضل الله تعالى نبينا محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم بأن أعطاه مثلَ ما أعطى كلَّ واحدٍ منهم صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً

165

{رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} نُصب على المدحِ أو بإضمار أرسلنا أو على الحال بأن يكون رسلاً موطئاً لما بعده أو على البداية من رُسلاً الأولِ أي مبشرين لأهل الطاعةِ بالجنة ومنذرين للعُصاة بالنار {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ} أي مَعذرةٌ يعتذرون بها قائلين لَوْلا أرسلتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فيبينَ لنا شرائعَك ويعلمنا مالم نكن مالم نكن نعلم من أحكامك لقصور القوةِ البشريةِ عن إدراك كلياتِها كما في قوله عز وجل وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فنتبع آياتك الآية وإنما سُمِّيت حجةً مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه حجةٌ في فعل من أفعاله بل له أن يفعلَ ما يشاءُ كما يشاءُ للتنبيه على أن المعذرةَ في القَبول عنده تعالى بمقتضى كرمِه ورحمتِه لعباده بمنزلة الحجةِ القاطعةِ التي لا مرد لها ولذلك قال تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً قال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ما أحدٌ أغيرُ مِنَ الله تعالى ولذلك حرَّم الفواحشَ ما ظهرَ منها وما بطن وما أحدٌ أحبُّ إليه المدحُ من الله تعالى ولذلك مدح نفسَه وما أحدٌ أحبُّ إليه العذر من الله تعالى ولذلك أرسلَ الرسلَ وأنزلَ الكتُب فاللامُ متعلقةٌ بأرسلنا وقيل بقوله تعالى مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وحجةٌ اسمُ كان وللناس خبرُها وعلى الله متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من حجة كائنةً على الله أو هو الخبرُ وللناس حالٌ على الوجه المذكور ويجوز أن يتعلق كلٌّ منهما بما تعلقَ به الآخرُ الذي هو الخبرُ ولا يجوز التعلقُ بحجة لأن المعمول المصدر لا يتقدم عليه وقوله تعالى {بَعْدَ الرسل} أي بعد إرسالِهم وتبليغِ الشرائعِ إلى الأمم على ألسنتهم متعلقٌ بحجة أو بمحذوف وقع صفة لها لأن الظروف يوصف بها الأحداثُ كما يُخبر بها عنها نحو القتالُ يومُ الجمعة {وَكَانَ الله عَزِيزاً} لا يغالَب في أمرٍ من أمورِه ومن قضيته الامتناعُ عن الإجابة إلى مسألة المتعنّتين {حَكِيماً} في جميع أفعالِه التي من جملتها إرسالُ الرسلِ وإنزالُ الكتبِ فإن تعدد الرسل والكتب واختلافها في كيفية النزولِ وتغايُرَها

166 - 167 168 النساء في بعض الشرائعِ والأحكامِ إنما لتفاوت طبقاتِ الأممِ في الأحوال التي عليها يدورُ فلكُ التكليفِ فكما أنه سبحانه وتعالى برَأَهم على أنحاءَ شتى وأطوارٍ متباينةٍ حسبما تقتضيه الحِكمةُ التكوينيةُ كذلك تعبّدهم بما يليق بشأنهم وتقتضيه أحوالُهم المتخالفةُ واستعداداتُهم المتغايرةُ من الشرائع والأحكامِ حسبما تستدعيه الحِكمةُ التشريعيةُ وراعى في إرسال الرسلِ وإنزالِ الكتبِ وغيرِ ذلكَ من الأمورِ المتعلقةِ بمعاشهم ومعادِهم ما فيه مصلحتُهم فسؤالُ تنزيلِ الكتابِ جملةً اقتراحٌ فاسدٌ إذ حينئذ تتعاقم التكاليفُ فيثقُل على المكلَّف قَبولُها والخروجُ عن عُهدتها وأما التنزيلُ المُنَجَّم الواقعُ حسب الأمورِ الداعيةِ إليه فهو أيسرُ قَبولاً وأسهلُ امتثالاً

166

{لكن الله يَشْهَدُ} بتخفيف النون ورفع الجلالة وقرئ بتشديد النونِ ونصبِ الجلالةِ وهو استدراك عما يُفهم مما قبله كأنهم لما تعنّتوا عليه بما سبق من السؤال واحتَجّ عليهم بقوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كما أَوْحَيْنَا الخ قيل إنهم لا يشهدون بذلك لكنَّ الله يشهد {بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ} على البناء للفاعل وقرئ على البناء للمفعولِ والباءُ صلةٌ للشهادة أي يشهد بحقية مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن القرآن المعجزِ الناطِقِ بنبوتك وقيل لمَّا نزل قوله تعالى إنا أوحينا إِلَيْكَ قالوا ما نشهد لك بهذا فنزل لكنِ الله يشهد {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} أي ملتبساً بعلمه الخاصِّ الذي لا يعلمه غيرُه وهو تأليفُه على نمط بديعٍ يَعجِز عنه كلُّ بليغٍ أو بعلمه بحال مَنْ أنزله عليه واستعدادِه لاقتباس الأنوارِ القدسية أو بعلمه الذي يحتاج إليه الناسُ في معاشهم ومعادِهم فالجارُّ والمجرورُ على الأولَينِ حالٌ من الفاعل وعلى الثالث من المفعولِ والجملةُ في موقع التفسير لما قبلها وقرئ نزله وقوله تعالى {والملائكة يشهدون} أي بذلك مبتدأوخبر والجملة عطفٌ على ما قبلَها وقيل حالٌ من مفعول أنزله أي أنزله والملائكةُ يشهدون بصدقه وحقِّيتِه {وكفى بالله شَهِيداً} على صحة نُبوّتِك حيث نصَبَ لها معجزاتٍ باهرةً وحججاً ظاهرةً مغْنيةً عن الاستشهاد بغيرها

167

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} أي بما أنزل الله تعالى وشهِد به أو بكلِّ ما يجبُ الإيمانُ به وهو داخلٌ فيه دخولاً أولياً والمرادُ بهم اليهودُ حيث كفروا به {وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} وهو دينُ الإسلام مَنْ أراد سلوكَه بقولهم ما نعرِف صفةَ محمدٍ في كتابنا وقرئ صُدُّوا مبنياً للمفعول {قَدْ ضَلُّواْ} بما فعلُوا منَ الكفرِ والصدِّ عن طريق الحق {ضلالا بَعِيداً} لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلالِ ولأن المُضِل يكون أعرقَ في الضلال وأبعدَ من الإقلاع عنه

168

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} أي بما ذكر آنفاً {وَظَلَمُواْ} أي محمدا صلى الله عليه وسلم بإنكار نبوّتِه وكتمانِ نعوتِه الجليلةِ ووضعِ غيرِها مكانَها أو الناسَ بصدهم عما فيه صلاحُهم في المعاش والمعاد {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} لاستحالة تعلّقِ المغفرةِ بالكافر {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طريقا}

169 - 170 النساء

169

{إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ} لعدم استعدادِهم للهداية إلى الحق والأعمالِ الصالحةِ التي هي طريقُ الجنةِ والمرادُ بالهداية المفهومةِ من الاستثناء بطريق الإشارةِ خلقُه تعالى لأعمالهم السيئة المؤديةِ بهم إلى جهنم عند صرف قددرتهم واختيارِهم إلى اكتسابها أو سوقُهم إليها يوم القيامة بواسطة الملائكةِ والطريقُ على عمومه والاستثناءُ متصل وقيل خاصٌّ بطريق الحقِّ والاستثناءُ منقطع {خالدين فِيهَا} حالٌ مقدرةٌ من الضمير المنصوب والعاملُ فيها ما دل عليه الاستثناءُ دلالةً واضحةً كأنه قيل يُدخلهم جهنمَ خالدين فيها الخ وقوله تعالى {أَبَدًا} نصبٌ على الظرفية رافعٌ لاحتمال حملِ الخلودِ على المكث الطويل {وَكَانَ ذلك} أي جعلهم خالدين في جهنم {عَلَى الله يَسِيراً} لاستحالة أن يتعذّر عليه شيءٌ من مراداته تعالى

170

{يا أيها الناس} بعد ما حكَى لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعللَ اليهودِ بالأباطيل واقتراحَهم الباطلَ تعنتاً وردّ عليهم ذلك بتحقيق نبوتِه عليه الصلاةُ والسلامُ وتقريرِ رسالتِه ببيان أن شأنِه عليه الصلاةُ والسلام في أمر الوحي والإرسالِ كشئون من يعترفون بنبوته من مشاهيرِ الأنبياءِ عليهم السلام وأكد ذلك بشهادته سبحانه وشهادة الملائكة أمر المكلفون كافةً على طريق تلوينِ الخطابِ بالإيمان بذلك أمراً مشفوعاً بالوعد بالإجابة والوعيدِ على الرد تنبيهاً على أن الحجةَ قد لزِمَت ولم يبقَ بعد ذلك لأحد عذرٌ في عدم القبول وقوله عز وجل {قَدْ جَاءكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبّكُمْ} تكريرٌ للشهادة وتقريرٌ لحقية المشهودِ به وتمهيدٌ لما يعقُبه من الأمر بالإيمان وإيرادُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بعنوان الرسالةِ لتأكيد وجوبِ طاعتِه والمرادُ بالحق هو القرآنُ الكريمُ والباء متعلقةٌ بجاءكم فهي للتعدية أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الرسول أي ملتبساً بالحق ومِنْ أيضاً متعلقةٌ إما بالعقل وإمَّا بمحذوفٍ هو حالٌ من الحق أي جاءكم به من عنده تعالى أو جاءكم بالحق ومِنْ أيضاً متعلقةٌ إما بالفعل وإمَّا بمحذوفٍ هو حالٌ من الحق أي جاءكم به من عنده تعالى أو جاءكم بالحق كائناً من عندِه تعالَى والتعّرضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين للإيذان بأن ذلك لتربيتهم وتبليغِهم إلى كمالهم اللائقِ بهم ترغيباً لهم في الامتثال بما بعده من الأمر والفاء في قوله عز وجل {فَآمِنُواْ} للدِلالة على إيجاب ما قبلَها لما بعدَها أي فآمنوا به وبما ءجاء به من الحق وقولُه تعالى {خَيْراً لَّكُمْ} منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ لفعل واجبِ الإضمار كما هو رأيُ الخليل وسيبويهِ أي اقصِدوا أو ائتوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر أو على أنه نعتٌ لمصدر محذوف كما هو في رأي الفراء أي آمنوا إيماناً خيراً لكم أو على أنَّه خبرُ كان المضمرةِ الواقعةِ جواباً للأمر لاجزاء للشرط الصناعيّ وهو رأيُ الكسائي وأبي عبيدةَ أي يكنِ الإيمانُ خيراً لكم {وَإِن تَكْفُرُواْ} أي أن تُصِرُّوا وتستمروا على الكفر به {فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السماوات والارض} من الموجودات سواء كانت داخلةً في حقيقتهما وبذلك يُعلم حالُ أنفسِهما على أبلغِ وجهٍ وآكدِه أو خارجة عنهما متسقرة فيهما من العُقلاء وغيرِهم فيدخلُ في جملتهم المخاطَبون دخولاً أولياً أي كلُّها له عز وجل

171 - النساء خلقا وملكا وتصرفا لا يخرُج من ملكوته وقهرِه شيءٌ منها فمَنْ هذا شأنُه فهو قادرٌ على تعذيبكم بكفركم لا محالة أو فمن كان كذلك فهو غنيٌّ عنكم وعن غيركم لا يتضرّر بكفركم ولا ينتفع بإيمانكم وقيل فمَنْ كان كذلك فله عبيدٌ يعبُدونه وينقادون لأمره {وَكَانَ الله عَلِيماً} مُبالغاً في العلم فهو أعلم بأحوال الكلِّ فيدخُل في ذلك علمُه تعالى بكفرهم دخولاً أولياً {حَكِيماً} مراعياً للحِكمة في جميع أفعالِه التي من جملتها تعذيبُه تعالى إياهم بكفرهم

171

{ياْ أَهْلِ الكتاب} تجريدٌ للخطاب وتخصيصٌ له بالنصارى زجراً لهم عمَّا هُم عليهِ من الكفر والضلال {لا تغلوا فى دينكم} بالإفراط في رفع شأنِ عيسى عليه السلام وادعاءِ ألوهيتِه وأما غلوُّ اليهودِ في حط رتبتِه عليه السلام ورميِهم له بأنه وُلد لغير رَشْدةٍ فقد نعى عليهم ذلك فيما سبق {وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} أي لا تصِفوه بما يستحيل اتصافُه به من الحلول والاتحادِ واتخاذِ الصاحبةِ والولدِ بل نزّهوه عن جميع ذلك {إِنَّمَا المسيح} قد مر تفسير في سورة آل عمران وقرئ بكسر الميم وتشديد السين كالسِّكّيت على صيغة المبالغة وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {عِيسَى} بدلٌ منه أو عطفُ بيانٍ له وقولُه تعالى {رَسُولِ الله} خبرٌ للمبتدأ والجملةُ مستأنفةٌ مسوقةٌ لتعليل النهي عن القول الباطلِ المستلزِم للأمر بضده أعني الحقَّ أي إنه مقصورٌ على رتبة الرسالةِ لا يتخطاها {وَكَلِمَتُهُ} عطف على رسولُ الله أي مُكوَّن بكلمته وأمرِه الذي هو كنْ من غير واسطةِ أبٍ ولا نطفة {ألقاها إلى مَرْيَمَ} أي أوصلها إليها وحصلها فيها بنفخ جبريلَ عليه السلام وقيل أعلمها إياها وأخبرَها بها بطريق البِشارةِ وذلك قولُه تعالى إِنَّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ اسمه المسيح عيس بن مَرْيَمَ وقيل الجملةُ حالٌ من ضميره عليه السلام المستكنِّ فيما دل عليه وكلمتُه من معنى المشتق الذي هو العاملُ فيها وقد مقدَّرة معها {وَرُوحٌ مّنْهُ} قيل هو الذي نفخ جبريلُ عليهِ السَّلامُ في دِرْع مريم فحملت بإذن الله تعالى سُمِّي النفخُ روحاً لأنه ريحٌ تخرج من الروح ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً لا تبعيضية كما زعمت النصارى يُحكى أن طبيباً حاذقاً نصرانياً للرشيد ناظر عليَّ بن حسين الواقدي المروزي ذاتَ يوم فقال له إن في كتابكم ما يدلُّ على إنَّ عيسَى عليهِ السَّلامُ جزءٌ منه تعالى وتلا هذه الآية فقرأ الواقديُّ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السموات وَمَا فى الأرض جَمِيعاً مّنْهُ فقال إذن يلزم أن يكونَ جميعُ تلك الأشياء جزءا من الله تعالى علواً كبيراً فانقطع النصرانيُّ فأسلم وفرِح الرشيدُ فرحاً شديداً ووصل الواقديَّ بصلة فاخرة وهي متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لروح أي كائنةٌ من جهته تعالى جعلت منه تعالى وإن كانت بنفخ جبريلَ عليه السلام لكون النفخِ بأمره سبحانه وقيل سُمِّي روحاً لإحيائه الأمواتَ وقيل لإحيائه القلوبَ كما سمي به القرآن

172 - النساء لذلك في قوله تعالى وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا وقيل أريد بالروح الذي أُوحيَ إلى مريمَ بالبشارة وقيل جرت العادةُ بأنهم إذا أرادوا وف شيءٍ بغاية الطهارة والنظافة ق الوا إنه روحٌ فلما كان عيسى عليه السلام متكوِّناً من النفخ لا من النطفة وُصِف بالروح وتقديمُ كونِه عليه السلام رسولَ الله في الذكر مع تأخّره عن كونه كلمتَه تعالى وروحاً منه في الوجود لتحقيق الحقِّ من أول الأمرِ بما هو نصٌّ فيه غيرُ محتملٍ للتأويل وتعيينُ مآلِ ما يحتمله وسدِّ بابِ التأويلِ الزائغ {فآمِنُوا باللهِ} وخُصّوه بالألوهية {وَرُسُلِهِ} أجمعين وصِفوهم بالرسالة ولا تُخرجوا بعضَهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية {وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة} أي الألهةُ ثلاثةٌ الله والمسيحُ ومريم كما ينبئ عنه قوله تعالى أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله ثلاثةٌ إن صح أنهم يقولون الله جوهر واحدٌ ثلاثةُ أقانيمَ أقنومُ الأب وأقنوم الابن وأقنوم الروح القدس وأنهم يريدون بالأول الذات وقيل الوجود وبالثاني العلمَ وبالثالث الحياةَ {انتهوا} أي عن التثليث {خَيْراً لَّكُمْ} قد مر وجوهُ انتصابِه {إِنَّمَا الله إله واحد} أي بالذات مُنزَّه عن التعدد بوجهٍ من الوجوه فالله مبتدأوإله خبرُه وواحدٌ نعتٌ أي منفردٌ في ألوهيته {سبحانه أن يكون له ولد} أي أسبّحه تسبيحاً من ذلك فإنه إنما يُتصوَّر فيمن يماثله شيءٌ ويتطرق إليه فناء والله سبحانه منزه عن أمثاله وقرئ إنْ يكونُ أي سبحانه ما يكون له ولد وقوله تعالى {لَّهُ مَا في السماوات وَمَا فِي الارض} جملةٌ مستأنفةٌ مسوقةٌ لتعليل التنزيهِ وتقريرِه أي له مَا فِيهمَا مِنَ الموجوداتِ خلقاً وملكا وتصرفا لا يخرج عن ملكوته شيءٌ من الأشياء التي من جملتها عيسى عليه السلام فكيف يُتوَّهم كونُه ولداً له تعالى {وكفى بالله وَكِيلاً} إليه يكل كل الخلق مورهم وهو غني عن العالمين فأنى يُتصوَّر في حقه اتخاذُ الولدِ الذي هو شأن المعجزة المحتاجين في تدبير أمورِهم إلى من يَخلُفهم ويقوم مقامهم

172

{لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح} استئنافٌ مقررٌ لما سبقَ من التنزيه والاستنكافُ الأنَفةُ والترفعُ من نكفتَ الدمعَ إذا نجيته عن وجهك بالأصبع أي لن يأنف ولن يترفع {أن يكون عبدا لله} أي أن يكون عبداً له تعالى مستمراً على عبادته وطاعتِه حسبما هو وظيفةُ العبودية كيف وإن ذلك أقصى مراتبِ الشرفِ والاقتصارُ على ذكر عدمِ استنكافِه عليه السلام عنه مع أن شأنه عليه السلام المباهاةُ به كما يدل عليه أحوالُه ويُفصِحُ عنه أقواله أو لا يُرى أن أولَ مقالةٍ قالها للناس قوله إِنّى عَبْدُ الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا لوقوعه في موقع الجوابِ عما قاله الكفرة روي إن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَ تَعيبُ صاحبَنا قال ومن صاحبُكم قالوا عيسى قال وأيُّ شيء أقول قالوا تقول إنه عبدٌ الله قال إنه ليس بعار أن يكون عبداً لله قالوا بلى فنزلت وهو السرُّ في جعل المستنكَفِ عنه كونَه عليه السلام عبداً له تعالى دون أن يقال عن عبادة الله ونحوُ ذلك مع إفادة فائدةٍ جليلةٍ هي كمالُ نزاهتِه عليه السلام عن الاستنكافِ بالكلية فإن كونَه عبداً له تعالى مستمرة لدوام العبادةِ قطعاً فعدمُ الاستنكافِ عنه مستلزِمٌ لعدم الاستنكافِ

عن عبادته تعالى كما أشير إليه بخلاف عبادتِه تعالى فإنها حالةٌ متجدِّدة غيرُ مستلزِمةٍ للدوام يكفي في اتصاف موصوفها بها تحققها مرةً فعدمُ الاستنكافِ عنها لا يستلزم عن دوامها {ولا الملائكة المقربون} عطفٌ على المسيح أي ولا يستنكف الملائكةُ المقربون أن يكونوا عبيداً لله تعالى وقيل أن أريد بالملائكة كلُّ واحد منهم لم يُحتَجْ إلى التقدير واحتَجّ بالآية من زعم فضلَ الملائكةِ على الأنبياءِ عليهم السلامُ وقال مسافة لرد النصارى في رفع المسيحِ عن مقام العبوديةِ وذلك يقتضي أن يكون المعطوفُ أعلى درجةً من المعطوف عليه حتى يكون عدمُ استنكافِهم مستلزماً لعدم استنكافِه عليه السلام وأجيب بأن مناطَ كفرِ النصارى ورفعِهم له عليه السَّلامُ عن رتبة العبوديةِ لمّا كان اختصاصُه عليه السلام وامتيازُه عن سائر أفرادِ البشرِ بالولادة من غير أب وبالعلم من المغيبات وبالرفع إلى السماء عُطف على عدم استنكافِه عن عبوديته تعالى عدمُ استنكافِ مَنْ هو أعلى درجةً منه فيما ذكر فإن الملائكةَ مخلوقون من غير أبٍ ولا أمَ وعالمون بما لا يعلمه البشرُ من المغيبات ومَقارُّهم السمواتُ العلا ولا نزاعَ لأحد في علو درجتِهم من هذه الحيثيةِ وإنما النزاعُ في علوّها من حيث كثرةُ الثوابِ على الطاعات وبأن اآية ليست للرد على النصارى فقط بل على عبَدة الملائكةِ أيضاً فلا اتجاه لما قالوا حينئذ وإنْ سَلِم اختصاصُها بالرد على النصارى فلعله أُريد بالعطف المبالغةُ باعتبار التكثيرِ والتفصيلِ لا باعتبار التكبيرِ والتفضيلِ كما في قولك أصبح الأميرُ لا يخالفه رئيسٌ ولا مرءوس ولئن سُلّم إرادةُ التفضيلِ فغايةُ الأمرِ الدلالةُ على أفضلية المقربين منهم وهم الكروبيون الذين حول العرشِ أو من هو أعلى منهم رتبةً من الملائكةِ عليهمِ السَّلامُ على المسيح من الأنبياءِ عليهم السلام وليس يلزم من ذلك فضل أحدِ الجنسين على الآخر مطلقاً وهل التشاجرُ إلا فيه {وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ} أي عن طاعته فيشمل جميعَ الكفرةِ لعدم طاعتهم الثبوت للكفرة فإن عدم طاعتِهم له تعالى ممَّا لا سبيلَ لهم إن إنكار اتصافهم به إن قيل لم عبّر عن عدم طاعتِهم له تعالى بالاستنكاف عنها مع أن ذلك منهم كان بطريق إنكارِ كونِ الأمرِ منْ جهتِه تعالَى لا بطريق الاستنكافِ قلنا لأنهم كانوا يستنكفون عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل هو الإستنكاف عن طاعةِ الله تعالَى إذ لا أمرَ له عليه الصَّلاةُ والسلام سوى أمرِه تعالى مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله {وَيَسْتَكْبِرْ} الاستكبارُ الأنَفةُ عما لا ينبغي أن يُؤنَفَ عنه وأصلُه طلبُ الكِبْر لنفسه بغير استحقاقٍ له لا بمعنى طلب تحصيلِه مع اعتقاد عدمِ حصولِه فيه بل بمعنى عدِّ نفسِه كبيراً واعتقادِه كذلك وإنما عبَّر عنه بما يدلُّ على الطلب للإيذان بأن مآلَه محضُ الطلبِ بدون حصولِ المطلوب وقد عبر عن مثل ذلك بنفس الطلبِ في قولِه تعالَى يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا فإنهم ما كانوا يطلبون ثبوتَ العِوِجِ لسبيل الله مع اعتقادهم لاستقامتها بل كانوا يعدّونها ويعتقدونها مُعْوجّةً ويحكمون بذلك ولكن عبّر عن ذلك بالطلب لِما ذكر من الإشعار بأن ليس هناك شيءٌ سوى الطلبِ والاستكبارِ دون الاستنكافِ المنبئ عن توهم لحقوق العارِ والنقصِ من المستنكَفِ عنه {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} أي المستنكِفين ومقابليهم المدلولَ عليه بذكر عدمُ استنكافِ المسيحِ والملائكةِ عليهم السلام وقد تُرك ذكرُ أحدِ الفريقين في المفصل تعويلاً على إنباء التفصيل عنه وثقة

173 - 174 النساء بظهور اقتضاءِ حشرِ أحدِهما لحشر الآخرِ ضرورةَ عمومِ الحشرِ للخلائق كافةً كما تُرك ذكرُ أحدِ الفريقين في التفصيل عند قوله تعالى فَأَمَّا الذين آمنوا بالله الآية مع عموم الخطابِ لهما اعتماداً على ظهور اقتضاءِ إثابةِ أحدِهما لعقاب الآخر ضرورةَ شمولِ الجزاءِ للكل وقيل الضميرُ للمستنكفين وهناك مقدر اقتضاءِ إثابةِ أحدِهما لعقاب الآخر ضرورةَ شمولِ الجزاءِ للكل وقيل الضميرُ للمستنكِفين وهناك مقدَّرٌ معطوفٌ عليه والتقدير فسيحشرهم وغيرهم وقيل المعنى فسيحشرهم إليه يوم يحشرُ العبادَ لمجازاتهم وفيه أن الأنسبَ بالتفصيلِ الآتي اعتبارُ حشرِ الكلِّ في الإجمال على نهج واحد وقرئ فسيحشرهم بنونِ العظمةِ بطريقِ الالتفاتِ

173

{فأما الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} بيانٌ لحال الفريق المطوي ذكرُه في الإجمال قُدّم على بيان حالِ ما يقابله إبانةً لفضله ومسارعةً إلى بيان كونه حشرِه أيضاً معتبراً في الإجمال وإيرادُه بعنوان الإيمانِ والعملِ الصالحِ لا بوصف عدمِ الاستنكافِ المناسبِ لما قبله وما بعده للتنبيه على أنه المستتبِعُ لما يعقبه من الثمرات {فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ} من غير أن ينقُص منها شيئاً أصلاً {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} بتضعيفها أضعافا مضاعفة وبإعطاء ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَر على قلب بشر 6 - {وَأَمَّا الذين استنكفوا} أي عن عبادته عز وجل {واستكبروا فَيُعَذّبُهُمْ} بسبب استنكافِهم واستكبارِهم {عَذَاباً أَلِيماً} لا يُحيط به الوصفُ {وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وليا} بلى أمورَهم ويدبّر مصالحَهم {وَلاَ نصيرا} بنصرهم من بأسه تعالى وينجِّيهم من عذابه

174

{يَا أَيُّهَا الناس} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى كافة المكلفين إثرَ بيانِ بطلانِ ما عليه الكفرةُ من فنون والضلالِ وإلزامِهم بالبراهين القاطعةِ التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبالِ وإزاحةِ شُبَهِهم الواهيةِ بالبينات الواضحةِ وتنبيهٌ لهم على أن الحجةَ قد تمت فلم يبقَ بعد ذلك علةٌ لمتعلِّلٍ ولا عُذرٌ لمعتذر {قَدْ جَاءكُمُ} أي وصل إليكم وتقرَّرَ في قلوبكم بحيث لا سبيلَ لكم إلى الإنكار {بُرْهَانَ} البرهانُ ما يُبرهَنُ به على المطلوب والمرادُ به القرآنُ الدالُّ على صحة نبوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم المُثبِتُ لِما فيهِ من الأحكامِ التي من جُملتها ما أشير إليه مما أثبتته الآياتُ الكريمةُ من حقية الحقِّ وبُطلانِ الباطل ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم عبَّر عنه به لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه وقيل هو المعجزاتُ التي أظهرها وقيل هو دينُ الحقِّ الذي أتى به وقوله تعالى {مِنْ رَّبّكُمْ} إما متعلق بجاءكم أو بمحذوف وقع صفةً مشرّفةً لبرهانٌ مؤكدة لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنٌ منه تعالى على أن مِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً وقد جُوِّز على الثاني كونُها تبعيضيةً بحذف المضافِ أي كائنٌ من براهينِ ربِّكم والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطبينَ لإظهار اللُّطفِ بهم والإيذانِ بأن مجيئَه إليهم لتربيتهم وتكميلِهم {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} أريد به أيضاً القرآنُ الكريمُ عبّر عنه تارة بالبُرهان لما أشير إليه آنفا وأخرى بالنور المنير بنفسه المنوَّرِ لغيره إيذاناً

175 - 175 النساء بأنه بيِّنٌ بنفسه مستغنٍ في ثبوت حقِّيتِه وكونِه من عندِ الله تعالى بإعجازه غيرُ محتاجٍ إلى غيره مبينٌ لغيره من الأمور المذكورةِ وإشعاراً بهدايته للخلق ووإخراجهم من ظلمات الكفرِ إلى نور الإيمانِ وقد سلك به مسلك العطفِ المبنيِّ على تغايُر الطرفين تنزيلاً للمغايرة العُنوانيةِ منزلةَ المغايَرَةِ الذاتية وعبر عن ملابسته للمخاطَبين تارةً بالمجيء المسنَدِ إليه المنبء عن كمال قوتِه في البرهانية كأنه يجيء بنفسه فيُثبِتُ أحكامَه من غير أن يجيءَ به أحدٌ على شُبَه الكفرةِ بالإبطال وأخرى بالإنزال الموُقَعِ عليه الملائمِ لحيثية كونِه نوراً توقيرا له باعتبار كلِّ واحدٍ من عنوانية حظِّه اللائقِ به وإسنادُ إنزالِه إليه تعالى بطريق الالتفاتِ لكمال تشريفِه هذا على تقديرِ كونِ البرهانِ عبارةً عن القرآن العظيمِ وأما على تقدير كونِه عبارةً عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن المعجزات الظاهرةِ على يده أو عن الدينِ الحقِّ فالأمرُ هيِّنٌ وقولُه تعالى إِلَيْكُمْ متعلقٌ بإنزالنا فإن إنزالَه بالذات وإن كان إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لكنه منزلٌ إليهم أيضاً بواسطته عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وإنَّما اعتبر حاله لإظهار كمالِ اللطفِ بهم والتصريح بوصوله إليهم مبالغا في الإعذار وتقديمُه على المفعولِ الصريحِ مع أن حقَّه التأخرُ عنه لما مر غيرَ مرة من الاهتمامِ بما قُدِّمَ والتشويق إلى ما أُخِّر وللمحافظة على فواصلِ الآي الكريمة

175

{فأما الذين آمنوا بالله} حسبما يوجبُه البرهانُ الذي أتاهم {واعتصموا بِهِ} أي عصَموا به أنفسَهم مما يُرديها من زيغ الشيطان وغيره {فسيدخلهم في رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي الجنةُ وما يتفضل عليهم مما لا عينٌ رأتْ ولا أذن سمعت ولا خطَر على قلب بشر وعبّر عن إفاضة الفضلِ بالإدخال على طريقةِ قوله علفتُها تِبْناً وماء باردا وتنوينُ رحمةً وفضلٍ تفخيميٌّ ومنه متعلقٌ بمحذوف وقع صفة مشرِّفة لرحمة {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ} أي إلى الله عزَّ وجلَّ وقيل إلى الموعود وقيل إلى عبادته {صراطا مُّسْتَقِيماً} هو الإسلامُ والطاعةُ في الدنيا وطريقُ الجنةِ في الآخرة وتقديمُ ذكرِ الوعد بإدخال الجنةِ على الوعد بالهداية إليها على خلاف الترتيبِ في الوجود بين الموعودَين للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصلي قبل انتصابُ صِراطاً على أنه مفعولٌ لفعل محذوف ينبئ عنه يهديهم أي يعرِفهم صراطاً مستقيماً

176

{يَسْتَفْتُونَكَ} أي في الكلالة استُغني عن ذكره بوروده في قوله تعالى {قل الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة} وقد مر تفسيرُها في مطلع السورةِ الكريمةِ والمستفتي جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه يروى

أنه أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في طريقمكة عام حَجةِ الوداعِ فقال إن لي أختاً فكم آخذُ من ميراثها إن ماتت وقيل كان مريضاً فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني كَلالةٌ فكيف أصنع في مالي وروي عنه رضيَ الله عنه أنَّه قال عادني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريضٌ لا أعقِل فتوضأ وصبَّ من وَضوئه عليَّ فعقَلْت فقلت يا رسولَ الله لمن الميراثُ وإنما يرثني كلالةٌ فنزلت وقولُه تعالى {إِن امرؤ هَلَكَ} استئنافٌ مبينٌ للفُتيا وارتفع امرؤ أنه مفسِّرٌ للمحذوف غيرُ مقصودٍ في الكلام أي إن هلَك امرؤٌ غيرُ ذي ولد ذكراً كان أو أنثى واقتُصر على ذكر عدمِ الولدِ مع أن عدم الولد أيضاً معتبرٌ في الكلالة ثقةً بظهور الأمرِ ودَلالةِ تفصيل الورثةِ عليه وقوله تعالى {وله أخت} عطف على قوله تعالى لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ أو حالٌ والمرادُ بالأخت من ليست لأم فقط فإن فرضَها السدسُ وقد مر بيانُه في صدرِ السورةِ الكريمةِ {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} أي بالفرض والباقي للعصبة أولها بالردد إن لم يكن له عَصَبة {وَهُوَ} أي المرءُ المفروضُ {يَرِثُهَا} أي أختَه المفروضةَ إن فُرض هلاكُها مع بقائه {إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ} ذكراً كان أو أنثى فالمرادُ بإرثه لها إحرازُ جميعِ ما لها إذ هو المشروطُ بانتفاء الولدِ بالكلية لا إرثُه لها في الجملة فإنه يتحقق مع وجود بنتِها وليس في الآية ما يدل على سقوط الإخوةِ بغير الولدِ ولا على عدمِ سقوطِهم وإنما دلت على سقوطهم مع الأب السنة الشريفة {فَإِن كَانَتَا اثنتين} عطفٌ على الشرطية الأولى أي اثنتين فصاعداً {فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ} الضميرُ لمن يرث بالأخُوّة والتأنيثُ والتثنيةُ باعتبار المعنى قيل وفائدةُ الإخبارِ عنها باثنتين مع دَلالة ألفِ التثنية على الاثْنَيْنِيّة التنبيهُ عَلى أنَّ المعتبرَ في اختلاف الحُكْمِ هو العددُ دون الصِغَر والكِبَر وغيرِهما {وَإِن كَانُواْ} أي من يرث بطريق الأخُوّة {إِخْوَةً} أي مختلطة {رّجَالاً وَنِسَاء} بدلٌ من إخوةٍ والأصلُ وإن كانوا إخوةً وأخواتٍ فغلَبَ المذكرُ على المؤنث {فَلِلذَّكَرِ} أي فللذكر منهم {مِثْلُ حَظِ الانثيين} يقتسمون التركةَ على طريقة التعصيبِ وهذا آخر ما أُنزل من كتاب الله تعالى في الأحكام روي أن الصِّدِّيقِ رضي الله تعالى عنه قال في خطبته ألا إن الآيةَ التي أنزلَهَا الله تعالَى في سورة النساءِ في الفرائض فأولها الولد والوالد وثانيها في الزوج والزوجة والأخُوَّة من الأم والآيةُ التي خَتَم بها السورةَ في الأخوة والأخوات لأبوين أو لأب والآيةُ التي خَتَم بها سورةَ الأنفالِ أنزلها في أولي الأرحام {يُبَيّنُ الله لَكُمْ} أي حكمَ الكلالةِ أو أحكامَه وشرائعَه التي من جملتها حِكَمُها {أَن تَضِلُّواْ} أي كراهةَ أن تضلوا في ذلك وهذا رأيُ البصريين صرّح به المبرَّدُ وذهب الكسائيُّ والفراءُ وغيرُهما من الكوفيين إلى تقدير اللام في طرفي أن أي لئلا تَزُولاَ وقال أبو عبيد رويتُ للكسائي حديثَ ابنِ عُمر رضي الله تعالى عنهما وهو لا يدعُوَنّ أحدُكم على ولده أن يوافقَ من الله إجابةً أي لئلا يوافقَ فاستحسنه وليس ما ذُكر من الآيةِ والحديثِ نصاً فيما ذهب إليه الكسائي وأضرابُه فإن التقديرَ فيهما عند البصْريين كراهةَ أن تزولا وكراهةَ أن يوافِقَ الخ وقيل ليس هناك حذفٌ ولا تقديرٌ وإنما هو مفعولُ يبيِّن أي يُبين لكم ضلالَكم الذي هو من شأنكم إذا خُلِّيتم وطباعَكم لتحترزوا

عنه وتتحرَّوا خلافَه وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ إنما يليق بيما إذا كان بيانُه تعالى تعيين على طريقة مواقع الخطأ والضلالِ من غير تصريح بما هو الحقُّ والصواب وليس كذلك {والله بِكُلّ شيءٍ} من الأشياء التي من جملتها أحوالُكم المتعلقةُ بمحياكم ومماتِكم {عَلِيمٌ} مبالِغٌ في العلمِ فيبيِّنُ لكم ما فيه مصلحتُكم ومنفعتُكم عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ النساءِ فكأنما تصدّق على كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ ورِث ميراثاً وأُعطي من الأجر كمن اشترى محررا وبرئ من الشرك وكان في مشيئة الله تعالى من الذين يُتجاوز عنهم والله أعلم

5 سورة المائدة (1) سورة المائدة مدنية وهي مائة وعشرون آية (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم)

المائدة

(يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود) الوفاءُ القيامُ بموجَبِ العَقْد وكذا الإيفاء والعقد هو العهدُ الموَثَّقُ المشبَّه بعقد الحبل ونحوه والمراد بالعقود ما يعمّ جميعَ ما ألزمه الله تعالى عبادَه وعقَده عليهم من التكاليف والأحكام الدينية وما يعقِدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به أو يحسنُ دِيناً بأن يُحمل الأمرُ على معنىً يعمّ الوجوبَ والندبَ أُمرَ بذلك أولاً على وجهِ الإجمالِ ثم شُرِعَ في تفصيلِ الأحكام التي امر بالايفاء بها وبدء بما يتعلّق بضروريات مَعايشِهم فقيل (احلت بَهِيمَةُ الانعام) البهيمةُ كلُّ ذات أربع وإضافتُها إلى الأنعام للبيان كثوب الخزّ وإفرادُها لإرادة الجنس أي أحِلّ لكم أكلُ البهيمة من الأنعام وهي الأزواجُ الثَّمانيةُ المعدودة في سورة الانعام والحق بها الضباء وبقَرُ الوَحْش ونحوُهما وقيل هي المرادة بالبهيمة همنا لتقدّم بيان حِلِّ الأنعام والإضافةُ لما بينهما من المشابهةِ والممائلة في الاجترار وعد الأنياب وفائدتُها الإشعارُ بعِلة الحكم المشتركة بين المضافَيْن كأنه قيل أحلت لكم البهيمةُ الشبيهة بالأنعام التي بَيَّن إحلالَها فيما سبق الممائلة لها في مَناطِ الحُكم وتقديم الجار والمجرور على القائم مقام الفاعلِ لما مرَّ مراراً من إظهار العناية بالمقدم لما فيه من تعجيلِ المسرَّةِ والتِّشويقِ إلى المؤخَّرِ فانما حقَّه التقديمُ إذا أُخرَ تبقى النفسُ مترقبة إلى وروده فيتمكّن عندها فضلُ تمكن (ال مَا يتلى عَلَيْكُمْ) استثناء من بهيمة الانعام أي إلا مُحرَّمَ ما يتلى عليكم من قوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة ونحوَه أو إلا ما يُتلى عليكم آيةُ تحريمه (غَيْرَ مُحِلّى الصيد) أي الاصطياد في البراء واكل صيده وهو نصبٌ على الحالية من ضمير لكم ومعنى عدمِ إحلالِهم له تقريرُ حرمته عملاً واعتقاداً وهو شائع في الكتاب والسنة وقوله تعالى (وَأَنتُمْ حرم) أي محرومون حال من الضمير في محلى وفائدة تقيد إحلالِ بهيمةِ الأنعام بما ذُكر من عدم إحلالِ الصيد حالَ الإحرام على تقدير كونِ المراد بها الظباءَ ونظائرَها ظاهرةٌ لما ان احلالها غي مُطلق كأنه قيل أحل لكم الصيدُ حالَ كونِكم ممتنعين عنه عند إحرامكم وأمَّا على التَّقديرِ الأوَّلِ ففائدته إتمامُ النعمة وإظهارُ الامتنان بإحلالها بتذكير احتياجهم إليه فإن حرمةَ الصيد في حالة الإحرام من

5 سورة المائدة (2) مظانِّ حاجتهم إلى إحلال غيرِه حينئذ كأنه قيل أحلت لكم الأنعام مطلقاً حالَ كونكم ممتنِعين عن تحصيل ما يُغنيكم عنها في بعض الأوقات محتاجين إلى إحلالها وفي إسناد عدم الإحلال إليهم بالمعنى المذكور مع حصول المراد بان يقال غي محلَّلٍ لكم أو محرماً عليكم الصيدُ حال إحرامكم مزيد تربية الامتنان وتقرير للحاجة ببيان علتها القريبة فإن تحريم الصيد عليهم إنما يوجب حاجتهم إلى إحلال ما يغنيهم عنه باعتبار تحريمهم له عملاً واعتقاداً مع ما في ذلك من وصفهم بما هو اللائق بهم (إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) من الأحكام حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَم البالغة فيدخُل فيها ما ذُكر من التحليل والتحريم دخولا او وليا ومعنى الإيفاء بهما الجرَيانُ على موجبهما عقداً وعملاً والاجتنابُ عن تحليل المحرمات وتحريم بعضِ المحلَّلاتِ كالبَحيرة والنظائرها التي سياتي بيانها

2

(يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ الا تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله) لمّا بيّن حُرمةَ إحلال الإحرام الذي هو من شعائر الحج عقّب ذلك ببيان حرمة إحلال سائر الشعائر واضافتها إلى الله عزَّ وجلَّ لتشريفها وتهويلِ الخطب في إحلالها وهي جمع شعيرةٍ وهي اسم لما أُشعِر أي جُعل شِعاراً وعَلَماً للنُسُك من مواقيت الحج ومرامي الجمار والمطافِ والمسعى والأفعالِ التي هي علاماتُ الحاج يُعرف بها من الإحرام والطوافِ والسعْي والحلق والنحر وإحلالُها أن يُتهاوَن بحرمتها ويحال بينهما وبين المتنسّكين بها ويُحدَثَ في أشهر الحج ما يصد به للناس عن الحج وقيل المراد بها دينُ الله لقوله تعالى وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله أي دِينه وقيل حرماتِ الله وقيل فرائضَه التي حدها العبادة وإحلالُها الإخلالُ بها والأول أنسبُ بالمقام (وَلاَ الشهر الحرام) أي لا تُحِلّوه بالقتال فيه وقيل بالنسي والاول هو الاولى بحال المؤمنين والمراد به شهر الحج وقيل الأشهر الأربعة الحرم والإفراد لإرادة الجنس (وَلاَ الهدى) بأن يُتعرَّضَ له بالغصب أو بالمنع عن بلوغِ مَحِلِّه وهو ما أُهدِيَ إلى الكعبة من إبل او بقر او شاة جمع هدية كجدي وجدية (وَلاَ القلائد) هي جمعُ قِلادة وهي ما يُقلَّد به الهدْيُ من نعلٍ أو لِحاءِ شجرٍ ليُعلم به أنه هدْيٌ فلا يُتعرَّضَ له والمراد النهيُ عن التعرض لذوات القلائد من الهدْي وهي البُدْن وعطفُها على الهدي مع دخولها فيه لمزيد التوصية بها لمزيتها على ما عداها كما عَطفَ جبريلَ وميكالَ على الملائكة عليهم السلام كأنه قيل والقلائدَ منه خصوصاً أو النهيُ عن التعرض لنفس القلائدِ مبالغةً في النهي عن التعرض لأصحابها على معنى لا تحلو قلائدَها فضلاً عن أن تحلوها كما نهى عن إبداء الزينة بقوله تعالى وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ مبالغةً في النَّهيِ عن إبداءِ مواقعها (ولا امين البيت الحرام) أي لا تحلو قوما قاصدين زيارته بانه تصُدّوهم عن ذلك بأي وجه كان وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ أي قتالَ قومٍ أو أذى قوم امين الخ وقرا ولا آمِّي البيتِ الحرامِ بالإضافة وقولُه تعالَى (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ ورضوانا

حال من المستكن في امين لاصفة له لأن المختار أن اسم الفاعل إذا وُصف بطَلَ عملُه أي قاصدين زيارته حال كونهم طالبين أن يُثيبَهم الله تعالى ويرضَى عنهم وتنكيرُ فضلاً ورضوانا للتفخيم ومن ربهم متعلق بنفس الفعل أو بمحذوف وقع صفة لفضلاً مُغنيةً عن وصفِ ما عُطف عليه بها أي فضلاً كائناً من ربهم ورضواناً كذلك والتعرُّضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم والإشعارِ بحصول مبتغاهم وقرىءتبتغون على الخطاب فالجملة حينئذ حالٌ من ضميرِ المخاطبينَ في لا تُحلوا على أنَّ المرادَ بيانُ منافاة حالهم هذه للمنهيِّ عنه لا تقييدُ النهي بها وإضافة الرب إلى ضمير الآمّين للإيماء إلى اقتصار التشريف عليهم وحِرمانِ المخاطَبين عنه وعن نيل المبتغى وفي ذلك من تعليلِ النهْي وتأكيدِه والمبالغة في استنكار المنهى عنه مالا يخفى ومن ههنا قيل ان المراد بالآمّين هم المسلمون خاصة وبه تمسك من ذهب إلى أن الآية وقد رُويَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال سورة المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا احلالها وحرِّموا حرامَها وقال الحَسَنِ رحَمهُ الله تعالَى ليس فيها منسوخ وعن أبي ميسرة فيها ثماني عشرةَ فريضةً وليس فيها منسوخ وقد قيل هم المشركون خاصة لأنهم المحتاجون إلى نهي المؤمنين عن إحلالهم دون المؤمنين على أن حرمة إحلالهم ثبتت بطريق دلالة النص ويؤيده أنَّ الآيةَ نزلتْ في الحطم بن ضبعة البَكْري وقد كان أتى المدينة فخلّف خيلَه خارجها فدخل على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وحده ووعده أن يأتيَ بأصحابه فيُسلموا ثم خرج من عنده عليه السلام فمر بسَرْح المدينة فاستاقه فلما كان في العام القابل خرج من اليمامة حاجاً في حُجّاج بكرِ بنِ وائل ومعه تجارة عظيمة وقد قلّدوا الهدْي فسال المسلمون النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أن يُخلِّيَ بينهم وبينه فاباه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فأنزل الله عزَّ وجلَّ يأَيُّهَا الذين امنوا لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله الآية وفُسِّر ابتغاءُ الفضل بطلب الرزق بالتجارة وابتغاءُ الرضوان بأنهم كانوا يزعُمون أنهم على سِدادٍ من دَيْنهم وأن الحج يقرّبهم إلى الله تعالى فوصفهم الله تعالى بظنهم وذلك الظنُّ الفاسد وإن كان بمعزل من استتباع رضوانِه تعالى لكن لا بُعدَ في كونه مداراً لحصول بعض مقاصدهم الدنيوية وخلاصِهم عن المكاره العاجلة لا سيما في ضمن مراعاة حقوق الله تعالى وتعظيم شعائره وقال قتادة هو أن يُصلح معايشَهم في الدنيا ولا يعجّلَ لهم العقوبة فيها وقيل هم المسلمون والمشركون لما رُوي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ المسلمين والمشركين كانوا يُحجّون جميعاً فنهى الله المسلمين أن يمنعوا أحداً عن حج البيت بقوله تعالى لاَ تُحِلُّواْ الآية ثم نزل بعد ذلك إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فلا تقربوا المسجد الحرام وقولُه تعالى مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله وقال مجاهد والشعى لا تحلوا نُسخ بقوله تعالى اقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ولا ريب في تناول الآمّين للمشركين قطعاً إما استقلالاً واما اشتراكا سيأتي من قوله تعالى ولا يجر منكم شَنَانُ قَوْمٍ الخ فيتعين النسخُ كُلاًّ أو بعضاً ولا بد في الوجه الأخير من تفسير الفضل والرضوان ان يناسب الفريقين فقيل ابتغاء الفضل أي الرزق للمؤمنين والمشركين عامة وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة ويجوز أن يكون الفضلُ على إطلاقه شاملاً للفضل الأخروي أيضاً ويختص ابتغاؤه بالمؤمنين {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} تصريح بما أشير إليه بقوله تعالى وَأَنتُمْ حُرُمٌ من انتهاء حرمة الصيد بانتفاء موجِبِها والأمر للإباحة بعد الحظر كانه قيل واذا حَلَلْتم فلا جُناح عليكم في الاصطياد وقرىء أَحْللتم وهو لغة في حلى وقُرىء بكسر الفاء بإلقاءِ حركة همزة الوصل عليها وهو

5 سورة المائدة اية 2 ضيعف جداً {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} نهَى عن إحلال قومٍ من الآمِّين خُصّوا به مع اندراجهم في النَهْي عن إحلال الكلِّ كافة لاستقلالهم بأمور ربما يُتوهَّم كونُها مُصحِّحةً لإحلالهم داعيةً إليه وجَرَم جارٍ مَجْرى كَسَبَ في المعنى وفي التعدِّي إلى مفعول واحد وإلى اثنين يقال جَرَم ذنباً نحوُ كسبَه وجرَمتُه ذنباً نحو كسبته الياه خلا أن جَرَم يستعمل غالباً في كسْبِ ما لا خيرَ فيه وهو السبب في ايثاره ههنا على الثاني وقد يُنقل الأولُ من كلَ منهما بالهمزة إلى معنى الثاني فيقال أجرمته ذنباً وأكسبته إياه وعليه قراءةُ مَن قرأ يجر منكم بضم الياء {شَنَانُ قَوْمٍ} بفَتْح النون وقرىء بسكونها وكلاهما مصدر ضعيف إلى مفعوله لا إلى فاعله كما قيل وهو شدة البغض وغاية المقت {أَن صَدُّوكُمْ} متعلق بالشنآن بإضمار لام العلة أي لان صدوركم عامَ الحُدَيْبية {عَنِ المسجد الحرام} عن زيارته والطواف به للعمرة وهده آية بيّنةٌ في عموم آمّين للمشركين قطعاً وقُرىء ان صدوركم على أنه شرط معترضٌ أغنى عن جوابه لا يجر منكم قد أبرز الصدَّ المحقّقَ فيما سبق في معرِض المفروض للتوبيخ والتنبيه على ان حقه ان لا يكون وقوعُه إلا على سبيل الفرض والتقدير {أَن تَعْتَدُواْ} أي عليهم وإنما حُذف تعويلاً على ظهوره وإيماءً إلى أن المقصِدَ الأصليَّ من النهْي منعُ صدورِ الاعتداء عن المخاطَبين محافظةً على تعظيم الشعائر لا منعُ وقوعِه على القوم مراعاة لجانبهم وهو ثاني مفعولي يجر منكم أي لا يكسبنكم شدو بغضِكم لهم لصدهم إياكم عن المسجد الحرام اعتداءَكم عليهم وانتقامَكم منهم للتشفّي وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهياً للشنآن عن كسب الاعتداء للمخاطَبين لكنه في الحقيقة نهيٌ لهم عن الاعتداء على أبلغِ وجهٍ وآكدِه فإن النهي عن أسباب الشيءِ ومباديه المؤديةِ إليه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني وإبطالٌ للسَّببيةِ وقد يُوجَّه النهيُ إلى المسبَّب ويراد النهيُ عن السَّببِ كما في قوله لا أرينك هَهُنا يريد به نهيَ مخاطِبَه عن الحضورِ لديهِ ولعل تأخير هذا النهي عن قوله تعالى وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا مع ظهور تعلقِه بما قبله للإيذان بأن حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن الإحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به بل هي باقية ما لم تنقطع علاقتُهم عن الشعائر بالكلية وبذلك يُعلم بقاءُ حرمة التعرضِ لسائر الآمّين بالطريق الأَوْلى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى} لما كان الاعتداءُ غالباً بطريق التظاهرُ والتعاون أُمروا إِثْرَ ما نُهوا عنه بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى ومتابعةِ الأمر ومجانبةِ الهوى فدخل فيه ما نحن بصدده من التعاون على العفو والإغضاءِ عما وقع منهم دخولاً أولياً ثم نُهُوا عن التعاون في كل ما هو من مَقولة الظلمِ والمعاصي بقوله تعالى {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} فاندرج فيه النهيُ عن التعاون على الاعتداء والانتقام بالطريق البرهاني وأصل لا تعاونوا لا تتعاونوا فحذَفَ منه إحدى التاءين تخفيفاً وإنما أَخَّر النهْي عن الأمر مع تقدم التخلية على التحلية مسارعةً إلى إيجاب ما هو مقصود بالذات فإن المقصود من إيجاب تركِ التعاونِ على الإثم والعدوان إنما هو تحصيلُ التعاون على البر والتقوى ثم أُمروا بقوله تعالى {واتقوا الله} بالاتقاء في جميعَ الأمورِ التي من جملتها مخالفةُ ما ذُكر من الأوامرِ والنَّواهِي فثبت وجوبُ الاتقاءِ فيها بالطريق البرهاني ثم علل ذلك بقولِهِ تعالَى {أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} أي لمن لا يتقيه فيعاقبكم لا محالة إن لم تتقوه وإظهارُ الاسم الجليل لما مر مرارا من إدخال الرَّوْعة وتربية المهابةِ وتقويةِ استقلال الجملة

5 سورة المائدة اية 3

3

{حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} شروعٌ في بيان المُحرَّمات التي أشير إليها بقوله تعالى إِلاَّ مَا يتلى عليكم والميتة ما فارقه الروحُ من غير ذبح {والدم} أي المسفوحُ منه لقوله تعالى أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا وكان أهلُ الجاهلية يصُبّونه في الأمعاء ويشْوونه ويقولون لم يحرم من فزدله أي من فصْدٍ له {وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} أي رفعُ الصوت لغير الله عند ذبحِه كقولهم باسم اللات والعزى {والمنخنقة} أي التي ماتت بالخنق {والموقوذة} أي التي قُتلت بالضرب بالخشب ونحوِه مِنْ وَقَذْتُه إذا ضربته {والمتردية} أي التي تردّت مِنْ علوَ أو إلى بئرٍ فماتت {والنطيحة} أي التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح والتاء للنقل وقرىء والمنطوحة {وَمَا أَكَلَ السبع} أي وما أكل منه السبُعُ فمات وقرىء بسكون الباء وقرىء وأكيلُ السبع وفيه دليلٌ على أنَّ جوارحَ الصيد إذا أكلت مما صادته لم يحِلّ {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} إلا ما أدركتم ذَكاتَه وفيه بقيةُ حياةٍ يضطرِبُ اضطرابَ المذبوح وقيل الاستثناء مخصوص بما أكل السبع والذَكاةُ في الشرع بقطع الحُلقومِ والمَرِيء بمُحدَّد {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} قيل هو منفرد وقيل جمع نِصاب وقرىء بسكون الصاد واياما كان فهو واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبةً حول البيت يَذبَحون عليها ويعدّون ذلك قُربة وقيل هي الأصنام {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالازلام} جمع زَلَم وهو القدح أي وحرم عليكم الاستقسام بالاقداح وذلك أنهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة اقداح مكتوب على أحدها أمرني ربي وعلى الثاني نهاني ربي وعلى الثالث فإن خرج الآمرُ مضَوا على ذلك وإن خرج الناهي اجتنبوا عنه وإن خرج الغافل أجالوها مرة أخرى فمعنى الاستقسام طلبُ معرفةِ ما قُسِم لهم بالأزلام وقيل هو اسقسام الجَزورِ بالأقداح على الأنْصِباء المعهودة {ذلكم} إشارة إلى الاستقسام بالأزلام ومعنى البعد فيه للإشارة إلى بُعد منزلتِه في الشرِّ {فِسْقٌ} تمرد وخروج عن الحدود دخول في علم الغيب وضلال باعتقاد أنه طريق إليه وافتراء على الله سبحانه إن كان هو المراد بقولهم ربي وشركٌ وجهالة إن كان هو الصنم وقيل ذلكم إشارةٌ إلى تناول المحرَّماتِ المعدودةِ لأن معنى تحريمها تحريمُ تناولِها {اليوم} اللام للعَهْد والمراد به الزمان الحاضرُ وما يتصل به من الأزمنة الماضية الاتية وقيل يومُ نزولِها وقد نزلت بعد عصر الجمعةِ يومَ عَرَفةَ في حَجةِ الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم واقفٌ بعَرَفاتٍ على العضباء فكادت عضُدُ الناقة تندق لثقلها فبركت واياما كان فهو منصوب على أنه ظرف لقوله تعالى {يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} أي من إبطالِه ورُجوعِكم عنه بتحليل هذه لخبائث أو غيرِها أو مِنْ أن يغلِبوكم عليه لِمَا شاهدوا من أن الله عز وجل وفى بوعدِه حيث أظهره على الدِّينِ كلِّه وهُو الانسب بقوله

سورة المائدة اية 4 تعالى {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} أي أنْ يظهرَوا عليكم {واخشون} أي وأخْلِصوا إليّ الخشية {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} بالنصر والإظهار على الأديان كلها أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيفِ على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد وتقديمُ الجار والمجرور للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأن الإكمالَ لمنفعتهم ومصلحتهم كما في قوله تعالى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وعليكم في قوله تعالى {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} متعلِّقٌ بأتممت لا بنعمتي لأن المصدرَ لا يتقدم عليه معمولُه وتقديمُهُ على المفعولِ الصريحِ لمامر مراتٍ أي أتممتُها بفتح مكةَ ودخولِها آمنين ظاهرين وهدمِ منارِ الجاهلية ومناسكِها والنهْيِ عن حجِّ المشرك وطوافِ العُرْيان أو بإكمال الدينِ والشرائع أو بالهداية والتوفيق قيل معنى أتممت عليكم نعمتي أنجزتُ لكم وعدي بقولي وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً} أي اخترتُه لكم من بين الأديان وهو الدينُ عند الله لا غيرُ عن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله تعالَى عنهُ إنَّ رجلاً من اليهود قال له يا أمير المؤمنين آيةٌ في كتابكم تقرءونها لو علينا معشرَ اليهود نزلت لاتخذْنا ذلك اليوم عيداً قال أي آية قال اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى الآية قال عُمر رضي الله تعالى عنه عرفنا ذلك اليومَ والمكانَ الذي أنزلت فيه على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وهو قائم بعرفَةَ يومَ الجمعة أشار رضي الله تعالى عنه إلى أن ذلك اليومَ عيدٌ لنا وروي أنه لمَّا نزلتْ هذهِ الآيةُ بكى عمرُ رضي الله تعالى عنه فقال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ما يُبكيك يا عمر قال أبكاني أنا كنا في زيادةٍ من دينِنا فاذ اكمل فإنه لا يكملُ شيءٌ الا نقص فقال عليه الصلاة والسلام صدقت فكانت هذه الآيةُ نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم فما لبِثَ بعد ذلك إلا أحداً وثمانين يوماً {فَمَنِ اضطر} متصلٌ بذكر المحرمات وما بينهما اعتراضٌ بما يوجبُ أن يُجتنَبَ عنه وهو أن تناوُلَها فسوقٌ وحرمتُها من جملة الدين والنعمةِ التامةِ والإسلامِ المَرْضِيِّ أي فمن اضطُر إلى تناول شيءٍ من هذه المحرمات {فِى مَخْمَصَةٍ} أي مجاعة يَخافُ معها الموتَ أو مبادِيَه {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} قيل غيرَ مائلٍ ومنحرفٍ إليه بأن يأكُلَها تلذذا او مجاوزا حدَّ الرُّخصة أو ينتزِعَها من مضطرٍ آخَرَ كقوله تعالى غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لا يؤاخذه بذلك

4

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} شروع في تفصيل المحلَّلاتِ التي ذَكَر بعضَها على وجه الإجمال إِثْرَ بيانِ المحرمات كأنهم سألوا عنها عند بيان أضدادِها ولِتَضَمُّنِ السؤال معنى القولِ أوقعُ على الجملة فماذا مبتدا واحل لهم خبرُه وضميرُ الغَيْبَة لِمَا أنّ يسألون بلفظ الغيبة فإنه كما يُعتبرُ حالُ المحكيِّ عنه فيقال أقسمَ زيدٌ لأفعلَنّ يُعتبرُ حالُ الحاكي فيقال أقسمَ زيدٌ ليفعَلَنّ والمسؤول ما أحل لهم من المطاعم {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} أي ما لم تستخبثْه الطّباعُ السليمة ولم تنفِرْ عنْهُ كما في قولِه تعالى وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات ويحرم عليهم الخبائث {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح} عطفٌ على الطيبات بتقدير المضاف على أن ما موصولةٌ والعائد محذوف أي وصيدُ ما علَّمتُموه أو مبتدا على ان

سورة المائدة اية 5 ما شرطيةٌ والجوابُ فكلوا وقد جوَّزَ كونَها مبتدأً على تقدير كونها موصولة أيضاً والخبرُ كلوا وإنما دخلته الفاء تشبيهاً للموصول باسم الشرط ومن الجوارح حالٌ منَ الموصولِ أو ضميرِه المحذوف والجوارحُ الكواسبُ من سباع البهائم والطير وقيل سميت بها لأنها تجرَحُ الصيدَ غالباً {مُكَلّبِينَ} أي معلِّمين لها الصيدَ والمكلِّبُ مؤدّبُ الجوارحِ ومضربها بالصيد مشتقٌ من الكَلْب لأن التأديب كثيراً ما يقع فيه أو لأن كلَّ سبُعٍ يسمى كَلْباً لقوله عليه الصلاة والسلام في حق عُتبةَ بنِ أبي لهبٍ حين أراد سفرَ الشأم فقال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم اللهمَّ سلِّطْ عليهِ كلباً من كلابك فأكلَه الأسد وانتصابُه عَلى الحاليةِ من فاعل علمتم وفائتها المبالغةُ في التعليم لما ان الاسم المكلّب لا يقع إلا على النحرير في علمِه وقرىء مُكْلِبين بالتخفيف والمعنى واحد {تُعَلّمُونَهُنَّ} حال ثانية منه أو حالٌ من ضميرِ مكلِّبين أو استئناف {مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} من الحِيَل وطُرُق التعليم والتأديب فإن العلمَ به إلهامٌ من الله تعالى أو مكتسَبٌ بالعقل الذي هو منحةٌ منه أو مما عرَّفَكم أن تعلموه من اتباعِ الصيدِ بإرسالِ صاحبِه وانزجارِه بزَجْرِه وانصرافِه بدعائه وإمساكِ الصيد عليه وعدمِ أكلِه منه {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} قد مر فيما سبق أن هذه الجملةَ على تقدير كونِ ما شرطيةً جوابُ الشرط وعلى تقدير كونِها موصولةً مرفوعةٌ على الابتداءِ خبرٌ لها وأما على تقدير كونِها عطفاً على الطيبات فهي جُملةٌ متفرِّعةٌ على بيان حلِّ صيدِ الجوارح المُعْلَمة مبيِّنةٌ للمضاف المقدَّر الذي هو المعطوف وبه يتعلق الإحلالُ حقيقةً ومشيرةٌ إلى نتيجةِ التعليم وأثره داخلةٌ تحت الأمر فالفاء فيها كما في قولِه أمرتُك الخيرَ فافعلْ ما أُمِرْت به ومِنْ تبعيضيةٌ لما أن البعضَ مما لا يتعلق به الاكل الجلود والعظامِ والريش وغير ذلك ومما موصولةٌ أو موصوفةٌ حذِفَ عائدها وعلى متعلقة بأمسكن أي فكلوا بعض ما أمسَكْنه عليكم وهو الذي لم يأكُلْن منه وأما ما أكلن منه فهو مما أمسَكْنه على انفسهن لقوله صلى الله عليه وسلم لعديِّ بن حاتم وإن أكل منه فلا تأكل إنما أمْسَكَ على نفسِهِ وإليه ذهب أكثرُ الفقهاء وقال بعضُهم لا يشترط عدمُ الأكل في سباعِ الطير لما أن تأديبَها إلى هذه الدرجة متعذِّر وقال آخرون لا يُشترط ذلك مطلقاً وقد رُوي عن سلمان وسعد ابن أبي وقاص وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم انه اذا الكلبُ ثلثيه وبقيَ ثلثُه وقد ذكرتَ اسم الله عليه فكُل {واذكروا اسم الله عَلَيْهِ} الضميرُ لما عَلَّمتم أي سمُّوا عليه عند إرسالِه أو لِما أمسكنه أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاتَه {واتقوا الله} في شأن محرماته {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} أي سريع ائتيان حسابه أو سريعُ تمامِه واذا شرَعَ فيه يتِمُّ في أقربِ ما يكون من الزمان والمعنى على التقديرين أنه يؤاخِذُكم سريعاً في كلِّ ما جلَّ ودقَّ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتربيةِ المهابةِ وتعليلِ الحُكْم

5

{اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات}

قيل المرادُ بالأيام الثلاثة وقتٌ واحدٌ وإنما كرر للتاكيد ولا اختلاف الاحداث والواقعة فيه حَسُنَ تكريرُه والمراد بالطيبات ما مر {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب} أي اليهودُ والنَّصارَى واستثنى عليٌّ رضي الله تعالى عنه نصارَى بني تغلِبَ وقال ليسوا على النصرانية ولم يأخُذوا منها إلا شرْبَ الخمر وبه أخذ الشافعي رضي الله عنه والمراد بطعامهم ما يتناولُ ذبائحهم وغيرها {حل لكم} أي حلال وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهُمَا أنَّه سال عن ذبائح نصارى العرب فقال لا بأسَ وهو قول عامة التابعين وبه اخذ ابو حنيفة رضى الله عنه وأصحابُه وحُكمُ الصابئين حكْمُ أهلِ الكتاب عنده وقال صاحباه هما صنفان صنفٌ يقرؤون الزَّبورَ ويعبُدون الملائكة عليهم السلام وصنفٌ لا يقرؤون كتاباً ويعبُدون النجوم فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب وأما المجوسُ فقد سُنَّ بهم سُنةَ أهلِ الكتاب في أخذ الجزيةِ منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لقوله عليه الصلاة والسلام سُنوا بهم سُنّةَ أهلِ الكتاب غيرَ ناكِحِي نسائِهم ولا اكلي ذبائحهم {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} فلا عليكم أن تُطعِموهم وتَبيعوه منهم ولو حُرِّم عليهم لم يجز ذلك {والمحصنات مِنَ المؤمنات} رفع على أنه مبتدأ حُذف خبرُه لدلالةِ ما تقدم عليه أي حِلٌّ لكم أيضاً والمراد بهم الحرائرُ العفائِف وتخصيصُهن بالذكر للبعث على ما هو الاول لا لنَفْيِ ما عداهن فان نكاح الايماء المسلماتِ صحيحٌ بالاتفاق وكذا نكاحُ غيرِ العفائِفِ منهن واما الايماء الكتابياتُ فهن كالمسلمات عند أبي حنيفة رضى الله عنه خلافا للشافعي رضي الله عنه {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} أي هن أيضاً حل لكم وإن كنّ حَرْبيات وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله تعالى عنهما لا تَحِلُّ الحربيات {إذا آتيتموهن أجورهن} أي مُهورَهن وتقييدَ الحِلِّ بإيتائِها لتأكيد وجوبها والحثِّ على الأولى وقيل المرادُ بايتاءها التزامُها وإذا ظرفيةٌ عاملُها حَلَّ المحذوف وقيل شرطية حُذِف جوابُها أي إذا آتيتموهن أجورهن حَلَلْنَ لكم {محصنين} حال من فاعل آتيتموهن أي حال كونِكم أعفّاءَ بالنكاح وكذا قوله تعالى {غَيْرَ مسافحين} وقيلَ هُو حالٌ من ضمير محصنين وقيل صفة لمحصِنين أي غيرَ مجاهِرين بالزنا {وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ} أي ولا مصرين به والخدم الصديق يقع على الذكر والأنثى وهو إما مجرورٌ عطفا على مسافحين وزيدة لا لتأكيدِ النَّفيِ المستفادِ من غير أو منصوبٌ عطفاً على غير مسافحين باعتبار اوجه الثلاثة {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان} أي ومن ينكرْ شرائعَ الإسلام التي من جملتها ما بين ههنا من الأحكام المتعلقة بالحِلِّ والحرمة ويمتنعْ عن قَبولها {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} الصالح الذي عمل قبل ذلك {لكم الدار الآخرة عِندَ الله} وهو مبتدا من الخاسئين خبره وفي متعلقة بما تعلَّق بهِ الخبرُ من الكون المطلق وقيل بمحذوف دل عليه المذكور أي خاسرة بالاخرة وقيل بالخاسرين على أن الالف والللام للتعريف لا موصولة لأن ما بعدها لا يعملُ فيما قبلَها وقيل يُغتفرُ في الظرف ما لا يغتفر في غيره كما في قوله ربيت حي إذا تمعددا كان جزائي بالعصا ان اجلدا

سورة المائدة اية

6

6 - {يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} شروعٌ في بيان الشرائع المتعلقةِ بدِينهم بعد بيانِ ما يتعلقُ بدنياهم {إِذَا قُمتُم إِلَى الصلاة} أي أردتم القيامَ إليها كما في قوله تعالى فَإِذَا قرات القران فاستعذ بالله عبر عن إرادة الفعل بالفعل المسبَّبِ عنها مَجازاً للإيجاز والتنبيهِ على أنَّ منْ أراد الصلاةَ حقُّه أن يبادِرَ إليها بحيث لا ينفك عن إرادتها أو إذا قصدتم الصلاةَ إطلاقاً لاسمِ أحدِ لازميها على لازمِها الآخَرِ وظاهرُ الآية الكريمةِ يوجبُ الوضوءَ على كل قائمٍ إليها وإن لم يكنْ محدِثاً لما أن الأمرَ للوجوب قطعاً والإجماعُ على خلافِه وقد رُويَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم صلى الصلواتِ الخمسَ يومَ الفتح بوُضوءٍ واحد فقال عمرُ رضي الله تعالى عنه صنعتَ شيئاً لم تكن تصنعه فقال عليه الصلاة والسلام عمداً فعلتُه يا عمر يعني بياناً للجواز وحُمل الأمرُ بالنسبة إلى غيرِ المحدثِ على الندب مما لا مَساغَ له فالوجهُ أن الخِطابَ خاصٌّ بالمُحْدِثين بقرينةِ دَلالةِ الحال واشتراطِ الحدَثِ في التيمم الذي هو بدلُه وما نُقل عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم والخلفاء من أنهم كانوا يتوضّؤون لكل صلاةٍ فلا دلالةَ فيه على أنهم كانوا يفعلونه بطريق الوجوبِ أصلاً كيف لا وما رُوي عنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسلام من قوله من توضَّأ على طُهْرٍ كتبَ الله له عشرَ حسنات صريحٌ في أن ذلك كان منهم بطريق الندب وما قيل كان ذلك أولَ الأمرِ ثم نُسخ يردُّه قوله عليه الصلاة والسلام المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} أي أمِرُّوا عليها الماء ولا حاجةَ إلى الدلك خلافاً لمالك {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} الجمهورُ على دخول المِرْفَقَين في المغسول ولذلك قيل إلى بمعنى مَعَ كما في قوله تعالى وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ وقيل هي إنما تُفيد معنى الغاية مطلقاً وأما دخولُها في الحُكْم أو خروجُها منه فلا دلالة لها عليه وإنما هو أمرٌ يدور على الدليلِ الخارجي كما في حفظة القرآنَ من أولِه إلى آخِرِه وقوله تعالى فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ فإن الدخولَ في الأول والخروجَ في الثاني مُتيقَّنٌ بناءً على تحقُّق الدليل وحيث لم يتحققْ ذلك في الآية وكانت الأيدي متناوِلةً للمرافِقِ حُكِمَ بدخولها فيها احتياطاً وقيل إلى من حيث إفادتُها للغاية تقتضي خروجَها لكن لما لم تتميَّزِ الغاية همنا عن ذي الغايةِ وجبَ ادخالها احتياطا {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} الباءُ مزيدةٌ وقيل للتبعيض فإنه الفارقُ بين قولِك مسَحْتُ المِنْديلَ ومسحتُ بالمنديل وتحقيقُه أنها تدل على تضمينِ الفعل معنى الإلصاق فكأنه قيل وألصِقوا المسحَ برؤوسِكم وذلك لا يقتضي الاستيعابَ كما يقتضيه ما لو قيل وامسحُوا رؤوسَكم فإنه كقوله تعالى فاغسلوا وُجُوهَكُمْ واختلف العلماء في القدر الواجب فأوجب الشافعيُّ أقلَّ ما ينطلِقُ عليه الاسمُ أخذاً باليقين وأبو حنيفةَ ببيانِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث مسح على ناصيته وقدرها

سورة المائدة اية 7 برُبُعِ الرأس ومالكٌ مسَحَ الكُلَّ أخذاً بالاحتياط {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} بالنْصب عطفاً على وجوهَكم ويؤيده السنةُ الشائعةُ وعَمَلُ الصحابةِ وقولُ اكثر الائمة والتحديد اذا المسْحُ لم يُعهَدْ محدوداً وقرء بالجرِّ على الجِوار ونظيرُه في القرآن كثير كقوله تعالى عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ونظائره وللنحات في ذلك بابٌ مفرَدٌ وفائدتُه التنبيهُ على أنه ينبغي أن يقتصِدَ في صبِّ الماء عليها ويغسِلَها غسلاً قريباً من المسح وفي الفصل بينه وبين أخواتِه إيماءٌ إلى أفضلية الترتيب وقرء بالرفع أي وأرجلُكم مغسولةٌ {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} أي فاغتسلوا وقرء فاطْهُروا أي فطهِّروا أبدانَكم وفي تعليق الأمرِ بالطهارة الكبرى بالحدثِ الأكبر إشارةٌ إلى اشتراط الأمر بالطهارةِ الصغرى بالحدث الأصغر {وَإِنْ كُنتُم مرضى} مرضاً يُخاف به الهلاكُ أو ازديادُه باستعمال الماء {أَوْ على سَفَرٍ} أي مستقرِّين عليه {أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط أَوْ لامستم النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} من لا ابتداء الغاية وقيل للتبعيض وهي متعلقة بامسح وقرء فأمُوُّا صعيداً وقد مر تفسيرُ الآية الكريمة مشبَعاً في سورة النساء فليرجَعْ إليه ولعل التكريرَ ليتّصِلَ الكلامُ في أنواع الطهارة {مَا يُرِيدُ الله} أي ما يريدُ بالأمرِ بالطهارة للصلاة او بالمر بالتيمم {لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ} من ضيقٍ في الامتثال به {ولكن يُرِيدُ} ما يريد بذلك {لّيُطَهّرَكُمْ} أي ليُنظِّفَكم أو ليطهِّرَكم عن الذنوب فإن الوضوءَ مكفِّرٌ لها أو ليطهرَكم بالتراب اذا اعوذكم التطَهُّر بالماء فمفعولُ يريد في الموضعين محذوفٌ واللام للعلة وقيل مزيدة والمعنى ما يريد الله أن يجعلَ عليكم من حرجٍ في باب الطهارة حتى لا يُرَخَّصَ لكم في التيمم ولكن يريد أن يطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهّرُ بالماء {وَلَّيْتُم} بشرعه ما هو مطهرة لا لأبدانكم ومُكفِّرةٌ لذنوبكم {نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} في الدين أو ليُتم برُخَصِه إنعامَه عليكم لعزائمه {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمته ومن لطائف الآية الكريمة أنها مشتملةٌ على سبعةِ أمور كلُّها مثنى طهارتانِ أصلٌ وبدلٌ والأصلُ اثنان مستوعَبٌ وغير مستوعب باعتبار الفعل غسلٌ ومسح وباعتبار المحلِّ محدودٌ وغيرُ محدود وأن آلتَهما مائعٌ وجامِد وموجِبُهما حدثٌ أصغرُ وأكبرُ وأن المبيحَ للعُدول إلى البدلِ مَرَضٌ وسفر وأن الموعودَ عليهما تطهيرُ الذنوب وإتمامُ النعمة

7

{واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} بالإسلام لتُذكِّرَكم المنعِمَ وتُرغِّبَكم في شكره {وميثاقه الذى وَاثَقَكُم بِهِ} أي عهدَه المؤكَّدَ الذي أخذه عليكم وقوله تعالى {إِذْ قُلْتُمْ سمعنا وأطعنا} ظرف لوثاقكم به او لمحذوف لمحذوفٍ وقع حالاً منَ الضميرِ المجرورِ في به أو مِنْ ميثاقه أي كائناً وقت قولِكم سمعنا وأطعنا وفائدةُ التقييدِ به تاكيد وجوب مراعاته بتذكير قبولهم والتزامهم بالمحافظة عليه وهو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في حال العُسر واليُسر والمنشَطِ والمَكْره وقيل هو الميثاقُ الواقعُ ليلةَ العقبة وفي بَيْعةِ الرضوان وإضافتُه إليه تعالى مع صدوره عنه عليه الصلاة والسلام لكون المرجِعَ إليه كما نطق به قولُه تعالى إِنَّ

سورة المائدة اية 8 سورة المائدة اية 9 سورة المائدة اية 10 الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله وقال مجاهد هو الميثاقُ الذي أخذه الله تعالى على عباده حين أخرجهم من صُلْب آدمَ عليه السلام {واتقوا الله} أي في نِسيان نعمتِه ونقضِ ميثاقِه أو في كلِّ ما تأتون وما تذرون فيدخُل فيه ما ذُكر دخولا اولياء {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي بخفيّاتِها الملابِسةِ لها ملابَسةً تامة مصحِّحة لإطلاق الصاحبِ عليها فيجازيكم عليها فما ظنكم بحليات الأعمال والجُملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ وتعليل الامر بالاتقاءِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الاضمار لتريه المهابة وتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة

8

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} شروعٌ في بيان الشرائع المتعلقةِ بما يجري بينهم وبين غيرِهم إثْرَ بيانِ ما يتعلق بأنفسهم {كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ} مقيمين لأوامره ممتثلين بها معظِّمين لها مراعين لحقوقها {شُهَدَاء بالقسط} أي بالعدل {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يحمِلَنَّكم {شَنَانُ قَوْمٍ} أي شدةُ بغضِكم لهم {عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ} فلا تشهَدوا في حقوقهم بالعدل أو فتعتلوا عليهم بارتكاب ما لا يحِلُّ كَمُثلةٍ وقَذْفٍ وقتلِ نساءٍ وصِبْيةٍ ونقضِ عهدٍ تشفياً وغيرِ ذلك {اعدلوا هُوَ} أي العدلُ {أَقْرَبُ للتقوى} الذي أمرتم به صرح لهم بالأمر بالعدل وبيّن أنه بمكانٍ من التقوى بعد ما نهاهم عن الجَوْر وبيَّن أنه مقتضى الهوى وإذا كان وجوبُ العدل في حق الكفار في هذه المثابة فما ظنُّك بوجوبه في حق المسلمين {واتقوا الله} أمرَ بالتقوى إثْرَ ما بين أن العدلَ أقربُ له اعتناءً بشأنه وتنبيهاً على أنه مَلاكُ الأمر {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال فيجازيكم بذلك وتكريرُ هذا الحُكم إما لاختلاف السببِ كما قيل إن الأولَ نزل في المشركين وهذا في اليهود أو لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في اطفاء فائدة الغيظ والجملةُ تعليلٌ لما قبلها وإظهارُ الجلالة لما مر مرات وحيث كانت مضمونُها منبئاً عن الوعد والوعيد عقَّب بالوعد لمن يُحافظ على طاعته تعالى وبالوعيد لمن يُخِلُّ بها فقيل

9

{وعد الله الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} التي من جملتها العدل والتقوى {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} حُذفَ ثاني مفعولا وَعَدَ استغناءً عنه بهذه الجملة فإنه استئنافٌ مبيِّنٌ له وقيل الجملةُ في موقع المفعول فإن الوعدَ ضربٌ من القول فكأنه قيل وعدَهم هذا القولَ

10

{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا} التي من جملتها ما تليت من النصوص الناطقة بالأمر والعدل والتقوى {أولئك} الموصوفون بما ذُكر من الكفر وتكذيبِ الآيات {أصحاب الجحيم} ملابسوها ملابَسةً مؤبَّدة من السُنة السنية القرآنية شفْعُ الوعدِ بالوعيد والجمعُ بين الترغيب والترهيب ايفاء لحق الدعوى بالتبشير والانذار

سورة المائدة اية

11

11 - {يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} تذكيرٌ لنعمة الإنجاءِ من الشرائر تذكيرِ نعمةِ إيصالِ الخير الذي هو نعمةُ الإسلام وما يتبَعُها من الميثاق وعليكم متعلِّقٌ بنعمة الله أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً منها وقولُه تعالى {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} على الأول ظرفٌ لنفس النعمة وعلى الثاني لِما تعلَّق به عليكم ولا سبيلَ إلى كونه ظرفا لا ذكروا التنافي زمانَيْهما أي اذكروا إنعامه تعالى عليكم أو اذكروا نعمته كائنةً عليكم في وقت همِّهم {أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} أي بأن يبطشوا بكنم بالقتل والاهلات يقال بسَطَ إليه يدَه اذا بطش به وبسط إليه لسانَه إذا شتمته وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصَّريحِ للمُسارعةِ إلى بيان رجوعِ ضررِ البسطِ وغائلتِه إليهم حملاً لهم منْ أولِ الأمرِ عَلى الاعتداد بنعمةِ دفعِه كما أن تقديم لكم في قولِه عزَّ وجلَّ هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض للمبادرة إلى بيان كونِ المخلوق من منافعِهم تعجيلاً للمَسَرّة {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} عطفٌ على هم وهو النعمة التي أُريد تذكيرُها وذكراً لهم للإيذان بوقوعها عند مزيدا لحاجة إليها والفاءُ للتعقيب المفيدِ لتمام النعمة وكما لها وإظهارُ أيديهم في موقع الإضمار لزيادة التقرير أي منَعَ أيديَهم أن تُمدَّ إليكم عقيب همِّهم بذلك لا أنه كفها عنكم بعد ما مدُّوها إليكم وفيه من الدلالة على كمالِ النعمة من حيثُ إنها لم تكن مشوبةً بضَرَر الخوف والانزعاجِ الذي قلما يعْرَى عنه الكفُّ بعد المد ما لا يخفى مكانُه وذلك ما روى ان المشركين راوا ارسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه بعَسفانَ في غزوة ذي انما روها غزوةُ ذاتِ الرَّقاع وهي السابعة من مغازيه عليه الصلاة والسلام قاموا إلى الظهر معاً فلما صلَّوْا ندِمَ المشركون ألا كانوا قد أكبُّوا عليهم فقالوا إن لهم بعدها صلاةً هي أحبُّ إليهم من آبائهم وأبنائِهم يعنون صلاةَ العصر وهمُّوا ان يوقعوا بهم اذ قاموا إليها فرد الله تعالى كيدَهم بأن أنزلَ صلاةَ الخوف وقيل هو ما رُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أتى بني قُرَيْظَةَ ومعه الشيخانِ وعليٌّ رضي الله تعالى عنهم يستقرِضُهم لدِيَةِ مسلمَيْن قتلهما عمْرُو بنُ أميةَ الضَّمُريُّ خطأً يحسَبُهما مشرِكَيْن فقالوا نعم يا أبا القاسم اجلِسْ حتى نُطعِمَك ونعطِيك ما سألت فأجلسوه في صُفَّةٍ وهمّوا بالفتك به وعمد عمروا بنُ جِحاش إلى رَحا عظيمةٍ يطرَحُها عليه فأمسك الله تعالى يده ونزل جبريلُ عليه السلام فأخبره فخرج عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل هو ما رُوي انه صلى الله عليه وسلم نزل منزِلاً وتفرّق أصحابُه في العظاء يستظلون بها فعلّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سيفَه بشجرة فجاء أعرابيٌّ فاخذها وسله فقال مَنْ يمنعُك مني فقال صلى الله عليه وسلم الله تعالى فاسقطع جبريلُ عليهِ السَّلامُ من يده فاخذه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال من يمنعك مني فقال لا أحدَ أشهدُ أَن لاَّ إلَه إِلاَّ الله وأن محمداً رسولُ الله {واتقوا الله} عطفٌ على اذكُروا أي اتقوه في رعاية حقوقِ نعمتِه ولا تُخِلُّوا بشكرِها أو في كلِّ ما تأتون وما تذرون فيدخُل فيه ما ذُكر دخول اولياء {وَعَلَى الله} أي عليهِ تعالى خاصَّة دونَ غيرِه استقلال واشتراكا {فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} فإنه يكفيهم في إيصال كلِّ خيرٍ ودفع كل شر والجملةُ تذييلٌ مقرِّر لمَا قبلَهُ وإيثارُ صيغة أمْرِ الغائبِ واسنادها إلى المؤمنين لإيجابِ التوكل على

سورة المائدة اية 12 المخاطبين بالطريق البرهاني ولايذان بأن ما وُصفوا به عند الخطابِ من وصف الإيمان داعٍ ألى مَا أُمروا بهِ من التوكل والتقوى وازعٌ عن الإخلال بهما وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ لتعليلِ الحُكمِ وتقوية استقلال الجملة التذييلية

12

{وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بني إسرائيل} كلامٌ مستأنفٌ مشتمِلٌ على ذكر بعضِ ما صدَر عن بني إسرائيلَ من الخِيانة ونقضِ الميثاق وما أدّى إليه ذلك من التّبِعاتِ مَسوقٌ لتقرير المؤمنين على ذكر نعمةِ الله تعالى ومراعاةِ حقِّ الميثاقِ الذي اوثقهم به وتحذيرِهم من نقضِه أو لتقرير ما ذُكر من الهم بالبطش وتحقيقِه على تقدير كون ذلك من بني قريظة حسْبما مرّ من الرواية ببيان أن الغدرَ والخيانة عادةٌ لهم قديمة توار ثوها من أسلافهم وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابةِ وتفخيمِ الميثاق وتهويلِ الخطبِ في نقضه مع ما فيه من رعاية حقِّ الاستئنافِ المستدعى لانقطاع عما قبله ولالتفات في قوله تعالى {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً} للجَريِ على سَنَنِ الكبرياءِ أو لأن البعثَ كان بواسطة موسى عليه السلام كما سيأتي وتقديمُ الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مرا مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر والنقيبُ فعيل بمعنى فاعل مشتقٌ من النَّقْب وهو التفتيش ومنه قوله تعالى فَنَقَّبُواْ فِى البلاد سُمِّيَ بذلك لتفتيشِه عن أحوال القومِ وأسرارِهم قال الزجاجُ وأصله من النقْب وهو الثقب الواسع رُوي إن بني إسرائيلَ لما استقروا بمصْرَ بعهد مَهْلِكِ فرعونَ أمرهم الله عز وجل بالمسير الى اريحا أرضِ الشام وكان يسكُنها الجبابرةُ الكَنعانيون وقال لهم إني كتبتُها لكم داراً وقراراً فاخرُجوا إليها وجاهِدوا من فيها وإني ناصِرُكم وأمر موسى عليه السلام أن يأخُذَ من كلِّ سِبطٍ نقيباً أميناً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أُمروا به توثِقَةً عليهم فاختارَ النقباءَ وأُخذ الميثاقُ على بني إسرائيلَ وتكفَّلَ إليهم النُقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعانَ بعث النقباءُ يتجسسون فرءوا أجراماً عظيمةً وقوةً وشَوْكة فهابوا ورَجَعوا وحدَّثوا قومَهم بما رؤوا وقد نهاهم موسى عن ذلك فنكثوا الميثاقَ إلا كالبَ بنَ يوقنا نقيبَ سبط يهاذا ويُوشَعَ بنَ نونٍ نقيبَ سِبطِ أفراييمَ بن يوسُفَ الصديق عليه الصلاة والسلام قيل لما توجه النقباءُ إلى أرضهم للتجسس لقِيَهم عوجُ بنُ عنق وكان طوله ثلاثة الاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وقد عاش ثلاثة آلاف سنة وكان على رأسه حُزمةُ حطب فأخذهم وجعلهم في الحُزمة وانطلق بهم إلى امرأته وقال انظُري إلى هؤلاء الذين يزعُمون أنهم يريدون قتالنا فطرَحهم بين يدَيْها وقال ألا أطحَنُهم برِجْلي فقالت لا بل خلي عنهم حتى يُخبِروا قومَهم بما رؤوا ففعل فجعلوا يتعرّفون أحوالَهم وكان لا يحمِلُ عنقودَ عِنبِهم إلا خمسةُ رجال أو أربعة فلما خرج النقباءُ قال بعضُهم لبعض إن أخبرتم بني إسرائيلَ بخبر القومِ ارتدوا عن نبي الله ولكنِ اكتُموه

سورة المائدة اية 12 إلا عن موسى وهارونَ عليهما السَّلامُ فيكونان هما يَريانِ رأيَهما فأخذ بعضُهم على بعضٍ الميثاقَ ثم انصرفوا إلى مُوسى عليهِ السَّلامُ وكان معهم حبةٌ من عنبِهم وِقْرَ رجل فنكثوا عهدَهم وجعل كلٌّ منهم ينهى سِبْطه عن قتالِهم ويُخبرهم بما رأى الا كالب ويشع وكان معسكرُ موسى فرسخاً في فرسخ فجاء اوج حتى نظر إليهم ثم رجع إلى الجبل فقور منه صخرة عظيمة على قدر العسكر ثم حملها على رأسه ليُطبِقَها عليهم فبعث الله تعالى الهُدُهُد فقوَّر من الصخرة وسَطَها المحاذِيَ لرأسه فانتقبت فوقعت في عُنُق عوج وطوقته فصرعته فاقبل موسى عليه السلام وطولُه عشرةُ أذرُعٍ وكذا طولُ العصا فتراما في السماء عشرةَ أذرع فما أصاب العصا إلا كعبا وهو مصروعٌ فقتله قالوا فأقبلت جماعةٌ ومعهم الخناجرُ حتى حزّوا رأسَه {وَقَالَ الله} أي لبني إسرائيل فقد اذاهم المحتاجون إلى ما ذُكر من الترغيب والترهيب كما يُنْبىءُ عنه الالتفاتُ مع ما فيه من تربية المهابة وتأكيدِ ما يتضمنه الكلام من الوعد {إِنّى مَعَكُمْ} أي بالعلم والقدرة والنُّصرة لا بالنصرة فقط فإن تنبيهَهم على علمِه تعالى بكل ما يأتون وما يذرون وعلى كونهم تحت قدرته وملوته مما يحمله على الجد في الامتثال بما أمروا به والانتهاءِ عمَّا نُهوا عنهُ كأنه قيل إني معكم أسمع كلامَكم وأرى أعمالَكم وأعلم ضمائِرَكم فأجازيكم بذلك هذا وقد قيل المرادُ بالميثاق هو الميثاقُ بالإيمان والتوحيد وبالنقباءِ ملوكُ بني إسرائيلَ الذين ينقُبون أحوالَهم ويَلُون أمورَهم بالأمر والنهي وإقامةِ العدل وهو الأنسبُ بقولِه تعالى {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وآتيتم الزكاة وَآمَنتُم بِرُسُلِي} أي بجميعِهم والالام موطِّئةٌ للقسم المحذوفِ وتأخيرُ الامان عن إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ مع كونهما من الفروع المترتبةِ عليه لِما أنهم كانوا معترفين بوجوبِهما مع ارتكابِهم لتكذيبِ بعضِ الرسل عليهم السلام ولمراعاة المقارَنةِ بينه وبينَ قولِهِ تعالى {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي نصرتموهم وقوَّيتموهم وأصله الذّبُّ وقيل التعظيمُ والتوقيرُ والثناءُ بخير وقرء وعزرتموهم بالتخفيف {وَأَقْرَضْتُمُ الله} بالإنفاق في سبيل الخير وبالتصدق بالصدقات المندوبة وقوله تعالى {قَرْضًا حَسَنًا} إما مصدرٌ مؤكّدٌ وارد على غير صيغة المصدر كما في قوله تعالى فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بقبول حسن وانبتها نبات حسن او مفعول ثاني لأقرضتم على أنه اسم للمال المُقْرَض وقوله تعالى {لأكفرن عنكم سيئاتكم} جوابٌ للقسم المدلولِ عليه بالالام سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط {وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} عطفٌ على ما قبله داخل معه في حُكم الجواب متأخرٌ عنه في الحصول أيضاً ضرورةَ تقدُّمِ التخلية على التحلية {فَمَن كَفَرَ} أي برسلي أو بشيءٍ مما عُدِّد في حيِّز الشرط والفاءُ لترتيب بيانِ حُكمِ من كفَر على بيان حُكمِ من آمن تقويةً للترغيب بالترهيب {بَعْدَ ذَلِكَ} الشرطِ المؤكّدِ المُعلَّقِ به الوعدُ العظيمُ الموجِبُ للإيمان قطعاً {مّنكُمْ} متعلِّقٌ بمُضْمَرٍ وقعَ حالاً من فاعل كفَرَ ولعل تغييرَ السبْكِ حيث لم يقل وإن كفرتم عطفا على االشرطية السابقة لإخراج كفرِ الكلِّ عن حيِّز الاحتمال وإسقاطِ من كفَرَ عن رُتبة الخطاب وليس المرادُ إحداثَ الكفر بعد الإيمان بل ما يعمُّ الاستمرارَ عليه أيضاً كأنه قيل فمن اتّصفَ بالكفر بعد ذلك خلا أنه قصَدَ بإيراد ما يدلّ على الحدوث بيانَ ترقِّيهم في مراتب الكفر فإن الاتصافَ بشيءٍ بعد ورود ما يوجب الإقلاعَ عنه وإن كان استمرار عليه لكنه بحسَب العنوان فعلٌ جديدٌ وصنعٌ حادثٌ {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل} أي وسَطَ الطريق الواضحَ ضلالاً بيناً وأخطأه خطأً فاحشا لا غذر معه أصلاً بخلافِ من كفر قبل ذلك إذْ ربما يمكن ان

سورة المائدة اية 13 14 يكون له شُبْهةٌ ويُتَوهَّمُ له معذرةً

13

{فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم} الباء سبيبة وما مزيدةٌ لتأكيد الكلام وتمكينِه في النفس أي بسبب نقضِهم ميثاقَهم المؤكَّدَ لا بشيءٍ آخرَ استقلالاً أو انضماماً {لعناهم} طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا ومسخناهم قِرَدَةً وخنازيرَ أو أذللناهم بضرب الجزيةِ عليهم وتخصيصُ البيان بما ذُكر مع أن حقَّه أن يبيَّنَ بعد بيانِ تحققِ نفسِ اللعنِ والنقضِ بأن يقال مثلا فنقصوا ميثاقَهم فلعنّاهم ضرورةَ تقدّمِ هيئةِ الشيءِ البسيطةِ على هيئتِه المُركّبة للإيذانِ بأن تحققَهما أمرٌ جليٌّ غنيٌّ عن البيان وإنما المحتاجُ إلى ذلك ما بينهما من السبيبة والمُسبَّبية {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} بحيث لا تتأثرُ من الايات والنظر وقيل أملينا لهم ولم نعاجِلْهم بالعقوبة حتى قَسَتْ أو خذلناهم ومنعناهم الألطافَ حتى صارت كذلك وقرىء قسي وهي إما مبالغةُ قاسية وإما بمعنى رديئة من قولهم دِرْهمٌ قِسيٌّ أي ردى اذ إذا كان مغشوشاً له يبس وخشونة وقرا بكسر القاف إتباعاً لها بالسبيبة {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} استئنافٌ لبيان مرتبةِ قساوةِ قلوبهم فإنه لا مرتبةَ اعظم مما يصحح الا افتراء على تغيير كلامِ الله عز وجل والافتراءَ عليه وصيغةُ المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار وقيل حالٌ من مفعول لعناهم {وَنَسُواْ حَظَّا} أي تركوا نصيباً وافراً {مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} من التوراة او من اتباع محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وقيل حرفوا التوراةَ وزلَّتْ أشياءُ منها عن حفظهم وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قد ينسى المرىء بعض العلم بالمعصية وتلى هذه الآية {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مّنْهُمْ} أي خيانةٍ على أنها مصدرٌ كلاغيةٍ وكاذبةٍ أو فَعْلةٍ خائنة أي ذاتِ خيانة أو طائفةٍ خائنة أو شخصٍ خائنةٍ على أن التاء للمبالغة أو نفس خائنة ومنهم متعلقٌ بمحذوف وقع صفة لها خلى أن مِنْ على الوجهين الأولين ابتدائيةٌ أي على خيانةٍ أو على فعلةٍ خائنةٍ كائنةٍ منهم صادرةٍ عنهم وعلى الوجوه الباقيةِ تبعيضية والمعنى أن الغدرَ والخيانة عادةٌ مستمرة لهم ولأسلافهم بحيث لا يكادون يتركونها او يكتمونها فلا تزال ترى ذلك منهم {إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ} استثناء منَ الضميرِ المجرورِ في منهم على الوجوه كلِّها وقيل مِنْ خائنة على الوجوه الثلاثةِ الأخيرةِ والمرادُ بهم الذين آمنوا منهم كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلام وأضرابِه وقيل من خائنة على الوجه الثاني فالمرادُ بالقليل الفعلُ القليل ومِنْ ابتدائيةٌ كما مر أي الا فعلى قليلاً كائناً منهم {فاعف عَنْهُمْ واصفح} أي إن تابوا وآمنوا أو عاهدُوا والتزموا الجزية وقيل مطلقٌ نُسخ بآيةِ السيف {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} تعليلٌ للأمر وحثٌّ على الامتثال به وتنبيهٌ على أنَّ العفوَ على الإطلاقِ من باب الإحسان

14

{وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم}

بيانٌ لقبائح النصارى وجناياتهم إثرَ بيان قبائحِ اليهود وخياناتهم ومن متعلقة بأخذنا إذِ التقديرُ وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم وتقديمُ الجار والمجرور للاهتمام به ولأن ذكرَ حال إحدى الطائفتين مما يوقعُ في ذهن السامع أن حالَ الأخرى ماذا فكأنه قيل ومن الطائفة الأخرى أيضاً أخذنا ميثاقهم وقيل هي متعلِّقةٌ بمحذوفٍ وقع خبر المبتدا محذوفٍ قامت صفتُه أو صلتُه مَقامه أي ومنهم قومٌ أخذنا ميثاقهم أو مَنْ أخذنا ميثاقهم وضميرُ ميثاقَهم راجعٌ إلى الموصوف المقدر وأما في الوجه الأولِ فراجعٌ إلى الموصول وقيل راجع إلى بني إسرائيل أي أخذنا من هؤلاء ميثاق اؤلائك أي مثل ميثاقهم من الإيمان بالله والرسل وبما يتفرع على ذلك من أفعال الخير وإنما نَسَب تسميتَهم نصارى إلى أنفسهم دون أن يُقال ومن النصارى إيذاناً بأنهم في قولهم نحن أنصارُ الله بمعزلٍ من الصدق وإنما هو تقوّلٌ محْضٌ منهم وليسوا من نُصْرة الله تعالى في شيء أو إظهاراً لكمال سوء صنيعهم ببيان التناقض بين أقوالهم وافعالهم فان ادعائهم لنُصْرته تعالى يستدعي ثباتَهم على طاعته تعالى ومراعاة ميثاقه {فَنَسُواْ} عَقيبَ أخذِ الميثاق من غير تلعثم {حظا} ووافرا {مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} في تضاعيف الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك حسبما مرَّ آنفاً وقيل هو ما كُتب عليهم في الإنجيل من أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فتركوه ونبذوه وراء ظهورهم واتبعوا اهوائهم فاختلفوا وتفرقوا نصطورية ويعقوبيةً وملكانية أنصاراً للشيطان {فَأَغْرَيْنَا} أي ألزمنا وألصَقنا من غراب الشيء اذ لزم ولصِق به وأغراه غيرُه ومنه الغِراء وقوله تعالى {بَيْنَهُمْ} إما ظرف لأغرينا أو متعلِّق بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعوله أي أغرينا {العداوة والبغضاء} كائنة بينهم ولا سبيل إلى جعله ظرفاً لهما لأنَّ المصدرَ لا يعملُ فيما قبلَهُ وقوله تعالى {إلى يَوْمِ القيامة} إما غاية للإغراء أو للعداوة والبغضاء أي يتعادَوْن ويتباغضون إلى يوم القيامة حسبنا تقتضيه اهواؤهم المختلفة وارائهم الزائغة المؤدية إلى التفرق والى الفرق الثلاث فضمير بينهم لهم خاصة وقيل لهم ولليهود أي أغرينا العداوة والبغضاء بين اليهود والنصارى {وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} وعيد شديد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فَعَلت أي يجازيهم بما عملوا على الاستمرار من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به وسوف لتأكيد الوعيد والالتفاتُ إلى ذكر الاسم الجديد لتربية المهابة وإدخال الروعة لتشديد الوعيد والتعبيرُ عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم في ذلك وعن المجازاة بالتنبئة للتنبيه على أنهم لا يعلمون حقيقةَ ما يعملونه من الاعمال الشيئة واستتباعِها للعذاب فيكونُ ترتيبُ العذابِ عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الإخبار بها

15

{يَا أَهْلِ الكتاب} التفاتٌ إلى خطاب الفريقين على أن الكتاب جنسٌ شاملٌ للتوراة والإنجيل إثرَ بيانِ أحوالهما من الخيانة وغيرها من فنون القبائح ودعوةٌ لهم إلى الإيمان برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم والقرآن وإيرادُهم بعنوان أهلية الكتاب للانطواء كلام المصدَّر به على ما يتعلق بالكتاب

سورة المائدة اية 16 وللمبالغة في التشنيع فإن أهلية الكتاب من موجباتِ مراعاته والعمل بمقتضاه وبيان ما فيه من الأحكام وقد فعلوا من الكَتم والتحريف ما فعلوا وهم يعلمون {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا} للاضافة للتشريف والايذان بموجوب اتباعه وقوله تعالى {يُبَيّنُ لَكُمْ} حال من رسولنا وإيثارُ الجملة الفعلية على غيرها للدَلالة على تجدّد البيان أي قد جائكم رسولُنا حال كونه مبيناً لكم على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة {كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب} أي التوراةِ والإنجيل كبِعثةِ محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وآيةِ الرجم في التوراة وبشارةِ عيسى بأحمدَ عليهما السلام في الإنجيل وتأخيرُ كثيراً عن الجار والمجرور بما مر مراراً من إظهار عناية بالمقدم لما فيه من تعجيلِ المسرَّةِ والتِّشويقِ إلى المؤخَّرِ لأن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر لا سيما الإشعار بكونه من منافع المخاطَب تبقَى النفسُ مترقبة إلى وروده فيتمكن عندها إذا ورد فضلُ تمكنٍ ولأن في المؤخر درب تفصيل ربما يُخِلُّ تقديمُه بتجاذب أطرافِ النظمِ الكريم فإن مما متعلقٌ بمحذوفٍ وقع صفة لكثيرا وما موصولة اسمية وما بعدها صلتُها والعائدُ إليها محذوف ومن الكتاب متعلق بمحذوف هو حال من العائد المحذوف والجمع بين صيغتين الماضِي والمستقبلِ للدِّلالةِ على استمرارهم على الكتم والإخفاء أي بين لكم كثيراً من الذي تخفونه على الاستمرار حال مونه من الكتاب الذي أنتم اهله والمتمسكون به {ويعف عَن كَثِيرٍ} أي ولا يُظهر كثيراً مما تخفونه إذا لم تدعُ إليه داعيةٌ دينية صيانةً لكم عن زيادة الافتضاح كما يُفصحُ عنه التعبير عن عدم الإظهار بالعفو وفيه حثٌّ لهم على عدم الإخفاء ترغيباً وترهيباً والجملةُ معطوفةٌ على الجملةِ الحالية داخلةٌ في حكمها وقيل يعف عن كثيرٍ منكم ولا يؤاخذه في قوله تعالى {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان أن فائدةَ مجيءِ الرسول ليست منحصرةً فيما ذُكر ومن بيانِ ما كانوا يُخفونه بل له منافعُ لا تحصى ومن الله متعلق بجاء ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً او محذوف وقع حالا من نور وأيا ما كان فهو تصريحٌ بما يشعر به إضافةُ الرسول من مجيئه من جنابِه عزَّ وجلَّ وتقديم الجار والجرور على الفاعل للمصارعة إلى بيان كون المجيء من جهته العالية والتشويق إلى الجائي ولأن فيه نوعَ تطويلٍ يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظم الكريم كما في قوله تعالى وجائك فِى هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ وتنوين نور للتفخيم والمراد به وبقوله تعالى {وكتاب مُّبِينٌ} القرآنِ لما فيهِ من كشف ظلمات الشرْك والشك وإبانة ما خفِيَ على الناس من الحق والإعجاز البيِّن والعطف لتنزيل المغايَرَة بالعنوان منزلة المغايرة وبالذات وقيل المرادُ بالأول هو الرسول صلى الله عليه وسلم وبالثاني القرآن

16

{يَهْدِى بِهِ الله} توحيد الضمير المجرور لاتحاد المرجِع بالذات أو لكونهما في حكم الواحد أو أريد يهدي بما ذُكر وتقديم الجار والمجرور للاهتمام وإظهارُ الجلالة لإظهار كمال الاعتناء بأمر الهداية ومحل الجملة الرفع على أنها صفةُ ثانية لكتاب أو النصبُ على الحالية منه لتخصصه بالصفة {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} أي رضاه بالإيمان به ومن موصوله او

سورة المائدة اية 17 موصوفة {سُبُلَ السلام} أي طرق السلامة من العذاب والنجاة من العقاب أو سبل الله تعالى وهي شريعتُه التي شرعها للناس وقيل هو مفعول ثاني ليهدي والحقُّ أن انتصابه بنزع الخافض على طريقة قوله تعالى واختار موسى قَوْمَهُ وإنما يُعدَّى إلى الثاني بالى او بالام كما في قوله تعالى ان هذا القران يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ {وَيُخْرِجُهُمْ} الضمير لمن والجمع باعتبارِ المَعْنى كَما أنَّ الإفراد في اتبع اعتبار اللفظ مِنَ {الظلمات} أي ظلمات فنون الكفر والظلال {إِلَى النور} إلى الإيمان {بِإِذْنِهِ} بتيسيره أو بإرادته {وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} هو أقرب الطرق إلى الله تعالى وموؤدي إليه لا محالة وهذه الهداية عينُ الهداية إلى سبل السلام وإنما عُطفت عليها تنزيلاً للتغاير الوَصْفيِّ منزلةَ التغايرِ الذاتيِّ كما في قوله تعالى وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ

17

{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} أي لا غيرُ كما يقال الكرمُ هو التقوى وهم اليعقوبيةُ القائلون بأنه تعالى قد يحِلُّ في بدن إنسان معين أو في روحه وقيل لم يصرِّح به أحدٌ منهم لكن حيث اعتقدوا اتصافَه بصفاتِ الله الخاصة وقد اعترفوا بأن الله تعالى موجود فلزِمهم القول بان المسيح لا غير وقيل لما زعموا أن فيه لا هوتا وقالوا لا إله إلا واحدٌ لزمهم أن يكونَ هو المسيح فنُسب إليهم لازمُ قولِهم توضيحاً لجهلهم وتفضيحاً لمعتَقَدِهم {قُلْ} أي تبكيتاً لهم وإظهاراً لبطلان قولِهمِ الفاسد وإلقاماً لهم الحجَرَ والفاء في قوله تعالى {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شيئا} فصيحة ومن اتفهامية الانكار والتوبيخ والملك الضبض والحِفظُ التامُّ عن حزم ومن متعلقةٌ به على حذفِ المضافِ أي إنْ كانَ الأمرُ كَما تزعُمون فمن يمنَعُ من قدرته تعالى وإرادته شيئاً وحقيقتُه فمن يستطيعُ أن يُمسك شيئاً منها {إن أراد أن يهلك المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً} ومن حق مَنْ يكون الها ان لا يتعلقَ به ولا بشأنٍ من شؤونه بل بشيءٍ من الموجودات قدرةُ غيرِه بوجهٍ من الوجوه فضلاً عن أن يعجِزَ عن دفع شيءٍ منها عند تعلقِها بهلاكه فلما كان عجزه بينة لا ربي فيه ظهرَ كونُه بمعزل مما تقوَّلوا في حقه والمراد بالاهلاك الايمانة والإعدامُ مطلقاً لا بطريق السُخْط والغضب وإظهارُ المسيح على الوجه الذي نسبوا إليه الألوهية في مقام الإضمارِ لزيادة التقرير والتنصيصِ على أنه من تلك الحيثية بعينها داخلٌ تحت قهره وملوكته تعالى ونفْيِ المالكيةِ المذكورة بالاستفهام الإنكاري عن كل أحدٍ مع تحقق الإلزامِ والتبكيتِ بنفيها عن المسيح فقط بأن يقال فهل يملِك شيئاً مّنَ الله إِنْ أَرَادَ الخ لتحيقيق الحقِّ بنفيِ الألوهية عن كل ما عداه سبحانه وإثباتُ المطلوب في ضمنه بالطريق البرهان فإن انتفاءَ المالكيةِ المستلزِمَ باستحالة الألوهية متى ظهر بالنسبة إلى الكلِّ ظهر بالنسبة إلى المسيح على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه فيظهر استحالةُ الالوهية قطعاً وتعميمُ إرادةِ الإهلاك للكل مع حصول ما ذكر من التحقيق نقصرها عليه بأن يقال فمن يملك من الله شيئا ان

سورة المائدة اية 18 أراد أن يهلك المسيح لتهويل الخطب وإظهارِ كمالِ العجز بيان أن الكلَّ تحت قهره تعالى وملَكوته لا يقدِرُ أحدٌ على دفع ما أريد به فضلاً عن دفه ما اريد بغيره وايذان لان المسيحَ أُسوةٌ لسائر المخلوقات في كونه عُرْضةً للهلاك كما أنه أُسوة لها فيما ذُكر من العجز وعد استحقاقِ الألوهية وتخصيصُ أمِّه بالذكر مع اندراجها في ضمن مَنْ في الأرض بزيادة تأكيدِ عجْز المسيح ولعل نَظْمَها في سِلْك من فَرضَ إرادةَ إهلاكهم مع تحقيق هلاكها قبل ذلك لتأكيد التبكيت وزيادة ترير مضمون الكلام يجعل حالها أُنموذجاً لحال بقيةِ مَنْ فرَضَ إهلاكَه كأنه قيل قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح وأمه ومن فى الارض وقد أهلك أمَّه فهل مانَعَه أحد فكذا حال مَنْ عداها من الموجودين وقوله تعالى {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي ما بين قُطْرَي العالم الجسماني لا بين وجهِ الأرض ومُقعَّرِ فَلك القمر فقط فيتناول ما في السَّمواتِ من الملائكة عليهم السلام وما في أعماق الأرض والبحار من المخلوقات تنصيصٌ على كون الكلِّ تحت قهره تعالى وملكوته إثرَ الإشارة إلى كون البعض أي من في الأرض كذلك أي له تعالى وحَدهُ ملك جميع الموجودات والتصرُّفُ المطلقُ فيها إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة لا لاحد سواه استقلال ولا اشتراكاً فهو تحقيقٌ لاختصاص الألوهية به تعالى إثرَ بيانِ انتفائها عن كلِّ ما سواهُ وقوله تعالى {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان بعض أحكام المُلك والألوهية على وجه يزيح معتراهم من الشبهة في أمر المسيح لولادته من غير أب وخَلْقِ الطير وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص أي يَخْلُقُ مَا يَشَاء من أنواع الخلق والإيجاد على أن ما نكرة وصوفة محلها النصب على المصدر به لا على المفعولية كأنه قيل يخلق أيَّ خلق يشاء فتارةً يخلق من غير أصل كخلق السموات والأرض وأخرى من أصلٍ كخلق ما بينهما فيُنشىء من أصلٍ ليس من جنسه كخلق آدمَ وكثيرٍ من الحيوانات من أصلٍ يجانسه إما مِنْ ذكرٍ وحده كخلق حواءَ أو أنثى وحدها كخلق عيسى عليه السلام أو منهما كخلق سائر الناس ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات كخلق عامة المخلوقات وقد يخلُق بتوسط مخلوق آخرَ كخلق الطير على يد عيسى عليه السلام معجزةً له وإحياءِ الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك فيجب أن يُنسَبَ كلُّه إليهِ تعالى لا إلى من أجرى ذلك على يده {والله على كل شىء قدير} اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله وإظهارُ الاسمِ الجليل للتعليل وتقويةِ استقلال الجملة

18

{وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} حكايةٌ لِما صدر عن الفريقين من الدعوى الباطلة وبيانٌ لبطلانها بعد ذكر ما صدر عن أحدهما وبيانِ بطلانه أي قالت اليهود نحن أشياعُ ابنِه عُزَيْرٍ وقالت النصارى نحن أشياعُ ابه المسيحِ كما قيل لأشياع أبي خُبيب وهو عبدِ اللَّه بن الزبير الخُبيبيّون وكما يقول أقاربُ الملوك عند المفاخرة نحن الملوك وقال ابن

سورة المائدة اية 19 عباس رضي الله تعالى عنهما ان النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوَّفهم بعقاب الله تعالى فقالوا كيف تخوِّفُنا به ونحن أبناء الله وأحباؤه وقيل ان النصارى يتلوون في الإنجيل أَنَّ المسيح قال لهم اني ذاهي إلى أبي وأبيكم وقيل أرادوا أن الله تعالى كالأب لنا في الحُنُوِّ والعطف ونحن كالأبناء له في القُرب والمنزلة وبالجملة أنهم كانوا يدّعون أن لهم فضلا ومزية عند الله تعالى على سائر الخلق فردّ عليهم ذلك وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم {قُلْ} إلزاماً لهم وتبكيتاً {فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم} أي إن صح ما زعمتم فلأيِّ شيءٍ يعذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ وقد عرفتم بأنه تعالى سيعذبكم في الآخرة بالنار أياماً بعدد أيامِ عبادتِكم العجلَ ولو كان الأمر كما زعمتم لما صدر عنكم ما صدر ولما وقع عليكم ما وقع وقولُه تعالى {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ} عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلام أي لستم كذلك بل أنتم بشر {مّمَّنْ خَلَق} أي من جنس مَنْ خَلقه الله تعالى مِنْ غَيْرِ مزيةٍ لكُم عليهم {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أنْ يغفر له من أولئك المخلوقين وهم الذين آمنوا به تعالى وبرسله {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} أنْ يعذبه منهم وهم الذين كفروا به وبرسله مثلَكم {ولله ملك السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} منْ الموجودات لا ينتمي إليه سبحانه شيء منها إلا بالملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته يتصرّف فيهم كيف يشاء إيجاداً وإعداماً وإحياءً وايماتة وايثابة وتعذيباً فأنى لهم ادعاءُ ما زعموا {وَإِلَيْهِ المصير} في الآخرة خاصَّة لا إلى غيرِه استقلال أو اشتراكاً فيجازِي كلاًّ من المحسن والمسيء بما يستدعيه عملُه من غير صارف يَثْنيه ولا عاطفٍ يَلْويه

19

{يَا أَهْلِ الكتاب} تكريرٌ للخطاب بطريق الالتفات ولطفٌ في الدعوى {قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ} حال من رسولنا وإيثارُه على مبيِّناً لما مر فيما سبق أي يبين لكم الشرائعَ والأحكامَ الدينية المقرونة بالوعد والوعيد من جملتها ما بُيِّن في الآيات السابقة من بطلان أقاويلِكم الشنعاء وما سيأتي من أخبار الأمم السالفة وإنما حُذف تعويلاً على ظهور أن مجيءَ الرسول إنما هو لبيانها أو يفعلُ لكم البيانَ ويبذُله لكم في كل ما تحتاجون فيه إلى البيان من أمور الدين وأما تقديرُ مثل ما سبق في قوله تعالى كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب كما قيل فمع كونه تكريراً من غير فائدة يرده قوله عز وجل {على فترة من الرسل} فان فتور الارسال ونقطاع الوحي انما يحودج إلى بيان الشرائع والأحكام لا إلى بيان ما كتموه وعلى فترة متعلق بجائكم على الظرفية كما في قوله تعالى واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سليمان أي جاءكم على حين فتور الإرسال وانقطاع من الوحي ومزيدِ احتياج إلى بيان الشرائع والأحكام الدينية أو بمحذوف وقع حال من ضمير يبين أو من ضمير لكم أي يبين لكم ما ذُكر حال كونه على فترة من الرسل أو حال كونكم عليها أحوجَ ما كنتم الى البيان ومن الرسل متعلق بمحذوفٍ وقع صفة لفترة أي كائنةٍ من الرسل مبتدا من جهتهم وقوله تعالى {أَن تَقُولُواْ} تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حذفِ المضافِ أي كراهةَ أن تقولوا معتذرين عن تفريطكم في مراعات أحكام الدين {مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ}

وقد انطمست آثارُ الشرائع السابقة وانقطعت أخبارُها وزيادة مِنْ في الفاعل للمبالغة فى نفى المجى وتنكير بشير ونذير للتقليل وهذا كما ترى يقتضي أن المقدر أو المنوي فيما سبق هو الشرائع والاحكام لاكيفما كانت بل مشفوعة بما ذكر من الوعد والوعيد وقوله تعالى {فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} متعلق بمحذوف ينبى عنه الفاء الفصيحة وتُبيِّنُ أنه مُعلَّل به وتنوينُ بشيرٌ ونذيرٌ للتفخيم أي لاتعتذروا بذالك فقد جاءكم بشير أيُّ بشيرٍ ونذير أيُّ نذير {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدِرُ على الإرسال تترى كما فعله بين مُوسى وعيسى عليهما السَّلامُ حيث كان بينهما ألفٌ وسبعُمائة سنة وألفُ نبيَ وعلى الإرسال بعد الفترة كما فعله بينَ عيسَى ومحمَّدٍ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ حيثُ كان يبينهما ستُمائة سنةٍ أو خمسُمائةٍ وتسعة وستون سنةً أو خمسُمائةٍ وستة وأربعون سنةً وأربعةُ أنبياءَ على ما روى الكلي ثلاثةٌ من بني إسرائيلَ وواحدٌ من العرب خالد بن سنان العبسي وقيل لم يكن بعد عيسى عليه السلام إلا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهُو الأنسبُ بَما في تنوين فترةٍ من التفخيم اللائق بمقام الامتنان عليهم بأن الرسول قد بُعث إليهم عند كمالِ حاجتهم اليه بسبب مضي دهر طويل بعد انقطاعِ الوحي ليهشو إليه ويعُدّوه أعظمَ نعمةٍ من الله تعالَى وفتحَ بابٍ إلى الرحمة وتلزَمُهم الحجةُ فلا يَعتلُّوا غداً بأنه لم يُرسَلْ إليهم من بينهم من غفلتهم

20

{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان ما فعلت بنوا إسرائيلَ بعد أخذِ الميثاق منهم وتفصيلِ كيفيةِ نقضِهم له وتعلّقِه بما قبله من حيث إن ما ذُكر فيه من الأمور التي وصف النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ببيانها ومن حيث اشتمالُه على انتفاء فترة الرسل فيما بينهم واذ نصب على أنه مفعولٌ لفعل مقدرٍ خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم بطريق تلوين الخطابِ وصرفِه عن أهل الكتاب ليعدِّدَ عليهم ما صدر عن بعضهم من الجنايات أي واذكرهم وقت قولِ موسى لقومه ناصحاً لهم ومستميلاً لهم باضافتهم اليه {يا قوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهانيِّ ولأن الوقتَ مشتملٌ على ما وقع فيه تفصيلاً فإذا استُحضِر كان ما وقع فيه حاضرا بتفاصيل كانه مشاهد عيانا وعليكم متعلق بنفس النعمة إذا جُعلت مصدراً وبمحذوف وقع حالاً منها إذا جُعلت اسماً أي اذكروا إنعامه عليكم أو اذكروا نعمة كائنة عليكم وكذا إذ في قوله تعالى {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء} أي اذكروا إنعامه تعالى عليكم في وقت جَعْله أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم في وقت جهله فيما بينكم من أقربائكم أنبياءَ ذوِي عددٍ كثير وأُولي شأنٍ خطير حيث لم يَبْعثْ مِنْ أُمَّةٍ من الأممِ ما بَعَث من بني إسرائيلَ من الأنبياء {وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً} عطفٌ على جعل فيكم داخلٌ في حُكمهِ أيْ جعل فيكم أو منكم ملوكاً كثيرة فإنه قد تكاثر فيهم الملوكُ تكاثرَ الأنبياء وإنما حذف الظرف تعويلاً على ظهور الأمرِ أو جَعْل الكلِّ في مقام الامتنان عليهم ملوكاً لما أن أقاربَ الملوك يقولون

سورة المائدة اية 21 22 عند المفاخر نحن الملوك وإنما لم يسلُكْ ذلك المسلكَ فيما قبله لما أن منصِبَ النبوةِ مِنْ عِظَم الخطر وعِزَّة المطلب وصعوبة المنال ليس بحيث يليقُ أن يُنْسبَ إليه ولو مجازاً مَنْ ليس ممن اصطفاه الله تعالى له وقيل كانوا مملوكين في أيدي القِبْط فأنقذهم الله تعالى فسمَّى إنقاذهم مُلْكاً وقيل المَلِكُ مَنْ له مسكنٌ واسع فيه ماء جار وقيل من له بيت وخدم وقيل من له مال لا يَحتاج معه إلى تكلف الاعمال وتحمل المشاق {وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين} من فلْق البحر وإغراقِ العدو وتظليلِ الغمامِ وإنزالِ المنِّ والسلوى وغير ذلك مما آتاهُم الله تعالى من الأمور العِظام والمرادُ بالعالمين الأممُ الخالية إلى زمانهم وقيل مِنْ عالَمِي زمانهم

21

{يا قوم ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ} كرر النداء بالاضافة التشريفية اهتمام بشأن الأمر ومبالغةً في حثهم على الامتثال به والأرضُ هي أرضُ بيت المقدس سُمِّيت بذلك لأنها كانت قرارَ الأنبياء ومسكنَ المؤمنين وقيل هي الطورُ وما حوله وقيل دمشقُ وفِلَسطينُ وبعضُ الأردن وقيل هي الشام {الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} أي كتَبَ في اللوح المحفوظ أنها تكونُ مسكناً لكم إن آمنتم وأطعتم لقوله تعالى له بعض ما عصَوْا فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ وقولِه تعالى {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم فَتَنْقَلِبُوا خاسرين} فإن ترتيبَ الخَيبة والخُسران على الارتداد يدل على اشتراط الكَتْب بالمجاهدة المترتِّبة على الإيمان والطاعة قطعاً أي لا ترجِعوا مُدبرين خوفاً من الجبابرة فالجار والمجرور متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من فاعل ترتدوا ويجوز أن يتعلق بنفس الفعل قيل لما سمعوا أحوالهم من النقباء بكوا وقالوا يا ليتنا مِتْنا بمصر تعالَوْا نجعلُ لنا رأساً ينصرِفْ بنا الى مصر اولا ترتدوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق بالله تعالى وقوله فتنقلبوا إما مجزومٌ عطفا على ترتدوا أو منصوبٌ على جواب النهي والخُسران خُسرانُ الدين والدنيا لا سيما دخولُ ما كتب لهم

22

{قالوا} استئناف مبنى نشىء من مَساق الكلام كأنه قيل فماذا قالوا بمقابلة أمرِه عليه السلام ونهيِه فقيل قالوا غيرَ ممتثِلين بذلك {يا موسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} متغلبين لا ياتي منازعتهم ولا يتسنى مناصبتهم والجبارُ العاتي الذي يُجبرُ الناس ويقصرهم كائناً مَن كانَ على ما يريده كائناً ما كان فعّال من جبرَه على الأمر أي أجْبَره عليه {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا} من غير صُنْع مِنْ قِبَلِنا فان لا طاقة لنا بإخراجهم مِنْهَا {فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا} بسببٍ من الأسباب التي لا تعلق لنابها {فَإِنَّا داخلون} حينئذ أتَوْا بهذه الشرطية مع كون مضمونها مفهوماً مما سبق من توقيت عدمِ الدخول وخروجهم منها تصريحاً بالمقصود وتنصيصاً على أن امتناعهم من دخولها ليس إلا لمكانهم فيما وأتَوا في الجزاء بالجملة الاسمية المصدرة بحرف التحقيق دلالة على تقرر

سورة المائدة اية 23 24 الدخول وثباتِه عند تحقّق الشرط لا محالة وإظهاراً لكمال الرغبة فيه وفي الامتثال بالأمر

23

{قَالَ رَجُلاَنِ} استئنافٌ كما سبق كأنه قيل هل اتفقوا على ذلك أو خالفهم البعض فقيل قال رجلان {مِنَ الذين يَخَافُونَ} أي يخافون الله تعالى دون العدوِّ ويتّقونه في مخالفة أمرِه ونهيِه وبه قرأ ابنُ مسعود وفيه تعريضٌ بأن مَنْ عداهما لا يخافونه تعالى بل يخافون العدو وقيل من الذين يخافون العدو أي منهم في النسَب لا في الخوف وهما يوشَعُ بنُ نون وكالب بن يوقنا من النقباء وقيل هما رجلان من الجبابرة اسلما وصارا مِن موسى عليه السَّلام فالو او حينئذ لبني إسرائيلَ والموصول عبارة عن الجبابرة وإليهم يعود العائد المحذوف أي من الذين يخافهم بنو اسرائيل ويعضه قرات من قراء يُخافون على صيغة المبني للمفعول أي المَخُوفين وعلى الأول يكون هذا من الاخافة أي من الذين يخوِّفون من الله تعالى بالتذكير أو يخوِّفهم الوعيدُ {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} أي بالتثبيت وربْطِ الجأش والوقوف على شؤونه تعالى والثقة بوعده أو بالإيمان وهو صفة ثانيةٌ لرجلان أو اعتراض وقيلَ حالٌ من الضميرِ في يخافون أو من رجلان لتخصّصه بالصفة أي قال مخاطِبين لهم ومشجعين {ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب} أي بابَ بلدهم وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عليهِ للاهتمام به لأن المقصودَ إنما هو دخولُ الباب وهم في بلدهم أي باغتوهم وضاغضوهم في المضيق وامنعوهم في البُروز إلى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالاً {فَإِذَا دخلتموه} أي بلدهم وهم فيه {فَإِنَّكُمْ غالبون} منْ غيرِ حاجةٍ إلى القتال فان قد رأيناهم وشاهدنا أن قلوبَهم ضعيفة وإن كانت أجسادُهم عظيمة فلا تخشَوْهم واهجُموا عليهم في المضايق فإنهم لا يقدرون فيها على الكر والفر وقيل إنما حَكَما بالغَلَبة لما عَلِماها من جهة موسى عليه السلام ومن قوله تعالى كَتَبَ الله لَكُمْ أو لِما علِما من سنّته تعالى في نَصْره رسله وما عهِدا من صُنعه تعالى لموسى عليه السلام من طهر أعدائه والأول أنسبُ بتعليق الغلَبةِ بالدخول {وَعَلَى الله} تعالى خاصةً {فَتَوَكَّلُواْ} بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها بمعزلٍ من التأثير وإنما التأثير من عند الله العزيز القدير {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي مؤمنين به تعالى مصدِّقين لوعده فإنَّ ذلكَ ممَّا يوجبُ التوكل عليه حتماً

24

{قَالُواْ} استئنافٌ كما سبق أي قالوا غيرَ مبالين بهما وبمقالتهما مخاطِبين لموسى عليه السلام إظهاراً لإصرارهم على القول الأول وتصريحاً بمخالفتهم له عليه السلام {يا موسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا} أي أرضَ الجبابرة فضلاً عن دخول بابهم وهم في بلدهم {أَبَدًا} أي دهراً طويلاً {مَّا دَامُواْ فِيهَا} أي في أرضهم وهو بدل من أبداً بدلَ البعض أو عطفُ بيان {فاذهب} الفاء فصيحة أي فإذا كان الأمرُ كذلك فاذهب

سورة المائدة اية 25 26 {أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} أي فقاتلاهم إنما قالوا ذلك استهانة واستهزاء بع سبحانه وبرسوله وعدمَ مبالاةٍ بهما وقصدوا ذهابَهما حقيقةً كما يُنْبىء عنْهُ غايةُ جهلهم وقصوة قلوبهم وقيل اراد وارادتهما وقصْدَهما كما تقول كلمتُه فذهب يجيبني كأنهم قالوا فاريد قتالَهم واقْصِداهم وقيل التقدير فاذهبْ أنت وربُك يُعينُك ولا يساعده قوله تعالى فَقَاتِلا ولم يذكروا هارون ولا الرجلين كأنهم لم يجزموا بذهابهم أو لم يعبأوا بقتالهم وقوله تعالى {إنا ها هنا قاعدون} يؤيد الوجه الأول وأرادوا بذلك عدمَ التقدم لا عدمَ التأخر

25

{قَالَ} عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العِناد على طريقة البثِّ والحُزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلبِ التي بمثلها تُستجلبُ الرحمةُ وتُسْتَنزَلُ النُّصرة {رَبّ إنى لا أملك إلا نَفْسِى وَأَخِى} عطف على نفسي وقيل على الضَّميرِ في إني على معنى إنى لا أملك إلا نفسي وإن أخي لا يملِكُ إلا نفسَه وقيل على الضَّميرِ في لا أملك للفصل {فافرق بَيْنَنَا} يريد نفسه وأخاه والفاء لترتيب الفرق أو الدعاءِ به على ما قبلَه {وَبَيْنَ القوم الفاسقين} الخارجين عن طاعتك المُصِرّين على عِصيانك بأن تحكُم لنا بما نستحقّه وعليهم بما يستحقونه وقيل بالتعبيد بيننا وبينهم وتخليصِنا من صحبتهم

26

{قَالَ فَإِنَّهَا} أي الأرض المقدسة والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء {مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} تحريمَ منعٍ لا تحريمَ تعبُّد لا يدخُلونها ولا يملِكونها لأن كتابتها لهم كانت مشروطةً بالإيمان والجهاد وحيث نكصوا على أدبارهم حُرموا ذلك وانقلبوا خاسرين وقوله تعالى {أَرْبَعِينَ سَنَةً} إن جُعل ظرفاً لمحرمةٌ يكون التحريم موقتا لا مؤبداً فلا يكون مخالفاً لظاهر قولِه تعالى كَتَبَ الله لَكُمْ فالمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم في هذه المدة لكن لا بمعنى أن كلَّهم يدخلونها بعدها بل بعضهم ممن بقي حسب ما رُوي أن موسى عليه السلام صار بمن بقيَ من بني إسرائيلَ إلى أريحا وكان يوشعُ بنُ نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قُبض عليه السلام وقيل لم يدخلها أحد ممن قال لن ندخُلها أبداً وإنما دخلها معَ مُوسى عليهِ السَّلامُ النواشي من ذرياتهم فالموقت بالأربعين في الحقيقة تحريمها على ذرياتهم وإنما جُعل تحريمُها عليهم لما بينهما من العلاقة التامة المتاخمة للاتحاد وقوله تعالى {يَتِيهُونَ فِى الارض} أي يتحيرون في البرية استئناف لبيان كيفية حِرْمانهم أو حالٌ من ضميرِ عليهم وقيل ظرف متعلق بيتهون فيكون التيه موقتا والتحريم مطلقاً قيل كانوا ستمائة ألف مقاتل وكان طول البرية تسعون فرسخاً وقد تاهوا في ستة فراسخَ أو تسعة فراسخَ في ثلاثين فرسخاً وقيل في ستة فراسخَ في اثنى عشرَ فرسخاً روي أنهم كانوا كلَّ يوم يسيرون جادّين حتى إذا أمسَوا إذا هم بحيث ارتحلوا وكان الغمامُ يُظلُّهم من حر الشمس ويطلُع بالليل عمودٌ من نور يضيء لهم ويَنزِلُ عليهم المن والسلوى ولا تطول شعورُهم وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوبٌ كالظُفُر يطول بطوله وهذه الإنعاماتُ عليهم مع أنهم معاقَبون لِما أن عقابهم كان بطريق العرك والتأديب قيل كان موسى وهارون معهم ولكن

سورة المائدة اية 27 كان ذالك لهما روحاوسلامه كالنار لاءابراهيم وملائكت العذاب عليهم السلام وروي أن هارون مات في النيه ومات موسى بعده بسنة ودخل يوشعُ أريحا بعد موته بثلاثة اشهرولا يساعده ظاهرُ النَّظمِ الكريمِ فإنَّه تعالى بعد ما قبل دعوته على بني اسراءيل وعذبهم بالتيه بعيدان ينجِّيَ بعضَ المدعوِّ عليهم اوذراريهم ويقدّر وفاتَهما في محل العقوبه ضاهرا وان كان ذالك لهما منزِلَ رَوْحٍ وراحةٍ وقد قيل إنهما لم يكونا معهم في التيه وهو الأنسب بتفسير الفرق با لمباعده ومن قال بأنهما كانا معهم فيه فقد فسر الفَرْقَ بما ذُكر من الحُكْمِ بما يستحقّه كلُّ فريق {فَلاَ تَأْسَ} فلا تحزن {عَلَى القوم الفاسقين} روي أنه عليه السلام ندم على دعاءه عليهم فقيل لاتندم ولاتحزن فانهم احقاء بذالك لفسقهم

27

{واتل عَلَيْهِمْ} عطفٌ على مقدّر تعلق به قولُه تعالى وَإِذَا قَالَ موسى الخ وتعلُقه به من حيث إنه تمهيدٌ لما سيأتي من جنايات بنى اسراءيل بعد ماكتب عليهم ما كُتب وجاءتهم الرسلُ بما جاءت به من البينات {نَبَأَ ابْنَي آدَم} هما قابيلُ وهابيلُ ونُقل عن الحسن والضحاك أنهما رجلان من بني اسراءيل بقرينه اخر القسه وليس كذلك أوحى الله عزَّ وجلَّ إلى آدمَ أن يزوج كلاًّ منهما توأمةَ الآخر وكانت توأمةُ قابيلَ أجملَ واسمها اقليما فحسد عليها أخاه وسخِط وزعم ان ذالك ليس من عند الله تعالى بل من جهة آدمَ عليه السلام فقال لهما عليه السلام قرِّبا قُرباناً فمِنْ أيِّكما قُبل تزوّجها ففعلا فنزلت نارٌ على قُربانِ هابيلَ فأكلتْه ولم تتعرَّضْ لقُربانِ قابيلَ فازداد قابيل حسَداً وسُخْطاً وفعل ما فعل {بالحق} متعلقٌ بمحذوفٍ وقع صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي تلاوه ملتبسه با لحق والصِّحة أو حالاً من فاعلِ اتْلُ أو من مفعولِه أي ملتبساً أنت او نبأَهما بالحق والصدقِ حسبما تقرّر في كتب الأولين {إِذْ قَرَّبَا قربانا} منصوب بالنبأ ظرفٌ له أي اتلُ قصتهما ونبأهما في ذالك الوقت وقيل بدلٌ منه على حذفِ المضافِ أي اتلُ عليهم نبأهما نبأَ ذلك الوقت ورُد عليه بان اذ لايضاف اليهما غير الزمان كوقتذ وحينذ والقُربان اسمٌ لما يُتقرَّب بهِ إلى الله تعالى من نسُكٍ أو صَدَقةٍ كا لحلوان اسمٌ لما يُحْلى أي يعطى وتوحيدُه لما أنه في الأصل مصدرٌ وقيل تقديره إذ قرّب كلٌّ منهما قرباناً {فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا} هو هابيلُ قيل كان هو صاحبَ ضَرْعٍ وقرب جَملاً سميناً فنزلت نارٌ فأكلتْه {وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخر} هو قابيل قيل كان هو صاحبَ زرع وقرّب أردأَ ما عنده من القمح فلم تتعرضْ له النارُ أصلاً {قال} استناف مبني على سوال نشأ من سوق الكلام كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ من لم يُتقبَّلْ قُربانه فقيل قال لأخيه لِتضاعُفِ سَخَطِه وحسَدِه لما ظهر فضلُه عليه عند الله عز وجل {لاَقْتُلَنَّكَ} أي والله لأقتلنَّك بالنون المشددة وقرىء بالمخففة {قال} استناف كما قبله أي قال الذي تُقُبِّل قُربانُه لمّا رأى أن حسَدَه لقَبول قربانه وعدم قبول قربانه نفسِه {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله} أي القربانَ {مِنَ المتقين} لامن غيرهم وإنما تقبَّلَ قُرباني وردّ قُربانَك لما فينا من التقوى وعدمِه أي إنما أُتيتَ من قِبَل نفسك لا من

سوره المائدة ايه 28 سوره الماءده ايه 29 قِبَلي فلم تقتلني خلا أنه لم يصرِّحْ بذلك بل سلك مسلكَ التعريضِ حذراً من تهييج غضبه وحملاً له على التقوى والإقلاعِ عما نواه ولذلك أُسند الفعلُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابة ثم صرح بتقواه على وجهٍ يستدعي سكونَ غيظِه لو كان له عقلٌ وازعٌ حيث قال بطريق التوكيد

28

{لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ} حيث صدر الشرطيه باللام المؤ طه للقسم وقدم الجارَّ والمجرورَ على المفعول الصريح إيذانا من أول الأمر برجوعِ ضرر البسط وغاءلته إليه ولم يُجْعلْ جوابُ القسمِ السادُّ مسدَّ جوابِ الشرط جملةً فعليةً موافقة لما في الشرط بل اسميه مصدرت بما الحجازية المفيدةِ لتأكيدِ النفي بما في خبرها من الباء للمبالغة في إظهار براءتِه عن بسْطِ اليد ببيانِ استمراره على نفي البسط كما في قوله تعالى وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ وقوله وَمَا هُم بخارجين منها فاءن الجملةَ الاسميةَ الإيجابية كما تدل بمعونة المقام على دوامَ الثبوت كذلك السلبيةُ تدل بمعونته على دوام الانتفاءِ لا على انتفاء الدوام وذلك با عتبار الدوام والاستمرار بعد اعتبارِ النفى لاقبله حتى يردَ النفيُ على المقيّدِ بالدوام فيرفعَ قيدَه اى والله لءن باشرتَ قتلي حسبما أوعدتني به وتحقق ذلك منك ما أنا بفاعلٍ مثلَه لك في وقتٍ من الأوقاتِ ثم علل ذالك بقوله {إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} وفيه من إرشادِ قابيلَ إلى خشية الله تعالى على أبلغِ وجهٍ وآكدِه مالا يخفى كأنه قال إني أخافه تعالى إن بسطتُ يدِيَ إليك لأقتلك أن يعاقبَني وإن كان ذلك مني لدفع عداوتِك عني فما ظنُّك بحالك وأنت البادى العادي وفي وصفه تعالى بربوبية العالمين تأكيدٌ للخوف قيل كان هابيل اقوا منه ولكن تحرَّج عن قتله واستسلم خوفاً من الله تعالى لأن القتلَ للدفع لم يكن مباحا حينذ وقيل تحرِّياً لما هو الأفضلُ حسبما قال عليه السلام كن عبدَ الله المقتول ولا تكنْ عبدَ الله القاتل ويا باه التعليلُ بخوفه تعالى إلا أن يدعى أن تركَ الأَوْلى عنده بمنزلة المعصية في استتباع الغائلة مبالغةً في التنزه وقوله تعالى

29

{إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ} تعليل آخرُ لامتناعه عن المعارضة على أنه غرَضٌ متأخِّرٌ عنه كما أن الأولَ باعثٌ متقدِّمٌ عليه وإنما لم يُعطفْ عليه تنبيهاً على كفاية كل منها في العِلّية والمعنى إني أريد باستسلامي لك وامتناعي عن التعرّض لك أن ترجِعَ بإثمي أي بمثل إثمي لو بسطتُ يدي اليك وباثمك ببسط يدِك إِلى كَما في قولِه عليه السلام المُسْتَبَّانِ مَا قَالاَ فَعَلَى البادى مَا لَمْ يَعْتَدِ المَظْلُوم اى على البادى عينُ إثمِ سبِّه ومثلُ سبِّ صاحبه بحكم كونه سَبَباً له وقيل معنى بإثمي إثمِ قتلي ومعنى باثمك الذي لأجله لم يُتقبَّلْ قربانك وكلا هما نُصب على الحالية أي ترجع ملتبساً بالإثمين حاملاً لهما ولعل مرادَه بالذات إنما هو عدمُ ملابستِه للاثم لاملابسة أخيه له وقيل المراد بالإثم عقوبتُه ولا ريب في جواز إرادة عقوبةِ العاصي ممن عَلِم أنه لا يرعوي عن المعصية أصلاً ويأباه قولُه تعالى {فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار} فإن كونَه منهم إنما يترتّب على رجوعه بالإثمين لا على ابتلائِه بعقوبتهما وحملُ العقوبة على نوعٍ اخر يترتب عليها

سورة المائدة ايه 30 سورة الماءده ايه 31 العقوبةُ النارية يردّه قوله تعالى {وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين} فإنه صريحٌ في أن كونه من أصحاب النار تمامُ العقوبة وكمالُها والجُملة تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَها ولقد سلك في صَرْفه عما نواه من الشر كلَّ مسلك من العظة والتذكير بالترغيب تارةً والترهيب أخرى فما أورثه ذلك إلا الإصرارَ على الغيِّ والانهماك في الفساد

30

{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} أي وسَّعَتْه وسهّلته من طاعَ له المرتَعُ إذا اتسع وترتيبُ التطويع عَلى ما حُكي من مقالات هابيلَ مع تحققه قبلها أيضاً كما يُفصح عنهُ قولُه لاَقْتُلَنَّكَ لِما أن بقاءَ الفعل بعد تقرّر ما يُزيله من الدواعي القوية وإن كان استمرار عليه بحسَب الظاهر لكنه في الحيقيقة أمرٌ حادث وصُنع جديد كما في قولك وعظتُه فلم يتَّعظ أو لأن هذه المرتبةَ من التطويع لم تكن حاصلةً قبلَ ذلك بناءً على تردُّده في قُدرته على القتل لما أنه كان أقوى منه وإنما حصلت بعد وقوفه على استسلام هابيلَ وعدم معارضتِه له والتصريحُ بأُخوَّته لكمال تقبيحِ ما سوَّلته نفسُه وقرىء فطاوعت على أنه فاعَلَ بمعنى فعل أو على أن قتل اخيه كلانه دعا نفسه إلى الإقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع وله لزيادة الربطِ كقولك حفظتُ لزيد مالَه {فَقَتَلَهُ} قيل لم يدر قابيلُ كيف يقتل هابيلَ فتمثل إبليسُ وأخذ طائراً ووضع رأسه على حجر ثم شدَخها بحجر آخرَ فتعلّم منه فرضخَ رأسَ هابيلَ بين حجرين وهو مستسلم لا يستعصي عليه وقيل اغتالَه وهو نائم وكان لهابيلَ يوم قُتل عشرون سنة واختلف في موضِع قتلِه فقيل عند عقبةِ حِراء وقيل بالبصرة في موضع المسجدِ الأعظم وقيل في جبل بود ولما قتله تركه بالعَراء لا يدري ما يصنع به فخاف عليه السباع فحمله في جِراب على ظهره أربعين يوماً وقيل سنة حتى أروح وعكفت عليه الطيور والسباع تنظر متى يرمي به فتأكلَه {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} ديناً ودنيا

31

{فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الارض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْأَةَ أَخِيهِ} رُوي أنَّه تعالى بعثَ غرابين فاقتتلى فقتل أحدهما الآخرَ فحفر له بمنقاره ورجليه حُفرة فألقاه فيها والمستكنُّ في يريه الله تعالى او للغراب والالام على الأول متعلقة ببعَثَ حتما وعلى الثاني يبحث ويجوز تعلُّقها ببعث أيضاً وكيف حال من ضمير يُواري والجملةُ ثاني مفعولي يري والمراد بسواة أخيه جسدُه الميْتُ {قَالَ} استئناف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ عند مشاهدةِ حال الغراب فقيل قال {يا ويلتى} هي كلمةُ جَزَعٍ وتحسّرٍ والالاف بدلٌ من ياء المتكلم والمعنى يا ويلتي احضرا فهذا أوانك والويلُ والويلةُ الهلَكة {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ} أي عن أن أكون {مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِى} تعجبٌ من عدم اهتدائِه إلى ما اهتدى إليه الغرابُ وقولُه تعالى فَأُوَارِيَ بالنصب عطفٌ على أن أكونَ وقرا بالرفع أي فأنا أواري {فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} أي على قتله لِما كابد فيه من التحيّر في أمره وحملِه على رقبته مدةً طويلة روي أنه لما قتله اسودّ جسدُه وكان أبيضَ فسأله آدمُ عن اخيه فقال

سورة المائدة اية 32 ما كنت عليه وكيلاً قال بل قتله ولذلك اسود جسدُك ومكث آدمُ بعده مائةَ سنةٍ لا يضحك وقيل لما قتل قابيلُ هابيلَ هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليسُ فقال له إنما أكلت النارُ قربانَ هابيلَ لأنه كان يخدُمها ويعبُدها فإن عبدتَها أيضاً حصل مقصودُك فبنى بيتَ نارٍ فعبدها وهو أولُ مَنْ عبد النار

32

{مِنْ أَجْلِ ذلك} شروعٌ فيما هو المقصودُ من تلاوة النبأ من بيان بعض آخر من جنايات بني إسرائيل ومعاصيهم وذلك إشارةٌ إلى عِظم شأنِ القتلِ وإفراطِ قُبحِه المفهومَين مما ذكر في تضاعيف القِصّةِ مَن استعظام هابيلَ له وكمالِ اجتنابه عن مباشرته وإن كان ذلك بطريق الدفعِ عن نفسه واستسلامه لأن يُقتلَ خوفاً من عقابه وبيانِ استتباعِه لتحمل القاتلِ لإثم المقتول ولكون قابيلَ بمباشرته من جُملة الخاسرين دينَهم ودنياهم ومن ندامته على فعله مع ما فيه من العتوّ وشدة الشكيمةِ وقساوةِ القلب والأجْلُ في الأصل مصدر أجَل شراً إذا جناه استعمل في تعليل الجناياتِ كما في قولهم من جرّاك فعلتُه أي من أن جرَرْتَه وجنيتَه ثم اتُّسع فيه واستُعمل في كل تعليل وقرا من إِجْل بكسرِ الهمزةِ وهي لُغةٌ فيه وقرا مِنَ اجْل بحذف الهمزة والقاء فتحها على النون ومن لا ابتداء الغايةِ متعلقةٌ بقوله تعالى {كتبنا على بني إسرائيل} وتقديمُها عليه للقصر أي من ذلك ابتداءُ الكَتْب ومنه نشأ لا من شيء آخرَ أي قضينا عليهم وبيّنا {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً} واحدةً من النفوس {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي بغير قتلِ نفسٍ يوجب الاقتصاص {أَوْ فَسَادٍ فِى الارض} أي فساد يوجب إهدارَ دمِها وهو عطفٌ على ما أضيفَ إليهِ غير على معنى نفي كلا الامرين معاً كما في قولكَ من صلى بغير وضوء أو تيمُّمٍ بطلت صلاتُه لا نفيِ أحدِهما كما في قولك من صلى بغير وضوء أو ثوب بطلت صلاته ومذار الاستعمالين اعتبارُ ورودِ النفي على ما يُستفاد من كلمة أو من الترديد بين الامرين المنبا عن التخيير والإباحة واعتبارِ العكس ومناطُ الاعتبارين اختلافُ حالِ ما أضيف إليه غير من الأمرين بحسب اشتراط نقيض الحكم بتحقق أحدِهما واشتراطِه بتحققهما معاً ففي الأول يرد النفيُ على الترديد الواقعِ بين الامرين قبل ورود فيفيد نفيَهما معاً وفي الثاني يرد الترديدُ على النفي فيفيد نفيَ أحدهما حتماً إذ ليس قبل ورودِ النفيِ ترديدٌ حتى يُتصَوَّر عكسُه وتوضيحُه أن كلَّ حكمٍ شُرِطَ بتحقق أحدِ شيئين مثلاً فنقيضُه مشروطٌ بانتفائهما معاً وكلَّ حكمٍ شرُط بتحققهما معاً فنقيضُه مشروطٌ بانتفاء أحدِهما ضرورةَ النقيض كلِّ شيءٍ مشروطٌ بنقيض شرطِه ولا ريب في النقيض الإيجابِ الجزئي كما في الحكم الأول هو السلبُ الكليُّ ونقيضَ الإيجابِ الكليِّ كما في الحكم الثاني هو رفعُه المستلزِمُ للسلب الجزئي فثبت اشتراطُ نقيضِ الأولِ بانتفائهما معاً واشتراطُ نقيضِ الثاني بانتفاء أحدِهما ولمّا كان الحكمُ في قولك من صلى بوضوء أو تيممٍ صحت صلاتُه مشروطا بتحقق احدهما مهما كان نقيضا في قولك من صلى بغير وضوء او

المائدة آية 32 تيمم بطلتْ صلاتُه مشروطاً بنقيض الشرطِ المذكور البتةَ وهو انتفاؤهما معاً فتعين ورورد النفي المستفادِ من غير على الترديد الواقعِ بين الوضوء والتيمّمِ بكلمة أو فانتفى تحققُهما معاً ضرورةَ عمومِ النفي الواردِ على المبهم وعلى هذا يدور ما قالوا إنه إذا قيل جالس العلماءَ أو الزهار قم أُدخل عليه لا الناهية امتنع فعلُ الجميع نحو ولا تطع منهم آثما أكفورا إذ المعنى لا تفعلْ أحدَهما فأيُّهما فعله فهو أحدُهما وأما قولُك من صلى بوضوء أو ثوبٍ صحت ثلاته فحيث كان الحكمُ فيه مشروطاً بتحقق كِلا الأمرين وهو انتفاءُ أحدِهما فتعين ورودُ الترديد على النفي فأفاد نفيَ أحدِهما ولا يخفى أن إباحةَ القتلِ مشروطةٌ بأحد ما ذكر من القتل والفساد ومن ضرورته اشتراطُ حرمتِه بانتفائهما معاً فتعين ورودُ النفي على الترديد لا محالة كأنَّه قيل مَنْ قتل نفساً بغير أحدِهما {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً} فمن قال في تفسيره أو بغير فساد فقد أبعد عن توفية النظم الكريم حقَّه وما في كأنما كافةٌ مهيئةٌ لوقوع الفعلِ بعدها وجميعاً حالٌ من الناس أو تأكيد ومناطُ التشبيهِ اشتراكُ الفعلين في هتك حرمةِ الدماء والاستعصاء على الله تعالى وتجسيرِ الناس على القتل وفي استتباع القَوَد واستجلابِ غضبِ الله تعالى وعذابِه العظيم {وَمَنْ أحياها} أي تسبب لبقاء نفس واحدةٍ موصوفةٍ بعدم ما ذُكر من القتل والفساد في الأرض إما بنهي قاتلها عن قتلها أو استنقاذِها من سائر أسبابِ الهلَكة بوجهٍ من الوجوه {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} وجهُ التشبيهِ ظاهرٌ والمقصود تهويل أمر التقل وتفخيمُ شأن الإحياءِ بتصوير كلَ منهما بصورة لائقة به في إيجاب الرهبةِ والرغبة لذلك صدر النظمُ الكريمُ بضمير الشأنِ المنبىء عن كمال شهرته ونابهته وتبادره إلى الأذهان عند ذكر الضمير الموجب لزيادة تقريرِ ما بعده في الذهن فإنَّ الضميرَ لا يُفهمُ منه من أولِ الأمرِ إلا شأنٌ مبهمٌ لهُ خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما يعقُبه فيتمكن عند وروده فضلُ تمكن كأنه قيل إن الشأنَ الخطيرَ هذا {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رسلنا بالبينات} جملة مستقرة غيرُ معطوفةٍ على كتبنا أكدت بالتأكيد القسمي وحرفِ التحقيقِ لكمال العنايةِ بتحقق مضمونِها وإنما لم يُقَلْ ولقد أرسلنا إليهم الخ للتصريح بوصول الرسالةِ إليهم فإنه أدلُّ على تناهيهم في العتوّ والمكابرة أي وبالله لقد جاءتهم رسلنا حسبما أرسلناهم بالآيات الواضحةِ الناطقةِ بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيداً لوجوب مراعاتِه وتأييداً لتحتم المحافظةِ عليه {ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذلك} أي بعد ما ذكر من الكَتْب وتأكيدِ الأمر بإرسال تترى وتجديدِ العهدِ مرة أخرى ووضعُ اسمِ الإشارةِ موضع الضمير للإيذان بكمال تميّزِه وانتظامِه بسببِ ذلكَ في سلكِ الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعدِ للإيماء إلى علو درجتِه وبُعد منزلتِه في عظ الشأنِ وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ والاستبعاد {فِى الارض} متعلقٌ بقوله تعالى {لَمُسْرِفُونَ} وكذا الظرفُ المتقدم ولا يقدح فيه توسط اتللام بينه وبينهما لأنها لامُ الابتداءِ وحقُّها الدخولُ على المبتدأ وإنما دخولُها على الخبر لمكان إنّ فهي في حيزها الأصلي حكما والإسرافُ في كل أمر التباعدُ عن حد الاعتدالِ مع عدم مبالاة به أي مسرفون في القتل غيرُ مبالين به ولما كان إسرافُهم في أمر القتلِ مستلزِماً لتفريطهم في شأن الإحياء وذكراً وكان هو أقبحَ الأمرين وأفظعَهما اكتفي بذكره في مقام التشفيع

33

{إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان حكمِ نوع من أنواع القتلِ وما يتعلق به من الفساد بأخذ المالِ ونظائرِه وتعيينِ موجبِه العاجلِ والآجلِ إثرَ بيان أعظم شأن القتلِ بغير حق وأُدرج فيه بيانُ ما أشير إليه إجمالاً من الفساد المبيحِ للقتل قيل أي يحاربون رسولَه وذكرُ الله تعالى للتمهيد والتنبيه على ما رفعه عنده عز وجل ومحاربةُ أهلِ شريعتِه وسالكي طريقتِه من المسلمين محاربةٌ له صلى الله عليه وسلم فيعم الحكمُ من يحاربهم ولو بعد أعصارٍ بطريق العبارة دون الدِلالةِ والقياس لأن ورود النصِّ ليس بطريق خكاب المشافهةِ حتى يختصَّ حكمُه بامكلفين عند النزول فيُحتاجَ في تعميمه لغيرهم إلى دليل آخرَ وقيل جعلُ محاربة المسلمين محاربةً لله تعالى ورسولِه تعظيماً لهم والمعنى يحاربون أولياءَهما وأصل الحربِ السلب والمراد هههنا قطعُ الطريق وقيل المكابرة بطريق اللصوصية وإن كانت في مِصْرٍ {وَيَسْعَوْنَ فِى الارض} عطف على يحاربون والجار المجرور متعلقٌ به وقولُه تعالى {فَسَاداً} إما مصدرٌ وقعَ موقعَ الحالِ من فاعلِ يسعون أي مفسدون أو مفعول له أي للفساد أو مصدر مؤكد ليسعون لأنه في معنى مفسدون على أنه مصدرٌ من أفسد بحذف الزوائد أو اسمُ مصدر قيلَ نزلتِ الآيةُ في قوم هلال بنِ عويمرٍ الأسلمي وكان وادعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يُعينُه ولا يُعينُ عليه ومن أتاه من المسلمين فهو آمن لا يُهاج ومن مر بهلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاج فمر قومٌ من بني كنانةَ يريدون الإسلام بناس من قوم هلالٍ ولم يكن هلال يومئذ شاهداً فقطعوا عليهم وقتلوهم وأخذوا أموالهم وقيل نزلت في العُرَنيين وقصتُهم مشهورة وقيل في قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ فنقضوا العهدَ وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض ولما كانت المحاربةُ والفسادُ على مراتبَ متفاوتةٍ ووجوه شتى من القتل بدون أخذ المال ومن التق مع أخذه وأخذِه بدون القتل ومن الإخافة بدون قتلٍ وأخذ شُرعت لكل مرتبة من تلك المراتب عقوبةٌ معينة بطريق التوزيعِ فقيل {أَن يُقَتَّلُواْ} أي حداً من غير صلبٍ إن أفرد القتلَ ولو عفا الأولياءُ لا يلتفت إلى ذلك لأنه حقُّ الشرعِ ولا فرقَ بين أنْ يكون القتلُ بآلة جارحةٍ أو لا {أَوْ يُصَلَّبُواْ} أي مع القتل إن جمعوا بين القتلِ والأخذِ بأن يصلّبوا أحياءً وتُبعَجَ بطونُهم برمح إلى أن يموتوا وفي ظاهر الرواية أن الإمام مخير إن شاء اكتفى بذلك وإن شاء قطع أيديَهم وأرجلَهم من خلاف وقتلهم وصلبهم وصيغةُ التفعيل في الفعلَين للتكثير إن اقتصروا على أخذ المالِ من مسلم أو ذمي وكان المقدر بحيث لو قسم عليهم أصاب كلاًّ منهم عشرةُ دراهمَ أو ما يساويها قيمتُه أما قطعُ أيديهم فلأخذ المالِ وأما قطعُ أرجلهم فلإخافة الطريقِ بتفويت أمْنِه {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الارض} إن لم يفعلوا غيرَ الإخافةِ والسعي للفساد والمرادُ بالنفي عندنا هو الحبس

المائدة آية 34 35 فإنه نفيٌ عن وجه الأرضِ لدفع شرِّهم عن أهلها ويُعزّرون أيضاً لمباشرتهم منكر الإخافة وإزالة الأمن وعند الشافعي رضي الله عنه النفي من بلدٍ إلى بلدٍ لا يزال يُطلب وهو هاربٌ فزعاً وقيل هو النفي عن بلده فقط وكانوا ينفونهم إلى دَهْلَك وهو بلد في أقصى تِهامة وناصع وهو بلد من بلاد الحبشة {ذلك} أي من فضل من الأحكام والأجزية قيل هو مبتدأٌ وقوله تعالى {لَهُمْ خِزْىٌ} جملةٌ من خبرٍ مقدمٍ على المبتدأ وقوله تعالى {فى الدنيا} متعلق بمحذوب وقع صفةً لخزيٌ أو متعلق بخزيٌ على الظرفية والجملةُ في محل الرفع الرفعِ على أنها خبرٌ لذلك وقيل خزيٌ خبرٌ لذلك ولهم متعلق بمحذوب وقع حالاً من خزي لأنَّه في الأصلِ صفةٌ له فلما قدم انتصب حالاً وفي الدنيا إما صفة لخزي أو متعلق به على ما مر والخزيُ الذلُّ والفضيحة {وَلَهُمْ فِى الآخرةِ} غيرُ هذا {عَذَابٌ عظِيمٌ} لا يقادَرُ قدرُه لغاية عِظمِ جنايتِهم فقوله تعالى لَهُمْ خبرٌ مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وفي الآخرة متعلقٌ بمحذوف وفع حالاً من عذاب لأنَّه في الأصلِ صفةٌ له فلما قدم انتصب حالا أي كائناً في الآخرة

34

{إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} استثناءٌ مخصوصٌ بما هو من حقوق الله عزَّ وجلَّ كما ينبىء عنه قوله تعالى {فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أما ما هو من حقوق الأولياءِ من القصاص ونحوِه فإليهم ذلك إن شاءوا عفَوْا وإن أحبوا استوفَوْا وإنما يسقطُ بالتوبة وجوبُ استيفائِه لا جوازُه وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه أن الحرثَ بن بدر جاءه تائباً بعد ما كان يقطع الطريقَ فقبِلَ توبته ودرأ عنه العقوبة

35

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اتقوا الله} لما ذُكِرَ عِظَمُ شأنِ القتلِ والفساد وبيَّن حُكمَهما وأُشير في تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب من جنايته أُمِرَ المؤمنون بأن يتقوه تعالى في كلِّ ما يأتُون وما يذرون بترك ما يجب بقاؤه من المعاصي التي من جملتها ما ذكر من القتل والفساد وبفعل الطاعات التي من زُمرتها السعيُ في إحياء النفوس ودفعِ الفساد والمسارعة إلى التوبة والاستغفار {وابتغوا} أي اطلُبوا لأنفسكم {إِلَيْهِ} أي إلى ثوابه والزلفى منه {الوسيلة} هي فعيلةٌ بمعنى ما يُتوسّل به ويُتقرَّب إلى الله تعالى من فعل الطاعات وتركِ المعاصي من وسَّل إلى كذا أي تقرب إليه بشيء وإليه متعلقٌ بها قُدّم عليها للاهتمام به وليست بمصدرٍ حتى لا تعملَ فيما قبلها ولعل المراد بها الاتقاءُ المأمورُ به فإنه مَلاكُ الأمر كلِّه كما أشير إليه وذريعةٌ لنيل كلِّ خير ومنجاةٌ من كل ضَيْر فالجملة حينئذ جارية مما قبلها مجرى البيانِ والتأكيد أو مطلقُ الوسيلة وهو داخل فيها دخولاً أولياً وقيل الجملةُ الأولى أمرٌ بترك المعاصي والثانية أمرٌ بفعل الطاعات وحيث كان في كلَ من ترك المعاصي المشتهاةِ للنفي وفعلِ الطاعات المكروهة لها كُلفة ومشقة عقّب الأمرَ بهما بقوله تعالى {وجاهدوا فِى سَبِيلِهِ} بمحاربة أعدائِه البارزةِ والكامنة {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} بنيلِ مرضاتِه والفوزِ بكراماته

المائدة آية 36

36

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأوامر السابقة وترغيبِ المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز وجل قبل انقضاءِ أوانِه ببيان استحالةِ توسُّلِ الكفار يومَ القيامة بأقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلاً عن نيلِ الثواب {لَوْ أَنَّ لَهُمْ} أي لكل واحد منهم كما في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ الخ لا لجميعهم إذ ليس في ذلك هذه المرتبةُ من تهويل الأمر وتفظيع الحال {مَّا فِى الأرض} أي من أصناف أموالِها وذخائها وسائرِ منافعِها قاطبةً وهو اسمُ أن ولهم خبرُها ومحلُّها الرفعُ بلا خلاف خلا أنه عند سيبويه رفعٌ على الابتداء ولا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتِها على المُسنَدِ والمُسنَد إليه وقد اختصَّتْ منْ بينِ سائرِ ما يُؤوّل بالاسم بالوقوع بعد لو ولو قيل الخبرُ محذوفٌ ثم قيل يُقدّر مقدّماً أي لو ثابتٌ كونُ ما في الأرض لهم وقيل بقدر مؤخراً أي لو كونُ ما في الأرض لهم ثابتٌ وعند المبرِّد والزجّاج والكوفيين رُفعَ على الفاعلية والفعلُ مقدرٌ بعد لو أي لو ثبَتَ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الارض وقولُه تعالى {جَمِيعاً} توكيد للوصول أو حال منه {وَمِثْلَهُ} بالنصب عطفٌ عليه وقوله تعالى {مَعَهُ} ظرفٌ وقع حالاً من المعطوفِ والضميرُ راجعٌ إلى الموصول وفائدتُه التصريحُ بفرض كينونَتِهما لهم بطريق المعيّة لا بطريق التعاقُب تحقيقاً لكمال فظاعةِ الأمر مع ما فيه من نوع إشعارٍ بكونهما شيئاً واحداً وتمهيداً لإفراد الضمير الراجع إليهم واللام في قوله تعالى {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} متعلقةٌ بما تعلق به خبرُ أن أعني الاستقرارَ المقدَّرَ في لهم وبالخبر المقدّر عند من يرى تقديرَ الخبرِ مقدماً أو مؤخراً وبالفعل المقدّر بعد لو على رأي المبرد ومن نحاه ولا ريب في أن مدارَ الافتداءِ بما ذُكر هو كونُه لهم لا ثبوت لهم وإن كان مستلزِماً له والباء في به متعلقةٌ بالافتداء والضميرُ راجعٌ إلى الموصول ومثله معاً وتوحيدُه إما لما أشير إليه وإما لإجرائه مُجرى اسمِ الإشارة كأنه قيل بذلك كما في قوله كأنه في الجلد توقيع البَهَق أي كأن ذلك وقيل وهو راجعٌ إلى الموصول والعائدُ إلى المعطوف أعني مثله محذوفٌ كما حُذف الخبرُ من قيارٌ في قوله فإني وقيارٌ بها لغريبُ أي وقيار أيضاً غريبُ وقد جوز أن يكون نصب ومثله على أنَّه مفعولٌ معه ناصِبُه الفعلُ المقدر بعد لو تفريعاً على مذهب المبرد ومن رأى رأيَه وأنت خبير بأن يؤدِّي إلى كونِ الرافعِ للفاعل غيرَ الناصب للمفعول معه لأن المعنى على اعتبار المعية ما في الأرض ومثله في الكينونة لهم لا ثبوت تلك الكينونة وتحقيقها ولا مَساغَ لجعل ناصبِه الاستقرار المقدر في لهم لِما أن سيبويهِ قد نص على غسم الإشارةِ وحرفَ الجر المتضمِّنَ للاستقرار لا يعمَلانِ في المفعول معه وأن قوله هذا لك وأباك قبيحٌ وإن جوزه بعضُ النحاة في الظرف وحرف الجر وقولُه تعالى {مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامةِ} متعلقٌ بالافتداء أيضاً أي لو أَنَّ مَّا فِى الأرض ومثله ثابتٌ لهم ليجعلوه فديةً لأنفسِهم من العذاب الواقعِ يومئذ {مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ} ذلك وهو جواب لو وترتيبُه على كون ذلك لهم لأجل افتدائِهم به من غير

المائدة آية 37 38 ذكرِ الافتداءِ بأن يقال وافتدَوْا به مع أن الردَّ والقَبولَ إنما يترتب عليه لا على مباديه للإيذانِ بأنه أمرٌ محقَّقُ الوقوع غنيٌّ عن الذكر وإنما المحتاجُ إلى الفَرْض قدرتُهم على ما ذُكر او للمبالغة في تحقق الردِّ وتخييلِ أنه وقع قبل الافتداءِ على منهاج ما في قوله تعالى أنا آتيك بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُك فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه حيث لم يقل فأتى به فرآه فلما الخ وما في قوله تعالى وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ من غير ذكر خروجِه عليه السلام عليهن ورأيتهن له والجملة الامتناعية بحالها خبرُ إن الذين كفروا والمرادُ تمثيلُ لزوم العذاب لهم واستحالةُ نجاتِهم منه بوجهٍ من الوجوهِ المحققةِ والمفروضة وعن النبي عليه الصلاةَ والسلام يقالُ للكافر أرأيت لو كان لك ملءُ الأرض ذهباً أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد سُئلتَ أيسرَ من ذلك وهو كلمة السهادة وقوله تعالى {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تصريحٌ بما أشير إليه بعدم قَبول فِديتِهم لزيادة تقريرِه وبيانِ هَوْلِه وشدّتِه قيل محلُّه النَّصبُ على الحاليَّةِ وقيل الرفعُ عطفاً على خبر إِن وقيل عطفٌ على إن الذين فلا محلَّ له كالمعطوف عليه

37

{يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار} استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ حالِهم في أثناء مكابدة العذاب مبنيٌّ على سؤالٍ نشأ مما قبله كأنه قيل فكيف يكون حالُهم أو ماذا يصنعون فقيل يريدون الخ وقد بين تضاعيفه أن عذابهم عذاب النار قيل إنهم يقصدون ذلك ويطلبون المخرَج فيلفَحُهم لهم النار ويرفعُهم إلى فوق فهناك يريدون الخروج ولاتَ حين مناصٍ وقيل يكادون يخردون منها لقوة النار وزيادةِ رفعِها إياهم وقيل يتمنّونه ويريدون بقلوبهم وقولُه عزَّ وجلَّ {وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا} إما حالٌ من فاعل يريدون أو اعتراض وأياما كان فإيثارُ الجملة الاسمية على الفعلية مصدّرةً بما الحجازية الدالة بما في خبرها من البناء على تأكيد النفي لبيان كمالِ سوءِ حالهم باستمرار عدم خروجبهم منها فإن الجملةَ الاسميةَ الإيجابية كما تفيدُ بمعونة المقام دوامَ الثبوت تفيد السلبية ايضا بمعونته دوامِ النفي لا نفْيِ الدوام كما مر في قوله تعالى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ الخ وقرىء أن يُخرَجوا على بناء المفعول من الإخراج {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} تصريح بما أشير إليه آنفاً من عدم تناهي مدتِه بعد بيان شدتِه

38

{والسارق والسارقة} شروعٌ في بيان حكم الشرقة الصُّغرى بعد بيان أحكام الكبرى وقد عرفت اقتضاءَ الحال لإيراد مكا توسّط بينهما من المقال ولمّا كانت السرقة معهودةً من النساء كالرجال صرح بأن السارقة أيضاً مع أن المعهود في الكتاب والسنة إدراجُ النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال بطريق الدلالة لمزيد الاعتناءِ بالبيان والمبالغةِ في الزجْر وهو مبتدأ خبرُه عند سيبويه محذوفٌ تقديرُه وفيما يتلى عليكم أو وفيما فُرِضَ عليكم السارقُ والسارقةُ أي حكمُهما وعند المبرِّد قوله تعالى {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} والفاءُ لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشرط إذ المعنى الذي سرق والتي سرقة وقُرىء بالنصب وفضَّلها سيبويه على قراءة الرفع لأن الإنشاء لا يقع خبراً إلا بتأويلٍ وإضمار والسرقةُ أخذُ مال الغير خُفْيةً وإنما توجب القطعَ إذا كان الأخذ من حِرزٍ

المائدة آية 39 40 والمأخوذُ يساوي عشرةَ دراهِمَ فما فوقها مع شروط فُصِّلت في موقعها والمراد بأيديَهما أيمانُهما كما يُفصحُ عنه قراءةُ ابن مسعود رضي الله عنه والسارقون والسارقاتُ فاقطعوا أيمانهم ولذلك ساغ وضعُ الجمْع موضعَ المثنى كما في قوله تعالى فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا اكتفاءً بتثنية المضاف إليه واليد اسمٌ لتمام الجارحة ولذلك ذهب الخوارجُ إلى أن المقطَعَ هو المنكب والجمهورُ على أنه الرُّسُغ لأنه عليه الصلاة والسلام أُتيَ بسارقٍ فأمر بقطع يمينِه منه {جَزَاء} نُصبَ على أنَّه مفعولٌ له أي فاقطعوا للجزاء أو مصدرٌ مؤكِّد لفعله الذي يدل عليه فاقطعوا أي فجازوهما جزاء وقوله تعالى {بِمَا كَسَبَا} على الأول متعلّقٌ بجزاء وعلى الثاني باقطعوا وما مصدريةٌ أي بسبب كسْبِهما أو موصولةٌ أي ما كسباه من السرقة التي تباشَر بالأيدي وقوله تعالى {نكالا} مفعولٌ له أيضاً على البدلية من جزاء لأنهما من نواع واحد وقيل القطعُ معلَّلٌ بالنكال وقيل وهو منصوبٌ بجزاءً على طريقة الأحوال المتداخِلَة فإنه علةٌ للجزاء والجزاءُ علةٌ للقطع كما إذا قلتَ ضربتُه تأديباً له إحساناً إليه فإن الضربَ معلَّلٌ بالتأديب والتأديبُ معللٌ بالإحسان وقد أجازوا في قولِه عزَّ وجلَّ أن يكفر بِمَا أنزَلَ الله بَغْيًا أَن يُنَزّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أن يكون بغياً مفعولاً له ناصبُه أن يكفروا ثم قالوا إن قوله تعالى إن يُنَزّلُ الله مفعولٌ له ناصبُه بغياً على أن التنزيلَ عَلةٌ للبغي والبغْيَ علةٌ للكفر وقولُه تعالى {مِنَ الله} متعلق بمحذوف وقع صفة لنكالا أي نكالا كائناً منه تعالى {والله عَزِيزٌ} غالبٌ على أمره يُمضيه كيف يشاءُ من غير نِدَ ينازعُه ولا ضدَ يمانعُه {حَكِيمٌ} في شرائعه لا يَحكُم إلا ما تقتضيهِ الحِكمةُ والمصلحة ولذلك شرَعَ هذه الشرائعَ المنطويةَ على فنون الحِكَمِ والمصالح

39

{فَمَن تَابَ} أي من السرق إلى الله تعالى {من بَعْدِ ظُلْمِهِ} الذي هو صرقته والتصريحُ به مع أن التوبةَ لا تُتصوَّرُ قبلَه لبيان عِظَم نعمتِه تعالى بتذكير عِظمِ جنايتِه {وَأَصْلَحَ} أي أمره بالتقصِّي عن تبعات ما باشرَه والعزمِ على ترك المعاودةِ إليها {فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ} أي يقبل توبتَه فلا يعذّبه في الآخرة وأما القطعُ فلا تُسقطُه التوبةُ عندنا لأن فيه حقَّ المسروقِ منه وتُسقطُه عند الشافعيِّ في أحد قوليه {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} مبالغ غفي المغفرة والرحمة ولذلك يَقبلُ توبتَه وهو تعليلٌ لما قبله وإظهارُ الاسمِ الجليل للإشعارِ بعِلَّة الحُكْم وتأييدِ استقلالِ الجملة وكذا في قولِه عزَّ وجلَّ

40

{ألم تعلمَ إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} فإن عنون الألوهية مدار أحكام ملكوتهما والجار والمجرور خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأٌ والجملةُ خبرٌ لإن وهي مع ما غفي حيِّزِها سادّةٌ مَسدَّ مفعوليْ تعلم عند الجمهور وما فيه من تكرير الإسناد لتقويةِ الحُكْم والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين وقيل لكل أحدٍ صالحٍ للخطاب والاستفهامُ الإنكاريُّ لتقرير العلم والمرادُ به الاستشهادُ بذلك على قدرته تعالى

المائدة آية 41 على ما سيأتي من التعذيب والمغفرةِ على أبلغ وجهٍ وأتمِّه أي ألم تعلمَ أَنَّ الله له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرُّفِ الكليِّ فيهَما وفيمَا فيهما إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة إلى غير ذلك حسْبما تقتضيهِ مشيئتُه {يُعَذّبُ مَن يَشَآء} أنْ يعذَبهُ {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أنْ يغفرَ له من غير نِدَ يساهمُه ولا ضدَ يزاحمُه وتقديمُ التعذيبِ على المغفرة لمراعات ما بين سببيهما من الترتيب والجملة إما تقريرٌ لكون ملكوتِ السموات والأرضِ له سبحانه أو خبرٌ لأن {والله على كُلّ شىء قدير} فيقدر على ما ذكر من التعذيب والغفرة والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لما مرَّ مراراً والجملة تدييل مقررلما قبلها

41

{يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِى الكفر} خُوطب عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالةِ للتشريفِ والإشعارِ بما يوجب عدمَ الحزن والمسارعةُ في الشيء الوقوعُ فيه بسرعة ورَغبةً وإيثارُ كلمةُ في على كلمة إلى الواقعة في قوله تعالى وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن ربكم وجنة غلخ للإيماء إلى أنهم مستقرون في الكفر لا يبرَحونه وإنما ينتقِلون بالمسارعة عن بعض فنونِه وأحكامِه إلى بعضٍ آخرَ منها كإظهارِ موالاةِ المشركين وإبرازِ آثارِ الكيدِ للإسلام ونحوِ ذلك كما في قولِه تعالى أُوْلَئِكَ يسارعون فِى الخيرات فإنهم مستمروه على الخير مسارعون في أنواعِه وأفرادِه والتعبيرُ عنهم بالموصول للإشارة بما في حيِّز صلتِه إلى مدار الحزن وهذا وإن كان بحسب الظاهرِ نهياً للكَفَرة عن أن يحزنوه عليه الصلاة والسلام بمسارعتهم في الكفر لكنه في الحقيقة نهيٌ له عليه الصلاة والسلام عن التأثر من ذلك والمبالاةِ بهم على أبلغِ وجهٍ وآكدِه فإن النهي عن أسباب الشيءِ ومباديه المؤديةِ إليه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني وقلعٌ له من أصله وقد يوجَّه النهيُ إلى المسبب ويزاد به النهيُ عن السَّببِ كما في قوله لا أرينك ههنا يريد نهْيَ مخاطَبه عن الحضورِ بين يديه وقرىء لا يُحزِنْك من أحزنه منقولاً من حزِن بكسر الزاء وقرىء يُسرعون يقال أسرع فيه الشيبُ أي وقع فيه سريعاً أي لا تحزَنْ ولا تُبالِ بتهافتهم في الكفر بسرعة وقوله تعالى {مّنَ الذين قالوا آمنا بأفواههم} بيان للمسارعين في الكفر وقيل متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل يسارعون وقيل من الموصول أي كائنين من الذين الخ والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا وقوله تعالى {وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} جملةٌ حالية من ضمير قالوا وقيل عطف على قالوا وقوله تعالى {وَمِنَ الذين هِادُواْ} عطف على من الذين قالوا الخ وبه يتم بيانُ المسارعين في الكفر بتقسيمهم إلى قسمين المنافقين واليهود فقوله تعالى {سماعون للكذب} خبر لمبنتدأ محذوفٍ راجعٍ إلى الفريقين أو إلى المسارعين وأما رجوعُه إلى الذين هادوا فمخل بعموم

المائدة آية 41 الوعيد الآتي ومباديه للكل كما ستقف عليه وكذا جُعل قولُه وَمِنَ الذين الخ خبراً على أن قولَه سماعون صفةٌ لمبتدأ محذوف أي ومنهم قومٌ سماعون الخ لأدائه إلى اختصاص ما عُدِّد من القبائح وما يترتبُ عليها من الغوائل الدنيوية والأخروية بهم فالوجهُ ما ذُكِرَ أولاً أي هم سماعون واللامُ إما لتقوية العمل وإما لتضمين السماعِ معنى القبول وإما لامُ كي والمفعولُ محذوف والمعنى هم مبالغون في سماع الكذب أو في قَبول ما يفتريه أحبارهمن من الكذب على الله سبحانه وتحريفِ كتابه أو سماعون أخبارَكم وأحاديثَكم ليكذبوا عليكم بأن يمسَخوها بالزيادة والنقص والتبديل والتغيير أو أخبارَ الناس وأقاويلَهم الدائرة فيما بينهم ليكذبوا فيها بأن يرجفوا بقتل المؤمنين وانكسارِ سراياهم ونحو ذلك مما يُضَرُّ بهم وأيَّا ما كان فالجملةُ مستأنفةٌ جارية مَجرى التعليل للنهي فإن كونهم سماعين للكذب على الوجوه المذكورة وابتناءَ أمورهم على ما لا أصلَ له من الأباطيل والأراجيف مما يقتضي عدمَ المبالاة بهم وتركَ الاعتداد بما يأتون وما للقطع بظهور بطلان أكاذيبهم واختلالِ ما بَنَوْا عليها من الأفاعيل الفاسدة المؤدِّية إلى الخزيِ والعذاب كما سيأتي وقرىء سمّاعين للكذب بالنصب على الذم وقوله تعالى {سماعون لِقَوْمٍ آخَرِين} خبرٌ ثانٍ للمبتدأ المقدرِ مقرِّرٌ للأول ومبينٌ لما هو المراد بالكذب على الوجهين الأولين واللام مثلُ ما في سمع الله لمن حمِده في الرجوع إلى معنى من أي قبِلَ منه حَمْدَه والمعنى مبالِغون في قبول كلام قومٍ آخرين وأما كونُها لامَ التعليل بمعنى سماعون منه عليه الصلاة والسلام لأجل قومٍ آخرين وجَّهوهم عُيوناً ليُبلِّغوهم ما سمعُوا منه عليه الصَّلاةُ والسلام أو كونُها متعلقةً بالكذب على أن سماعون الثانيَ مكررٌ للتأكيد بمعنى سماعون ليكذبوا لقومٍ آخرين فلا يكاد يساعدُهُ النظمُ الكريمُ أصلاً وقوله تعالى {لَمْ يَأْتُوكَ} صفة أخرى لقوم أي لم يُحضروا مجلسك وتجافَوْا عنك تكبراً وإفراطاً في البغضاء قيل هم يهودُ خيبر والسماعون بنو قُريظة وقوله تعالى {يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه} صفةٌ أخرى لقوم وصِفوا أولاً بمغايَرَتِهم للسماعين تنبيهاً على استقلالهم وأصالتهم وأصالتهم في الرأي والتدبير ثم بعدم حضورِهم مجلسَ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلام إيذاناً بكمال طغيانهم في الضلال ثم باستمرارهم على التحريف بياناً لإفراطهم في العتوِّ والمكابرةِ والاجتراء على الافتراءِ على الله تعالى وتعييناً للكذب الذي سمعه السماعون أي يُميلونه ويُزيلونه عن مواضعه بعد أن وضعه الله تعالى فيها إما لفظاً بإهمالِه أو تغييرِ وضعه وإما معنى بحَمْلِه على غير المراد وإجرائِه في غير موردِه وقيل الجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب ناعيةٌ عليهم شنائعَهم وقيل خبرُ مبتدأ محذوفٍ راجع إلى القوم وقوله تعالى {يَقُولُونَ} كالجملة السابقة في الوجوه المذكورة ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً من ضمير يحرفون وأما تجويزُ كونها صفةً لسماعون أو حالاً من الضمير فيه فما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وإن مقولَ القول ناطقٌ بأن قائلَه ممن لا يحضرُ مجلسَ الرسول صلى الله عليه وسلم والمخاطَب به ممن يحضُره فكيف يمكن أن يقوله السماعون المترددون إليه صلى الله عليه وسلم لمن لا يحومُ حوله قطعاً وادعاءُ قولِ السماعين لأعقابهم المخالِطين للمسلمين تعسّفٌ ظاهرٌ مُخلٌّ بجزالة النظم الكريم والحقُّ الذي لا محيدَ عنه أن المحرِّفين والقائلين هم القومُ الآخرون أي يقولون لأتباعهم السماعين لهم عند إلقائهم إليهم أقاويلَهم الباطلةَ مشيرين إلى كلامهم الباطل {إِنْ أُوتِيتُمْ} من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم {هذا فَخُذُوهُ} واعملوا بموجَبه فإنه الحق {وَإِن لَّمْ تؤتوه} بل أوتيتم

المائدة آية 41 غيرَه {فاحذروا} أي فاحذروا قبوله وإياكم وإياه في ترتيب الأمر بالحذَر على مجردِ عدمِ إيتاء المحرَّف من المبالغة في التحذير ما لا يخَفْى رُوي أن شريفاً من خَيْبرَ زنى بشريفةٍ وهما مُحصَنان وحدُّهما الرجمُ في التوراة فكرِهوا رجمَهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقالوا إن أمرَكم بالجلد والتحميم فاقبَلوا وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا وأرسلوا الزانيَيْن معهم فأمرهم بالرَّجْم فأَبوْا أن يأخُذوا به فقال جبريلُ عليه السَّلامُ اجعل بينك وبينهم ابنَ صوريا ووصفه له فقال صلى الله عليه وسلم هل تعرفون شاباً أبيضَ أعورَ يسكن فَدَك يقال له ابن صوريا قالوا نعم وهو أعلمُ يهوديَ على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى بنِ عِمرانَ في التوراة قال فأرسولا إليه ففعلوا فأتاهم فقال له النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنت ابن صوريا قال نعم قال صلى الله عليه وسلم وأنت أعلم اليهود قال كذلك يزعُمون قال لهم أترضَوْن به حكماً قالوا نعم فَقَالَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنشُدك الله الذى لاَ إله إلا هو الذي فلق البحرَ وأنجاكم وأغرق آلَ فرعون وظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المنّ والسلوى ورفعَ فوقكم الطورَ وأنزل عليكم التوراةَ فيها حلالُه وحرامُه هل تجدون في كتابكم الرجْمَ على من أُحصِن قال نعم والذي ذكرتني به لولا خشيت أن يحرقني التوراةُ إن كذبتُ أو غيَّرتُ ما اعترفت لك ولكن كيف هي في كتابك يا محمد قال صلى الله عليه وسلم إذا شهد أربعةُ رهطٍ عدول أن أَدخَل فيها كما يُدخَلُ الميلُ في المُكحُلة وجب عليه الرجم قال ابن صوريا والذي أنزل التوراةَ على موسى هكذا أنزل الله في التوراة على موسى فوثب عليه سَفَلةُ اليهود فقال خفتُ إن كذَبتُه أن ينزِل علينا العذاب ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياءَ كان يعرِفها من أعلامه فقالَ أشهدُ أَن لاَّ إله إِلاَّ الله وأنك رسول اله النبيُّ الأمي العربي الذي بشر به المرسلون وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرُجما عند باب المسجد {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ} أي ضلالته أو فضيحته كائناً من كان فيندرج فيه المذكورون اندراجاً أولياً وعدمُ التصريح بكونهم كذلك للإشعار بكمال ظهورِه واستغنائه عن ذكره {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ} فلن تستطيع له {مِنَ الله شَيْئاً} في دفعها والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها ومبينةٌ لعدم انفكاكِهم عن القبائح المذكورة أبداً {أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين من المنافقين واليهود وما في اسْم الإشارةِ من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفساد وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى {الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ} أي من رجْسِ الكفر وخَبَثِ الضلالة لأنهِماكِهم فيهما وإصرارِهم عليهما وإعراضِهم عن صرف اختيارهم إلى تحصيل الهداية بالكلية كما ينبىء عنه وصفُهم بالمسارعة في الكفر أولاً وشرحُ فنون ضلالاتهم آخراً والجملة استئنافٌ مبينٌ لكون إرادتِه تعالى لفتنتِهم مَنوطةً بسوء اختيارِهم وقُبح صنيعِهم الموجبِ لها لا واقعةً منه تعالى ابتداءً {لَهُمْ فِى الدنيا خِزْىٌ} أما المنافقون فخزيُهم فضيحتُهم وهتكُ سِترتِهم بظهور نفاقِهم فيما بين المسلمين وأما خزيُ اليهود فالذلُ والجزيةُ والافتضاحُ بظهور كَذِبهم في كِتمان نصِّ التوراة وتنكيرُ خزيٌ للتفخيم وهو مبتدأ ولهم خبرُه وفي الدنيا متعلقٌ بما تعلَّق بهِ الخبرُ من الاستقرار وكذا الحالُ في قولِه تعالى {وَلَهُمْ فِى الاخرة} أي من الخزي الدنيوي {عذاب أليم} هو الخلودُ في النار وضميرُ لهم في الجملتين للمنافقين واليهود جميعاً لا اليهة ود خاصة كما قيل وتكريرُ لهم مع اتحاد المرجِع لزيادة التقرير والتأكيد والجملتنان استئناف مبني على سؤال نشأ من تفصيل أفعالِهم وأحوالهم الموجبةِ للعقاب كأنه قيل فما لهم من العقوبة فقيل لهم في الدنيا الآية

المائدة آية 42

42

{سماعون لِلْكَذِبِ} خبرٌ آخرُ للمبتدأ المقدّر كُرِّر تأكيداً لما قبله وتهيدا لما بعده من قوله تعالى {أكالون لِلسُّحْتِ} وهو أيضاً خبرٌ آخرُ للمقدَّر واردٌ على طريقة الذم أو بناء على أنَّ المراد بالكذِب ما يفتعله الراشون عند الأكّالين والسُحْت بضم السين وسكون الحاء في الأصل كل ما لا يحِلُّ كسبُه وقيل هو الحرام مطلقاً من سَحَتَه إذا استأصله سمي به لأنه مسحوتُ البركة والمراد به ههنا إما الرِّشا التي كان يأخذها المحرِّفون على تحريفهم وسائرِ أحكامِهم الزائغة وهو المشهور أو ما كان يأخذه فقراؤهم من أغنيائهم من المال ليُقيموا على اليهودية كما قيل وإما مطلقُ الحرام المنتظِمِ لَما ذُكر انتظاماً أولياً وقرىء للسُحُت بضم السين والحاء ووبفتحهما وبفتح السين وسكون الحاء وبكسر السين وسكون الحاء وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كلُّ لحمٍ أنبتَه السُّحْتُ فالنار أولى به {فَإِن جاؤوك} لما بيَّن تفاصيلَ أمورِهم الواهية وأحوالَهم المختلفةَ الموجبة لعدم المبالاة بهم وبأفاعليهم حسبما أمر به صلى الله عليه وسلم خوطب صلى الله عليه وسلم ببعض ما يتبنى عليه من الأحكام بطريق التفريع والفاء فصيحة أيْ وإذَا كانِ حالُهم كما شُرح فإن جاءوك متحاكمين إليك فيما شجَرَ بينهم من الخصومات {فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} غيرَ مبالٍ بهم ولا خائفٍ من جهتهم أصلاً وهذا كما ترى تخييرٌ له صلى الله عليه وسلم بين الأمرين فقيل هو في أمر خاص هو ما ذُكر من زنا المحصَن وقيل في قتيل قُتل من اليهود في بني قُريظةَ والنضيرِ فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بنو قريظة إخوانُنا بنو النضير أبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد وإذا قَتَلوا منا قتيلاً لم يرضَوْا بالقَوَد وأعطَوْنا سبعين وَسْقاً من تمر وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتلَ وأخذوا منا الضِّعفَ مائة وأربعين وسقاً من تمر وإن كان القتيلُ امرأةً قتلوا بها الرجلَ منا وبالرجل منهم الرجلين منه وبالعبدِ منهم الحرَّ منا فاقض بيننا فجعل صلى الله عليه وسلم الدية سواء وقيل وهو عام في جميع الحكومات ثم اختلفوا فمن قائل إنه ثابت وهو المرويُّ عن عطاءٍ والنَخَعيِّ والشَعْبيِّ وقَتادةَ وأبي بكرٍ الأصمِّ وأبي مسلم وقائلٍ إنه منسوخ وهو قولُ ابنِ عبَّاسٍ والحسن ومجاهد وعِكْرِمة قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يُنسخْ من المائدة إلا آيتان قولُه تعالى لاَ تحلوا شعائر الله وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وعليه مشايخُنا {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ} بيانٌ لحال الأمرين إثْرَ تخييرِه صلى الله عليه وسلم بينهما وتقديمُ حالِ الإعراض للمُسارعةِ إلى بيانِ أنَّ لا ضررَ فيه حيث كان مظِنةُ الضرر لِما أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه صلى الله عليه وسلم لآ لطلبِ الأيسر والأهونِ عليهم فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومةَ بينهم شق ذلك عليهم فتشتد عداوتهم ومضاراتهم له صلى الله عليه وسلم فأمنه الله عزَّ وجلَّ بقولِهِ {فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً} من الضرر فإن الله عاصمُك من الناس {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُم بالقسط} بالعدل الذي أُمرت به كما حكمت بالرجم {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} ومن ضرورته أن يحفَظَهم عن كل مكروه ومحذور

المائدة آية 43 44

43

{وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التوراة فيها حكم الله} تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه والحالُ أن الحكم منصوصٌ عليه في كتابهم الذي يدّعون الإيمان به وتنبيهٌ على أنهم ما قصَدوا بالتحكيم معرفةَ الحق وإقامةَ الشرع وإنما طلبوا به ما هو أهونُ عليهم وإن لم يكن ذلك حكمَ الله على زعمهم فقوله تعالى وعندهم التواراة حالٌ من فاعل يحكّمونك وقوله تعالى فِيهَا حُكْمُ الله حالٌ من التوراة إن جُعِلت مرتفعةً بالظرف وإن جُعلت مبتدأ فهو حالٌ من ضميرها المستكنِّ في الخبر وقيل استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ أن عندهم ما يُغنيهم عن التحكيم وتأنيثه الكونها نظيرةَ المؤنث في كلامِهم كموماة ودوداة {ثم يتلون} عطفٌ على يحكمونك داخلٌ في حُكمِ التعجيبِ وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ وقوله تعالى {مِن بَعْدِ ذلك} أي بعدما حكّموك تصريحٌ بما عُلم قطعا لتأكيد الاستبعاد والتعجيب أي ثم يُعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم من بعد ما رضوُا بحكمك وقوله تعالى {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} تذييلٌ مقرِّرٌ لفحوى ما قبله ووضع اسمُ الإشارةِ موضعَ ضميرِهم للقصد إلى إحضارِهم في الذهن بما وُصفوا به من القبائح إيماءٌ إلى علة الحُكم وإلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهمن أكملَ تمييز حتى انتظموا في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ ببُعد درجتِهم في العتو والمكابرة أي وما أولئك الموصوفون بما ذكر بالمؤمنين أي بكتابهم لإعراضهم عنه أولاً وعن حُكمِك الموافقِ له ثانياً أو بهما وقيل وما أولئك بالكاملين في الإيمان تهكماً بهم

44

{إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان علوِّ شأن التوراةِ ووجوبِ مراعاة أحكامِها وأنها لم تزل مَرْعيّةً فيما بين الأنبياء ومَنْ يقتدي بهم كابراً عن كابر مقبولةً لكل أحد من الحكام والمتحاكمين محفوظةً عن المخالفة والتبديل تحقيقاً لما وُصف به المحرِّفون من عدم إيمانهم بها وتقريراً لكفرهم وظلمهم وقوله تعالى {فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} حالٌ من التوراة فإن ما فيها من الشَّرائعِ والأحكامِ من حيث إرشادُها للناس إلى الحق الذي لا محيد عنه هدىً ومن حيث إظهارُها وكشفها ما استَبْهَم من الأحكام مي حيث إرشادُها للناس إلى الحق الذي لا محيد عنه هدىً ومن حيث إظهارها وكشفها ما استَبْهَم من الأحكام وما يتعلق بها من الأمور المستورةِ بظلمات الجهل نور وقوله تعالى {يَحْكُمُ بِهَا النبيون} أي أنبياءُ بني إسرائل وقيل موسى ومَنْ بعده من الأنبياء جملةٌ مستأنفة مبينةٌ لرِفعةِ رتبتِها وسُمُوِّ طبقتها وقد جوَّز كونَه حالاً من التوراة فيكون حالاً مقدرة أي يحكُمون بأحكامها ويحمِلون الناس عليها وبه تمسك من ذهب إلى أن شريعةَ مَنْ قبلَنا شريعةٌ لنا ما لم تُنْسَخْ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على الفاعلِ لما مرَّ مراراً من الاعتناء بشأن المقدمِ والتَّشويق إلى المؤخَّر ولأنَّ في المؤخَّر وما يتعلق به نوعَ طولٍ ربَّما يُخِلّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم وقوله

المائدة آية 44 تعالى {الذين أسلموا} صف أجريت على النبيين على سبيل المدح دون التخصيص والتوضيح لكن لا للقصد إلى مدحهم بذلك حقيقة فإن النبوة أعظم من الإسلام قطعاً فيكون وصفُهم به بعد وصفِهم بها تنزلاً من الأعلى إلى الأدنى بل لتنويه شأن الصفة فإن إبرازَ وصفٍ في معرض مد ح العظماء مُنبىءٌ عن عِظَم قدرْ الوصْفِ لا محالة كما في وصف الأنبياءِ بالصلاحِ ووصفِ الملائكة بالإيمان عليهم السلام ولذلك قيل أوصافُ الأشراف أشرافُ الأوصاف وفيه رفع لشأن المسلمين وتعريضٌ باليهود وأنهم بمعزِل من الإسلام والاقتداءُ بدين الأنبياء عليهم السَّلامُ لا سيما مع ملاحظة ما وُصفوا به في قوله تعالى {لِلَّذِينَ هَادُواْ} وهو متعلق بيحكم أي يحكمون فيما بينهم واللام ما لبيان اختصاصِ الحُكم بهم أعمُّ من أن يكون لهم أو عليهم كأنه قيل لأجل الذين هادوا وإما للإيذان بنفعه للمحكوم عليه أيضا بإسقاط النبعة عنه وإنا للإشعار بكمال رضاهم به وانقيادِهم له كأنه أمرٌ نافع لكلا الفريقين ففيه تعريضٌ بالمحرِّفين وقيل التقديرُ للذين هادوا وعليهم فحُذِفَ ما حُذف لدلالة ما ذكر عليه وقيل ما هو متعلق بأنزلنا وقيل بهدىً ونور وفيه فصلٌ بين المصدر ومعموله وقيل متعلق بمحذوف وقع صفة لهما ونورٌ كائنان للذين هادوا {والربانيون والاحبار} أي الزهاد والعلماء من ولد هرون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دجين اليهود وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الربانيون الذي يوسوسون الناسَ بالعلم ويربُّونهم بصغاره قبل كباره والأحبارُ هم الفقهاء واحده حبر بالفتح والكسر والثاني أفصح وهو رأي الفراء مأخوذ من الحبير والتحسين فإنهم يُحبِّرون العلمَ ويزينونه ويُبيِّنونه وهو عطفٌ على النبيون أي هم أيضاً يحكمُون بأحكامها وتوسيطُ المحكومِ لهم بين المعطوفين للإيذان بأن الصل في الحُكم بها وحَمْلِ الناس على ما فيها هم النبيون وإنما الربانيون والأحبارُ خلفاءُ ونوابٌ لهم في ذلك كما يُنبىء عنه قوله تعالى {بِمَا استحفظوا} أي بالذي استُحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة حيث سألوهم أن يحفَظُوها من التغيير والتبديل على الإطلاق ولا ريب في أن ذلك منهم عليهم السلام استخلافٌ لهم في إجراء أحكامِها من غير إخلالٍ بشيء منها وفي إبهامها أولاً ثم بيانِها ثانياً بقوله تعالى {مِن كتاب الله} من تفخيمها وإجلالِها ذاتاً وإضافةً وتأكيد غيجاب حفظِها والعملِ بما فيها ما لا يخفى وإيرادهابعنوان الكتاب للإيماء إلى إيجاب حفظِها عن التغييرِ من جهة الكتابة والباءُ الداخلة على الموصول متعلقةٌ بيحكم لكنْ لاَ على أنَّها صلة له كالتي في قولِه تَعالَى بِهَا ليلزَمَ تعلقُ حرفي جرٍ متحدَّيْ المعنى بفعلٍ واحد بل على أنها سببية أي ويحكم الربانيون والأحبارُ أيضاً بسبب ما حفِظوه من كتاب الله حسْبما وصاهم به أنبياؤُهم وسألوهم أن يحفظوه وليس المراد بسببيته لحكمهم ذلك سببيته من حيث الذاتُ بل من حيث كونُه محظوظا فإن تعليقَ حكمِهم بالموصول مُشعرٌ بسببية الحفظِ المترتب لا محالة على مَا في حيزِ الصِّلةِ من الاستحفاظ له وقيل الباء صلةٌ لفعلٍ مقدر معطوفٍ على قوله تعالى يَحْكُمُ بِهَا النبيون عطفَ جُملةٍ على جملة أي ويحكم الربانيون والأحبارُ بحكم كتابِ الله الذي سألهم أنبياؤهم أن يحفظوه من التغيير {وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} أي رُقباءَ يحمُونه مِنْ أنْ يحومَ حولَه التغييرُ والتبديلُ بوجه من الوجوه فتغييرُ الأسلوب لما ذُكر من المزايا وقيل بما استحفظوا بدل من

المائدة آية 45 قوله تعالى بِهَا بإعادة العامل وهو بعيد وكذا تجويزُ كونِ الضمير في استُحفظوا للأنبياء والربانيين والأحبارِ جميعاً على أن الاستحفاظَ من جناب الله عزَّ وجلَّ أي كلفهم الله تعالى أن يحفظوه ويكونوا عليه شهداء وقوله تعالى وتقدَّسَ {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس} خطابٌ لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات وأما حكامُ المسلمين فيتناولهم النهْيُ بطريق الدلالة دون العبارة والفاءُ لترتيبِ النهْيِ على ما فُصِّل من حال التوراة وكونها معنى بشأنها فيما بين الأنبياء عليهم السلام ومَنْ يقتدى بهم من الربانيين والأحبار المتقدمين عملاً وحفظاً فإنَّ ذلكَ ممَّا يوجبُ الاجتنابَ عن الإخلال بوظائف مراعاتِها والمحافظةِ عليها بأي وجهٍ كان فضلاً عن التحريف والتغيير ولمّا كان مدارُ جراءتهم على ذلك خشيةَ ذي سلطان أو رفبة في الحظوظ الدنيوية نُهوا عن كل منهما صريحاً أي إذا كان شأنها كما ذكر فلا تخشوا الناسَ كائناً من كان واقتدوا في مراعاة أحكامها بالتعرُّض لها بسوء {وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي} الاشتراء استبدالُ السلعة بالثمن أي أخذها بدلاً منه لا بذلُ الثمن لتحصيلها كما قيل ثم استعير لأخذ شيء بدلاً مما كان له عيناً كان أو معنى أخذاً منوطاً بالرغبة فيما أُخذ والإعراضِ عما أُعطِيَ ونبذكما فصل في تفسيرِ قولِه تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فالمعنى لا تستبدلوا بآياتي التي فيها بأن تُخرجوها منها أو تتركوا العملَ بها وتأخذوا لأنفسكم بدلاً منها {ثَمَناً قَلِيلاً} من الرِّشوة والجاهِ وسائرِ الحظوظ الدنيوية فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة في نفسها لا سيما بالنسبة إلى ما فات عنهم بترك العمل بها وإنما عبر عن المشتري الذي هو العمدة في عقود المعاوضة والمقصِدُ الأصليُّ بالثمن الذي شأنُه أن يكونَ وسيلةً إلى تحصيله وأُبرزَتِ الآياتُ التي حقُّها أنْ يتنافسَ فيها المتنافسون في معرض الآلات والوسايط حيث قُرنت بالباء التي تصحب الوسائل ايذنا بمبالغتهم في التعكيس بأ جَعلوا المقصِدَ الأقصى وسيلةً والوسيلةَ الأدنى مقصِداً {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله} كائناً مَنْ كان دون المخاطبين خاصة فإنهم مُندرجون فيه اندراجاً أوليَّاً أي من لم يحكم بذلك مستهيناً به منكِراً له كما يقتضيه ما فعلوه من تحريف آيات الله تعالى اقتضاءً بيناً {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ والجمع باعتبار معناها كما أنَّ الإفرادَ فيما سبقَ باعتبار لفظِها {هُمُ الكافرون} لاستهانتهم به وهم إما ضمير الفصل أو مبتدأٌ وما بعده خبرُه والجملةُ خبرُ لأولئك وقد مر تفصيله في مطلعِ سورةِ البقرةِ والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَها أبلغَ تقريرٍ وتحذيرٌ عن الإخلال به أشدَّ تحذير حيث علّق فيه الحكمَ بالكفر بمجرد ترك الحكم بما أنزل الله تعالى فكيف وقد انضم إليه الحكمُ بخلافه لا سيما مع مباشرة ما نُهوا عنه من تحريفه ووضع غيره موضِعَه وادعاءِ أنَّه من عندِ الله ليشتروا به ثمناً قليلاً

45

{وَكَتَبْنَا} عطفٌ على أنزلنا

المائدة آية 46 47 التوارة {عَلَيْهِمْ} أي على الذين هادوا وقرىء وأنزل الله على بني إسرائل {فِيهَا} أي في التوراة {أن النفس بالنفس} أن تقاد بها ذا قتلها بغير حق {والعين} تُفقأ بالعي إذا فُقئَتْ بغير حق {والانف} يُجدَع {بالانف} المقطوعِ بغير حق {والاذن} تُصْلَم {بالاذن} المقطوعة ظلماً {والسن} تُقلعُ {بالسن} المقلوعة بغير حق {والجروح قِصَاصٌ} أي ذاتُ قصاص إذا كانت بحيث تُعرف المساواة وعن ابن عباس رضي تعالى عنهما أنهم كانوا لا يقتُلون الرجلَ بالمرأة فنزلت وقرىء وإنّ الجروحَ قصاص وقرىء العين إلى آخره بالرَّفعِ عطفاً عَلى محلِّ أن النفس لأن المعنى كتبنا عليهم النفسُ بالنفس إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك النفسُ بالنفس مما يقع عليه الكَتْبُ كما يقع عليه القراءة تقول كتبت الحمدُ لله وقرأتُ سُورَةٌ أنزلناها {فَمَن تَصَدَّقَ} أي من المستحقين {بِهِ} أي بالقصاص أي فما عفا عنه والتعبيرُ عنه بالتصدق للمبالغة في الترغيب فيه {فهو} أي التصدق {كَفَّارَةٌ لَّهُ} أي للمتصدق يكفّر الله تعالى بها ذنوبَه وقيل للجاني إذا تجاوزت عنه صاحب الحقِّ سقطَ عنه ما لزِمه وقُرىء فهو كفارته له أي فالمتصدقُ كفارتُه التي يستحقُّها بالتصدق له لا ينقُصُ منها شيء وهو تعظيمٌ لكما فَعَل كقوله تعالى فَأَجْرُهُ عَلَى الله {وَمَن لَّمْ يَحْكُم} كائناً من كان فيتناول من لا يرى قتلَ الرجل بالمرأة من اليهود تناولاً بيناً {بِمَا أنزَلَ الله} مِن الأحكام والشرائع كائنا ماكان فيدخل فيها الأحكامُ المحكية دخولاً أولياً {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} المبالغون في الظلم المتعدُّون لحدودِه تعالى الواضعون للشيء في غير موضعِه والجملة تذييلٌ مقرِّر لإيجاب العمل بالأحكام المذكورة

46

{وقفينا على آثارهم} شروعٌ في بيان أحكام الإنجيلِ إثْرَ بيانِ أحكام التوراة وهو عطفٌ على أنزلنا التوراة أي آثارِ البيين المذكورين يقال قَفَّيتُه بفلان إذا أتبعتُه إياه فحذَفَ المفعولَ لدلالة الجارِّ والمجرورِ عليهِ أيْ قفيناهم {بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ} أي أرسلناه عقبهم {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة} حالٌ من عيسى عليه السلام {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيل} عطفٌ على قفَّينا وقرىء بفتح الهمزة {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} كما في التوراة وهو في محل النصبِ على أنه حال من الإنجيل أي كائناً فيه ذلك كأنه قيل مشتملا على هجى ونور وتنوينُ هدىً ونورٌ للتفخيم ويندرج في ذلك شواهد نبوته عليه السلام {وَمُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة} عطفٌ عليهِ داخلٌ في حكم الحالية وتكريرُ ما بَيْنَ يَدَيْهِ من التوراة لزيادة التقرير {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ} عطفٌ على مصدقاً منتظمٌ معه في سلك الحالية جُعل كلُّه هدىً بعد ما جُعل مشتملاً عليه حيث قيل هدى وتخصيصُ كونِه هدىً وموعظةً بالمتقين لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بحدواه

47

{وليحكم أهل الإنجيل بما أَنزَلَ الله فِيهِ} أمرٌ مبتدأٌ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته عليه الصلاة

المائدة آية 48 والسلام وشواهد نبوته وما قررته الشريعة الشريفةُ من أحكامه وما أحكامُه المنسوخةُ فليس الحكمُ بها حكماً بما أنزل الله فيه بل هو إبطالٌ وتعطيلٌ له إذ هو شاهدٌ بنسخها وانتهاءِ وقت العمل بها لأن شهادته بصحة ما ينسَخُها من الشريعة شهادة ينسخها وبأن أحكامَه ما قرَّرتْه تلك الشريعةُ التي شهد بصحتها كما سيأتي في قوله تعالى يا أهل الكتاب لَسْتُمْ على شَىْء حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل الآية وقيل هو حكايةٌ للأمر الوارد عليهم بتقدير فعلٍ معطوف على آتيناه أي وقلنا ليحكم أهلُ الإنجيل الخ وقرىء وأن ليحكم على أنّ أنْ موصولةٌ بالأمر كما في قولك أمرته بأن قم كأنه قيل وآتيناه الإنجيل وأمَرْنا بأن يحكُمَ أهلُ الإنجيل الخ وقرىء على صيغة المضارع ولام التعليل على أنها متعلقةٌ بمقدَّر كأنه قيل ولِيَحْكُمَ أهلُ الإنجيل بما أنزل الله فيه آتيناه وإياه وقد عطف على هجى وموعظة على أنهما مفعول لهما كأنه قيل وللهدى والموعظة آتيناه إياه وللحُكْم بما أنزل الله فيه {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله} منكراً له مستهيناً به {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} المتمردون الخارجون عن الإيمان والجُملة تذييلٌ مقرِّر لمضمونِ الجملة السابقة ومؤكِّد لوجوب الامتثال بالأمر وفيه دلالة على أن الإنجيلَ مشتملٌ على الأحكام وأن عيسى عليه السلام كان مستقلاً بالشرع مأموراً بالعمل بما فيهِ من الأحكامِ قلَّت أو كثُرت لا بما في التوراة خاصة وحملُه على معنى وليحكم بما أنزل الله فيه من إيجابِ العملِ بأحكام التوراة خلافُ الظاهر

48

{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب} أي الفردَ الكاملَ الحقيقيَّ بأن يسمى كتاباً على الإطلاق لحيازته جميعَ الأوصافِ الكمالية لجنس الكتابِ السماويِّ وتفوقِه على بقية أفراده وهو القرآنُ الكريم فاللام للعهد والجملةُ عطف على أنزلنا وما عُطِف عليه وقوله تعالى {بالحق} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً مؤكّدة من الكتاب أي ملتبساً بالحق والصدق وقيل من فاعل أنزلنا وقيل من الكاف في إليك وقوله تعالى {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} حال من الكتاب أي حالَ كونِه مصدقاً لما تقدَّمَه إما من حيث أنه نازل حسبما نعت فيه أو من حيث إنه موافقٌ له في القصص والمواعيد والدعوة إلى الحق والعدلِ بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وأما ما يتراءى من مخالفتِه له في بعض جزئياتِ الأحكام المتغيِّرة بسبب تغيُّرِ الأعصارِ فليست بمخالفةٍ في الحقيقة بل هي موافقة لها من حيثُ إنَّ كلاًّ من تلك الأحكام حقٌّ بالإضافة إلى عصره متضمِّنٌ للحكمة التي عليَها يدورُ أمرُ الشريعة وليس في المتقدم دلالةٌ على أبديةِ أحكامِه المنسوخة حتى يخالفه الناسخ المتأخرون وإنما يدل على مشروعيتها مُطلقاً من غيرِ تعرضٍ لبقائها وزوالها بل نقول هو ناطقٌ بزوالها لما أن النطقَ بصحة ما ينسخها نطق ينسخها وزوالِها وقوله تعالى {مّنَ الكتاب} بيانٌ لِما واللام للجنس إذ المراد هو الكتاب السماوي وهو

المائدة 48 بهذا العنوان جنسٌ برأسه وإن كان في نفسه نوعاً مخصوصاً من مدلول لفظ الكتاب وعن هذا قالوا اللام للعهد إلا أن ذلك لا ينتهي إلى خصوصية الفردية بل إلى خصوصية النوعية التي هي أخصُّ من مُطلقِ الكتاب وهو ظاهر ومن الكتاب السماوي أيضاً حيث خُصَّ بما عدا القرآن {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} أي رقيباً على سائر الكتبِ المحفوظة من التغيير لأنه يشهد لها بالصحة والثبات ويقررأصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعيِّن أحكامَها المنسوخةَ ببيان انتهاءِ مشروعيتها المستفادة من تلك الكتاب وانقضاءِ وقت العمل بها ولا ريب في أن تمييزَ أحكامِها الباقيةِ على المشروعية أبداً عما انتهى وقتُ مشروعيتِه وخرج عنها من أحكام كونِه مهيمناً عليه وقرىء ومُهيمَناً عليه على صيغةِ المفعولِ أي هو من عليه وحُوفظ من التغيير والتبديل كقوله عز وجل ولا يأتيه الباطلُ من بينِ يديه ولا من خلفه والحافظُ إما من جهتِه تعالى كما في قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون أو الحفاظُ في الأعصار والأمصار والفاء في قوله تعالى {فاحكم بَيْنَهُمْ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن كونَ شأنِ القرآن العظيم حقاً مصدِّقاً لما قبله من الكتب المنزلة على الأمم مهيمناً عليه من مُوجباتِ الحكم المأمور به أي إذا كان القرآن كما ذُكِر فاحكمْ بين أهل الكتابين عند تحاكُمِهم إليك {بِمَا أنزَلَ الله} أي بما أنزله إليك فإنه مشتملٌ على جميع الأحكام الشرعية الباقيةِ في الكتب الإلهية وتقديم بينهم لفعتناء ببيانِ تعميمِ الحكم لهم ووضوع الموصول موضعَ الضمير للتنبيه على عِلِّيَّةِ ما في حين الصلة للحكم والالتفات بإظهار الإسم الجليل لتربية المهابة والإشعار بعِلَّة الحكم {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} الزائغة {عَمَّا جَاءكَ مِنَ الحق} الذي لا محيد عنه وعن متعلقة بلا تتَّبعْ على تضمين معنى العُدول ونحوِه كأنه قيل ولا تعدِلْ عما جاءك من الحق متبعاً أهواءهم وقيل بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعله أي لا تتبع أهواءهم عادلا عما ججاءك وفيه أن ما وقع حالاً لا بد أن يكون فعلاً عاماً ووضع الموصول موضع ضمير الموصول الأول للإيماء بما في حيز الصلة من مجيء الحق إلى ما يوجب كمالَ الاجتناب عن اتباع الأهواء وقولِه تعالى {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} كلام مستأنَفٌ جيءَ به لحمل أهل الكتابين من معاصريه صلى الله عليه وسلم على الانقياد لحُكمه بما أُنزل إليه من القرآن الكريم ببيان أنه هو الذي كُلِّفوا العملَ به دون غيره من الكتابين وإنما الذين كلفوا العملَ بهما مَنْ مَضَى قبل نسخهما من الأمم السالفة والخطابُ بطريق التلوين والالتفات للناس كافة لكن لا للموجودين خاصة بل للماضين أيضاً بطريق التغليب واللام متعلقة بجعلنا المتعدي لواحد وهو إخبارٌ بجَعَلَ ماضٍ لا إنشاءٌ وتقديمها عليه للتخصيص ومنكم متعلق بمحذوف وقع صفة لِما عُوِّض عنه تنوينُ كلَ ولا ضيرَ في توسط جعلنا بين الصفة والموصوف كما في قوله تعالى أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السموات الخ والمعنى لكل أمة كائنةٍ منكم أيها الأمم الباقية والخالية جعلنا أي عيّنّا ووضعنا شرعةً ومنهاجاً خاصَّين بتلك الأمة لا تكاد أمةٌ تتخطى شرعتها التي عُيِّنت لها فالأمةُ التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام شرعتهم التوارة والتي كانت من مَبعثِ عيسى إلى مبعثِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم شرعتهم الإنجيل وأما أنتم أيها الموجودون فشِرْعتُكم القرآنُ ليس إلا فآمنوا به واعملوا بما فيه والشِّرْعةُ والشريعة هي الطريقة إلى الماء شُبِّه بها الدينُ لكونه سبيلاً موصولاً إلى ما هو سببٌ للحياة الأبدية كما أن سببٌ للحياة الأبدية كما أن الماء سببٌ للحياة الفانية والمنهاجُ الطريق الواضح في الدين من نهَجَ الأمر إذا وضح

المائدة آية 49 وقرىء شَرْعة بفتح الشين قيل فيه دليلٌ على أنا غيرُ مُتعبَّدين بشرائِعِ مَنْ قبلنا والتحقيق أنا متعبَّدون بأحكامها الباقية من حيث إنها أحكامُ شرعتِنا لا من حيث إنها شرعة للأولين {وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة} وتفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير اختلاف بينكم وبين من قبلكم من الأممِ في شيء من الأحكام الدينية ولا نسخَ ولا تحويل ومفعول المشيئة محذوفٌ تعويلاً على دِلالة الجزاء عليه أي ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكم الخ وقيل المعنى لو شاء الله اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه {ولكن لّيَبْلُوَكُمْ} متعلِّقٌ بمحذوف يستدعيه النظام أي ولكن لم يسأ ذلك أي لأن يجعلكم أمةً واحدة بل شاء ما عليه السنةُ الإلهية الجاريةُ فيما بين الأمم ليعامِلَكم معاملةَ من يبتليكم {في ما آتاكم} من الشرائع المختلفة المناسبة لأعصارها وقرونِها هل تعملون بها مذعِنين لها معتقدين أن اختلافَها بمقتضى المشيئةِ الإلهيةِ المبنيةِ على أساس الحِكَم البالغةِ والمصالحِ النافعة لكم في معاشكم ومعادِكم أو تزيغون عن الحق وتتبعون الهوَى وتستبدلون المضَرَّة بالجدوى وتشترون الضلالة بالهدى وبهذا اتَّضحَ أنَّ مدارَ عدمِ المشيئةِ المذكورة ليس مجرد إلا بتلاء بل العمدةُ في ذلك ما أشيرَ إليهِ من انطواءِ الاختلاف على ما فيه مصلحتُهم معاشاً ومعاداً كما ينبىء عنه قوله عز وجل {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خيرٌ لكم في الدارين من العقائد الحَقَّة والأعمالِ الصالحة المندرجة في القرآن الكريم وابتدروها انتهاز للفرصة وإحرازاً لسابقةِ الفَضْل والتقدم ففيه من تأكيد الترغيبِ في الإذعان للحق وتشديدِ التحذير عن الزيغ ما لا يخفى ووقوله تعالى {إلى الله مَرْجِعُكُمْ} استئنافٌ مَسوقٌ مَساقَ التعليل لاستباق الخيرات بما فيهِ من الوعدِ والوعيدِ وقوله تعالى {جَمِيعاً} حالٌ من ضمير الخطاب والعامل فيه إما المصدرُ المنحلُّ إلى حرفٍ مصدريَ وفعل مبني للفاعل أو مبني للمفعول وإما الاستقرارُ المقدَّر في الجار {فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين المُحِقّ والمُبطل ما لا يبقى لكم معه شائبةُ شكٍ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ في الدنيا وإنما عبر عن ذلك بما ذكر لوقوعه موقع إزالة الاختلاف التي هي وظيفة الإخبار

49

{وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} عطف على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتابَ والحُكْمَ بما فيه والتعرُّضُ لعنوان إنزاله تعالى غياه لتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأمرِ أو على الحق أي أنزلناه بالحق وبأن احكم وحكايةُ إنزال الأمر بهذا الحكم بعد ما مر من الأمر الصريح بذلك تأكيد له وتمهيدٌ لما يعقُبه منْ قولِه تعالى {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إليك} أي يصرفوك عن بعضه ولو كان أقلَّ قليلٍ بتصوير الباطل بصورة الحق وإظهارُ الاسمِ الجليل لتأكيدِ الأمر بتهويل الخطب وأن بصلته بدلُ اشتمالٍ من ضميرهم أي احذر فتنتهم أو مفعول له أي

المائدة آية 50 51 احذرهم مخافة أن يفتنوك وإعادة ما أنزل الله لتأكيد التحذير بتهويل الخطب رُوي أن أحبارَ اليهودِ قالوا اذهبوا بنا إلى محمد فلعلنا نفتِنُه عن دينه فذهبوا إليه صلى الله عليه وسلم وقالوا يا أبا القاسم قد عرفت أنّا أحبارُ اليهود وأنا من اتبعناك اتبعنا البهود كلهم وإن بيننا وبين قومنا خصومةً فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بط ونصدقك فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي أعرَضوا عن الحكم بما أنزل الله تعالى وأرادوا غيره {فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} أي بذنب تولِّيهم عن حكم الله عزَّ وجلَّ وإنَّما عبّر عنه بذلك إيذاناً بأن لهم ذنوباً كثيرة هذا مع كمال عَظَمةِ واحدٍ من جملتها وفي هذا الإبهام تعظيمٌ للتولِّي كما في قول لبيد أو يرتبطْ بعضَ النفوسِ حِمامُها يريد به نفسه أي نفساً كبيرة ونفساً أيَّ نفس {وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ النَّاسِ لفاسقون} أي متمردين في الكفر مصرُّون عليه خارجون عن الحدود المعهودة وهو اعتراض تذييليٌّ مقررٌ لمضمون ما قوله

50

{أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} إِنْكارٌ وتعجيبٌ منْ حالِهم وتوبيخ لهم والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي يتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية وتقديمُ المفعول للتخصيص المفيدِ لتأكيد الإنكار والتعجيب لأن التولَّيَ عن حكمه صلى الله عليه وسلم وطلبَ حكمٍ آخرَ منكرٌ عجيب وطلبُ حكم الجاهلية أقبح وأعجب والمراد بالجاهلية إما المِلةُ الجاهلية التي هي متابعو الهوى الموجبةُ للميل والمداهنةُ في الأحكام فيكون تعييراً لليهود بأنهم مع كونهم أهلَ كتاب وعلمٍ يبغون حكمَ الجاهلية التي هي هوى وجهلٌ لا يصدُر عن كتاب ولا يرجِعُ إلى وحي وإما أهلُ الجاهلية وحكمُهم ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى حيث رُوي أن بني النضيرِ لما تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومةِ قتلِ وقعت بينهم وبين بني قريظة طلبوا إليه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما كان عليه أهلُ الجاهليَّةِ من التفاضل فقال صلى الله عليه وسلم القتلى سواءٌ فقال بنو النضير نحن لا نرضى بذلك فنزلت وقرىء برفع الحكم على أنه مبتدأ ويبغون خبرُه والراجعُ محذوفٌ حذْفَه في قوله تعالى أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً وقد استُضعف ذلك في غير الشعر وقرىء بقاء الخطاب إما بالالتفات لتشديد التوبيخ وإما بتقدير القول أي قل لهم أفحكم الخ وقرىء بفتح الحاء والكاف أي أفحاكماً كحكام الجاهلية يبغون {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً} إنكار لأن يكون أحدٌ حكمُه أحسنُ من حكمه تعالى أو مساوله وإنْ كانَ ظاهرُ السَّبكِ غيرَ متعرِّضٍ لنفي المساواة وإنكارِها وقد مر تفصيله في تفسير قوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي عندهم واللام كما في هَيْتَ لك أي هذا الاستفهام لهم فإنهم الذين يتدبرون الأمور بأنظارهم فيعلمون يقيناً أن حكم الله عز وجل أحسن الأحكام وأعد لها

51

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} خطاب يعُمّ حكمُه كافةَ المؤمنين من المخلصين وغيرهم وإن كان سببُ ورودِه بعضاً منهم كما سيأتي

المائدة آية 52 ووصفُهم بعنوان الإيمان لحملَهم منْ أولِ الأمرِ عَلى الانزجار عما نُهوا عنه بقوله عز وجل {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء} فإن تذكيرَ اتصافِهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن موالاتِهما أي لا يتخذْ أحدٌ منكم أحداً منهم ولياً بمعنى لا تُصافوُهم ولا تعاشروهم مصافاة الحباب ومعاشرَتَهم لا بمعنى لا تجعلوهم أولياءَ لكم حقيقة فإنه أمرٌ ممتنِعٌ في نفسه لا يتعلق به النهي {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} أي بعضُ كلِّ فريق من ذَيْنِك الفريقَيْن أولياءُ بعضٍ آخَرَ من ذلك الفريق لا من الفريق الآخر وإنما أوثر الإجمالُ في البيان تعويلاً على ظهور المُراد لوضوح انتفاءِ الموالاة بين فريقَي اليهود والنصارى رأساً والجملة مستأنفةٌ مَسوقة لتعليل النهي وتأكيدِ غيجاب الاجتناب عن المنهي عنه أي بعضُهم أولياءُ بعضٍ متفقون على كلمة واحدة في كلِّ ما يأتُون وما يذرون ومن ضرورته إجماعُ الكل على مُضادَّتكم ومضارَّتِكم بحيث يسومونكم السوءَ ويبغونكم الغوائل فكيف يُتصورُ بينكم وبينهم موالاة وقوله تعالى {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} حكمٌ مستنتَجٌ منه فإن انحصارَ الموالاة فيما بينهم يستدعي كونَ من يوابيهم منهم ضرورةَ أن الاتحادَ في الدين الذي عليه يدورُ أمرُ الموالاة حيث لم يكن بكونهم ممن يواليهم من المؤمنين تعيّنَ أنْ يكونَ ذلك بكَوْنِ من يواليهم منهم وفيه زظجر شديد للمؤمنين عن إظهار صورةِ الموالاة لهم وإن لم تكن موالاةً في الحقيقة وقوله تعالى {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} تعليلٌ لكون من يتولاهم منهم أي لا يهديهم إلى الإيمان بل يخليهم وشأنَهم فيقعون في الكفر والضلالة وإنما وَضعَ المُظْهَرَ موضعَ ضميرِهم تنبيهاً على أن تولِّيهم ظلمٌ لما أنه تعريضٌ لأنفسهم للعذاب الخالد ووضعٌ للشيء في غير موضعخه وقوله تعالى

52

{فَتَرَى الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} بيان لكيفية توليهم وإشعارٌ بسببه وبما يؤول إليه أمرُهم والفاء للإيذان بترتُّبه على عدم الهداية والخطاب إما للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين وإما لكل أحدٍ ممن له أهليةٌ له وفيه مزيدُ تشنيع للتشنيع أي لا يهديهم بل يذرهم وشأنَهم فتراهم الخ وإنما وُضع موضعَ الضميرِ الموصولُ ليُشارَ بما في حيز صلته إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما في قلوبِهِم منَ مرض النفاق ورَخاوة العَقْد في الدين وقوله تعالى {يسارعون فِيهِمْ} حال من الموصول والرؤية بصرية وقيل مفعولٌ ثانٍ والرؤية قلبية والأول هو الأنسبُ بظهور نفاقهم أي تراهم مسارعين في موالاتهم وإنما قيل فيهم مبالغةً في بيان رغبتِهم فيها وتهالُكِهم عليها وإيثارُ كلمةُ في على كلمة إلى الدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة وإنما مسارعتُهم من بعضِ مراتبها إلى بعضٍ آخر منها كما في قوله تعالى أُوْلَئِكَ يسارعون فِى الخيراتِ لا أنَّهم خارجُون عنها متوجِّهون إليها كما في قوله تعالى وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ وقرىء فيَريَ بياءِ الغَيْبة على أنَّ الضمير لله سبحانه وقيل لمن تصِحُّ منه الرؤية وقيل الفاعل هو الموصولُ والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية والرؤية قلبية أن ويرى القومُ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أن يسارعوا فيهم فلما حُذفت أنْ

المائدة آية 53 انقلب الفعلُ مرفوعاً كما في قول من قالَ أَلاَ أيُهذَا الزَّاجِرِي أحضر الوغى والمراد بهم عبدُ اللَّهِ بنُ أبي وأضر به الذين كانوا يسارعون في مُوادَّةِ اليهود ونَصارى نجرانَ وكانوا يعتذرون إلى المؤمنين بأنهم لا يأمنون أن تصيبَهم صروفُ الزمان وذلك قوله تعلى {يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} وهو حال من ضمير يسارعون والدائرةُ من الصفات الغالبة التي لا يُذكر معها موصوفُها أي تدور علينا دائرةٌ من دوائر الدهر ودَوْلةٌ من دُولِه بأن ينقلبَ الأمرُ وتكون الدولةُ للكفار وقيل يخشى أن يصيبنا مكروهٌ من مكاره الدهر كالجدْب والقَحْط فلا يعطونا المِيرةَ والقَرْض روي أن عبادة بنَ الصامت رضي الله تعالى عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن لي مواليَ من اليهود كثيراً عددُهم وإني أبرأ إلى ى الله ورسولِه من وَلايتهم وأُوالي الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي إني رجل أخاف الدوائرَ لا أبرأ من وِلاية موالي وهو يهود بني قينقاع ولعله يُظهرُ للمؤمنين أنه يريد بالدوائر المعنى الأخيرَ ويُضمِرُ في نفسه المعنى الأول وقوله تعالى {فَعَسَى الله أَن يَأْتِىَ بالفتح} رد من جهة الله تعالى لعللهم الباطلة وقطعٌ أطماعهم الفارغة وتبشيرٌ للمؤمنين بالظفر فإن عسى منه سبحانه وعدٌ محتوم لما أن الكريمَ إذا أطْمَعَ أطعم لا محالة فما ظنُّك بأكرم الأكرمين وأن يأتي في محل النصب على أنه خبرُ عسى وهو رأي الأخفش أو على أنَّه مفعولٌ به وهو رأيُ سيبويه لئلا يلزَمَ الإخبارُ عن الجُثَّة بالحدَث كما في قولك عسى زيدا أن يقوم والمراد بالفتح فتحُ مكةَ قاله الكلبي والسُّديّ وقال الضحاك فتحُ قُرى اليهودِ من خيبرَ وفَدَك وقال قَتادة ومقاتِلٌ هو القضاءُ الفصلُ بنصره صلى الله عليه وسلم على من خالفه وإعزازِ الدين {أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ} بقطع شأفةِ اليهود من القتل والإجلاء {فَيُصْبِحُواْ} أي أولئك المنافقون المتعلَّلون بما ذُكر وهو عطفٌ على يأتي يأتي داخلٌ معه في حيزِ خبر عيسى وإن لم يكن فيه ضميرٌ يعود إلى اسمها فإن فاء السببية مغنيةٌ عن ذلك فإنها تجعل الجملتين جملة واحدة {على مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نادمين} وهو ما كانوا يكتمونه في أنفسهم من الكفر والشك في أمره صلى الله عليه وسلم وتعليقُ الندامة به لا بما كانوا يُظهرونه من موالاة الكفر لِما أنه الذي كان يحمِلُهم على الموالاة ويُغريهم عليها فدل ذلك على ندامتهم عليها بأصلها وسببها

53

{ويقول الذين آمنوا} كلام مبتدأ مَسوقٌ لبيان كمالِ سوءِ حال الطائفة المذكورة وقُرىء بغير واو على أنه جواب سؤال نشأ مما سبق كأنه قيل فماذا يقول المؤمنون حينئذ و 5 قرىء ويقولَ بالنصب عطفاً على يصبحوا وقيل على يأتيَ باعتبارِ المَعْنى كأنَّه قيلَ فعسى أن يأتيَ الله بالفتح ويقولَ الذين آمنوا والأولُ أوجهُ لأن هذا القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامةِ المنافقين لا عند إتيان الفتح فقط والمعنى ويقول الذين آمنوا مخاطِبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتَهم ويُظهرون لهم غاية المحبة وعدمَ المفارقة عنهم في السراء والضراء عند مشاعدتهم لخَيْبة رجائِهم وانعكاسِ تقديرهم بوقوع ضدِّ ما كانوا يترقبونه ويتعللون به تعجيباً للمخاطَبين من حالهم وتعريضاً بهم {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم إِنَّهُمْ لمعكم}

أي بالنصرة والمعونة كما قالوا فيما حُكيَ عنهم وإن قوتلتم لننصُرَنَّكم واسمُ الإشارة مبتدأٌ وما بعده خبرُه والمعنى إنكارُ ما فعلوه واستبعادُه وتخطئتُهم في ذلك أو يقولُ بعضُ المؤمنين لبعضٍ مشيرين إلى المنافقين أيضاً أهؤلاء الذين أقسموا للكَفَرة إنهم لمعكم فالخطابُ في معكم لليهود على التقديرين إلا أنه على الأول من جهةِ المؤمنين وعلى الثاني من جهة المُقْسِمين وهذه الجملةُ لا محلَّ لها من الإعراب لأنها تفسيرٌ وحكايةٌ لمعنى أقسَموا لكن لا بألفاظهم وإلا لقيل إنا معكم وجَهدُ الأيْمان أغلظُها وهو في الأصل مصدرٌ ونصبُه على الحال على تقدير وأقسموا بالله يَجْهَدون جَهدَ أيمانهم فحُذِفَ الفعلُ وأقيم المصدرُ مُقامَه ولا يبالى بتعريفه لفظاً لأنه مؤوَّلٌ بنكرة أي مجتهدين في أيْمانهم أو على المصدرِ أيْ أقسمُوا إقسامَ اجتهادٍ في اليمين وقوله تعالى {حَبِطَتْ أعمالهم فَأَصْبَحُواْ خاسرين} إما جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ من جهته تعالى لبيان مآلِ ما صنعوه من ادِّعاء الولاية والإقسام على المعيَّةِ في المنشَطِ والمكره إثرَ الإشارة إلى بُطلانه بالاستفهام الإنكاري وإما خبرٌ ثانٍ للمبتدأ عندَ مَنْ يجوِّزُ كونَه جملةً كما في قوله تعالى فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى أو هو الخبرُ والموصول مع ما في حيز صلتِه صفةٌ لاسم الإشارة فالاستفهامُ حينئذٍ للتقرير وفيه معنى التعجب كأنه قيل ما أحبَطَ أعمالَهم فما أخسرَهم والمعنى بطلت أعمالِهم التي عمِلوها في شأن موالاتكم وسعو في ذلك سعياً بليغاً حيث لم تكن لكم دولةٌ فينتفعوا بما صنعوا من المساعي وتحمَّلوا من مكابدة المشاق وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطَبين ما لا يخفى وقيل قاله بعضُ المؤمنين مخاطِباً لبعض تعجباً من سوء حال المنافقين واغتباطاً بما من الله تعالَى على أنفسهم من التوفيق للإخلاص أهؤلاءِ الذين أقسموا لكم بإغلاظ الأيْمان أنهم أولياؤُكم ومعاضِدوكم على الكفار بطَلتْ أعمالُهم التي كانوا يكلفونها في رأيِ أعينِ الناس وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ الكلامَ من المؤمنين إنما يليقُ بما لو أظهرَ المنافقون حينئذ خلافَ ما كانوا يدَّعونه ويُقسِمون عليه من ولاية المؤمنين ومعاضَدَتِهم على الكفار فظهر كذِبُهم وافتضحوا بذلك على رءوس الأشهاد وبطَلتْ أعمالُهم التي كانوا ينكلفونها في رأس أعين لمؤمنين ولا ريبَ في أنَّهم يومئذ أشدُّ ادعاءً وأكثر إقساماً منهم قبل ذلك فضلاً عن أن يظهروا خلافَ ذلك وإنما الذي يظهر منهم الندامةُ على ما صنعوا وليس ذلك علامةً ظاهرةَ الدلالة على كفرهم وكذبهم في ادعائهم فإنهم يدّعون أنْ ليست ندامتُهم إلا على ما أظهروه من موالاة الكَفَرةِ خشية إصابة الدائرة

54

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} وقرىء يرتدِدْ بالفك على لغة الحجاز والإدغام لغة تميم لمّا نهيَ فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى وبيّن أن موالاتَهم مستدعيةٌ للارتداد عن الدين وفصَّل مصيرَ أمْرِ من يواليهم من المنافقين شَرَع في بيان حالِ المرتدين على الإطلاق وهذا من الكائنات التي أخبر

المائدة آية 54 عنها القرآنُ قبل وقوعِها روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فِرقةً ثلاثٌ في عهد رسولِ الله عليه الصلاة والسلام بنو مدلج ورئيسُهم ذو الخِمار وهو الأسود العنْسي كان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلاده فأخرج منها عُمّالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى معاذِ بنِ جبلٍ وإلى ساداتِ اليمنِ فأهلكه الله تعالى على يَدَيْ فيروزَ الدَّيْلمي بيَّته فقتله وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلِه ليلةَ قُتل فسُرَّ به المسلمون وقبض عليه الصلاة والسلام من الغدِ وأتى خبرُه في آخرِ شهرِ ربيع الأول وبنو حنيفةَ قومُ مسيلِمَةَ الكذابِ تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسليمة رسولِ الله إلى محمدٍ رسولِ الله أما بعد فإن الأرضَ نصفُها لي ونصفها لك فأجاب عليه الصلاة والسلام من محمدٍ رسولِ الله مسيلِمَةَ الكذاب أما بعد فإن الأرضَ لله يورثُها مَن يَشَاء مِنْ عباده والعاقبةُ للمتقين فحاربه أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه بجنودِ المسلمين وقتل على يدي وحشي قاتل خمزة رضي الله عنه وكان يقول قتلتُ في جاهليتي خيرَ الناس وفي إسلامي شرَّ الناس وبنو أسد قومُ طليحةَ بنِ خويلد تنبأ فبعث إليه أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه خالدَ بن الوليد فانهزم بعد القتال إلى الشامِ فأسلم وحسُنَ إسلامُه وسبعٌ في عهد أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ فَزارةُ قومُ عيينةَ بنِ حِصْن وغطَفانُ قوم قرَّةَ بنِ سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاءة ابن عبد يا ليل وبنو يَرْبوعٍ قومُ مالكِ بننويرة وبعضُ تميم قومُ سَجاح بنتِ المنذر المتنبّئة التي زوَّجَتْ نفسها من مسيلِمة الكذاب وفيها يقول أبو العلاء المعري في كتاب استغفرْ واستغفري آمتْ سَجاحِ ووالاها مسيلِمة كذابةٌ في بني الدنيا وكذّابُ وكِندةُ قومُ الأشعث بن قيس وبنو بكر بنِ وائل بالبحرَيْن قومُ الحطَمِ بنِ زيد وكفى بالله تعالى أمرَهم على يد أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ وفِرقة واحدةٌ في عهد عمر رضي الله عنه غسانُ قومُ جَبَلةَ بنِ الأيهم نصَّرتْه اللطمة وسيَّرتْه إلى بلاد الروم وقصاه مشهورة وقوله تعالى {فَسَوْفَ يَأْتِى الله} جواب الشرط والعائد إلى اسم الشرط محذوفٌ أي فسوف يأتي الله مكانهم بعد إهلاكهم {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ} أي يريد بهم خيري الدنيا والآخرة ومحلُّ الجملةُ الجرُّ على أنها صفةٌ لقوم وقوله تعالى {وَيُحِبُّونَهُ} أي يريدون طاعته ويتحرّزون عن معاصيه معطوفٌ عليها داخلٌ في حكمها قيل أهم أهلُ اليمن لما رُوي أن النبي عليه الصلاةَ والسلام أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال قومُ هذا وقيل هم الأنصار رضي الله عنهم وقيل هم الفرسُ لما روي أنه عليه السلام سئل عنهم فضرب بيده الكريمة على عاتق سَلمان رشي الله عنه وقال هذا وذوُوه ثم قال لو كان الإيمانُ معلقاً بالثريا لنالَه رجالٌ من أبناء فارسَ وقيل هم ألفان من النخَع وخمسةُ آلافٍ من كِندةَ وثلاثة آلاف من أفناء الناس جاهدوا يوم القادسية {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} جمع ذليلٍ لا ذلول فإن جمعه ذُلُلٌ أي أرِقّاءَ رحماءَ متذللين ومتواضعين لهم واستعماله بعلى إما لتضمين معنى العطف والحُنُوّ أو للتنبيه على أنهم مع علو طبقتِهم وفضلِهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتَهم أو لرعاية المقابلة بينه وبين ما في قوله تعالى {أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} أي أشداء متغلبين عليهم من عزَّه إذا غلبَه كمنا في قوله عز وعلا أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ وهما صفتان أُخريان لقوم ترك بينها العاطفُ للدلالة على استقلالهم بالاتصاف بكل منهما وفيه دليلٌ على صحَّة تأخير الصفة الصريحة عن غير الصريحة من الجملة والظرف كما في قوله تعالى وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ وقوله تعالى مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ من رَّبّهِمْ محدَثٌ وقوله تعالى

المائدة آية 55 56 مَا يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ مّن الرحمن مُحْدَثٍ وما ذهب إليه من لا يجوِّزه مِنْ أنَّ قولَه تعالى يحبهم ويحبونه كلام معترِضٌ وأن مبارك خبرٌ بعد خبر أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ وأن من ربهم ومن الرحمن حالان مقدمتان من ضمير محدث تكلف ولا يخفى وقرىء أذلة أعزةً بالنَّصبِ على الحاليَّةِ من قوم لتخصصه بالصفة {يجاهدون فِى سَبِيلِ الله} صفة أخرى لقو مترتبةٌ على ما قبلها مبنية مع ما بعدها لكيفية عزتهم أو حالٌ من الضمير في أعزة {وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ} عطف على يجاهدون بمعنى أنهم جامعون بين المجاهدة في سبيل الله وبين التصلب في الدين وفيه تعريضٌ بالمنافقين فإنهم كانوا إذا خردوا في جيش المسلمين خافوا أولياءَهم اليهودَ فلا يكادون يعملون شيئاً يلحقهم فيه لومٌ من جهتهم وقيلَ هُو حالٌ من فاعل يجاهدون بمعنى أنهم يجاهدون وحالُهم خلافُ حال المنافقين واعتراض عليه بأنهم نصُّوا على أن المضارعَ المنفيَّ بلا أو كالمُثْبَت في عدم جواز مباشرة واو الحال له واللَّوْمةُ المرةُ من اللوم وفيها وفي تنكيرِ لائمٍ مبالغة لا تخفى {ذلك} إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف الجليلةِ وما فيه من معنى البعد للإيذان بعد منزلتها في الفضل {فَضَّلَ الله} أي لطفُه وإحسانُه لا أنهم مستقلون في الاتصاف بها {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآء} إيتاءَهُ إيَّاهُ ويوقفه لكسبه وتحصيلِه حسبما تقتضيه الحِكْمةُ والمصلحة {والله واسع} كثيرُ الفواضل والألطاف {عَلِيمٌ} مبالِغٌ في العلمِ بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جملتها مَنْ هو أهلٌ للفضل والتوفيق والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله وإظهارُ الاسمِ الجليل للإشعار بالعلة وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية

55

{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمنوا} لما نهاهم الله عزَّ وجلَّ عن موالاة الكفرة وعلّله بأن بعضَهم أولياءُ بَعْضٍ لا يُتصوَّرُ ولايتُهم للمؤمنين وبين أن من يتولاهم يكون من جملتهم بيَّن ههنا من هو وليُّهم بطريقٍ قصَرَ الولايةَ عليه كأنه قيل لا تتخذوهم أولياءَ لأن بعضَهم أولياءُ بعضٍ وليسوا بأوليائكم إنما أوليائكم الله ورسولُه والمؤمنون فاختصُّوهم بالموالاة ولا تتخطّوهم إلى غيرعم وإنما أفرد الوليَّ مع تعدده للإيذان بأن الولايةَ أصالةً لله تعالى وولايتُه عليه السلام وكذا ولايةُ المؤمنين بطريقِ التبعية لولايتِه عز وجل {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة} صفة للذين آمنوا لجرَيانه مجرى الاسمِ أو بدلٌ منه أو نصْبٌ على المدحِ أو رفعٌ عليه {وهم راكعون} حال مع فاعل الفعلين أي يعملون ما ذكر من إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى وقيل هو حال مخصوصةٌ بإيتاء الزكاة والركوعُ ركوعُ الصلاة والمراد بيانُ كمال رغبتهم في الإحسان ومسارعتهم إليه ورُوي أنها نزلت في عليَ رضيَ الله عنه حين سأله سائل وهو راكع فطرح غليه خاتمه كأنه كان مرجاً في خنصر غيرَ محتاجٍ في إخراجه إلى كثير عمل يؤدِّي إلى فساد الصلاة ولفظ الجمع حينئذ لترغيب الناس في مثل فعله رضي الله عنه وفيه دَلالةٌ على أن صدقة التطوُّع تسمّى زكاةً

56

{وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمنوا}

أُوثرَ الإظهارُ على أن يقال ومن يتولَّهم رعايةً لما مر من نُكتةِ بيانِ أصالتِه تعالى في الولاية كما ينبىء عنه قوله تعالى {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} حيث أضيفَ الحِزبُ إليه تعالى خاصة وهو أيضاً من باب وضْعِ الظاهِرِ موضعَ الضَّميرِ العائد إلى من أي فإنهم الغالبون لكنهم جُعِلوا حزبَ الله تعالى تعظيماً لهم وإثباتاً لغَلَبتهم بالطريقِ البرهانيِّ كأنه قيلَ ومن يتولى هؤلاء فإنهم حزبُ الله وحزبُ الله هم الغالبون

57

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} رُوي أن رُفاعةَ بنَ زيد وسويد بن الحرث أظهرا افسلام ثم نافقا وكان رجالٌ من المؤمنين يُوادُّونهما فنُهوا عن موالاتهما ورُتِّب النهيُ على وصف يعمُّهما وغيرَهما تعميماً للحكم وتنبيهاً على العلة وإيذاناً بأن مَنْ هذا شأنُه جديرٌ بالمعاداة فكيف بالموالاة {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} بيان للمستهزئين والتعرّضُ لعنوان إيتاءِ الكتاب لبيان كمال شناعتِهم وغايةِ ضلالتهم لِما أنَّ إيتاءَ الكتاب وازعٌ لهم عن الاستهزاء بالدلين المؤسَّسِ على الكتابِ المصدِّقِ لكتابهم {والكفار} أي المشركين خُصّوا به لتضاعُفِ كفرهم وهو عطفٌ على الموصول الأولِ ففيه إشعارٌ بأنهم ليسوا بمستهزئين كما يُنبىءُ عنه تخصيصُ الخطاب بأهل الكتاب في قوله تعالى ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا الآية وقُرىء بالجرِّ عطفا على الموصول الأخير ويعضُده قراءةُ أُبيَ وَمِنْ الكفار وقراءةُ عبدِ اللَّه وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ فهم أيضاً من جملة المستهزئين {أَوْلِيَاء} وجانبوهم كلَّ المجانبة {واتقوا الله} في ذلك بترك موالاتهم أو بترك المَناهي على الإطلاق فيدخل فيه تركُ موالاتِهم دخولاً أولياً {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أيحقا فإن قضيةَ الإيمان توجب الاتقاءَ لا محالة {وَإِذَا ناديتم إِلَى الصلاة اتخذوها} أي الصلاةَ أو المناداةَ ففيه دلالة على شرعية الأذان

58

{هُزُواً وَلَعِباً} بيان لاستهزائهم بحكم خاص من أحكام الدين بعد بيان استهزائهم بالدين على الإطلاق إظهاراً لكمال شقاوتهم رُوي أن نصرانياً بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أنَّ محمداً رسولُ الله يقول أحرق الله الكاذب فدخل خادمُه ذاتَ ليلة بنار وأهله نيام فتطايرة منه شرارةٌ في البيت فأحرقَتْه وأهلَه جميعاً {ذلك} أي الاستهزاء المذكور {بِأَنَّهُمْ} بسببِ أنَّهُم {قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} فإن السَّفَه يؤدِّي إلى الجهل بمحاسِنِ الحق والهُزُؤ به ولو كان لهم عقلٌ في الجملة لما اجترءوا على تلك العظيمة

59

{قُلْ} أمرٌ لرسولِ الله صد بطريق تلوين الخطاب بعد نهْيِ المؤمنين عن تولِّي المستهزئين بأن يخاطِبَهم ويبيِّنَ أن الدين منزه عما يصحِّحُ صدورَ ما صدرَ عنهُم من الاستهزاء ويُظهرَ

المائدة آية 60 لهم سببَ ما ارتكبوه ويُلْقِمَهم الحجرَ أي قل لأولئك الفجرة {يَا أَهْلِ الكتاب} وُصفوا بأهلية الكتاب تمهيدا بما سيأتي من تبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم {هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا} من نقَم منه كذا إذا عابه وأنكره وكرهه وينقمه من حدِّ ضرب وقُرىء بفتح القاف من حد علِمَ وهي أيضاً لغة أي ما تَعيبون وما تُنكرون منا {إِلاَّ أَنْ آمنا بالله وما أُنزِلَ إِلَيْنَا} من القُرآنِ المجيد {وما أنزل مِن قَبْلُ} أي من قبل إنزاله من التوراة والإنجيل المنزَّلَيْن عليكم وسائرِ الكتبِ الإلهية {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون} أي متمردون خارجون عن الإيمان بما ذكر فإن الكفر بالقرآن مستلزم للكفر بما يصدِّقُه لا محالة وهو عطف على أن آمنا على أنَّه مفعولٌ له لتنقمون والمفعول الذي هو الدينُ محذوفٌ ثقةً بدلالةِ ما قبلَهُ وما بعده عليه دلالةً واضحة فإن اتخاذ الدين هزواً ولعباً عينُ نِقَمِه وإنكارِه والإيمانُ بما فُصِّل عينُ الدين الذي نقَموه خلا أنه أبرَزَ في معرِض علةِ نقمِهم له تسجيلاً عليهم بكمال المكابرةِ والتعكيس حيث جعلوه موجِباً لنقمه مع كونِه في نفسِه موجباً لقَبوله وارتضائه فالاستثناءُ من أعمِّ العللِ أي ما تنقِمون منا دينَنا لعلة من العلل إلا لأن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبلُ من كتُبكم ولأن أكثركم متمردون غيرُ مؤمنين بواحدٍ مما ذُكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطقِ بصحة كتابِنا لآمنتم به وإسنادُ الفسق إلى أكثرِهم لأنهم الحاملون لأعقابهم على التمرُّد والعناد وقيل عطفٌ عليه على أنه مفعول لتنقمون منا لكن لا على أن المستثنى مجموعُ المعطوفَيْن بل هو ما يلزَمهما من المخالفة كأنه قيل ما تنقمون منا إلا مخالفتَكم حيث دخلنا الإيمانَ وأنتم خارجون عنه وقيل على حذف المضاد أي واعتقادَ أن أكثركم فاسقون وقيل عطف على ما أي ما تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وبأنكم فاسقون وقيل عطفٌ على علة محذوفةٍ أي لقلة إنصافِكم ولأن أكثركم فاسقون وقيل الواو بمعنى مع أي ما تنقِمون منا إلا الإيمانَ مع أن أكثركم الخ وقيل هو منصوبٌ بفعل مقدر دل عليه المذكورُ أي لا تنقمون أن أكثركم فاسقون وقيل هو مرفوعٌ على الابتداء والخبرُ محذوفٌ أي وفِسقُكم معلوم أي ثابت والجملةُ حالية أو معترضة وقرىء بأن المكسورة المكسورة والدجملة مستأنَفة مبيّنةٌ لكون أكثرهم فاسقين متمرِّدين

60

{قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك} لما أُمرَ عليه الصلاةُ والسلامُ بإلزامهم وتبكيتهم ببيان أن مدارَ نقمِهم للدين إنما هو اشتمالُه على ما يوجب ارتضاءَه عندهم أيضاً وكفرُهم بما هو مُسلَّم لهم أُمرَ عليه الصلاةُ والسلامُ عَقيبَه بأن يُبكتَهم ببيان أن الحقيقَ بالنقم والعيبَ حقيقةً ما هم عليه من الدين المحرَّف وينعى عليهم في ضمن البيان جناياتِهم وما حاق بهم من تبعانها وعقوباتِها على منهاج التعريض لئلا يحمِلَهم التصريحُ بذلك على ركوب متن المكابرةِ والعنادِ ويخاطِبَهم قبل البيانِ بما يُنبىء عن عِظَم شأن المبيَّنِ ويستدعي إقبالَهم على تلقّيه من الجملة الاستفهامية المُشَوِّقة إلى المخبِر به والتنبئةِ المُشعرة بكونه أمراً خطيراً لما أن النبأ هو الخبرُ الذي له شأنٌ وخطَرٌ وحيث كان مناطُ النقم شَرِّيَّةَ المنقوم حقيقة او اعتقاد وكان مجردُ النقم غيرَ مفيد

المائدة آية 60 لشَرِّيته البتّةَ قيل بشرَ من ذلك ولم يقُل بأنقَمَ من ذلك تحقيقاً لشرية ما سيذكر وزيادى ة تقرير لها وقيل إنما قيل لذلك وقوعه في عبارة المخاطَبين حيث أتى نفرٌ من اليهود فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دينه فقال عليه الصلاة السلام أو من بالله وما أنزل إلينا إلى قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فحين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام قالوا لا نعلم شراً من دينكم وإنما اعتَبَر الشَّرِّيةَ بالنسبة إلى الدين وهو منزَّه عن شائبةِ الشرّية بالكلية مجاراةً معهم على زعمهم الباطِلِ المنعقدِ على كمال شريتِه ليثبِتَ أن دينهم شرٌ من كل شر أي هل أخبركم بما هو شرٌّ في الحقيقة مما تعتقدونه شراً وإن كان في نفسه خيراً محضاً {مَثُوبَةً عِندَ الله} أي جزاءً ثابتاً في حكمه وقرىء مثوبةً وهي لغة فيها كمشورة ومشورة وهي مختصةٌ بالخير كما أن العقوبة مختصة بالشر وإنما وضعت ههنا موضعها على طريقةِ قولِه تحيَّةَ بينهم ضربٌ وجميع ونصبُها على التمييز من بشر وقوله عز وجل {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} خبر لمبتدأ محذوفٍ بتقدير مضافٍ قبله مناسبٍ لما أشير إليه بكلمة ذلك أي دينُ مَنْ لعنه الخ أو بتقدير مضافٍ قبلها مناسبٍ لمن أي بشرّ مِنْ أهل ذلك والجملة على التقديرين استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ من الجملة الاستفهامية إما على حالها وهو الظزاهر المناسب لسياق النظم الكريم وإما باعتبار التقدير فيها فطكأنه قيل ما الذي هو شرٌّ من ذلك فقيل هو دينُ مَنْ لعنه الله الخ أو قيل في السؤال من ذا الذي هو شرٌّ من أهل ذلك فقيل هو مَنْ لعنه الله ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضعَ الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتهويلِ أمر اللعن وما تبعه والموصولُ عبارةٌ عن المخاطبين حيث أبعدهم الله تعالى من رحمته وسخِط عليهم بكفرهم وانْهماكِهم في المعاصي بعد وضوح الآيات وسُنوحِ البينات {وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير} أي مسخ بعضَهم قردةً وهم أصحابُ السبْت وبعضَهم خنازيرَ وهم كفار مائدةِ عيسى عليه السلام وقيل كلا المسخين في أصحاب السبْت مُسِخت شبانُهم قردةً وشيوخُهم خنازيرَ وجمعُ الضميرِ الراجع إلى الموصول في منهم باعتبار معناه كما أنَّ أفرادَ الضميرينِ الأولين باعتبار لفظه وإيثارُ وضعه موضعَ ضمير الخِطاب المناسب لأنبئكم للقصدِ إلى إثبات الشرِّية بما عدد في حين صلتِه من الأمورِ الهائلة الموجبةِ لها على الطريقة البرهانية مع ما فيه من الاحتراز عن تهييج لَجاجِهم {وَعَبَدَ الطاغوت} عطفٌ على صلةِ مَنْ وإفراد الضمير لما مر وكذا عُبد الطاغوتُ على قراءة البناء للمفعول ورفع الطاغوتَ وكذا عبد الطاغوت بمعنى صار معبوداً فالراجع إلى الموصول محذوف على القراءتين أي عُبد فيهم أو بينهم وتقديم أوصافِهم المذكورة بصدد إثباتِ شرّية دينِهم على وصفهم هذا مع أنه الأصلُ المستتبِعُ لها في الوجود وأن دلالته على شريته بالذات لأن عبادة الطاغوتِ عينُ دينهم البيّنِ البطلان ودلالتُها عليها بطريق الاستدلال بشرِّيَّة الآثار على شرِّية ما يوجبُها من الاعتقاد والعمل إما للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لا سبيلَ لهم إلى الجحود لا بشرِّيته وفظاعته ولا باتصافهم به وإما للإيذان باستقلال كلَ من المقدم والمؤخر بالدلالة على ما ذكر من الشرِّية ولو روعيَ ترتيبُ الوجود وقيل مَنْ عَبَدَ الطاغوتَ ولعنه الله وغضب عليه الخ لربما فهم أن علة الشرية هو المجموعُ وقد قرىء عابدَ الطاغوت وكذا عبد الطاغوت بالإضافة على أنه نعتٌ كفطِنٍ ويقِظٍ وكذا عبدَةَ الطاغوتِ وكذا عبد الطاغوت بالإضافة على أنه جمع عابد كخَدَمٍ أو على أن أصله عبدةَ حذفت تاؤه للإضافة بالنصب في الكل عطفا على

المائدة آية 61 االقردة والخنازير وقرىء عَبَدِ الطاغوتِ بالجر عطفاً على مَنْ بناءً على أنه مجرور بتقدير المضاف وقد قيل إن مَنْ مجرور على أنه بدلٌ من شرَ على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ في تقدير المضاف وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ مع اقتضائه إخلاء النظم الكريم عن المزايا المنذكورة بالمرة مما لا سبيل إليه قطعاً ضرورةَ أن المقصود الأصلي ليس مضمونَ الجملة الاستفهامية بل هو كما مر مقدّمة سيقت أمام المقصود لهزؤء المخاطبين وتوجيه أذهانهم تنحو تلقي ما يلقى إليهم عَقيبها بجملة خبرية موافقةٍ في الكيفية للسؤال الناشىء عنها وهو المقصودُ إفادتُه وعليه يدور ذلك الإلزام والتبكيتُ حسبما شُرح فإذا جُعل الموصولُ بما في حيز صلتِه من تتمة الجملة الاستفهامية فأين الذي يلقى إليهم عقيبها جواباً عما نشأ منها من السؤال ليحصُلَ به الإلزامُ والتبكيت وأما الجملة الآنية فبمعزلٍ من صلاحية الجواب كيف لا ولا بد من موافقته في الكيفية للسؤال الناشىء عن الجملة الاستفهامية وقد عرفت أن السؤال الناشىءَ عنها يستدعي وقوعَ الشر من تتمة المخبَرِ عنه لا خبراً كما في الجملة المذكورة وسيتضح ذلك مزيدَ اتضاحٍ بإذن الله تعالى والمراد بالطاغوت العِجْلُ وقيل هو الكهنة وكلُّ من أطاعوه في معصية الله عز وجل فيعم الحكمُ دينَ النصارى أيضاً ويتضح وجه تأخيرِ ذكرِ عبادتِه عن العقوبات المذكورة إذ لو قُدِّمت عليها لتُوُهِّم اشتراكُ الفريقين في تلك العقوبات ولما كان مآلُ ما ذُكرَ بصدد التبكيت أن ماهو شرٌّ مما نقَموه دينُهم أو أن من هو شرٌّ من أهل ما نقموه أنفسُهم بحسَب ما قدِّر من المضافين وكانت الشرِّيةُ على كلا الوجهين من تتمة الموضوع غيرَ مقصودة الإثبات لدينهم أو لأنفسهم عقِبَ ذلك بإثباتها لهم على وجهٍ يُشعر بعِلِّية ما ذُكر من القبائح لثبوتها لهم بجملةٍ مستأنفةٌ مَسوقةٌ من جهته سبحانه شهادةً عليهم بكمال الشرارة والضلال أو داخلةٍ تحت الإمر تأكيدا للإلزان وتشديد للتبكيت فقيل {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مكانا} فاسم الإشارة عبارةٌ عمَّن ذُكرتْ صفاتُهم الخبيثة وما فيه من معنى البعيد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الشرارة أي أولئك وقيل شر مكاناً أي مُنصَرَفاً {وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السبيل} عطف على شر مقرِّرٌ له أي أكثرُ ضلالاً عن الطريق المستقيم وفيه دلالة على كون دينهم شراً محضاً بعيداً عن البحق لأن ما يسلُكونه من الطريق دينُهم فإذا كانوا أضلَّ كان دينُهم ضلالاً بينا لا غايةَ وراءه وصيغةُ التفضيل في الموضعين للزيادة مطلقاً لا بالإضافة إلى من يشاركهم في أصلِ الشرارة والضلال

61

{وإذا جاؤوكم قالوا آمنا} نزلتْ في ناسٍ من اليهود كانوا يدخُلون على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم ويُظهرون له الإيمان نفاقاً فالخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والجمع للتعظيم أوله مع ما عنده من المسلمين أي إذا جاءوكم أظهروا الإسلام {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} أي يخرجون من عندك ملتبسين بالكفر كما دخلوا لم يؤثِّرْ فيهم ما سمعوا منك والجملتان حالان من فاعل قالوا وبالكفر وبه حالان من فاعل دخلوا

المائدة آية 62 64 وخرجوا وقد وإن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصح أن يقع حالات أفادت أيضاً بما فيها من معنى التوقع أن أمارات النفاق كانت لائحة وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يظنه ويتوقع أن يظهره الله تعالى ولذلك قيل {والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} أي من الكفر وفيه وعيد شديد لهم

62

وَتَرَى خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب والرؤية بصرية كَثِيراً مّنْهُمْ من اليهود والمنافقين وقولُه تعالى {يسارعون فِى الإثم} حال من كثيراً وقيل مفعول ثانٍ والرؤيةُ قلبية والأول أنسبُ بحالهم وظهور نفاقهم والمسارعة المبادرة والمباشرة للشيء بسرعة وإيثار كلمةُ في على كلمة إلى الواقعة في قوله تعالى وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ الخ لِما ذُكر في قوله تعالى فَتَرَى الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يسارعون فِيهِمْ والمرادُ بالإثم الكذبُ على الإطلاق وقيل الحرام وقيل كلمةُ الشرك وقولُهم عزيرٌ ابنُ الله وقيل هو ما يختصُّ بهم من الآثام {والعدوان} أي الظلم المتعدي إلى الغير أو مجاوزة الحد في المعاصي {وَأَكْلِهِمُ السحت} أي الحرام خصه بالذكر مع اندراجه في الإثم للمبالغة في التقبيح {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي لبئس شيئاً كانوا يعملونه والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار

63

{لَوْلاَ ينهاهم الربانيون والاحبار} قال الحسن الربانيون علماء الإنجيل والأحبار علماء التوراة وقيل كلهم في اليهود وهو تحضيضٌ للذين يقتديْ بهم أفناؤهم ويَعْلمون قَباحةَ ما هم فيه وسوءَ مغبَّته على نهْيِ أسافلِهم عن ذلك مع توبيخ لهم على تركه {عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت} مع علمهم بقبحهما ومشاهدتهم لمباشرتهم لهما {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} وهذا أبلغ مما قيل في حق عامتهم لما أن العمل لا يبلُغ درجة الصنع ما لم يتدرَّبْ فيه صاحبُه ولم يحصُلْ فيه مهارة تامة ولذلك ذَمَّ به خواصَّهم ولأن ترك الحسنة أقبحُ من مواقعة المعصية لأن النفس تلتذ بها وتميل إليها ولا كذلك تركُ الإنكار عليها فكان جديراً بأبلغِ ذم وفيه مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي عن المنكرات ما لاَ يخفي وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهما أشد آية في القرآن وعن الضحاك ما في القرآن آية خوف عندي منها

64

{وَقَالَتِ اليهود} قال ابن عباس وعكرمة والضحاك إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس

المائدة آية 64 مالاً وأخصبَهم ناحيةً فلما عصَوا الله سبحانه بأن كفروا برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وكذبوه كف عنهم ما بسَطَ عليهم فعند ذلك قال فنخاص بنُ عازوراء {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} وحيث لم ينكر عليه الآخرون ورضُوا به نُسبت تلك العظيمةُ إلى الكل كما يقال بنُو فلان قتلُوا فلاناً وإنما القاتلُ واحدٌ منهم وأرادوا بذلك لعنهم الله أنه تعالى مُمسك يقتِّر بالرزق فإن كلاًّ من غَلِّ اليد وبسْطِها مجازٌ عن محض البخل والجود من غير قصد في ذلك إلى إثبات يدٍ وغَلَ أو بسطٍ ألا يُرى أنهم يستعملونه حيث لا يتصور فيه ذلك كما في قولِه جاد الحمى بَسْطَ اليدين بوابل شكَرتْ نداهُ تِلاعُه ووِهادُهُ وقد سلك لبيد هذا المسلكَ السديد حيث قال وغداةِ ريحٍ قد شهِدْتُ وقره غذ اصبحت بيد السمال زِمامُها فإنه إنما أراد بذلك إثباتَ القدرة التامة للمشال على التصرفِ في القَرَّة كيفما تشاء على طريقة المجاز من غير أن يخطُرَ بباله أن يثبِتَ لها يدا ولا للقة زماماً وأصله كناية فيمن يجوز عليه إرادة المعنى الحقيقي كما مر في قوله تعالى وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة في سورة آل عمران وقيل أرادوا ما حُكيَ عنُهم بقولِه تعالى لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} دعاء عليهم بالبخل المذموم والمسكَنة أو بالفقر والنَّكَد أو بغَلِّ الأيدي حقيقة بأن يكونوا أسارى مغلولين في الدنيا ويُسحبوا إلى النار بأغلالِها في الآخرة فتكون المطابقةُ حينئذ من حيث اللفظُ وملاحظةُ المعنى الأصلي كما في سبّني سبّ الله دابرَه {وَلُعِنُواْ} عطف على الدعاء الأول أي أُبعدوا من رحمة الله تعالى {بِمَا قَالُواْ} أي بسبب ماقالوا من الكلمة الشنعاء وقيل كلاهما خبر {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} عطفٌ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي كلاّ ليس كذلك بل هو في غايةِ ما يكونُ من الجود وإليه أُشير بتثنية اليد فإن أقصى ما ينتهِي إليه هممُ الأسخياء أن يُعطوا ما يعطونه بكلتا يَدَيْهم وقيل التثنية للتنبيه على منحه تعالى لنعمتي الدجنيا والآخرة وقيل على إعطائه إكراماً وعلى إعطائه استدراجاً {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده وللتنبيه على سرِّ ما ابتُلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالِهم ذريعةً إلى الاجتراء على تلك الكَفْرة العظيمة والمعنى والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تالبع لمشيئته المبنيَّةِ على الحُكم التي عليَها يدورُ أمرُ المعاش والمعاد وقد اقتضتِ الحكمةُ بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن يضيِّقَ عليهم كما يشير إليه ما سيأتِي من قولِه عز وجل ولو أنهم أقاموا التواراة والإنجيل الآية وطكيف ظرفٌ ليشاء والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير ينفق أي ينفق كائناً على أي حال يشاء أي كائناً على مشيئته أي مريداً وتركُ ذكرِ ما ينفقه لقصد التعميم {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً منهم} وهم علماؤهم ورؤساهم {مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} مِن القرآن المستمل على هذه الآيات وتقديمُ المفعول للاعتناء به وتخصيص الكثير منهم بهذا الحكم لِما أن بعضهم ليس كذلك {مِن رَبّكَ} متعلق بأنزل كما أن إليك كذلك وتأخيره عنه مع أن حق المبدا أن يتقدم على المنتهي لاقتضاء المقامِ الاهتمامَ ببيان المنتهي لأن مدجار الزيادة هو النزولُ إليه عليهِ السَّلامُ كَما في قوله تعالَى وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لتشريفه عليه السلام {طغيانا وَكُفْراً} مفعول ثان للزيادة أي ليزييدنهم كغيانا على طغيانهم وكفراً على كفرهم القديمين إما من حيث الشدةُ والغلوُّ وإما من حيث الكمُ والكثرة إذ كلما نزلة ى ية كفروا بها فيزداد طغيانُهم وكفرهم بحسب المقدار

المائدة آية 65 66 كما أن الطعامَ الصالح للأصِحّاء يزيد المرضى مرضاً {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ} أي بين اليهود فإن بعضَهم جبْريةٌ وبعضهم قدرية زوبعضهم مُرْجئة وبعضهم مشبِّهة {العداوة والبغضاء} فلا يكاد تتوافق قلوبُهم ولا تتطابق أقوالهم والجملة مبتدأ مَسوقة لإزاحة ما عسى يُتوهَّمُ من ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمرٍ يؤدِّي إلى الإضرار بالمسلمين قيل العداوة والبغضاء أخصُّ من البغضاء لأن كل عدوَ مبغضٌ بلا عكسٍ كليَ {إلى يَوْمِ القيامة} متعلقٌ بألقينا وقيل بالبغضاء {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلةِ ما هم فيه إلى المسلمين أي كلما أرادوا محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ورتبوا مبادِيَها وركِبوا في ذلك متنَ كلِّ صعب وذَلولٍ ردهم الله تعالى وقهرهم أو كلما أرادوا حرب أحد غُلبوا فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط الله تعالى عليهم بُخْتَ نَصَّرَ ثم أفسدوا فسلط الله عليهم فطرُسَ الروميّ ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين وللحرب إما صل لأوقدوا أو متعلِّق بمحذوف وقع صفة لنار أي كائنة للحرب {وَيَسْعَوْنَ فِى الارض فَسَاداً} أي يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وإثار الشر والفتنة فيما بينهم مما يُغايرُ ما عبَّر عنه بإيقاد نارِ الحرب وفسادا إما مفعول له أو في موقعِ المصدر أي يسعون للفساد أو يسعون سعي فساد {والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} ولذلك أطفأ ثائرةَ إفسادهم واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً وإما للعهد ووضعُ المُظْهَرِ مَقام الضمير للتعليل وبيانِ كونِهم راسخين في الإفساد

65

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب} أي اليهودُ والنصارى على أن المراد بالكتاب الجنسُ المنتظمُ للتوراة والإنجيل وإنما ذكروا بذلك العنوان تأكيداً للتشنيع فإنّ أهليةَ الكتاب توجب إيمانهم به وإقامتَهم له لا محالة فكفرُهم به وعدمُ إقامتهم له وهم أهلهخ أقبحُ من كُلِّ قبيحٍ وأشنعُ من كل شنيع فمفعول قوله تعالى {آمنوا} محذوف ثقةً بظهوره مما سبقَ من قولِه تعالى هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون وما لَحِقَ من قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة الخ أي ولو أنهم مع صدور ما صدَرَ عنهُم من فنون الجنايات قولاً وفعلاً آمنوا بما نُفِيَ عنهم الإيمانُ به فيندرج فيه فرضُ إيمانهم برسول اللله صلى الله عليه وسلم وأما إرادةُ إيمانهم به صلى الله عليه وسلم خاصة فيأباها المقام لأن ما ذُكر فيما سبَقَ وما لَحِق من كفرهم به صلى الله عليه وسلم إنما ذُكر مشفوعاً بكفرهم بكتابهم أيضا قصدجا إلى الإلزام والتبكيت ببيان أن الكفر به صلى الله عليه وسلم مستلزم الكفر بكتابهم فحمل الإيمان ههنا على الإيمان به صلى الله عليه وسلم خحاصة مُخِلٌّ بتجاوُب أطرافِ النظمِ الكريم {واتقوا} ما عددجنا من معاصيهم التي من جُملتها مخالفةُ كتابهم {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سيئاتهم} التي اقترفوها وإنْ كانتْ في غايةِ العِظَم ونهايةِ الكثرة ولم تؤاخذهم بها {ولادخلناهم} مع ذلك {جنات النعيم} وتكرير اللام لتأكيدِ الوعد وفيه تنبيه على كمال عِظَم ذنوبهم وكثرةِ معاصيهم وأن الإسلام يجبُّ ما قبله من السيئات وإن جلَّتْ وجاوزت كلَّ حدَ معهود

66

{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل} بمراعاة

المائدة آية 67 ما فيهما من الأحكامِ التي من جُملتها شواهدُ نبوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ومبشراتُ بِعثتِه فإن إقامتهما إنما تكون بلك لا بمراعاة جميعِ ما فيهما من الأحكام لانتساخِ بعضِها بنزول القرآن فليست مراعات الكلِّ من إقامتهما في شيء {وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِمْ مّن رَّبّهِمْ} من القرآن المجيد المصدِّق لكتبهم وإيرادُه بهذا العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله إليهم وللتصريح ببطلان ما كانوا يدّعونه من عدم نزوله إلى بني غسرائيل وتقديمُ إليهم لما مر من قبل وفي إضافة الربِّ إلى ضميرهم مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة وقيل المراد بما أنزل إليهم كتب أنبياء بني إسرائيل مثلُ كتاب شعياءوكتاب حتقوق وكتاب دانيال فإنها مملوءة بالبشارة بمبعثه صلى الله عليه وسلم {لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أي لوسَّع عليهم أرزاقَهم بأن يُفيض عليهم بركاتِ السماء والأرض أو بأن يكثر ثمراتِ الأشجار وغلالَ الزروع أو بأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار فيجتنوا ما تهدّل منها من رءوس الأشجار ويلتقطوا ما تساقط منها على الأرض وقيل المراد المبالغة في شرح السَّعَة والخِصْب لا تعيينُ الجهتين كأنه قيل لأكلوا من كل جهة ومفعول أكلوا محذوف لقصد التعميم أو للقصدِ إلى نفسِ الفعلِ كما في قوله فلان يعطي ويمنع ومن في الموضعين لابتداء الغاية في هاتين الشرطيتين من حثِّهم على ما ذكر من الإيمان والتقوى والإقامةِ بالوعد بنيل سعادة الدارين وزجرِهم عن الإخلال بما ذُكر ببيان إفضائِه إلى الحِرْمان عنها وتنبيههم على أنَّ ما أصابَهم من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصورٍ في فيض الفياض ما لا يخفى {مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} جملة مستأنَفةٌ مبنيّةٌ على سؤال نشأ من مضمون الجملتين المصدّرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاءِ وإقامةِ الكتب المُنْزلة من أهل الكتاب كأنه قيل هل كلُّهم كذلك مصرّون على عدم الإيمان الخ فقيل منهم أمة مقتصدة إما على أن منهم مبتدأ باعتبار مضمونه أي بعضهم أمة وإما بتقدير الموصوف أي بعضٌ كائنٌ منهم كما مر في قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله الآية أي طاتفة معتلده وهم المؤمنون منهم كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَم وأضرابه وثمانيةٌ وأربعون من النصارى وقيل طائفة حالُهم أَممٌ في عدجاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ} مبتدأٌ لتخصُّصِه بالصفةِ خبرُه {سَاء مَا يَعْمَلُونَ} أي مقولٌ في خقهم هذا القولُ أي بئسما يعملون وفيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملَهم من العِناد والمكابرةِ وتحريفِ الحق والإعراض عنه والإفراطِ في العداوة وهم الأجلافُ المتعصبون ككعب من الأشرف وأشباهه والروم

67

{يا أيها الرسول} نودي صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة تشريفاً له وإيذانا بأنها موجبات الإتيانِ بما أُمر به من متبليغ ما أُوحِيَ إليه {بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي جميع مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن الأحكام وما يتعلق بها كائناً ما كان وفي قولِه تعالى {مِن رَبّكَ} أي مالِكِ أمورِك ومبلِّغِك إلى كمالك اللائقِ بك عِدَةٌ ضِمْنية بحفظه صلى الله عليه وسلم وكَلاءته أي بلِّغْه غيرَ مراقب في ذلك أحد ولا خائف أن ينالك مكروهٌ أبداً {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ} ما أُمرت به من تبليغ الجميع بالمعنى المذكور كما ينبىء عنه قوله تعالى {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} فإن ما لا تتعلق به الأحكام

المائدة آية 68 أصلاً من الأسرار الخفية ليست مما يُقصَدُ تبليغه إلى الناس أي فما بلغت شيئاً من رسالته وانسلخْتَ مما شَرُفتَ به من عنوان الرسالة بالمرة لِما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض فإذا لم تؤدِّ بعضها فكأنك أغفلتَ أداءَها جميعاً كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لإدلاء كلَ منها بما يُدليه غيرها وكونُها لذلك في حكم شيءٍ واحد ولا ريب في أن الواحد لا يكونُ مُبلَّغاً غيرَ ميبلغ مؤمَناً به غيرَ مؤمَنٍ به ولأن كتمان بعضها إضاعةٌ لما أُدِّيَ منها كترك بعض أركان الصلاة فإن غرض الدعوة ينتقض بذلك وقيل فكأنك ما بلغت شيئاً منها كقوله تعالى فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً من حيث أن كتمنان البعض والكل سواءٌ في الشناعة واستجلاب العقاب وقرىء فما بلغت رسالاتي وعن ابن عباس رشي الله عنهما إن كتمت ى ية لم تبلِّغْ رسالاتي وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني الله برسالاته فضِقْتُ بها ذرعاً فأوحَى الله إلي إنْ لم تبلِّغْ رسالاتي عذبتُك وضمِن لي العصمة فقوِيْتُ وذلك قوله تعالى {والله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فإنَّه كما ترى عِدَةٌ كريمةٌ بعصمته من لُحوق ضررهم بروحه العزيزِ باعثة له صلى الله عليه وسلم على الجد في تحقيق ما أُمر بهِ من التبليغ غير مكترث بعجاوتهم وكيدهم وعن أنسٌ رضيَ الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يُحرَسُ حتى نزلت فأخرج رأسَه من قُبّةٍ أدم فقال انصرفوا يأيها الناس فقد عصمني الله من الناس وقوله تعالى {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين} تعليل لعصمته تعالى له صلى الله عليه وسلم أي لا يمكنهم مما يريدون بك من الإضرار وإيرادُ الآية الكريمة في تضاعيف الآيات الواردة في حق أهل الكتاب لِما أن الكل قوارعُ يسوء الكفارَ سماعُها ويشُقّ على الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهتُهم بها وخصوصاً ما يتلوها من النصِّ الناعي عليهم كمالَ ضلالتهم ولذلك أعيد الأمر فقيل

68

{قل يا أهل الكتاب} مخاكبا للفريقين {لستم على شيء} أي دينٍ يُعتدّ به ويليق بأن يسمى شيئاً لظهور بُطلانه ووضوح فساده وفي هذا التعبير من التحقير والتصغير ما لا غايةَ وراءَه {حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل} اي تراعواهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وشواهدُ نبوته فإن إقامتهما إنما تكون بذلك وأما مراعاة أحكامهما المنسوخةِ فليست من إقامتهما في شيء بل هي تعطيل لهما وردٌّ لشهادتهما لأنهما شاهدان بنسخها وانتهاءِ وقت العمل بها لأن شهادتهما بصحة ما ينسخها شهادةٌ بنسخها وخروجها عن كونها من أحكامهما وأن أحكامهما ما قرره النبي الذي بشَّرَ فيهما ببعثته وذُكر في تضاعيفهما نعُوتُه فإذن إقامتُهما بيانُ شواهدِ النبوة والعملُ بما قررته الشريعة من الأحكام كما يفصحُ عنه قولُه تعالى {وما أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} أي القرآن المجيد بالإيمان به فإن إقامة الجميع لا تتأتَّى بغير ذلك وتقديم غقامة الكتابين على إقامته مع أنها المقصودةُ بالذات لرعاية حقِّ الشهادة واستنزالِهم عن رتبة الشِّقاق وإيرادُه بعنوان الإنزال إليهم لما مرّ من التصريح بأنهم مأمورون بإقامته والإيمان به كما لا يزعُمون من اختصاصه بالعرب وفي إضافة الربِّ إلى ضميرهم ما أشيرَ إليهِ من اللطف في الدعوة وقيل امراد بما

المائدة آي 69 أنزل إليهم كتب أنبياء بني إسرائيلَ كما مر وقيل الكتبُ الإلهية فإنها بأسرها آمرةٌ بالإيمان لمن صدَّقَتْه المعجزةُ ناطقةٌ بوجوب الطاعة له رُوي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ جماعةً من اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألست تقرأ أن التوراة حقٌّ من عند الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم بلى فقالوا فإنا مؤمنون بها ولا نؤمنُ بغيرها فنزلت وقوله تعالى {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْراً} جملة مستأنَفةٌ مبيِّنةٌ لشدة شكيمَتِهم وغُلوِّهم في المكابرةِ والعنادِ وعدمِ إفادة التبليغ نفعاً وتصدريها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيق مدلولِها والمرادُ بالكثير المذكور علماؤهم ورؤساؤهم ونسبةُ الإنزال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسبته فيما مر إليهم للإنباء عن انسلاخِهم عن تلك النسبة {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين} أي لا تتأسف ولا تحزن عليهم لإفراطهم في الطغيان والكفر بما تُبلّغه إليهم فإن غائلتَه آيلةٌ إلهم وتبعته حائقة بهم لا تتخطاهم وفي المؤمنين مندوحةٌ لك عنهم ووضعُ المُظْهر موضعَ المُضمَرِ للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر

69

{إن الذين آمنوا} كلام مستأنَفٌ مسوق لترغيب مَنْ عدا المذكورين في الإيمان والعمل الصالح أي الذين آمنوا بألسنتهم فقد وهم المنافقون وقيل أعمُّ من أن يُواطِئَها قلوبُهم أولا {والذين هَادُواْ} أي دخلوا في اليهودية {والصابئون والنصارى} جمعُ نَصْرانَ وقد مر تفصيله في سورةِ البقرةِ وقوله تعالى الصابئون رفعٌ على الابتداء وخبرُه محذوف والنيةُ به التأخرُ عما في حيّز إنّ والتقدير إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمُهم كيتَ وكيتَ والصابئون كذلك كقوله فإني وقيارٌ بها لغريبُ وقوله وإلا فاعلموا أَنّا وأنتم بُغاةٌ ما بقِينا في شقاق خلا أنه وسَطٌ بين اسْمِ إنَّ وخبرِها دلالةً على أن الصابئين مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلِّها حيث قُبلت توبتُهم إن صحَّ منهم الإيمانُ والعملُ الصالح فغيرُهم أولى بذلك وقيل الجملة الآتية خبرٌ للمبتدأ المذكور وخبرُ إن مقدر كما في قوله نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والرأْيُ مختلِفُ وقيل النصارى مرفوع على الابتداءِ وقولُه تعالَى والصابئون عطفاً عليه وهو مع خبره عطفٌ على الجملة المصدَّرة بإن ولا مَساغَ لعطفه وحده على محلِّ إنَّ واسمِها لاشتنراط ذلك بالفراغ عن الخبر وإلا لارتفع الخبر بإن والابتداء معاً واعتُذر عنه بأن ذلك إذا كان المذكورُ خبراً لهما وأما إذا كان خبرُ المعطوف محذوفاً فلا محذورَ فيه ولا على الضمير في هادوا لعدم التأكيد والفصل ولاستلزامه كونَ الصابئين هُوداً وقرىء والصابيون بيان صريحة وبتخفيف الهمزة وقرىء والصابون وهو من صبا يصبوا لأنهم صبَوْا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم وقرىء والصابئين وقرىء يأيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون وقوله تعالى {مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صالحا} إما في محلِ الرفعِ على أنه مبتدأ خبره {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} والفاءُ لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشرط وجمع الضمائر الأخيرة باعتبار معنى الموصول كما أن إفرادَ ما في صلته باعتبار لفظه والجملة

المائدة آية 70 خبر إن والعائد إلى اسمها محذوف أي من آمن منهم وإما في محل النصب على أنه بدل من اسم إن وما عُطف عليه والخبر قوله تعالى فَلاَ خَوْفٌ والفاء كما في قوله عز وعلا إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ الآية فالمعنى على تقدير كون المراد بالذين آمنوا المنافقين وهو الأظهر من أحدث من هذه الطوائف إيمانا خالصا بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل الكتاب فإنَّ ذلكَ بمعزلٍ من أن يكون إيماناً بهما وَعَمِلَ عملاً صالحا حسبما يقتضيه الإيمانُ بهما فلا خوف عليهم حين يخاف الكفار العقاب ولا هُمْ يَحْزَنُونَ حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب والمراد بيان جوام انتفائِهما لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يُوهمه كونُ الخبرِ في الجملة الثانية مضارِعاً لما مر مراراً لأن النفيَ وإن دخل على نفس المضارع يُفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام وأما على تقدير كون المراد بالذين آمنوا مطلقَ المتدينين بدين الإسلام المخلِصين منهم والمنافقين فالمرادُ بمن آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص بالمبدأ والمعاد على الإطلاق سواءٌ كان بطريق الثبات والدوام عليه كما هو شأن المخلصين أو بطريق إحداثه وإنشائه كما هو حالُ من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف وفائدةُ التعميم للمخلصين المبالغةُ في ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غيرُ مُخلَ بكونهم أسوةً لأولئك الأقدمين الأعلام وأما ما قيل المعنى من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملاً بمقتضى شرعه غمما لا سبيل إليه أصلا كما مرَّ تفصيلُه في سورة البقرة

70

{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إسرائيل} كلام مبتدأ مسوقٌ لبيان بعضٍ آخرَ من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم أي بالله لقد أخذنا ميثاقهم بالتوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة {وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً} ذوي عدد كثير وأولي شأن خطير ليقررهم على مرعاة حقوق الميثاق ويُطْلعوهم على ما يأتون ويذرون في دينهم ويتعهدوهم بالعظة والذكير وقولُه تعالى {كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُهُمْ} جملة شرطيةٌ مستأنَفةٌ وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق وإرسال الرسل وجواب الشرط محذوف كأنه قيل فمذا فعلوا بالرسل فقيل كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تُحبه أنفسهم المنهمكة في الغنى والفساد من الأحكام الحَقّة والشرائعِ عَصَوْه وعادَوْه وقوله تعالى {فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} جواب مستأنَفٌ عن استفسار كيفية ما أظهروه من آثار المخالفة المفهومة من الشرطية على طريقة الإجمال كأنه قيل كيف فعلوا بهم فقيل فريقاً منهم كذبوهم من غير أن يتعرضوا لهم بشيء آخرَ من المَضارِّ وفريقاً آخر منهم لم يكتفوا بتكذيبهم بل قتلوهم أيضاً وإنما أُوثر عليه صيغة المضارعِ على حكايةِ الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتها الهائلة للتعجيب منها وللتنبيه على أن ذلك دَيْدنُهم المستمرُّ وللمحافظة على رءوس الآي الكريمة وتقديم فريقاً في الموضعين للاهتمام به وتشويق السامع إلى ما فعلوا به لا للقصر هذا وأما

المائدة آية 71 جعلُ الشرطية صفةً لرسلاً كما ذهب إليه الجمهور فلا يساعده المقام أصلاً ضرورةَ أن الجملة الخبرية إذا جُعلتْ صفةً أو صلةً يُنسخ ما فيها من الحُكم وتُجعل عنواناً للموصوف تتمةً له في إثباتِ أمرٍ آخَرَ له ولذلك يجب أن يكون الوصفُ معلومَ الانتساب إلى الموصوف عند السامع قبل جعله وصفاً له ومن ههنا قالُوا إن الصفاتِ قبلَ العلمِ بها أخبارٌ والأخبارُ بعد العلم بها أوصافٌ ولا ريب في أن ما سيق له النظمُ إنما هو بيانُ أنهم جعلوا كل من جاءهم من رسل الله تعالى عُرضةً للقتل أو التكذيب حسبما يفيده جعلُها استئنافاً على أبلغِ وجه وآكله لا بيانُ أنه تعالى أرسل إليهم رسلاً موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلِها صفةً

71

{وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي حسِب بنو إسرائيلَ أن لا يصيبَهم من الله تعالى بما أتَوْا من الداهية الدهياء والخُطة الشنعاء بلاءٌ وعذاب وقرىء لا تكونُ بالرفع عَلى أنَّ أنْ هيَ المخففةُ من أنّ واسمُها ضميرُ الشأن المحذوف وأصله أنه لا تكون فتنةٌ وتعليقُ فعل الحُسْبان بها وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته وأن بما في حيِّزها سادٌّ مَسدَّ مفعوليه {فَعَمُواْ} عطف على حسِبوا والفاء للدِلالة على ترتيبِ ما بعدها على ما قبلها أي أمِنوا بأسَ الله تعالى فتمادَوْا في فُنون الغيِّ والفساد وعمُوا عن الدين بعد ما هداهم الرسلُ إلى معالمه الظاهرة ويبنوا لهم مناهجه الواضحة {وَصَمُّواْ} عن استماع الحق الذي ألقَوْه عليهم ولذلك فعلوا بهم ما فعلوا وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرّتَيْ إفساد بني إسرائيلَ حين خالفوا أحكام التوراة وركِبوا المحارم وقتلوا شعياء وقيل حبسوا أرمياء عليهما السلام لا إلى عبادتهم العجلَ كما قيل فإنها وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كماال العمَى والصمَم لكنها في عصر موسى عليه السلام ولا تعلُّقَ لها بما حُكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاءهم بعده عليه السلام بأعصار {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ} حين تابوا ورجعوا عمَّا كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابلَ دهراً طويلاً تحت قهر بُخْتَ نَصَّرَ أسارى في غاية الذل والمهانة فوجه الله عز وجل ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقس ليعمُرَه ونجّى بقايا بني إسرائيل من أسر بختَ نصَّرَ بعد مهلكه وردَّهم إلى وطنهم وتراجَعَ من تفرق منهم في الأكتاف فعَمَروه ثلاثين سنة فكثُروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه وقيل لما ورث بهمن ابن اسفنديارَ المُلك من جدِّه كستاسف ألقى الله عزَّ وجلَّ في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام وملّك عليهم دانيال عليه السلام فاستولَوا على من كان فيها من أتباع بختَ نصّر فقامت فيهم الأنبياءُ فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال وذلكَ قولُه تعالى ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وأمَّا ما قيل من أن المراد قبولُ توبتهم عن عبادة العجل فقد عرفت أن ذلك لا تعلُّق له بالمقامِ ولم يُسنِد التوبةَ إليهم كسائر احوالهم من الحسابن والعمَى والصمم تجافياً عن التصريح بنسبة الخير إليهم وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبته تعالى عليهم تمهيداً لبيان نقضهم إياها بقوله تعالى {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرّتيْ إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدُهم قتلَ عيسى عليهم السلام لا إلى طلبهم الرؤية كما قيل لِما عرفت سره فإن فنون

المائدة آية 72 الجناياتِ الصادرةِ عنهم لا تكاد تتناهى خلا أن انحصار ما حُكي عنهم ههنا في المرتين وترتّبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم السلام يقضي بأن المراد ما ذكرناه والله عنده علم الكتاب وقرىء عُموا وصُمّوا بالضم على تقدير عماهم الله وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم كما يقال نَزَكتَهُ إذا ضربتَه بالنَّيْزَك ورَكَبتَهُ إذا ضربتَه بركبتك وقوله تعالى {كَثِيرٌ مّنْهُمْ} بدلٌ من الضمير في الفعلين وقيل خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي أولئك كثير منهم {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي بما عملوا وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضية استحضاراً لصورتها الفظيعة ورعايةً للفواصل والجملة تذييلٌ أشير به إلى بطلان حُسْبانهم المذكور ووقوع العذاب مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ إشارةٌ إجمالية اكتُفيَ بها تعويلاً على ما فُصِّل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيلَ والمعنى حسبوا أن لا يصيبهم عذابٌ ففعلوا ما فعلوا من الجنايات العظيمة المستوجبة لأشد العقوبات والله بصيرٌ بتفاصيلها فكيف لا يؤاخذهم بها ومن أين لهم ذلك الحسبانُ الباطل ولقد وقع ذلك في المرة الأولى حيث سلط الله تعالى بُخْتَ نصَّر عامل لهراسِبَ على بابل وقيل جالوتَ الجزري وقيل سنجاريبَ من أهل نينوى والأول هو الأظهر فاستولى على بيت المقدس فقتل من أهله أربعين ألفاً ممن يقرأ التوراة وذهب بالبقية إلى أرضه فبقُوا هناك على أقصى ما يكونُ من الذل والنكد إلى أن أحدثوا توبةً صحيحة فردهم الله عزَّ وجلَّ إلى ما حكي عنهم من حسنِ الحال ثم عادوا إلى المرة الآخرة من الإفساد فبعث الله تعالى عليهم الفرسَ فغزاهم ملكُ بابلَ من ملوك الطوائف اسمُه خيدرود وقيل خيدروس ففعل بهم ما فعل قيل دخل صاحب الجيش مذبحَ قرابينَهم فوجد فيه دماً يغلي فسألهم فقالوا دمُ قربانٍ لم يقبل منا فقال ما صَدَقوني فقتل عليه ألوفاً منهم ثم قال إنْ لم تصدُقوني ما تركت منكم أحداً فقالوا إنه دمُ يحيى عليه السلام فقال بمثل هذا بنتقم الله تعالى منكم ثم قال يحيى قد علم ربي وربُّك ما أصاب قومَك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقيَ أحداً منهم فهدأ

72

{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مريم} شروع في تفصيل قبائح النصارى وإبطالِ أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود وهؤلاء هم الذين قالوا إن مريم ولدت غلها قيل هم الملكانية والمار يعقوبية منهم وقيل هم اليعقوبية خاصة قالوا ومعنى هذا أن الله تعالى حل في ذات عيسى واتحد بذاته تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً {وَقَالَ المسيح} حالٌ من فاعل قالوا بتقدير قد مفيدةٌ لمزيد تقبيحِ حالهم ببيان تكذبيهم للمسيح وعدم انزجارِهم عما أصروا عليه بما أوعدهم به أي قالوا ذلك وقد قال المسيح مخاطباً لهم {يا بني إسرائيل اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ} فإني عبدٌ مربوبٌ مثلُكم فاعبدوا خالقي وخالقَكم {إٍِنَّهُ} أي الشأنَ {مَن يُشْرِكْ بالله} أي شيئاً في عبادته أو فيما يختص به من صفات الألوهية {فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة} فلن يدخلها أبداً كما لا يصل المحرم عليه إلى

المائدة آية 73 المحرم فإنها دار الموحدين وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمار لتهويل الأمر وتربية المهابة {وَمَأْوَاهُ النار} فإنها هي المعدّة للمشركين وهذا بيان لابتلائهم بالعقاب غثر بيانِ حرمانِهم الثوابَ {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} أي مالهم من أحد ينصُرهم بإنقاذهم من النار إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة والجمع لمراعاة المقابلة بالظالمين واللام إما للعهد والجمع باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظهار وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً ووضعه على الأول موضع الضمير للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحق والجملةُ تذييلٌ مقرِّر لمَا قبلَهُ وهُو إمَّا من تمامِ كلامِ عيسى عليه السلامُ وأما واردٌ من جهته تعالى لمقالته عليه السلام وتقريراً لمضمونها وقد قيل إنه من كلامه عز وجل على معنى أنهم ظلموا وعجلوا عن سبيل الحق فيما تقوّلوا عَلَى عيسَى عليهِ السَّلامُ فلذلك لم يساعدْهم عليه ولم ينصُرْ قولهم ورده أنكره وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين من مقداره أو من قول عيسى عليه السلام على معنى لا ينصركم أحد فيما تقولون ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبُعْده عن المعقول وأنت خبير بأن التعبيرَ عما حُكي عنه عليه السلام من مقابلته لقولهم الباطل بصريح الرد والإنكار والوعيد بحرمان الجنة ودخول النار بمجرد عدم مساعدته على ذلك ونفْي نُصْرته له مع خُلوِّه عن الفائدة تصوير للقوي ل = بصورة الضعيف وتهوين للخطب من مقام تهويله بل ربما يوهم ذلك بحسب الظاهر ما لا يليق بشأنه عليه السلام من توهم المساعدةِ والنُصرة لا سيما مع ملاحظة قوله وإن كانوا معظمين له الخ إلا أن يحمل الكلامُ على التهكم بهم كذا وكذا الحالُ على تقديرِ كونِه من تمام كلامِه عليه السلام فإن زجْرَه عليه السلام إياهم عن قولهم الفاسد بما ذكره من عدم الناصرِ والمساعدِ بعد زجره إياهم بما مر من الرد الأكيدِ والوعيدِ الشديد بمعزِلٍ من الإفادة والتأثير ولا سبيل ههنا إلا الاعتذار بالتهكم

73

{لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله ثالث ثلاثة} شروع في بيان كفر طائفة أخرة منهم ومعنى قوله ثالث ثلاثة ورابع أربعة ونحوُ ذلك أحدُ هذه الأعدادِ مطلقاً لا الثالثُ والرابعُ خاصة ولذلك منع الجمهورُ أن ينصِبَ ما بعده بأن يقال ثالثٌ ثلاثة ورابع أربعة وغنما ينصبه إذا كان ما بعده دونه بمرتبة كما في قولك عشر تسعةً وتاسعٌ ثمانيةً قيل إنهم يقولون إن الإلهية مشتركة بين الله سبحانه وتعالى وعيسى ومريم وكلُّ واحد من هؤلاء إله ويؤكده قوله تعالى للمسيح أأنت قلت للناس اتخذونمي وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله فقوله تعالى ثالث ثلاثة أي أحد ثلاثةِ آلهة وهو المتبادر من ظاهرِ قولِه تعالى {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد} أي والحالُ أنه ليس في الوجود ذاتُ واجبٍ مستحق للعبادة من حيث إنه مبدأُ جميعِ الموجودات إلا إله موصوفٌ بالوحدانية متعالٍ عن قَبول الشِرْكة ومن مزيدة للاستغراق وقيل إنهم يقولون الله جوهرٌ واحدٌ ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس وأنهم يريدون بالأول الذات وقيل

المائدة 74 75 الوجود وبالثاني العلم وبالثالث الحياة فمعنى قوله تعالى وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد إلا إله واحد بالذات منزه عن شائبةِ التعدد بوجهٍ من الوجوه {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ} من الكفر الشنيع ولم يوحّدوا وقوله تعالى {لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ} جوابُ قسمٍ محذوف سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط أي وبالله إن لم ينتهوا لميسنهم وإنَّما وضعَ موضعَ ضميرِهم الموصولُ لتكرير الشهادة عليهم بالكفر فمن في قوله تعالى {منهم} بيانية أو ليمسن الذين بقُوا منهم على ما كانُوا عليهِ من الكفر فمن تبعيضية وإنما جيء بالفعل المنبىء عن الحدوث تنبيهاً على أن الاستمرار عليه بعد ورود ما ينحى عليه بالقلع من نص عيسى عليه السلام وغيره وكفر جديد وغلوٌّ زائد على ما كانُوا عليهِ من أصل الكفر {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي نوع شديد الألم من العذاب وهمزة الاستفهام في قوله تعالى

74

{أفلا يتوبون إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} لإنكار الواقع واستبعاده لا لإنكار الوقوع وفيه تعجيب من إصرارهم والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقامُ أي ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقاويل الباطلة فلا يتوبون إلى الله تعالى ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عما نسبوه إليه من الاتحاد والحلول فمدارُ الإنكار والتعجيب عدمُ الانتهاء وعدم التوبة معاً أو أيَسْمعون هذه الشهاداتِ المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقيب ذلك فمدارُهما عدم التوبة عَقيبَ تحقُّق ما يوجبها من سماع تلك لقوارع الهائلة وقوله عز وجل {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ يستغفرونه مؤكِّدةٌ للإنكار والتعجيب من إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار أي والحالُ أنَّه تعالَى مبالغٌ في المغفرة فيغفرُ لهم عند استغفارهمويمنحهم من فضله

75

{مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ} استئناف مَسوقٌ لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه وبيانِ حقيقة حاله عليه السلام وحالِ أمه بالإشارة أولاً إلى أشرفِ ما لهما من نعوت الكمالِ التي بها صارا من زمرة أكمل أفراد الجنس وآخراً إلى الوصف المشترك بينهما وبين جميع أفرادِ البشر بل أفراد الحيوان استنزالهم بطريق التدريج عن رتبة الإصرار على ما تقوّلوا عليهما وإرشاداً لهم إلى التوبة والاستغفار أي هو مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها وقوله تعالى {قد خلت من قبله الرسل} صفة لرسول منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية فإن خلو الرسلِ السالفةِ عليهم السلام منذر بخلوِّه المقتضي لاستحالة ألوهيته أي ما هو إلا رسول كالرسل الخالية من قبله خصه الله تعالى ببعضٍ من الآيات كما خص كلاًّ منهم ببعضٍ آخر منها فإن أحيى الموتى على يده فقد أحيى العصا في يد موسى عليه السلام وجعلت حية تسعى وهو أعجب منه وإن خُلق من غير أبٍ فقد خَلَق آدمَ من غير أب ولا أم وهو أغرب منه وكل ذلك من جنابِه عزَّ وجلَّ وإنما موسى وعيسى مظاهرُ لشئونه وأفعاله {وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ} أي وما أمه أيضا كسائر النساء اللاتي يلازِمْن الصدق أو التصديق ويبالغْن في الاتصاف به فما رتبتهما

المائدة آية 76 77 إلا رتبةُ بشرَيْن أحدُهما نبي والآخر صحابي فمن اين لكم أن تصفوهما بما لا يوصف به سائر الأنبياء وخواصم {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} استئناف مبين لما أشير إليه من كونهما كسائر أفراد البشر في الاحتياج إلى ما يحتاج إليه كُلُّ فردٍ من أفرادِه بل من أفراد الحيوان وقوله تعالى {انظر كَيْفَ نبين لهم الايات} تعجيب من حال الذين يدّعون لهما الربوبية ولا يرعوون عن ذلك بعد ما بيَّن لهم حقيقة حالهما بياناً لا يحوم حوله شائبةُ ريب وكيف معمول لنبينُ والجملة في حين النصب معلقة لا نظر أي انظر كيف نبين لهم الآيات الباهر المناديةَ ببطلان ما تقوّلوا عليهما نداءً يكاد يسمعه صمُّ الجبال {ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ} أي كيفَ يُصرفون عن استماعها والتأمل فيها والكلام فيه كما فيما قبله وتكريرُ الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت أي إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه بالغٌ لأقاصي الغايات القاصيةِ من التحقيق والإيضاح وإعراضُهم عنها مع انتفاء ما يصححه بالمرة وتعاضُدِ ما يوجب قبولَها أعجبُ وأبدع

76

قل أمرٌ له عليه الصَّلاةُ والسلام بالإلزامهم وتبكيتِهم إثْرَ تعجيبه من أحوالهم {أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} أي متجاوزين إياه وتقديمُه عَلى قولِه تعالَى {مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والموصول عبارةٌ عن عيسى عليه السلام وإيثاره على كلمة مَنْ لتحقيق ما هو المراد من كونه بمعزلٍ من الألوهية رأساً ببيان انتظامه عليه السلام في سلك الأشياء التي لا قُدرةَ لها على شيء أصلاً وهو عليه السلام وإن كان يملك ذلك بتمليكه تعالى إياه لكنه لا يملِكه من ذاته ولا يملك مثل ما يُضِرُّ به الله تعالى من البلايا والمصائب وما ينفع به من الصِّحة وتقديم الضرر على النفع لأن التحرز عنه أهمُ من تحرّي النفع ولأن أدنى درجات التأثير دفع الشر ثم جلب الحير وقوله تعالى {والله هُوَ السميع العليم} حال من فاعل أتعبدون مؤكِّد للإنكار والتوبيخ ومقررللإلزام والتبكيت والرابط هو الواو أي تشركون بالله تعالى ما لا يقدرُ على شيءٍ من ضُرِّكم ونفعكم والحال أن الله تعالى هو المختص بالإحاطة التامةِ بجميع المسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائغة والأعمال السيئة وبالقدرة اللباهرة على جميعِ المقدُورات التي من جملتها مَضارُّكم ومنافعُكم في الدنيا والآخرة

77

{قل يا أهل الكتاب} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى فريقي أهل الكتاب بطريق الالتفات على لسان النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بعد إبطال مسلك كل منهما للمبالغة في زجرهم عما سلكوه من المسلك الباطل وإرشادهم إلى الأَمَم المنئاة {لا تغلوا فى دينكم} أي لا تتجاوزا الحد وهو نهي للنصارى عن رفع عيسى عن رتبة الرسالة إلى ما تقوَّلوا في حقه من العظيمة ولليهود عن وضعهم له عليه السَّلامُ عن رتبته العلية إلى ما تقوَّلوا عليه من الكلمة الشنعاء وقيل هو خاص بالنصارى كما في سورة النساء فذكَرَهم بعنوان أهلية الكتاب لتذكير أن

المائدة آية 78 79 الإنجيل أيضاً ينهاهم عن الغلو وقوله تعالى {غَيْرَ الحق} نُصب على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي لا تغلوا فى دينكم غلواً غيرَ الحق أي غلواً باطلاً أو حالٌ من ضميرِ الفاعل أي لا تغلوا مجاوزين الحق أو من دينكم أي لا تغلوا فى دينكم حال كونه باطلاً وقيل نُصب على الاستثناء المتصل وقيل على المنقطع {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} هم أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا من الفريقين أو من النصارى على القولين قبل مبعث النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فير شريعتهم {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً} أي قوماً كثيراً ممن شايعهم في الزيغ والضلال أو إضلالاً كثيراً والمفعولُ محذوف {وَضَلُّواْ} عند بعثةِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وتوضيح محجة الحق وتبين مناهجِ الإسلام {عَن سَوَاء السبيل} حين كذبوه وحسدوه وبغَوْا عليه وقيل الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل والثاني إلى ضلالِهم عما جاء به الشرع

78

{لُعِنَ الذين كَفَرُواْ} أي لعنهم الله عز وجل وبناءُ الفعل للمفعولِ للجَرْي على سَنن الكبرياءِ {مِن بني إسرائيل} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً منَ الموصولِ أو مِنْ فاعل كفروا وقوله تعالى {على لسان داود وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} متعلق بلُعن أي لعنهم الله تعالى في الزبور والإنجيل على لسانهمها وقيل إن أهل أَيْلةَ لما اعتدَوا في السبت دعا عليهم داود عليه السلام وقال اللهم العنهم واجعلهم آيم فمسخهم الله قردة وأصحابُ المائدة لمكا كفروا قال عيسى عليه السلام اللهم عذِّبْ من كفر بعدما أكل من المائدة عذاباً لم تعذِّبْه أحداً من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازيرَ وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي {ذلك} إشارة إلى اللعن المذكور وإيثارُه على الضمير للتنبيه على كمال ظهورِه وامتيازِه عن نظائره وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإيذان بكمال فظاعته وبعد درجته في الشناعة والهول وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى {بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} والجملة مستأنَفةٌ واقعة موقع الجواب عما نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيل بأي سبب وقع ذلك فقيل ذلك اللعنُ الهائل الفظيعُ بسبب عصيانهم واعتدائهم المستمر كما يفيده الجمعُ بينَ صيغتي المَاضِي والمستقبل وينبىء عنه قوله تعالى

79

{كَانُواْ لاَ يتناهون عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} فإنه استئناف مفيد بعبارته لاستمرار عدم التناهي عن المنكر ولا يمكن استمرارُه إلا باستمرار تعاطي المنكرات وليس المراد بالتناهي أن ينْهَى كلُّ واحد منهم الآخَرَ عما يفعله من المنكر كما هو المعنى المشهورُ لصيغة التفاعل بل مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة من غير اعتبارِ أنْ يكون كلُّ واحدٍ منهم ناهياً ومنهياً معاً كما في تراءَوْا الهلالَ وقيل التناهي بمعنى الانتهاء يقال تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع عنه وتركه فالجملة حينئذ مفسرةٌ لما قبلها من المعصية والاعتداء ومفيدة لاستمرارهما صريحاً وعلى الأول مفيدة لاستمرار انتفاء النهي عن المنكر بأن لا يوجد فيما بينهم من يتولاه في وقتٍ من الأوقاتِ ومن ضرورته استمرارُ فعل المنكر حسبما سبق وعلى كل تقدير فما يفيده تنكيرُ المنكر من الوحدة

المائدة آية 80 81 نوعية لا شخصية فلا يقدح وصفه بالفعل الماضي في تعلق انهي به لِما أن متعلَّق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلقُ به النهي والانتهاء من مطلق المنكر باعتبار تحقّقه في ضمن أيِّ فردٍ كان من أفراده على أن المضي المعتبر في الصفة إنما هو بالنسبة إلى زمان النزول لا إلى زمان النهي حتى يلزمَ كونُ النهي بعد الفعل فلا حاجة إلى تقدير المعاودة أو المِثْل أو جعلِ الفعل عبارةً عن الإرادة على أن المعاودة كالنهي لا تتعلق بالمنكر المفعول فلا بد من المصير إلى أحد ما ذُكر من الوجهين أو إلى تقدير المثل أو إلى جعل الفعل عبارة عن إرادته وفي كل ذلك تعسفٌ لا يخفى {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} تقبيح لسوء أعمالهم وتعجيب منه بالتوكيد القسمي كيف لا وقد أداهم إلى ما شُرح من اللعن الكبير وليس في تسبُّبه بذلك دلالةٌ على خروج كفرهم عن السببية مع الإشارةِ إلى سببيته له فيما سبقَ من قولِه تعالى لُعِنَ الذين كَفَرُواْ فإن إجراءُ الحُكم على الموصول مُشعرٌ بعِلِّية ما في حين الصلة له لما أن ما ذكر في حين السببية مشتملٌ على كفرهم أيضاً

80

{ترى كَثِيراً مّنْهُمْ} أي من أهل الكتاب ككعبِ بن الأشرف وأضرابِه حيث خرجوا إلى مشركي مكةَ ليتّفقوا على محاربة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم والرؤيةُ بصريةٌ وقوله تعالى {يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ} حال من كثيراً لكونه موصوفاً أي يوالون المشركين بُغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وقيل مِنْ منافقي أهل الكتاب يتولَّوْن اليهود وهو قولُ ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا ومجاهدٌ والحسن وقيل يوالون المشركين ويُصافوُنهم {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} لبئس شيئاً قدّموا ليَرِدوا عليه يوم القيامة {أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ} هو المخصوصُ بالذم على حذف المضاد وإقامةِ المضافِ إليهِ مُقامَهُ تنبيهاً على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد ومبالغةً في الذم أي موجبُ سُخطِه تعالى ومحله الرفع على الابتداء والجملة قبله خبرُه والرابط عند من يشترطه هو العموم أو لا حاجة إليه لأن الجملةَ عينُ المبتدأ أو على أنَّه خبرٌ لمبتدأ محذوف ينبىء عنه الجملة المتقدمة كأنَّه قيلَ ما هُو أو أيُّ شيء هو فقيل هو أنْ سخِط الله عليهم وقيل المخصوصُ بالذم محذوف وما اسم تامٌّ معرفةٌ في محل رفع الفاعلية لفعل الذم وقدمت لهم أنفسهم جملة في محلِ الرفعِ على أنها صفة للمخصوصِ بالذم قائمةٌ مَقامه والتقدير لبئس الشيءُ شيءٌ قدّمتْه لهم أنفسُهم فقوله تعالى أَن سَخِطَ الل عَلَيْهِمْ بدلٌ من شيء المحذوفِ وهذا مذهب سيبويه {وَفِى العذاب} أي عذابَ جهنَم {هُمْ خالدون} أبد الآبدين

81

{وَلَوْ كَانُواْ} أي الذين يتولون المشركين من أهل الكتاب {يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ} أي نبيهم {وَمَا أُنْزِلَ إليه} من الكتاب أولو كان المنافقون يؤمنون بالله ونبينا إيماناً صحيحاً {مَا اتخذوهم} أي المشركين أو اليهود {أَوْلِيَاء} فإن الإيمان بما ذُكر وازعٌ عن تولِّيهم قطعاً {ولكن كَثِيراً مّنْهُمْ فاسقون} خارجونَ عن الدين والإيمان بالله ونبيهم وكتابهم أو متمرِّدون في النفاق مفرطون فيه

المائدة آية 82

82

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً للذين آمنوا اليهود والذين أَشْرَكُواْ} جملةٌ مستأنَفة مَسوقة لتقرير ما قبلها من قبائح اليهود وعَراقتهم في الكفر وسائرِ أحوالهم الشنيعة التي من جملتها موالاتُهم للمشركين أُكِّدت بالتوكيد القسَميّ اعتناءً ببيان تحققِ مضمونها والخطابُ إمَّا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد صالح له إيذاناً بأن حالهم مما لا يخفى على أحد من الناس والوُجدانُ متعدَ إلى اثنين أحدُهما أشدُّ الناس والثاني اليهودُ وما عُطف عليه وقيلَ بالعكس لأنهما في الأصل مبتدأٌ وخبرٌ مصب الفائدةِ هُوَ الخبرُ لا المبتدأ ولا ضيرَ في التقديم والتأخير إذا دل على الترتيب دليل وهههنا دليل واضح عليه وهو أن المقصودَ بيانُ كون الطائفتين أشدَّ الناس عداوة للمؤمنين لا كونِ أشدِّهم عداوةً لهم الطائفتين المذكورتين وأنت خبير بأنه بمعزلٍ من الدلالةِ على ذلك كيف لا والإفادة في الصورة الثانية أتمّ وأكملُ مع خلوها عن تعسُّف التقديم والتأخير غذ المعنى أنك إن قصدتَ أن تعرِفَ من أشدُّ الناس عداوةً للمؤمنين وتتبعْتَ أحوالَ الطوائف طُراً وأحطتَ بما لديهم خُبْراً وبالغْتَ في تعرُّف أحوالهم الظاهرةِ والباطنة وسعَيْتَ في تطلُّب ما عندهم من الأمور البارزة والكامنة لتجدن الأشدَّ تَيْنِك الطائفتين لا غيرُ فتأملْ واللام الداخلة على الموصول متعلقةٌ بعداوةً مقويةٌ لعملها ولا يضرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء مبنية عليها كما في قولِه ورهبةً عقابَك وقيل متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لعداوة أي كائنةً للذين آمنوا وصفهم الله تعالى بذلك لشدة شكيمتهم وتضاعُف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق وتمرُّنهم على التمرّد والاستعصاء على الأنبياء والاجتراء على تكذيبهم ومُناصَبَتِهم وفي تقديم اليهود على المشركين بعد لَزِّهما في قَرنٍ واحد إشعارٌ بتقدمهم عليهم في العداوة كما أن تقديمهم عليهم في قوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ إيذاناً بتقدُّمهم عليهم في الحرص {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مودة للذين آمنوا} أعيد الموصولُ مع صلته رَوْماً لزيادة التوضيح والبيان {الذين قالوا إنا نصارى} عبر عنهم بذلك إشعار بقرب مودتهم حيث يدّعون أنهم أنصار الله وأوداء أهل الحق وإن لم يظهروا اعتقدا حقية الإسلام وعلى هذه النكتنى مبنى الوجه الثاني في تفسيرِ قولِه تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم والكلام في مفعولي لتجدن وتعلق اللام كالذي سبق والعجول عن جعْل ما فيه التفاوتُ بين الفريقين شيئاً واحداً قد تفاوتا فيه بالشدة والضعف أو بالقرب والبعد بأن يقال آخِراً ولتجدن أضعفَهم عداوة الخ أو بأن يقال أو لا لتجدن أبعد الناس مودة الخ للإيذان بكمال تبايُن ما بينَ الفريقينِ من التفاوتِ ببيان أن أحدَهما في أقصى مراتبِ أحدِ النقيضين والآخَرَ في أقربِ مراتب النقيض الآخر {ذلك} أي كونهم أقربَ مودةً للمؤمنين {بأن منهم} بسبب أن منهم {قِسّيسِينَ} وهم علماءُ النصارى وعبّادهم ورؤساؤهم والقِسّيسُ صيغةُ مبالغةٍ من تقَسَّسَ الشيءَ إذا تتبَّعه وطلبه بالليل سُموا به لمبالغتهم في تتبع العلم قاله الراغب وقيل القَسُّ بفتح القاف تتبُّعُ الشيء ومنه سمي عالم النصارى قسيساً لتتبعه العلم وقيل قصَّ الأثرَ وقسه بمعنى وقيل

المائدة 83 84 إنه أعجمي وقال قُطرُبُ القِسّ والقِسّيسُ العالم بلغة الروم وقيل ضيَّعت النصارى الإنجيلَ وما فيه وبقي منهم رجل يقال له قسيسا لم يبدِّلْ دينه فمن راعى هديه ودينه قيل له قسيس {وَرُهْبَاناً} وهو جمه راهب كراكب ورُكبان وفارس وفُرسان وقيل إنه يطلق على الواحد وعلى الجمع وأُنشِدَ فيه قولُ من قول لو عايَنَتْ رُهبانَ ديْرٍ في قُلَل لأقبل الرهبانُ يعدو ونزَلْ والترهب التعبد في الصومعة قال الراغب الرهبانية الغلوُّ في تحمل التعبد من فرط الخوف والتنكير لإفادة الكثرة ولا بد من اعتبارها في القسيسين أيضاً إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين فإن اتصاف أفرادٍ كثيرة لجنسٍ بخصلةٍ مظِنةٌ لاتصاف الجنس بها وإلا فمن السهود أيضاً قوم مهتدون ألا يُرى إلى عبدُ اللَّه بنُ سَلاَم وأضرا به قال تعالى مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيات الله آناء الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ الخ لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعدَّ حكمُهم إلى جنس اليهود {وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عطف على أن منهم أي وبأنهم لا يستكبرون عن قبول الحق إذا فهموا ويتواضعون ولا يتكبرون كاليهود وهذه الخَصلةُ شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيّتُها لأقربيّتهم مودةً للمؤمنين واضحة وفيه دليلٌ على أنَّ التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودٌ وإن كان ذلك من كافر

83

{وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول} عطف على لا يستكبرون أي ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون وأن أعينَهم تفيض من الدمع عند سماع الرقآن وهو بيانٌ لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتِهم إلى قبول الحق وعدم إبائهم إياه {تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} أي تمتلىء بالدمع فاستُعير له الفيضُ الذي هو الانصبابُ عن امتلاءٍ مبالغةً أو جُعلت أعينُهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} من الأُولى لابتداء الغايةِ والثانية تبعيضية لأن ما عرفوه بعضُ الحق وحيث أبكاهم ذلك فما ظنك بهم لو عرفوا كله وقرءوا القرآن وأحاطوا بالسنة وقرىء تُرى أعينُهم على صيغة المبني للمفعول {يقولون} استئن مبني على سؤال نشأ من حكاية حالهم عند سماع القرآن كأنه قيل ماذا يقولون فقيل يقولون {ربنا آمنا} بهذا أو بمن أنزل هذا عليه أو بهما وقيلَ حالٌ من الضميرِ في عرفوا أو منَ الضميرِ المجرورِ في أعينهم لما أن المضاف جزؤه كما في قوله تعالى وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} أي الذين شهدوا بأنه حق أو بنبوته أو مع أمته الذين هم شهداءُ على الأممِ يومَ القيامةِ وإنما قالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك

84

{وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَاءنَا مِنَ الحق} كلام مستأنَفٌ قالوه تحقيقاً لإيمانهم وتقريراً له بإنكار سبب انتفائه ونفيِه بالكلية على أنَّ قولَه تعالى لاَ نُؤْمِنُ حال من الضمير في لنا والعاملُ ما فيه من الاستقرارِ أيْ أيُّ شيءٍ حصل لنا

المائدة آية 85 87 غيرَ مؤمنينَ على توجيه الإنكارِ والنَّفي إلى السببِ والمسبَّب جميعاً كَما في قوله تعالى ومالي لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى ونظائرِه لا إلى السببِ فقط مع تحقق المسبب كما في قوله تعالى فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وأمثاله فإنَّ همزةَ الاستفهامِ كَما تكونُ تارةً لإنكارِ الواقعِ كَما في أتضرِبُ أباكَ وأخرة لإنكار الوقوعِ كما في أأضربُ أبي كذلكَ ما الاستفهاميةُ قد تكونُ لإنكارِ سببِ الواقعِ ونفْيِه فقطْ كما في الآية الثانية وقولُه تعالى مَّا لَكُمْ لاَ تجون لِلَّهِ وَقَاراً فيكونُ مضمونُ الجملةِ الحاليةِ محُققاً فإنَّ كلاً من عدمِ الإيمانِ وعدمِ الرَّجاءِ أمرٌ محققٌ قد أنكر ونفي سببه وقد يكون الإنكارُ سببَ الوقوعِ ونفيَه فيسريانِ إلى المسببِ أيضاً كَما في الآية الأولى فيكونُ مضمونُ الجملةِ الحاليةِ مفروضاً قطعاً فإنَّ عدمَ العبادةِ أمرٌ مفروضٌ حتماً وقوله تعالى {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين} حال أخرى من الضمير المذكور بتقدير مبتدأ والعامل فيها هو العامل في الأولى مقيداً بها أيْ أيُّ شيءٍ حصلَ لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في صحبة الصالحين أو من الضميرِ في لا نؤمن على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم مع أنهم يطمعون في صحبة المؤمنين وقيل معطوف على نؤمن على معنى وما لنا نجمع بين ترك الإيمان وبين الطمع المذكور

85

{فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} أي عن اعتقاد من قولك هذا قول فلان أن مُعتقدُه وقرىء فآتاهم الله {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا وذلك جَزَاء المحسنين} أي الذينَ أحسنوا النظر والعمل أو الذين اعتادوا الإحسان في الأمور والآيات الأربع رُوي أنَّها نزلتْ في النجاشي وأصحابه بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه فقرأه ثم دعا جعفرَ بنِ أبي طالبٍ والمهاجرين معه وأحضر القسيسين والرهبان فأمر جعفر أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم فبكوا وآمنوا بالقرآن وقيل نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلاً من قومه وفدوا على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم فقرأ عليهم سورة مريم فبكَوا وآمنوا

86

{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} عطَفَ التكذيب بآيات الله على الكفر مع أنه ضربٌ منه لِما أن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكَرهم بمقابلة المصدِّقين بها جمعاً بين الترغيب والترهيب

87

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} أي ما طاب ولذ منه كأنه لمّا تضمّن ما سلف من مدح النصارى على الترهيب ترغيب المؤمنين في كسر النفس ورفض الشهوات عقّب ذلك بالنهي عن الإفراط في الباب أي لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغةً منكم في العزم على تركها تزهداً منكم وتقشفاً ورويَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وصف القيامة لأصحابه يوماً فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار فرقّوا واجتمعوا في بيت

المائدة آية 88 89 عثمانَ بنِ مظعونٍ واتفقوا على أن لا يزالوا صائمين وأن لا يناموا على الفُرش ولا يأكلوا اللحم والودَك ولا يقرَبوا النساء والطيِّب ويرفضوا الدنيا ويلْبَسوا المُسوح ويَسيحُوا في الأرض ويجبوا مناكيرهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقو وأنام وأصوم وأُفطر وآكلُ اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغِب عن سنتي فليس مني فنزلت {وَلاَ تعتدوا} أي ولا تتعدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم أو ولا تسرفوا في تناول الطيبات أو جَعَلَ تحريمَ الطيبات اعتداءً وظلماً فنهى عن مطلق الاعتداء ليدخُل تحته النهيُ عن تحريمها دخولاً أولياً لوروده عَقيبه أو أريدَ ولا تعتدوا بذلك {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} تعليل لما قبله

88

{وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيّباً} أي ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله فحلالاً مفعول كلوا ووما رزقكم إما حال منه تقدمتْ عليه لكونِه نكرةً أو متعلق بكلوا ومِنْ ابتدائية أو هو المفعول وحلالاً حالٌ منَ الموصولِ أو مِنْ عائدِه المحذوف أو صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي أكلاً حلالاً وعلى الوجوه كلها لو لم يقع الرزظق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة زائدة {واتقوا الله الذى أَنتُم به مؤمنون} توطكيد للوصية بما أَمَر به فإن الإيمانَ بهِ تعالى يوجب المبالغة في التقوى والانتهاء عما نهى عنه

89

{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم} اللغو في اليمين الساقطُ الذي لا يتعلق به حُكم وهو عندنا أن يحلِف على شيء يظن أنه كذلك وليس كما يظن وهو قول مجاهد قيل كانوا حلفوا على تحريم الطيبات على ظنِّ أنه قُربة فلما نزل النهي قالوا كيف بأيماننا فنزلت وند الشافعي رحمه اللله تعالوا ما يبدوا من المرء من غير قصد كقوله لا والله وبلى والله وهو قول عائشةَ رضيَ الله تعالى عنها وفي أيمانكم صلةُ يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر أو حال منه {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايمان} أي بتعقيدكم اليمان وتوثيقها عليه بالقصد والنية والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقّدتموه إذا حنِثتم أو بنَكْثِ ما عقّدتم فحُذِف للعلم به وقرىء بالتخفيف وقرىء عاقدتم بمعنى عقدتم {فَكَفَّارَتُهُ} أي فكفارةُ نكْثِه وهي الفعلة التي من شأنِها أنْ تكفّرَ الخطيئة وتسترها واستدل بظاهره على جواز التكفير قبل الحِنْث وعندنا لا يجوز ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين ورأى غيرَها خيراً فليأتِ الذي هو خيرٌ ثم لْيُكفِّرْ عن يمينه {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي من أقصَدِه في النوع أو المقدار وهو نصفُ صاعٍ منْ بُر لكلِّ مسكين ومحلُّه النصبُ لأنه صفةُ مفعول

المائدة آية 90 محذوف تقديرُه أن تُطعموا عشرة مساكينَ طعاماً كائناً من أوسط ما تطعمون أو الرفعُ عَلى أنَّه بدل منإطعام وأهلون جمعُ أهلٍ كأَرَضون جمع أرض جمع أرض وقرىء أهاليكم بسكون الياء على لغة من يسكنها في الحالات الثلاث كالألف وهذا أيضاً جمع أهلٍ كالأراضي في جمع أرض والليالي في جمع ليل وقيل جمع أهلاة {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} عطف على إطعامُ أو على محلَّ من أوسط على تقدير كونِه بدلاً من إطعام وهو ثوب يغطي العورة وقيل ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار وقُرىء بضمِّ الكافِ وهي لغة كقدرة في قُدوة وإسوة في أُسوة وقرىء أو كأُسوتهم على أن الكافُ في محل الرفعِ تقديره أو إطعامهم كأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم غسرافا وتقتيراً تواسون بينهم وبينهم إن لم تُطعموهم الأوسط {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي أو إعتاقُ إنسان كيفما كان وشرط الشافعي رضي الله تعالى عنه فيه الإيمان قياساً على كفارة القتل ومعنى أو غيجاب إحدى الخصال مطلقاً وخيارُ التعيين للمكلف {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أيْ شيئاً من الأمور المذكورة {فَصِيَامُ} أي فكفارتُه صيام {ثلاثة أَيَّامٍ} والتتابع شرط عندنا لقراءة ثلاثة أيام متتابعات والشافعي رضي الله عنه لا يرى الشواذ حجة {ذلك} أي الذي ذُكرَ {كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ} أي وحنِثْتم {واحفظوا أيمانكم} بأن تضِنوا بها ولا تبذُلوها كما يُشعر بهِ قولُه تعالى إِذَا حَلَفْتُمْ وقيل بأن تَبَرّوا فيها ما استطعتم ولم يفُتْ بها خير أو بأن تكفروها إذا حنِثتم وقيل احفظوها كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاوناً بها {كذلك} غشارة لي مصدر الفعل الآتي لا إلى تبيينٍ آخَرَ مفهومٍ مما سبق والكاف مقحمةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحله في الأصلِ النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصل التقدير يبين الله تبييناً كائناً مثلَ ذلك التبيين فقُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً للنكتة المذكورة فصل نفسَ المصدر لا نعتاً له وقد مر تفصيله في قوله تعالى وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا أي ذلك البيان البديع {يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} أعلام شريعته وأحكامه لا بياناً أدنى منه وتقديم لكم على المفعول لما مر مراراً {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج

90

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والانصاب} أي الأصنامُ المنصوبةُ للعبادة {والازلام} سلف تفسيرها في أوائل السورةِ الكريمة {رِجْسٌ} قذر تعاف عنه العقول وإفراده لأنه خبرُ الخمر وخبرُ المعطوفات محذوفٌ ثقةً بالمذكور أو المضاف محذة وف أي شأن الخمر والميسر إلخ {رجس مِنْ عَمَلِ الشيطان} في محلِ الرفعِ على أنه صفةُ رجس أي كائن من عمله لأنه مسبَّبٌ من تسويله وتزيينه {فاجتنبوه} الرجس أو ما ذكر {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي راجين فلاحكم وقيل لكي تفلحوا بالاجتناب عنه وقد مرَّ تحقيقُه في تفسير قولِه تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ولقد أُكِّد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية الكريمة بفنون التأكيد حيث صُدِّرت الجملة بإنما وقُرِنا بالأصنام والأزلام وسُمِّيا رجساً من عمل الشيطان تنبيهاً على أن تعاطيهما شرٌّ بحْتٌ وأَمَر بالاجتناب عن عينهما وجعل ذلك

المائدة آية 91 93 سببا يرجى منه الفلاح فيكون ارتكابهما خَيبة ومَحْقة ثم قرر ذلك بيان ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية للتحريم فقيل

91

{إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِى الخمر والميسر} وهو إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة} إشارة إلى مفاسدهما الدينية وتخصيصُهما بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال للتنبيه على أن المقصود بيانُ حالهما وذكرُ الأصنام والأزلام للدلالة على أنهما مثلُهما في الحرمة والشرارة لقوله صلى الله عليه وسلم شارب الخمر كعابد الوثن وتخصيصُ الصلاة بالإفراد مع دخولها في الذكر للتعظيم والإشعار بأن الصادَّ عنها كالصادِّ عن الإيمان لما أنها عِمادُه ثم أعيد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتَّباً على ما تقدم من أصناف الصوارف فقيل {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} أيذاناً بأن الأمر في الزجر والتحذير وكشفِ ما فيهما من المفاسد والشرور قد بلغ الغاية وأن الأعذارَ قد انقطعت بالكلية

92

{وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} عطف على اجتنبوه أي أطيعوهما في جميع ما أمرا به ونهيا عنه {واحذروا} أي مخالفتَهما في ذلك فيدخل فيه مخالفةُ أمرِهما ونهْيِهما في الخمر والميسر دخولاً أولياً {فَإِن توليتم} أي أعرضتم عن الامتثال بما أُمرتم به من الاجتناب عن الخمر والميسر وعن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والاحترازِ عن مخالفتهما {فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} وقد فعل ذلك بكما لا مزيد عليه وخرج عن عُهدة الرسالة أيَّ خروج وقامت عليكم الحجة وانتهت الأعذار وانقطعت العلل وما بقي بعذ ذلك إلا العقاب وفيه من عظم التهديد وشدة الوعيد ما لا يخفى وأما ما قيل من أن المعنى فاعلموا أنكم لم تضُروا بتولِّيكم الرسولَ لأنه ما كُلّف إلا البلاغَ المبينَ بالآيات وقد فعل وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كُلِّفتموه فلا يساعده المقام إذ لا يُتوهم منهم ادعاءُ أنهم بتوليهم يضرونه صلى الله عليه وسلم حتى يردَ عليهم بأنهم لا يضرونه وإنما يضرون أنفسهم

93

{ليس على الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} أي إثم وحرج {فِيمَا طَعِمُواْ} أي تناولوا أكلاً أو شرباً فإن استعماله في الشرب أيضاً مستفيضٌ منه قوله تعالى ومن لم يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى قيل لما أنزل الله تعالى تحريم الخمر بعد غزوة الأحزاب قال رجال من أصحابِ النبيِّ عليهِ الصلاةَ والسلام أصيب فلان يوم بدر وفلان يوم أحد وهو يشربونها ونحن نشهد أنهم في الجنة وفي رواية أخرى لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهو يشربون الخمر ويأكلون الميسر وفي

المائدة رواية أخرى قال أبُو بكرٍ رضيَ الله تعالى عنه يا رسولَ الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار فنزلت وليست كلمة ما في طعموا عبارةً عن المباحات خاصة وإلا لزم تقييد غباحتها باتقاء ما عداها من المحرمات لقوله تعالى {إِذَا مَا اتقوا} واللازمُ منْتفٍ بالضرورة بل هي عبارة على عمومها موصولوة كانت أو موصوفة وإنما تخصصت بذلك القيد الطارىء عليها والمعنى ليس عليهم جُناحٌ فيما تناولوه من المأكول والمشروب كائناً ما كان إذا اتقَوْا أنْ يكونَ في ذلكَ شيء من المحرمات وإلا لم يكن نفْيُ الجُناح في كل ما طعموه بل في بعضه ولا محذورَ فيه إذِ اللازمُ منه تقييد غباحة الكل بأن لا يكون فيه محرم لا تقيد إباحة بعضه باتقاء بعضٍ آخرَ منه كما هو اللازمُ من الأول {وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} أي واستمروا على الإيمان والأعمال الصالحة وقوله تعالى {ثُمَّ اتَّقَواْ} عطف على اتقوا داخلٌ معه في حيِّز الشرط أي اتقوا ما حُرّم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحاً فيما سبق {وآمنوا} أي بتحريمه وتقديم الاتقاء عليه إما للاعتناء به أو لأنه الذي يدل على التحريم الحادث الذي هو المؤمن به واستمروا على الإيمان {ثُمَّ اتَّقَواْ} أي ما حرم عليهم بعد ذلك مما كان مباحاً من قبل على أن المشروط بالاتقاء في كل مرة غباحة كل ما طعِموه في ذلك الوقت لا إباحةُ كل ما طعموه قبله لانتساخ إباحةِ بعضِه حينئذ {وَأَحْسِنُواْ} أي عملوا الأعمالَ الحسنةَ الجميلة المنظمة لجميع ما ذكر من الأعمال القلبية والقالبية وليس تخصيص هذه المرات بالذكر لتخصيص الحكم بها بل لبيان التعدد والتكرر بالغاً ما بلغ والمعنى أنهم إذا اتقوا المحرمات واستمروا على ما هم عليه من الإيمان والأعمالِ الصالحةِ وكانوا في طاعة الله ومراعاةِ أوامرِه ونواهيه بحيث كلما حرِّم عليهم شيء من المباحات اتقَوْه ثم وثم فلا جناح عليهم فيما طعموه في كل مرة من المطاعم والمشارب إذ ليس فيها شيء محرم عند طُعْمِه وأنت خبير بأن ما عدا اتنقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة لا دخْلَ لها في انتفاء الجُناح وإنما ذكرت في حين إذا شهادةً باتصاف الذين سُئل عن حالهم بها ومدحاً لهم بذلك وحمداً لأحوالهم وقد أُشير إلى ذلك حيث جُعلت تلك الصفاتُ تبعاً للاتقاء في كل مرةٍ تمييزاً بينها وبين ما له دخل في الحكم فإن مَساقَ النظمُ الكريم بطريق العبارة وإن كان لبيان حال المصنفين بما ذُكِرَ من النعوتِ فيما سيأتي بقضية كلمة إذا ما لكنه قد أُخرج مُخْرَجَ الجواب عن حال الماضين لأثبات الحكم في حقهم في ضمن التشريع الكلي على الوجه البرهانيّ بطريق دلالة النص بناءً على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها فكأنه قيل ليس عليهم جمناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعنه تعالى مع ما لَهُم منَ الصفات الحميدة بحيث كلما أمِروا بشيء تلقَّوْه بالامتثال وإنما كانوا يتعاطَوْن الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمها إذا ذاك ولو حُرما في عصرهم لاتقوهما بالمرة هذا وقد قيل التكريرُ باعتبار الأوقات الثلاثة أو باعتبار الحالات الثلاث استعمالِ الإنسان التقوى بينه وبين نفسه وبينه وبين الناس وبين الله عز وجل ولذلك جيءَ بالإحسان في الكرة الثالثة بدلَ الإيمان إشارة إلى ما قله عليه الصلاة والسلام في تفسيره أو باعتبار المراتب الثلاث المبدأ والوسط والمنتهى أو باعتبار ما يُتَّقى فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقياً من العقاب والشبُهاتِ توقياً من الوقوع في الحرام وبعضَ المباحات حفظاً للنفس عن الخِسة وتهذيباً لها عن دنَس الطبيعة وقيل التكريرُ لمجرد التأكيد كما في قوله تعالى كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ونظائرِه وقيل المرادُ بالأول اتقاءُ الكفر وبالثاني

المائدة آية 94 اتقاءُ الكبائر وبالثالث اتقاءُ الصغائر ولا ريب في أنه لا تعلُّقَ لهذه الاعتبارات بالمَقام فأَحسِنِ التأمل {والله يُحِبُّ المحسنين} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله أبلغَ تقرير

94

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ والله ليُعامِلَّنكم معاملة من يختبركم لبتعرف أحوالَكم {بِشَىْء مّنَ الصيد} أي من صيدِ البَرّ مأكولا أو غير مأكول ما عجا المستثنياتِ من الفواسق فاللام للعَهْد نزلت عام الحُدَيْبية ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم مُحرِمون كانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث كانوا متمكنين من صيدِها أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم وذلك قوله تعالى {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ورماحكم} فهمُّوا بأخذها فنزلت ورُوي أنه عَنَّ لهم حمارُ وحشٍ فحمل عليه أبو اليَسَر بنُ عمرو فطعنه برمحه وقتله فقيل له قتلته وأنت مُحرم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن ذلك فأنزل الله تعالى الآية فالتأكيد القَسَميُّ في ليبلونكم إنما هو لتحقيق أن ما وقع من عدم توحُّش الصيد عنهم ليس إلا لابتلائهم لا لتحقيق وقوعِ المبتلى به كما لو كان النزول قبل الابتلاء وتنكير شيء للتحقير المُؤْذِن بأنَّ ذلك ليس من الفِتن الهائلة التي تزِلُّ فيها أقدامُ الراسخين كالابتلاء بقتل الأنفس وإتلافِ الأموال وإنما هو من قبيل ما باتلي به أهلُ أَيْلَةَ من صيد البحر وفائدتُه التنبيهُ على أن من لم يتثبت في مثل هذا كيف يتثبت عند شدائد المحن فمن في قوله تعالى من الصيد بيانية قطعاً أي بشيء حقير هو الصيد وجعلُها تبعيضيةً يقتضي اعتبارَ قِلَّته وحقارته بالنسبة إلى كل الصيد لا بالنسبة إلى عظائم البلايا فيَعْرَى الكلامُ عن التنبيه المذكور {لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب} أي ليتميز الخائفُ من عقابه الأخروي وهو غائبٌ مترقبٌ لقوة إيمانه فلا يتعرض للصيد ممن لا يخافه كذلك لضعف إيمانه فيُقدم عليه وإنما عبر عنْ ذلك بعلم الله تعالى اللازم له إيذاناً بمدار الجزاءِ ثواباً وعقاباً فإنه أدْخَلُ في حملهم على الخوف وقيل المعنى ليتعلق علمه تعالى يمن يخافه بالفعل فإن علمه تعالى بأنه سيخافه وإن كان متعلقاً به قبل خوفه لكنّ تعلُّقَه بأنه خائف بالفعل وهو الذي يدور عليه أمرُ الجزاء إنما يكون عند تحقق الخوف بالفعل وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ والتقدير ليعلم أولياءَ الله وقرىء ليُعلِمَ من الإعلام على حذف المفعول الأول أي ليُعْلِمَ الله عباده الخ والعلمُ على القراءتين متعدَ إلى واحد وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك} أي بعد بيانِ أن ما وقع ابتلاءٌ منْ جهتِه تعالَى لِما ذُكر من الحِكمة لا بعد تحريمِه أو النهي عنه كما قاله بعضهم إذ النهي والتحريم ليس أمراً حادثاً يترتب عليه الشرطية بالفاء ولا بعد الابتلاء كما اختاره آخرون لأن نفس الابتلاء لا يصلح مداراً لتشديد العذاب بل ربما يتوهم كونُه عذراً مسوِّغاً لتخفيفه وإنما الموجب للتشديد بيانُ كونه ابتلاءً لأن الاعتداء بعد ذلك مكابرةٌ صريحة وعدمُ مبالاةٍ بتدبير الله تعالى وخروجٌ عن طاعته وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية أي فمن تعرض للصيد بعد ما بينا أن ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحُّشه منهم ابتلاءٌ مؤدَ إلى تمييز المطيع من العاصي {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

لما ذكر من أنه مكابرة محضة ولأن من لا يملك زمام نفسه ولا يراعي حكم الله تعالى في أمثال هذه البلايا الهيِّنة لا يكاد يُراعيه في عظائم المداحض والمراد بالعذاب الأليم عذاب الدارين قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يُوسَعُ ظهرُه وبطنه جَلداً وينزع ثيابه

95

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} شروعٌ في بيان ما يتدارك به الاعتداءُ من الأحكام إثر بيانِ ما يلحقه من العذاب والتصريح بالنهي في قوله تعالى {لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} مع كونه معلوماً لا سيما من قوله تعالى غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبُه عليه واللام في الصيد للعهد حسبما سلف وحُرُم جمع حَرام وهو المُحرم وإن كان في الحِل وفي حكمه من في الحَرَم وإن كان حَلالاً كرُدُح جمع رداح والجملة حالٌ من فاعل لا تقتلوا أي لا تقتلوه وأنتم محرمون {وَمَن قَتَلَهُ} أي الصيد المعهود وذِكرُ القتل في الموضعين دون الذبح اللذان بكونه في حكمه الميتة {منكم} متعلق بمحذوفوقع حالاً من فاعل قتله أي كائناً منكم {مُّتَعَمّداً} حال منه أيضا ذاكراً لإحرامه عالماً بحُرمة قتل ما يقتله والتقييدُ بالتعمّد مع أن محظوراتِ الإحرام يستوي فيها العمْدُ والخطأ لِما أنَّ الآيةَ نزلتْ في المتعمِّد كما مرَّ من قصة أبي اليَسَر ولأن الأصل فعلُ المتعمّد والخطأ لاحقٌ به للتغليظ وعن الزُهري نزل الكتاب بالعمد وورد السنة بالخطأ وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه لا أرى في الخطأ شيئاً أخذاً باشتراط التعمّد في الآية وهو قول داودَ عن مجاهد والحسن أن المراد بالتعمد هو تعمدُ القتل مع نسيان الإحرام أما إذا قتله عمدا وهو ذاكر لإحرامه فلا حكم عليه وأمره إلى الله عزَّ وجلَّ لأنه أعظمُ من أن يكون له كفارة {فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ} برفعهما أي فعليه جزاءٌ مماثلٌ لما قتله وقرىء برفع الأول ونصب الثاني على إعمال المصدر وقرىء بجرِّ الثاني على إضافته إلى مفعوله وقرىء فجزاؤه مثلُ ما قتل على الابتدجاء واخبرية وقرىء بنصبهما على تقدير فليجْزِ جزاءً أو فعليه أن يجزى جزاءً مثلَ ما قتل والمرادُ به عند أبي حنيفة وأي يوسف رضي الله عنهما المثل باعتبار القيمة يوم الصيد حيث صِيدَ أو في أقرب الأماكن إليه فإن بلغَت قيمتُه قيمةَ هدْيٍ يُخير الجاني بين أن يشتري بها ما قيمته قيمةَ الصيد فيُهدِيَه إلى الحرم وبين أن يشتريَ بها طعاماً فيُعطيَ كل مسكينٍ نصفُ صاعٍ منْ بر أو صاعامن غيره وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما فإن فضل مالا يبلغُ طعامَ مسكين تصدّق به أو صام عنه يوماً كاملاً إذ لم يُعهد في الشرع صومُ ما دونه فيكون قوله تعالى {مِنَ النعم} بياناً للهدْي المشترى بالقيمة على أحد وجوه اتخيير فإنَّ من فعل ذلك يصدق علبيه أنه جزىء بمثل ما قتل من النعم وعند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى ومن يرى رأيهما هو المِثْلُ باعتبار الخِلْقة والهيئة لأن الله تعالى أوجب مثلَ المقتول مقيداً بالنعم فمن اعتبر

المائدة آية 95 المِثْل بالقيمة فقد خالف النص وعن الصحابةِ رضيَ الله عنُهم أنهم أوجبوا في النَّعامة بدنةً وفي الظبْيِ شاةً وفي حمار الوَحش بقرَةً وفي الأرنب عَناقاً وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه قال الضبُع صيدٌ وفيه شاةٌ إذا قتله محرم ولنا أن النصَّ أوجبَ المثْل والمِثْلُ المطلق في الكتاب والسنة وإجماعِ الأمة والمعقولِ يُراد به إما المثلُ صورةً ومعنى وإما المثلُ صورةً بلا معنى فلا اعتبارَ له في الشرع أصلاً وإذا لم يمكن إرادةُ الأول إجماعاً تعيّنت إرادةُ الثاني لكونه معهودا في الشرح كما في حقوق العباد ألا يرى أن المماثلة بين أفراد نوعٍ واحد مع كونها في غاية القوة والظهور لم يعتبْرها الشرع ولم يجعل الحيوانَ عند الإتلاف مضموناً بفردٍ آخَرَ من نوعه مماثلٍ له في عامة الأوصاف بل مضموناً بقيمتِه مع أن المنصوص عليه في أمثاله إنما هو المثل قال تعالى فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ فحيث لم تُعتبرْ تلك المماثلةُ القويةُ مع تيسُّر معرفتها وسهولة مراعاتها فلئلا تُعتبرُ ما بين أفراد أنواع مختلفةٍ من المماثلة الضعيفة الخفيةِ مع صعوبة مأخذِها وتعسُّرِ المحافظة عليها أولى وأحرى ولأن القيمة قد أريدت فيما لا نظيرَ له إجماعاً فلم يبق غيرُه مراداً إذْ لا عمومَ للمشترَك في مواقع الإثبات والمراد بالمرويِّ إيجابُ النظير باعتبار القيمة لا باعتنبار العيب ثم الموجبُ الأصليُّ للجناية والجزاءِ المماثلِ للمقتول إنما هو قيمتُه لكن لا باعتبار أن يعنمد الجاني إليها فيصرِفَها إلى المصارف ابتداءً بل باعتبار أن يجعلَها معياراً فيقدِّرَ بها إحدى الخصال الثلاث فيُقِيمَها مُقامها فقوله تعالى مّثْلُ مَا قَتَلَ وصفٌ لازم للجزاء غيرُ مفارِقٍ عنه بحال وأما قوله تعالى مِنَ النعم فوصفٌ له معتبرٌ في ثاني الحال بناءً على وصفه الأول والذي هو المعيارُ له ولِما بعده من الطعام والصيام فحقُّهما أن يُعطفا على الوصف المفارِق لا على الوصف اللازم فضلاً عن العطف على الموصوف كما سيأتي بإذن الله تعالى ومما يرشدك إلى أن المراد بالمثل هو القيمة قوله عز وجل {يَحْكُمُ بِهِ} أي بمثل ما قتل {ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} أي حكَمان عادلان من المسلمين لكنْ لا لأن التقويمَ هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد من العُدول دون الأشياء المشاهدةَ التي يستوي في معرفتها كلُّ أحد من الناس فإن ذلك ناشىء من الغفلةِ عما أرادوا بما به المماثلة بل لأن ما جعلوه مدار المماثلة بين الصيد وبين النَّعم من ضربِ مشاكَلةٍ ومضاهاة في بعض الأوصاف والهيئات مع تحقق التبايُن بينهما في بقية الأحوال مما لا يَهتدي إليه من أساطينِ أئمة االاجتهاد وصناديدِ أهل الهداية والإرشاد إلا المؤيدون بالقوة القدسية ألا يُرى أن الإمام الشافعي رضي الله عنه أوجب في قتل الحمامة شاةً بناء على ما أثبتَ بينهما من المماثلة من حيث إن كلا منهما يعُبّ ويهدِر مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضّبّ والنون فكيف يُفوَّضُ معرفةُ أمثالِ هذه الدقائق العويصة إلى رأي عجلين من آحاد الناس على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص فبعد ما عُيِّن بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد نوعٌ من أنواع النعم يتم الحُكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجةٌ إلى حكمٍ أصلاً وقرىء يحكم به ذو عدل على إرادة جنس العادل دون الوَحْدة وقيل بل على إرادة الإمام والجملة صفة لجزاءٌ أو حالٌ منهُ لتخصُّصه بالصفة وقوله تعالى {هَدْياً} حالٌ مقدرة من الضمير في به أو من جزاء لما ذكر من تخصصه بالصفة أو بدلٌ من مثل فيمن نصبه أو مِنْ محله فيمن جرَّه أو نصبٌ على المصدر أي يهديه هدياً والجملة صفة أخرى لجزاء {بالغ الكعبة} صفةٌ لهدياً لأن الإضافة غير حقيقية {أَوْ كَفَّارَةٌ} عطف على محل من النعم على أنه خبر

المائدة آية 96 مبتدأ محذوف والجملةُ صفة ثانية لجزاء كما أشير إليه وقوله تعالى {طَعَامُ مساكين} عطفُ بيانٍ لكفارةٌ عند من لا يخصصه بالمعارف أو بدلٌ منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام مساكين وقوله تعالى {أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً} عطف على طعام الخ كأنه قيل فعليه جزاءٌ مماثلٌ للمقتول هو من النَّعم أو طعامُ مساكينَ أو صيامُ ايام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفاً لازماً للجزاء يقدَّر به الهدْي والطعام والصيام أما الأولان فبلا واسطة وأما الثالث فبواسطة الثاني فيختار الجاني كلاًّ منها بدلاً من الآخرَيْن هذا وقد قيلَ إنَّ قوله تعالى أَوْ كَفَّارَةٌ عطف على جزاء فلا يبقى حينئذ في النظم الكريم ما يقدَّر به الطعام والصيام والإلتجاء إلى إلى القيامس على الهدْي تعسفٌ لا يخفى هذا على قراءة جزاء بالرفع وعلى سائر القراءات فقوله تعالى أَوْ كَفَّارَةٌ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ معطوفة على جملة هو من النعم وقرىء أو كفارةُ طعامِ مساكين بالإضافة لتبيين نوع الكفارة وقرىء طعامُ مِسْكين على أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس وقرىء أو عِدْل بكسر العين والفرق بينهما أن عَدلَ الشيء ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام وعِدْلَه ما عُدِل به في المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول وذلك إشارة إلى الطعام وصياما تمييز للعَدْل والخيار في ذلك للجاني عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وللحَكَمين عند محمد رحمه الله {لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} متعلق بالاستقرارِ في الجارِّ والمجرور أي فعليه جزاءٌ ليذوق الخ وقيل بفعل يدل عليه الكلامُ كأنَّه قيل شرع ذلك عليه ليذوق وبال أمره أي سوءَ عاقبةِ هَتْكه لحُرمة الإحرامِ والوبال في الأصل المكروهُ والضررُ الذي ينال في العاقبة من عمل سوء لثِقَله ومنه قوله تعالى فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً ومنه الطعام الوبيلُ وهو الذي لا تستمرِئُه المَعِدة {عَفَا الله عَمَّا سَلَف} من قتل الصيد مُحرِماً قبل أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل عما سلف منه في الجاهلية لأنهم كانوا متعبَّدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرّماً {وَمَنْ عَادَ} إلى قتل الصيد بعد النهي عنه وهو محرم {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه فهو ينتقم الله منه ولذلك دخلت الفاء كقوله تعالى فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً أي فذلك لا يخاف الخ وقوله تعالى وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ أي فأنا أمتعه والمراد بالانتقام التعذيبُ في الآخرة وأما الكفارة فعن عطاءٍ وإبراهيمَ وسعيدِ بن جبير والحسن أنها واجبة على العائد وعن ابن عباس رضي الله عنهما وشُريح أنه لا كفارة عليه تعلقاً بالظاهر {والله عَزِيزٌ} غالب لا يُغالَب {ذُو انتقام} شديد فينتقم ممن أصر على المعصية والاعتداء

96

{أُحِلَّ لَكُمُ} الخطاب للمُحْرمين {صَيْدُ البحر} أي ما يصاد في المياه كلها بحراً كان أو نهراً أو غديراً وهو ما لا يعيش إلا في الماء مأكولاً أو غير مأكول {وَطَعَامُهُ} أي وما يُطْعَم من صيده وهو تخصيص بعد تعميم والمعنى أحل لكم التعرّضُ لجميع ما يصاد في المياه والانتفاعُ به وأكلُ ما يؤكل منه وهو السمك عندنا وعند ابن أبي ليلى جميعُ ما يصاد فيه على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيدُ حيوانِ البحر وأن تطعموه وقرىء

المائدة آية 97 وطُعْمه وقيل صيدُ البحر ما صيد فيه وطعامُه ما قذمه أو نَضَب عنه {متاعا لَّكُمْ} نُصِب على أنَّه مفعولٌ له مختص بالطعام كما أن نافلة في قوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ إسحق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً حالٌ مختصة بيعقوبَ عليه السلام أي أحل لكم طعامه تمتيعاً للمقيمين منكم يأكلونه طرياً {وَلِلسَّيَّارَةِ} منكم يتزودونه قَديداً وقيل نسب على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لفعل مقدر أي متّعكم به متاعاً وقيل مؤكد لمعنى أُحل لكم فإنه في قوة متّعكم به تمتيعاً كقوله تعالى كتاب الله عَلَيْكُمْ {وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر} وقرىء على بناء الفعلِ للفاعل ونسب صيدَ البر وهو ما يُفْرِخُ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات كطير الماء {مَا دُمْتُمْ حُرُماً} أي محرمين وقرىء بكسر الدال من دامَ يدامُ وظاهرُه يوجب حرمة ما صاده الحَلالُ على المُحرم وإن لم يكن له مَدْخلٌ فيه وهو قول عمر وابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهم وعن أبي هريرة وعطاءٍ ومجاهدٍ وسعيدِ بنِ جُبير رَضِيَ الله عنهُم أنَّهُ يحلُّ له أكلُ ماصاده الحلالُ وإن صاده لأجله إذا لم يُشِرْ إليه ولم يُدلَّ عليه وكذا ما ذبحه قبل إحرامِه وهو مذهبُ أبي حنيفةَ لأن الخِطاب للمحرمين فكأنه قيل وحرم عليكم ما صِدتُّم في البر فيَخرُج منه مَصيدُ غيرهم وعند مالك والشافعي وأحمد لا يباح ما صِيدَ له {واتقوا الله} فيما نهاكُم عنْهُ أو في جميع المعاصي التي من جُمْلتِها ذلكَ {الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} لا إلى غيره حتى يُتَوهَّمَ الخلاصُ من أخذه تعالى بالالتجاء إليه

97

{جَعَلَ الله الكعبة} قال مجاهد سميت كعبها لكونها مُكَعبّةً مُربَّعة وقيل لانفرادها من البناء وقيل لارتفاعها من الأرض ونتوئها وقوله تعالى {البيت الحرام} عطفُ بيانٍ على جهة المدح دون التوضيح كما تجىء الصفة وقيل مفعولٌ ثانٍ لجعل وقوله تعالى {قِيَاماً لّلنَّاسِ} نُصبَ على الحال ويرده عطف ما بعده على المفعول الأول كما سيجيء بل هذا هو المفعول الثاني وقيل الجعلُ بمعنى الإنشاءِ والخلق وهو حال كما مر ومعنى كونه قياماً لهم أنه مدارٌ لقيام أمر دينهم ودنياهم إذ هو سببٌ لانتعاشهم في أمور معاشِهم ومَعادِهم يلوذ به الخائفُ ويأمَن فيه الضعيف ويربح فيه التجار ويتوجه إليه الحجاج والعُمّار وقرىء قِيَماً على أنه مصدر على وزن شِبَع أُعلَّ عينه بما أُعلَّ في فعله {والشهر الحرام} أي الذي يؤدى فيه الحجُ وهو ذو الحجة وقيل جنس الشهر الحرام وهو وما بعده عطف على الكعبة فالمفعول الثاني محذوف ثقةً بما مر أي وجعل الشهر الحرام {والهدى والقلائد} أيضاً قياماً لهم والمرادُ بالقلائد ذواتُ القلائد وهي البُدْنُ خُصّت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر وبهاءَ الحجَّ بها أظهر {ذلك} إشارة إلى الجعل المذكور خاصة أو مع ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره ومحلُّه النصبُ بفعل مقدر يدل عليه السياق وهو العامل في اللام بعده أي شرَعَ ذلك {لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في السماوات وَمَا فِي الارض} فإن تشريع هذه الشرائعِ المستَتْبِعةِ لدفع المضارِّ الدينية والدنيوية قبل وقوعها وجلبِ المنافع الأولوية والأخروية من أوضحِ الدلائلِ على حكمة الشارع وعدمِ خروجِ شيء عن علمه المحيط وقوله تعالى {وَأَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ}

المائدة آية 98 100 تعمبيم إثْرَ تخصيصٍ للتأكيد ويجوز أن يراد بما قي السموات والأرض الأعيانُ الموجودة فيهما وبكل شيء الأمورُ المتعلقة بتلك الموجودات من العوارض والأحوال التي هي من قَبيل المعاني

98

{اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} وعيد لمن انتهك محارِمَه أو أصر على ذلك وقوله تعالى {وَأَنَّ الله غفور رحيم} وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى أو أقلع عن الانتهاك بعد تعاطيه ووجهُ تقديمِ الوعيد ظاهر

99

{مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} تشديد في إيجاب القيام بما أَمَرَ به أي الرسول قد أتى بما وجب عليه من التَّبليغِ بما لا مزيدَ عليهِ وقامت عليه الحجة ولزمتكم الطاعة فلا عذر لكم من بعد في التفريط {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} فيؤاخذكم بذلك نقيرا أو قطميرا

100

{قُل لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب} حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال وبين جيِّدها قَصَد به الترغيب في جيِّد كل منها والتحذيرَ عن رديئها وإن كان سببَ النزول شريحُ بن ضبة البكريُّ الذي مرت قصته في تفسيرِ قولِه تعالى يأيها الذين آمنوا لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله الخ وقيل نزل في رجل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الخمر كانت تجارتي وإني اعتقدت من بيعها مالاً فهل ينفعني من ذلك المال إن عمِلت فيه بطاعة الله تعالى فقال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدِلْ جَناحَ بعوضة إن الله لا يقبل إلا الطيب وقال عطاءٌ والحسن رضي الله عنهما الخبيث والطيب الحرامُ والحلال وتقديم الخبيث في الذكر للإشعار من أولِ الأمرِ بأنَّ القصورَ الذي ينبىءُ عنه عدم الاسواء فيه لا في مقابِلِه فإن مفهومَ عدمِ الاستواءِ بين الشيئينِ المتفاوتينِ زيادةً ونقصاناً وإن جازَ اعتبارُهُ بحسبِ زيادةُ الزائدِ لكنْ المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر كما في قوله تعالى هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير إلى غير ذلك وأما قولُهُ تعالى هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ فلعلَّ تقديمَ الفاضلِ فيه لما أن صلَتَهُ ملكةٌ لصلةِ المفضولِ {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} أي وإن أسرك كثرته والخطاب لكل واحد من الذين أُمر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بخطابهم والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدَّر وقيل للحال وقد مر أي لو لم تُعجِبْك كثرة الخبيث ولو أعجبتك وكلتاهما في موقع الحالِ من فاعل لا يستوي أي لا يستويان كائنين على كل حالٍ مفروض كما في قولك أحسِنْ إلى فلان وإن أساء إليك أي أحسِنْ إليه إن لم يسىء إليك وإن أساء إليك أي كائناً على كلِّ حال مفروض وقد حُذفت الأولى حذفا مطَّرداً لدلالة الثَّانيةِ عليها دِلالةً واضحةً فإن الشيء إذا تحقق مع المعارِض فلأن يتحقق بدونه أولى وعلى هذا السرِّ يدور ما في لو وإن الوصليتين من المبالغة والتأكيد وجواب لو محذوف في الجملتين لدلالة ما قبلهما عليه وسيأتي تمام

المائدة آية 101 تحقيقه في مواقعَ عديدةٍ بإذنِ الله عزَّ وجلَّ {فاتقوا الله يا أُوْلِى الالباب} أي في تحرِّي الخبيث وإن كثر وآثِروا عليه الطيِّب وإن قلّ فإن مدارَ الاعتبار هو الجُودة والرداءةُ لا الكثرةُ والقِلة فالمحمودُ القليلُ خيرٌ من المذموم الكثير بل كلما كثر الخبيثُ كان أخبثَ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} راجين أن تنالوا الفلاح

101

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لا تسألوا عن أشياء} هو اسمُ جمعٍ على رأي الخليل وسيبويه وجمهور البصريين كطرفاء وقصباء أصله شيآه بهمزتين بينهما ألف فقُلبت الكلمة بتقديم لامها على فائها فصار وزنها لفعاء ومُنعت الصرفَ لألف التأنيث الممدودة وقيل هو جمع شيْء على أنه مخفف من شيء كهَيْنٍ مخففٌ من هيِّن والأصل أشيئاه كأهوناء بزنة أفعِلاء فاجتمعت همزتان لام الكلمة والتي للتأنيث إذ الألف كالهمزة فخففت الكلمة بأن قلبت الهمزة الأولى ياءً لانكسار ما قبلها فصارت أشيياء فاجتمعت ياءان أولاهما عين الكلمة فحذفت تخفيفا فصارت أشياء وزنها أفلاء ومُنعت الصرفَ لألف التأنيث وقيل إنما حذفت من أشيِياءَ الياءُ المنقلبةُ من الهمزة التي هي لام الكلمة وفتحت الياء المقصورة لتسلم ألف الجمع فوزنها أفعاء وقوله تعالى {إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} صفةٌ لأشياء داعيةٌ إلى الانتهاء عن السؤال نها وحيث كانت المَساءةُ في هذه الشرطية معلقةً بإبدائها لا بالسؤال عنها عُقّبت بشرطية أخرى ناطقةٍ باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجِبِ للمحظور قطعاً فقيل {وإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ ينزلُ القُرْآن تُبْدَ لَكُم} أي تلك الأشياء الموجِبة للمَساءة بالوحي كما ينبىء عنه تقييدُ السؤال بحينِ التنزيل والمراد بها ما يشُق عليهم ويغمُهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقون بها والأسرارِ الخفية التي يفتضحون بها بظهورها ونحوُ ذلكَ مما لا خيرَ فيه فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستَتْبِعٌ لإبدائها كذلك السؤالُ عن تلك التكاليف مستتبعٌ لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب واجترائِهم على المسألة والمراجعة وتجاوزِهم عما يليق بشأنهم من الاستسلام لأمرِ الله عزَّ وجلَّ من غير بحث فيه ولا تعرّضٍ لكيفيته وكمِّيته أي لا تُكثروا مُساءلةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عما لا يَعْنيكم من نحو تكاليف شاقة وعليكم إن أفتاكم بها وكلفكم إياها حسبما أُوحيَ إليه ولم تطيقوا بها نحو بعضِ أمورٍ مستورة تكرهون بروزها وذلك ما رُوي عن عليَ رضيَ الله عنه أنَّه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمِد الله تعالى وأثنى عليه ثمَّ قالَ إنَّ الله تعالى كتَب عليكم الحجَّ فقام رجل من بني أسدٍ يقال لهُ عكاشة ابن محسن وقيل هو سُراقة بنُ مالك فقال أفي كل عامٍ يا رسول الله فأعرضَ عنه حتى أعاد مسألتَه ثلاثَ مرات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك وما يُؤْمِنُك أن اقول نعم لوجبت ولو وجبتْ ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاترُكوني ما تركتكم فإنما هلَك من كان قبلَكم بكثرة سؤالِهم واختلافِهم على أنبيائهم فإذا أمرتُكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتُكم عن شيء فاجتنبوه ومِثلُ ما رُوي عن أنسٍ وأبي هريرة رضي الله عنهما أنه سأل الناسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياءَ حتى أحفَوْه في المسألة فقام صلى الله عليه وسلم مغضبا خطيبا

المائدة آية 101 فحمِد الله تعالى وأثنى عليه وقال سلوني فوالله ما تسألوني عن شيءٍ ما دُمْت في مقامي هذا إلا بيّنتُه لكم فأشفق اصحاب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أن يكون بين يَدَيْ أمرٍ قد حضَر قال أنسٌ رضيَ الله عنه فجعلتُ ألتفتُ يميناً وشِمالاً فلا أجدُ رجلاً إلا وهو لافٌّ رأسَه في ثوبه يبكي فقام رجل من قريشٍ من بني سَهْمٍ يقال له عبدُ اللَّه بنُ حُذافة وكان إذا لاحى الرجال يدعى إلى غير أبيه وقال يا نبيَّ الله مَنْ أبي فقال صلى الله عليه وسلم أبوك حذافةُ بنُ قيسٍ الزهري وقام آخرُ وقال أين أبي قال صلى الله عليه وسلم في النار ثم قام عمر رضي الله عنه فقال رضِينا بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ رسولاً نبياً نعوذ بالله تعالى من الفتن إنا حديثو عهدٍ بجاهلية وشِرْكٍ فاعفُ عنا يا رسول الله فسكن غضبه صلى الله عليه وسلم {عَفَا الله عَنْهَا} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتِهم عن المَساءة بل لأنها في نفسها معصيةٌ مستتبِعةٌ للمؤاخذة وقد عفا عنها وفيه مِنْ حثّهم على الجِدّ في الانتهاء عنها ما لا يخفى وضميرُ عنها للمسألة المدلول عليها بلا تسألوا أي عفا الله تعالى عن مسائلِكم السالفةِ حيث لم يفرِضْ عليكم الحج في كل عام جزاءً بمسألتكم وتجاوَزَ عن عقوبتكم الأخروية بسائر مسائلكم فلا تعودوا إلى مثلها وأما جعلُه صفةً أخرى لأشياء على أن الضمير لها بمعنى لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلّفْكم إياها فمما لا سبيلَ إليه اصلا لاقتدائه أن يكون الحجُّ قد فُرض أولاً في كل عام ثم نسخ بطرق العفو وأن يكون ذلك معلوماً للمخاطَبين ضرورةَ أن حقَّ الوصف أن يكونَ معلومَ الثُبوت للموصوف عند المخاطب قبل جعلِه وصفاً له وكلاهما ضروريُّ الانتفاء قطعاً على أنه يستدعي اختصاصَ النهْي بمسألة الحجِّ ونحوِها إن سلِمَ وقوعُها مع أن النظم الكريمَ صريحٌ في أنه مَسوق للنهي عن السؤال عن الأشياء التي التي يسوؤُهم إبداؤُها سواءٌ كانت من قبيل الأحكام والتكاليفِ الموجبة لِمَساءتهم بإنشائها وإيحابها بسبب السؤال عقوبة وتجديدا كمسألة الحج لولا عفوُه تعالى عنها أو من قبيل الأمور الواقعةِ قبل السؤال الموجبةِ للمساءة بالإخبار بها كمسألة مَنْ قال أين أبي إن قلتَ تلك الأشياءُ غير مُوجبةٍ للمَساءة البتةَ بل هي محتمِلةٌ لإيجاب المَسرَّة أيضاً لأن إيجابَها للأولى إن كانت من حيث وجودُها فهي من حيث عدمُها موجبةٌ للأخرى قطعاً وليست إحدى الحيثيتَيْن محقّقةً عند السائل وإنما غَرَضُه من السؤال ظهورُها كيف كانت بل ظهورُها بحيثية إيجابها للمسرة فلم يعبر عنها بحيثية إيجابها للمَساءة قلتُ لتحقيق المنهيِّ عنه كما ستعرِفه مع ما فيه من تأكيد النهْي وتشديدِه لأن تلك الحيثيةَ هي الموجبةُ للانتهاء والانزجار لا حيثيةُ إيجابِها للمسرة ولا حيثيةُ تردّدِها بين الإيجابين إن قيل الشرطية الثانية ناطقةٌ بأن السؤالَ عن تلك الأشياء الموجبة للمساءة مستلزمٌ لإبدائها البتةَ كما مر فلا تخلَّفَ الإبداءُ عن السؤال في مسئلة الحج حيث لم يُفرَضْ في كل عام قلنا لوقوع السؤال قبل ورودِ النهي وما ذُكر في الشرطية إنما هو السؤال الواقعُ بعد وروده إذ هو الموجبُ للتغليظ والتشديد ولا تخلُّفَ فيه إن قيل ما ذكرتَه إنما يتمشى فيم إذا كان السؤالُ عن الأمور المترددةِ بين الوقوع وعدمِه كما ذُكرَ من التكاليف الشاقةِ وأما إذا كان عن الأمور الواقعةِ قبله فلا يكادُ يتسنّى لأن ما يتعلق به الإبداءُ هو الذي وقع في نفس الأمرِ ولا مرد له سواء كان السؤالُ قبل النهي أو بعده وقد يكون الواقع ما يوجب المسرة كما في مسئلة عبد الله بن حذافة فيكون هو الذي يتعلق به الإبداء لا غيره فيتعين للتخلف حتماً قلنا لا احتمالَ للتخلف فضلاً عن التعيُّن فإن المنهيَّ عنه في الحقيقة إنما هو السؤالُ عن الأشياء الموجبة

المائدة 102 103 للمَساءة الواقعةِ في نفس الأمر قبل السؤال كسؤال من قال أين أبي لا عما يعمها وغيرهما مما ليس بواقع لكنه محتمِلٌ للوقوع عند المكلفين حتى يلزمَ التخلّفُ في صورةِ عدم الوقوع وجملة الكلام أن مدلول النظمُ الكريم بطريق العبارة إنما هو النهيُ عن السؤال عن الأشياء التي يوجبُ إبداؤها المساءة البتنة إما بأن تكون تلك الأشياءُ بعَرَضية الوقوعِ فتُبدَى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبةً وتشديداً كما في صورة كونِها من قبيل التكاليف الشافة وإما بأن تكون تلك الأشياءُ بعَرَضية الوقوعِ فتُبدَى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبةً وتشديداكما في صورة كونِها من قبيل التكاليف الشافة وإما بأن تكون واقعةً في نفس الأمر قبل السؤال فتُبدى عنده بطريق الإخبار بها فالتخلفُ ممتنِعٌ في الصورتين معاً ومنشأ توهّمِه عدمُ الفرق بين المنهي عنه وبين غيرِه بناءً على عدم امتياز ما هو موجودٌ أو بعَرَضية الوجود من تلك الأشياء في نفس الأمر وما ليس كذلك عند المكلفين وملاحظتهم للكل باحتمال الوجود والعدم وفائدةُ هذا الإبهام الانتهاءُ عن السؤال عن تلك الأشياء على الإطلاق حِذارَ إبداء المكروه {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّر لعفوه تعالى أي مبالغٌ في مغفرة الذنوب والإغضاءِ عن المعاصي ولذلك عفا عنكم ولم يؤاخِذْكم بعقوبة ما فَرَط منكم

102

{قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ} أي سألوا هذه المسألةَ لكنْ لا عينَها بل مثلَها في كونها محظورةً ومستتْبِعة للوبال وعدمُ التصريح بالمثل للمبالغة في التَّحذيرِ {مِن قَبْلِكُمْ} متعلق بسألها {ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا} أي بسببها أو بمرجوعها {كافرين} فإن بني إسرائيلَ كانوا يستفتون أنبياءَهم في أشياءَ فإذا أُمروا بها تركوها فهلكوا

103

{مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} ردٌّ وإبطال لما ابتدعه أهلُ الجاهلية حيث كانوا إذا نُتِجَت الناقةُ خمسةَ أبطنٍ آخرُها ذكرٌ بَحروا أُذنها أي شقُّوها وحرَّموا ركوبها ودَرَّها ولا تُطرد عن ماءٍ ولا عن مرعى وكان يقول الرجل إذا قدِمْت من سفري أو برِئْتُ من مرضي فناقتي سائبةٌ وجعلَها كالبَحيرة في تحريم الانتفاعِ بها وقيل كان الرجل إذا أعتق عبداً قال هو سائبة فلا عقْلَ بينهما ولا ميراث وإذا ولَدت الشاةُ أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصَلَتْ أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم وإذا نُتجت من صُلب الفحل عشَرةَ أبطُنٍ قالوا قد حمَى ظهرَه فلا يُركب ولا يُحمل عليه ولا يُمنع من ماء ولا مرعى ومعنى ما جعل ما شرع وما وضع ولذلك عُدِّيَ إلى مفعول واحد هو بَحيرة وما عطف عليها ومن مزيد لتأكيد النفي فإن الجعلَ التكوينيَّ كما يجيء تارة متعدياً إلى مفعولين وأخرى إلى واحدٍ كذلك الجعلُ التشريعيُّ يجيء مرة متعدياً إلى مفعولينِ كما في قوله تعالى جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لّلنَّاسِ وأخرى إلى واحد كَما في الآيةِ الكريمةِ {ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون الله أمرنا بهذا وإمامُهم عمْروُ بنُ لُحَيَ فإنه أولُ مَنْ فعلَ هذهِ الأفاعيلَ الباطلة هذا شأن رؤسائهم وكُبرَائهم {وَأَكْثَرُهُمُ} وهم أراذلُهم الذين يتبعونهم من

المائدة آية 104 105 معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يشهد به سياقُ النظم الكريم {لاَ يَعْقِلُونَ} أنه افتراء باطلٌ حتى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحق بأنفسهم فيبقَوْن في أسر التقليد وهذا بيان لقصور عقولِهم وعجزِهم عن الاهتداء بأنفسهم وقوله عز وجل

104

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي للذين عبَّر عنهم بأكثرُهم على سبيل الهداية والإرشاد {تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله} من الكتاب المبين للحلال والحرام {وَإِلَى الرسول} الذي أُنزل هو عليه لتقفوا على حقيقة الحال وتُميِّزوا الحرامَ من الحلال {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عليه آباءنا} بيان لعنادهم واستعصائهم على الهدى إلى الحق وانقيادِهم للداعي إلى الضلال {أولو كَانَ آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شيئا ولا يهتدون} قيل الواو للحال دخلت عليها الهمزة للإنكار والتعجيب أي أحَسْبُهم ذلك ولو كان آباؤهم جَهَلةً ضالين وقيل للعطف على شرطية أخرى مقدّرة قبلها وهو الأظهر والتقدير أحَسْبهم ذلك أو أيقولون هذا القولَ لو لم يكن آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا من الدين ولا يهتدون للصواب ولو كانوا لا يعلمون الخ وكلتاهما في موقعِ الحالِ أي أحسْبُهم ما وجدوا عليه آباءهم كائنين على كل حالٍ مفروض وقد حذفت الأولى في الباب حذفا مطَّرداً لدلالة الثَّانيةِ عليها دلالةً واضحةً كيف لا وإنَّ الشيءَ إذا تحقق عند المانِع فلأَنْ يتحققَ عند عدمِه أولى كما في قولك أحسِنْ إلى فلان وإن أساء إليك أي أحسِنْ إليه إن لم يسىء إليك وإن أساء أي أحسن إليه كائناً على كلِّ حال مفروض وقد حذفت الأولى لدلالةِ الثانية عليها دَلالة ظاهرةً إذِ الإحسانُ حيث أُمِر به عند المانع فلأَنْ يُؤْمَرَ به عند عدمه أولى وعلى هذا السرِّ يدورُ ما في إنْ ولو الوصليتين من المبالغة والتأكيد وجوابُ لو محذوفٌ لدلالة ما سبقَ عليه أي لَّوْ كَانَ آبَاؤُهم لاَ يعلمون شيئا ولا يهتدون حسبُهم ذلك أو يقولون ذلك وما في لو من معنى الامتناع والاستبعاد إنما هو بالنظر إلى زعمهم لا إلى نفس الأمر وفائدتُه المبالغةُ في الإنكار والتعجيب ببيان أن ما قالوه موجبٌ للإنكار والتعجيب إذا كان كونُ آبائهم جَهلةً ضالين في حيز الاحتمال البعيد فكيف إذا كان ذلك واقعاً لا ريبَ فيه وقيل مآلُ الوجهين واحدٌ لأن الجملة المقدرة حالٌ فكذا ما عُطف عليها وأنت خبيرٌ بأن الحالَ على الوجه الأخير مجموعُ الجملتين لا الأخيرةُ فقط وأن الواو للعطف لا للحال وقد مر التحقيق في قوله تعالى أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ فتدبر

105

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي الزموا أمرَ أنفسِكم وإصلاحِها وقُرِىءَ بالرفعِ على الابتداءِ أي واجبة عليكم أنفسُكم وقوله عز وجل {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} إما مجزومٌ على أنه جوابٌ للأمر أو نهْيٌ مؤكِّد له وإنما ضُمَّتِ الراء إتباعاً لضمِّه الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة إذِ الأصلُ لا يضْرُرْكم ويؤيده القراءةُ بفتح الراء وقراءةُ مَنْ قرأ لا يضِرْكم بكسر الضاد وضمها من ضار يضيره ويضوره وإما مرفوع على أنه كلام

المائدة آية 106 مستأنفٌ في موقع التعليل لما قبله ويعضُده قراءةُ مَن قرأَ لا يضيرُكم أي لا يضركم ضلالُ مَنْ ضل إذا كنتم مهتدين ولا يُتوهَّمَنَّ أن فيه رخصةً في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع استطاعتهما كيف لا ومن جملة الاهتداء أن يُنكَر على المنكَر حسْبما تفي به الطاقة قال صلى الله عليه وسلم من رأي منكم منكراً فاستطاع أن يغيره فليغيْره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطِعْ فبقلبه وقد روي أن الصديقَ رضي الله تعالى عنه قال يوماً على المنبر يأيها الناس إنكم تقرأون هذه الآيةَ وتضعونها غيرَ موضعها ولا تدرون ما هي وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الناس إذا رأو منكراً فلم يغيِّروه عمهم الله بعقاب فأمُروا بالمعروف وانهَوْا عن المنكر ولا تغتروا بقولِ الله عزَّ وجلَّ يأيها الذين آمنوا الخ فيقول أحدكم عليَّ نفسي والله لتأمُرنّ بالمعروف وتنهَوُنّ عن المنكر أو ليستعلمن الله عليكم شرارَكم فيسومونكم سوء العذاب ثم ليدعُوَنَّ خيارُكم فلا يستجابُ لهم وعنه صلى الله عليه وسلم ما من قوم عُمل فيهم منكرٌ أو سُن فيهم قبيحٌ فلم يغيِّروه ولم ينكروه إلا وحقٌّ على الله تعالَى أنْ يعُمَّهم بالعقوبة جميعاً ثم لا يستجابُ لهم والآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسَّرون على الكفرة وكانوا يتمنون إيمانهم وهم من الضلال بحيث لا يكادون يرعَوون عنه بالأمر والنهي وقيل كان الرجل إذا أسلم لاموُه وقالوا له سفّهتَ آباءك وضلّلتهم أي نسبتهم إلى السَّفاهة والضلال فنزلت تسليةً له بأن ضلال آبائه لا يضرُّه ولا يَشينُه {إِلَى الله} لا إلى أحدٍ سواه {مَرْجِعُكُمْ} رجوعُكم يوم القيامة {جَمِيعاً} بحيث لا يتخلفَ عنه أحدٌ من المهتدين وغيرِهم فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ {في الدنيا} من أعمال الهداية والضلال فهو وعد ووعيد للفريقين وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخَذُ بعمل غيره

106

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} استئناف مَسوقٌ لبيان الأحكامِ المتعلقة بأمور دنياهم إثرَ بيانِ الأحوال المتعلقةِ بأمور دينهم وتصديره بحر في النداءِ والتنبيه لإظهار كمالِ العناية بمضمونه وقوله عز وجل {شهادة بَيْنِكُمْ} بالرفع والإضافة إلى الظرف توسعاً إما باعتبار جَرَيانِها بينهم أو باعتبار تعلّقِها بما يجري بينهم من الخصومات مبتدأ وقوله تعالى {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} أي شارفه وظهرت علائمُه ظرفٌ لها وتقديم المفعول لإفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت ورودِه عليها فإنه أدخلُ في تهوين أمر الموت وقولُه تعالى {حِينَ الوصية} بدلٌ منه لا ظرف للموت كما تُوُهِّم ولا لحضوره كما قيل فإن في الإبدال تنبيهاً على أن الوصية من المَهَمّات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهَلَ عنها وقوله تعالى {اثنان} خبرٌ للمبتدأ بتقدير المضاف أي شهادةُ بينكم حينئذ شهادةُ اثنين أو فاعلُ شهادةُ بينكم على أن خبرها محذوف أي فيما نزل عليكم أن يشهد بينكم اثنان وقرىء شهادةٌ بالرفع والتنوين والإعرابُ كما سبق وقرىء شهادة بالنصب

المائدة آية 106 والتنوين على أن عاملها مضمر هو العامل في اثنان أيضاً أي ليُقِمْ شهادةً بينكم اثنان {ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} أي من أقاربكم لأنهم أعلم بأحوال الميت وأنصح له وأقرب إلى تحرِّي ما هو أصلح له وقيل من المسلمين وهما صفتان لاثنان {أَوْ آخَرَان} عطف على اثنان تابع له فيما ذُكر من الخبرية والفاعلية أي أو شهادةُ آخَرَيْن أو أن يشهد بينكم آخران أو ليقم شهادةً بينكم آخران وقوله تعالى {مِنْ غَيْرِكُمْ} صفةٌ لآخَران أي كائنان من غيركم أي من الأجانب وقيل من أهل الذمة وقد كان ذلك في بدء الإسلام لعزة وجود المسلمين لا سيما في السفر ثم نسخ وعن مكحول أنه نسخها قوله تعالى وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ {إِنْ أَنتُمْ} مرفوعٌ بمُضْمرٍ يفسرُه ما بعده تقديره إن ضربتم فلما حُذف الفعل انفصل الضمير وهذا رأيُ جمهور البَصْريين وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأٌ بناءً على جواز وقوعِ المبتدأ بعد إنْ الشرطية كجواز وقوعِه بعد إذا فقوله تعالى {ضَرَبْتُمْ فِى الارض} أي سافرتم فيها لا محلَّ له من الإعراب عند الأولين لكونه مفسِّراً ومرفوع على الخبرية عند الباقين وقوله تعالى فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت عطفٌ على الشرطية وجوابُه محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه أي إن سافرتم فقاربَكم الأجلُ حينئذ وما معكم من الأقارب أو من أهل الإسلام مَنْ يتولى أمرَ الشهادة كما هو الغالب المعتاد في الأسفار فليشهد آخرانِ أو فاستشهدوا آخَرَيْن أو فالشاهدانِ آخرانِ كذا قيل والأنسب أن يقدر عين ماسبق أي فآخرانِ على معنى شهادةُ بينِكم شهادةُ آخَرَيْن أو فأَنْ يشهَدَ آخران على الوجوه المذكورة ثمَةَ وقوله تعالى {تَحْبِسُونَهُمَا} استئنافٌ وقعَ جوابا عما نشأ من اشتراط العدالة كأنه قيل فكيف نصنع إنِ ارْتبْنا بالشاهدين فقيل تحبِسونهما أي تقفونهما وتصبرونهما للتحليف {من بعد الصلاة} وقيل هو صفة لآخران والشرط بجوابه المحذوف اعتراضٌ فائدته الدلالة على أن اللائق إشهادُ الأقارب أو أهلِ الإسلام وأما إشهادُ الآخَرِين فعند الضرورة المُلجئةِ إليه وأنت خبير بأنه يقتضي اختصاصَ الحبس بالآخرين مع شموله للأولين أيضاً قطعاً على أن اعتبارَ اتصافهما بذلك يأباه مقامُ الأمر بإشهادهماإذ مآلُه فآخرانِ شأنُهما الحبسُ والتحْليف وإن أمكن إتمام التقريب باعتبار قَيدِ الارتياب بهما كما يفيده الاعتراضُ الآتي والمرادُ بالصلاة صلاةُ العصر وعدمُ تعيينها لتعيُّنِها عندهم بالتحْليف بعدها لأنه وقت اجتماع الناس ووقت تصادُمِ ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار ولأن جميع أهل الأديان يعظّمونه ويجتنبون فيه الحلِفَ الكاذب وقد رُويَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقتئذ حلّف من حلف كما سيأتي وقيل بعد أي صلاة كانت لأنها داعيةٌ إلى النطق بالصدق وناهيةٌ عن الكذِب والزور إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفحشاء والمنكر {فيقسمان بالله} عطف على تحبسونهما وقوله تعالى {إِنِ ارتبتم} شرطية محذوفةُ الجواب لدلالة ما سبق من الحبس والإقسام عليه سيقت من جهته تعالى معترِضةً بين القسمَ وجوابِه للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب أي إن ارتاب بهما الوارِثُ منكم بخيانةٍ وأخذِ شيءٍ من التركة فاحبِسوهما وحلِّفوهما بالله وقولُه تعالى {لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً} جوابٌ للقسم وليس هذا من قبيل ما اجتمع فيه قَسَمٌ وشرط فاكتُفِيَ بذكر جوابِ سابقِهما عن جواب الآخر كما هو الواقع غالباً فإن ذلك إنما يكون عند سدِّ جواب السابق مَسدَّ جوابِ اللاحق لاتحاد مضمونهما كما

المائدة 107 في قولك والله إن أتيتَني لأكرمنك ولا ريب في استحالة ذلك ههنا لأن القسم وجوابه كلاهما وقد عرفت أن الشرط من جهته تعالى والاجتراء هو استبدال السلعة بالثمن أي أخذها بدلا منه لا بذلُه لتحصيلها كما قيل وإن كان مستلزِماً له فإن المعتبرَ في عقد الشراء ومفهومِه هو الجلبُ دون السلب المعتبر في عقد البيع ثم استُعير لأخذ شيءٍ بإزالة ما عنده عيناً كان أو معنى على وجه الرغبة في المأخوذ والإعراض عن الزائل كما هو المعتبرُ في المستعار منه حسبما مرَّ تفصيلُه في قولِهِ تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والضمير في به لله والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلا من الله أي من رحمته عرضا من الدنيا بأن نهتِكَها ونُزيلَها بالحلف الكاذب أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال وقيل الضمير للقسم فلا بُدَّ من تقدير مضافٍ البتةَ أي لا نستبدل بصحة القسم بالله أي لا نأخذ لأنفسنا بدلاً منها عرضا من الدنيا بأن نُزيلَ عنه وصفَ الصدق ونصفَه بالكذب أي لا نحلف كاذبين كما ذكر وإلا فلا سِدادَ للمعنى سواءٌ أريد به القسمُ الصادقُ أو الكاذب أما إن أريدَ به الكاذبُ فلأنه يفوِّتُ حينئذ ما هو المعتبرُ في الاستعارة من كون الزائل شيئاً مرغوباً فيه عند الحالف كحُرمة اسمِ الله تعالى ووصفِ الصحة والصدق في القسم ولا ريب في أن القسم الكاذبَ ليس كذلك وأما إن أريد به الصادقُ فلأنه وإن أمكن أن يُتوسَّلَ باستعمالِه إلى عرض الدنيا كالقم الكاذب لكن لا محظور فيه وأما التوسلُ إليه بترك استعماله فلا إمكان له ههنا حتى يصح التبرؤ منه وإنما يُتوسَّلُ إليه باستعمال القسم الكاذب وليس استعمالُه من لوازم ترْكِ استعم الالصادق ضرورةَ جوازِ تركِهما معاً حتى يتصور دجعل ما أخذ بتركِ استعمالِ الصادق كما في صوره تقديرِ المضاف فإن إزالةَ وصْفِ الصدق عن القسم مع بقاء الموصوفِ مستلزِمةٌ لثبوت وصفِ الكذِب له البتة فتأمل وقوله تعالى {وَلَوْ كَانَ} أي المقسَمُ له المدلولُ عليه بفحوى الكلام {ذَا قربى} أي قريباً منا تأكيد لتبرئهم ما لالحف كاذباً ومبالغةٌ في التنزه عنه كأنهما قالا لا نأخذ لأنفسنا بدلا من حُرمة اسمه تعالى مالاً ولو انضمَّ إليه رعايةُ جانبِ الأقرباء فكيف إذا لم يكنْ كذلك وصيانةُ أنفسِهما وإن كانت أهمَّ من رعاية الأقرباء لكنها ليست ضميمةً للمال بل هي راجعة إليه وجواب لو محذوفٌ ثقة بدلالة ما سبق عليه أي لا نشترى به ثمنا والجملة معطوفة على أخرى مثلِها كما فُصِّل في تفسيرِ قولِه تعالى وَلَوْ أعجبك الخ وقوله عز وجل {وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله} أي الشهادة التي أمرَنا الله تعالى بلإقامتها معطوفٌ على لا نشتري به داخلٌ معه في حكم القسم وعن الشعبي أنه وَقَفَ على شهادة ثم ابتدأ آلله بالمد على حذف حرف االقسم وتعويض حرف الاستفهام منه وبغير مد كقولهم الله لأفعلن {إنا إذا لمن الاثمين} أي إن كتمناها وقرىء لملائمين بحذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على اللام وإدخال النون فيها

107

{فَإِنْ عُثِرَ} أي اطُّلع بعد التحليف {على أَنَّهُمَا استحقا إِثْماً} حسبما اعترفا به بقولهما إنا إذاً لمن الآثمين أي فعلا ما يوجبُ إثماً من تحريف وطكتم بأن ظهر

المائدة آية 107 بأيديهما شيءٌ من التركة وادَّعيا استحقاقَهما له بوجهٍ من الوجوه كما وقع في سبب النزول حسبما سيأتي {فَآخَرَانِ} أي رجلان آخران وهو مبتدأ خبرُه {يقومان مقامهما} ولا محظور في الفصل بالخبر بين المبتدأ وبين وَصفِه الذي هو الجارُّ والمجرور بعده أي يقومان مَقام اللذين عُثر على خيانتهما وليس المراد بمقامهما مقامَ أداءِ الشهادة التي تولَّياها ولم يؤدِّياها كما هي بل هو مقام الحبس والتحليف على الوجه المذكور لإظهار الحق وإبراز كذِبهما فيما ادعيا من استحقاقهما لما في أيديهما {مِنَ الذين استحق} على البناء للفاعل على قراءة عليَ وابنِ عباس وأُبيَ رضي الله عنهم أي من أهل الميت الذين استحق {عَلَيْهِمُ الاوليان} من بينهم أي الأقربانِ إلى الميت الوارثانِ له الأحقانِ بالشهادة أي باليمين كما ستعرفه ومفعولُ استحق محذوفٌ أي استحقا عليهم أن يجرِّدوهما للقيام بها لأنها حقُّهما ويُظهروا بهما كذِبَ الكاذبَيْن وهما في الحقيقة الآخرانِ القائمان مَقام الأوَّلَيْن على وُضع المُظْهر مقامَ المُضْمَر وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ وهو الأظهر أي من الذين استُحق عليهم الإثمُ أي جُنيَ عليهم وهم أهلُ الميت وعشيرتُه فالأَوْليان مرفوعٌ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف كأنه قيل ومن هما فقيل الأوليان أو هو بدلٌ من الضمير في يقومان أو من آخران وقد جوِّز ارتفاعَه باستَحق على حذفِ المضافِ أي استحقّ عليهم انتدابُ الأوَّلَيْن منهم للشهادة وقرىء الأولِّين على أنهم صفة للذين الخ مجرور أو منصوبٌ على المدحِ ومعنى الأولية التقدمُ على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها وقرىء الأوليين على التثنية وانتصابُه على المدح وقرىء الأولان {فَيُقْسِمَانِ بالله} عطف على يقومان {لشهادتنا} المرادُ بالشهادة اليمينُ كما في قوله تعالى فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات بالله أي لَيَمينُنا على أنهما كاذبان فيما ادَّعيا من الاستحقاق مع كونِها حقةً صادقةً في نفسها {أَحَقُّ} بالقبول {مِن شهادتهما} أي من يمينهما مع كونها كاذبةً في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقُهما للإثم ويمينُنا منزهةٌ عن الرَّيْب والرِّيبة فصيغةُ التفضيلِ مع أنَّه لا حقيةَ في يمينهما رأساً إنما هي لإمكان قَبولِها في الجُملة باعتبار احتمالِ صدقِهما في ادعاء تملُّكِهما لما ظهر في أيديهما {وَمَا اعتدينا} عطفٌ على جوابِ القسمِ أيْ ما تجاوزنا فيها الحقَّ أو ما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما {إنا إذا لَّمِنَ الظالمين} استئنافٌ مقرَّرٌ لما قبله أي إنا إنِ اعتدَيْنا في يميننا لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى أو لمن الواضعين الحقَّ في غير موضعه ومعنى النظم الكريم أن المُحتَضَرَ ينبغي أن يُشهدَ على وصيته عدلين من ذوِي نسبِه أو دينه فإن لم يجدْهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم ثم إن وقع ارتيابٌ بهما أقسما على أنهما ما كتما من الشهادة ولا من التركة شيئاً بالتغليظ في الوقت فإنِ اطُّلعَ بعد ذلك على كذبهما بأن ظهر بأيديهما شيءٌ من التركة وادعيا تملُّكه من جهة الميت حلفَ الورثةُ وعُمل بأيْمانهم ولعل تخصيص الاثنين لخصوص الواقعة فإنه رُوي أن تميمَ بنَ أوسٍ الداري وعديَّ بنَ يزيد خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصْرانيين ومعهما بديلُ بنُ أبي مريم مولى عمْرو بنِ العاص وكان مسلماً مهاجراً فلما قدِموا الشامَ مرضَ بديلٌ فكتب كتاباً فيه جميعُ ما معه وطرحه في متاعِه ولم يخبرْهما بذلك وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعَه إلى أهله ومات ففتشاه فوجدا فيه إناءً من فضة وزْنُه ثلثمائةِ مثقالٍ منقوشاً بالذهب فغيَّباه ودفعا المتاعَ إلى أهله فأصابوا فيه الكتاب فطلبوا منهما الإناءَ فقالا ما ندري إنما أوصى إلينا بشيءٍ وأمرَنا أن ندفعه إليكم

المائدة آية 108 ففعلنا وما لنا بالإناء من علم فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل يأيها الذين أآمنوا الآية فاستحلَفَهما بعد صلاة العصر عند المِنْبر بالله الذي لا إلَه إِلاَّ هو أنهما لم يخْتانا شيئاً مما دَفَع ولا كتما فحلَفا على ذلك فخلى صلى الله عليه وسلم سبيلهما ثم إن الإناءَ وُجد بمكةَ فقال مَنْ بيده اشتريتُه من تميم وعدي وقيل لما طالت المدةُ أظهراه فبلغ ذلك بني سهمٍ فطلبوه منهما فقالا كنا اشتريناه من بديل فقالوا ألم نقلْ لكما هل باع صاحبُنا من متاعه شيئاً فقلتما لا قالا ما كان لنا بينة فكر هنا أن نقربه فرفعوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله عز وجل فَإِنْ عُثِرَ الآية فقام عمروُ بنُ العاص والمطَّلِبُ بنُ أبي وداعةَ السَّهْميان فحلفا بالله بعد العصر أنهما كَذَبا وخانا فدفع الإناءَ إليهما وفي رواية إلى أولياء الميت واعلم أنهما إن كانا وارثين لبديل فلا نسخ إلا في وصف اليمين فإن الوارثَ لا يُحَلَّفُ على البَتات وإلا فهو منسوخ

108

{ذلك} كلامٌ مستأنفٌ سيقَ لبيانِ أن ما ذُكر مستتبِعٌ للمنافع واردٌ على مقتضى الحِكمة والمصلحة أي الحُكم الذي تقدم تفصيلُه {أدنى أن يأتوا بالشهادة على وَجْهِهَا} أي أقربُ إلى أن يؤدِّيَ الشهودُ الشهادةَ على وجهها الذي تحمَّلوها عليه من غير تحريفٍ ولا خيانة خوفاً من العذاب الأخروي وهذه كما ترى حكمةُ شَرْعيةِ التحليفِ بالتغليظ المذكور وقوله تعالى {أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أيمان بَعْدَ أيمانهم} بيانٌ لحِكمة شرعيةِ ردِّ اليمين على الورثة معطوفٌ على مقدَّرٍ ينبأ عنه المقامُ كأنه قيل ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذابَ الآخرة بسبب اليمين الكاذبة أو يخافوا الافتضاحِ على رؤوس الأشهاد بإبطال أيمانهم والعملِ بأَيْمان الورثة فينزجروا عن الخيانة المؤدية إليه فأيُّ الخوفين وقع حصل المقصِدُ الذي هو الإتيانُ بالشهادة على وجهها وقيل هو عطفٌ على يأتوا على معنى أن ذلك أقربُ إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو إلى أن يخافوا الافتضاحَ برد اليمين على الورثة فلا يحلِفوا على موجَب شهادتِهم إنْ لم يأتوا بها على وجهها فيظهرُ كذبُهم بنكولهم وأما ما قيل من أن المعنى أن ذلك أقربُ إلى أحد الأمرين اللذين أيُّهما وقع كان فيه الصلاح أداءُ الشهادة على الصدق والامتناعُ عن أدائها على الكذب فيأباه المقام إذ لا تعلّق له بالحادثة أصلاً ضرورةَ أن الشاهدَ مضطرٌّ فيها إلى الجواب فالامتناعُ عن الشهادة الكاذبة مستلزمٌ للإتيان بالصادقة قطعاً فليس هناك أمران أيُّهما وقع كان فيه الصلاحُ حتى يَتوسَّطَ بينهما كلمةُ أو وإنما يتأتى ذلك في شهودٍ لم يُتَّهموا بخيانة على أن إضافةَ الامتناع عن الشهادة الكاذبة إلى خوف رد اليمين على الورثة ونِسبةَ الإتيانِ بالصادقة إلى غيره مع أن ما يقتضي أحدُهما يقتضي الآخَرُ لا محالة تحكُّمٌ بحْتٌ فتأمل {واتقوا الله} في مخالفة أحكامه التي من جملتها هذا الحكمُ {واسمعوا} ما تؤمرون به كائناً ما كانَ سمعَ طاعةٍ وقَبول {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} الخارجين عن الطاعة أي فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم فاسقين والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين أي إلى طريق الجنةِ أو إلى ما فيه نفعهم

المائدة آية 109

109

{يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} نصب على أنَّهُ بدلُ اشتمالٍ من مفعول اتقوا لما بينهما من الملابسة فإن مدار البدلية ليس ملابسةَ الظرفية والمظروفية ونحوِها فقط بل هو تعلّقٌ ما مُصحِّحٌ لانتقال الذهن من المُبدلَ منه إلى البَدَل بوجه إجماليَ كما فيما نحن فيه فإن كونَه تعالى خالقَ الأشياء كافةً مالكَ يومِ الدين خاصةً كافٍ في الباب مع أن الأمرَ بتقوى الله تعالى يتبادر منه إلى الذهن أن المتقى أيُّ شأنٍ من شئونه وأيُّ فعلٍ من أفعاله وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ به يتحقق الاشتمال أي اتقوا عقاب الله فحينئذ يجوزُ انتصابُه منه بطريق الظرفية وقيل منصوبٌ بمضمرٍ معطوفٍ على اتقوا وما عُطف عليه أي واحذروا أو اذكروا يوم الخ فإن تذكير ذلك اليوم الهائل مما يُضْطرُّهم إلى تقوى الله عز وجل وتلقِّي أمره بسمع الإجابة والطاعة وقيل هو ظرفٌ لقولِهِ تَعَالى لاَّ يَهِدِّى أي لا يهديهم يومئذ إلى طريق الجنة كما يهدي إليه المؤمنين وقيل منصوب بقوله تعالى واسمعوا بحذف مضاف أي اسمعوا خبرَ ذلك اليوم وقيل منصوب بفعل مؤخّرٍ قد حُذف للدلالة على ضيق العبارة عن شرحه وبيانه لكمال فظاعةِ ما يقع فيهِ من الطَّامةِ التَّامةِ والدواهي العامة كأنه قيل يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فيقول الخ يكونُ من الأحوالِ والأهوال مالا يفي ببيانه نطاقُ المقال وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمار لتربية المهابةِ وتشديد التهويل وتخصيصُ الرسل بالذكر ليس لاختصاص الجمع بهم دون الأمم كيف لا وذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ وقد قال الله تعالى يَوْمَ ندعو كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم بل لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدمِ الحاجة إلى التَّصريحِ بجمعِ غيرِهم بناءً على ظهور كونهم أتباعاً لهم ولإظهار سقوطِ منزلتهم وعدم لياقتهم بالانتظام في سلك جمع السرل كيف لا وهم عليهم السلام يُجمعون على وجه الإجلال وأولئك يسحبون على وجوههم بالأغلال {فَيَقُولُ} لهم مشيراً إلى خروجهم عن عُهدة الرسالة كما ينبغي حسبما يُعربُ عنه تخصيصُ السؤال بجواب الأمم إعراباً واضحا إلا لصدر الخطاب بأن يقال هل بلغتنم رسالاتي وماذا في قولِه عزَّ وجلَّ {مَاذَا أَجَبْتُمُ} عبارةٌ عن مصدر الفعل فهو نصْبٌ على المصدرية أيْ أيَّ إجابةٍ أُجبتم من جهة أُممِكم إجابةَ قَبول أو إجابةَ قَبول أو إجابةَ رد وقيل عبارة عن الجواب فهو في محل النصب بعد حذف الجارِّ عنه أيْ بأيِّ جوابٍ أجبتم وعلى التقديرين ففي توجيه السؤال عما صدرَ عنهم وهم شهودٌ إلى الرُّسلِ عليهم السَّلامُ كسؤال الموءودة بمَحْضرٍ من الوائد والعدولِ عن إسناد الجواب إليهم بأن يقال ماذا أجابوا من الأنباء عن كمال تحقيرِ شأنهم وشدة الغيظ والسُّخط عليهم ما لا يخفي {قالوا} استئنماف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل فماذا يقول الرسل عليهم السلام هنالك فقيل يقولون {لاَ عِلْمَ لَنَا} وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التقرر والتحقق كما في قوله تعالى وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب الاعراف ونظائرِهما وإنما يقولون ذلك تفويضاً للأمر إلى علمه تعالى وإحاطتِه بما اعتراهم من جهتهم من مقاساة الأهوال ومعاناة الهموم والأوجال وعَرْضاً لعجزهم عن بيانه لكثرته وفظاعتِه {إِنَّكَ أَنتَ علامُ الغيوب} تعليل لذلك أي فتعلَمُ ما أجابوا وأظهروا لنا وما لم نعلمْه مما أضمَروه في قلوبهم وفيه إظهارٌ للشَّكاةِ وردّ للأمر إلى علمه تعالى بما لَقُوا من قبلهم من

المائدة آية 110 الخطوب وكابدوا من الكروب والتجاءٌ إلى ربهم في الانتقام منهم وقيل المعنى لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا وإنما الحكم للخاتمة ورُدَّ ذلك بأنهم يعرفونهم بسيماهم فكيف يخفى عليهم أمرُهم وأنت خبير بأن مُرادهم حينئذ أن بعضهم كانوا في زمانهم على الحق ثم صاروا كَفَرة وعن ابن عباس ومجاهد والسدي رضي الله عنهم أنهم يفزَعون من أول الأمر ويذهَلون عن الجواب ثم يجيبون بعد ما ثابت إليهم عقولُهم بالشهادة على أممهم ولا يلائمه التعليل المذكور وقيل المرادُ به المبالغةُ في تحقيق فضيحتهم وقرىء علامَ الغيوب بالنصب على النداء أو الاختصاص بالمدح على أنَّ الكلامَ قد تمَّ عند قولِه تعالى أَنتَ أي إنك أنت المنعوتُ بنعوتِ كمالِك المعروفُ بذلك

110

{إذ قال الله يا عِيسَى ابن مَرْيَمَ} شروعٌ في بيان ما جرى بينه تعالى وبين واحد من الرسل المجموعين من المفاوضة على التفصيلِ إثرَ بيان ما جرى بينه تعالى وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأُنموذج لتفاصيلِ أحوال الباقين وتخصيصُ شأن عيسى عليه السلام بالبيان تفصيلاً من بين شئون سائر الرسل عليهم السلام مع دلالتها على كمال هو ل ذلك اليوم ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل لما أنه شأنه عليه السلامُ متعلِّقٌ بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نُعِيتْ عليهم في السورة الكريمة جناياتُهم فتفصيلُه أعظمُ عليهم وأجلبُ لحسرتهم وندامتِهم وأفتُّ في أعضادهم وأدخَلُ في صرفهم عن غيهم وعنادهم وإذ بدلٌ من يومَ يجمع الله الخ وصيغة الماضي لما ذُكر من الدلالة على تحقق الوقوع وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في مقام الإضمار لما مر من المبالغة في التهويل وكلمة على في قوله تعالى {اذكر نِعْمَتِى عَلَيْكَ وعلى والدتك} متعلقة بنفس النعمة إن جُعلت مصدراً أي اذكر إنعامي عليكما أو بمحذوفٍ هو حالٌ منها إنْ جُعلت اسماً أي اذكر نعمتي كائنة عليكما وليس المرادُ بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفَه عليه السلام شكرَها والقيامَ بمواجبها ولاتَ حينَ تكليف مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوانه أيَّ خروج بل إظهارَ أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى اعتداداً بها وتلذذا بذكرها على رءوس الأشهاد لتكون حكايةُ ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخاً ومزجرةً للكفرة المختلفين في شأنه عليه السلام إفراطاً وتفريطاً وإبطالاً لقولهما جميعاً {إِذْ أَيَّدتُّكَ} ظرف لنعمتي أي اذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لك أو حال منها أي اذكرها كائنة وقت تأييدي لك وقرىء آيدتُك والمعنى واحد أي قويتك {بِرُوحِ القدس} بجبريلَ عليه السلام لتثبيت الحجة

المائدة آية 110 أو باكلام الذي يحيى به الدين وإضافته إلى القدس لأنه سبب الطهر عن أوضار الآثام أو يحيى به الموتى أو النفوسُ حياةً أبدية وقيل الأرواحُ مختلفةُ الحقائق فمنها طاهرةٌ نورانية ومنها خبيثةٌ ظُلمانية ومنها مشرقةٌ ومنها كَدِرةٌ ومنها حُرة ومنها نذْلة وكان روحه عليه السلام طاهرةً مشرقةً نورانية عُلوية وأيا ما كان غهو نعمة عليهما {تُكَلّمُ الناس فِى المهد وَكَهْلاً} استئناف مبين لتأييده عليه السلام أو حال من الكاف وذكر تكليمه عليه السلام في حال الكهولة لبيان أن كلامه عليه السلام في تينك الحالتين كان على نسق واحد بديعٍ صادراً عن كمال العقل مقارِناً لرزانة الرأي والتدبير به واستدل على أنه عليه السلام سينزِل من السماء لِما أنه عليه السلامُ رفع قبل التكهُّل قال ابن عباس رضي الله عنهما أرسله الله تعالى وهو ابن ثلاثين سنة ومكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه اللع = هـ تعالى إليه {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب} عطف على قوله تعالى إِذْ أَيَّدتُّكَ منصوب بما نصبه أي اذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك والكتاب {والحكمة} أي جنسهما {والتوراة والإنجيل} خُصا بالذكر مما تناوله الكتابُ والحكمةُ إظهاراً لشرفهما وقيل الخطُّ والحكمةُ الكلام اتلمحكم الصواب {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} أي تُصوَّر منه هيئةً مماثلة لهيئة الطير {بِإِذْنِى} بتسهيلي وتيسيري لا على أنْ يكونَ الخلقُ صادراً عنه عليه السلام حقيقة بل على أن يظهر ذلك يده عليه السلام عند مباشرة السباب مع كون الخلق حقيقةً لله تعالى كما قيل عنه قوله تعالى {فَتَنفُخُ فِيهَا} أي في الهيئة المصوَّرة {فَتَكُونُ} أي تلك الهيئة {طَيْراً بِإِذْنِى} فإن إذنه تعالى لو لم يكن عبارةً عن تكوينه تعالى للطير بل عن محضِ تيسيره مع صدور الفعل حقيقةً عما أُسند إليه لكان هذا تكوّناً من جهة الهيئة وتكريرُ قوله بِإِذْنِى في الطير مع كونه شيئاً واحداً للتنبيهِ على أنَّ كلاً من التصوير والنفخ أمرٌ معظّم بديعٌ لا يتسنى ولا يترتب عليه شيء إلا بإذنه تعالى {وتبرئ الاكمه والابرص بِإِذْنِى} عطف على تخلُق {وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِى} عطف على إذ تخلق أعيد فيه إذْ لكون إخراج الموتى من قبورهم لا سيما بعد ما صارت رميماً معجزةً باهرةً ونعمةً جليلة حقيقةً بتذكير وقتها صريحاً قيل أخرج سامَ بنَ نوح ورجلين وامرأةً وجاريةً وتكرير قوله بإذنى في المواضع الأربعة للاعتناء بتحقيق الحق ببيان أن تلك الخوارقَ ليست من قبل عيسى عليه الصلاة والسلام بل من جهته سبحانه قد أظهرها على يديه معجزةً له ونعمةً خصَّها به وأما ذكرُه في سورة آلِ عِمرانَ مرتين لما أن ذلك موضعُ الإخبار وهذا موضعُ تعداد النعم {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِى إسرائيل عَنكَ} عطف على إذ تخرج أي منعت الهود الذين أرادوا بك السوء عن التعرُّض لك {إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات} بالمعجزات الواضحة ممَّا ذُكر ومَا لم يُذكر كالإخبار بما يأكلون وما يدّخِرون في بيوتهم ونحوِ ذلك وهو ظرفٌ لكففت لكن لا باعتبار المجيء بها فقط بل باعتبار ما يعقبُه منْ قولِه تعالى {فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} فإن قولهم ذلك مما يدل على أنهم قصدوا اغتيالَه عليه السلام المُحوِجَ إلى الكف أي كففتُهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئِك إياهم بالبينات وإنما وضع ضميرِهم الموصولُ لذمِّهم بما في حيِّز الصلة فكلمة من بيانية وهذا إشارةٌ إلى ما جاءَ به والتذكير لأن إشارتهم إلى ما رأَوْه من نفس المسمّى من حيث هو أو من حيث هو سحر لا من حيث هو مسمى بالبينات وقرىء إن هذا إلا ساحر

المائدة آية 111 112 مبين فهذا حينئذ إشارة إلى عيسى عليه السلام

111

{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} عطف على ما قبله من أخواتها الواقعةِ ظروفاً للنعمة التي أُمر بذكرها وهي وإن كانت في الحقيقة عينُ ما يُفيده الجمل التي أضيف إليها تلك الظروفُ من التأييد بروح القدس وتعليم الكتاب والحكمة وسائرِ الخوارق المعدودة لكنها لمغايَرَتها لها بعنوانٍ منْبىءٍ عن غاية الإحسان أُمر بذكرها من تلك الحيثية وجُعلت عاملةً في تلك الظروف لكفاية المغايَرَة الاعتبارية في تحقيق ما اعتُبر في مدلول كلمةِ إذ من تعدد النسبة فإنه ظرف موضوعٌ لزمان نسبتين ماضيتين واقعتين فيه إحداهما معلومةُ الوقوعِ فيه للمخاطَب دون الأخرى فيُراد إفادةُ وقوعها أيضاً له فيضاف إلى الجملة المفيدة للنسبة الأولى ويجعل ظرفاً معمولاً للنسبة الثانية ثم قد تكون المغايَرةُ بين النسبتين بالذات كما في قولك اذكر إحساني إليك إذ أحسنتَ إليّ تريد تنبيهَ المخاطَب على وقوع إحسانك إليه وقت وقوع إحسانه إليك وهما نسبتان متغايرتان بالذات وقد تكون بالاعتبار كما في قولك اذكرإحساني إليك غذ منعتُك من المعصية تريد تنبيهه على كون منعه إحساناً إليه لا على إحسانٍ آخرَ واقعٍ حينئذ ومن هذا القبيل عامةُ ما وقع في التنزيل من قوله تعالى يا قوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً الآية وقولِه تعالى يايها الذين آمنوا اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ إلى غير ذلك من النظائر ومعنى إيحائه تعالى إليهم أمرُه تعالى إياهم في الإنجيل على لسانه عليه السلام وقيل إلهامُه تعالى إياهم كما في قوله تعالى وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى وأنْ في قولِه تعالَى {إن آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} مفسِّرة لما في الإيحاء من معنى القول وقيل مصدرية وإيرادعه عليه السلام بعنون الرسالة للتنبيه على كيفية الإيمان به عليه السلام كأنه قيل ى منوا بوحدانيتي في الألوهية والربوبية وبرسالة رسولي ولا تُزيِّلوه عن حيِّزه حطّاً ولا رفعاً وقولُه تعالى {قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل فماذا قالوا حين أوحِيَ إليهم ذلك فقيل قالوا {آمنّا} أي بما ذُكر من وحدانيته تعالى وبرسالة رسولِه كما يُؤذِنُ به قولهم {واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} أي مخلِصون في إيماننا مِنْ أَسْلَمَ وجهَه لِلَّهِ وهذا القولُ منهم بمقتضى وحيه تعالى وأمرِه لهم بذلك نعمةٌ جليلة كسائر النعمم الفائضة عليه عليه الصلاة والسلام وكل ذلك نعمةٌ على والدته أيضاً رُوي أنه عليه السلام لما علم أنه سيُؤمر بذكر هاتيك النعم العِظامِ جعل يلبَسُ الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئاً لغد يقول لكل يوم رزقُه لم يكن له بيت فيخرَبَ ولا ولد فيموتَ أينما أمسى بات

112

{إِذْ قَالَ الحواريون} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيانِ بعض ما جَرَى بينَهُ عليهِ السلام وبين قومه منقطعٌ عما قبله كما يُنبىء عنه الإظهارُ في موقعِ الإضمارِ وإذ منصوبٌ بمضمرٍ خُوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم بطريق تلوين الخطاب والالتفات لكن لا لأن الخطاب السابق لعيسى عليه

المائدة آية 113 السلام فإنه ليس بخطاب وإنما هو حكايةُ خطاب بل لأن الخطابَ لمن خوطب بقوله تعالى واتقوا الله الآية فتأمل كأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم عَقيبَ حكايةِ ما صدرَ عن الحواريين من المقالة المعجودة من نعمِ الله تعالَى الفائضة عَلَى عيسَى عليهِ السَّلامُ اذكُر للناس وقت قولهم الخ وقيل هو ظرف لقالوا أريد به التنبيهُ على أن ادعاءَهم الإيمانَ والإخلاصَ لم يكن عن تحقيقٍ وإيقان ولا يساعده النظمُ الكريم {يا عيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مّنَ السماء} اختلف في أنهم هل كانوا مؤمنين أو لا فقيل كانوا كافرين شاكّين في قدرةَ الله تعالى على ما ذَكَروا وفي صدْقِ عيسى عليه السلام كاذبين في دعوى الإيمان والإخلاص وقيل كانوا مؤمنين وسؤالُهم للاطمئنان والتثبّت لا لإزاحة الشك وهل يستطيع سؤال عن الفعل دون القدرة عليه تعبيراً عنه بلازمه وقيل الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة لا على ما تقتضيه القدرة وقيل المعنى هل يطيع ربك بمعنى هل يجيبك واستطاع بمعنى أطاع كاستجاب بمعنى أجاب وقرىء هل تستطيعُ ربَّك أي سؤال ربك والمعنى هل تسأله ذلك من غير صارفٍ يصرِفك عنه وهي قراءة علي وعائشةَ وابن عباس ومعاذ رضي الله عنهم وسعيدِ بن جبير في آخرين والمائدة الخِوانُ الذي عليه الطعام من مالده إذا أعطاه ورفدَه كأنها تَميدُ مَنْ تُقدَّم إليه ونظيرُه قولهم شجرة مطعمة وقال أبو عبيد هي فاعلة بمعنى مفعول كعيشة راضية {قال} أاستئناف مبني على سؤال ناشىءٍ مما قبله كأنه قيل فماذا قال لهم عيسى عليه السلام حين قالوا ذلك فقيل قال {اتقوا الله} أي من أمثال هذا السؤال {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي بكمال قدرته تعالى وبصِحّة نبوتي أو إن صَدَقتم في ادّعاء الإيمانِ والإسلام فإنَّ ذلكَ ممَّا يوجبُ التقوى والاجتناب عن أمثال هذه الاقتراحات وقيل أمرهم بالتقوى ليصير ذلك ذريعة لحصول المسئول كقوله تعالَى وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يحتسبُ وقوله تعالى يأَيُّهَا الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة

113

{قَالُواْ} استئنافٌ كما سبق {نريد أن نأكل منها} تمهيدُ عذرٍ وبيانٍ لِمَا دعاهم إلى السؤال أي لسنا نريد بالسؤال إزاحةَ شُبهتِنا في قدرته سبحانه على تنزيلها أو في صحة نبوتك حتى يقدحَ ذلك في الإيمان والتقوى بل نريد أن نأكلَ منها أي أكلَ تبرّكٍ وقيل أكلَ حاجةٍ وتمتُّع {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} بكمال قدرته تعالى وإن كنا مؤمنين به من قبل فإن انضمامَ علم المشاهدةِ إلى العلم الاستدلالي مما يوجب ازديادَ الطُمأنينة وقوةَ اليقين {وَنَعْلَمَ} أي علماً يقينياً لا يحوم حوله شائبةُ شُبهةٍ أصلاً وقرىء ليُعْلَمَ على البناء للمفعول {أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} أنْ هيَ المخففةُ منَ أن وضمير الشأن محذوف أي ونعلم أنه قد صدقتنا في دعوى النبوة وأن الله يُجيب دعوتنا وإن كنا عالمين بذلك من قبل {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين} نشهد عليها عند الذين لم يحضُروها من بني إسرائيل ليزدادَ المؤمنون منهم بشهادتنا طُمأنينةً ويقيناً ويؤمنَ بسببها كفارُهم أو من الشاهدين للعَيْن دون السامعين للخبر وعليها متعلقٌ بالشاهدين إن جُعل اللامُ للتعريف وبيانٌ لما يشهدون عليه

المائدة 114 115 إن جُعلتْ موصولة كأنه قيل على أي شهيد يشهدون فقيل عليها فإن ما يتعلق بالصلة لا يتقدم على الموصول أو هو حالٌ من اسم كان أو هو متعلق بمحذوف يفسره من الشاهدين

114

{قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ} لما رأى عليه السلام أن لهم غَرَضاً صحيحاً في ذلك وأنهم لا يُقلعون عنه أزمعَ على استدعائها واستنزالها وأراد أن يُلزِمَهم الحجةَ بكمالها رُوي أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل ولبس المِسْح وصلى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصرَه ثم قال {اللهم ربنا} ناداه سبحانه وتعالى مرتين مرةً بوصف الألوهية الجامعةِ لجميع الكمالات ومرةً بوصف الربوبية المُنْبئةِ عن التربية إظهارا لغاية التضرّع ومبالغةً في الاستدعاء {أُنزِلَ عَلَيْنَا} تقديمُ الظرف على قوله {مَائِدَةً} لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقوله {مّنَ السماء} متعلق بأنزل أو بمحذوفٍ هو صفةٌ لمائدة أي كائنةً من السماء نازلةً منها وقوله {تَكُونُ لَنَا عِيداً} في محل النصبُ على أنَّه صفةٌ لمائدة واسم تكون ضمير المائدة وخبرها إما عيدا ولنا حالٌ منه أو من ضمير تكون عند من يجوِّز إعمالَها في الحال وإما لنا وعيداً حال من الضمير في لنا لأنه وقع خبراً فيحمِلُ ضميراً أو من ضمير تكون عند من يرى ذلك أن يكون يومُ نزولها عيداً نعظمه وإنما أُسند ذلك إلى المائدة لأن شرَفَ اليوم مستعار من شرفها وقيل العيدُ السرورُ العائد ولذلك سمِّيَ يومُ العيد عيداً وقرىء تكن بالجزم على جواب الأمر كما في قوله تعالى فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى خلا أن قراءةَ الجزم هناك متواترة وههنا من الشواذ {لأولنا وآخرنا} بدل من لنا بإعادة العامل أي عيداً لمتقدمينا ومتأخرينا رُوي أنها نزلت يوم الأحد ولذلك اتخذخ النصارى عيداً وقيل للرؤساء منا والأتباع وقيل يأكل منها أولُنا وآخرُنا وقرىء لأُولانا وأُخْرانا بمعنى الأمة والطائفة {وآية} عطف على عيجا {منك} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لآية أي كائنةً منك دالةً على كمال قدرتك وصحةِ نبوتي {وارزقنا} أي المائدة أو الشكرعليها {وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين} تذييلٌ جارٍ مَجْرى التعليل أي خيرُ من يرزق لأنه خالقُ الأرزاق ومعطيها بلا عِوَض وفي إقباله عليه السلام على الدعاء بتكرير النداء المُنْبىءِ عن كمال الضراعة والابتهال وزيادته مالم يخطُرْ ببال السائلين من الأمور الدَّاعيةِ إلى الإجابة والقَبول دلالةٌ واضحةٌ على أنهم كانوا مؤمنين وأن سؤالهم كان لتحصيل الطمأنينة كما في قولِ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ رب أرني كيف تحيى الموتى وإلا لما قبل اعتذارهم بما ذكروه ولما اضاف غليه من عنده ما يؤكده ويقربه إلى القبول

115

{قَالَ الله} استئناف كما سبق {إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ} ورودُ الإجابة منه تعالى بصيغة التفعيل المُنْبئة عن التكثير مع كون الدعاء منه عليه السلام بصيغة الإفعال لإظهار كمال

المائدة آية 115 اللطف والإحسان كما في قوله تعالى قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ الخ بعد قوله تعالى لَّئِنْ أنجانا مِنْ هذه الخ مع ما فيه من مراعاة ما وقعَ في عبارة السائلين وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعلِ خبرِها اسماً تحقيقٌ للوعد وإيذان بأنه تعالى منجزٌ له لا محالة من غير صارفٍ يَثنيه ولا مانعٍ يَلويه وإشعارٌ بالاستمرار أي إني منزلُ المائدة عليكم مراتٍ كثيرة وقرىء بالتخفيف وقيل الإنزالُ والتنزيلُ بمعنى واحد {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ} أي بعد تنزيلها {مّنكُمْ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل يكفرْ {فَإِنّى أُعَذّبُهُ} بسبب كفره بعد معاينة هذه الآيةِ الباهرة {عَذَاباً} اسم مصدرٍ بمعنى التعذيب وقيل مصدر بحذف الزوائد وانتصابه على المصدرية بالتقديرين المذكورين وجَوَّز أن يكون مفعولاً به على الاتساع وقوله تعالى {لاَّ أُعَذّبُهُ} في محل النصبُ على أنَّه صفةٌ لعذاباً والضمير له أي أعذبه تعذيباً لا أعذب مثل ذلك التعذيب {أَحَداً مّن العالمين} أي من عالَمِي زمانِهم أو من العالمين جميعاً قيل لما سمعوا هذا الوعيد الشديد خافوا أن يكفر بعضُهم فاستعفَوْا وقالوا لا نريدها فلم تنزِلْ وبه قال مجاهدٌ والحسن رحمهما الله والصحيحُ الذي عليه جماعير الأمة ومشاهيرُ الأئمة أنها قد نزلت روي أنه عليه السلام لما دعا بما دعا وأُجيب بما أجيب إذا بسفْرةٍ حمراءَ نزلت بين غمامتين غمامةٌ من فوقها وغمامةٌ من تحتها وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمةً للعالمين ولا تجعلها مُثْلةً وعقوبة ثم قام وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال بسم الله خيرِ الرازقين فإذا سَمَكةٌ مشوية بلا فلوس ولا شَوْك تسيل دسَماً وعند رأسها مِلْحٌ وعند ذنبها خَلٌّ وحولها من ألوان البقول ما خلا الكُرَّاثَ وإذا خمسةُ أرغفةٍ على واحد منها زيتونٌ وعلى الثاني عَسَلٌ وعلى الثالث سَمْنٌ وعلى الرابع جُبْنٌ وعلى الخامس قدَيدٌ فقال شمعون رأس الحوالريين يا روحَ الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة قال ليس منهما ولكنه شيء اخترعه الله تعالى بالقُدرة العالية كلوا ما سألتم واشكروا يُمدِدْكم الله ويزِدْكم من فضله فقالوا يا روحَ الله لو أَرَيتَنا من هذه الآية آيةً أخرى فقال يا سمكةُ احْيَيْ بإذنِ الله فاضطربت ثم قال لها عُودي كما كنت فعادَتْ مشويةً ثم طارت المائدة ثكم عصو فمسخو قردةً وخنازيرَ وقيل كانت تأتيهم أربعين يوماً غِباً يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار يأكلون حتى إذا فاء الفيء طارت وهم ينظرون في ظلها ولم يأكل منها فقير إلا غَنِيَ مدةَ عُمُرِه ولا مريضٌ إلا برِىءَ ولم يمرَضْ أبداً ثم أوحى اللَّهُ تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أنِ اجعلْ مائدتي في الفقراء والمرضَى دون الأغنياء والأصحاء فاضطربت الناسُ لذلك فمُسِخَ منهم من مُسِخَ فأصبحوا خنازيرَ يسعَوْن في الطرقات والكُناسات ويأكلون العَذِرة في الحُشوش فلما رأى الناس ذلك فزِعوا إلى عيسى عليه والسلام وبكوا على الممسوخين فلما أبصرت الخنازيرُ عيسى عليه السلام بكتْ وجعلت تطيف به وجعل يدعوهم بأسمائهم واحد بعد واحد فيبكون ويسيرون برءوسهم ولا يقدِرون على الكلام فعاشوا ثلاثةَ أيام ثم هلَكوا ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ عيسى عليه السلام قالا لهم صوموا ثلاثين يوماً ثم سَلوا الله ما شئتم يُعطِكم فصاموا فلما فرَغوا قالوا إنا لو عمِلنا لأحدٍ فقضَيْنا عملَه لأطعَمَنا وسألوا الله تعالى المائدة فأقبلت الملائكةُ بمائدة يحمِلونها عليها سبعةُ أرغفةٍ وسبعةُ أحواتٍ حتى وضعتْها بين أيديهم فأكل منها آخِرُ الناس كما أكل منها أولهم قال طكعب نزلت منكوسةً تطير بها

المائدة آية 1167 الملائكةُ بين السماء والأرض عليها كلُّ الطعام إلا اللحمَ وقال قتادة كان عليها ثمرٌ من ثمار الجنة وقال عطيةُ العوفي نزلت من السماء سمكةٌ فيها طعمُ كل شيء وقال الكلبي نزلت سمكةٌ وخمسةُ أرغفةٍ فأكلوا ما شاء الله تعالى والناس ألفٌ ونيِّفٌ فلما رجعوا إلى قُراهم ونشروا الحديث ضحك منهم من لم يشهَدْ وقالوا ويحكم إنما سحر أعينك فمن أراد الله به الخيرَ ثبّته على بصيرة ومن أراد فتنته رجَع إلى كفره فمُسخوا خنازيرَ فمكثوا ثلاثة أيام ثم هلكوا ولم يتوالدوا ولم يأكُلوا ولم يشربوا وكذلك كلُّ ممسوخ

116

{وإذ قال الله يا عيسى ابن مَرْيَمَ} معطوف على إذ قال الحواريون منصوب بما نصبه من المضمر المخاطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم أو بمُضمر مستقلَ معطوفٍ على ذلك أي اذكُرْ للناس وقت قولِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ له عليهِ السَّلامُ في الآخرة توبيخاً للكَفَرة وتبكيتاً لهم بإقراره عليه السلام على رءوس الأشهاد بالعبودية وأمرُه لهم بعبادته عز وجل وصيغة الماضي لما مرَّ من الدِلالة على التحقق والوقوع {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين} الاتخاذُ إما متعدَ إلى مفعولين فإلهين ثانيهما وإما إلى واحدٍ فهو حالٌ من المفعول وليس مدارُ أصل الكلامِ أن القول متيَقَّنٌ والاستفهامَ لتعيين القائل كما هو المتبادَرُ من إيلاء الهمزو المُبتدأ على الاستعمال الفاشي وعليه قوله تعالى أأنت فعلت هذا بآلهتنا ونظائرُه بل على أن المتيقَّنَ هو الاتخاذُ والاستفهامُ لتعيين أنه بأمره عليه السلام أو من تلقاءِ أنفسِهم كما في قوله تعالى أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أو هُمْ ضَلُّوا السبيل وقوله تعالى {مِن دُونِ الله} متعلق بالاتخاذ ومحله النصب على اية حال من فاعله أي متجاوزين الله أو بمحذوفٍ هو صفة لإلهين أي كائنيْن من دونه تعالى وأيا ما كان فالمرادُ اتخاذُهما بطريق إشراكهما به سبحانه كما في قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أندادا وقوله عز وجل وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله إلى قوله سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ إذْ به يتأتّى التوبيخُ ويتسنّى التقريعُ والتبكيت ومَنْ توهم أن ذلك بطريق الاستقلال ثم اعتذر عنه بأن النصارى يعتقدون أن المعجزاتِ التي ظهرت على يد عيسى ومريمَ عليهما الصلاة والسلام لم يخلُقْها الله تعالى بل هم خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين مستقلَّيْن ولم يتخذوه تعالى إلها في حق ذلك البعض فقد أبعد عن الحق بمراحِلَ وأما من تعمق فقال إن عبادته تعالى مع عبادة غيره كلا عبادةٍ فمن عبده تعالى مع عبادتهما كأنه عبدهما ولم يعبُده تعالى فقد غفَل عما يجد به واشتغل بما لا يَعْنيه كدأب مَنْ قبلةَ فإن توبيخهم إنما يحصُل بما يعتقدونه ويعترفون به صريحاً لا بما يلزَمُه بضربٍ من التأويل وإظهارُ الاسم الجليل لكونه في حيِّز القولِ المُسند إلى عيسى عليه السلام {قَالَ} استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل فماذا يقول عيسى عليه السلام حينئذ فقيل يقول وإيثارُ صيغة الماضي لما مرّ مراراً {سبحانك} سبحان عَلمٌ للتسبيح وانتصابُه على المصدريّةِ ولا يكاد يذكر ناصبه

المائدة آية 117 وفيهِ من المبالغةِ في التنزيه من حيث الاشتقاقُ من السبْح الذي هو الذهابُ وافبعاد في الأرض ومن جهة النَّقلِ إلى صيغة التَّفعيلِ ومن جهة العدولِ من المصدر إلى الاسمِ الموضوع له خاصةً المشيرِ إلى الحقيقةِ الحاضرةِ في الذِّهنِ ومن جهة إقامتهِ مُقامَ المصدرِ مع الفعل ما لا يخفى أي أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن أقول ذلك أو من أن يقالَ في حقك ذلك وأما تقديرُ مِن أنْ يكونَ لك شريكٌ في الألوهية فلا يساعده سياق النظم الكريم وسياقُه وَقَوْلُه تعالى {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ} استئنافٌ مقرِّر للتنزيه ومبين للمنزه منه وما عبارة عن القول المذكور أي ما يستقيم وما ينبغي لي أن أقول قولاً لا يحِقّ لي أن أقوله وإيثارُ ليس على الفعل المنفيِّ لظهور دلالتِه على استمرار انتفاءِ الحقية وإفادةِ التأكيد بما في حيزه من الباء فإن اسمه ضميرُه العائد إلى ما وخبرَه بحق والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين كما في سُقياً لك ونحوه وقوله تعالى {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} استئناف مقرِّرٌ لعدم صدورَ القولِ المذكورِ عنه عليه السلام بالطريق البرهاني فإن صدورَه عنه مستلزِمٌ لعلمه تعالى به قطعاً فحيثُ انتفى علمُه تعالى به انتفى صدورُه عنه حتماً ضرورةَ أن عدمَ اللازم مستلزِمٌ لعدم الملزوم {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى} استئنافٌ جارٍ مجرى التَّعليلِ لما قبله كأنه قيل لأنك تعلم ما أُخفيه في نفسي فكيف بما أُعلنُه وقوله تعالى {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ} بيانٌ للواقع وإظهارٌ لقصوره أي ولا أعلم مات تُخفيه من معلوماتك وقوله فِى نَفْسِكَ للمشاكلة وقيل المرادُ بالنفس هو الذاتُ ونسبةُ المعلومات إليها لما أنها مرجعُ الصفات التي من جملتها العلمُ لمتعلق بها فلم يكن كنسبتها إلى الحقيقة وقوله تعالى {إِنَّكَ أَنتَ علامُ الغيوب} تعليلٌ لمضمون الجملتين منطوقاً ومفهوماً وقوله تعالى

117

{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما صدر عنه قد أُدرج فيه عدمَ صدورِ القول المذكورِ عنه على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه حيثُ حكم بانتفاء صدور جميع الأقوالِ المغايِرَةِ للمأمور به فدخل فيه انتفاء صدور القولِ المذكور دخولاً أولياً أي ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به وزإنما قيل ما قلت لهم نزولاً على قضية حسن الأدب ومراعاةً لما ورد في الاستفهام وقولُهُ تعالَى {أَنِ اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ} تفسيرٌ للمأمور به وقيل عطفُ بيانٍ للضمير في به وقيل بدلٌ منه وليس من شرط البدل جوازُ طرحِ المُبْدَل منه مُطلقاً ليلزَمَ بقاءُ الموصول بلا عائد وقيل خبر مضمر او مفعول مثل عو أو أعني {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} رقيباً أراعي أحوالهم وأحمِلُهم على العمل بموجب أمرك وأمنعهم عن المخالفة أو مشاهداً لأحوالهم من كفر وإيمان {مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} ما مصدرية ظرفية تقدَّر بمصدرٍ مضافٍ إليه زمانٌ ودمت صلتها أي كنت شهيداً عليهم مدة دوامي فيما بينهم {فَلَمَّا توفيتني} بالرفع إلى السمالء كما في قوله تعالى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ فإن التوفيَ أخذُ الشيء وافياً والموتُ نوع منه قال تعالى الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} لا غيرَك فأنت ضميرُ الفصل أو تأكيدٌ وقرىء الرقيبُ بالرفع على أنه خبرُ أنت والجملة خبرٌ لكان وعليهم

المائدة آية 118 119 متعلق به أي أنت كنت الحافظَ لأعمالهم والمراقبَ فمنعت من أدرت عِصْمتَه عن المخالفة بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسل وإنزال الآياتِ وخذَلْتَ من خذلتَ من الضالين قال ما قالوا {وَأَنتَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ} اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله وفيهِ إيذانٌ بأنَّه تعالَى كان هو الشهيدَ على الكل حين كونِه عليه السلام فيما بينهم وعلى متعلقةٌ بشهيد والتقديم لمراعاة الفاصلة

118

{إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وقد استحقوا ذلك حيث عبدوا غيرك {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز} أي القويُّ القادرِ على جميع المقدوراتِ ومن جملتهات الثوابُ والعقاب {الحكيم} الذي لا يُريد ولا يفعلُ إلا ما فيهِ حكمةٌ ومصلحةٌ فإن المغفرة مستحسَنة لكل مجرم فإن عذّبت فعدلٌ وإن غفرت ففَضْلٌ وعدمُ غفرانِ الشرك إنما هو بمقتضى الوعيد فلا امتناعَ فيه لذاته ليمنعَ الترديد وقيل الترديدُ بالنسبة إلى فرقتين والمعنى إن تعذبْهم أي مَنْ كفر منهم وإن تغفرْ لهم أي من آمن منهم

119

{قَالَ الله} كلامٌ مستأنَفٌ خَتَم به حكايةَ ما حُكيَ مما يقعُ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسلَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وأُشير إلى نتيجته ومآله أي يقولُ الله تعالَى يومئذ عَقيبَ جواب عيسى عليه السلام مشيراً إلى صدقه في ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم وصيغة الماضي لما مر في نظائره مراراً وقوله تعالى {هذا} غشارة إلى ذلك اليوم وهو مبتدأ خبرُه ما بعده أي هذا اليوم الذي حُكيَ بعضُ ما يقع فيه إجمالاً وبعضُه تفصيلاً {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين} بالرفع والإضافة والمراد بالصادقين كما يُنبىء عنه الاسمُ المستمرّون في الدارين على الصدق في الأمور الدينية التي معظمُها التوحيدُ الذي نحن بصدده والشرائعُ والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك وبه تحصُل الشهادةُ بصِدْق عيسى عليه السلام ومن المم المصدِّقين لهم المقتدين بهم عقدا وعملا به يتحقق المقصودُ بالحكاية من ترغيب السامعين في الإيمان برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم لا كلِّ من صدَقَ في أي شيء كان ضرورةَ أن الجانِيَ المعترِفَ في الدنيا بجِنايته لا ينفعه يومئذ واعتبارُ استمراره في الدارين مع أنه لا حاجة إليه كما عرفت ولا دخل له في استتباع النفع والجزاء مما لا وجهَ لَهُ وهذه القراءةُ هي التي أطبق عليها الجمهورُ وهي الأليق بسياق النظم الكريم وسياقه وقد قرىء يومَ بالنصب إما على أنه ظرف لقال فهذا حينئذ إشارةٌ إلى قوله تعالى أَأَنتَ قُلتَ الخ وإما على أنه خبرٌ لهذا فهو حينئذ إشارة إلى جواب عيسى عليه السلام أي هذا الجواب منه عليه السلام واقعٌ يوم ينفع الخ أو إلى السؤال والجواب معاً وقيل هو خبر ولكنه بني على الفتح وليس بصحيح عند البصريين لأنه مضافٌ إلى متمكنَ وقرىء يومٌ بالرفع والتنوين كقوله تعالى واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى الآية {لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً} استئناف مَسوقٌ لبيان النفع المذكور كأنه قيل

المائدة آية 120 ما لهم من النفع فقيل لهم نعيمٌ دائم وثوابٌ خالد وقولُه تَعَالى {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} استئنافٌ آخر لبيان انه عز وجل أفاض عليهم غيرَ ما ذُكر من الجنات ما لا قدْرَ لها عنده وهو رضوانُه الذي لا غايةَ وراءَه كما ينبىء عنه قوله تعالى {وَرَضُواْ عَنْهُ} إذ لا شيء أعزُّ منه حتى يمتدَّ إليه أعناقُ الهممِ {وذلك} إشارةٌ إلى نيل رضوانه تعالى وقيل إلى نيل الكل {الفوز العظيم} لما أن عِظَمَ شأنِ الفوز تابعٌ لعِظَم شأن المطلوب الذي تعلّق به الفوز وقد عرفت أن لا مطلبَ وراء ذلك أصلاً وقوله تعالى

120

{لله ملك السماوات والارض وَمَا فِيهِنَّ} تحقيقٌ للحقِّ وتنبيهٌ على كذِب النصارى وفسادِ ما زعَموا في حق المسيحِ وأمِّه أي له تعالى خاصة مُلْكُ السموات والأرض وما فيهما من العُقلاء وغيرِهم يتصرَّفُ فيها كيف يشاء إيجاد وإعداماً وإحياءً وإماتة وأمراً ونهياً من غير أن يكون لشيء من الأشياء مدخلٌ في ذلك وفي غيثار ما على من المختصة بالعقلاء على تقدير تناولها للكل مراعاةٌ للأصل وإشارةٌ إلى تساوي الفريقين في استحالة الربوبية حسَب تساويهما في تحقيق المربوبية وعلى تقدير اختصاصِها بغير العقلاء تنبيهٌ على كمال قصورهم عن رتبة الألوهية وإهانة بهم بتغليب غيرِهم عليهم {وَهُوَ على كُلّ شَىْء قدير} منَ الأشياءِ {قَدِيرٌ} مبالِغٌ في القُدرة عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة المائدة أُعطِيَ من الأجر عشرَ حسنات ومُحيَ عنه عشرُ سيئات ورُفع له عشرُ درجات بعدد كل يهوديَ ونصرانيَ يتنفس في الدنيا

الأنعام آية { سورة الأنعام ممكية غير ست آيات أو ثلاث من قوله تعالى قُل تَعالُوا أَتلُ وهى مائة وخمس وستون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

الأنعام

{الحمد للَّهِ} تعليقُ الحمدِ المعرَّفِ بلام الحقيقة أولاً باسم الذات الذي عليه يدور كافةُ ما يوجبه من صفات الكمال وإليه يؤُول جميعُ نعوتِ الجلال والجمال للإيذان بأنه عز وجل هو المستحِقُّ له بذاته لما مر من اقاتضاء اختصاصِ الحقيقة به سبحانه لاقتصار جميعِ أفرادِها عليه بالطريق البرهاني ووصفه تعالى ثانياً بما يُنْبىء عن تفصيل بعض موجِباته المنتظمةِ في سلك الإجمالِ من عظائم الآثارِ وجلائلِ الأفعال من قولهِ عزَّ وجلَّ {الذي خلق السماوات والارض} للتنبيه على استحقاقه تعالى لهواستقلاله به باعتبار أفعاله العظائم وآلائِه الجِسام أيضاً وتخصيصُ خلقِهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العُلوية والسُفلية وعامةِ الآلاءِ الجليةِ والخفية التي أجلُها نعمةُ الوجودِ الكافية في إيجاب حمدِه تعالى على كل موجود فكيف بما يتفرَّع عليها من فنون النعم الأنفسية والآفاقية المنوطِ بها مصالحُ العبادِ في المعاش والمعادِ أي أنشأهما على ما هما عليه من النّمط الفائِق والطراز الرائق منطويَتَيْن من أنواع البدائعِ وأصنافِ الروائع على ما تتحيَّر فيه العقولُ والأفكار من تعاجيب العبر والآثار تبصرةً وذكرى لأولي الأبصار وجمعُ السموات لظهور تعدّدِ طبقاتِها واختلاف آثارها وحركاتِها وتقديمُها لشرفها وعلوِّ مكانها وتقدُّمها وجوداً على الأرض كما هي {وَجَعَلَ الظلمات والنور} عطْفٌ على خَلَق مترتب عليه لكون جعلهما مسبوقاً بخلق مَنْشَئِهما ومحلِّهما داخلٌ معه في حكم الإشعار بعِلَّة الحمد فكما أن خلق السموات والأرض وما بينهما لكونه أثراً عظيماً ونعمةً جليلة موجبٌ لاختصاص الحمد بخالقهما جل وعلا كذلك جعلُ الظلماتِ والنور لكونه أمراً خطيراً ونعمةً عظيمةً مقتضٍ لاختصاصه بجاعلهما والجمل هو الإنشاءُ والإبداعِ كالخلقِ خَلا أن ذلك مختصٌّ بالإنشاءِ التكوينيِّ وفيه مَعنى التقديرِ والتسويةِ وهذا عامٌّ له كَما في الآيةِ الكريمةِ وللتشريعيِّ أيضاً كما في قوله تعالى مَا جَعَلَ الله مِن بحيرة الاية وأما ما كان فهو إنباءٌ عن ملابسةِ مفعولِه بشيءٍ آخر بأن بكون فيهِ أولَهُ أوْ مِنْهُ أو نحوُ ذلكَ ملابسةً نصححة لأنْ يتوسَّطَ بينهُمَا شيءٌ من الظروفِ لغواً كانَ أو مستقراً لكنْ لا على أنْ يكونَ عُمدةً في الكلامِ بل قيداً فيهِ كما في قوله عز وجل وجعهل بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وقولُه تعالَى وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وقولِه تعالى واجعل لَّنَا مِن لدنك وليا

الأنعام آية 1 الآيةَ فإنَّ كلَّ واحدٍ من هذهِ الظروفِ إمَّا متعلقٌ بنفسِ الجعلِ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعولِه تقدمتْ عليه لكونِه نكرةً وأياً ما كانَ فهو قيدٌ في الكلامِ حتَّى إذا اقتضَى الحالُ وقوعَه عمدةً فيه يكونُ الجعلُ متعدياً إلى اثنينِ هُو ثانيهما كما في قولِه تعالى يَجْعَلُونَ أصابعهم في آذانهم ورُبَّما يَشتبِهُ الأمرُ فيُظن أنا عمدةٌ فيهِ وهو في الحقيقة قيدٌ بأحدِ الوجهينِ كما سلفَ في قولِه تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً حيث قيل إن الظرف مفعولٌ ثان لجاعل وقد أشير هناك إلى أالذي يقضي به الذوق السليم وتقتضيه جزالةُ النظم الكريم أنه متعلقٌ بجاعل أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المفعول وأن المفعولَ الثانيَ هو خليفة وأن الأول محذوف على ما مر تفصيله وجمعُ الظلمات لظهور كثرةِ أسبابها ومَحالِّها عند الناس ومشاهدتهم لها على التَّفصيلِ وتقديمُها على النور لتقدم الإعدام على المَلَكات مع ما فيه من رعاية حسن المقابلة بين القرينتين وقوله تعالى {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} معطوفٌ على الجملة السابقة الناطقةِ بما مر من موجبات اختصاصِه تعالى بالحمد المستدعي لاقتصار العبادة عليه كما حُقِّق في تفسير الفاتحة الكريمة مَسوقٌ لإنكار ما عليه الكفرة واستبعادِه من مخالفتهم لمضمونها واجترائِهم على ما يَقْضي ببُطلانِه بديهةُ العقولِ والمعنى أنه تعالى كمختص باستحقاق الحمدِ والعبادةِ باعتبار ذاتِه وباعتبار ما فصَّل من شئونه العظيمة الخاصة به الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه ثم هؤلاء الكفرةُ لا يعملون بموجبه ويعدِلون به سبحانه أي يسوُّون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر الذي رأسُه الحمدُ مع كون كا ما سواه مخلوقاً له غيرَ متّصفٍ بشيء من مبادىء الحمد وكلمة ثم لاستبعاد الشرك بعد وضوحِ ما ذُكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه لا بعد بيانه بالآيات التنويلية والموصولُ عبارةٌ عن طائفةِ الكفار جارٍ مَجرى الاسمِ لهام من غير أن يُجعلَ كفرُهم بما يجبُ أنْ يُؤْمَنَ به كلاًّ أو بعضاً عنواناً للموضوع فإن ذلك مُخِلٌّ باستبعاد ما أُسند إليهم من الإشراك والباء متعلقة بيعدلون ووضعُ الربِّ موضعَ ضميرِه تعالى لزيادة التشنيع والتقبيح والتقديم لمزيد الاهتمامِ والمسارعةِ إلى تحقيق مدارِ الإنكار والاستبعادِ والمحافظةِ على الفواصل وتركُ المفعولِ لظهوره أو لتوجيه الإنكارِ إلى نفس الفعل يتنزيله منزلةَ اللازم إيذاناً بأنه المدارُ في الاستبعاد والاستنكار لا خصوصيةُ المفعول هذا هو الحقيقُ بجزالة التنزيل والخليقُ بفخامة شأنه الجليل وأما جعلُ الباء صلةً لكفروا على أنّ يعدلون من العدول والمعنى أن الله حقيقٌ بالحمد على ما خلقه نعمةً على العباد ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمتَه فيردّه أن كفرهم به تعالى لا سيَّما باعتبار ربوبيته تعالى لهم أشدُّ شناعةً وأعظمُ جنايةً من عدولهم عن حمده عز وجل ولتحققه مع إغفاله أيضاً فجعلُ أهونَ الشرَّيْن عُمدةً في الكلام مقصودُ الإفادة وإخراجُ أعظمِهما مُخرجَ القيدِ المفروغِ عنه مما لا عهدَ له في الكلام السديد فكيف بالنظم التنزيلي هَذا وقد قيلَ إنَّه معطوفٌ على خلق اتلسموات والمعنى أنه تعالى خلق ما خلق مما لا يقدِر عليه أحدٌ سواه ثم هم يعدلون به سبحانه ما لا يقدِر على شيءٍ منه لكن لا على قصد أنه صلةٌ مستقلة ليكونَ بمنزلة أن يقالَ الحمدُ لله الذي عدَلوا به بل على أنه داخلٌ تحت الصلة بحيث يكون الكلُّ صلةً واحدة كأنه قيل الحمد لله الذي كان منه تلك النعمُ العظامُ ثم من الكفرة والكفر وأنت خبير بأن ما ينتظِمُ في سلك الصلة المنبئةِ عن موجبات حمده عز

الأنعام آية 2 جل حقُّه أن يكونَ له دخلٌ في ذلك الإنباء ولو في الجملة ولا ريب في أن كفرهم بمعزلٍ منه وادعاءُ أن له دَخْلاً فيه لدلالته على كمال الجود كأنه قيل الحمد لله الذي أنعم بمثل هذه النعمِ العِظام على من لا يحمَده تعسّفٌ لا يساعده النظام وتعكيسٌ يأباه المقام كيف لا ومَساقُ النظم الكريم كما تُفصِحُ عنه الآياتُ الآتية تشنيعُ الكفرة وتوبيخُهم ببيانِ غايةِ إساءتِهم مع نهاية إحسانه تعالى إليهم لا بيانِ نهايةِ إحسانه تعالى غليهم مع غاية إساءتهم في حقه تعالى كما يقتضيه الادعاءُ المذكور وبهذا اتضح أنه لا سبيلَ إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه لما أن حقَّ الصلة أن تكون غيرَ مقصودةِ الإفادة فما ظنُّك بما هو من روادفها وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام فتأمل وكن على الحق المبين

2

{هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان بطلان كفرهم بالبعث مع مشاهدتهم لما يوجب الإيمانَ به إثرَ بيانِ بطلانِ إشراكِهم به تعالى مع معاينتهم لموجِبات توحيدِه وتخصيصُ خلقِهم بالذكر من بين سائر دلائل صِحةِ البعث مع أن ما كر من خلقِ السمواتِ والأرضِ من أوضحها وأظهرها كما ورد في قولِه تعالى أَوَلَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم لما أن محل النزاعِ بعثُهم فدلالةُ بدءِ خلقهم على ذلك أظهروهم بشئون أنفسهم أعرفُ والتعامي عن الحجة النيِّرة أقبح والالتفاتُ لمزيد التشنيع والتوبيخ أي ابتدأ خلقَكم منه فإنه المادة الأولى للكل لما أنه منشأ آدم الذي هو ابو البشر وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطَبين لا إلى آدمَ عليه السَّلامُ وهو المخلوقُ منه حقيقةً بأن يقال هو الذي خلق أباكم الخ مع كقاية علمهم بخلقه عليهالسلام منه في إيجاب الإيمانِ بالبعثِ وبطلانِ الامتراءِ لتوضيحِ منهاجِ القياس وللمبالغة في إزاحةِ الاشتباه والالتباس مع ما فيه من تحقيق الحق والتنبيه على حكمةٍ خفية هي أن كلَّ فردٍ من أفراد البشر له حظٌّ من إنشائه عليه السلام منه حيث لم تكن فطرتُه البديعةُ مقصورة على لا نفسه بل كانت أُنموذَجاً منطوياً على فطرة سائرِ آحادِ الجنس انطواءً إجمالياً مستتبِعاً لجَرَيان آثارِها على الكل فكان خلقَه عليه السلام من الطين خلقا لكل أحد من فروعه منه ولمّا كان خلقُه على هذا النمطِ الساري إلى جميع أفراد ذريتِه أبدعَ من أن يكون ذلك مقصوراً على نفسه كما هو المفهومُ من نسبة الخق المذكورِ إليه وأدلَّ على عِظَم قُدرة الخلاق العليم وكمالِ علمِه وحكمتِه وكان ابتداءُ حال المخاطَبين أولى بأن يكون معيار لانتهائها فَعلَ ما فعل ولله درُّ شأنِ التنزيلِ وعلى هذا السرِّ مدارُ قوله تعالى وَلَقَدْ خلقناكم ثو صورناكم الخ وقوله تعالى وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً كما سيأتي وقيل المعنى خلق أباكم منه على حذف المضاف وقيل معنى خلقهم منه خلقهم من النطفة الحاصلةِ من الأغذية المتكوِّنة من الأرض وأيا ما كان ففيه من وضوحِ الدلالةِ على كمال قدرتِه تعالى على البعثِ ما لا يخفَى فإنَّ من قدَرَ على غحياء ما لم يشَمَّ رائحةَ الحياة قط كان على إحياءِ ما قارنها مدةً أظهرَ قدرة {ثُمَّ قَضَى} أي كتب لموتِ كلِّ واحد منكم أَجَلاً خاصاً له أي أحدا معيناً من الزمان يفنى عند حلولِه لا محالة وكلمة ثم للإيذان بتفاوزت ما بين خلقِهم وبين تقديرِ آجالِهم حسبما تقتضيه الحِكَم البالغة {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} أي حدٌّ معينٌ لبعثكم جميعاً وهو مبتدأ لتخصُّصه بالصفة كما في قوله تعالى وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ ولوقوعِه

الأنعام آية 3 في موقع التفصيل كما في قول من قال إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق وشقٌ عنْدنا لم يُحَوَّلِ وتنوينُه لتفخيم شأنه وتهويلِ أمره لذلك أُوثر تقديمُه على الخبر الذي هو {عِندَهُ} مع أن الشائعَ المستفيضَ هو التأخير كما في قولك عندي كلامٌ حقٌّ ولي كتابٌ نفيسٌ كأنه قيل وأيُّ أجلٍ مسمى مُثْبتٍ معينٍ في علمه لا يتغيرُ ولا يقفُ على وقت حلولِه أحدٌ لا مجملاً ولا مفصّلاً وأما أجلُ الموت فمعلومٌ إجمالاً وتقريباً بناءً على ظهور أَماراتِه أو على ما هو المعتادُ في أعمار الإنسان وتسميتُه أجلاً إنما هي باعتبار كونِه غايةً لمدة لُبْثهم في القبور لا باعتبار كونِه مبدأً لمدةِ القيامة كما أن مدار التسمية في الأجل الأول هو كونُه آخِرُ مدة الحياةَ لا كونُه أولِ مدةِ الممات لِما أن الأجلَ في اللغة عبارةٌ عن آخِرِ المدة لا عن أولها وقيل الأجلُ الأول ما بين الخلق والموت الثاني ما بين الموت والبعث مكن البرزخ فإن الأجل كما يُطلق على آخِرِ المدة يُطلق على كلِّها وهو الأوفق لما روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ الله تعالى قضى لكل أحدٍ أجلين أجلاً من مولده إلى موته وأجلاً من موته إلى مبعثه فإن كان بَرّاً تقياً وَصولاً للرحِم زيد له من أجل البعث في أجَل العمر وإن كان فاجراً قاطعاً نُقِصَ من أجل العُمُر وزيد في أجلى البعث وذلك قوله تعالى وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب فمعنى عدم تغير الأجل حينئذ عدمُ تغيُّر آخره والأولُ هو الأشهرُ الأليقُ بتفخيم الأجل الثاني المنوطِ باختصاصه بعلمه تعالى والأنسبُ بتهويله المبنيِّ على مقارنته للطامّة الكبرى فإن كونَ بعضِه معلوماً للخلق ومُضِيِّه من غير أن يقعَ فيه شيءٌ من الدواهي كما يستلزمه الحملُ على المعنى الثاني مُخِلٌّ بذلك قطعاً ومعنى زيادةِ الأجل ونقصِه فيما رُوي تأخيرُ الأجل الأول وتقديمُه {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} استبعادٌ واستنكارٌ لامترائهم في البعث بعد معابنتهم لما ذُكر من الحُجج الباهرة الدالةِ عليه أي تمترون في وقوعه وتحقّقِه في نفسه مع مشاهدتكم في أنفسِكم من الشواهدِ ما يقطع مادةَ الامتراءِ بالكلية فإن مَنْ قدَر على إفاضة الحياة وما يتفرَّع عليها من العلم والقدرة وسائِرِ الكمالاتِ البشرية على مادةٍ غيرِ مستعدّةٍ لشيء منها أصلاً كان أوضح اقتدار على إفاضتها على مادةٍ قد استعدت لها وقارنَتْها مدة ومن ههنا تبين أن ما قيل من أن الأجلَ الأولَ هو النومُ والثانيَ هو الموتُ أو أن الأول أجل الماضيين والثاني أجل الباقيين أو أن الأول مقدارُ ما مضى من عُمُر كلِّ أحدٍ والثانيَ مقدارُ ما بقِيَ منه مما لا وجهَ لَهُ أصلاً لما رأيتَ مِنْ أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ استبعادُ امترائهم في البعث الذي عبَّر عن وقته بالأجل المسمّى فحيثُ أُريد به أحد ما ذُكِرَ منَ الأمورِ الثلاثة ففي أيِّ شيء يمترون ووصْفُهم بالامتراء الذي هو الشكُّ وتوجيهُ الاستبعاد إليه مع أنهم جازمون بانتفاءِ البعث مُصِرّون على إنكاره كما يُنْبىء عنه قولهم أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أئنا لمبعوثوتن ونظائرُه للدلالة على أن جزمَهم المذكورَ في أقصى مراتبِ الاستبعاد والاستنكار وقوله تعالى

3

{وَهُوَ الله} جملةٌ من مبتدإٍ وخبر معطوفةٌ على ما قبلها مَسوقةٌ لبيان شمول أحكام الهيته تعالى لجميع المخبوقات وإحاطةِ علمِه بتفاصيلِ أحوال العباد وأعمالِهم المؤديةِ إلى الجزاء غثر الإشارةِ إلى تحقّق المعادِ في تضاعيفِ بيانِ كيفية خلقهم وتقدير آجالهم قوله تعالى {في السماوات وَفِى الارض} متعلقٌ بالمعنى

الأنعام آية 4 الوصفيِّ الذي يُنبىء عنْهُ الاسم الجليل إما باعتبار أصلِ اشتقاقِه وكونِه علماً للمعبودِ بالحق كأنه قيل وهو لمعبود فيهما وإما باعتبار أنه اسمٌ اشتهر بما اشتهرَتْ به الذاتُ من صفات الكمال فلو حظ معه منها ما يقتضيه المقامُ من المالكية الكليةِ والتصرُّفِ الكامل حسبما تقتضيه المشيئةِ المبنيةِ على الحِكَم البالغة فعُلّق به الظرفُ من تلك الحيثية فصار كأنه قبل وهو المالكُ أو المتصرفُ المدبِّرُ فيهما كما في قوله تعالى وَهُوَ الذى فِى السماء إله وَفِى الأرض إله وليس المرادَ بما ذُكر مَن الاعتبارَيْن أن الاسمَ الجليلَ يُحملُ على معناه اللغويِّ أو على معنى المالك أو المتصرِّف أو نحوِ ذلك بل مجردُ ملاحظة أحدِ المعاني المذكورة في ضمنه كما لوحظ معَ اسْم الأسد في قوله أسدٌ عليَّ الخ ما اشتهرَ به من وصف الجَراءة التي اشتهر بها مُسمَّاه فجرى مجرى جرىءعلى وبهذا تبين أن ما قيل بصدد التصوير والتفسير أي هو المعروفُ بذلك في السموات وفى الارض أو هو المعروفُ المشتهرُ بالصفات الكمالية أو هو المعروف بالإلهية فيهما أو نحوُ ذلك بمعزلٍ من التحقيق فإن المعتبرَ مع الاسم هو نفس الوصف البذي اشتهر به غذ هو الذي يقتضيه المقامُ حسبما بيّن آنفاً لاشتهاره به ألا يُرى أن كلمة عليّ في المثال المذكور لا يمكن تعليقُها باشتهار الاسم بالجَراءة قطعاً وقيل هو متعلِّقٌ بما يفيده التركيبُ الحَصْريُّ من التوحّد والتفرّد كأنه قيل وهو المتوحِّدُ بالإلهية فيهما وقيل بما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه خاصة كأنَّه قيلَ وهُو الذي يقال له الله فيهما لا يُشرك به شيءٌ في هذا الاسم على الوجه الذي سبق من اعتبار معنى التوحّد أو القول في فحوى الكلام بطريق الاستتباع لا على حمل الاسم الجليل على معنى المتوحِّد بالإلهية أو على تقدير القول وقد جوَّز أن يكون الظرفُ خبراً ثانياً على أن كونَه سبحانه فيهما عبارةٌ عن كونه تعالى مبالِغاً في العلم بما فيهما بناءً على تنزيل علمِه المقدس عن حصول الصور والأشباح لكونه حضورياً منزلةَ كونِه تعالى فيهما وتصويرُه به على طريقة التمثيل المبنيِّ على تشبيه حالةِ علمه تعالى بما فيهما بحالة كونه تعالى فيهما فإن العالَم إذا كان في مكانٍ كان عالِماً به وبما فيه على وجهٍ لا يخفى عليه منه شيء فعلى هذا يكون قوله عز وجل {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} أي ما أسرَرْتُموه وما جهرتم به من الأقوال وما أسررتموه وما أعلنتموه كائناً ما كانَ منْ الأقوال والأعمال بياناً وتقريراً لمضمونه وتحقيقاً للمعنى المراد منه وتعليق علمه عز وجل بما ذُكر خاصةً مع شموله لجميع ما فيهما حسبما تفيدُه الجملةُ السابقة لانسياق النظمِ الكريم إلى بيان حال المخاطبين وكذا على الوجه الثاني فإن ملاحظةَ الاسم الجليلِ من حيث المالكيةُ الكلية والتصرفُ الكاملُ الجاري على النمط المذكور مستتبعةٌ لملاحظة علمِه المحيطِ حتماً فيكونُ هذا بياناً وتقريراً له بلا ريب وأما على الأوجه الثلاثة الباقية فلا سبيل إلى كونه بياناً لكن لا لِما قيلَ من أنه لا دلالةَ لاستواء السرِّ والجهر في علمه تعالى على ما اعتُبر فيهما من المعبودية والاختصاص بهذا الاسم إذ ربما يُعبد ويُختصّ به من ليس له كمالُ العلم فإنه باطل قطعاً إذ المراد بمال ذكر هو المعبوديةُ بالحق والاختصاصُ بالاسم الجليل ولا ريبَ في أنَّهما مما لا يتصور فيمن ليس له كمالُ العلم بديهةً لأن ما ذُكر من العلمِ غيرُ معتبرٍ في مدلول شيءٍ من المعبودية بالحق والاختصاصِ بالاسم حتى يكونَ هذا بياناً له وبهذا تبين أنه ليس ببيانٍ على الوجه الثالث أيضاً لما أن التوحدَ بالإلهية لا يُعتبر في مفهومه العلمَ الكاملَ ليكون هذا بياناً له بل هو معتبرٌ فيما صدَق عليه المتوحِّد وذلك غيرُ كاف

الأنعام آية 4 5 في البيانية وقيل هو خبرٌ بعد خبرٍ عند من يجوز كون الخبر الثاني جملةً كما في قوله تعالى فغذا هي حية تسعة وقيل هو الخبر والاسمُ الجليل بدلٌ من هو وبه يتعلق الظرف المتقدم ويكفي في ذلك كونُ المعلوم فيهما كما في قولك رميتُ الصيدَ في الحرَم إذا كان هو فيه وأنت خارجَه ولعل جعْلَ سرهم جهرهم فيهما لتوسيع الدائرة وتصويرِ أنه لاَ يعزُب عنْ علمِه شيءٌ منهما في أي مكان كان لا لأنهما قد يكونان في السموات أيضاً وتعميمُ الخطاب لأهلها تعسُّفٌ لا يخفى {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} أي ما تفعلونه لجلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ من الأعمال المكتسَبةِ بالقلوب أو بالجوارح سراً أو علانية وتخصيصُها بالذِّكرِ مع اندراجها فيما سبق على التفسير الثاني للسر والجهر لإظهار كمال الاعتناء بها لأنها التي يتعلق بها الجزاءُ وهو السرُّ في إعادة يعلم

4

{وما تأتيُهم من آيةٍ من آيات رَبّهِمْ} كلام مستأنَفٌ واردٌ لبيان كفرهم بآيات الله وإعراضِهم عنها بالكلية بعد ما بيّن في الآية الأولى إشراكهم باللخه سبحانه وإعراضَهم عن بعض آيات التوحيد وفي الآية الاثنية امتراؤهم في البعث وإعراضَهم عن بعض ى ياته والالتفاتُ للإشعار بأن ذكْرَ قبائحِهم قد اقتضى أن يضرِبَ عنهم الخطابَ صفحاً وتعددُ جناياتهم لغيرهم ذماً لهم وتقبيحاً لحالهم فما نافية وصيغة المضارع لحطكاية الحال الماضية أو للدلالة على الاستمرار التجددي ومِنْ الأُولى مزيدةٌ للاستغراقِ والثاني تبعيضيةٌ واقعةٌ مع مجرورِها صفةً لآيةٍ وإضافةُ الآيات إلى اسم الرب المضافِ إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتْبِعِ لتهويل ما اجترُءوا عليه في حقِّها والمراد بها إمَّا الآياتُ التنزيليةُ فإتيانها نزولا والمعنى ما ينزِلُ إليهم آيةٌ من الآيات القرآنيةَ التي من جملتها هاتيك الآياتُ الناطقةُ بما فُصِّل من بدائعِ صنعِ الله عز وجل المُنْبئةِ عن جَرَيان أحكام ألوهيتِه تعالى على كافة الكائنات وإحاطةِ علمه بجميع أحوال الخق وأعمالهم الموجبةِ للإقبال عليها والإيمانِ بها {إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي على وجه التكذيبِ والاستهزاء كما ستقف عليه وأما الآياتُ التكوينيةُ الشاملةُ للمعجزات وغيرِها من تعاجيبِ المصنوعاتِ فإتيانُها ظهورُها لهم والمعنى ما يظهر لهم ى ية من الآيات التكوينيةِ التي من جملتها ما ذكر من جلائل شئونه تعالى الشاهة بوحدانيته إلا كانوا عنها معرضين تاركين للنظر الصحيحِ فيها المؤدِّي إلى الإيمان بمُكوِّنها وإيثارُه على أن يقال إلاَّ أعرضُوا عنها كما وقع مثلُه في قوله تعالى وَإِن يَرَوْاْ آية يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ للدلالة على استمرارهم على الإعراضِ حسَبَ استمرارِ إتيانِ الآياتِ وعن متعلقةٌ بمعرضين قُدِّمت عليه مراعاة للفاواصل والجملة في محل النصب على أنَّها حالٌ من مفعولِ تأتي أو من فاعلِه المتخحصص بالوصف لاشتمالِها على ضمير كل منهما وأياً ما كان ففيها دلالة بينةٌ على كمال مسارعتهم إلى الإعراض وإيقاعهم له في آنِ الإتيان كما يُفصح عنه كلمةُ لما في قولِهِ تعالَى

5

{فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ} فإن الحق عبارةٌ عن القرآن الذي أعرضوا عنه حين أعرضوا عن كل آية آية منه عبر بذلك إبانةً لكمال قُبح ما فعلوا به فإن تكذيب الحقِّ مما لا يتصور صدوره

الأنعام آية 6 عن أح والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكنْ لاَ على أنَّها شيءٌ مغايِرٌ له في الحقيقة واقعٌ عَقيبَه أو حاصلٌ بسببه بل على أنَّ الأول وهو عينُ الثاني حقيقة وإنَّما الترتيبُ بحسَب التغايُرِ الاعتباريِّ وقد لتحقيقِ ذلك المعنى كما في قوله تعالى فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً بعد قوله تعالى وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فإن ما جاءوه أي فعلوه من الظلم والزور عينُ قولِهم المَحْكِيّ لكنه لما كان مُغايراً له مفهوماً وأشنَعَ منه حالاً رُتِّبَ عليه بالفاء ترتيبَ اللازم على الملزوم تَهويلاً لأمره كذلك مفهومُ التكذيب بالحق حيث كان أشنعَ من مفهوم الإعراضِ المذكورِ أُخرِجَ مُخرَجَ اللازم البيِّنِ البُطلان فرُتِّبَ عليه بالفاء إظهاراً لغاية بُطلانه ثم قُيد ذلك بكونه بلا تأمل تأكيداً لشناعته وتمهيداً لبيان أن ما كذبوا به إثر ذي أثير عواقبُ جليلةٌ ستبدو لهم البتة والمعنى أنهم حيث أعرضوا عن تلك الآيات عند إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن تكذيبُه أصلاً من غير أن يتدبروا في حاله ومآله ويقِفوا على ما في تضاعيفِه من الشواهد الموجبةِ لتصديقه كقوله تعالى بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بعلمه ولما يأتهم تَأْوِيلِهِ كما يُنْبىء عنه قوله تعالى {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون} فإن ما عبارةٌ عن الحق المذكور عبر عنه بذلك تهويلاً لأمره بإبهامه وتعليلاً للحكم بما في حيز الصلة وإنباؤه عبارةٌ عما سيَحيقُ بهم من العقوبات العاجلة التي نطَقت بها آياتُ الوعيد وفي لفظ الأنباء إيذانٌ بغاية العِظَم لِما أن النَّبأَ لا يُطلق إلا على خبرٍ عظيمِ الوقع وحملُها على العقوبات الآجلةِ أو على ظهور الإسلام وعلو كلمته يأباه الآيات الآتية وسوف لتأكيد مضمونِ الجملة وتقريرهِ أي فسيأتيهم البتةَ وإن تأخرَ مِصْداقُ أنباء الشيءِ الذي كانُوا يكذِّبون بهِ قَبلُ مِنْ غير أن يتدبروا في عواقبه وإنما قيل يستهزءون إيذانا بأن تكذيهم كان مقروناً بالاستهزاء كما أشير إليه هذا على أن يراد بالآيات القرآنيةُ وهو الأظهر وأما إنْ أُريد بها الآياتُ التكوينيةُ فالفاءُ داخلةٌ على عِلَّة جوابِ شرطٍ محذوف والإعراضُ على حقيقته كأنه قيل إن كانوا معرضين عن تلك الآيات فلا تعجبْ فقد فعلوا بما هو أعظمُ منها ما هو أعظمُ من الإعراض حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات ولا مَساغَ لحمل الآيات في هذا الوجه على كلها أصلاً وأما ما قيل من أن المعنى أنهم لمّا كانوا معرِضين عن الآيات كلِّها كذبوا بالقرآن فمِمّا ينبغِي تنزيهُ التنزيلِ عن أمثاله

6

{أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ} استئنافٌ مَسوقٌ لتعيين ما هو المرادُ بالإنباء التي سبق بها الوعيد وتقرير إتيانِها بطريق الاستشهاد وهمزةُ الإنكار لتقرير الرؤية وهي عِرْفانية مستدعيةٌ لمفعول واحد وكم استفهاميةً كانت أو خبريةً معلِّقةٌ لها عن العمل مفيدة للتكثير سادّةٌ معَ ما في حيزها مسد مفعولهات منصوبةٌ بأهلكنا على المفعولية على أنَّها عبارةٌ عن الأشخاص ومن قرن مميِّزٌ لها على أنه عبارةٌ عن أهل عصر من الأعصار سمو بذلك لاقترانهم برهة

الأنعام آية 6 من الدهر كما في قولِه عليه الصلاة والسلام خيرُ القرون قَرني ثم الذين يلونهم الحديث وقيل هو عبارة عن مدة من الزمان والمضافُ محذوف أي من أهلَ قرن وأما انتصابها على المصدرية أو على الظرفية على أنَّها عبارةٌ عن المصدر أو عن الزمان فتعسفٌ ظاهر ومن الأولى ابتدائية متعلقة بأهلكنا أي ألم يعرِفوا بمعايَنةِ الآثارِ وسَماعِ الأخبار كم أمةٍ أهلكنا من قبلِ أهل مكة أي من قبلِ خلقِهم أو من قبل زمانهم على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه كعادٍ وثمودَ وأضرابِهم وقوله تعالى {مكناهم فِى الارض} استئناف لبيان كيفيةِ الإهلاك وتفصيلِ مباديه مبنيٌّ على سؤال نشأ من صدر الكلامِ كأنَّه قيلَ كيفَ كان ذلك فقيل مكانهم الخ وقيل هو صفةٌ لقرنٍ لِما أن النكرةَ مفتقرةٌ إلى مخصص فإذا وَلِيهَا ما يصلُح مخصِّصاً لها تعين وصيفته لها وأنتَ خبيرٌ بأنَّ تنوينَه التفخيميَّ مُغنٍ له عن استدعاء الصفة على أن ذلك مع اقتضائه أن يكون مضمونُه ومضمونُ ما عُطف عليه من الجمل الأربع أمراً مفروغاً عنه غيرَ مقصودِ بسياق النظم مؤدَ إلى اختلاف النَّظمُ الكريمُ كيفَ لا والمعنى حينئذٍ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قرنٍ موصوفين بكذا وكذا وبإهلاكنا إياهم بذنوبهم وأنه بيِّنُ الفساد وتمكينُ الشيء في الأرض جعلُه قارّاً فيها ولمّا لزِمه جعلُها مقراً له ورد الاستعمالُ بكلَ منهما فقيل تارةً مكّنه في الأرض ومنه قوله تعالى وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ وأخرى مكَّن له في الأرضِ ومنه قولُه تعالى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض حتى أُجرِيَ كلٌّ منهما مُجرَى الآخرَ ومنه قوله تعالى {مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ} بعد قوله تعالى مكناهم فِى الأرض كأنَّه قيلَ في الأول مكنا لهم أو في الثاني ما لم نمكنْكم وما نكرةٌ موصوفةٌ بما بعدها من الجملة المنفية والعائد محذوف محلها على النصب على المكصدرية أي مكناهم تمكيناً لم نمكنْه لكم والالتفاتُ لما في مواجهتهم بضَعف الحال مزيدُ بيانٍ لشأن الفريقين ولدفعِ الاشتباه من أول الأمر عن مرجِعَي الضميرين {وَأَرْسَلْنَا السماء} أي المطرَ أو السحاب أو المظلة لأنها مبدأ المطر {عَلَيْهِمْ} متعلق بأرسلنا {مُّدْرَاراً} أي مِغزاراً حال من السماء {وَجَعَلْنَا الانهار} أي صيّرناها فقوله تعالى {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ} مفعولٌ ثانٍ لجعلنا أو أنشأناها فهو حالٌ من مفعولِه ومن تحتهم متعلق بتجري وفيه من الدلالة على كونها مسخّرةً لهم مستمرةً على الجريان على الوجه المذكور ما ليس في أن يقالَ وأجرينا الأنهارَ من تحتهم وليس المرادُ بتَعدادِ هاتيك النعم العظامِ الفائضةِ عليهم بعد ذكر تمكينهم بيانَ عِظَم جنايتهم في كفرانها واستحقاقَهم بذلك لأعظم العقوبات بل بيانَ حيازتهم لجميعه اأسباب نيل المآرب ومبادىء الأمن والنجاة من المكاره والمعاطب وعدمَ إغناءِ ذلك عنهم شيئاً والمعنى أعطيناهم من البطة في الأجسام وزالامتداد في الأعمار والسَّعةِ من الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا في استجلاب المنافع واستدفاع المضارِّ ما لم نُعط أهلَ مكةَ ففعلوا ما فعلوا {فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ} أي أهلكنا كلَّ قرن من تلك القرون بسبب ما يخُصّهم من الذنوب فما أغنى عنهم تلك العُدَدُ والأسباب فسيحِلُّ بهؤلاء مثلُ ما حلَّ بهم من العذاب وهذا كما ترى آخِرُ ما به الاستشهادُ والاعتبار وأما قولُه سبحانه {وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ} أي أحدثنا من بعد إهلاك كل قرن {قَرْناً آخَرِين} بدلاً من الهالكين فلبيان كمالِ قدرتِه تعالى وسَعة سُلطانه وأن ما ذُكر من إهلاك الأمم الكثيرة

الأنعام آية 7 8 لم يَنْقُصْ من ملكه شيئاً بل كلما أهلك أمةً أنشأ بدلها أخرى

7

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ} جملةٌ مستأنفة سيقت بطريق تلوين الخطاب لبيان شدةِ شكيمتِهم في المُكابرة وما يتفرَّع عليها من الأقاويل الباطلةِ إثر بيان إعراضهم عن آياتِ الله تعالى وتكذيبِهم بالحق واستحقاقِهم بذلك لنزولِ العذاب ونسبة التنزيل ههنا إليه عليه السلام مع نسبة إتيانِ الآياتِ ومجيءِ الحقِّ فيما سبق إليهم للإشعار بقَدْحهم في نبوته عليه السلام في ضمن قدحِهم فيما نزل عليه صريحاً وقال الكلبي ومقاتل نزلت في النضرين الحرث وعبدِ اللَّه بنِ أبي أمية ونوفل ابن خويلد حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لن نؤمن لك حتى تأتيَنا بكتاب مّنْ عِندِ الله ومعه أربعةٌ من الملائكة يشهدون أنَّه من عندِ الله تعالى وأنك رسولُه {كتابا} إن جُعل اسما كالإمام فقوله تعالى {فِى قِرْطَاسٍ} متعلقٌ بمحذوف وقع صفة له أي كتاباً كائناً في صحيفة وإن جعل مصدراً بمعنى المكتوب فهو متعلِّق بنفسه {فلمسوه} 6 أي لكتاب وقيل القرطاس وقوله تعالى {بِأَيْدِيهِمْ} مع ظهور أن اللمس لا يكون عادة إلا بالأيدي لزيادة التعين ودفع احتمالِ التجوُّز الواقعِ في قوله تعالى وأما لَمَسْنَا السماء أي تفحّصنا أي فمسوه بأيدهم بع ما رأَوْه بأعينهم بحيث لم يبقَ لهم في شأنه اشتباه ولم يقدِروا على الاعتذار بتسكير الأبصار {لقالوا} وإنما وضع الموصولُ موضعَ الضمير للتنصيص على اتِّصافُهم بما في حِّيزِ الصلة من الكفر الذي لا يخفى حسنُ موقعِه باعتبار مفهومه اللغوي أيضاً {إِنَّ هَذَا} أي ما هذا مشيرين إلى ذلك الكتاب {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي بيِّنٌ كونُه سحراً تعننا وعناداً للحق بعد ظهوره كما هو دأْبُ المُفحَمِ المجوج وديدان المكابِرِ اللَّجوج

8

{وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} شروع في قدحهم في نوبته عليه السلام صريحاً بعد ما أُشير إلى قدحهم فيهما ضِمناً وقيل هو معطوفٌ على جواب لو وليس بذاك لما أن تلك المقالةَ الشنعاءَ ليست مما يُقدَّر صدورُه عنهم على تقدير تنزيلِ الكتابِ المذكور بل هي من أباطيلهم المُحقّقة وخُرافاتهم المُلفّقة التي يتعللون بها كلما ضاقتْ عليهم الحيلُ وعيَّت بهم العلل أي هلا أُنزل عليه عليه السلام مَلكٌ بحيث نراه ويكلمنا أنه نبيٌّ حسبما نُقل عنهم فيما رُويَ عن الكلبي ومقاتل ونظيرُه قولهم لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ولما كان مدارُ هذا الاقتراح على شيئين إنوال الملَك كما هو وجعلِه معه عليه السلام نذيراً أجيب عنه بأن ذلك مما لا يكادُ يدخُل تحتَ الوجود أصلاً لاشتماله على أمرين متباينين لا يجتمعان في الوجود لِما أن إنزالَ الملَك على صورته يقتضي انتفاءَ جعلِه نذيراً وجعلُه نذيراً يستدعي عدمَ إنزاله على صورته لا مَحالة وقد أشير إلى الأول بقوله تعالى {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الامر} أي لو أنزلنا ملكا عللا هيئاته حسْبما اقترحوه والحالُ أنه مِن هِوْل المنظر بحيث لا تُطيقُ بمشاهدته قوى الآحاد البشرية ألا يرى أن الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام كانوا يشاهدون الملائكةَ ويفاوضونهم على الصور

الأنعام آية 9 البشرية كضيف غبراهيم ولوطٍ وخصْمِ داودَ عليهم السلام وغير ذلك وحيث كان شأنُهم كذلك وهم مؤيَّدون بالقُوى القدُسية فما ظنُّك بمن عداهم من العوام فلو شاهدوه كذلطك لقُضِيَ أمرُ هلاكهم بالكلية واستحال جعلُه نذيراً وهو مع كونه خلافَ مطلوبِهم مستلزِمٌ لإخلاءِ العالم عما عليه يدور نظامُ الدنيا والآخرةِ من إرسال الرُّسل وتأسيسِ الشرائع وقد قال سبحانه وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً وفيه كما ترى إيذانٌ بأنهم في ذلك الاقتراحِ كالباحثِ عن حَتْفه بظِلْفه وأن عدم الإجابة إليه للبُقيا عليهم وبناءالفعل الأول في الجواب للفاعل الذي هو نونُ العَظمة مع كونه في السؤال مبنياً للمفعول لتهويلِ الأمر وتربية المهابة وبناء الثاني للمفعولِ للجَريِ على سَنَنِ الكِبرياء وكلمةُ ثم في قوله تعالى {ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} أي لا يُمْهَلون بعد نزوله طرفةَ عينٍ فضلاً عن أن يُنْذَروا به كما هو المقصودُ بالإنذار للتنبيه على تفاوت ما بين قضاءِ الأمر وعدمِ الإنظار فإن مفاجأة العذابِ أشدُّ من نفس العذاب وأشق وقيل في سبب إهلاكهم أنهم إذا عاينوا الملَك قد نزل على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم في صورته وهي آيةٌ لا شيءَ أبينُ منها ثم لم يؤمنوا لم يكنْ بدٌّ من إهلاكهم وقيل إنهم إذا رأَوه يزول الاختيارُ الذي هو قاعدةُ التكليف فيجبُ إهلاكُهم وإلى الثاني بقوله تعالى

9

{وَلَوْ جعلناه مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً} على أن الضميرَ الأول للنذير المفهومِ من فحوى الكلام بمعونة المقام وإنما لم يجعل للملك المذكور قبله بأن يعكس ترتيب المفعولين ويقال لو جعلناه نذيراً لجعلناه رجلاً مع فهم المراد منه أيضاً لتحقيق أن مناطَ إبرازِ الجعل الأول في معرِض الفرض والتقدير ومدارَ استلزامه للثاني إنما هو مَلَكيةُ النذير لا ذيرية المللك وذلك لأن الجعل حقُّه أن يكون مفعولُه الأولُ مبتدأ والثاني خبراً لكونه بمعنى التصييرِ المنقول من صار الداخِلِ على المبتدأ والخبر ولا ريب في أن مصَبّ الفائدة ومدارَ اللزوم بين الشرطية هو محمولُ المقدَّمِ لا موضوعُه فحيث كانت امتناعيةً أريد بها بيانُ انتفاءِ الجعْلِ الأول لاستلزامه المحذور الذي هو الجعل الثاني وجب أن يُجعلَ مدارُ الاستلزام في الأول مفعولاً ثانياً لا محالة ولذلك جَعَل مُقابِلَه في الجعل الثاني كذلك إبانةً لكمال التنافي بينهما الموجبِ لانتفاء الملزوم والضمير الثاني للملك لا لما رجع إليه الأول والمعنى لو جعلنا النذيرَ الذي اقترحوه ملكاً لمثّلنا ذلك المَلكَ رجلاً لما مر من عدم استطاعةِ الآحاد لمُعاينَةِ الملك على هيكله وفي إيثار رجلاً على بشراً إيذانٌ بأن الجعلَ بطريقِ التَّمثيلِ لا بطريقِ قلب الحقيقة وتعيينٌ لما يقع به التمثيل وقوله تعالى {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم} عطفٌ على جواب لو مبنيّ على الجواب الأول وقرىء بحذف لام الجواب اكتفاءً بما في المعطوف عليه يقال لَبَستُ الأمرَ على القوم ألبِسُه إذا شبّهتُه وجعلته مشكلا وأصله الستر بالثوب وقرىء الفعلان بالتشديد للمبالغة أي ولَخلّطنا عليهم بتمثيله رجلاً {ما يلبسون} على أنفسهم حينئذ بأن يقولوا له إنما أنت بشرٌ ولست بمَلَك ولو استُدل على مَلَكيته بالقرآن المعجزِ الناطقِ بها أو بمعجزاتٍ أُخَرَ غيرِ مُلجئةٍ إلى التصديق لكذّبوه كما كذبوا النبي عليه الصلاة والسلام ولو أظهر لهم صورته الأصلية لزم الأمر الأول والتعبير عن تمثيله تعالى رجلاً باللَّبْس إما لكونه في سوء اللبس

الأنعام آية 10 12 أو لكونه سبباً لِلَبْسِهم أو لوقوعه في صُحبته بطريق المشاكلة وفيه تأكيدٌ لاستحالة جعل النذيرِ مَلَكاً كأنه قيل لو فعلناع لفعلنا ما لا يليق بشأننا من لَبْس الأمر عليهم وقد جُوِّز أن يكونَ المعنى وللبسنا عليهم حينئذ مثلَ ما يلبِسون على أنفسهم الساعةَ في كفرهم بآيات الله البينة

10

{ولقد استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ} تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه وفي تصدير الجملة بلام القسم وحرفِ التحقيق من الاعتناء بها ما لا يخفى وتنوينُ رسل للتفخيم والتكثير ومن ابتدائيةٌ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لرسل أي وبالله لقد استُهزىء برسل أولي شأنٍ خطيرٍ وذوي عدد كبير كائنين من زمانٍ قبلَ زمانك على حذف المضافِ وإقامةِ امضاف إليه مُقامَه {فَحَاقَ} عَقيبه أي أحاط أو نزل أو حلَّ أو نحوُ ذلك فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يُستعمل إلا في الشر والحيقُ مايشتمل على الإنسان من مكروهِ فِعْلِه وقوله تعالى {بالذين سخروا منهم} أي استهزؤا بهم من أولئك الرسلِ عليهم السلام متعلق بحاق وتقديمُه على فاعله الذي هو قوله تعالى {مَّا كانوا به يستهزؤون} للمسارعة إلى بيان لحوقِ الشرّ بهم وما إما موصولةٌ مفيدةٌ للتهويل أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزءون به حيث أُهلكوا لأجله وإما مصدريةٌ أي فنزل بهم وَبالُ استهزائهم وتقديم الجار والمجرور على الفعل لرعاية الفواصل

11

{قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض} بعد بيانِ ما فعلت الأممُ الخالية وما فُعل به خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنذار قومه وتذكيرِهم بأحوالهم الفظيعة تحذيراً لهم عمَّا هم عليه وتملة للتسلية بما في ضِمْنه من العدة الالطيفة بأنه سيَحيقُ بهم مثلُ ما حاق بأضرابهم الأولين ولقد أنجَز ذلك يومَ بدرٍ أيَّ إنجازٍ أي سيرو في الأرض لتعرف أحوال أولئك الأمم {ثُمَّ انظروا} أي تفكروا {كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} وكلمة ثم إما لأن النظر في آثار الهالكين لا يتسنى إلا بعد انتهاءالسير إلى أماكنهم وإما لإبانةِ ما بينهما من التفاوت في مراتب الوجوب وهو الأظهر فإن وجوب السير ليس إلا لكونه وسيلةً إلى النظر كما يفصح عنه العطف بالفاء في قولِه عزَّ وجلَّ فانظروا الآية وإما أن الأول الأول لإباحة السير للتجارة ونحوها والثاني لإيجاب النظر في آثارهم وثم لتُباعِدَ ما بين الواجب والمباح فلا يناسب المقام وكيفَ معلِّقةٌ لفعلِ النظرِ ومحلُ الجملةِ النصبُ بنزعِ الخافض أي تفكروا في أنهم كيف أُهلكوا بعذاب الاستئصال والعاقبة مصد كالعافية ونظائرِها وهي منتهى الأمرِ ومآلُه ووضعُ المكذبين موضعَ المستهزئين لتحقيق أن مدارَ إصابةِ ما أصابهم هو التكذيبُ لينزجِرَ السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط مع بقاء التكذيب بحاله بناءً على توهُّم أنه المدار في ذلك

12

{قُلْ} لهم بطريق الإلجاء

الأنعامآيه 10 11 12 والتبكيت {لّمَن مَّا فِى السماوات والارض} من العقلاء وغيرِهم أي لمن الكائناتُ جميعاً خالقا ومُلكاً وتصرّفاً وقوله تعالى {قُل لِلَّهِ} تقريرٌ لهم وتنبيهٌ على أنه المتعيَّنُ للجواب بالاتفاق بحيث لا يتأتّى لأحد أن يُجيب بغيره كما نطق به قوله تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خلقِ السمواتِ والأرضِ لَيَقُولُنَّ الله وقوله تعالى {كتب على نفسه الرحمة} جملةٌ مستقلةٌ داخلةٌ تحتَ الأمر ناطقةٌ بشمول رحمتِه الواسعةِ لجميع الخلق شمولَ مُلكِه وقدرته للكلِّ مَسوقةٌ لبيان أنه تعالى رءوف بعباده لا يعدل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة وافنابة وأن ما سبق ذكرُه وما لحِقَ من أحكام الغضب ليس من مقتَضيَات ذاتِه تعالى بل من جهة الخَلْق كيف لا ومن رحمتِه أن خلقَهم على الفطرة السليمةِ وهداهم إلى معرفته وتوحيدِه بنَصْب الآياتِ الأنفسية والآفاقية وإرسالِ الرسل وإنزالِ الكُتب المشحونة بالدعوة إلى موجباتِ رِضوانِه والتحذير عن مقتضيان سُخْطِه وقد بدّلوا فطرةَ الله تبديلاً وأعرَضوا عن الآياتِ بالمرة وكذّبوا بالكتب واستهزءوا بالرسل وما ظلمهم الله ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين ولولا شمولُ رحمتِه لسلك بهؤلاءِ أيضاً مَسلكَ الغابرين ومعنى كتب الرحمة على نفسه أنه تعالى قضاها وأوجبها بطريق التفضُّل والإحسانِ على ذاته المقدّسةِ بالذات لا بتوسُّط شيءٍ أصلاً وقيل ما رُوي عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لمَّا قضى الله تعالى الخلقَ كتَبَ في كتابٍ فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي وعنه في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لمَّا قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إنَّ رحمتي غلبتْ غضبي وعن عمر رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب ما أولُ شيءٍ ابتدأه الله تعالى مِنْ خلقه فقال كعب كتب الله كتاباً لم يكتبْه بقلم ولا مِدادٍ كتابةَ الزَّبَرْجد واللؤلؤ والياقوت إني أَنَا الله لاَ إله إِلا أَنَاْ سبقت رحمتي غضبي ومعنى سبْقِ الرحمةِ وغَلَبتِها أنها أقدمُ تعلُّقاً بالخلق وأكثرُ وصولاً إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير وفي التعبير عن الذات بالنفس حجةٌ على من ادّعى أن لفظَ النفسِ لا يُطلق على الله تعالى وإن أريد به الذاتُ إلا مشاكلةً لِما ترَى من انتفاءِ المشاكلة ههنا بنَوْعَيْها وقوله تعالى {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} جوابُ قسمٍ محذوف والجملة استئنافٌ مسوقٌ للوعيد على إشراكهم وإغفالِهم النظرَ أي والله ليجمعنّكم في القبور مبعوثين أو محشورين إلى يوم القيامة فيجازيكم على شركك وسائرِ معاصيكم وإن أمهلكم بموجَب رحمتِه ولم يعاجِلْكم بالعقوبة الدنيوية وقيل إلى بمعنى اللام أي ليجمعنك ليوم القيامة كقوله تعالى إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لا ريبَ فيه وقيل هي بمعنى في أي ليجمعنكم يوم القيامة {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في اليوم أو في الجمع وقوله تعالى {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} أي بتضييع رأسِ مالهم وهو الفطرةُ الأصليةُ والعقلُ السليم والاستعدادُ القريبُ الحاصلُ من مشاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم واستماعِ الوحْي وغيرِ ذلك من آثار الرحمة في موضع النصْب أو الرفعِ على الذم أي أعني الذين الخ وهم مبتدأ والخبر قوله تعالى {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} والفاءُ لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشرط والإشعارُ بأن عدمَ إيمانهم بسبب خُسرانهم فإن إبطالَ العقل باتباع الحواسِّ والوهم والانهماك في تلقليد وإغفالِ النظر أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناعِ من الإيمان والجملةُ تذييلٌ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى لهم لتقبيح حا غير داخل

الأنعام 13 15 تحت الأمر

13

{وَلَهُ} أي لله عز وجل خاصةً {مَا سَكَنَ فِى الليل والنهار} نزال الملوان منزلةَ المكان فعبّر عن نسبة الأشياء الزمانية إليهما بالسُكنى فيهما وتعديتُه بكلمة في كَما في قولِه تعالى وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ أو السكونِ مقابلَ الحركة والمرادُ ما سكن فيهما أو تحرّك فاكتفي بأحد الضدَّيْن عن الآخر {وَهُوَ السميع} المبالغُ في سماع كلِّ مسموع {العليم} المبالغُ في العلمِ بكلّ معلوم فلا يَخْفى عليه شيءٌ من الأقوال والأفعال

14

{قُلْ} لهم بعد ما بكّتهم بما سبق من الخطاب {أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} أي معبوداً بطريق الاستقلالِ أو الاشتراك وإنما سُلِّطت الهمزةُ على المفعول الأول لا على الفعل إيذاناً بأن المنكرَ هو اتخاذُ غيرِ الله ولياً لا اتخاذُ الوليِّ مطلقاً كما في قوله تعالى أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا وقولُه تعالى أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ الخ {فَاطِرِ السماوات والارض} أي مُبدعِهما بالجرِّ صفةٌ للجَلالة مؤكِّدةٌ للإنكار لأنه بمعنى الماضي ولذلك قُرىء فطَرَ ولا يضرّ الفصلُ بينهما بالجملة لأنها ليست بأجنبية إذ هي عاملةٌ في عامل الموصوف أو بدلٌ فإن الفصلَ بينه وبين المبدل منه أسهلُ لأن البدلَ على نية تكرير العامل وقرىء بالرفع والنصب على المدح وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما عرفتُ معنى الفاطرِ حتى اختصم إليَّ أعرابيانِ في بشر فقال أحدهما أنا فَطَرْتُها أي ابتدأتها {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} أي يرزُق الخلق ولا يُرْزَق وتخصيصُ الطعام بالذكر لشدة الحاجة إليه أو لأنه معظمُ ما يصل إلى المرزوق من الرزق ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحالية فإن مضمونها مقرر لوجوب اتخاذه سبحانه وتعالى وليا وقرىء ولا يطعم بفتح الياء وبعكس القراءةِ الأُولى أيضاً على أن الضميرَ لغير الله والمعنى أأُشرِك بمن هو فاطرُ السموات والأرض ما هو نازلٌ عن رتبة الحيوانية وببنائهما للفاعل على أن الثانيَ بمعنى يستطعم أو على معنى أنه يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله تعالى يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ {قُلْ} بعد بيان أن اتخاذِ غيرِه تعالى ولياً ممَّا يَقْضي ببُطلانِه بديهةُ العقول {إِنّى أُمِرْتُ} من جنابِه عزَّ وجلَّ {أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} وجهَه لله مخلِصاً له لأن النبيَّ إمامُ أمته في الإسلام كقوله تعالى وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين وقوله تعالى سبحانك تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين {وَلاَ تَكُونَنَّ} أي وقيل لي وَلاَ تَكُونَنَّ {مِنَ المشركين} أي في أمرٍ من أمورِ الدِّينِ ومعناه أُمرت بالإسلام ونُهيتُ عن الشرك وقد جوَّزَ عطفَه على الأمر

15

{قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى} أي بمخالفة أمرِه ونهيه أيَّ عصيانٍ كان فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً وفيه بيانٌ لكما اجتنابه صلى الله عليه وسلم عن المعاصي على الإطلاق وقولُه تعالى {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} أي عذابَ يوم القيامة مفعول خاف

الأنعام آية 16 19 والشرطية معترِضةٌ بينهما والجوابُ محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه وفيه قطعٌ لأطماعهم الفارغة وتعريضٌ بأنهم عصاةٌ مستوجبون للعذاب العظبم

16

{مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ} على البناء المفعول أي العذاب وقرىء على البناء للفاعل والضمير لله سبحانه وقد قرىء بالإظهار والمفعولُ محذوفٌ وقوله تعالى {يومئذ} للصرف أيْ في ذلكَ اليومِ العظيم وقد جوز أن يكون هو المفعول على قراءة البناء للفاعل بحذف المضاف أي عذاب يومئذ {فَقَدْ رَحِمَهُ} أي نجاه وأنعم عليه وقيل فقد أدخله الجنة كما في قوله تعالى فمن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ والجملة مستأنفةٌ مؤكِّدةٌ لتهويل العذاب وضميرُ عنه ورَحمه لمن هو عبارة عن غيرالعاصي {وَذَلِكَ} إشارة إلى الصرف أو الرحمة لأنها مؤوّلة بأن مع الفعل وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ درجتِه وبعد مكانه في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى {الفوز المبين} أي الظاهرُ كونُه فوزاً وهو الظَفَر بالبُغية والألف واللام لقصره على ذلك

17

{وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ} أي ببليةٍ كمرَض وفقر ونحو ذلك {فَلاَ كاشف لَهُ} أي فلا قادرَ على كشفه عند {إِلاَّ هُوَ} وحده {وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ} من صِحةٍ ونعمةٍ ونحو ذلك {فَهُوَ على كل شىء قدير} ومن جملته ذلك فيقدِرُ عليه فيمسك به ويحفَظْه عليك من غير أنيقدر علي دفعه أو على رفعه أحدٌ كقوله تعالى فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ وحملُه على تأكيد الجوابين يأبه الفاء تذكرة روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال أُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها كسرى فركِبها بحبْل من شعر ثم أردفني خلفه ثم سار بي ميلاً ثم التفت إلي فقال يا غلام فقلت لبيك يا رسول الله فقال أحفَظِ الله يحفَظْك احفظ الله تجدْه أمامك تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرِفْك في الشدة وإذا سألت فاسألِ الله وإذا استعنت فاستعنْ بالله فقد مضى القلمُ بما هو كائنٌ فلو جَهَدَ الخلائقُ أن ينفعوك بما لم يقضِه الله لك لم يقدِروا عليه ولو جَهَدوا أن يضروك بما لم يكتُبِ الله عليك ما قدَروا عليه فإن استطعتَ أن تعملَ بالصبر مع اليقين فافعل فإن لم تستطِعْ فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً واعلم أن النصر مع الصبر وأن مع الكرْب فرَجاً وأن مع العسر يسراً

18

{وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} تصويرٌ لقهره وعلوِّه بالغَلَبة والقُدرة {وَهُوَ الحكيم} في كلِّ ما يفعله ويأمر به {الخبير} بأحوال عبادِه وخفايا أمورِهم واللام في المواضع الثلاثة للقصر

19

{قل} أي

الأنعام آية 20 21 {شَىْء أَكْبَرُ شهادة} رُوِيَ أنَّ قريشاً قالُوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد لقد سألنا عنك اليهودَ والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكرٌ ولا صفةٌ فأرنا من يشهد لك أنك رسولُ الله فنزلت فأي ممبتدأ وأكبر خبره وشهادة نصبعلى التمييز وقوله تعالى {قُلِ الله} امر له صلى الله عليه وسلم بأن يتولَّى الجواب بنفسه إما للإيذان بتعيُّنه وعدمِ قدرتهم على أن يجيبوا بغيره أو لأنهم ربما يتلعثمون فيه لا لتردُّدهم في أنه أكبرُ من كل شيء بل في كونه شهيداً في هذا الشا قوله تعالى {شهيد} خبر ميتدأ محذوف أي هو شهيد {بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} ويجوز أن يكون الله شهيد بيني وبينكم هو الجواب لأنه إذا كان هو الشهيدَ بينه وبينهم كان أكبرُ شيءٍ شهادةً شهيداً له صلى الله عليه وسلم وتكريرُ البين لتحقيق المقابلة {وَأُوحِىَ إِلَىَّ} أي من جهتِه تعالَى {هذا القرآن} الشاهدُ بصِحة رسالتي {لاِنذِرَكُمْ بِهِ} بما فيه من الوعيد والاقتصارُ على ذكر الأنذار لما أن الكلام مع الكفرة {وَمَن بَلَغَ} عطفٌ على ضمير المخاطَبين أي لأنذركم به يا أهلَ مكةَ وسائرَ مَنْ بلغه من الأسودِ والأحمرِ أو من الثقلَيْن أو لأنذركم به أيها الموجودون ومَنْ سيوجد إلى يوم القيامة وهو دليلٌ على أن أحكام القرآن تعمُّ الموجودين يوم نزولِه ومن سيوجد بَعْدُ إلى يوم القيامة خلا أن ذلك بطريق العبارة في الكل عند الحنابلة بالإجماع عندنا في غير الموجودين وفي غير المكلفين يومئذ كما مر في أول سورة النساء {أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى} تقرير لهم مع إنكارواستبعاد {قُل لاَّ أَشْهَدُ} بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صِرْف {قُلْ} تكرير للأمر للتأكيد {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} أي بل إنما أشهد أنه تعالى لاَ إله إِلاَّ هو

20

{وَإِنَّنِى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ} مِن الأصنام أو من إشراككم {الذين آتيناهم الكتاب} جواب عما سبق من قولهم لقد سألنا عنك اليهود والنصارى أُخِّر عن تعيين الشهيد مسارعةً إلى إلزامهم بالجواب عن تحكّمهم بقولهم فأرنا من يشهد لك الخ والمرادُ بالموصول اليهودُ والنصارى وبالكتاب الجنسُ المنتظمُ للتوراة والإنجيل وإيرادُهم بعنوان إيتاءِ الكتابِ للإيذان بمدار ما أسند غليهم بقوله تعالى {يَعْرِفُونَهُ} أي يعرفون رسول الله صه من جهة الكتابَيْن بحِلْيته ونُعوتِه المذكورة فيهما {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ} بحِلاهم بحيث لا يشكون في ذلك أصلاً رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قال عمر رضي الله عنه لعبدِ اللَّه بنِ سَلامٍ أنزل الله تعالى علي نبيه هذه الآيةَ وكيف هذه المعرفة فقال يا عمر لقد عرفتُه فيكم حين رأيته كما أعرِف ابني ولأنا أشدُّ معرفةً بمحمدٍ مني بابني لأني لا أدري ما صنع النساء وأشهد أنه حقٌّ من الله تعالى {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} من أهل الكتابين والمشركين بأن ضيعوه فطرة الله التي فطرَ النَّاسَ عليها وأعرضوا عن البينات الموجبةِ للإيمان بالكلية {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} لما أنهم مطبوعٌ على قلوبهم ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على الابتداء وخبرُه الجملة المصدرةُ بالفاء لِشَبَه الموصول بالشرط وقيل على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هم الذين خسروا الخ وقيل على أنَّه نعتٌ للموصولِ الأول وقيل النصبُ على الذم فقوله تعالى فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ على الوجوه الأخيرة عطفٌ على جملة الذين آتيناهم الكتاب الخ

21

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً}

بوصفهم النبيَّ الموعودَ في الكتابين بخلاف أوصافه صلى الله عليه وسلم فإنه افتراءٌ على الله سبحانه وبقولهم الملائكةُ بناتُ الله وقولِهم هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله ونحو ذلك وهو إنكارٌ واستبعادٌ لأن يكون أحدٌ أظلمَ ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإنْ كانَ سبكُ التَّركيبِ غيرَ متعرِّض لإنكار المساواة ونفيُها يشهد به العرف الفاشي والاستعمال المطرد فإنه إذا قيل مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضلَ من فلان فالمراد حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضل من كل فاضل ألا يُرى إلى قوله عز وجل لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الأخرة هُمُ الأخسرون بعد قوله تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً الخ والسرُّ في ذلك أن النسبةَ بين الشيئين إنما تُتصوَّر غالباً لا سيما في باب المغالبة بالتفاوُت زيادةً ونُقصاناً فإذا لم يكن أحدُهما أزيدَ يتحقق النُقصانُ لا محالة {أو كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} كأن كذّبوا بالقرآن الذي من جملته الآيةُ الناطقةُ بأنهم يعرفونه صلى الله عليه وسلم كما يعرِفون أبناءهم وبالمُعجزات وسمَّوْها سحراً وحرفوا التوراة وغيروا نعوته صلى الله عليه وسلم فإن ذلك تكذيبٌ بآياته تعالى وكلمةُ أو للإيذانِ بأنَّ كلاً منَ الافتراء والتكذيب وحدَه بالغٌ غايةَ الإفراط في الظلم فكيف وهم قد جمعوا بينهما فأثبتوا ما نفاه الله تعالى ونفَوْا ما أثبته قاتلهم الله أنَّي يُؤفكون {إِنَّهُ} الضميرُ للشأنِ ومدارُ وضعِهِ موضعَه ادِّعاءُ شهرتِه المُغْنية عن ذكره وفائدته تصديرِ الجملة به الإيذانُ بفخامة مضممونها مع ما فيه من زيادة تقريرِه في الذهن فإنَّ الضميرَ لا يُفهمُ منه من أولِ الأمرِ إلا شأنٌ مبهمٌ لهُ خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما يعقُبه فيتمكنُ عندَ ورودِه لَهُ فضلُ تمكُّنٍ فكأنه قيل إن الشأنَ الخطيرَ هذا هو {لاَ يُفْلِحُ الظالمون} أي لا ينجُون من مكروهٍ ولا يفوزون بمطلوب وإذا كان حالُ الظالمين هذا فما ظنُّك بمن في الغايةِ القاصيةِ من الظلم

22

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} منصوبٌ على الظرفية بمُضمر مؤخَّرٍ قد حُذف إيذاناً بضيق العبارة عن شرحه وبيانه وإيماءً إلى عدم استطاعة السامعين لسماعِه لكمال فظاعةِ ما يقع فيه من الطَّامةِ والدَّاهيةِ التامة كأنه قيل ويوم نحشرُهم جميعاً {ثُمَّ نَقُولُ} لهم ما نقول كانَ من الأحوالُ والأهوالُ ما لا يحيطُ بهِ دائرةُ المقال وتقديرُ صيغةِ الماضِي للدَلالة على التحققِ ولحُسنِ موقَعِ عطفِ قوله تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ الخ عليه وقيل منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ مقدّم أي واذكر لهم للتخويف والتحذير ويوم نحشرهم الخ وقيل وليتقوا أو ليحذروا يوم نحشرهم الخ والضمير للكل وجميعاً حال منه وقرىء يَحشرُهم جميعاً ثم يقول بالياء فيهما {لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} أي نقول لهم خاصة للتوبيخ والتقريع على رءوس الأشهاد {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ} أي آلهتُكم التي جعلتموها شركاءَ لله سبحانه وإضافتُها إليهم لما أن شِرْكتَها ليست إلا بسميتهم وتقوُّلهم الكاذب كما ينبىء عنه قوله تعالى {الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي تزعُمونها شركاءَ فحُذِف المفعولان معاً وهذا السؤالُ المُنبِىءُ عن غَيْبة الشركاءِ مع عموم الحشر لها لقوله تعالى احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وغيرِ ذلك من النصوص إنما يقع بعد ما جرى بينها وبينهم من التبرُّؤ من الجانبين وتقطَّع ما بينهم من الأسباب والعلائقِ حسبما سحكيه قوله تعالى فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ الخ ونحوذلك من الآيات الكريمة إما بعدم حضورِها حينئذٍ في الحقيقة بإبعادها من ذلك الموقف وإما بتنزيل

0 - الأنعام آية 23 24 عدمِ حضورها بعُنوان الشِرْكة والشفاعة منزلةَ عدم حضورها في الحقيقة إذ ليس السؤالُ عنها من حيث ذواتها إنما هو من حيث إنها شركاءُ كما يُعرب عنه الوصفُ بالموصول ولا ريب في أن عدم الوصفِ يوجب عدمَ الموصوف من حيث هو موصوف فهي من حيث هي شركاءُ غائبةٌ لا محالة وإن كانت حاضرةً من حيث ذواتُها أصناماً كانت أو غيرها وأما ما يقال من أنه يُحال بينها وبينهم في وقت التة وبيخ ليفقِدوهم في الساعة التي علقوا بها الرجاءَ فيها فيرَوْا مكان خِزْيهم وحسرتِهم فربما يُشعِر بعدم شعورِهم بحقيقة الحال وعدمِ انقطاع حبالِ رجائهم عنها بعدُ وقد عرفت أنهم شاهدوها قبل ذلك وانصرمت عُروةُ أطماعهم عنها بالكلية على أنها معلومةً لهم من حين الموتِ والابتلاءِ بالعذاب في البرزخ وإنما الذي يحصُل يوم الحشر الانكشافُ الجليُّ واليقين القويُّ المترتبُ على المحاضَرة والمحاوَرة

23

{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} بتأنيث الفعلِ ورفع فتنتُهم على أنه اسمٌ له والخبرُ {إِلاَّ أَن قَالُواْ} وقُرىء بنصب فتنتَهم على أنها الخبرُ والاسمُ إلا أن قالوا والتأنيث للخبر كما في قولهم من كانت أمَّك وقرىء بالتذكير مع رفع الفتنة ونصبها ورفعُها أنسبُ بحسب المعنى والجملة عطفٌ على ما قُدّر عاملاً في يوم نحشرهم كما أُشيرَ إليهِ فيما سلف والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعم الأشياء وفتنتُهم إما كفرُهم مراداً به عاقبتُه أي لم تكن عاقبةُ كفرِهم الذي لزِموه مدةَ أعمارِهم وافتخروا به شيئاً من الأشياءِ إلا جحدوه والتبرؤَ منه بأن يقولوا 6 {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مشركين} وأما جواتبهم عبّر عنه بالفتنة لأنه كذِب ووصفُه تعالى بربوبيته لهم للمبالغة في التبرّؤ من الإشراك وقرىء بنا على النداء فهو لإظهار الضراعة والابتهال في استدعاء قبول المعذرة وإنما يقولون ذلك مع علمهم بأنه بمعزِلٍ من النفع رأساً من فرط الحَيْرة والدهَش وحملُه على معنى ما كنا مشركين عند أنفسنا وما علمنا في الدنيا أنا على خطأ غي معتقَدِنا مما لا ينبغي أن يُتوهّم أصلاً فإنه يُوهِم أن لهم عذراً أما وأن لهم قدرةً على الاعتذار في الجملة وذلك مُخِلٌّ بكمال هَوْل اليوم قطعاً على أنه قد قضى ببطلانه قوله تعالى

24

{انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} فإنه تعجيبٌ من كذبهم الصريح بإنكار صدورِ الإشراك عنهم في الدنيا أي انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أنفسهم في قولهم ذلك فإنَّه أمرٌ عجيبٌ في الغاية وأما حملُه على كِذْبهم في الدنيا فتمحُّلٌ يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عنه وقوله تعالى {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} عطفٌ على كذَبوا داخلٌ معه في حكم التعجيب وما مصدريةٌ أو موصولةٌ قد حُذف عائدُها والمعنى انظر كيف كذَبوا باليمين الفاجرةِ المغلَّظة على أنفسهم بإنكار صدور ما صدر عنهم وكيف ضل عنهم أي زال وذهب افتراؤهم أو ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفَوا صدوره عنهم بالكلية وتبرءوا منه بالمرة وقيل ما عبارةٌ عن الشركاء وإيقاعُ الافتراء عليها مع أنه في الحقيقة واقعٌ على أحوالها من الإلهية والشِرْكة والشفاعة ونحوِها للمبالغة في أمرها كأنها نفسالمفترى وقيل الجملة كلامٌ مستأنفٌ غيرُ داخلٍ في حيز التعجيب

الأنعام آية 25

25

{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} كلامٌ مبتدأ مَسوقٌ لحكاية ما صدر في الدنيا عن بعض المشركين من أحكام الكفر ثم بيانِ ما سيصدر عنهم يوم الحشر تقريراً لما قبله وتحقيقاً لمضمونه والضميرُ للذين أشركوا ومحلُ الظرفِ الرفعُ على أنه مبتدأ باعتبارِ مضمونِه أو بتقديرِ الموصوف كما في قوله تعالى ومنادون ذَلِكَ أي وجمعٌ منا الخ ومَن موصولةٌ أو موصوفةٌ محلُها الرَّفعُ على الخبرَّيةِ والمعنى وبعضهم أو وبعضٌ منهم الذي يستمع إليك أو فريق يستمع إليك على أنَّ مناطَ الإفادةِ اتصافُهم بما في حِّيزِ الصِّلةِ أو الصِّفةِ لا كونُهم ذواتِ أولئك المذكورينَ وقد مرَّ في تفسيرِ قوله تعالى ومن الماس مَن يَقُولُ الخ رُوي أنه اجتمع أبو سفيانَ والوليدُ والنضْرُ وعُتبةُ وشيبةُ وأبو جهل وأضرا بهم يستمعون تلاوةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر وكان صاحبَ أخبار يا ابا قتيلة ما يقول محمد فقال والذي جعلها بيتَه ما أدري ما يقول إلا أنه يحرِّك لسانه ويقول أساطيرَ الأولين مثلَ ما حدثتُكم من القرون الماضية فقال أبو سفيان إني لأراه حقاً فقال أبو جهل كلا فنزلت {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} من الجَعْل بمعنى الإنشاء وعلى متعلقةٌ به وضمير قلوبهم راجعٌ إلى مَنْ وجمعيتُه بالنظر إلى معناها كما أن إفرادَ ضميرِ يستمعُ بالنظر إلى لفظها وقد رُوعيَ جانب المعنى في قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ الآية والأكنة جمع كِنان وهو ما يُستر به الشيءُ وتنوينُها للتفخيم والجملة إما مستأنفةٌ للإخبار بما تضمنه من الخَتْم أو حالٌ من فاعل يستمع بإضمار قد عند من يقدِّرها قبل الماضي الواقعِ حالاً أي يستمعون إليك وقد ألقينا على قلوبهم أغطية كثيرةً لا يُقَادر قدرُها خارجةً عما يتعارفه الناس {أَن يَفْقَهُوهُ} أي كراهةَ أن يفقهوا ما يستمعونه من القرآن المدلولِ عليه بذكر الاستماع ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً لما يُنبىء عنه الكلامُ أي منعناهم أن يفقهوه {وَفِي آذَانِهِم وَقْراً} صَمماً وثِقَلاً مانعاً من سماعه والكلام فيهِ كما في قوله تعالى على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً وهذا تمثيلٌ مُعرِبٌ عن كمال جهلهم بشئون النبي عليه الصلاةَ والسلام وفرطِ نُبُوَّة قلوبهم عن فهم القرآنِ الكريم ومجِّ أسماعِهم له وقد مرَّ تحقيقُه في أول سورة البقرة وقيل هو حطكاية لما قالوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى آذاننا وَقْرٌ الآية وأنت خبيرٌ بأن مرادهم بذلك الإخبارُ بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم جهلاً وكفراً من اتصافهما بأوصافٍ مانعةٍ من التصديق والإيمانِ ككون القرآنِ سِحراً وشعراً وأساطيرَ الأولين وقسْ على ما تخيلوه في حق النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لا الإخبارُ بأن هناك أمراً وراء ذلك قد حال بينهم وبين إدراكه حائلٌ من قِبَلِهم حتى يُمكِنَ حملُ النظم الكريم على ذلك {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ} من الآيات القرآنيةِ أي يشاهدوهما بسماعها {لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} على عمومِ النفي لا على نفي العُموم أي كفروا بكل واحدى ة منها لعدم اجتلائهم غياها كما هي لما مر من حالهم {حتى إِذَا جاؤوك يجادلونك} هي حتى التي تقع بعدها الجمل والجملة هي قوله تعالى إِذَا جَاءوكَ {يَقُولُ الذين كَفَرُواْ} وما بينهما حالٌ من فاعل جاءوك وإنما وضع الموصولُ موضعَ الضمير ذمًّا لهم بما في حيِّز الصلةِ وإشعاراً لعلة الحكم أي بلَغوا من

الأنعام آية 26 27 التكذيب والمكابرة إلى أنهم إذا جاءوك مجادلين لك لا يكتفون بمجرد عدم افيمان بما سمعوا من الآياتِ الكريمة بل يقولون {إِنَّ هَذَا} أي ما هذا {إِلاَّ أساطير الأولين} فإنّ عدأ حسن الحديث وأصدقِه الذي لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا منْ خلفه من قبيل الأباطيلِ والخرافاتِ رتبةٌ من الكفر لا غاية وراءها ويجوز أن تكون حتى جارة وإذا ظرفيةً بمعنى وقتِ مجيئهم ويجادلونك حالٌ كما سبق وقوله تعالى يَقُولُ الذين كَفَرُواْ الخ تفسيرٌ للمجادلة والأساطيرُ جمع أُسطورة أو اسطارة أم جمع أسطار وهو جمع سَطَر بالتحريك وأصل الكل السَّطْر بمعنى الخط

26

{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} الضمير المرفوع للمذكورين والمجرورُ للقرآن أي لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه وعدِّه من قبيل الأساطير بل ينهَوْن الناسَ عن استماعه لئلا يقِفوا على حقّيته فيؤمنوا به {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي يتباعدون عنه بأنفسهم إظهاراً لغاية نفورهم عنه وتأكيداً لنهيهم عنه فإن اجتنابَ الناهي عن المنهيِّ عنه من متمّمات النهْي ولعل ذلك هو السرُّ في تأخير النأْي عن النهْي وقيل الضميرُ المجرور للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل المرفوعُ لأبي طالب ولعل جمعيته باعتبار استتباعه لأتباعه فإنه كان ينهى قريشاً عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وينآى عنه فلا يؤمن به وروي أنهم اجتمعوا إليه وأرادوا برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم سوءاً فقال ... والله لن يَصِلوا إليك بجمعِهم حتى أُوسَّدَ في التراب دفينا ... فاصدَعْ بأمرك ما عليك غضاضة وابشُرْ بذاك وقَرَّ منه عيونا ... ودعوتني وزعمتَ أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينا ... وعرضتَ ديناً لا محالةَ إنه من خيرِ أديان البرية دينا ... لولا الملامةُ أو حِذاري سُبّة لوجدتني سَمْحاً بذاك مبينا فنزلت {وَإِن يُهْلِكُونَ} أي ما يهلكون بما فعلوا من النهي والنأي {إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} بتعريضها لأشد العذاب وأفظعِه عاجلاً وآجلاً وهو عذابُ الضلال والإضلال وقوله تعالى {وَمَا يَشْعُرُونَ} حال من ضمير يُهلكون أي يقصُرون الإهلاكَ على أنفسهم والحالُ أنهم ما يشعُرون أي لا بإهلاكهم أنفسَهم ولا باقتصار ذلك عليها من غير أن يُضِروا بذلك شيئاً من القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإنما عبّر عنه بالإهلاك مع أن المنفي عن غيرهم مطلقُ الضرر إذ غعاية ما يؤدي إليه ما فعلوا من القدح في القرآن الكريم الممانعةُ في تمشّي أحكامِه وظهورِ أمر الدين للإيذان بأن ما يَحيق بهم هو الهلاكُ لا الضررُ المطلقُ على أن مقصِدهم لم يكن مطلق الممانعة فيما ذُكر بل كانوا يبغون الغوائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويجوز أن يكون الإهلاكُ معتبراً بالنسبة إلى الذين يُضِلونهم بالنهي فقصْرُه على أنسهم حينئذ مع شموله للفريقين مبنيٌّ على تنزيلِ عذاب الضلال عند عذاب افضلال منزلةَ العدم

27

{وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} شروعٌ في حكاية ما سيصدر عنهم يوم القيامة من القول المناقضِ لما صدر عنهم في الدنيا من القبائحِ المَحْكيّة مع كونه كِذْباً في نفسه والخطابُ إمَّا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد

الأنعام آية 28 من أهل المشاهَدة والعِيانِ قصداً إلى بيانُ كمالِ سوءِ حالِهم وبلوغِها من الشناعة والفظاعةِ إلى حيثُ لا يختصُّ استغرابُها براءٍ دونَ راءٍ ممَّن اعتاد مشاهدةَ الأمورِ العجيبة بل كلُّ منْ يتأتى منْهُ الرؤيةُ يتعجبُ من هولها وفظاعتِها وجوابُ لو محذوف ثقةً بظهوره وإيذاناً بقصور العبارة عن تفصيله وكذا مفعولُ ترى لدِلالة ما في حيِّز الظرْفِ عليه لو تراهم حين يوقَفون على النار حتى يعاينوها لرأيتَ ما لا يسعه التعبيرُ وصيغةُ الماضِي للدَلالة على التحقق أو حين يطّلعون عليها اطّلاعاً وهي تحتَهم أو يدخُلونها فيعرِفون مقدارَ عذابها من قولهم وقفتُه على كذا إذا فهَّمتُه وعرَّفته وقرىء وقَفوا على البناءِ للفاعلِ منْ وقَف عليه وقوفاً {فَقَالُواْ يا ليتنا} أي إلى الدنيا تمنياً للرجوع والخلاص وهيهاتَ ولاتَ حينَ مناصٍ {وَلاَ نُكَذّبَ بآيات رَبّنَا} أي بآياته الناطقةِ بأحوال النار وأهوالها الآمرةِ باتقائها إذ هي التي تخطُر حينئذ ببالهم ويتحسرون على ما فرّطوا في حقها أو بجميع ى ياته المنتظمةِ لتلك الآياتِ انتظاماً أولياً {وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} بهَا العاملين بمقتضاها حتى لا تنرى هذا الموقفَ الهائلَ أو نكونَ من فريق المؤمنين الناجين من العذاب الفائزين بحُسن المآب ونصبُ الفعلين على جواب التمني بإضمار أنْ بعد الواو وإجرائها مجرى الفاء ويؤيده قراءةُ ابن مسعوج وابن إسحق فلا نكذبَ والمعنى إنْ رُدِدْنا لم نكذبْ ونكنْ من المؤمنين وقيل ينسَبِكُ من أن المصدرية ومن الفعل بعجها مصدرٌ متوهِّم فيُعطَف هذا عليه كأنه قيل ليت لنا رداً وانتفاءَ تكذيبٍ وكوناً من المؤمنين وقرىء برفعهما على أنه كلامٌ مستأنف كقوله دعني ولا أعودُ أي وأنا لا أعود تركتَني أو لم تترُكْني أو عطفٌ على نرد أو حال من ضميره فيكون داخلاً في حكم التمني كالوجه الخير للنصب وتعلقُ التكذيب الآتي به لما تضمّنه من العِدَة بالإيمان وعدمِ التكذيب كمن قال ليتني رُزقتُ مالاً فأكافئك هـ = على صنيعك فإنه متمنَ في معنى الواعد فلو رزق مالاً ولم يكافىءْ صاحبه يكون مكذِّباً لا محالة وقرىء برفع الأول ونصب الثاني وقد مر وجههما

28

{بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} إضرابهما يُنْبىءُ عنه التمني من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها أي ليس ذلك عن عزيمة صادقةٍ ناشئة عن رغبةٍ في الإيمان وشوق إلى تحصيله والاتصافِ به بل لأنه ظهرَ لهم في موقفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من الداهيةِ الدهياء وظنوا أنهم مُواقِعوها فلِخَوْفها وهول مطلعها قالوا ما قالوا والمراد بها النارُ التي وُقفوا عليها إذ هي التي سيق الكلامُ لتهويل أمرها والتعجيب من فظاعة حالِ الموقوفين عليها وبإخفائها تكذيبُهم بها فإن التكذيبَ بالشيء كفر به وإخفاءٌ له لا محالة وإيثاره على صريح التكذيب الوارد في قولِه عزَّ وجلَّ هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بها المجرمون وقوله تعالة هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ مع كونه أنسبَ بما قبله من قولهم ولا نكذب بآيات رَبّنَا لمراعاة ما في مقابلته من البُدُوّ هذا هُو الذي تستدعيهِ جزالةُ النظمِ الكريم وأما ما قيل من أن المراد بما يُخفون كفرُهم ومعاصيهم أو قبائحُهم وفضائحُهم التي كانوا يكتُمونها من الناس فتظهر في صحفهم وبشهادجة جوارحِهم عليهم أو شركِهم الذي يجحدون به في بعض مواقف القيامة بقولهم والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ثم يظهر بما ذُكر من شهادة الجوارحِ عليهم أو ما أخفاه رؤساء

الأنعام آية 29 30 الكفرة عن أتباعهم من أمر البعث والتنشور أو ما كتمه علماءُ أهل الكتابين من صحة نبوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ونُعوته الشريفة عن عوامِّهم على أن الضميرَ المجرورَ للعوام والمرفوعَ للخواص أو كفرُهم الذي أخفَوْه عن المؤمنين والضميرُ المجرور للمؤمنين والمرفوع للمنافقين فبعدج الإغضاءِ عما في كلَ منها من الاعتساف والاختلال لا سبيل إلى شيء من ذلك أصلاً لما عرفتَ من أنَّ سَوْق النظم الشريف لتهويل أمر النار وتفظيعِ حال أهلها وقد ذُكر وقوفُهم عليها وأُشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحَيْرة والدهشة ما لا يحبط به الوصفُ ورُتّب عليه تمنِّيهم المذكورُ بالفاء القاضيةِ بسببية ما قبلَها لما بعدَها فإسقاطُ النار بعد ذلك من تلك السببية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجرُ الزواجر وإسنادُها إلى شيء من الأمور المذكورة التي دونها في الهول والزجر مع عدم جَرَيانِ ذكرها ثَمةَ أمرٌ يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن أمثاله وأما ما قيل من أن المراد جزاءُ ما كانوا يُخفون فمن قبيل دخولِ البيوت من ظهورِها وأبوابُها مفتوحة فتأمل {وَلَوْ رُدُّواْ} أي من موقفهم ذلك إلى الدنيا حسبما تمنَّوْه وغاب عنهم ما شاهدوه من الأهوال {لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} من فنون القبائح التي من جملتها التكذيبُ المذكورُ ونسُوا ما عاينوه بالكلية لاقتصار أنظارِهم على الشاهدِ دون الغائب {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} أي لقومٌ ديدَنُهم الكذِبُ في كلِّ ما يأتُون وما يذرون

29

{وَقَالُواْ} عطفٌ على عادوا داخلٌ في حيز الجواب وتوسيطُ قولِه تعالى وَإِنَّهُمْ لكاذبون بينهما لأنه اعتراضٌ مسوقلتقرير ما أفاده الشرطيةُ من كذبهم المخصوصِ ولو أُخِّر لأَوْهم أن المراد تكذيبُهم في إنكارهم البعثَ والمعنى لوردوا إلى الدنيا لعادجوا لما نُهوا عنه وقالوا {إِنْ هِىَ} أيْ ما الحَيَاةُ {إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بعد ما فارقنا هذه الحياةَ كأن لم يرَوا ما رأَوا من الأحوال التي أولُها البعثُ والنشور

30

{وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ} الكلامُ فيه كالذي مر في نظيره خلا أن الوقوف ههنا مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقَفُ العبدُ الجاني بين يدَيْ سيده للعقاب وقيل عرَفوا ربهم حق التعريف وقل وُقفوا على جزاءِ ربهم وقولُه تعالى {قَالَ} استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من الكلامِ السابقِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ لهم ربهم إذ ذاك فقيل قال {أَلَيْسَ هذا} مشيراً إلى ما شاهدُوه من البهث وما يتبعه من الأمور العظام {بالحق} تقريعاً لهم على تكذيبهم لذلك وقولِهم عند سماعِ ما يتعلق به ما هو بحقَ وما هو إلا باطلٌ {قَالُواْ} استئنافٌ كما سبق {بلى وربنا} أكدوا اعتبرافهم باليمين إظهاراً لكمال يقينهم بحقِّيته وإيذاناً بصدور ذلك عنهم بالرغبة والنشاط معا في نفعه {قَالَ} استئناف كما مر {فَذُوقُواْ العذاب} الذي عاينتموه والفاءُ لترتيب التعذيب على اعترافهم بحقية ما كفروا به في الدنيا لكن لا على أن مدارَ التعذيب هو اعترافُهم بذلك بل هو كفرُهم السابقُ بما اعترفوا بحقيته الآن كما نطق به قوله عز وجل {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي بسبب كفركم في الدنيا بذلك أو

الأنعام 31 32 بكلِّ ما يجبُ الإيمانُ به فيدخل كفرُهم به دخولاً أولياً ولعل هذا التوبيخ والتقريع وإنما يقع بعد ما وُقفوا على النار فقالوا ما قالوا إذِ الظاهرُ أنه لا يبقى بعد هذا الأمر إلا العذاب

31

{قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله} هم الذين حُكِيت أحوالُهم لكنْ وْضع الموصولُ موضعَ الضمير للإيذان بتسبب خسرانهم بما في حيز الصلة من التكذيب بلقائه تعالى بقيام الساعة وما يترتبُ عليهِ من البعث وأحكامه المتفرعةِ عليه واستمرارِهم على ذلك فإن كلمةَ حتى في قولِه تعالى {حتى إِذَا جَاءتْهُمُ الساعة} غايةٌ لتكذيبهم لا لخُسرانهم فإنه أبديٌّ لا حدَّ له {بغتة} البغت والبغت مفاجأة للشيء بسرعة من ير شعور به يقال بغة بغْتاً وبغتةً أي فجأةً وانتصابُها إما على أنها مصدرٌ واقعٍ موقعَ الحالِ من فاعلِ جاءتهم أي مباغتة أو من مفعول أي مبغوتين وإما على أنَّها مصدرٌ مؤكِّدٌ على غير الصدر فإنّ جاءتهم في معنى بغتتهم كقولهم أتيته ركضاً أو مصدرٌ مؤكِّد لفعل محذوف وقع حالاً من فاعل جاءتهم أي جاءتهم الساعة تبغتهم بغتة {قَالُواْ} جواب إذا {يا حسرتنا} تعالَيْ فهذا أوانُك والحسرةُ شدة الندم وهذا التحسرُ وإن كان يعتريهم عند الموت لكنْ لما كان ذلك من مبادىء الساعة يمي باسمها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام من مات فقد قامت قيامتُه أو جُعل مجيءُ الساعة بعد الموت كالواقع بغير فترةٍ لسرعته {على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أي على تفريطنا في شأن الساعة وتقصيرنا في مراعاة حقها والاستعداد لها بالإيمان بها واكتسابِ الأعمالِ الصَّالحةِ كما في قوله تعالى على مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ الله وقيل الضميرُ للحياة الدنيا وإن لم يجْرِ لها ذكرٌ لكونها معلومة والتفريطُ التقصيرُ في الشيء مع القدرة على ما فعله وقيل هو التضييعُ وقيل الفَرَط السبق ومنه الفارط أي السابق ومعنى فرطلى السبْقَ لغيره فالتضعيف فيه للسلب كما في جلّدتُ البعير وقوله تعالى {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} حالٌ من فاعل قالوا فائدتُه الأيذان بأن عذابَهم ليس مقصُوراً على ما ذكِر من الحسرة على ما فات وزال بل يقاسون مع ذلك تحمُّلَ الأوزار الثِقال والإيماءُ إلى أن تلك الحسرةَ من الشدة بحيث لا تزول ولا تنسى بما يكابدونه من فنون العقوبات والسرُّ في ذلك أن العذابَ الروحانيَّ أشدُّ من الجُسمانيِّ نعوذ برحمة الله عز وجل منهما والوِزر في الأصل الحِملُ الثقيل سُمِّي به الإثمُ والذنبُ لغاية ثِقَلِه على صاحبه وذكرُ الظهور كذكر الأيدي في قوله تعالى فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فإن المعتاد حملُ الأثقالِ على الظهور كما أن المألوفَ هو الكسبُ بالأيدي والمعنى أنهم يتحسرون على ما لم يعملوا من الحسنات والحال أنعهم يحمِلون أوزارَ ما عملوا من السيئات {أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} تذييلٌ مقرِّرٌ لمَا قبلَهُ وتكملةٌ له أي بئس شيئاً يَزِرُونه وِزْرُهم

32

{وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} لمّا حقَّق فيما سبق أن وراءَ الحياة الدنيا حياةً أخرى يلقَوْن فيها من الخطوب ما يلقون بَيَّن بعدَه حالَ تينِك الحياتين في أنفسهما واللعب

6 - الأنعام آية 33 عمل يشغل النفس ويفطرها عما تنتفع به واللهوُ صرفُها عن الجدّ إلى الهزل والمعنى إما على حذف الماف أو على جعل الحياة الدنيا نفسَ اللعِب واللهوِ مبالغةً كما في قول الخنساء فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ أي وما أعمالُ الدنيا أي الأعمالُ المتعلقةُ بها من حيث هي هي أو وما هي من حيث إنها محلٌ لكسب تلك الأعمال إلا لعبٌ يشغَل الناسَ ويلهيهم بما فيه من منفعةٍ سريعة الزوال ولة وشيكة الاضمحلال عما يعقُبهم منفعة جليلة باقية ولذة حقيقية غير متناهية من الإيمان والعملِ الصالحِ {وَلَلدَّارُ الاخرة} التي هي محلُ الحياة الأخرى {خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الكفرَ والمعاصِيَ لأن منافعها خالصةٌ عن المضارِّ ولذاتِها غيرُ مُنغّصةٍ بالآلام مستمرةٌ على الدوام {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان والفاء للعطف على مقدار أي تغفلون فلا تعقِلون أو ألا تتفكرون فتعقِلون وقرىء يعقلون على الغَيْبة

33

{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذى يَقُولُونَ} استئنافٌ مَسوقٌ لتسليةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه مما حُكي عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة فيه ببيان أنه عليه الصلاة والسلام بمكانة من الله عز وجل وأن ما يفعلونه في حقه فهو راجعٌ إليه تعالى في الحقيقة وأنه ينتقم منهم لا محالة أشدَّ انتقام وكلمةُ قد لتأكيد العلم بما ذكر المفيدِ لتأكيد الوعيدِ كما في قوله تعالى ما أنتم عليهخ وقوله تعالى قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين ونحوِهما بإخراجها إلى معنى التكثير حسبما يُخْرجُ إليه ربما في مثل قوله ... وإنْ تُمْسِ مهجورَ الفِناء فربما أقام به بعد الوفود وفودُ جرياً على سَننِ العرب عند قصد الإفراط في التكثير تقول لبعض قُوادِ العساكر كم عندك من الفرسان فيقول رُبَّ فارسٍ عندِي وعندُه مقانبُ جَمةٌ يريد بذلكَ التماديَ في تكثير فُرسانه ولكنه يروم إظهارَ براءته عن التزيُّد وإبرازَ أنه ممَّن يقللُ كثيرَ مَا عنده فضلاً عن تكثير القلل وعليه قوله عز وجل رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ وهذه طريقةٌ إنما تُسلك عند كون الأمر من الوضوح بحيث لا تحو حوله شائبةُ ريبٍ حقيقةً كما في الآيات الكريمة المذكورة أو ادعاءً كما في البيت وقولِه ... قَدْ أتركَ القِرْنَ مُصفرّاً أناملُهُ وقولِه ولكنه قد يُهلك المالَ نائِلُهْ والمراد بكثرة علمه تعالى كثرةُ تعلقِه وهو متعدَ إلى اثنين وما بعده ساد مسدهما واسمُ إن ضمير الشأن وخبرُها الجملة المفسرة له والموصولُ فاعل يحزنك وعائدُه محذوف أي الذي يقولونه وهو ما حُكي عنهم من قولهم إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين ونحوُ ذلك وقرىء لَيُحزِنُك من أحزن المنقول من حزن اللام وقوله تعالى {فَإِنَّهُمْ لاَ يكذبونك} تعليل لما يشعرون به الكلامُ السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا لكن لا بطريق التشاغل عنه وعدِّه هيناً والإقبالِ التام على ما هو أهمُّ منه من استعظام جحودهم بآيات الله عزَّ وجلَّ كما قيل فإنه مع كونِه بمعزلٍ من التسلية بالكلية مما يوهم كونَ حزنه عليه الصلاة والسلام لخاصة نفسه بل بطريق التسلِّي بما يفيده من بلوغه عليه الصلاة والسلام في جلالة القَدْرِ ورِفعة المحل والزُلفى من الله عز وجل إلى حيث لا غايةَ وراءَه حيثُ لم يقتصر على جعل تكذيبه صلى الله عليه وسلم تكذيباً لآياته سبحانه على طريقة قوله تعالى مَّنْ يطع الرسول

الأنعام آية 34 فَقَدْ أَطَاعَ الله بل نفى تكذيبهم عنه صلى الله عليه وسلم وأثبت لآياته تعالى على طريقة قوله تعالى إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا ينعون الله أيذاناً بكمال القرب واضمحلال شئونه صلى الله عليه وسلم في شأن الله عز وجل نعم فيه استعظام لجنايتاهم مُنْبىءٌ عن عظم عقوبتهم كأنه قيل لا تعتدَّ به وكِلْه إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في الحقيقة {ولكن الظالمين بآيات الله يَجْحَدُونَ} أي ولكنهم بآياته تعالى يكذّبون فوضَعَ المُظهرَ موضعَ المُضمر تسجيلاً عليهم بالرسوخ في الظلم الذي جحودهم هذا فن من فنونه والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابة واستعظام ما أقدَموا عليه من جحود آياته تعالى وإيرادُ الجحود في مورد التكذيب للإيذان بأن آياتِه تعالى من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كلُّ أحد وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود الذي هو عبارةٌ عن الإنكار مع العلم بخلافه كما في قوله تعالى وَجَحَدُواْ بها واستيقنها أَنفُسُهُمْ وهو المعنيُّ بقول من قال إنه نفْيُ ما في القلب إثباتُه أو إثباتُ ما في القلب نفيُه والباء متعلقة بيجحدون يقال جحد حقَّه وبحقِّه إذا أنكره وهو يعلمه وقيل هو لتضمين الجحود معنى التكذيب وأيًّا ما كان فتقديمُ الجارِّ والمجرور للقَصْر وقيل المعنى فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم ويعضُده ما رُوي من أن الأخْنَسَ بنَ شُرَيْقٍ قال لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادقٌ هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحدٌ غيرُنا فقال له والله إن محمداً لصادقٌ وما كذَب قطُّ ولكن إذا ذهب بنو قُصيَ باللواءِ والسِّقاية والحِجابة والنبوّة فماذا يكونُ لسائر قريش فنزلت وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمَّى الأمينَ فعرَفوا أنه لا يكذِب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون وقيل فإنهم لا يكذبونك لأنهم عندهم الصادقُ الموسومُ بالصدق ولكنهم يجحدون بآيات الله كما يروى أن أبا جهل كان يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما نُكذِّبُك وإنك عندنا لصادقٌ ولكنا نكذِّبُ ما جئتنا به فنزلت وكأن صدقَ المُخبرِ عند الخبيث بمطابقةِ خبرِه لاعتقادِه والأولُ هو الذي تستدعيهِ الجزالة التنزيلية وقرىء لا يُكْذِبونك من الإكذاب فقيل كلاهما بمعنى واحدٍ كأكثرَ وكثُر وأنزل نزل وهو الأظهر وقيل معنى أكذبه وجده كاذباً ونُقل عن الكسائيِّ أن العربَ تقول كذبتُ الرجلَ أي نسبتُ الكذب إليه وأكذبته أي نسبت الكذب إلى ما جاءَ به لا إليه وقوله تعالى

34

{وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} افتنانٌ في تسليته عليه الصلاة والسلام فإن عمومَ البلية ربما يهوِّنُ أمرَها بعضَ تهوين وإرشادٌ له عليه الصَّلاةُ والسلام إلا الاقتداءِ بمن قبلَه من الرسلِ الكرام عليهم الصلاة والسلام في الصبر على ما أصابهُم من أممهم من فنون الأَذِيَّة وعِدَةٌ ضمنية له عليه الصلاة والسلام بمثل ما مُنِحوه من النصر وتصديرُ الكلام بالقسم لتأكيد التسلية وتنوينُ رسلٌ للتفخيم والتكثر ومن إما متعلقةٌ بكُذِّبت أو بمحذوف وقع صفة لرسل أي وبالله لقد كذِّبت من قبل تكذيبك رسلٌ أول شأنٍ خطير وذوُو عددٍ كثير أو كُذبت رسل كانوا من زمان قبلَ زمانك {فَصَبَرُواْ على مَا كُذّبُواْ} ما مصدرية وقوله

الأنعام آية 35 تعالى {وَأُوذُواْ} عطفٌ على كُذبوا داخلٌ في حكمه فأنسبك منهما مصدران من المبنيِّ للمفعول أي فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم فتأسَّ بهم واصطبِرْ على ما نالكَ من قولمك والمرادُ بإيذائهم إما عينُ تكذيبهم وإما ما يقارنه من فنون الإيذاء لم يُصرَّحْ به ثقةً باستلزام التكذيب إياه غالبا وأياما كان ففيه تأكيدٌ للتسلية وقيل عطفٌ على صبروا وقيل على كذبت وقيل هو استئناف وقوله تعالى {حتى أتاهم نَصْرُنَا} غايةٌ للصير وفيه إيذانٌ بأن نَصره تعالى إياهم أمرٌ مقرَّر لا مرد له وأنه متوجه إليهم لا بد من إتيانه البتةَ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبراز الاعتناء بشأن النصر وقوله تعالى {وَلاَ مُبَدّلَ لكلمات الله} اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله من إتيان نصرِه إياهم والمراد بكلماته تعالى ما ينبىء عنه قوله تعالى وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون وقولُه تعالى كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى من المواعيد السابقة للرسلِ عليهمْ الصلاةُ والسلامُ الدالة على نُصرة رسول الله أيضاً لا نفسُ الآياتِ المذكورة ونظائرُها فإن الإخبارَ بعدم تبدّلِها إنما يفيد عدمَ تبدلِ المواعيدِ الواردةِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة جون المواعيد السابقة للرسلِ عليهمْ الصلاةُ والسلامُ ويجوزُ أن يُرادَ بكلماته تعالى جميعُ كلماته التي من جُملتِها تلك المواعيدُ الكريمةُ ويدخل فيها المواعيدُ الواردة في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسلام دخولاً أولياً والالتفاتُ إلى الإسم الجليل للإشعارِ بعلَّةِ الحُكم فإنَّ الألوهية من موجبات أن لا يغالبه أحدٌ في فعلٍ من الأفعال ولا يقعَ منه تعالى خُلْفٌ في قول من الأقوال وقوله تعالى {وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ المرسلين} جملة قَسَمية جيءَ بها لتحقيق ما مُنحوا من النصر وتأكيدِ ما في ضِمْنه من الوعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لتقرير جميعَ ما ذكِر من تكذيب الأمم وما ترتب عليه من الأمور والجارُّ والمجرور في محلِ الرفعِ على أنه فاعل إما باعتبار مضمونِه أي بعضُ نبأ المرسلين أو بتقدير الموصوف أي بعضٌ من نبأ المرسلين كما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمنا بالله الآية وأياما كان فالمرادُ بنَبَئِهم عليهم السلام على الأول نصرُه تعالى إياهم بعد اللُّتيا والتي وعلى الثاني جميعُ ما جرى بينهم وبين أممهم على ما ينبىءُ عنه قوله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء وَزُلْزِلُواْ الآية وقيل في محل النصب على الحالية من المستسكن في جاء العائدِ إلى ما يُفهم من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر كائناً من نبأ المرسلين

35

{وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لتأكيد إيجاب الصبر المستفاد من التسلية ببيان أنه أمرٌ لا محيدَ عنه أصلاً أي إن كان عظُم عليك وشقَّ إعراضُهم عن الإيمان بما جئت به من القرآن الكريم حسبما يُفصح عنه ما حُكي عنهم من تسميتهم له أساطيرَ الأولين وتنائيهم عنه ونهْيِهمُ الناسَ عنه وقيل إن الحرث بن عامر بنِ نوفلِ بنِ عبدِ منافٍ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في محضر من قريش فقال يا محمدُ ائتنا بآيةٍ من عند الله كما كانت الأنبياءُ تفعل وأنا أصدقك فأبى الله أن يأتي بآية مما اقترحوا فأعرضوا عن رسول

الأنعام 36 الله فشق ذلك عليه لما أنَّه عليه الصَّلاةُ السلام كان شديدَ الحِرْص على إيمان قومه فكان إذا سألوا آيةً يودّ أن يُنزِلها الله تعالى طمعاً في إيمانهم فنزلت فقوله تعالى إِعْرَاضُهُمْ مرتفعٌ بكبُرَ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عليهِ لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخرة والجملة في محل النصب على أنها خبر لكان مفسرة لاسمها الذي هو ضميرُ الشأنِ ولا حاجة إلى تقدير قد وقيل اسم كان إعراضُهم وكبر جملة فعلية في محل النصب على أنها خبر لها مقدم على اسمها لأنه فعلٌ رافع لضميرٍ مستتركا هو المشهور وعلى التقديرين فقوله تعالى {فَإِن استطعت} الخ شرطيةٌ أخرى محذوفةُ الجواب وقعتْ جواباً للشرط الأول والمعنى إن شق عليك إعراضُهم عن الإيمان بما جئت به من البينات وعدمُ عدِّهم لها من قبيل الآيات وأحببتَ أن تجيبهم إلى ما سألوه اقتراحاً فإن استطعت {أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً} أي سَرَباً ومنفَذاً {فِى الارض} تنفُذ فيه إلى جَوفها {أَوْ سُلَّماً} أي مصعداً {فِى السماء} تعرج به فيها {فتأتيهم} منهما {بآية} مما اقترحوه فافعلْ وقد جُوِّز أن يكون ابتغاؤهما نفسَ الإتيان بالآية فالفاء في فتأتيَهم حينئذ تفسيرية وتنوينُ آية للتفخيم أي فإن استطعت أن تبتغيَهما فتجعلَ ذلك آيةً لهم فافعل والظرفان متعلقان بمحذوفين هما نعتات لِنفقاً وسلماً والأول لمجرد التأكيد إذ النفقُ لا يكون إلا في الأرض أو تبتغي وقد جُوِّز تعلقُهما بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل تبتغي أي أن تبتغي نفقاً كائناً أنت في الأرض أو سلماً كائناً في السماء وفيه من الدلالة على تبالُغِ حِرْصِه عليه الصلاة والسلام على إسلام قومه وتراميه إلى حيث لو قدَر على أن يأتيَ بآيةٍ من تحت الأرض أو من فوق السماء لفعل رجاء لإيمائهم ما لا يخفى وإيثار الابتغاءِ على الاتخاذ ونحوه للإيذانِ بأنَّ ما ذُكر من النفق والسُلّم مما لا يُستطاع ابتغاؤه فكيف باتخاه {وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ على الهدى} أي ولو شاء الله تعالى أن يجمعهم على ما أنتُم عليهِ من الهدى لفعله بأن يوفقهم للإيمان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ لعد صَرفِ اختيارِهم إلى جانب الهُدى مع تمكنِّهم التامِّ منه في مشاهدتهم للآياتِ الداعية إليه لا أنه تعالى لم يوفقهم له مع توجُّهِهِم إلى تحصيله وقيل لو شاء الله لجمعهم عليه بأن يأتيَهم بآيةٍ ملجئةٍ إليه ولكن لم يفعلْه لخروجه عن الحِكْمة وقوله تعالى {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} نهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من الحرصِ الشديدِ على إسلامِهم والميل إلى إتيان ما يقترحونه من الآيات طمعاً في إيمائهم مرتَّبٌ على بيان عدمِ تعلقِ مشيئتِه تعالى بهدايتهم والمعنى وإذا عرفت أنه تعالى لم يشأ هدايتهم وإيمائهم بأحد الوجهين فلا تكونَنَّ بالحرص الشديدِ على إسلامهم أو الميلِ إلى نزول مقترحاتِهم من الجاهلين بدقائق شئونه تعالى التي من حملتها مَا ذُكر من عدمِ تعلقِ مشيئتِه تعالى بإيمائهم أما اختياراً فلعدم توجُّههم إليه وأما اضطراراً فلخُروجه عن الحكمة التشريعيةِ المؤسسةِ على الاختيار ويجوز أن يُرادَ بالجاهلين على الوجه الثاني المقترِحون ويُراد بالنهْي منعه عليه الصلاة والسلام من المساعدة على اقتراحهم وإيرادُهم بعُنوان الجهل دون الكفر ونحوِه لتحقيق مَناطِ النهْي الذي هو الوصفُ الجامع بينه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وبينهم

36

{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ}

تقريرٌ لما مرَّ منْ أنَّ على قلوبهم أكنةً مانعة من الفقه وفي آذانهم وَقراً حاجزاً من السماع وتحقيقٌ لكونهم بذلك من قبيل الموتى لا يُتصور منهم الإيمانُ البتةَ والاستجابةُ الإجابةُ المقارنة للقَبول أي إنما يَقبلُ دعوتَك إلى الإيمان اللذين يسمعون ما يلقى إليهم سماع تفهم وتدبر جون الموتى الذين هؤلاء منهم كقوله تعالى إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وقوله تعالى {والموتى يَبْعَثُهُمُ الله} تمثيلٌ لاختصاصه تعالى بالقدرة على توفيقهم للإيمان باختصاصه تعالى بالقدرة على بعث الموتى من القبور وقيل بيانٌ لاستمرارهم على الكفر وعدمِ إقلاعهم عنه أصلاً أن الموتى من القبور وقيل بيان مستعارٌ للكفرة بناءً على تشبيه جهلهم بموتهم أي وهؤلاء الكفرة يبعثهم الله تعالى من قبورهم {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} للجزاء فحينئذ يستجيبون وأما قبل ذلك فلا سبيل إليه وقرىء يَرْجِعون على البناءِ للفاعلِ منْ رجَع من رجوعا والمشهورة أو في بحق المقام لإنبائه عن كون مرجِعِهم إليه تعالى بطريق الاضطرار

37

{وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ آية مّن رَّبّهِ} حكايةٌ لبعضٍ آخَرَ من أباطيلهم بعد حكايةِ ما قالُوا في حقِّ القرآن الكريم وبيانِ ما يتعلّق به والقائلون رؤساء قريش وقيل الحرث بن عامر بن نوفل وأصحابُه ولقد بلغت بهم الضلالةُ والطغيان إلى حيث لم يقتنعوا بما شاهدوا من البينات التي تخِرُّ لها صمُّ الجبال حتى اجترءوا على ادِّعاء أنها ليست من قبيل الآياتِ وإنما هي ما اقترحواه من الخوارقِ الملجئةِ أو المُعْقِبة للعذاب كما قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هَذا هُوَ الحقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ الآية والتنزيل بمعنى الإنزال كما ينبىءُ عنْهُ القراءةُ بالتخفيف فيما سيأتي وما يفيده التعرضَ لعنوان ربوبيتِه تعالى له عليه الصلاة والسلام من الإشعار بالعلّية إنما هو بطريق التعريض بالتهكّم من جهتهم وإطلاق الآيةِ في قوله تعالى {قل إِنَّ الله قَادِرٌ على أن ينزل آية} مع أن المرادَ بها ما هو من الخوارق المذكورةِ لا آيةٌ ما من الآيات لفساد المعنى مجاراةً معهم على زعمهم ويجوزُ أنْ يُرادَ بها آيةٌ مُوجبةٌ لهلاكهم كإنزال ملائكةِ العذاب ونحوه على أن تنوينها للتفخيم والتهويل كما أن إظهارَ الاسمِ الجليل لتربية المهابةِ مع ما فيه من الإشعار بعِلّة القُدرة الباهرةِ والاقتصار في الجواب على بيانِ قدرتِهِ تعالَى على تنزيلِها مع أنها ليست في حيز الإنكار للإيذان بأن عدم تنزيله تعالى إياها مع قدوته عليه لحكمةٍ بالغة يجب معرفتها وهم عنها غافلون كما ينبىء عنه الاستدراكُ بقوله تعالى {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي ليسوا من أهل العلم على أن المفعول مطروحٌ بالكلية أو لا يعلمونَ شيئاً على أنه محذوفٌ مدلولٌ عليه بقرينةِ المقام والمعنى أنَّه تعالى قادرٌ على أن ينزل آيةً من ذلك أو آيةً أيَّ آية ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ فلا يدرون أن عدمَ تنزيلِها مع ظهور قدرته عليه لما أفي تنزيلها قلْعاً لأساسِ التكليف المبنيِّ على قاعدة الاختيار أو استئصالاً لهم بالكلية فيقترحونها جهلاً ويتخذون عدم تنزيلها ذريعةً إلى التكذيب وتخصيصُ عدم العلم بأكثرهم لما أن بعضَهم واقفون على حقيقة

الأنعام آية 38 39 الحال وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرةً وعناداً وقوله تعالى

38

{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض} إلخ كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لبيان كمال قدرتِه عز وجل وشمول علمه وسعةِ تدبيرِه ليكون كالدليل على أنَّه تعالى قادرٌ على تنزيل الآية وإنما لا يُنزِّلُها محافظةً على الحِكَم البالغةِ وزيادةُ من لتأكيد الاستغراق وفي متعلقةٌ بمحذوفٍ هو وصفٌ لدابة مفيد لزيادة التعميم كأنه قيل وكا فردٌ من أفراد الدوابِّ يستقرّ في قُطر من أقطارِ الأرضوكذا زيادةُ الوصف في قوله تعالى {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} مع ما فيه من زيادة التقرير أي ولا طائرٍ من الطيور يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه كما هو المشاهَدُ المعتاد وقرىء ولا طائرٌ بالرَّفعِ عطفاً عَلى محلِّ الجار والمجرور كأنه قيل وما مِنْ دابة ولا طائر {إِلاَّ أُمَمٌ} أي طوائفُ متخالفةٌ والجمع باعتبارِ المَعْنى كأنَّه قيلَ وما مِنْ دوابَّ ولا طيرٍ إلا أممِ {أمثالكم} أي كلُّ أمة منها مثلُكم في أن أحوالها محفوظةٌ وأمورَها مقنَّنة ومصالحَها مرعيةٌ جاريةٌ على سَنن السَّداد ومنتظمةٌ في سلك التقديرات الإلهية والتدبيراتِ الربانية {مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء} يقال فرط الشيء ألأي ضيَّعه وتركه قال ساعدة بن حُوَية معه سِقاءٌ لا يُفرِّط حملَه أي لا يتركه ولا يفارقه ويقال فرّط في الشيء أي أهمل ما ينبغي أن يكون فيه وأغفله فقوله تعالى فِى الكتاب أي في الرقى ن على الأول ظرفُ لغوٍ وقوله تعالى مِن شَىْء مفعول لفرطنا ومن مزيدة للاستغراق أي ما تركنا في القرآن شيئاً من الأشياء المُهمّة التي من جُملتِها بيانُ أنه تعالى مراعٍ لمصالحِ جميعِ مخلوقاته على ما ينبغي وعلى الثاني مفعول للفعل ومن شيء في موضع المصدر أي ما جعلنا الكتاب مفرَّطاً فيه شيئاً من التفريط بل ذكرنا فيه كلَّ ما لا بد من ذكره وأيا ما كان فالجملةُ اعتراضٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبلها وقيل الكتابُ اللوْح فالمراد بالاعتراضِ الإشارة إلى أن أحوالَ الأمم مستقصاةٌ في اللوح المحفوظ غيرُ مقصورة على هذا القدر المُجمل وقرىء فَرَطنا بالتخفيف وقوله تعالى {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} بيانٌ لأحوال الأمم المذكورة في الآخرةِ بعد بيانِ أحوالها في الدنيا وإيرادُ ضميرها على صيغة جمع العقلاء لإجرائها مُجراهم والتعبير عنها بالأمم أي إلى مالك أمورهم يحشرون يوم القيامة كدأبكم لا إلى غيره فيجازيهم فيُنصِفُ بعضَهم من بعض حتى يبلُغ من عدله أن يأخذ للجّماءِ من القَرْناء وقيل حشرُها موتها ويأباه مقامُ تهويل الخطب وتفظيع الحال وقوله تعالى

39

{والذين كذبوا بآياتنا} متعلق بقوله تعالى مَّا فَرَّطْنَا فِى الكتاب مِن شَىْء والموصول عبارةٌ عن المعهودِين في قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ الايات ومحلُه الرفعُ على الابتداء خبرُه ما بعده أي أوردنا في القرآن جميعَ الأمور المهمة وأزَحْنا به العلل ة والأعذارَ والذين كذبوا بآياتنا

الأنعام آية 40 41 التي هي منه {صُمٌّ} لا يسمعونها سمعَ تدبرٍ وفهمٍ فلذلك يسمّونها أساطيرَ الأولين ولا يعدّونها من الآيات ويقترحون غيرها {وَبُكْمٌ} لا يقدِرون على أن ينطِقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون دعوتك بهَا وقولُهُ تعالَى {فِى الظلمات} أي في ظلمات الكفر أو ظلمات الجهل والعناد والتقليد إما خبر ثان للمبتدأ على أنه عبارةٌ عن العمى كما في قوله تعالى صم بكم عمي وإما متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المستكنِّ في الخبر كأنه قيل ضالون كائنين في الظلمات أو صفةً لبكْم أي بُكم كائنون في الظلمات والمراد به بيانُ كمالِ عراقتهم في الجهل وسوء الحال فإن الأصمَّ الأبكمَ إذا كان بصيراً ربما يَفهم شيئاً بإشارةِ غيرِه وإن لم يفهَمْه بعبارته وكذا يُشعِرُ غيرَه بما في ضميره بالإشارة وإن كان معزولاً عن العبارة وأما إذا كان مع ذلك أعمى أو كان في الظلمات فينسدّ عليه بابُ الفهم والتفهيم بالكلية وقوله تعالى {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} تحقيقٌ للحق وتقريرٌ لما سبق ممن حالهم ببيانِ أنهم من أهل الطبْعِ لا يتأتَّى منهمْ الإيمانُ أصلاً فمَنْ مبتدأ خبره ما بعد ومفعولُ المشيئة محذوفٌ على القاعدة المستمرَّة من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ وانتفاءِ الغرابةِ في تعلقها به أي من يشأ الله إضلالَه أي أن يخلُق فيه الضلالَ يضلِلْه أي يخلُقه فيه لكن لا ابتداءً بطريق الجَبْرِ من غير أن يكونَ له دخلٌ ما في ذلك بل عند صَرْفِ اختياره إلى كَسْبه وتحصيلِه وقِسْ عليه قولُه تعالَى {وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مُّسْتَقِيمٍ} لا يضِلُّ من ذهب إليه ولا يزِلُّ من ثبَت قدمُه عليه

40

{قُلْ أَرَأَيْتُكُم} أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُبكِّتَهم ويُلقِمَهم الحجرَ بما لا سبيلَ لهم إلى النكير والكاف حرف جيء به لتأكيد الخطاب لا محلَّ له من الإعراب ومبنى التركيب وإن كان على الاستخبار عن الرؤية قلبية كانت أو بصَرية لكنّ المرادَ به الاستخبارُ عن مُتعلَّقِها أي أخبروني {إِنْ أتاكم عَذَابُ الله} حسبما أتى الأممَ السابقةَ من أنواع العذاب الدنيوي {أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة} التي لا محيصَ عنها البتة {أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ} هذا مناطُ الاستخبار ومحطّ التبكيت وقوله تعالى {إِن كُنتُمْ صادقين} متعلق بأرأيتكم مؤكِّد للتبكيت كاشفٌ عن كذبهم وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقة بدِلالة المذكورِ عليهِ أيْ إِن كُنتُمْ صادقين في أن أصنامكم آلهةٌ كما أنها دعواكم المعروفةُ أو إن كنتم قوماً صادقين فأخبروني أغيرَ الله تدعون إن أتاكم عذابُ الله الخ فإن صدقهم بأيِّ معنى كان من موجبات إخبارِهم بدعائهم غيرَه سبحانه وأما جعلُ الجواب ما يدلُّ عليه قولُه تعالى أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ أعني فادعوه على أن الضميرَ لغير الله فمُخِلٌّ بجزالة النظمِ الكريم كيف لا والمطلوبُ منهم إنما هو الإخبارُ بدعائهم غيرَه تعالى عند إتيانِ ما يتأتى لا نفسُ دعائهم إياه وقوله تعالى

41

{بَلْ إياه تَدْعُونَ} عطفٌ على جملة منفيةٍ ينْبىء عنها الجملةُ التي تعلقَ بها الاستخبارُ إنباءً جلياً كأنه قيل لا غيرَه تعالى تدعون بل غياه تدعون وقوله تعالى {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} أي إلى كشفه عطفٌ على تدعون أي فيكشفه إثرَ دعائِكم وقولُه تعالَى {إِن شَاء الله} أي أنْ شاء كشفَه لبيانِ أن قبولَ دعائِهم غيرُ مطَّردٍ بل هو تابع

الأنعام آية 42 44 لمشيئته المبنيةِ على حِكَمٍ خفية وقد استأثر الله تعالى بعلمها فقد يقبلُه كما في بعض دعواتهم المتعلقةِ بكشف العذاب الدنيوي وقد لا يقبله كما في بعض آخَرَ منها وفي جميع ما يتعلق بكشف العذابِ الأخرويِّ الذي من جملته الساعةُ وقوله تعالى {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} أي تتركون ما تشركونه به تعالى من الأصنامِ تركاً كلياً عطفٌ على تدعون أيضاً وتوسيطُ الكشفِ بينهما مع تقارنهما وتأخُرِ الكشف عنهما لإظهار كمال العناية بشأن الكشفِ والأيذان بترتّبه على الدعاء خاصةً وقولُه تعالى

42

{ولقد أرسلنا} مكلام مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أن منهم ة من لا يدعو الله تعالى عند إتيانِ العذاب أيضاً لتماديهم في الغيِّ والضلال لا يتأثرون بالزواجر التنزيلة وتصديرُه بالجملة القَسَمية لإظهار مزيدِ الاهتمام بمضمونه ومفعول أرسلنا محذوف لما أنَّ مُقتضى المقام بيانُ حال المرسَل إليهم لا حالِ المرسلين أي وبالله لقد أرسلنا رسلاً {إلى أُمَمٍ} كثيرة {مِن قَبْلِكَ} أي كائنة من زمان قبلَ زمانك {فأخذناهم} أي فكذبوا رسلهم فأخذناهم {بالبأساء} أي بالشدة والفقر {والضراء} أي الضر والآفات وهما صيغنا تأنيثٍ لا مذكر لهما {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أي لكي يدعوا الله تعالة في كشفها بالتضرّع والتذلل ويتوبوا إليه من كفرهم ومعاصيهم

43

{فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ} أي فلم يتضرعوا حينئذ مع تحقق ما يستدعيه {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} استدراكٌ عما قبله أي فلم يتضرعوا إليه تعالى برقةِ القلب والخضوع مع تحقق ما يدعوهم إليه ولكن ظهر منهم نقيضُه حيث قستْ قلوبُهم أي استمرتْ على ما هي عليه من القساوة أو ازدادَتْ قساوةً كقولك لم يُكرِمْني إذ جئتُه ولكن أهانني {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان ما كانوا يعملون} من الكفر والمعاصي فلم يُخْطِروا ببالهم أنّ ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله وقيل الاستدراك لبيان أنَّه لم يكُن لهم في ترك التضرُّع عذرٌ سوى قسوةِ قلوبهم والإعجابِ بأعمالهم التي زيَّنها الشيطانُ لهم وقوله تعالى

44

{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ به} عطف على مقدَّرٍ ينساقُ إليه النظمُ الكريمُ أي فانهمَكوا فيه ونسُوا ما ذُكَّروا به من البأساء والضّراء فلما نسوه {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء} من فنون النَّعْماء على منهاج الاستدراج لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال مُكِر بالقوم ورب الكعبة وقرىء فتّحنا بالتشديد للتكثير وفي ترتيب الفتح على النسيان المذكور إشعارٌ بأن التذكر في الجملة غير خالٍ عن النفع وحتى في قولِه تعالى {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ} هي التي يُبتدأ بها الكلامُ دخلتْ على الجملةِ الشرطية كما في قوله تعالى حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا الآية ونظائرِه وهي

الأنعام آية 45 47 مع ذلك غاية لقوله تعالى فَتَحْنَا أو لما يدل هو عليه كأنه قيل ففعلوا ما فعلوا حتى إذا اطمأنوا بما أتيح لهم وبطِروا وأشِروا {أخذناهم بَغْتَةً} أي نزل بهم عذابنا فجأةً ليكون أشدَّ عليهم وقعا وأفظع هو لا {فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} متحسِّرون غاية الحسرة آيسون من كل هير واجمون وفي الجملة الاسميةِ دلالة على استقرارهم على تلك الحالة الفظيعة

45

{فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ} أي آخِرُهم بحيث لم يبقَ منهم أحد من دبره دبرا ودبورا أي تبعه ووضعُ الظاهر موضعَ الضميرِ للإشعارِ بعلةِ الحُكم فإن هلاكهم بسبب زلمهم الذي هو وضعُ الكفر موضعَ الشكر وإقامةُ المعاصي مُقامَ الطاعات {والحمد للَّهِ رَبّ العالمين} على ما جرى عليهم من النَّكال فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث أنه تخليصٌ لأهل الأرض من شؤم عقائدِهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمةٌ جليلة مستجلِبةٌ للحمد لا سيما مع ما فيه من إعلاءِ كلمةِ الحق التي نطقَت بها رسلُهم عليهم السلام

46

{قل أرأيتم} أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتكرير التبكيت عليهم وتثنيةِ الإلزامِ بعد تكملةِ الإلزامِ الأولِ ببيان أنه أمرٌ مستمرٌ لم يزَلْ جارياً في الأمم وهذا أيضاً استخبارٌ عن متعلَّق الرؤية وإن كان بحسب الظاهر استخباراً عن نفسِ الرؤية {إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم} بأن أصَمّكم وأعماكم بالكلية {وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ} بأن غطى عليها بما لا يبقى لكم معه عقلٌ وفهمٌ أصلاً وتصيرون مجانين ويجوز أن يكون الختمُ عطفاً تفسيرياً للأخذ المذكور فإن السمعَ والبصر طريقان للقلب منهما يرِدُ ما يرِدُه من المدرَكات فأخذهما سد لبابه وهو السرُّ في تقديم أخذِهما على ختمها وأما تقديمُ السمع على الإبصار فلأنه مورِدُ الآياتِ القرآنية وإفرادُه لما أن أصله مصدَرٌ وقوله تعالى {مِنْ إله} مبتدأ وخبر ومن استفهامية وقوله تعالى {غَيْرُ الله} صفةٌ للخبر وقوله تعالى {يَأْتِيكُمْ بِهِ} أي بذاك على أن الضميرَ مستعارٌ لاسم الإشارة أو بما أَخَذ وخَتَم عليه صفةٌ أخرى له والجملة متعلَّقُ الرؤية ومناطُ الاستخبار أي أخبروني إنْ سلب الله مشاعرَكم من إله غيرُه تعالى يأتيكم بها وقوله تعالى {انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الايات} تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عدم تأثُّرِهم بما عاينوا من الآيات الباهرةِ أي انظر كيف نكرِّرها ونقرِّرها مصروفةً من أسلوب إلى أسلوب تارةً بترتيب المقدِّمات العقلية وتارةً بطريق الترغيب والترهيب وتارةً بالتنبيه والتذكير {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} عطفٌ على نصرِّف داخلٌ في حُكمه وهو العُمدة في التعجيب وثم لاستبعاد صدوفهم أي إعراضِهم عن تلك الآيات بعد تصريفها على هذا النمط البديعِ الموجبِ للإقبال عليها

47

{قُلْ أَرَأَيْتُكُم} تبكيتٌ آخَرُ لهم بإلجائهم إلى الاعترافِ باختصاص للعذاب بهم {إِنْ أتاكم عَذَابُ الله} أي

الأنعام آية 48 عذابُه العاجلُ الخاصُّ بكم كما أتى مَنْ قبلكم من الأممِ {بَغْتَةً} أي فجأةً من غير أن يظهرَ منه مخايِلُ الإتيان وحيثُ تضمّن هذا معنى الخُفية قوبل بقوله تعالى {أَوْ جَهْرَةً} أي بعد ظهورِ أماراتِه وعلائمه وقيل ليلاً أو نهاراً كما في قوله تعالى بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا لما أن الغالبَ فيما أتى ليلاً البغتةُ وفيما أتى نهاراً الجهرةُ وقرىء بغتة أو جهرة وهما في موضع المصدر أي إتيانَ بغتةٍ أو إتيانَ جهرة وتقديمُ البغتة لكونها أهولَ وأفظعَ وقوله تعالى {هَلْ يُهْلَكُ} متعلَّق الاستخبار والاستفهام للتقرير أي قل لهم تقريراً لهم باختصاص الهلاكِ بهم أخبروني إن أتاكم عذابه تعالى حسبما تستحقونه هل يُهلك بذلك العذاب إلا أنتم أي هل يُهلك غيرُكم ممن لا يستحقه وإنما وُضع موضعَه {إِلاَّ القوم الظالمون} تسجيلاً عليهم بالظلم وإيذاناً بأن مناطَ إهلاكهم ظلمُهم الذي هو وضعُهم الكفرَ موضعَ الإيمان وقيل المرادُ بالظالمين الجنسُ وهو داخلون في الحكم دجخولا أولياً قال الزجاج هل يُهلك إلا أنتم ومن اشبهكم ويأباه تخصيص افتيان بهم وقيل الاستفهامُ بمعنى النفي فمتعلَّق الاستخبارِ حينئذ محذوفٌ كأنه قيل أخبروني إن أتاكم عذابه تعالى بغتة أو جهرة مذا يكون الحال ثم قيل بياناً لذلك ما يُهلك إلا القومُ الظالمون أي ما يُهلك بذلك العذاب الخاصِّ بكم إلا أنتم فمن قيَّد الهلاكَ بهلاك التعذيب والسُخط لتحقيق الحصْرِ بإخراج غيرِ الظالمين لِما أنه ليس بطريقِ التعذيب والسَّخَطِ بل بطريق الإثابة ورفع الدرجة فقد أهمل ما يُجْديه واشتغل بما لا يعينه وأخلَّ بجزالة النظم الكريم وقرىء هل يَهلِك من الثلاثي

48

{وَمَا نُرْسِلُ المرسلين} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيانِ وظائفِ منْصِبِ الرسالة على الإطلاق وتحقيقِ ما في عُهدة الرسلِ عليهم السلام وإظهارُ أن ما يقترحه الكفرةُ عليه عليه السلام ليس مما يتعلقُ بالرسالة أصلاً وصيغةُ المضارع لبيانِ أن ذلك أمرٌ مستمرٌّ جرتْ عليه العادةُ الإلهية وقوله تعالى {إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} حالات مقدّرتان من المُرْسلين أي ما نرسِلُهم إلا مقدَّراً تبشيرُهم وإنذارُهم ففيهما معنى العلة الغائبة قطعاً أي ليبشروا قومَهم بالثواب على الطاعة وينذروهم بالعذاب على المعصية أي ليُخبروهم بالخبر السار والخبرِ الضارّ دنيويا كان أو أخرويا من غير أن يكون لهم دخلٌ ما في وقوع المخبَر به أصلاً وعليه يدور القصر والإ لزم أن لا يكون بيان الشرائع والأحكام من وظائف الرسالة والفاء في قوله تعالى {فمن آمن وَأَصْلَحَ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها ومن موصوله والفاء في قوله تعالى {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} لشَبَه الموصول بالشرط أي لا خوف عليهم من العذاب الذي أُنذِروه دنيوياً كان أو أخروياً ولا هم يحزنون بفوات ما بُشِّروا به من الثواب العاجل والآجل وتقديمُ نفْيِ الخوفِ على نفْيِ الحُزْن لمراعاة حقِّ المقام وجمعُ الضمائر الثلاثة الراجعة إلى مَنْ باعتبارِ معناها كما أنَّ إفرادَ الضميرَيْن السابقين باعتبار لفظها أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون والمرادُ بيانُ دوام انتفاءِ دوامِهما كما يُوهمه كونُ الخبرِ في الجملة الثانية مضارعا

الأنعام آية 49 50 لما تقرر في موضعه من أن النفيَ وإن دخل على نفس المضارع يُفيد الدوام والاستمرارَ بحسب المقام ألا يُرى أن الجملةَ الاسميةَ تدلُّ بمعونة المقام على استمرار الثبوت فإذا دخل عليها حرفُ النفي دلت على استمرار الانتفاءِ لا على انتفاء الاستمرار كذلك المضارعُ الخاليَ عن حرف النفي يفيد استمرار الثبوت فإذا دخل عليه حرفُ النفي يفيد استمرارَ الانتفاء لا انتفاء الاستمرار ولا بُعْد في ذلكَ فإن قولك ما زيداً ضربت مفيدٌ لاختصاص النفي لا نفي الاختصاص كما بُيّن في محله وقوله عز وجل

49

{الذين كانوا} عطفٌ على مَنْ آمن دالخل في حكمه قوله تعالى {بآياتنا} إشارى ة إلى أن ما ينطِقُ به الرسلُ عليهم السَّلامُ عند التبشير والإنذار ويبلّغونه إلى الأمم ى ياته تعالى وأن من آمن به فقد آمن بآياته تعالى ومن كذب به فقد كذب بها وفيهِ من الترغيبِ في الإيمان به والتحذيرِ عن تكذيبه ما لا يخفى والمعنى ما نرسل المرسلين إلا ليُخبروا أممهم من جهتنا بما سيقع منا من الأمور السارّة والضارّة لا ليُوقعوها استقلالاً من تلقاء أنفسهم أو استدعاءً من قِبَلِنا حتى يقترحوا عليهم ما يقترحون فإذا كان الأمرُ كذلك فمن ى من بما أَخبروا به من قبلنا تبشيراً أو إنذاراً في ضمن آياتنا وأصلح ما يجب إصلاحُه من أعماله أو دخل في الصلاح فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا التي بُلِّغوها عند التبشير والإنذار {يَمَسُّهُمُ العذاب} أي العذاب الذي أُنذِروه عاجلاً أو آجلاً أو حقيقةُ العذاب وجنسُه المنتظمُ له انتظاماً أولياً {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أي بسبب فسقهم المستمر الذي هو الإصرارُ على الخروج عن التصديق والطاعة

50

{قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله} استئنافٌ مبنيٌّ على ما أسِّسَ من السنة الإلهية في شأنِ إرسالِ الرسل وإنزالِ الكتب مسوق لإظهار تبرئه صلى الله عليه وسلم عما يدورُ عليه مقترحاتُهم أي قل للكفرة الذين يقترحون عليك تارةً تنزيلَ الآياتِ وأخرى غيرَ ذلك لا أدَّعي أن خزائنَ مقدوراتِه تعالى مُفوَّضةٌ إلي أتصرف فيهما كيفما شاء استقلالاً أو استدعاءً حتى تقترحوا عليّ تنزيلَ الآياتِ أو إنزالَ العذاب أو قلبَ الجبال ذهباً أو غير ذلك مما لا يليق بشأني وجعلُ هذا تبرُّؤاً عن دعوى الإلهية مما لا وجهَ لَهُ قطعاً وقوله تعالى {وَلاَ أَعْلَمُ الغيب} عطفٌ على محلَّ عندي خزائنُ الله أي ولا أدّعي أيضاً أني أعلم الغيبَ من أفعاله تعالى حتى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت نزول العذاب أو نحوهما {وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ} حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقةِ للعادات ما لا يطيق به البشرُ من الرُقيِّ في السماء ونحوه أو تعدوا عدمَ اتّصافي بصفاتهم قادحاً في أمري كما ينبىء عنه قولهم مال هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الاسواق والمعنى إني لا أدعي شيئا من هذه الأشياء الثلاثة حتنى تقترحوا عليَّ ما هو من آثارها وأحكامها وتجعلوا عدمَ إجابتي إلى ذلك دليلا على عد صحةِ ما أدَّعيه من الرسالة التي لا تعلُّقَ لها بشيء مما ذُكر قطعاً بل إنما هي

الأنعام آية 51 عبارةٌ عن تلقِّي الوحْي من جهةِ الله عزَّ وجل والعملِ بمقتضاه فحسْب حسْبما ينبيء عنه قوله تعالى {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} لا على معنى تخصيص اتباعه صلى الله عليه وسلم بما يوحى إليه دون غيرِه بتوجيِه القَصْر إلى المفعول بالقياس إلى مفعولٍ آخرَ كما هو الاستعمالُ الشائعُ الواردُ على توجيه القصْر إلى ما يتعلَّق بالفعلِ باعتبار النفي في الأصل والإثبات في القيد بل على معنى تخصيص حاله صلى الله عليه وسلم باتباع ما يوحى إليه بتوجيه القصرِ إلى نفسِ الفعلِ بالقياس إلى ما يغرّه من الأفعالِ لكن لا باعتبار النَّفي والإثباتِ معاً في خصوصية فإن ذلك غيرُ ممكنٍ قطعاً بل باعتبار النفي فيما يتضمنه من مطلق القعل والإثباتِ فيما يقارنه من المعنى المخصُوص فإنَّ كلَّ فعلٍ من الأفعال الخاصَّةِ كنصر مثلاً ينحلُّ عند التَّحقيقِ إلى معنى مطلقٍ هو مدلولُ لفظِ الفعلِ وإلى معنى خاص يقومه فإن معناه فصل النصْرَ يُرشدك إلى ذلك قولُهم معنى فلانٌ يُعطي ويَمنعُ يفعلُ الإعطاءَ والمنعَ فموردُ القصرِ في الحقيقةِ ما يتعلق بتوجيه النفي إلى الأصل والإثباتِ إلى القيد كأنه قيل ما أفعلُ إلا اتباعَ ما يُوحَى إليَّ من غير أن يكون لي مدخَلٌ ما في الوحي أو في الموحى بطريق الاستدعاء أو بوجهٍ آخرَ من الوجوه أصلاً {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير} مثل للضال والمهتدي على الإطلاق والاستفهام إنكاري والمراد إنكاري استواءِ مَنْ لا يعلم ما ذُكر من الحقائق ومن يعلمُها وفيه من الإشعار بكمالِ ظهورِها ومن التنفير عن الضلالِ والترغيب في الاهتداء ما لا يَخْفى وتكريرُ الأمر لتثنية التبكيتِ وتأكيدِ الإلزام وقوله تعالى {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} تقريعٌ وتوبيخٌ داخلٌ تحت الأمر والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي لا تَسْمَعُونَ هذا الكلامَ الحقَّ فلا تتفكرون فيم أو أتسمعون فلا تتفكرون فيه فمناطُ التوبيخِ في الأول عدمُ الأمرَيْنِ معاً وفي الثَّانِي عدمُ التفكر مع تحقق ما يوجيه

51

{وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبّهِمْ} بعد ما حكَى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن من الكفرة قوماً لا يتعظون بتصريف الآيات الباهرة ولا يتأثرون بمشاهدة المعجزات القاهرة قد إيفت مشاعرُهم بالكلية والتحقوا بالأموات وقرَّر ذلك بأن كرَّر عليهم من فنون التبكيت والإلزام ما يُلقِمُهم الحجرَ أي غلقام فأبَوا إلا الإباءَ والنكيرَ وما نجَع فيهم عِظةٌ ولا تذكير ة وما أفادهم الإنذارُ إلا افصرار على الإنكار أُمرَ عليه الصلاةُ والسلامُ بتوجيه الإنذار إلى مَنْ يتوقعُ منهم التأثرَ في الجملة وهم المحجوزون منهم للحشر على الوجه الآتي سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب وبعضِ المشركين المعترفين بالبعث المتردِّدين في شفاعة آبائهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالأولين أو في شفاعة الأصنام كالآخِرين أو متردّدين فيهما معاً كبعض الكفرة الذين يُعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديث البعث يخافون أن يكون حقاً وأما المنكرون للحشر رأساً والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم وقد قيل هم المفرِّطون في الأعمال من المؤمنين ولا يساعدُه سِباقُ النَّظم الكريمِ ولا سياقه بل فيه ما يقضي باستحالة صحته كما ستقف عليه

الأنعام آية 52 والضميرُ المجرورُ لما يوحى أو لما دَلَّ هو عليهِ من القرآن والمفعولُ الثاني للإنذار إما العذابَ الأخرويَّ المدلولَ عليه بما في حيز الصلة وإما مطلقَ العذابَ الذي وردَ به الوعيدُ والتعرّضُ لعنوان الربوبية المنبشة عن المالكية المطلقة والتصرف اكلي لتربية المهابة وتحقيق المخافة وقوله تعالى {لَيْسَ لَهُمْ مّن دُونِهِ وَلِىٌّ وَلاَ شفيع} في حين النصب على الحالية من ضمير يحشروا ومن متنعلقة بمحذوفٍ وقعَ حالاً من اسم ليس لأنَّه في الأصلِ صفةٌ له فلما قد عليه انتصب حالاً خلا أن الحال الأولى لإخراج الحشر الذي لم يقيد بها عن حيز الخوف وتحقيقِ أن ما نيط به الخوفُ هو الحشر على تلك الحالة لا الحشرُ كيفما كان ضرورةَ أن المعترفين به الجازمين بنُصرة غيرِه تعالى بمنزلةِ المنكرين له في عدم الخوفِ الذي عليه يدورُ أمرُ الإنذار وأما الحالُ الثانية فليست لإخراج الوليِّ الذي لم يقيد بها عن حيز الانتفاء لفساد المعنى لاستلزام ثبوتِ ولايتِه تعالى لهم كما في قوله تعالى ومالكم من دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ بل لتحقيق مدارِ خوفهم وهو فُقدان ما علّقوا به رجاءَهم وذلك إنما هو ولايةُ غيرِه سبحانه وتعالى في قوله تعالى وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الارض وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء والمعنى أنذر به الذين يخافون أن يحشروا غيرَ منصورين من جهة أنصارهم على زعمهم ومن هذا اتضح أن لا سبيلَ إلى كون المرادِ بالخائفين المفرِّطين من المؤمنين غذ ليس لهم والي سواه تعالى ليخافوا الحشرَ بدون نصرته وإنما الذي يخافونه الحشرَ بدون نُصرته وإنما الذي يخافونه الحشر بدون نصرته عزَّ وجلَّ وقولُه تعالَى {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} تعليل للأمر أي أنذرهم مرجواً منهم التقوى

52

{وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى} لما أمر صلى الله عليه وسلم بإنذار المذكورين لينتظموا في سلك المتقين نهي صلى الله عليه وسلم عن كون ذلك بحيث يؤدي إلى طردهم رُوي أن رؤساءَ من المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو طردتَ هؤلاء الأعبُدَ وأرواحَ جبابهم يعنون فقراءَ المسلمين كعمارٍ وصهيبٍ وخبابٍ وسَلمانَ وأضرابهم رضي الله تعالى عنهم جلسنا إليك وحادثناك فقال صلى الله عليه وسلم ما أنا بطارد المؤمنين فقالوا فأقِمْهم عنا إذا جئنا فإذا قُمنا فأقعِدْهم معك إن شئت قال صلى الله عليه وسلم نعم طمعاً في إيمانهم ورُوي أن عُمر رضي الله تعالى عنه قالَ لَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسلام لو فعلتَ حتى تنظرَ إلى ما يصيرون وقيل إن عُتبةَ بنَ ربيعةَ وشيبةَ بنَ ربيعةَ ومُطعِمَ بن عدي والحرث بنَ نوفل وقرصةَ بنَ عبيد وعمروَ بنَ نوفل وأشرافَ بني عبد مناف من أهل الكفر أتَوا أبا طالب فقالوا يا أبا طالب لو أن ابنَ أخيك محمداً يطرُد موالينا وحلفاءناوهم عبيدنا وتقاؤنا كان أعظمَ في صدورنا وأدنى لاتّباعنا إياه فأتى أبو طالب إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فحدثه بالذي كلموه فقال عمرُ رضي الله عنه لو فعلتَ ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون إلى ما يصيرون وقال سلمان وخباب فينا نزلت هذه الآية جاء الأقرعُ بنُ حابسٍ التميميث وعُيَيْنةُ بنُ حِصْنٍ الفزاريُّ وعباس بن مرداس وذو وهم من المؤلفة قلوبهم

الأنعام آية 53 فوجدوا النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم جالساً مع أناسٍ من ضعفاءِ المؤمنين فلما رأوهم حوله صلى الله عليه وسلم حقروهم فأتوه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فقالُوا يا رسولَ الله لو جلستَ في صدر المجلس ونفَيْتَ عنا هؤلاء وأرواحَ جبابهم فجالسناك وحادثناك وأخذنا عنك فقال صلى الله عليه وسلم ما أنا بطارد المؤمنين قالوا فإنا نحب أن تجعل لنا معك مجلساً تعرِفْ لنا به العربُ فضلَنا فإن وفودَ العرب تأتيك فنستحي أن ترانا مع هؤلاء الأعبُد فإذا نجحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فعد معهم إن شئت قال صلى الله عليه وسلم نعم قالوا فاطكتب لنا كتاباً فدعا بالصحيفة وبعليَ رضي الله تعالى عنه ليكتبَ ونحن قعود ي ناحية فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ بالآية فرمى عليه السلام بالصحيفة ودعانا فأتيناه وجلسنا عنده وكنا ندنو منه حتى تمس ركبتنا رُكبتَه وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه وقال الحمد لله الذي لم يتمنى حتى أمرني أن أصبِرَ نفسي مع قومٍ من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات والمرادُ بذكر الوقتين الدوامُ وقيل صلاةُ الفجر والعصر وقرىء بالغُدوة وقوله تعالى {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} حال من ضمير يدعون أي يدعونه تعالى مخلصين له فيه وتقييدُه به لتأكيد علِّيتِه للنهي فإن الإخلاصَ من أقوى موجبات الإكرام المضادِّ للطرد وقوله تعالى {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء} اعتراضٌ وُسِّط بين النهي وجوابه تقريراً له ودفعاً لما عسى يُتوَهم كونُه مسوِّغاً لطردهم من أقاويلِ الطاعنين في دينهم كدأب قوم نوحٍ حيث قالوا مَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أراذلنا بادجى الرأى أي ما عليك شيءٌ ما مِنْ حساب إيمانهم وأعمالِهم الباطنة حتى تتصدى له وتبنى على ذلك ما تراه من الأحكام وإنما وظيفتُك حسبما هو شأنُ منصِبِ النبوة اعتبارُ ظواهرِ الأعمال وإجراءُ الأحكام على موجبها وأما بواطنُ الأمور فحسابُها على العليم بذات الصدور كقوله تعالى إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبّى وذكرُ قوله تعالى {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شَىْء} مع أن الجوابَ قد تم بما قبله للمبالغةِ في بيانِ انتفاءِ كون حسابهم عليه صلى الله عليه وسلم بنظمه في سلك ما لا شُبهة فيه أصلاً وهو انتفاءُ كونِ حسابه صلى الله عليه وسلم عليهم على طريقة قولِه تعالى لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ وأما ما قيل من أن ذلك لتنزيل الجملتين منزلةَ جملةٍ واحدةٍ لتأدية معنى واحدٍ على نهج قوله تعالى وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى فغيرُ حقيقٍ بجلالة شأن التنزيل وتقديم عليك في الجملة الأولى للقصدج إلى إيراد النفي على اختصاص حسابهم به صلى الله عليه وسلم إذ هو الجاعي إلى تصدية صلى الله عليه وسلم لحسابهم وقيل الضميرُ للمشركين والمعنى أنك لا تؤاخَذُ بحسابهم حتى يُهمَّك إيمانُهم ويدعُوَك الحِرْصُ عليه إلى أن تطرُدَ المؤمنين وقوله تعالى {فَتَطْرُدَهُمْ} جواب النفي وقوله تعالى {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} جواب النهي وقد جُوِّز عطفُه على فتطردَهم على طكريقة التسبيب وليس بذاك

53

{وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} استئنافٌ مبينٌ لما نشأ عنه ما سبق من النهي وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ ما بعده من الفعل الذي هو عبارةٌ عن تقديمه لفقراء المؤمنين في أمر الدين بتوفيقهم للإيمان

الأنعام آية 54 مع ما هم عليه في أمر الدنيا من كمال سوء الحال وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ درجتِه المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الكمال والكاف مُقحَمَةٌ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلُها في الأصلِ النصبُ على أنه نعتٌ لمصدرٍ مؤكّدٍ محذوف والتقدير فتنا بعضَهم ببعض فتوناً كائناً مثلَ ذلك الفتون ثم قُدّم على الفعلِ لإفادة القصِر المفيدِ لعدم القصور فقط واعتُبرت الكافُ مُقحَمةً فصار نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتاً له والمعنى ذلك الفتونَ الكاملَ البديعَ فتنّا أي ابتلَينا بعضَ الناس ببعضهم لا فتوناً غيره حيث قدمنا الآخِرين في أمر الدينِ على الأولين المتقدَّمين عليهم في أمر الدنيا تقدماً كلياً واللام في قوله تعالى {لّيَقُولواْ} للعاقبة أي ليقول البعضُ الأولين مُشيرين إلى الآخِرين محقِّرين لهم نظراً إلى ما بينهما من التفاوت الفاحشِ الدنيوي وتعامياً عما هو مَناطُ التفضيلِ حقيقةً {أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَا} بأن وفّقهم لإصابة الحق ولما يصعجهم عنده تعالى من دوننا ونحن المقدَّمون والرؤساء وهم العبيدُ والفقراء وغرضُهم بذلك إنكارُ وقوعِ المنِّ رأساً على طريقة قولِهم لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ لا تحقيرُ الممنونِ عليهم مع الاعتراف بوقوعه بطريق الاعتراضِ عليه تعالى وقولُه تعالى {أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} ردٌّ لقولهم ذلك وإبطال له وإشارةٌ إلى أن مدارَ استحقاقِ الإنعامِ معرفةُ شأنِ النعمةِ والاعترافُ بحق المُنعِم والاستفهامُ لتقرير علمه البالغِ بذلك أي أليس الله بأعلمَ بالشاكرين لِنِعَمِه حتى تستبعِدوا إنعامَه عليهم وفيه من الإشارة إلى أن أولئك الضعفاءَ عارفون بحقِّ نِعَم الله تعالى في تنزيل القرآنِ والتوفيقِ للإيمان شاكرون له تعالى على ذلك مع التعريض بأن القائلين بمعزلٍ من ذلك كله ما لا يخفى

54

{وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بآياتنا} هم الذين نُهيَ عن طردهم وُصِفوا بالإيمان بآيات الله عزَّ وجلَّ كما وُصفوا بالمداومة على عبادته تعالى بالإخلاص تنبيهاً على إحرازهم لفضيلتَي العلم والعمل وتأخيرُ هذا الوصفِ مع تقدمه على الوصف الأولِ لما أن مدارَ الوعدِ بالرحمة والمغفرة هو الإيمانُ بها كما أن مناطَ النهْي عن الطرد فيما سبق هو المداومةُ على العبادة وقوله تعالى {فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ} أمرٌ بتبشيرهم بالسلام عن كل مكروهٍ بعد إنذارِ مُقابليهم وقيل بتبليغ سلامِه تعالى إليهم وقيل بأن يبدأَهم بالسلام وقوله تعالى {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} أي قضاها وأوجبَها على ذاته المقدسةِ بطريق التفضّل والإحسانِ بالذات لا بتوسُّط شيءٍ ما أصلا تبشير لهم بسَعَة رحمتِه تعالى وبنيل المطالبِ إثرَ تبشيرِهم بالسلامة عن المكاره وقبولِه التوبة منهم وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافةِ إلى ضميرِهم إظهارُ اللطفِ بهم والإشعارُ بعلّة الحُكْم وقيل إن قوماً جاءوا إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فقالوا إنا أصبْنا ذُنوباً عظاما فلم يرد على أنه تفسيرٌ للرحمة بطريق الاستئناف وقوله تعالى {بِجَهَالَةٍ} حال من فاعل عمل أي عمله وهو جاهلٌ بحقيقة ما يتبعه من المضارِّ والتقييدُ بذلك للإيذان بأن المؤمنَ لا يباشر ما يعلمُ أنه

الأنعام آية 55 57 يؤدي إلى الضرر أو عمله ملتبسا بجهالة {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ} أي من بعد مله أو من بعد سَفَهِه {وَأَصْلَحَ} أي ما أفسده تدارُكاً وعزْماً على أن لا يعودَ إليه أبداً {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي فأمرُه أنه غفور رحيم أو فله أنه غفور رحيم وقُرىء فإنَّه بالكسرِ على أنه استئنافٌ وقع في صدر الجملة الواقعةِ خبراً لمن على أنَّها موصولةٌ أو جوابا لها على أنها شرطية

55

{وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الايات} قد مر آنفاً ما فيه من الكلام أي هذا التفصيلِ البديعِ نُفَصّلُ الآيات في صفة أهل الطاعةِ وأهل الإجرام المُصرِّين منهم والأوابين {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين} بتأنيث الفعلِ بناءً على تأنيث الفاعل وقرىء بالتذكير بناءً على تذكيره فإن السبيلَ ممَّا يُذكِّرُ ويُؤنَّثُ وهو عطفٌ على علة محذوفةٍ للفعل المذكورِ لم يُقصَدْ تعليلُه بها بعينها وإنما قُصد الإشعارُ بأن له فوائدَ جمّةً مِنْ جُمْلتها ما ذُكر أو علةٌ لفعل مقدرٍ هو عبارة عن المذكور فيكون مستأنَفاً أي ولتستبين سبيلَهم نفعلُ ما نفعل من التفصيل وقرىء بنصب السبيلَ على أن العف متعدَ وتاؤُه للخطاب أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيلَ المجرمين فتعامِلَهم بما يليق بهم

56

{قُلْ إِنّى نُهِيتُ} أُمر صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى مخاطبة المُصِرّين على الشرك إثرَ ما أُمر بمعاملة مَنْ عداهُم من أهلِ الإنذار والتبشيرِ بما يليق بحالهم أي قل لهم قطعاً لأطماعهم الفارغة عن ركونه صلى الله عليه وسلم إليهم وبياناً لكون ما هم عليه من الدين هوىً محضاً وضلالاً بحتاً إني صُرفتُ وزُجِرْت بما نُصب لي من الأدلة وأُنزل علي من الآيات في أمر التوحيد {أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ} أي عن عبادة ما تعبدونه {مِن دُونِ الله} كائناً ما كان {قُلْ} كَرر الأمرَ مع قرب العهد اعتناء بشأن المأمور به أو غيذانا باختلاف المَقولَيْن من حيث إن الأولَ حكايةٌ لِما منْ جهتِه تعالَى منْ النهي والثاني حكايةٌ لما من جهته صلى الله عليه وسلم من الانتهاء عما ذُكر من عبادة ما يعبدونه وإنما قيل {لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ} استجهالاً لهم وتنصيصاً على أنهم فيما هم فيه تابعون لأهواءَ باطلةٍ وليسوا على شيء مما ينطلق عليه الدين أصلاً وإشعاراً بما يوجب النهيَ والانتهاءَ وقوله تعالى {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً} استئنافٌ مؤكِّد لانتهائه عما نهي عنه مقرِّر لكونهم في غاية الضلال والغَواية أي إن اتبعتُ أهواءكم فقد ضللت وقولُه تعالَى {وَمَا أَنَاْ مِنَ المهتدين} عطفٌ على ما قبله والعدولُ إلى الجُملةِ الاسميَّةِ للدلالة على الدوام والاستمرار رأي دوامِ النفْي واستمرارِه لا نفْيِ الدوام والاستمرار كما مرَّ مراراً أي ما أنا في شيء من الهدى حين أكون في عِدادهم وقوله تعالى

57

{قُلْ إِنّى على بَيّنَةٍ} تحقيقٌ للحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان لاتباعه غياه إثر إبطال الباطل الذي عليهالكفرة وبيان عدم

2 - الأنعام آية 58 اتباعه والبينةُ الحجةُ الواضحةُ التي تفصِلُ بين الحق والباطل والمرادُ بها القرآنُ والوحْيُ وقيل هو الحججُ العقلية أو ما يعمُّها ولا يساعدُه المقامُ والتنوينُ للتفخيم وقولُه تعالى {مّن رَّبّى} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لبينة مؤكدة لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من التشريفِ ورفعِ المنزلة ما لا يخفى وقوله تعالى {وَكَذَّبْتُم بِهِ} إما جملةٌ مستأنفة أو حاليةٌ بتقدير قد أو بدونه جىء بها الاستقباح مضمونها واستيعاد وقوعِه مع تحقق ما يقتضي عدمَه من غاية وضوحِ البينة والضميرُ المجرورُ اللبينة والتذكير باعتبار المعنى لمراد والمعنى إني على بينةٍ عظيمة كائنةٍ من ربي وكذبتم بها وبما فيها من الأخبار التي من جملتها الوعيدُ بمجيء العذاب وقولُه تعالى {مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} استئنافٌ مبينٌ لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأً لتكذيبهم بها وهو عدمُ مجيءِ ما وَعد فيها من العذابِ الذي كانُوا يستعجلونه بقولهم متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين بطريق الاستهزاءِ أو بطريق الإلزامِ على زعمهم أي ليس ما تستعجلونه من العذاب الموعودِ في القرآنِ وتجعلون تأخُّرَه ذريعةً إلى تكذيبه في حُكمي وقدرتي حتى أَجيءَ به وأُظهرَ لكم صِدْقَه أو ليس أمرُه بمُفوَّضٍ إلي {إِنِ الحكم} أي ما الحكمُ في ذلك تعجيلاً وتأخيراً أو ما الحكمُ في جميع الأشياء فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أولياً {إِلاَ لِلَّهِ} وحده من غير أن يكون لغيره دخْلٌ ما فيه بوجه من الوجوه وقولُه تعالى {يَقُصُّ الحق} أي يتبعه بيان لشئونه تعالى في حكم المعهودِ أو في جميع أحكامِه المنتظمةِ له انتظاماً أولياً أي لا يَحكُم إلا بما هو حقٌّ فيُثبتُ حقيقة التأخير وقرىء يقضي فانتصابُ الحقَّ حينئذٍ على المصدية أي يقضي القضاءَ الحقَّ أو على المفعولية أي يصنعُ الحقَّ ويدبرُه من قولهم قضى الدِّرعَ إذا صنعها وأصلُ القضاءِ الفصلُ بتمام الأمرِ وأصلُ الحُكمِ المنعُ فكأنه يمنعُ الباطل عن معارَضةِ الحقِّ أو الخصمِ عن التعدِّي على صاحبه {وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين} اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مشيرٌ إلى أن قص الحق ههنا بطريق خاصَ هو الفصلُ بين الحقِّ والباطلِ هذا هُو الذي تستدعيهِ جزالة التنزيلِ وقد قيل إن المعنى إني من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه على حجةٍ واضحةٍ وشاهدِ صدقٍ وكذبتم به أنتم حيث أشركتم به تعالى غيرَه وأنت خبيرٌ بأن مساق النظم الكرين فيما سبقَ وما لحقَ على وصفهم بتكذيب آياتِ الله تعالى بسبب عدمِ مجيءِ العذاب الموعودِ فيها فتكذيبُهم به سبحانه في أمر التوحيد مما لا تعلُّقَ له بالمقامِ أصلاً

58

{قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى} أي في قدرتي ومِكْنتي {مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} من العذابَ الذي وردَ به الوعيد بأن يكون أمرُه مفوّضاً إلي من جهته تعالى {لَقُضِىَ الامر بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} أي بأن ينزِلَ ذلك عليكم إثرَ استعجالِكم بقولكم متى هذا الوعد ونظائرِه وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعيُّن الفاعِلِ الذي هو الله تعالى وتهويلِ الأمر ومراعاةِ حسنِ الأدب ما لا يخفى فما قيل في تفسيره لأهلكتُكم عاجلاً غضباً لربي ولتخلصْتُ منكم سريعاً بمعزلٍ من تَوْفِيةِ المقام حقَّه وقولُه تعالى {والله أَعْلَمُ بالظالمين} اعتراضٌ مقرِّرٌ لِما أفادتْه الجملةُ الامتناعية من انتفاءِ كونِ أمرِ العذاب مفوضا إليه صلى الله عليه وسلم المستتبِع لانتفاء قضاءِ الأمر وتعليل له والمعنى

الأنعام 59 60 والله تعالى أعلم بحال الظالمين وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب ولذلك لم يفوِّضِ الأمرَ إليّ فلم يقضِ الأمرَ بتعجيل العذاب والله أعلم

59

{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب} بيانٌ لاختصاص المقدوراتِ الغيبية به تعالى من حيثُ العلم غثر بيانِ اختصاصِ كلِّها به تعالى من حيثُ القدرةُ والمفاتحُ إما جمعُ مفتَح بفتح الميم وهو المخزَن فهو مستعارٌ لمكان الغيب كأنها مخازِنُ خُزِنت فيها الأمورُ الغيبيةُ يُغلق عليها ويُفْتَح وإما جمعُ مفتِح بكسرها وهو المفتاح ويُؤيده قراءةُ مَنْ قرأَ مفاتيحُ الغيب فهو مستعارٌ لما يُتوصَّلُ به إلى تلك الأمورِ بناءً على الاستعارة الأولى أي عنده تعالى خاصةُ خزائنِ غُيوبِه أو ما يُتوصّل به إليها وقولُه عز وجل {لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} تأكيدٌ لمضمونِ ما قبله وإيذانٌ بأن المرادَ هو الاختصاصُ من حيث العلمُ لا من حيث القدرةُ والمعنى أن ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدوراً لي حتى أُلزِمَكم بتعجيله ولا معلوماً لديّ لأُخبرَكم وقتَ نزولِه بل هو مما يَختصُّ به تعالى قدرة وعلما فينزله حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحِكَم والمصالح وقولُه تعالى {وَيَعْلَمُ مَا فِى البر والبحر} بيان لتعلّق علمِه تعالى بالمشاهَدات إثرَ بيان تعلُّقِه بالمغيَّباتِ تكملةً له وتنبيهاً على أن الكلَّ بالنسبة إلى علمِه المحيطِ سواءٌ في الجَلاءِ أي يعلمُ مَا فِيهمَا مِنَ الموجودات مُفصّلةً على اختلاف أجناسِها وأنواعِها وتكثُّرِ أفرادِها وقولُه تعالى {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} بيانٌ لتعلُّقه بأحوالها المتغيَّرةِ بعد بيانِ تعلقِه بذواتها فإن تخصيصَ حالِ السقوطِ بالذكر ليس إلا بطريق الاكتفاءِ بذكرها عن ذكر سائر الأحوال كما أن ذكرَ حالِ الورقةِ وما عُطفَ عليها خاصةً دون أحوالِ سائرِ ما فيهما من فنونِ الموجودات الفائتة للحصر باعتبارِ أنها أُنموذَجٌ لأحوال سائرِها وقولُه تعالى {وَلاَ حَبَّةٍ} عطفٌ على ورقةٍ وقولُه تعالى {فِى ظلمات الارض} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لحبة مفيدة لكما نفوذِ علمِه تعالى أي ولا حبةٍ كائنةٍ في بطونِ الأرض إلا يعلمها وكذا قوله تعالة {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ} معطوفان عليها داخلان في حُكمها وقولُه تعالى {إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ} بدلٌ من الاستثناءِ الأول بدلَ الكلِّ على أن الكتابَ المُبِينَ عبارةٌ عن علمه تعالى أو بدلَ الاشتمالِ على أنه عبارةٌ عن اللوحِ المحفوظ وقرىء الأخيران بالرَّفعِ عطفاً عَلى محلِّ من ورقة وقيل رفعُهما بالابتداء والخبرُ إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ وهو الأنسبُ بالمقام لشمول الرطبِ واليابس حينئذ لِما ليس من شأنه السقوطُ وقد نُقل قراءةُ الرفعِ في ولا حبةٌ أيضاً

60

{وهو الذي يتوفاكم بالليل} أي يُنيمُكم فيه على استعارة التوفِّي من الإماتة للإنامة لما بين الموتِ والنومِ من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز وأصله قبضُ الشيء بتمامه {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} أي ما كسبتم

الأنعام آية 61 فيه المراد بالليل والنهار الجنسُ المتحقِّق في كل فردٍ من أفرادهما بالتوفي والبعث الوجدين فيها يتحققُ قضاءُ الأجلِ المسمَّى المترتبِ عليها لا في بعضِها والمرادُ بعلمه تعالى ذلك علمُه قبل الجَرْحِ كما يلوحُ به تقديمُ ذكره على البعث أي يعلم ما تجرَحون بالنهار وصيغة الماضي الجلالة على التحقّق وتخصيصُ التوفي بالليل والجَرْحِ بالنهار مع تحقّق كلَ منهما فيما خُصَّ بالآخر للجَرْي على سَنن العادة {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي يوقظكم في النهار عطفٌ على يتوفاكم وتوسيطُ قوله تعالى وَيَعْلَمَ الخ بينهما لبيان ما في بعثهم من عظيمِ الإحسانِ إليهم بالتنبيه على أن ما يكتسبونه من السيئات مع كونها موجبةً لإبقائهم على التوفّي بل لإهلاكهم بالمرة يُفيض عليهم الحياة ويُمهلُهم كما ينبىء عنه كلمةُ التراخي كأنه قيل هو الذي يتوفاكم في جنس الليالي ثم يبعثكم في جنس النهر مع علمه بما ستجرَحون فيها {ليقضى أَجَلٌ مّسَمًّى} معين لكل فرد بحيث لايكاد يتخطى أحدٌ ما عُيِّن له طرفةَ عينٍ {ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي رجوعُكم بالموت لا إلى غيره أصلاً {ثُمَّ يُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} بالمجازاة بأعمالكم التي كنتم تعملونها في تلكَ الليالِي والأيامِ وقيل الخطابُ مخصوصٌ بالكفرة والمعنى أنكم مُلقَوْن كالجيف بالليل كاسبون للآثام بالنهار وأنه تعالى مطّلعٌ على أعمالكم يبعثكم الله من القبور في شأن ما قطعتم به أعمارَكم من النوم بالليل وكسْبِ الآثامِ بالنهار ليقضى الأجلُ الذي سماه وضَرَبه لبعث الموتى وجزائِهم على أعمالهم وفيه ما لا يَخفْى من التكلف والإخلالِ لإفضائه إلى كون البعث معلَّلاً بقضاء الأجلِ المضروب له

61

{وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} أي هو المتصرِّفُ في أمورهم لاغيره يفعل بهم ما ييشاء إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة وتعذيباً وإثابةً إلى غير ذلك {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم} خاصة أيها المكلفون {حَفَظَةً} من الملائكة وهم الكرام الكاتبون وعليكم متعلقٌ بيُرسل لما فيه من معنى الاستيلاء وتقديمُه على المفعولِ الصريحِ لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقيل متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من حفظة إذ لو تأخر لكان صفة أي كائنين عليكم وقيل متعلق بحفظةً والمحفوظُ محذوفٌ على كل حال أي يرسل عليكم ملائكةً يحفظون أعمالَكم كائنةً ما كانت وفي ذلك حكمةٌ جميلةٌ ونعمةٌ جليلة لما أن المكلفَ إذا عَلم أن أعماله تحفظ وتعرض على رءوس الأشهادِ كان ذلك أزجرَ له عن تعاطي المعاصي والقبائحِ وأن العبد إذا وثِقَ بلُطف سيّدِه واعتمد على عفوه وسَترِه لم يحتشمه احتشامه من خدمه الواقفين على أحواله وحتى في قولِه تعالى {حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت} هي التي يُبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تَجعلُ ما بعدها من الجملة الشرطية غايةً لما قبلها كأنه قيل ويُرسلُ عليكم حفظة يحفَظون أعمالَكم مدةَ حياتكم حتى إذا انتهت مدة أحدم كائناً مَنْ كان وجاءه أسبابُ الموت ومباديه {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} الآخرون المفوَّضُ إليهم ذلك وهم ملكُ الموتِ وأعوانُه وانتهى هناك حِفظُ الحفظة وقرىء توفاه ماضياً أو مضارعاً بطرح إحدى التامين {وَهُمْ} أي الرسل {لاَ يُفَرّطُونَ} أي بالتواني والتأخير وقرىء مخففاً من الإفراط أي

الأنعام آية 62 64 لا يجاوزون ما حدا بهم بزيادة أو نقصان والجملة حال من رسلنا وقيل مستأنَفةٌ سيقت لبيان اعتنائِهم بما أُمروا به وقوله تعالى

62

{ثُمَّ رُدُّواْ} عطفٌ على توفته والضمير للكلِّ المدلول عليه بأحدكم وهو السرُّ في مجيئه بطريق الالتفات تغليباً والإفرادُ أولاً والجمعُ ى خرا لوقوع التوفِّي على الانفراد والردِّ على الاجتماع أي ثم ردوا بعد البعث بالحشر {إِلَى الله} 6 أي إلى حُكمه وجزائه في موقف الحساب {مولاهم} أي مالكُهم الذي يلي أمورَهم على الإطلاق لا ناصرُهم كما في قوله تعالى وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ {الحق} الذي لا يقضي إلا بالعدل وقرى بالنصب على المدح {أَلاَ لَهُ الحكم} يومئذ صورةً ومعنى لا لأحد غيرِه بوجهٍ من الوجوه {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} يحاسب جميعَ الخلائق في أسرعِ زمانٍ وأقصره لا يشغَله حسابٌ عن حسابٌ ولا شأنٌ عن شأنٍ وَفِي الحديثِ إِنَّ الله تعالى يحاسب الكلَّ في مقدار حلْبِ شاة

63

{قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظلمات البر والبحر} أي قل تقريراً لهم بانحطاط شركائِهم عن رتبةِ الإلهية مَنْ ينجِّيكم من شدائدهما الهائلةِ التي تُبطل الحواسَّ وتدهش العقولَ ولذلك استُعير لها الظلماتُ المبطلةُ لحاسةِ البصَر يقال لليوم الشديد يومٌ مظلم ويومٌ ذو كواكبَ أو من الخسف في البر والغرقِ في البحر وقرىء ينْجيكم من الإنجاء والمعنى واحد وقوله تعالى {تَدْعُونَهُ} نصبٌ على الحالية من مفعول ينجِّيكم والضميرُ لمن أي مَن ينجّيكم منها حال كونكم داعين له أو من فاعلِه أي من ينجيكم منها حال كونه مدعواً من جهتكم وقوله تعالى {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} إما حالٌ من فاعل تدعونه أو مصدرٌ مؤكِّد له أي تدعونه متضرعين جِهاراً ومُسِرِّين أو تدعونه دعاءَ إعلانٍ وإخفاء وقرىء خفية بكسر الخاس وقوله تعالى {لئن أنجيتنا} حال من الفاعل أيضاً على تقدير القولِ أي تدعونه قائلين لئن أنجيتنا {مِنْ هذه} الشدة والورطة االتي عبر عنها بالظلمات {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} أي الراسخين في الشكر المداومين عليه لأجل هذه النعمةِ أو جميع النعماءِ التي من جُمْلتِها هذهِ وقرىء لئن أنجانا مراعاة لقوله تعالى تَدْعُونَهُ

64

{قُلِ الله يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ} أُمر صلى الله عليه وسلم بتقرير الجواب مع كونه من وظائفهم للإيذان بأنه متعيِّنٌ عندهم ولبناءِ قولِه تعالى {ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} عليه أي الله تعالى وحده ينجيكم مما تدعونه إلى كشفه من الشدائد المذكورةِ وغيرِها من الغموم والكُرَبِ ثم أنتم بعد ما تشاهدون هذه النعمَ الجليلةَ تشركون بعبادته تعالى غيرَه وقرىء يُنْجيكم بالتخفيف

الأنعام آية 65 66

65

وقوله تعالى {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُم عَذَاباً} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أنه تعالى هو القادرُ على إلقائهم في المهالك إثرَ بيانِ أنه هو المُنْجي لهم منها وفيه وعيدٌ ضمنيٌّ بالعذاب لإشراكهم المذكورِ على طريقة قوله عز وجل أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر إلى قوله تعالى أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى الآية وعليكم متعلقٌ بيبعثَ وتقديمُه على مفعوله الصريح للاعتناء به والمسارعةِ إلى بيان كون المبعوثِ مما يضرُّهم ولتهويل أمْرِ المؤخرِ وقوله تعالى {مّن فَوْقِكُمْ} متعلقٌ به أيضاً أو بمحذوف وقع صفةٌ لعذاباً أي عذاباً كائناً من جهة الفوق كما فَعَل بمن فَعَل من قومِ لوطٍ وأصحابِ الفيلِ وأضرابِهم {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} أو من جهة السُفلِ كما فعل بفِرْعونَ وقارونَ وقيل مِنْ فوقكم أكابركم ورؤسائكم ومن تحت أرجلِكم سفلتُكم وعبيدُكم وكلمة أَوْ لمنعِ الخُلوّ دونَ الجمع فلا منْعَ لما كان من الجهتين معاً كما فُعل بقوم نوحٍ {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أي يخلطَكم فِرَقاً متحزّبين على أهواءَ شتّى كلُّ فرقةٍ مشايعةٌ لإمامٍ فينشَبُ بينكم القتالُ فتختلطوا في الملاحم كقول الحَماسي ... وكتيبةٍ لبَّستُها بكتيبة حتى إذا التَبَسَتْ نفضْتُ لها يدي {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} عطفٌ على يبعثَ وقرىء بنون العظمةِ على طريقة الالتفات لتهويل الأمرِ والمبالغةِ في التحذير والبعضُ الأولُ الكفارُ والآخَرُ المؤمنون ففيه وعدٌ ووعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عند قوله تعالى عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أعوذ بوجهك وعند قوله تعالى أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أعوذ بوجهك وعند قوله تعالى أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ هذا أهونُ أو هذا ايسر وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال سألتربي أن لا يبعثَ على أمتي عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلِهم فأعطاني ذلك وسألته أن لا يجعلَ بأسهم بينهم فمنعني ذلك {انظر كَيْفَ نُصَرّفُ الايات} من حال إلى حال {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} كي يفقَهوا ويقِفوا على جلية الأمر فيرجعوا عمَّا هُم عليهِ من المكابرة والعِناد

66

{وَكَذَّبَ بِهِ} أي بالعذاب الموعود أو القرآنِ المجيد الناطقِ بمجيئه {قَوْمِكَ} أي المعاندون منهم ولعل إيرادَهم بهذا العنوانِ للإيذان بكمالِ سوءِ حالِهم فإن تكذيبَهم بذلك مع كونهم من قومه صلى الله عليه وسلم مما يقضي بغاية عَتُوِّهم ومكابرتهم وتقديم الجار والمجرور على الفاعلِ لما مرَّ مراراً من إظهار الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخرة وقوله تعالى {وَهُوَ الحق} حالٌ منَ الضميرِ المجرورِ أي كذبوا به والحال أنه الواقعُ لا محالة أو إ هـ الكتابُ الصادقُ في كل ما نطقَ به وقيل هو استئنافٌ وأيا ما كان ففيه دلالة على عظيم جنايتِهم ونهاية قُبْحِها {قُلْ} لهم منبِّهاً على ما يئول إليه أمرُهم وعلى أنك قد أديتَ ما عليك من وظائف الرسالة {لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} بحفيظٍ وُكِّلَ إلى أمركم لا منعكم من التكذيب وأُجبِرَكم على التصديق إنما أنا منذرٌ وقد خرجتُ عن العُهدة حيث أخبرتُكم بما سترَونه

الأنعام ى ية 67 69

67

{لّكُلّ نَبَإٍ} أي لكل شيءٍ يُنبَأُ به من الأنباء التي من جملتها عذابُكم أو لكلِّ خبرٍ من الأخبار التي من جملتها خبرُ مجيئِه {مُّسْتَقِرٌّ} أي وقتُ استقرارٍ ووقوعٍ البتة ووقت استقرارٍ بوقوعِ مدلولِه {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي حالَ نَبئِكم في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً وسوف للتأكيد كما في قوله تعالى وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ

68

{وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آياتنا} أي بالتكذيب والاستهزاءِ بها والطعنِ فيها كما هو دأْبُ قريشٍ ودَيدَنُهم {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} بترك مُجالستهم والقيامِ عنهم وقولُه تعالى {حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ} غايةٌ للإعراض أي استمِرَّ على الإعراضِ إلى أن يخوضوا في حديثٍ غيرِ ى ياتنا والتذكيرُ باعتبار كونها حديثاً فإن وصفَ الحديثِ بمغايرتها مشيرٌ إلى اعتبارها بعُنوان الحديثية وقيل باعتبار كونِها قرآناً {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان} بأن يشغَلَك فتنسى النهْيَ فتُجالِسَهم ابتداءً أو بقاءً وقرىء يُنَسِّينَّك من التَنْسِية {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى} أي بعد تذكُّرِ النهي {مَعَ القوم الظالمين} أي معهم فوضَعَ المُظهرَ موضعَ المُضمر نعياً عليهم أنهم بذلك الخوضِ ظالمون واضعون للتكذيب والاستهزاءِ موضِعَ التصديق والتعظيم راسخون في ذلك

69

{وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ} روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ المسلمين حين نُهوا عن مجالستهم عند خوضِهم في الآيات قالوا لئن كنا نقول كلما استهزءوا بالقرآن لم نستطِعْ أن نجلِسَ في المسجد الحرام ونطوفَ بالبيت فنزلت أي ما على الذين يتقون قبائحَ أعمالِ الخائضين وأحوالَهم {مِنْ حِسَابِهِم} أي مما يُحاسَبون عليه من الجرائر {من شىء} أي شيء ما على أنه في محلِ الرفعِ على أنه مبتدأ وما تميمية أو اسم لها وهي حجازية ومن مزيدة للاستغراق ومن حسابهم حال منه وعلى الذين يتقون في محلِ الرفعِ على أنه خبر للمبتدأ أو لما الحجازية على رأي مَن لا يُجيز إعمالَها في الخبر المقدَّم مطلقاً أو في محلِّ النصبِ على رأي من يجوِّز إعمالَها في الخبر المقدّم عند كونه ظرفاً أو حرفَ جر {ولكن ذكرى} استدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم أن يذكِّروهم ويمنعوهم عمَّا هُم عليهِ من القبائح بما أمكن من العِظة والتذكير ويُظهروا لهم الكراهَةَ والنكيرَ ومحل ذكرى إما النصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكِّد للفعل المحذوف أي عليهم أن يذكّروهم تذكيراً أو الرفعُ عَلى أنَّه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أيْ ولكن عليهم ذكرى {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي يجتنبون الخوضَ حياءً أو كراهةً لمسَاءتهم وقد جُوِّز كونُ الضمير للموصول أي يذكّروهم رجاءَ أن يثبُتوا على تقواهم أو يزدادوها

الأنعام آية 70

70

{وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ} الذين كُلِّفوه وأُمروا بإقامة مواجبِه {لَعِباً وَلَهْواً} حيث سخِروا به واستهزءوا أو بنَوْا أمرَ دينهم على ما لا يكاد يتعاطاه العاقلُ بطريق الجِدّ وإنما يصدُر عنه لو صدَر بطريق اللعِبِ واللهوِ كعبادة الأصنام وتحريمِ البحائرِ والسوائبِ ونحوِ ذلك والمعنى أعرضْ عنهم ولا تُبالِ بأفعالهم وأقوالهم وقيل هو تهديدٌ لهم كقوله تعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ الآية {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} واطمأنوا بها حتى زعموا أنْ لا حياةَ بعدها أبداً {وَذَكّرْ بِهِ} أي بالقرآنِ من يصلُح للتذكير {أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} أي لئلا تُبْسَلَ كقوله تعالى أَن تَضِلُّواْ الآية أو مخافةَ أن تُبسَل أو كراهةَ أن تبسل نفوسٌ كثيرة كما في قوله تعالى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ وتُرتَهنَ لسوء عملِها وأصلُ الإبسالِ والبَسْل المنعُ ومنه أسد باسلٌ لأن فريستَه لا تُفلت منه أو لأنه ممتنَعٌ والباسل الشجاع لامتناعه من قِرْنه وهذا بَسْلٌ عليك أي حرام ممنواع وقد جوز أن يكون الضمير المجرور في به راجعها إلى الإبسال مع عدم جرَيانِ ذكرِه كما في ضمير الشأن وتكون الجملةُ بدلاً منه مفسِّراً له في الإبهام أولاً والتفسيرِ ثانياً من التفخيم وزيادةِ التَّقريرِ كما في قولِه ... على جودِه لَضَنَّ بالماء حانم بجر حانم على أنه بدل من ضمير جوده فالمعنى وذكر بارتهان النفوس وحبسها بما كسبت وقوله تعالى {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِىٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} استئنافٌ مَسوقٌ للإخبار بذلك وقيل في محل النصب على أنه حالٌ من ضمير كسبت وقيل في محلِ الرفعِ عَلى أنَّه وصفٌ لنفسٌ والأظهرُ أنَّه حالٌ من ف = نفسٌ فإنه في قوة نفسٌ كافرةٌ أو نفوسٌ كثيرة كما في قوله تعالى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ومن دون الله متعلقٌ بمحذوف هو حال من وليٌّ كما بُيّن في تفسيرِ قولِه تعالى وَأَنذِرْ بِهِ الآية وقيل هو خبرٌ لليس فيكون لها حينئذٍ متعلقاً بمحذوفٍ على البيان {وَإِن تَعْدِلْ} أي إن تَفْدِ تلك النفسُ {كُلَّ عَدْلٍ} أي كلَّ فِداءٍ على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ {لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا} على إسنادِ الفعلِ إلى الجار والمجرور لا إلى ضمير العدل كما في قوله تعالى وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ فإنه المَفْدِيُّ به لا المصدرُ كما نحن فيه {أولئك} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيزِ الصلةِ وما فيهِ من معنى البعد للإيذان ببعدِ درجتِهم في سُوءِ الحال ومحلُه الرفعُ على الابتداء والخبر في قوله تعالى {الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ} والجملةُ مستأنفةٌ سيقت إثرَ تحذيرِهم من الإبسال المذكور لبيان أنهم المبتَلَوْن بذلك أي أولئك المتخِذون دينَهم لعباً ولهواً المغترون بالحياة الدنيا هم الذين أُبسِلوا بما كسبوا وقولُه تعالى {لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ} استئناف آخَرُ مُبينٌ لكيفية الإبسال المذكور وعاقبتِه مبنيٌّ على سوء نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيل ماذا لهم حين أُبسلوا بما كسبوا فقيل لهم شرابٌ من ماءٍ مغليَ يتجَرْجَرُ في بطونهم وتتقطَّعُ به أمعاؤهم {وَعَذَابٌ أَلِيمٌ} بنار تشتعل بأبدانهم {بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} أي بسبب كفرهم المستمر في الدنيا وقد جُوِّز أن يكون لهم شراب الخ حالاً من ضمير أبسلوا وترتيب

الأنعام آية 71 ما ذُكر من العذابَيْن على كفرهم مع أنهم معذبون بسائر معاصيهم أيضاً حسبما ينطِق به قوله تعالى بِمَا كَسَبُواْ لأنه العُمدةُ في إيجاب العذاب والأهمُ في باب التحذير أو أريد بكفرهم ما هو أعمُّ منه ومن مستتْبِعاته من المعاصي والسيئات هذا وقد جوِّز أنْ يكون أولئك إشارةً إلى النفوس المدلولِ عليها بنفسٌ محلُه الرفعُ بالابتداء والموصولُ الثاني صفتُه أو بدلٌ منه ولهم شراب الخ خبرُه والجملة مَسوقةٌ لبيان تبعة الإبسال

71

{قل أندعو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا} قيلَ نزلتْ في أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ حين دعاه ابنه عبدُ الرحمن إلى عبادة الأصنام فتوجيهُ الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للإيذان بما بينهما من الاتصال والاتحادِ تنويهاً لشأن الصديقَ رضي الله تعالى عنه أي أنعبد متجاوزين عبادةَ الله الجامعِ لجميعِ صفاتِ الألوهيةِ التي من جملتها القدرةُ على النفع والضر ما لا يقدر على نفعنا إذا عبدناه ولا على ضَرِّنا إذا تركناه وأدنى مراتبِ المعبوديةِ القُدرةُ على ذلك وقوله تعالى {وَنُرَدُّ على أعقابنا} عطفٌ على ندعوا إذا حل في حكم الإنكارِ والنفْي أي ونُرَدّ إلى الشرك والتعبير عنه بالرد غعلى الأعقاب لزيادة تقبيحِه بتصويره بصورةِ ما هو عَلَمٌ في القُبح مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشركِ حالةً قد تُركت ونُبذتْ وراءَ الظهر وإيثارُ نرد على نرتد لتوجيه الإنكار إلى الارتداد بردِّ الغير تصريحاً بمخالفة المُضلِّين وقطعاً لأطماعهم الفارغةِ وإيذاناً بأن الارتدادَ من غير رادَ ليس في حيِّزِ الاحتمال ليُحتاجَ إلى نفيه وإنكاره وقولُه تعالى {بَعْدَ إِذْ هدانا الله} أي إلى الإسلام وأنقذنا من الشرك متعلقٌ بنرُدّ مَسوقٌ لتأكيد النكيرِ لا لتحقيق معنى الرد وتصويرِه فقط وإلا لكفى أن يقالَ بعد إذ اهتدينا كأنه قيل ونُرَدّ إلى الشرك بإضلال المضِلّ بعد إذ هدانا الله الذي لا هاديَ سواه وقوله تعالى {كالذى استهوته الشياطين} في محل النصب على أنه حالٌ من مرفوع نرد أي نُرد أي أنرد على أعقابنا مشبَّهين بالذي استهوته مَرَدةُ الجن واستغوته إلى المهامه أو المهالك أو على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أي أنُرد رداً مثلَ ردِّ الذي استهوته الخ والاستهواءُ استفعال من هَوَى في الأرض إذا ذهَب فيها كأنها طلبت هُويَّه وحرصت عليه وقرىء استهواه بألف مما له وقوله تعالى {فِي الأرض} إما متعلق باستهوته أو بمحذوفٍ هو حالٌ من مفعوله أي كائناً في الأرضَ وكذا قوله تعالى {حَيْرَانَ} حال منه على أنها بدلٌ من الأولى أو حال الثنية عند من يجيزها أو من الذي أو من المستكنّ في الظرف أي تائهاً ضالاً عن الجادة لا يدري ما يصنع وقوله تعالى {لَهُ أصحاب} جملة في محل النصب على أنها صفةٌ لحيران أو حال من الضمير فيه أو مستأنفةٌ سيقت لبيان حالِه وقوله تعالى {يَدْعُونَهُ إِلَى الهدى} صفةٌ لأصحاب أي لذلك المستهوى رفقةٌ يهدونه إلى الطريق المستقيم تسميةٌ له بالمصدر مبالغةً كأنه نفس الهدى {ائتنا} على إرادةِ القولِ على أنه بدل ممن يدونه أو حالٌ من فاعلِه أي يقولون ائتنا وفيه إشارة

الأنعهام آية 72 73 إلى أنهم مهتدون على الطريق المستقيم وأن من يدعونه ليس ممن يعرف الطريق المستقيم ليدعى إلى إتيانه وإنما يُدرك سمتَ الداعي ومورِدَ النعيق فقط {قُلْ إِنَّ هُدَى الله} الذي هدانا إليه وهخو الإسلام {هُوَ الهدى} وحدَه وما عداه ضلال محضٌ وغيٌّ بحتٌ كقوله تعالى فَمَاذَا بَعْدَ الحقِّ إِلاَّ الضلال ونحوِه وتكريرُ الأمر للاعتناء بشأن المأمورِ به ولأن ما سبق للزجْرِ عن الشرك وهذا حثٌّ على الإسلام وهو توطِئةٌ لما بعده فإن اختصاصَ الهُدى بهُداه تعالى مما يوجبُ الامتثالَ بالأوامر الواردةِ بعده {وَأُمِرْنَا} عطفٌ على إن هُدى الله هو الهدى داخلٌ تحت القول واللام في {لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالمين} لتعليل الأمر المَحْكيِّ وتعيينِ ما أريد به كمن الأوامر الثلاثة كما في قوله تعالى قُل لّعِبَادِىَ الذين آمنوا يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ الآية كأنه قيل أمرنا وقيل لنا اسلموا لأجل أنم نسلَمَ وقيل هي بمعنى الباء أي أمرنا بأن نُسلم وقيل زائدة أي أُمرنا أن نُسلم على حذف الباء وقوله تعالى

72

{وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه} أي الله تعالى في مخالفةِ أمرهِ عطفٌ على نُسلم على الوجوه الثلاثة على أنّ أنْ المصدريةَ إذا وصلت بالأمر بتجرد هو عن معنى الأمر نحوُ تجردِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضي والاستقبال فالمعنى على الأول أمرنا أي قيل لنا أسلموا وأقيموا الصلاة واتقوا الله لأجل أن نُسلمَ ونُقيمَ الصلاة ونتّقِيَه تعالى وعلى الأخيرين أمرنا بأن نسلمَ ونقيم الصلاة ونتقيه تعالى والتعرضُ لوصف ربوبيته تعالى للعالمين لتعليل الأمرِ وتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ به كما أن قوله تعالى

73

{وَهُوَ الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} جملةٌ مستأنفةٌ موجِبةٌ للامتثال بما أُمر به من الأمور الثلاثة {وَهُوَ الذى خلق السماوات والارض} أُريد بخلقهما خلقُ ما فيهما أيضاً وعدمُ التصريح بذلك لظهور اشتمالهما على جميع العُلويات والسُفليات وقوله تعالى {بالحق} متعلقٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من فاعلِ خلقَ أوْ منْ مفعولِه أو صفةٌ لمصدرِه المؤكِّد له أي قائماً بالحق أو متلبسه بالحق أو خلقا متلبساً به وقوله تعالى {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحق} استئنافٌ لبيانِ أنّ خلقَه تعالى لِما ذُكر من السمواتِ والأرضِ ليس مما يَتوقَّفُ على مادّةٍ أو مُدّة بل يتَمّ بمحض الأمرِ التكوينيِّ من غير توقفٍ على شيءٍ آخَرَ أصلاً وأن ذلك الأمرَ المتعلِّقَ بكل فردٍ فردٌ من أفراد المخلوقات في حينٍ معينٍ من أفراد الأحيان حقٌّ في نفسه متضمنٌ للحكمة ويومَ ظرفٌ لمضمون جملةِ قولُه الحقُّ والواو بحسب المعنى داخلٌ عليها وتقديمُه عليها للاعتناءِ به من حيث إنه مدارُ الحقّيةِ وتركُ ذكرِ المقولِ له للثقةِ بغاية ظهوره والمرادُ باالقول كلمةُ كن تحقيقاً أو تمثيلاً كما هو المشهورُ فالمعنى وأمرُه المتعلقُ بكل شيءٍ يريد خلقَه من الأشياء في حينِ تعلّقِه به لا قبلَه ولا بعده من أفراد الأحيان الحقُّ أي المشهودُ له بالحقّية المعروفُ بها هذا وقد قيلَ قولُه مبتدأ والحق صفته ويوم يقول خبره مقدما عليه كقولك يومَ الجمعةِ القتالُ وانتصابه بمعنى الاستقرار وحاصلُ المعنى قولُه الحقُّ كائنٌ

الأنعام آية 74 75 حينَ يقول لشيءٍ من الأشياء كنْ فيكونُ ذلك الشيءُ وقيل يوم منصوبٌ بالعطف على السمواتِ أو على الضمير في واتقوه أو بمحذوف دل عليه بالحق وقوله الحق مبتدأ وخبر أو فاعلُ يكون على معنى حين يقول لقوله الحق أي لقضائه الحقِّ كن فيكون والمرادُ حين يكوِّن الأشياءَ ويُحدِثُها أو حين تقومُ القيامةُ فيكونُ التكوينُ حشرَ الأجساد وإحياءَها فتأملْ حقَّ التأمل {وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور} تقييدُ اختصاصِ المُلك بهِ تعالَى بذلك اليومِ مع عموم الاختصاصِ لجميع الأوقات لغاية ظهورِ ذلك بانقطاعِ العلائقِ المجازيةِ الكائنةِ في الدنيا المصحِّحة للمالكيةِ المجازية في الجملة كقوله تعالى لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الواحد القهار {عالم الغيب والشهادة} أي هو عالمُهما {وَهُوَ الحكيم} في كلِّ ما يفعله {الخبير} بجميعِ الأمور الجليّة والخفيّة

74

{وَإِذْ قَالَ إبراهيم} منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطب به النبي عليه الصلاةَ والسلام معطوف على قل أندعو لا على أقيموا كما قيل لفساد المعنى أي واذكر لهم بعد ما أنكرتَ عليهم عبادةَ ما لا يقدِرُ على نفعٍ وضُرَ وحققتَ أن الهدى هو هدى الله وما يتبعه من شئونه تعالى وقتَ قولِ إبراهيمَ الذي يدّعون أنهم على ملته موبخا {لأبيه آزر} على عبادة الأصنام فإن ذلك مما يبكِّتُهم وينادي بفساد طريقتِهم وتوجيهُ الأمرِ بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ لما مر مرارا من المبالغة في إيجاب ذكرِها وآزرُ بزنةِ آدم وعابَر وعازَر وفالَغ وكذلك تارَحُ ذكره محمد بن إسحق والضحاكُ والكلبيُّ وكان من قريةٍ من سَواد الكوفة ومُنعَ صَرْفُه للعُجمة والعَلَمية وقيل اسمُه بالسريانية تارَحُ وآزَرُ لقبُه المشهورُ وقيل اسمُ صنمٍ لُقِّب هو به للزومه عبادتَه فهو عطف بيان لأبيه وبدل منه وقال الضحاك معناه الشيخ الهرم وقال الزجاج المُخطىء وقال الفراءُ وسليمانُ التيمي المعوَجُّ فهو نعتٌ له كما إذا جُعل مشتقاً من الأزْرِ أو الوز وأريد به عابدُ آزرَ على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه وقرىء آزرُ على النداء وهو دليلُ العَلَمية إذ لا يُحذف حرفُ النداء إلا من الأعلام {أَتَتَّخِذُ} متعدَ إلى مفعولين هما {أَصْنَاماً آلِهَة} أي أتجعلُها لنفسك آلهةً على توجيه الإنكارِ إلى اتخاذ الجنس من غير اعتبار الجمعية وإنما إيرادُ صيغةِ الجمع باعتبار الوقوعِ وقرىء أاَزْراً بفتح الهمزة وكسرها بعج همزة الاستفهام وزاءٍ ساكنةٍ وراءٍ منونةٍ منصوبةٍ وهو اسمُ صنم ومعناه أتعبدُ آزرا ثم قيل تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً وهو داخل تحت الإنكار لكونه بيانا له وقيل الأزرُ القوة والمعنى ألأجل القوة والمظاهَرَةِ تتخذ أصناماً آلهة إنكاراً لتعزُّزِه بها على طريقة قوله تعالى أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة {إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ} الذين يتبعونك في عبادتها {فِى ضلال} عن الحق {مُّبِينٌ} أي بيِّنٌ كونُه ضلالاً لا اشتباهَ فيه أصلاً والرؤيةُ إما علميةٌ فالظرفُ مفعولُها الثاني وإما بصَرية فهو حال من المفعول والجملة تعليلٌ للإنكار والتوبيخ

75

{وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم} هذه الإرادة من الرؤية البصَريةِ المستعارةِ للمعرفة ونظرِ البصيرة أي عرفاناه

2 - الأنعام آية 76 وبصَّرناه وصيغةُ الاستقبال حكايةٌ للحال الماضيةِ لاستحضار صورتِها وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ نُري لا إلى إراءةٍ أخرى مفهومةٍ من قوله إني أراك وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المُشَارِ إليهِ وبُعدِ منزلتِه في الفضل وكمال تميزه بذلك وانتظامِه بسببه في سلك الأمور المشاهَدة والكافُ لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلُها في الأصلِ النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصل التقدير نُري إبراهيم إراءةً كائنة مثلَ تلك الإراءة فقُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً للنكتة المذكورة فصار المشارُ إليه نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتاً له أي ذلك التبصيرَ البديعَ نبصِّره عليه السلام {مَلَكُوتَ السماوات والارض} أي ربوبيته تعالى ومالكيته لهما وسلطانَه القاهرَ عليهما وكونَهما بما فيهما مربوباً ومملوكاً له تعالى لا تبصيراً آخَرَ أدنى منه والملكوتُ مصدرٌ على زنة المبالغة كالرَهَبوت والجَبَروت ومعناه الملك العظيم والسلطان القاهرُ ثم هل هو مختصٌّ بمُلك الله عزَّ سلطانه أو لا فقد قيل وقيل والأول هو الأظهر وبه قال الراغب وقيل ملكوتهما وعجائبهما وبدائعهما روي أنه كُشف لع عليه السلام عن السموات والأرض حتى العرشُ وأسفلُ الأرضين وقبل ى ياتهما وقيل ملكوتُ السموات الشمسُ والقمرُ والنجومُ وملكوتُ الأرض الجبالُ والأشجار والبحارُ وهذه الأقوالُ لا تقتضي أن تكون الإراءَةُ بصَريةً إذ ليس المرادُ بإراءةِ ما ذُكر منَ الأمورِ الحسية مجردَ تمكينِه عليه السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها بل إطلاعه عليه السلام على حقائقها وتعريفَها من حيث دلالتها على شئونه عز وجل لا ريبَ في أن ذلك ليس مما يُدرَك حسا كما يُنبىء عنه اسمُ الإشارة المُفصِحُ عن كون المشار إليه أمراً بديعاً فإن الإراءة البصرية المعتادو بمعزلٍ من تلك المثابة وقرىء تُري بالتاء وإسنادُ الفعل إلى الملكوت أي تُبصِره عليه السلام دلائل الربوبية واللام في قوله تعالى {وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} متعلقةٌ بمحذوفٍ مؤخر والجملةُ مقرِّر لما قبلها أي وليكون من زُمرة الرَّاسخين في الإيقان البالغين درجةَ عينِ اليقين من معرفة الله تعالى فعلنَا مَا فعلنَا منْ التبصير البديعِ المذكورِ لا لأمرٍ آخرَ فإن الوصولَ إلى تلك الغاية القاصيةِ كمالٌ مترتبٌ على ذلك التبصير لا ينه وليس القصرُ لبيان انحصار فائدتِه في ذلك كيف لا وإرشادُ الخلق وإلزامُ المشركين كما سيأتي من فوائده بلا مرْية بل لبيان أنه الأصلُ الأصيلُ والباقي من مستَتْبِعاته وقيل هي متعلقة بالفعل السابق والجملةُ معطوفةٌ على علةٍ أخرى محذوفةٍ ينسحبُ عليها الكلام أي يستدل بها وليكونَ الخ فينبغي أن يُرادَ بملكوتهما بدائعُهما وآياتُهما لأن الاستدلالَ من غاياتِ إراءَتِها لا من غايات إراءةِ نفسِ الربوبية وقوله تعالى

76

{فلما جن عليه الليل} على الأول وهو الحق المبين عطفٌ على قال إبراهيم دجاخل تحت ما أُمر بذكره بالأمرِ بذكرِ وقتِه وما بينهما اعتراض مقررلما سبق وما لحِق فإن تعريفَه عليه السلام ربوبيتَه ومالكيتَه للسمواتِ والأرض وما فيهما وكونَ الكلِّ مقهوراً تحت ملكوتِه مفتقِراً إليه في الوجود وسائرِ ما يترتبُ عليه من الكمالات وكونَه من الراسخين في معرفة شئونه تعالى الواصلين إلى ذُروة عينِ اليقين مما يقضي بأن يَحكُم عليه السلام باستحالة إلهية ما سواه

الأنعام آية 77 78 سبحانه من الأصنام والكواكب وعلى الثاني هو تفصيلٌ لما ذُكر من إراء ملكوتِ السموات والأرض وبيانٌ لكيفية استدلالِه عليه السلام ووصولِه إلى رتبة الإيقان ومعنى جبن عليه الليل ستره بظلامهوقوله تعالى {رَأَى كَوْكَباً} جوابُ لمّا فإن رؤيتَه إنما تتحقق بزوال نورِ الشمس عن الحسّ وهذا صريحٌ في أنه لم يكن في ابتداءِ الطلوع بل كان غَيبتُه عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس والتحقيقُ أنه كان قريباً من الغروب كما ستعرفه قيل كان ذلك الكوكبُ هو الزُّهُرَة وقيل هو المشتري وقوله تعالى {قَالَ هذا ربي} اسئناف مبني على سؤال نشأ من الشرطيةِ السابقةِ المتفرعة على بيان إراءتِه عليه السلام ملكوتَ السمواتِ والأرض فإن ذلك مما يحمِلُ السامعَ على استكشاف ماظهر منه عليه السَّلام من آثار تلك الإراءةِ وأحكامِها كأنه قيل فماذا صنعَ عليه السلام حين رأى الكوكب فقيل قال على سبيل الوضْع والفرضِ هذا ربي مجاراةً مع أبيه وقومِه الذين كانوا يعبُدون الأصنامَ والكواكب فإن المستدِلَّ على فساد قولٍ يحكيه على رأي خصمِه ثم يَكُرُّ عليه بالإبطال ولعل سلوكَ هذه الطريقة في بيان استحالةِ ربوبيةِ الكواكب دون بيانِ استحالةِ إلهية الأصنام لما أن هذا أخفى بُطلاناً واستحالةً من الأول فلو صدَعَ بالحق من أول الأمرِ كما فعله في حقّ عبادةِ الأصنام لتمادَوْا في المكابرة والعِناد ولجُّوا في طُغيانهم يعمهونوقيل قال عليه السلام على وجه النظر والاستدلال وكان ذلك في زمان مراهقتِه وأولِ أوانِ بلوغه وهو مبنيٌّ على تفسير الملكوتِ بآياتهما وعطف قوله تعالى لكون على ما ذكر من العلة المقدرة وجَعْلِ قوله تعالى فَلَمَّا جَنَّ الخ تفصيلاً لما ذُكر من الإراءة وبياناً لكيفية الاستدلال وأنت خبير بأن كلَّ ذلك مما يُخِلُّ بجزالة النظمِ الجليل وجلالةِ منصِبِ الخليل عليه الصلاة والسلام {فَلَمَّا أَفَلَ} أي غرٍب {قَالَ لا أُحِبُّ الافلين} أي الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغير من حال إلى حال المحتجبين بالأستار فإنهم بمعزل من استحقاق الربوبية

77

{فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغاً} أي مبتدئاً في الطلوعِ إثرَ غروبِ الكوكب {قَالَ هذا رَبّى} على الأسلوب السابق {فَلَمَّا أَفَلَ} كما أفل النجم {قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى} إلى جناابه الذي هو الحق لا محيدَ عنه {لاَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين} فإن شيئاً مما رأيته لا يليق بالربوبية وهذا مبالغةٌ منه عليه السلام في إظهار النَّصَفة ولعله عليه السلام كان إذ ذاك فيموضع كان في جانبه الغربيِّ جبلٌ شامخ يستتر به الكوكب والقمر وقت الظهر من النهار أو بعدجه بقليل وكان الكوكب قريباً منه وأُفقُه الشرقيُّ مكشوفٌ أولاً وإلا فطلوعُ القمر بعد أفولِ الكوكب ثم أفوله قل طلوع الشمس كما ينبىء عنه قوله تعالَى

78

{فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً} أي مبتدئةً في الطلوع مما لا يكاد يُتصور {قَالَ} أي على النهج السابق

الأنعام آية 79 80 {هذا رَبّى} وإنما لم يؤنِّثْ لَمَا أنَّ المشارَ إليهِ والمحكومَ عليه بالربوبية هو الجِرمُ المشاهَدُ من حيث هو لا من حيث هو مسمّىً باسمٍ من الأسامي فضلاً عن حيثيةِ تسميتِه بالشمس أو لتذكير الخبر وصيانةِ الربِّ عن وَصْمة التأنيث وقوله تعالى {هذا أَكْبَرُ} تأكيدٌ لما رامه عليه السلام من إظهار النَّصَفة مع إشارةٍ خفيةٍ إلى فساد دينهم من جهة أخرى ببيان أن الأكبرَ أحقُّ بالربوبية من الأصغر {فَلَمَّا أَفَلَتْ} هي أيضاً كما أفل اكوكب والقمرُ {قَالَ} مخاطباً للكلِّ صادِعاً بالحق بين أظهُرِهم {يا قوم إنى برىء مما تشركون} أي من الذي تشركونه من الأجرام المُحْدَثةِ المتغيرةِ من حالة إلى أخرى المسخَّرة لمحدِثها أو من إشراككم وترتيبُ هذا الحكمِ ونظيرَيْه على الأفول دون البزوغِ والظهور من ضروريات سَوْق الاحتجاجِ على هذا المَساق الحكيم فإن كلاًّ منهما وإن كان في نفسه انتقالاً منافياً لاستحقاق معروضِه للربوبية قطعاً لكن لما كان الأولُ حالةً موجبةً لظهور الآثارِ والأحكامِ ملائمةً لتوهُّم الاستحقاقِ في الجملة رتب عليها الحمكم الأول على الطريقة الم 1 كورة وحيث كان الثاني حالة مقتضِيةً لانطماس الآثار وبطلان الأحكام المنافيين للاستحقاق المذكور منافاةً بيّنةً يكاد يعترف بها كلُّ مكابرٍ عنيدٍ رُتّب عليها ما رتب ثم تبرأ عليه السلام منهم توجَّه إلى مبدعِ هذي المصنوعات ومُنشئها فقال

79

{إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فطر السماوات والأرض} التي هي الأجرامُ التي تعبدونها من أجزائها {والارض} التي تغيب هي فيها {حَنِيفاً} أي مائلا عن الأديان الباطلة والعقائدِ الزائغة كلِّها {وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين} في شيء من الأفعال والأقوال

80

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} أي شرَعوا في مغالبته في أمر التوحيد {قَالَ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ مُحاجَّتهم كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ عليه السلام حين حاجّوه فقيل قال منكرا لما اجترءوا عليه من مُحاجَّته مع قصورهم عن تلك الرُتبة وعِزّةِ المطلب وقوةِ الخصم {أَتُحَاجُّونّى فِى الله} بإدغام نون الجمع في نون الوقاية وقرىء بحذف الأولى وقوله تعالى {وَقَدْ هَدَانِ} حال من ضمير المتكلم مؤكِّدة للإنكار فإن كونه عليه السلام مَهدِياً من جهة الله تعالى ومؤيَّداً من عنده مما يوجب استحالةَ مُحاجَّتِه عليه السلام أي أتجادلونني في شأنه تعالى ووحدانيّتِه والحال أنه تعالى هداني إلى الحق بعد ما سلكت طريقتك بالفرض والتقدير وتبيَّن بُطلانُها تبيناً تاماً كما شاهدتموه وقوله تعالى {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} جوابٌ عما خوّفوه عليه السلام في أثناء المُحاجّة من إصابة مكروهٍ من جهة أصنامِهم كما قال لهودٍ عليه السلام قومُه إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلهتنا بِسُوء ولعلهم فعلوا ذلك حين فعل عليه السلامُ بآلهتهم ما فعل وما موصولةٌ اسميةٌ حُذف عائدُها وقوله تعالى {إَّلا أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً} استثناءٌ مفرغ من أعم الأوقات أي لا أخاف ما تشركونه به سبحانه من معبوداتكم في وقتٍ من الأوقاتِ إلا في وقتِ مشيئته

4 - الأنعام آية 81 تعالى شيئاً من إصابة مكروه من جهتها وذلك إنما هو منْ جهتِه تعالَى منْ غير دَخْلٍ لآلهتكم فيه أصلاً وفي التعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام إظهارٌ منه لانقيادِه لحُكمه سبحانه وتعالى واستسلام لأمره واعتراف بكَوْنه تحتَ ملَكوتِه ورُبوبيتِه وقوله تعالى {وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَىْء عِلْماً} كأنه تعليلٌ للاستثناء أي أَحَاطَ بِكُلّ شيءٍ عِلْمَا فلا يبعُد أنْ يكونَ في علمه تعالى أنْ يَحيقَ بي مكروهٌ مِنْ قِبَلها بسببٍ من الأسباب وفي الإظهار في موضع الإضمار تأكيدٌ للمعنى المذكور واستلذاذٌ بذكره تعالى {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} أي أتُعرضون عن التأمل في أن آلهتَكم جماداتٌ غيرُ قادرةٍ على شيء ما من نفه ولا ضر فلا تتذكرون أنها غيرُ قادرة على إضراري وفي إيراد التذكّرِ دون التفكر ونظائره غشارة إلى أن أمرَ أصنامِهم مركوزٌ في العقول لا يتوقف إلى على التذكر وقوله تعالى

81

{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} استئنافٌ مَسوقٌ لنفي الخوفِ عنه عليه السلام بحسَب زعمِ الكفَرةِ بالطريق الإلزاميِّ كما سيأت بعد نفيه عنه بسبب الواقع ونفسِ الأمر والاستفهامُ لإنكار الوقوعِ ونفيِه بالكليةِ كما في قولِه تعالى كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عند الله الآية لإنكار الواقعِ واستبعادِه مع وقوعِه كما في قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله إلخ في توجيه الإنكارِ إلى كيفية الخوفِ من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقالَ أأخافُ لِما أن كلَّ موجودٍ يجب أن يكون وجودُه على حال من الأحوال وكيفيةٍ من الكيفيات قطعاً فإذا انتفى جميعُ أحواله وكيفياتِه فقد انتفى وجودُه من جميع الجهات بالطريق البرهاني وقوله تعالى {وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله} حال من ضمير أخاف بتقدير مبتدأ والواوُ كافة في الربط منْ غيرِ حاجةٍ إلى الضميرالعائد إلى ذي الحال وهو مقرِّرٌ لإنكار الخوفِ ونفيِه عنه عليه السلام ومُفيدٌ لاعترافهم بذلك فإنهم حيث لم يخافوا في محلِّ الخوف فلأَنْ لا يَخافُ عليه السلام في محل الأمنِ أولى وأحرى أي وكيف أخافُ أنا ما ليس في حيز الخوفِ أصلاً وأنتم لا تخافون غائلةَ ما هو أعظم المخوفات وأهولُها وهو إشراكُكم بالله الذي ليسَ كمثلِه شيءٌ في الأرض ولا في السماء ما هو من جملة مخلوقاته وإنما عبّر عنه بقوله تعالى {مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ} أي بإشراكه {عَلَيْكُمْ سلطانا} على طريقة التهكّم مع الإيذان بأن الأمورَ الدينية لا يُعوَّل فيها إلا على الحُجة المنزلةِ من عند الله تعالى وفي تعليق الخوفِ الثاني بإشراكهم من المبالغة مراعاة حسنِ الأدب ما لا يخفى هذا وأمَّا مَا قيلَ مِنْ أنَّ قولَه تعالى وَلاَ تَخَافُونَ الخ معطوفٌ على أخاف داخل معه في حكم الإنكار والتعجيب فمما لا سبيلَ إليه أصلاً لإفضائه إلى فساد المعنى قطعاً كيف لا وقد عرفت أن الإنكارَ بمعنى النفي بالكلية فيؤول المعنى إلى نفي الخوف عنه عليه الصلاة والسلام ونفي نفيه عنهم وأنه بيِّنُ الفساد وحملُ الإنكارِ في الأول على معنى نفي الوقوعِ وفي الثاني على استبعاد الواقع مما لا مَساغَ له على أنَّ قولَه تعالى {فَأَىُّ الفريقين أَحَقُّ بالامن} ناطقٌ ببُطلانه حتماً فإنه كلام مرتَّبٌ على إنكار خوفِه عليه الصلاة

الأنعام آية 82 83 والسلام في محل الأمن مع تحقق عدم خوفهم في محل الخوف مَسوقٌ لإلجائهم إلى الاعتراف باستحقاقه عليه الصلاة والسلام لما هو عليه من الأمن وبعدم استحقاقِهم لما هم عليه وإنما جيءَ بصيغة التفضيلِ المُشعِرَةِ باستحقاقهم له في الجملة لْاستنزالهم عن رُتبة المكابرةِ والاعتسافِ بسَوْق الكلام على سَنن الإنصاف والمرادُ بالفريقين الفريقُ الآمنُ في محل الأمن والفريقُ الآمنُ في محلِّ الخوف فإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ على أن يُقال فأيُّنا أحقُّ بالأمن أنا أم أنتم لتأكيد الإلجاءِ إلى الجواب الحقِّ بالتنبيه على علّة الحُكم والتفادي عن التصريح بتخطئتهم لا لمجردِ الاحترازِ عن تزكية النفس {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} المفعولُ إما محذوفٌ تعويلاً على ظهوره بمعونه المقام أي إن كنتم تعملون من أحقُّ بذلك أو قصداً إلى التعميم أي إنْ كنتُم تعلمون شيئاً وإما متروكٌ بالمرة أي إن كنتم مِنْ أوُلي العلم وجوابُ الشرطِ محذوفٌ أي فأخبروني

82

{الذين آمَنُواْ} استئنافٌ من جهتِه تعالى للجواب الحقِّ الذي لا محيد عنه أي الفريقين الذين آمنوا {وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم} ذلك أي لم يخلِطوه {بِظُلْمٍ} أي بشركٍ كما يفعله الفريق المشكون حيث يزعُمون أنهم يؤمنون بالله عز وجل وأن عبادتَهم للأصنام من تتماتِ إيمانهم وأحكامِه لكونها لأجْل التقريبِ والشفاعة كما قالوا مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى وهذا معنى الخلْطِ {أولئك} إشارةٌ إلى الموصول من حيثُ اتصافُه بما في حيز الصلة وفي الإشارة إليه بعدَ وصْفِه بما ذُكر إيذانٌ بأنهم تميَّزوا بذلك عن غيرهم وانتظموا في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلوّ درجتِهم وبُعد منزلتِهم في الشرف وهو مبتدأٌ ثانٍ وقولُه تعالى {لَهُمُ الامن} جملةٌ من خبرٍ مقدمٍ ومبتدأ مؤخَّرٍ وقعت خبراً لأولئك وهو مع خبره للمبتدأ الأول الذي هو الموصول ويجوز أن يكونَ أولئك بدلاً من الموصول أو عطفُ بيان له خبراً للموصول والأمنُ فاعلاً للظرف لاعتماده على المبتدأ ويجوزُ أن يكون لهم خبراً مقدماً والأمنُ مبتدأً والجملةُ خبراً للموصول ويجوز أن يكون أولئك مبتدأً ثانيا ولهم خبره والأمن فاعلاً له والجملة خبر للموصولِ أي أولئك الموصوفينَ بما ذُكر من الإيمان الخالصِ عو شَوْب الشرك لهم الأمنُ فقط {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} إلى الحق ومَنْ عداهم في ضلال مبين رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ الآيةُ شقَّ ذلك على الصحابة رضوانُ الله علهم وقالوا أينا لم يظْلِمْ نفسه فقال عليه الصلاة والسلام ليس ما تظنون إنما هو قال لقمانُ لابنه يا بني لا تُشرِكْ بالله إِنَّ الشرْكَ لظُلم عَظِيمٌ وليس الإيمانُ به أن يُصَدِّقَ بوجود الصانعِ الحكيم ويخلِطَ بهذا التصديق الإشراكَ به وليس من قضية الخلطِ بقاءُ الأصلِ بعد الخلطِ حقيقةً وقيل المرادُ بالظلم المعصيةُ التي تُفسِّق صاحبَها والظاهرُ هو الأولُ لوروده موردَ الجواب عن حالة الفريقين

83

{وَتِلْكَ} إشارةٌ إلى ما احتج به إبراهيمُ عليه السَّلامُ من قوله تعالى فَلَمَّا جَنَّ وقيل من قوله أتحاجونيإلى قوله مُّهْتَدُونَ وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البُعد لتفخيم شأن المُشار إليه والإشعارِ بعلو طبقته وسمو منزلته

الأنعام آية 84 في الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى {حُجَّتُنَا} خبرُه وفي إضافتها إلى نونِ العظمةِ من التفخيم ما لا يخفى وقوله تعالى {آتَيْنَاهَا إبراهيم} أي أرشدناه إليها وعلمناه إياها في محل النصب على أنه حال من حجتُنا والعاملُ فيها معنى الإشارةِ كما في قوله تعالى فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بماظلموا أو في محلِ الرفعِ على أنه خبرٌ ثانٍ أو هو الخبر وحدجبتنا بدل أو بيان المبتدأ وإبراهيم مفعولٌ أولٌ لآتينا قُدِّم عليه الثاني لكونه ضميراً وقوله تعالى {على قَوْمِهِ} متعلِّقٌ بحجتُنا إن جُعل خبراً لتلك أو بمحذوفٍ إن جُعل بدلاً أي آتينا إبراهيمَ حجةً على قومه وقيل بقوله آتينا {نَرْفَعُ} بنون العظمةِ وقرىء بالباء على طريق الالتفات وكذا الفعل الآتي {درجات} أي رتباً عظيمةً عالية من العلم والحكمة وانتصابُها على المصدرية أو الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات أو على التمييز والمفعولُ قوله تعالى {من نشاء} وتأخيرُه على الوجوه الثلاثةِ الأخيرةِ لما مرَّ من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخَّر ومفعولُ المشيئة محذوفٌ أي من نشاء رفعَه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحةُ وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ للدلالةِ عَلى أنَّ ذلكَ سُنةٌ مستمرَّة جاريةٌ فيما بين المُصطَفَيْنَ الأخيارِ غيرُ مختصةٍ بإبراهيمَ عليه السلام وقرىء بالإضافة إلى من والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها لا محلَّ لها من الإعراب وقيل هي في محل النصب على أنها حالٌ من فاعل آتينا أي حال كوننا رافعين الخ {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} في كلِّ ما فعل من رفْعٍ وخفضٍ {عَلِيمٌ} بحال من يرفعُه واستعدادِه له على مراتبَ متفاوتة والجملةُ تعليلٌ لما قبلها وفي وضع الرَّبِّ مُضافاً إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ موضِعَ نونِ العظمةِ بطريق الالتفاتِ في تضاعيف بيان أحوال غبراهيم عليه السلام إظهارٌ لمزيد لُطفٍ وعنايةٍ به عليه السلام

84

{وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ} عطف على قوله تعالى وَتِلْكَ حُجَّتُنَا الخ فإن عطفَ كلَ من الجملة الفعلية والاسميةِ على الأخرى مما لا نزاعَ في جوازه ولا مساغَ لعطفه على آتيناها لأن له محلاً من الإعراب نصْباً ورفعاً حسبما بُيِّن من قبلُ فلو عُطف هذا عليه لكان في حُكمه من الحالية والخبرية المستدعيتين للرابط ولا سبيلَ إليه ههنا {كَلاَّ} مفعولٌ لِمَا بعده وتقديمه للقصر لكن لا بالنسبة إلى غيرهما مطلقاً بل بالنسبة إلى أحدهما أي كلُّ واحدٍ منهما {هَدَيْنَا} لا أحدَهما دون الآخَر وتركُ ذكر المهدى إليه لظهور أنه الذي أوتيَ إبراهيمُ وأنهما مقتدِيان به {وَنُوحاً} منصوبٌ بمضمر يفسِّره {هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} أي من قبلِ إبراهيمَ عليه السلام عَدَّ هُداه نعمةً على إبراهيمَ عليه السلام لأن شرفَ الوالدِ سارٍ إلى الولد {وَمِن ذُرّيَّتِهِ} الضمير لإبراهيمَ لأن مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيانِ شئونه العظيمةِ من إيتاءِ الحجةِ ورفع الدرحات وهبةِ الأولادِ الأنبياءِ وإبقاءِ هذه الكرامةِ في نسله إلى يوم القيامة كلُّ ذلك الإلزام مَنْ ينتمي إلى ملتِه عليه السلامُ من المشركين واليهود وقيل لنوحٍ لأنه أقربُ ولأن يونُسَ ولوطاً ليسا من ذرِّية إبراهيمَ فلو كان الضميرُ له لاختصَّ بالمعدودين في هذه الآية التي بعدها وأما المذكورون في الآية الثالثةِ فعطفٌ على نوحاً ورُوي عن ابن عبَّاسٍ أن هؤلاءِ الأنبياءَ كلَّهم مُضافون إلى ذرِّية إبراهيم وإن كان

الأنعام آية 85 86 منهم من لم يلْحَقه بولادةٍ من قِبَلِ أمَ ولا أب لأن لوطاً ابنُ أخي إبراهيم والعربُ تجعل العمَّ أباً كما أخبر الله تعالى عن أبناءِ يعقوبَ أنهم قالوا نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ غبراهيم وغسماعيل وأسحق مع إن إسمعيل عم يعقوب {داود وسليمان} منصوبان بمُضمرٍ مفهومٍ مما سبق وكذا ما عكف عليهما وبه يتعلق من ذريته وتقديمه على المفعول في الصريح للاهتمام بشأنه مع ما في المفاعيلِ من نوع طكول ربما يُخلُّ تأخيرُه بتجاوب النظم الكريم أي وهدينا من ذريته داودَ وسليمان {وَأَيُّوبَ} هو ابنُ أموصَ من أسباطِ عيصِ بنِ إسحاقَ {وَيُوسُفَ وموسى وهارون} أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المذكورين أي وهديناهم حال كونهم من ذريته {وكذلك} إشارةٌ إلى ما يُفهم من النظم الكريم من جزاءِ إبراهيمَ عليه السلام ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنه تعت لمصدر محذوف وأصل التقدير {نَجْزِى المحسنين} جزاءً مثلَ ذلك الجزاءِ والتقديمُ للقصر وقد مرَّ تحقيقُه مراراً والمراد بالمحسنين لجنس وبمماثلة جزائِهم لجزائه عليه السلام مطلقُ المشابهةِ في مقابلةِ الإحسانِ بالإحسان والمكافأةِ بين ألعمال والأجْزِية من غير بخسٍ لا المماثلةُ من كل وجه ضرورةَ أن الجزاءَ بكثرةِ الأولاد الأنبياءِ مما اختص به إبراهيمُ عليه السلام والأقربُ أن لامَ المحسنين للعهد وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ الفعل الذي بعده وهو عبارةٌ عما أوتيَ المذكورون من فنُون الكرامات وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو صفته للإيذان بعلو طبقته والطاف لتأكيد ما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة ومحلها في الأصلِ النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصل التقدير ونجزي المحسنين المذكورين جزاء كائناً مثل ذلك الجزاء فقُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً للنكتة المذكورة فصار المشارإليه نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتاً له أي وذلك الجزاءَ البديعَ نجزي المحسنين المذكورين لا جزاءً آخرَ أدنى منه والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ للثناء عليهم بالإحسان الذي هو عبارةٌ عن الإتيان بالأعمال الحسنة على لا الوجه اللائقِ الذي هو حسنهال الوصفيُّ المقارِنُ لحُسنها الذاتي وقد فسَّره عليهِ الصَّلاة والسَّلام بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكرن تراهُ فإنَّهُ يَرَاكَ والجملةُ اعتراض لما قبلها

85

{وزكريا} هو ابنُ آذَنَ {ويحيى} ابنُه {وَعِيسَى} هو ابنُ مريم وفيه دليلٌ على أنَّ الذرية تتناول أولادَ البنات {وَإِلْيَاسَ} قيل هو إدريسُ جدُّ نوحٍ فيكونُ البيانُ مخصوصاً بمِنْ في الآية الأولى وقيل هو من اسباط هرون أخِي مُوسى عليهما السلامُ {كُلٌّ} أي كلَّ واحدٍ من أولئك المذكورين {مّنَ الصالحين} أي من الكاملينَ في الصلاحِ الذي هو عبارةٌ عن الإتيان بما ينبغي والتحرُّز عما لا ينبغي والجملةُ اعتراضٌ جيءَ به للثناءِ عليهم بالصلاح

86

{وإسماعيل واليسع} هو ابنُ أخطوبَ بنِ العجوز وقرىء واليسع وهو على القراءتين على أعجميٌّ أُدخل عليه اللام ولا اشتقاق له ويقال إنه يوشَعُ بنُ نون وقيل إنه منقولٌ من مضارعِ وسِعَ واللام كما في يزيد في قول من قال أرأيت الوليدَ بنَ اليزيدَ مُبارَكاً شديداً بأعباءِ الخِلافة كاهلُه {ويونس}

الأنعام آية 87 89 هو ابن متى {وَلُوطاً} هو ابن هاران بنِ أخي إبراهيمَ عليه السلام {وَكُلاًّ} أي وكلَّ واحدٍ من أولئك المذكورين {فضلنا} بالن لا بعضهم دون أخي {عَلَى العالمين} على عالَمي عصرهم والجملة اعتراض كأختها وقوله تعالى

87

{ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم} إما متعلقٌ بما تعلقَ بهِ من ذريته ومن ابتدائية والمفعول محذوف أي وهدجينا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعاتٍ كثيرةً وإما معطوف على كلاًّ ومن تبعيضية أي وفضلنا بعضَ آبائهم الخ {واجتبيناهم} عطفٌ على فضلنا أي اصطفيناهم {وهديناهم إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} تكريرٌ للتأكيدِ وتمهيدٌ لبيان ما هُدوا إليه

88

{ذلك} إشارة إلى ما يُفهم من النظم الكريم من مصادرِ الأفعال المذكورة وقيل إلى ما دانوا به وما في ذلك من معنى البُعد لما مر مراراً {هدى الله} الإضافة للشريف {يَهْدِى بِهِ مَن يشاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وهم المستعدّون للهداية وافرشاد وفيه إشارةٌ إلى أنَّه تعالى متفضِّلٌ بالهداية {وَلَوْ أَشْرَكُواْ} أي هؤلاءِ المذكورون {لَحَبِطَ عَنْهُمْ} مع فضلهم وعلوِّ طبقاتِهم {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الأعمال المَرْضيّة الصالحة فكيف بمَنْ عداهم وهم هم وأعمالهم أعمالهم

89

{أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين من الأنبياء الثمانيةَ عشَرَ والمعطوفين عليهم عليهم السلام باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرِها من النعوت الجليلةِ الثابتةِ لهم وما فيه من معنى البُعد لما مرَّ غيرَ مرة من الإيذان بعلوِّ طبقتهم وبُعد منزلَتهِم في الفضلِ والشرف وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى {الذين آتيناهم الكتاب} أي جنسَ الكتابِ المتحقِّقِ في ضمن أيِّ فردٍ كان من أفراد الكتب السماوية والمراد بإيتائه التفهيمُ التام بما فيه من الحقائق والتمكينُ من الإحاطةِ بالجلائلِ والدقائق أعمُّ من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداءً أو بالإيراث بقاءً فإن المذكورين لم يُنْزَلْ على كلِّ واحدٍ منهم كتاب معين {الحكم} أي الحِكمةَ أو فصلَ الأمر على ما يقتضيه الحقُّ والصواب {والنبوة} أي الرسالة {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا} أي بهذه الثلاثة أو بالنبوة الجامعة للباقين {هَؤُلاء} أي كفارُ قريشٍ فإنهم بكفرهم برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن كافرون بما يصدِّقه حميعا وتقديم الجار والمجرور على الفاعلِ لما مرَّ مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخّر {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} أي أمَرْنا بمراعاتها ووفَّقْنا للإيمان بها والقيامِ بحقوقها {قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين} أي في وقتٍ من الأوقاتِ بل مستمرون على الإيمان بها فإن الجملةَ الاسميةَ الإيجابية كما تفيد دوامَ الثبوت كذلك السلبيةُ تُفيدُ دوامَ النَّفيِ بمعونةِ المقامِ لا نفْيِ الدوام كما حقق مقامه قال ابنُ عباس ومجاهدٌ رضي الله تعالى عنهما الأنصارُ وأهلُ المدينة وقيل أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقيل كل مؤمن من بني آدمَ وقيل الفرس فإن

الأنعام 90 91 كلاًّ من هؤلاء الطوائف موَفّقون للإيمان بالأنبياء وبالكتب المُنْزَلة إليهم عاملون بما فيها من أصول الشرائعِ وفروعِها الباقية في شريعتنا وبه يتحقق الخروجُ عن عهدة التوكيل دون المنسوخة منها فإنها بانتساخها خادة عن كونها من أحكامها وقد مرَّ تحقيقُه في تفسير سورة المائدة وقيل هم الأنبياءُ المذكورون فالمرادُ بالتوكيل الأمرُ بما هو أعمُّ من إجراء أحكامِها كما هو شأنهم في حق كتابهم ومِنِ اعتقاد حقِّيتِها كما هو في شأنهم في حق سائرِ الكتبِ التي من جملتها القرآنُ الكريم وقيل هم الملائكةُ فالتوكيل هو الأمرُ بإنزالها وحفظها واعتقاد حقيتها وأياً ما كان فتنكيرُ قوماً للتفخيم والباء الأولى صلة لكافرين قدمت عليه محافظةً على الفواصل والثانية لتأكيد النفي وأما تقديم صلة وكلنا على مفعوله الصريح فلِما ذكر آنفاً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوعَ طولٍ ربما يؤدِّي تقديمُه إلى الإخلال بتجاوب النظم الكريم أو إلى الفصلِ بين الصفةِ والموصوف وجوابُ الشرط محذوفٌ يدلُّ عليه المذكور أي فإن يكفُرْ بها هؤلاءِ فلا اعتدادَ به أصلاً فقد وفّقنا للإيمان بها قوماً فِخاماً ليسوا بكافرين بها قطعاً بل مستمرون على الإيمان بها والعملِ بما فيها ففي إيمانهم بها مندوحةٌ عن إيمان هؤلاء ومن هذا تبيّن أن الوجه أن يكونَ المرادُ بالقوم إحدى الطوائف المذطورة إذْ بإيمانهم بالقرآن والعملِ بأحكامه تتحقّقُ الغُنية عن إيمان الكَفَرة به والعملِ بأحكامه وأما الأنبياءُ والملائكةُ عليهم السلام فإنما به ليس من قبيل إيمانِ آحادِ الأمةِ كما أشير إليه

90

{أولئك} إشارة إلى ألنبياء المذكورين وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بعلوِّ رُتبتهم وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى {الذين هَدَى الله} أي إلى الحق والنهج المستقيم والالتفاتُ إلى الإسم الجليل للإشعار بعلة الهداية {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} أي فاختصَّ هداهم بالاقتداء ولا تقتَدِ بغيرهم والمرادُ بهداهم طريقتُهم في الأيمان بالله تعالى وتوحيدِه وأصولِ الدين دون الشرائعِ القابلةِ للنسخ فإنها بعد النسخ لا تبقى هُدىً والهاء في اقتده للوقف حقها أنم تسقط في الدّرْج واستُحسن إثباتُها فيه أيضاً إجراءً له مُجرى الوقفِ واقتداءً بالإمام وقرىء بإشباعها على أنها كناية المصدر {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على القُرآنِ أو على التبليغ فإن مَساقَ الكلامِ يدل عليهما وإن لم يجْرِ ذكرُهما {أَجْراً} من جهتكم كما لم يسألْه مَنْ قبلي من الأنبياءِ عليهم السلام وهذا من جملة ما أمر صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم فيه {إِنْ هُوَ} أي مَا القرآنُ {إِلاَّ ذكرى للعالمين} أي عظةٌ وتذكيرٌ لهم كافةً من جهته سبحانه فلا يختَصُّ بقوم دون آخرين

91

{وَمَا قَدَرُواْ الله}

لما بيَّن شأنَ القرآنِ العظيم وأنه نعمةٌ جليلةٌ منه تعالى على كافة الأمم حسبما يتعلق به قولُه تعالى وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين عقّب ذلك ببيان غمْطِهم إياها وكفرِهم بها على وجْهٍ سرَى ذلك إلى الكفر بجميع الكتب الإلهية وأصلُ القدْر السبْرُ والحزْرُ يقال قدَر الشيء يقدرُه بالم قدْراً إذا سبَره وحزَره ليعرِف مقداره ثم استُعمل في معرفة الشيء في مقداره وأحوالِه وأوصافِه وقوله تعالى {حَقَّ قَدْرِهِ} نُصب على المصدرية وهو في الأصل صفةٌ للمصدر أي قدْرَه الحقَّ فلما أضيف إلى موصوفه انتصبَ على ما كان ينتصبُ عليه موصوفُه أي ما عرفوه تعالى حقَّ معرفتِه في اللُطف بعباده والرحمةِ عليهم ولم يُراعوا حقوقَه تعالى في ذلك بل أخلّوا بها إخلالاً {إِذْ قَالُواْ} منكرين لبِعثة الرسلِ وإنزالِ الكتُب كافرين بنعمته الجليلةِ فيهما {مَا أَنزَلَ الله على بشر من شىء} فنفي معرفتهم لقره سبحانه كنايةً عن حطِّهم لقدرة الجليل ووصفهو له تعالى بنقيضِ نعتِه الجميل كما أنَّ نفيَ المحبةِ في مثل إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين كنايةٌ عن البغضِ والسُّخطِ وإلا فنفيُ معرفةِ قدرِه تعالى يتحقق مع عدم التعرُّض لحطِه بل مع السعْي في تحصيل المعرفةِ كما في قول من يناجي مستقصِراً لمعرفته وعبادته سبحانك ما عرَفناك حقَّ معرفتِك وما عبدناك حقَّ عبادتك وما عرفوه حقَّ معرفتِه في السخط على لكفار وشدّةِ بطشِه تعالى بهم حسبما نطقَ به القرآنُ حين اجترءوا على التفوُّه بهذه العظيمةِ الشنعاءِ فالنفيُ بمعناه الحقيقي والقائلون هم اليهودُ وقد قالوه مبالغةً في إنكار إنزالِ القرآنِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأُلزِموا بما لا سبيلَ لهم في إنكاره أصلاً حيث قيل {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جاءَ به موسَى} أي قل لهم ذلك على طريقة التبكيت وإلقامِ الحجر وروي أن مالكَ بنَ الصيف من أحبار اليهودِ ورؤسائِهم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشُدُك الله الذي أنزل التوراةَ على موسى هل تجد فيها أن الله يُبغض الحِبرَ السمين فأنت الحِبرُ السمين قد سمِنْتَ من مالك الذي تُطعمُك اليهود فضحك القومُ فغضبَ ثم التفت إلى عمرَ رضي الله عنه فقال ما أنزل الله على بشر من شىء فنزعوه وجعلوا مكانه كعبَ بن الأرشف وقيل هم المشركون وإلزامُهم إنزالُ التوراة لما أنه كان عندهم من المشاهير الذائعةِ ولذلك كانوا يقولون لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ ووصفُ الكتاب بالوصول إليهم لزيادة التقريعِ وتشديدِ التبكيت وكذا تقييدُه بقوله تعالى {نُوراً وَهُدًى} فإن كونَه بيّناً بنفسه ومبيِّناً لغيره مما يؤكد الإلزامَ أيَّ تأكيدٍ وانتصابُهما على الحاليَّةِ من الكتابِ والعامل أَنزل أو من الضميرِ في به والعامل جاء واللام في قوله تعالى {لِلنَّاسِ} إما متعلقٌ بهدىً أو بمحذوف هو صفةٌ له أي هدى كائناً للناس وليس المرادُ بهذا مجردَ إلزامِهم بالاعتراف بإنزال التوراةِ فقط بل بإنزال القرآنِ أيضاً فإن الاعترافَ بإنزالها مستلزِمٌ للاعتراف بإنزاله قطعاً لما فيها من الشواهد الناطقةِ به وقد نعى عليهم ما فعلوا بها من التحريف والتغييرِ حيث قيل {تَجْعَلُونَهُ قراطيس} أي تضعونه في قراطيسَ مقطعة وورقات مفرقة بحذ الجارِّ بناءً على تشبيه القراطيس بالظرف المُبْهم أو تجعلونه نفسَ القراطيس المقطعة وفيه زيادةُ توبيخٍ لهم بسوء سنيعهم كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزّلوه منزلةَ القراطيسِ الخاليةِ عن الكتابة والجملة حالٌ كما سبق وقوله تعالى {تُبْدُونَهَا} صفةٌ لقراطيسَ وقوله تعالى {وَتُخْفُونَ كَثِيراً}

الأنعام آيو 92 معطوفٌ عليه والعائدُ إلى الموصول محذوفٌ أي كثيراً منهم وقيل كلامٌ مبتدأ لا محلَّ له من الإعراب والمرادُ بالكثير نعوتُ النبيِّ عليهِ الصلاةَ والسلام وسائرُ ما كتموه من أحكام التوراة وقرىء الأفعالُ الثلاثةُ بالياء حملاً على قالوا وما قدروا وقوله تعالى {وَعُلّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أنتم ولا آباؤكم} قيل هو حالٌ من فاعل تجعلونه بإضمار أو بدونِه على اختلافِ الرأيين قلت فينبغي أن يجعل ما عبارةً عما أخذوه من الكتاب من العلوم والشرائعِ ليكون التقييدُ بالحال مفيداً لتأكيد التوبيخِ وتشديدِ التشنيع فإن ما فعلوه بالكتاب من التفريق والتقطيعِ لما ذُكر من الإبداءِ والإخفاءِ شناعةٌ عظيمة في نفسها ومع ملاحظة كونه مأخذاً لعلومهم ومعارفِهم أشنعَ وأعظمَ لا عما تلقَّوْه من جهة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم زيادةٍ على ما في التوراة وبياناً لما التَبَس عليهم وعلى ى بائهم من مشكلاتها حسْبما ينطِق به قوله تعالى إن هذا القرآن يقص على بني غسرائل أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ كما قالوا لأنّ تلقَّيَهم لذلك من القرآن الكريم ليس مما يزجُرهم عما صنعوا بالتوراة أما ما ورد فيه زيادةً على ما فيها فلأنه لا تعلّقَ له بها نفياً ولا إثباتاً وأما ما ورد بطريق البيانِ فلأن مدارَ ما فعلوا بها من التبديل والتحريفِ ليس ما وقع فيها من التباس الأمرِ واشتباهِ الحال حتى يُقلِعوا عن ذلك بإيضاحه وبيانِه فتكونَ الجملةُ حينئذ خاليةً عن تأكيد التوبيخ فلا تستحق أن تقعَ موقع الحال بل الوجهُ حينئذٍ أن تكون استئنافاً مقرِّراً لما قبلها من مجيءِ الكتابِ بطريق التكملةِ والاستطراد والتمهيدِ لما يعقُبه من مجيءِ القرآن ولا سبيل إلى جعل ما عبارةً عما كتموه من أحكام التوراةِ كما يفصحُ عنه قولُه تعالى قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب فإن ظهورَه وإن كان مزْجَرةً لهم عن الكتم مخافةَ الافتضاح ومصحِّحاً لوقوعِ الجملة في موقع الحالِ لكن ذلك مما يعلمه الكاتمون حتماً هذا وقد قيل الخطابُ لمن آمن من قريش كما في قوله تعالى لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آباؤهم وقوله تعالى {قُلِ الله} أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُجيبَ عنهم إشعاراً بتعيُّن الجوابِ بحيث لا محيدَ عنه وإيذاناً بأنهم أُفحموا ولم يقدِروا على التكلم أصلاً {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ} في باطلهم الذي يخوضون فيه ولا عليك بعد إلزامِ الحجة وإلقامِ الحجر {يَلْعَبُونَ} حال من الضمير الأول والظرفُ صلة للفعل المقدّم أو المؤخر أو متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من مفعولِ الأولِ أو من فاعل الثاني أو الضمير الثاني لأنه فاعلٌ في الحقيقة والظرفُ متَّصل بالأول

92

{وهذا كتاب أنزلناه} تحقيقٌ لنزول القرآن الكريم بعدج تقرير إنزال ما بَشَّر به من التوراة وتكذيبٌ لهم في كلمتهم الشنعاءِ إثرَ تكذيبٍ {مُّبَارَكٌ} أي كثيرُ الفوائد وجمُّ المنافع {مُّصَدّقُ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ} من التوراة لنزوله حسبما وُصِف فيها أو الكتُبِ التي قبله فإنه مصدِّقٌ للكل في إثبات التوحيد والأمرِ به ونفي الشرْك والنهي عنه وفي سائر أصولِ الشرائعِ التي لا تُنسخ {وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى} عطفٌ على ما دل عليه مبارك أي للبركات وإنذارك أهل مكة إنما ذُكرت باسمها المُنبىءِ عن كونها أعظم القرآ شأناً وقِبْلةً لأهلها قاطبةً إيذاناً بأن إنذارَ أهلِها أصلٌ مستتبِعٌ لإنذار أهلِ الأرض كافة وقرىء

الأنعام آية 93 94 لينذرَ بالياءِ على أنَّ الضمير للكتاب {وَمَنْ حَوْلَهَا} من أهل المدَر والوبَر في المشارق والمغارب {والذين يُؤْمِنُونَ بالأخرة} وبما فيها من أفانين العذاب {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي بالكتاب لأنهم يخافون العاقبةَ ولا يزال الخوف يحملهم على النظرة والتأمُّل حتى يؤمنوا به {وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} تخصيصُ محافظتِهم على الصلاة بالذكر من بين سائر العبادات التي لا بد للمؤمنين من أدائها للإيذان بإنافتِها من بين سائر الطاعات وكونِها أشرفَ العباداتِ بعد الإيمان

93

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} فزعَم أنه تعالى بعثه نبياً كمسيلِمةَ الكذابِ والأسودِ العنسيِّ أو اختلق عليه أحكاماً من الحِلِّ والحُرمة كعَمْرِو بنِ لُحَيَ ومتابعيه أيْ هُو أظلمَ منْ كل ظالم وإنْ كانَ سبكُ التركيبِ على نفيِ الأظلمِ منه وإنكارِه من غيرِ تعرضٍ لنفْي المساوي وإنكارِه فإن الاستعمالَ الفاشيَ في قولك مَنْ أفضلُ من زيدٍ أو لا أكرمَ منه على أنه أفضلُ من كل فاضلٍ وأكرمُ من كل كريم وقد مرَّ تمامُ الكلامِ فيه {أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ} من جهته تعالى {وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ} أي والحال أنه لم يوح إليه {شَىْء} أصلاً كعبد اللَّه بنِ سعدِ بنِ أبي سَرْح كان يكتُب للنبي صلى الله عليه وسلم فلما نزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طكين فلما بلغ ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقَاً آخَر قال عبد اللَّه تبارك الله أحسنُ الخالقين تعجباً من تفصيل خلقِ الإنسان ثم قال صلى الله عليه وسلم اكتُبها كذلك فشك عبدُ اللَّه وقال لئن كان محمد صادقاً فقد أُوحيَ إلي كما أوحيَ إليه ولئن كان كاذباً فقد قلت كما قال {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ الله} كالذين قالوا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون} حُذف مفعولُ ترى لدِلالة الظرفِ عليه أي ولو ترى الظالمين إذ هم {فِى غَمَرَاتِ الموت} أي شدائده من غَمَره إذا غشيه {والملائكة بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} بقبض أرواحِهم كالمتقاضي الملظ المُلِحّ يبسُط يدَه إلى من عليه الحقُّ ويعنِّف عليه في المطالبة من غير إمهالٍ وتنفيسٍ أو باسطوها بالعذاب قائلين {أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} أي أخرجوا أرواحَكم إلينا من أجسادكم وخلصوا أنفسكم من العذاب {اليوم} أي وقتَ الإماتة أو الوقتَ الممتدّ بعده إلى ما لا نهاية له {تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون} أيْ العذابَ المتضمِّنَ لشدةٍ وإهانةٍ فإضافتُه إلى الهون وهو الهوانُ لعراقته فيه {بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق} كاتخاذ الولد له ونسبةِ الشريك إليه وادعاء انبوة والوحيِ كاذباً {وَكُنتُمْ عَنْ آياته تَسْتَكْبِرُونَ} فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون بها

94

{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا} للحساب {فرادى}

الأنعام آية 95 96 منفردين عن الأموال والأولاد وغير ذلك مما ى ثرتموه من الدنيا أو عن الأعوان والأصنامِ التي كنتم تزعمون أنها شفعاؤكم وهم جمع فَرْد والألفُ للتأنيث ككسالى وقرىء فرادا كرخال وفَرادَ كثلاثَ وفَرْدَى كسَكْرى {كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ} بدل من فرادى أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد أو حال ثانية عند من يجوِّزُ تعددَها أو حال من الضمير في فرادى أي مشبهن ابتداءَ خلقِكم عُراةً حُفاة غر لابهما أو صفةُ مصدرِ جئتمونا أي مجيئاً كخلقنا لكم أَوَّلَ مَرَّةٍ {وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم} تفضّلناه عليكم في الدنيا فشُغِلتم به عن الآخرة {وَرَاء ظُهُورِكُمْ} ما قدمتم منه شيئاً ولم تحملو نقيراً {وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء} أي شركاءُ الله تعالى في الربوبية واستحقاقِ العبادة {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} أي وقع التقطعُ بينكم كما يقال جمع بين الشيئين أي أوقع الجمع بينهما وقرىء بينكمك بالرفع على إسنادِ الفعلِ إلى الظرف كما يقال قوتل أمامُكم وخلفُكم أو على أن البينَ اسمٌ للفصل والوصل أي تقطع وصلُكم وقرىء ما بينَكم {وَضَلَّ عَنكُم} أي ضاع أو غاب {مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أنها شفعاؤكم أو أنْ لا بعثَ ولا جزاء

95

{إِِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى} شروعٌ في تقرير بعضِ أفاعيلِه تعالى الدالةِ على كمال علمه وقدرته ولطفِ صُنعِه وحِكمتِه إثرَ تقريرِ أدلةِ التوحيد والفَلْقُ الشَقُّ بإبانةٍ أي شاقُّ الحبِّ بالنبات والنوى بالشجر وقيل المرادُ به الشِقُّ الذي في الحبوب والنَّوى أي خالقُهما كذلك كما في قولُك ضَيِّقْ فمَ الرَّكِيةِ ووسِّعْ أسفلَها وقيل الفلْقُ بمعنى الخلق قال الواحدي ذهبوا بفالقُ مذهبَ فاطر {يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} أي يُخرج ما ينمومن الحيوان والنبات مما لا ينمو من النطفة والحبِّ والجملة مستأنفة مبنية لما قبلَها وقيلَ خبرٌ ثان لأن وقوله تعالى {وَمُخْرِجُ الميت} كالنطفة والحب {مِنَ الحى} كالحيوان والنبات عطفٌ على فالقُ الحب لا على يُخرج على الوجه الأول لأن إخراج الميِّتِ من الحيِّ ليس من قبيل فلقِ الحب والنوى {ذلكم} القادرُ العظيمُ الشأنِ هو {الله} المستحِقّ للعبادة وحده {فأنى تُؤْفَكُونَ} فكيفَ تُصرَفون عن عبادتِه إلى غيره ولا سبيل إليه أصلاً

96

{فَالِقُ الإصباح} خبرٌ آخَرُ لأنَّ أو لمبتدإٍ محذوفٍ والإصباحُ مصدرٌ سمِّي به الصبحُ وقُرِىءَ بفتح الهمزة على أنه جمعُ صُبْح أي فالقُ عمودِ الفجر عن بياضِ النهار وإسفارِه أو فالق ظلمةِ الإصباحِ وهي الغَبَشُ الذي يلي الصبحَ وقرىء فالقَ بالنصب على المد {وجعل الليل سَكَناً} يسكُن إليه التعِبُ بالنهار لاستراحته فيه من سَكَن إليه إذا اطمأن إليه استئناساً به أو يسكن فيه الخلقُ من قوله تعالى لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وقرىء جاعلُ الليل فانتصابُ سكناً بفعل دل عليه جاعل وقيل بنفسه على أن المرادَ به الجعلُ المستمرُّ في الأزمنة المتجددة حسَب تجدّدِها لا الجعلُ الماضي فقط وقيل اسمُ الفاعل من الفعل المتعدِّي إلى اثنينِ يعملُ في الثاني وإن كان بمعنى الماضي لأنه لما أُضيف إلى الأول تعيّن نصبُه للثاني لتعذّر الإضافة بعد ذلك

الأنعام آية 97 98 {والشمس والقمر} معطوفان على الليل وعلى القراءة الأخيرة قيل هما معطوفان على محله والأحسنُ نصبُهما حينئذ بفعل مقدرٍ وقد قُرئا بالجرِّ وبالرفعِ أيضاً على الابتداء والخبرُ محذوفٌ أي مجعولان {حُسْبَاناً} أي على أدوار مختلفة يُحسبُ بها الأوقاتُ التي نيط بها العباداتُ والمعاملاتُ أو محسوبان حُسباناً والحُسبانُ بالضم مصدرُ حسَب كما أن الحسابَ بالكسر مصدر حسَب {ذلك} إشارة إلى جعلهما كذلك وما فيه من معنى البُعْدِ للإيذان بعلوِّ رُتبةِ المُشار إليهِ وبُعْدِ منزلتِه أي ذلك التيسير البديع {تقدير} البديع تَقْدِيرُ {العزيز} الغالب القاهرِ الذي لا يستعصي عليه شيءٌ من الأشياء التي من جملتها تسييرُهما على الوجه المخصوص {العليم} بجميعِ المعلوماتِ التي مِنْ جملتها ما في ذلك التسييرِ من المنافعِ والمصالحِ المتعلقةِ بمعاش الخلق ومَعادِهم

97

{وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النجوم} شروعٌ في بيان نعمتِه تعالى في الكواكب إثرَ بيانِ نعمتِه تعالى في النَّيِّرَيْنِ والجَعلُ متعدٍ إلى واحد واللامُ متعلقةٌ به وتأخيرُ المفعول الصريح عن الجار والمجرور لما مرَّ غيرَ مرَّةٍ من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أي أنشأها وأبدعها لأجلكم فقوله تعالى {لِتَهْتَدُواْ بِهَا} بدلٌ من المجرور بإعادة العامل بدلَ اشتمال كما قي قوله تعالى لجعلنا لمكن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً والتقدير جعلَ لكم النجومَ لاهتدائكم لكن لا على أن غايةَ خلقِها اهتداؤُهم فقط بل على طريقة إفراد بعضِ منافعِها وغاياتها بالذكر حسبما يقتضيه المقام وقد جوز أن يكون مفعولاً ثانياً للجعل وهو بمعنى التصييرِ أي جعلها كائنةً لاهتدائكم في أسفاركم عند دخولكم المافوز أو البحارَ كما ينبىء عنه قولُه تعالى {فِى ظلمات البر والبحر} أي في ظلمات الليل في البر والبحر وإضافتُها إليهما للملابسة فإن الحاجة إلى الاهتداء بها إنما يتحقق عند ذلك أو في مشتَبِهات الطرقِ عبّر عنها بالظلمات على طريق الاستعارة {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات} أي بيّنا الآياتِ المتلُوَّةَ المذكِّرةَ لنِعَمه التي هذه النعمةُ من جملتها أو الآياتِ التكوينيةِ الدالةِ على شئونه تعالى مفصّلةً {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي معانِيَ الآياتِ المذكورةِ ويعلمون بموجبها أو يتفكرون في الآيات التكوينية فيعلمون حقيقةَ الحال وتخصيصُ التفصيل بهم مع عمة ومه للكلِّ لأنَّهم المنتفعونَ بِه

98

{وَهُوَ الذى أَنشَأَكُم مّن نَّفْسٍ واحدة} تذكيرٌ لنعمةٍ أخرى من نعمه تعالى دالة على عظم قدرتِه ولطيفِ صُنعه وحكمتِه أي أنشأكم مع كثرتكم من نفسُ آدمَ عليه السَّلامُ {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} أي فلكم استقرارٌ في الأصلاب أو فوق الأرض واستيداعٌ في الأرحام أو تحت الأرض أو موضعُ استقرارٍ واستيداعٍ فيما ذكر والتعبيرُ عن كة ونهم ي الأصلاب أو فوق الأرض بالاستقرار لأنهما مقرُّهم الطبيعيُّ كما أنَّ التعبيرَ عن كونهم في الأرحام أو تحت الأرض بالاستيداع لِما أنَّ كلاً منهُمَا ليس ليس بمقرِّهم الطبيعيِّ وقد حُمل الاستيداعُ على كونهم في الأصلاب وليس بواضح وقرىء فمستقِر بكسر القاف أي فمنكم مستقِرٌ ومنكم مستوْدَعٌ فإن الاستقرارَ منّا

الأنعام آية 99 بخلاف الاستيداع {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات} المبينةَ لتفاصيل خلقِ البشرِ من هذه الآية ونظائرِها {لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} غوامضَ الدقائقِ باستعمال الفِطنة وتدقيقِ النظر في لطائف صنع الله عزَّ وجلَّ في أطوار تخليقِ بني آدمَ مما تحارُ في فهمه الألبابُ وهو السرُّ في إيثارِ يفقهون على يعلمون كما ورد في شأن النجوم

99

{وَهُوَ الذى أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} تذكيرٌ لنعمةٍ أخرى من نعمه تعالى مُنَبِّئةٍ عن كمالِ قدرتِه تعالى وسَعة رحمتِه أي أنزل من السحاب أو من سَمْتِ السماء ماءً خاصاً هو المطر وتقديمُ الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا {فأخرجنا به} التفت إلى التكلم إظهاراً لكمال العناية بشأن ما أُنزل الماءُ لأجله أي فأخرجنا بعظمتِنا بذلك الماءِ مع وِحْدته {نَبَاتَ كُلّ شَىْء} من الأشياء التي من شأنها النمو من أصنافالنجم والشجر وأنواعهما المختلفة في الكم والكيف والخواص والآثار اختلافا متفاوتها في مراتبِ الزيادة والنقصان حسبما يُفصح عنه قولُه تعالى يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الاكل وقولُه تعالى {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} شروعٌ في تفصيل ما أجمل من الإخراج وقد بُدِىء بتفصيل حال النجم أي فأخرجنا من النبات الذي لا ساقَ له شيئاً غضّاً أخضرَ يقال شيءٌ أخضَرٌ وخضِرٌ كأعوَرَ وعَوِرٍ وأكثرُ ما يُستعمل الخضِرُ فيمال تكون خُضرتُه خَلْقية وهو ما تشعّب من أصل النبات الخارج من الحبة وقوله تعالى {نُّخْرِجُ مِنْهُ} صفة لخضرا أو صيغة المضارع لاستحضار الصور لما فيها من الغرابة أي نخرج من ذلك الخضِرِ {حَبّاً مُّتَرَاكِباً} هو السنبل المنتظم الحبوب المتراكبة بعضُها فوق بعض على هيئة مخصوصةٍ وقرىء يخرج منه حب متراكب وقوله تعالى {وَمِنَ النخل} شروع في تفصيل حال الشجر إثرَ بيانِ حال النجم فقوله تعالى مِنْ النخل خبرٌ مقدم وقوله تعالى {مِن طَلْعِهَا} بدلٌ منه بإعادة العامل كما في قوله تعالى لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله الخ والطَّلْعُ شيء يخرُج من النخل كأنه نعلانِ مُطبَقانِ والحِمْلُ بينهما منضود وقوله تعالى {قنوان} مبتدأ أي وحاصلةٌ من طلع النخل قنوانٌ ويجوز أن يكون الخبرُ محذوفاً لدلالة أخرجنا عليه أي ومُخرِجةٌ من طلع النخل قنوانٌ ومَنْ قرأ يخرُجُ منه حبٌّ متراكبٌ كان قنوانٌ عنده معطوفاً على حبٌّ وقيل المعنى وأخرجنا من النخل نخلاً من طلعها قنوانٌ أو ومن النخل شيءٌ من طلعها قنوان وهو جمع قِنْوٍ وهو عنقودُ النخلة كصِنْوٍ وصِنْوان وقرىء بضم القاف كذِئبٍ وذؤبان وبفتحها أيضاً على أنه اسمُ جمعٍ لأن فَعلان ليس من أبنية الجمع {دَانِيَةٌ} سهلةُ المُجتَنى قريبةٌ من القاطففإنها وإن كانت صغيرةً ينالها القاعدُ تأتي بالثمر لا يُنتظَرُ الطولُ أو ملتفةٌ متقاربة والاقتصارُ على ذكرها لدلالتها على مقابلتها كقولِه تعالى سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر ولزيادة النعمة فيها {وجنات مّنْ أعناب} عطفٌ على نباتَ كل شيء أي وأخرجنا به جناتٍ كائنةً من أعناب وقرىء جناتٌ بالرَّفعِ على الابتداءِ أي ولكم

الأنعام آية 100 أو ثَمةَ جناتٌ وقد جوِّز عطفُه على قنوان كأنه قيل وحاصلةٌ أو مخجة من النخل قنوانٌ وجناتٌ من نباتٍ وأعناب ولعل زيادة الجنات ههنا من غير اكتفاءٍ بذكر اسمِ الجنس كما فيما تقدم وما تأخر لما أن الانتفاعَ بهذا الجنس لا يتأتى غالباً إلا عند اجتماع طائفةٍ من أفراده {والزيتون والرمان} منصوبان على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم أو على العطف على نباتَ وقوله تعالى {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه} حال من الزيتون اكتُفي به عن حال ما عطف عليه كما يكتفى بخبر المعطوف عليه عن خبر لمعطوف في نحوِ قولِه تعالى والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ وتقديرُه والزيتونَ مشتبهاً وغيرَ متشابه والرمانَ كذلك وقد جوز أن يكون حالاً من الرمان لقُربه ويكون المحذوفُ حالَ الأول والمعنى بعضُه متشابهاً وبعضُه غير مكتشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم وغيرِ ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعِها وحكمةِ مُنشئِها ومبدعِها {انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} أي انظروا إليه نظرَ اعتبارٍ واستبصارٍ إذا أخرج ثمرَه كيف يُخرجه ضئيلاً لا يكاد يُنتفعُ به وقرىء إلى ثمره {وَيَنْعِهِ} أي وإلى حال نضجه كيف يصر إلى كماله اللائق به ويكون شيئاً جامعاً لمنافِعَ جمّةٍ واليَنْعُ في الأصل مصدر ينعت الثمر إذا أدركت وقيل جمعُ يانع كتاجر وتجْرٍ وقرىء بالضمِّ وهي لغةٌ فيه وقرىء يانِعِهِ {إِنَّ فِى ذلكم} إشارةٌ إلى ما أُمر بالنظر إليه وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البعد للإيذان بعلوِّ رُتبةِ المُشار إليهِ وبعد منزلته {لايات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي لآيات عظيمة أوثيرة دالةً على وجود القادر الحكيم ووحدته فإن حدوت هاتيك الأجناسِ المختلفة والأنواع المتشعبة من أصل واحدٍ وانتقالَها من حال إلى حال على نمط بديع يحار في فهمه الألباب لا يكاد يكون إلا بإحداث صانعٍ يعلم تفاصيلَها ويرجّح ما تقتضيه حكمتُه من الوجوه الممكنة على غيره ولا يَعوُقه عن ذلك ضد يناويه أو ند يفاويه ولذلك عقّب بتوبيخِ من أشرك به والردِّ عليه حيث قيل

100

{وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء} أي جعلوا في اعتقادهم لله الذي شأنُه ما فُصّل في تضاعيفِ هذه الآياتِ الجليلةِ شركاءَ {الجن} أي الملائكةَ حيث عبدوهم وقالوا الملائكةُ بناتُ الله وسُمُّوا جنا لاجتنابهم تحقير لشأنهم بالنسبة إلى مَقام الألوهية أو الشياطينَ حيث أطاعوهم كما أطاعوا الله تعالى أو عبدوا الأوثانَ بتسويلهم وتحريضِهم أو قالوا الله خالقُ الخير وكلِّ نافعٍ والشيطانُ خالقُ الشرِّ وكلِّ ضارَ كما هو رأي التنويه ومفعولا جعلوا قوله تعالى شُرَكَاء الجن قُدِّم ثانيهما على الأول لاستعظام أن يتخذ الله سبحانه شريكٌ ما كائناً ما كان ولله متعلق بشركاء قدم عليه للنكتة المذكورة وقيل هما لله شركاء والجنَّ بدلٌ من شركاءَ مفسِّرٌ له نَصَّ عليه الفراءُ وأبو إسحاقَ أو منصوبٌ بمضمرٍ وقعَ جوابا على سؤالٍ مقدَّرٍ نشأ من قوله تعالى وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء كأنه قيل مَنْ جعلوه شركاءَ لله تعالى فقيل الجنَّ أي جعلوا الجن ويؤيده قراءةُ أبي حيوة ويزيدَ بن قطيب الجن بالرفع على تقديرهم الجنُّ في جواب من قال مَن الذين جعلوهم شركاءَ لله تعالى وقد قرىء بالجر على أن الإضافة للتبيين

الأنعام آية 101 {وَخَلَقَهُمْ} حالٌ من فاعل جعلوا بتقدير قد أو بدونه على اختلاف الرأيين مؤكدةٌ لما في جَعْلهم ذلك من كمال القباحة والبُطلان باعتبار علمِهم بمضمونها أي وقد علموا أنه تعالى خالقُهم خاصة وقيل الضميرُ للشركاءِ أي والحالُ أنَّه تعالى خلق الجنَّ فكيف يجعلون مخلوقَه شريكاً له تعالى وقرىء خَلْقَهم عطفاً على الجنَّ أي وما يخلقونه من الأصنام أو على شركاءَ أي وجعلوا له اختلافهم الإفكَ حيث نسبوه إليه تعالى {وَخَرَقُواْ لَهُ} أي افتعلوا وافترَوْا له يقال خلقَ الإفكَ واختلقه وخَرَقه واخترقه بمعنى وقرىء خرّقوا بالتشديد للتكثير وقرىء وحرّفوا له أي زوّروا {بَنِينَ وَبَنَاتٍ} فقالت اليهودُ عزيرٌ ابنُ الله وَقَالَتِ النصارى المسيحُ ابنُ الله وقالت طائفة من العربِ الملائكةُ بناتُ الله {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي بحقيقة ما قالوه من خطأ أو صوابٍ بل رميا بقول عن عمى وجهالة من غير فكرٍ ورويّة أو بغير علم بمرتية ما قالوه وأنه من الشناعة والبطلان بحيث لا يقادَرُ قدرُه والباءُ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من فاعل خرقوا أو نعتٌ لمصدرٍ مؤكدٍ لهُ أي خرقوا ملتبسين بغير علم أو خرقاً كائناً بغير علم {سبحانه} استئناف مسوق لتتنزيهه عز وجل عما نسَبوه إليه وسبحانه علمٌ للتَّسبيحِ الذي هو التبعيدُ عن السُّوءِ اعتقاداً وقولاً أي اعتقادَ البعدِ عنه والحكمَ به مِنْ سبَح في الأرضِ والماءِ إذا أبعدَ فيهما وأمعنَ ومنه فرسٌ سَبُوحٌ أي واسعُ الجرْي وانتصابُه على المصدريّةِ ولا يكاد يُذكر ناصبُه أي أُسبِّحُ سبحانَه أي أنزّهُه عمَّا لا يليقُ به عقْداً وعملاً تنزيها خاصا به حقيقة بشأنِه وفيه مبالغةٌ من جهةِ الاشتقاقِ من السَّبْح ومن جهة النَّقلِ إلى التَّفعيلِ ومن جهة العدولِ عن المصدرِ الدَّالِ على الجنسِ إلى الاسمِ الموضوع له خاصَّة لا سيِّما العلمُ المشيرُ إلى الحقيقةِ الحاضرةِ في الذِّهنِ ومن جهة إقامتهِ مُقامَ المصدرِ مع الفعلِ وقيل هو مصدرٌ كغُفرانٍ لأنه سُمع له فعلٌ من الثلاثي كما ذُكر في القاموس أُريد به التنزُّهُ التامُّ والتباعدُ الكُلي ففيه مبالغةٌ من حيث إسنادُ التنزهِ إلى ذاتِه المقدسةِ أي تنزه بذاته تنزهال لائقاً به وهو الأنسبُ بقوله سبحانه {وتعالى} فإنمه معطوفٌ على الفعل المُضمر لا محالة ولِمَا في السُّبحان والتعالي من معنى التباعُد قيل {عَمَّا يَصِفُونَ} أي تباعد عما يصفونه من أن له شريكاً أو ولدا

101

{بديع السماوات والارض} أي مُبدِعُهما ومخترِعُهما بلا مثالٍ يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيه فإن البديعَ كما يطلق على المُبدِع نصَّ عليه أئمة اللغة كالصريخ بمعنى المُصرِخ وقد جاء بَدَعَه كمنعه بمعنى أنشأه كابتدعه على ما ذُكر في القاموس وغيرِه ونظيرُه السميعُ بمعنى المسمِع في قوله ... أَمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعي السميعُ وقيل هو من إضافة الصفةِ المشبّهةِ إلى الفاعل للتخفيف بعد نصبِه تشبيهاً لها باسم الفاعِلِ كما هو المشهورُ أي بديعُ سمواتِه وأرضِه من بَدَع إذا كان على نمطٍ عجيبٍ وشكلٍ فائق وحُسنٍ رائقٍ أو إلى الظرف كما في قولهم ثبت الغدر بمعنى أنه عديم اتلنظير فيهما والأولُ هو الوجه والمعنى أنه تعالى مبدعٌ لقطري العالم العلويِّ والسفليِّ بلا مادة فاعلٍ على الإطلاق منزَّه عن الانفعال بالمرة والوالدُ عنصرُ الولد منفعل

9 - الأنعام آية 102 بانتقال مادتِه عنه فكيف يمكنُ أن يكونَ له ولد وقرىء بديعَ بالنصبَ على المدح وبالجرِّ على أنه بدلٌ من الاسم الجليل أو منَ الضميرِ المجرورِ في سبحانه على رأي من يُجيزه وارتفاعُه في القراءة المشهورة على أنه خبر مبتدأ محذوف أو فاعلُ تعالى وإظهارُه في موضعِ الإضمارِ لتعليلِ الحكمِ وتوسيطُ الظرفِ بينه وبين الفعل للاهتمام ببيانه أو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} وهو على الأولَيْن جملة مستقلة مسوقة كما قبلها لبيان استحالةِ ما نسبوه إليه تعالى وتقرير تنزُّهِه عنه وقوله تعالى {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة} حال مؤكدةٌ للاستحالة المذكورة فإن انتفاءَ أن يكون له تعالى صاحبةٌ مستلزمٌ لانتفاءِ أن يكونَ له ولدٌ ضرورةَ استحالة وجودِ الولدِ بلا والدة وإن أمكن وجودُه بلا والد وانتفاءُ الأولِ مما لا ريبَ فيه لأحد فمن ضرورته انتفاءُ الثاني أي من أين أو كيف يكون له ولد كما زعموا والحالُ أنه ليس له على زعمهم أيضاً صاحبةٌ يكون الولدُ منها وقرىء لم يكنْ بتذكير الفعل للفصل أو لأن الاسمَ ضميرُه تعالى والخبرُ هو الظرفُ وصاحبةٌ مرتفعٌ به على الفاعليةِ لاعتماده على المبتدإ أو الظرفُ خبرٌ مقدمٌ وصاحبةٌ مبتدأٌ مؤخرٌ والجملةُ خبرٌ للكون وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون الاسمُ ضميرَ الشأنِ لصلاحية الجملةِ حينئذ لأن تكونَ مفسِّرةً لضمير الشأنِ لا على الوجه الأولِ لما بُيِّن في موضعِه أن ضميرَ الشأنِ لا يفسَّر إلا بجملة صريحةٍ وقوله تعالى {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء} إما جملةٌ مستأنفةٌ أخرى سيقت لتحقيق ما ذُكر من الاستحالة أو حالٌ أخرى مقرِّرةٌ لها أي أنى يَكُونُ لَهُ ولدٌ والحالُ أنه خلق كلَّ شيءٍ انتظمه التكوينُ والإيجادُ من الموجودات التي من جملتها ما سمَّوْه ولداً له تعالى فكيفَ يتُصورُ أن يكونَ المخلوقُ ولداً لخالقه {وَهُوَ بِكُلّ شَىْء} مِنْ شأنه أن يُعلم كائناً ما كان مخلوقاً أو غيرَ مخلوق كما ينبىء عنه ترك افضمار إلى الإظهار {عَلِيمٌ} مبالغٌ في العلمِ أزلاً وأبداً حسبما يعرب عنه العجول إلى الجملة الاسميةِ فلا يخفى عليه خافيةٌ ممَّا كانَ وما سيكونُ من الذوات والصفاتِ والأحوالِ التي من جملتها ما يجوز عليه تعالى ما لا يجوز من المُحالات التي ما زعموه فردٌ من أفرادها والجملةُ استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان مقالته الشنعاء التي اجترءوا عليها بغير علم

102

{ذلكم} إشارةٌ إلى المنعوتُ بما ذُكر من جلائل النعوتِ وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو شأنِ المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في العظمة والخطابُ للمشركين المعهودين بطريق الالتفاتِ وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلّ شَىْء} أخبارٌ أربعةٌ مترادفةٌ أي ذلك الموصوفُ بتلك الصفاتِ العظيمةِ هو الله المستحِقُّ للعبادة خاصةً مالكُ أمرِكم لا شريك له أصلاً خالقُ كلِّ شيءٍ مما كانَ ومما سيكون فلا تكرارَ إذ المعتبرُ في عنوان الموضوعِ إنما هو خالقيتُه لما كان فقط كما يُنبىء عنه صيغةُ الماضي وقيل الخبرُ هو الأولُ والبواقي أبدالٌ وقيل الاسمُ الجليلُ بدلٌ من المبتدأ والبواقي أخبارٌ وقيل يقدر لكلَ من الأخبار الثلاثةِ مبتدأٌ وقيل يُجعل الكلُّ بمنزلة اسمٍ واحد وقولُه تعالى {فاعبدوه} حكم مترتبٌ على مضمون الجملة فإن مَنْ جمع هذه الصفاتِ كان هو المستحقُّ للعبادة خاصة وقولُه تعالى {وَهُوَ على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ} عطفٌ على الجملة

الأنعام 103 105 المتقدمة أي هو مع ما فُصل من الصفاتِ الجليلةِ متولي أمورِ جميعِ مخلوقاتِه التي أنتم من جملتها فكِلوا أمورَكم إليه وتوسلوا بعبادته إلى نجاح مآربِكم الدنيويةِ والأخروية

103

{لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار} البصرُ حاسةُ النظرِ وقد تطلق على العين من حيث أنها محلُّها وإدراكُ الشيءِ عبارةٌ عن الوصول إليه والإحاطةِ به أي لا تصِل إليه الأبصارُ ولا تُحيط به كما قال سعيدُ بنُ المسيِّب وقال عطاء كانت أبصارُ المخلوقين عن الإحاطة به فلا مُتمسَّك فيه لمنكري الرؤيةِ على الإطلاق وقد رُوي عن ابن عباس ومقاتل رضي الله عنهم لا تدركه الأبصارُ في الدنيا وهو يُرى في الآخرة {وَهُوَ يُدْرِكُ الابصار} أي يحيطُ بها علمُه إذ لا تَخفى عليهِ خافيةٌ {وَهُوَ اللطيف الخبير} فيدركه ما لا تدركه الأبصارُ ويجوز أن يكون تعليلاً للحُكمين السابقين على طريقة االف أي لا تدركه الأبصارُ لأنه اللطيفُ وهو يدرك الأبصارَ لأنه الخبيرُ فيكون اللطيفُ مستفاداً من مقابل الكثيفِ لما لا يُدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها وقولُه تعالى

104

{قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ} استئنافٌ وارد على لسان النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم والبصائرُ جمعُ بصيرةٍ وهي النورُ الذي به تستبصِرُ النفسُ كما أنَّ البصرَ نورٌ به تبصِرُ العين والمرادُ بها الآيةُ الواردةُ ههنا أو جميع الآيات المنتظمةِ لها انتظاماً أولياً ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً سواءٌ تعلقت بجاء أو بمحذوف هو صفة لبصائر والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطبينَ لإظهار كمل اللطف بهم أي أي قد جاءكم من جهة مالككم ومبلِّغِكم إلى كمالكم اللائقِ بكم من الوحي الناطقِ بالحق والصوابِ ما هو كالبصائر للقلوب أو قد جاءكم بصائرُ كائنةٌ من ربكم {فَمَنْ أَبْصَرَ} أي الحقَّ بتلك البصائرِ وآمن به {فَلِنَفْسِهِ} أي فلنفسه أبصر أو فإبصارُه لنفسه لأن نفعَه مخصوصٌ بها {وَمَنْ عَمِىَ} أي ومن لم يبصر الحقَّ بعد ما ظهر له بتلك البصائرِ ظهوراً بيِّناً وضلَّ عنه وإنما عبّر عنه بالعمى تقبيحاً له وتنفيراً عنه {فَعَلَيْهَا} أي فعليهات عمِي أو فعَماهُ عليها أو وبال عماه {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} وإنما أنا منذر والله هو الذي يحفظ أعمالَكم ويجازيكم عليها

105

{وكذلك نُصَرّفُ الايات} أي مثلَ ذلك التصريفِ البديعِ نصرِّف الآياتِ الدالةَ على المعاني الرائقةِ الكاشفةِ عن الحقائق الفائقةِ لا تصريفاً أدنى منه وقوله تعالى {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} علةٌ لفعل قد حُذف تعويلاً على دلالة السباق عليه أي وليقولوا درست نفعلُ ما نفعل من التصريفِ المذكورِ واللامُ للعاقبة والواو اعتراضيةٌ وقيل هي عاطفةٌ على علة محذوفةٍ واللام متعلقةٌ بنُصرِّف أي مثلَ ذلك التصريفِ نصرِّف الآياتِ لنُلزِمَهم الحجةَ وليقولوا الخ وقيل اللام لامُ الأمرِ وتنصُره القراءةُ بسكون اللامِ كأنه قيل وكذلك نصرف الآياتِ وليقولوا هم ما يقولون فإنه لا احتفالَ بهم ولا اعتدادَ بقولهم وهذا أمرٌ معناه الوعيدُ والتهديدُ وعدمُ الاكتراثِ بقولهم ورُدَّ عليه بأن ما بعده يأباه ومعنى درست قرأتَ وتعلمات وقُرىء دارسْتَ أي دارستَ العلماء ودرست أي قدمت

الأنعام آية 106 108 هذه الآياتُ وعفَت كما قالُوا أساطيرُ الأوَّلينَ ودَرُسَت بضم الراءِ مبالغةً في درَست أي اشتد دروسُها ودُرست على البناء للمفعول بمعنى قُرئت أو عُفِيت ودارَسَتْ وفسروها بدارست اليهودُ محمدا صلى الله عليه وسلم وجاز الإضمارُ لاشتهارهم بالدراسة وقد جُوز إسنادُ الفعل إلى الآيات وهو في الحقيقة لأهلها أي دارسَ أهلُ الآيات وحَمَلتُها محمداً صلى الله عليه وسلم وهم أهلُ الكتاب ودرَسَ أي درَسَ محمدٌ ودارِسات أي هي دارساتٌ أي قديمات أو ذاتُ دَرْسٍ كعيشة راضية وقوله تعالى {وَلِنُبَيّنَهُ} عطفٌ على ليقولوا واللام على الأصل لأن التبيينَ غايةُ التصريفِ والضميرُ للآيات باعتبار المعنى أو للقرآن وإن لم يُذكر أو للمصدر أي ولِنفعلَ التبيينَ واللامُ في قوله تعالى {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} متعلقةٌ بالتبيين وتخصيصُه بهم لما أنهم المنتفِعون بِهِ قال ابنُ عبَّاسٍ هم أولياؤُه الذين هداهم إلى سبيل الرشادِ ووصفُهم بالعلم للإيذان بغاية جهلِ الأولين وخلوِّهم عن العلم بالمرة

106

{اتبع مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ رَّبّكَ} لما حُكي عن المشركين قدحُهم في تصريف الآياتِ عُقِّب ذلك بأمره صلى الله عليه وسلم بالثبات على ما هو عليه وبعدم الاعتدادِ بهم وبأباطيلهم أي دُمْ على ما أنت عليه من اتباع مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الشرائع والأحكامِ التي عُمدتُها التوحيدُ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من إظهار اللطفِ به ما لا يَخْفى وقوله تعالى {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} اعتراضٌ بين الأمرين المتعاطفَين مؤكِّدٌ لإيجاب اتباعِ الوحي لا سيِّما في أمرِ التوحيدِ وقد جُوز أن يكون حالاً من ربك أي منفرداً في الألوهية {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} لا تحتفِلْ بهم وبأقاويلهم الباطلةِ التي من جُملتِها ما حُكي عنهم آنفاً ومن جعله منسوخاً بآية السيفِ حَمل الإعراضَ على ما يعُمّ الكفَّ عنهم

107

{وَلَوْ شَاء الله} أي عدمَ إشراكِهم حسبما هو القاعدةُ المستمرةُ في حذفِ مفعولِ المشيئةِ من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاء {مَا أَشْرَكُواْ} وهذا دليلٌ على أنَّه تعالى لا يريد إيمانَ الكافرِ لكنْ لا بمعنى أنَّه تعالى يمنعه عنه مع توجّهِه إليه بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه لعدم صرفِ اختيارِه الجزئيِّ نحوَ الإيمان وإصرارِه على الكفر والجملةُ اعتراضٌ مؤكد للإعراض وكذا قولُه تعالى {وَمَا جعلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أي رقيباً مهيمناً مِنْ قِبلنا تحفظ عليهم أعمالَهم وكذا قولُه تعالى {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} من جهتهم تقوم بأمورهم وتدبر مصالِحَهم وعليهم في الموضعين متعلقٌ بما بعده قد عليه للاهتمام به أو لرعاية الفواصل

108

{وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي لا تشتُموهم من حيث عبادتُهم لآلهتهم كأن تقولوا تباً لكم ولما تعبُدونه مثلاً {فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً} تجاوزاً عن الحق إلى الباطل بأن يقولوا لكم مثلَ قولِكم لهم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي بجهالة بالله تعالى وبما يجب أن يذكر

الأنعام آية 109 به وقرىء عُدُوّاً يقال عدا يعدو وعُدُوّاً وعِداء وعُدْواناً روي أنهم قالُوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول قوله تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ لتنتهِيَنَّ عن سب آلهتِنا ولنهجون إلهك وقيل كان المسلمون يسبّونهم فنُهوا عن ذلك لئلا يستتبِعَ سبُّهم سبَّه سبحانه وتعالى وفيه أن الطاعةَ إذا أدتْ إلى معصية راجحةٍ وجب تركُها فإن ما يؤدي إلى الشر شرٌّ {كذلك} أي مثلَ ذلك التزيينِ القويِّ {زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} من الخير والشر بإحداث ما يُمكّنهم منه ويحمِلُهم عليه توفيقاً أو تخذيلاً ويجوز أن يُراد بكل أمة أمم الكفرة إذا الكلامُ فيهم وبعملهم شرُّهم وفسادُهم والمشبَّه به تزيينُ سبِّ الله تعالى لهم {ثُمَّ إلى رَبّهِمْ} مالك أمره {مرجعهم} أي رجوعهم بالبعث بعد الموت {فَيُنَبّئُهُمْ} من غير تأخير {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدنيا على الاستمرار من السيئات المزيَّنةِ لهم وهو وعيدٌ بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت وفيه نكتةٌ سِرّية مبنيةٌ على حِكمة أبيةٍ وهي أن كلَّ ما يظهر في هذه النشأةِ من الأعيان والأعراضِ فإنما يظهر بصورة مستعارةٍ مخالفةٍ لصورته الحقيقية التي بها يظهر في النشأة الآخرة فإن المعاصي سمون قاتلةٌ قد برزت في الدنيا بصورةٍ ما تستحسنها نفوسُ العصاة كما نطقت به هذه الآيةُ الكريمة وكذا الطاعاتُ فإنها مع كونها أحسن الأحاسن قد ظهرت عندهم بصورة مكروهةٍ لذلك قال صلى الله عليه وسلم حُفّتِ الجنَّةُ بالمكاره وحُفّتِ النارُ بالشهواتِ فأعمال الكفرةِ قد برزت لهم في النشأة بصورة مزيَّنةٍ يستحسنها الغُواةُ ويستحبّها الطغاةُ وستظهر في النشأة الآخرةِ بصورتها الحقيقيةِ المنكرةِ الهائلةِ فعند ذلك يعرِفون أن أعمالهم ماذا عبر عن إظهارها بصورها الحقيقة بالإخبار بها لمَا إنَّ كُلاًّ منهُمَا سببٌ للعلم بحقيقتها كما هي فلْيُتدبر قولِه تعالى

109

{وَأَقْسَمُواْ بالله} روي أن قريشاً اقترحوا بعضَ آيات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فعلت بعذ ما تقولون أتصدّقونني فقالوا نعم وأقسموا لئن فعلتَه لنؤمنن جميعاً فسأل المسلمون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها طمعاً في إيمانهم فهم صلى الله عليه وسلم بالدعاء فنزلت وقوله تعالى {جَهْدَ أيمانهم} مصدرٌ في موقعِ الحالِ أي أقسمُوا به تعالى جاهدين في أيمانهم {لئن جاءتهم آية} من مقترحاتهم أو من جنس الآياتِ وهو الأنسبُ بحالهم في المكابرة والعناد وترامي أمرِهم في العتو والفساد حيث كانوا لا يعُدّون ما يشاهدونه من المعجزات الباهرةِ من جنس الآيات {لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} وما كان مَرْمى غرضِهم في ذلك لا التحكمَ على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم في طلب المعجزةِ وعدم الاعتدادِ بما شاهدوا منه من البينات الحقيقةِ بأن تُقطعَ بها الأرضُ وتُسيَّر بها الجبالُ {قُلْ إِنَّمَا الايات} أي كلُّها فيدخُل فيها ما اقترحوه دخولاً أولياً {عَندَ الله} أي أمرُها في حُكمه وقضائِه خاصةً يتصرف فيها حسبَ مشيئتِه المبنيةِ على الحكم البالغةِ لا تتعلق بها ولا بشأن من شئونها قُدرةُ أحدٍ ولا مشيئتُه لا استقلالاً ولا اشتراكاً بوجه من الوجوه حتى يُمكِنَني أن أتصدّى لاستنزالها بالاستدعاء وهذا كما ترى سدٌّ لباب الاقتراحِ على أبلغ وجه وأحسنه

الأنعام آية 110 ببيان علوِّ شأن الآياتِ وصعوبةِ منالِها وتعاليها من أن تكون عُرضةً للسؤال والاقتراحِ وأما ما قيل من أن المعنى إِنَّمَا الآياتُ عِندَ الله تعالَى لاَ عندي فكيف أُجيبكم إليها وآتيكم بها وهو القادِرُ عليها لا أنا حتى آتِيَكم بها فلا مناسبةَ له بالمقام كيف لا وليس مقترَحُهم مجيئها بغير قدرةِ الله تعالى وغرادته حتى يجابوا بذلك وقوله تعالى {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذا جاءت لا يؤمنون} كلامٌ مستأنفٌ غيرُ داخلٍ تحت الأمرِ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى لبيان الحكمةِ الداعيةِ إلى ما أشعر به الجوابُ السابقُ من عدم مجيءِ الآياتِ خوطب به المسلمون إما خاصةً بطريق التلوينِ لمّا كانوا راغبين في نزولها طمعاً في إسلامهم وإما معه صلى الله عليه وسلم بطريق التعميم لما روي عنه صلى الله عليه وسلم من الهم بالدعاء وقد بُيّن فيه أن أيْمانَهم فاجرةٌ وإيمانُهم مما لا يدخلُ تحتَ الوجودِ وإن أجيب إلى ما سألوه وما استفهاميةٌ إنكاريةٌ لكن لا على أن مرجِعَ الإنكارِ هو وقوعُ المشعَرِ به بل هو نفسُ الإشعارِ مع تحقق المشعَرِ به في نفسه أي وأيُّ شيءٍ يُعلِمُكم أن الآيةَ التي يقترحونها إذا جاءت لا يؤمنون بل يبقَوْن على ما كانُوا عليهِ من الكفر والعناد أي لا تعلمون ذلك فتتمنّون مجيئها طمعاً في إيمانهم فكأنه بسطُ عذرٍ من جهة المسلمين في تمنيهم نزولَ الآياتِ وقيل لا مزيدةٌ فيتوجه الإنكارُ إلى الإشعار والمشعر به جميعاً أي أيُّ شيءٍ يعلمكم إيمانَهم عند مجيءِ الآياتِ حتى تتمنَّوا مجيئها طمعاً في إيمانهم فيكونُ تخطئةً لرأي المسلمين وقيل أنّ بمعنى لعل يقال ادخُل السوقَ أنك تشتري اللحمَ وعنك وعلّك ولعلك كلُّها بمعنى ويؤيده أنه قرىء لعلها إذا جاءت لا يؤمنون على أنَّ الكلامَ قد تمّ قبله والمفعولُ الثاني ليُشعرَكم محذوفٌ كما في قوله تعالى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يُزَكّى والجملة استئنافٌ لتعليل الإنكار وتقريرِه أي أيُّ شيءٍ يعلمكم حالَهم وما سيكون عند مجيءِ الآياتِ لعلها إذا جاءت لا يؤمنون بها فمالكم تتمنون مجيئها فإن تمنيته إنما يليقُ بما إذا كان إيمانُهم بها محقَّقَ الوجودِ عند مجيئِها لا مرجوَّ العدم وقرىء إنها بالكسر على أنه استئنافٌ حسبما سبق مع زيادة تحقيقٍ لعدم إيمانِهم وقرىء لا تؤمنون بالفوقانية فالخطابُ في وما يشعركم للمشركين وقرىء وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون فمرجِعُ الإنكارِ إقدامُ المشركين على الإقسام المذكورِ مع جهلهم بحال قلوبِهم عند مجيءِ الآياتِ وبكونها حينئذٍ كما هي الآن

110

{وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم} عطفٌ على لا يؤمنون داخلٌ في حكم ما يشعركم مقيدٌ بما قُيِّد به أي وما يُشعرُكم أنا نقلّب أفئدتَهم عن إدراك الحقِّ فلا يفقهونه وأبصارَهم عن اجتلائه فلا يُبصرونه لكن لا مَعَ توجهها إليها واستعدادِها لقبوله بل لكمال نُبوِّها عنه وإعراضِها بالكلية ولذلك أخِّر ذكرُه عن ذكر عدمِ إيمانِهم إشعاراً بأصالتهم في الكفر وحما لتوهُّم أن عدم إيمانِهم ناشىءٌ من تقليبه تعالى مشاعرَهم بطريق الإجبار {كَمَا لم يُؤْمِنُواْ بِهِ} أي بما جاء من الآيات {أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي عند ورودِ الآياتِ السابقةِ والكافُ في محل النصب على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ منصوبٌ بلا يؤمنون وما مصدريةٌ أي لا يؤمنون بل يكفرون كفراً كائناً ككفرهم أولَ مرةٍ وتوسيطُ تقليبِ الأفئدةِ والأبصارِ بينهما لأنه من متمّمات عدمِ إيمانهم {ونذرهم} عكف على لا يؤمنون داخلٌ في حكم الاستفهامِ الإنكاريِّ مقيدٌ بما قُيِّد به مبيِّنٌ لما هو المرادُ بتقليب الأفئدة

الأنعام آية 111 والأبصار ومعْرِبٌ عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره بأن يُقلِّب الله سبحانه مشاعِرَهم عن الحق مع توجههم إليه واستعدادِهم له بطريق الإجبارِ بل بأن يُخلِّيَهم وشأنَهم بعد ما عُلم فسادُ استعدادِهم وفرطُ نفورِهم عن الحق وعدمُ تأثيرِ اللطفِ فيهم أصلاً ويطبَعُ على قلوبهم حسبما يقتضيه استعدادُهم كما أشرنا إليه وقوله تعالى {فِي طغيانهم} متعلِّقٌ بنذرهم وقوله تعالى {يَعْمَهُونَ} حالٌ من الضميرِ المنصوبِ في نذرهم أي ندعُهم في طغيانهم متحيِّرين لا نهديهم هدايةَ المؤمنين أو مفعولٌ ثانٍ لنذرُهم أي نصيِّرهم عامِهين وقرىء يُقلِّب ويَذَرُ بالياءِ على إسنادِهما إلى ضمير الجلالةِ وقرىء تُقلَّبُ بالتاء والبناءِ للمفعول على إسناده إلى أفئدتهم

111

{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة} تصريحٌ بما أَشعَرَ به قولُه عزَّ وجلَّ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ منَ الحكمةِ الداعيةِ إلى ترك الإجابةِ إلى ما اقترحُوه من الآيات إثرَ بيانِ أنها في حكمه تعالى وقضائه المبنيِّ على الحِكَم البالغةِ لا مدخلَ لأحد في أمرها بوجه من الوجوه وبيانٌ لكذبهم في أيْمانهم الفاجرةِ على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه أي ولو أننا لم نقتصِرْ على إيتاء ما اقترحوه ههنا من آية واحدةٍ من الآيات بل نزلنا إليهم الملائكةَ كما سألوه بقولهم لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ وقولِهم لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة {وَكَلَّمَهُمُ الموتى} وشهدوا بحقية الإيمانِ بعد أن أحييناهم حسبما اقترحوه بقولهم فأتوا بأبائنا {وحشرنا} أي جميعا {عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً} بضمتين وقرىء بسكون الباء أي كفلاء بصحة الأمر وصدق النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم على أنه جمع قبيل بمعنى الكفيل كرغيف ورُغُف وقضيب وقُضُب وهو الأنسبُ بقولِه تعالى أَوْ تَأْتِىَ بالله والملائكة قَبِيلاً أي لو لم نقتصر على ما اقتحوه بل زدنا على ذلك بأ أحضرنا لديهم كلَّ شيءٍ يتأتّى منه الكفالةُ والشهادةُ بما ذُكر لا فرادى بل بطريق المعيةِ أو جماعاتٍ على أنه جمعُ قبيل وهو الأوفق لعموم كلِّ شيءٍ وشمولِه للأنواع والأصنافِ أي حشرنا كلَّ شيء نوعاً نوعاً وصنفاً صنفاً وفوجاً فوجاً وانتصابُه على الحالية وجمعيتُه باعتبار الكل المجموعيِّ اللازمِ للكل الإفراديِّ أو مقابلةً وعِياناً على أنه مصدرٌ كقِبَلا وقد قرىء كذلك وانتصابُه على الوجهين على أنه مصدرٌ في موقعِ الحالِ وقد نقل عن المبرِّد وجماعةٍ من أهل اللغة أن الأخيرَ بمعنى الجهة كما في قولك لي قِبَلَ فلانٍ حقٌّ وأن انتصابَه على الظرفية {مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} أي ما صح وما استقام لهم الإيمانُ لتماديهم في العصيان وغلوِّهم في التمرد والطُّغيانِ وأما سبق القضاءُ عليهم بالكفر فمن الأحكامِ المترتبةِ على ذلك حسبما ينبيء عنه قوله عز وجل وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وقوله تعالى {إَّلا أَن يشاء الله} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوالِ والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة أي ما كانوا ليؤمنوا بعد اجتماعِ ما ذُكِرَ منَ الأمورِ الموجبةِ للإيمان في حالٍ من الأحوالِ الداعيةِ إليه المتمِّمة لموجباته المذكورةِ إلا في حال مشيئتِه تعالى لإيمانهم أو من أعمِّ العللِ أي ما كانوا ليؤمنوا لعلة من العلل المعدودةِ وغيرِها إلا لمشيئته تعالى له وأيا ما كان فليس المرادُ بالاستثناء بيانَ أن إيمانَهم على خطر الوقوعِ بناءً على كون مشيئته

الأنعام آية 112 تعالى أيضاً كذلك بل بيانَ استحالةِ وقوعِه بناءً على استحالة وقوعِها كأنه قيل ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وهيهات ذلك وحالهم حال بدليل ما سبقَ من قولِه تعالى وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ الآية كيف لا وقولُه عز وجل {ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} استدراكٌ من مضمون الشرطيةِ بعد ورودِ الاستثناءِ لا قبله ولا ريب في أن الذي يجهلونه سواءٌ أريد بهم المسلمون وهو الظاهرُ أو المُقسِمون ليس عدمَ إيمانِهم بلا مشيئة الله تعالى كما هو اللازمُ من حمل النظمِ الكريمِ على المعنى الأولِ فإنه ليس مما يعتقده الأولون ولا مما يدّعيه الآخَرون بل إنما هو عدمُ غيمانهم لعدم مشيئته غيمانهم ومرجعه إلى جهلهلم بعدم مشيئته غياه فالعمنى أن حالَهم كما شُرح ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدم غيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدمَ مشيئتِه تعالى لإيمانهم فيتمنَّوْن مجيئَها طمعاً فيما لا يكون فالجملةُ مقرِّرةٌ لمضمون قوله تعالى وَمَا يُشْعِرُكُمْ الخ على القراءة المشهورة أو ولكن أكثرَ المشركين يجهلون عدمَ إيمانِهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدمَ مشيئتِه تعالى لإيمانهم حينئذ فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يكاد يكونُ فالجملةُ على القراءة السابقةِ بيانٌ مبتدأٌ لمنشأ خطأ المقسِمين ومناطِ إقسامهم وتقريرٌ له على قراءة لا تؤمنون بالتاء الفوقانية وكذا على قراءة ما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون

112

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً} كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لتسليةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عما كان يشاهده من عداوة قريش له عليه الصلاة والسلام وما بنَوْا عليها مما لا خير فيه من الأقاويل والأفاعيلِ ببيان أن ذلك ليس مختصاً بك بل هو أمرٌ ابتُليَ به كلُّ من سبَقك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أشير إليه بذلك منصوب بفعله المحذوف مؤكذا لما بعده وَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما يفهم مما قبله أي جَعَلْنَا لِكُلّ نبيَ عَدُوّاً والتقديمُ على الفعل المذكورِ للقصر المفيدِ للمبالغة أي مثلَ ذلك الجعلِ الذي جعلنا في حقك حيث جعلنا لك عدواً يُضادُّونك ويضارُّونك ولا يؤمنون ويبغونك الغوائلويدبرون في إبطال أمرِك مكايدَ جعلنا لكل نبيَ تقدمَك عدواً فعلوا بهم ما فعل بك أعداؤُك لا جعلاً أنقصَ منه وفيه دليلٌ على أنَّ عداوةَ الكفرةِ للأنبياء عليهم السلام بخلقه تعالى للابتلاء {شياطين الإنس والجن} أي مَرَدةَ الفريقين على أن الإضافةَ بمعنى مِنْ البيانية وقيل هي إضافةُ الصفةِ إلى الموصوف والأصلُ الإنسُ والجنُّ الشياطين وقيل هي بمعنى اللام أي الشياطين التي للإنس والتي للجن وهو بدلٌ من عدواً والجَعلُ متعدٍ إلى واحد أو إلى اثنين وهو أولُ مفعوليْه قُدِّم عليه الثاني مسارعةً إلى بيان العداوةِ واللام على التقديرين متعلقةٌ بالجعل أو بمحذوفٍ هو حالٌ من عدواً وقوله تعالى {يوحى بعضهم إلى بعض} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أحكامِ عداوتِهم وتحقيقُ وجهِ الشبهِ بين المشبهِ والمشبَّه به أو حالٌ من الشياطين أو نعتٌ لعدواً وجمعُ الضميرِ باعتبار المعنى فإنه عبارةٌ عن الأعداء كما في قوله ... إذَا أنا لم أنفعْ صديقي بودّه فإن عدوِّي لم يضُرَّهمو بغضي والوحيُ عبارةٌ عن الإيماء والقول السريعِ أي يلقى

الأنعام 113 114 ويوسوس شياطينُ الجنِّ إلى شياطينِ الإنسِ أو بعضُ كلَ من الفريقين إلى بعض آخَرَ {زُخْرُفَ القول} أي المموَّهَ منه المزيَّنَ ظاهرُه الباطلَ باطنُه من زخرفه إذ زيّنه {غُرُوراً} مفعول له ليوحي أي ليغرهم أو مصدرٌ في موقعِ الحال أي غارّين أو مصدر مؤكد لفعل مقدر هو حال من فاعل يوحى أي يغرونغرورا {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ} رجوعٌ إلى بيان الشئون الجارية بينه صلى الله عليه وسلم وبين قومِه المفهومةِ من حكايةِ ما جَرَى بينَ الأنبياء عليهم السلام وبيم أُممِهم كما يُنْبىءُ عنه الالتفاتُ والتعرضُ لوصفِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم المُعرِبة عن كمال اللطفِ في التسلية أي ولو شاء ربُّك عدمَ الأمورِ المذكورةِ لا إيمانَهم كما قيل فإن القاعدةَ المستمرةَ أن مفعولَ المشيئةِ إنما يحذف عند وقوعِها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاء وهو قوله تعالى {مَّا فَعَلُوهُ} أي ما فعلوا ما ذكر من عداوتك وإيحاءِ بعضهم إلى بعض مزخرفاتِ الأقاويلِ الباطلةِ المتعلقةِ بأمرك خاصة لا بما يعمّه وأمورَ الأنبياءِ عليهم السلام أيضاً كما قيلَ فإنَّ قولَه تعالى {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} صريحٌ في أنَّ المرادَ بهم الكفرةُ المعاصرون له عليه الصلاة والسلام أي إذا كان ما فعلوه من أحكام عداوتِك من فنون المفاسد بمشيئته تعالى فاترُكْهم وافتراءَهم أو وما يفترونه من أنواع المكايدِ فإن لهم في ذلك عقوباتٍ شديدةً ولك عواقبُ حميدةٌ لابتناء مشيئتِه تعالى على الحِكَم البالغة البتة

113

{ولتصغى إِلَيْهِ} أي إلى زُخرُفِ القولِ وهو على الوجه الأولِ علة أخرى للإيحاء معطوفةٌ على غروراً وما بينهما اعتراضٌ وإنما لم ينصَبْ لفقد شرطِه إذ الغرورُ فعلُ الموحي وصغْوُ الأفئدةِ فعلُ الموحى إليه أي يوحي بعضُهم إلى بعض زُخْرفَ القولِ ليغرهم به ولتميل إليه {أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} إنما خصَّ بالذكر عدمُ إيمانِهم بالآخرة دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمانُ بها وهم بها كافرون إشعاراً بما هو المدارُ في صغْو أفئدتِهم إلى ما يُلقى إليهم فإن لذّاتِ الآخرةِ محفوفةٌ في هذه النشأةِ بالمكاره وآلامُها مزينةٌ بالشهوات فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراءَ تلك المكاره لذات ودون الشهواتِ آلاماً وإنما ينظُرون إلى ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي فهم مضطرون إلى حبّ الشهواتِ التي من جملها مزخْرَفاتُ الأقاويلِ ومُموَّهاتُ الأباطيل وأما المؤمنون بها فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحالِ ناظرين إلى عواقب الأمورِ لم يُتصوَّر منهم الميلُ إلى تلك المزخرَفاتِ لعلهم ببطلانها ووخامة عاقبتِها وأما على الوجهين الأخيرين فهو علةٌ لفعلٍ محذوف يدلُّ عليه المقامُ أي ولكون ذلك جعلنا ما جعلنا والمعتزلةُ جعلوا اللامَ لامَ العاقبةِ أو لام القسَم أو لامَ الأمر وضعفُه في غاية الظهور {وَلِيَرْضَوْهُ} لأنفسم بعد ما مالت إليه أفئدتهم {وَلِيَقْتَرِفُواْ} أي يكتسبوا بموجب ارتضائِهم له {مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} له من القبائح التي لا يليق ذكرُها

114

{أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِى حَكَماً} كلامٌ مستأنفٌ واردٌ على إرادة القول والهمزة

الأنعام آية 114 للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه الكلامُ أي قل لهم أأمِيلُ إلى زخارف الشياطينِ فأبتغيَ حكماً غيرَ الله يحكمُ بيننا ويفصل المحِقَّ منا من المبْطِل وقيل إن مشركي قريشٍ قالُوا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرَنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت وإسنادُ الابتغاءِ المنكرِ إلى نفسه صلى الله عليه وسلم لا إلى المشركين كما في قوله تعالى أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ مع أنهم الباغون لإظهار كمالِ النَّصَفةِ أو لمراعاة قولِهم اجعل بيننا وبينك حكما وغيرَ إما مفعولُ أبتغي وحكَماً حالٌ منه وإما بالعكس وأياً ما كان فتقديمُه على الفعل الذي هو المعطوفُ بالفاء حقيقةً كما أشير إليه للإيذان بأن مدارالإنكار هو ابتغاءُ غيرِه تعالى حكماً لا مطلقُ الابتغاء وقيل حكماً تمييزٌ لما في غيرَ من الإبهام كقولهم إن لنا غيرَها إبلاً قالوا الحكَمُ أبلغُ من الحاكمِ وأدلُّ على الرسوخ لما أنه لا يُطلق إلا على العادل وعلى مَنْ تكرَّر منه الحكمُ بخلاف الحاكم وقوله تعالى {وَهُوَ الذى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب} جملةٌ حاليةٌ مؤكدةٌ لإنكارِ ابتغاءِ غيرِه تعالى حكماً ونسبةُ الإنزالِ إليهم خاصةً مع أن مقتضى المقامِ إظهارُ تساوي نسبته إلى المتحاكمين لاستمالتعهم نحوَ المُنْزَل واستنزالِهم إلى قبول حكمه بإبهام قوةِ نسبتِه إليهم أي أغيرَه تعالى أبتغي حكَماً والحالُ أنه هو الذي أنزل غليكم وأنتم أمِّية لا تدرون ما تأتونَ وما تذرونَ القرآنَ الناطقَ بالحق والصوابِ الحقيقُ بأن يُخصَّ به اسمُ الكتاب {مُفَصَّلاً} أي مبيناً فيه الحقُّ والباطلُ والحلالُ والحرامِ وغيرُ ذلك من الأحكام بحيث لم يبْقَ في أمور الدينِ شيءٌ من التخليط والإبهامِ فأيُّ حاجة بعد ذلك إلى الحكم وهذا كما ترى صريحٌ في أن القرآنَ الكريمَ كافٍ في أمر الدينِ مغنٍ عن غيره ببيانه وتفصيلِه وأما أن يكون لإعجازه دخْلٌ في ذلك كما قيل فلا وقوله تعالى {والذين آتيناهم الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بالحق} كلامٌ مستأنفٌ غيرُ داخلٍ تحت القولِ المقدَّر مَسوقٌ من جهته سبحانه لتحقيق حقِّيةِ الكتابِ الذي نيط به أمرُ الحَكَمية وتقريرِ كونِه منزلا من عنده عزَّ وجلَّ ببيانِ أنَّ الذين وثِقوا بهم ورضوا بحَكَميّتهم حسبما نُقل آنفاً من علماء اليهودِ والنصارى عالمون بحقيته ونزولِه من عنده تعالى وفي التعبير عن التوراة والإنجيلِ باسم الكتابِ إيماءٌ إلى ما بينهما وبين القرآنِ من المجانسة المقتضيةِ للاشتراك في الحقية والنزولِ من عنده تعالى مع ما فيه من الإيجاز وإيراد الطائفتين بعنون إيتاءِ الكتابِ للإيذان بأنهم علِموه من جهة كتابِهم حيث وجدوه حسبما نُعت فيه وعاينوه موافِقاً له في الأصول ما لا يختف من الفروع ومُخبِراً عن أمور لا طريقَ إلى معرفتها سوى الوحي والمرادُ بالموصول إما علماءُ الفريقين وهو الظاهرُ فالإيتاءُ هو التفهيمُ بالفعل وإما الكلُّ وهم داخلون فيه دخولا أولياً فهو أعمُّ مما ذكر ومن التفهيم بالقوة ولا ريب في أن الكل متمكنون من ذلك وقبل المرادُ مؤمنوا أهلِ الكتاب وقرىء مُنْزلٌ من الإنزال والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والباء في قوله تعالى بالحق متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الضَّمير المستكنِّ في مُنزّلٌ أي ملتبساً بالحق {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي في أنهم يعلمون ذلك لما لا تشاهِد منهم آثارَ العلم وأحكام المعرفة فالفاء لترتيب النهي على الإخبار بعلم أهل الكتاب بشأن القرآنِ أو في أنه منزلٌ من ربك بالحق فيكونُ منْ بابِ التَّهييج والإلهابِ كقوله تعالى وَلاَ تَكُونَنَّ من

الأنعام آية 115 116 المشركين وقيل الخطابُ في الحقيقة للأمة وإن كان له صلى الله عليه وسلم صورةً وقيلَ الخطابُ لكلِّ أحدٍ على معنى أن الأدلةَ قد تعاضدت وتظاهرت فلا ينبغي لأحد أن يمتريَ فيه والفاءُ على هذه الوجوهِ لترتيب النهي على نفس علمِهم بحال القرآن

115

{وتمت كلمة رَبّكَ} شروعٌ في بيان كمالِ الكتابِ المذكورِ من حيث ذاتُه إثرَ بيانِ كمالِه من حيث إضافتُه إليه تعالى بكونه منزلاً منه بالحق وتحقيقُ ذلك بعلم أهلِ الكتاب به وإنما عبر عنه بالكلمة لأنها الأصلُ في الاتصاف بالصدق والعدلِ وبها تظهر الآثارُ من الحكم وقرىء كلماتُ ربك {صِدْقاً وَعَدْلاً} مصدران نصبا على الحال وقيل على التمييز وقيل على العلة وقوله تعالى {لاَ مُبَدّلَ لكلماته} إما استئنافٌ مبينٌ لفضلها على غيرها إثرَ بيانِ فضلِها في نفسها وإما حالٌ أخرى من فاعلِ تمت على أن الظاهرَ مغنٍ عن الضمير الرابطِ والمعنى أنها بلغت القاصيةَ صدقاً في الإخبار والمواعيدِ وعدلاً في الأقضية والأحكامِ لا أحدَ يبدل شيئاً من ذلك بما هو أصدقُ وأعدلُ ولا بما هو مثلُه فكيف يُتصوّر ابتغاءُ حكمٍ غيرِه تعالى {وَهُوَ السميع} لكل ما يتعلق به السميع {العليم} بكل ما يمكن أن يُعلم فيدخُلُ في ذلك أقوالُ المتحاكمين وأحوالُهم الظاهرةُ والباطنةُ دخولاً أولياً هذا وقد قيل المعنى لا أحدَ يقدِر على أن يحرِّفها كما فُعل بالتوراة فيكونُ ضماناً لها من الله عز وجل بالحفظ كقوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون أو لا نبيَّ ولا كتابَ بعدها ينسخها

116

{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الارض} لما تحقق اختصاصهتعالى بالحكمية لاستقلاله بما يوجبها من إنزال الكتابِ الكاملِ الفاصلِ بين الحقِّ والباطلِ وتمامِ صدقِ كلامِه وكمالِ عدالةِ أحكامِه وامتناعِ وجودِ من يبدل شيئاً منها واستبدادِه تعالى بالإحاطة التامةِ بجميع المسموعات والمعلومات عقّب ذلك ببيان أن الكفرةَ متصفون بنقائض تلك الكمالاتِ من النقائض التي هي الضلالُ والإضلالُ واتباعُ الظنونِ الفاسدةِ الناشىءُ من الجهل والكذبِ على الله سبحانه وتعالى إبانةً لكمال مباينةِ حالِهم لما يرومونه وتحذيراً عن الرّكون إليهم والعملِ بآرائهم والمرادُ بمن في الأرض الناسُ وبأكثرهم الكفارُ وقيل أهلُ مكةَ والأرضُ أرضُها أي إن تُطِعهم بأن جعلتَ منهم حكَماً {يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله} عن الطريق الموصلِ إليه أو عن الشريعة التي شرعها لعباده {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} وهو ظمنهم أن آباءَهم كانوا على الحق فهم على آثارهم يهتدون أو جهالاتُهم وآراؤهم الباطلةُ على أن المرادَ بالظن ما يقابل العلم والجملةُ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الشرطية كأنه قيل كيف يضلون فقيل لا يتبعون في أمور دينِهم إلا الظنَّ وإنّ الظنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شيئاً فيضلون ضلالاً مبيناً ولا ريبَ في أن الضالَّ المتصدّيَ للإرشاد إنما يُرشد غيرَه إلى مسلك نفسه فهو ضالون مضِلّون وقوله تعالى {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} عطف على ما قبله داخلٌ في حُكمهِ أيْ يكذِبون على الله سبحانه فيما ينسُبون إليه تعالى كاتخاذ الولد وجعل

الأنعام آية 117 119 عبادةِ الأوثانِ ذريعةً إليه تعالى وتحليل الميتة زوتحريم البحائرِ ونظائرِها أو يقدّرون أنهم على شيء وأنّى لهم ذلك ودونه مناطُ العَيُّوقِ وحقيقتُه ما يقال عن ظن وتخمين

117

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} تقريرٌ لمضمون الشرطيةِ وما بعدها وتأكيدٌ لما يفيده من التحذير أي هو أعلمُ بالفريقين فاحذر أن تكون من الأولين ومَن موصولةٌ أو موصوفةٌ في محل النصبِ لا بنفس أعلمُ فإن أفعلَ التفضيلِ لا ينصِبُ الظاهرَ في مثل هذه الصور بل بفعل دلَّ هو عليه أو استفهاميةٌ مرفوعة بالابتداء والخبرُ يَضِلّ والجملةُ معلقٌ عنها الفعلُ المقدر وقرىء يُضِل بضم الياء على أن من فاعلٌ ليُضِل ومفعولُه محذوفٌ ومحلها النصب بما ذكر من الفعل المقدر أي هو أعلم يعلم من يُضِل الناسَ فيكون تأكيد للتحذير عن طاعة الكفرةِ وأما أن الفاعلَ هو الله تعالى ومَنْ منصوبةٌ بما ذكر أي يعلم مَنْ يُضِلّه أو مجرورةٌ بإضافة أعلمإليها أي أعلمُ المُضِلّين مِنْ قوله تعالى مَن يُضْلِلِ الله أو من قولك أضللتُه إذا وجدتُه ضالاً فلا يساعده السباقُ والسياقُ والتفضيلُ في العلم بكثرته وإحاطتِه بالوجوه التي يمكن تعلّقُ العلمِ بها ولزومُه وكونُه بالذات لا بالغير

118

{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} أمرٌ مترتبٌ على النهي عن اتباع المُضلّين الذين من جملة إضلالهم تحليل الحلال وتحريم الحرام وذلك أنهم كانوا يقولولن للمسلمين إنكم تعبدون الله فما قتله الله أحقُّ أن تأكُلوه مما قتلتم أنتم فقيل للمسلمين كلوا ممّا ذُكر اسمُه تعالى خاصة على ذبحه لا مما ذكر عليه اسمُ غيرِه فقط أو مع اسمه تعالى أو مات حتفَ أنفِه {إِن كُنتُم بآياته} التي منْ جُملتها الآياتُ الواردةُ في هذا الشأن {مُّؤْمِنِينَ} فإن الإيمانَ بها يقتضي استباحةَ ما أحله الله والاجتنابِ عما حرمه وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه

119

{وما لكم ألا تأكُلوا مما ذكر اسم الله عَلَيْهِ} إنكارٌ لأنْ يكونَ لهُم شيءٌ يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذُكر عليه اسمُ الله تعالى من البحائر والسوائبِ ونحوِها وقوله تعالى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم} الخ جملةٌ حاليةٌ مؤكدةٌ للإنكار كما في قوله تعالى وَمَا لَنَا أَن لا نقاتل فِى سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وأبناءئنا أي وأيُّ سببٍ حاصلٍ لكُم في أَن لا تَأْكُلُواْ مِمَّا ذكر اسم الله عليه أو وأيُّ غرضٍ يحمِلُكم على أن لا تأكلوا ويمنعُكم من أكله والحالُ أنه قد فصل لكم {مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} بقوله تعالى قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا الخ فبقي ما عدا ذلك على الحِلّ لا بقوله تعالى حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة الخ لأنها مدنية وأما التأخرُ في التلاوة فلا يوجبُ التأخّرَ في النزول وقُرِىءَ الفعلانِ على البناءِ للمفعول وقرىء الأول على البناء للفاعل والثاني للمفعول {إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ} مما حرّم فإنه أيضاً حلالٌ حينئذ {وَإِنَّ كثيرا} أي من

الأنعام آية 120 122 الكفار {لَّيُضِلُّونَ} الناسَ بتحريم الحلالِ وتحليلِ الحرام كعمرو بن لحى وأضرا به وقرىء {يَضِلّون} بِأَهْوَائِهِم الزائغةِ وشهواتِهم الباطلة {بِغَيْرِ عِلْمٍ} مقتبسٍ من الشريعة الشريفة مستندٍ إلى الوحي {إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين} المتجاوزين لحدود الحقِّ إلى الباطل والحلالِ إلى الحرام

120

{وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ} أي ما يُعلن من الذنوب وما يُسَرّ أو ما يعمل منها بالجوارح وما بالقلب وقيل الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخدان {إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم} أي يكتسبونه من الظاهر والباطن {سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} كائناً ما كان فلا بد من اجتنابهما والجملةُ تعليلٌ للأمر

121

{وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} ظاهرٌ في تحريم متروكِ التسميةِ عمْداً كان أو نسياناً وإليه ذهب داودُ وعن أحمد بن جنبل مثلُه وقال مالك والشافعي بخلافهلقوله صلى الله عليه وسلم ذبيحةُ المسلم حلالٌ وإن لم يذكر اسم الله عليه وفرق أبو حنيفة بين العمْد والنسيانِ وأوّله بالميتة أو بما ذكر عليه اسمُ غيرِه تعالى لقوله {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فإن الفسقَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله والضميرُ لما ويجوز أن يكون للأكل المدلولِ عليه بلا تأكلوا والجملةُ مستأنفةٌ وقيل حالية {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ} المرادُ بالشياطين إبليسُ وجنودُه فإيحاؤهم وسوستُهم إلى المشركين وقيل مرَدةُ المجوسِ فإيحاؤهم إلى أولياؤهم ما أَنْهَوا إلى قريشٍ بالكتاب أن محمداً وأصحابَه يزعُمون أنهم يتبعون أمرَ الله ثم يزعُمون أن ما يقتلونه حلالٌ وما يقتله الله حرام {ليجادلوكم} أي بالوساوس الشيطانيةِ أو بما نقل من أباطيلِ المجوسوهو يؤيد التأويلَ بالميتة {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} في استحلالِ الحرامِ وساعدتموهم على أباطيلهم {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} ضرورةَ أن من ترك طاعةَ الله إلى طاعة غيرِه واتبعه في دينه فقد أشركه به تعالى بل آثرَه عليه سبحانه

122

{أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا} وقرىء ميِّتاً على الأصل {فأحييناه} تمثيلٌ مَسوقٌ لتنفير المسلمين عن طاعة المشركينإثر تحذريهم عنها بالإشارة إلى أنهم مستضيئون بأنوار الوحي الإلهي والمشركون خابطون في ظلمات الكفرِ والطغيانِ فكيف يُعقل إطاعتُهم لهم والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ والواوُ لعطف الجملةِ الاسميةِ على مثلها الذي يدل عليه الكلامُ أي أأنتم مثلُهم ومَنْ كان ميتاً فأعطيناه الحياةَ وما يتبعُها منَ القوى المُدْرِكة والمحرِّكة {وَجَعَلْنَا لَهُ} مع ذلك من الخارج {نُوراً} عظيماً {يَمْشِي بِهِ} أي بسببه والجملةُ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيل فماذا يصنع بذلك النورِ فقيل يَمْشِي بِهِ {فِى الناس} أي فيم بينهم آمِناً من جهتهم أو صفةٌ له {كَمَن مَّثَلُهُ} أي صفتُه العجيبةُ وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {فِى الظلمات} خبرُه على أن

الأنعام آية 123 المرادَ بهما اللفظُ لا المعنى كما في قولك زيدٌ صفتُه اسمرُ وهذه الجملةُ صلةٌ لمن وهي مجرورةٌ بالكاف وهي مع مجرورها خبرٌ لمن الأولى وقوله تعالى {لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا} حالٌ من المستكن في الظرف وقيل من الموصول أي غيرُ خارجٍ منها بحال وهذا كما ترى مثل ما أريد به من بقي في الضلالة بحيث لا يفارقها أصلاً كما أن الأولَ مثَلٌ أريد به مَنْ خَلقه الله تعالى على فطرة الإسلامِ وهداه بالآيات البينةِ إلى طريق الحقِّ يسلُكه كيف يشاء لكن لا على أن يدل على كل واحدٍ من هذه المعاني بما يليقُ بهِ من الألفاظ الواردةِ في المثَلين بواسطة تشبيهِه بما يناسبه من معانيها فإن ألفاظَ المثَلِ باقيةٌ في معانيها الأصلية بل على أنه قد انتُزعت من الأمور المتعددةِ المعتبرةِ في كلِّ واحدٍ من جانبي الممثلين هيئة على حدة ومن الأمور المتعددة المذكورة في كل كل واحدٍ من جانبي المَثَلين هيئةٌ على حِدَة فشبهت بهما الأوليان زنزلنا منزلتيهما فاستُعمل فيهما ما يدل على الأُخْريين بضرب من التجوّز وقد أشير في تفسيرِ قولِه تعالى خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ الآية إلى أن التمثيلَ قسمٌ برأسه لا سبيل إلى جعله من باب الاستعارةِ حقيقةً وأن الاستعارةَ التمثيليةَ من عبارات المتأخرين نعم قد يجري ذلك على سنن الاستعارةِ بأن لا يُذكرَ المشبّه كهذين التمثيلين ونظائرِهما وقد يجري على منهاج التشبيه كما في قوله ... وما الناسُ إلا كالديار وأهلُها بها يوم حلوها وغدوابلاقع {كذلك} أي مثلَ ذلك التزيينِ البليغ {زُيّنَ} أي من جهة الله تعالى بطريق الخلق عند إيحاءِ الشياطينِ أو من جهة الشياطين بطريق الزخرفةِ والتسويلِ {للكافرين} التابعين للوساوس الشيطانيةِ الآخذين بالمُزخْرَفات التي يوحونها إليهم {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ما استمرّوا على عمله من فنون الكفر والمعاصي التي من جملتها ما حُكي عنهُم من القبائحِ فإنها لو لم تكن مُزينةً لهم لما أصروا عليها ولما جادلوا بها الحقَّ وقيل الآية نزلت في حمزةَ رضي الله عنه وأبي جهلٍ وقيل في عمر أو عمار رضي الله عنهما وأبي جهل

123

{وكذلك} قيل معناه كما جعلنا في مكةَ أكابرَ مجرميها ليمكروا فيها {جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ} من سائر القرى {أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} ومفعولا جعلنا أكابرَ مجرميها على تقديم المفعولِ الثاني والظرفُ لغو أو هما الظرف وأكبر على أن مجرميها بدلٌ أو مضافٌ إليه فإنَّ أفعلَ التفضيلِ إذا أُضيف جاز الإفرادُ والمطابقةُ ولذلك قرىء أكبرَ مجرميها وقيل أكابرَ مجرميها مفعولُه الأولُ والثاني ليمكروا فيها ولا يخفى أن أيَّ معنى يراد من هذه المعاني لا بد أن يكون مشهود التحققِ عند الناسِ معهوداً فيما بينهم حتى يصلُحَ أن تُصرَفَ الإشارةُ عن سياق النظمِ الكريمِ وتوجَّهَ إليه ويُجعلَ مقياساً لنظائره بإخراجه مُخرجَ المصدرِ التشبيهيِّ وظاهرٌ أنْ ليس الأمرُ كذلك ولا سبيلَ إلى توجيهها إلى ما يُفهم من قولِه تعالَى كَذَلِكَ زُيّنَ للكافرين مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وإن كان المرادُ بهم أكابرَ مكةَ لأن مآلَ المعنى حينئذ بعد اللتيا والتي كما جعلنا أعمالَ أهل مكة مزينة لهكم جعلنا في كل قرية أكابرَ مجرميها الخ فإذن الأقربُ إِنَّ ذلك إشارةٌ إلى الكفَرة المعهودين باعتبار اتصافِهم بصفاتهم والإفرادُ بتأويل الفريقِ أو المذكور ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنه المفعولُ الثاني لجعلنا قدم

الأنعام آية 124 عليه لإفادة التخصيصِ كما في قوله تعالى كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ الآية والأولُ أكابرَ مجرميها والظرف لغو أي ومثلَ أولئك الكفرةِ الذين هم صناديدُ مكةَ ومجرموها جعلنا في كل قريةٍ أكابرَها المجرمين أي جعلناهم متصفين بصفات المذكورين مزيَّناً لهم أعمالُهم مُصِرّين على الباطل مجادلين به الحقَّ ليمكروا فيها أي ليفعلوا المكرَ فيها وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ} اعتراضٌ على سبيل الوعدِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والوعيدِ للكفرة أي وما تحيقُ غائلةُ مكرِهم إلا بهم {وَمَا يَشْعُرُونَ} حال من ضمير يمكرون مع اعتبار ورود الاستثناء على النفي أي إنما يمكرون بأنفسهم والحالُ أنهم ما يشعُرون بذلك أصلاً بل يزعُمون أنهم يمكرون بغيرهم وقوله تعالى

124

{وإذا جاءتهم آية} رجوعٌ إلى بيان حالِ مجرمي أهلِ مكةَ بعد ما بُيِّن بطريق التسليةِ أن حالَ غيرِهم أيضاً كذلك وأن عاقبةَ مكرِ الكلِّ ما ذُكر فإن العظيمةَ المنقولةَ إنما صدَرت عنهم لا عن سائر المجرمين أي إذا جاءتهم آية بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى {مثل ما أوتى رسل الله} قال ابن عباس رضي الله عنهما حتى يوحيَ إلينا ويأتيَنا جبريلُ عليه السلام فيخبرَنا أن محمداً صادق كما قالوا أَوْ تَأْتِىَ بالله والملائكة قَبِيلاً وعن الحسن البصْري مثلُه وهذا كما ترى صريحٌ ي أن ما عُلّق بإيتاء ما أوتيَ الرسلُ عليهم الصلاة والسلام هو إيمانُهم برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه إيماناً حقيقياً كما هُو المتبادَرُ منه عند الإطلاقِ خلا أنه يستدعي أن يُحمل ما أوتى رسل الله على مطلق الوحي ومخاطبةِ جبريلُ عليهِ السَّلامُ في الجملة ة وأن تُصرفَ الرسالةُ في قوله تعالى {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} عن ظاهرها وتُحملَ على رسالة جبريلَ عليه السلام بالوجه المذكور ويُرادَ بجعلها تبليغُها إلى المرسَل إليه لا وضعُها في موضعها الذي هو الرسول ليتأتّى كونُه جوبا عن اقتراحهم ورداً له بأن يكونَ معنى الاقتراحِ لن نؤمنَ بكون تلك الآيةِ نازلةً من عند الله تعالى إلى الرسول حتى يأتينا بالذات عينانا كما يأتي الرسولُ فيخبرُنا بذلك ومعنى الردّ الله أعلم مَنْ يليقُ بإرسال جبريلَ عليه السلام إليه لأمر من الأمور إيذاناً بأنهم بمعزل من استحقاق ذلك التشريفِ وفيه من التمحُّل ما لا يخفى وقال مقاتلٌ نزلتْ في أبي جهلٍ حين قال زاحَمْنا بني عبدِ منافٍ في الشرف حتى إذا صِرْنا كفرَسَيْ رهانٍ قالوا أمنا نبيٌّ يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتّبعه أبداً حتى يأتيَنا وحيٌ كما يأتيه وقال الضحاك سأل كلُّ واحد من القوم أن يُخَصّ بالرسالة والوحي كما أخبر الله تعالى عنْهُم فِي قوله بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً ولا يخفى أنَّ كلَّ واحدٍ من هذين القولين وإن كان مناسباً للرد المذكورِ لكنه يقتضي أن يراد بالإيمان المُعلَّقِ بإيتاء ما أوتيَ الرسلُ مجردُ تصديقِهم برسالته عليه الصلاة والسلام في الجملة من غير شمولٍ لكافة الناس وأن تكون كلمةُ حتى في قول اللعينِ حتى يأتيَنا وحيٌ كما يأتيه الخ غايةً لعدم الرضا لا لعدم الاتباعِ فإنه مقررٌ على تقديرَيْ إيتاءِ الوحي وعدمِه فالمعنى لن نؤمنَ برسالته أصلاً حتى نؤتى نحن من الوحي والنبوة مثل ما أوتى رسل الله أو

الأنعام آية 125 إيتاءً مثلَ إيتاءِ رسلِ الله وأما ما قيل من أن الوليدَ بنَ المغيرةِ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو كانت النبوةُ حقاً لكنتُ أولى بها منك لأني أكبرُ منك سناً وأكثرُ منك مالاً وولداً فنزلت فلا تعلُّقَ له بكلامهم المردودِ إلا أن يرادَ بالإيمان المعلَّقِ بما ذكر مجردُ الإيمانِ بكون الآيةِ النازلةِ وحياً صادقاً لا الإيمانِ بكونها نازلةً إليه عليه الصلاة والسلام فيكون المعنى وإذا جاءتهم آيةٌ نازلةٌ إلى الرسول قالوا لن نؤمنَ بنزولها من عند الله حختى يكونَ نزولُها إلينا لا إليه لأنا نحن المستحقون دونه فإن مُلخّصَ معنى قولِه لو كانت النبوةُ حقاً الخ لو كان ما تدّعيه من النبوة حقاً لكنتُ أنا النبيَّ لا أنت وإذ لم يكُنِ الأمرُ كذلكَ فليست بحق وماله تعليقُ الإيمانِ بحقية النبوةِ بكون نفسِه نبياً ومثلَ ما أُوتيَ نُصب على أنه نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أي حتنى نؤتاها إيتاءً مثلَ إيتاءِ رسلِ الله وإضافةُ الإيتاءِ إليهم لأنهم منكِرون لإيتائه صلى الله عليه وسلم وحيث نُصب على المفعولية توسعاً لا بنفس أعلمُ لما عرفتَ من أنَّه لا يعمل في الظاهر بل يفعل دلَّ هو عليه أي هو أعلمُ يعلم الموضِعَ الذي يضعها فيه والمعنى أن منصِبَ الرسالةِ ليس مما ينال بكثرة المالِ والولدِ وتعاضُدِ الأسبابِ والعدد وإنما يُنال بفضائلَ نفسانيةٍ يخُصّها الله تعالى بمن يشاء من خُلّص عبادِه وقرىء رسالاتِه {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ} استئنافٌ آخرُ ناعٍ عليهم ما سيلقونه من فنون الشر بعد مانعى عليهم حِرمانَهم مما أمّلوه والسين للتأكيد ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ للإشعار بأن إصابةَ ما يصيبهم لإجرامهم المستتبِعِ لجميع الشرورِ والقبائحِ أي يصيبهم البتةَ مكانَ ما تمنَّوْه وعلّقوا به أطماعَهم الفارغةَ من عزة النبوة وشرفِ الرسالة {صَغَارٌ} أي ذلة وحقارة بعد كِبْرِهم {عَندَ الله} أي يوم القيامة وقيل من عند الله {وَعَذَابٌ شَدِيدٌ} في الآخرةِ أو في الدنيا {بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ} أي بسبب مكرِهم المستمرِّ أو بمقابلته وحيث كان هذا من معظم موادِّ إجرامِهم صُرّح بسببيته

125

{فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ} أي يُعرِّفه طريقَ الحقِّ ويوفِّقَه للإيمان {يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام} فيتسعَ له وينفتح وهو كنايةٌ عن جعل النفس قابلةً للحق مهيئة لحلوله فيها مصفّاةً عما يمنعه وينافيه وإليه أشارَ عليه الصَّلاةُ والسلامُ حين سئل فقال نورٌ يقذِفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفتح فقالوا هل لذلك من أمارة يُعرف بها فقال نعم الإنابةُ إلى دارِ الخُلودِ والإعراضُ عن دار الغرورِ والاستعدادُ للموت قبل نزوله {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} أي يخلُقَ فيه الضلالَ بصرفِ اختيارِه إليه {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً} بحيث ينبو عن قَبول الحقِّ فلا يكاد يدخله الإيمانُ وقرىء ضَيْقاً بالتخفيف وحرِجاً بكسر الراء أي شديد الضيق والأولُ مصدرٌ وُصف به مبالغةً {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ} ما هذه مُهيِّئةٌ لدخول كأنّ على الجمل الفعلية {فِى السماء} شِبْهٌ للمبالغة في ضيق صدرِه بمن يزاول ما لا يكادُ يُقدر عليه فإن صعودَ السماءِ مثلٌ فيما هو خارجٌ عن دائرة الاستطاعة وفيه تنبيه على أن الإيمانَ يمتنع منه كما يمتنع منه الصعودُ وقيل معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبُوّاً عن الحق وتباعداً في الهرب منه وأصلُ يصعّد يتصعّد وقدقرىء به وقرىء يصّاعد وأصله يتصاعد {كذلك} أي مثلَ ذلك الجعلِ الذي هو جعل الصدر حرجا

الأنعام آية 126 128 على الوجه المذكور {يَجْعَلُ الله الرجس} أي العذابَ أو الخِذلانَ قال مجاهدٌ الرجس مالا خيرَ فيه وقال الزجاج الرجسُ اللعنةُ في الدنيا والعذابُ في الآخرة {عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} أي عليهم ووضعُ الموصول موضعَ المضمرِ للإشعار بأن جعلَه تعالى معلَّلٌ بما في حيز الصلة من كمال نبُوِّهم عن الإيمان وإصرارِهم على الكفر

126

{وهذا} أي البيانُ الذي جاء به القرآنُ أو الإسلامُ أو ما سبق من التوفيق والخذلان {صراط رَبّكَ} أي طريقُه الذي ارتضاه أو عادتُه وطريقتُه التي اقتضتها حِكمتُه وفي التعرض لعنوان الربيوبية إيذانٌ بأن تقويمَ ذلك الصراطِ للتربية وإفاضةِ الكمال {مُّسْتَقِيماً} لا عِوَج فيه أو عادلا مطردا وهو حالٌ مؤكدة كقوله تعالى وَهُوَ الحق مُصَدّقًا والعاملُ فيها معنى الإشارةِ {قَدْ فصلنا الآيات} ببناها مفصلةً {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} يتذكرون ما في تضاعيفها فيعلمون أن كلَّ ما يحدُث من الحوادث خيرا كان أو شرا فإنما يحدُث بقضاء الله تعالى وخلقِه وأنه تعالى عالمٌ بأحوال العبادِ حكيمٌ عادلٌ فيما يفعل بهم وتخصيصُ القومِ المذكورين بالذكر لأنهم المنتفِعون بتفصيل الآيات

127

{لَهُمْ دَارُ السلام} أي للمتذكرين دارُ السلامة من كل المكاره وهي الجنة {عِندَ رَبّهِمْ} أي في ضمانه أو ذخيرةٌ لهم عنده لا يعلم كُنهَها غيرُه تعالى {وَهُوَ وَلِيُّهُم} أي مولاهم وناصرُهم {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بسبب أعمالِهم الصالحةِ أو متولِّيهم بجزائها يتولى إيصالَه إليهم

128

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} منصوبٌ بمضمر إما على المفعولية أو الظرفية وقرىء بنون العظمةِ على الالتفاتِ لتهويل الأمرِ والضميرُ المنصوبُ لمن يُحشر من الثقلين أي واذكر يوم الحشر الثقلين قائلاً {يَا مَعْشَرَ الجن} أو ويوم يحشرهم يقول يا معشرَ الجنِّ أو ويوم يحشرهم ويقول يا معشرَ الجن يكونُ من الأحوال والأهوالمال لا يساعده لفظاعته والمعشرُ الجماعةُ والمرادُ بمعشر الجنِّ الشياطينُ {قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس} أي من إغوائهم وإضلالِهم أو منهم بأن جعلتموهم أاتباعكم فحُشِروا معكم كقولهم استكثر الأمير من أي من الجنود وهذا بطريق التوبيخِ والتقريع {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم} أي الذين أطاعوهم ومِنْ في قولِه تعالَى {مّنَ الإنس} إما لبيان الجنسِ أي أولياؤُهم الذين هم الإنسُ أو متعلقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من أولياؤهم أي كاتئنين من الإنس {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} أي انتفع الإنسُ بالجن بأن دلُّوهم على الشهوات وما يُتوصَّل به إليها وقيل بأن ألقوا إليهم من الأراجيف والسِّحر والكهانة والجن بالإنس بأ أطاعوهم وحصّلوا مرادَهم بقَبول ما ألقوه إليهم وقيل استمتاعُ الإنسِ بهم أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز

الأنعام آية 129 ش 30 والمخاوفِ واستمتاعُهم بالإنس اعترافُهم بأنهم قادرون على إجازتهم {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذى أَجَّلْتَ لَنَا} وهو يومُ القيامة قالوه اعترافاً بما فعلوه من طاعة الشياطينِ واتباعِ الهوى وتكذيبِ البعث وإظهاراً للندامة عليها وتحسراً على حالهم واستسلاماً لربهم ولعل الاقتصارَ على حكاية كلامِ الضالّين للإيذان بأن المُضلِّين قد أُفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلاً {قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية كلا منهم كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الله تعالى حينئذ فقيل قال {النار مَثْوَاكُمْ} أي منزِلُكم أو ذاتُ ثوُائِكم كما أن دارَ السلام مثوى المؤمنين {خالدين فِيهَا} حال والعاملُ مثواكم إن جُعل مصدراً ومعنى الإضافة إن جُعل مكاناً {إِلاَّ مَا شَاء الله} قال ابن عباس رضي الله عنهما استثنى الله تعالى قوماً قد سبق في علمه أنهم يُسلمون ويصدِّقون النبيَّ صلَّى الله عليهِ وسلم وهذا مبنيٌّ على أن الاستثناءَ ليس من المحكيّ وما بمعنى مَنْ وقيل المعنى إلا الأوقاتَ التي يُنقلون فيها من النار إلى الزمهرير فقد رُوي أنهم يدخُلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميِّزُ بعضَ أوصالِهم من بعض فيتعاوَوْن ويطلُبون الردَّ إلى الجحيم وقيل يفتح لهم وهم في النار بابٌ إلى الجنة فيُسرعون نحوه حتى إذا صاروا إليه سُدَّ عليهم الباب وعلى التقديرين فالاستثناءُ تهكّمٌ بهم وقيل إلا ما شاء الله قبل الدخولِ كأنه قيل النارُ مثواكم أبداً إلا ما أمهلكم ولا يخفى بعدُه {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} في أفاعيله {عَلِيمٌ} بأحوال الثقلين وأعمالِهم وبما يليق بها من الجزاء

129

{وكذلك} أي مثلَ ما سيق من تمكين الجنِّ من إغواء الإنسِ وإضلالِهم {نُوَلّى بَعْضَ الظالمين} من الإنس {بَعْضًا} آخرَ منهم أي نجعلهم بحيث يتولَّوْنهم بالإغواء والإضلالِ أو نجعل بعضَهم قرناءَ بعضٍ في العذاب كما كانوا كذلك في الدنيا عند اقترافِ ما يُؤدِّي إليه من القبائح {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} بسبب ما كانوا مستمرِّين على كسبه من الكفر والمعاصي

130

{يَا مَعْشَرَ الجن والإنس} شروعٌ في حكاية ما سيكون من توبيخ المعشَرَين وتقريعِهم بتفريطهم فيما يتعلق بخاصة أنفسِهم إثرَ حكايةِ توبيخِ معشر الجنِّ بإغواء الإنسِ وإضلالِهم وبيانِ مآلِ أمرِهم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أي في الدنيا {رُسُلُ} أيْ مِنْ عندِ الله عز وجل ولكن لا على أن يأتيَ كلُّ رسولٍ كلَّ واحدة من الأمم بل على أن يأتي كلَّ أمة رسولٌ خاصٌّ بها أي ألم يأتِ كلَّ أمة منكم رسولٌ معين وقوله تعالى {مّنكُمْ} متعلقٌ بمحذوف وقع صفةٌ لرسلٌ أي كائنةٌ من جملتكم لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معاً بل من الإنس خاصةً وإنما جُعلوا منهما إما لتأكيد وجوبِ اتباعِهم والإيذانِ بتقاربهما ذاتاً واتحادِهما تكليفاً وخطاباً كأنّهما جنسٌ واحد ولذلك تمكن أحدُهما من إضلال الآخَر وإما لأن المرادَ بالرسل ما يعمُّ رسلَ الرسلِ وقد ثبت أن الجن قد استمعوا القرآن وأنذروا به قومَهم حيث نطق به قوله تعالى وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً من الجن يستمعون الرقآن

الأنعام آية 131 إلى قوله تعالى وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ وقوله تعالى {يقصون عليكم آياتي} صفةٌ أخرى لرسلٌ محققةٌ لما هو المرادُ من إرسال الرسل من التبليغ والإنذارِ وقد حصل ذلك بالنسبة إلى الثقلين {وَيُنذِرُونَكُمْ} بما هو في تضاعيفها من القوارع {لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا} يومِ الحشرِ الذي قد عاينوا فيه ما أُعدَّ لهم من أفانين العقوباتِ الهائلة {قالوا} استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابقِ كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك التوبيخِ الشديد فقيل قالوا {شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} أي بإتيان الرسلِ وإنذارِهم وبمقابلتهم إياهم بالكفر والتكذيب وباستحقاقهم بسبب ذلك للعذاب المخلّد حسبما فصل ي حكاية جوابِهم عن سؤال خَزَنةِ النار حيث قالوا بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ وقد أجمل ههنا في الحكاية كما أُجمل في حكاية جوابِهم حيث قالوا بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين وقوله تعالى {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} معَ ما عُطف عليه اعتراضٌ لبيان ما أداهم في الدنيا إلى ارتكابهم للقبائح التي ارتكبوها وألجأهم بعد ذلك في الآخرة إلى الاعتراف بالكفر واستيجاب العذابِ وذمٌّ لهم بذلك أي واغتروا في الدنيا بالحياة الدنيئةِ واللذات الخسيسةِ الفانية وأعرضوا عن النعيم المقيم الذي بشرت به الرسل واجترءوا على ارتكاب ما يجُرّهم إلى العذاب المؤبَّد الذي أنذروهم إياه {وَشَهِدُواْ} في الآخرة {عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ} في الدُّنيا {كافرين} أي بالآيات والنذر التي أتى بها الرسلُ على التفصيل المذكورِ آنفاً واضطُرّوا إلى الاستسلام لأشد العذابِ كما ينبىء عنه ما حُكيَ عنُهم بقولِه تعالى وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أصحاب السعير وفيه من تحسيرهم وتحذيرِ السامعين عن مثل صنيعِهم ما لا مزيدَ عليه

131

{ذلك} إشارة إلى ما ذُكر من شهادتهم على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى {أَن لم يكن ربك مهلك القرى} بحذف اللام ى أَنَّ أنْ مصدريةٌ أو مخففةٌ من أنَّ وضميرُ الشأن الذي هو اسمُها محذوفٌ وقوله تعالى {بِظُلْمٍ} متعلقٌ إما بمهلك أي بسبب ظلمٍ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من القُرى أي ملتبسةً بظلم فإن مكلابسة أهلِها للظلم ملابسةٌ للقرية له بواسطتهم وأما كونُه حالاً من ربك أو من ضميرِه في مُهلكَ كما قيل فيأباه أن غفلةَ أهلِها مأخوذةٌ في معنى الظلمِ وحقيقتِه لا محالة فلا يحسُن تقييدُه بقوله تعالى {وَأَهْلُهَا غافلون} والمعنى ذلك ثابتٌ لانتفاء كونِ ربِّك أو لأن الشأنَ لم يكن ربك مهلك القرى بسبب أي ظلم فعلوه من أفراد الظلم قيل أن يُنْهَوْا عنه ويُنَبَّهوا على بُطلانه برسول وكتابٍ وإن قضَى به بديهةُ العقولِ ويُنذَروا عاقبةَ جناياتِهم أو لولا انتفاءُ كونِه تعالى معذباً لهم قبل إرسالِ الرسلِ وإنزالِ الكتبِ لَما أمكن التوبيخُ بما ذُكر ولَما شهِدوا على أنفسهم بالكفر واستيجابِ العذاب ولا اعتذروا بعدم إتيانِ الرسل كما في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فنتبع آياتك مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى وإنما عُلّل ما ذُكر بانتفاء التعذيبِ الدنيويِّ الذي هو إهلاكُ القرى قبل الإنذارِ مع أن التقريبَ في تعليله بانتفاء مطلقِ التعذيب من غير بعث الرسلِ أتمُّ على ما نطقَ به قولُه تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً لبيان كمال

الأنعام آية 132 134 نزاهتِه سبحانه وتعالى عن كلا التعذيبين الدنيوي والأخروي معاً من غير إنذارٍ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه حيث اقتُصِر على نفي التعذيبِ الدنيوي عنه تعالى ليثبُتَ نفيُ التعذيبِ الأخروي عنه تعالى على الوجه البرهانيّ بطريق الأولوية فإنه تعالى حيث لم يعذِّبهم بعذاب يسيرٍ منقطعٍ بدون إنذارٍ فلأن لا يعذِّبَهم بعذاب شديد مخلدٍ أولي وأجلي ولو عُلل بما ذكر من نفي التعذيبِ لا نصرف بحسب المقام إلى ما فيه الكلامُ من نفي التعذيب الأخروي ونفي التعذيب الدنيوي وغير متعرَّضٍ له لا صريحاً ولا دَلالةً ضرورةَ أن نفي الأعلى لا يدل على نفي الأدنى ولأن ترتب العذاب الدنيويِّ على الإنذار عند عدمِ تأثرِ المنذَرين منه معلومٌ مشاهدٌ عند السامعين فيستدلون بذلك على أن التعذيبَ الأخرويَّ أيضاً كذلك فينزجرون عن الإخلال بمواجب الإنذارِ أشدَّ انزجارٍ هذا هُو الذي تستدعيهِ جزالة النظمِ الكريم وأما جعلُ ذلك إشارةً إلى إرسال الرسلِ عليهم السلام وإنذارِهم وخبرُ المبتدأ محذوفٌ كما أطبقَ عليه الجمهورُ فبمعزل من مقتضى المقامِ والله سبحانه أعلم

132

{وَلِكُلّ} أي من المكلفين من الثقلين {درجات} متفاوتةٌ وطبقاتٌ متباينة {مّمَّا عَمِلُواْ} من أعمالهم صالحةً كانت أو سيئةً فإن أعمالَهم درجاتٌ في أنفسها أو من جزاء أعمالِهم فإن كلَّ جزاءٍ مرتبةٌ معينةٌ لهم أو من أجل أعمالِهم {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} فيخفى عليه عملٌ من أعمالهم أو قدْرُ ما يستحقون بها من ثواب أو عقاب وقرىء بالتاء تغليباً للخطاب على الغَيْبة

133

{وَرَبُّكَ الغنى} مبتدأٌ وخبرٌ أي هو المعروفُ بالغني عن كلِّ ما سواهُ كائنا من كان وكا كان فيدخُل فيه غناه عن العباد وعن عبادتهم في التعرُّض لوصف الربوبيةِ في الموضعين لا سيما في الثاني لكونه موقعَ الإضمار مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من إظهار اللطفِ به صلى الله عليه وسلم وتنزيهِ ساحتِه عن توهم شمولِ الوعيدِ الآتي لها أيضاً ما لا يخفى وقوله تعالى {ذُو الرحمة} خبرٌ آخرُ أو هو الخبرُ والغنيُّ صفةٌ أي يترحم عليهم بالتكليف تكميلاً لهم ويُمهلهم على المعاصي وفيه تنبيه على أن ما سلف ذكرُه من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتمهيدٌ لقوله تعالى {إِن يَشَأْ يذهبكم} أي مابه حاجةٌ إليكم إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا العصاةُ وفي تلوين الخطابِ من تشديد الوعيد ما لا يخفى {وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم} أي من بعد إذهابِكم {مَا يَشَاء} من الخلق وإيثارُ مَا على مَنْ لإظهار كمالِ الكبرياءِ وإسقاطِهم عن رتبة العقلاءِ {كَمَا أَنشَأَكُمْ من ذرية قوم آخرين} أي من نسل قومٍ آخرين لم يكونوا على مثل صفتِكم وهم أهلُ سفينة نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لكنه أبقاكم ترحماً عليكم وما في كما مصدريةٌ ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنه مصدر تشبيهي على غير الصدر فإن يستخلف في معنى ينشىء كأنه قيل وينشىء إنشاءً كائناً كإنشائكم الخ أو نعتٌ لمصدر الفعل المذكور أي يستخلف استخلافاً كائناً كإنشائكم الخ والشرطيةُ استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلها من الغنى والرحمة

134

{إن ما توعدون}

الأنعام آية 135 136 أي الذي توعدونه من البعث وما يتفرَّع عليه من الأمور الهائلةِ وصيغةُ الاستقبال للدِلالة على الاستمرار التجددي {لأَتٍ} لواقعٌ لا محالة كقوله تعالى إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لواقع وإيثارُه عليه لبيان كمالِ سرعةِ وقوعِه بتصويره بصورة طالبٍ حثيثٍ لا يفوته هاربٌ حسبما يُعرب عنه قوله تعالى {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي بفائتين ذلك وإن ركِبتم في الهرب متنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلولٍ كما أن إيثارَ صيغةِ الفاعلِ على المستقبل للإيذان بكمال قربِ الإتيان والمرادُ بيانُ دوامِ انتفاءِ الإعجازِ لا بيانُ انتفاءِ دوامِ الإعجاز فإن الجملة الاسميةَ كما تدل على دوام الثبوتِ تدل بمعونة المقام إذا دخل عليها حرف النفي على دوام الانتفاءِ لا على انتفاء الدوامِ كما حُقّق في موضعه

135

{قل يا قوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} إثرَ ما بيّن لهم حالَهم ومآلَهم بطريق الخطاب أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق التلوينِ بأن يواجِهَهم بتشديد التهديد وتكريرِ الوعيد ويظهر لهم ما هو عليه غاية التصلب في الدين ونهايةِ الوثوقِ بأمره وعدم المبالاةِ بهم أي اعملوا على غاية تمكنكم واستطاعتك يقال نمكن مكانةً إذا تمكّن أبلغَ التمكّن أو على جهتكم وحالتِكم التي أنتمُ عليها من قولهم مكان ومكانة كمقامٌ ومقامة وقرىء مكاناتِكم والمعنى اثبتوا على كفرهم ومعاداتكم {إِنّى عامل} ما أُمرت به من الثبات على الإسلام والاستمرارِ على الأعمال الصالحةِ والمصابرةِ وإيرادُ التهديد بصيغة الأمرِ مبالغةٌ في الوعيد كأن المهددَ يريد تعذيبَه مجمِعاً عليه فيحمِله بالأمر على ما يؤدي إليه وتسجيلٌ بأن المهدِّد لا يتأتّى منه إلا الشرُّ كالذي أُمر به بحيث لا يجد إلى التقصّي عنه سبيلاً {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار} سوف لتأكيد مضمونِ الجملة والعلمُ عرفاني ومن إما استفهامية معلقة لفعل العلم محلُّها الرفعُ على الابتداءِ وتكون باسمها وخبرها خبرٌ لها وهي مع خبرها في محل نصبٍ لسدها مسدَّ مفعول تعلمون أي فسوف تعلمون أيُّنا تكون له العاقبةُ الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الديار لها وإما موصولةٌ فمحلُّها النصبُ على أنَّها مفعولٌ لتعلمة ون أي فسوف تعلمون الذي له عاقبةُ الدارِ وفيه مع الإنذار إنصافٌ في المقال وتنبيهٌ على كمال وثوقِ المنذِرِ بأمره وقرىء بالياء لأن تأنيثَ العاقبةِ غيرُ حقيقي {إِنَّهُ} أي الشأنَ {لاَ يُفْلِحُ الظالمون} وُضع الظلمُ موضِعَ الكفرِ إيذاناً بأن امتناعَ الفلاحِ يترتب على أي فردٍ كان من أفراد الظلمِ فما ظنُّك بالكفر الذي هو أعظمُ أفرادِه

136

{وَجَعَلُواْ} شروعٌ في تقبيح أحوالِهم الفظيعةِ بحكاية أقوالِهم وأفعالهم الشنيعة مشركوا العربِ كانوا يُعيِّنون أشياءَ من حرث ونتاج لله تعالى وأشياءَ منهما لآلهتهم فإذا رأوا ما جعلوه لله تعالى زاكياً نامياً يزيد في نفسه خيراً رجَعوا فجعلوه لآلهتهم وإذا زكا ما جعلوه لآلهتهم تركوه معتلين بأن اللع تعالى غنيٌّ وما ذاك إلا لحب آلهتِهم وإيثارِهم لها والجعلُ إما متعدَ إلى واحد فالجارّان في قوله تعالى

الأنعام آية 137 {لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} متعلقان به ومِنْ في قولِه تعالَى {مِنَ الحرث والانعام} بيانٌ لما وفيه تنبيهٌ على فرط جهالتِهم حيث أشركوا الخالقَ في خلقه جماداً لا يقدِر على شيءٍ ثم رجّحوه عليه بأن جعلوا الزكيَّ له أي عيَّنوا له تعالى مما خلقه من الحرث والأنعام {نَصِيباً} يصرِفونه إلى الضِيفان والمساكينِ وتأخيرُه عن المجرورَيْن لما مرَّ مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وإما إلى مفعولين أولُهما مما ذرأ على أن من تبعيضية أي جعلوا بعضَ ما خلقه نصيباً له وما قيل من أن الأولَ نصيباً والثاني لله لا يساعده سَدادُ المعنى وحكايةُ جعلِهم له تعالى نصيباً تدل على أنهم جعلوا لشركائهم أيضاً نصيباً ولم يُذْكر اكتفاءً بقوله تعالى {فَقَالُواْ هذا لِلَّهِ} بِزَعْمِهِمْ {وهذا لِشُرَكَائِنَا} وقُرىء بضم الزاءِ وهو لغةٌ فيه وإنما قُيِّد به الأولُ للتنبيه على أنه في الحقيقة ليس يجعل الله تعالى غيرُ مستتبِعٍ لشيء من الثواب كالتطوعات التي يُبتغى بها وجهُ الله تعالى لا لما قيلَ من أنه للتنبيه على أن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله تعالى به فإن ذلك مستفادٌ من الجعل ولذلك لم يقيَّدْ به الثاني ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ تمهيداً لما بعده على معنى أن قولَهم هذا لله مجرَّدُ زعمٍ منهم لا يعملون بمقتضاه الذي هو اختصاصُه به تعالى فقوله تعالى {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَائِهِمْ} بيانٌ وتفصيلٌ له أي فما عيَّنوه لشركائهم لا يُصرَف إلى الوجوه التي يُصرف إليها ما عيّنوه لله تعالى من قِرى الضِيفان والتصدقِ على المساكين وما عيَّنوه لله تعالى إذا وجدوه زاكياً يُصرف إلى الوجوه التي يُصرف إليها ما عيّنوه لآلهتهم من إنفاق عليها وذبحِ نسائِكَ عندها والإجراءِ على سَدَنتها ونحو ذلك {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} فيما فعلوا من إيثار ى لهتهم على الله تعالى وعملهم بما لم يُشرَعْ لهم وما بمعنى الذي والتقديرُ ساء الذي يحكُمون حكمَهم فيكون حكمُهم مبتدأً وما قبله الخبرُ وحُذف لدِلالة يحكُمون عليه

137

{وكذلك} ومثلَ ذلك التزيينِ وهو تزيينُ الشرك في قسمة القُربانِ بين الله تعالى وبين آلهتهم أو مثل ذلك التزيين البليغ المعهودِ من الشياطين {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم} بوأدهم ونحْرِهم لآلهتهم كان الرجل يحلِف في الجاهلية لئن وُلد له كذا غلاماً لينحَرَنّ أحدهم كما حلف عبدُ المطلب وهو مشهور {شُرَكَاؤُهُمْ} أي أولياؤهم من الجن أو من السَّدَنة وهو فاعلُ زَيَّن أُخِّر عن الظرف والمفعولِ لما مر غيرَ مرةٍ وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ الذي هو القتلُ ونصبِ الأولاد وجرِّ الشركاء بإضافة القتلِ إليه مفصولاً بينهما بمفعوله وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ ورفعِ قتل وجرِّ أولادِهم ورفعِ شركاؤهم بإضمار فعلٍ دلَّ عليه زُيِّن كأنه لما قيل زُيِّن لهم قتلُ أولادِهم قيل مَنْ زيَّنه فقيل زينه شركاؤهم {ليردوهم} أي يهلكوهم بالإغواء {وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} وليخلِطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسمعيل عليه السلام أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به واللامُ للتعليل إن كان التزيينُ من الشياطين وللعاقبة إن كان من السدنة {وَلَوْ شَاء الله} أي عدمَ فعلهم ذلك {مَّا فَعَلُوهُ} أي ما فعل المشركون ما زُيّن لهم من القتل أو الشركاء التزيين أو الإرداء واللبس أو الفريقان جميعَ ذلك على إجراء الضميرِ مُجرى اسمِ الإشارةِ {فَذَرْهُمْ وَمَا يفترون} الفاء

الأنعام آية 138 139 فصيحةٌ أي إذا كان ما فعلوه بمشيئة الله تعالى فدعهم وافتراءَهم أو وما يفترونه من الإفك فإن فيما شاء الله تعالى حِكَماً بالغة إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إثماً ولهم عذاب مهين وفيه من شدة الوعيدِ ما لا يخفى

138

{وَقَالُواْ} حكايةٌ لنوعٍ آخرَ من أنواع كفرِهم {هذه} غشارة إلى ما جعلوه لآلهتهم والتأنيثُ للخبر {أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ} أي حرام فِعْلٌ بمعنى مفعول كالذِبح يستوي فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى لأن أصله المصدر ولذلك وقع صفةً لأنعامٌ وحرثٌ وقرىء حُجُر بالضم وبضمتين وحَرَجٌ أي ضيق وأصله حرج وقيل هو مقلوب من حجر {لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء} يعنون خدنم الأوثانِ من الرجال دون النساءِ والجملةُ صفةٌ أخرى لأنعامٌ وحرثٌ بِزَعْمِهِمْ متعلقٌ بمحذوف هو حال من فاعل قالوا أي قالوه ملتبسين بزعمهم الباطلِ من غير حجة {وأنعام} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ معطوفةٌ على قولِه تعالى هذه أنعام الخ أي قالوا مشيرين إلى طائفةٍ أُخرى من أنعامهم وهذه أنعامٌ {حُرّمَتْ ظُهُورُهَا} يعنون بها البحائرَ والسوائبَ والحواميَ {وأنعام} أي وهذه أنعام كما مرَّ وقوله تعالى {لاَّ يذكرون اسم الله عليها} صفةٌ لأنعام لكنه غيرُ واقعٍ في كلامهم المحكيِّ كنظائره بل مَسوقٌ من جهتِه تعالَى تعييناً للموصوف وتمييزاً له عن غيره كما في قوله تعالى وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله على أحد التفاسير كأنه قيل وأنعامٌ ذُبحت على الأصنام فإنها التي لا يُذكر عليها اسمُ الله وإنما يُذكر عليها اسمُ الأصنام وقيل لا يحجّون عليها فإن الحجَّ لا يعرى عن ذكرِ الله تعالى وقال مجاهد كانت لهم طائفة ما أنعامهم لا يذكرون اسمَ الله عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركِبوا ولا إن حلبوا ولا إن ننجوا ولا إن باعوا ولا إن حمَلوا {افتراء عَلَيْهِ} نُصب على المصدر إما على أن ما قالوه تقوُّلٌ على الله تعالى وإما على تقدير عاملٍ من لفظه أي افترَوا افتراءً والجارُّ متعلقٌ بقالوا أو بافترَوا المقدّر أو بمحذوف هو صفة له لا بافتراءً لأن المصدرَ المؤكد لا يعمل أو على الحالِ من فاعل قالوا أي مفترين أو على العلة أي للافتراء فالجارُّ متعلق به {سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي بسببه أو بدله وفي غبهام الجزاءِ من التَّهويلِ ما لا يخفى

139

{وَقَالُواْ} حكايةٌ لفن آخرَ من فنون كفرِهم {مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام} يعنون به أجنة البحائرِ والسوائبِ {خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا} حلالٌ لهم خاصة والناء للنقل إلى الاسمية أو للمبالغة أو لأن الخالصة مصدرٌ كالعافية وقع موقعَ الخالصِ مبالغةً أو بحذف المضاد أي ذو خالصة أو للتأنيث بناء على أنَّ ما عبارةٌ عن الأجنة والتذكير في قوله تعالى {وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا} أي جنس أزواجِنا وهن الإناثُ باعتبار اللفظ وفيه كما ترى حملٌ للنظم الكريم على خلاف المعهودِ الذي هو الحملُ على اللفظ ولا على المعنى ثانياً كما في قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ الخ ونظائرِه وإما العكس فقد

الأنعام آية 140 141 قالوا إنمه لا نظيرَ له في القرآن وهذا الحكمُ منهم إن وُلد ذلك حيا وهو الظاهر المعتادُ {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} أي إن ولدت ميتة {فَهُمُ} أي الذكورُ والإناث {فِيهِ} أي فيما في بطون الأنعامِ وقيل المرادُ بالميتة ما يعُمّ الذكرَ والأنثى فغلب الأولُ على الثاني {شُرَكَاء} يأكلون منه جميعاً وقرىء خالصةً بالنصب على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ والخبرُ لذكورنا أو حال من الضمير الذي في الظرف لا من الذي في ذكورنا ولا من الذكور لأنه لا يتقدم على العامل المعنويِّ ولا على صاحبه المجرورِ وقرىء خالصُهُ بالرفع والإضافة إلى الضمير على أنه بدل من ما أو مبتدأٌ ثانٍ {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي جزاءَ وصفِهم الكذبَ على الله تعالى في أمر التحليل والتحريم من قوله تعالى وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} تعليلٌ للوعيد بالجزاء فإن الحكيمَ العليمَ بما صدر عنهم لا يكاد يترك جزاءَهم الذي هو من مقتضَيات الحكمة

140

{قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم} جوابُ قسمٍ محذوفٍ وقرىء بالتشديد وهم ربيعةُ ومضرُ وأضرابُهم من العرب الذين كانوا يئِدون بناتِهم مخافةَ السبْي والفقر أي خسِروا دينَهم ودنياهم {سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلقٌ بقتلوا على أنه علة له أي لخِفة عقلهم وجهلِهم بأن الله هو الرزاقُ لهم ولأولادهم أو نُصب على الحال ويؤيده أنه قرىء سفهاءَ أو مصدر {وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله} من البحائر والسوائب ونحوهما {افتراء عَلَى الله} نُصب على أحد الوجوه المذكورة وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لإظهار كمالِ عُتوِّهم وطغيانهم {قَدْ ضَلُّواْ} عن الطريق المستقيم {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} إليه وإن هُدوا بفنون الهدايات أو وما كانوا مهتدين من الأصل لسوء سيرتِهم فالجملةُ حينئذ اعتراضٌ وعلى الأول عطف على ضلوا

141

{وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات معروشات} تمهيدٌ لما سيأتي من تفصيل أحوال الأنعامِ أي هو الذي أنشأهن من غير شركة لأحد في ذلك بوجهٍ من الوجوه والمعروشاتُ من الكروم المرفوعاتُ على ما يحملها {وَغَيْرَ معروشات} وهن المُلْقَياتُ على وجه الأرض وقيل المعروشاتُ ما غرسه الناسُ وعرّشوه وغيرُ المعروشات ما نبت في البوادي والجبال {والنخل والزرع} عطفٌ على جناتٍ أي أنشأهما {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} وقرىء أُكْله بسكون الكاف أي ثمرُه الذي يُؤكل في الهيئة والكيفية والضميرُ إما للنخل والزرعُ داخلٌ في حكمه أو للزرع والباقي مَقيسٌ عليه أو للجميع على تقدير أكل ذلك أو كلِّ واحد منهما ومختلفا مقدرة إذ ليس كذلك وقت الإنشاء {والزيتون والرمان} أي أنشأهما وقوله تعالى {متشابها وَغَيْرَ متشابه} نُصب على الحالية أي يتشابه بعض

الأنعام آية 142 143 أفرادِهما في اللون والهيئةِ أو الطعم ولا يتشابه بعضها {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} أي من ثمر كل واحدٍ من ذلك {إِذَا أَثْمَرَ} وإن لم يدرك ولم يينع بعد وقيل فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} أريد به ما كان يُتصدَّق به يوم الحصاد بطريق الوجوب من غير تعيين المقدارِ لا الزكاةُ المقدرةُ فإنها فُرِضت بالمدينة والسورةُ مكية وقيل الزكاةُ والآيةُ مدنيةٌ والأمر بإيتائها يوم الحصادِ لِيُهتمَّ به حينئذ حتى لا يؤخَّر عن وقت الأداء وليعلم أن الوجوبَ بالإدراك لا بالتصفية وقرىء يوم حصاده بمكسر الحاء وهو لغةٌ فيه {وَلاَ تُسْرِفُواْ} أي في التصدق كما رُوي عن ثابت بن قيس أنه صرَم خمسَمائة نخلةٍ ففرَّق ثمرَها كلِّها ولم يُدخل منه شيئاً إلى منزله كقوله تعالى وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط الآية {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} أي لا يرتضي إسرافَهم

142

{وَمِنَ الانعام حَمُولَةً وَفَرْشًا} شروع في تفصيل حال الأنعامِ وإبطالِ ما تقوَّلوا على الله تعالى في شأنها بالتحريم والتحليل وهو عطفٌ على مفعول أنشأ ومِنْ متعلقةٌ به أي وأنشأ من الأنعام ما يُحمل عليه الأثقالُ وما يُفرش للذبح أو ما يُفرش المصنوعُ من شعره وصوفِه ووبرِه وقيل الكبارُ الصالحةُ للحمل والصغارُ الدانيةُ من الأرض كأنها فُرشٌ مفروشٌ عليها {كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} ما عبارةَ عما ذُكر من الحَمولة والفَرْش ومِنْ تبعيضيةٌ أي كلوا بعضَ ما رزقكم الله تعالى أي حلالَه وفيه تصريحٌ بأن إنشاءَها لأجلهم ومصلحتِهم {وَلاَ تَتَّبِعُواْ} في أمر التحليل والتحريم بتقليد أسلافِكم المجازفين في ذلك من تلقاء أنفسِهم المفترين على الله سبحانه {خطوات الشيطان} فإن ذلك منهم بإغوائه واستتباعِه إياهم {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظاهرُ العداوة

143

{ثمانية أزواج} الزوجُ ما معه آخَرُ من جنسه يُزاوجُه ويحصُل منهما النسلُ والمرادُ بها الأنواعُ الأربعةُ وإيرادُها بهذا العنوان وهذا العددِ تمهيدٌ لما سيق له الكلامُ من الإنكار المتعلّقِ بتحريم كلِّ واحدٍ من الذكر والأنثى وبما في بطنها وهو بدلٌ من حَمولةً وفرشاً منصوبٌ بما نَصَبهما وجعلُه مفعولاً لكلوا على أنَّ قولَه تعالى وَلاَ تَتَّبِعُواْ الآية معترض بينهما أو حالا مِنْ ما بمعنى مختلفةً أو متعددةً يأباه جزالةُ النظمِ الكريم لظهور أنه مَسوقٌ لتوضيح حالِ الأنعام بتفصيلها أولاً إلى حمولةٍ وفرْشٍ ثم بتفصيلها إلى ثمانية أزواجٍ حاصلةٍ من تفصيل الأولى إلى الإبل والبقر وتفصيلِ الثاني إلى الضأن والمَعَز ثم تفصيلِ كلَ من الأقسام الأربعة إلى الذكر والأنثى كلُّ ذلك لتحرير الموادِّ التي تقوّلوا فيها عليه سبحانه وتعالى بالتحليل والتحريم ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم في كل مادة من تلك المواد بتوجيه الإنكار إليها مفصلة واثنين في قوله سبحانه وتعالى {مّنَ الضأن اثنين} بدلٌ من ثمانيةَ أزواج منصوبٌ بناصبه وهو العاملُ في مِنْ أي أنشأ من الضأن زوجين الكبشَ والنعجة

الأنعام آية 144 وقرىء اثنان على الابتداء والضأنُ اسمُ جنس كالإبل وجمعُه ضَئين كأمير أو جنمع ضائن كتاجر وتجْرٍ وقرىء بفتح الهمزة {وَمِنَ المعز اثنين} عطفٌ على مثله شريكْ له في حكمه أي وأنشأ من المعز زوجين التيسَ والعنز وقرىء بفتح العين وهو جمعُ ماعز كصاحب وصحْب وحارس وحرَس وقرىء ومن المِعْزى وهذه الأزواجُ الأربعةُ تفصيلٌ للفَرْش ولعل تقديمَها في التفصيل مع تأخر أصلِها في الإجمال لكون هذين النوعين عرضةً للأكل الذي هو معظمُ ما يتعلق به الحِلُّ والحُرمة وهو السرُّ في الاقتصار على الأمر به في قوله تعالى كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله من غير تعرضٍ للانتفاع بالحمل والركوب وغيرِ ذلك مما حرموه في السائبة وأخواتِها {قُلْ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إثرَ تفصيلِ أنواعِ الأنعامِ التي أنشأها قُلْ تبكيتا لهم وإظهارا لانقطاعهم عن الجواب {آلذكرين} من ذَيْنك النوعين وهما الكبشين والتيسُ {حَرَّمَ} أي الله عزَّ وجلَّ كما تزعُمون أنه هو المحرم {أم الأنثيين} هما النعجة والعنز نصب الذكرين والأنثيين بحَرَّم وهو مؤخر عنهمات بحسب المعنى وإن توسط بينهما صورةً وكذا قوله تعالى {أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين} أي ما حملت إناثُ النوعين حَرَّم ذكراً كان أو أنثى وقوله تعالى {نَبّئُونِي بِعِلْمٍ} الخ تكريرٌ للإلزام وتثنيةٌ للتبكيت والإفحام أي أخبروني بأمر معلومٍ من جهة الله تعالى من الكتاب أو أخبارِ الأنبياءِ يدل على أنه تعالى حرم شيئاً مما ذُكر أو نبئوني تنبئةً ملتبسةً بعلم صادرةً عنه {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في دعوى التحريمِ عليه سبحانه وقوله تعالى

144

{وَمِنَ الإبل اثنين} عطفٌ على قوله تعالى من الضأن اثنين أي وأنشأ من الإبل اثنين هما الجمل والناقة {وَمِنَ البقر اثنين} ذكر واثنى {قُلْ} إفحاماً لهم في أمر هذين النوعين أيضاً {آلذكرين} منهما {حَرَّمَ أَمِ الانثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثيين} من ذينك النوعين والمعنى إنكارُ أن الله سبحانى حرَّم عليهم شيئاً من الأنواع الأربعة ة إظهار كذبِهم في ذلك وتفصيلُ ما ذكر من الذكور والإناثِ وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكارِ على كل مادةٍ من موادّ افترائِهم كانوا يحرمون من ذكر الأنعام تارة وأولادَها كيفما كانت تارة أخرى مسندين ذلك كلَّه إلى الله سبحانه وإنما عُقّب تفصيلُ كلِّ واحدٍ من نوعي الصغارِ ونوعي الكبارِ بما ذكر من الأمر بالاستفهام والإنكارِ مع حصول التبكيتِ بإيراد الأمر عقيب تفصيل أنواع الأربعةِ بأن يقال قل آلذكور حرم أو الإناثَ أم ما اشتملت عليه أرحامُ الإناث لما في التثنية والتكري من المبالغة في التبكيت والإلزام وقوله تعالى {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء} تكريرٌ للإفحام كقوله تعالى نَبّئُونِي بِعِلْمٍ وأمْ منقطعة ومعنى الهمزةِ الإنكارُ والتوبيخُ ومعنى بل الإضراب بما ذُكر إلى التَّوبيخِ بوجه

الأنعام آية 145 أخرى بل كنتم حاضرين مشاهدين {إِذْ وصاكم الله بهذا} أي حين وصاكم بهذا الترحيم إذ أنتم لا تؤمنون بنبيَ فلا طريقَ لكم حسبما يقود إليه مذهبُكم إلى معرفة أمثالِ ذلك إلا المشاهددة والسماعُ وفيه من تركيك عقولِهم والتهكمِ بهم ما لا يَخفْى {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} فنسبَ إليه تحريمَ ما لم يحرم والمرادكبراؤهم والمقررون لذلك أو عمر بنُ لُحيِّ بنِ قُمعةَ وهو المؤسسُ لهذا الشرِّ أو الكلُّ لاشتراكهم في الافتراءعليه سبحانه وتعالى فأي طريق أظلمُ من فريقٍ افتروا الخ ولا يقدح في أظلمية الكلِّ كونُ بعضِهم مخترعينله وبعضِهم مقتدين بهم والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما سبق من تبكيتهم وإظهارِ كذِبهم وافترائِهم أيْ هُو أظلمَ منْ كل ظالمٍ وإن كان المنفيُّ صريحا الأظلمية دون المساواةِ كما مر غيرَ مرة {لِيُضِلَّ الناس} متعلق بالافتراء {بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعل افترى أي افترى عليه تعالى بصدور التحريم منه تعالى وإنما وصفوا بعد العلمِ بذلك مع أنهم عالمون بعدم صدورِه عنه تعالى إيذانا بخروجهم في الظالم عن الحدود والنهاياتِ فإن من افتلاى عليه تعالى بغير علم بصدوره عنه تعالى مع احتمال الصدورِ عنه إذا كان أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ فما ظنُّك بمن افترى عليه تعالى وهو يعلم أنه لم يصدُرْ عنه ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً من فاعليصل أي ملتبساً بغير علم بما يؤدي بهم إليه {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} كائناً من كان إلى ما فيه صلاحٌ حالهم عاجلاً أو آجلاً وإذا كان هذا حالُ المتصفين بالظلم في الجملة فما ظنُّك بمن هو في أقصى غاياتِه

145

{قُلْ} أُمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعد إلزامِ المشركين وتبكيتِهم وبيانِ أن ما يتقوّلونه في أمر التحريمِ افتراءٌ بحتٌ لا أصلَ له قطعاً بأن يُبيِّن لهم ما حرّمه عليهم وفي قوله تعالى {لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا} إيذانٌ بأن مناطَ الحلِّ والحُرمةِ هو الوحيُ وأنه صلى الله عليه وسلم قد تتبع في جميعَ ما أوحيَ إليه وتفحّص عن المحرمات فلم يجد غيرَ ما فُصِّل وفيه مبالغةٌ في بيان انحصارها في ذلك ومحرما صفةٌ لمحذوف أي لا أجد ريثما تصفحْتُ ما أوحي إلي كعاما محرماً من المطاعم التي حرَّموها {على طَاعِمٍ} أي أيِّ طاعمٍ كان من ذَكَرٍ أَوْ أنثى رداً على قولهم مُحَرَّمٌ على أزواجنا وقوله تعالى لزيادة التقريرِ {إِلا أَن يَكُونَ} أي ذلك الطعامُ {ميتة} وقرىء تكون بالتء لتأنيث الخبرِ وقرىء ميتةٌ بالرفعِ على أنَّ كانَ تامةٌ وقوله تعالى {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} حينئذ عطفٌ على أنْ مع ما في حيزه أي إلا وجودَ ميتةٍ أو دماً مسفوحاً أي مصبوباً كالدماء التي في العروقلا كالطحال والكبِد {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ} أي الخنزيرَ {رِجْسٌ} أي لحمُه قذرٌ لتعوه أكل النجاسات أوخبيث {أَوْ فِسْقًا} عطف على لحمَ خنزيرٍ وما بينهما اعتراضٌ مقرِّر لحرمته {أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} صفةٌ له من ضحة أي ذُبح على اسم الأصنامِ وإنما سُمِّي ذلك فسقاً لتوغله في الفسق ويجوز أن يكون فسقاً مفعولاً له لأُهِلَّ وهو عطف على يكون والمستكن راجعٌ إلى ما رجع إليه المستكن في يكون {فمن اضطر} أي

الأنعام آية 146 أصابه الضَّرورةُ الداعيةُ إلى أكل الميتة بوجه من الوجة وه المضطرة {غَيْرَ بَاغٍ} في ذلك على مضطرمثله {وَلاَ عَادٍ} قدرَ الضرورة {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} مبالِغٌ في المغفرةِ والرحمةِ لا يؤاخذه بذلك وليس التقييدُ بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجَد القيدُ لتحققت الحرمة المبحوثُ عنها بل للتحذير من حرام آخر هو آخذخ حقِّ مضطرٍ آخرَ فإن من أخذ لحمَ الميتة من يد مضطرٍ آخرَ فأكله فإن حرمتَه ليست باعتبا كونِه لحمَ الميتة بل باعتبار كونه حقاً للمضطر الآخر وأما الحال الثاني فلتحقيق زوالِ الحرمةِ المبحوثِ عنها قطعاً فإن التجاوزَ عن القدر الذي يُسدّ به الرمقُ حرامٌ من حيث إنه لحمُ الميتة وفي التعرض لوصفي المغفرةِ والرحمةِ إيذانٌ بأن المعصيةَ باقيةٌ لكنه تعالى يغفرُ له ويرحمه والآيةُ محكمةٌ لأنها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد فيما أوحيَ إليه في تلك الغاية غيرَه ولا ينافيه ورودُ التحريمِ بعد ذلك في شيء آخرَ فلا يصِحُّ الاستدلالُ بها على نسخ الكتابِ بخبر الواحدِ ولا على حل الأشياءِ التي هي غيرُها إلا مع الاستصحاب

146

{وعلى الذين هادوا} خاصة لا على من عجاهم من الأولين والآخِرين {حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} أي كلَّ ما له أصبَعٌ من الإبل والسباعِ والطيورِ وقيل كلَّ ذي مِخْلبٍ وحافرٍ وسُمِّيَ الحافرُ ظفُراً مجازاً والمسبَّبُ عن الظلم هو تعميمُ التحريمِ حيث كان بعضُ ذواتِ الظفرِ حلالاً لهم فلما ظلموا عم التحريمُ كلَّها وهذا تحقيقٌ لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بلإبطال ما يخالفه من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون لسنا أولَ من حُرِّمتْ عليه وإنما كانت محرمةً على نوح وإبراهيم من بعدَهما حتى انتهى الأمرُ إلينا {وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} لا لحومَهما فإنها باقيةٌ على الحل والشحومُ الثروبُ وشحومُ الكلى والإضافةُ لزيادة الربطِ {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} استثناء من الشحوم ومخرج لما علِق من الشحم بظهورهما عن حكم التحريم {أَوِ الحوايا} عطفٌ على ظهورهما أي ما حملته الحوايا وهي جمعُ حاوية أو حاوِياء كقاصِعاء وقواصِعَ أو حوية كسفينة وسفائن {أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ} عطف على ما حمَلَتْ وهو شحمُ الأَلْيةِ واختلاطُه بالعظم اتصالُه بعُجْب الذنب وقيل هو كلُّ شحمٍ متصلٍ بالعظم من الأضلاع وغيرِها {ذلك} إشارة إلى الجزاء والتحريم فهو على الأول نُصب على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لما بعده وعلى الثَّاني على أنَّه مفعولٌ ثان لهأي ذلك التحريمُ {جزيناهم بِبَغْيِهِمْ} بسبب ظلمِهم وهو قتلُهم الأنبياءَ بغير حق وأكلُهم الربا وقد نهو عنه وَأَكْلِهِمْ أموالَ الناس بالباطل كقوله تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ وكانوا كلما أتَوْا بمعصية عُوقبوا بتحريم شيءٍ مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك ويدّعون أنها لم تزَلْ محرمةً على الأمم فرد ذلك عليهم وأكذ بقوله تعالى {وِإِنَّا لصادقون} أي في جميع أخبارِنا التي من حملتها هذا الخبرُ ولقد ألقمهم الحجر قوله تعالى كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسرائيلَ إلا ما حرم إسرائيل على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك بهتوا ولم يجسروا أن

الأنعام آية 147 149 يخرجوا التوراة وكيف وقد بُيِّن فيها جميعُ ما يحذرون وأوضح بيان

147

{فَإِن كَذَّبُوكَ} قيل الضمير لليهود لأنهم أقربُ ذِكراً ولذكر المشركين بعد ذلك بعنوان الإشراك وقيل للمشركين فالمعنى على الأول إن كذبتْك اليهودُ في الحكم المذكورِ وأصروا على ما كانُوا عليهِ من ادعاء قِدَم التحريم {فَقُلْ} لهم {ربكم ذو رحمة واسعة} لا يؤاخذكم لكل ما تأتونه من المعاصي ويُمهلكم على بعضها {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ} بالكلية {عَنِ القوم المجرمين} فلا تنكروا ما وقع منه تعالى من تحريمِ بعضِ الطيبات عليكم عقوبةً وتشديداً وعلى الثاني فإن كذبك المشركون يما فُصل من أحكام التحليل والتحريمِ فقل لهم ربُكم ذو رحمة واسعة لا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فإنَّه إمهالٌ لا إهمالٌ وقيل ذو رحمةٍ للمطيعين وذو بأس شديد على المجرمين فأقيم مُقامَه قوله تعالى وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ الخ لتضمنه التنبيهَ على إنزال البأسِ عليهم مع الدلالة أنه لا حقّ بهم اُلبتةَ منْ غيرِ صارفٍ يصرِفه عنهم أصلاً

148

{سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ} حكاية لفنَ آخرَ من كُفرِهم وإخبارُه قبل وقوعِه ثم وقوعُه حسبما أُخبر به كما يحكيه قوله تعالى عند وقوعِه وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآء الله ما عبدنا مِن دُونِهِ مِن شَىْء صريحٌ في أنَّه من عندِ الله {لو شآء الله ما أَشْرَكْنَا} أي لو شاء خلافَ ذلك مشيئةَ ارتضاءٍ لما فعلنا الإشراك نحن {ولا آباؤنا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَىْء} أرادوا به أنَّ ما فعلُوه حقٌّ مرضيٌّ عندَ الله تعالَى لاَ الاعتذارَ من ارتكاب هذه القبائحِ بإرادة الله تعالى إياها منهم حتى ينتهضَ ذمُّهم به دليلا للمعتزل ألايرى إلى قوله تعالى {كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي مثلَ ما كذّبك هؤلاءِ في أنه تعالى منَع من الشرك ولم يحرِّم ما حرموه كذّب متقدموهم الرصل فإنه صريحٌ فيما قلنا وعهطف آباؤنا على الضمير للفصل بلا {حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} الذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم {قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ} من أمر معلوم يصِحّ الاحتجاجُ به على ما زعمتم {فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} أي فتُظهروه لنا {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} أي ما تتبعون في ذلكَ إِلاَّ الظنَّ الباطلَ الذي لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شيئاً {وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} تكذِبون على الله عزَّ وجلَّ وليس فيه دلالةٌ على المنع من اتباع الظنِّ على الإطلاق بل فيما يعارضه قطعي

149

{قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة} الفاء جواب شرطمحذوف أي قد ظهر أن لا حجةَ لكم فللَّه الحجةُ البالغة أي البينةُ الواضحة التيبلغت غايةَ المتانةِ والثباتِ أو بلغ بها صاحبُها صحةَ دعواه والمرادُ بها الكتابُ والرسولُ والبيانُ وهي من الحجج بمعنى القصدَ كأنها تقصُد إثباتَ الحُكم وتطلُبه {فَلَوْ شَاء} هدايتَكم جميعاً {لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} بالتوفيق لها والحملِ عليها لكن

الأنعام آية 150 151 لم يشأْ هدايةَ الكلِّ بل هدايةَ البعضِ الصارفين هِممَهم إلى سلوك طريقِ الحقِّ وضلالَ آخرين صرفوا اختيارَهم إلى خلاف ذلك من غير صارف يلويهم ولا عاطفٍ يَثْنيهم

150

{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ} أي أحضِروهم وهو اسمُ فعلٍ لا يتصرَّف على لغة أهلِ الحجاز وفعلٌ يؤنث ويُجمع على لغة بني تميم على رأي الجمهور وقد خالفهم البعض في فعليته وليس بشيء وأصلُه عند البصريين هالُمّ من لَمّ إذا قصَد حُذفت الألفُ لتقدير السكون في اللام فإنه الأصل وعند الكوفيين هلْ أُمَّ فحذفت الهمزةُ بإلقاء حركتِها على اللام وهو بعيد لأن هل تدخل الأمر ويكون متعدياً كما في الآية ولازما كمال في قوله تعالى هَلُمَّ إِلَيْنَا {الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا} وهم قدوتُهم الذين ينصُرون قولَهم وإنما أُمروا باستحضارهم ليُلزِمَهم الحجة ويظهربانقطاعهم ضلالتَهم وأنه لا متمسَّكَ لهم كمن يقلدهم ولذلك قُيّد الشهداءُ بالإضافة ووُصفوا بما يدل على أنهم شهداءُ معروفون بالشهادة لهم وبنُصرة مذهبهم {فَإِن شَهِدُواْ} بعد ما حضَروا بأن الله حرم هذا {فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أي فلا تصدقْهم فإنه كذِبٌ بحتٌ وافتراءٌ صِرْفٌ وبيِّنْ لهم فسادَه فإن تسليمَه منهم موافقة لهم في الهادة الباطلة {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين كَذَّبُواْ بآياتنا} من وُضع المُظْهر مقامَ المُضْمَر للدِلالة على أن من كذَّب بآياتِ الله تعالى وعدَل به غيرَه فهو متبع للهوى لا غيرُ وأن من اتبع الحجةَ لا يكون إلا مصدقاً بها {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة} كعبدة الأوثان عطفٌ على الموصول الأولِ بطريق عطفِ الصفةِ على الصفة مع اتحاد الموصوف كما في قولِه ... إلى الماجد القَرْمِ وابنِ الهما م وليثِ الكتائبِ في المزْدَحَمْ فإن من يكذب بآياته تعالى لا يؤمن بالآخرة وبالعكءس {وَهُم بِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ} أي يجعلون له عديلا بلا عطفٌ على لا يؤمنون والمعنى لا تتبع أهواءَ الذين يجمعون بين تكذيبِ آياتِ الله وبين الكفرِ بالآخرة وبين الإشراكِ به سبحانه لكن لا على أن يطكون مدارُ النهي الجمعُ المذكورُ بل على أن أولئك جامعون لها متصفون بكلها

151

{قُلْ تَعَالَوْاْ} لما ظهر بُطلانُ ما ادعَوْا من أن إشراكَهم وإشراكَ آبائِهم وتحريمَ ما حرموه بأمر الله تعالى ومشيئتِه بظهور عجْزِهم عن إخراج شيءٍ يُتمسّك به في ذلك وإحضارِ شهداءَ يشهدون بما ادعَوْا في أمر التحريم بعد ما كُلّفوه مرةً بعد أخرى عجزاً بيناً أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحالُ بيانَه على الأسلوب الحكيم إيذاناً بأن حقَّهم الاجتنابُ عن هذه المحرماتِ وأما الأطعمةُ المحرمةُ فقد بُينت بقوله تعالى قُل لا أجد الآية وتعالى أمرٌ من التعالي والأصلُ فيه أن يقله من في مكان

الأنعام آية 151 عالٍ لمن هو في أسفلَ منه ثم اتُّسع فيه بالتعميم كما أن الغنيمة في الأصل إصابةُ الغَنَم من العدو ثم استعملت في إصابة كلِّ ما يُصاب منهم اتساعاً في الفوز بكل مكلب من غير مشقة {اتل} جوابُ الأمر وقوله تعالى {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} منصوبٌ به على أن ما موصولةٌ والعائدُ محذوفٌ أي اقرأْ الذي حرمه ربُّكم أي الآياتِ المشتمِلةَ عليه أو مصدريةٌ أي الآياتِ المشتملة على تحريمه أو يحرم على أنها استفهاميةٌ والجملةُ مفعول لأتنل لأتن التلاوةَ من باب القول كأنه قيل أقُلْ أيُّ شيءٍ حرم ربكم {عَلَيْكُمْ} متعلقٌ بحرّم على كل حال وقيل بأتلُ والأول أنسبُ بمقام الاعتناءِ بإيجاب الانتهاءِ عن المحرمات المذكورةِ وهو السر في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم فإن تذكيرَ كونِه تعالى رباً لهم ومالكاً لأمرهم على الإطلاق من أَقْوى الدَّواعي إلى انتهائهم عما نهاهم عنه أشدَّ انتهاءٍ وأنْ في قولِه تعالَى {إِلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ} مفسرةٌ لفعل التلاوةِ المعلَّقِ بما حرم ولا ناهيةٌ كما ينبىء عنه عطفُ ما بعده من الأوامر والنواهي عليه وليس من ضرورة كونِ المعطوفِ عليه تفسير تلاوة المحرمات بحسب منطوقه كونُ المعطوفاتِ أيضاً كذلك حتى يمتنع انتظامُ الأوامر في سلك العطفِ عليه بل يكفي في ذلك كونُها تفسيراً لها باعتبار لوازمِها التي هي النواهي المتعلقةُ بأضداج ما تعلقت به فإن الأمرَ بالشيء مستلزمٌ للنهي عن ضده بل هو عينُه عند البعض كأن الأوامرَ ذُكرت وقُصد لوازمُها فإن عطفَ الأوامرِ على النواهي الواقعةِ بعد أن المفسرة لتلاوة المحرماتِ مع القطع بأن المأمورَ به لا يكون محرماً دليلٌ واضحٌ على أن التحريمَ راجعٌ إلى الأضداد على الوجهالمذكور فكأنه قيل أتلُ ما حرم ربكم أن لا تشركوا ولا تُسيئوا إلى الوالدين خلا أنه قد أُخرج مُخرجَ الأمرِ بالإحسان إليهما بين النهيَين المكتنِفين له للمبالغة في إيجاب مراعاةِ حقوقِهما فإن مجرَّدَ تركِ الإساءةِ إليهما غيرُ كافٍ في قضاء حقوقِهما ولذلك عُقّب به النهيُ عن الإشراك الذي هو أعظمُ المحرماتِ وأكبرُ الكبائرِ ههنا وفي سائر المواقعِ وقيل أن ناصبةٌ ومحلُّها النصبُ بعليكم على أنه للإغراء وقيل النصبُ على البدلية مما حرم وقيل من عائدها المحذوفِ على أن لا زائدة وقيل الجرُّ بتقدير اللام وقيل الرفع بتقدير المتلو أن لا تشركو أو المحرَّمُ أن لا تشركوا بزيادة لا وقيل والذي عليه التعويلُ هو الأول لأمور من جملتها أن في إخراج المفسَّرِ على صورة النهي مبالغةً في بيان التحريمِ وقوله تعالى {شَيْئاً} نُصب على المصدرية أو المفعولية أي لا تشركوا به شيئاً من الإشراك أو شيئاً من الأشياء {وبالوالدين} أي وأحسِنوا بهما {إحسانا} وقد مر تحقيقه {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ} تكليفٌ متعلق بحقوق الأولادِ عقّب به التكليفَ المتعلقَ بحقوق الوالدين أي لا تقتلوهم بالوأد {مّنْ إملاق} أي من أجل فقرٍ كما في قوله تعالى خَشْيَةَ إملاق وقيل هذا في الفقر الناجزِ وذا في المتوقَّع وقوله تعالى {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل النهي وإبطالِ سببيةِ ما اتخذوه سبباً لمباشرة المنهيعنه وضمانٌ منه تعالى لأرزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تخافوا الفقرَ بناءً على عجزكم عن تحصيل الرزق وقوله تعالى {وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش} كقوله تعالى وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً الآية إلا أنه جىء ههنا بصيغة الجمعِ قصداً إلى النهي عن أنواعها ولذلك أُبدل عنها قولُه تعالى {ما ظهرَ منها وما بَطَنَ} أي ما يُفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأَبُ أراذلِهم وما يفعل سراً باتخاذ الأخدانِ كما هو عادةُ أشرافِهم وتعليقُ النهي بقُربانها إما للمبالغة في الزجر

الأنعام آية 152 عنها لقوة الدواعي إليها وإما لأن قربانَها داعٍ إلى مباشرتها وتوسيطُ النهي عنها بين النهي عن قتل الأولادِ والنهي عن القتلِ مطلقاً كما وقعَ في سورةِ بني إسرائيل باعتبار أنها مع كونها في نفسها جنايةً عظيمةً في حكم قتلِ الأولادِ فإن أولادَ الزنا في حكم الأموات وقد قال صلى الله عليه وسلم في حق العزلِ إن ذاك وأدٌ خفيٌّ ومن ههنا تبين أن حملَ الفواحشِ على الكبائر مطلقاً وتفسير ما ظهرَ منها وما بطن بما فُسِّر به ظاهِرُ الإثمِ وباطنُه فيما سلف من قبيل الفصلِ بين الشجر ولِحائِه {وَلاَ تقتلوا النفس التى حَرَّمَ الله} أي حرم قتلَها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد فيخرُج منها الحربيُّ وقوله تعالى {إِلاَّ بالحق} استثناءٌ مفرغٌ من أعم الأحوالِ أيْ لا تقتلوها في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ ملابستِكم بالحق الذي هو أمرالشرع بقتلها وذلك بالكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان وقتلِ النفسِ المعصومةِ أو من أعمِّ الأسباب أي لا تقتلوها بسب من السباب إلا بسبب الحقِّ وهو ما ذكر أو من أعمِّ المصادر أي لا تقتُلوها قتلاً ما إلا قتلاً كائناً بالحق وهو القتلُ بأحد الأمور المذكورة {ذلكم} إشارةٌ إلى ما ذكر من التكاليف الخمسةِ وما في ذلك من معنى البعد للإيذان بعلو طبقاتها من بين التكاليف الشرعية وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {وصاكم بِهِ} أي أمركم به ربكم أمراً مؤكداً خبرُه والجملة استئنافٌ جيء به تجديدا للعهد وتأكيدا لإيجا بالمحافزظة على ما كُلِّفوه ولما كانت الأمورُ المنهيُّ عنها مما تقضي بديهةُ العقول بقبيحها فُصِّلت الآيةُ الكريمة بقوله تعالى {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي تستعملون عقولَكم التي تعقِل نفوسَكم وتحبِسُها عن مباشرة القبائحِ المذكورة

152

{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} توجيهُ النهي إلى قُربانه لما مر من المبالغةُ في النَّهيِ عن أكله ولإخراج القُربان النافعِ عن حكم النهي بطريق الاستثناء أي لا تتعرضوا له بوجهٍ من الوجوه {إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ} إلا بالخَصلة التي هي أحسنُ ما يكونُ من الحِفظ والتئمير ونحو ذلك والخطابُ للأولياء والأوصياء لقوله تعالى {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فإنه غايةٌ لما يُفهم من الاستثناء لا للنهي كأنه قيل احفظوه حتى يصيرَ بالغاً رشيداً فحينئذ سلّموه إليهِ كما في قولِه تعالى فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم والأشُدُّ جمع شِدّة كنعمة وأنعم أو شَدّ ككلب وأكلُب أو شد كصر وآصر وقيل هو مفرد كلآنك {وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط} أي بالعدل والتسوية {لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} إلا ما يسعُها ولا يعسُر عليها وهو اعتراضٌ جيء به عَقيبَ الأمرِ بالعدل للإيذان بأن مراعاةَ العدلِ كما هو عسيرٌ كأنه قيل عليكم بما في وسعكم وما وراءه معفوٌّ عنكم {وَإِذَا قُلْتُمْ} قولاً في حكومة أو شهادة أو نحوِهما {فاعدلوا} فيه {وَلَوْ كَانَ} أي المقولُ له أو عليه {ذَا قربى} أذ ذا قرابةٍ منكم ولا تميلوا نحوهم أصلاٌ وقد مر تحقيق معنى لو في مثل هذا الموضعِ مراراً {وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ} أي ما عَهد إليكم من الأمور المعدودةِ أو أيِّ عهدٍ كان فيدخُل فيه ما ذُكر

الأنعام آية 153 154 دخولا أوليا أو منا عاهدتم الله عليه من الإيمان والنذور وتقديمُه للاعتناء بشأنه {ذلكم} إشارةٌ إلى ما فُصِّل من التكاليف ومعنى البُعد لما ذكر فيما قبل {وصاكم بِهِ} أمركم به أمراً مؤكداً {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتذكرون ما في نضاعيفه وتعلمون بمقتضاه وقرىء بمقتضاه وقرىء بتشديد الذالِ وهذه أحكامٌ عشَرةٌ لا تختلف باختلاف الأممِ والأعصار عن ابن عباس رضي الله عنهما هذه آياتٌ محكماتٌ لم ينسَخْهن شيء من جميع الكتُب وهن محرماتٌ على بني آدم كلِّهم وهن أمُّ الكتابِ من عمِل بهن دخلَ الجنة ومن تركهن دخلَ النار وعن كعب الأحبارِ والذي نفسُ كعبٍ بيده إن هذه الآياتِ لأولُ شيءٍ في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالَوا الآيات

153

{وَأَنَّ هذا صراطي} إشارةٌ إلى ما ذكر في الآيتين من الأمر والنهي قاله مقاتل وقيل إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيدِ والنبوة وبيانِ الشريعة وقرىء صراطيَ بفتح الياء ومعنى إضافتِه إلى ضميره صلى الله عليه وسلم انتسابه إليه صلى الله عليه وسلم من حيث السلوكُ لا من حيث الوضعُ كما في صراط اللهوالمراد بيان أن ما فضل من الأوامر والنواهي غيرُ مختصةٍ بالمتلو عليهم بل متعلقة به صلى الله عليه وسلم أيضا وأنه صلى الله عليه وسلم مستمرٌّ على العمل بها ومراعاتِها وقوله تعالى {مُّسْتَقِيماً} حالٌ مؤكدةٌ ومحل أن مع ما في حيزها بحذف لام العلة أي ولأن هذا صراطي أي مسلكي مستقيماً {فاتبعوه} كقوله تعالى وَأَنَّ المساجدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً وتعليلُ إتباعِه بكونه صراطه صلى الله عليه وسلم لا بكونه صراطَ الله تعالى مع أنه في نفسه كذلك من حيث أن سلوكه صلى الله عليه وسلم فيه داعٍ للخلق إلى الاتّباع إذ بذلك يتضح عندهم كونُه صراطَ الله عزَّ وجلَّ وقُرىء بكسر الهمزة على الاستئناف وقرىء أنْ هذا مخففةً من أنّ على أن اسمَها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ وقرىء سراطي وقرىء هذا صراطي وقرىء هذا صراطُ ربِّكم وهذا صراطُ ربِّك {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل} الأديانَ المختلفةَ أو طرقَ البدع والضلالات {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ} بحذف إحدى التاءين والباء للتعدية أي فتفرِّقَكم حسَبَ تفرُّقِها أياديَ سبا فهو كما ترى أبلغُ من تفرقكم كما قيل من أن ذهَبَ به لما فيه من الدلالة على الاستصحاب أبلغُ من أذهبه {عَن سَبِيلِهِ} أي سبيل الله الذي لا عِوَجَ فيهِ ولا حرج وهو دين الإسلام الذي ذُكر بعضُ أحكامه وقيل هو اتباعُ الوحي واقتفاءُ البرهان وفيه تنبيه على أن صراطه صلى الله عليه وسلم عينُ سبيل الله تعالى {ذلكم} غشارة إلى ما مرَّ من اتباع سبيلِه تعالى وتركِ اتباعِ سائر السبل {وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} اتباعَ سبُلِ الكفر والضلالة

154

{ثم آتينا مُوسَى الكتاب} كلامٌ مسوقٌ من جهتِه تعالى تقريراً للوصية وتحقيقاً لها وتمهيداً لما يعقُبه منْ ذكر إنزال القرآنِ المجيد كما ينبىء عنه تغيرر الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوفٌ على مقدر يقتضيه المقامُ ويستدعيهِ النظامُ كأنَّه قيل بعد قوله تعالى ذلكم

الأنعام آية 155 156 وصاكم بِهِ بطريق الاستئنافِ تصديقاً له وتقريراً لمضمونه فعلنا ذلك ثم آتينا الخ كما أن قوله تعالى وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ معطوفٌ على ما يدلُّ عليهِ معنى أَوَ لَمْ يَهْدِ الخ كأنه قيل يغفُلون عن الهداية وتطيع الخ وأما عطفُه على ذلكم وصاكم به ونظمُه معه في سلك الكلامِ الملقّن كما أجمع عليه الجمهورُ فمما لا يليق بجزال النظمِ الكريم فتدبر وثم للتراخي في الإخبار كما في قولك بلغني ما صنعتَ اليوم ثم ما صنعتَ أمسِ أعجبُ أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل ذلكم وصاكم به قديماً وحديثاً ثم أعظمُ من ذلك أنا آتينا موسى التوراةَ فإن إيتاءَها مشتملةً على الوصية المذكورةِ وغيرِها أعظمُ من التوصية بها فقط {تَمَامًا} للكرامة والنعمة أي إتماماً لهما على أنه مصدرٌ من أتمّ بحذف الزوائد {عَلَى الذى أَحْسَنَ} أي على مَنْ أحسن القيامَ به كائناً مَنْ كان ويؤيده أنه قرىء على الذين أحسنوا وتماماً على المحسنين أو على الذي أحسن تبليغَه وهو مُوسى عليه السلامُ أو تماماً على ما أحسنه موسى عليه السلام أي أجاده من العلم والشرائعِ أي زيادةً على علمه على وجه التتميم وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي على الذي هو أحسن دين وأرضاه وآتينا موسى الكتاب تماماً أي تاماً كاملاً على أحسنِ ما يكون عليه الكتُب {وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء} وبياناً مفصلاً لكلِّ مَا يُحتاج إليهِ في الدين وهو عطفٌ على تماماً ونصبُهما إما على العلية وعلى المصدرية كمَا أُشير إليهِ أو على الحالية وكذا قوله تعالى {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} وضمير {لعلهم} لبني إسرائي المدلولِ عليهم بذكر موسى وإيتاءِ الكتاب والباء في قوله تعالى {بِلَقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ} قدمت عليه محافظةً على الفواصل قال ابن عباس رضي الله عنهما كي يؤمنوا بالبعث ويصدّقوا بالثواب والعذاب

155

{وهذا} أي الذي تُليت عليكم أوامرُه ونواهيه أي القرآن {كِتَابٌ} عظيمُ الشأنِ لا يقادَر قدرُه وقوله تعالى {أنزلناه مُبَارَكٌ} أي كثيرُ المنافع ديناً ودنيا صفتان لكتابٌ وتقديمُ وصفِ الإنزال مع كونه غيرَ صريحٍ لأن الكلام مع منكريه أو خبرانِ آخرانِ لاسمِ الإشارة أي أنزلناه مشتملاً على فنون الفوائدِ الدينية والدنيوية التي فُصِّلت عليكم طائفةٌ منها والفاء في قوله تعالى {فاتبعوه} لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن عِظمَ شأنِ الكتابِ في نفسه وكونَه منزلاً من جنابِه عزَّ وجلَّ مستتبعاً للمنافع الدينية والدنيوية موجبٌ لاتباعه أيَّ إيجاب {واتقوا} مخالفتَه {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بواسطة اتباعِه والعمل بموجبه

156

{أَن تَقُولُواْ} علةٌ لأنزلناه المدلولِ عليه بالمذكور لا لنفسه للزوم الفصلِ حينئذ بين العامل والمعمولِ بأجنبيّ هو مباركٌ وصفاً كان أو خبراً أي أنزلناه كذلك كراهةَ أن تقولوا يوم القيام لو لم تُنْزِله {إِنَّمَا أُنزِلَ الكتاب} الناطقُ بتلك الأحكام العامة لكل الأمم {على طائفتين} كمائنتين {مِن قَبْلِنَا} وهما اليهودُ والنصارى وزتخصيص الإنزال بكتابيهما لأنهما الذي اشتهر حينئذ فيما بين الكتب السماويةِ بالاشتمال على الأحكام لا سيما الأحكامِ المذكورة {وإن كنا}

الأنعام آية 157 أنْ هيَ المخففةُ منَ إن واللام فارقةٌ بينهما وبين النَّافيةِ وضميرُ الشَّأنِ محذوفٌ ومرادُهم بذلك دفعُ ما يرد عليهم من أن نزولَه عليهما لا ينافي عمومَ أحكامِه فلمَ لمْ تعملوا بأحكامه العامة أي وإنه كنا {عَن دِرَاسَتِهِمْ لغافلين} لا ندري ما في كتابهم إذ لم يكن على لغتنا حتى نتلقّى منه تلك الأحكامَ العامة ونحافظَ عليها وإن لم يكن منزلاً علينا وبهذا تبيّن أن معذرتَهم هذه مع أنهم غيرُ مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة الأممِ كما أن قطعَ تلك المعذرةِ بإنزال القرآنِ لاشتماله أيضاً عليها لا على سائر الشرائعِ والأحكام فقط

157

{أَوْ تَقُولُواْ} عطفٌ على تقولوا وقرىء كلاهما بالياء على الالتفات من خطاب فاتبعوه واتقوا {لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب} كما أنزل عليهم {لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ} إلى الحقِّ الذي هو المقصِدُ الأقصى أو إلى ما في تضاعيفِه من جلائل الأحكام والشرائع ودقائقِها لحِدّة أذهانِنا وثَقابةِ أفهامنا ولذلك تلقّفنا من فنون العلم كالقصص والأخبار والخُطب والأشعار ونحوِ ذلك طرفاً صالحاً ونحن أمّيون وقوله تعالى {فَقَدْ جَاءكُمْ} متعلِّق بمحذوفٍ يُنبىء عنه الفاءُ الفصيحةُ إما معللٌ به أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم الخ وإما شرطٌ له أي إن صدقتم فيما كنتم تعدّون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزولِ الكتابِ عليكم فقد حصل ما فرضتم وجاءكم {بينة} وأي بينة أي حجة واضحة لا يُكتَنهُ كنهها وقوله تعالى {من رَّبّكُمْ} متعلق بجاءكم أو بمحذوف هو صفةٌ لبينة أي بينةٌ كائنا منه تعالى وأيا ما كان ففيه دلالة على فضلها الإضافي كما أن في تنوينها التفخيميِّ دلالةٌ على فضلها الذاتي وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم مزيدُ تأكيدٍ لإيجاب الاتباع {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} عطفٌ على بينةٌ وتنوينُهما أيضاً تفخيميٌّ عبّر عن القرآن بالبينة إيذاناً بكمال تمكنِهم من دراسته ثم بالهدى والرحمة تنبيهاً على أنه مشتملٌ على ما اشتمل عليه التوراةُ من هداية الناس ورحمتِهم بل هو عينُ الهداية والرحمة {فَمَنْ أَظْلَمُ} الفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن مجيءَ القرآن المشتمل على الهدى والرحمة موجبٌ لغاية أظلمية مَنْ يكذّبه أي وإذَا كانَ الأمرُ كذلك فَمَنْ أَظْلَمُ {مِمَّن كَذَّبَ بآيات الله} وُضع الموصولُ موضعَ ضميرِهم بطريق الالتفات تنصيصاً على اتصافهم بما في حيزلصلة وإشعارا بعلة التحكيم وإسقاطاً لهم عن رتبة الخطابِ وعبّر عما جاءهم بآيات الله تهويلاً للأمر وتنبيهاً على أن تكذيبَ أي آيةٍ كانت من آياتِ الله تعالى كافٍ في الأظلمية فما ظنكتكذيب القرآن المنطوي على الكل والمعنى إنكارُ أن يكون أحد ظلم ممن فعل ذلك أو مساوياً له وإن لم يكن سبكُ التركيب متعرضاً لإنكار المساواة أو نفيها فإذا قيل مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضل منه فالمراد به حتماً بحكم العرف الفاشي والاستعمال المطرد أنه أكرمُ من كل كريم وأفضل من كل فاضل وقد مر مراراً {وَصَدَفَ عَنْهَا}

الأنعام آية 158 أي صرَفَ الناس عنها فجمعَ بين الضلال والإضلالِ {سَنَجْزِى الذين يَصْدِفُونَ} الناسَ {عَنْ آياتنا} وعيدٌ لهم ببيان جزاء إضلالِهم بحيث يُفهم منه جزاءُ ضلالهم ايضا ووضعُ الموصول موضعَ المضمرِ لتحقيق مناطِ الجزاء {سُوء العذاب} أي العذابَ السيءَ الشديدَ النكاية {بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ} أي بسببِ ما كانُوا يفعلون الصَّدْف والصرْف على التجدد والاستمرارِ وهذا تصريحٌ بما أَشعَرَ به إجراءُ الحُكم على الموصول من عِلِّيَّةِ مَا في حيزِ الصِّلةِ له

158

{هَلْ يَنظُرُونَ} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان أنَّه لا يتأتَّى منهمْ الإيمانُ بإنزال ما ذكر من اللبينات والهدى وأنهم لا يرعوون عن التمادي في المكابرة واقتراحِ ما ينافي الحكمةَ التشريعية من الآيات المُلجئة وأن الإيمانَ عند إتيانها مما لا فائدةَ له أصلاً مبالغةً في التبليغ والإنذار وإزاحةِ العلل والأعذار أي ما ينتظرونَ {إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} حسبما اقترحوا بقولهم لول أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ أَوْ نرى رَبَّنَا وبقولهم أو تأتي بالله والملائكة قَبِيلاً وبقولهم لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ونحو ذلك أو إلا أن تأتيهم ملائكةُ العذاب أو يأتيَ أمرُ ربك بالعذاب والانتظارُ محمولٌ على التمثيل كما سيجيء وقرىء يأتيَهم بالياء لأن تأنيثَ الملائكة غيرُ حقيقي {أو يأتي بعضُ آيات ربِّكَ} أي غيرُ ما ذكركما اقترحوا بقولهم أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا ونحوِ ذلك من عظائمِ الآياتِ التي علّقوا بها إيمانَهم والتعبيرُ عنها بالبعض للتهويل والتفخيم كما أن إضافةَ الآياتِ في الموضعين إلى اسم الربِّ لمنبىء عن المالكية الكليةِ لذلك وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم للتشريف وقيل المرادُ بالملائكة ملائطكة الموت وبإتيانه سبحانه وتعالى إتيانُ كل آياتِه بمعنى آياتِ القيامةِ والهلاكُ الكليُّ بقرينة ما بعده من إتيان بعضِ آياتِه تعالى على أن المرادَ به أشراطُ الساعةِ التي هي الدخانُ ودابةُ الأرضِ وخسفٌ بالمشرق وخسف بماغرب وخسف بجزيرة العرب والدجالوطلوع الشمس من مغربها ويأجوجُ ومأجوجُ ونزولُ عيسى عليه السلام ونارٌ تخرج من عَدَنَ كما نطق به الحديثُ الشريفُ المشهورُ وحيث لم يكن إتيانُ هذه الأمورِ مما ينتظرونه كإتيان ما اقترحوه من الآيات فإن تعليقَ إيمانِهم بإتيانها انتظارٌ منهم له ظاهراً حُمل الانتظارُ على التمثيل المبنيِّ على تشبيه حالِهم في الإصرار على الكفر والتمادي في العناد إلى أن تأتيَهم تلك الأمورُ الهائلةُ التي لا بد لهم من الإيمان عند مشاهدتِها البتةَ بحال المنتظرين لها وأنتَ خبيرٌ بأنَّ النظمَ الكريمَ بسباقه المُنبىءِ عن تماديهم في تكذيبِ آياتِ الله تعالى وعدمِ الاعتدادِ بها وسياقِه الناطقِ بعدم نفع الإيمانِ عند إتيان ما ينتظرونه يستدعي أن يُحملَ ذلك على أمور هائلةٍ مخصوصةٍ بهم إما بأن تكونَ عبارةً عما اقترحوه أو عن عقوبات مترتبةٍ على جناياتهم كإتيان ملائكةِ العذاب وإتيانِ أمرِه تعالى بالعذاب وهُو الأنسبُ لما سيأتِي من قوله تعالى قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ وأما حملُه على ما ذكر من إتيان ملائكةِ الموتِ وإتيانِ كل آياتِ القيامةِ وظهورِ أشراطِ الساعة مع شمول إتيانها

الأنعام آية 158 لكل ر وفاجر واشتمالِ غائلتِها على كل مؤمن وكافرٍ فمما لا يساعده المقامُ على أن بعضَ أشراطِ الساعةِ ليس مما ينسدّ به بابُ الإيمان والطاعة نعم يجوزُ حملُ بعضِ الآياتِ في قولِه عزَّ وجلَّ {يوم يأتي بعضُ آيات ربِّكَ} على ما يعم مقترحاتِهم وغيرها من الدواهي العاظام السالبةِ للاختيار الذي عليه يدجور فلكُ التكليفِ فإنه بمنزلة الكبرى من الشكل الأولِ فيتم التقريبُ عند وقوعِها جوابَ القسم وقرىء يومُ بالرفع على الابتداء والخبرُ هو الجملةُ والعائدُ محذوفٌ أي لا ينفع فيه {نَفْساً} من النفوس {إيمانها} حينئذ لانكشاف وكون الأمرِ عياناً ومدارُ قَبولِ الإيمان أن يكون بالغيب كقوله تعالى فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رأو بَأْسَنَا وقُرِىءَ لا تنفعُ بالتاءِ القوقانية الاكتساب الإيمانِ من ملابسة المضاف إليه تأنيثاً وقوله تعالى {لم تكن آمنت مِن قَبْلُ} أي من قبل إتيان بعض الآيات صفى ة لنفساً فصل بينهما بالفاعل لاشتماله على ضمير الموصوفِ ولا ضيرَ فيه لأنه غيرُ أجنبيَ منه لاشتراكهما في العامل {أَوْ كَسَبَتْ فِى إيمانها خَيْرًا} عطفٌ على آمنت بإيراد الترديدِ على النفي المفيدِ لكفاية أحد النفيين في عدم النفعِ والمعنى أنه لا ينفع الإيمانُ حينئذ نفساً لم تقدم إيمانَها أو قدّمتْه ولم تكسِبْ فيه خيراً ومن ضرورته اشتراطُ النفعِ بتحقق الأمرين أي الإيمانِ المقدَّمِ والخير المكسوف فيه معاً بمعنى أن النافعَ هو تحققُهما والإيمانُ المؤخرُ لغوٌ وتحصيلٌ للحاصل لا أنه هو النافعُ وتحققُهما شرطٌ في نفعه كما لو كان المقدَّمُ غيرَ المؤخرِ بالذات فإن قولَك لا ينفع الصومُ والصدقةُ مَنْ لم يؤمِنْ قبلَهما معناه أنهما ينفعانه عند وقوعِهما بعد الإيمان وقد استدل به أهلُ الاعتزالِ على عدم اعتبارِ الإيمانِ المجردِ عن الأعمال وليس بناهض ضرورةَ صحةِ حملِه على نفي الترديدِ المستلزِمِ لعمومه المفيدِ بمنطوقه لاشتراط عدمِ النفع بعدم الأمرين معاً وبمفهومه لاشتراط النفعِ بتحقق أحدِهما بطريق منعِ الخلوِّ دون الانفصالِ الحقيقي فالمعنى أنه لا ينفع الإيمانُ حينئذ نفساً لم يصدُرْ عنها من قبلُ أحدُ الأمرين أما الإيمانُ المجردُ أو الخيرُ المكسوبُ فيه فيتحقق النفعُ بأيهما كان حسبما تنطِقُ به النصوصُ الكريمةُ من الآيات والأحاديث وما قيل من أن عدم افيمان السابقِ مستلزمٌ لعدم كسب الخيرِ فيه بالضرورة فيكون ذكرُه تكراراً بلا فائدة على أن الموجبَ للخلود في النار هو العدمُ الأولُ من غير أن يكون للثاني دخلٌ ما في ذلك قطعاً فيكون ذكرُه بصدد بيانِ ما يوجب الخلودَ لغواً من الكلام لغو من الكلام مبني على توهم أن المقصودَ بوصف النفسِ بالعدمين المذكورين مجرد بيان غيجابهما للخلود فيها وعدمِ نفعِ الإيمان الحادثِ في إنجائها عنه وليس كذلك إلا لكفى في البيان أن يقال لا ينفعُ نفساً إيمانُها الحادثُ بل المقصِدُ الأصليُّ من وصفها بذينك العدمين في أثناء بيانِ عدم نفعِ الإيمان الحادثِ تحقيقُ أن موجبَ النفع إحدى ملكيتهما أعني الإيمانَ السابقَ والخيرَ المكسوبَ فيه بما ذكر من الطريقة والترغيبِ في تحصيلهما في ضمن التحذيرِ من تركهما ولا سبيلَ إلى أن يقال كما أن عدمَ الأولِ مستقلٌّ في إيسجاب الخلود في النار فيلغو ذكرُ عدمِ الثاني كذلك وجوده مستقل في إيجاب الخلاصعنها فيكون ذكرُ الثاني لغواً لما أنه قياسٌ مع الفارق كيف لا والخلود فيها أمرٌ لا يُتصوَّر فيه تعددُ العللِ وأما الخلاصُ عنها مع دخولِ الجنةِ فله مراتبُ بعضُها مترتبٌ على نفس الإيمان وبعضها على فروعه

الأنعام آية 159 المتفاوته كما وكيفما وإنما لم يقتصِرْ على بيان ما يوجب أصلَ النفع وهو الإيمان السابق مع أنه هو المقابلُ لما لا يوجبه أصلاً أعني الإيمانَ الحادثَ بل قرَنَ به ما يوجب النفع الوائد أيضاً إرشاداً إلى تحرّي الأعلى وتنبيهاً على كفاية الأدنى وإقناطاً للكفرة عمَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ من أعمال البِرّ التي عمِلوها في الكفر من صلة الأرحام وإعتاق الرقاب وفك العُناةِ وإغاثةِ الملهُوفين وقِرى الأضيافِ وغير ذلك ممَّا هو من باب المكارم ببيان أن كل ذلك لغوٌ بحتٌ لابتنائه على غير أساسٍ حسبما نطق به قوله تعالى والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح الآية ونحوُ ذلك من النصوص الكريمة وأن افيمان الحادثَ كما لا ينفعهم وحده لا ينفعهم بانضمام أعمالِهم السابقةِ واللاحقة ولك أن تقول المقصودُ بوصف النفسِ بما ذُكر من العدمين التعريضُ بحال الكفرة في تمردهم وتفريطِهم في كلِّ واحدٍ من الأمرين الواجبين عليهم وإن كان وجوبُ أحدِهما منوطاً بالآخر كما في قوله عز وجل فلا صدق ولا صلى تسجيلاً بكمال طغيانِهم وإيذاناً بتضاعف عقابِهم لما تقرَّر من أنَّ الكفارَ مخاطَبون بفروع الشرائعِ في حق المؤاخذخ كما ينبىء عنه قوله تعالى فويل لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة إذا تححققت هذا وقفتَ على أن الآيةَ الكريمة أحقُّ بأن تكون حجةً على المعتزلة من أن تكون حجةً لهم هذا وقد قيل إنها من باب اللف التقديريِّ أي لا ينفع نفساً إيمانُها ولا كسبُها في الإيمان لم تكن آمنت من قبل أو كسبت فيه وليس بواضح فإن مبنى اللفِّ التقديريِّ أن يكون المقدرُ من متمّمات الكلامِ ومقتَضَيات المقام قد ترك ذكرَه تعويلاً على دِلالة الملفوظِ عليه واقتضائِه إياه كما مرَّ في تفسيرِ قولِه عز وجل وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ ويستكبر فيحشرهم إِلَيهِ جَمِيعاً فإنه قد طُوي في المفصل ذكرُ حشر المؤممنين ثقةً بإنباء التفصيل عنه أعني قوله تعالى فَأَمَّا الذين آمنوا الآية ولا ريب في أن ما قدر ههنا ليس مما يستدعيه قوله تعالى أَوْ كَسَبَتْ فِى إيمانها خَيْرًا ولا هو من مقتضيات المقامِ لأنه ليس ممنا وُعِدوه وعلّقوه بإتيان ما ذُكر من الآيات كالإيمان حتى يرِدَ عليهم ببيان عدمِ نفعِه إذ ذاك على أن ذلك مشعرٌ بأن لهم بعد ما أصابهم من الدواهي ما أصابهم بقاء على السلاة وزماناً يتأتى منهم الكسبُ والعملُ فيه وفيه من الإخلال بمقام تهويلِ الخطبِ وتفظيعِ الحالِ ما لا يخفى وقد أُجيب عن الاستدلال بوجوه أُخَرَ قصارى قصارى أمرِها إسقاطُ الآية الكريمةِ عن رتبة المعارضةِ للنصوص القطعية المنون القويةِ الدلالةِ على ما ذُكر من كفاية الإيمان المجردِ عن العمل في الإنجاء الخالدِ ولو بعد اللتيا والتي لِما تقرَّر من أنَّ الظنيَّ بمعزل من معارضة القطعي {قُلْ} لهم بعد بيانِ حقيقةِ الحالِ على وجه التهديد {انتظروا} ما تنتظرونه من إتيان أحدِ الأمورِ الثلاثةِ لترَوا أيَّ شيء تنتظرون {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} لذلك لنشاهدَ ما يحِلُّ بكم من سوء العاقبة وفيه تأييدٌ لكون المرادِ بما ينتظرونه إتيانَ ملائكةِ العذابِ أو إتيانَ أمرِه تعالى بالعذاب كما اشير غليه وعِدَةٌ ضمنيةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بمعاينتهم لما يَحيق بالكفرة من العقاب ولعل ذلك هو الذي شاهدوه يوم بدر والله سبحانه أعلم

159

{إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} استئناف

الأنعام آية 160 161 لبيان أحوالِ أهلِ الكتابين إثرَ بيانِ حالِ المشركين أي بدّدوه وبعّضوه فتمسك بكل بعضٍ منه فِرقةٌ منهم وقرىء فارقوا أي باينوا فإن تركَ بعضِه وإن كان بأخذ بعضٍ منه تركٌ للكل ومفارقةٌ له {وَكَانُواْ شِيَعاً} أي فِرقاً تشيّع كلُّ فِرقةٍ إماتما لها قال صلى الله عليه وسلم افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقةً كلهم في الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقةً كلهم في الهاوية إلا واحدة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقةً كلهم في الهاوية إلا واحدة واستثناء الواحدة من فِرَق كلَ من أهل الكتابين إنما هو باتلنظر إلى العصر الماضي قبل النسخِ وأما بعده فالكلُّ في الهاوية وإن اختلفت أسبابُ دخولِهم فمعنى قوله تعالى {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء} لست من البحث عن تفرقهم والتعرّضِ لمن يعاصرك منهم بالمناقشة والمؤاخذة وقيل من قتالهم في شيء سوى تبليغِ الرسالةِ وإظهارِ شعائرِ الدين الحقِّ الذي أُمرت بالدعوة إليه فيكون منسوخاً بآية السيف وقوله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله} تعليلٌ للنفي المذكورِ أي هو يتولى وحده أمر أولاهم وأخراهم ويدبره كيف يشاء حسبما تقتضيه الحكمة يؤاخذهم في الدنيا متى شاء ويأمر بقتالهم إذا أراد وقيل المفرقون أهل البدع والأهواء الزائغة من هذه الأمة ويرده أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بمؤاخذتهم والاعتذار بأن معنى لست منهم في شيء حينئذ أنت بريء منهم ومن مذهبهم وهم برآء منك يأباه التعليل المذكور {ثُمَّ يُنَبّئُهُم} أي يوم القيامة {بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} عبر عن إظهاره بالتنبئة لما بينهما من الملابسة في أنهما سببان للعلم تنبيهاً على أنهم كانوا جاهليل بحال ما ارتكبوه غافلين عن سوء عاقبته أي يظهر لهم على رءوس الأشهاد ويعلمهم أي شيء شنيع كانوا يفعلونه في الدنيا على الاستمرار ويرتب عليه ما يليقُ به من الجزاء وقوله تعالى

160

{مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} استئناف مبين لمقادير أجزية العاملين وقد صدر ببيان أجزية المحسنين المدلول عليهم بذكر أضدادهم ال عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم يريد من عمل من المصدقين حسنة كتبت له عشر حسنات أي من دجاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة من المؤمنين إذلا حسنة بغير غيمان فله عشر حسنات أمثالها تفضلا من الله عز وجل وقرىء عشر بالتنوين وأمثالها بالرفع على الوصف وهذا أقل ما وعد من الأضعاف وقد جاء الوعد بسبعين وبسبعمائة وبغير حساب ولذلك قيل المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص {وَمَن جَاء بالسيئة} أي بالأعمال السيئة كائنا من كان من العاملين {فَلا يَجْزِى إِلاَّ مِثْلَهَا} بحكم الوعد واحدة بواحدة {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بنقصِ الثواب وزيادة العقاب

161

{قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى} أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم ما هُو عليه من الدين الحق الذين يدعون أنهم عليه وقد فارقوه بالكلية وتصديرُ الجملة بحرفِ التَّحقيقِ لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لمزيد تشريفه أي قل لأولئك المفرقين أرشدني ربي بالوحي وبما نصب في الآفاق والأنفسِ من الآيات التكوينية {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصل إلى الحق

الأنعام آيو 162 164 وقوله تعالى {دِينًا} بدلٌ من إلى صراط فإن محله النصبُ كما في قوله تعالى وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً أو مفعولٌ لفعل مُضمر يدلُّ عليه المذكورُ {قَيِّماً} مصدرٌ نُعت به مبالغة والقياسُ قِوَماً كعِوَض فاعل لإعلال فعلِه كالقيام وقرىء قيما وهو فعيل من قام كسيّد من ساد وهو أبلغُ من المستقيم باعتبار الزنة وإن كان هو أبلغَ منه باعتبار الصيغة {مِلَّةِ إبراهيم} عطفُ بيانٍ لديناً {حَنِيفاً} حال من غبراهيم أي مائلاً عن الأديان الباطلةِ وقوله تعالى {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} اعتراضٌ مقرر لنزاهته صلى الله عليه وسلم عما عليه المفرِّقون لدينه من عقْد وعَمَل أي ما كان منهم في أمر من أمور دينهم أصلا وفرعا صرح بذلك رداً على الذين يدَّعُون أنَّهم على ملته عليه السَّلامُ من أهل مكةَ واليهود والمشركين بقولهم عزيرا ابنُ الله والنصارى المشركين بقولهم المسبح ابنُ الله

162

{قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى} أعيد الأمر لماأن المأمور به متعلِّقٌ بفروع الشرائعِ وما سبق أصولها أي عبادتي كلَّها وقيل وذبحي جُمع بينه وبين الصلاة كما في قوله تعالى فَصَلّ لِرَبّكَ وانحر وقيل صلاتي وحجّي {وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى} أي وما أنا عليه في حياتي وما أكونُ عليه عند موتي من الإيمان والطاعةِ أو طاعات الحياة الخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير وقرىء محيايْ بسكون الياء إجراءً للوصل مُجرى الوقفِ {للَّهِ رَبّ العالمين}

163

{لاَ شَرِيكَ لَهُ} خالصةً له لا أُشرِك فيها غيرَه {وبذلك} إشارةٌ إلى الإخلاص وما فيه من معنى البُعدِ للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعدِ منزلتِه في الفضل أي بذلك الإخلاصِ {أُمِرْتُ} لا بشيء غيرِه وقوله تعالى {وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين} لبيان مسارعتِه عليه السَّلامُ إلى الامتثال بما أُمر به وأن ما أُمر به ليس من خصائصِه عليه السَّلامُ بل الكلُّ مأمورون به ويقتدي به عليه السلام من أسلم منهم

164

{قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا} فأُشرِكَه في العبادة {وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَىْء} جملةٌ حالة مؤكدةٌ للإنكار أي والحالُ أنَّ كلَّ ما سواهُ مربوبٌ له مثلي فكيفَ يُتصوّر أن يكونَ شريكاً لي في المعبودية {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} كانوا يقولون للمسلمين اتبعوا سبيلنا ولتنحمل خطاياكم إما بمعنى لِيُكْتَبْ علينا ما عمِلتم من الخطايا لا عليكم وإما بمعنى لنحمِلْ يوم القيامة ما كُتب عليكم من الخطايا فهذا ردٌّ له بالمعنى الأول أي لا تكونُ جنايةُ نفسٍ من النفوس إلا عليها ومُحالٌ أن يكون صدورُها عن شخص وقرارُها على شخص آخرَ حتى يتأتى ما ذكرتم وقولُه تعالى {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} ردٌّ له بالمعنى الثاني أي لا تحمِلُ يومئذ نفسٌ حاملةٌ حِمْلَ نفسٍ أخرى حتى يصِحّ قولُكم {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى الكل لتأكيد الوعدِ وتشديد الوعيد أي إلى مالك أمورِكم ورجوعِكم يوم القيامة {فَيُنَبّئُكُمْ} يومئذ {بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} ببيان الرُّشدِ من الغيِّ وتمييزِ الحق من الباطل

الأنعام آية

165

165 - 3 {وَهُوَ الذى جَعَلَكُمْ خلائف الأرض} حيث خلقتم الأممَ السالفة أو يخلُف بعضُكم بعضاً أو جعلكم خلفاءَ الله تعالى في أرضه تتصرفون فيها على أن الخطابَ عام {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ} في الشرف والغنى {فَوْقَ بَعْضٍ درجات} كثيرةٍ متفاوتة {ليبلوكم في ما آتاكم} من المال والجاهِ أي ليعاملكم معاملة من يبتليكم لينظر مذا تعملون من الشكر وضدَّه {إِنَّ رَبَّكَ} تجريدُ الخطابِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع إضافة اسم الربِّ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لإبراز مزيدِ اللطفِ به صلى الله عليه وسلم {سَرِيعُ العقاب} أي عقابُه سريعُ الإتيان لمن لم يُراعِ حقوقَ ما آتاه الله تعالى ولم يشكُرْه لأن كلَّ آتٍ قريبٌ أو سريعُ التمامِ عند إرادتِه لتعاليه عن استعمال المبادي والآلات {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن راعاها كما ينبغي وفي جعل خبرِ هذه الجملةِ من الصفات الذاتيةِ الواردةِ على بناء المبالغةِ مؤكداً باللام مع جعل خبرِ الأولى صفةً جاريةً على غيرِ مَنْ هيَ له في من التنبيه على أنه تعالى غفور رحيم بالذات مبالغ فيعما فاعلٌ للعقوبة بالعَرَض مسامحٌ فيها ما لا يَخْفى والله أعلم عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنزلت عليَّ سورةُ الأنعام جملةً واحدةً يشيِّعها سبعونَ ألفَ ملكٍ لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعامَ صلَّى عليه واستغفرَ له أولئك السبعونَ الف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوماً وليلة والله تعالى أعلم

الأعراف آية 1 { سورة الأعراف مكية غير ثماني آيات من قوله واسألهم إلى قوله وإذ نتقنا الجبل وآيها مائتان وخمس {بسم الله الرحمن الرحيم}

الأعراف

{المص} إمَّا مسرودٌ على نمطِ التعديدِ بأحد الوجهين المذكورين في فاتحةِ سُورةِ البقرةِ فلا محلَّ له من الإعرابِ وإمَّا اسمٌ للسُّورةِ فمحلُّه الرفعُ على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقديرُ هذا ألمص أي مسمّىً به وتذكيرُ اسمِ الإشارة مع تأنيث المسمَّى لما أن الإشارةَ إليه من حيث إنه مسمى بالاسم المذكور لا من حيث أنه مسمّىً بالسورة وإنما صحت الإشارةُ إليه من حيث إنه مسمى بالاسم المذكور لا من حيث أنه مسمّىً بالسورة وإنما صحت الإشارةُ إليه معَ عدمِ سبْق ذكرِه لما أنه باعتبار كونِه بصدد الذكرِ صار في حكم الحاضِرِ المشاهَد وقوله عز وجل

2

{كِتَابٌ} على الوجه الأولِ خبرُ مبتدأ محذوفٍ وهو ما ينبىء عنه تعديدُ الحروفِ كأنه قيل المؤلَّفُ من جنس هذه الحروفِ مراداً به السورةُ كتابٌ الخ أو اسمُ إشارةٍ أُشير به إليه تنزيلاً لحضور المؤلَّفِ منه منزلةَ حضورِ نفسِ المؤلّف أي هذا كتابٌ الخ وعلى الوجه الثاني خبرٌ بعد خبر جىء به غثر بيان كونه مترجما باسمٍ بديع مُنبىءٍ عن غرابته في نفسه إبانةً لجلالة محلهببيان كونِه فرداً من أفراد الكتبِ الإلهية حائزاً للكمالات المختصَّة بها وقد جُوّز كونُه خبراً وألمص مبتدأٌ أي المسمى المص كتابٌ وقد عرفتَ ما فيه من أن ما يُجعل عُنواناً للموضوعِ حقُه أنْ يكونَ قبلَ ذلكَ معلومَ الانتسابِ إليه عند المخاطَب وإذْ لا عهدَ بالتَّسميةِ قبلُ فحقُها الإخبارُ بها {أَنزَلَ إِلَيْكَ} أي من جهته تعالى بُني الفعل للمفعول جرياً على سَنن الكبرياءِ وإيذاناً بالاستغناء عن التصريح بالفاعل لغاية ظهورِ تعيُّنِه وهو السرُّ في ترك مبدأ الإنزال كما في قوله جل ذكره بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ ونظائرِه والجملةُ صفةٌ لكتاب مشرفة له ولم أُنزل إليه وجعلُه خبراً له على معنى كتابٌ عظيمُ الشأنِ أُنزل إليك خلاف الأصل {فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ} أي شك كما في قوله تعالى فَإِن كُنتَ فِي شك مما أنزلنا إليك خلا أنه عبّر عنه بما يلازمه من الحَرَج فإن الشاكَّ يعتريه ضيقُ الصدرِ كما أن المتيقِّنَ يعتريه انشراحه وانفساحه مبالغةً في تنزيه ساحتِه عليهِ الصَّلاةُ والسلام عن نسبة الشك إليه ولو في ضمن النهي فإنه من الأحوال القللبية التي يستحيل اعترؤها إياه وما قديقع من نسبته إليه في ضمن النمهي فعلى طريقةِ التهيجِ والإلهاب والمبالغةِ في التَّنفيرِ والتحذيرِ بإيهام أن ذلك من القُبحِ والشرِّية بحيثُ يُنهى عنه من لا يمكن صدوره عنه

الأعراف آية 3 أصلاً فكيف بمَن يُمكن ذلك منه والتنوينُ للتحقير والجارُّ في قوله تعالى {مِنْهُ} متعلقٌ بحرَجٌ يقال حرِج منه أي ضاق به صدرُه أو بمحذوف وقع صفة له أي حرجٌ كائنٌ منه أي لا يكن فيك شك ما في حقِّيته أو في كونه كتاباً منزلاً إليك من عنده تعالى فالفاءُ على الأول لترتيب النهي أو النتهاء على مضمون الجملةِ فإنه مما يوجب انتفاءَ الشكِّ فيما ذُكر بالكلية وحصولَ اليقينِ به قطعاً وأما على الثاني فهي لترتيب ما ذُكر على الإخبار بذلك لا على نفسه فتدبرو توجيه النهي إلى الحرَج مع أن المراد نهيه عليه الصلام والسلام عنه إما لما مر من المبالغة في تنزيهِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عن الشك فيما ذُكر فإن النهيَ عن الشيء مما يوهم إمكانَ صدورَ المنهي عنه عن المهي عنه وإما للمبالغة في النهي فإن وقوعَ الشكِّ في صدَره عليهِ الصَّلاة والسَّلام سبب لاتصافه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ به والنهيُ عن السبب نهيٌ عن المسبَّب بالطريق البرهاني ونفيٌ له من أصله بالمرة كما في قوله تعالى وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ الآية وليس هذا من قبيل لا أرينك ههنا فإن النهيَ هناك واردٌ على المسبب مرادا به النهيُ عن السبب فيكون المآل نهيهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن تعاطي ما يُورِثُ الحرَجَ فتأملْ وقيل الحرجُ على حقيقته أي لا يكنْ فيك ضيقُ صدرٍ من تبليغه مخافةَ أن يكذّبوك وأن تُقصِّر في القيام بحقه فإنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان يخاف تكذيبَ قومِه له وإعراضَهم عنه فكان يضيق صدرُه من الأداء ولا ينبسِطُ له فآمنه الله تعالى ونهاه عن المبالاة فالفاءُ حينئذ للترتيب على مضمون الجملةِ أو على الإخبار به فإنَّ كُلاًّ منهما موجبٌ للإقدام على التبليغ وزوالِ الخوفِ قطعاً وإن كان إيجابُه الثاني بواسطة الأول وقولُه تعالى {لِتُنذِرَ بِهِ} أي بالكتاب المنزل متعلقٌ بأُنزل وما بينهما اعتراضٌ توسّط بينهما تقريراً لمَا قبلَه وتمهيداً لما بعده وحسماً لتوهم أن موردَ الشكِّ هو الإنزالُ للإنذار وقيل متعلقٌ بالنهي فإن انتفاءَ الشكِّ في كونه منزلا من عنده تعالى موجبٌ للإنذار به قطعاً وكذا انتفاءُ الخوفِ منهم أو العلمُ بأنه موفقٌ للقيام بحقه موجبٌ للتجاسر على ذلك وأنت خبيرٌ بأنه لا يتأتى التفسير الأولِ لأن تعليلَ النهي عن الشك بما ذكر من الإنذار والتذكيرِ مع إيهامه لإمكان صدورِه عنه عليه الصلاة والسلام مُشعرٌ بأن المنهيَّ عنه ليس محذوراً لذاته بل لإفضائه إلى فوات الإنذارِ والتذكير لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظمُ غائلتِه ولا ريب في فساده وأما على التفسير الثاني فإنما يتأتى التعليلُ بالإنذار لا بتذكير المؤمنين إذ ليس فيه شائبةُ خوفٍ حتى يُجعل غايةً لانتفائه وقوله تعالى {وذكرى للمؤمنين} في حين النصبِ بإضمار فعلِه معطوفاً على تنذرَ أي وتذكّرَ المؤمنين تذكيراً أو الجرِّ عطفاً على محلِّ إنَّ تنذرَ أي للإنذار والتذكير وقيل مرفوعٌ عطفاً على كتابٌ أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ وتخصيصُ التذكيرِ بالمؤمنين للإيذان باختصاص الإنذارِ بالكفرة أي لتنذرَ به المشركين وتذكرَ المؤمنين وتقديمُ الإنذار لأنه أهمُّ بحسب المقام

3

{اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم} كلامٌ مستأنفٌ خوطب به كافةُ المكلفين بطريق التلوينِ وأُمروا باتباع ما أمر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قبله بتبليغه بطريق الإنذار والتذكيرِ وجعلُه منزلاً إليهم بواسطة إنزالِه إليه عليه الصلاة والسلام أثر ذكر ما يصححه من الإنذار والتذكير لتأكيد وجحوب اتباعه وقوله تعالى

الأعراف آية 4 {مّن رَّبّكُمْ} متعلقٌ بأُنزل على أن مِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً منَ الموصولِ أو مِنْ ضميره في الصلة وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين مزيدُ لطفٍ بهم وترغيبٌ لهم في الامتثال بما أُمروا به وتأكيدٌ لوجوبه وجعلُ ما أنزل ههنا عاما للسنة الوقلية والفعلية بعيدٌ نعم يعمُّهما حكمُه بطريق الدِلالةِ لا بطريق العبارة ولما كان اتباعُ ما أنزله الله تعالى اتباعاً له تعالى عُقّب الأمرُ بذلك بالنهي عن اتباع غيرِه تعالى فقيل {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ} أي مِن دُونِهِ أي من دون ربكم الذي أنزل إليكم ما يهديكم إلى الحق ومحلُّه النصبُ على أنَّه حال من فافعل فعلُ النهي أي لا تتبعوا متجاوزين الله تعالى {أَوْلِيَاء} من الجن والإنسِ بأن تقبلوا منهم ما يُلْقونه إليكم بطريق الوسوسةِ والإغواءِ من الأباطيل ليضلّوكم عن الحق ويَحمِلوكم على البدع والأهواءِ الزائغةِ أو مِنْ أولياءَ قُدِّم عليه لكونه نكرةً إذ لو أُخِّرَ عنه لكانَ صفةً لهُ أيْ أولياءَ كائنةً غيرَه تعالى وقيل الضميرُ للموصول على حذف المضافِ في أولياء أي ولا تتبعوا من دون ما أَنزل أباطيلَ أولياءَ كأنه قيل ولا تتبعوا من دون دينِ ربِّكم دينَ أولياءَ وقرىء ولا تبتغوا كما في قوله تعالى وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا وقولُه تعالى {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} بحذفِ إحدى التَّاءينِ وتخفيفِ الذال وقرىء بتشديدها على إدغام التاء لمهموسة في الذال المجهورة وقرىء يتذكرون على صيغة الغَيبة وقليلاً نُصب إما بما بعده على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ مقدَّمٍ للقصر أو لزمانٍ كذلك محذوفٍ ومكا مزيدةٌ لتأكيدِ القِلة أي تذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تذكرون لا كثيراً حيث لا تتأثرون بذلك ولا تعملون بموجبه وتتركون دينَ الله تعالى وتتبعون غيرَه ويجوز أن يُراد بالقِلة العدمُ كما قيل في قوله تعالى فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مسوقٌ لتقبيح حالِ المخاطَبين والالتفاتُ على القراءة الأخيرةِ للإيذان باقتضاء سوءِ حالِهم في عدم الامتثالِ بالأمر والنهي صرفِ الخطابِ عنهم وحكايةِ جناياتِهم لغيرِهم بطريق المبالة وإما نُصبَ على أنه حالٌ من فاعل لا تتبعوا وما مصدريةٌ مرتفعةٌ به أي لا تتبعوا من دونه أولياءَ قليلاً تذكّرُكم لكن لا على توجيه النهي إلى المقيد فقط كما في قولِه تعالى لا تقربوا الصلوة وَأَنتُمْ سكارى بل إلى المقيد والقيدِ جميعاً وتخصيصُه بالذكر لكمزيد تقبيحِ حالِهم بجمعهم بين المنكرين

4

{وَكَم مّن قَرْيَةٍ أهلكناها} شروعٌ في إنذارهم بما جرى على الأمم الماضيةِ بسبب إعراضِهم عن اتباع الله تعالى وإصرارِهم على اتباع دينِ أوليائِهم وكم خبربة للتكثير في موضع رفعٍ على الابتداء كما في قولك زيدٌ ضربته والخبرُ هو الجملةُ بعدها ومن قرية تمييزٌ والضميرُ في أهلكناها راجعٌ إلى معنى كم أي كثيرٌ من القرى أهلكناها أو في موضع نصب بأهلكناها كما في قوله تعالى إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ والمرادُ بإهلاكها إرادةُ إهلاكِها كما في قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلوة أي أردنا إهلاكَها {فَجَاءهَا} أي فجاء أهلَها {بَأْسُنَا} أي عذابُنا بَيَاتًا مصدرٌ بمعنى الفاعل واقعٌ موقعَ الحال أي بائتين كقوم لوطٍ {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} عطف عليه أي أو قائلين من القيلولة نصفَ النهار كقوم شعيب وإنما حُذفت الواو من الحال المعطوفةِ على أختها استثقالاً لاجتماع العاطفَين فإن واو الحال حرفُ عطفٍ قد استعيرت للوصل لا اكتفاءً بالضمير كما في جاءني زيد هو فارس

الأعراف آية 5 8 فإنه غيرُ فصيح وتخصيصُ الحالتين بالعذاب لما أن نزولَ المكروهِ عند الغفلة والدعَةِ أفظعُ وحكايتَه للسامعين أزجرُ وأردَعُ عن الاغترار بأسباب الأمن والراحةِ ووصفُ الكلِّ بوصفي البياتِ والقيلولة مع أن بعضَ المُهلَكين بمعزل منهما لا سيما القيلولةِ للإيذان بكمال غفلتِهم وأمنِهم

5

{فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} أي دعاؤهم واستغاثتُهم ربَّهم أو ما كانوا يدّعونه من دينهم وينتحِلونه من مذهبهم {إِذْ جَاءهُم بَأْسُنَا} عذابُنا وعاينوا أمارته {إِلاَّ أَن قَالُواْ} جميعاً {إِنَّا كُنَّا ظالمين} أي إلا اعترافَهم بظلمهم فيما كانوا عليه وشهادتَهم ببطلانه تحسراً عليه وندامةً وطمعاً في الخلاص وهيهاتَ ولاتَ حين نجاة

6

{فلنسألن الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} بيانٌ لعذابهم الأخرويِّ إثرَ بيانِ عذابِهم الدنيويِّ خلا أنه قد تعرض لبيان مبادي أحوالِ المكلفين جميعاً لكونه أدخلَ في التهويل والفاءُ لترتيب الأحوالِ الأخرويةِ على الدنيوية ذِكراً حسَبَ ترتبها عليها وجوداً أي لنسألن الأممَ قاطبةً قائلين ماذا أجبتم المرسلين {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِين} عما أُجيبوا قال تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ والمرادُ بالسؤال توبيخُ الكفرة وتقريعُهم والذي نُفيَ بقوله تعالى وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون سؤالُ الاستعلامِ أو الأولُ في موقف الحساب والثاني في موقف العقاب

7

{فَلَنَقصَنَّ عَلَيهِم} أي على الرسل حين يقولن لا علم لنا إِنَّكَ أَنتَ علامُ الغيوب أو عليهم وعلى المرسَل إليهم جميعاً ما كانوا عليه {بِعِلْمِ} أي عالمين بظواهرهم وبواطنهم أو بمعلومنا منهم {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} عنهم في حالٍ من الأحوالِ فيخفى علينا شيءٌ من أعمالهم وأحوالِهم والجملةُ تذييلٌ مقرِّر لما قبلها

8

{والوزن} أي وزنُ الأعمالِ والتمييزُ بين راجحِها وخفيفِها وجيّدِها ورديئها ورفعُه على الابتداءِ وقولُه تعالَى {يَوْمَئِذٍ} خبرُه وقوله تعالى {الحق} صفتُه أي والوزنُ الحقُّ ثابتٌ يومَ إذ يكون السؤالُ والقَصّ وقيل خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ كأنَّهُ قيل ما ذلك الوزن فقيل الحقُّ أي العدلُ السويُّ وقرىء القسطُ واختُلف في كيفية الوزن والجمهورُ على أن صحائفَ الأعمالِ هي التي توزن بميزان له لسانٌ وكِفّتان ينظُر إليه الخلائق إظهار للمعادلة وقطعاً للمعذرة كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتُهم وجوارحُهم ويشهد عليهم الأنبياءُ والملائكةُ والأشهادُ وكما يُثبَتُ في صحائفهم فيقرءونها في موقف الحساب ويؤيده ما رُوي أن الرجلَ يؤتى به الميزان فيُنشر له تسعةٌ وتسعون سجلا مدج البصر فيخرُج له بطاقةٌ فيها كلمتا الشهادة فتوضَع السجلات في في كِفة والبِطاقةُ في كفة فتطيش السجلاتُ وتثقُل البطاقةُ وقيل يوزن الأشخاصُ لما رُوي عنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسلام أنه ليأتي العظيمُ السمينُ يوم القيامة لا يزنُ عندَ الله جناحَ بعوضةٍ وقيل

الأعراف آية 9 الوزنُ عبارةٌ عن القضاءِ السويِّ والحُكمُ العادلُ وبهِ قال مجاهدٌ والأعمشُ والضحاكُ واختارَهُ كثيرٌ من المتأخرينَ بناءً على أن استعمالَ لفظِ الوزنِ في هذا المعنى شائعٌ في اللغة والعُرفِ بطريق الكناية قالوا إن الميزانَ إنما يُراد به التوصلُ إلى معرفة مقاديرِ الشيءِ ومقاديرُ أعمالِ العباد لا يمكن إظهارُها بذلك لأنها أعراضٌ قد فَنِيَت وعلى تقدير بقائها لا تَقبل الوزن وقيلَ إن الأعمالَ الظاهرةَ في هذه النشأةِ بصور عرضيةٍ تبرُز في النشأة الآخرة بصور جوهريةٍ مناسبةٍ لها في الحسن والقبحِ حتى إنَّ الذنوبَ والمعاصيَ تتجسم هناك وتتصورُ بصورةِ النَّارِ وعَلى ذلكَ حُمل قولُه تعالى وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين وقوله تعالى الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وكذا قولُه عليه الصلاة والسلام في حقِّ مَنْ يشربُ من إناء الذهبِ والفضةِ إنما يُجرجِر في بطنِه نارَ جهنمَ ولا يعد في ذلكَ ألا يُرى أن العلمَ يَظهر في عالم المثال على سورة اللبنِ كما لا يَخْفى عَلَى مَنْ له خِبرةٌ بأحوالِ الحضَراتِ الخمس وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة وزبالأعمال السيئةِ على صورٍ قبيحةٍ فتوضع في الميزان إن قيل إن المكلّف يوم القيامةِ إما مؤمنٌ بأنه تعالى حكيمٌ منزَّهٌ عن الجور فيكفيه حكمِه تعالى بكيفيات الأعمالِ وكمياتها وإما منكِرٌ له فلا يسلمُ حينئذ أن رجحانَ بعضِ الأعمالِ على بعض الخصوصيات راجعةٍ إلى ذوات تلك الأعمالِ بل يُسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه فما الفائدةُ في الوزن أجيب بأنه ينكشف الحالُ يومئذ وتظهر جميعُ الأشياء بحقائقها على ما هي عليه وبأوصافها وأحوالِها في أنفسها من الحسن والقبحِ وغيرِ ذلك وتنخلع عن الصور المستعارةِ التي بها ظهرت في الدنيا فلا يبقى لأحد ممن يشاهدَها شُبهةٌ في أنها هي التي كانت في الدُّنيا بعينها وأن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقة المستتبِعةِ لصفاته ولا يخطُر بباله خلافُ ذلك والله تعالى أعلم {فَمَن ثَقُلَتْ موازينه} تفصيلٌ للأحكام المترتبة على الوزن والموازينُ إما جمعُ ميزانٍ أو جمعُ موزونٍ على أن المرادَ به ما له وزنٌ وقدْرٌ وهو الحسنات فإن رجحان أحدهما مستلزم لرجحان الآخَر أي فمَنْ رجَحت موازينُه التي توزن بها حسناتُه أو أعمالُه التي لها قدْرٌ وزنة وعن الحسن البصري وحُقّ لميزان توضع فيه الحسنات أن يقل وحُقّ لميزانٍ توضع فيه السيئاتُ أن يخِفّ {فَأُوْلَئِكَ} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافِه بثقل الميزانِ والجمعيةُ باعتبار معناه كما أن جمعَ الموازينِ لذلك وأما ضميرُ موازينِه فراجعٌ إليه باعتبار لفظِه وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ طبقتهم وبُعدِ منزلَتهِم في الفضلِ والشرف {هُمْ المفلحون} الفائزون بالنجاة والثوابِ وهم إما ضميرُ فصلٍ يفصِلُ بين الخبر والصفةِ ويؤكد النسبةَ ويفيد اختصاصَ المسندِ بالمسند إليه أو مبتدأٌ خبرُه المفلحون والجملةُ خبرٌ لأولئك وتعريفُ المفلحون للدِلالة على أنهم الناسُ الذين بلغك أنهم مُفلحون في الآخرة أو إشارةٌ إلى ما يعرِفه كلُّ أحد من حقيقة المفلحين وخصائصِهم

9

{وَمَنْ خَفَّتْ موازينه} أي موازينُ أعمالِه أو أعمالُه التي لا وزن لها ولا اعتدادَ بها وهب أعْمالُه السيئة {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتصافِهم بتلك الصفة القبيحةِ والجمعيةُ ومعنى البُعدِ لما مر آنفاً في نظيره وهو مبتدأٌ خبره

الأعراف 10 11 {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} أي ضيّعوا الفطرةَ السليمةَ التي فُطروا عليها وقد أُيّدت بالآيات البينة وقولُه تعالى {بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ} متعلق بخسر وما مصدريةٌ وبآياتنا متعلقٌ بيظلمون على تضمين معنى التكذيب قد عليه لمراعاة الفواصلِ والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ للدَلالةِ على استمرار الظلمِ في الدنيا أي فأولئك الموصوفون بخفة الموازين الذين خسروا أنفسَهم بسبب تكذيبِهم المستمر بآياتنا ظالمين

10

{وَلَقَدْ مكناكم فِى الارض} لما أمر الله سبحانه أهلَ مكةَ باتباع ما أنزل إليهم ونهاهم عن اتباع غيرِه وبيّن لهم وخامةَ عاقبتِه بالإهلاك في الدنيا والعذاب المخلّد في الآخرة ذكّرهم ما أفاض عليهم من فُنونِ النعمِ الموجبةِ للشكر ترغيباً في الامتثال بالأمر والنهي إثرَ ترهيبِ أي جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش} المعايشُ جمعُ معيشةٍ وهي ما يُعاش به من المطاعم والمشاربِ وغيرِها أو ما يُتوصَّل به إلى ذلك والوجهُ في قراءته إخلاصُ الياء وعن ابن عامرٍ أنه همزة تسبيها له بصحائف ومدائن والجعلُ بمعنى الإنشاء والإبداع أي أنشأنا وأبدعنا لمصالحكم ومنافعِكم فيها أسباباً تعيشون بها وكلُّ واحد من الظرفين متعلقٌ به أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعولِه المنكر إذلو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ وتقديمها على المفعول مع أن حقهما التأخيرُ عنه لما مر غير مرة من الاعتناء بشأ المقدمِ والتشويقِ إلى المؤخرِ فإنَّ النفسَ عند تأخيرِ ماحقه التقديمُ لا سيَّما عند كونِ المقدم منبئاً عن منفعة للسامع تبقى مترقبةً لورود المؤخَّرِ فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن وأمات تقديمُ اللامِ على في فلما أنه المنبىءُ عما ذُكر من المنفعة فالاعتناءُ بشأنه أتمُّ والمسارعةُ إلى ذكره أهم هذا وقد قيلَ إنَّ الجعلَ متعدَ إلى مفعولين ثانيهما أحدُ الظرفين على أنه مستقر قُدّم على الأول والظرفُ الآخَرُ إما لغوٌ متعلقٌ بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالاً من المفعول الأولِ كما مر وأنت خبيرٌ بأنه لا فائدةَ معتدٌّ بها في الإخبار بجعل المعايشِ حاصلةً لهم أو حاصلةً فِى الارض وقولُه تعالى {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي تلك النعمةَ تذييلٌ مَسوقٌ لبيان سوءِ حالِ المخاطبين وتحذيرِهم وبقيةُ الكلامِ فيه عينُ ما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ

11

{وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم} تذكيرٌ لنعمة عظيمةٍ فائضةٍ على آدمَ عليهِ السَّلامُ ساريةٍ إلى ذريته موجبةٍ لشكرهم وتأخيرُه عن تذكير ما وقع قبله من نعمة التمكين في الأرض إما لأنها فائضةٌ على المخاطَبين بالذات وهذه بالواسطة وإما للإيذان بأن كلا منها نعمةٌ مستقلةٌ مستوجِبةٌ للشكر على حيالها فإن رعايةَ الترتيبِ الوقوعيِّ ربما تؤدِّي إلى توهّم عدِّ الكلِّ نعمةً واحدةً كمَا ذكر في قصة البقرة وتصديرُ الجملتين بالقسم وحرفِ التحقيقِ لإظهار كمالِ العناية بمضمونهما وإنما نُسب الخلقُ والتصويرُ إلى المخاطَبين مع أن المرادَ بهما خلقُ آدم عليه السلام وتصويرُه حتماً توفيةً لمقام الامتنانِ حقَّه وتأكيداً لوجوب الشكر عليهم

الأعراف آية 11 بالرمز إلى أن لهم حظاً من خلقه عليه السلام وتصويرِه لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه عليه السلام كسجود الملائكةِ له عليه السلام بل من الأمور الساريةِ إلى ذريته جميعاً إذ الكلُّ مخلوقٌ في ضمن خلقِه على نمطه ومصنوعٌ على شاكلته فكأنهم الذي تعلق به خلقُه وتصويرُه أي خلقنا أباكم آدمَ طيناً غيرَ مُصوَّرٍ ثم صوَّرناه أبدعَ تصويرٍ وأحسنَ تقويمٍ سارَ إليكم جميعاً {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ} صريحٌ في أنه ورد بعد خلقَه عليه الصَّلاة والسَّلام وتسويتِه ونفخِ الروحِ فيه أمرٌ مُنجَزٌ غيرُ الأمر المعلَّق الواردِ قبل ذلك بقوله تعالى فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين وهو المراد بما حكي بقوله تعالى وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لاِدَمَ الآية في سُورةِ البقرةِ وسُورة بني إسرائيلَ وسورة الكهفِ وسورة طه من غير تعرضٍ لوقته وكلمة ثم ههنا تقتضي تراخِيَه عن التصوير من غيرِ تعرضٍ لبيانِ ما جرى بينهما من الأمور وقد بينا في سورة البقرةِ أن ذلك ظهورُ فضلِ آدمَ عليه السلام بعد المحاورة المسبوقةِ بالإخبار باستخلافه عليه السلام حسبما نطق به قوله عز وجل وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً إلى قوله وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فإن ذلك أيضاً من جملة ما نيط به الأمرُ المعلقُ من القسوية ونفخِ الروح وعدمُ ذكرِه عند الحكايةِ لا يقتضي عدمَ ذكره عند وقوعِ المحكيِّ كما أن عدمَ ذكر الأمر المعلق عند حكاية ألمر المنْجزِ لا يستلزمُ عدمَ مسبوقيتِه به فإن حكايةَ كلامٍ واحدٍ على أساليب مختلقة يقتضيها ليست بعزيزة في الكلام العزيزِ فلعله قد ألقى إلى الملائكة عليهم السلام أولا جميعُ ما يتوقفُ عليه الأمرُ المنجزُ إجمالاً بأن قيل مثلاً إني خالقٌ بشراً من طين وجاعلٌ إياه خليفةً في الأرض فإذا سويتُه ونفختُ فِيهِ مِن رُّوحِى وتبيَّن لكم فضلُه فقَعوا له ساجدين فخلقه فسوَّاه فنفخ فيه من روحه فقالوا عند ذلك ما قالوا أو ألقيَ إليهم خبرُ الخلافةِ بعد تحققِ الشرائطِ المذكورةِ بأن قيل إثرَ نفخِ الروحِ إني جاعلٌ هذا خليفةً في الأرض فهنالك ذكروا في حقه عليه السلام ما ذكروا فأيده الله تعالى بتعليم الأسماءِ فشاهدوا منه عليه السلام ما شاهدوا فعند ذلك ورد الأمر من المنْجزُ اعتناء بشأن المأمور به وإيذاناً بوقته وقد حُكي بعضُ الأمور المذكورة في بعض المواطنِ وبعضُها في بعضِها اكتفاء بما ذكر في كل موطنٍ عما تُرك في موطن آخرَ والذي يرفع غشاوةَ الاشتباهِ عن البصائر السليمةِ أن ما في سورة ص من قوله تعالى إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة الآياتن بدلٌ من قولِه إِذْ يَخْتَصِمُونَ فيما قبله من قوله مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الاعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ أي بكلامهم عند اختصامِهم ولا ريب في أن المرادج بالملأ الأعلى وآدمُ عليهم السَّلامُ وإبليسُ حسبما أطيق عليه جمهورُ المفسرين وباختصامِهم ما جرى بينهم في شأن الخلافةِ من التقاول الذي من جملته ما صدر عنه عليه السلام من الإنباء بالأسماء ومن قضية البدلية وقوعُ الاختصامِ المذكورِ في تضاعيف ما شُرح فيه مفصّلاً من الأمر المعلّق وما علق به من الخلق والتسويةِ ونفخِ الروحِ فيه وما ترتب عليه من سجود الملائكةِ وعنادِ إبليسَ ولعنِه وإخراجِه من بَيْن الملائكةِ وما جرى بعده من الأفعالِ والأقوالِ وإذ ليس تمامُ الاختصامِ بعد سجودِ الملائكة ومكابرةِ إبليسَ وطردِه من أنه أحدُ المختصِمين كما أنه ليس قبل الخلق ضرورة فإذن هو بعد نفخِ الروحِ وقبل السجودبأحد الطريقين المذكورين والله تعالى أعلم {فَسَجَدُواْ} أي الملائكةُ عليهم السَّلامُ بعد الأمرِ من غير تلعثم {إِلاَّ إِبْلِيسَ} استثناءٌ متَّصل

الأعراف آية 12 لما أنه كانَ جنِّياً مفرَداً مغموراً بألوفٍ من الملائكة متصفاً بصفاتهم فغَلبوا عليه في فسجدوا ثمَّ استُثنِيَ استثناءَ واحدٍ منُهم أو لأنَّ من الملائكة جنساً يتوالدون يقال لهم الجنُّ كما مر في سورة البقرة فقوله تعالى {لَمْ يَكُن مّنَ الساجدين} أي ممن سجد لآدمَ كلامٌ مستأنفٌ مبين لكيفية عدمِ السّجودِ المفهومِ من الاستثناءِ فإن عدم السجود قد يكون للتأمل ثم يقع السجودُ وبه عُلم أنه لم يقعْ قطُّ وقيل منقطعٌ فحينئذ يكون متصلاً بما بعده أي لكن إبليس لم يكن من الساجدين

12

{قَالَ} استئنافٌ مَسوقٌ للجواب عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ عدم سجوده كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الله تعالى حينئذ وبه يظهر وجهُ الالتفاتِ إلى الغَيبة إذ لا وجهَ لتقدير السؤال على وجه المخاطبة وفيه فائدةٌ أخرى هي الإشعارُ بعدم تعلقِ المحكيِّ بالمخاطَبين كما في حكاية الخلْقِ والتصوير {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} أي أن تسجُد كما وقعَ في سورةِ ص ولا مزيدةٌ مؤكدةٌ لمعنى الفعل الذي دخلت عليهِ كما في قولِهِ تعالى لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب منبّهةٌ على أن الموبَّخَ عليه تركُ السجود وقيل الممنوعُ عن الشيء مصروفٌ إلى خلافه فالمعنى ما صرفك إلى أن لا تسجد {اذ أَمَرْتُكَ} قيل فيه دلالةٌ على أن مُطلقَ الأمرِ للوجوب والفور وفي سورة الجن يا إبليس مالك أن لا تكون مَعَ الساجدين وفي سورة ص مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ واختلافُ العبارات عند الحكاية دل على أن اللعينَ قد أدمج في معصية واحدة ثلاث معاص مخالفة الأملار ومفارقة الجماعة والإباء عن الانتظامِ في سلكِ أولئك المقرّبين والاستكبارَ مع تحقير آدمُ عليه السلام وقد وُبِّخ حينئذ على كل واحدة منها لكن اقتُصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر يه اكتفاء بما ذكر في موطن آخر واشعار بأن كل واحدةٍ منها كافيةٌ في التوبيخ وإظهار بطلان ما ارتكبه وقد تُركت حكايةُ التوبيخ رأسا في سُورةِ البقرةِ وسُورة بني إسرائيلَ وسورة الكهلف وسورة طه {قَالَ} استئنافٌ كما سبق مبنيٌّ على لا سؤالٍ نشأَ من حكايةِ التوبيخِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ اللعينُ عند ذلكَ فقيل قال {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} متجانفاً عن تطبيق جوابِه على السؤال بأن يقول معنى كذا مدّعياً لنفسه بطريق الاستئنافِ شيئاً بيِّنَ الاستلزامِ لمنعهِ من السُّجودِ على زعمه ومشعِراً بأن مَنْ شأنُه هذا لا يحسُن أن يسجُدَ لمن دونه فكيف يحسُن أن يؤمرَ بهِ كما يُنبىء عنْهُ ما في سورة الحِجْرِ من قولُه {لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِّن صلصال مّنْ حَمَإٍ مسنون} فهو أولُ من أسس بنيانَ التكبر واخترع القولَ بالحسن والقبح العقلين وقولُه تعالَى {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} تعليلٌ لما ادَّعاهُ من فضله عليه ولقد أخطأ اللعينُ حيث خَصّ الفضلَ بما من جهةِ المادةِ والعنصُر وزلَّ عنه ما من جهة الفاعل كَمَا أنبأَ عَنْهُ قولِهِ تعالى مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَي بغير واسطةٍ على وجه الاعتناءِ به وما من جهة الصُّورة كما نُبّه عليه بقوله تعالى وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى وما من جهة الغايةِ وهو ملاكُ الأمرِ ولذلك أمر الملائكة بالسجود له عليه السَّلامُ حين ظهرَ لهم أنَّه أعلمُ منهم بما يدور عليه أمرُ الخلافةِ في الأرضِ وأنَّ له خواصَّ ليست لغيره وفي الآية دليلٌ على الكون والفساد وأن الشياطينَ أجسامٌ كائنةٌ ولعل إضافةَ خلق البشرِ إلى الطين والشياطينِ إلى النار باعتبار الجزء الغالب

الأعراف آية 13 15

13

{قال} استئناف كما سلف والفاء في قوله تعالى ة {فاهبط مِنْهَا} لترتيب الأمرِ على ما ظهر من اللَّعينِ من مخالفة الأمرِ وتعليلِه بالأباطيل وإصرارِه على ذلك أي فاهبِطْ من الجنة والإضمار قبل ذكرِها لشهرة كونِه من سكانها قال ابن عباس رضي الله عنهما كانوا في عدْنٍ لا في جنة الخلد وقيل من زمرة الملائكة المعززين فإن الخروجَ من زمرتهم هبوطٌ وأيُّ هبوط وفي سورة الحجر فاخرج مِنْهَا وأما ما قيل من أن المرادَ الهبوطُ من السماء فيردّه أن وسوستَه لآدمَ عليه السلام كانتْ بعد هذا الطردِ فلا بد أن يُحمل على أحد الوجهينقطعا وتكونُ وسوستُه على الوجه الأول بطريق النداءِ من باب الجنة كما رُوي عن الحسنِ البصري وقوله تعالى {فَمَا يَكُونُ لَكَ} أي فما يصح ولا يستقيم لك ولا يليقُ بشأنك {أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} أي في الجنةِ أو في زمرة الملائكة تعليلٌ للأمر بالهبوط فإن عدمَ صحةِ أن يتكبر فيها علةٌ للأمر المذكور فإنها مكانُ المطيعين الخاشعين ولا دِلالة فيه على جواز التكبُّر في غيرها وفيه تنبيه على أن التكبرَ لا يليق بأهل الجنةِ وأنه تعالى إنما طرده لتكبُّره لا لمجرد عصيانِه وقوله تعالى {فاخرج} تأكيدٌ للأمر بالهبوط متفرِّغٌ على علته وقوله تعالى {إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} تعليلٌ للأمر بالخروج مُشعرٌ بأنه لتكبره أي من الأذلاء وأهلِ الهوانِ على الله تعالى وعلى أوليائه لتكبرك وعن عمر رضيَ الله عنه من تواضَع لله رفع الله حكمته ة وقال انتعش نعشك الله ومن تكبر وعَدا طَوْرَه وهَصَه الله إلى الأرض

14

{قَالَ} استئناف كما مر مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل فماذا قال اللعين بعدما سمع هذا الطردَ المؤكد فقيل قال {أَنظِرْنِى} أي أمهلني ولا تُمِتْني {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي آدمُ وذريتُه للجزاء بعد فنائهم وهو قوت النفخةِ الثانية وأراد اللعينُ بذلك أنْ يجدَ فُسحةً من إغوائهم ويأخذَ منهم ثأرَه وينجوَ من الموت لاستحالته بعد البعث

15

{قال} استئناف كما سلف {إِنَّكَ مِنَ المنظرين} ورودُ الجوابِ بالجملةِ الاسميَّةِ مع التَّعرُّضِ لشمول ما سأله الآخرين على وجه يُشعر بأن السائلَ تبَعٌ لهم في ذلك صريحٌ في أنَّه إخبارٌ بالإنظارِ المقدَّر لهم أزلاً لا إنشاءٌ لإنظار خاصَ به إجابةً لدعائِه وأنَّ استنظارَه كان طَلَباً لتأخيرِ الموتِ غذ به يتحقق كونُه من جملتهم لا لتأخيرِ العُقوبةِ كما قيل أي إنَّك من جُملةِ الذينَ أخِّرتْ آجالُهم أزلاً حسبما تقتضيه الحِكمةُ التكوينيةُ إلى وقت فناءٍ غيرَ ما استثناه الله تعالى من الخلائق وهو النفخة الأولى إلى وقتِ البعثِ الذي هو المسئول وقد تُرك التوقيتُ للإيجاز ثقةً بما وقع في سُورة الحجرِ وسُورة ص كما ترك ذكرُ النِّداءُ والفاء في الاستنظار والإنظار تعويلاً على ما ذكر فيهما بقوله عز وجل رَبّ فَأَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم وفي إنظاره ابتلاءٌ للعباد وتعريضٌ للثواب إن قلت لار ريبَ في أن الكلامَ المحكيَّ له عند صدورِه عن المتكلم حالة

الأعراف آية 16 مخصوصةٌ تقتضي ورودَه على وجه خاصَ من وجوه النظمِ بحيث لو أخل بشيء من ذلك سقط الكلامُ عن رتبة البلاغةِ البتة فالكلامُ الواحدُ المحكيُّ على وجوه شتى إن اقتضى الحالُ ورودَه على وجه معينٍ من تلك الوجوهِ الواردةِ عند الحكاية فذلك الوجهُ هو المطابقُ لمقتَضى الحالِ والبالغُ إلى رتبة البلاغةِ دون ما عداه من الوجوه إذا تمكهد هذا فنقولُ لا يخفى أن استنظارَ اللعينِ إنَّما صدرَ عنه مرةً واحدةً لا غيرُ فمقامُه إن اقتضى إظهارَ الضراعةِ وترتيبَ الاستنظار على ما حاق به من اللعن والطردِ على نهج استدعاءِ الجبْرِ في مقابلة الكسر كما هو المتبادَرُ من قوله رب فأنظرني حسبما حُكي عنه في السورتين فما حكي ههنا يكون بمعزل من المطابقة لمقتضى الحال فضلاً عن العُروجِ إلى معارج الإعجازِ قلنا مقامُ استنظاره مُقتضٍ لما ذُكر من إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على الحِرمان المدلولِ عليه بالطرد والرجم وكذا مقامُ الإنظارِ مقتضٍ لترتيب الإخبارِ بالإنظار على الاستنظار وقد طُبّق الكلامُ عليه في تينك السورتين ووُفّي كلُّ واحد من مقامَي الحكايةِ والمحكيِّ جميعا حظه وأما ههنا فحيث اقتضى مقامُ الحكايةِ مجردَ الإخبار بالاستنظار والإنظارِ سيقت الحكايةُ على نهج الإيجاز والاختصارِ من غيرِ تعرّضٍ لبيانِ كيفيةِ كل واحدٍ منهما عند المخاطبة والحِوار إن قلت فإذن لا يكونُ ذلك نقلاً للكلام على ما هو عليه ولا مطابقاً لمقتضى المقامِ قلنا الذي يجب اعتبارُه في نقل الكلامِ إنما هو أصلُ معناه ونفسُ مدلولِه الذي يفيده وأما كيفية إفادته فليس مما يجب مراعاتُه عند النقل البتة بل قد تراعى وقد لا تراعى حسب اقتضاءِ المقامِ ولا يقدح في أصل الكلامِ تجريدُه عنها بل قد يراعى عند نقلِه كيفيات وخصوصات لم يُراعِها المتكلمُ أصلاً ولا يُخلُّ ذلك بكون المنقولِ أصلَ المعنى ألا يُرى أن جميعَ المقالات المنقولةِ في القرآن الكريمِ إنما تحكى بكيفيات واعتباراتٍ لا يُكاد يَقدِر على مراعاتها مَنْ تكلم بها حتماً وإلا لأمكن صدورُ الكلام المعجِزِ عن البشر فيما إذا كان المحكيُّ كلاماً وأما عدمُ مطابقتِه لمقتضى الحالِ فمنشؤه الغفلةُ عما يجب توفيرُ مقتضاه من الأحوال فإن مَلاكَ الأمرِ هو مقامُ الحكايةِ وأما مقام وقوعِ المحكيِّ فإن كان مقتضاه موافقاً لمقتضى مقامِ الحكايةِ يُوفَّى كلُّ واحدٍ من المقامين حقَّه كما في سُورة الحجرِ وسُورة ص فإن مقامَ الحكايةِ فيهما لمّا كان مقتضياً لبسط الكلامِ وتفصيلِه على الكيفيات التي وقع عليها رُوعيَ حقُّ المقامين معاً وأما في هذه السورةِ الكريمةِ فحيث اقتضى مقامُ الحكايةِ الإيجازَ رُوعيَ جانبُه ألا يُرى أن المخاطبَ المنكِرَ إذا كان ممن لا يفهم إلا أصلَ المعنى وجب على المتكلم أن يجرِّد كلامَه عن التأكيد وسائرِ الخواصِّ والمزايا التي يقتضيها المقامُ ويخاطِبَه بما يناسبه من الوجوه لكنه مع ذلك يجب أن يقصِدَ معنى زائداً يفهمه سامعٌ آخرُ بليغٌ هو تجريدُه عن الخواصِّ رعايةً لمقتضى حالِ المخاطَبِ في الفهم وبذلك يرتقي كلامُه عن رتبة أصوات الحيوانات كا حُقِّق في مقامه فإذا وجب مراعاةُ مقامِ الحكايةِ مع اقتضائها إلى تجريد الكلامِ عن الخواص والمزايا بالمرة فما ظنُّك بوجوب مراعاتِه مع تحلية الكلام بمزايا أُخَرَ يرتقي بها إلى رتبة الإعجازِ لا سيما إذا وفى حق مقام المحكيِّ في السورتين الكريمتين وكان هذا الإيجازُ مبنياً عليه وثقة به

16

{قَالَ} استئنافٌ كأمثاله {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى} الباءُ للقسم كما في قوله تعالى

الأعراف آية 17 19 فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ فإن إغواءَه تعالى إلى إيَّاهُ أثرٌ من آثارِ قدرته عز وجل وحُكمٌ من أحكام سلطانِه تعالى فمآلُ الإقسامِ بهما واحدٌ فلعل اللعينَ أقسمَ بهما جميعاً فحكة تارةً قسَمَه بأحدِهما وأُخرى بالآخر والفاءُ لترتيبِ مضمونِ الجملةِ على الإنظار وما مصدريةٌ أي فأقسم بإغوائك إياي {لاقْعُدَنَّ لَهُمْ} أو للسببية على أن الباءَ متعلقةٌ بفعل القسمِ المحذوفِ لا بقوله لاقْعُدَنَّ لَهُمْ كما في الوجه الأول فإن اللام تصُدّ عن ذلك أي فبسبب إغوائِك غياي لأجلهم أُقسم بعزتك لأقعُدّن لآدمَ وذرِّيتِه ترصّداً بهم كما يقعُد القُطّاع للقطع على السابلة {صراطك المستقيم} الموصِلَ إلى الجنة وهو دينُ الإسلام فالقعودُ مجازٌ متفرع على الكتابة وانتصابُه على الظرفية كما في قوله كما عَسَلَ الطريقَ الثعلبُ وقيل على نزع الجارِّ تقديرُه على صراطك كقولك ضرب زيد الظهرَ والبطنَ

17

{ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ} أي من الجهات الأربعِ التي يُعتاد هجومُ العدوِّ منها مثلُ قصدِه إياهم للتسويل والإضلال من أي وجهٍ يتيسر بإتيان العدوِّ من الجهات الأربعِ ولذلك لم يذكر الفرق والتحتُ وعن ابن عباس رضي الله عنهما من بين ايديهم من قيل الآخرة ومن خلفهم من جهة الدنيا وعن أيمانهم وعن شمائلهم من جهخة حسناتِهم وسيئاتِهم وقيل من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدِرون على التحرز منه ومن خلفهم من حيث لا يعلمون ولا يقدرون وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيّقظهم واحتياطِهم ومن حيث لا يتيسر لهم ذلك وإنما عُدِّي الفعلُ إلى الأوَّلَيْن بحرف الابتداء لأنه منهما متوجهٌ إليهم وإلى الآخَرَين بحرف المجاوزة فإن الآتيَ منهما كالمنحرف المتجافي عنهم المارِّ على عَرضهم ونظيرُه جلست عن يمينه {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} أي مطيعين وإنما قاله ظناً لقوله تعالى وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ لما رأى منهم مبدأ الشرِّ متعدداً ومبدأَ الخيرِ واحداً وقيل سمعه من الملائكةِ عليهمِ السَّلامُ

18

{قال} استئناف كما سلف مراراً {أَخْرَجَ مِنْهَا} أي من الجنَّةِ أو من السماء أو من بينِ الملائكة {مذموما} أي مذموماً من ذَأَمه إذا ذمّه وقرىء مَذوماً كمسول في مسئول أو كَمَكول في مكيل من ذامه يذيمه ذيماً {مَّدْحُورًا} مطروداً {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} اللامُ موطئةٌ للقسم وجوابه {لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} وهو سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط وقرىء لِمَنْ تبعك بكسر اللام على أنه خبرُ لأملأن على معنى لِمَنْ تبعك هذا الوعيدُ أو علةٌ لاخرُجْ ولأملأن جواب قسم محذوفٌ ومعنى منكم منك ومنهم على تغليب المخاطب

19

{ويا آدم} أي وقلنا كما وقعَ في سورةِ البقرة

الأعراف آية 20 22 وتصديرُ الكلامِ بالنداء للتنبيه على الاهتمام بتلق المأمورِ به وتخصيصُ الخطابِ به عليه السلام للإيذان بأصالته في تلقي الوحي وتعاطي المأمور به {اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة} هو من السكَن الذي هو عبارةٌ عن اللَّبْثِ والاستقرارِ والإقامةِ لا من السكونِ الذي هو ضدُّ الحركة وأنت ضميرٌ أكِّد به المستكنُّ ليصحَّ العطفُ عليهِ والفاءُ في قولِه تعالى {فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا} لبيان المرادِ مما في سورةِ البقرةِ من قوله تعالى وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا من أن ذلك كان جمعاً مع الترتيب وقوله تعالى مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا في معنى منها حيث شئتما ولم يذكر ههنا رَغَداً ثقةً بما ذكر هناك وتوجيهُ الخطابِ إليهما لتعميم التشريفِ والإيذانِ بتساويهما ي مباشرة المأمورِ به فإن حواءَ أُسوةٌ له عليه السى لام في حق الأكلِ بخلاف السكنِ فإنها تابعةٌ له فيه ولتعليق النهي بها صريحاً في قوله تعالى {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} وقرىء هذي وهو الأصلُ لتصغيره على ذَيّا والهاءُ بدلٌ من الياء {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} إما جزمٌ على العطف أو نصبٌ على الجواب

20

{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان} أي فعل الوسوسةَ لأجلهما أو تكلم لهما كلاماً خفياً متداركا وهي في الأصل الصوتُ الخفي كالهيمنة والخشخشة ومنه وسوَسَ الحَلْيُ وقد سبق بيانُ كيفيةِ وسوستِه في سُورة البقرى {لِيُبْدِيَ لَهُمَا} أي ليُظهر لهما واللامُ للعاقبة أو للغرض على أنه أراد بوسوسته أن يسوءَهما بانكشاف عورتيهما ولذلك عبّر عنهما بالسوأة وفيه دليلٌ على أنَّ كشف العورةِ في الخلوة وعند الزوجِ من غيرحاجة قبيحٌ مستهجَنٌ في الطباع {ما ووري عنهما من سوآتهما} نما غطى ة وسُتر عنهما من عوراتهما وكانا لا يَرَيانها من أنفسهما ولا أحدُهما من الآخر وإنما لم تُقلب الواوُ المضمومةُ همزةً في المشهورة كما قلبت في أو يصل تصغير واصل لأن الثانيةَ مدة وقرىء سواتهما بحذ ف الهمزة وإلقاء حركاتها على الواو وبقلبها واواً وإدغام الواو الساكنة فيها {وَقَالَْ} عطف على وسوس بطريق البيان {مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة} أي عن أكلها {إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} أي إلا كراهةَ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ {أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} الذين لا يموتون أو يخلدون في الجنة وليس فيه دلالةٌ على أفضلية الملائكةِ عليهم السلام لما أن من المعلوم أن الحقائقَ لا تنقلب وإنما كانت رغبتُهما في أن يحصُل لهما أوصافُ الملائكةِ من الكمالات الفطريةِ والاستغناء عن الأطعمة والأشربة وذلك بمعزلٍ من الدِلالة على الأفضلية بالمعنى المتنازَعِ فيه

21

{وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} أي أقسم لهما وصيغةُ المغالبة للمبالغة وقيل أقسما له بالقَبول وقيل قالا له أتقسم بالله إنكى لمن الناصحين وأقسم لهما فجُعل ذلك مقاسمة

22

{فدلاهما}

الأعراف 23 25 فنزلهما على الكل من الشجرة وفيه تنبيهٌ على أنَّه أهبطهما بذلك من درجة عاليةٍ فإن التدلية والإدلاء إرسالُ الشيء من الأعلى إلى السفل {بِغُرُورٍ} بما غرّهما به من القسم فإنهما ظنا أن أحداً لا يُقسِم بالله كاذبا أو متلبسين بغرور {فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتهمَا} أي فلما وجدا طعمَها آخِذَين في الأكل منها أخذْتهما العقوبةُ وشؤمُ المعصية فتهافت عنهما لباسُهما وظهرت لهما عوراتُهما واختلف في أن الشجرة كانت السنبلة والكرم أو غيرَهما وأن اللباسَ كان نوراً أو ظفراً {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} طفِق من أفعال الشروعِ والتلبس كأخذ وجعل وأنشأ وهَبْ وانبرى أي أخذا يَرْقعَان ويُلزِقان ورقةً فوق ورقة {عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} قيل كان ذلك ورقَ التينِ وقرىء يُخصِفان من أخصف أي يخصفان أنفسَهما ويُخَصِّفان من التخصيف ويَخِصّفان أصله يختصفان {وَنَادَاهُمَا ربهما} مالك أمرهمنا بطريق العتاب والتوبيخِ {أَلَمْ أَنْهَكُمَا} وهو تفسيرٌ للنداء فلا محلَّ له من الإعراب أو معهمول لقول محذوفٍ أي وقال أو قائلاً ألم أنهَكُما {عَن تِلْكُمَا الشجرة} ما في إسمِ الإشارةِ من معنى البُعد لما أنه إشارةٌ إلى الشجرة التي نُهي عن قُربانها {وَأَقُل لَّكُمَا} عطفٌ على أنهَكما أي ألم أقل لكما {إِنَّ الشيطان لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} وهذا عتابٌ وتوبيخٌ على الاغترار بقول العدوِّ كما أن الأولَ عتابٌ على مخالفة النهي قيل فيه دليلٌ على أنَّ مطلقَ النهي للتحريم ولكما متعلقٌ بعدو لما فيه من معنى الفعل أو بمحذوفٍ هو حالٌ من عدوٌّ ولم يُحك هذا القول ههنا وقد حُكي في سورة طه بقوله تعالى إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ الآية روي أنه تعالى قال لآدمَ ألم يكنْ فيما منحتُك من شجر الجنة مندوحةٌ عن هذه الشجرة فقال بلى وعزتك ولكن ما ظننتُ أن أحداً من خلقك يحلِفُ بك كاذباً قال فبعزتي لأُهبِطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيشَ إلا كدّاً فأُهبط وعُلّم صنعةَ الحديد وأُمر بالحَرْثِ فحرَثَ وسقى وحصد ودرس وذرَى وعجَن وخَبَز

23

{قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} أي ضرّرناها بالمعصية والتعريضِ للإخراج من الجنة {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا} ذلك {وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} وهو دليلٌ على أن الصغائرَ يُعاقب عليها إن لم تغفر وقال المعتزلةُ لا يجوز المعاقبةُ عليها مع اجتناب الكبائرِ ولذلك حمَلوا قولَهما ذلك على عادات المقربين في استعظام الصغيرِ من السيئات واستصغارِ العظيمِ من الحسنات

24

{قَالَ} استئناف كما مر مراراً {اهبطوا} خطابٌ لآدمَ وحواءَ وذريتِهما أو لهما ولإبليس كررا الأمر له تبعاً لهما ليعلمَ أنهم قرناءُ أبداً أو أُخبر عما قال لهم مفرّقاً كما في قوله تعالى يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات ولم يذكر ههنا قَبولُ توبتِهما ثقةً بما ذكر في سائر المواضع {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ اهبطوا أي مُتعادِين {وَلَكُمْ فِى الارض مُّسْتَقِرٌّ} أي استقرارٌ أو موضعُ استقرارٍ {ومتاع} أي تمتعٌ وانتفاع {إلى حين} هو جحين انقضاءِ آجالِكم

25

{قَالَ} أُعيد الاستئنافُ إما للإيذان بعدم اتصالِ ما بعده بما قبله كما في قوله تعالى قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون إثرَ قوله تعالى قَالَ ومن

الأعراف آية 26 27 يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون وقوله تعالى قال أرأيتك هذا الذى كَرَّمْتَ عَلَىَّ بعد قوله تعالى قَالَ أأسجد لمن خلقت طيناً وإما لإظهار الاعتناءِ بمضمون ما بعدَهُ منْ قولِه تعالى {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} أي للجزاءِ كقوله تعالى مِنْهَا خلقناكم وفيها نعيكم وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى

26

{يا بني آدم} خطابٌ للناس كافةً وإيرادُهم بهذا العنوان مما لا يخفى سرُّه {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} أي خلقناه لكم بتدبيرات سماويةٍ وأسبابٍ نازلةٍ منها ونظيرُه وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعامِ الخ وقوله تعالى وَأَنزْلْنَا الحديد {يوارى سَوْآتكم} التي قصد إبليسُ إبداءَها من أبويكم حتى اضطر إلى خصف الأوراق وأنتم مستغنون عن ذلك وروي أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عرايا ويقولون لا نطوف بثياب عصينا الله تعالى فيها فنزلت ولعل ذكر قصةِ آدمَ عليه السلام حينئذ للإيذان بأن انكشافَ العورة أولُ سوءٍ أصاب الإنسان من قِبَل الشيطان وأنه أغواهم في ذلك كما أغة وى أبويهم {وَرِيشًا} ولباساً تتجملون به والريشُ الجمالُ وقيل مالاً ومنه ترّيش الرجلُ أي تموّل وقرىء رياشاً وهو جمعُ ريشٍ كشِعْب وشِعاب {وَلِبَاسُ التقوى} أي خشيةُ الله تعالى وقيلَ الإيمانُ وقيل السمتُ الحسَنُ وقيل لباسُ الحرب ورفعُه بالابتداء خبرُه جملةُ {ذلك خَيْرٌ} أو خبرٌ وذلك صفتُه كأنه قيل ولباسُ التقوى المشارُ إليه خيرٌ وقرىء ولباس التقوى بلنصب عطفاً على لباساً {ذلك} أي إنزالُ اللباس {مِنْ آيات الله} دالةٌ على عظيم فضلِه وعميمِ رحمتِه {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فيعرِفون نعمتَه أو يتّعظون فيتورّعون عن القبائح

27

{يا بني آدم} تكريرُ النداءِ للإيذان بكمال الاعتناءِ بمضمون ما صدر به وإيرادهم بهذا العنون مما لا يخفى سببُه {لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان} أي لا يوقِعنّكم في الفتنة والمحنة بأن يمنعَكم من دخول الجنة {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الجنة} نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي لا يفتِننّكم فتنةً مثلَ إخراجِ أبويكم وقد جُوّز أن يكون التقديرُ لا يُخرِجَنكم بفتنته إخراجاً مثلَ إخراجِه لأبويكم والنهيُ وإن كان متوجهاً إلى الشيطان لكنه في الحقيقة متوجِّهٌ إلى المخاطبين كما في قولك لا أرينك ههنا وقد مرَّ تحقيقُه مراراً {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتهما} حال من أبويكم أو من فاعل أخرج وإسنادُ النزعِ إليه للتسبيب وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ الصُّورَةِ وقوله تعالى {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} أي جنودُه وذريتُه استئنافٌ لتعليل النهي وتأكيد التحذير منه {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} من لابتداء غايةِ الرؤية حيث ظرفٌ لمكان انتفاءِ الرؤية ولا ترَوْنهم في محل الجرِّ بإضافة الظرفِ إليه ورؤيتُهم لنا من حيث لا نراهم لا تقتضي امتناع رؤيتنا

الأعراف آية 28 29 لهم مطلقاً واستحالةَ تمثّلِهم لنا {إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين} جُعل قبيلُه من جملته فجمع {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} أي جعلناعهم بما أوجدنا بينهم من المناسبة أو بإرسالهم عليهم وتمكينِهم من إغوائهم وحملِهم على ما سوّلوا لهم أولياءَ أي قُرناءَ مسلّطين عليهم والجملة تعليلٌ آخرُ للنهي وتأكيدٌ للتحذير إثرَ تحذير

28

{وَإِذَا فَعَلُواْ فاحشة} جملةٌ بمتدأ لا محلَّ لها من الإعراب وقد جُوّز عطفُها على الصة والفاحشةُ الفَعلةُ المتناهيةُ في القبح والتاء لأنها مُجراةٌ على الموصوف المؤنث أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية والمراد بها عبارة الأصنامِ وكشفُ العورة في الطواف ونحوُهما {قَالُواْ} جواباً للناهين عنها {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آباءنا والله أَمَرَنَا بِهَا} محتجين بأمرين تقليدِ الآباءِ والافتراءِ على الله سبحانه ولعل تقديمَ المقدم للإيذان منهم بأن ى باءهم إنما كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى بها على أن ضمير أمرنا لهم ولآبائهم فحينئذ يظهر وجهُ الإعراض عن الأول في رد مقالتِهم بقوله تعالى {قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء} فإن عادتَه تعالى جاريةٌ على الأمر بمحاسن الأعمالِ والحثِّ على مراضي الخِصال ولا دِلالةَ فيه على أن قبحَ الفعلِ بمعنى ترتبِ الذم عليه عاجلا والعقاب ى جلا عقلي فإن المرادَ بالفاحشة ما ينفِر عنه الطبعُ السليم ويستنقِصُه العقلُ المستقيم وقيل هما جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لما فعلوها لم فعلتم فقالوا وجدنا عليها آباءَنا فقيل لمَ فعلها آباؤُكم فقالوا الله أمرنا بها وعلى الوجهين يُمنع التقليدُ إذا قام الدليلُ بخلافه لا مطلقاً {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تعلمون} من تمام القولِ المأمورِ به والهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه وتوجيهُ الإنكارِ والتوبيخِ إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون صدورَه عنه تعالى مع أن بعضَهم يعلمون عدمَ صدورِه عنه تعالى مبالغةٌ في إنكار تلك الصورةِ فإن إسنادَ ما لم يعلم صدوره عنه تعالى إليه تعالى إذا كان مُنكراً فإسنادُ ما عُلم عدمُ صدورِه عنه إليه عز وجل أشدُّ قبحاً وأحقُّ بالإنكار ...

29

{قُلْ أَمَرَ رَبّي بالقسط} بيانٌ للمأمور به إثرَ نفس ما أُسند أمرُه إليه تعالى من الأمور المنهيِّ عنها والقسط هو العدلُ وهو الوسَطُ من كل شيء المتجافي عن طرفي الإفراطِ والتفريط {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ} وتوجهوا إلى عبادته مستقيمين غيرَ عادلين إلى غيرها أو أقيموا وجوهَكم نحو القِبلة {عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} في كل وقت سجودٍ أو مكانِ سجودٍ وهو الصلاةُ أو في أي مسجدٍ حضَرتْكم الصلاةُ عنده ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم {وادعوه} واعبدوه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي الطاعةَ فإن مصيرَكم إليه بالآخرة {كَمَا بَدَأَكُمْ} أي أنشأكم ابتداءً {تَعُودُونَ} إليه بإعادته فيجازيكم على أعمالكم وإنما شُبه الإعادةُ بالإبداء تقريراً لإمكانها والقدرةِ عليها وقيل كما بدأكم من التراب تعودون إليه وقيل حفاة عراة غر لا تعودون إليه وقيل كما بدأكم مؤمناً وكافراً يعيدكم

الأعراف آية 30 33

30

{فَرِيقًا هدى} بأن وفقهم للإيمان {وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} بمقتضى القضاءِ السابقِ التابعِ للمشيئة المبنيةِ على الحِكَم البالغةِ وانتصابُه بفعل مُضمرٍ يفسِّره ما بعده أي وخذل فريقاً {إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاء مِن دُونِ الله} تعليلٌ لخِذلانه أو تحقيقٌ لضلالتهم {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} فيه دلالةٌ على أن الكافرَ المُخطِىءَ والمعانِدَ سواءٌ في استحقاق الذمِّ وللفارق أن يحمِلَه على المقصِّر في النظر

31

{يا بني آدم خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أي ثيابَكم لمواراة عورتِكم {عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} أي طوافٍ أو صلاةٍ ومن السنة أن يأخذ الرجلُ أحسنَ هيئتِه للصلاة وفيه دليلٌ على وجوب سترِ العورة في الصلاة {وَكُلُواْ واشربوا} مما طاب لكم روي أن بني عامرٍ كانوا في أيم حجِّهم لا يأكلون الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً يعظِّمون بذلك حجهم فهمّ المسلمون بمثله فنزلت {وَلاَ تُسْرِفُواْ} بتحريم الحلالِ أو بالتعدّي إلى الحرام أو بالإفراط في الطعامِ والشّرَه عليه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل ماشئت ما أخطأتْك خصلتانِ سَرَفٌ ومَخِيلة وقال علي بن الحسين بن واقد جمع الله الطبَّ في نصف آية فقال كُلُواْ واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ {إِنَّهُ لاَ يحب المسرفين} أيب لا يرتضي فعلَهم

32

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله} من الثياب وما يُتجمَّل به {التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} من النبات كالقُطن والكتّان والحيوانِ كالحرير والصوفِ والمعادن كالدروع {والطيبات مِنَ الرزق} أي المستلذاتِ من المآكل والمشارب وفيه دليلٌ على أنَّ الأصل في المطاعم والملابس وأنواعِ التجمُّلات الإباحةُ لأن الاستفهامَ في من إنكاري {قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا} بالأصالة والكفرةُ وإن شاركوهم فيها فبِالتَّبع {خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} لا يشارركهم فيها غيرُهم وانتصابُه على الحالية وقرىء بالرفع على أنه خبرٌ بعد خبر {كَذَلِكَ نُفَصِلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي مثلَ هذا التفصيلِ نفصِّلُ سائرَ الأحكامِ لقوم يعلمون ما في تضاعيفها من المعاني الرائقة

33

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش} أي ما تفاحش قبحُه من الذنوب وقيل ما يتعلق منها بالفروج {ما ظهرَ منها وما بَطَنَ} بدلٌ من الفواحش أي جهرَها وسرَّها {والإثم} أي ما يوجب الإثمَ وَهُوَ تعميمٌ بعدَ تخصيصٍ وقيل هو شربُ الخمر {والبغى} أي الظلم أو الكبر أفرد بالذكر

الأعراف آية 34 35 للمبالغة في الزجرعنه {بغير الحق} متعلق بالغي مؤكدٌ له معنى {وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا} تهكّمٌ بالمشركين وتنبيهٌ على تحريم اتباعِ ما لا يدل عليه برهان {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه كقولهم والله أَمَرَنَا بِهَا وتوجيهُ التحريم إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون وقوعَه لا يعلمون عدمَ وقوعِه قد مر سرُّه

34

{ولكل أمةٍ} من الأمم المُهلَكة {أَجَلٌ} حدٌّ معينٌ من الزمان مضروبٌ لِمَهلِكهم {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ} إن جعل الضميرُ للأمم المدلولِ عليها بكل أمة فإظهار الأجل مضافا إليه لإفادة المعنى المقصودِ الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه غياها بواسطة اكتسابِ الأجل بالإضافة عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل إذا جاءهم آجالهم بأن يجيء كل واحدةٍ من تلك الأمم أجلُها الخاصُّ بها وإن جُعل لكل أمةٍ خاصةً كما هو الظاهرُ فالإظهارُ في موقع الإضمار لزيادة التقريرِ والإضافةُ إلى الضمير لإفادة أكملِ التمييزِ أي إذا جاءها أجلُها الخاصُّ بها {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ} عن ذلك الأجلِ {سَاعَةً} أي شيئا قليلا من الزما فإنها مثل ي غاية القلةِ منه أي لا يتأخرون أصلاً وصيغةُ الاستفعا ل للإشعار بعجزهم وحِرمانهم عن ذلك مع طلبهم له {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أي ولا يتقدمون عليهِ وهو عطفٌ عَلى يستأخرون لكن لا لبيان انتفاء التقدم مع إمكانه في نفسه كالتأخر بل المبالغة في انتفاء التأخر بنظمه في سلك المستحيلِ عقلاً كمكا في قوله سبحانه وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الان وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فإن من مات كافراً مع ظهور أن لا توبةَ له رأساً قد نُظم في عدم القبولِ في سلك من سوفها إلى حضور الموتِ إيذاناً بتساوي وجودِ التوبة حينئذ وعدمها بالمرة وقيل المرادُ بالمجيء الدنوُّ بحيث يمكن التقدمُ في الجملة كمجيء اليومِ الذي ضُرب لهلاكهم ساعةٌ فيه وليس بذاك وتقديمُ بيانِ انتفاء الاستيخار لما أن المقصودَ بالذات بيانُ عدمِ خلاصِهم من العذاب وأمَّا ما في قولِه تعالى مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يستأخرون من سبق السبق في الذكر فلما أن المراد هناك بيانُ سرِّ تأخيرِ إهلاكِهم مع استحقاقهم له حسبما ينبيء عنه قوله تعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الامل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فالأهمُّ هناك بيانُ انتفاءِ السبْق

35

{يا بني آدم} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى كافى الناس اهتماماً بشأن ما في حيّزه {إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} هي إنْ الشرطيةُ ضُمَّت إليها ما لتأكيد معنى الشرطِ ولذلك لزِمت فعلَها النونُ الثقيلةُ أو الخفيفةُ وفيه تنبيه على أن إرسال الرسل أمر حائز لا واجبٌ عقلاً {رُسُلٌ مّنكُمْ} الجارُّ متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لرسلٌ أي كائنون من جنسكم وقولُه {يقصون عليكم آياتي} صفةٌ أخرى لرسلٌ أي يبينون لكم أحكاميوشرائعي وقولُه تعالى {فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} جملةٌ شرطية وقعت جوابا

الأعراف آية 36 37 للشرط أيس فمن اتقى منكك التكذيبَ وأصلح عملَه فلا خوف الخ وكذا وقوله تعالى

36

{والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} أي والذين كذبوا منكم بآياتنا وإيرادُ الاتقاءِ في الأول للإيذان بأن مدارَ الفلاحِ ليس مجردَ عدمِ التكذيبِ بل هو الاتقاءُ والاجتنابُ عنه وإدخالُ الفاءِ في الجزاء الأولِ دون الثاني للمبالغة في الوعد والمسامحةِ في الوعيد

37

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كذبا أو كذب بآياته} أي تقول عليه ما لم يقُلْه أو كذّب ما قاله أيْ هُو أظلمَ منْ كل ظالمٍ وقد مرَّ تحقيقُه مراراً {أولئك} إشارةٌ إلى الموصول والجمعُ باعتبارِ معناه كما أن إفرادَ الفعلين باعتبار لفظِه وما فيه من معنى البعد للإيذان بتماديهم في سُوءِ الحالِ أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من الافتراءِ والتَّكذيبِ {ينالهم نصيبهم من الكتاب} أي مما كُتب لهم من الأرزاق والأعمارِ وقيل الكتابُ اللوحُ أي ما أُثبت لهم فيه وأياً ما كان فمِن الابتدائيةُ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من نصيبهم أي ينالُهم نصيبُهم كائناً من الكتاب وقيل نصيبُهم من العذاب وسوادِ الوجه وزُرقةِ العيون وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كُتب لمن يفتري على الله سوادُ الوجهِ قال تعالى وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ وقولُه تعالى {حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا} أي ملكُ الموتِ وأعوانُه {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} أي حالَ كونِهم مُتوفِّين لأرواحهم يؤيد الأول فإنَّ حتَّى وإنْ كانتْ هي التي يُبتدأ بها الكلام لكنها غايةٌ لما قبلها فلا بد أن يكون نصيبُهم مما يتمتعون بها إلى حين وفانهم أي ينالهم نصيبُهم من الكتاب إلى أن يأتيَهم ملائكةُ الموتِ فإذا جاءتهم {قَالُواْ} لَهُمْ {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تدعون مِن دُونِ الله} أي أين الآلهةُ التي كنتم تعبُدونها في الدنيا وما وقعت موصولةً بأين في خط المصحف وحقُّها الفصلُ لأنها موصولة {قَالُواْ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ سؤالِ الرسل كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قَالُواْ {ضَلُّواْ عَنَّا} أي غابوا عنا أي لا ندري مكانَهم {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} عطفٌ على قالُوا أي اعترفوا على أنفسهم {أَنَّهُمْ كَانُواْ} أي في الدنيا {كافرين} عابدين لما لا يَستحِق العبادةَ أصلاً حيث شاهدوا حالَه وضلالَه ولعله أريد بوقت مجيءِ الرسل وحالِ التوفي الزمانُ الممتدُّ من ابتداء المجيءِ والتوفي إلى انتهائه يوم الجزاءِ بناءً على تحقق المجيءِ والتوفي في كل ذلك الزمان بقاءً وإن كان حدوثُهما في أوله فقط أو قُصد بيانُ غاية سرعةِ وقوعِ البعثِ والجزاء كأنهما حاصلان عند ابتداءِ التوفي كما ينبىء عنه قوله صلى الله عليه وسلم من مات فقد قامت قيامتُه وإلا فهذا السؤال والجوابُ وما ترتب عليهما من الأمر بدخول النارِ وما جرى بين أهلها من التلاعن

الأعراف آي 38 40 والتقاولِ إنما يكون بعد البحث لا محالة

38

{قَالَ} أي الله عزَّ وجل يوم القيامة بالذات أو بواسطة الملك {ادخلوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ} أي كائنين من جملة أممٍ مصاحبين لهم {مّنَ الجن والإنس} يعني كفارَ الأمم الماضيةِ من النوعين {فِى النار} متعلقٌ بقوله أَدْخِلُواْ {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ} من الأمم السابقةِ واللاحقةِ فيها {لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} التي ضلت بالاقتداء بها {حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا} أي تداركوا وتلاحقوا في النار {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} دخولاً أو منزلة وهم الأتباعُ {لاولاهم} أي لأجلهم إذِ الخطابُ مع الله تعالى لا معهم {رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا} سنّوا لنا الضلال فاقتدنا بهم {فَآتِهِم عَذَاباً ضِعْفاً} أي مضاعفاً مِنَ النار لأنهم ضلّوا وأضلوا {قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ} أما القادةُ فلِما ذُكر من الضلال والإضلالِ وأما الأتباعُ فلكفرهم وتقليدِهم {ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} اي ما لكم وما لِكُلّ فريقٍ من العذاب وقرىء بالياء

39

{وَقَالَتْ أولاهم} أي مخاطِبين {لأُخْرَاهُمْ} حين سمعوا جوابَ الله تعالى لهم {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} أي فقد ثبت أن لا فضلَ لكم علينا وإنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاقِ العذاب {فَذُوقُواْ العذاب} أي العذابَ المعهودَ المضاعفَ {بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} من قول القادة

40

{إن الذين كذبوا بآياتنا} مع وضوحها {واستكبروا عَنْهَا} أي عن الإيمان بها والعملِ بمقتضاها {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء} أي لا تُقبل أدعيتُهم ولا أعمالهم ولا تعْرُج إليها أرواحُهم كما هو شأنُ أدعيةِ المؤمنين وأعمالِهم وأرواحِهم والتاء في تفتح لتأنيث الأبواب والتشديد لكثرتها وقرىء بالتخفيف وبالتخفيف والياء وقرىء على البناء للفاعل ونصب الأبواب على أن الفعلَ للآيات وبالياء على أنه لله تعالى {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط} أي حتى يدخُلَ ما هو مثل في عِظَم الجِرْم فيما علم في ضيق الملك وهو يقبة الإبرة وفي كون الجملِ مما ليس من شأنه الولج في سمِّ الإبرة مبالغةٌ في الاستبعاد وقرىء الجُمّل كالقمّل والجُمَل كالنُغَر والجُمل كالقُفل والجَمَل كالنصَب والجَمْل كالحبل وهي الحبلُ الغليظ من القنب وقيل حبلُ السفينة وسُمّ بالضم والكسر وقرىء في سَمّ المَخيط وهو الخِياط أي ما يُخاط به كالحِزام والمحزم {وكذلك} أيْ ومثلَ ذلكَ الجزاءِ الفظيعِ {نَجْزِى المجرمين} أي جنسَ المجرمين وهم داخلونَ في زُمرتهم دخولاً أوليا

الأعراف آية 41 43

41

{لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} أي فراشٌ من تحتهم والتنوينُ للتفخيم ومن تجريدية {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} أي أغطيةٌ والتنوينُ للبدل عن الإعلال عند سيبويهِ وللصرْفِ عند غيره وقرىء غواشِ على إلغاء المحذوف كما في قوله تعالى وَلَهُ الجوار المنشآت {وكذلك} ومثلَ ذلك الجزاءِ الشديد {نَجْزِى الظالمين} عبّر عنهم بالمجرمين تارةً وبالظالمين أخرى إشعاراً بأنهم بتكذيبهم الآياتِ اتّصفوا بكل واحدٍ من ذيْنِك الوصفين القبيحين وذكرُ الجُرم مع الحِرمان من دخول الجنةِ والظلم مع التعذيب بالنار للتنبيه على أنه أعظمُ الجرائمِ والجرائر

42

{والذين آمنوا} أي بآياتنا أو بكلِّ ما يجبُ أنْ يُؤمن به فيدخُل فيه الآياتُ دُخولاً أوليَّا وقولُه تعالَى {وَعَمِلُواْ الصالحات} أي الأعمالَ الصالحةَ التي شُرعت بالآيات وهذا بمقابلة الاستكبارِ عنها {لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} اعتراضٌ وُسِّط بين المبتدإِ الذي هو الموصولُ والخبر الذي هو جملة {أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة} للترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولةِ منالِه وتيسُّر تحصيلِه وقرىء لا تُكَلَّف نفسٌ واسمُ الإشارةِ مبتدأٌ وأصحابُ الجنةِ خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتأ الأولِ أو اسمُ الإشارةِ بدلٌ من المبتدأ الأولِ الذي هو الموصول والخبر أصحابُ الجنة وما فيه من معنى البعد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الفضل والشرف {هُمْ فِيهَا خالدون} جحال من أصحاب الجنة وقد جوز كونُه حالاً من الجنة لاشتماله على ضميرها والعاملُ معنى الإضافةِ أو اللامُ المقدرةِ أو خبرٌ ثانٍ لأولئك على رأي من جوّزه وفيها متعلق بخالدون

43

{وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ} أي نخرج من قلوبهم أسبابَ الغل أو نطهرها منه حتى لا يكون بينهم إلا التوادُّ وصيغةُ الماضي للإيذان بتحققه وتقررِه وعَنْ عليَ رضيَ الله تعالى عنه إني لأرجوا أن أكون أنا وعثمان وطلحةُ والزبيرُ منهم {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} زيادةٌ في لذتهم وسرورهم والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في صدورهم والعاملُ إما معنى الإضافة وإما العاملُ في المضاف أو حالٌ من فاعل نزعنا والعاملُ نزعنا وقيل هي مستأنفةٌ للإخبار عن صفة أحوالِهم {وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا} أي لِما جزاؤُه هذا {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ} أي لهذا المطلبِ الأعلى أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها {لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} ووفقنا له واللام لتأكيد النفي وجواب النفي لولا محذوفٌ ثقةً بدِلالة ما قبلَهُ عليه ومفعولُ نهتدي وهدانا الثاني

الأعراف آية 44 46 محذوفٌ لظهور المرادِ أو لإرادة التعميمِ كما أشير إليه والجملةُ مستأنَفةٌ أو حالية وقرىء ما كنا لنهتديَ الخ بغير واو على أنها مبنية ومفسرةٌ للأولى {لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا} جوابُ قسمٍ مقدر قالوه تبجّحاً واغتباطاً بما نالوه وابتهاجاً بإيمانهم بما جاءتهم الرسلُ عليهم السلام والباء في قوله تعالى {بالحق} إما للتعدية فهي متعلقةٌ بجاءت أو للملابسة فهي متعلقةٌ بمقدرٍ وقع حالاً من الرسل أي والله لقد جاءوا بالحق ولقد جاءوا ملتبسين بالحق {وَنُودُواْ} أي نادتهم الملائكةُ عليهم السلام {أَن تِلْكُمُ الجنة} أن مفسرة لما في النِّداءِ من معنى القولِ أو مخففةٌ من أنَّ وضميرُ الشأنِ محذوفٌ ومعنى البُعد في اسم الإشارةِ إما لأنهم نوُدوا عند رؤيتِهم إياها من مكان بعيد غما لرفع منزلتِها وبُعدِ رتبتِها وإما للإشعار بأنها تلك الجنةَ التي وُعدوها في الدنيا {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدُّنيا من الأعمالِ الصالحةِ أي أُعطيتموها بسبب أعمالِكم أو بمقابلة أعمالِكم والجملةُ حال من الجنة والعاملُ معنى الإشارةِ على أن تلكم الجنةُ مبتدأٌ وخبرٌ أو الجنةُ صفةٌ والخبرُ أورثتموها

44

{وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار} تبجحاً بحالهم وشماتةً بأصحاب النار وتحسيراً لهم لا لمجرد الإخبارِ بحالهم والاستخبارِ عن حال مخاطَبيهم {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا} حيث نلنا هذا المنالَ الجليلَ {فهل وجدتم ما وعد رَبُّكُمْ حَقّا} حُذف المفعولُ من الفعل الثاني إسقاطاً لهم عن رتبة التشريفِ بالخطاب عند الوعدِ وقيل لأن ما ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصاً بهم وعداً كالبعث والحساب ونعيم أهل الجنة فإنهم قد وجدوا جميعَ ذلك حقاً وإن لم يكن وعدُه مخصوصاً بهم {قَالُواْ نَعَمْ} أي وجدناه حقاً وقرىء بكسرِ العينِ وهي لغةٌ فيه {فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ} قيل هو صاحبُ الصُّور {بَيْنَهُمْ} أي بين الفريقين {أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} بأنْ المخفَّفةِ أو المفسِّرةِ وقرىء بأنّ المشددةِ ونصْبِ لعنةُ وقرىء إنّ بكسر الهمزةِ على إرادة القول أو إجراء أذّن مُجرى قال

45

{الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} صفةٌ مقرِّرةٌ للظالمين أو رُفع على الذم أو نصْبٌ عليه {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي يبغون لها عِوَجاً بأن يصفوها بالزيغ والميلِ عن الحق وهو أبعدُ شيء منهما والعِوَجُ بالكسر في المعاني والأعيان ما لم يكن منتصباً وبالفتح ما كان في المنتصِب كالرُّمحِ والحائط {وَهُم بالاخرة كافرون} غيرُ معترفين

46

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} أي بين الفريقين كقوله تعالى فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ أو بين الجنة والنار ليمنعَ وصولُ أثرِ إحداهما إلى الأخرى {وَعَلَى الاعراف} أي على أعراف الحجابِ وأعاليه وهو السورُ المضروبُ بينهما جمعُ

الأعراف ى ية 47 49 عُرف مستعار من عُرف الفرس وقيل العرف ما ارتفع من الشيء فإنه بظهوره أعرفُ من غيره {رِجَالٌ} طائفةٌ من الموحدين قصّروا في العمل فيجلسون بين الجنة والنارِ حتى يقضيَ الله تعالى فيهم ما يشاء وقيل قومٌ عَلَت درجاتُهم كالأنبياء والشهداء والأخيارِ والعلماءِ من المؤمنين أو ملائكةٌ يُرَون في صور الرجال {يَعْرِفُونَ كُلاًّ} من أهل الجنة والنار {بسيماهم} بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض الوجهِ وسوادِه فعلى من سام إبِلَه إذا أرسلها في المرعى مُعْلَمةً أو مِنْ وَسَم بالقلب كالجاه من الوجه وإنما يعرفون ذلك بالإلهام أو بتعليم الملائكة {وَنَادَوْاْ} أي رجالُ الأعراف {أصحاب الجنة} حين رأوهم {أَن سلام عَلَيْكُمْ} بطريق الدعاءِ والتحية أو بطريق الإخبارِ بنجاتهم من المكارة {لَمْ يَدْخُلُوهَا} حالٌ من فاعل نادَوْا أو من مفعولِه وقولُه تعالى {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} حال من فاعل يدخلوها أي نادوهم وهم لم يدخلوها حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين له أي لم يدخلوها وهم في وقت عدمِ الدخول طامعون

47

{وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم تِلْقَاء أصحاب النار} أي إلى جهتهم وفي عدم التعرضِ لتعلق أنظارِهم بأصحاب الجنةِ والتعبير عن تعلق أبصارعهم بأصحاب النارِ بالصرف إشعارٌ بأن التعلقَ الأولَ بطريق الرغبة والميل الثاني بخلافه {قَالُواْ} متعوذين بالله تعالى من سوء حالِهم {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين} أي في النار وفي وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوءِ الحال الذي هو الموجبُ للدعاء إشعارٌ بأن المحذورَ عندهم ليس نفيَ العذابِ فقط بل مع ما يوجبه ويؤدي إليه من الظلم

48

{ونادى أصحاب الاعراف} كرر ذكرهم مع كفاية الإضمار لزيادة التقرير {رِجَالاً} من رؤساء الكفارِ حين رأَوْهم فيما بين أصحابِ النار {يَعْرِفُونَهُمْ بسيماهم} الدالةِ على سوء حالِهم يومئذ وعلى رياستهم في الدنيا {قَالُواْ} بدلٌ من نادى {مَا أغنى عنكم} ما إما الاستفهامية للتوبيخ والتقريع أو نافية {جَمْعُكُمْ} أي أتباعُكم وأشياعُكم أو جمعُكم للمال {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} ما مصدريةٌ أي ما أغنى عنكم جميعا واستكبارُكم المستمرُّ عن قَبول الحقِّ أو على الخلق وهو الأنسب بما بعجه وقرىء تستكثرون من الكثرة أي من الأموال والجنود

49

{أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ} من تتمة قولِهم للرجال والإشارةُ إلى ضعفاء المؤمنين الذين كانت الكفرةُ يحتقرونهم في الدنيا ويحلِفون صريحاً أنهم لا يدخُلون الجنةَ أو يفعلون ما ينبىء عن ذلك كما في قولِه تعالى أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ {ادخلوا الجنة} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى أولئك المذكورين أي ادخُلوا الجنة على رُغم

الأعراف ى ية 50 52 أنوفِهم {لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} بعد هذا {وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} أو قيل لأصحاب الأعراف ادخُلوا الجنةَ بفضل الله تعالى بعد أن حُبسوا وشاهدوا أحوالَ الفريقين وعرفوهم وقالوا لهم ما قالوا والأظهرُ أن لا يكون المراد بأصحالب الأعرافِ المقصِّرين في العمل لأن هذه المقالاتِ وما تنفرع هي عليه من المعرفة لا يليق بمن لم يتعيّنْ حالُه بعدُ وقيل لما عيّروا أصحابَ النار أقسموا أن أصحابَ الأعرافِ لا يدخُلون الجنة فقال الله تعالى أو الملائكةُ رداً عليهم أهؤلاء الخ وقرىء ادخَلوا ودَخَلوا على الاستئناف وتقديرُه دخلوا الجنةَ مقولاً في حقِّهم لا خوفٌ عليكم

50

{ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة} بعد أن استقر بكل من الفريقين القرارُ واطمأنت به الدار {أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء} أي صبوه وفيه دلالة على أن الجنة فوق النار {أَوْ مما رزقكم الله} من سائر الأشربة ليلائم الإضافة أو من الأطعمة على أن الإفاضةَ عبارةٌ عن الإعطاء بكثرة {قَالُواْ} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنه قيل فماذا قالوا فقيل قالوا {إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين} أي منعهما منهم منعاً كلياً فلا سبيل إلى ذلك قطعاً

51

{الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْوًا ولعبا} متحريم البَحيرة والسائبةَ ونحوِهما والتصديةِ حولَ البيت واللهوُ صرفُ الهمِّ إلى ما لا يحسُن أن يُصْرفَ إليه واللعبُ طلبُ الفرحِ بما لا يحسن أن يُطلب {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} بزخارفها العاجلةِ {فاليوم ننساهم} نفعل بهم ما يفعل الناس بالمنسيِّ من عدم الاعتدادِ بهم وتركِهم في النار تركاً كلياً والفاء في فاليوم فصيحةٌ وقوله تعالى {كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هذا} في محل النصبِ على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي ننساهم مثلَ نسيانِهم لقاءَ يومِهم هذا حيث لم يُخطِروه ببالهم ولم يعتدّوا له وقولُه تعالى {وَمَا كَانُواْ بآياتنا يَجْحَدُونَ} عطفٌ على ما نسوا أي وكما كانوا منكرين بأنها من عند الله تعالى إنكاراً مستمراً

52

{وَلَقَدْ جئناهم بكتاب فصلناه} أي بيّنا معانيَه من العقائد والأحكامِ والمواعظ والضميرُ للكفرة قاطبةً والمرادُ بالكتاب الجنسُ أو للمعاصِرين منهم والكتابُ هو القرآن {على عِلْمٍ} حالٌ من فاعِل فصلناه أي عالمين بوجه تفصيلِه حتى جاء حكيماً أو من مفعولِه أي مشتملاً على علم كثير وقرىء فضلناه أي على سائر الكتب عالمين بفضله {هُدًى وَرَحْمَةً} حال من المفعول {لقوم لا يُؤْمِنُونَ} لأنهم المغتنمون لآثاره المقتبسون من أنواره

الأعراف آية 53 54

53

{هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} أي ما يناتظر هؤلاءِ الكفرةُ بعدم إيمانِهم به إلا ما يئول إليه أمرُه من تبيّن صدقِه بظهور ما أخبر به من الوعد والوعيد {يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ} وهو يومُ القيامة {يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ} أي تركوه ترْكَ المنسيِّ من قبل إتيانِ تأويلِه {قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق} أي قد تبين أنهم قد جاءوا بالحق {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لنا} ويدفعوا عنا العذاب {أَوْ نُرَدُّ} أي هل نرد إلى الدنيا وقرىء بالنصب عطفاً على فيشفعوا أو لأن أو بمعنى إلى أن فعلى الأول المسئول أحدُ الأمرين إما الشفاعةُ لدفع العذاب أو الرد إلى الدنيا وعلى الثاني أن يكون لهم شفعاءُ إما لأحد الأمرين أو لأمر واحد هو الرد {فَنَعْمَلَ} بالنصب على أنه جواب الاستفهام الثاني وقرىء بالرفع أي فنحن نعمل {غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ} أي في الدنيا {قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} بصرف أعمارِهم التي هي رأسُ مالِهم إلى الكفر والمعاصي {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي ظهر بطلانُ ما كانوا يفترونه من أن الأصنامَ شركاءُ لله تعالى وشفعاؤهم يوم القيامة

54

{إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خلق السماوات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} شروعٌ في بيان مبدأ الفطرةِ إثرَ بيانِ معادِ الكفَرة أي إن خالقَكم ومالككم الذي خالق الأجرامَ العلوية والسفليةَ في ستة أوقات كقوله تعالى وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ أو في مقدار ستةِ أيامٍ فإن المتعارفَ أن اليومَ زمانُ طلوعِ الشمسِ إلى غروبها ولم تكن هي حينئذ وفي خلق الأشياء مدرجاً مع القدرة على إبداعها دفعة دليل على الاختيار واعتبار للنظار وحث على التأني في الأمور {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أي استوى أمرُه واستولى وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة لله تعالى بلا كيف والمعنى أنه تعالى استوى على العرش على الوجه الذي عناه منزهاً عن الاستقرار والتمكن والعرشُ الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملِك فإن الأمورَ والتدابير تنزِل منه وقيل الملك {يَغْشَى اللَّيْلَ النَّهَارَ} أي يغطّيه به ولم يُذكر العكسُ للعلم به أو لأن اللفظَ يحتملهما ولذلك قرىء بنصب الليلَ ورفع النهار وقرىء بالتشديد للدلالة على التكرار {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} أي يعقُبه سريعاً كالطالب له لا يفصل بينهما شيء والحثيثُ فعيل من الحث وهو صفةُ مصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من الفاعلِ أو من المفعول بمعنى حاثاً أو محثوثاً {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ} أي خلقهن حال كونهِن مسخراتٍ بقضائه وتصريفِه وقرىء كلُّها بالرفع على

الأعراف آية 55 56 الابتداء والخبر {أَلاَ لَهُ الخلق والامر} فإنه الموجدَ للكل والمتصرِّفَ فيه على الإطلاق {تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} أي تعالى بالوحدانية في الألوهية وتعظّم بالتفرد في الربوبية وتحقيقُ الآية الكريمةِ والله تعالى أعلم إن الكفرة كانوا متخذين أرباباً فبيّن لهم أن المستحق الربوبية واحدٌ هو الله تعالى لأنه الذي له الخلقُ والأمرُ فإنه تعالى خلق العالمَ على ترتيب قويمٍ وتدبيرٍ حكيم فأبدع الأفلاكَ ثم زينها بالشمس والقمر والنجومِ كما أشار إليه بقوله تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات فِى يَوْمَيْنِ وعمَد إلى األأجرام السفليةِ فخلق جسماً قابلاً للصور لمتبدلة والهيئاتِ المختلفة ثم قسمها لصور نوعية متبانة الآثار والأفعالِ وأشار إليه بقوله تعالى وخلق الارض فِى يَوْمَيْنِ أي ما في جهة السُّفلِ في يومين ثم أنشأ أنواعَ المواليدِ الثلاثةِ بتركيب موادِّها أولاً وتصويرِها ثانياً كما قال بعد قوله تعالَى خَلَقَ الأرضَ فِى يَوْمَيْنِ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتَها فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي مع اليومين الأولين لِما فُصّل في سورة السجدة ثم لمّا تم له عالمُ الملك عمد إلى تدجبيره كالمالك الجالس على سريره فدبر الأمرَ مِنَ السماء إِلَى الأرض بتحريك الأفلاكِ وتسيير لكواكب وتكويرِ الليالي والأيامِ ثم صرّح بما هو فذلكةُ التقريرِ ونتيجتُه فقال تعالى ألا له الحلق والامر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين ثم أمر بأن يدعوُه مخلِصين متذلِّلين فقال

55

{ادعوا رَبَّكُمْ} الذي قد عرفتم شئونه الجليلة {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} أي ذوي تضرّعٍ وخُفية فإن الإخفاءَ دليلُ الإخلاص {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} أي لا يحب دعاءَ المجاوزين لما أُمروا به في كلَّ شيءٍ فيدخُل فيه الاعتداءُ في الدعاء دخولاً أولياً وقد نُبِّه به على أن الداعيَ يجب أن لا يطلُب ما لا يليقُ به كرتبة الأنبياءِ والصعودِ إلى السماء وقيل هو الصياحُ في الدعاء والإسهابُ فيه وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم سيكونُ قومٌ يعتدون في الدعاء وحسْبُ المرءِ أن يقول اللهم إني أسألُك الجنةَ وما قرَّب إليها من قول وعملٍ وأعوذُ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ إنَّهُ لا يحبُّ المعتدين

56

{وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض} بالكفر والمعاصي {بَعْدَ إصلاحها} ببعث الأنبياء عليهم السلام وشرْعِ الأحكام {وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا} أي ذوي خوفٍ نظرا إلى قصور أعمالكم وعدم اسحقاقكم وطمَعٍ نظراً إلى سَعة رحمتِه ووفورِ فضلِه وإحسانِه {إن رحمة الله قريب مِّنَ الْمُحْسِنِين} في كل شيء ومن الإحسان في الدعاء أن يكون مقروناً بالخوف والطمع وتذكيرُ قريبٌ لأن الرحمةَ بمعنى الرحم أو لأنه صفةٌ لمحذوف أي أمرٌ قريبٌ أو على تشبيه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول أو الذي هو مصدر كالنقيض والصهيل أو للفرق بين القريب من النسَب والقريب من غيره أو لاكتسابه التذكيرَ من المضاف إليه كما أن المضاف يكتب التأنيثَ من المضاف إليه

الأعراف آية 57 58

57

{وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح} عطف على الجملة السابقة وقرىء الريحَ {بُشْرًا} تخفيفُ بُشُرٍ جمع بشير أي مبشّرات وقرىء بفتح الباءِ على أنه مصدرُ بَشَره بمعنى باشرات أو للبِشارة وقرىء نُشُراً بالنون المضمومة جمعُ نَشور أي ناشرات ونَشْراً على أنه مصدرٌ في موقعِ الحالِ بمعنى ناشرات أو مفعولٌ مطلقٌ فإن الإرسالَ والنَّشرَ متقاربان {بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} قُدّامَ رحمتِه التي هي المطرُ فإن الصَّبا تُثير السحابَ والشَّمالَ تجمعُه والجَنوبَ تدُرّه والدَّبورَ تفرّقه {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ} أي حملت واشتقاقُه من القِلة فإن المُقِلَّ للشيء يستقِلّه {سَحَابًا ثِقَالاً} بالماء جَمَعه لأنه بمعنى السحائب {سقناه} أي السحاب وإفرادُ الضميرِ لإفراد اللفظ {لِبَلَدٍ مَّيّتٍ} أي لأجله ولمنفعته أو لإحيائه أو لسقيه وقرىء ميْتٍ {فَأَنزَلْنَا بِهِ الماء} أي بالبلد أو بالسحاب أو بالسَّوْق أو بالريح والتذكيرُ بتأويل المذكور وكذلك قوله تعالى {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} ويحتمل أن يعود الضميرُ إلى الماء وهو الظاهرُ وإذا كان للبلد فالباءُ للإلصاق في الأول والظرفية في الثاني وإذا كان لغيره فهي للسببية {مِن كُلّ الثمرات} أيْ من كل أنواعها {كذلك نُخْرِجُ الموتى} الإشارةُ إلى إخراج الثمراتِ أو إلى إحياء البلدِ الميتِ أي كما نحييه بإحداث القوةِ الناميةِ فيه وتطريتِها بأنواعِ النباتِ والثمراتِ نخرج الموتى من الأجداث ونحييها بردّ النفوسِ إلى موادّ أبدانِها بعد جَمعِها وتطريتها بالقُوى والحواسّ {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} بطرح إحدى التاءين أي تتذكرون فتعلمون أن مَنْ قدَرَ على ذلك على هذا من غير شبهة

58

{والبلد الطيب} أي الأرضُ الكريمةُ التربة {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ} بمشيئته وتيسيرِه عبر به عن كثرة النباتِ وحسنِه وغزارة نفحه لنه أوقعه في مقابلةِ قولِه تعالى {والذى خَبُثَ} من البلاد كالسبخة والحرَّة {لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا} قليلاً عديمَ النفع ونصبُه على الحال والتقديرُ والبلدُ الذي خبُث لا يخرُج نباتُه إلا نكِداً فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مُقامَه فصار مرفوعاً مستتراً وقرىء لا يخرج إلا نكدا أي لا يخرجه البلدُ إلا نكداً فيكون إلا نكداً مفعولَه وقرىء نَكَداً على المصدر أي ذا نَكَدٍ ونَكْداً بالإسكان للتخفيف {كذلك} أي مثلَ ذلك التصريف البديع {نصرف الآيات} أي نرددها ونكررها {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} نعمةَ الله تعالى فيتفكرون فيها ويعتبرون بها وهذا كما ترى مثل لإرسال الرسل عليهم بالشرائع التي هي ماءُ حياةِ القلوبِ إلى المكلَّفين المنقسكمين إلى المقتبِسين من أنوارها والمحرومين من مغانمِ آثارِها وقد عُقّب ذلك بما يحققه ويقرّره من قصص الأممِ الخاليةِ بطريق الاستئناف فقيل

الأعراف آية 59 61

59

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ} هو جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ والله لقد ارسلنا الخ واطرادا استعمالِ هذه اللامِ مع قد لكون مدخولِها مَظِنّةً للتوقع الذي هو معنى قد فغن الجملة القسَميةَ إنما تُساق لتأكيد الجملةِ المُقسَم عليها ونوح هو ابن لملك بن متوشلح بنِ أُخنوخ وهو إدريسُ النبيُّ عليهما السلام قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بُعثَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على رأس أربعيم سنةً من عمره ولبِث يدعو قومه تسمعاءة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمرُه ألفاً ومائتين وأربعين سنة وقال مقاتل بعث وهو ابنُ مائةِ سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابنُ مائتين وخمسين سنةً ومكث يدعو قومَه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسون سنة فكان عمره ألفا وأربَعَمِائةٍ وخمسين سنة {فَقَالَ يا قوم اعبدوا الله} أي اعبدوه وحدَه وتركُ التقييد بع للإيذان بأنها العبادةُ حقيقةً وأما العبادةُ بالإشراكِ فليستْ من العبادة في شيءٍ وقولُه تعالى {مَّا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ} أي من مستحِقَ للعبادة استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل العبادةِ المذكورةِ أو الأمرِ بها وغيرُه بالرَّفعِ صفةٌ لإله باعتبارِ محلِّه الذي هو الرفعُ عَلَى الابتداءِ أو الفاعلية وقُرىء بالجرِّ باعتبار لفظه وقُرىء بالنَّصبِ على الاستثناءِ وحكمُ غيرٍ حكمُ الاسمِ الواقعِ بعد إلا أي مَا لَكُم مّنْ إله إلا إياه كقولك ما في الدار من أحد إلا زبد أو غيرَ زيدٍ فمن إله إن جعل مبتدأً فلكم خبرُه أو خبرُه محذوفٌ ولكُم للتَّخصيصِ والتَّبيينِ أي ما لكُم في الوجودِ أو في العالمِ إله غيرُ الله {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} أي إن لم تعبدوه حسبماأمرت به {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يومُ القيامة أو يومُ الطوفان والجملةُ تعليلٌ للعبادة ببيان الصارفِ عن تركها إثرَ تعليلِها ببيان الداعي إليها ووصفُ اليومِ بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه وتكميلِ الإنذار

60

{قَالَ الملا مِن قَوْمِهِ} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولِه عليه السلام كأنه قيل فماذا قالُوا له عليهِ السَّلامُ في مقابلة نصحِه فقيل قال الرؤساءُ من قومه والأشراف الذين يمثلون صدورَ المحافل بإجرامهم والقلوبَ بجلالهم وهيبتِهم والأبصارَ بجمالهم وأُبّهتهم {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال} أي ذهاب عن طريق الحقِّ والصواب والرؤيةُ قلبيةٌ ومفعولاها الضميرُ والظرفُ {مُّبِينٌ} بيّنٌ كونُه ضلالاً

61

{قَالَ} استئناف كما سبق {يا قوم} ناداهم بإضافتهم إليه استمالةً لقلوبهم نحو الحق {لَيْسَ بِى ضلالة} أيُّ شيءٍ ما من الضلال قصد عليه الصلاة والسلام تحقيق الحقي في نفي الضلالِ عن نفسه رداً على الكفرة حيث بالغوا في إثباته له عليه الصلاة والسلام حيث جعلوه مستقراً في الضلال الواضِحِ كونُه ضلالاً وقوله تعالى {وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين} استدراكٌ مما قبله باعتبار ما يستلزِمه من كونِه في أقصى مراتبِ الهداية فإن رسالةَ ربِّ العالمين مستلزِمةٌ

الأعراف آية 62 64 لا محالة كأنَّه قيل ليس بي شيءٌ من الضلال ولكني في الغايةِ القاصيةِ من الهداية ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لرسولٌ مؤكدةٌ لما يفيده التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي رسولٌ وأيُّ رسولٍ كائنٌ من رب العالمين

62

{أُبَلّغُكُمْ رسالات رَبّى} استئنافٌ مسوق لتقرير رسالته ووتفصيل أحكامِها وأحوالِها وقيل صفة أخرى لرسولٌ على طريقة أنا الذي سمّتني أمي حيدَره وقُرِىءَ أبْلِغُكم من الإبلاغِ وجمع رسالات لاختلاف أوقاتِها أو لتنوّع معانيها أو لأن المرادَ بها ما أوحيَ إليه وإلى النبيين من قبله وتخصيصُ ربوبيتِه تعالى به عليه الصلاة والسلام بعد بيانِ عمومِها للعالمين للإشعار لعلة الحُكمِ الذي هو تبليغُ رسالتِه تعالى إليهم فإن ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من موجبات امتثالِه بأمره تعالى بتبليغ رسالتِه تعالى إليهم {وَأَنصَحُ لَكُمْ} عطفٌ إلى أبلّغُكم مبينٌ لكيفية أداءِ الرسالة وزيادة الللام مع تعدّي النُصحِ بنفسه للدلالة على إمحاض النصيحةِ لهم وأنها لمنفعتهم ومصلحتِهم خاصة وصيغة المضارع للدللة على تجدد نصيحتِه لهم كما يعرب عنه قوله تعالى رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً ونَهَارًا وقولُه تعالى {وأعلم من الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} عطفٌ على ما قبله وتقريرٌ لرسالته عليه الصلاة والسلام أي أعلم من جهة الله تعالى بالوحي ما لا تعلمونه من الأمورِ الآتيةِ أو أعلم من شئونه عز وجل وقدرتِه القاهرةِ وبطشِه الشديدِ على أعدائه وأن بأسَه لا يرد عن القم المجرمين ما لا تعلمونه قيل كانوا لم يسمعوا بقوم حل بهم العذابُ قبلَهم فكانوا غافلين آمنين لا يعلمون ما علِمه نوحٌ عليه السلام بالوحي

63

{أوعجبتم أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ} جوابٌ ورد لمّا اكتُفيَ عن ذكره بقولهم إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال مُّبِينٍ من قولهم مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا وقولِهم لَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة والهمزةُ للإنكارِ والواوُ للعطفِ على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل أاستبعدتم وعجِبتم من أن جاءكم ذكرٌ أي وحيٌ أو موعظةٌ من مالك أموركم ومربّيكم {على رَجُلٍ مّنكُمْ} أي على لسان رجلٍ من جنسكم كقوله تعالى مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وقلتم لأدل ذلك ما قلت من أن الله تعالى لو شاء لأنزل ملائكة {لِيُنذِرَكُمْ} علةٌ للمجيء أي ليحذركم عاقبة الكفر والعاصي {وَلِتَتَّقُواْ} عطفٌ على العلة الأولى مترتبةٌ عليها {وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} عطف على العلة الثانية مترتبةٌ عليها أي ولتتعلق بكم الرحمةُ بسبب تقواكم وفائدةُ حرفِ الترجّي التنبيه على عزة المطلبِ وأن التقوى غير موجب للرحمة بل هي منوطةٌ بفضل الله تعالى وأن المتقيَ ينبغي أن لا يعتمد على تقواه ولا يأمن عذاب الله عز وجل

64

{فكذبوه} فتموا على تكذيبه في دعوى النبوةِ وما نزلَ عليهِ منَ الوحيِ الذي بلّغه إليهم وأنذرهم بما في

الأعراف آية 65 تضاعيفه واستمرّوا على ذلك هذه المدةَ المتطاولةَ بعد ما كرر عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عليهم الدعوةَ مراراً فلم يزدهم دعاؤُه إلا فراراً حسبما نطق به قوله تعالى رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً الآيات إذ هو الذي يعقُبه اتلإنجاء والإغراق لا مجرد التكذيب {فأنجيناه والذين مَعَهُ} من المؤمنين قيل كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأةً وقيل تسعةً أبناؤُه الثلاثة وستةٌ ممّن آمن به وقوله تعالى {فِى الفلك} متعلقٌ بالاستقرار في الظرف أي استقروا معه في الفلك وصحبوه فيه أو بفعل الإنجاء أي أنجيناهم في السفينة ويجوز أن يتعلق بمُضْمَرٍ وقعَ حالاً مِنْ الموصول أو من ضميرِه في الظرف {وأغرقنا الذين كذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي استمروا على تكذيبها وليس المرادُ بهم الملأَ المتصدِّين للجواب فقط بل كان من أصرّ على التكذيب منهم ومن أعقابهم وتقديمُ ذكرِ الإنجاءِ على الإغراق للمسارعة إلى الإخبار به والإيذانِ بسبق الرحمةِ التي هي مقتضى الذاتِ وتقدُّمِها على الغضب الذي يظهر أثرُه بمقتضى جرائمِهم {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ} عُمْيَ القلوبِ غيرَ مستبصرين قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عمِيَتْ قلوبُهم عن معرفة التوحيد والنبوةِ والمعاد وقرىء عامِينَ والأولُ أدلُّ على الثبات والقرار

65

{وإلى عاد} متعلق بمضمر معطوف على قوله تعالى أرسلنا في قصَّة نوحٍ عليه السلام وهو الناصبُ لقوله تعالى {أخاهم} أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي واحداً منهم في النسَب لا في الدين كقولهم يا أخا العرب وقيل العاملُ فيهما الفعلُ المذكور فيما سبق وأخاهم معطوف على نوحاً والأولُ هو الأولى وأياً ما كان فلعل تقديم المجرور ههنا على المفعول الصريح للحِذار عن الإضمار قبل الذكر يرشدك إلى ذلكَ ما سيأتِي من قوله تعالى وَلُوطاً الخ فإن قومَه لمّا لم يُعهدوا باسمٍ معروف يقتضي الحالُ ذكرَه عليه السلام مضافاً إليهم كما في قصة عاد وثمودَ ومدينَ خولف في النظم الكريم بين قصتِه عليه السلام وبين القصصِ الثلاثِ وقولُه تعالى {هُودًا} عطفُ بيانٍ لأخاهم وهو هودُ بنُ عبدِ اللَّه بن رباح بن الخلود ابن عاد بن عوص ابن إرم بن سام بنِ نوحٍ عليه السلام وقيل هود بن شالخ بن أرفخشذَ بنِ سامِ بن نوح بن عم أبي عاد وإنما جعل منهم لأنهم أفهمُ لكلامه وأعرفُ بحاله في صدقه وأمانتِه وأقربُ إلى اتباعه {قَالَ} استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ إرسالِه عليه السلام إليهم كأنه فماذا قال لهم فقيل قال {قَالَ يَا قَومِ اعبدوا الله} اي وحدوه كما يعرب عنه قوله {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} فإنه استئنافٌ جارٍ مجرى البيان للعبادة المأمور بها والتعليلُ لها أو للأمر بها كأنه قيل خُصّوه بالعبادة وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً إذ ليس لكم إله سواه وغيرُه بالرَّفعِ صفةٌ لإله باعتبار محله وقرىء بالجمر حملاً له على لفظه {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} إنكارٌ واستبعادٌ لعدم اتقائِهم عذابَ الله تعالى بعدَ ما علموا ما حل بقوم نوحٍ والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقامُ أي ألا تتفكرون أو أتغفُلون فلا تتقون فالتوبيخُ على المعطوفين معاً أو أتعلمون ذلك فلا تتقون فالتوبيخُ على المعطوف فقط وفي سورة هود أفلا تعقولن ولعله عليه السلام خاطبهم بكل منهما وقد اكتُفي بحكاية كلَ منهما في موطن عن حكايته في موطن آخرَ كما لم يذكر ههنا ما ذُكر هناك من قولِه تعالَى إِن أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ وقِسْ على ذلك حالَ بقيةِ ما ذُكر وما لم يُذكر من أجزاء القصةِ بل

الأعراف آية 66 69 حالَ نظائرِه في سائر القصصِ لا سيما في المحاورات الجاريةِ في الأوقات المتعددة والله أعلم

66

{قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} استئنافٌ كما مر وإنما وُصف الملأُ بالكفر إذْ لم يكن كلُّهم على الكفر كملأ قومِ نوحٍ بل كان منهم من آمن به عليه السلام ولكن كان يكتُم إيمانَه كمرثد بن سعد وقيل وصفوا له لمجرد الذم {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} أي متمكناً في خِفّة عقلٍ راسخاً فيها حيث فارق دينَ آبائِك أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاءُ ولكن لا يعلمون {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين} أي فيما ادعيْتَ من الرسالة قالوه لعراقتهم في التقليلد وحِرمانِهم من النظر الصحيح

67

{قَالَ} مستعطفاً لهم ومستميلاً لقلوبهم مع ما سمع منهم ما سمع من الكلمة الشنعاءِ الموجبةِ لتغليظ القول والمشافهة بالسوء {يا قوم لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ} أي شيءٌ منها ولا شائبةٌ من شوائبها {وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين} استدراكٌ مما قبله باعتبار ما يستلزمه ويقتضيه من كونه في الغاية القصوى من الرُّشد والأناةِ والصدقِ والأمانة فإن الرسالةَ من جهة ربِّ العالمين موجبةٌ لذلك حتماً كأنه قيل ليس بي شيء مما نيتموني إليه ولكني في غايةِ ما يكونُ من الرشدُ والصِّدقُ ولم يصرِّحْ بنفي الكذِب اكتفاءً بما في حيز الاستدراك ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لرسولٌ مؤكدة لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ وقولُه تعالى

68

{أُبَلّغُكُمْ رسالات رَبّى} استئنافٌ سيق لتقرير رسالتِه وتفصيلِ احوالها وقيل صفة أخرى لرسولٌ والكلامُ في إضافة الربِّ إلى نفسه عليه السلام بعد إضافته إلى العالمين وكذا في جمع الرسالاتِ كالذي مر في قصة نوحٍ عليه السلام وقُرِىءَ أُبْلِغُكم من الإبلاغِ {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} معروفٌ بالنصح والأمانةِ مشهورٌ بين الناس بذلك وإنَّما جيء بالجملةِ الاسميةِ دلالة على الثبات والاستمرار وإيذاناً بأن مَنْ هذا حالُه لا يحوم حولَه شائبةُ السفاهةِ والكذب

69

{أوعجبتم أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ} الكلامُ فيه كالذي مر في قصة نوح عليه السلام {على رَجُلٍ مّنكُمْ} أي من جنسكم {لِيُنذِرَكُمْ} ويحذرَكم عاقبةَ ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي حتى نسبتموني إلى السفاهة والكذبِ وفي إجابة الأنبياءِ صلواتُ الله وسلامُه عليهم أجمعين من يشافِهُهم بما لاَ خيرَ فيهِ من أمثال تلك الأباطيلِ بما حُكيَ عنهم من المقالات الحقة المعربة عن نهاية الحلم والرزانة وكمالِ الشفقةِ والرأفة من الدلالة على حيازتهم القدحَ المُعلَّى من مكارم الأخلاق ما لا يخفى مكانُه {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء} شروعٌ في بيان ترتيبِ أحكامِ النصح

الأعراف آية 70 71 والأمانةِ والإنذارِ وتفصيلِها وإذ منصوبٌ باذكروا على المفعولية دون الظرفية وتوجيهُ الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودةُ بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما فيه بالطريق البرهانيِّ ولأن الوقتَ مشتمِلٌ عليها فإذا استُحضر كانت هي حاضرةً بتفاصيلها كأنها مشاهَدةٌ عياناً ولعله معطوف على مقدرة كأنه قيل لا تعجبوا من ذلك أو تدبروا في أمركم واذكروا وقتَ جعْلِه تعالى إياكم خلفاءَ {مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} أي في مساكنهم أو في الأرض بأن جعلكم ملوكاً فإن شدادَ بنَ عاد ممن ملك معمورةَ الأرضِ من رمل عالِجٍ إلى شحر عمان {وَزَادَكُمْ فِى الخلق} أي من الإبداع والتصوير أو في الناس {بَسْطَةً} قامةً وقوةً فإنه لم يكن في زمانهم مثلُهم في عِظَم الأجرامِ قال الكبي والسدي كانت قامةُ الطويلِ منهم مائةَ ذراعٍ وقامةُ القصير ستين ذراعاً {فاذكروا آلاء الله} التي أنعم بها عَلَيْكُمْ من فنون النَعماء التي هذه من جملتها وهذا تكريرٌ للتذكير لزيادة التقرير وتعميمٌ إثرَ تخصيص {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} كي يؤديَكم ذلك إلى الشكر المؤدّي إلى النجاة من الكروب والقوز بالمطلوب

70

{قَالُواْ} مجيبين عن تلك النصائحِ العظيمة {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ} أي لنخُصّه بالعبادة {وَنَذَرَ مَا كَانَ يعبد آباؤنا} أنركوا عليه عليه السلام مجيئَه لتخصيصه تعالى بالعبادة والإعراضِ عن عبادة الأوثان أنهما كان في التقليد وحباً لما ألِفوه وألِفوا أسلافَهم عليه ومعنى المجيء إما مجيئُه عليه السلام مِنْ مُتَعَبَّده ومنزلِه وإما من السماء على التهكم وإما القصدُ والتصدّي مجازاً كما يقال في مقابلِه ذهب يشتمني من غير إرادةِ معنى الذهاب {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} منَ العذاب والمدلول عليه بقوله تعالى أَفَلاَ تَتَّقُونَ {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي في الإخبار بنزول العذابِ وجوابُ إن محذوف لدلالة المذكور عليه أي فأت به

71

{قال قد وقع عليكم} أي وجب وحق أو نزل بإصراركم هذا بناءً على تنزيل المتوقَّع منزلةَ الواقع كما في قوله تعالى أتى أمر الله {مّن رَّبّكُمْ} أي من جهته تعالى وتقديمُ الظرف الأولِ على الثاني مع أن مبدأ الشيءِ متقدمٌ على منتهاه للمسارعة إلى بيان إصابةِ المكروهِ لهم وكذا تقديمهما على الفاعل الذي هو قوله تعالى {رجس} مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوعَ طولٍ بما عُطف عليه من قوله تعالى {وغضب} فربما يخل تقديمهما بتجاوب النظمِ الكريم والرجسُ العذابُ من الارتجاس الذي هو الاضطرابُ والغضب إرادةُ الانتقام للتفخيم والتهويل {أتجادلونني في أسماء} عاريةٍ عن المسمى {سميتموها} أي سميتم بها {أنتم وآباؤكم} إنكارٌ واستقباح لإنكارهم مجيئَه عليه السلام داعياً لهم إلى عبادة الله تعالى وحده وتركِ

الأعراف آية 72 عبادةِ الأصنام أي أتجادلونني في أشياءَ سمَّيتموها آلهةً ليست هي إلا محضُ الأسماءِ من غير أن يكون فيها من مصداق الإلهية شيءٌ ما لأن لمستحق للعبودية ليس إلا من أوجد الكلَّ وأنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى إما بإنزال آيةٍ أو نصبِ حُجةٍ وكلاهما مستحيلٌ وذلك قوله تعالى {ما نزل الله بِهَا مِن سلطان} وإذ ليس ذلك في حيز الإمكانِ تحققَ بطلان ما هم عليه {فانتظروا} مترتبٌ على قوله تعالى قد وقع عليكم أي فانتظروا ما تطلُبونه بقولكم فائتنا بما تعدنا الخ {إني معكم من المنتظرين} لما يَحِلُّ بكم والفاء في قوله تعالى

72

{فأنجيناه} فصيحةٌ كما في قولِه تعالى فانفجرت أي فوقع ما قوع فأنجيناه {والذين معه} أي في الدين {برحمة} أي عظيمةٌ لا يُقادرُ قَدرُها وقوله تعالى {منا} أي من جهتنا متعلقٌ بمحذوف هو نعتٌ لرحمةٍ مؤكِّدٌ لفخامتها الذاتية المنفهة من تنكيرها بالفخامة الإضافية {وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا} أي استأصلناهم بالكلية ودمرناهم عن آخرهم {وما كانوا مؤمنين} عطفٌ على كذَّبوا داخلٌ معه في حكم الصلةِ أي أصرُّوا على الكفر والتكذيبِ ولم يرعووا عن ذلك أبداً وتقديمُ حكايةِ الإنجاءِ على حكاية الإهلاكِ قد مر سرُّه وفيه تنبيهٌ على أن مناطَ النجاةِ هو الإيمانُ بالله تعالى وتصديقُ آياتِه كما أن مدارَ البوارِ هو الكفرُ والتكذيب وقصتُهم أن عاداً قومٌ كانوا باليمن بالأحقاف وكانوا قد تبسّطوا في البلاد ما بين عُمان إلى حضْرَمَوتَ وكانت لهم أصنامٌ يعبُدونها صداً وصمود والهبا فبعثَ الله تعالى إليهم هوداً نبياً وكان من أوسطهم وأفضلهم حسباً فكذبوه وازدادوا عُتوّاً وتجبّراً فأمسك الله عنهم القطرَ ثلاثَ سنينَ حتى جهَدوا وكان الناس إذا نزل بهم بلاءٌ طلبوا إلى الله الفرجَ منه عند بيتِه الحرامِ مسلِمُهم ومشركُهم وأهل مكة إذ ذاك العماليقَ أولادَ عمليق ابن لاوذَ بنِ سامِ بنِ نوح وسيدُهم معاويةُ بنُ بكرٍ فجهزّت عادٌ إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلا منهم قيل ابن عنز ومَرثدُ بن سعد الذي كان يكتُم إسلامَه فلما قدِموا نزلوا على معاويةَ بنِ بكر وهو بظاهر مكة خارجاً عن الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخوالَه وأصهارَه فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمرَ وتغنّيهم قينتا معاوية فلما رأى طولَ مقامِهم وذهولَهم باللهو عما قدموا له أهمّه ذلك وقال قد هلك أخوالي وأصهاري وهؤلاء على ما هم عليه وكان يستحيي أن يكلمهم خشيةَ أن يظنوا به ثِقَلَ مقامهم عليه فذكر ذلم للقينتين فقالتا قل ضعرا نغنيهم به لا يدرون مَنْ قاله فقال معاوية ... ألا يا قِيلُ ويحكَ قم فهينِم لعل الله يسقينا غماما ... فيسقي أرضَ عادٍ إن عادا قَدَ أمسوا لا يبنون الكلاما فلما غنتا به قالوا إن قومَكم يتغوّثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخُلوا الحرَم واستسقوا لقومكم فقال لهم مرثدُ بن سعد والله لا تُسقَون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله تعالى سُقِيتم وأظهر إسلامَه فقالوا لمعاوية احبِس عنا مرثداً لا يقدَمَن معنا فإنه قد اتبع هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة فقال قيلُ اللهم اسقِ عاداً ما كنت تسقيهم فأنشأ الله تعالى سحاباتٍ ثلاثاً بيضاءَ وحمراءَ وسوداءَ ثم ناداه منادٍ من السماء يا قيلُ اختر لنفسك ولقومك فقال اخترت السوداءَ فإنها أكثرهم ماءً فخرجت على عاد من واد يقال له المغيث فاستبشَروا بها وقالوا هذا عارضٌ مُمطرُنا فجاءتهم منا ريح عقيم فأهلكتهم ونجال هودٌ والمؤمنون معه فأتَوا مكةَ فعبدوا الله تعالى

الأعراف آية 73 فيها إلى أن ماتوا

73

{وإلى ثمود أخاهم صالحا} عطف على ما سبق من قوله تعالى وإلى عاد أخاهم هوداً موافقٌ له في تقديم المجرورِ على المنصوب وثمودُ قبيلةٌ من العرب سُمُّوا باسم أبيهم الأكبرِ ثمودَ بنِ عابر بن إرم ابن سام بنِ نوحٍ عليه السلام وقيل إنما سُمُّوا بذلك لقلة مائِهم من الثمد وهو الماء القليل وقرىء بالصرف بتأويل الحيّ وكانت مساكنُهم الحِجْرَ بين الحدجاز واتلشام إلى واد القُرى وإخوةُ صالح عليه السلام لهم من حيث النسبُ كهودٍ عليه السلام فإنه صالحُ بنُ عبيد بنِ أسف بنِ ماسحِ بن عبيد بن حاذر بن ثمود ولما كان الإخبرا بإرساله عليه السلام إليهم مظنة لأن يسأل ويقال فماذا قال لهم قيل جوابا عنه بطريق الاستئناف {قال يا قوم اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غيره} وقد مر الكلامُ في نظائره {قد جاءتكم بينة} أي آيةٌ ومعجزةٌ ظاهرة شاهدةٌ بنبوّتي وهي من الألفاظِ الجاريةِ مجرى الأبطحِ والأبرق في الاستغناء عن ذكر موصفاتها حالةَ الإفراد والجمع كالصالح إفراداً وجمعاً وكذلك الحسنةُ والسيئة سواءٌ كانتا صفتين للأعمال أو لمثوبة أو الحالة من الرخاء والشدة لذلك أوُلِيَت العوامل وقوله تعالى {من رَّبّكُمْ} متعلق بجاءتكم أو بمحذوف هو صفة لبينةٌ كما مر مراراً والمرادُ بها الناقةُ وليس هذا الكلام منه عليه السلام أولَ ما خاطبهم إثرَ دعوتِهم إلى التوحيد بل إنما قاله بعد ما نصحهم وذكّرهم بنعم الله تعالى فلم يقبلوا كلامَه وكذبوه ألا يُرى إلى ما في سورة هود من قولِه تعالى هُوَ أنشأكم من الأرض واستعْمَركم فيها إلى آخر الآيات روي أنه لما أُهلكت عادٌ عَمَرت ثمودُ بلادَها وخلفوهم في الأرض وكثُروا وعُمِّروا أعماراً طِوالاً حتى إن الرجل كان يبني المسكن المُحْكَم فينهدمُ في حيانه فنحتوا البيوتَ من الجبال وكانوا في سعة ورخاءٍ من العيش فعتَوْا على الله تعالى وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثانَ فبعثَ الله تعالى إليهم صالحاً وكانوا قوماً عرباً وصالحٌ من أوساطهم نسباً فدعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ فلم يتبعْه إلا قليلٌ منهم مستضعَفون فحذرهم وأنذرهم فسألوه آية فقال أيةَ ى ية تريدون قالوا تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلومٍ لهم من السنة فتدعو إلهك وندعوا آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعنا فقال صالح عليه السلام نعم فخرج معهم ودعَوْا أوثانهم وسألوا الاستجابة فلم تُجبْهم ثم قال سيدهم جندعُ بن عمرو وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجيبل يقال لها الكاثبة أخرِجْ لنا من هذه الصخرةِ ناقةً مخترِجةً جوفاءَ وبراءً والمخترجة التي شاكلت البخث فإن فعلت صدقناك وأجبناك فأخذ صالح عليه السلام المواثيق لئن فعلتُ ذلك لتؤمِنُن ولتُصدِّقُنّ قالوا نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة وتمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقشة عُشَراءَ جوفاء وبراءٍ كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى وعظماؤهم ينظرون ثم نُتِجت ولداً مثلَها في العظم فآمن به جندع ورهطٌ من قومه ومنع أعقابهم ناس من رءوسهم أن تؤمنوا فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجرَ وتشرب الماءَ

الأعراف آية 74 وكانت ترِدُ غِباً فإذا كان يومُها وضَعتْ رأسَها في البئر فما ترفعها حتى تشربَ كلَّ ما فيها ثم تتفحج فيحتلبون ما شاءوا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدّخرون وكانت إذا وقع الحرُّ تصيّفت بظهر الوادي فيهرب منها أنعامهم فتهبِط إلى بطنه وإذا وقع البرد تشتت ببطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق ذلك عليهم وزيَّنَت عَقرَها لهم امرأتانِ عنيزة أم إن وصدقة بنتُ المختار لِما أضرَّت به من مواشيهما وكانتنا كثيرتي المواشي فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه فانطلق سقيها حتى رقيَ جبلاً اسمُه قارةُ فرَغا ثلاثاً وكان صالح عليه السلام قال لهم أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه فانفجت الصخرةُ بعد رغائِه فدخلها فقال لهم صالح تُصبحون غدا وجوهكم مصفرة وبعد غدو وجوهكم محمرةٌ واليوم الثالث ووجوهكم مسودة يصبّحكم العذاب فلما رأوا العلاماتِ طلبوا أن يقتُلوه فأنجاه الله تعالَى إلى أرضِ فلسطين ولما كان اليومُ الرابع وارتفع الضحى تحنّطوا بالصبر وتكفنوا بالأنْطاع فأتتهم صيحةٌ من السماء ورجفةٌ من الأرض فتقطّعت قلوبُهم فهلكوا وقوله تعالى {هذه ناقة الله لكم آية} استئنافٌ مسوقٌ لبيان البينة وإضافةُ الناقةِ إلى الاسم الجليلِ لتعظيمها ولمجيئها من جهته تعالى بلا اسباب معهودة ووسايط معتاد ولذلك كانت آيةً وأيَّ آية ولكم بيانٌ لمن هي آيةٌ له وانتصابُ آيةً على الحالية والعاملُ فيها معنى الإشارةِ ويجوز أن يكون ناقةُ الله بدلاً من هذه أو عطف بيان له أو مبتدأ ثانياً ولكم خبراً عاملاً في آية {فذروها} تفريعٌ على كونها آيةً من ى يات الله تعالى فإنَّ ذلك ممَّا يوجب عدم التعرّضِ لها {تأكل في أرض الله} جوابُ الأمر أي الناقةُ ناقةُ الله والأرضُ أرضُ الله تعالى فاتركوها تأكلْ ما تأكلُ في أرض ربها فليس اكم أن تحولوا بينها وبينها وقرىء تأكلُ بالرفع على أنه في موضع الحالِ أي آكلةً فيها وعدمُ التعرض للشرب إما للاكتفاء عنه بذكر الأكلِ أو لتعميمه له أيضاً كَما في قولِه علفتُها تِبْناً وماء باردا وقد ذكر ذلك في قوله تعالى لها شِرْبٌ وَلَكُمْ شربُ يومٍ مَّعْلُومٍ {ولا تمسوها بسوء} نُهي عن المس الذي هو مقدمةُ الإصابةِ بالشرّ الشامل لأنواع الأذيةِ ونُكِّر السوءُ مبالغةً في النهي أي لا تتعرضوا لها بشيء مما يسوءها أصلاً ولا تطرُدوها ولا تيبوها إكرما لآية الله تعالى {فيأخذكم عذاب أليم} جوابٌ النهي ويُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحِجر في غزوة تبوك قال لأصحابه لا يدخُلنّ أحدٌ منكم القريةَ ولا تشربوا من مائها ولا تدخُلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبَكم مثلُ الذي أصابهم وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضيَ الله عُنهُ يا علي أتدري من أشقى الأولين قال الله ورسولُه أعلم قال عاقرُ ناقةِ صالح أتدري من أشقى الآخِرين قال الله ورسولُه أعلم قال قاتلُك

74

{واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء من بعد عاد} أي خلفاءَ في الأرض أو خلفاءهم كما مر {وبوأكم فِى الأرض} 6 أي جعلَ لكم مَباءةً ومنزلاً في أرض الحجر بين الحجاز والشام {تتخذون من سهولها قصوراً} استئنافٌ مبينٌ لكيفية التبوِئةِ أي تبننون في سهولها قصوراً رفيعةً أو تبنون من سهولة الأرض بما تعلمون منها من الرِهْص واللِبن والآجر {وتنحتون الجبال}

الأعراف آية 75 77 أي الصخورَ وقرىء تنحَتون بفتح الحاء وتناحتون بإشباع الفتحة كما في قوله ينباعُ من ذِفْرَى أسيلٍ حرّةٍ والنحتُ نجْرُ الشيءِ الصُّلب فانتصابُ الجبالِ على المفعولية وانتصابُ قوله تعالى {بيوتاً} عَلى أنَّها حالٌ مقدرةٌ منها كما تقول خِطْتُ هذا الثوبَ قميصاً وقيل انتصابُ الجبالِ على إسقاط الجار أي من الجبال وانتصابُ بيوتاً على المفعولية وقد جوّز أن يُضمَّن النحتُ معنى الاتخاذِ فانتصابُهما على المفعولية قيل كانوا يسكُنون السهولَ في الصيف والجبالَ في الشتاء {فاذكروا آلاء الله} التي أنعم بها عليكم مما ذكر أو جميعَ آلائِه التي هذه من جملتها {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مفسدين} فإن حقَّ آلائِه تعالى أن تُشكَرَ ولا تُهملَ ولا يُغْفلَ عنها فكيف بالكفر والعِثيِّ في الأرض بالفساد

75

{قال الملأ الذين استكبروا من قومه} أي عتَوْا وتكبروا استئنافٌ كما سلف وقرىء بالواو عطفاً على ما قبله من قوله تعالى قَالَ يا قوم الخ ة واللام في قوله تعالى {للذين استضعفوا} للتبليغ وقوله تعالى {لمن آمن منهم} بدلٌ من الموصول بإعادة العاملِ بدلَ الكلِّ إن كان ضميرُ منهم لقومه وبدلَ البعضِ إن كان للذين استُضعفوا على أن مِن المستضعفين مَنْ لم يؤمن والأولُ هو الوجهُ إذ لا داعيَ إلى توجيه الخطابِ أولاً إلى جميع المستضعفين مع أن المجاوبةَ مع المؤمنين منهم على أن الاستضعافَ مختصٌّ بالمؤمنين أي اقلوا للمؤمنين الذين استَضْعفوهم واسترذلوهم عدَلوا عن الجواب الموافِقِ لسؤالهم بأن يقولوا نعم أو نعلم أنه مرسلٌ منه تعالى مسارعة إلى تحقيق الحقِّ وإظهارِ ما لهُم من الإيمانِ الثابتِ المستمر الذي ينبىء عنه الجملةُ الاسميةُ وتنبيهاً على أن أمرَ إرسالِه منَ الظهورِ بحيثُ لا ينبغِي أنْ يُسألَ عنه وإنما الحقيقُ بالسؤال عنه هو الإيمانُ به

76

{قال الذين استكبروا} أعيد الموصولُ مع صلته مع كفاية الضميرِ إيذاناً بأنهم قد قالوا ما قالوه بطريق العتُوِّ والاستكبار {إنا بالذي آمنتم به كافرون} وإنما لم يقولوا إنما بما أرسل به كافرون إظهاراً لمخالفتهم إياهم ورداً لمقالتهم

77

{فعقروا الناقة} أي نحروها أسند الهقر إلى الكل مع أن المباشر بعضهم للملابسة أو لأن ذلك لما كان برضاهم فكأنه فَعلَه كلُّهم وفيه من تهويل الأمرِ وتفظيعِه بحيث أصابت غائلتُه الكلَّ ما لا يخفى {وعتوا عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ} أي استكبروا عن امتثاله وهو ما بلّغهم صالحٌ عليهِ السَّلامُ منَ الأمر والنهي {وقالوا} مخاطِبين له عليه السلام بطريق التعجيزِ والإفحامِ على زعمهم {يا صالحُ ائتِنا بما تعدنا} أي من العذاب والإطلاقُ للعلم به قطعاً {إن كنت من المرسلين} فإن كونَك من جملتهم يستدعي صدقَ ما تقول من

الأعراف 78 80 الوعد والوعيد

78

{فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي الزلزلةُ لكن لا أثر ما قالوا ما قالوا بل بعدَ مَا جَرى عليهم ما جرى من مبادىء العذابِ في الأيام الثلاثةِ حسبما مر تفصيلُه {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ} أي صاروا في أرضهم وبلدِهم أو في مساكنهم {جاثمين} خادمي موتى لا حَراكَ بهم وأصلُ الجثومِ البروكُ يقال الناسُ جثومٌ أي قعود لا حَراك بهم ولا ينبِسون نبْسةً قال أبو عبيدة الجثومُ للناس والطير والبروكُ للإبل والمرادُ كونُهم كذلك عند ابتداءِ نزولِ العذابِ بهم من غير اضطرابٍ ولا حركة كما يكون عند الموت المعتاد ولا يَخْفى ما فيهِ من شدة الأخذِ وسرعةِ البطش اللهم إنا بك نعوذ من نزول سخطِك وحُلولِ غضبِك وجاثمين خبرٌ لأصبحوا والظرفُ متعلقٌ به ولا مساغ لكونه خبراً أو جاثمين حالاً لإفضائه إلى كون الإخبارِ بكونهم في دارهم مقصوداً بالذات وكونِهم جاثمين قيداً تابعاً له غيرَ مقصودٍ بالذات قيل حيث ذُكرت الرجفةُ وُحِّدت الدارُ وحيث ذُكرت الصيحةُ جمعت لأن الصيحةَ كانت من السماء فبلوغُها أكثرُ وأبلغُ من الزلزلة فقُرن كلٌّ منهما بما هو أليقُ به

79

{فتولى عنهم} إثرَ ما شاهد ما جرى عليهم تولي مغتم متحسر على ما فاتَهُم من الإيمان متحزن عليهم {وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم} بالترغيب والترهيبِ وبذلتُ فيكم وُسْعي ولكن لم تقبلوا مني ذلك وصيغةُ المضارعِ في قوله تعالى {ولكن لا تحبون الناصحين} حكايةُ حالٍ ماضيةٍ أي شأنُكم الاستمرارُ على بغض الناصحين وعداوتهم خاطبهم صلى الله عليه وسلم بذلك خطابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أهلَ قلَيبِ بدرٍ حيث قال إنا وجدْنا ما وعدنا ربُّنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً وقيل إنما تولى عنهم قبل نزولِ العذاب بهم عند مشاهدته صلى الله عليه وسلم لعلاماته تولى ذاهب عنهم منكر لإصرارهم على ما هم عليه وروي أن عَقرَهم الناقةَ كان يوم الأربِعَاءِ ونزل بهم العذابُ يوم السبت وروي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخانَ ساطعاً فعلم أنهم قد هلَكوا وكانوا ألفاً وخمسَمائةِ دارٍ وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارَهم

80

{ولوطاً} منصوبٌ بفعل مضمر معطوف على ما سبق وعدمُ التعرُّضِ للمرسل إليهم مقدماً على المنصوب حسبما وقع فيما سبقَ وما لحقَ قد مر بيانُه في قصة هودٍ عليه السلام وهو لوطُ بنُ هارانَ بن تارخ بنُ أخي إبراهيمَ كان من أرض بابلَ من العراق مع عمه إبراهيمَ فهاجر إلى الشأمِ فنزلَ فلسطينَ وأنزل لوطاً الأردُنّ وهي كورةٌ بالشام فأرسله الله تعالى إلى أهل سَدومَ وهي بلدٌ بحِمْصَ وقولُه تعالى {إِذْ قَالَ لقومه} ظرفٌ للمضمر المذكورِ أي أرسلنا لوطاً إلى قومه وقت قولِه لهم الخ ولعل تقييدَ إرسالِه عليه السلام بذلك لما أن إرسالَه إليهم لم يكمن في أول وصولِه إليهم وقيلَ هو بدلٌ من لوطاً بدلَ اشتمالٍ على أن انتصابَه باذكر أي اذكرْ وقتَ قولِه عليه السلام لقومه {أتأتون الفاحشة} بطريق الإنكارِ التوبيخيِّ التقريعيِّ أي أتفعلون تلك الفعلةَ المتناهيةَ في القبح المتماديةِ في

الأعراف آية 81 82 الشرية والسوء {ما سبقكم بها} ما عمِلها قبلكم على أن الباء للتعدية كما في قولِه عليه السلام سبقك بها عكاشة من قولك سبقته بالكرة أي ضربتها قبله ومِنْ في قولِه تعالَى {من أحد} مزيدةٌ لتأكيد النفي وإفادةِ معنى الاستغراقِ وفي قولِه تعالى {مِن العالمين} للتبعيض والجملةُ مستأنفةٌ مسوقة لتأكيدِ النكيرِ وتشديدِ التوبيخِ والتقريعِ فإن مباشرةَ القبيح واختراعَه أقبحُ ولقد أنكر الله تعالى عليهم أولاً إتيانَ الفاحشةِ ثم وبخهم بأنهم أولُ من عمِلها فإن سبكَ النظمِ الكريمِ وإنْ كانِ على نفي كونِهم مسبوقين من غير تعرّضٍ لكونهم سابقين لكن المرادَ أنهم سابقون لكل مَنْ عداهم من العالمين كما مرَّ تحقيقُه مراراً في نحوِ قولِه تعالى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى على الله كذبا أو مسوقةٌ جواباً عن سؤال مقدَّرٍ كأنه قيل من جهتهم لم لا نأتيها فقيل بياناً للعلة وإظهاراً للزاجر ما سبقكم بها أحدٌ لغاية قُبْحِها وسوءِ سبيلها فكيف تفعلونها قال عمرو بن دينار ما نزَا ذكرٌ على ذكر حتى كان قومُ لوط قال محمد بن إسحق كانت لهم ثمارٌ وقُرى لم يكن في الدنيا مثلُها فقصدهم الناسُ فآذَوْهم فعرض لهم إبليسُ في صورة شيخ إن فعلتم بهم كذا وكذا نجَوْتم منهم فأبَوْا فلما ألحّ الناسُ عليهم قصدوهم فأصابوا غلمانا صبحا فأخبثوا فاستحكم فيهم ذلك قال الحسن كانُوا لا يفعلونَ ذلكَ إلا بالغرباء وقال الكلبي أول من فُعل به ذلك الفعلُ إبليسُ الخبيثُ حيث تمثل لهم في صورة شابٍ جميل فدعاهم إلى نفسه ثم عبثوا بذلك العمل

81

{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال} خبرٌ مستأنفٌ لبيان تلك الفاحشةِ وقرىء بهمزتين صريحتين وبتليين الثانيى ة بغير مدَ وبمد أيضاً على أنه تأكيدٌ للإنكار السابقِ وتشديدٍ للتوبيخ وفي زيادة إنّ واللامِ مزيدُ توبيخ وتقريع كأن ذلك أمرٌ لا يتحقق صدورُه عن أحد فيؤكد تأكيداً قوياً وفي إيراد لفظِ الرجالِ دون الغِلمان والمرادان ونحوِهما مبالغةً في التوبيخ وقوله تعالى {شَهْوَةً} مفعولٌ له أو مصدرٌ في موقعِ الحالِ وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمة الصِّرْفة وتنبيهٌ عَلَى أنَّ العاقلَ ينبغي له أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلبُ الولد وبقاءُ النوعِ لإقضاء الشهوةِ ويجوز أن يكون المرادُ الإنكارَ عليهم وتقريعَهم على اشتهائهم تلك الفعلةَ الخبيثةَ المكروهة كما ينبىء عنه قوله تعالى {مّن دُونِ النساء} أي متجاوزينَ النساءَ اللاتي هُنَّ محلُّ الاشتهاء كما ينبىء عنه قوله تعالى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} إضرابٌ عن الإنكار المذكورِ إلى الإخبار بحالهم التي أفضَتْهم إلى ارتكاب أمثالِها وهي اعتيادُ الإسرافِ في كل شيءٍ أو عن الإنكار عليها إلى الذم على دميع معايبِهم أو عن محذوف أي لا عذرَ لكم فيه بل أنتم قومٌ عادتم الإسراف

82

{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} أي المستكبرين منهم المتولين للأمر والنهي المتصدِّين للعقد والحل وقوله تعالى {إَّلا أَن قَالُواْ} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأشياء أي ما كان جواباً من جهة قومِه شيءٌ من الأشياءِ إِلاَّ قولُهم أي لبعضهم الآخرين المباتشرين للأمور معرضين عن مخاطبته عليه السلام {أَخْرِجُوهُم} أي لوطان ومن معه من أهله المؤمنين {مّن قَرْيَتِكُمْ} أيْ إلاَّ هذا القولُ الذي يستحيلُ أنْ يكونَ جواباً لكلام

الأعراف آية 83 85 لوطٍ عليه السلام وقرىء برفع جواب على أنه اسم كان وإلا أن قالوا الخ خبرُها وهو أظهرُ وإن كان الأول أقوى في الصناعى لأن اللأعرف أحقُّ بالاسمية وأيا ما كان فليس المرادُ أنَّه لم يصدُرْ عنُهم بصددِ الجوابِ عن مقالات لوطٍ عليه السلام ومَواعظِه إلا هذه المقالةُ الباطلةُ كما هو المتسارعُ إلى الإفهام بل أنه لم يصدُرْ عنهم في المرَّةِ الأخيرةِ من مراات المحاورات الجاريةِ بينهم وبينه عليه السلام إلا هذه الكلمة الشنبيعة وإلا فقد صدرَ عنُهم قبل ذلك كثيرٌ من التُرَّهات حسبما حُكي عنهم في سائرِ السورِ الكريمةِ وهذا هو الوجهُ في نظائره الواردةِ بطريق القصر وقوله تعالى {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} تعليلٌ للأمر بالإخراج ووصفهم بالتطهير للاستهزاء والسخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش والخبائث والافتخارِ بما هُم فيه من القذارة كما هو دين الشُطّار والدُعّار

83

{فأنجيناه وَأَهْلَهُ} أي المؤمنين منهم {إِلاَّ امرأته} استثناءٌ من أهله فإنها كانت تُسِرّ بالكفر {كَانَتْ مِنَ الغابرين} أي الباقين في ديارهم الهالِكين فيها والتذكيرُ للتغليب ولبيان استحقاقِها لما يستحقه المباشِرون للفاحشة والجملةُ استئنافٌ وقعَ جواباً عن سؤال نشأ عن استثنائها من حكم الإنجاءِ كأنه قيل فماذا كان حالُها فقيل كانت من الغابرين

84

{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} أي نوعاً من المطر عجيباً وقد بينه قوله تعالى وأمططرنا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ قال ابو عبيدة مطرفي الرحمة وأُمطِر في العذاب وقال الراغب مُطر في الحبر وأُمطر في العذاب والصحيح أن أَمطَرنا بمعنى أرسلنا عليهم إرسالَ المطر قيل كانت المؤتَفِكةُ خمسَ مدائن وقيل كانوا أربعةَ آلافٍ بين الشام والمدينة فأمطر الله عليهم الكِبريتَ والنارَ وقيل خَسَف بالمقيمين منهم وأُمطرت الحجارةُ على مسافريهم وشُذّاذهم وقيل أُمطر عليهم ثم خصف بهم ورُوي أن تاجراً منهم كان في الحرَم فوقف الحجرُ له أربعين يوماً حتى قضى تجارتَه وخرج من الحرم فوقع عليه وروي أن امرأتَه التفتت نحوَ ديارِها فأصابها حَجَرٌ فماتت {فانظر كَيْفَ كان عاقبة المجرمين} خطابٌ لكلِّ مَنْ يتأتَّى منْهُ التأملُ والنظرُ تعجيباً من حالهم وتحذيراً من أعمالهم

85

{وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً} عطفٌ على قوله وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا وما عُطف عليه وقد روعيَ ههنا ما في المعطوف عليه من تقديم المجرورِ على المنصوب أي وأرسلنا إليهم وهم أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام شعيب بنُ ميكائيلَ بنِ يشجَر بنِ مدينَ وقيل شعيبُ بنُ ثويبِ بنِ مدينَ وقيل شعيبُ بنُ يثرونَ بنِ مدينَ وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعتِه قومَه وكانوا أهلَ بخسٍ للمكاييل والموازين مع كفرهم {قَالَ} استئنافٌ مبنيٌ

الأعراف آية 86 على سؤال نشأ عن حكاية إرسالِه إليهم كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ لهم فقيل قال {يا قوم اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} مر تفسيرُه مراراً {قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ} أي معجزةٌ وقوله تعالى {من رَّبّكُمْ} متعلق بجاءتكم أو بمحذوف هو صلةٌ لفاعله مؤكدةٌ لفخامته الذاتيةِ المستفادةِ من تنكيره بفخامته الإضافيةِ أي بينةٌ عظيمةٌ ظاهرةٌ كائنةٌ من ربكم ومالِك أمورِكم ولم يُذكرْ معجزتُه عليه السلام في القرآن العظيم كما لم يُذكر أكثرُ معجزاتِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فمنها ما روي من محاربة عصا موسى عليه السلام التّنّينَ حين دفع إليه غنمَه ومنها ولادةُ الغنمِ الدرعَ خاصة حين وعد أن يكون له الدرعُ من أولادها ومنها وقوعُ عصا آدمَ عليه السَّلامُ على يده في المرات السبعِ لأن كلَّ ذلك كان قبل أن يُستنبأ مُوسى عليه السَّلامُ وقيل البينةُ مجيئُه عليهِ السَّلامُ كَما في قوله تعالى يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى أي حجةٌ واضحةٌ وبرهانٌ نيِّرٌ عبّر بهما عما آتاه الله من النبوة والحكمة {فَأَوْفُواْ الكيل} أي المكيالَ كما وقعَ في سورةِ هودٍ يؤيده قوله تعالى {والميزان} قلإن المتبادرَ منه الآلةُ وإن جاز كونه مصدرا كالميعاد وقيل آلةَ الكيل والوزن على الإضمار والفاءُ لترتيبِ الأمرِ على مجيء البينةِ ويجوز أن تكون عاطفةً على اعبدوا فإن عبادةَ الله تعالى موجبة للاحتناب عن المناهي التي معظمُها بعد الكفرِ البخْسِ الذي كانوا يباشرونه {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} التي تشترونها بهما معتمدين على تمامهما أيَّ شيءٍ كان وأيَّ مقدارٍ كان فإنهم كانوا يبخسون الجليلَ والحقيرَ والقليلَ والكثيرَ وقيل كانوا مكّاسين لا يدَعون شيئاً إلا مكَسوه قال زهير ... أفي كل أسواق العراق إتاوة وفي كا ما باع امرؤٌ مَكْسُ درهمِ {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض} أي بالكفر والحيف {بعد إصلاحها} بعدما أصلح أمرَها وأهلَها الأنبياءُ وأتباعهم بإجراء الشرائعِ أو أصلحوا فيها وإضافتُه إليها كإضافة مكرِ الليلِ والنهار {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ} إشارةٌ إلى العمل بما أمرَهم به ونهاهم عنه ومعنى الخيريةِ إما الزيادةُ مطلقاً أو في الإنسانية وحسنِ الأُحدوثة وما يطلُبونه من التكسب والربح لأن الناسَ إذا عرفوهم بالأمانة رغِبوا في معاملتهم ومُتاجَرَتِهم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي مصدّقين لي في قولي هذا

86

{وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} أي بكل طريقٍ من طرق الدِّين كالشيطان وصراطُ الحقِّ وإن كان واحداً لكنه يتشعب إلى معارفَ وحدودٍ وأحكامٍ وكانوا إذا رأو أحداً يشرَع في شيء منها منعوه وقيل كانوا يجلسون على المراصد فيقولن لمن يريد شعيباً إنه كذابٌ لا يفتنَنَّك عن دينك ويتوعجون لمن آمن به وقيل يقطعون الطريق {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي السبيلِ الذي قعَدوا عليه فوقع المُظهرُ موقعَ المضمرِ بياناً لكل صراطٍ ودلالةً على عِظم ما يصدون عنه تقبيحا لما كمانوا عليه أو الإيسمان بالله أو بكل صراط على أنه عبارةٌ عن طرق الدين وقوله تعالى {من آمن بِهِ} مفعول تصدون على أعمال الأقرب لو كان مفعة ول توعِدون لقيل وتصُدونهم وتوعِدون حال من الضمير في تقعدوا {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي وتطلبون لسبيل الله عوجاً بإلقاء الشُبَهِ أو بوصفها للناس بأنها مُعْوجةٌ وهي أبعدُ شيءٍ من شائبة الاعوجاج

الأعراف آية 87 88 {واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} بالبركة في النسل والمال {وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} من الأمم الماضيةِ كقومِ نوحٍ ومَنْ بعدهم من عاد وثمودَ وأضرابِهم واعتبِروا بهم

87

{وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ آمنوا بالذى أُرْسِلْتُ بِهِ} من الشرائع والأحكام {وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ} أي به أو لم يفعلوا الإيمان {فاصبروا حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا} أي بين الفريقين بنصر المُحقّين على المبطلين فهو وعدٌ للمؤمنين ووعيدٌ للكافرين {وهو خير الحاكمين} غذ لا معقِّبَ لحكمه ولا حَيْفَ فيه

88

{قال الملأ الذين استكبروا من قومه} استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقالُ كأنه قيل فماذا قالوا بعد ما سمعوا هذه المواعظَ من شعيبٍ عليه السَّلامُ فقيل قال أشرافُ قومِه المستكبرون متطاولين عليه عليه السلام غيرَ مكتفِين بمجرد الاستعصاءِ عليه والامتناعِ من الطاعة له بل بالغين من العُتوِّ والاستكبارِ إلى أن قصَدوا استتباعَه عليه السلام فيما هم فيه وأتباعَه المؤمنين واجترءوا على إكراههم عليه بوعيد النفي وخاطبوه بذلك على طريقة التوكيدِ القسمي {لَنُخْرِجَنَّكَ يا شعيب والذين آمنوا} بنسبة الإخراجِ إليه عليه السلام أولا إلى المؤمنين ثانياً بعطفهم عليه تنبيهاً على أصالته عليه السلام في الإخراج وتبعيتِهم له فيه كما ينبىء عنه قوله تعالى {مَعَكَ} فإنه متعلقٌ بالإخراج لا بالإيمان وتوسيطُ النداءِ باسمه العَلَميِّ بين المعطوفَين لزيادة التقرير والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحةِ والطغيان أي والله لنُخرجنّك وأتباعَك {مِن قَرْيَتِنَا} بغضاً لكم ودفعاً لفتنتكم المترتبةِ على المساكنة والجِوارِ وقوله تعالى {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا} عطفٌ على جوابِ القسمِ أيْ والله ليكونن أحدُ الأمرين البتنة على أن المقصِدَ الأصليَّ هو العَوْدُ وإنما ذُكر النفيُ والإجلاءُ لمحض القسر والأجاء كما يُفصِحُ عنه عدمَ تعرُّضِه عليه السلام لجواب الإخراجِ كأنهم قالوا لا ندعكم فيما بيننا حتى تدخُلوا في ملتنا وإدخالُهم له عليهِ السَّلامُ في خطاب العَوْدِ مع استحالة كونه عليه السلام في ملتهم قبل ذلك إنما هو بطريق تغليل الجماعةِ على الواحد وإنما لم يقولوا أو لنُعيدنّكم على طريقة ما قبله لِما أن مُرادَهم أن يعودوا إليها بصوررة الطواعيةِ حِذارَ الإخراجِ باختيار أخون الشرَّين لا إعادتُهم بسائر وجوهِ الإكراهِ والتعذيب {قَالَ} استئنافٌ كما سبق أي قال عليه السلام رداً لمقالتهم الباطلةِ وتكذيباً لهم في أيمانهم الفاجرة {أولو كُنَّا كارهين} على أنَّ الهمزةُ لإنكارِ الوقوعِ ونفْيِه لا لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه كالتي في قولِه تَعالَى أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ ويجوز أن يكون الاستفهامُ فيه باقياً على حاله وقد مرَّ مراراً أنَّ كلمةَ لو في مثلِ هذا المقامِ ليست لبيان انتفاءِ الشيءِ في الزمن الماضي لانتفاء غيرِه فيه فلا يلاخحظ لها جوابٌ قد حُذف تعويلاً على دِلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصدِ إلى بيان الإعرابِ على القواعد الصناعيةِ بل هي لبيان تحققِ ما يفيده الكلام السابق

الأعراف آية 88 بالذَّاتِ أو بالواسطةِ من الحُكم الموجَبِ أو المنفي على كل حالٍ مفروض من الأحوال المقارنةِ له على الإجمال بإدخالِها على أبعدِها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهرَ بثبوتهِ أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤُه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية لِما أن الشيءَ متى تحقَّقَ مع المنافي القويِّ فلأنْ يتحقَّقَ مع غيره أولى ولذلك لا يُذكر معه شيءٌ من سائرِ الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواوِ العاطفةِ للجُملة على نظيرتها المقابلةِ لها الشاملةِ لجميع الأحوالِ المغايرةِ لها عند تعدّدِها وهذا معنى قولِهم أنها لاستقصاء الأحوالِ على سبيلِ الإجمالِ وهذا المعنى ظاهرٌ في الخبر الموجَبِ والمنفيِّ والأمرِ والنهي كما في قولك فلانٌ جوادٌ يُعطي ولو كان فقيراً أو بخيلٌ لا يُعطي ولو كان غنياً وكقولك أحس غليه ولو أساءَ إليك ولا تُهِنْه ولو أهانك لبقائه على حاله سالماً عما يغيّره وأما فيما نحنُ فيه ففية نوعُ خفاءٍ لتغيّره بورود الإنكارِ عليه لكن الأصلَ في الكل واحدٌ إلا أن كلمةَ لو في الصور المذكورةِ متعلقةٌ بنفس الفعل المذكورِ قبلها وأن ما يُقصد بيانُ تحققِه على كل حالٍ هو نفسُ مدلولِه وأن الجملةَ حالٌ من ضميره أو مما يتعلق به وأن ما في حيز لو مقرّرٌ على ما هو عليه من الاستبعاد بخلاف ما نحن فيه لما أن كلمةَ لو متعلقةٌ فيه بفعل مقدرٍ يقتضيه المذكورُ وأن ما يُقصد بيانُ تحققِه على كل حال هو مدلولُه لا مدلولُ المذكورِ وأن الجملةَ حالٌ من ضميره لا من ضمير المذكور كما سيأتي وأن المقصودج الأصلي إنكارُ مدلولِه من حيث مقارنتُه للحالة المذكورةِ وأما تقديرُ مقارنته لغيرها فلتوسيع الدائرةِ وأن ما في حيز لولا يُقصد استبعادُه في نفسه بل يقصد الإشعارُ بأنه أمرٌ مقرّرٌ إلا أنه أُخرج مُخرَجَ الاستبعادِ مبالغةً في الإنكار من جهة أن العودَ مما يُنكر عند كونِ الكراهةِ أمراً مستبعدا فكيف به عند كونِها أمراً محققاً ومعاملةً مع المخاطَبين على معتقدَهم لاستنزالهم من رتبة العِناد وليس المرادُ بالكراهة مجردَ كراهةِ المؤمنين للعود في ملة الكفرِ ابتداءً حتى يقال إنها معلومةٌ لهم فكيف تكون ممستبعدة عندهم بل إنما هي كراهتُهم له بعد وعيدِ الإخراجِ الذي جُعل قريناً للقتل في قوله تعالى وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا الآية فإنهم كانوا يستبعدونها ويطمَعون في أنهم حينئذ يختارون العود خشية الإخراج غذ رُب مكروهٍ يُختار عند حلولِ ما هُو أشدُّ منْهُ وأفظعُ والتقديرُ أنعودُ فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين غيرَ مبالين بالإكراه فالجملةُ في محل النصب على الحالية من ضمير الفعل المقدرِ حسبما أُشير إليه إذ مآله ألعود فيها حالَ عدمِ الكراهةِ وحال الكراهة إنكارا لما تفيده كلمتُهم الشنيعةُ بإطلاقها من العَوْد على أي حالةٍ كانت غيرَ أنه اكتُفيَ بذكر الحالة الثانيةِ التي هي أشدُّ الأحوالِ منافاةً للعود وأكثرُها بُعداً منه تنبيهاً على أنها هي الواقعةُ في نفس الأمر وثقةً بإغنائها عن ذكر الأولى إغناءً واضحاً لأن العودَ الذي تعلق به الإنكارُ حين تحققَ مع الكراهة على ما يوجبه كلامُهم فلأن يتحققَ مع عدمها أولى إن قلتَ النفيُ المستفادُ من الاستفهامِ الإنكاريِّ فيما نحن فيه بمنزلة صريحِ النفي ولا ريب في أن الأولويةَ هناك معتبرةٌ بالنسبة إلى النفي ألا يُرى أن الأولى بالتحقق فيما ذُكر من مثال النفي عند الحالةِ المسكوتِ عنها أعني عدمَ الغِنى هو عدمُ الإعطاءِ لا نفسُه فكان ينبغي أن يكون الأولى بالتجحقق فيما نحن فيه عند عدمِ الكراهةِ عدمُ العَوْدِ لا نفسُه إذ هو الذي يدل عليه قولُنا أنعود لأنه في معنى لا نعود فلمَ اختلف الحالُ بينهما قلتُ لِما أن مناطَ الأولويةِ هو الحكم

الأعراف آية 89 الذي أريد بيانُ تحققِه على كل حالٍ وذلك في مثال النفي عدمُ الإعطاءِ المستفادِ من الفعل المنفيِّ المذكور وأما فيما نحن فيه فهو نفسُ العودِ المستفادِ من الفعل المقجر إذ هو الذي يقتضيه الكلامُ السابقُ أعني قولَهم لتعودُن وأما الاستفهامُ فخارجٌ عنه واردٌ عليه لإبطال ما يفيده ونفي مال يقتضيه لا أنه من تمامه كما في صورة النفي وتوضيحُه أن بين النفيين فرقاً معنوياً تختلف به أحكامُهما التي من جملتها ما ذكر من اعتبار الأولوية في أحدهما بالنسبة إلى نفسه وفي الآخر بالنسبة إلى متعلَّقه ولذلك لا تستقيم إقامةُ أحدِهما مُقامَ الآخَر على وجه الكلية ألا يُرى أنك لو قلت مكانَ أنعود فيها الخ لا نعود فيها ولو كنا كارهين لاختلَّ المعنى اختلالاً فاحشاً لأن مدلولَ الأولِ نفيُ العَوْد المقيدِ بحال الكراهة ومدلولَ الثاني تقييدُ العودِ المنفيِّ بها وذلك لأن حرفَ النفي يباشر نفسَ الفعلِ وينفيه وما يُذكر بعده يرجِعُ إليه من حيث هو منفيٌّ وأما همزةُ الاستفهامِ فإنها تباشر الفعل بعد تقييده بما بعده لما أن دِلالتَها على الإنكار والنفي ليست بدلالة وضعيةٍ كدِلالة حرفِ النفي حتى يتعلقَ معناها بنفس الفعلِ الذي يليها ويكونَ ما بعده راجعاً إليه من حيث هو منفيٌّ بل هي دِلالةٌ عقليةٌ مستفادةٌ من سياق الكلامِ فلا بد أن يكون ما يُذكر بعج الفعلِ من موانعه ودواعي إنكارِه ونفيِه حتماً ليكون قرينةً صارفةً للهمزة عن حقيقتها إلى معنى الإنكارِ والنفي ثم لما كان المقصود نفي الحاكم على كل حال مع الاقتصاد على ذكر بعضٍ منها مغنٍ عن ذكر ما عجاها لاستلزام تحقّقِه معه تحققه مع غيره بطريق الأولوية وكانت حالُ الكراهةِ عند كونها قيداً لنفس العَوْدِ كذلك أي مغنياً عن ذكر سائرِ الأحوالِ ضرورة أن تحققَ العَوْدِ في حال الكراهة مكستلزم لتحققه في حال عدمِها البتةَ وعند كونِها قيداً لنفيخ بخلاف ذلك أي غيرُ مغنٍ عن ذكر غيرِها ضرورة أن نفيَ العودِ في حال الكراهةِ لا يستلزمُ نفيَه في غيرها بل الأمرُ بالعكس فإن نفيَه في حال الإرادةِ مستلزمٌ لنفيه في حال الكراهةِ قطعاً استقام الأول لإفادته نفي العودى ة في الحالتين مع الاقتصار على ما ذِكْر ما هو مغنٍ عن ذكر الأخرى ولم يستقم الثاني لعدم إفادتِه إيَّاهُ على الوجهِ المذكورِ إن قيل فما وجهُ استقامتِهما جميعاً عند ذكرِ المعطوفَيْن معاً حيث يصِحّ أن يقال لا نعودُ فيها لو لم نكن كارهيم كما يصح أن يقال أنعودُ فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين مع أن المقدّر في حكم الملفوظِ قلنا وجهُها أن كلاًّ منهما يفيد معنىً صحيحاً في نفسه لا أن معنى أحدِهما عينُ معنى الآخر أو متلازمان متفقانِ في جميع الأحكام كيف لا ومدلولُ الأولِ أن العودَ منتفٍ في الحالتين ومدلولُ الثاني مصحِّحٌ لنفي العَوْدِ في الحالتين منتفٍ وكلا المعنيين صحيحٌ في نفسه مصحِّحٌ لنفي العود فسي الحالتين مع ذكرهما معا غير أن الثاني مصحِّحٌ لنفي العَوْدِ في الحالتين مع الاقتصار على ذكر حالة الكراهة على عكس المعنى الأول فإنه مصحِّحٌ لنفيه فيهما مع الاقتصاد على ذكر حالةِ الإرادة

89

{قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا}

أي كذباً عظيما لا يُقادَر قدرُه {إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ} التي هي الشركُ وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه أي إن عجنا في ملتكم {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا} فقد افترينا على الله كذبا عظيماً حيث نزعُم حينئذ أن الله تعالى نِداً وليس كمثله شيءٌ وأنه قد تبين لنا أن ما كُنَّا عليه من الإسلام باطلٌ وأن ما كنتم عليه من الكفر حقٌّ وأيُّ افتراءٍ أعظمُ من ذلك وقيل إنه جوابُ قسمٍ محذوف حذف عنه اللامُ تقديره والله لقد افترينا الخ {وَمَا يَكُونُ لَنَا} أي وما يصِحّ وما يستقيم لنا {أن نعود فيها} في حالمن الأحوالِ أو في وقتٍ من الأوقات {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أي إلا حالَ مشيئةِ الله تعالى أو وقتَ مشيئتِه تعالى لعَوْدنا فيها وذلك مما لا يكاد يكون كما ينبىء عنه قوله تعالى {رَبَّنَا} فإن التعرض لعنوان لاربوبيته تعالى لهم مما ينبىء عن استحالة مشيئتِه تعالى لارتدادهم قطعاً وكذا قوله تعالى بع إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا فإن تنجيتَه تعالى لهم منها من دلائل عدمِ مشيئتِه لعَودِهم فيها وقيل معناه إلا أن يشاء الله خِذلانَنا وقيل فيه دليلٌ على أنَّ الكفرَ بمشيئته تعالى وأيا ما كان فليس المرادُ بذلك بيانَ أن العودَ فيها في حيز الإمكانِ وخطرِ الوقوعِ بناءً على كون مشيئتِه تعالى كذلك بل بيانُ استحالةِ وقوعِها كأنه قيل وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربُّنا وهيهاتَ ذلك بدليل ما ذُكر من موجبات عدم مشيئتِه تعالى له {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا} فهو محيطٌ بكل ما كان وما يكون من الأشياء التي من جملتها أحوالُ عبادِه وعزائمُهم ونياتُهم وما هو اللائقُ بكل واحدٍ منهم فمُحالٌ من لطفه أن يشاء عَودَنا فيها بعد ما نجانا منها مع اعتصامنا به خاصةً حسبما ينطِق به قوله تعالى {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} أي في أن يثبتَنا على ما نحنُ عليه من الإيمان ويُتمَّ علينا نعمتَه بإنجائنا من الإشراك بالكلية وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ للمبالغةِ في التضرعِ والجُؤار وقوله تعالى {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} إعراضٌ عن مقاولتهم إثرَ ما ظهر له عليه الصلاة والسلام أنهم من العتو والعِناد بحيث لا يُتصور منهم الإيمانُ أصلاً وإقبالٌ على الله تعالى بالدعاء لفصل ما بينه وبينهم بما يليق بحال كلَ من الفريقين أي احكم بيننا بالحق والفَتاحَةُ الحكومة أو أظهرْ أمرنا حتى ينكشِفَ ما بيننا وبينهم ويتميز المُحقُّ من المبطِل من فتَحَ المُشكلَ إذا بيّنه {وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} تذييلٌ مقررلمضمون ما قبله على المعنيين

90

{وَقَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} عطفٌ على قال الملأ الذين الخ ولعل هؤلاء غير أولئك المستكبرين ودونهم في الرتبة شأنُهم الوساطةُ بينهم وبين العامةِ والقيامُ بأمورهم حسبما يراه المستكبرون ويجوز أن يكون عينَ الأولين وتغييرُ الصلةِ لما أن مدارَ قولِهم هذا هو الكفرُ كما أن مناطَ قولِهم السابقِ هو الاستكبارُ أي قال أشرافُهم الذين أصروا على الكفر لأعقابهم بعد ما شاهدوا صلابةَ شعيبٍ عليهِ السَّلامُ ومنْ معَهُ من المؤمنين في الإيمان وخافوا أن يستتبوا قومَهم تثبيطاً لهم عن الإيمان به وتنفيراً لهم عنه على طريقة التوكيدِ القسَمي والله {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا} ودخلتم في دينه وتركتم جين آبائِكم {إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون} أي في الدين لاشترائكم الضلالةَ بهداكم أو في الدنيا لفوات ما يحصُل لكم بالخس والتطفيف وإذن حرفُ جوابٍ وجزاءٍ معترِضٌ بين اسمِ إنَّ وخبرِها والجملةُ سادةٌ مسد

الأعراف آية 91 94 جوابي الشرطِ والقسمِ الذي وطَّأَتْه اللام

91

{فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي الزَّلزلةُ وهكذا في سورة العنكبوت وفي سورة هود وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ أي صيحةُ جبريلَ عليهِ السَّلامُ ولعلها من مبادى الرجفةِ فأُسند هلاكُهم إلى السبب القريبِ تارةً وإلى البعيد أخرى {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ} أي في مدينتهم وفي سورة هودج في ديارهم {جاثمين} أي ميتين لازمين لأماكنهم لا بَراحَ لهم منهَا

92

{الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا} استئنافٌ لبيان ابتلائهم بشئوم قولِهم فيما سبق لَنُخْرِجَنَّكَ يا شعيب والذين آمنوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا وعقوبتِهم بمقابلته والموصولُ مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} أي استُؤصِلوا بالمرة وصاروا كأنهم لم يقيموا بقريتهم أصلاً أي عوقبوا بقولهم ذلك وصاروا هم المُخرَجين من القرية إخراجاً لا دخولَ بعده أبداً وقولُه تعالَى {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الخاسرين} اتستئناف آخرُ لبيان ابتلائِهم بعقوبة قولِهم الأخيرِ وإعادةُ الموصولِ والصلةِ كما هي لزيادةِ التقريرِ والإيذانِ بأنَّ ما ذكر في حيز الصلة هو الذي استوجب العقوبتين أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بمقالتهم الأخيرة فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لا المتبعون له عليه الصلاة والسلام وبهذا القصر اكتُفي عن التصريح والذين آمنوا مَعَهُ الخ

93

{فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أَبْلَغْتُكُمْ رسالات رَبّى وَنَصَحْتُ لكم} قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ما هلكوا تأسفاً بهم لشدة حزنِه عليهم ثم أنكر على نفسه ذلك فقال {فكيف آسى} أحزن حزناً شديداً {على قَوْمٍ كافرين} أي مُصِرِّين على الكفر ليسوا أهلَ حزنٍ لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم أو قاله اعتذار عن عدم شدة حزنِه عليهم والمعنى لقد بالغتُ في الإبلاغ والإنذار وبذلتُ وُسعي في النصح والإشفاقِ فلم تُصدِّقوا قولي فكيف آسى عليكم وقرىء إيسى بإمالتين

94

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّبِىٍّ} إشارةٌ إجمالية إلى بيان أحوالِ سائرِ الأمم إثرَ بيان أحوالِ الأمم المذكورة وتفصيلا ومن مزيدة لتأكيد النفي والصفةُ محذوفةٌ أي من نبي كُذِّب أو كذَّبه أهلُها {إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا} استثناء مفرغ من أعم الأحوالِ وأخذنا في محل النصب من فاعل أرسلنا والفعلُ الماضي لا يقع بعد إلا بأحد شرطين إما تقديرِ قد كما في هذه الآية أو مقارَنةِ قد كما في قولك ما زيد إلا قد قام والتقديرُ وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ من القرى المُهلَكة نبياً من الأنبياء في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ كونِنا آخذين

الأعراف آية 95 97 أهلَها {بالبأساء} بالبؤس والفقرِ {والضراء} بالضُّرّ والمرض لكنْ لا على مَعْنى أن ابتداءَ الإرسالِ مقارِنٌ للأخذ المذكورِ بل على أنه مستتبِعٌ له غيرُ منفكَ عنه بالآخرة لاستكبارهم عن اتباع نبيِّهم وتعزُّزِهم عليه حسبما فعلت الأممُ المذكورة {لعلهم يتضرعون} كي يتضرعوا ويتذللوا ويحُطّوا أرديةَ الكِبْر والعزةِ عن أكتافهم كقوله تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فأخذناهم بالبأساء والضراء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ

95

{ثُمَّ بَدَّلْنَا} عطفٌ على أخذنا داخلٌ في حكمه {مَكَانَ السيئة} التي أصابتهم للغاية المذكورةِ {الحسنة} أي أعطيناهم بدلَ ما كانُوا فيه من البلاء والمحنةِ والرخاء والسعةَ كقوله تعالى وبلوناهم بالحسنات والسيئات {حتى عَفَواْ} أي كثُروا عَدداً وعُدداً من عفا النباتُ إذا كثر وتكاثر وأبطرتهم النعمة {قالوا} غيرَ واقفين على أنَّ ما أصابَهم من الأمرين ابتلاءٌ من الله سبحانه {قد مس آباءنا الضراء والسراء} كما مسّنا ذلك وما هو إلا من عادة الدهرِ يعاقِب في الناس بين الضراءِ والسراء من غير أن يكون هناك داعيةٌ تؤدي إليهما أو تِبعةٌ تترتب عليهما ولعل تأخيرَ السراءِ للإشعار بأنها تعقُب الضراءَ فلا ضيرَ فيها {فأخذناهم} إثر ذلك {بغتة} فجاءة أشدَّ الأخذِ وأفظعَه {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بذلك ولا يخطرون ببالهم شيئاً من المكاره كقوله تعالى حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ الآية وليس المرادُ بالأخذ بغتةً إهلاكَهم طرفة عينٍ كإهلاك عادٍ وقومِ لوطٍ بل ما يعُمّه وما يمضي بين الأخذ وإتمام الإهلاكِ أيام كدأب ثمود

96

{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى} أي القرى المُهلَكة المدلولَ عليها بقولِه تعالَى قَرْيَةٍ وقيل هي مكةُ وما حولها من القُرى وقيل جنس القُرى المنتظمةِ لما ذكر ههنا انتظاما أوليا {آمنوا} بما أوحي إلى أبيائهم معتبِرين بمَا جَرى عليهمْ من الابتلاء بالضراء والسراء {واتقوا} أي الكفرَ والمعاصيَ أو اتقَوْا ما أُنذروا به على ألسنة الأنبياءِ ولم يُصروا على ما فعلوا من القبائح ولم يحملوا ابتلاء الله تعالى على عادات الدهر وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله تعالى عنهما وحدوا الله واتقوا الشرك {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والارض} لوسّعنا عليهم الخيرَ ويسّرناه لهم من كل جانبٍ مكانَ ما أصابهم من فنون العقوباتِ التي بعضُها من السماء وبعضُها من الأرض وقيل المرادُ المطرُ والنباتُ وقرىء لفتّحنا بالتشديد للتكثير {ولكن كَذَّبُواْ} أي ولكن لم يؤمنوا ولم يتقوا وقد اكتفوى بذكر الأولِ لاستلزامه للثاني {فأخذناهم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} منَ أنواع الكفرِ والمعاصي التي من جُملتها قولُهم قد مس آباءَنا الخ وهذا الأخذُ عبارةٌ عما في قوله تعالى فأخذناهم بَغْتَةً لا عن الجدب والقَحطِ كما قيل فإنهما قد زالا بتبديل الحسنةِ مكانَ السيئة

97

{أفأمن أهل القرى} أي أهل القرى المذكورة

الأعراف آية 98 100 على وضعِ المظهرِ موضِعَ المُضْمَرِ للإيذان بأن مدارَ التوبيخِ أمْنُ كلِّ طائفةٍ ما أتاهم من البأس لا أمنُ مجموعِ الأمم فإن مل طائفةٍ منهم أصابهم بأسٌ خاصٌّ بهم لا يتعداهم إلى غيرهم كما سيأتي والهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه لا لإنكار الوقوعِ ونفيِه كما قاله أبو شامةَ وغيره لقوله تعالى للا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون والفاءُ للعطف على أخذناهم وما بينهما اعتراضٌ توسّط بينهما للمُسارعةِ إلى بيانِ أنَّ الأخذَ المذكورَ مما كسبتْه أيديهم والمعنى أبعدَ ذلك الأخذِ أمِنَ أهلُ القرى {أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بياتا} أي تبييتاً أو وقتَ بياتٍ أن مَبيتاً أو مبيتين وهو في الأصل مصدرٌ بمعنى البيتوتة ويجيء بمعنى التبييتِ السلام بمعنى التسليم {وَهُمْ نَائِمُونَ} حالٌ من ضميرهم البارزِ أو المستترِ في بياتاً

98

{أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى} إنكارٌ بعد إنكارٍ للمبالغة في التوة بيخ الشديد ولذلك لم يقل أفأمن أهلُ القرى أَن يَأْتِيَهُم بأسنا بياتاً وهم نائمونَ أو ضحىً وهم يلعبون وقرىء أوْ بسكون الواوِ على الترديد {أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى} أي ضحوةَ النهارِ وهو في الأصل ضوءُ الشمسِ إذا ارتفعت {وهم يلعبون} أي يلهوم من فرط الغفلةِ أو يشتغلون بما لا ينفعهم كأنهم يلعبون

99

{أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله} تكريرٌ للنكير لزيادة التقريرِ ومكرُ الله تعالى استعارةٌ لاستدراجه العبدوأخذه مِن حيثُ لاَ يحتسبُ والمراد به بيان إتيانُ بأسِه تعالى في الوقتين المذكورين ولذلك عُطف الأول والثالث بالفاء في الإنكار فيهما متوجهٌ إلى ترتب الأمنِ على الأخذ المذكور وأما الثاني فمن تتمة الأولِ {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون} أي الذين خسِروا أنفسَهم وأضاعوا فطرةَ الله التي فطرَ الناسَ عليها والاستعدادَ القريبَ المستفادَ من النظر في الآيات

100

{أولم يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا} أي يخلُفون مَنْ خلا قبلهم من الأمم المُهلَكة ويرثون ديارَهم والمرادُ بهم أهلُ مكةَ ومَنْ حولها وتعديةُ فعل الهداية باللام إما لتنزيلها منزلة اللام كأنه قيل أغفلَوا ولم يفعلِ الهدايةَ لهم الخ وإما لأنها بمعنى التبيينِ والمفعولُ محذوفٌ والفاعلُ على التقديرين هو الجملةُ الشرطية أي أولم يبيَّن لهم مآلُ أمرِهم {أَن لَّوْ نَشَاء أصبناهم} بِذُنُوبِهِمْ أي أن الشأنَ لو نشأ أصبْناهم بجزاء ذنوبِهم أو بسبب ذنوبِهم كما أصبنا مَنْ قبلهم وقرىء نَهدِ بنون العظمة فالجملة مفعولُه {وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ} عطفٌ على ما يُفهم من قولِه تعالَى أَوْ لَمْ يَهْدِ كأنه قيل لا يهتدون أو يغفُلون عن الهداية أو عن التفكر والتأمل أو منقطعٌ عنه بمعنى ونحن نطبع ولا يجوزعطفه على أصبناهم على أنه بمعنى طبعنا لإفضائه إلى نفي الطبْعِ عنهم لأنه في سياق جوابِ لو {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي أخبار الأمم المهلكة فضلاعن التدبر والنظرِ فيها والاغتنامِ بِمَا في تضاعِيفِها منَ الهداية

الأعراف آية 101

101

{تِلْكَ القرى} جملةٌ مستأنفةٌ جاريةٌ مجرى الفذلكةِ لما قبلها من القِصص منبئةٌ عن غاية غَوايةِ الأممِ المذكورة وتماديهم فيها بعد ما أنتهم الرسلُ بالمعجزات الباهرة وتلك إشارةٌ إلى قرى الأمم المُهلَكة على أن اللامَ للعهد وهو مبتدأٌ وقولُه تعالى {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا} خبرُه وصيغة المضارع للإيذان بعدم انقضاءِ القصة بعد ومِنْ للتبعيض أي بعضُ أخبارها التي فيها عظةٌ وتذكيرٌ وقيل تلك مبتدأ والقرة خبرُه وما بعده حالٌ أو خبرٌ بعد خبر عند من يجوِّز كون الخبر الثاني جملةً كما في قوله تعالى فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى وتصديرُ الكلام بذكر القرى وإضافةُ الأنباء إليها مع أن المقصوصَ أنباءُ أهلِها والمقصودُ بيانُ أحوالهم حسبما يُعرب عنه قوله تعالى {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} لما أن حكايةَ هلاكِهم بالمرة على وجه الاستئصالِ بحيث يشمل أماكنَهم أيضاً بالخسف بها والرجفةِ وبقائِها خاويةً معطلةً أهولُ وأفظعُ والباء في قوله تعالى بالبينات متعلقةٌ إما بالفعل المذكور على أنها للتعدية وإما بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فاعله أي ملاتبسين بالبينات لكن لا بأن يأتيَ كلُّ رسولٍ ببينة واحدة بل بينات كثيرة خاصةٍ به معينةٍ له حسب اقتضاءِ الحِكمة فإن مراعاة انقسام الآحاد إلى الآحاد إنما هي فيما بين الرسل وضميرِ الأممِ والجملةُ مستأنفةٌ مبينةٌ لكمال عُتوِّهم وعنادِهم أي وبالله لقد جاء كلَّ أمةٍ مِنْ تلكَ الأممِ المُهلَكة رسولُهم الخاصُّ بهم بالمعجزات البيّنةِ المتكثرة المتواردةِ عليهم الواضحة الجلالة على صحة رسالتِه الموجبةِ للإيمان حتماً وقوله تعالى {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} بيانٌ لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرارِ إيمانِهم وترتيبُ حالتِهم هذه على مجيء الرسلِ بالبينات بالفاء لما أن الاستمرارَ على فعل من الأفعال بعد ورود ما يوجب الإقلاعَ عنه وإن كان استمرارا عليه في الحقيقة لكنه بحسَب العنوان فعلٌ جديد وصنعٌ حادثٌ نحوُ وعظتُه فلم ينزجِرْ ودعوتُه فلم يُجب واللامُ لتأكيد النفي أي فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوامِ في وقتٍ من الأوقاتِ أن يؤمنوا لكل كان ذلك ممتنعاً منهم إلى أنْ لَقوُا ما لقوُا لغاية عتوِّهم وشدةِ شكيمتِهم في الكفر والطغيانِ ثم إن كان المحكي عنهم آخرَ حالِ كلِّ قوم منهم فالمرادُ بعدم إيمانِهم المذكور ههنا إصرارُهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه بقوله تعالى {بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} تكذيبُهم من لدن مجيءِ الرسل إلى وقت الإصرارِ والعناد وإنما لم يُجعل ذلك مقصوداً بالذات كالأول بل جُعل صلةً للموصول إيذاناً بأنه بيِّنٌ بنفسه وإنما المحتاجُ إلى البيان عدمُ إيمانهم بعد تواتر البينات الظاهرة وتظاهر المعجزات الباهرة التي كانت تضطرهم إلى القَبول لو كانوا من أصحاب العقول والموصول الذي تعلق به الإيمان والتكذيب سلباً وإيجاباً عبارةٌ عن جميع الشرائعِ التي جاء بها كلُّ رسولٍ أصولِها وفروعِها وإن كان المحكيُّ جميع أحوال كل قوم منهم فالمراد بما ذكر أولاً كفرُهم المستمرُّ من حين مجيءِ الرسل الخ وبما أشير إليه آخرا تكذيبُهم قبل مجيئِهم فلا بد من جعل الموصولِ المذكور عبارة عن أصول الشرائعِ التي أجمعت عليها الرسل قاطبة ودعوا أممهم إليها آثر ذي أثير لاستحالة تبدلها وتغيرها مثل ملة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء رسلهم

الأعراف آية 256 أنهم ما كانوا في زمن الجاهلية بحيث لم يسمعوا كلمةَ التوحيد قط بل كانت كلُّ أمةٍ من أولئك الأمم يتسامعون بهال من بقايا من قبلهم فيكذبونها ثم كانت حالتهم بعد مجيءِ رسلِهم كحالتهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص فإنهم حين لم يؤمنوا بما أجمعت عليه كافةُ الرسل فلأن يؤمنوا بما تفرَّد به بعضهم أولى وعدم جعل هذا التكذيبِ مقصوداً بالذات لما أن ما عليه يدور فلكُ العذابِ والعقابِ هو التكذيبُ الواقعُ بعد الدعوة حسبما يُعرب عنه قوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً وإنما ذكرها ما وقع قبلها بياناً لعراقتهم في الكفر والتكذيب وعلى كلا التقديرين فالضمائرُ الثلاثة متوافقة في المرجع وقيل ضميرُ كذبوا راجعٌ إلى أسلافهم والمعنى فما كان الأبناءُ ليؤمنوا بما كذب به الآباءُ ولا يَخْفى ما فيهِ من التعسف وقيل المرادُ ما كانوا ليؤمنوا لو أحييناهم بعد إهلاكِهم ورددناهم إلى دار التكليفِ بما كذبوا من قبلُ كقوله تعالى وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نهوا عنه وقيل الباء للسببية وما مصدريةٌ أي بسبب تعوُّدِهم تكذيبَ الحق وتمرنهم عليه قبل بعثةِ الرسلِ ولا يرِدُ عليه ههنا ما ورد في سورة يونُسَ من مخالفة الجمهورِ بجعل ما المصدريةِ من قبيل الأسماء كما هو رأيُ الأخفشِ وابنِ السرّاج ليرجِعَ إليه الضميرُ في به {كذلك} أي مثلَ ذلك الطبعِ الشديدِ المُحكَم {يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} أي من المذكورين وغيرهم فلا يكاد يؤثر فيها الآياتُ والنذرُ وفيه تحذير للسامعين وإظهارُ الاسمِ الجليلِ بطريق الالتفاتِ لتربية المهابة وإدخالِ الروعة

102

{وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم} أي أكثرِ الأممِ المذكورين واللامُ متعلقةٌ بالوُجدان كما في قولك ما وجدتُ له مالا أي ما صدفت له مالاً ولا لقِيته أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً مِنْ قوله تعالى {مّن عَهْدٍ} لأنَّه في الأصلِ صفةٌ للنكرة فلما قُدّمت عليها انتصبت حالاً والأصلُ ما وجدنا عهداً كائناً لأكثرهم ومن مزيدة للاستغراق أي وما وجدنا لأكثرهم من وفاء عهدٍ فإنهم نقضوا مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ عند مساسِ البأساء والضراءِ قائلين لئن أنجيتنا من هذه لنكونَنّ من الشاكرين فتخصيصُ هذا الشأنِ بأكثرهم ليس لأن بعضَهم كانوا يوفون بعهودهم بل لأن بعضَهم كانوا لا يعهدون ولا يوفون وقيل المرادُ بالعهد ما عهِد الله تعالى إليهم من الإيمان والتقوى بنصب الآياتِ وإنزالِ الحُجج وقيل ما عهِدوا عند خطابِ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ فالمرادُ بأكثرهم كلُّهم وقيل الضمير للبأس والجملةُ اعتراضٌ فإن أكثرَهم لا يوفون بالعهود بأي معنى كان {وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ} أي أكثرُ الأمم أي علِمناهم كما في قولك وجدتُ زيداً ذا حِفاظ وقيل الأول أيضاً كذلك وإنْ مخففةٌ من أن وضمير الشأن محذوفٌ أي إن الشأنَ وجدناهم {لفاسقين} خارجين عن الطاعة ناقضين للعهود وعند الطكوفينن أنّ إنْ نافيةٌ واللامُ بمعنى إلا أي ما وجدناهم إلا فاسقين

103

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى} أي أرسلناه من بعد انقضاء

الأعراف آية 104 105 وقائعِ الرسل المذكورين أو من بعد هلاكِ الأممِ المحكيةِ والتصريحُ بذلكَ مع دِلالة ثم على التراخي للإيذان بأن بعثه عليه الصلاة والسلام جرى على سَنن السُنةِ الإلهية من إرسال الرسلِ تترى وتقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر {بآياتنا} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعول بعثنا أو صفةٌ لمصدرِه أي بعثناه عليه الصلاة والسلام ملتبساً بآياتنا أو بعثناه بَعْثاً ملتبساً بها وهي الآيات التسع المفصلات التي هي العصا واليدُ البيضاء والسِّنونَ ونقصُ الثمرات والطوفانُ والجَرادُ والقُمّلُ والضفادعُ والدم حبما سيأتي على التفصيل {إلى فِرْعَوْنَ} هو لقبٌ لكل من ملَك مِصْرَ من العمالقة كما أن كِسرى لقب لكل من ملك فارسَ وقيصرَ لكل مَنْ ملك الروم واسمُه قابوسُ وقيلالوليد بن مصعب بن ريان {وَمَلَئِهِ} أي أشرافِ قومِه وتحصيصهم بالذكر مع عموم رسالتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لقومه كافةً حيث كانوا جميعاً مأمورين بعبادة ربِّ العالمين عز سلطانه وترك العظيمةِ الشنعاءِ التي كانَ يدَّعِيها الطاغيةُ ويقبلُها منهُ فئتُه الباغيةُ لأصالتهم في تدبير الأمور واتباعِ غيرِهم لهم في الورود والصدور {فَظَلَمُواْ بِهَا} أي كفروا بها أُجري الظلمُ مُجرى الكفرِ لكونهما من وادٍ واحدٍ أو ضُمّن معنى الكفرِ أو التكذيبِ أي ظلموا كافرين بها أو مكذِّبين بها أو كفروا بها مكان الإيمانِ الذي هو من حقها لوضوحها ولهذا المعنى وُضع ظلَموا موضِعَ كفروا وقيل ظلموا أنفسَهم بسببها بأن عرّضوها للعذاب الخالد أو ظلموا الناسَ بصدهم عن الإيمان بها والمرادُ به الاستمرارُ على الكفر بها إلى أن لقُوا من العذاب ما لقُوا ألا يُرى إلى قوله تعالى {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} فكما أن ظلمهم بها مستتبعٌ لتلك العاقبةِ الهائلةِ كذلك حكايةُ ظلمِهم بها مستتبعٌ للأمر بالنظر إليها وكيف خبرُ كان قُدّم على اسمها لاقتضائه الصدارةَ والجملةُ في حيز النصبِ بإسقاط الخافضِ أي فانظر بعين عقلِك إلى كيفية ما فعلنا بهم ووضعُ المفسدين موضعَ ضميرِهم للإيذان بأن الظلم مستلزِمٌ للإفساد

104

{وَقَالَ مُوسَى} كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لتفصيل ما أُجمل فيما قبله من كيفية إظهار الآياتِ وكيفيةِ عاقبة المفسدين {يا فرعون إِنِّي رَسُولٌ} أي إليك {مِن رَّبّ العالمين} على الوجه الذي مر بيانه

105

{حقيق على أن لا أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق} جوابٌ عما ينساقُ إليه الذهنُ من حكاية ظلمِهم بالآيات من تكذيبه إياه عليه الصلاة والسلام في دعوى الرسالةِ وكان أصلُه حقيقٌ على أن لا أقول الخ كما هو قراءة نافع فقلب للأمن من الإلباس كما في قول وتشقى الرماحُ بالضياطرة الحُمُر أو لأن ما لزِمك فقد لزِمتَه أو للإغراق في الوصف بالصدق والمعنى واجبٌ عليّ القولُ الحقُّ أن أكون أنا قائلُه لا يَرضَى إلا بمثلي ناطقاً به أو ضُمّن حقيقٌ معنى حريص أو وُضِعَ على موضعَ الباءِ لإفادة التمكن كقولهم

الأعراف آية 106 109 رميتُ على القوس وجئتُ على حال حسنةٍ ويؤيده قراءة أبي بالباء وقرىء حقيق أن لا أقول وقوله تعالى {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ} استئنافٌ مقرر لما قبله من ككونه رسولاً من رب العالمين وكونِه حقيقاً بقول الحقِّ ولم يكن هذا القول منه عليه الصلاة والسلام وما بعده من جواب فرعون إثرَ ما ذكر ههنا بل بعدَ مَا جَرى بينهما من المحاورة المحكيةِ بقوله تعالى قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا الآيات وقوله تعالى وَمَا رَبُّ العالمين الآيات وقد طوى ههنا ذكرُه للإيجاز ومِنْ متعلقة إما بجئتُكم على أنها لابتداء الغايةِ مجازاً وإما بمحذوف وقع صفةً لبينة مفيدةً لفخامتها الإضافية المؤكدةِ لفخامتها الذاتية المستفادةِ من التنوين التفخيمي وإضافةُ اسمِ الرب إلى المخاطبين بعد إضافتِه فيما قبله إلى العالمين لتأكيد وجواب الإيمان بها {فَأَرْسِلْ مَعِىَ بني إسرائيل} أي فخلّهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسةِ التي هي وطنُ آبائِهم وكان ق استبعدهم بعد انقراضِ الأسباطِ يستعملهم ويكلفهم الأفاعيلَ الشاقة فأنقذهم الله تعالى بموسى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وكانَ بين اليوم الذي دخل يوسفُ مصرَ واليومِ الذي دخله موسى عليهما السلام أربعُمائة عام والفاءُ لترتيب الإرسالِ أو الأمرِ به على ما قبله من رسالته عليه السلام ومجيئه بالبينة

106

{قال} الأاستئناف وقع جوابا عن سؤال ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنَّه قيل فماذا قال فرعونُ له عليه السلام حين قال له ما قال فقيل قَالَ {إِن كُنتَ جِئْتَ بآية} أي من عندج مَنْ أرسلك كما تدعيه {فَأْتِ بِهَا} أي فأحضِرْها حتى تُثبت بها رسالتَك {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في دعواك فإن كونَك من جملة المعروفين بالصدق يقتضي إظهارَ الآيةِ لا محالة

107

{فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} أي ظاهرٌ أمرُه لا يُشك في كونه ثعباناً وهو الحيةُ العظيمةُ وإيثارُ الجملةِ الاسميةِ للدِلالة على كمال سرعةِ الانقلاب وثباتِ وصفِ الثُعبانية فيها كأنها في الأصل كذلك روي أنه لما ألقاها صارت ثعبانا أشعر فاغر فاهُ بين لَحْيَيهِ ثمانونَ ذراعا وضع لحيه الأسف عَلى الأرضِ والأَعْلى على سور القصرِ ثم توجه نحو فرعون فهرب منه وأحدث فانهزم الناسُ مزدحِمين فماتَ منهُم خمسةٌ وعشرون ألفاً فصاح فرعونُ يا موسى أنشُدك بالذي أرسلك خُذْه وأنا أؤمن بك وأرسلُ معك بني إسرائيلَ فأخذه فعاد عصا

108

{وَنَزَعَ يَدَهُ} أي من جيبه أو من تحت إِبطِه {فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين} أي بيضاءُ بياضاً نورانياً خارجاً عن العادة يجتمع عليه النَّظارةُ تعجباً من أمرها وذلك ما يروى أنه أرى فرعونَ يدَه وقال ما هذه فقال يدُك ثم أدخلها جيبه وعليه مدرّعةُ صوفٍ ونزعها فإذا هي بيضاءُ بياضاً نورانياً غلب شعاعُه شعاعَ الشمس وكان عليه السلام آدجم شديدَ الأدَمةِ وقيل بيضاء للناظرين لا أنها كانت بيضاءَ في جِبِلّتها

109

{قَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ}

أي الأشرافُ منهم وهم أصحابُ مشورتِه {إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ} أيْ مبالغٌ في علم السحر ماهرفيه قالوه تصديقاً لفرعون وتقريراً لكلامه فإن هذا القولَ بعينه مَعْزيٌّ في سورة الشعراء إليه

110

{يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ} أي من أرض مصرَ {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} بفتح النون وما في ماذا في محل النصب على أنه مفعول ثان لتأمرون بحذف الجار والأولُ محذوف والتقديرُ بأي شيء تأمرونني وهذا من كلام فرعونَ كما في قوله تعالى ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب أي فإذا كان كذلك فماذا تشيرون عليّ في أمره وقيل قاله الملأ من قبله بطريق التبليغِ إلى العامة فقوله تعالى

111

{قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} على الأول وهو الأظهرُ حكايةً لكلام الملأ الذين شاورهم فرعونُ وعلى الثاني لكلام العامة الذي خاطبهم الملأ ويأباه أن الخطابَ لفرعون وأن المشاورةَ ليست من وظائفَهم أي أخِّرْه وأخاه وعدمُ التعرض لذكره لظهور كونه معه حسبما ينادي به الآياتُ الأُخَرُ والمعنى أخِّرْ أمرَهما وأصدِرْهما عنك حتى ترى رأيك فيهما وتدبر شأنهما وقرىء أرجته وأرجِهِ من أرْجَأَه وأرْجاه {وَأَرْسِلْ فِى المدائن حاشرين} قيل هي مدائنُ صعيدِ مصرَ وكان رؤساءُ السحرةِ ومَهَرتُهم بأقصى مدائنِ الصعيد وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهاما أنهم كانوا سبعين ساحراً أخذوا السحرَ من رجلين مجوسيين من أهل نينَوى مدينةِ يونسَ عليه السلام بالمَوْصِل ورُد ذلك بأن المجوسيةَ ظهرت بزرادَشْت وهو إنما جاء بعد موسى عليه الصلاة والسلام

112

{يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ} أي ماهرٍ في السحر وقرىء بكل سحّار عليم والجملةُ جوابُ الأمر

113

{وجاء السحرة فرعون} بعدما أرسل إليهم الحاشرين وإنما لم يصرح بهم حسبما فو قوله تعالى فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى المدائن حاشرين للإيذان بمسارعة فرعونَ إلى الإرسال ومبادرةِ الحاشرين والسحرة إلى الامتثال {قَالُواْ} استئنافٌ منوطٌ بسؤال نشأَ من حكايةِ مجيءِ السحرةِ كأنه قيل فماذا قالوا له عند مجيئِهم إياه فقيل قالوا مدْلين بما عندهم واثقين بغلبتهم {إِنَّ لَنَا لاجْرًا إِن كنا نحن الغالبين} بطريق الإخبار بثبوت الأجر وإيجابه كأنهم قالوا لا بُدَّ لنا من أجر عظيم حينئذ أو بطريق الاستفهامِ التقريري بحذف الهمزة وقرىء بإثباتها وقولُهم إن كنا لمجرد تعيينِ مناطِ ثبوتِ الأجرِ لا لترددهم في الغلبة وتوسيطُ الضميرِ وتحليةُ الخبر باللام للقصر أي إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين لا موسى

114

{قَالَ نَعَمْ} وقوله تعالى {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} عطف على محذوف سد مسدَّه حرف الإيجاب

الأعراف آية 115 120 كأنه قال إن لكم لأجراً وإنكم مع ذلك لمن المقربين للمبالغة في الترغيب روي أنه قال لهم تكونُون أولَ من يدخُل مجلسي وآخِرَ من يخرُج منه

115

{قَالُواْ} استئنافٌ كما مر كأنَّه قيلَ فمَاذا فعلُوا بعد ذلك فقيل قالوا متصدّين لشأنهم مخاطِبين لموسى عليه السلام {يا موسى إِمَّا أَن تُلْقِىَ} ما تلقي أولاً {وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} أي لِما نُلقي أولاً أو الفاعلين للإلقاء أولاً خيّروه عليه السلام بالبدء بالإلقاءِ مراعاة للأدب وإظهار للجلادة وأنه لا يختلف حالُهم بالتقديم والتأخير ولكن كانت رغبتُهم في التقديم كما ينبىء عنه تغييرُهم للنظم بتنعريف الخبر وتوسيطُ ضميرِ الفصل وتأكيدِ الضمير المتصل

116

{قَالَ أَلْقَوْاْ} غيرَ مبالٍ بأمرهم أي ألقوا ما تُلقُون {فَلَمَّا أَلْقُوْاْ} ما ألقَوْا {سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس} بأن خيّلوا إليهم ما لا حقيقةَ له {واسترهبوهم} أي بالغوا في إرهابهم {وجاؤوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} في بابه روي أنهم ألقَوا حِبالاً غلاظاً وخشَباً طِوالاً كأنها حياتٌ ملأت الواديَ وركِبَ بعضُها بعضاً

117

{وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} الفاءُ فصيحة أي فألقاها فصارت حيةً فإذا هي الآية وإنما حُذف للإشعار بمسارعة موسى عليه السلام إلى الإلقاء وبغاية سرعةِ الانقلاب كأن لقْفَها لما يأفكون قد حصل متصلاً بالأمر بالإلقاء وصيغةُ المضارعِ لاستحضار صورةِ اللقْفِ الهائلةِ والإفك الصِّرْفِ والقلب عن الوجه المعتاد وما موصولةٌ أو موصوفةٌ والعائدُ محذوفٌ أي ما يأفِكونه ويزوّرونه أو مصدريةٌ وهي مع الفعل بمعنى المفعول روي أنها لمل تلقّفت مِلءَ الوادي من الخشب والحِبال ورفعها موسى فرجعت عصاً كما كانت وأَعدم الله تعالى بقدرته الباهرة تلط الأجرامَ العظامَ أو فرَّقها أجزاءً لطيفةً قالت السحرة لو كان هذا سحراً لبقِيَتْ حبالُنا وعِصِيُّنا

118

{فَوَقَعَ الحق} أي فثبت لظهور أمر {وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي ظهر بطلانُ ما كانوا مستمرِّين على عمله

119

{فغلبوا} اي فوعون وقومُه {هُنَالِكَ} أي في مجلسهم {وانقلبوا صاغرين} أي صاروا أذلاء مبهوتين أو رجَعوا إلى المدينة أذلاء مقهورين والأولُ هو الظاهرُ لقولهخ تعالى

120

{وَأُلْقِىَ السحرة ساجدين} فإن ذلك كان بمحضرلا مكنم فرعون قطعاً أي خروا سجداً كأنما ألقاهم مُلْقٍ لشدة خرورِهم كيف لا وقد

الأعراف آية 121 125 بهرهم الحقُّ واضْطَّرّهم إلى ذلك

121

{قالوا آمنا بربّ العالمين} {ربَّ موسى وهارون} أبدلوا الثانيَ من الأول لئلا يُتوهم أن مرادَهم فرعون عن ابن عباس رضي الله عنهمات أنه قال لما آمنت السحرةُ اتبع موسى من بني إسرائي ستُّمائةِ ألف

123

{قَالَ فِرْعَوْنُ} منكِراً على السحرة موبِّخاً لهم على ما فعلوه {آمَنْتُم بِهِ} بهمزة واحدة إما على الإخبار المحضِ المتضمِّنِ للتوبيخ أو على الاستفهام التوبيخيِّ بحذف الهمزةِ كما مر في إن لنا لأجراً وقد قرىء بتحقيق الهمزتين معا وباحقيق الأولى وتسهيلِ الثانية بيْنَ بيْنٍ أي آمنتم بالله تعالى {قبل أن آذَنَ لَكُمْ} أي بغيرِ أنْ آذنَ لكم كما في قوله تعاللا لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى لا أن الإذنَ منه ممكنٌ في ذلك {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ} يعني أن ما صنعتموه ليس مما اقتضى الحالُ صدورَه عنكم لقوة الجليل وظهور المعجزة بل هو حيلة احتلتموها مع موطأة موسى {فِى المدينة} يعني مصرَ قبل أن تخرجوا إلى الميعاد رُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام وأميرَ السحرةِ التقيا فقال له موسى أرأيتَك إن غلبتُك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به الحقُّ فقال الساحرُ والله لئن غلبتَني لأومننَّ بك وفرعونُ يسمعهما وهو الذي نشأ عنه هذا القول {لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا} أي القبط وتخلصهلي لك ولبني إسرائيلَ وهاتان شبهتان ألقاهما إلى أسماع عوامِّ القِبطِ عند معاينتهم لارتفاع أعلامِ المعجزةِ ومشاهدتِهم لخضوع أعناقِ السحرةِ لها وعدم تمالُكِهم من أن يؤمنوا بها ليمنعهم بهما عن الإيمان بنبوة موسى عليه الصلاة والسلام بإراءة أن إيمان السحر مبني على المة واضعة بينهم وبين موسى وأن غرضَهم بذلك إخراجُ القوم من المدينة وإبطالُ مُلْكِهم ومعلومٌ أن مفارقةَ الأوطانِ المألوفةِ والنعمةِ المعروفةِ مما لا يُطاق به فجمع اللعينُ بين الشبهتين تثبيتاً للقِبطَ على ما هم عليه وتهييجاً لعداوتهم له عليهالصلاة والسلام ثم عقبهما بالوعيد ليُريَهم أن له قوزة وقدرةً على المدافعة فقال {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي عاقبة ما فعلتم وهذا وعيدٌ ساقه بطريق الإجمالِ للتهويل ثم عقبه بالتفصيل فقال

124

{لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ} أي من كل شقَ طرَفاً {ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ أجمعين} تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم قيل هو أولُ من سن ذلك فشرعه الله تعالى لقُطّاع الطريق تعظيماً لجُرمهم ولذلك سماه الله تعالى محاربةً لله ورسوله

125

{قَالُواْ} استئنافٌ مَسوقٌ للجواب

الأعراف آية 126 128 عن سؤال ينساق إليه الذهنُ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ السحرةُ عندما سمِعوا وعيدَ فرعونَ هل تأثروا به تصلبوا فيمَا هُم فيهِ من الدين فقيل قالوا ثابتين على ما أحدثوا من الإيمان {إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ} أي بالموت لا محالة فسواءٌ كان ذلك من قِبَلك أو لا فلا نبالي بوعيدك أو إنا إلى رحمة ربنا وثوابِه منقلبون إن فعلتَ بنا ذلك كأنهم استطابوه شَغَفاً على لقاء الله تعالى وإنا جميعاً إلى ربنا منقلبون فيحكم بيننا وبينك

126

{وَمَا تَنقِمُ مِنَّا} أي وما تُنكر وتَعيب منا {إلا أن آمنا بآيات رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا} وهو خيرُ الأعمال وأصلُ المفاخر ليس مما يتأتى لنا العجول عنه طلباً لمرضاتك ثم أعرضوا عن مخاطبته إظهاراً لما في قلوبهم من العزيمة على ما قالوا وتقرير آلة ففزعوا إلى الله عزَّ وجلَّ وقالوا {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} أي أفِضْ علينا من الصبر ما يغمُرنا كما يغمرُ الماءُ أو صُبّ علينا ما يُطَهّرنا من أوضار الأوزار وأدناسِ الآثام وهو الصبرُ على وعيد فرعون {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} ثابتين على ما رزقتنا من الإسلام غيرَ مفتونين من الوعيد قيل فَعل بهم ما أوعدهم به وقيل لم يقدر عليه لقوله تعالى أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون

127

{وَقَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَونَ} مخاطِبين له بعد ما شاهدوا من أمر موسى عليه السلام {أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأرض} أي في أرض مصر بتغير الناسِ عليك وصرفِهم عن متابعتك {وَيَذَرَكَ} عطفٌ على يُفسدوا أو جوابُ الاستفهام بالواو كما في قول الحطيئة ... ألم أك جارك ويكونَ بيني وبينكم المودةُ والإخاء أي أيوكون منك تركُ موسى ويكونَ تركُه إياك وقرىء بالرفع عطفا على أتذر أو استئنافاً أو حالاً وقرىء بالسكون كأنه قيل يفسدوا ويذلك كقوله تعالى فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن {وآلهتك} ومعبوداتِك قيل إنه كان يعبد الكواكبَ وقيل صنع لقومه أصناماً وأمرهم بأن يعبُدوها تقرباً إليه ولذلك قال أنا ربكم الأعلى وقرىء وإلهتك أي عبادتَك {قَالَ} مجيباً لهم {سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ} كما طكنا نفعل بهم ذلك من قبلُ ليُعلم أنا على ما كُنَّا عليه من القهر والغلبةِ ولا يُتَوَهّم أنَّه المولودُ الذي حكَم المنجمون والكهنةُ بذهاب مُلكِنا على يديه وقرىء سنقتل بالتخفيف {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون} كما كنا لم يتغير حالُنا أصلاً وهم مقهورون تحت أيدينا كذلك ...

128

{قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} تسليةً لهم وعِدةً بحسن العاقبة حين سمعوا قولَ فرعون وتضجّروا منه {استعينوا بالله واصبروا} على ما سمعتم من أقاويله الباطلة {إِنَّ الارض للَّهِ} أي أرضَ مصر أو جنس

الأعراف آية 1289 130 الأرض وهي داخلة فيخها دخولاً أولياً {يورثُها مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} الذين أنتم منهم وفيه إيذانٌ بأن الاستعانةَ بالله تعالى والصبرَ من باب التقوى وقرىء والعاقبةَ بالنصبِ عطفاً على اسمِ إن

129

{قَالُواْ} أي بنو إسرائيلَ {أُوذِينَا} أي من جهة فرعونَ {مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا} أي بالرسالة يعنون بذلك قتلَ أبنائِهم قبل مولد موسى عليه الصلاة والسلام وبعدَه {وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} أي رسولاً يعنون ما توعدهم به من إعادة قتلِ الأبناءِ وسائر ما كان يفعل بهم لعداوة موسى عليه السلام من فنون الجَوْر والظلمِ والعذاب وأما ما كانوا يُستعبَدون به ويُمتهنون فيه من أنواع الخَدَم والمِهَن كما قيل فليس مما يلحقهم بواسطته عليه السلام فليس لذكره كثيرُ ملابسة بالمقام {قَالَ} أي موسى عليه الصلاة والسلام لما رأى شدةَ جَزَعِهم مما شاهدوه مسلياً لهم بالتصريح بما لَوَّح به في قوله إن الأرض لله الخ {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} الذي فعل بكم ما فعل وتوعّدكم بإعادته {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى الارض} أي يجعلَكم خلفاءَ في أرض مصرَ {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} أحسناً أم قبيحاً فيجازيَكم حسبما يظهر منك من الأعمال وفيه تأكيدٌ للتسلية وتحقيقٌ للأمر قيل لعل الإتيانَ بفعل الطمع لعدم الجزمِ منه عليه السلام بأنهم هم المستخلَفون بأعيانهم أو أولادُهم فقد روي أن مصرَ إنما فتحت في زمن داودَ عليه السلام ولا يساعده قوله تعالى وأورثنا القوم الذين يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها فإن المتبادرَ استخلافُ أنفسِ المستضعفين لا استخلافُ أولادِهم إنما مجيءُ فعلِ الطمعِ للجَريِ على سَنَنِ الكبرياءِ

130

{ولقد أخذنا آل فِرْعَوْنَ بالسنين} شروعٌ في تفصيل مبادي الهلاكِ الموعودِ وإيذانٌ بأنه تعالى لم يُمهِلْهم بعد ذلك ولم يكونوا في خفْضٍ ودَعَةٍ بل رُتّبت أسبابُ هلاكِهم فتحولوا من حال إلى حال إلى أن حل بهم عذابُ الاستئصالِ وتصديرُ الجملة بالقسملإظهار الاعتناءِ بمضمونها والسنونَ جمعُ سنة والمرادُ بها عامُ القحطِ وفيها لغتانِ أشهرُهما إجراؤها مُجرى المذكرِ السالمِ فيرفع بالواو ويُنصَب ويُجرُّ بالياء ويحذف نونُه بالإضافة واللغةُ الثانية إجراءُ الإعراب على النون ولكن مع الباء خاصةً إما بإثبات تنوينِها أو بحذفه قال الفراء هي اللغة مصروفة عنج بني عامرٍ وغيرُ مصروفةٍ عند بني تميم ووجهُ حذف التنوين والتخفيف وحينئذ لا يُحذف النونُ للإضافة وعلى ذلك جاء قول الشاعر ... دعانيَ من نجدٍ فإن سنينَه لعِبْنَ بنا شيباً وشيَّبْننا مُرْدا وجاء اتلحديث اللهم اجعلْها عليهم سنينَ كسِني يوسُفَ وسنينَ كسنينِ يوسف باللغتين {وَنَقْصٍ مّن الثمرات} بإصابة العاهات عن كعبيأتي على الناس زمانٌ لا تحمل النخلة إلا تمرة قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أما السنونَ فكانت لباديتهم وأهلِ ماشيتِهم وأما نقصُ الثمرات فكان في أمصارهم {لَعَلَّهُمْ يذكرون} كي تذكروا ويتعظوا بذلك ويقِفوا على أن ذلك لأجل معاصيهم وينزجر وأعمالهم عليهِ من العُتوِّ والعِنادِ قال الزجاج إن أحوالَ

الأعراف ى ية 131 132 الشدةِ ترقِّقُ القلوب وترغّب فيما عند الله عوز وجب وفي الرجوع إليه تعالى ألا يُرى إلى قوله تعالى وغذا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ وقد مرَّ تحقيقُ القولِ في لعل وفي محلسها في تفسيرِ قولِه تعالى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ في أوائل سورة البقرة وقوله تعالى

131

{فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة} الخ بيانٌ لعدم تذكّرِهم وتماديهم في الغنى أي فغذا جاءتهم السعةُ والخِصْبُ وغيرُهما من الخيرات {قَالُواْ لَنَا هذه} أي لأجلنا واستحقاقِنا لها {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} أي جدْبٌ وبلاء {يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} أي يتشاءموا بهم ويقولوا ما أصابتنا إلا بشؤمهم وهذا كما ترى شاهدٌ بكمال قساوةِ قلوبِهم ونهايةِ جهلِهم وغباوتِهم فإن الشدائدَ ترقّقُ القلوبَ وتُلين العرائِكَ لا سيما بعد مشاهدةِ الآياتِ وقد كانوا بحيث لم يؤثر فيهم شيءٌ منها بل ازدادوا عتوّاً وعِناداً وتعريفُ الحسنةِ وذِكرُها بأداة التحقيقِ للإيذان بكثرة وقوعِها وتعلقِ الإرادةِ بها بالذات كما أن تنكيرَ السيئةِ وإيرادَها بحرف الشكِّ للإشعار بنُدرة وقوعِها وعدم تعلّقِ الإرادةِ بها إلا بالعَرَض وقوله تعالى {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله} استئنافٌ مَسوقٌ من قِبَله تعالى لردِّ مقالتِهم الباطلةِ وتحقيقِ الحقِّ في ذلك وتصديرُه بكلمة التنبيهِ لإبراز كمالِ العنايةِ بمضمونِه أي ليس سببُ خيرِهم إلا عنده تعالى وهو حكمُه ومشيئتُه المتضمنةُ للحِكَم والمصالحِ أو ليس سبب شؤمِهم وهو أعمالُهم السيئةُ إلا عنده تعالى أي مكتوبةٌ لديه فإنها التي ساقت إليهم ما يسوؤهم لا ما عجاها وقرىء إنما طَيرُهم وهو اسمٌ جمعُ طائرٍ وقيل جمعٌ له {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك فيقولون مكا يقولون مما حُكي عنهم وإسنادُ عدمِ العلمِ إلى أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون أن ما أصابهم من الخير والشرِّ من جهة الله تعالى أو يعلمون أن ما أصابهم من المصائب والبلايا ليس إلا بما كسبتْ أيديهم ولكن لا يعلمون بمقتضاه عنادا واستكبارا

132

{وقالوا} شرو في بيان بعضٍ آخَرَ مما أُخذ به آلُ فرعونَ من فنونِ العذابِ التي هي في أنفسها آياتٌ بيناتٌ وعدمُ ارعوائِهم مع ذلك عمَّا كانوا عليه من الكفر والعناد أي قالوا بعج مارأوا ما رأوا من شأن العصا والسنينَ ونقصِ الثمرات {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ} كلمةُ مهما تستعمل للشرط والجزاءِ وأصلُها ما الجزائية ضُمت إليها ما المزيدةُ للتأكيد كما ضُمّت إلى أين وإن في أينما تكونوا وإما نَذْهَبَنَّ بِكَ خلا أن ألِفَ الأولى قُلبت هاءً حذَراً من تكرير المتجانسين هذا هو الرأيُ السديدُ وقيل مه كلمةٌ يصوِّتُ بها الناهي ضُمّت إليها ما الشرطيةُ ومحلُّها الرفعُ بالابتداء أو النصبُ بفعل يفسره ما بعدها أي أيُّ شيءٍ تظهره لدينا وقوله تعالى {من آية} بيان لمهما وتسميتهم إياها وقوله تعالى {لّتَسْحَرَنَا بِهَا} إظهار لكما الطغيانِ والغلوّ فيه وتسميةِ للإرشاد إلى الحق بالسحر وتسكير الأبصار والضميران المجروران راجعان إلى مهما وتذكيرُ الأولِ لمراعاة جانب اللفظِ لإبهامه

الأعراف آية 133 134 وتأنيثُ الثاني للمحافظة على جانب المعنى لتنبيه بآية كما في قوله تعالى مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ {فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدِّقين لك ومؤمنين لنبوتك

133

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} عقوبةً لجرائمهم لا سيما لقولهم هذا {الطوفان} أي الماءَ الذي طاف به وغشي أما طكنهم وحروثَهم من مطر أو سَيل وقيل هو الجُدَريّ وقي المَوَتان وقيل الطاعون {والجراد والقمل} قيل هو كبارُ القردان وقيل أولادُ الجراد قبل نباتِ أجنحتِها {والضفادع والدم} رُوي أنهم مُطروا ثمانيةَ أيام في ظلمة شديدةٍ لا يستطيع أن يخرُج أحدٌ من بيته ودخل الماءُ بيوتَهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم ولم يدخل بيوتَ بني إسرائيلَ منه قطرةٌ وهي في خلال بيوتِهم وفاض المار على أرشهم وركدَ فمنعَهم من الحرْث والتصرّف ودام ذلك سبعةَ أيام فقالُوا له عليه الصَّلاةُ والسلام ادعُ لنا ربك يكشفْ عنا ونحن نؤمنُ بك فدعا فكُشف عنهم فنبت من العشب والكلأ ما لم يُعهَدْ قبله ولم يؤمنوا فبعث الله عليهم الجرادَ فأكل زروعَهم وثمارَهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابَهم ففزِعوا إليه عليه الصلاة والسلام لما ذكر فخرج إلى الصحراء وأشار بعصاه نحو المشرقِ والمغربِ فرجعت إلى النواحي التي ججاءت منها فلم يؤمنوا فسلط الله تعالى عليهم القُمّلَ فأكل ما أبقته الجرادُ وكان يقع في أطعمتهم ويدخُل بين ثيابهم وجلودِهم فيمُصّها ففزِعوا إليه ثالثاً فرفع عنهم فقالوا قد تحققنا الآن أنك ساحرٌ ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا يكشف ثوبٌ ولا طعام إلا وجدت فيه وكانت تمتلىء منها مضاجعُهم وتثب إلى قدورهم وهي تغلي وإلى أفواههم عند التكلم ففزعوا إليه رابعاً وتضرعوا فأخذ عليهم العُهود فدعا فكشف الله عنهم فنقضوا العهدَ فأرسل الله عليهم الدمَ فصارت مياههم دماءً حتى كان يجتمع القِبطيُّ والإسرائيليُّ على إناء فيكون ما يليه دماً وما يلي الإسرائيليّ ماءً على حاله ويمص من فم الإسرائيليِّ فيصير دماً في فيه وقيل سلط الله عليهم الرُّعاف {آيات} حال من المنصوبات المذكورة {مّفَصَّلاَتٍ} مبينات لا يشكل على عاقل أنَّها آياتُ الله تعالى ونقمته وقيل مفرقات بعضها من بعض لامتحان أحوالهم وكان بين كل آيتين منها شهر وكان امتدادج كل واحدة منهخا أسبوعاً وقيل إنه عليه السلام لبث فيهم بعدَ مَا غلبَ السحرةَ عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل {فاستكبروا} أي عن الإيمان بها {وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها

134

{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز} أي العذاب المذكور على التفصيل فاللامُ للجنس المنتظمِ لكل واحدةٍ من الآيات المفصلة أي كلما وقع عليهم عقوبةٌ من تلك العقوبات قالوا في كل مرة {يا موسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} أي بعهده عندك وهو

الأعراف آية 135 137 النبوةُ أو بالذي عهِد إليك أن تدعوَه فيجيبَك كما أجابك في آياتك وهو صلةٌ لادْعُ أو حالٌ من الضمير فيه بمعنى ادعُ الله متوسلاً إليه بما عهد عندك أو متعلقٌ بمحذوف دلَّ عليه التماسُهم مثلُ أسعِفْنا إلى ما نطلب بحق ما عندك أو قسم أجيب بقوله تعالى {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز} الذي وقع علينا {لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ولنرسلن معك بني إسرائيل} أي أقسَمْنا بعهد الله عندك لئن كشف الخ

135

{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى أَجَلٍ هُم بالغوه} أي إلى حد الزمان هو بالغوه فمعذوبن بعدجه أو مُهلَكون {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} جوابُ لمّا أي فلما كشفنا عنهم فاجئوا النّكْثَ من غير تأمل وتوقف

136

{فانتقمنا مِنْهُمْ} أي فأردنا أن ننتقم منهم لِما أسلفوا من المعاصي والجرائم فإن قوله تعالى {فأغرقناهم} عينُ الانتقام منهم فلا يصح دخول الفاء بينهما ويجوز أن يكون المرادُ مطلقَ الانتقام منهم والفاءُ تفسيرية كما في قوله تعالى وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبّ الخ {فِي اليم} في البحرِ الذي لا يُدرك قعرُه وقيل في لُجّته {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِين} تعليلٌ للإغراق أي كان إغراقُهم بسبب تكذيبِهم بآياتِ الله تعالى وإعراضِهم عنها وعدمِ تفكرِهم فيها بحيث صاروا كالغافلين عنها بالكلية والفاءُ وإن دلت على ترتب الإغراقِ على ما قبله من النكْثِ لكنه صرّح بالتعليل إيذاناً بأن مدارَ جميعِ ذلك تكذيبُ آياتِ الله تعالى والإعراضُ عنها

137

{وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} أي بالاستبعاد وذبحِ الأبناءِ والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبلِ للدَلالةِ على استمرار الاستضعافِ وتجدّدِه وهم بنو إسرائيلَ ذُكروا بهذا العُنوانِ إظهاراً لكمال لُطفِه تعالى بهم وعظيمِ إحسانِه إليهم في رفعهم من حضيض المذلةِ إلى أوْج العزى ة {مشارق الارض ومغاربها} أي جانبيها الشرقيَّ والغربيَّ حيث ملكها بنو إسرائيل بعج الفراعنةِ والعمالقةِ وتصرّفوا في أكنافها الشرقيةِ والغربية كيف شاءوا وقوله تعالى {التى بَارَكْنَا فِيهَا} أي بالخِصْب وسَعةِ الأرزاقِ صفةٌ للمشارق والمغارب وقيل للأرض وفيه ضعفٌ للفصل بين الصفةِ والموصوفِ بالمعطوف كما في قولك قام أو هند وأبوها العاقلةُ {وَتَمَّتْ كلمة رَبّكَ الحسنى} وهي وعدُه تعالى إياهم بالنصر والتمكين كما ينبىء عنه قوله تعالى وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِى الأرض ونحعلهم أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين وقرىء كلماتُ لتعدد المواعيدِ ومعنى تمت مضَت واستمرت {على بني إسرائيل بِمَا صَبَرُواْ}

أي بسبب صبرِهم على الشدائد التي كابدوها من جهة فرعونَ وقومِه {وَدَمَّرْنَا} أي خرّبنا وأهلكنا {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} من العِمارات والقصورِ أي ودمرنا الي كان فرعونُ يصنعه على أن فرعونَ اسمُ كان ويصنع خبرٌ مقدمٌ والجملة الكونيةُ صلةُ ما والعائدُ محذوفٌ وقيل اسمُ كان ضمير عائد إلى ما الموصولةِ ويصنع مُسندٌ إلى فرعون والجملة خبرُ كان والعائدُ محذوف أيضاً والتقدير ودمرنا الذي كان هو يصنعُه فرعونُ الخ وقيل كان كان زائدةٌ وما مصدريةٌ والتقديرُ ما يصنع فرعون الخ وقيل كان زائءدة كما ذكر وما موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوف تقديره ودمرنا الذي يصنعه فرعون الخ أي صُنعَه والعدولُ إلى صيغة المضارعِ على هذين القولين لاستحضار الصورة {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} من الجنات أو ما كانوا يرفعونه من البُنيان كصرح هامانَ وقرىء يعرُشون بضم الراءِ والكسرُ أفصح وهذا آخِرُ قصةِ فرعونَ وقومه وقوله عز وجل

138

{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر} شروعٌ في قصة بني إسرائيلَ وشرحِ ما أحدثوه من الأمور الشنيعةِ بعد أن أنقذهم الله عزَّ وجلَّ من مَلَكة فرعون ومنّ عليهم من النعم العظامِ الموجبةِ للشكر وأراهم من الآيات الكبارِ ما تخِرّ له شمُّ الجبال تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإيقاظاً للمؤمنين حتى لا يغفُلوا عن محاسبة أنفسِهم ومراقبةِ أحوالِهم وجاوز بمعنى جاز وقرىء جوّزنا بالتشديد وهو أيضاً بمعنى جاز فعُدّي بالباء أي قطعنا بهم البحر روي أنه عبر بهم مُوسى عليه السَّلام يوم عاشوراءَ بعد ما أهلكَ الله تعالى فرعون فصاموه شكراً لله عز وجل {فَاتُواْ} أي مروا {على قَوْمٍ} قيل كانوا من لَخْمٍ وقيل من العمالقة الكنعانيين الذين أُمر موسى عليه السلام بقتالهم {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ} أي يواظبون على عبادتها ويلازمونها وقرىء بكسر الكاف قال ابن جريج كانت أصنامُهم تماثيلَ بقرٍ وهو أولُ شأن العجل {قَالُواْ} عندما شاهدوا أحوالهم {يا موسى اجعل لَّنَا إلها} مثالاً نعبده {كما لهم آلهة} الكافُ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لإلها وما موصولة ولهم صلتها وآلهة بدل من ما والتقدير هذا إثرَ ما شاهدوا من الآية الكبرى والمعجزةِ العُظمى فوصفهم بالجهل المطلقِ إذ لا جهل أعظمُ مما ظهر منهم وأكده بقوله

139

{إِنَّ هَؤُلآء} يعني القومَ الذين يعبدون تلك التماثيلَ {مُتَبَّرٌ} أي مُدمّرٌ مكسَّرٌ {مَّا هُمْ فِيهِ} أي من الدين الباطلِ أي يُتبرّ الله تعالى ويهدِم دينَهم الذي هم عليه عن قريب ويحطّم أصنامَهم ويتكرها رُضاضاً وإنَّما جيء بالجملةِ الاسميةِ للدلالةِ على التحقق {وباطل} أي مضمحلٌّ بالكلية {ما كانوا يعملون} من عبادتها وإن كان قصدُهم بذلك التقربِ إلى الله تعالى فإنه كفرٌ محضٌ وليس هذا كما في قوله تعالى وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً كما تُوهم فإن المرادَ به أعمالُ البر التي عملوها في الجاهلية فإنها في أنفسها حسنات

الأعراف آية 140 142 لو قارنت الإيمانَ لاستتبعت أجورَها وإنما بطَلت لمقارنتها الكفرَ وفي إيقاع هؤلاءِ اسماً لإن وتقديمِ الخبر من الجملةِ الواقعةِ خبراً لها وسْمٌ لعبدة الأصنامِ بأنهم هم المُعرَّضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتةَ وأنه لهم ضربةُ لازبٍ ليحذّرهم عاقبةَ ما طلبوا ويُبغِضَ إليهم ما أحبوا

140

{قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها} شروعٌ في بيانِ شئون الله تعالى الموجبةِ لتخصيصِ العبادةِ بهِ تعالى بعد بيانِ أن ما طلبوا عبادتَه مما لا يمكن طلبُه أصلاً لكونه هالكاً باطلاً ولذلك وسّط بينهما قال مع كونِ كلَ منهما كلام موسى عليه الصلاة والسلام والاستفهامُ للإنكار والتعجب والتوبيخِ وإدخالُ الهمزةِ على غير للإيذان بأن المنكو هو كونُ المبْغيِّ غيرَه تعالى لما أنه لاختصاص الإنكار بغيره تعالى دون إنكارِ الاختصاصِ بغيره تعالى وانتصابُ غير على أنه مفعولُ أبغي بحذف اللام أي أبغي لكم أي أطلب لكم غيرَ الله تعالى وإلها إما تمييزا أو حال أو على الحالية من إلها وهو المفعولُ لأبغي على أن الأصلَ أبغي لكم إلها غيرَ الله فغيرَ الله صفةٌ لإلها فلما قُدّمت صفةُ النكرةِ انتصبت حالاً {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين} أي والحالُ أنَّه تعالى خصكم بنعمٍ لم يُعطِها غيرَكم وفيه تنبيهٌ على ما صنعوا من سوء المعاملةِ حيث قابلوا تخصيصَ الله تعالى إياهم من بين أمثالِهم بما لم يستحقوه تفضلا بأن عمجوا إلى أخسّ شيءٍ من مخلوقاته فجعلوه شريكاً له تعالى تباً لهم ولما يعبدون

141

{وإذ نجيناكم} تذكيرٌ لهم من جهته سبحانه بنعمة الإنجاءِ من ملكة فرعون وقرىء نجيناكم من التنجية وقرىء أنجاكم فيكون مَسوقاً من جهة موسى عليه الصلاة والسلام أي واذكروا وقت إنجائِنا إياكم {من آل فرعون} من ملَكتهم لا بمجرد تخليصِكم من أيديهم وهم على حالهم في المَكِنة والقدرة بل بإهلاكهم بالكلية وقوله تعالى {يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب} من سامه خسفاً أي أولاه إياه وكلفه غياه وهو إما استئنافٌ لبيان ما أنجاهم منه أو حال منن المخاطَبين أو من آلِ فرعونَ أو منهما معاً لاشتمالِه على ضميريِهما وقوله تعالى {يُقَتّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} بدلٌ من يسومونكم مُبين أو مفسّرٌ له {وَفِى ذلكم} الإنجاءِ أو سوءِ العذاب {بَلاءٌ} أي نعمةٌ أو محنة {مّن رَّبّكُمْ} من مالك أمرِكم فإن النعمةَ والنقِمةَ كلتاهما منه سبحانه وتعالى {عظِيمٌ} لا يقادَر قدرُه

142

{وواعدنا موسى ثلاثين لَيْلَةً} رُوي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيلَ وهم بمصرَ إن أهلك الله عجوهم أتاهم بكتاب فيه بيانُ ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعونُ سأل موسى عليه السلام ربه الكتابَ فأمره بصومِ ثلاثين يوماً وهو شهرُ ذي القَعدة فلما أتمّ الثلاثين أنكر خُلوفَ فيه فتسوّك

الأعراف آية 143 فقالت الملائكةُ كنا نشم من فيك رائحةَ المسك فأفسدته بالسواك وقيل أوحى الله تعالى إليه أما علمتَ أن ريحَ فمِ الصائمِ أطيبُ عندي من ريح المِسْك فأمره الله تعالى بأن يزظيد عليها عشرةَ أيامٍ من ذي الحِجّة لذلك وذلك قوله تعالى {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} والتعبير عنها بالليالي لأنها غُررُ الشهور وقيل أمره الله تعالى بأن يصوم ثلاثين يوماً وأن يعمل فيها بما يقرّبه من الله تعالى ثم أنزلت عليه التوراةُ في العشر وكلم فيها وقد أُجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة وفصل ههنا وواعدنا بمعنى وعدْنا وقد قرىء كذلك وقيل الصيغةُ على بابها بناءً على تنزيل قَبول موسى عليه السلام منزلةَ الوعدِ وثلاثين مفعولٌ ثانٍ لواعدنا بحذف المضاف أي إنما ثلاثين ليلةً {فَتَمَّ ميقات رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} أي بالغا أربعين ليلة {وَقَالَ موسى لاِخِيهِ هارون} حين توجه إلى المناجاة حسبما أُمر به {اخلفنى} أي كن خليفتي {فِى قَوْمِى} وراقِبْهم فيما يأتُون وما يَذَرُون {وَأَصْلِحْ} ما يحتاج إلى الإصلاح من أمورهم أو كن مصلحاً {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} أي لا تتبع مَنْ سلك الإفسادَ ولا تُطِعْ من دعاك إليه

143

{وَلَمَّا جَاء موسى لميقاتنا} لوقتنا الذي وقتنا واللامُ للاختصاص أي اختَصَّ مجيئُه بميقاتنا {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} من غير واسطةٍ كما يكلِّمُ الملائكةَ عليهم السَّلامُ وفيما روي أنه عليه الصلاةُ والسلام كان يسمع ذلك من كل جهةٍ تنبيهٌ على أن سماع كلامه عزَّ وجلَّ ليس من جنس سماعِ كلام المحدّثين {قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} أي أرني ذاتك بأن تمكنني من رؤيتك أو تتجلى لي فأنظرَ إليك وأراك وهو دليلٌ على أن رؤيتَه تعالى جائزةٌ في الجملة لما أن طلبَ المستحيلِ مستحيلٌ من الأنبياء لا سيما ما يقتضي الجهل بشئون الله تعالى ولذلك رده بقوله تعالى لن تراني دون لن أرى ولن أُرِيَك ولن تنظُرَ إليّ تنبيهاً على أنه قاصرٌ عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي ولم يوجد فيه ذلك بعد وجعل الؤال لتبكيت قومِه الذين قالوا أرنا الله جهرةً خطأٌ إذ لو كانت الرؤيةُ ممتنعةً لوجب أن يُجهِّلَهم ويُزيحَ شبهتَهم كما فعل ذلك حين قالوا اجعل لَّنَا إلها وأن لا يتبعَ سبيلَهم كما قال لأخيه ولا تتبعْ سبيلَ المفسدين والاستدلالُ بالجواب على استحالتها أشدُّ خطأً إذ لا يدل الإخبارُ بعدم رؤيتِه إياه على أنه لا يراه ابدا وأن لا يراه غيرُه أصلاً فضلاً عن أن يدل على استحالتها ودعوى الضرورةِ مكابرة أو جهل لحقيقة الرؤية {قَالَ} استئنافٌ مبني على سؤالٍ نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ ربُّ العزة حين قال موسى عليه السلام ما قل فقيل قال {لَن تَرَانِى ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِى} استدراكٌ لبيان أنه لا يُطيق بها وفي تعليقها باستقرار الجيل أيضاً دليلٌ على الجواز ضرورةَ أن المعلَّق بالممكن ممكنٌ والجبلُ قيل هو جبل أردن {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} أي ظهرت له عظمتُه وتصدّى له اقتدارُه وأمرُه وقيل أُعطي الجبلُ حياةً ورؤيةً حتى رآه {جَعَلَهُ دَكّا} مدكوكاً مُفتّتاً والدكُّ والدقُّ أخَوَان كالشك والشق

الأعراف آية 144 145 وقرىء دَكَّاء أي أرضاً مستويةً ومنه ناقةٌ دكاءُ للتي لا سنامَ لها وقرىء دُكاً جمعُ دكّاءَ أي قطعاً {وخر موسى صعقا} منغشيل عليه من هول ما رآه {فَلَمَّا أَفَاقَ} الإفاقةُ رجوعُ العقلِ والفهم إلى الإنسان بعد ذهابِهما بسبب من الأسباب {قَالَ} تعظيماً لما شاهدجه {سبحانك} أي تنزيهاً لك من أن أسألك شيئاً بغير إذنٍ منك {تُبْتُ إِلَيْكَ} أي من الجراءة والإقدامِ على السؤال بغير إذن {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} أي بعظمتك وجلالِك وقيل أولُ من آمن بأنك لا تُرى في الدنيا وقيل بأنه لا يجوز السؤال بغير إذن منك

144

{قَالَ يَا موسى} استئنافٌ مسوق لتسليته عليه الصلاة والسلام من عدم الإجابةِ إلى سؤال الرؤيةِ كأنه قيل إن منعتُك الرؤيةَ فقد أعطيتك من النعم العظامِ ما لم أعْطِ أحداً من العالمين فاغتنِمْها وثابرْ على شكرها {إِنْى اصطفيتك} أي اخترتُك واتخذتُك صفوةً وآثرتُك {عَلَى الناس} أي المعاصرين لك وهرون إن كان نبياً كان مأموراً باتباعه وما كان كَليماً ولا صاحبَ شرعٍ {برسالاتي} أي بأسفار التوراةِ وقرىء برسالتي {وبكلامي} وبتكليمي أياك بغير واسطة {فَخُذْ مَا آتيتك} أي أعطيتك من شرف النبوةِ والحكمة {وَكُنْ مّنَ الشاكرين} على ما أُعطيت من جلائل النعمِ قيل كان سؤالُ الرؤيةِ يوم عرفةَ وإعطاءُ التوراةِ يومَ النحر

145

{وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الالواح مِن كُلّ شَىْء} أي مما يحتاجونَ إليهِ من أمورِ دينِهم {مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء} بدلٌ من الجارّ والمجرور أي كتبنا له كلَّ شيءٍ من المواعظ وتفصيلِ الأحكام واختُلف في عدد الألواحِ وفي جوهرها ومقدارِها فقيل إنها كانت عشَرةَ ألواحٍ وقيل سبعةً وقيل لوحين وأنها كانت من زمردة جاء بها جبريلُ عليه السَّلامُ وقيل من زَبَرْجَدةٍ خضراءَ أو ياقوتةٍ حمراءَ وقيل أمر الله تعالى موسى بقطعها من صخرة صماء لينهاله فقطعها بيده وضققها بأصابعه وعن الحسنِ رضيَ الله عنه كانت من خشب نزلت من السماء فيها التوراةُ وأن طولَها كان عشَرةَ أذرُع وقيل أُنزلت التوراةُ وهي سبعون وِقْرَ بعيرٍ يقر الجزءُ منه في سنة لم يقرأها إلا أربعةُ نفرٍ موسى ويوشعُ وعُزيرٌ وعيسى عليهم السلام وعن مقاتل رضي اللعه عنه كُتب في الألواح إني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشرِكوا بي شيئاً ولا تقطعوا السبيلَ ولا تزْنوا ولا تعقُّوا الوالدين {فَخُذْهَا} على إضمار قولٍ معطوف على كتبنا فقلنا خذها {بِقُوَّةٍ} بجدَ وعزيمة وقيلَ هو بدلٌ من قوله تعالى فَخُذْ ما آتيتك والضمير للألوالح أو لكل شيءٍ لأنه بمعنى الأشياء أو للرسالة أو للتوراة {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} أي بأحسنِ ما فيها كالعفو والصبر بالإضافة إلى الاقتصاص والانتصارِ على طريقة الندبِ والحثِّ على اختيار الأفضل كما في قوله تعالى واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ أو بواجباتها فإنها

الأعراف آية 146 أحسنُ من المباح وقيل المعنى بأخذوا بها وأحسن صلةٌ قال قُطرُب أي بحسَنها وكلُّها حسنٌ كقوله تعالى وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ وقيل هو أن تُحمل الكلمةُ المحتملةُ لمعنيين أو لمعان على أشبه محتملانها بالحق وأقربِها إلى الصواب {سأريكم دَارَ الفاسقين} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى قومِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بطريق الالتفاتِ حملاً لهم على الجد في الامتثال بما أُمروا به إما على نهج الوعيدِ والترهيب على أن المرادَ بدار الفاسقين أرضَ مصرَ وديارُ عادٍ وثمودَ وأضرابِهم فإن رؤيتها وهي الخالية عن أهلها خاويةٌ على عروشها موجبةٌ للاعتبار والانزجارِ عن مثل أعمالِ أهلِها كيلا يحِلَّ بهم ما حل بأولئك وإما على نهج الوعدِ والترغيبِ على أن المرادَ بدار الفاسقين إما أرضُ مصرَ خاصةً أو مع أرض الجبابرةِ والعمالقةِ بالشام فإنها أيضاً مما أتيح لبني إسرائيلَ وكُتب لهم حسبما ينطِق به قوله عز وجل يا قوم ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ومعنى الإراءةِ الإدخالُ بطريق الإيراثِ ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ سأوُرثكم بالثاء المثلثة كما في قوله تعالى وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها وقرىء سأُوريكم ولعله من أورَيْتُ الزند أي سأبينها لكم وقوله تعالى

146

{سأصرف عن آياتي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الارض} استئنافٌ مَسوقٌ لتحذيرهم عن التكبر الموجبِ لعدم التفكرِ في الآيات التي هي ما كتب في ألواح التوراةِ من المواعظ والأحكامِ أو ما يعمُّها وغيرَها من الآيات التكوينيةِ التي من جملتها ما وعد إراءته من دار الفاسقين ومعنى صرفِهم عنها الطبعُ على قلوبهم بحيث لا يكادون يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر كقوله تعالى فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ وتقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخر مع أن في المؤخر نوع كول يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظمِ الجليلِ أي سأطبع على قلوب الذين يعدّون أنفسَهم كُبراءَ ويرَوْن لهم على الخلق مزِيةً وفضلاً فلا ينتفعون بآياتي التنزيليةِ والتكوينيةِ ولا يغتنمون مغانمَ آثارِها فلا تسلُكوا مسلكَهم لتكونوا أمثالهم وقيل المعنى سأصرِفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعونُ في إبطال ما رآه من الآيات فأبى الله تعالى إلا إحقاقَ الحقِّ وإزهاقَ الباطل وعلى هذا فالأنسبُ أن يُرادَ بدار الفاسقين أرضُ الجبابرةِ والعمالقة والمشهورين بالفسق والتكبر في الأرض ووبإراءتها للمخاطَبين إدخالُهم الشامَ وإسكانُهم في مساكنهم ومنازلِهم حسبما نطق به قوله تعالى يا قوم ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ويكون قولُه تعالى سَأَصْرِفُ عَنْ آياتي الخ جواباً عن سؤال مقدَّرٍ ناشىءٍ من الوعد بإدخال الشامِ على أن المرادَ بالآيات ما تُلي آنفاً ونظائرُه وبصرفهم عنها إزالتُهم عن مَقام معارضتِها وممانعتِها لوقوع أخبارِها وظهور أحكامِها وآثارِها بإهلاكهم على يد موسى عليه الصلاةُ والسلامُ حين سار بعد التّيهِ بمن بقيَ من بني إسرائيل

الأعراف آية 147 148 أو بذرياتهم على اختلاف الروايتين إلى أريحا ويوشعُ بنُ نونٍ في مقدمته ففتحها واستقر بنو إسرائيلَ بالشام وملكوا مشارقَها ومغاربَها كأنه قيل كيف يرون دارهم وهم فيها فقيل سأُهلِكُهم وإنما عدل إلى الصَرْف ليزدادوا ثقةً بالآيات واطمئناناً بها وقوله تعالى {بِغَيْرِ الحق} إما صلةٌ للتكبر أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينُهم الباطلُ وظلمُهم المُفْرِطُ أو متعلقٌ بمحذوف هو حال من فاعله أي يتكبرون ملتبسين بغير الحق وقوله تعالى {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها} عطفٌ على يتكبرون داخلٌ معه في حكم الصلة والمراد بالآية إما منزلة فالمرادُ برؤيتها مشاهدتُها بسماعها أو ما يعمُّها وغيرَها من المعجزات فالمرادُ برؤيتها مطلقُ المشاهَدةِ المنتظمةِ للسماع والإبصار أي وإن يشاهِدوا كُلَّ آيَةٍ من الآيات لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا على عمومِ النفي لا على نفي العُموم أي كفروا بكل واحدة منها لعدم اجتلائِهم إياها كما هي وهذا كما ترى يؤيد كونَ الصرفِ بمعنى الطبع وقوله تعالى {وإن يروا سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} عطفٌ على ما قبله داخلٌ في حُكمهِ أيْ لا يتوجهون إلى الحق ولا يسلُكون سبيله أصلاً لاستيلاء الشيطنةِ عليهم ومطبوعتهم على الانحراف والزيغ وقرىء بفتحتين وقرىء الرشادِ وثلاثتُها لغات كالسقم والسقم والسقام {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغى يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} أي يختارونه لأنفسهم مسلَكاً مستمراً لا يكادون يعدِلون عنه لموافقته لأهوائهم الباطلةِ وإفضائه بهم إلى شهواتهم {ذلك} إشارة إلى ما ذكر من تكبُّرهم وعدمِ إيمانهم بشي من الآيات وإعراضِهم عن سبيل الرشدِ وإقبالِهم التامّ إلى سبيل الغيِّ وهو مبتدأٌ خبرُهُ قولُه تعالى {بِأَنَّهُمْ} أي حاصلٌ بسبب أنهم {كذبوا بآياتنا} الدالةِ على بطلان ما اتصفوا به من القبائح وعلى حقية أضدادِها {وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين} لا يتفكرون فيها وإلا لما فعلُوا ما فعلُوا من الأباطيل ويجوز أن يكون إشارة إلى ما ذكر من الصرف ولا يمنعُه الإشعارُ بعلية مَا في حيزِ الصلةِ كيف لا وقد مر أن ذلك في قولِه تعالَى ذلك بِمَا عَصَواْ الآية يجوزُ أن يكون إشارةً إلى ضرب الذِلة والمسكنةِ والبَوْءِ بالغضب العظيمِ مع كون ذلك معللا بالكفر بآيان الله صريحاً وقيل محلُّ اسمِ الإشارةِ النصبُ على المصدر أي سأصرفهم ذلك الصَّرْفَ بسبب تكذيبِهم بآياتنا وغفلنتهم عنها

147

{والذين كذبوا بآياتنا وَلِقَاء الاخرة} أي وبلقائهم الدارَ الآخرةَ أو لقائهم ما وعده الله تعالى في الآخرة من الجزاء ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على الابتداءِ وقولُه تعالَى {حَبِطَتْ أعمالهم} خبرُه أي ظهر بُطلانُ أعمالِهم التي كانوا عمِلوها من صلة الأرحامِ وإغاثةِ الملهوفين ونحوِ ذلك أو حبطت أعمالهم بعد ما كانت مرجُوَّةَ النفعِ على تقدير إيمانهم بها {هَلْ يُجْزَوْنَ} أي لا يُجزون {إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي الإجزاءَ ما كانوا يعملونه من الكفر والمعاصي

148

{واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ} أي من بعد ذهابِه إلى الطور {مِنْ حُلِيّهِمْ} متعلقٌ باتخذ كالجارِّ الأول لاختلاف معنييهما فإن الأول للابتداء

العراف آية 149 والثاني للتبعيض أو للبيان أو الثاني متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً مما بعده إذ لو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ وإضافةُ الحُلِيِّ إليهم مع أنها كانت للقِبْط لأدنى الملابسة حيث كانوا استعاروها من أربابها قُبيل الغرقِ فبقِيَتْ في أيديهم وأما أنهم ملكوها بعد الغرقِ فذلك منوطٌ بتملك بني إسرائيلَ غنائمَ القِبطِ وهم مستأمَنون فيما بينهم فلا يساعده قولُهم حُمّلْنَا أَوْزَاراً مّن زِينَةِ القوم والحلي بضم الحاء وكسر اللام جمعُ حَلْيٍ كثَدْيٍ وثُدِيّ وقرىء بكسر الحاء بالإتباع كدِليّ وقرىء حَلْيِهم على الإفراد وقوله تعالى {عِجْلاً} مفعولُ اتخذ أُخِّر عن المجرور لما مرَّ من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يُخِلّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم وقيل هو متعدَ إلى اثنين بمعنى التصيير والمفعول الثاني محذوفٌ أي إلها وقوله تعالى {جَسَداً} بدلٌ من عجلا أو جُثةً ذا دمٍ ولحمٍ أو جسداً من ذهب لا روحَ معه وقوله تعالى {لَّهُ خُوَارٌ} أي صوتُ بقر وقرىء بالجيم والهمزة وهو الصياح نعتٌ لعجلاً روي أن السامريَّ لما صاغ العجلَ ألقى في فمه تراباً من أثر فرسِ جبريل عليه الصلاةُ والسلامُ وقد كان أخذه عند فلْقِ البحر أو عند توجُّهِه إلى الطور فصار حيّاً وقيل صاغه بنوع من الحيل فيدخُلُ الريحُ في جوفه فيصوِّت والأنسبُ بما في سورة طه هو الأولُ وإنما نُسبَ اتخاذُه إليهم وهو فعلُه إما لأنه واحد منهم وإما لأنهم رضُوا به فكأنهم فعلوه وإما لأن المرادَ بالاتخاذ اتخاذُهم إياه إلها لا صنعُه وإحداثُه {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ} استئنافٌ مَسوقٌ لتقريعهم وتشنيعِهم وتركيكِ عقولِهم وتسفيهِهم فيما أقدموا عليه من المنكر الذي هو اتخاذُه إلها أي ألم يرَوا أنه ليس فيه شيءٌ من أحكام الألوهية حيث لا يكلمهم {وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} بوجه من الوجوه فكيف اتخذوه إلها وقوله تعالى {فاتخذوه} أي فعلوا ذلك {وَكَانُواْ ظالمين} أي واضعين للأشياء في غير موضعِها فلم يكن هذا أولَ منكرٍ فعلوه والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ وتكريرٌ اتخذوه لتثنية التشنيعِ وترتيبِ الاعتراض عليه

149

{وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ} أي ندموا غايةَ الندمِ فإن ذلك كنايةٌ عنه لأن النادمَ المتحسِّرَ يعَضُّ يدَه غماً فتصير يدُه مسقوطاً فيها وقرىء سقَطَ على البناء للفاعل بمعنى وقع العضُّ فيها فاليدُ حقيقةٌ وقال الزجاج معناه سقَط الندمُ في أنفسهم إما بطريق الاستعارةِ بالكناية أو بطريق التمثيل {وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ} باتخاذ العجلِ أي تبيّنوا بحيث تيقنوا بذلك حتى كأنهم رأَوْه بأعينهم وتقديمُ ذكرِ ندمِهم على هذه الرؤيةِ مع كونه متأخرا عنها للمساعرة إلى بيانه والإشعارِ بغاية سُرعتِه كأنه سابقٌ على الرؤية {قَالُواْ} والله {لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} بإنزال التوبةِ المكفرة {وَيَغْفِرْ لَنَا} ذنوبَنا بالتجاوز عن خطيئتنا وتقديمُ الرحمةِ على المغفرة مع أن التخليةَ حقُّها أن تُقدَّم على التحلية إما للمسارعة إلى ما هو المقصودُ الأصليّ وإما لأن المرادَ بالرحمة مطلقُ إرادةِ الخير بهم وهو مبدأٌ لإنزال التوبةِ المكفرة لذنوبهم واللامُ في لئن موطئةٌ للقسم كما أشير إليه وفي قوله تعالى {لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} لجواب القسمِ وما حُكي عنهم من الندامة والرؤية والقولِ وإن كان بعد

الأعراف آية 150 ما رجع موسى عليه الصلاة والسلام إليهم كما ينطِق به الآياتُ الواردة في سورة طه لكن أريد بتقديمه عليه حكايةُ ما صدرَ عنهُم من القول والفعلِ في موضع واحد

150

{وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ} شروعٌ في بيان ما جرى مِن موسى عليه السَّلام بعد رجوعِه من الميقات إثرَ بيانِ ما وقع من قومه بعده وقولُه تعالى {غضبان أَسِفًا} حالان مِن مُوسى عليه السَّلام أو الثاني من المستكنّ في غضبانَ والآسِفُ الشديدُ الغضبِ وقيل الحزين {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى} أي بئسما فعلتم من بعد غَيْبتي حيث عبدتم العجلَ بعد ما رأيتم فعلي من توحيد الله تعالى ونفيِ الشركاءِ عنه وإخلاصِ العبادةِ له أو من حملكم على ذلك وكفِّكم عما طمَحَت نحوه أبصارُكم حيث قلتم اجعلْ لنا إلها كما لهم آلهةٌ ومن حق الهلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلِفِ فالخطابُ للعبَدَة من السامريِّ وأشياعِه أو بئسما قمتم مقامي ولم تراعوا عهدي حيث لم تكفوا العبَدَةَ عما فعلوا فالخطابُ لهرون وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ كما ينبىء عنه قوله تعالى قال يا هرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ أَن لا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى ويجوزُ أن يكونَ الخطابُ للكل على أن المرادَ بالخليفة ما يعم الأمرين المذكورين وما نكرةٌ موصوفةٌ مفسِّرةٌ لفاعل بئس المستكنِّ فيه والمخصوصُ بالذم مححذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونبها من بعدي خلافتُكم {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ} أي تركتموه غيرَ تام على تضمين عجِلَ معنى سبَق يقال عجِل عن الأمر إذا تركه غيرَ تام أو أعجِلتم وعدَ ربِّكم الذي وعدجنيه من الأربعين وقدّرتم موتي وغيّرتم بعدي كما غيرت الأممُ بعد أنبيائِهم {وَأَلْقَى الألواح} طرحا من شدة الغضبِ وفرطِ الضجر حميةً للدين روي أن التوراةَ كانت سبعةَ أسباعٍ في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفعت ستةُ أسباعِها التي كان فيها تفصيلُ كلِّ شيءٍ وبقي سُبعٌ كان فيه المواعظ والأحكان {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} بشعر رأسِه عليهما السلام {يَجُرُّهُ إليه} حال من ضمير أخذ فعلَه عليه السلام توهما أنه قصّر في كفهم وهرون كان أكبرَ منه عليهما السلام بثلاث سنينَ وكان حَمولاً ولذلك كان أحبَّ إلى بني إسرائيل {قَالَ} أي هرون لما أن حقّ الأمِّ أعظمُ وأحقُّ بالمراعاة مع أنها كانت مؤمنةً وقد قاست فيه المخاوفَ والشدائد وقرىء بكسر الميم بإسقاط الياءِ تخفيفا كالمنادى المضاف إلى الياء وقراءةُ الفتح لزيادة التخفيف أو لتشبيهه بخمسةَ عشرَ {إِنَّ القوم استضعفونى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى} إزاحةً لتوهم التقصيرِ في حقه والمعنى بذلتُ جُهدي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا قتلي {فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ الاعداء} أي فلا تفعلْ بي ما يكون سبباً لشماتتهم بي {وَلاَ تَجْعَلْنِى مَعَ القوم الظالمين} أي معدوداً في عدادهم بالمؤاخذة أو النسبة إلى التقصير وهَذا يؤيدُ كونَ الخطابِ للكل أولا تعتقد أني واحدٌ من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم

الأعراف آية 151 152

151

{قال} استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ اعتذار هرون عليه السلام كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ موسى عند ذلكَ فقيل قال {رَبّ اغفر لِى} أي ما فعلتُ بأخي من غير ذنبٍ مقرِّرٍ من قِبَله {وَلأَخِى} إن فرَطَ منه تقصيرٌ ما في كفهم عما فعلوه من العظيمة استغفرَ عليه السلام لنفسه ليُرضِيَ أخاه ويُظهر للشامتين رضاه لئلا تتم شماتتُهم به ولأخيه للإيذان بأنه محتاجٌ إلى الاستغفار حيث كان يجبُ عليه أنْ يقاتلَهم {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ} بمزيد الإنعامِ بعد غُفران ما سلف منا {وَأَنتَ أرحم الراحمين} فلا غَرْوَ في انتظامنا في سلك رحمتِك الواسعةِ في الدنيا والآخرة والجملةُ اعتراض تذييلي مقرر لما قبله

152

{إِنَّ الذين اتخذوا العجل} أي تمّوا على اتخاذه واستمروا على عبادته كالسامريِّ وأشياعِه من الذين أُشربوه في قلوبهم كما يُفصح عنه كونُ الموصولِ الثاني عبارةً عن التائبين فإن ذلك صريحٌ في أن الموصولَ الأولَ عبارةٌ عن المصِرّين {سَيَنَالُهُمْ} أي في الآخرة {غَضَبٌ} أي عظيمٌ لا يُقادرُ قدرُه مستتبِعٌ لفنون العقوباتِ لما أن جريمتَهم أعظمُ الجرائم وأقبحُ الجرائر وقولُه تعالى {مّن رَّبّهِمُ} أي مالكِهم متعلقٌ بينا لهم أو بمحذوف هو نعتٌ لغضبٍ مؤكِّدٌ لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنٌ من ربهم {وَذِلَّةٌ فِى الحياة الدنيا} هي ذلةُ الاغترابِ التي تُضرب بها الأمثال والمسكنة المتنظمة لهم ولأولادهم جميعاً والذلةُ التي اختص بها السامريُّ من الانفراد عن الناس والابتلاء بلا مِساس يروى أن بقاياهم اليومَ يقولون ذلك وإذا مس أحدَهم أحدٌ غيرُهم حُمّاً جميعاً في الوقت وإيرادُ ما نالهم في حيز السين مع مُضِيِّه بطريق تغليب حالِ الأخلافِ على حال الأسلاف وقيل المرادُ بهم التائبون وبالغضب ما أُمروا به من قتل أنفسِهم واعتُذر عن السين بأن ذلك حكايةٌ عما أخبر الله تعالى به موسَى عليهِ السلامُ حين أخبره بافتتان قومِه واتخاذِهم العجلَ بأنه سينالهم غضبٌ من ربهم وذلةٌ فيكون سابقاً على الغضب وأنت خبيرٌ بأن سباقَ النظم الكريم وسياقَه نابيان عن ذلك نُبوّاً ظاهراً كيف لا وقوله تعالى {وكذلك نَجْزِى المفترين} ينادي على خلافه فإنهم شهداءُ تائبون فكيف يمكن وصفهم بعج ذلك بالافتراء وأيضاً ليس يجزي الله تعالى كلَّ المفترين بهذا الجزاءِ الذي ظاهرُه قهرٌ وباطنُه لطفٌ ورحمة وقيل المرادُ بهم أبناؤهم المعاصِرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن تعييرَ الأبناءِ بأفاعيلِ الآباء مشهورٌ معروفٌ منه قولُه تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا الآية وقولُه تعالى وإذ قلتم يا موسى الآية والمرادُ بالغضب الغضبُ الأخرويُّ وبالذلة ما أصابهم من القتل والإجلاءِ وضربِ الجزية عليهم وقيل المرادُ بالموصول المتّخِذون حقيقةً وبالضمير في ينالُهم أخلافُهم ولا ريب في أن توسيطَ حالِ هؤلاء في تضاعيف بيانِ حالِ المتخِذين من قبيل الفصل بين الشجر ولِحائه

153

{والذين عَمِلُواْ السيئات} أيَّ سيئة كانت

الأعراف آية 153 155 {ثُمَّ تَابُواْ} عن تلك السيئات {مِن بَعْدِهَا} أي من بعد عملها {وآمنوا} إيماناً صحيحاً خالصاً واشتغلوا بإقامة ما هو من مقتضياته من الأعمال الصالحةِ ولم يُصروا على ما فعلوا كالطائفة الأولى {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} أي من بعد تلك التوبةِ المقرونةِ بالإيمان {لَغَفُورٌ} للذنوب إن عظُمت وكثُرت {رَّحِيمٌ} مبالِغٌ في إفاضةِ فنونِ الرحمةِ الدنيويةِ والأخروية والتعرّضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام للتشريف

154

{وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب} شروعٌ في بيان بقية الحكاية غثر ما بيّن تحزب القوم إلى مصر وتائب والإشارةِ إلى مآل كلَ منهما إجمالاً أي لما سكن عنه الغضبُ باعتذار أخيه وتوبةِ القوم وهذا صريحٌ في أنَّ ما حُكي عنهم من الندم وما يتفرّع عليه كان بعد مجىء موسى عليه الصلاة والسلام وفي هذا النظم الكريمِ من البلاغة والمبالغةِ بتنزيل الغضبِ الحاملِ له عَلَى ما صَدَرَ عنْهُ من الفعل والقول منزلةَ الآمرِ بذلك المُغري عليه بالتحكم والتشديد والتعبير عن شكوته بالسكوت ما لا يخفى وقرىء سَكَن وسكَت وأسكتَ على أن الفاعل هو الله تعالى أو أخوه أو التائبون {أَخَذَ الالواح} التي ألقاها {وَفِى نُسْخَتِهَا} أي فيما نُسخ فيها وكُتب فُعلة بمعنى مفعول كالخُطبة وقيل فيما نسخ منها أي من الألواح المنكسرة {وهدى} أي بيانٌ للحق {وَرَحْمَةً} للخلق بإرشادهم إلى ما فيه الخيرُ والصلاح {لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ} اللامُ الأولى متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لرحمة أي كائنةٌ لهم أو هي لامُ الأجَل أي هدى ورحمةٌ لأجلِهم والثانيةُ لتقوية عمل الفعلِ المؤخّر كما في قوله تعالى إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ أو هي أيضاً لامُ العلة والمفعولُ محذوفٌ أي يرهبون المعاصيَ لأجل ربهم لا للرياء والسمعة

155

{واختار موسى قَوْمَهُ} شروعٌ في بيانِ كيفيةِ استدعاءِ التوبةِ وكيفية وقوعِها واختار يتعدّى إلى اثنين ثانيهما مجرورٌ بمن أي اختار من قومه بحذفِ الجارِّ وإيصالِ الفعلِ إلى المجرور كما قوله ... اختارك الناسَ إذْ رثت خلائقهم واعتنل مَنْ كان يُرجَى عنده السُّولُ أي اختارك من الناس {سَبْعِينَ رَجُلاً} مفعولٌ لاختار أُخِّر عن الثاني لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر {لميقاتنا} الذي وقتناه بعد ما وقع من قومه ما وقع لا لميقاتِ الكلام الذي ذكر

الأعراف آية 155 قبل ذلك كما قيل قال السدي أمره الله تعالى بأن يأتيَه في ناس من بني إسرائيلَ يعتذرون إليه تعالى من عبادة العجلِ ووعدهم موعداً فاختار عليه السلام من قومه سبعين رجلاً وقال محمد بن إسحق اختارهم ليتوبوا إليه تعالى مما صنعوه ويسألوه التوبةَ على من ترطكوهم وراءهم من قومهم قالوا اختار عليه الصلاة والسلام من كل سِبطٍ ستةً فزاد اثنانِ فقال ليتخَلَّفْ منكم رجلان فتشاحّوا فقال عليه الصلاة والسلام إن لمن قعد مثلَ أجرِ من خرج فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويُطهِّروا ثيابهم فخرج بهم إلى طور سيناء فلما دنَوا من الجبل غشية غمانم فدخل موسى بهم الغمامَ وخرّوا سُجّداً فسمِعوه تعالى يكلم موسى يأمرُه وينهاه حسبما يشاءُ وهو الأمرُ بقتل أنفسِهم توبةً {فَلَمَّا أخذتهم الرجفة} مما اجترءوا عليه من طلب الرؤيةِ فإنه يروى أنه لما انكشف الغمامُ أقبلوا إلى مُوسى عليهِ السَّلامُ وقالُوا لن نؤمنَ لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الرجفةُ أي الصاعقةُ أو رجفةُ الجبل فصُعِقوا منها أي ماتوا ولعلهم أرادوا بقولهم لن نؤمنَ لك لن نصدِّقك في أن الآمر بما سمعنا من الأمرَ بقتل أنفسِهم هو الله تعالى حتى نراه حيث قاسوا رؤيتَه تعالى على سماع كلامِه قياساً فاسداً فحين شاهد موسى تلك الحالةَ الهائلة {قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ} أي حين فرّطوا في النهي عن عبادة العجلِ وما فارقوا عبَدَتَه حين شاهدوا إصرارَهم عليها {وإياى} أيضاً حين طلبتُ منك الرؤيةَ أي لو شئتَ إهلاكَنا بذنوبنا لأهلكتَنا حينئذ أراد به عليه السلام تذكيرَ العفوِ السابقِ لاستجلاب العفوِ اللاحقِ فإن الاعتراف باتلذنب والشكرَ على النعمة مما يربِط العتيدَ ويستجلب المزيد يعني إنا كنا مستحقين للإهلاك ولم يكن من موانعه إلا عدمُ مشيئتِك إياه فحيث لطَفْتَ بنا وعفوتَ عنا تلك الجرائمَ فلا غروَ في أنْ تعفوَ عنا هذه الجريمةَ أيضاً وحملُ الكلام على التمني يأباه قوله تعالى {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا} أي الذين لا يعلمون تفاصيل شئونك ولا يتثبتون في المداحض والهمزةُ إما لإنكار وقوعِ الإهلاكِ ثقةً بلطف الله عزَّ وجلَّ كما قاله ابن الأنباري أو للاستعطاف كما قاله المبرد أي لا تهلكنا {إن هى إلا فتنتك} استئناف مقرر لما قبله واعتذارٌ عما صنعوا ببيان منشأ غلطِهم أي ما الفتنةُ التي وقع فيها السفهاءُ وقالوا بسببها ما قالوا من العظيمة إلا فتنتُك أي محنتُك وابتلاؤك حيث أسمعتهم كلامك فاتتنوا بذلك ولم يتثبتوا فطمِعوا فيما فوق ذلك تابعين للقياس الفاسد وقوله تعالى {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء} إما استئنافٌ مبينٌ لحُكم الفتنةِ أو حالٌ من فتنتك أي حالَ كونِها مضِلاًّ بها الخ أي تُضل بسلببها من تشاء إضلالَه فلا يهتدي إلى التثبت وتهدي من تشاء هِدايتَه إلى الحق فلا يتزلزل في أمثالها فيقوى بها غيمانه {أَنتَ وَلِيُّنَا} أي القائمُ بأمورنا الدنيويةِ والأخرويةِ وناصرُنا وحافظُنا لا غيرُك {فاغفر لَنَا} ما قارفناه من المعاصي والفاءُ لترتيب الدعاءِ على مكا قبله من الولاية كأنه قيل فمن شاء الوليِّ المغفرةُ والرحمةُ وقيل إن إقدامه عليه الصلاة والسلام على أن يقولُ إِنْ هِىَ إِلاَّ فتنتُك الخ جراءةٌ عظيمةٌ فطلب من الله تعالى غفرانها والتجاوزَ عنهات {وارحمنا} بإفاضة آثار الحمة الدنيويةِ والأخروية علينا {وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين} اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله من الدعاء وتخصيصُ المغفرةِ بالذكر لأنها الأهمُّ بحسب المقام

الأعراف آية 156

156

{واكتب لَنَا} أي عيِّنْ لنا وقيل أوجِبْ وحقِّقْ وأثبتْ {فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ} أي نعمةً وعافيةً أو خَصلة حسنةً قال ابن عباس رضي الله عنهما اقبَلْ وِفادتَنا ورُدَّنا بالمغفرة والرحمة {وَفِي الاخرة} أي واكتبْ لنا فيها أيضاً حسنةً وهي المثوبةُ الحسنى والجنة {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أي تُبْنا وأنبْنا إليك من هاد يهودُ إذا رجَع وقرىء بكسر الهاء من هاده يهيدُه إذا حرَّكه وأماله ويحتمل أن يكون مبنياً للفاعل أو للمفعول بمعنى أمَلْنا أنفسَنا أو أمِلْنا إليك وتجويزُ أن تكون القراءةُ المشهورةُ على بناء المفعول على لغة من يقول عودَ المريضُ مع كونها لغةً ضعيفةً مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل الدعاءِ فإن التوبة مما يوجي قبله بموجَب الوعدِ المحتوم وتصديرُها بحرف التحقيق لإظهار كمال النشاطِ والرغبةِ في التوبة والمعنى إنا تُبنا ورجَعْنا عما صنعنا من المعصية العظيمةِ التي جئناك للاعتذار عنها وعما وقع ههنا من طلب الرؤية فيعيد من لطفك وفضلك أن لا تقبلَ توبةُ التائبين قيل لما أخذتْهم الرجفةُ ماتوا جميعاً فأخذ موسى عليه الصلاة والسلام يتضرع إلى الله تعالى حتى أحياهم وقيل رجَفوا وكادت تَبينُ مفاصلُهم وأشرفوا على الهلاك فخاف موسى عليه الصلاة والسلام فبكى فكشفها الله تعالى عنهم {قَالَ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الله تعالى عند دعاءِ مُوسى عليه السَّلامُ فقيل قال {عَذَابِى أصيب به من أشاء} لعله عز وجل حين جعل توبةَ عبدةِ العجلِ بقتلهم أنفسَهم ضمّن موسى عليه السلام دعاءَه التخفيفَ والتيسير حيث قال واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة أي خَصلةً حسنةً عاريةً عن المشقة والشدة فإن في قتل أنفسهم من العذاب والتشديد ما لا يخفى فأجاب تعالى بأن عذابي شأنُه أن أُصيبَ به من أشاء تعذيبَه من غير دخل لغيري فيه وهم ممن تناولَتْه مشيئتي ولذلك جُعلت توبتُهم مشوبةً بالعذاب الدنيوي {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء} أي شأنُها أن تسَعَ في الدنيا المؤمنَ والكافرَ بل كلَّ ما يدخل تحته الشيئية من المكلفين وغيرِهم وقد نال قومَك نصيبٌ منها في ضمن العذاب الدنيوي وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارعِ ونسبةِ السعةِ إلى الرحمة بصيغة الماضي إيذانٌ بأن الرحمةَ مقتضى الذاتِ وأما العذاب فبمقتضى العذاب معاصي العباد والمشيئةُ معتبرةٌ في جانب الرحمةِ أيضاً وعدمُ التصريحِ بها للإشعار بغاية الظهور ألا يُرى إلى قوله تعالى {فَسَأَكْتُبُهَا} أي أُثبتها وأعيِّنُها فإنه متفرعٌ على اعتبار المشيئةِ كأنه قيل فإذا كان الأمرُ كذلك أي كما ذكر من إصابة عذابي وسَعةِ رحمتي لكل من أشاء فسأكتبُها كَتْبةً كائنة كما دعوتَ بقولك واكتب لنا في هذه الخ أي شأكتبها خالصةً غيرَ مشوبةٍ بالعذاب الدنيوي {لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي الكفَر والمعاصي إما ابتداء أو بعد ملابستهما وفيه تعريض بقومه كأنه قيل لا لقومك لأنهم غير متقين فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة وإن كانت مقارنة للعذاب الدنيوي {ويؤتون الزكاة}

وفيه أيضا تعريضٌ بهم حيث كانت الزكاةُ شاقةً عليهم ولعل الصلاةَ إنما لم تذكَرْ مع إنافتها على سائر العبادات اكتفاءً عنها بالاتقاء الذي هو عبارة عن فعل الموجبات بأسرها وتركِ المنكرات عن آخرها وإيرادُ إيتاءِ الزكاة لما مر من التعريض {والذين هم بآياتنا} جميعاً {يُؤْمِنُونَ} إيماناً مستمراً من غير إخلالٍ بشيء منها وفيه تعريضٌ بهم وبكفرهم بالآيات العظامِ التي جاء بها موسى عليه الصلاة والسلام وبما سيجيء بعد ذلك من الآيات البيناتِ كتظليل الغمامِ وإنزالِ المنِّ والسَّلْوى وغيرِ ذلك وتكريرُ الموصولَ مع أن المرادَ به عينُ ما أريد بالموصول الأولِ دون أن يقال يؤمنون بآياتنا عطفاً على يؤتون الزكاة كما عُطف هو على يتقون لما أشير إليه من القَصْر بتقديم الجار والمجرور ورأى هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض

157

{الذين يَتَّبِعُونَ الرسول} الذي نوحي إليه كتاباً مختصاً به {النبى} أي صاحبَ المعجزة وقيل عنوانُ الرسالةِ بالنسبة إليه تعالى وعنوانُ النبوة بالنسبة إلى الأمة {الامى} بضم الهمزة نسبةً إلى الأم كأنه باقٍ على حالته التي وُلد عليها من أمّه أو إلى أمة العرب كما قال صلى الله عليه وسلم إنا أمةٌ لا نحسُب ولا نكتب أو إلى أم القرى وقرىء بفتح الهمزة أي الذي لم يمارس القراءةَ والكتابة وقد جمع مع ذلك علومَ الأولين والآخِرين والموصولُ بدلٌ من الموصولِ الأولِ بدلَ الكلِّ أو منصوبٌ على المدحِ أو مرفوع عليه أي أعني الذين أو هم اللذين وأما جعلُه مبتدأً على أن خبرَه يأمرُهم أو أولئك هم المفلحون فغيرُ سديد {الذى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا} باسمه ونعة وته بحيث لا يشكّون أنه هو ولذلك عدل عن أن يقال يجدون اسمَه أو وصفه مكتوباً {عِندَهُمُ} زيد هذا لزيادة التقريرِ وأن شأنِه عليه الصلاةُ والسلام حاضرٌ عندهم لا يَغيب عنهم أصلاً {فِي التوراة والإنجيل} اللذيْن تُعِبِّد بهما بنو إسرائيلَ سابقاً ولاحقاً والظرفان متعلقان بيجدونه أو بمكتوباً وذكرُ الإنجيلِ قبل نزولِه من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم والقرآنِ الكريم قبل مجيئِهما {يَأْمُرُهُم بالمعروف وينهاهم عَنِ المنكر} كلامٌ مستأنفٌ لا محلَّ له من الإعراب قاله الزجاج متضمنٌ لتفصيل بعض أحكامِ الرحمةِ التي وعد فيما سبق بكتبها إجمالاً فإن ما بُيّن فيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلالِ الطيبات وتحريمِ الخبائث وإسقاطِ التكاليف الشاقةِ كلُّها من آثار رحمته الواسعة وقيل في محل النصب على أنه حالٌ مقدرةٌ من مفعول يجدونه أو من النبي أة ومن المستكن في مكتوباً أو مفسِّرٌ لمكتوباً أي لما كُتب {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات} التي حُرِّمت عليهم بشؤم ظلمهم {ويحرم عليهم الخبائث} كالدم ولحمِ الخِنزيرِ والربا والرشوة {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والاغلال التى كَانَتْ عَلَيْهِمْ} أي يخفف عنهم ما كُلّفوه من التكاليف الشاقةِ التي هي من قَبيل ما كتب عليهم حينئذ من كونه التوبة بقتل

الأعراف آية 158 النفس كتعيين القصاصِ في العمد والخطأ من غير شرعِ الدية وقطع الأعضاءِ الخاطئةِ وقرضِ موضعِ النجاسة من الجلد والثوب وإحراقِ الغنائم وتحريمِ السبت وعن عطاء أنه كانت بنو إسرائيلَ إذا قاموا يصلون لبسوا المسموح وغلّوا أيديَهم إلى أعناقهم وربما ثقَبَ الرجلُ تَرْقُوتَه وجعل فيها طرف السلسلةِ وأوثقها إلى السارية يحبِس نفسه على العبادة وقرىء آصارَهم أصل الأصر الثق الذي يأصر صاحيه من الحراك {فالذين آمنوا بِهِ} تعليمٌ لكيفية اتّباعِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وبيانٌ لعلو رتبةِ متّبعيه واغتنامِهم مغانمَ الرحمةِ الواسعةِ في الدارين إثرَ بيانِ نعوتِه الجليلة والإشارةِ إلى إرشاده عليهِ الصلاةُ والسلامُ إيَّاهُم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحلالِ الطيبات وتحريمِ الخبائث أي فالذين آمنوا بنبوته وأطاعوه في أوامره ونواهيه {وَعَزَّرُوهُ} أي عظّموه ووقّروه وأعانوه بمنع أعدائه عنه وقرىء بالتخفيف وأصلُه المنعُ ومنه التعزير {ونصروه} على أعجائه في الدين {واتبعوا النور الذى أُنزِلَ مَعَهُ} أي مع نوبته وهو القرآنُ عبّر عنه بالنور المنبىءِ عن كونه ظاهراً بنفسه ومُظهِراً لغيره أو مظهِراً للحقائق كاشفاً عنها لمناسبة الاتّباعِ ويجوزُ أن يكون معه متعلقاً باتّبعوا أي واتّبعوا القرآنَ المنزل مع اتباعه صلى الله عليه وسلم بالعمل بسنته وبما أُمِرَ به ونُهيَ عنه أو اتبعوا القرآنَ مصاحبين له في اتباعه {أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين من حيث اتصافُهم بما فُصّل من الصفاتِ الفاضلة للإشعار بعليتهاللحكم وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلوّ درجتِهم وسمو طبقتهم فيالفضل والشَّرفِ أي أولئك المنعوتُون بتلك النعوت الجليلة {هُمُ المفلحون} أي هم الفائزون بالمطلوب الناجون عن الكروب لا غيرُهم من الأمم فيدخُل فيهم قوم موسى عليه الصلاة والسلام دخولاً أولياً حيث لم ينجو عما في توبيتهم من المشقة الهائلةِ وبه يتحقق التحقيقُ ويتأتّى التوفيقُ والتطبيق بين دعائِهِ عليهِ الصلاةُ والسلام وبين الجوابِ لا بمجرد ما قيل من أنه دعا لنفسه ولبني إسرائيلَ أجيب بما هو منطوٍ على توبيخ بني إسرائيلَ على استجازتهم الرؤيةَ على الله عزَّ وجلَّ وعلى كفرهم بآياته العظامِ التي أجرها على يد موسى عليه الصلاة والسلام وعرّض بذلك في قوله تعالى والذين هم بآياتنا يُؤْمِنُونَ وأريد أن يكون استماعُ أوصافِ أعقابِهم الذين آمنوا برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وبما جاء به كعبدِ اللَّه بنِ سَلاَم وغيرِه من أهل الكتابين لطفاً بهم وترغيباً في إخلاص الإيمانِ والعمل الصالح

158

{قل يا أيها الناسُ أنى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} لما حكي في الكتابين من نعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف مَنْ يتّبعه من أهلهما ونيلِهم لسعادة الدارين أمرعليه الصلاةُ والسلامُ ببيانِ أنَّ تلكَ السعادةَ غيرُ مختصةٍ بهم بل شاملةٌ لكل من يتبعه كائناً مَنْ كان ببيان عمومِ رسالتِه للثقلين مع اختصاص رسالةِ سائرِ الرسلِ عليهم السلام بأقوامهم وإرسالِ موسى عليه السلام إلى فرعون وملته بالآيات التسعِ إنما كان لأمرهم بعبادة ربِّ العالمين عز سلطانه

الأعراف آية 159 وتركِ العظيمةِ التي كانَ يدَّعِيها الطاغيةُ ويقبلُها منهُ فتنة الباغية وإرسال بني إسرائيلَ من الأسرِ والقسرِ وأما العملُ بأحكام التوارة فمختص ببني إسرايل {جَمِيعاً} حالٌ من الضمير في إليكم {الذى لَهُ ملك السماوات والارض} منصوبٌ أو مرفوعٌ على المدح أو مجرورٌ على أنه صفةٌ للجلالة وإن حيل بينهما بما هو متعلقٌ بما أضيف إليه فإنه في حكم المتقدّمِ عليه وقولُه تعالى {لاَ إله إلا هو} بيانٌ لما قبله مَنْ ملَك العالمَ كان هو الإله لا غيرُه وقوله تعالى {يُحْيِي وَيُمِيتُ} لزيادة تقرير ألوهيتِه والفاءُ في قوله تعالى {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ} لتفريع الأمرِ على ما تمهّد وتقرّر من رسالته صلى الله عليه وسلم وإيراد نفسه عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالةِ على طريقة الالتفاتِ إلى الغيبة المبالغة في إيجاب الامتثالِ بأمره ووصف الرسول بقوله {النبى الامى} لمدحه عليه الصلاة والسلام بهما ولزيادة تقريرِ أمرِه وتحقيق أنه الكتوب في الكتابين ووصفُه بقوله تعالى {الذى يُؤْمِنُ بالله وكلماته} أي ما أنزل إليه وإلى سائر الرسلِ عليهم السَّلامُ من كُتُبه ووحيِه لحمل أهلِ الكتابين على الامتثال بما أُمروا به والتصريحُ بإيمانه بالله تعالى للتنبيه على أن الإيمانَ به تعالى لا ينفك عن الإيمان بكلماته ولا يتحقق إلا به وقرىء وكلمتِه على إرادة اجنس أو القرآنِ تنبيهاً على أن المأمورَ به هو الإيمان به عليه الصلاة والسلام من حيث أنزل عليه القرآنُ لا من حيثيةٍ أخرى أو على أنَّ المرادَ بها عيسى عليه الصلاة والسلام تعريضاً باليهود وتنبيهاً على أن من لم يؤمن به لم يُعتدَّ بإيمانه {واتبعوه} أي في كلِّ ما يأتي وما يذرُ من أمور الدين {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} علةٌ للفعلين أو حال من فاعليهما أي رجاءً لاهتدائكم إلى المطلوب أو راجين له وفي تعليقه بهما إيذانٌ بأن من صدّقه ولم يتبعْه بالتزام أحكام شريعتِه فهو بمعزل من الاهتداء مستمر على الغي والضلال

159

{وَمِن قَوْمِ مُوسَى} كلامٌ مبتدأ لدفع ما عسى يُوهِمه تخصيصُ كَتْبِ الرحمة والتقوى والإيمان بالآيات بمتّبعي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من حِرمانِ أسلافِ قومِ موسى عليه السلام من كل خير وبيانِ أن كلَّهم ليسوا كما حُكيت أحوالُهم بل منهم {أُمَّةٌ يَهْدُونَ} أي الناسَ {بالحق} أي ملتبسين به أو يهدونهم بكلمة الحق {وَبِهِ} أي بالحق {يَعْدِلُونَ} أي في الأحكام الجاريةِ فيما بينهم وصيغةُ المضارعِ في الفعلين لحكاية الحالِ الماضيةِ وقيل هم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ويأباه أنه قد مر ذكرُهم فيما سلف وقيل إن بني إسرائيلَ لما بالغوا في العتُوّ والطغيان حتى اجترءوا على قتل الأنبياءِ عليهم السلام تبرّأ سِبطٌ منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله تعالى أن يفرِّق بينهم وبين أولئك الطاغين ففتح الله تعالى لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه سنةً ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين وهم اليوم هنالك حنفاءُ مسلمون يستقبلون قِبلتَنا وقد ذكر عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنَّ جبريلَ عليهِ السَّلامُ ذهب به ليلة الإسراءِ نحوَهم فكلمهم فقال جبريلُ عليه السَّلامُ هل تعرِفونَ من تكلمون قالوا لا قال هذا محمد النبي الأمي فآمنوا به وقالوا يا رسولَ الله إنَّ موسى أوصانا مَنْ أدرك منكم أحمد غفليقرأ مني عليه السلام فرد محمد على موسى السلام عليهما السلامَ ثم أقرأهم عشرَ سورٍ من القرآن نزلت بمكة

الأعراف آية 160 ولم تكن نزلت يومئذ فريضةٌ غيرَ الصلاة والزكاة أمرهم أن يُقيموا مكانهم وكانوا يسْبِتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا البت هذا وأنت خبيرٌ بأن تخصيصَهم بالهداية من بين قومِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ مع أنَّ منهم مَنْ آمن بجميع الشرائعِ لا يخلو عن بعد

160

{وقطعناهم} أي قومَ موسى لا الأمةَ المذكورةَ منهم وقرىء بالتخفيف وقوله تعالى {اثنتى عَشْرَةَ} ثاني مفعولي قطع لتضمّنه معنى التصيير والتأنيثُ للحمل على الأمة أو القِطعة أي صيرناهم اثنتي عشْرةَ أمةً أو قطعةً متميزاً بعضُها من بعض أو حالٌ من مفعولِهِ أي فرقناهم معدودين هذا العددَ وقوله تعالى {أسباطا} بدل منه وذلك جُمع أو مميزٌ له على أن كل واحدةٍ من اثنتي عشرةَ قطعةً أسباطٌ لا سبطٌ وقرىء عشِرة بكسر الشين وقوله تعالى {أُمَمًا} على الأول بدلٌ بعدَ بدلٍ أو نعتٌ لأسباطاً وعلى الثاني بدل من أسباكا {وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ} حين استولى عليهم العطشُ في التيه الذي وقعوا فيه بسوء صنيعِهم لا بمجرد استسقائِهم إياه عليه الصلاة والسلام بل باستسقائه لقوله تعالى وإذ استسقة موسى قومه وقولُه تعالى {أَنِ اضرب بّعَصَاكَ الحجر} مفسرٌ لفعل الإيحاءِ وقد مر بيانُ شأنِ الحَجَر في تفسير سورة البقرة {فانبجست} عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلام قد حذفتعويلا على كمال الظهورِ وإيذاناً بغاية مسارعتِه عليه السَّلامُ إلى الامتثال وإشعاراً بعدم تأثير الضربِ حقيقةً وتنبيهاً على كمال سرعةِ الانبجاسِ وهو الانفجارُ كأنه حصل إثرَ الأمر قبل تحقق الضربِ كما في قوله تعالى اضرب بعصاك فانفلق أي فضرب فابجست {مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا} بعدد الأسابط وأما ما قيل من أن التقديرَ فإن ضربت فقد انبجست فغيرُ حقيقٍ بجزالة النظمِ التنزيلي وقرىء عشِرة بكسر الشين وفتحها {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} كلُّ سبطٍ عبّر عنهم بذلك إيذاناً بكثرة كل واحدٍ من الأسباط {مَّشْرَبَهُمْ} أي عينَهم الخاصةَ بهم {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام} أي جعلناها بحيث تُلقي عليهم ظلَّها تسير في التيه بسيرهم وتسكُن بإقامتهم وكان ينزل بالليل عمودٌ من نار يسيرون بضوئه {وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى} أي الترنجبين والسمانى قيل كان ينزل عليهم المنُّ مثلَ الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسانٍ صاعٌ وتبعَثُ الجَنوبُ عليهم السُّمانى فيذبح الرجلُ منه ما يكفيه {كُلُواْ} أي وقلناهم كلوا {مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم} أي مستلذاته وما موصولةً كانت أو موصوفةً عبارةٌ عن المن والسلوى {وَمَا ظَلَمُونَا} رجوعٌ إلى سنن الكلامِ الأولِ بعد حكايةِ خطابِهم وهو معطوفٌ على جملة محذوفةٍ للإيجاز والإشعارِ بأنه أمرٌ محققٌ غني عن اتصريح به أي فظلموا بأن كفروا بتلك النعمَ الجليلةَ وما ظلمونا بذلك {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} إذ لا يتخطاهم ضررُه وتقديمُ المفعولِ لإفادة القصْرِ الذي يقتضيه النفيُ السابقُ وفيه ضرب من

الأعراف آية 161 162 التهكم بهم والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على تماديهم فيمَا هُم فيهِ من الظلم والكفر

161

{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} منصوبٌ بمضمرٍ خُوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وإيرادُ الفعلِ على البناء مع استناده إليه تعالى كما يُفصح عنه ما وقع في سورةِ البقرةِ من قولِه تعالى وَإِذْ قُلْنَا للجَريِ على سَنَنِ الكبرياءِ والإيذان بالغِنى عن التصريح به لتعين الفاعلِ وتغيير النظلم بالأمر بالذكر للتشديد في التوبيخ أي أذكُر لهم وقت قولِه تعالى لأسلافهم {اسكنوا هذه القرية} منصوب على المفعولية يقال سكنت الدارَ وقيل على الظرفية اتساعاً وهي بيتُ المقدِس وقيل أريحا وهي قريةُ الجبارين وكان فيها قومٌ من بقية عادٍ يقال لهم العمالقة رأسهم عوجُ بنُ عنقٍ وفي قوله تعالى اسكنوا إيذان بأن امأمور به في سورة البقرة هو الدخول على لوجه السُّكنى والإقامة ولذلك اكتُفي به عن ذكر رغداً في قوله تعالى {وَكُلُواْ مِنْهَا} أي من مطاعمها وثمارِها على أن من تبعيضية أو منها على أنها ابتدائية {حَيْثُ شِئْتُمْ} أي من نواحيها من غير أن يزاحمكك فيها أحدٌ فإن الأكلَ المستمرَّ على هذا الوجه لا يكون إلا رغداً واسعاً وعطفُ كلوا على اسكنوا بالواو لمقارنتهما زماناً بخلاف الدخولِ فأنه مقدمٌ على الأكل ولذلك قيل هناك فكلوا {وَقُولُواْ حطة} أي مئلتنا أو أمرُك حِطةٌ لذنوبنا وهي فِعلة من الحَطّ كالجِلسة {وادخلوا الباب} أي بابَ القرية {سُجَّدًا} أي متطامنين مُخْبتين أو ساجدين شكرا على إخراجهممن التيه وتقديم الأمر باالدخول على الأمر بالقول المذكور في سورة البقرة غيرُ مُخلَ بهذا الترتيب لأن المأمور به هو الجمعُ بين الفعلين من غير اعتبارِ الترتيبِ بينهما ثمَّ إنْ كان المرادُ بالقرية أريحا فقد روي أنهم دخلوها حيث سار إليها موسى عليه السلام بمن بقيَ من بني إسرائيلَ أو بذراريهم على اختلاف الروايتين ففتحها كما مر في سورة المائدة وأما إن كانت بيتَ المقدس فقد رُوي أنهم لم يدخُلوه في حياة مُوسى عليه السَّلامُ فقيل المرادُ بالباب بابُ القُبة التي كانوا يصلّون إليها {نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيئاتكم} وقرىء خطاياكم كما في سورة البقرةِ وتُغفَرْ لكم خطيئاتُكم وخطاياكم وخطيئتُكم على البناء للمفعول {سَنَزِيدُ المحسنين} عِدةٌ بشيئين بالمغفرة وبالزيادة وطرح الواو ههنا لا يخل بذلك لأنه استئنافٌ مترتبٌ على تقدير سؤال نشأ من الإخبار بالغفران كأنه قيل فماذا لهم بعد الغفرانِ فقيل سنزيد وكذلك زيادةٌ منهم زيادةَ بيان

162

{فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} بما أُمروا به من التوبة والاستغفارِ حيث أعرضوا عنه ووضعوا موضعَه {قَوْلاً} آخ رمما لا خيرَ فيه رُوي أنهم دخلوه زاحفين على أستاههم وقالوا مكانَ حطةٌ حنطة وقيلقالوا بالنبطية حطاً شمقاثاً يعنون حنطةً حمراءَ استخفافاً بأمر الله تعالى واستهزاءً بموسى عليه السلام

الأعراف ى ية 163 والسلام وقوله تعالى {غَيْرَ الذى قِيلَ لَهُمْ} نعتٌ لقولاً صرّح بالمغايرة مع دِلالة التبديلِ عليها قطعاً تحقيقاً للمهالفة وتنصيصاً على المغايرة من كل وجه {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} إثرَ ما فعلُوا ما فعلُوا من غير تأخير وفي سورة البقرة عَلَى الذين ظَلَمُواْ والمعنى واحدٌ والإرسالُ من فوق فيكون كالإنزال {رِجْزًا مّنَ السماء} عذاباً كائناً منها والمراد الطاعون وروي أنه مات منهم في ساعة واحدةٍ أربعةٌ وعشرون ألفاً {بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} بسببظلمهم المستمرِّ السابق واللاحقِ حسبما يفيدُه الجمعُ بينَ صيغتي المَاضِي والمستقبلِ لا بسبب التبديلِ فقط كما يُشعِرُ به ترتتي الإرسالِ عليه بالفاء والتصريحُ بهذا التعليل لما أن الحكم ههنا مترتبٌ على المضمر دون الموصولِ بالظلم كما في سورة البقرةِ وأما التعليلُ بالفسق بعد الإشعارِ بعلّية الظلمِ فقد مر وجهُه هناك والله تعالى أعلم

163

{واسألهم} عطفعلى المقدر في إذ قيل أي واسأل اليهودَ المعاصرين لك سؤالَ تقريعٍ وتقرير بقديم كفرَهم وتجاوزَهم لحدود الله تعالى وإعلاما بأن ذلك مع كونه من علومهم الخفيةِ التي لا يقف عليها إلا من مارس كتبَهم قد أحاط به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم خُبْراً وإذ ليس ذلك بالتلقي من متبهم لأنه صلى الله عليه وسلم بمعزل من ذلك تعين أنه من الجهة الوحي الصريح {عَنِ القرية} أي عن حالها وخيرها وما جرى على أهلها من الداهية الدهياءِ وهي أَيْلَةُ قريةٌ بين مدْيَنَ والطور وقيل هي مدينُ وقيب طبرية والعرب تسمي المدينةَ قرية {التى كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر} أي قريبةً منه مشرقة على شاطئه {إِذْ يَعْدُونَ فِى السبت} أي يتجاوزون حدودَ الله تعالى بالصيد يوم السبت وإذ ظرفٌ للمضاف المحذوفِ أو بدلٌ منه وقيل ظرفٌ لكانت أو حاضرة وليس بذاك إذْ لا فائدةَ في تقييد الكونِ أو الحضور بوقت العجة وان وقرىء يعدون وألصه يعتدون ويُعِدّون من الإعداد حيث كانوا يُعِدّون آلاتِ الصيد يوم السبت منهيّون عن الاشتغال فيه بغير العبادة {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ} ظرفٌ ليَعْدون أو بدلٌ بعد بدلٍ والأولُ هو الأولى لأن السؤالَ عن عداوتهم أدخلُ في التقريع والحيتانُ جمعُ حوتٍ قُلبت الواوُ ياءً لانكسار ما قبلها كنونٍ ونينانٍ لفظاً ومعنى وإضافتُها إليهم للإشعار باختصاصها به لاستقلالها بما لا يكاد يوجد في سائر أفرادِ الجنس من الخواصّ الخارقةِ للعادة أو لأن المرادَ بها الحيتانُ الكائنةُ في تلك الناحيةِ وأن ما ذُكر من الإتيان وعدمِه لاعتيادها أحوزالهم ف عدم التعرّض يوم السبت {يَوْمَ سَبْتِهِمْ} ظرفٌ لتأتيهم أي تأتيهم يومَ تعظيمِهم لأمر السبت وهو مصر سَبَتت اليهودُ إذا عظّمت السبْت بالتجرد للعبادة وقيل اسمٌ لليوم والإضافةُ لاختصاصهم بأحكام فيه ويؤيد الأولَ قراءةُ من قرأ يوم أسباتِهم وقوله تعالى {شُرَّعًا} جمعُ شارع من شرع عليه إذا دنا وأشرف وهو حا من حيتانُهم أي تأتيهم يوم سبْتِهم ظاهرةً على وجه الماء قريبةً من الساحل {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ} أي لا يراعون أمرَ اسبت لكن لا بمجرد عدمِ المراعاةِ مع تحقق يوم السبتِ كما هو المتبادرُ بل مع انتفائهما معاً أي لا سبت ولا مراعاة كما في قوله ولاَ ترَى الضبَّ بها ينجحِرُ وقرىء

الأعراف آية 164 لا يُسبتون من أسبت ولا يُسبَتون على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت ولا يُدار عليهم حكمُ السبتِ ولا يؤمرون فيه بما أمروا به يوم السبت {لاَ تَأْتِيهِمْ} كما كانت تأتيهم يوم السبت حذارا من صيدهم وتغيرر السبْكِ حيث لم يقل ولا تأتيهم يوم لا يسبتون لما أن الإخبارَ بإتيانها يوم سبْتهم مظِنةُ أن يقال فماذا حالهم يوم لا يسبتون فقيل يوم لا يسبتون لا تأتيهم {كذلك نَبْلُوهُم} أي مثلَ ذلك البلاءِ العجيب الفظيعِ نعاملهم معاملةَ من يختبرهم ليظهر عدواتهم ونؤاخذهم به وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتها والتعجيبِ منها {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} أي بسبب فسقِهم المستمرِّ المدلولِ عليه بالجمع بين صيغتي الماضي والمستقبلِ لكن لا في تلك المادةِ فإن فسقَهم فيها لا يكون سبباً للبلوى بل بسبب فسقهم المستمر في كلِّ ما يأتُون وما يذرون وقيل كذلك متصلٌ بما قبله أي لا تأتيهم مثلَ ما تأتيهم يوم سبتهم فاجملة بعده حينئذ استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ عن حكمة اختلافِ حال الحيتانِ بالإتيان تارة وعدمِه أخرى

164

{وَإِذْ قَالَتِ} عطفٌ على إذ يعدون مَسوقٌ لتماديهم في العدوان وعدمِ انزجارِهم عنه بعد العظاتِ والإنذارات {أُمَّةٌ مّنْهُمْ} أي جماعةٌ من صلحائهم الذين ركبوا في عِظتهم متن كلِّ صعبٍ وذَلول حتى يئسوا من احتمال القبولِ لآخرين لا يقلعون عن التذكيررجاء للنفع والتأثير مبالغةً في الإعذار وطمعاً في فائدة الإنذار {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ} أي مخترِمُهم بالكلية ومطهرُ الأرض منهم {أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا} دون الاستئصال بالمرة وقيل مهلكهم مخزيهم في الدنيا أو معذبُهم في الآخرة لعدم إقلاعِهم عمَّا كانوا عليه من الفسق والطغيانِ والترديد لمنه الخلوِّ دون منع الجمعِ فإنهم مهلَكون في الدنيا ومعذَّبون في الآخرة وإيثارُ صيغةِ اسمِ الفاعل مع أن كلاًّ من الإهلاك والتعذيب مترقَّبٌ للدِلالة على تحققهما وتقرُّرِهما البتةَ كأنهما واقعان وإنما قالوه مبالغةً في أن الوعظَ لا ينجع فيهم أو ترهيباً للقوم أو سؤالاً عن جكمة الوعظِ ونفعِه ولعلهم إنما قالوه بمحضر من القوم حثاً لهم على الاتعاظ فإن بتَّ القولِ بهلاكهم وعذابهم بما يُلقي في قلوبهم الخوفَ والخشيةَ وقيل المرادُ طائفةٌ من الفِرقة الهالكةِ أجابوا به وُعّاظَهم رداً عليهم وتهكماً بهم وليس بذاك كما ستقف عليه {قَالُواْ} أي الوعاظُ {مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ} أي نعظُهم معذرةً إليه تعالى على أنَّه مفعولٌ له وهو الأنسب بظاهر قولِهم لمَ تعِظون أو نعتذر معذرةً على أنه مصدرٌ لفعل محذوفٍ وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي موعظتُنا معذرةٌ إليه تعالى حتى لا نُنسَبَ إلى نوع تفريطٍ في النهي عن المنكر وفي إضافة الربِّ إلى ضمير المخاطَبين نوع تعرض بالسائلين {ولعلهم يتقون} عطفعلى معذرةً أي ورجاءً لأن يتقوا بعضَ التقاة وهذا صريحٌ في أنَّ القائلين لمَ تعظون الخ ليسوا من الفِرقة الهالكةِ وإلا لوجب الخطاب

الأعراف آية 165 166

165

{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ} أي تركوا ما ذكرهم به صلحاؤُهم تركَ الناسي للشيء وأعرضوا عنه إعراضاً كلياً بحيث لم يخطر ببالِهم شيءٌ من تلك المواعظ أصلاً {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء} وهم الفريقان المذكورانِ وإخراجُ إنجائهم مخرج الحواب الذي حقُّه الترتبُ على الشرط وهو نِسيانُ المعتدين المستتبِعُ لإهلاكهم لما أن ما في حيز الشرط شيآنِ النسيانُ والتذكيرُ كأنه قيل فلما ذكر المذكرون ولم يتذكر المعتدون أنجينا الأولين وأخذنا الآخَرين وأما تصديرُ الجواب بإنجائهم فلما مر مراراً من المسارعة إلى بيان نجاتِهم من أول الأمرِ مع ما في المؤخر من نوع طُول {وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ} بالاعتداء ومخالفةِ الأمر {بِعَذَابٍ بئيس} أيشديد وزناً ومعنى من بَؤُس يبؤُس بأساً إذا اشتد وقرىء بيئس على وزن فيعل بفتح العين وكسرها وبئس كحذر على تخفيف العين ونقلِ حركتِها إلى الفاء ككَبِد في كبد وءيس بقلب الهمزة ياءً كذيب في ذئب وبيّس كريّس بقلب همزةِ بئيس ياءً وإدغام الياء فيها وبَيْسٍ على تخفيف بيّس كهَيْن في هيّن وتنكيرُ العذاب للتفخيم والتهويل {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} متعلقٌ بأخذنا كالباء الأولى ولا ضيرَ فيه لاختلافهما معنى أي أخذناهم بما ذُكِرَ من العذابِ بسبب تماديهم في الفسق الذي هو الخروجُ عن الطاعة وهو الظلمُ والعدوانُ أيضاً وإجراءُ الحكم على الموصول وإن أشعرَ بعلية مَا في حيزِ الصِّلةِ له لكنه صرّح بالتعليل المذكورِ إيذاناً بأن العلةَ هو الاستمرارُ على الظلم والعدوان مع اعتبار كونِ ذلك خروجاً عن طاعةِ الله عزَّ وجلَّ لا نفسُ الظلم والعدوان وإلا لما أخّروا عن ابتجاء المباشرة ساعة ولعله تعالى قد عذبهم بعذاب شديد دون الاستئصالِ فلم يُقلعوا عما كانوا عليه بل ازدادوا في الغي فمسخهم بعد ذلك لقوله تعالى

166

{فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ} أي تمرّدوا وتكبروا وأبوا أن يتركواما نُهوا عنه {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين} صاغرين أذلاء بعجاء عن الناس والمرادُ بالأمر هو الأمرُ التكوينيُّ لا القولي وترتيبُ المسخِ على العتو عن الانتهاءِ عمَّا نُهوا عنْهُ للإيذان بأنه ليس لخصوصيات الحوتِ بل العمدةُ في ذلك هو مخالفةُ الأمر وة الاستعصاء عليه تعالى وقيل المرادُ بالعذاب البئيس هو المسخُ والجملةُ الثانية تقريرٌ للأولى روي أن اليهودَ أُمروا باليوم الذي أُمرنا به وهو يومُ الجمعة فتركوه واختاروا السبت وهو المعنيُّ بقوله تعالى إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فِيهِ فابتُلوا به وحُرّم عليهم الصيدُ فيه وأمرة وا بتعظزيمه فكانت الحيتانُ تأتيهم يوم السبت كأنها المخاضُ لا يُرى وجهُ الماء لكثرتها ولا تأتيهم في سائر الأيامِ فكانوا على ذلك برهةً من الدهر ثم جاءهم غبليس فقال لهم إنما نُهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا حياض سهلة الورود صعبة الصجور ففعلوا فجعلوا يسوقون الحيتانَ إليها يوم السبت فلا تقدر على الخروج منها ويأخذونها يوم الأحد وأخذ رجل منهم حوتاً وربط في ذنبه خيطاً إلى

الأعراف آية 167 168 خشبة في الساحل ثم شواه يوم الأحد فوجد جاره ريح السمك فتطاله في تنّوره فقال له إني أرى الله سيعذبك فلما لم يَرَه عُذّب أخذ في يوم السبت القابلِ حُوتين فلما رأوا أن العذابَ لا يعاجلُهم استمروا على ذلك فصادوا وأكلوا وملّحوا وباعوا وكانوا نحواً من سبعين ألفاً فصار أهلُ القرية أثلاثاً ثلثٌ استمروا على النهي وثلثٌ ملُّوا التذكير وسئِموه وقالوا للواعظين لم تعِظون الخ وثلث باشروا الخطيئة فلما لم ينتهوا قال المسلمون نحن لا نساكنُكم فسموا القريةَ بجدار للمسلمين بابٌ وولمعتدين باب ولعنهم داودُ عليه السلام فأصبح الناهون ذاتَ يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتديم أحد فقالوا إن لهم لشأناً فعَلَوا الجدارَ فنظروا فغذا هم قردةٌ ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفتالقدرة أسباءهم من الإنس وهم لا يعرفونها فجعل القردُ يأتي نسيبَه فيشم ثيابه فيبكي فيقول له نسيبُه ألم ننهَكم فيقول القردُ برأسه بللا ثم ماتوا عن ثلاث وقيل صار الشباة قردةً والشيوخُ خنازير وعن مجاهد رضي اللهعنه مُسخت قلوبُهم وقال الحسن البصري أكلوا وااله أوخَمَ أكلةٍ أكلها أهلُها أثقلُها خزياً في الدنيا وأطولُها عذاباً في الآخرة هاه وأيمُ الله ما حوتٌ أخذه قومٌ فأكلوه أعظمُ عند الله من قتل رجل مسلم ولكن الله تعالى جعل موهدا والساعةُ أدهى وأمرّ

167

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ معطوفٍ على قوله تعالى واسألهم وتأذّن بمعنى آذن كما أن توعّد بمعنى أوعد أو بمعنى عزم فإن العازمَ على الأمر يحدث به نفسه وأُجري مُجرى فعل القسمِ كعلم الله وشهد الله فلذك أجيب بجوابه حيث قيل {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامةِ} أي واذكر لهم وقت إيجابِه تعالى على نفسه أن يسلِّط على اليهود البتة {مَن يَسُومُهُمْ سُوء العذاب} كالإذلال وضربِ الجزية وغير ذلكَ من فنونِ العذابِ وقد بعثَ الله تعالى عليهم بعد سليمانَ عليه السلام بُختَ نَصّر فخرّب ديارهم وقتل مقاتِلتَهم وسبى نساءَهم وذرارِيَهم وضربِ الجزية على مَنْ بقي منهم ووكانوا يؤدّونها إلى المجوس حتى بعث النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ففعل ما فعل ثم ضرب الجزيةَ عليهم فلا تزوال مضروبةً إلى آخر الدهر {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب} يعاقبهم في الدنيا {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن تاب وآمن منهم

168

{وقطعناهم} أي فرقنا بني إسرائيلَ {فِى الأرض} وجعلنا كل فِرقةٍ منهم في قُطر من أقطارها بحيث لا تخلوا ناحيةٌ منها منهم تكملةً لأدبارهم حتى لا تكون لهم شوكةٌ وقوله تعالى {أُمَمًا} إما مفعولٌ ثانٍ لقطّعنا أو حالٌ من مفعوله {مّنْهُمُ الصالحون} صفةٌ لأمماً أو بدلٌ منه وهم الذين آمنوا بالمدينة ومن يسير بسيرتهم {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} أي ناسٌ دون ذلك الوصفِ أي منحطّون عن الصلاح وهم كَفرتُهم وفَسَقتُهم {وبلوناهم بالحسنات والسيئات}

بالنعم والنقم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عمَّا كانُوا فيهِ منَ الكفرِ والمعاصي

169

{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد المذكورين {خَلْفٌ} أي بدلُ سوءٍ مصدرٌ نُعت به ولذلك يقعُ على الواحدِ والجمعِ وقيل جمع وهو شائعٌ في الشر والخَلَفُ بفتح اللام في الخير والمرادُ به الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَرِثُواْ الكتاب} أي التوراةَ مِن أسلافهم يقرءونها ويقفُون عَلى ما فَيها {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الادنى} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما يصنعون بالكتاب بعد وراثتِهم إياه أي يأخذون حُطامَ هذا الشيءِ الأدنى أي الدنيا وهو من الدنو أو الدناءة والمرادُ به ما كانوا يأخذونه من الرِّشا في الحكومات وعلى تحريف الكلاموقيل حال من واو ورثوا {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} ولا يؤاخذُنا الله تعالى بذلك ويتجاوز عنه والجملةُ تحتمل العطفَ والحالية والفعلُ مسندٌ مسندٌ إلى الجار والمجرور أو مصدر يأخذون {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} حال من الضمير في لنا أي يرجعون المغفرةَ والحال أنهم مُصِرّون على الذنب عائدون إلى مثله غيرَ تائبين عنه {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب} أي الميثاقُ الواردُ في الكتاب {أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} عطفُ بيانٍ للميثاق أو متعلق به أي بأن لا يقولوا الخ والمرادُ به الردُّ عليهم والتوبيخُ على بتّهم القولَ بالمغفرة بلا توبةٍ والدِلالةُ على أنها افتراءٌ على الله تعالى وخروجٌ عن ميثاق الكتاب {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} عطفٌ على ألم يؤخذ من حيث المعنى فإنه تقريرٌ أو على ورِثوا وهو اعتراض {والدار الاخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} ما فعل هؤلاء {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فتعلموا ذلك فلا تستبدلوا الأدنى المؤدّي إلى العقاب بالنعيم المخلّد وقرىء بالياء وفي الالتفات تشديدٌ التوبيخ

170

{والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب} أي يتمسكون في أمور دينهم يقال مسَك بالشيء وتمسّك به قال مجاهد هم الذين آمنوا من أهلِ الكتابِ كعبدِ اللَّه بنُ سَلاَمٍ وأصحابِه تمسكوا بالكتاب الذي جاءَ به موسَى عليه السلام فلم يحرّفوه ولم يكتُموه ولم يتخذوه مأكلةً وقال عطاء هم أمة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وقرىء يُمْسِكون من الإمساك وقرىء تمسكوا واستمسكوا موافقاً لقوله تعالى {وأقاموا الصلاة} ولعلالتغيير في المشهور للدلالة على أن التمسّك بالكتاب أمرٌ مستمرٌ في جميع الأزمنة بخلاف إقامةِ الصلاة فإنها مختصةٌ بأوقاتها وتخصيصُها بالذِّكرِ من بين سائر العبادات لإنافتها عليها ومحلُّ الموصولِ إما الجرُّ نسقاً على الذين يتقون وقولُه أفلا تعقلون اعتراضٌ مقرر لما قبله وإما الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ قوله تعالى {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} والرابطُ إما الضميرُ المحذوفُ كما هو رأيُ جمهورِ البصْريين والتقديرُ أجرُ المصلحين منهم وإما الألفُ واللامُ كما هو رأيُ الكوفيِّينَ فإنه في حكم مُصلحيهم كما في قوله تعالى فإن الجنة

الأعراف آية 171 172 هِىَ المأوى أي مأواهم وقولُه تعالى مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابواب أي أبوابُها وإما العمومُ في مصلحين فإنه من الروابط ومنه نعم الرجلُ زيدٌ على أحد الوجة وه وقيل الخبرُ محذوفٌ والتقديرُ والذين يمسّكون بالكتاب مأجورون أو مثابون وقوله تعالى إِنَّا لاَ نُضِيعُ الخ اعتراضٌ مقرر لما قبله

171

{وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ} أي قلعناه من مكانه ورفعناه عليهم {كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} أي سقيفةٌ وهي كلُّ ما أظلك {وَظَنُّواْ} أي تيقنوا {أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} ساقطٌ عليهم لأن الجبلَ لا يثبُت في الجو لأنهم كانوا يُوعَدون به وإطلاق الظن في الحطكاية لعدم وقوعِ متعلَّقِه وذلك أنهم أبَوْا أن يقبلوا أحكامَ التوراة لثقلها فرفع الله تعالى عليهم الططور وقيل لهم إن قبِلتم ما فيها فبها وإلا ليقعَنَّ عليكم {خُذُواْ ما آتيناكم} أي وقلنا أو قائلين خذوا ما آتيناكم من الكتاب {بقوة} بحدو عزيمة على تحمل مشاقِّه وهو حالٌ من الواو {واذكروا مَا فِيهِ} بالعمل ولا تتركوه كالمنسيِّ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} بذلك قبائحَ الأعمالِ ورذائلَ الأخلاق أو راجين أن تنتظِموا في سلك المتقين

172

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} منصوبٌ بمضمرٍ معطوفٌ على ما انتصب به إذ نتقنا مَسوقٌ للاحتجاج على اليهود بتذكير الميثاقِ العام المنتظمِ للناس قاطبةً وتوبيخِهم بنقضه إثرَ الاحتجاج عليهم بتذكير ميثاقِ الطورِ وتعليقُ الذكر بالوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوزادث قد مر بيانُه مراراً أي واذكرُ لهم أخذ ربُّك {مِن بَنِى آدم} المرادُ بهم الذين وَلدَهم كائناً من كان نسلاً بعد نسلٍ سوى مَنْ لم يولدْ له بسبب من الأسباب كالعُقم وعدمِ التزوج والموت صغير وإيثارُ الأخذ على الإخراج للإيذان بالاعتناء بشأن المأخوذِ لما فيه من الإنباء عن الاجتناء والاصطفاء هو السببُ في إسناده إلى اسم الربِّ بطريق الالتفاتُ مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي وإضافتُه إلى ضميره صلى الله عليه وسلم للتشريف وقوله تعالى {مِن ظُهُورِهِمْ} بدلٌ من بني آدمَ بدلَ البعضِ بتكرير الجار كما في قوله تعالى لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمن منهم ومن في الموضعين ابتدائيةٌ وفيه مزيدُ تقريرٍ لابتنائه على البيان بعد الإبهامِ والتفصيلُ غب الإجمال وتنبيه على أن الميثاقَ قد أُخذ منهم وهم في أصلاب الآباءِ ولم يُستودَعوا في أرحام الأمهات وقوله تعالى {ذُرّيَّتُهُم} مفعولُ أخذَ أُخِّر عن المفعول بواسطة الجارِّ لاشتماله على ضمير راجعٍ إليه ولمراعاة أصالتِه ومنشتيته ولما مرا مراراً من التَّشويقِ إلى المؤخّر وقرىء ذرّياتِهم والمرادُ بهم أولادُهم على العموم فيندرج فيهم اليهودُ المعاصِرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم اندراجاً أولياً كما اندرج أسلافُهم في بني آدم كذلك وتخصيصُهما باليهود سلفاً وخلفاً مع أن ما أريد بيانُه من بديع صنع الله تعالى عزَّ وجلَّ شاملٌ للكل كافة مُخِلٌّ بفخامة التنزيلِ وجزالةِ التمثيل {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} أي أشهد كل واحدةٍ من أولئك الذرياتِ المأخوذين من

الأعراف آية 173 ظهور آبائهم على نفسها لا على غيرها تقريراً لهم بربوبيته التامةِ وما تستتبعه من المعبودية على الاختصاص وغيرِ ذلك من أحكامها وقوله تعالى {أَلَسْتَ بربكم} على إرادى ة القولِ أي قائلاً ألست بربكم ومالكَ أمرِكم ومربيكم على الإطلاق من غير أن يكون لأحد مدخلٌ في شأن من شئونكم فينتظم استحقاقُ المعبودية ويستلزم اختصاصَه به تعالى {قَالُواْ} استئناف مبنيٌّ على سؤال نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيل فماذا قالوا حينئذ فقيل {قالوا بلى شَهِدْنَا} أي على أنفسنا بأنك ربنا وإلهنا لا ربَّ لنا غيرُك كما ورد في الحديث الشريف وهذا تمثيلٌ لخلقه تعالى إياهم جميعاً في مبدأ الفطرةِ مستعدين للاستدلال بالدلائل المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ المؤدية إلى التوحيد والإسلامِ كما ينطِق به قوله صلى الله عليه وسلم كلُّ مولودٍ يُولد على الفطرة الحديث مبنيٌّ على تشبيه الهيئةِ المنتزَعَةِ من تعريضه تعالى إياهم لمعرفة ربوبيتِه بعد تمكينِهم منها بما رَكَّز فيهم من العقول والبصائر ونصبَ لهم في الآفاق والأنفسِ من الدلائل تمكيناً تاماً ومن تمكنهم منها تمكنا كاملا وتعهرضهم لها تعرضاً قوياً بهيئة منتزعةٍ من حمله تعالى إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمرِ ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلاً من غير أن يكون هناك أخذٌ وإشهادٌ وسؤالٌ وجواب كما في قوله تعالى فَقَالَ لهاوللأرض ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ وقوله تعالى {أَن تَقُولُواْ} بالتاء على تلوين الخطابِ وصرفِه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاصريه من اليهود تشديداً في الإلزام أو إليهم وإلى متقدّميهم بطريق التغليبِ لكن لا من حيث إنهم مخاطَبون بقوله تعالى أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ فإنه ليس من الكلام المحكىء وقرىءبالياء على أن الضمير للذرية وأيا ما كان فهو مفعولٌ له لما قبله من الأخذ والإشهاد أيْ فعلنَا ما فعلنَا كراهةَ أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرةُ أو يقولوا هم {يَوْمُ القيامة} عند ظهور الأمرِ {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا} عن وحدانية الربوبيةِ وأحكامِها {غافلين} لم ننبه عليه فإنه حيث جُبلوا على ما ذكر من التهيؤ التامِّ لتحقيق الحقِّ والقوة القريبةِ من الفعل صاروا محجوجين عاجزين عن الاعتذار بذلك إِذْ لا سبيلَ لأحدٍ إلى إنكار ما ذُكر من خلقَهم على الفطرة السليمةِ وقوله تعالى

173

{أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آباؤنا} عطف على تقولوا وأو لمنعِ الخلوِّ دونَ الجمعِ أي هم اخترعوال الإشراكَ وهم سنّوه {مِن قَبْلُ} أي من قبل زمانِنا {وَكُنَّا} نحن {ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ} لا نهتدي إلى السبيل ولا نقدِر على الاستدلال بالدليل {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} من آبائنا المُضلّين بعد ظهور أنهم المجرمون ونحن عاجزون عن التجبير والاستبداج بالرأي أو تؤاخذنا فتهلكنا الخ فإنَّ ما ذُكر من استعدادهم الكاملِ يسُدّ عليهم بابَ الاعتذار بهذا أيضاً فإن التقليدَ عند قيامِ الدلائلِ والقدرةِ على الاستدلال بها مما لا مساغَ له أصلاً هذا وقد حُملت هذه المقاولة على الحقيقة كما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهما من أنه لما خلقَ الله تعالى آدمَ عليه السلام مسحَ ظهرَه فأخرج منه كلَّ نسَمةٍ هو خالقُها إلى يوم القيامة فقال أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى فنودي يومئذ جَفّ القلمُ بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة وقد روي عن عمر رضيَ الله عنه أنَّه سئل عن الآية الكريمة فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عنها فقال إنَّ الله تعالى خلق آدمَ ثم مسحَ ظهرَه بيمينه فاستخرج منه ذريةً فقال خلقت هؤلاء للجنة

الأعراف آية 174 175 وبعمل أهلِ الجنة يعملون ثم مسح ظهرَه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهلِ النار يعملون وليس المعنى أنه تعالى أخرج الكلَّ من ظهره عليه الصلاة والسلام بالذات بل أخرج من ظهره عليه السلام أبناءَه الصُّلبية ومن ظهرهم أبناءَهم الصلبية وهكذا إلى آخر السلسلة لكن لما كان المظهر الأصلي ظهره عليه الصَّلاة والسَّلام كان مَساقُ الحديثين الشريفين بيانَ حال الفريقين إجمالا من غير أيتعلق بذكر الوسايط غرض علمي نسلب إخراجِ الكلِّ إليه وأما الآيةُ الكريمة فحيث كانت مسوقةً للاحتجاج على الكفرة المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانِ عدمِ إفادةِ الاعتذارِ بإسناد الإشراكِ إلى آبائهم اقتضى الحالُ نسبةَ إخراجِ كل واحدٍ منهم إلى ظهر أبيهم من غير تعرّضٍ لإخراج الأبناءِ الصلبيةِ لآدم عليه السلام من ظهره قطعاً وعدمُ بيان الميثاقِ في حديث عمرَ رضي الله تعالى عنه ليس بياناً لعدمه ولا مستلزِماً له وأما ما قالُوا من أنَّ أخذَ الميثاق لإسقاط عذرِ الغفلةِ حسبما ينطِق به قوله تعالى أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين ومعلوم أنه غيرُ دافع لغفلتهم في دار التكليفِ إذ لا فردٍ من أفراد البشر يذكُر ذلك فمردودٌ لكنْ لا بما قيلَ من أن الله عز وجل قد أوضح الدلائلَ على وحدانيته وصدقِ رسلهِ فيما أَخبروا به فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد ولزِمتْه الحُجة ونسيانُهم وعدمُ حفظهم لا يُسقط الاحتجاجَ بعد إخبار المخبِرِ الصادقِ بل بأن قوله تعالى أَن تَقُولُواْ الخ ليس مفعولا لا لقوله تعالى وَأَشْهَدَهُمْ وما يتفرَّع عليه من قوله بلى شهِدنا حتى يجب كونُ ذلك الإشهادِ والشهادة محفوظاً لهم في إلزامهم بل لفعل مضمر ينسحب عليه الكلامُ والمعنى فعلنَا مَا فعلنَا منْ الأمر بذكر الميثاقِ وبيانِه كراهةَ أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرةُ يوم القيامة إنا كنا غافلين عن ذلك الميثاقِ لم نُنَبَّه عليه في دار التكليفِ وإلا لعمِلنا بموجبه هذا على قراءة الجمهور وأما على القراءة بالياء فهو مفعول له لنفس الأمر المضمرِ العاملِ في إذ أخذ والمعنى اذكُرْ لهم الميثاقَ المأخوذَ منهم فيما مضى لئلا يعتذروا يوم القيامة بالغفلة عنه أو بتقليد الآباءِ هذا على تقديرِ كونِ قوله تعالى شَهِدْنَا من كلام الذرية وهو الظاهرُ فأما على تقديرِ كونِه من كلامه تعالى فهو العامل في أن تقولوا ولا محذور ألأصلا إذ المعنى شهِدنا قولَكم هذا لئلا تقولوا يوم القيامة الخ لأنا نردكم ونكذبكم حينئذ

174

{وكذلك} إشارةٌ إلى مصدر الفعل المذكور بعجه وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو شأنِ المُشَارِ إليهِ وبُعْدِ منزلتِه والكاف مقحمة لما أفاده اسمُ الإشارةِ من الفخامة والتقديمُ على الفعلِ لإفادةِ القصْر ومحلُه النصبُ على المصدرية أي ذلك التفصيلَ البليغَ المستتبِعَ للمنافع الجليلة {نُفَصّلُ الآيات} المذكورةَ لا غيرَ ذلك {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وليرجعوا عمَّا هُم عليهِ من الإصرار على الباطل وتقليدِ الآباء نفعل التفصيلَ المذكورَ قالوا إن ابتدائيتان ويجوز أن تكون الثانيةُ عاطفةً على مقدَّرَ مترتبٍ على التفصيل أي وكذلك نفصل الآيات ليقفوا عَلى ما فَيها من المرغّبات والزواجر وليرجعوا الخ

175

{واتل عليهم} عطف

الأعراف آية 176 على المضمرِ العاملِ في غذ أخذ واردٌ على نمطه في الإنباء عن الحَوْر بعد الكَوْر والضلالةِ بعد الهدى أي واتل على اليهود {نَبَأَ الذى آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} أي خبَره الذي له شأنٌ وخطَرٌ وهو أحدُ علماءِ بني إسرائيلَ وقيل هو بلعمُ بنُ باعوراءَ أو بلعامُ بنُ باعر من الكنعانيين أوتي علمَ بعضِ كتبِ الله تعالى وقيلَ هُو أُميةُ بنُ أبي الصَّلْت وكان قد قرأ الكتبَ وعلم أن الله تعالى مرسِلٌ في ذلك الزمان رسولاً ورجا أن يكون هو الرسولَ فلما بعث الله تعالى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم حسَده وكفر به والأولُ هو الأنسبُ بمقام التوبيخ اليهود بهَناتهم {فانسلخ مِنْهَا} أي من تلك الآيات انسلاخَ الجِلد من الشاة ولم يُخطِرْها بباله أصلاً أو خرج منها بالكلية بأن كفر بها ونبذها وراء ظهرِه وأياً ما كان فالتعبير عنه بالانسلاخ المنبىءعن اتصال المحيد بالمُحاط خلقةً وعن عدم الملاقاة بينهما أبداً للإيذان بكمال مباينتِه للآيات بعد أن كان بينهما كمالُ الاتصال {فَأَتْبَعَهُ الشيطان} أي تبعه حتى لحِقه وأدركه فصار قريناً له وهو المعنى على قراءة فاتّبعه من الافتعال وفيه تلويحٌ بأنه أشدُّ من الشيطان غَوايةً أو أتبعه خُطُواتِه {فَكَانَ مِنَ الغاوين} فصار من زمرة الضالين الراسخين في الغَواية بعد أن كان من المهتدين وروي أن قومه طلبوا إليه أن يدعوَ على موسى عليه السلامك فقال كيف أدعو على مَنْ معه الملائكة فلم يزالوا به حتى فعل فبقُوا في التيه ويرده أن التيهَ كان لموسى عليه السلام رَوْحاً وراحة وإنما عُذب به بنو إسرائيل وقد كان ذلك بدعائه عليه السلام عليهم كما مر في سورة المائدة

176

{وَلَوْ شِئْنَا} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيانِ مناطِ ما ذُكر من انسلاخه من الآيات ووقوعِه في مهاوي الغَواية ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لوقوعِها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ على القاعدة المستمرة أي ولو شئنا رفعه لرفعنا أي إلى المنازل العاليةِ للأبرار العالمين بتلك الآياتِ والعاملين بموجبها لكن لا بمحض مشيئتِنا من غير أن يكون له دخلٌ في ذلك أصلاً فإنه منافٍ للحكمة التشريعية المؤسسةِ على تعليق الأجزيةِ بالأفعال الاختيارية للعباد بل مع مباشرته للعمل المؤدِّي إلى الرفع بصرف اختيارِه إلى تحصيله كما ينبىء عنه قوله تعالى {بِهَا} أي بسبب تلك الآياتِ بأن عمِل بموجبها فإن اختيارَه وإن لم يكن مؤثراً في حصوله ولا في ترتب الرفعِ عليه بل كلاهما بخلق الله تعالى لكن خلقَه تعالى مَنوطٌ بذلك البتةَ حسب جَرَيان العادةِ الإلهية وقد أُشير إلى ذلك في الاستدراك بأن أُسند ما يؤدي إلى نقيض التالي إليه حيث قيل {ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الارض} مع أن الإخلادَ إليها أيضاً مما لا يتحقق عند صرف اختيارِه إليه إلا بخلقه تعالى كأنه قيل ولو شئنا رفعَه بمباشرته لسببه لرفعناه بسبب تلك الآيات التي هي أقوى أسبابِ الرفع ولكن لم نشأْه لمباشرته لسبب نقيضِه فتُرك في كل من المقامين ما ذُكِرَ في الآخر تعويلاً على إشعار المذكورِ بالمطويّ كما في قوله تعالى وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فلا راد

الأعراف آية 176 لِفَضْلِهِ وتخصيصُ كلَ من المذكورين بمقامه للإيذان بأن الرفعَ مرادٌ له تعالى بالذات وتفضّلٌ محضٌ عليه لا دخلَ فيه لفعله حقيقةً كيف لا وجميعُ أفعاله ومباديها من نعمه تعالى وتفضّلاته وإن نقيضَه إنما أصابه بسوء اختيارِه على موجب الوعيدِ لا بالإرادة الذاتيةِ له سبحانه كما قيل في وجه ذكر الإرادة مع الخير والمسِّ مع الضرّ في الآية المذكورةِ وهو السرُّ في جريان السنة القرآنيةِ على إسناد الخيرِ إليه تعالى وإضافةِ الشرِّ إلى الغير كما في قوله تعالى وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ونظائرِه والإخلادُ إلى الشيء الميلُ إليه مع الاطمئنان به والمرادُ بالأرض الدنيا وقيل السفالة والمعنى ولكنه آثرَ الدنيا الدنيةَ على المنازل السنية أو الضَّعةَ والسَّفالةَ على الرِفعة والجلالة {واتبع هَوَاهُ} مُعرِضاً عن تلك الآياتِ الجليلة فانحط أبلغَ انحطاط وارتد أسفلَ سافلين وإلى ذلك أشير بقوله تعالى {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب} لما أنه أخسُّ الحيوانات وأسفلُها وقد مُثّل حالُه بأخس أحوالِه وأذلِّها حيث قيل {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} أي فحالُه التي هي مَثَلٌ في السوء كصفته في أرذل أحوالِه وهي حالةُ دوامِ اللهَثِ به في حالتي التعبِ والراحة فكأنه قيل فتردّى إلى ما لا غايةَ وراءَه في الخسة والدناءة وإيثارُ الجملة الاسميةِ على العفلية بأن يقال فصار مثلُه كمثل الكلب الخ للإيذان بدوام اتصافه لتلك الحالة الخسيسة وكمال استقراره واستمراره عليها والخطابُ في فعل الشرطِ لكل أحدٍ ممن له حظٌّ من الخطاب فإنه أدخلُ في إشاعة فظاعةِ حالِه واللهَثُ إدلاعُ اللسانِ بالتنفس الشديد أي هو ضيِّقُ الحال مكروبٌ دائمُ اللهَثِ سواءٌ هيّجتَه وأعجته بالطرد العنيف أو تركته على حاله فإنه في الكلاب طبعٌ لا تقدِر على نفض الهواءِ المتسخّن وجلبِ الهواءِ البارد بسهولة لضعف قلبها وانقطاع فؤادِها بخلاف سائر الحيواناتِ فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد ولا يلحقها الكربُ والمضايقةُ إلا عند التعب والإعياءِ والشرطيةُ مع أختها تفسيرٌ لما أُبهم في المَثَل وتفصيلٌ لما أُجمِلَ فيه وتوضيحٌ للتمثيل ببيان وجهِ الشبهِ لا محلَّ له من الإعراب على منهاج قوله تعالى خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ إثرَ قولَه تعالى إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدم وقيل هي في محل النصب على الحالية من الكلب بناءً على خروجهما من حقيقة الشرطِ وتحوّلِهما إلى معنى التسوية حسب تحولِ الاستفهامين المتناقضين إليه في مثلِ قولِه تعالى أأنذرتهم أم لم تنذرهم كأنه قيل لاهثاً في الحالتين وأياً ما كان فالأظهرُ أنه تشبيهٌ للهيئة المنتزَعَة مما اعتراه بعد الانسلاخِ من سوء الحالِ واضطرامِ القلب ودوامِ القلق والاضطراب وعدمِ الاستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعةِ مما ذكر من حال الكلب وقيل لما دعا بلعم على موسى عليه السلام خرج لسانُه فتدلى على صدره وجعل يلهث كالكلب إلى أن هَلَك {ذلك} إشارة إلى ما ذُكر من الحالة الخسيسةِ منسوبةٌ إلى الكلب أو إلى المنسلخ وما فيه من معنى البعد للإيذان ببُعد منزلتِها في الخسة والدناءة أي ذلك المثلُ السيءُ {مَثَلُ القوم الذين كذبوا بآياتنا} وهم اليهودُ حيث أوُتوا في التوراة ما أوُتوا من نعوت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وذكر القرآن المعجزة وما فيه فصدقوه وبشروا الناسَ باقتراب مبعثِه وكانوا يستفتِحون به فلما جاءهم ما عَرَفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة {فاقصص القصص} القَصصُ مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ كالسلْب واللامُ للعهد والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي إذا تحقق أن المثل المذكورَ مثلُ هؤلاء المكذبين فاقصُصه عليهم حسبما أوحي إليك {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} فيقفون على جلية الحالِ وينزجرون

الأعراف آية 177 178 عمَّا هُم عليهِ من الكفر والضلالِ ويعلمون أنك قد علِمتَه من جهة الوحي فيزدادون إيقاناً بك والجملة في محل النصب على أنها حالٌ من ضمير المخاطَب أو على أنها مفعولٌ له أي فاقصُص القصص راجياً لتفكرهم أي أو رجاءً لتفكرهم

177

{سَاء مَثَلاً} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان كمالِ قبحِ حالِ المكذبين بعد بيانِ كونِه كحال الكلبِ أو المنسلخ وساء بمعنى بئس وفاعلُها مضمرٌ فيها ومثلاً تمييزٌ مفسرٌ له والمخصوصُ بالذم قولُه تعالى {القوم الذين كذبوا بآياتنا} وحيث وجب التصادقُ بينه وبين الفاعلِ والتمييز وجب المصيرُ إلى تقدير مضافٍ إما إليه وهو الظاهرُ أي ساء مثلاً مثَلُ القو الخ أو إلى التمييز أي ساء أصحابُ مثلِ القوم الخ وقرىء ساء مثلُ القوم وإعادةُ القومِ موصوفاً بالموصول مع كفاية الضميرِ بأن يقال ساء مثلاً مثلُهم للإيذان بأن مدارَ السوء مَا في حيزِ الصِّلةِ ولربط قولِه تعالى {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} به فإنه إما معطوفٌ على كذَبوا داخلٌ معه في حكم الصلةِ بمعنى جمعوا بين تكذيبِ آياتِ الله بعد قيام الحجةِ عليها وعلْمِهم بها وبين ظلمهم لأنفسهم خاصة أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وبالَه لا يتخطاها وأيا ما كان ففي يظلمون لمحٌ إلى أن تكذيبَهم بالآيات متضمنٌ للظلم وأن ذلك أيضاً معتبرٌ في القصرُ المستفادِ من تقديمِ المفعول

178

{مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى} لما أُمر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بأن يقُصَّ قصصَ المنسلخِ على هؤلاء الضالين الذين مثلُهم كمثله ليتفكروا فيه ويترُكوا ما هم عليه من الإخلاد إلى ى الضلالة ويهتدوا إلى الحقعقب ذلك بتحقيق أن الهدايةَ والضلالةَ من جهةِ الله عزَّ وجل وإنما العِظةُ والتذكيرُ من قبيل الوسائطِ العادية في حصول الاهتداءِ من غير تأثير لها فيه سوى كونِها دواعيَ إلى صرف العبدِ اختيارَه نحو تحصيلِه حسبما نيط به خلقُ الله تعالى إياه كسائر أفعالِ العباد فالمرادُ بهذه الهدايةِ ما يوجب الاهتداءَ قطعاً لكن لا لأن حقيقتَها الدلالة الموصلة إلى الغية البتة بل لأنها الفردُ الكاملُ من حقيقة الهدايةِ التي هي الدلالةُ إلى ما يوصل إلى البغتة أي ما مِنْ شأنِه الإيصالُ إليها كما سبق تحقيقُه في تفسيرِ قولِه تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ وليس المرادُ مجردَ الإخبار باهتداء من هداه الله تعالى حتى يُتوهّم عدمُ الإفادةِ بحسب الظاهر لظهور استلزامه هدايتِه تعالى للاهتداء ويُحمل النظمُ الكريمُ على تعظيم شأن الأهتداءِ والتنبيه على أنه في نفسه كمالٌ جسيمٌ ونفعٌ عظيمٌ لو لم يحصل له غير لكفاه بل هو قصرُ الاهتداء على من هداه الله تعالى حسبما يقضي به تعريفُ الخبرِ فالمعنى من يهدِه الله أي يخلقْ فيه الاهتداء على الوجه المذكور فهو المهتدي لا غيرُ كائناً من كان {وَمَن يُضْلِلِ} بأن لم يخلُقْ فيه الاهتداءَ بل خلق فيه الضلاللا لصرف اختياره نحوَها {فَأُوْلَئِكَ} الموصوفون بالضلالة على الوجه المذكور {هُمُ الخاسرون} أي الكاملونَ في الخُسران لا غير وإفرادُ المهتدي نظراً إلى لفظ مَنْ وجمع الخاسرين نظراً إلى معناها للإيذان باتحاد منهاجِ الهُدى وتفرّقِ

الأعراف آية 179 طرقِ الضلال

179

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} كلامٌ مستأنفٌ مقرّرٌ لمضمون ما قبله بطريق التذييلِ أيخلقنا {لِجَهَنَّمَ} أي لدخولها والتعذيبِ بها وتقديمُه على قوله تعالى {كَثِيراً} أي خلقاً كثيراً مع كونه مفعولاً به لما في توابعه من نوع طولٍ يؤدي توسيطه بينهما وتأخيره وعنها إلى الإخلالِ بجَزَالةِ النظمِ الكريمِ وقوله تعالى {مّنَ الجن والإنس} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لكثيراً أي كائناٍ منهما وتقديمُ الجنِّ لأنهما أعرف من الإنس في الاتصاف بما نحن فيه من الصفات وأكثرُ عدداً وأقدمُ خلقاً والمرادُ بهم الذين حقت عليهم الكلمةُ الأزليةُ بالشقاوة ولكن لا بطريق الجبرِ من غير أنْ يكون مِنْ قِبَلهم ما يؤدي إلى ذلك بل لعلمه تعالى بأنهم لا يصرفون اختيارَهم نحوَ الحقِّ أبداً بل يُصِرُّون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطفٍ يَثنيهم من الآيات والنذر فبهذا الاعتبارِ جُعل خلقهم مغيابها كما أن جميعَ الفريقين باعتبار استعدادِهم الكامِل الفطري للعبادة وتمكنِهم التامِّ منها جعل خلقهم مغيابها كما نطق به قوله تعالى وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ وقوله تعالى {لَهُمْ قُلُوبٌ} في محل النصبُ على أنَّه صفةٌ أخرى لكثيرا وقوله تعالى {لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} في محلِ الرفعِ على أنه صفةٌ لقلوبٌ مؤكدةٌ لما يفيده تنكيرُها وإبهامُها من كونها غيرَ معهودةٍ مخالِفةً لسائر أفرادِ الجنس فاقدةً لكماله بالكلية لكن لا بحسب الفطرة حقيقةً بل بسبب امتناعِهم عن صرفها إلى تحصيله وهذا وصفٌ لها بكمال الإغراقِ في القساوة فإنها حيث لم يَتأتَّ منها الفقهُ بحال فكأنها خلقت غيرَ قابلةٍ له رأساً وكذا الحالُ في أعينهم وآذانِهم وحذفُ المفعول للتعميم أي لهم قلوبٌ ليس من شأنها أن يفقهوا بها شيئاً مما مِنْ شأنه أن يُفقَه فيدخلُ فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائلِه دخولاً أولياً وتخصيصُه بذلك مُخلٌّ بالإفصاح عن كُنه حالِهم {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} الكلامُ فيه كما فيما عطف هو عليه والمرادُ بالأبصار والسمع المنفيَّيْن ما يختص بالعقلاء من الإدراك على ما هو وظيفةُ الثقلين لا ما يتناول مجردَ الإحساسِ بالشبَح والصوتِ كما هو وظيفة الأنعام أي لا يبصرون بها شيئاً من المبصرا فيندرج فيه الشواهدُ التكوينيةُ الدالةُ على الحق اندراجاً أوليا {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} أي شيئاً من المسموعات فيتناول الآياتِ التنزيلية تناولاً أولياً وإعادةُ الخبر في الجملتين المعطوفتين مع انتظامِ الكلامِ بأنْ يقال وأعينٌ لا يبصرون بها وآذانٌ لا يسمعون بها لتقرير سوءِ حالهِم وفي إثبات المشاعر الثلاثةِ لهم ثم وصفِها بعدم الشعورِ دون سلبِها عنهم ابتداءً بأن يقال ليس لهم قلوبٌ يفقهون بها ولا أعينٌ يبصرون بها ولا آذانٌ يسمعون بها من الشهادة بكمالِ رسوخِهم في الجهل والغَواية ما لا يخفى {أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار اتصافِهم بما ذكر من الصفات وما فيه من معنى البعد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الضلال أي أولئك الموصوفون بالأوصاف المذكورة {كالانعام} أي في انتفاء الشعورِ على الوجهِ المذكورِ أو في أن مشاعرَهم متوجهةٌ إلى أسباب التعيشِ مقصورةٌ عليها {بَلِ هُمْ أَضَلُّ} فإنها تدرِكُ ما من شأنها أن تُدركَه من المنافع والمضارِّ فتجتهد في جلبها وسلبِها غايةَ جهدِها مع كونها بمعزلٍ من الخلود وهؤلاء ليسوا

الأعراف آية 180 181 كذلك حيث لا يميِّزون بين المنافعِ والمضارِّ بل يعكسون الأمرَ فيتركون النعيمَ المقيمَ ويُقْدِمون على العذاب الخالد وقيل لأنها تعرِف صاحبها وتذكره وتطيعه وهوؤلاء لا يعرِفون ربَّهم ولا يذكُرونه ولا يطيعونه وفي الخبر كلُّ شيءٍ أطوعُ لله من ابن آدم {أولئك} المعنوتون بما مرّ من مِثْلية الأنعامِ والشرِّيَّة منها {هُمُ الغافلون} الكاملون في الغفلة المستحِقّون لأن يُخَصَّ بهم الاسمُ ولا يطلقَ على غيرهم كيف لا وإنهم لا يعرون من شئون الله عز وجل ولا من شئون ما سواه شيئاً فيشركون به سبحانه وليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير أصنامَهم التي هي من أخسّ مخلوقاتهِ تعالى

180

{وَللَّهِ الأسماء الحسنى} تنبيهٌ للمؤمنين على كيفية ذكره تعالى وكيفية المعاملةِ مع المُخِلّين بذلك الغافلين عنه سبحانه عما يليق به من الأمور وما لا يليقبه إثرَ بيانِ غفلتِهم التامةِ وضلالتهم الطامة والحسنى تأثيث الأحسن أي الأسماءُ التي هي أحسنُ الأسماءِ وأجلُّها لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفِها {فادعوه بِهَا} أي فسمُّوه بتلك الأسماء {وَذَرُواْ الذين يلحدون في أسمائه} الإلحاد واللحد الميل وافنحراف يقال لحَد وألحَد إذا مال عن القصد وقرىء يَلحَدون من الثلاثي أي يَميلون في شأنها عن الحق إلى الباطل إما بأن يسمّوه تعالى بما لا توقيفَ فيه أو بما يوهم معنى فاسداً كما في قول أهل البدو يا أبا المكارم يا أبيضَ الوجه يا بخى ونحوُ ذلك فالمرادُ بالترك المأمور به الاجتنابُ عن ذلك وبأسمائه ما أطلقوه عليه تعالى وسمَّوْه به على زعمهم لا أسماؤُه تعالى حقيقةً وعلى ذلك يُحمل تركُ الإضمارِ بأن يقال يلحدون فيها وإما بأن يعدلوا عن تسميته تعالى ببعض أسمائِه الكريمة كما قالوا وما الرحمن ما نعرِف سوى رحمانِ اليمامة فالمرادُ بالترك الاجتنابُ أيضاً وبالأسماء أسماؤُه تعالى حقيقةً فالمعنى سمُّوه تعالى بجميع أسمائِه الحسنى واجتنبوا إخراجَ بعضِها من البين وإما بأن يُطلقوها على غيره تعالى كما سمَّوا أصنامَهم آلهة وإما بأن يشتقوا من بعضها أسماءَ أصنامِهم كما اشتقوا اللاتَ من الله تعالى والعُزّى من العزيز فالمراد بالأسماء أسماؤُه تعالى حقيقةً كما في الوجه الثاني والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ مع التجريد عن الوصف في الكل للإيذان بأن إلحادَهم في نفس الأسماءِ من غير اعتبار الوصفِ وليس المرادُ بالترك حينئذ الاجتنابَ عن ذلك إذ لا يتوهم صدورُ مثلِ هذا الإلحادِ عن المؤمنين ليُؤمَروا بتركه بل هو الإعراضُ عنهم وعدمُ المبالاة بما فعلوا ترقباً لنزول العقوبةِ بهم عن قريب كما هو المتبادَرُ من قوله تعالى {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فإنه استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ من الأمر بعدم المبالاةِ والإعراض عن المجازاة كأنَّه قيلَ لَم لا نبالي بإلحادهم ولا نتصدىّ لمجازاتهم فقيل لأنه ينزل بهم عقوبتَه وتتشفَّوْن بذلك عن قريب وأما على الوجهين الأولين فالمعنى اجتنبوا إلحادَهم كيلا يُصيبَكم ما أصابهم فإنه سينزِل بهم عقوبةُ إلحادهم

181

{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} بيانٌ إجمالي لحال

الأعراف آية 182 183 مَنْ عدا المذكورين من الثقلين الموصوفينَ بما ذُكر من الضلال والإلحادِ عن الحق ومحلُّ الظرفِ الرفعُ على أنه مبتدأ إما باعتبارِ مضمونِه أو بتقديرِ الموصوفِ وما بعده خبرُه كما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى وَمِنَ الناس الخ أي وبعضُ مَنْ خلقنا أو وبعضٌ ممن خلقنا أمةٌ أي طائفةٌ كثيرةٌ يهدون الناسَ ملتبسين بالحق أو يهدونهم بكلمة الحقِّ ويدلونهم على الاستقامة وبالحق يحكمون في الحكومات الجاريةِ فيما بينهم ولا يجورون فيها عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قرأها هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة الآيةَ وعنه عليه الصَّلاةُ والسلام إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى وروي لا تزال من أمتي طائفةٌ على الحق إلى أن يأتي أمرُ الله وروي لا تزال من أمتي أمةٌ قائمةً بأمر الله لا يضرُهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيَ أمر الله تعالى وهم ظاهرون وفيه من الدلالة على صحة الإجماعِ ما لا يخفي والاقتصار على نعتهم بهداية الناس للإيذان بأن اهتداءهم في أنفسهم أمرٌ محققٌ غنيٌّ عن التصريح به

182

{والذين كذبوا بآياتنا} شروعٌ في تحقيق الحقِّ الذي به يهدي الهادون وبه بعدل العادلون وحملُ الناسِ على الأهتداء به على وجه الترهيب ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه ما بعدَهُ من الجملةِ الاستقبالية وإضافةُ الآياتِ إلى نُونِ العظمةِ لتشريفها واستعظامِ الإقدام على تكذيبها أي والذين كذبوا بآياتنا التي هي معيارُ الحقِّ ومصداقُ الصدقِ والعدل {سَنَسْتَدْرِجُهُم} أي نستدينهم البتةَ إلى الهلاك شيئاً فشيئاً والاستدراجُ استفعالٌ من درَجَ إما بمعنى صعِد ثم اتُسِع فيه فاستُعمل في كل نقل تدريجيَ سواءٌ كان بطريق الصعودِ أو الهبوط أو الاستقامة وإما بمعنى مضى مشياً ضعيفاً وإما بمعنى طوَى والأولُ هو الأنسبُ بالمعنى المرادِ الذي هو النقلُ إلى أعلى درجاتِ المهالك ليبلُغ أقصى مراتبِ العقوبة والعذاب ثم استعير لطلب كل نقل تدريجيَ من حال إلى حال من الأحوال الملائمةِ للمنتقل الموافقةِ لهواه بحيث يزعُم أن ذلك ترقَ في مراقي منافعِه مع أنه في الحقيقة تردَ في مهاوي مصارعِه فاستدراجُه سبحانه إياهم أن يواتر عليهم النعم مع انهماكهم في الغيّ فيحسَبوا أنها لُطفٌ لهم منه تعالى فيزداد بطراً وطغياناً لكن لا على أن المطلوبَ تدرُّجُهم في مراتب النعمِ بل هو تدرجُهم في مدارج المعاصي إلى أن يحِقَّ عليهم كلمةُ العذاب على أفظع حال وأشعنها والأولُ وسيلةٌ إليه وقوله تعالى {من حيث لا يَعْلَمُونَ} متعلقٌ بمُضمرٍ وقع صفةً لمصدر الفعلِ المذكور أي سنستدرجهم استدراجاً كائناً من حيث لا يعلمون أنه كذلك بل يحسَبون أنه أثَرةٌ من الله عز وجل وتقريبٌ منه وقيل لا يعلمون ما يراد بهم

183

{وَأُمْلِى لَهُمْ} عطفٌ على سنستدرجهم غيرُ داخلٍ في حكم السين لِما أن الإملاءِ الذي هو عبارةٌ عن الإمهال والإطالةِ ليس من الأمور التدريجية كالاستدراج الحاصلِ في نفسه شيئاً فشيئاً بل هو فعلٌ يحصُل دفعةً وإنما الحاصلُ بطريق التدريج آثاره

8 - الأعراف آية 184 وأحكامهُ لا نفسُه كما يلوح به تغييرُ التعبيرِ بتوحيد الضميرِ مع ما فيه من الافتنان المنبىءِ عن مزيدِ الاعتناءِ بمضمون الكلامِ لابتنائه على تجديد القصدِ والعزيمة وأما أن ذلك للإشعار بأنه بمحض التقديرِ الإلهي والاستدراجِ بتوسط المدبّرات فمبْناه دِلالةُ نون الفظيعة على الشركة وأنى ذلك وإلا لاحتُرز عن إيرادها في قوله تعالى وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ الآية بل إنما إيرادُها في أمثال هذه المواردِ بطريق الجَرَيانِ على سَننِ الكبرياء {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} تقريرٌ للوعيد وتأكيدٌ له أي قويلا يُدافع بقوة ولا بحيلة والمرادُ به إما الإستدراجُ والإملاءُ مع نتيجتهما التي هي الآخذُ الشديدُ على غِرّة فتسميتُه كيداً لما أن ظاهرَه لطفٌ وباطنَه قهو وإما نفس ذلك ألخذ فقط فالتسميةُ لكون مقدماتِه كذلك وأما أن حقيقةَ الكيدِ هو الأخذُ على خفاء من غيرِ أنْ يُعتبر فيه إظهارُ خلافِ ما أبطنه فمما لا تعويلَ عليه مع عدم مناسبتِه للمقام ضرورةَ استدعائِه لاعتبار القيدِ المذكورِ حتماً

184

{أولم يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ} كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ لإنكار عدمِ تفكرهم في شأنه صلى الله عليه وسلم وجعلهم بحقيقة حالِه الموجبةِ للإيمان به وبما أنزل عليه من الآيات التي كذبوا بها والهمزةُ للإنكار والتعجيبِ والتوبيخ والواو للعطفِ على مقدرٍ يستدعيه سياق النظم الكريم وسياقه وما إما استفهاميةٌ إنكاريةٌ في محل الرفِع بالابتداء والخبرُ بصاحبهم وإما نافيةٌ اسمُها جِنةٌ وخبرُها بصاحبهم والجِنةُ من المصادر التي يُراد بها الهيئة كالركبة والجِلْسة وتنكيرُها للتقليل والتحقير والجملة معلقة فعل التفكر لكونه من أفعل القلوب ومحلُها على الوجهين النصبُ على نزعِ الجارِّ أي أكذّبوا بها ولم يتفكروا في أي شيء من جنون ما كائنٍ بصاحبهم الذي هو أعظمُ الأمةِ الهادية بالحق وعليه أنزلت الآيات أوفى أنه ليس بصاحيهم شيءٌ من جِنّة حتى يؤدِّيَهم التفكرُ في ذلك إلى الوقوف على صدقه وصحةِ نبوته فيؤمنوا به وبما أنزل عليه من الآيات وقيل قد تم الكلامُ عند قوله تعالى أولم يَتَفَكَّرُواْ أي أكذّبوا بها ولم يفعلوا التفكرَ ثم ابتُدىء فقيل أيُّ شيءٍ بصاحبهم من جنة ما على طريقة الإنكار والتعجيب والتبكيت أو قيل ليس بصاحبهم شيءٌ منها والتعبيرُ عنه صلى الله عليه وسلم بصاحبهم للإيذان بأن طولَ مصاحبتهم له صلى الله عليه وسلم مما يطلعهم على نزاهته صلى الله عليه وسلم عن شائبة ما ذكر ففيه تأكيدٌ للنكير وتشديدٌ له والتعرضُ لنفي الجنونِ عنه صلى الله عليه وسلم مع وضوح استحالةِ ثبوتِه له صلى الله عليه وسلم لما أن التكلمَ بما هو خارقلقضية العقولِ والعادات لا يصدُر إلا عمن به مسن من الجنونِ كيفما اتَّفق من غيرِ أن يكون له أصلٌ ومعنى أو عمن له تأييد إلهي يخبر به عن الأمور الغيبية وإذ ليس به صلى الله عليه وسلم شائبةُ الأولِ تعين أنه صلى الله عليه وسلم مؤيدٌ من عندِ الله تعالى وقيل إنه صلى الله عليه وسلم علا الصفات ليلا فجعل يدعو قريضا فخِذاً فخِذاً يحذّرهم بأسَ الله تعالى فقال قائلُهم إن صاحبَكم هذا لمجنونٌ بات يهوت إلى الصباح فنزلت فالتصريحُ بنفي الجنونِ حينئذ الرد على عظيمتهم الشنعاءِ والتعبيرُ عنه صلى الله عليه وسلم بصاحبهم واردٌ على شاكلة كلامِهم مع ما فيه من النكتة المذكورة وقوله تعالى {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} جملةٌ مقررة لمضمون ما قبلها ومبينةٌ لحقيقة حاله صلى الله عليه وسلم على منهاج قوله تعالى إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ بعد قوله تعالى مَا هذا بَشَرًا أي ما هو إلا مبالغٌ في الإنذار مظهرٌ له غاية الإظهار إبراز لكمال الرأفة

الأعراف آية 185 ومبالغةً في الإعذار وقوله تعالى

185

{أولم ينظُروا في ملكوت السماوات والارض} استئناف آخرُ مسوقٌ للإنكار والتوبيخ بإخلالهم بالتأمل في الآياتِ التكوينيةِ المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ الشاهدةِ بصحة مضمونِ الآيات المنزلةِ إثر مانعي عليهم إخلالُهم بالتفكر في شأنه صلى الله عليه وسلم والهمزةُ لما ذكر من الإنكار والتعجب والتوبيخ والوا للعطف على المقدر المذكورِ أو على الجملة المنفيةِ بلم والملكوتُ الملكُ العظيم أي أكذبوا بها أو ألم يتفكروا فيما ذكر ولم ينظروا نظرَ تأملٍ فيما يدل عليه السمواتُ والأرض من عِظَم المُلك وكمالِ القدرة {وَمَا خَلَقَ الله} أي وفيما خلق فيهما على أنَّه عطفٌ على ملكوت وتخصيصه بهما لكما ظهورِ عِظَم المُلك فيهما أو وفي ملكوت ما خلق على أنَّه عطفٌ على السموات والأرض والتعميمُ لاشتراك الكل في الدِلالة على عظم الملكِ في الحقيقة وعليه قوله تعالى فسبحان الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء وقولُه تعالى {مِن شَىْء} بيانٌ لما خلق مفيدٌ لعدم اختصاص الدِلالة المذكورة بجلائل المصنوعاتِ دون دقائِقها والمعنى أولم ينظروا فى ملكوتُ السموات والأرض وما خُلق فيهما من جليل ودقيقٍ مما ينطلق عليه اسمُ الشيءِ ليدلَّهم ذلك على العلم بوحدانيته تعالى وبسائر شئونه التي ينطِق بها تلك الآياتُ فيؤمنوا بها لاتحادهما في المدلول فإن كلَّ فردٍ من أفراد الأكوانِ مما عزوهان دليلٌ لائحٌ على الصانع المجيد وسبيلٌ واضحٌ إلى عالم التوحيد وقوله تعالى {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ} عطف على ملكوت وإنْ مخففةٌ من أن واسمُها ضميرُ الشأن وخبرُها عسى مع فاعلها الذي هو أن يكون واسمُ يكون أيضاً ضميرُ الشأن والخبرُ قد اقترب أجلهم والمعنى أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِى أن الشأن عسى أن يكون الشأنُ قد اقترب أجلُهم وقد جوز أن يكون اسمُ يكون أجلُهم وخبرُها قد اقترب على أنها جملةٌ من فعل وفاعل هو ضمير أجلهم لتقدمه حكماً وأياً ما كان فمناطُ الإنكارِ والتوبيخِ تأخيرُهم للنظر والتأمل أي لعلم يموتون عما قريب فمالهم لا يسارعون إلى التدبُّر في الآيات التكوينيةِ الشاهدة بما كذبوه من الآيات القرآنيةِ وقد جوز أن يكون الأجلُ عبارةً عن الساعة والإضافةُ إلى ضميرهم لملابستهم لها من جهة إنكارِهم لها وبحثِهم عنها وقوله تعالى {فَبِأَيّ حَدِيثٍ بعده يؤمنون} قطع الاحتمال إيمانِهم رأساً ونفيٌ له بالكلية مترتبٌ على ما ذكر من تكذيبهم بالآيات وإخلالِهم بالتفكر والنظر والباءُ متعلقةٌ بيؤمنون وضميرُ بعده للآيات على حذفِ المضاف المفهومِ من كذبوا والتذكيرُ باعتبار كونِها قرآناً أو بتأويلها بالمذكور وإجراءِ الضَّميرِ مُجرى اسمِ الإشارةِ والمعنى أكذبوا بها ولم يتفكروا فيما يوجب تصديقها من أحواله صلى الله عليه وسلم وأحوالِ المصنوعاتِ فبأي حديث يؤمنون بعد تكذيبه ومعه مثلُ هذه الشواهدِ القويةِ كلا وهيهات وقيل الضميرُ للقرآن والمعنى فبأي حديث بعد القرآنِ يُؤْمِنُونَ إذَا لم يُؤمنُوا به وهو النهايةُ في البيان وقيل هو إنكارٌ وتبكيتٌ لهم مترتيب على إخلالهم بالمسارعة إلى التأمل فيما ذُكر كأنه قيل لعل أجلَهم قد اقترب

الأعراف آية 186 187 فما لهم لا يبادِرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفَوْتِ وماذا ينتظرون بعد وضوحِ الحقِّ وبأي حديثٍ أحقَّ منه يريدون أن يؤمنوا وقيل الضميرُ لأجَلهم والمعنى فبأي حديث بعد انقضائ أجلِهم يؤمنون وقيل للرسول صلى الله عليه وسلم على حذفِ مضافٍ أيْ فبأي حديثٍ بعد حديثِه يؤمنون وهو أصدقُ الناس وقوله تعالى

186

{مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} استئنافٌ مقررٌ لما قبله منبىءٌ عن الطبع على قلوبهم وقوله تعالى {وَيَذَرُهُمْ فِى طغيانهم} بالياء والرفع على الاستئناف أي وهو يذرُهم وقرىء بنون العظيمة على طريقة الالتفاتِ أي ونحن نذرهم وقرىء بالياء والجزمِ عطفاً على محل فلا هاديَ له كأنه قيل من يُضللِ الله لا يهدِهِ أحدٌ ويذرْهم وقد روي الجزمُ بالنون عن نافع وأبي عمرو في الشواذ وقوله تعالى {يعمهون} أي يترددون ويتحيرون حالٌ من مفعول يذرُهم وتوحيدُ الضمير في حيز النفي نظراً إلى لفظ مَنْ وجمعُه في حيز افثبات نظراً إلى معناها للتنصيص على شمول النفي والإثباتِ للكل

187

{يسألونك عَنِ الساعة} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان بعضأحكام ضلالِهم وطغيانِهم أي عن القيامة وهي من الأسماء الغالبة وإطلاقُها عليها إما لوقوعها بغتةً أو لسرعة ما فيها من الحساب أو لأنها ساعةٌ عندِ الله تعالى معَ طولها في نفسها قيل إن قوماً من اليهود قالوا يا محمدج أخبرنا متى الساعةُ إن كنت نبياً فإنا نعلم متى هي وكان ذلك امتحاناً منهم مع علمهم أنه تعالى قد استأثر بعلمها وقيل السائلون قريشٌ وقوله تعالى {أَيَّانَ مرساها} بفتح الهمزة وقد قرىء بكسرها وهو ظرفُ زمانٍ متضمِّنٌ لمعنى الاستفهام ويليه المبتدأُ أو الفعلُ المضارِعُ دون الماضي بخلاف متى حيث يليها كلاهما قيل اشتقاقُه من أيّ فَعْلانَ منه لأن معناه أيّ وقتٍ وهو من أويتُ إلى الشيء لأن البعضَ آو إلى الكل ممتساند إليه ومحلُّه الرفعُ على أنَّه خبرٌ مقدمٌ ومرساها مبتدأٌ مؤخرٌ أي متى إرساؤُها أي إثباتُها وتقريرُها فإنه مصدرٌ ميميٌّ من أرساه إذا أثبته وأقره ولا يكاد يُستعمل إلا في الشيء الثقيل كما في قوله تعالى والجبال أرساها ومنه مرساةُ السفن ومحلُّ الجملة قيل الجرُّ على البدليَّةِ من الساعة والتحقيقُ أن محلها النصبُ بنزع الخافضِ لأنها بدلٌ من الجار والمجرور لا من المجرور فقط كأنه قيل يسألونك عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرساها وفي تعليق السؤالِ بنفس الساعةِ أولاً وبوقت وقوعِها ثانياً تنبيهٌ على أن المقصِدَ الأصليَّ من السؤال نفسُها باعتبار حلولِها في وقتِها المعين لا وقتُها باعتبار كونِه محلاً لها وقد سُلك هذا المسلكُ في الجواب المقن أيضاً حيث أُضيف العلمُ بالمطلبو بالسؤال إلى ضميرها فأخبر باختصاصه به عز وجل وحيث قيل {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا} أي علمُها بالاعتبار المذكور {عِندَ رَبّى} ولم يقل إنما علمُ وقتِ إرسائِها ومن لم يتنبّه لهذه النكتة حمل

الأعراف آية 187 النظمَ الكريمَ على حذف المضافِ والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم للإيذان بأن توفيقه صلى الله عليه وسلم للجواب على الوجه المذكور من باب التربية والإرشاد ومعنى كونِه عنده تعالى خاصة أنه تعالى قد استأثر به بحيث لم يخبِرْ به أحداً من ملك مقرّبٍ أو نبيَ مرسل وقوله تعالى {لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} بيانٌ لاستمرار تلك الحالةِ إلى حين قيامِها وإقناطٌ كليٌّ عن إظهار أمرها بطريق الإخبارِ من جهتِه تعالى أو من جهة غيرِه لاقتضاء الحكمةِ التشريعيةِ إياه فإنه أدعى إلى الطاعة وأزجرُ عن المعصية كما أن إخفاءَ الأجل الخاصِّ للإنسان كذلك والمعنى لا يَكِشفُ عنها ولا يُظهر للناس أمرَها الذي تسألونني عنه إلا هو بالذات من غير أن يشعر به أحد من المخلوقين فيتوسّط في إظهاره لهم لكن لا بأن لا يُخبرَهم بوقتها قبل مجيئِه كما هوئول بل بأن يُقيمَها فيشاهدوها عِياناً كما يفصح عنه التجليةُ المُنبئةُ عن الكشف التامِّ المزيلِ للإبهام بالكلية وقوله تعالى لِوَقْتِهَا أي في وقتها قيْدٌ للتجلية بعد ورودِ الاستثناء عليها لا قبلَه كأنه قيل لا يجلّيها إلا هو في وقتها إلا أنه قدم على الاتثناء للتنبيه منْ أولِ الأمرِ عَلى أن تجليتَها ليست بطريق الإخبارِ بوقتها بل بإظهار عينِها في وقتها الذي يسألون عنه وقوله تعالى {ثقلت في السماوات والارض} استئنافٌ كما قبله مقرر لمضمون ما قبله أي كبُرت وشقتْ على أهلهما من الملائكة والثقلين كلٌّ منهم أهمّه خفاؤُها وخروجُها عن دائرة العقولِ وقيل عظُمت عليهم حيث يُشفقون منها ويخافون شدائدَها وأهوالَها وقيل ثقلت فيهما إذ لا يُطيقها منهما ومما فيهما شيءٌ أصلاً والأولُ هو الأنسبُ بما قبله وبما بعده من قوله تعالى {لاَ تَأْتِيكُمْ إلا بغتة} فإنَّه استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله فلا بُدَّ من اعتبار الثِقَل من حيث الخفاءُ أي لا تأتيكم إلا فجأةً على غفلة كما قال صلى الله عليه وسلم إن الساعةَ تهيجُ بالناس والرجلُ يُصلح حَوضَه والرجلُ يسقي ماشيتَه والرجلُ يقوّم سلعتَه في سوقه والرجلُ يخفض ميزانه ويرفعه {يسألونك كَأََنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان خطئِهم في توجيه السؤالِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بناءً على زعمهم أنه صلى الله عليه وسلم عالم بالمسئول عنه أو أن العلمَ بذلك من مواجب الرسالةِ إثرَ بيانِ خطِئهم في أصل السؤال بإعلام شأنِ المسئول عنه والجملةُ التشبيهيةُ في محل النصب على أنها حالٌ من الكاف جيء بها بياناً لما يدعوهم إلى السؤال على زعمهم وإشعاراً بخطئهم في ذلك أي يسألونك مُشبّهاً حالُك عندهم بحال من هو حفيٌّ عنها أي مبالِغٌ في العلم بها فعيلٌ من حِفيَ وحقيقتُه كأنك مبالغٌ في السؤال عنها فإن ذلك في حكم المبالغةِ في العلم بها لِما أن مَنْ بالغ في السؤال عن الشيء والبحثِ عنه استحكم علمُه به ومبنى التركيبِ على المبالغة والاستقصاءِ ومنه إحفاءُ الشاربِ واحتفاءُ البقل أي استئصالُه والإحفاءُ في المسألة أي الإلحافُ فيها وقيل عن متعلقةٌ بيسألونك وقولُه تعالى كَأَنَّكَ حَفِىٌّ معترض وصلةُ حفيٌّ محذوفة أي حفي بها وقد قرىء كذلك وقيل هو من الحَفاوة بمعنى البِرِّ والشفقة فإن قريشاً قالوا له صلى الله عليه وسلم إن بيننا وبينك قرابةً فقل لنا متى الساعة والمعنى يسألونك كأنك تتحفّى بهم فتخصّهم بتعليم وقتِها لأجل القرابة وتَزْوي أمرَها عن غيرهم ففيه تخطئةٌ لهم من جهتين وقيل هو من حفِيَ بالشيء بمعن فرح به والمعنى كأنك فرِحٌ بالسؤال عنها تحبّه مع أنك كارِهٌ له لِما أنه تعرُّضٌ لحُرَم الغيبِ الذي استأثر الله عز وجل بعلمه {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} أمر صلى الله عليه وسلم بإعادة الجوابِ الأول تأكيداً للحكم وتقريراً له وإشعاراً بعلته على الطريقة البرهانيةِ بإيراد اسمِ الذات المُنبىءِ عن

الأعراف آية 188 189 استتباعها لصفات الكمالِ التي من جملتها العلمُ وتمهيداً للتعريض بجهلهم بقوله تعالى {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يعلمون ما ذُكر من اختصاص علمِها به تعالى فبعضُهِم ينكرونها رأساً فلا يعلمون شيئاً مما ذكر قطعاً وبعضُهم يعلمون أنها واقعةٌ البتةَ ويزعُمون أنك واقفٌ على وقت وقوعِها فيسألونك عنه جهلاً وبعضُهم يدّعون أن العلم بذلك من مواجب الرسالةِ فيتخذون السؤالَ عنه ذريعةً إلى القدح في رسالتك والمستثنى من هؤلاء هم الواقفون على جلية الحالِ من المؤمنين وأما السائلون عنها من اليهود بطريق الامتحانِ فهم منتظِمون في سلك الجاهلين حيث لم يعلموا بعلمهم وقوله تعالى

188

{قل لا أملك لنفسى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا} شروعٌ في الجواب عن السؤال ببيان عجزِه عن علمها إثرَ بيانِ عجزِ الكلِ عنه وإبطالُ زعمِهم الذي بنَوْا عليه سؤالَهم من كونه صلى الله عليه وسلم ممن يعلمها وإعادةُ الأمر لإظهار كمالِ العنايةِ بشأن الجوابِ والتنبيهِ على استقلاله ومغايرتِه للأول والتعرضُ لبيان عجزه عما ذُكر من النفع والضُرِّ لإثبات عجزِه عن علمها بالطريق البرهاني واللامُ إمَا متعلقٌ بأملك أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من نفعا أي لا أقدر لأجل نفسي على جلب نفعٍ ما ولا على دفع ضرَ ما {إِلاَّ ما شاء الله} أن أملِكَه من ذلك بأن يُلْهِمنيه فيُمكِنَني منه ويُقدِرَني عليه أو لكنْ ما شاء الله من ذلك كائنٌ فالاستثناءُ منقطعٌ وهذا أبلغُ في إظهار العجز {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب} أي جنسَ الغيبِ الذي من جملته ما بين الأشياء من المناسبات المصححةِ عادة للسببية والمسببية ومن المباينات المستتبعة للمانعة والمدافعةِ {لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير} أي لحصّلتُ كثيراً من الخير الذي نيط تحصيلُه بالأفعال الاختياريةِ للبشر بترتيب أسبابِه ودفعِ موانِعه {وَمَا مَسَّنِىَ السوء} أي السوءُ الذي يمكن التقصّي عنه بالتوقيِّ عن موجباته والمدافعةِ بموانعه لا سوءٌ ما فإن منه ما لا مدفعَ له {إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} أي ما أنا إلا عبدٌ مرسَلٌ للإنذار والبشارة شأني حيازةُ ما يتعلق بهما من العلوم الدينيةِ والدنيوية لا الوقوفُ على الغيوب التي لا علاقة بينها وبين الأحكامِ والشرائعِ وقد كشفتُ من أمر الساعةِ ما يتعلق به الإنذارُ من مجيئها لا محالة واقترابِها وأما تعيينُ وقتِها فليس ما يستدعيه الإنذارُ بل هو مما يقدح فيه لما مرَّ منْ أنَّ إيهامه أدعى إلى الانزجار عن المعاصي وتقديمُ النذيرِ على البشير لما أن المَقام مقامُ الإنذار وقوله تعالى {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إما متعلقٌ بهما جميعاً لأنهم ينتفعون بالإنذار كما ينتفعون بالبشارة وإما بابشير فقط وما يتعلق بالنذير محذوف أي نذير للكافرين أي الباقين على الكفر وبشيرٌ لقوم يؤمنون أي في أيّ وقتٍ كان ففيه ترغيبٌ للكفرة في إحداث الإيمانِ وتحذيرٌ عن الإصرار على الكفر والطغيان

189

{هُوَ الذى خَلَقَكُمْ} استئناف سيق لبيان كمالِ عِظَمِ جنايةِ الكَفَرةِ في جراءتهم على الإشراك بتذكير مبادى

الأعراف آية 189 أحوالِهم المنافيةِ له وإيقاعُ الموصول خبراً لتفخيم شأنِ المبتدأ أي هو ذَلِكَ العظيمُ الشأنِ الذي خلقكم جميعاً وحدَه من غير أن يكون لغيره مدخلٌ في ذلك بوجهٍ من الوجوه {مّن نَّفْسٍ واحدة} هو آدم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهذا نوعُ تفصيلٍ لما أشيرَ إليه في مطلعِ السورة الكريمة إشارة إجالية من خلقهم وتصويرِهم في ضمن خلق آدمَ وتصويرِه وبيانٌ لكيفيته {وَجَعَلَ} عطف على خلقكم داخلٌ في حكمِ الصلةِ ولا ضيرَ في تقدمه عليه وجوداً لِما أن الواوَ لا تستدعي الترتيبَ في الوجود {مِنْهَا} أي من جنسها كما في قوله تعالى جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا أو من جسدها لما يُروى أنه تعالى خلقَ حواءَ من ضلع من أضلاع آدم عليه الصلاة والسلام والأولُ هو الأنسُب إذِ الجنسيةُ هي المؤديةُ إلى الغاية الآتيةِ لا الجزئيةُ والجعلُ إما بمعنى التصييرِ فقوله تعالى {زَوْجَهَا} مفعولُه الأولُ والثاني هو الظرفُ المقدّم وإما بمعنى الإنشاءِ والظرفُ متعلقٌ بجعل قُدّم على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أو بمحذوفٍ هو حالٌ من المفعول والأولُ هو الأولى وقوله تعالى {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} علةٌ غائيةٌ للجعل باعتبار تعلُّقِه بمفعولِه الثاني أي ليستأنسَ بها ويطمئِنّ إليها اطمئناناً مصححاً للازدواج كما يلوح به تنذكير الضميرِ ويُفصح عنه قوله تعالى {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} أي جامعها {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا} في مبادىء الأمرِ فإنه عند كونه نطفةً أو علقة أو مضغة أخفُّ عليها بالنسبة إلى ما بعد ذلك من المراتب والتعرض لذكر خِفته للإشارة إلى نعمته تعالى عليهم في إنشائه تعالى إياهم متدرجين في أطوار الخلقِ من العدم إلى الوجود ومن الضَّعف إلى القوة {فَمَرَّتْ بِهِ} أي فاستمرّت به كما كانت قبل حيث قامتْ وقعدت وأخذت وتركت وعليه قراءةُ ابن عبَّاسً رضي الله تعالى عنهما وقرىء فمرت بالتخفيف وفمارت من المورود هو المجيءُ والذهابُ أو من المِرْية فظنت الحملَ وارتابت به وأما ما قيل من أن المعنى حملت حملاً خفّ عليها ولم تلْقَ منه ما يلقى بعضُ الحبالى من حملهن من الكرب والأذّية ولم تستثقِلْه كما يستثقِلْنَه فمرّت به أي فمضَت به إلى ميلاده منن غير إخداج ولا إزلاق فيرده قوله تعالى {فَلَمَّا أَثْقَلَت} إذ معناه فلما صارت ذاتَ ثِقلٍ لكبر الولدِ في بطنها ولا ريب في أن الثقلَ بهذا المعنى ليس مقابلاً للخفة بالمعنى المذكور إنما يقابلها الكربُ الذي يعتري بعضَهن من أول الحمل إلى آخره دون بعضٍ أصلاً وقرىء أُثقِلت على البناء للمفعول أي أثقلها حملُها {دَّعَوَا الله} أي آدمُ وحواءُ عليهما السلام لمّا دَهِمهما أمرٌ لم يعهَداه ولم يعرِفا مآله فاهتما به وتضرّعا إليه عزَّ وجلَّ وقولُه تعالَى {رَبُّهُمَا} أي مالكَ أمرِهما الحقيقُ بأن يُخصَّ به الدعاءُ إشارةٌ إلى أنهما قد صدّرا به دعاءَهما كما في قولهما رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا الآية ومتعلَّقُ الدعاءِ محذوفٌ تعويلاً على شهادة الجملةِ القسَمية به أي دَعَواه تعالى أن يُؤتيَهما صالحاً ووعدا بمقابلته الشكرَ على سبيل التوكيدِ القسَميِّ وقالا أو قائلين {لئن آتيتنا صالحا} أي ولداً من جنسنا سوياً {لَنَكُونَنَّ} نحن ومن يتناسل من ذريتنا {مِنَ الشاكرين} الراسخين في الشكر على نعمائك التي من جملتهخا هذه النعمةُ وترتيبُ هذا الجوابِ على الشرط المذكورِ لما أنهما قد علما أن ما علّقا به دعاءَهما أُنموذَجٌ لسائر أفرادِ الجنسِ ومعيارٌ لها ذاتاً وصفةَ وجودُه مستتبعٌ لوجودها وصلاحُه مستلزِمٌ لصلاحها فالدعاءُ في حقه متضمنٌ للدعاء في حق الكل مستتبِعٌ له كأنهما قالا لئن آتيتنا وذريتَنا أولاداً صالحة وقيل إن ضميرَ آتيتَنا أيضاً لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما فالوجهُ ظاهرٌ وأنت خبيرٌ بأن نظم الكل

الأعراف آية 190 في سلك الدعاءِ أصالةً يأباه مقام المبالغةِ في الاعتناء بشأن ما هما بصدده وأما جعلُ ضميرِ لنكونن للكل فلا محذورَ فيه لأن توسيع دائر الشكر غيرُ مُخِلَ بالاعتناء المذكور بل مؤكدٌ له وَأياً مَا كان فمَعنى قوله تعالى

190

{فلما آتاهما صالحا} لما ى تاهما ما طلباه أصالةً واستتباعاً من الولد وولد الولدِ ما تناسلوا فقوله تعالى {جَعَلاَ} أي جعل أولادُهما {لَهُ} تعالى {شُرَكَاء} على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامه ثقةً بوضوح الأمرِ وتعويلاً على ما يعقُبه من البيان وكذا الحالُ في قولِه تعالى {فيما آتاهما} أي فيما آتى أولادَهما من الأولد حيث سمَّوْهم بعبد مناف وعبدِ العزّى ونحوِ ذلك وتخصيصُ إشراكِهم هذا بالذكر في مقام التوبيخِ مع أن إشراكَهم بالعبادة أغلظُ منه جنايةً وأقدمُ وقوعاً لما أنَّ مساقَ النظمِ الكريمِ لبيان إخلالِهم بالشكر في مقابلة نعمةِ الولدِ الصلح وأولُ كفرِهم في حقه إنما هو تسميتُهم إياه بما ذُكر وقرىء شِرْكاً أي شركةً أو ذوي شركةٍ أي شركاءَ إن قيل ما ذُكر من حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مقامه إنما يصادر إليه فيما يكون للفعل ملابسةٌ ما بالمضاف إليه أيضاً بسرايته إليه حقيقةً أو حكماً وتتضمن نسبتُه إليه صورةً مزيةً يقتضيها المقام كما في مثلِ قولِه تعالى وَإِذْ نجيناكم مّنْ آل فِرْعَوْنَ الآية فإن الإنجاءَ منهم مع أن تعلّقه حقيقةً ليس إلا بأسلاف اليهودِ قد نُسب إلى أخلافهم بحكم سرايتِه إليهم توفيةً لمقام الامتنانِ حقَّه وكذا في قولِه تعالى قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء الله الآية فإن القتلَ حقيقةً مع كونه من جناية آبائِهم قد أُسند إليهم بحكم رضاهم به أداءً لحق مقامِ التوبيخِ والتبكيت ولا ريبَ في أنَّهما عليهما الصلاة والسلام بريئان من سرايةِ الجعلِ المذكورِ إليهما بوجه من الوجوه فما وجهُ إسنادِه إليهما صورةً قلنا وجهُه الإيذانُ بتركهما الأَوْلى حيث أقدما على نظم أولادِهما في سلك أنفسِهما والتزما شكرَهم في ضمن شكرِهما وأقسما على ذلك قبل تعرُّف أحوالِهم ببيان أن إخلالَهم بالشكر الذي وعداه وعداً مؤكداً باليمين بمنزلة إخلالِهما بالذات في استيجاب الحِنْثِ والخُلْف مع ما فيه من الاشعار بتضاعف جنايتِهم ببيان أنهم بجعلهم المذكورِ أوقعوهما في ورطة الحِنثِ والخُلفِ وجعلوهما كأنهما باشراه بالذات فجمعوا بين الجنايةِ على الله تعالى والجنايةِ عليهما عليهما السلام {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} تنزيهٌ فيه معنى التعجبِ والفاءُ لترتيبه على ما فُصِّل من أحكام قدرتِه تعاتلى وآثارِ نعمتِه الزاجرةِ عن الشرك الداعية إلى التة وحيد وصيغةُ الجمعِ لما أشير إليه من تعين الفاعلِ وتنزيهِ آدمَ وحواءَ عن ذلك وما في عما إما مصدريةٌ أيْ عن إشراكِهم أو موصولةٌ أو موصوفةٌ أي عما يشركونه به سبحانه والمرادُ بإشراكهم إما تسميتُهم المذكورةُ أو مطلقُ إشراكِهم المنتظِمِ لها انتظاماً أولياً وقرىء تشركون بتاء الخطاب بطريق الالتفاتِ وقيل الخطابُ لآلقصي من قريش والمرادُ بالنفس الواحدةِ نفسُ قصيّ فإنهم خُلقوا منه وكان له زوجٌ من جنسه عربيةٌ قرشيةٌ وطلبا من الله تعالى ولداً صالحاً فأعطاهما أربعةَ بنينَ فسمَّياهم عبدَ مناف وعبدَ شمسٍ وعبدَ قصي وعبد الداروضمير يشركون لهما ولأعقابهما المقتدين بهما وأما ما قيل من أنه لما حملت حواءُ أتاها إبليسُ في صورة رجل فقال لها ما يُدريك ما في بطنك لعله بهيمةٌ أو كلبٌ أو خنزيرٌ وما يدريك من أين يخرج فخافت من

الأعراف آية 191 193 ذلك فذكرته لآدمَ فأهمّهما ذلك ثم عاد إليها وقال إني من الله تعالى بمنزلة فإن دعوتُه أن يجعله خلقاً مثلَك ويسهّل عليك خروجَه تسمّيه عبد الحرث وكان اسمُه حارثاً في الملائكة فقبِلت فلما ولدتْه سمته عبد الحرث فمما لا تعويلَ عليه كيف لا وأنه صلى الله عليه وسلم كان علَماً في علم الأسماءِ والمسميات فعدمُ علمِه بإبليسَ واسمِه واتباعُه إياه في مثل هذا الشأنِ الخطيرِ أمرٌ قريبٌ من المحال والله تعالَى أعلمُ بحقيقةِ الحال

191

{أَيُشْرِكُونَ} استئنافٌ مسوقٌ لتوبيخ المشركين واستقباحِ إشراكِهم على الإطلاق وإبطالِه بالكلية ببيان شأنِ ما أشركوه به سبحانه وتفصيلِ أحوالِه القاضيةِ ببطلان ما اعتقدوه في حقه أي أيشركون به تعالى {مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً} أي لا يقدرُ على أنْ يخلقشيئا من الأشياء أصلاً ومن حق المعبودِ أن يكون خالقاً لعابده لا محالةَ وقولُه تعالَى {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} عطفٌ على لا يخلق وإيرادُ الضميرين بجمع العقلاءِ وتسميتِهم لها آلهةً وكذا حالُ سائر الضمائرِ الآتيةِ ووصفُها بالمخلوقية بعد وصفِها بنفي الخالقيةِ لإبانة كمالِ منافاةِ حالِها لما اعتقدوه في حقها وإظهارِ غايةِ جهلِهم فإنَّ إشراكَ ما لا يقدِرُ على خلق شيء ما بخاقه وخالق جمسع الأشياء مما لا يمكن أن يسوّغه من له عقلٌ في الجملة وعدمُ التعرضِ لخالقها للإيذان بتعينه والاستغناءِ عن ذكره

192

{وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ} أي لعبدتعم إ 1 احزبهم أمرٌ مهِمّ وخطبٌ مُلِمٌّ {نَصْراً} أي نصراً ما بجلب منفعةٍ أو دفعِ مضرةٍ {وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} إذا اعتراهم حادثةٌ من الحوادث أي لا يدفعونها عن أنفسهم وإيرادُ النصر للمشاكلة وهذا بيانٌ لعجزهم عن إيصال منفعةٍ ما من المنافع الوجوديةِ والعدميةِ إلى عبدتهم وأنفسِهم بعد بيانِ عجزِهم عن إيصال منفعةِ الوجود إليهم وإلى أنفسهم خلا أنهم وُصفوا هناك بالمخلوقية لكونهم أهلاً لها وههنا لم يوصفوا بالمنصورية لأنهم ليسوا أهلاً لها وقوله تعالى

193

{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى} بيانٌ لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفيِّ عنهم وأيسر هو مجردُ الدِلالةِ على المطلوب والإرشادِ إلى طريق حصولِه من غير أن يحصّله الطالب والخطابُ للمشركين بطريق الالتفاتِ المنبىءِ عن مزيد الاعتناءِ بأمر التوبيخِ والتبكيتِ أي إنْ تدعوهم أيها المشركون إلى أن يَهدوكم إلى ما تحصلون به المطالبَ أو تنجون به عن المكاره {لاَ يَتَّبِعُوكُمْ} إلى مرادكم وطِلْبتِكم وقرىء بالتخفيف وقوله تعالى {سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون} استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله ومبينٌ لكيفية عدمِ الاتباع أي مستوٍ عليكم في عدم الإفادةِ دعاؤكم لهم وسكوتكم البحث فإنه لا يتغير حالُكم في الحالين كما لا يتغير حالُهم بحكم الجمادية وقوله تعالى أَمْ أَنتُمْ صامتون جملةٌ اسميةٌ في معنى الفعليةِ معطوفةٌ على الفعلية لأنها في قوة أمْ صَمَتّم عُدل عنها للمبالغة في عدم إفادةِ الدعاء

الأعراف آية 194 195 ببيان مساواتِه للسكوت الدائمِ المستمر وما قيل من أن الخطابَ للمسلمين والمعنى وإن تدعوا لمشركين إلى الهدى أي الإسلامِ لا يتبعوكم الخ مما يساعده سياق النظم الكريم وسياقُه أصلاً على أنه لو كان كذلك لقيل عليهم مكان عليكم كما في قوله تعالى سواء عليهم أأنذرتهم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ فإن استواءَ الدعاءِ وعدمَه إنما هو بالنسبة إلى المشركين لا بالنسبة إلى الداعين فإنهم فائزون بفضل الدعوة

194

{إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} تقريرٌ لما قبلَهُ من عدم اتباعِهم لهم أي إن الذين تعبدونهم مِن دُونِهِ تعالى مِن الأصنام وتسمونهم آلهى ة {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} أي مماثلةٌ لكن لكن لا من كل وجهٍ بل من حيث إنها مملوكة لله عز وجل مسخَّرةٌ لأمره عاجزة عن النفع والضررِ وتشبيهُها بهم في ذلك مع كون عجزِها عنهما أظهرَ وأقوى من عجزهم إنما هو لاعترافهم بعجز أنفسِهم وادّعائِهم لقدرتها عليهما إذ هو الذي يدعوهم إلى عبادتها والاستعانةِ بها وقوله تعالى {فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} تحقيقٌ لمضمون ما قبله بتعجيزهم وتبكيتِهم أي فادعوْهم في جلب نفعٍ أو كشف ضُرَ {إِن كُنتُمْ صادقين} في زعمكم أنهم قادرون على ما أنتم عاجزون عنه وقوله تعالى

195

{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} الخ تبكيتٌ إثرَ تبكيتٍ مؤكدٌ لما يفيده الأمرُ التعجيزيُّ من عدم الاستجابةِ ببيان فُقدانِ آلاتِها بالكلية فإن الاستجابةَ من الهياكل الجُسمانية إنما تُتصوّر إذا كان لها حياةٌ وقُوىً محرّكة ومُدركة وما ليس له شيءٌ من ذلك فهو بمعزل من الأفاعيل بالمرة كأنه قيل ألهم هذه الآلاتُ التي بها تتحقق الاستجابةُ حتى يمكن استجابتُهم لكم وقد وجه الإنكار إلى كل واحدةٍ من هذه الآلات الأربعِ على حدة تكريراً للتبكيت وتثنية للتقريع إشعارا بأن انتفاءَ كلِّ واحدةٍ منها يحيالها كافٍ في الدلالة على استحالة اللاستجابة ووصف الأرجل باالمشي بها للإيذان بأن مدارَ الإنكارِ هو الوصفُ وإنما وُجّه إلى الأرجلِ لا إلى الوصف بأن يقال أيمشون بأرجلهم لتحقيق أنها حيث لم يظهر منها ما يظهر من سائر الأرجلِ فهي ليست بأرجل في الحقيقة وكذا الكلامُ فيما بعده من الجوارحِ الثلاثِ الباقية وكلمةُ أم في قوله تعالى {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} منقطعةٌ وما فيها من الهمزة لما مر من التبكيت والإلزامِ وبل للإضراب المفيدِ للانتقال من فنّ من التبكيت بعد تمامِه إلى فن آخرَ منه لما ذكر من المزوايا والبطشُ الآخذُ بقوة وقرىء يبطُشون بضمِّ الطاءِ وهي لغةٌ فيه والمعنى بل ألهم أيدٍ يأخُذون بها ما يريدون أخذَه وتأخيرُ هذا عما قبله لما أن المشيَ حالُهم في أنفسهم والبطشَ حالُهم بالنسبة إلى الغير وأما تقديمُه على قوله تعالى {أَمْ لَهم أَعْينٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بها}

الأعراف آية 196 198 مع أن الكل سواءٌ في أنها من أحوالهم بالنسبة إلى الغير فلمراعاة المقابلةِ بين الأيدي والأرجل ولأن انتفاءَ المشي والبطشِ أظهرُ والتبكيتَ بذلك أقوى وأما تقديمُ الأعينِ فلما أنها أشهرُ من الآذان وأظهرُ عيناً وأثراً هذا وقد قرىء إنِ الذين تَدْعُونَ مِن دونه الله عباداً أمثالَكم على إعمال إنْ النافية عملَ ما الحجازية أي ما الذين تدعون من دونه تعالى عباداً أمثالَكم بل أدنى منكم فيكونُ قوله تعالى أَلَهُمْ الخ تقريراً لنفي المماثلةِ بإثبات القصورِ والنُقصان {قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ} بعد ما بُيّن أن شركاءَهم لاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْء ما أصلاً أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يناصِبَهم للمُحاجّة ويكررَ عليهم التبكيتَ وإلقامُ الحجرِ أي ادعوا شركاءهم واستعينوا بهم عليّ {ثُمَّ كِيدُونِ} جميعاً أنتم وشركاؤكم وبالِغوا في ترتيب ما تقدرون عليه من مبادى الكيدِ والمكر {فَلاَ تُنظِرُونِ} أي فلا تُمهلوني ساعةً بعد ترتيبِ مقدمات الكيدِ فإني لا أبالي بكم أصلاً

196

{إِنَّ وَلِيّىَ الله الذى نَزَّلَ الكتاب} تعليلٌ لعدم المبالاةِ المنفهمِ من السَّوْق انفهاماً جلياً ووصفُه تعالى بتنزيل الكتابِ للإشعار بدليل الولايةِ والإشارةِ إلى علة أخرى لعدم المبالاةِ كأنه قيل لا أبالي بكم وبشركائكم لأن وليّيَ هو الله الذى أَنزَلَ الكتابَ الناطقَ بأنه وليِّي وناصري وبأن شركاءَكم لاَ يَسْتَطِيعُونَ نصرَ أنفسِهم فضلاً عن نصركم وقوله تعالى {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله أي ومن عادته أن يتولى الصالحين من عباده وينصُرَهم ولا يخذُلَهم

197

{والذين تَدْعُونَ} أي تعبدونهم {مِن دُونِهِ} تعالى أو تدعونهم للاستعانة بهم عليّ حسبما أمرتُكم به {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} أي في أمرٍ من الأمورِ أو في خصوص الأمرِ المذكور {وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} إذا نابتْهم نائبةٌ

198

{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى} إلى أن يهدوكم إلى ما تحصّلون به مقاصدَكم على الإطلاقِ أو في خصوص الكيدِ المعهود {لاَ يَسْمَعُواْ} أي دعاءَكم فضلاً عن المساعدة والإمدادِ وهذا أبلغُ من نفي الاتباعِ وقوله تعالى {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} بيانٌ لعجزهم عن الإبصار بعد بيانِ عجزِهم عن السمع وبه يتم التعليلُ فلا تكرارَ أصلاً والرؤيةُ بصريةٌ وقوله تعالى يَنظُرُونَ إِلَيْكَ حالٌ من المفعول والجملةُ الاسميةُ حالٌ من فاعل ينظرون أي وترى الأصنامَ رأيَ العين يُشبهون الناظرين إلأيك ويخيل إليك أنهم يبصرونك لما أنه صنعوا لها أعيناً مركبةً بالجواهر المضيئة المتلألئة وصوّروها صورة مَنْ قلبَ حدَقتَه إلى الشيء ينظُر إليه والحالُ أنهم غيرُ قادرين على الإبصار وتوحيدُ الضمير في تراهم مع رجوعه إلى المشركين لتوجيه الخِطابِ إلى كل واحد واحد منهم لا إلى الكلُّ من حيثُ هو كلٌّ الخطابات السابقةِ تنبيها على أن رؤية الأصنامِ على الهيئة المذكورةِ لا تتسنّى للكل معا بل

الأعراف آية 199 201 لكل من يواجهها وقيل ضميرُ الفاعل في تراهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وضميرُ المفعولِ على حاله وقيل للمشركين على أن التعليلَ قد تمَّ عند قولِه تعالى لاَ يَسْمَعُواْ أي وترى المشركين ينظُرون إليك والحال أنهم لا يبصِرونك كما أنت عليه وعن الحسن أن الخكاب في قوله تعالى وأن تَدْعُواْ للمؤمنين على أن التعليلَ قد تمَّ عند قولِه تعالى يُنصَرُونَ أي وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الإسلام لا يلتفتوا إليكم ثم خوطب صلى الله عليه وسلم بطريق التجريدِ بأنك تراهم ينظرون إليك والحال أنهم لا يُبصرونك حقَّ الإبصار تنبيهاً على أن ما فيه صلى الله عليه وسلم من شواهد النبوةِ ودلائلِ الرسالةِ من الجلاءِ بحيث لا يكاد بخفى على الناظرين

199

{خُذِ العفو} بعدَ ما عُدّ من أباطيلِ المشركين وقبائحِهم ما لا يطاق تحمله أمر صلى الله عليه وسلم بمجامع مكارمِ الأخلاق التي من جملتها الإغضاءُ عنهم أي خذ ما هفا لك من أفعا الناسِ وتسهل ولا تكلِّفْهم ما يشُقُّ عليهم من العفو الذي هو ضدُّ الجَهدِ أو خذ العفوَ من المذنبين أو الفضلَ من صدقاتهم وذلك قبل وجوبِ الزكاة {وَأْمُرْ بالعرف} بالجميل المستحسَن من الأفعال فإنها قريبةٌ من قَبول الناس من غير نكير {وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} من غير مماراةٍ ولا مكافأة قيل لما نزلت سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريلُ عليه السَّلامُ فقال لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال يا محمدُ إن ربك أمرك أن تصِل مَنْ قطعك وتعطيَ من حَرَمك وتعفُوَ عمّن ظلمك وعن جعفرٍ الصادقِ أمر الله تعالى نبيَّه بمكارم الأخلاق وروي أنه لما نزلت الآيةُ الكريمة قال صلى الله عليه وسلم كيف يا ربّ والغضبُ متحقق فنزل قوله تعالى

200

{وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نزغ} النزغ والنسع والنخْسُ الغرزُ شُبّهت وسوستُه للناس وإغراؤه لهم على المعاصي بغَرْز السائق لما يسوقه وإسنادُه إلى النزغ من قَبيل جَدّ جِدُّه أي وإما يحمِلنّك من جهته وسوسةٌ ما على خلاف ما أُمرت به من اعتراء غضبٍ أو نحوه {فاستعذ بالله} فالتجِىءْ إليه تعالى من شره {إِنَّهُ سَمِيعٌ} يسمع استعاذتَك به قولاً {عَلِيمٌ} يعلم تضرُّعَك إليه قلباً في ضمن القولِ أو بدونه فيعصمُك من شره وقد جُوِّز أن يرادَ بنزغ االشيطان اعتراءُ الغضبِ على نهج الاستعارة كما في قول الصدِّيقِ رضيَ الله عنه إن لي شيطاناً يعتريني ففيه زيادةُ تنفيرٍ عنه وفرطُ تحذيرٍ عن العمل بموجبه وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويلٌ لأمره وتنبيهٌ على أنه من الغوائل الصعبةِ التي لا يُتخَلّص من مَضَرَّتها إلا بالتجاء إلى حرم عصمته عز وجل وقيل يعلمُ ما فيه صلاحُ أمرِك فيحملك عليه أو سميعٌ بأقوال مَنْ آذاك عليمٌ بأفعاله فيجازيه عليها

201

{إِنَّ الذين اتقوا} استئنافٌ مقرِّرٌ لما قبله إِنَّ ما أمر به صلى الله عليه وسلم من الاستعاذة بالله تعالى سنةٌ مسلوكةٌ للمتقين والإخلالُ بها ديدنُ الغاوين أي إن الذين اتصفوا بوقاية أنفسِهم عما يضُرّها {إِذَا مسهم طائف مّنَ الشيطان} أدنى لمّةٍ منه على أن تنوينَه للتحقير وهو اسمُ فاعلِ من طاف يطوف

الأعراف آية 202 203 كأنها تطوف بهم وتدور حولهم لتوقِعَ بهم أو من طاف به الخيالُ يطيفُ طيفاً أي ألمَّ وقرىء طيفٌ على أنَّه مصدرٌ أو تخفيفٌ من طيِّف من الواوي أو اليائي كهين ولين والمارد بالشيطان الجنسُ ولذلك جُمع ضميرُه فيما سيأتي {تَذَكَّرُواْ} أي الاستعاذةَ بهِ تعالى والتوكلَ عليه {فَإِذَا هُم} بسبب ذلك التذكّرِ {مُّبْصِرُونَ} مواقِعَ الخطأ ومكايدَ الشيطانِ فيحترزون عنها ولا يتبعونه

202

{وإخوانهم} أي إخوان الشيطان وهم المنهمِكون في الغي المعرضون عن وقاية أنفسِهم عن المضار {يَمُدُّونَهُمْ فِى الغي} أي يكونالشياطين مدداً لهم فيه ويعضدونهم بالتزيين والحملِ عليه وقرىء يُمِدّونهم من الإمداد ويُمادّونهم كأنهم يُعينونهم بالتسهيل والإغراء وهؤلاء بالاتباع والامتثال {ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} أي لا يمسكون عنم الإغواء حتى يردوهم بالكلية ويجوزُ أنْ يكونَ الضميرُ للإخوان أي لا يرعوون عن الغي ولا يقصرون كالمتقين ويجوز أن يراد بالإخوان الشياطين ويرجعُ الضميرُ إلى الجاهليل فيكون الخبرُ جارياً على من هو له

203

{وإذا لم تأتهم بآية} من القرآن عند تراخي الوحي أو بآية مما اقترحوه {قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها} اجتبى الشيءَ بمعنى جباه لنفسه أي هلاّ جمعتَها من تلقاء نفسِك تقوّلا يرون بذلك أن سائرَ الآياتِ أيضاً كذلك أو هلا تلقيتها من ربك استدعاءً {قُلْ} رداً عليهم {إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى} من غير أن يكون الي دخلٌ ما في ذلك أصلاً على معنى تخصيص حاله صلى الله عليه وسلم باتباع ما يوحى إليه بتوجيِه القصرِ المستفادِ من كلمة إنما إلى نفس الفعلِ بالنسبة إلى مقابله الذي كلفوه غياه صلى الله عليه وسلم لا على معنى تخصيص اتباعه صلى الله عليه وسلم بما يوحى إليه بتوجيه القصر إلى المفعول بالقياس إلى مفعولٍ آخرَ كما هو الشائعُ في موارد الاستعمال وقد مرَّ تحقيقُه في قولِه تعالى أَنِ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ كأنه قيل ما أفعلُ إلا اتباعَ ما يوحى إلي منه تعالى وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ المنبئةِ عن المالكية والتبليغِ إلى الكمال اللائقِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه صلى الله عليه وسلم والتنبيهِ على تأييده ما لا يخفى {هذا} إشارةٌ إلى القرآن الكريم المدلولِ عليه بما يوحى إلي {بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ} بمنزلة البصائرِ للقلوب بها تُبصِر الحقَّ وتدرك الصواب وقيل حججٌ بينةٌ وبراهينُ نيِّرةٌ ومِنْ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لبصائرَ مفيدةٌ لفخامتها أي بصائرُ كائنةٌ منه تعالَى والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم لتأكيد وجوبِ الإيمانِ بها وقوله تعالى {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} عطفٌ على بصائرُ وتقديمُ الظرفِ عليهما وتعقيبُهما بقوله تعالى {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} للإيذان بأن كونَ القرآنِ بمنزلة البصائرِ للقلوب متحققٌ بالنسبة إلى الكل وبه تقوم الحجة على الجميع وأما كونُه هدى ورحمةً فمختصٌّ بالمؤمنين به إذ هم المقتسمون من أنواره والمغتنِمون بآثاره والجملةُ من تمام القولِ المأمورِ به

الأعراف آية 304

204

{وإذا قرئ القرآن فاستمعوا لَهُ} إرشادٌ إلى طريق الفوز بما أشير إليه من المنافع الجليلةِ التي ينطوي عليها القرآنُ أي وإذا قرىء القرآنُ الذي ذكرت شئونه العظيمةُ فاستمعوا له استماعَ تحقيقٍ وقَبول {وَأَنصِتُواْ} أي واسكُتوا في خلال القراءةِ وراعوها إلى انقضائها تعظيماً له وتكميلاً للاستماع {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أي تفوزون بالرحمة التي هي أقصى ثمراتِه وظاهرُ النظم الكريمِ يقتضي وجوبَ الاستماعِ والإنصاتِ عند قراءةِ القرآن في الصلاة وغيرِها وقيل معناه إذا تلا عليكم الرسولُ القرآنَ عند نزولِه فاستمعوا له وجمهورُ الصحابة رضي الله تعالى عنهم على أنه في استماع المؤتمِّ وقد روي أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة فأُمروا باستماع قراءةِ الإمامِ والإنصاتِ له وعن ابن عباس رضي الله تعالَى عنُهمَا أنَّ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قرأ في المكتوبة وقرأ أصحابُه خلفه فنزلت وأما خارج الصلاة فعامةُ العلماءِ على استحبابهما والآيةُ إما من تمام القول به أو استئنافٌ من جهتِه تعالى فقوله تعالى

205

{واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} على الأولِ عطفٌ على قل وعلى الثاني فيه تجريد للخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عام في الأذكار كافةً فإن الإخفاءَ أدخلُ في الإخلاص وأقربُ من الإجابة {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} أي متضرعاً وخائفاً {وَدُونَ الجهر مِنَ القول} أي ومتكلماً دون الجهر فإنه أقرب إلى حسن التفكر {بالغدو والاصال} متعلقٌ باذكر أي اذكره في وقت الغُدوات والعشيات وقرىء والإيصال وهو مصدر آصَلَ أي دخل في الآصيل موافقٌ للغدو {وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين} عن ذكرِ الله تعالى

206

{إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ} وهم الملائكةُ عليهم السلام ومعنى كونِهم عنده سبحانه وتعالى قربُهم من رحمته وفضلِه لتوفرهم على طاعته تعالى {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} بل يؤدونها حسبما أمروا به {وَيُسَبّحُونَهُ} أي ينزّهونه عن كل ما لا يليقُ بجنابِ كبريائِه {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} أي يخُصّونه بغاية العبوديةِ والتذللِ لا يشركون به شيئاً وهو تعريضٌ بسائر المكلفين ولذلك شُرع السجود عند قراءته عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم إذا قرأ ابنُ آدمَ آيةَ السجدة فسجد اعتزل الشيطانُ يبكي فيقول يا ويله أُمر هذا بالسجود فسجد فله الجنةُ وأُمرت بالسجود فعصَيت فلي النار وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأ سورةَ الأعرافِ جعل الله تعالى يومَ القيامةِ بينه وبين إبليسَ ستراً وكان آدمُ عليه السلام شفيعاً له يوم القيامة

8 سورة الأنفال الآية (1) سورة الأنفال مدنية وهى خمس وسبعون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}

الأنفال

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال} النفل الغنيمةُ سُمّيت به لأنها عطيةٌ من الله تعالى زائدة على ما هو أصلُ الأجرِ في الجهاد من الثواب الأخروي ويطلق على ما يعطى بطريق التنفيل زيادةً على السهم من المغنم وقرئ عَلنفال بحذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على اللام وإدغام نون عن في اللام روي أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تُقسم ولمن الحُكم فيها ألمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا وقيل أن الشباب قد أبلَوا يومئذ بلاء حسناً فقتلوا سبعين وأسروا سبعين فقالوا نحن المقاتلون ولنا الغنائم وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات كنا رِدءاً لكم وفئةً تنحازون إليها حتى قال سعد بن معاذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما منعنا أن نطلبَ ما طلب هؤلاء زهادةٌ في الأجر ولا جبنٌ من العدو ولكن كرِهنا أن نعرِّيَ مصافّك فيعطِفَ عليك خيلٌ من المشركين فنزلت وقيل كان النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قد شرط لمن كان له بلاءٌ أن يُنَفِّله ولذلك فعل الشبانُ ما فعلوا من القتل والأسر فسألوه صلى الله عليه وسلم ما شرطه لهم فقال الشيوخُ المغنمُ قليلٌ والناسُ كثيرٌ وإن تُعطِ هؤلاءِ ما شرطتَ لهم حرمتَ أصحابَك فنزلت والأولُ هو الظاهُر لما أن السؤالَ استعلامٌ لحكم الأنفالِ بقضية كلمةِ عن لا استعطاءٌ لنفسها كما نطقَ به الوجهُ الأخير وادعاءُ زيادةٍ عن تعسف ظاهر والاستدلالُ عليه بقراءة ابن مسعودٍ وسعدُ بنُ أبي وقاص وعليِّ بنِ الحسين وزيدٍ ومحمد الباقي وجعفرِ الصادق وعكرمةَ وعطاءٍ يسألونك الأنفالَ غيرُ منتهضٍ فإن مبناهها كما قالوا على الخذف والإيصالِ كما يعرب عنه الجواب بقوله عز وجل {قُلِ الانفال لِلَّهِ والرسول} أي حكمُها مختصٌّ به تعالى بقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم كيفما أُمر به من غير أن يدخُل فيه رأيُ أحدٍ ولو كان السؤالُ استعطاءً لما كان هذا جواباً له فإن اختصاصَ حكمِ ما شُرط لهم من الأنفال بالله والرسول لا ينافي إعطاءَها إياهم بل يحقّقه لأنهم إنما يسألونها بموجب شرطِ الرسول صلى الله عليه وسلم الصادرِ عنه بإذن الله تعالى لا بحكم سبَق أيديَهم إليها ونحوِ ذلك مما يُخِلّ بالاختصاص المذكورِ وحملُ الجوابِ على معنى أن الأنفالَ بالمعنى المذكور مختصة برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم لا حق فيها للمُنفَّل كائناً من كان مما لا سبيل إليه قطعاً ضرورةَ ثبوتِ الاستحقاقِ بالتنفيل وادعاءُ أن ثبوتَه بدليل متأخر النزام لنكرر النسخِ من غير علمٍ بالناسخ

الأخير ولا مساغَ للمصير إلى ما ذهب إليه مجاهدٌ وعكرمةُ والسديّ من أن الأنفالَ كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصةً ليس لأحد فيها شيءٌ بهذه الآية فنسخت بقوله تعالى فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ لما أن المراد بالأنفال فيها قالوا هو المعنى الأولُ حتما كما نطق به قوله تعالى واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَىْء الآية على أن الحقَّ أنه لا نسخَ حينئذ أيضاً حسبما قاله عبدُ الرحمن بنُ زيدِ بنِ أسلم بل بيّن في صدرِ السورةِ الكريمةِ إجمالاً أن أمرَها مفوضٌ إلى الله تعالى ورسوله ثم بين مصارفها وكيفيةَ قسمتِها على التفصيل وادعاءُ اقتصارِ هذا الحُكمِ أعني الاختصاصَ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم على الأنفال المشروطةِ يوم بدر يجعل اللامِ للعهد مع بقاء استحقاقِ المُنفَّل في سائر الأنفالِ المشروطةِ يأباه مقامُ بيان الأحكام كما ينبئ عنه إظهارُ الأنفالِ في موقع الإضمارِ على أن الجوابَ عن سؤال الموعودِ ببيان كونه له صلى الله عليه وسلم خاصةً مما لا يليق بشأنه الكريمِ أصلاً وقد روي عن سعدَ بنَ أبي وقاصٍ أنه قال قُتل أخي عميرٌ يوم بدرٍ فقتلتُ به سعيدَ بنَ العاص وأخذتُ سيفَه فأعجبني فجئتُ به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلت إنَّ الله تعالى قد شفى صدري من المشركين فهَبْ لي هذا السيف فقال لي صلى الله عليه وسلم ليس هذا لي ولا لك اطرَحْه في القبض فطرحتُه وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذِ سلبي فما جاوزتُ إلا قليلاً حتى نزلت سورةُ الأنفال فقالَ لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يا سعُد إنك سألتَنى السيفَ وليس لي وقد صار لي فاذهبْ فخُذْه وهذا كما ترى يقتضي عدمَ وقوعِ التنفيلِ يومئذ وإلا لكان سؤالُ السيفِ من سعد بموجب شرطِه ووعده صلى الله عليه وسلم لا بطريق الهِبَة المبتدَأةِ وحُمل ذلك من سعدٍ على مراعاة الأدبِ مع كون سؤالِه بموجب الشرط يرده رده صلى الله عليه وسلم قبل النزولِ وتعليلُه بقوله ليس هذا لي لاستحالة أن يعد صلى الله عليه وسلم بما لا يقدِرُ على إنجازه وإعطاؤه صلى الله عليه وسلم بعد النزولِ وترتيبُه على قوله وقد صار لي ضرورةَ أن مناطَ صيرورتِه له صلى الله عليه وسلم قوله تعالى الانفال لله والرسول والفرضُ أنه المانعُ من إعطاء المسئول ومَّما هُو نصٌّ في الباب قوله عز وجل {فاتقوا الله} أي إذا كان أمرُ الغنائم لله تعالى ورسوله فاتقوه تعالى واجتنبوه ما كنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجِبِ لسخط الله تعالى أو فاتقوه في كل ما تأنون وما تذرون فيدخُل فيه ما هم فيه دخولاً أولياً ولو كان السؤالُ طلباً للمشروط لمّا كان فيه محذورٌ يجب اتقاؤُه وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية الممابة وتعليلِ الحُكم {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} جُعل ما بينهم من الحال لملابستها التامةِ لبَيْنهم صاحبةً له كما جُعلت الأمورُ المضمرةُ في الصدور ذاتَ الصدور أي أصلِحوا ما بينكم من الأحوال بالمواساة والمساعدةِ فيما رزقكم الله تعالى وتفضل به عليكم وعن عبادة بن الصامت نزلت فينا معشرَ أصحابِ بدرٍ حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلافنا فنزعه الله تعالى من أيدينا فجعله لرسوله فقسمه بين المسلمين على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعةُ رسوله وإصلاحُ ذات البين وعن عطاء كان الإصلاحُ بينهم أن دعاهم وقال اقسموا غنائمَكم بالعدل فقالوا قد أكلْنا وأنفقْنا فقال ليرُدَّ بعضُكم على بعض {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} بتسليم أمرِه ونهيه وتوسيطُ الأمر بإصلاح ذاتِ البين بين الأمرِ بالتقوى والأمرِ بالطاعة لإظهار كمالِ العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرجَ الأمرُ به بعينه تحت الأمرِ بالطاعة {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} متعلقٌ بالأوامرَ الثلاثةِ والجوابُ محذوفٌ ثقةً بدِلالة المذكورِ عليه أو هو الجوابُ على الخلاف المشهور وأيَاً ما كانَ فالمقصودُ تحقيقُ المعلقِ بناءً على تحقق المعلقِ به وفيه تنشيطٌ للمخاطَبين

وحثٌّ لهم على المسارعة إلى الامتثال والمرادُ بالإيمان كمالُه أي إن كنتم كاملي الإيمانِ فإن كمالَ الإيمان يدور على هذه الخِصالِ الثلاثِ طاعةُ الأوامرِ واتقاءُ المعاصي وإصلاحُ ذاتِ البين بالعدل والإحسان الأنفال (2 4)

2

{إِنَّمَا المؤمنون} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان مَنْ أريد بالمؤمنين بذكر أوصافِهم الجليلةِ المستتبِعةِ لما ذكر من الخِصال الثلاثِ وفيه مزيدُ ترغيبٍ لهم في الامتثال بالأوامر المذكورةِ أي إنَّما الكاملون في الإيمان المخلِصون فيه {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي فِزعت لمجرد ذكرِه من غير أن يُذكرَ هناك ما يوجب الفزَعَ من صفاته وأفعاله استعظاما لشأنه الجليلِ وتهيباً منه وقيل هو الرجلُ يُهمّ بمعصية فيقال له اتقِ الله فينزع عنها خوفها من عقابه وقرىء وجَلت بفتح الجيم وهي لغة وقرئ فرِقَتْ أي خافت {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} أيَّ آيةٍ كانت {زَادَتْهُمْ إيمانا} أي يقيناً وطُمأنينةَ نفسٍ فإن تظاهُرَ الأدلةِ وتعاضُدَ الحُججِ والبراهينِ موجبٌ لزيادة الاطمئنانِ وقوة اليقين وقيل إن نفسَ الإيمانِ لا يقبل الزيادةَ والنقصانَ وإنما زيادتُه باعتبار زيادةِ المؤمَنِ به فإنه كلما نزلت آية صدّق بها المؤمنُ فزاد إيمانه عددا وأما نفسُ الإيمان فهو بحاله وقيل باعتبار أن الأعمالَ تُجعل من الإيمان فيزيد بزيادتها والأصوبُ أن نفسَ التصديقِ يقبل القوةَ وهي التي عُبّر عنها بالزيادة للفرق النيّر بين يقينِ الأنبياءِ وأربابِ المكاشفات ويقينِ آحادِ الأمةِ وعليه مبنى ما قال علي رضي الله عنه لو كُشفَ الغطاءُ ما ازددتُ يقيناً وكذا بين ما قام عليه دليلٌ واحد وما قامت عليه أدلةٌ كثيرة {وعلى رَبّهِمْ} مالكِهم ومدبرِ أمورِهم خاصة {يَتَوَكَّلُونَ} يفوّضون أمورَهم لا إلى أحدٍ سواهُ والجملةُ معطوفةٌ على الصِّلةِ وقولُه تعالى

3

{الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} مرفوعٌ على أنَّه نعتٌ للموصولِ الأول أو بدلٌ منه أو بيانٌ له أو منصوبٌ على القطع المنبئ عن المدح ذَكَر أولاً من أعمالهم الحسنةِ أعمالَ القلوب من الخشية والإخلاصِ والتوكل ثم عقّب بأعمال الجوارحِ من الصلاة والصدقة

4

{أولئك} إشارةٌ إلى مَن ذُكرت صفاتُهم الحميدةُ من حيث أنهم متصفون بها وفيهِ دلالةٌ على أنَّهم متمِّيزون بذلك عمن عداهم أكملَ تميُّز منتظِمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بعلوِّ رُتبتهم وبُعد منزلتِهم في الشرف {هُمُ المؤمنون حَقّاً} لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه ما فضل من أفاضل الأعمال القلبية والقالَبية وحقاً صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي أولئك هم المؤمنون إيماناً حقاً أو مصدرٌ مؤكدٌ للجملة أي حقَّ ذلك حقاً كقولك هو عبدُ الله حقاً {لَّهُمْ درجات} من الكرامة والزلفى وقيل درجاتٌ عاليةٌ في الجنة وهو إما جملةٌ مبتدأةٌ مبنيّةٌ على سؤال نشأ من تعداد مناقبهم

كأنه قيل ما لهم بمقابلة هذه الخِصالِ فقيل لهم كيت كيت أو خبرٌ ثانٍ لأولئك وقوله تعالى {عِندَ رَبّهِمْ} إما متعلق بمحذوف وقع صفةً لدرجاتٌ مؤكدةٌ لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنةٌ عنده تعالى أو بما يتعلق به الخبرُ أعني لهم من الاستقرار وفي إضافة الظرفِ إلى الرب المضافِ إلى ضميرهم مزيدُ تشريفٍ ولطفٍ لهم وإيذانٌ بأن ما وعد لهم متيقَّنُ الثبوتِ والحصولِ مأمونُ الفواتِ {وَمَغْفِرَةٌ} لما فرَط منهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لا ينقضي أمدُه ولا ينتهي عددُه وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة الأنفال آية 5

5

{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} الكافُ في محلِ الرفعِ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه هذه الحالُ كحال إخراجِك يعني أن حالَهم في كراهتهم لِما رأيتَ مع كونه حقاً كحالهم في كراهتهم لخروجك للحرب وهو حقٌّ أو في محلِّ النصبِ على أنَّه صفةٌ لمصدر مقدرٍ في قوله تعالى الانفال لِلَّهِ أي الأنفالُ ثبتتْ لله والرسولِ مع كراهتهم ثباتاً مثلَ ثباتِ إخراجِ ربِّك إياك من بيتك في المدينة أو من المدينة إخراجاً ملتبساً بالحق {وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ} أي والحالُ أن فريقاً منهم كارهون للخروج إما لنفرة الطبعِ عن القتالِ أو لعدم الاستعدادِ وذلك أن عِيرَ قريشٍ أقبلت من الشام وفيها تجارةٌ عظيمةٌ ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيانَ وعمرو بنُ العاص وعمْرُو بنُ هشام فأخبر جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجَبَهم تلقِّي العِيرِ لكثرة الخيرِ وقلةِ القوم فلما خرجوا بلغ أهلَ مكةَ خبرُ خروجِهم فنادى أبو جهلٍ فوق الكعبة بأهل مكة النجاة النجاة على كل صعب وذلول عِيرُكم أموالُكم إن أصابها محمدٌ لم تُفلِحوا بعدها أبداً وقد رأت أختُ العباسِ بنِ عبد المطلبِ رضي الله عنه رؤيا فقالت لأخيها إني رأيت كأن ملَكاً نزل من السماء فأخذ صخْرةً من الجبل ثم حلّق بها فلم يبق بيتٌ من بيوت مكةَ إلا أصابه حجرٌ من تلك الصخرة فحدّث بها العباسُ رضيَ الله عنه فقالَ أبو جهل ما يرضى رجالهم أن يتنبئوا حتى تتنبأَ نساؤُهم فخرج أبو جهلٍ بجميع أهلِ مكةَ وهم النفيرُ فقيل له إن العِيرَ أخذت طريق الساحل ونجت فارجِعْ بالناس إلى مكَة فقال لا واللاتِ لا يكون ذلك أبدا حتى ننحَرَ الجَزورَ ونشربَ الخمور ونُقيمَ القينات والمعازِفَ ببدر فيتسامع جميعُ العرب بمَخْرَجنا وأن محمداً لم يُصِب العير وأنا قد أعضضاه فمضى بهم إلى بدر وبدر ماءٍ كانت العربُ تجتمع فيه لسوقهم يوماً في السنة فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ فقال يا محمدُ إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العِيرَ وإما قريشا فاستشار النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أصحابَه فقال ما تقولون إن القومَ قد خرجوا من مكةَ على كل صَعْبٍ وذَلولٍ فالعِيرُ أحبُّ إليكم أم النفيرُ فقالوا بل العيرُ أحبُّ إلينا من لقاء العدوِّ فتغير وجهُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم ردّد عليهم فقال إن العير قد مضت على ساحل البحرِ وهذا أبو جهل قد أقبل فقالُوا يا رسولَ الله عليك بالعِير ودعِ العدوَّ فقام عندما غضِبَ النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا ثم قام سعدُ بن عُبادةَ فقال انظُر أمرَك فامضِ فوالله لو سِرتَ إلى عدنِ أَبْيَنَ ما تخلف عنك رجلٌ من الأنصار ثم قال المقدادُ بنُ عمرو رضيَ الله عُنهُ يا رسولَ الله امضِ لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببْتَ لا نقول لك كما قال بنو إسرائيلَ لموسى عليه السلام اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا ههنا قاعدون ولكن اذهب أَنتَ وربُّك فَقَاتِلا إِنَّا معكما مقاتلون

ما دامت عينٌ منا تطرِفُ فضحِك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال أشيروا علي أيها الناس وهو يريد الأنصار لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة إنا بُرَآءُ من ذِمامِك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلتَ إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك ما نمنع منه أبناءَنا ونساءَنا فكان النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يتخوّف أن تكون الأنصارُ لا ترى عليهم نُصرتَه إلا على عدو دَهِمَهُ بالمدينة فقام سعدُ بن معاذ فقال لكأنك تريدنا يا رسول لله قال أجل قال قد آمنا بك وصدقناك وشهِدنا أن ما جئت به هو الحقُّ وأعطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقَنا على السمع والطاعةِ فامضِ يا رسولَ الله لما أردتَ فو الذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا هذا البحرَ فخُضتَه لخُضناه معك ما تخلّف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا وإنا لصُبرٌ عند الحرب صُدقٌ عند اللقاء ولعل الله يُريك منا ما تَقَرُّ به عينُك فسِرْ بنا على بركة الله ففرح رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وبسَطه قولُ سعد ثم قال سيروا على بركة الله وأبشِروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظرُ إلى مصارع القوم روي أنَّه قيلَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم حين فرَغ من بدر عليك بالعِير ليس دونها شيء فناداه العباس رضي الله عنه وهو في وِثاقه لا يصلح فقال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لم قال لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك الأنفال (6 7)

6

{يجادلونك فِي الحق} الذي هو تلقّي النفيرِ لإيثارهم عليه تلقيَ العير والجملةُ استئنافٌ أو حالٌ ثانية أي أخرجك في حال مجادلِتهم إياك ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً من الضمير في لَكارهون وقوله تعالى {بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ} منصوبٌ بيجادلونك وما مصدرية أي بعد تبين الحقِّ لهم بإعلامك أنهم يُنصَرون أينما توجهوا ويقولون ما كان خروجُنا إلا للعِير وهلا قلتَ لنا لنستعدَّ ونتأهَّبَ وكان ذلك لكراهتهم القتالَ {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت} الكافُ في محل نصبٍ على الحاليةِ من الضميرِ في لَكارهون أي مُشبّهين بالذين يُساقون بالعنف والصَّغار إلى القتل {وَهُمْ يَنظُرُونَ} حال من ضمير يساقون أي والحالُ أنهم ينظرُون إلى أسباب الموتِ ويشاهدونها عِيانا وما كانت هذه المرتبةُ من الخوف والجزعِ إلا لقلة عددِهم وعدمِ تأهُّبِهم وكونهم رِجالة روي أنه لم يكن فيهم إلا فارسان

7

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لبيانِ جميلِ صنعِ الله عز وجل بالمؤمنين مع ما بهم من قلة الحزم ودناءةِ الهِمّةِ وقُصورِ الرأي والخوفِ والجزعِ وإذْ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمر خوطب به المؤمنون بطريق التلوينِ والالتفات وإحدى الطائفتين مفعولٌ ثانٍ ليعدُكم أي اذكروا وقتَ وعدِ الله إياكم إحدى الطائفتين وتذكيرُ الوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما فيه من الحوادث لما مر مرارا من المبالغة في إيجاب ذكرِها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجابٌ لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهانيِّ ولأن الوقتَ مشتملٌ على ما وقع فيه من الحوادث بتفاصيلها فإذا استُحضِر كان ما وقع فيه حاضراً مفصّلاً كأنه مشاهَدٌ عياناً وقرئ يَعدْكم بسكون الدال تخفيفاً وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ

الماضيةِ لاستحضار صورتِها وقوله تعالى {أَنَّهَا لَكُمْ} بدلُ اشتمالٍ من إحدى الطائفتين مُبينٌ لكيفية الوعدِ أي يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنةٌ لكم مختصّةٌ بكم مسخّرةٌ لكم تتسلطون عليها تسلّطَ الُملاّكِ وتتصرفون فيهم كيف شئتم {وَتَوَدُّونَ} عطفٌ على يعدكم داخلٌ تحت الأمرِ بالذكر أي تحبون {أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ} من الطائفتين لا ذاتَ الشوْكةِ وهي النفيرُ ورئيسُهم أبو جهلٍ وهم ألفُ مقاتلٍ وغيرُ ذاتِ الشَّوكة هي العِيرُ إذ لم يكن فيها إلا أربعون فارساً ورأسُهم أبو سفيانَ والتعبيرُ عنهم بهذا العنوانِ للتنبيه على سبب ودادتهم لملاقاتهم وموجبِ كراهتِهم ونفرتِهم عن موافاة النفيرِ والشوْكةُ الحدة مستعارةٌ من واحدة الشَّوْك وشوك القنا شباها {وَيُرِيدُ الله} عطفٌ على تودّون منتظمٌ معه في سلك التذكيرِ ليُظهِرَ لهم عظيمَ لطفِ الله بهم مع دناءة هِممِهم وقصور آرائِهم أي اذكُروا وقت وعِده تعالى إياكم إحدى الطائفتين وودادتِكم لأدناهما وإرادتَه تعالى لأعلاهما وذلك قولُه تعالى {إِنَّ يُحِقَّ الحَقَّ} أي يُثْبِتَه ويُعلِيَه {بكلماته} أي بآياته المنزلةِ في هذا الشأن أو بأوامره للملائكة بالإمداد وبما قضَى من أسرهم وقتلهم وطرحِهم في قليب بدر وقرئ بكلمته {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} أي آخِرَهم ويستأصِلَهم بالمرة والمعنى أنتم تريدون سَفْسافَ الأمور والله عز وعلا يريد معالِيَها وما يرجِعُ إلى علو كلمةِ الحقِّ وسموِّ رتبةِ الدين وشتان بين المرادين وقوله تعالى الأنفال (9 8)

8

{لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل} جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لبيان الحِكمةِ الداعيةِ إلى اختيار ذاتِ الشوكة ونصرِهم عليها مع إرادتهم لغيرها واللامُ متعلقةٌ بفعل مقدر مؤخر عنها أي لهذه الغايةِ الجليلةِ فعلَ ما فعَل لا لشيء آخرَ وليس فيه تكرارٌ إذ الأولُ لبيان تفاوتِ ما بين الإرادتين وهذا لبيان الحِكمةِ الداعية إلى ما ذكر ومعنى إحقاقِ الحقِّ إظهارُ حقّيتِه لا جعلُه حقاً بعد أن لم يكن كذلك وكذا حال إبطال الباطل {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} أي المشركين ذلك أي إحقاق الحق وإبطال الباطل

9

{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} بدلٌ من إذ يعدكم معمولٌ لعامله فالمراد تذكيرُ استمدادِهم منه سبحانه والتجائِهم إليه تعالى حين ضاقتْ عليهم الحيلُ وعيَّت بهم العلل وإمدادُه تعالى حينئذ وقيل متعلقٌ بقوله تعالى ليحق الحق على الظرفية وما قيل من أن قوله تعالى ليُحِق مستقبلٌ لأنه منصوبٌ بأن فلا يمكن عمله في إذ لأنه ظرف لما مضى ليس بشيء لأن كونَه مستقبَلاً إنما هو بالنسبة إلى زمان ما هو غاية له من الفعل المقدرِ لا بالنسبة إلى زمان الاستغائة حتى لا يعملَ فيه بل هما في وقت واحد إنما عبّر عن زمانها بإذ نظراً إلى زمان النزولِ وصيغةُ الاستقبالِ في تستغيثون لحكاية الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتِها العجيبة وقيل متعلقٌ بمضمر مستأنف أي ذكروا وقت استغاثتِكم وذلك أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال جعلوا يدعون الله تعالى قائلين أيْ ربُّ انصُرنا على عدوك ياغياث المستغيثين أغِثْنا وعن عمرَ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلثُمائةٍ وبضعةَ عشرَ فاستقبل القِبلةَ ومد يديه يدعو

اللهَّم أنجِزْ لي ما وعدتني اللهم إنْ تهلِكْ هذه العِصابةُ لا تعبَدْ في الأرض فما زال كذلك حتى سقط رداؤُه فأخذه أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه وقال يا نبيَّ الله كفاك مناشدتُك ربَّك فإنه سيُنجز لك ما وعدك {فاستجاب لَكُمْ} عطفٌ على تستغيثون داخلٌ معه في حكم التذكيرِ لِما عرفت أنه ماضٍ وصيغةُ الاستقبال لاستحضار الصورة {أَنّي مُمِدُّكُمْ} أي بأني فحُذف الجارُّ وسُلّط عليه الفعلُ فنصَب محله وقرئ بكسر الهمزةِ على إرادة القولِ أو على إجراء استجابَ مجرى قال لأن الاستجابةَ من مقولة القول {بألف من الملائكة مُرْدِفِينَ} أي جاعلين غيرَهم من الملائكة رديفاً لأنفسهم فالمراد بهم رؤساؤُهم المستتبِعون لغيرهم وقد اكتفى ههنا بهذا البيانِ الإجماليِّ وبيِّن في سورة آل عمران مقدار عددهم وقيل معناه مُتْبعِين أنفسَهم ملائكةً آخرين أو متْبعين المؤمنين أو بعضَهم بعضاً من أردفتُه إذا جئتُ بعده أو متبعين بعضَهم بعضَ المؤمنين أو أنفسَهم المؤمنين من أردفتُه إياه فردِفَه وقرىء مردَفين بفتح الدال أي مُتْبَعين أو متبعين بمعنى أنهم كانوا مقدمة الجيش أو ساقَتَهم وقرىء مرُدّفين بكسر الراء وضمها وتشديد الدال وأصلُهما مرتدفين بمعنى مترادفين فأدغمت التاءُ في الدال فالتقى الساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أبو بالضم على الاتباع وقريء بآلاف ليوافقَ ما في سورة آل عمران ووجهُ التوفيق بينه وبين المشهورِ أن المرادَ بالألفِ الذين كانوا على المقدمة أو الساقةُ أو وجوهُهم وأعيانُهم أو من قاتل منهم واختُلف في مقاتلتهم وقد روي أخبارٌ تدل على وقوعها الأنفال (10)

10

{وَمَا جَعَلَهُ الله} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان أن الأسبابَ الظاهرةَ بمعزل من التأثير وإنما التأثيُر مختصٌّ به عز وجل ليثق به المؤمنين ولا يقنَطوا من النصر عند فُقدانِ أسبابِه والجعلُ متعدَ إلى مفعول واحد هو الضميرُ العائدُ إلى مصدر فعلٍ مقدرٍ يقتضيه المقامُ اقتضاء ظاهر مُغنياً عن التصريحِ بهِ كأنهُ قيل فأمدكم بهم وما جعل إمدادَكم بهم {إِلاَّ بشرى} وهو استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم العلل أي وما جعل إمدادَكم بإنزال الملائكةِ عِياناً لشيءٍ من الأشياءِ إلا للبشرى لكم بأنكم تنصرون {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ} أي بالإمداد {قُلُوبُكُمْ} وتسكنَ إليه نفوسُكم كما كانت السكينةُ لبني إسرائيلَ كذلك فكلاهما مفعولٌ له للجعل وقد نُصب الأولُ لاجتماع شرائطِه وبقيَ الثاني على حاله لفقدانها وقيل للإشارة إلى أصالته في العلِّية وأهميتِه في نفسه كما قيل في قولِه تعالى والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وفي قصر الإمدادِ عليهما إشعارٌ بعدم مباشرةِ الملائكةِ للقتال وإنما كان إمدادُهم بتقويةِ قلوب المباشرين وتكثيرِ سوادِهم ونحوِه كما هو رأيُ بعضِ السلف وقيل الجعلُ متعدٍ إلى اثنين ثانيهما إلا بشرى على أنه استثناءٌ من أعم المفاعيلِ أي وما جعله الله شيئاً من الأشياءِ إلا بشارةً لكم فاللام في ولتطمئن متعلقةٌ بمحذوفٍ مؤخَّرٍ تقديرُه ولتطمئن به قلوبُكم فعَلَ ذلك لا لشيء آخَرَ {وَمَا النصر} أي حقيقةُ النصر على الإطلاق {إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} أي إلا كائنٌ من عنده عزَّ وجلَّ من غيرِ أن يكون فيه شِرْكةٌ

من جهة الأسبابِ والعَدد وإنما هي مظاهرُ له بطريق جريانِ السنةِ الإلهية {أَنَّ الله عَزِيزٌ} لا يغالَب في حُكمه ولا يُنازَع في أقضيته {حَكِيمٌ} يفعلُ كلَّ ما يفعل حسبما تقتضيهِ الحكمةُ والمصلحةُ والجملةُ تعليلٌ لما قبلها متضمنٌ للإشعار بأن النصرَ الواقعَ على الوجه المذكورِ من مقتَضيات الحِكم البالغةِ الأنفال آية (11)

11

{إِذْ يُغَشّيكُمُ النعاس} أي يجعله غاشياً لكم ومحيطاً بكم وهو بدلٌ ثانٍ من إذ يعدكم لإظهار نعمةٍ أخرى وصيغةُ الاستقبالِ فيه وفيما عُطف عليهِ لحكاية الحال الماضيةِ كما في تستغيثون أو منصوبٌ بإضمار اذكُروا وقيل هو متعلقٌ بالنصر أو بما في مِنْ عِندِ الله منْ مَعْنى الفعلِ أو بالجعل وليس بواضح وقرىء يُغْشيكم من الإغشاء بمعنى التغشية والفاعلُ في الوجهين هو الباري تعالى وقرىء يغشاكم على إسنادِ الفعلِ إلى النعاس وقوله تعالى {أَمَنَةً مّنْهُ} على القراءتين الأُوليين منصوبٌ على العلية بفعل مترتبٍ على الفعل المذكور أي يغشيّكم النعاسَ فتنعَسون أمناً كائناً من الله تعالى لا كَلالاً وإعياءً أو على أنَّه مصدرٌ لفعل آخرَ كذلك أي فتأمنون آمِنا كما في قوله تعالى وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا على أحد الوجهين وقيل منصوبٌ بنفس الفعلِ المذكورِ والأَمَنةُ بمعنى الإيمان وعلى القراءة الأخيرة منصوبٌ على العِلّية بيغشاكم باعتبار المعنى فإنه في حكم تنعسون أو على أنَّه مصدرٌ لفعل مترتبٍ عليه كما مر وقرىء أمْنةً كرحمة {وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاءً} تقديمُ الجار والمجرور على المفعول به لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً له فعند ورودِه يتمكن عندها فضلُ تمكّنٍ وتقديمُ عليكم لما أن بيانَ كونِ التنزيلِ عليهم أهمَّ من بيان كونه من السماء وقرئ بالتخفيف من الإنزال {لّيُطَهّرَكُمْ به} أي من الحدث الأصغرِ والأكبر {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} الكلامُ في تقديم الجارّ والمجرور كما مر آنفاً والمرادُ برجز الشيطانِ وسوستُه وتخويفُه إياهم من العطش روي أنهم نزلوا في كَثيب أعفرَ تسوخُ فيه الأقدامُ على غير ماءٍ وناموا فاحتلم أكثرهم وقد غلب المشركين على الماء فتمثل لهم الشيطانُ فوسوس إليهم وقال أنتم يا أصحابَ محمدٍ تزعُمون أنكم على الحق وإنكم تصلّون على غير وضوء وعلى الجنابة وقد عطِشتم ولو كنتم على الحق ما غلبكمِ هؤلاءِ على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يَجهدَكم العطشُ فإذا قطَع أعناقَكم مشَوا إليكم فقتلوا مَنْ أحبّوا وساقوا بقيتَكم إلى مكة فحزِنوا حُزناً شديداً وأشفقوا فأنزل الله عزَّ وجلَّ المطرَ فمُطِروا ليلاً حتى جرى الوادي فاغتسلوا وتوضئوا وسَقَوا الرِكابَ وتلبّد الرملُ الذي كان بينهم وبين العدوِّ حتى ثبتت عليه الأقدامُ وزالت وسوسةُ الشيطانِ وطابت النفوسُ وقوِيَت القلوبُ وذلك قوله تعالى {وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ} أي يقوّيها بالثقة بلُطف الله تعالى فيما بعد مشاهدة طلائعِه {وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام} فلا تسوخ في الرمل فالضميرُ للماء كالأول ويجوز أن يكون المربط فإن القلبَ إذا قوِي

وتمكن فبه الصبرُ والجَراءةُ لا تكاد تزِلُّ القدمُ في معارك الحروب وقوله تعالى الأنفال آية 12

12

{إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملائكة} منصوبٌ بمضمر مستأنفٍ خوطب به النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بطريق التجريدِ حسبما تنطِق به الكافُ لِما أن المأمورَ به مما لا يستطيعه غيره صلى الله عليه وسلم فإن الوحيَ المذكورَ قبل ظهورِه بالوحي المتلوِّ على لسانه صلى الله عليه وسلم ليس من النعم التي يقف عليها عامةُ الأمةِ كسائر النعمِ السابقة التي أُمروا بذكر وقتِها بطريق الشكرِ وقيل منصوب بقوله تعالى وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام فلا بد حينئذٍ من عود الضميرِ المجرورِ في به إلى الربط على القلوب ليكون المعنى ويثبتَ أقدامَكم بتقوية قلوبِكم وقتَ إيحائِه إلى الملائكة وأمرِه بتثبيتهم إياكم وهو وقتُ القتال ولا يخفى أن تقييد التثبيت المذكورِ بوقت مبْهمٍ عندهم ليس فيه مزيدُ فائدةٍ وأما انتصابُه على أنه بدلٌ ثالثٌ من إذ يعدكم كما قيل فيأباه تخصيصُ الخطاب به صلى الله عليه وسلم مع ما عرفتَ من أنَّ المأمورَ به ليس من الوظائف العامةِ للكل كسائر أخواتِه وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من التنويه والتشريفِ ما لا يخفى والمعنى اذكُر وقتَ إيحائِه تعالى إلى الملائكة {إِنّى مَعَكُمْ} أي بالإمداد والتوفيقِ في أمر التثبيتِ فهو مفعولُ يوحي وقرئ بالكسرِ على إرادةِ القولِ أو إجراءِ الوحي مُجراه وما يشعر به دخول كلمة مع من متبوعية الملائكةِ إنما هي من حيث إنهم المباشرون للتثبيت صورةً فلهم الأصالةُ من تلك الحيثيةِ كما في أمثال قولهِ تعالى إِنَّ الله مَعَ الصابرين والفاءُ في قوله تعالى {فَثَبّتُواْ الذين آمنوا} لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إمدادَه تعالى إياهم من أقوى موجباتِ التثبيتِ واختلفوا في كيفية التثبيتِ فقالت جماعةٌ إنما أُمروا بتثبيتهم بالبِشارة وتكثيرِ السوادِ ونحوِهما مما تقوى به قلوبُهم وتصِحّ عزائمهُم ونياتُهم ويتأكد جِدُّهم في القتال وهو الأنسبُ بمعنى التثبيتِ وحقيقتِه التي هي عبارةٌ عن الحمل على الثبات في موطن الحراب والجِدّ في مقاساة شدائد القتال وقد روي أنه كان الملَكُ يتشبّه بالرجل الذي يعرفونه بوجهه فيأتي ويقول إنى سمعتُ المشركين يقولون والله لئن حَملوا علينا لننكَشِفنّ ويمشي بين الصفين فيقول أبشِروا فإن الله تعالى ناصرُكم وقال آخرون أُمروا بمحاربة أعدائِهم وجعلوا قولَه تعالى {سَأُلْقِى في قلوب الذين كفروا الرعب} تفسير لقوله تعالى إِنّى مَعَكُمْ وقولَه تعالى {فاضربوا} الخ تفسيراً لقوله تعالى فَثَبّتُوا مبيناً لكيفية التثبيت وقد روي عن أبي داود المازني رضي الله عنه وكان ممن شهد بدراً أنه قال اتبعتُ رجلاً من المشركين يوم بدر لأضرِبَه فوقعتْ رأسُه بين يديَّ قبل أن يصِلَ إليه سيفي وعن سهل بن حنيف رضيَ الله عنه أنَّه قال لقد رأيُتنا يوم بدر وإن أحدَنا يُشيرُ بسيفه إلى المشرك فتقعُ رأسُه عن جسده قبل أن يصِلَ إليه السيفُ وأنت خبيرٌ بأن قتلَهم للكفرة مع عدم ملاءمته لمعنى تثبيتِ المؤمنين مما لا يتوقفُ على الإمدادِ بإلقاء الرعبِ فلا يتجه ترتيبُ الأمر به عليه بالفاء وقد اعتذر الأولون بأن قوله تعالى سألقى الخ ليس بنص فيما ذكر بل يجوز أن يكون ذلك إثرَ قوله تعالى فَثَبّتُواْ الذين آمنوا تلقيناً للملائكة ما يثبّتونهم به

كأنه قيل قولوا لهم سألقى في قلوب الذين كفروا الرعبَ فاضرِبوا الخ فالضاربون هم المؤمنون وأما ما قيل من أن ذلك خطابٌ منه تعالى للمؤمنين بالذات على طريق التلوينِ فمبناه توهُّمُ ورودِه قبل القتالِ وأنّى ذلك والسورةُ الكريمة إنما نزلت بعد تمامِ الوقعة وقوله تعالى {فَوْقَ الاعناق} أي أعاليَها التي هي المذابح أو الهامات {واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} قيل البنانُ أطرافُ الأصابع من اليدين والرجلين وقيل هي الأصابعُ من اليدين والرجلين وقال أبو الهيثم البنان المفاصلُ وكلُّ مَفصِلٍ بنانه وقال ابن عباس وابن جريج والضحاك يعني الأطرافَ أي اضرِبوهم في جميع الأعضاء من أعاليها إلى أسافلِها وقيل المرادُ بالبنان الأداني وبفوق الأعناق الأعالي والمعنى فاضرِبوا الصناديدَ والسَّفَلةَ وتكريرُ الأمر بالضرب لمزيد التشديد والاعتناء بأمره ومنهم متعلقٌ به أو بمحذوفٍ وقع حالا مما بعده سورة الأنفال (13 14)

13

{ذلك} إشارة إلى ما أصابهم من العقاب وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجته في الشدة والفظاعةِ والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يليق بالخطاب ومحلُّه الرفعُ على الابتداء وخبرُه قوله تعالى {بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} أي ذلك العقابُ الفظيعُ واقعٌ عليهم بسبب مُشاقّتِهم ومغالبتِهم مَنْ لا سبيلَ إلى مغالبته أصلاً واشتقاقُ المشاقةِ من الشِّق لِما أنَّ كُلاًّ من المشاقين في شق خلاف شِقّ الآخر كما أن اشتقاقَ المُعاداةِ والمُخاصمة من العَدْوة والخَصْم أي الجانب لأن كلاًّ من المتعاديَيْن والمتخاصمَين في عَدوةٍ وخصمٍ غيرِ عدوةِ الآخر وخصمِه {وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ} الإظهار في موضع الإضمار لتربية المهابةِ وإظهار كمالِ شناعة ما اجترءوا عليه والإشعارِ بعلة الحُكم وقولُه تعالى {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} إمَّا نفسُ الجزاءِ قد حُذف منه العائدُ إلى مَنْ عندِ منْ يلتزمُهُ أي شديدُ العقابِ له أو تعليلٌ للجزاءِ المحذوفِ أي يعاقبْه الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقابِ وأيَّاً مَا كانَ فالشرطيةُ تكملةٌ لما قبلها وتقريرٌ لمضمونِهِ وتحقيقٌ للسببيةِ بالطريقِ البرهانيِّ كأنه قيل ذلك العقابُ الشديد بسببِ مشاقّتِهم لله تعالى ورسولِه وكلُّ من يشاقق الله ورسولَه كائناً مَنْ كان فلهُ بسببِ ذلكَ عقابٌ شديدٌ فإذن لهم بسبب مشاقّتِهم لهما عقابٌ شديد وأما أنه وعيدٌ لهم بما أَعدَّ لَهُم في الآخرةِ بعد ما حاقَ بهم في الدُّنيا كما قيل فيرده ما بعدَهُ منْ قولِه تعالى

14

{ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ للكافرين عَذَابَ النار} فإنه مع كونه هو المسوقَ للوعيد بما ذُكر ناطقٌ بكون المرادِ بالعقاب المذكورِ ما أصابهم عاجلاً سواءٌ جُعل ذلكم إشارةً إلى نفس العقابِ أو إلى ما تفيده الشرطيةُ من ثبوت العقابِ لهم أما على الأول فلأن الأظهرَ أن محلَّه النصبُ بمضمر يستدعيه قولُه تعالى فَذُوقُوهُ والواو في قوله تعالى وأن للكافرين الخ بمعنى مع فالمعنى باشروا ذلكم العقابَ الذي أصابكم فذوقوه عاجلاً مع أن لكم عذابَ النارِ آجلاً فوضْعُ الظاهرِ موضعَ الضميرِ لتوبيخهم بالكفر وتعليلِ الحُكم به وأما على الثاني فلأن الأقربَ أن محلُّه الرفعُ على أنه خبر مبتدأ محذوف وقولُه تعالى وَأَنَّ للكافرين الخ معطوفٌ عليه والمعنى حُكمُ الله ذلكم أي ثبوتُ هذا

العقابِ لكم عاجلاً وثبوتُ عذابِ النارِ آجلاً وقوله تعالى فَذُوقُوهُ اعتراضٌ وُسِّط بين المعطوفَيْن للتهديد والضميرُ على الأول لنفس المشارِ إليه وعلى الثاني لما في ضمنه وقد ذُكر في إعراب الآيةِ الكريمةِ وجوُهُ أُخرُ مدار الكلِّ على أن المرادَ بالعقاب ما أصابهم عاجلاً والله تعالى أعلم وقرئ بكسر إن على الاستئناف سورة الأنفال من الآيات (15 16)

15

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} خطابٌ للمؤمنين بحكم كليَ جارٍ فيما سيقع من الوقائع والحروبِ جيءَ به في تضاعيفِ القصةِ إظهاراً للاعتناء بشأنه ومبالغةً في حضهم على المحافظة عليه {إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً} الزحفُ الدبيبُ يقال زحَف الصبيُّ زحفاً إذا دبّ على استه قليلاً قليلاً سُمّي به الجيشُ الداهُم المتوجِّهُ إلى العدو لأنه لكثرته وتكاثفِه يُرى كأنه يزحَف وذلك لأن الكلَّ يرى كجسم واحدٍ متصلٍ فيُحَسُّ حركتُه بالقياس إليه في غاية البُطء وإن كانت في نفس الأمر على غاية السرعة قال قائلهم ... وأرعنَ مثلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أنَّهم ... قوف لِجاجٌ والركابُ تُهملَج ... ونصبُه إما على حالٌ من مفعول لقِيتم أي زاحفين نحوَكم وإما على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لفعل مضمرٍ هو الحالُ منه أي يزحَفون زحفاً وأما كونُه حالاً من فاعله أو منه ومن مفعوله معاً كما قيل فيأباه قوله تعالى {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادبار} إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابقِ إلى العدو أو بكثرتهم بل توجُّهُ العدوِّ إليهم وكثرتُهم هو الداعي إلى الإدبار عادةً والمُحوِجُ إلى النهي عنه وحملُه على الإشعار بما سيكون منهم يومَ حُنينٍ حيث تَوَلَّوا مدْبرين وهم زحفٌ من الزحوف اثنا عشر ألفاً بعيدٌ والمعنى إذا لقِيتموهم للقتال وهم كثيرٌ جمٌّ وأنتم قليلٌ فلا تولوهم أدبارَكم فضلاً عن الفرار بل قابلوهم وقاتِلوهم مع قلتكم فضلاً عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم

16

{وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ} أي يوم اللقاء {دُبُرَهُ} فضلاً عن الفرار وقرىء بسكون الباء {إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ} إما بالتوجه إلى قتال طائفةٍ أخرى أهم من هؤلاء وإما بالفرّ للكرّ بأن يخيل عدوه أنه منهزمٌ ليغُرَّه ويُخرِجَه من بين أعوانه ثم يعطِفَ عليه وحدَه أو مع مَنْ في الكمين من أصحابه وهو باب من خِدعِ الحربِ ومكايدِها {أَوْ مُتَحَيّزاً إلى فِئَةٍ} أي منحازاً إلى جماعة أخرى من المؤمنين لينضمّ إليهم ثم يقاتلَ معهم العدو عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال إن سريةً فرّوا وأنا معهم فلما رجعوا إلى المدينة استحيَوْا ودخلوا البيوتَ فقلت يا رسولَ الله نحن الفرارون فقال صلى الله عليه وسلم بل أنتم العكّارون أي الكرارون من عكر أي رجع وأنا فئتُكم وانهزم رجلٌ من القادسية فأتى المدينة إلى عمرَ رضي الله عنه فقالَ يا أميرَ المؤمنينَ هلكتُ ففرَرْتُ من الزحف فقال رضي الله عنه أنا فئتُك ووزنُ متحيِّز متفيعل لا متفعّل وإلا لكان متحوزاً لأنه من حاز يجوز وانتصابُهما إما على الحالية وإلا لغولا عمَلَ لها وإما على الاستثناء من المُولّين أي ومن يولهم دبرَه إلا رجلاً منهم متحرفاً أو متحيزاً {فَقَدْ بَاء} أي رجع {بِغَضَبٍ} عظِيمٌ لا يُقادرُ قَدرُه ومِنْ في قولِه

تعالى {مِنَ الله} متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لغضب مؤكدة لما أفادَه التنوينُ من الفخامة والهولِ بالفخامة الإضافيةِ أي بغضب كائنٍ منه تعالى {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} أي بدلَ ما أراد بفراره أن يأويَ إليه من مأوى ينجيه من القتل {وَبِئْسَ المصير} في إيقاع البَوْءِ في موقع جوابِ الشرطِ الذي هو التوليةُ مقروناً بذكر المأوى والمصير من الجزالة ما لا مزيدَ عليه عن عباس رضي الله عنهما أن الفرارَ من الزحف من أكبر الكبائرِ وهذا إذَا لم يكُن العدوُّ أكثرَ من الضِّعف لقوله تعالى الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ الآية وقيل الآية مخصوصةٌ بأهل بيتهِ والحاضرين معه في الحرب سورة الأنفال من الآية (17)

17

{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} رجوعٌ إلى بيان بقيةِ أحكام الواقعة وأحوالِها وتقريرُ ما سبق منها والفاءُ جوابُ شرطٍ مقدر يستدعيه مامر من ذكر إمدادِه تعالى وأمرِه بالتثبيت وغيرِ ذلك كأنَّه قيلَ إذَا كانَ الأمرُ كذلك فلم تقتُلوهم أنتم بقوتكم وقدرتِكم {ولكن الله قَتَلَهُمْ} بنصركم وتسليطِكم عليهم وإلقاءِ الرعب في قلوبهم ويجوز أن يكون التقدير إذا علمتم ذلك فلم تقتُلوهم أي فاعلَموا أو فأُخبركم أنكم لم تقتُلوهم وقيل التقديرُ إن افتخرتم ثم بقتلهم فلم تقتُلوهم على أحد التأويلين لما رُوي أنهم لما انصرفوا من المعركة غالبين غانمين أقبلوا يتفاخرون يقولون قتلتُ وأسرتُ وفعلتُ وتركتُ فنزلت وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين طلعت قريشٌ من العقنقل قال هذه قريشٌ جاءت بخُيلائها وفخرِها يكذّبون رسولَك اللهم إني أسألك ما وعدتي فأتاهُ جبريلُ عليهِ السَّلامُ فقال خُذْ قبضةً من تراب فارمِهم بها فلما التقى الجمعانِ قال لعلي رضي الله عنه أعطني قبضةً من حصباءِ الوادي فرمى بها في وجوههم وقال شاهت الوجوهُ فلم يبْقَ مُشركٌ إلا شُغل بعينيه فانهزموا وذلك قوله عز وجل بطريق تلوينِ الخطاب {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} تحقيقاً لكون الرمي الظاهرِ على يده صلى الله عليه وسلم حينئذ من أفعاله عز وجل وتجريدُ الفعلِ عن المفعول به لما أن المقصودَ الأصليَّ بيانُ حالِ الرمي نفياً وإثباتاً إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر وهو المنشأ لتغيّر المرميِّ به في نفسه وتكثّرِه إلى حيث أصاب عينَيْ كلِّ واحد من أولئك الأمةِ الجمّةِ شيءٌ من ذلك أي وما فعلت أنت يا محمدُ تلك الرميةَ المستتبِعةَ لهذه الآثارِ العظيمةِ حقيقةً حين فعلتَها صورةً وإلا لكان أثرُها من جنس آثارِ الأفاعيلِ البشرية ولكن الله فعلها أي خلقها حين باشَرْتها لكن لا على نهج عادتِه تعالى في خلق أفعالِ العبادِ بل على وجه غيرِ معتادٍ ولذلك أثرت هذا التأثيرَ الخارجَ عن طوق البشرِ ودائرةِ القُوى والقدر فمدارُ إثباتِها لله تعالى ونفِيها عنه صلى الله عليه وسلم كونُ أثرِها من أفعالِه صلى الله عليه وسلم وقرىء ولكنِ الله بالتخفيف والرفع في المحلين واللام في قوله تعالى {وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ} أي ليعطيهم من عنده تعالى {بَلاء حَسَنًا} أي عطاءً جميلاً غيرَ مَشوبٍ بمقاساة الشدائدِ والمكاره إما متعلقةٌ بمحذوف متأخرٍ فالواوُ اعتراضيةٌ أي وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة فعلَ ما فعل لا لشيء غير ذلك مما لا يجديهم نفعا وإما يرمي فالواوُ للعطف على علةٍ محذوفةٍ أي ولكن الله رمى ليمحَق الكافرين وليُبلي إلخ وقولُه تعالَى {إِنَّ الله سَمِيعٌ}

أي لدعائهم واستغائتهم {عَلِيمٌ} أي بنياتهم وأحوالِهم الداعيةِ إلى الإجابة تعليلٌ للحكم سورة الأنفال من الآيات (18 20)

18

{ذلكم} إشارة إلى البلاء الحسنِ ومحلُّه الرفعُ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وقولُه تعالى {وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين} بالإضافة معطوفٌ عليه أي المقصِدُ إبلاءُ المؤمنين وتوهينُ كيدِ الكافرين وإبطالُ حِيلِهم وقيل المشارُ إليه القتلُ والرميُ والمبتدأ الأمر أي الأمر ذلكم أي القتل فيكونُ قولُه تعالَى وَأَنَّ الله الآية من قبيل عطفِ البيانِ وقرىء مُوهِّن بالتنوين مخففاً ومشدداً ونصبِ كيد الكافرين

19

{إِن تَسْتَفْتِحُواْ} خطابٌ لأهل مكةَ على سبيلِ التهكمِ بهم وذلك أنهم حين أرادوا الخروجَ تعلقوا بأستار الكعبةِ وقالوا اللهم انصُرْ أعلى الجُندَيْن وأهدي الفئتين وأكرمَ الحِزبين أي إن تستنصروا لأعلى الجندين {فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح} حيث نصَر أعلاهما وقد زعمتم أنكم الأعلى فالتهكمُ في المجيء أو فقد جاءكم الهزيمةُ والقهرُ فالتهكم في نفس الفتحِ حيث وضع موضعَ ما يقابله {وَإِن تَنتَهُواْ} عما كنتم عليه من الحراب ومعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم {فَهُوَ} أي الانتهاء {خَيْرٌ لَّكُمْ} أي من الحِراب الذي ذُقتم غائلته لِما فيه من السلامة من القتل والأسرِ ومبنى اعتبارِ أصلِ الخيرية في المفضل عليه هو التهكم {وَإِن تَعُودُواْ} أي إلى حِرابه صلى الله عليه وسلم {نَعُدُّ} لما شاهدتموه من الفتح {وَلَن تُغْنِىَ} بالتاء الفوقانية وقرى بالياء التحتانية لأن تأنيثَ الفئةِ غيرُ حقيقي وللفصل أي لن تَدفعَ أبداً {عَنكُمْ فِئَتُكُمْ} جماعتُكم التي تجمعونهم وتستعينون بهم {شَيْئاً} أي من الإغناء أو من المضار وقوله تعالى {وَلَوْ كَثُرَتْ} جملةٌ حالية وقد مر التحقيق {وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين} أي ولأن الله معينُ المؤمنين كان ذلك أو والأمرُ أن الله مع المؤمنين ويقرب منه بحسب المعنى قراءةُ الكسر على الاستئناف وقيل الخطاب للمؤمنين والمعنى إن تستنصِروا فقد جاءكم النصرُ وإن تنتهوا عن التكاسل والرغبةِ عما يرغّب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خير لكم من كل شيء لما أنه مناطٌ لنيل سعادة الدارين وإن تعودوا إليه نعُدْ عليكم بالإنكار وتهييجِ العدو ولن تغنيَ حينئذٍ كثرتُكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر والأمرُ أن الله مع الكاملين في الإيمان

20

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ} بطرح إحدى التاءين وقرىء بإدغامها {عَنْهُ} أي لا تتولوا عن الرسول فإن المرادَ هو الأمرُ بطاعته والنهيُ عن الإعراض عنه وذكرُ طاعتِه تعالى للتمهيد والتنبيه على أن طاعتَه تعالى في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وقيل الضمير للجهاد وقيل للأمر الذي دل عليه الطاعة وقوله تعالى {وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ} جملةٌ حالية واردة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولي مطلقاً كما في قوله تعالى فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ لا لتقييد النهي

عنه بحال السماع كما في قوله تعالى لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى أي لا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته والمواعظ الزاجرة عن مخالفته سماع فهم وإذعان سورة الأنفال من الآيات (21 23)

21

{وَلاَ تَكُونُواْ} تقريرٌ للنهي السابق وتحذيرٌ عن مخالفته بالتنبيه على أنها مؤديةٌ إلى انتظامِهم في سِلك الكفرةِ بكون سماعِهم كَلا سماعٍ أي لا تكونوا بمخالفة الأمر والنهي {كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا} بمجرد الادعاءِ من غير فهمٍ وإذعان كالكفرة والمنافقين الذين يّدعون السماعَ {وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} حالٌ من ضمير قالُوا أي قالوُا ذلكَ والحالُ أنهم لا يسمعون حيث لا يصدّقون ما سمعوه ولا يفهمونه حقَّ فهمِه فكأنهم لا يسمعونه رأساً

22

{إِنَّ شَرَّ الدواب} استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ كمالِ سوءِ حالِ المشبه بهم مبالغةً في التحذير وتقريرا للنهي إثرَ تقريرٍ أي إن شرَّ ما يدب على الأرض أو شرَّ البهائم {عَندَ الله} أي في حكمه وقضائه {الصم} الذين لا يسمعون الحق {البكم} الذي لا ينطِقون به وُصفوا بالصمم والبَكَم لأن ما خُلق له الأذنُ واللسانُ سماعُ الحق والنطقِ به وحيث لم يوجد فيهم شيءٌ من ذلك صاروا كأنهم فاقدون للجارحتين رأساً وتقديم الصمِّ على البكم لما أن صممهم متقدمٌ على بُكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدمِ سماعِهم له كما أن النطقَ به من فروعِ سماعِه ثم وُصفوا بعدم التعقل فقيل {الذين لاَ يَعْقِلُونَ} تحقيقاً لكمال سوءِ حالِهم فإن الأصمَّ الأبكمَ إذا كان له عقلٌ ربما يفهم بعضَ الأمور ويُفهمُه غيرُه بالإشارة ويهتدي بذلك إلى بعض مطالبِه وأما إذا كان فاقداً للعقل أيضاً فهو الغايةُ في الشرّية وسوءِ الحال وبذلك يظهرُ كونُهم شراً من البهائم حيث أبطلوا ما به يمتازون عنها وبه يفضّلون على كثير من خلقِ الله عزَّ وجلَّ فصاروا أخسّ من كل خسيس

23

{وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا} شيئاً من جنس الخيرِ الذي من جملته صرفُ قواهم إلى تحرّي الحقِّ واتباعِ الهدى {لاسْمَعَهُمْ} سماع تفهم وتدبر ولو قفوا على حقية الرسول صلى الله عليه وسلم وأطاعوه وآمنوا به ولكن لم يعلم فيهم شيئاً من ذلك لخلوّهم عنه بالمرة فلم يُسمِعْهم كذلك لخلوه عن الفائدة وخروجِه عن الحكمة وإليه أُشير بقوله تعالى {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ} أي لو أسمعهم سماعَ تفهّمٍ وهم على هذه الحالة العارية عن الخير بالكلية لتولّوا عما سمِعوه من الحق ولم ينتفعوا به قطُّ أو ارتدوا بعد ما صدقوه وصاروا كأن لم يسمعوه أصلاً وقوله تعالى {وَهُم مُّعْرِضُونَ} إما حالٌ من ضمير تولوا أي لتولوا على أدبارهم والحالُ أنهم معرضون عما سمعوه بقلوبهم وإما اعتراضٌ تذييلىٌّ أي وهم قوم عادتهم الإعراض وقيل كانُوا يقولون لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أحّيِ قُصَيّاً فإنه كان شيخَاً مباركاً حتى يشهدَ لك ونؤمنَ بك فالمعنى ولو أسمعهم كلام قصيَ الخ وقيل هم بنو عبدِ الدار بن قصي لم يُسلم منهم إلا مصعبُ بنُ عميرٍ وسويدُ بن حرْملة كانوا يقولون نحن صمٌّ بكمٌ

عميٌ عما جاء به محمدٌ لا نسمعه ولا نجيبه قاتلهم الله تعالى فقُتلوا جميعاً بأحد وكانوا أصحابَ اللواءِ وعن ابن جريج أنهم المنافقون وعن الحسنِ رضيَ الله عنه أنهم أهل الكتاب سورة الأنفال من الآيات (24 25)

24

{يَا أيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} تكريرُ النداء مع وصفهم بنعت الإيمانِ لتنشيطهم إلى الإقبال على الامتثال بما يردُ بعدَه من الأوامر وتنببههم على أنَّ فيهمْ ما يوجبُ ذلك 2 {استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} بحسن الطاعة {إِذَا دَعَاكُمْ} أي الرسولُ إذ هو المباشرُ لدعوة الله تعالى {لِمَا يُحْيِيكُمْ} من العلوم الدينيةِ التي هي مناطُ الحياة الأبدية كما أن الجهَل مدارُ الموتِ الحقيقيِّ أو هي ماءُ حياةِ القلبِ كما أن الجهلَ موجبٌ موتَه وقيل لمجاهدة الكفارِ لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم كما في قوله تعالى وَلَكُمْ فِي القصاص حياة روي أنه صلى الله عليه وسلم مر على أُبيَّ بن كعب وهو يصلي فدعاه فعجّل في صلاته ثم جاء فقال صلى الله عليه وسلم ما منعك من إجابتي قال كنت في الصلاة قال ألم تخبَرْ فيما أوحِيَ إلي استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ الخ واختلف فيه فقيل هذا من خصائص دعائه صلى الله عليه وسلم وقيل لأن إجابته صلى الله عليه وسلم لا تقطع الصلاةَ وقيل كان ذلك الدعاءُ لأمر مهمَ لا يحتمل التأخيرَ وللمصلي أن يقطع الصلاةَ لمثله {واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} تمثيلٌ لغاية قربِه تعالى من العبد كقوله تعالى وَنَحْنُ أقربُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد وتنبيهٌ على أنه تعالى مطلعٌ من مكنونات القلوب على ما عسى يغفُل عنه صاحبُها أو حثٌّ على المبادرة إلى إخلاص القلوبِ وتصفيتِها قبل إدراك المنيةِ فإنها حائلةٌ بين المرء وقلبِه أو تصويرٌ وتخييلٌ لتملّكه على العبد قلبَه بحيث يفسخ عزائمهُ ويغيّر نياتِه ومقاصدَه ويحول بينه وبين الكفر إن إراد سعادتَه ويبدله بالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً وما أشبه ذلك من الأمور المعترضةِ المفوتةِ للفرصة وقرىء بين المرِّ بتشديد الراء على حذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على الراء وإجراء الوصل مجرى الوقف وأنه أي الله عزَّ وجلَّ أو الشأن إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لا إلى غيره فيجازيكم بحسب مراتبِ أعمالِكم فسارعوا إلى طاعته تعالى وطاعةِ رسولِه وبالغوا في الاستجابة لهما

25

{واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} أي لا تختصّ إصابتُها بمن يباشر الظلمَ منكم بل يعُمه وغيرَه كإقرار المُنكَر بين أظهُرِهم والمداهنةِ في الأمر والنهي عن المنكر وافتراقِ الكلمةِ وظهورِ البدع والتكاسلِ في الجهاد على أن قوله لا تصيبن الخ إما جوابُ الأمر على معنى أن إصابتكم لا تصيبن الخ وفيه أن جوابَ الشرط مترددٌ فلا يليق به النونُ المؤكدةُ لكنه لما تضمن معنى النهي ساغ فيه كقوله تعالى ادخلوا مساكنكم لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ وإما صفةٌ لفتنة ولا للنفي وفيه شذوذٌ لأن النون لا تدخُل المنفيَّ في غير القسمِ أو للنهي على إرادة القولِ كقول من قال ... حتى إذا جَنّ الظلامُ واختلط ... جاءوا بمذق هل رأيت الذنب قطّ ... وإما جوابُ قسم محذوفٍ كقراءة من قرأ لتصيبن وإن اختلف المعنى فيهما وقد جُوِّز أن يكون نهياً عن التعرض للظلم بعد الأمرِ باتقاء الذنبِ فأن

وبالَه يصيب الظالمَ خاصةً ويعود عليه ومِنْ في منكم على الوجوه الأُوَلِ للتبعيض وعلى الآخيرين للتبيين وفائدتُه التنبيهُ على أن الظالم منكم أقبحُ منه من غيركم {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} ولذلك يصيب بالعذاب من لم يباشِرْ سببه سورة الأنفال من الآيات (26 27)

26

{واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} أي وقتَ كونِكم قليلاً في العدد وإيثارُ الجملةِ الاسمية للإيذان باستمرار ما كانُوا فيه من القلة وما يتبعها من الضعف والخوف وقوله تعالى {مُّسْتَضْعَفُونَ} خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ لقليل وقوله تعالى {فِى الأرض} أي في أرض مكةَ تحت أيدى قريشٍ والخطابُ للمهاجرين أو تحت أيدي فارسَ والرومَ والخطاب للعَرَب كافةً فإنهم كانوا أذلاء تحت أيدي الطائفتين وقوله تعالى {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس} خبرٌ ثالثٌ أو صفةٌ ثانية لقليلٌ وُصِفَ بالجملة بعد ما وصف بالمُفرد أو حالٌ من المستكنِّ في مستضعفون والمرادُ بالناس على الأول وهو الأظهرُ إما كفارُ قريشٍ وإما كفارُ العرب لقربهم منهم وشدة عدواتهم لهم وعلى الثاني فارس والروم أي واذكروا وقت قِلتِكم وذِلتكم وهَوانِكم على الناس وخوفِكم من اختطافهم {فَآوَاكُمْ} إلى المدينة أو جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم {وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} على الكفار أو بمظاهرة الأنصار أو بإمداد الملائكة {وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} من الغنائم {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعم الجليلة

27

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول} أصلُ الخَوْنِ النقصُ كما أن الأصل الوفاءِ التمام واستعمالهُ في ضد الأمانة لتضمنه إياه أي لا تخونوهما بتعطيل الفرائضِ والسنن أو بأن تُضمِروا خلافَ ما تظهرون أو في الغلول في الغنائم روى أنه صلى الله عليه وسلم حاصَر بني قُريظةَ إحدى وعشرين ليلةً فسألوا الصُّلْحَ كما صالح بني النضيرِ على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرِعاتٍ وأريحاءَ من الشام فأبى إلا أن ينزِلوا عَلى حُكم سُعد بن معاذٍ رضيَ الله عنِهُ فأبوا وقالوا أرسل إلينا أبا لُبابةَ وكان مناصِحاً لهم لِما أن ماله وعيالَه كانا في أيديهم فبعثه إليهم فقالوا ما ترى هل ننزل على حُكم سعدٍ فأشار إلى حلقه إنه الذبحُ قال أبو لبابة فما زالت قدماي حتى علمت أني خُنتُ الله ورسولَه فنزلت فشد نفسَه على سارية من سواري المسجدِ وقال والله لا أذوقُ طعاماً ولا شراباً حتى أموتَ أو يتوبَ الله عليّ فمكث سبعةَ أيامٍ حتى خرَّ مغشياً عليه ثم تاب الله عليه فقيل له قد تيبَ عليك فحُلَّ نفسَك قال لا والله لا أحُلّها حتى يكونَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحُلّني فجاءه صلى الله عليه وسلم محله فقال إن من تمام توبتي أن أهجُرَ دارَ قومي التي أصبتُ فيها الذنبَ وأن أنخلِع من مالي فقال صلى الله عليه وسلم بحزئك الثلثُ أن تتصدقَ به {وَتَخُونُواْ أماناتكم} فيما بينكم وهو مجزومٌ معطوفٌ على الأول أو منصوبٌ على الجواب بالواو {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}

أنكم تخونون أو أنتم علماءُ تميِّزون الحسنَ من القبيح سورة الأنفال من الآيات (28 30)

28

{واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ} لأنها سببُ الوقوعِ في الإثم والعقاب أو محنة من الله عز وجل ليبلُوَكم في ذلك فلا يحمِلَنّكم حبُّهما على الخيانة كأبي لُبابة {وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لمن آثرَ رضاه تعالى عليهما وراعى حدودَه فيهما فنيطوا هِممَكم بما يؤديكم إليه

29

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} تكريرُ الخطابِ والوصفِ بالإيمان لإظهار كمالِ العنايةِ بما بعده والإيذانِ بأنه مما يقتضي الإيمانُ مراعاتَه والمحافظةَ عليه كما في الخطابين السابقين {إَن تَتَّقُواْ الله} أي في ما تأتونَ وما تذرونَ {يَجْعَل لَّكُمْ} بسبب ذلك {فُرْقَانًا} هدايةً في قلوبكم تفرِّقون بها بينَ الحقِّ والباطلِ أو نصراً يفرّق بين المُحِقِ والمُبطل بإعزاز المؤمنين وإذلالِ الكافرين أو مخرجاً من الشبهات أو نجاةً عما تحذرون في الدارين أو ظهوراً يشهَرُ أمرَكم وينشرُ صِيتَكم من قولهم بتّ أفعلُ كذا حتى سطح الفُرقانُ أي الصبح {وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ} أي يسترها {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبَكم بالعفو والتجاوزِ عنها وقيل السيئاتُ الصغائرُ والذنوبُ الكبائرُ وقيل المرادُ ما تقدم وما تأخر لأنها في أهل بدر وقد غفرهما الله تعالى لهم وقولُه تعالى {والله ذُو الفضل العظيم} تعليلٌ لما قبله وتنبيهٌ على أنَّ ما وعده الله تعالى لهم على التقوى تفضّلٌ منه وإحسانٌ لا أنه مما يوجبه التقوى كما إذا وعد السيدُ عبدَه إنعاماً على عمل

30

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم معطوف على قوله تعالى واذكروا إِذْ أَنتُمْ الخ مسوق لتذكير النعمة الخاصة به صلى الله عليه وسلم بعد تذكير النعمةِ العامةِ للكل أي واذكر وقتَ مكِرهم بك {لِيُثْبِتُوكَ} بالوَثاق ويعضُده قراءةُ مَن قرأَ ليقيدوك أو الإثخانِ بالجرح من قولهم ضربه حتى أثبته لا حراك به ولا براح وقرىء ليثبّتوك بالتشديد وليبّيتوك من البيات {أَوْ يَقْتُلُوكَ} أي بسيوفهم {أَوْ يُخْرِجُوكَ} أي من مكة وذلكَ أنَهُم لَمَّا سمعُوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم له صلى الله عليه وسلم فرِقوا واجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمره صلى الله عليه وسلم فدخل إبليسُ عليهم في صورة شيخٍ وقال أنا من نجد سمعتُ باجتماعكم فأردت أن أحضُركم ولن تعدَموا منى رأياً ونُصحاً فقال أبو البَحْتري رأيي أن تحبِسوه في بيت وتسدّوا منافذه غيرَ كوّةٍ تلقون إليه طعامَه وشرابَه منها حتى يموت فقال الشيخ بئسُ الرأيُ يأتيكم من يقاتلُكم من قومه ويخلِّصه من أيديكم فقال هشامُ بنُ عمْرو رأيي أن تحمِلوه على جمل وتخوجوه من أرضكم فلا يضركم ما صنع فقال وبئس الرأي يُفِسدُ قوماً غيرَكم ويقاتلكم بهم فقال أبو جهل أنا أرى أن تأخُذوا

من كل بطنٍ غلاماً وتعطوه سيفاً فيضرِبوه ضربةً واحدة فيتفرقَ دمُه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريشٍ كلِّهم فإذا طلبوا العقلَ عقَلْناه فقال صدق هذا الفتى فتفرقوا على رأيه فأتى جبريلُ النبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وأخبره بالخبر وأمره بالهجرة فبيّت علياً رضي الله تعالى عنه على مضجعه وخرج هو مع أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ إلى الغار {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله} أي يرد مكرَهم عليهم أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملةَ الماكرين وذلك بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حمَلوا عليهم فلقُوا منهم ما لقُوا {والله خَيْرُ الماكرين} لا يُعبأ بمكرهم عند مكرِه وإسنادُ أمثالِ هذا إليه سبحانه مما يحسن للمشاكلة ولا مساغَ له ابتداءً لما فيهِ من إيهامِ ما لا يليقُ به سبحانه سورة الأنفال من الآيات (31 33)

31

{وإذا تتلى عليهم آياتنا} التي حقها أن يخِرَّ لها صُمُّ الجبال {قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} قاله اللعين النضر بن الحرث وإسنادُه إلى الكل لما أنه كان رئيسَهم وقاضيَهم الذي يقولون بقوله ويأخُذون برأيه وقيل قاله الذين ائتمروا في أمره صلى الله عليه وسلم في دار الندوة وهذا كما ترى غايةُ المكابرة ونهايةُ العِناد كيف لا ولو استطاعوا شيئاً من ذلك فما الذي كان يمنعهم من المشيئة وقد اتحدوا عشرَ سنين وقُرعوا على العجز وذاقوا من ذلك الأمرَّيْن ثم قورعوا بالسيف فلم يعارضوا بما سواه مع أنَفتهم وفرْطِ استنكافِهم أن يُغلَبوا لاسيما في باب البيان {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين} أي ما يسطرونه من القصص

32

{وإذ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هَذا هُوَ الحقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} هذا أيضاً من أباطيل ذلك اللعين روي أنه لما قال إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين قال له النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ويلَك أنه كلامُ الله تعالى فقال ذلك والمعنى أن القرآن إن كان حقاً منزلاً مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا الحجارةَ عقوبةً على إنكارنا أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ سواه والمرادُ منه التهكمُ وإظهارُ اليقينِ والجزمِ التامِّ على أنه ليس كذلك وحاشاه وقرىء الحقُّ بالرفع على أن هو مبتدأ لأفضل وفائدةُ التعريفِ فيه الدِلالةُ على أن المعلق به كونُه حقاً على الوجه الذي يدعيه صلى الله عليه وسلم وهو تنزيلُه لا الحقُّ مطلقاً لتجويزهم أن يكون مطابقاً للواقع غيرَ منزلٍ كالأساطير

33

{وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} جوابٌ لكلمتهم الشنعاءِ وبيانٌ للموجِب لإمهالهم والتوقفِ في إجابة دعائِهم واللامُ لتأكيد النفي والدِلالةِ على أن تعذيبَهم عذابَ استئصال والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرِهم خارجٌ عن عادته تعالى غيرُ مستقيمٍ في حُكمه وقضائه والمرادُ باستغفارهم في قوله تعالى {وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} إما استغفارُ مَنْ بقِيَ منهم من المؤمنين أو قولُهم اللهم

اغفِرْ أو فرضُه على معنى لو استغفروا لم يعذبوا كقوله تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بظلم وأهلها مصلحون سورة الأنفال من الآيات (34 36)

34

{وما لهم ألا يُعَذّبْهُمُ الله} بيانٌ لاستحقاقهم العذابَ بعد بيانِ أن المانعَ ليس من قِبَلهم أي وما لهم مما يمنع تعذيبَهم متى زال ذلك وكيف لا يعذّبون {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام} أي وحالُهم ذلك ومن صدهم عند إلجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة وإحصارُهم عام الحديبية {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ} حالٌ من ضمير يصدون مفيدةٌ لكمال قُبحِ ما صنعوا من الصد فإن مباشرتَهم للصد عنه مع عدم استحقاقِهم لولاية أمرِه في غاية القُبح وهو ردٌّ لما كانوا يقولون نحنُ ولاةُ البيتِ والحرم فنصد من نشاء ونُدخِل من نشاء {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون} من الشرك الذين لا يعبُدون فيه غيرَه تعالى {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أنه لا ولايةَ لهم عليه وفيه إشعارا بأن منهم من يعلم ذلك ولكنه يعاند وقيل أريد بأكثرهم كلُّهم كما يراد بالقلة العدم

35

{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت} أي دعاؤهم أو ما يسمونه صلاةً أو ما يضعون موضعها {إِلاَّ مُكَاءً} أي صفيراً فُعال من مكا يمكو إذا صفر وقرئ بالقصر كالبُكى {وَتَصْدِيَةً} أي تصفيقاً تفعِلةً من الصَّدَى أو من الصدّ على إبدال أحدِ حرفي التضعيف بالياء وقرئ صلاتَهم بالنصب على أنه الخبر لكان مساق الكلام لتقرير استحقاقِهم العذابَ أو عدمِ ولايتِهم للمسجد فإنها لا تليق بمن هذه صلاتُه رُوي أنهم كانوا يطوفون عراةً الرجالُ والنساء مشبكين بين أصابعِهم يصفرون فيها ويصفقون وقيل كانوا يفعلون ذلك إذا أراد النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أن يصلي يخلِطون عليه ويُرَون أنهم يصلون أيضاً {فَذُوقُواْ العذاب} أي القتلَ والأسرَ يومَ بدرٍ وقيل عذابَ الآخرة واللامُ يحتمل أن تكون للعهد والمعهودُ ائتنا بعذاب أليم {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} اعتقاداً وعملاً

36

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} نزلت في المطعِمين يوم بدر وكانوا اثنيْ عشَرَ رجلاً من قريش يطعم كل واحد منهم كلَّ يوم عشْرَ جُزُرٍ أو في أبي سفيان استأجر ليوم أحُد ألفين سوى من استجاش من العرب وأنفق فيهم أربعين أو قية أو في أصحاب العِير فإنه لما أصيب قريش يوم بدر قيل لهم أعينوا بهذا المالِ على حرب محمد لعلنا ندرك ثأرَنا منه ففعلوا والمرادُ بسبيل الله دينُه واتباعُ رسوله {فَسَيُنفِقُونَهَا} بتمامها ولعل الأول إخبارٌ عن إنفاقهم في تلك الحالِ وهو إنفاقُ يوم بدرٍ والثاني إخبارٌ عن إنفاقهم فيما يُستقبل وهو إنفاقُ يوم أحدٍ ويحتمل أنْ يُرادَ بهما واحدٌ على أن مساق الأول لبيان الغرضِ من الانفاق ومساق الثاني لبيان عاقبتِه وأنه لم يقع بعد {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً}

ندماً وغماً لفواتها من غير حصول المقصودِ جُعل ذاتُها حسرة وهي عاقبةُ إنفاقها مبالغةً {ثُمَّ يُغْلَبُونَ} آخرَ الأمر وإن كان الحربُ بينهم سجالاً قبل ذلك {والذين كَفَرُواْ} أي تموا على الكفر وأصروا عليه {إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} أي يساقون لا إلى غيرها سورة الأنفال من الآيات (37 40)

37

{لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب} أي الكافر من المؤمن أو الفسادَ من الصلاح واللامُ متعلقةٌ بيحشرون أو بيغلبون أو ما أنفقه المشركون في عداوته صلى الله عليه وسلم مما أنفقه المسلمون في نُصرته واللامُ متعلقةٌ بقوله ثم تكون عليهم حسرة وقرئ ليميز بالتشديد للمبالغة {وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً} أي يضم بعضَه إلى بعض حتى يتراكموا لفرط ازدحامِهم فيجمعه أو يضم إلى الكافر ما أنفقه ليزيد به عذابَه كما للكافرين {فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ} كلَّه {أولئك} إشارةٌ إلى الخبيث إذ هو عبارةٌ عن الفريق أو إلى المنفقين وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ ببُعد درجتِهم في الخبث {هُمُ الخاسرون} الكاملون في الخسران لأنهم خسِروا أنفسَهم وأموالَهم

38

{قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} هم أبو سفيانَ وأصحابُه أي قل لأجلهم {إِن يَنتَهُواْ} عمَّا هُم فيهِ من معاداة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بالدخول في الإسلام {يغفرُ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} من الذنوب وقرىء إن تنتهوا يُغفرْ لكم ويَغفِرْ لكم على البناءِ للفاعلِ وهو الله تعالى {وَإِن يَعُودُواْ} إلى قتالهم {فَقَدْ مضت سنة الاولين} الذين تحزّبوا على الأنبياءِ عليهم السلامُ بالتدبير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثلَ ذلك

39

{وقاتلوهم} عطف على قل وقد عُمّم الخطابُ لزيادة ترغيبِ المؤمنين في القتال لتحقيق ما يتضمنه قولُه تعالى فقد مضت سنة الاولين من الوعيد {حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي لا يوجَدَ منهم شركٌ {وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ} وتضمحِلَّ الأديانُ الباطلةُ إما بإهلاك أهلِها جميعاً أو برجوعهم عنها خشية القتل {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عن الكفر بقتالكم {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامِهم وقرئ بتاء الخطاب أي بما تعملون من الجهاد المُخرِجِ لهم إلى الإسلام وتعليقُه بانتهائهم للدلالة على أنهم يثابون بالسببية كما يثاب المباشِرون بالمباشرة

40

{وَإِن تَوَلَّوْاْ} ولم ينتهوا عن ذلك {فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ} ناصرُكم فثِقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم {نِعْمَ المولى} لا يَضيعُ مَنْ تولاه {وَنِعْمَ النصير} لا يُغلب مَنْ نصره

سورة الأنفال من الآية (41)

41

{واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم} عن الكلبي أنها نزلت ببدر وقال الواقدي كان الخُمسُ في غزوة بني قينُقاع بعد بدر بشهر وثلاثةِ أيامٍ للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة وما موصولةٌ وعائدُها محذوفٌ أي الذي أصبتموه من الكفار عُنوةً وأصلُ الغنيمة إصابةُ الغَنَم من العدو ثم اتُسع وأطلق على ما أصيب منهم كائناً ما كان وقوله تعالى {مِن شَىْء} بيانٌ للموصول محلُّه النصبُ على أنَّهُ حالٌ من عائد الموصول قصد به الاعتناءُ بشأن الغنيمة وأن لا يشِذُّ عنها شيءٌ أي ما غنِمتموه كائناً مما يقع عليه اسمُ الشيءِ حتى الخيطُ والمَخيطُ خلا أن سلَبَ المقتولِ للقاتل إذا نفّله الإمامُ وأن الأسارى يُخيَّر فيها الإمامُ وكذا الأراضي المغنومةُ وقوله تعالى {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي فحق أو واجب أن له تعالى خُمسَه وهذه الجملةُ خبر لأنما الخ وقرئ بالكسر والأول آكَدُ وأقوى في الأيجاب لِما فيه من تكرر الإسنادِ كأنه قيل فلا بد من ثبات الخُمس ولا سبيل إلى الإخلال به وقرئ فلله خمسه وقرئ خمس بسكون الميم والجمهورُ على أن ذكرَ الله تعالى للتعظيم كما في قوله تعالى والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ وأن المرادَ قسمةُ الخُمس على المعطوفِين عليه بقوله تعالى {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} وإعادةُ اللامِ في ذي القربى دون غيرِهم من الأصناف الثلاثة لدفع توهُّمِ اشتراكِهم في سهم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لمزيد اتصالهم به صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشمٍ وبنو المطلب دون بني عبدِ شمس وبني نَوْفل لما روي عن عثمانَ وجبير بن مطعم رضي الله عنهما أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء إخوتُك بنو هاشم لا نُنكر فضلَهم لمكانك الذي جعلك الله منهم أرأيتَ إخوانَنا بني المطلب أعطيتَهم وحرمتنَا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة فقال صلى الله عليه وسلم إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشمٍ وبنو المطلب شيءٌ واحد وشبّك بين أصابعِه وكيفيةُ قسمِتها عندنا أنها كانت في عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم سهمٌ له صلى الله عليه وسلم وسهمٌ للمذكورين من ذوي قرباه وثلاثةُ أسهمٍ للأصناف الثلاثة الباقية وأما بعده صلى الله عليه وسلم فسهمُه ساقطٌ وكذا سهمُ ذوي القُربى وإنما يعطَوْن لفقرهم فهم أسوةٌ لسائر الفقراء ولا يُعطي أغنياؤهم فيقسم على الأصناف الثلاثة ويؤيده ما رُوي عن أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ أنه منع بني هاشمٍ الخمسَ وقال إنما لكم أن يُعطى فقيرُكم وتُزوَّجَ أيِّمُكم ويخدَمَ من لا خادم له منكم ومن عداهم فهو بمنزلة ابنِ السبيل الغني لا يعطى من الصدقة شيئاً وعن زيد بن علي مثله قال ليس لنا أن نبنيَ منه قصورا ولا نركَب منه البراذينَ وقيل سهم الرسول صلى الله عليه وسلم لوليّ الأمرِ بعده وأما عند الشافعيِّ رحمَهُ الله فيقسم على خمسة أسهم سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يُصرف إلى ما كان يصرفه صلى الله عليه وسلم من مصالح المسلمين كعُدّة الغُزاة من الكُراعِ والسلاح ونحوِ ذلك وسهمٌ لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائِهم يُقسم بينهم للذكر مثلُ حظ الأنثيين والباقي للفِرَق الثلاث

وعند مالك رحمه الله الأمرُ فيه مفوَّضٌ إلى اجتهاد الإمامِ إن رأى قسمَه بين هؤلاءِ وإن رأى أعطاه بعضاً منهم دون بعض وإن رأى غيرَهم أولى وأهمَّ فغيرُهم وتعلق أبو العالية بظاهر الآية الكريمة فقال يُقسم ستةَ أسهمٍ ويُصرف سهمُ الله تعالى إلى رتاج الكعبة لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ منه قبضةً فيجعلها لمصالح الكعبة ثم يقسِمُ ما بقيَ على خمسة أسهمٍ وقيل سهمُ الله لبيت المال وقيل هو مضمومٌ إلى سهم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا شأنُ الخمسِ وأما الأخماسُ الأربعةُ فتقسم بين الغانمين للراجل سهمٌ وللفارس سهمان عند أبي حنيفة رضى الله عنه وثلاثةُ أسهم عندهما رحمهما الله قال القرطبيُّ لما بين الله تعالى حكمَ الخمسِ وسكت عن الباقي دل ذلك على أنه ملك للغانمين وقوله تعالى {إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُم بِاللهِ} متعلِّق بمحذوفٍ يُنبىء عنه المذكورُ أي إن كنتم آمنتم به تعالى فاعلموا أن الخمسَ من الغنيمة يجب التقربُ بهِ إلى الله تعالَى فاقطعوا أطماعَكم منه واقتنعوا بالأخماس الأربعة ليس المرادُ به مجردَ العلم بذلك بل العلمَ المشفوعَ بالعمل والطاعةِ لأمره تعالى {وَمَا أَنزَلْنَا} عطف على الاسم الجليل أي إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلناه {على عبدنا} وقرئ عُبُدِنا وهو اسمُ جمعٍ أريد به الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون فإن بعضَ ما نزل نازلٌ عليهم بالذات كما ستعرفه {يَوْمَ الفرقان} يوم بدرٍ سمي به لفَرْقه بين الحقِّ والباطل وهو منصوبٌ بأنزلنا أو بآمنتم {يَوْمَ التقى الجمعان} أي الفريقان من المؤمنين والكافرين وهو بدلٌ من يومَ الفرقان أو منصوبٌ بالفرُقان والمرادُ ما أُنزل عليه صلى الله عليه وسلم يومئذٍ من الوحي والملائكةِ والفتحِ على أن المرادَ بالإنزال مجردُ الإيصالِ والتيسير فينتظم الكلَّ انتظاماً حقيقياً وجعلُ الإيمانِ بإنزال هذه الأشياءِ من موجبات العلم بكون الخُمس لله تعالى على الوجه المذكور من حيث أن الوحيَ ناطقٌ بذلك وأن الملائكةَ والفتحَ لمّا كانا من جهته تعالى وجب أن يكون ما حصل بسببهما من الغنيمة مصروفةً إلى الجهات التي عينها الله تعالى {والله على كُلّ شيء قَدِيرٌ} يقدِر على نصر القليلِ على الكثير والذليلِ على العزيز كما فعل بكم ذلك اليوم سورة الأنفال من الآية (42)

42

{إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا} بدلٌ ثانٍ من يومَ الفرقان والعُدوةُ بالضم شطُّ الوادي كذا بالفتح والكسر وقد قرئ بهما أيضاً {وَهُم بالعدوة القصوى} أي البُعدى من المدينة وهي تأنيثُ الأقصى وكان القياسُ قلبَ الواوِ ياءً كالدنيا والعليا مع كونهما من بنات الواو لكنها جاءت على الأصل كالقود واستُصوب وهو أكثرُ استعمالاً من القُصيا {والركب} أي العِيرُ أو قُوّادُها {أَسْفَلَ مِنكُمْ} أي في مكانٍ أسفلَ من مكانكم يعني الساحلَ وهو نصبٌ على الظرفية واقعٌ موقعَ الخبر والجملةُ حالٌ من الظرف قبله وفائدتها الدلالة على قوة العدو واستظهارِهم بالركب وحِرصِهم على المقاتلة عنها وتوطينِ نفوسِهم على أن لا يُخْلوا مراكزَهم ويبذُلوا منتهى جهدِهم وضعفِ شأن المسلمين والتياثِ أمرِهم واستبعادِ غَلَبتِهم عادةً وكذا ذكرُ مراكزِ الفريقين فإن العُدوةَ الدنيا كانت

رِخوةً تسوخُ فيها الأرجلُ ولا يمشى فيها إلا بتعب ولم يكن فيها ماءٌ بخلاف العُدوة القصوى وكذا قوله تعالى {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد} أي لو تواعدتم أنتم وهم القتالَ ثم علمتم حالَكم وحالَهم لاختلفتم أنتم في الميعاد هَيْبةً منهم ويأساً من الظفر عليهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صُنعاً من الله عز وجل خارقاً للعادات فيزدادوا إيماناً وشكر وتطمئن نفوسُهم بفرض الخُمس {ولكن} جمع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد {لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} حقيقاً بأن يُفعل مِن نصْرِ أوليائِه وقهرِ أعدائِه أو مقدراً في الأزل وقوله تعالى {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بينة ويحيى مِنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ} بدلٌ منه أو متعلقٌ بمفعولاً أي ليموتَ من يموتُ عن بينة عاينها ويعيشَ من يعيش عن بينة شاهدها لئلا يكونَ له حجةٌ ومعذرةٌ فإن وقعةَ بدرٍ من الآيات الواضحة أو ليصدُرَ كفرُ من كفر وإيمانُ من آمن عن وضوح بينةٍ على استعارة الهلاك والحياةِ للكفر والإيمان والمرادُ بمن هلك ومن حي المشارفُ للهلاكِ والحياة أو مَنْ حالُه في علم الله تعالى الهلاكُ والحياة وقرئ ليهلك بالفتح وحي بفك الإدغام حملاً على المستقبل {وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي بكفر من كفر وعقابِه وإيمانِ من آمن وثوابِه ولعل الجمعَ بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد الأنفال آيات (43 44)

43

{إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً} منصوبٌ باذكُرْ أو بدلٌ آخرُ من يومَ الفرقان أو متعلقٌ بعليم أي يعلم المصالحَ إذ يقلّلهم في عينك في رؤياك وهو أن تخبر به أصحابك فيكونَ تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ} أي لجبُنتم وهِبتم الإقدام {ولتنازعتم فِى الامر} أي أمر القتال وتفرقتْ آراؤُكم في الثبات والفرار {ولكن الله سَلَّمَ} أي أنعم بالسلامة من الفشل والتنازعِ {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجُبن والصبر والجزَعِ ولذلك دبّر ما دبر 2

44

{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} منصوبٌ بمضمرٍ خُوطب به الكلُّ بطريق التلوينِ والتعميم معطوفٍ على المُضمر السابقِ والضميرانِ مفعولا يُري وقليلاً حالٌ من الثاني وإنما قللهم في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه لمن إلى جنبه أتراهم سبعين فقال أراهم مائة تثبيتاً لهم وتصديقاً لرؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم {وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ} حتى قال أبو جهل إنما أصحابُ محمد أكلةُ جَزور قللهم في أعينهم قبل التحامِ القتالِ ليجترئوا عليهم ولا يستعدّوا لهم ثم كثّرهم حتى رأوْهم مثليهم لِتُفاجِئَهم الكثرةُ فيُبهَتوا ويهابوا وهذه من عظائم آياتِ تلك الوقعةِ فإن البصرَ قد يرى الكثيرَ قليلاً والقليلَ كثيراً لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد وإنما ذلك بصد الله تعالى الأبصارَ عن إبصار بعضٍ دون بعض مع التساوي

في الشرائط {لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} كُرر لاختلاف الفعل المعلَّلِ به أو لأن المرادَ بالأمر ثَمةَ الالتقاءُ على الوجه المذكور وههنا إعزازُ الإسلام وأهلِه وإذلالُ الكفر وحِزبه {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} كلُّها يصرِفها كيفما يريد لأراد لأمره ولا معقِّبَ لحُكمه وهو الحكيم المجيد سورة الأنفال من الآيات (45 47)

45

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} صدر الخطاب بحر في النداء والتنبيه إظهاراً لكمال الاعتناءِ بمضمون ما بعده {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} أي حاربتم جماعةً من الكفرة وإنما لم يوصَفوا بالكفر لظهور أن المؤمنين لا يحارِبون إلا الكفَرة واللقاءُ مما غلبَ في القتال {فاثبتوا} أي للقائهم في مواطن الحربِ {واذكروا الله كَثِيراً} أي في تضاعيف القتال مستمدين منه مستعينين به مستظهِرين بذكره مترقّبين لنصره {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي تفوزون بمرامكم وتظفَرون بمُرادكم من النُّصرة والمَثوبةِ وفيه تنبيهٌ على أن العبدَ ينبغي أن لا يشغَلَه شيءٌ عن ذكرِ الله تعالى وأن يلتجيء إليه عند الشدائد ويُقبلَ إليه بكليته فارغَ البال واثقاً بأن لطفَه لا ينفكُّ عنه فِى حالٍ من الأحوالِ

46

{وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} في كل ما تأتون وما تذرون فيندرج فيه ما أمروا به ههنا اندراجاً أولياً {وَلاَ تنازعوا} باختلاف الآراءِ كما فعلتم ببدر أو أحُد {فَتَفْشَلُواْ} جوابٌ للنهي وقيل عطفٌ عليه {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} بالنصب عطفٌ على جواب النهي وقرئ بالجزم على تقدير عطفِ فتفشلوا على النهي أي تذهبَ دولتُكم وشَوْكتُكم فإنها مستعارةٌ للدولة من حيث إنها في تمشّي أمرِها ونفاذِه مشبهةٌ بها في هُبوبها وجَرَيانها وقيل المرادُ بها الحقيقةُ فإن النُصرةَ لا تكون إلا بريح يبعثها الله تعالى وفي الحديث نصرت بالصبا وأهلكت عادٌ بالدَّبور {واصبروا} على شدائد الحرب {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} بالنُصرة والكَلاءة وما يفهم من كلمة مع من أصالتهم إنما هي من حيث إنهم المباشرون للصبر فهم متّبعون من تلك الحيثية ومعيَّتُه تعالى إنما هي من حيث الإمدادُ والإعانة

47

{وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم} بعد ما أُمروا بَما أُمروا به من أحاسن الأعمالِ ونُهوا عما يقابلها من قبائحها والمرادُ بهم أهلُ مكةَ حين خرجوا لحماية العِير {بَطَراً} أي فخراً وأشَراً {ورئاء الناس} ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة وذلك أنهم لما بلغوا جَحفةَ أتاهم رسولُ أبي سفيان وقال ارجِعوا فقد سلِمت عِيرُكم فأبَوا إلا إظهارَ آثارِ الجلادة فلقُوا ما لقوا حسبما ذُكر في أوائل السورةِ الكريمة فنُهي المؤمنون أن يكونوا أمثالَهم مرائين بطِرين وأُمروا بالتقوى والإخلاص من حيث إن النهيَ عن الشيء مستلِزمٌ للأمر بضده {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} عطفٌ على

بطرا إن جُعل مصدراً في موضع الحال وكذا إن جع مفعولاً له لكن على تأويل المصدر {والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} فيجازيهم عليه سورة الأنفال من الآيات (48 49)

48

{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم} منصوب بمصر خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم بطريقِ التلوينِ أيْ واذكُر وقتَ تزيينِ الشيطانِ أعمالَهم في معاداة المؤمنين وغيرِها بأن وسوس إليهم {وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ} أي ألقَى في رُوعِهم وخيّل إليهم أنهم لا يُغلبون ولا يطاقون لكثرة عددِهم وعُددهم وأوهمهم أن اتّباعَهم إياه فيما يظنون أنها قُربات مجيرٌ لهم حتى قالوا اللهمَّ انصُرْ إحدى الفئتين وأفضلَ الدينَين ولكم خبرُ لا غالب أو صفتُه وليس صلته وإلا لا نتصب كقولك لا ضارباً زيداً عندنا {فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان} أي تلاقى الفريقان {نَكَصَ على عَقِبَيْهِ} رجَع القهقرى أي بطل كيدُه وعاد ما خيَّل إليهم أنه مجيرُهم سبباً لهلاكهم {وَقَالَ إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخَافُ الله} أي تبرأ منهم وخاف عليهم ويئِس من حالهم لما رأى إمدادَ الله تعالى للمسلمين بالملائكة وقيل لما اجتمعت قريشٌ على المسير ذَكَرت ما بينهم وبين كِنانةَ من الإحنةِ فكاد ذلك يَثْنيهم فتمثل لهم إبليسُ في صورة سُراقةَ بنِ مالك الكِناني وقال لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم من الناس وإني مجيرُكم من كِنانةَ فلما رأى الملائكةَ تنزِل نكَص وكان يده في يد الحرث بن هشام فقال له إلى أين أخذلتنا في هذه الحالة فقال إني أرى مالا ترون ودفع في صدر الحرث وانطلق فانهزموا فلما بلغوا مكةَ قالوا هزَم الناسَ سراقةُ فبلغه ذلك فقال والله ما شعَرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتُكم فلما أسلموا علِموا أنه الشيطانُ وعلى هذا يحتملُ أنُ يكون معنى قولهِ إني أخاف الله أخافه أن يُصيبَني بمكروه من الملائكة أو يُهلكَني ويكونُ الوقتُ هو الوقتُ الموعود إذ رأى فيه ما لم يرَه قبله والأول ما قاله الحسنُ واختاره ابن بحر {والله شَدِيدُ العقاب} يجوز أن يكون من كلامه أو مستأنفاً من جهةِ الله عزَّ وجل

49

{إِذْ يَقُولُ المنافقون} منصوبٌ بزيّن أو بنكَص أو بشديد العقاب {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي الذين لم تطمئن قلوبُهم بالإيمان بعد وبقيَ فيها نوعُ شبهة وقيل هم المشركين وقيل هم المنافقون في المدينة والعطفُ لتغايُر الوصفين كما في قوله ... يا لَهفَ زيّابةَ للحارثِ الصابحِ فالغانم فالآديب ... غَرَّ هَؤُلاء يعنون المؤمنين {دِينَهُمُ} حتى تعرّضوا لما لا طاقةَ لهم به فخرجوا وهم ثلثُمائةٍ وبضعةَ عشرَ إلى زُهاء ألف {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله} جوابٌ لهم من جهتِه تعالى وردٌّ لمقالتهم {فَإِنَّ الله عَزِيزٌ} غالبٌ لا يذِلُّ من توكل

عليه واستجار به وإن قلَّ {حَكِيمٌ} يفعل بحكمته البالغةِ ما تستبعده العقولُ وتحار في فهمه ألبابُ الفحول وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة المذكور عليه سورة الأنفال من الآيات (50 52)

50

{وَلَوْ تَرَى} أي ولو رأيتَ فإن لو الامتناعيةَ تردّ المضارعَ ماضياً كما أن إنْ تردّ الماضيَ مضارعاً والخطابُ إمَّا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن له حظٌّ من الخطاب وقد مرَّ تحقيقُه في قوله تعالى وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار وكلمةُ إذ في قوله تعالى {إِذْ يَتَوَفَّى الذين كفروا الملائكة} ظرفٌ لترى والمفعولُ محذوفٌ أي ولو ترى الكفرةَ أو حالَ الكفرةِ حين يتوفاهم الملائكةُ ببدر وتقديمُ المفعولِ للاهتمام به وقيل الفاعلُ ضميرٌ عائدٌ إلى الله عزَّ وجلَّ والملائكةُ مبتدأٌ وقوله تعالى {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ} خبرُه والجملةُ حالُ من الموصول قد استُغني فيها بالضَّميرِ عن الواوِ وهو على الأول حالٌ منه أو من الملائكة أو منهما لاشتماله على ضميريهما {وأدبارهم} أي وأستاهَهم أو ما أَقبل منهم وما أَدبر من الأعضاء {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} على إرادة القولِ معطوفاً على يضربون أو حالاً من فاعلهِ أي ويقولون أو قائلين ذوقوا بشارةً لهم بعذاب الآخرة وقيل كانت معهم مقامِعُ من حديد كلما ضَربوا التهبت النارُ منها وجوابُ لو محذوفٌ للإيذان بخروجه عن حدود البيانِ أي لرأيتَ أمراً فظيعاً لا يكاد يوصف

51

{ذلك} إشارة إلى ما ذكر من الضرب والعذابِ وما فيه من معنى البُعد للإشعار بكونهما في الغايةِ القاصيةِ من الهَولِ والفظاعةِ وهو مبتدأٌ خبرُه {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي ذلك الضرب والعذاب واقعٌ بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي ومحلُّ أنَّ في قوله {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} الرفعُ على أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ أي والأمرُ أنَّه تعالى ليس بمعذِّب لعبيدِه بغيرِ ذنبٍ منْ قِبلهم والتعبيرُ عن ذلك بنفيِ الظلمِ معَ أنَّ تعذيبَهم بغيرِ ذنبٍ ليس بظُلمٍ قطعاً على ما تقرر من قاعدةِ أهلِ السُنَّةِ فضلاً عن كونِه ظُلماً بالغاً قد مر تحقيقُه في سورة آلِ عمرانَ والجملُة اعتراضٌ تذييليٌّ مقرر لمضمون ما قبلها وأمَّا ما قيلَ من أنها معطوفةْ على ما للدِلالة على أن سببيته مقيدةٌ بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبَهم بغير ذنوبهم فليس بسديد لما أن إمكانَ تعذيبِه تعالى لعبيده بغير ذنبٍ بل وقوعُه لا ينافي كونَ تعذيبِ هؤلاء الكفرةِ المعينة بسبب ذنوبِهم حتى يُحتاجَ إلى اعتبار عدمِه معه نعم لو كان المدعى كونَ جميعَ تعذيباتِه تعالى بسبب ذنوب المعذبين لاحتيج إلى ذلك

52

{كدأب آل فِرْعَوْنَ} في محلِ الرفعِ على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف مَسوقٌ لبيان أن ما حلَّ بهم من العذاب بسبب كفرِهم لا بشيء آخرَ من جهة غيرِهم بتشبيه حالهم بحال

المعروفين بالإهلاك بسبب جرائمِهم لزيادة تقبيحِ حالِهم وللتنبيه على أن ذلك سنةٌ مطردةٌ فيما بين الأمم المهلَكةِ أي شأنُهم الذي استمروا عليه مما فعلوا وفُعل بهم من الأخذ كدأب آل فرعونَ المشهورين بقباحة الأعمالِ وفظاعةِ العذابِ والنكال {والذين مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبل آلِ فرعونَ من الأمم التي فعلوا من المعاصي ما فعلوا ولقُوا من العقاب ما لقُوا كقومِ نوحٍ وعادٍ وأضرابِهم من أهل الكفر والعِناد وقولُه تعالى {كَفَرُواْ بآيات الله} تفسيرٌ لدأبهم الذي فعلوه لا لدأب آلِ فرعونَ ونحوِهم كما قيل فإن ذلك معلومٌ منه بقضية التشبيهِ وقوله تعالى {فَأَخَذَهُمُ الله} تفسيرٌ لدأبهم الذي فُعل بهم والفاء لبيان كونِه من لوازم جناياتِهم وتبعاتِها المتفرِّعةِ عليها وقوله تعالى {بِذُنُوبِهِمْ} لتأكيد ما أفاده الفاءُ من السببية مع الإشارةِ إلى أن لهم مع كفرهم ذنوباً أُخَرَ لها دخلٌ في استتباع العقابِ ويجوز أن يكون المرادُ بذنوبهم معاصيَهم المتفرِّعةَ على كفرهم فتكونُ الباءُ للملابسة أي فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غيرَ تائبين عنها فدأبُهم مجموعُ ما فعلوا وفُعل بهم لا ما فعلوه فقط كما قيل قال ابن عباس رضي الله عنهما إن آلَ فرعون أيقنوا أن موسى عليه السلام نبيُّ الله فكذّبوه كذلك هؤلاء جاء محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم بالصدق فكذبوه فأنزل الله تعالى بهم عقوبتَه كما أنزل بآل فرعونَ وجعلُ العذابِ من جملة وأبهم مع أنه ليس مما يُتصوَّر مداومتُهم عليه واعتيادُهم إياه كما هو المعتبرُ في مدلول الدأبِ إما لتغليب ما فعلوه على ما فُعل بهم أو لتنزيل مداومتِهم على ما يوجبُه من الكفرِ والمعاصِي منزلةَ مداومتِهم عليه لما بينهما من الملابسة التامةِ وقوله تعالى {إِنَّ الله قَوِىٌّ شَدِيدُ العقاب} اعتراضٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله من الأخذ وقوله تعالى سورة الأنفال آية 53

53

{ذلك} الخ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليلِ ما يفيد النظمُ الكريمُ من كون ما حلَّ بهم من العذاب منوطاً بأعمالهم السيئةِ غيرَ واقعٍ بلا سابقةِ ما يقتضيه وهو المشارُ إليه لا نفسُ ما حلَّ بهم من العذاب والانتقام كما قيل فإنه مع كونه معللاً بما ذُكر من كفرهم وذنوبِهم لا يتصور تعليلُه بجريان عادتِه تعالى على عدم تغييرِ نعمتِه على قوم قبل تغييرِهم لحالهم وتوهُّمِ أن السببَ ليس ما ذُكر كما هو منطوقُ النظم الكريم بل ما يستفاد من مفهوم الغايةِ من جريان عادتِه تعالى على تغيير نعمتِهم عند تغييرِ حالِهم بناءً على تخيل أن المعلِّلَ ترتبَ عقابِهم على كفرهم من غير تخلُّف عنه ركوبٌ شططٌ هائل وإبعادٌ عن الحق بمراحلَ وتهوينٌ لأمر الكفر بآيات الله وإسقاطٌ له عن رتبة إيجابِ العقاب في مقام تهويله والتحذيرِ منه فالمعنى ذلك أي ترتبُ العقاب على أعمالهم السيئة دون أن يقع ابتداءً مع قدرتِه تعالى على ذلك {بِأَنَّ الله} أي بسببِ أنَّه تعالى {لَمْ يَكُ} في حد ذاتِه {مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا} أي لم ينْبغِ له سبحانه ولم يصِحَّ في حكمته أن يكون بحيث يغير نعمةً أنعم بها {على قَوْمٍ} من الأقوام أيَّ نعمةٍ كانت جلّت أو هانت {حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} من الأعمال والأحوال التي كانوا عليها وقت ملابستِهم بالنعمة ويتصفوا بها ينافيها سواءٌ كانت أحوالُهم السابقةُ مرضيةً صالحة أو قريبةً من

الصلاحِ بالنسبة إلى الحادثة كدأب هؤلاءِ الكفرةِ حيث كانوا قبل البعثةِ كفَرةً عبدةَ أصنامٍ مستمرِّين على حالة مصحِّحة لإفاضة نعمةِ الإمهال وسائر النعمِ الدنيوية عليهم فلما بُعث إليهم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بالبينات غيّروها إلى أسوأَ منها وأسخطَ حيث كذبوه صلى الله عليه وسلم وعادوه ومن تبِعه من المؤمنين وتحزّبوا عليهم يبغونهم الغوائلَ فغيّر الله تعالى ما أنعم به عليهم من نعمة الإمهالِ وعاجلَهم بالعذاب والنَّكال وأصلُ يكُ يكن فحذُفت النونُ تخفيفاً لشبهها بالحروف اللينة {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} عطفٌ على أنَّ الله الخ داخلٌ معه في حيزِ التعليل أي وبسبب أنه تعالى سميع عليم يسمع ويعلم جميعَ ما يأتون وما يذرون من الأقوال والأفعالِ السابقةِ واللاحقة فيرتب على كلَ منها ما يليق بها من إبقاء النعمة وتغييرها وقرئ وإن الله بكسر الهمزةِ فالجملةُ حينئذٍ استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلها وقوله تعالى سورة الأنفال من الآية (54)

54

{كدأب آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ} في محل النصب على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييراً كائناً كدأبِ آلِ فرعونَ أي كتغييرهم على أن دأبهَم عبارةٌ عما فعلوه فقط كما هو الأنسبُ بمفهوم الدأبِ وقوله تعالى {كَذَّبُواْ بآيات ربهم} تفسير له بتمهامه وقوله تعالى {فأهلكناهم} إخبارٌ بترتب العقوبةِ عليه لا أنه من تمام تفسيرِه ولا ضيرَ في توسط قوله تعالى وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ بينهما كما مر نظيرُه في سورة آل عمرانَ حيث جوّزوا انتصابَ محلِّ الكافِ بلن تغنيَ مع ما بينهما من قوله تعالى وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار وهذا على تقدير عطفِ الجملةِ على ما قبلَها وأما على تقدير كونِها اعتراضاً فلا غبارَ في توسطها قطعاً وقيل في محلِ الرفعِ على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ كما قبله فالجملة حينئذٍ استئنافٌ آخَرُ مسوق لتقرير ما سيق له الاستئنافُ الأول بتشبيه دأبِهم بدأب المذكورين لكنْ لا بطريقِ التكريرِ المحضِ بل بتغيير العُنوانِ وجعل الدأبِ في الجانبين عبارةً عما يلازم معناه الأول من تغيير الحالِ وتغييرِ النعمة أخذاً مما نطق به قوله تعالى ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً الآية أي دأبُ هؤلاء وشأنُهم الذي هو عبارةٌ عن التغييرَيْن المذكورين كدأب أولئِك حيث غيّروا حالهم فغير الله تعالى نعمتَه عليهم فقوله تعالى كَذَّبُواْ بآيات رَبّهِمْ تفسير لدأبهم الذي فعلوه من تغييرهم لحالهم وقوله تعالى فأهكناهم تفسيرٌ لدأبهم الذي فُعل بهم من تغييره تعالى ما بهم من نعمته وأما دأبُ قريشٍ فمستفادٌ منه بحكم التشبيهِ فللَّه درُّ شأنِ التَّنزيلِ حيث اكتَفى في كل من التشبيهين بتفسير أحدِ الطرفين وإضافة الآياتِ إلى الرب المضافِ إلى ضميرهم لزيادة تقبيحِ ما فعلوا بها من التكذيب والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ في أهلكنا جريا على سَنن الكبرياءِ لتهويل الخطبِ والكلامُ في الفاء وفي قوله تعالى {بِذُنُوبِهِمْ} كالذي مر وعطفُ قوله تعالى {وأغرقنا آل فرعون} على أهلكنا مع اندراجه تحته للإيذان بكمال هولِ الإغراقِ وفظاعتِه كعطف جبريلَ عليهِ السَّلامُ على الملائكة {وَكُلٌّ} أي وكلٌّ من الفِرَق المذكورين أو كلٌّ من هؤلاء وأولئك أو كلٌّ من غرقى القِبط وقتلى قريشٍ {كَانُواْ ظَالِمِينَ} أي أنفسَهم بالكفر والمعاصي حيث عرَّضوها للهلاك

أو واضعين للكفر والتكذيب مكانَ الإيمانِ والتصديق ولذلك أصابهم ما أصابهم سورة الأنفال من الآيات (55 57)

55

{إِنَّ شَرَّ الدواب} بعد ما شرَح أحوال المهلَكين من شرار الكَفَرة شرَع في بيان أحوالِ الباقين منهم وتفصيلِ أحكامِهم وقوله تعالى {عَندَ الله} أي في حكمه وقضائه {الذين كَفَرُواْ} أي أصروا على الكفر ولجّوا فيه جُعلوا شرَّ الدوابِّ لا شرَّ الناسِ إيماءً إلى أنهم بمعزل من مجانستهم وإنما هم من جنس الدوابِّ ومع ذلك شرٌّ من جميع أفرادِها حسبما نطقَ به قوله تعالى إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ وقولُه تعالى {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} حكمٌ مترتبٌ على تماديهم في الكفر ورسوخِهم فيه وتسجيلٌ عليهم بكونهم من أصل الطبع لا يَلْويهم صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ أصلا جيء به على وجه الاعتراضِ لا أنه عطفٌ على كفروا داخلٌ معه في حيزِ الصلةِ التي لا حكم فيها بالفعل وقوله تعالى

56

{الذين عاهدت مِنْهُمْ} بدلٌ من الموصولِ الأولِ أو عطف بيان له أو نصبٌ على الذم أي عاهدتَهم ومِنْ للإيذان بأن المعاهدَة التي هي عبارةٌ عن إعطاء العهدِ وأخذه من الجانبين معتبرة ههنا من حيث أخذه صلى الله عليه وسلم عهدَهم إذ هو المناطُ لقباحة مانعي عليهم من النقض لا إعطاؤه صلى الله عليه وسلم إياهم عهدَه كأنه قيل الذين أخذت منهم عهدَهم وقيل هي للتبعيض لأن المباشِرَ بالذات للعهد بعضُهم لا كلُّهم {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ} عطفٌ على عاهدتَ داخل معه في حكم الصلةِ وصيغةُ الاستقبالِ للدِلالة على تجدّد النقضِ وتعدُّدِه وكونِهم على نيته في كل حالٍ أي ينقضون عهدَهم الذي أخذتَه منهم {فِي كُلّ مَرَّةٍ} أي من مرات المعاهدةِ إذ هي التي يُتوقعُ فيها عدمُ النقضِ ويُستقبح وجودُه لا من مرات المحاربة كما قيلَ إذْ لا يتوقع فيها عدم النقض بل لا يُتصور أصلاً حتى يُستقبَح فيها وجودُه لكونها مَظِنةً لعدمه فلا فائدةَ في تقييد النقضِ بالوقوع في كل مرةٍ من مراتها بل لا صِحةَ له قطعاً لأن النقضَ لا يتحقق إلا في المرة الواردةِ على المعاهدة لا في المرات الواقعةِ بعدها بلا معاهدة ولئن سلم أن المرادَ هي المراتُ الواقعةُ إثرَ المعاهدةِ يبقى النقضُ الواقعُ بلا محاربةٍ كبيع السلاحِ ونحوه خارجاً من البيان ولئن عُدّ ذلك من المحاربة فلا محيصَ من لزوم خلوِّ الكلامِ عن الفائدة بالمرة لأن المحاربةَ بهذا المعنى عينُ النقضِ فيؤولُ الأمرُ إلى أن يقال ينقضون عهدَهم في كل مرة من مرات النقض وحملُ المحاربةِ على محاربة غيرهِم ليكونَ المعنى ينقضون عهدَهم في كل مرة من مرات محاربة الأعداءِ مع كونِه في غايةِ البُعد والركاكة يستلزِمُ خروجَ بدئِهم بالنقض من البيان {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} حالٌ من فاعل ينقضون أي يستمرون على النقض والحالُ أنهم لا يتقون سُبّةَ الغدرِ ولا يبالون بما فيه من العار والنار وقوله تعالى

57

{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} شروعٌ في بيان أحكامِهم بعد تفصيلِ أحوالِهم والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي فإذا كان حالُهم كما ذكر فإمّا تصادِفَنَّهم وتظفَرَنَّ

بهم {فِى الحرب} أي في تضاعيفها {فَشَرّدْ بِهِم} أي ففرِّقْ عن مناصبتك تفريقاً عنيفاً موجباً للاضطرار والاضطراب ونكِّلْ عنها بأن تفعل بهم من النِكاية والتعذيبِ ما يوجب أن تُنَكّل {مّنْ خَلْفِهِمْ} أي مَنْ وراءَهم من الكفرة وفيه إيماءٌ إلى أنهم بصدد الحرب قريب من هؤلاء وقرئ شرِّذْ بالذال المعجمةِ ولعله مقلوبُ شذِّر بمعنى فرق وقرئ مِنْ خلفِهم أي افعلِ التشريدَ من ورائهم والمعنى واحدٌ لأن إيقاعَ التشريد في الوراء لا يتحقّقُ إلا بتشريد مَنْ وراءَهم {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} يتعظون بما شاهدوا مما ينزيل بالناقضِين فيرتدعوا عن النقض أو عن الكفر وقوله تعالى سورة الأنفال من الآيات (58 59)

58

{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} بيانٌ لأحكام المشرِفين إلى نقض العهدِ إثرَ بيانِ أحكامِ الناقضين له بالفعل والخوفُ مستعارٌ للعلم أي وإما تعلَمنَّ من 2 قوم من المعاهِدين نقضَ عهدٍ فيما سيأتي بما لاح لك منهم من دلائلِ الغدرِ ومخايلِ الشر {فانبذ إِلَيْهِمْ} أي فاطرَح إليهم عهدَهم {على سَوَاء} على طريق مستوٍ قَصْدٍ بأن تظهر لهم النقض وتُخبِرَهم إخباراً مكشوفاً بأنك قد قطعتَ ما بينك وبينهم من الوصلة ولا تناجِزْهم الحربَ وهم على توهم بقاءِ العهدِ كيلا يكونَ من قِبَلك شائبةُ خيانةٍ أصلا فالجارُّ متعلقٌ بمحذوف هو حال من النابذ أي فانِبذْ إليهم ثابتاً على سواءٍ وقيل على استواءٍ في العلم بنقض العهدِ بحيث يستوى فيه أقصاهم وأدناهم أو تستوى فيه أنت وهم فهو على الأولِ حالٌ من المنبوذ إليهم وعلى الثاني من الجانبين {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} تعليلٌ للأمر بالنبذ إما باعتبار استلزامِه للنهي عن المناجزة التي هي خيانةٌ فيكونُ تحذيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها وإما باعتبار استتباعِه للقتال بالآخرة فيكونُ حثاً له صلى الله عليه وسلم على النبذ أولاً وعلى قتالهم ثانياً كأنه قيل وإما تعلَمنَّ من قوم خيانةً فانبذْ إليهم ثم قاتِلْهم إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين وهم من جملتهم لما علمت من حالهم

59

{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ} أي أنفسَهم فحُذف للتكرار وقوله تعالى {سَبَقُواْ} أي فاتوا وأفلتوا من أن يُظفَرَ بهم مفعولٌ ثانٍ ليحسبن والمرادُ إقناطُهم من الخلاص وقطعِ أطماعهمَ الفارغةِ من الانتفاعِ بالنبذ والاقتصارِ على دفع هذا التوهمِ مع أن مقاومةَ المؤمنين بل الغلبةَ عليهم أيضاً مما تتعلق به أمانيهم الباطلةُ للتنبيه على أن ذلك ممَّا لا يحومُ حوله وهمُهم وحُسبانُهم وإنما الذي يمكن أن يدورَ في خلدهم حسبانُ المناصِ فقط وقيل الفعلُ مسندٌ إلى أحد أو إلى مَنْ خلفهم والمفعولُ الأولُ الموصولُ المتناولُ لهم أيضاً وقيل هو الفاعلُ وأنْ محذوفةٌ مِنْ سبقوا وهيَ مع ما في حيزها سادةٌ مسدَّ المفعولين والتقديرُ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أنْ سبقوا ويعضُده قراءةُ مَن قرأَ أنهم سبقوا ونظيرُه في الحذف قولُه تعالى ومن آياتِه يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وقولُه تعالى أغير الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ الآية قاله الزجاج وقرئ بالتاء على خطاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهي قراءة واضحة وقرئ ولا تحسب الذين بكسر الباء وبقتحها على حذف النون الخفيفة وقوله تعالى {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} أي لا يفوتون ولا يجدون طالبَهم عاجزاً عن إدراكهم تعليلٌ للنهي على طريقة الاستئناف وقرئ بفتح الهمزة عَلى

حذف لام التعليلِ وقيل الفعلُ واقعٌ عليه ولا زائدةٌ وسبَقوا حالٌ بمعنى سابقين أي مُفْلتين هاربين وهذا على قراءة الخطاب لإزاحة ما عسى يُحذر من عاقبة النبذِ لِما أنه إيقاظٌ للعدو وتمكينٌ لهم من الهرب والخلاصِ من أيدي المؤمنين وفيه نفيٌ لقدرتهم على المقاومة والمقابلة على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه كما أشير إليه وقيل نزلت فيمن أفلت من فَلِّ المشركين وقرئ لا يعجزونِ بكسر النون ولا يعجزون بالتشديد سورة الأنفال آيات (60 61)

60

{وَأَعِدُّواْ لَهُمْ} توجيهُ الخطاب إلى كافة المؤمنين لما أن المأمورَ به من وظائف الكلِّ كما أن توجيهَه فيما سبقَ وما لحِق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكون ما في حيِّزِه من وظائفه صلى الله عليه وسلم أي أعِدّوا لقتال الذين نُبذ إليهم العهدُ وهيِّئوا لحِرابهم أو لقتال الكفار على الإطلاق وهو الأنسبُ بسياقِ النظمِ الكريم {مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ} من كل ما يُتقوَّى به في الحرب كائناً ما كان وعن عقبةَ بن عامر رضي الله عنه سمعته صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر ألا إن القوةَ الرميُ قالها ثلاثا ولعل تخصيصه صلى الله عليه وسلم إياه بالذكر لإنافته على نظائره من القُوى {وَمِن رّبَاطِ الخيل} الرباطُ اسمٌ للخيل التي ترُبط في سبيلِ الله تعالى فِعال بمعنى مفعول أو مصدرٌ سميت هي به يقال رَبَط ربطاً ورِباطاً ورابط مُرابطة ورِباطاً أو جمعُ رَبيطٍ كفصيل وفصال أو جمع رَبْطٍ ككعْبٍ وكَعاب وكلب وكلاب وقرئ رُبُط الخيل بضم الباء وسكونها جمع رباط وعطفُها على القوة مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادِها كعطف جبريلَ وميكائيلَ على الملائكة {تُرْهِبُونَ بِهِ} أي تخوّفون وقرئ ترهبون بالتشديد وقرئ تُخزون به والضميرُ لما استطعتم أو للإعداد وهو الأنسبُ ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحالية من فاعل أعدوا أي أعدوا مرهِبين به أو منَ الموصولِ أو مِنْ عائده المحذوفِ أي أعدوا ما استطعتموه مُرهَباً بِهِ {عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} وهم كفارُ مكة خُصّوا بذلك من بين الكفار مع كون الكلِّ كذلك لغاية عتوِّهم ومجاوزتِهم الحدَّ في العداوة {وآخرين من دونهم} من غيرهم من الكفرة وقيل هم اليهودُ وقيل المنافقون وقيل الفرسُ {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ} أي لا تعرفونهم بأعيانهم أو لا تعلمونهم كما هم عليه من العداوة وهو الأنسبُ بقولِه تعالى {الله يَعْلَمُهُمْ} أي لا غيره فإن أعيانهم معلومة لغيره تعالى أيضاً {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء} لإعداد العَتادِ قل أوجل {فِى سَبِيلِ الله} الذي أوضحه الجهاد {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي جزاؤه كاملاً {وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} بترك الإثابة أو بنقض الثوابِ والتعبيرُ عن تركها بالظلم مع أن الأعمالَ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى يكون تركُ ترتيبِه عليها ظلماً لبيان كمالِ نزاهتِه سبحانه عنْ ذلكَ بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنْهُ تعالى من القبائح وإبرازِ الإثابةِ في معرِض الأمورِ الواجبةِ عليه تعالى كما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ

61

{وَإِن جَنَحُواْ} الجُنوحُ الميلُ ومنه الجنَاح ويعدّى باللام وبإلى أي إن مالوا {لِلسَّلْمِ} أي للصلح بوقوع الرهبةِ في قلوبهم بمشاهدة ما بكم من الاستعدادِ وإعناد العتاد {فاجنح لَهَا}

أي للسلم والتأنيثُ لحمله على نقيضه قال ... السِّلمُ تأخذ منها أرضيت به ... والحربُ يكفيكَ من أنفاسها جرع ... وقرئ فاجنُحْ بضم النون {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} ولا تخَفْ أن يُظهروا لك السلمَ وجوانحُهم مطويةٌ على المكر والكيد {أَنَّهُ} تعالى {هُوَ السميع} فيسمع ما يقولون في خلواتهم من مقالات الخِداع {العليم} فيعلم نياتِهم فيؤاخذهم بما يستحقونه ويردُّ كيدَهم في نحرهم والآيةُ خاصّةٌ باليهود وقيل عامة نسختها آية السيف سورة الأنفال آيات (62 64)

62

{وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ} بإظهار السلم وإبطالِ الحراب {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} أي فاعلم بأن محسبك الله من شرورهم وناصرُك عليهم {هُوَ الذى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} تعليلٌ لكفايته تعالى إياه صلى الله عليه وسلم بطريق الاستئنافِ فإن تأييدَه تعالى إياه صلى الله عليه وسلم فيما سلف على ما ذكر من الوجه البعيدِ من الوقوع من دلائل تأييدِه تعالى فيما سيأتي أي هو الذي أيدك بإمداد مِنْ عنده بلا واسطة كقوله تعالى {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} أو بالملائكة مع خَرقه للعادات {وبالمؤمنين} من المهاجرين والأنصار

63

{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} مع ما كان بينهم قبل ذلك من العصبية والضغينة والتهالُك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا بتوفيقه تعالى كنفس واحدة وهذا من أبهر معجزاته صلى الله عليه وسلم {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الارض جَمِيعاً} أي لتأليف ما بينهم {مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} استئنافٌ مقررٌ لما قبله ومبين لعزة المطلبِ وصعوبةِ المأخذ أي تناهي التعادي فيما بينهم إلى حد لو أنفقٌ منفقٌ في إصلاح ذاتِ البين جميعَ ما فى الأرض من الأموال والذخائر لم يقدِرْ على التأليف والإصلاحِ وذكرُ القلوب للإشعار بأن التأليف بينها الا يتسنى وإن أمكن التأليفُ ظاهراً {ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} قلباً وقالَباً بقدرته الباهرة {إِنَّهُ عَزِيزٌ} كاملُ القدرةِ والغلبة لا يستعصي عليه شيءٌ مما يريده {حَكِيمٌ} يعلم كيفيةَ تسخيرِ ما يريده وقيل الآيةُ في الأوس والخزرج كان بينهم إِحَنٌ لا أمدَ لها ووقائعُ أفنت ساداتِهم وأعاظِمَهم ودقت أعناقَهم وجماجمَهم فأنسى الله عز وجل جميع ذلك وألف بينهم بالإسلام حتى تصافَوا وأصبحوا يرمون عن قوس واحدة وصاروا أنصارا

64

{يا أيها النبى} شروعٌ في بيانِ كفايته تعالى إياه صلى الله عليه وسلم في جميع أموره وأمور المؤمنين أو في الأمور الواقعة بينهم وبين الكفرة كافة إثر بيان كفايتِه تعالى إياه صلى الله عليه وسلم في مادة خاصةٍ وتصديرُ الجملة بحر في النداءِ والتنبيهِ للتنبيه على مزيد الاعتناءِ بمضمونها وإيرادهُ صلى الله عليه وسلم بعنوان النبوة للإشعار بعليتها للحكم {حَسْبَكَ الله} أي كافيك في جميع أمورِك أو فيما بينك وبين الكفرة من الحِراب {وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} في محل النصب على أنه مفعولٌ معه أي كفاك وكفي أتباعَك الله ناصراً كما في

قول من قال ... فحسبُك والضحّاكَ عضْبٌ مهندُ ... وقيل في موضع الجر عطفاً على الضمير كما هو رأيُ الكوفيِّينَ أي كافيك وكافيهم أو في محل الرفعِ عطفاً على اسم الله تعالى أي كفاك الله والمؤمنين والآيةُ نزلت في البيداء في غزوة بدرٍ قبل القتالِ وقيل أسلم مع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ثلاثةٌ وثلاثون رجلاً وستُّ نسوةٍ ثم أسلم عمرُ رضي الله عنه فنزلت ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في إسلام عمر رضي الله عنه سورة الأنفال من الآية (65)

65

{يا أيها النبي} بعدما بين كفايتَه إياهم بالنصر والإمداد أمر صلى الله عليه وسلم بترتيب مبادي نصرِه وإمدادِه وتكريرُ الخطاب على الوجه المذكور لإظهار كمالِ الاعتناءِ بشأن المأمور به {حَرّضِ المؤمنين عَلَى القتال} أي بالِغْ في حثّهم عليه وترغيبِهم فيه بكل ما أمكن من الأمور المرغّبة التي أعظمُها تذكيرُ وعدِه تعالى بالنصر وحُكمُه بكفايته تعالى أو بكفايتهم وأصلُ التحريضِ الحَرَضُ وهو أن ينهكه المرضُ حتى يُشفيَ على الموت وقال الراغبُ كأنه في الأصل إزالةُ الحَرَض وهو ما لا خيرَ فيه ولا يعتد به قلت فالأوجهُ حينئذ أن يُجعل الحرَضُ عبارةً عن ضعف القلب الذي هو من باب نَهْكِ المرض وقيل معنى تحريضِهم تسميتُهم حرضاً بأن يقال إني أراك في هذا الأمر حَرَضاً أي محرّضاً فيه لتهيجه إلى الإقدام وقرئ حرِّص بالصاد المهملة وهو واضح {إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} وعدٌ كريمٌ منه تعالى بتغليب كلِّ جماعةٍ من المؤمنين على عشرة أمثالِهم بطريق الاستئنافِ بعد الأمر بتحريضهم وقوله تعالى {وَإِن يَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا} مع انفهام مضمونِه مما قبله لكون كل منهما عدةً بتأييد الواحدِ على العشرة لزيادة التقريرِ المفيدةِ لزيادة الاطمئنان على أنه قد يجري بين الجمعين القليلين ما لا يجري بين الجمعين الكثيرين مع أن التفاوتَ فيما بين كلَ من الجمعين القليلين والكثيرين على نسبة واحدة فبيّن أن ذلك لا يتفاوت في الصورتين وقوله تعالى {مِنَ الذين كَفَرُواْ} بيانٌ للألف وهذا القيدُ معتبرٌ في المِائتين أيضاً وقد تُرك ذكرُه تعويلاً على ذكره ههنا كما ترك قيدُ الصبر ههنا مع كونه معتبراً حتماً ثقةً بذكره هناك {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} متعلق بيغلبوا أي بسبب أنهم قومُ جَهلةٌ بالله تعالى وباليوم الآخر لا يقاتلون احتساباً وامتثالاً بأمر الله تعالى وإعلاءً لكلمته وابتغاءً لرضوانه كما يفعله المؤمنون وإنما يقاتلون للحمية الجاهليةِ واتّباعِ خطواتِ الشيطانِ وإثارةِ ثائرةِ البغي والعُدوانِ فلا يستحقون إلا القهرَ والخِذلانَ وأما ما قيل من أن مَنْ لا يؤمن بالله واليوم الآخِر لا يؤمن بالميعاد فالسعادةُ عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية فيشِحّ بها ولا يعرِّضها للزوال بمزاولة الحروبِ واقتحامِ مواردِ الخطوبِ فيميل إلى ما فيه السلامةُ فيفِر فيُغلب وأما من اعتقد أن لا سعادةَ في هذه الحياة الفانية وإنما السعادةُ هي الحياةُ الباقية فلا يبال بهذه الحياةِ الدنيا ولا يقيم لها وزناً فيُقدم على الجهاد بقلب قوي وعزمٍ صحيحٍ فيقوم الواحدُ من مثله مقامُ الكثير فكلامٌ حقٌّ لكنه لا يلائم المقام

سورة الأنفال من الآيات (66 67)

66

{الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} لمّا كان الوعدُ السابقُ متضمناً لإيجاب مقاومةُ الواحد للعشرة وثباتُه لهم كما نُقلَ عن ابنِ جريج أنه كان عليهم أن لا يفِرّوا ويثبُتَ الواحدُ للعشرة وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزةَ في ثلاثين راكباً فلقى أبا جهل في ثلثمائة راكبٍ فهزمهم ثقُل عليهم ذلك وضجّوا منه بعد مدة فنُسخ وخُفف عنهم بمقاومة الواحدِ للاثنين وقيل كان فيهم قلةٌ في الابتداء ثم لما كثُروا نزل التخفيفُ والمرادُ بالضعف ضعفُ البدنِ وقيل ضعفُ البصيرةِ وكانوا متفاوتين في الاهتداء إلى القتال لا الضعفِ في الدين كما قيل وقرئ ضُعفاً بضم الضاد وهي لغةٌ فيه كالفَقر والفُقر والمَكْث والمُكث وقيل الضعفُ بالفتح ما في الرأي والعقل وبالضم ما في البدن وقرئ ضُعفاءَ جمعُ ضعيف والمرادُ بعلمه تعالى بضعفهم علمه تعالى به من حيث هو متحققٌ بالفعل لا علمُه تعالى به مطلقاً كيف لا وهو ثابتٌ في الأزل وقوله تعالى {فَإِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} تفسيرٌ للتخفيف وبيان لكيفيته وقرئ تكن ههنا وفيما سبق بالتاء الفوقانية {وَإِن يَكُن مّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله} أي بتيسيره وتسهيلِه وهذا القيدُ معتبرٌ فيما سبق من غلبة المائةِ المائتين والألفِ وغلبة العشرين المائتين كما أن قيد الصبرِ معتبر ههنا وإنَّما تُرك ذكرُه ثقةً بما مر وبقوله تعالى {والله مَعَ الصابرين} فإنه اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله والمرادُ بالمعية معيَّةُ نصرِه وتأييدِه ولم يتعرض ههنا لحال الكفرةِ من الخذلان كما لم يتعرض هناك لحال المؤمنين مع أن مدارَ الغلبة في الصورتين مجموعُ الأمرين أعني نصرَ المؤمنين وخذلانَ الكفرةِ اكتفاء بما ذكر في كل مقامٍ عما ترك في المقام الآخر وما تشعرُ به كلمةُ مع من متبوعية مدخولِها لأصالتهم من حيث إنهم المباشرون للصبر كما مر مراراً

67

{ما كان لنبي} وقرئ للنبي على العهد والأولُ أبلغُ لما فيه من بيانِ أنَّ ما يذكر سنة مطردة فيما بين الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام أي ما صح وما استقام لنبيَ من الأنبياءِ عليهم السلام {أَن يَكُونَ له أسرى} وقرئ بتأنيث الفعلِ وأُسارى أيضاً {حتى يُثْخِنَ فِي الارض} أي يُكثر القتلَ ويبالغَ فيه حتى يذل الكفرة ويقِلُ حزبُه ويعِزّ الإسلامُ ويستوليَ أهلُه من أثخنه المرَضُ والجُرحُ إذا أثقله وجعله بحيث لا حَراكَ به ولا براحَ وأصلُه الثخانة التي هي الغلط والكثافة وقرئ بالتشديد للمبالغة {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} استئنافٌ مَسوقٌ للعتاب أي تريدون حطامها بأخذكم الفداء وقرئ يريدون بالياء {والله يُرِيدُ الاخرة} أي يريد لكم ثوابَ الآخرة الذي لا مقدار عندَهُ الدُّنيا وَمَا فِيْهَا أو يريد سببَ نيلِ الآخرة من إعزاز دينِه وقمعِ أعدائِه وقرئ بجر الآخرةِ على إضمار المضافِ كما في

قوله ... أكل امرئ تحسبين أمرا ... ونارٍ تَوقَّدُ بالليل ناراً ... {والله عَزِيزٌ} يغلب أوليائه على أعدائه {حَكِيمٌ} يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها كما أمر بالإثخان ونهى عن أخذ الفداء حين كانت الشوْكةُ للمشركين وخيّر بينه وبين المنِّ بقوله تعالى فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء لما تحولت الحال وصارت الغلبةُ للمؤمنين رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أُتيَ بسبعين أسيراً فيهم العباسُ وعقيل بنُ أبي طالب فاستشار فيهم فقال أبو بكر قومُك وأهلك استَبْقِهم لعل الله يتوب عليهم وخُذ منهم فديةً تقوِّي أصحابَك وقال عمر اضرب أعناقَهم فإنهم أئمةُ الكفر والله أغناك عن الفداء مكّنْ علياً من عقيلٍ وحمزةَ من العباس ومكني من فلان نسيبٍ له فلنضرِب أعناقَهم فقال صلى الله عليه وسلم إن الله ليُلين قلوبَ رجالٍ حتى تكون ألين من اللين وإن الله ليشدد قلوبَ رجالٍ حتى تكون أشدَّ من الحجارة وإن مثلَك يا أبا بكر مثلُ إبراهيم قال فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلُك يا عمرُ مثل نوحٍ قال ربِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض من الكافرين ديار فخيّر أصحابَه فأخذوا الفداء فنزلت فدخل عمر رضي الله عنه على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقالَ يا رسولَ الله أخبرني فإن وجدت بكاءً بكَيْتُ وإلا تباكيتُ فقال أبكي على أصحابك في أخذهم الفداءَ ولقد عُرِضَ على عذابُهم أدنى من هذه الشجرةِ لشجرة قريبةِ منه وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال لو نزل عذابٌ من السماء لما نجا غيرُ عمرَ وسعدُ بنُ معاذ وكان هو أيضاً ممن أشار بالإثخان سورة الأنفال من الآيات (68 70)

68

{لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ} أي لولا حكمٌ منه تعالى سبق إثباتُه في اللوح المحفوظِ وهو أن لا يعاقب المخطئ في اجتهاده أو أن لا يعذب أهلَ بدر أو قوماً لم يصرِّح لهم بالنهي وأما أن الفدية التي أخذوها ستحِل لهم فلا يصلح أن يعد من موانع مساسِ العذاب فإن الحِلَّ اللاحقَ لا يرفع حكمَ الحرمةِ السابقة كما أن الحرمةَ اللاحقة كما في كما في الخمر مثلالا ترفع حكمَ الإباحةِ السابقة على أنه قادحٌ في تهويل ما نُعي عليهم من أخذ الفداء {لَمَسَّكُمْ} أي لأصابكم {فِيمَا أَخَذْتُمْ} أي لأجل ما أخذتم من الفداء {عَذَابٌ عظِيمٌ} لا يقادَرُ قدرُه

69

{فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} رُوي أنهم أمسكوا عن الغنائم فنزلت قالوا الفاءُ لترتيب ما بعدها على سبب محذوفٍ أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم والأظهر أنها للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقام أي دعوه فكلوا مما غنمتم وقيل ما عبارةٌ عن الفدية فإنها من جملة الغنائم ويأباه سباقُ النظمِ الكريمِ وسياقُه {حلالا} حال من المغنوم أو صفةٌ للمصدر أي أكلاً حلالاً وفائدتهُ الترغيبُ في أكلها وقوله تعالى {طَيّباً} صفةٌ لحلالاً مفيدةٌ لتأكيد الترغيبِ {واتقوا الله} أي في مخالفة أمرِه ونهيِه {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيغفرُ لكم ما فرَط منكُم من استباحة الفداءِ قبل ورود الإذنِ فيه ويرحمُكم ويتوبُ عليكم إذا اتقيتموه

70

{يا أيها النبى قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم} أي في مِلكتكم كأن أيديَكم قابضةٌ عليهم {من الأسرى}

سورة الأنفال من الآيات (71 72) وقرئ من الأُسارى {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} خلوصَ إيمانٍ وصحةَ نيةٍ {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ منكم} من الفداء وقرئ أخَذَ على البناء للفاعل رُوِيَ أنَّها نزلتْ في العباس كلفه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يَفدِيَ ابني أخيه عَقيلَ بن أبي طالب ونوفل بن الحرث فقال يا محمد تركتَني أتكفف قريشاً ما بقِيتُ فقال له صلى الله عليه وسلم فأين الذهبُ الذي دفعتَه إلى أم الفضلِ وقت خروجِك من مكة وقلت لها ما أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدثٌ فهو لك ولعبد اللَّه وعبيد اللَّه والفضلِ فقال العباس ما يدريك فقال أخبرني به ربي قال العباس فأنا أشهد أنك صادقٌ وأن لا إله إلا الله وأنك عبدُه ورسوله والله لم يطلعْ عليه أحدٌ إلا الله ولقد دفعتُه إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتاباً في أمرك فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب قال العباس بعد حين فأبدلني الله خيراً من ذلك لي الآن عشرون عبداً وإنّ أدناهم ليُضرب في عشرين ألفاً وأعطاني زمزمَ ما أُحب أن لي بها جميعَ أموالِ أهل مكة وأنا أنتظر المغفرةَ من ربي يتأول به ما في قوله تعالى {وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإنه وعد بالمغفر مؤكدٌ بما بعده من الاعتراض التذييلي

71

{وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ} أي نكثَ ما بايعوك عليه من الإسلام وهذا كلامٌ مسوقٌ من جهتِه تعالى لتسليته صلى الله عليه وسلم بطريق الوعدِ له والوعيد لهم {فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} بكفرهم ونقضِ ما أخذ على كل عاقلٍ من ميثاقه {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} أي أقدرَك عليهم حسبما رأيتَ يومَ بدر فإن أعادوا الخيانةَ فاعلم أنه سيُمكنك منهم أيضاً وقيل المرادُ بالخيانة منعُ ما ضمِنوا من الفداء وهو بعيد {والله عَلِيمٌ} فيعلم ما في نياتهم وما يستحقونه من العقاب {حكيم} يفعل كل يفعله حسبما تقتضيه حكمتُه البالغة

72

{إن الذين آمنوا وَهَاجَرُواْ} هم المهاجرون هاجروا أوطانَهم حباً لله تعالى ولرسوله {وجاهدوا بأموالهم} بأن صرفوها إلى الكُراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج {وَأَنفُسِهِمْ} بمباشرة القتال واقتحامِ المعارك والخوضِ في المهالك {فِى سَبِيلِ الله} متعلقٌ بجاهدوا قيدٌ لنوعي الجهادِ ولعل تقديمَ الأموال على الأنفس لما أن المجاهدةَ بالأموال أكثرُ وقوعاً وأتمُّ دفعاً للحاجة حيث لا يُتصور المجاهدةُ بالنفس بلا مجاهدة بالمال {والذين آووا وَّنَصَرُواْ} هم الأنصارُ آوَوا المهاجرين وأنزلوهم منازلَهم وبذلوا إليهم أموالَهم وآثروهم على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة ونصروهم على أعدائهم {أولئك} إشارةٌ إلى الموصوفينَ بما ذُكِرَ من النعوتِ الفاضلة وما فيه من معنى البُعدِ للإيذانِ بعلوِّ طبقتِهم وبعد منزلتهم في الفضيلة وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {بَعْضُهُمْ} إما بدلٌ منه وقوله تعالى {أَوْلِيَاء بعض} خبره

سورة الأنفال من الآيات (73 75) وإما مبتدأٌ ثانٍ وأولياءُ بعضٍ خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأول أي بعضُهم أولياءُ بعضٍ في الميراث وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنُصرة دون الأقاربِ حتى نُسخ بقوله تعالى وَأُوْلُو الارحام الآية وقيل في النُصرة والمظاهرة ويردُه قوله تعالى فَعَلَيْكُمُ النصر بعد نفي موالاتِهم {والذين آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} كسائر المؤمنين {مَا لَكُم مّن ولايتهم مِن شَىْء} أي من تولّيهم في الميراث وإن كانوا من أقرب أقاربِكم {حتى يُهَاجِرُواْ} وقرئ بكسر الواو تشبيهاً بالعمل والصناعة كالكتابة والإمارة {وَإِنِ استنصروكم فِى الدين فَعَلَيْكُمُ النصر} فواجبٌ عليكم أن تنصُروهم على المشركين {إِلاَّ على قَوْمٍ} منهم {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق} معاهدةٌ فإنه لا يجوز نقضُ عهدِهم بنصرهم عليهم {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فلا تخالفوا أمرَه كيلا يحِلَّ بكم عقابُه

73

{والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بعض} آخر منهم في الميراث أو في الموازرة وهذا بمفهومة مُفيدٌ لنفي الموارثة والموازرة بينهم وبين المسلمين وإيجابِ المباعدةِ والمصارمة وإن كانوا أقارب {إِلا تَفْعَلُوه} أي ما أُمرتم بهِ منَ التواصل بينكم وتولِّي بعضِكم بعضا حتى التوراث ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار {تَكُنْ فِتْنَةٌ في الأرض} أي تحصُل فتنةٌ عظيمة فيها وهي ضعفُ الإيمان وظهورُ الكفر {وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} في الدارين وقرئ كثير

74

{والذين آمنوا وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله والذين آووا وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً} كلامٌ مسوقٌ للثناء عليهم والشهادة لهم بفوزهم بالقدح المعلَّى من الإيمان مع الوعد الكريم بقوله تعالى {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لا تبعةَ له ولا منة فيه فلا تكرارَ لما أن مساقَ الأولِ لإيجاب التواصلِ بينهم

75

{والذين آمنوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ} بعد هجرتِكم {وجاهدوا مَعَكُمْ} في بعض مغازيكم {فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ} أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصارُ وهم الذين جاءوا من بعدهم يقولون رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ألحقهم الله تعالى بالسابقين وجعلهم منهم تفضلاً منه وترغيباً في الإيمان والهجرة وفي توجيه الخطاب إليهم بطريق الالتفات من تشريفهم ورفعِ محلِّهم ما لا يخفى {وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} آخرَ منهم في التوارث من الأجانب {فِى كتاب الله} أي في حُكمهِ أو في اللَّوحِ أو في القرآن واستُدِل به على توريث ذوي الأرحام {أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} ومن جملته ما في تعليق التوارثِ بالقرابة الدينيةِ أولاً وبالقرابة النسبيةِ آخِراً من الحِكَم البالغة عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الأنفالِ وبراءةٌ فأنا شفيعٌ له يوم القيامة وشاهدٌ أنه برئ من

النفاق وأُعطِيَ عشرَ حسناتٍ بعدد كلِّ منافقٍ ومنافقةٍ وكان العرشُ وحملتُه يستغفرون له أيامَ حياتِه والله تعالَى أعلمُ 9 سورة براءة الآية (1) سورة براءة وهي مدينة وآياتها مائة وتسع وعشرون آية ولها أسماء أخر سورة التوبة والمقشقشة والبحوث والمنقرة والمبعثرة والمثيرة والحافرة والمخزية والفاضحة والمنكلة والمشردة والمدمدمة وسورة العذاب لما فيها من ذكر التوبة ومن التبرية من النفاق والبحث والتنقير عن حال المنافقين وإثارتها والحفر عنها وما يخزيهم ويشردهم ويدمدم عليهم واشتهارها بهذه الأسماء يقضي بأنها سورة مستقلة وليست بعضا من سورة الأنفال وادعاء اختصاص الاشتهار بالقائلين باستقلالها خلاف الظاهر فيكون حكمة ترك التسمية عند النزول نزولها في رفع الأمان الذي يأبى مقامه التصدير بما يشعر ببقائه من ذكر اسمه تعالى مشفوعا بوصف الرحمة كما رُوي عن ابنِ عيينة رضي الله عنه لا الاشتباه في استقلالها وعدمه كما يحكى عن ابن عباس رضي الله عنهما ولا رعاية ما وقع بين الصحابةِ رضيَ الله عنُهم من الاختلاف في ذلك على أن ذلك ينزع إلى القول بأن التسمية ليست من القرآن وإنما كتبت للفصل بين السور كما نقل عن قدماء الحنفية وأن مناط إثباتها في المصاحف وتركها إنما هو رأي من تصدى لجمع القرآن دون التوقيف ولا ريب في أن الصحيح من المذهب أنها آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها وأن لا مدخل لرأي أحد في الإثبات والترك وإنما المتبع في ذلك هو الوحي والتوقيف ولا مرية في عدم نزولها ههنا وإلا لا متنع أن يقع في الاستقلال اشتباه أو اختلاف فهو إما لاتحاد السورتين أو لما ذكرنا لا سبيل إلى الأول وإلا لبينه صلى الله عليه وسلم لتحقق مزيد الحاجة إلى البيان لتعاضد أدلة الاستقلال من كثرة الآيات وطول المدة فيما بين نزولهما فحيث لم يبينه صلى الله عليه وسلم تعين الثاني لأن عدم البيان من الشارع في موضع البيان بيان للعدم

التوبة

{بَرَاءةٌ} خبرُ مبتدأ محذوفٍ وتنوينه للتفخيم وقرئ بالنصب أي اسمعوا براءةً ومِنْ في قولِه تعالَى {مّنَ الله وَرَسُولِهِ} ابتدائيةٌ متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لها ليفيدَها زيادةَ تفخيمٍ وتهويلٍ أي هذه براءةٌ مبتدأةٌ من جهة الله تعالى ورسوله وصلة {إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مّنَ المشركين} وإنما لم يذكر ما تعلق به البراءة حسبما ذُكر في قوله تعالى إن الله برئ مّنَ المشركين اكتفاءً بما في حيز الصلةِ فإنه منئ عنه إنباءً ظاهراً واحترازاً عن تكرير لفظة من قيل هي مبتدأٌ لتخصصها بالصفة وخبرُه إلى الذين الخ والذي تقتضيهِ جزالةُ النظمِ هو الأولُ لأن هذه البراءةَ أمرٌ حادثٌ لم يُعهَدْ عند المخاطَبين ذاتُها ولا عنوانُ ابتدائِها من الله تعالى ورسولِه حتى يخرُجَ ذلك العنوانُ مخرَجَ الصفةِ لها ويُجعلَ المقصودَ بالذات والعمدةُ في الإخبار شيئاً آخرَ هو وصولُها إلى المعاهَدين وإنما الحقيقُ بأن يعتنى بإفادته حدوثُ تلك

9 سورة براءة الآية (2) البراءةِ من جهته تعالى ووصولِها إليهم فإن حق الصفاتِ قبل علم المخاطَب بثبوتها لموصوفاتها أن تكون أخيارا وحقُّ الأخبار بعد العلمِ بثبوتها لما هيَ له أن تكون صفاتٍ كما حُقّق في موضعه وقرئ منِ الله بكسر النون على أن الأصلُ في تحريك الساكنِ الكسرُ ولكن الوجهَ هو الفتحُ في لام التعريفِ خاصةً لكثرة الوقوع والعهدُ العقدُ الموثقُ باليمين والخطابُ في عاهدتم للمسلمين وقد كانوا عاهدوا مشركي العربِ من أهل مكةَ وغيرِهم بإذن الله تعالى واتفاقِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم فنكَثوا إلا بني ضَمْرَةَ وبني كِنانةَ فأُمر المسلمون بنبذ العهدِ إلى الناكثين وأُمهلوا أربعةَ أشهر ليسيروا أين شاءوا وإنما نُسبت البراءةُ إلى الله ورسوله مع شمولها للمسلمين واشتراكِهم في حكمها ووجوبِ العملِ بموجبها وعُلّقت المعاهدةُ بالمسلمين خاصةً مع كونها بإذن الله تعالى واتفاق الرسول صلى الله عليه وسلم للإنباء عن تنجُّزها وتحتُّمها من غير توقفٍ على رأي المخاطبين لأنها عبارةٌ عن إنهاء حكمِ الأمانِ ورفع الخطر المترتبِ على العهد السابقِ عن التعرض للكفرة وذلك مَنوطٌ بجناب الله عزَّ وجلَّ لأنَّه أمرٌ كسائر الأوامرِ الجاريةِ على حسب حكمةٍ تقتضيها وداعيةٍ تستدعيها تترتب عليها آثارُها من غير توقفٍ على شيء أصلاً واشتراكُ المسلمين في حكمها ووجوبِ العمل بموجبها إنما هو على طريقةُ الامتثالِ بالأمر لا على أنْ يكونَ لهم مدخلٌ في إتمامها أو في ترتب أحكامِها عليها وأما المعاهدةُ فحيث كانت عقداً كسائر العقود الشرعيةِ لا تتحصّل في نفسها ولا تترتب عليها أحكامُها إلا بمباشرة المتعاقدين على وجوه مخصوصةٍ اعتبرها الشرعُ لم يُتصوَّرْ صدورُها عنه سبحانه وإنما الصادرُ عنه في شأنها هو الإذنُ فيها وإنما الذي يباشرُها ويتولى أمرَها المسلمون ولا يخفى أن البراءةَ إنما تتعلق بالعهد لا بالإذن فيه فنُسبت كلُّ واحدة منهما إلى من هو أصلٌ فيها على أن في ذلك تفخيماً لشأن البراءةِ وتهويلاً لأمرها وتسجيلاً على الكفرة بغاية الذلِّ والهوانِ ونهايةِ الخِزْيِ والخِذلان وتنزيهاً لساحة السبحان والكبرياءِ عما يوهم شائبةَ النقصِ والنداء تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً وإدراجه صلى الله عليه وسلم في النسبة الأولى وإخراجُه عن الثانية لتنويه شأن الرفيعِ وإجلالِ قدرِه المنيع في كلا المقامين صلى الله عليه وسلم وإيثارُ الجملة الاسميةِ على الفعلية كأن يقال قد برئ الله ورسولُه من الذين أو نحوُ ذلك للدلالة على دوامها واستمرارِها وللتوسل إلى تهويلها بالتنوين التفخيميِّ كما أشير إليه

2

{فَسِيحُواْ} السياحةُ والسَّيْحُ الذهابُ في الأرض والسيرُ فيها بسهولة على مقتضى المشيئةِ كسيح الماءِ على موجب الطبيعة ففيه من الدِلالة عَلى كمالِ التوسعة والترفيه ما ليس في سيروا ونظائره وزيادة قوله عز وجل {فِى الارض} لقصد التعميمِ لأقطارها من دار الإسلامِ وغيرِها والمرادُ إباحةُ ذلك لهم وتخليتُهم وشأنَهم من الاستعداد للحرب أو تحصينِ الأهل والمال وتحصيل المهاب أو غيرِ ذلك لا تكليفُهم بالسياحة فيها وتلوينُ الخطاب بصرفه عن المسلمين وتوجيهِه إليهم مع حصول المقصودِ بصيغة أمرِ الغائبِ أيضاً للمبالغة في الإعلام بالإمهال حسماً لمادة تعلّلِهم بالغفلة وقطعاً لشأفة اعتذارِهم بعدم الاستعداد وإيثارُ صيغةِ الأمرِ مع تسنّي إفادةِ ذلك المعنى بطريق الإخبارِ أيضاً كأن يقالَ مثلاً فلكم أن تسيحوا أو نحوُ ذلك لإظهار كمالِ القوةِ والغلبةِ وعدمِ الاكتراث

9 سورة براءة الآية (3) لهم ولاستعدادهم فكأن ذلك أمرٌ مطلوبٌ منهم والفاءُ لترتيب الأمرِ بالسياحة وما يعقُبه على ما تؤذن به البراءةُ المذكورةُ من الحِراب على أن الأولَ مترتبٌ على نفسه والثاني بكلا متعلِّقَيْه على عنوان كونِه من الله العزيز لا لترتيب الأولِ عليه والثاني على الأول كما في قوله تعالى قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فَاْنظُرُواْ الخ كأنه قيل هذه براءةٌ موجبةٌ لقتالكم فاسعَوْا في تحصيل العددِ والأسباب وبالغوا في إعتاد العَتادِ من كل باب {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ واعلموا أَنَّكُمْ} بسياحتكم في أقطار الأرضِ في العَرْض والطول وإن ركبتم متن كل صعب وذلول {غَيْرُ مُعْجِزِي الله} أي لا تفوّتونه بالهرب والتحصُّن {وَأَنَّ الله} وُضع الاسمُ الجليلُ موضِعَ المضمر لتربية المهابةِ وتهويلِ أمر الإخزاءِ وهو الإذلالُ بما فيه فضيحةٌ وعار {مُخْزِى الكافرين} أي مخزيكم ومُذِلُّكم في الدنيا بالقتل والأسرِ وفي الآخرة بالعذاب وإيثارُ الإظهارِ على الإضمارِ لذمهم بالكفر بعد وصفهم بالإشراك والإشعار بأن علةَ الإخزاءِ هي كفرُهم ويجوز أن يكون المرادُ جنسَ الكافرين فيدخلُ فيه الخاطبون دخولاً أولياً والمرادُ بالأشهر الأربعةُ هي الأشهرُ الحرمُ التي عُلِّق القتالُ بانسلاخها فقيل هي شوَّالٌ وذو القَعدة وذو الحجة والمحرم وقيل هي عشرون من ذي الحجة والمحرَّمُ وصفرُ وشهرُ ربيعٍ الأول وعشرٌ من شهر ربيعٍ الآخَر وجُعلت حُرَماً لحرمة قتالِهم فيها أو لتغليب ذي الحجة والمحرَّم على البقية وقيل من عشر ذي القعدة إلى عشرٍ من شهر ربيعٍ الأول لأن الحجَّ في تلك السنةِ كان في ذلك الوقت للنسئ الذي كان فيهم ثم صار في العام القابل في ذي الحجة وذلك قوله صلى الله عليه وسلم إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خَلَقَ الله السمواتِ والارض روي أنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكرٍ رضيَ الله تعالَى عنه على موسم سنةِ تسعٍ ثم أتبعه علياً رضي الله تعالى عنه على العضباء ليقرأَها على أهل الموسم فقيل له صلى الله عليه وسلم لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال صلى الله عليه وسلم لا يؤدّي عني إلا رجلٌ مني وذلك لأن عادة العرب أن لا يتولى أمرَ العهد والنقض على القبيلة إلا رجلٌ منها فلما دنا على سمع أبو بكر الرُّغاءُ فوقف فقال هذا رُغاءُ ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما لحِقه قال أميرٌ أو مأمورٌ قال مأمورٌ فمضياً فلما كان قبل يوم الترويةِ خطَب أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه وحدثهم عن مناسكهم وقام علي رضي الله عنه يومَ النحِر عند جَمرةِ العقبة فقال يأيها الناسُ إني رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إليكم فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ثم قال أُمرت بأربعٍ أن لا يقرَبَ البيتَ بعد العام مشركٌ ولا يطوفَ بالبيت عُريانٌ ولا يدخلَ الجنةَ إلا كلُّ نفسٍ مؤمنة وأن يُتمَّ إلى كل ذي عهد عهدُه

3

{وَأَذَانٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} أي إعلامٌ منهما فعَال بمعنى الإفعال كالعطاء بمعنى الإعطاء ورفعُه كرفع براءةٌ والجملةُ معطوفةٌ على مثلها وإنما قيل {إِلَى الناس} أي كافةً لأن الأذانَ غيرُ مختصٍ بقوم دون آخرين كالبراءة الخاصة

9 سورة براءة الآية (4) بالناكثين بل هو شاملٌ لعامة الكفرةِ وللمؤمنين أيضاً {يَوْمَ الحج الاكبر} هو يومُ العيدِ لأن فيه تمامَ الحجِّ ومعظَم أفعالِه ولأن الإعلامَ كان فيه ولما روى أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحِر عند الجَمَرات في حَجة الوداع فقال هذا يومُ الحجِّ الأكبر وقيل يومُ عرفةَ لقوله صلى الله عليه وسلم الحج عرفة ووصفُ الحجِّ بالأكبر لأن العُمرة تسمى الحجَّ الأصغرَ أو لأن المرادَ بالحج ما يقع في ذلكَ اليومِ من أعماله فإنه أكبرُ من باقي الأعمال أو لأن ذلك الحج اجتمع فيه المسلمون والمشركون أو لأنه ظهر فيه عزُّ المسلمين وذلُّ المشركين {أَنَّ الله} أي بأن الله وقرئ بالكسر لِما أن الأذانَ فيه معنى القول {بَرِىء مّنَ المشركين} أي المعاهِدين الناكثين {وَرَسُولُهُ} عطفٌ على المستكنِّ في برئ أو على محلِّ إنَّ واسمِها على قراءة الكسر وقرئ بالنصبِ عطفاً على اسمِ أنّ أو لأن الواوَ بمعنى مع أي برئ معه منهم وبالجر على الجوار وقيل على القسم {فَإِن تُبْتُمْ} من الشرك والغدر التفاتٌ من الغَيبة إلى الخطاب لزيادة التهديدِ والتشديد والفاءُ لترتيب مقدّمِ الشرطيةِ على الأذان بالبراءة المذيّلةِ بالوعيد الشديد المُؤذِنِ بلِين عَريكتِهم وانكسارِ شدة شكيمتِهم {فَهُوَ} أي فالتوب {خيرٌ لَّكُمْ} في الدارين {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} عن التوبة أو ثبَتُّم على التولي عن الإسلام والوفاء {فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى الله} غيرُ سابقين ولا فائتين {وَبَشّرِ الذين كَفَرُواْ} تلوينٌ للخطاب وصرْفٌ له عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن البشارة {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وإن كانت بطريق التهكمِ إنما تليق بمن يقفُ على الأسرار الإلهية

4

{إِلاَّ الذين عاهدتم مّنَ المشركين} استدراكٌ من النبذ السابقِ الذي أُخّر فيه القتالُ أربعةَ أشهرٍ كأنه قيل لا تُمهلوا الناكثين فوق أربعةِ أشهرٍ لكن الذين عاهدتم ثم لم ينكُثوا عهدَهم فلا تُجْروهم مُجرى الناكثين في المسارعة إلى قتالهم بل أتموا إليهم عهدَهم ولا يضُرّ في ذلك تخللُ الفاصلِ بقوله تعالى وَأَذَانٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ الخ لأنه ليس بأجنبي بالكلية بل هو أمر بإعلام تلك البراءةِ كأنه قيل وأَعلِموها وقيل هو استثناءٌ متصلٌ من المشركين الأوّل ويرده بقاءُ الثاني على العموم مع كونهما عبارةً عن فريق واحد وجعلُه استثناءً من الثاني يأباه بقاء الأولُ كذلك وقيل هو استدراك من المقدر في فسيحوا أي قولوا لهم سيحوا أربعة أشهر لكن الذين عاهدتم منهم {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} من شروط الميثاقِ ولم يقتُلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط وقرئ بالمعجمة أي لم ينقضوا عهدَكم شيئاً من النقض وكلمة ثم للدِلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة {وَلَمْ يظاهروا} أي لم يعاونوا {عَلَيْكُمْ أَحَداً} من أعدائكم كما عدَتْ بنو بكر على خُزاعةَ في غَيْبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فظاهَرَتْهم قريشٌ بالسلاح {فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} أي أدوه إليهم كملا {إلى مُدَّتِهِمْ} ولا تفاجئوهم بالقتال عند مضيِّ الأجل المضروبِ للناكثين ولا تعاملوهم معاملتهم قال ابن عباس رضي الله عنهما بقي لِحيَ من بني كنانةَ من عهدهم تسعةُ أشهر فأتم إليهم عهدَهم {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} تعليلٌ لوجوب الامتثال وتنبيهٌ على أن مراعاةَ حقوقِ العهدِ من باب التقوى وأن التسويةَ بين الوفيِّ

9 سورة براءة الآية (5) والغادر منافيةٌ لذلك وإن كان المعاهَدُ مشركاً

5

{فَإِذَا انسلخ} أي انقضى استُعير له من الانسلاخ الواقعِ بين الحيوان وجلدِه والأغلبُ إسناده إلى الجلد والمعنى إذا انقضى {الاشهر الحرم} وانفصلت عما كانت مشتملةً عليه ساترةً له انفصالَ الجلدِ عن الشاة وانكشفت عنه انكشافَ الحجاب عما وراءَه كما ذكره أبو الهيثم من أنه يقال أهلَلْنا شهرَ كذا أي دخلنا فيه ولبِسناه فنحن نزداد كلَّ ليلة لباساً منه إلى مُضيِّ نصفِه ثم نسلَخُه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً حتى نسلَخَه عن أنفسنا كلَّه فينسلِخ وأنشد ... إذا ما سلختُ الشهرَ أهلَلْتُ مثلَه ... كفى قاتلاً سَلْخي الشهورَ وإهلالي ... وتحقيقُه أن الزمانَ محيطٌ بما فيه من الزمانيات مشتملٌ عليه اشتمالَ الجلد للحيوان وكذا كلُّ جزءٍ من أجزائِه الممتدة من الأيام والشهورِ والسنين فإذا مضى فكأنه انسلخ عما فيه وفيه مزيدُ لطفٍ لما فيه من التلويح بأن تلك الأشهرَ كانت حِرْزاً لأولئك المعاهَدين عن غوائل أيدي المسلمين فنيط قتالُهم بزوالها والمرادُ بها إما ما مر من الأشهر الأربعةِ فقط ووضعُ المظهرِ موضعَ المضمرِ ليكون ذريعةً إلى وصفها بالحُرمة تأكيدا لما ينبئ عنه إباحةُ السياحةِ من حرمة التعرضِ لهم مع ما فيه من مزيد الاعتناءِ بشأنها أو هي مع ما فُهم من قوله تعالى فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ من تتمة مدةٍ بقِيَتْ لغير الناكثين فعلى الأول يكون المرادُ بالمشركين في قوله تعالى {فاقتلوا المشركين} الناكثين خاصةً فلا يكون قتالُ الباقين مفهوماً من عبارة النصِّ بل من دِلالته وعلى الثاني مفهوماً من العبارة إلا أنه يكون الانسلاخُ وما نيط به من القتال حينئذ شيئاً فشيئاً لا دفعةً واحدةً كأنه قيل فإذا تم ميقاتُ كلِّ طائفةٍ فاقتُلوهم وحملُها على الأشهر المعهودو الدائرةِ في كل سنة لا يساعده النظمُ الكريم وأما أنه يستدع بقاءَ حُرمةِ القتالِ فيها إذ ليس فيما نزل بعدُ ما ينسخها فلا اعتدادَ به لا لأنها نُسخت بقوله تعالى وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ كما تُوهم فإنه رجمٌ بالغيب لأنه إن أريد به ما في سورة الأنفال فإنه نزل عَقيبَ غزوةِ بدرٍ وقد صح أن المرادَ بالذين كفروا في قوله تعالى قل الذين كفروا الخ أبو سفيانَ وأصحابُه وقد أسلم في أواسط رمضانَ عام الفتحِ سنة ثمانٍ وسورةُ التوبةِ إنما نزلت في شوالٍ سنةَ تِسعٍ وإنْ أُريدَ ما في سُورة البقرةِ فإنه أيضاً نزل قبل الفتح كما يعرب عنهُ ما قبلَهُ من قوله تعالى وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي من مكةَ وقد فعل ذلك يوم الفتح فكيف يُنسخ به ما ينزِل بعده بل لأن انعقادَ الإجماعِ على انتساخها كافٍ في الباب منْ غيرِ حاجةٍ إلى كون سندِه منقولاً إلينا وقد صح أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم حاصرَ الطائفَ لعشرٍ بقِين من المحرم {حَيْثُ وجدتمُوهم} من حِلَ وحِرْم {وَخُذُوهُمْ} أي أيسروهم والأَخيذُ الأسير {واحصروهم} أي قيّدوهم أو امنعوهم من التقلب في البلاد قال ابن عباس رضي الله عنهما حِيلوا بينهم وبين المسجدِ الحرام {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} أي كلَّ ممرٍ ومُجتازٍ يجتازون منه في أسفارهم وانتصابُه على الظرفية أي ارصُدوهم وارقبُوهم حتى لا يمروا به

9 سورة براءة الآيات (6 7) وفائدتُه على التفسير الثاني دفعُ احتمالِ أن يُراد بالحصر المحاصرةُ المعهودة {فَإِن تَابُواْ} عن الشرك بالإيمان بعد ما اضطُرّوا بما ذكر من القتل والأسر والحصر {وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ} تصديقاً لتوبتهم وإيمانِهم واكُتفى بذكرهما عن ذكر بقيةِ العبادات لكونهما رأسَي العباداتِ البدنية والمالية {فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} فدعوهم وشأنَهم ولا تتعرَّضوا لهم بشيء مما ذكر {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر ويثيبهم بإيمانهم وطاعاتِهم وهو تعليل للأمر بتخلية السبيل

6

{وَإِنْ أَحَدٌ} شروعٌ في بيان حكم المتصدِّين لمبادي التوبة من سماع كلامِ الله تعالى والوقوفِ على شعائر الدين إثرَ بيانِ حُكمِ التائبين عن الكفر والمُصِرِّين عليه وهو مرتفعٌ بشرط مضمرٍ يفسِّره الظاهرُ لا بالابتداء لأن إنْ لاَ تدخلُ إلاَّ على الفعل {مّنَ المشركين استجارك} بعد انقضاءِ الأجل المضروبِ أي سألك أن تُؤَمِّنه وتكونَ له جاراً {فَأَجِرْهُ} أي أمِّنه {حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} ويتدبرَه ويطّلع على حقيقة ما تدعو إليه والاقتصارُ على ذكر السماعِ لعدم الحاجةِ إلى شيء آخرَ في الفهم لكونهم من أهل اللسَنِ والفصاحة وحتى سواءٌ كانت للغاية أو للتعليل متعلقةٌ بما بعدها لا بقوله تعالى استجارك لأنه يؤدّي إلى إعمال حتى في المضمر وذلك مما لا يكاد يرتكب في غير ضرورةِ الشعر كما في قوله ... فلا والله لا يلقى أناس ... فتىً حتاك يا ابنَ أبي يزيدِ ... كذا قيل إلا أن تعلّق الإجارةِ بسماع كلامِ الله تعالى بأحد الوجهين يستلزمُ تعلقَ الاستجارةِ أيضاً بذلك أو بما في معناه من أمور الدين وما رُوي عن عليَ رضيَ الله عنه أنه أتاه رجلٌ من المشركين فقال إن أراد الرجلُ منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجلِ لسماع كلامِ الله تعالى أو لحاجة قتل قال لا لأن الله تعالى يقول وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ الخ فالمرادُ بما فيه من الحاجة هي الحاجةُ المتعلقةُ بالدين لا ما يعمُّها وغيرَها من الحاجات الدنيوية كما ينبئ عنه قوله أن يأتي محمداً فإن من يأتيه صلى الله عليه وسلم إنما تأتيه للأمور المتعلقةِ بالدين {ثُمَّ أَبْلِغْهُ} بعد استماعِه له إن لم يؤمِنْ {مَأْمَنَهُ} أي مسكنَه الذي يأمَن فيه وهو دارُ قومِه {ذلك} يعنى الأمرَ بالإجارة وإبلاغِ المأمن {بِأَنَّهُمْ} بسببِ أنَّهُم {قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} ما الإسلامُ وما حقيقتُه أو قومٌ جَهَلةٌ فلا بد من إعطاء الأمانِ حتى يفهموا الحقَّ ولا يبقى لهم معذرة أصلاً

7

{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} شروعٌ في تحقيق حقِّيةِ ما سبق من البراءة وأحكامِها المتفرِّعة عليها وتبيينِ الحكمة الداعيةِ إلى ذلك والمرادُ بالمشركين الناكثون لأن البراءةَ إنما هي في شأنهم والاستفهامُ إنكاريٌّ لا بمعنى إنكار الواقعِ كما في قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله الخ بل بمعنى إنكار الوقوعِ ويكون من الكون التامِّ وكيف في محل

9 سورة براءة الآية (8) النصب على التشبيه بالحال أو الظرف وقيل من الكون الناقصِ وكيف خبرُ يكون قُدّم على اسمه وهو عهدٌ لاقتضائه الصدارة وللمشركين متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من عهد ولو كان مؤخراً لكان صفةً له أو بيكون عند من يجوز عملَ الأفعالِ الناقصة في الظروف وعند متعلق بمحذوف وقع صفة لعهدٌ أو بنفسه لأنه مصدرٌ أو بيكون كما مر ويجوزُ أن يكون الخبرُ للمشركين وعند كما ذكر أو متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلق به للمشركين ويجوز أن يكون الخبرُ عند الله وللمشركين إما تبيينٌ وإما حالٌ من عهدٌ وإما متعلقٌ بيكون أو بالاستقرار الذي تعلق به الخبرُ ولا يبالى بتقديم معمولِ الخبرِ على الاسم لكونه حرفَ جرّ وكيف على الوجهين الآخيرين نصبٍ على التشبيه بالظرف أو الحال كما في صورة الكون التام وهو الأولى لأن في إنكار ثبوتِ العهد في نفسه من المبالغة ما ليس في إنكار ثبوتِه للمشركين لأن ثبوتَه الرابطي فرعُ ثبوتِه العيني فانتفاءُ الأصلِ يوجب انتفاءَ الفرعِ رأساً وفي توجيه الإنكارِ إلى كيفية ثبوتِ العهدِ من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته لأن كلَّ موجودٍ يجب أن يكون وجودُه على حال من الأحوال قطعاً فإذا انتفى جميعُ أحوال وجودِه فقد انتفى وجودُه على الطريق البرهاني أي على أي أو في أي حالٍ يوجد لهم عهدٌ معتدٌ به {عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} يستحِقُّ أن يراعى حقوقُه ويُحافَظَ عليه إلى إتمام المدة ولا يُتعرَّضَ لهم بحسَبه قتلاً ولا أخذاً وأما أن يأمنوا به من عذاب الآخرةِ كما قيل فلا سبيلَ إلى اعتباره أصلاً إذ لا دخلَ لعهدهم في ذلك الأمنِ قطعاً وإن كان مرعياً عندَ الله تَعَالَى وعندَ رسولِه كعهد غيرِ الناكثين وتكريرُ كلمة عند للإيذان بعدم الاعتدادِ به عند كلَ منهما على حدة {إِلاَّ الذين} استدراكٌ من النفي المفهومِ من الاستفهام المتبادرِ شمولُه لجميع المعاهَدين أي لكن الذين {عاهدتم عِندَ المسجد الحرام} وهم المستثنَوْن فيما سلف والتعرُّضُ لكون المعاهَدةِ عند المسجدِ الحرامِ لزيادة بيانِ أصحابِها والإشعارِ بسبب وكادتِها ومحلُّه الرفعُ على الابتداء خبره قوله تعالى {فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ} والفاءُ لتضمُّنهِ معنى الشَّرطِ وما إما مصدرية منصوبةُ المحلِّ على الظرفية بتقدير المضافِ أي فاستقيموا لهم مدةَ استقامتِهم لكم وإما شرطيةٌ منصوبةُ المحلِّ على الظرفية الزمانية أي أيّ زمانَ استقاموا لكم فاستقيموا لهم أو مرفوعةٌ على الابتداء والعائدُ محذوفٌ أي أي زمان استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم فيه وقيل الاستثناءُ متصلٌ محلُّه النصبُ على الأصل أو الجرُّ على البدل من المشركين والمرادُ بهم الجنسُ لا المعهودُ وأياً ما كان فحكمُ الأمر بالاستقامة ينتهي بانتهاء مدةِ العهدِ لأن استقامتَهم التي وُقّت بوقتها الاستقامةُ المأمورُ بها عبارةٌ عن مراعاة حقوقِ العهدِ وبعد انقضاءِ مدتِه لا عهدٌ ولا استقامةٌ فصار عينَ الأمرِ الواردِ فيما سلف حيث قيل فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم خلا أنه قد صرح ههنا بما لم يصرح به هناك مع كونه معتبراً قطعاً وهو تقييدُ الإتمامِ المأمور به ببقائهم على ما كانُوا عليهِ من الوفاء {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} تعليلٌ للأمر بالاستقامة وإشعارٌ بأن القيامَ بموجب العهدِ من أحكام التقوى كما مر

8

{كَيْفَ} تكريرٌ لاستنكار ما مر من أن

9 سورة براءة الآية (9) يكون للمشركين عهدٌ حقيقٌ بالمراعاة عند الله سبحانه وعند رسوله صلى الله عليه وسلم وأما ما قيل من أنه لاستبعاد ثباتِهم على العهد فكما ترى لأن ما يُذكر بصدد التعليلِ للاستبعاد عينُ عدمِ ثباتِهم على العهد لا أنه شيءٌ يستدعيه وإنما أعيد الاستنكارُ والاستبعادُ تأكيداً لهما وتمهيداً لتعداد العللِ الموجبةِ لهما لإخلال تخلّلِ ما في البين من الارتباط والتقريب حذف الفعل المستنكَر للإيذان بأن النفسَ مستحضِرةٌ له مترقِّبةٌ لورود ما يوجب استنكارَه لا لمجرد كونِه معلوماً كما في قوله ... وخبّرتماني أنما الموتُ بالقُرى ... فكيف وهاتا هضبةٌ وقليبُ ... فإنه علةٌ مصححةٌ لا مرجِّحةٌ أي كيف يكون لهم عهدٌ معتدٌ به عِندَ الله تَعَالَى وعندَ رسولِه صلى الله عليه وسلم {وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} أي وحالُهم أنهم إن يظهروا عليكم أي يظفَروا بكم {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ} أي لا يُراعوا في شأنكم وأصلُ الرقوبِ النظرُ بطريق الحفظِ والرعايةِ ومنه الرقيبُ ثم استُعمل في مطلق الرعايةِ والمراقبةُ أبلغُ منه كالمراعاة وفي نفي الرقوبِ من المبالغة ما ليس في نفيها {إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} أي حِلفاً وقيل قرابةً ولا عهداً أو حقاً يُعاب على إغفاله مع ما سبق لهم من تأكيد الأَيمان والمواثيقِ يعني أن وجوبَ مراعاةِ حقوقِ العهد على كل من المتعاهدين مشروطٌ بمراعاة الآخَر لها فإذا لم يُراعِها المشركون فكيف تراعونها على منوال قولِ من قال ... علامَ تُقبلُ منهم فديةٌ وهم ... لا فضةً قبِلوا منّا ولا ذهبا ... وقيل الإلُّ من أسماء الله عزَّ وجلَّ أي لا يُراعوا حقَّ الله تعالى وقيل الجِوار ومآلهُ الحِلفُ لأنهم إذا تماسحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتَهم لتشهيره ولما كان تعليقُ عدمِ رعايةِ العهدِ بالظفر موهماً للرعاية عند عدمِه كُشف عن حقيقة شئونهم الجليةِ والخفية بطريق الاستئنافِ وبيِّن أنهم في حالة العجزِ أيضاً ليسوا من الوفاء في شيء وأن ما يُظهرونه مداهنةٌ لا مهادنه فقيل {يُرْضُونَكُم بأفواههم} حيث يُظهرون الوفاءَ والمصافاةَ ويعِدون لكم بالإيمان والطاعةِ ويؤكدون ذلك بالأَيمان الفاجرةِ وتعللون عند ظهورِ خلافِه بالمعاذير الكاذبة ونسبةُ الإرضاءِ إلى الأ فواه للإيذان بأن كلامَهم مجردُ ألفاظٍ يتفوّهون بها من غير أن يكون لها مِصداقٌ في قلوبهم {وتأبى قلوبهم} ما يفيده كلامُهم {وَأَكْثَرُهُمْ فاسقون} خارجون عن الطاعة فإن مراعاةَ حقوق العهد من باب الطاعةِ متمرِّدون ليست لهم مروءةٌ رادعةٌ ولا عقيدةٌ وزاعة ولا يتسترون كما يتعاطاه بعضُهم ممن يتفادى عن الغدر ويتعفّف عما يجرُّ أحدوثة السوء

9

{اشتروا بآيات الله} بآياته الآمرةِ بالإيفاء بالعهود والاستقامةِ في كل أمرٍ أو بجميع آياتهِ فيدخُل فيها ما ذُكر دخولا أوليا أي تركوها وأخذوا بدلها {ثَمَناً قَلِيلاً} أي شيئاً حقيراً من حُطام الدنيا وهو أهواؤُهم وشهواتُهم التي اتبعوها أو ما أنفقه أبو سفيانَ من الطعام وصَرَفه إلى الأعراب {فَصَدُّواْ} أي عدَلوا ونكبوا منْ صَدَّ صُدوداً أو صرَفوا غيرَهم من صدّ صداً والفاء للِدلالة على سببية الاشتراءِ لذلك {عن سبيله} أي الذين الحق الذي لا محيد عنه والإضافةُ للتشريف أو سبيل بيته الحرام حيث كانوا يصُدّون الحجّاجَ والعُمّارَ عنه {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي بئس ما كانوا يعلمونه أو عملُهم المستمرّ والمخصوصُ بالذم محذوفٌ وقد جُوِّز أن تكون كلمةُ ساء على أصلها من التصرف لازمةً بمعنى قبُح أو متعديةً والمفعولُ محذوفٌ أي ساءهم الذي

9 سورة براءة الآيات (10 12) يعملونه أو عملُهم وقوله عز وعلا

10

{لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} ناعٍ عليهم عدمَ مراعاةِ حقوقِ عهدِ المؤمنين على الإطلاق فلا تكرارَ وقيل هذا في اليهود أو في الأعراب المذكورين ومَنْ يحذو حذوهم وأما ما قيل من أنه تفسير لقوله تعالى يَعْمَلُونَ أو دليلٌ على ما هو مخصوصٌ بالذم فمُشعِرٌ باختصاص الذمِّ والسوء بعملهم هذا دون غيره {وَأُوْلئِكَ} الموصوفون بما عُدِّد من الصِّفاتِ السيئةِ {هُمُ المعتدون} المجاوزون الغايةَ القُصوى من الظلم والشرارة

11

{فَإِن تَابُواْ} أي عمَّا هُم عليهِ من الكفر وسائرِ العظائمِ والفاءُ للإيذان بأن تقريعَهم بما نُعيَ عليهم من مساوى أعمالهم مزجرة عنها ومِظنةٌ للتوبة {وَأَقَامُواْ الصلاة وآتَوْا الزَّكَاةَ} أي التزموهما وعزموا على إقامتهما {فَإِخوَانُكُمْ} أي فهم إخوانُكم وقوله تعالى {فِى الدين} متعلقٌ بإخوانُكم لما فيه من معنى الفعلِ أي لهم ما لكم وعليهم ما عليكم فعاملوهم معاملةَ الإخوان وفيه من استمالتهم واستجلابِ قلوبِهم ما لا مزيدَ عليه والاختلافُ بين جوابِ هذه الشرطيةِ وجوابِ التي مرت من قبلُ مع اتحاد الشرطِ فيهما لما أن الأولى سيقت إثرَ الأمرِ بالقتل ونظائرِه فوجب أن يكون جوابُها أمراً بخلافِ ذلك وهذه سيقت بعد الحُكم عليهم بالاعتداء وأشباهِه فلا بد من كون جوابِها حُكماً بخلافه البتة {وَنُفَصّلُ الايات} أي نبيّنها والمرادُ بها إما ما مر من الآيات المتعلقةِ بأحوال المشركين من الناكثين وغيرِهم وأحكامِهم حالتي الكفرِ والإيمان وإما جميعُ الآياتِ فيندرج فيها تلك الآيات اندارجا أولياً {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي ما فيها من الأحكام أو لقوم عالمين وهو اعتراضٌ للحث على التأمل في الأحكام المندرجةِ في تضاعيفها والمحافظةِ عليها

12

{وَإِن نَّكَثُواْ} عطفٌ على قوله تعالى فَإِن تَابُواْ أي وإن لم يفعلوا ذلك بل نقضوا {أيمانهم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ} الموثقِ بها وأظهروا ما في ضمائرهم من الشر وأخرجوه من القوةِ إلى الفعلِ حسبما ينبئ عنه قوله تعالى وإن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ الآية أو ثبتوا على ما هم عليه من النَّكْث لا أنهم ارتدوا بعد الإيمان كما قيل {وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ} قدَحوا فيه بصريح التكذيبِ وتقبيحِ الأحكام {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} أي فقاتلوهم وإنما أوثر مَا عليهِ النظمُ الكريمُ للإيذان بأنهم صاروا بذلك ذوي رياسةٍ وتقدم في الكفر أحقّاءَ بالقتل والقتال وقيل المرادُ بأئمتهم رؤساؤُهم وصناديدُهم وتخصيصُهم بالذكر إما لأهميتة قتلِهم أو للمنع من مراقبتهم لكونهم مظِنةً لها أو للدِلالة على استئصالهم فإن قتلَهم غالباً يكون بعد قتلِ مَنْ دونهم وقرئ أئمة بتحقيق الهمزتين على الأصل والأفصحُ إخراج الثانية بين بين

9 سورة براءة الآية (13) وأما التصريحُ بالياء فلحنٌ ظاهرٌ عند الفراء {إِنَّهُمْ لا أيمان لَهُمْ} أي على الحقيقةِ حيثُ لا يراعونها ولا يعدّون نقضَها محذوراً وإن أجْرَوها على ألسنتهم وإنما علّق النفيُ بها كالنَكْث فيما سلف لا بالعهد المؤكدِ بها لأنها العُمدةُ في المواثيق وجعلُ الجملة تعليلاً للأمر بالقتال لا يساعده تعليقُه بالنكث والطعنِ لأن حالَهم في أن لا أيمانَ لهم حقيقةً بعد النكثِ والطعن كحالهم قبل ذلك وحملُه على معنى عدمِ بقاءِ أيمانِهم بعد النَّكثِ والطعن مع أنه لا حاجةَ إلى بيانه خلافُ الظاهرِ ولعل الأولى جعلُها تعليلاً لمضمون الشرطِ كأنه قيل وإن نكثوا وطعَنوا كما هو المتوقَّعُ منهم إذ لا أيمانَ لهم حقيقةً حتى لا ينكُثوها أو لاستمرار القتالِ المأمورِ به المستفادِ من سياق الكلامِ كأنه قيل فقاتلوهم إلى أن يؤمنوا إنهم لا أَيمانَ لهم حتى يُعقدَ معهم عهدٌ آخر وقرئ بكسرِ الهمزةِ على أنَّه مصدرٌ بمعنى إعطاءِ الأمانِ أي لا سبيلَ إلى أن تُعطوهم أماناً بعد ذلك أبداً وأما العكسُ كما قيل فلا وجه له لإشعاره بأن معاهدتَهم معنا على طريقة أن يكون إعطاءُ الأمانِ من قِبَلهم وذلك بيِّنُ البُطلان أو بمعنى الإسلام ففي كونه تعليلاً للأمر بالقتال إشكالٌ بل استحالةٌ لأنه إن حُمل على انتفاء الإسلامِ مطلقاً فهو بمعزل عن العِلّية للقتال أو للأمر به كما قبل النكثِ والطعن وإن حُمل على انتفائه فيما سيأتي فلا يلائم جعلَ الانتهاءِ غاية للقتال فيما سيجئ فالوجهُ أن يُجعل تعليلاً لما ذُكر من مضمون الشرطِ كأنه قيل إن نكثوا وطعَنوا وهو الظاهرُ من حالهم لأنه لا إسلامَ لهم حتى يرتدعوا عن نقض جنسِ أَيمانهم وعن الطعن في دينكم {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} متعلقٌ بقوله تعالى فقاتلوا أي قاتلوهم إرادةَ أن ينتهوا أي ليكن غرضُكم من القتال انتهاءَهم عمَّا هُم عليهِ من الكفر وسائرِ العظائمِ التي يرتكبونها لا إيصالَ الأذية بهم كما هو ديدنُ المؤذِين

13

{أَلاَ تقاتلون} الهمزةُ الداخلةُ على انتفاء مقاتَلتِهم للإنكار والتوبيخ تدل على تحضيضهم على المقاتلة بطريق حملِهم على الإقرار بانتفائها كأنه أمرٌ لا يمكن أن يُعترف به طائعاً لكمال شناعته فيلجئون إلى ذلك ولا يقدرون على الإقرار به فيختارون المقاتلة {قَوْماً نَّكَثُواْ أيمانهم} التي حلَفوها عند المعاهدة على أن لا يعاوِنوا عليهم فعاوَنوا بني بكرٍ على خُزاعة {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} من مكةَ حين تشاوروا في أمره بدار الندوة حسبما ذُكر في قوله تعالى وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ فيكون نعياً عليهم جنايتُهم القديمةُ وقيل هم اليهودُ نكثوا عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهموا بإخراجه من المدينة {وهم بدؤوكم} بالمعاداة والمقاتلة {أَوَّلَ مَرَّةٍ} لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولاً بالكتاب المبين وتحداهم به فعدلوا عن المُحاجّة لعجزهم عنها إلى المقاتلة أو بدءوا بقتال خزاعة حلفاء النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لأن إعانة بني بكر عليهم قتالٌ معهم {أَتَخْشَوْنَهُمْ} أي أتخشون أن ينالَكم منهم مكروهٌ حتى تتركوا قتالهم وبخهم أو لا بترك مقاتلتِهم وحضَّهم عليها ثم وصفهم بما يوجب الرغبةَ فيها ويحقق أن مَنْ كان على تلك الصفاتِ السيئةِ حقيقٌ بأن لا تترك مصادمتُه ويوبَّخَ من فرّط فيها {فالله أحق أن تخشوه}

9 سورة براءة الآيات (14 16) بمخالفة أمرِه وترك قتالِ أعدائهِ {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإنَّ قضيةَ الإيمانِ تخصيصُ الخشيةِ به تعالى وعدمُ المبالاة بمن سواه وفيه من التشديد ما لا يخفى

14

{قاتلوهم} تجريدٌ للأمر بالقتال بعد التوبيخِ على تركه ووعدٌ بنصرهم وبتعذيب أعدائِهم وإخزائِهم وتشجيعٌ لهم {يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ} قتلاً وأسراً {وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} أي يجعلُكم جميعاً غالبين عليهم أجمعين ولذلك أُخّر عن التعذيب والإجزاء {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} ممن لم يشهد القتالَ وهم خُزاعةُ قال ابن عباس رضي الله عنهما هم بطونٌ من اليمن وسبإٍ قدِموا مكةَ فأسلموا فلقُوا من أهلها أذىً كثيراً فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال صلى الله عليه وسلم أبشِروا فإن الفرجَ قريب

15

{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} بما كابدوا من المكاره والمكايدِ ولقد أنجز الله سبحانه جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون فكان إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك قبل وقوعِه معجزةً عظيمة {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء} كلامٌ مستأنفٌ ينبئ عما سيكون من بعض أهلِ مكةَ من التوبة المقبولةِ بحسب مشيئتِه تعالى المبنية على الحكم البالغة فكان كذلك حيث أسلم ناسٌ منهم وحسُن إسلامُهم وقرئ بالنصب بإضمار أن ودخولُ التوبةِ في جملة ما أجيب به الأمرُ بحسب المعنى فإن القتالَ كما هو سبب لفل شوكتِهم وإلانةِ شَكيمتِهم فهو سبب للتدبر في أمرهم وتوبتِهم من الكفر والمعاصي وللاختلاف في وجه السببية غُيِّر السبكُ والله تعالى أعلم {والله} إيثارُ إظهارِ الجلالة على الإضمار لتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة {عَلِيمٌ} لا يَخفى عليهِ خافيةٌ {حَكِيمٌ} لا يفعل ولا يأمر إلا بما فيه حكمةٌ ومصلحةٌ

16

{أم حسبتم} أم منقطعة جئ بها للدِلالة على الانتقال من التوبيخ السابقِ إلى آخَرَ وما فيها من همزة الاستفهامِ الإنكاريِّ توبيخٌ لهم على الحُسبان المذكورِ أي بل أحسِبتم {أَن تُتْرَكُواْ} على ما أنتُم عليهِ ولا تُؤمروا بالجهاد ولا تُبْتلوا بما يُمحِّصكم والخطابُ إما لمن شق عليهم القتالُ من المؤمنين أو للمنافقين {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا منكم} الواو حالية ولمّا للنفي مع التوقع والمرادُ من نفي العلم نفيُ المعلومِ بالطريق البرهاني إذ لو شُمَّ رائحةُ الوجود لعُلم قطعاً فلما لم يُعلم لزِم عدمُه قطعاً أي أم حسبتم أن تتركوا والحالُ أنه لم يتبين الخُلّصُ من المجاهدين منكم من غيرهم ومَا في لمَّا مِنْ التوقع منبِّهٌ على أن ذلك سيكون وفائدةُ التعبير عما ذكر من عدم التبينِ بعدم علم الله تعالى أن المقصودَ هو التبينُ من حيث كونُه متعلقاً للعلم ومداراً للثواب وعدمُ التعرّضِ لحال المقصّرين لما أن ذلك بمعزل من الاندراج تحت إرادةِ أكرم الأكرمين {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ} عطف على جاهدوا داخلٌ في حيز

9 سورة براءة الآية (17) الصلة أو حالٌ من فاعلِه أي جاهدوا حالَ كونِهم غيرَ متّخذين {مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً} أي بِطانةً وصاحب سِرّ وهو الذي تُطلعه على ما في ضميرك من الأسرار الخفيةِ من الولوج وهو الدخولُ ومن دون الله متعلق بالاتخاذ إن أبق على حاله أو مفعولٌ ثانٍ له إن جعل بمعنى التسيير {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي بجميع أعمالكم وقرئ على الغَيبة وهو تذييلٌ يُزيح ما يُتوَهّم من ظاهرِ قولِه تعالى وَلَمَّا يَعْلَمِ الخ أو حال متداخلةٌ من فاعله أو من مفعوله والمعنى وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا منكم والحالُ أنه يعلم جميعَ أعمالِكم لا يَخْفى عليه شيءٌ منها

17

{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} أي ما صح وما استقام لهم على معنى نفي الوجودِ والتحققِ لا نفيِ الجواز كما في قوله تعالى أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ أي ما وقع وما تحقق لهم {أَن يَعْمُرُواْ} عمارةً معتداً بها {مساجد الله} أي المسجدَ الحرامَ وإنما جُمع لأنه قِبلةُ المساجد وإمامُها فعامرُه كعامرها أو لأن كلَّ ناحيةٍ من نواحيه المختلفةِ الجهات مسجدٌ على حياله بخلاف سائرِ المساجدِ إذ ليس في نواحيها اختلافُ الجهةِ ويؤيده القراءةُ بالتوحيد وقيل مَا كَانَ لَهُمْ أَن يعمُروا شيئاً من المساجد فضلاً عن المسجد الحرام الذي هو صدرُ الجنسِ ويأباه أنهم لا يتصَدَّوْن لتعمير سائرِ المساجدِ ولا يفتخرون بذلك على أنه مبنيٌ على كون النفي بمعنى نفي الجوازِ واللياقةِ دون نفي الوجود {شاهدين على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} أي بإظهار آثارِ الشركِ من نصب الأوثان حول البيتِ والعبادةِ لها فإن ذلك شهادةٌ صريحةٌ على أنفسهم بالكفر وإن أبَوْا أن يقولوا نحن كفارٌ كما نقل عن الحسن رضي الله عنه وهو حالٌ من الضمير في يعمُروا أي محالٌ أن يكون ما سمَّوْه عمارةً عمارةَ بيتِ الله مع ملابستهم لما ينافيها ويُحبِطها من عبادة غيرِه تعالى فإنها ليست من العمارة في شيء وأما ما قيل من أن المعنى ما استقام لهم أن يجمَعوا بين أمرين متنافيين عمارةِ بيتِ الله تعالى وعبادةِ غيرِه تعالى فليس بمُعربٍ عن كُنه المرامِ فإن عدمَ استقامةِ الجمعِ بين المتنافيَيْن إنما يستدعي انتفاء أحدهما لا بعينه لا انتفاء العمارة الذي هو المقصود روي أن المهاجرين والأنصارَ أقبلوا على أُسارى بدرٍ يعيِّرونهم بالشرك وطفِق عليٌّ رضي الله تعالى عنه يوبِّخ العباس بقتال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقطيعةِ الرحم وأغلظَ له في القول فقال العباس تذكُرون مساوينا وتكتمون محاسننا فقال ولكم محاسنُ قالوا نعم إنا لنعمُر المسجدَ الحرام ونحجّب الكعبة ونسقي الحجيجَ ونفك العاني فنزلت {أولئك} الذين يدّعون عمارةَ المسجدِ وما يضاهيها من أعمال البرِ مع ما بهم من الكفر {حَبِطَتْ أعمالهم} التي يفتخرون بها بما قارنها من الكفر فصارت هباء منثوراً {وَفِى النار هُمْ خالدون} لكفرهم ومعاصيهم وإيرادُ الجملةِ الاسميةِ للمُبالغةِ في الدلالة على الخلود والظرفُ متعلقٌ بالخبر قدم عليه للاهتمام به ومراعاةِ الفاصلة وكلتا الجملتين مستأنفةٌ لتقرير النفيِ السابق الأولى من جهة نفيِ استتباعِ الثواب والثانيةُ من جهة نفي استدفاع العذاب

سورة براءة الآيات (18 19)

18

{إِنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله} الكلامُ في إيراد صيغةِ الجمعِ كما مر فيما مر خلا أن إرادةَ جميع المساجد وإدراج المسجد الحرامِ في ذلك غيرُ مخالفةٍ لمقتضى الحال فإن الإيجابَ ليس كالسلب وقد قرئ بالإفراد أيضا والمراد ههنا أيضاً قصرُ تحققِ العِمارةِ ووجودها على المؤمنين لا قصر جوازها ولياقتها أي إنما يصح ويستقيم أن يعمرها عمارةً يُعتدّ بها {مَنْ آمن بالله} وحده {واليوم الاخر} بما فيه من البعث والحسابِ والجزاءِ حسبما نطَق به الوحيُ {وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} على ما علم من الدين فيندرجُ فيه الإيمان بنبوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم حتماً وقيل هو مندرجٌ تحت الإيمانِ بالله خاصةً فإن أحدَ جُزْأي كلمتي الشهادة علمٌ للكل أي إنما يعمُرها مَنْ جمع هذه الكمالاتِ العلميةَ والعمليةَ والمرادُ بالعمارة ما يعم مَرَمَّةَ ما استرمّ منها وقمُّها وتنظيفُها وتزيينُها بالفُرُش وتنويرُها بالسُّرُج وإدامةُ العبادة والذكرُ ودراسةُ العلوم فيها ونحوُ ذلك وصيانتُها مما لم تُبنَ له كحديث الدنيا وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديثُ في المسجد يأكلُ الحسناتِ كما تأكل البهيمةُ الحشيش وقال صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى إن بيوتي في أرضي المساجدُ وإن زوّاري فيها عُمّارُها فطوبي لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحقّ على المَزورِ أن يكرم زائرِه وعنه صلى الله عليه وسلم من ألِفَ المسجدَ ألِفَه الله تعالى وقال صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الرجلَ يعتادُ المساجدَ فاشهدوا له بالإيمان وعن أنسٌ رضيَ الله عنه من أسرج في مسجد سِراجاً لم تزل الملائكةُ وحملةُ العرشِ تستغفر له ما دامَ في ذلك المسجد ضوءه {وَلَمْ يَخْشَ} في أمور الدين {إِلاَّ الله} فعمِل بموجب أمرِه ونهيه غيرَ آخد له في الله لومةُ لائمٍ ولا خشيةُ ظالم فيندرج فيه عدمُ الخشية عند القتال ونحوُ ذلك وأما الخوفُ الجِبِليُّ من الأمور المَخوفةِ فليس من هذا الباب ولا مما يدخُل تحت التكليفِ والخطاب وقيل كانوا يخشَوْن الأصنام ويرجونها فأريد نفيُ تلك الخشيةِ عنهم {فعسى أُوْلَئِكَ} المنعوتون بتلك النعوتِ الجميلة {أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} إلى مباغيهم من الجنَّةَ وَمَا فِيْهَا منْ فنونِ المطالبِ العليةِ وإبرازُ اهتدائِهم مع ما بهم من الصفات السنيةِ في معرِض التوقعِ لقطع أطماعِ الكفرةِ عن الوصول إلى مواقف الاهتداء والانتفاعِ بأعمالهم التي يحسَبون أنهم في ذلك محسنون ولتوبيخهم بقطعهم بأنهم مهتدون فإن المؤمنين مع ما بهم من هذه الكمالاتِ إذا كان أمرُهم دائراً بين لعل وعسى فما بالُ الكفرة وهم هُمْ وأعمالهم أعمالُهم وفيه لطفٌ للمؤمنين وترغيبٌ لهم في ترجيح جانبِ الخوفِ على جانب الرجاءِ ورفض الاعتذار بالله تعالى

19

{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} أي في الفضيلة وعلوِّ الدرجة {كَمَنْ آمن بالله واليوم الآخر وجاهد فِى سَبِيلِ الله} السقايةُ والعِمارةُ مصدران لا يتصور تشبيهُهما بالأعيان فلا بُدَّ من تقدير مضافٍ في أحد

9 سورة براءة الآية (20) الجانين أي أجعلتم أهلَهما كمن آمن بالله الخ ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ سُقاةَ الحاجِّ وعُمرةَ المسجد الحرام أو أجعلتموها كإيمان من آمن الخ وعلى التقديرين فالخطابُ إما للمشركين على طريقة الالتفاتِ وهو المتبادر من تخصيص ذكرِ الإيمانِ بجانب المشبَّهِ به وإما لبعض المؤمنين المؤثِرين للسقاية والعِمارةِ ونحوِهما على الهجرة والجهادِ ونظائرِهما وهو المناسبُ للاكتفاء في الرد عليهم ببيان عدمِ مساواتِهم عند الله للفريق الثاني وبيانِ أعظميةِ درجتِهم عند الله تعالى على وجه يُشعر بعدم حِرمانِ الأوّلين بالكلية وجعلُ معنى التفضيلِ بالنسبة إلى زعم الكفرةِ لا يُجدي كثيرَ نفعٍ لأنه إن لم يُشعِرْ بعدم الحِرمانِ فليس بمُشعر بالحِرمان أيضاً أما على الأول فهو توبيخٌ للمشركين ومدارُه على إنكار تشبيهِ أنفسِهم من حيث اتصافُهم بوصفيهم المذكورين مع قطع النظرِ عمَّا هُم عليهِ من الشرك بالمؤمنين من حيث اتصافُهم بالإيمان والجهاد أو على إنكار تشبيهِ وصفيهم المذكورين في حد ذاتِهما مع الإغماض عن مقارنتهما للشرك بالإيمان والجهادِ وأما اعتبارُ مقارنتِهما له كما قيل فيأباه المقامُ كيف لا وقد بيِّن آنفاً حبوطُ أعمالِهم بذلك الاعتبارِ بالمرة وكونُها بمنزلة العدم فتوبيخُهم بعد ذلك على تشبيههما بالإيمان والجهادِ ثم رَدُّ ذلك بما يُشعر بعدم حِرمانِهم عن أصل الفضيلة بالكلية كما أشير إليه ممَّا لا يساعدُهُ النظمُ التنزيليُّ ولو اعتُبر ذلك لما احتيج إلى تقرير إنكارِ التشبيهِ وتأكيدِه بشيء آخرَ إذ لا شيءَ أظهرُ بطلاناً من تشبيه المعدومِ بالموجود فالمعنى أجعلتم أهلَ السقايةِ والعمارةِ في الفضيلة كمن آمن بالله واليومِ الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما في ذلك كالإيمان والجهادِ وشتانَ بينهما فإن السقايةَ والعمارةَ وإن كانتا في أنفسِهما من أعمال البرِّ والخيرِ لكنهما وإن خَلَتا عن القوادح بمعزل عن صلاحيةِ أن يُشبَّه أهلُهما بأهل الإيمان والجهاد أو يشبه نفسهما بنفس الإيمان والجهادِ وذلك قوله عز وجل {لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله} أي لا يساوي الفريقُ الأول الثانيَ من حيث اتصافُ كلَ منهما بوصفيهما ومن ضرورته عدمُ التساوي بين الوصفَين الأولين وبين الآخَرَين لأنه المدارَ في التفاوت بين الموصفين وإسنادُ عدمِ الاستواءِ إلى الموصوفين لأن الأهمَّ بيانُ تفاوتهم وتوجيه النفي ههنا والإنكارُ فيما سلف إلى الاستواء والتشبيهِ مع أن دعوى المفتخِرين بالسقاية والعمارةِ من المشركين والمؤمنين إنما هي الأفضليةُ دون التساوي والتشابه للمبالغة في الرد عليهم فإن نفيَ التساوي والتشابهِ نفيٌ للأفضلية بالطريق الأولى والجملةُ استئنافٌ لتقرير الإنكارِ المذكورِ وتأكيدِه أو حال من مفعولي الجَعل والرابطُ هو الضميرُ كأنه قيل أسوَّيتم بينهم حال كونِهم متفاوتين عنده تعالى وقولُهُ تعالى {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} حُكمٌ عليهم بأنهم مع ظلمهم بالإشراك ومعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم ضالون في هذا الجعلِ غيرُ مهتدين إلى طريق معرفةِ الحقِّ وتمييزِ الراجحِ من المرجوح وظالمون بوضع كل منهما موضع الآخر وفيه زيادةُ تقريرٍ لعدم التساوي بينهم وقوله تعالى

20

{الذين آمنوا وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ} استئنافٌ

9 سورة براءة الآيات (21 22) لبيان مراتبِ فضلِهم إثرَ بيانِ عدمِ الاستواءِ وضلالِ المشركين وظلمِهم وزيادةُ الهجرةِ وتفصيلُ نوعي الجهاد للإيذانِ بأنَّ ذلكَ من لوازم الجهادِ لا أنه اعتُبر بطريق التدارك أمر لم يُعتبر فيما سلف أي هم باعتبار اتصافِهم بهذه الأوصافِ الجميلة {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} أي أعلى رتبةً وأكثرَ كرامةً ممن لم يتصف بها كائناً مَنْ كان وإن حاز جميعَ ما عداها من الكمالات التي من جملتها السقايةُ والعمارة {وَأُوْلئِكَ} أي المنعوتون بتلك النعوتِ الفاضلةِ وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البُعد للدِلالة على بُعد منزلتِهم في الرفعة {هُمُ الفائزون} المختصون بالفوز العظيمِ أو بالفوز المطلقِ كأن فوزَ مَنْ عداهم ليس بفوزٍ بالنسبة إلى فوزهم وأما على الثاني فهو توبيخٌ لمن يؤثِر السِّقايةَ والعِمارةَ من المؤمنين على الهجرة والجهاد روي أن علياً قال للعباس رضي الله عنهما بعد إسلامِه يا عمّ ألا تهاجرون ألا تلحقون برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم فقال ألستُ في أفضلَ من الهجرة أَسقي حاجَّ بيتِ الله وأعمُر المسجدَ الحرام فلما نزلت قال ما أُراني إلا تاركَ سقايتنا فقال صلى الله عليه وسلم أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيراً وروى النعمانُ بن بشير قال كنت عند منبرِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال رجلٌ ما أبالي أن لا أعملَ عملاً بعد أن أسقي الحاجَّ وقال آخَرُ ما أبالي أن لا أعملَ عملاً بعد أن أعمُرَ المسجدَ الحرام وقال آخرُ الجهادِ في سبيل الله أفضلُ مما قلتم فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال لا ترفعوا أصواتَكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليتم استفتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه فدخل فأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآيةَ والمعنى أجعلتم أهلَ السقايةِ والعمارةِ من المؤمنين في الفضيلة والرفعةِ كمن آمن بالله واليومِ الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما كالإيمان والجهادِ وإنما لم يُذكر الإيمانُ في جانب المشبَّه مع كونه معتبَراً فيه قطعاً تعويلاً على ظهور الأمرِ وإشعاراً بأن مدارَ إنكارِ التشبيه هو السقايةُ والعمارةُ دون الإيمانِ وإنما لم يُترك ذكرُه في جانب المشبَّه به أيضاً تقويةً للإنكار وتذكيراً لأسباب الرجحانِ ومبادي الأفضلية وإيذاناً بكمال التلازمِ بين الإيمان وما تلاه ومعنى عدمِ الاستواء عند الله تعالى على هذا التقدير ظاهر وكذا أعظيمة درجةِ الفريقِ الثاني وأما قوله تعالى والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين فالمرادُ به عدمُ هدايتِه تعالى لهم لى معرفة الراجحِ من المرجوح وظلمُهم بوضع كل منهما موضعَ الآخر لا عدمُ الهدايةِ مطلقاً ولا الظلمُ عموماً والقصرُ في قوله تعالى وَأُولَئِكَ هُمْ الفائزون بالنسبة إلى درجة الفريقِ الثاني أو إلى الفوز المطلق ادعاءٌ كما مر والله أعلم

21

{يبشرهم} وقرئ بالتخفيف {رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ} عظيمة {مّنْهُ ورضوان} كبير {وجنات} عاليةٍ {لَّهُمْ فِيهَا} في تلك الجنات {نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} نِعمٌ لا نفادَ لها وفي التعرض لعنوان الربوبية تأكيدٌ للمبشَّر به وتربيةٌ له

22

{خالدين فِيهَا} أي في الجنات {أَبَدًا} تأكيدٌ للخلود لزيادة توضيحِ المرادِ به إذ قد يُراد به المُكث الطويل {إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لا قدرَ عنده لأجور الدنيا أو للأعمال التي في مقابلته والجملةُ استئنافٌ وقع تعليلاً لما سبق

9 سورة براءة الآيات (23 24)

23

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أَوْلِيَاء} نهيٌ لكلِّ فردٍ من أفراد المخاطَبين عن موالاة فردٍ من المشركين بقضية مقابلةِ الجمعِ بالجمع الوجبة لانقسامِ الآحادِ إلى الآحادِ كما في قوله عز وجل وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ لا عن موالاة طائفةٍ منهم فإن ذلك مفهومٌ من النظم دِلالةً لا عبارةً والآية نزلت في المهاجرين فإنهم لما أُمروا بالهجرة قالوا إنْ هاجرنا قطَعْنا آباءَنا وأبناءَنا وعشيرتَنا وذهبت تجاراتنا وهلكتْ أموالُنا وخَرِبَتْ ديارُنا وبقِينا ضائعين فنزلت فهاجروا فجعل الرجلُ يأتيه ابنُه أو أبوه أو أخوه أو بعضُ أقاربه فلا يلتفت إليه ولا يُنزِله ولا يُنفق عليه ثم رُخِّصَ لهم في ذلك وقيل نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحِقوا بمكةَ نهياً عن موالاتهم وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لا يطعَمُ أحدُكم طعمَ الإيمانِ حتى يُحب في الله ويبغض في الله حتى يُحب في الله أبعدَ الناس منه ويُبغضَ في الله أقربَ الناس إليه {إِنِ استحبوا الكفر} أي اختاروه {عَلَى الإيمان} وأصرّوا عليه إصراراً لا يُرجى معه الإقلاعُ عنه أصلاً وتعليقُ النهي عن الموالاة بذلك لما أنها قبلَ ذلك ربما تؤدي بهم إلى الإسلام بسبب شعورِهم بمحاسن الدين {وَمَن يتولهم} أي واحد منهم كما أشير إليه وإفرادُ الضميرِ في الفعل لمراعاة لفظِ الموصولِ وللإيذان باستقلال كلُّ واحدٍ منهم في الاتصاف بالظلمِ لا أن المرادَ تولي فردٍ واحدٍ وكلمةُ مِنْ في قوله تعالى {مّنكُمْ} للجنس لا للتبعيض {فَأُوْلَئِكَ} أي أولئك المتولّون {هُمُ الظالمون} بوضعهم الموالاةَ في غير موضعِها كأنّ ظلمَ غيرِهم كلا ظلمٍ عند ظلمِهم

24

{قُلْ} تلوين للخطاب وأمرٌ له صلى الله عليه وسلم بأن يُثبِّت المؤمنين ويقوّيَ عزائمَهم على الانتهاءِ عمَّا نُهوا عنْهُ من موالاة الآباءِ والإخوانِ ويزهِّدَهم فيهم وفيمن يجري مجراهم من الأبناء والأزواج ويقطعَ علائقَهم عن زخارف الدنيا وزينتِها على وجه التوبيخ والترهيب {إن كان آباؤكم وَأَبْنَاؤُكُمْ وإخوانكم وَأَزْوَاجُكُم} لم يُذكر الأبناءُ والأزواجُ فيما سلف لأن موالاةَ الأبناءِ والأزواج غير معتاد بخلاف المحبة {وَعَشِيرَتُكُمْ} أي أقرباؤهم مأخوذ من العِشرة أي الصحبة وقيل من العشَرة فإنهم جماعةٌ ترجِع إلى عقد كعقد العشرة وقرئ عشيراتكم وعشائرُكم {وأموال اقترفتموها} أي اكتسبتموها وإنما وصفت بذلك إيماءً إلى عزتها عندهم لحصولها بكد اليمين {وتجارة} أي أمتعةٌ اشتريتموها للتجارة والربح {تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} بفوات وقتِ رواجِها بغَيْبتكم عن مكةَ المعظمةِ في أيام الموسم {ومساكن تَرْضَوْنَهَا} أي منازلُ تعجبكم الإقامةُ فيها من الدور والبساتينِ والتعرُّضُ للصفات المذكورة للإيذان بأن اللومَ على محبة ما ذكر

من زينة الحياةِ الدنيا ليس لتناسي ما فيها من مبادئ المحبة وموجباتِ الرغبة فيها وأنها مع ما لها من فنون المحاسنِ بمعزل عن أن يُؤثَرَ حبُّها على حبه تعالى وحبِّ رسوله صلى الله عليه وسلم كما في قوله عز وجل مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} بالحب الاختياري المستتبع لأثره الذي هو الملازمة وعدمُ المفارقةِ لا الحُبُّ الجِبِليُّ الذي لا يخلُو عنه البشرُ فإنه غيرُ داخلٍ تحت التكليفِ الدائرِ على الطاقة {وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} نُظم حبُّه في سلك حب الله عز وجل وحب رسوله صلى الله عليه وسلم تنويهاً لشأنه وتنبيهاً على أنه مما يجب أن يُحَبَّ فضلاً عن أن يُكرَه وإيذاناً بأن محبتَه راجعةٌ إلى محبتهما فإن الجهادَ عبارةٌ عن قتال أعدائِهما لأجل عداوتِهم فمَن يحبُّهما يجب أن يحِبَّ قتالَ من لا يحبُّهما {فَتَرَبَّصُواْ} أي انتظروا {حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ} عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فتحُ مكةَ وقيل هي عقوبةٌ عاجلةٌ أو آجلة {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين أو القومَ الفاسقين كافةً فيدخل في زمرتهم هؤلاءِ دخولاً أولياً أي لا يرشدهُم إلى ما هو خيرٌ لهم وفي الآية الكريمة من الوعيد ما لا يكاد يَتخلّص منه إلا من تداركه لطفٌ من ربه والله المستعان سورة براءة آية (25)

25

{لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله} الخطابُ للمؤمنين خاصة {فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} من الحروب وهي مواقُعها ومقاماتها والمرادُ بها وقَعاتُ بدر وقُرَيظةَ والنَّضيرِ والحُدَيبية وخيبَر وفتحُ مكة {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} عطفٌ على محل في مواطن بحذف المضافِ في أحدهما أي وموطنِ يوم حنين أو في أيامِ مواطنَ كثيرةٍ ويومَ حنين ولعل التغييرَ للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثباتِ من أول الأمر وقيل المرادُ بالموطِن الوقتُ كمقتل الحسين وقيل يومَ حنين منصوبٌ بمضمرٍ معطوفٍ على نصركم أي ونصرَكم يومَ حنين {إِذَ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} بدلٌ من يومَ حنينٍ ولا منعَ فيه من عطفه على محل الظرفِ بناءً على أنَّه لم يكنْ في المعطوف عليه كثرةٌ ولا إعجابٌ إذ ليس من قضية العطفِ مشاركةُ المعطوفين فيما أضيف إليه المعطوفُ أو منصوبٌ بإضمار اذكُرْ وحنينٌ وادٍ بين مكةَ والطائفِ كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفاً عشرة آلاف منهم من شهد فتحَ مكةَ من المهاجرين والأنصار وألفانِ من الطلقاء وبين هَوازِنَ وثقيفٍ وكانوا أربعةَ آلافٍ فيمن ضامهم من أمداد سائر العرب وكانوا الجمَّ الغفيرَ فلما التَقْوا قال رجلٌ من المسلمين اسمُه سلمةُ ابن سلامةَ الأنصاري لن نُغلَبَ اليومَ من قلة فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم المشركون وخلَّوا الذراريَ فأكبَّ المسلمون على الغنائم فتنادى المشركون يا حُماة السوء اذكروا الفضائحَ فتراجعوا فأدركت المسلمين كلمةُ الإعجاب فانكشفوا وذلك قوله عز وجل {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} والإغناءُ إعطاءُ ما يُدفع به الحاجةُ أي لم تُعطِكم تلك الكثرةُ ما تدفعون به حاجتَكم شيئاً من الإغناء {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارض بما رحبت} أي برَحْبها وسَعتها عَلى أنَّ مَا مصدريةٌ والباء بمعنى مع أي لا تجِدون فيها مفرّاً تطمئنُّ إليه نفوسُكم من شدة الرعبِ ولا تثبُتون فيها كمن لا يسعه مكان {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} رُوي أنه

بلغ فَلُّهم مكةَ وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ليس معه إلا عمُّه العباسُ آخذاً بلجام بغلته وابنُ عمِّه أبو سفيان ابن الحرث آخذاً بركابه وهو يركُض البغلةَ نحو المشركين وهو يقول أنا النبيُّ لا كذِب أنا ابنُ عبد المطَّلب روى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحمِلُ على الكفار فيفِرُّون ثم يحمِلون عليه فيقف لهم فعلَ ذلك بضعَ عشْرَةَ مرة قال العباس كنت أكُفَّ البغلة لئلا تُسرِعَ به نحوَ المشركين وناهيك بهذه الواحدةِ شهادةَ صدقٍ على أنه صلى الله عليه وسلم كان في الشجاعة ورباطةِ الجأش سبّاقاً للغايات القاصيةِ وما كان ذلك إلا لكونه مؤيداً من عند الله العزيز الحكيم فعند ذلك قال يا رب ائتني بما وعدتَني وقال للعباس وكان صيِّتاً صِحْ بالناس فنادى الأنصارَ فخِذاً فخِذاً ثم نادى يا أصحابَ الشجرةِ يا أصحابَ سورةِ البقرة فكرّوا عنقاً واحداً وهم يقولون لبيك لبيك وذلك قوله تعالى سورة براءة آيه (26 27)

26

{ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ} أي رحمتَه التي تسكُن بها القلوبُ وتطمئنُّ إليها اطمئناناً كلياً مستتبِعاً للنصر القريبِ وأما مطلقُ السكينةِ فقد كانت حاصلة له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أيضاً {وَعَلَى المؤمنين} عطفٌ على رسولِه وتوسيطُ الجارِّ بينهما للدِلالة على ما بينهما من التفاوت أي المؤمنين الذين انهزموا وقيل على الذين ثبتوا مع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أو على الكل وهو الأنسبُ ولا ضيرَ في تحقق أصلِ السكينةِ في الثابتين من قبل والتعرُّضُ لوصف الإيمانِ للإشعار بعلية الإنزال {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} أي بأبصاركم كما يرى بعضُكم بعضاً وهم الملائكةُ عليهم السلام عليهم البياضُ على خيول بُلْقٍ فنظر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إلى قتال المسلمين فقال هكذا حين حمِيَ الوطيسُ فأخذ كفاً من التراب فرمى به نحو المشركين وقال شاهت الوجوه فلم يبق منهم أحدا إلا امتلأت به عيناه ثم قال صلى الله عليه وسلم انهزَموا وربِّ الكعبة واختلفوا في عدد الملائكة يومئذ فقيل خمسةُ آلافٍ وقيل ثمانيةُ آلافٍ وقيل ستةَ عشَرَ ألفاً وفي قتالهم أيضاً فقيل قاتلوا وقيل لم يقاتلوا إلا يومَ بدر وإنما كان نزولُهم لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطِر الحسنةِ وتأييدِهم بذلك وإلقاءِ الرعبَ في قلوب المشركين قال سعيدُ بنُ المسيِّب حدثني رجل كان في المشركين يوم حُنين قال لما كشَفْنا المسلمين جعلْنا نسوقُهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلةِ الشهباءِ تلقانا رجالٌ بِيضُ الوجوه فقالوا شاهت الوجوهُ ارجِعوا فرجَعنا فركِبوا أكتافنا {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} بالقتل والأسر والسبي {وَذَلِكَ} أي ما فُعل بهم مما ذكر {جَزَاء الكافرين} لكفرهم في الدنيا

27

{ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَاء} أنْ يتوبَ عليه منهم لحكمة تقتضيه أي يوفقه للإسلام {والله غَفُورٌ} يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي {رَّحِيمٌ} يتفضل عليهم ويثيبهم روي أن ناساً منهم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وقالوا يا رسول الله أنت خيرُ الناسِ وأبرُّ الناس وقد سُبيَ أهلونا وأولادنا وأُخذت أموالُنا قيل سُبيَ يومئذ ستةُ آلافِ نفسٍ وأُخذ من الإبل والغنمِ ما لا يُحصى فقال صلى الله عليه وسلم إن عندي ما ترون إن خيرَ القولِ أصدقُه اختاروا

إما ذرارِيَكم ونساءَكم وإما أموالَكم قالوا ما كنا نعدِل بالأحساب شيئاً فقام النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فقال إن هؤلاء جاءونا مسلمين وإنا خيَّرناهم بين الذراري والأموالِ فلم يعدِلوا بالأحساب شيئاً فمن كان بيده سبْيٌ وطابت نفسُه أن يرُدَّه فشأنُه ومن لا فليعطنا وليكن فرضا علينا حتى نُصيبَ شيئاً فنعُطِيَه مكانه قالوا قد رضينا وسلمنا فقال صلى الله عليه وسلم إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمُروا عُرفاءَكم فليرفعوا ذلك إلينا فرَفَعتْ إليه العرفاءُ أنهم قد رضوا سورة براءة آية 28

28

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} وُصفوا بالمصدر مبالغةً كأنهم عينُ النجاسة أو هم ذو نجسٍ لخُبث باطنِهم أو لأن معهم الشركَ الذي هو بمنزلة النجَس أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاساتِ فهي ملابسةٌ لهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعيانَهم نجِسةٌ كالكلاب والخنازير وعن الحسن من صافح مشرِكاً توضأ وأهلُ المذاهبِ على خلاف هذين القولين وقرئ نجس لكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف نجس ككِبْدٍ في كَبِد كأنه قيل إنما المشركون جنسٌ نجسٌ أو ضرْبٌ نجس وأكثرُ ما جاء تابعاً لرِجْس {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام} تقريع على نجاستهم وإنما نُهي عن القرب للمبالغة أو للمنع عن دخولِ الحرمِ وهو مذهبُ عطاءٍ وقيل المرادُ به النهيُ عن الدخول مطلقاً وقيل المرادُ المنعُ عن الحج والعمرةِ وهو مذهبُ أبي حنيفةَ رحمَهُ الله تعالى ويؤيده قوله عز وجل {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} فإن تقييدَ النهي بذلك يدل على اختصاص المنهيِّ عنه بوقت من أوقات العام أي لا يحجُّوا ولا يعتمِروا بعد حجِّ عامِهم هذا وهو عامُ تسعةٍ من الهجرة حين أُمّر أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه على الموسم ويدل عليه قول علي رضي الله عنه حين نادى ببراءة ألا لا يحُجَّ بعد عامِنا هذا مشركٌ ولا يُمنعون من دخول الحرمِ والمسجد الحرام وسائرِ المساجدِ عنده وعند الشافعي يمنعون من المسجد الحرام خاصة وعند مالك يمنعون من جميع المساجد ونهيُ المشركين أن يقرَبوه راجعٌ إلى نهي المسلمين عن تمكينهم من ذلك وقيل المرادُ أن يُمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيامِ بمصالحه ويُعزَلوا عن ذلك {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي فقراً بسبب منعِهم من الحج وانقطاعِ ما كانوا يجلُبونه إليكم من الإرفاق والمكاسب وقرئ عائلةً على أنها مصدرٌ كالعافيةِ أو حالاً عائلة {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} من عطائه أو من تفضله بوجهٍ آخَرَ فأرسل الله تعالى السماء عليهم مدراراً أغزر بها خيرَهم وأكثر ميرَهم وأسلم أهلُ تبالةَ وجرشٍ فحمَلوا إلى مكة الطعامَ وما يُعاش به فكان ذلك أعودَ عليهم مما خافوا العَيلةَ لفواته ثم فتح عليهم البلادَ والغنائمَ وتوجه إليهم الناسُ من أقطار الأرض {إِن شَاء} أن يغنيكم مشيئتَه تابعةٌ للحكمة الداعيةِ إليها وإنما قيد ذلك بها لتنقطعَ الآمالُ إلى الله تعالى ولأن الإغناءَ ليس مطرداً بحسب الأفراد والأحوال والأوقات {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بمصالحكم {حَكِيمٌ} فيما يعطي ويمنع

سورة براءة آية 29

29

{قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الاخر} أمرَهم بقتال أهلِ الكتابين إثرَ أمرِهم بقتال المشركين وبمنعهم من أن يحوموا حول ما كانوا يفعلونه من الحج والعمرةِ غيرَ خائفين من الفاقة المتوهَّمةِ من انقطاعهم ونبّههم في تضاعيف ذلك على بعض طرقِ الإغناء الموعودِ على الوجه الكليِّ وأرشدهم إلى سلوكه ابتغاءً لفضله واستنجازاً لوعده والتعبيرُ عنهم بالموصول للإيذان بعلِّية مَا في حيزِ الصلةِ للأمر بالقتال وبانتظامهم بسببِ ذلكَ في سلكِ المشركين فإن اليهودَ مُثَنّيةٌ والنصارى مُثلِّثةٌ فهم بمعزل من أن يؤمنوا بالله سبحانه ولا باليوم الآخر فإن عملهم بأحوال الآخرة كلا علمٍ فإيمانُهم المبنيُّ عليه ليس بإيمان به {وَلاَ يحرِّمون مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} أي ما ثبت تحريمُه بالوحي متلوّاً أو غيرَ متلوٍ وقيل المرادُ برسوله الرسولُ الذي يزعُمون اتباعَه أي يخالفون أصلَ دينهم المنسوخِ اعتقاداً وعملاً {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق} الثابتَ الذي هو ناسخٌ لسائر الأديان وهو دينُ الإسلام وقيل دين الله {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} من التوراة والإنجيل فمن بيانيةٌ لا تبعيضيةٌ حتى يكونَ بعضُهم على خلاف ما نُعت {حتى يُعْطُواْ} أي يقبَلوا أن يعطوا {الجزية} أي ما تقرَّرَ عليهم أن يُعطوه مشتقٌّ من جزَى دَينَه أي قضاه أو لأنهم يَجْزُون بها مَنْ مَنّ عليهم بالإعفاء عن القتل {عَن يَدٍ} حال من الضمير في يُعطوا أي عن يد مؤاتيةٍ مطيعةٍ بمعنى منقادين أو من يدهم بمعنى مسلّمين بأيديهم غيرَ باعثين بأيدي غيرِهم ولذلك مُنع من التوكيل فيه أو عن غِنىً ولذلك لم تجِب الجزيةُ على الفقير العاجزِ أو عن يد قاهرةِ عليهم أي بسبب يد بمعنى عاجزين أذلاء أو عن إنعام عليهم فإن إبقاءَ مُهجتِهم بما بذلوا من الجِزية نعمةٌ عظيمةٌ عليهم أو من الجزية أي نقداً مسلّمةً عن يد إلى يد وغايةُ القتالِ ليست نفسَ هذا الإعطاء بل قبولَه كما أشير إليه {وَهُمْ صاغرون} أي أذلاءُ وذلك بأن يأتيَ بها بنفسه ماشياً غيرَ راكبٍ ويسلِّمَها وهو قائمٌ والمتسلِّمُ جالسٌ ويُؤخَذَ بتَلْبيبه ويقال له أدِّ الجزية وإن كان يؤديها وهي تؤخذ عند أبي حنيفة رضيَ الله عنه من أهل الكتاب مطلقاً ومن مشركي العجَم لا من مشركي العرب عند أبي يوسف رضي الله عنه لا تؤخذ من العربي كتابياً كان أو مشركاً وتؤخذ من الأعجميِّ كتابياً كان أو مشركاً وعند الشافعي رضي الله عنه تؤخذ من أهل الكتابِ عربياً أو عجمياً ولا تؤخذ من أهل الأوثانِ مطلقاً وذهب مالكٌ والأوزاعيُّ إلى أنها تؤخذ من جميع الكفارِ وأما المجوسُ فقد اتفقت الصحابةِ رضيَ الله عنُهم على أخذ الجزيةِ منهم لقوله صلى الله عليه وسلم سُنوا بهم سُنّةَ أهلِ الكتابِ ورُوي عن عليَ رضيَ الله عنه أنَّه كان لهم كتابٌ يدرُسونه فأصبحوا وقد أسرى على كتابهم فرُفع من بين أظهُرِهم واتفقوا على تحريم ذبيحتهم ومناكحتهم لقوله صلى الله عليه وسلم في آخر ما نقل من الحديث غيرَ ناكحي نسائهم وآكلي ذبيحتِهم ووقت الأخذ عند أبي حنيفة رضى الله عنه أولُ السنة وتسقطُ بالموت والإسلام ومقدارُها على الفقير المعتمِل اثنا عشر درهماً وعلى المتوسط الحالِ أربعةٌ وعشرون درهما وعلى الغني ثمانيةٌ وأربعون درهماً ولا جزيةَ على فقير

عاجزٍ عن الكسب ولا على شيخ فانٍ أو زَمِنٍ أو صبيَ أو امرأة وعند الشافعي رضي الله عنه تؤخذ في آخر السنة من كل واحد دينارٌ غنياً كان أو فقيراً كان له كسبٌ أو لم يكن سورة براءة آية 30

30

{وَقَالَتِ اليهود} جملةٌ مبتدأةٌ سيقت لتقرير ما مرَّ من عدم إيمانِ أهلِ الكتابين بالله سبحانه وانتظامِهم بذلك في سلك المشركين {عُزَيْرٌ ابن الله} مبتدأٌ وخبر وقرئ بغير تنوينٍ على أنه اسمٌ أعجميٌّ كعازَرَ وعزَارَ غيرُ منصرفٍ للعجمة والتعريف وأما تعليلُه بالتقاء الساكنين أو بجعل الابن وصفاً على أن الخبرَ محذوفٌ فتعسّفٌ مستغنىً عنه قيل هو قولُ قدمائِهم ثم انقطع فحَكى الله تعالى دلك عنهم ولا عبرةَ بإنكار اليهودِ وقيل قولُ بعضٍ ممن كان بالمدينة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ناسٌ منهم وهم سلامُ بنُ مِشْكَم ونعمانُ بنُ أوفى وشاس ابن قيسٍ ومالكُ بنُ الصيف فقالوا ذلك وقيل قاله فنحاصُ بنُ عازوراءَ وهو الذي قال إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أغنياء وسببُ هذا القولِ أن اليهودَ قتلوا الأنبياءَ بعد موسى عليه السلام فرفع الله تعالى عنهم التوراةَ ومحاها من قلوبهم فخرج عزيرٌ وهو غلامٌ يَسيح في الأرض فأتاهُ جبريلُ عليهِ السَّلامُ فقال له أين تذهب قال أطلبُ العلم فحفّظه التوراةَ فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرِم حرفاً فقالوا ما جمع الله التوراةَ في صدره وهو غلامٌ إلا أنه ابنُه قال الإمام الكلبي لما قَتل بُختُ نَصَّرُ علماءَهم جميعاً وكان عزيرٌ إذ ذاك صغيراً فاستصغره ولم يقتُلْه فلما رجع بنو إسرائيلَ إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله تعالى عزيراً ليجدد لهم التوراةَ ويكونَ آيةً بعد ما أماته مائةَ عامٍ يقال إنه أتاه ملكٌ بإناء فيه ماءٌ فسقاه فمثلت في صدره فلما أتاهم فقال لهم إني عزيرٌ كذّبوه فقالوا إن كنت كما تزعُم فأمْلِ علينا التوراةَ ففعل فقالوا إنَّ الله تعالى لَمْ يقذِف التوراةَ في قلب رجلٍ إلا لأنه ابنُه تعالَى الله عن ذلكَ علوا كبيرا وعن ابن عباس رضي الله تعالَى عنُهمَا أنَّ اليهود أضاعوا التوراة وعمِلوا بغير الحقِ فأنساهم الله تعالى التوراةَ ونسخها من صدورهم ورفع التابوتَ فتضرع عزيرٌ إلى الله تعالى وابتهل إليه فعاد حفظُ التوراةِ إلى قلبه فأنذر قومه به ثم إن التابوت نزلَ فعرضوا ما تلاه عزيرٌ على ما فيه فوجدوه مثلَه فقالوا ما قالوا {وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله} هو أيضا قول بعضهم وإنما قالوه استحالةً لأن يكون ولدٌ بغير أبٍ أو لأن يفعَلَ ما فعله من إبراء الأكمهِ والأبرصِ وإحياءِ الموتى مَنْ لم يكن إلها {ذلك} إشارةٌ إلى ما صدر عنهم من العظيمتين وما فيه من معنى البعد للدلالة على بعد درجة المشارِ إليه في الشناعة والفظاعة {قَوْلُهُم بأفواههم} إما تأكيدٌ لنسبة القولِ المذكورِ إليهم ونفي التجوّزِ عنها أو إشعارٌ بأنه قولٌ مجرد عن البرهان وتحقيقٍ مماثل للمُهمل الموجودِ في الأفواه من غير أن يكون له مصِداقٌ في الخارج {يضاهئون} أي في الكفر والشناعة وقرئ بغير همز {قَوْلَ الذين كَفَرُواْ} أي يشابه قولُهم على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه عند انقلابِه مرفوعاً قولَ الذين كفروا {مِن قَبْلُ} أي من قبلهم وهم المشركون الذين يقولون الملائكةُ بناتُ أو اللاتُ والعزّى

بناتُ الله لا قدماؤهم كما قيلَ إذْ لا تعددَ في القول حتى يتأتّى التشبيهُ وجعلُه بين قولي الفريقين مع اتحاد المقولِ ليس فيه مزيدُ مزيةٍ وقيل الضميرُ للنصارى أي يضاهي قولُهم المسيحُ ابنُ الله قولَ اليهودِ عزير الخ لأنهم أقدمُ منهم وهو أيضاً كما ترى فإنه يستدعي اختصاصَ الردِّ والإبطالَ بقوله تعالى ذلك قَوْلُهُم بأفواههم بقول النصارى {قاتلهم الله} دعاءٌ عليهمْ جميعاً بالإهلاك فإن مَنْ قاتله الله هلك أو تعجّبٌ من شناعة قولِهم {أنى يُؤْفَكُونَ} كيف يُصْرفون من الحق إلى الباطل والحالُ أنه لا سبيل إليه أصلا سورة براءة آية 31

31

{اتخذوا} زيادةُ تقريرٍ لما سلف من كفرهم بالله تعالى {أحبارهم} وهم علماءُ اليهود واختُلف في واحده قال الأصمعي لا أدري أهو حَبْرٌ أم حِبْرٌ وقال أبو الهيثم بالفتح لا غير وكان الليثُ وابنُ السِّكِّيتِ يقولان حِبْرٌ وحَبْرٌ للعالِم ذمياً كان أو مسلماً بعد أن كان من أهل الكتاب {ورهبانهم} وهم علماءُ النصارى من أصحاب الصوامعِ أي اتخذ كلُّ واحد من الفريقين علماءَهم لا الكلُّ الكلَّ {أَرْبَابًا من دُونِ الله} بأن أطاعوهم في تحريم ما أحله الله تعالى وتحليلِ ما حرمه أو بالسجود لهم ونحوِه تسميةُ اتِّباعِ الشيطان عبادةً له في قوله تعالى يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان وقوله تعالى بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن قال عديُّ بنُ حاتم أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليبٌ من ذهب وكان إذ ذاك على دين يسمَّى الركوسية فريق من النصارى وهو يقرأ سورةَ براءة فقال يا عديُّ اطرَحْ هذا الوثنَ فطرحتُه فلما انتهى إلى قوله تعالى اتَّخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله قلتُ يا رسولَ الله لم يكونوا يعبدونهم فقال صلى الله عليه وسلم أليس يحرِّمون ما أحل الله فتُحرِّمونه ويُحِلّون ما حرم الله فتَستحلّونه فقلتُ بلى قال ذلك عبادتُهم قال الربيع قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبيةُ في بني إسرائيلَ قال إنهم ربما وجدوا في كتاب الله تعالى ما يخالف أقوالَ الأحبارِ فكانوا يأخُذون بأقوالهم ويترُكون حُكمَ كتابِ الله {والمسيح ابن مَرْيَمَ} عطفٌ على رهبانهم أي اتخذه النصارى رباً معبوداً بعد ما قالوا إنه ابنُه تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً وتخصيصُ الاتخاذِ به يشير إلى أن اليهودَ ما فعلوا ذلك بعزيرٍ وتأخيرُه في الذكر مع أن اتخاذهم له صلى الله عليه وسلم رباً معبوداً أقوى من مجرد الإطاعةِ في أمر التحليل والتحريمِ كما هو المرادُ باتخاذهم الأحبارَ والرهبانَ أرباباً لأنه مختصٌّ بالنصارى ونسبته صلى الله عليه وسلم إلى أمه من حيث دلالتها على مروبوبيته المافية للربوبية للإيذان بكمال ركاكةِ رأيِهم والقضاءِ عليهم بنهاية الجهل والحماقة {وَمَا أُمِرُواْ} أي والحالُ أن أولئك الكفرةَ ما أُمروا في كتابيهم {إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا} عظيمَ الشأنِ هو الله سبحانه وتعالى ويطيعوا أمرَه ولا يطيعوا أمرَ غيرِه بخلافه فإن ذلك مُخِلٌّ بعبادته تعالى فإن جميعَ الكتبِ السماوية متفقةٌ على ذلك قاطبةً وقد قال المسيح عليه السلام إنه من يشرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة وأما إطاعة الرسولِ صلى الله عليه وسلم وسائرِ مَنْ أمرِ الله تعالَى بطاعته فهي في الحقيقة إطاعة لله عز وجل أو وما أُمر الذين اتخذهم الكفرةُ أرباباً من المسيح والأحبارِ والرهبانِ إلا ليوحِّدوا الله

تعالى فكيف يصِحُّ أن يكونوا أرباباً وهم مأمورون مستعبَدون مثلَهم ولا يقدحُ في ذلك كونُ ربوبيةِ الأحبار والرهبان بطريق الإطاعةِ فإن تخصيصَ العبادةِ به تعالى لا يتحقق إلا بتخصيص الطاعَةِ أيضاً به تعالى وحيث لم يخُصوها به تعالى لم يخصّوا العبادةَ به سبحانه {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} صفةٌ ثانيةٌ لإلها أو استئنافٌ مقرِّرٌ للتوحيد {سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ} عن الإشراك به في العبادة والطاعة سورة براءة آية (32 33)

32

{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله} إطفاءُ النار عبارةٌ عن إزالة لهبا الموجبةِ لزوال نورِها لا عن إزالة نورِها كما قيل لكن لما كان الغرضُ من إطفاء نارٍ لا يراد بها إلا النورُ كالمصباح إزالةَ نورِها جُعل إطفاؤُها عبارةً عنها ثم شاع ذلك حتى كان عبارةً عن مطلق إزالةِ النور وإن كان لغير النار والسرِّ في ذلك انحصارُ إمكانِ الإزالةِ في نورها والمرادُ بنور الله سبحانه إما حجتُه النيرةُ الدالةُ على وحدانيته وتنزُّهِه عن الشركاء والأولادِ أوالقرآن العظيمِ الناطقِ بذلك أي يريد أهلُ الكتابين أن يردّوا القرآنَ ويكذِّبوه فيما نطَق به من التوحيد والتنزُّه عن الشركاء والأولادِ والشرائعَ التي من جملتها ما خالفوه من أمر الحِلِّ والحُرمة {بأفواههم} بأقاويلهم الباطلةِ الخارجةِ منها من غير أن يكون لها مصداقٌ تنطبقُ عليه أو أصلٌ تستند إليه حسبما حُكي عنهم وقيل المرادُ به نبوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم هذا وقد قيل مُثِّلت حالُهم فيما ذكر بحال من يريد طمسن نورٍ عظيم منبثَ في الآفاق بنفخة {ويأبى الله} أي لا يريد {إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} بإعلاء كلمة التوحيد وإعزاز دينِ الإسلامِ وإنما صح الاستثناءُ المفرَّغُ من الموجَب لكونه بمعنى النفي كما أشير إليه لوقوعه في مقابلةِ قوله تعالى يُرِيدُونَ وفيه من المبالغة والدِلالة على الامتناع ما ليس في نفي الإرادةِ أي لا يريد شيئاً من الأشياءِ إلا إتمامَ نورِه فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه فضلاً عن الإطفاء وفي إظهار النورِ في مَقام الإضمارِ مضافاً إلى ضميره عزَّ وجلَّ زيادةُ اعتناءٍ بشأنه وتشريفٌ له على تشريف وإشعارٌ بعِلة الحُكم {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} جوابُ لو محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه والجملةُ معطوفةٌ على جملة قبلها مقدرةٍ وكلتاهما في موقعِ الحالِ أي لا يريد الله إلا إتمامَ نوره ولو لم يكرَهِ الكافرون ذلك ولو كره أي على كل حالٍ مفروض وقد حذفت الأولى في الباب حذفاً مطَّرداً لدلالة الثَّانيةِ عليها دلالةً واضحةً لأن الشيءَ إذا تحقق عند المانِع فلأَنْ يتحققَ عند عدمِه أولى وعلى هذا السرِّ يدور ما في إنْ ولو الوصليتين من التأكيد وقد مر زيادةُ تحقيق لهذا مرار

33

{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} ملتبساً {بالهدى} أي القرآنَ الذي هُو هدى للمتقين {وَدِينِ الحق} الثابتِ وهو دينُ الإسلام {لِيُظْهِرَهُ} أي رسولُه {عَلَى الدين كُلّهِ} أي على أهل الأديانِ كلِّهم أو ليُظهرَ الدينَ الحقِّ على سائر الأديان بنسخه إياها حسبما تقتضيه الحِكمةُ والجملةُ بيانٌ وتقريرٌ لمضمون الجملةِ السابقة والكلامُ في قولِه عزَّ وجلَّ {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} كما فيما سبق خلاً أن وصفَهم بالشرك بعد وصفِهم

بالكفر للدلالة على أنهم ضمُّوا الكفرَ بالرسول إلى الكفر بالله سورة براءة الآية (34 35)

34

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} شروعٌ في بيان حال الأحبارِ والرهبانِ في إغوائهم لأراذلهم إثرَ بيانِ سوءِ حالِ الأتباع في اتخاذهم لهم أرباباً يُطيعونهم في الأوامر والنواهي واتباعِهم لهم فيما يأتُون وما يَذَرُون {إِنَّ كَثِيراً مّنَ الاحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل} يأخذونها بطريق الرِّشوةِ لتغيير الأحكامِ والشرائعِ والتخفيفِ والمسامحة فيها وإنما عبِّر عن ذلك بالأكل بناءً على أنه معظمُ الغرَضِ منه وتقبيحا لحالهم وتنفير للسامعين عنهم {وَيَصُدُّونَ} الناس {عَن سَبِيلِ الله} عن دين الإسلامِ أو عن المسلك المقرَّر في التوراة والإنجيل إلى ما افتَرَوْه وحرفوه بأخذ الرشا أو يصدون عنه بأنفسهم بأكلهم الأموالَ بالباطل {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} أي يجمعونهما ويحفَظونهما سواءٌ كان ذلك بالدفن أو بوجه آخرَ والموصولُ عبارةٌ إما عن الكثير من الأحبار والرهبانِ فيكون مبالغةً في الوصف بالحِرْص والضّنِّ بهما بعد وصفِهم بما سبق من أخذ الرشا والبراطيلِ في الأباطيل وإما عن المسلمين الكانزين غيرِ المنفقين وهو الأنسبُ بقوله عز وجل {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} فيكون نظمُهم في قَرْن المرتشين من أهل الكتابِ تغليظاً ودِلالةً على كونهم أسوةً لهم في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم فالمرادُ بالإنفاق في سبيل الله الزكاةُ لما رُوي أَنَّهُ لمَّا نزل كبُرَ ذلك على المسلمين فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنَّ الله تعالى لم يفرِض الزكاةَ إلا ليُطيِّبَ بها ما بقيَ من أموالكم ولقوله صلى الله عليه وسلم ما أُدِّي زكاتُه فليس بكنز أي بكنز أو عد عليه فإن الوعيدَ عليه مع عدم الإنفاقِ فيما أمر الله بالإنفاق فيه وأما قوله صلى الله عليه وسلم مَنْ تَرَكَ صفراءَ أو بيضاءَ كُوي بها ونحوُه فالمرادُ بها ما لم يؤد حقها لقوله صلى الله عليه وسلم ما من صاحب ذهبٍ ولا فضة لا يؤدّي منها حقَّها إلا إذا كان يوم القيامة صُفحَتْ له صفائحُ من نار فيُكوى بها جنبُه وجبينُه وظهرُه {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} خبرٌ للموصول والفاءُ لتضمُّنه معنى الشرطِ ويجوز أن يكون الموصولُ منصوباً بفعل يفسِّره فبشرهم

35

{يَوْمَ} منصوبٌ بعذاب أليمٍ أو بمضمر يدلُّ عليه ذلك أي يعذّبون أو باذكر {يحمى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ} أي يوم توقد النارُ ذاتُ حَمْيٍ شديدٍ عليها وأصلُه تُحمى النارُ فجعل الإحماءُ للنار مبالغةً ثم حُذفت النارُ وأسند الفعلُ إلى الجارِّ والمجرورِ تنبيهاً على المقصود فانتقل من صيغة التأنيثِ إلى التذكير كما تقول رُفعت القصةُ إلى الأمير فإن طرحْتَ القِصةَ قلت رُفع إلى الأمير وإنما قيل عليها والمذكور شيئان لأن المرادَ بهما دنانيرُ ودراهمُ كثيرةٌ كما قال علي رضي الله عنه أربعةُ آلافٍ

وما دونها نفقةٌ وما فوقها كنزٌ وكذا الكلامُ في قولِه تعالى وَلاَ يُنفِقُونَهَا وقيل الضميرُ للأموال والكنوزِ فإن الحُكمِ عامٌّ وتخصيصُهما بالذكر لأنهما قانونُ التموّلِ أو للفضة وتخصيصُها لقربها ودَلالة حكمِها على أن الذهبَ كذلك بل أولى {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} لأن جمعَهم لها وإمساكَهم كان لطلب الوجاهةِ بالغنى والتنعُّم بالمطاعم الشهيةِ والملابس البهيةِ أو لأنهم ازوَرُّوا عن السائل وأعرضوا عنه وولَّوْه ظهورَهم أو لأنها أشرفُ الأعضاءِ الظاهرةِ فإنها المشتملةُ على الأعضاء الرئيسة التي هي الدماغُ والقلبُ والكبِدُ أو لأنها أصولُ الجهات الأربعةِ التي هي مقاديمُ البدن ومآخِرُه وجنباه {هذا مَا كَنَزْتُمْ} على إرادة القول {لانفُسِكُمْ} لمنفعتها فكان عينَ مَضرَّتها وسببَ تعذيبها {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي وبالَ كنزِكم أو ما تكنزونه وقرئ بضم النون سورة براءة آية (36)

36

{إِنَّ عِدَّةَ الشهور} أي عددَها {عَندَ الله} أي في حكمه وهو معمولٌ لها لأنها مصدرٌ {اثنا عَشَرَ} خبرٌ لإن {شَهْراً} تمييزٌ مؤكدٌ كما في قولك عندي من الدنانير عشرون ديناراً والمرادُ الشهورُ القمريةُ إذ عليها يدور فلَكُ الأحكام الشرعية {فِى كتاب الله} في اللوحِ المحفوظِ أو فيما أثبته وأوجبه وهو صفةُ اثنا عشر أي اثنا عشر شهراً مُثبتاً في كتاب الله وقوله عز وجل {يوم خلق السماوات والارض} متعلقٌ بما في الجارِّ والمجرور من معنى الاستقرار أو بالكتاب على أنه مصدرٌ والمعنى إن هذا أمرٌ ثابتٌ في نفس الأمرِ منذ خلق الله تعالى الأجرامَ والحركاتِ والأزمنة {مِنْهَا} أي من تلك الشهورِ الاثنىْ عشر {أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في خُطبته في حجة الوداع ألا إن الزمانَ قد استدار كهيئته يوم خَلَقَ الله السموات والارض السنةُ اثنا عشرَ شهراً منها أربعةٌ حرُمٌ ثلاثٌ متوالياتٌ ذو القَعدةِ وذو الحِجة والمحرَّم ورجبُ مُضَرَ الذي بين جمادى وشعبانَ والمعنى رجعت الأشهرُ إلى ما كانَتْ عليهِ من الحِل والحُرمة وعاد الحجُّ إلى ذي الحِجّة بعد ما كانوا أزالوه عن محله بالنسيءِ الذي أحدثوه في الجاهلية وقد وافقت حَجةُ الوَداعِ ذا الحِجة وكانت حَجةُ أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ قبلها في ذي القَعدة {ذلك} أي تحريم الأشهرِ الأربعة المعينة المعدودةِ وما في ذلك من معنى البُعد لتفخيم المشار إليه هو {الدين القيم} المستقيمُ دين إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام وكانت العرب قد تمسكت به وراثةً منهما وكانوا يعظّمون الأشهرَ الحرمَ ويكرهون القتال فيها حتى إنه لو لقيَ رجلٌ قاتلَ أبيه أو أخيه لم يَهِجْهُ وسمَّوا رجباً الأصمَّ ومنصل الأسنة حتى أحدثوا النسيء فغيروا {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} بهتك حرمتِهن وارتكابِ ما حرّم فيهن والجمهورُ على أن حرمةَ القتال فيهن منسوخةٌ وأن الظلم ارتكابُ المعاصي فيهن فإنه أعظمُ وزراً كارتكابها في الحرَم وعن عطاء أنه لا يحِلّ للناس أن يغزوا في الحَرَم ولا في الأشهر الحرُم إلا أن يقاتلَوا وما نسخت ويؤيد الأول أنه

صلى الله عليه وسلم حصرَ طائفاً وغَزَا هَوازنَ بحُنين في شوال وذي القعدة {وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً كَمَا يقاتلونكم كَافَّةً} أي جميعاً وهو مصدرُ كفّ عن الشيء فإن الجميع مكفوفٌ عن الزيادة وقع موقعَ الحال {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي معكم بالنصر والإمداد فيما تباشِرونه من القتال وإنما وضع المُظهرُ موضعَه مدحاً لهم بالتقوى وحثاً للقاصرين عليه وإيذاناً بأنه المدارُ في النصر وقيل هي بشارةٌ وضمانٌ لهم بالنصرة بسبب تقواهم سورة براءة آية 37

37

{إِنَّمَا النسىء} هو مصدرُ نسَأَه إذا أخَّره نسْأً ونَساءً ونسيئاً نحوُ مسَّ مسا ومساسا ومسيسا وقرئ بهن جميعا وقرئ بقلب الهمزة ياءً وتشديدِ الياء الأولى فيها كانوا إذا جاء شهرٌ حرامٌ وهم محارِبون أحلُّوه وحرَّموا مكانه شهراً آخر حتى رفضوا خصوصَ الأشهر واعتبروا مجردَ العددِ وربما زادوا في عدد الشهور بأن يجعلوها ثلاثةَ عشرَ أو أربعةَ عشَر ليتسعَ لهم الوقت ويجعلوا أربعةَ أشهر من السنة حُرُماً ولذلك نصّ على العدد المعين في الكتاب والسنة أي إنما تأخيرُ حرمةِ شهرٍ إلى شهر آخر {زِيَادَةٌ فِى الكفر} لأنه تحليلُ ما حرمه الله وتحريمُ ما حلله فهو كفرٌ آخر مضمون إلى كفرهم {يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ} ضلالاً على ضلالهم القديم وقرئ على البناءِ للفاعلِ منْ الأفعال على أن الفعلَ لله سبحانه أي يخلُق فيهم الضلال عند مباشرتِهم لمباديه وأسبابِه وهو المعنيُّ على القراءةِ الأولى أيضاً وقيل المُضِلّون حينئذ رؤساؤُهم والموصولُ عبارةٌ عن أتباعهم وقرئ يَضَلُّ بفتح الياء والضاد من ضلل يضلل ونُضِلّ بنون العظمة {يُحِلُّونَهُ} أي الشهرَ المؤخر {عَاماً} من الأعوام ويحرِّمون مكانه شهراً آخرَ مما ليس بحرام {وَيُحَرّمُونَهُ} أي يحافظون على حُرمته كما كانت والتعبير عن ذك بالتحريم باعتبار إحلالِهم له في العام الماضي أو لإسنادهم له إلى آلهتهم كما سيجيء {عَاماً} آخرَ إذا لم يتعلقْ بتغييره غرضٌ من أغراضهم قال الكلبي أول من فعل ذلك رجلٌ من كنانة يقال له نُعيم بنُ ثعلبة وكان إذا همّ الناسُ بالصدَر من الموسم يقوم فيخطب ويقول لا مردَّ لما قضيْتُ وأنا الذي لا أُعاب ولا أُجاب فيقول له المشركون لبيك ثم يسألونه أن يَنْسئَهم شهراً يغيِّرون فيه فيقول إن صفرَ العامَ حرامٌ فإذا قال ذلك حلّوا الأوتارَ ونزعوا الأسنةَ والأزِجّة وإن قال حلالٌ عقدوا الأوتار وشدّوا الأزجةَ وأغاروا وقيل هو جُنادةُ بنُ عوفٍ الكنانيُّ وكان مطاعاً في الجاهلية كان يقوم على جمل في الموسم فينادي بأعلى صوتِه إن آلهتَكم قد أحلت لكم المحرَّم فأحِلّوه ثم يقوم في العام القابل فيقول إن آلهتَكم قد حرمت عليكم المحرَّمَ فحرِّموه وقيل هو رجلٌ من كنانةَ يقال له القَلمّسُ قال قائلهم ... ومنا ناسئ الشهرِ القَلَمَّسْ ... وعن ابن عباس رضي الله عنهما أولُ من سنَّ النسيءَ عمر بن لحي ابن قُمعةَ بن خندِفَ والجملتان تفسيرٌ للضلال أو حالٌ من الموصول والعاملُ عاملُه {لّيُوَاطِئُواْ} أي ليوافقوا {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} من الأشهر الأربعةِ واللام متعلقةٌ بالفعل الثاني أو بما يدل عليه بمجموع الفعلين {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله} بخصوصه من الأشهر المعينة {زُيّنَ لَهُمْ سُوء أعمالهم} وقرئ على البناءِ

للفاعلِ وهو الله سبحانه والمعنى جَعلَ أعمالَهم مشتهاةً للطَّبعِ محبوبةً للنَّفسِ وقيل خَذَلهم حتى حسِبوا قبيحَ أعمالِهم حسناً فاستمروا على ذلك {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} هدايةً موصِّلةً إلى المطلوبِ البتةَ وإنما يهديهم إلى ما يوصِلُ إليه عند سلوكِه وهم قد صدّوا عنه بسوء اختيارِهم فتاهوا في تيه الضلال سورة براءة الآية (38 39)

38

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} رجوعٌ إلى حث المؤمنين وتجريدِ عزائمِهم على قتال الكفرةِ إثرَ بيان طرَفٍ من قبائحهم الموجبةِ لذلك {مَا لَكُمْ} استفهامٌ فيه معنى الإنكارِ والتوبيخ {إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِى سَبِيلِ الله اثاقلتم} تباطأتم وتقاعستم أصلهُ تثاقلتم وقد قرئ كذلك أيُّ شيءٍ حصل أو حاصلٌ لكم أو ما تصنعون حين قال لكم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم انفِروا أي اخرُجوا إلى الغزو في سبيل الله متثاقلين على أن الفعلَ ماضٍ لفظاً مضارعٌ معنىً كأنه قيل تتثاقلون فالعاملُ في الظرف الاستقرارُ المقدرُ في لكم أو معنى الفعلِ المدلولِ عليه بذلك ويجوز أن يعملَ فيه الحالُ أي ما لكم متثاقلين حين قيل لكم انفروا وقرئ أَثّاقلتم على الاستفهام الإنكاريِّ التوبيخيِّ فالعاملُ في الظرف حينئذ إنما هو الأول {إِلَى الارض} متعلقٌ باثاقلتم على تضمينه معنى المَيْلِ والإخلاد أي اثاقلتم ماثلين إلى الدنيا وشهواتِها الفانيةِ عما قليل وكرِهتم مشاقَّ الغزو ومتاعبه المستتبعة للراحلة الخالدة كقوله تعالى أَخْلَدَ إِلَى الارض واتبع هَوَاهُ أو إلى الإقامة بأرضكم وديارِكم وكان ذلكَ في غزوةِ تبوكَ في سنة عشرٍ بعد رجوعِهم من الطائف استُنفِروا في وقت عُسرةٍ وقَحطٍ وقَيْظ وقد أدركت ثمارُ المدينة وطابت ظلالُها مع بعد الشُّقةِ وكثرةِ العدوِّ فشق عليهم ذلك وقيل ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا ورَّى بغيرها إلا في غزوة تبوك فإنه صلى الله عليه وسلم بيّن لهم المقصِدَ فيها ليستعدوا لها {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وغرورِها {مِنَ الاخرة} أي بدلَ الآخرة ونعيمِها الدائم {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا} أظهر في مقام الإضمارِ لزيادة التقرير أي فما التمتعُ بها وبلذائذها {فِى الاخرة} أي في جنب الآخرة {إِلاَّ قَلِيلٌ} أي مستحقَرٌ لا يُؤبَه له وفي ترشيح الحياةِ الدنيا بما يؤذن بنفاستها ويستدعي الرغبةَ فيها وتجريدِ الآخرة عن مثل ذلك مبالغةٌ في بيان حقارة الدنيا ودناءتِها وعِظَمِ شأن الآخرة وعلوها سورة براءة الآية 39

39

{إِلاَّ تَنفِرُواْ} أي إن لا تنفِروا إلى ما استُنفرتم إليه {يُعَذّبُكُم} أي الله عزَّ وجلَّ {عَذَاباً أَلِيماً} أي يُهلكْكم بسبب فظيعٍ هائل كقَحط وحوه {وَيَسْتَبْدِلْ} بكم بعد إهلاكِكم {قَوْماً غَيْرَكُمْ} وصفهم بالمغايرة لهم لتأكيد الوعيدِ والتشديد في التهديد بالدِلالة على المغايرةِ الوصفيةِ والذاتيةِ المستلزِمة للاستئصال أي قوماً مطيعين مُؤْثرين للآخرة على الدنيا ليسوا من أولادكم ولا أرحامِكم كأهل اليمنِ وأبناءِ فارسَ وفيه من الدِلالة على

شدة السُّخط ما لا يخفى {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا} أي لا يقدح تثاقلُكم في نُصرة دينِه أصلاً فإنه الغنيُّ عن كلِّ شيءٍ في كل شيء وقيل الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل وعده بالعصمة والنصرةِ وكان وعدُه مفعولاً لا محالة {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدر على إهلاككم والإتيان بقوم آخرين سورة براءة الآية (40)

40

{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} أي إن لم تنصُروه فسينصُره الله الذي قد نصره في وقت ضرورةٍ أشدَّ من هذه المرة فحُذف الجزاءُ وأقيم سببُه مُقامَه أو إن لم تنصُروه فقد أوجب له النُصرة حتى نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذُله في غيره {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} أي تسببوا لخروجه حيث أذن له صلى الله عليه وسلم في ذلك حين همّوا بإخراجه {ثَانِيَ اثنين} حالٌ من ضميره صلى الله عليه وسلم وقرئ بسكون الياء على لغة من يُجري الناقصَ مُجرى المقصور في الإعراب أي أحدَ اثنين من غير اعتبار كونه صلى الله عليه وسلم ثانياً فإن معنى قولِهم ثالثُ ثلاثةٍ ورابع أربعة ونحوُ ذلك أحدُ هذه الأعدادِ مطلقاً لا الثالثُ والرابعُ خاصة ولذلك منع الجمهورُ أن ينصِبَ ما بعده بأن يقال ثالثٌ ثلاثةً ورابعٌ أربعةً وقد مرَّ في قولِه تعالى لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله ثالث ثلاثة من سورة المائدة وجعلُه صلى الله عليه وسلم ثانيَهما لمشي الصديقِ أمامَه ودخولِه في الغار أولاً لكنسه وتسوية البساط كما ذكر في الأخبار تمحّلٌ مُستغنىً عنه {إِذْ هُمَا فِى الغار} بدلٌ من إذ أخرجه بدلَ البعضِ إذ المرادُ به زمانٌ متسعٌ والغارُ ثقبٌ في أعلى ثوْرٍ وهو جبلٌ في يمنى مكةَ على مسيرة ساعةٍ مكثاً فيه ثلاثاً {إِذْ يَقُولُ} بدلٌ ثانٍ أو ظرفٌ لثانيَ {لِصَاحِبِهِ} أي الصدّيق {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} بالعون والعصمةِ والمرادُ بالمعية الولايةُ الدائمةُ التي لا تحوم حول صاحبها شائبةُ شيءٍ من الحزن وما هو المشهورُ من اختصاص مَعَ بالمتبوع فالمرادُ بما فيه من المتبوعية هو المتبوعية في الأمر المباشر روى أن المشركين طلعوا فوق الغار فأشفق أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم فقال إنْ نُصَبْ اليومَ ذهب دينُ الله فقال صلى الله عليه وسلم ما ظنُّك باثنين الله ثالثُهما وقيل لما دخلا الغارَ بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوتَ فنسَجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم أعمِ أبصارَهم فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطَنون قد أخذ الله تعالى أبصارهم عنه وفيه من الدِلالة على علو طبقة الصدِّيقِ رضيَ الله عنه وسابقةِ صُحبتِه ما لا يخفى ولذلكَ قالوا من أنكر صُحبةَ أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ فقد كفر لإنكاره كلامَ الله سبحانه وتعالى {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ} أمَنتَه التي تسكُن عندها القلوب {عَلَيْهِ} على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فالمراد بها مالا يحوم حوله شائبةُ الخوفِ أصلاً أو على صاحبه إذ هو المنزعِج وأما النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فكان على طُمَأْنينة من أمره {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} عطفٌ على نصره الله والجنودُ هم الملائكةُ النازلون يوم بدرٍ والأحزابِ وحُنينٍ وقيل هم الملائكةُ أنزلهم الله ليحرِسوه في الغار ويأباه وصفُهم بعدم رؤيةِ المخاطَبين لهم وقوله عز وعلا {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى} يعني الشركَ أو دعوةَ الكفرِ فإن ذلك الجعلَ لا يتحقق بمجرد

الإنجاء بل بالقتل والأسر ونحو ذلك {وَكَلِمَةُ الله} أي التوحيدُ أو دعوةُ الإسلام {هِىَ العليا} لا يدانيها شيءٌ وتغييرُ الأسلوب للدِلالة على أنها في نفسها كذلك لا يتبدل شأنُها ولا يتغيرُ حالُها دون غيرِها من الكلم ولذلك وُسِّط ضمير الفعل وقرئ بالنصب عطفاً على كلمة الذين {والله عَزِيزٌ} لا يغالَب {حَكِيمٌ} في حكمه وتدبيره سورة براءة الآية (41 42)

41

{انفروا} تجريدٌ للأمر بالنفور بعد التوبيخِ على تركه والإنكار على المساهلة فيه وقوله تعالى {خِفَافًا وَثِقَالاً} حالان من ضمير المخاطبين أي على أيّ حالٍ كان من يُسر وعُسر حاصلَين بأي سببٍ كان من الصِحة والمرض أو الغِنى والفقر أو قلة العيال وكثرتِهم أو غير ذلك مما ينتظمه مساعدةُ الأسباب وعدمُها بعد الإمكان والقدرةِ في الجملة وما ذكر في تفسيرهما من قولهم خفاقا لقلة عيالِكم وثقالاً لكثرتها أو خفاقا من السلاح وثِقالاً منه أو رُكباناً ومُشاةً أو شباناً وشيوخاً أو مهازيلَ وسِماناً أو صِحاحاً ومِراضاً ليس لتخصيص الأمرَين المتقابلَين بالإرادة من غير مقارنةٍ للباقي وعن ابن أمّ مكتومٍ أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعليّ أن أنفِر قال صلى الله عليه وسلم نعم حتى نزل لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وعن ابن عباس رضي الله عنهما نسخت بقوله عز وجل لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى الآية {وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ فِى سَبِيلِ الله} إيجابٌ للجهاد بهما إن أمكن وبأحدهما عند إمكانِه وإعوازِ الآخَر حتى إن من ساعده النفسُ والمالُ يجاهدُ بهما ومن ساعده المالُ دون النفسِ يغزى مكانَه مَنْ حالُه على عكس حالِه إلى هذا ذهب كثيرٌ من العلماء وقيل هو إيجابٌ للقسم الأول فقط {ذلكم} أي ما ذُكر من النفير والجهادِ وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البعد للإيذان ببعد منزلِته في الشرف {خَيْرٌ لَّكُمْ} أي خيرٌ عظيمٌ في نفسه أو خير مما يبتغى بتركه من الراحة والدعةِ وسَعةِ العيشِ والتمتع بالأموال والأولاد {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تعلمون الخيرَ علمتم أنه خيرٌ أو إنْ كنتُم تعلمونَ أنه خيرٌ إذ لا احتمال لغير الصدقِ في أخبار الله تعالى فبادروا إليه سورة براءة الآية 42

42

{لَّوْ كَانَ} صرفٌ للخطاب عنهم وتوجيهٌ لهُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تعديداً لما صدَر عنهم من الهَنات قولاً وفعلاً على طريق المباثةِ وبياناً لدناءة هممِهم وسائرِ رذائلِهم أي لو كان ما دعَوا إليه {عَرَضًا قَرِيبًا} العرَضُ ما عرَض لك من منافعِ الدنيا أي لو كان ذلك غُنماً سهل المأخذ قريب المال {وَسَفَرًا قَاصِدًا} ذا قصدٍ بين القريبِ والبعيد {لاَّتَّبَعُوكَ} في النفير طمعاً في الفوز بالغنيمة وتعليقُ الاتباعِ بكلا الأمرين يدل على عدم تحققِه عند توسّط السفرِ فقط {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} أي المسافةُ الشاطة الشاقة التي تقطع بمشقة وقرئ بكسر العين والشين {وَسَيَحْلِفُونَ} أي المتخلفون عن الغزو وقوله تعالى {بالله} إما متعلقٌ بسيحلفون أو هو من جملة كلامِهم والقولُ مرادٌ على الوجهين أي سيحلفون

بالله اعتذاراً عند قفولك قائلين {لَوِ استطعنا} أو سيحلِفون قائلين بالله لو استطعنا الخ أي لو كان لنا استطاعةٌ من جهة العدة أو من جهة الصحةِ أو من جهتهما جميعاً حسبما عنّ لهم من الكذب والتعللِ وعلى كلا التقديرين فقوله تعالى {لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} سادٌّ مسدَّ جوابي القسمِ والشرط جميعاً أما على الثاني فظاهرٌ وأما على الأول فلأن قولَهم لو استطعنا في قوة بالله لو استطعنا لأنه بيانٌ لقوله تعالى سَيَحْلِفُونَ بالله وتصديقٌ له والإخبارُ بما سيكون منهم بعد القُفولِ وقد وقع حسبما أُخبر به من جملة المعجزات الباهرة وقرئ لو استطعنا بضم الواو تشبيهاً لها بواو الجمعِ كما في قوله عز وجل فَتَمَنَّوُاْ الموت {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} بدلٌ من سيحلفون لأن الحلِفَ الكاذبَ إهلاكٌ للنفس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم اليمينُ الفاجرةُ تدع الديارَ بلاقِعَ أو حالٌ من فاعلِه أي مهلِكين أنفسَهم أو من فاعل خرَجْنا جئ به على طريقة الإخبارِ عنهم كأنه قيل نهلك أنفسَنا أي لخرَجْنا معكم مهلِكين أنفسَنا كما في قولك حلَف ليفعلن مكان لأفعلن {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون} أي في مضمون الشرطيةِ وفيما ادّعَوا ضمناً من انتفاء تحققِ المقدم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا سورة براءة الآية (43)

43

{عَفَا الله عَنكَ} صريحٌ في أنه سبحانه وتعالى قد عفا عنه صلى الله عليه وسلم ما وقع منه عند استئذانِ المتخلفين في التخلف معتذرين بعدم الاستطاعةِ وإذنُه اعتماداً على أَيْمانهم ومواثيقِهم لخلوها عن المزاحِم من ترك الأولى والأفضلِ الذي هو التأنّي والتوقفُ إلى انجلاء الأمرِ وانكشافِ الحالِ وقوله عز وجل {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} أي لأي سببٍ أذِنْتَ لهم في التخلف حين اعتلّوا بعللهم بيانٌ لما أُشير إليه بالعفو من ترك الأولى وإشارةٌ إلى أنه ينبغي أن تكون أمورُه صلى الله عليه وسلم منوطةً بأسباب قويةٍ موجبةٍ لها أو مصححةٍ وأن ما أبرزوه في معرض التعلل والاعتذارِ مشفوعاً بالأيمان كان بمعزل من كونه سبباً للإذن قبل ظهورِ صدقِه وكلتا اللامَين متعلقةٌ بالإذن لاختلافهما في المعنى فإن الأولى للتعليل والثانيةُ للتبليغ والضميرُ المجرورُ لجميع المستأذِنين وتوجهُ الإنكار إلى الإذن باعتبار شمولِه للكل لا باعتبار تعلّقِه بكل فرد فردٍ لتحقق عدمِ استطاعةِ بعضهم كما ينبئ عنه قوله سبحانه {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ} أي فيما أَخبروا به عند الاعتذارِ من عدم الاستطاعةِ من جهة المالِ أو من جهة البدن أو من جهتهما معاً حسبما عنّ لهم هناك {وَتَعْلَمَ الكاذبين} في ذلك فتعامِلَ كلاًّ من الفريقين بما يستحقه وهو بيانٌ لذلك الأولى الأفضل وتخصيص له صلى الله عليه وسلم عليه فإن كلمة حتى سواءٌ كانت بمعنى اللامِ أو بمعنى إلى لا يمكن تعلقُها بقوله تعالى لِمَ أَذِنتَ لاستلزامه أن يكون إذنه صلى الله عليه وسلم لهم معلّلاً أو مُغيّاً بالتبين والعلم ويكون توجُّهُ الاستفهامِ إليه من تلك الحيثيةِ وذلك بيِّنُ الفسادِ بل بما يدل عليه ذلك كأنه قيل لم سارعت إلى الإذن لهم وهلاّ تأنّيت حتى ينجليَ الأمر كما هو قضيةُ الحزْم قال قتادة وعمرو بنُ ميمون اثنان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمَر فيهما بشيء إذنُه للمنافقين وأخذهُ الفداءَ من الأُسارى فعاتبه الله تعالى كما تسمعون وتغييرُ الأسلوب بأن عبّر عن الفريق الأولِ بالموصول الذي صِلتُه فعلٌ دالٌ على الحدوث وعن الفريق الثاني باسم الفاعلِ المفيدِ للدوام للإيذان بأن ما ظهر من الأوّلين صدقٌ حادثٌ في أمر خاص غيرُ مصحِّحٍ لنظمهم في سلك الصادقين وأن ما صدر من الآخَرين

وإن كان كاذبا حادثاً متعلقاً بأمر خاص لكنه أمرٌ جارٍ على عادتهم المستمرة ناشئ عن رسوخهم في الكذب والتعبيرُ عن ظهور الصدقِ بالتبين وعما يتعلق بالكذب بالعلم لما هو المشهورُ من أن مدلولَ الخبر هو الصدقُ والكذبُ احتمالٌ عقلي فظهورُ صدقِه إنما هو تبيّنُ ذلك المدلولِ وانقطاعُ احتمالِ نقيضِه بعد ما كان محتمِلاً له احتمالاً عقلياً وأما كذبُه فأمرٌ حادثٌ لا دِلالة للخبر عليه في الجملة حتى يكونَ ظهورُه تبيّناً له بل هو نقيضٌ لمدلوله فما يتعلق به يكون عِلْماً مستأنفاً وإسنادُه إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لا إلى المعلومين ببناء الفعلِ للمفعول مع إسناد التبيّنِ إلى الأولين لما أن المقصود ههنا علمه صلى الله عليه وسلم بهم ومؤاخذتُهم بموجبه بخلاف الأولين حيث لا مؤاخذةَ عليهم ومن لم ينتبه لهذا قال حتى يتبين لك مَنْ صدق في عذره ممن كذَب فيه وإسنادُ التبيُّنِ إلى الأولين وتعليقُ العلمِ بالآخَرين مع أن مدارَ الإسنادِ والتعلقِ أولا وبالذات هو وصفُ الصدقِ والكذب كما أشير إليه لما أن المقصِدَ هو العلمُ بكلا الفريقين باعتبار اتصافهما بوصفيهما المذكورَين ومعاملتِهما بحسب استحقاقِهما لا العلمُ بوصفيهما بذاتيهما أو باعتبار قيامِهما بموصوفيهما هذا وفي تصدير فاتحةِ الخطابِ ببشارة العفوِ دون ما يوهم العتابَ من مراعاة جانبه صلى الله عليه وسلم وتعهده بحسن المفاوضةِ ولُطفِ المراجعةِ ما لا يخفى على أولي الألباب قال سفيان بن عيينة انظروا إلى هذا اللطفِ بدأ بالعفو قبل ذكر المعفوّ ولقد أخطأ وأساء الأدبَ وبئسما فعل فيما قال وكتب مَنْ زعم أن الكلام كنايةٌ عن الجناية وأن معناه أخطأتَ وبئسما فعلتَ هبْ أنه كنايةٌ أليس إيثارُها على التصريح بالجناية للتلطيف في الخطاب والتخفيفِ في العتاب وهب أن العفوَ مستلزِمٌ للخطأ فهل هو مستلزمٌ لكونه من القبح واستتباعِ اللائمة بحيث يصحح هذه المرتبةَ من المشافهة بالسوء أو يسوِّغُ إنشاءَ الاستقباحِ بكلمة بئسما المنبئةِ عن بلوغِ القبحِ إلى رتبة يتُعجَّب منها ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحةٌ للدين أو منفعةٌ للمسلمين بل كان فيه فساد وخبال حسبما نطق به قوله عز وجل لَوْ خَرَجُواْ الخ وقد كرِهه سبحانه كما يفصحُ عنه قولُه تعالى ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم الآية نعم كان الأولى تأخيرُ الإذن حتى يظهر كذبُهم آثرَ ذي أثيرٍ ويفتضحوا على رءوس الأشهادِ ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعةِ ولا يتسنّى لهم الابتهاجُ فيما بينهم بأنهم غروه صلى الله عليه وسلم وأرضَوْه بالأكاذيب على أنه لم يهنأ لهم عيشٌ ولا قرت لهم عينٌ إذ لم يكونوا على أمن واطمئنانٍ بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان سورة براءة آية (44)

44

{لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر} تنبيهٌ على أنه كان ينبغي أن يُستدل باستئذانهم على حالهم ولا يُؤذَنَ لهم أي ليس من عادة المؤمنين أي يستأذنوك في {أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ} وإن الخُلَّصَ منهم يبادرون إليه من غير توقفٍ على الإذن فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف وحيث استأذنك هؤلاء في التخلف كان ذلك مَئِنّةً للتأني في أمرهم بل دليلاً على نفاقهم وقيل المستأذَنُ فيه محذوفٌ ومعنى قوله تعالى أَن يجاهدوا كراهةَ أن يجاهدوا ثم

قيل المحذوفُ هو التخلّفُ والمعنى لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهةَ الجهاد فيتوجّه النفيُ إلى القيد وبه يمتاز المؤمنُ من المنافق وهو وإن كان في نفسه أمراً خفياً لا يوقف عليه بادئ الأمرِ لكن عامةَ أحوالِهم لما كانت مُنبئةً عن ذلك جُعل أمراً ظاهراً مقرراً وقيل هو الجهادُ أي لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد كراهةَ أن يجاهدوا بناءً على أن الاستئذان في الجهاد ربما يكون لكراهتة ولا يخفى أن الاستئذان في الشيء لكراهته مما لا يقع بل لا يُعقل ولو سَلِم وقوعُه فالاستئذانُ لعلة الكراهة مما لا يمتاز بحسب الظاهرِ من الاستئذان لعلة الرغبةِ ولو سلِم فالذي نُفيَ عن المؤمنين يجب أن يثبُتَ للمنافقين وظاهرٌ أنهم لم يستأذِنوا في الجهاد لكراهتهم له بل إنما استأذنوا في التخلف {والله عَلِيمٌ بالمتقين} شهادةٌ لهم بالانتظام في سلك المتَّقين وعِدَةٌ لهم بأجزل الثوابِ وتقريرٌ لمضمون ما سبق كأنه قيل والله عليم بأنهم كذلك وإشعارٌ بأنَّ ما صدرَ عنُهم معلل بالتقوى سورة براءة آية (45 46)

45

{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ} أي في التخلف مطلقاً على الأول أو لكراهة الجهادِ على الثاني {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر} تخصيصُ الإيمان بهما في الموضعين للإيذان بأن الباعثَ على الجهاد ببذل النفسِ والمالِ إنما هو الإيمانُ بهما إذ به يتسنى للمؤمنين استبدالُ الحياةِ الأبديةِ والنعيمِ المقيمِ الخالدِ بالحياة الفانية والمتاعِ الكاسد {وارتابت قُلُوبُهُمْ} عطفٌ على الصلة وإيثارُ صيغةِ الماضي للدَلالة على تحقيق الريب وتقرُّره {فَهُمُ} حالَ كونهم {فِى رَيْبِهِمْ} وشكِّهم المستقرِّ في قلوبهم {يَتَرَدَّدُونَ} أي يتحيرون فإن الترددَ ديدنُ المتحيَّرِ كما أن الثباتَ ديدنُ المستبصِر والتعبيرُ عنه به مما لا يخفي حسب موقعِه

46

{وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج} يدل على أن بعضَهم قالوا عند الاعتذارِ كنا نريد الخروجَ لكن لم نتهيأ له وقد قرُب الرحيلُ بحيث لا يمكننا الاستعدادُ فقيل تكذيباً لهم لو أراده {لاعَدُّواْ لَهُ} أي للخروج في وقته {عِدَّةَ} أي أهبة من الزاد والراحلة والسلاح وغيرِ ذلك مما لا بد منه للسفر وقرئ عُدَّه بحذف التاءِ والإضافةِ إلى ضمير الخروج كما فعل بالعِدَة مَنْ قال ... وَأَخْلفُوك عِدَ الأمرِ الذي وعدوا ... أي عدته وقرئ عِدّةً بكسر العين وعِدَّهُ بالإضافة {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} أي نهوضَهم للخروج قيل هو استدراك عما يُفهم من مقدم الشرطيةِ فإن انتفاءَ إرادتِهم للخروج يستلزم انتفاءَ خروجِهم وكراهةَ الله تعالى انبعاثَهم تستلزم تثبطهم عن الخروج فكأنه قيل ما خرجوا ولكن تثبَّطوا والاتفاق في المعنى لا يمنع الوقوعَ بين طرَفي لكنْ بعد تحققِ الاختلافِ نفياً وإثباتاً في اللفظ كقولك ما أحسن إلى زيد ولكنْ أساء والأظهرُ أن يكون استدراكاً من نفس المقدم على نهج ما في الأقيسة الاستثنائيةِ والمعنى

لو أرادوا الخروجَ لأعدوا له عُدةً ولكن ما أرادوه لِما أنه تعالى كره انبعاثَهم لما فيه من المفاسد التي ستَبِين {فَثَبَّطَهُمْ} أي حبسهم بالجُبن والكسل فتثبطوا عنه ولم يستعدوا له {وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} تمثيلٌ لإلقاء الله تعالى كراهةَ الخروجِ في قلوبهم أو لوسوسة الشيطانِ بالأمر بالقعود أو هو حكايةُ قولِ بعضِهم لبعض أو هو إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في القعود والمرادُ بالقاعدين إما المعذورون أو غيرُهم وأياً ما كان فغيرُ خالٍ عن الذم سورة براءة آية (47 48)

47

{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم} بيانٌ لسر كراهتِه تعالى لانبعاثهم أي لو خرجوا مخالطين لكم {مَّا زَادُوكُمْ} أي ما أورثوكم شيئاً من الأشياءِ {إِلاَّ خَبَالاً} أي فساداً وشراً فالاستثناءُ مفرَّغٌ متصلٌ وقيل منقطعٌ وليس بذلك {ولاَوْضَعُواْ خلالكم} أي ولسعَوْا فيما بينكم بالنمائم والتضريبِ وإفسادِ ذاتِ البين من وضَع البعيرُ وضعاً إذا أسرع وأوضعتُه أنا أي حملتُه على الإسراع والمعنى لأوضعوا ركائبَهم بينكم والمرادُ به المبالغةُ في الإسراع بالنمائم لأن الراكبَ أسرع من الماشي وقرئ ولأرقصوا من رقصت الناقة أسرعت وأرقصتها أنا وقرئ ولأوفضوا أي أسرعوا {يَبْغُونَكُمُ الفتنة} يحاولون أن يفتنوكم بإيقاع الخلافِ فيما بينكم وإلقاءِ الرعبِ في قلوبكم وإفسادِ نياتِكم والجملةُ حالٌ من ضمير أوضعوا أو استئنافٌ {وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ} أي نمّامون يسمعون حديثَكم لأجل نقلِه إليهم أو فيكم قومٌ ضَعَفةٌ يسمعون للمنافقين أي يُطيعونهم والجملةُ حالٌ من مفعولِ يبغونكم أو من فاعله لاشتمالها على ضميريهما أو مستأنَفةٌ ولعلهم لم يكونوا في كمية العددِ وكيفية الفسادِ بحيث يُخِل مكانُهم فيما بين المؤمنين بأمر الجهادِ إخلالاً عظيماً ولم يكن فسادُ خروجِهم معادلاً لمنفعته ولذلك لم تقتضِ الحكمةُ عدمَ خروجِهم فخرجوا مع المؤمنين ولكن حيث كان انضمامُ المنافقين القاعدين إليهم مستتبِعاً لخلل كليَ كرِه الله انبعاثَهم فلم يتسنَّ اجتماعُهم فاندفع فسادُهم ووجهُ العتابِ على الأذن في قعودهم مع تقرُّره لا محالة وتضمُّنِ خروجِهم لهذه المفاسد أنهم لو قعدوا بغير إذن منه صلى الله عليه وسلم لظهر نفاقِهم فيما بين المسلمين من أول الأمرِ ولم يقدِروا على مخالطتهم والسعي فيما بينهم بالأراجيف ولم يتسنَّ لهم التمتعُ بالعيش إلى أن يظهرَ حالُهم بقوارعِ الآيات النازلة {والله عَلِيمٌ بالظالمين} علماً محيطاً بضمائرهم وظواهرِهم وما فعلوا فيما مضى وما يتأتى منهم فيما سيأتي ووضعُ المظهرِ موضعَ المضمرِ للتسجيل عليهم بالظلم والتشديد في الوعيد والإشعارِ بترتّبه على الظلم ولعله شاملٌ للفريقين السّماعين والقاعدين

48

{لَقَدِ ابتغوا الفتنة} تشتيتَ شملِك وتفريقَ أصحابِك منك {مِن قَبْلُ} أي يومَ أحُدٍ حين انصرف عبدُ الله بن أبي بن سَلولٍ المنافقُ بمن معه وقد تخلف بمن معه عن تبوك أيضا بعد ما خرج مع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إلى ذي جُدّة أسفلَ من ثنية الوداع وعن ابن جريج رضي الله عنه وقفوا لرسول صلى الله عليه وسلم على الثنية ليلةَ العقبةِ وهم اثنا عشرَ رجُلاً من المنافقين ليفتِكوا به صلى الله عليه وسلم فردّهم الله تعالى خاسئين {وَقَلَّبُواْ لَكَ الامور} تقليبُ الأمر تصريفُه من وجه إلى وجه

وترديدُه لأجل التدبير والاجتهادِ في المكر والحيلة يقال للرجل المتصرِّف في وجوه الحِيَل حُوَّلٌ وقُلّبٌ أي اجتهدوا ودبروا لك الحِيلَ والمكايدَ ودّوروا الآراءَ في إبطال أمرك وقرئ بالتخفيف {حتى جَاء الحق} أي النصرُ والتأييدُ الإلهي {وَظَهَرَ أَمْرُ الله} غلب دينه وعلا عرشه {وَهُمْ كارهون} والحالُ أنهم كارهون لذلك أي على رغم منهم والآيتان لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن تخلف المتخلفين وبيانُ ما ثبّطهم الله تعالى لأجله وهتَك أستارَهم وكشف أسرارَهم وإزاحةِ أعذارِهم تداركاً لما عسى يفوت بالمبادرة إلى الإذن وإيذاناً بأن ما فات بها ليس مما لا يمكن تلافيه تهوينا للخطب سورة براءة آية (49 50)

49

{وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لّي} في القعود {وَلاَ تَفْتِنّى} أي لا توقِعْني في الفتنة وهي المعصيةُ والإثمُ يريد إني متخلِّفٌ لا محالة أذِنتَ أو لم تأذن فأذن لي حتى لا أقعَ في المعصية بالمخالفة أو لا تُلقِني في الهلكة فإني إن خرجتُ معك هلَك مالي وعيالي لعدم مَنْ يقوم بمصالحهم وقيل قال الجدُّ بنُ قيس قد علمت الأنصارُ أني مشتهرٌ بالنساء فلا تفتنّي ببنات الأصفر يعنى نساءَ الروم ولكن أُعينُك بمالي فاتركني وقرئ ولا تُفْتِنِّي من أفْتنَه بمعنى فتنه {أَلا فِى الفتنة} أي في عينها ونفسها وأكملِ أفرادِها الغنيُّ عن الوصف بالكمال الحقيقِ باختصاص اسمِ الجنسِ به {سَقَطُواْ} لا في شيء مُغايرٍ لها فضلاً عن أن يكونَ مهرَباً ومخلَصاً عنها وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف والجراءةِ على الاستئذان بهذه الطريقة الشنيعةِ ومن القعود بالإذن المبنيِّ عليه وعلى الاعتذارات الكاذبة وقرئ بإفراد الفعلِ محافظةً على لفظ مَن وفي تصدير بحرف التنبيه مع تقديم الظرفِ إيذانٌ بأنهم وقعوا فيها وهم يحسَبون أنها مَنْجى من الفتنة زعماً منهم أن الفتنةَ إنما هي التخلفُ بغير إذن وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيلٌ لها منزلةَ المَهواة المُهلِكةِ المُفصحةِ عن تردّيهم في دَركات الرَّدى أسفلَ سافلين وقوله عز وجل {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} وعيدٌ لهم على ما فعلوا معطوفٌ على الجملة السابقة داخلٌ تحت التنبيهِ أي جامعةٌ لهم يومَ القيامة مِن كُلّ جانب وإيثارُ الجملة الاسميةِ للدلالة على الثبات والاستمرارِ أو محيطةٌ بهم الآن تنزيلاً لشيء سيقع عن قريب منزلَة الواقعِ أو وضعاً لأسباب الشيءِ موضعَه فإن مبادئ إحاطةِ النارِ بهم من الكفر والمعاصي محيطةٌ بهم الآن من جميع الجوانبِ ومن جملتها ما فرّوا منه وما سقطوا فيه من الفتنة وقيل تلك المبادئ المتشكلةُ بصور الأعمالِ والأخلاق هي النارُ بعينها ولكن لا يظهر ذلك في هذه النشأةِ وإنما يظهر عند تشكُّلِها بصورها الحقيقيةِ في النشأة الآخرة والمرادُ بالكافرين إما المنافقون وإيثارُ وضعِ المُظْهر موضعَ المُضمَرِ للتسجيل عليهم بالكفر والإشعارِ بأنه معظمُ أسبابِ الإحاطة المذكورة وإما جميعُ الكافرين الشاملين للمنافقين شمولاً أولياً

50

{إِن تُصِبْكَ} في بعض مغازيك {حَسَنَةٌ} من الظَفَر والغنيمة {تَسُؤْهُمْ} تلك الحسنةُ

أي تورِثُهم مساءةً لفرط حسدهم وعدواتهم لك {وَإِن تُصِبْكَ} في بعضها {مُّصِيبَةٌ} من نوع شدة {يَقُولُواْ} متبجّحين بما صنعوا حامدين لآرائهم {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} أي تلافَيْنا ما يُهمّنا من الأمر يعنون به الاعتزالَ عن المسلمين والقعودَ عن الحرب والمداراةَ مع الكفرة وغيرَ ذلك من أمور الكفر والنفاقِ قولاً وفعلاً {مِن قَبْلُ} أي من قبل إصابةِ المصيبة في وقت تدارُكِه يشيرون بذلك إلى أن المعاملةَ المذكورةَ إنما تروّج عند الكفرةِ بوقوعها حالَ قوةِ الإسلامِ لا بعد إصابةِ المصيبة {وَيَتَوَلَّواْ} عن مجلس الاجتماعِ والتحدثِ إلى أهاليهم أو يُعرِضوا عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم {وَّهُمْ فَرِحُونَ} بما صنعوا من أخذ الأمرِ وبما أصابه صلى الله عليه وسلم والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في يقولوا ويتولوا لا في الأخير فقط لمقارنة الفرَحِ لهما معاً وإيثارُ الجملة الاسميةِ للدلالة على دوام السرورِ وإسنادُ المَساءة إلى الحسنة والمَسرَّة إلى أنفسهم دون المصيبة بأن يقال وإن تُصِبْك مصيبةٌ تَسْرُرْهم للإيذان باختلاف حاليهم حالتي عروضِ المَساءة والمسرةِ بأنهم في الأولى مضطرون وفي الثانية مختارون سورة براءة آية (51 52)

51

{قُلْ} بياناً لبطلان ما بنَوْا عليه مسرتَهم من الاعتقاد {لَّن يُصِيبَنَا} أبداً وقرئ هل يصيبنا وهل يصيِّبُنا من فيعل لا من فعل لأنه واويٌّ يقال صاب السهمُ يصوب واشتقاقُه من الصواب {إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} أي أثبته لمصلحتنا الدنيويةِ أو الأخروية من النُّصرة عليكم أو الشهادة المؤديةِ إلى النعيم الدائم {هُوَ مولانا} ناصرُنا ومتولِّي أمورِنا {وَعَلَى الله} وحده {فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} التوكلُ تفويضُ الأمر إلى الله والرضا بما فعله وإن كان ذلك بعد ترتيب المبادئ العادية والفاءُ للدلالة على السببية والأصل ليتوكلِ المؤمنون على الله قدِّم الظرفُ على الفعلِ لإفادةِ القصِر ثم أدخل الفاء للدلالة على استيجابه تعالى للتوكل عليهِ كما في قولِهِ تعالى وإياى فارهبون والجملةُ إن كانت من تمامِ الكلامِ المأمورِ به فإظهارُ الاسمِ الجليلِ في مقام الإضمارِ لإظهار التبرُّكِ والتلذذِ به وإن كانت مَسوقةً من قِبله تعالى أمراً للمؤمنين بالتوكل إثرَ أمرِه صلى الله عليه وسلم بما ذكر فالأمرُ ظاهرٌ وكذا إعادةُ الأمر في قولِه عزَّ وجلَّ

52

{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} لانقطاع حُكم الأمرِ الأولِ بالثاني وإن كان أمرَ الغائب وأمَّا على الوجهِ الأولِ فهي لإبراز كمالِ العنايةِ بشأن المأمورِ به والإشعارِ بما بينه وبين ما أُمر به أولاً من الفرق في السياقِ والتربُّصُ التمكّثُ مع انتظار مجيءِ شيءٍ خيرا كان أو شرا والباءُ للتعدية وإحدى التاءين محذوفةٌ أي ما تنتظرون بنا {إِلا إِحْدَى الحسنيين} أي العاقبتين اللتين كلُّ واحدةٍ منهما هي حُسنى العواقبِ وهما النصرُ والشهادةُ وهذا نوعُ بيان لما أبهم في الجواب الأول وكشفٌ لحقيقة الحالِ بإعلام أن ما يزعُمونه مضرَّةً للمسلمين من الشهادة أنفعُ مما يعُدّونه منفعةً من النصر والغنيمة {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} أحدى السوأَيَيْن من العواقب إما {أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ}

كما أصاب مَن قبلكم من الأممِ المهلَكة والظرفُ صفةُ عذاب ولذلك حُذف عاملُه وجوباً {أَوْ} بعذاب {بِأَيْدِينَا} وهو القتلُ على الكفر {فَتَرَبَّصُواْ} الفاءُ فصيحةٌ أي إذا كان الأمر كذلك فتربصوا بنا ما هو عاقبتُنا {إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ} ما هو عاقبتُكم فإذا لقِيَ كلٌّ منا ومنكم ما يتربصه لا تشاهدون إلا ما يُسرنا ولا نشاهد إلا ما يسوؤكم سورة براءة آية (53 56)

53

{قُلْ أَنفِقُواْ} أموالَكم في سبيل الله {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} مصدران وقعا موقعَ الفاعل أي طائعين أو كارهين وهو أمرٌ في معنى الخبر كقوله تعالى استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ والمعنى أنفقتم طوعا أو كرها {لن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} ونظمُ الكلامِ في سلك الأمرِ للمبالغة في بيان تساوي الأمرين في عدم القَبولِ كأنهم أمر وابأن يمتحنوا الحال فينفقوا على الحالين فينظروا هل يُتقبّل منهم فيشاهدوا عدمَ القبولِ وهو جوابُ قولِ جدِّ بنِ قيس ولكن أُعينك بمالي ونفيُ التقبُّلِ يحتمل أن يكون بمعنى عدم الأخذِ منهم وأن يكون بمعنى عدمِ الإثابةِ عليه وقوله عز وجل {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فاسقين} أي عاتين متمردين تعليل لرد إنفاقهم

54

{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ منهم} وقرئ بالتحتانية {نفقاتهم إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ} استثناءٌ من أعم الأشياء أي ما منعهم قَبولَ نفقاتِهم منهم شيءٌ من الأشياءِ إِلاَّ كفرهم وقرئ يَقبَلَ على البناءِ للفاعلِ وهو الله تعالى {وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى} أي لا يأتونها في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ كونهم متثاقلين {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارهون} لأنهم لا يرجون بهما ثواباً ولا يخافون على تركهما عقاباً فقوله تعالى طوعا أي من غير إلزامٍ من جهته صلى الله عليه وسلم لا رغبة أو هو فرْضيٌّ لتوسيع الدائرة

55

{فَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وَلاَ أولادهم} فإن ذلك استدراجٌ لهم ووبالٌ عليهم حسبما ينبئ عنه قولُه عزَّ وجلَّ {إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدُّنيا} بما يكابدون لجمعها وحفظِها من المتاعب وما يقاسون فيها من الشدائد والمصائب {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع عن النظر في العاقبة فيكون ذلك لهم نقمةً لا نعمةً وأصلُ الزهوقِ الخروجُ بصعوبة

56

{وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} في الدين والإسلام {وَمَا هُم مّنكُمْ} في ذلك {ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} يخافون أن يُفعلَ بهم ما يفعل بالمشركين فيظهرون الإسلام تقيةً ويؤيدونه

بالأيمان الفاجرة سورة براءة آية (57 59)

57

{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأَ} استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما سبق من أنهم ليسوا من المسلمين وأن التجاءَهم إلى الانتماء إليهم إنما هو للتقية اضطراراً حتى إنهم لو وجدوا غيرَ ذلك ملجأ أي مكاناً حصيناً يلجأون إليه من رأس جبل أو قلعةٍ أو جزيرة وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرارِ عدمِ الوجدانِ فإن المضارعَ المنفيَّ الواقعَ موقعَ الماضي ليس نصاً في إفادة انتفاء استمرار الفعل كما هو الظاهرُ بل قد يفيد استمرارَ انتفائِه أيضاً حسبما يقتضيه المقامُ فإن معنى قولِك لو تحسن إلي لشكرتك أن انتفاءَ الشكر بسبب استمرارِ انتفِاء الإحسانِ لا أنه بسبب انتفاءِ استمرارِ الإحسانِ فإن الشكرَ يتوقف على وجود الإحسانِ لا على استمرارِه كما حُقّق في موضعه {أَوْ مغارات} أي غير انا وكهوفاً يُخفون فيها أنفسهَم وقرئ بضم الميم من أغار الرجل إذا دخل الغور وقيل هو معتد من غار إذا دخل الغور أي أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم وأهليهم ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ أغار الثعلب إذا أسرع بمعنى مهارب ومفار {أَوْ مُدَّخَلاً} أي نفقاً يندسّون وينجحرون وهو مفتعلٌ من الدخول وقرئ مَدخْلاً من الدخول ومُدْخلاً من الإدخال أي مكاناً يدخلون فيه أنفسهم وقرئ مُتدخَّلاً ومنْدخَلاً من التدخل والاندخال {لَوَلَّوُاْ} أي لصرفوا وجوههم وأقبلوا وقرئ لوالَوْا أي لالتجأوا {إِلَيْهِ} أي إلى أحد ما ذُكر {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي يُسرعون بحيث لا يردُّهم شيء من الفرس الجَموحِ وهو الذي لا يثنيه اللجام وفيه إشعارٌ بكمال عتوهم وطغيانهم وقرئ يجمزون بمعنى يجمحون ويشتدون ومنه الجمازة

58

{وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ} بكسر الميم وقرئ بضمها أي يَعيبُك سراً وقرئ يُلمِّزك ويلامزُك مبالغة {فِي الصدقات} أي في شأنها وقسمتها {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا} بيانٌ لفسادِ لمزِهم وأنه لا منشأ له سوى حرصِهم على حطام الدنيا أي إن أُعطوا منها قدرَ ما يريدون {رَضُواْ} بما وقع من القسمة واستحسنوها {وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا} ذلك المقدارَ {إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أي يفاجِئون السخط وإذا نائبٌ منابَ فاءِ الجزاء قيلَ نزلتِ الآيةُ في أبي الجواحظ المنافقِ حيث قال ألا تَروْن إلى صاحبكم يقسِم صدقاتِكم في رعاة الغنم ويزعُم أنه يعدل وقيل في ابن ذي الخُويصِرَةِ واسمه حرقوص ابن زهير التميمي رأسُ الخوارج كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسمُ غنائمَ حُنينٍ فاستعطف قلوبَ أهلِ مكةَ بتوفير الغنائم عليهم فقال اعدِلْ يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم ويلك إن لم أعدِلْ فمن يعدِلُ وقيل هم المؤلفةُ قلوبُهم والأولُ هو الأظهر

59

{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتاهم الله وَرَسُولُهُ} أي ما أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من الصدقات طيِّبي النفوسِ به وإن قلَّ وذكرُ الله عز وجل للتعظيم والتنبيه على أن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم كان بأمره سبحانه

{وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله} أي كفانا فضلُه وصنعُه بنا وما قسمه لنا {سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} بعد هذا حسبما نرجو ونؤمّل {إِنَّا إِلَى الله راغبون} في أن يُخوِّلنا فضلَه والآيةُ بأسرها في حيز الشرطِ والجوابُ محذوفٌ بناء على ظهوره أي لكان خيرا لهم سورة براءة آية (60)

60

{إِنَّمَا الصدقات} شروعٌ في تحقيق حقِّيةِ ما صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم من القسمة ببيان المصارفِ وردٌّ لمقالة القالةِ في ذلك وحسمٌ لأطماعهم الفارغة المبنيةِ على زعمهم الفاسدِ ببيان أنهم بمعزل من الاستحقاق أي جنسُ الصدقات المشتملةِ على الأنواع المختلفة {لِلْفُقَرَاء والمساكين} أي مخصوصةٌ بهؤلاء الأصنافِ الثمانيةِ الآتية لا تتجاوزهم إلى غيرهم كأنه قيل إنما هي لهم لا لغيرهم فما للذين لا علاقةَ بينها وبينهم يقولون فيها ما يقولون وما سوغهم أن يتكلموا فيها وفي قاسمها والفقيرُ من له أدنى شيءٍ والمسكينُ من لا شيء له هو المرويُّ عن أبي حنيفة رضي الله عنه وقد قيل على العكس ولكل منهما وجهٌ يدل عليه {والعاملين عَلَيْهَا} الساعين في جمعها وتحصيلها {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} هم أصنافٌ فمنهم أشرافٌ من العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألفهم ليُسلموا فيرضَخ لهم ومنهم قومٌ أسلموا ونيّاتُهم ضعيفةٌ فيؤلّف قلوبَهم بإجزال العطاء كعيينةَ بنِ حصن والأقرعِ بن حابس والعباسِ بن مرداس ومنهم من يُترقَّب بإعطائهم إسلامُ نظرائِهم ولعل الصنفَ الأولَ كان يعطيهم الرسول صلى الله عليه وسلم من خُمس الخُمسِ الذي هو خالصُ مالَه وقد عد منهم من يؤلَّف قلبُه بشيء منها على قتال الكفار وما نعي الزكاة وقد سقط سهمُ هؤلاء بالإجماع لما أن ذلك كان لتكثير سوادِ الإسلامِ فلما أعزّه الله عز وعلا وأعلى كلمتَه استُغنيَ عن ذلك {وَفِي الرقاب} أي وللصَّرف في فك الرقاب بأن يُعانَ المكاتَبون بشيء منها على أداء نجومِهم وقيل بأن يُفدَى الأُسارى وقيل بأن يُبتاع منها الرقابُ فتُعتق وأياً ما كان فالعدولُ عن اللام لعدم ذكرِهم بعنوان مُصححٍ للمالكية والاختصاص كالذين من قبلهم أو للإيذان بعدم قرارِ مِلكِهم فيما أعطوا كما في الوجهين الأولين أو بعدم ثبوتِه رأساً كما في الوجه الأخير أو للإشعار برسوخهم في استحقاق الصدقةِ لما أن في للظرفية المنبئةِ عن إحاطتهم بها وكونِهم محلَّها ومركزَها {والغارمين} أي الذين تداينوا لأنفسهم في غير معصيةٍ إذا لم يكن لهم نصابٌ فاضلٌ عن ديونهم وكذلك عند الشافعي رضيَ الله عنه من غُرمٍ لإصلاح ذاتِ البين وإطفاءِ الثائرة بين القبيلتين وإن كانوا أغنياء {وَفِى سَبِيلِ الله} أي فقراءِ الغزاةِ والحجيج والمنقطَعِ بهم {وابن السبيل} أي المسافرَ المنقطِع عن ماله وتكريرُ الظرف في الأخيرين للإيذان بزيادة فضلِهما في الاستحقاق أو لما ذُكر من إيرادهما بعنوان غيرِ مصحَّحٍ للمالكية والاختصاص فهذه مصارفُ الصدقاتِ فللمتصدق أن يدفع صدقتَه إلى كل واحدٍ منهم وأن يقتصرَ على صنف منهم لأن اللام لبيان أنهم مصارفُ لا تخرُج عنهم لا لإثبات الاستحقاق وقد روي ذلك عن عمرَ وابنِ عباس وحذيفة رضي الله عنهم وعند الشافعيِّ لا يجوزُ إلا أن يُصرَف إلى ثلاثة من تلك الأصناف {فَرِيضَةً مّنَ الله} مصدرٌ مؤكدٌ

لما دل عليه صدْرُ الآية أي فرَضَ لهم الصدقاتِ فريضةً ونُقل عن سيبويه أنه منصوبٌ بفعله مقدراً أي فرَض الله ذلك فريضةً أو حالٌ من الضمير المستكنّ في قوله للفقراء أي إنما الصدقاتُ كائنةٌ لهم حالَ كونها فريضةً أي مفروضة {والله عَلِيمٌ} بأحوال الناسِ ومراتبِ استحقاقِهم {حَكِيمٌ} لا يفعلُ إلا ما تقتضيه الحِكمةُ من الأمور الحسنةِ التي من جُملتها سَوْقُ الحقوق إلى مستحقيها سورة براءة آية (61)

61

{وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى} نزلت في فِرقة من المنافقين قالوا في حقه صلى الله عليه وسلم مالا ينبغي فقال بعضُهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلُغه ذلك فيقعَ بنا فقال الجلاس بن سويد نقول ما شئنا ثم نأتيه فننكر ما قلنا ونحلِف فيصدقنا بما نقول إنما محمدٌ أذُنٌ سامعة وذلك قوله عز وجل {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} أي يسمع كلَّ ما قيل من غير أن يتدبَّرَ فيه ويميّزَ بين ما يليق بالقَبول لمساعدة أَمارات الصدقِ له وبين مالا يليق به وإنما قالوه لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يواجههم بسوء ما صنعوا ويصفَحُ عنهم حِلماً وكرماً فحملوه على سلامة القلبِ وقالوا ما قالوا {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} من قبيل رجلُ صدقٍ في الدلالة على المبالغة في الجودة والصلاح كأنه قيل نعم هو أذنٌ ولكن نِعمَ الأذُنُ ويجوز أن يكون المرادُ أذناً في الخير والحقِّ وفيما ينبغي سماعُه وقَبولُه لا في غير ذلك كما يدل عليه قراءةُ رحمةٍ بالجر عطفاً عليه أي هو أذنُ خيرٍ ورحمةٍ لا يسمع غيرَهما ولا يقبله وقرئ أذْن بسكون الذال فيهما وقرئ أذن خير على أنه صفةٌ أو خبرٌ ثان وقوله عز وجل {يُؤْمِنُ بالله} تفسيرٌ لكونه أذنَ خيرٍ لهم أي يصدق بالله تعالى لما قام عنده من الأدلة الموجبةِ له وكونُ ذلك خيراً للمخاطَبين كما أنه خيرٌ للعالمين مما لا يخفى {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي يصدّقهم لِما علم فيهم من الخلوص واللامُ مزيدةٌ للتفرقة بين الإيمان المشهورِ وبين الإيمان بمعنى التسليمِ والتصديق كما في قوله تعالى أَنُؤْمِنُ لَكَ الخ وقوله تعالى فَمَا آمن لموسى الخ {وَرَحْمَةً} عطفٌ على أذنُ خيرٍ أي وهو رحمةٌ بطريق إطلاقِ المصدرِ على الفاعل للمبالغة {للذين آمنوا مِنكُمْ} أي للذين أظهروا الإيمانَ منكم حيث يقبله منهم لكن لا تصديقاً لَهُم في ذلك بل رفقاً بهم وترحماً عليهم ولا يكشف أسرارَهم ولا يهتِك أستارَهم وإسنادُ الإيمان إليهم بصيغة الفعلِ بعد نسبتِه إلى المؤمنين بصيغة الفاعل المنبئةِ عن الرسوخ والاستمرارِ للإيذان بأن إيمانَهم أمرٌ حادثٌ ما له من قرار وقرئ بالنصب على أنها علةٌ لفعل دلَّ عليه أذنُ خيرٍ أي يأذن لكم رحمةً {والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله} بما نُقل عنهم من قولهم هو أذنٌ ونحوِه وفي صيغة الاستقبالِ المُشعِرة بترتب الوعيدِ على الاستمرار على ما هم عليه إشعارٌ بقبول توبتِهم كما أفصح عنه قولُه تعالى فيما سيأتي فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ {لَهُمْ} بما يجترئون عليه من أذيته صلى الله عليه وسلم كما ينبئ عنه بناءُ الحُكمِ على الموصول {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهذا اعتراضٌ مَسوقٌ من قِبَله عزَّ وجلَّ على نهج الوعيدِ غيرُ داخلٍ تحت الخطابِ وفي تكرير الإسنادِ بإثبات العذابِ الأليم لهم ثم جعلِ الجملة خبرا للموصول مالا يخفى من المبالغة وإيرادُه صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالةِ مضافاً إلى الاسم الجليلِ لغاية التعظيمِ والتنبيهِ على أن أذيته

راجعة إلى جنابه عز وجل موجبةٌ لكمال السخطِ والغضب سورة براءة آية (62 63)

62

{يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ} الخطابُ للمؤمنين خاصةً وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرَهم بالأيمان ليعذُروهم ويرضَوا عنهم أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا ما نُقل إليهم مما يورث أذاةَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وأما التخلفُ عن الجهاد فليس بداخل في هذا الاعتذارِ {لِيُرْضُوكُمْ} بذلك وإفرادُ إرضائِهم بالتعليل مع أن عمدةَ أغراضِهم إرضاءُ الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قبل صلى الله عليه وسلم ذلك منهم ولم يكذّبْهم للإيذان بأن ذلك بمعزل من أن يكونَ وسيلةً إلى إرضائه صلى الله عليه وسلم وأنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يكذبهم رفقاً بهم وستراً لعيوبهم لا عن الرضا بما فعلوا كما أشير إليه {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} أي أحقُّ بالإرضاء ولا يتسنى ذلك إلا بالطاعة والمتابعة وإيفاء حقوقه صلى الله عليه وسلم في باب الإجلالِ والإعظامِ مَشهداً ومَغيباً وأما ما أتَوا به من الأَيمان الفاجرة فإنما يرضى به من انحصر طريقُ علمِه في الأخبار إلى أن يجئ الحقُّ ويزهَقَ الباطلُ والجملةُ نصب على الحالية من ضمير يحلفون أي يحلفون لكم لإرضائكم والحالُ أنه تعالى ورسولُه أحقُّ بالإرضاء منكم أي يُعرضون عما يهمهم ويجديهم ويشتغلون بمالا يَعنيهم وإفرادُ الضمير في يُرْضوه إما للإيذان بأن رضاه صلى الله عليه وسلم مندرجٌ تحت رضاه سبحانه وإرضاؤه صلى الله عليه وسلم إرضاءٌ له تعالى لقوله تعالى مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وإما لأنه مستعارٌ لاسم الإشارةِ الذي يشار به إلى الواحد والمتعدد بتأويل المذكور كما في قول رؤية ... فيها خطوطٌ من سوادٍ وبلق ... كأَنَّهُ فِي الجلدِ توليعُ البهقْ ... أي كأن ذلك لا يقال أيُّ حاجةٍ إلى الاستعارة بعد التأويل المذكورِ لأنا نقول لولا الاستعارةُ لم يتسنَّ التأويل لما أن الضميرَ لا يتعرض إلا لذات ما يرجِع إليه من غير تعرضٍ لوصف من أوصافه التي من جملتها المذكوريةُ وإنما المتعرضُ لها اسمُ الإشارةِ وإما لأنه عائدٌ إلى رسوله والكلامُ جملتان حُذف خبرُ الأولى لدلالة خبرِ الثانية عليه كما ذهب إليه سيبويه ومنه قولُ مَن قالَ ... نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والرأيُ مختلف أو إلى الله على أن المذكورَ خبرُ الجملة الأولى وخبرُ الثانيةِ محذوف كما هو رأي المبرد {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} جوابُه محذوفٌ تعويلاً على دِلالة ما سبق عليه أي إن كانوا مؤمنين فليُرْضوا الله ورسولَه بما ذكر فإنهما أحقُّ بالإرضاء

63

{أَلَمْ يَعْلَمُواْ} أي أولئك المنافقون والاستفهامُ للتوبيخ على ما أقدَموا عليه من العظيمة مع علمهم بسوء عاقبتها وقرئ بالتاء على الالتفات لزيادةِ التقريعِ والتوبيخ أي ألم يعلموا بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فنون القوارعِ والإنذارات {إٍِنَّهُ} أي الشأنَ {مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ} المحادَّةُ من الحدّ كالمُشاقّة من الشَّق والمعاداةُ من العُدوة بمعنى الجانبِ فإن كلَّ واحدٍ من مباشري كلِّ من الأًفعالِ المذكورة في محل غيرِ محلِّ صاحبِه ومَنْ شرطيةٌ جوابُها قوله تعالى {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} على أن خبرَه محذوفٌ أي فحَقٌّ أنَّ له نارَ جهنَم وقرئ بكسر الهمزةِ والجملةُ الشرطيةُ في محلِ الرفعِ على أنها خبرٌ لأن وهي مع خبرها سادةٌ مسدَّ مفعولي يعلموا وقيل المعنى

فله وإنّ تكريرٌ للأولى تأكيداً لطول العهدِ لا من باب التأكيدِ اللفظيِّ المانعِ للأولى من العمل ودخولُ الفاءِ كما في قول من قال ... لقد علم الحيُّ اليمانُونَ أنني ... إذا قلتُ أما بعدُ أني خطيبُها ... وقد جوز أن يكون فإن له معطوفاً على أنه وجوابُ الشرط محذوفٌ تقديرُه ألم يعلموا أنه من يحاددِ الله ورسولَه يهلِكْ فإن له الخ ورُدّ بأن ذلك إنما يجوز عند كونِ فعلِ الشرط ماضياً أو مضارعاً مجزوماً بلم {خَالِداً فِيهَا} حالٌ مقدرةٌ من الضمير المجرورِ إن اعتُبر في الظرف ابتداءُ الاستقرار وحدوثُه وإن اعتبر مطلقُ الاستقرارِ فالأمرُ ظاهر {ذلك} أشير إلى ما ذكر من العذاب الخالدِ بذلك إيذاناً ببُعد درجتِه في الهول والفظاعةِ {الخزى العظيم} الخزي الذل والهو أن المقارِنُ للفضيحة والندامة وهي ثمراتُ نفاقِهم حيث يفتضحون على رءوس الأشهادِ بظهورها ولُحوقِ العذاب الخالدِ بهم والجملةُ تذييلٌ لما سبق سورة براءة آية (64 65)

64

{يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} في شأنهم فإن ما نزل في حقهم نازلٌ عَلَيْهِمْ {سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} من الأسرار الخفيةِ فضلاً عما كانوا يُظهِرونه فيما بينهم من أقاويل الكفرِ والنفاقِ ومعنى تَنْبئتِها إياهم بما في قلوبهم مع أنه معلومٌ لهم وأن المحذورَ عندهم إطلاعُ المؤمنين على أسرارهم لا إطلاعُ أنفسِهم عليها أنها تُذيع ما كانوا يُخفونه من أسرارهم فتنتشرُ فيما بين الناس فيسمعونها من أفواه الرجالِ مُذاعةً فكأنها تخبرهم بها أو المرادُ بالتنبئة المبالغةُ في كون السورة مشتملةً على أسرارهم كأنها تعلم من أحوالهم الباطنةِ ما لا يعلمونه فتنبئهم بها وتنعي عليهم قبائحَهم وقيل معنى يحذر لِيحذر وقيل الضمير أن الأولان للمؤمنين والثالث للمنافقين ولا يبالى بالتفكيك عند ظهورِ الأمرِ بعَوْد المعنى إليه أي يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ على المؤمنين سورةٌ تخبرهم بما في قلوب المنافقين وتهتِك عليهم أستارَهم قال أبو مسلم كان إظهارُ الحذرِ منهم بطريق الاستهزاءِ فإنهم كانوا إذا سمعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يذكر كلَّ شيء ويقول إنه بطريق الوحي يكذبونه ويستهزئون به ولذلك قيل {قل استهزؤوا} أي افعلوا الاستهزاءَ وهو أمر تهديد {إِنَّ الله مُخْرِجٌ} أي من القوةِ إلى الفعلِ أو من الكُمون إلى البروز {مَّا تَحْذَرُونَ} أي ما تحذرونه من إنزال السورةِ ومن مخازيكم ومثالبِكم المستكنةِ في قلوبكم الفاضحةِ لكم على ملأ الناسِ والتأكيدُ لرد إنكارِهم بذلك لا لدفع ترددِهم في وقوع المحذورِ إذ ليس حذرُهم بطريق الحقيقة

65

{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} عما قالوا {لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونلعب} روى أنه صلى الله عليه وسلم كان يسير في غزوة تبوكَ وبين يديه ركبٌ من المنافقين يستهزئون بالقرآن وبالرسول صلى الله عليه وسلم ويقولون انظُروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتحَ حُصون الشامِ وقصورَها هيهاتَ هيهات فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك فقال احبِسوا على الركب فأتاهم فقال قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبيَّ الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابِك ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركبُ ليقصُرَ بعضنا على بعض السفر {قُلْ} غيرَ ملتفتٍ إلى اعتذارهم ناعياً

عليهم جناياتِهم منزِّلاً لهم منزلةَ المعترفِ بوقوع الاستهزاء موبخاً لهم على أخطائهم موقع الاستهزاء {أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون} حيث عقب حرف التقرير بالمستهزأ به ولا يستقيم ذلك إلا بعد تحققِ الاستهزاء وثبوته سورة براءة آية (66 68)

66

{لاَ تَعْتَذِرُواْ} لا تشتغلوا بالاعتذار وهو عبارةٌ عن محو أثرِ الذنبِ فإنه معلومُ الكذبِ بيِّنُ البطلان {قَدْ كَفَرْتُمْ} أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن فيه {بَعْدَ إيمانكم} بعد إظهارِكم له {إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ} لتوبتهم وإخلاصِهم أو تجنّبهم عن الإيذاء والاستهزاء وقرئ إن يعفُ على إسنادِ الفعلِ إلى الله سبحانه وقرئ على البناءِ للمفعول مُسنداً إلى الظرف بتذكير الفعلِ وبتأنيثه أيضاً ذهاباً إلى المعنى كأنه قيل إن ترحم طائفةٌ {نُعَذّبْ} بنون العظمه وقرئ بالياء على البناء للفاعل وبالتاء على البناءِ للمفعول مُسنداً إلى ما بعده {طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} مصِرِّين على الإجرام وهو غيرُ التائبين أو مباشرين له وهم غير المجتنبين قال محمد بن إسحق الذي عُفي عنه رجلٌ واحد وهو يحيى بنُ حُمَيِّر الأشجعيُّ لم نزلت هذه الآيةُ تاب عن نفاقه وقال اللهم إني لا أزال أسمع آيةً تقشعر منها الجلودُ وتجِبُ منها القلوب اللهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك لا يقولُ أحدٌ أنا غسلتُ أنا كفنتُ أنا دفنتُ فأصيب يومَ اليمامة فما أحدٌ من المسلمين إلا عُرِفَ مصرعُه غيرَه

67

{المنافقون والمنافقات} التعرّضُ لأحوال الإناثِ للإيذان بكمال عراقتِهم في الكفر والنفاق {بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ} أي متشابهون في النفاق والبُعدِ عن الإيمان كأبعاض الشئ الواحدِ بالشخص وقيل أريد به نفيُ أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبُهم في حلفهم بالله إنهم لمنكم وتقريرٌ لقوله تعالى وَمَا هُم مّنكُمْ وقوله تعالى {يَأْمُرُونَ بالمنكر} أي بالكفر والمعاصي {وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف} أي عن الإيمان والطاعةِ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما سبق ومُفصِحٌ عن مضادة حالِهم لحال المؤمنين أو خبرٌ ثان {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي عن المبرات والإنفاقُ فِى سَبِيلِ الله فإن قبضَ اليد كنايةٌ عن الشح {نَسُواْ الله} أغفلوا ذكرَه {فَنَسِيَهُمْ} فتركهم من رحمته وفضلِه وخذلَهم والتعبيرُ والتعبيرُ عنه بالنسيان للمشاكلة {إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون} الكاملونَ في التمرد والفسقِ الذي هو الخروجُ عن الطاعة والانسلاخُ عن كل خيرٍ والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لزيادةِ التَّقريرِ كما في قوله تعالى

68

{وَعَدَ الله المنافقين والمنافقات والكفار} أي المجاهرين

{نَارَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا} مقدرين الخلود فيها {هِىَ حَسْبُهُمْ} عقاباً وجزاءً وفيه دليلٌ على عظم عقابِها وعذابِها {وَلَعَنَهُمُ الله} أي أبعدهم من رحمته وأهانهم وفي إظهار الاسم الجليل من الإيذان بشدة السخط مالا يخفى {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي نوعٌ من العذاب غيرَ عذابِ النار دائمٌ لا ينقطع أبداً أو لهم عذاب مقيم معهم في الدنيا لا ينفك عنهم وهو ما يقاسونه من تعب النفاقِ الذي هم منه في بلية دائمةٍ لا يأمنون ساعةً من خوف الفضيحةِ ونزولِ العذاب إن اطُّلع عن أسرارهم سورة براءة آية (69)

69

{كالذين مِن قَبْلِكُمْ} التفاتٌ من الغَيبة إلى الخطاب للتشديد والكافُ في محلِ الرفعِ على الخبرية أي أنتم مثلُ الذين مِن قَبْلِكُمْ من الأممِ المهلَكة أو في حيزِ النصبِ بفعل مقدر أي فعلتم مثل فعل الذين مِن قبلكم {كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا} تفسيرٌ وبيانٌ لِشَبَههم بهم وتمثيلٌ لحالهم بحالهم {فاستمتعوا} تمتعوا وفي صيغة الاستفعالِ ما ليس في صيغة التفعل من الاستزادة والاستدامةِ في التمتع {بخلاقهم} بنصيبهم من ملاذ الدنيا واشتقاقُه من الخَلْق بمعنى التقدير وهو ما قُدّر لصاحبه {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بخلاقكم كَمَا اسْتَمْتَعَ} الكاف في محل النصب على أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي استمتاعاً كاستمتاع {الذين مِنْ قَبْلِكُم بخلاقهم} ذمّ الأولين باستمتاعهم بحظوظهم الخسيسةِ من الشهوات الفانيةِ والتهائِهم بها عن النظر في العواقب الحقةِ واللذائذ الحقيقيةِ تمهيداً لذم المخاطبين بمشابهتهم إياهم واقتفائِهم أثرَهم {وَخُضْتُمْ} أي دخلتم في الباطل {كالذي خَاضُواْ} أي كالذين بإسقاط النونِ أو كالفوج الذي أو كالخوض الذي خاضوه {أولئك} إشارةٌ إلى المتَّصفين بالأوصاف المعدودةِ من المشبَّهين والمشبه بهم لا إلى الفريق الأخير فقط فإن ذلك يقتضي أن يكون حُبوطُ أعمالِ المشبهين وخسرانُهم مفهومَين ضمناً لا صريحاً ويؤدي إلى خلوّ تلوينِ الخطابِ عن الفائدة إذ الظاهرُ حينئذ أولئكم والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلُح للخطاب أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الأفعال الذميمة {حَبِطَتْ أعمالهم} ليس المرادُ بها أعمالَهم المعدودةَ كما يُشعر به التعبيرُ عنهم باسم الإشارةِ فإن غائلتَها غنيةٌ عن البيان بل أعمالَهم التي كانوا يستحقون بها أجوراً حسنةً لو قارنت الإيمان أي ضاعت وبطَلت بالكلية ولم يترتب عليها أثرٌ {فِى الدنيا والاخرة} بطريق المثوبةِ والكرامةِ أما في الآخرة فظاهرٌ وأما في الدنيا فلأنّ ما يترتب على أعمالهم فيها من الصحةِ والسعة وغيرِ ذلك حسبما ينبئ عنه قولُه عزَّ وجلَّ من كان يريد الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ليس ترتبُه عليها على طريقه المثوبةِ والكرامة بل بطريق الاستدراج {وَأُوْلئِكَ} أي الموصوفون بحُبوط الأعمالِ في الدارين {هُمُ الخاسرون} الكاملون في الخسران في الدارين الجامعون لمباديه وأسبابِه طراً فإنه قد ذهبت رءوس أموالِهم التي هي أعمالُهم فيما ضرهم ولم ينفعهم قطّ ولو أنها ذهبت فيما لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ

ينفعهم لكفى بهم خسراناً وإيرادُ اسمِ الأشارة في الموضعين للإشعار بعلية الأوصافِ المُشارِ إليها للحبوط والخسران سورة براءة آية (70 71)

70

{أَلَمْ يَأْتِهِمْ} أي المنافقين {نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي خبرُهم الذي له شأن وهو ما فعلوا وما فُعل بهم والاستفهامُ للتقرير والتحذير {قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إبراهيم وأصحاب مَدْيَنَ} وهم قومُ شعيبٍ {والمؤتفكات} قَرْياتُ قومِ لوطٍ ائتفَكَت بهم أي انقلبت بهم فصار عاليها سافلَها وأُمطروا حجارةً من سجيل وقيل قريات المكذبين وائتفاكُهن انقلابُ أحوالِهن من الخير إلى الشر {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات} استئنافٌ لبيان نبئهم {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} الفاءُ للعطف على مقدر ينسحبُ عليه الكلامُ ويستدعيهِ النظامُ أي فكذبوهم فأهلكهم الله تعالى فما ظلمهم بذلك وإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ للمبالغة في تنزيه ساحة السبحان عن الظلم أي ما صح وما استقام له أن يظلِمهم ولكنهم ظلموا أنفسَهم والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقيل في قولِه عزَّ وجلَّ {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} للدِلالة على استمرار ظلمِهم حيث لم يزالوا يعرِّضونها للعقاب بالكفر والتكذيب وتقديمُ المفعول لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلةِ من غير قصدٍ إلى قصر المظلومية عليهم على رأي مَن لا يرى التقديمَ موجباً للقصر فيكون كما في قوله تعالى وَمَا ظلمناهم ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ من غير قصر للظلم على الفاعل أو المفعول وسيجيء لهذا مزيدُ بيان في قوله سبحانه إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

71

{والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} بيانٌ لحسنِ حالِ المُؤمنين والمؤمنات حالاً ومآلاً إثرَ بيانِ قبحِ حالِ أضدادِهم عاجلاً وآجلاً والتعبيرُ عن نسبة هؤلاء بعضِهم إلى بعض بالولاية وعن نسبة أولئك بمن الاتصالية للإيذان بأن نسبةَ هؤلاء بطريق القرابة الدينيةِ المبنية على المعاقدة المستتبعةِ للآثار من المعونة والنصرة وغيرِ ذلك ونسبةُ أولئك بمقتضى الطبيعةِ والعادة {يَأْمُرُونَ بالمعروفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} أي جنسِ المعروف والمنكرِ المنتظمَين لكل خير وشر {وَيُقِيمُونَ الصلاة} فلا يزالون يذكرون الله سبحانه فهو في مقابلة ماسبق من قوله تعالى نسُوا الله {وَيُؤْتُونَ الزكاة} بمقابلة قوله تعالى وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ {وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ} أي في كل أمر ونهي وهو بمقابله وصفِ المنافقين بكمال الفسقِ والخروج عن الطاعة {أولئك} إشارةٌ إلى المؤمنين والمؤمنات باعتبار اتصافِهم بما سلف من الصفات الفاضلة وما فيه من معنى البُعدِ للإشعارِ ببُعد درجتِهم في الفضل أي أولئكَ المنعُوتون بما فُصّل من النعوت الجليلة {سَيَرْحَمُهُمُ الله} أي يُفيض عليهم آثارَ رحمتِه من التأييد والنصرة

البتة فإن السين مؤكدةٌ للوقوع كما في قولك سأنتقم منك {أَنَّ الله عَزِيزٌ} تعليلٌ للوعد أي قويٌّ قادرٌّ على إعزاز أوليائه وقهر أعدائه {حَكِيمٌ} يبني أحكامَه على أساس الحِكمةِ الداعيةِ إلى إيصال الحقوقِ من النعمة والنقمة إلى مستحقيها من أهل الطاعة وأهلِ المعصية وهذا وعدٌ للمؤمنين متضمِّنٌ لوعيد المنافقين كما أن ما سبق في شأن المنافقين من قوله تعالى فَنَسِيَهُمْ وعيدٌ لهم متضمنٌ لوعد المؤمنين فإن منعَ لطفِه تعالى عنهم لطفٌ في حق المؤمنين سورة براءة آية (72)

72

{وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات} تفصيل لآثارِ رحمتهِ الأخرويةِ إثرَ ذكر رحمتِه الدنيوية والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لزيادة التقرير والإشعارِ بعلية وصفِ الإيمان لحصول ما تعلق به الوعدُ وعدمُ التعرض لذكر ما مر من الأمر بالمعروف وغيرِ ذلك للإيذان بأنه من لوازمه ومستتبِعاته أي وعَدهم وعداً شاملاً لكل أحدٍ منهم على اختلاف طبقاتِهم في مراتب الفضل كيفاً وكماً {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا} فإن كلَّ أحد منهم فائزٌ بها لا محالة {ومساكن طَيّبَةً} أي وعد بعضَ الخواصِّ الكمل منهم منازل تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش في الخبر أنها قصورٌ من اللؤلؤ والزبرجدِ والياقوتِ الأحمر {فِى جنات عَدْنٍ} هي أبهى أماكنِ الجناتِ وأسناها عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم عدْنٌ دارُ الله لم ترها عينٌ ولم تخطُرْ على قلب بشر لا يسكنها غيرُ ثلاثة النبيون والصديقون والشهداء يقول الله تعالى طوبى لمن دخلك وعن ابنِ عمرَ رضيَ الله عنهما أنَّ في الجنة قصراً يقال له عدْن حوله البروج والمروج وله خمسةُ آلاف باب على كل باب خمسةُ آلافِ حَوْراء لا يدخُله إلا نبيٌّ أو صدّيقٌ أو شهيد وعن ابن مسعود رضي الله عنه هي بُطنانُ الجنة وسُرَّتُها فعدن على هذا عَلَم وقيل هو بمعناه اللغوي أعني الإقامة والخلود فمرجِعُ العطفِ إلى اختلاف الوصفِ وتغايُرِه فكأنه وصَفه أولاً بأنه من جنس ما هو أشرفُ الأماكنِ المعروفة عندهم من الجنات ذاتِ الأنهار الجارية ليميل إليها طباعُهم أولُ ما يقرَعُ أسماعَهم ثم وصفه بأنه محفوفٌ بطيب العيشِ مُعرّى عن شوائب الكدوراتِ التي لا تكاد تخلو عنها أماكنُ الدنيا وفيها ما تشتهي الأنفسُ وتلَذّ الأعينُ ثم وصفه بأنه دارُ إقامةٍ وثباتٍ في جوار العلّيين لا يعتريهم فيها فناءٌ ولا تغيُّرٌ ثم وعدهم بما هو أعلى من ذلك كله فقال {ورضوان مّنَ الله} أي وشئ يسيرٌ من رضوانه تعالى {أَكْبَرُ} إذ عليه يدور فوزُ كل خيرٍ وسعادة وبه يُناط نيلُ كلِّ شرفٍ وسيادة ولعل عدمَ نظمِه في سلك الوعد مع عزته في نفسه لأنه متحققٌ في ضمن كل موعودٍ ولأنه مستمرٌّ في الدارين روي أنه تعالى يقول لأهل الجنة هل رضيتم فيقولون مالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحداً من خلقك فيقول أنا أُعطيكم أفضلَ من ذلك قالوا وأيُّ شيء أفضلُ من ذلك قال أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخطُ عليكم أبداً {ذلك} إشارةٌ إلى ما سبق ذكرُه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتِه في العِظَم والفخامة {هُوَ الفوز العظيم} دون ما يعده الناس فوزاً من حظوظ الدنيا فإنها مع قطع النظرِ عن فنائها وتغيُّرِها وتنغُّصِها وتكدّرِها ليست

بالنسبة إلى أدنى شيءٍ من نعيم الآخرة بمثابة جناحِ البعوض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كانتِ الدُّنيا تزنُ عندَ الله جناحَ بعوضةٍ ما سَقَى الكافرَ منها شربة ماء ونِعِمّا قال من قال ... تالله لو كانت الدنيا بأجمعها ... تبقي علينا ويأتي رزقُها رغَدا ... ما كان من حق حر أن يدل بها فكيف وهي متاعٌ يضمحل غدا ... سورة براءة آية (73 74)

73

{يا أيها النبى جاهد الكفار} أي المجاهرين منهم بالسيف {والمنافقين} بالحجة وإقامة الحدود {واغلظ عَلَيْهِمْ} في ذلك ولا تأخُذْك بهم رأفة قال عطاء نسَخت هذه الآيةُ كلَّ شيء من العفو والصفح {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} جملةٌ مستأنفةٌ لبيان آجل أمرِهم إثرَ بيانِ عاجلِه وقيل حالية {وَبِئْسَ المصير} تذييلٌ لما قبله والمخصوصُ بالذم محذوف

74

{يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ} استئنافٌ لبيان ما صدرَ عنهُم من الجرائمِ الموجبةِ لما مر من الأمر بالجهاد والغِلظة عليهم ودخولِ جهنم رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أقام في غزوة تبوكَ شهرين ينزلِ عليه القرآنُ ويَعيب المنافقين المتخلّفين فيسمعه مَنْ كان منهم معه صلى الله عليه وسلم فقال الجلاس بن سويد منهم لئن كانَ ما يقولُ محمدٌ حقاً لإخواننا الذين خلفناهم وهم ساداتنا وأشرافنا فنحن شرٌّ من الحمير فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس أجل والله إن محمداً لصادقٌ وأنت شرٌّ من الحمار فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستُحضر فحلف بالله ما قال فرفع عامرٌ يده فقال اللهم أنزِل على عبدك ونبيك تصديق الكاذب وتكذيب الصادق فنزل وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في يحلفون لاستحضار الصورةِ أو للدلالة على تكرير الحلف وصيغةُ الجمعِ في قالوا مع أن القائلَ هو الجلاس للإيذان بأن بقيتَهم برضاهم بقوله صاروا بمنزلة القائل {وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر} هي ما حُكي آنفاً والجملةُ مع ما عطف عليها اعتراضٌ {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إسلامهم} أي وأظهروا ما في قلوبِهِم منَ الكفر بعد إظهارِهم الإسلامَ {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ ينالُوا} هو الفنك برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وذلك أنه توافقَ خمسةَ عشرَ منهم على أن يدفعوه صلى الله عليه وسلم عن راحلته إذا تسنّم العقبةَ بالليل وكان عمارُ بنُ ياسر آخذاً بخِطام راحلته يقودها وحذيفةُ بنُ اليمان خلفها يسوقُها فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفافِ الإبل وبقعقعة السلاحِ فالتفت فإذا قومٌ متلثّمون فقال إليكم إليكم يا أعداءَ الله فهربوا وقيل هم المنافقون همّوا بقتل عامر لرده على الجلاس وقيل أرادوا أن يتوِّجوا عبدَ اللَّه بن أبي بن سلول وإن لم يرضَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا نَقَمُواْ} أي وما أنكروا وما عابوا أو وما وجدوا ما يورث نَقِمتَهم {إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} سبحانه وتعالى وذلك أنهم كانوا حين قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ في غايةِ ما يكونُ من ضنْك العيشِ لا يركبون الخيلَ ولا يحوزون الغنيمة فأثروا بالغنائم وقُتل للجلاس مولى فأُمِرَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم بديته اثنى عشَرَ ألفَ درهم فاستغنى والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ المفاعيلِ أو من أعمِّ العللِ أي وما

أنكروا شيئاً من الأشياءِ إلا أغناه الله تعالى إياهم أو وما أنكروا ما أنكروا لعلة من العلل إلا لإغناء الله إياهم {فَإِن يَتُوبُواْ} عمَّا هُم عليهِ من الكفر والنفاق {يَكُ خَيْراً لَّهُمْ} في الدارين قيل لما تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الجلاس يَا رسولَ الله لقدْ عرض الله عليّ التوبةَ والله لقد قلت وصدق عامرٌ فتاب الجلاسُ وحسُنت توبته {وَإِن يَتَوَلَّوْا} أي استمروا على ما كانُوا عليهِ من التولي والإعراض عن الدين أو أعرضوا عن التوبة بعد هذا العرض {يُعَذّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا فِى الدنيا} بالقتل والأسرِ والنهب وغير ذلك من فنون العقوبات {والاخرة} بالنار وغيرها من أفانين العقاب {وَمَا لَهُمْ فِى الارض} مع سعتها وتباعُدِ أقطارِها وكثرة أهلِها المصحّحة لوجدان ما نفى بقوله عز وجل {مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} ينقذهم من العذاب بالشفاعة أو المدافعة سورة براءة آية (75 77)

75

{وَمِنْهُمُ} بيانٌ لقبائح بعضٍ آخرَ منهم {مَّنْ عاهد الله لئن آتانا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} لنؤتين الزكاةَ وغيرَها من الصدقات {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد الحج وقرئ بالنون الخفيفة فيهما قيل نزلت في ثعلبةَ بنِ حاطب أتى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فقالَ يا رسولَ الله ادعُ الله أن يرزُقَني مالا فقال صلى الله عليه وسلم يا ثعلبةُ قليلٌ تؤدّي حقه خيرٌ من كثير لا تطيقه فراجعه وقال والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالاً لأعطين كلَّ ذِي حقَ حقَّه فدعا له فاتخذ غنماً فنمت كما ينمي الدودُ حتى ضاقت بها المدينةُ فنزل وادياً وانقطع عن الجماعة والجمعة فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل كثرُ مالُه حتى لا يسعُه وادٍ فقال يا ويحَ ثعلبةَ فبعث مصدقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناسُ بصدقاتهم ومرا بثعلبةَ فسألاه الصدقة وأقرآه كتابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الفرائضُ فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أختُ الجزية وقال ارجعا حتى أرى رأيي وذلك قولِه عزَّ وجلَّ

76

{فلما آتاهم مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ} أي منعوا حق الله منه {وَتَوَلَّواْ} أي أعرضوا عن طاعة الله سبحانه فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه يا ويحَ ثعلبةَ مرتين فنزلت فجاء ثعلبةُ بالصدقة فقال صلى الله عليه وسلم إن الله منعني أن أقبل منك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال صلى الله عليه وسلم هذا عملُك قد أمرتك فلم تطعني فقبض صلى الله عليه وسلم فجاء بها إلى أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ فلم يقبلها وجاء بها إلى عمرَ رضي الله عنه في خلافته فلم يقبلها وهلك في خلافة عثمانَ رضيَ الله عنْهُ وقيل نزلت فيه وفي سهل بن الحرث وجَدِّ بنِ قيس ومعتب بن قُشير والأول هو الأشهرُ {وَهُم مُّعْرِضُونَ} جملة معترضة أي وهم قوم عادتُهم الإعراضُ أو حالية أي تولوا بإجرامهم وهم معرضون بقلوبهم

77

{فَأَعْقَبَهُمْ} أي جعل الله عاقبةَ فعلِهم ذلك {نِفَاقاً} راسخاً {فِى قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} إلى يوم موتِهم الذي يلقون الله تعالى عنده أو يلقَون فيه جزاءَ عملِهم وهو يومُ القيامة وقيل فأورثهم البخلَ نفاقاً متمكناً في قلوبهم ولا يلائمه

قوله عز وجل {بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ} أي بسبب إخلافِهم ما وعدوه تعالى من التصدق والصلاح {وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} أي وبكونهم مستمرِّين على الكذب في جميع المقالاتِ التي من جملتها وعدُهم المذكورُ وتخصيصُ الكذبِ به يؤدّي إلى تخلية الجمعُ بينَ صيغتي المَاضِي والمستقبلِ عن المزية فإن تسببَ الإعقابِ المذكورِ بالإخلاف والكذب يقضي بإسناده إلى الله عزَّ وجلَّ إذ لا معنى لكونهما سببين لأعقاب البخل النفاق والتحقيقُ أنه لما كانت الفاءُ الدالةُ على الترتيب والتفريعِ منبئةً عن ترتب إعقابِ النفاقِ المخلّدِ على أفعالهم المحكيةِ عنهم من المعاهدة بالتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض وفيها مالا دخل له في الترتب المذكور كالمعاهدة أزيح ما في ذلك من الإبهام بتعيين ما هو المدارُ في ذلك والله تعالى أعلم وقرئ بتشديد الذال سورة براءة آية (78 79)

78

{أَلَمْ يَعْلَمُواْ} أي المنافقون أو من عاهد الله وقرئ بالتاء الفوقانية خطاباً للمؤمنين فالهمزةُ على الأول للإنكار والتوبيخِ والتهديد أي ألم يعلمُوا {أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} أي ما أسرُّوا به في أنفسهم وما تناجَوا به فيما بينهم من المطاعن وتسميةِ الصدقةِ جزيةً وغيرِ ذلك مما لا خير فيه وسرُّ تقديمِ السر على النجوى سيظهر في قوله سبحانه وَسَتُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة {وَأَنَّ الله علام الغيوب} فلا يَخْفى عليه شيءٌ من الأشياء حتى اجترءوا على ما اجترءوا عليه من العظائم وإظهارُ اسمِ الجلالةِ في الموقعين لإلقاء الروعةِ وتربيةِ المهابةِ وفي إيراد العلم المتعلّق بسرهم ونجواهم بصيغة الفِعلِ الدالِّ على الحدوث والتجدد والعلمِ المتعلقِ بالغيوب الكثيرةِ الدائمةِ بصيغة الاسم الدالِّ على الدوام والمبالغة من الفخامة والجزالة مالا يخفى وعلى الثاني لتقرير علم المؤمنين بذلك وتنبيههم على أنه تعالى مؤاخِذُهم ومجازيهم بما علم من أعمالهم

79

{الذين يَلْمِزُونَ} نُصِب أو رُفع على الذم ويجوز جرُّه على البدليَّةِ من الضَّميرِ في سرَّهم ونجواهم وقرئ بضم الميم وهي لغة أي يعيبون {المطوعين} أي المتطوعين المتبرِّعين {مِنَ المؤمنين} حالٌ من المطّوعين وقوله تعالى {فِي الصدقات} متعلق بيلمزون رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حث الناسَ على الصدقة فأتى عبدُ الرحمن بنُ عوف بأربعين أوقيةً من ذهب وقيل بأربعةِ آلافِ درهم وقال كان لي ثمانيةُ آلافٍ فأقرضتُ ربي أربعة وأمسكتُ لعيالي أربعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك له حتى صولحت تُماضِرُ رابعةُ نسائِه عن ربع الثمن على ثمانين ألفاً وتصدق عاصمُ بنُ عدي بمائة وَسْقٍ من تمر وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر فقال بتُّ ليلتي أجرُّ بالجرير على صاعين فتركت صاعاً لعيالي وجئت بصاع فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثُره على الصدقات فلمَزَهم المنافقون وقالوا ما أعطى عبدُ الرحمن وعاصمٌ إلا رياءً وإنْ كان الله ورسولُه لغنيَّيْن عن صاع أبي عقيل ولكنه أحب أن يذكِّر بنفسه ليعطى من الصدقات فنزلت {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} عطف على المطوعين أي ويلمزون

الذين لا يجدون إلا طاقتهم وقرئ بفتح الجيم وهو مصدر جهد في الأمر إذا بالغ فيه وقيل هو بالضم الطاقةُ وبالفتح المشقة {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} عطف على يلمِزون أي يهزءون بهم والمرادُ بهم الفريقُ الأخير {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} إخبارٌ بمجازاته تعالى إياهم على ما فعلوا من السخرية والتعبيرُ عنها بذلك للمشاكلة {وَلَهُمْ} أي ثابت لهم {عَذَابٌ أَلِيمٌ} التنوينُ للتهويل والتفخيم وإيرادُ الجملةِ اسميةً للدَلالة على الاستمرار سورة براءة آية (80)

80

{استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} إخبارٌ باستواء الأمرَين الاستغفارُ لهم وتركُه في استحالة المغفرة وتصويرُه بصورة الأمر للمبالغة في بيان استوائهما كأنه صلى الله عليه وسلم أُمر بامتحان الحالِ بأن يستغفر تارة ويتركَ أخرى ليظهرَ له جليةُ الأمر كما مر في قوله عز وجل قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كرها لن يتقبل منكم {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} بيانٌ لاستحالة المغفرة بعد المبالغةِ في الاستغفار إثرَ بيانِ الاستواءِ بينه وبين عدمِه رُوِيَ أنَّ عبدَ اللَّه بنَ عبدِ اللَّه بنِ أُبيّ وكان من المخلِصين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفر له ففعل صلى الله عليه وسلم فنزلت فقال صلى الله عليه وسلم محافظةً على ما هو الأصلُ من أن مراتبَ الأعداد حدودٌ معينةٌ يخالف حكمُ كلَ منها حكمَ ما فوقها إن الله قد رخّص لي فسأزيد على السبعين فنزلت سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ وقد شاع استعمالُ السبعةِ والسبعين والسبعِمائةِ في مطلق التكثيرِ لاشتمال السبعة على جملة أقسام العددِ فكأنها العددُ بأسره وقيل هي أكملُ الأعدادِ لجمعها معانيَها ولأن الستة أولُ عددٍ تامَ لتعادل أجزائِها الصحيحةِ إذ نصفُها ثلاثة وثلثُها اثنان وسدسُها واحد وجملتها ستةٌ وهي مع الواحد سبعةٌ فكانت كاملةً إذ لا مرتبةَ بعد التمام إلا الكمالُ ثم السبعون غايةُ الكمالِ إذ الآحادُ غايتُها العشرات والسبعُمائة غايةُ الغايات {ذلك} إشارةٌ إلى امتناع المغفرةِ لهم ولو بعد المبالغةِ في الاستغفار أي ذلك الامتناعُ ليس لعدم الاعتدادِ باستغفارك بل {بِأَنَّهُمْ} أي بسببِ أنَّهم {كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} كفراً متجاوزاً عن الحد كما يلوح به وصفُهم بالفسق في قولِه عزَّ وجلَّ {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} فإن الفسقَ في كل شيء عبارةٌ عن التمرُّد والتجاوز عن حدوده أي لا يهديهم هدايةً مُوصلةً إلى المقصد البتةَ لمخالفة ذلك للحكمة التي عليها يدورُ فلكُ التكوين والتشريعِ وأما الهدايةُ بمعنى الدِلالة على ما يوصِل إليه فهي متحققةٌ لا محالة ولكنهم بسوء اختيارِهم لم يقبلوها فوقعوا فيما وقعوا وهو تذييلٌ مؤكدٌ لما قبله من الحُكم فإن مغفرةَ الكافرِ إنما هي بالإقلاع عن الكفر والإقبال إلى الحق والمتهمك فيه المطبوعُ عليه بمعزل من ذلك وفيه تنبيهٌ على عذر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في استغفاره لهم وهو عدمُ يأسِه من إيمانهم حيث لم يعلم أنهم مطبوعون على الغي والضلالِ إذ الممنوعُ هو الاستغفارُ لهم بعد تبيُّن حالِهم كما سيتلى من قولهِ عزَّ وجلَّ مَا كَانَ لِلنَّبِىّ الآية

سورة براءة آية (81 82)

81

{فَرِحَ المخلفون} أي الذين خلفهم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بالإذن لهم في القعود عند استئذانِهم أو خلّفهم الله بتثبيطه إياهم لِما علم في ذلك من الحِكمة الخفية أو خلّفهم كسلُهم أو نفاقُهم {بِمَقْعَدِهِمْ} متعلقٌ بفرِحَ أي بقعودهم وتخلّفِهم عن الغزو {خلاف رَسُولِ الله} أي خلفه وبعد خروجِه حيث خرج ولم يخرُجوا يقال أقام خلافَ الحيِّ أي بعدهم ظعنوا ولم يظعَن ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ خلف رسولِ الله فانتصابُه على أنه ظرفٌ لمقعدهم إذْ لا فائدةَ في تقييد فرحِهم بذلك وقيل هو بمعنى المخالفة ويعضُده قراءةُ مَن قرأَ خلف رسول الله بضم الخاء فانتصابُه على أنَّه مفعولٌ له والعاملُ إما فرح أي فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود وإما مقعدِهم أي فرحوا بقعودهم لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم أو على أنه حالٌ والعامل أحدُ المذكورَيْن أي فرحوا مخالفين له صلى الله عليه وسلم أو فرحوا بالقعود مخالفين له صلى الله عليه وسلم {وَكَرِهُواْ أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله} لا إيثار للدعةِ والخفْضِ على طاعة الله تعالى فقط بل مع ما في قلوبِهِم منَ الكفر والنفاقِ فإن إيثارَ أحدِ الأمرين قد يتحقق بأدنى رُجْحانٍ منه من غير أن يبلُغ الآخرُ مرتبةَ الكراهيةِ وإنما أوثر مَا عليهِ النظمُ الكريمُ على أن يقال وكرهوا أن يخرُجوا إلى الغزو إيذاناً بأن الجهادِ في سبيل الله مع كونه من أجلّ الرغائبِ وأشرفِ المطالبِ التي يجب أن يتنافسَ فيها المتنافسون قد كرهوه كما فرحوا بأقبح القبائحِ الذي هو القعودُ خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَقَالُواْ} أي لإخوانهم تثبيتاً لهم على التخلف والقعودِ وتواصياً فيما بينهم بالشر والفساد أو للمؤمنين تثبيطاً لهم عن الجهاد ونهياً عن المعروف وإظهاراً لبعض العللِ الداعيةِ لهم إلى ما فرِحوا به من القعود فقد جمَعوا ثلاثَ خلالٍ من خصال الكفر والضلالِ الفرحُ بالقعودِ وكراهيةُ الجهاد ونهيُ الغير عن ذلك {لاَ تَنفِرُواْ فِى الحر} فإنه لا يستطاع شدّتُه {قُلْ} رداً عليهم وتجهيلاً لهم {نَارُ جَهَنَّمَ} التي ستدخُلونها بما فعلتم {أَشَدُّ حَرّا} مما تحذرون من الحر المعهودِ وتحذّرون الناسَ منه فما لكم لا تحذَرونها وتعرِّضون أنفسَكم لها بإيثار القعودِ على النفير {لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} اعتراض تذييلى من جهته سبحانه وتعالى غيرُ داخلٍ تحت القولِ المأمور به مؤكدٌ لمضمونه وجوابُ لو إما مقدرٌ أي لو كانوا يفقهون أنها كذلك أو كيف هي أو أن مآلُهم إليها لَما فعلوا ما فعلوا أو لتأثروا بهذا الإلزامِ وإما غيرُ منويَ على أن لو لمجرد التمني المنبئ عن امتناع تحققِ مدخولِها أي لو كانوا من أهل الفَطانةِ والفِقه كما في قوله عز وجل قُلِ انظروا مَاذَا فِى السموات والارض وَمَا تُغْنِى الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ

82

{فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} إخبارٌ عن عاجل أمرِهم وآجلِه من الضحِك القليلِ والبكاءِ الطويلِ المؤدِّي إليه أعمالُهم السيئةُ التي من جُملتها ما ذكر من الفرح والفاءُ لسببية ما سبق للإخبار بما ذُكر من الضحِك والبكاءِ لا لنفسهما إذ لا يُتصوَّر السببيةُ في الأول أصلاً وقليلاً وكثيراً منصوبان على المصدرية

أو الظرفية أي ضَحِكاً قليلاً وبكاءً كثيراً أو زمانا قليلا زمانا كثيراً وإخراجُه في صورة الأمرِ للدِلالة على تحتم وقوعِ المُخبَرِ به فإن أمرَ الآمرِ المطاعِ مما لا يكاد يتخلّف عنه المأمورُ به خلا أن المقصودَ إفادتُه في الأول هو وصفُ القِلة فقط وفي الثاني وصفُ الكثرةِ مع الموصوف يروى أن أهلَ النفاق يبكون في النار عمُرَ الدنيا لا يرفأ لهم دمعٌ ولا يكتحلون بنوم ويجوز أن يكون الضحِكُ كنايةً عن الفرح والبكاءُ عن الغم وأن تكون القِلةُ عبارةٌ عن العدمِ والكثرةُ عن الدوام {جزاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} منَ فنون المعاصي والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار التجددي ما داموا في الدنيا وجزاءً مفعولٌ له للفعل الثاني أي ليبكوا جزاءً أو مصدرٌ حُذف ناصبُه أي يُجزَون بما ذكر من البكاء الكثيرِ جزاءً بِمَا كَسَبُواْ من المعاصي المذكورة سورة براءة آية (83 84)

83

{فَإِن رَّجَعَكَ الله} الفاء لتفريع الأمرِ الآتي على ما بيِّن من أمرهم والفعلُ من الرجْع المتعدّي دون الرجوع اللازم أي فإن ردّك الله تعالى {إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ} أي إلى المنافقين من المتخلفين في المدينة فإنّ تخلّف بعضهم إنما كان لعذر عائقٍ مع الإسلام أو إلى من بقيَ من المنافقين المتخلفين بأن ذهب بعضُهم بالموت أو بالغَيبة عن البلد أو بأن لم يستأذِن البعضُ عن قتادة أنهم كانوا اثنيْ عشرَ رجلاً قيل فيهم ما قيل {فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ} معك إلى غزوة أخرى بعد غزوتِك هذه {فَقُلْ} إخراجاً لهم عن ديوان الغُزاةِ وإبعاداً لمحلهم عن محفِل صُحبتِك {لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا} من الأعداء وهو إخبارٌ في مَعْنى النهي للمبالغةِ وقد وقع كذلك {إِنَّكُمْ} تعليلٌ لما سلف أي لأنكم {رَضِيتُمْ بالقعود} أي عن الغزو وفرِحتم بذلك {أَوَّلَ مَرَّةٍ} هي غزوةُ تبوكَ {فاقعدوا} الفاءُ لتفريع الأمرِ بالقعود بطريق العقوبةِ على ما صدرَ عنهُم من الرضا بالقعود أي إذ رضِيتم بالقعود أولَ مرة فاقعُدوا من بعدُ {مَعَ الخالفين} أي المتخلّفين الذين ديدنُهم القعودُ والتخلفُ دائماً وقرئ الخَلِفين على القصر فكان محوُ أساميهم من دفتر المجاهدين ولزُّهم في قَرن الخالفين عقوبةً لهم أيَّ عقوبةٍ وتذكيرُ اسم التفضيل المضاف إلى المؤنث هو الأكثرُ الدائرُ على الألسنة فإنَّك لا تكادُ تسمعُ قائلاً يقول هي كبرى امرأةٍ أو أُولى مرة

84

{وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ} صفةٌ لأحد وإنما جيء بصيغة الماضي تنبيهاً على تحقق الوقوعِ لا محالة {أَبَدًا} متعلقٌ بالنهي أي لا تدْعُ ولا تستغفرْ لهم أبداً {وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} أي لا تقِفْ عليه للدفن أو للزيارة والدعاء روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم فلما مرِض رأسُ النفاق عبدُ الله بن أبي بن سَلول بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتيَه فلما دخل عليه فقال صلى الله عليه وسلم أهلكك حبُّ اليهود فقالَ

يا رسول الله بعثتُ إليك لتستغفرَ لي لا لتؤنِّبني وسأله أن يكفِّنه في شِعاره الذي بلى جلدَه ويصليَ عليه فلما مات دعاه ابنُه وكان مؤمنا صالحا فأجابه صلى الله عليه وسلم تسليةً له ومراعاةً لجانبه وأرسل إليه قميصَه فكُفّن فيه فلما همّ بالصلاة أو صلّى نزلت وعن عمر رضيَ الله عنه أنَّه قال لما هلك عبد الله بن أبي ووضعناه ليصلى عليه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أتصلي على عدوّ الله القائلِ يومَ كذا كذا وكذا والقائلِ يوم كذا كذا وكذا وعدّدتُ أيامه الخبيثة فتبسم صلى الله عليه وسلم وصلى عليه ثم مشى معه وقام على حُفرته حتى دفن فو الله ما لبث إلا يسيراً حتى نزل وَلاَ تُصَلّ الخ فما صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على منافق ولا قام على قبره وإنما لم يُنْهَ عن التكفين بقميصه صلى الله عليه وسلم لأن الضنَّةَ بالقميص كانت مظِنّةَ الإخلالِ بالكرم على أنه كان مكافأةً لقميصه الذي كان ألبسه العباسَ رضي الله تعالى عنه حين أُسر ببدر والخبرُ مشهور {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} تعليلٌ للنَّهِي عَلى مَعْنى أن الاستغفارَ للميت والوقوفَ على قبره إنما يكون لاستصلاحه وذلك مستحيلٌ في حقهم لأنهم استمرّوا على الكفر بالله ورسوله مدةَ حياتِهم {وَمَاتُواْ وَهُمْ فاسقون} أي متمرِّدون في الكفر خارجون عن حدوده كما بين من معنى الفسق سورة براءة آية (85 86)

85

{وَلاَ تُعْجِبْكَ أموالهم وأولادهم} تكريرٌ لما سبق وتقريرٌ لمضمونه بالإخبار بوقوعه ويجوز أن يكون هذا في حق فريقٍ غيرِ الفريقِ الأولِ وتقديمُ الأموالِ في أمثالِ هذهِ المواقعِ على الأولاد مع كونهم أعزَّ منها إما لعموم مِساسِ الحاجةِ إليها بحسب الذاتِ وبحسب الأفراد والأوقات فإنها مما لا بد منه لكل أحدٍ من الآباء والأمهاتِ والأولادِ في كل وقت وحينٍ حتى إن من له أولادٌ ولا مالَ له فهو وأولادُه في ضيق ونَكالٍ وأما الأولادُ فإنما يَرغب فيهم مَنْ بلغ مبلغَ الأُبوةِ وإما لأن المالَ مناطٌ لبقاء النفسِ والأولادُ لبقاء النوعِ وإما لأنها أقدمُ في الوجود من الأولاد لأن الأجزاءَ المَنويةَ إنما تحصُل من الأغذية كما سيأتي في سورة الكهف {إنما يريد الله} بما متعهم به من الأموال والأولاد {أَن يُعَذّبَهُمْ بِهَا فِى الدنيا} بسبب معاناتِهم المشاقَّ ومكابدتِهم الشدائدَ في شأنها {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كافرون} أي فيموتوا كافرين باشتغالهم بالتمتع بها والالتهاء عن النظر والتدبّرِ في العواقب

86

{وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} من القرآن ويجوزُ أنْ يُرادَ بها بعضُها {أَنْ آمِنُواْ بِاللهِ} أنْ مفسرةٌ لما في الإنزال من معنى القولِ والوحي أو مصدريةٌ حذف عنها الجارُّ أي بأن آمِنوا {وجاهدوا مَعَ رَسُولِهِ} لإعزاز دينِه وإعلاءِ كلمتِه {استأذنك أُوْلُواْ الطول منهم} أي ذوو الفضل والسَّعةِ والقُدرة على الجهاد بدناً ومالاً {وَقَالُواْ} عطفٌ تفسيريٌّ لاستأذنك مغنٍ عن ذكر ما استأذنوا فيه يعني القعودَ {ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين}

أي الذين قعدوا عنِ الغزوِ لِما بِهمْ من عذر سورة براءة آية (87 90)

87

{رَضُواْ} استئنافٌ لبيان سوءِ صنيعِهم وعدمِ امتثالِهم لكلا الأمرين وإن لم يرُدّوا الأول صريحاً {بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} مع النساء اللاتي شأنُهن القعودُ ولزومُ البيوتِ جمعُ خالفةٍ وقيل الخالفةُ من لا خير فيه {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فهم} بسبب ذلك {لا يَفْقَهُونَ} ما في الإيمان بالله وطاعتِه في أوامره ونواهيه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم والجهادِ من السعادة وما في أضداد ذلك من الشقاوة

88

{لكن الرسول والذين آمنوا مَعَهُ} بالله وبما جاء من عنده تعالى وفيه إيذانٌ بأنهم ليسوا من الإيمان بالله في شيء وإن لم يُعرضوا عنه صريحاً إعراضَهم عن الجهاد باستئذانهم في القعود {جاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ} أي إنْ تخلّف هؤلاء عن الغزو فقد نهَدَ إليه ونهضَ له من هو خيرٌ منهم وأخلصُ نيةً ومعتقَداً وأقاموا أمرَ الجهادِ بكلا نوعيه كقوله تعالى فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين {وَأُوْلئِكَ} المنعوتون بالنعوت الجليلة {لَهُمْ} بواسطة نعوتِهم المزبورة {الخَيْرَاتِ} أي منافعُ الدارين النصرُ والغنيمةُ في الدنيا والجنةُ والكرامة في العُقبى وقيل الحورُ كقوله عز قائلاً فِيهِنَّ خيرات حِسَانٌ وهي جمعُ خَيْرة تخفيف خيّرة {وأولئك هُمُ المفلحون} أي الفائزون بالمطلوب لا مَنْ حاز بعضاً من الحظوظ الفانية عما قليل وتكريرُ اسمِ الإشارة تنويهٌ لشأنهم وربْءٌ لمكانهم

89

{أَعَدَّ الله لَهُمْ} استئنافٌ لبيان كونِهم مفلحين أي هيأ لهم في الآخرةِ {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا} حالٌ مقدرةٌ من الضمير المجرور والعامل أعدّ {ذلك} إشارةٌ إلى ما فُهم من إعداد الله سبحانه لهم الجناتِ المذكورةَ من نيل الكرامةِ العظمى {الفوز العظيم} الذِي لاَ فوز وراءه

90

{وَجَاء المعذرون مِنَ الاعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} شروعٌ في بيان أحوالِ منافقي الأعرابِ إثرَ بيانِ منافقي أهلِ المدينةِ والمعذّرون من عذّر في الأمر إذا قصّر فيه وتوانى ولم يجدو حقيقته أن يوهِمَ أن له عذراً فيما يفعل ولا عذرَ له أو المعتذرون بإدغام التاءِ في الذال ونقلِ حركتِها إلى العين وهم المعتذرون بالباطل وقرئ المُعْذِرون من الإعذار وهو الاجتهاد في العذرُ والاحتشادُ فيه قيل هم أسَدٌ وغطَفانُ قالوا إن لنا عيالاً وإن بنا لجَهداً فأذن لنا في التخلف وقيل هم رهطُ عامِر بنِ الطفيل قالوا إن غزَوْنا معك أغارت أعرابُ طيءٍ على أهالينا ومواشينا فقال صلى الله عليه وسلم

سيغنيني الله تعالى عنكم وعن مجاهد نفرٌ من غِفارٍ اعتذروا فلم يعذُرهم الله سبحانه وعن قتادة اعتذروا بالكذب وقرئ المُعّذّرون بتشديد العين والذال من تعذر بمعنى اعتذر وهو لحنٌ إذ التاءُ لا تُدغم في العين إدغامها في الطاء والزاء والصاد في المطّوعين وازّكى واصّدق وقيل أريد بهم المعتذرون بالصحة وبه فُسّر المعذّرون والمُعْذِرون أي الذين لم يُفرطوا في العذر {وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله ورسوله} وهم منافقو الأعرابِ الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا فظهر أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعاء الإيمانَ والطاعة {سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ} أي من الأعراب أو من المعذّرين فإن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره {عَذَابٌ أَلِيمٌ} بالقتل والأسرِ في الدنيا والنارِ في الآخرة سورة براءة آية (91 92)

91

{لَّيْسَ عَلَى الضعفاء وَلاَ على المرضى} كالهرمى والزَّمْنى {وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} لفقرهم كمُزَينةَ وجُهينة وبني عذرة {حَرَجٌ} إثمٌ في التخلف {إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} وهو عبارةٌ عن الإيمان بهما والطاعةِ لهما في السر والعلنِ وتولِّيهما في السراء والضراءِ والحبِّ فيهما والبغضِ فيهما كما يفعل المَوْلى الناصحُ بصاحبه {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما سبق أي ليس عليهم جناحٌ ولا إلى معاتبتهم سبيلٌ ومن مزيدةٌ للتأكيد ووضْعُ المحسنين موضِعَ الضمير للدِلالة على انتظامهم بنُصحهم لله ورسولِه في سلك المحسنين أو تعليلٌ لنفي الحرجِ عنهم أي ما على جنس المحسنين من سبيل وهم من جملتهم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تذييلٌ مؤيدٌ لمضمون ما ذُكر مشيرٌ إلى أن بهم حاجةً إلى المغفرة وإن كان تخلُّفهم بعذر

92

{وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} عطفٌ على المحسنين كما يُؤذِن به قوله عز وجل فيما سيأتي إِنَّمَا السبيل الآية وقيل عطفٌ على الضعفاء وهم البكاءون سبعةٌ من الأنصار معقِلُ بن يسار وصخر ابن خنساءَ وعبدُ اللَّه بنُ كعبٍ وسالمُ بنُ عميرٍ وثعلبةُ بنُ غنمةَ وعبدُ اللَّه بنُ معقِلٍ وعلبةُ بنُ زيد أتوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا نذرْنا الخروجَ فاحمِلنا على الخِفافِ المرقوعة والنعالِ المخصوفة نغْزُ معك فقال صلى الله عليه وسلم لا أجد فتولَّوا وهم يبكون وقيل هم بنو مقر معقِلٌ وسويدٌ ونُعمانُ وقيل أبو موسى الأشعريُّ وأصحابُه رضي الله تعالى عنهم {قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} حالٌ من الكاف في أتوك بإضمار قد وما عامةٌ لِما سألوه صلى الله عليه وسلم وغيرَه مما يُحمل عليه عادة وفي إيثار لا أجد على ليس عندي من تلطيف الكلامِ وتطييبِ قلوبِ السائلين ما لا يخفى كأنه صلى الله عليه وسلم يطلب ما يسألونه على الاستمرار فلا يجده {تَوَلَّوْاْ} جوابُ إذا {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} أي تسيل بشدة {مِنَ الدمع} أي دمعاً فإن من البيانية مع مجرورها في حيز النصبِ على التمييز وهو أبلغُ من يفيض دمعُها لإفادتها أن العينَ بعينها صارت دمعاً فيّاضاً والجملةُ حاليةٌ وقوله عزّ اسمُه {حَزَناً} نُصب على العِلّية أو الحالية أو المصدرية لفعل دلَّ عليهِ ما قبلَهُ أيْ تفيض للحزن فإن الحزنَ يُسند إلى العين مجازاً

كالفيض أو تولوا له أو حزِنين أو يحزنون حزناً فتكون هذه الجملةُ حالاً من الضمير في تفيض {أَلاَّ يَجِدُواْ} على حذف لامٍ متعلقة بحَزَناً أو تفيض أي لئلا يجدوا {مَا يُنْفِقُونَ} في شراء ما يحتاجون إليه إذ لم يجدوه عندك سورة براءة آية (93 94)

93

{إِنَّمَا السبيل} بالمعاتبة {عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ} في التخلف {وَهُمْ أَغْنِيَاء} واجدون لأُهبة الغزوِ مع سلامتهم {رَضُواْ} استئنافٌ تعليليٌّ لما سبق كأنه قيلَ ما بالُهم استأذنوا وهم أغنياء فقيل رضوا {بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} الذين شأنُهم الضَّعة والدناءة {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} أي خذلهم فغفَلوا عن وخامة العاقبة {فَهُمُ} بسبب ذلك {لاَّ يَعْلَمُونَ} أبداً غائلةَ ما رضُوا به وما يستتبعه آجلاً كما لم يعلموا بخساسة شأنِه عاجلاً

94

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} استئنافٌ لبيان ما يتصدرون له عند القفولِ إليهم روي أنهم كانوا بضعةً وثمانين رجلاً فلما رجع صلى الله عليه وسلم إليهم جاءوا يعتذرون إليه بالباطل والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ فإنهم كانوا يعتذرون إليهم أيضاً لا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط أي يعتذرون إليكم في التخلف {إِذَا رَجَعْتُمْ} من الغزو منتهين {إِلَيْهِمُ} وإنما لم يقل إلى المدينة إيذاناً بأن مدارَ الاعتذار هو الرجوعُ إليهم لا الرجوع إلى المدينة فلعل منهم مَنْ بادر إلى الاعتذار قبل الرجوعِ إليها {قُلْ} تخصيصُ هذا الخطابِ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم بعد تعميمِه فيما سبق لأصحابه أيضاً لِما أن الجواب وظيفته صلى الله عليه وسلم وأما اعتذارُهم فكان شاملاً للمسلمين شمولَ الرجوعِ لهم {لاَ تَعْتَذِرُواْ} أي لا تفعلوا الاعتذارَ كقوله تعالى اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ أو لا تعتذروا بما عندكم من المعاذير وأما التعرُّضُ لعنوان كذبها فلا يساعُده قوله تعالى {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} أي لن نصدِّقَكم في ذلك أبداً فإنه استئنافٌ تعليليٌّ للنهي مبني على سؤال نشأ من قِبَلهم متفرّعٌ على ادعاء الصّدقِ في الاعتذار كأنهم قالوا لم لا نعتذر فقيل لأنا لا نصدقكم أبداً فيكون عبثاً إذ لا يترتب عليه غرض المعتذر وقوله عز وجل {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} تعليلٌ لانتفاء التصديقِ أي أُعلِمْنا بالوحي بعضَ أخباركم المنافيةِ للتصديق مما باشرتموه من الشر والفساد وأضمرتموه في ضمائركم وهيأتموه للإبراز في معرِض الاعتذارِ من الأكاذيب وجمعُ ضميرِ المتكلم في الموضعين للمبالغة في حسم أطماعِهم من التصديق رأساً ببيان عدمِ رواج اعتذارِهم عند أحدٍ من المؤمنين أصلاً فإن تصديقَ البعض لهم ربما يطمعهم في تصديق الرسولِ أيضا صلى الله عليه وسلم بواسطة المصدِّقين وللإيذان بأن افتضاحَهم بين المؤمنين كافة {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} فيما سيأتي أتُنيبون إليه تعالى مما أنتم فيه من النفاق أم تثبُتون وكأنه استتابةٌ وإمهالٌ للتوبة وتقديمُ مفعول الرؤية على ما عطف على فاعله من قوله تعالى {وَرَسُولُهُ} للإيذان باختلاف حالِ الرؤيتين وتفاوتِهما وللإشعار بأن مدارَ الوعيد هو علمه عز وجل بأعمالهم {ثُمَّ تُرَدُّونَ} يوم القيامة {إلى عالم الغيب والشهادة}

للجزاء بما ظهر منكم من الأعمال ووضعُ المُظهرِ موضعَ المضمرِ لتشديد الوعيدِ فإن علمَه سبحانه وتعالى بجميع أعمالِهم الظاهرةِ والباطنةِ وإحاطتَه بأحوالهم البارزةِ والكامنةِ مما يوجب الزجرَ العظيم {فَيُنَبّئُكُمْ} عند ردِّكم إليه ووقوفِكم بين يديه {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي بما كنتُم تعملونَهُ في الدنيا على الاستمرار من الأعمال السيئةِ السابقةِ واللاحقة على أن ما موصولةٌ والعائدُ إليها محذوفٌ أو بعملكم المستمر على أنها مصدريةٌ والمرادُ بالتنبئة بذلك المجازاةُ به وإيثارُها عليها لمراعاة ما سبقَ من قولِه تعالى قَدْ نَبَّأَنَا الله الخ فإن المنبأَ به الأخبارُ المتعلِّقةُ بأعمالهم وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالِهم وإنما يعلمونها يومئذ سورة براءة آية (95 96)

95

{سيحلفون بالله لكم} تأكيد لمعاذيرهم الكاذبةِ وتقريراً لها والسين للتأكيد والمحلوفُ عليه محذوف يدل عليه الكلام وهو ما اعتذروا به من الأكاذيب والجملةُ بدلٌ من يعتذرون أو بيانٌ له {إِذَا انقلبتم} أي انصرفتم من الغزو {إِلَيْهِمُ} ومعنى الانقلابِ هو الرجوعُ والانصرافُ مع زيادة معنى الوصولِ والاستيلاء وفائدةُ تقييدِ حَلفِهم به الإيذانُ بأنه ليس لدفع ما خاطبهم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم به من قولهِ تعالَى لاَّ تَعْتَذِرُواْ الخ بل هو أمر مبتدأ {لِتُعْرِضُواْ} وتصفحوا {عَنْهُمْ} صفحَ رضا فلا توبّخوهم ولا تعاتبوهم كما يُفصح عنه قولُه تعالى لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} لكن لا إعراضَ رضا كما هو طِلْبتُهم بل إعراضَ اجتنابٍ ومقتٍ كما يعرب عنه قوله عز وجل {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} فإنه صريحٌ في أن المرادَ بالإعراض عنهم إما الاجتنابُ عنهم لما فيهم من الرجس الروحاني وإما تركُ استصلاحِهم بترك المعاتبةِ لأن المقصودَ بها التطهيرُ بالحمل على الإنابة وهؤلاء أرجاسٌ لا تقبل التطهير فلا يُتعرّضُ لهم بها وقوله عز وعلا {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} إما من تمام التعليلِ فإن كونَهم من أهل النارِ من دواعي الاجتناب عنهم وموجباتِ تركِ استصلاحِهم باللوم والعتاب وإما تعليلٌ مستقلٌ أي وكفتْهم النارُ عتاباً وتوبيخاً فلا تتكلفوا أنتم في ذلك {جَزَاء} نُصبَ على أنَّه مصدرٌ مؤكِّد لفعل مقدر من لفظه وقع حالاً أي يُجزَون جزاءً أو لمضمون الجملةِ السابقة فإنها مفيدةٌ لمعنى المجازاةِ قطعاً كأنه قيل مجزيّون جزاءً {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} فى الدنيا من فنون السيئاتِ أو على أنَّه مفعولٌ له

96

{يَحْلِفُونَ لَكُمْ} بدلٌ مما سبق وعدمُ ذكر المحلوفِ به لظهوره أي يحلفون به تعالى {لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} بحلفهم وتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم {فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} حسبما راموا وساعدتموهم في ذلك {فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين} أي فإن رضاكم عنهم لا يُجديهم نفعاً لأن الله ساخطٌ عليهم ولا أثرَ لرضاكم عند سخطِه سبحانه ووضعُ الفاسقين موضعَ ضميرِهم للتسجيل عليهم بالخروج عن الطاعة المستوجبِ لما حلَّ بهم من السُخط وللإيذان بشمول الحُكمِ لمن شاركهم في ذلك والمرادُ به نهيُ المخاطبين عن الرضا عنهم والاغترارِ بمعاذيرهم الكاذبةِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه فإن الرضا عمن لا يرضى

عنه الله تعالى ممَّا لا يكادُ يصدُرُ عن المؤمن وقيل إنما قيل ذلك لئلا يَتوهمَ متوهمٌ أن رضا المؤمنين من دواعي رضا الله تعالى قيل هم جدُّ بنُ قيس ومعتب بن قشير وأصحابُهما وكانوا ثمانين منافقاً فقال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم للمؤمنين حين قدم المدينةَ لا تجالسوهم ولا تكلموهم وقيل جاء عبد اللَّه بن أبي يحلف أنْ لا يتخلفُ عنه أبداً سورة براءة آية (97 98)

97

{الاعراب} هي صيغةُ جمعٍ وليست بجمع للعرب قاله سيبويه لئلا يلزمَ كونُ الجمع أخصَّ من الواحد فإن العربَ هو هذا الجيلُ الخاصُّ سواء سكنَ البواديَ أم القرى وأما الأعرابُ فلا يطلق إلا على من يسكن البواديَ ولهذا نسب إلى الأعراب على لفظه فقيل أعرابيٌّ وقال أهلُ اللغة رجلٌ عربيٌ وجمعُه العَرَبُ كما يقال مَجوسيٌّ ويهوديٌّ ثم يحذف ياء النسب في الجمع فيقال المجوس واليهود ورجلٌ أعرابي ويجمع على الأعراب والأعاريب أي أصحاب البدو {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} من أهل الحضَر لجفائهم وقسوةِ قلوبهم وتوحُّشهم ونشئِهم في معزل من مشاهدة العلماء ومفاوضتهم وهذا من باب وصف الجنسِ بوصف بعض أفرادِه كما في قوله تعالى وَكَانَ الإنسان كَفُورًا إذ ليس كلُّهم كما ذُكر على ما ستحيط به خُبراً {وَأَجْدَرُ ألا يَعْلَمُواْ} أي أحقُّ وأخلقُ بأن لا يعلموا {حُدُودَ ما أنزل الله على رَسُولِهِ} لبعدهم عن مجلسه صلى الله عليه وسلم وحِرمانِهم من مشاهدة معجزاتِه ومعاينةِ ما ينزل عليه من الشرائع في تضاعيف الكتابِ والسنة {والله عَلِيمٌ} بأحوال كلَ من أهل الوَبر والمدَر {حَكِيمٌ} فيما يصيب به مسيئَهم ومحسنَهم من العقاب والثواب

98

{وَمِنَ الاعراب} شروعٌ في بيان تشعّبِ جنسِ الأعرابِ إلى فريقين وعدم انحصارِهم في الفريق المذكورِ كما يتراءى من ظاهر النظمِ الكريمِ وشرحٌ لبعض مثالبِ هؤلاء المتفرعةِ على الكفر والنفاق بعد بيانِ تماديهم فيهما وحملُ الأعراب على الفريق المذكورِ خاصةً وإن ساعده كونُ من يحكي حالَه بعضاً منهم وهم الذين بصدد الإنفاقِ من أهل النفاقِ دون فقرائِهم أو أعرابِ أسدٍ وغطفانَ وتميم كما قيل لكن لا يساعدُه ما سيأتِي من قولِه تعالى وَمَن الاعراب مَن يُؤْمِنُ الخ فإن أولئك ليسوا من هؤلاء قطعاً وإنما هم من الجنس أي ومن جنس الأعرابِ الذي نُعت بنعت بعض أفراده {مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ} من المال أي يعُدّ ما يصرِفه في سبيل الله ويتصدق به صورةً {مَغْرَمًا} أي غرامةً وخُسراناً لازماً إذ لا ينفقه احتساباً ورجاءً لثواب الله تعالى ليكون له مغنماً وإنما ينفقه رياءً وتقيّةً فهي غرامةٌ محضةٌ وما في صيغة الاتخاذِ من معنى الاختيارِ والانتفاعِ بما يتخذ إنما هو باعتبار غرضِ المنفقِ من الرياء والتقيةِ لا باعتبار ذاتٍ النفقة أعني كونَها غرامة {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر} أصلُ الدائرة ما يحيط بالشيء والمرادُ بها ما لا

محيص عنه من مصائب الدهرِ أي ينتظر بكم دوائرَ الدهرِ ونُوَبَه ودَوَلَه ليذهب غلَبتُكم عليه فليتخلص مما ابتُلي به {عَلَيْهِمْ دائرة السوء} دعا عليهم بنحو ما أرادوا بالمؤمنين على نهج الاعتراض كقوله سبحانه غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ بعد قول اليهود ما قالوا والسوءُ مصدرٌ ثم أطلق على كل ضُرَ وشر وأضيفت إليه الدائرةُ ذماً كما يقال رجلُ سوءٍ لأن مَن دارت عليه يذمّها وهي من باب إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه فوصفت في الأصل بالمصدر مبالغةً ثم أضيفت إلى صفتها كقوله عز وجل مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء وقيل معنى الدائرةِ يقتضي معنى السَّوءِ فإنما هي إضافةُ بيانٍ وتأكيدٍ كما قالوا شمسُ النهارِ ولحيا رأسه وقرئ بالضم وهو العذابُ كما قيل له سيئة {والله سَمِيعٌ} لما يقولونه عند الإنفاقِ مما لا خيرَ فيه {عَلِيمٌ} بما يُضمِرونه من الأمور الفاسدةِ التي من جُمْلتها أن يتربّصوا بكم الدوائر وفيه من شدة الوعيدِ ما لا يخفي سورة براءة آية (99)

99

{وَمِنَ الاعراب} أي من جنسهم على الإطلاق {مَن يؤمنُ بالله واليومِ الآخر وَيَتَّخِذُ} أي يأخذ لنفسه على وجه الاصطفاءِ والادخارِ {مَا يُنفِقُ} أي ينفقه في سبيلِ الله تعالى {قربات} أي ذرائعَ إليها وللإيذان بما بينهما من كمال الاختصاصِ جُعل كأنه نفسُ القرُبات والجمعُ باعتبار أنواعِ القرُباتِ أو أفرادِها وهي ثاني مفعولَي يتخذ وقوله تعالى {عند الله} صفتُها أو ظرفٌ ليتخذ {وصلوات الرسول} أي وسائلَ إليها فإنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدِّقين بالخير والبركة ويستغفرُ لهم ولذلك سُنّ للمُصدِّق أن يدعوَ للمتصدِّق عند أخذِ صدقتِه لكن ليس له أن يصليَ عليه كما فعله صلى الله عليه وسلم حين قال اللهم صلَّ على آل أبي أو في ذلك منصِبُه فله أن يتفضلَ به على من يشاء والتعرُّضُ لوصف الإيمانِ بالله واليومِ الآخرِ في الفريق الأخيرِ مع أنَّ مساقَ الكلامِ لبيان الفرقِ بين الفريقين في شأن اتخاذِ ما ينفقانه حالاً ومآلاً وأن ذكرَ اتخاذِه ذريعةً إلى القربات والصلوات مغنٍ عن التصريح بذلك لكمال العنايةِ بإيمانهم وبيانِ اتصافِهم به وزيادةِ الاعتناءِ بتحقيق الفرق بين الفريقين من أول الأمرِ وَإِمَّا الفريقُ الأولُ فاتصافُهم بالكفر والنفاقِ معلومٌ من سياق النظم الكريمِ صريحاً {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} شهادةٌ لهم من جناب الله تعالى بصحة ما اعتقدوه وتصديقٌ لرجائهم والضميرُ لما ينفَق والتأنيثُ باعتبار الخبرِ مع ما مر من تعدّده بأحد الوجهين والتنكيرُ للتفخيم المغني عن الجمع أي قربةٌ عظيمةٌ لا يُكتَنه كُنهُها وفي إيراد الجملةِ اسميةً وتصديرِها بحرفي التنبيةِ والتحقيقِ من الجزالة ما لا يخفي والاقتصار على بيان كونِها قربةً لهم لأنها الغايةُ القصوى وصلواتُ الرسول من ذرائعها وقوله تعالى {سَيُدْخِلُهُمُ الله فِى رَحْمَتِهِ} وعدٌ لهم بإحاطة رحمتِه الواسعةِ بهم وتفسيرٌ للقربة كما أن قوله عز وعلا والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ وعيدٌ للأولين عَقيبَ الدعاءِ عليهم والسينُ للدلالة على تحقق ذلك وتقررِه البتةَ وقوله تعالى {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تعليلٌ لتحقق الوعدِ على نهج الاستئنافِ التحقيقيّ قيل هذا في عبد اللَّه ذي البجادَيْن وقومِه وقيل في بني مُقَرِّنٍ من مُزينةَ وقيل في أسلمَ وغِفارٍ وجهُينةَ وروى أبو هريرةَ

رضيَ الله عنه أنَّه قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أسلمُ وغفارٌ وشيءٌ من جُهينةَ ومُزينةَ خيرٌ عند الله يومَ القيامة من تميمٍ وأسدِ بنِ خزيمةَ وهوازن وغطفان سورة براءة آية (100 101)

100

{والسابقون الاولون مِنَ المهاجرين} بيانٌ لفضائل أشرافِ المسلمين إثرَ بيانِ فضيلةِ طائفةٍ منهم والمرادُ بهم الذينَ صلَّوا إلى القبلتينِ أو الذين شهِدوا بدْراً أو الذين أسلموا قبل الهجرة {والانصار} أهلُ بَيْعةِ العقبةِ الأولى وكانوا سبعة نفر وأهل بيعة العقبة الثانية وكانوا سبعين رجلا والذي آمنوا حين قدم عليهم أبو زُرارةَ مصعبُ بنُ عمير وقرىء بالرفع عطفا على والسابقون {والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} أي ملتبسين به والمرادُ به كلُّ خَصلةٍ حسنة وهم اللاحقون بالسابقين من الفريقين على أن مَنْ تبعيضيةٌ أو الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعةِ إلى يوم القيامة فالمرادُ بالسابقين جميعُ المهاجرين والأنصارِ ومن بيانية {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} خبر للمبتدأ أي رضي الله عنهم بقَبول طاعتِهم وارتضاءِ أعمالِهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} بما نالوه من رضاه المستتبِعِ لجميع المطالبِ طراً {وَأَعَدَّ لَهُمْ} في الآخرةِ {جنات تَجْرِى تحتها الأنهار} وقرئ من تحتها كما في سائر المواقع {خالدين فِيهَا أبدا} من غير انتهاء {ذلك الفوز العظيم} الذِي لاَ فوزَ وراءه وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البُعد لبيان بُعدِ منزلتِهم في مراتب الفضلِ وعظمِ الدرجةِ من مؤمني الأعراب

101

{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ الاعراب} شروعٌ في بيان أحوالِ منافقي أهلِ المدينة ومن حولها من الأعراب بعد بيانِ حالِ أهلِ الباديةِ منهم أي ممن حول بلدتِكم {منافقون} وهم جهينةُ ومزينةُ وأسلمُ وأشجَعُ وغفارٌ كانوا نازلين حولها {وَمِنْ أَهْلِ المدينة} عطفٌ على ممن حولكم عطفَ مفردٍ على مفرد وقوله تعالى {مَرَدُواْ عَلَى النفاق} إما جملةٌ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مَسوقةٌ لبيان غلوِّهم في النفاق إثرَ بيانِ اتصافِهم به وإما صفةٌ للمبتدأ المذكورِ فُصل بينها وبينه بما عُطفَ على خبره وإن صفةٌ لمحذوف أقيمت هي مُقامه وهو مبتدأ خبرُه من أهل المدينة كما في قوله ... إِنَّا ابن جلا وطلاع الثنايا ... والجملةُ عطف على الجملة السابقة أي ومن أهل المدينةِ قومٌ مردوا على النفاق أي تمهّروا فيه من مرَن فلانٌ على عمله ومرَد عليه إذا درب به وضرِي حتى لانَ عليه ومهَر فيه غير أن مرَدَ لا يكادُ يُستعمل إلا في الشر فالتمرّدُ على الوجهين الأولين شاملٌ للفريقين حسب شمولِ النفاقِ وعلى الوجه الأخير خاصٌّ بمنافقي أهلِ المدينةِ وهو الأظهر والأنسبُ بذكر منافقي أهلِ البادية أولاً ثم ذكرِ منافقي الأعرابِ المجاورين للمدينة ثم ذكرِ منافقي أهلِها والله تعالى أعلم وقوله عز شأنه {لاَ تَعْلَمُهُمْ} بيانٌ لتمرّدهم أي لا تعرفِهم أنت لكن لا بأعيانهم وأسمائِهم وأنسابِهم بل بعنوان نفاقِهم يعني أنهم بلغوا من المهارة في النفاق والتنوُّق في مراعاة التقيةِ

والتحامي عن مواقع التهم إلى مبلغ يخفى عليك حالُهم مع ما أنت عليه من علو الكعبِ وسموِّ الطبقة في كمال الفِطنةِ وصِدقِ الفِراسةِ وفي تعليق نفي العلمِ بهم مع أنه متعلقٌ بحالهم مبالغةٌ في ذلك وإيماءٌ إلى أنَّ ما هُم فيهِ من صفة النفاقِ لعَراقتهم ورسوخِهم فيها صارت بمنزلة ذاتياتِهم أو مشخَّصاتِهم بحيث لا يُعَدّ من لا يعرِفهم بتلك الصفة عالماً بهم وحُمل عدم علمه صلى الله عليه وسلم بأعيانهم على عدم علمِه صلى الله عليه وسلم بعد مجيء هذا البيانِ على أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن فيهم منافقين لكن لا يعلمهم بأعيانهم مع كونِه خلافَ الظاهرِ عارٍ عما ذكر من المبالغة وقوله عز وجل {نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} تقريرٌ لما سبقَ من مهارتهم في فن النفاقِ أي لا يقف على سرائرهم المركوزةِ في ضمائرهم إلا مَنْ لا تَخفى عليهِ خافيةٌ لِما هم عليه من شدة الاهتمامِ بإبطان الكفرِ وإظهارِ الإخلاصِ وفي تعليق العلمِ بهم مع أن المقصودَ بيانُ تعلقِه بحالهم ما مر في تعليق نفيِه بهم وقولُه عز شأنُه {سَنُعَذّبُهُم} وعيدٌ لهم وتحقيقٌ لعذابهم حسبما علم الله فيهم من موجباته والسين للتأكيد {مَّرَّتَيْنِ} عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قام خطيباً يوم الجمعة فقال اخرُجْ يا فلانُ فإنك منافقٌ اخرجْ يا فلان فإنك منافقٌ فأخرج ناسا وفضحهم فهذا هو العذابُ الأولُ والثاني إما القتلُ وإما عذابُ القبرِ أو الأولُ هو القتلُ والثاني عذابُ القبرِ أو الأولُ أخذُ الزكاةِ لما أنهم يعُدّونها مغرماً بحتاً والثاني نهكُ الأبدان وإتعابُها بالطاعات الفارغةِ عن الثواب ولعل تكريرَ عذابِهم لما فيهم من الكفر المشفوعِ بالنفاق أو النفاقِ المؤكدِ بالتمرد فيه ويجوز أن يكون المرادُ بالمرتين مجردَ التكثيرُ كما في قوله تعالى فارجع البَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي كرةً بعد أخرى {ثُمَّ يُرَدُّونَ} يوم القيامة {إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ} هو عذابُ النارِ وفي تغيير السبكِ بإسناد عذابِهم السابقِ إلى نونِ العظمةِ حسب إسنادِ ما قبله من العلم وإسناد ردهم إلى العذاب اللاحق إلى أنفسهم إيذان باختلافهما حالاً وأن الأولَ خاصٌّ بهم وقوعاً وزماناً يتولاه سبحانه وتعالى والثاني شاملٌ لعامة الكفرةِ وقوعاً وزماناً وإن اختلفت طبقاتُ عذابِهم سورة براءة آية (102)

102

{وآخرون} بيانٌ لحال طائفةٍ من المسلمين ضعيفةِ الهِمَمِ في أمور الدينِ وهو عطفٌ على منافقون أي ومنهم يعني وممن حولَكم ومن أهل المدينة قومٌ آخرون {اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} التي هي تخلُّفهم عن الغزو وأيثارُ الدعةِ عليه والرضا بسوء جِوارِ المنافقين وندموا على ذلك ولم يعتذروا بالمعاذير الكاذبةِ ولم يُخفوا ما صدرَ عنهُم من الأعمال السيئةِ كما فعله من اعتاد إخفاءَ ما فيه وإبرازَ ما ينافيه من المنافقين الذين اعتذروا بما لاَ خيرَ فيهِ من المعاذير المؤكدةِ بالأيمان الفاجرةِ حسب ديدنِهم المألوفِ وهم رهطٌ من المتخلفين أوثقوا أنفسَهم على سواري المسجدِ عند ما بلغهم ما نزل في المتخلّفين فقدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فصلى ركعتين حسب عادتِه الكريمةِ ورآهم كذلك فسأل عن شأنهم فقيل أنهم أقسموا أن لا يَحُلوا أنفسَهم حتى تحلهم فقال صلى الله عليه وسلم وأنا أقسم أن لا أحُلَّهم حتى أُومرَ فيهم فنزلت {خَلَطُواْ عَمَلاً صالحا} هو ما سبق منهم من الأعمال الصالحةِ والخروجِ إلى المغازي السابقةِ وغيرِها وما لحِق من

الاعتراف بذنوبهم في التخلف عن هذه المرة وتذمُّمِهم وندامتِهم على ذلك وتخصيصُه بالاعتراف لا يناسب الخلْطَ لا سيما على وجه يُؤذِن بتوارد المختلطَيْن وكونِ كلَ منهما مخلوطاً ومخلوطاً به كما يؤذن به تبديلُ الواوِ بالباء في قوله تعالى {وَآخَرَ سَيِّئاً} فإن قولك خلطتُ الماءَ باللبن يقتضي إيرادَ الماءِ على اللبن دون العكس وقولك خلطتُ الماءَ واللبنَ معناه إيقاعُ الخلطِ بينهما من غير دلالة على اختصاص أحدِهما بكونه مخلوطاً به وتركُ تلك الدلالةِ للدلالةِ على جعل كلَ منهما متصفاً بالوصفين جميعاً وذلك فيما نحن فيه بورود كلَ من العملين على الآخر مرةً بعد أخرى والمرادُ بالعمل السيء ما صدرَ عنهُم من الأعمال السيئة أولاً وآخراً وعن الكلبي التوبةُ والإثمُ وقيل الواوُ بمعنى الباء كما في قولهم بعتُ الشاء شاة ودهما بمعنى شاةً بدرهم {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي يقبل توبتَهم المفهومةَ من اعترافِهم بذنوبهم {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يتجاوز عن سيئات التائبِ ويتفضل عليه وهو تعليلٌ لما تفيده كلمةُ عسى من وجوب القَبولِ فإنها للإطماع الذي هو من أكرم الأكرمين إيجابٌ وأيُّ إيجاب سورة براءة آية (103)

103

{خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً} روي أنهم لما أُطلقوا قالوا يا رسولَ الله هذه أموالُنا التي خلَّفتْنا عنك فتصدقْ بها وطهِّرْنا فقال صلى الله عليه وسلم ما أُمرتُ أن آخذَ من أموالكم شيئا فنزلت فليست هي الصدقةُ المفروضةُ لكونها مأموراً بها ولِما روى أنه صلى الله عليه وسلم أخذ منهم الثلثَ وتركَ لهم الثلثين فوقع ذلك بياناً لِما في صدقةً من الإجمال وإنما هي كفارةٌ لذنوبهم حسبما ينبيء عنه قوله عز وجل {تُطَهّرُهُمْ} أي عما تلطخوا به من أوضار التخلفِ والتاءُ للخطاب والفعل مجزومٌ على أنه جوابٌ للأمر وقرىء بالرفع على أنه حالٌ من ضمير المخاطب في خذ أو صفةٌ لصدقةً والتاء للخطاب أو للصدقة والعائدُ على الأول محذوفٌ ثقةً بما بعده وقرىء تُطْهِرهم من أطْهره بمعنى طَهّره {وَتُزَكّيهِمْ بِهَا} بإثبات الياءِ وهو خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في الأمر أو في جوابه أي وأنت تزكيهم بها أي تُنْمي بتلك الصدقةِ حسناتِهم إلى مراتب المخلِصين أو أموالَهم أو تبالغ في تطهيرهم هذا على قراءة الجزم في تطهرْهم وأما على قراءة الرفع فسواءٌ جُعلت التاءُ للخطاب أو للصدقة وكذا إذا جعلت الجملةُ الأولى حالاً من ضمير المخاطَب أو صفةً للصدقة على الوجهين فالثانيةُ عطفٌ على الأولى حالاً وصفةً منْ غيرِ حاجةٍ إلى تقدير المبتدأ لتوجيه دخول الواو في الجملة الحالية {وَصَلّ عَلَيْهِمْ} أي واعطِف عليهم بالدعاء والاستغفار لهم {إن صلاتك} وقرىء صلواتِك مراعاةً لتعدد المدعو لهم {سَكَنٌ لَّهُمْ} تسكُن نفوسُهم إليها وتطمئن قلوبُهم بها ويثقون بأنه سبحانه قبل توبتَهم والجملةُ تعليلٌ للأمر بالصلاة عليهم {والله سَمِيعٌ} يسمع ما صدرَ عنهُم من الاعتراف بالذنب والتوبةِ والدعاء {عَلِيمٌ} بما في ضمائرهم من الندم والغمّ لما فرَط منهم ومن الإخلاص في التوبة والدعاء أو سميع يجيب دعاءَك لهم عليم بما تقتضيه الحكمةُ والجملةُ حينئذ تذييلٌ للتعليل مقررٌ لمضمونه وعلى الأول تذييلٌ لما سبق من الآيتين محقِّقٌ لما فيهما

سورة براءة آية (104 105)

104

{أَلَمْ يَعْلَمُواْ} وقرىء بالتاء والضمير إما للتائبين فهو تحقيقٌ لما سبق من قبول توبتِهم وتطهيرِ الصدقة وتزكيتِها لهم وتقريرٌ لذلك وتوطينٌ لقلوبهم ببيان أن المتوليَ لقبول توبتِهم وأخذِ صدقاتِهم هو الله سبحانه وإن أُسند الأخذُ والتطهيرُ والتزكية إليه صلى الله عليه وسلم أي ألم يعلمْ أولئك التائبون {أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة} الصحيحةَ الخالصةَ {عَنْ عِبَادِهِ} المخلِصين فيها ويتجاوز عن سيئاتهم كما يُفصح عنه كلمةُ عن والمرادُ بهم إما أولئك التائبون ووضعُ المظهرِ في موضع المضمرِ للإشعار بعلّية العبادةِ لقبولها وإما كافةُ العباد وهم داخلون في ذلك دخولاً أولياً {وَيَأْخُذُ الصدقات} أي يقبل صدقاتِهم على أنَّ اللامَ عوضٌ عن المُضافِ إليهِ أو جنسُ الصدقاتِ المندرجُ تحته صدقاتهم ادراجا أولياً أي هو الذي يتولى قَبولَ التوبةِ وأخذَ الصدقاتِ وما يتعلق بها من التطهير والتزكية وإن كنتَ أنتَ المباشرَ لها ظاهراً وفيه من تقرير ما ذكر ورفعِ شأنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم على نهج قولِه تعالى إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله ما لا يخفِى {وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} تأكيدٌ لما عُطف عليه وزيادةُ تقريرٍ لما يقرره مع زيادةِ معنى ليس فيه أي ألم يعلموا أنه المختصُّ المستأثرُ ببلوغ الغايةِ القصوى من قبول التوبةِ والرحمةِ وأن ذلك سُنةٌ مستمرةٌ له وشأنٌ دائم والجملتان في حيز النصبِ بيعلموا بسدّ كلِّ واحدةٍ منهما مسدّ مفعوليه وإما لغير التائبين من المؤمنين فقد روي أنهم قالوا لما تِيب على الأولين هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلَّمون ولا يجالَسون فما لهم فنزلت أي ألم يعلموا ما للتائبين من الخصال الداعيةِ إلى التكرِمة والتقريبِ والانتظامِ في سلك المؤمنين والتلقّي بحسن القَبولِ والمجالسة فهو ترغيبٌ لهم في التوبة والصدقة وقوله تعالى

105

{وَقُلِ اعملوا} زيادةُ ترغيبٍ لهم في العمل الصالحِ الذي من جُملتِه التوبةُ وللأولين في الثبات على ما هم عليه أي قُلْ لهم بعد ما بان لهم شأنُ التوبةِ اعملوا ما تشاءون من الأعمال فظاهرُه ترخيصٌ وتخييرٌ وباطنُه ترغيبٌ وترهيبٌ وقوله عز وجل {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} أي خيرا كان أو شرا تعليل لما قبله وتأكيدٌ للترغيب والترهيب والسينُ للتأكيد {وَرَسُولُهُ} عطف على الاسم الجليل وتأخيرُه عن المفعول للإشعار بما بين الرؤيتين من التفاوت {والمؤمنون} في الخبر لو أن رجلاً عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائناً ما كان والمعنى أن أعمالَكم غيرُ خافيةٍ عليهم كما رأيتم وتبين لكم ثمَّ إنْ كان المرادُ بالرؤية معناها الحقيقيَّ فالأمرُ ظاهرٌ وإنْ أُريد بها مآلُها من الجزاء خيراً أو شراً فهو خاصٌّ بالدنيوي من إظهار المدحِ والثناءِ والذكرِ الجميلِ والإعزازِ ونحو ذلك من الأجزية وأضدادها {وَسَتُرَدُّونَ} أي بعد الموتِ {إلى عالم الغيب والشهادة} في وُضع الظاهرُ موضعَ المُضمرِ من تهويل

الأمرِ وتربية المهابةِ ما لا يخفى ووجهُ تقديمِ الغيبِ في الذكر لسعة عالَمِه وزيادةِ خطرِه على الشهادة غنيٌّ عن البيان وقيل إن الموجوداتِ الغائبةَ عن الحواس عللٌ أو كالعلل للموجودات المحسوسةِ والعلمُ بالعلل علة للعلم بالمعلولات فوجب سبقُ العلمِ بالغيب على العلم بالشهادة وعن ابن عباس رضي الله عنهما الغيبُ ما يُسِرّونه من الأعمال والشهادةُ ما يظهرونه كقوله تعالى يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ فالتقديمُ حينئذ لتحقيق أن نسبةَ علمِه المحيطِ بالسر والعلنِ واحدةٌ على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه لا لإيهام أن علمَه سبحانه بما يُسرونه أقدمُ منه بما يعلنونه كيف لا وعلمُه سبحانه بمعلوماته منزهٌ عن أن يكون بطريق حصولِ الصورة بل وجودُ كلِّ شيءٍ وتحققُه في نفسِه عِلْمٌ بالنِّسبةِ إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلفُ الحالُ بين الأمور البارزةِ والكامنةِ وإما للإيذان بأن رتبةَ السرِّ متقدمةٌ على رتبة العلنِ إذْ مَا من شيءٍ يُعلَنُ إلا وهُو أو مباديهِ القريبةُ أو البعيدةُ مضمرٌ قبل ذلك في القلب فتعلقُ علْمِه تعالى به في حالته الأُولى متقدمٌ على تعلقهِ به في حالته الثانية {فينبئكم} عقيب الردّ الذي هو عبارةٌ عن الأمر الممتد إلى يوم القيامة {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قَبْلَ ذَلِكَ في الدُّنيا والمرادُ بالتنبئة بذلك الجزاءُ بحسَبه إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشر فهو وعد ووعيد سورة براءة آية (106 107)

106

{وآخرون} عطفٌ على آخرون قبله أي ومن المتخلفين من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب قومٌ آخرون غيرُ المعترفين المذكورين {مُرْجَوْنَ} وقرئ مُرْجَئون من أرجيتُه وأرجأتُه أي أخرتُه ومنه المُرْجِئة الذين لا يقطعون بقبول التوبة {لاْمْرِ الله} في شأنهم قال ابن عباس رضي الله عنهما هم كعبُ بنُ مالك ومرارة ابن الربيع وهلالُ بنُ أميةَ لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار كما فعل أبو لُبابةَ وأصحابُه من شد أنفسِهم على السواري وإظهارِ الغمّ والجزَعِ والندمِ على ما فعلوا فوقَفهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ونهى أصحابَه عن أن يسلّموا عليهم ويكلموهم وكانوا من أصحاب بدر فهجروهم والناسُ في شأنهم على اختلاف فمن قائلٍ هلكوا وقائل عسى الله أن يغفرَ لهم فصاروا عندهم مُرجَئين لأمره تعالى {إِمَّا يُعَذّبُهُمْ} إن بقوُا على ما هم عليه من الحال وقيل إن أصروا على النفاق وليس بذاك فإن المذكورين ليسوا من المنافقين {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} إن خلَصت نيتُهم وصحت توبتُهم والجملةُ في محل النصب على الحالية أي منهم هؤلاء إما معذَّبين وإما مَتوباً عليهم وقيل آخرون مبتدأٌ ومرجون صفتُه وهذه الجملةُ خبره {والله عَلِيمٌ} بأحوالهم {حَكِيمٌ} فيما فعل بهم من الإرجاء وما بعده وقرىء والله غفور رحيم

107

{والذين اتخذوا مَسْجِدًا} عطفٌ على ما سبق أي ومنهم الذين أو نصبٌ على الذم وقرئ بغير واو لأنها قصة على حيالها {ضِرَارًا} أي مضارّةً للمؤمنين وانتصابُه على أنَّه مفعولٌ له أو مفعولٌ ثانٍ لاتخذوا أو على أنَّه مصدرٌ مؤكد لفعل مقدر منصوبٍ على الحالية أي يضارّون بذلك ضراراً أو على أنَّه مصدرٌ بمعنى الفاعلِ وقع حالاً من ضمير اتخذوا أي مضارِّين

للمؤمنين روي أن بني عمرو بنِ عَوْف لما بنَوا مسجدَ قُباءَ بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهَم فيصليَ بهم في مسجدهم فلما فعله صلى الله عليه وسلم حسدتهم إخواتهم بنو اغنم بنِ عوف وقالوا نبني مسجداً ونرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه ويصلي فيه أبو عامرٍ الراهب أيضاً إذا قدم من الشام وهو الذي سماه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الفاسقَ وقد كان قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتُك معهم فلم يزل يفعل ذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازنُ يومئذ ولّى هارباً إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهبٌ إلى قيصرَ وآتٍ بجنود ومخرجٌ محمداً وأصحابَه من المدينة فبنَوا مسجداً إلى جنب مسجد قباءَ وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم بنينا مسجداً لذي العلّة والحاجةِ والليلةِ المطيرة والشاتية ونحن نحب أن تصليَ لنا فيه وتدعوَ لنا بالبركة فقال صلى الله عليه وسلم إني على جناح سفر وحالِ شُغْلٍ وإذا قدِمنا إنْ شاءَ الله تعالى صلينا فيه فلما قفَل صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوكَ سألوه إتيانَ المسجد فنزلت عليه فدعا بمالك بنِ الدخشم ومعنِ بن عدي وعامر بنِ السكن ووحشي فقال لهم انطلقوا إلى هذا المسجد الظالمِ أهلُه فاهدِموه وأحرِقوه ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كُناسةٌ تلقى فيها الجيفُ والقُمامة وهلك أبو عامر الفاسقُ بالشام بقِنَّسْرين {وَكُفْراً} تقوية للكفر الذي يُضمِرونه {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ المؤمنين} الذين كانوا يصلون في مسجد قباءَ مجتمعين فيغص بهم فأرادوا أن يتفرقوا وتختلف كلمتُهم {وَإِرْصَادًا} إعداداً وانتظاراً وترقباً {لّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ} وهو الراهبُ الفاسقُ أي لأجله حتى يجيءَ فيصليَ فيه ويظهرَ على رسُولِ الله صَلَّى الله عليهِ وسلَّم {مِن قَبْلُ} متعلقٌ باتخذوا أي اتخذوه من قبل أن ينافقوا بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك أو يحارب أي حاربهما قبل اتخاذِ هذا المسجد {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا} أي ما أردنا ببناء هذا المسجد {إِلاَّ الحسنى} إلا الخَصلةَ الحسنى وهي الصلاةُ وذكرُ الله والتوسعةُ على المصلين أو إلا الإرادةَ الحسنى {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون} في حلِفهم ذلك سورة براءة آية (108)

108

{لاَ تَقُمْ} للصلاة {فِيهِ} في ذلك المسجدِ حسبما دعَوْك إليه {أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ} أي بُني أصلُه {عَلَى التقوى} يعني مسجدَ قباءَ أسسه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيامَ مقامِه بقباء وهي يومُ الإثنينِ والثلاثاءِ والأربعاءِ والخميسِ وخرج يومَ الجمعة وقيل هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وعن أبي سعيد رضي الله عنه سألت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم عن المسجد الذي أسسه على التقوى فأخذ حصباءَ فضرب بها الأرضَ وقال مسجدُكم هذا مسجدُ المدينة واللامُ إما للابتداء أو للقسم المحذوفِ أي والله لَمسجدٌ وعلى التقديرين فمسجدٌ مبتدأٌ وما بعده صفتُه وقوله تعالى {مِنَ أَوَّلِ يَوْمٍ} أي من أيام تأسيسِه متعلقٌ بأسس وقوله تعالى {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} أي للصلاة وذكرِ الله تعالى خبرُه وقوله تعالى {فِيهِ رِجَالٌ} جملةٌ مستأنفةٌ مبينةٌ لأحقّيته لقيامه صلى الله عليه وسلم فيه من جهة الحال بعد بيانِ أحقيتِه له من حيث المحلُّ أو صفةٌ أخرى للمبتدأ أو حال من الضمير في فيه وعلى كل حالٍ ففيه تحقيقٌ وتقريرٌ لاستحقاقه القيامَ فيه والمرادُ بكونه أحق نفس

كونه حقيقاً به إذ لا استحقاقَ في مسجد الضرارِ رأساً وإنما عبر عنه بصيغة التفضيلِ لفضله وكماله في نفسه أو الأفضلية في الاستحقاق المتناولِ لما يكون باعتبار زعمِ الباني ومن يشايعُه في الاعتقاد وهو الأنسبُ بما سيأتي {يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} من المعاصي والخصالِ الذميمةِ لمرضاة الله سبحانه وقيل من الجنابة فلا ينامون عليها {والله يُحِبُّ المطهرين} أي يرضى عنهم ويُدْنيهم من جنابه إدناءَ المحبِّ حبيبَه قيل لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباءَ فإذا الأنصارُ جلوسٌ فقال أمؤمنون أنتم فسكت القومُ ثم أعادها فقال عمرُ رضي الله تعالى عنه يا رسولَ الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم فقال صلى الله عليه وسلم أترضَوْن بالقضاء قالوا نعم قال صلى الله عليه وسلم أتصبِرون على البلاء قالوا نعم قال أتشكرون في الرخاء قالوا نعم قال صلى الله عليه وسلم مؤمنون وربِّ الكعبة فجلس ثم قال يا معشرَ الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط فقالوا نُتبعُ الغائطَ الأحجارَ الثلاثة ثم نتبع الأحجارَ الماءَ فتلا النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وقرىء أن يطّهروا بالإدغام وقيلَ هو عامٌّ في التطهر عن النجاسات كلِّها وكانوا يُتبعون الماءَ إثرَ البول وعن الحسنِ رضيَ الله عنه هو التطهرُ عن الذنوب بالتوبة وقيل يحبّون أن يتطهروا بالحُمّى المكفرةِ لذنوبهم فحموا عن أخرهم سورة براءة آية (109)

109

{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} على بناء الفعلِ للفاعل والنصبِ وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ والرفع وقرئ أُسسُ بنيانِه على الإضافة جمع أساس وأساس بالفتح والكسر جمع أُسّ وقرئ أَساسُ بنيانِه جمع أُس أيضاً وأُسُّ بنيانِه وهي جملةٌ مستأنَفةٌ مبينةٌ لخيرية الرجالِ المذكورين من أهل مسجد الضرار والهمزةُ للإنكار والفاء للعطف على مقدر أي أبعدَ ما عَلِمَ حالَهم مَنْ أسّس بنيانَ دينِه {على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} أي على قاعدةٍ محكمة هي التقوى من الله وابتغاءُ مرضاتِه بالطاعة والمرادُ بالتقوى درجتُها الثانية التي هي التوقّي عن كلِّ ما يُؤثِّمُ من فعل أو ترك وقرئ تقوىً بالتنوين على أن الألف للإلحاق دون التأنيث {خير أم من أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} تركُ الإضمار للإيذان باختلاف البُنيانين ذاتاً مع اختلافهما وصفاً وإضافةً {على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} الشفا الحَرْف والشفير والجُرُف ما جرفه السيلُ أي استأصله واحتفَر ما تحته فبقىَ واهياً يريد الانهدام والهارُ الهائرُ المتصدِّعُ المشرِفُ إلى السقوط من هار يهورُ ويهار أو هار يهير قُدّمت لامُه على عينه فصار كغازٍ ورامٍ وقيل حذفت عينه اعتباطاً أي بغير موجب فجرى وجوهُ الإعرابِ على لامه {فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ} مثّل ما بنَوا عليه أمرَ دينِهم في البُطلان وسرعةِ الانطماسِ بما ذُكر ثم رشّح بانهياره في النار ووُضع بمقابلة الرضوانِ تنبيهاً على أن تأسيسَ ذلك على أمر يحفظه من النار ويوصله إلى الرضوان ومقتضياتِه التي أدناها الجنةُ وتأسيسَ هذا على ما هو بصدد الوقوعِ في النار ساعةً فساعة ثم مصيرُهم إليها لا محالة وقرئ جُرْف بسكون الراء {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} أي لأنفسهم أو الواضعين للأشياء في غير مواضعها

أي لا يرشدهُم إلى ما فيه نجاتُهم وصلاحُهم إرشاداً موجباً له لا محالة وأما الدلالةُ على ما يرشدهم إليه إن استرشدوا به فهو متحققٌ بلا اشتباه سورة براءة آية (110 111)

110

{لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ} البنيانُ مصدرٌ أُريد به المفعولُ ووصفُه بالموصول الذي صلتُه فعله للإيذان بكيفية بنائِهم له وتأسيسِه على أوهن قاعدةٍ وأوهى أساسٍ وللإشعار بعلة الحُكم أي لا يزال مسجدُهم ذلك مبنياً ومهدوماً {رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ} أي سببَ ريبةٍ وشكَ في الدين كأنه نفس الريبة أما حالَ بنيانه فظاهرٌ لِما أن اعتزالَهم من المؤمنين واجتماعَهم في مجمع على حياله يُظهرون فيه ما في قلوبِهِم منَ آثار الكفرِ والنفاقِ ويدبِّرون فيه أمورَهم ويتشاورون في ذلك ويُلقي بعضُهم إلى بعض ما سمعوا من أسرار المؤمنين مما يزيدهم ريبة وشكاً في الدين وأما حالَ هدمِه فلما أنه رسَخ به ما كان في قلوبهم من الشر وتضاعفت آثارُه وأحكامُه أو سبّب ريبةً في أمرهم حيث ضعُفت قلوبُهم وهى اعتقادُهم بخفاء أمرِهم على المؤمنين لأنهم أظهروا من أمرهم بعد البناءِ أكثرَ مما كانوا يُظهرونه قبل ذلك وقت اختلاطِهم بالمؤمنين وساءت ظنونُهم بأنفسهم فلما هُدم بنيانُهم تضاعف ذلك الضَّعفُ وتقوّى وصاروا مُرتابين في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يتركهم على ما كانُوا عليهِ من قبل أو يأمرُ بقتلهم ونهبِ أموالِهم وقال الكلبي معنى ريبةً حسرةً وندامة وقال السدي وحبيب والمبرد لا يزال هدمُ بنيانِهم حزازةً وغيظاً في قلوبهم {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ} من التفعل بحذف إحدى التاءين أي إلا أن تتقطع {قُلُوبِهِمْ} قِطعاً وتتفرّقَ أجزاءً بحيث لا يبقى لها قابليةُ إدراكٍ وإضمار قطعاً وهو استثناءٌ من أعم الأوقاتِ أو أعم الأحوال ومحلُّه النصبُ على الظرفية أي لا يزال بنيانُهم ريبةً في كل الأوقات أو كلِّ الأحوال إلا وقتَ تقطُّع قلوبهم أو حالَ تقطعِ قلوبِهم فحينئذ يسْلُون عنها وأما ما دامت سالمةً فالريبةُ باقيةٌ فيها فهو تصويرٌ لامتناع زوالِ الريبةِ عن قلوبهم ويجوزُ أن يكون المرادُ حقيقةً تقطُّعُها عند قتلِهم أو في القبُورِ أو في النار وقرئ تُقَطّع على بناء المجهول من التفعيل وعلى البناء للفاعل منه على خطاب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أي إلا أن تُقطِّع أنت قلوبهم بالقتل وقرئ على البناء للمجهول من الثلاثي مذكرا ومؤنثا وقرئ إلى أن تقطُّعِ قلوبهم وإلى أن تُقطِّع قلوبَهم على الخطاب وقرئ ولو قطعت قلوبهم على إسناد الفعل مجهولاً إلى قلوبهم ولو قَطَّعتَ قلوبَهم على الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب وقيل إلا أن يتوبوا توبةً تتقطّع بها قلوبُهم ندماً وأسفاً على تفريطهم {والله عَلِيمٌ} بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جُمْلتها ما ذكِرَ منَ أحوالهم {حَكِيمٌ} في جميعِ أفعالِه التي من زمرتها أمرُه الواردُ في حقهم

111

{إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم} ترغيبٌ المؤمنين في الجهاد ببيان

فضيلتِه إثرَ بيانِ حالِ المتخلفين عنه ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيدَ عليهِ حيثُ عبّر عن قَبول الله تعالى مِنَ المؤمنين أنفسَهم وأموالَهم التي بذلوها في سبيله تعالى وإثابتِه إياهم بمقابلتها الجنةَ بالشراء على طريقة الاستعارةِ التبعية ثم جُعل المبيعُ الذي هو العُمدةُ والمقصِدُ في العقد أنفُسَ المؤمنين وأموالَهم والثمنُ الذي هو الوسيلةُ في الصفقة الجنةُ ولم يُجعل الأمرُ على العكس بأن يقال إن الله باع الجنةَ من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصِد في العقد هو الجنةُ وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلةٌ إليها إيذاناً بتعلق كمالِ العنايةِ بهم وبأموالهم ثم إنه لم يقل بالجنة بل قيل {بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} مبالغةً في تقرير وصولِ الثمنِ إليهم واختصاصِه بهم كأنه قيل بالجنة الثابتةِ لهم المختصةِ بهم وأما ما يقال من أن ذلك لمدح المؤمنين بأنهم وبذلوا أنفسَهم وأموالَهم بمجرد الوعدِ لكمال ثقتِهم بوعده تعالى وأن تمامَ الاستعارةِ موقوفٌ على ذلك إذ لو قيل بالجنة لاحتمل كونُ الشراء حقيقةً لأنها صالحةٌ للعوضية بخلاف الوعد بها فليس بشيء لأن مناطَ دِلالةِ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ على الوعد ليس كونُه جملةً ظرفيةَ مصدّرةً بأن فإنَّ ذلكَ بمعزلٍ من الدلالة على الاستقبال بل هو الجنةُ التي يستحيل وجودُها في الدنيا ولو سلم ذلك يكون العوضُ الجنةَ الموعودَ بها لا الوعد بها {يقاتلون فِى سَبِيلِ الله} استئنافٌ لكن لا لبيان ما لأجله الشراءُ ولا لبيان نفسِ الاشتراء لأن قتالَهم في سبيلِ الله تعالى ليس باشتراء الله تعالى منهم أنفسَهم وأموالَهم بل هو بذلٌ لهما في ذلك بل لبيان البيعِ الذي يستدعيه الاشتراءُ المذكورُ كأنه قيل كيف يبيعون أنفسَهم وأموالَهم بالجنة فقيل يقاتلون فِى سَبِيلِ الله وهو بذل منهم لأنفسهم وأموالهم إلى جهة الله سبحانه وتعريضٌ لهما للهلاك وقوله تعالى {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} بيانٌ لكون القتالِ في سبيل الله بذلاً للنفس وأن المقاتِلَ في سبيله باذلٌ لها وإن كانت سالمةً غانمة فإن الإسنادَ في الفعلين ليس بطريق اشتراطِ الجمعِ بينهما ولا اشتراطِ الاتصافِ بأحدهما البتةَ بل بطريق وصفِ الكلِّ بحال البعضِ فإنه يتحقق القتالُ من الكل سواءٌ وجد الفعلان أو أحدَهما منهم أو من بعضهم بل يتحقق ذلك وإن لم يصدُرْ منهم أحدُهما أيضاً كما إذا وُجدت المضاربةُ ولم يوجد القتلُ من أحد الجانيين أو لم توجد المضاربةُ أيضا فإنه يتحقق الجهاد بمجرد العزيمة والنفير وتكثيرِ السواد وتقديمُ حالةِ القاتلية على حالة المقتوليةِ للإيذان بعدم الفرقِ بينهما في كونهما مصداقاً لكون القتالِ بذلا للنفس وقرئ بتقديم المبنيِّ للمفعول رعايةً لكون الشهادة عريقةً في الباب وإيذاناً بعدم مبالاتِهم بالموت في سبيلِ الله تعالى بل بكونه أحبَّ إليهم من السلامة كما قيل في حقهم لا يفرحون إذا نالت رماحهم قوماً وليسوا مَجازيعاً إذا نيلوا ... لا يقطع الطعنُ إلا في نحورِهم وما لهم عن حِياض الموتِ تهليلُ وقيل في يقاتلون الخ معنى الأمر كما في قوله تعالى تجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ {وَعْدًا عَلَيْهِ} مصدرٌ مؤكدٌ لما يدل عليه كونُ الثمنِ مؤجلاً {حَقّاً} نعتٌ لوعداً والظرفُ حال منه لأنه لو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ وقولُه تعالَى {فِي التوراة والإنجيل والقرآن} متعلق بمحذوف وقع كما هو مثبتٌ في القرآن {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله من حقية الوعدِ على نهج المبالغةِ في كونه سبحانه أوفى بالعهد من كل واف

فإن إخلاف الميعاد مِمَّا لا يكادُ يصدُرُ عن كرام الخلقِ مع إمكان صدورِه عنهم فكيف بجناب الخلاقِ الغنيِّ عن العالمين جل جلاله وسبكُ التركيب وإن كان على إنكار أن يكون أحدٌ أوفى بالعهد منه تعالى من غيرِ تعرضٍ لإنكار المساواةِ ونفيها لكن المقصودَ به قصداً مطرداً إنكارُ المساواةِ ونفيُها قطعاً فإذا قيل مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضل منه فالمرادُ به حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضل من كل فاضل {فاستبشروا} التفاتٌ إلى الخطاب تشريفاً لهم على تشريف وزيادةً لسرورهم على سرور والاستبشارُ إظهارُ السرور والسينُ فيه ليس للطلب كاستوقَدَ وأوقد والفاء لترتيب الاستبشارِ أو الأمرِ به على ما قبله أي فإذا كان كذلك فسُرّوا نهايةَ السرور وافَرحوا غايةَ الفرحِ بما فُزتم به من الجنة وإنما قيل {بِبَيْعِكُمُ} مع أن الابتهاجَ به باعتبار أدائِه إلى الجنةِ لأن المرادَ ترغيبُهم في الجهاد الذي عبّر عنه بالبيع وإنما لم يُذكر العقدُ بعنوان الشراءِ لأن ذلك من قبل الله سبحانه لا من قبلهم والترغيبُ إنما يكون فيما يتم من قبلهم وقوله تعالى {الذى بَايَعْتُمْ بِهِ} لزيادة تقرير بيعِهم وللإشعار بكونه مغايراً لسائر البياعات فإنه بيعٌ للفاني بالباقي ولأن كِلا البدلين له سبحانه وتعالى عن الحسن رضي الله عنه أنفُساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها روي أن الأنصار لما بايعوه صلى الله عليه وسلم على العقبة قال عبدُ اللَّه بنِ رَواحةَ رضي الله تعالى عنه اشترِطْ لربك ولنفسك ما شئت قال صلى الله عليه وسلم أشترطُ لربي أن تعبُدوه وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسَكم قال فإذا فعلنا ذلك فما لنا قال لكم الجنة قالوا ربِحَ البيعُ لا نُقيل ولا نستقيله ومر برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم أعرابي وهو يقرؤها قال كلامُ مَنْ قال كلام الله عزَّ وجلَّ قالَ بيعٌ والله مُربحٌ لا نُقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو واستُشهد {وَذَلِكَ} أي الجنةُ التي جعلت ثمناً بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالِهم {هُوَ الفوز العظيم} الذِي لا فوزَ أعظمُ منه وما في ذلك من معنى البُعد إشارةٌ إلى بُعد منزلةِ المشارِ إليه وسموِّ رتبتِه في الكمال ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ إشارةً إلى البيع الذي أُمروا بالاستبشار به ويجعل ذلك كأنه نفسُ الفوز العظيم أو يُجعل فوزاً في نفسه فالجملةُ على الأول تذييلٌ للآية الكريمة وعلى الثاني لقوله تعالى فاستبشروا مقرر لمضمونه سورة براءة آية (112)

112

{التائبون} رُفع على المدح أي هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين كما يدل عليه القراءةُ بالياء نصباً على المدح ويجوز أن يكون مجروراً على أنه صفةٌ للمؤمنين وقد جوِّز الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ محذوفٌ أي التائبون من أهل الجنةِ أيضاً وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى ويجوز أن يكون خبرُه قولَه تعالى {العابدون} وما بعده خبرٌ بعد خبرٍ أي التائبون من الكفر على الحقيقة هُمُ الجامعون لهذه النعوتِ الفاضلةِ أي المخلِصون في عبادة الله تعالى {الحامدون} لنَعمائه أو لما نابهم من السراء والضراء {السائحون} الصائمون لقوله صلى الله عليه وسلم سياحةُ أمتي الصومُ شبّه بها لأنه عائقٌ عن الشهوات أو لأنه رياضةٌ نفسانيةٌ يُتوسّل بها إلى العثور على خفايا المُلك والملَكوتِ وقيل هم السائحون في الجهاد وطلبِ

العلم {الراكعون الساجدون} في الصلاة {الامرون بالمعروف} بالطاعة والإيمان {والناهون عَنِ المنكر} عن الشرك والمعاصي والعطفُ فيه للِدلالة على أن المتعاطِفَيْن بمنزلة خَصلةٍ واحدة وأما قوله تعالى {والحافظون لِحُدُودِ الله} أي فيما بيّنه وعيّنه من الحقائق والشرائع عَملاً وحمْلاً للناس عليه فلئلاً يُتوهمَ اختصاصُه بأحد الوجهين {وَبَشّرِ المؤمنين} أي الموصوفين بالنعوت المذكورةِ ووضعُ المؤمنين موضعَ ضميرِهم للتنبيه على أن مَلاك الأمرِ هو الأيمانُ وأن المؤمن الكاملَ مَنْ كان كذلك وحُذف المبشَّرُ به للإيذان بخروجه عن حد البيانِ وفي تخصيص الخطابِ بالأولين إظهارُ زيادةِ اعتناءٍ بأمرهم من الترغيب والتسلية سورة براءة آية (113 114)

113

{مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين آمنوا} بالله وحده أي ما صح لهم في حكم الله عز وجل وحكمتِه وما استقام {أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} به سبحانه {ولو كانوا} أي المشركون {أُوْلِى قربى} أي ذوي قرابةٍ لهم وجوابُ لو محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه والجملةُ معطوفةٌ على جملة أخرى قبلها محذوفةٍ حذفاً مطّرداً كما بُيّن في قوله تعالى وَلَوْ كَرِهَ الكافرون ونظائرِه روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمه أبي طالب لما حضرتْه الوفاةُ يا عمّ قل كلمةً أحُاجُّ لك بها عند الله فأبى فقال صلى الله عليه وسلم لا أزال أستغفرُ لك ما لم أُنُهَ عنه فنزلت وقيل لما افتتَح مكةَ خرج إلى الأبواء فزار قبرَ أمِّه ثم قام مستعبِراً فقال إني استأذنتُ ربي في زيارة قبرِ أمّي فأذِن لي واستأذنتُه في الاستغفار لها فلم يأذَنْ لي وأنزل علي الآيتين {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ} أي للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {أَنَّهُمْ} أي المشركين {أصحاب الجحيم} بأن ماتوا على الكفر أو نزل الوحيُ بأنهم يموتون على ذلك

114

{وما كان استغفار إبراهيم لأَبِيهِ} بقوله واغفر لاِبِى أي بأن توفقه للإيمان وتهديه إليه كما يلوحُ به تعليلُه بقوله إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتقريرِ ما سبق ودفعِ ما يتراءى بحسب الظاهرِ من المخالفة وقرئ وما استغفر إبراهيمُ لأبيه وقرئ وما يستغفر إبراهيمُ على حكايةِ الحالِ الماضيةِ وقوله تعالى {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ} استثناء مفرغ من أعم العللِ أي لم يكن استغفارُه عليه السلام لأبيه آزرَ ناشئاً عن شيءٌ من الأشياءِ إِلاَّ عن موعدة {وعدها} إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {إياه} أي أباه وقد قرئ كذلك بقوله لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وقولِه سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي بناءً على رجاء إيمانِه لعدم تبيُّنِ حقيقةِ أمرِه وإلا لما وعدها إياه كأنه قيل وما كان استغفارُ إبراهيمَ لأبيه إلا عن موعدة مبينة على عدم تبيُّنِ أمرِه كما ينبىء عنه قوله تعالى {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} أي لإبراهيمَ بأن أوحِيَ إليه أنه مُصِرٌّ على الكفر غيرُ مؤمنٍ أبداً وقيل بأن مات على الكفر والأولُ هو الأنسبُ بقوله تعالى {أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ} فإن وصفَه بالعداوة مما يأباه حالةُ الموت {تَبَرَّأَ مِنْهُ}

أي تنزّه عن الاستغفار له وتجانبَ كلَّ التجانب وفيه من المبالغة ما ليس في تركه ونظائرِه {إِنَّ إبراهيم لاوَّاهٌ} لكثيرُ التأوّهِ وهو كنايةٌ عن كمال الرأفةِ ورقةِ القلب {حَلِيمٌ} صبورٌ على الأذية والمحنة وهو استئنافٌ لبيان ما كان يدعُوه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى ما صدر عنه من الاستغفار وفيه إيذانٌ بأن إبراهيمَ عليه الصَّلاة والسَّلام كان أواهاً حليماً فلذلك صدَر عنه ما صدر من الاستغفار قبل التبينِ فليس لغيره أن يأتسيَ به في ذلك وتأكيدٌ لوجوب الاجتناب عنه بعد التبين بأنه عليه الصلاة والسلام تبرأ منه بعد التبينِ وهو في كمال رقةِ القلبِ والحلم فلا بد أن يكون غيرُه أكثرَ منه اجتناباً وتبرُّؤاً وأما أن الاستغفارَ قبل التبينِ لو كان غيرَ محظورٍ لما استُثنيَ من الائتساء به في قوله تعالى إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ فقد حُقق في سورة مريم بإذن الله تعالى سورة براءة آية (115 117)

115

{وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً} أي ليس من عادته أن يصفَهم بالضلال عن طريق الحق ويُجريَ عليهم أحكامَه {بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} للإسلام {حتى يُبَيّنَ لَهُم} بالوحي صريحاً أو دِلالةً {مَّا يَتَّقُونَ} أي ما يجبُ اتقاؤُه من محظورات الدينِ فلا ينزجروا عما نُهوا عنه وأما قبل ذلك فلا يسمى ما صدَر عنهم ضلالاً ولا يؤاخَذون به فكأنه تسليةٌ للذين استغفروا للمشركين قبل ذلك وفيه دليلٌ على أنَّ الغافَل غيرُ مكلفٍ بما لا يستبدُّ بمعرفته العقلُ {أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} تعليلٌ لما سبق أي أنه تعالى عليمٌ بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جملتها حاجتُهم إلى بيان قُبحِ ما لا يستقلُّ العقلُ في معرفته فيبيِّنُ لهم ذلك كما فعل هاهنا

116

{أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والارض} من غير شريكٍ له فيه {يحيي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِن دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} لمّا منعهم من الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى وضمّن ذلك التبرُّؤَ منهم رأساً بيَّن لهم أن الله تعالى مالكُ كلِّ موجودٍ ومتولي أمورِه والغالبُ عليه ولا يتأتى لهم نصرٌ ولا ولايةٌ إلا منه تعالى ليتوجهوا إليه بشرا شرهم متبرِّئين عما سواه غيرَ قاصدين إلا إياه

117

{لَقَدْ تَابَ الله على النبى} قال ابن عباس رضي الله عنهما هو العفوُ عن إذنه للمنافقين في التخلف عنه {والمهاجرين والانصار} قيل هو في حق زلاتٍ سبقت منهم يوم أحُدٍ ويوم حُنينٍ وقيل المرادُ بيانُ فضلِ التوبةِ وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاجٌ إليها حتى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لِما صدرَ عنه في بعض الأحوالِ من ترك الأَوْلى {الذين اتبعوه} ولم يتخلفوا عنه ولم يُخِلّوا بأمر من أوامره {فِى سَاعَةِ العسرة} أي في وقتها والتعبيرُ عنه بالساعة لزيادة تعيينِه وهي حالُهم في غزوة تبوكَ كانوا في عُسرةٍ من الظَّهر يعتقِبُ عشرةٌ على بعير واحد ومن الزاد تزوّدوا

التمرَ المدوّد والشعيرَ المسوّس والإهالة الزَّنِخة وبلغت بهم الشدةُ إلى أن اقتسم التمرةَ اثنان وربما مصّها الجماعةُ ليشربوا عليها الماء المتغيِّرَ وفي عسرة من الماء حتى نحَروا الإبلَ واعتصروا فروثَها وفي شدة زمانٍ من حِمارة القَيظ ومن الجدب والقَحط والضيقة الشديدةِ ووصفُ المهاجرين والأنصارِ بما ذكر من اتّباعِهم له عليه الصلاة والسلام في مثل هاتيك المراتبِ من الشدة للمبالغة في بيان الحاجةِ إلى التوبة فإن ذلك حيث لم يُغنهم عنها فلأَنْ لا يستغنيَ عنها غيرُهم أولى وأحرى {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ} بيانٌ لتناهي الشدة وبلوغِها إلى ما لا غايةَ وراءَها وهو إشرافُ بعضهم على أن يَميلوا إلى التخلف عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم وفي كاد ضميرُ الشأنِ أو ضميرُ القوم الراجعُ إليه الضميرُ في منهم وقرئ بتأنيث الفعل وقرئ من بعد ما زاغت قلوبُ فريقٍ منهم يعني المتخلفين من المؤمنين كأبي لُبابةَ وأضرابِه {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} تكريرٌ للتأكيد وتنبيهٌ على أنه يتاب عليهم من أجل ما كابدوا من العُسرة والمرادُ أنه تاب عليهم لكيدودتهم {إِنَّهُ بهم رؤوف رَّحِيمٌ} استئنافٌ تعليليٌ فإن صفةَ الرأفةِ والرحمةِ من دواعي التوبةِ والعفوِ ويجوز كونُ الأولِ عبارةً عن إزالة الضررِ والثاني عن إيصالِ المنفعةِ وأن يكون أحدُهما للسوابق والآخَرُ لِلّواحق سورة براءة آية (118)

118

{وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ} أي وتاب الله على الثلاثة الذين أُخِّر أمرُهم عن أمر أبي لُبابةَ وأصحابِه حيث لم يقبَلْ معذرتَهم مثلَ أولئك ولا رُدَّتْ ولم يُقطَعْ في شأنهم بشيء إلى أن نزل فيهم الوحيُ وهم كعبُ بنُ مالكٍ وهلالُ بنُ أميةَ ومَرارةُ بنُ الربيع وقرئ خَلَّفوا أي خلَّفوا الغازين بالمدينة أو فسَدوا من الخالفة وخلوف الفم وقرئ على المخلّفين والأولُ هو الأنسبُ لأن قوله تعالى {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الارض} غايةٌ للتخليف ولا يناسبُه إلا المعنى الأولُ أي خُلّفوا وأخّر أمرُهم إلى أن ضاقت عليهم الارضُ {بما رَحُبتْ} أي برُحبها وسَعتِها لإعراض الناسِ عنهم وانقطاعِهم عن مفاوضتهم وهو مثلٌ لشدة الحَيْرة كأنه لا يستقِرُّ به قرارٌ ولا تطمئن له دار {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} أي إذا رجَعوا إلى أنفسهم لا يطمئنّون بشيء لعدم الأنسِ والسرورِ واستيلاءِ الوحشة والحَيْرة {وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ} أي علِموا أنه لا ملجأَ من سُخطه تعالى إلا إلى استغفاره {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} أي وفقّهم للتوبة {لِيَتُوبُواْ} أو أنزل قَبولَ توبتِهم ليصيروا من جملة التوّابين ورجع عليهم بالقَبول والرَّحمة مرةً بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم {إِنَّ الله هُوَ التواب} المبالغُ في قَبول التوبةِ كمّاً وكيفاً وإن كثُرت الجناياتُ وعظمُت {الرحيم} المتفضل عليهم بفنون الآلاءِ مع استحقاقهم لأفانينِ العقاب رُوي إنَّ ناساً من المؤمنينَ تخلفُوا عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم منهم مَنُ بدا له وكره مكانه فلحِق به صلى الله عليه وسلم عن الحسن رضيَ الله عنه أنَّه قال بلغني أنه كان لأحدهم حائطٌ كان خيراً من مائة ألف درهم فقال يا حائطاه ما خالفني إلا ظلُّك وانتظارُ ثمارِك اذهبْ فأنت في سبيل الله ولم يكن لآخرَ إلا أهلُه فقال يا أهلاه ما بطّأني ولا خلّفني إلا الفتنُ بك فلا جرَم والله لأكابدنّ الشدائدَ حتى ألحقَ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم فتأبط زادَه ولحِق به صلى الله عليه وسلم قال الحسن رضي الله عنه كذلك والله المؤمنُ يتوب من ذنوبه ولا يُصِرُّ عليها

وعن أبي ذر الغفاري أن بعيرَه أبطأ به فحمَل متاعَه على ظهره واتّبع أثرَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ماشيا فقال صلى الله عليه وسلم لما رأى سوادَه كنْ أبا ذر فقال الناسُ هو ذاك فقال صلى الله عليه وسلم رحِم الله أبا ذر يمشي وحدَه ويموت وحده ويُبعث وحده وعن أبي خيثمةَ أنه بلغ بستانُه وكانت له امرأةٌ حسناءُ فرَشت له في الظل وبسَطت له الحصيرَ وقرّبت إليه الرطَبَ والماءَ الباردَ فنظر فقال ظلٌ ظليلٌ ورُطبٌ يانعٌ وماء باردٌ وامرأةٌ حسناء ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الضِحّ والريح ما هذا بخير فقام ورحل ناقتَه وأخذ سيفَه ورُمحَه ومرَّ كالريح فمد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم طْرفَه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السرابُ فقال كن أبا خيثمةَ فكانَهُ ففرِح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفرَ له ومنهم من بقيَ لم يلحَقْ به صلى الله عليه وسلم منهم الثلاثة قال كعب رضي الله عنه لما قفَل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سلّمتُ عليه فرد عليّ كالمغضب بعد ما ذكرني وقال يا ليت شعري ما خلّف كعباً فقيل له ما خلفه إلا حسنُ بُردَيه والنظرُ في عطفيه فقال صلى الله عليه وسلم ما أعلم إلا فضلاً وإسلاماً ونهى عن كلامنا أيها الثلاثةُ فتنكر لنا الناسُ ولم يكلمنا أحدٌ من قريب ولا بعيد فلما مضت أربعون ليلةً أُمرنا أن نعتزل نساءَنا ولا نقرَبَهن فلما تمت خمسون ليلةً إذا أنا بنداء من ذُروة سلعٍ أبشرْ يا كعبُ بنَ مالكٍ فخرَرْتُ لله ساجداً وكنتُ كما وصفني ربي وضاقتْ عليهم الأرضُ بما رحبت وضاقت عليهم أنفسُهم وتتابعت البِشارةُ فلبست ثوبي وانطلقتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالسٌ في المسجد وحوله المسلمون فقام طلحةُ بنُ عُبيدِ اللَّه يُهرْوِل إلي حتى صافحني وقال لتهنِكَ توبةُ الله عليك فلن أنساها لطلحةَ رضي الله عنه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارةَ القمر أبشر يا كعبُ بخير يوم مر عليك منذ ولدتْك أمُّك ثم تلا علينا الآية وعن أبي بكر الوراق أنه سئل عن التوبة النَّصوح فقال أن تَضيق على التائب الأرضُ بما رحبَتْ وتضيقَ عليه نفسُه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه سورة براءة آية (119 120)

119

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} خطابٌ عام يندرج فيه التائبون اندراجاً أولياً وقيل لمن تخلف عليه من الطلقاء عن غزوة تبوكَ خاصة {اتقوا الله} في كلِّ ما تأتون وما تذرون فيدخُل فيه المعاملةُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر المغازي دخولاً أولياً {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} في إيمانهم وعهودِهم أو في دين الله نيةً وقولاً وعملاً أو في كلِّ شأنٍ من الشئون فيدخل ما ذُكر أو في توبتهم وإنابتهم فيكون المرادُ بهم حينئذ هؤلاء الثلاثةَ وأضرابَهم وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه خطابٌ لمن آمنَ مّنْ أَهْلِ الكتابِ أي كونوا مع المهاجرين والأنصارِ وانتظِموا في سلكهم في الصدق وسائر المحاسن وقرئ من الصادقين

120

{مَا كَانَ لاهْلِ المدينة} ما صح وما

استقام لهم {وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الاعراب} كمزينةَ وجهينةَ وأشجعَ وغِفارٍ وأضرابهِم {أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله} عند توجهه صلى الله عليه وسلم إلى الغزو {وَلاَ يَرْغَبُواْ} نصب وقد جُوِّز الجزمُ {بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي لا يصرِفوها عن نفسه الكريمةِ ولا يصونوها عما لم يصُن عنه نفسَه بل يكابده معه ما يكابده من الأهوال والخطوب والكلامُ في معنى النهي وَإِن كان على صورة الخبر {ذلك} إشارةٌ إلى ما دل عليه الكلامُ من وجوب المشايعة {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} أي عطشٌ يسير {وَلاَ نَصَبٌ} ولا تعب ما {وَلاَ مخمصة} أي مجاعة ما لا يستباح عنده المحرمات من مراتبها فإن الظمأَ والنصبَ اليسيرين حين لم يخلُوَا من الثواب فلأَنْ لا يخلو ذلك منه أولى فلا حاجة إلى تأكيد النفي بتكرير كلمة لا ويجوزُ أنْ يُرادَ بها تلك المرتبةُ ويكونُ الترتيبُ بناءً على كثرة الوقوعِ وقِلّته فإن الظمأَ أكثرُ وقوعاً من النصب الذي هو أكثرُ وقوعاً من المخمصة بالمعنى المذكور فتوسيطُ كلمةِ لا حينئذ ليس لتأكيد النفي بل للدلالة على استقلال كلَ واحدٍ منها بالفضيلة والاعتداد به {فِى سَبِيلِ الله} وإعلاء كلمتِه {ولا يطؤون مَوْطِئًا يَغِيظُ الكفار} أي لا يدوسون بأرجلهم وحوافِر خيولِهم وأخفافِ رواحلِهم دَوْساً أو مكاناً يداس {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً} مصدرٌ كالقتل والأسرِ والنهب أو مفعول أي شيئاً يُنال من قِبَلهم {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ} أي بكلِّ واحدٍ من الأمور المعدودةِ {عَمَلٌ صَالِحٌ} وحسنةٌ مقبولةٌ مستوجبةٌ بحكم الوعد الكريمِ للثواب الجميلِ ونيل الزُّلفى والتنوينُ للتفخيم وكونُ المكتوبِ عينَ ما فعلوه من الأمور لا يمنع دخولَ الباء فإن اختلافَ العنوان كافٍ في ذلك {إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} على إحسانهم تعليلٌ لما سلف من الكتب والمرادُ بالمحسنين إما المبحوثُ عنهم ووضعُ المُظْهر موضعَ المضمرِ لمدحهم والشهادةِ عليهم بالانتظام في سلك المحسنين وأن أعمالَهم من قبيل الإحسانِ وللإشعار بعلية المأخَذ للحكم وإما جنسُ المحسنين وهم داخلون فيه دخولا أوليا سورة براءة آية (121 122)

121

{وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً} ولو تمرةً أو علاقةَ سَوْط {وَلاَ كَبِيرَةً} كما أنفق عثمانُ رضيَ الله عنْهُ والترتيب باعتبار ما ذُكر من كثرة الوقوعِ وقلته وتوسيطُ لا للتنصيص على استبداد كلَ منهما بالكتْب والجزاءِ لا لتأكيد النفي كما في قوله عز وجل {وَلاَ يَقْطَعُونَ} أي لا يجتازون في مسيرهم {وَادِيًا} وهو في الأصل كلُّ منفرَجٍ من الجبال والآكامِ يكون منفذاً للسيل اسمُ فاعلٍ من ودَى إذا سال ثم شاع في الأرض على الإطلاق {إِلاَّ كتب لهم} أي أثبت لَهُمْ ذلك الذي فعلوه من الإنفاق والقطع {لِيَجْزِيَهُمُ الله} بذلك {أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أحسنَ جزاءِ أعمالِهم أو جزاءَ أحسنِ أعمالِهم

122

{وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً}

أي ما صح وما استقام لهم أن ينفِروا جميعاً لنحو غزْوٍ أو طلب علمٍ كما لا يستقيم لهم أن يتثبّطوا جميعاً فإن ذلك مُخِلٌّ بأمر المعاش {فَلَوْلاَ نَفَرَ} فهلا نفَر {مِن كُلّ فِرْقَةٍ} أي طائفة كثيرة {مِنْهُمْ} كأهل بلدةٍ أو قبيلةٍ عظيمة {طَائِفَةٌ} أي جماعة قليلة {لّيَتَفَقَّهُواْ فِى الدين} أي يتكلفوا الفَقاهةَ فيه ويتجشموا مشاقَّ تحصيلِها {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} أي وليجعلوا غايةَ سعيِهم ومرمى غرضِهم من ذلك إرشادَ القومِ وإنذارَهم {إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ} وتخصيصُه بالذكر لأنه أهم وفيه دليلٌ على أنَّ التفقهَ في الدين من فروض الكفايةِ وأن يكون غرضُ المتعلمِ الاستقامةَ والإقامةَ لا الترفعَ على العباد والتبسط في البلاد كما هو ديدن أبناء الزمان والله المستعان {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} إرادةَ أن يحذروا عما ينذرون واستُدل به على أنَّ أخبارَ الآحادِ حجةٌ لأن عمومَ كلِّ فرقةٍ يقتضي أن ينفِرَ من كل ثلاثةٍ تفردوا بقرية طائفةٌ إلى التفقه لتنذر فرقتها كي يتذكروا ويحذروا فلو لم يعتبر الإخبارُ ما لم يتواتر لم يُفِدْ ذلك وقد قيل للآية وجهٌ آخرُ وهو أن المؤمنين لما سمعوا ما نزل في المتخلفين سارعوا إلى النفير رغبةً ورهبةً وانقطعوا عن التفقه فأُمروا أن ينفر من كل فرقةٍ طائفةٌ إلى الجهاد ويبقى أعقابُهم يتفقهون حتى لا ينقطع الفقهُ الذي هو الجهادُ الأكبرُ لأن الجدالَ بالحجة هو الأصلُ والمقصودُ من البعثة فالضميرُ في ليتفقهوا ولينذِروا لبواقي الفِرَق بعد الطوائفِ النافرةِ للغزو وفي رجعوا للطوائف أي ولينذر البواقي قومَهم النافرين إذا رجَعوا إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم سورة براءة آية (123 124)

123

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار} أُمروا بقتال الأقربِ منهم فالأقرب كما أُمر صلى الله عليه وسلم أولاً بإنذار عشيرتِه فإن الأقربَ أحقُّ بالشفقة والاستصلاحِ قيل هم اليهودُ حوالي المدينة كبني قرُيظةَ والنَّضير وخيبَر وقيل الرومُ فإنهم كانوا يسكنون الشامَ وهو قريبٌ من المدينة بالنسبة إلى العراق وغيره {وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} أي شدة وصبرا على القتال وقرئ بفتح الغين كسَخْطة وبضمها وهما لغتان فيها {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} بالعصمة والنصرة والمرادُ بهم إما المخاطَبون ووضعُ الظاهرِ موضعَ الضمير للتنصيص على أن الإيمانَ والقتالَ على الوجه المذكور من باب التقوى والشهادة بكونهم من زمرة المتقين وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أولياً والمرادُ بالمعية الولايةُ الدائمةُ وقد ذُكر وجهُ دخولِ مع على المتبوع في قوله تعالى إن الله مَعَنَا

124

{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} من سور القرآن {فَمِنْهُمْ} أي من المنافقين {مَن يقول} لإخوانهم ليثبِّتهم على النفاق أو لعوامّ المؤمنين وضعفتِهم ليصُدّهم عن الإيمان {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه} السورة {إيمانا} وقرئ بنصب أيَّكم على تقدير فعلٍ يفسِّره المذكورُ

أي زادت أيُّكم زادتْه هذه الخ وإيرادُ الزيادةِ مع أنه لا إيمانَ فيهم أصلاً باعتبار اعتقادِ المؤمنين حسبما نطق به قوله تعالى إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ زَادَتْهُمْ إيمانا {فَأَمَّا الذين آمنوا} جوابٌ من جهته سبحانه وتحقيقٌ للحق وتعيينٌ لحالهم عاجلاً وآجلاً أي فأما الذين آمنوا بالله تعالى وبما جاء من عنده {فَزَادَتْهُمْ إيمانا} بزيادة العلمِ اليقينيِّ الحاصلِ من التدبر فيها والوقوفِ عَلى ما فَيها من الحقائق وانضمامِ إيمانِهم بما فيها بإيمانهم السابق {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} بنزولها وبما فيه من المنافع الدينيةِ والدنيويةِ سورة براءة آية (125 127)

125

{وَأَمَّا الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي كفرٌ وسوءُ عقيدة {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} أي كُفراً بها مضموماً إلى الكفر بغيرها وعقائدَ باطلةً وأخلاقاً ذميمةً كذلك {وَمَاتُواْ وَهُمْ كافرون} واستحكم ذلك إلى أن يموتوا عليه

126

{أَوْ لاَ يَرَوْنَ} الهمزةُ للإنكار والتوبيخ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ أي ألا ينظُرون ولا يرَوْن {أَنَّهُمْ} أي المنافقين {يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ} من الأعوام {مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} والمرادُ مجردُ التكثيرِ لا بيانُ الوقوع حسب العدد المزبورِ أي يُبتلَوْن بأفانينِ البليات من المرض والشدةِ وغيرِ ذلك مما يذكّر الذنوبَ والوقوفَ بين يدي ربَّ العِزَّة فيؤدي إلى الإيمان به تعالى أو الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعانون ما ينزل عليه من الآيات لا سيما القوارعُ الزائدة للإيمان الناعية عليه ما فيهم من القبائح المخزيةِ لهم {ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ} عطف على لا يَرَوْن داخلٌ تحت الإنكار والتوبيخِ وكذا قوله تعالى {وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} والمعنى أولا يَرَون افتتانَهم الموجبَ لإيمانهم ثم لا يتوبون عمَّا هُم عليهِ من النفاق ولا هم يتذكرون بتلك الفِتن الموجبةِ للتذكر والتوبة وقرئ بالتاء والخطاب للمؤمنين والهمزةُ للتعجيب أي ألا تظرون ولا ترَوْن أحوالَهم العجيبة التي هي افتتانُهم على وجه التتابعِ وعدمَ التنبّهِ لذلك فقوله تعالى ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وما عطف عليه معطوفٌ على يفتنون

127

{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} بيان لأحوالهم عند نزولِها وهم في محفل تبليغِ الوحي كما أن الأولَ بيانٌ لمقالاتهم وهم غائبون عنه {نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ} تغامزوا بالعيون إنكاراً لها أو سخريةً بها أو غيظاً لما فيها من مخازيهم {هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ} أي قائلين هل يراكم أحدٌ من المسلمين لننصرف مظهرين أنهم لا يصطبرون على استماعها ويغلبُ عليهم الضحِكُ فيفتَضِحون أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروجِ والانسلال لو إذا يقولون هل يراكم من أحد إن قمتم من المجلس وإيرادُ ضمير الخطابِ لبعث المخاطَبين على الجد في انتهاز الفرصةِ فإن المرءَ بشأنه أكثرُ اهتماماً منه بشأن أصحابِه كما في قوله تعالى وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا وقيل المعنى وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ في عيوب

المنافقين {ثُمَّ انصرفوا} عطفٌ على نظَر بعضُهم والتراخي باعتبار وُجدانِ الفرصةِ والوقوفِ على عدمِ رؤيةِ أحدٍ من المؤمنين أي انصرفوا جميعاً عن محفِل الوحيِ خوفاً من الافتضاح أو غير ذلك {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} أي عن الإيمان حسَب انصرافِهم عن المجلس والجملة إخبارية أو دعائية {بِأَنَّهُمْ} أي بسببِ أنَّهم {قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} لسوء الفهم أو لعدم التدبر سورة براءة آية (128 129)

128

{لَقَدْ جَاءكُمْ} الخطابُ للعرب {رسول} أي رسول رسول عظيمُ الشأن {مّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنسِكم عربيٌّ قرشي مثلكم وقرئ بفتح الفاء أي أشرفِكم وأفضِلكم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي شاقٌّ شديدٌ عليه عَنَتُكم ولقاؤكم المكروهَ فهو يخاف عليكم سوءَ العاقبةِ والوقوعَ في العذاب وهذا من نتائج ما سلف من المجانسة {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} في إيمانكم وصلاحِ حالِكم {بالمؤمنين} منكم ومن غيركم {رؤوف رَّحِيمٌ} قدِّم الأبلغُ منهما وهي الرأفةُ التي هي عبارةٌ عن شدة الرحمةِ محافظةً على الفواصل

129

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم تسليةً له أي إن أعرضوا عن الإيمان بك {فَقُلْ حَسْبِىَ الله} فإنه يكفيك ويُعينك عليهم {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فلا أرجو ولا أخاف إلا منه {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} أي المُلك العظيمِ أو الجِسم الأعظمِ المحيط الذي تنزل منه الأحكامُ والمقادير وقرئ العظيمُ بالرفع وعن أبي أن آخِرَ ما نزل هاتان الآيتان وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ما نزل القرآن على إلا آيةً آيةً وحرفاً حرفاً ما خلا سورةَ براءةٌ وسورةَ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ فإنهما أُنزلتا عَليّ ومعهما سبعونَ ألفَ صفٍ منَ الملائكة

سورة يونس عليه السلام مكية وهى مائة وتسع آيات سورة يونس (1) بسم الله الرحمن الرحيم

يونس

{الر} بتفخيم الراءِ المفتوحةِ وقرىء بالإمالة إجراءً للأصلية مُجرى المنقلبة عن الياء وقرىء بينَ بين وهو إمَّا مسرودٌ على نمطِ التعديدِ بطريقِ التَّحدِّي على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ في فاتحةِ سُورةِ البقرةِ فلا محلَّ له من الإعرابِ وإمَّا اسمٌ للسُّورةِ كما عليه إطباقُ الأكثرِ فمحلُّه الرفعُ على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي هذه السورةُ مسماةٌ بألر وهو أظهرُ من الرَّفع على الابتداء لعدم سبق العلمِ بالتسميةِ بعدُ فحقُّها الإخبارُ بها لا جعلُها عنوانَ الموضوع لتوقفه على علم المخاطب بالانتساب كما مر والإشارةُ إليها قبل جَرَيانِ ذكرها لِما أنها باعتبار كونِها على جناح الذكْرِ وبصدده صارت في حكم الحاضِر كما يقال هذا ما اشترى فلان أو النصبُ بتقديرِ فعلِ لائقٍ بالمقام نحوُ اذكُر أو اقرأْ وكلمةُ {تِلْكَ} إشارةٌ إليها إما على تقدير كونِ الر مسرودة على نمط التعديدِ فقد نُزّل حضورُ مادتِها التي هي الحروفُ المذكورةُ منزلةَ ذكِرها فأشير إليها كأنه قيل هذه الكلماتُ المؤلفةُ من جنس هذه الحروفِ المبسوطةِ الخ وأما على تقديرِ كونِه اسماً للسورة فقد نوّهتُ بالإشارة إليها بعد تنويهِها بتعيين اسمِها أو الأمر بذكرها أو بقراءتها وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البُعد للتنبيه على بُعد منزلِتها في الفخامةِ ومحلُّه الرفعُ على أنه مبتدأ خبره قوله تعالى {آيَات الكتاب} وعلى تقدير كون الر مبتدأً فهو مبتدأٌ ثانٍ أو بدلٌ من الأَّولِ والمعنى هي آياتٌ مخصوصةٌ منه مترجمةٌ باسم متسقل والمقصودُ ببيانِ بعضيَّتِها منه وصفُها بما اشتهر اتصافُه به من النعوت الفاضلةِ والصفاتِ الكاملةِ والمرادُ بالكتاب إما جميعُ القرآنِ العظيم وإن لم ينزل الكلُّ حينئذ إما باعبتار تعيّنِه وتحققِه في علمِ الله عزَّ وعلا أو في اللَّوحِ أو باعتبار أنه أُنزل جُملةً إلى السماءِ الدُّنيا كَما هو المشهورُ فإن فاتحةَ الكتاب كانت مسماة بهذا الاسم وبأم القرآن في عهد النبوة ولمّا يحصُلِ المجموعُ الشخصي إذ ذاك فلا بد من ملاحظة كلَ من الكتاب والقرآن بأحد الاعتبارات المذكورة وإما جميعُ القرآنِ النازلِ وقتئذ المتفاهَمِ بين الناسِ إذ ذاك فإنه كما يُطلق على المجموع الشخصيّ يُطلق على مجموع ما نزل في كل عصرٍ ألا يُرى إلى ما رُوي عنْ جابرٌ رضيَ الله عْنهُ أنه قال كان النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحُدٍ في ثوب واحد ثم يقول أيُّهم أكثرُ أخذاً للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد فإن ما يفهمه الناسُ من القرآن في ذلك الوقت ويحافظون على التفاوت في أخذه إنما هو المجموعُ النازلُ حينئذ من غير

ملاحظةٍ لتحقق المجموعِ الشخصيِّ في علم الله سبحانه أو في اللوح ولا لنزوله جُملةً إلى السماءِ الدُّنيا {الحكيم} ذي الحِكمة وصُف به لاشتماله على فنون الحِكَم الباهرةِ ونُطقِه بها أو هو من باب وصفِ الكلامِ بصفة صاحبِه أو من باب الاستعارة المكنيةِ المبنيةِ على تشبيه الكتابِ بالحكيم الناطق بالحكمة هذا وقد جعل الكتابُ عبارةً عن نفس السورةِ وكلمةُ تلك إشارةٌ إلى من ضمنها من الآي فإنها في حكم الحاضرِ لا سيما بعد ذكرِ ما يتضمنها من السورة عند بيان اسمِها أو الأمرِ بذكرها أو بقراءتها وينبغي أن يكون المشارُ إليه حينئذ كلَّ واحدةٍ منها لا جميعَها من حيث هو جميعٌ لأنه عينُ السورةِ فلا يكون للإضافة وجهٌ ولا لتخصيص الوصفِ بالمضاف إليه حكمةٌ فلا يتأتى ما قُصد من مدح المضافِ بما للمضاف إليه من صفات الكمال ولأن في بيان اتصافِ كلَ منها بالكمال من المبالغة ما ليس في بيان اتصافِ الكلِّ بذلك والمتبادرُ من الكتاب عند الإطلاقِ وإن كان كلُّه بأحد الوجهين المذكورين لكنّ صحةَ إطلاقِه على بعضه أيضاً مما لا ريب فيها والمعهودُ المشهورُ وإن كان اتصافُ الكل بأحد الاعتبارين بما ذُكر من نعوت الكمالِ إلا أن شهرةَ اتصافِ كل سورةٍ منه بما اتصف به الكلُّ مما لا ينكر وعليه يدور تحققُ مدحِ السورةِ بكونها بعضاً من القرآن الكريم إذ لولا أن بعضَه منعوتٌ بنعت كلِّه داخلٌ تحت حكمهِ لما تسنى ذلك وفيه ما لا يَخفْى من التكلف والتعسف سورة يونس آية

2

2 - {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} الهمزةُ لإنكار تعجّبِهم ولتعجب السامعين منه لكونه في غير محلِّه والمرادُ بالناس كفارُ مكةَ وإنما عبِّر عنهم باسم الجِنسِ من غير تعرُّضٍ لكفرهم مع أنه المدارُ لتعجبهم كما تُعُرِّض له في قولِه عزَّ وجلَّ قَالَ الكافرون الخ لتحقيق ما فيه الشركةُ بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعيينِ مدارِ التعجبِ في زعمهم ثم تبيينِ خطئِهم وإظهارِ بطلانِ زعمِهم بإيراد الإنكارِ والتعجيب واللامُ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من عجباً وقيل بعجباً على التوسع المشهورِ في الظروف وقيل المصدرُ إذا كان بمعنى اسم الفاعلِ أو اسمِ المفعول جاز تقديمُ معمولِه عليه وقيل متعلقةٌ بكان وهو مبنيٌّ على دلالة كان الناقصةِ على الحدث {أَنْ أَوْحَيْنَا} اسمُ كان قُدِّم عليه خبرُها اهتماماً بشأنه لكونه مدارَ الإنكارِ والتعجيبِ وتشويقاً إلى المؤخَّر ولأنَّ في الاسم ضربَ تفصيلٍ ففي مراعاة الأصل نوع إخلال بتجاوب أطرافِ الكلام وقرىء برفع عجب على أنه الاسمُ وهو نكرةٌ والخبرُ أن أوحينا وهو معرفةٌ لأن أن مع الفعل في تأويل المصدرِ المضافِ إلى المعرفة البتةَ والمختارُ حينئذ أن تجعل كان تامةٌ وأن أوحينا متعلقاً بعجبٌ على حذف حرف التعليم أي أحدث للناس عجبٌ لأن أوحينا أو من أن أوحينا أو بدلاً من عجبٌ لكن لا على توجيه الإنكارِ والتعجيب إلى حدوثه بل إلى كونه عجباً فإن كونَ الإبدالَ في حُكم تنحيةِ المبدَلِ منه ليس معناه إهدارَه بالمرة وإنما قيل للناس لا عند الناس للدِلالة على أنهم اتخذوه أعجوبةً لهم وفيهِ من زيادةِ تقبيحِ حالِهم ما لا يَخْفى {إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ} أي إلى بشر من جنسهم كقولهم أبعث الله بشراً رسولاً أو من أفنائهم

من حيث المال لا من عظمائهم كقولهم لَوْلاَ نزِّل هذا القرآنُ على رَجُلٍ مّنَ القريتينِ عَظِيمٍ وكلا الوجهين من ظهور البطلانِ بحيث لا مزيد عليه أما الأولُ فلأن بعض الملَكِ إنما يكون عند كون المبعوثِ إليهم ملائكةً كما قال سبحانه قُل لَوْ كَانَ فِى الارض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضةِ الملكية كيف لا وهي منوطةٌ بالتناسب والتجانس فبعثُ الملَكِ إليهم مزاحِمٌ للحمكة التي عليها يدورُ فلكُ التكوينِ والتشريع وإنما الذي تقتضيه الحكمةُ أن يُبعث الملك من بينهم إلى الخواصّ المختصّين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتعلّقين بكلا العالَمَين الروحانيِّ والجُسماني ليتلقَّوا من جانب ويلقوا إلى جانب وأما الثاني فلما أن مناطَ الاصطفاء للنبوة والرسالةِ هو التقدُم في الاتِّصافُ بما ذُكر من النعوت الجميلةِ والصفاتِ الجليلة والسبْقِ في إحراز الفضائلِ العلية وحيازةِ الملَكات السَّنية جِبِلّةً واكتساباً ولا ريب لأحد منهم في أنه صلى الله عليه وسلم في ذلك الشأنِ في غايةُ الغاياتِ القاصيةِ ونهايةُ النهاياتِ النائيةِ وأما التقدمُ في الرياسات الدنيويةِ والسبْقِ في نيل الحظوظِ الدَّنيةِ فلا دخلَ له في ذلك قطعاً بل له إخلالٌ به غالباً قال صلى الله عليه وسلم لو كانتِ الدُّنيا تزنُ عندَ الله جناحَ بعوضةٍ ما سَقَى الكافرَ منها شربةَ ماء {أَنْ أَنذِرِ الناس} أن مصدريةٌ لجوازِ كونِ صلتِها أمراً كما في قولِهِ تعالَى وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ وذلك لأن الخبرُ والإنشاءُ في الدلالةِ على المصدر سيانِ فساغ وقوعُ الأمرِ والنهي صلةً حسب وقوع الفعل فليجرد عند ذلك عن مَعْنَى الأمرِ والنَّهيِ نحوُ تجردِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضيِّ والاستقبالِ ووجوبُ كونِ الصلةِ في الموصول الاسميِّ خبريةً إنما هو للتوصل بها إلى وصفِ المعارفِ بالجملِ لا لقصور في دلالة الإنشاءِ على المصدر أو مفسرةٌ إذ الإيحاءُ فيه معنى القولِ وقد جوز كونُها مخفّفة من المثقّلة على حذف ضميرِ الشأنِ والقولِ من الخبر والمعنى أن الشأنَ قولُنا أنذر الناسَ والمرادُ به جميعُ الناسِ كافةً لا ما أريد بالأول وهو النكتةُ في إيثار الإظهارِ على الإضمار وكونُ الثاني عينَ الأولِ عند إعادة المعرفةِ ليس على الإطلاق {وبشر الذين آمنوا} بما أوحيناه وصدّقوه {أَنَّ لَهُمْ} أي بأن لهم {قَدَمَ صِدْقٍ} أي سابقةً ومنزلةً رفيعة {عِندَ رَبّهِمْ} وإنما عبر عنها بها إذ بها يحصُل السبْقُ والوصولُ إلى المنازل الرفيعةِ كما يعبر عن النعمة باليد لأنها تعطى بها وقيل مقامَ صدقٍ والوجهُ أو الوصولَ إلى المقام إنما يحصُل بالقدم وإضافتُها إلى الصدق للدلالة على تحققها وثباتِها وللتنبيه على أن مدارَ نيلِ ما نالوه من المراتب العليةِ هو صدقُهم فإن التصديقَ لا ينفك عن الصدق {قَالَ الكافرون} هم المتعجبون وإيرادُهم ههنا بعنوان الكفر مما لا حاجة إلى ذكر سببِه وتركُ العاطفِ لجرَيانه مَجرى البيانِ للجملة التي دخلت عليها همزةُ الإنكار أو لكونه استئنافاً مبنيَّاً على السُّؤالِ كأنَّه قيلَ ماذا صنعوا بعد التعجبِ هل بقُوا على التردد والاستبعادِ أو قطعوا فيه بشيء فقيل قال الكافرون على طريقة التأكيدِ {إِنَّ هَذَا} يعنون به ما أوحيَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن الحكيم المنطوي على الإنذار والتبشير {لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} أي ظاهرٌ وقرىء لساحْر على أنَّ الإشارةَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرىء مَا هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وهذا اعترافٌ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ بأن ما عاينوه خارجٌ عن طوْق البشر نازلٌ من جناب خلاق القُوى والقدَر ولكنهم سمَّوه بما قالوا تمادياً في العناد كما هو ديدنُ

المكابرِ اللَّجوجِ ودأبُ المُفحَمِ المحجوج سورة يونس آية (3)

3

{إِنَّ رَبَّكُمُ} كلامٌ مستأنفٌ سيق لإظهار بطلانِ تعجُّبهم المذكورِ وما بنَوا عليه من المقالة الباطلةِ غِبَّ الإشارةِ إليه بالإنكار والتعجيبِ وحُقّق فيه حقيةُ ما تعجبوا منه وصِحّةُ ما أنكروه بالتنبيه الإجمالي على بعض ما يدل عليها من شئون الخلقِ والتقديرِ وأحوالِ التكوينِ والتدبيرِ ويُرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكيرٍ لاعترافهم به من غير نكيرٍ لقولِه تعالى قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ وقوله تعالى قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض إلى قوله تعالى وَمَن يُدَبّرُ الامر فَسَيَقُولُونَ الله أي إن ربكم ومالكَ أمرِكم الذي تتعجبون من أن يرسِل إليكم رجلاً منكم بالإنذار والتبشيرِ وتُعدّون ما أوحيَ إليه من الكتاب الحكيم سحراً هو {الله الذى خلق السماوات والارض} وما فيهما من أصول الكائنات {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي في ستة أوقاتٍ أو في مقدار ستةِ أيام معهودةٍ فإن نفسَ اليوم الذي هو عبارةٌ عن زمان كونِ الشمس فوق الأرض مما لا يتصور تحققُه حين لا أرض ولا سماء وفي خلقها مدرجا مع القدرة التامةِ على إبداعها دفعة دليل على الاختيار واعتبارٌ للنظّار وحثٌّ لهم على التأنيّ في الأحوال والأطوار وأما تخصيصُ ذلك بالعدد المعينِ فأمرٌ قد استأثر بعلم ما يستدعيه علامُ الغيوب جلت قدرتُه ودقتْ حكمتُه وإيثارُ صيغةِ الجمعِ في السموات لما هو المشهورُ من الإيذان بأنها أجرامٌ مختلفةُ الطباعِ متباينةُ الآثارِ والأحكام {ثُمَّ استوى عَلَى العرشُ} هو الجسمُ المحيطُ بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه أو للتشببه بسرير الملِك فإن الأوامرَ والتدابير منه تنزل وقيل هو المُلك ومعنى استوائِه سبحانه عليه استيلاؤُه عليه أو استواءُ أمرِه وعن أصحابنا أن الاستواءَ على العرش صفةٌ له سبحانه بلا كيف والمعنى أنه سبحانه استوى على العرش على الوجه الذي عناه منزَّهاً عن التمكن والاستقرار وهذا بيانٌ لجلالة مُلكه وسلطانه بعد بيان عظمةِ شأنِه وسَعة قدرتِه بما مر من خلق هاتيك الأجرامِ العظام {يُدَبّرُ الامر} التدبيرُ النظرُ في أدبار الأمورِ وعواقبِها لتقعَ على الوجه المحمودِ والمرادُ ههنا التقديرُ على الوجه الأتمِّ الأكملِ والمرادُ بالأمر أمرُ ملكوتِ السمواتِ والأرضِ والعرشِ وغيرُ ذلك من الجزيئات الحادثةِ شيئاً فشيئاً على أطوار شتى وأنحاء لا تكاد تحصى من المناسبات والمبايناتِ في الذوات والصفاتِ والأزمنةِ والأوقاتِ أي يقدّر ما ذُكر من أمر الكائناتِ الذي ما تعجبوا منه من أمر البعث والوحي فردٌ من جملته وشُعبةٌ من دوحته ويهييء أسبابَ كل منها حدوثاً وبقاءً في أوقاتها المعينةِ ويرتب مصالحَها على الوجه الفائقِ والنمطِ اللائقِ حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة والجملة في محل النصب على أنها حالٌ من ضمير استوى وقد جوز كونُها خبراً ثانياً لإن أو مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مبنيّةٌ على سؤال نشأ من ذكر الاستواءِ على العرش المنبىءِ عن إجراء أحكامِ المُلك وعلى كل حال فإيثارُ صيغةِ المضارعِ للدَلالة على تجددِ التدبيرِ واستمرارِه وقوله عز وجل {مَا مِن شَفِيعٍ}

بيانٌ لاستبداده سبحانه في التقدير والتدبيرِ ونفيٌ للشفاعة على أبلغ الوجوهِ فإن نفيَ جميعِ أفرادِ الشفيعِ بمن الاستغراقية يستلزم نفيَ الشفاعةِ على أتم الوجوه كما في قوله تعالى لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله وهذا بعد قوله تعالى يُدَبّرُ الامر جارٍ مجرى قوله تعالى وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ عقيب قوله تعالى قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء وقولُه تعالى {إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} استثناه مفرغٌ منْ أعمِّ الأوقاتِ أي ما من شفيع يشفع لأحد في وقتٍ من الأوقاتِ إلا بعد إذنِه المبنيِّ على الحكمة الباهرةِ وذلك عند كون الشفيع من المصطَفْين الأخيارِ والمشفوعُ له ممن يليق بالشفاعة كقوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أذِن لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً وفيه من الدِلالة على عظمة جلالِه سبحانه ما لا يخفى {ذلكم} إشارةٌ إلى المعلوم بتلك العظمةِ أي ذلكم العظيمُ الشأنِ المنعوتُ بما ذكر من نعوت الكمالِ التي عليها يدور استحقاق الألوهية {الله} وقوله تعالى {رَبُّكُمْ} بيانٌ له أو بدلٌ منه أو خبرٌ ثانٍ لاسمِ الإشارةِ وهذا بعد بيانِ أن ربَّهم الله الذى خَلَقَ السموات والارض الخ لزيادة التقريرِ والمبالغةِ في التذكير ولتفريع الأمرِ بالعبادة عليه بقوله تعالى {فاعبدوه} أي وحّدوه من غير أن تُشركُوا به شيئاً من ملَك أو نبيَ فضلاً عن جماد لا يُبصر ولا يَسمع ولا يضرُّ ولا ينفعُ وآمِنوا بما أنزله إليكم {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أتعلمون أن الأمرَ كما فُصل فلا تتذكرون ذلك حتى تقِفوا على فساد ما أنتم عليه فترتدعوا عنه سورة يونس الآية (4)

4

{إِلَيْهِ} لا إلى أحدٍ سواهُ استقلالاً أو اشتراكاً {مَرْجِعُكُمْ} أي بالبعث كما ينبىء عنه قوله تعالى {جميعا} فإنه حالٌ منَ الضميرِ المجرورِ لكونه فاعلاً في المعنى أي إليه رجوعُكم مجتمعين والجملةُ كالتعليل لوجوب العبادة {وَعَدَ الله} مصدرٌ مؤكدٌ لنفسه لأن قوله عزَّ وجلَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وعد منه سبحانه بالبعث أو لفعل مقدر أي وعَدَ الله وأيا ما كان فهو دليلٌ على أن المرادَ بالمرجِع هو الرجوعُ بالبعث لأن ما بالموت بمعزل من الوعد كما أنه بمعزل من الاجتماع وقرىء بصيغة الفعل {حَقّاً} مصدرٌ آخرُ مؤكدٌ لما دل عليه الأول {إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق} وقرىء يُبدِىء {ثُمَّ يُعِيدُهُ} وهو استئنافٌ عُلّل به وجوبُ المرجعِ إليه سبحانه وتعالى فإن غايةَ البدء والإعادة هو جزاءُ المكلّفين بأعمالهم حسنةً أو سيئةً وقرىء بالفتح أي لأنه ويجوز كونُه منصوباً بما نصب وعدَ الله أي وعَد الله وعدا بدء الخلق ثم إعادتَه ومرفوعاً بما نصب حقاً أي حق حقا بدءُ الخلقِ الخ {ليجزي الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل وهو حالٌ من فاعلِ يجزي أي ملتبساً بالعدل أو متعلق بيجزي أي ليجزيَهم بقسطه ويوفيَهم أجورَهم وإنما أجمل ذلك إيذانا بأنه لا يفي به الحصرُ أو بقسطهم وعدلِهم عند إيمانِهم ومباشرتِهم للأعمال الصالحة وهو الأنسبُ بقوله عز وجل {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} فإن معناه ويجزي الذين كفروا بسبب كفرِهم وتكريرُ الإسناد يجعل الجملةِ الظرفية خبراً للموصول لتقوية الحكمِ والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة

على مواظبتهم على الكفر وتغيير النظم الكريم للإيذان بكمال استحقاقِهم للعقاب وأن التعذيبَ بمعزلٍ عن الانتظامِ في سلكِ العلةِ الغائيّة للخلق بدءاً وإعادةً وإنما يحيقُ ذلك بالكفرة على موجَبِ سوءِ اختيارِهم وأما المقصودُ الأصليُّ من ذلك فهو الإثابة سورة يونس (5)

5

{هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيَاء} تنبيهٌ على الاستدلال على وجوده تعالى ووَحدتِه وعلمه وقدرته وحمكته بآثار صُنعِه في النّيِّريْن بعد التنبيه على الاستدلال بما مر من إبداع السمواتِ والأرضِ والاستواءِ على العرش وغيرِ ذلك وبيانٌ لبعض أفرادِ التدبيرِ الذي أشير إليه إشارةً إجماليةً وإرشادٌ إلى أنه حيث دبّرت أمورُهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبيَر البديعَ فلأن يدبّرَ مصالحَهم المتعلقةَ بالمعاد بإرسالِ الرسولِ وإنزالِ الكتابِ وتبيينِ طرائقِ الهدى وتعيينِ مهاوي الردى أولى وأحرى والجعلُ إن جُعل بمعنى الإنشاءِ والإبداعِ فضياءً حالٌ من مفعولِهِ أي خلقها حالَ كونِها ذاتَ ضياءٍ على حذف المضافِ أو ضياء محضا للمابلغة وإن جعل بمعنى التصيير فهو مفعولُه الثاني أي جعلها ضياءً على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ لكنْ لا بعدَ أنْ كانت خاليةً عن تلك الحالةِ بل أبدعها كذلكَ كما في قولِهم ضيِّقْ فمُ الرَّكيَّةِ ووسِّعْ أسفلها والضياءُ مصدرٌ كقيام أو جمعُ ضوءٍ كسياط وسَوْط وياؤه منقلبة من الواو لانكسار ما قبلها وقرىء ضِئاء بهمزتين بينهما ألفٌ بتقديم اللاَّمِ على العينِ {والقمر نُوراً} الكلامُ فيه كالكلام في الشمس والضياءُ أقوى من النور وقيل ما بالذات ضوءٌ وما بالعرَض نور ففيه إشعارٌ بأن نورَه مستفادٌ من الشمس {وَقَدَّرَهُ} أي قدّر له وهيأ {مَنَازِلَ} أو قدّر مسيرَه في منازلَ أو قدره ذا منازلَ على تضمين التقديرِ معنى التصييرِ وتخصيصُ القمر بهذا التقديرِ لسرعة سيرِه ومعاينةِ منازِله وتعلقِ أحكامِ الشريعة به وكونِه عمدةً في تواريخ العرب وقد جُعل الضميرُ لكل منهما وهي ثمانيةٌ وعشرون منزلاً ينزل القمرُ كلَّ ليلةٍ في واحدٍ منها لا يتخظاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستوٍ لا يتفاوت يسير فيها من ليلة المستهلِّ إلى الثامنة والعشرين فإذا كان في آخرِ منازلِه دقّ واستقوس ثم يستسرّ ليلتين أو ليلةً إذا نقص الشهرُ ويكون مقامُ الشمس في كل منزلةٍ منها ثلاثةَ عشرَ يوماً وهذه المنازلُ هي مواقعُ النجومِ التي نسَبت إليها العربُ الأنواءَ المستمطَرةَ وهى الشرطان والبطينُ والثريا الدبَرانُ الهقعةُ الهنعةُ الذراعُ النثرةُ الطرفُ الجبهةُ الزبرةُ الصّرفةُ العواءُ السِّماكُ الغفرُ الزباني الإكليلُ القلبُ الشوْلةُ النعائمُ البلدةُ سعدُ الذابحُ سعدُ بلَع سعدُ السعودِ سعدُ الأخبيةِ فرغُ الدلوِ المقدَّم فرغُ الدَّلوِ المؤخّرُ الرَّشا وهو بطن الحوت {لّتَعْلَمُواْ} إما بتعاقب الليلِ والنهارِ المنوطَين بطلوع الشمسِ وغروبِها أو باعتبار نزولِ كلَ منهما في تلك المنازل {عَدَدَ السنين} التي يتعلق بها غرض علمي لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية {والحساب} أي حسابَ الأوقاتِ من الأشهر والأيام والليالي وغيرِ ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورةِ وتخصيصُ العدد بالسنين والحسابِ بالأوقات لما أنه لم يُعتبرْ في السنينَ المعدودةِ معنى مغايرٌ لمراتب الأعداد كما اعتُبر في

الأوقات المحسوبةِ وتحقيقُه أن الحسابَ إحصاءُ ما له كميةٌ انفصاليةٌ بتكرير أمثالِه من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين له اسم خاص وحكم مستقلٌّ كالسنة المتحصِّلةِ من اثنى عشرَ شهراً قد تحصل كل من ذلك من ثلاثين يوماً قد تحصل كل من ذلك من أربع وعشرين ساعةً مثلاً والعدُّ مجردُ إحصائِه بتكرير أمثالِه من غير اعتبارِ أن يتحصل بذلك شيءٌ كذلك ولما لم يعتبر في السنين المعدودة تحصُّلُ حدَ معيَّنٍ له اسمٌ خاصٌّ غيرُ أسامي مراتبِ الأعدادِ وحكم مستقلٌّ أضيف إليها العدد وتحصّلُ مراتب الأعداد من العشرات والمئات والألوف اعتباري لا يجدى فى تحصل المعدودة نفعاً وحيث اعتُبر في الأوقات المحسوبة تحصل ما ذُكر من المراتب التي لها أسامٍ خاصةٌ وأحكامٌ مستقلةٌ علّق بها الحسابُ المنبىءُ عن ذلك والسنةُ من حيث تحققُها في نفسها مما يتعلق به الحسابُ وإنما الذي يتعلق به العدُّ طائفةٌ منها وتعلقُه في ضمن ذلك بكل واحدةٍ من تلك الطائفةِ ليس من الحيثية المذكورة أعني حيثية تحصّلِها من عدة أشهرٍ قد تحصل كلَّ واحدٍ منها من عدة أيامٍ قد حصل كلٌ منها بطائفة من الساعات فإن ذلك وظيفة الحساب بل من حيث إنها فرد من تلك الطائفة المعدودة من غيرِ أنْ يعتبرَ معها شيءٌ غيرُ ذلك وتقديم العدد على الحساب مع أن الترتيبَ بين متعلّقيهما وجوداً وعلماً على العكس لأن العلمَ المتعلّقَ بعدد السنين علم إجمالي بما تعلق به الحساب تفصيلاً وإن لم تتّحِد الجهةُ أو لأن العددَ من حيث إنه لم يعتبر فيه تحصل أمرا آخرَ حسبما حُقق آنفاً نازلٍ من الحساب الذي اعتُبر فيه ذلك منزلةَ البسيطِ من المركب {مَا خَلَقَ الله ذلك} أي ما ذكر من الشمس والقمر عَلى ما حُكي من الأحوال وفيه إيذانٌ بأن معنى جعلِهما على تلك الأحوالِ والهيئاتِ ليس إلا خلقَهما كذلك كما أشير إليه ولا يقدحُ في ذلك أن استفادةَ القمرِ النورَ من الشمس أمرٌ حادثٌ فإن المرادَ بجعله نوراً إنما هو جعلُه بحيث يتصف بالنور عند وجودِ شرائطِ الاتصافِ به بالفعل {إِلاَّ بالحق} استثناءٌ مفرغٌ من أعم أحوالِ الفاعل أو المفعول أي ما خلق ذلك ملتبساً بشيءٍ من الأشياءِ إلا ملتبساً بالحق مراعياً لمقتضى الحِكمة البالغةِ أو مراعىً فيه ذلك وهو ما أشير إليه إجمالاً من العلم بأحوال السنينَ والأوقاتِ المنوطِ به أمورُ معاملاتِهم وعباداتِهم {يُفَصّلُ الآيات} أي الآياتِ التكوينيةَ المذكورةَ أو جميعَ الآياتِ فيدخلُ فيها الآياتُ المذكورةُ دخولاً أولياً أو يفصل الآياتِ التنزيليةَ المنبِّهة على ذلك وقرىء بنون العظمة {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الحكمةَ في إبداع الكائناتِ فيستدلون بذلك على شئون مُبدعِها جل وعلا أو يعلمون ما في تضاعيفِ الآياتِ المنزلة فيؤمنون بها وتخصيصُ التفصيلِ بهم لأنهم المنتفعون به سورة يونس آية (6)

6

{إن في اختلاف الليل والنهار} تنبيهٌ آخرُ إجماليٌّ على ما ذُكر أي في تعاقبهما وكونِ كلَ منهما خِلْفةً للآخر بحسَب طلوعِ الشمسِ وغروبِها التابعَين لحركات السمواتِ وسكونِ الأرضِ أو في تفاوتهما في أنفسهما بازدياد كلَ منهما بانتقاص الآخرِ وانتقاصِه بازدياده باختلاف حالِ الشمسِ بالنسبة إلينا قُرباً وبُعداً بحسب الأزمنةِ أو في اختلافهما وتفاوتِهما بحسب الأمكنةِ إما في الطول والقِصَر فإن البلادَ القريبةَ من القُطب

سورة يونس الشماليِّ أيامُها الصيفيةُ أطولُ ولياليها الصيفيةُ أقصرُ من أيام البلادِ البعيدةِ منه ولياليها وأما فى أنفسهما فإن كرية الأرضِ تقتضي أن يكون بعض الأوقات فى بعضُ الأماكنِ ليلاً وفي مقابله نهاراً {وَمَا خَلَقَ الله فِى السماوات والارض} من أصناف المصنوعات {لاَيَاتٍ} عظيمةً أو كثيرةً دالةً على وجودِ الصَّانعِ تعالى ووحدته وكمال علمه وقدرته وبالغِ حكمتِه التي من جملة مقتضياتِها ما أنكروه من إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم وإنزال الكتب والبعثِ والجزاء {لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} خصّهم بذلك لأن الداعيَ إلى النظر والتدبر إنما هو تقوى الله تعالى والحذرُ من العاقبة فهم الواقفون على أن جميعَ المخلوقاتِ آيات دون غيرهم وكأى من آية فِى السموات والارض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ سورة يونس (7)

7

{إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} بيانٌ لمآل أمرِ مَنْ كفر بالبعث وأعرضَ عن البينات الدالةِ عليه بعد تحقيقِ أن مرجِعَ الكلِّ إليه تعالى وأنه يعيدهم بعد بدئِهم للجزاء ثواباً وعقاباً وتفصيلِ بعض الآياتِ الشاهدة بذلك والمرادُ بلقائه إمَّا الرجوعُ إليه تعالى بالبعث أو لقاءُ الحساب كما في قوله عز وعلا إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ وأيا ما كان ففيه مع الالتفات إلى ضميرِ الجلالةِ من تهويل الأمر مَا لا يخفى والمرادُ بعدم الرجاءِ عدمُ التوقعِ مطلقاً المنتظمِ لعدم الأملِ وعدمِ الخوف فإن عدمَهما لا يستدعي عدمَ اعتقادِ وقوعِ المأمول والمخوف أي لا يتوقعَّون الرجوعَ إلينا أو لقاءَ حسابِنا المؤدِّي إما إلى حسن الثوابِ أو إلى سوء العذابِ فلا يأمُلون الأولَ وإليه أُشير بقولِه عزَّ وجلَّ {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا} فإنه منبىءٌ عن إيثار الأدنى الخسيسِ على الأعلى النفيسِ كقوله تعالى أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ولا يخافون الثانيَ وإليه أشير بقوله تعالى {واطمأنوا بِهَا} أي سكَنوا فيها سكونَ مَنْ لا بَراحَ له منها آمنين مِن اعتراء المزعجاتِ غيرَ مُخطرين ببالهم ما يسوؤهم من عذابنا وقيل المرادُ بالرجاء معناه الحقيقيُّ وباللقاء حسنُ اللقاءِ أي لا يأمُلون حسنَ لقائِنا بالبعث والإحياءِ بالحياة الأبدية ورضُوا بدلاً منها ومما فيها من فُنُونِ الكراماتِ السنيةِ بالحياة الدنيا الدنيةِ الفانيةِ واطمأنوا بها أي سكَنوا إليها منكبين عليها قاصرين مجامعَ هِممِهم على لذائذها وزخارفِها من غير صارف يلويهم ولا عاطفٍ يَثنيهم وإيثارُ الباءِ على كلمة إلى المنبئة عن مجرد الوصولِ والانتهاء للإيذان بتمام الملابسةِ ودوام المصاحبةِ والمؤانسة وحملُ الرجاءِ على الخوف فقط يأباه كلمةُ الرضا بالحياة الدنيا فإنها مُنبئةٌ عما ذُكر من ترك الأعلى وأخذِ الأدنى واختيارُ صيغةِ الماضي في الصلتين الأخيرتين للدِلالة على التحقق والتقّررِ كما أن اختيارَ صيغةِ المستقبلِ في الأولى للإيذان باستمرارِ عدم الرجاء {والذين هُمْ عن آياتنا} المفصلةِ في صحائف الأكوانِ حسبما أشير إلى بعضها أو آياتِنا المنزلِة المنبّهةِ على الاستشهاد بها المتفقةِ معها في الدلالة على حقية ما لا يرجونه من اللقاء المترتبِ على البعث وعلى بطلان ما رضُوا به واطمأنوا إليه من الحياة الدنيا {غافلون} لا يتفكرون فيها أصلاً وإن نُبّهوا على ذلك وذُكّروا بأنواع القوارعِ لانهماكهم فيما يصُدهم

عنها من الأحوال المعدودةِ وتكريرُ الموصولِ للتوسل به إلى جعل صلتِه جملةً اسميةً منبئةً عمَّا هُم عليهِ من استمرار الغفلةِ ودوامِها وتنزيلُ التغايرِ الوصفيِّ منزلةَ التغايرِ الذاتي إيذاناً بمغايرة الوصفِ الأخير للأوصاف الأُوَل واستقلالِه باستتباع العذابِ هذا وأمَّا مَا قيلَ من أن العطفَ إما لتغاير الوصفين والتنبيهِ على أن الوعيدَ على الجمع بين الذهولِ عن الآيات رأساً والانهماكِ في الشهوات بحيث لا يخطُر ببالهم الآخرةُ أصلاً وإما لتغاير الفريقين والمرادُ بالأولين من أنكر البعثَ وَلَمْ يُرد إِلاَّ الحياةَ الدنيا وبالآخِرين مَنْ ألهاه حبُّ العاجل عن التأمل في الآجل فكلامٌ ناءٍ عن السداد فتأمل سورة يونس (8 9)

8

{أولئك} الموصوفون بما ذكر من صفات السوء {مَأْوَاهُمُ} أي مسكنُهم ومقرُّهم الذي لا بَراحَ لهم منه {النار} لا ما اطمأنوا بها من الحياة الدنيا ونعيمُها {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} منَ الأعمال القلبية المعدودة وما يستتبعه من أصناف المعاصي والسيئاتِ أو بكسبهم إياها والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار التجددي والباء متعلقةٌ بمضمون الجملةِ الأخيرةِ الواقعةِ خبراً عن اسم الإشارةِ وهو مع خبره خبر لإن في قوله تعالى إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا الخ

9

{إن الذين آمنوا} أي فعلوا الإيمانَ أو آمنوا بما يشهَد به الآياتُ التي غفَل عنها الغافلون أو بكلِّ ما يجبُ أن يؤمن به فيندرجُ فيه ذلك اندراجاً أولياً {وَعَمِلُواْ الصالحات} أي الأعمالَ الصالحةَ في أنفسها اللائقةَ بالإيمان وإنما تُرك ذكرُ الموصوف لجريانها مَجرى الأسماءِ {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ} أُوثر الالتفاتُ تشريفاً لهم بإضافة الربِّ وإشعاراً بعلة الهِداية {بِإِيمَانِهِمْ} أي يهديهم بسبب إيمانِهم إلى مأواهم ومقصِدِهم وهي الجنةُ وإنما لم تُذكر تعويلاً على ظهورها وانسياقِ النفسِ إليها لا سيما بملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفَرة وما آواهم إليه من أعمالهم السيئةِ ومشاهدةِ ما لحق من التلويح والتصريحِ وفي النظم الكريم إشعارٌ بأن مجردَ الإيمانِ والعملِ الصالحِ لا يكفي في الوصول إلى الجنةَ بل لا بد بعد ذلك من الهداية الربانية وأن الكفرَ والمعاصيَ كافيةٌ في دخول النارِ ثم إنه لا نزاعَ في أن المرادَ بالإيمان الذي جعل سبباً لتلك الهداية هو إيمانُهم الخاصُّ المشفوعُ بالأعمال الصالحةِ لا الإيمانُ المجردُ عنها ولا ما هو أعمُّ منهما إلا أن ذلك بمعزل عن الدلالة على خلاف ما عليه أهلُ السنةِ والجماعة من أن الإيمانَ الخاليَ عن العمل الصالحِ يُفضي إلى الجنة في الجملة ولا يخلّد صاحبُه في النار فإن منطوقَ الآيةِ الكريمةِ أن الإيمانَ المقرونَ بالعمل الصالحِ سببٌ للهداية إلى الجنة وأما أن كلَّ ما هو سببٌ لها يجب أن يكون كذلك فلا دلالةَ لها ولا لغيرها عليه قطعاً كيف لا وقوله عز وجل الذين آمنوا وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الامن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ منادٍ بخلافه فإن المرادَ بالظلم هو الشركُ كما أطبق عليه المفسرون والمعنى لم يخلِطوا إيمانَهم بشرك ولئن حُمل على ظاهره أيضاً يدخُل في الاهتداء من آمن ولم يعمل صالحاً ثم مات قبل أن يظلم

بفعل حرامٍ أو بترك واجب {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} أي بين أيديهم كقوله سبحانه وهذه الانهار تجرى من تحتي أو تجرى وهم على سرر مرفوعةٍ وأرائِكَ مصفوفةٍ والجملةُ مستأنفةٌ أو خبرٌ ثانٍ لأنَّ أو حالٌ من مفعول يهديهم على تقدير كونه المهديِّ إليه ما يريدونه في الجنة كما قيل وقيل يهديهم ويسدّدهم للاستقامة على سلوك السبيلِ المؤدي إلى الثواب والجنة وقوله تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار جارٍ مجرى التفسيرِ والبيان فإن التمسكَ بحبل السعادةِ فى حكم الموصول إليها وقيل يهديهم إلي إدراك الحقائقِ البديعةِ بحسب القوةِ العملية كما قال صلى الله عليه وسلم من عمِل بما علِم ورَّثه الله علمَ ما لم يعلَمْ سورة يونس (10 11) {فِي جنات النعيم} خبرٌ آخرُ أو حالٌ أُخرى منْهُ أو من الأنهار أو متعلق بتجري أو بيهدي فالمراد بالمهدى إليه إما منازلهم في الجنة أو ما يريدونه فيها

10

{دَعْوَاهُمْ} أي دعاؤُهم وهو مبتدأ وقوله عز وجل فِيهَا متعلقٌ به وقولُه تعالى {سبحانك اللهم} خبرُه أي دعاؤهم هذا الكلامُ وهو معمولٌ لمقدر لا يجوز إظهارُه والمعنى اللهم إنا نسبّحك تسبيحاً ولعلهم يقولونه عندما عاينوا فيها من تعاجيبِ آثارِ قدرتِه تعالى ونتائجِ رحمتِه ورأفتِه ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَر على قلب بشر تقديساً لمقامه تعالى عن شوائب العجز والنقصانِ وتنزيهاً لوعده الكريمِ عن سمات الخُلف {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا} التحيةُ التكرمةُ بالحالة الجليلة أصلُها أحياك الله حياةً طيبة أي ما يحيي به بعضُهم بعضاً أو تحيةُ الملائكةِ إياهم كما في قوله تعالى والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام أو تحية الله عزَّ وجلَّ لهم كما في قوله تعالى سَلاَمٌ قَوْلاً من رَّبّ رَّحِيمٍ {سلام} أي سلامة عن كل مكروه {وآخر دعواهم} أي خاتمةُ دعائِهم {أَنِ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} أي أن يقولوا ذلك نعتا له عز وجل بصفات الإكرام إثرَ نعتِه تعالى بصفات الجلال أي دعاؤهم منحصِرٌ فيما ذُكر إذ ليس لهم مطلبٌ مترقب حتى ينظموه في سلك الدعاء وإنْ هي المخففةُ من إن المثقلة أصلُه أنه الحمدُ لله فحُذف ضميرُ الشأنِ كما في قوله أنْ هالكٌ كلُّ من يحفى وينتعلُ وقرىء أنّ الحمدَ لله بالتشديد ونصل الحمدُ ولعل توسيط ذكرِ تحيتِهم عند الحكايةِ بين دعائِهم وخاتمتِه للتوسل إلى ختم الحكاية بالتحميد تركا مع أن التحيةَ ليست بأجنبية على الإطلاق ودعوى كونِ ترتيبِ الوقوعِ أيضاً كذلك بأن كانوا حين دخلوا الجنةَ وعاينوا عظمة الله تعالى وكبرياءَه مجدّوه ونعتوه بنعوت الجلالِ ثم حياهم الملائكةُ بالسلامة من الآفات والفوزِ بأصناف الكراماتِ أو حياهم بذلك ربُّ العزةِ فحمِدوه تعالى وأثنَوا عليه يأباها إضافةُ الآخرِ إلى دعواهم وقد جوز أن يكون المرادُ بالدعاء العبادةَ كما في قوله تعالى وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ الخ إيذاناً بأنْ لا تكليفَ في الجنة أي ما عبادتُهم إلا أن يسبحوه ويحمَدوه وليس ذلك بعبادة إنما يلهمونه وينطقون به تلذذاً ولا يساعده تعيينُ الخاتمة

11

{وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ} هم الذين لا يرجون لقاءَ الله تعالى لإنكارهم البعثَ وما يترتَّبُ عليهِ

من الحساب والجزاءِ أشير إلى بعض من عظائمِ معاصيهم المتفرّعةِ على ذلك وهو استعجالُهم بما أُوعدوا به من العذاب تكذيباً واستهزاءً وإيرادُهم باسم الجنسِ لما أن تعجيلَ الخيرِ لهم ليس دائراً على وصفهم المذكور إذ ليس كلُّ ذلك بطريق الاستدراجِ أي لو يعجل الله لهم {الشر} الذي كانوا يستعجلون به فإنهم كانوا يقولون اللهم إِن كَانَ هَذا هُوَ الحقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ونحو ذلك وقوله تعالى {استعجالهم بالخير} نُصبَ على أنَّه مصدرٌ تشبيهيٌّ وُضع موضِعَ مصدرٍ ناصبِه دلالةً على اعتبار الاستعجالِ في جانب المشبّهِ كاعتبار التعجيلِ في جانب المشبَّه به وإشعاراً بسرعة إجابتِه تعالى لهم حتى كان استعجالُهم بالخير نفسَ تعجيلِه لهم والتقديرُ ولو يعجل الله لهم الشر عند استعجالِهم به تعجيلاً مثلَ تعجيلِه لهم الخيرَ عند استعجالِهم به فحُذف ما حذفَ تعويلاً على دلالة الباقي عليه {لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} لأدى إليهم الأجلَ الذي عيّن لعذابهم وأُميتوا وأهلِكوا بالمرة وما أُمهلوا طرفةَ عينٍ وفي إيثار صيغةِ المبنيِّ للمفعول جري على سنن الكبرياء مع الإيذان بتعين الفاعلِ وقرىء على البناء للفاعل كما قرىء لقضينا واختيارُ صيغةِ الاستقبال في الشرط وإن كان المعنى على المضيِّ لإفادة أن عدم قضاءِ الأجلِ لاستمرار عدمِ التعجيل فإن المضارعَ المنفيَّ الواقعَ موقعَ الماضي ليس بنص في إفادة انتفاءِ استمرارِ الفعل بل قد يفيد استمرارَ انتفائِه أيضاً بحسب المقامِ كما حُقّق في موضعه واعلم أن مدارَ الإفادةِ في الشرطية أن يكون التالي أمراً مغايراً للمقدّم في نفسه مترتباً عليه في الوجودِ كما في قوله عز وجل لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ الامر لَعَنِتُّمْ فإن العنَتَ أي الوقوعَ في المشقة والهلاكِ أمرٌ مغايرٌ لطاعته صلى الله عليه وسلم لهم مترتبٌ عليها في الوجود أو يكون فرداً كاملاً من أفراده ممتازاً عن البقية بأمر يخصّه كما فى الأجوبة المحذوفة في مثلِ قولِه تعالى وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ وقوله تعالى وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار وقوله تعالى وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون ونظائرِها أي لرأيتَ أمراً هائلاً فظيعاً أو نحوَ ذلك وكما في قوله تعالى وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا ما دَابَّةٍ إذا فسر الجوابُ بالاستئصال فإنه فردٌ كاملٌ من أفراد مطلقِ المؤاخذة قد عبّر عنه بما لا مزيدَ عليهِ في الدلالة على الشدة والفظاعةِ فحسنُ موقعِه في معرض التالي للمؤاخذة المطلقةِ وأما ما نحن فيه من القضاء فليس بأمر مغايرٍ لتعجيل الشرِّ في نفسه وهو ظاهرٌ بل هو إما نفسُه أو جزئيٌّ منه كسائر جزئياتِه من غير مزية على البقية إذ لم يُعتبر في مفهومه ما ليس فى مفهوم تعجيلِ الشرِّ من الشدة والهولِ فلا يكونُ في ترتّبه عليه وجوداً أو عدها مزيدُ فائدةٍ مصحِّحة لجعله تالياً له فالحقُّ أن المقدمَ ليس نفسَ التعجيلِ المذكورِ بل هو إرادتُه المستتبعةِ للقضاء المذكورِ وجوداً وعدماً كما في قوله تعالى لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب أي لو يريد مؤاخذتهم فإن تعجيلَ العذاب لهم نفسُ المؤاخذةِ أو جزئيٌّ من جزئياتها غيرُ ممتازٍ عن البقية فليس في بيان ترتبِه عليها وجوداً أو عدماً مزيدُ فائدةٍ وإنما الفائدةُ فى بيان ترتبه على إرادتها حسبما ذكر وأيضاً في ترتب التالي على إرادة المقدمِ ما ليس في ترتبه على نفسه من الدِلالة على المبالغة وتهويلِ الأمر والدلالةِ على أن الأمور منوطةٌ بإرادته تعالى المبنية على الحِكم البالغة {فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} بنون العظمة الدالة على التشديد في الوعيد وهو عطفٌ على مقدر تنبىء عنه الشرطيةُ كأنه قيل لكن لا نفعل ذلك لما تقتضيه

الحكمةُ فنتركهم إمهالاً واستدراجاً {فِي طغيانهم} الذي هو عدمُ رجاءِ اللقاء وإنكارُ البعثِ والجزاءِ وما يتفرع على ذلك من أعمالهم السيئةِ ومقالاتهم الشنيعة {يَعْمَهُونَ} أي يترددون ويتحيرون ففي وضع الموصول موضع الضمير نوعٌ بيانٍ للطغيان بما في حيز الصلةِ وإشعارٌ بعليته للترك والاستدراج سورة يونس (12 13)

12

{وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر} أي أصابه جنسُ الضرِّ من مرض وفقرٍ وغيرِهما من الشدائد إصابةً يسيرة {دَعَانَا} لكشفه وإزالتِه {لِجَنبِهِ} حالٌ من فاعل دعا بشهادة ما عُطف عليه من الحالين واللام بمعنى على كما في قوله تعالى يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ أي دعانا كائناً على جنبه أي مضطجعاً {أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} أي في جميع الأحوالِ ممَّا ذُكر ومَا لم يذكر وتخصيصُ المعدوداتِ بالذكر لعدم خلوِّ الإنسانِ عنها عادةً أو دعانا في جميع أحوالِ مرضِه على أنه المرادُ بالضر خاصة مضطجعا عاجزاً عن القعود وقاعداً غيرَ قادرٍ على النهوض وقائماً لا يستطيع الحَراك {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ} الذي مسه غِبَّ ما دعانا حسبما ينبىء عنه الفاء {مَرَّ} أي مضى واستمرَّ على طريقته التي كان ينتحيها قبل مساسِ الضرِّ ونسيَ حالةَ الجَهْدِ والبلاءِ أو مر عن موقف الضراعةِ والابتهالِ ونأى بجانبه {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا} أي كأنه لم يدعُنا فخُفف وحُذف ضميرُ الشأنِ كما في قوله ... كأنْ لم يكن بين الحَجون إلى الصفا ... والجملةُ التشبيهيةُ في محل النصب على الحالية من فاعل مرّ أي مرّ مشبَّهاً بمن لم يدْعنا {إلى ضُرّ} أي إلى كشف ضرَ {مَسَّهُ} وهذا وصفٌ للجنس باعتبار حال بعضِ أفرادِه ممن هو متصفٌ بهذه الصفات {كذلك} نصبٌ على المصدرية وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ الفعلِ الآتي وما فيه من معنى البعد للتفخيم والكافُ مقحَمةٌ للدلالة على زيادة فخامةِ المشارِ إليه إقحاماً لا يكاد يترك في لغة العرب ولا في غيرها ومن ذلك قولهم مثلك لا يَبخلُ مكان أنت لا تبخل أي مثلَ ذلك التزيينِ العجيب {زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} أي للموصوفين بما ذُكر من الصِّفاتِ الذميمةِ وإسرافُهم لما أنَّ الله تعالى إنما أعطاهم القُوى والمشاعرَ ليصرِفوها إلى مصارفها ويستعملوها فيما خُلقت له من العلوم والأعمالِ الصالحة فلما صرفوها إلى ما لا ينبغِي وهي رأسُ مالِهم فقد أتلفوها وأسرفوا إسرافاً ظاهراً والتزيينُ إما من جهة الله سبحانه على طريقه التخليةِ والخِذلانِ أو من الشيطان بالوسوسة والتسويل {ما كانوا يعملون} من الاعراض عن الذكر والدعاءِ والانهماكِ في الشهوات وتعلقُ الآيةِ الكريمة بما قبلها من حيث إن في كل منهما إملاءً للكفرة على طريقة الاستدراجِ بعد الأنقاذِ من الشر المقدّرِ في الأولى ومن الضرِّ المقررِ في الأخرى

13

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون} أي القرونَ الخاليةَ مثلَ قومِ نوح وعاد وأضرابهم ومِنْ في قولِه تعالَى {مِن قَبْلِكُمْ} متعلقةٌ بأهلكنا أي أهلكناهم من قبل زمانِكم والخطابُ لأهل مكةَ على طريقة الالتفاتِ

للمبالغة في تشديد التهديدِ بعد تأييدِه بالتوكيد القسمي {لَمَّا ظَلَمُواْ} ظرفٌ للإهلاك أي أهلكناهم حين فعلوا الظلمَ بالتكذيب والتمادي في الغي والضلالِ من غير تأخير وقوله تعالى {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم} حالٌ من ضمير ظلموا بإضمار قد وقوله تعالى {بالبينات} متعلقٌ بجاءتهم على أن الباء للتعدية أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من رسلهم دالةٌ على إفراطهم في الظلم وتناهيهم في المكابرة أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلُهم بالآيات البينةِ الدالةِ على صدقهم أو ملتبسين بها حين لا مجالَ للتكذيب وقد جُوِّز أن يكون قولُه تعالى وَجَاءتْهُمْ عطفاً على ظلموا فلا محلَّ له من الإعراب عند سيبويه وعند غيره محلُّه الجرُّ لأنه معطوفٌ على ما هو مجرورٌ بإضافة الظرفِ إليه وليس الظلمُ منحصراً في التكذيب حتى يُحتاج إلى الاعتذار بأن الترتيبَ الذكريَّ لا يجب كونه على وفق الترتيب الوقوعيّ كما في قوله تعالى وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ الخ بل هو محمولٌ على سائر أنواعِ الظلم والتكذيبُ مستفادٌ من قوله تعالى {وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} على أبلغِ وجهٍ وآكدِه فإن اللام لتأكيد النفي أي وما صحَّ وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادِهم وخذلانِ الله تعالى إياهم لعلمه بأن الألطافَ لا تنجع فيهم والجملةُ على الأولِ عطفٌ على ظلموا لأنه إخبارٌ بإحداث التكذيب وهذا بالإصرار عليه وعلى الثاني عطفٌ على ما عطف عليه وقيل اعتراضٌ بين الفعلِ وما يجري مَجرى مصدرِه التشبيهيِّ أعني قولَه تعالى {كذلك} فإن الجزاءَ المشارَ إليه عبارةٌ عن مصدره أي مثلَ ذلك الجزاءِ الفظيعِ أي الإهلاكِ الشديدِ الذي هو الاستئصالُ بالمرة {نَجْزِي القوم المجرمين} أي كلَّ طائفةٍ مجرمة وفيه وعيدٌ شديدٌ وتهديدٌ أكيدٌ لأهل مكةَ لاشتراكهم لأولئك المهلَكين في الجرائم والجرائر التي هي تكذيبُ الرسولِ والإصرارُ عليه وتقريرٌ لمضمونِ ما سبقَ من قوله تعالى وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير وقُرىء بالياءِ على الالتفات إلى الغَيبة وقد جُوِّز أن يكون المرادُ بالقوم المجرمين أهلَ مكةَ على طريقة وضع الظاهرِ موضعَ ضميرِ الخطابِ إيذاناً بأنهم أعلامٌ في الإجرام ويأباه كلَّ الإباء قوله عز وجل سورة يونس (14)

14

{ثُمَّ جعلناكم خلائف فِى الارض مِن بَعْدِهِم} فإنَّه صريحٌ في أنَّهُ ابتداءٌ تعرّضَ لأمورهم وأن ما بينّ فيه إنما هو مبادي أحوالِهم لاختبار كيفياتِ أعمالِهم على وجه يُشعر باستمالتهم نحوَ الإيمان والطاعةِ فمُحالٌ أن يكون ذلك إثرَ بيانِ منتهى أمرِهم وخطابِهم ببتّ القولِ بإهلاكهم لكمال إجرامِهم والمعنى ثم استخلفناكم في الأرض من بعد إهلاكِ أولئك القرونِ التي تسمعون أخبارَها وتشاهدون آثارَها استخلافَ من يَختبر {لِنَنظُرَ} أي لنعاملَ معاملةَ من ينظُر {كَيْفَ تَعْمَلُونَ} فهي استعارةٌ تمثيلية وكيف منصوبٌ على المصدرية بتعملون لا بننظر فإنَّ ما فيهِ من معنى الاستفهام مانعٌ من تقدم عاملِه عليه أي أيَّ عملٍ أو على الحالية أي على أيّ حالٍ تعملون الأعمالَ اللائقةَ بالاستخلاف من أوصاف الحُسن كقوله عز وعلا لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ففيه إشعارٌ بأن المرادَ بالذات والمقصودَ الأصليَّ من الاستخلاف إنما هو ظهورُ الكيفياتِ الحسنةِ للأعمال الصالحةِ وأما الأعمالُ السيئةُ فبمعزل من أن تصدُرَ عنهم لا سيما بعد ما سمِعوا أخبارَ القرونِ المهلَكه وشاهَدوا آثارَ بعضِها فضلاً عن أن يُنظمَ ظهورُها في سلك العلة الغائبة

للاستخلاف وقيل منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ به أي أيَّ عملٍ تعملون أخيراً أم شراً فنعاملَكم بحسبه فلا يكون في كلمة كيف حينئذ دلالةٌ على أن المعتبرَ في الجزاء جهاتُ الأعمالِ وكيفياتُها لا ذواتُها كما هو رأيُ القائل بل تكون حينئذ مستعارةً لمعنى أيّ شيء سورة يونس (15)

15

{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ} التفاتٌ من خطابهم إلى الغَيبة إعراضا عنهم وتوجيها لخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعديد جناياتِهم المضادةِ لما أريد منهم بالاستخلاف من تكذيب الرسولِ والكفر بالآيات البيناتِ وغيرِ ذلك كدأبِ مَنْ قبلهُم منَ القرون المهلَكة وصيغةُ المضارعِ للدِلالة على تجدد جوابِهم الآتي حسب تجدد التلاوة {آياتنا} الدالةُ على حقية التوحيدِ وبُطلانِ الشركِ والإضافةُ لتشريف المضافِ والترغيبِ في الإيمان به والترهيبِ عن تكذيبه {بينات} حالَ كونِها واضحاتِ الدِلالةِ على ذلك وإيرادُ فعل التلاوةِ مبنياً للمفعول مسنداً إلى الآيات دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ببنائه للفاعل للإشعار بعدمِ الحاجةِ لتعيّن التالي وللإيذان بأن كلامَهم في نفس المتلو دون التالي {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} وضعَ الموصولُ موضعَ الضميرِ إشعاراً بعلية مَا في حيزِ الصِّلةِ للعظيمة المحكيةِ عنهم وأنهم إنما اجترءوا عليها لعدم خوفِهم من عقابه تعالى يوم اللقاءِ لإنكارهم له ولما هو من مباديه من البعث وذماً لهم بذلك أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وإنما لم يذكر إيذاناً بتعينه {ائتِ بقرآن غَيْرِ هذا} أشاروا بهذا إلى القرآنِ المشتملِ على تلك الآياتِ لا إلى نفسها فقط قصداً إلى إخراج الكلِّ من البين أي ائت بكتاب آخرَ نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث والحسابِ والجزاءِ وما نكرهه من ذم آلهتِنا ومعايبِها والوعيدِ على عبادتها {أَوْ بَدّلْهُ} بتغيير ترتيبِه بأن تجعلَ مكانَ الآيةِ المشتملةِ على ذلك آيةً آخرى خاليةً عنها وإنما قالوه كيداً وطمعاً في المساعدة ليتوسلوا به إلى الإلزام والاستهزاء به {قُلْ} لهم {مَا يَكُونُ لِى} أي ما يصح وما يستقيم لي ولا يمكنني أصلاً {أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى} أي من قبل نفسي وهو مصدرٌ استعمل ظرفاً وقرىء بفتح التاءِ وقصر الجواب ببيان امتناعِ ما اقترحوه على اقتراحهم الثاني للإيذان بأن استحالةَ ما اقترحوه أو لا منَ الظهورِ بحيثُ لا حاجة إلى بيانها وأن التصدّيَ لذلك مع كونه ضائعاً ربما يُعد من قبيل المجاراةِ مع السفهاء إذا لا يصدُر مثلُ ذلك الاقتراحِ عن العقلاء ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأولِ بالطريق الأولى {إِنْ أَتَّبِعُ} أي ما أتبع في شيء مما آتي وأذَرُ {إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ} من غير تغيير له في شيء أصلاً على معنى قصرِ حالِه صلى الله عليه وسلم على اتباع ما يوحى إليه لا قصرِ اتباعِه على ما يوحى إليه كما هو المتباد من ظاهر العبارةِ كأنَّه قيل ما أفعلُ إلا اتباعَ ما يوحى إلي وقد مر تحقيقُ المقامِ في سورة الأنعام وهو تعليلٌ لصدر الكلامِ فإن مَنْ شأنُه اتباعُ الوحي على ما هو عليه لا يستبد بشيء دونه قطعاً وفيه جوابٌ للنقض بنسخ بعضِ الآياتِ ببعض وردٌّ لما عرّضوا به صلى الله عليه وسلم

بهذا السوال من أن القرآنَ كلامُه صلى الله عليه وسلم ولذلك قيّد التبديلُ في الجواب بقوله مِن تِلْقَاء نَفْسِى وسماه عصياناً عظيماً مستتبِعاً لعذاب عظيم بقوله تعالى {إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فإنه تعليلٌ لمضمونِ ما قبله من امتناع التبديل واقتصار أمره صلى الله عليه وسلم على اتباع الوحي أي أخاف إن عصيتُه تعالى بتعاطي ما ليس لي من التبديل من تلقاء نفسي والإعراضِ عن اتباع الوحي عذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يومُ القيامة أو يومُ اللقاءِ الذي لا يرجونه وفيه إشعارٌ بأنهم استوجبوه بهذا الاقتراحِ والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتهويل أمرِ العصيان وإظهارِ كمال نزاهته صلى الله عليه وسلم عنه وإيرادُ اليوم بالتنوين التفخيميّ ووصفُه بالعظم لتهويل ما فيه من العذاب وتفظيعِه ولا مساغَ لحمل مُقترَحِهم على التبديل والإتيانِ بقرآن آخرَ من جهة الوحي بتفسير قوله تعالى مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى بأنه لا يتسهّلُ لي أن أبدلَه بالاستدعاء من جهة الوحي ما أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إلى من غير صنعٍ ما من الاستدعاء وغيرِه من قِبلي لأنه يرده التعليلُ المذكورُ لا لأن المقترَحَ حينئذٍ ليس فيه معصيةٌ أصلاً كما تُوُهم فإن استدعاءَ تبديلِ الآياتِ النازلِة حسبما تقتضيه الحكمة التشعريعية بعضِها ببعض لا سيما بموجب اقتراح الكفرة مما لا ريبَ في كونه معصيةً بل لأنه ليس فيه معصيةُ الافتراءِ مع أنها المقصودةُ بما ذُكر في التعليل ألا يُرى إلى ما بعدَهُ من الآيتين الكريمتين فإنه صريحٌ في أن مقترحَهم الإتيانُ بغير القرآنِ وتبديلُه بطريق الافتراءِ وأن زعمَهم في الأصل أيضاً كذلك وقوله عز وجل سورة يونس (16)

16

{قُل لَّوْ شَاء الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} تحقيقٌ لحقية القرآنِ وكونِه من عند الله تعالى إثرَ بيانِ بطلانِ ما اقترحوا الإتيانَ به واستحالتِه عبارةً ودلالةً وإنما صدر بالأمر المستقلِّ مع كونه داخلاً تحت الأمرِ السابقِ إظهاراً لكمال الاعتناءِ بشأنه وإيذاناً باستقلاله مفهوماً وأسلوباً فإنه برهانٌ دالٌّ على كونه بأمر الله تعالى ومشيئتِه كما سيأتي وما سبق مجردُ إخبارٍ باستحالة ما اقترحوه ومفعولُ شاء محذوفٌ ينبىء عنه الجزاءلا غيرُ ذلك كما قيل فإن مفعلول المشيئةِ إنما يحذف إذا وقعتشرطا وكان مفعولُها مضمونَ الجزاءِ ولم يكن في تعلقها به غرابةٌ كما في قوله ... وَلَوْ شئتُ أن أبكِي دماً لبكَيتُه ... حيث لم يحُذف لفقدان الشرطِ الأخيرِ ولأن المستلزِمَ للجزاء أعني عدمَ تلاوته صلى الله عليه وسلم للقرآن عليهم إنما هو مشيئتُه تعالى له لا مشيئتُه لغير القرآن والمعنى أن الأمرَ كلَّه منوطٌ بمشيئته تعالى وليس لي منه شيء قط ولو شاء عدمَ تلاوتي له عليكم لا بأن شاء عدمَ تلاوتي له من تلقاء نفسي بل بأن لم لنزله عليّ ولم يأمُرْني بتلاوته كما ينبىء عنه إيثارُ التلاوة على القراءة ما تلوتُه عليكم {وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} أي ولا أعلمَكم به بواسطتي والتالي وهو عدمُ التلاوةِ والإدراءِ منتفٍ فينتفى المقدم أعنى مشيئة عدمَ التلاوة ولا يخفى أنها مستلزمة لعدم مشيئة التلاوة قطعاً فانتفاؤُها مستلزمٌ لانتفائه حتماً وانتفاءُ عدمِ مشيئة التلاوةَ إنما يكون بتحقق مشيئةِ التلاوةِ فثبت أن تلاوته صلى الله عليه وسلم للقرآن بمشيئته تعالى وأمرِه وإنما قيدنا الإدراءَ بكونه

بواسطته صلى الله عليه وسلم لأن عدمَ الإعلامِ مطلقاً ليس من لوازم الشرطِ الذي هو مشيئةُ عدمِ تلاوته صلى الله عليه وسلم فلا يجوز نظمُه في سلك الجزاءِ وفي إسناد عدمِ الإدراءِ إليه تعالى المنبىءِ عن استناد الإدراءِ إليه تعالى إيذانٌ بأنْ لا دخل له صلى الله عليه وسلم في ذلك حسبما يقتضيه المقام وقرىء ولا أدرأتكم ولا أدرَأَكم بالهمزة فيهما على لغة من يقول أعطأتُ وأرضأتُ في أعطيت وأرضيتُ أو على أنه من الدرء بمعنى الدفعِ أي ولا جعلتُكم بتلاوته عليكم خصماء تدرءوننى بالجِدال وقرىء ولا أنذرتُكم به وقرىء لأدْرَاكم بلام الجوابِ أي لو شاء الله ما تلوته عليكم أنا ولأَعلَمكم به على لسان غيري على معنى أنه الحقُّ الذي لا محيصَ عنه لو لم أُرسل به أنا لأُرسل به غيري البتة أو على معنى أنه تعالى يمُنّ على من يشاء فخصّني بهذه الكرامة {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً} تعليلٌ للملازمة المستلزِمةِ لكون تلاوتِه بمشيئة الله تعالى وأمره حسبما بيّن آنفاً لكن لا بطريق الاستدلالِ عليها بعدم تلاوته صلى الله عليه وسلم فيما سبق بسبب مشيئتِه تعالى إياه بل بطريق الاستشهادِ عليها بما شاهدوا منه صلى الله عليه وسلم في تلك المدةِ الطويلةِ من الأمور الدالةِ على استحالة كونِ التلاوةِ من جهته صلى الله عليه وسلم بلا وحيٍ وعمراً نُصب على التشبيه بظرف الزمانِ والمعنى قد أقمتُ فيما بينكم دهراً مديداً مقدارَ أربعين سنةً تحفظون تفاصيلَ أحوالي طرّاً وتحيطون بما لديّ خبراً {مِن قَبْلِهِ} أي منْ قبلِ نزولِ القرآن لا أتعاطى شيئاً مما يتعلق به لا من حيث نظمُه المعجزُ ولا من حيث معناه الكاشفُ عن أسرار الحقائقِ وأحكامِ الشرائع {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي ألا تلاحِظون ذلك فلا تعقلون امتناعَ صدورِه عن مثلي ووجوبَ كونِه منزَّلاً من عند الله العزيز الحكيم فإنه غيرُ خافٍ على مَن له عقلٌ سليمٌ والحقُّ الذي لا محيدَ عنه أن مَنْ له أدنى مَسَكةٍ من العقل إذا تأمل في أمره صلى الله عليه وسلم وأنه نشأ فيما بينهم هذا الدهرَ الطويلَ من غير مصاحبةِ العلماء في شأن من الشئون ولا مراجعةٍ إليهم في فن من الفنون ولا مخالطةِ البلغاءِ في المفاوضة والحِوار ولا خوضٍ معهم في إنشاء الخُطبِ والأشعار ثم أتى بكتاب بهَرتْ فصاحته كل فصيح قائق وبذت بلاغتُه كلَّ بليغٍ رائقٍ وعلا نظمُه كلَّ منثور ومنظومٍ وحوى فحواه بدائعَ أصنافِ العلوم كاشف عن أسرارَ الغيبِ من وراء أستارِ الكمُون ناطقٌ بأخبار ما قد كان وما سيكون مصدِّقٌ لما بين يديهِ من الكتب المنزلةِ مهيمنٌ عليها في أحكامها المُجْملة والمفصّلة لا يبقى عنده شائب اشتباهٍ في أنه وحيٌ منزلٌ من عند الله هذا هو الذي اتفقت عليه كلمةُ الجمهور ولكن الأنسبَ ببناء الجوابِ فيما سلف على مجرد امتناعِ صدورِ التغيير والتبديلِ عنه صلى الله عليه وسلم لكونه معصيةً موجبةً للعذاب العظيم واقتصار حاله صلى الله عليه وسلم على اتباع الوحي وامتناعِ الاستبدادِ بالرأي من غير تعرض هناك ولا ههنا لكون القرآنِ في نفسه أمراً خارجاً عن طَوْق البشر ولا لكونه صلى الله عليه وسلم غيرَ قادرٍ على الإتيان بمثله أن يستشهد ههنا على المطلب بملا يلائم ذلك من أحواله المستمرة فى تلك الكدة المتطاولةِ من كمال نزاهتِه صلى الله عليه وسلم عما يوهم شائبةَ صدورِ الكذبِ والافتراءِ عنه في حق أحدٍ كائناً مَنْ كان كما ينبىء عنه تعقيبُه بتظليم المفتري على الله تعالى والمعنى قد لبثتُ فيما بين ظَهْرانيكم قبل الوحي لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدالٍ ولا أحوم حولَ مقالٍ فيه شائبةُ شبهةٍ فضلاً عما فيه كذبٌ أو افتراءٌ ألا تلاحظون فلا تعقِلون أن مَنْ هذا شأنُه المطردُ في هذا العهد البعيدِ مستحيلٌ أن يفترى على الله عزَّ وجلَّ ويتحكم على كافة الخلقِ بالأوامر والنواهي الموجبةِ لسلب الأموالِ وسفكِ الدماءِ ونحو ذلك وأن ما أتى به وحيٌ

مبينٌ تنزيلٌ مّن ربِّ العالمينَ وقوله عز وجل

17

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} استفهامٌ إنكاريٌّ معناه الجحدُ أي لا أحدَ أظلمُ منه على معنى أنه أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ وإنْ كانَ سبكُ التركيبِ مفيداً لإنكار أن يكون أحدٌ أظلم منه من غير تعرض لإنكار المساواة ونفيها فإنه إذا قيل مَنْ أفضل من فلان أولا أعلمَ منه يُفهم منه حتماً أنه أفضلُ من كل فاضل وأعلمُ من كل عالم وزيادةُ قوله تعالى كَذِبًا مع أن الافتراءَ لا يكون إلا كذاك للإيذان بأن ما أضافوه إليه ضمنا وحملوه صلى الله عليه وسلم عليه صريحاً مع كونه افتراءً على الله تعالى كذبٌ في نفسه فربّ افتراءٍ يكون كذبُه في الإسناد فقط كما إذا أسند ذنبُ زيدٍ إلى عمرو وهذا للمبالغة منه صلى الله عليه وسلم في التفادي عما ذُكر من الافتراءِ على الله سبحانه {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} فكفر بها وهذا تظليمٌ للمشركين بتكذيبهم للقرآن وحملِهم على أنه من جهته صلى الله عليه وسلم والفاءُ لترتيب الكلامِ على ما سبق من بيان كونِ القرآنِ بمشيئته تعالى وأمرِه فلا مجال لحمل الافتراء على الافتراءِ باتخاذ الولدِ والشريك أي وإذَا كانَ الأمرُ كذلك فمن افترى عليه تعالى بأن يختلقَ كلاماً فيقول هذا من عند الله أو يبدل بعضَ آياتِه تعالى ببعض كما تجوّزون ذلك في شأني وكذلك مَن كذب بآياته تعالى كما تفعلونه أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ {إِنَّهُ} الضمير للشأن وقع اسماً لإن والخبرُ ما يعقُبه من الجملة ومدارُ وضعِه موضعَه ادِّعاءُ شهرتِه المُغْنية عن ذكره وفائدةُ تصديرِها به الإيذانُ بفَخامة مضمونِها مع ما فيه من زيادة تقريرِه في الذهن فإنَّ الضميرَ لا يُفهمُ منه من أولِ الأمرِ إلا شأنٌ مبهمٌ لهُ خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما يعقُبه فيتمكن عند وروده عليه فضلُ تمكُّنٍ فكأنه قيل إن الشأنَ هذا أي {لاَ يُفْلِحُ المجرمون} أي لا ينجُون من محذور ولا يظفَرون بمطلوب والمرادُ جنسُ المجرمين فيندرج فيه المفتري والمكذب اندراجاً أولياً

18

{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} حكاية لجناية أخرى لهم نشأتْ عنها جنايتُهم الأولى معطوفةٌ على قولِه تعالى وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ الآية عطفَ قصةٍ على قصة ومن دون متعلقٌ بيعبدون ومحلُّه النصبُ عَلى الحاليّةِ من فاعله أي متجاوزين الله سبحانه لا بمعنى تركِ عبادتِه بالكلية بل بمعنى عدم الاكتفاءِ بها وجعلها قريناً لعبادة الأصنامِ كما يُفصح عنه سياقُ النطم الكريم {مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} أي ما ليس من شأنه الضرُّ والنفعُ من الأصنام التي هي جمادات وما موصولةٌ أو موصوفةٌ وتقديمُ نفي الضررِ لأن أدنى أحكامِ العبادةِ دفعُ الضررِ الذي هو أولُ المنافع والعبادةُ أمرٌ حادث مسبوقٌ بالعدم الذي هو مظِنّةُ الضرر فحيث لم تقدِر الأصنامُ على الضرر لم يوجد لإحداث العبادة سببٌ وقيل لا يضرّهم إن تركوا عبادتَها ولا ينفعهم إن عبدوها كان أهلُ الطائفِ يعبُدون اللاتَ وأهلُ مكةَ عزى ومَناةَ وهُبَل وإسافاً ونائلةً {وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} عن النضْر بن الحرث إذا كان يوم القيامة يشفع لى اللاتُ قيل إنهم كانوا يعتقدون أن المتوليَ لكل إقليمٍ روحٌ معينٌ من أرواح الأفلاكِ

فعيّنوا لذلك الروحِ صنماً معيناً من الأصنام واشتغلوا بعبادته ومقصودُهم ذلك الروحُ ثم اعتقدوا أن ذلك الروحَ يكون عند الإله الأعظمِ مشتغلاً بعبوديته وقيل إنهم كانوا يعبدون الكواكبَ فوضعوا لها أصناماً معينة واشتغلوا بعبادتها قصداً إلى عبادة الكواكبِ وقيل إنهم وضعوا طلسماتٍ معينةً على تلك الأصنام ثم تقربوا إليها وقيل إنهم وضعوا هذه الأصنامَ على صور أنبيائِهم وأكابرِهم وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيلِ فإن أولئك الأكابرَ يشفعون لهم عند الله تعالى {قُلْ} تبكيتاً لهم {أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ} أي أتخبرونه بما لا وجودَ له أصلاً وهو كونُ الأصنامِ شفعاءَهم عندِ الله تعالى إذ لولاه لعلمه علامُ الغيوبِ وفيه تقريعٌ لهم وتهكّمٌ بهم وبما يدعونه من المُحال الذي لا يكادُ يدخُل تحتَ الصحة والإمكانِ وقرىء أتنبِّيون بالتخفيف وقوله تعالى {في السماوات وَلاَ فِى الأرض} حالٌ منْ العائد المحذوفِ في يعلم مؤكدةٌ للنفي لأن ما لا يوجد فيهما فهو منتفٍ عادة {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} عن إشراكهم المستلزمِ لتلك المقالةِ الباطلةِ أو عن شركائهم الذين يعتقدونهم شفعاءَهم عند الله تعالى وقرىء تُشركون بتاء الخطاب على أنه من جملةِ القولِ المأمورِ به وعلى الأول هو اعتراض تذييلى من جهته سبحانه وتعالى سورة يونس (19)

19

{وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} بيانٌ لأن التوحيدَ والإسلامَ ملةٌ قديمةٌ أجمعت عليها الناسُ قاطبة فطرةً وتشريعاً وأن الشركَ وفروعَه جهالاتٌ ابتدعها الغواةُ خلافاً للجمهور وشقاً لعصا الجماعة وأما حمل اتخاذهم على الاتفاق على الضلال عند الفترةِ واختلافُهم على ما كان منهم من الاتباع والإصرارِ فممَّا لا احتمالَ له أي وما كان الناسُ كافةً من أولِ الأمرِ إلا متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلافٍ وذلك من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن قتل قابيلُ هابيلَ وقيل إلى زمن إدريسَ عليه السلام وقيل إلى زمنِ نوحٍ عليه السَّلامُ وقيل من حينِ الطوفانِ حينَ لم يذر الله من الكافرين دياراً إلى أن ظهر فيما بينهم الكفرُ وقيل من لدن إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى أن أظهر عمْرُو بنُ لحيَ عبادةَ الأصنام فالمرادُ بالناس العربُ خاصةً وهو الأنسب بإيراد الآيةِ الكريمة إثرَ حكايةِ ما حُكي عنهم من الهَنات وتنزيهِ ساحةِ الكبرياء عن ذلك {فاختلفوا} بأن كفرَ بعضُهم وثبت آخرون على ما هم عليه فخالف كلٌّ من الفريقين الآخرَ لا أن كلاًّ منهما أحدث ملةً على حدة من ملل الكفرِ مخالفةً لملة الآخر فإن الكلامَ ليس في ذلك الاختلافِ إذ كلٌّ منهما مبطِلٌ حينئذ فلا يُتصوَّر أن يقضى بينهما بإبقاء المُحقّ وإهلاكِ المبطل والفاء التعقيبيةُ لا تنافي امتدادَ زمانِ الاتفاقِ إذ المرادُ بيانُ وقوعِ الاختلاف عقيبَ انصرامِ مدةِ الاتفاقِ لا عقيبَ حدوثِ الاتفاق {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} بتأخير القضاءِ بينهم أو بتأخير العذابِ الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يومُ الفصل {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} عاجلاً {فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} بتمييز الحقِّ من الباطل بإبقاء المحق وإهلاكِ المبطل وصيغةُ الاستقبال لحكاية الحالِ الماضيةِ وللدلالة على الاستمرار

سورة يونس (20 21)

20

{وَيَقُولُونَ} حكاية لجناية أخرى لهم معطوفةٌ على قولِه تعالى وَيَعْبُدُونَ وصيغةُ المضارعِ لاستحضار صورةِ مقالتهم الشنعاءِ والدلالةِ على الاستمرار والقائلون أهلُ مكة {لَوْلاَ أُنزِلَ عليه آية مّن رَّبّهِ} أرادوا آيةٌ من الآيات التي اقترحوها كأنهم لفرط العتوِّ والفساد ونهايةِ التمادي في المكابرة والعِناد لم يعدّوا البيناتِ النازلة عليه صلى الله عليه وسلم من جنس الآياتِ واقترحوا غيرَها مع أنه قد أنزل عليه من الآيات الباهرةِ والمعجزاتِ المتكاثرةِ ما يضطرهم إلى الانقياد والقبولِ لو كانوا من أرباب العقولِ {فَقُلْ} لهم في الجواب {إِنَّمَا الغيب للَّهِ} اللامُ للاختصاص العلميِّ دون التكوينيِّ فإن الغيبَ والشهادةَ في ذلك الاختصاصِ سيان والمعنى أن ما اقترحتموه وزعمتم أنه من لوازمِ النبوة وعلّقتم إيمانَكم بنزوله من الغيوب المختصّة بالله تعالى لا وقوف لي عليه {فانتظروا} نزولَه {إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين} أي لما يفعل الله بكم لاجترائكم على مثل هذه العظيمة من جحود الآياتِ واقتراحِ غيرِها وجعلُ الغيبِ عبارةً عن الصارف عن إنزال الآياتِ المقترحةِ يأباه ترتيبُ الأمرِ بالانتظار على اختصاص الغيبِ به تعالى

21

{وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} صِحةً وسَعةً {مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ} أي خالطتْهم حتى أحسوا بسوء أثرِها فيهم وإسنادُ المساسِ إلى الضراء بعد إسنادِ الإذاقةِ إلى ضميرِ الجلالة من الآداب القرآنيةِ كما في قولِه تعالى وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ونظائره قيل سلط الله تعالى على أهل مكةَ القحطَ سبع سنينَ حتى كادوا يهلِكون ثم رحمهم بالحَيا فطفقوا يطعنون في آياته تعالى ويعادون رسوله صلى الله عليه وسلم ويكيدونه وذلكَ قولُه تعالى {إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِى آيَاتِنَا} أي بالطعن فيها وعدمِ الاعتداد بها والاحتيالِ في دفعها وإذا الأولى شرطيةٌ والثانيةُ جوابُها كأنه قيل فاجؤوا وقع المكرِ منهم وتنكيرُ مكرٌ للتفخيم وفي متعلقةٌ بالاستقرار الذي يتعلق به اللام {قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا} أي أعجلُ عقوبةً أي عذابُه أسرعُ وصولاً إليكم مما يأتي منكم في دفع الحقِّ وتسميةُ العقوبةِ بالمكر لوقوعها في مقابلة مكرِهم وجوداً أو ذكراً {إِنَّ رُسُلَنَا} الذين يحفظون أعمالَكم والإضافةُ للتشريف {يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} أي مكرَكم أو ما تمكُرونه وهو تحقيقٌ للانتقام منهم وتنبيهٌ على أن ما دبروا في إخفائه غيرُ خافٍ على الحفَظة فضلاً عن العليم الخبير وصيغةِ الاستقبال في الفعلينِ للدِلالة على الاستمرار التجدّدي والجملةُ تعليلٌ من جهته تعالى لأسرعية مكرِه سبحانه غيرُ داخلٍ في الكلامِ الملقن كقوله تعالى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً فإن كتابةَ الرسلِ لما يمكرون من مبادىء بطلانِ مكرِهم وتخلف أثرِه عنه بالكلية وفيه من المبالغة ما لا يوصف وتلوينُ الخطاب بصرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم للتشديد في التوبيخ وقرىء على لفظ الغَيبة فيكون حينئذٍ تعليلاً لما ذكر أو للأمر

سورة يونس (22)

22

{هُوَ الذى يُسَيّرُكُمْ} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ جنايةٍ أخرى لهم مبنيةٍ على ما مر آنفاً من اختلاف حالِهم حسب اختلافِ ما يعتريهم من السراء والضراءِ أي يمكّنكم من السير تمكيناً مستمراً عند الملابسة به وقبلها {فِى البر} مشاةً ورُكباناً وقرىء ينشُركم من النشر ومنه قوله عز وجل بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ {والبحر حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك} أي السفن فإنه جمعُ فَلك على زنة أُسْد جمعُ أسَد لا على وزن قفل وغايةُ التسييرِ ليست ابتداءَ ركوبِهم فيها بل مضمونُ الشرطيةِ بتمامه كما ينبىء عنه إيثارُ الكونِ المؤذنِ بالدوام على الركوب المُشعِرِ بالحدوث {وَجَرَيْنَ} أي السفن {بِهِمُ} بالذين فيها والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذانِ بما لهم من سوء الحالِ الموجبِ للإعراض عنهم كأنه يذكر لغيرهم مساوى أحوالِهم ليعجِّبهم منها ويستدعيَ منه الإنكارَ والتقبيحَ وقيل ليس فيه التفاتٌ بل معنى قوله تعالى حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك إذا كان بعضُكم فيها إذ الخطابُ للكل ومنهم المسيَّرون في البر فالضميرُ الغائبُ عائدٌ إلى ذلك المضافِ المقدر كما في قوله تعالى أَوْ كظلمات فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يغشاه أي أو كذى ظلماتٍ يغشاه موجٌ {بِرِيحٍ طَيّبَةٍ} ليّنةِ الهُبوب موافقةٍ لمقصدهم {وَفَرِحُواْ بِهَا} بتلك الريحِ لطيبها وموافقتها {جَاءتْهَا} جوابُ إذا والضميرُ المنصوبُ للريح الطيبةِ أي تلقتْها واستولتْ عليها من طرف مخالِفٍ لها فإن الهبوبَ على وفقها لا يسمى مجيئاً لريح أخرى عادةً بل هو اشتدادٌ للريح الأولى وقيل للفُلك والأول أظهرُ لاستلزامه للثاني من غير عكس لأن الهبوبَ على طريقة الريح اللينةِ يعد مجيئاً بالنسبة إلى الفُلك دون الريح اللينة مع أنه لا يستتبع تلاطمَ الأمواجِ الموجبِ لمجيئها من كل مكان ولأن التهويلَ في بيان استيلائِها على ما فرحوا به وعلَّقوا به حبالَ رجائِهم أكثرُ {رِيحٌ عَاصِفٌ} أي ذاتُ عصْفٍ وقيل العصُوفُ مختصٌّ بالريح فلا حاجة إلى الفارق وقيل الريحُ قد يذكّر {وَجَاءهُمُ الموج} في الفلك {مّن كُلّ مَكَانٍ} أي من أمكنة مجيءِ الموجِ عادةً ولا بُعدَ في مجيئه من جميع الجوانبِ أيضاً إذ لا يجب أن يكون مجيئُه من جهة هبوبِ الريح فقط بل قد يكون من غيرها بحسب أسبابٍ تتفق له {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي هلَكوا فإن ذلك مثلٌ في الهلاك أصلُه إحاطةُ العدو بالحيّ أو سدّت عليهم مسالكُ الخلاص {دَّعَوَا الله} بدلٌ من ظنوا بدل اشتمال لما بينهما من الملابسة والتلازم أو استئنافٌ مبنيُّ على سؤال ينساق إليه الأذهانُ كأنه قيل فماذا صنعوا فقيل دعوُا الله {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينِ} من غير أنْ يشركوا به شيئاً من آلهتهم لا مخصصين للدعاء به تعالى فقط بل للعبادة أيضاً فإنهم بمجرد تخصيصِ الدعاء به تعالى لا يكونون مخلِصين له الدين {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} اللامُ موطئةٌ للقسم على إرادةِ القولِ أيْ قائلين والله لئن أنجيتنا {من هذه} الورطة {لَنَكُونَنَّ} البتةَ بعد ذلك أبداً {مِنَ الشاكرين} لنعمك التي من جُمْلتِها هذهِ النعمة المسئولة وقيل الجملةُ مفعولُ دعَوا لأن الدعاءَ من قبيل القولِ والأولُ هو

الأَولى لاستدعاء الثاني لاقتصار دعائِهم على ذلك فقط وفي قوله لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين من المبالغة في الدِلالة على كونهم ثابتين في الشكر مثابرين عليه منتظِمين في سلك المنعوتين بالشكر الراسخين فيه ما ليس في أن يقال لنشكرن سورة يونس (23)

23

{فَلَمَّا أَنجَاهُمْ} مما غشِيَهم من الكُربة والفاءُ للدِلالة على سرعةِ الإجابة {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الارض} أي فاجئوا الفسادَ فيها وسارعوا إليه متراقين في ذلك متجاوزين عمَّا كانوا عليه من حدود العيثِ من قولهم بغى الجرحُ إذا ترامى في الفساد وزيادةُ في الأرض للدِلالة على شمول بغيهم لأقطارها وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرارِ وقوله تعالى {بغير الحق} تأكير لما يفيده البغيُ أو معناه أنه بغير الحقِّ عندهم أيضاً بأن يكون ذلك ظلماً ظاهراً لا يخفى قبحُه على أحدٌ كما في قولِهِ تعالى وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق وأما ما قيل من أنه للاحتراز عن البغي بحق كتخريب الغزاةِ ديارَ الكفرةِ وقطعِ أشجارِهم وإحراق زرعِهم فلا يساعدُهُ النظمُ الكريمُ لابتنائه على كون البغي بمعنى إفسادِ صورةِ الشيء وإبطالِ منفعتِه دون ما ذكر من المعنى اللائق بحال المفسدين {يَا أَيُّهَا الناس} توجيهٌ للخطاب إلى أولئك الباغين للتشديد في التهديد والمبالغةِ في الوعيد {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ} الذي تتعاطَوْنه وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {على أَنفُسِكُمْ} خبرُه أي عليكم في الحقيقة لا على الذين تبغون عليهم وإن ظُنَّ كذلك وقوله تعالى {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} بيانٌ لكون ما فيه من المنفعة العاجلةِ شيئاً غيرَ معتدَ به سريعَ الزوال دائمَ الوبال وهو نُصبَ على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لفعلٍ مقدرٍ بطريقِ الاستئنافِ أي تتمتعون متاعَ الحياةِ الدنيا وقيل على أنه مصدرٌ وقعَ موقِعَ الحالِ أي متمتعين بالحياة الدنيا والعاملُ هو الاستقرارُ الذي في الخبر لا نفسُ البغي لأنه يؤدي إلى الفصلَ بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر ولا يخبر عن الموصولِ إلا بعد تمامِ صلتِه وأنت خبيرٌ بأنه ليس في تقييد كونِ بغيهم على أنفسهم بحال تمتعِهم بالحياة الدنيا معنىً يعتدّ به وقيل على أنه ظرفُ زمانٍ نحو مقدمَ الحاجِّ أي زمنَ متاعِ الحياةِ الدنيا وفيه ما مر بعينه وقيل على أنه مفعولٌ لفعل دل عليه المصدرُ أي تبغون متاعَ الحياة الدنيا ولا يخفى أنه لا يدل على البغي بمعنى الطلب وجعل المصدر أيضاً بمعناه مما يُخلُّ بجزالة النظمِ الكريم لأن الاستئنافَ لبيان سوءِ عاقبةِ ما حُكيَ عنهم من البغي المفسّر بالإفساد المفْرطِ اللائقِ بحالهم فأيُّ مناسبةٍ بينه وبين البغي بمعنى الطلب وجعلُ الأول أيضاً بمعناه مما يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عنه وقيل على أنَّه مفعولٌ له أي لأجل متاعِ الحياة الدنيا والعاملُ ما ذكر من الاستقرار وفيه أن المعلّلَ بما ذُكر نفسُ البغي لا كونُه على أنفسهم وقيل أنفسهم وقيل العاملُ فيه فعلٌ مدلولٌ عليه بالمصدر أي تبغون لأجل متاعِ الحياةِ الدُّنيا على أن الجملةَ مستأنفةٌ وقيل على أنه مفعولٌ صريحٌ للمصدر وعلى أنفسكم ظرفٌ لغوٌ متعلقٌ به والمرادُ بالأنفس الجنسُ والخبرُ محذوفٌ لطول الكلامِ والتقديرُ إنما بغيُكم على أبناء جنسِكم متاعَ الحياة الدنيا محذورا أو ظاهرُ الفساد أو نحوُ ذلك وفيه ما مر من ابتنائه على ما لا يليق بالمقام

من كون البغي بمعنى الطلب نعم لو جُعل نصبُه على العلة أي إنما بغيُكم على أبناء جنسِكم لأجل متاعِ الحياةِ الدنيا محذورٌ كما اختاره بعضُهم لكان له وجهٌ في الجملة لكن الحقَّ الذي تقتضيهِ جزالةُ التنزيلِ إنما هو الأولُ وقرىء متاعُ بالرفع على أنَّه الخبرُ والظرفُ صلةٌ للمصدر أو خبرٌ ثانٍ أو خبرُ لمبتدأٍ محذوفٍ أي هُو متاعُ الخ كما في قوله تعالى إِلاَّ سَاعَةً من نَّهَارٍ بَلاَغٌ أي هذا بلاغٌ فالمرادُ بأنفسهم على الوجه الأول أبناءُ جنسِهم وإنَّما عبَّر عنهم بذلك هزاً لشفقتهم عليهم وحثاً لهم على ترك إيثارِ التمتعِ المذكورِ على حقوقهم ولا مجال للحمل على الحقيقة لأن كونَ بغيهم وَبالاً عليهم ليس بثابت عندهم حسبما يقتضيه ما حُكي عنهم ولم يُخبَر به بعدُ حتى يُجعلَ من تتمة الكلام ويجعل كوُنه متاعاً مقصودَ الإفادِة على أن عنوانَ كونِه وبالاً عليهم قادحٌ في كونه متاعاً فضلاً عن كونه من مبادىء ثبوتِه للمبتدأ كما هو المتبادَرُ من السَّوْق وأما كونُ البغي على أبناء الجنسِ فمعلومُ الثبوتِ عندهم ومتضمن لمبادى التمتعِ من أخذ المالِ والاستيلاءِ على الناس وغيرِ ذلك وأما على الوجهين الأخيرين فلا موجبَ للعدول عن الحقيقة فإن المبتدأَ إما نفسُ البغي أو الضميرُ العائدُ إليه من حيث هو هو لا من حيث كونُه وبالاً عليهم كما في صورة كونِ الظرفِ صلةً للمصدر فتدبر وقرىء متاعاً الحياةَ الدنيا أما نصبُ متاعاً فعلى ما مر وأما نصبُ الحياةَ فعلى أنه بدلٌ من متاعاً بدلَ اشتمالٍ وقيل على أنه مفعولٌ به لمتاعاً إذا لم يكن انتصابُه على المصدرية لأن المصدرَ المؤكدَ لا يعمل عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال لا تمكُرْ ولا تُعِن ماكراً ولا تبغِ ولا تُعن باغياً ولا تنكُث ولا تُعِن ناكثاً وكان يتلوها وقالَ محمدُ بنُ كعبٍ ثلاثٌ من كنّ فيه كنّ عليه البغيَ والنكثَ والمكر قال تعالى إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ وعنه صلى الله عليه وسلم أسرع الخير ثواباً صلةُ الرحم وأعجلُ الشر عقاباً البغيُ واليمينُ الفاجرة وروي ثنتان يعجّلهما الله تعالَى في الدُّنيا البغيُ وعقوقُ الوالدين وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لو بغى جبلٌ على جبل لدُكّ الباغي {ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ} عطفٌ على ما مر من الجملة المستأنفةِ المقدرةِ كأنه قيل تتمتعون متاعَ الحياةِ الدُّنيا ثم ترجِعون إلينا وإنما غُيّر السبكُ إلى الجملة الاسمية مع تقديم الجارِّ والمجرور للدِلالة على الثبات والقصرِ {فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدُّنيا على الاستمرار من البغي وهو وعيدٌ بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت وفيه نكتةٌ خفيةٌ مبنية على حكمة أبية وهي أن كلَّ ما يظهر في هذه النشأةِ من الأعيان والأعراضِ فإنما يظهر بصورة مغايرةٍ لصورته الحقيقية التي بها يظهر في النشأة الآخرة فإن المعاصيَ مثلاً سمومٌ قاتلةٌ قد برزت في الدنيا بصورة تستحسنها نفوسُ العصاةِ وكذا الطاعاتُ مع كونها أحسن الأحاسن قد ظهرت عندهم بصور مكروهةٍ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم حفت الجبة بالمكاره وحُفّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ فالبغي في هذه النشأة وإن برز بصورة تشتهيها البغاةُ وتستحسنها الغواةُ لتمتعهم به من حيث أخذُ المالِ والتشفّي من الأعداء ونحوُ ذلك لكن ذلك ليس بتمتع في الحقيقة بل هو تضرّر من حيث لا يحتسبون وإنما يظهرُ لهم ذلك عند إبرازِ ما كانوا يعملونه من البغى بصورة الحقيقة المضادّةِ لِما كانوا يشاهدونه على ذلك من الصورة وهو المرادُ بالتنبئة المذكورةِ والله سبحانَهُ وتعالَى أعلمُ

سورة يونس (24 25)

24

{إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ شأنِ الحياةِ الدنيا وقصرِ مدة التمتعِ بها وقربِ زمانِ الرجوع الموعودِ وقد شبه حالها العجيبة الشأنِ البديعةُ المثالِ المنتظمةُ لغرابتها في سلك الأمثالِ في سرعة تقضِّيها وانصرامِ نعيمها غِبَّ إقبالِها واغترارِ الناسِ بها بحال ما على الأرض من أنواع النباتِ في زوال رونقِها ونضارتِها فجأةً وذهابِها حُطاماً لم يبق لها أثرٌ أصلاً بعد ما كانت غضّةً طرية قد التف بعضُها ببعض وزُيِّنت الأرضُ بألوانها وتقوّت بعد ضعفِها بحيث طمِع الناسُ وظنوا أنها سلِمت من الجوائح وليس المشبَّهُ به ما دخله الكافُ في قولِه عزَّ وجلَّ {كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الارض} بل ما يُفهم من الكلام فإنه من التشبيه المركب {مِمَّا يَأْكُلُ الناس والانعام} من البقول والزروعِ والحشيش {حتى إِذَا أَخَذَتِ الارض زُخْرُفَهَا} جُعلت الأرضُ في تزينها بما عليها من أصناف النباتاتِ وأشكالِها وألوانِها المختلفة المونقةِ آخذةً زخْرُفَها على طريقة التمثيلِ بالعروس التى قد خذت من ألوان الثيابِ والزَّيْن فتزيّنت بها وازينت أصله تزينت فأدغم وقرىء على الأصل وقرىء وأزْينت كأغيلت من غير إعلالٍ والمعنى صارت ذاتَ زينةٍ وازْيانَّت كابياضّت {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} متمكنون من حصدها ورفعِ غَلّتها {أَتَاهَا أَمْرُنَا} جوابُ إذا أي ضرب زرعَها ما يجتاحه من الآفات والعاهات {لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا} أي زرعها وساء ما عليها {حَصِيداً} أي شبيهاً بما حُصد من أصله {كَأَن لَّمْ تَغْنَ} كأن لم يغنَ زرعُها والمضافُ محذوفٌ للمبالغة وقرىء بتذكير الفعل {بالامس} أي فيما قبلُ بزمان قريبٍ فإن الأمسَ مثلٌ في ذلك كأنه قيل لم تغنَ آنفاً {كذلك} أي مثلَ ذلك التفصيلِ البديعِ {نُفَصّلُ الآيات} أي الآيات القرآنيةَ التي من جُمْلتِها هذهِ الآيات المنبهةُ على أحوال الحياةِ الدنيا أي نوضّحها ونبيِّنها {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في تضاعيفها ويقفون على معانيها وتخصيصُ تفصيلِها بهم لأنهم المنتفعون بها ويجوز أن يُراد بالآياتِ ما ذُكر في أثناء التمثيلِ من الكائنات والفاسداتِ وبتفصيلها تصريفُها على الترتيب المحكيِّ إيجاداً وإعداماً فإنها آياتٌ وعلاماتٌ يستدل بها من يتفكر فيها على أحوال الحياةِ الدنيا حالاً ومآلاً

25

{والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام} ترغيبٌ للناس في الحياة الأخرويةِ الباقيةِ إثرَ ترغيبهم عن الحياة الدنيا الفانية أي يدعو الناسَ جميعاً إلى دار السلامةِ عن كلِّ مكروهٍ وآفةٍ وهي الجنةُ وإنما ذُكرت

بهذا الاسم لذكر الدنيا بما يقابله من كونها معَرْضاً للآفات أو إلى دار الله تعالى وتخصيصُ الإضافةِ التشريفية بهذا الاسم الكريمِ للتنبيه على ذلك أو إلى دار يسلّم الله أو الملائكةُ فيها على من يدخلها أو يسلم بعضُهم علي بعض {ويهدي من يشاء} هدايته منهم {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصلٍ إليها وهو الإسلامُ والتزودُ بالتقوى وفي تعميم الدعوة وتخصيصِ الهدايةِ بالمشيئة دليلٌ على أن الأمرَ غيرُ الإرادة وإن من أصر على الضلالة لم يرد الله رشده سورة يونس (26 27)

26

{لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} أي أعمالَهم أي عمِلوها على الوجه اللائقِ وهو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتي وقد فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّه يراكَ {الحسنى} أي المثوبةَ الحُسنى {وزيادة} أى وما يزيد على تلك المثوبة تفضلاً لقوله عز اسمه وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ وقيل الحسنى مثلُ حسناتِهم والزيادةُ عشرُ أمثالهِا إلى سبعمائةِ ضعفٍ وأكثر وقيل الزيادةُ مغفرةٌ من الله ورِضوانٌ وقيل الحُسنى الجنةُ والزيادة اللقاء {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ} أي لا يغشاها {قَتَرٌ} غبرةٌ فيها سوادٌ {وَلاَ ذِلَّةٌ} أي أثرُ هوانٍ وكسوفُ بالٍ والمعنى لا يرهقهم ما يرهَق أهلَ النار أو لا يرهَقُهم ما يُوجبُ ذلك من الحزن وسوءِ الحالِ والتنكيرُ للتحقير أيْ شيءٌ منهما والجملةُ مستأنفةٌ لبيان أمنِهم من المكاره إثرَ بيان فوزِهم بالمطالب والثاني وإن اقتضى الأولَ إلا أنه ذُكر إذكاراً بما ينقذهم الله تعالى منه برحمته وتقديمُ المفعولِ على الفاعلِ للإهتمام ببيان أن المصونَ من الرهَق أشرفُ أعضائِهم وللتشويق إلى المؤخَّر فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخرَ تبقى النفسُ مترقبةً لوروده فعند ورودِه عليها يتمكن عندها فضلُ تمكّنٍ ولأن في الفاعل ضربَ تفصيلٍ كما في قوله تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ وقوله عز وجل وَجَاءكَ فِى هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ {أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار اتصافِهم بالصفات المذكورةِ وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البعد للإيذان بعلو درجتِهم وسموّ طبقتِهم أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من النعوت الجميلةِ الفائزون بالمثوبات الناجون عن المكاره {أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون} بلا زوالٍ دائمون بلا انتقال

27

{والذين كَسَبُواْ السيئات} أي الشركَ والمعاصيَ وهو مبتدأٌ بتقدير المضافِ خبرُه قوله تعالى {جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا} أي جزاءُ الذين كسبوا السيئاتِ أن يجازى سيئةً واحدةً بسيئة مثلها لا يزاد عليها كما يزاد في الحسنة وتغييرُ السبْكِ حيث لم يقل وللذين كسبوا السيئاتِ السوآى لمراعاة ما بينَ الفريقينِ من كمال التنائي والتبايُن وإيرادُ الكسب للإيذان بأن ذلك إنما هو لسوء صنيعِهم وبسبب جنايتِهم على أنفسهم أو الموصولُ معطوفٌ على الموصول الأولِ كأنه

قيل وللذين كسبوا السيئاتِ جزاء بسيئة مثلها كقولك في الدار زيدٌ والحجرةِ عمروٌ وفيه دلالةٌ على أن المرادَ بالزيادة الفضلُ {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} وأيُّ ذلةٍ كما ينبىء عنه التنوينُ التفخيميُّ وفي إسناد الرَهق إلى أنفسهم دون وجوهِهم إيذانٌ بأنها محيطةٌ بهم غاشيةٌ لهم جميعاً وقرىء يرهَقهم بالياء التحتانية {مَّا لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} أي لا يعصِمُهم أحدٌ من سُخطه وعذابِه تعالى أو ما لهم من عنده تعالى مَن يعصمهم كما يكون للمؤمنين وفي نفي العاصمِ من المبالغة في نفي العصمةِ ما لا يخفى والجملةُ مستأنفةٌ أو حالٌ من ضمير ترهقهم {كَأَنَّمَا أُغْشِيَت وُجُوههم قطعاً مِنَ اللَّيْلِ} لفرط سوادِها وظلمتِها {مُظْلِماً} حالٌ من الليل والعاملُ فيه أغشيت لأنه العاملُ في قِطَعاً وهو موصوفٌ بالجار والمجرور والعاملُ في الموصوف عاملٌ في الصفة أو معنى الفعلِ في مِنَ الليل وقرىء قِطْعاً بسكون الطاء وهو طائفة من الليل قال ... افتحي الباب وانظُري في النجوم ... كم علينا من قِطْع ليلٍ بهيم ... فيجوزُ كونُ مظلماً صفةً له أو حالاً منه وقرىء كأنما يغشى وجوهَهم قِطعٌ من الليل مظلمٌ والجملةُ كما قبلها مستأنفةٌ أو حالٌ من ضمير ترهقهم {أولئك} أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة {أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} وحيث كانت الآيةُ الكريمةُ في حق الكفارِ بشهادة السياقِ والسباقِ لم يكن فيها تمسك للوعيدية سورة يونس (28)

28

{ويوم نحشرهم} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ بعضٍ آخرَ من أحوالهم الفظيعةِ وتأخيرُه في الذكر مع تقدمه في الوجود على بعض أحوالِهم المحكيةِ سابقاً للإيذان باستقلال كلَ من السابق واللاحقِ بالاعتبار ولو روعيَ الترتيبُ الخارجيُّ لعُدَّ الكلُّ شيئاً واحداً كما مرَّ في قصَّةِ البقرة ولذلك فصل عما قبله ويومَ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ أي أنذرْهم أو ذكرْهم وضمير نحشُرهم لكلا الفريقين الذي أحسنوا والذين كسبوا السيئاتِ لأنه المتبادرُ من قوله تعالى {جَمِيعاً} ومن أفراد الفريقِ الثاني بالذكر في قوله تعالى {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} أي نقول للمشركين من بينهم ولأن توبيخهم وتهديدهم على رءوس الأشهادِ أفظعُ والإخبارُ بحشر الكلِّ في تهويل اليومِ أدخل وتخصيصُ وصفِ إشراكهم بالذكر في حيز الصلةِ من بين سائر ما اكتسبوه من السيئات لابتناء التوبيخِ والتقريعِ عليه مع ما فيه من الإيذان بكونه معظمَ جناياتِهم وعمدةَ سيئاتِهم وقيل للفريق الثاني خاصةً فيكون وضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ لما ذكر آنفاً {مَكَانَكُمْ} نُصب على أنه في الأصلِ ظرفٌ لفعل أقيم مُقامه لا على أنه اسمُ فعل وحركتُه حركةُ بناءٍ كما هو رأيُ الفارسي أي الزَموه حتى تنظُروا ما يفعل بكم {أَنتُمْ} تأكيدٌ للضمير المنتقل إليه من عامله لسده مسدَّه {وَشُرَكَاؤُكُمْ} عطفٌ عليه وقُرىء بالنَّصبِ على أنَّ الواو بمعنى مع {فزيلنا} من زلت الشىء عن مكانه أُزيِّله أي أزلتُه والتضعيف للتكثير لا للتعدية وقرىء فزايلنا بمعناه نحو كلّمتُه وكالمته وهو معطوفٌ على نقول وإيثارُ صيغةِ الماضِي للدَلالة على التحققِ الموروث لزيادة التوبيخِ والتحسيرِ والفاءُ للدِلالة على وقوع التزييل ومباديه عقيبَ الخطابِ من غير مُهلةٍ إيذاناً

بكمال رخاوةِ ما بينَ الفريقينِ من العلاقة والوصلةِ أي ففرقنا بَيْنَهُمْ وقطّعنا أقرانهم والوصل التي كانت بينهم في الدنيا لكن لا من الجانبين بل من جانب العبَدةِ فقط لعدم احتمالِ شمولِ الشركاءِ للشياطين كما سيجيء فخابت آمالُهم وانصرمت عُرى أطماعِهم وحصل لهم اليأسُ الكليُّ من حصول ما كانوا يرجونه من جهتهم والحالُ وإن كانت معلومةً لهم من حين الموتِ والابتلاءِ بالعذاب لكن هذه المرتبةَ من اليقين إنما حصلت عند المشاهدةِ والمشافهةِ وقيل المرادُ بالتزييل التفريقُ الحسيُّ أي فباعدنا بينهم بعد الجمعِ في الموقفِ وتبرُّؤ شركائِهم منهم ومن عبادتهم كما في قوله أَيْنَمَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا فالواو حينئذ في قوله تعالى {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ} حاليةٌ بتقدير كلمةِ قد عند من يشترطها وبدونه عند غيره لا عاطفة كما في التفسير الأول لاستدعاء المحاورةِ المحاضرةَ الفائتةَ بالمباعدة وليس في ترتيب التزييلِ بهذا المعنى على الأمر بلزوم المكانِ ما في ترتيبه عليه بالمعنى الأول من النكتة المذكورةِ ليُصار لأجل رعايتِها إلى تغيير الترتيبِ الخارجيِّ فإن المباعدةَ بعد المحاورةِ حتماً وأما قطعُ الأقران والعلائق فليس كذلك بل ابتداؤُه حاصلٌ من حين الحشر بل بعضُ مراتبه حاصلٌ قبله أيضاً وإنما الحاصلُ عند المحاورةِ أقصاها كما أشير إليه فلا اعتداد بما في تقديمه من التغيير لا سيما مع رعاية ما ذكر من النكتة ولو سلم تأخرُ جميعِ مراتبِه عن المحاورة فمراعاةُ تلك النكتةِ كافيةٌ في استدعاء تقديمِه عليها ويجوز أن تكون حاليةً على هذا التقديرِ أيضاً والمرادُ بالشركاء قيل الملائكةُ وعزيز والمسيحُ وغيرُهم ممن عبدوه من أولي العلم ففيه تأييدٌ لرجوع الضميرِ إلى الكل وقولهم {مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} عبارةٌ عن تبرئهم من عبادتهم وأنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءَهم وشياطينَهم الذين أغوَوْهم لأنها الآمرةُ لهم بالإشراك دونهم كقولهم سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ الآية وقيل الأصنامُ يُنطِقها الله الذى أنطق كلَّ شيء فتُشافِهُهم بذلك مكانَ الشفاعةِ التي كانوا يتوقعونها

29

{فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} فإنه العليمُ الخبير {إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين} أي عن عبادتكم لنا وتركهُ للظهور وللإيذان بكمال الغفلةِ عنها والغفلةُ عبارةٌ عن عدم الارتضاءِ وإلا فعدمُ شعورِ الملائكةِ بعبادتهم لهم غيرُ ظاهرٍ وهذا يقطع احتمالَ كونِ المرادِ بالشركاء الشياطينَ كما قيل فإن ارتضاءَهم بإشراكهم مما لا ريبَ فيه وإن لم يكونوا مُجْبِرين لهم على ذلك وإنْ مخففةٌ من أن واللامُ فارقة

30

{هُنَالِكَ} أي في ذلك المقام الدهِش أو في ذلك الوقت على استعارة ظرفِ المكان للزمان تبلو أي تختبر وتذوق {كُلُّ نَفْسٍ} مؤمنةً كانت أو كافرةً سعيدةً أو شقية {مَّا أَسْلَفَتْ} من العمل وتعاينه بكُنهه مستتبِعاً لآثاره من نفع أو ضر وخيرٍ أو شر وأما ما علِمتْ من حالها من حين الموتِ والابتلاءِ بالعذاب في البرزخ فأمرٌ مجملٌ وقرىء نبلو بنونِ العظمةِ ونصبِ كلُّ وإبدالِ ما منه أي نعاملها معاملةَ من يبلوها ويتعرّفُ أحوالَها من السعادة والشقاوةِ باختبار ما أسلفت من العمل ويجوزُ أن يُراد نُصيب بالبلاء أي العذاب

عاصيةٍ بسبب ما أسلفت من الشر فيكون ما منصوبة بنزع الخافض وقرئ تتلو أي تتبع لأن عملَها هو الذي يهديها إلى طريق الجنةِ أو إلى طريق النارِ أو تقرأ في صحيفه أعمالِها ما قدمت من خير أو شر {وَرُدُّواْ} الضمير للذين أشركوا على أنه معطوفٌ على زيلنا وما عطف عليه قوله عز وجل {هنالك تبلو} الخ اعتراضٌ في أثناء الحكايةِ مقرّرٌ لمضمونها {إِلَى الله} أي إلى جزائه وعقابه {مولاهم} ربِّهم {الحق} أي المتحقق الصادِق ربوبيتُه لا ما اتخذوه ربا باطلا وقرئ الحقَّ بالنصب على المدح كقولهم الحمدُ لله أهلَ الحمدُ لله أهلَ الحمد أو على المصدر المؤكد {وَضَلَّ عَنْهُم} وضاع أي ظهر ضَياعُه وضلالُه لا أنه كان قبل ذلك غيرَ ضالٍ أو ضل في اعتقادهم أيضاً {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من أن آلهتَهم تشفع لهم أو ما كانوا يدعون أنها آلهةٌ هذا وجُعل الضميرُ في رُدوا للنفوسِ المدلولِ عليها بكلِّ نفسٍ على أنه معطوفٌ على تبلو وأن العدولَ إلى الماضِي للدلالةِ على التحققِ والتقرر وأن إيثارَ صيغةِ الجمعِ للإيذان بأن ردّهم إلى الله يكون على طريقة الاجتماعِ لا يلائمه التعرُّض لوصف الحقيةِ في قوله تعالى مولاهم الحق فإنه للتعريض بالمردودين حسبما أشير إليه ولئن اكتُفيَ فيه بالتعريض ببعضهم أو حُمل الحقِّ على معنى العدل في الثواب والعقاب فقوله عز وجل وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ مما لا مجال فيه للتدارك قطعاً فإنَّ ما فيهِ من الضمائر الثلاثة للمشركين فيلزم التفكيكُ حتماً وتخصيصُ كلُّ نفس بالنفوس المشركة مع عموم البلوى للكل يأ باه مقامُ تهويلِ المقام والله تعالَى أعلمُ سورة يونس (31)

31

{قُلْ} أي لأولئك المشركين الذين حُكيت أحوالُهم وبيّن ما يؤدي إليه أعمالُهم احتجاجاً على حقية التوحيدِ وبُطلانِ ما هم عليه من الإشراك {مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض} أي منهما جميعاً فإن الأرزاقَ تحصُل بأسباب سماوية وموادَّ أرضيةٍ أو من كل واحدة منهما توسعةً عليكم وقيل مِنْ لبيان كلمة مَنْ على حذفِ المضافِ أي مِنْ أهل السماء والأرض {أَم مَّنْ يَمْلِكُ السمع والابصار} أمْ منقطعةٌ وما فيَها من كلمةِ بل للإضراب عن الاستفهام الأولِ لكنْ لا على طريقةِ الإبطالِ بل على وجه الانتقالِ وصرفِ الكلام عنه إلى استفهام آخرَ تنبيهاً على كفايته فيما هو المقصودُ أي من يستطيع خلقَهما وتسويتَهما على هذه الفطرة العجيبة أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالِهما من أدنى شيءٍ يصيبهما {وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} أي ومن يحيي ويميت أو ومن ينشىء الحيوانَ من النطفة والنطفةَ من الحيوان {وَمَن يُدَبّرُ الامر} أي ومن يلي تدبيرَ أمرِ العالم جميعاً وَهُوَ تعميمٌ بعدَ تخصيصِ بعضِ ما اندرج تحته من الأمور الظاهرةِ بالذكر {فَسَيَقُولُونَ} بلا تلعثم ولا تأخير {الله} إذ لا مجال للمكابرة لغاية وضوحِه والخبرُ محذوف أي الله يفعل ما ذُكر من الأفاعيلِ لا غيرُه فَقُلْ عند ذلك تبكيتاً لهم أَفَلاَ تَتَّقُونَ الهمزةُ لإنكار عدمِ الاتقاء بمعنى إنكار الواقعِ كَما في أتضربُ أباك لا بمعنى إنكارُ الوقوعِ كما في أأضرِب أبي والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظمُ الكريمُ أي أتعلمون ذلك فلا تقون

أنفسَكم عذابَه الذي ذَكر لكم بما تتعاطَونه من إشراككم به ما لا يشاركه في شيءٍ مَّما ذُكر من خواصّ الإلهية سورة يونس (32 34)

32

{فَذَلِكُمُ} فذلكةٌ لما تقدم أي ذلكم الذي اعترفتم باتصافه بالنعوت المذكورةِ وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {الله} خبرُه وقوله تعالى {رَبُّكُمْ} أي مالكُكم ومتولي أمورِكم على الإطلاق بدلٌ منه أو بيانٌ له وقوله تعالى الحق صفةٌ له أي ربكم الثابتُ ربوبيتُه والمتحقق ألوهيته تحققا لاريب فيه فَمَاذَا يجوز أن يكون الكلُّ اسماً واحداً قد غلب فيه الاستفهامُ على اسم الإشارةِ وأن يكون ذا موصولاً بمعنى الذي أي ما الذي {بَعْدَ الحق} أي غيرُه بطريق الاستعارةِ وإظهارُ الحق إما لأن المرادَ به غيرُ الأول وإما لزيادة التقريرِ ومراعاةِ كمالِ المقابلةِ بينه وبين الضلالِ والاستفهامُ إنكاريٌّ بمعنى إنكارِ الوقوعِ ونفيِه أي ليس غيرُ الحق {إِلاَّ الضلال} الذي لا يختاره أحدٌ فحيث ثبت أن عبادةَ من هو منعوتٌ بما ذُكِرَ من النعوتِ الجميلةِ حقٌّ ظهر أن ما عداها من عبادة الأصنامِ ضلالٌ محضٌ إذ لا واسطةَ بينهما وإنما سُميت ضلالاً مع كونها من أعمال الجوارحِ باعتبار ابتنائِها على ما هو ضلالٌ من الاعتقاد والرأيُ هذا على تقديرِ كونِ الحقِّ عبارةً عن التوحيد وأما على تقدير كونِه عبارةً عن الأول فالمرادُ بالضلال هو الأصنامُ لا عبادتُها والمعنى فماذا بعد الربِّ الحقِّ الثابتِ ربوبيّتُه إلا الضلالُ أي الباطلُ الضائعُ المضمحلُّ وإنما سمي بالمصدر مبالغةً كأنه نفسُ الضلالِ والضياعِ وهذا أنسبُ بقوله تعالى وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ على التفسير الثاني {فأنى تُصْرَفُونَ} استفهامٌ إنكاريٌّ بمعنى إنكارِ الواقعِ واستبعادُه والتعجيبُ منه وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكارِ إلى نفس الفعلِ لأن كلَّ موجودٍ لا بد من أن يكون وجودُه على حال من الأحوال قطعاً فإذا انتفى جميعُ أحوال وجودِه فقد انتفى وجودُه على الطريق البرهاني كما مر مراراً والفاءُ لترتيب الإنكارِ على ما قبله أي كيف تُصرفون من الحق الذي لا محيد عنه وهو التوحيدُ إلى الضلال عن السبيل المستبينِ وهو الإشراكُ وعبادةُ الأصنام أو من عبادة ربكم الحقِّ الثابتِ ربوبيتُه إلى عبادة الباطلِ الذي سمعتم ضلالَه وضياعَه في الآخرة وفي إيثار صيغةِ المبنيِّ للمفعول إيذانٌ بأن الانصرافَ من الحق إلى الضلال مما لا يصدُر عن العاقل بإرادته وإنما يقع عند وقوعِه بالقسر من جهة صارفٍ خارجيَ

33

{كذلك} أي كما حقت الربوبيةُ لله تعالى أو كما أنه ليس بعد الحقِّ إلا الضلالُ أو أنهم مصروفون عن الحق {حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ} وحكمُه وقضاؤُه عَلَى الذين فَسَقُواْ أي تمردوا في الكفر وخرجوا من أقصى حدودِه {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} بدلُ الكلمة من أو تعليلٌ لحقيتها والمرادُ بها العِدَةُ بالعذاب

34

{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ}

احتجاجٌ آخرُ على حقية التوحيدِ وبطلانِ الإشراكِ بإظهار كونِ شركائِهم بمعزل من استحقاق الإلهية ببيان اختصاصِ خواصِّها من بدء الخلقِ وإعادتِه به سبحانه وتعالى وإنما لم يُعطف على ما قبله إيذاناً باستقلاله في إثبات المطلوبِ والسؤالُ للتبكيت والإلزامِ وقد جُعلت عليه الإعادةِ وتحققُها لوضوح مكانِها وسُنوحِ برهانِها بمنزلة بدءِ الخلقِ فنُظمت في سلكه حيث قيل {مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} إيذاناً بتلازمهما وجودا وعلما يستلزم الاعترافَ بها وإن صدهم عن ذلك ما بهم من المكابرة والعِناد ثم أمر صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم من يفعل ذلك فقيل له {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي هو يفعلهما لا غيرُ كائناً ما كان لا بأن ينوب صلى الله عليه وسلم عنهم في ذلك كما قيل لأن القولَ المأمورَ به غيرُ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن الجواب وإن كان مستلزِماً له إذ ليس المسئول عنه مَنْ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يعيده كما في قوله تعالى قُلْ مَن رَّبُّ السموات والارض قُلِ الله حتى يكونَ القولُ المأمور به عينِ الجوابِ الذي أريد منهم ويكون صلى الله عليه وسلم نائباً عنهم في ذلكَ بل إنَّما هو وجودُ مَنْ يفعل البدءَ والإعادةَ من شركائهم فالجوابُ المطلوبُ منهم لا لا غير نعم أمر صلى الله عليه وسلم بأن يضمِّنه مقالتَه إيذاناً بتعينه وتحققِه وإشعاراً بأنهم لا يجترءون على التصريح به مخافةَ التبكيتِ وإلقامِ الحجر لا مكابرةً ولَجاجاً فتدبر وإعادهُ الجملة فى الجواب بتمامها غير محذوفه الخبر كما في الجواب السابق لمزيد التأكيدِ والتحقيق {فأنى تُؤْفَكُونَ} الإفكُ الصرْفُ والقلبُ عن الشيء وقد يُخصّ بالقلب عن الرأي وهو الأنسبُ بالمقام أي كيف تُقلبون من الحق إلى الباطل والكلامُ فيهِ كَما ذُكرَ في تصرفون سورة يونس (35)

35

{قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ} احتجاجٌ آخرُ على ما ذكر جيء به إلزاماً لهم غِبَّ إلزامٍ وإفحاماً إثرَ إفحام وفصلُه عما قبله لما ذُكر من الدلالة على استقلاله {مَّن يَهْدِى إِلَى الحق} أي بوجهٍ من الوجوهِ فإنَّ أدنى مراتبِ المعبودية هدايةُ المعبودِ لعبَدته إلى ما فيه صلاحٌ أمرِهم وأما تعيينُ طريقِ الهدايةِ وتخصيصُه بنصب الحجج وإرسالِ الرسلِ والتوفيقِ للنظر والتدبر كما قيل فمُخِلٌّ بما يقتضيه المقام من كمال التبكيتِ والإلزامِ فإن العجزَ عن الهداية على وجه خاصَ لا يستلزم العجزَ عن مطلق الهدايةِ وهدى كما يُستعمل بكلمة إلى لتضمّنه معنى الانتهاءِ يُستعمل باللام للدلالة على أن المنتهى غايةُ الهداية وأنها لم تتوجه نحوه على سبيل الاتفاق ولذلك استُعمل بها ما أسند إلى الله تعالَى حيثُ قيل {قُلِ الله يَهْدِى لِلْحَقّ} أي هو يهدي له دون غيره وذلك بما ذكر من نصب الأدلةِ والحججِ وإرسالِ الرسل وإنزال الكتبِ والتوفيقِ للنظر والتدبر وغيرِ ذلك من فنون الهداياتِ والكلامُ في الأمر بالسؤال والجوابِ كما مر فيما مر {أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الحق} وهو الله عزَّ وجلَّ {أحق أن يتبع أم من لا يهدي} بكسر الهاء أصله يهتدي فأدغم وكسرت الهاء لالقتاء السَّاكنينِ وقُرىء بكسر الياءِ إتباعاً لها لحركة الهاء وقرئ بفتح الهاء نقلاً لحركة التاء إليها أي لا يهتدي بنفسه فضلاً عن هداية غيرِه وفيه من المبالغة ما لا يخفى وإنما نُفي عنه الاهتداءُ مع أن المفهومَ مما سبق نفيُ الهدايةِ لما أن نفيَها مستتبعٌ لنفيه غالباً فإن من اهتدى إلى الحق

لا يخلو عن هداية غيرِه في الجملة وأدناها كونُه قدوةً له بأن يراه فيسلُكَ مسلَكَه من حيث لا يدري والفاءُ لترتيب الاستفهامِ على ما سبق من تحقق هدايتِه تعالى صريحاً وعدمِ هدايةِ شركائِهم المفهومِ من القصر ومن عدم الجوابِ المنبىء عن الجواب بالعدم فإن ذلك مما يَضطرهم إلى الجواب الحق لا لتوجيه الاستفهامَ إلى الترتيب كما يقع في بعض المواقعِ فإن ذلك مختصٌّ بالإنكاري كما في قوله تعالى أَفَمَنِ اتبع رضوان الله الخ ونحوه والهمزةُ متأخرةٌ في الاعتبارِ وإنَّما تقديمُها في الذكر لإظهار عراقتِها في اقتضاء الصدارةِ كما هو رأيُ الجمهورِ حتى لو كان السؤالُ بكلمة أي لأخِّرت حتماً ألا يُرى إلى قوله تعالى فَأَىُّ الفريقين أَحَقُّ بالامن إثرَ تقديرِ ما يُلجىء المشركين إلى الجواب من حالهم وحالِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرىء لا يهدي بمعنى لا يهتدي لمجيئه لازماً أو لا يهدي غيرَه وصيغةُ التفضيلِ إما على حقيقتها والمفضلُ عليه محذوف كما اختاره مكي والتقدير أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع ممن لا يهدي أم من لا يهدي أحق الخ وإما بمعني حقيق كما اختاره أبو حيان وأيا ما كان فالاستفهامُ للإلزام وأن يُتَّبعَ في حيزِ النصبِ أو الجرِّ بعد حذفِ الجارِّ على الخلاف المعروفِ أي بأن يتبع {إِلا أَنْ يَهْدِى} استثناء مفرغ من أعمى الأحوال أى لايهتدى أولا يهدى غيره في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ هدايتِه تعالى له إلى الاهتداء أو إلى هداية الغير وهذا حالُ أشرافِ شركائِهم من الملائكة والمسيح وعزيز عليهم السلام وقيل المعنى أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقلُ إليه إلا أن ينتقل إليه أو إلا أن ينقُلَه الله تعالى من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا فيهديه وقرئ إلا أن يهدى من التفعيل للمبالغة {فَمَا لَكُمْ} أي أيُّ شيءٍ لكم في اتخاذكم هؤلاء شركاءَ لله سبحانه وتعالى والاستفهامُ للإنكار التوبيخيِّ وفيه تعجيبٌ من حالهم وقوله تعالى {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أي بما يقضي صريحُ العقل ببطلانه إنكارٌ لحكمهم الباطلِ وتعجبٌ منه وتشنيعٌ لهم بذلك والفاءُ لترتيب كلا الإنكارين على ما ظهرَ من وجوب اتباعِ الهادي إلى الحق إن قلت التبكيتُ بالاستفهام السابقِ إنما يظهر في حق من يعكسُ جوابَه الصحيحَ فيحكم بأحقية من لا يَهدي بالاتباع دون مَنْ يهدي وهم ليسوا حاكمين بأحقية شركائِهم لذلك دون الله سبحانه وتعالى بل باستحقاقهما جميعاً مع رجحان جانبه تعالى حيث يقولون هَؤُلاء شفعاؤُنا عِندَ الله قلتُ حكمُهم باستحقاقه تعالى للاتباع بطريق الاشتراكِ حكمٌ منهم بعدم استحقاقِه تعالى لذلك بطريق الاستقلال فصاروا حاكمين باستحقاق شركائِهم له دون الله تعالى من حيث لا يحتسبون سورة يونس (36)

36

{وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ} كلامٌ مبتدأٌ غيرُ داخلٍ في حيز الأمرِ مَسوقٌ من قِبَله تعالى لبيان عدمِ فهمِهم لمضمون ما أفحمهم وألقمهم الحجرَ من البرهان النيّر الموجبِ لاتباع الهادي إلى الحق الناعي عليهم بطلانَ حكمِهم وعدمَ تأثرِهم من ذلك لعدم اهتدائِهم إلى طريق العلم أصلاً أن ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم ومحاوراتهم إِلاَّ ظَنّا واهياً من غير التفاتٍ إلى فرد من أفراد العِلم فضلاً عن أن يسلُكوا مسالكَ الأدلةِ الصحيحةِ الهادية إلى الحق المبنيةِ على المقدمات اليقينية الحقةِ فيفهموا مضمونَها ويقفوا على صحتها وبُطلانِ ما يخالفها من أحكامهم الباطلةِ فيحصُل التبكيتُ والإلزامُ فالمراد بالاتباع مطلقُ الاعتقادِ الشامل لما يقارن القَبولَ والانقياد وما لا

سورة يونس (37) يقارنه وبالقصر ما أشيرَ إليهِ من أن لا يكونَ لهم في أثنائه اتباعٌ لفرد من أفراد العلمِ والتفاتٌ إليه ووجهُ تخصيصِ هذا الاتباعِ بأكثرهم الإشعارُ بأن بعضَهم قد يتبعون العلم فيقفون على حقية التوحيد وبطلان الشرك لكن لا يقبلونه مكابرةً وعناداً فيحصل بالنسبة إليهم التأثرُ من البرهان المزبورِ وإن لم يُظهروه وكونُهم أشدَّ كفرا وأكثر من الفريق الأولِ لا يقدح فيما يُفهم من فحوى الكلامِ عُرفاً من كون أولئك أسوأَ حالاً من غيرهم إذ المعتبرُ سوءُ الحالِ من حيث الفهمُ والإدراكُ لا من حيث الكفرُ والعذابُ أو ما يتبع أكثرُهم مدةَ عمرِهم إلا ظناً ولا يتركونه أبداً فإن حرفَ النفي الداخلِ على المضارع يُفيد استمرارَ النَّفي بحسبِ المقامِ فالمرادُ بالاتباع حينئذٍ هو الإذعانُ والانقيادُ والقصرُ باعتبار الزمان ووجهُ تخصيصِ هذا الاتباعِ بأكثرهم مع مشاركة المعاندين لهم في ذلك التلويحُ بما سيكون من بعضهم من اتباع الحقِّ والتوبةِ كما سيأتي هذا وقد قيل المعنى وما يتبع أكثرُهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظناً غيرَ مستندٍ إلى برهان عندهم وقيل وما يتبع أكثرُهم في قولهم للأصنام إنها آلهةٌ إلا ظناً والمرادُ بالأكثر الجميعُ فتأمل وقيل الضميرُ في أكثرهم للناس فلا حاجةَ إلى التكليف {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق} من العلم اليقينيِّ والاعتقادِ الصحيحِ المطابقِ للواقع {شَيْئاً} من الإغناء ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً به ومن الحق حالاً منه والجملةُ استئنافٌ ببيان شأنِ الظنِّ وبُطلانِه وفيه دِلالةٌ على وجوب العلمِ في الأصول وعدمِ جوازِ الاكتفاءِ بالتقليد {إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} وعيدٌ لهم على أفعالهم القبيحةِ فيندرج تحتها ما حُكي عنهم من الإعراض عن البراهين القاطعةِ والاتباعِ للظنون الفاسدةِ اندراجا أوليا وقرئ تفعلون بالالتفات إلى الخطاب لتشديد الوعيد

37

{وما كان هذا القرآن} شروعٌ في بيان ردِّهم للقرآن الكريم إثرَ بيانِ ردهم للأدلة العقليةِ المندرجةِ في تضاعيفه أي وما صحَّ وما استقام أن يكون هذا القرآنُ المشحونُ بفنون الهداياتِ المستوجبةِ للاتّباع التي من جملتها هاتيك الحججُ البينةُ الناطقةُ بحقِّيةِ التوحيدِ وبُطلان الشرك {أَنٍ يُفْتَرَى مِن دُونِ الله} أي افتراءً من الخلق أي مفترىً منهم سُمّي بالمصدر مبالغة {ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتبِ الإلهية المشهودِ على صدقها أي مصدّقاً لها كيف لا وهو لكونه معجزاً دونها عيارٌ عليها شاهدٌ بصحتها ونصبُه بأنه خبرُ كان مقدراً وقد جوّز كونُه علةً لفعل محذوفٍ تقديرُه لكن أنزله الله تصديق الخ وقرئ بالرفع على تقدير المبتدإ أي ولكن هو تصديقُ الخ {وَتَفْصِيلَ الكتاب} عطفٌ عليه نصباً ورفعاً أي وتفصيلَ ما كُتب وأثبت من الحقائق والشرائع {لاَ رَيْبَ فِيهِ} خبرٌ ثالثٌ داخلٌ في حكم الاستدراكِ أي منتفياً عنه الريبُ أو حالٌ من الكتاب وإن كان مضافاً إليه فإنه مفعولٌ في المعنى أو استئنافٌ لا محلَّ له من الإعراب {مِن رَّبّ العالمين} خبرٌ آخرُ أي كائناً من رب العالمين أو متعلقٌ بتصديق أو بتفصيل أو بالفعل المعلل بهما ولا ريب فيه اعتراضٌ كما في قولك زيدٌ لا شك فيه كريمٌ أو حالٌ من الكتابِ أو من الضميرِ في

سورة يونس (38 39) فيه ومساقُ الآية الكريمةِ بعد المنعِ عن اتباع الظنِّ لبيان ما يجب اتباعُه

38

{أَمْ يَقُولُونَ افتراه} أي بل أيقولون افتراه محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم والهمزةُ لإنكار الواقِع واستبعادِه {قُلْ} تبكيتا لهم وإظهارا لبطلان مقالتِهم الفاسدةِ إنْ كانَ الأمرُ كَما تقولون {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ} أي في البلاغة وحسنِ الصياغةِ وقوةِ المعنى على وجه الافتراءِ فإنكم مثلي في العربية والفصاحةِ وأشدُّ تمرناً منى فى فى النظم والعبارة وقرئ بسورةِ مثلِه على الإضافة أي بسورة كتابٍ مثلِه {وادعوا} للمظاهرة والمعاونة {مَنِ استطعتم} دعاءَه والاستعانةَ به من آلهتكم التي تزعُمون أنها مُمِدّةٌ لكم في المُهمات والمُلماتِ ومدارِهِكم الذين تلجئون إلى آرائهم في كل ما تأتون وما تذرون {من دون الله} متعلق بادعوا ودون جارٍ مجرى أداةِ الاستثناءِ وقد مر تفصيله في قوله تعالى وادعوا شُهَدَاءكُم مِن دُونِ الله أي ادعُوا سواه تعالى من استطعتم من خلقه فإنه لا يقدِر عليه أحدٌ وإخراجه سبحانه من حكم الدعاءِ للتنصيص على براءتهم منه تعالى وكونِهم في عُدوة المضادة والمُشاقّة لا لبيان استباده تعالى بالقدرة على ما كُلِّفوه فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دَعَوْه تعالى لأجابهم إليه {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في أني افتريته فإن ذلك مستلزمٌ لإمكان الاتيانِ بمثله وهو أيضاً مستلزِمٌ لقدرتكم عليه والجوابُ محذوفٌ لدِلالة المذكورِ عليه

39

{بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} إضرابٌ وانتقالٌ عن إظهار بطلانِ ما قالُوا في حقِّ القُرآنِ العظيمِ بالتحدِّي إلى إظهاره ببيانِ أنه كلامٌ ناشيءٌ عن جهلهم بشأنه الجليلِ فما عبارةٌ عن كله لا عما فيه من ذكر البعث والجزاءِ وما يخالف دينَهم كما قيل فإنَّه ممَّا يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن مثله أي سارعوا إلى تكذيبه آثِرَ ذي أثيرٍ من غير أن يتدبروا فيه ويقِفوا على ما في تضاعيفِه من الشواهد الدالةِ على كونه كما وُصف آنفاً ويعلموا أنه ليس مما يمكنُ أن يكونَ له نظيرٌ يقدر عليه المخلوقُ والتعبيرُ عنه بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ دون أن يقال بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه أو نحو ذلك للإيذان بكمال جهلِهم به وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدمِ العلمِ به وبأن تكذيبَهم به إنما هو بسبب عدم علمِهم به لما أن إدارةَ الحكم على الموصول مشعرةٌ بعلية مَا في حيزِ الصلةِ له {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} عطف على الصلة أو حالٌ من الموصولِ أي ولم يقِفوا بعدُ على تأويله ولم يبلُغ أذهانَهم معانيه الرائقةُ المنبئةُ عن علو شأنِه والتعبيرُ عن ذلك بإتيان التأويل للإشعار بأن تأويلَه متوجّهٌ إلى الأذهان منساقٌ إليها بنفسه أو لم يأتِهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يتبين أنه صدقٌ أم كذبٌ والمعنى أن القرآنَ معجزٌ من جهة النظمِ والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب وهم قد فاجئوا تكذيبَه قبل أن يتدبروا نظمَه ويتفكروا في معناه

سورة يونس (40) أو ينتظروا وقوعَ ما أخبر به من الأمور المستقبلةِ ونفيُ إتيان التأويل بكلمة لمّا الدالةِ على التوقع بعد نفي الإحاطةِ بعلمه بكلمة لم لتأكيد الذمِّ وتشديد التشنيعِ فإن الشناعةَ في تكذيب الشيء قبل علمِه المتوقّعِ إتيانُه أفحشُ منها في تكذيبه قبل علمِه مطلقاً والمعنى أنه كان يجبُ عليهم أنْ يتوقفوا إلى زمان وقوعِ المتوقَّعِ فلم يفعلوا وأما أن المتوقعَ قد وقع بعدُ وأنهم استمرّوا عند ذلك أيضاً على ما هم عليه أولا فلا تعرض له ههنا والاستشهادُ عليه بعدم انقطاعِ الذمِّ أو ادعاءُ أن قولَهم افتراه تكذيبٌ بعد التدبر ناشىءٌ من عدم التدبر فتدبر كيف لا وهم لم يقولوه بعد التحدى بل قبله وادعاءُ كونِه مسبوقاً بالتحدي الواردِ في سورة البقرة يردّه أنها مدنية وهذه مكيةٌ وإنما الذي يدلُّ عليهِ ما سيتلى عليك من قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ الخ وقوله تعالى {كذلك} الخ وصفٌ لحالهم المحكيِّ وبيانٌ لما يؤدّي إليه من العقوبة أي مثلَ ذلك التكذيبِ المبنيِّ على بادي الرأي والمجازفةِ من غيرِ تدبرٍ وتأملٍ {كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي فعلوا التكذيبَ أو كذبوا ما كذبوا من المعجزاتِ التي ظهرت على أيدي أنبيائِهم أو كذبوا أنبياءَهم {فانظر كيف كان عاقبة الظالمين} وهم الذين مِن قَبْلِهِم من المكذبين وإنما وضع المظهرِ موضعَ المضمر للإيذان بكون التكذيبِ ظلماً أو بعلّيته لإصابة ما أصابهم من سوء العاقبةِ وبدخول هؤلاء الظالمين في زمرتهم جرما ووعيداً دخولاً أولياً وقوله عز وجل

40

{وَمِنْهُمُ} الخ وصفٌ لحالهم بعد إتيانِ التأويل المتوقع إذا حينئذٍ يمكن تنويعُهم إلى المؤمِن به وغير المؤمن ضرورةَ امتناعِ الإيمان بشيء من غير علمٍ به واشتراكِ الكلِّ في التكذيب والكفرِ به قبل ذلك حسبما أفاده قولُه تعالى بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ أي ومن هؤلاء المكذبين {مَن يُؤْمِنُ به} عند الإحالة بعلمه وإتيانِ تأويله وظهورِ حقيته بعدما سعَوا في المعارضة ورازُوا قواهم فيها فتضاءلت دونها أو بعد ما شاهدوا وقوع ما أخبر به كما أَخبر به مراراً ومعنى الإيمانِ به إما الاعتقادُ بحقيته فقط أي يصدق به في نفسه ويعلم أنه حقٌّ ولكنه يعاند ويكابر وهؤلاءِ هم الذين أُشير بقصْر اتباعِ الظنِّ على أكثرهم إلى أنهم يعلمون الحقَّ على التفسير الأول كما أُشيرَ إليهِ فيما سلف وإما الإيمانُ الحقيقيُّ أي سيؤمن به ويتوب عن الكفر وهم الذين أشير بالقصْر المذكورِ على التفسير الثاني إلى أنهم سيتبعون الحقَّ كما مر {وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ} أي لا يصدق به في نفسه كما لا يصدق ظاهراً لفرْط غباوتِه المانعةِ عن الإحاطة بعلمه كما ينبغي وإن كان فوق مرتبةِ عدمِ الإحاطةِ به أصلاً أو لسخافة عقلِه واختلالِ تمييزِه وعجزِه عن تخليص علومه عن مخالطة الظنونِ والأوهام التي ألِفَها فيبقى على ما كان عليه من الشك وهذا القدرُ من الإحاطة وإتيانِ التأويلِ كافٍ في مقابلة ما سبق من عدم الإحاطةِ بالمرة وهؤلاء هم الذين أريدوا فيما سلف بقوله عز وجل وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا على التفسير الأول أولا لا يؤمنوا به فيما سيأتي بل يموت على كفره معانداً كان أو شاكا وهم المستمرّون على اتباع الظن على التفسير الثاني من غير إذعانٍ للحق وانقيادٍ له {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين} أي بكلا الفريقين على الوجه الأول لا بالمعاندين فقط كما قيل لاشتراكهما في أصل الإفسادِ المستدعي لاشتراكهما في الوعيد أو بالمُصرّين الباقين على الكفر على الوجهِ الثَّانِي من المعاندين والشاكين

سورة يونس (41 43)

41

{وَإِن كَذَّبُوكَ} أي إن تموا على تكذيبك وأصروا عليه حسبما أُخبر عنهم بعد إلزامِ الحجةِ بالتحدي {فَقُل لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} أي تبرأ منهم فقد أعذرتَ كقوله تعالى فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء والمعنى لي جزاءُ عملي ولكم جزاءُ عملِكم حقاً كان أو باطلاً وتوحيدُ العمل المضافِ إليهم باعتبار الاتحادِ النوعيِّ ولمراعاة كمالِ المقابلة {أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ} تأكيدٌ لما أفادته لامُ الاختصاص من عدم تعدّي جزاءِ العمل إلى غير عاملِه أي لا تؤاخَذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم ولما فيه من إيهام المتاركةِ وعدم التعرضِ لهم قيل إنه منسوخٌ بآية السيف

42

{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} بيانٌ لكونهم مطبوعاً على قلوبهم بحيث لا سبيل إلى إيمانهم وإنما جمع الضميرُ الراجعُ إلى كلمة مَنْ رعايةً لجانب المعنى كما أفرد فيما سيأتي محافظةً على ظاهرِ اللفظِ ولعل ذلك للإيماء إلى كثرة المستمعين بناءً على عدم توقفِ الاستماع على ما يتوقف عليه النظرُ من المقابلة وانتفاءِ الحجاب والظُلمة أي ومنهم ناسٌ يستمعون إليك عند قراءتِك القرآنَ وتعليمِك الشرائعَ {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} همزةُ الاستفهامِ إنكاريةٌ والفاءُ عاطفةٌ وليس الجمعُ بينهما لترتيب إنكارِ الإسماع على الاستماع كما هُو رأيُ سيبويهِ والجمهور على أن يجعل تقديمُ الهمزة على الفاء لاقتضائها الصدارةَ كما تقرر في موضعه بل لإنكار ترتُّبِه عليه حسبما هو المعتادُ لكن لا بطريق العطفِ على الفعل المذكورِ لأدائه إلى اختلالِ المعنى لأنه إما صلةٌ أو صفة وأياما كان فالعطفُ عليه يستدعي دخولَ المعطوفِ في حيزه وتوجّهَ الإنكارِ إليه من تلك الحيثية وَلاَ ريب في فسادة بل بطريق العطفِ على مقدر مفهومٍ من فحوى النظمِ كأنه قيل أيستمعون إليك فأنت تسمعهم لا إنكار لاستماعهم فإنَّه أمرٌ محققٌ بلْ إنكاراً لوقوع الاستماعِ عقيبَ ذلك وترتبِه عليه حسب العادةِ الكليةِ بل نفياً لإمكانه أيضاً كما يُنبىء عنه وضع الصمِّ موضعَ ضميرِهم ووصفِهم بعدم العقلِ بقوله تعالى {وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ} أي ولو انضم إلى صممهم عدمُ عقولِهم لأن الأصمَّ العاقلَ ربما تفرس إذا وصل إلى صِماخه صوتٌ وأما إذا اجتمع فقدانُ السمع والعقل جميعا فقد تم الأمر

43

{وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} ويعاين دلائلَ نبوّتك الواضحة {أَفَأَنتَ} أي أعقيبَ ذلك أنت تهديهم وإنما قيل {تَهْدِى العمى} تربيةً لإنكار هدايتِهم وإبرازاً لوقوعها في معرض الاستحالةِ وقدْ أكَّد ذلكَ حيثُ قيل {وَلَوْ كانوا لا يبصرون} أي ولو انضم إلى عدم البصَر عدمُ البصيرة فإن المقصودَ من الإبصارِ الاعتبارُ والاستبصارُ والعمدةُ في ذلك هي البصيرةُ ولذلك يحدس الأعمى المستبصرُ ويتفطن لما لا يدركه البصيرُ الأحمقُ فحيث اجتمع فيهم الحمَقُ والعمى فقد انسد عليهم بابُ الهدى وجوابُ لو في الجملتين محذوفٌ لدلالة قوله تعالى تُسْمِعُ الصم وتهدى العمى عليه وكل وكلٌّ منهما معطوفةٌ على

سورة يونس (44) جملة مقدرةٍ مقابلةٍ لها في الفحوى كلتاهما في موضع الحالِ من مفعول الفعلِ السابق أي أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون أفأنت تهدي العميَ لو كانوا يبصرون ولو كانوا لا يبصرون أي على كل حالٍ مفروض وقد حذفت الأولى في الباب حذفا مطَّرداً لدلالة الثَّانيةِ عليها دلالةً واضحة فإن الشيء إذا تحقق عند تحققِ المانعِ أو المانع القوي فلأن يتحقق عند عدمِه أو عند تحققِ المانعِ الضعيفِ أولى وعلى هذه النكتةِ يدور ما في لو وأن الوصليتين من التأكيد وقد مر الكلامُ في قوله تعالى وَلَوْ كَرِهَ الكافرون ونظائرِه مراراً

44

{إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس} إشارةٌ إلى أن ما حكي عنهم من عدم اهتدائِهم إلى طريق الحقِّ وتعطّلِ مشاعرِهم من الإدراك ليس لأمر مستندٍ إلى الله عزوجل من خلقهم مؤفي المشاعرِ ونحو ذلكَ بل إنَّما هُو من قِبلهم أي لا ينقُصهم {شَيْئاً} مما نيط به مصالحُهم الدينيةُ والدنيويةُ وكمالاتُهم الأولويةُ والأُخْروية من مبادى إدراكاتهم وأسبابِ علومِهم من المشاعر الظاهرةِ والباطنةِ والإرشادِ إلى الحق بإرسال الرسلِ وإنزالِ الكتبِ بل يوفيهم ذلك من غير إخلالٍ بشيء أصلاً {ولكن الناس} وقرىء بالتخفيف ورفعِ الناس وضْعِ الظاهِرِ موضعَ الضَّميرِ لزيادة تعيينٍ وتقريرٍ أي لكنهم بعدم استعمالِ مشاعِرهم فيما خُلقت له وإعراضِهم عن قبول دعوةِ الحق وتكذيبِهم للرسل والكتب {أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ينقُصون ما ينقصون مما يُخِلّون به من مبادى كما لهم وذرائعِ اهتدائِهم وإنما لم يُذكر لما أن مرمى الغرضِ إنما هو قصرُ الظلمِ على أنفسهم لا بيانُ ما يتعلق به الظلمُ والتعبيرُ عن فعلهم بالنقص مع كونِه تفويتاً بالكلية وإبطالاً بالمرة لمراعاة جانب قرينته وقوله عز وجل أَنفُسِهِمْ إما تأكيدٌ للناس فيكونُ بمنزلة ضمير الفصلِ في قوله تعالى وَمَا ظلمناهم ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين في قصر الظالمية عليهم وإما مفعولٌ ليظلمون حسبما وقعَ في سائر المواقعِ وتقديمُه عليه لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلةِ من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأي مَن لا يرى التقديمَ موجباً للقصر فيكون كما في قوله تعالى وَمَا ظلمناهم ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ من غير قصد للظلم لا على الفاعل ولا على المفعول وأما على على رأيِ مَن يراهُ موجباً له فلعل إيثارَ قصرِها دون قصرِ الظالمية عليهم للمبالغة في بيان بطلان أفعالِهم وسخافةِ عقولِهم لما أن أقبحَ الأمرين عند اتحادِ الفاعلِ والمفعولِ وأشدَّهما إنكاراً عند العقل ونفرةً لدى الطبع وأوجبَهما حذراً منه عند كل أحدٍ هو المظلوميةُ لا الظالمية على أن قصرَ الأولى عليهم مسلتزم لما يقتضيه ظاهرُ الحالِ من قصر الثانية عليهم ضرورةَ أنه إذا لم يظِلمْ أحدٌ من الناس إلا نفسَه يلزم أن لا يظلِمَه إلا نفسُه إذ لو ظلمه غيرُه يلزم كونُ ذلك الغيرِ ظالماً لغير نفسِه والمفروضُ أن لا يظلم أحدٌ إلا نفسَه فاكتُفي بالقصر الأولِ عن الثاني مع رعاية ما ذكر من الفائدة وصيغةُ المضارع للاستمرار نفياً وإثباتاً فإن حرفَ النفي إذا دخل على المضارع يفيد بحسب المقامِ استمرارَ النَّفِي لا نفيَ الاستمرارِ ألا يرى أن قولك ما زيدا ضربت يدل على اختصاص النفي لا على نفي الاختصاص ومساقُ الآيةِ الكريمةِ لإلزام الحجةِ ويجوز أن يكون للوعيد فالمضارعُ المنفيُّ للاستقبال والمُثبتُ للاستمرار والمعنى أن الله لا يظلِمُهم بتعذيبهم يومَ القيامة شيئاً من الظلم ولكنهم أنفسَهم يظلِمون ظلماً مستمراً فإن مباشرتَهم

سورة يونس (45 46) المستمرةَ للسيئات الموجبةِ للتعذيب عينُ ظلمِهم لأنفسهم وعلى الوجهين فالآيةُ الكريمة تذييلٌ لما سبق

45

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} منصوبٌ بمضمر وقرئ بالنون على الالتفات أي اذكر لهم أو أنذِرْهم يوم يحشرهم {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ} أي كأنهم لَّمْ يَلْبَثُواْ {إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار} أي شيئاً قليلاً منه فإنها مثَلٌ في غاية القِلة وتخصيصُها بالنهار لأن ساعاتِه أعرفُ حالاً من ساعاتِ الليلِ والجملةُ في موقع الحالِ من ضمير المفعولِ أي يحشرهم مشبَّهين في أحوالهم الظاهرةِ للناس بمَنْ لم يلبَثْ في الدنيا ولم يتقلب في نعيمها إلا ذلك القدرَ اليسيرَ فإن مَنْ أقام بها دهراً وتمتع بمتاعها لا يخلو عن بعض آثارِ نعمةٍ وأحكامِ بهجةٍ منافيةٍ لما بهم من رثاثة الهيئةِ وسوء الحالِ أو بمن لم يلبَث في البرزخ إلا ذلك المقدارَ ففائدة التقييدِ بيانُ كمالِ يُسرِ الحشرِ بالنسبةِ إلى قُدرتِه تعالى ولو بعد دهرٍ طويلٍ وإظهارِ بطلانِ استبعادِهم وانكارِهم بقولهم أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أئنا لمبعوثون ونحوِ ذلك أو بيانُ تمامِ الموافقةِ بين النشأتين في الأشكال والصورِ فإن قلة اللبث فى البرزح من موجبات عدمِ التبدلِ والتغيرِ فيكون قوله عز وعلا {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} بياناً وتقريراً له لأن التعارفَ مع طول العهدِ ينقلب تناكراً وعلى الأول يكون استئنافاً أي يعرِف بعضُهم بعضاً كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً وذلك أولَ ما خرجوا من القبور إذ هم حينئذٍ على ما كانُوا عليهِ من الهيئة المتعارَفةِ فيما بينهم ثم ينقطع التعارفُ بشدة الأهوالِ المذهلة واعتراءِ الأحوالِ المُعضلة المغيِّرةِ للصور والأشكالِ المبدّلة لها من حال إلى حال {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله} شهادةٌ من الله سبحانه وتعالى على خُسرانهم وتعجبٌ منه وقيلَ حالٌ منْ ضميرِ يتعارفون على إرادة القولِ والتعبيرُ عنهم بالموصول مع كون المقام مقام إضمارٍ لذمِّهم بما في حيزِ الصلة والإشعار بعليته لما أصابهم والمرادُ بلقاء الله إن كان مطلقَ الحسابِ والجزاءِ أو حسنَ اللقاءِ فالمراد بالخسران الوضيعةُ والمعنى وضَعوا في تجاراتهم ومعاملاتهم واشترائِهم الكفرَ بالإيمان والضلالةَ بالهدى ومعنى قوله تعالى {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} ما كانوا عارفين بأحوال التجارةِ مهتدين لطرقها وإن كان سوءَ اللقاءِ فالخَسارُ الهلاك والضلالُ أي قد ضلوا وهلكوا بتكذيبهم وما كانوا مهتدين إلى طريق النجاة

46

{وإما نرينك} أصله إن نُرِكَ ومَا مزيدةٌ لتأكيدِ معنى الشرط ومن ثمة أُكد الفعلُ بالنون أي بنُصرتك بأن نُظهرَ لك {بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ} أي وعدناهم من العذاب ونعجِّلَه في حياتك فتراه والعدولُ إلى صيغة الاستقبالِ لاستحضار الصورةِ أو للدِّلالةِ على التَّجددِ والاستمرارِ أي نعِدُهم وعداً متجدداً حسبما تقتضيه الحكمةُ من إنذارٍ غِبَّ إنذار وفي تخصيص البعضِ بالذكر رمزا إلى العِدَة بإراءةِ بعضِ الموعودِ وقد أراه يومَ بدر {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبلَ ذلكَ {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أي كيفما دارات الحال أريناك بعض ما وعدناهم أولا فإلينا مرجعُهم في الدنيا والآخرة فنتجز ما وعدناهم البتة

سورة يونس (47 49) وقيل المذكورُ جوابٌ للشرط الثاني كأنه قيل فإلينا مرجعُهم فنريكَه في الآخرة وجوابُ الأول محذوفٌ لظهوره أي فذاك {ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ} من الأفعال السيئةِ التي حُكيت عنهم والمرادُ بالشهادة إما مقتضاها ونتيجتُها وهي معاقبتُه تعالى إياهم وإما إقامتُها وأداؤُها بإنطاق الجوارحِ وإظهارُ اسمِ الجلالةِ لإدخال الروعةِ وتربيةِ المهابةِ وتأكيدِ التهديد وقرئ ثَمّةَ أي هناك

47

{ولكل أمةٍ} من الأمم الخالية {رَّسُولٌ} يُبعث إليهم بشريعة خاصةٍ مناسبة لأحوالهم ليدعُوَهم إلى الحق {فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ} فبلغهم ما أُرسل به فكذبوه وخالفوه {قُضِىَ بَيْنَهُمْ} أي بين كلِّ أمةٍ ورسولِها {بالقسط} بالعدل وحُكم بنجاة الرسول والمؤمنين به وهلاك المكذِبين كقوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} في ذلك القضاءِ المستوجِب لتعذيبهم لأنه من نتائج أعمالِهم أو ولكل أمةٍ من الأمم يوم القيامةِ رسولٌ تُنسَبُ إليه وتدعى به فإذا جاء رسولُهم الموقفَ ليشهدَ عليهم بالكفر والإيمان كقوله عز وجل وَجِىء بالنبيين والشهداء وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ

48

{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} استعجالاً لما وُعدوا من العذاب على طريقة الاستهزاءِ به والإنكارِ حسبما يرشد إليه الجوابُ لا طلباً لتعيين وقتِ مجيئِه على وجه الإلزام كما في سورة الملك {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في أنه يأتينا والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين يتلون عليهم الآياتِ المتضمنةَ للوعد المذكورِ وجوابُ الشرط محذوفٌ اعتماداً على ما تقدم حسبما حُذف في مثلِ قولِه تعالى فائْتنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فإن الاستعجالَ في قوة الأمرِ بالإتيان عجلةً كأنه قيل فليأتنا عجَلةً إن كنتم صادقين ولِما فيه من الإشعار بكون إتيانِه بواسطة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قيل

49

{قل لا أملك لنفسى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا} أي لا أقدِر على شيءٍ منهما بوجه من الوجوه وتقديمُ الضر لِما أن مساقَ النظمِ لإظهار العجزِ عنه وأما ذكرُ النفعِ فلتوسيع الدائرةِ تكملةً للعجز وما وقع في سورة الأعرافِ من تقديم النفعِ للإشعار بأهميته والمقامُ مقامُه والمعنى إني لا أملك شيئا من شئونى رداً وإيراداً مع أن ذلك أقربُ حصولاً فكيف أملك شئونكم حتى أتسبّبَ في إتيان عذابِكم الموعودِ {إِلاَّ مَا شَاء الله} استثناءٌ منقطعٌ أي ولكن ما شاء الله كائناً وحملُه على الاتصال على معنى إلا ما شاء الله أن املِكَه يأباه مقامُ التبُّرؤ من أن يكون له عليه السلام دخلٌ في إتيان الوعدِ فإن ذلك يستدعيى بيانَ كونِ المتنازَعِ فيه مما لا يشاء الله أن يملِكه عليه السلام وجعلُ ما عبارةً عن بعض الأحوالِ المعهودةِ المنوطةِ بالأفعال الاختياريةِ المفوضة إلى العباد على أن يكون المعنى لا أملك لنفسي شيئاً من الضر والنفعِ إلا ما شاء الله أن أملِكه منهما من الضر والنفعِ المترتبَيْن على أفعالى الاختيارية كالضر

سورة يونس (50) والنفعِ المترتبَيْن على الأكل والشربِ عدماً ووجوداً تعسّفٌ ظاهرٌ وقوله تعالى {لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} بيانٌ لما أُبهم في الاستثناء وتقييدٌ لما في القضاء السابقِ من الإطلاق المُشعِر بكون المقضيِّ به أمراً مُنجزاً غيرَ متوقَّفٍ على شيء غيرِ مجيءِ الرسولِ وتكذيبِ الأمة أي لكل أمةٍ أمة ممن قُضي بينهم وبين رسولِهم أجلٌ معينٌ خاصٌّ بهم لا يتعدى إلى أمة أخرى مضروبٍ لعذابهم يحِلّ بهم عند حلولِه {إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ} إن جُعل الأجلُ عبارةً عن حد معينٍ من الزمان فمعنى مجيئِه ظاهرٌ وإنْ أُريدَ بهِ ما امتدّ إليه من الزمان فمجيئُه عبارةٌ عن انقضائِه إذ هناك يتحقق مجيئُه بتمامه والضميرُ إن جُعل للأمم المدلولِ عليها بكل أمة فإظهار الأجل مضافا إليه لإفادة المعنى المقصودِ الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئُه إياها بعينها من بين الأممِ بواسطة اكتسابِ الأجل بالإضافة عموماً يفيده معنى الجمعية كأنه قيل إذا جاءهم آجالُهم بأن يجيء كل واحدةٍ من تلك الأمم أجلها الخاص بها وإن جُعل لكل أمةٍ خاصةً كما هو الظاهرُ فالإظهارُ في موقع الإضمارِ لزيادة التقريرِ والإضافةُ إلى الضمير لإفادة كمالِ التعيين أي إذا جاءها أجلُها الخاصُّ بها {فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ} عن ذلك الأجلِ {سَاعَةً} أي شيئاً قليلاً من الزمان فإنها مثل في غاية القلة منه أي لا يتأخرون عنه أصلاً وصيغةُ الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أي لا يتقدمون عليهِ وهو عطفٌ عَلى يستأخرون لكن لا لبيان انتفاء التقدم مع إمكانه في نفسه كالتأخر بل للمبالغة في انتفاء التأخر بنظمه في سلك المستحيلِ عقلاً كما في قوله سبحانه وتعالى وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الان وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فإن من مات كافراً مع ظهور أن لا توبةَ له رأساً قد نُظم في عدم قَبولِ التوبةِ في سلك من سوّفها إلى حضور الموتِ إيذانا بتساوي وجود التوبة حينئذٍ وعدِمها بالمرة كما مر في سورة الأعراف وقد جُوِّز أن يراد بمجيء الأجلِ دنوُّه بحيث يمكن التقدمُ في الجملة كمجيء اليومِ الذي ضُرب لهلاكهم ساعةٌ معينةٌ منه لكن ليس في تقييد عدمِ الاستئخار بدنوه مزيدُ فائدةٍ وتقديمُ بيان انتفاءِ الاستئخار على بيان انتفاءِ الاستقدامِ لأن المقصودَ الأهمَّ بيانُ عدمِ خلاصِهم من العذاب ولو ساعةً وذلك بالتأخر وأمَّا ما في قولِه تعالى مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يستأخرون من سبق السبق في الذكر فلما أن المراد هناك بيانُ سرِّ تأخيرِ عذابِهم مع استحقاقهم له حسبما ينبيء عنه قوله عز وجل ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الامل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فالأهمُّ إذ ذاك بيانُ انتفاءِ السبقِ كما ذكر هناك

50

{قُلْ} لهم غِبَّ ما بيّنتَ كيفيةَ جريانِ سنةِ الله عزَّ وجلّ فيما بين الأمم على الإطلاق ونبهتَهم على أن عذابَهم أمرٌ مقررٌ محتومٌ ولا يتوقف إلا على مجيء أجله المعلومِ إيذاناً بكمال دنوِّه وتنزيلاً له منزلةَ إتيانه حقيقة {أرأيتم} أي أخبروني {إن أتاكم عَذَابُهُ} الذي تستعجلون به {بَيَاتًا} أي وقتَ بياتٍ واشتغالٍ بالنوم {أَوْ نَهَارًا} أي عند اشتغالِكم بمشاغلكم حسبما عُيِّن لكم من الأجل بمقتضى المشيئةٍ التابعةِ للحكمة كما عيّن لسائر الأمم المهلكة وقوله عز وجل {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} جوابٌ للشرط بحذف الفاءِ كما في قولك إن أتيتُك ماذا تطعمني والمجرمون موضوعٌ موضعَ المضمر لتأكيد الإنكارِ ببيان مباينةِ حالِهم

سورة يونس (51 52) للاستعجال فإن حقَّ المجرمِ أن يَهلك فزَعاً من إتيان العذابِ فضلاً عن استعجاله والجملةُ الشرطيةُ متعلقةٌ بأرأيتم والمعنى أخبروني إن أتاكم عذابُه تعالى أيَّ شيءٍ تستعجلون منه سبحانه والشيءُ لا يمكن استعجالُه بعد إتيانِه والمرادُ به المبالغةُ في إنكار استعجالِه بإخراجه من حيز الإمكانِ وتنزيلُه في الاستحالة منزلةَ استعجالِه بعد إتيانِه بناءً على تنزيل تقرر إتيانِه ودنوِّه منزلةَ إتيانه حقيقةً كما أشير إليه وهذا الإنكارُ بمنزلة النهي في قوله عز وعلا أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ خلا أن التنزيلَ هناك صريحٌ وهنا ضمنيٌّ كما في قول من قال لغريمه الذي يتقضّاه حقَّه أرأيتَ إن أعطيتُك حقَّك فماذا تطلُب مني يريد المبالغةَ في إنكار التقاضي بنظمه في سلك التقاضي بعد الإعطاءِ بناءً على تنزيل تقرّرِه منزلة نفسه وقوله عز وجل

51

{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمنتم بِهِ} إنكارٌ لإيمانهم بنزول العذابِ بعد وقوعِه حقيقةً داخلٌ مع ما قبله من إنكار استعجالِهم به بعد إتيانِه حكماً تحت القولِ المأمورِ به أي أبعد ما وقع العذابُ وحل بكم حقيقةً آمنتم به حين لا ينفعُكم الإيمان إنكارا لتأحيره إلى هذا الحد وإيذاناً باستتباعه للندم والحسرةِ ليُقلعوا عمَّا هُم عليهِ من العناد ويتوجهوا نحوَ التدارُك قبل فوتِ الوقتِ فتقديمُ الظرفِ للقصر وقيل ماذا يستعجل منه متعلِّقٌ بأرأيتم وجوابُ الشرطِ محذوفٌ أي تندموا على الاستعجال أو تعرِفوا خطأه والشرطيةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمون الاستخبار وقيل الجوابُ قوله تعالى أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ الخ والاستفهاميةُ الأولى اعتراضٌ والمعنى أخبروني إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعِه حين لا ينفعكم الإيمان ثم جيء بكلمة التراخي دِلالةً على الاستبعاد ثم زيد أداةُ الشرطِ دِلالةً على استقلاله بالاستبعاد على أن الأولَ كالتمهيد له وجىء بإذا مؤكد بما ترشيحاً لمعنى الوقوعِ وزيادةً للتجهيل وأنهم لم يومنوا إلا بعد أن لم ينفعْهم الإيمانُ البتةَ وقولُه تعالى {الآن} استئنافٌ من جهتِه تعالى غيرُ داخلٍ تحت القول الملقن مَسوقٌ لتقرير مضمونِ ما سبق على إرادةِ القولِ أيْ قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوعِ العذاب آلآن آمنتم به إنكاراً للتأخير وتوبيخاً عليه ببيان أنه لم يكن ذلك لعدم سبق الإنذارِ به ولا للتأمل والتدبرِ في شأنه ولا لشيء آخر مما عسى يعد عذراً في التأخير بل كان ذلك على طريق التكذيبِ والاستعجالِ به على وجه الاستهزاءِ وقرىء آلان بحذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على اللام وقوله تعالى {وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} أي تكذيباً واستهزاءً جملةٌ وقعتْ حالاً من فاعل آمنتم المقدرِ لتشديد التوبيخِ والتقريعِ وزيادةِ التنديمِ والتحسيرِ وتقديم الجار والمجرور على الفعل لمراعاة الفواصلِ دون القصرِ وقوله تعالى

52

{ثُمَّ قِيلَ} الخ تأكيدٌ للتوبيخ والعتابِ بوعيد العذابِ والعقابِ وهو عطفٌ على ما قدّر قبل آلآن {الذين ظلموا} أى وضعوا الكفرُ والتكذيبُ موضعَ الإيمان والتصديقِ أو ظلُموا أنفسَهم بتعريضِها للعذابِ والهلاكِ ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ لذمِّهم بما في حيزِ الصلة والإشعارِ بعلّيته لإصابة ما أصابهم ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد المؤلمَ على الدوام {هَلْ تُجْزَوْنَ} اليوم {إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} في الدنيا منْ أصنافِ الكفرِ والمَعَاصي التي من جملتها ما مر من

سورة يونس (53 54) الاستعجال

53

{ويستنبئونك} أى يستخرونك فيقولون على طريقة الاستهزاءِ أو الإنكار {أَحَقٌّ هُوَ} أحقٌّ خبرٌ قُدم على المبتدإ الذي هو الضميرُ للاهتمام بهِ ويؤيدُه قولُه تعالى إِنَّهُ لَحَقٌّ أو مبتدأٌ والضميرُ مرتفعٌ به سادٌّ مسدَّ الخبر والجملةُ في موقع النصب بيستنبئونك وقرىء أحق هو تعريضاً بأنه باطلٌ كأنه قيل أهو الحق لا الباطل أو أهو الذي سميتموه الحقَّ {قُلْ} لهم غيرَ ملتفتٍ إلى استهزائهم مغضياً عما قصدوا وبانياً للأمر على أساس الحكمة {إِى وَرَبّى} إي من حروف الإيجابِ بمعنى نعم في القسم خاصةً كما أن هل بمعنى قد في الاستفهام خاصةً ولذلك يوصل بواوه {إِنَّهُ} أي العذابُ الموعودُ {لَحَقُّ} لثابتٌ البتةَ أُكّد الجوابُ بأتم وجوهِ التأكيدِ حسب شدةِ إنكارِهم وقوتِه وقد زيد تقريراً وتحقيقاً بقوله عز اسمُه {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي بفائتين العذابَ بالهرب وهو لاحقٌ بكم لا محالة وهو إما معطوفٌ على جواب القسم أو مستأنفٌ سيق لبيانِ عجزِهم عن الخلاص مع ما فيه من التقرير المذكور

54

{وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} بالشرك أو التعدّي على الغير أو غيرِ ذلك من أصناف الظلمِ ولو مرةً حسبما يفيده كونُ الصفةِ فعلاً {مَّا فِى الأرض} أي ما في الدُّنيا من خزائنها وأموالِها ومنافعها قاطبةً بما كثُرت {لاَفْتَدَتْ بِهِ} أي لجعلتْه فديةً لها من العذاب من افتداه بمعنى فداه {وَأَسَرُّواْ} أي النفوسُ المدلولُ عليها بكل نفس والعدولُ إلى صيغة الجمعِ مع تحقق العمومِ في صورة الإفرادِ أيضاً لإفادة تهويلِ الخطبِ بكون الإسرارِ بطريق المعيةِ والاجتماع وإنما لم يُراعَ ذلك فيما سبق لتحقيق ما يتوخى من فرض كونِ جميعَ ما في الأرض لكل واحدةٍ من النفوس وإيثارُ صيغة الجمع المذكرِ لحمل لفظ النفسِ على الشخص أو لتغليب ذكورِ مدلولِه على إناثه {الندامة} على مافعلوا من الظلم أي أخفَوْها ولم يظهروها لكن لا للاصطبار والتجلد هيهاتَ ولاتَ حينَ اصطبارٍ بل لأنهم بُهتوا {لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أي عند معاينتِهم من فظاعة الحالِ وشدةِ الأهوالِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ فلم يقدروا على أن ينطِقوا بشيء فلما بمعنى حين منصوبٌ بأسرّوا أو حرفُ شرطٍ حذف جوابُه لدِلالة ما تقدم عليه وقيل أسرها رؤساؤُهم ممن أضلوهم حياءً منهم وخوفاً من توبيخهم ولكن الأمرَ أشدُّ من أن يعترِيَهم هناك شيءٌ غيرَ خوفِ العذاب وقيل أسروا الندامةَ أخلصوها الأن إسرارها إخلاصُها أو لأن سرَّ الشيءِ خالصتُه حيث تخفى ويُضَنّ بها ففيه تهكمٌ بهم وقيل أظهروا الندامةَ من قولهم أسرَّ الشىء وأشره إذا ظهره حين عيل صبره وفى تجلُّده {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} أي أُوقع القضاءُ بين الظالمين من المشركين وغيرِهم من أصناف أهل الظلمِ بأن أُظهر الحقُّ سواءٌ كان من حقوق الله سبحانه أو من حقوق العبادِ من الباطل وعومل أهلُ كلَ منهما بما يليق به {بالقسط} بالعدل وتخصيصُ الظلم بالتعدي وحملُ القضاء على مجرد الحكومةِ بين الظالمين والمظلومين من غير أن يُتعرَّضَ لحال المشركين وهم أظلمُ الظالمين لا يساعدُه المقامُ فإن مقتضاه

سورة يونس (155) إما كونُ الظلم عبارةً عن الشرك أو عما يدخُل فيه دخولاً أولياً {وَهُمْ} أي الظالمون {لاَ يُظْلَمُونَ} فيما فعلى بهم من العذاب بل هو من مقتضيات ظلمِهم ولوازمِه الضرورية

55

{أَلا إِنَّ للَّهِ مَا في السماوات والارض} أي ما وُجد فيهما داخلاً في حقيقتِهما أو خارجاً عنهما متمكناً فيهما وكلمةُ ما لتغليب غيرِ العقلاءِ على العقلاء فهو تقريرٌ لكمال قدرتِه سبحانه على جميع الأشياءِ وبيان لاندارج الكلِّ تحت ملكوتِه يتصرف فيه كيفما يشاء إيجاداً وإعداماً وإثابةً وعقاباً {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله} إظهارُ الاسمِ الجليلِ لتفخيم شأنِ الوعدِ والإشعارِ بعلة الحكم وهو إما بمعنى الموعودِ أي جميعِ ما وُعد به كائناً ما كانَ فيندرج فيه العذابُ الذي استعجلوه وما ذُكر في أثناء بيان حالِه اندراجاً أولياً أو بمعناه المصدريِّ أي وعدَه بجميع ما ذكر فمعنى قولِه تعالى {أحق} على الأول ثابتٌ واقعٌ لا محالة وعلى الثاني مطابقٌ للواقع وتصديرُ الجملتين بحرفي التنبيهِ والتحقيقِ للتسجيل على مضمونهما المقرِّر لمضمون ما سلف من الآيات الكريمة والتنبيهِ على وجوب استحضارِه والمحافظةِ عليه {ولكن أَكْثَرَهُمْ} لقصور عقولِهم واستيلاءِ الغفلة عليهم والفهمِ بالأحوال المحسوسةِ المعتادة {لا يعلمون} ذلك فيقولون ما يقولُون ويفعلُون ما يفعلون

56

{هو يحيي وَيُمِيتُ} في الدُّنيا منْ غيرِ دخلٍ لأحدٍ في ذلك {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في الآخرة بالبعث والحشر

57

{يا أيها الناس} التفاتٌ ورجوعٌ إلى استمالتهم نحوَ الحق واستنزالِهم إلى قَبوله واتباعه غِبَّ تحذيرِهم من غوائل الضلالِ بما تُليَ عليهم من القوارع الناعيةِ عليهم سوءَ عاقبتِهم وإيذانٌ بأن جميعَ ذلك مسوقٌ لمصالحهم ومنافعِهم {قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ} هي والوعظ والعظة التذكيرُ بالعواقب سواءٌ كان بالزجر والترهيبِ أو بالاستمالة والترغيبِ وكلمة مِن في قوله تعالى {من رَّبّكُمْ} ابتدائيةٌ متعلقةٌ بجاءتكم أو تبعيضة متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لموعظة أي موعظةٌ كائنةٌ من مواعظ ربِّكم وفي التعرض لعنوان الربوببة من حُسنِ الموقِع ما لا يخفى {وَشِفَاء لِمَا فِى الصدورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ} أي كتاب جامعٌ لهذه الفوائد والمنافِع فإنه كاشفٌ عن أحوال الأعمالِ حسناتِها وسيئاتِها مرغب في الأولى ورادِعٌ عن الأخرى ومبينٌ للمعارف الحقةِ التي هي شفاءٌ لَما في الصدورِ منْ الأدواء القلبيةِ كالجهل والشكِّ والشِّرْكِ والنفاق وغيرِها من العقائد الزائغةِ وهادٍ إلى طريق الحقِّ واليقين بالإرشاد إلى الاستدلال بالدلائل المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ وفي مجيئه رحمةً للمؤمنين حيث نجَوا به من ظلمات الكفرِ والضلال إلى نور الإيمانِ وتخلصوا من دركاتِ النيرانِ وارتقَوا إلى درجات الجنانِ والتنكيرُ فى الكل للتفخيم

سورة يونس (58 59)

58

{قُلْ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمرَ الناسَ بأن يغتنموا ما في القرآن العظيم من الفضل والرحمة {بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ} المرادُ بهما إما ما في مجيء القرآنِ من الفضل والرحمةِ وإما الجنسُ وهما داخلان فيه دخولاً أولياً والباء متعلقةٌ بمحذوف وأصلُ الكلام ليفرَحوا بفضل الله وبرحمته وتكرير الباء فى رحمته للإيذان باستقلالها في استيجاب الفرحِ ثم قُدّم الجارُّ والمجرورُ على الفعلِ لإفادةِ القصرِ ثم أُدخل عليه الفاد لإفادة معنى السببيةِ فصار بفضل الله وبرحمته فليفرَحوا ثم قيل {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} للتأكيد والتقريرِ ثم حُذف الفعلُ الأولُ لدِلالة الثاني عليهِ والفاءُ الأولى جزائيةٌ والثانية لدلالة على السببية والأصلُ إن فرِحوا بشيء فبذلك ليفرحوا لا بشيء آخرَ ثم أدخل الفاء لدلالة على السببية ثم حذف الشرطُ ومعنى البُعد في اسم الإشارةِ لدلالة على بُعد درجةِ فضلِ الله تعالَى ورحمتِه ويجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فلْيعتنوا فبذلك فليفرحوا ويجوز أن يتعلق الباءُ بجاءتكم أي جاءتكم موعظةٌ بفضل الله وبرحمته فبذلك أي فبمجيئها فليفرَحوا وقرىء فلتفرحوا وقرأ أُبيّ فافرَحوا وعن ابن كعب أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تلا قل بفضلِ الله وبرحمتِهِ فقالَ بكتاب الله والإسلامِ وقيل فضلُه الإسلامُ ورحمتُه ما وعَد عليه {هُوَ} أي ما ذكر من فضل الله ورحمته {خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} من حُطام الدنيا وقرىء تجمعون أي فبذلك فليفرَحِ المؤمنون هو خير مما تجمعون أيها المخاطبون

59

{قل أرأيتم} أي أخبروني {مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ} ما منصوبةُ المحلِّ بما بعدها أو بما قبلها واللامُ للدِلالة على أن المرادَ بالرزق ما حل لهم وجعلُه منزلاً لأنه مقدّرٌ في السماء محصّلٌ هو أو ما يتوقف عليه وجوداً أو بقاءً بأسباب سماويةٍ من المطر والكواكبِ في الإنضاج والتلوين {فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ} أي جعلتم بعضَه {حَرَامًا} أي حكمتم بأنه حرامٌ {وَحَلاَلاً} أي وجعلتم بعضَه حلالاً أي حكمتم بحِلّه مع كون كلِّه حلالاً وذلك قولُهم هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ الآية وقولهم مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا ونحوُ ذلك وتقديمُ الحرامِ لظهور أثرَ الجعلِ فيه ودورانِ التوبيخِ عليه {قُلْ} تكريرٌ لتأكيد الأمرِ بالاستخبار أي أخبروني {الله أَذِنَ لَكُمْ} في ذلك الجعلِ فأنتم فيه ممتثلون بأمره تعالى {أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} أم متصلةٌ والاستفهامُ للتقرير والتبكيتِ لتحقق العلمِ بالشق الأخيرِ قطعاً كأنه قيل أم لم يأذنْ لكم بل تفترون عليه سبحانه فأظهر الاسمَ الجليلَ وقدّم على الفعل دِلالةً على كمال قبحِ افترائِهم وتأكيداً للتبكيت إثرَ تأكيدٍ مع مراعة الفواصلِ ويجوز أن يكون الاستفهامُ للإنكار وأمْ منقطعةً ومعنى بل فيها الإضرابُ والانتقال من التوبيخ والزجرِ بإنكار الرذن إلى ما تفيده همزتُها من التوبيخ على الافتراء عليه سبحانه وتقريرِه وتقديمُ الجارِّ والمجرور على هَذا يجوزُ أنْ يكونَ للقصر كأنه قيل بل أعلى الله تعالى خاصة تفترون

سورة يونس (60 61)

60

{وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} كلامٌ مَسوقٌ من قِبَله تعالى لبيان هولِ ما سيلقَونه غيرُ داخلٍ تحت القولِ المأمورِ به والتعبيرُ عنهم بالموصول في موقع الإضمارِ لقطع احتمالِ الشق الأولِ من الترديد والتسجيلِ عليهم بالافتراء وزيادةِ الكذب مع أن الافتراءَ لا يكون إلا كذباً لإظهار كمالِ قبحِ ما افتعلوا وكونِه كذباً في اعتقادهم أيضاً وكلمةُ ما استفهاميةٌ وقعت مبتدأً وظن خبرُها ومفعولاه محذوفان وقوله عزَّ وجلَّ {يَوْمُ القيامةِ} ظرفٌ لنفس الظنِّ أي أيُّ شيءٍ ظنُّهم في ذلك اليوم يومَ عرضِ الأفعال والأقوالِ والمجازاة عليها مثقالاً بمثقال والمرادُ تهويلُه وتفظيعُه بهول ما يتعلق به مما يُصنع بهم يومئذ وقيل هو ظرفٌ لما يتعلق به ظنُّهم اليومَ من الأمور التي ستقع يوم القيامة تنزيلاً له ولِما فيه من الأحوال لكمال وضوح أمره فى التقرر والتحققِ منزلةَ المسلم عندهم أي أي شيء ظنهم لما سيقع يوم القيامة أيحسبون أنهم لا يُسألون عن افترائهم أو لا يجازون عليه أو يجازون جزاءً يسيراً ولأجل ذلك يفعلون ما يفعلون كلا إنهم لفي أشدِّ العذاب لأن معصيتَهم أشدُّ المعاصي وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى على الله كذباً وقرىء على لفظ الماضي أي ظنوا يوم القيامة وإيرادُ صيغةِ الماضي لأنه كائنٌ فكأنه قد كان {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ} أي عظيم لا يكتنه كنهه {عَلَى الناس} أي جميعاً حيث أنعم عليهم بالعقل المميّز بين الحقِّ والباطلِ والحسَنِ والقبيحِ ورحِمهم بإنزال الكتبِ وإرسالِ الرسلِ وبيّن لهم الأسرارَ التي لا تستقلُ العقولُ في إدراكها وأرشدهم إلى ما يُهمّهم من أمر المعاشِ والمعاد {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} تلك النعمةَ الجليلةَ فلا يصرِفون قُواهم ومشاعرَهم إلى ما خُلقت له ولا يتبعون دليل العقل فيما يستبد به ولا دليلَ الشرعِ فيما لا يدرك إلا به وقد تفضل عليهم ببيان ما سيلقَوْنه يومَ القيامةِ فلا يلتفتون إليه فيقعون فيما يقعون فهو تذييلٌ لما سبق مقررٌ لمضمونه

61

{وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ} أي في أمر من شأنْتُ شأْنه أي قصدتُ قصدَه مصدر بمعنى المفعول {وما تتلو مِنْهُ} الضميرُ للشأنِ والظرفُ صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي تلاوةً كائنةً من الشأن إذ هى معظم شئونه عليه السلام أو للتنزيل والإضمار قبل الذكر لتفخم شأنِه ومن ابتدائيةٌ أو تبعيضية أو لله عز وجل ومن ابتدائيةٌ والتي في قوله تعالى {من قرآن} مزيدةٌ لتأكيد النفيِ أو ابتدائيةٌ على الوجه الأول وبيانية أو تبعيضيةٌ على الثاني والثالث {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} تعميمٌ للخطاب إثر تخصيصه بمقتدى الكلِّ وقد رُوعي في كل من المقامين ما يليق به حيث ذُكر أولاً من الأعمال ما فيه فخامةٌ وجلالةٌ وثانياً ما يتناول الجليلَ والحقيرَ {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا}

استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة أي ما تلابِسون بشيء منها في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ كونِنا رُقباءَ مطّلعين عليه حافظين له {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي تخوضون وتندفعون فيه وأصلُ الإفاضة الاندفاعُ بكثرة أو بقوة وحيث أريد بالأفعال السابقةِ الحالةُ المستمرَّةُ الدائمةُ المقارنةُ للزمان الماضي أيضاً أوثر في الاستثناء صيغةُ الماضي وفي الظرف كلمةُ إذ التي تفيد المضارعَ معنى الماضي {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ} أي لا يبعُد ولا يغيب على علمه الشامل وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ من الإشعار باللطف ما لا يخفى وقرئ بكسر الزاى {مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ} كلمةُ مِنْ مزيدةٌ لتأكيدِ النَّفي أي ما يعزُب عنه ما يساوي في الثقل نملةً صغيرةً أو هباءً {في الأرض ولا في السماء} أي في دائرة الوجودِ والإمكان فإن العامة لا تعرِف سواهما ممكناً ليس على أحدهما أو متعلِّقاً بهما وتقديمُ الأرضِ لأن الكلامَ في حال أهلِها والمقصودُ إقامةُ البرهانِ على إحاطة علمِه تعالى بتفاصيلها وقوله تعالى {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ} كلامٌ برأسه مقرِّرٌ لما قبله وَلاَ نافيةٌ للجنس وأصغرَ اسمُها وفي كتاب خبرُها وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر ومن عطفَ على لفظ مثقالِ ذرةٍ وجعل الفتحَ بدلَ الكسرِ لامتناع الصرف أو على محله مع الجار جعلَ الاستثناءَ منقطعاً كأنه قيل لا يعزُب عن ربك شيءٌ ما لكنْ جميعُ الأشياء في كتاب مبين فكيف يعزُب عنه شيءٌ منها وقيل يجوز أن يكون الاستثناءُ متصلاً ويعزُب بمعنى يَبينُ ويصدُر والمعنى لا يصدُر عنه تعالى شيءٌ إلا وهو في كتابٌ مبين والمراد بالكتاب المبين اللوحُ المحفوظ

62

{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله} بيانٌ على وجه التبشير والوعد لما هو نتيجةٌ لأعمال المؤمنين وغايةٌ لما ذكر قبله من كونه تعالى مهيمناً على نبيه صلى الله عليه وسلم وأمتِه في كلِّ ما يأتُون وما يذرون وإحاطةِ علمه سبحانه بجميع ما فى السماء والأرض وكونِ الكلِّ مثبتاً في الكتاب المبين بعد ما أُشير إلى فظاعة حالِ المفترين على الله تعالى يومَ القيامةِ وما سيعتريهم من الهول إشارةٌ إجماليةٌ على طريق التهديدِ والوعيد وصُدّرت الجملةُ بحرفي التنبيهِ والتحقيقِ لزيادة تقريرِ مضمونِها والوليُّ لغة القريبُ والمرادُ بأولياء الله خُلّصُ المؤمنين لقربهم الروحاني منه سبحانه وتعالى كما سيفصح عنه تفسيرهم {لاَ خوفٌ عَلَيْهِمْ} في الدارين من لُحوق مكروهٍ {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} من فواتِ مطلوبِ أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوفٌ وحزنٌ أصلاً بل يستمرون على النشاط والسرورِ كيف لا واستشعارُ الخوفِ والخشيةِ استعظاماً لجلال الله سبحانه وهيبتِه واستقصاراً للجد والسعي في إقامة حقوقِ العبوديةِ من خصائص الخواصِّ والمقرَّبين والمرادُ بيانُ دوامِ انتفائِهما لا بيانُ انتفاءِ دوامِهما كما يُوهمه كونُ الخبرِ في الجملة الثانية مضارِعاً لما مر مرارا من أن النفى إن دخل على نفس المضارع يفيد الاستمرارَ والدوامَ بحسب المقام وإنما يعتريهم ذلك لأن مقصِدَهم ليس إلا طاعةَ الله تعالى ونيلَ رضوانِه المستتبِعِ للكرامة والزُّلفى وذلك مما لا ريب في حصوله ولا احتمالَ لفواته بموجب الوعدِ بالنسبة إليه تعالى وأما ما عدا ذلك من الأمور الدنيويةِ المترددةِ بين الحصول والفوات فهي بمعزل من الانتظام في سِلكِ مقصِدهم وجوداً وعدماً حتى يخافوا من حصول

سورة يونس (63) ضارِّها أو يحزنوا بفوات نافعها وقوله عز وجل

63

{الذين آمنوا} أي بكل ما جاء من عند الله تعالى {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} أي يقون أنفسَهم عما يحِقّ وقايتُها عنه من الأفعال والتروك وقايةً دائمةً حسبما يفيدُه الجمعُ بينَ صيغتي المَاضِي والمستقبل بيانٌ وتفسيرٌ لهم وإشارةٌ إلى ما به نالوا ما نالوا على طريقة الاستئنافِ المبنيِّ على السؤال ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ كأنه قيل مَنْ أولئك وما سببُ فوزِهم بتلك الكرامةِ فقيل هم الذين جمعوا بين الإيمانِ والتقوى المُفْضِيَيْن إلى كل خير المُنْحِيَيْن عن كل شر وقيل محلُّه النصبُ أو الرفعُ على المدحِ أو على أنه وصفٌ مادحٌ للأولياء ولا يقدحُ في ذلك توسطُ الخبرِ والمرادُ بالتقوى المرتبةُ الثالثةُ منها الجامعة لما تحتها من مرتبة النوقى عن الشرك التي يفيدها الإيمانُ أيضاً ومرتبةِ التجنبُ عن كلِّ ما يُؤثِّمُ من فعلٍ وتركٍ أعني تنزهَ الإنسانِ عن كل ما يشغل سره عن الحق والتبتلِ إليه بالكلية وهي التقوى الحقيقيُّ المأمورُ به في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وبه يحصُل الشهودُ والحضورُ والقُرب الذي عليه يدورُ إطلاقُ الاسمِ عليه وهكذا كان حال من دخل معه صلى الله عليه وسلم تحت الخطاب بقوله عز وجل وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ خلا أن لهم في شأن التبتّلِ والتنزّهِ درجاتٍ متفاوتةً حسَب تفاوتِ درجاتِ استعداداتهم الفائضةِ عليهم بموجب المشيئةِ المبنيةِ على الحِكَم الأبيةِ أقصاها ما انتهى إليه هم الأنبياءِ عليهم السلام حتى جمعوا بذلك بين رياسَتي النبوة والولاية ولم يعُقْهم التعلقُ بعالم الأشباحِ عن الاستغراقِ في عالم الأرواح ولم تصُدَّهم الملابسةُ بمصالح الخلقِ عن التبتل إلى جناب الحقِّ لكمال استعدادِ نفوسِهم الزكيةِ المؤيدةِ بالقوة القدسيةِ فمَلاكُ أمرِ الولاية هو التقوى المذكورُ فأولياءُ الله هم المؤمنون المتقون ويقرُب منه ما قيلَ من أنهم الذين تولّى الله هدايتَهم بالبرهان وتولَّوُا القيامَ بحق عبوديةِ الله تعالى والدعوةِ إليه ولا يخالفه ما قيلَ من أنهم الذين يُذكرُ الله برؤيتهم لما رُوي عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل مَنْ أولياءُ الله فقال هم الذين يُذكرُ الله برؤيتهم أي بسَمْتهم وإخباتهم وسكينتهم ولا ما قيلَ من أنهم المتحابّون في الله لما رُوي عن عمر رضيَ الله عنه أنَّه قال سمعت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يقول إن من عبادِ الله عباداً ليسوا بأنبياءَ ولا شهداءَ يغبِطُهم الأنبياءُ والشهداءُ يوم القيامة لمكانهم من الله قالوا يا رسولَ الله خبِّرنا من هم وما أعمالُهم فلعلنا نحبّهم قال هم قوم تحابُّوا في الله على غير أرحامٍ منهم ولا أموالٍ يتعاطَونها فوالله إن وجوهم لنورٌ وإنهم لعلى منابرَ من نور لا يخافون إذا خاف الناسُ ولا يحزنون إذا حزِن الناسُ فإنَّ ما ذُكر من حسن السَّمْت والسكينةِ المذكِّرةِ لله تعالى والتحابِّ في الله سبحانه من الأحكام الدنيوية الازمة للإيمان والتقوى والآثارِ الخاصّةِ بهما الحقيقةِ بالتخصيص بالذكر لظهورها وقُربها من أفهام الناسِ قد أورد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كُلاًّ من ذلك حسبما يقتضيه مقام الإرشاد والذكير ترغيباً للسائلين أو غيرِهم من الحاضرين فيما خصه بالذكر هناك من أحكامهما فلعلَّ الحاضرين أولاً كانوا محتاجين إلى إصلاح الحالِ من جهة الأقوالِ والأفعال والملابس ونحو ذلك والحاضرين ثانياً مفتقرين إلى تأليف قلوبِهم وعطِفها نحوَ المؤمنين الذين لا علاقة بينهم وبينهم من جهة النسبِ والقرابةِ وتأكيدِ ما بينهم من الأخوة

سورة يونس (64) الدينية ببيان عِظَم شأنِها ورفعةِ مكانتها وحُسن عاقبتِها ليُراعوا حقوقَها ويهجُروا من لا يواتفقهم في الدين من أرحامهم وأما ما ذكر من أنه يغبِطُهم الأنبياءُ فتصويرٌ لحسن حالِهم على طريقة التثميل قال الكواشي وهذا مبالغةٌ والمعنى لو فُرض قومٌ بهذه الصفة لكانوا هؤلاء وقيل أولياءُ الله الذين يتولّونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة وجعل قولِه عزَّ وجلَّ الذين آمنوا وكانوا يتقون تفسير لتولّيهم إياه تعالى وقوله عز وجل

64

{لَهُمُ البشرى فِي الحياةِ الدُّنيا وَفِي الاخرة} تفسيراً لتولّيه تعالى إياهم ولا ريب في أن اعتبارَ القيد الأخيرِ في مفهوم الولاية غير مناسبٍ لمقام ترغيبِ المؤمنين في تحصيلها والثباتِ عليها وبشارتهم بآثارها ونتائجها بل مخِلٌّ بذلك إذ التحصيلُ إنما يتعلق بالمقدور والاستبشارُ لا يحصل إلا بما علم وجود سببِه والقيدُ المذكور ليس بمقدور لهم حتى يحصّلوا الولاية بتحصيله ولا بمعلوم لهم عند حصولِه حتى يعرفوا حصولَ الولايةِ لهم ويستبشروا بمحاسنِ آثارِها بل التولي بالكرامة عينُ نتيجةِ الولاية فاعتبارُه في عنوان الموضوعِ ثم الإخبارُ بعدم الخوفِ والحزنِ مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل فالذي يقتضيه نظمُه الكريمُ أن الأولَ تفسيرٌ للأولياء حسبما شُرح والثاني بيانٌ لما أولاهم من خيرات الدارين بعد بيانِ إنجائِهم من شرورهما ومكارههما والجملةُ مستأنفةٌ كما سبق كأنه قيل هل لهم وراء ذلك من نعمة وكرامةٍ فقيل لهم ما يسرّهم في الدارين وتقديمُ الأول لما أن التخلِيَةَ سابقةٌ على التحلية مع ما فيه من مراعاة حقِّ المقابلةِ بين حسن حالِ المؤمنين وسوءِ حال المقتريين وتعجيلُ إدخالِ المسرّةِ بتبشير الخلاصِ عن الأهوال وتوسيطُ البيان السابق بين بشار الخلاص عن المحذور وبشارةِ الفوز بالمطلوب لإظهار كمالِ العناية بتفسير الأولياءِ مع الإيذان بأن انتفاءَ الخوف والحزنِ لاتقائهم عما يؤدّي إليهما من الأسباب والبُشرى مصدرٌ أريد به المبشَّرُ به من الخيرات العاجلةِ كالنصر والفتحِ والغنيمة وغيرُ ذلك والآجلةِ الغنيةِ عن البيان وإيثارُ الإبهام والإجمالِ للإيذان بكونه وراءَ البيان والتفصيلِ والظرفان في موقع الحالِ منه والعاملُ ما في الخبر من مَعْنى الاستقرارِ أيْ لهم البشرى حالَ كونها في الحياة الدنيا وحالَ كونِها في الآخرة أي عاجلةً وآجلةً أو من الضمير المجرور أي حالَ كونِهم في الحياة الخ ومن البشرى العاجلةِ الثناءُ الحسنُ والذكرُ الجميلُ ومحبةُ الناس عن أبى ذرَ رضيَ الله عنْهُ قلتُ يا رسولَ الله الرجلُ يعمل العملَ لله ويحبه الناس فقال صلى الله عليه وسلم تلك عاجل بشرى المؤمن هذا وقيل البشرى مصدرٌ والظرفان متعلقان به أما البُشرى في الدنيا فهي البشاراتُ الواقعةُ للمؤمنين المتقين في غير موضعٍ من الكتاب المبين وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم هي الرؤيا الصالحةُ يراها المؤمنُ أو تُرى له وعنه صلى الله عليه وسلم ذهبت النبوةُ وبقيت المبشِّراتُ وعن عطاء لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكةُ بالرحمة قال الله تعالى تتزل عليهم الملائكة أن لا تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة وأما البشرى في الآخرة فتلقِّي الملائكةِ إياهم مسلمين مبشَّرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوهم وإعطاء الصحائفِ بأيْمانهم وما يقرءون منها وغيرُ ذلك من البشارات فتكون هذه بِشارةً بما سيقع من البشارات العاجلةِ والآجلةِ المطلوبة لغاياتها لا لذواتها ولا يخفى أن صرفَ البشارة الناجزةِ

سورة يونس (65 66) عن المقاصد بالذات إلى وسائلها مما لا يساعده جلالةُ شأنِ التنزيل الكريم {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله} لا تغييرلأقواله التي من جملتها مواعيدُه الواردةُ بشارةً للمؤمنين المتقين فيدخل فيها البشارات الواردة ههنا دخولاً أولياً ويثبُت امتناعُ الإخلافِ فيها ثبوتاً قطعياً وعلى تقدير كون الموراد البشرى الرؤيا الصالحةَ فالمرادُ بعدم تبديل كلماتهِ تعالى ليس عدم الخلف بينها وبين نتائجِها الدنيوية والأخرويةِ بل عدم الخلف بينها وبين ما دل على ثبوتها ووقوعِها فيما سيأتي بطريق الوعد من قولِه تعالى لَهُمُ البشرى فتدبر ذلك إشارة إلى ما ذكر من أن لهم البشرى في الدارين {هُوَ الفوز العظيم} الذِي لا فوزَ وراءَه وفيه تفسيرٌ لما أبهم فيما سبق وهاتيك الجملة والتي قبلها اعتراضٌ لتحقيق المبشر به وتعظيمٌ شأنه وليس من شرطه أن يكون بعده كلامٌ متصل بما قبله أو هذه تذييلٌ والسابقة اعتراضٌ

65

{وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} تسليةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم عما كان يلقاه من جهتهم من الأذية الناشئةِ عن مقالاتهم الموحشةِ وتبشيرٌ له صلى الله عليه وسلم بأنه عز وجل ينصُره ويُعزّه عليهم إثرَ بيانِ أن له ولأتباعه أمْناً من كل محذورٍ وفوزا بكل مطلوب وقرئ ولا يُحْزِنك من أحزنه وهو في الحقيقة نهيٌ له صلى الله عليه وسلم عن الحزن كأنه قيل لا تحزنْ بقولهم ولا تُبالِ بتكذيبهم وتشاورِهم في تدبير هلاكِك وإبطالِ أمرِك وسائرِ ما يتفوهون به في شأنك مما لا خيرَ فيه وإنما وُجِّه النهيُ إلى قولهم للمبالغة فى نهيه صلى الله عليه وسلم عن الحزن لما أن النهيَ عن التأثر نهيٌ عن التأثر بأصله ونفيٌ له بالمرة وقد يُوجِّه النهيُ إلى اللازم والمرادُ هو النهيُ عن الملزوم كما في قولك لا أُرَينّك ههنا وتخصيصُ النهي عن الحزن بالإيراد مع شمول النفي السابقِ للحزن أيضاً لِما أنه لم يكن فيه صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقاتِ نوعُ حزنٍ فسُلِّيَ عن ذلكَ وقولُه تعالَى شائبةُ خوفٍ حتى ينهى عنه وربما كان يعتريه صلى الله عليه وسلم {إِنَّ العزة} تعليلٌ للنهي على طريقة الاستئنافِ أي الغلبةَ والقهرَ {للَّهِ جَمِيعاً} أي في ملكته وسلطانِه لا يملك أحدٌ شيئاً منها أصلاً لا هم ولا غيرُهم فهو يقهرُهم ويعصِمُك منهم وينصُرك عليهم وقد كان كذلك فهي من جملة المبشرات العاجلة وقرئ بفتح أن على صريح التعليلِ أي لأن العزة لله {هُوَ السميع العليم} يسمع ما يقولون في حقك ويعلم ما يعزمون عليه وهو مكافِئُهم بذلك

66

{أَلا إِنَّ للَّهِ مَن في السماوات وَمَن فِى الأرض} أي العقلاء من الملائكة والثقلين وتخصيصُهم بالذكر للإيذان بعدمِ الحاجةِ إلى التَّصريحِ بغيرهم فإنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم إذا كانوا عبيداً له سبحانه مقهورين تحت قهرِه وملكته فما عداهم من الموجودات أولى بذلك وهو مع ما فيه من التأكيد لما سبق من اختصاص العزة بالله تعالى الموجب لسلوته صلى الله عليه وسلم وعدمِ مبالاتِه بالمشركين وبمقالاتهم تمهيدا لما لَحِقَ من قوله تعالى {وَمَا يَتَّبِعُ الذين يدعون من دون الله شُرَكَاء} وبرهانٌ على بطلان

سورة يونس (67 78) ظنونِهم وأعمالِهم المبنيةِ عليها وما إما نافيةٌ وشركاءَ مفعولُ يتّبع ومفعولُ يدْعون محذوفٌ لظهوره أي ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاءَ في الحقيقة وإن سمَّوْها شركاءَ فاقتُصر على أحدهما لظهور دلالتِه على الآخر ويجوز أن يكون المذكورُ مفعولَ يدعون ويكون مفعولُ يتّبع محذوفاً لانفهامه من قولِه تعالَى {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} أي ما يتبعون يقيناً إنما يتبعون ظنَّهم الباطلَ وإما موصولةٌ معطوفةٌ على مَنْ كأنه قيل ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي وله شركاؤهم وتخصيصُهم بالذكر مع دخولهم فيما سبق عبارةٌ أو دلالةٌ للمبالغة في بيان بطلان اتباعِهم وفسادِ ما بنَوْه عليه من ظنهم شركاءَهم معبودين مع كونهم عبيداً له سبحانه وإما استفهاميةٌ أي وأيُّ شيءٍ يتّبعون أى لا يتبعون شيئا ما يتبعون إلا الظن والحال الباطلَ كقوله تعالى مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أسماء سميتوها الخ وقرىء تدعون بالتاء فالاستفهامُ للتبكيت والتوبيخ كأنه قيل وأي شيءٍ يتّبع الذين تدعونهم شركاءَ من الملائكة والنبيين تقريراً لكونهم متّبعين لله تعالى مطيعين له وتوبيخاً لهم على عدم اقتدائهم بهم في ذلك كقوله تعالى أولئك الذيم يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة ثم صُرف الكلامُ عن الخطاب إلى الغَيبة فقيل إنْ يتبعُ هؤلاء المشركون إلا الظنَّ ولا يتبعون ما يتبعه الملائكةُ والنبيون من الحق {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يكذبون فيما ينسوبه إليه سبحانه ويحزَرون ويقدّرون أنهم شركاءُ تقديراً باطلاً

67

{هُوَ الذى جعلَ لكُم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا} تنبيهٌ على تفرّده تعالى بالقدرة الكاملةِ والنعمةِ الشاملة ليدلّهم على توحّده سبحانه باستحقاق العبادة وتقريرٌ لما سلف من كون جميعِ الموجوداتِ الممكنةِ تحت قدرتِه وملكته المفصِحِ عن اختصاص العزةِ به سبحانه والجعلُ إن كان بمعنى الإبداعِ والخلق فمبصِراً حالٌ وإلا فلكم مفعولُه الثاني أو هو حالٌ كما في الوجه الأولِ والمفعولُ الثاني لتسكنوا فيه أو هو محذوف بدل عليه المفعولُ الثاني من الجملة الثانيةِ كما أن العلةَ الغائيّةَ منها محذوفةٌ اعتماداً على ما في الأولى والتقديرُ هُوَ الذى جعلَ لكُم الليلَ مظلماً لتسكنوا فيه والنهار مبصرا لتتحركوا فيه لمصالحكم كما سيجيء نظيره في قوله تعالى وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ راد لفضله الآية فحذفت في كلِّ واحدٍ من الجانبين ما ذُكِرَ في الآخر اكتفاءً بالمذكور عن المتروك وإسنادُ الإبصار إلى النهار مجازيٌّ كالذي في نهارُه صائمٌ {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في جعل كلَ منهما كما وُصف أو فيهما وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلةِ المشارِ إليه وعلوِّ رتبته {لاَيَاتٍ} عجيبةً كثيرةً أو آياتٍ أُخَرَ غيرَ ما ذكرَ {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي هذه الآياتِ المتلوةَ ونظائرَها المنبّهةَ على تلك الآيات التكوينيةِ الآمرةِ بالتأمل فيها سماع تدبرو اعتبار فيعملون بمقتضاها وتخصيصُ الآيات بهم مع أنها منصوبة لمصلحة الكل لما أنهم المنتفعون بها

68

{قَالُواْ} شروعٌ في ذكر ضربٍ آخرَ من أباطيلهم وبيانُ بطلانه {اتخذ الله ولدا} {اتخذ الله ولدا}

سورة يونس (69 70) أي تبنّاه {سبحانه} تنزيهٌ وتقديس له عما نسبوا إليه وتعجيبٌ من كلمتهم الحمقاء {هُوَ الغنى} على الإطلاق عن كل شيءٍ في كل شيء وهو علةٌ لتنزيهه سبحانه وإيذانٌ بأن اتخاذَ الولدِ من أحكام الحاجة وقوله عز وجل {له ما في السماوات وَمَا فِي الأرض} أي من العقلاء وغيرِهم تقريرٌ لغناه وتحقيقٌ لمالكيته تعالى لكل ما سواه وقوله تعالى {إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ} أي حجة {بهذا} أي بما ذُكر من قولهم الباطل توضيح لبطلانه بتحقيق سلامةِ ما أقيم من البرهان الساطِع عن المعارض فِمنْ في قوله تعالى من سلطان زائدةٌ لتأكيد النفي وهو مبتدأ والظرف المقدم خبره أو مرتفعٌ على أنه فاعلٌ للظرف لاعتماده على النفي وبهذا متعلقٌ إما بسلطان لأنه بمعنى الحجةِ والبرهانِ وإما بمحذوف وقعَ صفةً له وإما بما في عندكم من معنى الاستقرارِ كأنه قيل إن عندكم في هذا القول من سلطان والالتفاتُ إلى الخطاب لمزيد المبالغةِ في الإلزام والإفحام وتأكيدِ ما في قوله تعالى {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من التوبيخ والتقريعِ على جهلهم واختلافهم وفيه تنبيه على أن كل مقالةٍ لا دليلَ عليها فهي جهالةٌ وأن العقائدَ لا بد لها من برهان قطعيَ وأن التقليدَ بمعزل من الاعتداد به

69

{قُلْ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين لهم سوءَ مغبّتِهم ووخامةَ عاقبتِهم {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} أي في كلِّ أمرٍ فيدخل ما نحن بصدده من الافتراء بنسبة الولدِ والشريكِ إليه سبحانه دخولاً أولياً {لاَ يُفْلِحُونَ} أي لا ينجُون من مكروهٍ ولا يفوزون بمطلوب أصلاً وتخصيصُ عدم النجاةِ والفوز بما يندرج في ذلك من عدم النجاةِ من النار وعدمِ الفوز بالجنة لا يناسب مقامَ المبالغةِ في الزَّجرِ عن الافتراء عليه سبحانه

70

{متاع فِى الدنيا} كلامٌ مستأنفٌ سيقَ لبيانِ أن ما يتراءى فيهم بحسب الظاهرِ من نيل المطالبِ والفوزِ بالحظوظ الدنيويةِ على الإطلاقِ أو في ضمن افترائِهم بمعزل من أن يكون من جنس الفلاحِ كأنه قيل كيف لا يُفلحون وهم في غِبطة ونعيم فقيل هو متاعٌ يسير في الدنيا وليس بفوز بالمطلوب ثم أشير إلى انتفاء النجاةِ عن المكروه أيضاً بقوله عز وعلا {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} أي بالموت {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} فيبقَوْن في الشقاء المؤبدِ بسبب كفرِهم المستمرِّ أو بكفرهم في الدنيا فأين هم من الفلاح وقيل المبتدأُ المحذوف حياتُهم أو تقلُّبهم وقد قيل إنه افتراؤُهم ولا يخفى أن المتاعَ إنما يطلق على ما يكون مطبوعاً عند النفسِ مرغوباً فيه في نفسه يُتمتع ويُنتفع به وإنما عدمُ الاعتدادِ به لسرعة زوالهِ ونفسُ الافتراء عليه سبحانه أقبحُ القبائح عند النفس فضلاً عن أن يكونَ مطبوعاً عندها وعده كذلك باعتبار إجراءِ حكمِ ما يُؤدِّي إليه من رياستهم عليه مما لا وجهَ لَهُ فالوجهُ ما ذُكِرَ أولاً وليس ببيعد ما قيل أن المحذوفَ هو الخبرُ أي لهم متاعُ والآية إما مسوقةٌ من جهة الله تعالى لتحقيق عدم إفلاحِهم غيرُ داخلةٍ في الكلام المأمورِ به كما يقتضيه ظاهرُ قوله تعالى ثم إلينا وقوله تعالى ثُمَّ نُذِيقُهُمُ وإما داخلةٌ فيه على أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم مأمورٌ بنقله وحكايتِه عنه عز وجل

سورة يونس (71)

71

{واتل عَلَيْهِمْ} أي على المشركين من أهل مكةَ وغيرِهم لتحقيق ما سبق من أنهم لا يفلحون وأن ما يتمتعون به على جناح الفواتِ وأنهم مشرِفون على العذاب الخالد {نَبَأَ نُوحٍ} أي خبره الذي له شأنٌ وخطَرٌ مع قومه الذين هم أضرابُ قومِك في الكفر والعنادِ ليتدبروا ما فيه من زوال ما تمتعوا به من النعيم وحلولِ عذابِ الغرق الموصولِ بالعذاب المقيمِ لينزجروا بذلك عمَّا هُم عليهِ من الكفر أو تنكسر شدةُ شكيمتهم أو يعترف بعضُهم بصحة نبوتك بأن عرفوا أن ما تتلوه موافقا لما ثبت عندهم من غير مخالفةٍ بينهما أصلاً مع علمهم بأنك لم تسمَعْ ذلك من أحد ليس إلا بطريقِ الوحي وفيه من تقرير ما سبق من كون الكلِّ لله سبحانه واختصاصِ العزةِ به تعالى وانتفاءِ الخوفِ والحزن عن أوليائه عز وعلا قاطبةً وتشجيعِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وحملِه على عدم المبالاة بهم وبأقوالهم وأفعالهم ما لا يخفى {إِذْ قَالَ} معمولٌ لنبأَ أو بدلٌ منه بدل اشتمال وأياما كان فالمرادُ بعضُ نَبئِه صلى الله عليه وسلم لا كلُّ ما جرى بينَه وبينَ قومِه واللامُ في قوله تعالى {لِقَوْمِهِ} للتبليغ {يا قوم إِن كَانَ كَبُرَ} أي عظمُ وشقّ {عَلَيْكُمْ مَّقَامِى} أي نفسي كما يقال فعلتُه لمكان فلان أي لفلان ومنه قولِه تعالَى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ أي خاف ربَّه أو قيامي ومُكثي بين ظَهْرانيكم مدةً طويلة أو قيامي {وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ الله} فإنهم كانوا إذا وعَظوا الجماعةَ يقومون على أرجلهم والجماعةُ قعودٌ ليظهر حالُهم ويُسمع مقالُهم {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} جواب الشرط أي دمت على تخصيص التوكلِ به تعالى ويجوزُ أن يرادَ بهِ إحداثُ مرتبةٍ مخصوصةٍ من مراتبِ التوكل {فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ} عطفٌ على الجواب والفاءُ لترتيب الأمرِ بالإجماع على التوكل لا لترتيب نفسِ الإجماعِ عليه أو هو الجوابُ وما سبق جملةٌ معترضةٌ والإجماعُ العزم قيل هو متعدَ بنفسه وقيل فيه حذفٌ وإيصال قال السدوسي أجمعتُ الأمرَ أفصحُ من أجمعت عليه وقال أبو الهيثم أجمع أمرَه جعله مجموعاً بعد ما كان متفرقاً وتفرُّقُه أنه يقول مرة أفعلُ كذا وأخرى أفعل كذا وإذا عزم على أمر واحدٍ فقد جمعه أي جعله جميعاً {وَشُرَكَاءكُمْ} بالنصب على أن الواو بمعنى مع كما تدل عليه القراءةُ بالرفع عطفاً على الضمير المتصل تنزيلاً للفصل منزلةَ التأكيدِ وإسنادُ الإجماعِ إلى الشركاء على طريقة التهكم وقيل إنه عطفٌ على أمرَكم بحذف المضافِ أي أمرَ شركائهم وقيل منصوبٌ بفعل محذوفٍ أي وادعوا شركاءَكم وقد قُرِىءَ كذلكَ وقُرِىءَ فاجْمعوا من الجمع أي فاعزِموا على أمركم الذى تريدون بي من السعي في إهلاكي واحتشِدوا فيه على أي وجه يمكنكم {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ} ذلك {عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي مستوراً من غمّه إذا ستره بل مكشوفاً مشهوراً تجاهرونني به فإن السرَّ إنما يُصار إليه لسد باب تدارُك الخلاصِ بالهرب أو نحوه فحيث استحال ذلك في حقي لم يكن للسروجه وإنما خاطبهم صلى الله عليه وسلم بذلك إظهاراً لعدم المبالاةِ بهم وأنهم لم يجدوا إليه سبيلاً وثقةً بالله سبحانه وبما وعده من عصمته وكَلاءتِه فكلمةُ ثمّ للتراخى فى

سورة يونس (72 73) الرتبة وإظهارُ الأمر في موقع الإضمارِ لزيادة تقريرٍ يقتضيها مقامُ الأمرِ بالإظهار الذي يستلزمه النهيُ عن التستر والإسرار وقيل المرادُ بأمرهم ما يعتريهم من جهته صلى الله عليه وسلم من الحال الشديدةِ عليهم المكروهةِ لديهم والغُمة والغمّ كالكُربة والكرب وثم للتراخي الزماني والمعنى لا يكن حالُكم عليكم غمةً وتخلّصوا بإهلاكي من ثِقَل مقامي وتذكيري ولا يخفى أنه لا يساعده قولُه عزَّ وجلَّ {ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} أي أدّوا إليّ أي أحكِمُوا ذلك الأمرَ الذي تريدون بي ولا تمهلوني كقوله تعالى وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر أو أدوا إلي ما هو حقٌّ عليكم عندكم من إهلاكي كما يقضي الرجلُ غريمَه فإن توسيطَ ما يحصل بعد الإهلاك بين الأمر بالعزم على مباديه وبين الأمر بقضائه من قبيل الفصل بين الشجر ولِحائِه وقرىء أفضوا بالفاء أي انتهوا إليّ بشرّكم أو ابرُزوا إليّ من أفضى إذا خرج إلى الفضاء

72

{فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} الفاءُ لترتيب التولِّي على ما سبق فالمرادُ به إما الاستمرارُ عليه وإما إحداثُ التولّي المخصوصِ أي إن أعرضتم عن نصيحتي وتذكيري إثرَ ما شاهدتم مني من مخايل صحةِ ما أقول ودلائلِها التي من جملتها دعوتي إياكم جميعاً إلى تحقيق ما تريدون بي من السوء غيرَ مبالٍ بكم وبما يأتي منكم وإحجامُكم من الإجابة علماً منكم بأني على الحق المبين مؤيدٌ من عندِ الله العزيز {فَمَا سَأَلْتُكُمْ} بمقابلة وعظي وتذكيري {مِنْ أَجْرٍ} تؤدّونه إلي حتى يؤدي ذلك إلى توليكم إما لاتهامكم إياي بالطمع والسؤالِ وإما لثقلِ دفع المسئول عليكم أو حتى يضرّني توليكم المؤدِّي إلى الحرمان فالأولُ لإظهار بطلان التولي ببيان عدمِ ما يصححه والثاني لإظهار عدم مبالاتِه صلى الله عليه وسلم بوجوده وعدمه وعلى التقديرين فالفاء الجزائيةُ لسببية الشرطِ لإعلام مضمونِ الجزاءِ لا لنفسه والمعنى إن توليتم فاعلموا أن ليس في مصحِّح له ولا تأثّرٍ منه وَقَولُهُ عزَّ وَجَلَّ {إِنَّ أجرى إلا على الله} ينتظم المعنيين جميعاً خلا أنه على الأول تأكيدٌ وعلى الثاني تعليلٌ لاستغنائه صلى الله عليه وسلم عنهم أي ما ثوابي على العِظة والتذكير إلا عليه تعالى يُثيبني به آمنتم أو توليتم {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} المنقادين لحكمه لا أخالف أمرَه ولا أرجو غيرَه أو المستسلمين لكل ما يصيب من البلاء في طاعة الله تعالى

73

{فَكَذَّبُوهُ} فأصروا على ما هم عليه من التكذيب بعد ما ألزمهم الحجةَ وبيّن لهم المَحَجّةَ وحقق أن تولّيَهم ليس له سببٌ غيرُ التمردِ والعناد فلا جرم حقت عليهم كلمةُ العذاب {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الفلك} من المسلمين وكانوا ثمانين {وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ} من الهالكين {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي بالطوفان وتأخيرُ ذكره عن ذكر الإنجاءِ والاستخلاف حسبما وقع في قولِه عز وعلا وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين آمنوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ وغيرِ ذلك من الآيات الكريمة لإظهار كمالِ العنايةِ بشأن المقدّمِ ولتعجيل المسرةِ للسامعين وللإيذان بسبق الرحمةِ التي هي من مقتضيات الربوبية على الغضب الذي هو من مستتبعات

سورة يونس (74) جرائمِ المجرمين 8 - {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين} تهويلٌ لما جرى عليهم وتحذيرٌ لمن كذب الرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية له صلى الله عليه وسلم

74

{ثُمَّ بَعَثْنَا} أي أرسلنا {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد نوحٍ عليه السلام {رُسُلاً} التنكير للتفخيم ذاتاً ووصفاً أي رسلاً كراماً ذوي عددٍ كثير {إلى قَوْمِهِمْ} أي إلى أقوامهم لكن لا بأن أرسلنا كلَّ رسولٍ منهم إلى أقوام الكل أو إلى قوم ما أيَّ قومٍ كانوا بل كلُّ رسولٍ إلى قومه خاصة مثلُ هودٍ إلى عاد وصالحٍ إلى ثمودَ وغير ذلك ممن قُصَّ منهم ومن لم يقص {فجاؤوهم} أي جاء كلُّ رسولٍ قومَه المخصوصين به {بالبينات} أي المعجزات الواضحةِ الدالةِ على صدق ما قالوا والباءُ إما متعلقةٌ بالفعل المذكور على أنها للتعدية أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ضمير جاءوا أي ملتبسين بالبينات لكن لا بأن يأتيَ كلُّ رسولٍ ببينة واحدة بل ببينات كثيرة خاصةٍ به معينةٍ له حسب اقتضاءِ الحِكمة فإن مراعاة انقسام الآحاد إلى الآحاد إنما هي فيما بين ضميري جاءوهم كما أشير إليه فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بيانٌ لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرارِ إيمانِهم كما مر مثلُه في هذه السورةِ الكريمةِ غيرَ مرة أي فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوامِ في وقتٍ من الأوقاتِ أن يؤمنوا بل كان ذلك ممتنعاً منهم لشدة شكيمتِهم في الكفر والعناد ثم إن كان المحكيُّ آخرَ حال كلِّ قومٍ حسبما يدل عليه حكايةُ قوم نوحٍ فالمراد بعدم إيمانِهم المذكور ههنا إصرارُهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه في قولِه عزَّ وجلَّ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قبل تكذيبهم من حين مجيء الرسل إلى زمان الإصرارِ والعناد وإنما لم يُجعل ذلك مقصوداً بالذات كالأول حيث جُعل صلةً للموصول إيذاناً بأنه بيِّنٌ بنفسه غنيٌّ عن البيان وإنما المحتاجُ إلى ذلك عدمُ إيمانِهم بعد تواتر البينات الظاهرة وتظاهر المعجزات الباهرة التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من أصحاب العقول والموصول الذي تعلق به الإيمان والتكذيب سلبا وإيجاباً عبارةٌ عن جميع الشرائعِ التي جاء بها كلُّ رسولٍ أصولِها وفروعِها وإن كان المحكيُّ جميعَ أحوال كل قوم منهم فالمراد بما ذكر أولا كفرُهم المستمرُّ من حين مجئ الرسلِ إلى آخره وبما أشير إليه آخرا تكذيبهم قبل مجيئهم فلابد من كون الموصولِ المذكور عبارة عن أصول الشرائعِ التي أجمعت عليها الرسلُ قاطبة ودعوا أممهم إليها آثر ذي أثير لاستحالة تبدلها وتغيرها مثل ملة التوحيد ولوازمِها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجئ رسلهم أنهم ما كانوا في زمن الجاهلية بحيث لم يسمعوا بكلمة التوكيد قط بل كان كلُّ قومٍ من أولئك الأقوام يتسامعون بها من بقايا من قبلهم كثمودَ من بقايا عادٍ وعادٍ من بقايا قومُ نوحٍ عليه السلام فيكذبونها ثم كانت حالتُهم بعد مجيء الرسلِ كحالتهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص فإنهم حيث لم يؤمنوا بما أجمعت عليه كافة الرسل فلأن لا يؤمنوا بما تفرَّد به بعضهم أولى وعدم جعل هذا التكذيبِ مقصوداً بالذات لما أن ما عليه يدورُ أمرُ العذابِ والعقابِ

سورة يونس (75) (76) عند اجتماعِ المكذِّبين هو التكذيبُ الواقعُ بعد الدعوةِ حسبما يُعرب عنه قوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً وإنما ذُكر ما وقع قبلها بياناً لعراقتهم في الكفر والتكذيبِ وعلى التقديرين فالضمائرُ الثلاثة متوافقة في المرجع وقيل ضميرُ كذبوا راجعٌ إلى قومُ نوحٍ عليه السلام والمعنى فما كان قومُ الرسلِ ليؤمنوا بما كَذب بمثله قومُ نوح ولا يَخْفى ما فيهِ من التعسف وقيل الباءُ للسببية أي بسبب تعوُّدِهم تكذيب الحق وتمرنهم عليه قبل بعثة الرسل ولا يخفى أن ذلك يؤدّي إلى مخالفة الجمهورِ من جعل ما المصدريةِ من قبيل الأسماء كما هو رأيُ الأخفشِ وابنِ السرّاج ليرجِع إليها الضميرُ وفي إرجاعه إلى الحق بادعاء كونِه مركوزاً في الأذهان مالا يخفى من التعسف {كذلك} أي مثلَ ذلك الطبعِ المُحكَم {نَطْبَعُ} بنون العظمةِ وقرئ بالياء على أن الضمير لله سبحانه {على قُلوبِ المعتدين} المتجاوزين عن الحدود المعهودةِ في الكفر والعناد المتجافين عن قَبول الحق وسلوكِ طريقِ الرشادِ وذلك بخذلانهم وتخليتهم وشأنَهم لانهماكهم في الغيّ والضلالِ وفي أمثال هذا دلالةٌ على أن الأفعالَ واقعةٌ بقدرة الله تعالى وكسب العبد

75

{ثُمَّ بَعَثْنَا} عطفٌ على قوله تعالى ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ عطفَ قصةٍ على قصة {مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد أولئك الرسلِ عليهم السلام {موسى وهارون} خُصّت بعثتُهما عليهما السلام بالذكر ولم يُكتفَ باندراج خبرِهما فيما أشير إليه إشارة إجمالية من أخبار الرسل عليهم السلام مع أقوامهم وأُوثر في ذلك ضربُ تفصيلٍ إيذاناً بخطر شأنِ القصةِ وعِظَمِ وقعها كما في نبأ نوح عليه السلام {إلى فرعون وَمَلَئِهِ} أي أشرافِ قومِه وتخصيصُهم بالذكر لأصالتهم في إقامة المصالحِ والمُهمّات ومراجعةِ الكل إليهم في النوازل والملمات {آياتنا} أي ملتبسين بها وهي الآياتُ المفصّلات في الأعراف فاستكبروا الاستكبارُ ادعاءُ الكِبْر من غير استحقاقٍ والفاءُ فصيحة أي فأتيَاهم فبلغاهم الرسالةَ فاستكبروا عن اتباعهما وذلك قول للعين لموسى عليه السلام أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ الخ {وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله أي كانوا معتادين لارتكاب الذنوبِ العظامِ فإن الإجرامَ مؤذنٌ بعظم الذنبِ ومنه الجِرمُ أي الجثة فلذلك اجترءوا على ما اجترءوا عليه من الاستهانة برسالةِ الله تعالى وحملُ الاستكبارِ على الامتناع عن قَبول الآيات لا يساعده قولُه عزو علا

76

{فلما جاءهم الحق من عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} فإنه صريحٌ في أن المرادَ باستكبارهم ما وقع منهم قبل مجئ الحقِّ الذي سمَّوه سحراً أغنى العصا واليدَ البيضاءَ كما ينبئ عنه سياقُ النظمِ الكريم وذلك أولُ ما أظهره صلى الله عليه وسلم من الآياتِ العظام والفاء فيه أيضاً فصيحةٌ معربةٌ عما صُرِّح به في مواضعَ أُخَرَ كأنَّه قيل قال موسى قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رَّبّكُمْ إلى قوله تعالى فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين فلما جاءهم الحقُّ من عندنا وعرَفوه قالوا من فَرْط عتوِّهم

سورة يونس (77) وعنادهم إن هذا السحر مبين أي ظاهرٌ كونُه سحراً أو فائقٌ في بابه واضحٌ فيما بين أضرابه وقرئ لساحر

77

{قَالَ موسى} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال تنساقُ إليه الأذهانُ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ لهم موسى حينئذٍ فقيل قال على طريقة الاستفهامِ الإنكاريِّ التوبيخيِّ {أَتقُولُونَ لِلْحَقّ} الذي هو أبعدُ شيءٍ من السحر الذي هو الباطلُ البحتُ {لَمَّا جَاءكُمْ} أي حين مجيئِه إياكم ووقوفِكم عليه أو من أول الأمر من غير تأمل وتدبرٍ وكلا الحالين مما ينافي القولَ المذكور والمقولُ محذوفٌ ثقةً بدِلالة ما قبلَهُ وما بعده عليه وإيذاناً بأنه مما لا ينبغي أن يُتفوَّه به ولو على نهج الحكاية أي أتقولون له ما تقولون من أنه سحرٌ يعني به أنه مما لا يمكن أن يقوله قائلٌ ويتكلمَ به متكلمٌ أو القول بمعنى العيب والطعن من قولهم فلان يخاف القالَةَ وبين الناسِ تقاولٌ إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه ونظيرُه الذكرُ في قوله تعالى سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ الخ فيُستغنى عن المفعول أي أتعيبونه وتطعنون فيه وعلى الوجهين فقوله عز وجل {أَسِحْرٌ هذا} إنكارٌ مستأنفٌ من جهته عليه السلام لكونه سحراً وتكذيبٌ لقولهم وتوبيخٌ لهم على ذلك إثرَ توبيخٍ وتجهيلٌ بعد تجهيلٍ أما على الأول فظاهرٌ وأما على الثاني فوجهُ إيثارِ إنكارِ كونه سحراً على إنكار كونِه معيباً بأن يقال مثلاً أفيه عيبٌ حسبما يقتضيه ظاهرُ الإنكارِ السابق التصريحَ بالرد عليهم في خصوصية ما عابوه به بعد التنبيهِ بالإنكار السابقِ على أن ليس فيه شائبةُ عيبٍ ما وما في هذا من معنى القربِ لزيادة تعيينِ المشارِ إليه واستحضارِ ما فيه من الصفات الدالةِ على كونه آيةً باهرةً من آيات الله المناديةِ على امتناع كونِه سحراً أي أسحرٌ هذا الذي أمرُه واضحٌ مكشوفٌ وشأنُه مشاهَدٌ معروفٌ بحيث لا يرتاب فيه أحدٌ ممن له عين مبُصِرةٌ وتقديمُ الخبر للإيذان بأنه مصب الإنكارِ ولما استلزَم كونُه سحراً كونَ من أتى به ساحراً أكِّد الإنكارُ السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل بقوله عز وجل {وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون} وهو جملةٌ حالية من ضمير المخاطَبين والرابطُ هو الواو بلا ضمير كما في قول من قال ... جاء الشتاءُ ولست أملِك عُدّةً ... وقولك جاء زيدٌ ولم تطلُع الشمس أي أتقولون للحق إنه سحرٌ والحالُ أنه لا يُفلح فاعلُه أي لا يظفَر بمطلوب ولا ينجو من مكروه فكيف يمكن صدورُه من مثلي من المؤيَّدين من عند الله العزيزِ الحكيم الفائزين بكل مطلب الناجين من كل محذورٍ وقوله تعالى أَسِحْرٌ هذا جملةٌ معترضةٌ بين الحال وصاحبِها أكّد بها الإنكارُ السابقُ ببيان استحالةِ كونه سحراً بالنظر إلى ذاته قبل بيانِ استحالتِه بالنظر إلى صدوره عنه عليه السلام هذا وأمَّا تجويزُ أنْ يكونَ الكلُّ مقولَ القولِ على أن المعنى أجئتما بالسحر تطلُبان به الفلاحَ ولا يفلح الساحرون فمما لا يساعده النظمُ الكريم أصلاً أما أولاً فلأن ما قالوا هو الحكمُ بأنه سحرٌ من غير أن يكون فيه دِلالةٌ على ما تعسف فيه من المعنى بوجه من الوجوه فصرف جوابه صلى الله عليه وسلم عن صريح ما خاطبوه به إلى مالا يُفهم منه أصلاً مما يجب تنزيهُ النظمِ التنزيليِّ عن الحمل على أمثاله وأما ثانياً فلأن التعرضَ لعدم إفلاحِ السحرةِ على الإطلاق من وظائف من يتمسك بالحق المبينِ دون الكفرة المتشبثين بأذيال بعضٍ منهم في معارضته صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك من كلامهم لناسب تخصيصَ عدم الإفلاح بمن زعموه ساحراً بناءً على غلبة من يأتون به من السحرة وأما ثالثاً فلأن قولَه عز وجل

سورة يونس (78) (79) (80) (81)

78

{قَالُواْ أَجِئْتَنَا} الخ مسوقٌ لبيان أنه صلى الله عليه وسلم ألقمهم الحجرَ فانقطعوا عن الإتيان بكلام له تعلقٌ بكلامه صلى الله عليه وسلم فضلاً عن الجواب الصحيحِ واضطروا إلى التثبت بذيل التقليدِ الذي هو دأبُ كل عاجزٍ محجوجٍ وديدن كل معاند لجوج على أنه استئنافٌ وقع جوابا عما قبله من كلامه صلى الله عليه وسلم على طريقة قوله تعالى قَالَ موسى الخ حسبما أشير إليه كأنه قيل فماذا قالوا لموسى عليه السلام عندما قال لهم ما قال فقيل قالوا عاجزين عن المحاجّة أجئتنا {لِتَلْفِتَنَا} أي لتصْرِفنا فإن الفتلَ واللفتَ أخوَان {عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءنا} أي من عبادة الأصنامِ ولا ريب في أن ذلك إنما يتسنى بكون ما ذكر من تتمة كلامِه عليه السلام على الوجه الذي شرح إذ على تقدير كونِه محكياً من قِبَلهم يكون جوابُه عليه السلام خاليا عن التبكيت الملجئ لهم إلى العدول عن سنن المُحاجّة ولا ريب في أنه لا علاقةَ بين قولِهم أجئتنا الخ وبن انكارِه عليه السلام لما حكى عنهم مصصحة لكونه جواباً عنه {وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء} أي المُلكُ أو التكبرُ على الناس باستتباعهم وقرئ ويكون بالياء التحتانية وكلمة في في قولِه تعالى {فِى الأرض} أي أرضِ مصرَ متعلقةٌ بتكون أو بالكبرياء أو بالاستقرار في لكما لوقوعه خبراً أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الكبرياء أو من الضميرِ في لكما لتحمُّله إياه {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} أي بمصدّقين فيما جئتما به وتثنيةُ الضمير في هذين الموضعين بعد إفرادِه فيما تقدم من المقامين باعتبار شمولِ الكبرياءِ لهما عليهما السلام واستلزامِ التصديقِ لأحدهما التصديقَ للآخر وأما اللفت والمجئ له فحيث كانا من خصائص صاحب الشريعةِ أسند إلى مُوسى عليهِ السَّلامُ خاصة

79

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ} توحيدُ الفعلِ لأن الأمرَ من وظائف فرعونَ أي قال لملئه يأمرهم بترتيب مبادئ إلزامهما عليهما السلام بالفعل بعد اليأس من إلزامها بالقول {ائتونى بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ} بفنون السحر حاذقٍ ماهر فيه وقرئ سحار

80

{فَلَمَّا جَاء السحرة} عطف على مقدرٍ يستدعيهِ المقامُ قد حذف إيذاناً بسرعة امتثالِهم لأمر فرعونَ كما هو شأنُ الفاء الفصيحة في كل مقام أي فأتوا به فلما جاءوا {قَالَ لَهُمْ موسى} لكنْ لا في ابتداء مجيئِهم بل بعد ما قالوا عليه السلام ما حُكي عنهم في السور الأُخَرِ من قولهم إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين ونحو ذلك {أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ} أي ملقون له كائناً ما كانَ منْ أصناف السحر

81

{فَلَمَّا أَلْقُوْاْ} ما ألقَوْا من العِصِيّ والحبالِ واسترهبوا الناس وجاءوا بسحر عظيم {قَالَ} لهم {موسى} غيرَ مكترثٍ بهم وبما صنعوا {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر} ما موصولةٌ

سورة يونس (82) (83) وقعت مبتدأ والسحرُ خبرُه أي هو السحرُ لا ما سماه فرعونُ وقومه من آيات الله سبحانه أو هو من جنس السحرِ يُريهم أن حالَه بيِّن لا يُعبأ به كأنه قال ما جئتم به مما لا ينبغي أن يجاء به وقرئ آلسحر على الاسفهام فما استفهاميةٌ أي أيُّ شيء جئتم به أهو السحرُ الذي يعرِف حالَه كلُّ أحدٍ ولا يتصدى له عاقل وقرئ ما جئتم به سحرٌ وقرئ ما أتيتم به سحرٌ ودلالتُهما على المعنى الثاني في القراءة المشهورة أظهرُ {إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} أي سيمحقه بالكلية بما يُظهره على يدي من المعجزة فلا يبقى له أثرٌ أصلا أو سظهر بطلانُه للناس والسين للتأكيد {إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين} أي عملَ جنسِ المفسدين على الإطلاق فيدخل فيه السحرُ دخولاً أولياً أو عملُكم فيكون من باب وضعِ المُظْهر موضعَ المُضمَرِ للتسجيل عليهم بالإفساد والإشعارِ بعلة الحكم وليس المرادُ بعدم إصلاحِ عملِهم عدَم جعل فسادِهم صلاحا بل عدم إثابته وإتمامِه أي لا يُثبته ولا يكلمه ولا يُديمه بل يمحقه وبهلكه ويسلِّط عليه الدمارَ والجملةُ تعليلٌ لما سبق من قوله إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ والكلُّ اعتراضٌ تذييليٌّ وفيه دليلٌ على أنَّ السحر إفسادٌ وتمويهٌ لا حقيقةٌ له

82

{وَيُحِقُّ الله الحق} عطفٌ على قوله سيبطله أي يثبته ويقوّيه وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في المقامين الأخيرين لإلقاء الروعةِ وتربيةِ المهابةِ {بكلماته} بأوامره وقضاياه وقرئ بكلمته {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} ذلك والمرادُ بهم كلُّ منِ اتَّصف بالإجرامِ من السحرة وغيرهم

83

{فما آمن لموسى} معطوفٌ على مقدر قد فصل في مواقعَ أُخَرَ أي فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ تلقف ما يأفِكون الخ وإنما لم يذكر تعويلاً على ذلك وإيثار للإيجاز وإيذاناً بأن قوله تعالى إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ مما لا يحتمل الخُلفَ أصلاً وعطفُه على ذلك بالفاء مع كونه عدماً مستمراً من قبيل ما في قوله عز وجل فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وما في قولك وعظتُه فلم يتَّعِظْ وصِحْتُ به فلم ينزجِرْ والسرُّ في ذلك أن الإتيان بالشئ بعد ورود ما يوجب الإقلاعَ عنه وإن كان استمرار عليه لكنه بحسَب العنوان فعلٌ جديدٌ وصنعٌ حادثٌ أي فما آمن له عليه السلام بمشاهدة تلك الآياتِ القاهرة {إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ} أي إلا أولادٌ من أولاد قومِه بني إسرائيلَ حيث دعا الآباءَ فلم يجيبوه خوفاً من فروعون وأجابتْه طائفةٌ من شبانهم وقيل الضميرُ لفرعون والذريةُ طائفة من شبابهم آمنوا به عليه السلام أو مؤمنُ آلِ فرعونَ وامرأتُه آسيةُ وخازنُه وامرأتُه وماشطته وهو بعيد {على خَوْفٍ} أي كائنين على خوف عظيم {مِن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِم} الضميرُ لفرعون والجمعُ لما هو المعتادُ في ضمائر العظماءِ ولا يأباه مقامُ بيانِ علوِّه في الفساد وغلوِّه في الشر والتسلطِ على العباد أو لأنَّ المرادَ بهِ آلُه كما يقال ربيعةُ ومضرُ أو للذرية أو للقوم أي على خَوْفٍ مّن فرعونَ ومن أشراف بني إسرائيلَ حيث كانوا يمنعون أعقابَهم خوفاً من فرعونَ عليهم وعلى أنفسهم {أَن يَفْتِنَهُمْ}

سورة يونس (84) (85) (86) (87) أي يعذّبَهم وهو بدلُ اشتمالٍ أو مفعولُ خوفٍ فإن إعمالَ المصدرِ المنكّر كثيرٌ كما في قوله عز وجل أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً أو مفعولٌ له بعد حذفِ اللامِ وإسنادُ الفعلِ إلى فرعون خاصةً لأنه الآمرُ بالتعذيب {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الارض} لغالبٌ في أرض مصرَ {وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين} في الظلم والفسادِ بالقتلِ وسفكِ الدماءِ أو في الكبر والعتوِّ حتى ادّعى الربوبيةَ واسترقَّ أسباطَ الأنبياءِ والجملتانِ اعتراضٌ تذييليٌّ مؤكدٌ لمضمون ما سبق

84

{وَقَالَ مُوسَى} لما رأى تخوف المؤمنين منه {يا قوم إن كنتم آمنتم بالله} أي صدقتم به وبآياته {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ} وبه ثقِوا ولا تخافوا أحداً غيرَه فإنه كافيكم كلَّ شرَ وضُرّ {إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ} مستسلمين لقضاءِ الله تعالى مخلِصين له وليس هذا من تعليل الحكم بشرطين فإن المعلل بالإيمان وجوبُ التوكلِ عليه تعالى فإنه المقتضي له والمشروط بالإسلام وجودُه فإنه لا يتحقق مع التخليط ونظيرُه إنْ أحسنَ إليك زيدٌ فأحسنْ إليه إن قدَرتَ عليه

85

{فَقَالُواْ} مجيبين له عليه السلام من غير تلعثم في ذلك {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} لأنهم كانوا مؤمنين مخلِصين ثم دعَوا ربَّهم قائلين {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} أي موقعَ فتنةٍ {لّلْقَوْمِ الظالمين} أي لا تسلِّطْهم علينا حتى يعذّبونا أو يفتنونا عن ديننا أو يُفتَتنوا بنا ويقولوا لو كان هؤلاء على الحق لَما أصيبوا وقوله تعالى

86

{وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين} دعاءٌ منهم بالإنجاء من سوء جوارِهم وشؤمِ مصاحبتِهم بعد الإنجاءِ من ظلمهم ولذلك عبر عنهم بالكفر بعد ما وُصفوا بالظلم وفي ترتيب الدعاءِ على التوكل تلويحٌ بأن الداعَي حقُّه أن يبنيَ دعاءَه على التوكلِ على الله تعالى

87

{وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ أن تبوآ} أنْ مفسرةٌ لأنّ في الوحي معنى القولِ أي اتخذا مَباءةً {لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} تسكُنون فيها وترجِعون إليها للعبادة {واجعلوا} أنتما وقومكما {بُيُوتِكُمْ} تلك {قِبْلَةَ} مصلّىً وقيل مساجدَ متوجهةً نحو القِبلة يعني الكعبةَ فإن موسى عليه السلام كان يصلي إليها {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} أي فيها أُمروا بذلك في أول أمرهم لئلا يظهرَ عليهم الكفرةُ فيؤذوهم ويفتِنوهم عن دينهم {وَبَشّرِ المؤمنين} بالنصرة في الدنيا إجابةً لدعوتهم والجنةِ في العقبى وإنما ثُنِّيَ الضميرُ أولاً لأن التبوُّؤَ للقوم واتخاد المعابد مما يتولاه رؤساءُ القوم بتشاور ثم جُمع لأن جعلَ البيوتِ مساجدَ والصلاةَ فيها مما يفعله كلُّ أحدٍ ثم وُحِّد لأن بشارةَ الأمةِ وظيفةُ صاحبِ الشريعة ووضعُ المؤمنين موضعَ ضميرِ القوم لمدحهم بالايمان وللإشعار بأنه المدارُ في التبشير

سورة يونس (88) (89) (90)

88

{وَقَالَ موسى رَبَّنَا إِنَّكَ آتيت فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً} أي ما يُتزَيَّن به من اللباس والمراكبِ ونحوِها {وَأَمْوَالاً} وأنواعاً كثيرةً من المال {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن سَبِيلِك} دعاءٌ عليهم بلفظ الأمرِ بما عُلم بممارسة أحوالِهم أنه لا يكون غيرُه كقولك لعن الله إبليسَ وقيل اللامُ للعاقبة وهي متعلقةٌ بآتيتَ أو للعلة لأن إيتاءَ النعم على الكفر استدراجٌ وتثبيت على الضلال ولأنهم لما جعلوها ذريعةً إلى الضلال فكأنهم أُوتوها ليضلوا فيكون ربنا تكرير للأول تأكيداً أو تنبيهاً على أنَّ المقصودَ عرضُ ضلالِهم وكفرانِهم تقدمةً لقوله تعالى {رَبَّنَا اطمس على أموالهم} الطمس المحو وقرئ بضم الميم أي أهلكْها {واشدد على قُلُوبِهِمْ} أي اجعلها قاسيةً واطبَع عليها حتى لا تنشرحَ للإيمان كما هو قضيةُ شأنهم {فَلاَ يُؤْمِنُواْ} جوابٌ للدعاء أو دعاءٌ بلفظ النهي أو عطفٌ على ليضلوا وما بينهما دعاء معترض {حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} أي يعاينوه ويوقنوا به بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك

89

{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} يعنى موسى وهرون عليهما السلام لأنه كان يؤمن كما يشعر به إضافة الرب إلى ضمير المتكلم مع الغير في المواقعِ الثلاثةِ {فاستقيما} فاثبُتا على ما أنتما عليه من الدعوى وإلزام الحجةِ ولا تستعجلا فإن ماطلبتما كائنٌ في وقته لا محالة روي أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة {وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي بعادات الله سبحانه في تعليق الأمور بالحكم والمصالح أو سبيل الجهلةِ في الاستعجال أو عدمِ الوثوق بوعد الله تعالى وقرئ بالنون الخفيفةِ وكسرِها لالتقاء الساكنين ولا تتْبعانِ من تبع ولا تتّبعانِ أيضاً

90

{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر} هو من جاوز المكانَ إذا تخطاه وخلفه والباء للتعدية أي جعلناهم مجاوزين البحرَ بأن جعلناه يبساً وحفِظناهم حتى بلغوا الشط وقرئ جوّزنا وهو من التجويز المرادفِ للمجاوزة لا مما هو بمعنى التنفيذ نحو ما وقع في قول الأعشى ... كما جوّز السّكِّيَّ في الباب فيتقُ ... وإلا لقيل وجوزنا نبى إسرائيلَ في البحر ولخلا النظمُ الكريم عن الإيذان بانفصالهم عن البحر وبمقارنة العناية الإلهية لهم عند الجوازَ كما هو المشهور في الفرق بين أذهبه وذهَب به {فَأَتْبَعَهُمْ} يقال تبِعتُه حتى أتبعتُه إذا كان سبقك فلحقته أي أدركهم ولحِقهم 8 - فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ 8 حتى تراءت الفئتان وكاد يجتمع الجمعان 8 - بَغْيًا وعدوا 8 ظلما واعتداء

سورة يونس (91) أي باغين وعادين أو للبغى والعدوان وقرئ وعدواً وذلك أن موسى عليه السلام خرج ببني إسرائيلَ على حِينِ غفلةٍ مّنْ فرعون فلما سمع به تبِعهم حتى لحِقهم ووصل إلى الساحل وهم قد خرجوا من البحر ومسلُكهم باق على حاله يبَساً فسلكه بجنوده أجمعين فلما دخل آخرُهم وهم أولُهم بالخروج غشِيهم مّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ {حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق} أي لحقه وألجمه {قال آمنت أَنَّهُ} أي بأنه والضميرُ للشأن وقرئ أنه على الاستئناف بدلاً من آمنت وتفسير له {لا إله إِلاَّ الذي آمنت به بنو إسرائيل} لم يقل كما قاله السحرةُ آمنا بربّ العالمين رب موسى وهرون بل عبر عنه تعالى بالموصول وجعل صلتُه إيمانَ بني إسرائيل به تعالى للإشعار برجوعه عن الاستعصاء وباتباعه لمن كان يستتبعهم طمعاً في القبَول والانتظامِ معهم في سلك النجاة {وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} أي الذين أسلموا نفوسَهم لله أى جعلوها سالمة خاصة له تعالى وأراد بهم إما بني إسرائيلَ خاصةً وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أولياء والجملةُ على الأولِ عطفٌ على آمنت وإيثار الاسميةِ لا دعاء الدوامِ والاستمرارِ وعلى الثَّاني يحتملُ الحاليةَ أيضاً من ضمير المتكلمِ أي آمنتُ مخلصاً لله منتظماً في سلك الراسخين فيه ولقد كُرّر المعنى الواحد بثلاث عباراتٍ حرصاً على القبول المفضي إلى النجاة وهيهاتَ هيهاتَ بعد ما فات ما فات وأتى ما هو آت وقوله عز وجل

91

8 - {الآن} مقولٌ لقولٍ مقدرٍ معطوفٍ على قال أي فقيل آلآن وهو إلى قوله تعالى آية حكايةٌ لما جرى منه سبحانه من الغضب على المخذول ومقابلة ما أظهره بالرد على وجه الإنكارِ التوبيخيَّ على تأخيره وتقريعِه بالعصيان والإفساد وغير ذلك وفي حذف الفعل المذكورِ وإبرازِ الخبرِ المحكيِّ في صورة الإنشاءِ من الدِلالة على عظم السخطِ وشدةِ الغضب مالا يخفى كما يُفصح عنه ما روي من أن جبريل دس فاه عند ذلك يحال البحر وسده به فإنه تأكيد الرد القوليّ بالرد الفعليِّ ولا ينافيه تعليلُه بمخافة إدراكِ الرحمةِ فيما نقل أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم فلو رأيتَني يا محمدُ وأنا آخذٌ من حال البحرِ فأدُسّه في فيه مخافةَ أن تدركه الرحمةُ إذ المرادُ بها الرحمةُ الدنيويةُ أي النجاة التي هي طِلْبةُ المخذولِ وليس من ضرورة إدراكِها صحةُ الإيمان كما في إيمان قوم يونس عليه السلام حتى يلزم من كراهته مالا يتصور في شأن جبريلُ عليهِ السَّلامُ من الرضا بالكفر إذْ لا استحالةَ في ترتب هذه الرحمةِ على مجرد التفوّه بكلمة الإيمانِ وإن كان ذلك في حالة البأسِ واليأس فيحمل دسُّه صلى الله عليه وسلم على سد باب الاحتمالِ البعيد لكمال الغيظِ وشدةِ الحرْدِ فتدبر والله الموفق وحقُّ العاملِ في الظرف أن يقدر مؤخراً ليتوجه الإنكارُ والتوبيخُ إلى تأخير الإيمانِ إلى حد يمتنعُ قبولُه فيه أي آلآن تؤمن حين يئستَ من الحياة وأيقنتَ بالممات وقوله عز وعلا {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} حال من فاعل الفعل المقدر جئ به لتشديد التوبيخِ والتقريعِ على تأخير الإيمانِ إلى هذا الآن ببيان أنه لم يكن تأخيرُه لعدم بلوغِ الدعوةِ إليه ولا للتأمل والتدبر في دلائله وآياته ولا لشئ آخر مما عسى يعد عذراً في التأخير بل كان ذلك على طريقة الردِّ والاستعصاءِ والإفساد فإن قوله تعالى {وَكُنتَ مِنَ المفسدين} عطفٌ على عصيت داخلٌ في حيز الحال أي وكنت من الغالين في الإضلال والإضال عن الإيمانِ كقوله تعالى الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم

سورة يونس (92) (93) عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ فهذا عبارةٌ عن فساده الراجعِ إلى نفسه والساري إلى غيره من الظلم والتعدي وصدِّ بني إسرائيلَ عن الإيمان والأولُ عن عصيانه الخاصِّ به

92

{فاليوم نُنَجّيكَ} أي نخرجك مما وقع فيه قومُك من قعر البحرِ ونجعلك طافيا وفي التعبيرعنه بالتنجية تلويحٌ بأن مرادَه بالإيمان هو النجاةُ كما مر وتهكمٌ به أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك بنو إسرائيلَ وقرئ نُنْجيك من الإنجاء ونُنَحِّيك بالحاء من التنحية أى نلقيك بناحية الساحل {بِبَدَنِكَ} في موضع الحالِ من ضمير المخاطَب أي ننجيك ملابساً ببدنك فقط لا مع روحك كما هو مطلوبُك فهو تخييبٌ له وحسمٌ لأطماعه بالمرة أو عارياً عن اللباس أو كاملاً سوياً أو بدِرْعك وكانت له درع من الذهب يعرف بها وقرئ بأبدانك أي بأجزاء بدنك كلها كقولهم هوى بأجرامه أو بدروعك كأنه كان مُظاهِراً بينها {لِتَكُونَ لِمَنْ خلفك آية} لمن وراءك علامةً وهم بنو إسرائيلَ إذ كان في نفوسهم من عظمته ما خيَّل إليهم أنه لا يهلِك حتى يُروى أنهم لم يصدقوا موسى عليه السلام حين أخبرهم بغرقه إلى أن عاينوه مطرحا على ممرهم من الساحل أو تكون لمن يأتي بعدك من الأمم إذا سمعوا مآلَ أمرِك ممن شاهدك عبرةً ونكالاً من الطغيان أو حجةً تدلهم على أن الإنسانَ وإن بلغ الغايةَ القصوى من عظم الشأنِ وعلوِّ الكبرياء وقوةِ السلطان فهو مملوكٌ مقهورٌ بعيد عن مظانّ الربوبية وقرئ لمن خَلَفك فعلاً ماضياً أي لمن خلفك من الجبابرة وقرئ لمن خلقك بالقاف أي لتكون لخالقك آيةً كسائر الآيات فإن إفرادَه سبحانه إياك بالإلقاء إلى الساحل دليلٌ على أنه قصد منه لكشف تزويرِك وإماطةَ الشبهةِ في أمرك وبرهانٌ نيِّرٌ على كمال علمِه وقدرتِه وحكمتِه وإرادتِه وهذا الوجهُ محتملٌ على القراءة المشهورة أيضاً وفي تعليل تنجيته بما ذكر إيذانٌ بأنها ليست لإعزازه أو لفائدة أخرى عائدةٍ إليه بل لكمال الاستهانة به وتفضيحِه على رءوس الأشهاد وزيادةِ تفظيعِ حالِه كمن يُقتل ثم يُجرُّ جسدُه في الأسواق أو يدار برأسه في البلاد واللامُ الأولى متعلقةٌ بننجّيك والثانيةُ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من آية أي كائنةً لمن خلفك {وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ النَّاسِ عَن آيَاتِنَا لغافلون} لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها وهو اعتراضٌ تذييليٌّ جىءَ به عند الحكايةِ تقريراً لفحوى الكلامِ المحكيِّ

93

{ولقد بوأنا بني إسرائيل} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان النعم الفائضةِ عليهم إثرَ نعمة الإنجاء على وجه الإجمال وإخلالهم بشكرها وأداءِ حقوقها أي أسكناهم وأنزلناهم بعد ما أنجيناهم وأهلكنا أعداءَهم {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} أي منزِلاً صالحاً مرْضياً وهو الشامُ ومصرُ ملكوهما بعد الفراعنةِ والعمالقةِ وتمكنوا

سورة يونس (94) (95) (96) في نواحيهما حسبما نطقَ به قولهُ تعالى {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها التى بَارَكْنَا فِيهَا} {وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات} أي اللذائذِ {فَمَا اختلفوا} في أمر دينهم {حتى جَاءهُمُ العلم} أي إلا بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بقراءتهم التوارة وعلمِهم بأحكامها أو في أمر محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا علموا صدق نبوته وتظاهر معجزاته فالمراد بالمختلفين أعقابهم الذين كانوا في عصر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} فيميزُ بين المُحِق والمُبطلِ بالإثابة والتعذيب

94

{فَإِن كُنتَ فِي شَكّ} أي في شك ما يسير على الفرْض والتقدير فإن مضمونَ الشرطيةِ إنما هو تعليقُ شيءٍ بشيء من غير تعرُّضٍ لإمكان شيءٍ منهما كيف لا وقد يكون كلاهما ممتنعاً كقوله عز وجل قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين وقوله تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ونظائرِهما {مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} من القصص التي من جملتها قصةُ فرعون وقومِه وأخبارُ بني إسرائيل {فاسأل الذين يقرؤون الكتاب مِن قَبْلِكَ} فإن ذلك محققٌ عندهم ثابتٌ في كتبهم حسبما ألقَينا إليك والمراد إظهار نبوته صلى الله عليه وسلم بشهادة الأحبارِ حسبما هو المسطورُ في كتبهم وإن لم يكن إليه حاجة أصلاً أو وصفُ أهلِ الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة نبوته صلى الله عليه وسلم أو تهييجه صلى الله عليه وسلم وزيادةِ تثبيتهُ على ما هو عليه من اليقين لا تجويزِ صدورِ الشك منه صلى الله عليه وسلم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لا أشُكُّ ولا أسأَلُ وقيل المراد بالموصول مؤمنوا أهلِ الكتابِ كعبدِ اللَّه بن سلام وتميمٍ الداري وكعبٍ وأضرابِهم وقيل الخطابُ للنبى صلى الله عليه وسلم والمرادُ أمتُه أو لكل من يسمع أي إن كنت أيها السامعُ في شك مما أنزلنا إليك على لسان نبيِّنا وفيه تنبيهٌ على أن من خالجتْه شبهةٌ في الدين ينبغي أن يسارِعَ إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم وقرئ فاسأل الذين يقرءون الكتب {لَقَدْ جَاءكَ الحق} الذي لا محيدَ عنه ولا ريبَ في حقيته {مِن رَبّكَ} وظهرَ ذلك بالآيات القاطعةِ التي لا يحوم حولَها شائبةُ الارتيابِ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من التشريف ما لا يخفى {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} بالتنزلزل عما أنت عليه من الجزم واليقينِ ودُمْ على ذلك كما كنت من قبل

95

{وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذينَ كَذَّبُواْ بآياتِ الله} منْ بابِ التَّهييج والإلهابِ والمرادُ به إعلامُ أن التكذيبَ من القُبحِ والمحذوريةِ بحيث ينبغي أن يُنهى عنه من لا يُتصورُ إمكانُ صدورُه عنه فكيف بمن يمكن اتصافُه به وفيه قطعٌ لأطماع الكفرة {فَتَكُونَ} بذلك {مّنَ الخاسرين} أنفساً وأعمالاً

96

{إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ} شروعٌ في بيان سرِّ إصرارِ الكفرة على ما هم عليه من الكفر والضلالِ أي ثبتت ووجبتْ بمقتضى المشيئةِ المبْنيةِ على الحكمةِ البالغة {كَلِمَةُ رَبِّكَ} حكمُه وقضاؤه

سورة يونس (97) (98) بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في النار كقوله تعالى {ولكن حَقَّ القول مِنْى لاَمْلانَّ جَهَنَّمَ} إلى آخره {لاَ يُؤْمِنُونَ} أبداً إذلا كذِبَ لكلامه ولا انتقاضَ لقضائه أي لا يؤمنون إيماناً نافعاً واقعاً في أوانه فيندرج فيهم المؤمنون عند معاينةِ العذابِ مثلَ فرعونَ باقياً عند الموتِ فيدخل فيهم المرتدون

97

{ولو جاءتهم كل آية} واضحةُ المدلولِ مقبولةٌ لدى العقولِ لأن سببَ إيمانِهم وهو تعلقُ إرادته تعالى به مفقودٌ لكنّ فقدانَه ليس لمنعٍ منه سبحانه مع استحقاقهم له بل لسوء اختيارِهم المتفرِّعِ على عدم استعدادِهم لذلك {حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} كدأب آلِ فرعونَ وأضرابهم

98

{فَلَوْلاَ كَانَتْ} كلامٌ مستأنفٌ لتقرير ما سبق من استحالة إيمانِ من حقت عليهم كلمتُه تعالى لسوءِ اختيارِهم مع تمكنهم من التدارك فيكونُ الاستثناءُ الآتي بياناً لكون قومِ يونسَ عليه السلام ممن لم يحِقَّ عليه الكلمةُ لاهتدائهم إلى التدارك في وقته ولولا بمعنى هلا وقرئ كذلك أى فلا كانت {قَرْيَةٌ} من القُرى المهلكة {آمنت} قبل معاينةِ العذابِ ولم تؤخِّرْ إيمانَها إلى حين معاينتِه كما فعل فرعونُ وقومُه {فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا} بأن يقبَله الله تعالى منها ويكشِفَ بسببه العذابَ عنها {إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ} استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ قومُ يونس {لما آمنوا} أولَ ما رأوا أمارةَ العذابِ ولم يؤخِّروا إلى حلوله {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا} بعد ما أظلهم وكاد يحِلّ بهم ويجوز أن تكونَ الجملةُ في معنى النفي كما يُفصح عنه حرف التخصيص فيكون الاستثناء متصلاً إذِ المرادُ بالقرى أهاليها كأنه قيل ما آمنت طائفةٌ من الأمم العاصية فنفعهم إيمانُهم إلا قومَ يونَس عليه السلام فيكون قوله تعالى لما آمنوا استئنافاً لبيان نفعِ إيمانِهم ويؤيده قراءةُ الرفعِ على البدلية {وَمَتَّعْنَاهُمْ} بمتاع الدنيا بعد كشفِ العذاب عنهم {إلى حِينٍ} مقدرٍ لَهُمْ في علم الله سبحانه رُوي أن يونسَ عليه السَّلامُ بُعث إلى نينوى من أرض الموْصِل فكذبوه فذهب عنهم مغاضباً فلما فقَدوه خافوا نزولَ العذاب فلبِسوا المُسوحَ وعجّوا أربعين ليلةً وقيل قال لهم يونسُ عليه السلام أجلُكم أربعون ليلةً فقالوا إن رأينا أسبابَ الهلاك آمنّا بك فلما مضَتْ خمسٌ وثلاثون أغامت السماء غيماً أسودَ هائلاً يدخّن دُخاناً شديداً ثم يهبِط حتى يغشى مدينتَهم ويسودّ سطوحُهم فلبِسوا المسوحَ وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائِهم وصِبيانهم ودوابهم وفرقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادِها فحنّ بعضُها إلى بعض وعلت الأصواتُ والعجيجُ وأظهروا الإيمانَ والتوبةَ وتضرَّعوا إلى الله تعالى فرحمهم وكشف عنهم وكان ذلك يومَ عاشوراءَ يومَ الجمعة وعن ابن مسعود رضي الله عنه بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالمَ حتى إن الرجل كان يقتلع الحجرَ وقد وضع عليه أساسَ بنائه فيرده إلى صاحبه وقيل خرجوا إلى الشيخ من بقية علمائِهم فقالوا قد نزل بنا العذابُ فما ترى فقال لهم قولوا يا حيُّ حين لا حيَّ ويا حيُّ محي الموتى ويا حيُّ لا إله إلا أنت فقالوها

سورة يونس (99) (100) فكشف عنهم وعن الفضيل بن عياض قالوا إن ذنوبَنا قد عظُمت وجلّت وأنت أعظمُ منها وأجلُّ افعل بنا ما أنت أهلُه ولا تفعلْ بنا ما نحن أهلُه

99

{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الارض} تحقيقٌ لدوران إيمانِ كافةِ المكلفين وجوداً وعدماً على قُطب مشيئتِه تعالى مطلقاً إثرَ بيانِ تبعيةِ كفرِ الكفرةِ لكلمته ومفعولُ المشيئة محذوفٌ لوجود ما يقتضيه من وقوعها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاء وأن لا يكونَ في تعلقها به غرابةٌ كما هو المشهورُ أي لو شاء سبحانه إيمانَ من في الأرض من الثقلين لآمن {كُلُّهُمْ} بحيث لا يشد عنهم أحد {جَمِيعاً} مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه لكنه لا يشاؤه لكونه مخالفاً للحِكمة التي عليها بُنيَ أساسُ التكوين والتشريع وفيه دِلالةٌ على أن مَن شاء الله تعالى إيمانَه يؤمن لا محالة {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس} على ما لم يشأ الله منهم حسبما ينيء عنه حرفُ الامتناعِ في الشرطية والفاء للعطف على مقدر ينسحبُ عليه الكلامُ كأنَّه قيل أربُّك لا يشاء ذلك فأنت تُكرههم {حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} فيكون الإنكارُ متوجهاً إلى ترتيب الإكراهِ المذكورِ على عدم مشيئته تعالى ويجوز أن تكون الفاء لترتيب الإنكارِ على عدم مشيئته تعالى بناء على أن الهمزة متأخرة في الاعتبار وإنما قدمت لاقتضائها الصدارةَ كما هو رأيُ الجمهورِ وأياً ما كان فالمشيئةُ على إطلاقها إذ لا فائدةَ بل لا وجهَ لاعتبار عدمِ مشيئة الإلجاءِ خاصة في إنكار الترتيبِ عليه أو ترتيب الإنكارِ عليه وفي إيلاء الاسم حرف الاستفهام إيذان بأن الإكراهَ أمرٌ ممكنٌ لكن الشأنَ في المكرَه مَنْ هو وما هو إلا هو وحده لا يشارك فيه لأنه القادرُ على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرهم إلى الإيمان وذلك غيرُ مستطاعٍ للبشر وفيه إيذانٌ باعتبار الإلجاءِ في المشيئة كما أشير إليه

100

{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ} بيانٌ لتبعية إيمانِ النفوس المؤمنةِ لمشيئته تعالى وجوداً بعد بيانِ الدوران الكليِّ عليها وجوداً وعدماً أي ما صح وما استقام لنفس من النفوس التي علم الله تعالى أنها تؤمنُ {أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي بتسهيله ومنحِه للألطاف وإنما خُصت النفسُ بمن ذُكر ولم يُجعل من قبيل قولِه تعالَى وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله لأن الاستئشاء مفرغٌ من أعمِّ الأحوالِ أي ما كان لنفس أن تؤمن في حالٍ من أحوالِها إلا حالَ كونِها ملابسةً بإذنه تعالى فلا بد من كون الإيمان مما يئول إليه حالُها كما أن الموتَ مآلٌ لكل نفس بحيث لا محيصَ لها عنه فلا بد من تخصيص النفسِ بمن ذكر فإن النفوسَ التي علم الله أنها لا تؤمنُ ليس لها حالٌ تؤمن فيها حتى يستثنى تلك الحال من غيرها {وَيَجْعَلُ الرجس} أي الكفر بقرينة ما قبله عبر عنه بالرجس الذي هو عبارةٌ عن القبيح المستقدر المستكرَه لكونه علماً في القبح والاستكراه وقيل هو العذاب أو الخِذلان المؤدي إليه وقرى بنون العظمة وقرئ بالزاي أي يجعل الكفرَ ويبقيه {عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات أولا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع

سورة يونس (101102103) فلا يحصُل لهم الهدايةُ التي عبّر عنها بالإذن فيبقَون مغمورين بقبائح الكفرِ والضلال أو مقهورين بالعذاب والنَّكال والجملةُ معطوفةٌ على مقدر ينسحب عليه النظمُ الكريمُ كأنه قيل فيأذن لهم بمنح الألطافِ ويجعل الخ

101

{قُلْ} مخاطِباً لأهل مكةَ بعثاً لهم على التدبر في ملكوتُ السموات والأرض وما فيهما من تعاجيب الآياتِ الأنفسية والآفاقية ليتضحَ لك أنهم من الذين لا يعقِلون وحقّت عليهم الكلمة {انظروا} أي تفكروا وقرئ بنقل حركةِ الهمزةِ إلى لام قل {مَاذَا فِى السماوات والارض} أي أيُّ شيءٍ بديعٍ فيهما من عجائب صُنعه الدالةِ على وحدته وكمالِ قدرتِه على أن ماذا جعل بالتركيب اسماً واحداً مغلّباً فيه الاستفهامُ على اسم الإشارةِ فهو مبتدأٌ خبرُه الظرفُ ويجوز أن يكون ما مبتدأ وذا بمعنى الذي والظرفُ صلته والجملةُ خبرٌ للمبتدأ وعلى التقديرين فالمبتدأ والخبرُ في محل النصبِ بإسقاط الخافضِ وفعلُ النظر معلقٌ بالاستفهام {وَمَا تُغْنِى} أي ما تنفع وقرئ بالتذكير {الايات} وهي التي عُبّر عنها بقوله تعالى مَاذَا فِى السموات والارض {والنذر} جمع نذير على أنه فاعَلَ بمعنى منذر أو على أنَّه مصدرٌ أي لا تنفع الآيات والرسل المنذرون أو الإنذارات {عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} في علم الله تعالى وحكمه فما نافية والجملة إما حالية أو اعتراضية ويجوز كون ما استفهاميةً إنكاريةً في موضع النصبِ على المصدرية أي أي إغناء تغني الخ فالجملة حينئذ اعتراضية

102

{فهل ينتظرون} أي مشركو مكة وأضرابهم {إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ} أي إلا يوماً مثل أيام الذين خلوا {من قبلهم} من مشركي الأممِ الماضية أي مثل وقائعهم ونزول بأس الله بهم إذ لا يستحقون غيره من قولِهم أيامُ العربِ لوقائعها {قُلْ} تهديداً لهم {فانتظروا} ما هو عاقبتكم {إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين} لذلك

103

{ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا} بالتشديد وقرئ بالتخفيف وهو عطفٌ على مقدرٍ يدلُّ عليه قوله مثل أيام الذين خلوا وما بينهما اعتراضٌ جيءَ به مسارعةً إلى التهديد ومبالغة في تشديد الوعيد كأنه قيل أهلكنا الأمم ثم نجينا رسلنا المرسلة إليهم {والذين آمنوا} وصيغةُ الاستقبالِ لحكاية الأحوالِ الماضية لتهويل أمرها باستحضار صورِها وتأخيرُ حكايةِ التنجيةِ عن حكاية الإهلاكِ على عكس ما في قوله تعالى فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الفلك الخ ونظائِره الواردةِ في مواقعَ عديدة ليتصل به قولُه عزَّ وجلَّ {كذلك} أي مثلَ ذلك الإنجاء {حَقّاً عَلَيْنَا} اعتراض بين العامل والمعمول أي حق ذلك حقاً وقيل بدل من المحذوف الذي ناب عنه كذلك أي إنجاء مثل ذلك حقاً والكاف متعلقة بقوله تعالى {نُنَجِّى المؤمنين} أي من كل شدة وعذاب والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها مقرر لمضمونه والمرادُ بالمؤمنين إما الجنسُ المتناول للرسل عليهم السلام والأتباع وإما الأتباعُ فقط وإنما لم يذكر إنجاء الرسل إيذانا بعدم الحاجة إليه وأيا ما كان ففيه

سورة يونس (104105106) تنبيهٌ على أنَّ مدارَ النجاة هو الإيمان

104

{قل} لجمهور المشركين {يا أيها الناس} أوثر الخطاب باسم الجنس مصدراً بحرف التنبيه تعميماً للتبليغ وإظهاراً لكمال العناية بشأن ما بلغ إليهم {إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى} الذي أتعبد الله عزَّ وجلَّ بهِ وأدعوكم إليه ولم تعلموا ما هو وما صفتُه {فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} في وقتٍ من الأوقاتِ {ولكن أَعْبُدُ الله الذى يَتَوَفَّاكُمْ} ثم يَفعل بكم ما يفعلُ من فنون العذاب أي فاعلموا أنه تخصيصُ العبادةِ به ورفضُ عبادةِ ما سواه من الأصنام وغيرِها مما تعبدونه جهلاً وتقديمُ تركِ عبادةِ الغير على عبادته تعالى لتقدم التخلية على التحلية كما في كلمة التَّوحيدِ وللإيذان بالمخالفة من أول الأمر أو إن كنتم في شك من صحة ديني وسَدادِه فاعلموا أن خلاصتَه إخلاصُ العبادة لمن بيده الإيجادُ والإعدام دون ما هو بمعزل منهما من الأصنام فاعِرضوها على عقولكم وأجيلوا فيها أفكارَكم وانظُروا فيها بعين الإنصافِ لتعلموا أنه حقٌّ لا ريب فيه وفي تخصيص التوفي بالذكر متعلقا بهم ما لا يَخفْى من التهديد والتعبير عما هم فيه بالشك مع كونهم قاطعين بعدم الصحةِ للإيذان بأن أقصى ما يمكن عروضُه للعاقل في هذا الباب هو الشكُّ في صحته وأما القطعُ بعدمها فمما لا سبيلَ إليه أو إن كنتم في شك من ثباتي على الدين فاعلموا أني لا أتركه أبداً {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين} بما دل عليه العقلُ ونطق به الوحيُ وهو تصريحٌ بأن ما هُو عليه من دين التوحيدِ ليس بطريق العقلِ الصِّرْفِ بل بالإمداد السماويِّ والتوفيق الإلهي وحذفُ حرفِ الجر من أن يجوز أن يكون من باب الحذفِ المطردِ مع أن وأن يكون خاصاً بفعل الأمر كما في قوله أمرتُك الخيرَ فافعلْ ما أُمِرْت به

105

{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ} عطفٌ على أن أكونَ خلا أن صلةَ أن محكيةٌ بصيغة الأمرِ ولا ضير في ذلك لأن مناطَ جوازِ وصلِهَا بصيغِ الأفعالِ دلالتُها على المصدرِ وذلكَ لا يختلف بالخبرية والطلبيةِ ووجوبُ كونِ الصلةِ خبريةً في الموصولِ الاسميِّ إنَّما هُو للتوصلِ إلى وصفِ المعارفِ بالجملِ وهي لا توصفُ إلا بالجملِ الخبريةِ وليسَ الموصولُ الحرفيُّ كذلكَ أي وأُمرتُ بالاستقامة في الدين والاستبدادِ فيه بأداء المأمورِ به والانتهاءِ عن المنْهيِّ عنه أو باستقبال القبلةِ في الصلاة وعدمِ الالتفات إلى اليمين والشمال حَنِيفاً حالٌ من الدين أو الوجه أي مائلا عن الأديان الباطلة {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} عطفٌ على أقم داخلٌ تحت الأمرِ أي لا تكونن منهم اعتقاداً ولا عملاً وقوله عز وعلا

106

{وَلاَ تَدْعُ} عطف على قوله تعالى قل يا أيها الناس غيرُ داخلٍ تحت الأمر وقيل على ما قبله من النهي والوجهُ هو الأولُ لأن ما بعده من الجمل إلى آخر الآيتين متسقةٌ لا يمكن فصلُ بعضِها عن بعض كما ترى ولا وجهَ لإدراج الكلِّ تحت

سورة يونس (107108) الأمرِ وهو تأكيدٌ للنهي المذكورِ وتفصيلٌ لما أُجمِلَ فيه إظهاراً لكمال العنايةِ بالأمر وكشفاً عن وجه بُطلان ما عليه المشركون أي لا تدْعُ مِن دُونِ الله استقلالاً ولا اشتراكاً مَا لاَ يَنفَعُكَ إذا دعوتَه بدفع مكروهٍ أو جلبِ محبوب {وَلاَ يَضُرُّكَ} إذا تركتَه بسلب المحبوبِ دفعاً أو رفعاً أو بإيقاع المكروهِ وتقديمُ النفعِ على الضرر غنيٌّ عن بيان السبب {فَإِن فَعَلْتَ} أي ما نُهيتَ عنه من دعاء ما لا ينفعُ ولا يضرُّ كنّى به عنه تنويهاً لشأنه صلى الله عليه وسلم وتنبيهاً على رفعة مكانِه من أن يُنسبَ إليه عبادِة غيرِ الله سبحانه ولو في ضمن الجملةِ الشرطية {فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين} جزاءٌ للشرط وجوابٌ لسؤال من يسأل عن تَبِعة ما نُهي عنه

107

{وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ} تقريرٌ لما أوردَ في حيز الصلةِ من سلب النفعِ من الأصنام وتصويرٌ لاختصاصه به سبحانه {فَلاَ كاشف لَهُ} عنك كائناً من كان وما كان {إِلاَّ هُوَ} وحده فيثبت عدمُ كشفِ الأصنامِ بالطريق البرهاني وهو بيانٌ لعدم النفعِ برفع المكروهِ المستلزِمِ لعدم النفعِ بجلب المحبوبِ استلزاماً ظاهراً فإن رفعَ المكروهِ أدنى مراتبِ النفعِ فإذا انتفى انتفى بالكلية {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} تحقيقٌ لسلب الضررِ الواردِ في حيز الصلةِ أي إن يُرِدْ أن يصيبَك بِخَيْرٍ {فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} الذي من جملته ما أرادك به من الخير فهو دليلٌ على جواب الشرطِ لا نفسُ الجواب وفيه إيذانٌ بأن فيضانَ الخير منه تعالى بطريق التفضلِ من غير استحقاقٍ عليه سبحانه أي لا أحدَ يقدِر على رده كائناً ما كان فيدخل فيه الأصنامُ دخولاً أولياً وهو بيانٌ لعدم ضُرِّها بدفع المحبوبِ قبلَ وقوعِه المستلزمِ لعدم ضُّرِّها برفعه أو بإيقاع المكروهِ استلزاماً جلياً ولعل ذكرَ الإرادةِ مع الخير والمسِّ مع الضر مع تلازم الأمرين للإيذان بأن الخيرَ مُراد بالذات وأن الضُرَّ إنما يَمسُّ من يَمَسّه لما يوجبه من الدواعي الخارجيةِ لا بالقصد الأوليّ أو أريد معنى الفعلين في كلَ من الضر والخير وأنه لا رادَّ لما يريد منهما ولا مزيلَ لما يصيب به منهما فأوجزَ الكلامَ بأن ذكرَ في أحدهما المسَّ وفي الآخر الإرادةَ ليدل بما ذكر في كل جانبٍ على ما تُرك في الجانب الآخر على أنه قد صرّح بالإصابة حيث قيل {يُصَيبُ بِهِ} إظهاراً لكمال العنايةِ بجانب الخير كما ينبىء عنه تركُ الاستثناءِ فيه أي يصيب بفضله الواسعِ المنتظمِ لما أرادك به من الخير وجعلُ الفضلِ عبارةً عن ذلك الخير بعينه على أن يكون من باب وضعِ المُظهرِ في موضع المُضمَرِ لما ذُكر من الفائدة يأباه قوله عزَّ وجلَّ {مَن يَشَآء من عباده} فإن ذلك ينادي بعموم الفضل وقوله عز قائلاً {وهو الغفور الرحيم} تذليل لقوله تعالى يُصَيبُ بِهِ الخ مقرِّرٌ لمضمونه والكلُّ تذييلٌ للشرطية الأخيرةِ محققٌ لمضمونها

108

{قل} مخاطبا لأولئك

سورة يونس (109) الكفرةِ بعد ما بلّغتهم ما أوحى إليك {يا أيها الناس قَدْ جَاءكُمُ الحق مِن رَّبّكُمْ} وهو القرآنُ العظيمُ المشتمِلُ على محاسن الأحكامِ التي من جُملتها ما مر آنفاً من أصول الدينِ واطلعتم على ما في تضاعيفِه من البينات والهدى ولم يبقَ لكم عذرٌ {فَمَنُ اهتدى} بالإيمانِ به والعملِ بما في مطلوبه {فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ} أي منفعةُ اهتدائِه لها خاصة {وَمَن ضَلَّ} بالكفرِ به والإعراض عنه {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي فوبالُ الضلالِ مقصورٌ عليها والمرادُ تنزيهُ ساحةِ الرسالةِ عن شائبة غرض عائد إليه صلى الله عليه وسلم من جلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ كما يلوح به إسنادُ المجيء إلى الحق من غير إشعارٍ بكون ذلك بواسطته {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} بحفيظ موكول إلى أمركم وإنما أنا بشيرٌ ونذير

109

{واتبع} اعتقاداً وعملاً وتبليغاً {مَا يوحى إِلَيْكَ} على نهج التجددِ والاستمرارِ من الحق المذكورِ المتأكِّدِ يوماً فيوماً وفي التعبير عن بلوغه إليهم بالمجيء وإليه صلى الله عليه وسلم بالوحي تنبيهٌ على ما بين المرتبتين من التنائي {واصبر} على ما يعتريك من مشاقِّ التبليغِ {حتى يَحْكُمَ الله} بالنُصرة عليهم أو بالأمر بالقتال {وَهُوَ خير الحاكمين} إذ لا يمكن الخطأ في حكمه لاطّلاعه على السرائر اطّلاعَه على الظواهر عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ يونُسَ أُعطيَ له منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعدد من صَدَّقَ بيونُسَ وكذّب به وبعدد مَنْ غرِق مع فرعونَ والحمدُ لله وحده

سورة هود عليه السلام مكية وهى مائة وثلاث وعشرون آية سورة هود (1) {بسم الله الرحمن الرحيم}

هود

{الر} محلُّه الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ وقيل على أنه مبتدأٌ والأولُ هو الأظهرُ كما أشير إليه في سورة يونُسَ أو النصبُ بتقديرِ فعلِ يناسب المقام نحوِ اذكُر أو اقرأْ على تقديرِ كونِه اسماً للسورة على ما عليه إطباقُ الأكثرِ أو لا محلَّ له من الإعراب مسرودٌ على نمط التعديدِ حسبما فُصِّل في أخوَاته وقوله تعالى {كِتَابٌ} خبرٌ له على الوجه الثاني ولمبتدأ محذوفٍ على الوجوه الباقيةِ {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} نُظمت نظماً مُتْقناً لا يعتريه خللٌ بوجه من الوجوه أو جُعلت حكيمةً لانطوائها على جلائل الحِكَم البالغةِ ودقائِقها أو مُنعت من النسخ بمعنى التغييرِ مطلقاً أو أُيِّدت بالحُجج القاطعةِ الدالةِ على كونِها من عندِ الله عزَّ وجلَّ أو على ثبوتِ مدلولاتِها فالمرادُ بالآيات جميعُها أو على حقية ما تشتمل عليه من الأحكام الشرعيةِ فالمرادُ بها بعضُها المشتملُ عليها كما إذا فُسِّر الأحكامُ بالمنع من النسخ بمعنى تبديلِ الحُكمِ الشرعيِّ خاصةً وأما تفسيرُه بالمنع من الفساد أخذاً من قولهم أحكمتَ الدابة إذا وضعتَ عليها الحَكَمة لتمنعَها من الجِماح ففيه إيهامُ ما لا يكادُ يليقُ بشأن الآياتِ الكريمةِ من التداعي إلى الفساد لولا المانع وفي إسناد الإحكامِ على الوجوه المذكورةِ إلى الآيات الكتابِ دون نفسِه لا سيما على الوجوه الشاملةِ لكل آية آية منه من حسن الموقعِ والدِلالة على كونه في أقصى غاية منه ما لا يخفى {ثُمَّ فُصّلَتْ} أي جُعلت فصولاً من الأحكام والدلائل والمواعظِ والقِصصِ أو فُصّل فيها مَهمّاتُ العبادِ في المعاش والمعادِ على الإسناد المجازيِّ والتفسيرُ بجعلها آيةً آيةً لا يساعده المقام لأن ذلك من الأوصاف الأوليةِ فلا يناسب عطفُه على أحكامها بكلمة التراخي وأما المعنيان الأوّلانِ فهما وإن كانا مع الأحكام زماناً حيث لم تزَل الآياتُ مُحكمةً مفصّلة لا أنها أُحكِمَتْ أو فُصِّلَت بعد أن لم تكن كذلك إذ الفعلانِ من قَبيل قولِهم سُبحان مَنْ صغر البعوض وكبر الفيل إلا أنهما حيث كانا من صفات الآياتِ باعتبار نسبةِ بعضِها إلى بعضٍ على وجه يستتبِعُ أحكاماً مخصوصةً وآثاراً معتدًّا بها وبملاحظة مصالحِ العبادِ ناسبَ أن يشار إلى تراخي رتبتِهما عن رتبة الإحكام وإن حُمل جعلُها آية آيةً على معنى تفريقِ بعضِها عن بعض يكونُ من هذا القبيل إلا أنه ليس في مثابته في استتباع ما يستتبعه من الأحكام والآثارِ أو فُرّقت في التنزيل منجّمة بحسب المصالحِ فإن أريد تنزيلُها المنجَّمُ بالفعل فالتراخي زمانيٌّ وإن أريد جعلُها في نفسها بحيث يكون نزولُها منجّماً حسبما تقتضيهِ الحِكمةُ والمصلحةُ فهو رُتبيٌّ لأن ذلك وصفٌ لازمٌ لها حقيقٌ بأن يُرتَّبَ على وصف إحكامها وقرئ أحكمت

سورة هود (23) آياتِه ثم فصّلتُ على صيغة التكلم وعن عكرمة والضحاك ثم فُصِلَتْ أي فَرَقتْ بينَ الحق والباطل {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} صفةٌ للكتاب وُصف بها بعد ما وصُف بإحكام آياتِه وتفصيلِها الدالّين على علو رتبتِه من حيث الذاتُ إبانةً لجلالة شأنِه من حيث الإضافةُ أو خبرٌ بعد خبرٌ للمبتدأ المذكور أو المحذوفِ أو صلةٌ للفعلين وفي بنائهما للمفعول ثم إيرادِ الفاعلِ بعنوان الحِكمة البالغةِ والإحاطةِ بجلائلها ودقائِقها منكراً بالتنكير التفخيميّ وربطِهما به لا على النهج المعهودِ في إسناد الأفاعيل إلى قواعدها مع رعاية حسنِ الطباقِ من الجزالة والدلالة على فخامتهما وكونِهما على أكمل ما يكون مالا يُكتنه كُنهُه

2

{أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} مفعولٌ له حُذف عنه اللامُ مع فقدان الشرطِ أعني كونَه فعلاً لفاعل الفعلِ المعللِ جرياً على سنن القياسِ المطّردِ في حذف حرفِ الجرِّ مع أن المصدريةِ كأنه قيل كتابٌ أُحكمت آياتُه ثم فُصّلت لئلا تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله أي لتترُكوا عبادةَ غير الله عز وجل وتتمحّضوا في عبادته فإن الإحكامَ والتفصيلَ على ما فُصِّل من المعاني مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيدِ وما يتفرَّع عليه من الطاعات قاطبةً وقيل أنْ مفسرةٌ لما في التفصيل من معنى القولِ أي قيل لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله {إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ} من جهة الله تعالى {نَّذِيرٌ} أُنذركمَ عذابَه إن لم تتركوا ما أنتم عليه من الكفر وعبادةِ غيرِ الله تعالى {وَبَشِيرٌ} أبشركم بثوابه إن آمنتم به وتمحّضتم في عبادته ولمّا ذُكر شؤون الكتابِ من إحكام آياتهِ وتفصيلِها وكونِ ذلك من قِبَل الله تعالى وأُورد معظمُ ما نُظم في سلك الغايةِ والأمرِ من التوحيد وتركِ الإشراك وُسِّط بينه وبين قرينيه أعني الاستغفارَ والتوبة ذِكرُ أن من نُزّل عليه ذلك الكتابُ مرسَلٌ من عند الله تعالى لتبليغ أحكامِه وترشيحِها بالمؤيدات من الوعد والوعيدِ للإيذان بأن التوحيدَ في أقصى مراتبِ الأهمية حتى أُفرد بالذكر وأُيِّد إيجابُه بالخطاب غِبَّ الكتابِ مع تلويح بأنه كما لا يتحقق في نفسه إلا مقارنا للحكم برسالته صلى الله عليه وسلم كذلك في الذكر لا ينفكّ أحدُهما عن الآخر وقد رُوعيَ في سَوق الخطابِ بتقديم الإنذار على التبشير ما رُوعيَ في الكتاب من تقديم النفي على الإثبات والتخليةِ على التحلية ليتجاوب أطرافِ الكلامِ ويجوز أنْ يكونَ قولُه تعالى أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله كلاماً منقطعا عما قبله وارادا على لسانه صلى الله عليه وسلم إغراءً لهم على اختصاصه تعالى بالعبادة كأنه صلى الله عليه وسلم قال تركَ عبادةِ غيرِ الله أي الزموه على معنى اترُكوا عبادةَ غيرِ الله تركاً مستمراً إنني لكم من جهة الله تعالى نذيرٌ وبشير أي نذير أنذرُكم من عقابه على تقدير استمرارِكم على الكفر وبشيرٌ أبشرّكم بثوابه على تقدير تركِكم له وتوحيدكم ولما سبق إليهم حديثُ التوحيدِ وأُكد ذلك بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الإنذارِ والتبشيرِ شُرع في ذكر ما هو من تتماته على وجه يتضمّن تفصيلَ ما أُجملَ في وصف البشير والنذير فقيل

3

{وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ} وهو معطوفٌ على إنَّ لا تعبدوا على ما ذكر من الوجهين فعلى الأول أن

سورة هود (11) مصدرية لجوازِ كون صلتِها أمراً أو نهياً كما في قوله تعالى وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفًا لأن مدارَ جوازِ كونِها فعلاً إنما هو دلالتُه على المصدر وهو موجودٌ فيهما ووجوبُ كونِها خبريةً في صلةِ الموصولِ الاسميِّ إنَّما هُو للتوصلِ إلى وصفِ المعارفِ بالجملِ وهي لا توصفُ بها إلا إذا كانت خبريةً وأما الموصولُ الحرفيُّ فليس كذلك ولما كان الخبرُ والإنشاءُ في الدلالةِ على المصدرِ سواءً ساغَ وقوعُ الأمرِ والنهي صلةً حسبما ساغ وقوعِ الفعلِ فيتجرد عند ذلك عن مَعْنَى الأمرِ والنَّهيِ نحوُ تجردِ الصلةِ الفعليةِ عن معنى المضي والاستقبال {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} عطف على استغفروا والكلامُ فيه كالكلام فيه والمعنى فعلَ ما فعلَ من الإحكام والتفصيلِ لتخصّوا الله تعالى بالعبادة وتطلُبوا منه سَتر ما فرَط منكُم من الشرك ثم ترجِعوا إليه بالطاعة أو تستمرّوا على ما أنتُم عليهِ من التوحيد والاستغفارِ أو تستغفروا من الشرك وتتوبوا من المعاصي وعلى الثاني أنْ مفسرةٌ أي قيل في أثناء تفصيلِ الآياتِ لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله واستغفِروه ثم توبوا إليه والتعرّضُ لوصف الربوبيةِ تلقينٌ للمخاطَبين وإرشادٌ لهم إلى طريق الابتهالِ في السؤال وترشيحٌ لما يعقُبه من التمتيع وإيتاءِ الفضلِ بقوله تعالى {يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا} أي تمتيعاً وانتصابُه على أنه مصدرٌ حذف منه الزوائد كقوله تعالى أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً أو على أنَّه مفعولٌ به وهو اسمٌ لما يُتمتّع به من منافع الدنيا من الأموال والبنينَ وغيرِ ذلك والمعنى يعشكم عَيشاً مرضياً لا يفوتكم فيه شيءٌ مما تشتهون ولا ينغصُه شيءٌ من المكدرات {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} مقدر عند الله عز وجل وهو آخرُ أعمارِكم ولما كان ذلك غايةً لا يطمح وراءَها طامحٌ جرى التمتيع إليها مجرى التأبيد عادةً أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ} في الطاعة والعملِ {فَضْلَهُ} جزاءَ فضلِه إما في الدنيا أو في الآخرة وهذه تكملةٌ لما أُجمل من التمتيع إلى أجل مسمى وتببين لما عسى يعسُر فهمُ حكمتِه من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحالِ بين العاملين فرب إنسانٍ له فضلٌ طاعةٌ وعملٌ لا يُمتّع في الدنيا أكثرَ مما مُتِّع آخرُ دونه في الفضل وربما يكون المفضولُ أكثرَ تمتيعاً فقيل ويُعطِ كلَّ فاضلٍ جزاءَ فضلِه إما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة وذلك مما لا مردَّ لهُ وهذا ضربُ تفصيلٍ لما أُجمل فيما سبق من البشارة ثم شرُع في الإنذار فقيل {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي تتولوا عما أُلقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبةِ وإنما أُخّر عن البشارة جرياً على سنن تقدمِ الرحمةِ على الغضب أو لأن العذابَ قد علّق بالتولي عما ذكر من التوحيد والاستغفار والتوبة وذلك يستدعي سابقةَ ذكرِه وقرئ تُوَلّوا من ولى {فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} بموجب الشفقة والرأفةِ أو أتوقع {عَذَابَ يوم كبير} هو يومُ القيامةُ وُصف بالكِبَر كما وصف بالعِظَم في قوله تعالى إِلاَّ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أنهم مبعثون لِيَوْمٍ عَظِيمٍ إما لكونه كذلك في نفسه أو وُصف بوصف ما يكون فيه كما وُصفَ بالثقل في قوله تعالى ثَقُلَتْ فِى السموات والارض وقيل يوُم الشدائد وقد ابتلُوا بقَحطٍ أكلوا فيه الجيَفَ وأيا ما كان ففي إضافةِ العذابِ إليه تهويلٌ وتفظيعٌ له

4

{إلى الله مَرْجِعُكُمْ} رجوعُكم بالموت ثم البعثِ للجزاء في مثل ذلك اليومِ لا إلى غيره {وَهُوَ على كُلّ شَىْء قدير} فيندرج في تلك الكلية قدرتُه على إماتتكم ثم بعثِكم وجزائِكم فيعذبكم بأفانينِ

سورة هود (5) العذابِ وهو تقريرٌ لما سلف من كِبر اليوم وتعليلٌ للخوف ولمّا أُلقيَ إليهم فحوى الكتابِ على لسان النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وسيق إليهم ما ينبغي أن يُساقَ من الترغيب والترهيبِ وقع في ذهن السامع أنهم بعد ما سمِعوا مثلَ هذا المقالِ الذي تخِرُّ له صمُّ الجبالِ هل قابلوه بالإقبال أم تمادَوا فيما كانُوا عليهِ من الإعراضِ والضلالِ فقيل مصدّراً بكلمة التنبيهِ إشعاراً بأن ما يعقُبها من هَناتهم أمرٌ يجب أن يُفهم ويتعجَّبَ منه

5

{أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} يزْورُّون عن الحق وينحرفون عنه أي يستمرون على ما كانُوا عليهِ من التولّي والإعراضِ لأن مَنْ أعرض عن شيء ثنى عنه صدرَه وطوى عنه كشحَه وهذا معنىً جزْلٌ مناسبٌ لما سبق وقد نحا نحوَه العلامةُ الزَّمَخْشَريُّ ولكن حيث لم يصلُح التولي سببا للاستخفاء في قولِه عزَّ وجلَّ {لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} التَجأ إلى إضمار الإرادةِ حيث قال ويريدون ليستخفوا من الله تعالى فلا يُطْلِعَ رسولَه والمؤمنين على إعراضهم وجعلُه في قَوْد المعنى إليه من قبيل الإضمار قي قوله تعالى اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق أي فضرب فانفلق ولا يخفى أن انسياقَ الذهنِ إلى توسيط الإرادةِ بين ثنْيِ الصدورِ وبين الاستخفاءِ ليس كانسياقِه إلى توسيط الضربِ بين الأمرِ به وبين الانفلاقِ ولعل الأظهرَ أن معناه يعطِفون صدورَهم عَلى ما فَيها من الكفر والإعراضِ عن الحق وعداوةِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بحيث يكون ذلك مخفياً مستوراً فيها كما تُعطف الثيابَ عَلى ما فَيها من الأشياء المستورةِ وإنما لم يذكرْ ذلك استهجاناً بذكره أو إيماءً إلى أن ظهورَه مغنٍ عن ذكره أو ليذهبَ ذهنُ السامعِ إلى كل ما لا خيرَ فيه من الأمور المذكورةِ فيدخُل فيه ما ذُكر من تولّيهم عن الحق الذي أُلقيَ إليهم دخولاً أولياً فحينئذ يظهر وجهُ كونِ ذلك سبباً للاستخفاء ويؤيده ما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهما أنها نزلتْ في الأخنسِ بنِ شُرَيقٍ وكان رجلاً حلوَ المنطِق حسنَ السياقِ للحديث يُظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحبةَ ويُضمِرُ في قلبه ما يضادُّها وقال ابن شداد أنَّها نزلتْ في بعضِ المنافقين كان إذا مرَّ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم ثنى صدرَه وظهرَه وطأطأ رأسَه وغطَّى وجهَه كيلا يراه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فكأنه إنما كان يصنع ما يصنع لأنه لو رآه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لم يمكِنْه التخلّفُ عن حضور مجلِسه والمصاحبةِ معه وربما يؤدّي ذلك إلى ظهور ما في قلبه من الكفر والنفاق وقرئ يَثْنَوْني صدورُهم بالياء والتاء من اثنونى افعوعل من الثَنْي كاحلولي من الحلاوة وهو بناءُ مبالغةٍ وعن ابن عباس رضي الله عنهما لتثنونى وقرئ تثنون وأصله تثنونن من تفْعَوعِلُ من الثِّنِّ وهو ما هشّ من الكلأ وضعُف يريد مطاوعةَ صدروهم للثني كما يثنى الهشُّ من النبات أو أراد ضعفَ إيمانِهم ورَخاوةَ قلوبِهم وقرئ تثنن من اثنانّ افعالَّ منه ثم همزٌ كما قيل ابيأضت وادهامت وقرئ تثنوي بوزن ترعوي {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} أي يتغطَّوْن بها للاستخفاء على ما نقل عن ابن شداد أو حين يأوون إلى فراشهم ويتدثّرون بثيابهم فإن ما يقع حينئذٍ حديثُ النفس عادةً وقيل كان الرجلُ من الكفار يدخُل بيته ويرخى ستره ويحى ظهره

سورة هود (6) ويتغشّى بثوبه ويقول هل يَعْلَمُ الله مَا فِى قلبي {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} أي يُضمِرون في قلوبهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} أي يستوي بالنسبة إلى علمه المحيط سِرُّهم وعلنُهم فكيف يخفى عليه ما عسى يُظهرونه وإنما قدم السرُّ على العلن نعياً عليهم من أول الأمر ما صنعوا وإيذاناً بافتضاحِهِم ووقوعِ ما يحذَرونه وتحقيقاً للمساواة بين العِلْمين على أبلغ وجهٍ فكأن علمَه بما يُسرونه أقدمُ منه بما يعلنونه ونظيرُه قوله تعالى قُلْ إِنَّ تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله حيث قُدم فيه الإخفاءُ على الإبداء على عكس ما وقع في قوله تعالى وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله إذ لم يتعلق بإشعار أن المحاسبةَ بما يُخفونه أولى منها بما يُبْدونه غرضٌ بل الأمرُ بالعكس وأما ههنا فقد تعلق بإشعار كونِ تعلقِ علمِه تعالَى بما يُسرّونه أولى منه بما يعلنونه غرضٌ مُهِمٌّ مع كونهما على السوية كيف لا وعلمُه تعالَى بمعلوماتهِ ليسَ بطريقِ حصولِ الصورةِ بل وجودُ كلِّ شيءٍ في نفسِه عِلْمٌ بالنِّسبةِ إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلفُ الحالُ بين الأشياءِ البارزةِ والكامنةِ وأما قوله تعالى وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فحيث كان وارداً بصدد الخطابِ مع الملائكة عليهم السلام المنزهِ مقامُهم عن اقتضاء التأكيدِ والمبالغةِ في الإخبار بإحاطة علمِه تعالى بالظاهر والباطن لم يُسلَكْ فيه ذلك المسلكُ مع أنه وقع الغُنيةُ عنه بمَا قَبْلَهُ منْ قولِه عز وجل إِنِي أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرضِ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ باعتبار أن مرتبةَ السرِّ متقدمةٌ على مرتبة العلنِ إذْ مَا من شيءٍ يُعلَنُ إلا وهُو أو مباديهِ قبل ذلك مضمر في القلب فتعلق علمِه سبحانه بحالتِهِ الأُولى متقدمٌ على تعلقه بحالته الثانية {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليلٌ لما سبق وتقريرٌ له واقع موقعَ الكبرى من القياس وفي صيغةِ الفعيلِ وتحليةِ الصدورِ بلام الاستغراقِ والتعبيرِ عن الضمائر بعنوان صاحبيتها منَ البراعةِ ما لا يصفه الواصفون كأنَّهُ قيلَ إنه مبالغٌ في الإحاطةِ بمضمراتِ جميعِ الناسِ وأسرارِهم الخفيةِ المستكنّةِ في صدورِهِمْ بحيثُ لا تفارقها أصلا فكيف يخفى عليه مَا يُسرّون وَمَا يُعْلِنُونَ ويجوزُ أنْ يُراد بذاتِ الصدورِ القلوبُ من قولِه تعالى ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور والمعنى أنه عليمٌ بالقلوبِ وأحوالِها فلا يَخْفَى عليهِ سرٌّ من أسرارها

6

{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الارض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} غذاؤُها اللائقُ بها من حيث الخلقُ ومن حيث الإيصالُ إليها بطريق طبيعيَ أو إراديَ لتكفّله إياه تفضلاً ورحمةً وإنما جيء به على طريق الوجوبِ اعتباراً لسبق الوعدِ وتحقيقاً لوصوله إليها البتة وحملاً للمكلّفين على الثقة به تعالى والإعراضِ عن إتعاب النفس في طلبه {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} محلَّ قرارِها في الأصلاب {وَمُسْتَوْدَعَهَا} موضعَها في الأرحام وما يجري مجراها من البيض ونحوِها وإنما خُصَّ كلٌّ من الاسمين بما خُصَّ به من المحلَّين لأن النطفةَ بالنسبة إلى الأصلاب في حيزها الطبيعيِّ ومنشئِها الخلقيِّ وأما بالنسبة إلى الأرحام وما يجري مجراها فهي مُودعةٌ فيها إلى وقت معين أو مسكنَها من الأرض حين وُجدت بالفعل ومُودَعها من الموادّ والمقارِّ حين كانت بعدُ بالقوة ولعل تقديم محلها

سورة هود (7) باعتبار حالتِها الأخيرةِ لرعاية المناسبةِ بينها وبين عنوانِ كونِها دابةً في الأرض والمعنى وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إلا يرزُقها الله تعالى حيث كانت من أماكنها يسوقُه إليها ويعلم موادها المتخالفة المندرجة في مراتب الاستعداداتِ المتفاوتةِ المتطورةِ في الأطوارِ المتباينة ومقارَّها المتنوعةَ ويُفيض عليها في كل مرتبةٍ ما يليق بها من مبادي وجودِها وكمالاتِها المتفرِّعةِ عليه وقد فُسر المستودَعُ بأماكنها في الممات ولا يلائمه مقامُ التكفّل بأرزاقها {كُلٌّ} من الدواب ورزقِها ومستقرِّها ومستودعِها {فِى كتاب مُّبِينٍ} أيْ مُثْبتٍ في اللوح المحفوظِ البيِّن لمن ينظر فيه من الملائكةِ عليهمِ السَّلامُ أو المُظهِرِ لما أُثبت فيه للناظرين ولمّا انتهى الأمرُ إلى أنه سبحانه محيطٌ بجميع أحوالِ ما فى الأرض من المخلوقات التي لا تكاد تُحصى من مبدأ فطرتِها إلى منتهاها اقتضى الحالُ التعرّضَ لمبدأ خلقِ السمواتِ والأرضَ والحكمةِ الداعية إلى ذلك فقيل

7

{وهو الذي خلق السماوات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ} السمواتِ في يومين والأرضَ في يومين وما عليها من أنواع الحيواناتِ والنباتِ وغيرِ ذلك في يومين حسبما فعل في سورةِ حم السجدةُ ولم يُذكر خلقُ ما في الأرض لكونه من تتمات خلقِها وهو السرُّ في جعل الزمان خلقِه تتمةً لزمان خلقِها في قولِه تعالى فِى أربعة أيام في تتمة أربعةِ أيام والمرادُ بالأيام الأوقاتُ كما في قوله تعالى ومن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ أي في ستة أوقاتٍ أو مقدار ستة أيام فإن اليومَ في المتعارَف زمانُ كون الشمس فوق الأرض ولا يُتصوَّر ذلك حين لا لأرض ولا سماء وفي خلقها مدرجا مع القدرة التامة على خلقها دفعةً دليلٌ على أنه قادرٌ مختارٌ وحث على التأني في الأمور وأما تخصيصُ ذلك بالعدد المعيَّنِ فأمرٌ استأثر بعلم ما يقتضيه علم الغيوب جلت حِكمتُه وإيثارُ صيغةِ الجمعِ في السموات لما هو المشهورُ من الإشارة إلى كونها أجراماً مختلفةَ الطبائعِ ومتفاوتةَ الآثارِ والأحكام {وَكَانَ عَرْشُهُ} قبل خلقِهما {عَلَى الماء} ليس تحته شيءٌ غيرُه سواءٌ كان بينهما فرجة وكان موضوعاً على متنه كما ورد في الأثر فلا دلالةَ فيه على إمكان الخلاء كيف لا ولو دلّ لدلّ على وجوده لا على إمكانه فقط ولا على كون الماءِ أولَ ما حدث في العالم بعد العرش وإنما يدلّ على أن خلقَهما أقدمُ من خلقِ السمواتِ والأرضِ من غير تعرضٍ للنسبة بينهما {لِيَبْلُوَكُمْ} متعلقٌ بخلق أي خلق السمواتِ والأرض وما فيهما من المخلوقات التي من جملتها أنتم ورتب فيهما جميع ما تحتاجونَ إليهِ من مبادي وجودِكم وأسبابِ معايشِكم وأودع في تضاعيفهما من تعاجيب الصنائعِ والعبرِ ما تستدلون به على مطالبكم الدينيةِ ليعامِلَكم معاملةَ من يبتليكم {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فيجازيكم بالثواب والعقاب غِبّ ما تبيَّن المحسنُ من المسيء وامتازتْ درجاتُ أفرادِ كلَ من الفريقينِ حسبَ امتيازِ طبقاتِ علومِهم واعتقاداتِهم المترتبةِ على أنظارِهم فيما نُصب من الحُجج والدلائلِ والأَماراتِ والمخايلِ ومراتب أعمالِهم المتفرّعةِ على ذلك فإنَّ العملَ غيرُ مختصَ بعلم الجوارح ولذلك فسره صلى الله عليه وسلم بقولِه أيُكم

أحسنُ عقلاً وأورَعُ عن محارمِ الله وأسرعُ في طاعةِ الله فإنَّ لكلٍ من القلبِ والقالَب عملاً مخصوصاً به فكَما أنَّ الأولِ أشرفَ من الثاني فكذا الحالُ في عملِه كيفَ لاَ ولا عملَ بدونِ معرفةِ الله عزَّ وجلَّ الواجبةِ على العبادِ آثرَ ذي أثيرٍ وإنما طريقُها النظريُّ التفكرُ في بدائعِ صنائعِ الملِكِ الخلاقِ والتدبّرِ في آياتة البيناتِ المنصوبةِ في الأنفس والآفاق ولا طاعة بدون فهم ما في مطاوي الكتابِ الحكيم من الأوامر والنواهي وغيرِ ذلك ممَّا له مدخلٌ في الباب وقد رُويَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ لا تُفضِّلوني على يونسَ بنِ مَتَّى فإنَّهُ كانَ يُرفع لهُ كلَّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرضِ قالُوا وإنَّما كانَ ذلكَ التفكّرَ في أمرِ الله عزَّ وجلَّ الذي هُو عملُ القلبِ لأن أحداً لا يقدرُ على أن يعملَ في اليوم بجوارحه مثل علم أهلِ الأرضِ وتعليقُ فعلِ البَلْوَى أي تعقيبُه بحرفِ الاستفهامِ لا التعليقُ المشهورُ الذي يقتضِي عدمَ إيرادِ المفعولِ أصلاً مع اختصاصِهِ بأفعالِ القلوبِ لما فيهِ من مَعْنَى العلمِ باعتبارِ عاقبتِه كالنظرِ ونظائرِه ولذلك أُجرَي مَجْرَاه بطريقِ التمثيلِ أو الاستعارةِ التبعيةِ وإيرادُ صيغةِ التفضيلِ مع أن الابتلاء شاملٌ للفريقين باعتبار أعمالهِم المقسمة إلى الحسنِ والقبيحِ أيضاً لا إلى الحسنِ والأحسنِ فقطْ للإيذانِ بأنَّ المرادَ بالذات والمقصودَ الأصليَّ مما ذكر من إبداع تلك البدائعِ على ذلك النمطِ الرائعِ إنما هو ظهورُ كمالِ إحسانِ المحسنين وأن ذلك لكونه على أتم الوجوهِ اللائقةِ وأكملِ الأساليب الرائقةِ يوجب العملَ بموجبه بحيث لا يَحيدُ أحدٌ عن سَننه المستبينِ بل يهتدي كلُّ فردٍ إلى ما يُرشد إليه من مطلق الإيمانِ والطاعةِ وإنما التفاوتُ بينهم في مراتبهما بحسب القوةِ والضَّعفِ والكثرةِ والقلة وأما الإعراضُ عن ذلكَ والوقوعُ في مهاوي الضلالِ فبمعزلٍ من الاندراجِ تحتَ الوقوعِ فضلاً عن أن ينظم ظهورُه في سلك العلةِ الغائبة لذلك الصنعِ البديعِ وإنَّما هُو عملٌ يصدُر عن عاملِهِ بسوءِ اختيارِه من غيرِ مصحِّحٍ لهُ ولا تقريب ولا يَخْفى ما فيهِ من الترغيبِ في الترقِّي إلى معارجِ العلومِ ومدارجِ الطاعاتِ والزجرِ عن مباشرةِ نقائضِها والله تعالى أعلم {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت} على ما يوجبه قضيةُ الابتلاءِ ليترتبَ عليه الجزاءُ المتفرِّعُ على ظهور مراتبِ الأعمال {لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ} إن وُجِّه الخطابِ في قولِه تعالَى إِنَّكُمْ إلى جميع المكلفين فالموصول مع صلته للتخصيص أي ليقولَن الكافرون منهم وإن وجِّه إلى الكافرين منهم فهو واردٌ على طريقة الذم {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي مثلُه في الخديعة أو البطلان وهذا إشارةٌ إلى القول المذكورِ أو إلى القرآن فإن الإخبارَ عن كونهم مبعوثين وإن لم يجب كونُه بطريق الوحي المتلوِّ إلا أنهم عند سماعِهم ذلك تخلّصوا إلى القرآن لإنبائه عنه في كل موضعٍ وكونِه علَماً عندهم في ذلك فعمَدوا إلى تكذيبه وتسميتِه سحراً تمادياً منهم في العناد وتفادياً عن سَنن الرشاد وقيلَ هُو إشارةٌ إلى نفس البعثِ ولا يلائمه التسميةُ بالسحر فإنه إنما يُطلقُ على شيء موجودٍ ظاهراً لا أصلَ له في الحقيقة ونفسُ البعثِ عندهم معدومٌ بحتٌ وتعلقُ الآيةِ الكريمةِ بما قبلها أما من حيثُ إن البعثَ كما أشير إليه من تتمات الابتلاءِ المذكورِ فكأنه قيل الأمرُ كما ذكر ومع ذلك إن أخبرتهم بمقدمة فذّةٍ من مقدماته وقضيةٍ فردةٍ من تتماته لا يتلعثمون في الرد ويعدّون ذلك من قبيلِ ما لا صِحةَ له أصلاً فضلاً عن تصديق ما هذه من تتماته وإمَّا منْ حيثُ إنَّ البعثَ خلقٌ جديد فكأنه قيل وهو الذي خلق جميعَ المخلوقاتِ ابتداءً لهذه الحكمة البالغةِ ومع ذلك إن أخبرتهم بأنه يعيدهم تارة أخرى وهو

سورة هود (89) أهونُ عليه يقولون ما يقولُون فسبحان الله عما يصفون وقرأ حمزةُ والكسائيُّ إلا ساحرٌ على أنَّ الإشارةَ إلى القاتل أو إلى القرآن على اسلوب شعر شاعر وقرئ بالفتح على تضمين قلتَ معنى ذكرتَ أو على أن أنك بمعنى عنك في علّك أي ولئن قلتَ لعلكم مبعوثون على أن الرجاءَ والتوقعَ باعتبار حالِ المخاطبين أي توقّعوا ذلك ولا تبُتّوا القولَ بإنكاره أو على أنه مجاراةٌ معهم في الكلام على نهج المساعدةِ لئلا يسارعوا إلى اللَّجاج والعِنادِ ريثما قَرعَ أسماعَهم بتُّ القولِ بخلاف ما ألِفوا وألفَوْا عليه آباءَهم من إنكار البعثِ ويكون ذلك أدعى لهم إلى التأمل والتدبّر وما فعلوه قاتلهم الله أنَّي يُؤفكون

8

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب} المترتِّبَ على بعثهم أو العذابَ الموعودِ في قولِهِ تعالَى فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ وقيل عذابُ يومِ بدرٍ وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما أنه قتلُ جبريلَ عليه السلام للمستهزِئين والظاهرُ أن المرادَ به العذابُ الشاملُ للكفرة دون ما يُخَصّ ببعض منهم على أنَّه لم يكنْ موعوداً يستعجل منه المجرمون {إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} إلى طائفة من الأيام قليلةٍ لأن ما يحصُره العدُّ قليلٌ {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} أي أيُّ شيءٍ يمنعه من المجيء فكأنه يريده فيمنعه مانعٌ وإنما كانوا يقولونه بطريق الاستعجالِ استهزاءً لقوله تعالى مَّا كَانُوا بِهِ يستهزئون ومرادُهم إنكارُ المجيءِ والحبْسِ رأَساً لا الاعترافُ به والاستفسارُ عن حابسه {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} ذلك {لَيْسَ مَصْرُوفاً} محبوساً {عَنْهُمْ} عَلى مَعْنَى أنهُ لا يرفعه رافعٌ أبداً إن أريد به عذابُ الآخرة أو لا يدفعه عنكم دافعٌ بل هو واقعٌ بكم إن أريد به عذابُ الدنيا ويومَ منصوبٌ بخبر ليس مقدماً عليه واستدل به البصريون على جواز تقديمِه على ليس إذ المعمولُ تابعٌ للعامل فلا يقع إلا حيث يقعُ متبوعُه ورُدَّ بأن الظرفَ يجوز فيه ما لا يجوز في غيره توسّعاً وبأنه قد يُقدّم المعمولُ حيث لا مجالَ لتقدم العامل كما في قوله تعالى فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ فإن اليتيمَ والسائلَ مع كونهما منصوبين بالفعلين المجزومين قد تقدما على لا الناهيةِ مع امتناع تقدم الفعلين عليها قال أبو حيان وقد تتبعتُ جملةً من دواوين العربِ فلم أظفَرْ بتقديم خبرِ ليس عليها ولا بتقديمِ معمولِه إلا ما دل عليه ظاهرُ هذه الآيةِ الكريمةِ وقولُ الشاعر ... فيأبى فما يزدادُ إلا لجاجة ... وكنتُ أبياً في الخنا لست أُقدِمُ ... {وَحَاقَ بِهِم} أي أحاط بِهِم {مَّا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون} أي العذابُ الذي كانوا يستعجلون به استهزاءً وفي التعبير عنه بالموصول تهويلٌ لمكانه وإشعارٌ بعليّة ما ورد في حيِّزِ الصلةِ من استهزائهم به لنزوله وإحاطتِه والتعبيرُ عنها بالماضي واردٌ على عادة الله تعالى في أخباره لأنها في تحققها وتيقُّنها بمنزلة الكائنةِ الموجودةِ وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر وتقرير وقوع المُخْبَرِ به ما لا يَخْفى

9

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} أي أعطيناه نعمةً من صحة وأمْنٍ وجِدَةٍ وغيرها وأوصلناها إليه بحيث يجد لذّتها {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا منه} أى

سورة هود (10) (11) سلبناه وإياها وإيرادُ النزعِ للإشعار بشدة تعلُّقِه بها وحِرْصِه عليها {إنه ليؤوس} شديدُ القنوطِ من رَوْح الله قَطوعٌ رجاءَه من عَود أمثالِها عاجلاً أو آجلاً بفضل الله تعالى لقلة صبرِه وعدمِ توكلِه عليه وثقته به {كَفُورٌ} عظيمُ الكُفرانِ لِما سلف من النعم وفيه إشارةٌ إلى أن النزْعَ إنما كان بسبب كفرانِهم بما كانوا يتقلّبون فيه من نعم الله عز وجل وتأخيره عن وصف يأسِهم مع تقدمه عليه لرعاية الفواصلِ على أن اليأسَ من فضل الله سبحانه وقطع الرجاء عن إضافة أمثالِه في العاجل وإيصالِ أجرِه في الآجل من باب الكُفران للنعمة السالفة أيضاً

10

{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ} كصِحّة بعد سَقَم وجِدَةٍ بعد عدمٍ وفرجٍ بعد شدة وفي التعبير عن ملابسة الرحمةِ والنعماءِ بالذوق المُؤْذِنِ بلذتهما وكونِهما مما يُرْغب فيه وعن ملابسة الضراءِ بالمسِّ المُشْعِرِ بكونها في أدنى ما ينطلق عليه اسمُ الملاقاة من مراتبها وإسنادُ الأول إلى الله عزَّ وجلَّ دون الثاني ما لا يَخفْى من الجزالة والدِلالةِ على أن مرادَه تعالى إنما هو إيصالُ الخير المرغوبِ فيه على أحسنِ ما يكون وأنه إنما يريد بعباده اليُسرَ دون العسرِ وإنما ينالهم ذلك بسوء اختيارِهم نيلاً يسيراً كأنما يلاصقُ البشرَةَ من غير تأثيرٍ وأما نزعُ الرحمةِ فإنما صدَر عنه بقضية الحِكمةِ الداعيةِ إلى ذلك وهي كفرانُهم بها كما سبق وتنكيرُ الرحمة بإعتبار لحقوق النزْعِ بها {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عَنّي} أي المصائبُ التي تسوؤني ولن يعترِيَني بعدُ أمثالُها كما هو شأنُ أولئك الأشرارِ فإن الترقّبَ لورود أمثالِها مما يكدّر السرورَ وينغّص العيش {إِنَّهُ لَفَرِحٌ} بطِرٌ وأشِرٌ بالنعم مغترٌّ بها {فَخُورٌ} على الناس بما أوتيَ من النعم مشغولٌ بذلك عن القيام بحقها واللامُ في لئن في الآيات الأربعِ موطّئةٌ للقسم وجوابُه سادٌّ مسدَّ جوابِ الشرط

11

{إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} على ما أصابهُم من الضراء سابقاً أو لاحقاً إيماناً بالله واستسلاماً لقضائه {وَعَمِلُواْ الصالحات} شكراً على آلائه السالفة والآنفة والام في الإنسان إما لاستغراق الجنسِ فالاستثناءُ متصلٌ أو للعهد فمُنقطعٌ {أولئك} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيزِ الصلةِ وما فيهِ من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وبُعدِ منزلَتهِم في الفضلِ أي أولئك الموصوفون بتلك الصفاتِ الحميدة {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} عظيمةٌ لذنوبِهِم وإن جمّت {وَأَجْرٌ} ثوابٌ لأعمالهم الحسنة {كَبِيرٌ} ووجهُ تعلّقِ الآياتِ الثلاثِ بما قبلهن من حيث إن إذاقةَ النَّعماءِ ومِساسَ الضّراءِ فصلٌ من باب الابتلاءِ واقعٌ موقعَ التفصيلِ من الإجمال الواقعِ في قولُه تعالَى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً والمعنى أنَّ كلاًّ من إذاقة النَّعماءِ ونزعِها مع كونه ابتلاءً للإنسان أيشكُر أم يكفُر لا يهتدي إلى حسن الصواب بل يحَيد في كلتا الحالتين عنه إلى مهاوي الضلالِ فلا يَظهرُ منه حسنُ عملٍ إلا من الصابرين الصالحين أو من حيث إن إنكارَهم بالبعث واستهزائهم بالعذاب بسبب بطرِهم وفخرِهم كأنه قيل إنما فعلُوا ما فعلُوا لأن طبيعةَ الإنسانِ مجبولةٌ على ذلك

سورة هود (12) (13)

12

{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} مِن البينات الدالة على حقيقة نبوَّتِك المناديةِ بكونها من عندِ الله عزَّ وجل لمن له أُذنٌ واعية {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} أي عارضٌ لك ضِيقُ صَدرٍ بتلاوته عليهم وتبليغِه إليهم في أثناء الدعوةِ والمُحاجّة {أَن يَقُولُواْ} لأن يقولوا تعامِياً عن تلك البراهينِ التي لا تكاد تخفى صحّتُها على أحدٍ ممَّن له أدنى بصيرةٍ وتمادياً في العِناد على وجه الاقتراح {لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} مالٌ خطيرٌ مخزونٌ يدل على صدقه {أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} يصدّقه قيل قاله عبدُ اللَّه بنُ أميةَ المخزوميُّ ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ رؤساءَ مكةَ قالوا يا محمد اجعل لنا جبالَ مكةَ ذهباً إن كنت رسولاً وقال آخرون ائتِنا بالملائكة يشهدوا بنبوتك فقال لا أقدِر على ذلك فنزلت كأنه صلى الله عليه وسلم لما عاين اجتراءَهم على اقتراح مثلِ هذه العظائمِ غيرَ قانعين بالبينات الباهرةِ التي كانت تضطرهم إلى القَبول لو كانوا من أرباب العقولِ وشاهدَ ركوبَهم من المكابرة مَتنَ كلِّ صَعْبٍ وذَلولٍ مسارعين إلى المقابلة بالتكذيب والاستهزاءِ وتسميتِها سحرا مثل حاله صلى الله عليه وسلم بحال من يتوقع منه أن يضيقَ صدرُه بتلاوة تلك الآيات الساطعةِ عليهم وتبليغِها إليهم فحُمل على الحذر منه بما في لعل من الإشفاق فقيل {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} ليس عليك إلا الإنذارُ بما أوحي إليك غيرَ مبالٍ بما صدرَ عنْهم منَ الرد والقَبولِ {والله على كُلّ شَيْء وَكِيلٌ} يحفَظ أحوالَك وأحوالَهم فتوكلْ عليه في جميع أمورِك فإنه فاعلٌ بهم ما يليق بحالهم والاقتصار على النذير في أقصى غايةٍ من إصابة المَحزّ

13

{أَمْ يَقُولُونَ افتراه} إضرابٌ بأم المنقطة عن ذكر تركِ اعتدادِهم بما يوحى وتهاونِهم به وعدمِ اقتناعِهم بما فيه من المعجزاتِ الظاهرةِ الدالةِ على كونه من عندِ الله عزَّ وجل وعلى حقية نبوته صلى الله عليه وسلم وشروعٌ في ذكر ارتكابِهم لما هو أشدُّ منه وأعظمُ وما فيها من معنى الهمزةِ للتوبيخ والإنكارِ والتعجيب والضميرُ المستكنُّ في افتراه للنبي صلى الله عليه وسلم والبارزُ لما يوحى أي بل أيقولون افتراه وليس من عند الله {قُلْ} إنْ كانَ الأمرُ كَما تقولون {فَاتُواْ} أنتم أيضاً {بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ} في البلاغة وحُسنِ النظمِ وهو نعتٌ لسُوَر أي أمثالِه وتوحيدُه إما باعتبار مماثلةِ كل واحد منها أو لأن المطابقةَ ليست بشرط حتى يوصَفُ المثنى بالمفرد كما في قوله تعالى أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مثلنا أو للإماء إلى أن وجهَ الشبهِ ومدارَ المماثلةِ في الجميع شيءٌ واحدٌ هو البلاغةُ المؤديةُ إلى مرتبة الإعجازِ فكأن الجميعَ واحدٌ {مُفْتَرَيَاتٍ} صفةٌ أخرى لسُور أُخِّرت عن وصفها بالمماثلة لما يوحى لأنها الصفةُ المقصودةُ بالتكليف إذ بها يظهر عجزُهم وقعودُهم عن المعارضة وأما وصفُ الافتراء فلا يتعلق به غرضٌ يدور عليه شيءٌ في مقام التحدِّي وإنما ذُكر على نهج المساهلةِ وإرخاءِ العِنانِ ولأنه

سورة هود (14) لو عُكس الترتيبُ لربما تُوُهّم أن المرادَ هو المماثلةُ في الافتراء والمعنى فأتوا بعشر سورٍ مماثلةٍ له في البلاغة مختلقات من عند أنفسِكم إن صح أن اختلقتُه من عندي فإنكم أقدرُ على ذلك مني لأنكم عرَبٌ فصحاءُ بلغاءُ قد مارستم مبادى ذلك من الخُطَب والأشعارِ وحفِظتم الوقائعَ والأيامَ وزاولتم أساليبَ النظْمِ والنثر {وادعوا} للاستظهار في المعارضة {مَنِ استطعتم} دعاءَه والاستعانةَ به من آلهتكم التي تزعُمون أنها مُمِدّةٌ لكم في كل ما تأتون وما تذرون والكهنةِ ومَدارِهِكم الذين تلجئون إلى آرائهم في المُلمّات ليُسعدوكم فيها {مِن دُونِ الله} متعلق بادعوا أي متجاوزينَ الله تعالى {إِن كُنتُمْ صادقين} في أني افتريتُه فإن ذلك يستلزِمُ إمكانَ الإتيانِ بمثله وهو أيضا يستلزم قدرتَكم عليه والجوابُ محذوفٌ يدل عليه المذكور

14

{فإن لم يستجيبوا لكم} أي فإنْ لم يفعلُوا ما كُلِّفوه من الإتيان بمثله كقولِه تعالى فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وإنَّما عُبِّر عنه بالاستجابة إيماء إلى أنه صلى الله عليه وسلم على كمالِ أمنٍ من أمره كأن أمرَه لهم بالإتيان بمثله دعاءٌ لهم إلى أمرٍ يريد وقوعَه والضميرُ في لكم للرسول صلى الله عليه وسلم والجمعُ للتعظيم كما في قول من قال ... وإن شئتِ حرمتُ النساءَ سواكمُ ... أوله وللمؤمنين لأنهم أتباعٌ له صلى الله عليه وسلم في الأمر بالتحدّي وفيه تنبيهٌ لطيفٌ على أن حقهم ان لا ينفكوا عنه صلى الله عليه وسلم ويناصِبوا معه لمعارضة المعارِضين كما كان يفعلونه في الجهاد وإرشادٌ إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخَ في الإيمان والطُمأنينةَ في الإيقان ولذلك رُتِّب عليه قولُه عز وجل فاعلموا أي اعلموا حين ظهر لكم عجزُهم عن المعرضة مع تهالُكهم عليها علماً يقيناً متاخِماً لعين اليقينِ بحيث لا مجالَ معه لشائبة ريبٍ بوجه من الوجوه كأن ما عداه من مراتب العلمِ ليس بعلم لكن لا للإشعار بانحطاطِ تلك المراتبِ بل بارتفاع هذه المرتبةِ وبه يتضح سرا يراد كلمةِ الشكِّ مع القطعِ بعدم الاستجابةِ فإن تنزيلَ سائرِ المراتبِ منزلةَ العدمِ مستتبِعٌ لتنزيل الجزْمِ بعدم الاستجابةِ منزلةَ الشكِّ فيه أو اثبُتوا واستمِرّوا على ما كنتم عليه من العلم {إِنَّمَا أُنزِلَ} ملتبساً {بِعِلْمِ الله} المخصوصِ به بحيث لا تحوم حوله العقولُ والأفهامُ مستبداً بخصائصِ الإعجازِ من جهتي النظمِ الرائقِ والإخبار بالغيب {وَأَن لا إله إلا هو} أي واعلموا أيضا أن لا شريكٍ له في الألوهية وأحكامِها ولا يقدِر على ما يقدرُ عليه أحدٌ {فَهَلْ أَنتُمْ مُسْلِمُونَ} أي مخلِصون في الإسلام أو ثابتون عليه وهذا من باب التثبيتِ والترقيةِ إلى معارج اليقينِ ويجوزُ أن يكونَ الخطابُ في الكل للمشركين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم داخلاً تحت الأمر بالتحدّي والضميرُ في لم يستجيبوا لمن استطعتم أي فإن لم يستجبْ لكم آلهتُكم وسائرُ مَنْ إليهم تجأرون في مُهمّاتكم ومُلماتكم إلى المعاونة والمظاهَرَةِ فاعلموا أن ذلك خارجٌ عن دائرة قُدْرةِ البشر وأنه مُنزّلٌ من خالق القُوى والقدر فإيرادُ كلمةِ الشكِّ حينئذ مع الجزم بعدمِ الاستجابة من جهة آلهتكم تهكّمٌ بهم وتسجيلٌ عليهم بكمال سخافةِ العقلِ وترتيبُ الأمرِ بالعلم على مجرد عدمِ الاستجابة من حيث إنه مسبوقٌ بالدعاء المسبوقِ بعجزهم واضطرارِهم فكأنه قيل فإن لم يستجيبوا لكم عند التجائِكم إليهم بعد ما اضطُررتم إلى ذلك وضاقت عليكم الحيلُ وعيَّتْ بكم العللُ أو من حيث إن مَنْ يستمدّون بهم أقوى منهم في اعتقادهم فإذا ظهر عجزُهم بعدم استجابتِهم وإن كان ذلك قبل ظهور

سورة هود (15) (16) عجزِ أنفِسهم يكون عجزُهم أظهرَ وأوضحَ واعلموا أيضاً أن آلهتَكم بمعزل عن رتبة الشِرْكة في الألوهية وأحكامِها فهل أنتم داخلون في الإسلام إذْ لم يبْقَ بعدُ شائبةُ شبهةٍ في حقِّيته وفي بُطلان ما كنتم فيه من الشرك فيدخُلُ فيه الإذعانُ لكون القرآنِ مِنْ عِندِ الله تعالى دخولاً أولياً أو منقادون للحق الذي هو كونُ القرآنِ مِنْ عِندِ الله تعالى وتاركون لما كنتم فيه من المكابرة والعِناد وفي هذا الاستفهامِ إيجابٌ بليغٌ لما فيه من معنى الطلب والتنبيهِ على قيام الموجبِ وزوالِ العذر وإقناطٌ من أن يجيرهم آلهتُهم من بأس الله عز سلطانُه هذا والأول أنسبُ لما سلف من قوله تعالى وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ولما سيأتي من قوله تعالى فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ وأشدُّ ارتباطاً بما يعقُبه كما ستحيطُ به خُبراً

15

{من كان يريد الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} أي ما يزيِّنها ويحسِّنها من الصحة والأمنِ والسعةِ في الرزق وكثرةِ الأولادِ والرياسةِ وغيرِ ذلك والمرادُ بالإرادة ما يحصُل عند مباشرةِ الأعمالِ لا مجرد الإدارة القلبية لقوله تعالى {نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} وإدخالُ كان عليه للدِلالة على استمرارها منهم بحيث لا يكادون يريدون الآخِرةَ أصلاً وليس المرادُ بأعمالهم أعمالَ كلِّهم فإنه لا يجد كلُّ متمنَ ما يتمناه ولا كلُّ أحدٍ ينال كلَّ ما يهواه فإن ذلك منوطٌ بالمشيئة الجاريةِ على قضية الحِكمة كما نطق به قوله تعالى مَن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ولا كلَّ أعمالِهم بل بعضَها الذي يترتب عليه الأمورُ المذكورةُ بطريق الأجرِ والجزاءِ من أعمال البرِّ وقد أُطلقت وأريد بها ثمراتُها فالمعنى نوصِلُ إليهم ثمراتِ أعمالِهم في الحياة الدنيا كاملةً وقرىء يُوفِّ على الإسناد إلى الله عزَّ وجلَّ وتُوَفَّ بالفوقانية على البناءِ للمفعولِ ورفعِ أعمالَهم وقرىء نُوْفي بالتخفيف والرفع لكون الشرط ماضياً كقوله ... وَإِنْ أَتَاهُ خليلٌ يومَ مسغَبة ... يقول لا غائب ما لي ولا حرِمُ ... {وَهُمْ فِيهَا} أي في الحياة الدنيا {لاَ يُبْخَسُونَ} أي لا يُنقَصون وإنما عبر عن ذلك بالبخْس الذي هو نقصُ الحقِّ مع أنه ليس لهم شائبةُ حقَ فيما أوتوه كما عبّر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاءُ الحقوقِ مع أن أعمالهم بمعزل عن كونها مستوجبةً لذلك بناءً للأمر على ظاهر الحالِ ومحافظةً على صور الأعمالِ ومبالغةً في نفي النقص كأن ذلك نقصٌ لحقوقهم فلا يدخُل تحت الوقوعِ والصدورِ عن الكريم أصلاً والمعنى أنهم فيها خاصةً لا يُنقصون ثمراتِ أعمالِهم وأجورَها نقصاً كلياً مطرداً ولا يُحرَمونها حِرماناً كلياً وما في الآخرة فهم في الحِرمان المطلقِ واليأسِ المحقق كما ينطق به قوله تعالى

16

{أولئك} الخ فإنه إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار إرادتِهم الحياةَ الدنيا أو باعتبار توْفيتِهم أجورَهم من غير بخسٍ أو باعتبارهما معاً وما فيه من معنى البعد للإيذانِ ببُعد منزلتِهم في سوء الحال لأي أولئك المُريدون للحياة الدنيا وزينتِها المُوَفَّوْن فيها ثمراتِ أعمالهم من غير بخس {الذين لَيْسَ لَهُمْ فِى الاخرة إِلاَّ النار} لأن هِممَهم كانت مصروفةً إلى الدنيا وأعمالَهم مقصورةً على تحصيلها وقد

سورة هود (17) اجتنبوا ثمرتَها ولم يكونوا يريدون بها شيئاً آخرَ فلا جرمَ لم يكن لهم فى الاخرة إلا النار وعذابُها المخلّد {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} أي ظهر في الآخرة حُبوطُ ما صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدِّي إلى الثواب لو كانت معمولةً للآخرة أو حبط ما صنعوه في الدُّنيا من أعمال البِرِّ إذ شرْطُ الاعتدادِ بها الإخلاصُ {وباطل} أي في نفسه {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في أثناء تحصيلِ المطالبِ الدنيويةِ ولأجل أن الأولَ من شأنه استتباعُ الثوابِ والأجرِ وأن عدمَه لعدم مقارنتِه للإيمان والنيةِ الصحيحةِ وأن الثانيَ ليس له جهةٌ صالحة قطُّ عُلّق بالأول الحُبوطُ المؤذِنُ بسقوط أجرِه بصيغة الفِعل المنبىءِ عن الحدوث وبالثاني البُطلانُ المُفصِحُ عن كونه بحيث لا طائلَ تحته أصلاً بالاسمية الدالةِ على كون ذلك وصفاً لازماً له ثابتاً فيه وفي زيادة كان في الثاني دون الأول إيماءٌ إلى أن صدور أعمال البرِّ منهم وإن كان لغرض فاسدٍ ليس في الاستمرار والدوامِ كصدور الأعمالِ التي هي من مقدِّمات مطالبِهم الدنية وقُرىء وبطَل على الفعل أي ظهر بطلانُه حيث علم هناك أن ذلك وما يستتبعه من الحظوظ الدنيويةِ مما لا طائلَ تحته أو انقطع أثرُه الدنيويُّ فبطَل مطلقاً وقرىء وباطلاً ما كانوا يعملون على أن ما إبهاميةٌ أو في معنى المصدر كقوله ولا خارجاً مِنْ فِيَّ زورُ كلامِ وعن أنسٌ رضيَ الله عنه أنَّ المرادُ بقولِه تعالَى مِنْ كَانَ يُرِيدُ الخ اليهودُ والنصارى إن أعطَوا سائلاً أو وصَلوا رحِماً عُجّل لهم جزاءُ ذلك بتوسعة في الرزق وصِحةٍ في البدن وقيل هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسْهم لهم في الغنائم وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ إنما كان بعد الهجرةِ والسورةُ مكيةٌ وقيل هم أهلُ الرياءِ يقال للقرّاء منهم أردتَ أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك وهكذا لغيره ممن يعمل أعمالَ البِرِّ لا لوجه الله تعالى فعلى هذا لا بد من تقييد قوله تعالى لَهُمْ إِلاَّ النار بأنْ ليس لهم بسبب أعمالِهم الريائيةِ إلا ذلك والذي تقتضيهِ جزالةُ النظمِ الكريمِ أن المرادَ به مطلقُ الكفَرة بحيث يندرِجُ فيهم القادحون في القرآن العظيمِ اندراجاً أولياً فإنه عز وعلا لما أمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن يزدادوا علماً ويقيناً بأن القرآنَ منزلٌ بعلم الله وبأن لا قُدرةَ لغيره على شيء أصلاً وهيّجهم على الثبات على الإسلام والرسوخِ فيه عند ظهورِ عجزِ الكفرةِ وما يدْعون من دون الله عن المعارضة وتبيّن أنهم ليسوا على شيء أصلاً اقتضى الحالُ أن يتعرض لبض شئونهم الموهمةِ لكونهم على شيء في الجملة من نيلهم الحظوظَ العاجلةَ واستيلائهم على المطالب الدنيويةِ وبيانِ أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه ولقد بُيِّن ذلك أيَّ بيانٍ ثم أعيد الترغيبُ فيما ذكر من الإيمان بالقرآن والتوحيدِ والإسلام فقيل

17

{أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} أي برهانٍ نيِّرٍ عظيمِ الشأنِ يدل على حقية ما رَغّب في الثبات عليه من الإسلام وهو القرآنُ وباعتباره أو بتأويل البرهانِ ذُكر الضميرُ الراجعُ إليها في قوله تعالى {وَيَتْلُوهُ} أي يتبعه {شَاهِدٌ} يشهد بكونه من عند الله تعالى وهو الإعجاز في

سورة هود (7 ا) نظمه المطّردِ في كل مقدارِ سورةٍ منه أو ما وقع في بعض آياتِه من الإخبار بالغيب وكلاهما وصفٌ تابعٌ له شاهدٌ بكونه من عندِ الله عزَّ وجل غيرَ أنه على التقدير الأولِ يكون في الكلامِ إشارةٌ إلى حال رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في تمسّكهم بالقرآن عند تبيُّنِ كونِه منزلاً بعلم الله بشهادة الإعجاز مِنْهُ أي من القرآن غيرَ خارجٍ عنه أو من جهة الله تعالى فإن كلاًّ منهما واردٌ من جهته تعالى للشهادة ويجوز على هذا التقديرِ أن يراد بالشاهد المعجزاتُ الظاهرةُ على يدَيْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك أيضاً من الشواهد التابعةِ للقرآن الواردةِ من جهته تعالى فالمرادُ بَمنْ في قوله تعالى أَفَمَنِ كلُّ من اتصف بهذه الصفةِ الحميدةِ فيدخُل فيه المخاطَبون بقوله تعالى فاعلموا فَهَلْ أَنتُمْ دخولاً أولياً وقيل هو النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقيل مؤمنو أهلِ الكتابِ كعبدِ اللَّهِ بن سلام وأضرابِه وقيل المرادُ بالبينة دليلُ العقلِ وبالشاهد القرآنُ فالضمير في منه لله تعالى أو البينةُ القرآنُ ويتلوه من التلاوة والشاهدُ جبريلُ أو لسانُ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم على أن الضميرَ له أو من التُّلُوّ والشاهدُ مَلَكٌ يحفظ والأَوْلى هو الأولُ ولما كان المرادُ بتلوّ الشاهدِ للبرهان إقامةَ الشهادة بصحته وكونِه من عند الله تابعاً له بحيث لا يفارقه في مشهد من المشاهد فإن القرآنَ بيِّنةٌ باقيةٌ على وجه الدهرِ مع شاهدها الذي يشهد بأمرها إلى يوم القيامةِ عند كلِّ مؤمنٍ وجاحدٍ عُطف كتابُ موسى في قوله عز قائلاً {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} على فاعله مع كونه مقدَّماً عليه في النزول فكأنه قيل أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ من ربه ويشَهد به شاهدٌ منه وشاهدٌ آخرُ مِنْ قبله هو كتابُ موسى وإنما قُدّم في الذكر المؤخَّرِ في النزول لكونه وصفاً لازماً له غيرَ مفارِقٍ عنه ولعراقته في وصف التلوِّ والتنكيرُ في بينة وشاهد للتفخيم {إِمَاماً} أي مؤتماً به في الدين ومقتدىً وفي التعرض لهذا الوصفِ بصدد بيانِ تلوِّ الكتابِ ما لا يَخفْى من تفخيم شأنِ المَتْلوِّ {وَرَحْمَةً} أي نعمةً عظيمة على من أُنزل إليهم ومَنْ بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار أحكامِه الباقيةِ المؤيَّدةِ بالقرآن العظيمِ وهما حالان من الكتاب {أولئك} الموصوفون بتلك الصف الحميدةِ وهو الكونُ على بينة من الله ولِما أن ذلك عبارةٌ عن مطلق التمسكِ بها وقد يكون ذلك بطريق التقليدِ لمن سلف من عظماء الدين من غير عُثورٍ على دقائق الحقائقِ وصفهم بأنهم {يؤمنون} أي يصدقونه حقَّ التصديقِ حسبما تشهد به الشواهدُ الحقّة المعربةُ عن حقيته {وَمن يَكْفُرْ بِهِ} أي بالقرآن ولم يصدِّق بتلك الشواهد الحقَّةِ {مّن الاحزاب} من أهل مكةَ ومن تحزّب معهم على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم {فالنار مَوْعِدُهُ} يردّها لا محالة حسبما نطَق به قوله تعالى ليس لهم فى الاخرة إلا النار وفي جعلها موعداً إشعارٌ بأن له فيها ما لا يوصف من أفانين العذابِ {فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ} أي في شك من أمر القرآنِ وكونِه من عندِ الله عزَّ وجل غبما شهِدت به الشواهدُ المذكورةُ وظهر فضلُ من تمسك بِهِ {أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ} الذي يربِّيك في دينك ودنياك {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} بذلك إما لقصور أنظارِهم واختلالِ أفكارِهم وإما لعنادهم واستكبارِهم فمن في قوله تعالى أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ مبتدأٌ حُذف خبرُه لإغناء الحالِ عن ذكره وتقديرُه أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ من ربه كأولئك الذين ذُكرت أعمالَهم وبُيِّن مصيرُهم ومآلُهم يعني أن بينهما تفاوتا عظيماً بحيث لا يكاد يتراءى ناراهما وإيرادُ الفاءِ بعد الهمزةِ لإنكار ترتّبِ توهّم المماثلةِ على ما ذكر من صفاتهم وعُدّد من هَناتهم كأنه قيل أبعدَ ظهورِ حالِهم فِي الدنيا والآخرة كما وُصف يُتوهم المماثلةُ بينهم وبين مَنْ كان على أحسنِ ما يكون

سورة هود (18) (19) (20) في العاجل والآجل كما في قوله تعالى أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء أي أبعدَ أن علمتموه ربَّ السمواتِ والأرض اتخذتم من دونه أولياءَ وقولِه تعالى أمن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى

18

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} بأن نسَب إليه ما لا يليقُ به كقولهم للملائكة بناتُ الله تعالَى الله عن ذلكَ عُلواً كبيراً وقولهم لآلهتم هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله يعني أنهم مع كفرَهم بآياتِ الله تعالى مفترون عليه كذباً وهذا التركيُب وإن كان سبكُه على إنكار أن يكون أحد أظلمَ منهم من غيرِ تعرضٍ لإنكار المساواة ونفيها ولكنّ المقصودَ به قصداً مطرداً إنكارُ المساواةِ ونفيُها وإفادةُ أنهم أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ كما ينبىء عنه ما سيتلى من قولهِ عزَّ وجلَّ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الأخرة هُمُ الأخسرون فإذا قيل مَنْ أكرمُ من فلان أولا أفضلَ منه فالمرادُ منه حتماً أنه أكرمُ من كل كريم وأفضل من كل فاضل {أولئك} الموصوفون بالظلم البالغِ الذي هو الافتراءِ على الله تعالى وبهذه الإشارة حصَلت الغُنيةُ عن إسناد العَرضِ إلى أعمالهم واكتُفي بإسناده إليهم حيث قيل {يُعْرَضُونَ} لأن عرضَهم من تلك الحيثيةِ وبذلك العنوانِ عرضٌ لأعمالهم على وجهٍ أبلغَ فإن عرضَ العاملِ بعمله أفظعُ من عرض عملِه مع غَيْبته {على رَبّهِمْ} الحقِّ وفيه إيماءٌ إلى بطلان رأيِهم في اتخاذهم أربابا من دون الله عز وجل {وَيَقُولُ الاشهاد} عند العَرْض من الملائكة والنبيين أو من جوارحهم وهو جمعُ شاهد أو شهيد كأصحاب وأشراف {هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ} بالافتراء عليه كأن ذلك أمرٌ واضحٌ غنيٌ عن الشهادة بوقوعه وإنما المحتاجُ إلى الشهادة تعيينُ مَنْ صدر عنه ذلك فلذلك لا يقولون هؤلاء كذبوا على ربهم ويجوز أن يكون المرادُ بالأشهاد الحضّارَ وهم جميعُ أهلِ الموقفِ على ما قاله قتادة ومقاتل ويكون قولُهم هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ذماً لهم بذلك لإشهاده عليهم كما يُشعر بهِ قولُه تعالى وَيَقُولُ دون وَيُشْهِدُ الخ وتوطئةً لما يعقُبه منْ قولِه تعالى {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} بالافتراء المذكورِ ويجوز أن يكون هذا على الوجه الأولِ من كلام الله تعالى وفيه تهويلٌ عظيمٌ لما يحيق بهم من عاقبة ظلمِهم اللهم إنا نعوذ بك من الخزي على رؤوس الأشهاد

19

{الذين يَصُدُّونَ} أي كلَّ من يقدِرون على صدّه أو يفعلون الصدُ {عَن سَبِيلِ الله} عن دينه القويمِ {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} انحرافاً أي يصفونها بذلك وهي أبعدُ شيءٍ منه أو يبغون أهلَها أن ينحرفوا عنها يقال بغَيتك خيراً أو شراً أي طلبتُ لك وهذا شاملٌ لتكذيبهم بالقرآن وقولِهم إنه ليس من عند الله {وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون} أي يصِفونها بالعِوَج والحالُ أنهم كافرون بها لا أنهم يؤمنون بها ويزعُمون أن لها سبيلاً سوياً يهدون الناسَ إليه وتكريرُ الضمير لتأكيد كفرِهم واختصاصِهم به كأن كفرَ غيرِهم ليس بشيء عند كفرهم

20

{أولئك}

سورة هود (212223) مع وصف من أحوالهم الموجبة للتدمير {لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ} الله تعالى مُفْلِتين بأنفسهم من أخذه لو أراد ذلك {فِى الارض} مع سَعتها وإنْ هربُوا منها كلَّ مَهْرب {وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} ينصُرونهم من بأسه ولكن أُخِّر ذلك لحكمة تقتضيه والجمعُ إما باعتبار أفراد الكفَرة كأنه قيل وما كان لأحد منهم من وليَ أو باعتبار تعدّدِ ما كانوا يدعون من دونِ الله تعالَى فيكون ذلك بياناً لحال آلهتِهم من سقوطها عن رتبة الولاية {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} استئنافٌ يتضمن حكمةَ تأخيرِ المؤاخذة وقرأ ابنُ كثير وابنُ عامرٍ ويعقوبُ بالتشديد {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} لفَرْط تصامِّهم عن الحق وبُغضِهم له كأنهم لا يقدرون على السمع ولما كان قبحُ حالِهم في عدم إذعانِهم للقرآن الذي طريقُ تلقّيه السمعُ أشدَّ منه في عدم قَبولِهم لسائر الآياتِ المنوطةِ بالإبصار بالغَ في نفي الأولِ عنهم حيث نفى عنهم الاستطاعةَ واكتفى في الثاني بنفي الإبصارِ فقال تعالى {وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} لتعاميهم عن آيات الله المبسوطةِ في الأنفس والآفاقِ وهو استئنافٌ وقع تعليلاً لمضاعفة العذابِ وقيل هو بيانٌ لما نُفي من ولاية الآلهةِ فإن ما لا يسمع ولا يُبصر بمعزل من الولاية وقوله تعالى يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب اعتراضٌ وسِّط بينهما نعياً عليهم من أول الأمرِ سوءَ العاقبة

21

{أولئكَ} المنعوتونَ بما ذُكر من القبائح {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} باشتراء عبادةِ الآلهةِ بعبادة الله عز سلطانُه {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من الآلهة وشفاعتِها أو خسِروا ما بذلوا وضاع عنهم ما حصَلوا فلم يبقَ معهم سوى الحسرةِ والندامة

22

{لاَ جَرَمَ} فيه ثلاثةُ أوجةٍ الأولُ أن لا نافيةٌ لما سبق وجَرَم فعلٌ بمعنى حقَّ وأنْ مع ما في حيزه فاعلُه والمعنى لا ينفعهم ذلك الفعلُ حقَّ {أَنَّهُمْ فِى الأخرة هُمُ الأخسرون} وهذا مذهبُ سيبويه والثاني جرَمَ بمعنى كسب وما بعده مفعولُه وفاعلُه ما دل عليه الكلامُ أي كسب ذلك خُسرانَهم فالمعنى ما حصلَ من ذلكَ إلا ظهورُ خُسرانِهم والثالثُ أن لا جرم بمعنى لا بد أى لا بد أَنَّهُمْ فِى الأخرة هُمُ الأخسرون وأياً ما كان فمعناه أنهم أخسرَ من كل خاسرٍ فتبين أنهم أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ وهذه الآياتُ الكريمة كما ترى مقرِّرةٌ لما سبق من إنكار المماثلةِ بين مَنْ كَانَ على بَيّنَةٍ مّن ربه وبين مَنْ كان يريد الحياةَ الدنيا أبلغَ تقريرٍ فإنهم حيث كانوا أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ وأخسَر من كل خاسرٍ لم يُتصوَّرْ مماثلةٌ بينهم وبين أحدٍ من الظَّلَمةِ الأخسرين فما ظنُّك بالمماثلة بينهم وبين مَنْ هو في أعلى مدارجِ الكمالِ ولما ذُكر فريقُ الكفارِ وأعمالُهم وبيّن مصيُرهم ومآلُهم شَرَع في بيان حالِ أضدادِهم أعني فريقَ المؤمنين وما يئول إليه أمرُهم من العواقب الحميدةِ تكملةً لما سلف من محاسنهم المذكورةُ في قولِه تعالى أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ من ربه الآية ليتبينَ ما بينهُما من التَّباينِ البيِّنِ حالاً ومآلاً فقيل

23

{إن الذين آمنوا} أي بكلِّ ما يجبُ أنْ يؤمن

سورة يونس (24) به فيندرج تحتَه ما نحن بصدده من الإيمان بالقرآن الذي عبّر عنه بالكون على بينة من الله وإنما يحصُل ذلك باستماع الوحي والتدبرِ فيه ومشاهدةِ ما يؤدِّي إلى ذلك في الأنفس والآفاقِ أو فعلوا الإيمان كما في يُعطي ويمنع 8 - وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ 8 أي اطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخضوع والتواضعِ من الخَبْت وهي الأرضُ المطمئنة ومعنى أخبت دخل في الخبت كأنهم وأنجدَ دخلَ في تِهامةَ ونجد 8 - أوليك 8 المنعوتون بتلك النعوتِ الجميلة 8 - أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون 8 دائمون وبعد بيانِ تباينِ حاليهما عقلاً أريد بيانُ تبايُنِهما حِساً فقيل

24

8 - {مَثَلُ الفريقين} 8 المذكورين أي حالُهما العجيبُ لأن المثَلَ لا يُطلق إلا على ما فيه غرابةٌ من الأحوال والصفات 8 - كالاعمى والاصم والبصير والسميع 8 أي كحال هؤلاءِ فيكون ذواتُهم كذواتهم والكلامُ وإن أمكن أن يحمل على تشبيه الفريق الأولِ بالأعمى وبالأصمِّ وتشبيهِ الفريقِ الثاني بالبصير وبالسميع لكن الأدخلَ في المبالغة والأقربَ إلى ما يشير إليه لفظُ المثل والأنسبَ بما سبق من وصف الكفرةِ بعدم استطاعةِ السمع وبعدم الإبصارِ أن يُحمل على تشبيه الفريقِ الأولِ بمن جمع بين العَمى والصمَم وتشبيهُ الفريقِ الثاني بمَن جمع بين البصر والسمع على أن تكون الواوُ في قوله تعالى والاصم وفي قوله والسميع لعطف الصفةِ على الصفة كما في قول من قالَ ... إِلَى الملكِ القَرْمِ وابنِ الهُمام ... وليثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ ... وأياً ما كان فالظاهرُ أن المرادَ بالحال المدلولِ عليها بلفظ المَثَل وهي التي يدور عليها أمرُ التشبيهِ ما يلائم الأحوالَ المذكورةَ المعتبرةَ في جانب المشبَّه به من تعامي الفريقِ الأولِ عن مشاهدة آياتِ الله المنصوبةِ في العالم والنظرِ إليها بعين الاعتبارِ وتصامِّهم عن استماع آياتِ القرآنِ الكريم وتلقّيها بالقبول حسبما ذُكر في قوله تعالى مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ وإنما لم يُراعَ هذا الترتيبُ ههنا لكون الأعمى أظهرَ وأشهرَ في سوء الحالِ من الأصم ومن استعمال الفريقِ الثاني لكل من أبصارهم وأسماعِهم فيما ذكر كما ينبغي المدلولُ عليه بما سبق من الإيمان والعملِ الصالحِ والإخبات حسبما فسر به فيما مر فلا يكون التشبيهُ تمثيلياً لا جميع الأحوال المعدودةِ لكل من الفريقين مما ذكر وما يؤدِّي إليهِ من العذاب المضاعَف والخسران البالغِ في أحدهما ومن النعيم المقيم في الآخر فإن اعتبارَ ذلك ينزِعُ إلى كون التشبيهِ تمثيلياً بأن يُنتزَعَ من حال الفريقِ الأول في تصامّهم وتعاميهم المذكورَيْن ووقوعِهم بسبب ذلك في العذاب المضاعفِ والخُسران الذي لا خسرانَ فوقه هيئةٌ فتُشبَّه بهيئةٍ منتزَعةٍ ممن فقَد مَشْعَرَيْ البصر والسمعِ فتخبَّط في مسلَكه فوقع في مهاوي الردى ولم يجِدْ إلى مقصِده سبيلاً وينتزَعَ من حال الفريق الثاني في استعمال مشاعرِهم في آياتِ الله تعالَى حسبما ينبغي وفوزِهم بدار الخلود هيئة فتشبيه بهيئة منتزعة ممن له بصَرٌ وسمع يستعملهما في مهماته فيهتدي إلى سبيله وينال مَرامه 8 - هَلْ يَسْتَوِيَانِ 8 يعني الفريقين المذكورين والاستفهامُ إنكاريٌّ مذكّر لما سبق من إنكار المماثلة في قوله عزوجل أفمن كان على بيته الآية مَثَلاً أي حالاً وصفةً وهو تمييزٌ من فاعل يستويان 8 - أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ 8 أي أتشكّون في عدم الاستواءِ وما بينهما من التباين أو أتغفُلون عنه فلا تتذكرونه بالتأمل فيما ضرب

سورة يونس (25) لكم من المثل فيكون الإنكارُ وارداً على المعطوفَيْن معاً أو أتسمعون هذا فلا تتذكرون فيكون راجعاً إلى عدم التذكر بعد تحققِ ما يوجب وجودَه وهو المثل المضروبُ كما في قوله تعالى أفَإِنْ مَاتَ أوْ قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم فإن الفاء هناك لإنكار الانقلابِ بعد تحققِ ما يُوجبُ عدمَه من علمهم بخلوّ الرسلِ قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أفلا تفعلون التذكرَ أوافلا تعقِلون ومعنى الهمزةِ إنكارُ عدمِ التذكرِ واستبعادُ صدوره عن المخاطبين وأنه ليسَ مما يصلُح أن يقع لا من قبيل الإنكارِ في قوله تعالى أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ وقولِه تعالى هَلْ يَسْتَوِيَانِ فإن ذلك لنفي المماثلة ونفي الاستواء ولما بيَّن من فاتحةِ السورةِ الكريمةِ إلى هذا المقامِ أنها كتابٌ محكمُ الآياتِ مفصَّلُها نازلٌ في شأن التوحيدِ وتركِ عبادِة غيرِ الله سبحانه وأن الذي أنزل عليه نذيرٌ وبشيرٌ من جهته تعالى وقرر في تضاعيف ذلك ما له مدخَلٌ في تحقيق هذا المرامِ من الترغيب والترهيبِ وإلزامِ المعاندين بما يقارنه من الشواهد الحقةِ الدالةِ على كونه من عند الله تعالى وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم مما عراه من ضيق الصدرِ العارضِ له من اقتراحاتهم الشنيعةِ وتكذيبِهم له وتسميتهم للقرآن تارة سحر وأخرى مفترى وتثبيته صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على التمسك به والعملِ بموجبه على أبلغِ وجهٍ وأبدعِ أسلوبٍ شَرع في تحقيق ما ذُكر وتقريرِه بذكر قصصِ الأنبياءِ صلواتُ الله عليهمْ أجمعينَ المشتملةِ على ما اشتمل عليه فاتحةُ السورةِ الكريمةِ ليتأكد ذلك بطريقين أحدُهما أن ما أُمر بهِ من التوحيد وفروعِه مما أطبق عليه الأنبياءُ قاطبةً والثاني أن ذلك إنما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي فلا يبقى في حقيته كلامٌ أصلاً وليتسلّى بما يشاهده من معاناة الرسلِ قبله من أممهم ومقاساتِهم الشدائدَ من جهتهم فقيل

25

8 - {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ} 8 الواوُ ابتدائيةٌ واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ وحرفُه الباءُ لا الواو كما في سورة الأعراف لئلا يجتمعَ واوان ولا يكاد تُطلق هذه اللامُ إلا مع قد لأنها مظِنّةُ التوقعِ وأن المخاطبَ إذا سمِعها توقع وقوعَ ما صُدّر بها ونوحٌ هو ابن لمك بن متوشلخ بن إدريسَ عليهما السلام وهو أولُ نبي بُعث بعده قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بعث صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين من عمره ولبث يدعو قومَه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفانِ ستين سنة وكان عمرُه ألفاً وخمسين سنة وقال مقاتل بعث وهو ابنُ مائةِ سنةٍ وقيل وهو ابنُ خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنةً ومكث يدعو قومَه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمُرُه ألفاً وأربَعَمِائةٍ وخمسين سنة 8 - إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ 8 بالكسرِ على إرادةِ القولِ أي فقال أو قائلا وقرأ ابن كثير وأبو عمْروٍ والكسائيُّ بالفتح على إضمار حرف الجرِّ أي أرسلناه ملتبساً بذلك الكلامِ وهو إني لكم نذيرٌ بالكسر فلما اتصل به الجارُّ فُتح كما فُتح في كأن والمعنى على الكسر وهو قولك إن زيداً كالأسد واقتُصر على ذكر كونه صلى الله عليه وسلم نذيراً لا لأن دعوتَه صلى الله عليه وسلم كانت بطريق الإنذارِ فقط ألا يُرى إلى قوله تعالى فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السماء عليكم مدار الخ بل لأنهم لم يغتنموا مغانم إبشارة صلى الله عليه وسلم 8 - مُّبِينٌ 8 أبيِّن لكم موجباتِ العذابِ ووجهَ الخلاصِ منه لأن الإنذارَ إعلامُ المحذورِ لا لمجرد التخويفِ والإزعاجِ بل للحذر منه فيتعلق بكلا وصفيه

هود آية (26 27)

26

{أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} أي بأنْ لا تعبدُوا على أنَّ أنْ مصدريةٌ والباءُ متعلقةٌ بأرسلنا ولا ناهية أي أرسلناه متلبسا بنهيهم عن الشرك إلا أنه وُسّط بينهما بيانُ بعض أوصافه وأحواله صلى الله عليه وسلم وهو كونه نذيراً مبيناً ليكون أدخلَ في القَبول ولم يُفعلْ ذلك في صدر السورة لئلا يُفرَّقَ بين الكتاب ومضمونِه بما ليس من أوصافه وأحوالِه أو مفسرةٌ متعلقةٌ به أو بنذير أو مفعولٌ لمبين وعلى قراءة الفتح بدلٌ من إِنَّى لَكُمْ نذيرٌ مبينٌ وتعيينٌ لما يوجب وقوعَ المحذورِ وتبيينٌ لوجه الخلاصِ وهو عبادةُ الله تعالى وقوله تعالى {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} تعليلٌ لموجب النهي وتصريحٌ بالمحذور وتحقيقٌ للإنذار والمرادُ به يومُ القيامة أو يوم الطوفان ووصفُه بالأليم على الإسناد المجازي للمبالغةِ كما في نهارُه صائمٌ وهذه المقالةُ وما في معناها مما قاله صلى الله عليه وسلم في أثناء الدعوةِ على ما عُزِي إليه في سائر السور لما لم تصدر عنه صلى الله عليه وسلم مرةً واحدة بل كان يكرّرها عليهم في تلك المدةِ المتطاولةِ على ما نطقَ به قولُه تعالى رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً الآيات عطفٌ على فعل الإرسالِ المقارِن لها أو القولِ المقدّرِ بعده جوابُهم المتعرِّضُ لأحوال المؤمنين الذين اتبعوه صلى الله عليه وسلم بعد اللتيا والتي بالفاء التعقبية فقيل

27

{فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ} أي الأشرافُ منهم من قولهم فلانٌ مليءٌ بكذا أي مُطيقٌ له لأنهم مُلِئوا بكفايات الأمور أو لأنهم ملئوا القلوبَ هيبةً والمجالسَ أُبّهةً أر لأنهم مُلئوا بالأحلام والآراءِ الصائبةِ ووصفُهم بالكفر لذمهم والتسجيلِ عليهم بذلك من أوَّلِ الأمر لا لأن بعضَ أشرافِهم ليسوا بكفرة {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} مُرادُهم ما أنت إلا بشرا مثلُنا ليس فيك مزيةٌ تخصُّك من دوننا بما تدعيه من النبوة ولو كان كذلك لرأيناه لا أن ذلك محتملٌ ولكن لا نراه وكذا الحالُ في قولهم {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى} فالفعلان من رؤية العينِ وقوله تعالى إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا حالٌ من المفعول وكذا قوله اتبعك في موضع الحالِ منه إما على حاله أو بتقدير قد عند من يشترط ذلك ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ رؤية القلبِ وهو الظاهرُ فهما المفعولُ الثاني وتعلُّقُ الرأي في الأول بالمثلية لا بالبشرية فقط وإنما لم يبتّوا القول بذلك مع جزمهم به وإصرارِهم عليه إراءةً بأن ذلك لم يصدر عنهم جُزافاً بل بعد التأملِ في الأمر والتدبرِ فيه ولذلك اقتصروا على ذلك الظن فيما سيأتي وتعريضاً من أول الأمرِ برأي المتبين فكأن قولَهم وَمَا نَرَاكَ جوابٌ عما يرِد عليهم من أنه صلى الله عيله وسلم ليس مثلَهم حيث عاين دلائلَ نبوته واغتنم اتباعُه مَنْ له عينٌ تُبصر وقلبٌ يدرك فزعَموا أن هؤلاء أراذلُنا أي أخِسّاؤنا وأدانينا جمعُ أرذلٍ فإنه صار بالغلبة جارياً مجرى الاسمِ كالأكبرِ والأكابر أو جمعُ أرذُلٍ جمعُ رَذْلٍ كأكالِب وأكلُب وكلْب يعنُون أنَّه لا عبرةَ باتِّباعِهم لك إذْ ليس لهم رزانةُ عقلٍ ولا أصالةُ رأيٍ وقد كان ذلك منهم في بادي الرأي أي ظاهره من غير تعمق من البدو أو في أوله من البدء والياء مبدلةٌ من الهمزة لانكسار ما قبلها وقد

هود آية 28 قرأه أبو عمرو بها وانتصابُه على الظرفية على حذفِ المضافِ أي وقتَ حدوثِ بادي الرأي والعاملُ فيه اتبعك وإنما استرذلوهم مع كونهم أولي الألبابِ الراجحةِ لفقرهم فإنهم لما لم يعلموا إلا ظاهرا الحياةِ الدنيا كان الأشرفُ عندهم الأكثرَ منها حظَّاً والأرذلُ مَن حُرمها ولم يفقَهوا أن ذلك لا يزن عندَ الله جناحَ بعوضةٍ وأن النعيم إنما هو نعيمُ الآخرةِ والأشرفُ من فازَ به والأرذلُ من حُرمه نعوذ بالله تعالى من ذلك {وَمَا نرى لَكُمْ} أي لك ولمتّبعيك فغلّب المخاطَب على الغائبين {عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} يعنون أن اتباعَهم لك لا يدل على نبوتك ولا يُجديهم فضيلةً تَستتبع اتباعنا لكم واقتصارهم ههنا على ذكر عدمِ رؤيةِ الفضلِ بعد تصريحِهم برذالتهم فيما سبق باعتبار حالِهم السابقِ واللاحقِ ومرادُهم أنهم كانوا أراذلَ قبل اتباعهم لك ولا نرى فيهم وفيك بعد الاتباع فضيلةً علينا {بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين} جميعاً لكون كلامكم واحداً ودَعْواكم واحدةً أو إياك في دعوى النبوةِ وإياهم في تصديقِك واقتصارُهم على الظنّ احترازٌ منهم عن نسبتهم إلى المجازفة ومجاراةٌ معه صلى الله عليه وسلم بطريق الإراءة على نهج الإنصاف

28

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ} أي أخبروني وفيه إيماءٌ إلى ركاكة رأيِهم المذكور {إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ} برهانٍ ظاهر {مّن رَّبّى} وشاهدٍ يشهد بصِحّة دعواي {وَآتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} هي النبوةُ ويجوز أن تكون هي البينةَ نفسَها جيء بها إيذاناً بأنها مع كونها بينةً من الله تعالى رحمةٌ ونعمةٌ عظيمة من عنده فوجْهُ إفرادِ الضَّمير في قولِه تعالى {فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ} حينئذ ظاهرٌ وإنْ أُريد بها النبوةُ وبالبينة البرهانُ الدالُّ على صحتها فالإفرادُ لإرادة كلِّ واحدةٍ منهما أو لكون الضميرِ للبينة والاكتفاءِ بذلك لاستلزام خفائِها خفاءَ النبوةِ أو لتقدير فعلٍ آخرَ بعد البينة ومعنى عُمِّيت أُخفيت وقرىء عمِيَت ومعناه خَفِيت وحقيقتُه أن الحجةَ كما تجعل مُبصِرة وبصيرةً تجعلُ عمياءَ لأن الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيرَه وفي قراءة أبي فعماها عليكم على الإسناد إلى الله عزَّ وجلَّ {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} أي أنُكرِهُكم على الاهتداء بها وهو جوابُ أرأيتم وسادٌّ مسدَّ جوابِ الشرطِ وقرأ أبو عمرو بإخفاء حركةِ الميمِ وحيث اجتمع ضميران منصوبان وقد قُدِّم أعرفُهما جاز في الثاني الوصلُ والفصلُ فوصل كما في قوله تعالى فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله {وَأَنتُمْ لَهَا كارهون} لاتختارونها ولا تتأملون فيها ومحصولُ الجوابِ أخبروني إن كنتُ على حجة ظاهرةِ الدِلالة على صِحّة دعواي إلا أنها خافية عليكم مُسلَّمةٍ عندكم أيمكنُنا أن نكرِهَكم على قَبولها وأنتم معرضون عنها غيرَ متدبِّرين فيها أي لا يكون ذلك وظاهرُه مُشعِرٌ بصدوره عنه صلى الله عليه وسلم بطريق إظهارِ اليأسِ عن إلزامهم والقعود عن مُحاجَّتهم كقوله تعالى وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى الخ لكنه محمولٌ على أن مراده صلى الله عليه وسلم ردُّهم عن الإعراض عنها وحثُّهم على التدبّر فيها بصرف الإنكارِ إلى الإلزام حالَ كراهتِهم لها لا إلى الإلزام مطلقاً هذا ويجوز أن يكون المراد بالبينة دليلَ العقلِ الذي هو ملاكُ الفضل وبحسبه يمتاز أفرادُ البشرِ بعضُها من بعض وبه يناط الكرامة عند الله عز وجل والاجتباءُ للرسالة وبالكون عليها التمسك به والثبات

هود 29 عليه وبخفائها على الكفرة على أن الضميرَ للبينة عدم إدراكهم لكونه صلى الله عليه وسلم عليها وبالرحمة النبوةُ التي أنكروا اختصاصه صلى الله عليه وسلم بها بين ظَهرانيهم والمعنى أنكم زعمتم أن عهدَ النبوةِ لا يناله إلا من له فضيلةٌ على سائر الناسِ مستتبِعةٌ لاختصاصه به دونهم أخبروني إن امتزتُ عنكم بزيادة مزيةٍ وحيازةِ فضيلةٍ من ربي وآتاني بحسبها نبوة من عنده فخفِيَتْ عليكم تلك البينةُ ولم تُصيبوها ولم تنالوها ولم تعلموا حيازتي لها وكوني عليها إلى الآن حتى زعمتم أني مثلُكم وهي متحققةٌ في نفسها أنلزمكم قبولَ نبوتي التابعةِ لها والحالُ أنكم كارهون لذلك فيكون الاستفهامُ للحمل على الإقرار وهو الأنسبُ بمقام المُحاجةِ وحينئذٍ يكون كلامه صلى الله عليه وسلم جواباً عن شُبَههم التي أدرجوها في خلال مقالِهم من كونه صلى الله عليه وسلم بشراً قصارى أمره أن يكون مثلَهم من غير فضلٍ له عليهم وقطعاً لشأفة آرائِهم الركيكة

29

{ويا قَومِ لاَ أَسْأَلُكُم عَلَيهِ} أي على ما قلته في أثناء دعوتكم {ما لا} تؤدّونه إليّ بعدِ إيمانِكم واتباعِكم لي فيكونَ ذلك أجراً لي في مقابلة اهتدائِكم {إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله} الذي يُثيبني في الآخرة وفي التعبير عنه حين نُسب إليهم بالمال ما لا يَخفْى من المزية {وَمَا أَنَاْ بطارد الذين آمنوا} جوابٌ عما لوّحوا به بقولهم وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا من أنه لو اتبعه الأشرافُ لوافقوهم وأن اتّباعَ الفقراءِ مانعٌ لهم عن ذلك كما صرَّحُوا بهِ في قولِهم أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون فكان ذلك التماساً منهم لطردهم وتعليقاً لإيمانهم به صلى الله عليه وسلم بذلك أنفَةً من الانتظام معهم في سلك واحد {إنهم ملاقوا ربهم} تعليل لامتناعه صلى الله عليه وسلم عن طردهم أي إنهم فائزون في الآخرة بلقاء الله عزَّ وجلَّ كأنَّه قيل لا أطرُدهم ولا أُبعِدُهم عن مجلسي لأنهم مقرَّبون في حضرة القدسِ والتعرّضُ لوصف الربوبيةِ لتربية وجوبِ رعايتِهم وتحتّمِ الامتناعِ عن طردهم أو مصدِّقون في الدنيا بلقاء ربِّهم موقنون به عالِمون أنهم ملاقوه لا محالة فكيف أطرُدهم وحملُه على معنى أنهم يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبِهِم منَ إيمان صحيحٍ ثابتٍ كما ظهر لي أو على خلاف ذلك مما تعرِفونهم به من بناء إيمانِهم على بادِيَ الرأي من غير نظرٍ وتفكّر وما عليّ أن أشقَّ عن قلوبهم وأتعرَّفَ سرَّ ذلك منهم حتى أطرُدَهم إنْ كانَ الأمرُ كَما تزعُمون يأباه الجزمُ بترتّب غضبُ الله عزَّ وجلَّ على طردهم كما سيأتي وأيضاً فهم إنما قالوا إن اتباعَهم لك إنما هو بحسب بادي الرأي بلا تأمل وتفكرٍ وهذا لا يكاد يصلُح مداراً للطرد في الدنيا ولا للمؤاخذة في الآخرة غايتُه أن لا يكونوا في مرتبة الموقنين وادعاءُ أن بناءَ الإيمانِ على ظاهر الرأي يؤدّي إلى الرجوع عنه عند التأملِ فكأنهم قالوا إنهم اتبعوك بلا تأمل فلا يثبُتون على دينك بل يرتدون عنه تعسفٌ لا يخفى {ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} بكل ما ينبغي أن يُعلم ويدخُلُ فيه جهلُهم بلقاء الله عز وجل وبمنزلتهم عنده وباستيجاب طردِهم لغضب الله كما سيأتي وبركاكة رأيِهم في التماس ذلك وتوقيفِ إيمانهم عليه أنفةً عن الانتظام معهم في سلك واحدٍ وزعماً منهم أن الرذالة بالفقر والشرفَ بالغنى وإيثارُ صيغةِ الفعل للدلالة

هود آية (30 31) على التجدد والاستمرارِ أو تتسافهون على المؤمنين بنسبتهم إلى الخساسة

30

{ويا قوم مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله} يدفع حلولِ سخطِه عني {إِن طَرَدتُّهُمْ} فإن ذلك أمرٌ لا مردَّ له لكون الطرد ظلماً موجباً لحلول السّخط قطعاً وإنما لم يُصرَّح به إشعاراً بأنه غنيٌّ عن البيان لا سيما عما قُدّم ما يلوحُ به من أحوالهم فكأنه قيل مَنْ يدفعُ عني غضبَ الله تعالى إن طردتُهم وهم بتلك المثابةِ من الكرامة والزُلفى كما ينبىء عنه قوله تعالى {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أتستمرّون على ما أنتُم عليهِ من الجهل المذكورِ فلا تتذكرون ما ذُكر من حالهم حتى تعرِفوا أن ما تأتونه بمعزل عن الصواب ولكون هذه العلة مستقبلة بوجه مخصوصٍ ظاهر الدلالةِ على وجوب الامتناعِ عن الطرد أُفردت عن التعليل السابق وصدرت بياقوم

31

{وَلا أَقُولُ لَكُمْ} حين أدّعي النبوة {عِندِى خَزَائِنُ الله} أي رزقُه وأموالُه حتى تستدلوا بعدمها على كذبي بقولكم وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين فإن النبوةَ أعزُّ من أن تنال بأسباب دنيويةٍ ودعواها بمعزل عن ادعاء المالِ والجاه {وَلا أَعْلَمُ الغيب} أي لا أدعي في قولي إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ علمَ الغيبِ حتى تسارعوا إلى الإنكار والاستبعاد {وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ} حتى تقولوا مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا فإن البشريةَ ليست من موانع النبوةِ بل من مباديها يعني أنكم اتخذتم فُقدانَ هذه الأمورِ الثلاثة ذريعةً إلى تكذيبي والحال أني لا أدعي شيئاً من ذلك ولا الذي أدّعيه يتعلق بشيء منها وإنما يتعلق بالفضائل النفسانيةِ التي بها تتفاوت مقاديرُ البشرِ {وَلا أَقُولُ} مساعدةً لكم كما تقولون {لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ} أي تقتحِمهم وتحتقرِهم من زراه إذا عابه وإسنادُ الازدراءِ إلى أعينهم بالنظر إلى قولهم وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا وإما للإشعار بأن ذلك القصور نظرِهم ولو تدبروا في شأنهم ما فعلوا ذلك اي لاأقول في شأن الذين استرذلتموهم لفقرهم من المؤمنين {لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا} في الدنيا أو في الآخرة فعسى الله أن يُؤتيهَم خيري الدارين إن قلتَ هذا القول ليس مما تستنكره الكفرةُ ولا مما يتوهمون صدوره عنه صلى الله عليه وسلم أصالةً أو استتباعاً كادعاء الملكية وعلم الغيب وحيازة الخزائن مما نفاه صلى الله عليه وسلم عن نفسه بطريق التبرؤ والتنزه عنه فمِنْ أيِّ وجه عطُف نفيُه على نفيها قلتُ من جهة أن كلا النفين ردٌّ لقياسهم الباطلِ الذي تمسّكوا به فيما سلف فإنهم زعَموا أن النبوةَ تستتبع الأمورَ المذكورةَ وأنها لا تتسنى ممن ليس على تلك الصفات فإن العثورَ على مكانها واغتنامَ مغانهما ليس من دأب الأراذلِ فأجاب صلى الله عليه وسلم بنفي ذلك جميعاً فكأنه قال لا أقول وجودُ تلك الأشياءِ من مواجب النبوةِ ولا عدمُ المالِ والجاهِ من موانع الخير {الله أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ} من الإيمان وإنما اقتُصر على نفي القولِ المذكور مع أنه صلى الله عليه وسلم جازمٌ بأن الله سبحانه سيؤتيهم خيراً عظيماً في الدارين وأنهم على يقين راسخٍ في الإيمان جرياً على سنن الأنصاف مع القوم واكتفاءً بمخالفة كلامِهم وإرشادا

هود آية (32 34) لهم إلى مسلك الهدايةِ بأن اللائقَ لكل أحدٍ أن لا يبُتَّ القولَ إلا فيما يعلمه يقيناً ويبني أمورَه على الشواهد الظاهرةِ ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة {إِنّى إِذاً} أي إذا قلتُ ذلك {لَّمِنَ الظالمين} لهم بحطِّ مرتبتِهم ونقصِ حقوقِهم أو من الظالمين لأنفسهم بذلك فإن وبالَه راجعٌ إلى أنفسهم وفيه تعريضٌ بأنهم ظالمون في ازدرائهم واسترذالِهم وقيل إذا قلتُ شيئاً مما ذُكِرَ من ادعاه الملكية وعلم الغيب وحيازة الخزائن وهو بعيدٌ لأن تبعةَ تلك الأقوالِ مغنيةٌ عن التعليل بلزوم الانتظامِ في زمرة الظالمين

32

{قَالُواْ يا نُوحٌ قَدْ جَادَلْتَنَا} خاصمتنا {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أي أطَلْته أو أتيتَه بأنواعه فإن إكثارَ الجدالِ يتحقق بعد وقوعِ أصلِه فلذلك عُطف عليه بالفاء أو أردتَ ذلك فأكثرتَه كما في قوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ولما حجّهم صلى الله عليه وسلم وأبرز لهم بيناتٍ واضحةَ المدلولِ وحُججاً تتلقاها العقولُ بالقَبول وألقمهم الحجرَ برد شُبهِهم الباطلةِ ضاقتْ عليهم الحيلُ وعيَّت بهم العلل وقالوا {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} منَ العذابِ الذي أشير إليه في قوله إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ على تقدير أن لا يكون المرادُ باليوم يومَ القيامة {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} فيما تقول

33

{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء} يعني أن ذلك ليس موكولاً إليّ ولا هو مما يدخُل تحت قدرتي وإنما يتولاه الله الذي كفرتم به وعصيتموه يأتيكم بِهِ عاجلاً أو آجلاً إنْ تعلَّق به مشيئتُه التابعةُ للحكمة وفيه ما لا يَخفْى من تهويل الموعودِ فكأنه قيل الإتيانُ به أمرٌ خارجٌ عن دائرة القُوى البشرية وإنما يفعله اللَّهِ عزَّ وجلَّ {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} بالهرب أو بالمدافعة كما تدافعونني في الكلام

34

{وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} النُصحُ كلمةٌ جامعةٌ لكل ما يدور عليه الخيرُ من قولٍ أو فعلٍ وحقيقتُه إمحاضُ إرادةِ الخيرِ والدِلالةِ عليه ونقيضُه الغشُّ وقيل هو إعلامُ موقع الغَيِّ ليُتّقى وموضعِ الرشد ليقتفى {إن أردت أن أنصح لَكُمْ} شرطٌ حذف جوابُه لدلالةِ ما سبق عليه والتقديرُ إن أردتُ أن أنصح لكم لا ينفعكم نُصحي وهذه الجملةُ دليلٌ على ما حذف من جواب قولِه تعالى {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} والتقديرُ إن كان الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ فإن أردتُ أن أنصحَ لكم لا ينفعكم نصحي هذا على ما ذهب إليه البصريون من عدم تقديم الجزاءِ على الشرطِ وأما على ما ذهب إليه الكوفيون من جوازه فقوله عز وعلا وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى جزاءٌ للشرط الأولِ والجملةُ جزاءٌ للشرط الثاني وعلى التقديرين فالجزاءُ متعلّقٌ بالشرط الأولِ وتعلّقه به معلّقٌ بالشرط الثاني وهذا الكلامُ متعلِّقٌ بقولهم قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا صدر عنه صلى الله عليه وسلم إظهار للعجز عن إلزامهم بالحجج والبيناتِ لتماديهم في العناد وإيذاناً بأن ما سبق منه ليس بطريق الجدالِ والخصام بل

هود آية (35 37) بطريق النصيحةِ لهم والشفقةِ عليهم وبأنه لم يألُ جهداً في إرشادهم إلى الحق وهدايتِهم إلى سبيله المستبينِ وإمحاضِ النصحِ لهم ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادة الله تعالى لإغوائهم وتقييدُ عدمِ نفع النصحِ بإرادته مع أنه محقق لا محال للإيذان بأن ذلك النصحَ منه مقارِنٌ للإرادة والاهتمامِ به ولتحقيق المقابلةِ بين ذلك وبين ما وقع بإزائه من إرادته تعالى لإغوائهم وإنما اقتُصر في ذلك على مجرد إرادةِ الإغواءِ دون نفسِه حيث لم يقل إن كان الله يغويكم مبالغةً في بيان غلبةِ جنابِه عز وعلا حيث دل ذلك على أن نُصحَه المقارِنَ للاهتمام به لا يُجديهم عند مجردِ إرادةِ الله سبحانه لإغوائهم فكيف عند تحقيقِ ذلك وخلقِه فيهم وزيادةُ كان للإشعار بتقدم إرادتِه تعالى زماناً كتقدّمها رتبةً وللدلالة على تجدّدها واستمرارِها وإنما قُدّم على هذا الكلامِ ما يتعلق بقولهم فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا منَ قوله تعالى إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء رداً عليهم من أول الأمرِ وتسجيلاً عليهم بحلول العذابِ مع ما فيه من اتصال الجوابِ بالسؤال وفيه دليلٌ على أنَّ إرادتَه تعالى يصِحّ تعلقُها بالإغواء وأن خلافَ مرادِه غيرُ واقع وقيل معنى أن يغويكم أن يُهلكَكم من غوَى الفصيلُ غوًى إذا بشِم وهلك {هُوَ رَبُّكُمْ} خالقُكم ومالكُ أمركم {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازِيكم على أعمالِكم لا محالة

35

{أَمْ يَقُولُونَ افتراه} قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعني نوحا عليه الصلاة والسلام ومعناه بل أيقولُ قومُ نوحٍ إن نوحاً افترى ما جاء به مسنِداً إلى الله عزَّ وجلَّ {قُلْ} يا نوح {إِنِ افتريته} بالفرض البحث {فَعَلَىَّ إِجْرَامِى} إثمي ووبالُ إجرامي وهو كسبُ الذنب وقرىء بلفظ الجمع وينصُره أن فسّره الأولون بآثامي {وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ} من إجرامكم في إسناد الافتراءِ إليّ فلا وجهَ لإعراضكم عني ومعاداتِكم لي وقال مقاتلٌ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ومعناه بل أيقولُ مشركو مكةَ افترى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خبرَ نوحٍ فكأنه إنما جيء به في تضاعيفِ القصةِ عند سَوْق طرفٍ منها تحقيقاً لحقيتها وتأكيداً لوقوعها وتشويقاً للسامعين إلى استماعها لا سيما وقد قُصَّ منها طائفةٌ متعلقةٌ بما جرى بينه صلى الله عليه وسلم وبين قومِه من المُحاجَّة وبقِيَتْ طائفةٌ مستقلّةٌ متعلقةٌ بعذابهم

36

{وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ} أي المُصِرِّين على الكفر وهو إقناط له صلى الله عليه وسلم من إيمانهم وإعلامٌ لكونه كالمُحال الذي لا يصِحّ توقّعُه {إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} إلا من قد وُجد منه ما كان يُتوقَّع من إيمانه وهذا الاستثناءُ على طريقة قولِه تعالى إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي لا تحزَنْ حزْنَ بائسٍ مستكينٍ ولا تغتمَّ بما كانوا يتعاطَوْنه من التكذيب والاستهزاء والإيذاءِ في هذه المدة الطويلةِ فقد انتهى أفعالُهم وحان وقتُ الانتقامِ منهم

37

{واصنع الفلك} ملتبساً {بِأَعْيُنِنَا} أي بحفظِنا وكلاءتِنا كأنَّ معه من الله عز وجل حفاظا وحراسا يكلئونه بأعينهم من التعدّي من الكفرة ومن الزَّيغِ في الصَّنعةِ {وَوَحْيِنَا} إليك كيف تصنعُها وتعليمِنا وإلهامِنا عن ابن عباس رضي

هود آية 38 الله تعالى عنهما لم يعلمْ كيف صنعةُ الفُلك فأَوْحَى الله تعالى إليه أن يصنعَها مثلَ جُؤجُؤ الطائر والأمرُ للوجوب إذ لا سبيلَ إلى صيانة الروحِ من الغرق إلا به فيجب كوجوبها واللامُ إما للعهد بأن يُحملَ على أن هذا مسوق بوحي الله تعالى إليه عليهِ السلام أنه سيهلكهم بالغرق وينجّيه ومَنْ معه بشيء سيصنعه بأمره تعالى ووحيِه مِنْ شأنه كيتَ وكيت واسمُه كذا وإما للجنس قيل صنعها عليه الصلاة والسلام في سنتين وقيل في أربعمائة سنة وكانت من خشب الساج وجُعلت ثلاثةَ بطونٍ حُمل في البطن الأول الوحوشُ والسباعُ والهوامُّ وفي البطن الأوسطِ الدوابُّ والأنعام وفي البطن الأعلى جنسُ البشر هو ومَنْ معه مع ما يحتاجونَ إليهِ من الزاد وحَمل معه جسد آدم عليه الصلاة والسلام وقيل جَعل في الأول الدواب والوحوس وفي الثاني الإنسَ وفي الأعلى الطيرَ قيل كان طولها ثلثمائة ذراعٍ وعَرْضُها خمسين ذراعاً وسَمْكُها ثلاثين ذراعاً وقال الحسنُ كان طولُها ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراعٍ وقيل إن الحَواريين قالوا لعيسى عليهِ الصلاةُ والسلامُ لَوْ بعثت لنا رجلاً شهد السفينةَ يحدثنا عنها فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفاً من ذلك الترب فقال أتدرون مَنْ هذا قالوا الله ورسولُه أعلم قال هذا كعبُ بنُ حام قال فضرب بعصاه فقال قم بإذن الله فإذا هو قائمٌ ينفض التراب عن رأسه وقد شاب فقال له عيسى عليه الصلاة والسلام أهكذا هلكْتَ قال لا متُّ وأنا شابٌّ ولكني ظننتُ أنها الساعة فمِنْ ثَمَّةَ شِبْتُ فقال حدثنا عن سفينة نوحٍ قال كان طولها ألفا مائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاثَ طبقاتٍ طبقةٌ للدواب والوحش وطبقةٌ للإنس وطبقةٌ للطير ثم قال عُدْ بإذن الله تعالى كما كنت فعاد تراباً {وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ} أي لا تراجِعْني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذابِ عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل ولا تدعُني فيهم وحيث كان فيه ما يلوح بالسببية أُكّد التعليلُ فقيل {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} أي محكومٌ عليهم بالإغراق قد مضى به القضاءُ وجفّ القلمُ فلا سبيل إلى كفه ولزِمتْهم الحُجةُ فلم يبقَ إلا أن يُجعلوا عِبرةً للمعتبرين ومثلاً للآخرين

38

{وَيَصْنَعُ الفلك} حكايةُ حالٍ ماضيةٍ لاستحضار صورتِها العجيبةِ وقيل تقديرُه وأخذ يصنع الفلك أو أقبل يصنعها فاقتصر على يصنع وأيا ما كان ففيه ملأمة للاستمرار المفهومِ من الجملة الواقعةِ حالاً من ضميره أعني قوله تعالى {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قومه سخروا منه} استهزءوا به لعلمه السفينةَ إما لأنهم ما كانوا يعرِفونها ولا كيفيةَ استعمالِها والانتفاعِ بها فتعجبوا من ذلك وسخِروا منه وإما لأنه كان يصنعها في برّية بهماءَ في أبعد موضعٍ من الماء وفي وقت عزَّتْه عِزَةٌ شديدة وكانوا يتضاحكون ويقولون يا نوحُ صرتَ نجاراً بعد ما كنت نبياً وقيل لأنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان يُنذرهم الغرقَ فلما طال مكثُه فيهم ولم يشاهِدوا منه عيناً ولا أثراً عدّوه من باب المُحال ثم لما رأوا اشتغالَه بأسباب الخلاصِ من ذلك فعلوا ما فعلوا ومدارُ الجميعِ إنكارُ أن يكون لعلمه عليه الصلاة والسلام عاقبةٌ حميدةٌ مع ما فيه من تحمل المشاقِّ

هود (39 40) العظيمة التي لا تكاد تُطاق واستجهالِه عليه السلام في ذلك {قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا} مستجهلين لنا فيما نحن فيه {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} أي نستجهلكم فيما أنتم عيه وإطلاقُ السخريةِ عليه للمشاكلة وجمعُ الضمير في منا إما لأن سخريتَهم منه صلى الله عليه وسلم سخريةٌ من المؤمنين أيضاً أو لأنهم كانوا يسخرون منهم أيضاً إلا أنه اكتُفيَ بذكر سُخريتِهم منه صلى الله عليه وسلم ولذلك تعرض الجميعُ للمجازاة في قوله تعالى فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ الخ فتكافأ الكلام من الجانين وتعليق استجهاله صلى الله عليه وسلم إياهم بما فعلوا من السُّخرية باعتبار إظهارِه ومشافهتِه صلى الله عليه وسلم إياهم جاهلين فيما يأتون ويذرون أمرٌ مطّردٌ لا تعلُّق له بسخريتهم منهم لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتصدى لإظهاره جرياً على نهج الأخلاقِ الحميدةِ وإنما أظهره جزاءً بما صنعوا بعد اللتيا والتي فإن سخريتَهم كانت مستمرةً ومتجدّدةً حسب تجدُّدِ مرورِهم عليه ولم يكن يُجيبهم في كل مرة وإلا لقيل ويقول إن تسخروا منّا الخ بل إنما أجابهم بعد بلوغِ أذاهم الغايةَ كما يؤذِن به الاستئنافُ فكأن سائلاً سأل فقال فما صنع نوحٌ عند بلوغِهم منه هذا المبلغ فقيل قال إن تسخروا منا إن تنسُبونا فيما نحن بصدده من التأهب المباشرة لأسباب الخلاصِ من العذاب إلى الجهل وتسخَروا منا لأجله فإنا ننسُبكم إليه فيما أنتم فيه من الإعراض عند استدفاعه بالإيمان والطاعة ومن الاستمرار على الكفر والمعاصي والتعّرضِ لأسباب حلولِ سخطِ الله تعالى التي من جملتها استجهالُكم إيانا وسخريتُكم منا والتشبيهُ في قوله تعالى {كَمَا تَسْخَرُونَ} إما في مجرد التحققِ والوقوعِ أو في التجدد والتكررِ حسبما صدر عن ملإٍ غبَّ ملإٍ لا في الكيفيات والأحوال التي تليق بشأن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فكلا الأمرَين واقعٌ في الحال وقيل نسخر منكم في المستقبل سُخريةً مثلَ سُخريتِكم إذا وقع عليكم الغرقُ في الدنيا والحرقُ في الآخرة ولعل مرداه نعاملُكم معاملةَ مَنْ يفعل ذلك لأن نفسَ السُّخرية مما لا يكاد يليق بمنصِب النبوةِ ومع ذلك لا سَدادَ له لأن حالهم إذا ذاك ليس مما لا يلائمه السُّخريةُ أو ما يجري مجراها فتأمّلْ

39

{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} وهو عذابُ الغَرَقِ {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ} حلولَ الدَّيْن المؤجل {عَذَابٌ مُّقِيمٌ} هو عذابُ النارِ الدائمُ وهو تهديد بليغ ومن عبارةٌ عنهم وهي إما استفهاميةٌ في حيز الرفعِ أو موصولةٌ في محل النصبِ بتعلمون وما في حيزها سد مسدَّ مفعولين أو مفعولٍ واحدٍ إن جُعل العلمُ بمعنى المعرفةِ ولما كان مدارُ سخريتِهم استجهالَهم إياه صلى الله عليه وسلم في مكابدة المشاقِّ الفادحةِ لدفع ما لا يكادُ يدخُل تحتَ الصِّحةِ على زعمهم من الطوفان ومقاساةِ الشدائِد في بناء السفينةِ وكانوا يعدّونه عذاباً قيل بعد استجهالِهم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ العذابُ يعني أن ما أُباشرُه ليس فيه عذابٌ لاحقٌ بي فسوف تعلمون مَنِ المعذَّبُ ولقد أصاب العلمُ بعد استجهالِهم محزّه ووصفُ العذاب بالإخزاء لما في الاستهزاء والسخريةِ من لُحوق الخِزْي والعارِ عادة والتعرُّضُ لحلول العذاب المقيمِ للمبالغة في التهديد وتخصيصه بالمؤجل وإيرادُ الأول بالإتيان في غاية الجزالة

40

{حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا}

حتَّى هي التي يُبتدأ بها الكلامُ دخلتْ على الجملةِ الشرطيةِ وهي مع ذلك غايةٌ لقوله وَيَصْنَعُ وما بينهما حالٌ من الضمير فيه وسخِروا منه جوابٌ لكلما وقال استئنافٌ على تقدير سؤال سائلٍ كما ذكرناه وقيل هو الجوابُ وسِخروا منه بدلٌ من مرّ أو صفةٌ لملأ وقد عرفت أن الحقَّ هو الأولُ لأن المقصودَ بيانُ تناهيهم في إيذائه صلى الله عليه وسلم وتحمُّلِه لأذيَّتهم لا مسارعتُه صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم كلما وقع منهم ما يؤذيه من الكلام {وَفَارَ التنور} نبعَ منه الماءُ وارتفع بشدة كما تفور القِدْرُ بغَليانها والتنّورُ تنّورُ الخبز وهو قول الجمهور روي أنه قيل لنوح عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إذا رأيتَ الماءَ يفورُ من التنور فاركبْ ومن معك في السفينة فلما نبع الماءُ أخبرتْه امرأتُه فركب وقيل كان تنورَ آدم عليه الصلاة والسلام وكان من حجارة فصار إلى نوح وإنما نبع منه وهو أبعدُ شيء من الماء على خرق العادةِ وكان في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخلِ مما يلي باب كِنْدة وكان عملُ السفينةِ في ذلك الموضع أو في الهند أو في موضع بالشام يقال له عين وردة وعن ابن عباس رضي الله عنه تعالى عنهما وعِكرمةَ والزُّهري أن التنورَ وجهُ الأرض وعن قتادةَ أشرفُ موضع في الأرض أي أعلاه وعَنْ عليَ رضيَ الله تعالى عنه فار التنور طلح الفجرُ {قُلْنَا احمل فِيهَا} أي في السفينة وهو جوابُ إذا {مِن كُلّ} أي من كل نوعٍ لا بد منه في الأرض {زَوْجَيْنِ} الزوجُ ما له مشاكلٌ من نوعه فالذكرُ زوجٌ للأنثى كما هي زوجٌ له وقد يُطلق على مجموعهما فيقابل الفرد ولإزالة ذلك الاحتمالِ قيل {اثنين} كلٌّ منهما زوجٌ للآخر وقرىء على الإضافة وإنما قُدم ذلك على أهله وسائرِ المؤمنين لكونِه عريقاً فيما أُمر به من الحمل لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمالِ منه صلى الله عليه وسلم في تمييز بعضِه من بعض وتعيينِ الأزواج فإنه روى أنه صلى الله عليه وسلم قال يا رب كيف أحْمل من كلَ زوجين اثنين فحشر الله تعالى إليه السباعَ والطيرَ وغيرَهما فجعل يضرِب بيديه في كل جنس فيقع الذكرُ في يده اليمنى والأنثى في اليسرى فيجعلهما في السفينة وأما البشرُ فإنما يدخلُ الفُلكَ باختياره فيخِفّ فيه معنى الحَمْل أو لأنها إنما تحمِلُ بمباشرة البشر وهم إنما يدخُلونها بعد حملهم إياها {وَأَهْلَكَ} عطفٌ على زوجين أو على اثنين والمرادُ امرأتُه وبنوه ونساؤهم {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} بأنه من المغرَقين بسبب ظلمِهم في قوله تعالى وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ الآية والمرادُ به ابنُه كنعان وأمُّه واعلةُ فإنهما كانا كافرين والاستثناءُ منقطِعٌ إن أريد بالأهل الأهلُ إيماناً وهو الظاهرُ كما ستعرفه أو متصلٌ إن أريد به الأهل قرابة ويكتفي في صحة الاستثناءِ المعلوميةُ عند المراجعةِ إلى أحوالهم والتفحّصُ عن أعمالهم وجيء بعلى لكون السابقِ ضارًّا لهم كما جيء باللام فيما هو نافعٌ لهم من قولهِ عزَّ وجلَّ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين وقوله إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى {ومن آمن} من غيرهم وإفرادُ الأهلِ منهم للاستثناءِ المذكورِ وإيثارُ صيغةِ الإفراد في آمن محافظة على لفظ من للإيذان بقلتهم كما أَعرَب عنه قولُه عز قائلاً {وما آمن مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} قيل كانوا ثمانية نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وأهلُه وبنوه الثلاثةُ ونساؤُهم وعن ابن إسحق كانوا عشرةً خمسةَ رجالٍ وخمسَ نسوةٍ وعنه أيضاً أنهم كانوا عشرةً سوى نسائِهم وقيل كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأةً وأولادُ نوحٍ سامٌ وحامٌ ويافث ونساؤُهم فالجميع ثمانيةٌ وسبعون نصفُهم رجالٌ ونصفُهم نساء واعتبارُ المعيةِ في إيمانهم للإيماء إلى المعية في مقر الأمان والنجاة

هود آية (41 42)

41

{وقال} أي نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لمن معه من المؤمنين كما ينبىء عنه قوله تعالى إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ولو رجع الضميرُ إلى الله تعالى لناسب أن يقال إن ربكم ولعل ذلك بعد إدخالِ ما أُمر بحمله في الفلك من الأزواج كأنه قيل فحمَلَ الأزواجَ أو أدخلها في الفلك وقال للمؤمنين {اركبوا فيها} كما سيأتي مثلُه في قوله تعالى وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ والركوبُ العلوُّ على شيء متحرّكٍ ويتعدى بنفسه واستعماله ههنا بكلمة في ليس لأن المأمورَ به كونُهم في جوفها لا فوقَها كما ظن فإن أظهر الرويات أنه عليه السلام جعل الوحوش ونظائر في البطن الأسفلِ والأنعامَ في الأوسطِ وركب هو ومن معه في الأعلى بل لرعاية جانبِ المحلية والمكانيةِ في الفلك والسرُّ فيه أن معنى الركوبِ العلوُّ على شيء له حركةٌ إما إراديةٌ كالحيوان أو قسرية السفينة والعجَلة ونحوهما فإذا استُعمل في الأول يوفر له حظُّ الأصل فيقال ركبتُ الفرسَ وعليه قولُه عز من قائل والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وإن استُعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة في فيقال ركبت في السفينة وعليه الآيةُ الكريمة وقولُه عز وجل قائلاً فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك وقوله تعالى فانطلقا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة خَرَقَهَا {بِسْمِ اللَّهِ} متعلقٌ باركبوا حالٌ من فاعله أي اركبوا مسمِّين الله تعالى أو قائلين بسم الله {مجراها ومرساها} نصبٌ على الظرفية أي وقتَ إجرائِها وإرسائِها على أنهما اسما زمانٍ أو مصدران كالإجراء والإرساءِ بحذف الوقت كقولك آتيك حقوق النجمِ أو اسما مكانٍ انتصبا بما في بِسْمِ الله منْ مَعْنى الفعلِ أو إرادةِ القول ويجوز أن يكون بِسْمِ اللَّهِ مجريها وَمُرْسَاهَا مستقلةً من مبتدأ وخبر في موضع الحالِ من ضمير الفلك أي اركبوا فيها مُجراةً ومُرساةً باسم الله بمعنى التقدير كقوله تعالى ادخلوها خالدين أو جملةٌ مقتضبةٌ على أن نوحاً أمرهم بالركوب فيها ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بسم الله تعالى فيكونان كلامين له عليه الصلاة والسلام قيل كان عليه السلام إذا أراد أن يُجرِيَها يقول بسم الله فتجري وإذا أراد أن يرسيَها يقول بسم الله فترسو ويجوز أن يكون الاسمُ مقْحماً كما في قوله وصية لأزواجهم متاعا إلى الحولِ ثم اسمُ السلامِ عليكما ويراد بالله إجراؤُها وإرساؤُها أي بقدرته وأمره وقريء مجريها ومرسيها على صيغة الفاعل مجرورَي المحل صفتين لله عز وجل ومَجراها ومَرْساها بفتح الميم مصدرين أو زمانين أو مكانين من جرى ورسا {إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ} للذنوب والخطايا {رحيم} لعباده ولذلك نجاكم من هذه الطآمّة والداهية العامّة ولولا ذلك لما فعله وفيه دِلالةٌ على أن نجاتَهم ليست بسبب استحقاقِهم لها بل بمحض فضلِ الله سبحانه وغفرانِه ورحمتِه على ما عليه رأيُ أهل السنة

42

{وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ} متعلقٌ بمحذوف دلَّ عليه الأمرُ بالركوب أي فركِبوا فيها مُسمّين وهي تجري ملتبسةً لهم {فِى مَوْجٍ كالجبال}

وهو ما ارتفع من الماء عند اضطرابِه كلُّ موجةٍ من ذلك كجبل في ارتفاعها وتراكُمِها وما قيل من أن الماءَ طبّق ما بين السَّماء والأرضِ وكانت السفينةُ تجري في جوفه كالحوت فغيرُ ثابتٍ والمشهورُ أنه علا شوامخَ الجبالِ خمسة عشرَ ذراعاً أو أربعين ذراعاً ولئن صح ذلك فهذا الجريانُ إنما هو قبل أن يتفاقم الخطبُ كما يدل عليه قوله تعالى {ونادى نُوحٌ ابنه} فإن ذلك إنما يُتصوَّر قبل أن تنقطِعَ العلاقةُ بين السفينةِ والبرِّ إذ حينئذ يمكن جرَيانُ ما جرى بين نوحٌ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ وبين ابنِه من المفاوضة بالاستدعاء إلى السفينة والجوابِ بالإعتصام بالجبل وقرىء ابنَها وابنَه بحذف الألفِ على أن الضميرَ لأمرأته وكان ربيبَه وما يقال من أنه كان لغير رِشدةٍ لقوله تعالى فَخَانَتَاهُمَا فارتكابُ عظيمةٍ لا يُقادرُ قدرُها فإن جنابَ الأنبياءِ صلواتُ الله تعالى عليهم وسلامُه أرفعُ من أن يشارَ إليه بأصبَع الطعنِ وإنما المرادُ بالخيانة الخيانةُ في الدين وقرىء ابناهْ على الندبة ولكونها حكايةً سُوّغ حذفُ حرفها وأنت خبيرٌ بأنه لا يملائه الاستدعاءُ إلى السفينة فإنَّه صريحٌ في أنَّهُ لم يقع في حياته يأسٌ بعْدُ {وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ} أي مكان عزَل فيه نفسَه عن أبيه وإخوتِه وقومِه بحيث لم يتناولْه الخطابُ باركبوا واحتاج إلى النداء المذكورِ وقيل في معزل عن الكفار قد انفرد عنهم وظن نوحٌ أنه يريد مفارقتَهم ولذلك دعاه إلى السفينة وقيل كان ينافق أباه فظن أنه مؤمنٌ وقيل كان يعلم أنه كافرٌ إلى ذلك الوقتِ لكنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ظن أنه عند مشاهدةِ تلك الأهوالِ ينزجرُ عما كان عليه ويقبل وقيل الإيمان لم يكن الذي تقدمَ من قولُه تعالَى أَلا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول نصا في كونه ابنِه داخلاً تحته بل كان كالمُجمل فحملتْه شفقةُ الأبوة على ذلك {يا بَنِى} بفتح الياء اقتصاراً عليه من الألف المُبْدلةِ من ياء الإضافةِ في قولك يا بنيا وقرىء بكسر الياء اقتصاراً عليه من ياء الإضافة أو سقطت الياءُ والألفُ لالتقاء الساكنين لأن الراءَ بعدهما ساكنة {اركب مَّعَنَا} قرأ أبو عمْرو والكسائيُّ وحفص بإدغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج وإنما أطلق الركوبُ عن ذكر الفُلك لتعينها وللإيذان بضيق المقامِ حيث حال الجريضُ دونَ القريضِ مع إغناء المعيةِ عن ذلك {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} أي في المكان وهو وجهُ الأرض خارجَ الفلك لا في الدين وإن كان ذلك مما يوجبه كما يوجب ركوبه معَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كونَه معه في الإيمان لأنه عليه الصلاة والسلام بصدد التحذيرِ عن الهَلَكة فلا يلائمه النهيُ عن الكفر

43

{قَالَ سَآوِى إلى جَبَلٍ} من الجبال {يَعْصِمُنِى} بارتفاعه من {الماء} زعمنا منه أن ذلك كسائر المياهِ في أزمنة السيولِ المعتادةِ التي ربما يُتّقى منها بالصعود إلى الربا وأنى له ذلك وقد بلغ السيلُ الزبى وجهلاً بأن ذلك إنما كان لإهلال الكفرة وأن لا محيص من ذلك سوى الإلتجاء إلى ملجأ المؤمنين فلذلك أراد عليه الصلاة والسلام إن يبين له حقيقة الحال ويصرفه عن ذلك الفكر المُحالِ وكان مقتضى الظاهر أن يجب بما ينطبقُ عليه كلامُه ويتعرّضَ لنفي ما أثبته للجبل من كونه عاصماً له من الماء بأن

هود الآية (44) يقولَ لا يعصِمُك منه مفيداً لنفي وصفِ العصمةِ عنه فقط من غير تعرضٍ لنفيه عن غيره ولا لنفي الموصوف أصلا لكنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حيث {قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} سالك طريقةَ نفي الجنسِ المنتظِم لنفي جميعِ أفرادِ العاصمِ ذاتاً وصفةً كما في قولهم ليس فيه داعٍ ولا مجيبٌ أي أحدٌ من الناس للمبالغة في نفي كونِ الجبلِ عاصماً بالوجهين المذكورَين وزادَ اليومَ للتَّنبيهِ على أنَّه ليس كسائر الأيامِ التي تقع فيها الوقائعُ وتُلِمُّ فيها المُلِماتُ المعتادةُ التي ربما يُتخلّص من ذلك بالالتجاء إلى بعض الأسبابِ العادية وعبّر عن الماء في محلّ إضمارِه بأمرِ الله أي عذابِه الذي أشير إليه حيث قيل حتَّى إذا جاء أمرُنا تفخيماً لشأنِه وتهويلاً لأمرِه وتنبيهاً لابنه على خطئه في تسميته ماءً ويوهم أنه كسائر المياهِ التي يُتفصَّى منها بالهرب إلى بعض المهاربِ المعهودةِ وتعليلاً للنفي المذكورِ فإن أمرَ الله لا يغالَب وعذابَه لا يُرَدّ وتمهيداً لحصر العِصمةِ في جناب الله عز جارُه بالاستثناء كأنه قيل لا عاصمَ من أمر الله إلا هو وإنما قيل {إِلاَّ مَن رَّحِمَ} تفخيماً لشأنه الجليلِ بالإبهام ثم التفسيرِ وبالإجمال ثم التفصيل وإشعاراً بعلّية رحمتِه في ذلك بموجب سبقِها على غضبه وكلُّ ذلك لكمال عنايته عليه الصلاة والسلام بتحقيق ما يتوخاه من نجاة ابنِه ببيان شأنِ الداهيةِ وقطعِ أطماعِه الفارغةِ وصرفه عن التعلل بما لا يغني عنه شيئاً وإرشادِه إلى العياذ بالمَعاذ الحقِّ عزَّ حِماهُ وقيل لا مكانَ يعصِم من أمر الله إلا مكان من رحمه الله وهو الفُلك وقيل معنى لا عاصم لا ذا عصمة إلا من رحمة الله تعالى {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج} أي بين نوحٍ وبين ابنِه فانقطع ما بينهما من المجاوبة لا بين ابنِه وبين الجبل لقوله تعالى {فَكَانَ مِنَ المغرقين} إذ هو إنما يتفرع على حيلولة الموج بينه عليه الصلاةُ والسَّلامُ وبين ابنه لا بينه وبين الجبلِ لأنه بمعزل من كونه عاصماً وإن لم يحُلْ بينه وبين الملتِجىءِ إليه موجٌ وفيه دِلالةٌ على هلاك سائرِ الكفرةِ على أبلغ وجهٍ فكان ذلك أمراً مقرَّرَ الوقوعِ غيرَ مفتقِرٍ إلى البيان وفي إيراد كان دون صار مبالغةٌ في كونه منهم

44

{وقيل يا أرض ابلعي} أي انشقي استعير له من ازرداد الحيوان ما يأكله الدلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتادِ التدريجيّ {مَاءكِ} أي ما على وجهك من ماء الطوفانِ دون المياهِ المعهودةِ فيها من العيون والأنهارِ وعبّر عنه بالماء بعد ما عبر عنه فيما سلف بأمر الله تعالى لأن المقامَ مقامُ النقص والتقليلِ لا مقام التفخم والتهويل {ويا سماء أَقْلِعِى} أي أمسِكي عن إرسال المطرِ يقال أقلعت السماءُ إذا انقطع مطرُها وأقلعت الحُمّى أي كفّت {وَغِيضَ الماء} أي نقص ما بين السَّماء والأرض من الماء {وَقُضِىَ الامر} أي أُنجز ما وعد الله تعالى نوحاً من إهلاك قومِه وإنجائِه بأهله أو أُتِمَّ الأمر {واستوت} أي استقرّت الفلكُ {عَلَى الجودى} هو جبلٌ بالمَوْصِل أو بالشام أو بآمل روي أنه عليه الصلاةُ والسلام ركب في الفلك في عاشر رجبٍ ونزل عنها في عاشر المحرَّم فصام ذلك اليوم شكراً فصار سُنّةً {وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين} أي هلاكاً لهم والتعرضُ لوصف الظلمِ للإشعار بعليته للهلاك ولتذكيره ما سبقَ من قولِه تعالى وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظلموا إنهم

هود الآية (45 46) مُّغْرَقُونَ ولقد بلغت الآيةُ الكريمةُ من مراتب الإعجازِ قاصيتَها وملكت من غُرر المزايا ناصيتَها وقد تصدّى لتفصيلها المهرة المتقنون ولعمري إن ذلك فوق ما يصفه الواصفون فحريٌّ بنا أن نوجزَ الكلامَ في هذا البابِ ونفوّضَ الأمر إلى تأمل أولي الألباب والله عنده علم الكتاب

45

{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ} أي أراد ذلك بدليل الفاء في قوله تعالى {فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى} وقد وعدتني إنجاءَهم في ضمن الأمرِ بحملهم في الفلك أو النداءُ على الحقيقة والفاء لتفصيل ما فيه من الإجمال {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق} أي وعدَك ذلك أو إنّ كل وعد تعده حقٌّ لا يتطرق إليه خُلْفٌ فيدخل فيه الوعدُ المعهُود دخولاً أولياً {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} لأنك أعلمُهم وأعدلُهم أو أنت أكثرُ حكمةً من ذوي الحِكَم على أن الحاكمَ من الحِكمة كالدارع من الدِرْع وهذا الدعاء منه عليه الصلاة والسلام على طريقة دعاءِ أيوبَ عليه الصلاة والسلام إِذْ نادى رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ الضرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين

46

{قَالَ يَا نُوحٌ} لما كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام بتذكير وعدِه جل ذكرُه مبنياً على كون كنعانَ من أهله نُفيَ أولاً كونُه منهم بقوله تعالى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أي ليس منهم أصلاً لأن مدار الأهليةِ هو القرابةُ الدينية ولا علاقةَ بين المؤمن والكافرِ أو ليس من أهلك الذين أمرتُك بحملهم في الفلك لخروجه عنهم بالاستثناء وعلى التقديرين ليس هو من الذين وُعد بإنجائهم ثم علل عدمُ كونِه منهم على طريقة الاستئنافِ التحقيقي بقوله تعالى {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} أصله إنه ذو عملٍ غيرِ صالح فجُعل نفسَ العملِ مبالغةً كما في قول الخنساء فإنما هي إقبالٌ وإدبار وإيثارُ غيرُ صالحٍ على فاسد إما لأن الفاسدَ ربما يطلق على ما فسد ومن شأنُه الصلاحُ فلا يكون نصاً فيما هو من قبيل الفاسدِ المحضِ كالقتل والمظالم وإما للتلويح بأن نجاةَ من نجا إنما هي لصلاحه وقرأ الكسائي ويعقوب إنه عمِلَ غيرَ صالحٍ أي عملاً غيرَ صالح ولما كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام مبنياً على ما ذكر من اعتقاد كونِ كنعانَ من أهله وقد نُفيَ ذلك وحُقّق ببيان عِلّته فُرّع على ذلك النهيُ عن سؤال إنجائِه إلا أنه جيء بالنهي على وجه عامٍ يندرجُ فيه ذلك اندارجا أولياً فقيل {فَلاَ تَسْأَلْنى} أي إذا وقفتَ على جلية الحالِ فلا تطلُب مني {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي مطلباً لا تعلم يقيناً أن حصولَه صوابٌ وموافقٌ للحكمة على تقدير كونِ ما عبارةً عن المسئول الذي هو مفعولٌ للسؤال أو طلباً لا تعلم أنه صوابٌ على تقدير كونِه عبارةً عن المصدر الذي هو مفعولٌ مطلقٌ فيكون النهيُ وارداً بصريحه في كلَ من معلوم الفساد ومشتبه الحال ويجوز أن يكون المعنى ما ليس لك علمٌ بأنه صوابٌ أو غيرُ صوابٍ فيكون النهيُ وارداً في مشتبِهِ الحالِ ويُفهمُ منه حالُ معلوم الفساد بالطريق الأولى وعلى التقديرين فهو عامٌ يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرناه وهذا كما ترى صريحٌ في أن نداءَه عليه الصَّلاةُ والسلام ربَّه عز وعلا ليس استفساراً عن سبب عدمِ إنجاءِ ابنِه مع سبق وعدِه بإنجاء أهلِه وهو

هود الآية (47) منهم كما قيل فإن النهيَ عن استفسار ما لم يُعلم غيرُ موافقٍ للحكمة إذ عدمُ العلمِ بالشيء داعٍ إلى الاستفسار عنه لا إلى تركه بل هو دعاءٌ منه لإنجاء ابنِه حين حال الموجُ بينهما ولم يَعلم بهلاكه بعدُ إما بتقريبه إلى الفُلك بتلاطم الأمواجِ أو بتقريبها إليه وقيل أو بإنجائه في قُلّة الجبل ويأباه تذكيرُ الوعدِ في الدعاء فإنه مخصوصٌ بالإنجاء في الفلك وقوله تعالى لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ ومجرّدُ حيلولةِ الموجِ بينهما لا يستوجب هلاكَه فضلاً عن العلم به لظهور إمكانِ عصمةِ الله تعالى إياه برحمته وقد وعد بإنجاء أهلِه ولم يكن ابنُه مجاهراً بالكفر كما ذكرناه حتى لا يجوز عليه عليه السلام أن يدعوَه إلى الفُلك أو يدعوَ ربّه لإنجائه واعتزالُه عنه عليه الصلاة والسلام وقصدُه الالتجاء إلى الجبل ليس بنص في الإصرار على الكفر لظهور جوازِ أن يكون ذلك لجهله بانحصار النجاة في الفُلك وزعمِه أن الجبلَ أيضاً يجري مجراه أو لكراهة الاحتباسِ في الفلك بل قوله سَآوِى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء بعد ما قال له نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين ربما يُطمعه عليه السلام في إيمانه حيث لم يقل أكونُ معهم أو سنأوي أو يعصمنا فإن إفرادَ نفسه بنسبة الفعلين المذكورين ربما يشعر بانفرداه من الكافرين واعتزالِه عنهم وامتثالِه ببعض ما أمره به نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلا أنه عليه الصلاةُ والسلام لو تأمل في شأنه حقَّ التأملِ وتفحّص عن أحواله في كلِّ ما يأتي ويذر لما اشتبه عليه أنه ليس بمؤمن وأنه المستثنى من أهله ولذلك قيل {إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} فعبّر عن ترك الأولى بذلك وقرىء فلا تسألنِ بغير ياءِ الإضافةِ وبالنون الثقيلة بياء وبغير ياء

47

{قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ} أي أطلب منك من بعدُ {مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ} أي مطلوباً لا أعلم أن حصولَه مقتضي الحِكمة أو طلباً لا أعلم أنه صوابٌ سواءٌ كان معلومَ الفسادِ أو مشتبه الحال أولا أعلمُ أنه صوابٌ أو غيرُ صوابٍ على ما مر وهذه توبةٌ منه عليه السلام مما وقع منه وإنما لم يقُلْ أعوذ بك منه أو من ذلك مبالغةً في التوبة وإظهاراً للرغبة والنشاطِ فيها وتبركاً بذكر ما لقّنه الله تعالى وهو أبلغُ من أنْ يقول أتوبُ إليك أن أسألَك لما فيهِ منَ الدلالةِ على كون ذلك أمراً هائلاً محذوراً لا محيصَ منه إلا بالعوذ بالله تعالى وأن قدرتَه قاصرةٌ عن النجاة من المكاره إلا بذلك {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى} ما صدرَ عنِّي من السؤال المذكورِ {وَتَرْحَمْنِى} بقَبول توبتي {أَكُن مّنَ الخاسرين} أعمالاً بسبب ذلك فإن الذهولَ عن شكر الله تعالى لا سيما عند وصولِ مثلِ هذه النعمةِ الجليلةِ التي هي النجاةُ وهلاكُ الأعداءِ والاشتغالَ بما لا يعني خصوصاً بمبادي خلاصِ من قيلَ في شأنه إنه عملٌ غيرُ صالحٍ والتضرّعَ إلى الله تعالَى في أمره معاملة غير رابحة وخسران مبينٌ وتأخيرُ ذكرِ هذا النداءِ عن حكاية الأمرِ الوارد على الأرض والسماء وما يتلوه من زوال الطوفانِ وقضاءِ الأمر واستواءِ الفُلك على الجوديّ والدعاءِ بالهلاك على الظالمين مع أن حقَّه أن يُذكر عَقيبَ قوله تعالى فَكَانَ مِنَ المغرقين حسبما وقع في الخارج إذ حينئذ يُتصوّر الدعاءُ بالإنجاء لا بعد العلمِ بالهلاكِ ليس لما

} 1 هود آية 48 قيل من استقلاله بغرض مُهمَ هو جعلُ قرابةِ الدين غامرةً لقرابة النسبِ وأن لا يقدّم في الأمور الدينيةِ الأصوليةِ إلا بعد اليقينِ قياساً على ما وقع في قصة البقرةِ من تقديم ذكرِ الأمرِ بذبحها على ذكر القتيلِ الذي هو أولُ القصةِ وكان حقُّها أن يقالَ وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرةً فاضرِبوه ببعضها كما قُرّر في موضعه فإن تغييرَ الترتيبِ هناك للدِلالة على كمال سوءِ حالِ اليهودِ بتعديد جناياتِهم المتنوعةِ وتثنية التقريعِ عليهم بكل نوع على حدة فقوله تعالى وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً الخ لتقريعهم على الاستهزاء وتركِ المسارعةِ إلى الامتثال وما يتبع ذلك وقوله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا الخ للتقريع على قتل النفسِ المحرمةِ وما يتبعه من الأمور العظيمةِ ولو قُصت القِصةُ على ترتيبها لفات الغرضُ الذي هو تثنيةُ التقريعِ ولظُن أن المجموعَ تقريعٌ واحدٌ وأما ما نحن فيه فليس مما يمكن أن يراعى فيه مثلُ تلك النكتةِ أصلاً وما ذكر من جعل القرابةِ الدينيةِ غامرةً للقرابة النسبية الخ لا يفوت على تقدير سَوْقِ الكلامِ على ترتيب الوقوعِ أيضاً بل لأن ذكرَ هذا النداءِ كما ترى مستدعٍ لذكر ما مر من الجواب المستدعي لذكر ما مر من توبته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المؤدِّي ذكرُها إلى ذكر قَبولها في ضمن الأمرِ الوارد بنزوله عليه الصلاة والسلام من الفلك بالسلام والبركاتِ الفائضةِ عليه وعلى المؤمنين حسبما سيجيء مفصلاً ولا ريب في أن هذه المعانيَ آخذٌ بعضُها بحُجْزةِ بعض بحيث لا يكاد يُفرَّق الآياتُ الكريمة المنطويةُ عليها بعضُها من بعض وأن ذلك إنما يتم بتمام القِصّة ولا ريب أن ذلك إنما يكون بتمام الطوفانِ فلا جرم اقتضى الحالُ ذكرَ تمامِها قبلَ هذا النداءِ وذلك إنما يكون عند ذكرِ كونِ كنعانَ من المغرَقين ولهذه النكتة ازداد حسنُ موقعِ الإيجاز البليغِ وفيه فائدةٌ أخرى هي التصريحُ بهلاكه من أول الأمرِ ولو ذكر النداء الثاني عَقيبَ قوله تعالى فَكَانَ من المغرقين لربما توهم من أول الأمرِ إلى أن يرِد قولُه إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أنه ينجو بدعائه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فنُص على هلاكه من أول الأمرِ ثم ذُكر الأمر الوارد على الأرض والسماءِ الذي هو عبارةٌ عن تعلق الإرادةِ الربانيةِ الأزليةِ بما ذُكر من الغيض والإقلاعِ وبين بلوغِ أمرِ الله محلَّه وجريانِ قضائِه ونفوذ حُكمِه عليهم بهلاك من هلك ونجاةِ من نجا بتمام ذلك الطوفانِ واستواءِ الفُلكِ على الجوديِّ فقُصّت القِصةُ إلى هذه المرتبةِ وبُيّن ذلك أيَّ بيانٍ ثم تعرض لما وقعَ في تضاعيفِ ذلكَ مما جرى بين نوحٍ عليه السلام وبين ربِّ العزة جلت حكمتُه فذكر بعد توبته عليه الصلاة والسلام قبولها بقوله

48

{قيل يا نوح اهبط} أي انزل من الفُلك وقرىء بضم الباء {بِسَلامٍ} ملتبساً بسلامة من المكاره كائنةٍ {مِنَّا} أو بسلام وتحيةٍ منا عليك كما قال سلامٌ على نُوحٍ فِى العالمين {وبركات عَلَيْكَ} أي خيراتٍ ناميةٍ في نسلك وما يقوم به معاشُك ومعاشُهم من أنواع الأرزاق وقرىء بركةٍ وهذا إعلان وبشارةٌ من الله تعالى بقَبول توبتِه وخلاصِه من الخسران بفيضان أنواعِ الخيراتِ عليه في كل

} 1 هود آية 49 ما يأتي وما يذرُ {وعلى أُمَمٍ} ناشئةٍ {مّمَّن مَّعَكَ} إلى يوم القيامة متشعبة منهم فمن ابتدائيةٌ والمرادُ الأممُ المؤمنةُ المتناسلةُ ممن معه إلى يوم القيامة {وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ} أي ومنهم على أنه خبرٌ حُذف لدلالةِ ما سبق عليه فإن إيرادَ الأممِ المبارَكِ عليهم المتشعبةِ منهم نكرةٌ يدل على أن بعضَ مَنْ يتشعّب منهم ليسوا على صفتهم يعني ليس جميعُ من تشعّب منهم مسلماً ومباركاً عليه بل منهم أممٌ ممتّعون في الدينا معذّبون في الآخرة وعلى هذا لا يكون الكائنون مع نوح عليه السلام مسلماً ومبارَكاً عليهم صريحاً وإنما يفهم ذلك من كونهم مع نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ومن كون ذريّاتِهم كذلك بدلالة النصِّ ويجوز أن تكون من بيانيةً أي وعلى أمم هم الذين معك وإنما سُمّوا أمماً لأنهم أممٌ متحزِّبةٌ وجماعاتٌ متفرِّقةٌ أو لأن جميعَ الأممِ إنما تشعّبت منهم فحينئذ يكون المرادُ بالأمم المشارِ إليهم في قوله تعالى وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ بعضَ الأممِ المتشعبةِ منهم وهي الأممُ الكافرةُ المتناسلةُ منهم إلى يوم القيامة ويبقى أمرُ الأممِ المؤمنةِ الناشئةِ منهم مبهماً غيرَ متعرّضٍ له ولا مدلولٍ عليه مع ذلك ففي دِلالة المذكورِ على خبره المحذوفِ خفاءٌ لأن من المذكورةَ بيانيةٌ والمحذوفةَ تبعيضيةٌ أو ابتدائيةٌ فتأمل {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ} إما في الآخرةِ أو في الدنيا أيضاً {مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} عن محمدُ بنُ كعبٍ القُرَظي دخل في ذلك السلامِ كلُّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ إلى يوم القيامة وفيما بعده من المتاع والعذابِ كلُّ كافر وعن ابن زيد هبطوا والله عنهم راضٍ ثم أَخرج منهم نسلاً منهم من رَحِم ومنهم من عذّب وقيل المرادُ بالأمم الممتَّعةِ قومُ هودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ عليهم السَّلامُ وبالعذاب ما نزل بهم

49

{تِلْكَ} إشارة إلى ما قُصّ من قصة نوحٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إمَّا لكونها بتقضّيها في حكم البعيد أو الدلالة على بُعد منزلِتها وهي مبتدأ خبره {مِنْ أَنبَاء الْغَيبِ} أي من جنسها أي ليست من قبيل سائرِ الأنباءِ بل هي نسيجُ وحدِها منفردةٌ عما عداها أو بعضِها {نُوحِيهَا إِلَيكَ} خبرٌ ثانٍ والضمير لها أي مُوحاةٌ إليك أو هو الخبرُ ومن أنباء متعلِّقٌ به فالتعبير بصيغة المضارع لاستحضار الصورة أو حال مِنْ أَنبَاء الغيب أي مُوحاةً إليك {ما كنت تعلمها أنت وَلاَ قَوْمُكَ} خبرٌ آخرُ أي مجهولةٌ عندك وعند قومك {من قبل هذا} أي من قبل إيحائِنا إليك وإخبارِك بها أو من قبل هذا العلمِ الذي كسبْتَه بالوحي أو من قبل هذا الوقت أو حالٌ من الهاء في نُوحيها أو الكافِ إليك أي جاهلاً أنت وقومُك بها وفي ذكر جهلِهم تنبيهٌ على أنَّه عليه الصلاةُ والسلام لم يتعلمه إذ لم يخالِطْ غيرَهم وأنهم مع كثرتهم لما لم يعلموه فكيف بواحد منهم {فَاصْبِر} متفرِّعٌ على الإيحاء أو العلمِ المستفادِ منه المدلولِ عليه بقوله ما كنت تعلمها أنت ولا قومُك من قبل هذا أي وإذ قد أوحيناها إليك أو علمْتَها بذلك فاصبِرْ على مشاقّ تبليغِ الرسالةِ وأذيَّةِ قومِك كما صبر نوحٌ على ما سمعته من أنواع البلايا في هذه المدة المتطاولةِ وهذا ناظرٌ إلى ما سبقَ من قولِه تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك الخ {إن العاقبة} بالظفر في الدنيا وبالفوز في الآخرة {للمتقين} كما شاهدته في نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وقومِه ولك فيه أسوةٌ حسنة فهي

} 1 هود آية من 50 إلى آية 52 تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليلٌ للأمر بالصبر فإن كونَ العاقبةِ الحميدةِ للمتقين وهو في أقصى درجاتِ التقوى والمؤمنون كلُّهم مّتقون مما يسليه صلى الله عليه وسلم ويهوِّن عليه الخطوبَ ويُذهب عنه ما عسى يعتريَه من ضيق صدرِه وهذا على تقدير أن يرادَ بالتقوى الدرجةُ الأولى منه أعني التوقّي من العذاب المخلدِ بالتبرؤ من الشرك وعليه قوله تعالى وَأَلْزَمَهُمْ كلمةَ التقوى ويجوز أن يراد الدرجةُ الثالثةُ منه وهي أن يتنزّه عما يشغَلُ سرَّه عن الحق ويتبتَّلَ إليه بشرا شره وهو التقوى الحقيقيُّ المطلوبُ بقوله تعالى اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ فإن التقوى بهذا المعنى منطور على الصبر المذكورِ فكأنه قيل فاصبر فإن العاقبةَ للصابرين

50

{وإلى عاد} متعلق بمضمر معطوف على قوله تعالى أرسلنا في قصَّة نوحٍ وهو الناصبُ لقوله تعالى {أخاهم} أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي واحداً منهم في النسَب كقولهم يا أخا العرب وتقديمُ المجرور على المنصوب ههنا للحذار عن الإضمار قبل الذكر وقيل متعلّقٌ بالفعل المذكور فيما سبق وأخاهم معطوفٌ على نوحاً وقد مرَّ في سورةِ الأعراف وقوله تعالى {هودا} عطف بيان لأخاهم وكان صلى الله عليه وسلم من جملتهم فإنه هودُ بنُ عبدِ اللَّه بن رباح بن الخلود ابن العوص بن إرمَ بنِ سام بن نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل هودُ بنُ شالح بنِ أرفخشذَ بنِ سامِ بن نوح ابن عم أبي عاد وإنما جعل منهم لأنهم أفهمُ لكلامه وأعرفُ بحاله وأرغبُ في اقتفائه {قَالَ} لما كان ذكر إرساله صلى الله عليه وسلم إليهم مظنةً للسؤال عما قال لهم ودعاهم إليه أُجيب عنه بطريق الاستئنافِ فقيل قال {يا قوم اعبدوا الله} أي وحدوه كما ينبىء عنه قوله تعالى {مَا لَكُم مّنْ إله غيره} فإنه استئناف يجري مَجرى البيان للعبادة المأمورِ بها والتعليلُ للأمر بها كأنه قيل خُصّوه بالعبادة وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً إذ ليس لكم من إله سواه وغيرُه بالرَّفعِ صفةٌ لإله باعتبار محلِّه وقرىء بالجر حملاً له على لفظه {إِن أَنْتُم} ما أنتم باتخاذكم الأصنامَ شركاءَ له أو بقولكم إن الله أمرنا بعبادتها {إلاَّ مُفْتَرُون} عليه تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً

51

{يَا قَومِ لاَ أَسْأَلُكُم عَلَيهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} خاطبَ به كلُّ نبيَ قومه إزاحة لما عسى يتوهّمونه وإمحاضاً للنصيحة فإنها ما دامت مشوبةً بالمطامع بمعزل عن التأثير وإيرادُ الموصولِ للتفخيم وجعلُ الصلةِ فعل الفطرة لكونه أقدم النعمِ الفائضةِ من جناب الله تعالى المستوجبةِ للشكر الذي لا يتأتى إلا بالجرَيان على موجب أمرِه الغالبِ مُعرِضاً عن المطالب الدنيويةِ التي منْ جُمْلتِها الأجرُ {أفَلاَ تَعْقِلُون} أي أتغفُلون عن هذه القضيةِ أو ألا تتفكرون فيها فلا تعقِلونها أو أتجهلون كلَّ شيءٍ فلا تعقلون شيئاً أصلاً فإن هذا مما لا ينبغي أن يخفى على أحد من العقلاء

52

{ويَا قَومِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُم} أي اطلبوا مغفرته

} 1 هود من آية 53 إلى آية 54 لما سلف منكم من الذنوب بالإيمان والطاعة {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي توسّلوا إليه بالتوبة وأيضاً التبرُّؤُ من الغير إنما يكون بعد الإيمان بالله تعالى والرغبةِ فيما عنده {يُرْسِلِِ السَّمَاءَ} أي المطرَ {عَلَيكُمْ مِّدْرَاراً} أي كثيرَ الدّرور {ويزدْكُمْ قُوَّةً} مضافةً ومنضمّةً {إِلَى قُوَّتِكُم} أي يضاعفْها لكم وإنما رغّبهم بكثرة المطرِ لأنهم كانوا أصحابَ زروعٍ وعمارات وقيل حبسَ الله تعالَى عنهم القطرَ وأعقمَ أرحامَ نسائِهم ثلاث سنين فوعدهم عليه الصلاة والسلام كثرةَ الأمطارِ وتضاعُفَ القوة بالتناسل على الإيمان والتوبة {وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ} أي لا تُعرضوا عما دعوتُكم إليه {مُجْرِمِينَ} مصِرِّين على ما كنتم عليه من الإجرام

53

{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} أي بحجة تدل على صحة دعواك وإنما قالوه لفَرْط عنادِهم وعدمِ اعتدادِهم بما جاءهم من البينات الفائتةِ للحصر {وما نحن بتاركي آلهتنا} أي بتاركي عبادتِها {عَنْ قَوْلِكَ} أي صادرين عنه أي صادراً تركُنا عن ذلك بإسناد حالِ الوصفِ إلى الموصوف ومعناه التعليلُ على أبلغ وجهٍ لِدلالته على كونه علةً فاعليةً ولا يفيده الباءُ واللام وهذا كقولهم المنقولِ عنهم في سورة الأعراف أجئتَنا لنعبُدَ الله وحدَه ونذرَ ما كان يعبُد آباؤُنا {وما نحن لك بمؤمنين} أي بمصدقين في شيء مما تأتي وتذر فيندرج تحته ما دعاهم إليه من التوحيد وتركِ عبادة الآلهةِ وفيه من الدلالة على شدة الشكيمة وتجاوزِ الحدِّ في العتو ما لا يَخْفَى

54

{إنْ نقولُ إلاَّ اعتراك} أي ما نقول إلا قولَنا اعتراك أي أصابك {بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} بجنون لِسبِّك إياها وصدِّك عن عبادتها وحطِّك لها عن رتبة الألوهيةِ والمعبوديةِ بما مر من قولِك مَا لَكُم مّنْ إله غيره إن أنتم إلا مفترون والتنكيرُ في سوءٍ للتقليل كأنهم لم يبالغوا في السوء كما ينبىء عنه نسبةُ ذلك إلى بعض آلهتِهم دون كلِّها والجملةُ مقولُ القولِ وإلا لغوٌ لأن الاستثناءَ مفرَّغٌ وهذا الكلامُ مقرِّرٌ لما مر من قولهم وما نحن بتاركي آلهتِنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين فإن اعتقادهم بكونه عليه الصلاة والسلام كما قالوا وحاشاه عن ذلك يوجب عدمَ الاعتدادِ بقوله وعدِّه من قبيل الخُرافاتِ فضلاً عن التصديق والعملِ بمقتضاه يعنون إنا لا نعُدّ كلاَمك إلا من قبيلِ ما لا يحتمل الصِّدقَ والكذِبَ من الهذَيانات الصادرةِ عن المجانين فكيف نصدِّقه ونؤمن به ونعمل بموجبه ولقد سلكوا في طريقة المخالفةِ والعناد إلى سبيل الترقي من الأدنى إلى الأعلى حيث أَخبَروا أولاً عن عدم مجيئِه بالبينة مع احتمال كونِ ما جاءَ به عليهِ الصلاة والسلام حجةً في نفسه وإن لم تكن واضحةَ الدِلالة على المراد وثانياً عن ترك الامتثال بقوله عليه الصلاة والسلام بقولهم وما نحن بتاركي آلهتِنا عن قولك مع إمكان تحققِ ذلك بتصديقهم له عليه الصلاة والسلام في كلامه ثم نفَوا تصديقهم له عليه الصلاة والسلام بقولهم وما نحن لك بمؤمنين مع كون كلامِه عليه الصَّلاة والسَّلام مما يقبل التصديقَ ثم نفَوْا عنه تلك المرتبةَ أيضاً حيث قالوا ما قالوا قاتلهم الله أنَّي يُؤفكون {قَالَ إِنِّي أَُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ

55

{مِن دُونِهِ} أي من إشراككم مِن دُونِ الله أي من غير أن ينزِّل به سلطاناً كما قال في سورة الأعراف أتجادلونني في أسماء سميتوها أنتم وآباؤكم مَّا أَنزَلَ الله بِهَا من سلطان أو مما تشركونه من آلهة غيرِ الله أجاب به عن مقالتهم الحمقاءِ المبنيةِ على اعتقاد كونِ آلهتِهم مما يضُرُّ أو ينفع وأنها بمعزل من ذلك ولما كان ما وقع أولاً عنه عليه الصلاة والسلام في حق آلهتِهم من كونها بمعزل عن الألوهية إنما وقع في ضمن الأمرِ بعبادة الله تعالى واختصاصِه بها وقد شق عليهم ذلك وعدّوه مما يورِث شيْناً حتى زعَموا أنها تصيبه عليه الصلاة والسلام بسوء مجازاةٍ لصنيعه معها صرح عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالحقِّ وصدَع به حيث أُخبر ببراءته القديمةِ عنها بالجملة الاسميةِ المصدّرةِ بإنّ وأَشهد الله على ذلك وأمرهم بأن يسمعوا ذلك ويشهدوا به استهانةً بهم ثم أمرهم بالاجتماع والاحتشادِ مع آلهتم جميعاً دون بعضٍ منها حسبما يُشعر به قولُهم بعضُ آلهتنا والتعاونِ في أيصال الكيد إليه عليه الصلاة والسلام ونهاهم عن الإنظار والإمهالِ في ذلك فقال {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظرون} أي إن صح ما لوحتم به من كون آلهتِكم مما يقدِر على إضرار مَنْ ينال منها ويصُدّ عن عبادتها ولو بطريق ضِمنيَ فإني بريءٌ منها فكونوا أنتم معها جميعاً وباشروا كيدي ثم لا تُمهلوني ولا تسامحوني في ذلك فالفاءُ لتفريع الأمرِ على زعمهم في قدرة آلهتِهم على ما قالوا وعلى البراءة كليهما وهذا من أعظم المعجزاتِ فإنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان رجلاً مفْرَداً بين الجمِّ الغفير والجمعِ الكثير من عُتاة عادٍ الغلاظِ الشِّدادِ وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقّرهم وآلهتَهم وهيَّجهم على مباشرة مبادى المضادة والمضارة وحثّهم على التصدِّي لأسباب المُعازّة والمعارّة فلم يقدروا على مباشرة شيءٍ مما كلفوه وظهر عجزُهم عن ذلك ظهوراً بيناً كيف لا وقد التجأ إلى ركن منيعٍ رفيعٍ واعتصم بحبل متينٍ حيث قال

56

{إنِّي تَوَكَّلْتُ على الله ربِّي ورَبِّكُم} يعني أنكم وإن بذلتم في مُضارّتي مجهودَكم لا تقدرون على شيء مما تريدون بي فإني متوكلٌ على الله تعالى وإنما جيء بلفظ الماضي لكونه أدلَّ على الإنشاء المناسبِ للمقام وواثقٌ بكلاءتي وحفظي عن غوائلكم وهو مالكي ومالكُكم لا يصدُر عنكم شيءٌ ولا يصيبني أمرٌ إلا بإرادته ومشيئتِه ثم برهن عليه بقوله {مَا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُو آخِذٌ بِناصِيتِهَا} أي إلا هو مالكٌ لها قادرٌ عليها يُصرِّفها كيف يشاء غيرَ مستعْصيةٍ عليه فإن الأخذَ بالناصية تمثيلٌ لذلك {إنَّ ربِّي عَلى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ} تعليلٌ لما يدل عليه التوكلُ من عدم قدرتِهم على إضراره أي هو على الحقّ والعدلِ فلا يكاد يسلِّطكم عليّ إذ لا يَضيعُ عنده معتصِمٌ ولا يفتاتُ عليه ظالمٌ والاقتصارُ على إضافة الربِّ إلى نفسه إما بطريق الاكتفاءِ لظهور المرادِ وإما لأن فائدةَ كونِه تعالى مالكاً لهم أيضاً راجعةٌ إليه عليه الصلاة والسلام

هود من آية 57 إلى آية 59

57

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي تتولَّوا بحذف إحدى التاءين أي أن تستمرّوا على ما كنتم عليه من التولي والإعراض {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} أي لم أعاتَبْ على تفريط في الإبلاغ وكنتم محجوجين بأن بلغكم الحقَّ فأبيتم إلا التكذيبَ والجحود {وَيَسْتَخْلِف رَبِّي قَوماً غَيرَكُم} استئنافٌ بالوعيد لهم بأن الله تعالى يهلكهم ويستخلف في ديارهم وأموالِهم قوماً آخرين أو عطفٌ على الجواب بالفاء ويؤيده قراءةُ ابن مسعود رضي الله عنه بالجزْم عطفاً على الموضع كأنه قيل فإن تولّوا يعذرني ويهلكهم ويستخلفْ مكانكم آخرين وفي اقتصار إضافةِ الربِّ عليه الصلاة والسلام رمزٌ إلى اللطف به والتدميرِ للمخاطبين {وَلاَ تَضُرُّونَهُ} بتولّيكم {شَيئاً} من الضرر لاستحالة ذلك عليه ومن جزم ويستخلف أسقط منه النون {إنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيءٍ حَفِيظٌ} أي رقيبٌ مهيمنٌ فلا تخفى عليه أعمالُكم فيجازيكم بحسبها أو حافظٌ مستولٍ على كل شيء فكيف يضُرّه شيءٌ وهو الحافظُ للكل

58

{ولما جاء أمرنا} أي نزل عذابُنا وفي التعبير عنه بالأمر مضافاً إلى ضميره جل جلاله وعن نزوله بالمجيء ما لا يَخفْى من التفخيم والتهويلِ أو ورد أمرُنا بالعذاب {نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} وكانوا أربعةَ آلافٍ {بِرَحْمَةٍ} عظيمةٍ كائنةٍ لهم {منا} وهي الإيمان الذي أنعمنا به عليهم بالتوفيق له والهدايةِ إليه {وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي كانت تلك التنجيةُ تنجيةً من عذاب غليظ وهي السَّمومُ التي كانت تدخل أنوفَ الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطعهم إرْباً إرْباً وقيل أريد بالثانية التنجيةُ من عذاب الآخرةِ ولا عذاب أغلظ منه وأشدُّ وهذه التنجيةُ وإن لم تكن مقيدةً بمجيء الأمرِ لكن جيء بها تكملةً للنعمة عليهم وتعريضاً بأن المهلَكين كما عُذّبوا في الدنيا بالسَّموم فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ

59

{وتلك عاد} أنث الاسم الإشارةِ باعتبار القبيلةِ أو لأن الإشارةَ إلى قبورهم وآثارهِم {جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِم} كفروا بها بعدما استيقنوها {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} جمعَ الرسلَ مع أنه لم يرسِلْ إليهم غيرَ هودٍ عليه الصلاة والسلام تفظيعاً لحالهم وإظهاراً لكمال كفرِهم وعنادِهم ببيان أن عصيانهم له عليه الصلاة والسلام عصيانٌ لجميع الرسلِ السابقين واللاحقين لاتفاق كلمتِهم على التوحيد لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ من رسلِه فيجوز أن يرادَ بالآيات ما أتى به هودٌ وغيرُه من الأنبياءِ عليهم السلام وفيه زيادةُ ملاءمةٍ لما تقدم من جميع الآياتِ وما تأخر من قوله {واتبعوا أمر كل جبار عَنِيدٍ} من كبرائهم ورؤسائِهم الدعاةِ إلى الضلال وإلى تكذيب الرسلِ فكأنه قيل عصَوا كلَّ رسولٍ واتبعوا أمرَ كلِّ جبارٍ وهذا الوصفُ ليس كما سبق من جحود الآياتِ وعصيانِ الرسلِ في الشمول لكل فردٌ منهم فإن الاتباعَ للأمر من أوصاف الأسافلِ دون الرؤساء

} 1 هود من آية 60 إلى آية 61 وعنيدٌ فعيلٌ من عنَد عندا وعندا إذا طغا والمعنى عصَوا مَنْ دعاهم إلى الهدى وأطاعوا من حداهم إلى الردى

60

{وأتبعوا فِى هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً} إبعاداً عن الرحمة وعن كل خير أي جُعلت اللعنةُ لازمةً لهم وعبّر عن ذلك بالتبعية للمبالغة فكأنها لا تفارقهم وإن ذهبوا كلَّ مذهبٍ بل تدور معهم حيثما داروا ولوقوعه في صحبة اتباعهم رؤساءهم يعني أنهم لما اتّبعوهم أُتبعوا ذلك جزاءً لصنيعهم جزاءً وفاقاً {وَيومَ الْقِيَامَةِ} أي أُتبعوا يوم القيامة أيضاً لعنةً وهي عذابُ النارِ المخلد حُذفت لدِلالة الأولى عليها وللإيذان بكون كلَ من اللغتين نوعاً برأسه لم تُجمعا في قرن واحد بأن يقال وأتبعوا في هذه الدنيا ويومَ القيامة لعنةً كما في قوله تعالى واكتبْ لنا في هذه الدنيا حسنةً وفي الآخرة إيذاناً باختلاف نوعي الحسنتين فإن المرادَ بالحسنة الدنيويةِ نحوُ الصِّحةُ والكَفاف والتوفيقُ للخير وبالحسنة الأخروية الثوابُ والرحمةُ {أَلَا إِنَّ عَاداً كَفَرُوا رَبَّهُم} أي بربهم أو نعمةَ ربهم حملاً له على نقيضه الذي هو الشكرُ أو جحدوه {ألاَ بُعْداً لِعَادٍ} دعاءٌ عليهم بالهلاك مع كونهم هالكين أيَّ هلاك تسجيلاً عليهم باستحقاق الهلاكِ واستيجابِ الدمار وتكريرُ حرفِ التنبيهِ وإعادةُ عادٍ للمبالغة في تفظيع حالِهم والحثِّ على الاعتبار بقصتهم {قومِ هُود} عطفُ بيانٍ لعاد فائدتُه التمييزُ عن عادِ الثانية عادِ إرمَ والإيماءُ إلى أن استحقاقَهم للبعد بسبب ما جرى بينهم وبين هود عليه الصلاة والسلام وهم قومُه

61

{وإلى ثمود أخاهم صالحا} عطف على ما سبق من قوله تعالى وإلى عاد أخاهم هودا وثمودُ قبيلةٌ من العرب سُمُّوا باسم أبيهم الأكبرِ ثمود بن عابر بن إرمَ بنِ سام وقيل إنما سموا بذلك لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل وصالح عليه الصلاة والسلام هو ابنُ عبيدِ بنِ آسف بنِ ماشج بن عبيدِ بن جادر بن ثمود ولما كان الإخبار بإرساله إليهم مظِنّةً لأن يسأل ويقال ماذا قال لهم قيل جواباً عنه بطريق الاستئناف {قال يا قوم اعبدوا الله} أي وحدَه وعلل ذلك بقوله {مَا لَكُم مّنْ إله غيرُهُ} ثم زيد فيما يبعثهم على الإيمان والتوحيدِ ويحثّهم على زيادة الإخلاصِ فيه بقوله {هُو أنشَأَكُم من الأرض} أين هو كوّنكم وخلقَكم منها لا غيرُه قصرُ قلبٍ أو قصرُ إفرادٍ فإن خلقَ آدمَ عليه الصلاة والسلام منها خلقٌ لجميع أفرادِ البشر منها لما مر مرارا من أن خِلقتَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم تكن مقصورةً على نفسه بل كانت أُنموذَجاً منطويا على خلق جيمع ذرياتِه التي ستوجد إلى يوم القيامة انطواءً إجمالياً وقيل إن خلقَ آدمَ عليهِ الصَّلاةُ والسلام وإنشاءَ موادِّ النطَفِ التي منها خُلق نسلُه من التراب إنشاءٌ لجميع الخلقِ من الأرض فتدبر {واسْتَعمرَكُم} من العمر أي عمّركم واستبقاكم {فِيهَا} أو من العمارة أي

} 1 هود من آية 62 إلى آية 63 أقدركم على عِمارتها أو أمركم بها وقيل هو من العمرى بمعنى أعمرَكم فيها ديارَكم ويرِثها منكم بعد انصرامِ أعمارِكم أو جعلكم معمِّرين ديارَكم تسكُنونها مدةَ عمرِكم ثم تتركونها لمثلكم {فاسْتغفِرُوه ثُمَّ تُوبُوا إِلَيه} فإن ما فُصل من فنون الإحسانِ داعٍ إلى الاستغفار عما وقعَ منهُم من التفريطِ والتوبةِ عما كانوا يباشرونه من القبائح وقد زيد في بيان ما يوجب ذلك فقيل {إنَّ رَبِّي قَرِيب} أي قريبُ الرحمةِ كقوله تعالى إن رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين {مُّجِيبٌ} لمن دعاه وسأله وقد روعي في النظم الكريمة نكتةٌ حيث قُدّم ذكرُ العلةِ الباعثةِ المتقدمةِ على الأمر بالاستغفار والتوبةِ وأُخّر عنه ذكر الغائبة المتأخرةِ عنهما في الوجود أعني الإجابة

62

{قَالُوا يا صَالِحُ قد كُنتَ فينَا مَرْجُوّاً} أي كنا نرجو منك لِما كنا نرى منك من دلائل السَّداد ومخايلِ الرشاد أن تكون لنا سيداً ومستشاراً في الأمور وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فاضلاً خيّراً نقدّمك على جميعنا وقيل كنا نرجو أن تدخُلَ في ديننا وتوافقَنا على ما نحنُ عليه {قَبْلَ هَذَا} الذي باشرتَه من الدعوة إلى التوحيد وتركِ عبادة آلهة أو قبل هذا الوقتِ فكأنهم لم يكونوا إلى الآن على يأس من ذلك ولو بعد الدعوةِ إلى الحق فالآن قد انصرَم عنك رجاؤُنا وقرأ طلحةُ مرجُوءاً بالمد والهمزة {أَتَنْهَانا أَن نَعْبُد مَا يَعبد آبَاؤنا} أي عبَدوه والعدول إلى صيغة المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إليه} من التوحيد وتركِ عبادةِ الأوثانِ وغيرِ ذلك من الاستغفار والتوبة {مُرِيبٍ} أي مُوقعٌ في الريبة مِنْ أرابه أي أوقعه في الريبة أي قلقِ النفسِ وانتفاءِ الطمُأنينة أو من أراب إذا كان ذا رِيبةٍ وأيَّهما كان فالإسنادُ مجازيٌّ والتنوينُ فيه وفي شك للتفخيم

63

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ} أي أخبروني {إِن كُنتُ} في الحقيقة {على بَيّنَةٍ} أي حجةٍ ظاهرةٍ وبرهانٍ وبصيرة {مّن رَّبّى} مالكي ومتولّي أمري {وَآتَانِى مِنْهُ} من جهته {رَحْمَةً} نبوّةً وهذه الأمورُ وإن كانت محقّقة الوقوعِ لكنها صُدّرت بكلمة الشك اعتباراً لحال المخاطبين ورعايةً لحسن المحاوَرةِ لاستنزالهم عن المكابرة {فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله} أي ينجِّيني من عذابه والعدولُ إلى الإظهار لزيادة التهويلِ والفاءُ لترتيب إنكارِ النُّصرةِ على ما سبق من إيتاء النبوةِ وكونِه على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ على تقدير العصيانِ حسبما يُعرب عنه قوله تعالى {إن عَصَيْتُهُ} أي بالمساهلة في تبليغ الرسالةِ والمجاراةِ معكم فيما تأتون وتذرون فإن العصيانَ ممنْ ذلك شأنُه أبعدُ والمؤاخذةَ عليه ألزمُ وإنكارَ نُصرتِه أدخل {فَمَا تَزِيدُونَنِى} إذن باستتباعكم إيايَ كما ينبىء عنه قولهم قد كنت فينا مرجوا قَبْلَ هذا أي لا تفيدونني إذ لم يكن فيه أصلُ الخُسران حتى يزيدوه {غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أي غيرَ أن تجعلوني خاسراً بإبطال أعمالي وتعريضي لسخط الله تعالى أو فما

} 1 هود من آية 64 إلى آية 65 تزيدونني بما تقولون غيرَ أن أنسُبَكم إلى الخسران وأقول لكم إنكم لخاسرون فالزيادةُ على معناه والفاءُ لترتيب عدمِ الزيادةِ على انتفاء الناصِرِ المفهومِ من إنكاره على تقدير العصيان مع تحقق ما ينفيه من كونه عليه الصَّلاةُ والسلام على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ وإيتائِه النبوةَ

64

{وَيَا قَومِ هذه نَاقَةُ الله} الإضافةُ للتشريف والتنبيهِ على أنها مفارقةٌ لسائر ما يجانسها من حيث الخِلْقةُ ومن حيث الخلق {لَكُم آية} معجزةً دالّةً على صدق نبوّتي وهي حالٌ من ناقةُ الله والعاملُ ما في هذه من معنى الفعلِ ولكم حالٌ من آيةً متقدمةٌ عليها لكونها نكرةٌ ولو تأخرتْ لكانتْ صفةً لها ويجوز أن يكون ناقةُ الله بدلاً من هذه أو عطفَ بيان ولكم خبراً وعاملاً في آية {فَذَرُوهَا} خلّوها وشأنَها {تَأْكُلْ في أرض الله} ترع نباتَها وتشرب ماءَها وإضافةُ الأرضِ إلى الله تعالى لتربية استحقاقِها لذلك وتعليلِ الأمرِ بتركها وشأنَها {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء} بولغ في النهي عن التعرّض لها بما يضرها حيث نُهيَ عن المس الذي هو من مبادىء الإصابةِ ونُكر السوءِ أي لا تضرِبوها ولا تطرُدوها ولا تقرَبوها بشيء من السوء فضلاً عن عَقرها وقتلِها {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} أي قريبُ النزول روي أنهم طلبوا منه أن يُخرج من صخرة تسمّى الكاثبة ناقةً عُشَراءَ مخترِجةً جوفاءَ وبَراءً وقالوا إن فعلتَ ذلك صدقناك فأخذ صالحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عليهم مواثيقَهم لئن فعلتُ ذلك لتؤمِنُنّ فقالوا نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء كما وصفوا وهم ينظُرون ثم أنتجت ولداً مثلَها في العِظَم فآمن به جُندُعُ بنُ عمْروٍ في جماعة ومَنَع الباقين من الإيمان دواب ابن عمرو والحُبابُ صاحبُ أوثانهم وربابُ كاهنُهم فمكثت الناقةُ مع ولدها ترعى الشجرَ وتردُ الماءَ غِبًّا فما ترفع رأسَها من البئر حتى تشربَ كلَّ ما فيها ثم تتفحّج فيحلُبون ما شاءوا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدّخرون وكانت تصيِّف بظهر الوادي فتهرُب منها أنعامُهم إلى بطنه وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق عليهم ذلك

65

{فَعَقَرُوهَا} قيل زَيَّنت عقرَها لهم عُنيزةُ أمُّ غَنَم وصدَقةُ بنتُ المختارِ فعقروها واقتسموا لحمها فرقي سقيها جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثاً فقال صالح لهم أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدِروا عليه وانفجرت الصخرةُ بعد رغائه فدخلها {فقال} لهم صالح {تَمَتَّعُواْ} أي عيشوا {فِى دَارِكُمْ} أي في منازلكم أو في الدنيا {ثلاثةَ أَيَّامٍ} قيلَ قالَ لهم تصبحُ وجوهُكم غداً مصفرةً وبعدَ غدٍ مُحمرَّةً واليومَ الثالثَ مُسودةً ثمَّ يصبحكُم العذابُ {ذلك} إشارةٌ إلى ما يدل عليه الأمرُ بالتمتع ثلاثةَ أيامٍ من نزول العذاب عَقيبَها والمرادُ بمَا فيهِ من مَعْنى البُعد تفخيمُه {وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أي غير مكذوب فيه فحذف الجارُّ للاتساع المشهور كقوله ... ويومٍ شهِدناه سليماً وعامراً ... أو غيرُ مكذوب كأن الواعدَ قال له أفي بك فإن وفى به صدّقه وإلا كذّبه أو وعدٌ غيرُ كذِبٍ على أنه مصدرٌ كالمجلود والمعقول

} 1 هود من آية 66 إلى آية 68

66

{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} أي عذابُنا أو أمرُنا بنزوله وفيه مالا يخفى من التهويل {نَجَّيْنَا صالحا والذين آمنوا مَعَهُ} متعلقٌ بنجينا أو بآمنوا {بِرَحْمَةٍ} بسبب رحمةٍ عظيمة {مِنَّا} وهي بالنسبة إلى صالح النبوةُ وإلى المؤمنين الإيمانُ كما مر أو ملتبسين برحمة ورأفةٍ منا {وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ} أي ونجيناهم من خزي يومِئذٍ وهو هلاكُهم بالصيحة كقولِه تعالى وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ على معنى أنه كانت تلك التنجيةُ تنجيةً من خزي يومئذ أي من ذِلته ومهانتِه أو ذلِّهم وفضيحتِهم يومَ القيامة كما فسر به العذابُ الغليظُ فيما سبق فيكون المعنى ونجيناهم مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامةِ بعد تنجيتِنا إياهم من عذاب الدنيا وعن نافع بالفتح على اكتساب المضافِ البناءَ من المضاف إليه هنا وفي المعارج في قوله تعالى مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ وقرىء بالتنوين ونصبِ يومئذ {إِنَّ رَبَّكَ} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم {هُوَ القوى العزيز} القادرُ على كلِّ شيءٍ والغالبُ عليه لا غيرُه ولكون الإخبارِ بتنجية الأولياءِ لا سيما عند الإنباءِ بحلول العذابِ أهمَّ ذكَرَها أولاً ثم أخبر بهلاك الأعداءِ فقال

67

{وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ} عدل عن المضمر إلى المظهر تسجيلاً عليهم بالظلم وإشعاراً بعلّيته لنزول العذابِ بهم {الصيحة} أي صيحة جبريل عليه الصلاة والسلام وقيل أتتهم من السماء صيحةٌ فيها صوتُ كلِّ صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم وفي سورة الأعراف فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة ولعلها وقعت عَقيبَ الصيحةِ المستتبِعةِ لتموُّج الهواء {فَأَصْبَحُواْ} أي صاروا {فِى دِيَارِهِمْ} أي بلادهم أو مساكنِهم {جاثمين} هامدين موتى لا يتحركون والمرادُ كونُهم كذلك عند ابتداءِ نزولِ العذابِ بهم من غير اضطرابٍ وحركةٍ كما يكون ذلك عند الموت المعتاد ولا يَخْفى ما فيهِ منَ الدلالةِ عَلى شدة الأخذِ وسرعتِه اللهم إنا نعوذ بك من حلول غضبِك قيلَ لمَّا رأَوا العلاماتِ التي بيّنها صالحٌ من اصفرار وجوهم واحمرارِها واسودادِها عمَدوا إلى قتلِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فنجاهُ الله تعالَى إلى أرضِ فلسطينَ ولمَّا كانَ ضحوةُ اليوم الرابع وهو يوم السبت تحنطُوا وتكفنُوا بالأنطاعِ فأتتهُم الصيحةُ فتقطعت قلوبُهم فهلكوا

68

{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ} أي كأنهم في بلادهم أو في مساكنهم وهو في موقعِ الحالِ أي أصبحوا جاثمين مماثلين لمن لم يوجَدْ ولم يُقِمْ في مقام قطُّ {أَلا إِنَّ ثَمُودَ} وُضع موضعَ الضميرِ لزيادةِ البيانِ ونوّنه أبو بكرٍ هنا وفي النجم وقرأ حفصٌ هنا وفي الفرقان والعنكبوت بغير تنوين {كَفرُواْ رَبَّهُمْ} صرح بكفرهم مع كونه معلوماً مما سبق من أحوالهم تقبيحاً لحالهم وتعليلاً لاستحقاقهم بالدعاء عليهم بالبعد والهلاكِ في قوله تعالى {إِلاَّ بُعْدًا لّثَمُودَ} وقرأ الكسائي بالتنوين

} 1 هود من آية 69 إلى آية 70

69

{وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم} وهم الملائكةُ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم جبريلُ وملكانِ وقيل هم جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ عليهم السلام وقال الضحاك كانوا تسعةً وعن محمد بن كعب جبريلُ ومعه سبعةٌ وعن السدي أحدَ عشرَ على صور الغلمان الوضاء وجوههم وعن مقاتل كانوا اثني عشر ملكا وإنما أسند إليهم مطلقُ المجيءِ بالبشرى دون الإرسالِ لأنهم لم يكونوا مرسَلين إليه عليه السَّلامُ بل إلى قوم لوطٍ لقوله تعالى إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمٍ لوط وإنما جاءوه لداعية البُشرى ولما كان المقصودُ في السورة الكريمةِ ذكرَ سوءِ صنيعِ الأممِ السالفةِ مع الرسل المرسلةِ إليهم ولحوقِ العذابِ بهم بسبب ذلك ولم يكن جميع قوم إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ممن لحق بهم العذابُ بل إنما لحِق بقوم لوطٍ منهم خاصةً غيّر الأسلوبُ المطردُ فيما سبقَ من قولِه تعالى وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا ثم رُجع إليه حيث قيل وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً {بالبشرى} أي ملتبسين بها قيل هي مطلقُ البشرى المنتظمةِ للبشارة بالولد من سارَةَ لقوله تعالى فبشرناها بإسحاق الآية وقولِه تعالى وبشرناه بغلام حَلِيمٍ وقوله وَبَشَّرُوهُ بغلام عَلَيمٍ وللبشارة بعدم لحوقِ الضررِ به لقوله تعالى فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع وَجَاءتْهُ البشرى لظهور تفرّعِ المجادلةِ على مجيئها كما سيأتي وقيل هي البشارةُ بهلاك قوم لوط ويأباه مجادلته عليه الصلاة والسلام في شأنهم والأظهرُ أنها البشارةُ بالولد وستعرِف سرَّ تفرُّعِ المجادلةِ على ذلك ولما كان الإخبارُ بمجيئهم بالبشرى مظِنةً لسؤال السامِع بأنهم ما قالوا أجيب بأنهم {قَالُواْ سَلاَماً} أي سلّمنا أو نسلّم عليك سلاماً ويجوز أن يكون نصبُه بقالوا أي قالوا قولاً ذا سلامٍ أو ذكروا سلاماً {قَالَ سلام} أيْ عليكُم سلامٌ أو سلامٌ عليكم حياهم بأحسن من تحيتهم وقرىء سَلِم كحَرِم في حرام وقرأ ابنُ أبي عَبْلةَ قال سلاماً وعنه أنه قرأ بالرفع فيهما {فَمَا لَبِثَ} أي إبراهيم {أَن جَاء بِعِجْلٍ} أي في المجيء به أو ما لبث مجيئَه بعجل {حَنِيذٍ} أي مشويٌّ بالرَّضْف في الأُخدود وقيل سمين يقطُر وَدَكُه لقوله بعجل سمين من حنذت الفرس إذا عرقته بالجِلال

70

{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ} لا يُمدون إليه أيديَهم للأكل {نَكِرَهُمْ} أي أنكرهم يقال نكِرَه وأنكره واستنكره بمعنى وإنما أنكرهم لأنهم كانوا إذا نزلَ بهم ضيفٌ ولم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجىء بخير وقد روي أنهم كانوا ينكُتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل إليه أيديهم وهذا الإنكار منه عليه الصلاة والسلام راجعٌ إلى فعلهم المذكور وأما إنكارُه المتعلقُ بأنفسهم فلا تعلقَ له برؤية عدمِ أكلِهم وإنما وقع ذلك عند رؤيتِه لهم لعدم كونِهم من جنس ما كان يعهده من الناس ألا يُرى إلى قوله تعالى في سورة الذاريات سلام قَوْمٌ مُّنكَرُونَ {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ} أي أحسّ أو أضمَر من جهتهم {خِيفَةً} لما ظُنّ أن نزولَهم لأمر أنكره الله تعالى عليه أو لتعذيب قومِه وإنما أُخّر

المفعول الصريح عن الظرف لأن المرادَ الإخبارُ بأنه عليه الصلاة والسلام أوجس من جهتهم شيئاً هو الخيفةُ لا أنه أوجس الخِيفةَ من جهتِهِم لا من جهة غيرِهم وتحقيقُه أن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ يوجب ترقب النفسِ إليه فيتمكن عند ورودِه عليها فضلُ تمكن {قَالُواْ لاَ تَخَفْ} ما قالوه بمجرد ما رأوا منه مخايلَ الخوفِ إزالةً له منه بل بعد إظهاره عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ له قال تعالى في سورة الحِجر قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ولم يُذكر ذلك ههنا اكتفاءً بذلك {إِنَّا أُرْسِلْنَا} ظاهرُه أنه استئنافٌ في معنى التعليلِ للنهي المذكورِ كما أن قوله تعالى إِنَّا نُبَشّرُكَ تعليلٌ لذلك فإن إرسالَهم إلى قوم آخرين يوجب أمنَهم من الخوف أي أُرسلنا بالعذاب {إلى قَوْمِ لُوطٍ} خاصةً إلا أنه ليس كذلك فإن قوله تعالى قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ صريحٌ في أنهم قالوه جواباً عن سؤاله عليه الصلاةُ والسلامُ وقد أُوجز الكلامُ اكتفاء بذلك سورة هود (71 72)

71

{وامرأته قَائِمَةٌ} وراءَ الستر بحيث تسمع محاورتَهم أو على رءوسهم للخدمة حسبما هو المعتادُ والجملةُ حالٌ من ضمير قالوا أي قالوه وهي قائمةٌ تسمع مقالتَهم {فَضَحِكَتْ} سروراً بزوال الخوفِ أو بهلاك أهلِ الفساد أو بهما جميعاً وقيل بوقوع الأمرِ حسبما كانت تقولُ فيما سلف فإنها كانت تقولُ لإبراهيمَ اضمُمْ إليك لوطاً فإني أرى أن العذاب نازلا بهؤلاء القوم وقيل ضحكت حاضَتْ ومنه ضحِكت الشجرةُ إذا سال صمغُها وهو بعيد وقرىء بفتح الحاء {فبشرناها بإسحاق} أي عقّبنا سرورَها بسرور أتمَّ منه على ألسنة رسلِنا {وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ} بالنصب على أنه مفعولٌ لما دلَّ عليه قولُه بشرناها أي ووهبنا لها من وراء إسحق يعقوبَ وقُرِىءَ بالرفعِ على الابتداءِ خبرُه الظرف أي من بعد إسحق يعقوبُ مولودٌ أو موجودٌ وكلا الاسمين داخلٌ في البشارة كيحي أو واقعٌ في الحكاية بعد أن وُلدا فسمِّيا بذلك وتوجيه البشارة ههنا إليها مع أن الأصلَ في ذلك إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقد وُجِّهت إليه حيث قيل وبشرناه بغلام حليم وبشرناه بغلام عَلَيمٍ للإيذان بأن ما بُشّر به يكون منهما ولكونها عقيمةً حريصةً على الولد

72

{قَالَتْ} استئنافٌ وردَ جواباً عن سؤالٍ مَنْ سأل وقال فما فعلت إذ بُشِّرت بذلك فقيل قالت {يا ويلتى} أصلُ الويلِ الخزيُ ثم شاع في كل أمرٍ فظيع والألفُ مُبْدلةٌ من ياء الإضافةِ كما في يا لهفا ويا عجَبا وقرأ الحسن على الأصل وأمالها أبو عمرو وعاصمٌ في رواية ومعناه يا ويلتي احضُري فهذا أو أن حضورِك وقيل هي ألفُ النُّدبةِ ويوقف عليها بهاء السكت {أألد وَأَنَاْ عَجُوزٌ} بنتُ تسعين أو تسعٍ وتسعين سنةً {وهذا} الذي تشاهدونه {بَعْلِى} أي زوجي وأصلُ البعلِ القائمُ بالأمر {شَيْخًا} وكان ابن مائة وعشرين سنة ونصبُه على الحال والعاملُ معنى الإشارةِ وقُرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ أي هو شيخٌ أو خبر بعد خبر أو هو الخبرُ وبعلي بدلٌ من اسمِ الإشارةِ أو بيانٌ له وكلتا الجملتين وقعت حالاً من الضمير في أألد لتقرير ما فيه من الاستبعاد وتعليلِه أي أألد وكلانا على حالة منافيةٍ لذلك وإنما قُدّمت بيانُ

حالِها على بيان حالِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لأن مُباينةَ حالِها لما ذُكر من الولادة أكثرُ إذ ربما يولد للشيوخ من الشوابِّ أما العجائزُ داؤُهن عَقامٌ ولأن البشارةَ متوجهةٌ إليها صريحاً ولأن العكسَ في البيان ربما يُوهم من أول الأمر نسبةَ المانِع من الولادة إلى جانب إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وفيه ما لا يَخفْى من المحذور واقتصارها الاستبعادِ على ولادتها من غير تعرضٍ لحال النافلةِ لأنها المستبعَد وأما ولادةُ ولدِها فلا يتعلق بها استبعادٌ {إِنَّ هَذَا} أي ما ذُكر من حصول الولد من هَرِمَين مثلِنا {لَشَىْء عَجِيبٌ} بالنسبة إلى سنة الله تعالى المسلوكةِ فيما بين عباده وهذه الجملة لتعليل الاستبعاد بطريق الاستئناف التحقيقي ومقصدها استعظام نعمة الله تعالى عليها في ضمن الاستعجاب العادي لا استبعادَ ذلك بالنسبة إلى قدرته سبحانه وتعالى سورة هود (73 74)

73

{قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} أي قدرتِه وحكمتِه أو تكوينه أو شأنِه أنكروا عليها تعجبها من ذلك لأنها كانت ناشئةً في بيتِ النُّبوةِ ومهبِطِ الوحيِ والآيات ومظهَرِ المعجزات والأمورِ الخارقةِ للعادات فكان حقُّها أن تتوقرَ ولا يزدهِيَها ما يزدهي سائرَ النساء من أمثال هذه الخوارقِ من ألطاف الله تعالى الخفيةِ ولطائفِ صنعِه الفائضةِ على كل أحدٍ مما يتعلق بذلك مشيئتُه الأزليةُ لا سيَّما على أهلِ بيتِ النبوة الذين ليست مرتبتُهم عند الله سبحانه كمراتب سائرِ الناس وأن تسبحَ الله تعالى وتحمَدَه وتمجِّدَه وإلى ذلك أشاروا بقوله تعالى {رَّحْمَةِ الله} التي وسِعتْ كلَّ شيءٍ واستتبعت كلَّ خير وإنما وضع المظهرِ موضعَ المضمر لزيادة تشريفِها {وبركاته} أي خيراتُه الناميةُ المتكاثرةُ في كل بابٍ التي من جملتها هبةُ الأولادِ وقيل الرحمةُ النبوةُ والبركاتُ الأسباطُ من بني إسرائيلَ لأن الأنبياءَ منهم وكلُّهم من ولد إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت} نصبَ على المدحِ أو الاختصاصِ لأنهم أهلُ بيتِ خليلِ الرحمن وصرفُ الخطاب من صيغة الواحدة إلى جمع المذكر لتعميم حكمه لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أيضاً ليكون جوابُهم لها جواباً له أيضاً إن خطر بباله مثلُ ما خطر ببالها والجملة كلامٌ مستأنَفٌ عُلّل به إنكارُ تعجُّبها كأنه قيل ليس المقام مقام التعجب فإن الله تعالَى على كُلِّ شيءٍ قديرٌ ولستم يأهل بيتِ النبوةِ والكرامةِ والزلفى كسائر الطوائفِ بل رحمتُه المستتبِعةُ لكل خيرٍ الواسعةُ لكل شيء وبركاتُه أي خيراتُه الناميةُ الفائضةُ منه بواسطة تلك الرحمةِ الواسعةِ لازمةٌ لكم لا تفارقكم {إِنَّهُ حَمِيدٌ} فاعلٌ ما يستوجب الحمدَ {مَّجِيدٌ} كثيرُ الخير والإحسان إلى عباده والجملةُ لتعليل ما سبقَ من قولِه رحمة الله وبركاته عليكم

74

{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع} أي ما أوجس منهم من الخِيفه واطمأن قلبُه بعِرفانهم وعرفانِ سببِ مجيئِهم والفاءُ لربط بعض أحوال إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ببعضٍ غِبَّ انفصالِها بما ليس بأجنبي من كل وجهٍ بل له مدخلٌ تامٌّ في السباق والسياق وتأخيرُ الفاعلِ عن الظرف لأنه مصبُّ الفائدةِ فإن بتأخير ما حقُّه التقديمُ تبقى النفسُ منتظرةً إلى وروده فيتمكن فيتمن فيها عند ورودِه إليها فضلُ تمكّنٍ {وَجَاءتْهُ البشرى} إن فُسِّرت البُشرى بقولهم لا تخف فسببيّهُ ذهابِ

الخوفِ ومجيءِ السرور للمجادلة المَدلُولِ عليها بقولِه تعالَى {يجادلنا فِى قَوْمِ لُوطٍ} أي جادل رسلَنا في شأنهم وعُدل إلى صيغة الاستقبالِ لاستحضار صورتِها أو طفِقَ يجادلنا ظاهرةٌ وأما إن فُسّرت ببشاره الولدِ أو بما يعُمها فلعل سببيّتَها لها من حيث إنها تفيد زيادةَ اطمئنانِ قلب بسلامته وسلامةِ أهلهِ كافةً ومجادلتُه إياهم أنه قال لهم حين قالوا له إنا مهلكوا أهلِ هذه القريةِ أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلاً من المؤمنين أتُهلكونها قالوا لا قال فأربعون قالوا لا قال فثلاثون قالوا لا حتى بلغ العشرةَ قالوا لا قال أرأيتم إن كان فيها رجلٌ مسلمٌ أتهلكونها قالوا لا فعند ذلك قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أعلمُ بِمَن فيها الننجينه وأهلَه إن قيل المتبادرُ من هذا الكلامِ أن يكون إبراهيمُ عليه السلام قد علِم أنهم مرسَلون لإهلاك قومِ لوطٍ قبل ذهابِ الرَّوع عن نفسه ولكن لم يقدِر على مجادلتهم في شأنهم لاشتغاله بشأن نفسِه فلما ذهب عنه الروعُ فرَغ لها مع أن ذهابَ الروعِ إنما هو قبل العِلم بذلك لقوله تعالى قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ قلنا كان لوطٌ عليه السلام على شريعة إبراهيمَ عليه السلام وقومُه مكلّفين بها فلما رأى من الملائكة ما رأى خاف على نفسه وعلى كافة أمتِه التي من جملتهم قومُ لوط ولا ريبَ في تقدمِ هذا الخوفِ على قولهم لا تخف وأما الذي علمه السلام بعد النهي عن الخوف فهو اختصاصُ قومِ لوطٍ بالهلاك لا دخولُهم تحت العموم فتأملْ والله الموفق سورة هود (75 77)

75

{إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ} غيرُ عَجولٍ على الانتقام ممن أساء إليه {أَوَّاهٌ} كثيرُ التأوّه على الذنوب والتأسفِ على الناس {مُّنِيبٌ} راجعٌ إلى الله تعالى والمقصودُ بتعداد صفاتِه الجميلةِ المذكورةِ بيانُ ما حَمله عليه السَّلامُ عَلَى ما صَدَرَ عنْهُ من المجادلة

76

{يا إِبْرَاهِيمَ} أي قالت الملائكةُ يا إبراهيمُ {أَعْرِضْ عَنْ هذا} الجدالِ {إِنَّهُ} أي الشأنَ {قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ} أي قَدَرُه الجاري على وفق قضائِه الأزليِّ الذي هو عبارة عن الإرادة الأزليةِ والعنايةِ الإلهية المقتضيةِ لنظام الموجوداتِ على ترتيب خاصَ حسب تعلُّقِها بالأشياء في أوقاتها وهو المعبّر عنه بالقدر {وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} لا بجدال ولا بدعاء ولا بغيرهما

77

{وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً} قال ابن عباس رضي الله عنهما انطلَقوا من عند إبراهيمَ عليه السلام إلى لوط عليه السلام وبين القريتين أربعةُ فراسخَ ودخلوا عليه في صور غِلمانٍ مُرْدٍ حسانِ الوجوه فلذلك {سِىء بِهِمْ} أي ساءه مجيئُهم لظنه أنهم أناسٌ فخاف أن يقصِدهم قومُه ويعجِزَ عن مدافعتهم وقرأ نافعٌ وابن عامر والكسائي وأبو عمر وسيء وسيئت بإشمام السينِ الضمَّ رُوي أنَّ الله تعالَى قال للملائكة لا تُهلكوهم حتى يشهد عليهم لوطٌ أربعَ شهادات فلما مشى معهم منطلقاً بهم إلى منزله قال لهم أما بلغكم أمرُ هذه القريةِ قالوا وما أمرُها قال أشهد إنها لشرُّ قريةٍ في الأرض عملاً يقول ذلك أربعَ مراتٍ فدخلوا معه منزلَه ولم يعلم بذلك أحدٌ فخرجت امرأتُه فأخبرت به قومها وقالت في بيت لوطٍ رجالاً ما رأيتُ مثلَ وجوهِهم

قط {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أي ضاق بمكانهم صدرُه أو قلبُه أو وسعُه وطاقتُه وهو كنايةٌ عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروهِ والاحتيال فيه وقيل ضاقت نفسُه عن هذا الحادثِ وذِكرُ الذرعِ مثلٌ وهو المساحة وكأنه قدْرُ البدنِ مجازاً أي إن بدنَه ضاق قدرُه من احتمال ما وقع وقيل الذراعُ اسمٌ للجارحة من المِرْفق إلى الأنامل والذرْعُ مدُّها ومعنى ضيقِ الذرع في قوله تعالى ضاق بِهِمْ ذَرْعًا قصرُها كما أن معنى سعتِها وبسطتها طولُها ووجهُ التمثيلِ بذلك أن القصيرَ الذراعِ إذا مدها ليتناول ما يتناول الطويلُ الذراعِ تقاصر عنه وعجِز عن تعاطيه فضُرب مثلاً للذي قصُرت طاقتُه دون بلوغِ الأمر {وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} شديدٌ من عصَبه إذا شدّه سورة هود (78 80)

78

{وَجَاءهُ} أي لوطاً وهو في بيته مع أضيافه {قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} أي يسرعون كأنما يُدفعون دفعاً لطلب الفاحشة من أضيافه والجملةُ حالٌ من قومه وكذا قوله تعالى {وَمِن قبل} أي من قبل هذا الوقت {كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} أي جاءوا مسرعين والحال أنهم كانوا منهمكين في عمل السيئات فضَرُوا بها وتمرّنوا فيها حتى لم يبقَ عندهم قبحتها ولذلك لم يستحيُوا مما فعلوا من مجيئهم مهرِعين مجاهرين {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} فتزوّجُوهن وكانوا يطلُبونهن من قبلُ ولا يُجيبهم لخبثهم وعدمِ كفاءتِهم لا لعدم مشروعيتِه فإن تزويجَ المسلماتِ من الكفار كان جائزاً وقد زوج النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم ابنتيه من عُتبةَ بنِ أبي لهبٍ وأبي العاص بنِ الربيع قبل الوحي وهما كافران وقيل كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجَهما ابنتيه وأيا ما كان فقد أراد به وقايةَ ضيفِه وذلك غايةُ الكرم وقيل ما كان ذلك القولُ منه مُجرًى على الحقيقة من إرادة النكاحِ بل كان ذلك مبالغةً في التواضع لهم وإظهاراً لشدة امتعاضِه مما أوردوا عليه طمعاً في أن يستحيوا منه ويرِقّوا له إذا سمعوا ذلك فينزجروا عما أقدموا عليه مع ظهور الأمر واستقرارِ العلم عنده وعندهم جميعا بأن لا مناكحةَ بينهم وهو الأنسبُ بقولهم لقد علمت ما لنا في بناتك من حق كما ستقف عليه {فاتقوا الله} بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم {وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى} أي لا تفضحوني في شأنهم فإن إخزاءَ ضيفِ الرجل وجارِه إخزاءٌ له أو لا تخجلوني من الخَزاية وهي الحياء {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} يهتدي إلى الحق الصريح ويرعوي عن الباطل القبيح

79

{قَالُواْ} معرضين عما نصحهم به من الأمر بتقوى الله والنهي عن إخزائه مجيبين عن أول كلامه {لقد علمت ما لنا في بناتك من حق} مستشهدين بعلمه بذلك يعنون إنك قد علمت أن لا سبيلَ إلى المناكحة بيننا وبينك وما عرْضُك إلا عرضٌ سابرِيّ ولا مطمعَ لنا في ذلك {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} من إتيان الذُكرانِ ولما يئس عليه السلام من ارعوائهم عمَّا هُم عليهِ من الغي

80

{قالَ لو أنَّ لي بِكُمْ قُوَّةً}

أي لفعلتُ بكم ما فعلت وصنعتُ ما صنعت كقوله تعالى وَلَوْ أَنَّ قرانا سيرت به الجبال أو قطعت به الارض أو كلم به الموتى {أَوْ اوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} عطفٌ على أن لي بكم إلى آخره لما فيه من معنى الفعلِ أي لو قوِيتُ على دفعكم بنفسي أو أويت إلى ناصر عزيزٍ قويّ أتمنّع به عنكم شَبّهه بركن الجبل في الشدة والمنعة وروي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم رحِم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد روي أنه عليه السلام أغلق بابَه دون أضيافِه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوّروا الجدارَ فلما رأت الملائكةُ ما على لوط من الكرب سورة هود (81)

81

{قَالُواْ} أي الرسل لمّا شاهدوا عجزَه عن مدافعة قومه {يا لوط إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ} بضرر ولا مكروهٍ فافتح الباب ودعنا وإياهم ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريلُ عليه السلام ربَّه ربَّ العِزَّة جلَّ جلالُه في عقوبتهم فأذِن له فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحَه وله جناحان وعليه وشاح من دُرّ منظوم وهو برّاقُ الثنايا فضرب بجناحه وجوهَهم فطمَس أعينَهم وأعماهم كما قال عز وعلى فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فصاروا لا يعرِفون الطريق فخرجوا وهم يقولون النجاء النجاءَ فإن في بيت لوطٍ قوماً سحَرة {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} بالقطع من الإسراء وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث جاء في القرآن من السُّرى والفاءُ لترتيب الأمر بالإسراءِ على الإخبار برسالتهم المؤذنِة بورود الأمرِ والنهي من جنابِه عزَّ وجلَّ إليه عليه السلام {بِقِطْعٍ من الليل} بطائفة منه {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ} أي لا يتخلف أولا ينظُرْ إلى ورائه {أَحَدٌ} منك ومن أهلك وإنما نُهوا عن ذلك ليجدّوا في السير فإن من يلتفتُ إلى ما وراءه لا يخلو عن أدنى وقفة أو لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم {إِلاَّ امرأتك} استثناءٌ من قولِهِ تعالى فَأَسْرِ بأهلك ويؤيده أنه قرى فأسرِ بأهلك بِقطْع من الليل إلا امرأتَك وقُرِىءَ بالرفعِ على البدلِ من أحدٌ فالالتفاتُ بمعنى التخلف لا بمعنى النظر إلى الخَلف كيلا يلزمَ التناقضُ بين القراءتين المتواترتين فإن النصبَ يقتضي كونَه عليه السلام غيرَ مأمورٍ بالإسراء بها والرفعَ كونَه مأموراً بذلك والاعتذارُ بأن مقتضى الرفعِ إنما هو مجردُ كونِها معهم وذلك لا يستدعي الأمرَ بالإسراء بها حتى يلزمَ المناقضةَ لجواز أن تسريَ هي بنفسها كما يروي أنَّه عليهِ السلامُ لما أسرى بأله تبِعَتْهم فلما سمعت هدّة العذابِ التفتت وقالت يا قوماه فأدركها حجرٌ فقتلها وأن يسرِيَ بها عليه السلام من غير أمرٍ بذلك إذ موجبُ النصبِ إنما هو عدمُ الأمر بالإسراء بها لا النهيُ عن الإسراء بها حتى يكونَ عليه السلام بالإسراء بها مخالفاً للنهي لا يُجدي نفعاً لأنَّ انصرافَ الاستثناءِ إلى الالتفات يستدعي بقاءَ الأهل على العموم فيكون الإسراءُ بها مأموراً به قطعاً وفي حمل الأهليةِ في إحدى القراءتين على الأهلية الدينية وفي الأخرى على النسَبية مع أن فيه ما لا يَخفْى من التحكم والاعتساف كر على ما فر منه من المناقضة فالأَولى حينئذ جعلُ الاستثناءِ على القراءتين من قوله لا يَلْتَفِتْ مثلَ الَّذي في قولِه تعالى مَّا فَعَلُوهُ إلى قَلِيلٌ مّنْهُمْ فإن ابنَ عامر قرأه بالنصب وإن كان الأفصحَ الرفعُ على البدل ولا بُعد في كون أكثرِ القراءِ

على غير الأفصح ولا يلزم من ذلك أمرُها بالالتفات بل عدمُ نهيِها عنه بطريق الاستصلاح ولذلك علله على طريقة الاستئنافِ بقوله {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} من العذابِ وهو إمطارُ الأحجار وإن لم يصبْها الخسفُ والضميرُ في إنه للشأن وقوله تعالى مُصِيبُهَا خبرٌ وقوله مَا أصابهم مبتدأٌ والجملةُ خبرٌ لإن الذي اسمُه ضميرُ الشأنِ وفيه ما لا يَخفْى من تفخيم شأنِ ما أصابهم ولا يحسُن جعلُ الاستثناءِ منقطعاً على قراءة الرفع {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} أي موعدَ عذابِهم وهلاكهم تعليلٌ للأمر بالإسراء والنهيِ عن الالتفات المُشعرِ بالحث على الإسراع {أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} تأكيد للتعليل فإن قربَ الصبح داعٍ إلى الإسراع في الإسراء للتباعد عن مواقع العذاب وروي أنه قال للملائكة متى موعدُ هلاكِهم قالوا الصبحُ قال أريد أسرعَ من ذلك فقالوا ذلك وإنما جُعل ميقاتُ هلاكِهم الصبحَ لأنه وقتُ الدعةِ والراحةِ فيكون حلولُ العذاب حينئذ أفظعَ ولأنه أنسبُ بكون ذلك عبرةً للناظرين

82

{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} أي وقتُ عذابِنا وموعدُه وهو الصبح سورة هود (82 83) {جَعَلْنَا عاليها} أي عاليَ قُرى قومِ لوطٍ وهي التي عُبّر عنها بالمؤتفكات وهي خمسُ مدائنَ فيها أربعُمائةِ ألفِ ألفٍ {سَافِلَهَا} أي قلبناها على تلك الهيئةِ وجُعل عالِيها مفعولاً أولَ للجعل وسافلَها مفعولاً ثانياً له وإن تحقق القلبُ بالعكس أيضاً لتهويل الأمرِ وتفظيعِ الخطبِ لأن جعلَ عالِيها الذي هو مَقارُّهم ومساكنُهم سافلَها أشدُّ عليهم وأشقُّ من جعل سافِلها عاليَها وإن كان مستلزِماً له روي أنه جعلَ جبريلُ عليه السلام جناحَه في أسفلها ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهلُ السماء نُباحَ الكلاب وصياحَ الديَكةِ ثم قلبها عليهم وإسنادُ الجعلِ والإمطار إلى ضميره سبحانه باعتبار أنه المسبّبُ لتفخيم الأمرِ وتهويلِ الخطب {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا} على أهل المدائنِ أو شُذّاذهم {حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} من طينٍ متحجّر كقوله حِجَارَةً مّن طِينٍ وأصله سنك كل فعُرّب وقيل هو من أسْجله إذا أرسله أو أدرّ عطيتَه والمعنى منْ مثْلِ الشيءِ المرسَل أو مثلَ العطيةِ في الإدرار أو من السِّجِلّ أي مما كتب الله تعالى أن يعذبهم به وقيل أصله من سِجّينٍ أي من جهنم فأبدلت نونه لاماً {مَّنْضُودٍ} نُضِد في السماء نضْداً معدًّا للعذاب وقيل يُرسَل بعضُه إثرَ بعضٍ كقِطار الأمطار

83

{مُّسَوَّمَةً} مُعْلمةً للعذاب وقيل معلمةً ببياض وحُمرة أو بسِيما تتميز به عن حجارة الأرض أو باسم مَنْ ترمى به {عِندَ رَبّكَ} في خزائنه التي لا يتصرّف فيها غيرُه عز وجل {وَمَا هِىَ} أي الحجارةُ الموصوفة {مِنَ الظالمين} من كل ظالمٍ {بِبَعِيدٍ} فإنهم بسبب ظلمِهم مستحقون لها وملابَسون بها وفيه وعيدٌ شديد لأهل الظلمِ كافةً وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريلُ عليه السَّلامُ فقال يعني ظالمي أمتِك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجرٍ يسقط عليه من ساعة إلى سعة وقيل الضميرُ للقُرى أي هي قريبةُ من ظالمي مكةَ يمرّون بها في مسايرهم وأسفراهم إلى الشام وتذكيرُ البعيدِ على تأويل الحجارة بالحجر أو إجرائه على موصوفٍ مذكرٍ أي بشيء بعيد أو بمكان بعيد فإنها وإن كانت في السماء وهي في غاية البُعد من الأرض

إلا أنها حين هَوَت منها فهي أسرعُ شيء لحُوقاً بهم فكأنها بمكان قريبٍ منهم أو لأنه على زِنة المَصْدرِ كالزفير والصهيل والمصادر يستوي في الوصف بها المذكرُ والمؤنث هود الآية (84 85)

84

{وإلى مَدْيَنَ} أي أولاد مدينَ بن إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ أو جعل اسماً للقبيلة بالغلبة أو أهلِ مدينَ وهو بلدٌ بناه مدينُ فسُمّي باسمه {أخاهم} أي نسيبَهم {شُعَيْبًا} وهو ابن ميكيلَ بنِ يشجُرَ بنِ مدينَ وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومَه والجملةُ معطوفةٌ على قولِه تعالى وإلى ثمود أخاهم صالحا أي وأرسلنا إلى مدينَ أخاهم شعيباً {قَالَ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ عن صدر الكلام فكأنه قيل فماذا قال لهم فقيل قال كما قال مَنْ قبلَهُ من الرُّسلِ عليهم السَّلامُ {يَا قوم اعبدوا الله} وحدوه وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ} تحقيقٌ للتوحيد وتعليلٌ للأمر به وبعد ما أمرهم بما هو مَلاكُ أمر الدينِ وأولُ ما يجب على المكلّفين نهاهم عن ترتيب مبادى ما اعتادوه من البَخْس والتطفيف عادةً مستمرةً فقال {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} كي تتوسلوا بذلك إلى بخس حقوقِ الناس {إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أي ملتبسين بثروة وسعة تُغنيكم عن ذلك أو بنعمة من الله تعالى حقها أن تقابل بغير ما تأتونه من المسامحة والتفضل على الناس شكراً عليها أو أراكم بخير فلا تُزيلوه بما أنتُم عليهِ من الشر وهو على كل حال علةٌ للنهي عُقّبت بعلة أخرى أعني قوله عز وجل {وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إنْ لم تنتُهوا عن ذلك {عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} لا يشذ منه شاذمنكم وقيل عذابَ يومٍ مُهلك من قوله تعالى وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ وأصلُه من إحاطة العدوِّ والمرادُ عذابُ يومِ القيامة أو عذابُ الاستئصالِ ووصفُ اليومِ بالإحاطة وهي حالُ العذاب على الإسناد المجازيِّ وفيه من المبالغة ما لا يَخْفى فإنَّ اليومَ زمانٌ يشتمل على ما وقع فيه من الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذَّب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه ويجوز أن يكون هذا تعليلاً للأمر والنهي جميعا

85

{ويا قوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط} أي بالعدل من غيرِ زيادةٍ ولا نقصانٍ فإن الزيادةَ في الكيل والوزنِ وإن كان تفضّلاً مندوباً إليه لكنها في الآلة محظورةٌ كالنقص فلعل الزائدَ للاستعمال عند الاكتيالِ والناقصَ للاستعمال وقت الكيل وإنما أُمر بتسويتهما وتعديلِهما صريحاً بعد النهي عن نقصهما مبالغة في الحمل على الإيفاء والمنعِ من البخس وتنبيهاً على أنَّه لا يكفيهم مجردُ الكفِّ عن النقص والبخسِ بل يجب عليهم إصلاحُ ما أفسدوه وجعلوه معياراً لظلمهم وقانوناً لعدوانهم {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس} بسبب نقصِهما وعدم اعتدالِهما {أَشْيَاءهُمْ} التي يشترونها بهما وقد صرّح بالنهي عن البخس بعد ما عُلم ذلك في ضمنِ النَّهي عن نقص المعيار والأمرِ بإيفائه اهتماماً بشأنه وترغيباً في إيفاء الحقوقِ بعد الترهيبِ والزجر عن نقصها ويجوز أن يكون المرادُ بالأمر بإيفاء المكيالِ

والميزان الأمرَ بإيفاء المكيلات والمزونات ويكونُ النهيُ عن البخس عاماً للنقص في المقدار وغيره تعميماً بعد التخصيص كما في قوله تعالى {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ} فإن العَثَى يعم نقصَ الحقوقِ وغيرَه من أنواع الفسادِ وقيل البخسُ المكسُ كأخذ العشورِ في المعاملات قالَ زُهيرِ بنِ أبي سُلْمى ... أفي كل أسواق العراق إتاوة ... وفي كل ما باع امرؤٌ مَكْسُ دِرهمِ ... والعثى في الأرض السرقةُ وقطعُ الطريق والغارةُ وفائدةُ الحال إخراجُ ما يُقصد به الإصلاحُ كما فعله الخضرُ عليه السلام من خرق السفينةِ وقتلِ الغلام وقيل معناه وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مفسدين أمْرَ آخرتِكم ومصالحَ دينكم هود الآية (86 87)

86

{بقية الله} أي ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزّةِ عن تعاطي المحرمات {خَيْرٌ لَّكُمْ} مما تجمعون بالبخس والتطفيفِ فإن ذلك هباء منثورا بل شرٌّ محض وإن زعمتم أن فيه خيراً كقوله تعالى يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِى الصدقات {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بشرط أن تؤمنوا فإن خيريّتَها باستتباع الثوابِ مع النجاة وذلك مشروطٌ بالإيمان لا محالةَ أو إن كنتم مصدقين لي في مقالتي لكم وقيل البقية الطاعات كقوله عز وجل والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ وقرىء تقيةُ الله بالفوقانية وهي تقواه عن المعاصي {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أحفظكم من القبائح أو أحفظ عليكم أعمالَكم فأجازيَكم وإنما أنا ناصحٌ مبلِّغٌ وقد أعذرتُ إذ أنذرتُ ولم آلُ في ذلك جهداً أو ما أنا بحافظ ومستبْقٍ عليكم نِعمَ الله تعالى إن لم تتركوا ما أنتم عليه من سوء الصنيع

87

{قالوا يا شعيب أصلاتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يعبد آباؤنا} من الأوثان أجابوا بذلك أمرَه عليه السلام إياهم بعبادة الله وحدَه المتضمنَ لنهيهم عن عبادة الأصنامِ ولقد بالغوا في ذلك وبلغوا أقصى مراتبِ الخلاعة والمُجون والضلال حيث لم يكتفوا بإنكار الوحي الآمرِ بذلك حتى ادّعَوا أن لا أمرَ به من العقل واللُّب أصلاً وأنه من أحكام الوسوسةِ والجنون وعلى ذلك بنوا استفهامَهم وقالوا بطريق الاستهزاءِ أصلاتُك التي هي من نتائج الوسوسةِ وأفاعيلِ المجانين تأمُرك بأن نترك عبادةَ الأوثانِ التي توارَثْناها أباً عن جد وإنما جعلوه عليه السلام مأموراً مع أن الصادرَ عنه إنما هو الأمرِ بعبادة الله تعالى وغير ذلك من الشرائع لأنه عليهِ السلامُ لم يكُنْ يأمرهم بذلك من تلقاءِ نفسِه بَل من جهة الوحي وأنه كان يعلمهم بأنه مأمورٌ بتبليغه إليهم وتخصيصُهم بإسناد الأمر إلى الصلاة من بين سائر أحكامِ النبوة لأنه صلى الله عليه وسلم كان كثيرَ الصلاةِ معروفاً بذلك وكانوا إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكون فكانت هي من بين سائر شعائرِ الدينِ ضِحْكةً لهم وقرىء أصلواتُك {أَوْ أَنْ نفعل فى أموالنا ما نشاء} جواب عن أمر عليه السلام بإيفاء الحقوقِ ونهيِه عن البخس والنقصِ معطوفٌ على ما أي أو أن نتركَ أن نفعل فى أموالنا ما نشاء من الأخذ والإعطاءِ والزيادةِ والنقصِ وقرىء بالتاء في الفعلين عطفاً على مفعول تأمُرك أي أصلاتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء وتجويزُ

العطفِ على ما قيل يستدعي أن يراد بالترك معنيان متخالفان والمرادُ بفعله عليه السلام إيجاب الإيفاءِ والعدلِ في معاملاتهم لا نفسُ الأيفاء فإن ذلك ليس من أفعاله عليه السلام بل من أفعالهم وإنما لم نقُلْ عطفا على أن نترك لأن الترك ليس مأموراً به على الحقيقة بل المأمورُ به تكليفُه عليه السلام إياهم وأمرُه بذلك والمعنى أصلاتُك تأمرُك أن تكلِّفَنا أن نترك ما يعبدُ آباؤُنا وحملُه على معنى أصلاتُك تأمرك بما ليس في وُسعك وعُهدتك من أفاعيل غيرِك ليكون ذلك تعريضاً منهم بركاكة رأيِه عليه السلام واستهزاءً به من تلك الجهةِ يأباه دخولُ الهمزةِ على الصلاة دون الأمرِ ويستدعي أن يصدُر عنه عليه السلام في أثناء الدعوةِ ما يدل على ذلك أو يوهمه وأبى ذلك فتأمل وقرىء بالنون في الأول والتاء في الثاني عطفا على أن نترك أي أو أن نفعل نحن في أموالنا عند المعاملةِ ما تشاء أنت من التسوية والإيفاء {إِنَّكَ لاَنتَ الحليم الرشيد} وصفوه عليه السلام بالوصفين على طريقة التهكم وإنما أرادوا بذلك وصفَه بضدّيهما كقول الخزَنة ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم ويجوز أن يكون تعليلاً لما سبق من استبعاد ما ذكروه على معنى إنك لأنت الحليمُ الرشيد على زعمك وأما وصفُه بهما على الحقيقة فيأباه مقامُ الاستهزاء اللهم إلا أن يراد بالصلاة الدينُ كما قيل هود (88)

88

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ} أي حجة واضحة وبرهان نير عبر بها عما آتاه الله تعالى من النبوة والحكمة رداً على مقالتهم الشنعاءِ في جعلهم أمرَه ونهيَه غيرَ مستندٍ إلى سند {مّن رَّبّى} ومالكِ أموري وإيرادُ حرفِ الشرط مع جزمه عليه السلام بكونه على ما هو عليه من البينات والحججِ لاعتبار حال المخاطبين ومراعات حُسنِ المحاورةِ معهم كما ذكرناه في نظائره {وَرَزَقَنِى منه} أي من لدنه {رِزْقًا حَسَنًا} هو النبوةُ والحِكمةُ أيضاً عبّر عنهما بذلك تنبيهاً على أنهما مع كونهما بينةً رزقٌ حسنٌ كيف لا وذلك مناطُ الحياةِ الأبديةِ له ولأمته وجوابُ الشرط محذوفٌ يدل عليه فحوى الكلامِ أي أتقولون في شأني ما تقولون والمعنى إنكم نظمتموني في سلك السفهاءِ والغُواةِ وعددتم ما صدرَ عنِّي من الأوامر والنواهي من قبيلِ ما لا يصِح أن يتفوَّهَ به عاقلٌ وجعلتموه من أحكام الوسوسةِ والجنون واستهزأتم بي وبأفعالي حتى قلتم إن ما أمرتُكم به من التوحيد وتركِ عبادة الأصنامِ والاجتنابِ عن البخس والتطفيفِ ليس مما يأمر به آمرُ العقلِ ويقضي به قاضي الفطنة وإنما يأمر به صلاتُك التي هي من أحكام الوسوسةِ والجنون فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالكِ أمورِي ثابتاً على النبوة والحِكمةِ التي ليس وراءَها غايةٌ للكمال ولا مطمَحٌ لطامح ورزقني بذلك رزقاً حسناً أتقولون في شأني وشأنِ أفعال ما تقولون مما لا خيرَ فيه ولا شرَّ وراءه هذا هو الجوابُ الذي يستدعيه السباقُ والسياقُ ويساعده النظمُ الكريمُ وأما ما قيل من أن المحذوفَ أيصِحّ لي أن لا آمرَكم بترك عبادةِ الأوثانِ والكفِّ عن المعاصي أو هل يسعْ لي مع هذا الإنعام الجامعِ

للسعادات الروحانيةِ والجُسمانية أن أخونَ في وحيه وأخالفَه في أمره ونهيِه فبمعزل من ذلك وإنما يناسب تقديرُه إن حمل كلامُهم على الحقيقة وأريد بالصلاة الدينُ على معنى أدينُك يأمرُك أن تكلفنا بترك عبادةِ آلهتِنا القديمة وتركِ التصرّفِ المطلق في أموالنا وتخالفنا في ذلك وتشُقَّ عصانا وهذا مما لا ينبغي أن يصدُر عنك فإنك أنت المشهورُ بالحلم الفاضلِ والرشدِ الكاملِ فيما بيننا كما كان قولُ قومِ صالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا مسروداً على ذلك النمطِ فأُجيبوا بما أجيبوا به وعلى هذا الوجهِ يكون المرادُ بالرزق الحسنِ الحلالَ الذي آتاه الله تعالى والمعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبياً من عند الله تعالى ورزقني مالاً حلالاً أستغني به عن العالمين أيصِحّ أن أخالف أمرَه وأوافقَكم فيمَا تأتونَ وما تذرونَ {وَمَا أُرِيدُ} بنهي إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف {أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكُم عَنْهُ} أي أقصِدَه بعد ما ولَّيتم عنه وأستبِدَّ به دونكم يقال خالفت زيداً إلى كذا إذا قصدتُه وهو مولَ عنه وخالفتُه عن كذا إذا كان الأمرُ على العكس {إن أريد} أي ما أُرِيدُ بما أباشره من الأمر والنيه {إِلاَّ الإصلاح} إلا أن أُصلِحَكم بالنصيحة والموعظة {مَا استطعت} أي مقدارَ ما استطعتُه من الإصلاح والتقييدُ به للاحتراز عن الاكتفاء بالإصلاح في الجملة لا عن إرادة ما ليس في وُسعه منه {وَمَا تَوْفِيقِى} أي كوني موفقاً لتحقيق ما أنتحيه من إصلاحكم {إِلاَّ بالله} أي بتأييده ومعونتِه بل الإصلاحُ من حيث الخلقُ مستندٌ إليه سبحانه وإنما أنا من مباديه الظاهرةِ قاله عليه السلام تحقيقاً للحق وإزاحةً لما عسى يوهمه إسنادُ الاستطاعةِ إليه بإرادته من استبداده بذلك {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في ذلك مُعرِضاً عما عداه فإنه القادرُ على كل مقدورٍ وما عداه عاجزٌ محْضٌ في حد ذاتِه بل معدومٌ ساقطٌ عن درجة الاعتبار بمعزل عن مرتبة الاستمدادِ به والاستظهار {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي أرجِعُ فيما أنا بصدده ويجوز أن يكون المرادُ وما كوني موفقاً لإصابة الحقِّ والصوابِ في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته ومعونتِه عليه توكلتُ وهو إشارةٌ إلى محض التوحيدِ الذاتي والفعليِّ وإليه أنيب أي عليه أقبل بشراشِر نفسي في مجامع أموري وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ على الماضي الأنسبِ للتقرر والتحقّقِ كما في التوكل لاستحضارِ الصورةِ والدلالةِ على الاستمرار ولا يَخْفَى ما في جوابه عليه السلام من مراعاة لطفِ المراجعةِ ورِفق الاستنزالِ والمحافظةِ على قواعد حسنِ المجاراة والمحاورَة وتمهيدِ معاقدِ الحقِّ بطلب التوفيقِ من جناب الله تعالى والإستعانة به في أموره وحسمِ أطماعِ الكفار وإظهار الفراغِ عنهم وعدمِ المبالاة بمعاداتهم وأما تهديدُهم بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء كما قيل فلا لأن الإنابةَ إنما هي الرجوعُ الاختياريُّ بالفعل إلى الله تعالى لا الرجوعُ الاضطراريُّ للجزاء أو ما يعمه هود (89)

89

{ويا قوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} أي لا يَكسِبَنَّكم من جرَمتُه ذنباً مثلُ كسبته مالاً {شِقَاقِى} معاداتي وأصلُهما أن أحد المتعادِيَين يكونُ في عُدوةٍ وشقَ والآخرُ في آخرَ {أَن يُصِيبَكُمُ} مفعولٌ ثانٍ ليجرمنكم أي لا يكسبنكم معاداتُكم لي أنْ يُصيبكم

{مّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} من الغرق {أَوْ قَوْمَ هُودٍ} من الريح {أَوْ قَوْمَ صالح} من الصيحة والرجفةِ وقرأ ابن كثير بضم الياء من أجرمتُه ذنباً إذا جعلته جارِماً له أي كاسباً وهو منقول من جرم المعتدي إلى مفعول واحد كما نقل أكسبه المالَ من كسب المالَ فكما لا فرق بين كسبته مالاً وأكسبته إياه لا فرق بين درمته ذنباً وأجرمتُه إياه في المعنى إلا أن الأولَ أصحُ وأدور على ألسنة الفصحاءِ وقرأ أبو حيوة مثلَ ما أصاب بالفتح لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ كقوله ... لم يمنع الشربَ منها غير أن نطَقت ... حمامةٌ في غصون ذاتُ ... أو قال وهذا وإن كان بحسب الظاهرِ نهياً للشقاق عن كسب إصابةِ العذابِ لكنه في الحقيقة نهيٌ للكفرة عن مشاقّته عليه السلام على ألطف أسلوبٍ وأبدعِه كما مر في سورة المائدة عند قولِهِ تعالَى وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ الآية {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ} زماناً أو مكاناً فإن لم تعتبروا بمن قبلَهم من الأمم المعدودةِ فاعتبروا بهم فكأنه إنما غير أسلوبَ التحذيرِ بهم ولم يصرِّح بما أصابهم بل اكتفى بذكر قربِهم إيذاناً بأن ذلك مغنٍ عن ذكره لشهرة كونِه منظوماً في سِمْطِ ما ذُكر من دواهي الأممِ المرقومة أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمعاصي فلا يبعُد أنْ يُصيبكم مثلُ ما أصابهم وإفرادُ البعيدِ مع تذكيره لأن المراد وما إهلاكُهم على نية المضافِ أو وما هم بشيء بعيد لأن المقصودَ إفادةُ عدم بعدِهم على الإطلاق لا من حيث خصوصيةُ كونِهم قوما أوما هم في زمان بعيد أو مكان بعيد ولا يبعُد أن يكون ذلك لكونه على زنة المصادر كالنهيق والشهيق ولما أنذرهم عليه السلام بسوء عاقبة صنيعِهم عقّبه طمعاً في ارعوائهم عما كانوا فيه يعمهون من طغيانهم بالحمل على الاستغفار والتوبة فقال هود (90 91)

90

{واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} مر تفسيرُ مثله في أول السورة {إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ} عظيمُ الرحمة للتائبين {وَدُودٌ} مبالِغٌ في فعل ما يفعل البليغُ المودةَ بمن يودّه من اللطف والإحسانِ وهذا تعليلٌ للأمر بالاستغفار والتوبةِ وحثٌّ عليهما

91

{قَالُواْ يَا شُعَيْبٌ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ} الفقه معرفة غرضِ المتكلّم من كلامه أي ما نفهم مرادَك وإنما قالوه بعد ما سمعوا منه دلائلَ الحقِّ المبينِ على أحسن وجهٍ وأبلغِه وضاقت عليهم الحيلُ وعيَّت بهم العلل فلم يجدوا إلى محاورته سبيلاً سوى الصدودِ عن منهاج الحقِّ والسلوكِ إلى سبيل الشقاءِ كما هو ديدَنُ المُفحَمِ المحجوجِ يقابل البيناتِ بالسبّ والإبراق والإرعاد فجعلوا كلامَه المشتملَ على فنون الحِكَم والمواعظِ وأنواعِ العلومِ والمعارفِ من قبيلِ ما لا يفهم معناه ولا يُدرك فحواه وأدمجوا في ضمن ذلك أن في تضاعيفه ما يستوجب أقصى ما يكونُ من المؤاخذة والعقاب ولعل ذلك ما فيه من التحذير من عواقب الأممِ السالفة ولذلك قالوا {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا} فيما بيننا {ضَعِيفاً} لا قوة لك ولا قدرةَ على شيء من الضر والنفعِ والإيقاعِ والدفع {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ} لولا مراعاةُ جانبِهم لا لولاهم يمانعوننا ويدافعوننا {لرجمناك} فإن ممانعةَ الرهطِ وهو اسمٌ للثلاثة إلى

السبعة أو إلى العشرة لهم وهم ألوفٌ مؤلفةٌ مما لا يكاد يُتوّهم وقد أيد ذلك بقوله عز وجل {وما أنت علينا بعزيز} مُكْرمٌ محْترمٌ حتى نمتنع من رجمك وإنما نكفُ عنه للمحافظة على حرمة رهطِك الذين ثبتوا على ديننا ولم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا وإيلاءُ الضميرِ حرفَ النفي وإن لم يكن الخبرُ فعلياً غيرَ خالٍ عن الدِلالة على رجوع النفي إلى الفاعل دون الفعلِ لا سيما مع قرينة قولِه ولولا رهطُك كأنه قيل وما أنت علينا بعزيز بل رهطُك هم الأعزةُ علينا وحيث كان غرضُهم من عظيمتهم هذه عائداً إلى نفي ما فيه عليه السلام من القوة والعزةِ الربّانيّتين حسبما يوجبه كونُه على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ مؤيَّداً من عنده ويقتضيه قضيةُ طلبِ التوفيقِ منه والتوكلِ عليه والإنابةِ إليه وإلى إسقاط ذلك كلِّه عن درجة الاعتدادِ به والاعتبار

92

{قَالَ} عليه السلام في جوابهم هود (92 93) {يا قوم أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله} فإن الاستهانةَ بمن لا يَتعزّز إلا به عز وجل استهانةٌ بجنابه العزيز وإنما أنكر عليهم أعزِّيّةَ رهطِه منه تعالى مع أن ما أثبتوه إنما هو مطلقُ عزةِ رهطِه لا أعزبتهم منه عز وجل مع الاشتراك في أصل العزةِ لتثنية التقريعِ وتكريرِ التوبيخِ حيث أنكر عليهم أولا ترجيح جنبة الرهطِ على جنبة الله تعالى وثانيا بنفي العزة بالمرة والمعنى أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله فإنه مما لا يكاد يصح والحال إنكم لم تجعلوا له تعالى حظاً من العزة أصلاً {واتخذتموه} بسبب عدم اعتدادِكم بمن لا يرِدُ ولا يصدُر إلا بأمره {وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً} أي شيئاً منبوذاً وراء الظهر منسياً لا يبالى به منسوبٌ إلى الظهر والكسر لتغيير النسب كالإِمسيّ في النسبة إلى الأمس {إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ} منَ الأعمالِ السَّيئةِ التي من جُملتها عدمُ مراعاتِكم لجانبه {مُحِيطٌ} لا يخفى عليه منها خافيةٌ وإن جعلتموه منسياً فيجازيكم عليها ويحتمل أن يكون الإنكارُ للرد والتكذيب فإنهم لما ادَّعَوا أنهم لا يكفّون عن رجمه عليه السلام لقوته وعزّتِه بل لمراعاة جانب رهطِه ردّ عليهم ذلك بأنكم ما قدَّرتم الله حقَّ قدرِه العزيزِ ولم تراعوا جنابَه القويَّ فكيف تراعون جانبَ رهطي الأذلة

93

{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا} لما رأى عليه السلام إصرارَهم على الكفر وأنهم لا يرعوون عمَّا هُم عليهِ من المعاصي حتى اجترءوا على العظيمة التي هي الاستهانةُ به والعزيمةُ على رجمه لولا حُرمةُ رهطِه قال لهم على طريقة التهديد اعملوا {على مَكَانَتِكُمْ} أي على غاية تمكّنِكم واستطاعتِكم يقال مكُن مكانةً إذا تمكّن أبلغَ التمكّن وإنما قاله عليه السلام رداً لما ادَّعَوا أنهم أقوياءُ قادرون على رجمه وأنه ضعيفٌ فيما بينهم لا عزةَ له أو على ناحيتكم وجِهَتكم التي أنتمُ عليها من قولهم مكان ومكانة كمقام ومقامة والمعنى اثبُتوا على ما أنتُم عليهِ من الكفر والمشاقّةِ لي وسائرِ ما أنتم عليه مما لا خير

فيه وابدلوا جهدكم في مضارتي وإيقاع ما في نيتكم وإخراج ما في أمنيتكم من القوةِ إلى الفعلِ {إِنّى عامل} على مكانتي حسبما يؤيدني الله ويوفقني بأنواع التأييدِ والتوفيق {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} لما هدّدهم عليه السلام بقوله اعمَلوا على مكانتكم إني عاملٌ كان مظِنّةَ أن يسألَ منهم سائلٌ فيقولَ فماذا يكون بعد ذلك فقيل سوف تَعْلَمُونَ {مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} وصَف العذابَ بالإخزاء تعريضاً بما أوعدوه عليه السَّلامُ به من الرجم فإنه مع كونه عذاباً فيه خِزيٌ ظاهرٌ حيث لا يكون إلا بجناية عظيمةٍ توجبه {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} عطفٌ على مَنْ يأتيه لا على أنه قسيمُه بل حيث أوعدوه بالرجم وكذبوه قيل سوف تعلمون مَن المعذَّبُ ومن الكاذب وفيه تعريضٌ بكذبهم في ادعائهم القوةَ والقُدرةَ على رجمه عليه السلام وفي نسبته إلى الضعف والهوانِ وفي ادعائهم الإبقاءَ عليه لرعاية جانبِ الرهطِ والاختلافُ بين المعطوفَين بالفعلية والاسميةِ لأن كذب الكاذب ليس بمرتقَبٍ كإتيان العذاب بل إنما المرتقَبُ ظهورُ الكذبِ السابق المستمر ومن إما استفهاميةٌ معلِّقةٌ للعلم عن العمل كأنه قيل سوف تعلمون أيُّنا يأتيه عذابٌ يُخزيه وأيُّنا كاذبٌ وإما موصولةٌ أي سوف تعرِفون الذي يأتيه عذابٌ والذي هو كاذب {وارتقبوا} وانتظروا مآلَ ما أقول {إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ} منتظرٌ فعيل بمعنى الراقب كالصريم أو المراقب كالعشير أو المرتقب كالرفيع وفي زيادة معكم إظهارٌ منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره هود (94 95)

94

{ولما جاء أمرنا} أي عذابُنا كما ينبىء عنه قوله تعالى سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ أو وقتُه فإن الارتقابَ مؤذِنٌ بذلك {نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين آمنوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا} وهي الإيمانُ الذي وفقناهم له أو بمرحمة كائنةٍ منّا لهم وإنما ذكر بالواو كما في قصة عاد لِما أنه لم يسبِقْه فيها ذكرُ وعدٍ يجري مجرى السببِ المقتضي لدخول الفاءِ في معلوله كما في قصتي صالحٍ ولوط فإنه قد سبق هنالك سابقةُ الوعد بقوله ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ وقوله إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ} عدل إليه عن الضمير تسجيلاً عليهم بالظلم وإشعاراً بأن ما أخذهم إنما أخذهم بسبب ظلمِهم الذي فُصّل فيما سبق فنونُه {الصيحة} قيل صاح بهم جبريلُ عليه السَّلامُ فهلكُوا وفي سورة الأعراف فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة وفي سورة العنكبوت فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة أي الزَّلزلةُ ولعلها من روادف الصيحة المستتبعة لتموج الهواء المفضي إليها كما مر فيما قبل {فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين} ميتين لازمين لأماكنهم لا بَراحَ لهم منهَا ولمّا لم يُجعل متعلَّقُ العلمِ في قوله تعالى سَوْفَ تَعْلَمُونَ من يأته عَذَابٌ الخ نفسَ مجيءِ العذابِ بل من يجيئه ذلك جُعل مجيئُه بعد ذلك أمراً مسلَّمَ الوقوعِ غنيا عن الإخبار به حيث جعل شرطاً وجُعل تنجيةُ شعيبٍ عليه السلام وإهلاكُ الكفرة جواباً له ومقصودَ الإفادة وإنما قدّم تنجيتُه اهتماماً بشأنها وإيذاناً بسبق الرحمةِ التي هي مقتضى الربوبيةِ على الغضب الذي يظهر أثرُه بموجب جرائرِهم وجرائمهم

95

{كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ} أي لم يقيموا

{فِيهَا} متصرفين في أطرافها متقلبين في أكنافها {أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} العدولُ عن الإضمار إلى الإظهار ليكون أدلَّ على طغيانهم الذي أدّاهم إلى هذه المرتبةِ وليكون أنسبَ بمن شُبّه هلاكُهم بهلاكهم أعني ثمود وإنما شُبّه هلاكُهم بهلاكهم لأنهما أُهلكتا بنوع من العذاب وهو الصيحة غير أن هؤلاءِ صيح بهم من فوقهم وأولئك من تحتهم وقرىء بعُدت بالضم على الأصل فإن الكسرَ تغييرٌ لتخصيص معنى البُعد بما يكون سببَ الهلاك والبعدُ مصدرٌ لهما والبُعدُ مصدرٌ للمكسور هود (96 97)

96

{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} وهي الآيات التسع المفصلات التي هي العصا واليدُ البيضاءُ والطوفانُ والجَرادُ والقُمّلُ والضفادعُ والدمُ ونقصُ الثمراتِ والأنفس ومنهم من جعلهما آيةً واحدةً وعدّ منها إظلالَ الجبل وليس كذلك فإنه لقبول أحكامِ التوراةِ حين أباه بنو إسرائيلَ والباءُ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعول أرسلنا أو نعتاً لمصدره المؤكّد أي أرسلناه حال كونِه ملتبساً بآياتنا أو أرسلناه إرسالا ملتبسا بها {وسلطان مُّبِينٍ} هو المعجزاتُ الباهرةُ منها أو هو العصا والإفرادُ بالذكر لإظهار شرفِها لكونها أبهرَها أو المرادُ بالآيات ما عداها أو هما عبارتان عن شيء واحد أي أرسلناه بالجامع بين كونِه آياتِنا وبين كونِه سلطاناً له على نبوّته واضحاً في نفسه أو موضّحاً إياها من أبان لازماً ومتعدّياً أو هو الغلبةُ والاستيلاءُ كقوله تعالى وَنَجْعَلُ لَكُمَا سلطانا ويجوز أن يكون المرادُ ما بينَهُ عليه السَّلامُ في تضاعيف دعوتِه حين قال له فرعونُ مِنْ رَبّكُمَا فَمَا بَالُ القرون الاولى من الحقائق الرائقةِ والدقائقِ اللائقةِ وجعلُه عبارة عن التوراة أو إدراجها في جملة الآيات يردّه قوله عز وجل

97

{إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} فإن نزولَها إنما كان بعد مهلِك فرعونَ وقومِه قاطبةً ليعمل بها بنو إسرائيلَ فيما يأتُون وما يَذَرُون وأما فرعونُ وقومُه فإنما كانوا مأمورين بعبادة ربِّ العالمين عز سلطانه وترك العظيمةِ الشنعاءِ التي كانَ يدَّعِيها الطاغيةُ ويقبلُها منهُ فئتُه الباغيةُ وبإرسال بني إسرائيلَ من الأسرِ والقسر وتخصيصُ ملئه بالذكر مع عموم رسالتِه عليه السلام لقومه كافة لأصالتهم في الرأي وتدبيرِ الأمور واتباعِ غيرِهم لهم في الورود والصدور وإنما لم يصرَّح بكفر فرعونَ بآيات الله تعالى وانهماكه فيما كان عليه من الضلال والإضلال بل اقتصر على ذكر شأن ملئه فقيل {فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} أي أمرَه بالكفر بما جاءَ به موسَى عليهِ السلام من الحق المبين للإيذان بوضوح حالِه فكأن كفرَه وأمْرَ ملئِه بذلك أمرٌ محققُ الوجودِ غيرُ محتاجٍ إلى الذكر صريحاً وإنما المحتاجُ إلى ذلك شأن ملئِه المترددين بين هادٍ إلى الحق وداعٍ إلى الضلال فنعى عليهم سوءَ اختيارِهم وإيرادُ الفاء في اتّباعهم المترتبِ على أمر فرعونَ المبنيِّ على كفره المسبوقِ بتبليغ الرسالةِ للإشعار بمفاجأتهم في الاتباع ومسارعةِ فرعونَ إلى الكفر وأمرِهم به فكأن ذلك كلّه لم يتراخَ عن الإرسال والتبليغِ بل وقع جميعُ ذلك في وقت واحد فوقع إثرَ ذلك اتباعُهم ويجوز أن يرادَ بأمر فرعونَ شأنُه المشهورُ وطريقتُه الزائغةُ فيكون معنى فاتبعوا فاستمرّوا على الاتّباع والفاءُ

مثلُ ما في قولِك وعظتُه فلم يتَّعِظْ وصِحْتُ به فلم ينزجِرْ فإن الإتيانَ بالشيء بعد ورودِ ما يوجب الإقلاعَ عنه وإن كان استمراراً عليه لكنه بحسَب العنوان فعلٌ جديدٌ وصنعٌ حادثٌ فتأمل وتركُ الإضمارِ لدفع توهُّمِ الرجوعِ إلى مُوسى عليهِ السَّلامُ من أول الأمرِ ولزيادة تقبيحِ حال المتبعين فإن فرعونَ علَمٌ في الفساد والإفساد والضلالِ والإضلال فاتباعُه لفَرْط الجهالِة وعدمِ الاستبصار وكذا الحالُ في قولِه تعالى {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} الرُّشدُ ضدُّ الغِيّ وقد يراد به محموديّةُ العاقبةِ فهو على الأول بمعنى المرشد أو ذي الرشد حقيقةٌ لغويةٌ والإسنادُ مجازيٌّ وعلى الثاني مجازٌ والإسناد حقيقي هود (98 100)

98

{يَقْدُمُ قَوْمَهُ} جميعاً من الأشراف وغيرِهم {يَوْمُ القيامة} أي يتقدّمهم من قدَمه بمعنى تقدّمه وهو استئنافٌ لبيان حالِه في الآخرة أي كما كان قدوةً لهم في الضلال كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه أو لتوضيح عدمِ صلاحِ مآلِ أمرِه وسوءِ عاقبتِه {فَأَوْرَدَهُمُ النار} أي يوردهم وإيثارُ صيغةِ الماضي للدَلالة على تحقيق الوقوعِ لا محالة شُبّه فرعونُ بالفارط الذي يتقدم الواردةَ إلى الماء وأتباعُه بالواردة والنارُ بالماء الذي يرِدُونه ثم قيل {وَبِئْسَ الورد المورود} أي بئس الوردُ الذي يرِدونه النارُ لأن الورد إنما يراد لتسكين العطشِ وتبريدِ الأكباد والنارُ على ضد ذلك

99

{واتبعوا} أي الملأُ الذين اتّبعوا أمرَ فرعون {فِى هذه} أي في الدنيا {لَّعْنَةُ} عظيمةً حيث يلعنهم مَنْ بعدهم من الأمم إلى يوم القيامة {وَيَوْمَ القيامة} أيضاً حيث يلعنهم أهلُ الموقفِ قاطبةً فهي تابعة لهم حينما ساروا دائرةٌ معهم أينما داروا في الموقف فكما اتّبعوا فرعونَ اتّبعتْهم اللعنةُ في الدارين جزاء وفاقاً واكتُفي ببيان حالِهم الفظيعِ وشأنِهم الشنيعِ عن بيان حالِ فرعونَ إذ حين كان حالُهم هكذا فمَا ظنُّكَ بحالِ من أغوارهم وألقاهم في هذا الضلال البعيد وحيث كان شأنُ الأتباع أن يكونوا أعواناً للمتبوع جُعلت اللعنةُ رِفداً لهم على طريقة التهكّم فقيل {بِئْسَ الرفد المرفود} أي بئس العونُ المُعانُ وقد فُسر الرفدُ بالعطاء ولا يلائمه المقام وأصلُه ما يضاف إلى غيره ليُعمِّده والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي رفدُهم وهي اللعنةُ في الدارين وكونُه مرفوداً من حيث أن كلَّ لعنة منها مُعِيْنةٌ ومُمِدّةٌ لصاحبتها ومؤيدةٌ لها

100

{ذلك} إشارة إلى ما قُص من أنباء الأممِ وبعده باعتبار تقضّيه في الذكر والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبره {من أَنْبَاء القرى} المهلَكة بما جنتْه أيدي أهلِها {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} خبرٌ بعد خبرٍ أي ذلك النبأُ بعضُ أنباءِ القرى مقصوصٌ عليك {مِنْهَا} أي من تلك القرى {قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} أي ومنها حصيد حُذف لدلالة الأولِ عليه شُبّه ما بقيَ منها بالزرع القائمِ على ساقه وما عفا وبطَل بالحصيد والجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب

هود الآية (101 102 103 104)

101

{وَمَا ظلمناهم} بأن أهلكناهم {ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بأن جعلوها عُرضةً للهلاك باقتراف ما يوجبه {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ} فما نفعتهم ولا دفعتْ بأسَ الله تعالى عنهم {آلهتهم التي يدعون} أي يعبدونها {من دُونِ الله} أُوثر صيغةُ المضارعِ حكايةٌ للحال الماضيةِ أو دِلالةً على استمرار عبادتِهم لها {مِن شَىْء} في موضع المصدر أي شيئا من الإغناء {لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ} أي حين مجيءِ عذابِه وهو منصوبٌ بأغنت وقرىء آلهتُهم اللاتي ويُدْعَون على البناء للمجهول {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} أي إهلاك وتخسير فإنهم إنما هلكوا وخسِروا بسبب عبادتِهم لها

102

{وكذلك} أيْ ومثلَ ذلكَ الأخذِ الذي مر بيانُه وهو رفعٌ على الابتداء وخبرُه قوله {أَخْذُ رَبّكَ} وقرىء أخذَ ربُّك فمحلُّ الكاف النصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكد {إِذَا أَخَذَ القرى} أي أهلَها وإنما أُسند إليها للإشعار بَسَريان أثرِه إليها حسبما ذُكر وقرىء إذْ أخذ {وَهِىَ ظالمة} حالٌ من القرى وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أُقيمت مُقامَهم في الأخذ أُجريت الحالُ عليها وفائدتُها الإشعارُ بأنهم إنما أُخذوا بظلمهم ليكون ذلك عبرةً لكل ظالم {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وجيع صعب على المأخوذ لا يرجى منه الخلاص وفيه ما لا يَخفْى من التهديد والتحذير

103

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في أخذه تعالى للأمم المهلكة أو في قصصهم {لآيَةً} لعبرةً {لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الاخرة} فإنه المعتبرُ به حيث يُستدل بما حاق بهم من العذاب الشديد بسببِ ما عمِلوا من السيئات على أحوال عذابِ الآخرة وأما من أنكر الآخرةَ وأحال فناءَ العالم وزعم أن ليس هو ولا شيءٌ من أحواله مستنداً إلى الفاعل المختارِ وأن ما يقع فيه من الحوادث فإنما يقع لأسباب تقتضيه من أوضاع فلكيةٍ تتفق في بعض الأوقاتِ لا لما ذُكر من المعاصي التي يقترفها الأممُ الهالكة فهو بمعزل من هذا الاعتبارِ تباً لهم ولما لهم من الأفكار {ذلك} إشارةٌ إلى يوم القيامةِ المدلول عليه بذكر الآخرة {يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} أي يجمع لَّهُ الناس للمحاسبة والجزاءِ والتغييرُ للدلالة على ثبات معنى الجمعِ وتحقق وقوعِه لا محالة وعدم انفكاك الناس عنه فهو أبلغ من قولِه تعالى يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع {وَذَلِكَ} أي يومُ القيامة مع ملاحظة عنوانِ جمعِ الناس له {يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} أي مشهود فيه حيث يشهد فيه أهلُ السموات والأرضين فاتسع فيه بإجراء الظفر مُجرى المفعولِ به كما في قوله ... في محفل من نواصي الناس مشهود ... أي كثيرٌ شاهدوه ولو جُعل نفسُ اليوم مشهوداً لفات ما هو الغرضُ من تعظيم اليومِ وتهويلِه وتمييزِه عن غيره فإن سائرَ الأيام أيضاً كذلك

104

{وَمَا نُؤَخّرُهُ}

أي ذلك اليومَ الملحوظَ بعُنوانيْ الجمعِ والشهود {إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ} إلا لانقضاء مدةٍ قليلةٍ مضروبةٍ حسبما تقتضيه الحكمة هود (105 107)

105

{يَوْمَ يَأْتِ} أي حين يأتي ذلك اليومُ المؤخَّرُ بانقضاء أجلِه كقوله تعالى أن تَأْتِيَهُمُ الساعة وقيل يومَ يأتي الجزاءُ الواقعُ فيه وقيل أي الله عزَّ وجلَّ فإن المقام مقامُ تفخيمِ شأنِ اليوم وقرىء بإثبات الياء على الأصل {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} أي لا تتكلم بما ينفع وينجّي من جواب أو شفاعةٍ وهو العاملُ في الظرف أو الانتهاء المحذوفِ في قوله تعالى إِلاَّ لاِجَلٍ مَّعْدُودٍ أي ينتهي الأجل يوم يأتي أو المضمر المعهود أعني أذكر {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} عز سلطانه في التكلم كقوله تعالى لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أذِن لَهُ الرحمن وهذا في موطن من مواطنِ ذلك اليوم وقوله عز وجل هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ في موقف آخرَ من مواقفه كما أن قولَه سبحانه يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا في آخرَ منها أو المأذونُ فيه الجواباتُ الحقةُ والممنوعُ عنه الأعذار الباطلةُ نعم قد يُؤذن فيها أيضاً لإظهار بطلانِها كما في قول الكفرة والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ونظائرِه {فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ} وجبت له النارُ بموجب الوعيد {وَسَعِيدٌ} أي ومنهم سعيدٌ حُذف الخبرُ لِدلالة الأولِ عليه وهو من وجبت له الجنة بمتضى الوعد والضميرُ لأهل الموقفِ المدلولِ عليهم بقوله لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ أو للناس وتقديمُ الشقيِّ على السعيد لأن المقام مقام التحذير والإنذار

106

{فَأَمَّا الذين شَقُواْ} أي سبَقَت لهم الشقاوةُ {فَفِى النار} أي مستقرّون فيها {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} الزفيرُ إخراجُ النفَسِ والشهيقُ رده واستعمالهما في أول النهيق وآخرِه قال الشماخ يصف حمارَ الوحش ... بعيدُ مدى التطريب أولُ صوتِه ... زفيرٌ ويتلوه شهيقٌ مُحشرَجُ ... والمرادُ بهما وصفُ شدةِ كربِهم وتشبيهُ حالِهم بحال من استولت على قلبه الحرارةُ وانحصر فيه روحُه أو تشبيهُ صراخِهم بأصواتِ الحميرِ وقرىء شقوا بالضم والجملةُ مستأنفةٌ كأن سائلاً قال ما شأنُهم فيها فقيل لهم فيها كذا وكذا أو منصوبةُ المحلِّ على الحالية من النار أو من الضميرِ في الجار والمجرور كقوله عز اسمُه

107

{خالدين فِيهَا} خلا أنَّه إنْ أُريد حدوثُ كونِهم في النار فالحالُ مقدرةٌ {ما دامت السماوات والأرض} أي مدة دوامهما وهذا التوقيتُ عبارةٌ عن التأييد ونفيِ الانقطاع بناءً على منهاج قولِ العرب ما دام تعار وما أقام ثَبيرٌ وما لاح كوكب وما اختلف الليلُ والنهار وما طما البحرُ وغيرُ ذلك من كلمات التأبيد لا تعليقِ قرارِهم فيها بدوام هذه السمواتِ والأرض فإن النصوصَ القاطعةَ دالةٌ على تأبيد قرارِهم فيها وانقطاعِ دوامِهما وإن أريد التعليقُ فالمراد سمواتُ الآخرة وأرضُها كما يدل على ذلك النصوصُ كقوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غير الأرض والسموات وقوله تعالى وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء وجزم كلُّ أحدٍ بأن أهلَ الآخرةِ

لا بد لهم من مِظلّة ومِقلّة دائمتين يكفي في تعليقي دوامِ قرارِهم فيها بدوامهما ولا حاجة إلى الوقوف على تفاصيل أحوالِهما وكيفياتهما {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} استثناءٌ من الخلود على طريقة قوله تعالى لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى وقوله وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آباؤكم مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ وقولِه تعالى حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط غير أن استحالة الأمورِ المذكورةِ معلومةٌ بحكم العقلِ واستحالةَ تعلّق المشيئةِ بعدم الخلودِ معلومةٌ بحكم النقل يعني أنهم مستقرّون في النار في جميع الأزمنةِ إلا في زمان مشيئةِ الله تعالى لعدم قرارِهم فيها وإذ لا إمكان لتلك المشيئةِ ولا لزمانها بحكم النصوصِ القاطعة الموجبةِ للخلود فلا إمكانَ لانتهاء مدةِ قرارِهم فيها ولدفع ما عسى يُتوهَّمُ من كون استحالةِ تعلق مشيئة الله تعالى بعدم الخلود بطريق الوجوبِ على الله تعالى قال {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} يعني أنه في تخليد الأشقياءِ في النار بحيث يستحيل وقوعُ خلافةِ فعالٌ بموجب إرادته قاضٍ بمقتضى مشيئتِه الجارية على سنن حكمته الداعيةِ إلى ترتيب الأجزيةِ على أفعال العبادِ والعدولُ من الإضمار إلى الإظهار لتربية المهابةِ وزيادةِ التقريرِ وقيل هو استثناءُ من الخلود في عذاب النار فإنهم لا يخلّدون فيه بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع أُخَرَ من العذاب وبما هو أغلظُ منها كلِّها وهو سَخَطُ الله تعالى عليهم وخَسْؤه لهم وإهانتُه إياهم وأنت تدري أنا وإن سلّمنا أن المرادَ بالنار ليس مطل قدار العذاب المشتملةِ على أنواع العذابِ بل نفسَ النار فما خلا عذابَ الزمهريرِ من تلك الأنواعِ مقارِنٌ لعذاب النار فلا مِصداقَ في ذلك للاستثناء ولك أن تقول إنهم ليسوا بمخلدين في العذاب الجُسماني الذي هو عذابُ النار بل لهم من أفانين العذاب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وهي العقوباتُ والآلامُ الروحانية التي لا يقف عليها فِى هذه الحياةِ الدنيا المنغمِسون في أحكام الطبيعةِ المقصورُ إدراكُهم على ما ألِفوا من الأحوال الجُسمانية وليس لهم استعدادٌ لتلقّي ما رواء ذلك من الأحوال الروحانيةِ إذا ألقيَ إليهم ولذلك لم يتعرّض لبيانه واكتُفي بهذه المرتبةِ الإجماليةِ المنبئةِ عن التهويل وهذه العقوباتُ وإن كان تعتريهم وهم في النار لكنهم ينسَوْن بها عذابَ النارِ ولا يُحِسّون به وهذه المرتبةُ كافيةٌ في تحقيق معنى الاستثناءِ هذا وقد قيل إلا بمعنى سوى وهو أوفقُ بما ذكر وقيلَ ما بمعنَى مَنْ على إرادة معنى الوصفيةِ فالمعنى إن الذين شقُوا في النار مقدرين الخلود فيها إلا الذين شاء الله عدم خلودِهم فيها وهم عصاةُ المؤمنين سورة هود (108)

108

{وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والارض} الكلامُ فيه كالكلام فيما سبق خلاَ أنَّه لم يذكُر ههنا أن لهم فيها بهجةً وسروراً كما ذكر في أهل النارِ من أنه لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ لأن المقام مقام التحذير والإنذار {إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ} إنْ حمل على طريقة التعليقِ بالمُحال فقوله سبحانه {عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ} نصب على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله تعالى فَفِى الجنة خالدين فِيهَا يقتضي إعطاءً وإنعاماً فكأنه قيل يعطيهم عطاءً وهو إما اسمُ مصدرٍ هو الإعطاءُ أو مصدرٌ بحذف الزوائدِ كقوله تعالى أنبتكم

هود الآية (109 110) من الارض نباتا وإن حُمل على ما أعد الله لعباده الصالحين من النعيم الروحاني الذي عبّر عنه بما لا عينٌ رأتْ ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فهو نصبٌ على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة أو تمييزٌ فإن نسبةَ مشيئةِ الخروج إلى الله تعالى يحتمل أن تكون على جهة عطاءٍ مجذوذ وعلى جهة عطاءٍ غيرِ مجذوذ فهو رافعٌ للإبهام عن النسبة قال ابن زيد أخبرنا الله تعالى بالذي يشاء لأهل الجنةِ فقال عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ولم يُخبرنا بالذي يشاء لأهل النارِ ويجوز أن يتعلق بكلا النعيمين أو بالأول دفعاً لما يتوهم من ظاهر الاستثناءِ من انقطاعه

109

{فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ} أي في شك والفاءُ لترتيبِ النهْيِ على ما قُصّ من القصص وبُيّن في تضاعيفها من العواقب الدنيوية والأخروية {مّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء} أي من جهة عبادةِ هؤلاء المشركين وسوءِ عاقبتها أو من حال ما يعبُدونه من الأوثان في عدم نفعِه لهم ولمّا كان مَساقُ النظمِ الكريم قبيل الشروعِ في القصص لبيان غايةِ سوءِ حالِ الكفرةِ وكمالِ حسنِ حال المؤمنين وقد ضُرب لهم مثلُ فقيل مَثَلُ الفريقين كالاعمى والاصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وقد قُص عَقيبَ ذلك من أنباء الأممِ السالفة مع رسلهم المبعوثةِ إليهم ما يتذكر به المتذكِّرُ نُهي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن كونه في شك من مصير أمرِ هؤلاءِ المشركين في العاجل والآجلِ ثم علل ذلك بطريق الاستئناف فقيل {مَا يَعْبُدُونَ إلا كما يعبد آباؤهم} الذين قُصّت عليك قصصُهم {مِن قَبْلُ} أي هم وآباؤُهم سواءٌ في الشرك ما يعبدون عبادةً إلا كعبادتهم أو ما يعبدون شيئاً إلا مثلَ ما عبدوه من الأوثان والعدولُ إلى صيغة المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ لاستحضار صورتها أو مثلَ ما كانوا يعبدونه فحُذف كان لِدلالة قولهِ من قبل عليه ولقد بلغك ما لحق بآبائهم فسيلحقهم مثلُ ذلك فإن تماثلَ الأسبابِ يقتضي تماثل المسبَّبات {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ} أي هؤلاء الكفرة {نَصِيبَهُمْ} أي حظَّهم المعيَّنَ لهم حسن جرائمِهم وجرائرِهم من العذاب عاجلاً وآجلاً كما وفّينا آباءَهم أنصباءَهم المقدّرة لهم أو من الرزق المقسومِ لهم فيكون بياناً لوجه تأخُّرِ العذاب عنهم مع تحقُّق ما يُوجبه {غَيْرَ مَنقُوصٍ} حالٌ مؤكدة من النصيب كقوله تعالى ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ وفائدتُه دفعُ توهّم التجوّزِ وجعلُها مقيدةً له لدفع احتمالِ كونِه منقوصاً في حد نفسه مبنيٌّ على الذهول عن كون العاملِ هو التوفيةَ فتأمل

110

{ولقد آتينا موسى الكتاب} أي التوراة {فاختلف فِيهِ} أي في شأنه وكونِه من عند الله تعالى فآمن به قومٌ وكفر به آخرون فلا تبالِ باختلاف قومِك فيما آتيناك من القرآن وقولِهم لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ وزعمِهم أنك افتريتَه {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ}

وهي كلمةُ القضاءِ بإنظارهم إلى يوم القيامةِ على حسب الحِكمةِ الداعيةِ إلى ذلك {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لأوقع القضاءَ بين المختلفين من قومك بإنزال العذابِ الذي يستحقه المبطِلون ليتميّزوا به عن المُحِقّين وقيل بين قوم موسى وليس بذاك {وَإِنَّهُمْ} أي وإن كفارَ قومِك أريد به بعضُ من رجع إليهم ضميرُ بينهم للأمن من الإلباس

111

{لَفِى شَكّ} عظيم {مِنْهُ} أي من القرآن وإن لم يجْرِ له ذكر فإن ذكرَ إيتاءِ كتابِ موسى ووقوعِ الاختلافِ فيه لا سيما بصدد التسليةِ ينادي به نداءً غيرَ خفي {مُرِيبٍ} مُوقِع في الريبة {وَإِنَّ كُلاًّ} التنوينُ عوضٌ عن المضافِ إليهِ أي وإن كلَّ المختلِفين فيه المؤمنين منهم والكافرين وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالتخفيف مع الإعمال اعتباراً للأصل {لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} أي أجزيةَ أعمالِهم واللامُ الأولى موطئةٌ للقسمِ والثانيةُ جوابٌ للقسم المحذوف ولما مركبةٌ مِنْ الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وأصلها لمِن فقلبت النون مميا للإدغام فاجتمع ثلاث ميماتٍ فحُذفت أولاهن والمعنى لَمِن الذي أو لمِنْ خلْقٍ أو لمن فريقٍ والله ليوفينهم ربك وقُرىء لما بالتَّخفيفِ على أن ما مزيدةٌ للفصل بين اللامين والمعنى وإن جميعَهم والله ليوفينهم الآية وقرىء لمًّا بالتنوين أي جميعاً كقوله سبحانه أَكْلاً لَّمّاً وقرأ أبي وإنْ كلٌّ لمّا ليوفينهم على أن أن نافيةٌ ولَمَّا بمَعْنى إلاَّ وقد قرىء به {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي بما يعمله كلُّ فردٍ من المختلفين من الخير والشر {خَبِيرٌ} بحيثُ لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه وهو تعليلٌ لما سبق من توفية أجزيةِ أعمالِهم فإن الإحاطةَ بتفاصيل أعمالِ الفريقين وما يستوجبه كلُّ عمل بمقتضى الحكمةِ من الجزاء المخصوصِ توجب توفيةَ كلَّ ذِي حقٍ حقَّه إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشر

112

{فاستقم كَمَا أُمِرْتَ} لما بيّن في تضاعيف القصص المَحْكية عن الأمم الماضيةِ سوءُ عاقبة الكفرِ وعصيانِ الرسل وأُشير إلى أن حالَ هؤلاء الكفرةِ في الكفر والضلالِ واستحقاق العذابِ مثلُ أولئك المعذبين وأن نصيبَهم من العذاب واصلٌ إليهم من غير نقص وأن تكذيبَهم للقرآن مثلُ تكذيبِ قوم موسى عليه السلام للتوراة وأنه لو لم تسبِقْ كلمةُ القضاءِ بتأخير عقوبتِهم العامةِ ومؤاخذتِهم التامّةِ إلى يوم القيامة لفُعل بهم ما فُعل بآبائهم من قبلُ وأنهم يُوفَّوْن نصيبَهم غيرَ منقوص وأن كل واحدٍ من المؤمنين والكافرين يوفى جزاءَ عملِه أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة كما أمر به في العقائد والأعمالِ المشتركة بينه وبين سائِر المؤمنين ولا سيما الأعمالُ الخاصةُ به عليه السلام من تبليغ الأحكامِ الشرعية والقيامِ بوظائف النبوةِ وتحمّل أعباءِ الرسالةِ بحيث يدخُل تحته ما أمر به فيما سبقَ من قولِه تعالى فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ الآية وبالجملة فهذا الأمرُ منتظمٌ لجميع محاسنِ الأحكامِ الأصليةِ والفرعية والكمالاتِ النظريةِ والعملية والخروجُ من عُهدته في غايةِ ما يكونُ من الصعوبة ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شيبتْني سورةُ هود {وَمَن تَابَ مَعَكَ} أي تاب من الشرك والكفرِ وشاركك في الإيمان وهو المعنيُّ بالمعية وهو معطوفٌ على

هود الآية (113 114) المستكنّ في قوله فاستقم وحسُن من غير تأكيدٍ لمكان الفاصل القائمِ مَقامَه وفي الحقيقة هو مِن عطف الجملةِ على الجملة إذ المعنى وليستقم مَنْ تاب معك وقيلَ هو منصوبٌ على أنه مفعولٌ معه كما قاله أبو البقاء والمعنى استقم مصاحباً لمن تاب معك {وَلاَ تَطْغَوْاْ} ولا تنحرفوا عما حُدّ لكم بإفراط أو تفريط فإن كلا طرف قصدِ الأمور ذميمٌ وإنما سُمّي ذلك طغياناً وهو تجاوزُ الحدِّ تغليظاً أو تغليباً لحال سائرِ المؤمنين على حاله عليه السلام {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكُم على ذلك وهو تعليلٌ للأمر والنهي وفي الآيةِ دِلالةٌ على وجوب اتباعِ المنصوص عليه من غير انحرافٍ بمجرد الرأي فإنه طغيانٌ وضلالٌ وأما العملُ بمقتضى الاجتهادِ التابعِ لعلل النصوصِ فذلك من باب الاستقامةِ كما أمر على موجب النصوصِ الآمرةِ بالاجتهاد

113

{وَلاَ تَرْكَنُواْ} أي لا تميلوا أدنى ميلٍ {إِلَى الذين ظَلَمُواْ} أي إلى الذين وُجد منهم الظلمُ في الجملة ومدارُ النهي هوالظلم والجمعُ باعتبار جمعيةِ المخاطَبين وما قيل من أن ذلك للمبالغة في النهي من حيث إن كونهم جماعةً مظِنةُ الرخصةِ في مداهنتهم إنما يتم أن لو كان المرادُ النهيَ عن الركون إليهم من حيث أنهم جماعةٌ وليس كذلك {فَتَمَسَّكُمُ} بسبب ذلك {النار} وإذا كان حالُ الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الإفضاء إلى مِساس النارِ هكذا فما ظنك بمن يمل إلى الراسخين في الظلم والعُدوان ميلاً عظيماً ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتِهم ويُلقي شراشِرَه على مؤانستهم ومعاشرتهم ويبتهج بالتزيّي بزِيّهم ويمُدّ عينيه إلى زهرتهم الفانية ويغبِطُهم بما أوتوا من القطوف الدانية وهو في الحقيقة من الحبة طفيف ومن جناح البعوض خفيف بمعزل عن أن تميل إليه القلوب ضعُف الطالبُ والمطلوب والآيةُ أبلغُ ما يتصور في النهْي عن الظلم والتهديدِ عليه وخطابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ للتثبيت على الاستقامة التي هي العدلُ فإن الميلَ إلى أحد طرفي الإفراطِ والتفريطِ ظلمٌ على نفسه أو على غيره وقرىء تركنوا على لغة تميم وتُركَنوا على صيغة البناء للمفعول من أركنه {وَمَا لَكُم من دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} أي من أنصار يُنقِذونكم من النار والجملة نصب على الحالية من قوله فتمسكم النار ونفيُ الأولياءِ ليس بطريق نفي أن يكون لكل واحدٍ منهم أولياءُ حتى يصدُقَ أن يكون له وليٌّ بل لمكان لكم بطريق انقسامِ الآحادِ على الآحاد لكنْ لا على مَعْنى نفي استقلالِ كلَ منهم بنصير بل على معنى نفيِ أن يكون لواحد منهم نصيرٌ بقرينة المقام {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} من جهة الله سبحانه إذ قد سبق في حكمه أن يعذبَكم بركونكم إليهم ولا يُبقيَ عليكم وثم لتراخي رتبةِ كونِهم غيرَ منصورين من جهة الله بعد ما أوعدهم بالعذاب وأوجبه عليهم ويجوز أن يكون منزلاً منزلة الفاءِ بمعنى الاستبعادِ فإنه لما بيّن أن الله تعالى معذبُهم وأن غيرَه لا ينقذهم أنتج أنهم لا يُنصرون أصلاً

114

{وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار} أي غدوةً وعشيةً وانتصابُه على الظرفيه لكونه مضافاً إلى الوقت {وَزُلَفاً مِّنَ الليل} أي ساعاتٍ منه قريبةً من النهار فإنه مِنْ أزلفه إذا قرّبه جمع زُلفة عطفٌ على طرفي النهار والمرادُ بصلاتهما صلاةُ

هود الآية (115 116) الغداة والعصرِ وقيل الظُهر موضعَ العصر لأن ما بعد الزوال عشيٌّ وبصلاة الزُلَف المغربُ والعشاء وقرىء زُلُفاً بضمتين وضمة وسكون كبُسْر وبُسُر وزُلفى بمعنى زُلفة كقربى بمعنى قربة {إِنَّ الحسنات} التي من جملتها بل عُمدتُها ما أُمرت به من الصلوات {يُذْهِبْنَ السيئات} التي قلما يخلو منها البشر أي يكفرنها وفي الحديث إن الصلاة إلى الصلاة كفارةٌ لما بينهما ما اجتنب الكبائر وقيل نزلتْ في أبي اليَسَر الأنصاريِّ إذ قبّل امرأةً ثم ندِم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل فقال صلى الله عليه وسلم أنتظرُ أمرَ ربي فلما صلى صلاةَ العصر نزلت قال صلى الله عليه وسلم نعم اذهب فإنها كفارةٌ لما عمِلْت أو يمنعْن من اقترافها كقوله تعالى إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عن الفحشاء والمنكر {ذلك} إشارةٌ إلى قوله تعالى فاستقم فما بعده وقيل إلى القرآن {ذكرى للذاكرين} أي عظةٌ للمتعظين

115

{واصبر} على مشاقّ ما أُمِرْت به في تضاعيف الأوامرِ السابقةِ وأما ما نُهيَ عنه من الطغيان والركون إلى الذين ظلموا فليس في الانتهاء عنه مشقةٌ فلا وجهَ لتعميم الصبرِ له اللهم إلا أن يُراد به ما لا يمكن عادة خلوُّ البشرِ عنه من أدنى ميلٍ بحكم الطبيعةِ عن الاستقامة المأمورِ بها ومن يسير ميلٍ بحكم البشرية إلى من وجد منه ظلمٌ ما فإن في الاحتراز عن أمثاله من المشقة ما لا يَخْفى {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} أي يوفيهم أجورَ أعمالهم من غير بخسٍ أصلاً وإنما عبِّر عن ذلك بنفي الإضاعةِ مع أن عدمَ إعطاءِ الأجرِ ليس بإضاعةٍ حقيقةً كيف لا والأعمالُ غيرُ موجبةٍ للثواب حتى يلزَم من تخلفه عنها ضياعُها لبيانِ كمالِ نزاهتِه تعالَى عنْ ذلكَ بتصويرِه بصورةِ ما يمتنع صدورُه عنْهُ سبحانَهُ منَ القبائح وإبرازِ الإثابةِ في معرِض الأمورِ الواجبةِ عليه وإنما عدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدةٍ عامةٍ لكل من يتصف به وهو تعليلٌ للأمر بالصبر وفيه إيماءٌ إلى أن الصبرَ على ما ذكر من باب الإحسان

116

{فَلَوْلاَ كَانَ} فهلا كان {مّنَ القرون} الكائنةِ {مِن قَبْلِكُمْ} على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلتِه أو كائنةً من قبلكم {أولوا بَقِيَّةٍ} من الرأي والعقلِ أو أولوا فضلٍ وخير وسُمّيا بها لأن الرجلَ إنما يستبقي مما يخرجه عادة أجودَه وأفضلَه فصار مثلاً في الجودة والفضلِ ويقال فلان من بقيةِ القومِ أي من خيارِهم ومنه ما قيل في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا ويجوز أن تكون البقيةُ بمعنى البقوى كالتقية من التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم وصيانةٍ لها من سخط الله تعالى وعقابه ويؤيده أنه قرىء أولو بقْيةٍ وهي المرّةُ من مصدر بقاه يَبقيه إذا راقبه وانتظره أي أولو مراقبةِ وخشيةٍ من عذابِ الله تعالى كأنهم ينتظرون نزولَه لإشفاقهم {يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِى الارض} الواقعِ منهم حسب ما حكى عنه {إلا قليلا ممن أنجينا مِنْهُمْ} استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ قليلاً منهم أنجيناهم لكونهم على تلك الصفةِ على أن من للبيان لا للتبعيض لأن جميعَ الناجين ناهون ولا صحة للاتصال على ظاهر الكلامِ

هود الآية (117) لأنه يكون تحضيضاً لأولي البقية على النهي المذكورِ إلا للقليل من الناجين منهم كما إذا قلت هلاّ قرأ قومُك القرآن إلا الصلحاءَ منهم مريداً لاستثناء الصلحاءِ من المُحضَّضين على القراءة نعم يصح ذلك إن جعل استثناءً من النفي اللازمِ للتحضيض فكأنه قيل ما كان من القرون أولو بقيةٍ إلا قليلاً منهم لكنَّ الرفعَ هو الأفصحُ حينئذ على البدلية {واتبع الذين ظَلَمُواْ} بمباشرة الفسادِ وتركِ النهي عنه {مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ} أي أُنعموا من الشهوات واهتموا بتحصيلها أما المباشرون فظاهرٌ وأما المساهلون فلِما لهم في ذلك من نيل حظوظِهم الفاسدة وقيل المرادُ بهم تاركو النهي وأنت خبيرٌ بأنه يلزم منه عدمُ دخولِ مباشري الفسادِ في الظلم والإجرام عبارةً {وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} أي كافرين فهو بيانٌ لسبب استئصالِ الأمم المُهلَكة وهو فشوُّ الظلمِ واتباعُ الهوى فيهم وشيوعُ ترك النهي عن المنكرات مع الكفر وقوله واتّبع عطفٌ على مضمر دل عليه الكلامُ أي لم ينهَوا واتبع الخ فيكون العدولُ إلى المظهر لإدراج المباشرين معهم في الحكم والتسجيلِ عليهم بالظلم وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب أو على استئنافٍ يترتب على قوله إِلاَّ قَلِيلاً أي إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا من مباشري الفساد وتاركي النهي عنه فيكون الإظهارُ مقتضى الظاهِرِ وقوله وكانوا مجرمين عطفٌ على أترفوا أي اتبعوا الإتراف وكونُهم مجرمين لأن تابعَ الشهواتِ مغمورٌ بالآثام أو أريد بالإجرام إغفالُهم للشكر أو على اتبع أي اتبعوا شهواتِهم وكانوا بذلك الاتباعِ مجرمين ويجوز أن يكون اعتراضاً وتسجيلاً عليهم بأنهم قومٌ مجرمون وقرىء وأُتْبع أي أُتبعوا جزاءَ ما أُترفوا فتكون الواو للحال ويجوز أن يُفسَّر به المشهورةُ ويعضُده تقدم الإنجاء

117

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى} أي ما صح وما استقامَ بل استحال في الحكمةِ أن يُهلك القرى التي أهلكها حسب ما بلغك أنباؤها ويُعلم من ذلك حالُ باقيها من القرى الظالمةِ واللام لتأكيد النفي وقوله {بِظُلْمٍ} أي ملتبساً به قيل هو حالٌ من الفاعل أي ظالماً لها والتنكيرُ للتفخيم والإيذانِ بأن إهلاكَ المصلحين ظلمٌ عظيم والمرادُ تنزيهُ الله تعالى عن ذلك بالكلية بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنه تعالى وإلا فلا ظلمَ فيما فعله الله تعالى بعباده كائناً ما كان لِما تقررَ منْ قاعدةِ أهلِ السنة وقد مر تفصليه في سورة آل عمران عند قولِه تعالى وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ وقوله تعالى {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} حالٌ من المفعول والعاملُ عامله ولكن لا باعتبار تقيّدِه بما وقع حالاً من فاعله أعني بظلم لدلالته على تقيد نفي الإهلاكِ ظلماً بحال كونِ أهلِها مصلحين ولا ريب في فساده بل مطلقاً عن ذلك وقيل المرادُ بالظلم الشركُ والباء للسببية أي لا يُهلك القرى بسبب إشراك أهلِها وهم مُصلِحون يتعاطَوْن الحقَّ فيما بينهم ولا يضمُّون إلى شركهم فساداً آخرَ وذلك لفرط رحمتِه ومسامحتِه في حقوقه تعالى ومن ذلك قدَّم الفقهاءُ عند تزاحم الحقوقِ حقوقَ العبادِ الفقراءِ على حقوق الله تعالى الغنيِّ الحميد وقيل المُلكُ يبقى مع الشرك ولا يبقى مع الظلم وأنت تدري أن مقامَ النهي عن المنكرات التي أقبحُها الإشراكُ بالله لا يلائمه فإن الشركَ داخلٌ في الفساد في الأرض دخولاً أولياً ولذلك كان ينهي كلٌّ من الرسل الذين قُصّت أنباؤهم أمتَه أولاً عن الإشراك ثم عن

هود الآية (118 119 120) سائر المعاصي التي كانوا يتعاطَونها فالوجهُ حملُ الظلمِ على مطلق الفسادِ الشاملِ للشرك وغيرِه من أصناف المعاصي وحملُ الإصلاحِ على إصلاحه والإقلاعِ عنه بكون بعضهم متصدّين للنهي عنه وبعضِهم متوجّهين إلى الاتعاظ غيرَ مُصرِّين على ما هم عليه من الشرك وغيره من أنواع الفساد

118

{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} مجتمعةً على الحق ودين الإسلام بحيث لا يكاد يختلف فيه أحدٌ ولكن لم يشأْ ذلك فلم يكونوا متفقين على الحق {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} في الحق أي مخالفين له كقولِه تعالى وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات بَغْيًا بَيْنَهُمْ

119

{إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} إلا قوماً قد هداهم الله تعالى بفضله إلى الحق فاتفقوا عليه ولم يختلفوا فيه أي لم يخالفوه وحملُه على مطلق الاختلاف الشاملِ لِما يصدر من المُحق والمُبطل يأباه الاستثناءُ المذكور {ولذلك} أي ولما ذكر من الاختلاف {خَلْقَهُمْ} أي الذين بقُوا بعد الثنيا وهم المختلِفون فاللامُ للعاقبة أو للترحم فالضميرُ لمن واللام في معناها أولهما معاً فالضميرُ للناس كافةً واللام بمعنى مجازيَ عامّ لكلا المعنيين {وتمت كلمة رَبّكَ} أي وعيدُه أو قولُه للملائكة {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} أي من عُصاتهما أجمعين أو منهما أجمعين لا من أحدهما

120

{وَكُلاًّ} أي وكلَّ نبأ فالتنوين عوضا عن المضاف إليه {نَقُصُّ عليك} يخبرك به وقوله تعالى {مِنْ أَنْبَاء الرسل} بيانٌ لكُلاًّ وقوله تعالى {مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} بدلٌ منه والأظهر أن يكون المضافُ إليه المحذوفُ في كلاًّ المفعولَ المطلق لنقصُّ أي كل اقتصاص أي كلَّ أسلوبٍ من أساليبه نقصُّ عليك من أنباء الرسل وقوله تعالى مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ مفعولُ نقصّ وفائدتُه التنبيهُ على أن المقصودَ بالاقتصاص زيادةُ يقينه عليه السلام وطُمأنينةُ قلبه وثباتُ نفسه على أداء الرسالة واحتمالِ أذية الكفارِ بالوقوف على تفاصيل أحوالِ الأممِ السالفة في تماديهم في الضلال وما لقيَ الرسلُ من جهتهم من مكابدة المشاقّ {وَجَاءكَ فِى هذه} السورة أو الأنباءِ المقصوصة عليك {الحق} الذي لا محيد عنه {وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي الجامعُ بين كونه حقاً في نفسه وكونهِ موعظةً وذكرى للمؤمنين ولكون الوصفِ الأولِ حالاً له في نفسه حُلّي باللام دون ما هو وصفٌ له بالقياس إلى غيره وتقديمُ الظرفِ أعني في هذه على الفاعل لأن المقصودَ بيانُ منافعِ السورةِ أو الأنباءِ المقصوصةِ فيها واشتمالِها على ما ذكر من المنافع المفصلةِ لا بيانُ كونِ ذلك فيها لا في غيرها ولأن عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ تبقى النفسُ مترقبةً إليه فيتمكن فيها عند الورودِ فضلُ تمكّنٍ ولأن

هود الآية (121 122 123) في المؤخر نوعَ طولٍ يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظمِ الكريم

121

{وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} بهذا الحقِّ ولا يتعظون به ولا يتذكرون {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} على حالكم وجِهتِكم التي هي عدمُ الإيمان {إِنَّا عَامِلُونَ} على حالنا وهو الإيمانُ به والاتعاظُ والتذكرُ به

122

{وانتظروا} بنا الدوائرَ {إِنَّا مُنتَظِرُونَ} أن ينزل بكم نحوُ ما نزل بأمثالكم من الكفرة

123

{ولله غيب السماوات والارض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامر كُلُّهُ} فيرجع لا محالة أمرُك وأمرُهم إليه وقرىء على البناء للفاعل من رجع رجوعاً {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فإنه كافيك والفاءُ لترتيب الأمرِ بالعبادة والتوكلِ على كون مرجعِ الأمور كلِّها إلى الله تعالى وفي تأخير الأمرِ بالتوكل عن الأمر بالعبادة إشعارٌ لأنه لا ينفع دونها {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ} فيجازيهم بموجبه وقرىء تعملون على تغليب المخاطَب أي أنت وهم فيُجازِي كَّلاً منك ومنُهم بموجب الاستحقاق عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ هودٍ أُعطِيَ من الأجر عشرَ حسنات بعدد من صدق كلَّ واحدٍ من الأنبياء المعدودين فيها عليهم الصلاة والسلام وبعدد مَنْ كذّبهم وكان يوم القيامة من السعداء بفضل الله سبحانه وتعالى

يوسف الآية (1 2 3) سورة يوسف عليه السلام مكية إلا الآيات 1 و 2 و 3 و 7 فمدنية وآياتها 111 بسم الله الرحمن الرحيم

يوسف

{الر} الكلامُ فيه وفي محله وفيما أريد بالإشارة والآياتِ والكتابِ في قوله {تلك آيات الكتاب} عيْنُ ما سلف في مطلعِ سُورة يونسَ {المُبينَ} مِن أبانَ بمعنى بان أي الظاهرِ أمرُه في كونه من عند الله تعالى وفي إعجازه بنوعيه لا سيما الإخبارُ عن الغيب أو الوضاح معانيه للعرب بحيث لا يشتبه عليهم حقائقُه ولا يلتبس لديهم دقائقُه لنزوله على لغتهم أو بمعنى بيّن أي المبين لِما فيه من الأحكام والشرائعِ وخفايا المُلكِ والملكوتِ وأسرارِ النشأتين في الدارين وغيرِ ذلك من الحِكَم والمعارف والقصص وعلى تقدير كونِ الكتاب عبارةً عن السورة فإبانتُه إنباؤُه عن قصة يوسفَ عليه السلام فإنه قد رُوي أن أحبارَ اليهودِ قالوا لرؤساء المشركين سلوا محمدا صلى الله عليه وسلم لماذا انتقل آلُ يعقوبَ من الشام إلى مصر وعن قصة يوسفَ عليه السلام ففعلوا ذلك فيكون وصفُ الكتابِ بالإبانة من قبيل براعةِ الاستهلالِ لما سيأتي ولمّا وُصف الكتابُ بما يدل على الشرف الذاتي عُقِّب ذلك بما يدل على الشرف الإضافي فقيل

2

{إِنَّا أنزلناه} أي الكتابَ المنعوتُ بما ذُكِرَ من النعوتِ الجليلةِ فإن كان عبارةً عن الكل وهو الأظهرُ الأنسبُ بقوله تعالى {قرآنا عَرَبِيّاً} إذ هو المشهورُ بهذا الاسم المعروفِ بهذا النعت المتسارعِ إلى الفهم عند إطلاقِهما فالأمرُ ظاهرٌ وإنْ جُعل عبارةً عن السورة فتسميتُها قرآناً لما عَرفته فيما سلف والسرُّ في ذلك أنه اسمَ جنسٍ في الأصل يقع على الكل والبعضِ كالكتاب أو لأنه مصدرٌ بمعنى المفعول أي أنزلناه حالَ كونِه مقروءاً بلغتكم {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تفهموا معانيَه طراً وتحيطُوا بما فيهِ من البدائع خُبْراً وتطّلعوا على أنه خارجٌ عن طوْق البشر منزَّلٌ من عند خلاّق القُوى والقدر

3

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} أي نخبرك ونحدّثك واشتقاقُه من قصَّ أثرَه إذا اتّبعه لأن مَنْ يقُصّ الحديثَ يتْبع ما حفِظ منه شيئاً فشيئاً كما يقال تلا القرآن لأنه يتْبع ما حفِظ منه آيةً بعد آية {أَحْسَنَ القصص} أي أحسن الاقتصاص فنصبُه على

يوسف الآية (4) المصدريه وفيه مع بيان الواقعِ إيهامٌ لما في اقتصاص أهلِ الكتاب من القُبح والخلل وتركُ المفعولِ إما للاعتماد على انفهامه من قولهِ عزَّ وجلَّ {بِمَا أَوْحَيْنَا} أي بإيحائنا {إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} أي هذه السورةَ فإن كونَها مُوحاةً منبىءٌ عن كون ما في ضمنها مقصوصاً والتعرضُ لعنوان قرآنيتِها لتحقيق أن الاقتصاصَ ليس بطريق الإلهامِ أو الوحي غيرَ المتلوِّ وإما لظهوره من سؤال المشركين بتلقين علماءِ اليهودِ وأحسنيّتُه لأنه قد اقتُصّ على أبدع الطرائق الرائعةِ الرائقةِ وأعجبِ الأساليب الفائقةِ اللائقةِ كما لا يكاد يخفى على من طالع القصةَ من كتب الأولين والآخرين وإن كان لا يميز الغثّ من السمين ولا يفرّق بين الشمال واليمين وفي كلمة هذا إيماءٌ إلى مغايرة هذا القرآنِ لما في قوله تعالى قرآنا عَرَبِيّاً بأن يكون المرادُ بذلك المجموعَ فتأمل أو نقص عليك أحسنَ ما نقص من الأنباء وهو قصةُ آلِ يعقوبُ عليه السلام على أن القَصصَ فَعَلٌ بمعنى المفعول كالنبأ والخبر أو مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ كالخلْق والصيد ونصبُ أحسنَ على المفعولية وأحسنيتُها لتضمنها من الحِكم والعِبر ما لا يخفى كمالُ حسنه {وَإِن كُنتُ} أن مخففةٌ من الثقيلة وضميرُ الشأنِ الواقعُ اسماً لها محذوفٌ واللامُ فارقةٌ والجملةُ خبرٌ والمعنى وإنّ الشان كنت {مِن قَبْلِهِ} من قبلِ إيحائِنا إليك هذه السورةَ {لَمِنَ الغافلين} عن هذه القصة لم تخطُر ببالك ولم تقرَعْ سمعَك قطُّ وهو تعليلٌ لكونه مُوحى والتعبيرُ عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وإن غفَل عنه بعضُ الغافلين

4

{إِذْ قَالَ يُوسُفُ} نُصب بإضمار اذكرْ وشروعٌ في القصة إنجازاً للوعد بأحسنِ الاقتصاصِ أو بدلٌ من أحسنَ القصصِ على تقدير كونِه مفعولاً بدلَ اشتمالٍ فإن اقتصاصَ الوقتِ المشتملِ على المقصوص من حيث اشتمالُه عليه اقتصاصٌ للمقصوص ويوسُفُ اسمٌ عبريٌّ لا عربيٌّ لخلوّه عن سبب آخرَ غيرِ التعريف وفتح السين وكسرها على بعض القراءات بناءً على التلعّب به لا على أنه مضارعٌ بُني للمفعول أو الفاعلِ من آسَف لشهادة المشهورة بعجمته {لأَبِيهِ} يعقوبَ بن إسحق بن إبراهيمَ عليهمْ الصلاةُ والسلامُ وَقَدْ روي عنه صلى الله عليه وسلم إن الكريمَ بنَ الكريمِ بن الكريم بن الكريم يوسفُ بنُ يعقوبَ بنِ إسحق بنِ إبراهيمَ {يا أبت} أصله يا أبي فعوِّض عن الياء تاءُ التأنيثِ لتناسُبهما في الزيادة فلذلك قُلبت هاءً في الوقف على قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوبَ وكسرتُها لأنها عوضٌ عن حرف يناسبها وفتحها ابنُ عامر في كل القرآن لأنها حركةُ أصلها أو لأن الأصلَ يا أبتا فحُذف الألف وبقي الفتحة وإنما لم يُجز يا أبتي لأنه جمعٌ بين العِوض والمعوَّض وقرىء بالضم إجراءً لها مُجرى الألفاظِ المؤنثة بالتاء من غير اعتبار التعويضِ وعدم تسكينها كأصلها لأنها حرفٌ صحيحٌ منزلٌ منزلةَ الاسمِ فيجب تحريكها ككاف الخطاب {إِنّى رَأَيْتُ} من الرؤيا لا من الرؤية لقوله لا تقصص رؤياك هذا تَأْوِيلُ رؤياى ولأن الظاهرَ أن وقوعَ مثلِ هذه الأمور البديعةِ في عالم الشهادةِ لا يختصُّ برؤيةِ راءٍ دون راءٍ فيكون طامّةً كبرى لا يخفى على أحد من الناس {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشمس والقمر}

رُويَ عنْ جابرٌ رضيَ الله عْنهُ أن يهودياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسُف عليه السلام فسكت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ فأخبره بذلك فقال صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتك بذلك هل تسلم فقال نعم قال صلى الله عليه وسلم جريان والطراق والذيال وقابسُ وعمودان والفليقُ والمصبحُ والضّروحُ والفرعُ ووثّابُ وذو الكتفين رآها يوسف عليه السلام والشمس والقمر نزلن من السماء وسجَدْن له فقال اليهوديُّ إي والله إنها لأسماؤها وقيل الشمس والقمر أبواه وقيل أبوه وخالتُه والكواكبُ إخوتُه وإنما أُخِّر الشمسُ والقمر عن الكواكب لإظهار مزيتِهما وشرفِهما على سائر الطوالع بعطفهما عليها كما في عطف جبريلَ وميكائيلَ على الملائكة عليهم السلام وقد جُوِّز أن تكون الواو بمعنى مع أي رأيت الكواكبَ مع الشمس والقمر ولا يبعُد أن يكون ذلك إشارةً إلى تأخر ملاقاتِه عليه السلام لهما عن ملاقاته لإخوته وعن وهب أن يوسفَ عليه السلام رأى وهو ابنُ سبعِ سنين أن إحدى عشرةَ عصاً طِوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة وإذا عصاً صغيرةٌ تثب عليها حتى اقتلعتْها وغلبتْها فوصف ذلك لأبيه فقال إياك أن تذكرَ هذا لإخوتك ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرةَ سنةً الشمسَ والقمرَ والكواكبَ تسجُد له فقصّها على أبيه فقال لا تقصَّها عليهم فيبغوا لك الغوائل وقيل كان بين رؤيا يوسفَ ومصير إخوتِه إليه أربعون سنةً وقيل ثمانون {رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ} استئنافٌ ببيان حالِهم التي رآهم عليها كأن سائلاً سأل فقال كيف رأيتهم فأجاب بذلك وإنما أُجريت مُجرى العقلاءِ في الضمير لوصفها بوصف العقلاء أعني السجود وتقديمُ الجار والمجرور لإظهار العنايةِ والاهتمام بما هو الأهمُّ مع ما في ضمنه من رعاية الفاصلة

5

{قال يا بني} صغّره للشفقه أو لها ولصِغَر السن وهو أيضاً استئناف مبني على سؤال من قال فماذا قال يعقوبُ بعد سماعِ هذه الرؤيا العجيبةِ ولمّا عرَف يعقوب عليه السلام من هذه الرؤيا أن يوسفَ يبلّغه الله تعالى مبلغاً جليلاً من الحكمة ويصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه الكرامِ خاف عليه حسَدَ الإخوة وبغيَهم فقال صيانةً لهم من ذلك وله من معاناة المشاقِّ ومقاساةِ الأحزان وإن كان واثقاً بأن الله تعالى سيحقق ذلك لا محالة وطمعاً في حصوله بلا مشقة {لا تقصص رؤياك} هي ما في المنام كما أن الرؤيةَ ما في اليقظة فُرّق بينهما بحر في التأنيث كما في القربى والقربة وحقيقتُها ارتسامُ الصورةِ المنحدرة من أفق المُتخيّلة إلى الحس المشترك والصادقةُ منها إنما تكون باتصال النفسِ بالملكوت لِما بينهما من التناسُب عند فراغِها من تدبير البدنِ أدنى فراغٍ فتتصور بما فيها مما يليق من المعاني الحاصلةِ هناك ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشتركِ فتصير مشاهِدةً ثم إذا كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوتُ إلا بالكلية والجزئية استغنت الرؤيا عن التعبير وإلا احتاجبت إليه {على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ} نصب بإضمار أن أي فيفعلوا

يوسف الآية (6) {لَكَ} أي لأجلك ولإهلاكك {كَيْداً} متيناً راسخاً لا تقدر على التفصّي عنه أو خفياً عن فهمك لا تتصدى لمدافعته وهذا أوفقُ بمقام التحذير وإن كان يعقوبُ عليه السلام يعلم أنهم ليسوا بقادرين على تحويل ما دلت الرؤيا على وقوعه وهذا الأسلوبُ آكدُ من أن يقال فيكيدوك كيداً إذ ليس فيه دِلالةٌ على كون نفس الفعلِ مقصودَ الإيقاع وقد قيل إنما جيء باللام لتضمينه معنى الاحتيالِ المتعدِّي باللام ليفيد معنى المضمَّنِ والمضمّن فيه للتأكيد أي فيحتالوا لك ولإهلاكك حيلةً وكيداً والمرادُ بإخوته ههنا الذين يَخشى غوائلَهم ومكايدَهم بنو عَلاّته الأحدَ عشرَ وهم يهوذا وروبيلُ وشمعونُ ولاوي وربالون ويشجُرُ ودينة بنو يعقوب من ليا بنت خالته ودان ونفتالي وجاد وآشر بنوه من سريّتين زلفة وبلهة وهؤلاء هم المشارُ إليهم بالكواكب الأحدَ عشر وأما بنيامين الذي هو شقيقُ يوسفَ عليه السلام وأمُّهما راحيل التي تزوجها يعقوبُ عليه السلام بعد وفاة أختها ليّا أو في حياتها إذ لم يكن جمعُ الأختين إذ ذاك محرماً فليس بداخل تحت هذا النهي إذ لا يتوهم مضرّتُه ولا يُخشى معرّتُه ولم يكن معدوداً معهم في الرؤيا إذ لم يكن معهم في السجود ليوسف والمرادُ نهيُه عن اقتصاص الرؤيا عليهم كلاًّ أو بعضاً {إِنَّ الشيطان للإنسان عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظاهرُ العداوة فلا يألو جهداً في إغواء إخوتِك وإضلالِهم وحملهم على ما لا خيرَ فيه وهو استئنافٌ كأن يوسف عليه السلام قال كيف يصدر ذلك عن إخوتي الناشئين في بيت النبوة فقيل إن الشيطان يحمِلهم على ذلك ولما نبهه عليهما السَّلامُ على أنَّ لرؤياه شأناً عظيماً يستتبع منافعَ وحذّره إشاعتَها المؤديةَ إلى أن يحول إخوتُه بينها وبين ظهورِ آثارِها وحصولِها أو يُوعروا سبيلَ وصولِها شرع في تعبيرها وتأويلها على وجه إجمالي فقال

6

{وكذلك} أيْ ومثلَ ذلكَ الاجتباءِ البديعِ الذي شاهدتَ آثارَه في عالم المثالِ من سجود تلك الأجرامِ العلوية النيِّرةِ لك وبحسَبه وعلى وَفْقه {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} يختارك لجناب كبريائه ويستنبؤك افتعال من جباه إذا جمعه ويصطفيك على أشراف الخلائقِ وسَراةِ الناس قاطبةً ويُبرز مصداق تلك الرؤيا في عالم الشهادة حسب ما عاينته من غير قصور والمرادُ بالتشبيه بيانُ المضاهاةِ المتحققةِ بين الصور المرئيةِ في عالم المثالِ وبين ما وقعت هي صوراً وأشباحاً له من الكائنات الظاهرةِ بحسبها في عالم الشهادة أي كما سُخّرت لك تلك الأجرامُ العظامُ يسخِّرْ لك وجوهَ الناس ونواصيَهم مذعنين لطاعتك خاضعين لك على وجه الاستكانة ومرادُه بيانُ إطاعةِ أبويه وإخوتِه له لكنه إنما لم يصرّح به حذراً من إذاعته {وَيُعَلّمُكَ} كلامٌ مبتدأٌ غيرُ داخلٍ تحت التشبيه أراد به عليه السلام تأكيدَ مقالته وتحقيقَها وتوطينَ نفسِ يوسفَ عليه السلام بما أخبر به على طريقة التعبيرِ والتأويل كأنه قال وهو يعلمك {مِن تَأْوِيلِ الاحاديث} أي ذلك الجنسِ من العلوم أو طرفاً صالحاً منه فتطلّع على حقيّة ما أقول ولا يَخْفى ما فيهِ من تأكيد ما سبق والبعثِ على تلقي ما سيأتي بالقبول والمرادُ بتأويل الأحاديث تعبيرُ الرؤيا إذ هي أحاديثُ الملَكِ إن كانت صادقةً أو أحاديثُ

النفس أو الشيطان أن لم تكنْ كذلك والأحاديثُ اسم جمعٍ للحديث كالأباطيل اسمجمع للباطل لا جمع أُحدوثة وقيل كأنهم جمعوا حديثاً على أحْدِثة ثم جمعوا الجمعَ على أحاديث كقطيع وأقطِعة وأقاطيع وقيل هو تأويلُ غوامضِ كتب الله تعالى وسنن الأنبياء عليهم السلام والأولُ هو الأظهرُ وتسميةُ التعبير تأويلاً لأنه جُعل المرئيُّ آيلاً إلى ما يذكره المعبِّرُ بصدد التعبير ورجْعِه إليه فكأنه عليه الصلاة والسلام أشار بذلك إلى ما سيقع من يوسف عليه السلام من تعبيره لرؤيا صاحبَيْ السجنِ ورؤيا الملِك وكون ذلك ذريعةً إلى ما يبلّغه الله تعالى إليه من الرياسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة وإنما عرَف يعقوبُ عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي أو أراد كونَ هذه الخَصلةِ سبباً لظهور أمرِه عليه السلام على الإطلاق فيجوز حينئذ أن تكون معرفتُه عليه السلام لذلك بطريق الفِراسةِ والاستدلال من الشواهد والدلائل والأَمارات والمخايل بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا لا بد من توفيقه لتعبيرها وتأويل أمثالِها وتمييز ما هو آفاقيٌّ منها مما هو أنفُسيٌّ كيف لا وهي تدل على كمال تمكّن نفسِه عليه السلام في عالم المثال وقوةِ تصرفاتِها فيه فيكون أقبلَ لفيضان المعارفِ المتعلّقة بذلك العالم وبما يحاكيه من الأمور الواقعةِ بحسبها في عالم الشهادةِ وأقوى وقوفاً على النسب الوقاعة بين الصور المعاينةِ في أحد ذينك العالمين وبين الكائنات الظاهرةِ على وفقها في العالم الآخر وأن هذا الشأن البديع لا بد أن يكون أنموذجاً لظهور أمرِ من اتصف به ومداراً لجريان أحكامِه فإن لكلِّ نبيَ من الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام معجزةً بها تظهر آثارُه وتجري أحكامُه {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بأن يضم إلى النبوة المستفادةِ من الاجتباء المُلكَ ويجعله تتمة لها وتوسيطُ ذكر التعليم المذكور بينهما لكونه من لوازم النبوةِ والاجتباءِ ولرعاية ترتيبِ الوجود الخارجي ولِما أشرنا إليه من كون أثرِه وسيلةً إلى تمام النعمة ويجوز أن يعد نفس الرؤيا من نعمِ الله تعالَى عليه فيكون جميع النعم الواصلة إليه بحسبها مصداقاً لها تماماً لتلك النعمة {وعلى آل يَعْقُوب} وهم أهلُه من بنيه وغيرهم فإن رؤيةَ يوسفَ عليه السلام إخوتَه كواكبَ يهتدى بأنوارها من نعمِ الله تعالَى عليهم لدِلالتها على مصير أمرِهم إلى النبوة فيقع كلُّ ما يخرج من القوةِ إلى الفعلِ من كمالاتهم بحسب ذلك تماماً لتلك النعمةِ لا محالة وأما إذا أريد بتمام تلك النعمةِ المُلكُ فكونُه كذلك بالنسبة إليهم باعتبار أنهم يغتنمون آثارَه من العزِ والجاهِ والمال {كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ} نصبٌ على المصدرية أي ويتم نعمتَه عليك إتماماً كائناً كإتمام نعمتِه على أبويك وهي نعمةُ الرسالةِ والنبوةِ وإتمامُها على إبراهيمَ عليه السلام باتخاذه خليلاً وإنجائه من النار ومن ذبح الولدِ وعلى إسحق بإنجائه من الذبح وفدائِه بذِبْحٍ عظيم وبإخراج يعقوبَ والأسباطِ من صُلبه وكلُّ ذلك نعمٌ جليلة وقعت تتمةً لنعمة النبوة ولا يجب في تحقيق التشبيهِ كونُ ذلك في جانب المشبَّه به مثلَ ما وقع في جانب المشبه من كل وجه {مِن قَبْلُ} أي من قبل هذا الوقت أو من قبلك {إِبْرَاهِيمَ وإسحاق} عطفُ بيانٍ لأبويك والتعبيرُ عنهما بالأب مع كونهما أبا جدِّه وأبا أبيه للإشعار بكمال ارتباطِه بالأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام وتذكيرِ معنى الولدُ سرُّ أبيه ليطمئن قلبُه بما أخبر به في ضمن التعبيرِ الإجمالي لرؤياه والاقتصارُ في المشبه به على ذكر إتمام النعمةِ من غير تعرض للاجتباء من باب الاكتفاء فإن إتمام النعمة

يوسف الآية (7 8) يقتضي سابقةَ النعمة المستدعيةِ للاجتباء لا محالة {إِنَّ رَبَّكَ} استئنافٌ لتحقيق مضمونِ الجُمل المذكورةِ أي يفعل ما ذكر لأنه {عَلِيمٌ} بكل شيءٍ فيعلم من يستحق الاجتباءَ وما يتفرَّع عليه من التعليم المذكورِ وإتمامِ النعمةِ العامة على الوجه المذكور {حَكِيمٌ} فاعلٌ لكل شيءٍ حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحة فيفعل ما يفعل كما يفعل جرياً على سنن علمِه وحكمتِه والتَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ في الموضعين لتربية تحققِ وقوعِ ما ذُكر من الأفاعيلِ هذا وقد قيل في تفسير الآية الكريمةِ أي وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالةِ على شرف وعزَ وكمالِ نفس يجتبيك ربُّك للنبوة والمُلك أو لأمور عِظامٍ ويُتمُّ نعمتَه عليك بالنبوة أو بأن يصل نعمة الدينا بنعمة الآخرة حيث جعلهم في الدنيا أنبياءَ وملوكاً ونقلهم عنها إلى الدرجات العلا في الجنة كما أتمها على أبويك بالرسالة فتأمل والله الهادي

7

{لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} أي في قصتهم والمراد بهم ههنا إما جميعُهم فإن لبنيامينَ أيضاً حصةً من القصة أو بنو عَلاّته المعدودون فيما سلف إذ عليهم يدور رحاها {آيات} علاماتٌ عظيمةُ الشأنِ دالةٌ على قدرة الله تعالى القاهرة وحكمته الباهرة {للسائلين} لكل من يسأل عن قصتهم وعرفها أو الطالبين للآيات المعتبرين بها فإنهم الواقفون عليها والمنتفعون بها دون مَنْ عداهم ممَّن اندرج تحت قوله تعالى وكأين من آية فِى السموات والارض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ فالمرادُ بالقصة نفسُ المقصوص أو على نبوتِه عليه السلام لمن سأله من المشركين أو اليهود عن قصتهم فأخبرهم بذلك على ما هي عليه من غير سماعٍ من أحد ولا ممارسةِ شيء من الكتب فالمرادُ بها اقتصاصُها وجمعُ الآيات حينئذ للإشعار بأن اقتصاصَ كلِّ طائفةٍ من القصة آيةٌ بينةٌ كافيةٌ في الدلالة على نبوته عليه السلام على نحو ما ذُكر في قوله تعالى مَّقَامِ إبراهيم على تقدير كونِه عطفَ بيان لقوله تعالى آيَات بَيّنَات لا لما قيلَ من أنه لتعدد جهةِ الإعجاز لفظاً ومعنى وقرأ ابن كثير آيةٌ وفي بعض المصاحف عبرةٌ وقيل إنما قصَّ الله تعالى على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم خبرَ يوسفَ وبغْيَ إخوتِه عليه لِما رأى من بغي قومه عليه ليأتسي به

8

{إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ} أي شقيقُه بنيامينُ وإنما لم يذكَرْ باسمه تلويحاً بأن مدار المحبةِ أُخوّتُه ليوسف من الطرفين ألا يُرى إلى أنهم كيف اكتفَوا بإخراج يوسفَ من البين من غير تعرُّضٍ له حيث قالوا اقتلوا يوسف {أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} وحّد الخبر مع تعدد المبتدأ لأن أفعل من كذا لا يفرّق فيه بين الواحدِ وما فوقه ولا بين المذكر والمؤنث نعم إذا عُرّف وجب الفرقُ وإذا أضيف جاز الأمران وفائدةُ لام الابتداءِ في يوسف تحقيقُ مضمونِ الجملة وتأكيدُه {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي والحالُ أنا جماعةٌ قادرون على الحل والعقد أحقاءُ بالمحبة والعُصبة والعِصابة العشَرةُ من الرجال فصاعداً سُمّوا بذلك لأن الأمورَ تُعصَب بهم {إِنَّ أَبَانَا} في ترجيحهما علينا في المحبة مع فضلنا عليهما وكونهما بمعزل من كفاية الأمورِ بالصِّغر والقلة {لفي ضلال} أي ذهاب عن طريق التعديلِ اللائقِ وتنزيلِ كلَ منا منزلتَه {مُّبِينٍ}

يوسف الآية (10) ظاهرِ الحال روي أنه كان أحبَّ إليه لما يرى فيه من مخايل الخير وكانت إخوتُه يحسُدونه فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة بحيث لم يصبِر عنه فتضاعف حسدُهم حتى حملهم على مباشرة ما قُص عنهم

9

{اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضًا} من جملة ما حُكي بعد قوله إذا قالوا وقد قاله بعضٌ منهم مخاطباً للباقين بقضية الصيغة فكأنهم رضُوا بذلك كما يروى أن القائلَ شمعونُ أو دان والباقون كانوا راضين إلا من قال لا تقتلوا الخ فجعلوا كأنهم القائلون وأُدرجوا تحت القولِ المسندِ إلى الجميع أو قاله كلُّ واحدٍ منهم مخاطباً للبقية وهو أدلُّ على مسارعتهم إلى ذلك القولِ وتنكيرُ أرضاً وإخلاؤها من الوصف للإبهام أي أرضاً منكورةً مجهولة بعيدةً من العُمران ولذلك نصبت نصبَ الظروفِ المُبهمة {يَخْلُ} بالجزم جوابٌ للأمر أي يخلُصْ {لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} فيُقبل عليكم بكلّيته ولا يلتفتْ عنكم إلى غيركم ولا يساهمكم في محبته أحدٌ فذكرُ الوجه لتصوير معنى إقبالِه عليهم {وَتَكُونُواْ} بالجزم عطفاً على يخْلُ أو بالنصب على إضمار أنْ أو الواو بمعنى مع مثل قوله وَتَكْتُمُواْ الحق وإيثارُ الخطابِ في لكم وما بعده للمبالغة في حملهم على القبول فإن اعتناءَ المرءِ بشأن نفسِه واهتمامَه بتحصيل منافعِه أتمُّ وأكمل {مِن بَعْدِهِ} من بعد يوسفَ أي من بعد الفراغِ من أمره أو قتله أو طرحه {قَوْمًا صالحين} تائبين إلى الله تعالى عما جنيتم أو صالحين مع أبيكم بإصلاح ما بينكم وبينه بعذر تمهّدونه أو صالحين في أمور دنياكم بانتظامها بعده بخلُوّ وجه أبيكم

10

{قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ} هو يهوذا وكان أحسنَهم فيه رأياً وهو الذي قال فَلَنْ أَبْرَحَ الارض الخ وقيل روبيل وهو استئنافٌ مبني على سؤال من سأل وقال اتفقوا على ما عُرض عليهم من خصلتي الضّيْع أم خالفهم في ذلك أحدٌ فقيل قال قائل منهم {لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ} أظهره في مقام الإضار استجلاباً لشفقتهم عليه أو استعظاماً لقتله وهو هو فإنه يروى أنه قال لهم القتلُ عظيمٌ ولم يصرّح بنهيهم عن الخَصلة الأخرى وأحاله على أولوية ما عرضه عليهم بقوله {وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب} أي في قعره وغوره سُمِّي بها لغَيبته عن عين الناظرِ والجبّ البئرُ التي لم تُطْوَ بعدُ لأنها أرضٌ جُبّت جباً من غير أن يُزاد على ذلك شيءٌ وقرأ نافعٌ في غيابات الجب في الموضعين كأن لتلك الجبّ غياباتٍ أو أراد بالجب الجنسَ أي في بعض غيابات الجبِّ وقرىء غيابات وغيبة {يَلْتَقِطْهُ} يأخذْه على وجه الصيانة عن الضياع والتلف فإن الالتقاطَ أخذُ شيءٍ مشرف على الضياع {بَعْضُ السيارة} أي بعض طائفةٍ تسير في الأرض واللام في السيارة كما في الجب وما فيهما وفي بعض من الإبهام لتحقيق ما يتوخاه من ترويج كلامِه بموافقته لغرضهم الذي هو تنائي يوسفَ عنهم بحيث لا يدرى أثرُه ولا يروى خبرُه وقرىء تلتقطْه على التأنيث لأن بعضَ السيارة سيارةٌ كقوله ... كَما شرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ ... ومنه قُطعت بعضُ أصابعه {إِن كُنتُمْ فاعلين} بمشورتي لم يبُتَّ القول عليهم بل إنما عرض

يوسف الآية (11 12 13) عليهم ذلك تأليفا لقلبهم وتوجيهاً لهم إلى رأيه وحذراً من نسبتهم له إلى التحكم والافتيات أو إن كنتم فاعلين ما أزمعتم عليه من إزالته من عند أبيه لا محالة ولما كان هذا مظنةً لسؤال سائل يقول فما فعلوا بعد ذلك هل قبِلوا ذلك منه أو لا أجيب بطريق الاستئناف على وجه أُدرج في تضاعيفه قبولهم لله بما سيجيء من قوله وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب فقيل

11

{قَالُواْ يا أَبَانَا} خاطبوه بذلك تحريكاً لسلسلة النسبِ بينه وبينهم وتذكيراً لرابطة الأخوّة بينهم وبين يوسفَ عليه الصلاة والسلام ليتسببوا بذلك إلى استنزاله عليه السلام عن رأية في حفظه منهم لمّا أحس منهم بأمارات الحسد والبغي فكأنهم قالوا {مالك} أي أيُّ شيء لك {لاَ تَأْمَنَّا} أي لا تجعلنا أمناءَ {على يُوسُفَ} مع أنك أبونا ونحن بنوك وهو أخونا {وَإِنَّا لَهُ لناصحون} مريدون له الخيرَ ومشفقون عليه ليس فينا ما يُخلُّ بالنصيحة والمِقَة قطُّ والقراءة المشهورةُ بالإدغام والإشمام وعن نافع رضي الله عنه تركُ الإشمام ومن الشواذ ترك الإدغام

12

{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً} إلى الصحراء {يَرْتَعْ} أي يتسعْ في أكل الفواكه ونحوهما فإن الرتع هو الاتساعُ في الملاذ {وَيَلْعَبْ} بالاستباق والتناضل ونظائرِهما مما يُعد من باب التأهّب للغزو وإنما عبروا عن ذلك باللعب لكونه على هيئته تحقيقاً لما راموه من استصحاب يوسفَ عليه السلام بتصويرهم له بصورة ما يلائم حاله عليه السلام وقرىء نرتعْ ونلعبْ بالنون وقرأ ابن كثير نرتِع من ارتعى ونافع بالكسر والياء فيه وفي يلعب وقرىء يُرتِعْ من أرتع ماشيتَه ويرتعِ بكسر العين ويلعبُ بالرفع على الابتداء {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} من أن يناله مكروهٌ أكدوا مقالتَهم بأصناف التأكيدِ من إيراد الجملة اسميةً وتحليتها بإنّ واللام وإسنادُ الحفظ إلى كلهم وتقديمُ له على الخبر احتيالاً في تحصيل مقصدهم

13

{قال} استئناف مبني على سؤال من يقول فماذا قال يعقوبُ عليه السَّلامُ فقيل قال {إِنّى لَيَحْزُنُنِى} اللامُ للابتداء كما في قوله عز وجل إن رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ {أَن تَذْهَبُواْ بِهِ} لشدة مفارقتِه عليّ وقلة صبري عنه {و} مع ذلك {أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذئب} لأن الأرض كانت مَذأبة والحزنُ ألمُ القلب بفوت المحبوبِ والخوفُ انزعاجُ النفسِ لنزول المكروهِ ولذلك أُسند الأولُ إلى الذهاب به المفوِّتِ لاستمرار مصاحبتِه ومواصلتِه ليوسف والثاني إلى ما يُتوقع نزولُه من أكل الذئبِ وقيل رأى في المنام أنه قد شد عليه عليه السلام ذئبٌ وكان يحذَره فقال ذلك وقد لقنهم العلة ... إن البلاء موكل بالمنطق ... وقرأ ابن كثير ونافع في رواية البزي بالهمزة على الأصل وأبو عمرو به وقفاً وعاصم وابنُ عامر وحمزةُ درجاً وقيل اشتقاقه من تذاءبت الريحُ إذا هاجت من كل جانب وقال الأصمعي الأمرُ بالعكس وهو أظهر لفظاً ومعنى {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافلون} لاشتغالكم بالرتع واللِّعْب أو لقلة اهتمامكم بحفظه

يوسف الآية (14 15)

14

{قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي والحالُ أنا جماعةٌ كثيرةٌ جديرةٌ بأن يعصب بنا الأمورُ العظام وتُكفى الخطوبُ بآرائنا وتدبيراتِنا واللام الداخلةُ على الشرط موطئةٌ للقسم وقوله {إِنَّا إِذَا لخاسرون} جوابٌ مُجزىءٌ عن الجزاء أي لهالكون ضعفاً وخوَراً وعجزاً أو مستحقون للهلاك إذ لا غَناء عندنا ولا جدوى في حياتنا أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخَسار والدمار ويقال خسّرهم الله تعالى ودمّرهم حيث أكل الذئبُ بعضهم وهم حضور وقيل إن لم نقدِر على حفظه وهو أعزُّ شيء عندنا فقد هلكت مواشينا إذن وخسِرناها وإنما اقتصروا على جواب خوف يعقوب عليه السلام من أكل الذئب لأنه السببُ القوي في المنع دون الحزن لِقصر مدّته بناء على أنهم يأتون به عن قريب

15

{فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ} أي أزمعوا {أَن يَجْعَلُوهُ} مفعولٌ لأجمعوا يقال أجمع الأمرَ ومنه فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ ولا يستعمل ذلك إلا في الأفعال التي قوِيت الدواعي إلى فعلها {فِى غَيَابَةِ الجب} قيل هي بئرٌ بأرض الأردنّ وقيل بين مصرَ ومدينَ وقيل على ثلاثة فراسخَ من منزل يعقوبَ عليه السلام بكنعانَ التي هي من نواحي الأردنّ كما أن مدين كذلك وأما يقال من أنها بئرُ بيتِ المقدس فيردّه التعليلُ بالتقاط السيارةِ ومجيئهم أباهم عشاءَ ذلك اليومِ فإن بين منزل يعقوبَ عليه السلام وبين بيت المقدس مراحل وجوابُ لمَّا محذوفٌ إيذاناً بظهوره وإشعاراً بأن تفصيلَه مما لا يحويه فلكُ العبارة ومجملُه فعلوا به من الأذية ما فعلوا يروى أنهم لما برزوا إلى الصحراء أخذوا يُؤْذونه ويضرِبونه حتى كادوا يقتلونه فجلع يصيح ويستغيث فقال يهوذا أما عاهدتموني أن لا تقتلوه فأتَوا به إلى البئر فتعلق بثيابهم فنزعوها من يديه فدلّوه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصَه لِما عزموا عليه من تلطيخه بالدم احتيالاً لأبيه فقال يا إخوتاه ردوا عليّ قميصي أتوارى به فقالوا ادعُ الشمسَ والقمرَ والأحدَ عشر كوكباً تؤنسك فدلوه فيها فلما بلغ نصفها ألقَوْه ليموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي فنادوه ظن أنها رحمةٌ أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه فمنعهم يهوذا وكان يأتيه بالطعام كلَّ يوم ويروى أن إبراهيمَ عليه السلام حين ألقي في النار وجُرِّد عن ثيابه أتاهُ جبريلُ عليهِ السَّلامُ بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحق وإسحق إلى يعقوبَ فجعله يعقوبُ في تميمة وعلقها في عنق يوسفَ فجاءه جبريل عليه السلام فأخرجه من التميمة فألبسه إياه {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} عند ذلك تبشيراً له بما يئول إليه أمره وإزالةً لوحشته وإيناساً له قيل كان ذلك قبل إدراكِه كما أوحي إلى يحيى وعيسى وقيل كان إذ ذاك مدركا قال الحسن رضي الله عنه كان له سبعَ عشرةَ سنة {لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا} أي لتَتخَلّصن مما أنت فيه من سوءِ الحالِ وضيقِ المجال ولتُحدِّثن إخوتَك بما فعلوا بك {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بأنك يوسفُ لتبايُن حاليك

يوسف الآية (16 17) حالِك هذا وحالِك يومئذ لعلو شأنِك وكبرياءِ سلطانِك وبُعد حالِك عن أوهامهم وقيل لبعد العهد المبدِّلِ للهيئات المغيِّرِ للأشكال والأولُ أدخلُ في التسلية روي أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصُّواع فوضعه على يده ثم نقره فطنّ فقال إنه ليُخبرني هذا الجامُ أنه كان لكم أخٌ من أبيكم يقال له يوسفُ وكان يُدْنيه دونكم وأنكم انطلقتم به وألقَيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيكم أكله الذئبُ وبعتموه بثمن بخس ويجوز أن يتعلق وهم لا يشعرون بالإيحاء على معنى أنا آنسناه بالوحي وأزلنا عن قلبه الوشحة التي أورثوه وهم لا يشعرون بذلك ويحسبون أنه مرهق ومستوحش لا أنيس له وقرىء لننبئنّهم بالنون على أنه وعيدٌ لهم فقوله تعالى وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ متعلق بأوحينا لا غير

16

{وجاؤوا أَبَاهُمْ عِشَاءً} آخر النهار وقرىء عُشِيّا وهو تصغير عشى وعُشىً بالضم والقصر جمع أعشى أي عَشْواً من البكاء {يَبْكُونَ} متباكين روي أنه لما سمع يعقوبُ عليه السلام بكاءهم فزع وقال ما لكم يا بَنيّ وأين يوسف

17

{قالوا يا أبانا إنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أي متسابقين في العدْو والرمي وقد يشترك الافتعال والتفاعل كالإنتضال والتنضال ونظائرهما {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا} أي ما نتمتع به من الثياب والأزواد وغيرِهما {فَأَكَلَهُ الذئب} عَقيبَ ذلكَ من غير مُضيِّ زمانٍ يعتاد فيه التفقدُ والتعهدُ وحيث لا يكاد يُطرح المتاعُ عادة إلا في مقام يُؤْمن فيه الغوائل لم يعهد تركُه عليه السلام عنده من باب الغفلة وتركِ الحفظ الملتزَم لا سيما إذا لم يبرحوه ولم يغيبوا عنه فكأنهم قالوا إنا لم نقصِّر في محافظته ولم نغفُلْ عن مراقبته بل تركناه في مأمننا ومجمعنا بمرأىً منا لأن ميدانَ السباق لا يكون عادة إلا بحيث يتراءى غايتاه وما فارقناه إلا ساعةً يسيرةً بيننا وبينه مسافةٌ قصيرة فكان ما كان {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} بمصدّق لنا في هذه المقالة الدالةِ على عدم تقصيرِنا في أمره {وَلَوْ كُنَّا} عندك وفي اعتقادك {صادقين} موصوفين بالصدق والثقةِ لشدة محبتك ليوسف فكيف وأنت سيّءُ الظن بنا غيرُ واثقٍ بقولنا وكلمة لو في أمثالِ هذهِ المواقعِ لبيان تحققِ ما يفيده الكلامُ السَّابقُ من الحكم الموجَبِ أو المنفي على كل حالٍ مفروض من الأحوالِ المقارنةِ له على الإجمال بإدخالِها على أبعدِها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهرَ بثبوته أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤُه مع غيره من الأحوال بطريق الأولوية لِما أن الشيءَ متى تحقَّقَ مع المنافي القويِّ فلأنْ يتحقَّقَ مع غيره أولى ولذلك لا يُذكر معه شيءٌ من سائرِ الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواوِ العاطفةِ للجُملة على نظيرتها المقابلةِ لها الشاملةِ لجميع الأحوالِ المغايرةِ لها عند تعدّدِها وقد مرَّ تفصيله في سُورةِ البقرةِ عند قولِه تعالى أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شيئا ولا يهتدون وفي سورةِ الأعرافِ عند قوله تعالى أَوَلَوْ كُنَّا كارهين

يوسف الآية (18 19)

18

{وجاؤوا على قَمِيصِهِ} محلُّه النصبُ على الظرفية من قوله {بِدَمٍ} أي جاءوا فوق قميصِه بدم كما تقول جاء على جِماله بأحمال أو على الحالية منه والخلاف في تقدم الحال على المجرور فيما إذا لم يكن الحالُ ظرفاً {كَذِبٍ} مصدرٌ وصف به الدمُ مبالغةً أو مصدرٌ بمعنى المفعول أي مكذوبٍ فيه أو بمعنى ذي كذب أي ملابِسٍ لكذب وقرىء كذباً على أنه حالٌ من الضمير أي جاءوا كاذبين أو مفعولٌ له وقرأت عائشةَ رضيَ الله تعالى عنها بغير المعجمة أي كدر وقيل طريّ قال ابن جني أصله من الكذب وهو الفوف البياض الذي يخرج على أظفار الأحداث كأنه دم قد أثر في قميصه روي أنهم ذبحوا سَخْلةً ولطّخوه بدمها وزلّ عنهم أن يمزقوه فلما سمع يعقوبُ بخبر يوسف عليهما السلام صاح بأعلى صوته وقال أين القميصُ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضَب وجهَه بدم القميص وقال تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلمَ من هذا أكل ولم يمزِّقْ عليه قميصه وقيل كان في قميص يوسف عليه السلام ثلاثُ آياتٍ كان دليلاً ليعقوب على كذبهم وألقاه على وجهه فارتد بصيراً ودليلاً على براءة يوسف عليه السلام حين قدمن دُبر {قَالَ} استئنافٌ مبني على سؤال فكأنه قيل ما قال يعقوبُ هل صدقهم فيما قالوا أم لا فقيل قال لم يكن ذلك {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} أي زينت وسهّلت قاله ابن عباس رضي الله عنهما والتسويلُ تقديرُ شيءٍ في النفس مع الطمع في إتمامه قال الأزهري كأنّ الستويل تفعيل من سؤال الإنسان وهو أميته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطلَ وغيرَه وأصله مهموز وقيل من السَّوَل وهو الاسترخاءِ {أمْراً} من الأمور منْكراً لا يوصف ولا يعرف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أجملُ أو أمثلُ وفي الحديث الصبرُ الجميلُ الذي لا شكوى فيه أي إلى الخلق وإلا فقد قال يعقوبُ عليه السلام إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وقيل سقط حاجباه على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فقيل ما هذا قال طولُ الزمان وكثرةُ الأحزان فأوحى الله عز وجل إليه يا يعقوبُ أتشكوني قال يا رب خطيئةٌ فاغفِرها لي وقرأ أُبيّ فصبراً جميلاً {والله المستعان} أي المطلوبُ منه العونُ وهو إنشاءٌ منه عليه السلام للاستعانة المستمرة {على مَا تَصِفُونَ} على إظهار حال ما تصفون وبيانِ كونِه كذباً وإظهارِ سلامتِه فإنه عَلَم في الكذب قال سبحانه سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ وهو الأليقُ بما سيجيء من قوله تعالى فَصَبْرٌ جميل عسى الله أني يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا وتفسيرُ المستعانِ عليه باحتمال ما يصفون من هلاك يوسفَ والصبرِ على الرزء فيه يأباه تكذيبُه عليه السلام لهم في ذلك ولا تساعدُه الصيغةُ فإنها قد غلَبت في وصف الشيء بما ليس فيه كما أشير إليه

19

{وَجَاءتْ} شروعٌ في بيان

يوسف الآية (20) ما جرى على يوسف في الجب بعد الفراغِ من ذكر ما وقع بين إخوتِه وبين أبيه والتعبيرُ بالمجيء ليس بالنسبة إلى مكانهم فإن كنعانَ ليس بالجانب المصريِّ من مدينَ بل إلى مكان يوسف وفي إيثاره على المرور أو الإتيانِ أو نحوهما إيماءٌ إلى كونه عليه السلام في الكرامة والزلفى عند مليكٍ مقتدرٍ والظاهر أن الجب كان في الأمم المئتاء فإن المتبادر من إسناد المجيء إلى السيارة مطلقاً في قولِه عزَّ وجلَّ وجاءت {سَيَّارَةٌ} أي رفقةٌ تسير من جهة مدينَ إلى مصرَ وقوعُه باعتبار سيرِهم المعتادِ وهو الذي يقتضيه قوله تعالى فيما سلف يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة وقد قيل إنه كان في قفرة بعيدةٍ من العُمران لم تكن إلا للرعاة فأخطئوا الطريقَ فنزلوا قريباً منه وقيل كان ماؤه مِلْحاً فعذُبَ حين ألقي فيه عليه السلام {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} الذي يرد الماءَ ويستقي لهم وكان ذلك مالك بنُ ذعر الخزاعيّ وإنما لم يُذكر منتهى الإرسالِ كما لم يذكر منتهى المجيءِ أعني الجب للإيذان بأن ذلك معهودٌ لا يُضرب عنه الذكرُ صفحاً {فأدلى دَلْوَهُ} أي أرسلها إلى الجب والحذفُ لما عرفتَه فتدلى بها يوسف فخرج {قَالَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال يقتضيه الحال {يا بشرى هذا غُلاَمٌ} كأنه نادى البُشرى وقال تعالَيْ فهذا أوانُك حيث فاز بنعمة باردةٍ وأيِّ نعمةٍ مكانَ ما يوجد مباحاً من الماء وقيل هو اسمُ صاحبٍ له ناداه ليُعينَه على إخراجه وقرأ غيرُ الكوفيين يا بشرايَ وأمال فتحةَ الراءِ حمزةُ والكِسائيُّ وقرأ ورشٌ بين اللفظين وقرىء يا بُشْرَيَّ بالإدغام وهي لغة وبشرايْ على قصد الوقف {وَأَسَرُّوهُ} أي أخفاه الواردُ وأصحابُه عن بقية الرفقة وقيل أخفَوا أمرَه ووجدانَهم له في الجب وقالوا لهم دفعَه إلينا أهلُ الماء لنبيعه لهم بمصرَ وقيل الضميرُ لإخوة يوسفَ وذلك أن يهوذا كان يأتيه كلَّ يوم بطعام فأتاه يومئذ فلم يجدْه فيها فأخبر إخوتَه فأتَوا الرفقةَ وقالوا هذا غلامنا أبق فاشترَوه منهم وسكت يوسفُ مخافةَ أن يقتُلوه ولا يخفلا ما فيهِ من البُعدِ {بضاعة} نُصب على الحالية أي أخفَوه حالَ كونِه بضاعةً أي متاعاً للتجارة فإنها قطعةٌ من المال بُضعت عنه أي قطعت للتجارة {والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} وعيدٌ لهم على ما صنعوا من جعلهم مثلَ يوسفَ وهو هو عرضةً للابتذال بالبيع والشراءِ وما دبروا في ذلك من الحيل

20

{وَشَرَوْهُ} أي باعوه والضمير للوارد وأصحابه {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} زيْفٍ ناقصِ العيار {دراهم} بدل من ثمن أي لا دنانير {مَّعْدُودَةٍ} أي غيرِ موزونة فهو بيانٌ لقلته ونقصانه مقدارا بعد بيان نقصانِه في نفسه إذ المعتادُ فيما لا يبلغ أربعين العدُّ دون الوزن فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها كانت عشرين درهماً وعن السدي رضي الله عنه أنها كانت اثنين وعشرين درهماً {وَكَانُواْ} أي البائعون {فِيهِ} في يوسف {مِنَ الزاهدين} من الذين لا يرغبون فيما بأيديهم فلذلك باعوه بما ذكر من الثمن البخْسِ وسببُ ذلك أنهم التقطوه والملتقطُ للشيء متهاونٌ به أو غيرُ واثق بأمره يخاف أن يظهر له مستحِقٌّ فينتزعه منه فيبيعه من أول مُساومٍ بأوكسِ ثمن ويجوز أن يكون معنى شرَوه اشتروه من إخوته على ما حُكي وهم غير راغبين في شِراه خشية ذهابِ ما لهم لما طن في آذانهم من الإباق والعدول عن صيغة الافتعال المنبئةِ عن الاتخاذ لما مرَّ منْ أنَّ أخذَهم إنما كان بطريق البضاعة دوت الاجتباء والاقتناءِ وفيه متعلِّق بالزاهدين إن جُعل اللامُ للتعريف

يوسف الآية (21) وبيانٌ لما زهدوا فيه إن جُعلتْ موصولة كأنه قيل في أي شيء زهِدوا فقيل زهدوا فيه لأن ما يتعلق بالصلة لا يتقدم على الموصول

21

{وَقَالَ الذى اشتراه مِن مّصْرَ} وهو العزيز الذي كان على خزائنه وسمه قطفيرُ أو إطفير وبيانُ كونِه من مصرَ لتربية ما يتفرّع عليه من الأمور مع الإشعار بكونه غيرَ من اشتراه من الملتقطين بما ذكر من الثمن البخس وكان الملكَ يومئذ الريانُ بنُ الوليد العمليقي ومات في حياة يوسفَ عليه السلام بعد أن آمن به فملَك بعده قابوسُ بنُ مصعب فدعاه إلى الإسلام فأبى وقيل كان الملكُ في أيامه فرعونُ موسى عليه السلام عاش أربعَمائة سنةٍ لقوله عز وجل وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات وقيل فرعونُ موسى من أولاد فرعونِ يوسف والآية من قبيل خطاب الأولادِ بأحوال الآباء واختلف في مقدار ما اشتراه به العزيز فقيل بعشرين ديناراً وزوجَيْ نعل وثوبين أبيضين وقيل أدخلوه في السوق يعرِضونه فترافعوا في ثمن حتى بلغ ثمنُه وزنَه مسكا ووزنه ورقا ووزنَه حريراً فاشتراه قطفيرُ بذلك المبلغ وكان سنه إذ ذاك سبعَ عشرةَ سنة وأقام في منزله مع ما مر عليه من مدة لبثه في السجن ثلاثَ عشرةَ سنةً واستوزره الريانُ وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله العلم والحكمة وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة {لاِمْرَأَتِهِ} راعيل أو زليخا وقيل اسمُها هو الأول والثاني لقبُها واللامُ متعلقةٌ بقال لا باشتراه {أَكْرِمِى مَثْوَاهُ} اجعلي محلَّ إقامتِه كريماً مرضياً والمعنى أحسني تعهّده {عسى أَن يَنفَعَنَا} في ضِياعنا وأموالِنا ونستظهر به في مصالحنا {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أي نتبنّاه وكان ذلك لِما تفرّس فيه من مخايل الرشد والنجابة ولذلك قيل أفرسُ الناسِ ثلاثةٌ عزيزُ مصرَ وابنةُ شعيبِ التي قالت يا أبت استأجره وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله عنهما {وكذلك} نُصب على المصدرية وَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما يفهم من كلام العزيزِ وما فيه من معنى البُعد لتفخيمه أي مثلَ ذلك التمكينِ البديع {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارض} أي جعلنا له فيها مكاناً يقال مكّنه فيه أي أثبته فيه ومكّن له فيه أي جعل له فيه مكاناً ولتقاربهما وتلازُمهما يُستعمل كلٌّ منهما في محل الآخر قال عز وجل وكم أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مكناهم فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ أي ما لم نمكنْكم فيها أو مكنّا لهم في الأرض الخ والمعنى كما جعلنا له مثوى كريماً في منزل العزيزِ أو مكاناً علياً في قلبه حتى أمرَ امرأتَه دون سائر حواشيه بإكرام مثواه جعلنا له مكانةً رفيعة في أرض مصر ولعله عبارةٌ عن جعله وجيهاً بين أهلها ومحبباً في قلوبهم كافة كما في قلب العزيزِ لأنه الذي يؤدّي إلى الغاية المذكورةُ في قولِه تعالى {وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} أي نوفقه لتعبير بعضِ المنامات التي عُمدتُها رؤيا الملِك وصاحبَي السجنِ لقوله تعالى ذلكما مما علمنى ربى سواءٌ جعلناه معطوفاً على غاية مقدرةٍ ينساقُ إليها الكلامُ ويستدعيها النظامُ كأنه قيل ومثلَ ذلك التمكينِ مكنا ليوسف فى الارض وجعلنا قلوب

يوسف الآية (22) أهلها كافة محال محبتِه ليترتب عليه ما ترتب مما جرى بينه وبين امرأةِ العزيز ولنعلمه تأويل الأحاديثِ وهو تأويلُ الرؤيا المذكورة فيؤدّي ذلك إلى الرياسة العُظمى ولعل ترك المعطوفِ عليه للإشعار بعدم كونه مراداً بالذات أو جعلناه علةً لمعلل محذوف كأنه قيل ولهذا الحكمةِ البالغةِ فعلنا ذلك التمكينَ دون غيرها مما ليس له عاقبةٌ حميدة هذا ولا يخفى عليك أن الذي عليه تدور هذه الأمورُ إنما هو التمكينُ في جانب العزيز وأما التمكينُ في جانب الناسِ كافةً فتأديتُه إلى ذلك إنما هي باعتبار اشتمالِه على ذلك التمكينِ فإذن الحق أن يكون ذلك إشارة إلى مصدر قوله تعالى مَكَّنَّا لِيُوسُفَ على أن يكون هو عبارةً عن التمكين في قلب العزيزِ أو في منزله وكونُ ذلك تمكيناً في الإرض بملابسة أنه عزيزٌ فيها لا عن تمكين آخرَ يُشبه به كما مرَّ في قوله تعالى وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا من إِنَّ ذلك إشارةٌ إلى مصدر الفعلِ المذكورِ بعده لا إلى جعل آخرَ يُقصد تشبيهُ هذا الجعْل به فالكاف مقحم للدلالة على فخامة شأن المشار إليه إقحاماً لا يكاد يترك في لغة العرب ولا في غيرها ومن ذلك قولهم مثلُك لا يبخل وهكذا ينبغي أن يُحقق المقامُ وأما التمكينُ بمعنى جعلِه ملكا يتصرف في أرض مصرَ بالأمر والنهي فهو من آثار ذلك التعليم ونتائجِه المتفرعة عليه كما عرفته لا من مباديه المؤديةِ إليه فلا سبيل إلى جعله غايةً له ولم يُعهد منه عليه السلام في تضاعيف قضاياه العملُ بموجب المناماتِ المنبّهة على الحوادث قبل وقوعِها عهداً مصححاً لجعله غايةً لولايته وما وقع من التدارك في أمر السنين فإنما هو عملٌ بموجب الرؤيا السابقةِ المعهودة اللهم إلا أن يراد بتعليم تأويلِ الأحاديث ما سبق من تفهيم غوامضِ أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء عليهم السلام فيكون المعنى حينئذ مكنا له في أرضَ مصر ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه معانيَ كتب الله تعالى وأحكامَها ودقائقَ سنن الأنبياء عليهم السلام فيقضي بها فيما بين أهلها والتعليمُ الإجماليُّ لتلك المعاني والأحكام وإن كان غير متأخر عن تمكينه بذلك المعنى ألا أن تعليمَ كلِّ معنى شخصيَ يتفق في ضمن الحوادثِ والإرشادِ إلى الحق في كل نازلةٍ من النوازل متأخرٍ عن ذلك صالحٍ لأن يكون غاية له {والله غالبٌ على أَمْرِهِ} لا يستعصى عليه أمرٌ ولا يمانعه شيءٌ بل إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فيكونُ فيدخل في ذلك شئونه المتعلقةُ بيوسف دخولاً أولياً أو متولَ على أمر يوسفَ لا يكِله إلى غيره وقد أريد به من الفتنة ما أريد مرة غِبَّ مرة فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أنَّ الأمرَ كذلكَ فيأتون ويذرون زعماً منهم أن لهم من الأمر شيئاً وأنى لهم ذلك وإن الأمرَ كلَّه لله عز وجل أو لا يعلمون لطائفَ صنعِه وخفايا فضله

22

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي منتهى اشتدادِ جسمه وقوتِه وهو سنُّ الوقوف ما بين الثلاثين إلى الأربعين وقيل سنُّ الشباب ومبدأ بلوغِ الحُلُم والأولُ هو الأظهرُ لقوله تعالى {اتَيْنَاهُ حُكْمًا} حِكمةً وهو العلم المؤيَّدُ بالعمل أو حكماً بين الناس وفقهاً أو نبوة {وَعِلْماً} أي تفقهاً في الدين وتنكيرُهما للتفخيم أي حكماً وعلماً لا يُكتنه كُنهُهما ولا يقادَرُ قدرُهما فهما ما آتاه الله تعالى عند تكاملِ قُواه سواءٌ كانا عبارةً عن النبوة والحُكم بين الناس أو غيرِهما كيف لا وقد جُعل إيتاؤهما

يوسف الآية (23) جزاءً لعمله عليه السَّلامُ حيث قال {وكذلك} أي مثلَ ذلك الجزاءِ العجيب {نَجْزِى المحسنين} أي كلَّ من يُحسِن في عمله فيجب أن يكون ذلك بعد انقضاءِ أعمالِه الحسنةِ التي من جُملتها معاناةُ الأحزان والشدائدِ وقد فُسّر العلمُ بعلم تأويلِ الأحاديث ولا صحةَ له إلا أن يُخَصَّ بعلم تأويلِ رؤيا الملِك فإن ذلك حيث كان عند تناهي أيامِ البلاءِ صحّ أن يُعدَّ إيتاؤُه من جملة الجزاء وأما رؤيا صاحبَي السجن فقد لبث عليه السلام بعد تعبيرِها في السجن بضعَ سنين وفي تعليق الجزاءِ المذكورِ بالمحسنين إشعارٌ بعلّية الإحسان له وتنبيهٌ على أنه سبحانه إنما آتاه ما آتاه لكونه محسناً من أعماله متّقياً في عنفوان أمرِه هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان

23

{وَرَاوَدَتْهُ التى هُوَ فِى بَيْتِهَا} رجوعٌ إلى شرح ما جرى عليه في منزل العزيز بعدما أمر امرأتَه بإكرام مثواه وقوله تعالى وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ إلى هنا اعتراضٌ جيء به أُنموذجاً للقصة ليعلم السامعُ من أول الأمر أن ما لقِيه عليه السلام من الفتن التي ستحكى بتفاصيلها له غايةٌ جميلةٌ وعاقبةٌ حميدةٌ وأنه عليه السلام مُحسنٌ في جميع أعمالِه لم يصدُر عنه في حالتي السراءِ والضراءِ ما يُخِلُّ بنزاهته ولا يخفى أن مدار حسن التخليص إلى هذا الاعتراضِ قبل تمام الآيةِ الكريمةِ إنما هو التمكينُ البالغُ المفهومُ من كلام العزيز فإدراجُ الإنجاءِ السابق تحت الإشارةِ بذلك في قوله تعالى وكذلك مَكَّنَّا كما فعله الجمهورُ ناءٍ من التقريب فتأملْ والمراودةُ المطالبةً من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيءٍ ومنه الرائد لطلب الماءِ والكلأ وهي مفاعلةٌ من واحد نحوُ مطالبةِ الدائنِ ومماطلةِ المديونِ ومداواةِ الطبيب ونظائِرها مما يكون من أحد الجانبين الفعلُ ومن الآخر سببُه فإن هذه الأفعالَ وإن كانت صادرةً عن أحد الجانبين لكن لما كانت أسبابُها صادرةً عن الجانب الآخر جُعلت كأنها صادرةٌ عنهما وهذا بابٌ لطيفُ المسلك مبنيٌّ على اعتبار دقيقٍ تحقيقُه أن سببَ الشيء يقام مُقامَه ويطلق عليه اسمُه كما في قولهم كما تدين تدان أي كما تجزي تجزى فإن فعل البادي وإن لم يكن جزاءً لكنه لكونه سبباً للجزاء أُطلق عليه اسمُه وكذلك إرادةُ القيامِ إلى الصلاة وإرادةُ قراءةِ القرآنِ حيث كانتا سبباً للقيام والقراءة عُبّر عنهما بهما فقيل إِذَا قُمتُم إِلَى الصلاة فإذا قرأت القرآن وهذه قاعدةٌ مطردةٌ مستمرة ولمّا كانت أسبابُ الأفعالِ المذكورة فيما نحن فيه صادرةً عن الجانب المقابلِ لجانب فاعلِها فإن مطالبةَ الدائنِ للمماطلة التي هي من جانب الغريم وهي منه للمطالبة التي هي من جانب الدائنِ وكذا مداواةُ الطبيب للمرض الذي هو من جانب المريض وكذلك مراودتُها فيما نحن فيه لجمال يوسفَ عليه السلام نُزّل صدورُها عن محالها بمنزلة صدور مسبباتهما التي هي تلك الأفعالُ فبُني الصيغةُ على ذلك وروعيَ جانبُ الحقيقةِ بأن أُسند الفعلُ إلى الفاعل وأُوقع على صاحب السبب فتأملِ ويجوز أن يراد بصيغة المغالبةِ مجردُ المبالغة وقيل الصيغةُ على بابها بمعنى أنها طَلبت منه الفعلَ وهو منها التركَ ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ الرُوَيد وهو الرفقُ والتحمّلُ وتعديتُها بعن لتضمينها معنى المخادعة فالمعنى خادعته {عَن نفسه} أي فعلت

يوسف الآية (24) ما يفعل المخادِع لصاحبه عن شيء لا يريد إخراجَه من يده وهو يحتال أن يأخذه منه وهي عبارةٌ عن التمحّل في مواقعته إياها والعدولُ عن التصريح باسمها للمحافظة على السر أو للاستهجان بذكره وإيرادُ الموصول لتقرير المراودةِ فإن كونَه في بيتها مما يدعو إلى ذلك قيل لواحدةٍ ما حملك على ما أنت عليه مما لا خيرَ فيه قالت قربُ الوساد وطولُ السواد ولإظهار كمالُ نزاهتِه عليه السلام فإن عدمَ ميلِه إليها مع دوام مشاهدتِه لمحاسنها واستعصاءه عليها مع كونه تحت ملَكتِها ينادي بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة والنزاهة {وَغَلَّقَتِ الابواب} قيل كانت سبعةً ولذلك جاء الفعل بصيغة التفعيل دون الإفعال وقيل للمبالغة في الإيثاق والإحكام {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} قرىء بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وبناؤه كبناء أينَ وعيط وهيتِ كجَيرِ وهَيتُ كحيث اسم فعل معناه أَقبلْ وبادر واللام للبيان أي لك أقول هذا كما في هلم لك وقرىء هِئتُ لك على صيغة الفعل بمعنى تهيأتُ يقال هاء يهييءُ كجاء يجيء إذا تهيأ وهُيِّئْتُ لك واللام صلة للفعل {قَالَ مَعَاذَ الله} أي أعوذ بالله مَعاذاً مما تدعينني إليه وهذا اجتنابٌ منه على أتم الوجوه وإشارةٌ إلى التعليل بأنه منكَرٌ هائلٌ يجب أن يُعاذ بالله تعالى للخلاص منه وما ذاك إلا لأنه عليه السلام قد شاهده بما أراه الله تعالى من البرهان النيّر على ما هو عليه في حد ذاتِه من غاية القُبح ونهايةِ السوء وقولُه عز وجل {إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ} تعليلا للامتناع ببعض الأسباب الخارجيةِ مما عسى يكون مؤثراً عندها وداعياً لها إلى اعتباره بعد التنبيهِ على سببه الذاتي الذي لا تكاد تقبله لما سوّلتْه لها نفسُها والضميرُ للشأن ومدارُ وضعه موضعَه ادِّعاءُ شهرتِه المُغْنية عن ذكره وفائدةُ تصديرِ الجملة به الإيدان بفَخامة مضمونِها مع ما فيه من زيادة تقريرِه في الذهن فإنَّ الضميرَ لا يُفهمُ منه من أولِ الأمرِ إلا شأنٌ مبهمٌ لهُ خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما يعقُبه فيتمكنُ عندَ ورودِه لَهُ فضلُ تمكُّنٍ فكأنه قيل إن الشأنَ الخطيرَ هذا وهو ربي أي سيدي العزيزُ أحسنَ مثواي أي أحسن تعهّدي حيث أمرك بإكرامي فكيف يمكن أن أُسيء إليه بالخيانة في حَرَمه وفيه إرشادٌ لها إلى رعاية حقِّ العزيزِ بألطف وجهٍ وقيل الضميرُ لله عزَّ وجلَّ وربي خبرُ إن وأحسن مثواي خبر ثنان أو هو الخبرُ والأولُ بدلٌ من الضمير والمعنى أن الحالَ هكذا فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشةِ الكبيرةِ وفيه تحذيرٌ لها من عقاب الله عز وجل وعلى التقديرين ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالةِ من غير تعرّضٍ لاقتضائها الامتناعَ عما دعته إليه إيذانٌ بأن هذه المرتبةَ من البيان كافيةٌ في الدلالة على استحالته وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلاً وقوله تعالى {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} تعليلٌ للامتناع المذكورِ غِبَّ تعليل والفلاحُ الظفرُ وقيل البقاءُ في الخير ومعنى أفلح دخل فيه كأصبح وأخواته والمراد بالظالمين كلُّ من ظلم كائناً من كان فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة والعصاةُ لأمر الله تعالى دخولاً أولياً وقيل الزناةُ لأنهم ظالمون لأنفسهم وللمَزْنيِّ بأهله

24

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} بمخالطته إذِ الهمُّ لا يتعلق

بالأعيان أي قصدتْها وعزمت عليها عزماً جازماً لا يلوبها عنه صارفٌ بعد ما باشرت مباديها وفعلت ما فعلت من المراودة وتغليقِ الأبواب ودعوتِه عليه السلام إلى نفسها بقولها هيتَ لك ولعلها قصدت هنالك لأفعال أُخَرَ من بسط يدِها إليه وقصدِ المعانقة وغير ذلك مما يَضْطره عليه السلام إلى الهرب نحوَ الباب والتأكيدُ لدفع ما عسى يُتوهَّم من احتمال إقلاعِها عما كانت عليه بما في مقالته عليه السلام من الزواجر {وَهَمَّ بِهَا} بمخالطتها أي مال إليها بمقتضى الطبيعةِ البشرية وشهوةِ الشباب وقرمه ميلاً جبلياً لا يكادُ يدخُل تحتَ التكليفِ لا أنه قصدها قصداً اختيارياً ألا يُرى إلى ما سبق من استعصامه المُنْبىءِ عن كمال كراهيتِه له ونفرتِه عنه وحُكمه بعدم إفلاح الظالمين وهل هو إلا تسجيلٌ باستحالة صدور الهمِّ منه عليه السلام تسجيلا محكما وإنما عبر عنه بالهمّ لمجرد وقوعِه في صحبة همِّها في الذكرِ بطريق المشاكلة لا لشَبَهه به كما قيل ولقد أشير إلى تباينهما حيث لم يُلَزّا في قَرن واحد من التعبير بأن قيل ولقد همّا بالمخالطة أو همّ كلٌّ منهما بالآخر وصُدّر الأولُ بما يقرر وجودَه من التوكيد القسمي وعُقّب الثاني بما يعفو أثرَه من قولهِ عزَّ وجلَّ {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} أي حجتَه الباهرةَ الدالة على كمال قبحِ الزنى وسوءِ سبيله والمرادُ برؤيته لها كمالُ إيقانِه بها ومشاهدتِه لها مشاهدةً واصلة إلى مرتبة عينِ اليقين الذي تنجلي هناك حقائقُ الأشياء بصورها الحقيقة وتنخلع عن صورها المستعارة التي بها تظهر في هذه النشأة على ما نطقَ به قولُه صلى الله عليه وسلم حُفّتِ الجنَّةُ بالمكاره وحُفّتِ النار بالشهوات وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنى بموجب ذلك البرهانِ النيّر على ما هو عليه في حد ذاتِه أقبحَ ما يكون وأوجبَ ما يجب أن يُحذر منه ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام والحُكمِ بعدم إفلاحِ من يرتكبه وجوابُ لولا محذوفٌ يدل عليه الكلامُ أي لولا مشاهدتُه برهانَ ربه في شأن الزنى لجَرى على موجب ميلِه الجِبليِّ ولكنه حيث كان مشاهداً له من قبلُ استمر على ما هو عليه من قضية البرهان وفائدةُ هذه الشرطيةِ بيانُ أن امتناعَه عليهِ السلامُ لم يكُنْ لعدم مساعدةٍ من جهة الطبيعة بل لمحض العفةِ والنزاهة مع وفور الدواعي الداخلية وترتبِ المقدّمات الخارجيةِ الموجبةِ لظهور الأحكام الطبيعية هذا وقد نص أئمةُ الصناعة على أن لولا في أمثالِ هذهِ المواقعِ جارٍ من حيث المعنى لا من حيث الصيغةُ مَجرى التقييدِ للحُكم المطلقِ كما في مثلِ قولِه تعالى إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلهتنا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا فلا يتحقق هناك همٌّ أصلاً وقد جوز أن يكون وهم بها جوابَ لولا جرياً على قاعدة الكوفيين في جواز التقديم فالهمُّ حينئذ على معناه الحقيقي فالمعنى لولا أنه قد شاهد براهان ربه لهمَّ بها كما همت به ولكن حيث انتفى عدم المشاهدة بدليل استعصامِه وما يتفرع عليه انتفى الهمُّ رأساً هذا وقد فُسّر همُّه عليه السلام بأنه عليه السلام حل الهيمان وجلس مجلسَ الخِتان وبأنه حل تِكّة سراويلِه وقعد بين شُعَبها ورؤيتُه للبرهان بأنه سمع صوتاً إياك وإياها فلم يكتري ثم وثم إلى أن تمثّل له يعقوبُ عليه السلام عاضًّا على أنملته وقيل ضرب على صدره فخرجت شهوتُه من أنامله وقيل بدت كفٌّ فيما بينهما ليس فيها عضُدٌ ولا مِعصمٌ مكتوبٌ فيها وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين كِرَاماً كاتبين فلم ينصرف ثم رأى فيها وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً فلم ينتهِ ثم رأى فيها واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله فلم يَنْجَع فقال الله عز وجل لجبريل أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة فانحط جبريل عليه السلام وهو يقول يا يوسفُ أتعملُ عمل

يوسف الآية (25) السفهاء وأنت مكتوبٌ في ديوان الأنبياء وقيل رأى تمثال العزيز وقيل وقيل إنْ كلَّ ذلك إلا خرافاتٌ وأباطيلُ تمجُّها الآذانُ وتردُّها العقول والأذهانُ ويلٌ لمن لاكها ولفّقها أو سمعها وصدّقها {كذلك} الكافُ منصوبُ المحلِّ وذلك إشارةٌ إلى الإراءة المدلولِ عليها بقولِه تعالَى لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ أي مثلَ ذلك التبصيرِ والتعريفِ عرفناه برهاننا فيما قبل أو إلى التثبيت اللازمِ له أي مثلَ ذلك التثبيتِ ثبتناه {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء} على الإطلاق فيدخل فيه خيانةُ السيِّد دخولاً أولياً {والفحشاء} والزنى لأنه مفْرِطٌ في القبح وفيه آيةٌ بينةٌ وحجةٌ قاطعةٌ على أنه عليه السلام لم يقع منه همٌّ بالمعصية ولا توجَّه إليها قط وإلا لقيل لنصرِفَه عن السوء والفحشاء وإنما توجه إليه ذلك من خارجٍ فصرَفه الله تعالى عنه بما فيه من موجبات العفةِ والعصمةِ فتأمل وقرىء ليَصرِف على إسناد الصرْف إلى ضمير الرب {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} تعليلٌ لما سبق من مضمون الجملةِ بطريق التحقيقِ والمخلصون هم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته بأن عصمهم عما هو قادحٌ فيها وقرىء على صيغة الفاعل وهم الذين أخلصُوا دينَهم لله سبحانه وعلى كلا المعنيين فهو منتظَمٌ في سلكهم داخلٌ في زمرتهم من أول أمره بقضية الجملةِ الاسميةِ لا أن ذلك حدث له بعد أن لم يكن كذلك فانحسم مادةُ احتمالِ صدورِ الهمِّ بالسوء منه عليه السلام بالكلية

25

{واستبقا الباب} متصلٌ بقوله وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ وقولُه كذلك إلى آخره اعتراضٌ جيء به بين المعطوفَيْن تقريراً لنزاهته عليه السلام كقوله تعالى وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ السموات والارض والمعنى لقد همت به وأبى هو واستبقا الباب أي تسابقا إلى الباب البراني الذي هو المخلص ولذلك وُحّد بعد الجمعِ فيما سلف وحُذف حرفُ الجر وأوصل الفعلُ إلى المجرور نحو وإذا كالوهم أو ضمن الإستباق معنى الإبتدا وإسناد السبق في ضمن الاستباق إليها مع أن مرادَها مجردُ منعِ يوسف وذا لا يوجب الانتهاء إلى الباب لأنها لما رأته يسرع إلى الباب ليتخلص منها أسرعت هي أيضاً لتسبِقَه إليه وتمنعه عن الفتح والخروج أو عبر عن إسراعها إثْرَه بذلك مبالغة {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} اجتذبتْه من ورائه فانشق طولاً وهو القَدُّ كما أن الشقّ عرضاً هو القَطُّ وقد قيل في وصف علي رضي الله عنه أنه كان إذا اعتلى قدّ وإذا اعترض قطّ وإسنادُ القدِّ إليها خاصة مع أن لقوة يوسفَ أيضاً دخلاً فيه إما لأنها الجزءُ الأخيرُ للعلة التامةِ وإما للإيذان بمبالغتها في منعه عن الخروج وبذلِ مجهودِها في ذلك لفَوْت المحبوب أو لخوف الافتضاح {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا} أي صادفا زوجَها وإذْ لم يكن مُلكُه ليوسف عليه السلام صحيحاً لم يقل سيدهما قيل ألفياه مقبلاً وقيل كان جالساً مع ابن عمَ للمرأة {لدى الباب} أي البراني كما مر روى كعب رضيَ الله عنه أنَّه لما هرب يوسفُ عليه السلام جعل فَراشُ القُفلِ يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب {قَالَتْ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال سائل يقول فماذا كان حين ألفَيا العزيزَ عند الباب فقيل قالت {مَا جَزَاء من أراد بأهلك سوءا} من الزنى ونحوه

يوسف الآية (26) {إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ما نافية أي ليس جزاؤُه إلا السجنُ أو العذابُ الأليم قيل المرادُ به الضربُ بالسياط أو استفهاميةٌ أي أيُّ شيءٍ جزاؤُه غيرُ ذاك أو ذلك ولقد أتت في تلك الحالةِ التي تُدهش فيها الفَطِنَ حيث شاهدها العزيزُ على تلك الهيئة المُريبة بحيلة جمعت فيها غرضيها وهما تبرئةُ ساحتِها مما يلوح من ظاهر الحالِ واستنزالُ يوسف عن رأيه في استعصائه عليها وعدمِ مواتاتِه على مرادها بإلقاء الرعبِ في قلبه من مكرها طمعاً في مواقعته لها كرهاً عند يأسِها عن ذلك اختياراً كما قالت وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ثم إنها جعلت صدورَ الإرادة المذكورةِ عن يوسف عليه السلام أمراً محققاً مفروغاً عنه غنياً عن الإخبار بوقوعه وأن ما هيَ عليهِ من الأفاعيل لأجل تحقيق جزائِها فهي تريد إيقاعَه حسبما يقتضيه قانونُ الإيالة وفي إبهام المُريد تهويلٌ لشأن الجزاء المذكورِ بكونه قانوناً مطرداً في حق كل أحدٍ كائناً مَنْ كان وفي ذكر نفسها بعنوان أهلية العزيزِ إعظامٌ للخطب وإغراءٌ له على تحقيق ما تتوخاه بحكم الغضب والحمية

26

{قَالَ} استئنافٌ وجوابٌ عما يقال فماذا قال يوسفُ حينئذ فقيل قال {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى} أي طالبتني للمواتاة لا أني أردتُ بها سوءاً كما قالت وإنما قاله عليه السلام لتنزيه نفسِه عما أُسند إليه من الخيانة وعدم معرفة حقِّ السيد ودفعِ ما عرضَتْه له من الأمرين الأمرين وفي التعبير عنها بضمير الغَيبة دون الخطاب أو اسم الإشارةِ مراعاةٌ لحسن الأدبِ مع الإيماء إلى الإعراض عنها {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا} قيل هو ابنُ عمها وقيل هو الذي كان جالساً مع زوجها لدى الباب وقيل كان حكيماً يرجِعُ إليه الملكُ ويستشيره وقد جُوّز أن يكون بعضُ أهلها قد بصُر بها من حيث لا تشعُر فأغضبه الله تعالى ليوسف عليه السلام بالشهادة له والقيامِ بالحق وإنما ألقى الله سبحانه الشهادةَ إلى من هو من أهلها ليكون أدلَّ على نزاهته عليه السلام وأنفى للتُّهمة وقيل كان الشاهدُ ابنَ خالٍ لها صبياً في المهد أنطقه الله تعالى ببراءته وهو الأظهر فإنه رُوي أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قال تكلم أربعةٌ وهم صغار ابنُ ماشطةَ بنتِ فرعون وشاهدُ يوسف وصاحبُ جريج وعيسى عليه السلام رواه الحاكم عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه وقال صحيح على شرط الشيخين وذكر كونَه من أهلها لبيان الواقع إذ لا يختلف الحالُ في هذه الصورة بين كون الشاهدِ من أهلها أو من غيرِهم {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} أي إن عُلم أنه قد مِن قَبْلُ من قبلِ ونظيره إن أحسنتَ إلى فقد أحسنتُ إليك فيما قبلُ فإن معناه إن تعتدَّ بإحسانك إلي فأعتدُّ بإحساني السابقِ إليك {فَصَدَقَتْ} بتقدير قد لأنها تقرب الماضي إلى الحال أي فقد صدقت وكذا الحالُ في قولِه فَكَذَّبْتَ وهي وإن لم تصرِّح بأنه عليه السلام أراد بها سوءاً إلا أن كلامَها حيث كان واضحَ الدِلالة عليه أُسند إليها الصدقُ والكذب بذلك الإعتبار فإنهم كما يعرضان للكلام باعتبار منطوقِه يعرضان له باعتبار ما يستلزمه وبذلك الإعتبار يعترضان للإنشاءات {وَهُوَ مِنَ الكاذبين} وهذه الشرطية حيث لا ملازمة

يوسف الآية (27 28) عقليةً ولا عاديةً بين مقدِّمها وتاليها ليست من الشهادة في شيء وإنما ذُكرت توسيعاً للدائرة وإرخاءً للعِنان إلى جانب المرأة بإجراء ما عسى يحتمله الحالُ في الجملة بأن يقع القدُّ من قُبُل بمدافعتها له عليه السَّلامُ عن نفسها عند إرادتِه المخالطةَ والتكشفَ مُجرى الظاهرِ الغالبِ الوقوعِ تقريباً لما هو المقصود بإقامة للشهادة أعني مضمونَ الشرطية الثانية التي هي قولُه عزَّ وجلَّ

27

{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصادقين} إلى التسليم والقَبول عند السامع لكونه أقربَ إلى الوقوع وأدلَّ على المطلوب وإن لم يكن بين طرفيها أيضاً ملازمةٌ وحكايةُ الشرطيةِ بعد فعل الشهادةِ لكونها من قبيل الأقوال أو بتقدير القول أي شهد قائلاً الخ وتسميتُها شهادةً مع أنه لا حكمَ فيها بالفعل بالصدق والكذب لتأديتها مؤداها بل لأنها شهادةٌ على الحقيقة وحُكمٌ بصدقه وكذبها أما على تقدير كونِ الشاهدِ هو الصبيُّ فظاهرٌ إذ هو إخبارٌ بهما من قِبَل علامِ الغيوب والتصويرُ بصورة الشرطية للإيذان بأن ذلك ظاهرٌ من العلائم أيضاً وأما على تقدير كونِه غيرَه فلأن الظاهرَ أن صورةَ الحالِ معلومةٌ له على ما هي عليه إما مشاهدةً أو إخباراً فهو متيقّنٌ بعدم مقدَّم الشرطيةِ الأولى وبوجود مقدمِ الشرطيةِ الثانية ومن ضرورته الجزمُ بانتفاء تالي الأولى وبوقوع تالي الثانية فإذن هو إخبارٌ بكذبها وصدقِه عليه السلام لكنه ساق شهادتَه مساقاً مأموناً من الجَرْح والطعن حيث صورها بصورة الشرطية المترددةِ ظاهراً بين نفعها ونفعِه وأما حقيقةً فلا تردد فيها قطعاً لأن الشرطية الأولى تعليقٌ لصدقها بما يستحيل وجودُه من قدّ القميص من قُبُل فيكون مُحالاً لا محالة ومن ضرورته تقررُ كذبها والثانية تعليقٌ لصدقه عليه السلام بأمر محقق الوجود وهوالقد من دبر فيكون محقق البتةَ وهذا كما قيل فيمن قال لامرأة زوجيني نفسك فقالت لي زوجٌ فكذبها في ذلك فقالت إن لم يكن لي زوجٌ فقد زوجتُك نفسي فقبل الرجلُ فإذا لا زوج لها فهو نكاحٌ إذ تعليقُ الشيء بأمر مقرر تنجير له وقُرىء منْ قُبلُ ومن دُبرُ بالضم لأنهما قطعا عن الإضافة كقبلُ وبعدُ وبالفتح كأنهما جعلا علمين للجهتين فمنعا الصرفَ للتأنيث والعلمية وقرىء بسكون العين

28

{فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} كأنه لم يكن رأى ذلك بعدُ أو لم يتدبَّرْه فلما تنبه له وعلم حقيقةَ الحال {قَالَ إِنَّهُ} أي الأمرَ الذي وقع فيه التشاجرُ وهو عبارةٌ عن إرادة السوءِ التي أُسندت إلى يوسف وتدبيرِ عقوبته بقولها ما جزاءُ من أراد بأهلك سوءاً إلى آخره لكن لا من حيث صدورُ تلك الإرادةِ والإسنادُ عنها بل مع قطع النظرِ عن ذلك لئلا يخلُوَ قوله تعالى {مِن كَيْدِكُنَّ} أي من جنس حيلتِكن ومكرِكن أيتها النساءُ لا من غيركن عن الإفادة وتدبيرِ العقوبة وإن لم يمكن تجريدُه عن الإضافة إليها إلا أنها لما صوّرته بصورة الحق أفاد الحكمَ بكونه من كيدهن إفادةً ظاهرةً فتأمل وتعميمُ الخطاب للتنبيه على أن ذلك خُلُق لهن عريق ... ولا تحسَبا هنداً لها الغدرُ وحدها ... سجيةُ نفسٍ كلُّ غانيةٍ هندُ ... ورجْعُ الضميرِ إلى قولها ما جزاءُ من أراد بأهلك سوءاً فقط عدولٌ عن البحث عن أصل ما وقع فيه النزاع من أن

يوسف الآية (29 30) إرادةَ السوءِ ممن هي إلى البحث عن شُعبة من شعبه وجعل للسوء أو للأمر المعبّر به عن طمعها في يوسف عليه السلام يأباه الخبرُ فإن الكيدَ يستدعي أن يعتبر مع ذلك هَناتٌ أُخرُ من قِبلها كما أشرنا إليه {إِنَّ كيدكن عظيم} فإنه أطلف وأعلقُ بالقلب وأشدُّ تأثيراً في النفس وعن بعض العلماء إني أخاف من النساء ما لا أخاف من الشيطان فإنه تعالى يقول إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً وقال للنساء إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ولأن الشيطان يوسوس مُسارقةً وهن يواجِهْن به الرجال

29

{يُوسُفَ} حُذف منه حرفُ النداء لقربه وكمالِ تفطُّنه للحديث وفيه تقريبٌ له وتلطيفٌ لمحله {أَعْرِضْ عَنْ هذا} أي عن هذا الأمر وعن التحدث به واكتُمْه فقد ظهر صدقُك ونزاهتُك {واستغفرى} أنت يا هذه {لِذَنبِكِ} الذي صدر عنك وثبَتَ عليك {إِنَّكَ كُنتَ} بسبب ذلك {مِنَ الخاطئين} من جملة القوم المعتمدين للذنب أو من جنسهم يقال خطِىء إذا أذنب عمداً وهو تعليلٌ للأمر بالاستغفار والتذكيرُ لتغليب الذكورِ على الإناث وكان العزيزُ رجلاً حليماً فاكتفى بهذا القدرِ من مؤاخذتها وقيل كان قليلَ الغَيرة

30

{وَقَالَ نِسْوَةٌ} أي جماعةٌ من النساء وكنّ خمساً امرأةُ الساقي وامرأةُ الخبّاز وامرأةُ صاحب الدوابِّ وامرأةُ صاحبِ السجنِ وامرأةُ الحاجب والنسوةُ اسمٌ مفردٌ لجمع المرأةِ وتأنيثُه غير حقيقي كتأنيث اللُّمَة وهي اسمٌ لجماعة النساء والثُبَة وهي اسم لجماعة الرجال ولذلك لم يلحَق فعلَه تاءُ التأنيث {فِى المدينة} ظرفٌ لقال أي أشعْن الأمرَ في مصر أو صفةٌ النسوة {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} أي الملك يُرِدْن قطفير وإضافتُهن لها إليه بذلك العنوانِ دون أن يصرِّحن باسمها أو اسمِه ليست لقصد المبالغةِ في إشاعة الخبر بحكم أن النفوسَ إلى سماع أخبارِ ذوي الأخطارِ أميلُ كما قيل إذ ليس مرادُهن تفضيحَ العزيز بل هي لقصد الإشباعِ في لومها بقولهن {تُرَاوِدُ فتاها} أي تطالبه بمواقعته لها وتتمحل في ذلك وتخادعه {عَن نَّفْسِهِ} وقيل تطلب منه الفاحشة وإيثارُهن لصيغة المضارع للدلالة على دوام المراودةِ والفتى من الناس الشابُّ وأصله فتيٌ لقولهم فتيان والفتوة شاذة وجمعه فتية وفتيان ويستعار للمملوك وهوالمراد ههنا وفي الحديث لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي وتعبيرُهن عن يوسف عليه السلام بذلك مضافاً إليها لا إلى العزيز الذي لا تستلزم الإضافةُ إليه الهوان بل ربما يشعر بنوع عزةٍ لإبانةِ ما بينهما من التبايُن البيِّن الناشىءِ عن المالكية والمملوكية وكلُّ ذلك لتربية ما مر من المبالغة والإشباعِ في اللوم فإن من لا زوج لها من النساء أو لها زوجٌ دنيءٌ قد تُعذر في مراودة الأخدان لا سيما إذا كان فيهم علوُّ الجناب وأما التي لها زوجٌ وأيُّ زوج عزيزُ مصرَ فمراودتُها لغيره لا سيما لعبدها الذي لا كفاءةَ بينها وبينه أصلاً وتماديها في ذلك غايةُ الغي ونهايةُ الضلال {قَدْ شَغَفَهَا حُبّا} أي شق حبُّه شَغافَ قلبها وهو حجابُه أو جلدةٌ رقيقةٌ يقال لها لسانُ القلبِ حتى وصل إلى فؤادها وقرىء شعَفها بالعين من

يوسف الآية (31) شعف البعيرَ إذا هنَأَه فأحرقه بالقطِران وعن الضحَّاكُ عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما الشغَفُ الحبُّ القاتل والشعف حبٌّ دون ذلك وكان الشعبي يقول الشغفُ حبٌّ والشعفُ جنون والجملةُ خبرٌ ثانٍ أو حالٌ من فاعل تُراود أو من مفعوله وأيا ما كان فهو تكريرٌ لِلّوم وتأكيدٌ للعذْل ببيان اختلالِ أحوالِها القلبية كأحوالها القالَبية وجعلُها تعليلاً لدوام المراودةِ من حيث الإنية مصيرٌ إلى الاستدلال على الأجلي بالأخفى ومن حيث اللُمية ميلٌ إلى تمهيد العذر من قِبلها ولسْن بذلك المقام وانتصابُ حباً على التمييز لنقله عن الفاعلية إذ الأصل قد شغفها حبُّه كما أشير إليه {إِنَّا لَنَرَاهَا} أي نعلمها علماً متاخماً للمشاهدة والعِيان فيما صنعت من المراودة والمحبة المفْرِطة مستقرةً {فِى ضلال} عن طريق الرشد والصوابِ أو عن سنن العقل {مُّبِينٌ} واضح لا يخفى كونُه ضلالاً على أحد أو مُظهرٍ لأمرها بين الناس فالجملةُ مقرِّرةٌ لمضمون الجملتين السابقتين المسوقتين للوم والتشنيع وتسجيلٌ عليها بأنها في أمرها على خطأ عظيم وإنما لم يقُلن إنها لفي ضلال مبين إشعاراً بأن ذلك الحكمَ غيرُ صادر عنهن مجازفةً بل عن علم ورأي مع التلويح بأنهن متنزّهاتٌ عن أمثال ما هي عليه

31

{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} باغتيابهن وسوء قالهن وقولِهن امرأةُ العزيز عشِقت عبدَها الكنعاني وهو مَقَتها وتسميتُه مكراً لكونه خفيةً منها كمكر الماكر وإن كان ظاهراً لغيرها وقيل استكْتَمَتْهن سِرَّها فأفشَيْنه عليها وقيل إنما قلن ذلك لتُرِيَهُنّ يوسف عليه السلام {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} تدعوهن قيل دعت أربعين امرأةً منهن الخمسُ المذكورات {وَأَعْتَدَت} أي أحضرت وهيأت {لهن متكأ} أي ما يتكئن عليه من النمارق والوسائد أو رتبت لهن مجلس طعام وشراب لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشارب والحديث كعادة المترَفين ولذلك نُهي الرجلُ أن يأكل متّكِئاً وقيل متّكأ طعاماً من قولهم اتكأنا عند فلان أي طعِمنا قال جميل ... فظلِلْنا بنعمةٍ واتكأنا ... وشرِبْنا الحلالَ من قُلَلِهْ ... وعن مجاهد متّكأً طعاماً يُحَزّ حزاً كأن المعنى يُعتمد بالسكين عند القطع لأن القاطعَ يتكىء على المقطوع بالسكين وقرىء بغير همز وقرىء بالمد بإشباع حركة الكاف كمُنتَزاح في مُنتزَح ويَنْباع في ينبع وقرأ مُتُكاً وهو الأُترُجّ وأنشدوا ... وأهدت مُتْكةً لبني أبيها ... تخُب بها العَثَمْثمَةُ الوَقاحُ ... أو ما يقطع من متَك الشيءَ إذا بتكه ومتكأ من تكى إذا اتكى {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً} لتستعمله في قطع ما يُعهد قطعُه مما قدّم بين أيديهن وقرِّب إليهن من اللحوم والفواكه ونحوها وهن متّكئات وغرضُها من ذلك ما سيقع من تقطيع أيديهن {وَقَالَتِ} ليوسف وهن مشغولاتٌ بمعالجة السكاكين وإعمالِها فيما بأيديهن من الفواكه وأضرابها والعطفُ بالواو ربما يشير إلى أن قولها {اخرج عَلَيْهِنَّ} أي ابرُزْ لهن لم يكن عَقيب ترتيب أمورِهن ليتم غرضُها من استغفالهن {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ} عطفٌ على مقدر يستدعيه الأمرُ بالخروج وينسحب عليه الكلام أي فخرج عليهن فرأينه

يوسف الآية (32) وإنما حذف تحقيقاً لمفاجأة رؤيتِهن كأنها تفوت عند ذكرِ خروجِه عليهن كما حُذف لتحقيق السُّرعةِ في قولِه عزَّ وجلَّ فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه بعد قوله أنا آتيك بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إليك طرفك وفيه إيذانٌ بسرعة امتثالِه عليه السلام بأمرها فيما لا يشاهد مضرَّتَه من الأفاعيل {أَكْبَرْنَهُ} عظّمنه وهِبْن حسنَه الفائقَ وجماله الرائعَ الرائقَ فإن فضلَ جمالِه على جمال كلِّ جميلٍ كان كفضل القمرِ ليلة البدرِ على سائر الكواكب عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال رأيتُ يوسفَ ليلةَ المعراج كالقمر ليلةَ البدر وقيل كان يُرى تلألؤُ وجهِه على الجُدران كما يُرى نورُ الشمس على الماء وقيل معنى أكبرْنَ حِضْن والهاء للسكت أو ضمير راجع إلى يوسف عليه السلام على حذف اللام أي حضْن له من شدة الشبَق كما قال المتنبىء ... خفِ الله واستُر ذا الجمال برقع ... فإن لُحْتَ حاضتْ في الخدور العوانق ... {وقطعن أيديهن} أي جرحتها بما في أيديهن من السكاكين لفرْط دهشتِهن وخروجِ حركات جوارحهن عن منهاج الإختيار والإعتياد حتى لم يعلمن ما فعلن وفي التعبير عن الجرح بالقطع ما لا يَخفْى من الدلالة على كثرة جرحهن ومع ذلك لم يبالين بذلك ولم يشعُرْن به {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ} تنزيهاً له سبحانَه عنْ صفات النقصِ والعجزِ وتعجباً من قدرته على مثل ذلك الصنعِ البديعِ وأصلُه حاشا كما قرأه أبو عمرو في الدرج فحُذفت ألفُه الأخيرةُ تخفيفاً وهو حرفُ جر يفيد معنى التنزيهِ في باب الاستثناء فلا يُستثنى به إلا ما يكون موجباً للتنزيه فوضع موضعَه فمعنى حاشا الله تنزيهُ الله وبراءةُ الله وهي قراءةُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه واللام لبيان المنزَّه والمبرَّأ كما في سُقياً لك والدليلُ على وضعه موضعَ المصدر قراءةُ أبي السمال حاشاً بالتنوين وقراءةُ أبي عمرو بحذف الألف الأخيرة وقراءة الأعمش بحذف الأولى فإن التصرّفَ من خصائص الاسمِ فيدل على تنزيله منزلتَه وعدمُ التنوين لمراعاة أصلِه كما في قولك جلست مِنْ عن يمينه وقولُه غدت مِنْ عليه منقلبُ الألف إلى الياء مع الضمير وقرىء حاش لله بسكون الشين إتباعاً للفتحة الألفَ في الإسقاط وحاش الإله وقيل حاشا فاعلٌ من الحشا الذي هو الناحية وفاعلُه ضميرُ يوسف أي صار في ناحية من أن يقارف ما رمتْه به لله أي لطاعته أو لمكانه أو جانبَ المعصية لأجل الله {مَا هذا بَشَرًا} على إعمال ما بمعنى ليس وهي لغةُ أهلِ الحجازِ لمشاركتهما في نفي الحالِ وقرىء بشرٌ على لغة تميم وبِشِرًى أي بعبد مشترى لئيم نفَين عنه البَشَرية لما شاهدْن فيه من الجمال العبقري الذي لم يُعهدْ مثالُه في البشر وقصَرْنه على الملَكية بقولهن {إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} بناءً على ما ركَز في العقول من أن لا حيَّ أحسنُ من الملك كما ركب فيها أن لا أقبحُ من الشيطان ولذلك لا يزال يُشبَّه بهما كلُّ متناهٍ في الحسن والقبح وغرضُهن وصفُه بأقصى مراتبِ الحسن والجمال

32

{قَالَتْ فذلكن} الفاء فصيحةٌ والخطابُ للنسوة والإشارةُ إلى يوسف بالعنوان الذي وصفْنه به الآن من الخروج في الحسن والجمالِ عن المراتب البشرية والإقتصار على الملَكية فاسمُ الإشارة مبتدأ والموصول

يوسف الآية (33) خبرُه والمعنى إنْ كانَ الأمرُ كَما قلتنّ فذلكنّ الملكُ الكريمُ النائي من المراتب البشريةِ هو {الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ} أي عيَّرْتُنّني في الافتتان به حيث رَبَأْتُن بمحلِّي بنسبتي إلى العزيز ووضعتُنَّ قدرَه بكونه من المماليك أو بالعنوان الذي وصفْنه به فيما سبق بقولهن امرأةُ العزيز عشِقت عبدَها الكَنعاني فهو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي فهو ذلك العبدُ الكنعانيُّ الذي صورتُنّ في أنفسكن وقلتنّ فيه وفيَّ ما قلتن فالآن قد علمتُنّ من هو وما قولُكن فينا وأما ما يقال تعني أنكن لم تصوِّرْنه بحقِّ صورتِه ولو صوّرتُنّه بما عاينتُنّ لعذرتُنّني في الافتتان به فلا يلائمُ المقام فإن مرادَها بدعوتهن وتمهيدِ ما مهَّدَتْه لهن تبكيتُهن وتنديمُهن على ما صدر عنهن من اللوم وقد فعلت ذلكَ بما لا مزيدَ عليه وما ذكر من المقال فحقُّ المعتذر قبل ظهور معذرتِه وقد قيل في تعليل الملَكية أن الجمعَ بين الجمال الرائقِ والكمال الفائق والعصمةِ البالغةِ من الخواصِّ الملكية وهو أيضاً لا يلائم قولها فذلكن الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ فإن عنوانَ العصمةِ مما ينافي تمشيةَ مرامها ثم بعد ما أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرَها وقد أصابهن من قبله عليه السلام ما أصابها باحت لهن ببقية سرِّها فقالت {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} حسبما قلتنّ وسمعتن {فاستعصم} امتنع طالباً للعصمة وهو بناءُ مبالغةٍ يدل على الامتناع البليغِ والتحفّظ الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها كما في استمسك واستجمع الرأيَ وفيه برهانٌ نيِّر على أنه لم يصدر عنه عليه السلام شيء مُخِلٌّ باستعصامه بقوله معاذ الله من الهمّ وغيرِه اعترفت لهن أولاً بما كن يسمعنْه من مراودتها له وأكدتْه إظهاراً لابتهاجها بذلك ثم زادت على ذلك أنه أعرض عنها على أبلغ ما يكون ولم يَمِلْ إليها قط ثم زادت عليه أيضاً أنها مستمرةٌ على ما كانت عليه غير مرعوية عنه لا بلوم العواذل ولا بإعراض الحبيب فقالت {وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمره} أي آمرُ به فيما سيأتي كما لم يفعل فيما مضى فحُذف الجارُّ وأوصل الفعلُ إلى الضمير كما في أمرتك الخيرَ الضمير للموصول أو أمري إياه أي موجبَ أمري ومقتضاه فما مصدرية فالضمير ليوسف وعبّرت عن مراودتها بالأمر إظهاراً لجريان حكومتِها عليه واقتضاءً للامتثال بأمرها {لَيُسْجَنَنَّ} بالنون المثقلة آثرت بناءَ الفعل للمفعول جرياً على رسم الملوكِ أو إيهاماً لسرعة ترتبِ ذلك على عدم امتثالِه لأمرها كأنه لا يدخُل بينهما فعل فاعل {وليكونن} بالمخففة {مِنَ الصاغرين} أي الأذلاء في السجن وقد قرىء الفعلان بالتثقيل ولكن المشهورةَ أولى لأن النونَ كُتبت في المصحف ألفاً على حكم الوقف واللامُ الداخلة على حرف الشرطِ موطئة للقسم وجوابه ساد مسدَّ الجوابين ولقد أتتْ بهذا الوعيدِ المنطوي على فنون التأكيدِ بمحضر منهن ليعلم يوسفُ عليه السلام أنها ليست في أمرها على خفية ولا خيفة من أحد فتضيقَ عليه الحيلُ وتعيا به العللُ وينصحن له ويُرشِدْنه إلى موافقتها ولما كان هذا الإبراقُ والإرعادُ منها مظِنةً لسؤال سائل يقول فما صنع يوسفُ حينئذ قيل

33

{قَالَ} مناجياً لربه عزَّ سلطانُه {رَبّ السجن} الذي أوعَدَتْني بالإلقاء فيه وقرأ يعقوبُ بالفتح على المصدر {أحب إلى}

يوسف الآية (34 35) أي آثَرُ عندي لأنه مشقةٌ قليلةٌ نافذةٌ إثرَها راحاتٌ جليلةٌ أبديةٌ {مِمَّا يدعونني إليه} من مؤاتانها التي تؤدي إلى الشقاء والعذابِ الأليم وهذا الكلامُ منه عليه السلام مبنيٌّ على ما مر من انكشاف الحقائقِ لديه وبروزِ كلَ منها بصورتها اللائقةِ بها فصيغةُ التفضيلِ ليست على بابها إذ ليس له شائبةُ محبةٍ لما دعتْه إليه وإنما هو والسجنُ شران أهونُهما وأقربُهما إلى الإيثار السجنُ والتعبيرُ علن الإيثار بالمحبة لحسم مادةِ طمعِها عن المساعدة خوفاً من الحبس والاقتصار على ذكر السجنِ من حيث إن الصَّغارَ من فروعه ومستتبعاتِه وإسنادُ الدعوةِ إليهن جميعا لأن النسوة رغبته في مطاوعتها وخوفته من مخالفتها وقيل دعَوْنه إلى أنفسهن وقيل إنما ابتُلي عليه السلام بالسجن لقوله هذا وكان الأولى به أن يسألَ الله تعالى العافية ولذلك ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الصبرَ {وَإِلاَّ تَصْرِفْ} أي إن لم تصرف {عَنّى كَيْدَهُنَّ} في تحبيب ذلك إليّ وتحسينه لديّ بأن تُثبِّتَني على ما أنا عليهِ من العِصمة والعِفة {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي أمِلْ إلى إجابتهن أو إلى أنفسهن على قضية الطبيعةِ وحكم القوةِ الشهوية وهذا فزعٌ منه عليه السلام إلى ألطاف الله تعالى جرياً على سُنن الأنبياءِ والصالحين في قصر نيلِ الخيراتِ والنجاة عن الشرور على جناب الله عز وجل وسلبِ القوى والقدر عن أنفسهم ومبالغةٌ في استدعاء لطفِه في صرف كيدِهن بإظهار أن لا طاقةَ له بالمدافعة كقول المستغيثِ أدركْنى وإلا هلكتُ لا أنه يطلب الإجبارَ والإلجاءَ إلى العصمة والعفةِ وفي نفسه داعيةٌ تدعوه إلى هواهن والصبْوةُ الميلُ إلى الهوى ومنه الصَّبا لأن النفوسَ تصبو إليها لطيب نسيمِها ورَوْحِها وقرىء أصبّ إليهن من الصبابة وهي رقةُ الشوق {وَأَكُن مّنَ الجاهلين} الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو والجاهل سواءٌ أو من السفهاء بارتكابِ ما يدعونني إليه من القبائح لأن الحكيمَ لا يفعل القبيح

34

{فاستجاب لَهُ رَبُّهُ} دعاءَه الذي تضمنه قولُه وإلا تصرف عني كيدهن الخ فإن فيه استدعاءً لصرف كيدِهن على أبلغ وجهٍ وألطفِه كما مر وفي إسناد الاستجابة إلى الرب مضافاً إليه عليه السلام ما لا يَخفْى من إظهار اللطف {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} حسب دعائِه وثبّته على العصمة والعفة {إِنَّهُ هُوَ السميع} لدعاء المتضرعين إليه {العليم} بأحوالهم وما يصلحهم

35

{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ} أي ظهر للعزيز وأصحابه المتصدّين للحل والعقد ريثما اكتفَوا بأمر يوسف بالكتمان والإعراض عن ذلك {مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات} الصارفةَ لهم عن ذلك البداءِ وهي الشواهدُ الدالة على براءته عليه السلام وفاعل بدا إما مصدرُه أو الرأي المفهوم من السياق أو المصدر المدلولِ عليه بقوله {ليسجننه} والمعنى بذا لهم بداءٌ أو رأيٌ أو سَجنُه المحتومُ قائلين والله ليسجُنُنّه فالقسم المحذوف وجوابه معمول للقول المقدر حالاً من ضميرهم وما كان ذلك البداءُ إلا باستنزال المرأة لزوجها ومثلها منه في الذِّروة والغاربِ وكان مطواعةً لها تقوده حيث شاءت قال السدي إنها قالت للعزيز إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يخبرهم بأني راودتُه عن نفسه فإما أن تأذن لي

يوسف الآية (36) فأخرجَ فأعتذرَ إلى الناس وإما أن تحبِسه فحبسه ولقد أرادت بذلك تحقيقَ وعيدِها لتُلين به عريكتَه وتنقادَ لها قرونته لمّا انصرمت حبالُ رجائها عن استتباعه بعرض الجمالِ والترغيبِ بنفسها وبأعوانها وقرىء لتسجُنُنه على صيغة الخطاب بأن خاطب بعضُهم العزيزَ ومن يليه أو العزيزَ وحده على وجه التعظيم أو خاطب به العزيزَ ومَن عنده مِن أصحاب الرأي المباشرين للسجن والحبس {حتى حِينٍ} إلى حين انقطاعِ قالةِ الناسِ وهذا بادي الرأي عند العزيز وذويه وأما عندها فحتى يذلِّلَه السجنُ ويسخره لها ويحسبَ الناسُ أنه المجرمُ وقرىء عتى حين بلغة هذيل

36

{وَدَخَلَ مَعَهُ} أى فى صحبته {السجن فَتَيَانَ} من فتيان الملك وممالكيه أحدهما شرابيه والآخر خبازه رُوي أنَّ جماعةً من أهل مصر ضمنوا لهما مالا ليسما الملك فى طعامه وشرابه فأجاباهم إلى ذلك ثم إن الساقى نكل عن ذلك ومضى عليه الخباز فسم الخبز فلما حضر الطعام قال الساقى لا تأكل أيها الملك فإن الخبز مسموم وقال الخباز لا تشرب أيها الملك فإن الشراب مسموم فقال الملك للساقى اشربه فشربه فلم يضره وقال للخباز كله فأبى فجرب بدابة فهلكت فأمر بحبسهما فاتفق أن أدخلاه معه وتأخير الفاعل عن المفعول لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن عند النفس حين ورودِه عليها فضلُ تمكُّنٍ ونظيره تقديم الظرفِ على المفعول الصريحِ في قوله تعالى فأوجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفة وتأخير السجن عن الظرف لإيهام العكس أن يكون الظرفُ خبراً مقدما على المبتدأ وتكون الجملة حالا من فاعل دخل فتأمل {قَالَ أَحَدُهُمَآ} استئناف مبني على سؤال من يقول ما صنعا بعد ما دخلا معه السجن فأجيب بأنه قال أحدهما وهو الشرابى {إني أراني} أى رأيتنى والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة الماضية {أَعْصِرُ خَمْراً} أى عنباً سماه بما يؤول إليه لكونه المقصود من العصر وقيل الخمر بلغة عمان اسم للعنب وفي قراءةُ ابن مسعودٍ رضي الله عنه أعصر عنباً {وَقَالَ الآخر} وهو الخباز {إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً} تأخير المفعول عن الظرفِ لما مرَّ آنفاً وقوله {تَأْكُلُ الطير مِنْهُ} أى تنهس منه صفة للخبز أو استئنافٌ مبنيُّ على السؤال {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} بتأويل ما ذكر من الرؤيين أو ما رئى بإجراء الضمير مجرى ذلك بطريق الاستعارة فإن اسم الإشارة يشار به إلى متعدد كما فى قوله ... فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَق ... كأَنَّهُ فِي الجلدِ تَوْليعُ البهقْ ... أي كأن ذلك والسر فى المصير إلى إجراء الضَّميرِ مجرى اسمِ الإشارةِ مع أنه لا حاجة إليه بعد تأويل المرجع بما ذكر أو بما رئى أن الضمير إنما يتعرض لنفس المرجع من حيثُ هو من غير تعرض لحال من أحواله فلا يتسنى تأويله بأحد الاعتبارين إلا بإجرائه مجرى اسم الإشارة الذى يدل على المشار إليه بالاعتبار الذى جرى عليه فى الكلام فتأمل هذا إذا قالاه معاً أو قاله أحدهما من جهتهما معا وأما ما إذا قاله كل منهما إثر ما قص ما رآه فالخطاب المذكور ليس عبارتهما ولا عبارة أحدهما من جهتهما ليتعدد المرجع بل عبارة كل منهما نبئنى بتأويله مستفسراً لما رآه وصيغة المتكلم مع الغير واقعة فى الحكاية دون المحكى على طريقة قوله عز وجل يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات فإنهم

يوسف 37 لم يخاطبوا بذلك دفعة بل خوطب كل منهم فى زمانه بصيغة مفردة خاصة به {إِنَّا نَرَاكَ} تعليل لعرض رؤياهما عليه واستفسارها منه عليه السَّلام {مِنَ المحسنين} من الذين يجيدون عبارة الرؤيا لما أياه يقص عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤولها له تأويلا حسناً أو من العلماء لما سمعاه يذكر للناس ما يدل على علمه وفضله أو من المحسنين إلى أهل السجن أى فأحسن إلينا بكشف غمتنا إن كنت قادراً على ذلك روي أنه عليه السلام كان إذا مرض منهم رجل قام عليه وإذا ضاق مكانه أوسع له وإذا احتاج جمع له وعن قتادة رضى الله عنه كان فى السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول أبشروا واصبروا تؤجروا فقالوا بارك الله عليك ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك لقد بورك لنا فى جوارك فمن أنت يا فتى فقال أنا يوسف بن صفى الله يعقوب بن ذبيح الله إسحق بن خليل الله إبراهيم فقال له عامل السجن لو استطعت خليت سبيلك ولكنى أحسن جوارك فكن فى أى بيوت السجن شئت وعن الشعبى أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابى أرانى فى بستان فإذا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فقطعتهما وعصرتهما فى كأس الملك وسقيته وقال الخباز إنى أرانى وفوق رأسى ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة إذا سباع الطير تنهس منها

37

{قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في مقامكما هذا حسب عادتِكما المطردةِ {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما طعامٌ في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ ما نبأتكما به بأن بينت لكما ما هيته وكيفيته وسائرَ أحواله {قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا} وإطلاقُ التأويل عليه إما بطريق الاستعارةِ فإن ذلك بالنسبة إلى مطلق الطعامِ المُبهمِ بمنزلة التأويلِ بالنظر إلى ما رُئيَ في المنام وشبيهٌ له وإما بطريق المشاكلة حسبما وقع في عبارتهما من قولهما نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ولا يبعُد أن يراد بالتأويل الشيءُ الآئلُ لا المآلُ فإنه في الأصل جعلُ شيءٍ آئلاً إلى شيء آخرَ فكما يجوزُ أنْ يرادَ به الثاني يجوزُ أنْ يرادَ به الأولُ فالمعنى إلا نبأتُكما بما يؤول إليه من الكلام والخبرِ المطابق للواقع وكان عليه السلام يقول لهما اليوم يأتيكما طعامٌ من صفته كيتَ وكيتَ فيجدنه كذلك ومرادُه عليه السلام بذلك بيانُ كلِّ ما يُهمّهما من الأمور المترقَّبة قبل وقوعِها وإنما تخصيصُ الطعام بالذكر لكونه عريقاً في ذلك بحسب الحال مع ما فيه من مراعاة حسنِ التخلص إليه مما استعبراه من الرؤيَيَيْن المتعلقتين بالشراب والطعام وقد جُعل الضميرُ لما قصا من الرؤييين على معنى لا يأتيكما طعام ترزقانه حسب عادتِكما إلا أخبرتكما بتأويل ما قصصتما عليَّ قبل أن يأتيكما ذلك الطعامُ الموقت مراداً به الإخبارُ بالاستعجال في التنبئة وأنت خبير بأن النظم الكريمَ ظاهرٌ في تعدد إتيانِ الطعام والإخبار بالتأويل وتجدُّدِهما وأن المقام مقامُ إظهارِ فضلِه في فنون العلومِ بحيث يدخل في ذلك تأويلُ رؤياهما دخولاً أولياً وإنما لم يكتفِ عليه السلام بمجرد تأويلِ رؤياهما مع أن فيه دِلالةً على فضلة لأنهما لما نعتاه عليه السلام بالانتظام في سِمْط المحسنين وأنهما قد علما ذلك حيث قالا إنا نراك

يوسف 38 من المحسنين توسّم عليه السلام فيهما خيراً وتوجّهاً إلى قبول الحق فأراد أن يخرُجَ آثرَ ذي أثيرٍ عما في عُهدته من دعوة الخلقِ إلى الحق فمهّد قبل الخوضِ في ذلك مقدمةً تزيدهما علماً بعظم شأنِه وثقةً بأمره ووقوفا على علو طبقته في بدائع العلومِ توسلاً بذلك إلى تحقيق ما يتوخاه وقد تخلّص إليها من كلامهما فكأنه قال تأويلُ ما قصصتماه عليّ في طرف التمام حيث رأيتما مثاله في المنام وإني أبيّن لكما كلَّ جليل ودقيق من الأمور المستقبلة وإن لم يكن هناك مقدمة المنام حتى إن الطعام الموظفَ الذي يأتيكما كلَّ يوم أبينه لكما قبل إتيانه ثم أخبرهما بأن علمه ذلك ليس من قبيل علوم الكهنةِ والعرّافين بل هو أفضل إلهيٌّ يؤتيه من يشاء ممن يصطفيه للنبوة فقال {ذلكما} أي ذلك التأويلُ والإخبارُ بالمغيّبات ومعنى البُعد في ذلك للإشارة إلى علو درجتِه وبُعد منزلتِه {مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى} بالوحي والإلهامِ أي بعضٌ منه أو من ذلك الجنسِ الذي لا يحوم حولَ إدراكِه العقولُ ولقد دلهما بذلك على أن له علوماً جمةً ما سمعاه قطعةٌ من جملتها وشُعبةٌ من دوحتها ثم بين أن نيل تلك الكرامةِ بسبب اتباعِه ملةَ آبائِه الأنبياءِ العظامِ وامتناعِه عن الشرك فقال {إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله} وهو استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ من قوله ذلكما مما علمني ربي وتعليلاً له لا للتعليم الواقع صلةً للموصول لتأديته إلى معنى أنه مما علمني ربي لهذا السبب دون غيرِه ولا لمضمون الجملةِ الخبرية لأن ما ذُكر بصدد التعليلِ ليس بعلةٍ لكون التأويلِ المذكورِ بعضاً مما علمه ربُّه أو لكونه من جنسه بل لنفس تعليمِ ما علمه فكأنه قيل لماذا علمك ربُّك تلك العلومَ البديعة فقيل لأني تركت ملة الكفرةِ أي دينَهم الذي اجتمعوا عليه من الشرك وعبادةِ الأوثان والمراد بتركها الامتناعُ عنها رأساً كما يفصحُ عنه قولُه مَا كَانَ لنا أن نشرك بالله مِن شَىْء لا تركُها بعد ملابستها وإنما عبّر عنه بذلك لكونه أدخلَ بحسب الظاهرِ في اقتدائهما به عليه السلام والتعبيرُ عن كفرهم بالله تعالى بسلب الإيمان به للتنصيص على أن عبادتَهم له تعالى مع عبادة الأوثانِ ليست بإيمان به تعالى كما هو زعمُهم الباطلُ على ما مرَّ في قوله تعالى إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح {وَهُم بالآخرة} وما فيها من الجزاء {هُمْ كافرون} على الخصوص دون غيرِهم لإفراطهم في الكفر

38

{واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ} يعني أنه إنما حاز هذه الكمالاتِ وفاز بتلك الكراماتِ بسبب أنه اتبع ملةَ آبائِه الكرامِ ولم يتبع ملةَ قومٍ كفروا بالمبدأ والمعاد وإنما قاله عليه السلام ترغيباً لصاحبيه في الإيمان والتوحيدِ وتنفيراً لهما عما كانا عليه من الشرك والضلالِ وقُدّم ذكرُ تركِه لملّتهم على ذكر اتباعِه لملة آبائِه لأن التخلية متقدمة على التحلية {مَا كَانَ} أي ما صح وما استقام فضلاً عن الوقوع {لَنَا} معاشرَ الأنبياء لقوة نفوسنا ووفور علومِنا {أَن نُّشْرِكَ بالله من شىء} أي شيء كان من ملك أو جنّي أو إنسي فضلاً عن الجماد البحث {ذلك} أي التوحيدُ المدلولُ عليه بقوله ما كان لنا أن نشرك بالله من شىء {مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا} أي ناشىءٌ من تأييده لنا بالنبوة وترشيحِه إيانا لقيادة الأمةِ

يوسف 39 40 وهدايتِهم إلى الحق وذلك مع كونه من مواجبات التوحيد ودواعيه نعمةٌ جليلةٌ وفضلٌ عظيم علينا بالذات {وَعَلَى الناس} كافةً بواسطتنا وحيث عبّر عن ذلك بذلك العنوان عبّر عن التوحيد الذي يوجبه بالشكر فقيل {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يشكرون} أي لا يوحّدون فإن التوحيدَ مع كونه من آثار ما ذُكر من التَّأييدِ شكرٌ لله عز وجل على النعمةِ وإنما وضْعِ الظاهِرِ موضعَ الضَّميرِ الراجعِ إلى الناس لزيادة توضيحٍ وبيانٍ ولقطع توهمِ رجوعِه إلى المجموع المُوهمِ لعدم اختصاصِ غير الشاكرِ بالناس وقيل ذلك التوحيدُ من فضل الله علينا حيث نصَب لنا أدلةً ننظر فيها ونستدلّ بها على الحق وقد نصَب مثلَ تلك الأدلةِ لسائر الناس أيضاً ولكن أكثرَهم لا ينظرون ولا سيتدلون بها اتّباعاً لأهوائهم فيبقَوْن كافرين غيرَ شاكرين ولك أن تقول ذلك التوحيدُ من فضل الله علينا حيث أعطانا عقولاً ومشاعرَ نستعملها في دلائلِ التوحيد التي مهدها في الأنفسِ والآفاقِ وقَد أعطى سائرَ الناس أيضاً مثلها ولكن أكثرَهم لاَ يَشْكُرُونَ أي لا يصرِفون تلك القُوى والمشاعرَ إلى ما خُلِقت هي له ولا يستعملونها فيما ذكر من أدلة التوحيدِ الآفاقيةِ والأنفُسية والعقليةِ والنقلية

39

{يا صاحبي السجن} أي يا صاحبيَّ في السجن كما تقول يا سارق الليلةِ ناداهما بعنوان الصحبة في مدار الأشجانِ ودارِ الأحزان التي تصفو فيها المودةُ وتخلُص النصيحةُ ليُقبِلا عليه ويَقبَلا مقالتَه وقد ضرب لهما مثلاً يتضح به الحقُّ عندهما حقَّ اتضاحٍ فقال {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ} لا ارتباطَ بينهم ولا اتفاقَ يستعبدُ كما كلٌّ منهم حسبما أراد غيرَ مراقب للآخَرين مع عدم استقلاله {خَيْرٌ} لكما {أَمِ الله} المعبودُ بالحق {الواحد} المتفرد بالألوهية {القهار} الغالبُ الذي لا يغالبه أحدٌ وبعد ما نبه ما على فساد تعددِ الأرباب بين لهما سقوطَ ألهتِهما عن درجة الاعتبار رأساً فضلاً عن الألوهية فقال معمّماً للخطاب لهما ولمن على دينهما

40

{مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ} أي من دون الله شيئاً {إِلاَّ أَسْمَاءً} فارغةً لا مطابقَ لها في الخارج لأن ما ليس فيه مصداقُ إطلاقِ الاسم عليه لا وجودَ له أصلاً فكانت عبادتُهم لتلك الأسماء فقط {سَمَّيْتُمُوهَا} جعلتموها أسماءً وإنما لم يَذكُر المسمَّياتِ تربيةً لما يقتضيه المقامُ من إسقاطها عن مرتبة الوجودِ وإيذاناً بأن تسميتهم في البطلان حيث كانت بلا مسمّى كعبادتهم حيث كان بلا معبود {أنتم وآباؤكم} بمحض جهلِكم وضلالتِكم {مَّا أَنزَلَ الله بِهَا} أي بتلك التسميةِ المستتبِعة للعبادة {مّن سلطان} من حجة تدل على صحتها {إِنِ الحكم} في أمر العبادة المتفرعةِ على تلك التسمية {إلا الله} عز سلطانُه لأنه المستحقُّ لها بالذات إذ هوالواجب بالذات الموجدُ للكل والمالكُ لأمره {أمر} استنئاف مبني على سؤال ناشىءٍ من قوله إن الحكم إلا لله فكأنه قيل فماذا حكم الله في هذا الشأن فقيل أمر على ألسنة الأنبياءِ عليهم السلام {أَلاَّ تَعْبُدُواْ} أي بأنْ لاَّ تَعْبُدُواْ {إِلاَّ إياه} حسبما

يوسف 41 42 تقضي به قضيةُ العقل أيضاً {ذلك} أي تخصيصُه تعالى بالعبادة {الدين القيم} الثابتُ المستقيم الذي تعاضدت عليه البراهينُ عقلاً ونقلاً {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يعلمون} أن ذلك هوالدين القيم لجهلهم بتلك البراهينِ أو لا يعلمونَ شيئاً أصلا فيبعدون أسماءً سمَّوها من تلقاء أنفسِهم معْرِضين عن البرهان العقلى والسلطان العقلي وبعد تحقيقِ الحقِّ ودعوتِهما إليه وبيانِه لهما مقدارَه الرفيعَ ومرتبةَ علمِه الواسِع شرع في تفسير ما استفسراه ولكونه بحثاً مغايِراً لما سبق فصلُه عنه بتكرير الخطاب فقال

41

{يا صاحبي السجن أَمَّا أَحَدُكُمَا} وهو الشرابيُّ وإنما لم يعيّنه ثقةً بدلالة التعبير وتوسلاً بذلك إلى إبهام أمرِ صاحبِه حِذارَ مشافهتِه بما يسوءه {فَيَسْقِى رَبَّهُ} أي سيدَه {خَمْرًا} روي أنه عليه السلام قال له ما رأيت من الكرمة وحسنها الملك وحسنُ حالك عنده وأما القضبان الثلاثة فثلاثةُ أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه وقرأ عكرمة فيسقى ربُّه على البناء للمفعول أي يُسقى ما يروى به {وَأَمَّا الاخر} وهو الخباز {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ} روي أنه عليه السلام قال له ما رأيت من السلال الثلاث ثلاثةُ أيام تمرّ ثم تخرج فتقتل {قُضِىَ} أي أتم وأحكم {الامر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} وهو ما رأياه من الرؤييين قطعاً لا مآلُه الذي هو عبارة عن نجاة أحدِهما وهلاكِ الآخر كما يوهمه إسنادُ القضاء إليه إذ الاستفتاءُ إنما يكون في الحادثة لا في حكمِها يقال استفتى الفقيهَ في الحادثة أي طلب منه بيانَ حكمِها ولا يقال استفتاه في حكمها وكذا الإفتاءُ فإنه يقال أفتى فلانٌ في الواقعة الفلانية بكذا ولا يقال أفتى في حكمها أو جوابها بكذا ومما هو علَمٌ في ذلك قولُه تعالى {يا أيها الملأ أَفْتُونِى فِى رؤياى} ومعنى استفتائهما فيه طلبُهما لتأويله بقولهما نبئنا بتأويله وإنما عبر عن ذلك بالأمر وعن طلب تأويلِه بالاستفتاء تهويلاً لأمره وتفخيماً لشأنه إذ الاستفتاءُ إنما يكون في النوازل المشكِلة الحكم المبهمة الجواب وإيثاره صيغة الاستقبالِ مع سبق استفتائِهما في ذلك لما أنهما بصدده إلى أن يقضيَ عليه السلام من الجواب وطرَه وإسنادُ القضاءِ إليه مع أنه من أحوال مآلِه لأنه في الحقيقة عينُ ذلك المآلِ وقد ظهر في عالم المثالِ بتلك الصورةِ وأما توحيدُه مع تعدد رؤياهما فواردٌ على حسب ما وحده في قولهما نبئنا بتأويله لا لأن الأمرَ ما اتُّهما به وسُجنا لأجله من سَمِّ الملكِ فإنهما لم يستفيا فيه ولا فيما هو صورتُه بل فيما هو صورةٌ لمآله وعاقبتِه فتأمل وإنما أخبرهما عليه السلام بذلك تحقيقاً لتعبيره وتأكيداً له وقيل لما عبّر رؤياهما جحَدا وقالا ما رأينا شيئاً فأخبرهما إن ذلك كائن صدقتما أو كذبتما ولعل الجحودَ من الخبّاز إذ لا داعيَ إلى جحود الشرابيِّ إلا أن يكون ذلك لمراعاة جانبه

42

{وقال}

يوسف 43 أي يوسف عليه السلام {لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ} أُوثر على صيغة المضارعِ مبالغةٌ في الدلالة على تحقق النجاةِ حسبما يفيده قوله تعالى {قُضِىَ الامر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} وهو السرُّ في إيثارَ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ على أن يقال للذي ظنه ناجياً {مِنْهُمَا} من صاحبيه وإنما ذكر بوصف النجاةِ تمهيداً لمناط التوصيةِ بالذكر عند الملكِ وعنوانِ التقربِ المفهوم من التعبير المذكورِ وإن كان أدخلَ في ذلك وأدعى إلى تحقيق ما وصّاه به لكنه ليس بوصف فارقٍ يدور عليه الامتيازُ بينه وبين صاحبه المذكورِ بوصف الهلاكِ والظانُّ هو يوسفُ عليه السلام لا صاحبُه لأن التوصيةَ المذكورة لا تدور على ظن الناجي بل على ظن يوسفَ وهو بمعنى اليقينِ كما في قوله تعالى {ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ} فالتعبيرُ بالوحي كما ينبىء عنه قوله تعالى {قُضِىَ الامر} الخ وقيل هو بمعناه والتعبيرُ بالاجتهاد والحكمُ بقضاء الأمر أيضاً اجتهاديٌّ {اذكرنى} بما أنا عليه من الحال والصفة {عِندَ رَبّكَ} سيّدِك وصِفْني له بصفتي التي شاهدتَها {فَأَنْسَاهُ الشيطان} أي أنسى الشرابيَّ بوسوسته وإلقائه في قلبه أشغالاً تعوقه عن الذكر وإلا فالإنساءُ في الحقيقة لله عز وجل والفاءُ للسببية فإن توصيتَه عليه السلام المتضمنةَ للاستعانة بغيره سبحانه كانت باعثةً لما ذكر عن الإنساء {ذِكْرَ رَبّهِ} أي ذكرَ الشرابيِّ له عليه السلام عند الملِك والإضافة لأدنى ملابسةٍ أو ذكرَ إخبارِ ربِّه {فَلَبِثَ} أي يوسف عليه السلام بسبب ذلك الإنساءِ أو القول {في السجن بضع سنين} البِضْعُ ما بين الثَّلاثِ إلى التسع من البَضْع وهو القطعُ وأكثرُ الأقاويل أنه لبث فيه سبعَ سنين وروي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم رحم الله أخي يوسفَ لو لم يقُل اذكُرْني عند ربِّك لما لبث في السجن سبعاً بعد الخمس والاستعانةُ بالعباد وإن كانت مرخصةً لكن اللائقَ بمناصب الأنبياءِ عليهم السلام الأخذُ بالعزائم

43

{وَقَالَ الملك} أي الريّانُ {إِنّى أرى} أي رأيت وإيثارُ صيغة المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ {سَبْعَ بقرات سِمَانٍ} جمعُ سمينٍ وسمينة ككرام في جمع كريم وكريمة يقال رجالٌ كرام ونسوةٌ كِرامٌ {يَأْكُلُهُنَّ} أي أكلهن والعدولُ إلى المضارع لاستحضار الصورةِ تعجيباً والجملةُ حالٌ من البقرات أو صفةٌ لها {سَبْعٌ عِجَافٌ} أي سبعُ بقراتٍ عجافٍ وهي جمعُ عجفاءَ والقياس عُجْفٌ لأن فعلاء وأفعل لا يجمع على فِعال ولكن عُدل به عن القياس حملاً لأحد النقيضين على الآخر وإنما لم يقل سبعُ عجافٍ بالإضافة لأن التمييزَ موضوعٌ لبيان الجنس والصفةُ ليست بصالحة لذلك فلا يقال ثلاثةُ ضخامٍ وأربعةُ غلاظٍ وأما قولُك ثلاثةُ فرسانٍ وخمسةُ ركبانٍ فلجرَيان الفارسِ والراكب مَجرى الأسماءِ روي أنه رأى سبعَ بقراتٍ سمان خرجن من نهر يابسٍ وخرج عَقيبَهن سبعُ بقراتٍ عجافٍ في غاية الهُزال فابتلعت العجافُ السمانَ {وَسَبْعَ سنبلات خُضْرٍ} قد انعقد حبُّها {وَأُخَرَ يابسات} أي وسبعاً أخَرَ يابساتٍ قد أدركت والْتَوَتْ على الخضر حتى غليتها على ما روي ولعل عدمَ التعرضِ لذكره للاكتفاء بما ذُكر من حال البقرات {يا أيها الملأ} خطابٌ للأشراف من العلماء والحكماء {أَفْتُونِى فِى رؤياى} هذه أي عبِّروها وبيِّنوا حكمَها وما تؤول إليه من العاقبة والتعبير عن التعبير بالإفتاء

يوسف الآية (44 45) لتشريفهم وتفخيمِ أمر رؤياه {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} أي تعلمون عبارةَ جنسِ الرؤيا علماً مستمراً وهي الانتقالُ من الصور الخيالية المشاهدةِ في المنام إلى ما هي صورٌ وأمثلةٌ لها من الأمور الآفاقيةِ أو الأنفسيةِ الواقعةِ في الخارج من العبور وهو المجاوزةُ تقول عبَرْتُ النهرَ إذا قطعتُه وجاوزتُه ونحوه أوّلتها أي ذكرتُ مآلَها وعَبْرتُ الرؤيا عبارةً أثبتُ من عبّرتها تعبيراً والجمعُ بين الماضِي والمستقبلِ للدِّلالةِ على الاستمرار كما أشير إليه واللامُ للبيان أو لتقوية العاملِ المؤخَّرِ لرعاية الفواصِلِ أو لتضمين تعبُرون معنى فعلٍ متعدَ باللام كأنه قيل إن كنتم تنتدِبون لعبارتها ويجوز أن يكون للرؤيا خبر كان كما يقال فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلاً به متمكناً منه وتعبرون خبرٌ آخر

44

{قالوا} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الملأُ للملك فقيل قالوا هي {أضغاث أَحْلاَمٍ} أي تخاليطُها جمع ضِغْث وهو في الأصلِ ما جمع من أخلاط النبات وحُزِم ثم استعير لما تجمعه القوةُ المتخيِّلة من أحاديث النفس ووساوسِ الشيطان وتريها في المنام والأحلامُ جمع حلُم وهي الرؤيا الكاذبةُ التي لا حقيقةَ لها والإضافةُ بمعنى مِنْ أي هي أضغاثٌ من أحلام أخرَجوها من جنس الرؤيا التي لها عاقبةٌ تؤول إليها ويعتنى بأمرها وجمعوها وهي رؤيا واحدةٌ مبالغةً في وصفها بالبطلان كما في قولهم فلانٌ يركبُ الخيلَ ويلبَس العمائم لمن لا يملِك إلا فرساً واحداً وعمامة فردةً أو لتضمّنها أشياءَ مختلفةً من البقرات السبع السمان والسبع العجاف والسنابل السبعِ الخُضر والأُخَرِ اليابسات فتأمل حسنَ موضع الأضغاثِ مع السنابل فللَّه درُّ شأنِ التَّنزيلِ {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاحلام} أي المنامات الباطلةِ التي لا أصلَ لها {بعالمين} لا لأن لها تأويلاً ولكن لا نعلمه بل لأنه لا تأويلَ لها وإنما التأويلُ للمنامات الصادقةِ يجوز أن يكون ذلك اعترافاً منهم بقصور علمِهم وأنهم ليسوا بنحاريرَ في تأويل الأحلامِ مع أن لها تأويلاً كما يُشعر به عدو لهم عما وقع في كلام الملك من العبارة المُعْربة عن مجرد الانتقالِ من الدالّ إلى المدلول حيث لم يقولوا بتعبير الأحلام أو عبارتها إلى التأويل المنبىءِ عن التصرُّف والتكلّف في ذلك لما بين الآثل والمآلِ من البُعد ويؤيده قوله عز وجل أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِه

45

{وَقَالَ الذى نَجَا مِنْهُمَا} أي من صاحبَيْ يوسف وهو الشرابيّ {وادكر} بغير المعجمة وهو الفصيحُ وعن الحسن بالمعجمة أي تذكر يوسف عليه السلام وشئونه التي شاهدها ووصيته بتقريب رؤيا الملك وإشكال تأويلِها على الملأ {بَعْدَ أُمَّةٍ} أي مدة طويلةٍ وقُرِىءَ إمةٍ بالكسرِ وهي النعمةُ أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة وأمة أي نسيان والجملةُ حالٌ منَ الموصولِ أو من ضميره في الصلة وقيل معطوفةٌ على نجا وليس بذاك لأن حق كلَ من الصفة والصلةِ أن تكون معلومةَ الانتسابِ إلى الموصوف والموصولِ عند المخاطبِ كما عند المتكلم ولذلك قيل إن الصفاتِ قبلَ العلمِ بها أخبارٌ والأخبارُ بعدَ العلم بها صفاتٌ وأنت تدري أن تذكّره بعد أمةٍ إنما عُلم بهذه الجملة فلا مجال لنظمه مع نجاته المعلومةِ قبلُ في سلك الصلة {أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} أي أخبركم

يوسف الآية (46 47) بالتلقي عمن عنده علمُه لا من تلقاء نفسي ولذلك لم يقل أنا أفتيكم فيها وعقبّه بقوله {فَأَرْسِلُونِ} أي إلى يوسفَ وإنما لم يذكُرْه ثقةً بما سبق من التذكر وما لَحِقَ من قوله

46

{يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} أي أُرسل إليه فأتاه فقال يا يوسف ووصفَه بالمبالغة في الصدق حسبما شاهده وذاق أحوالَه وجرّبها لكونه بصدد اغتنامِ آثارِه واقتباس أنوارِه فهو من باب براعة الاستهلال {أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات} أي في رؤيا ذلك وإنما لم يصرح به لوضوح مرامِه بقرينة ما سبق من معاملتهما ولدَلالة مضمونِ الحادثة عليه حيث لا إمكان لوقوعه في عالم الشهادةِ أي بيِّنْ لنا مآلَها وحكمَها وحيث عاين علوَّ رتبتِه عليه السلام في الفضل عبّر عن ذلك بالإفتاء ولم يقل كما قال هو وصاحبُه أولاً نبّئنا بتأويله وفي قوله أفتنا مع أنه المستفتي وحده إشعار بأن الرؤيا ليست له بل لغيره ممن له ملابسةٌ بأمور العامة وأنه في ذلك مَعْبرٌ وسفيرٌ كما آذن بذلك حيث قال {لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى الناس} أي إلى الملك ومن عنده أو إلى أهل البلد إن كان السجنُ في الخارج كما قيل فأُنبّئهم بذلك {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} ذلك ويعملون بمقتضاه أو يعلمون فضلَك ومكانك مع ما أنت فيه من الحال فتتخلّصَ منه وإنما لم يبُتَّ القولَ في ذلك مجاراةً معه على نهج الأدب واحترازاً عن المجازفة إذ لم يعلموه على يقين من الرجوع فربما اخترم دونه لعل المنايا دون ما تعدّاني ولا مِنْ علمهم بذلك فربما لم يعلموه

47

{قال} استئناف مبني على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قال يوسفُ عليه السلام في التأويل فقيل قال {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا} قرىء بفتح الهمزة وسكونِها وكلاهما مصدرُ دأَبَ في العمل إذا جدّ فيه وتعِب وانتصابُه عَلى الحاليةِ من فاعل تزرعون أي دائبين أو تدأبون دأباً على أنَّه مصدرٌ مؤكدٌ لفعل هو الحال أوّلَ عليه السلام البقراتِ السمانَ والسنبلاتِ الخضْرَ بسنين مخاصيب والعجاف واليابسان بسنين مجدبة فأخذهم بأنهم يواظبون سبعَ سنين على الزراع ويبالغون فيها إذ بذلك يتحقق الخِصْبُ الذي هو مصداقُ البقراتِ السمان وتأويلُها ودلهم في تضاعيف ذلك على أمر نافعٍ لهم فقال {فَمَا حَصَدتُّمْ} أي في كل سنة {فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ} ولا تَذْروه كيلا يأكلَه السوسُ كما هو شأنُ غلالِ مصرَ ونواحيها ولعله عليه السلام استدل على ذلك بالسنبلات الخُضرِ وإنما أمرهم بذلك إذ لم يكن معتاداً فيما بينهم وحيث كانوا معتادين للزراعة لم يأمرهم بها وجعلَها أمراً محققَ الوقوع وتأويلاً للرؤيا مصداقاً لما فيها من البقرات السمان {إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تأكلون} في تلك السنين وفيه إرشادٌ منه عليه السلام لهم إلى التقليل في الأكل والاقتصارِ على استثناء المأكولِ دون البَذْر لكون ذلك معلوماً من قوله تزرعون سبعَ سنين وبعد إتمام ما أمرهم به شَرَع في بيان بقيةِ التأويلِ التي يظهر منها حكمةُ الأمر المذكور فقال

يوسف الآية (48 49)

48

{ثُمَّ يَأْتِى} وهو عطفٌ على تزرعون فلا وجه لجعله بمعنى الأمر حثاً لهم على الجد والمبالغة في الزراعة على أنه يحصل بالإخبار بذلك أيضاً {مِن بَعْدِ ذلك} أي من بعد السنين السبعِ المذكوراتِ وإنما لم يقُلْ من بعدهن قصداً إلى الإشارة إلى وصفهن فإن الضمير ساكتٌ عن أوصاف المرجعِ بالكلية {سَبْعٌ شِدَادٌ} أي سبعُ سنينَ صعابٌ على الناس {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} من الحبوب المتروكةِ في سنابلها وفيه تنبيهٌ على أن أمرَه عليه السلام بذلك كان لوقت الضرورة وإسنادُ الأكل إليهن مع أنه حالُ الناس فيهن مجازيٌّ كما في نهارُه صائمٌ وفيه تلويحٌ بأنه تأويلٌ لأكل العجافِ السمانَ واللام في لهن ترشيحٌ لذلك فكأن ما ادُّخر في السنابل من الحبوب شيءٌ قد هُيِّيء وقُدِّم لهن كالذي يقدَّم للنازل وإلا فهو في الحقيقة مقدَّمٌ للناس فيهن {إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تحصنون} تحرزون مبذور الزراعة

49

{ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك} أي من بعد السنين الموصوفةِ بما ذكرَ من الشدة وأكلِ الغلال المدخر {عَامٌ} لم يعبّر عنه بالسنة تحاشياً عن المدلول الأصليِّ لها من عام القحط وتنبيهاً منْ أولِ الأمرِ عَلى اختلاف الحالِ بينه وبين السوابق {فِيهِ يُغَاثُ الناس} من الغيث أي يُمطَرون يقال غِيثت البلادُ إذا مُطرت في وقت الحاجة أو من الغوث يقال أغاثنا الله تعالى أي أمدنا برفع المكاره حين أظلّتنا {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} أي ما مِنْ شأنِه أن يُعصر من العنب والقصَب والزيتون والسمسم ونحوِها من الفواكة لكثرتها والتعرضُ لذكر العصر مع جواز الاكتفاءِ عنه بذكر الغيث المستلزمِ له عادة كما اكتُفي به عن ذكر تصرِفهم في الحبوب إما لأن استلزامَ الغيثِ له ليس كاستلزامه للحبوب إذ المذكرات يتوقف صلاحُها على مبادٍ أخرى غيرِ المطر وإما لمراعاة جانبِ المستفتي باعتبار حالتِه الخاصة به بشارةً له وهي التي يدور عليها حسنُ موقع تغليبِه على الناس في القراءة بالفوقانية وقيل معنى يعصرون يحلبون الضروعَ وتكريرُ فيه إما للإشعار باختلاف أوقاتِ ما يقع فيه من الغيث والعصر زماناً وهو ظاهرٌ وعنواناً فإن الغيثَ والغوثَ من فضل الله تعالى والعصرُ من فعل الناس وإما لأن المقام مقامُ تعداد منافعِ ذلك العام ولأجله قُدّم في الموضعين على الفعلين فإن المقصودَ الأصليَّ بيان أنه يقع في ذلك العام هذا النفعُ وذاك النفعُ لا بيانُ أنهما يقعان في ذلك العام كما يفيده التأخير ويجوز أن يكون التقديمُ للقصر على معنى أن غيثهم وعصرَهم في سائر السنين بمنزلة العدمِ بالنسبة إلى عامهم ذلك وأن يكون ذلك في الأخير لمراعات الفواصلِ وفي الأول لرعاية حالِه وقرىء يُعصَرون على البناءِ للمفعولِ من عصره إذا أنجاه وهو المناسبُ للإغاثة ويجوز أن يكون المبنيُّ للفاعل أيضاً منه كأنه قيل فيه يغاث الناسُ وفيه يُغيثون أي يغيثهم الله ويغيثُ بعضُهم بعضاً وقيل معنى يُعصَرون يمطَرون من أعصرت السحابةُ إما بتضمين أعصرت معنى مطرَت وتعديتِه وإما بحذفِ الجارِّ وإيصالِ الفعلِ على أن الأصلَ أعصرت عليهم وأحكامُ هذا العام المبارك ليست مستنبَطةً من رؤيا الملكِ وإنما تلقاها عليه السلام من جهة الوحي فبشَّرهم بها بعد ما أول

يوسف الآية (50 51) الرؤيا بما أول وأمرَهم بالتدبير اللائقِ في شأنه إبانةً لعلو كعبِه ورسوخِ قدمِه في الفضل وأنه محيطٌ بما لَمْ يخطُر ببالِ أحدٍ فضلاً عما يُرى صورتُه في المنام على نحو قوله لصاحبيه عند استفتائهما في نامهما لا يأتيكما طعام ترزقانه إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ وإتماماً للنعمة عليهم حيث لم يشاركه عليه السلام في العلم بوقوعها أحدٌ ولو برؤية ما يدل عليها في المنام

50

{وقال الملك} بعدما جاءه السفيرُ بالتعبير وسمع منه ما سمع من نقير وقِطمير {ائتونى بِهِ} لِما علم من علمه وفضله {فَلَمَّا جَاءهُ} أي يوسفَ {الرسول} واستدعاه إلى الملك {قَالَ ارجع إلى رَبّكَ} أي سيدك {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} أي ففتشه عن شأنهم وإنما لم يقل فاسأله أن يفتش عن ذلك حثاً للملك على الجد في التفتيش ليتبين برءاته ويتضح نزاهتُه إذ السؤالُ مما يهيج الإنسانَ على الاهتمام في البحث للتفصّي عما توجه إليه وأما الطلب فمما قد يتسامح ويُتساهل فيه ولا يبالى به وإنما لم يتعرض لامرأة العزيزِ مع ما لقي منها ما لقِيَ من مقاساة الأحزان ومعاناة الأشجان والأحزان محافظةً على مواجب الحقوق واحترازاً عن مكرها حيث اعتقدها مقيمةً في عُدوة العداوة وأما النسوةُ فقد كان يطمع في صَدْعهن بالحق وشهادتِهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ولم يصرّح بمراودتهن له وقولِهن أطع مولاتك واكتفي بالإيماء إلى ذلك بقوله {إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} مجاملةً معهن واحترازاً عن سوء قالتِهن عند الملكِ وانتصابِهن للخصومة مدافعةً عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد

51

{قال} استئناف مبني على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا كان بعد ذلك فقيل قال الملكُ إثَر ما بلّغه الرسولُ الخبر وأحضرهن {مَا خَطْبُكُنَّ} أي شأنكن وهو الأمرُ الذي يحِق لعُظْمه أن يخاطِبَ المرءُ فيه صاحبه {إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ} وخادعتُنّه {عَن نَّفْسِهِ} ورغبتُنّه في إطاعة مولاته هل وجدتُن فيه شيئاً من سوء وريبة {قُلْنَ حَاشَ للَّهِ} تنزيهاً له وتعجباً من نزاهته وعفته {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء} بالغْن في نفي جنس السوءِ عنه بالتنكير وزيادة من {قالت امرأة العزيز} وكانت حاضرةً في المجلس وقيل أقبلت النسوةُ عليها يقرِّرنها وقيل خافت أن يشهَدْن عليها بما قالت لهن وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم وَلَئِن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين فأقرت قائلة {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} أي ثبت واستقرَّ أو تبيّن وظهر بعد خفاء قاله الخليل وقيل هو مأخوذ من الحِصة وهي القطعة من الجملة أي تبين حصةُ الحقِّ من حصة الباطل كما تتبين حِصصُ الأراضي وغيرها وقيل بان وظهر من حصّ شعرَه إذا استأصله بحيث ظهرت بشرةُ رأسه وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ من حَصحَص البعيرُ مباركَه أي ألقاها في

يوسف الآية (52 53) الأرض للإناخة قال ... فحصحَص في صُمّ الصفا ثفَناتِه ... وناء بسلمى نوأةً ثم صمّما ... والمعنى أُقرَّ الحقُّ في مقرّه ووُضع في موضعه ولم ترِدْ بذلك مجردَ ظهور ما ظهر بشهادتهن من مطلق نزاهتِه عليه السلام فيما أحاط به علمُهن من غير تعرض لنزاهته في سائر المواطنِ خصوصاً فيما وقع فيه التشاجرُ بمحضر العزيز ولا بحثٍ عن حال نفسها وما صنعت في ذلك بل أرادت ظهورَ ما هو متحققٌ في نفس الأمر وثبوتِه من نزاهته عليه السلام في محل النزاعِ وخيانتِها فقالت {أَنَاْ راودته عَن نَّفْسِهِ} لا أنه راودني عن نفسي {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} أي في قوله حين افتريت عليه هي راودتني عن نفسي وأرادت بالآن زمانَ تكلّمها بهذا الكلام لا زمانَ شهادتِهن فتأمل أيها المنصفُ هل ترى فوق هذه المرتبةِ نزاهةً حيث لم تتمالك الخُصماء من الشهادة بها والفضلُ ما شهدت بهِ الخصماءُ وإنما تصدى عليه السلام لتمهيد هذه المقدمة قبل الخروج ليُظهر براءةَ ساحتِه مما قُذف به لا سيما عند العزيزِ قبل أن يحُلّ ما عقَده كما يعرب عنه قوله عليه السلام لما رجع إليه الرسولُ وأخبره بكلامهن

52

{ذلك} أي ذلك التثبيتُ المؤدي إلى ظهور حقيقة الحال {لِيَعْلَمَ} أي العزيز {أَنّى لَمْ أَخُنْهُ} في حرمته كما زعمه لا علماً مطلقاً فإن ذلك لا يستدعي تقديمَ التفتيشِ على الخروج من السجن بل قبلَ ما ذُكر من نقض ما أبرمه ولعله لمراعاة حقوقِ السيادةِ لأن المباشرَة للخروج من حبسه قبل ظهورِ بُطلانِ ما جعله سبباً له وإن كان ذلك بأمر الملك مما يوهم الافتياتَ على رأيه وأما أن يكون ذلك لئلا يُتمكن من تقبيح أمره عند الملك تمحلاً لإمضاء ما قضاه فلا يليقُ بشأنه عليه السَّلامُ في الوثوق بأمره والتوكل على ربه جل جلاله {بالغيب} أي بظهر الغيبِ وهو حالٌ من الفاعلِ أو المفعول أي لم أخُنه وأنا غائبٌ عنه أو وهو غائبٌ عنْهُ أو وهو غائبٌ عني أو ظرف أي بمكان الغيب وراء الأستاء والأبوابِ المغلقة وأيَاً ما كانَ فالمقصودُ بيانُ كمالِ نزاهتِه عن الخيانة وغايةِ اجتنابه عنها عند تعاضد أسبابِها {وَأَنَّ الله} أي وليعلم أنه تعالى {لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين} أي لا يُنفِذه ولا يسدّده بل يُبطله ويُزهِقه أو لا يهديهم في كيدهم إيقاعاً للفعل على الكيد مبالغة كما في قوله تعالى يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ أي يضاهئونهم في قولهم وفيه تعريضٌ بامرأته في خيانتها أمانتَه وبه في خيانته أمانةَ الله تعالى حين ساعدها على حبسه بعد ما رأوا آياتِ نزاهتِه عليهِ السَّلامُ ويجوزُ أنْ يكون ذلك لتأكيد أمانته وأنه لو كان خائناً لما هدى الله عز وجل أمره وأحسن عاقبتَه

53

{وما أبرئ نَفْسِى} أي لا أنزّهها عن السوء قاله عليه السلام هضماً لنفسه الكريمة البريئةِ عن كل سوء وربأً بمكانها عن التزكية والإعجاب بحالها عند ظهورِ كمالِ نزاهتِها على أسلوب قوله عليه السلام أنَا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر أو تحديثاً بنعمة الله عز وجل عليه وإبرازاً لسره المكنونِ في شأن أفعال العبادِ أي لا أنزهها عن السوء من حيث هي هي ولا أُسند هذه الفضيلةَ إليها بمقتضى طبعِها من غير توفيقٍ من الله عز وعلا {أَنَّ النفس} البشريةَ التي من جملتها نفسي في حد ذاتِها {لامَّارَةٌ بالسوء} مائلةٌ إلى الشهوات

مستعمِلةٌ للقوى والآلاتِ في تحصيلها بل إنما ذلك بتوفيق الله تعالَى وعصمته ورحمتِه كما يفيده قوله {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المهالك ومن جملتها نفسي أو هي أمارةٌ بالسوء في كل وقت إلا وقتَ رحمةِ ربي وعصمتِه لها وقيل الاستثناءُ منقطعٌ أي لكن رحمة ربي هي التي تصرِف عنها السوء كما في قوله تعالى وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً {إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} عظيمُ المغفرة لما يعتري النفوسَ بموجب طباعِها ومبالِغٌ في الرحمة لها بعصمتها من الجريان بمقتضى ذلك وإيثارُ الإظهار في مقام الإضمارِ مع التعرض لعنوان الربوبيةِ لتربية مبادى المغفرةِ والرحمة وقيل إلى هنا من كلام امرأةِ العزيز والمعنى ذلك الذي قلتُ ليعلم يوسفُ عليه السلام أني لم أخُنه ولم أكذِب عليه في حال الغَيبة وجئت بما هو الحقُّ الواقعُ وما أبرىء نفسي مع ذلك من الخيانة حيث قلت في حقه ما قلت وفعلتُ به ما فعلت إن كل نفس لأمارةٌ بالسوء إلا من رحم ربي أي إلا نفساً رحِمها الله بالعصمة كنفس يوسفَ إن ربي غفورٌ لمن استغفر لذنبه واعترف به رحيمٌ له فعلى هذا يكون تأنّيه عليه السلام في الخروج من السجن لعدم رضاه عليه السلام بملاقاة الملكِ وأمرُه بَيْنَ بينَ ففعل ما فعل حتى يتبين نزاهتُه وأنه إنما سجن بظلم عظيم مع ما له من الفضل ونباهةِ الشأن ليتلقاه الملك بما يليقُ بهِ من الإعظام والإجلال وقد وقع

54

{وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ} أجعله خالصاً {لِنَفْسِى} وخاصاً بي {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} أي فأتَوا به فحُذف للإيذان بسرعة الإتيانِ به فكأنه لم يكن بين الأمرِ بإحضاره والخطابِ معه زمانٌ أصلاً والضميرُ المستكنُّ في كلّمه ليوسف والبارزُ للملك أي فلما كلّمه يوسفُ إثرَ ما أتاه فاستنطقه وشاهد منه ما شاهد {قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ} ذو مكانةٍ ومنزلةٍ رفيعة {أَمِينٌ} مؤتمنٌ على كل شيء واليومَ ليس بمعيار لمدة المكانةِ والأمانةِ بل هو آنُ التكلم والمرادُ تحديد مبدئهما احترازاً عن احتمال كونِهما بعد حين روي أنه عليه السلام لما جاءه الرسولُ خرج من السجن ودعا لأهله واغتسل ولبِس ثياباً جُدُداً فلما دخل على الملك قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتِك من شرّه وشرِّ غيره ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال ما هذا اللسانُ قال لسانُ آبائي وكان الملك يعرف سبعين لساناً فكلّمه بها فأجابه بجميعها فتعجّب منه فقال أحب أن أسمعَ منك رؤياي فحكاها ونعت له البقراتِ والسنابلَ وأماكنَها على ما رآها فأجلسه على السرير وفوّض إليه أمرَه وقيل توفي قطفيرُ في تلك الليالي فنصّبه منصِبه وزوجه راعيل فوجدها عذراءَ وولدت له إفراييم وميشا ولعل ذلك إنما كان بعد تعيينِه عليه السلام لِما عُيّن له من أمر الخزائين كما يعرب عنه قوله عز وجل

55

{قَالَ اجعلنى على خَزَائِنِ الأرض} أي أرضِ مصرَ أي ولِّني أمرَها من الإيراد والصرف {إِنّى حَفِيظٌ} لها ممن لا يستحقها {عَلِيمٌ} بوجوه التصرّفِ فيها وفيه دليلٌ على جواز طلبِ الولايةِ إذا كان الطالبُ ممن يقدر على إقامة العدلِ وإجراءِ أحكامِ الشريعة وإن كان من يد الجائرِ أو الكافر وعن مجاهد أنه أسلم الملك على يده

يوسف الآية (56 57 58) عليه السلام ولعل إيثارَه عليه السلام لتلك الولايةِ خاصة إنما كان للقيام بما هو أهمُّ أمورِ السلطنة إذ ذاك من تدبير أمرِ السنين حسبما فُصل في التأويل لكونه من فروع تلك الولاية لمجرد عموم الفائدة وجموم العائدة كما قيل وإنما لم يُذكر إجابةُ الملكِ إلى ما سأله عليه السلام من جعله على خزائن الأرضِ إيذاناً بأن ذلك أمرٌ لا مردَّ له غنيٌّ عن التصريح به لا سيما بعد تقديمِ ما يندرج تحته من أحكام السلطنةِ بحذافيرها من قوله إنك اليوم لدينا مكين أمين وللتنبيه على أن كلَّ ذلك من الله عز ووجل وإنما الملكُ آلة في ذلك قيل

56

{وكذلك} أي مثلَ ذلك التمكينِ البليغ {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} أي جعلنا له مكاناً {فِى الأرض} أي أرضِ مصرَ روي أنها كانت أربعين فرسخاً في أربعين وفي التعبير عن الجعل المذكورِ بالتمكين في الأرض مسنداً إلى ضميره عزّ سلطانُه من تشريفه عليه السَّلامُ والمبالغةِ في كمال ولايتِه والإشارةِ إلى حصول ذلك من أوَّلِ الأمرِ لا أنه حصل بعد السؤال ما لا يخفى {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا} ينزل من بلادها {حَيْثُ يَشَاء} ويتخذه مباءةً وهو عبارةٌ عن كمال قدرته على التصرف فيها ودخولها تحت ملكتِه وسلطانه فكأنها منزلُه يتصرف فيها كما يتصرف الرجل في منزله وقرأ ابن كثير بالنون روي أن الملك توّجهُ وختمه بخاتمه وردّاه بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت فقالَ عليهِ السلامُ أمَّا السريرُ فأشدُّ به مُلكك وأما الخاتمُ فأدبّر به أمرك وأما التاجُ فليس من لباسي ولا لباس آبائي فقال قد وضعتُه إجلالاً لك وإقراراً بفضلك فجلس على السرير ودانت له الملوكُ وفوّض إليه الملكُ أمرَه وأقام العدلَ بمصر وأحبتْه الرجالُ والنساء وباع من أهل مصر في سِني القحطِ الطعامَ في السنة الأولى بالدنانير والدراهم وفي الثانية بالحِليِّ والجواهر وفي الثالثة بالدوابّ ثم بالضِّياع والعَقار ثم برقابهم حتى استرقّهم جميعاً فقالوا ما رأينا كاليوم ملكاً أجلَّ وأعظمَ منه ثم أعتقهم وردّ إليهم أموالَهم وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثرَ من حمل بعير تقسيطاً بين الناس {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا} بعطائنا في الدنيا من المُلك والغِنى وغيرهما من النعم {مَّن نَّشَاء} بمقتضى الحكمةِ الداعية إلى المشيئة {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} بل نوفّيه بكماله وفيه إشعارٌ بأن مدارَ المشيئةِ المذكورةِ إحسانُ مَنْ تصيبه الرحمة المرقومة وأنها أجرٌ له ولدفع توهم انحصارِ ثمرات الإحسانِ فيما ذكر من الأجر العاجل قيل على سبيل التوكيد

57

{وَلأَجْرُ الاخرة} أي أجرهم في الآخرة فالإضافة للملابسة وهو النعيمُ المقيم الذي لا نفاد له {خَيْرٌ} لهم أي للمحسنين المذكورين وإنما وضع موضعَه الموصولُ فقيل {للذين آمنوا وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} تنبيهاً على أن المراد بالإحسان إنما هو الإيمانُ والثباتُ على التقوى المستفادُ من جمع صيغتي الماضي والمستقبل

58

{وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ}

ممتارين لما أصاب أرضَ كنعانَ وبلادَ الشام ما أصاب أرضَ مصر وقد كان أرسلهم يعقوبُ عليه السلام جميعاً غيرَ بنيامين {فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ} أي على يوسف وهو في مجلس ولايته {فَعَرَفَهُمْ} لقوة فهمِه وعدم مباينةِ أحوالِهم السابقة لحالهم يومئذ لمفارقته إياهم وهم رجال وتشابه هيآتهم وزِيِّهم في الحالين ولكون هِمَّته معقودةً بهم وبمعرفة أحوالهم لا سيما في زمن القحط وعن الحسن ما عرفهم حتى تعرّفوا له {وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي والحالُ أنهم منكرون له لطول العهدِ وتبايُنِ ما بين حاليه عليه السلام في نفسه ومنزلته وزِيِّه ولاعتقادهم أنه هلك وحيث كان إنكارُهم له أمراً مستمراً في حالتي المحضَر والمَغيب أُخبر عنه بالجملة الاسميةِ بخلاف عرفانِه عليه السلام إياهم

59

{وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} أي أصلحهم بعدّتهم من الزاد وما يحتاج إليه المسافر وأوْقَر ركائبَهم بما جاءوا له من المِيرة وقرىء بكسر الجيم {قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ} لم يقل بأخيكم مبالغةً في إظهار عدم معرفتِه لهم ولعلَّه عليه السَّلام إنَّما قاله لِما قيلَ من أنَّهم سألوه عليه السلام حملا زائداً على المعتاد لبنيامين فأعطاهم ذلك وشرطهم أن يأتوا به لا لما قيلَ من أنه لما رأَوْه وكلموه بالعبرية قال لهم من أنتم فإني أنكركم فقالوا له نحن قومٌ من أهل الشام رعاةٌ أصابنا الجَهدُ فجئنا نمتار فقال لهم لعلكم جئتم عُيوناً فقالوا معاذ الله نحن أخوة من أبي واحد وهو شيخٌ كبيرٌ صدّيق نبيٌّ من الأنبياء اسمُه يعقوبُ قال كم أنتم قالوا كنا اثني عشر فهلك منا واحدٌ فقال كم أنتم قالوا عشرة قال فأين الحادي عشر قالوا هو عند أبيه يتسلّى به عن الهالك قال فمن يشهدُ لكم أنكم لستم عيوناً وأن ما تقولون حقٌ قالوا نحن ببلاد لا يعرِفنا فيها أحد فيشهدَ لنا قال فدعُوا بعضَكم عندي رهينةً وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو يحمل رسالةً من أبيكم حتى أصدِّقَكم فاقترعوا فأصاب القرعةُ شمعونَ فخلّفوه عنده إذ لا يساعده ورودُ الأمر بالإتيان به عند التجهيزِ ولا الحثُّ عليه بإيفاء الكيل ولا الإحسانُ في الإنزال ولا الاقتصارُ على منع الكيل على تقدير عمد الإتيان به ولا جعلُ بضاعتهم في رحالهم لأجل رجوعِهم ولا عِدَتُهم بالإتيان به بطريق المراودة ولا تعليلُهم عند أبيهم إرسالَ أخيهم بمنع الكيل من غير ذكر الرسالةِ على أن استبقاء شمعونَ لو وقع لكان ذلك طامةً ينسى عندها كل قيل وقال {أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل} أُتمُّه لكم وإيثارُ صيغة الاستقبالِ مع كون هذا الكلامِ بعد التجهيز للدِلالة عَلى أنَّ ذلكَ عادةٌ له مستمرَّة {وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} جملة حالية أي ألا ترون أني أوفي الكيلَ لكم إيفاءً مستمراً والحالُ أني في غاية الإحسانِ في إنزالكم وضيافتِكم وقد كان الأمرَ كذلك وتخصيصُ الرؤية بالإيفاء لوقوع الخطابِ في أثنائه وأما الإحسانُ في الإنزال فقد كان مستمراً فيما سبق ولحِق ولذلك أُخبر عنه بالجملة الاسميةِ ولم يقله عليه السلام بطريق الامتنانِ بل لحثّهم على تحقيق ما أمرهم به والاقتصارُ في الكيل على ذكر الإيفاءِ لأن معاملته عليه السلام معهم في ذلك كمعاملته مع غيرهم في مراعات مواجبِ العدل وأما الضيافةُ فليس للناس فيها حقٌّ فخصهم في ذلك بما شاء

يوسف الآية (60 61 62 63)

60

{فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى} من بعدُ فضلاً عن إيفائه {وَلاَ تَقْرَبُونِ} بدخول بلادي فضلاً عن الإحسان في الإنزال والضيافةِ وهو إما نهيٌ أو نفيٌ معطوفٌ على محل الجزاءِ وفيه دليلٌ على أنهم كانوا على نية الإمتيار مرة بعد أخرى وأن ذلك كان معلوماً له عليه السلام

61

{قَالُواْ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ} أي سنخادعه عنه ونحتال في انتزاعه من يده ونجتهد في ذلك وفيه تنبيهٌ على عزة المطلبِ وصعوبةِ مناله {وَإِنَّا لفاعلون} ذلك غيرَ مفرِّطين فيه ولا متوانين أو لقادرون عليه لا نتعانى به

62

{وَقَالَ} يوسف {لِفِتْيَانِهِ} غلمانه الكيالين جمع فتى وقرىء لفِتيته وهي جمعُ قلةٍ له {اجعلوا بضاعتهم فِى رِحَالِهِمْ} فإنه وكّل بكل رحل رجلا يعبى فيه بضاعتَهم التي شرَوا بها الطعامَ وكانت نعالاً وأدَماً وإنما فعله عليه السلام تفضّلاً عليهم وخوفاً من أن لا يكون عند أبيه ما يرجِعون به مرة أخرى وكل ذلك لتحقيق ما يتوخاه من رجوعهم بأخيه كما يُؤذن به قوله {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} أي يعرِفون حقَّ ردِّها والتكرم في ذلك أو لكي يعرِفوها وهو ظاهرُ التعلق بقوله {إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ} فإن معرفتَهم لها مقيّدةٌ بالرجوع وتفريغِ الأوعية قطعاً وأما معرفةُ حقِّ التكرم في ردها فهي وإن كانت في ذاتها غيرَ مقيدةٍ بذلك لكن لما كان ابتداؤها حينئذ قُيّدت به {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} حسبما أمرتهم به فإن التفضلَ عليهم بإعطاء البدلين ولا سيما عند إعوازِ البِضاعةِ من أَقْوى الدَّواعي إلى الرجوع وما قيل إنما فعله عليه السلام لما لم يرَ من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمناً فكلامٌ حقٌّ في نفسه ولكن يأباه التعليلُ المذكور وأما أن عِلّية الجعل المذكورِ للرجوع من حيث أن ديانتَهم تحمِلُهم على رد البضاعةِ لأنهم لا يستحلون إمساكهم فمدارُه حُسبانُهم أنها بقِيت في رحالهم نسياناً وظاهرٌ أن ذلك مما لا يخطُر ببال أحد أصلاً فإن هيئة التعبيةِ تنادي بأن ذلك بطريق التفضّل ألا يرى أنهم كيف جزموا بذلك حين رأوها وجعلوا ذلك دليلاً على التفضلات السابقة كما ستيحط به خبراً

63

{فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ} قبل أن يشتغلوا بفتح المتاع {يا أبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل} أي فيما بعد وفيه ما لا يَخفْى من الدِّلالةِ على أنَّ كون الامتيار مرةً بعد مرة معهوداً فيما بينهم وبينه عليه السلام {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا} بنيامين إلى مصر وفيه إيذانٌ بأن مدارَ المنع عدمُ كونِه معهم {نَكْتَلْ} بسببه من الطعام ما نشاء وقرأ حمزة

يوسف الآية (64 65) والكسائي بالياءِ على إسناده إلى الأخ لكونه سبباً للاكتيال أو يكتلْ لنفسه مع اكتيالنا {وَإِنَّا لَهُ لحافظون} من أن يصيبَه مكروهٌ

64

{قَالَ هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ} يوسف {مِن قَبْلُ} وقد قلتم في حقه أيضاً ما قلتم ثم فعلتم به ما فعلتم فلا أثق بكم ولا بحفظكم وإنما أفوّض الأمر إلى الله {فالله خَيْرٌ حافظا} وقرىء حِفظاً وانتصابُهما على التمييز والحالية على القراءة الأولى توهم تقيّد الخيريةِ بتلك الحالة {وَهُوَ أرحم الراحمين} فأرجو أن يرحمني بحفظه ولا يجمعَ عليّ مصيبتين وهذا كما ترى ميلٌ منه عليه السلام إلى الإيذان والإرسالِ لما رأى فيه من المصلحة

65

{وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم وَجَدُواْ بضاعتهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} أي تفضّلاً وقد علموا ذلك بما مر من دَلالة الحال وقرىء بنقل حركةِ الدالِ المدغمة إلى الراء كما قيل في قيل وكيل {وقالوا} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنه قيل ماذا قالوا حينئذ فقيل قالوا لأبيهم ولعله كان حاضراً عند الفتح {يا أبانا مَا نَبْغِى} إذا فُسّر البغيُ بالطلب فما إما استفهاميةٌ منصوبةٌ به فالمعنى ماذا نبتغي وراء ما وصفنا لك من إحسان الملِك إلينا وكرمِه الداعي إلى امتثال أمرِه والمراجعةِ إليه في الحوايج وقد كانوا أخبروه بذلك وقالوا له إنا قدِمنا على خير رجلٍ أنزلنا وأكرَمنا كرامةً لو كان رجلاً من آل يعقوبَ ما أكرمْنا كرامتَه وقوله تعالى {هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا} جملةٌ مستأنفةٌ موضِّحةٌ لما دل عليه الإنكارُ من بلوغ اللطفِ غايتَه كأنهم قالوا كيف لا وهذه بضاعتُنا ردّها إلينا تفضلاً من حيث لا ندري بعدما من علينا من المنن العظامِ هل من مزيد على هذا فنطلبَه ولم يريدوا به الاكتفاءَ بذلك مطلقاً أو التقاعد عن طل بنظائره بل أرادوا الاكتفاءَ به في استيجاب الامتثالِ لأمره والالتجاءِ إليه في استجلاب المزيدِ كما أشرنا إليه وقوله تعالى رُدَّتْ إِلَيْنَا حالٌ من بضاعتُنا والعامل معنى الإشارةِ وإيثارُ صيغةِ البناءِ للمفعول للإيذان بكمال الإحسانِ الناشىءِ عن كمال الإخفاءِ المفهومِ من كمال غفلتهم عنه بحيث لم يشعُروا به ولا بفاعله وقوله عز وجل {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي نجلُب إليهم الطعامَ من عند الملكِ معطوفٍ على مقدَّر ينسحِبُ عليه ردُّ البضاعة أي فنستظهر بها ونمير أهلنا {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} من المكاره حسبما وعدْنا فما يصيبه من مكروه {وَنَزْدَادُ} أي بواسطته ولذلك وُسّط الإخبارُ بحفظه بين الأصلِ والمزيد {كَيْلَ بَعِيرٍ} أي وُسْقَ بعيرٍ زائداً على أوساق أباعِرِنا على قضية التقسيط {ذلك} أي ما يحمِله أباعرُنا {كَيْلٌ يَسِيرٌ} أي مكيلٌ قليلٌ لا يقوم بأَوْدنا فهو استئنافٌ وقع تعليلاً لما سبق كأنه قيل أيُّ حاجة إلى الازدياد فقيل ما قيل أو ذلك الكيلُ الزائد شيءٌ قليلٌ لا يضايقنا فيه الملِكُ أو سهلٌ عليه لا يتعاظمه أو أيُّ مطلب نطلُب من مهماتنا والجملةُ الواقعة بعده توضيح

يوسف آية (66) وبيانٌ لما يُشعِرُ به الإنكارُ من كونهم فائزين ببعض المطالبِ أو متمكنين من تحصيله فكأنهم قالوا بضاعتُنا حاضرةٌ فنستظهر بها ونمير أهلنا ونحفظ أخانا فما يصيبه شيءٌ من المكاره ونزداد بسببه غيرَ ما نكتاله لأنفسنا كيلَ بعير فأيَّ شيء نبتغي وراءَ هذه المباغي وقرىء ما تبغي على خطاب يعقوبَ عليه السلام أي أيَّ شيء تبغي وراء هذه المباغي المشتملةِ على سلامة أخينا وسَعة ذاتِ أيدينا أو وراءَ ما فعل بنا الملكُ من الإحسان داعياً إلى التوجّه إليه والجملةُ الاستئنافيةُ موضحةٌ لذلك أو أيَّ شيء تبغي شاهداً على صدقنا فيما وصفنا لك من إحسانه والجملةُ المذكورةُ عبارةٌ عن الشاهد المدلولِ عليه بفحوى الإنكارِ وإما نافية فالمعنى ما نبغي شيئاً غيرَ ما رأينا من إحسان الملِك في وجوب المراجعةِ إليه أو ما نبغي غيرَ هذه المباغي وقيل ما نطلب منك بضاعةً أخرى والجملة المستأنفةُ تعليلٌ له وأما إذا فُسِّر البغيُ بمجاوزة الحدِّ فما نافيةٌ فقط والمعنى ما نبغي في القول وما نتزيّد فيما وصفْنا لك من إحسان الملِك إلينا وكرمِه الموجبِ لما ذكر والجملةُ المستأنفةُ لبيان ما ادّعَوْا من عدم البغي وقوله ونمير أهلَنا عطفٌ على ما نبغي أي ما نبغي فيما ذكرنا من إحسانه وتحصيلِ أمثالِه من مَيْر أهلِنا وحفظِ أخينا فإن ذلك أهونُ شيء بواسطة إحسانِه وقد جوز أن يكون كلاماً مبتدأً أي جملةً اعتراضيةً تذييليةً على معنى وينبغي أن نميرَ أهلَنا وشبّه ذلك بقولك سعَيْتُ في حاجة فلان ويجب أن أسعى وأنت خبيرٌ بأن شأن الجملِ التذييلية أن تكون مؤكّدةً لمضمون الصدر ومقرِّرةً له كما في المثال المذكورِ وقولِك فلانٌ ينطِق بالحق فالحقُّ أبلجُ وأن قوله ونمير الخ وإن ساعدَنا في حمله على معنى ينبغي أن نمير أهلَنا بمعزلٍ من ذلك أو ما نبغي في الرأي وما نعدل عن الصواب فيما نشير به عليك من إرسال أخينا معنا والجملُ إلى آخرها تفصيلٌ وبيانٌ لعدم بغيهم وإصابةِ رأيهم أي بضاعتُنا حاضرةٌ نستظهر بها ونمير أهلها ونصنع كيت وذيت فتأمل

66

{قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ} بعدما عاينْتُ منكم ما عاينت {حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله} أي ما أتوثق به من جهةِ الله عزَّ وجل وإنما جعله مَوثِقاً منه تعالى لأن تأكيدَ العهود به مأذونٌ فيه من جهته تعالى فهو إذن منه عز وجل {لَتَأْتُنَّنِى بِهِ} جوابُ القسم إذ المعنى حتى تحلِفوا بالله لتأتنني به {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} أي إلا أن تُغلبوا فلا تطيقوا به أو إلا أن تهلِكوا وأصلُه من إحاطة العدوِّ فإن مَنْ أحاط به العدوُّ فقد هلك غالبا وهو استثناءٌ من أعمِّ الأحوالِ أو أعمِّ العلل على تأويل الكلامِ بالنفي الذي ينساق إليه أي لتأتُنني به ولا تمتنِعُنَّ منه في حالٍ من الأحوالِ أو لعلة من العِللِ إلا حالَ الإحاطة بكم أو لعلة الإحاطة بكم ونظيرُه قولُهم أقسمت عليك لَما فعلْتَ وإلا فعلتَ أي ما أريد منك إلا فعلَك وقد جُوز الأولُ بلا تأويل أيضاً أي لتأتُنني به على كل حالٍ إلا حال الإحاطة بكم وأنت تدري أنه حيث لم يكن الإتيانُ به من الأفعال الممتدة الشاملةِ للأحوال على سبيل المعيةِ كما في قولك لألزَمنّك إلا أن تُعطِيني حقي ولم يكن مراده عليه السلام مقارنته على سبيل البدلِ لما عدا الحالِ المستثناة كما إذا قلت صَلِّ إلا أن تكون

يوسف آية (67) محدِثاً بل مجرد تحققِه ووقوعِه من غير إخلال به كما في قولك لأحُجنَّ العامَ إلا أن أُحصر فإن مرادَك إنما هو الإخبار بعدم منعِ ما سوى حالِ الإحصار عن الحج إلا الإخبارُ بمقارنته لتلك الأحوالِ على سبيل البدلِ كما هو مرادُك في مثال الصلاة كأن اعتبارَ الأحوالِ معه من حيث عدمُ منعها منه فآل المعنى إلى التأويل المذكور {فَلَمَّا آتوه مَوْثِقَهُمْ} عهدهم من الله حسبما أراد يعقوبُ عليه السلام {قَالَ الله على مَا نَقُولُ} أي على ما قلنا في أثناء طلب الموْثِق وإيتائه من الجانبين وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ لاستحضار صورته المؤدي إلى تثبتهم ومحافظتِهم على تذكّره ومراقبتِه {وَكِيلٌ} مطلعٌ رقيبٌ يريد به عرضَ ثقتِه بالله تعالى وحثَّهم على مراعاة ميثاقهم

67

{وَقَالَ} ناصحاً لهم لمّا أزمع على إرسالهم جميعاً {يا بني لاَ تَدْخُلُواْ} مصر {مِن بَابٍ وَاحِدٍ} نهاهم عن ذلك حِذاراً من إصابة العين فإنهم كانوا ذوي جمالٍ وشارةٍ حسنة وقد كانوا تجمّلوا في هذه الكرّة أكثرَ مما في المرة الأولى وقد اشتهروا في مصر بالكرامة والزلفى لدى الملِك بخلاف النَّوْبة الأولى فكانوا مَئِنّةً لدنوّ كل ناظر وطُموح كل طامح وإصابة العين بتقدير العزيز الحكيم ليست مما يُنكر وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم إن العينَ حق وعنه صلى الله عليه وسلم إنَّ العينَ لتُدخِلُ الرجلَ القبرَ والجملَ القِدْرَ وقد كان صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسنين رضي الله عنهما بقوله أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطانٍ وهامّة ومن كل عين لامّة وكان صلى الله عليه وسلم يقول كان أبوكما يعوّذ بها إسماعيلَ وإسحاقَ عليهم السلام رواه البخاري في صحيحه وقد شهدت بذلك التجارِبُ ولمّا لم يكن عدمُ الدخول من باب واحد مستلزماً للدخول من أبواب متفرّقة وكان في دخولهم من بابين أو ثلاثةٍ بعضُ ما في الدخول من باب واحد من نوع اجتماعٍ مصحِّحٍ لوقوع المحذورِ قال {وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ} بياناً لما هو المرادُ بالنهي وإنما لم يكتف بهذا الأمر مع كونه مستلزما له إظهار لكمال العنايةِ وإيذاناً بأنه المرادُ بالأمر المذكور لا تحقيق لشيء آخر {وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ} أي لا أنفعكم ولا أدفع عنكم بتدبيري {مّنَ الله مِن شَىْء} أي شيئاً مما قضى عليكم فإن الحذرَ لا يمنع القدَر ولم يرد به عليه السلام إلغاءَ الحذر بالمرة كيفَ لا وقَدْ قالَ عز قائلاً وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة وقال خُذُواْ حِذْرَكُمْ بل أراد بيانَ أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المرادَ لا محالة بل هو تدبير في الجملة وإنما التأثيرُ وترتُّبُ المنفعةِ عليه من العزيز القدير وأن ذلك ليس بمدافعة للقدر بل هو استعانةٌ بالله تعالى وهربٌ منه إليه {إِنِ الحكم} مطلقاً {أَلاَ لِلَّهِ} لا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء {عَلَيْهِ} لا على أحد سواه {تَوَكَّلْتُ} في كل ما آتي وأذر وفيه دَلالةٌ على أن ترتيبَ الأسباب غيرُ مُخلَ بالتوكل {وَعَلَيْهِ} دون غيره {فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} جُمع بين الحرْفين في عطف الجملةِ على الجملة مع تقديم الصلة للاختصاص مقيَّداً بالواو وعطف فعلٍ غيرِه من تخصيص التوكل بالله عز وجل على فعل نفسه وبإلقاء سببية فعلِه لكونه نبياً لفعل غيره من المقتدين به فيدخل فيهم بنوه دخولاً أولياً وفيه ما لا يَخفْى من حسن هدايتِهم وإرشادِهم إلى التوكل فيما هم بصدده على الله عزَّ وجلَّ غير مغترين

يوسف آية (68) بما وصاهم به من التدبير

68

{وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} من الأبواب المتفرقة من البلد قيل كانت له أربعةُ أبوابٍ فدخلوا منها وإنما اكتُفى بذكره لاستلزامه الانتهاءَ عمَّا نُهوا عنْهُ {مَا كَانَ} ذلك الدخولُ {يُغْنِى} فيما سيأتي عند وقوعِ ما وقع {عَنْهُمْ} عن الداخلين لأن المقصودَ به استدفاعُ الضرر عنهم والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل لتحقيق المقارنةِ الواجبةِ بين جوابِ لمّا ومدخولِه فإن عدمَ الإغناءِ بالفعل إنما يتحقق عند نزولِ المحذورِ لا وقت الدخول وإنما المتحققُ حينئذ ما أفاده الجمعُ المذكور من عدم كونِ الدخولِ المذكورِ مغْنياً فيما سيأتي فتأمل {مِنَ الله} من جهته {مِن شَىْءٍ} أي شيئاً مما قضاه عليهم مع كونه مَظِنةً لذلك في بادي الرأي حيث وصّاهم به يعقوبُ عليه السلام وعمِلوا بموجبه واثقين بجدواه من فضل الله تعالى فليس المرادُ بيانَ سببية الدخولِ المذكور لعدم الإغناءِ كما في قوله تعالى فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً فإن مجيءَ النذير هناك سببٌ لزيادة نفورِهم بل بيانُ عدم سببيته للإغناء مع كونها متوقعةً في بادي الرأي كما في قولك حلف أن يُعطيَني حقي عند حلولِ الأجلِ فلما حل لم يُعطني شيئاً فإن المرادَ بيانُ عدمِ سببية حلولِ الأجلِ للإعطاء مع كونها مرجُوّةً بموجب الحلِف لا بيانُ سببيته لعدم الإعطاءِ فالمآلُ بيانُ عدمِ ترتبِ الغرضِ المقصود على التدبير المعهودِ مع كونه مرجوَّ الوجود لا بيانُ ترتبِ عدمِه عليه ويجوز أن يراد ذلك أيضاً بناءً على ما ذكره عليه السلام في تضاعيف وصيّتِه من أنه لا يُغني عنهم من الله شيئاً فكأنه قيل ولمّا فعلوا ما وصاهم به لم يُفِدْ ذلك شيئاً ووقع الأمر حسبما قال عليه السلام فلقُوا ما لقُوا فيكون من باب وقوعِ المتوقع فتأمل {إِلاَّ حَاجَةً} استثناءٌ منقطعٌ أي ولكنْ حاجةً وحرازةً كائنة {فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} أي أظهرها ووصّاهم بها دفعاً للخاطرة غيرَ معتقدٍ أن للتدبير تأثيراً في تغيير التقديرِ وقد جعل ضميرُ الفاعل في قضاها للدخول على معنى أن ذلك الدخولَ قضى حاجةً في نفس يعقوبَ وهي إرادتُه أن يكون دخولُهم من أبواب متفرقةٍ فالمعنى ما كان ذلك الدخولُ يغني عنهم من جهة الله تعالى شيئاً ولكن قضى حاجةً حاصلةً في نفس يعقوبَ بوقوعه حسب إرادتِه فالاستثناءُ منقطعٌ أيضاً وعلى التقديرين لم يكن للتدبير فائدةٌ سوى دفعِ الخاطرة وأما إصابةُ العين فإنما لم تقع لكونها غيرَ مقدّرةٍ عليهم لا لأنها اندفعت بذلك مع كونها مقتضية عليهم {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ} جليلٍ {لّمَا عَلَّمْنَاهُ} لتعليمنا إياه بالوحي ونصْبِ الأدلةِ حيث لم يعتقِدْ أن الحذرَ يدفع القدر وأن التدبير له حظٌ من التأثير حتى يتبينَ الخللُ في رأيه عند تخلفِ الأثر أو حيث بتّ القولَ بأنه لا يغني عنهم من الله شيئاً فكان الحالُ كما قال وفي تأكيد الجملةِ بإن واللامِ وتنكيرِ العلْم وتعليلِه بالتعليم المسند إلى ذاته سبحانه من الدِّلالةِ على جلالة شأنِ يعقوبَ عليه السلام وعلوِّ مرتبة علمِه وفخامته ما لا يخفى {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أسرارَ القدر ويزعمُون أنه يغني عنه الحذرُ وأما ما يقال مِنْ أنَّ المعنى لا يعلمون إيجابَ الحذر مع أنه لا يغني شيئاً من القدر فيأباه مقام بيان تخلّفِ المطلوب عن المبادي

يوسف آية (69 71)

69

{وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} بنيامينَ أي ضمه إليه في الطعام أو في المنزل أو فيهما رُويَ أنَّهم لَمَّا دخلُوا عليه قالوا له هذا أخونا قد جئناك به فقال لهم أحسنتم وستجدون ذلك عندي فأكرمهم ثم أضافهم وأجلسهم مثنى مثنى فبقي بنيامين وحيداً فبكى وقال لو كان أخي يوسفُ حياً لأجلسني معه فقال يوسف بقيَ أخوكم فريداً وأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله ثم أنزل كلَّ اثنين منهم بيتاً فقال هذا لا ثانيَ معه فيكون معي فبات يوسف يضمه إليه ويَشمُّ رائحته حتى أصبح وسأله عن ولده فقال لي عشرةُ بنينَ اشتققْتُ أسماءهم من اسم أخٍ لي هلك فقال له أتُحِب أن أكون أخاك بدلَ أخيك الهالِك قال من يجدُ أخاً مثلك ولكن لم يلدْك يعقوبُ ولا راحيل فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وتعرف إليه وعند ذلك {قَالَ إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ} يوسف {فَلاَ تَبْتَئِسْ} أي فلا تحزن {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بنا فيما مضى فإن الله تعالى قد أحسن إلينا وجمعنا بخير ولا تُعلِمْهم بما أعلمتك قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن وهْبٍ أنه لم يتعرّف إليه بل قال له أنا أخوك بدل أخيك المفقودِ ومعنى فلا تبتئس لا تحزنْ بما كنت تلقى منهم من الحسد والأذى فقد أمِنْتَهم وروي أنه قال له فأنا لا أفارقك قال قد علمتُ باغتمام والدي بي فإذا حبستك يزداد غمُّه ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسُبَك إلى ما لا يجمُل قال لا أبالي فافعل ما بدا لك قال أدُسّ صاعي في رَحْلك ثم أنادي عليك بأنك سرقتَه ليتهيّأ لي ردُّك بعد تسريحِك معهم قال افعلْ

70

{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية} أي المشرَبةَ قيل كانت مشربة جعلت صاعاً يكال به وقيل كانت تسقى بها الدوابُّ ويكال بها الحبوب وكانت من فضة وقيل من ذهب وقيل من فضة مموّهة بالذهب وقيل كانت إناءً مستطيلة تشبه المكّوك الفارسيَّ الذي يلتقي طرفاه يستعمله الأعاجم وقيل كانت مرصّعة بالجواهر {فِى رَحْلِ أَخِيهِ} بنيامين وقرىء وجعل على حذف جواب لما تقديره أمهلهم حتى انطلقوا {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ} نادى منادٍ {أَيَّتُهَا العير} وهي الإبلُ التي عليها الأحمالُ لأنها تعير أي تذهب وتجيءُ وقيل هي قافلة الحمير ثم كثُر حتى قيل لكل قافلة عِيرٌ كأنها جمع عَيْر وأصلها فعل مثل سَقْف وسُقُف ففعل به ما فُعل ببِيض وغِيد والمراد أصحابُها كما في قولِه عليه السلام يا خيلَ الله اركبي روي أنهم ارتحلوا وأمهلهم يوسفُ حتى انطلقوا منزلاً وقيل خرجوا من العمارة ثم أمر بهم فأُدرِكوا ونودوا {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} هذا الخطابُ إن كان يأمر يوسف فلعله أريد بالسرقة أخذُهم له من أبيه ودخول بنيامين فيه بطريق التغليب وإلا فهو من قبل المؤذّن بناء على زعمه والأولُ هو الأظهرُ الأوفق للسياق وقرأ اليماني سارقون بلالام

71

{قَالُواْ} أي الإخوة {وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ}

جملةٌ حالية من ضمير قالوا جيء بها للدِّلالةِ على انزعاجهم مما سمعوه لمباينته لحالهم {مَّاذَا تَفْقِدُونَ} أي تعدَمون تقول فقَدت الشيء إذا عدِمته بأن ضل عنك لا بفعلك والمآل ماذا أضاع عنكم وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة وقرىء تُفقِدون من أفقدته إذا وجدته فقيداً وعلى التقديرين فالعدولُ عما يقتضيه الظاهرُ من قولهم ماذا سُرق منكم لبيان كمال نزاهتِهم بإظهار أنه لم يُسْرق منهم شيء فضلاً أن يكونوا هم السارقين له وإنما الممكنُ أن يضيع منهم شيء فيسألونهم أنه ماذا وفيه إرشادٌ لهم إلى مراعاة حسنِ الأدب والاحتراز عن المجازفة ونسبة البُرَآء إلى ما لا خيرَ فيه لا سيما بطريق التوكيد فلذلك غيروا كلامهم حيث

72

{قَالُواْ} فى جوابهم {نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك} ولم يقولوا سرقتموه أو سرق وقريء صاع وصوع وصوع بفتح الصاد وضمها وبإهمال العين وإعجامها من الصياغة ثم قالوا تربية لما تلقوه من قبلهم وإراءة لاعتقاد أنه إنما بقى فى رحلهم اتفاقا {وَلِمَن جَآءَ بِهِ} من عند نفسه مظهراً له قبل التفتيش {حِمْلُ بَعِيرٍ} من الطعام جعلا له لا على نية تحقيق الوعد لجزمهم بامتناع وجود الشرط وعزمهم على ما لا يَخفْى من أخذ من وجد فى رحله {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} كفيل أؤديه إليه وهو قول المؤذن

73

{قَالُواْ تالله} الجمهور على أن التاء بدل من الواو ولذلك لاَ تدخلُ إلاَّ على الجلالة المعظمة أو الرب المضاف إلى الكعبة أو الرحمن فى قول ضعيف ولو قلت تالرحيم لم يجز وقيل من الباء وقيل أصل بنفسها وأيا ما كان ففيه تعجب {لَقَدْ عَلِمْتُمْ} علماً جازماً مطابقاً للواقع {مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض} أى لنسرق فإنه من أعظم أنواع الإفساد أو لنفسد فيها أى إفساد كان مما عز أو هان فضلا عما نسبتمونا إليه من السرقة ونفي المجيء للإفساد وإن لم يكن مستلزماً لما هو مقتضى المقام من نفى الإفساد مطلقا لكنهم جعلوا المجيء الذى يترتب عليه ذلك ولو بطريق الاتفاق مجيئاً لغرض الإفساد مفعولا لأجله ادعاء إظهار لكمال قبحه عندهم وتربية لاستحالة صدوره عنهم كما قيل في قوله تعالى ما يبدل القول لدى وَمَا أَنَاْ بظلاَّمٍ لّلْعَبِيدِ الدال بظاهره على نفي المبالغةِ في الظلم دون نفى الظلم فى الجملة الذى هو مقتضى المقام من أن المعنى إذا عذبت من لا يستحق التعذيب كنت ظلاماً مفرطاً فى الظلم فكأنهم قالوا إن صدر عنا إفساد كان مجيئنا لذلك مريدين به تقبيح حاله وإظهار كمال نزاهتهم عنه يعنون أنه قد شاع بينكم فى كرتى مجيئنا ما نحن عليه وقد كانوا على غايةِ ما يكونُ من الديانة والصيانة فيما يأتون ويذرون حتى روى أنهم دخلوا مصر وأفواه رواحلهم مكمومة لئلا تتناول زرعا أو طعاماً لأحد وكانوا مثابرين على فنون الطاعات وعلمتم بذلك أنه لا يصدر عنا إفساد {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} أى ما كنا نوصف بالسرقة قط وإنما حكموا بعلمهم ذلك لأن العلم بأحوالهم الشاهدة يستلزم العلم بأحوالهم الغائبة وإنما لم يكتفوا بنفى الأمرين المذكورين بل استشهدوا بعلمهم بذلك إلزاماً للحجة عليهم وتحقيقاً للتعجب المفهوم من تاء القسم

يوسف الآية (74 76)

74

{قَالُواْ} أي أصحاب يوسف عليه السلام {فَمَا جَزَاؤُهُ} الضمير للصُّواع على حذفِ المضافِ أي فما جزاء سرقتِه عندكم وفي شريعتكم {إِن كُنتُمْ كاذبين} لا في دعوى البراءةِ عن السرقة فإنهم صادقون فيها بل فيما يستلزمه ذلك من نفي كون الصواعِ فيهم كما يؤذِن به قوله عز وجل

75

{قالوا جزاؤه مَن وُجِدَ} أي أخْذُ مَنْ وُجد الصواع {فِى رَحْلِهِ} حيث ذكر بعنوان الوُجدان في الرحل دون عنوان السرقةِ وإن كان ذلك مستلزِماً لها في اعتقادهم المبنيِّ على قواعد العادة ولذلك أجابوا بما أجابوا فإن الأخذَ والاسترقاقَ سنةً إنما هو جزاءُ السارقِ دون من وُجد في يده مالُ غيره كيفما كان فتأمل واحمِلْ كلام كل فريقٍ على ما لا يزاحِم رأيَه فإنه أقربُ إلى معنى الكيد وأبعدُ من الافتراء وقوله تعالى {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} تقريرٌ لذلك الحكمِ أي فأخذُه جزاؤه كقولك حقُّ الضيف أن يكرم فهو حقه ويجوز أن يكون جزاؤه مبتدأً والجملة الشرطية كما هي خبرُه على إقامة الظاهر مُقامَ المضمر والأصل جزاؤُه من وجد في رحله فهو هو على أن الأول لمن والثاني للظاهر الذي وضع موضعه {كذلك} أي مثلَ ذلك الجزاءِ الأوفى {نَجْزِى الظالمين} بالسرقة تأكيدٌ للحكم المذكور غِبَّ تأكيدٍ وبيانٌ لقبح السرقة ولقد فعلوا ذلك ثقةً بكمال براءتِهم عنها وهم عما فُعل بهم غافلون

76

{فَبَدَأَ} يوسف بعد ما راجعوا إليه للتفتيش {بِأَوْعِيَتِهِمْ} بأوعية الإخوةِ العشرةِ أي بتفتيشها قَبْلَ تفتيش {وِعَاء أَخِيهِ} بنيامين لنفي التهمة روي أنه لما بلغت النوبةُ إلى وعائه قال ما أظن هذا أخذ شيئاً فقالوا والله لا نترُكه حتى تنظرَ في رحله فإنه أطيبُ لنفسك وأنفسنا {ثُمَّ استخرجها} أي السقاية أو الصُّواعَ فإنه يذكر ويؤنث {مِن وِعَاء أَخِيهِ} لم يقل منه على رجع الضميرِ إلى الوعاء أو من وعائه على رجعه إلى أخيه قصداً إلى زيادة كشفٍ وبيان وقرىء بضم الواو وبقلبها همزة كما في أشاح في وشاح {كذلك} نُصب على المصدرية والكافُ مقحمةٌ الدلالة على فخامة المشارِ إليه وكذا ما في ذلك من معنى البُعد أي مثلَ ذلك الكيدِ العجيبِ وهو عبارةٌ عن إرشاد الإخوةِ إلى الإفتاء المذكورِ بإجرائه على ألسنتهم وبحملهم عليه بواسطة المستفتين مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ فمعنى قوله عز وجل {كِدْنَا لِيُوسُفَ} صنعنا له ودبّرنا لأجل تحصيل غرضِه من المقدمات التي رتبها من دس الصُواعِ وما يتلوه فاللام ليست كما في قوله فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا فإنها داخلة على المتضرِّر على ما هو الاستعمالُ الشائع وقولُه تعالى {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملك} استئنافٌ وتعليلٌ لذلك الكيدِ وصُنعه لا تفسيرٌ وبيانٌ له كما قيل كأنَّه قيل لماذا فعل ذلك فقيل لأنه لم يكن ليأخذ أخاه بما فعله في دين الملِكِ في أمر السارق أي في سلطانه قاله ابن عباس

أو في حكمه وقضائِه قاله قتادة إلا به لأن جزاءَ السارقِ في دينه إنما كان ضربَه وتغريمَه ضعفَ ما أخذ دون الاسترقاق والاستعباد كما هو شريعةُ يعقوبَ عليه السلام فلم يكن يتمكن بما صنعه من أخذ أخيه بالسرقة التي نسبها إليه في حالٍ من الأحوالِ {إلا أن يشاء الله} أي إلا حالَ مشيئتِه التي هي عبارةٌ عن إرادته لذلك الكيدِ أو إلا حالَ مشيئتِه للأخذ بذلك الوجهِ ويجوز أن يكون الكيدُ عبارةً عنه وعن مباديه المؤدِّية إليه جميعاً من إرشاد يوسفَ وقومِه إلى ما صدرَ عنهُم من الأفعال والأقوالِ حسبما شرح مرتباً لكن لا على أن يكون القصرُ المستفادُ من تقديمِ المجرورِ مأخوذاً بالنسبة إلى غيره مطلقاً على معنى مثلَ ذلك الكيدِ كدنا لا كيداً آخرَ إذ لا معنى لتعليله بعجز يوسفَ عن أخذ أخيه في دين الملك في شأن السارق قطعا إذا لا علاقة بين مطلقِ الكيد ودينِ الملك في أمر السارق أصلا بل بالنسبة إلى بعضه على معنى مثلَ ذلك الكيدِ البالغ إلى هذا الحد كدنا له ولم نكتف ببعض من ذلك لأنه لم يكن يأخذ أخاه في دين الملك به إلا حالَ مشيئتِنا له بإيجاد ما يجري مجرى الجزاء الصّوري من العلة التامة وهو إرشادُ إخوتِه إلى الإفتاء المذكور وعلى هذا ينبغي أن يحمل القصرُ في تفسير من فسر قوله تعالى كِدْنَا لِيُوسُفَ بقوله علّمناه إياه وأوحينا به إليه أي مثلَ ذلك التعليم المستتبعِ لما شرح مرتباً علّمناه دون بعض من ذلك فقط الخ وعلى كل حال فالإستثناء من أعم الأحوال كما أشير إليه ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ أعم العلل والأسبابِ أي لم يكن يأخذ أخاه لعلة من العلل أو بسببٍ من الأسبابِ إلا لعلة مشيئتِه تعالى أو إلا بسبب مشيئتِه تعالى وأيا ما كان فهو متصلٌ لأن أخذَ السارق إذا كان ممن يرى ذلك ويعتقده ديناً لا سيما عند رضاه وإفتائِه به ليس مخالفاً لدين الملِك وقد قيل معنى الإستثناء إلا أن يشاء الله أن يجعل ذلك الحكمَ حكمَ الملكِ وأنت تدري أن المرادَ بدينه ما عليه حينئذ فتغييرُه مُخِلٌّ بالاتصال وإرادةُ مطلقِ ما يتدين به أعمّ منه ومما يحدث تفضي إلى كون الاستثناءِ من قبيل التطبيقِ بالمحال إذ المقصودُ بيانُ عجزِ يوسفَ عليه السلام عن أخذ أخيه حينئذ ولم تتعلق المشيئةُ بالجعل المذكور إذا ذاك وإرادةُ عجزِه مطلقاً تؤدي إلى خلاف المراد فإن استثناءَ حال المشيئةِ المذكورة من أحوال عجزه عليه السلام مما يُشعر بعدم الحاجةِ إلى الكيد المذكور فتدبر وقد جُوّز الانقطَاعُ أي لكنْ أخذُه بمشيئة الله تعالى وإذنِه في دين غيرِ دينِ الملك {نَرْفَعُ درجات} أي رتباً كثيرةً عاليةً من العلم وانتصابُها على المصدرية أو الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات والمفعول قوله تعالى {مَّن نَّشَاء} أي نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحةُ كما رفعنا يوسف وإيثارُ صيغةَ الاستقبالِ للإشعارِ بأن ذلك سنةٌ مستمرةٌ غيرُ مختصةٍ بهذه المادة والجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب {وفوقَ كلَّ ذي علمٍ} من أولئك المرفوعين {عليم} لا ينالون شأوه واعمل أنه إن جعل الكيدُ عبارةً عن المعنيَيْن الأولين فالمرادُ برفع يوسفَ عليه السلام ما اعتُبر فيه بالشرطية أو الشطرية من إرشاده عليه السلام إلى دس الصّواع في رحل أخيه وما يتفرَّع عليه من المقدمات المرتبة لاستبقاء أخيه مما يتم من قِبَله والمعنى أرشدنا إخوته إلى الإفتاء المذكور لأنه لم يكن متمكناً من أخذ أخيه بدونه أو أرشدنا كلاًّ منهم ومِنْ يوسف وأصحابه إلى ما صدر عنهم ولم نكتف بما تم من قِبل يوسف فقط لأنه لم يكن متمكناً من أخذ أخيه بذلك فقوله تعالى نرفع درجات إلى

يوسف الآية (77) قوله تعالى عَلِيمٌ توضيحٌ لذلك على معنى أن الرفع المذكورَ لا يوجب تمامَ مرامِه إذ ليس ذلك بحيث لاَ يعزُب عنْ علمِه شيءٌ بل إنما نرفع كلَّ من نرفع حسب استعدادِه وفوق كلِّ واحدٍ منهم عليمٌ لا يقادر قدر علمُه ولا يكتنه كنهُه يرفع كلا منهم إلى ما يليقُ به من معارج العلمِ ومدارجِه وقد رَفع يوسفَ إلى ما يليقُ به من الدرجات العاليةِ وعلم أن ما حواه دائرةُ علمِه لا يفي بمرامه فأرشد إخوتَه إلى الإفتاء المذكورِ فكان ما كان وكأنه عليهِ السلامُ لم يكُنْ على يقين من صدور الإفتاء المذكورِ عن إخوته وإن كان على طمع منه فإن ذلك إلى الله عزَّ وجلَّ وجوداً وعلماً والتعرضُ لوصف العلم لتعيين جهةِ الفوقية وفي صيغة المبالغةِ مع التنكير والالتفاتِ إلى الغَيبة من الدلالة على فخامة شأنِه عز وعلا وجلالةِ مقدارِ علمِه المحيطِ ما لا يخفى وإما إن جُعل عبارةً عن التعليم المستتبعِ للإفتاء المذكور فالرفعُ عبارةٌ عن ذلك التعليم والإفتاءِ وإن لم يكن داخلاً تحت قدرتِه عليه السلام لكنه كان داخلاً تحت عمله بواسطة الوحي والتعليم والمعنى مثلَ ذلك التعليم البالغِ إلى هذا الحد علّمناه ولم نقتصر على تعليمِ ما عدا الإفتاءَ الذي سيصدر عن إخوته إذ لم يكن متمكناً من أخذ أخيه إلا بذلك فقوله نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء توضيحٌ لقوله كدنا وبيانٌ لأن ذلك من باب الرفعِ إلى الدرجات العاليةِ من العلم ومدحٌ ليوسف برفعه إليها وقوله وفوقَ كلَّ ذي علمٍ عليمٌ تذييلٌ له أي نرفع درجاتٍ عاليةً من العلم من نشاء رفعَه وفوق كلَ منهم عليمٌ هو أعلى درجةً قال ابن عباس رضي الله عنهما فوق كلِّ عالمٍ عالمٌ إلى أن ينتهيَ العلمِ إلى الله تعالى والمعنى إن إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماءَ إلا أن يوسفَ عليه السلام أفضلُ منهم وقرىء درجاتِ مَنْ نشاء بالإضافة والأولُ أنسبُ بالتذييل حيث نُسب فيه الرفعُ إلى من نسب إليه الفوقية لا إلى درجتِه ويجوز أن يكون العليمُ في هذا التفسير أيضاً عبارةً عن الله عزَّ وجلَّ أي وفوق كلَ من أولئك المرفوعين عليمٌ يرفع كلاًّ منهم إلى درجته اللائقةِ به والله تعالى أعلم

77

{قَالُواْ إِن يَسْرِقْ} يعنون بنيامين {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِن قَبْلُ} يريدون به يوسفَ عليه السلام وما جرى عليه من جهة عمّتِه على ما قيلَ من أنها كانت تحضِنه فلما شب أراد يعقوبُ عليه السلام انتزاعَه منها وكانت لا تصبِر عنه ساعةً وكانت لها منطقةٌ ورثتها من أبيها إسحق عليه السلام فاحتالت لاستبقاء يوسفَ عليه السلام فعمَدت إلى المنطة فحزمَتْها عليه من تحت ثيابه ثم قالت فقدتُ منطة إسحاقَ عليه السلام فانظروا مَنْ أخذها فوجدوها محزومةً على يوسف فقالت إنه لي سَلَم أفعل به ما أشاء فخلاّه يعقوبُ عليه السلام عندها حتى ماتت وقيل كان أخذ في صِباه صنماً لأبي أمِّه فكسره وألقاه في الجيف وقيل دخل كنيسة فأخذ تمثالاً صغيراً من ذهب كانوا يعبُدونه فدفنه {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ} أي أكنّ الحزازةَ الحاصلة مما قالوا {فِى نَفْسِهِ} لا أنه أسرّها لبعض أصحابه كما في قوله تعالى وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً {وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} لا قولاً ولا فعلاً صفحاً عنهم وحِلماً وهو تأكيد لما سبق {قَالَ} أي في نفسه وهو استئناف

يوسف الآية (78 79 80) مبني على سؤال نشأ من الإخبار بالإسرار المذكور كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ في نفسه في تضاعيف ذلك الإسرارِ فقيل قال {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} أي منزلةً حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفِقتم تفترون على البريء وقيل بدل من أسرها والضمير للمقالة المفسرة بقوله أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً {والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} أي عالمٌ علماً بالغاً إلى أقصى المراتب بأن الأمرَ ليس كما تصفون من صدور السرقةِ منا بل إنما هو افتراءٌ علينا فالصيغةُ لمجرد المبالغة لا لتفضيل علمه عز وجل على علمهم كيف لا وليس لهم بذلك من علم

78

{قَالُواْ} عندما شاهدوا مخايلَ أخذ بنيامين مستطفين {يا أيها العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا} لم يريدوا بذلك الإخبارَ بأن له أبا فإن ذلك معلومٌ مما سبق وإنما أرادوا الإخبار بأن له أباً {شَيْخًا كَبِيرًا} في السن لا يكاد يستطيع فراقَه وهو عَلالةٌ به يتعلل عن شقيقه الهالك {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} إلينا فأتمم إحسانَك بهذه التتمة أو المتعوّدين بالإحسان فلا تغيّر عادتك

79

{قَالَ مَعَاذَ الله} أي نعوذ بالله معاذاً من {أَن نَّأْخُذَ} فحُذف الفعلُ وأُقيم مُقامَه المصدرُ مضافاً إلى المفعول به بعد حذفِ الجارِّ {إِلاَّ مَن وَجَدْنَا متاعنا عِندَهُ} لأن أخْذنا له إنما هو بقضية فتواكم فليس لنا الإخلالُ بموجبها وإيثارُ صيغة التكلم مع الغير مع كون الخطابِ من جانب إخوتِه على التوحيد من باب السلوكِ إلى سنن الملوك أو للإشعار بأن الأخذَ والإعطاءَ ليس مما يُستبدّ به بل هو منوطٌ بآراء أولي الحلِّ والعقد وإيثارُ مَنْ وجدنا متاعنا عنده دون سرق متاعنا لتحقيق الحقِّ والاحتراز عن الكذب في الكلام مع تمام المرام فإنهم لا يحمِلون وُجدان الصُّواعِ في الرحل على محمل غيرِ السرقة {إِنَّا إِذَاً} أي إذا أخذنا غيرَ من وجدنا متاعنا عنده ولو برضاه {لظالمون} في مذهبكم وما لنا ذلك وهذا المعنى هو الذي أريد بالكلام في أثناء الحوارِ وله معنى باطنٌ هو أن الله عز وجل إنما أمرني بالوحي أن آخذَ بنيامينَ لمصالحَ علمها الله في ذلك فلو أخذتُ غيرَه كنت ظالماً وعاملاً بخلاف الوحي

80

{فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ} أي يئسوا من يوسف وإجباته لهم أشدَّ يأس بدِلالة صيغة الاستفعال وإنما حصَلت لهم هذه المرتبةُ من اليأس لِما شاهدوه من عَوْذه بالله مما طلبوه الدالِّ على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهةِ وأنه مما يجب أن يُحترز عنه ويُعاذَ منه بالله عز وجل ومن تسميته ظلماً بقوله إِنَّا إِذًا لظالمون {خَلَصُواْ} اعتزلوا وانفردوا عن الناس {نَجِيّاً} أي ذوي نجوى على أن يكون بمعنى النجوى والتناجي أو فوجاً نجياً على أن يكون بمعنى المناجي كالشعير والسمير بمعنى المعاشر والمسامر

يوسف الآية (81) ومنه قوله تعالى وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ويجوز أن يقال هم نَجيٌّ كما يقال هم صديق لأنه بزنة المصادر من الزفير والزئير {قَالَ كَبِيرُهُمْ} في السن وهو روبيلُ أو في العقل وهو يهوذا أو رئيسهم شمعون {أَلَمْ تَعْلَمُواْ} كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملةً ولم يرضَ به فقال منكِراً عليهم ألم تعلموا {أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ الله} عهداً يوثق به وهو حِلفُهم بالله تعالى وكونُه من الله لإذنه فيه وكونِ الحلف باسمه الكريم {وَمِن قَبْلُ} أي ومن قبل هذا {مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ} قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهدَ أبيكم وقد قلتم وإنا له لناصحون وإنا له لحافظون وما مزيدةٌ أو مصدرية ومحلُّ المصدر النصبُ عطفاً على مفعول تعلموا أي ألم تعلموا أخذَ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطَكم السابقَ في شأن يوسف عليه السلام ولا ضير في الفصل بين العاطفِ والمعطوفِ بالظرف وقد جوّز النصبُ عطفاً على اسمِ إنَّ والخبر في يوسف أو من قبل على معنى ألم تعلموا أن تفريطَكم السابق وقع في شأن يوسفَ عليه السلام أو أن تفريطَكم الكائنَ أو كائناً في شأن يوسف عليه السلام وقع من قبل وفيه أن مقتضى المقام إنما هو الإخبارُ بوقوع ذلك التفريطِ لا بكون تفريطِهم السابقِ واقعاً في شأن يوسف كما هو مفادُ الأول ولا بكون تفريطِهم الكائنِ في شأنه واقعاً من قبل كما هو مفادُ الثاني على أن الظرفَ المقطوعَ عن الإضافة لا يقع خبراً ولا صفة ولا صلة ولا حالاً عند البعض كما تقرر في موضعه وقيل محلُّه الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ من قبلُ وفيه ما فيه وقيل ما موصولةٌ أو موصوفة ومحلها النصبُ عطفاً على مفعول تعلموا أي ما فرطتموه بمعنى قدمتموه في حقه من الخيانة وأما النصبُ عطفاً على اسمِ إنَّ والرفع على الابتداء فقد عرفتَ حاله {فَلَنْ أَبْرَحَ الارض} متفرِّعٌ على ما ذكَره وذكره إياهم من ميثاق أبيه وقوله لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ أي فلن أفارق أرضَ مصرَ جارياً على قضية الميثاق {حتى يَأْذَنَ لِى أَبِى} في البَراح بالانصراف إليه وكأن أيمانَهم كانت معقودةً على عدم الرجوعِ بغير إذن يعقوبَ عليه السلام {أَوْ يَحْكُمَ الله لِى} بالخروج منها على وجه لا يؤدّي إلى نقض الميثاقِ أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب روي أنهم كلموا العزيز في إطلاقه فقال روبيلُ أيها الملك لترُدَّن إلينا أخانا أو لأصِيحن صَيْحةً لا تبقى بمصرَ حاملٌ إلا ألقت ولدها ووقفت كل شعرة في جسده فخرجت من ثيابه وكان بنو يعقوب إذا غضِبوا لا يطاقون خلا أنه إذا مس مَنْ غضب واحدٌ منهم سكن غضبُه فقال يوسف لابنه قم إلى جنبه فَمُسّه فَمَسَّه فقال روبيل مَنْ هذا إن في هذا البلد بَذْراً من بَذر يعقوب {وهو خير الحاكمين} إذا لاَ يحكُم إلا بالحقِّ والعدل

81

{ارجعوا} أنتم {إلى أَبِيكُمْ فقولوا يا أبانا إِنَّ ابنك سَرَقَ} على ظاهر الحالِ وقرىء سُرق أي نسب إلى السرقة {وَمَا شَهِدْنَا} عليه {إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} وشاهدنا أن الصُواعَ استُخرجت من وعائه {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ} أي باطن الحال {حافظين} فما ندري أن حقيقةَ الأمرِ كما شاهدنا أم بخلافه أو وما كنا عالمين حين أعطيناك المَوْثِقَ أنه سيسرق أو أنا

يوسف الآية (82 84) نلاقيَ هذا الأمر أو أنك تصاب به كما أصبت بيوسف

82

{واسأل القرية التى كُنَّا فِيهَا} أي مصرَ أو قريةً بقربها لحِقهم المنادي عندها أي أرسلْ إلى أهلها واسألهم عن القصة {والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي أصحابَها فإن القصة معروفةٌ فيما بينهم وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوبَ عليه السلام وقيل من صنعاء {وِإِنَّا لصادقون} تأكيدٌ في محل القسم

83

{قَالَ} أي يعقوبُ عليه السلام وهو استئنافٌ مبني على سؤال نشأ مما سبق فكأنه قيل فماذا كان عند قولِ المتوقّف لإخوته ما قال فقيل قال يعقوبُ عندما رجَعوا إليه فقالوا له ما قالوا وإنما حُذف للإيذان بأن مسارعتَهم إلى قبوله ورجوعَهم به إلى أبيهم أمرٌ مسلَّم غنيٌّ عن البيان وإنما المحتاجُ إليه جوابُ أبيهم {بَلْ سَوَّلَتْ} أي زيّنت وسهّلت وهو إضرابٌ لا عن صريح كلامهم فإنهم صادقون في ذلك بل عما يقتضيه من ادعاء البراءة عن التسبب فيما نزل به وأنه لم يصدرُ عنهم ما يؤدي إلى ذلك من قولٍ أو فعلٍ كأنه قيل لم يكُنِ الأمرُ كذلكَ بل زينت {لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} من الأمور فأتيتموه يريد بذلك فُتياهم بأخذ السارق بسرقته {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أجملُ {عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا} بيوسف وأخيه والمتوقِّف بمصر {إِنَّهُ هُوَ العليم} بحالي وحالهم {الحكيم} الذي لم يبتلِني إلا لحكمة بالغة

84

{وتولى} أي أعرض {عَنْهُمْ} كراهةً لما سمع منهم {وقال يا أسفى على يُوسُفَ} الأسفُ أشدُّ الحزن والحسرةُ أضافه إلى نفسه والألفُ بدلٌ من الياء فناداه أي يا أسفي تعالى فهذا أوانك وإنما أسف على يوسف مع أن الحادثَ مصيبةٌ أخويه لأن رُزْأَه كان قاعدةَ الأرزاءِ غضاً عنده وإن تقادم عهده آخذاً بمجامع قلبه لا ينساه ولأنه كان واثقاً بحياتهما عالماً بمكانهما طامعاً في إيابهما وأما يوسفُ فلم يكن في شأنه ما يحرك سلسلةَ رجائِه سوى رحمةِ الله تعالى وفضلِه وفي الخبر لم تُعطَ أمةٌ من الأمم إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون إلا أمةُ محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم ألا يُرى إلى يعقوبَ حين أصابه ما أصابه لم يسترجِعْ بل قال ما قال والتجانسُ بين لفظي الأسَف ويوسف مما يزيد النظمَ الكريم بهجةً كما في قوله عز وجل وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وقوله اثاقلتم إِلَى الارض أَرَضِيتُم وقوله ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثمرات وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ونظائرها {وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن} الموجبِ للبكاء فإن العَبْرة إذا كثُرت محقَت سوادَ العين وقلبتْه إلى بياض كدِر قيل قد عميَ بصرُه وقيل كان يدرك إدراكاً ضعيفاً روي أنه ما جفّت عينا يعقوبَ من يوم فراقِ يوسفَ إلى حين لقائه ثمانين عاماً وما على وجه الأرض أكرمُ على الله عزَّ وجلَّ من يعقوبَ عليه السلام وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريلَ عليه السلام ما بلغ من وجد يعقوبَ عليه السلام

يوسف الآية (85 87) على يوسف قال وجْدَ سبعين ثكلى قال فَمَا كَانَ لَهُ مِن الأجر قال أجرُ مائةِ شهيد وما ساء ظنُّه بالله ساعةً قط وفيه دليلٌ على جواز التأسف والبكاءِ عند النوائبِ فإن الكفَّ عن ذلك مما لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده آبراهيمَ وقال القلبُ يحزن والعين تدمَع ولا نقول ما يُسخِط الربَّ وإنا عليك يا إبراهيمُ لمحزونون وإنما الذي لا يجوز ما يفعله الجهلةُ من الصياح والنياحة ولطْمِ الخدودِ والصدور وشقِّ الجيوبِ وتمزيقِ الثياب وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه بكى على ولد بعضِ بناتِه وهو يجود بنفسه فقيل يا رسول الله تبكي وقد نَهَيتنا عن البكاء فقال ما نهيتهم عن البكاء وإنما نهيتُكم عن صورتين أحمقين صوتٍ عند الفرَح وصوت عند الترَح {فَهُوَ كَظِيمٌ} مملوءٌ من الغيظ على أولاده مُمسِكٌ له في قلبه لا يُظهره فعيل بمعنى مفعول بدليل قوله تعالى وَهُوَ مَكْظُومٌ من كظمَ السِّقاءَ إذا شده على ملئه أو بمعنى فاعل كقوله والكاظمين الغيظ من كظم الغيظَ إذا اجترعه وأصله كظم البعيرُ جِرَّتَه إذا ردها في جوفه

85

{قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ} أي لا تفتأ ولا تزال {تَذْكُرُ يُوسُفَ} تفجّعاً عليه فحذف حرف النفي كما في قوله ... فَقُلْتُ يَمينُ الله أَبْرَحُ قَاعِداً ... لعدم الالتباس بالإثبات فإن القسمَ إذا لم يكن معه علامةُ الإثبات يكون على النفي البتةَ {حتى تَكُونَ حَرَضاً} مريضاً مُشْفياً على الهلاك وقيل الحَرضُ مَنْ أذابه هم أو مرض وهو في الأصل مصدرٌ ولذلك لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع والنعت منه بالكسر كدنِف وقد قرىء به وبضمتين كجُنُب وغَرِب {أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} أي الميتين

86

{قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى} البثّ أصعبُ الهم الذي لا يصبر عليه صاحبُه فيبثّه إلى الناس أي ينشره فكأنهم قالوا له ما قالوا بطريق التسلية والإشكاءِ فقال لهم إني لا أشكو ما بي إليكم أو إلى غيركم حتى تتصدّوا لتسليتي وإنما أشكو همي {وَحُزْنِى إِلَى الله} تعالى ملتجئاً إلى جنابه متضرِّعاً لدى بابه في دفعه وقري بفتحتين وضمتين {وَأَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تعلمون} من لطفه ورحمته فأرجو أن يرحمني ويلطُفَ بي ولا يُخيِّب رجائي أو أعلمَ وحياً أو إلهاماً من جهته ما لا تعلمون من حياة يوسف قيل رأى ملكَ الموتِ في المنام فسأله عنه فقال هو حي وقيل علم من رؤيا يوسف عليه السلام أنه سيخرّ له أبواه وإخوتُه سجّداً

87

{يا بني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ} أي تعرّفوا وهو تفعُّلٌ من الحَسّ وقرىء بالجيم من الجسّ وهو الطلب أي تطلبوا {مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} أي من خبرهما ولم يذكر الثالثِ لأن غَيبته اختياريةٌ لا يعسُر إزالتها {وَلاَ تيأسوا من رَوْح الله} لا تقنَطوا من فرجه وتنفيسه وقرىء بضم الراء أي من رحمته التي يُحيي بها العبادَ وهذا إرشادٌ لهم إلى بعض ما أُبهم في قولِه وأعلم من الله ما لا

يوسف آية (88 89) تَعْلَمُونَ ثم حذرهم عن ترك العمل بموجب نهيه بقوله {إنه لا ييأس مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} لعدم علمِهم بالله تعالى وصفاتِه فإن العارفَ لا يقنط في حالٍ من الأحوالِ

88

{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ} أي على يوسف بعد ما رجعوا إلى مصر بموجب أمرِ أبيهم وإنما لم يُذكر ذلك إيذاناً بمسارعتهم ألى مَا أُمروا بهِ وإشعاراً بأن ذلك أمرٌ محققٌ لا يفتقر إلى الذكر والبيان {قالوا يا أيها العزيز} أي الملكُ القادرُ المتمنع {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} الهُزالُ من شدة الجوع {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} مدفوعةٍ يدفعها كلُّ تاجر رغبةً عنها واحتقاراً لها من أزجَيتُه إذا دفعتُه وطردتُه والريحُ تزجي السحابَ قيل كانت بضاعتُهم من متاع الأعراب صوفاً وسمناً وقيل الصنوبرَ وحبةَ الخضراء وقيل سُويقُ المُقْل والأقِطُ وقيل دراهمَ زيوفاً لا تؤخذ إلا بوضيعة وإنما قدّموا ذلك ليكون ذريعةً إلى إسعاف مرامهم ببعث الشفقةِ وهز العطفُ والرأفة وتحريكُ سلسلة المرحمة ثم قالوا {فَأَوْفِ لَنَا الكيل} أي أتممْه لنا {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} بردّ أخينا إلينا قاله الضحاك وابن جريج وهو الأنسبُ بحالهم نظراً إلى أمر أبيهم أو بالإيفاء أو بالمسامحة وقَبول المُزجاة أو بالزيادة على ما يساويها تفضلاً وإنما سمَّوه تصدقاً تواضعاً أو أرادوا التصدقَ فوق ما يعطيهم بالثمن بناء على اختصاص حُرمة الصدقة بنبينا صلى الله عليه وسلم وإنما لم يبدءوا بما أُمروا به استجلاباً للرأفة والشفقة ليبعثوا بما قدّموا من رقة الحالِ رقةَ القلب والحنُوَّ على أن ما ساقوه كلامٌ ذو وجهين فإن قولهم وتصدّق علينا {إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين} يحتمل الحملَ على المحملين فلعله عليه السلام حمله على المحمل الأول ولذلك

89

{قَالَ} مجيباً عما عرّضوا به وضمّنوه كلامَهم من طلب ردِّ أخيهم {هَلْ علمتم ما فعلتم بيوسف وَأَخِيهِ} وكان الظاهرُ أن يتعرضَ لما فعلوا بأخيه فقط وإنما تعرض لما فعلوا بيوسف لاشتراكهما في قوع الفعلِ عليهما فإن المراد بذلك إفرادُهم له عن يوسف وإذلالُه بذلك حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذِلةٍ أي هل تُبتم عن ذلك بعد علمِكم بقبحه فهو سؤالٌ عن الملزوم والمرادُ لازمُه {إِذْ أَنتُمْ جاهلون} بقبحه فلذلك أقدمتم على ذلك أو جاهلون عاقبتَه وإنما قاله نصحاً لهم وتحريضاً على التوبة وشفقةً عليهم لمّا رأى عجزَهم وتمسكنَهم لا معاتبةً وتثريباً ويجوز أن يكون هذا الكلام منه عليه السلام منقطعاً عن كلامهم وتنبيهاً لهم على ما هو حقُّهم ووظيفتهم من الإعراض عن جميع المطالب والتمحضِ في طلب بنيامين بل يجوز أن يقف عليه السلام بطريق الوحي أو الإلهام على وصية أبيه وإرسالِه إياهم للتحسس منه ومن أخيه فلما رآهم قد اشتغلوا عن ذلك قال ما قال وقيل أعطَوه كتابَ يعقوبَ عليه السلام وقد كتب فيه كتابٌ من يعقوبَ إسرائيلَ اللَّهِ ابنِ إسحق ذبيحِ الله بن إبراهيمَ خليل الله إلى عزيز مصرَ أما بعد فإنا أهلُ بيتٍ موكلٍ بنا البلاءُ أما جدّي فشُدت يده ورجلاه فرُمي به في النار فنجّاه الله تعالى وجعلت له برداً وسلاماً وأما أبي فوضع السكين

يوسف آية (90 91 92) على قفاه ليُقتل ففداه الله تعالى وأما أنا فكان لي ابنٌ وكان أحبَّ أولادي إلىّ فذهب به إخوتُه إلى البرية ثم أتَوْني بقميصه ملطخاً بالدم فقالوا قد أكله الذئبُ فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابنٌ وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا إنه سرَق وأنك حبستَه وإنا أهلُ بيت لا نسرِق ولا نلد سارقاً فإن رددتَه عليَّ وإلا دعوتُ عليك دعوةً تُدرك السابعَ من ولدَك والسلام فلما قرأه لم يتمالكْ وعيل صبرُه فقال لهم ما قال وقيل لما قرأه بكى وكتب الجواب اصبِر كما صبروا تظفرْ كما ظفِروا

90

{قالوا أئنك لأَنتَ يُوسُفُ} استفهامُ تقريرٍ ولذلك أكدوه بأن واللام قالوه استغراباً وتعجباً وقرىء إنك بالإيجاب قيل عرفوه بروائه وشمائله حين كلمهم به وقيل تبسم فعرفوه بثناياه وقيل رفع التاجَ عن رأسه فرأوا علامةً بقَرنه تشبه الشامة البيضاء وكان لسارةَ ويعقوبَ مثلُها وقرىء أئنك أو أنت يوسف على معنى أئنك يوسف أو أنت يوسف فحُذف الأولُ لدِلالة الثاني عليه وفيه زيادةُ استغراب {قَالَ أَنَاْ يوسف} جوابا عن مسئلتهم وقد زاد عليه قوله {وهذا أَخِى} أي من أبويّ مبالغةً في تعريف نفسه وتفخيماً لشأن أخيه وتكملةً لما أفاده قوله هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه حسبما يفيده قولُه {قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا} فكأنه قال هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلالِ فأنا يوسفُ وهذا أخي قد منّ الله علينا بالخلاص عما ابتُلينا به والاجتماعِ بعد الفُرقةِ والعزة بعد الذِلة والأُنس بعد الوحشة ولا يبعُد أنْ يكونَ فيه إشارةٌ إلى الجواب عن طلبهم لرد بنيامين بأنه أخي لا أخوكم فلا وجهَ لطلبكم ثم علل ذلك بطريق الاستئناف التعليلي بقوله {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ} أي يفعل التقوى في جميع أحوالِه أو يقِ نفسه عما يوجب سخطَ الله تعالى وعذابه {وَيِصْبِرْ} على المحن أو على مشقة الطاعاتِ أو عن المعاصي التي تستلذها النفس {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} أي أجرهم وإنما وُضع المظهرُ موضعَ المضمرِ تنبيهاً على أن المنعوتين بالتقوى والصبر موصوفون بالإحسان

91

{قَالُواْ تالله لَقَدْ اثَرَكَ الله عَلَيْنَا} اختارك وفضلك علينا بما ذكرت من النعوت الجليلة {وَإِن كُنَّا} وإن الشأن كنا {لخاطئين} لمتعمِّدين للذنب إذ فعلنا بك ما فعلنا ولذلك أعزك وأذلنا وفيه إشعارٌ بالتوبة والاستغفار ولذلك

92

{قَالَ لاَ تَثْرَيبَ} أي لا عتْبَ ولا تأنيب {عَلَيْكُمْ} وهو تفعيل من الثرب وهو الشحمُ الغاشي للكرِش ومعناه إزالته كما أن التجليد إزالةُ الجلد والتقريعُ إزالة القرع لأنه إذا ذهب كان ذلك غايةَ الهُزال فضرب مثلاً للتقريع الذي يذهب بماء الوجوه وقوله عز وعلا {اليوم} منصوب بالتثريب أو بالمقدر خبرا للاأى لا أثر بكم أو لا تثريبَ مستقرٌ عليكم اليوم الذي هو مظنةٌ له فما ظنُّكم بسائر الأيام

يوسف الآية (93 94 95 96) أو بقوله {يَغْفِرَ الله لَكُمْ} لأنه حينئذ صفح عن جريمتهم وعفا عن جريرتهم بما فعلوا من التوبة {وهو أرحم الراحمين} يغفر الصغائرَ والكبائرَ ويتفضل على التائب بالقَبول ومن كرمه عليه الصلاة والسلام إن إخوتَه أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشيا ونحن نستحي منك بما فرَط منا فيك فقال عليه الصلاة والسلام إن أهلَ مصرَ وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إليّ بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلّغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلّغ ولقد شرُفت بكم الآن وعظُمتُ في العيون حيث علم الناسُ أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ

93

{اذهبوا بِقَمِيصِى هذا} قيل هو الذي كان عليه حينئذ وقيل هو القميصُ المتوارَث الذي كان في التعويذ أمره جبريلُ بإرساله إليه وأوحى إليه أن فيحَ ريحِ الجنةِ لا يقع على مبتلىً إلا عُوفي {فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا} يكن بصيراً أو يأت إليَّ بصيراً وينصره قوله {وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} أي بأبي وغيره ممن ينتظمه لفظُ الأهل جميعاً من النساء والذراري قيل إنما حمل القميصَ يهوذا وقال أنا أحزنتُه بحمل القميصِ ملطخاً بالدم إليه فأُفرِحه كما أحزنته وقيل حمله وهو حافٍ حاسرٌ من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرةُ ثمانين فرسخاً

94

{وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} خرجت من عريش مصر يقال فصَل من البلدِ فُصُولاً إذا انفصل منه وجاوز حيطانَه وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما انفصل العير {قَالَ أَبُوهُمْ} يعقوب عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لمن عنده {إِنّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} أوجده الله سبحانه ما عبق بالقميص من ريح يوسف من ثمانين فرسخاً حين أقبل به يهوذا {لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ} أي تنسُبوني إلى الفند وهو الخرفُ وإنكارُ العقل وفسادُ الرأي مِنُ هرمٍ يقال شيخٌ مفنّد ولا يقال عجوزٌ مفنّدة إذ لم تكن في شبيبتها ذاتَ رأي فتُفَنّد في كِبَرها وجواب لولا محذوف أي لصدقتموني

95

{قَالُواْ} أي الحاضرون عنده {تالله إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم} لفي ذهابك عن الصواب قدُماً في إفراط محبتِك ليوسف ولَهجِك بذكره ورجائِك للقائه وكان عندهم أنه قد مات

96

{فَلَمَّا أَن جَاء البشير} وهو يهوذا {أَلْقَاهُ} أي ألقى البشيرُ القميصَ {على وجهه} أي وجهه يعقوب أو ألقاه يعقوبُ على وجه نفسه {فارتد} عاد {بَصِيراً} لما انتعش فيه من القوة {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ} يعني قولَه إني لأجد ريحَ يوسف فالخطابُ لمن كان عنده بكنعان أو قولَه ولا تيأسوا من رَوْح الله فالخطابُ لبنيه وهو الأنسب بقوله {إِنّى أَعْلَمُ من الله ما لا تعلمون}

يوسف الآية (97 98 99) فإن مدارَ النهي المذكورِ إنما هو العلمُ الذي أوتي يعقوبُ من جهة الله سبحانه وعلى هَذا يجوزُ أنْ يكون هذا مقولَ القولِ أي ألم أقل لكم حين أرسلتكم إلى مصرَ وأمرتُكم بالتحسس ونهيتُكم عن اليأس من رَوْح الله تعالى وأعلم من الله ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه الصلاة والسلام روي أنه سأل البشيرَ كيف يوسف فقال هو ملِكُ مصرَ قال ما أصنع بالمُلك على أي دينٍ تركتَه قال على دين الإسلام قال الآن تمت النِّعمة

97

{قَالُواْ يَا أَبَانَا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خاطئين} ومن حق من اعترف بذنبه أن يُصفح عنه ويُستغفرَ له فكأنهم كانوا على ثقة من عفوه عليهِ الصلاةُ والسلامُ ولذلكَ اقتصروا على استدعاء الاستغفار وأدرجوا ذلك في الاستغفار

98

{قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} وهذا مُشعرٌ بعفوه قيل أخّر الاستغفارَ إلى وقت السحر وقيل إلى ليلة الجمعة ليتحرّى به وقت الإجابة وقيل أخّره إلى أن يستحِلَّ لهم من يوسف عليه الصلاة والسلام أو يعلم أنه قد عفا عنهم فإن عفوَ المظلوم شرطُ المغفرة ويعضُده أنه روي عنه أنه استقبل القِبلة قائماً يدعو وقام يوسفُ خلفه يؤمّن وقاموا خلفَهما أذلةً خاشعين عشرين سنة حتى بلغ جهدَهم وظنوا أنها الهلكة نزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال إن الله قد أجاب دعوتَك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة فإن صح ثبتت نبوتُهم وإن ما صدر عنهم إنما صدر قبل الاستنباء وقيل المرادُ الاستمرارُ على الدعاء فقد روي أنه كان يستغفر كلَّ ليلةِ جمعةٍ في نيّف وعشرين سنة وقيل قام إلى الصلاة في وقت السحر فلما فرَغ رفع يديه فقال اللهم اغفِرْ لي جزَعي على يوسف وقلةَ صبري عنه واغفِر لولدي ما أتوا إلى أخيهم فأوحى الله إليه أن الله قد غفر لك ولهم أجمعين

99

{فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ} روي أنه وجّه يوسفُ إلى أبيه جَهازاً ومائتي راحلةٍ ليتجهز إليه بمن معه فاستقبله يوسفُ والملكُ في أربعة آلاف من الجند والعُظماء وأهلِ مصرَ بأجمعهم فتلقوا يعقوب عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو يمشي متوكئاً على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال يا يهوذا أهذا فرعونُ مصرَ قال لا بل ولدُك فلما لقيه قال عليه الصلاة والسلام السلامُ عليك يا مذهبَ الأحزان وقيل قال له يوسف يا أبت بكَيتَ عليّ حتى ذهب بصرُك ألم تعلم أن القيامةَ تجمعنا فقال بلى ولكني خشِيتُ أن يسلَبَ دينُك فيُحالَ بيني وبينك وقيل إن يعقوبَ وولدَه دخلوا مصرَ وهم اثنان وسبعون ما بين رجلٍ وامرأةٍ وكانوا حين خرجوا مع موسى ستَّمائةِ ألفٍ وخمسَمائةٍ وبضعةً وسبعين رجلاً سوى الذرية والهرمى وكانت الذريةُ ألفَ ألفٍ ومائتي ألف {آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} أي أباه وخالتَه وتنزيلُها منزلةَ الأمِّ كتنزيل العمِّ منزلةَ الأب في قولِه عزَّ وجلَّ وإله آبائك إبراهيم وإسمعيل وإسحق أو لأن يعقوب عليه الصلاة والسلام تزوّجها بعد أمّه وقال

يوسف الآية (100) الحسن وابن إسحق كانت أمُّه في الحياة فلا حاجة إلى التأويل ومعنى آوى إليه ضمّهما إليه واعتناقهما وكأنه عليه الصلاة والسلام ضَرب في الملتقى مضرباً فنزل فيه فدخلوا عليه فآواهما إليه {وَقَالَ ادخلوا مِصْرَ إِن شَاء الله آمنين} من الشدائد والمكاره قاطبةً والمشيئةُ متعلقةٌ بالدخول على الأمن

100

{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ} عند نزولِهم بمصر {عَلَى العرش} على السرير تكرِمةً لهما فوق ما فعله لإخوته {وَخَرُّواْ لَهُ} أي أبواه وإخوتُه {سُجَّدًا} تحية له فإنه كان السجودُ عندهم جارياً مجرى التحية والتكرمة كالقيامة والمصافحةِ وتقبيلِ اليد ونحوِها من عادات الناس الفاشية في التعظيم والتوقير وقيل ما كان ذلك إلا انحناءً دون تعفيرِ الجباه ويأباه الخرُورُ وقيل خروا لأجله سجداً لله شكراً ويرده قوله تعالى {وَقَالَ يا أبت هذا تَأْوِيلُ رؤياى} التي رأيتها وقصصتها عليك {مِن قَبْلُ} في زمن الصِّبا {قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا} صدقاً واقعاً بعينه والاعتذارُ بجعل يوسف لمنزلة القِبلة وجعلِ اللامُ كما في قولِه ... أَلَيْسَ أولَ من صلَّى لقبلتكم ... يخفى وتأخيرُه عن الرفع على العرش ليس بنص في ذلك لأن الترتيبَ الذكريَّ لا يجب كونُه على وفق الترتيب الوقوعي فلعل تأخيرَه عنه ليصل به ذكرُ كونِه تعبيراً لرؤياه وما يتصل به من قوله {وَقَدْ أَحْسَنَ بَى} المشهورُ استعمالُ الإحسان بإلى وقد يستعمل بالباء أيضاً كَما في قولِه عز اسمُه وبالوالدين إحسانا وقيل هذا بتضمين لَطَف وهو الإحسانُ الخفيُّ كما يُؤذِن به قولُه تعالى إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء وفيه فائدة لا تخفى أي لطَف بي محسناً إليَّ غيرَ هذا الإحسان {إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السجن} بعدما ابتُليت به ولم يصرِّح بقصة الجُبّ حِذاراً من تثريب إخوتِه لأن الظاهرَ حضورُهم لوقوع الكلام عَقيب خرورهم سجّداً واكتفاءً بما يتضمنه قوله تعالى {وَجَاء بِكُمْ مّنَ البدو} أي البادية {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى} أي أفسد بيننا بالإغواء وأصلُه من نخْس الرائضِ الدابةَ وحملِها على الجري يقال نزَغه ونسَغه إذا نخسَه ولقد بالغ عليه الصلاة والسلام في الإحسان حيث أسند ذلك إلى الشيطان {إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء} أي لطيفُ التدبير لأجله رفيقٌ حتى يجيء على وجه الحِكمة والصواب ما من صعبٍ إلا وهو بالنسبة إلى تدبيره سهلٌ {إنه هو العليم} بوجوه المصالح {الحكيم} الذي يفعلُ كلَّ شيء على قضية الحكمة روي أن يوسف أخذ بيد يعقوبَ عليهما الصلاة والسلام فطاف به في خزائنه فأدخله في خزائن الورِقِ والذهب وخزائن الحِليّ وخزائن الثياب وخزائنِ السلاح وغيرِ ذلك فلما أدخله خزائنَ القراطيس قال يا بني ما أعقّك عندك هذه القراطيسُ وما كتبت إلي على ثماني مراحلَ قال أمرني جبريلُ قال أو ما تسأله قال أنت أبسطُ إليه مني فسأله قال جبريلُ الله تعالى أمرني بذلك لقولك أخاف أن يأكلَه الذئب قال فهلا خِفْتني ورُوي أن يعقوب عليه الصلاة والسلام أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفِنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثمةَ ثم عاد إلى مصرَ وعاش بعد

يوسف الآية (101 102) أبيه ثلاثاً وعشرين سنة فلما تم أمرُه وعلِم أنه لا يدوم له تاقت نفسُه إلى المُلك الدائم الخالد فتمنى الموت فقال

101

{رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الملك} أي بعضاً منه عظيماً وهو ملكُ مصرَ {وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحاديث} أي بعضاً من ذلك كذلك إن أريد بتعليم تأويلِ الأحاديث تفهيمُ غوامضِ أسرار الكتب الإلهية ودقائق سَننِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسلام فالترتيبُ ظاهرٌ وأما إن أريد به تعليمُ تعبيرِ الرؤيا كما هو الظاهرُ فلعل تقديمَ إيتاءِ الملك عليه في الذكر لأنه بمقام تعدادِ النعم الفائضةِ عليه من الله سبحانه والمُلك أعرقُ في كونه نعمةً من التعليم المذكور وإن كان ذلك أيضاً نعمةً جليلةً في نفسه ولا يمكن تمشيةُ هذا الاعتذارِ فيما سبق لأن التعليمَ هناك واردٌ على نهج العلة الغائيةِ للتمكين فإن حُمل على معنى التمليك لزم تأخرُه عنه وأما الواقع ههنا فمجردُ التأخيرِ في الذكر والعطف بحرف الواو لا يستدعي ذلك الترتيبَ في الوجود {فاطر السماوات وَالأَرْضِ} مُبدعَهما وخالقَهما نُصب على أنه صفةٌ للمنادى أو منادى آخرُ وصفه تعالى به بعد وصفِه بالربوبية مبالغةً في ترتيب مبادى ما يعقبُه من قوله {أَنْتَ وَلِيِّي} مالكُ أموري {فِى الدنيا والاخرة} أو الذي يتولاني بالنعمة فيهما وإذ قد أتممتَ عليّ نعمة الدنيا {تَوَفَّنِى} اقبِضْني {مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} من آبائي أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامةِ فإنما تتم النعمةُ بذلك قيل لما دعا توفاه الله عز وجل طيباً طاهراً فتخاصم أهلُ مصرَ في دفنه وتشاحّوا في ذلك حتى همّوا بالقتال فرأوا أن يصنعوا له تابوتاً من مَرمر فجعلوه فيه ودفنوه في النيل ليمُرَّ عليه ثم يصلَ إلى مصر ليكونوا شرعاً واحداً في التبرك به ووُلد له أفراييم وميشا ولأفراييم نونٌ ولنونٍ يوشع فتى موسى عليه الصلاة والسلام ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيلَ تحت أيديهم على بقايا دين يوسفَ وآبائِه إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام

102

{ذلك} إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسفَ وما فيه من معنى البُعد لما مر مرارا من الدِلالة على بُعد منزلتِه أو كونه بالانقضاء في حكم البعيدِ والخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبره {من أَنبَاء الغيب} الذي لا يحومُ حولَهُ أحدٌ وقوله {نُوحِيهِ إِلَيْكَ} خبرٌ بعد خبر أو حال من الضمير في الخبرِ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ اسماً موصولا ومن أنباء الغيب صلتَه ويكون الخبرُ نوحيه إليك {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} يريد إخوةَ يوسف عليه الصلاة والسلام {إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ} وهو جعلهم إياه في غيابة الجب {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} به ويبغون له الغوائلَ حتى تقف على ظواهر أسرارِهم وبواطنها وتطّلع على سرائرهم طُراً وتحيط بما لديهم خُبراً وليس المرادُ مجردَ نفيَ حضورُه عليه الصَّلاة والسلام في مشهد إجماعِهم ومكرِهم فقط بل في سائر المشاهدِ أيضاً وإنما تخصيصُه بالذكر لكونه مطْلعَ القصة وأخفى أحوالِها كما ينبىء عنه قوله وهم يمكرون والخطابُ وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكن

يوسف الآية (103 104 105 106 107) المرادُ إلزامُ المكذبين والمعنى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك إذ لا سبيلَ إلى معرفتك إياه سوى ذلك إذ عدمُ سماعِك ذلك من الغير وعدمُ مطالعتِك للكتب أمرٌ لا يشك فيه المكذِّبون أيضاً ولم تكن بين ظَهرانِيهم عند وقوعِ الأمر حتى تعرِفه كما هو فتبلّغَه إليهم وفيه تهكم بالكفار فكأنهم يشكون في ذلك فيدفع شكهم وفيه أيضاً إيذانٌ بأنَّ ما ذُكر من النبأ هو الحقُّ المطابق للواقع وما ينقُله أهلُ الكتاب ليس على ما هو عليه يعني أن مثلَ هذا التحقيقِ بلا وحي لا يُتصوّر إلا بالحضور والمشاهدة وإذ ليس ذلك بالحضور فهو بالوحي ومثلُه قوله تعالى وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وقولُه وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الامر

103

{وَمَا أَكْثَرُ الناس} يريد به العمومَ أو أهلَ مكة {وَلَوْ حَرَصْتَ} أي على إيمانهم وبالغت في إظهار الآياتِ القاطعةِ الدالةِ على صدقك {بِمُؤْمِنِينَ} لتصميمهم على الكفر وإصرارِهم على العناد روي أن اليهود وقريشاً لما سألوا عن قصة يوسفَ وعدوا أن يُسْلموا فلما أخبرهم بها على موافقة التوراةِ فلم يسلموا حزن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فقيل له ذلك

104

{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ} أي على الأنباء أو القرآن {مِنْ أَجْرٍ} من جُعْل كما يفعله حَمَلةُ الأخبار {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ} عظةٌ من الله تعالى {للعالمين} كافة لا أن ذلك مختصٌّ بهم

105

{وكأين من آية} أي كأي عددٍ شئت من الآيات والعلاماتِ الدالةِ على وجود الصانع ووحدته وكمال علمِه وقدرتِه وحكمته غيرِ هذه الآيةِ التي جئت بها {في السماوات والارض} أي كائنةٍ فيهما من الأجارم الفلكية وما فيها من النجوم وتغيّر أحوالها ومن الجبال والبحار وسائرِ ما فى الأرض من العجائب الفائتةِ للحصر {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} أي يشاهدونها ولا يعبئون بها وقرىء برفع الأرضِ على الابتداء ويمرّون خبره وقرىء بنصبها على معنى ويطئون الأرضَ يمرون عليها وفي مصحف عبد اللَّه والارض يَمْشُونَ عَلَيْهَا والمراد ما يرَون فيها من آثار الأمم الهالكةِ وغيرُ ذلك من الآيات والعبر {وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} غيرُ ناظرين إليها ولا متفكّرين فيها

106

{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله} في إقرارهم بوجوده وخالقيته {إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} بعبادتهم لغيره أو باتخاذهم الأحبارَ والرهبان أرباب أو بقولهم باتخاذه تعالى ولداً سبحانه وتعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً أو بالنور والظلمة وهي جلمة حالية أي لا يؤمن أكثرُهم إلا في حال شركِهم قيلَ نزلتِ الآيةُ في أهل مكة وقيل في المنافقين وقيل في أهل الكتاب

107

{أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ الله} أي عقوبة

يوسف الآية (108 109 110) تغشاهم وتشمَلُهم {أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} فجأةً من غير سابقةِ علامة {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بإتيانها غير مستعدّين لها

108

{قُلْ هذه سَبِيلِى} وهي الدعوةُ إلى التوحيد والإيمان والإخلاص وفسّرها بقوله {أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ} بيانٍ وحجةٍ واضحةٍ غيرِ عمياءَ أو حال من الضمير في سبيلي والعاملُ فيها معنى الإشارةِ {أَنَاْ} تأكيدٌ للمستكن في أدعو أو على بصيرة لأنه حال منه أو مبتدأ خبرُه على بصيرة {وَمَنِ اتبعنى} عطف عليه {وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين} مؤكد لما سبق من الدعوة إلى الله

109

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} رد لقولِهم لَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة {نُّوحِى إِلَيْهِمْ} كما أوحينا إليك وقرىء بالياء {مّنْ أَهْلِ القرى} لأنهم أعلمُ وأحلم وأهلُ البوادي فيهم الجهلُ والجفاءُ والقسوة {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِم} من المكذبين بالرسل والآياتِ فيحذَروا تكذيبك {وَلَدَارُ الاخرة} أي الساعةُ أو الحياة الآخرة {خَيْرٌ لّلَّذِينَ اتقوا} الشركَ والمعاصيَ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فتستعملوا عقولَكم لتعرِفوا خيريةَ دارِ الآخرة وقرىء بالياء على أنه غيرُ داخل تحت قل

110

{حتى إذا استيأس الرسل} غايةٌ لمحذوف دل عليه السياقُ أي لا يغُرّنهم تماديهم فيمَا هُم فيهِ من الدعة والرخاء فإن مَنْ قبلهم قد أُمهلوا حتى أيِسَ الرسل عن النصر عليهم في الدنيا أو عن إيمانهم لانهماكهم في الكفر وتماديهم في الطغيان من غير وازع {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} كذَّبتْهم أنفسُهم حين حدثتْهم بأنهم ينصرون عليه أو كذّبهم رجاؤهم فإنه يوصف بالصدق والكذب والمعنى أن مدة التكذيبِ والعداوة من الكفار وانتظارَ النصر من الله تعالى قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا القُنوطَ وتوهّموا أن لا نصر لهم في الدنيا {جَاءهُمْ نَصْرُنَا} فجأة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وظنوا أنهم قد أُخلِفوا ما وعدهم الله من النصر فإن صح ذلك عنه فلعله أراد بالظن ما يخطُر بالبال من شبه الوسوسة وحديثِ النفس وإنما عبر عنه بالظن تهويلاً للخطب وأما الظنُّ الذي هو ترجّحُ أحدِ الجانبين على الآخر فلا يُتصوّر ذلك من آحاد الأمة فما ظنُّك بالأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وهم هم ومنزلتُهم في معرفة شئون الله سبحانه منزلتُهم وقيل الضميران للمُرسل إليهم وقيل الأول لهم والثاني للرسل وقرىء بالتشديد أي ظن الرسلُ أن القوم كذّبوهم فيما أوعدوهم وقرىء بالتخفيف على بناء الفاعل على أن الضمير للرسل أي ظنوا أنهم كذَبوا عند قومهم فيما حدّثوا به لِما تراخى عنهم ولم يرَوا له أثراً

يوسف الآية (111) أو على أن الأول لقومهم {فَنُجّىَ مَن نَّشَاء} هم الرسلُ والمؤمنون بهم وقرىء فننجّي على لفظ المستقبل بالتخفيف والتشديد وقرىء فنجا {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين} إذا نزل بهم وفيه بيانٌ لمن تعلق بهم المشيئة

111

{لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ} أي قَصص الأنبياء وأممِهم وينصره قراءةُ من قرأ بكسر القاف أو قصص يوسفَ وإخوتِه {عِبْرَةٌ لاّوْلِى الألباب} لذوِي العقولِ المبرّأةِ عن شوائب أحكام الحِس {مَا كَانَ} أي القرآنُ المدلولُ عليه بما سبق دَلالة واضحةً {حَدِيثًا يفترى ولكن} كان {تَصْدِيقَ الذى بين يديهِ} من الكتبِ السماوية وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ولكن هو تصديقُ الذي بين يديه {وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء} مما يحتاج إليه في الدين إذ ما من أمر دينيّ إلا وهو يستند إلى القرآن بالذات أو بوسط {وهدى} من الضلالة {وَرَحْمَةً} ينال بها خيرُ الدارين {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي يصدّقونه لأنهم المنتفعون به وأما مَنْ عداهم فلا يهتدون بهداه ولا ينتفعون بجدواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم علّموا أرقاءَكم سورةَ يوسف فإنه أيُّما مسلمٍ تلاها وعلَّمها أهلَه وما ملكتْ يمينَه هوّن الله عليه سكراتِ الموتِ وأعطاه القوة أن لا يحسُد مسلماً تم الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس وأوله سورة الرعد

الرعد 1 2 سورة الرعد مدنية وقيل مكية إلا قوله ويقول الذين كفروا الآية وآيها ثلاث وأربعون {بسم الله الرحمن الرحيم}

الرعد

{المر} اسمٌ للسورة ومحلُّه إمَّا الرفعُ عَلَى أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هذه السورة مسماة بهذا الاسمِ وهو أظهرُ من الرَّفع على الابتداء إذ لم يسبِق العلَم بالتسمية كما مرَّ مِراراً وقولُه تعالى {تِلْكَ} على الوجه الأول مبتدأٌ مستقلٌ وعلى الوجه الثاني مبتدأٌ ثانٍ أو بدلٌ من الأول أشير به إليه إيذاناً بفخامته وإما النصبُ بتقدير فعلٍ يناسب المقامَ نحوُ اقرأ أو اذكر فتلك مبتدأٌ كما إذا جعل آلمر مسروداً على نمطِ التعديدِ أو بمعنى أنا الله أعلمُ وأرى على ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما والخبر على التقادير قوله تعالى {آياتِ الكتاب} أي الكتابِ العجيب الكامل الغنيِّ عن الوصف به المعروفِ بذلك من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب به فهو عبارةٌ عن جميع القرآن أو عن الجميعِ المنزلِ حينئذ حسبما مرَّ في مطلعِ سورة يونس إذ هو المتبادرُ من مطلق الكتابِ المستغني عن النعت وبه يظهر ما أريد من وصف الآياتِ بوصف ما أضيفت إليه من نعوت الكمالِ بخلاف ما إذا جُعل عبارةً عن السورة فإنها ليست بتلك المثابة من الشهرة في الاتصاف بذلك المغنية عن التصريح بالوصف على أنَّها عبارةٌ عن جميع آياتها فلا بد من جعل تلك إشارة إلى كل واحدةٍ منها وفيه مالا يخفى من التعسف الذي مرَّ تفصيلُه في سورة يونس {والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} أي الكتابَ المذكور بكماله لا هذه السورةُ وحدها {الحق} الثابتُ المطابق للواقع في كل ما نطق به الحقيقُ بأن يُخصَّ به الحقّيةُ لعراقته فيها وليس فيه ما يدل على أن ما عداه ليس بحق أصلاً على أن حقّيتَه مستتبِعةٌ لحقية سائرِ الكتبِ السماوية لكونه مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ومهيمِناً عليه وفي التعبير عنه بالموصول وإسنادِ الإنزال إليه بصيغة المبنيِّ للمفعول والتعرّضِ لوصف الربوبية مضافاً إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ من الدلالة على فخامة المنزَّل التابعةِ لجلالة شأنِ المنزَّل وتشريفِ المنزَّل إليه والإيماءِ إلى وجه بناء الخبر مالا يخفى {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} بذلك الحقِّ المبين لإخلالهم بالنظر والتأملِ فيه فعدمُ إيمانهم متعلقٌ بعنوان حقّيتِه لأنه المرجِعُ للتصديق والتكذيب لا بعنوان كونِه منزلاً كما قيل ولأنه واردٌ على طريقة الوصفِ دون الإخبار

2

{الله الذي رفع السماوات}

الرعد 3 أي خلقهن مرتفعاتٍ على طريقة قولِهم سبحان من كبّر الفيل وصغّر البعوض لا أنه رفعها بعد أن لم تكن كذلك والجملةُ مبتدأ وخبرٌ كقوله وَهُوَ الذى مَدَّ الأرض {بِغَيْرِ عَمَدٍ} أي بغير دعائمَ جمع عِماد كإهاب وأَهَب وهو ما يُعمَد به أي يُسند يُقال عمَدتُ الحائطَ أي أدعمته وقرىء عُمُد على جمع عَمود بمعنى عماد كرُسُل ورسول إيراد صيغةِ الجمع لجمع السموات لا لأن المنفيَّ عن كل واحدة منها عَمدٌ لا عماد {تَرَوْنَهَا} استئنافٌ استُشهد به على ما ذكرَ من رفع السموات بغير عمد وقيل صفة لعَمَدٍ جيء بها إيهاماً لأن لها عمداً غيرَ مرئيةٍ هي قدرة الله تعالى {ثُمَّ استوى} أي استولى {عَلَى العرش} بالحفظ والتدبير أو استوى أمرُه وعن أصحابنا أن الاستواءَ على العرش صفةٌ لله عز وجل بلا كيف وأياما كان فليس المرادُ به القصدَ إلى إيجاد العرش وخلقِه فلا حاجة إلى جعل كلمة ثُم للتَّراخي في الرُّتبةِ {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} ذللهما وجعلهما طائعَين لما أريد منهما من الحركات وغيرها {كُلٌّ} من الشمس والقمر {يَجْرِى} حسبما أريد منها {لاِجَلٍ مُّسَمًّى} لمدة معينةٍ فيها تتم دورتُه كالسنة للشمس والشهر للقمر فان كل منهما يجري كلَّ يوم على مدار معينٍ من المدارات اليوميةِ أو لمدة ينتهي فيها حركاتُهما ويخرج جميعُ ما أريد منهما من القوةِ إلى الفعلِ أو لغاية يتم عندها ذلك والجملةُ بيانٌ لحكم تسخيرهما {يُدَبّرُ} بما صنع من الرَّفْع والاستواء والتسخير أي يقضي ويقدرُ حسبما تقتضيهِ الحكمةُ والمصلحة {الأمر} الخلق كلَّه وأمرَ ملكوتِه وربو بيته {يفصل الآيات} الدلالةِ عَلى كمالِ قدرتِه وبالغِ حكمتِه أي يأتي بها مفصلةً وهي ما ذُكرَ من الأفعالِ العجيبةِ وما يتلوها من الأوضاع الفلكيةِ الحادثةِ شيئاً فشيئاً المستتبعةِ للآثار الغريبة في السُّفليات على موجب التدبيرِ والتقديرِ فالجملتان إما حالان من ضمير استوى وقوله وَسَخَّرَ الشمس والقمر من تتمة الاستواءِ وإما مفسّرتان له أو الأولى حالٌ منه والثانية من الضمير فيها أو كلاهما من ضمائر الأفعالِ المذكورة وقوله كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى من تتمة التسخيرِ أو خبران عن قوله الله خبراً بعد خبر والموصولُ صفةٌ للمبتدأ جيء به للدلالة على تحقيق الخبرِ وتعظيمِ شأنِه كما في قول الفرزدق ... إن الذي سمك السماءَ بنى لنا ... بيتاً دعائمُه أعزُّ وأطول ... {لَعَلَّكُمْ} عند معاينتِكم لها وعثورِكم على تفاصيلها {بِلِقَاء رَبّكُمْ} بملاقاته للجزاء {تُوقِنُونَ} فإن من تدبّرها حقَّ التدبر أيقن أن من قدَر على إبداع هذه الصنائعِ البديعةِ على كل شىء قديرٌ وأن لهذه التدبيراتِ المتينة عواقبَ وغاياتٍ لا بد من وصولها وقد بُيّنتْ على ألسنة الأنبياءِ عليهم السلام أن ذلك ابتلاء المكلفين ثم جزاؤهم حسب أعمالِهم فإذن لا بد من الإيقان بالجزاء ولمّا قرر الشواهدَ العلوية أردفها بذكر الدلائلِ السفلية فقال

3

(وَهُوَ الذى مَدَّ الأرض) أي بسطها طولاً وعَرضاً قال الأصم المد هو البسطُ إلى ما لا يدرك منتهاه ففيه دَلالةٌ على بعد مداها وسَعةِ أقطارها {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} أي جبالاً ثوابتَ في أحيازها من الرُّسوّ وهو ثباتُ الأجسام الثقيلة ولم يُذكر الموصوفُ لإغناء غلبة الوصفِ بها

عن ذلك وانحصارُ مجيءِ فواعل جمعاً لفاعل في فوارس وهو الك ونواكسَ إنما هو في صفات العقلاءِ وأما في غيرهم فلا يراعى ذلك أصلاً كما في قوله تعالى أَيَّامًا معدودات وقوله الحج أَشْهُرٌ معلومات إلى غير ذلك فلا حاجة إلى أن يُجعل مفردُها صفةً لجمع القلة أعني أجبُلاً ويعتبر في جمع الكثرة أعني جبالاً انتظامُها لطائفة من جموع القلة وتنزيلُ كلَ منها منزلة مفردِها كما قيل على أنه لا مجال لذلك فإن جمعيةَ كلَ من صبغتي الجمعَين إنما هي باعتبار الأفرادِ التي تحتها لا باعتبار انتظام جمعِ القلةِ للأفراد وجمعِ الكثرة لجموع القلة فكل منها جمعُ جبلٍ لا أن جبالاً جمعُ أجبل كما أن طوائفَ جمعُ طائفة ولا إلى أن يُلتجأَ إلى جعل الوصفِ المذكور بالغلبة في عداد الأسماءِ التي تُجمع على فواعل كما ظن على أنه لا وجه له لما أن الغلبةَ إنما هي في الجمع دون المفردِ والتعبيرُ عن الجبال بهذا العنوانِ لبيان تفرّعِ قرارِ الأرض على ثباتها {وأنهارا} مجاريَ واسعةً والمرادُ ما يجري فيها من المياه وفي نظمها مع الجبال في معمولية فعلٍ واحد إشارةٌ إلى أن الجبالَ منشأٌ للأنهار وبيانٌ لفائدة أخرى للجبال غيرِ كونها حافظةً للأرض عن الاضطراب المُخِلّ بثبات الأقدام وتقلّب الحيوان متفرّعةً على تمكنه وتقلّبه وهي تعيُّشُه بالماء والكلأ {وَمِن كُلّ الثمرات} متعلقٌ بجعل في قوله تعالى {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين} أي اثنينية حقيقية وهما الفردان اللذان كلٌّ منهما زوجُ الآخر وأكدبه الزوجين لئلا يُفهم أن المرادَ بذلك الشفْعان إذ يطلق الزوجُ على المجموع ولكن اثنينية ذلك اثنينيةً اعتبارية أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضر بين صنفين إما في اللون كالأبيض والأسود أو في الطعم كالحُلو والحامض أو في القدر كالصغير والكبير أو في الكيفية كالحار والبارد وما أشبه ذلك ويجوز أن يتعلق بجعَلَ الأولِ ويكونَ الثاني استئنافاً لبيان كيفيةِ ذلك الجعْل {يُغْشِى الليل النهار} استعارةٌ تبعيةٌ تمثيليةٌ مبنيَّةٌ على تشبيه إزالةِ نورِ الجو بالظلمة بتغطية الأشياءِ الظاهرةِ بالأغطية أي يستر النهارَ بالليل والتركيب وإن احتمل العكسَ أيضاً بالحمل على تقديم المفعولِ الثاني على الأول فإن ضوء النهار أيضاً ساترٌ لظلمة الليلِ إلا أن الأنسبَ بالليل أن يكون هو الغاشي وعدُّ هذا في تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقُه بالآيات العلوية ظاهراً باعتبار أن ظهورَه في الأرض فإن الليل إنما هو ظلُّها وفيما فرق موقعِ ظلها لا ليلَ أصلاً ولأن الليل والنهار لهما تعلقٌ بالثمرات من حيث العقدُ والإنضاج على أنهما أيضاً زوجان متقابلان مثلُها وقرىء يُغشّي من التغشية {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذكر من مد الأرضِ وإيتادِها بالرواسي وإجراءِ الأنهار وخلق الثمرات وإغشاءِ الليل النهارَ وفي الإشارة بذلك تنبيهٌ على عِظَمِ شأنِ المُشار إليه في بابه (لاَيَاتٍ) باهرةً وهي آثارُ تلك الأفاعيل البديعة جلت حكمت صانعِها ففي على معناها فإن تلك الآثارَ مستقرةٌ في تلك الأفاعيل منوطةٌ بها ويجوز أنْ يُشار بذلكَ إلى تلك الآثار المدلولِ عليها بتلك الأفاعيل ففي تجريدية {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فإن التفكر فيها يؤدّي إلى الحكم بأن تكوين كلَ من ذلك على هذا النمط الرائِق والأسلوب اللائق لا بد له من مكوّن قادرٍ حكيم يفعل ما يشاء ويخار ما يريدُ لا معقِّبَ لحكمه وهو الحميد المجيد

الرعد

4

4 - {وَفِى الأرض قِطَعٌ} جملةٌ مستأنفة مشتملةٌ على طائفة أخرى من الآيات أي بقاعٌ كثيرةٌ مختلفة في الأوصاف فمن طيِّبة إلى سَبْخة وكريمة إلى زهيدة وصُلبة إلى رِخْوة إلى غير ذلك {متجاورات} أي متلاصقاتٌ وفي بعض المصاحف قطعاً متجاوراتٍ أي جعل في الأرض قطعاً {وجنات مّنْ أعناب} أي بساتينُ كثيرة منها {وَزَرْعٌ} من كل نوع من أنواع الحبوبِ وإفرادُه لمراعاة أصله ولعل تقديمَ ذكرِ الجنات عليه مع كونه عمودَ المعاشِ لظهور حالها في اختلافها ومبايَنتِها لسائرها ورسوخ ذلك فيها وتأخيرُ قوله تعالى {وَنَخِيلٌ} لئلا يقعَ بينها وبين صفتها وهي قوله تعالى {صنوان وَغَيْرُ صنوان} فاصلة والصنوان جمع صِنْو كقِنوان وقِنْو وهي النخلةُ التي لها رأسان وأصلُها واحدٌ وقرىء بضم الصاد على لغة بني تميم وقيس وقرىء جناتٍ بالنصب عطفاً على زوجين وبالجر على كل الثمرات فلعل عدمَ نظمِ قولِه تعالَى وَفِى الأرضِ قِطَعٌ متجاورات في هذا السلكِ مع أن اختصاصَ كل من تلك القِطع بما لها من الأحوال والصفات بمحض جعْل الخالقِ الحكيم جلت قدرتُه حين مد الأرضَ ودحاها للإيماء إلى كون تلك الأحوال صفاتٍ راسخةً لتلك القطع وقرىء وزرعٍ ونخيلٍ بالجر عطفاً على أعناب أو جناتٍ {يسقى} أي ما ذكر من القِطع والجنات والزرع والنخيل وقرىء بالتأنيث مراعاةً للّفظ والأول أوفقُ بمقام بيان اتحادِ الكل في حالة السقْي {بِمَاء واحد} اختلاف في طبعه سواءٌ كان السقيُ بماء الأمطار أو بماء الأنهار {وَنُفَضّلُ} مع تآخذ أسبابِ التشابه بمحض قدرتِنا واختيارنا {بَعْضَهَا على بَعْضٍ} آخَرَ منها {فِى الأكل} فيما يحصُل منها من الثمر والطعْمِ وقرىء بالياء على بناء الفاعل رداً على يدبّر ويفصّلُ ويغشي وعلى بناء المفعول وفيه مالا يخفى من الفخامة والدلالة على أن عدمَ احتمال استنادِ الفعل إلى فاعل آخرَ مغنٍ عن بناء الفعل للفاعل {إِنَّ فِى ذَلِكَ} الذي فُصّل من أحوال القِطع والجنات {لاَيَاتٍ} كثيرةً عظيمةً ظاهرة {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يعلمون على قضية عقولِهم فإن من عقَل هذه الأحوالَ العجيبةَ لا يتعلثم في الجزم بأن مَن قدَر على إبداع هذه البدائعِ وخلقَ تلك الثمارَ المختلفة في الأشكال والألوان والطعومِ والروائحِ في تلك القِطع المتباينةِ المتجاورةِ وجعَلَها حدائقَ ذاتَ بهجةٍ قادرٌ على إعادة ما أبداه بل هي أهونُ في القياس وهذه الأحوالُ وإن كانت هي الآياتِ أنفسَها لا أنها فيها إلا أنه قد جُرّدت عنها أمثالُها مبالغةً في كونها آيةً ففي تجريديةٌ مثلُها في قولِه تعالَى لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ أو المشارُ إليه الأحوالُ الكلية والآياتُ أفرادُها الحادثةُ شيئاً فشيئاً في الأزمنة وآحادُها الواقعةُ في الأقطار والأمكنةِ المشاهدة لأهلها ففي على معناها وحيث كانت دلالةُ هذه الأحوالِ على مدلولاتها أظهرَ مما سبق علق كونُها آياتٍ بمحض التعقّل ولذلك لم يتعرض لغير تفضيل بعضِها على بعض في الأكُل الظاهرِ لكل عاقلٍ مع تحقق ذلك في الخواصّ والكيفيات مما يتوقف العثورُ عليه على نوع تأملٍ وتفكر كأنه لا حاجة في ذلكَ إلى التفكر أيضاً وفيه تعريضٌ بأن المشركين غيرُ عاقلين

الرعد

5

5 - 6 {وَإِن تَعْجَبْ} يا محمد من شيء {فَعَجَبٌ} لا أعجبُ منه حقيقٌ بأن يُقصَرَ عليه التعجب {قَوْلُهُمْ} بعد مشاهدةِ ما عدد لك من الآيات الشاهدةِ بأنه تعالَى على كُلِّ شيءٍ قدير {أئذا كُنَّا تُرَابًا} على طريقة الاستفهامِ الإنكاريِّ المفيدِ لكمال الاستبعادِ والاستنكارِ وهو في محلِ الرفعِ على البدلية من قولهم على أنه بمعنى المقول أو في محلِّ النصبِ على المفعولية منه على أنَّه مصدرٌ فالعجبُ على الأول كلامُهم وعلى الثاني تكلّمُهم بذلك والعاملُ فِي إذَا ما دل عليه قوله {أئنا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو نُبعث أو نعاد وتقديمُ الظَّرفِ لتقويةِ الإنكارِ بالبعث بتوجيهه إليه في حالةٍ منافيةٍ له وتكريرُ الهمزة في قولهم أئنا لتأكيد الإنكارِ وليس مدارُ إنكارِهم كونَهم ثابتين في الخلق الجديد بالفعل عند كونِهم بعريضة ذلك واستعدادِهم له وفيه من الدلالة على عتوّهم وتماديهم في النكير ما لا يخفى وقيل إن تعجب من قولهم في إنكار البعثِ فعجبٌ قولُهم والمآلُ وإن تعجبْ فقد تعجّبت في موضع التعجّبِ وقيل وإن تعجب من إنكارِهم البعثَ فعجبٌ قولُهم الدالُّ عليه فتأمل وقد جُوّز كونُ الخطاب لكلِّ من يصلُح له أي إن تعجبْ يا من ينظُر في هذه الآياتِ من قدرة مَنْ هذه أفعالُه فازددْ تعجباً ممن ينكر مع هذه الدلائلِ قدرتِه تعالى على البعث وهو أهونُ من هذه والأنسبُ بقوله ويستعجلونك بالسيئة هُو الأولُ وقولُه تعالى فَعَجَبٌ خبرٌ قُدّم على المبتدأ للقصر والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم ذاك أمراً عجيباً ويجوز أن يكون مبتدأً لكونه موصوفاً بالوصف المقدر كما أشير إليه فالمعنى وإن تعجب فالعجب الذي لا عجب وراءه قولُهم هذا فاعجب منه وعلى الأول وإن تعجب فقولُهم هذا عجبٌ لا عجبَ فوقه {أولئك} مبتدأٌ والموصولُ خبرُه أي أولئك المنكرون لقدرته تعالى على البعث ريثما عاينوا ما فُصّل من الآيات الباهرةِ المُلْجئة لهم إلى الإيمان لو كانوا يبصرون {الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ} وتمادَوْا في ذلك فإن إنكارهم لقدرته عز وجل كفرٌ به وأيُّ كفر {وَأُوْلئِكَ} مبتدأ خبرُه قوله {الأغلال فِى أعناقهم} أي مقيّدون بقيود الضلال لا يرجى خلاصُهم أو مغلولون يوم القيامة {وَأُوْلئِكَ} الموصوفون بما ذكر من الصفات {أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} لا ينفكوّن عنها وتوسيطُ ضمير الفصلِ ليس لتخصيص الخلودِ بمنكري البعثِ خاصة بل بالجميع المدلولِ عليه بقوله تعالى {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ}

6

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة} بالعقوبة التي أُنذِروها وذلك حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيَهم بالعذاب استهزاءً منهم بإنذاره {قَبْلَ الحسنة} أي العافيةِ والإحسانِ إليهم بالإمهال {وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات} أي عقوباتُ أمثالِهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها ولا يحترزون حلولَ مثلها

الرعد 7 8 بهم والجملة الحاليةُ لبيان ركاكةِ رأيِهم في الاستعجال بطريق الاستهزاءِ أي يستعجلونك بها مستهزئين بإنذارك منكِرين لوقوع ما أنذرتَهم إياه والحالُ أنه قد مضت العقوباتُ النازلةُ على أمثالهم من المكذبين والمستهزئين والمُثْلة بوزن السُّمْرة العقوبةُ سميت بها لما بينها وبين المعاقَب عليه من المماثلة ومنه المثال القصاص وقرىء المُثُلات بضمتين بإتباع الفاء العين والمَثْلات بفتح الميم وسكون الثاء كما يقال السَّمْرة والمُثْلات بضم الميم وسكون الثاء تخفيف المُثُلات جمع مُثْلة كرُكبة ورُكْبات {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} عظيمةٍ {لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} أنفسهم بالذنوب والمعاصي ومحلُّه النصبُ عَلى الحاليّةِ أي ظالمين والعاملُ فيه المغفرة والمعنى إن ربك لغفورٌ للناس لا يعجّل لهم العقوبةَ وإن كانوا ظالمين بل يمهلهم بتأخيرها {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} يعاقب من يشاء منهم حين يشاء فتأخيرُ ما استعجلوه ليس للإهمال وعنه عليه الصلاة والسلام لولا عفوُ الله وتجاوزُه ما هنأ لأحد العيشُ ولولا وعيده وعقابه لا تكل كُلُّ أحد

7

{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ} وهم المستعجلون أيضاً وإنما عدَل عن الإضمار إلى الموصول ذماً لهم ونعياً عليهم كفرَهم بآياتِ الله تعالى التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال حيث لم يرفعُوا لها رأساً ولم يعُدّوها من جنس الآيات وَقَالُواْ {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آية مّن رَّبّهِ} مثلَ آياتِ موسى وعيسى عليهما الصلاة السلام عناداً ومكابرةً وإلا ففي أدنى آيةٍ أُنزلت عليه الصلاة والسلام غُنيةٌ وعِبرةٌ لأولي الألباب {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ} مرسَلٌ للإنذار من سوء عاقبةِ ما يأتون ويذرون كدأب مَنْ قبلك من الرسل وليس عليك إلا الإتيانُ بما يُعلم به نُبوَّتُك وقد حصل ذلكَ بما لا مزيدَ عليهِ ولا حاجةَ إلى إلزامهم وإلقامِهم الحجرَ بالإتيان بما اقترحوا من الآيات {وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ} معينٌ لا بالذات بل بعنوان الهدايةِ يعني لكل قوم نبيٌّ مخصوصٌ له هدايةٌ مخصوصةٌ يقتضي اختصاصُ كلَ منهم بما يختص به حكم لا يعلمُها إلا الله أو لكل قوم هادٍ عظيمُ الشأنِ قادرٌ على ذلك هو الله سبحانه وما عليك إلا إنذارُهم فلا يُهِمَنك عنادُهم وإنكارُهم للآيات المنزّلةِ عليك وازدراؤهم بها ثم عقّبه بما يدل على كمال علمِه وقدرتِه وشمولِ قضائِه وقدَره المبنيَّين على الحِكَم والمصالحِ تنبها على أن تخصيصَ كلِّ قوم بنبي وكل نبي بجنس معين من الآيات إنما هو للحِكَم الداعية إلى ذلك إظهاراً لكمال قدرتِه على هدايتهم لكن لا يهدي إلا من تعلّق بهدايته مشيئتُه التابعةُ لِحكَم استأثر بعلمها فقال

8

{الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} أي تحمِله فما موصولةٌ أُريد بها ما في بطنها من حين العُلوقِ إلى زمن الولادةِ لا بعد تكاملِ الخلقِ فقط والعلمُ متعدَ إلى واحد أو أيَّ شيءٍ تحملُ وعلى أي حال هو من الأحوال المتواردةِ عليه طوراً فطوراً فهي استفهاميةٌ معلقةٌ للعلم أو حملَها فهي مصدرية {وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ} أي تنقُصه وتزداده في الجُثة كالخَديج والتام وفي المدة كالمولود في أقلِّ مدة الحملِ والمولود في أكثرها وفيما بينهما قيل إن الضحاك ولد في سنتين وهرم بن حيان في أربع ومن ذلك سُمِّي هرِماً وفي العدد كالواحد فما فوقه يروى أن شريكاً كان رابعَ أربعةٍ أو يعلم نقصها وإزديادها

الرعد 9 11 لما فيها فالفعلان متعدّيان كما في قوله تعالى {وَغِيضَ الماء} وقوله تعالى {وازدادوا تسعا} وقوله تزداد كيل بعير أولا زمان قد أسند إلى الأرحام مجازاً وهما لما فيها {وَكُلَّ شىْء} من الأشياءِ {عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} بقدر لا يمكن تجاوزُه عنه كقوله إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ فإن كل حادثٍ من الأعيان والأعراضِ له في كل مرتبةٍ من مراتب التكوينِ ومباديها وقتٌ معينٌ وحالٌ مخصوص لا يكاد يجاوزه والمرادُ بالعندية الحضورُ العلميُّ بل العلمُ الحضوريُّ فإن تحقق الأشياءِ في أنفسها في أي مرتبة كانت من مراتبُ الوجود والاستعداد لذلك علمٌ له بالنسبة إلى الله عزَّ وجلَّ

9

{عالم الغيب} أي الغائبِ عن الحس {والشهادة} أي الحاضرِ له عبر عنهما بهما مبالغةً وقيل أريد بالغيب المعدومُ وبالشهادة الموجودُ وهو خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أو خبرٌ بعد خبر وقرىء بالنصب على المدح وهذا كالدليلِ على ما قبلَهُ من قوله تعالى الله يَعْلَمُ الخ {الكبير} العظيمُ الشأنِ الذي كلُّ شيء دونه {المتعال} المستعلي على كل شيء بقدرته أو المنزَّهُ عن نعوت المخلوقات وبعد ما بيَّن سبحانَه أنه عالم بجميع أحوالِ الإنسان في مراتبِ فطرتِه ومحيطٌ بعالَمي الغيب والشهادة بين أنه تعالى عالمٌ بجميع ما يأتون وما يذرون من الأفعال والأقوال وأنه لا فرق بالنسبة إليه بين السرِّ والعلن فقال

10

{سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول} في نفسه {وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} أظهره لغيره {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ} مبالغٌ في الاختفاء كأنه مختفٍ {بالليل} وطالبٌ للزيادة {وَسَارِبٌ} بارزٌ يراه كلُّ أحد {بالنهار} من سرَب سروباً أي برَز وهو عطفٌ على مَنْ هو مستخفٍ أو على مستخف ومن عبارةٌ عن الاثنين كما في قوله تعالى {فإن عاهدتَني لا تخونُني نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يصطحبانِ} كأنه قيل سواءٌ منكم اثنان مستخفٍ بالليل وساربٌ بالنهار والاستواءُ وإن أسند إلى من أسرّ ومن جهَر وإلى المستخفي والساربِ لكنه في الحقيقة مسنَدٌ إلى ما أسّره وما جهرَ به أو والى الفاعل من حيث هو فاعلٌ كما في الأخيرين وتقديمُ الإسرارِ والاستخفاءِ لإظهار كمالِ علمِه تعالى فكأنه في التعلق بالخفيات أقدمُ منه بالظواهر وإلا فنِسبتُه إلى الكل سواءٌ لما عرَفته آنفاً

11

{لَهُ} أي لكلَ ممن أسرّ أو جهر والمستخفي أو السارب {معقبات} ملائكةٌ تعتقِبُ في حفظه جمعُ معقّبة من عقّبه مبالغةُ عقَبه إذا جاء على عقِبه كأن بعضَهم يعقُب بعضاً أو لأنهم يعقُبون أقوالَه وأفعاله فيكتُبونه أو اعتقب فأُدغمت التاء في القاف والتاء للمبالغة أو المرادُ بالمعقّبات الجماعاتُ وقرىء معاقيبُ جمع معقب أو معقبة على تعويض الياء من إحدى القافين {من بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفِه} من جميع جوانبِه أو من الأعمال ما قدَّم وأخَّر {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} من بأسه حين أذنب بالاستمهال والاستغفارِ له أو يحفظونه من المضارّ أو

الرعد 12 13 يراقبون أحوال من أجل أمر الله تعالى وقد قرىء به وقيل من بمعنى الباء وقيل من أمر الله صفةٌ ثانيةٌ لمعقّبات وقيل المعقّبات الحرّاسُ والجلاوِزةُ حولَ السلطان يحفَظونه في توهّمه من قضاء الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ} من النعمة والعافية {حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} من الأعمالِ الصالحةِ أو ملَكاتها التي هي فطرة الله التي فطرَ النَّاسَ عليها إلى أضدادها {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا} لسوء اختيارِهم واستحقاقِهم لذلك {فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} فلا ردَّ له والعاملُ في إذَا ما دل عليه الجوابُ {وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ} يلي أمرَهم ويدفع عنهم السوءَ الذي أراده الله بهم بما قدمت أيديهم من تغيير ما بهم وفيه دلالة على أن تخلّف مرادِه تعالى مُحالٌ وإيذانٌ بأنهم بما باشروه من إنكار البعث واستعجال السيئة واقتراحِ الآية قد غيَّروا ما بأنفسهم من الفطرة واستحقوا لذلك حلولَ غضبِ الله تعالى وعذابِه

12

{هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرقَ خَوْفًا} من الصاعقة {وَطَمَعًا} في المطر فوجهُ تقديم الخوفِ على الطمع ظاهر لما أن المَخوفَ عليه النفسُ أو الرزق العتيدُ والمطموعُ فيه الرزقُ المترقَّبُ وقيل الخوف أيضاً من المطر لكنْ الخائفُ منه غيرُ الطامع فيه كالخزّاف والحراث ويأباه الترتيب إلا أن يتكلف ما أشيرَ إليهِ من أن المَخوفَ عتيدٌ والمطموعَ فيه مترقَّبٌ وانتصابُهما إما على المصدرية أي فتخافون خوفاً وتطمعون طمعاً أو على الحالية من البرق أو المخاطبين بإضمار ذوي أو بجعل المصدرِ بمعنى المفعول أو الفاعل مبالغةً أو على العِلّية بتقدير المضاف أي إرادةَ خوفٍ وطمعٍ أو بتأويل الإخافة والإطماعِ ليتّحد فاعلُ العِلة والفعل المعلّل وأما جعلُ المعلل هي الرؤية التي تتضمنها الإرادةُ على طريقة قولِ النَّابغةِ وحلّت بيوتي في يَفاعٍ ممنَّع تَخال به راعي الحَمولةِ طائرا ... حِذاراً على أن لا يُنال معاوني ولا نِسوتي حتى يمُتْن حرائرا أي أحللت بيوتي حِذاراً فلا سبيل إليه لأن ما وقع في معرض العلة الغائبة لا سيما الخوفُ لا يصلح علة لرؤيتهم {وينشئ السحاب} الغمامَ المنسحبَ في الجو {الثقال} بالماء وهي جمعُ ثقيلةٍ وُصف بها السحابُ لكونها اسمَ جنسٍ في معنى الجمع والواحدةُ سحابة يقال سحابةٌ ثقيلة وسحاب ثِقال كما يقال امرأة كريمة ونسوة كرام

13

{وَيُسَبّحُ الرعد} أي سامعوه من العباد الراجين للمطر ملتبسين {بِحَمْدِهِ} أي يضِجّون بسبحان الله والحمد لله وإسنادُه إلى الرعد لحمله لهم على ذلك أو يسبح الرعدُ نفسه على أن تسبيحه عبارةٌ عن دلالته على وحدانيته تعالى وفضلِه المستوجبِ لحمده وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه كان يقول سُبحانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بحمدِهِ وإذا اشتد يقول اللهم لا تقتُلْنا بغضبك ولا تُهلِكنا بعذابك وعافِنا قبل ذلك وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه سبحان من سبَّحْتَ له وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن اليهود سألت النبيَّ صلَّى الله عليهِ وسلم عن الرعد فقال ملَكٌ من الملائكة موكلٌ بالسحاب معه مخا ريق من نار

يسوق بها السحابَ وعن الحسن خلقٌ من خلقِ الله تعالَى ليس بملك {والملائكة} أي يسبح الملائكة {مِنْ خِيفَتِهِ} من هيبته وإجلالِه جل جلاله وقيل الضمير للرعد {وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء} فيُهلكه بذلك {وَهُمْ} أي الكفرةُ المخاطبون في قولِه تعالى {هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق} وقد التُفت إلى الغَيبة إيذاناً بإسقاطهم عن درجة الخِطاب وإعراضاً عنهم وتعديداً لجناياتهم لدى كلِّ من يستحق الخطابَ كأنه قيل هو الذي يفعل أمثالَ هذه الأفاعيلِ العجيبةِ من إراءة البرقِ وإنشاء السحابِ الثقالِ وإرسالِ الصواعقِ الدالةِ على كمال علمه وقدرته ويعقِلُها مَنْ يعقِلها من المؤمنين أو الرعدُ نفسه أو الملكُ الموكلُ به والملائكةُ ويعملون بموجب ذلك من التسبيح والحمد والخوفِ من هيبته تعالى وهم أي الكفرة الذين حُكيت هَناتُهم مع ذلهم وهوانهم وحقارةِ شأنهم {يجادلون فِى الله} أي في شأنه تعالى حيث يفعلون ما يفعلون من إنكار البعثِ واستعجالِ العذاب استهزاءً واقتراحِ الآيات فالواو لعطف الجملةِ على ما قبلَها من قولِه تعالى {هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق} الخ أو على قوله {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ} الخ وأما العطفُ على قوله تعالى {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ} كما قيل فلا مجال له لأن قوله تعالى الله يَعْلَمُ الخ استئنافٌ لبيان بطلانِ قولهِم ذلك ونظائرِه من استعجال العذابِ وإنكار البعثِ قاطعٌ لعطف ما بعده على ما قبله وقيل للحال أي فيصيب بالصواعق من يشاء وهم في الجدال وقد أريد به ما أصاب أربدَ بنَ ربيعةَ أخا لبيد فإنه أقبل مع عامر بن الطفيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغيانه الغوائلَ فدخلا المسجد وهو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جالسٌ في نفر من الأصحاب رضي الله عنهم فاستشرفوا الجمال عامر وكان من أجمل الناسِ وقد كان أوصى إلى أربد أنه إذا رأيتني أكلم محمدا صلى الله عليه وسلم فدُرْ من خلفه واضرِبْه بالسيف فجعل يكلمه صلى الله عليه وسلم فدار أربد من خلفه صلى الله عليه وسلم فاخترط من سيفه شبراً فحبسه الله تعالى فلم يقدِر على سلّه وجعل عامرٌ يومىء إليه فرأى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم الحال فقال اللهم اكفيهما بما شئت فأرسل الله عزَّ وجلَّ على أربد صاعقةً في يوم صحْوٍ صائفٍ فأحرقتْه وولى عامرٌ هارباً فنزل في بيت امرأة سَلولية فلما أصبح ضم عليه سلاحَه وتغيّر لونُه وركب فرسه فجعل يركُض في الصحراء ويقول ابرُزْ يا ملكَ الموت ويقول الشعر ويقول واللاتِ لئن أصْحر لي محمد وصاحبُه يعني ملك الموت لأنفذتهما برمحي فأرسل الله تعالى ملكاً فلطَمه بجناحه فأرداه في التراب فخرجت على ركبته في الوقت غُدةٌ عظيمة فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول غرة كغرة البعير وموتٌ في بيت سلولية ثم دعا بفرسه فركبه فأجراه حتى مات على ظهره وقيلَ أريدَ بهِ ما رُويَ عنِ الحسنِ أنه كان رجلٌ من طواغيت العرب فبعث النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم نفراً من أصحابه يدعونه إلى الله عزَّ وجلَّ فقال لهم أخبروني عما تدعونني إليه ما هو ومم هو من ذهب أم من فضة أم من نحاس أم من حديد أم من دُرّ فاستعظموا مقالتَه فرجعوا إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فقالوا ما رأينا رجلاً أكفرَ قلباً ولا أعتى على الله منه فقال صلى الله عليه وسلم ارجعوا اليه فرجعوا إليه فما زاد إلا مقالتَه الأولى وأخبثَ فرجعوا إليه صلى الله عليه وسلم وأخبَروه بما صنع فقال صلى الله عليه وسلم ارجعوا إليه فرجعوا فبينما هم عنده ينازعونه إذ ارتفعت سحابةٌ ورعَدت وبرِقت ورمَتْ بصاعقة فاحترق الكافرُ فجاءوا يسعَوْن ليخبروه صلى الله عليه وسلم بالخبر فاستقبلهم الأصحاب فقالوا احترق صاحبُكم قالوا من أين علمتم قالوا أُوحيَ إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم {وَهُوَ شَدِيدُ المحال} أي والحال أنه شديدا لمما حلة والمكابرة والمماكرةِ لأعدائه من مَحَله إذا كاده وعرّضه للهلاك ومنه تمحل اذا تكلف استعمال الحِيل وقيل هو محال من

الرعد 14 15 المَحْل بمعنى القوة وقيل مُحوّل من الحول أو الحيلة أُعلَّ على غير قياس ويعضُده أنه قرىء بفتح الميم على أنه مَفعَل من حال يحول إذا احتال ويجوز أن يكون بمعنى الفقار فيكون مثلاً في القوة والقدرة كقولهم فساعدُ الله أشدُّ وموساه أحدّ

14

{لَهُ دَعْوَةُ الحق} أي الدعوةُ الثابتة الواقعة في محلها المجابةُ عند وقوعِها والإضافةُ للإيذان بملابستها للحق واختصاصِها به وكونِه بمعزل من شائبة البطلانِ والضَّياع والضلال كما يقال كلمةُ الحق وقبل له دعوةُ الله سبحانه أي الدعوةُ اللائقة بحضرته كما في قوله صلى الله عليه وسلم فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله والتعرضُ لوصف الحقّية لتربية معنى الاستجابةِ والأولى هو الأولُ لقوله تعالى وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال وتعلقُ الجملتين بما قبلهما من حيث أن إهلاكَ أربد وعامرٍ مِحالٌ من الله تعالى وإجابةٌ لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما إن كانت الآية نزلت في شأنهما أو من حيث إنه وعيدٌ للكفرة على مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلول مِحالِه بهم وتحذيرٌ لهم بإجابة دعوتِه عليهم {والذين يَدْعُونَ} أي الأصنامَ الذين يدعوهم المشركون فحُذف العائد {مِن دُونِهِ} من دون الله عزَّ وجلَّ {لا يستجيبون لهم بشىء} من طلباتهم {إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ إِلَى الماء} أي إلا استجابة كائنة كاستجابه الماء لمن بسَط كفيه إليه من بعيد فالاستجابةُ مصدرٌ من المبنيّ للفاعل على ما يقتضيه الفعلُ الظاهر عني لا يستجيبون ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ المبنيِّ للمفعول ويُضاف إلى الباسط بناءً على استلزام المصدرُ من المبني للفاعل للمصدر من المبني للمفعول وجوداً وعدماً فكأنه قيل لا يستجيبون لهم بشيء فلا يستجاب لهم إلا استجابة كائنة كاستجابه من بسط كفيه إلى الماء كما في قوله ... وعضّةُ دهرٍ يا ابنَ مروانَ لم تَدَع ... مِنَ المالِ إلا مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ ... أيْ لَم تدعَ فلم يبقَ إلا مسحتٌ أو مجلِّف {لِيَبْلُغَ} أي الماءُ بنفسه من غير أن يؤخذ بشيء من إناء ونحوه {فَاهُ وَمَا هُوَ} أي الماء {بِبَالِغِهِ} ببالغ فيه أبداً لكونه جماداً لا يشعُر بعطشه ولا ببسط يدِه إليه فضلاً عن الاستطاعة لما أراده من البلوغ إلى فيه شبّه حالُ المشركين في عدم حصولهم في دعاء آلهتِهم على شيء أصلاً وركاكةِ رأيهم في ذلك بحال عطشانَ هائمٍ لا يدري ما يفعل قد بسط كفيه من بعيد إلى الماء يبغي وصولَه إلى فيه من غير ملاحظةِ التشبيه في جميع مفرداتِ الأطراف فإن الماءَ في نفسه شيءٌ نافع بخلاف آلهتِهم والمرادُ نفيُ الاستجابةِ رأساً إلا أنه قد أُخرج الكلامُ مُخرج التهكم بهم فقيل لا يستجيبون لهم شيئاً من الاستجابة كائنة في هذه الصورةِ التي ليست فيها شائبةُ الاستجابة قطعاً فهو في الحقيقة من باب التعليقِ بالمحال وقرىء تدعون بالتاء وكباسطٍ بالتنوين {وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال} أي ذهاب وضَياعٍ وخَسار

15

{وَللَّهِ} وحده {يَسْجُدُ} يخضع وينقاد لا لشيء غيرِه استقلالا ولا اشتراكا فالقصرُ ينتظم القلبَ والإفراد {مَن فِى السماوات والارض} من الملائكةِ والثَّقلين {طَوْعًا وَكَرْهًا} أي الطائعين وكارهين أو انقياد طوعٍ وكُرهٍ أو حالَ طوعٍ وكره فإن خضوعَ الكل لعظمة الله عز

الرعد 16 وجل وانقيادَهم لإحداث ما أراده فيهم من أحكام التكوين والإعدام شاءوا أو أبَوا وعدمُ مداخلةِ حكمِ غيره بل غيرِ حكمِه تعالى في تلك الشئون مما لا يخفى على أحد {وظلالهم} أي وتنقاد له تعالى ظلالُ مَنْ له ظلٌ منهم أعني الإنسَ حيث تتصرف على مشيئته وتتأتّى لإرادته في الامتداد والتقلّص والفيء والزوال {بالغدو والآصال} ظرف السجود المقدّر أو حالٌ من الظلال وتخصيص الوقتين بالذكرمع أن انقيادها متحققٌ في جميع أوقات وجودِها لظهور ذلك فيهما والغدو جميع غَداة كفتيّ في جمع فتاة والآصالُ جمع أصيل وقيل جمع أُصُل وهو جمعُ أَصيلٍ وهو ما بين العصر والمغربِ وقيل الغدوّ مصدرٌ ويؤيده أنه قرىء والإيصالِ أي الدخول في الأصيل هذا وقد قيلَ إنَّ المرادَ حقيقةُ السجود فإن الكفرة حال الاضطرارِ وهو المعنيُّ بقوله تعالى وَكَرْهًا يخُصّون السجودَ به سبحانه قال تعالى فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ولا يبعُد أنْ يخلُق الله تعالى في الظلال أفهاماً وعقولاً بها تسجُد لله سبحانه كما خلقها للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهر فيها آثارُ التجلّي كما قاله ابن الأنباري ويجوز أن يراد بسجودها ما يشاهَد فيها من هيئة السجود تبعاً لأصحابها وأنت خبير بأن اختصاصَ سجودِ الكافر حالة الضرورةِ والشدة بالله سبحانه لا يُجدي فإن سجودَهم لأصنامهم حالة الرخاء تخل بالقصر المستفادِ من تقديم الجار والمجرور فالوجهُ حملُ السجودِ على الانقياد ولأن تحقيقَ انقيادِ الكل في الإبداع والإعدامِ له تعالى أدخلُ في التوبيخ على اتخاذ أولياءَ من دونه من تحقيق سجودِهم له تعالى وتخصيصُ انقيادِ العقلاءِ بالذكر مع كون غيرِهم أيضاً كذلك لأنهم العُمدة وانقيادهم دليل انقيادُ غيرهم على أنه بين ذلك بقوله عز وجل

16

{قل من رب السماوات والأرض} فإنه لتحقيق أن خالقَهما ومتولّيَ أمرهما مع ما فيهما على الإطلاق هو الله سبحانه وقوله تعالى {قُلِ الله} أمرٌ بالجواب من قبله صلى الله عليه وسلم إشعاراً بأنه متعيِّن للجوابية فهو والخصمُ في تقريره سواءٌ أو أمرٌ بحكاية اعترافِهم إيذاناً بأنه أمرٌ لا بد لهم من ذلك كأنه قيل احْكِ اعترافَهم فبكِّتْهم بما يلزمهم من الحجة وألقِمْهم الحجَر أو أمرٌ بتلقينهم ذلك إن تلعثموا في الجواب حذراً من الإلزام فإنهم لا يتمالكون إذ ذاك ولا يقدرون على إنكاره {قُلْ} إلزاماً لهم وتبكيتاً {أفاتخذتم} لأنفسكم والهمزةُ لإنكارِ الواقعِ كَما في قولك أضربتَ أباك لا لإنكار الوقوعِ كما في قولك أضربتَ أبي والفاء للعطف على مقدر بعد الهمزةِ أي أعلمتم أن ربهما هو الله الذي ينقاد لأمره مَنْ فيهما كافةً فاتخذتم عَقيبَه {مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} عاجزين {لاَ يَمْلِكُونَ لانْفُسِهِمْ نَفْعًا} يستجلبونه {وَلاَ ضَرّا} يدفعونه عن أنفسهم فضلاً عن القدرة على جلب النفعِ لغيره ودفع الضررِ عنه لا على الإنكارُ متوجِّهاً إلى المعطوفَين معاً كما في قولِهِ تعالى {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} إذا قُدّر المعطوفُ عليه ألا تسمعون بل إلى ترتب الثاني على الأول مع

وجوب أن يترتبَ عليه نقيضُه كما إذا قُدِّر أتسمعون والمعنى أبعد أن علِمتم أن ربَّهما هو الله جل جلاله اتخذتم من دونه أولياءَ عجَزَةً والحال أن قضيةَ العلم بذلك إنما هو الاقتصارُ على تولّيه فعكستم الأمر كما في قوله تعالى كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى ووصف الأولياء ههنا بعدم المالكية للنفع والضر في ترشيح الإنكارِ وتأكيدهِ كنقييد الاتخاذِ هناك بالجملة الحالية أعني قولَه تعالى {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} فإن كلاًّ منهما مما ينفي الاتخاذَ المذكور ويؤكد إنكاره {قُلْ} تصويرا لآرائهم الركيكة بصورة المحسوس {هَلْ يَسْتَوِى الأعمى} الذي هو المشركُ الجاهل بالعبادة ومستحقِها {والبصير} الذي هو الموحِّد العالم بذلك أو الأولُ عبارةٌ عن المعبود الغافل والثاني إشارةٌ إلى المعبود العالمِ بكل شيء {أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات} التي هي عبارةٌ عن الكفر والضلال {والنور} الذي هو عبارةٌ عن التوحيد والإيمان وقرىء بالياء ولمّا دل النظمُ الكريمُ على أنْ الكفر فيما فعلوا من اتخاذ الأصنامِ أولياءَ من دون الله سبحانه في الضلال المحضِ والخطأ البحت بحيث لا يخفى بطلانُه على أحد وأنهم في ذلك كالأعمى الذي لا يُهتدَى إلى شيء أصلاً وليس لهم في ذلكَ شبهةٌ تصلح أن تكون منشأً لغلطهم وخطئهم فضلاً عن الحجة أُكّد ذلك فقيل {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ} أي بل أجعلوا له {شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} سبحانه والهمزةُ لإنكارِ الوقوعِ لا لإنكار الواقع مع وقوعه وقوله خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ هو الذي يتوجه إليه الإنكار وأما نفسُ الجعل فهو واقعٌ لا يتعلق به الإنكارُ بهذا المعنى والمعنى أنهم لم يجعلوا لله تعالى شركاءَ خلقوا كخلقه {فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ} بسبب ذلك وقالوا هؤلاء خلقوا كخلقه تعالى فاستحقوا بذلك العبادةَ كما استحقها ليكونَ ذلك منشأً لخطئهم بل إنما جعلوا له شركاءَ ما هو بمعزل من ذلك بالمرة وفيه ما لا يَخفْى من التعريض بركاكة رأيِهم والتهكم بهم {قُلْ} تحقيقاً للحقِّ وإرشاداً لهُم إليه {الله خالق كُلّ شَىْء} كافةً لا خالقَ سواه فيشاركَه في استحقاق العبادة {وَهُوَ الواحد} المتوحّدُ بالألوهية المتفرّدُ بالربوبية {القهار} لكل ما سواه فكيف يُتوهّم أن يكونَ له شريكٌ وبعد مُثّل المشركُ والشركُ بالأعمى والظلماتِ والموحدُ والتوحيدُ بالبصير والنور مُثّل الحقُّ الذي هو القرآنُ العظيم في فيضانه من جناب القدسِ على قلوب خاليةٍ عنه متفاوتةِ الاستعداد وفي جريانه عليها ملاحظةً وحفظاً وعلى الألسنة مذاكرةً وتلاوةً وفي ثباته فيهما مع كونه مُمِدّاً لحياتها الروحانية وما يتلوها من الملكات السنية والأعمالِ المرضيّة بالماء النازلِ من السماء السائلِ في أودية يابسةٍ لم تجرِ عادتُها بذلك سيلاناً مقدراً بمقدار اقتضتْه الحكمةُ في إحياء الأرضِ وما عليها الباقي فيها حسبما يدور عليه منافعُ الناس وفي كونه حليةً تتحلّى به النفوسُ وتصل إلى البهجة الأبدية ومتاعاً يُتمتّع به في المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزّات التي يُتخذ منها أنواعُ الآلات والأدواتِ وتبقى منتَفعاً بها مدةً طويلةً ومُثّل الباطلُ الذي ابتُليَ به الكفرةُ لقصور نظرِهم بما يظهر فيهما من غير مداخلةٍ له فيهما وإخلالٍ بصفائهما من الزبد الرابي فوقهما المضمحل سريعا فقيل

الرعد 17

17

{أَنزَلَ مِنَ السماء} أي من جهتها {مَاء} أي كثيراً أو نوعاً منه وهو ماءُ المطر {فَسَالَتْ} بذلك {أودية} واقعة في مواقعه لا جميعُ الأودية إذ الأمطار لا نستوعب الأقطارَ وهو جمعُ وادٍ وهو مفرَجٌ بين جبال أو تلالٍ أو آكام على الشذوذ كنادٍ وأندية وناج وأنجية قالوا وجهُه أن فاعلا يجيء بمعنى فعيل كناصر ونصير وشاهد وشهيد وعالم وعليم وحيث جُمع فعيل على أفعلة كجريب وأجرِبة جُمع فاعلٌ أيضاً على أفعلة فإن أريد بها ما يسيل فيها مجازاً فإسنادُ السيلانِ إليها حقيقيٌّ وإن أريد معناها الحقيقيُّ فالإسنادُ مجازيٌّ كما في جرى النهرُ وإيثارُ التمثيل بها على الأنهار المستمرةِ الجريانِ لوضوح المماثلةِ بين شأنها وشأنِ ما مُثّل بها كما أشير إليه {بِقَدَرِهَا} أي سالت ملتبسةً بمقدارها الذي عينه الله تعالى واقتضتْه حكمتُه في نفع الناس أو بمقدارها المتفاوتِ قلةً وكثرةً بحسب تفاوتِ محالّها صِغَراً وكِبَراً لا بكونها مالئةً لها منطبقةً عليها بل بمجرد قلّتها بِصغرها المستلزِمِ لقلة مواردِ الماء وكثرتها بكِبَرها المستدعي لكثرة الموارد فإن موردَ السيل الجاري في الوادي الصغير أقلُّ من مورد السيل الجاري في الوادي الكبير هذا إن أريد بالأودية ما يسيل فيها أما إن أريد بها معناها الحقيقيُّ فالمعنى سالت مياهُها بقدر تلك الأوديةِ على نحو ما عرفته آنفاً أو يراد بضميرها مياهُها بطريق الاستخدام ويراد بقدَرها ما ذُكر أولاً من المعنيين {فاحتمل السيل} الجاري في تلك الأودية أي حملَ معه {زَبَدًا} أي غُثاء ورَغوةً وإنما وُصف ذلك بقوله تعالى {رَّابِيًا} أي عالياً منتفخاً فوقه بياناً لما أريد بالاحتمال المحتمَلِ لكون الحميلِ غيرَ طافٍ كالأشجار الثقيلة وإنما لم يُدفع ذلك الاحتمالُ بأن يقال فاحتمل السيلُ فوقه للإيذان بأن تلك الفوقيةَ مقتضى شأنِ الزبدِ لا من جهة المحتمَل تحقيقا للماثلة بينه وبين ما مُثّل به من الباطل الذي شأنُه الظهورُ في بادِيَ الرأي من غير مداخلةٍ في الحق {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النار} أي يفعلون الإيقادَ عليه كائناً في النار والضميرُ للناس أُضمر مع عدم سبق الذكرِ لظهوره وقرىء بالخطاب {ابتغاء حِلْيَةٍ أَوْ متاع} أي لطلب اتخاذِ حليةٍ وهي ما يُتزيّن ويُتجمّل به كالحِليِّ المتخَذَة من الذهب والفضة أو اتخاذِ متاعٍ وهو ما يتمتع به من الأواني والآلات المتخَذةِ من الرصاص والحديد وغيرِ ذلك من الفِلزّات {زَبَدٌ} خبث {مّثْلِهِ} مثلُ ما ذكر من زبد الماء في كونه رابياً فوقه فقوله زبدٌ مبتدأٌ خبرُه الظرفُ المقدَّمُ وَمِنِ ابتدائيةٌ دالةٌ عَلى مجرد كونِه مبتدأ وناشئاً منه لا تبعيضيةٌ معرِبة عن كونه بعضاً منه كما قيل لإخلال ذلك بالتمثيل وفي التعبير عن ذلك بالموصول والتعرضِ لما في حيز الصلةِ من إيقاد النار عليه جرْيٌ على سنن الكِبرياء بإظهار التهاونِ به كما في قوله تعالى فأوقدلي يا هامان عَلَى الطين وإشارةٌ إلى كيفية حصولِ الزبدِ منه بذوبانه وفي زيادة في النار إشعارٌ بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصولِ الزبد كما أشير إليه وعدمُ التعرض لاخراجه من

الرعد 18 الأرض لعدم دخلِ ذلك العنوانِ في التمثيل كما أن لعنوان إنزالِ الماءِ من السَّماءِ دخلاً فيه حسبما فُصِّل فيما سلف بل له إخلالٌ بذلك {كذلك} أي مثلَ ذلك الضربِ البديعِ المشتملِ على نُكت رائقةٍ {يَضْرِبُ الله الحق والباطل} أي مثَلَ الحق ومثل الباطل والحذفُ للإنباء عن كمال التماثل بين الممثَّل والممثَّل به كأن المثَلَ المضروبَ عينُ الحقِّ والباطلِ وبعد تحقيق التمثيلِ مع الإيماء في تضاعيف ذلك إلى وجوه المماثلة على أبدع وجوهٍ وآنقِها حسبما أشير إليه في مواقعها بيِّن عاقبةُ كل من الممثّلين على وجه التمثيل مع التصريح ببعض ما به المماثلة من الذهاب والبقاءِ تتمةً للغرض من التمثيل من الحث على اتباع الحقِّ الثابتِ والردْعِ عن الباطل الزائد فقيل {فَأَمَّا الزبد} من كلَ منهما {فَيَذْهَبُ جُفَاء} أي مرمياً به وقرىء جُفالاً والمعنى واحد {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس} منهما كالماء الصافي والفلز الخاص {فَيَمْكُثُ فِى الأرض} أما الماء فيثبت بعضُه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرضِ إلى العيون والقنا والآبار وأما الفلزُّ فيصاغ من بعضه أنواعُ الحِليِّ ويتخذ من بعضه أصنافُ الآلات والأدوات فيُنتفع بكل من ذلك أنواعَ الانتفاعات مدة طويلة فالمراد ابا لمكث في الأرض ما هو أعمُّ من المكث في نفسها ومن البقاء في أيدي المتقلّبين فيها وتغييرُ ترتيبِ اللفِّ الواقعِ في الفذْلكة الموافقِ للترتيب الواقع في التمثيلِ لمراعاة الملاءمةِ بين حالتي الذهاب والبقاءِ وبين ذكرَيهما فإن المعتبَر إنما هو بقاءُ الباقي بعد ذهاب الذاهبِ لا قبله {كذلك يَضْرِبُ الله} أي مثلَ ذلكَ الضربِ العجيبِ يضرب {الأمثال} في كل باب إظهاراً لكمال اللطفِ والعنايةِ في الإرشاد والهداية وفيه تفخيمٌ لشأن هذا التمثيلِ وتأكيدٌ لقوله كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل إما باعتبار ابتناءِ هذا على التمثيلِ الأول أو بجعل ذلك إشارةً إليهما جميعاً وبعد ما بُيِّن شأنُ كل من الحق والباطلِ حالاً ومآلاً أُكملَ بيانٍ شَرَع في بيان حالِ أهلِ كل منهما مآلاً تكميلاً للدعوة ترغيباً وترهيباً فقيل

18

{لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ} إذ دعاهم إلى الحق بفنون الدعوةِ التي من جملتها ضربُ الأمثال فإنه ألطفُ ذريعةٍ إلى تفهيم القلوب الغبيةِ وأقوى وسيلةٍ إلى تسخير النفوسِ الأبية كيف لا وهو تصويرٌ للمعقول بصورة المحسوس وإبراز لا وابد المعاني في هيئة المأنوس فأيُّ دعوةٍ أولى منه بالاستجابة والقَبول {الحسنى} أي المثوبةَ الحُسنى وهي الجنة {والذين لم يستجيبوا له} وعاندوا الحقَّ الجليَّ {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض} من أصناف الأموال {جَمِيعاً} بحيث لم يشِذَّ منه شاذٌّ في أقطارها أو مجموعاً غيرَ متفرقٍ بحسب الأزمان {وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} أي بما في الأرض ومثلَه معه جميعاً ليتخلّصوا عما بهم وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيطُ به البيانُ فالموصولُ مبتدأٌ والشرطيةُ كما هي خبرُه لكنْ لاَ على أنَّها وضعت موضع السوءى فوقعت في مقابلة الحُسنى الواقعةِ في القرينة الأولى لمراعاة حسنِ المقابلة فصار كأنه قيل والذين لم يستجيبوا له السوءى كما يوهم فإن الشرطيةَ وإن دلت على كما سوءِ حالِهم لكنها بمعزل من القيام مقامَ لفظ السوءى مصحوباً باللام الداخلةِ على الموصول أو ضميره

الرعد 19 20 وعليه يدور حصولُ المرام وإنما الواقعُ في تلك المقابلة سوءُ الحساب في قوله تعالى {أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوء الحساب} وحيث كان اسمُ الإشارة الواقعُ مبتدأً في هذه الجملة عبارةً عن الموصول الواقعِ مبتدأً في الجملة السابقة كان خبرُها أعني الجملةَ الظرفية خبراً عن الموصول في الحقيقة ومبيِّناً لإبهام مضمونِ الشرطيةِ الواقعةِ خبراً عنه أولاً ولذلك تُرك العطفُ فصار كأنه قيل والذين لم يستجيبوا له لهم سوءُ الحساب وذلك في قوَّةِ أنْ يقالَ وللذين لم يستجيبوا له سوءُ الحساب مع زيادة تأكيدٍ فتم حسنُ المقابلة على أبلغِ وجهٍ وآكدِه ثم بيِّن مؤدى ذلك فقيل {وَمَأْوَاهُمُ} أي مرجعهم {جَهَنَّمَ} وفيه نوعُ تأكيد لتفسير الحسنى بالجنة {وَبِئْسَ المهاد} أي المستقرُّ والمخصوصُ بالذم محذوفٌ وقيل اللامُ في قولِه تعالَى لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ متعلقةٌ بقوله يَضْرِبُ الله الامثال أي الأمثالَ السالفةَ وقوله الحسنى صفةٌ للمصدر أي استجابوا الاستجابةَ الحسنى وقوله والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ معطوفٌ على الموصول الأولِ وقوله لو أن لهم إلخ كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيان ما أُعدّ لغير المستجيبين من العذاب والمعنى كذلك يضرب الله الأمثالَ للمؤمنين المستجيبين والكافرين المعاندين أي هما مثلاً الفريقين وأنت خبير بأن عنوانَ الاستجابة وعدمَها لا مناسبةَ بينه وبين ما يدور عليه أمرُ التمثيل وأن الاستعمالَ المستفيضَ دخولُ اللامِ على من يُقصد تذكيره بالمثَل نعم قد يُستعمل في هذا المعنى أيضاً كَما في قولِه سبحانه ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ آمنوا إمرأة فرعون ونظائرِه على أن بعضَ الأمثالِ المضروبة لا سيما المثلُ الأخيرُ الموصول بالكلام ليس مثلَ الفريقين بل مثلٌ للحق والباطل ولا مساغ لجعل الفريقين مضروباً لهم أيضاً بأن يُجعل في حكم أن يقال كذلك يضرب الله الأمثال للناس إذ لا وجه حينئذ لتنويعهم إلى المستجيبين وغيرِ المستجيبين فتأمل

19

{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} من القرآن الذي مُثّل بالماء المنزل من السماء والإبريز الخالصِ في المنفعة والجدوى {الحق} الذي لا حق وراءه أو الحقُّ الذي أشير إليه بالأمثال المضروبة فيستجيبَ له {كَمَنْ هُوَ أعمى} عمَى القلبِ لا يشاهده وهو نارٌ على علَمٍ ولا يقدر قدرَه وهو في أقصى مراتب العلوِّ والعِظَم فيبقى حائراً في ظلمات الجهل وغيا هب الضلال أو لا يتذكر بما ضرب من الأمثال أي كمن لا يعلم ذلك إلا أنه أريد زيادةُ تقبيحِ حالِه فعبر عنه بالأعمى وإيرادُ الفاء بعد الهمزةِ لتوجيه الإنكارِ إلى ترتّبِ توهّم المماثلةِ على ظهور حال كلَ منهما بما ضرب من الأمثال وبين المصيرِ والمآل كأنَّه قيل أبعد ما بُين حالُ كل من الفريقين ومآلُهما يُتوهّم المماثلةُ بينهما ثم استؤنف فقبل {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} بما ذكر من المذكّرات فيقف على ما بينهما من التفاوت والتنائي {أُوْلُواْ الألباب} أي العقولِ الخالصةِ المبرّأة من مشايعة الإلْفِ ومعارضةِ الوهم

20

{الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} بما عقَدوا على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته تعالى حين قالوا بلى أو ما عهِد الله عليهم في كتبه {وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق} ما وثّقوه على أنفسهم وقبِلوه من الإيمان بالله وغيرِه من المواثيق بينهم وبين الله وبين

الرعد 21 23 العبادِ وَهُوَ تعميمٌ بعدَ تخصيصٍ وفيه تأكيدٌ للاستمرار المفهوم من صيغة المستقبل

21

{والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} من الرحِم وموالاةِ المؤمنين والإيمانِ بجميع الأنبياء المجمعين على الحق من غير تفريقٍ بين أحد منهم ويندرج فيه مراعاةُ جميعِ حقوق الناس بل حقوق كل ما يتعلق بهم من الهرّ والدَّجاج {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} خشيةَ جلالٍ وهيبة ورهبة فلا يعصونه فيما أمر به {وَيَخَافُونَ سوء الحِسَابِ} فيحاسبون أنفسَهم قبل أن يحاسَبوا وفيه دَلالةٌ على كمالِ فظاعتِه حسبما ذُكر فيما قبلُ

22

{وَالَّذِينَ صَبَرُواْ} على كل ما تكرهه النفسُ من الأفعال والتروك {ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ} طلباً لرضاه خاصة من غير أن ينظر إلى جانب الخلقِ رياءً وسُمعةً ولا إلى جانب النفس زينةً وعُجْباً وحيث كان الصبرُ على الوجه المذكور مَلاكُ الأمرِ في كُلُّ ما ذُكِرَ من الصلات السابقة واللاحقةِ أُورد على صيغة الماضي اعتناءً بشأنه ودِلالةً على وجوب تحققِه فإن ذلك مما لا بد منه إما في نفس الصلات كما فيما عدا الأولى والرابعةِ والخامسةِ أو في إظهار أحكامِها كما في الصلات الثلاثِ المذكورات فإنها وإن استغنت عن الصبر في أنفسها حيث لا مشقةَ على النفس في الاعتراف بالربوبية والخشيةِ والخوف لكن إظهارَ أحكامِها والجريَ على موجبها غيرُ خالٍ عن الاحتياج إليه {وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ} المفروضة {وَأَنْفَقُواْ من ما رَزَقْنَاهُمْ} أي بعضَه الذي يجب عليهم إنفاقُه {سِرّا} لمن لم يُعرفْ بالمال أو لمن لا يتهم بترك الزكاةِ أو عند إنفاقِه وإعطائه مَنْ تمنعه المروءةُ من أخذه ظاهراً {وَعَلاَنِيَةً} لمن لم يكن كما ذكر أو الأول في التطوع والثاني في الفرض {ويدرؤون بالحسنة} أي يُجازون الإساءةَ بالإحسان أو يُتْبعون الحسنةَ السيئة فنمحوها عن أبي عباس رضي الله عنهما يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيء غيرِهم وعن الحسن إذا حُرموا أعطَوا وإذا ظُلموا عفَوا وإذا قُطعوا وصلوا وعن ابن كيسان إذا أذنبوا تابوا وقيل إذا رأوا منكراً أمروا بتغييره وتقديم المجرور على المنصوب لإظهار كما العنايةِ بالحسنة {أولئك} المنعوتون بالنعوت الجليلةِ والملكات الجميلةِ وهو مبتدأٌ خبُره الجملةُ الظرفية أعني قوله تعالى {لَهُمْ عقبى الدار} أي عاقبةُ الدنيا وما ينبغي أن يكون مآلُ أمرِ أهلها وهي الجنة وقيل الجارُ والمجرورَ خبرٌ لأولئك وعقبى الدار فاعل الاستقرار وأياما كان فليس فيه قصرٌ حتى يرِد أنَّ بعضَ مَا في الصلةِ ليس من العزائم التي يُخلّ إخلالُها بالموصول إلى حسن العاقبة والجملةُ خبر للموصولات المتعاطفة أو استئناف لبيان ما استوجبه بتلك الصفات أن جعلت الموصولات المتعاطفةِ صفاتٌ لأولي الألباب على طريقة المدحِ من غير أن يُقصد أن يكون للصلات المذكورة مدخلٌ في التذكر

23

{جنات عَدْنٍ} بدلٌ من عُقبى الدار أو مبتدأٌ

الرعد 24 25 خبرُه {يَدْخُلُونَهَا} والعدْنُ الإقامةُ ثم صار علماً لجنة من الجنات أي جناتٌ يقيمون فيها وقيل هو بُطنانُ الجنة {وَمَنْ صَلَحَ من آبائهم} جمعُ أبَوَيْ كل واحد منهم فكأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم {وأزواجهم} وذرياتهم وهو عطفٌ على المرفوع في يدخلون وإنما ساغ ذلك للفصل بالضمير الآخر أو مفعولٌ معه والمعنى إنه يُلحق بهم مَنْ صلح من أهلهم وإن لم يبلُغْ مبلغَ فضلِهم تبعاً لهم تعظيماً لشأنهم وهو دليلٌ على أن الدرجةَ تعلو بالشفاعة وأن الموصوفَ بتلك الصفات يُقرن بعضُهم ببعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنةِ زيادةً في أُنسهم وفي التقييد بالصلاح قطعٌ للأطماع الفارغة لمن يتمسك بمجرد حبل الأنساب {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ} من أبوابِ المنازل أو من أبواب الفتوحِ والتحف قائلين

24

{سلام عَلَيْكُم} بشارةٌ لهم بدوام السلامة {بِمَا صَبَرْتُمْ} متعلق بعليكم أو بمحذوف أي هذه الكرامةُ العظمى بما صبرتم أي بسبب صبركم أو بدلُ ما احتملتم من مشاقّ الصبرِ ومتاعبِه والمعنى لئن تعِبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعةَ وتخصيصُ الصبر بما ذكر من بين الصلاتِ السابقةِ لما قدّمناه من أن له دخلاً في كل منها ومزيةً زائدةً من حيث إنه مَلاكُ الأمرِ في كل منها وأن شيئاً منها لا يعتد به إلا بأن يكون لابتغاء وجهِ الربّ تعالى وتقدس {فَنِعْمَ عقبى الدار} أي فنعم عقبي الدارِ الجنةُ وقرىء بفتح النون والأصل نَعَم فسُكّن العين بنقل حركتها إلى النون تارة وبدونه أخرى وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه كان يأتي قبورَ الشهداء على رأس كلّ حولٍ فيقول سلامٌ عليكم بما صبرتُم فنَعِمَ عُقبى الدَّارِ وكذا عن الخلفاء الأربعةِ رضوانُ الله عليهم أجمعين

25

{والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله} أريد بهم مَنْ يقابل الأولين ويعاندهم في الاتصاف بنقائض صفاتِهم {مِن بَعْدِ ميثاقه} من بعد ما أوثقوه من الاعتراف والقَبول {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} من الأيمان بجميع الأنبياءِ المجمعين على الحق حيث يؤمنون ببعضهم ويكفرون ببعضهم ومن حقوق الأرحام وموالاةِ المؤمنين وغير ذلك مما لا يراعون حقوقَه من الأمور المعدودةِ فيما سلف وإنما لم يتعرّض لنفي الخشيةِ والخوفِ عنهم صريحاً لِدلالة النقضِ والقطع على ذلك وأما عدمُ التعرض لنفي الصبرِ المذكور فلأنه إنما اعتبر تحققُه في ضمن الحسناتِ المعدودةِ ليقَعْنَ معتدًّا بهن فلا وجه لنفيه عمّن بينه وبين الحسناتِ بعدُ المشرِقين كما لا وجه لنفي الصلاةِ والزكاة ممن لا يحوم حول أصلِ الإيمان بالله تعالى فضلاً عن فروع الشرائعِ وإن أريد بالإنفاق التطوعُ فنفيُه مندرجٌ تحت قطعِ ما أمر الله تعالى بوصله وأما درءُ السيئة بالحسنة فانتفاؤه عنهم ظاهرٌ مما سبق ولحِق فإن من يجازى إحسانه عز وجل بنقض العهد ومخالفةِ الأمر ويباشر الفساد بدأ حسبما يَحكيه قوله تعالى عز وعلا {وَيُفْسِدُونَ فِى الأرض} أي بالظلم وتهيج الفتنِ كيف يتصور منه مجازاةُ الإساءة بالإحسان على أن يُشعر بأن له دخلاً في الإفضاء إلى

الرعد 26 27 العقوبة التي ينبىء عنها قولُه تعالى {أولئك} الخ أي أولئك الموصوفون بما ذكر من القبائح {لَهُمْ} بسبب ذلك {اللعنة} أي الإبعادُ من رحمة الله تعالى {وَلَهُمْ} مع ذلك {سُوء الدار} أي سوءُ عاقبة الدنيا أو عذابُ جهنم فإنها دارُهم لأن ترتيبَ الحكمِ على الموصول مُشعرٌ بعلّية الصلةِ له ولا يخفى أنه لا دخلَ له في ذلك على أكثر التفاسير فإن مجازاةَ السيئةِ بمثلها مأذونٌ فيها ودفع الكلام السيء بالحسن وكذا الإعطاءُ عند المنع والعفو عند الظلم والوصلُ عند القطع ليس مما يورِثُ ترْكُه تِبعةً وأما ما اعتبر اندراجُه تحت الصلةِ الثانيةِ من الإخلال ببعض الحقوقِ المندوبة فلا ضير في ذلك لأن اعتبارُه من حيث إنه من مستتبعات الإخلال بالعزائم بالكفر ببعض الأنبياءِ وعقوقِ الوالدين وتركِ سائر الحقوق الواجبةِ وتكريرُ لهم للتأكيد والإيذانِ باختلافهما واستقلالِ كل منهما في الثبوت

26

{الله يَبْسُطُ الرزق} أي يوسّعه {لِمَن يَشَاء} مِنْ عِبَادِهِ {وَيَقْدِرُ} أي يضيّقه على من يشاء حسبما تقتضيه الحكمة من غير أن يكون لأحد مدخلٌ في ذلك ولا شعورٌ بحكمته فربما يبسُطه للكافر إملاءً واستدراجاً وربما يضّيقه على المؤمن زيادةً لأجره فلا يُغترَّ ببسط الكافر كما لا يَقنط بقدره المؤمنُ {وَفَرِحُواْ} أي أهلُ مكة فرَحَ أشَرٍ وبطر لا فرحَ سرورٍ بفضل الله تعالى {بالحياة الدنيا} وما بُسط لهم فيها من نعيمها {وَمَا الحياة الدنيا} وما يتبعها من النعيم {فِى الاخرة} أي في جنب نعيمِ الآخرة {إِلاَّ متاع} إلا شيءٌ نزْرٌ يُتمتع به كعُجالة الراكب وزادِ الراعي والمعنى أنهم رضُوا بحظ الدنيا معرِضين عن نعيم الآخرةِ والحالُ أن ما أشِروا به في جنب ما أعرضوا عنه شيءٌ قليل النفع سريعُ النفاد

27

{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ} أي أهلُ مكة وإيثارُ هذه الطريقة على الإضمار مع ظهور إرادتِهم عقيبَ ذكرِ فرحِهم بالحياة الدنيا لذمهم والتسجيلِ عليهم بالكفر فيما حُكيَ عنهم من قولهم {لولا أنزل عليه آية مّن رَّبّهِ} فإن ذلك في أقصى مراتبِ المكابرةِ والعِناد كأن ما أنزل عليه السَّلام من الآياتِ العظامِ الباهرةِ ليس بآية حتى اقترحوا مالا تقتضيه الحِكمةُ من الآيات المحسوسةِ التي لا يبقى لأحد بعد ذلك طاقةٌ بعدم القَبول ولذلك أُمر في الجواب بقوله تعالى {قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يشاء} إضلالة مشيئتَه تابعةٌ للحكمة الداعيةِ إليها أي يخلُق فيه الضلال لصرفه اختيارَه إلى تحصيله ويدعُه منهمكاً فيه لعلمه بأنه لا ينجَع فيه اللطفُ ولا ينفعه الإرشاد كمن كان على صفتكم في المكابرة والعِناد وشدةِ الشكيمةِ والغلوِّ في الفساد فلا سبيل له إلى الاهتداء ولو جاءتْه كلُّ آية {وَيَهْدِى إِلَيْهِ} أي إلى جنابه العليِّ الكبير هدايةً موصِلةً إليه لا دَلالةً مطلقة على ما يوصِل إليه فإن ذلك غيرُ مختصٍ بالمهتدين وفيه من تشريفهم مالا يوصف {مَنْ أَنَابَ} أقبل

الرعد 28 30 إلى الحق وتأملَ في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحةِ وحقيقةُ الإنابة لدخول في نوبة الخير وإيثارُ إيرادِها في الصلة على إيراد المشيئةِ كما في الصلة الأولى للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها والإشعارِ بما دعا إلى المشيئة الأولى من المكابرة وفيه حث للكفرة على الإقلاع عماهم عليهِ من العُتوِّ والعِنادِ وإيثارُ صيغةِ الماضي للإيماء إلى استدعاء الهدايةِ لسابقة الإنابة كما أن إيثارَ صيغةِ المضارعِ في الصلةِ الأولى للدلالة على استمرار المشيئةِ حسب استمرار مكابرتهم

28

{الذين آمنوا} بدل ممن أناب فإن أريد بالهداية الهدايةُ المستمرةُ فالأمر ظاهر لظهور كونِ الإيمانِ مؤدياً إليها وإن أريد إحداثُها فالمراد بالذين آمنوا الذين صار أمرُهم إلى الإيمان كما في قوله تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ أي الصائرين إلى التقوى وإلا فالإيمانُ لا يؤدّي إلى الهداية نفسها أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي هم الذين آمنوا أو منصوبٌ على المدحِ {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} أي تستقر وتسكُن {بِذِكْرِ الله} بكلامه المعجزِ الذي لا ريب فيه كقوله تعالى وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أنزلناه وقوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون ويعلمون أن لا أعظمُ منه فيقترحوها والعدولُ إلى صيغة المضارعِ لإفادة دوامِ الاطمئنان وتجدّده حسبَ تجدّدِ الآيات وتعددها {أَلاَ بِذِكْرِ الله} وحده {تَطْمَئِنُّ القلوب} دون غيرِه من الأمور التي تميل إليها النفوس من الدنياويات وهذا ظاهر وأما سائرُ المعجزات فالقصرُ من حيث إنها ليست في إفادة الطُّمأنينة بالنسبة إلى من لم يشاهدْها بمثابة القرآنِ المجيدِ فإنه معجزةٌ باقية إلى يوم القيامة يشاهدها كلُّ أحد وتطمئن به القلوبُ كافة وفيه إشعارٌ بأن الكفرةَ ليست لهم قلوب وأفئدتُهم هواءٌ حيث لم يطمئنوا بذكر الله تعالى ولم يعدّوه آيةً وهو أظهرُ الآياتِ وأبهرُها وقيل تطمئن قلوبُهم بذكر رحمتِه ومغفرتِه بعد القلق والاضطرابِ من خشيته كقوله تعالى ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله أو بذكر دلائلِه الدالةِ على وحدانيته أو بذكره جل وعلا نسا به وتبتلاً إليه فالمرادُ بالهداية دوامُها واستمرارُها

29

{الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بدلٌ من القلوب على حذف المضافِ بدلَ الكلِّ حسبما رُمز إليه أي قلوبُ الذين آمنوا وفيه إيماءٌ إلى أن الإنسان إنما هو القلبُ أو مبتدأٌ خبرُه الجملة الدعائيةُ على التأويل أعني قوله {طوبى لَهُمْ} أوْ خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ أو نُصب على المدحِ فطوبى لهم حالٌ عاملُها الفعلان وطوبى مصدرٌ من طاب كبُشرى وزُلفى والواوُ منقلبةٌ من الياء كموقن وموسر وقرأ مكوزة الأعرابي طيبى لتسلم الياء والمعنى أصابوا خيراً ومحلُّها النصبُ كسلاماً لك أو الرفعُ على الابتداء وإنْ كانتْ نكرةً لكونِها في معنى الدعاء كسلامٌ عليك يدل على ذلك القراءة في قوله تعالى {وحسن مآب} بالنصب والرفع واللامُ في لهم للبيان مثلها في سقيا لك

30

{كذلك}

الرعد 31 مثلَ ذلك الإرسالِ العظيمِ الشأن المصحوبِ بهذه المعجزة الباهرة {أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ} أي مضت {مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ} كثيرة قد أُرسل إليهم رسل {لّتَتْلُوَ} لتقرأ {عَلَيْهِمُ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} مِنَ الكتاب العظيمِ الشأنِ وتهديَهم إلى الحق رحمةً لهم وتقديمُ المجرور على المنصوب من قبيل الإبهام ثم البيان كما في قوله تعالى وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ وفيه مالا يخفى من ترقب النفس إلى ما سيرِدُ وحسنِ قبولها له عند ورودِه عليها {وَهُمْ} أي والحال أنهم {يَكْفُرُونَ بالرحمن} بالبليغ الرحمةِ الذي وسعت كلَّ شيء رحمتُه وأحاطت به نعمتُه والعدول إلى المُظهر المتعرِّض لوصف الرحمةِ من حيث أن الإرسالَ ناشىءٌ منها كما قال تعالى وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين فلم يقدِروا قدرَه ولم يشكروا نِعمَه لا سيما ما أنعم به عليهم بإرسال مثلِك إليهم وإنزال القرآنَ الذي هو مدارُ المنافع الدينية والدنياوية عليهم وقيل نزلت في مشركي مكةَ حين أُمروا بالسجود فقالوا وما الرحمن {قُلْ هُوَ} أي الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته {رَبّى} الربُّ في الأصل بمعنى التربية وهي تبليغُ الشيءِ إلى كماله شيئاً فشيئاً ثم وُصف به مبالغةً كالصوم والعدْل وقيل هو نعت أي خالقي ومبلّغي إلى مراتب الكمالِ وإيرادُه قبل قوله {لاَّ إله إِلاَّ هو} أي لا مستحقَّ للعبادة سواه تنبيهٌ على أن استحقاق العبادة منوطٌ بالربوبية وقيل إن أبا جهل سمع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يقول يا ألله يا رحمن فرجع إلى المشركين فقال إن محمداً يدعو إلهين فنزلت ونزل قوله تعالى قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن الآية {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في جميع أموري لا سيما في النصرة عليكم لا على أحد سواه {وَإِلَيْهِ} خاصة {مَتَابِ} أي توبتي كقوله تعالى واستغفر لِذَنبِكَ أُمر عليه السلام بذلك إبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى وأنها صفةُ الأنبياء وبعثاً للكفرة على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجهٍ وألطفه فإنه عليه السلام حيث أُمر بها وهو منزَّه عن شائبةِ اقترافِ ما يوجبها من الذنب وإن قل فتوبتهم وهو عاكفون على أنواع الكفر والمعاصي مما لا بد منه أصلاً وقد فُسّر المتابُ بمطلق الرجوعِ فقيل مرجعي ومرجعُكم وزِيد فيحكُم بيني وبينكم وقد قيل فيثيبُني على مصابرتكم فتأمل

31

{وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا} أي قرآناً ما وهو اسمُ أن والخبر قوله تعالى {سُيّرَتْ بِهِ الجبال} وجوابُ لو محذوفٌ لانسياق الكلام إليه بحيث يتلقّفه السامعُ من التالي والمقصودُ إما بيانُ عِظم شأنِ القرآنِ العظيم وفساد رأي الكفرة حيث لم يقدروا قدرَه العليَّ ولم يعدّوه من قبيل الآيات فاقترحوا غيره مما أوتي مُوسى وعيسى عليهما السَّلامُ وإما بيانُ غلوهم في المكابرة والعِنادِ وتماديهم في الضلال والفساد فالمعنى على الأول لو أن قرانا سيرت به الجبالُ أي بإنزاله أو بتلاوته عليها وزُعزعت عن مقارّها كما فُعل ذلك بالطور لموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {أو قطعت به الارض} أي شُقّقت وجُعلت أنهاراً وعيوناً كما فُعل بالحجر حين ضربه عليه السلام بعصاه أو جعلت قطعاً متصدّعة {أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى} أي بعد أن

أحييَ بقراءته عليها كما أحييتْ لعيسى عليه السلام لكان ذلك هذا القرآنَ لكونه الغايةَ القصوى في الانطواء على عجائبِ آثارِ قُدرةِ الله تعالى وهيبته عزَّ وجلَّ كقوله تعالَى لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله لا في الإعجاز إذ لا مدخلَ له في هذه الآثار ولا في التذكير والإنذار والتخويفِ لاختصاصها بالعقلاء مع أنه لا علاقةَ لها بتكليم الموتى واعتبارُ فيض العقول إليها مُخلٌّ بالمبالغة المقصودة وتقديمُ المجرور في المواضع الثلاثة على المرفوع لما مر غيرَ مرة من قصد الإبهامِ ثم التفسيرِ لزيادة التقريرِ لأن بتقديم ما حقُّه التأخيرُ تبقى النفسُ مستشرفةً ومترقّبةً إلى المؤخر أنه ماذا فيتمكن عند ورودِه عليها فضلُ تمكن وكلمةُ أو في الموضعين لمنع الخلوّ لا لمنع الجمع واقتراحُهم وإن كان متعلقاً بمجرد ظهورِ مثل هذه الأفاعيلِ العجيبة على يده عليه السلام لا بظهورها بواسطة القرآنِ لكن ذلك حيث كان مبنياً على عدم اشتمالِه في زعمهم على الخوارق نيط ظهورُها به مبالغةً في بيان اشتمالِه عليها وأنه حقيقٌ بأن يكون مصدراً لكل خارقٍ وإبانةً لركاكة رأيهم في شأنه الرفيعِ كأنه قيل لو أن ظهورَ أمثالِ ما اقترحوه من مقتَضيات الحِكمة لكان مظهرُها هذا القرآنَ الذي لم يعدّوه آية وفيه من تفخيم شأنه العزيزِ ووصفهم بركاكة العقل مالا يخفى (بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا) أي له الأمرُ الذي عليه يدورُ فلَكُ الأكوان وجوداً وعدماً يفعل ما يشاء وبحكم ما يريد لما يدعو إليه من الحِكَم البالغةِ وهو إضراب عما تضمنه الشرطيةُ من معنى النفي لا بحسب منطوقِه بل باعتبار موجِبه ومؤدّاه أي لو أن قرآناً فُعل به ما ذكر لكان ذلك هذا القرآنَ ولكن لم يُفعل بل فُعل ما عليه الشأنُ الآن لأن الأمرَ كلَّه له وحده فالإضرابُ ليس بمتوجِّهٍ إلى كون الأمرِ لله سبحانه بل إلى ما يؤدِّي إليه ذلك من كون الشأنِ على ما كان لما تقتضيه الحِكمة من بناء التكليف على الاختبار {أَفَلمْ يَيأس الَّذِينَ آمنواْ} أي أفلم يعلموا على لغة هوازنَ أو قومٍ من النَّخْع أو على استعمال اليأس في معنى العِلم لتضمّنه له ويؤيده قراءة عليَ وابنِ عباس وجماعةٍ من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أفلم يتبين بطريق التفسير والفاءُ للعطف على مقدر أي أغفَلوا عن كون الأمر جميعا لله تعالى فلم يعلموا {أَن لَّوْ يَشَاء الله} على حذف ضميرِ الشأنِ وتخفيفِ أن {لَهَدَى الناس جَمِيعًا} بإظهار أمثالِ تلك الآثارِ العظيمةِ فالإنكارُ متوجهٌ إلى المعطوفين جميعاً أو أعلموا كون الأمر جميعا لله فلم يعلموا ما يوجبه ذلك العلمُ مما ذكر فهو متوجِّهٌ إلى ترتب المعطوفِ على المعطوف عليه أي تخلف العلم الثاني عن العلم الأول وعلى التقديرين فالإنكارُ إنكارُ الوقوعِ كما في قوله تعالى أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حسنا إنكار الواقعِ كما في قولك ألم تخفِ الله حتى عصيتَه ثم إن مناطَ الإنكارِ ليس عدمَ علمهم بمضمون الشرطية فقط بل مع عدم علمِهم بعدم تحققِ مقدَّمها كأنَّه قيل ألم يعلمُوا أن الله تعالى لو شاء هدايتَهم لهداهم وأنه لم يشأْها وذلك لأنهم كانوا يودون أن يظهر ما اقترحوا من الآيات ليجتمعوا على الإيمان وعلى الثاني لو أن قرآناً فُعل به ما فُصِّل من التعاجيب لما آمنوا به كقوله تعالى ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى الآية فالإضرابُ حينئذٍ متوجّهٌ إلى ما سلف من اقتراحهم مع كونهم في العناد على ما شُرح أي فليس لهم ذلك بل لله الأمر جميعاً إن شاء أتى بما اقترحوا وإن شاء لم يأت به حسبما تستدعيه داعيةُ الحكمةِ من غير أن يكون لأحد عليه تحكّم أو اقتراحٌ واليأسُ بمعنى القنوط أي ألم يعلم الذين آمنوا حالَهم هذه فلم يقنَطوا من إيمانهم حتى أحبّوا ظهورَ مقترحاتِهم فالإنكارُ متوجه

الرعد 32 إلى المعطوفين أو وأعلموا ذلك فلم يقنَطوا من إيمانهم فهو متوجهٌ إلى وقوع المعطوفِ بعد المعطوفِ عليه أي إلى تخلف القنوط عن العلم المذكور والإنكارُ على التقديرين إنكارُ الواقعِ كما في قوله تعالى {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} ونظائرِه لا إنكارُ الوقوع فإن عدم قنوطِهم منه مما لا مردَّ لهُ وقوله تعالى أَن لَّوْ يَشَاء الله الخ متعلق بمحدوف أي أفلم ييأسوا من إيمانهم علماً منهم أو عالمين بأنه لو يشاء الله لهدى الناس جميعا وأنه لم يشأ ذلك أو بآمنوا أي أفلم يقنط الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا على معنى أفلم ييأس من إيمانهم المؤمنون بمضمون الشرطية وبعدم تحققِ مقدّمها المنفهم من مكابرتهم حسبما تحكيه كلمةُ لو فالوصفُ المذكورُ من دواعي إنكارِ يأسِهم وقيل إن أبا جهل وأضرابه قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت نبياً سيّر بقرآنك الجبالَ عن مكة حتى تتسعَ لنا ونتخذ فيها لبساتين والقطائع وقد سُخِّرت لداود عليه السلام فلست بأهونَ على الله منه إنْ كنتَ نبياً كما زعمت أو سخّر لنا به الريحَ كما سُخّرت لسليمان عليه السلام لنتّجر عليها إلى الشام فقد شق علينا قطعُ الشُقةِ البعيدة أو ابعث لنا به رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا فنزلت فمعنى تقطيعِ الأرض حينئذ قطعُها بالسير ولا حاجة حينئذ إلى الاعتذار في إسناد الأفاعيلِ المذكورة إلى القرآن كما احتيج إليه في الوجهين الأولين وعن القراء أنه متعلقٌ بمَا قبلَه منْ قولِه وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن وما بينهما اعتراضٌ وهو بالحقيقة دالٌّ على الجواب والتقدير ولو أن قرانا سيرت به الجبال أو قطعت به الارض أو كلم به الموتى لكفروا بالرحمن والتذكير في كلم به الموتى لتغليب المذكر من الموتى على غيره {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ} مِنْ أَهْلِ مكةَ {تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ} أي بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه وعدمُ بيانه إما للقصد إلى تهوليه أو استهجانه وهو تصريحٌ بما أَشعَرَ به بناء الحكم على الموصول من علّية الصلةِ له مع ما في صيغة الصنعِ من الإيذان برسوخهم في ذلك {قَارِعَةٌ} داهيةٌ تقرعهم وتقلقهم وهو ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائبِ من القتل والأسر والنهب والسلبِ وتقديم المجرورِ على الفاعلِ لما مرَّ مرارا من إرادة التفسير إثرَ الإبهام لزيادة التقرير والإحكامِ مع ما فيه من بيانِ أن مدارَ الإصابة من جهتهم آثرَ ذي أثير {أَوْ تَحُلُّ} تلك القارعةُ {قَرِيبًا} أي مكاناً قريباً {مّن دَارِهِمْ} فيفزَعون منها أو يتطاير إليهم شَرارُها شبِّهت القارعةُ بالعدو المتوجّه إليهم فأُسند إليها الإصابةُ تارة والحلولُ أخرى ففيه استعارةٌ بالكناية وتخييلٌ وترشيحٌ {حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله} أي موتُهم أو القيامةُ فإن كلاًّ منهما وعد محتوم ولا مرد له وفيه دِلالةٌ على أن ما يصيبهم عند ذلك من العذاب في غاية الشدةِ وأن ما ذكر سابقةُ نفحةٍ يسيرة بالنسبة إليه ثم حُقق ذلك بقولِهِ تعالَى {أَنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} أي الوعدَ كالميلاد والميثاق بمعنى الولادةِ والتوثِقةِ لاستحالة ذلك على الله سبحانه وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله تعالى عنهُما أرادَ بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثها وكانوا بين إغارةٍ واختطاف وتخويفٍ بالهجوم عليهم في ديارهم فالإصابة والحلولُ حينئذ من أحوالهم ويجوز على هذا أنْ يكونَ قولُه تعالى أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم مراداً به حلولُه الحديبيةَ والمرادُ بوعد الله ما وعد به من فتح مكة

32

{ولقد استهزئ برسل} كثيرة حلت {مّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي تركتهم ملاوةً من الزمان في أمن

الرعد 33 ودعة كما يملي للبهيمة في المرعى وهذا تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما لقيَ من المشركين من التكذيب والاقتراحِ على طريقة الاستهزاءِ به ووعيدٌ لهم والمعنى أن ذلك ليس مختصاً بك بل هو أمرٌ مطردٌ قد فُعل ذلك برسل كثيرة كائنةٍ من قبلك فأمهلت الذين فعلوه بهم والعدولُ في الصلة إلى وصف الكفر ليس لأن المملى لهم غيرُ المستهزئين بل لإرادة الجمعِ بين الوصفين أي فأمليت للذين كفروا مع استهزائهم فقط {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أي عقابي إياهم وفيه من الدلالة على تناهي كيفيته في الشدة والفظاعة ما يخفى

33

{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ} أي رقيبٌ مهيمنٌ {على كُلّ نَفْسٍ} كائنة من كانت {بِمَا كَسَبَتْ} منْ خَيرٍ أو شر لا يخفى عليه شيءٌ من ذلك بل يجازي كلاًّ بعمله وهو الله تعالى والخبرُ محذوفٌ أي كمن ليس كذلك إنكاراً لذلك وإدخالُ الفاء لتوجيه الإنكارِ إلى توهم المماثلة غبَّ ما عُلم مما فعل تعالى بالمستهزئين من الإملاء المديدِ والأخذ الشديد ومن كون الأمرِ كله لله تعالى وكونِ هداية الناس جميعاً منوطةً بمشيئته تعالى ومن تواتر القوارعِ على الكفرة إلى أن يأتيَ وعدُ الله كأنَّه قيل الأمرُ كذلك فمن هذا شأنُه كما ليس في عداد الأشياء حتى تُشركوه به فالإنكار متوجهٌ إلى ترتب المعطوفِ أعني توهّمَ المماثلة على المعطوف عليه المقدر أعني كونَ الأمر كما ذُكر كما في قولك أتعلم الحقَّ فلا تعملُ به لا إلى المعطوفَين جميعاً كما إذا قلت ألا تعلمه فلا تعملُ به وقوله تعالى {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء} جملةٌ مستقلة جيءَ بها للدِّلالةِ على الخبر أو حيالة أي أفمن هذه صفاتُه كما ليس كذلك وقد جعلوا له شركاءَ لا شريكاً واحداً أو معطوفةٌ على الخبر إن قدّر ما يصلح لذلك أي أفمن هذا شأنُه لم يوحّدوه وجعلوا له شركاءَ ووضع المظهر للتنصيص على وحدانيته ذاتاً واسماً وللتنبيه على اختصاصه باستحقاق العبادةِ مع ما فيه من البيان بعد الإبهام بإيراده موصولاً للدلالة على التفخيم وقوله تعالى {قُلْ سَمُّوهُمْ} تبكيتٌ لهم إثرَ تبكيتٍ أي سمُّوهم من هم وماذا أسماؤهم أو صِفوهم وانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشِرْكة {أَمْ تُنَبّئُونَهُ} أي بل أَتُنَبّئُونَ الله {بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الأرض} أي بشركاءَ مستحقين للعبادة لا يعلمهم الله تعالى ولا يعزُب عنه مثقالُ ذَرَّةٍ في السموات والأرض وقرىء بالتخفيف {أَم بظاهر مّنَ القول} أي بل أتسمونهم بشركاء بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى وحقيقةٌ كتسمية الزنجيّ كافوراً كقوله تعالى ذلك قَوْلُهُم بأفواههم وهاتيك الأساليبُ البديعة التي ورد عليها الآيةُ الكريمةُ مناديةٌ على أنها خارجةٌ عن قدرة البشر من كلام خلاقِ القُوى والقدَر فتبارك الله رب العالمين {بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} وضْعُ الموصولِ موضِعَ المضمرِ ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالكفر {مَكْرِهِمْ} تمويهُهم الأباطيلَ أو كيدهم للإسلام بشركهم {وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي سبيلِ الحق من صدّه صداً وقُرِىءَ بكسرِ الصَّادِ على نقل حركة الدالِ إليها وقرىء بفتحها أي صدوا الناس أو

الرعد 35 36 من صد صدوداً {وَمَن يُضْلِلِ الله} أي يخلق فيه الضلالَ بسوء اختيارِه أو يخذلْه {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} وفقه للهدى

34

{لهم عذاب} شاق {في الحياة الدنيا} بالقتل والأسر وسائرِ ما يصيبهم من المصائب فإنها إنما تصيبهم عقوبةً على كفرهم (وَلَعَذَابُ الاخرة أَشَقُّ) من ذلك بالشدة والمدة (وَمَا لَهُم مِنَ الله) مِن عذابه المذكور (مِن وَاقٍ) من حافظ يعصِمهم من ذلك فمِن الأولى صلةٌ للوقاية والثانية مزيدةٌ للتأكيد

35

(مَّثَلُ الجنة) أي صفتُها العجيبة الشأنِ التي في الغرابة كالمثل (التى وُعِدَ المتقون) عن الكفر والمعاصي وهو مبتدأ خبرُه محذوفٌ عند سيبويهِ أي فيما قصصنا عليك مثلُ الجنة وقوله تعالى (تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار) تفسير لذلك المثَل على أنه حالٌ من الضمير المحذوف من الصلة العائدِ إلى الجنة أي وعدها وهو الخبرُ عند غيره كقولك شأنَ زيد يأتيه الناسُ ويعظمونه أو على حذف موصوفٍ أي مثلُ الجنة جنةٌ تجري الخ (أُكُلُهَا) ثمرُها (دَائِمٌ) لا ينقطع (وِظِلُّهَا) أيضاً كذلك لا تنسخه الشمسُ كما تنسخ ظلالَ الدنيا (تِلْكَ) الجنة المنعوتةُ بما ذكر (عقبى الذين اتقوا) الكفرَ والمعاصيَ أي مآلهم ومنتهى أمرِهم (وَّعُقْبَى الكافرين النار) لا غيرُ وفيه مالا يخفى من إطماع المتقين وإقناط الكافرين

36

(والذين آتيناهم الكتاب) هم المسلمون من أهلِ الكتابِ كعبدِ اللَّه بنِ سَلاَم وكعبٍ وأضرابِهما ومَنْ آمن من النصارى وهم ثمانون رجلاً أربعون بنجرانَ وثمانيةٌ باليمن واثنانَ وثلاثون بالحبشة (يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) إذ هو الكتابُ الموعودُ في التوراة والإنجيل (وَمِنَ الاحزاب) أي من أحزابهم وهم كفرتُهم الذين تحزّبوا على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم بالعداوة نحو كعب بن الأشرف والسيد العاقب أسقُفيْ نجرانَ وأتباعِهما (مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ) وهو الشرائعُ الحادثة إنشاءً أو نسخاً لا ما يوافق ما حرفوه وإلا لنُعيَ عليهم من أول الأمر أن مدارَ ذلك إنما هو جناياتُ أيديهم وأما ما يوافق كتبهم فلم ينكروه وإن لم يفرحوا به وقيل يجوز أن يراد بالموصول الأول عامتُهم فإنهم أيضاً يفرحون به لكونه مصداقاً لكتبهم في الجملة فحينئذ يكون قوله تعالى وَمِنَ الأحزاب الخ تتمةً بمنزلة أن يقال ومنهم من ينكر بعضه (قُلْ) إلزاماً لهم ورداً لإنكارهم (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ) أي شَيْئاً من الأشياءِ أو لا أفعل الإشراكَ به والمراد قصرُ الأمر بالعبادة على الله تعالى لا قصرُ الأمرِ مطلقاً على عبادته تعالى خاصة أي قل إنما أمرتُ فيما أُنزل إلي بعبادة الله وتوحيده وظاهرٌ أن لا سبيلَ

الرعد 37 38 لكم إلى إنكاره لإطباق جميعِ الأنبياءِ والكتبِ على ذلك كقوله تعالى قُلْ يا أَهْلِ الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً فما لكم تشركون به عزير أو المسيح وقرىء ولا أشركُ به بالرفع على الاستئناف أي وأنا لا أشرك به (إِلَيْهِ) إلى الله تعالى خاصة على النهج المذكورِ من التوحيد أو إلى ما أُمرت بهِ من التوحيد (أَدْعُو) الناسَ لا إلى غيره أولا إلى شيء آخرَ مما لم يُطبق عليه الكتبُ الإلهية والأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فما وجهُ إنكارِكم (وَإِلَيْهِ) إلى الله تعالى وحده (مآب) مرجعي للجزاء وحيث كانت هذه الحجةُ الباهرة لازمةً لهم لا يجدون عنها محيصا أُمرَ عليه الصلاةُ والسلامُ بأن يخاطبَهم بذلك إلزاماً وتبكيتاً لهم ثم شرُع في رد إنكارِهم لفروع الشرائع الواردةِ ابتداءً أو بدلاً من الشرائع المنسوخةِ ببيان الحكمةِ في ذلك فقيل

37

(وكذلك أنزلناه) أي ما أنزل إليك وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ أنزلناه أو أنزل إليك ومحلُه النصبُ على المصدرية أي مثلَ ذلك الإنزالِ البديعِ المنتظم لأصول مجمَعٍ عليها وفروعٍ متشعبة إلى موافِقة ومخالِفة حسبما تقتضيه قضيةُ الحكمةِ والمصلحة أنزلناه (حُكْمًا) حاكماً يحكم في القضايا والواقعات بالحق أو يُحكم به كذلك والتعرضُ لذلك العنوان مع أن بعضَه ليس بحكم لتربية وجوبِ مراعاتِه وتحتم المحافظةِ عليه (عَرَبِيّاً) مترجماً بلسان العربِ والتعرضُ لذلك للإشارةِ إلى أنَّ ذلكَ إحدى موادِّ المخالفة للكتب السابقةِ مع أن ذلك مقتضى الحكمةِ إذ بذلك يسهُل فهمه وإدراكُ إعجازه والاقتصارُ على اشتمال الإنزالِ على أصول الديانات المجمعِ عليها حسبما يفيده قولَه تعالى قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله الخ يأباه التعرّض لاتباع أهوائهم وحديث المحور والإثبات وأنْ لكل أجلٍ كتابٌ فإن المجمعَ عليه لا يتصور فيه الاستتباعُ والإتباع (ولئن تبعت أَهْوَاءهُم) التي يدعونك إليها من تقرير الأمور المخالفةِ لما أُنزلَ إليك من الحق كالصلاة إلى بيت المقدس بعد التحويل (بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم) العظيمِ الشأن الفائضِ من ذلك الحُكم العربيِّ أو العلم بمضمونه (مالك مِنَ الله) من جنابه العزيز والالتفاتُ منَ التكلمِ إلى الغَيبة وإيرادُ الإسم الجليلِ لتربية المهابة قال الأزهري لا يكون إلها حتى يكون معبوداً وحتى يكون خالقاً ورازقاً ومدبراً (مِن وَلِىّ) يلي أمرَك وينصرك على من يبغيك الغوائلَ (وَلاَ وَاقٍ) يقيك من مصارع السوءِ وحيث لم يستلزم نفيُ الناصرِ على العدو نفيَ الواقي من نكايته أُدخل على المعطوف حرفُ النفي للتأكيد كقولك مالي دينارٌ ولا درهم أو مالك مِن بَأْسِ الله من ناصر وواقٍ لاتباعك أهواءَهم وأمثالُ هاتيك القوارعِ إنما هي لقطع أطماعِ الكفرة وتهييجِ المؤمنين على الثبات في الدين واللامُ في لئن موطِّئةٌ ومالك سادٌّ مسدَّ جوابي الشرط والقسم

38

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً) كثيرةً كائنة (مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لهم أزواجا وذريته)

الرعد 39 41 نساء وأولاداً كما جعلناها لك وهو رد لما كانوا يعيبونه صلى الله عليه وسلم بالزواج والولاد كما كانوا يقولون ما لهذا الرسولِ يأكل الطعام الخ (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ) منهم أي ما صح وما استقام ولم يكن في وسعه (أن يأتي آية) مما اقتُرح عليه وحكمٍ مما التُمس منه (إِلاَّ بإذن الله) ومشيئته المنية على الحِكم والمصالحِ التي عليَها يدورُ أمرُ الكائنات لا سيما مثلُ هذه الأمورِ العظام والالتفاتُ لما قدمناه ولتحقيق مضمون الجملةِ بالإيماء إلى العلة (لِكُلّ أَجَلٍ) أي لكل مدةٍ ووقت من المُدد والأوقات (كِتَابٌ) حكمٌ معين يُكتب على العباد حسبما تقتضيه الحكمةُ فإن الشرائعَ كلها الإصلاح أحوالِهم في المبدأ والمعاد ومن قضية ذلك أنه يختلف حسب اختلافِ أحوالِهم المتغيرة حسب تغيرا الأوقات كاختلاف العِلاج حسب اختلافِ أحوالِ المرضى بحسب الأوقات

39

(يَمْحُو الله مَا يَشَاء) أي ينسخ ما يشاء نسخَه من الأحكام لما تقتضيه الحكمةُ بحسب الوقت (وَيُثَبّتْ) بدلَه ما فيه المصلحةُ أو يبقيه على حاله غيرَ منسوخ أو يثبتُ ما شاء إثباتَه مطلقاً أعمَّ منهما ومن الإنشاء ابتداءً أو يمحو من ديوان الحفَظةِ الذين ديدنُهم كَتْبُ كلِّ قولٍ وعمل مالا يتعلق به الجزاءُ ويثبت الباقيَ أو يمحو سيئاتِ التائبِ ويثبت مكانها الحسنةَ أو يمحو قَرْناً ويثبت آخرين أو يمحو الفاسداتِ من العالم الجُسماني ويثبت الكائنات أو يمحو الرزق ويزيد فيه أو يمحو الأجل أو السعادة والشقاوة وبه قال ابنُ مسعودٍ وابنُ عمر رضى الله عنهم والقائلون به يتضرعون إلى الله تعالَى إِنَّ يجعلهم سعداءَ وهذا رواه جابر عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم والأنسبُ تعميمُ كل من المحو والإثبات ليشمل الكل ويدخلُ في ذلك موادُّ الإنكار دخولا أولياء وقرىء بالتشديد (وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب) أي أصلُه وهو اللوحُ المحفوظُ إذْ مَا من شيءٍ من الذاهب والثابت إلا وهو مكتوبٌ فيه كما هو

40

(وإما نرينك) أصله إن نُرِكَ ومَا مزيدةٌ لتأكيدِ معنى الشرط ومن ثمة أُلحقت النون بالفعل (بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ) أي وعدناهم من إنزال العذابِ عليهم والعدول إلى صيغة المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ أو نعدهم وعدا متجددا حسبما تقتضيه الحكمة من إنذار غب إنذار وفي إيراد البعض رمزا إلى إرادة بعض الموعودِ (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبلَ ذلكَ (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ) أي تبليغُ أحكام الرسالةِ بتمامها لا تحقيقُ مضمون ما بلّغته من الوعيد الذي هو من جملتها (وَعَلَيْنَا) لا عليك (الحساب) محاسبةُ أعمالهم السيئةِ والمؤاخذةُ بها أي كيفما دارت الحال أريناك بعض ما وعدناهم من العذاب الدنيويِّ أو لم تركه فعلينا ذلك وما عليك إلا تبليغُ الرسالة فلا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتمّ ما وعدناك من الظفر ولا يُضجِرْك تأخرُه فإن ذلك لما نعلم من المصالح الخفيةِ ثم طيَّب نفسَه عليه الصلاة والسلام بطلوع تباشيره فقال

41

(أولم يروا) استفهام إنكاري والواو للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقام أي أأنكروا نزول

الرعد 42 ما وعدناهم أو أشكّوا أو ألم ينظرُوا في ذلك ولم يرَوا (أَنَّا نَأْتِى الأرض) أي أرضَ الكفر (نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) بأن نفتحها على المسلمين شيئاً فشيئاً ونُلحقَها بدار الإسلام ونُذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاءِ أليس هذا من ذلك ومثلُه قوله عز سلطانه أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغالبون وقوله ننقُصها حالٌ من فاعل نأتي أو من مفعوله وقرىء نُنَقصها بالتشديد وفي لفظ الإتيان المؤذِن بالاستواء المحتوم والاستيلاءِ العظيم من الفخامة ما لا يخفى كما في قوله عز وجل وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً (والله يَحْكُمُ) ما يشاءُ كما يشاءُ وقد حكم للإسلام بالعزة والإقبال وعلى الكفر بالذلة والإدبار حسبما يشاهَد من المخايل والآثار وفي الالتفات منَ التكلمِ إلى الغَيبة وبناءِ الحُكم على الاسم الجليل من الدِلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى وهي جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها وقوله تعالى (لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ) اعتراضٌ في اعتراض لبيان علوّ شأن حكمِه جل جلاله وقيل نصبٌ على الحالية كأنه قيل والله يحكمُ نافذاً حكمُه كما تقول جاء زيد لا عمامةٌ على رأسه أي حاسراً والمعقّب من يكُرّ على الشيء فيبطله وحقيقتُه مِن يعقبه ويقفّيه بالرد والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقّب لأنه يقفى غريمه بالاقتضاء والطلب (وَهُوَ سَرِيعُ الحساب) فعما قليلٍ يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بأفانينِ العذاب غِبّ ما عذبهم بالقتل والأسر والإجلاءِ حسبما يُرى وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهما سريعُ الانتقام

42

(وَقَدْ مَكَرَ) الكفار (الذين) خلوا (من قبلهم) من قبلِ كفارِ مكةَ بأنبيائهم والمؤمنين كما مكر هؤلاءِ وهذا تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا عبرةَ بمكرهم ولا تأثير بل لا وجود له في الحقيقة ولم يصرّح بذلك اكتفاءً بدلالة القصرِ المستفادِ من تعليله أعني قوله تعالى (فَلِلَّهِ المكر) أي جنسُ المكر (جَمِيعاً) لا وجودَ لمكرهم أصلاً إذ هو عبارةٌ عن إيصال المكروهِ إلى الغير من حيث لا يشعُر به وحيث كان جميع ما يأتون وما يذرون بعلم الله تعالى وقدرتِه وإنما لهم مجردُ الكسب من غير فعلٍ ولا تأثير حسبما يبينه قوله عز وجل (يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) ومن قضيته عصمةُ أوليائِه وعقابُ الماكرين بهم توفيةً لكل نفس جزاءَ ما تكسبه ظهر اليس لمكرهم بالنسبة إلى مَن مكروا بهم عينٌ ولا أثرٌ وأن المكرَ كله لله تعالى حيث يؤاخذهم بما كسبوا من فنون المعاصي التي من جملتها مكرُهم من حيثُ لا يحتسبون أو لله المكرُ الذي باشروه جميعاً لا لهم على معنى أن ذلك ليس مكراً منهم بالأنبياء بل هو بعينه مكرٌ من الله تعالى بهم وهم لا يشعرون حيث لا يحيق المكر السيء إلا بأهله (وَسَيَعْلَمُ الكفار) حين يقضي بمقتضى علمه فيوفِّي كلَّ نفس جزاءَ ما تكسبه (لِمَنْ عُقْبَى الدار) أي العاقبةُ الحميدةُ من الفريقين وإن جهِلوا ذلك يومئذ وقيل السينُ لتأكيد وقوعِ ذلك وعلمِهم به حينئذ وقرىء سيعلم الكافرُ على إرادة الجنسِ والكافرون والكفرُ أي أهله والذين كفروا وسيُعلم على صيغة المجهول من الإعلام أي سيخبر

الرعد

43

43 - (وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً) قيل قاله رؤساءُ اليهود وصيغةُ الاستقبال لاستحضار صورةِ كلمتهم الشنعاءِ تعجيباً منها أو للدِلالة على تجدد ذلك واستمرارِه منهم (قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فإنه قد أظهر على رسالتي من الحجج القاطعةِ والبينات الساطعةِ ما فيه مندوحةٌ عن شهادة شاهد آخرَ (وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب) أي علمُ القرآنِ وما عليه من النظم المعجز أو مَن هو مِن علماء أهلِ الكتابِ الذين أسلموا لأنهم يشهدون بنعته عليه الصلاة والسلام في كتبهم والآية مدنيةٌ بالاتفاق أو مَنْ عنده علم اللوحِ المحفوظ وهو الله سبحانه أي كفى به شاهداً بيننا بالذي يستحق العبادةَ فإنه قد شحَن كتابه بالدعوة إلى عبادته وأيدني بأنواع التأييدِ وبالذي يختص بعلم ما في اللوح من الأشياء الكائنةِ الثابتةِ التي من جملتها رسالتي وقرىء من عنده بالكسر وعلم الكتاب على الأول مرتفع بالظرف المعتمد الموصول أو مبتدأٌ خبرُه الظرفُ وهو متعين على الثاني ومِن عنده عُلِمَ الكتابُ بالكسر وبناء المفعول ورفع الكتابِ عن رسولِ الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة الرعد أُعطِيَ من الأجر عشرَ حسناتٍ بوزن كل سحابٍ مضى وكلِّ سحابٍ يكون إلى يوم القيامة وبُعث يوم القيامة من المُوفين بعهد الله عزَّ وجلَّ والله أعلم بالصواب

سورةِ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ آيتي ثمانية وعشرون وتسعة وعشرون فمدنيتان وآيتها إثنان وخمسون) بسم الله الرحمن الرحيم

إبراهيم

(الر) مر الكلامُ فيه وفي محله غيرَ مرَّةٍ وقوله تعالى (كِتَابٌ) خبرٌ له على تقدير كون آلر مبتدأً أو لمبتدإٍ مضمرٍ على تقدير كونِه خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ أو مسروداً على نمطِ التعديدِ ويجوز أن يكون خبراً ثانياً لهذا المبتدأ المحذوف وقولُه تعالى {أنزلناه إِلَيْكَ} صفة له وقوله تعالى {لِتُخْرِجَ الناس} متعلقٌ بأنزلناه أي لتخرجَهم كافةً بَما فِي تضاعيفِه من البينات الواضحة المفصحةِ عن كونه من عندِ الله عزَّ وجل الكاشفةِ عن العقائد الحقةِ وقرىء ليخرِج الناسَ (مِنَ الظلمات) أي ليُخرج به الناسَ من عقائد الكفر والضلال التي كلُّها ظلماتٌ محضةٌ وجهالاتٌ صِرْفة (إِلَى النور) إلى الحقِّ الذي هو نورٌ بحتٌ لكن لا كيفما كان فإنك لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ بل (بِإِذْنِ رَبّهِمْ) أي بتيسيره وتوفيقِه وللإنباء عن كون ذلك منوطاً بإقبالهم إلى الحق كما يفصحُ عنه قولُه تعالى وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن أناب لستعير له الإذنُ الذي هو عبارةٌ عن تسهيل الحجابِ لمن يقصِد الورودَ وأضيف إلى ضميرهم اسمُ الربِّ المفصحِ عن التربية التي هي عبارةٌ عن تبليغُ الشيءِ إلى كماله المتوجّه إليه وشمولُ الإذن بهذا المعنى للكل واضحٌ وعليه يدور كونُ الإنزال لإخراجهم جميعاً وعدمُ تحققِ الإذن بالفعل في بعضهم لعدم تحققِ شرطِه المستند إلى سوء اختيارِهم غيرُ مخلٍ بذلك والياء متعلقةٌ بتخرج أو بمُضْمَرٍ وقعَ حالاً مِنْ مفعوله أيْ ملتبسينَ بإذنِ ربِّهم وجعله حالاً من فاعله يأباه إضافةُ الربِّ إليهم لا إليه وحيث كان الحقُّ مع وضوحه في نفسه وإيضاحه لغيره موصلاً إلى الله عزَّ وجلَّ استُعير له النورُ تارة والصراطُ أخرى فقيل (إلى صِرَاطِ العزيز الحميد) على وجه الإبدالِ بتكرير العامل كما في قوله تعالى للذين استضعفوا لمن آمن مِنْهُمْ وإخلالُ البدل والبيانِ بالاستعارة إنما هو في الحقيقة لا في المجاز كما في قوله سبحانه حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الابيض مِنَ الخيط الاسود مِنَ الفجر وقيل هو استئناف مبني على سؤال كأنه قيل إلى أي نور فقيل إلى صراط العزيز الحميد وإضافةُ الصراط إليه تعالى لأنه مقصِدُه أو المبينُ له وتخصيصُ الوصفين بالذكر للترغيب في سلوكه ببيان ما فيه من الأمن والعاقبةِ الحميدة

2

(الله) بالجر عطفُ بيان للعزيز الحميد لجريانه مَجرى الأعلامِ الغالبة بالاختصاص بالمعبود بالحق

إبراهيم 3 كالنجم في الثريا وقرىء بالرفع على هو الله أي العزيزِ الحميد الذي أضيف إليه الصراط الله (الذى لَهُ) مُلكاً ومِلكاً (مَا فِي السموات وما في الارض) أي ما وُجد فيهما داخلاً فيهما أو خارجاً عنهما مُتمكِّناً فيهما كما مرَّ في آيةِ الكرسي ففيه على القراءتين بيانٌ لكمال فخامة شأنِ الصراط وإظهارٌ لتحتم سلوكه على الناس قاطبةً وتجويزُ الرفع على الابتداء يجعل الموصول خبراً مبناه الغفولُ عن هذه النكتة وقوله عز وجل (وَوَيْلٌ للكافرين) وعيدٌ لمن كفر بالكتاب ولم يخرجْ به مّنَ الظلمات إِلَى النور بالويل وهو نقيضُ الوال وهو النجاةُ وأصله النصبُ كسائر المصادر ثم رفع رفعها للدِلالة على الثبات كسلامٌ عليك (مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) متعلق بويل على معنى يولولون ويضجون منه قائلين ياويلاه كقوله تعالى دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً

3

(الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا) أي يؤثرونها استفعالٌ من المحبة فإن المؤثرَ للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحبَّ إليها وأفضلَ عندها من غيره (على الأخرة) أي الحياة الآخرةِ الأبدية (وَيَصُدُّونَ) الناس (عَن سَبِيلِ الله) التي بين شأنُها والاقتصارُ على الإضافة إلى الاسم الجليل المنطوي على كل وصف جميل لروم الاختصار وهو من صدّه صداً وقرىء يُصِدّون من أَصَدَ المنقولِ من صد صدوداً إذا نكَب وهو غيرُ فصيح كأوقف فإن في صدّه ووقفه لمندوحة عن تكلف النقل (وَيَبْغُونَهَا) أي يبغون لها فحُذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير أي يطلبون لها (عِوَجَا) أي زيغاً واعوجاجاً وهي أبعدَ شيءٍ من ذلكَ أي يقولون لمن يريدون صدَّه وإضلاله إنها سبيلٌ ناكبةٌ وزائغة غيرُ مستقيمة ومحلُّ موصول هذه الصلاتِ الجرِّ على أنَّه بدلٌ من الكافرين أو صفةٌ له فيعتبر كلُّ وصف من اوصافهم بإزار ما يناسبه من المعاني المعتبرةِ في الصراط فالكفرُ المنبىء عن الستر بإزاد كونه نوراً واستحبابُ الحياة الدنيا الفانيةِ المفصحةِ عن وخامة العاقبةِ بمقابلة كونِ سلوكه محمودَ العاقبة والصدُّ عنه بإزاء كونه مأموناً وفيه من الدلالة على تماديهم في الغي مالا يخفى أو النصبُ على الذمِّ أو الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ قوله تعالى {أُوْلَئِكَ فِى ضلال بَعِيدٍ} وعلى الأول جملةٌ مستأنفة وقعت معلّلةً لما سبق من لحوق الويل بهم تأكيدا لما شعر به بناء الحكم على الموصول أي أولئك الموصوفون بالقبائح المذكورةِ من استحباب الحياة الدنيا على الآخرة وصدِّ الناس عن سبيل الله المستقيمةِ ووصفها بالاعوجاج وهي منه بنزه في ضلال عن طريق الحق بعيدٍ بالغٍ في ذلك غايةَ الغايات القاصيةِ والبعدُ وإن كان من أحوال الضالّ إلا أنه قد وُصف به وصفُه مجازاً للمبالغة كجدّ جدُّه وداهيةٌ دهياءُ ويجوز أن يكون المعنى في ضلال ذي بُعد أو فيه بُعدٌ فإن الضالّ قد يضِل عن الطريق مكاناً قريباً وقد يضل بعيداً وفي جعل الضلال محيطاً بهم إحاطةَ الظرف بما فيه ما لا يَخفْى من المبالغة

إبراهيم

4

4 - (وَمَا أَرْسَلْنَا) أي في الأمم الخاليةِ من قبلك كما سيذكر إجمالاً (مِن رَّسُولٍ إِلاَّ) ملتبساً (بِلِسَانِ قَوْمِهِ) متكلماً بلغة من أُرسل إليهم من الأمم المتفقة على لغة سواءٌ بعث فيهم أولا وقرىء بلِسْنِ وهو لغة فيه كريش ورياش وبلُسُنْ بضمتين وضمة وسكون كعُمُد وعُمْد (لِيُبَيّنَ لَهُمُ) ما أمروا به فيلتقوا منه بيُسر وسُرعة ويعملوا بموجبه منْ غيرِ حاجةٍ إلى الترجمة ممن لم يُؤمر به وحيث لم يمكن مراعاةُ هذه القاعدة في شأن سيدنا محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وعليهم أجمعين لعموم بعثتِه للثقلين كافةً على اختلاف لغاتِهم وكان تعددُ نظمِ الكتاب المنزل إليه حسب تعددِ ألسنة الأممِ أدعى إلى التنازع واختلافِ الكلمة وتطرّقِ أيدي التحريف مع أن استقلال بعضٍ من ذلك بالإعجاز دون غيره مثنة لقدح القادحين واتفاقَ الجميع فيه أمرٌ قريب من الإلجاء وحصرِ البيانِ بالترجمة والتفسير اقتضت الحكمةُ اتحادَ النظمِ المنبىء عن العزة وجلالةِ الشأن المستتبعِ لفوائدَ غنيةٍ عن البيان على أن الحاجة إلى الترجمة تتضاعف عند التعددِ إذ لا بد لكل أمةٍ من معرفة توافق الكلِّ وتحاذيه حذوَ القُذّة بالقذة من غير مخالفة ولو في خَصلة فذّة وإنما يتم ذلك بمن يترجم عن الكل واحداً أو متعدداً وفيه من التعذر ما يتاخم الامتناعَ ثم لما كان أشرفَ الأقوام وأولاهم بدعوته عليه الصلاة والسلام قومُه الذين بعث فيهم ولغتُهم أفضلَ اللغات نزل الكتابُ المتين بلسان عربي مبين وانتشرت أحكامُه فيما بين الأمم أجمعين وقيل الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه تعالى أنزل الكتب كلَّها عربيةً ثم ترجمها جبريل عليه الصلاة والسلام أو كلُّ من نزل عليه من الأنبياءِ عليهم السلام بلغة من نزل عليهم ويرده قولِه تعالى لِيُبَيّنَ لَهُمُ فإنه ضميرُ القوم وظاهرٌ أن جميع الكتب لم ينزل لتبيين العرب وفي رَجْعه إلى قوم كل نبي كأنه قيل وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلا بلسان قوم محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم ليبين الرسولُ لقومه الذين أرسل إليهم مالا يخفى من التكلف (فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاء) إضلالَه أي يخلق فيه الضلال لمباشرة أسبابِه المؤدية إليه أو يخذله ولا يلطُف به لما يعلم أنه لا ينجع فيه الإلطاف (وَيَهْدِى) بالتوفيق ومنح الإلطاف (مَن يَشَآء) هدايتَه لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق والالتفاتُ بإسناد الفعلين إلى الاسم الجليل المنطوي على الصفات لتفخيم شأنِهما وترشيح مناطِ كلَ منهما والفاء فصيحة مثلُها في قولِه تعالَى فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق كأنه قيل فبيّنوه لهم فأضل الله منهم من شاء إضلالَه لما لا يليق إلا به وهدى من شاء هدايتَه لاستحقاقه لها والحذفُ للإيذان بأن مسارعة كلِّ رسول إلى مَا أُمر بهِ وجريانَ كلَ من أهل الخذلان والهدايةِ على سنته أمرٌ محققٌ غنيٌّ عن الذكر والبيانِ والعدولُ إلى صيغة الاستقبالِ لاستحضار الصورةِ أو للدِّلالةِ على التَّجددِ والاستمرارِ حسب تجدد البيانِ من الرسل المتعاقبةِ عليهم السلام وتقديمُ الإضلال على الهداية إما لأنه إبقاءُ ما كان على من كان والهدايةُ إنشاءُ ما لم يكن أو للمبالغة في بيانِ أن لا تأثيرَ للتبيين والتذكير من قبل الرسلِ وأن مدارَ الأمر إنما هو مشيئتُه تعالى بإيهام أن ترتبَ الضلالةِ على ذلك أسرعُ من

إبراهيم 5 ترتب الاهتداءِ وهذا محقِّقٌ لما سلف من تقييد الإخراجِ مّنَ الظلمات إِلَى النور بإذن الله تعالى (وَهُوَ العزيز) فلا يغالَب في مشيئته (الحكيم) الذي لا يفعلُ شيئاً من الإضلال والهداية إلا لحكمة بالغةٍ وفيه أن ما فُوِّض إلى الرسل إنما هو تبليغُ الرسالة وتبيينُ طريقِ الحقِّ وأما الهدايةُ والإرشادُ إليه فذلك بيد الله سبحانه يفعلُ مَا يشاءُ ويحكُم ما يريد

5

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى) شروعٌ في تفصيل ما أجمل في قولِه عزَّ وجلَّ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لهم الآية (بآياتنا) أي ملتبساً بها وهي معجزاتُه التي أظهرها لبني إسرائيلَ (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) بمعنى أي أخرِجْ لأن الإرسالَ فيه معنى القول أو بأن أخرِجْ كما في قوله تعالى وأن أَقِمْ وَجْهَكَ فإن صيغ الأفعال في الدلالةِ على المصدرِ سواءٌ وهو المدارُ في صحة الوصل والمرادُ بذلك إخراجُ بني إسرائيلَ بعد مهلِك فرعون (مِنَ الظلمات) من الكفر والجهالاتِ التي أدتهم إلى أن يقولوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة (إِلَى النور) إلى الإيمان بالله وتوحيده وسائرِ ما أُمروا به (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله) أي بنعمائه وبلائِه كما ينبىء عنه قوله اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ لكن لا بما جرى عليهم فقط بل عليهم وعلى مِن قَبْلِهِم من الأممِ في الأيام الخالية حسبما ينبى عنه قولُه تعالَى أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ الآيات أو بأيامه المنطوية على ذلك كَما يلوحُ بهِ قولُه تعالى إِذْ أَنجَاكُمْ والالتفاتُ من التكلم إلى الغبية بإضافة الأيام إلى الاسم الجليل للإيذان بفخامة شأنِها والإشعارِ بعدم اختصاصِ ما فيها من المعاملة بالمخاطب وقومِه كما تُوهمه الإضافةُ إلى ضمير المتكلم أي عظْهم بالترغيب والترهيب والوعدِ والوعيد وقيل أيامُ الله وقائعُه التي وقعت على الأمم قبلهم وأيامُ العرب وقائعُها وحروبُها وملاحمها أي أنذرهم وقائعَه التي دهمت الأممَ الدارجة ويردّه ما تصدى له صلى الله عليه وسلم بصدد الامتثالِ من التذكير بكل من السراء والضراء مما جرى عليهم وعلى غيرهم حسبما يتلى عليك (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي في التذكير بها أو في مجموع تلك النعماءِ والبلاءِ أو في أيامها (لآيات) عظيمة أو كثيرة دالةً على وحدانية الله تعالى وقدرتِه وعلمه وحكمته فهي على الأول عبارةٌ عن الأيام سواءٌ أريد بها أنفسُها أو ما فيها من النعماء والبلاءِ ومعنى ظرفية التذكيرِ لها كونُه مناطاً لظهورها وعلى الثالث عن تلك النعماء والبلاء ومعنى الظرفية ظاهر وأما على الثاني وهو كونُه إشارةً إلى مجموع النعماءِ فعن كل واحدةٍ من تلك النعماء والبلاء والمشارُ إليه المجموعُ المشتمل عليها من حيثُ هو مجموعٌ أو كلمة في تجريديةٌ مثلُها في قولِه تعالَى لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ (لّكُلّ صَبَّارٍ) على بلائه (شَكُورٍ) لنعمائه وقيل مؤمنٍ والتعبيرُ عنهم بذلك للإشعار بأن الصبرَ والشكرَ عنوانُ المؤمن أي لكل مَن يليق بكمال الصبرِ والشكر أو الإيمان ويصير أمرَه إليها لا لمن اتصف بها بالفعل لأنه تعليلٌ للأمر بالتذكير المذكور السابق على التذكير المؤدّي إلى تلك المرتبة فإن من تذكّر ما فاض أو نزل عليه أو على مَنْ قبله من النعماء والبلاءِ وتنبّه لعاقبة الشكر والصبر أو الإيمان لا يكاد يفارقها وتخصيصُ الآيات بهم لأنهم المنتفعون بها لا لأنها خافية

إبراهيم 6 7 عن غيرهم فإن النبيين حاصلٌ بالنسبة إلى الكل وتقديمُ الصبار على الشكور لتقدم متعلَّقِ الصبر أعني البلاء على متعلّق الشكر أعني النعماء وكون الشكر عافية الصبر

6

(وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ) شروعٌ في بيان تصدّيه عليه الصلاة والسلام لما أُمر به من التذكير للإخراج المذكورِ وإذْ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطبَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وتعليقُ الذكر بالوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مرَّ سرُّه غيرَ مرة أي أذكُر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسلام لقومه (اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ) بدأ عليه الصلاة والسلام بالترغيب لأنه عند النفس أقبلُ وهي إليه أميلُ والظرفُ متعلّقٌ بنفس النعمة إن جُعلت مصدراً أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً منها إنْ جُعلت اسماً أي اذكروا إنعامه عليكم واذكروا نعمته كائنةً عليكم وكذلك كلمةُ إذْ في قوله تعالى (إِذْ أنجاكم من آل فرعون) أي اذكروا إنعامه عليكم وقت إنجائِه إياكم من آلِ فرعونَ أو اذكروا نعمةَ الله مستقرةً عليكم وقت إنجائِه إياكم منهم أو بدلُ اشتمالٍ من نعمةَ الله مراداً بها الإنعامُ أو العطية (يَسُومُونَكُمْ) يبغونكم مِنْ سامه خَسفاً إذا أولاه ظلماً وأصلُ السَّوم الذهابُ في طلب الشيء (سُوء العذاب) السوءُ مصدر ساء يسوء والمرادُ به جنس العذاب السيء أو استبعادهم واستعمالُهم في الأعمال الشاقة والاستهانةُ بهم وغيرُ ذلك مما لا تحصرو نصبه على أنه مفعولٌ ليسومونكم (وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ) المولودين وإنما عطفه على يسومونكم إخراجاً له عن مرتبة العذاب المعتاد وإنما فعلوا ذلك لأن فرعونَ رأى في المنام أو قال له الكهنةُ أنه سيولد منهم مَنْ يذهب بملكه فاجتهدوا في ذلك فلن يُغن عنهم من قضاء الله شيئاً (وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ) أي يُبقونهن في الحياة مع الذل والصَّغار ولذلك عد من جملة البلاء والجملُ أحوالٌ من آلِ فرعونَ أو من ضمير المخاطبين أو منهما جميعاً لأن فيها ضميرَ كلَ منهما (وَفِى ذلكم) أي فيما ذكر من أفعالهم الفظيعة (بَلاء مِّن رَّبّكُمْ) أي ابتلاء منه لا أن البلاء عينُ تلك الأفعال اللهمَّ إلاَّ أنْ تجعلَ في تجريديةً فنسبتُه إلى الله تعالى إما من حيث الخلقُ أو الإقدارُ والتمكين (عظِيمٌ) لا يطاق ويجوز أن يكون المشارُ إليه الإنجاء من ذلك والبلاءُ الابتلاءُ بالنعمة وهو الأنسب كما يلوحُ به التعرضُ لوصف الربوبية وعلى الأول يكون ذلك باعتبار المآل الذي هو الإنجاءُ أو باعتبار أن بلاء المؤمن تربيةٌ له

7

(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) من جملة موسى عليه الصلاة والسلام لقومه معطوفٌ على نعمةَ الله أي اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ واذكروا حين تأذّن ربكم أي آذن إيذاناً بليغاً لا تبقى معه شائبةٌ لِما في صيغة التفعّل من معنى التكلف المحمول في حقه سبحانه على غايته التي هي الكمالُ وقيل هو معطوفٌ على قوله تعالى إِذْ أَنجَاكُمْ أي اذكروا نعمتَه تعالى في هذين الوقتين فإن هذا التأذنَ أيضاً نعمةٍ من الله تعالَى عليهم ينالون بها خيري الدنيا والآخرة وفي قراءةُ ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه وإذ قال ربكم ولقد ذكّرهم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أوَّلاً بنعمائه تعالى

إبراهيم 8 9 عليهم صريحاً وضمنّه تذكيرَ ما أصابهم قبل ذلك من الضراء ثم أمرهم ثانياً بذكر ما جرى من الله سبحانه من الوعد بالزيادة على تقدير الشكر والوعيدِ بالعذاب على تقدير الكفر والمرادُ بتذكير الأوقات تذكيرُ ما وقع فيها من الحوادث مفصلةً إذ هي محيطةٌ بذلك فإذا ذُكرت ذكر ما فيها كأنه مشاهَدٌ معايَن (لَئِن شَكَرْتُمْ) يا بني إسرائيلَ ما خوّلتُكم من نعمة الإنجاء وإهلاكِ العدوّ وغير ذلك من النعم والآلاءِ الفائتة للحصر وقابلتموه بالإيمان والطاعة (لازِيدَنَّكُمْ) نعمةً إلى نعمة (وَلَئِن كَفَرْتُمْ) ذلك وغمِصتموه (إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ) فعسى يصيبكم منه ما يصيبكم ومن عادة الكرام التصريحُ بالوعد والتعريضُ الوعيد فما ظنُّك بأكرمِ الأكرمين ويجوز أن يكون المذكورُ تعليلاً للجواب المحذوفِ أي لأعذبنكم واللام في الموضعين موطئةٌ للقسم وكلٌّ من الجوابين سادٌّ مسدَّ جوابي الشرط والقسم والجملةُ إما مفعولٌ لتأذن لأنه ضرْبٌ من القول أو لقول مقدر بعده كأنه قيل وإذ تأذن ربكم فقال الخ

8

(وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ) نِعمَه تعالى ولم تشكروها (أَنتُمْ) يا بني إسرائيلَ (وَمَن فِى الأرض) من الخلائق (جَمِيعًا فَإِنَّ الله لَغَنِىٌّ) عن شكركم وشكرِ غيرِكم (حَمِيدٌ) مستوجِبٌ للحمد بذاته لكثرة ما يوجبه من أياديه وإنْ لم يحمَدْه أحدٌ أو محمودٌ يحمَده الملائكةُ بل كلُّ ذرةٍ من ذرات العالم ناطقةٌ بحمده والحمدُ حيث كان بمقابلة النعمة وغيرها من الفضائل كان أدلَّ على كماله سبحانه وهو تعليلٌ لما حُذف من جواب إن أي إن تكفروا لم يرجِعْ وبالُه إلا عليكم فإن الله تعالى لغنيٌّ عن شكر الشاكرين ولعلَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنما قاله عند ما عاين منهم دلائلَ العِناد ومخايلَ الإصرار على الكفر والفساد وتيقن أنه لا ينفعهم الترغيبُ ولا التعريضُ بالترهيب أو قاله غِبَّ تذكيرهم من قولُ اللَّهِ عزَّ سلطانه وتحقيقا لمضمونه وتحذيراً لهم من الكفران ثم شرَع في الترهيب بتذكير ما جرى على الأمم الخالية فقال

9

(الم يأتيكم نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ) ليتدبروا ما أصاب كلَّ واحد من حزبي المؤمن والكافر فيقلعوا عماهم عليه من الشر ويُنيبوا إلى الله تعالى وقيل هو ابتداءُ كلامٍ من الله تعالى خطاباً للكفرة في عهد النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فيختص تذكير موسى عليهِ الصلاةُ والسلامُ بمَا اختص ببني إسرائيلَ من السراء والضراء والأيامُ بالأيام الجاريةِ عليهم فقط وفيه مالا يخفى من البعد وأيضاً لا يظهر حينئذ وجهُ تخصيص تذكير الكفرة الذين في عهد النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بما أصاب أولئك المعدودين مع أن غيرهم أسوةٌ لهم في الخلوّ قبل هؤلاء (قَوْمُ نُوحٍ) بدل من الموصول أو عطف بيان (وَعَادٌ) معطوفٌ على قوم نوح (وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ) أي من هؤلاء المذكورين عطفٌ عامٌ على قوم نوح وما عطف

إبراهيم 10 عليه وقوله تعالى (لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله) اعتراضٌ أو الموصولُ مبتدأٌ ولا يعلمهم إلى آخره خبرُه والجملةُ اعتراضٌ والمعنى أنهم من الكثرة بحيث لا يعلمُ عددَهم إلا الله سبحانه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بين عدنان وإسمعيل ثلاثون أباً لا يُعرفون وكان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إذا قرأ هذه الآيةَ قال كذَب النسّابون يعني أنهم يدّعون علم الأنساب وقد نفى الله تعالى علمَها عن العباد (جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم) استئنافٌ لبيان نَبئِهم (بالبينات) بالمعجزات الظاهرةِ والبيناتِ الباهرة فبيّن كلُّ رسول لأمته طريقَ الحق وهداهم إليه ليخرجهم مّنَ الظلمات إِلَى النور (فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ) مشيرين بذلك إلى ألسنتهم وما يصدُر عنها من المقالة اعتناءً منهم بشأنها وتنبيهاً للرسل على تلقّيها والمحافظةِ عليها وإقناطاً لهم عن التصديق والإيمان بإعلام أن لا جوابَ لهم سواه (وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي على زعمكم وهي البيناتُ التي أظهروها حجةً على صحة رسالاتِهم كقوله تعالى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا ومرادُهم بالكفر بها الكفرُ بدِلالتها على صحة رسالاتِهم أو فعضوها غيضا وضجراً مما جاءت به الرسل كقوله تعالى عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيض أو وضعوها عليها تعجباً منه واستهزاءً به كمن غلبه الضحك أو إسكانا للأنبياء عليهم السلام وأمراً لهم بإطباق الأفواه أو رَدّوها في أفواه الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام يمنعونهم من التكلم تحقيقاً أو تمثيلاً أو جعلوا أيديَ الأنبياء في أفواههم تعجباً من عُتوّهم وعِنادهم كما ينبىء عنه تعجّبهم بقولهم أفي الله شك الخ وقيل الأيدي بمعنى الأيادي عبر بها عن مواعظهم ونصائحهم وشرائعهم التي مدار النعم الدينية والدنياوية لأنهم لما كذّبوها فلم يقبلوها فكأنهم ردّوها إلى حيث جاءت منه (وَإِنَّا لَفِى شَكّ) عظيم (مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ) من الإيمانِ بالله والتوحيد فلا ينافي شكُّهم في ذلك كفرَهم القطعيَّ بما أرسل به الرسل من البينات فإنهم كفروا بها قطعاً حيث لم يعتدوا بها ولم يجعلوها من جنس المعجزات ولذلك قالوا فأتونا بسلطان مبين وقرىء تدّعون بالإدغام (مريب) موقع في الريبة من أرابه أو ذي ريبة من أراب الرجلُ وهي قلقُ النفس وعدم اطمئنانها بالشيء

10

(قَالَتْ رُسُلُهُمْ) استئنافٌ مبنىٌّ على سؤال ينساق إليه المقالُ كأنَّه قيلَ فماذا قالتْ لهم رسلُهم فأجيب بأنهم قالوا منكرِين عليهم ومتعجّبين من مقالتهم الحمقاءِ (أَفِى الله شَكٌّ) بإدخال الهمزةِ على الظرف للإيذان بأن مدارَ الإنكار ليس نفسَ الشك بل وقوعُه فيما لا يكادُ يتوهّم فيه الشكّ أصلاً منقادين عن تطبيقِ الجوابِ على كلام الكفرةِ بأن يقولوا أأنتم في شكَ مُريبٍ من الله تعالى مبالغةً في تنزيه ساحة السبحان عن شائبة الشك وتسجيلاً عليهم بسخافة العقول أي أفي شأنه سبحانه من وجوده ووحدتِه ووجوبِ الإيمان به وحده شك ما وهو أظهرُ من كل ظاهر وأجلى من كل جلي حتى تكونوا من قِبله في شك مريب وحيث كان مقصِدُهم الأقصى الدعوةَ إلى الإيمان والتوحيد

إبراهيم 11 وكان إظهارُ البينات وسيلةً إلى ذلك لم يتعرضوا للجواب عن قول الكفرةِ إنا كفرنا بما أرسلتم به واقتصروا علي بيان ما هو الغايةُ القصوى ثم عقّبوا ذلك الإنكارَ بما يوجبه من الشواهد الدالّةِ على انتفاء المنكَر فقالوا (فَاطِرِ السموات والأرض) أي مبدعهما وما فيهما من المصنوعات على نظام أنيقٍ شاهد بتحقق ما أنتم منه في شك وهو صفةٌ للاسم الجليل أو بدلٌ منه وشكٌّ مرتفعٌ بالظرف لاعتماده على الاستفهام وجعلُه مبتدأً على أن الظرف خبرُه يُفضي إلى الفصلُ بين الموصوفِ والصفةِ بالأجنبي أعني المبتدأَ والفاعلَ ليس بأجنبي مِنْ رافعه وقد جوز ذلك أيضاً (يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان بإرساله إبانا لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسِنا كما يوهمه قولُكم مما تدعوننا إليه (لِيَغْفِرَ لَكُمْ) بسببه أو يدعوكم لأجل المغفرة كقولك دعوتُه ليأكلَ معي (مّن ذُنُوبِكُمْ) أي بعضَها وهو ما عدا المظالمَ مما بينهم وبينه تعالى فإن الإسلام بحبه قيل هكذا وقع في جميع القرآنِ في وعد الكفرةِ دون وعد المؤمنين تفرقة بين الوعد ولعل ذلك لما أن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفرةِ مرتبةً على محض الإيمان وفي شأن المؤمنين مشفوعةً بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك فيتناول الخروجَ من المظالم وقيل المعنى ليغفرَ لكم بدلاً من ذنوبكم (وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى) إلى وقت سماه الله تعالى وجعله منتهى أعمارِكم على تقدير الإيمان (قَالُواْ) استئنافٌ كما سبق (إِنْ أَنتُمْ) أي مَا أَنتُمْ (إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا) من غيرِ فضلٍ يؤهّلكم لما تدّعونه من النبوة (تُرِيدُونَ) صفةٌ ثانية لبشرٌ حملاً على المعنى كقوله تعالى أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا أو كلامٌ مستأنفٌ أي تريدون بما تتصدَّوْن له من الدعوة والأرشاد (أَن تَصُدُّونَا) بتخصيص العبادةِ بالله سبحانه (عَمَّا كَانَ يعبد آباؤنا) أي عن عبادة ما استمر آباؤُنا على عبادته من غير شيءٍ يوجبه وإلا (فَأْتُونَا) أي وإن لم يكن الأمرُ كما قلنا بل كنتم رسلاً من جهة الله تعالى كما تدّعونه فأتونا (بسلطان مُّبِينٍ) يدل على فضلكم واستحقاقِكم لتلك الرتبة أو على صحة ما تدّعونه من النبوة حتى نترُك ما لم نزل نعبُده أباً عن جد ولقد كانوا آتَوهم من الآيات الظاهرةِ والبينات الباهرة ما تخر له صم الجبال ولكنهم إنما يقولونَ ما يقولونَ من العظائم مكابرةً وعِناداً وإراءةً لمن وراءهم أن ذلك ليس من جنس ما ينطلق عليه السلطانُ المبين

11

(قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ) مجاراةً معهم في أول مقالتِهم وإنما قيل لهم لاختصاص الكلامِ بهم حيث أريد إلزامُهم بخلاف ما سلف من إنكار وقوعِ الشكِّ في الله سبحانه فإن ذلك عامٌ وإن اختص بهم ما يعقُبه (إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ) كما تقولون (ولكن الله يَمُنُّ) بالنبوة (على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ) يعنون أن ذلك عطيةٌ من الله تعالى يعطيها من يشآء من عباده بمحض الفضلِ والامتنان من غير داعيةٍ توجبه قالوه تواضعاً وهضماً للنفس أو ما نحن من الملائكة بل نحن بشرٌ مثلُكم في الصورة أو في الدخول تحت الجنس ولكن الله يمن بالفضائل والكمالاتِ والاستعدادات على من يشاء المنَّ وما يشاء ذلك إلا لعلمه باستحقاقه لها وتلك الفضائلُ والكمالاتُ والاستعدادات هي التي يدور عليها فلَكُ الاصطفاء للنبوة (وَمَا كَانَ) وما صحَّ وما استقامَ (لنا أن نأتيكم

إبراهيم 12 14 بسلطان) أي بحجة من الحجيج فضلاً عن السلطان المبين بشيء من الأشياء وسببٍ من الأسباب (إِلاَّ بِإِذْنِ الله) فإنه أمرٌ يتعلق بمشيئته تعالى إن شاء كان وإلا فلا (وَعَلَى الله) وحده دون ما عداه مطلقاً (فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون) أمرٌ منهم للمؤمنين بالتوكل ومقصود هم حملُ أنفسِهم عليه آثرَ ذي أثيرٍ ألا يُرى إلى قوله عز وجل

12

(ومالنا) أي أيُّ عذرٍ لنا (أَن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى الله) أي في أن لا نتوكل عليه والإظهار لإظهار النشاطِ بالتوكل عليه والاستلذاذِ بذكر اسمِه تعالى وتعليلِ التوكل (وَقَدْ هَدَانَا) أي والحالُ أنه قد فعل بنا ما يوجبه ويستدعيه حيث هدانا (سُبُلَنَا) أي أرشد كلاًّ منا سبيله ومنهاجَه الذي شرَع له وأوجب عليه سلوكهَ في الدين وحيث كانت أذيةُ الكفار مما يوجب القلقَ والاضطرابَ القادح في التوكل قالوا على سبيل التوكد القسميِّ مظهرين لكمال العزيمة (وَلَنَصْبِرَنَّ على مَا اذَيْتُمُونَا) بالعِناد واقتراحِ الآيات وغير ذلك مما لا خير فيه (وَعَلَى الله) خاصة (فليتوكل المتوكلون) أي فليثبُت المتوكلون على ما أحدثوه من التوكل والمرادُ هو المرادُ مما سبق من إيجاب التوكلِ على أنفسهم والمرادُ بالمتوكّلين المؤمنون والتعبيرُ عنهم بذلك لسبق ذكرِ اتصافِهم بهِ ويجوزُ أنْ يُرادَ وعليه فليتوكل مَنْ توكل دون غيره

13

(وَقَالَ الذين كَفَرُواْ) لعل هؤلاء القائلين بعضُ المتمردين العاتين الغالين في الكفر من أولئك الأممِ الكافرة التي نُقِلت مقالاتُهم الشنيعة دون جميعهم كقوم شعيبٍ وأضرابِهم ولذلك لم يُقل وقالوا (لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى ملننا) لم يقنَعوا بعصيانهم الرسلَ ومعاندتهم الحق بعد مار أو البيناتِ الفائتةَ للحصر حتى اجترءوا على مثل هاتيك العظيمةِ التي لا يكاد يحيط بها دائرة الإمكان فخلفوا على أن يكون أحدُ المُحالَيْن والعَودُ إما بمعنى مطلق الصيرورة أو باعتبار تغليبِ المؤمنين على الرسل وقد مر في الأعراف وسيأتي في الكهف (فأوحى إِلَيْهِمْ) أي إلى الرسل (رَّبُّهُمْ) مالكِ أمرهم عند تناهي كفرِ الكفرة وبلوغِهم من العتو إلى غاية لا مطمَعَ بعدها في إيمانهم (لَنُهْلِكَنَّ الظالمين) على إضمار القولِ أو على إجراء الإيحاءِ مُجراه لكونه ضرباً منه

14

(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض) أي أرضَهم وديارَهم عقوبةً لهم بقولهم لنُخرجَنّكم من أرضنا كقوله تعالى وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها (مِن بَعْدِهِمْ) أي من بعد إهلاكِهم وقرىء ليُهلكَن وليُسكِنَنّكم بالياء اعتباراً لأوحى كقولهم حلف زيد ليخرُجَنّ غداً (ذلك) إشارةٌ إلى الموحى به وهو إهلاكُ الظالمين وإسكانُ المؤمنين ديارَهم أي ذلك الأمرُ محققٌ ثابت (لِمَنْ خَافَ

إبراهيم 15 17 مَقَامِى) موقفي وهو الموقفُ الذي يقفُ فيه العبادُ يوم يقوم الناس لرب العالمين أو قيامي عليه وحفظي لأعماله وقيل لفظُ المقام مُقحَمٌ (وَخَافَ وَعِيدِ) وعيدي بالعذاب أو عذابيَ الموعودَ للكفار والمعنى أن ذلك حقٌّ للمتقين كقوله والعافية لِلْمُتَّقِينَ

15

(واستفتحوا) أي استنصروا الله على أعدائهم كقوله تعالى إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح أو استحكموا وسألوه القضاءَ بينهم من الفتاحة وهي الحكومةُ كقوله تعالى رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق فالضميرُ للرسل وقيل للكفرة وقيل للفريقين فإنهم سألوا أن يُنصَر المحِقُّ ويهلَك المبطل وهو معطوفٌ على أوحى إليهم وقرىء بلفظ الأمر عطفا على لتهلكن الظالمين أي أوحى إليهم ربهم لنُهلِكَنّ وقال لهم استفتِحوا (وَخَابَ) أي خسِر وهلك (كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) متّصفٍ بضد ما اتصف به المتقون أي فنُصروا عند استفتاحهم وظفرا بما سألوا وأفلحوا وخاب كلُّ جبارٍ عنيد وهم قومُهم المعاندون فالخيبةُ بمعنى مطلق الحرمان دون الحِرمان عن المطلوب أو ذلك باعتبار أنهم كانوا يزعُمون أنهم على الحق أو استفتح الكفارُ على الرسل وخابوا ولم يُفلحوا وإنما قيل وخاب كلُّ جبا عنيد ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالتجبّر والعِناد لا أنَّ بعضَهم ليسُوا كذلك وأنه لم يُصبْهم الخيبةُ أو استفتحوا جميعاً فنُصر الرسلُ وأُنجِز لهم الوعدُ وخاب كلّ عاتٍ متمردٍ فالخيبةُ بمعنى الحرمان غِبَّ الطلب وفي إسناد الخيبةِ إلى كل منهم مالا يخفى من المبالغة

16

(مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ) أي بين يديه فإنه مُرصَدٌ لها واقفٌ على شفيرها في الدنيا مبعوثٌ إليها في الآخرة وقيل من وراء حياتِه وحقيقتِه ما توارى عنك (ويسقى) معطوف على مقدر جواباً عن سؤال سائلٍ كأنَّه قيلَ فماذا يكونُ إذن فقيل يلقى فيها ويُسقى (مِن مَّاء) مخصوصٍ لا كالمياه المعهودة (صَدِيدٍ) وهو قيحٌ أو دمٌ مختلط بمِدّة يسيل من الجرح قال مجاهد وغيره هو ما يسيل من أجساد أهلِ النار وهو عطفُ بيانٍ لما أُبهم أولاً ثم بُيّن بالصديد تهويلاً لأمره وتخصيصُه بالذكر من بين عذابها يدل على أنه من أشدّ أنواعِه

17

(يَتَجَرَّعُهُ) قيل هو صفةٌ لماءٍ أو حالٌ منه والأظهر أنه استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذا يفعلُ به فقيل يتجرعه أي يتكلف جَرْعه مرة بعد أخرى لغلبة العطشِ واستيلاء الحرارة عليه (وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ) أي لا يقارب أن يسيغه فضلاً عن الإساغة بل يغَصّ به فيشربُه بعد اللتيا والتي جرعة غب جرعةً فيطول عذابُه تارةً بالحرارة والعطش وأخرى بشربه على تلك الحالِ فإن السواغ انحدارُ الشراب في الحلق بسهولة وقَبولِ نفس ونفيُه لا يوجب نفيَ ما ذكر جميعاً وقيل لا يكاد يدخُله في جوفه وعبّر عنه بالإساغة لما أنها المعهودةُ في الأشربة وهو حالٌ من فاعلِ يتجرعه أو من

إبراهيم 18 19 مفعوله أو منهما جميعاً (وَيَأْتِيهِ الموت) أي أسبابُه من الشدائد (مّن كُلّ مَكَانٍ) ويُحيط به من جميع الجهات أو من كل مكان من جسده حتى من أصول شعرِه وإبهامِ رجله (وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ) أي والحالُ أنه ليس بميت حقيقة كما هو الظاهر من مجيء أسبابِه لا سيما من جميع الجهاتِ حتى لا يتألمُ بما غشِيه من أصناف المُوبقات (وَمِن وَرَائِهِ) من بين يديه (عَذَابٍ غَلِيظٍ) يستقبل كلَّ وقت عذاباً أشدَّ وأشق مما كان قبله ففيه دفعُ ما يُتوهم من الخِفّة بحسب الاعتيادِ كما في عذاب الدنيا وقيل هو الخلودُ في النار وقيل هو حبسُ الأنفاس وقيل المرادُ بالاستفتاح والخيبةِ استسقاءُ أهلِ مكةَ في سِنيهم التي أرسلها الله تعالى عليهم بدعوته عليه الصلاة والسلام وخيبتهم في ذلك وقد وعد لهم بدل صديدَ أهل النار

18

(مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ) أي صفتُهم وحالُهم العجيبةُ الشأنِ التي هي كالمثل في الغرابة وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى (أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ) كقولك صفةُ زيدٍ عرضُه مهتوكٌ ومالُه منهوب وهو استئنافٌ مبني على سؤال من قال ما بالُ أعمالُهم التي عمِلوها في وجوه البرِّ من صلة الأرحام وإعتاق الرقاب وفداءِ الأسارى وإغاثةِ الملهُوفين وقِرى الأضيافِ وغير ذلك ممَّا هو من باب المكارم حتى آل أمرُهم إلى هذا المآل فأجيب بأن ذلك كرماد (اشتدت بِهِ الريح) حملتْه وأسرعتْ الذهاب به (فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) العصْفُ اشتدادُ الريحِ وصف به زمانُها مبالغةً كقولك ليلةٌ ساكرةٌ وإنما السكورُ لريحها شُبّهت صنائعُهم المعدودةُ لابتنائها على غير أساسٍ من معرفة الله تعالى والإيمان به والتوجّه بها إليه تعالى برماد طيّرته الريحُ العاصفةُ أو استئنافٌ مسوقٌ لبيان أعمالِهم للأصنام أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ كما هُو رأيُ سيبويهِ أي فيما يتلى عليك مَثلُهم وقوله أعمالُهم جملة مستأنَفةٌ مبنيّةٌ على سؤال من يقول كيف مثلهم فقيل أعمالهم كيت وكيت سواء أريد بها صنائعهم أو أعمالهم لأصنامهم وقيل أعمالُهم بدلٌ من مَثَلُ الذين وقوله كرماد خبرُه (لاَّ يَقْدِرُونَ) أي يوم القيامة (مِمَّا كَسَبُواْ) من تلك الأعمال (على شَىْء) ما أي لا يرَوْن له أثراً من ثواب أو تخفيفِ عذابٍ كدأب الرماد المذكور وهو فذلكةُ التمثيل والاكتفاءُ ببيان عدمِ رؤيةِ الأثر لأعمالهم للأصنام مع أن لها عقوباتٍ هائلةً للتصريح ببطلان اعتقادِهم وزعمِهم أنها شفعاءُ لهم عند الله تعالى وفيه تهكّمٌ بهم (ذلك) أي ما دل عليه التمثل دَلالةً واضحةً من ضلالهم مع حُسبانهم أنهم على شيء (هُوَ الضلال البعيد) عن طريق الصواب أو عن نيل الثواب

19

(أَلَمْ تَرَ) خطابٌ للرسول عليه الصلاة والسلام والمرادُ به أمتُه وقيل لكل أحد من الكفرة لقوله تعالى يُذْهِبْكُمْ والرؤيةُ رؤيةُ القلب وقوله تعالى {إِنَّ الله خلق السماوات والأرض} سادٌّ مسدَّ مفعوليها أي ألم تعلمْ أنه تعالى خلقهما (بالحق) ملتبسةً بالحكمة والوجهِ الصحيح الذي يحِق أن تخلَقَ عليه وقرىء خالقُ السموات والأرض (إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يُعدمْكم بالمرة (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) أي يخلُق بدلكم خلقاً مستأنفا لا علاقة

إبراهيم 20 21 بينكم وبينهم رتب قدرتَه تعالى على ذلك على قدرتِهِ تعالَى على خلقِ السمواتِ والأرضِ على هذا النمط البديعِ إرشاداً إلى طريق الاستدلالِ فإن من قدَر على خلق مثلِ هاتيك الأجرامِ العظيمةِ كان على تبديل خلق آخرَ بهم أقدر ولذلك قال

20

(وَمَا ذلك) أي إذهابُكم والإتيانُ بخلق جديد مكانكم (عَلَى الله بِعَزِيزٍ) بمتعذرٍ أو متعسر فإنه قادر لذاته على جميع الممكِنات لا اختصاصَ له بمقدور دون مقدورٍ ومَنْ هذا شأنُه حقيقٌ بأن يؤمَنَ به ويرجى ثوابُه ويخشى عقابه

21

(وبرزوا الله جَمِيعًا) أي يبرُزون يوم القيامة وإيثارُ صيغةِ الماضي للدَلالة على تحقيق وقوعِه كما في قوله سبحانه وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار أو لأنه لا مُضِيَّ ولا استقبالَ بالنسبة إليه سبحانه والمرادُ بروزُهم من قبورهم لأمر الله تعالى ومحاسبته أو لله على ظنهم فإنهم كانوا يظنون عند ارتكابِهم الفواحشَ سراً أنها تخفى على الله سبحانه فإذا كانَ يومُ القيامةِ انكشفوا الله عند أنفسِهم (فَقَالَ الضعفاء) الأتباعُ جمع ضعيف والمرادُ ضعفُ الرأي وإنما كتب بالواو وعلى لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة (لِلَّذِينَ استكبروا) لرؤسائهم الذين استتبعوهم واستغفووهم (إِنَّا كُنَّا) في الدنيا (لَكُمْ تَبَعًا) في تكذيب الرسل عليهم السلام والإعراضِ عن نصائحهم وهو جمعُ تابع كغيب في جمع غائب أو مصدرٌ نُعت به مبالغةً أو على إضمار أي ذوي تبع (فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ) دافعون (عنا) والفاء للدالة على سببية الاتباعِ للإغناء والمرادُ التوبيخُ والعتابُ والتقريعُ والتبكيت (مِنْ عَذَابِ الله مِن شَىْء) من الأولى للبيان واقعةٌ موقعَ الحال والثانية للتبعيض واقعةٌ موقعَ المفعول أي بعضُ الشيء الذي هو عذابُ الله تعالى ويجوز كونُهما للتبعيض أي بعضَ شيءٍ هو بعضُ عذاب الله والإعراب كما سبق ويجوز أن تكون الأولى مفعولاً والثانية مصدراً أي فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا بعضَ العذاب بعضَ الإغناء ويعضُد الأولَ قولُه تعالى فَهَلْ أَنْتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ النار (قَالُواْ) أي المستكبرون جواباً عن معاتبة الأتباعِ واعتذاراً عما فعلوا بهم (لَوْ هَدَانَا الله) أي للإيماء ووفّقنا له (لَهَدَيْنَاكُمْ) ولكن ضَلَلْنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا أو لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنينا عنكم كما عرضنا له ولكن سددوننا طريقُ الخلاص ولاتَ حينَ مناص (سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا) مما لقِينا (أَمْ صَبَرْنَا) على ذلك أي مستوٍ علينا الجزَعُ والصبرُ في عدم الإنجاء والهمزةُ وأم لتأكيد التسويةِ كما في قوله تعالى سَوَاء عَلَيْهِمْ أأنذرتهم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ وإنما أسندوهما ونسبوا استواءَهما إلى ضمير المتكلم المنتظِمِ للمخاطبين أيضاً مبالغةً في النهي عن

إبراهيم 22 التوبيخ بإعلام أنهم شركاءُ لهم فيما ابتُلوا به وتسليةً لهم ويجوز أن يكون قوله سَوَاء عَلَيْنَا الخ من كلام الفريقين على مِنوال قوله تعالى ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ ويؤيده ما روي أنهم يقولون تعالَوا نجزَعْ فيجزعون خمسَمائة عام فلا ينفعهم فيقولون تعالَوا نصبِرْ فيصبِرون كذلك فلا ينفعهم فعند ذلك يقولون ذلك ولما كان عتابُ الأتباع من باب الجزَعِ ذيّلوا جوابَهم ببيان أن لا جدوى في ذلك فقالوا (مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) من منجى ومهربٍ من العذاب من حاص الحمارُ إذا عدل بالفرار وهو إما اسمُ مكان كالمبيت والمَصيف أو مصدرٌ كالمغيب والمشيب وهي جملةٌ مفسِّرة لإجمال ما فيه الاستواءُ فلا محلَّ لها من الإعرابِ أو حالٌ مؤكِّدة أو بدلٌ منه

22

(وَقَالَ الشيطان) الذي أضل كلا الفريقين واستتبعهما عند ما عتَباه بما قاله الأتباعُ للمستكبرين (لَمَّا قُضِىَ الأمر) أي أُحكم وفُرغ منه وهو الحسابُ ودخل أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النار النارَ خطيباً في محفِل الأشقياء من الثقلين (إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق) أي وعداً من حقه أن يُنجَز فأنجزه أو وعداً أنجزه وهو الوعدُ بالبعث والجزاء (وَوَعَدتُّكُمْ) أي وعد الباطل وهوان لا بعثَ ولا جزاء ولئن كان فالأصنامُ شفعاؤُكم ولم يصرِّح ببطلانه لما دلَّ عليه قولُه (فَأَخْلَفْتُكُمْ) أي موعدي على حذف المفعولِ الثاني أي نقضتُه جعل وعده كالإخلاف منه كأنه كان قادراً على إنجازه وأنى له ذلك (وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان) أي تسلّطٍ أو حجةٍ تدل على صدقي (إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ) إلا دعائي إياكم إليه وتسويلُه وهو وإن لم يكن من باب السلطان لكنه أبرزه في مبروزه على طريقة [تحيةٌ بينِهم ضربٌ وجيعُ] مبالغةً في نفي السلطان عن نفسه كأنه قال إنما يكون لي عليكم سلطانٌ إذا كان مجردُ الدعاء من بابه ويجوز كونُ الاستثناء منقطعاً (فاستجبتم لِى) فأسرعتم إجابتي (فَلاَ تَلُومُونِى) بوعدي إياكم حيثُ لم يكن ذلكَ على طريقة القسر والإلجاءِ كما يدل عليه الفاء وقرىء بالياء على وجه الالتفاتِ كما في قوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم (وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ) حيث استجبتم لي باختياركم حين دعوتُكم بلا حجةٍ ولا دليل بمجرد تزيينٍ وتسويل ولم تستجيبوا ربكم إذا دعاكم دعوةَ الحق المقرونةَ بالبينات والحجج وليس مرادُه التنصّلَ عن توجه اللائمةِ إليه بالمرة بل بيانُ أنهم أحقُّ بها منه وليس فيه دلالةٌ على استقلالِ العبدِ في أفعاله كما زعمت المعتزلة بل يكفي في ذلك أن يكون لقدرته الكاسبةِ التي عليها يدورُ فلكُ التكليف مدخلٌ فيه فإنه سبحانه إنما يخلُق أفعالَه حسبما يختاره وعليه تترتب السعادةُ والشقاوة وما قيل من أنَّه يستدعي أن يقال فلا تلوموني ولا أنفسَكم فإن الله قضى عليكم الكفرَ وأجبركم عليه مبنيٌّ على عدم الفرق بين مذهب أهلِ الحقِّ وبين مسلك الجبرية (مَّا أَنَاْ بمصرحكم) أي بمُغيثكم مما أنتم فيه من العذاب (وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ) مما أنا فيه وإنما تعرّض لذلك مع أنه لم يكن في حيز الاحتمالِ مبالغةً في بيان عدمِ إصراخِه إياهم وإيذانا بأنه

إبراهيم 23 24 أيضا مبتلى بمثل ما ابتُلوا به ومحتاجٌ إلى الإصراخ فكيف من إصراخِ الغير ولذلك آثرَ الجملةَ الاسميةَ فكأن ما مضى كان جواباً منه عن توبيخهم وتقريعِهم وهذا جوابٌ عن استغاثتهم واستعانِتهم به في استدفاع ما دهِمهم من العذاب وقرىء بكسر الياء (إِنّى كَفَرْتُ) اليوم (بما أشركتموني مِن قَبْلُ) أي بإشراككم إياي بمعنى تبرأتُ منه واستنكرتُه كقوله تعالى وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ يعني أن إشراكَكم لي بالله سبحانه هو الذي يَطمِعكم في نُصرتي لكم بأن كان لكم عليّ حقٌّ حيث جعلتموني معبوداً وكنت أوَد ذلك وأرغب فيه فاليوم كفرتُ بذلك ولم أحمَدُه ولم أقبله منكم بل تبرأتُ منه ومنكم فلم يبقى بيني وبينكم علاقةٌ أو كفرتُ من قبل حين أبيتُ السجودَ لآدمَ بالذي أشركتمونيه وهو الله تعالى كما في قوله سبحان ما سخر كن لنا فيكون تعليلاً لعدم إصراخِه فإن الكافرَ بالله سبحانه بمعزل من الإغاثة والإعانة سواء كان بالمدافعة أو الشفاعة وأما جعلُه تعليلاً لعدم إصراخِهم إياه فلا وجهَ له إذ لا احتمالَ له حتى يُحتاج إلى التعليل ولأن تعليلَ عدم إصراخِهم بكفره يوهم أنهم بسبيل من ذلك لولا المانعُ من جهته (إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) تتمةُ كلامه أو ابتداء كلامٍ من جهةِ الله عزَّ وجل وفي حكاية أمثالِه لطفٌ للسامعين وإيقاظٌ لهم حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبّروا عواقبَهم

23

(وأدخل الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ) أيْ بأمرِه أو بتوفيقه وهدايته وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم إظهارُ مزيدِ من اللطفِ بهم والمُدْخِلون هم الملائكةُ عليهم السلام وقرىء على صيغة التكلم فيكون قوله تعالى بِإِذْنِ رَبّهِمْ متعلقاً بقوله تعالى (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام) أي يحيهم الملائكةُ بالسلام بإذن ربهم

24

(أَلَمْ تَرَ) الخطابُ للرسولِ عليه الصَّلاةُ والسلام وقد عُلّق بما بعدَهُ من قولِه تعالى (كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً) أي كيف اعتمده ووضعه في موضعه اللائق به (كَلِمَةً طَيّبَةً) منصوبٌ بمضمر أي جعل كلمةً طيبة هي كلمةُ التوحيد أو كلَّ كلمة حسنةٍ كالتسبيحة والتحميدة والاستغفارِ والتوبة والدعوة (كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ) أي حكَم بأنها مثلُها لا أنه تعالى صيّرها مثلَها في الخارج وهو تفسير لقوله ضَرَبَ الله مَثَلاً كقولك شرّف الأميرُ زيداً كساه حُلةً وحمله على فرس ويجوز أن يكون كلمة بدلاً من مثلاً وكشجرة صفتُها أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي هي كشجرة وأن يكون أو مفعوليْ ضرب إجراءً له مُجرى جعل قد أُخّر عن ثانيهما أعني مثلاً لئلا يبعُد عن صفته التي هي كشجرة وقد قرئت بالرفع على الابتداء (أَصْلُهَا ثَابِتٌ) أي ضارب بعُروقه في الأرض وقرأ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه كشجرة طيبة ثاتب أصلُها وقراءةُ الجماعة أقوى سبكاً وأنسبُ بقرينته أعني قوله تعالى (وَفَرْعُهَا) أي أعلاها (فِى السماء) في جهة العلو ويجوز أن يراد وفروعُها على الاكتفاء بلفظ الجنس عن الجمع

إبراهيم

25

25 - 27 (تُؤْتِى أُكُلَهَا) تعطي ثمرَها (كُلَّ حِينٍ) وقّته الله تعالى لإثمارها (بِإِذْنِ رَبّهَا) بإرادة خالفها والمرادُ بالشجرة المنعوتةِ إما النخلةُ كما روي مرفوعاً أو شجرة في الجنة (وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لأن في ضربها زيادةَ إفهامٍ وتذكير فإنه تصويرٌ للمعاني بصور المحسوسات

26

(وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) هي كلمةُ الكفر والدعاءِ إليه أو تكذيبُ الحق أو ما يعم الكل أو كلُّ كلمةٍ قبيحة (كَشَجَرَةٍ خبيثة) أي كمثل شجرة خبيثةٍ قيل هي كلُّ شجرةٍ لا يطيب ثمرُها كالحنظل والكشوث ونحوهما وتغييرُ الأسلوب للإيذان بأن ذلك غيرُ مقصود الضرب والبيان وإنما ذلك أمرٌ ظاهرٌ يعرفه كل أحد (اجتثت) استُؤصِلت وأُخذت جثّتُها بالكلية (مِن فَوْقِ الأرض) لكون عروقها قريبةً منه (مالها مِن قَرَارٍ) استقرارٍ عليها

27

(يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكّن في قلوبهم وهو الكلمةُ الطيبةُ التي ذُكرت صفتُها العجيبة (فِى الْحَياة الدُنيا) فلا يُزالون عنه إذا افتُتِنوا في دينهم كزكريا ويحيى وجرجيس وشمسون والذين فتنهم أصحابُ الأخدود (وَفِي الأخرة) فلا يتلعثمون إذا سُئلوا عن معتقدهم في الموقف ولا تُدهشُهم أهوالُ القيامة أو عند سؤال القبر روى أنه صلى الله عليه وسلم ذكَر قبضَ روحِ المؤمن فقال ثم يُعاد روحُه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولون من ربك وما دينك ومن نبيُّك فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبي محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم فينادي منادٍ من السماء أنه صدق عبدي فذلك قوله تعالى يُثَبّتُ الله الذين آمنوا وهذا مثالُ إيتاءِ الشجرةِ المذكورة أُكُلَها كل حين قال الثعلبي في تفسيره أخبرني أبو القاسم بن حبيب في سنة وست وثمانين وثلثمائة قال سمعت أبا الطيب محمدَ بنَ علي الخياطَ يقول سمعت سهلَ بنَ عمار العملي يقول رأيت يزيد بن هرون في منامي بعد موته فقلت ما فعل الله بك قال أتاني في قبري ملكان فظّان فقالا من ربك وما دينك ومن نبيك فأخذتُ بلحيتي البيضاءِ فقلت لهما ألمِثلي يقال هذا وقد علّمتُ الناسَ جوابَكما ثمانين سنة فذهبا (وَيُضِلُّ الله الظالمين) أي يخلق فيهما الضلالَ عن الحق الذي ثبّت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارِهم والمرادُ بهم الكفرةُ بدليل ما يقابله ووصفُهم بالظلم إما باعتبار وضعهم للشيء في غير موضعِه وإما باعتبار ظلِمهم لأنفسهم حيث بدلوا فطرةَ الله التي فطرَ الناسَ عليها فلم يهتدوا إلى القول الثابتِ أو كلُ من ظلم نفسه بالاقتصار على التقليد والإعراضِ عن البينات الواضحة فلا يثبت في موقف الفتن ولا يهتدي إلى الحق فالمرادُ بالذين آمنوا حينئذ المخلصون في الإيمان الراسخون في الإيقان كما ينبىء عنه التثبيتُ لكنه يوهم كونَ كلمة التوحيد إذا كانت لا عن إيقان داخله تحت مالا قرارَ له من الشجرة المضروبة مثلا (ويفعل

إبراهيم 28 30 الله مَا يَشَاء) من تثبيت بعضٍ وإضلالِ آخرين حسبما توجبه مشيئتُه التابعةُ للحِكم البالغة المقتضيةِ لذلك وفي إظهارُ الاسمِ الجليلِ في الموضعين من الفخامة وتربية المهابة مالا يخفى مع ما فيه من الإيذان بالتفاوت في مبدأ التثبيتِ والإضلال فإن مبدأ صدورِ كلَ منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العُلا غيرُ ما هو مبدإ صدور الآخر

28

(أَلَمْ تَرَ) تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد مما صنع الكفرةُ من الأباطيل التي لا تكاد تصدُر عمن له أدنى إدراك أيْ ألمْ تنظرُ (إِلَى الذين بذلوا نعمة الله) أي شكرَ نعمته تعالى بأن وضعوا موضعَه (كُفْراً) عظيماً وغمْطاً لها أو بدلوا نفسَ النعمة كفراً فإنهم لما كفروها سُلبوها فصاروا مستبدلين بها كفراً كأهل مكةَ حيث خلقهم الله سبحانه وأسكنهم حرمَه الآمن الذي يجيىء إليه ثمراتُ كُلّ شَىْء وجعلهم قِوامَ بيته وشرّفهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فكفروا ذلك فقُحطوا سبع سنين وقُتلوا وأُسروا يوم بدر فصاروا أذلاء مسلوبي النعمة باقين بالكفر بدلها وعن عمر وعلي رضيَ الله عنُهمَا هُم الأفجران من قريش بنو المغيرةِ وبنو أمية أما بنو المغيرة فكُفيتموهم يوم بدر وأما بنو أمية فَمُتِّعوا إلى حين كأنهما يتأولان ما سيتلى من قولهِ عزَّ وجلَّ قُلْ تَمَتَّعُواْ الآية (وَأَحَلُّواْ) أي أنزلوا (قَوْمَهُمْ) بإرشادهم إياهم إلى طريقة الشرك والضلالِ وعدمُ التعرض لحلولهم لدلالة الإحلالِ عليه إذ هو فرْعُ الحلول كقوله تعالى يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار (دَارَ البوار) دارَ الهلاك الذي لإهلاك وراءه

29

(جَهَنَّمَ) عطفُ بيان لها وفي الإبهام ثم البيان مالا يخفى من التهويل (يَصْلَوْنَهَا) حالٌ منَها أو من قومهم أي داخلين فيها مُقاسِين لحرّها أو استئنافٌ لبيان كيفيةِ الحلولِ أو مفسر لفعل يقدر ناصباً لجهنم فالمرادُ بالإحلال المذكورِ حينئذ تعريضُهم للهلاك بالقتل والأسرِ لكن قوله تعالى قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار أنسبُ بالتفسير الأول (وَبِئْسَ القرار) على حذف المخصوصِ بالذم أي بئس المقرُّ جهنمُّ أو بئس القرار قرارُهم فيها وفيه أن حلولهم وصلبهم على وجه الدوام والاستمرار

30

(وَجَعَلُواْ) عطفٌ على أحلوا وما عطف عليه داخلٌ معهما في حيز الصلة وحكمِ التعجيب أي جعلوا في اعتقادهم وحكمهم {الله} الفردِ الصمدِ الذي ليسَ كمثلِه شيءٌ هو في الواحد القهار (أندادا) أشبها في العبادة (لِيُضِلُّواْ) قومَهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا (عَن سَبِيلِهِ) القويمِ الذي هو التوحيدُ ويوقعوهم في ورطة الكفرِ والضلال ولعل تغييرَ الترتيب مع أن مقتضى ظاهرِ النظمِ أن يُذكر كفرانُهم نعمةَ الله تعالى ثم كفرُهم بذاته تعالى باتخاذ الأنداد ثم إضلالهم لقومهم المؤدي إلى إحلالهم دار البوار لتثنية التعجيبِ وتكريرِه والإيذانِ بأنَّ كلَّ واحدٍ من وضع الكفر موضعَ الشكر وإحلالِ القوم دارَ البوار واتخاذِ الأنداد للإضلال أمرٌ يقضي منه العجبَ ولو سيق النظمُ على نسق الوجود لربما فُهم التعجيب من مجموع الهَنات الثلاثِ كما في قصة البقرة وقرىء ليضلوا بالفتح

إبراهيم 31 وأياما كان فليس ذلك غرضاً حقيقياً لهم من اتخاذ الأندادِ لكنْ لما كان ذلك نتيجةً له شُبّه بالغرض وأدخل عليه اللام بطريق الاستعارة التبعية (قُلْ) تهديداً لأولئك الضالين المُضلين ونعياً عليهم وإيذاناً بأنهم لشدة إبائِهم قبولَ الحق وفرط انهما كهم في الباطل وعدمِ ارعوائهم عن ذلك بحال أحقاءُ بأن يُضرب عنهم صفحاً ويُعطَفَ عنهم عِنانُ العِظة ويُخَلّوا وشأنَهم ولا يُنهَوْا عنه بل يؤمَروا بمباشرته مبالغةً في التخلية والخِذلان ومسارعةً إلى بيان عاقبته الوخيمة ويقال لهم (تَمَتَّعُواْ) بما أنتُم عليهِ من الشهواتِ التي من جملتها كفرانُ النعم العظامِ واستتباعُ الناسِ في عبادة الأصنام (فإن مصيركم إلى النار) ليس إلا فلا بد لكم من تعاطي ما يوجب ذلك ويقتضيه من أحوالكم بل هي في الحقيقة صورةٌ لدخولها ومثالٌ له حسبما يلوحُ به قولُه سبحانه وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار الخ فهو تعليلٌ للأمر المأمورِ وفيه من التهديد الشديد الوعيد الأكيد مالا يوصف أو قل لهم تصوير الحالهم وتعبيراً عما يُلجئهم إلى ذلك تمتعوا إيذاناً بأنهم لفرْط انغماسِهم في التمتع بما هُم فيه من غير صارف يلويهم ولا عاطفٍ يَثنيهم مأمورون بذلك من قِبل آمر الشهوة مذعِنون لحكمه منقادون لأمره كدأب مأمورٍ ساعٍ في خدمة آمرٍ مُطاع فليس قوله تعالى فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار حينئذٍ تعليلاً للأمر بل هو جوابُ شرطٍ ينسحبُ عليه الكلامُ كأنَّه قيل هذه حالُكم فإن دمتم عليه فإن مصيركم إلى النار وفيه التهديدُ والوعيد لا في الأمر

31

(قل لعبادي الذين آمنوا) خصهم بالإضافة إليه تنويهاً لهم وتنبيهاً على أنهم المقيمون لوظائفِ العبودية الموفون بحقوقها وتركُ العاطف بين الأمرين للإيذان بتباين حالِهما باعتبار المقول تهديداً وتشريفاً والمقول ههنا محذوفٌ دل عليه الجوابُ أي قل لهم أقيموا وأنفقوا (يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) أي يداوموا على ذلك وفيه إيذانٌ بكمال مطاوعتهم الرسول صلى الله عليه وسلم وغاية مسارعتهم إلى الامنثال بأوامره وقد جوّزوا أن يكون المقولُ يقيموا وينفقوا بحذف لام الأمرِ عنهما وإنما حسُن ذلك دون الحذف في قوله ... محمدُ تَفدِ نفسَك كلُّ نفس ... إذا ما خِلفْتَ من أمر تَبالا ... لدلالة قل عليه وقيل هما جوابا أقيموا وأنفقوا قد أقيما مُقامهما وليس بذاك (سِرّا وَعَلاَنِيَةً) منتصبان على المصدرية من الأمر المقدرِ لا من جواب الأمر المذكور أي أنفقوا إنفاق سرَ وعلانية والأحبُّ في الإنفاق إخفاءُ المتطوَّع به وإعلانُ الواجب والمرادُ حث المؤمنين على الشكر لنعم الله سبحانه بالعبادة البدنية والماليةِ وتركِ التمتعِ بمتاع الدنيا والركونِ إليها كما هو صنيع الكفر (مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ) فيبتاعَ المقصِّر ما يتلافى به تقصيره أو تفتدي به نفسَه والمقصودُ نفيُ عقد المعاوضة بالمرة وتخصيصُ البيعِ بالذكر للإيجاز مع المبالغة في نفي العقدِ إذ انتفاءُ البيع المستلزم انتفاءَ الشراء على أبلغ وجه وانتفاؤه بما يتصور مع تحقق الإيجابِ من قبل البائع (وَلاَ خلال) ولا مخالّةٌ فيشفعَ له خليلٌ أو يسامحَه بمال يفتدي به نفسه أو مِنْ قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يو لا أثرَ فيه لما لهَجوا بتعاطيه من البيع

إبراهيم 22 والمخالّة ولا انتفاعَ بذلك وإنما الانتفاعُ والارتفاقُ فيه بالإنفاق لوجه الله سبحانه والظاهر أن مت متعلقة بأنفِقوا وتذكيرُ إتيانِ ذلك اليوم لتأكيد مضمونِه كما في سورةِ البقرةِ من حيثُ إنَّ كلاًّ من فقدان الشفاعةِ وما يُتدارك به التقصير معاوضةً وتبرعاً وانقطاعُ آثار البيع والخِلالِ الواقعَيْن في الدنيا وعدمُ الانتفاع بهما من أَقْوى الدَّواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائدُه وتدوم فوائدُه من الإنفاقِ في سبيلِ الله عزَّ وجلَّ أو من حيث إن ادخارَ المال وتركَ إنفاقِه إنما يقع غالباً للتجارات والمُهاداة فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة فلا وجهَ لادّخاره إلى وقت الموت وتخصيصُ التأكيد بذلك لميل الطباعِ إلى المال وكونها مجبولةً على حبه والضَّنةِ به ولا يبعُد أن يكون تأكيداً لمضمون الأمرِ بإقامة الصلاة أيضاً من حيث إن تركَها كثيراً ما يكون بالاشتغال بالبياعات والمُخالاّت كما في قوله تعالى وإذار أو اتجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وقرىء بالفتح فيهما على إرادة النفي العام ودَلالةِ الرفعِ على ذلك باعتبار خطابيَ هو وقوعُه في جوابُ هل فيه بيعٌ أو خلال

32

(الله) مبتدأٌ خبرُه (الذى خَلَقَ السموات) وما فيها من الأجرام العلوية (والأرض) وما فيها من أنواع المخلوقاتِ لمّا ذكر أحوالَ الكافرين لنعم الله تعالى وأمرَ المؤمنين بإقامة مراسم الطاعةِ شكراً لنعمه شرَع في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العِظام والمنن الجِسام حثاً للمؤمنين عليها وتقريعاً للكفرة المُخلّين بها الواضعين موضعَها الكفرَ والمعاصيَ وفي جعل المبتدإ الاسمَ الجليلَ والخبرَ الاسمَ الموصولَ بتلك الأفاعيلِ العظيمة من خلق هذه الأجرامِ العظام وإنزال الأمطارِ وإخراجِ الثمرات وما يتلوها من الآثار العجيبةِ مالا يخفى من تربية المهابةِ والدِلالة على قوة السلطان (وَأَنزَلَ مِنَ السماء) أي السحابِ فإن كلَّ ما علاك سماءٌ أو من الفَلَك فإن المطر منه يبتدىء إلى السحاب ومنه إلى الأرضِ على ما دلت عليه ظواهرُ النصوص أو من أسباب سماويةٍ تثير الأجزاءَ الرطبةَ من أعماق الأرض إلى الجو فينعقد سحاباً ماطراً وأياً ما كان فمن ابتدائيةٌ (مَاء) أي نوعاً منه هو المطر وتقديم المجرور على المنصوب إما باعتبار كونِه مبدأ لنزوله أو لتشريفه كما في قولك أعطاه السلطانُ من خزانته مالاً أو لما مر مرارا من التشويق إلى المؤخّر (فَأَخْرَجَ بِهِ) بذلك الماء (مِنَ الثمرات) الفائتة للحصر إما لأن صيغَ الجموعِ يتعاور بعضُها موضعَ بعض وإما لأنه أريد بمفردها جماعةُ الثمرة التي في قولك أدركتْ ثمرةُ بستانِ فلان (رِزْقاً لَّكُمْ) تعيشون له وهو بمعنى المرزوق شاملٌ للمطعوم والملبوس مفعولا لأخراج ومن للتبيين كقولك أنفقت من الدراهم ألفاً ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ الثمرات مفعولاً ورزقاً حالاً منه أو مصدراً من أخرج بمعنى رزَق أو للتبعيض بدليل قوله تعالى فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ كأنه قيل أنزل من السماء بعضَ الماء فأخرج به بعضَ الثمرات ليكون بعضَ رزقكم إذ لم ينزل من السماء كلُّ الماء ولا أخرج بالمطر كلَّ الثمار ولا جعل كلَّ الرزق ثمراً وخروجُ الثمرات وإن كان بمشيئته عز وجل وقدرتِه لكن جرت عادتُه تعالى

إبراهيم 23 24 بإضافة صورِها وكيفياتها على المواد الممتزجةِ من الماء والتراب أو أوْدَعَ في الماء قوةً فاعلةً وفي الأرض قوةً قابلةً يتولد من اجتماعهما أنواعُ الثمار وهو قادرٌ على إيجاد الأشياء بلا أسباب وموادَّ كما أبدع نفوسَ الأسباب كذلك لما أن له تعالى في إنشائها مدرّجاً من طَور إلى طور صنائعَ وحِكماً يجدّد فيها الأولى الأبصار عِبَراً وسكوناً إلى عظيم قدرتِه ليس ذلك في إبداعها دفعةً وقوله لكم صفةٌ لقوله رزقاً إن أريد به المرزوقُ ومفعولٌ به إن أريد به المصدرُ كأنه قيل رزقاٍ إياكم (وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك) بأن أقدركم على صنعتها واستعمالِها بما ألهمكم كيفيةَ ذلك (لِتَجْرِىَ فِى البحر) جرياً تابعاً لإرادتكم (بأمره) بمشيئة التي نيط بها كلُّ شيء وتخصيصُه بالذكر للتنصيص على أن ذلك ليس بمزاولة الأعمالِ واستعمالِ الآلاتِ كما يتراءى من ظاهر الحال (وَسَخَّرَ لَكُمُ الانهار) إن أريد بها المياهُ العظيمة الجاريةُ في الأنهار العظامِ كما يومىء إليه ذكرُها عند البحر فتسخيرُها جعلُها مُعدّةً لانتفاع الناس حيث يتخذون منها جداولَ يسقون بها زروعَهم وجِنانَهم وما أشبه ذلك وإن أريد بها نفسُ الأنهار فتسخيرُها تيسيرُها لهم

33

(وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينَ) يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالةً وخلافةً وإصلاحِهما لما نيط بهما صلاحُه من المكوّنات (وَسَخَّر لَكُمُ الليل والنهار) يتعاقبان خِلْفةً لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها ذكر سبحانه وتعالى أنواعَ النعم الفائضةِ عليهم وأبرز كلَّ واحدة منها في جملة مستقلةٍ تنويهاً لشأنها وتنبيهاً على رفعة مكانِها وتنصيصاً على كون كل منهانعمة جليلةً مستوجبةً للشكر وفي التعبير عن التصريف المتعلّق بما ذُكر من الفلك والأنهارِ والشمسِ والقمر والليل والنهار بالتسخير من الإشعار بما فيها من صعوبة المأخذ وعزةِ المنال والدِلالة على عِظَم السلطان وشدّة المحال مالا يخفى وتأخيرُ تسخيرِ الشمس والقمرِ عن تسخير ما تقدمه من الأمور المعدودةِ مع ما بينه وبين خلقِ السموات من المناسبة الظاهرةِ لاستتباع ذكرِها لذكر الأرض المستدعي لذكر إنزالِ الماءِ منها إليها الموجبِ لذكر إخراجِ الرزقِ الذي من جملته ما يحصُل بواسطة الفَلَك والأنهار أو للتفادي عن توهم كون الكل أعني خلقَ السمواتِ والأرض وتسخيرَ الشمس والقمر نعمةً واحدةً كمَا مرَّ في قصَّةِ البقرة

34

(وآتاكم من كا مَا سَأَلْتُمُوهُ) أي أعطاكم بعضَ جميع ما سألتموه حسبما تقتضيه مشيئتُه التابعةُ للحكمة والمصلحة كقوله سبحانه مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ أو آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ونيط به انتظامُ أحوالِكم على الوجه المقدّرِ فكأنكم سألتموه أو كلَّ ما طلبتموه بلسان الاستعدادِ أو كلَّ ما سألتموه على أن من للبيان وكلمةُ كل للتكثير كقولك فلان يعلم كلَّ شيء وأتاه كلُّ الناس وعليه قوله عز وجل فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء وقيل الأصلُ وآتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه فحُذف الثاني لِدلالة ما أُبقيَ على ما أُلقيَ وقرىء بتنوين كلِّ على أنَّ ما نافيةٌ ومحل ما سألتموه النصبُ على الحالية أي آتاكم من كلَ غيرَ سائليه (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله)

التي أنعم بها عليكم (لاَ تُحْصُوهَا) لا تُطيقوا بحصرها ولو إجمالاً فإنها غيرُ متناهيةٍ وأصل الإحصاءِ أنَّ الحاسبَ إذا بلغ عَقداً معيناً من عقود الأعدادِ وضعَ حصاةً ليحفظَ بها ففيه إيذانٌ بعدم بلوغِ مرتبةٍ معتدَ بها من مراتبها فضلاً عن بلوغ غايتِها كيف لا وما من فرد من أفراد الناسِ وإن كان في أقصى مراتبِ الفقرِ والإفلاس مَمنوًّا بأصناف العنايا مبتلىً بأنواع الرزايا فهو بحيث لو تأملتَه ألفيتَه متقلّباً في نِعمَ لا تحدّ ومننٍ لا تحصى ولا تعدّ كأنه قد أعطيَ كلَّ ساعة وآنٍ من النعماء ما حواه حِيطةُ الإمكان وإن كنت في ريب من ذلك فقدِّرْ أنه ملَك مِلكٌ أقطارَ العالم ودانت له كافةُ الأمم وأذعنت لطاعته السَّراةُ وخضعت لهيبته رُقابُ العُتاة وفاز بكل مرام ونال كل منالٍ وحاز جميعَ ما في الدُّنيا من أصناف الأموالِ من غير نِدّ يزاحمه ولا شريك يساهمُه بل قدِّرْ أن جميع ما فيها من حجر ومدَرٍ يواقيتُ غاليةٌ ونفائسُ دُررٍ ثم قدِّر أنه قد وقع مِنْ فقْد مشروبٍ أو مطعوم في حالة بلغت نفسُه الحلقومَ فهل يشتري وهو في تلك الحال بجميع مالِه من الملك والمال لُقمةً تنجّيه عن رِواه أو شربةً ترويه من ظَماه أم يختار الهلاك فتذهبَ الأموال والأملاك بغير بدل يبقى عليه ولا نفعٍ يعود إليه كلا بل يبذُل لذلك كلَّ ما تحويه اليدان كائناً ما كان وليس في صفقته شائبةُ الخُسران فإذن تلك اللقمةُ والشَّرْبةُ خيرٌ مما في الدنيا بألف رتبةٍ مع أنهما في طرف الثمام ينالهما متى شاء من الليالي والأيام أو قدّر أنه قد احتبس عليه النفَسُ فلا دخلَ منه ما خرَج ولا خرج منه ما ولح والحينُ قد حان وأتاه الموتُ من كل مكان أما يعطي ذلك كلَّه بمقابلة نفس واحد بل يعطيه وهو لرأيه حامدٌ فإذن هو خير من أموال الدنيا بحملتها ومطالبها برُمّتها مع أنه أبيح له كل آنٍ من آنات الليالي والأيام حالَ اليقظة والمنام هذا من الظهور والجلاء بحيث لا يكاد يحفى على أحد من العقلاء وإن رمت العثورَ على حقيقة الحقِّ والوقوفَ على كل ماجل من السرودق فاعلم أن الإنسانَ بمقتضى حقيقتِه الممكنةِ بمعزل عن استحقاق الوجودِ وما يتبعه من الكمالات اللائقةِ والملكاتِ الرائقةِ بحيثُ لو انقطعَ ما بينه وبين العنايةِ الإلهية من العلاقة لما استقر له القَرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم والبوار ومهاوي الهلاك والدمار لكن يُفيضُ عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنُه ونقدس في كل زمانٍ يمضي وكل آن يمر وينقض من أنواع الفيوضِ المتعلقةِ بذاته ووجودِه وسائرِ صفاتِه الروحانية والنفسانية والجسمانية مالا يحيط به نطاقُ التعبير ولايعلمه الاالعليم الخبير وتوضيحه أنه كمالا يستحق الوجود ابتداء لايستحقه بقاءً وإنما ذلك من جناب المُبدأ الأول عز وجل فكما لا يُتصور وجودُه ابتداء مالم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمِه الأصلي لا يتصور بقاؤُه على الوجود بعد تحققِه بعِلَّته ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمه الطارىء لأن الاستمرار والدوامَ من خصائص الوجودِ الواجبي وأنت خبير بأن ما يتوقف عليه وجودُه من الأمور الوجودية التي هي عِلَلُهُ وشرائِطُه وإن وجب كونُها متناهيةً لوجوب تناهي ما دخلَ تحتَ الوجود لكنِ الأمورُ العدميةُ التي لها دخلٌ في وجوده ليست كذلك إذْ لا استحالةَ في أن يكون لشيءٍ واحدٍ موانعُ غيرُ متناهية وإنما الاستحالة في دخولها تحت الوجود فارتفاعُ تلك الموانِع التي لا تتناهى أعني بقاءَها على العدم مع إمكان وجودِها في أنفسها في كلِّ آنٍ من آنات وجودِه نعمٌ غيرُ متناهية حقيقة

إبراهيم 35 لا ادعاءً وكذا الحال في وجودات علله وشرائطِه القريبة والبعيدة ابتداءً وبقاءً وكذا في كمالاته التابعةِ لوجوده فاتضح أنه يَفيض عليه كلَّ آن نعمٌ لا تتناهى من وجوه شتى فسبحانك سبحانك ما أعظم سلطانك لا تلاحظ العيونُ بأنظارها ولا تطالعك العقولُ بأفكارها شأنُك لا يضاهى وإحسانُك لا يتناهى ونحن في مغرفتك حائِرون وفي إقامة مراسمِ شكرِك قاصرون نسألك الهدايةَ إلى مناهج معرفتِك والتوفيقَ لأداء حقوقِ نعمتك لا نحصى تناء عليك لا إله إلا أنت نستغفرُك ونتوب إليك (إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ) يظلِم النعمةَ بإغفال شكرِها أو بوضعه إياها في غير موضِعِها أو يظلم نفسَه بتعريضها للحرمان (كَفَّارٌ) شديدُ الكفران وقيل ظلومٌ في الشدة يشكو ويجزع كفّارٌ في النعمة يجمع ويمنع واللام في الإنسان للجنس ومصداقُ الحكمِ بالظلم والكفران بعض من وجدا فيه من أفراده ويدخُل في ذلك الذين بدلوا نعمة الله كفراً الخ دخولاً أولياً

35

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمَ) أي واذكر وقت قوله عليه الصلاة والسلام والمقصودُ من تذكيره تذكيرُ ما وقع فيه من مقالاته عليه السلام على نهج التفصيل والمرادُ به تأكيدُ ما سلف من تعجيبه عليه السلام ببيان فنٍ آخرَ من جناياتهم حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم بعد ما كفروا بالنعم العامة وعصَوا أباهم إبراهيمَ عليه السلام حيث أسكنهم مكةَ شرَّفها الله تعَالَى فإقامة الصلاةِ والاجتنابِ عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى وسأله تعالى أن يجعله بلداً آمناً ويرزقَهم من الثمرات وتهويَ قلوبُ الناس إليهم من كل أَوب سحيقٍ فاستجاب الله تعالى دعاءَه وجعله حرماً آمنا يجيىء إليه ثمراتُ كُلّ شَىْء فكفروا بتلك النعم العظامِ واستبدلوا بالبلد الحرام دار البوار وجعلوا لله أنداداً وفعلوا ما فعلوا (رَبّ اجعل هذا البلد) يعني مكةَ شرفها الله سبحانه (آمنا) أي ذا أمنِ أو آمناً أهلُه بحيث لا يُخاف فيه على ما مرَّ في سورةِ البقرة والفرق بينه وبين ما فيها من قوله رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا أن المسئول هناك البلدية والأمن معا وههنا الأمنُ فقط حيث جُعل هو المفعولَ الثانيَ للجعل وجُعل البلدَ صفةً للمفعول الأول فإن حُمل على تعدد السؤال فلعله عليه السلام سأَلَ أولاً كِلا الأمرين فاسْتُجيبَ له في أحدِهما وتأخرَ الآخرُ إلى وقته المقدّر لما يقتضيه من الحكمة الداعيةِ إليه ثم كَرّر السؤالَ كما هو المعتادُ في الدعاءِ والإبتهال أو كان المسئول أولاً مجردَ الأمنِ المصحِّح للسكن كما في سائرِ البلاد وقد أجيب إليه وثانيا الأمن المعهود لأو أوكله هو المسئول فيهما وقد أجيب إليه أيضاً لكن السؤالَ الثانيَ للاستدامة والاقتصارُ على ذلك لأنه المقصودُ الأصليُّ أو لأنَّ المعتادَ في البلدية الاستمرارُ بعد التحقق بخلافِ الأمنِ وإن حمل على وحدةِ السؤالِ وتكرُرِ الحكايةِ كما هو المتبادرُ فالظاهرُ أن المسئول كِلا الأمرين وقد حُكي أولا واقتصر ههنا على حكايةِ سؤالِ الأمنِ لا لمجرد أن نعمةَ الأمن أدخلُ في استيجاب الشكر فذِكرُه أنسبُ بمقام تقريعِ الكفرة على إغفاله كما قيل بل لأن سؤال البلدية قد حكي بقوله تعالى فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ إذا لمسئول هُوِيّتُها إليهم للمساكنة معهم لا للحج فقط وهو عين سؤال قد حكي بعبارة أخرى وكان ذلك أولَ ما قَدِمَ عليه السلام مكةَ كما روى سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه عليه الصَّلاةُ

إبراهيم 36 37 والسلام لما أسكنَ إسمعيلَ وهاجَر هناك وعادَ متوجهاً إلى الشام تبِعتْه هاجرُ وجعلت تقول إلى من تَكِلُنا في هذا البلقَعِ وهو لا يَرُدُّ عليها جواباً حتى قالت آلله أمرك بهذا فقال نعمْ قالت إذاً لا يُضيِّعُنا فرضِيَتْ ومضى حتى إذا استوى على ثَنِيّةِ كَداءٍ أقبل على الوادي فقال رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ الآية وإنما فصل ما بينهما تثنية للامتنان وإيذاناً بأن كلاًّ منهما نعمةٌ جليلةٌ مستتبعة لشكر كثير كما في قصة البقرة (وجنبني وَبَنِىَّ) بعِّدني وإياهم (أَن نَّعْبُدَ الأصنام) واجعلنا منها في جانب بعيد أي ثبتنا على ما كُنَّا عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام وقرىء وأجنبْني من الإفعال وهما لغةُ أهلِ نجد يقولون جنّبني شرَّه وأجنبْني شرَّه وأما أهلُ الحجاز فيقولون جنّبني شره وفيه دليلٌ على أنَّ عصمةِ الأنبياءِ عليهم السلام بتوفيق الله تعالى والظاهرُ أن المراد ببنيه أولاده الصلبية فلا احتجاجَ به لا بن عيينة رضى الله عنه على أن أحداً من أولاد إسمعيل عليه السلام لم يعبُد الصنم وإنما كان لكل قومٍ حجرٌ نصبوه وقالوا هو حجرٌ والبيتُ حجر فكانوا يدورون به ويسمونه الدوار فاستُحب أن يقال طاف بالبيت ولا يقال دار بالبيت وليت شعري كيف ذهب عليه ما في القرآن العظيم من قوارعَ تنعي على قريش عبادةَ الأصنام على أن فيما ذكره كرا على ما فر منه

36

(رَبّ إِنَّهُنَّ) أي الأصنامَ (أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس) أي تسبّبن له كقوله تعالى وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وهو تعليلٌ لدعائه وإنما صدّره بالنداء إظهاراً لاعتنائه به ورغبةً في استجابته (فَمَن تَبِعَنِى) منهم فيما أدعو إليه من التوحيد وملةِ الإسلام (فَإِنَّهُ مِنّى) أي بعضي قاله عليه السلام مبالغةً في بيان اختصاصِه به أو متصلٌ بي لا ينفك عني في أمر الدين (وَمَنْ عَصَانِى) أي لم يتبعْني والتعبيرُ عنه بالعصيان للإيذان بأنه عليه السلام مستمر على الدعوة وأن عدم اتباعِ من لم يتبعْه إنما هو لعصيانه لا لأنه لم يبلُغْه الدعوة (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) قادر على أن تغفِرَ له وترحَمه ابتداءً أو بعد توبتِه وفيه أن كل ذنبٍ فلَّله تعالى أن يغفرَه حتى الشركُ خلا أن الوعيدَ قضى بالفرق بينه وبين غيره

37

(رَبَّنَا) آثر عليه السلام ضمير الجماعةِ لا لما قيلَ من تقدم ذكرِه وذكرِ بنيه وإلا لراعاه في قوله ربَّ إنهن الخ بل لأن الدعاء المصدّرَ به وما أورده بصدد تمهيدِ مبادي إجابتهِ من قوله (إِنَّى أَسْكَنتُ) الآية متعلقٌ بذريته فالتعرضُ لوصف ربوبيته تعالى لهم أدخلُ في القبول وإجابة المسئول (مِن ذُرّيَّتِى) أي بعضهم أو ذريةً من ذريتي فحذف المفعول وهو إسمعيل عليه السلام وما سيولد له فإن إسكانَه حيث كان على وجه الاطمئنانِ متضمِّنٌ لإسكانهم روي أن هاجر أم إسمعيل عليه السلام كانت لسارة فوهبتْها من إبراهيمَ عليه السلام فلما ولدت له إسمعيل عليه السلام غارت عليهما فناشدته أن يُخرجَهما من عندها فأخرجهما إلى أرض مكةَ فأظهر الله تعالى عينَ زمزم (بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ) لا يكون فيه زرعُ أصلاً وهو وادي مكةَ شرَّفها الله تعَالَى (عِندَ

بَيْتِكَ) ظرف لأسكنتُ كقولك صليت بمكةَ عند الركنِ لا أنه صفةٌ لوادٍ أو بدل منه إذ المقصودُ إظهارُ كونِ ذلك الإسكان مع فقدان مباديه لمحض التقربِ إلى الله تعالى والالتجاءِ إلى جواره الكريم كما يُنْبىء عنه التعرُّضُ لعنوان الحرمةِ المؤذِنِ بعزة الملتجأ وعصمتِه عن المكاره في قوله تعالى (المحرم) حيث حر التعرضُ له والتهاونُ به أو لم يزل معظّماً ممنعا يهايه الجبابرةُ في كل عصر أو مُنع منه الطوفان فلم يستولِ عليه ولذلك سميَ عتيقاً وتسميتُه إذ ذاك بيتاً ولم يكن له بناءٌ وإنما كان نشْزاً مثلَ الرَّابية تأتيه السيول فتأخذ ذات اليمين وذات الشمال ليست باعتبار ما سيئول إليه الأمرُ من بنائه عليه السلام فإنه ينزِع إلى اعتبار عنوانِ الحرمة أيضاً كذلك بل إنما هي باعتبار ما كان من قبل فإن تعدد بناءِ الكعبةِ المعظمةِ مما لا ريبَ فيه وإنما الاختلافُ في كمية عددِه وقد ذكرناها في سورة البقرة بفضل الله تعالى (ربنا ليقيموا الصلاة) متوجّهين إليه متبرّكين به وهو متعلقٌ بأسكنتُ وتخصيصُها بالذِّكرِ من بين سائر شعائرِ الدينِ لفضلها وتكريرُ النداءِ وتوسيطُه لإظهار كمالِ العنايةِ بإقامة الصلاةِ والاهتمامِ بعرضِ أن الغرضَ من إسكانهم بذلك الوادي البلقعِ ذلك المقصدُ الأقصى والمطلب الأسنى وكلُّ ذلك لتمهيد مبادى إجابة دعائه وإعطاء مسئوله الذي لا يتسنى ذلك المرامُ إلا به ولذلك أُدخل عليه الفاء فقال (فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس) أي أفئدةً من أفئدتهم فمن للتبعيض ولذلك قيل لو قال أفئدةَ الناسِ لازدحمت عليهم فارسُ والروم وأما ما زيد عليه من قولهم ولَحجّت اليهودُ والنصارى فغيرُ مناسب للمقام إذ المسئول توجيهُ القلوب إليهم للمساكنة معهم لا توجيهُها إلى البيت للحج وإلا لقيل تهوي إليه فإنه عينُ الدعاء بالبلدية قد حكي بعبارة أخرى كما مر أو لابتداء الغاية كقولك القلبُ منّي سقيمٌ أي أفئدةَ ناسٍ وقرىء آفدةً على القلب كآدر في أدؤر أو على أنَّه اسمُ فاعلٍ من أفدت الرحلة أي عجِلت أي جماعةً من الناس وأفِدَةً بطرح الهمزة من الأفئدة أوعلى النعت من أفد (تَهْوِى الهم) تسرع اليهم شو قاوودادا وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ من أهواه غيرُه وتهوى من باب علم أي تحب وتعديته إلى لتضمنه معنى الشوق والنروع وأولُ آثارِ هذه الدعوة ماروى أنه مرت رِفقةٌ من جرهم تريد الشام فرأ والطير تحوم على الجبل فقالوا إن هذا الطائر لعائف على الماء فأشر فوا فإذا هم بهاجرَ فقالوا لها إن شئت كنا معك وآنسناك والماء ماوك فأذِنت لهم وكانوا معها إلى أن شب أسمعيل عليه السلام وماتت هاجرُ فتزوج إسمعيل منهم كما هو المشهور (وارزقهم) أى ذربتى الذين أسكنهم هناك أو مع من ينحاز إليهم من الناس وإنمالم يخصَّ الدعاء بالمؤمنين منهم كما في قوله وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمن مِنْهُم بالله واليوم الأخر اكتفاءً بذكر إقامة الصلاة (مِنَ الثمرات) من أنواعها بأن بجعل بقربٍ منه قرُىً يحصُل فيها ذلك أو يجبى إليه من الأقطارِ الشاسعةِ وقد حصل كلاهما حتى إنه يجتمعُ فيه الفواكهُ الربيعيةُ والصيفيةُ والخريفيةُ في يومٍ واحدٍ 0 روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ الطائفَ كانت من أرض فلِسطينَ فلما دعا إبراهيمُ عليه السلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى ووضعها حيث وضعها رزقاً للحرم وعن الزهرى رضيَ الله عنه أنَّه تعالى نقل قرية من قرى الشامِ فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيمَ عليه السلام (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) تلك النعمةَ بإقامة الصلاةِ وأداءِ سائر مراسمِ العبودية وقيل اللامُ في ليقيموا لامُ الأمرِ والمرادُ أمرُهم بإقامة الصلاة والدعاء من الله تعالى

إبراهيم 38 39 بتوفيقهم لها ولا يناسبه الفاء في قوله تعالى فاجعل الخ وفي دعائه عليه السلام من مراعاة حسنِ الأدبِ والمحافظة على قوانين الضَّراعةِ وعرضِ الحاجة واستنزالِ الرحمةِ واستجلابِ الرأفة مالا يخفى فإنه عليه السلام بذكر كونِ الوادي غيرَ ذي زرعٍ بيّن كمالَ افتقارهم إلى المسئول وبذكر كونِ إسكانِهم عند البيت المحرم أشار إلى أن جِوارَ الكريم يستوجب إفاضةَ النعيم وبعرض كونِ ذلك الإسكانِ مع كمال إعوازمرافق المعاش لمحض إقامةِ الصلاةِ وأداء حقوقِ البيت مهّد جميعَ مبادي إجابةِ السؤال ولذلك قُرنت دعوتُه عليه السلام بحُسنِ القبول

38

(رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ) من الحاجات وغيرِها والمرادُ بما نخفى مايقابل ما نعلن سواءٌ تعلق به الإخفاء أولا أي تعلم ما نظهره ومالا نظهره فإن علمَه تعالى متعلق بما لايخطر بياله مما فيه من الأحوال الخفية فضلاً عن إخفائه وتقديم مانخفى على مانعلن لتحقيق المساواةِ بينهما في تعلق العلم بهما على أبلغ وجهٍ فكأن تعلقه بما يخفى أقدمُ منه بما يُعلن أو لأن مرتبة السرو الحفاه متقدمةٌ على مرتبة العلنِ إذْ مَا من شيءٍ يُعلن إلا وهو قبل ذلك خفيٌّ فتعلقُ علمِه سبحانه بحالته الأولى أقدمُ من تعلقه بحالته الثانية وقصدُه عليه السلام أن إظهارَ هذه الحاجات وما هو من مباديها وتتماتها ليس لكونها غيرَ معلومةٍ لك بل إنما هو لإظهار العبوديةِ والتخشّعِ لعظمتك والتدلل لعزتك وعرضِ الافتقارِ إلى ما عندك والاستعجالِ لنيل أياديك وتكريرُ النداءِ للمبالغةِ في الضراعة والابتهال وضميرُ الجماعة لأن المرادَ ليس مجردَ علمِه تعالى بسرِّه وعلنه بل بجميع خفايا المُلك والملَكوت وقد حققه بقوله على وجه الاعتراض (وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَىْء فَى الأرض وَلاَ فِى السماء) لما أنه العالمُ بالذات فما من أمر يدخُل تحت الوجود كائناً ما كان في زمان من الأزمان إلا ووجودُه في ذاته علمٌ بالنسبة إليه سبحانه وإنما قال وَمَا يخفي عَلَى الله الخ دون أن يقول وَيَعْلَمُ مَا فِى السموات والأرض تحقيقاً لما عناه بقوله تعلم ما نخفي من أن علمَه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبةُ خفاءٍ بالنسبةِ إلى علمِهِ تعالَى كما يكون ذلك بالنسبة إلى علوم المخلوقاتِ وكلمةُ في متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع صفةً لشيءٍ أي من شيء كائنٍ فيهما أعمُّ من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما أو على وجه الجزئيةِ منهما أو بيخفى وتقديمُ الأرض على السماء مع توسيط لا بينهما باعتبار القربِ والبعدِ منا المستدعِيَين للتفاوت بالنسبة إلى علو منا والالتفاتُ من الخطاب إلى اسم الذاتِ المستجمعةِ للصفات لتربية المهابةِ والإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ على نهج قوله تعالَى أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير والإيذانِ بعمومه لأنه ليس بشأن يُختص به أو بمن يتعلق به بل شاملٌ لجميع الأشياء فالمناسبُ ذكرُه تعالى بعنوان مصحِّحٍ لمبدإ الكلّ وقيلَ هُو مِنْ كلامِ الله عز وجل وارد بطريق الاعتراض لتصديقه عليه السلام كقوله سبحانه وكذلك يَفْعَلُونَ ومن للاستغراق على الوجهين

39

(الحمد للَّهِ الذى وَهَبَ لِى عَلَى الكبر) أي مع كِبَري ويأسي عن الولد قيّد الهبةَ به استعظاماً للنعمة وإظهاراً لشكرها (إسمعيل وإسحق) رُوي أنه وُلد له إسمعيل وهو

إبراهيم 40 42 ابنُ تسعٍ وتسعين سنة وولد له إسحق وهو ابن مائةٍ واثنتي عشرة سنة أو مائة وسبعَ عشرة سنة (إِنَّ رَبّى) ومالكَ أمري (لَسَمِيعُ الدعاء) لمجيبُه من قولهم سمِع الملكُ كلامَه إذا اعتدّ به وهي من أبنية المبالغةِ العاملة عمَلَ الفعل أُضيف إلى مفعولِه أو فاعلِه بإسناد السماعِ إلى دعاء الله تعالى مجازاً وهو مع كونه من تتمة الحمدِ والشكر إذ هو وصفٌ له تعالى بأن ذلك الجميلَ سنّته المستمرّةُ تعليلٌ على طريقة التذييل للهبة المذكورة وفيه إيذان بتضاعيف النعمة فيها حيث وقعت بعد الدعاءِ بقوله رَبّ هَبْ لِى مِن الصالحين فاقترنت الهبةُ بقبول الدعوةِ وتوحيدُ ضمير المتكلم وإن كان عَقيبَ ذكرِ هبتهما لما أن نعمةَ الهبةِ فائضةٌ عليه خاصة وهما من النعم لا من المنعَم عليهم

40

(رَبّ اجعلنى مُقِيمَ الصلاة) مثابراً عليها معدّلاً لها وتوحيدُ ضمير المتكلم مع شمول دعوتِه لذريتِه أيضاً حيث قال (وَمِن ذُرّيَتِى) أي بعضِهم من المذكورين ومن يسير سيرتَهما من أولادهما للإشعار بأنه المقتدى في ذلك وذرّيتُه أتباعٌ له وإن ذكَرهم بطريق الاستطراد لا كما في قوله رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ الخ فإن إسكانَه مع عدم تحققِه بلا ملابسةٍ لمن أسكنه إنما هو مذكورٌ بطريق التمهيد للدعاء الذي هو مخصوصٌ بذريته وإنما خَصّ هذا الدعاءَ ببعض ذريته لعلمه من جهة الله تعالى أن بعضاً منهم لا يكون مقيمَ الصلاة كقوله تعالى رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء) أي دعائيَ هذا المتعلِّقَ بجعلي وجعلِ بعض ذرّيتي مقيمي الصلاةِ ثابتين على ذلك مجتنبين عن عبادة الأصنامِ ولذلك جيء بضمير الجماعة

41

(رَبَّنَا اغفر لِى) أي ما فرَطَ مني من تركِ الأَولى في باب الدين وغيرَ ذلك مما لا يسلم منه البشر (وَلِوَالِدَىَّ) وقرىء بالتوحيد ولأبوي وهذا الاستغفارُ منه عليه السلام إنما كان قبل تبيّن الأمرِ له عليه السلام وقيل أراد بوالديه آدمَ وحواءَ وقيل بشرط الإسلام ويردّه قوله تعالى إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم الآيةَ وقد مرَّ في سورة التوبة نوعُ تحقيقٍ للمقام وسيأتي تمامه في سورة مريم بفضل الله تعالى (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) كافة من ذريته وغيرهم وللإيذان باشتراك الكلِّ في الدعاء بالمغفرة جىء بضميرا الجماعة (يَوْمَ يَقُومُ الحساب) أي يثبُت ويتحقق محاسبةُ أعمالِ المكلفين على وجه العدل استُعير له من ثبوت القائمِ على الرجل بالاستقامة ومنه قامت الحربُ على ساق والمرادُ تهويلُه وقيل أسند إليه قيامُ أهلِه مجازاً أو حذف المضاف كما في واسأل القرية واعلمْ أن ما حُكي عنه عليه السلام من الأدعية والأذكار وما يتعلق بها ليس بصادر عنه على الترتيب المَحْكيِّ ولا على وجه المعيّة بل صدر عنه في أزمنة متفرّقةٍ حُكي مرتباً للدِلالة على سوء حال الكفرةِ بعد ظهور أمرِه في الملة وإرشادِ الناس إليها والتضرّعِ إلى الله تعالى لمصالحهم الدينية والدنيوية

42

(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون) خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تثبيتُه على ما كان عليه من عدم حسبانه عز وجل كذلك نحو قوله وَلاَ تكونن من

إبراهيم 43 المشركين ونظائرِه مع ما فيه من الإيذان بكونه واجبَ الاحتراز عنه في الغاية حتى نُهي عنه من لا يمكن تعاطيه أو نهيُه عليه السلام عن حُسبانه تعالى تاركاً لعقابهم على طريقة العفو والتعبيرُ عنه بذلك للمبالغة في النهي والإيذان بأن ذلك الحسبانَ بمنزلة حسبانِه تعالى غافلاً عن أعمالهم إذ العلمُ بذلك مستوجبٌ لعقابهم لا محالة فتركُه لو كان للغفلة عما يوجبه من أعمالهم الخبيثة وفيه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعدٌ له أكيدٌ ووعيد للكفر وسائرِ الظالمين شديدٌ أو لكل أحدٍ ممن يستعجل عذابَهم أو يتوهّم إهمالَهم للجهل بصفاته تعالى والاغترارِ بإمهاله وقيل معناه لا تحسبنّه تعالى يعاملهم معاملةَ الغافل عما عمِلوا بل معاملةَ من يحافظ على أعمالهم يجازيهم بذلك نقيراً وقِطْميراً والمرادُ بالظالمين أهلُ مكةَ ممن عُدّت مساويهم من تبديل نعمةِ الله تعالى كفراً وإحلالِ قومهم دارَ البوار واتخاذِ الأندادِ كما يؤذن به التعرّضُ لحكمة التأخيرِ المنبىء عَنْهُ قولُهُ تعالى قُلْ تَمَتَّعُواْ الآية أو جنسُ الظالمين وهم داخلون في الحكم دخولا أولياء (إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ) يمهلهم متمتعين بالحظوظ الدنياوية ولا يعجل عقوبتهم حسبما يشاهد وهو استئنافٌ وقع تعليلاً للنهي السابق أي دُم على ما كنتُ عليهِ من عدم حسبانه تعالى غافلاً عن أعمالهم ولا تحزَنْ بتأخير ما تستوجبه من العذاب الأليم إذ تأخيرُه للتشديد والتغليظ أولا تحسبنّه تعالى تاركاً لعقوبتهم لما ترى من تأخيرها إنما ذلك لأجل هذا أولا ولا تحسبنّه تعالى يعاملهم معاملةَ الغافل ولا يؤاخذُهم بما عملوا لما ترى من التأخير إنما هو لهذه الحكمة وقرىء بالنون وإيقاعُ التأخيرِ عليهم مع أن المؤخرَ إنما هو عذابُهم لتهويل الخطبِ وتفظيعِ الحال ببيان أنهم متوجهون إلى العذاب مُرصَدون لأمر ما لا أنهم باقون باختيارهم وللدَّلالة على أن حقَّهم من العذاب هو الاستئصالُ بالمرة وأن لا يبقى منهم في الوجود عينٌ ولا أثرٌ وللإيذان بأن المؤخرَ له من جملة العذاب وعنوانُه ولو قيل إنما يؤخر عذابَهم الخ لما فهم ذلك (لِيَوْمِ) هائل (تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار) ترتفع أبصارُ أهلِ الموقف فيدخل في زمرتهم الكفرةُ المعهودون دخولاً أولياً أي تبقى مفتوحةً لا تتحرك أجفانُهم من هول ما يرَونه واعتبارُ عدم قرارِها في أماكنها إما باعتبار الارتفاعِ الحسيِّ في جِرْم العين وإما بجعل الصيغةِ مِنْ شخَص من بلدٍ إلى بلدٍ وسار في الارتفاع

43

(مُهْطِعِينَ) مسرعين إلى الداعي مُقبلين عليه بالخوف والذل والخشوعِ أو مقبلين بأبصارهم عليه لا يُقلعون عنه ولا يطرِفون هيبة وخوفاً وحيث كان إدامةُ النظر ههنا بالنظر إلى الداعي قيل (مقنعي رءوسهم) أي رافعيها مع إدامة النظر من غير التفاتٍ إلى شيء قاله العتبي وابن عرفة أو ناكسيها ويقال أقنع رأسَه أي طأطأها ونكَسها فهو من الأضداد وهما حالان مما دل عليه الأبصار من أصحابها والثاني حالٌ متداخلةٌ من الضمير في الأول وإضافتُه غير حقيقية فلا ينافي الحالية (لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي لا يرجِع إليهم تحريكُ أجفانِهم حسبما كان يرجِع إليهم كلّ لحظة بل تبقى أعينُهم مفتوحةً لا تطرف أولا ترجع إليهم أجفانُهم التي هي آلةُ الطرْفِ فيكون إسنادُ الرجوعِ إلى الطرف مجازياً أو هو نفسُ الجفن قال الفيروز آبادي الطرفُ العينُ لا يجمع لأنه مصدر في الأصل أو اسمٌ جامع للعين أولا يرجع نظرُهم إلى أنفسهم فضلاً عن أن يرجِع إلى شيء آخر

إبراهيم 44 فيبقَون مبهوتين وهو أيضاً حالٌ أو بدلٌ من مقنعي الخ أو استئناف والمعنى لا يزول ما اعتراهم من شخوص الأبصار وتأخيره عمن هو من تتمته من الإهطاع والإقناع مع ما بينه وبين الشخوص المذكورِ من المناسبة لتربية هذا المعنى (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) خاليةٌ من العقل والفهم لفرْط الحَيرة والدهَش كأنها نفسُ الهواءِ الخالي من كل شاغلٍ ومنه قيل للجبان والأحمق قلبُه هواءٌ أي لا قوة ولا رأيَ فيه واعتبارُ خلوِّها عن كل خير لا يناسب المقام وهو إما حالٌ عاملُها لا يرتد مفيدةٌ لكون شخوص أبصارِهم وعدم ارتدادِ طرفِهم بلا فهمٍ ولا اختيار أو جملةٌ مستقلةٌ

44

(وَأَنذِرِ الناس) خطابٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إعلامِه أن تأخيرَهم لماذا وأمرٌ له بإنذارهم وتخويفِهم منه والمرادُ بالناس الكفارُ المعبّرُ عنهم بالظالمين كما يقتضيه ظاهرُ إتيانِ العذاب والعدولُ إليه من الإضمار للإشعار بأن المرادَ بالإنذار هو الزجرُ عمَّا هُم عليهِ من الظلم شفقةً عليهم لا التخويفُ للإزعاج والإيذاء فالمناسبُ عدمُ ذكرِهم بعنوان الظلمِ أو الناسُ جميعاً فإن الإنذارَ عام للفريقين كقوله تعالى إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر والإتيانُ يُعمّهما من حيث كونُهما في الموقف وإن كان لحوقُه بالكفار خاصةً أي أنذِرهم وخوِّفهم (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب) المعهودُ وهو اليوم الذي وُصف بما لا يوصف من الأوصاف الهائلةِ أعني يومَ القيامة وقيل هو يومُ موتِهم معذَّبين بالسكَرات ولقاءِ الملائكة بلا بشرى أو يومُ هلاكِهم بالعذاب العاجلِ ويأباه القصرُ السابق (فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ) أي فيقولون والعدولُ عنه إلى مَا عليهِ النظمُ الكريمُ للتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بأن ما لقُوه من الشدة إنما هو لظلمهم وإيثارُه على صيغة الفاعل حسبما ذكر أولا للإيذان بأن الظلمَ في الجملة كافٍ في الإفضاء إلى ما ذكر من الأهوال منْ غيرِ حاجةٍ إلى الاستمرار عليه كما يُنبىءُ عنه صيغةُ الفاعلِ وعلى تقدير كون المرادِ بالناس مَنْ يعمّ المسلمين أيضاً فالمعنى الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وهم الكفارُ أو يقول كلُّ من ظلم بالشرك والتكذيب من المنذَرين وغيرِهم من الأمم الخاليةِ فإن إتيانَ العذاب يعُمهم كما يشعر بذلك وعدُهم باتباع الرسل (رَبَّنَا أَخّرْنَا) رُدَّنا إلى الدنيا وأمهلنا (إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) إلى أمد وحدَ من الزمان قريب (نُّجِبْ دَعْوَتَكَ) أي الدعوة إليك أي وإلى توحيدك أو دعوتَك لنا على ألسنة الرسلِ ففيه إيماء إلى أنهم صدّقوهم في أنهم مرسَلون من عند الله تعالى (وَنَتَّبِعِ الرسل) فيما جاءونا به أي نتدارك ما فرّطنا فيه من إجابة الدعوةِ واتّباع الرسل والجمعُ إما باعتبار اتفاقِ الجميعِ على التوحيد وكونِ عصيانهم للرسول صلى الله عليه وسلم عصيانا لهم جميعاً وإما باعتبار أن المحكي كلام ظالمي الأمم جميعاً والمقصودُ بيانُ وعدِ كل أمة باتباع رسولها (أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ) على إضمار القولِ معطوفاً على فيقول أي فيقال لهم توبيخاً وتبكيتاً ألم تؤخَّروا في الدنيا ولم تكونوا أقسمتم إذ ذاك بألسنتكم بطراً وأشرا وجهلا وسفها (مالكم مّن زَوَالٍ) مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنياوية أو بألسنة الحال حيث بنيتم مشيدا

إبراهيم 45 وأمّلتم بعيداً ولم تحدّثوا أنفسكم بالانتقال منها إلى هذه الحالة وفيه إشعارٌ بامتداد زمانِ التأخير وبُعد مداه أو مالكم من زوال من هذه الدار إلى دار أخرى للجزاء كقوله تعالى وَأَقْسَمُواْ بالله جهدا أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ وصيغةُ الخطاب في جواب القسم لمراعاة حالِ الخطاب في أقسمتم كما في قوله حلف بالله ليخرُجَن وهو أدخلُ في التوبيخ من أن يقال مالنا مراعاةً لحال المُقسِم ذكر البهيقي عن محمدُ بنُ كعبٍ القُرَظي أنه قال لأهل النار خمسُ دعَوات يجيبهم الله تعالى في أربع منها فإذا كانت الخامسةُ لم يتكلموا بعدها أبداً يقولون رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ فيجيبهم الله تعالى ذلكم بأنه إذا ادعى الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم لله تعالى الكبير ثم يقولون رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صالحا إِنَّا مُوقِنُونَ فيجيبهم الله تعالى فذوقو بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا الآية ثم يقولون رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل فيجيبهم الله تعالى أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ الآية ثم يقولون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ فيجيبهم الله تعالى أو لم نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ فيقولون رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ فيجيبهم الله تعالى اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ فلا يتكلمون بعدها أبداً إن هو إلا زفيرٌ وشهيق وعند ذلك انقطع رجاؤُهم وأقبل بعضهم ينبَح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنمُ اللهم إنا بك نعوذ وبكنفك نلوذ عز جارُك وجل ثناؤُك ولا إله غيرُك

45

(وَسَكَنتُمْ) من السُّكنى بمعنى التبوّؤ والإيطان وإنما استُعمل بكلمة في حيث قيل (فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ) جرياً على الأصل لأنه منقولٌ عن مطلق السكون الذي حقُّه التعديةُ بها أو من السكون واللُّبث أي قرِرْتم في مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتَهم في الظلم والكفر والمعاصي غيرَ محدّثين لأنفسكم بما لقُوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات وفي إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقه فيما سلف إيدانا بأن غائلة الظلم آثلة إلى صاحبه والمرادُ بهم إما جميعُ مَنْ تقدّم من الأمم المهلكة على تقدير اختصاصِ الاستمهال والخطابُ السابقُ بالمنذرين وإما أوائلُهم من قوم نوحٍ وهود على تقدير عمومها للكل وهذا الخطابُ وما يتلوه باعتبار حالِ أواخرهم (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) بمشاهدة الآثار وتواترِ الأخبار (كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد وكيف منصوبٌ بما بعده من الفعل وليس الجملةُ فاعلاً لتبيّن كما قاله بعضُ الكوفيين بل فاعله ما دلت هي عليه دَلالةً واضحةً أي فعلنا العجيبَ بهم وفيه من المبالغة ما ليس في أن يقال ما فعلنا بهم كما مرَّ في قوله تعالى لَيَسْجُنُنَّهُ وقرىء وبُيِّن (وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال) أي بينا لكم في القرآن العظيم على تقدير اختصاصِ الخطاب بالمنذَرين أو على ألسنة الأنبياءِ عليهم السلام على تقدير عمومِه لجميع الظالمين صفاتِ ما فعلوا وما فُعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبةِ لكل ظالم لتعتبروا بها وتقيسوا أعمالَكم على أعمالهم ومآلَكم على مآلهم وتنتقلوا من حلول

إبراهيم 46 العذاب العاجلِ إلى حلول العذابِ الآجل فترتدعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي أو بيّنا لكم أنكم مثلُهم في الكفرِ واستحقاقِ العذابِ والجملُ الثلاثُ في موقع الحالِ من ضمير أقسمتم أي أقسمتم بالخلود والحالُ أنكم سكنتم في مساكن المهلَكين بظلمهم وتبين لك فعلنا العجيب بهم ونبهنا كم على جلية الحال بضرب الأمثال وقوله عز وجل

46

(وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ) حال من الضمير الأول في فعلنا بهم أو من الثاني أو منهما جميعاً وإنما قُدّم عليه قوله تعالى وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال لشدة ارتباطِه بما قبله أي فعلْنا بهمْ مَا فعلنَا والحالُ أنهم قد مكروا في إبطال الحقِّ وتقرير الباطل مكرَهم العظيمَ الذي استفرغوا في عمله المجهودَ وجاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدِرُ عليه غيرُهم فالمرادُ بيانُ تناهيهم في استحقاق ما فُعل بهم أو قد مكروا مكرَهم المذكورَ في ترتيب مبادى البقاءِ ومدافعةِ أسبابِ الزوالِ فالمقصودُ إظهارُ عجزهم واضمحلالُ قدرتِهم وحقارتُها عند قدرة الله تعالى (وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ) أي جزاءُ مكرِهم الذي فعلوه على أن المكرَ مضافٌ إلى فاعله أو أخذُه تعالى بهم على أنه مضافٌ إلى مفعوله وتسميتُه مكراً لكونه بمقابلة مكرِهم وجوداً وذِكراً أو لكونه في صورة المكرِ في الإتيان مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ وعلى التقديرين فالمرادُ به ما أفاده قوله عز وجل كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ لا أنه وعيدٌ مستأنفٌ والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في مكروا أي مكروا مكرَهم وعند الله جزؤه أو ما هو أعظمُ منِهُ والمقصودُ بيانُ فسادِ رأيِهم حيث باشروا فعلاً معَ تحققِ ما يُوجبُ تركَه (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ) في العِظَم والشدة (لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال) أي وإن كان مكرُهم في غاية المتانةِ والشدةِ وعبّر عن ذلك بكونه مسوًّى ومُعدًّا لإزالة الجبال عن مقارّها لكونه مثلاً في ذلك والجملةُ المصدرةُ بأن الوصليةِ معطوفةِ على جملةٍ مقدرةٍ والمعنى وعند الله جزاءُ مكرهم أو المكرُ الذي يحيق بهم إن لم يكن مكرُهم لتزولَ منه الجبال وإن كان الخ وقد حُذف ذلك حذفاً مطرداً لدِلالة المذكور عليه دلالة واضحة فإن الشيءَ إذا تحقق عند وجودِ المانع القوي فلأن يتحقق عند عدمه أولى وعلى هذه النكتةِ يدورُ ما في إنْ الوصليةِ من التأكيد المعنوي والجوب محذوفٌ دلَّ عليه ما سبق وهو قوله تعالى وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وقيل إنْ نافية واللامُ لتأكيدها كما في قوله تعالى وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وينصره وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه وما كان مكرُهم فالجملة حينئذ حالٌ من الضمير في مكروا لا من قوله تعالى وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ أي مكروا مكرَهم والحالُ أن مكرهم لم يكن لتزولَ منه الجبال على أنَّها عبارةٌ عن آيات الله تعالى وشرائعِه ومعجزاتِه الظاهرة على أيدي الرسلِ السالفةِ عليهم السلام التي هي بمنزلة الجبالِ الراسياتِ في الرسوخ وأما كونُها عبارةً عن أمر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وأمرِ القرآن العظيم كما قيل فلا مجال له إذا لماكرون هم المهلَكون لا الساكنون في مساكنهم من المخاطبين وإن خُصّ الخطاب بالمنذرين وقيل هي مخففةٌ من إنّ والمعنى إنه كان مكرُهم ليزول منه ما هو كالجبال في الثبات مما ذكر من الآيات والشرائعِ والمعجزات والجملةُ كما هي حال من ضمير مكروا أي مكروا مكرَهم المعهودَ وإنّ الشأنَ كان مكرُهم لإزالة الآياتِ والشرائع على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكرٌ كذلك وكان شأنُ الآياتِ والشرائعِ مانعاً من مباشرة المكر

إبراهيم 47 لإزالته وقد وقرأ الكسائي لَتزولُ بفتح اللام على أنها الفارقة والمعنى تعظيمُ مكرِهم فالجملةُ حالٌ من قوله تعالى وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ أي عنده تعالى جزاءُ مكرهم أو المكرُ بهم والحال أن مكرهم بحيث تزول منه الجبالُ أي في غاية الشدة وقرىء بالفتح والنصب على لغة من بفتح لام كي وقرىء وإن كاد مكرهم هذا هو الذي يقتضيهِ النظمُ الكريم وينساق إليه الطبعُ السليم وقد قيل إنَّ الضَّمير في مكروا للمنذَرين والمرادُ بمكرهم ما أفاده قوله عز وجل وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ الآية وغيرُه من أنواع مكرهم برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم ولعل الوجهَ حينئذٍ أنْ يكونَ قولُه تعالى وَقَدْ مَكَرُواْ الخ حالاً من القول المقدر أي فيقال لهم ما يقال والحالُ أنهم مع ما فعلوا من الإقسام المذكورِ مع ما ينافيه من السكون في مساكن المهلَكين وتبيّن أحوالُهم وضرْبُ الأمثال قد مكروا مكرَهم العظيم أي لم يكن الصادر عنهم مجردَ الإقسام الذي وُبِّخوا به بل اجترءوا على مثل هذه العظيمة وقوله تعالى وَعِندَ الله تعالى مَكْرُهُمْ حالٌ من ضمير مكروا حسبما ذكرنا من قبل وقوله تعالى وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال مسوقٌ لبيان عدم تفاوتِ الحال في تحقيق الجزاءِ بين كون مكرِهم قوياً أو ضعيفاً كما مر هناك وعلى تقدير كونِ أنْ نافيةً فهو حال من ضمير مكروا والجبالُ عبارةٌ عن أمر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أي وقد مكروا والحالُ أن مكرهم ما كان لتزول منه هاتيك الشرائعُ والآياتُ التي هي في القوة كالجبال وعلى تقدير كونها مُخفّفة من الثقيلة واللامُ مكسورةٌ يكون حالاً منه أيضاً على معنى أن ذلك المكرَ العظيم منهم كان لهذا الغرض على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكر كذلك لِما أن شأنَ الشرائعِ أعظم من أن يمكُرَ بها ماكرٌ وعلى تقدير فتح اللام فهو حالٌ من قوله تعالى وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ كما ذكرنا من قبل فليُتأمل

47

(فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) لم يرَدْ به والله سبحانه أعلمُ ما وعده بقوله تعالَى إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا الآية وقولِه كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى كما قيل فإنه لا اختصاصَ له بالتعذيب لا سيما الأخرويُّ بل ما سلف آنفاً من وعده بتعذيب الظالمين بقوله تعالى إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ الآية كما يُفصح عنهُ الفاءُ الداخلة على النهي الذي أريد به تثبيتُه عليه الصلاة والسلام على ما كان عليه من الثقة بالله تعالى والتيقّن بإنجاز وعدِه المذكور المقرونِ بالأمر بإنذارهم يوم إتيانِ العذاب المتضمِّنِ لذكر تعذيبِ الأممِ السالفة بسبب كفرِهم وعصيانِهم رسلَهم بعد ما وعدهم بذلك كما فُصّلت قصةُ كل منهم في القرآن العظيم فكأنه قيل وإذ قد وعدناك بعذاب الظالمين يوم القيامة وأخبرناك بما يلقَوْنه من الشدائد وبما يسألونه من الرد إلى الدنيا وبما أجَبْناهم به وقرَعناهم بعدم تأملِهم في أحوال من سبَقهم من الأمم الذين أهلكناهم بظلمهم بعد ما وعدنا رسلَهم بإهلاكهم فدُمْ على ما كنتُ عليهِ من اليقين بعدم إخلافِنا رسلنا وعدنا (إن اله عَزِيزٌ) غالبٌ لا يماكَر وقادر (ذُو انتقام) لأوليائه من أعدائه والجملةُ تعليلٌ للنهي المذكور وتذييلٌ له وحيث كان الوعدُ عبارةً عما ذكرنا من تعذيبهم خاصة لم يذيَّل بأن يقال إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد بل تعرض لوصف العزة والانتقامِ المُشعِرَين بذلك والمرادُ بالانتقام ما أشير إليه بالفعل وعبّر عنه بالمكر

إبراهيم

48

48 - 49 (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض) ظرفٌ لمضمر مستأنفٌ ينسحب عليه النهيُ المذكور أي ينجزه يوم الخ أو معطوفٌ عليه نحوُ وارتقب يومَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الارض أو لانتقام وهو يوم يأتيهم العذابُ بعينه ولكن له أحوالٌ جمّة يُذكر كلَّ مرة بعنوان مخصوص والتقييدُ به مع عموم انتقامِه للأوقات كلها للإفصاح عما هو المقصودُ من تعذيب الكفرة المؤخرِ إلى ذلك اليوم بموجب الحكمةِ الداعيةِ إليه وقيل بدلٌ من يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب أو نُصب باذكر أو بإضمار لا يخلف وعده يوم تبدل الخ وفيه أيضاً ما في الوجه الثالث من الحاجة إلى الاعتذار ولا يجوز أن ينتصب بقوله مخلَف وعدِه لأن ما قبل إنَّ لا يعمل فيما بعده وقيل هو غيرُ مانع لأن قوله تعالى إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام جملةٌ اعتراضية فلا يبالى بها فاصلاً واعلم أن التبديلَ قد يكون في الذات كما في بدلتُ الدراهمَ دنانير وعليه قوله عز وجل بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا وقد يكون في الصفات كما في قولك بدلتُ الحلقةَ خاتماً إذا غيّرتَ شكلها ومنه قوله تعالى يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات على بعض الأقوال والآية الكريمة ليست بنص في أحد الوجهين فعن علي رضي الله عنه تبدل أرضاً من فضة وسمواتٍ من ذهب وعن ابن مسعود رضي الله عنه تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاءَ نقيةٍ لم يُسفك فيها دمٌ ولم يعمَلْ عليها خطيئة وعن ابن عباس رضي الله عنهما هي تلك الأرضُ وإنما تُغيّر صفاتُها وأنشد ... [وما الناسُ بالناس الذين عهِدتهم ... وما الدارُ بالدار التي كنت تعلمُ] ... وتبدّلُ السموات بانتثار كواكبها وكسوفِ شمسِها وخسوفِ قمرِها وانشقاقها وكونها أبواباً ويدل عليه ما روى أبو هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّه عليه الصلاةُ والسلام قال تُبَدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرض فتبسط وتمدمد الأديمِ العُكَاظِيِّ لا ترى فيها عوجا ولا أمتا (والسموات) أي وتبدل السمواتُ غيرَ السموات حسبما مر من التفصيل وتقديمُ تبديلِ الأرض لقربها منا ولكون تبديلها أعظمَ أثراً بالنسبة إلينا (وَبَرَزُواْ) أي الخلائق أو الظالمون المدلولُ عليهم بمعونة السباق والمرادُ بروزُهم من أجداثهم التي في بطون الأرضِ أو ظهورُهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها سرًّا ويزعُمون أنها لا تظهر أو يعملون عمل من يزعمُ ذلك ولعل إسنادَ البروز إليهم مع أنه لأعمالهم للإيذان بتشكّلهم بأشكال تناسبها وهو معطوفٌ على تبدل والعدولُ إلى صيغةِ الماضِي للدَلالة على تحققِ وقوعِه أو حالٌ من الأرض بتقدير قد والرابطُ بينها وبين صاحبِها الواو (للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ) للحساب والجزاء والتعرُّضُ للوصفين لتهويلِ الخطبِ وتربيةِ المهابةِ وإظهار بطلانِ الشركِ وتحقيقُ الانتقامِ في ذلك اليوم على تقدير كونِه ظرفاً له وتحقيقُ إتيان العذاب الموعودِ على تقدير كونِه بدلاً من يوم يأتيهم العذاب فإن الأمرَ إذا كان لواحد غلاّبٍ لا يعار وقادر لا يُضارّ ولا يغار كان في غايةِ ما يكونُ من الشدة والصعوبة

49

(وَتَرَى المجرمين) عطف على برزوا والعدولُ إلى صيغة المضارع لاستحضار الصورة أو للدلالة على الاستمرار وأما لبروز فهو دفعى

إبراهيم 50 51 لا استمرار فيه وعلى تقدير حاليةِ برزوا فهو معطوفٌ على تبدل ويجوز عطفُه على عامل الظرف المقدم على تقدير كونِه ينجزه (يَوْمَئِذٍ) يومَ إذ برزوا له عز وجل أو يوم إذ تبدل الأرض أو يوم إذ يُنجِز وعدَه (مُقْرِنِينَ) قُرن بعضَهم مع بعضٍ حسب اقترانهم في الجرائم والجرائر أو قُرنوا مع الشياطين الذين أغوَوْهم أو قرنوا مع ما اقترفوا من العقائد الزائغة والملَكات الردِيّة والأعمال السيئة غِبَّ تصور كلَ منها وتشكلهما بما يناسبُها من الصورِ الموحشة والأشكال الهائلة أو قرنت أيديهم وأرجلُهم إلى رقابهم وهو حال من المجرمين (فِى الأصفاد) في القيود أو الأغلال وهو إما متعلقٌ بقوله تعالى مُقْرِنِينَ أو حالٌ من ضميرِه أي مصفّدين

50

(سَرَابِيلُهُم) أي قُمصانهم (مّن قَطِرَانٍ) جملةٌ من مبتدإٍ وخبر محلُّها النصبُ عَلى الحاليةِ من المجرمين أو من ضميرِهم في مقرنين رابطتها الضمير فقط كما في كلمتُه فوه إلى فيَّ أو مستأنفة والقطران ما يتحلب من الإبهل فيطبخ فتُهنَأُ به الإبلُ الجربى فيحرق الجرَبَ بما فيه من الحِدّة الشديدة وقد تصل حرارتُه إلى الجوف وهو أسودُ منتِنٌ يسرع فيه اشتعالُ النار يطلى به جلودُ أهل النار حتى يعودَ طلاؤُه لهم كالسراويل ليجتمع عليهم الألوانُ الأربعة من العذاب لذعُه وحرقتُه وإسراعُ النار في جلودهم واللونُ الموحش والنتَنُ على أن التفاوت بينه وبين ما نشاهده وبين النارين لا يكاد يقادَر قدرُه فكأن ما نشاهده منهما أسماءُ مسمَّياتِها في الآخرة فبِكَرمه العميمِ نعوذ وبكنفه الواسع نلوذ ويحتمل أن يكون ذلك تمثيلاً لما يحيط بجوهر النفس من الملكات الرديةِ والهَنات الوحشية فتجلُب إليها الآلام والغموم بل وأن يكون القطِرانُ المذكور عينَ مالا بسوه في هذه النشأة وجعلوه شعاراً لهم من العقائد الباطلة والأعمال السيئة المستجلبة لفنون العذاب قد تجسّدت في النشأة الآخرة بتلك الصورة المستتبعةِ لاشتداد العذاب عصَمنا الله سبحانه عن ذلك بمنه ولُطفه وقرىء من قطرآنٍ أي نحاس مُذابٍ مُتناهٍ حرُّه (وتغشى وُجُوهَهُمْ النار) أي تعلوها وتحيط بها النارُ التي تمس جسدَهم المسَرْبلَ بالقطِران وتخصيصُ الوجوه بالحكم المذكورِ مع عمومه لسائر أعضائِهم لكونها أعزَّ الأعضاء الظاهرةِ وأشرفَها كقوله تعالى أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب الخ ولكونها مجمعَ المشاعرِ والحواسّ التي خُلقت لإدراك الحق وقد أعرضوا عنه ولم يستعملوها في تدبيره كما أن الفؤادَ أشرفُ الأعضاء الباطنةِ ومحلُّ المعرفة وقد ملئوها بالجهالات لذلك قيل تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة أو لخلوّها عن القطِران المغني عن ذكر غشيانِ النار لها ولعل تخليتَها عنه ليتعارفوا عند انكشافِ اللهب أحياناً ويتضاعف عذابُهم بالخزى على رءوس الأشهاد وقرىء تَغَشَّى أي تتغشى بحذف إحدى التاءين والجملة نصب على الحالية لا على أن الواو حاليةٌ لأنه مضارعٌ مثبَتٌ بل على أنها معطوفةٌ على الحال قاله أبو البقاء

51

(لّيَجْزِىَ الله) متعلقٌ بمضمر أي يفعل بهم ذلكَ ليجزِيَ (كُلُّ نَفْسٍ) مجرمةٍ (ما كسبت) من أبواع الكفرِ والمعاصي جزاءً موافقاً لعملها وفيه إبذان بأن جزاءَهم مناسبٌ لأعمالهم أو بقوله برزوا

إبراهيم 52 على تقدير كونِه معطوفاً على تُبدّل والضمير للخلق وقوله وترى المجرمين الخ اعتراضٌ بين المتعلِّق والمتعلَّق به أي برزوا للحساب ليجزيَ الله كلَّ نفس مطيعةٍ أو عاصية ما كسبتْ منْ خَيرٍ أوْ شر وقد اكتُفي بذكر عقاب العُصاة تعويلا على شهادة الحالِ لا سيما مع ملاحظة سبق الرحمةِ الواسعة (إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب) إذ لا يشغَلُه شأنٌ عن شأن فيُتمُّه في أعجل ما يكون من الزمان فيوفّي الجزاءَ بحسبه أو سريعُ المجيء يأتي عن قريب أو سريعُ الانتقام كما قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما في قولِه تعالى وَهُوَ سَرِيعُ الحساب

52

(هذا) أي ما ذكر من قوله سبحانه وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا إلى سَرِيعُ الحساب (بَلاَغٌ) كفايةٌ في العظة والتذكيرِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى ما انطوى عليه السورةُ الكريمة أو كلُّ القرآن المجيدِ من فنون العظات والقوارعِ (لِلنَّاسِ) للكفار خاصةً على تقدير اختصاصِ الإنذار بهم في قوله تعالى وَأَنذِرِ الناس أو لهم وللمؤمنين كافةً على تقدير شمولِه لهم أيضاً وإن كان ما شرح مختصاً بالظالمين (وَلِيُنذَرُواْ بِهِ) عطفٌ على مقدر واللامُ متعلقةٌ بالبلاغ أي كفاية لهم في ان ينصحوا وينذروا به أو هذا بلاغٌ لهم ليفهموه ولينذَروا به على أن البلاغَ بمعنى الإبلاغ كما في قوله تعالى مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ أو متعلقة بمحذوف أي ولينذَروا به أُنزل أو تُليَ وقرىء لينذروا به من نذر الشيء إذا علمه وحذروه واستعدّ له (وَلِيَعْلَمُواْ) بالتأمل فيما فيه من الدلائل الواضحة التي هي إهلاكُ الأمم وإسكانُ آخرين مساكنهم وغيرُهما مما سبق ولحِق (إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ) لا شريكَ له وتقديمُ الإنذار لأنه الداعي إلى التأمل المؤدِّي إلى ما هو غايةٌ له من العلم المذكور والتذكير في قوله تعالى (وليذكر أولو الألباب) أي ليتذكروا ما كانوا يعملوبه من قبلُ من التوحيد وغيره من شئون الله عز وجل ومعاملتِه مع عباده فيرتدعوا عما يُرديهم من الصفات التي ينصف بها الكفارُ ويتدرعوا بما يُحظيهم من العقائد الحَقَّة والأعمالِ الصالحةِ وفي تخصيص التذكرِ بأولي الألباب تلويحٌ باختصاص العلمِ بالكفار ودَلالةٌ على أن المشارَ إليه بهذا ما ذكرنا من القوارع المَسوقةِ لشأنهم لا كلُّ السورةِ المشتملةِ عليها وعلى ما سبق للمؤمنين أيضاً فإن فيه ما يفيدهم فائدةً جديدةً وحيث كان ما يفيده البلاغُ من التوحيد وما يترتبُ عليهِ من الأحكام بالنسبة إلى الكفرة أمراً حادثاً وبالنسبة إلى أولي الألباب الثباتَ على ذلك حسبما أشير إليه عبر عن الأول بالعلم وعن الثاني بالتذكير ورُوعيَ ترتيبُ الوجودِ مع ما فيه من الختم بالحسنى والله سبحانه أعلم ختم الله لنا بالسعادة والحسنى ورزقنا الفوز بمرضاته في الأولى والعقبى آمين عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ إبراهيمَ أُعطِيَ من الأجر عشرَ حسناتٍ بعدد مَنْ عبدَ الأصنام ومن لم يعبده والحمدُ لله وحده

سورة الحجر (مكيه آياتها تسع وتسعون) سورة الحجر مكية إلا آية 87 فمدنية وآيها تسع وتسعون) بسم الله الرحمن الرحيم

الحجر

(الر) قد مر الكلام فيه وفي محله في مطلع سورة الرعدِ وأخواتِها (تِلْكَ إشارةٌ إليه أي تلك السورةُ العظيمةُ الشأن (أيات الكتاب) الكاملِ المعهودِ الغنيُّ عن الوصف به المشهورُ بذلك من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب به على الإطلاق أي بعضٌ منه مترجمٌ مستقلٌّ باسم خاصَ فهو عبارةٌ عن جميع القرآن أو عن الجميعِ المنزَلِ إذ ذاك إذ هو المتسارِعُ إلى الفهم حينئذ عند الإطلاق وعليه يترتب فائدةُ وصف الآياتِ بنعت ما أضيفت إليه من نعوت الكمالِ لا على جعله عبارةً عن السورة إذ هي في الاتصاف بذلك ليست بتلك المرتبةِ من الشهرة حتى يستغنى عن التصريح بالوصف على أنَّها عبارةٌ عن جميع آياتها فلا بد من جعل تلك إشارةً إلى كل واحدةٍ منها وفيه من التكليف مالا يخفى كما ذكر في سورة الرعد (وقرآن) أي قرآنٍ عظيمِ الشأنِ (مُّبِينٌ) مظهرٌ لما في تضاعيفهِ من الحِكَم والأحكام أو لسبيلِ الرشدِ والغيِّ أو فارقٍ بين الحقِّ والباطل والحلالِ والحرام ولقد فُخّم شأنه العظيم مع ما جُمع فيه من وصفي الكتابية والقرآنية على الطريقتين إحداهما اشتمالُه على صفاتِ كمالِ جنس الكتبِ الإلهيةِ فكأنه كلُّها والثانيةُ طريقةُ كونِه ممتازاً عن غيره نسيجَ وحدِه بديعاً في بابه خارجاً عن دائرة البيان وأخرت الطريقة الثانية لما أن الإشارةَ إلى امتيازه عن سائر الكتبِ بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيرِه من الكتب أدخلُ في المدح كيلا يُتوَهّم من أول الأمرِ أن امتيازَه عن غيره لاستقلاله بأوصاف خاصةٍ به من غير اشتماله على نعوت كمالِ سائرِ الكتب الكريمة وهكذا الكلامُ في فاتحة سورةِ النمل خلا أنه قُدّم فيها القرآنُ على الكتاب لما سيذكر هناك ولمّا بيِّن كونُ السورة الكريمةِ بعضاً من الكتاب والقرآنِ لتوجيه المخاطَبين إلى حُسن تلقّي ما فيها من الأحكامِ والقِصص والمواعظ شُرع في بيان ما تتضمّنه فقيل

2

(رُّبَمَا) بضم الراء وتخفيف الباء المفتوحةِ وقرىء بالتشديد وبفتح الراء مخففاً وبزيادة التاء مشدداً وفيه ثماني لغات فتح الراء وضمها مشدداً ومخففاً وبزيادة التاء أيضاً مشدداً ومخففاً ورُبّ حرفُ جر لا يدخُل إلا على الاسم وما كافةٌ مصحّحةٌ لدخوله على الفعل وحقُّه الدخولُ على الماضي ودخولُه على قوله تعالى (يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ) لما أن المترقَّب في أخباره تعالى كالماضي المقطوعِ في تحقق الوقوع فكأنه قيل ربما وَد الذين كفروا والمرادُ كفرهم بالكتاب والقرآن وكونه

الحجر 3 من عند الله تعالى (لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ) منقادين لحكمه ومذعِنين لأمره وفيه إيذانٌ بأن كفرَهم إنما كان بالجحود بعد ما علموا كونَه من عند الله تعالى وتلك الوَدادةُ يومَ القيامةِ أو عند موتهم أو عند معاينةِ حالِهم وحال المسلمين أو عند رؤيتهم خروجَ عصاةِ المسلمين من النار وروى أبو موسى الأشعرى رضيَ الله عنه أنَّه قال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إذا كان يوم القيامة واجتمع أهلُ النار في النار ومعهم مَنْ شاء تعالى من أهل القِبلة قال لهم الكفارُ ألستم مسلمين قالوا بلى قالوا فما أغنى عنكم إسلامُكم وقد صِرتم معنا إلى النار قالوا كانت لنا ذنوبٌ فأُخِذْنا بها فيغضب الله سبحانه لهم بفضل رحمته فيأمُر بكل من كان من أهل القِبلة في النار فيخرجون منها فحينئذ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كانوا مسلمين وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لا يزال الربُّ يرحم ويُشفع إليه حتى يقول مَنْ كان من المسلمين فليدخُل الجنة فعند ذلك يتمنَّوْن الإسلام والحقُّ أن ذلك محمولٌ على شدة وَدادتِهم وأما نفسُ الودادةِ فليست بمختصة بوقت دون وقت بل هي مقرَّرة مستمرّةٌ في كل آن يمر عليهم وأن المراد بيانُ ذلك على ما هو عليه من الكثرة وإنما جيء بصيغة التقليلِ جرياً على سَننِ العرب فيما يقصِدون به الإفراطَ فيما يعكسون عنه تقول لبعض قُوادِ العساكر كم عندك من الفرسان فيقول رُبَّ فارسٍ عندي أو لا تعدمُ عندي فارسا وعنده مقانب جمّةٌ من الكتائب وقصدُه في ذلك التماري في تكثير فُرسانه ولكنه يريد إظهارَ براءته من التزيُّد وإبرازَ أنه ممن يقلل لعلو الهمة كثيرَ مَا عندَهُ فضلاً عن تكثير القليل وهذه الطريقة إنما تسلك إذا كان الأمر من الوضوح بحيث لا يحومُ حوله شائبةُ ريبٍ فيُصار إليه هضماً للحق فدل النظمُ الكريم على وَدادةِ الكافرين للإسلام في كلِّ آنٍ من آنات اليومِ الآخر وأن ذلك منَ الظهورِ بحيثُ لا يشتبه على أحد ولو جيء بكلام يدل على ضده وعلى أن تلك الودادةَ مع كثرتها في نفسها مما يُستقل بالنسبةِ إلى جناب الكبرياءِ وهذا هو الموافقُ لمقام بيانِ حقارةِ شأنِ الكفارِ وعد الاعتدادِ بما هُم فيه من الكفر والتكذيب كما ينطق به قوله تعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ الآية أو ذهاباً إلى الإشعار بأن من شأن العاقلِ إذا عنّ له أمرٌ يكون مظنونَ الحمد أو قليلاً ما يكون كذلك أن لا يفارقَه ولا يقارِفَ ضدّه فكيف إذا كان متيقن الحمد كما في قولهم لعلك ستندم على ما فعلت وربما ندِم الإنسان على ما فعل فإن المقصودَ ليس بيانَ كونِ الندم مرجوَّ الوجود بلا تيقن به أو قليلَ الوقوع بل التنبيهُ على أن العاقلَ لا يباشر ما يُرجى فيهِ الندمُ أو يقِلّ وقوعُه فيه فكيف بقطعيّ الوقوع وأنه يكفي قليلُ الندم في كونه حاجزاً عن ذلك الفعلِ فكيف كثيرُه والمقصودُ من سلوك هذه الطريقة إظهارُ الترفع والاستغناءِ عن التصريح بالغرض بناءً على ادعاء ظهورِه فالمعنى لو كانوا يودون الإسلامَ مرة واحدة لوجب عليهم أن لا يفارقوه فكيف وهم يودّونه كل آن وهذا أوفقُ بمقام استنزالِهم عمَّا هُم عليهِ من الكفر وهذان طريقان متمايزانِ ذاتاً ومقاماً فمن ظنَّهما واحداً فقد نأى عن توفية المقام حقَّه

3

(ذَرْهُمْ) دعْهم عن النهي عما هم عليه بالتذكرة والنصيحة إذ لا سبيلَ إلى إراعوائهم عن ذلك وبالِغْ في تخليتهم وشأنَهم بل مُرْهم بتعاطي ما يتعاطَوْنه (يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ) بدنياهم وفي تقديم الأكل إيذانٌ بأن تمتعَهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل

الحجر 4 والمشارب والمرادُ دوامُهم على ذلك لا إحداثُه فإنهم كانوا كذلك أو تمتعُهم بلا استماعِ ما ينغص عيشَهم من القوارع والزواجر فإن التمتعَ على ذلك الوجه أمرٌ حادث يصلُح أن يكون مترتباً على تخليتهم وشأنَهم (وَيُلْهِهِمُ) ويَشْغَلْهم عن اتباعك أو عن التفكر فيما هم يصيرون إليه أو عن الإيمان والطاعة فإن الأكلَ والتمتعُ يفضيان إلى ذلك (الأمل) والتوقعُ لطول الأعمارِ وبلوغِ الأوطار واستقامة الأحوال وأن لا يَلْقَوا في العاقبة والمآل إلا خيراً فالأفعالُ الثلاثة مجزومةٌ على الجوابية للأمر حسبما عرفتَ من تضمن الأمرِ بالترك للأمر بها على طريقة المجاز أو على أن يكون المرادُ بالأفعال المرقومة مباشرَتهم لها غافلين عن وخامة عاقبتها غيرَ سامعين لسوء مَغَبَّتها أصلاً ولا ريب في ترتب ذلك على الأمر بالترك فإن النهيَ عمَّا هُم عليهِ من ارتكاب القبائحِ مما يشوّش عليهم متعهم وينغّص عليهم عيشَهم فأُمر عليه السلام بتركه ليتمرّغوا فيمَا هُم فيهِ من حظوظهم فيدهمهم ما يدهمهم وهم عنه غافلون (فَسَوفَ يَعْلَمُونَ) سوءَ صنيعهم أو وخامةَ عاقبته أو حقيقةَ الحال التي ألجأتْهم إلى التمني المذكور حيث لم يعلموا ذلك من جهتك وهو مع كونه وعيداً أيَّما وعيدٍ وتهديداً غِبَّ تهديدٍ تعليلٌ للأمر بالترك فإن علمَهم ذلك علةٌ لترك النهي والنصيحةِ لهم وفيه إلزامٌ للحجة ومبالغةٌ في الإنذار إذ لا يتحقق الأمر بالضد إلا بعد تكررِ الإنذارِ وتقرّرِ الجحود والإنكار وكذلك ما ترتب عليه من الأكل والتمتع والإلهاء

4

(وَمَآ أَهْلَكْنَا) شروعٌ في بيان سرِّ تأخير عذابَهم إلى يومِ القيامةِ وعدمِ نظمِهم في سلك الأمم الدارجة في تعجيل العذاب أي ما أَهْلَكْنَا (مِن قَرْيَةٍ) من القرى بالخَسف بها وبأهلها كما فُعل ببعضها أو بإخلائها عن أهلها غِبَّ إهلاكِهم كما فُعل بآخرين (إِلاَّ وَلَهَا) في ذلك الشأن (كتاب) أي أجل مقدر مكتوبٌ في اللوح واجبُ المراعاة بحيث لا يمكن تبديلُه لوقوعه حسب الحكمةِ المقتضيةِ له (مَّعْلُومٌ) لا يُنسى ولا يُغفل عنه حتى يُتصورَ التخلفُ عنه بالتقدم والتأخر فكتابٌ مبتدأٌ خبرُه الظرفُ والجملةُ حالٌ من قرية فإنها لعمومها لا سيما بعد تأكّدِه بكلمة مِنْ في حكم الموصوفة كما أشير إليه والمعنى ما أهلكنا قريةً من القرى في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ أن يكون لها كتابٌ أي أجلٌ موقتٌ لمهلِكها قد كتبناه لا نُهلكها قبل بلوغِه معلومٌ لا يُغفل عنه حتى يمكنَ مخالفتُه بالتقدم والتأخر أو مرتفعٌ بالظرف والجملةُ كما هي حال أي ما أهلكنا قريةً من القرى في حالٍ من الأحوالِ إلا وقد كان لها في حق هلاكِها كتابٌ أي أجل مقدر مكتوب في اللوح معلومٌ لا يُغفل عنه أو صفة لكن لا للقرية المذكورة بل للمقدرة التي هي بدلٌ من المذكورة على الختار فيكون بمنزلة كونِه صفةً للمذكورة أي ما أهلكنا قريةً من القرى إلا قريةً لها كتابٌ معلوم كما في قوله تعالى لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لاَّ يُسْمِنُ فإن قوله تعالى لاَّ يُسْمِنُ صفةٌ لكن لا للطعام المذكورِ لأنه إنما يدلّ على انحصار طعامِهم الذي لا يُسمن في الضريع وليس المرادُ ذلك بل للطعام المقدر بعد إلا أي ليس لهم طعامٌ مِن شيءٌ من الأشياءِ إلا طعامٌ لا يُسمن فليس فيه فصلٌ بين الموصوف والصفة بكلمة إلا كما تُوُهم وأما توسيط الواو بينهما

الحجر 5 6 وإن كان القياسُ عدمَه فللإيذان بكمال الالتصاقِ بينهما من حيث إن الواوَ شأنُها الجمعُ والربطُ فإن ما نحن فيه من الصفة أقوى لُصوقاً بالموصوف منها به في قوله تعالى وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ فإن امتناع انفكاك الإهلاك عن الأجل المقدرِ عقليٌّ وعن الإنذار عاديٌّ جرى عليه السنةُ الإلهية ولما بيّن أن الأممَ المهلَكة كان لكل منهم وقتٌ معين لهلاكهم لم يكن إلا حسبما كان مكتوباً في اللوح بيّن أن كُلّ أمَّةٍ منَ الأممِ منهم ومن غيرهم لها كتابٌ لا يمكن التقدمُ عليه ولا التأخر عنه فقيل

5

(مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ) من الأمم المهلَكة وغيرِهم (أَجَلُهَا) المكتوبَ في كتابها أي لا يجيء هلاكُها قبل مجيء كتابها أولا تمضي أمة قيل مُضيِّ أجلها فإن السبْقَ إذا كان واقعاً على زمانيّ فمعناه المجاوزةُ والتخليف فإذا قلت سبق زيدٌ عمْراً فمعناه أنه جاوزه وخلّفه وراءه وإذا كان واقعاً على زمان كان الأمرُ بالعكس والسرُّ في ذلك أن الزمانَ يعتبر فيه الحركةُ والتوجّه إلى المتكلم فما سبَقه يتحقق قبل تحققِه وأما الزمانيُّ فإنما يعتبر فيه الحركةُ والتوجّه إلى ما سيأتي من الزمان فالسابقُ ما تقدم إلى المقصِد وإيرادُه بعنوان الأجل باعتبار ما يقتضيه من السبق كما أن إيرادَه بعنوان الكتابِ المعلوم باعتبار ما يوجبه من الإهلاك (وما يستأخرون) أي وما يتأخرون وصيغةُ الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له وإيثارُ صيغةِ المضارعِ في الفعلين بعد ما ذُكر نفيُ الإهلاكِ بصيغة الماضي لأن المقصودَ بيانُ دوامِهما واستمرارِهما فيما بين الأممِ الماضيةِ والباقية وإسنادُهما إلى الأمة بعد إسنادِ الإهلاكِ إلى القرية لما أن السبقَ والاستئخارَ حالُ الأمةِ دون القرية مع ما في الأمة من العموم لأهل تلك القرى وغيرِهم ممن أُخِّرت عقوباتُهم إلى الآخرة وتأخيرُ ذكر عدمِ تأخرهم عن ذكر عدمِ سبقِهم مع كون المقام مقامُ المبالغةِ في بيان تحققِ عذابِهم إما باعتبار تقدّمِ السبقِ في الوجود وإما باعتبار أن المرادَ بيانُ سرِّ تأخيرِ عذابِهم مع استحقاقهم لذلك وإيرادُ الفعل على صيغة جمع المذكرِ للحمل على المعنى مع التغليب ولرعاية الفواصلِ ولذلك حُذف الجار والمجرور والجملةُ مبينة لما سبق والمعنى أن تأخير عذابَهم إلى يومِ القيامةِ حسبما أشير إليه ببيان وَدادتِهم للإسلام إذ ذاك وبالأمر بتركهم وشأنَهم إلى أن يعلموا حقيقةَ الحال إنما هو لتأخّر أجلِهم المقدرِ لما يقتضيه من الحِكَم البالغةِ ومن جملتها ما علمَ الله تعالى من إيمان بعضِ من يخرُجُ منهم إلى يوم القيامة

6

(وَقَالُواْ) شروعٌ في بيان كفرِهم بمن أنزل عليه الكتابُ بعد بيانِ كفرهم بالكتاب وما يئول إليه حالُهم والقائلون مشركو مكةَ لغاية تماديهم في العتو والغي (يأبها الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر) خاطبوا به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لا تسليماً لذلك واعتقاداً له بل استهزاءً به عليه الصلاة والسلام وإشعاراً بعلَّة حكمِهم الباطلِ في قولهم (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) كدأب فرعونَ إذ قال إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إليكم لمجنون يعنون يامن يدّعي مثل هذا الأمر البديعِ الخارقِ للعادات إنك بسبب تلك الدعوى أو بشهادة ما يعتريك عند ما تدّعي أنه ينزل عليك لمجنون

الحجر 7 8 وتقديم الجار والمجرور على القائم مَقامَ الفاعل لأن إنكارهم متوجِّهٌ إلى كون النازل ذِكْراً من الله تعالى لا إلى كون المنزَّلِ عليه رسولَ الله بعد تسليم كون النازلِ منه تعالى كما في قوله تعالى لولا نزيل هذا القرآنُ على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ فإن الإنكارَ هناك متوجهٌ إلى كون المنزَّلِ عليه رسولَ الله تعالى وإيرادُ الفعل على صيغة المجهولِ لإيهام أن ذلك ليس بفعل له فاعلٌ أو لتوجيه الإنكارِ إلى كون التنزيلِ عليه لا إلى استناده إلى الفاعل

7

(لو تَأْتِينَا) كلمة لو عند تركّبها مع ما تفيد ماتفيده عند تركبها مع لامن معنى امتناعُ الشيءِ لوجود غيرِه ومعنى التحضيض خلا أنه عند إزادته لا يليها إلا فعلٌ ظاهرٌ أو مضمرٌ وعند إرادةِ المعنى الأول لا يليها إلا اسمٌ ظاهرٌ أو مقدر عند البصريين والمرادُ ههنا هو الثَّاني أي هلا تأتينا (بالملائكة) يشهدون بصحة نبوتِك ويعضدونك في الإنذار كقوله تعالى لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أو يعاقبوننا على التكذيب كما تأتي الأممُ المكذّبة لرسلهم (إِن كُنتَ مِنَ الصادقين) في دعواك فإن قدرةَ الله تعالى على ذلك مما لا ريبَ فيه وكذا احتياجُك إليه في تمشية أمرِك فإنا لا نصدقك بدون ذلك أو إن كنت من جملة تلك الرسلِ الصادقين الذين عُذّبت أممهم المكذبة لهم

8

(مَا نُنَزّلُ الملائكة) بالنون على بناء الفعل لضمير الجلالة من التنزيل وقرىء من الإنزال وقرىء تُنَزّل مضارعاً من التنزيل على صيغة البناء للمفعول ومن التنزيل بحذف إحدى التاءين وما ضيا منه ومن التنزيل ومن الثلاثي وهو كلامٌ مسوق إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم جواباً لهم عن مقالتهم المَحْكية ورداً لاقتراحهم الباطلِ ولشدة استدعاءِ ذلك للجواب قُدّم ردُّه على ما هو جوابٌ عن أولها أعني قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر الآية كما فُعل في قوله تعالى قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله فإنه مع كونه جوابا عن قولهم فائتنا بم اتعدنا قُدّم على قوله وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى الآية مع كونه جواباً عن أول كلامِهم الذي هو قولُهم يا نُوحٌ قَدْ جَادَلْتَنَا لِما ذُكر من شدة اقتضائِه للجواب وليكونَ أحدُ الجوابين متصلاً بالسؤال وفي العكس يلزَم انفصالُ كلَ من الجوابين عن سؤاله والعدولُ عن تطبيقه لظاهر كلامِهم بصدد الاقتراحِ وهو أن يقال ما تأتيهم بهم للإيذان بأنهم قد أخطئوا في التعبير حسبما أخطئوا في الاقتراح وأن الملائكةَ لعلوّ رتبتهم أعلى من أن يُنسَبَ إليهم مطلقُ الإتيان الشاملِ للانتقال من أحد الأمكنة المتساوية إلى الآخر منها بل من الأسفل إلى الأعلى وأن يكون مقصِدُ حركاتهم أولئك الكفرةَ وأن يدخلوا تحت ملكوتِ أحدٍ من البشر وإنما الذي يليق بشأنهم النزولُ من مقامهم العالي وكونُ ذلك بطريق التنزيل من جناب الرب الجليل (إِلاَّ بالحق) أي ملتبساً بالوجه الذي يحِق ملابسةُ التنزيل به مما تقتضيه الحكمةُ وتجري به السنةُ الإلهية كقوله سبحانه وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق والذي اقترحوه من التنزيل لأجل الشهادة لديهم وهم هُمْ ومنزلتُهم في الحقارة والهوانِ منزلتُهم مما لا يكادُ يدخُل تحتَ الصحة الحكمة أصلاً فإن ذلك من باب التنزيلِ بالوحي الذي لا يكاد يُفتح على غير الأنبياء الكرام من

الحجر 9 أفراد كُمَّلِ المؤمنين فكيف على أمثال أولئك الكفرة اللئامِ وإنما الذي يدخُل في حقهم تحت الحكمةِ في الجملة هو التنزيلُ للتعذيب والاستئصالِ كما فُعل بأضرابهم من الأمم السالفة ولو فعل ذلك لاستؤصلوا بالمرة (وَمَا كَانُواْ إِذًا منتظرين) جزاءُ الشرط مقدّرٌ وفيه إيذانٌ بإنتاج مقدِّماتهم لنقيض مطلوبِهم كما في قوله تعالى وَأَذّن لاَّ يَلْبَثُونَ خلافك إِلاَّ قَلِيلاً قال صاحب النظم لفظةُ إذن مركبةٌ من إذ وهو اسمٌ بمعنى الحين تقول أتيتُك إذ جئتني أي حين جئتني ثم ضُمّ إليه أنْ فصار إذْ أن ثم استثقلوا الهمزةَ فحذفوها فمجيءُ لفظة أن دليلٌ على إضمار فعلٍ بعدها والتقدير وما كانوا إذ أَنْ كان ما طلبوه منظَرين والمعنى لو نزّلناهم ما كانوا مؤخَّرين كدأب سائرِ الأممِ المكذبة المستهزِئة ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلمُ القضاء بتأخير عذابِهم إلى يومِ القيامةِ حسبما أُجمل في قولِه تعالَى ذرهم يأكلوا وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل الخ وحال حائلُ الحكمةِ بينهم وبين استئصالِهم لتعلق العلمِ والإرادة بازديادهم عذابا وبإيمان بعضِ ذراريهم وأما نظمُ إيمانِ بعضهم في سِمْط الحكمةِ فيأباه مقامُ بيانِ تماديهم في الكفر والفساد ولَجاجِهم في المكابرة والعِناد هَذَا هُو الذي يستدعيه إعجازُ التنزيلِ الجليل وأما ماقيل في تعليل عدمِ موافقةِ التنزيل للحكمة من أنهم حينئذ يكونون مصدّقين عن اضطرار أو أنه لا حكمةَ في أن تأتيَكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لَبساً أو أن إنزالَ الملائكة لا يكونُ إلا بالحق وحصولِ الفائدةِ بإنزالهم وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفارِ أنه لو أَنزل إليهم الملائكةَ لبقُوا مُصرّين على كفرهم فيصير إنزالُهم عبثاً باطلاً ولا يكون حقًّا فمع إخلال كل من ذلك بقطيعة الباقي لا يلزَم من فرض وقوعِ شيءٍ من ذلك تعجيلُ العذاب الذي يفيده قوله تعالى وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ هذا على تقديرِ كونِ اقتراحِهم لإتيان الملائكة لأجل الشهادة إما على تقدير كون ذلك لتعذيبهم فالمعنى إنا ما نُنزل الملائكةَ للتعذيب غلا تنزيلاً مُلتبساً بالحقِّ الذي تقتضيهِ الحكمة وتستدعيه المصلحة حتماً بحيث لا محيد عنه ولو نزلناهم حسبما اقترحوا ما كان ذلك التنزيلُ ملتبساً بمقتضى الحِكمة الموجبةِ لتأخير عذابِهم إلى يومِ القيامةِ لا رفقاً بهم بل تشديداً عليهم كما مر من قبل وحيث كان في نسبة تنزيلِهم للتعذيب إلى عدم موافقتِه الحكمةَ نوعُ إيهامٍ لعدم استحقاقِهم التعذيب عُدِل عما يقتضيه الظاهرُ إلى مَا عليهِ النظمُ الكريمُ فكأنه قيل لو نزلناهم ما كانوا منظَرين وذلك غير موافق للحكمة الموجبة لتأخير عذابِهم لتشديد عقابِهم وقيل المرادُ بالحق الوحيُ وقيل العذاب فتدبر

9

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر) ردٌّ لإنكارهم التنزيلَ واستهزائِهم برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم بذلك وتسليةٌ له أي نحن بعِظَم شأنِنا وعلوِّ جنابنا نزلنا ذلك الذكرَ الذي أنكروه وأنكروا نزولَه عليك ونسبوك بذلك إلى الجنون وعَمَّوا مُنزِّله حيث بنوَا الفعلَ للمفعول إيماءً إلى أنه أمرٌ لا مصدرَ له وفعلٌ لا فاعلَ له (وَإِنَّا لَهُ لحافظون) من كل مالا يليق به فيدخل فيه تكذيبُهم له واستهزاؤُهم به دخولاً أولياً فيكون وعيداً للمستهزئين وأما الحفظُ عن مجرد التحريفِ والزيادة والنقصِ وأمثالِها فليس بمقتضى المقام فالوجهُ الحملُ على الحفظ من جميع ما يقدح فيه من الطعن فيه والمجادلةِ في حقّيته ويجوزُ أن يراد حفظُه بالإعجاز دليلاً على التنزيل من عنده تعالى إذ لو كان من عند

الحجر 10 12 غير الله لتطرّق عليه الزيادةُ والنقصُ والاختلاف وفي سبك الجملتين من الدلالةِ عَلى كمالِ الكبرياءِ والجلالة وعلى فخامة شأنِ التنزيل مالا يخفى وفي إيراد الثانيةِ بالجملةِ الاسميةِ دلالةً على دوام الحفظِ والله سبحانه أعلم وقبل الضمير المجرور للرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس وتأخيرُ هذا الكلام وإن كان جواباً عن أول كلامِهم الباطلِ ردا له لما ذكر آنفاً ولارتباطه بما يعقُبه منْ قولِه تعالى

10

(وَلَقَدْ أَرْسَلنَا) أي رسلاً وإنما لم يُذكر لدلالةِ ما بعدَهُ عليه (مِن قَبْلِكَ) متعلقٌ بأرسلنا أو بمحذوف هو نعتٌ للمفعول المحذوفِ أي رسلاً كائنةً من قبلك (فِى شِيَعِ الأولين) أي فِرَقِهم وأحزابهم جمع شيعة وهي الفِرقةُ المتّفقة على طريقة ومذهب من شاعه إذا تبِعه وإضافتُه إلى الأولين من إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه عند الفرّاء ومن حذف الموصوف عند البصريين أي شيعِ الأممِ الأولين ومعنى إرسالِهم فيهم جعلُ كل منهم رسولاً فيما بين طائفةٍ منهم ليتابعوه في كلِّ ما يأتي ويذرُ من أمور الدينِ

11

(وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ) المرادُ نفيُ إتيانِ كل رسول لشعته الخاصة به لا نفيُ إتيان كل رسول لكل واحدة من تلك الشيعِ جميعاً أو على سبيل البدل وصيغة الإستقبال لاستحضاره الصورةِ على طريقة حكايةِ الحال الماضية فإن مالا تدخل في الأغلب على مضارع إلا وهو في معنى الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال أي ما أتى شيعةً من تلك الشيعِ رسولٌ خاصٌّ بها (إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ) كما يفعله هؤلاء الكفرةُ والجملة في محل النصب على أنها حالٌ مقدرةٌ من ضميرِ المفعولِ في يأتيهم إذا كان المرادُ بالإتيان حدوثَه أو في محلِ الرفعِ على أنها صفة رسول فإن محلَّه الرفعُ على الفاعلية أي إلا رسولٌ كانوا به يستهزءون وأما الجرُّ على أنها صفةٌ باعتبار لفظِه فيُفضي إلى زيادة من الاستغراقيةِ في الإثبات ويجوزُ أنْ يكونَ منصُوباً على الوصفية بأن يقدَّر الموصوفُ منصوباً على الاستثناء وإن كان المختارُ الرفعَ على البدلية وهذا كما ترى تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذه عادةُ الجهال مع الأنبياء عليهم السلام وحيث كان الرسولُ مصحوباً بكتاب مّنْ عِندِ الله تعالى تضمّن ذكرُ استهزائِهم بالرسول استهزاءَهم بالكتاب ولذلك قيل

12

(كذلك) إشارةٌ إلى ما دل عليه الكلام السابقُ من إلقاء الوحي مقروناً بالاستهزاء أي مثلَ ذلك السَّلْكِ الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاءوا به من الكتب (نسكله) أي الذكرَ (فِى قُلُوبِ المجرمين) أي أهل مكةَ أو جنسُ المجرمين فيدخلون فيه دخولاً أولياً ومحلُّه النَّصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدر محذوف أو حالٌ منه أي نسلكه سَلْكاً مثل ذلك السلك أو نسلك السَّلكَ حال كونِه مثلَه أي مقروناً بالاستهزاء غيرَ مقبول لما تقضيه الحكمةُ فإنهم من أهل الخِذلان ليس لهم استحقاقٌ لقبول الحقِّ وصيغةُ المضارع لكون المشبه به مقدرا في الوجود وهو السِّلك الواقعُ في الأمم السالفة أو للدِلالة على استحضار الصورةِ والسَّلْكُ إدخالُ الشيء في آخرَ يقال سَلكتُ الخيط في الإبرة

الحجر 13 17 والرمحَ في المطعون

13

(لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالذكر حالٌ من ضمير نسلكه أي غيرَ مؤمَنٍ به أو بيانٌ للجملة السابقة فلا محل لها وقد جُعل الضميرُ للاستهزاء فيتعين البيانيةُ إلا أنْ يُجعل الضميرُ المجرورُ أيضاً له على أن الباء للملابسة أي نسلك الاستهزاءَ في قلوبهم حالَ كونِهم غيرَ مؤمنينَ بملابسته والحالُ إما مقدّرةٌ أو مقارنة للإيذان بأن كفرَهم مقارِنٌ للإلقاء كما في قوله تعالى فلما جاءهم ما عَرَفوا كَفَرُواْ بِهِ (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين) أي قد مضت طريقتهم التي سنها الله تعالى في إهلاكهم حين فعلُوا ما فعلُوا من التكذيب والاستهزاءِ وهو استئناف جىء له تكملةً للتسلية وتصريحاً بالوعيد والتهديد

14

(وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم) أي على هؤلاء المقترِحين المعاندين (بَاباً مِنَ السماء) أي باباً ما لا باباً أبوابها المعهودة كما قيل ويسرنا لهم الرُّقيَّ والصعودَ إليه (فَظَلُّواْ فِيهِ) في ذلك الباب (يَعْرُجُونَ) بآلة أو بغيرها ويرون ما فيها من العجائب عِياناً كما يفيده الظلول أو فظل الملائكةُ الذين اقترحوا إتيانَهم يعرُجون في ذلك الباب وهم يرَونه عياناً مستوضحين طولَ نهارهم

15

(لَقَالُواْ) لفرط عنادِهم وغلوِّهم في المكابرة وتفاديهم عن قَبول الحق (إِنَّمَا سُكّرَتْ أبصارنا) أي سُدّت من الإحساس من السُكر كما يدل عليه القراءةُ بالتخفيف أو حُيِّرت كما يعضُده قراءة من قرأ سكرت أي حارت (بَلْ نَحْنُ قوم مسحورون) قد سخرنا محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم كما قالوه عند ظهورِ سائرِ الآياتِ الباهرة وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالةٌ على أنهم يبتون القولَ بذلك وأن ما يرَونه لا حقيقةَ له وإنما هو أمر خُيِّل إليهم بالسحر وفي اسميةِ الجملة الثانيةِ دَلالةٌ على دوام مضمونِها وإيرادُها بعد تسكير الأبصارِ لبيان إنكارِهم لغير ما يرونه فإن عروجَ كل منهم إلى السماء وإن كان مرئياً لغيره فهو معلوم بطريق الوجدانِ مع قطع النظرِ عن الأبصار فهم يدعون أن ذلك نوعٌ آخرُ من السحر غيرُ تسكير الأبصار

16

(وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السماء بُرُوجًا) قصوراً ينزلها السيارات وهي البروجُ الاثنا عشر المشهورةُ المختلفةُ الهيئاتِ والخواصِّ حسبما يدل عليه الرصْدُ والتجرِبة مع ما اتفق عليه الجمهور من بساطة السماء والجعلُ إن جُعل بمعنى الخلق والإبداعِ وهو الظاهرُ فالجار متعلقٌ به وإن جعل بمعنى التصيير فهو مفعولٌ ثانٍ له متعلقٌ بمحذوف أي جعلنا بروجاً كائنة في السماء (وزيناها) أي السماء بتلك البروجِ المختلفةِ الأشكال والكواكب سياراتٍ كانت أو ثوابتَ (للناظرين) إليها فمعنى التزيينِ ظاهرٌ أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بذلك على قدرة مقدّرها وحكمةِ مدبرّها فتزيينُها ترتيبها على نظام بديع مستتبعٍ للآثار الحسنة

17

(وحفظناها من كل

الحجر 18 20 شيطان رَّجِيمٍ) مَرْميَ بالنجوم فلا يقدر أن يصعَدَ إليها ويوسوسَ في أهلها ويتصرّفَ فيها ويقفَ على أحوالها

18

(إِلاَّ مَنِ استرق السمع) محلُّه النصبُ على الاستثناء المتصل إنْ فسّر الحِفظُ بمنع الشياطين عن التعرّضِ لها على الإطلاق والوقوفِ على ما فيها في الجملة أو المنقطعِ إن فُسر ذلك بالمنع عن دخولها والتصرف فيها عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات فلما وُلد عيسى عليه السلام مُنعوا من ثلاث سموات ولما ولد النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم مُنِعوا من السموات كلِّها واستراقُ السمعِ اختلاسُه سرًّا شُبّه به خَطفتُهم اليسيرةُ من قُطّان السمواتِ بما بينهم من المناسبة في الجوهر أو بالاستدلال من الأوضاع (فَأَتْبَعَهُ) أي تبعه ولحقه (شهاب) لهب محرق وهو شعلةُ نارٍ ساطعةٌ وقد يطلق على الكواكب والسِّنان لما فيهما من البريق (مُّبِينٌ) ظاهرٌ أمرُه للمبصرين قال معمر قلت لابن شهاب الزهري أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية قال نعم وإن النجم ينقضّ ويرمى به الشيطانُ فيقتلُه أو يخبِلُه لئلا يعود إلى استراق السمع ثم يعود إلى مكانه قال أفرأيت قوله تعالى وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد الآية قال غُلّظت وشُدّد أمرُها حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن قتيبة إن الرجمَ كان قبل مبعثِه صلى الله عليه وسلم ولكن لم يكن في شدة الحِراسة كما بعدَ مبعثه صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الشياطينَ يركَبُ بعضُهم بعضاً إلى السماء الدنيا يسترقون السمعَ من الملائكة فيُرمَون بالكواكب فلا يخطِىء أبداً فمنهم من يقتله ومنهم من يُحرق وجهُه وجنبُه ويدُه حيث يشاء الله تعالى ومنهم من يخبِلُه فيصير غُولاً فيُضل الناس في البوادي قال القرطبي اختلفوا في أن الشهاب هل يقتُل أم لا قال ابن عباس رضي الله عنهما يجرَح ويحرِق ويخبِلُ ولا يقتُل وقال الحسن وطائفةٌ يقتل قال والأول أصح

19

(والأرض مددناها) بسطناها وهو بالنصب على الحذف على شريطة التفسير ولم يُقرأ بالرفع لرجحان النصب للعطف على الجملة الفعلية أعني قوله تعالى وَلَقَدْ جَعَلْنَا الخ وليوافِقَ ما بعده أعني قوله تعالى (وَأَلْقَيْنَا فيها رَوَاسِىَ) أي جبالاً ثوابتَ وقد مر بيانُه في أول الرعد (وَأَنبَتْنَا فِيهَا) أي في الأرض أو فيها وفي رواسيها (مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ) بميزان الحِكمة ذاتاً وصفةً ومقداراً وقيل ما يوزن من الذهب والفضة وغيرِهما أو من كل شيءٍ مستحسَنٍ مناسب أو ما يوزن ويُقدَّر من أبواب النعمة

20

(وجعلنا لكم فيها معايش) ما تعيشون به من المطاعم والملابسِ وغيرِهما مما يتعلق به البقاءُ وهي بياء صريحة وقرىء بالهمزة تشبيهاً له بالشمائل (وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين) عطف على معايش أو على محل لكم كأنه قيل جعلنا لكم معايشَ وجعلنا لكم مَنْ لستم برازقيه من العِيال والمماليك والخدَم والدوابِّ وما أشبهها على طريقة التغليب وذِكرُهم بهذا العنوان لرد حسبانُهم أنهم يَكْفون مؤناتِهم ولتحقيق أن الله تعالى هو الذي يرزقهم وإياهم أو وجعلنا لكم فيها معايشَ ولمن لستم له برازقين

الحجر

21

21 - 2 (وَإِن مّن شَىْء) إن للنفي ومن مزيدة للتأكيد وشيءٍ في محلِ الرفعِ على الابتداء أي ما مِن شَىْء من الأشياءِ الممكنةِ فيدخُل فيه ما ذُكر دخولا أوليا (إلا عِندَنَا خَزَائِنُهُ) الظرفُ خبرٌ للمبتدأ وخزائنُه مرتفعٌ به على أنه فاعله لاعتماده أو خبر له والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأولِ والخزائنُ جمع الخِزانة وهي ما يحفظ فيه نفائسُ الأموال لا غيرُ غلَب في العرف على ما للملوك والسلاطينِ من خزائن أرزاقِ الناس شُبِّهت مقدوراتُه تعالى الفائتةُ للحصر المندرجةُ تحت قدرتِه الشاملة في كونها مستورةً عن علوم العالمين ومصونةً عن وصول أيديهم مع كمال افتقارِهم إليها ورغبتِهم فيها وكونِها مهيأةً متأتّيةً لإيجاده وتكوينه بحيث متى تعلقت الإرادةُ بوجودها وُجدت بلا تأخر بنفائس الأموالِ المخزونةِ في الخزائن السلطانيةِ فذكرُ الخزائن على طريقة الاستعارةِ التخييلية (وَمَا نُنَزّلُهُ) أي ما نُوجِد وما نكوّن شيئاً من تلك الأشياء ملتبساً بشيءٍ من الأشياءِ (إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) أي إلا ملتبساً بمقدار معينٍ تقتضيه الحِكمةُ وتستدعيه المشيئةُ التابعة لها لا بما تقتضيه القدرةُ فإن ذلك غيرُ متناهٍ فإن تخصيصَ كل شيء بصفة معينةٍ وقدرٍ معين ووقتٍ محدود دون ما عدا ذلك مع استواء الكلِّ في الإمكان واستحقاقِ تعلّقِ القدرة به لا بد له من حكمة تقتضي اختصاصَ كلَ من ذلك بما اختص به وهذا البيانُ سرُّ عدمِ تكوينِ الأشياء على وجه الكثرة حسبما هو في خزائن القدرة وهو إما عطفٌ على مقدرٍ أي ننزله وما ننزله الخ أو حالٌ مما سبق أي عندنا خزائنُ كل شيءٍ والحال أنا ما ننزِّله إلا بقدر معلوم فالأول لبيان سعةِ القدرةِ والثاني لبيان بالغِ الحِكمة وحيث كان إنشاءُ ذلك بطريق التفضّل من العالم العلوى إلى العلم السفلي كما في قوله تعالى وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعامِ ثمانية أزواج وكان ذلك بطريق التدريج عبّر عنه بالتنزيل وصيغةُ المضارع للدلالة على الاستمرار

22

(وَأَرْسَلْنَا الرياح) عطفٌ على جعلنا لكم فيها معايشَ وما بينهما اعتراضٌ لتحقيق ما سبق وترشيح مالحق أي أرسلنا الرياح (لَوَاقِحَ) أي حواملَ شُبّهت الريحُ التي تجيء بالخير من إنشاء سحابٍ ماطرٍ بالحامل كما شبه بالعقيم مالا يكون كذلك أو ملقِّحاتٍ بالشجر والسحابِ ونظيره الطوائحُ بمعنى المُطيحات في قوله [ومختبطٍ مما تُطيح الطوائحُ] أي المهلِكات وقرىء وأرسلنا الريحَ على إرادةِ الجنسِ (فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء) بعد ما أنشأنا بتلك الرياحِ سحابا ماطرا (ماء فأسقيناه كموه) أي جعلناه لكم سُقياً وهو أبلغ من سقينا كموه لما فيهِ منَ الدلالةِ على جعل الماءِ معداً لهم ينتفعون به متى شاءوا (وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين) نفى عنهم ما أثبته لجنابه بقوله وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ كأنه قيل نحن القادرون على إيجاده وخزْنِه في السحاب وإنزاله وما أنتم على ذلك بقادرين وقيل ما أنتم بخازنين له بعد ما أنزلناه في الغُدران والآبارِ والعيون بل نحن نخزنُه فيها ليجعلها سقياً لكم مع أن طبيعةَ الماء تقتضي الغَوْر

23

(وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ) بإيجاد الحياةِ في بعض الأجسام القابلة لها

الحجر 24 26 (وَنُمِيتُ) بإزالتها عنها وقد يُعمِّم الإحياءُ والإماتة لما يشمل الحيوانَ والنباتَ وتقديمُ الضميرِ للحصر وهو إما تأكيدٌ للأول أو مبتدأٌ خبرُه الفعلُ والجملةُ خبرٌ لإنا ولا يجوز كونُه ضميرَ الفصل لا لأن اللام مانعةٌ من ذلك كما قيل فإن النجاة جوزوا دخولَ لام التأكيدِ على ضمير الفصل كما في قوله تعالى أن هذا لَهُوَ القصص الحق بل لأنه لم يقع بين اسمين (وَنَحْنُ الوارثون) أي الباقون بعد فناءِ الخلقِ قاطبةً المالكون للملك عند انقضاءِ زمان المُلك المجازى الحاكمون في الكلَّ أولاً وآخراً وليس لهم إلا التصرفُ الصُّوريُّ والملكُ المجازي وفيه تنبيهٌ على أن المتأخّرَ ليس بوارث للمتقدم كما يتراءى من ظاهر الحال

24

(وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ) مَنْ تقدّم منكم ولادةً وموتا (ولقد علمنا المستأخرين) من تأخر ولادةً وموتاً أو من خرج من أصلاب الآباءِ ومن لم يخرُجْ بعدُ أو مَنْ تقدم في الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة ومن تأخر في ذلك لا يخفى علينا شيء من أحوالكم وهو بيانٌ لكمال علمِه بعد الاحتجاج على كمال قدرتِه فإن ما يدل عليها دليلٌ عليه وفي تكرير قوله تعالى ولقد علمنا مالا يَخفْى من الدلالةِ على كمال التأكيدِ وقيل رغّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول فازدحموا عليه فنزلت وقيل إن امرأةً حسناءَ كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم بعضُ الناس لئلا يراها وتأخر آخرون ليرَوْها فنزلت والأول هو المناسب لما سبَقَ وما لَحِق من قوله تعالى

25

(وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) أي للجزاء وتوسيطُ ضميرِ العظمةِ للدلالة على أنه هو القادرُ على حشرهم والمتولِّي له لا غيرُ لأنهم كانوا يستبعدون ذلك ويستنكرونه ويقولون مَن يُحىِ العظام وَهِىَ رميم أي هو يحشرهم لا غير وفي الالتفات والتعرض لعنوان الربوبية إشعارا بعلة الحكم وفي الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم دَلالةٌ على اللطف به عليه الصلاة والسلام (إِنَّهُ حَكِيمٌ) بالغُ الحكمة متقِنٌ في أفعاله فإنها عبارةٌ عن العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والإتيانِ بالأفعال على ما ينبغي (عَلِيمٌ) وسِع علمُه كلَّ شيء ولعل تقديمَ صفةِ الحكمة للإيذان باقتضائها للحشر والجزاء

26

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان) أي هذا النوع بأن خلقنا أصله وأول فرد من أفراده خلقاً بديعاً منطوياً على خلق سائر أفراده انطواء إجماليَّاً كما مرَّ تحقيقُه في سورة الأنعام (مِن صَلْصَالٍ) من طين يابس غير مطبوخ يصلصل أي يصوت عند نقرة قيل اذا توهمت في صوته مدا فهو صليل وإن توهمت فيه ترجيعاً فهو صلصلة وقيل هو تضعيف صل إذا أنتن (مِّنْ حَمَإٍ) من طين تغير وأسود بطول مجاورة الماء وهو صفة لصلصال أي من صلصال كائن من حمأ (مَّسْنُونٍ) أي مصور من سنة الوجه وهي صورته أو مصبوب من سن الماء صبه أي مفرغ على هيئة الآنسان كما يفرغ الصور من الجواهر المذابة في القوالب وقيل منتن فهو صفة لحما وعلى الأولين حقه أن يكون صفة لصلصال وإنما أخر عن حمأ تنبيها على أن ابتداء

الحجر 27 29 مسنونيته ليس في حال كونه صلصالاً بل في حال كونه حمأ كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور من ذلك تمثال إنسان أجوف فيبس حتى اذا نقر صوت ثم غيره الى جوهر آخر فتبارك الله أحسن الخالقين

27

(والجآن) أبا الجن وقيل إبليس ويجوزُ أن يرادَ بهِ الجنس كما هو الظاهر من الإنسان لأن تشعب الجنس لما كان من فرد واحد مخلوق من مادة واحدة كان الجنس بأسره مخلوقاً منها وقرىء بالهمزة وانتصابه بفعل يفسره (خَلَقْنَاهُ) وهو أقوى من الرفع للعطف على الجملة الفعلية (مِن قَبْلُ) من قبلِ خلق الانسان ومن هذا يظهر جواز كون المراد بالمستقدمين أحد الثقلين وبالمستأخرين الآخر والخطاب بقوله منكم للكل (مِن نَّارِ السموم) من نار الحر الشديد النافذ في المسام ولا امتناع من خلق الحياة من الأجرام البسيطة كما لا امتناع من خلقها في الجواهر المجردة فضلاً عن الأجسام المؤلفة التي غالب أجزائها الجزء الناري فانها أقبل لها من التي غالب أجزائها الجزء الأرضي وقوله تعالى من نار باعتبار الغالب كقوله تعالى خلقكم من تراب ومساق الآية الكريمة كما هو للدِّلالة على كمال قدرة الله تعالى وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر وهو قبول المواد للجمع والاحياء

28

(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ) نصب بإضمار اذكر وتذكير الوقت لما مر مرارا من أنه أدخل في تذكير ما وقع فيه من الحوادث وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ المنبئةِ عن تبليغُ الشيءِ إلى كماله اللائق به شيئا فشيئا مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام إشعارا بعلة الحكم وتشريف له عليه الصلاة والسلام أي اذكر وقت قوله تعالى (لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ) فيما سيأتي وفيه ماليس في صيغة المضارعِ من الدِّلالةِ على أنَّه تعالى فاعل له اُلبتةَ منْ غيرِ صارفٍ يَثْنيه ولا عاطفٍ يلويه (بَشَراً) أي انساناً قيل ليس هذا عين العبارة الجارية وقت الخطاب بل الظاهر أن يكون قد قيل لهم اني خالقٌ خلقاً من صفته كيتَ وكيتَ ولكن اقتصر عند الحكاية على الاسم وقيل جسماً كثيفاً يلاقى ويُباشر وقيل خلقاً بادى البشر بلا صوف ولا شعرة (مِّن صَلْصَالٍ) متعلق بخالق أو بمحذوف وقع صفة لمفعوله أي بشراً كائناً من صلصال كائن (مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) تقدم تفسيره ولا ينافي هذا ما في قوله تعالى في سورة ص من قوله بشراً من طين فإن عدم التعرض عند الحكاية لوصف الطين من التغير والأسود ولما ورد عليه من آثار التكوين لا يستلزم عدم التعرض لذلك عند وقوع المحكى غايته أنه لم يتعرض له هناك اكتفاء بما شرح ههنا

29

(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ) أي صوَّرته بالصُّورةِ الإنسانيَّةِ والخِلقةِ البشريَّةِ أو سوَّيتُ أجزاءَ بدنِه بتعديل طبائعهِ (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى) النَّفخُ إجراءُ الرِّيح إلى تجويفِ جسمٍ صالح لإمساكها والامتلاءبها وليس ثَّمةَ نفخٌ ولا منفوخٌ وإنَّما هو تمثيلٌ لإفاضة ما به الحياةُ بالفعل على المادَّةِ القابلة لها أي فإذا كمَّلتُ استعدادَه وأفضت عليه ما يحيا به من الرُّوحِ التي هي من أمري

الحجر 30 3 (فقعوا له) من وقع يقع وفيه دليلٌ على أنَّ ليس المأمور به مجرَّدَ الانحناءِ كما قيل أي اسقُطوا له (سَاجِدِينَ) تحية له وتعظيماً أو اسجدوا لله تعالى على أنَّه عليه الصلاةُ والسلام بمنزلة القبلة حيث ظهر فيه تعاجيب آثارِ قُدرته تعالى وحكمتِه كقول حسان رضي الله تعالى عنه ... أليس أولَ من صلَّى قبلتكم ... وأعلم الناس بالقرآن والسنن ...

30

(فَسَجَدَ الملائكة) أي فخلقه فسوَّاه فنفخ فيه الرُّوحَ فسجد الملائكةُ (كُلُّهُمْ) بحيث لم يشذ منهم أحد (أَجْمَعُونَ) بحيثُ لم يتأخَّر في ذلك أحدٌ منهم عن أحدٍ ولا اختصاص لإفادة هذا المعنى بالحالية بل يفيده التأكيد أيضاً فإن الاشتقاق الواضح يرشد الى أن فيه معنى الجمع والمعية بحسب الوضع والأصل في الخطاب التنزيل على أكمل أحوال الشيء ولا ريب في أن السجود معاً أكمل أصناف السجود لكن شاع استعماله تأكيداً وأقيم مقام كل من افادة معنى الاحاطة من غير نظر الى الكمال فإذا فهمت الاحاطة من لفظ آخر لم يكنْ بدٌّ من مراعاة الأصل صونا للكلام عن الالغاء وقيل أُكِّد بتأكيدينِ مبالغةً في التَّعميمِ هذا وأمَّا أنَّ سجودَهم هذا هل ترتَّبَ عَلى ما حُكي من الأمر التَّعليقيِّ كما تقتضيهِ هذه الآيةُ الكريمةُ والتي في سورة ص أو على الأمرِ التَّنجيزيِّ كما يستدعيه ما في غيرهما فقد خرجنا بفضل الله عزَّ وجلَّ عن عهدة تحقيقُه في تفسير سورة البقرة

31

(إِلاَّ إِبْلِيسَ) استثناءٌ متَّصل إما لأنه كانَ جنِّياً مفرَداً مغموراً بألوف من الملائكة فعد منهم تغليباً واما لأنَّ من الملائكةِ جنساً يتوالدون وهو منهم وقوله تعالى (أبى أَن يَكُونَ من الساجدين) استئناف مبين لكيفية عدم السّجودِ المفهومِ من الاستثناءِ فإن مطلق عدم السجود قد يكون مع التردد وبه علم أنه مع الاباء والاستكبار أو منقطع فيتصل به ما بعده أي لكن ابليس أبى ان يكون معهم وفيه دلالةٌ على كمالِ ركاكة رأيه حيث أدمج في معصية واحدة ثلاث معاص مخالفة الأمر والاستكبار مع تحقير آدم عليه الصلاة والسلام ومفارقة الجماعة والإباء عن الانتظامِ في سلكِ أولئك المقربين الكرام

32

(قال) استئناف مبني على سؤال من قال فماذَا قالَ الله تعالَى عنذ ذلك فقيل قال (يا إبليس مالك) أي أي سبب لا أي غرض لك كما قيل لقوله تعالى ما منعك (ألا تكون) في أو لا تكون (مَعَ الساجدين) لآدم مع أنهم هم ومنزلتهم في الشرف منزلتهم وما كان التوبيخ عند وقوعه لمجرد تخلفه عنهم بل لكل من المعاصي الثلاث المذكورة قال تعالى في سورةِ الأعرافِ قَالَ ما منعك أن لا تسجد اذ أمرتك وفي سورة ص قَالَ يا إِبْلِيسَ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ولكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه اجتزاء بما ذكر في موطن آخرَ وإشعاراً بأنَّ كلَّ واحدةٍ من تلك المعاصي الثلاث كافية في التوبيخ وإظهارِ بطلانِ ما ارتكبه وقد تركت حكاية التوبيخ رأساً في سُورةِ البقرةِ وسُورة بني إسرائيلَ وسورة الكهف وسورة طه

الحجر

33

33 - 35 (قَالَ) أي ابليس وهو أيضا استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ الذي ينساق اليه الكلام (لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ) اللام لتأكيد النفي أي ينافي حالي ولا يستقيم مني لأني مخلوق من أشرف العناصر وأعلاها أن اسجد (لِبَشَرٍ) أي جسم كثيف (خَلَقْتَهُ مِّن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) اقتصر ههنا على الاشارة الاجمالية الى ادعاء الخيرية وشرف المادة اكتفاء بما صرح به حين قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ من طين ولم يكتف اللعين بمجرد ذكر كونه عليه الصلاة والسلام من التراب الذي هو أخس العناصر وأسفلها بل تعرض لكونه مخلوقاً منه في أخس أحواله من كونه طينا متغيرا وقد اكتفى في سورة الأعراف وسورة ص بما حكى عنه ههنا فاقتصر على حكاية تعرضه لخلقه عليه الصلاة والسلام من طين وكذا في سورة بني إسرائيل حيث قيل أأسجد لمن خلقت طيناً وفي جوابه دليل على أنَّ قولَه تعالى مالك ليس استفسار عن الغرض بل هو استفسار عن السبب وفي عدوله عن تطبيق جوابِه على السؤال روم للتفصى عن المناقشة وأنى له ذلك كأنه قال لم أمتنع عن امتثال الأمر ولا عن الانتظامِ في سلكِ الملائكة بل عما لا يليق بشأنى من الخضوع للمفضول ولقد جرى خذله الله تعالى على سنن قياس عقيم وزل عنه أنَّ ما يدور عليه فلَكُ الفضل والكمال هو التحلي بالمعارف الربانية والتخلي عن الملكات الردية التي أقبحها الكبر والاستعصاء على أمر رب العالمين جلا جلاله

34

(قَالَ فاخرج مِنْهَا) أي من زمرة الملائكة المعززين لا من السماء فإنَّ وسوستَه لآدمَ عليه الصلاة والسلام في الجنة إنما كانتْ بعد هذا الطَّردِ وقوله تعالى فاهبط مِنْهَا ليس نصافي ذلك فإن الخروجَ من بين الملإ الأعلى هبوطٌ وأيُّ هبوط أو من الجنة على أن وسوستَه كانت بطريق النداءِ من بابها كما رُوي عن الحسنِ البصْري أو بطريق المشافهة بعد أن احتال في دخولها وتوسّل إليه بالحيّة كما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله تعالى عنهما ولا ينافي هذا طردَه على رءوس الأشهاد لما يقتضيه من الحِكَم البالغة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) مطرودٌ من كلِّ خيرٍ وكرامةٍ فإنَّ مَن يُطرَدْ يُرجَمْ بالحجارةِ أو شيطان يُرجَمُ بالشهب وهو وعيدٌ يتضمن الجوابَ عن شبهته فإن مَن عارض النصَّ بالقياس فهو رجيم ملعون

35

(وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة) الإبعادَ عن الرحمة وحيث كان ذلك من جهة الله سبحانه وإن كان جارياً على ألسنة العبادِ قيل في سورة ص وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى (إلى يَوْمِ الدين) إلى يوم الجزاء والعقوبة وفيه إشعارا بتأخير عقابِه وجزائِه إليه وأن اللَّعنةَ مع كمال فظاعتِها ليست جزاءً لفعله وإنما يتحقق ذلك يومئذ وفيه من التهويل مالا يوصف وجعلُ ذلك أقصى أمدِ اللعنة ليس لأنها تنقطع هنالك بل لأنه عند ذلك يعذَّب بما يَنسى به اللعنة من أفانين العذابِ فتصير هي كالزائل وقيل إنما حدت به لأنه أبعدُ غاية يضربها الناسُ كقوله تعالى خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض وحيث أمكن كونُ تأخير العقوبةِ مع الموت

الحجر 36 38 كسائر من أُخِّرت عقوباتُهم إلى الآخرة من الكفرة طلب اللعينُ تأخيرَ موتِه كما حُكي عنه بقوله تعالى

36

(قال ربي فَأَنظِرْنِى) أي أمهلنِي وأخِّرْني ولاتمتنى والفاء متعلقٌ بمحذوفٍ ينسحبُ عليه الكلام أي إذْ جعلتني رَجيماً فأمهلني (إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي آدمُ وذريتُه للجزاءِ بعد فنائِهم وأرادَ بذلك أنْ يجدَ فُسحةً لإغوائِهم ويأخذَ منهم ثأرَه وينجوَ من الموت لاستحالته بعد يومِ البعثِ

37

(قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين) ورودُ الجوابِ بالجملةِ الاسميَّةِ مع التَّعرُّضِ لشمولِ ما سأله لآخرين على وجهٍ يُؤذِنُ بكونِ السائلِ تبعاً لهم في ذلك دليلٌ على أنَّه إخبارٌ بالإنظارِ المقدر لهم أزلالا إنشاء فإنظار خاصَ به وقع إجابةً لدعائه أي إنَّك من جُملةِ الذينَ أخِّرتْ آجالُهم أزلاً حسبما تقتضيِه حكمةُ التَّكوينِ فالفاءُ ليستْ لربطِ نفسِ الإنظار بالاستتنظار بل لربطِ الإخبارِ المذكورِ به كما في قوله ... فإن تَرحمْ فأنتَ لذاكَ أهلُ ... فإنَّه لا إمكان لجعل الفاءِ فيه لربطِ ما فيه تعالى من الأهليَّةِ القديمةِ للرحمة بوقوع الرحمةِ الحادثةِ بل هي لربط الإخبارِ بتلك الأهليةِ للرَّحمةِ بوقوعها وأنَّ استنظارَه كان طَلَباً لتأخيرِ الموتِ إذ بهِ يتحقق كونُه من جملتهم لا لتأخيرِ العُقوبةِ كما قيل ونظمه في ذلك في سلك من أُخِّرت عقوبتُهم إلى الآخرةِ في علم الله تعالى ممن سبق من الجن ولحِق من الثقلين لا يلائم مقامَ الاستنظار مع الحياة ولأن ذلك التأخيرَ معلومٌ من إضافةِ اليَّومِ إلى الدين مع إضافته في السؤال إلى البعث كما عرفته وفي سورة الأعراف قَالَ أَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إنك من المنظرين يترك التوقيتِ والنداءِ والفاء في الاستنظار والإنظار تعويلاً على ما ذُكر ههنا وفي سورةِ ص فإن إيراد كلامٍ واحدٍ على أساليبَ متعددةٍ غيرُ عزيزٍ في الكتاب العزيز وأما أن كل أسلوب من أساليب النَّظمِ الكريمِ لا بُدَّ أنْ يكونَ له مقامٌ يقتضيهِ مغايرٌ لمقامِ غيرِه وأنَّ ما حُكي من اللَّعينِ إنَّما صدرَ عنه مرَّةً وكذا جوابُه لم يقعْ إلاَّ دَفعةً فمقام المحاورة إن اقتضى أحدَ الأساليبِ المذكورة فهو المطابقُ لمقتَضى الحالِ والبالغُ إلى طبقة الإعجاز وما عداه قاصرٌ عن رتبة البلاغة فضلاً عن الارتقاء إلى معالم الإعجازِ فقد مرَّ تحقيقُه بتوفيقِ الله تعالى في سورة الأعراف

38

(إلى يَوْمِ الوقت المعلوم) وهو وقتُ النَّفخةِ الأولى التي علم أنه يَصْعَق عندها من فى السموات ومن فِى الأرض إِلاَّ مَن شاء الله تعالَى ويجوزُ أنْ يكون المرادُ بالأيام واحداً والاختلافُ في العبارات لاختلاف الاعتباراتِ فالتعبيرُ بيوم البعث لأن غرض اللعين به يتحقق وبيوم الدين لما ذكر من الجزاء بيوم الوقت المعلومِ لما ذُكر أو لاستثاره تعالى بعلمه فلعل كلاًّ من هلاك الخلق جميعاً وبعثهم وجزائِهم في يوم واحد يموت اللعينُ في أوله ويُبعث في أواسطه ويعاقب في بقيته يُروى أن بين موتِه وبعثه أربعين سنةٍ من سِني الدُّنيا مقدارَ ما بين النفختبين ونقل عن الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى أنه قال قدِمتُ المدينة أريد أميرَ المؤمنين عُمر رضي الله تعالى عنه فإذا أنا بحلقة عظيمة وكعبُ الأحبار فيها يحدث

الحجر 39 40 الناس وهو يقول لما حضر آدم عليه الصلاة والسلام الوفاةُ قال يا رب سيشمت بي عدوي إبليسُ إذا رآني ميتاً وهو مُنْظَرٌ إلى يوم القيامة فأجيب أنْ يا آدمُ إنك سترِد إلى الجنة ويؤخَّر اللعينُ إلى النظرة ليذوقَ ألمَ الموتِ بعدد الأولين والآخِرين ثم قال لملك الموت صِفْ كيف تذيقه الموتَ فلما وصفه قال يا رب حسبي فضجّ الناسُ وقالوا يا ابا إسحق كيف ذلك فأبى فألحّوا فقال يقول الله سبحانه لملك الموت عقيب النفخةِ الأولى قد جعلت فيك قوةَ أهلِ السموات السبع وأهلِ الأرضينَ السبعِ وإني ألبستُك اليوم أثوابَ السخط والعضب كلَّها فانزِلْ بغضبي وسطوتي على رجيمي إبليس فأذقته الموتَ واحمِلْ عليه فيه مرارةَ الأولين والأخِرين من الثقلين أضعافاً مضاعفةً وليكن معك من الزبانية سبعون ألفاً قد امتلأوا غيظاً وغضباً وليكن مع كل منهم سلسلةٌ من سلاسل جهنم وغُلٌّ من أغلالها وانزع روحَه المُنتنَ بسبعين ألفَ كلاب من كلاليبها ونادِ مالكاً ليفتح أبواب النيران فينزل ملكُ الموت بصورة لو نظر إليها أهلُ السموات والأرضين لماتوا بغتةً من هولها فينتهي إلى إبليس فيقول قف لي يا خبيثُ لأُذيقنّك الموت كم من عمر أدركتَ وقرون اضللت وهذه هو الوقتُ المعلوم قال فيهرُب اللعين إلى المشرِق فإذا هو بملك الموت بين عينيه فيهرُب إلى المغرِب فإذا هو به بين عينيه فيغوص البحارَ فتنز منه البحارُ فلا تقبله فلا يزال يهرُب في الأرض ولا محيصَ له ولا ملاذ ثم يقوم في وسط الدنيا عند قبر آدمَ ويتمرغ في التراب من المشرق إلى المغربِ ومن المغرب إلى المشرق حتى إذا كان في الموضع الذي أهبط فيه آدم عليه الصلاةُ والسلامُ وقد نَصبت له الزبانية الكلاليبَ وصارت الأرض كالجمرة احتوشته الزبانية وطعنوه بالكلاليب ويبقى في النزع والعذاب إلى حيث يشاء الله تعالى ويقال لآدمَ وحواءَ اطلعا اليوم إلى عدو كما كيف يذوق الموت فيطّلعان فينظران إلى ما هُو فيه من شدة العذاب فيقولان ربنا أتممتَ علينا نعمتك

39

(قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى) الباء للقسم وما مصدريةٌ والجواب (لأزَيّنَنَّ لَهُمْ) أي أقسم بإغوائك إيايَ لأزينن لهم المعاصيَ (فِى الأرض) أي في الدُّنيا التي هي دارُ الغرور كقوله تعالى أخلد إلى الارض وإقسامُه بعزة الله المفسَّرةِ بسلطانه وقهره لا ينافي إقسامَه بهذا فإنه فرْعٌ من فروعها وأثرٌ من آثارها فلعله أقسمَ بهما جميعاً فحكى تارة فسمه بهذا وأخرى بذاك أو للسببية وقوله لأزينن جوابُ قسمٍ محذوف والمعنى بسبب تسبُّبِك لإغوائي أقسم لأفعلن بهم مثلَ ما فعلت بي من التسبب لإعوائهم بتزيين المعاصي وتسويلِ الأباطيل والمعتزلةُ أوّلوا الإغواءَ بالنسبة إلى الغي أو التسبب له بأمره إياه بالسجود لآدمَ عليه الصلاة والسلام واعتذروا عن إمهال الله تعالى وتسليطِه له على إغواء بني آدم بأنه تعالى قد علِم منه وممن تبِعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار أُمهل أم لم يُمهَل وأن في إمهاله تعريضا لمن خالفه لاستحقاق مزيدِ الثواب (وَلأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) لأحمِلنّهم على الغواية

40

(إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين) الذين أخلصتَهم لطاعتك وطهَّرتَهم من الشوائب

الحجر 41 45 فلا يعملُ فيهم كيدي وقرىء بكسر اللاَّم أي الذين أخلصوا نفوسَهم لله تعالى

41

(قَالَ هَذَا صراط) أي حقٌّ (عَلَىَّ) أن أراعيَه (مُّسْتَقِيمٍ) لا عوجَ فيه والإشارةُ إلى ما تضمّنه الاستثناءُ وهو تخلّصُ المخْلَصين من إغوائه أو الإخلاصُ على معنى أنه طريقٌ يؤدى إلى الوصول إلى من غير اعوجاج وضلالٍ والأظهرُ أن ذلك لِما وقع في عبارة إبليسَ حيث قال لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ الآية وقرىء على من علو الشرف

42

(إِنَّ عِبَادِى) وهم المشار إليهم بالمخلصين (ليس عليك سلطان) تسلطٌ وتصرفٌ بالإغواء (إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين) وفيه مع كونه تحقيقاً لما قاله اللعين تفخيمٌ لشأن المخلَصين وبيانٌ لمنزلتهم ولا نقطاع مخالبِ الإغواء عنهم وأن إغواءَه للغاوين ليس بطريق السلطانِ بل بطريق اتباعِهم له بسوء اختيارِهم

43

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ) أي موعدُ المتبعين أو الغاوين والأولُ أنسبُ وأدخلُ في الزجر عن اتباعه وفيه دلالةٌ على أن جهنم مكانُ الوعد وأن الموعودَ مما لا يوصف في الفظاعة (أَجْمَعِينَ) تأكيدٌ للضمير أو حال والعامل فيه الموعِدُ إن جعل مصدراً على تقدير المضاف أو معنى الإضافة إن جعل اسم مكان

44

(لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) يدخلونها لكثرتهم أو سبعُ طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في الغَواية والمتابعة وهي جهنم ثم لظَى ثم الحُطمة ثم السعير ثم سقرُ ثم الجحيمُ ثم الهاوية (لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ) من الأتباع أو الغواة (جُزْء مَّقْسُومٌ) حزبٌ معينٌ مُفرَزٌ من غيره حسبما يقتضيه استعدادُه فأعلاها للموحدين والثانية لليهود والثالثة للنصارى والرابعة للصابئين والخامسة للمجوس والسادسة للمشركين والسابعة للمنافقين وعن ابن عباس رضي الله تعالَى عنُهمَا أنَّ جهنم لمن ادعى الربوبية ولظى لعبدة النار والحُطَمةُ لعبدة الأصنام وسقَرُ لليهود والسعير للنصارى والجحيم للصابئين والهاوية للموحّدين ولعل حصرها في السبع لانحصار المهلِكات في المحسوسات بالحواس الخمس ومقتضياتِ القوة الشهوية والغضبية وقرىء بضم الزاي وبحذف الهمزة وإلقاءِ حركتِها إلى ما قبلَها مع تشديدها في الوقف والوصل ومنهم حال من جزء أو من ضميرِه في الظرف لا في مقسوم لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفَها

45

(إِنَّ المتقين) من اتباعه في الكفر والفواحش فإن غيرها مكفر (فِى جنات وَعُيُونٍ) أي مستقرون فيها خالدين لكل واحد منهم جنة وعين منهما كقوله تعالَى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ وقرىء بكسر العين حيث وقع في القرآن العظيم

الحجر

46

46 - 5 (ادخلوها) على إرادة القول أمراً من الله تعالى لهُم بالدخول وقرىء أدخِلوها أمراً منه تعالى للملائكة بإدخالهم وقرأ الحسن أُدخِلوها مبنياً للمفعول على صيغة الماضي من الإدخال (بِسَلامٍ) ملتبسين بسلام أي سالمين أو مسلما عليكم (آمنين) من الآفات والزوال

47

(وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ) أي حقدٍ كان في الدنيا وعَنْ عليَ رضيَ الله تعالى عنه أرجو أن أكونَ أنا وعثمانُ وطلحةُ والزبيرُ منهم رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين (إِخْوَانًا) حال من الضمير في قوله تعالى فِي جنات أو من فاعل ادخلوها أو من الضميرِ في آمنين أو الضمير المضاف إليه والعامل فيه معنى الإضافةِ وكذلك قوله تعالى (على سُرُرٍ متقابلين) ويجوز كونُهما صفتين لإخواناً أو حالين من ضميره لأنه بمعنى متصافِّين وكونُ الثاني حالا من المستكنِّ في الأول وعن مجاهد تدور بهم الأسرّةُ حيثما داروا فهم متقابلون في جميع أحوالهم

48

(لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ) أي تعب بأن لا يكونَ لهم فيها ما يوجبه من الكدّ في تحصيل مالا بُدّ لهم منه لحصول كل ما يريدونه من غير مزاولةِ عملٍ أصلاً أو بأن لا يعتريَهم ذلك وإن باشروا الحركاتِ العنيفة لكمال قوتِهم وهو استئنافٌ أو حالٌ بعد حال أو حال من الضمير في متقابلين (وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ) أبدَ الآباد لأن تمام النعمة بالخلود

49

(نَبّىء عِبَادِى) وهم الذين عبر عنهم بالمتقين (أَنّى أَنَا الغفور الرحيم) (وَأَنَّ عذاب هُوَ العذاب الأليم) فذلكةٌ لما سلف من الوعد والوعيد وتقريرٌ له وفي ذكر المغفرة إشعارا بأن ليس المرادُ بالمتقين مَن يتقي جميعَ الذنوب كبيرَها وصغيرَها وفي وصف ذاتِه تعالى بها وبالرحمة على وجه القصر دون التعذيب إيذانٌ بأنهما مما يقتضيهما الذاتُ وأن العذاب إنما يتحقق بما يوجبه من خارج

51

(وَنَبّئْهُمْ) عطفٌ على نبىءْ عبادي والمقصود اعتبارُهم بما جرى على إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع أهله من البشرى في تضاعيف الخوفِ وبما حل بقوم لوطٍ من العذاب ونجاته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع أهله التابعين له في ضمن الخوف وتنبيهُهم بحلول انتقامِه تعالى من المجرمين وعلمُهم بأن عذاب الله هو العذاب الأليم (عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم جبريلُ عليه الصلاة والسلام وملكانِ معه وقالَ محمدُ بنُ كعبٍ وسبعةٌ معه وقيل جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ عليهم الصلاة والسلام وقال الضحاك كانوا تسعةً وعن السذى كانو أحد

الحجر 52 55 عشرَ على صور الغلمان الوضاء وجوههم وعن مقاتل أنهم كانوا اثني عشر ملَكاً وإنما لم يتعرض لعنوان رسالتِهم لأنهم لم يكونوا مرسَلين إلى إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بل إلى قوم لوطٍ حسبما يأتي ذكرُه

52

(إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ) نُصب بفعلٍ مضمر معطوفٍ على نبىء أي واذكر وقت دخولِهم عليه أو خبر مقدر مضاف إلى ضيف أي خبر ضيف إبراهيمَ حين دخولهم عليه أو بنفس ضيف على أنه مصدرٌ في الأصل (فَقَالُواْ) عند ذلك (سَلاَماً) أي نسلّم سلاماً أو سلّمنا أو سَلِمْتَ سلاماً (قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي خائفون فإن الوجلَ اضطرابُ النفس لتوقع مكروهٍ قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين امتنعوا من أكل ما قرّبه إليهم من العجل الحنيذ لِما أن المعتاد عندهم أنه إذا نزلَ بهم ضيفٌ فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجىء بخير لا عند ابتداء دخولهم لقوله تعالى فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً فلا مجال لكون خوفه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بسببِ دخولِهم بغير إذن ولا بغير وقت إذ لو كان كذلك لأجابوا حينئذ بما أجابوا حينئذ به وَلَمْ يتصدَّ عليهِ الصَّلاةُ والسلام لتقريب الطعام إليهم وإنَّما لَمْ يُذكِرْ هَهُنا اكتفاءً بما بيّن في غير هذا الموضع ألا يرى إلى أنه لم يذكر ههنا رده عليه الصلاة والسلام لسلامهم

53

(قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ) لا تخف وقرىء لا تاجل ولا تُوجِلْ من أوجله أي أخافه ولا تُواجِلْ من واجله بمعنى أوجله (إِنَّا نُبَشّرُكَ) استئنافٌ لتعليل النهي عن الوجل فإن المبشَّر به لا يكاد يحوم حول ساحته خوفٌ ولا حزن كيف لا وهو بشارةٌ ببقائه وبقاءِ أهله في عافية وسلامة زماناً طويلاً (بغلام) هو إسحق عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى فبشرناها بإسحق ولم يتعرض ههنا لبشارة يعقوب عليه الصلاة والسلام اكتفاء بما ذكر في سورة هود (عَلِيمٌ) إذا بلغ وفي موضع آخرَ بغلام حليم

54

(قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى) بذلك (على أَن مَّسَّنِىَ الكبر) وأثر في تعجب عليه الصلاة والسلام من بشارتهم بالولد في حالة مباينة للولادة وزاد في ذلك فقال (فَبِمَ تُبَشّرُونَ) أي بأي أعجوبةٍ تبشرونني فإن البشارة بما لا يُتصور وقوعُه عادة بشارةٌ بغير شيء أو بأي طريقةٍ تبشرونني وقرىء بتشديد النون المكسورة على إدغام نون الجمع في نون الوقاية

55

(قَالُواْ بشرناك بالحق) أي بما يكون لا محالة أو باليقين الذي لا لَبْسَ فيه أو بطريقة هي حقٌّ وهو أمرُ الله تعالى وقوله (فَلاَ تَكُن مّنَ القانطين) من الآيسين من ذلك فإن الله قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ بشراً بغير أبوين فكيف من شيخٍ فانٍ وعجوزٍ عاقر وقرىء من القنطين وكان مقصده عليه الصلاة والسلام استعظام نعمته تعالى في ضمن التعجب العادي المبنيِّ على سنة الله

الحجر 56 59 تعالى المسلوكةِ فيما بين عباده لا استبعادَ ذلك بالنسبة إلى قدرته سبحانه كما ينبىء عنه قولُ الملائكة فلا تكن من القانطين دون أن يقولوا من الممترين أو نحوه

56

(قَالَ وَمَن يَقْنَطُ) استفهامٌ إنكاريٌّ أي لا يَقْنَطُ (مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون) المخطِئون طريقَ المعرفة والصوابِ فلا يعرِفون سعةَ رحمتِه وكمالَ علمه وقدرتِه كما قال يعقوب عليه الصلاة والسلام لا ييأس مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون ومرادُه نفيُ القنوط عن نفسه على أبلغ وجهٍ أي ليس بي قنوطٌ من رحمته تعالى وإنما الذي أقول لبيان منافاةِ حالي لفيضان تلك النعمةِ الجليلة عليّ وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ والرحمة مالا يخفى من الجزالة وقرىء بضم النون وبكسرها من قنَط بالفتح ولَمْ تكُنْ هذهِ المفاوضةُ من الملائكة مع إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خاصة بل مع سارَةَ أَيْضاً حسبَما شُرح في سورة هود ولم يُذكر ذلك هَهُنا اكتفاءً بما ذكر هناك كما أنه لم يُذكر هذه هناك اكتفاءً بما ذكر ههنا

57

(قَالَ) أيْ إبراهيمُ عليهِ الصلاة والسلام وتوسيطُه بين قوله السابقِ وبين قوله (فَمَا خَطْبُكُمْ) أي أمرُكم وشأنكم الخطيرُ الذَّي لأَجْلِه أُرسلتم سَوى البشارةِ (أَيُّهَا المرسلون) صريحٌ في أن بينهما مقالةً مطويةً لهم أشير به إلى مكانها كما في قوله تعالى قال أأسجد لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أرأيتك هذا الذى كَرَّمْتَ عَلَىَّ الآية فإن قوله الأخيرَ ليس موصولاً بقوله الأول بل هو مبنيٌّ على قوله تعالى فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ فإن توسيطَ قال بين قوليه للإيذان بعدم اتصال الثاني بالأول وعدم ابتنائه عليه بل غيره ثم خطابُه لهم عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بعُنوانِ الرسالةِ بعد ما كان خطابُه السابقُ مجرداً عن ذلك مع تصديره بالفاء دليلٌ على أن مقالتهم المطويةَ كانت متضمنةً لبيان أن مجيئَهم ليس لمجرد البشارةِ بل لهم شأنٌ آخَرُ لأجله أُرسلوا فكأنه قال عليه الصلاة والسلام إن لم يكن شأنُكم مجردَ البشارة فماذا هو فلا حاجة إلى الالتجاء إلى أن علمه عليه الصلاة والسلام بأن كلَّ المقصود ليس البشارةَ بسبب أنهم كانوا ذوي عدد والبِشارةُ لا تحتاج إلى عدد وذلك اكتُفي بالواحد في زكريا عليه الصلاة والسلام ومريم ولا إلى أنهم بشروه في تضاعيف الحالِ لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدءوا بها فتأمل

58

(قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قوم مجرمين) هم قوم لوط لكن وُصفوا بالإجرام وجيء بهم بطريق التنكيرِ ذمًّا لهم واستهانة بهم

59

(إلا آل لُوطٍ) استثناءٌ متصلٌ من الضمير في مجرمين أي إلى قوم أَجرموا جميعاً إلا آلَ لوط فالقومُ والإرسالُ شاملان للمجرمين وغيرِهم والمعنى إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ أجرَم كلُّهم إلا آلَ لوط لنُهلِك الأولين وننجِّيَ الآخرين ويدلُّ عليهِ قولُه تعالى (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) أي لوطاً وآلَه (أَجْمَعِينَ) أي مما يصيب القومَ فإنه

الحجر 60 63 استئنافٌ للإخبار بنجاتهم لعدم إجرامِهم أو لبيان ما فُهم من الاستثناء من مطلق عدمِ شمولِ العذاب لهم فإن ذلك قد يكون يكون حالهم بين بين أو لتعليله فإن مَنْ تعلّق بهم التنجية يمنجى من شمول العذاب أو منقطعٌ من قوم وقوله تعالى إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ متصلٌ بآلَ لوطٍ جارٍ مَجرى خير لكنّ وعلى هذا فقوله تعالى

60

(إِلاَّ امرأته) استثناءٌ من آلَ لوط أو من ضميرهم وعلى الأول من الضمير خاصة لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يُجعل إنا لمنجوهم اعتراضاً وقرىء بالتخفيف (قدرنا إنا لَمِنَ الغابرين) الباقين مع الكفرة لتُهلَك معهم وقرىء قدَرْنا بالتخفيف وإنما عُلّق فعلُ التقدير مع اختصاص ذلك بأفعال القلوبِ لتضمُّنه معنى العلم ويجوز حملُه على معنى قلنا لأنه بمعنى القضاء قولٌ وأصلُه جعلُ الشيء على مقدار غيرِه وإسنادُهم له إلى أنفسهم وهو فعلَ الله سبحانه لِما لهم من الزلفى والاختصاص

61

(فلما جاء آل لُوطٍ المرسلون) شروعٌ في بيانِ كيفيةِ إهلاكِ المجرمين وتنجيةِ آل لوط حسبما أُجمل في الاستثناء ثم فُصّل في التعليل نوعَ تفصيل ووضعُ المظهرِ موضعَ المضمرِ للإيذان بأن مجيئهم لتحقيق ما أرسلو به من الإهلاك والتنجية وليس المرادُ به ابتداءَ مجيئهم بل مطلقُ كينونتهم عند آل لوط فإن ما حكي عنه عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى

62

(قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ) إنما قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعدا للتيا والتي حين ضاقت عليهِ الحيلُ وعيَّتْ بهِ العللُ لمّا لم يشاهِدْ من المرسلين عند مقاساته الشدائدَ ومعاناته المكايدَ من قومه الذين يريدون بهم ما يريدون ما هو المعهودُ والمعتاد من الإعانة والإمداد فيما يأتي ويذر عند تجشّمِه في تخليصهم إنكاراً لخذلانهم له وتركِ نصرته في مثل تلك المضايقة المعترية له بسببهم حيث لم يكونوا مباشرين معه لأسباب المدافعةِ والممانعة حتى ألجأتْه إلى أنْ قالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ اوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ حسبما فُصِّل في سورة هود لا أنه قاله عند ابتداء ورودِهم له خوفاً أن يطرُقوه بشرَ كما قيل كيف لا وهم بجوابهم المحكيّ بقوله تعالى

63

(قَالُواْ بَلْ جئناك بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي بالعذاب الذي كنت تتوعدهم به فيمترون فيه ويكذبونك قد قشَروا العصا وبينوا له عليه الصلاة والسلام جليةَ الأمر فأنى يمكن أن يعتريه بعذ ذلك المساءةُ وضيقُ الذَّرْع وليست كلمةُ بل إضراباً عن موجب الخوفِ المذكور على معنى ما جئناك بما تُنكِرنا لأجله بل بما يسرك وتقَرّ به عينيك بل هي إضرابٌ عما فهمه عليه الصلاة والسلام من ترك النصرةِ له والمعنى ما خذلناك وما خلّينا بينك وبينهم بل جئناك بما يدمّرهم من العذابِ الذي كانُوا يكذبونك حين كنت تتوعدهم به ولعل تقديمَ هذه المقاولة على ما جرى بينه وبين أهلِ المدينة من المجادلة للمسارعة إلى ذكر بشارة لوط عليه الصلاة والسلام بإهلاك

الحجر 64 66 قومِه وتنجيةِ آله عَقيبَ ذكر بشارة إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بهما وحيث كان مستدعياً لبيان كيفية النجاةِ وترتيبِ مباديها أُشير إلى ذلك إجمالاً ثم ذُكر ما فَعل القوم وما فُعل بهم ولم يُبالَ بتغيير الترتيب الوقوعيّ ثقةً بمراعاته في مواقعَ أُخَرَ ونسبةُ المجيء بالعذاب إليه عليه الصلاة والسلام مع أنه نازلٌ بالقوم بطريق تفويض أمرِه إليه لا بطريق نزوله عليه كأنهم جاءوه وفوّضوا أمره إليه ليرسله عليهم حسبما كان يتوعّدهم به

64

(واتيناك بالحق) أي باليقين الذي لا مجال فيه للامتراء والشك وهو عذابُهم عبر عنه بذلك تنصيصاً على نفي الامتراءِ عنه أو المرادُ بالحق الإخبارُ بمجيء العذابِ المذكور وقوله تعالى (وِإِنَّا لصادقون) تأكيدٌ له أي أتيناك فيما قلنا بالخبر الحقِّ أي المطابق للواقعِ وإنا لصادقون في ذلك الخبرِ أو في كل كلام فيكون كالدليل على صدقهم فيه وعلى الأول تأكيدٌ إثرَ تأكيدٍ وقوله تعالى

65

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) شروعٌ في ترتيب مبادىء النجاةِ أي اذهبْ بهم في الليل وقرىء بالوصل وكلاهما من السرى وهو السيرُ في الليل وقرىء فسِرْ من السير (بِقِطْعٍ من الليل) بطائفة منه أو من آخره قال ... افتحي الباب وانظُري في النجوم ... كم علينا من قِطْع ليلٍ بهيم ... وقيل هو بعد ما مضى منه شيءٌ صالح (واتبع أدبارهم) وكن على أثرهم تذودُهم وتسرع بهم وتطّلع على أحوالهم ولعل إيثارَ الاتباعِ على السَّوْق مع أنه المقصودُ بالأمر للمبالغة في ذلك إذ السَّوْقُ ربما يكون بالتقدم على بعض مع التأخر عن بعض ويلزَمه عادةً الغفلةُ عن حال المتأخر والالتفاتُ المنهيُّ عنه بقوله تعالى (وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ) أي منك ومنهم (أَحَدٌ) فيرى ما وراءه من الهول فلا يطيقه أو يصيبه ما أصابهم أو ولا ينصرفْ منكم أحدٌ ولا يتخلفْ لغرض فيصيبه العذاب وقيل نُهوا عن ذلك ليوطنوا أنفسهم على المهاجرة أو هو نهي عن ربط القلب بما خلّفوه أو هو للإسراع في السير فإن الملتفتَ قلما يخلو عن أدنى وقفة وعدمُ ذكر استثناء المرأةِ من الإسراء والالتفات لا يستدعي عدم وقوعِه فإن ذلك لما عرفت مراراً للاكتفاء بما ذكر في مواضع أخر (وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) إلى حيث أمركم الله تعالى بالمُضيّ إليه وهو الشام أو مصر وحذفُ الصلتين على الاتساع المشهور وإيثارُ المضيِّ إلى ما ذكر على الوصول إليه واللُّحوق به للإيذان بأهمية النجاةِ ولمراعاة المناسبةِ بينه وبين ما سلف من الغابرين

66

(وَقَضَيْنَا) أي أوحينا (إِلَيْهِ) مقْضيًّا ولذلك عُدِّيَ بإلى (ذَلِكَ الامر) مبهمٌ يفسره (أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ) على أنه بدلٌ منه وإيثار اسم الإشارة على الضمير للدلالة على اتصافهم بصفاتهم القبيحةِ التي هي مدارُ ثبوت الحكم أي دابرَ هؤلاء المجرمين وإيرادُ صيغة المفعول بدلَ صيغة المضارع لكونها أدخلَ في الدلالة على الوقوعِ وفي لفظ القضاءِ والتعبيرِ عن العذاب بالأمر والإشارة

الحجر 67 70 إليه بذلك وتأخيرِه عن الجارّ والمجرور وإبهامِه أولاً ثم تفسيره ثانياً من الدلالةِ عَلى فخامة الأمر وفظاعته مالا يخفى وقُرىء بالكسرِ على الاستئنافِ والمعنى أنهم يُستأصَلون عن آخرهم حتى لاَ يَبْقَى منهُمْ أحدٌ (مُّصْبِحِينَ) داخِلين في الصُّبح وهو حال من هؤلاء أو من الضمير وفي مقطوعٌ وجمعه للحمل على المعنى فإن دابر هؤلاء بمعنى مدبري هؤلاء

67

(وَجَآء أَهْلُ المدينة) شروعٌ في حكاية ما صدر عن القوم عند وقوفِهم على مكان الأضيافِ من الفعل والقول وما ترتب عليه معد ما أشير إلى ذلك إجمالا حسبما نبه عليه أي جاء أهلُ سدومَ منزلَ لوط عليه الصلاة والسلام (يَسْتَبْشِرُونَ) أي مستبشرين بأضيافه عليه الصلاة والسلام طمعاً فيهم

68

(قَالَ إِنَّ هَؤُلآء ضَيْفِى) الضيفُ حيث كان مصدراً في الأصل أُطلق على الواحدُ والمتعددِ والمذكرِ والمؤنثُ وإطلاقُه على الملائكة بحسب اعتقاده عليه الصلاة والسلام لكونهم في زِيّ الضيف والتأكيدُ ليس لإنكارهم بذلك بل لتحقيق اتِّصافِهم به وإظهارِ اعتنائه بشأنهم وتشمُّره لمراعاة حقوقِهم وحمايتهم من السوء ولذلك قال (فَلاَ تفضحون) أي عندهم بأن تتعرضوا لهم بسوء فيعلموا أنه ليس لي عندكم قدر وحرمة أولا تفضحونِ بفضيحة ضيفي فإن من أُسيء إلى ضيفه فقد أُسيءَ إليه يقال فضحَه فضحاً وفضيحةً إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار

69

(واتقوا الله) في مباشرتكم لما يسؤوني (ولاتخزون) أي لا تُذِلوني ولا نهينوني بالتعرض لمن أجَرْتُهم بمثل تلك الفَعْلةِ الخبيثة وحيث كان التعرضُ لهم بعد أن نهاهم عليه الصلاة والسلام عن ذلك بقوله فلا تفضحونِ أكثرَ تأثيراً في جانبِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسلام وأجلبَ للعار إليه إذِ التعرّضُ للجار قبل شعورِ المُجير بذلك ربما يُتسامَح فيه وأما بعد الشعورِ به والمناصبةِ لحمايته والذبِّ عنه فذاك أعظمُ العار عبر عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عمَّا يعتريه من جهتهم بعد النهي المذكورِ بسبب لَجاجِهم ومُجاهرتِهم بمخالفته بالخِزي وأمرَهم بتقوى الله تعالى في ذلك وإنما لم يصرَّحْ بالنهي عن نفس تلك الفاحشةِ لأنه كان يعرِف أنه لا يفيدهم ذلك وقيل المرادُ تقوى الله تعالى في ركوب الفاحشةِ ولا يساعده توسيطُه بين النهيَيْن عن أمرين متعلقين بنفسه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وكذلك قوله تعالى

70

(قالوا أو لم نَنْهَكَ عَنِ العالمين) أي عن التعرض لهم بمنعهم عنا وضيافتِهم والهمزةُ للإنكارِ والواوُ للعطفِ على مقدَّرٍ أي ألم نتقدمْ إليك ولم ننْهَكَ عن ذلك فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحدٍ من الغرباء بالسوء وكانَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ينهاهم عن ذلك بقدر وُسعِه وكانوا قد نهَوْه عليه الصلاة والسلام عن أن يُجير أحداً فكأنهم قالوا ما ذكرتَ من الفضيحة والخِزي إنما جاءك من قِبَلك لا من قِبَلنا إذ لولا تعرضُك لما نتصدَّى له لما اعتراك

الحجر 71 77 تلك الحالةُ ولمّا رآهم لا يُقلِعون عما هم عليه

71

(قال هؤلاء بَنَاتِى) يعني نساءَ القومِ فإن نبيَّ كلِّ أمةٍ بمنزلة أبيهم أو بناتِه حقيقةً أي فتزوجوهن وقد كانوا من قبلُ يطلبُونهن ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتِهم لا لعدم مشروعية المُناكحةِ بين المسلمات والكفار وقد فُصِّل في سورة هود (إِن كُنتُمْ فاعلين) أي قضاءَ الوطر أو ما أقول لكم

72

(لَعَمْرُكَ) قسمٌ من الله تعالى بحياة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أو من الملائكة بحياة لوط عليه الصلاة والسلام والتقديرُ لعَمرُك قسمي وهي لغة في العُمُر يختص به القسم إيثاراً للخِفة لكثرة دورَانِه على الألسنة (إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ) غَوايتهم أو شدة غُلْمتهم التي أزالت عقولَهم وتمييزَهم بين الخطإ والصواب (يَعْمَهُونَ) يتحيّرون ويتمادَوْن فكيف يسمعون النصح وقيل الضميرُ لقريش والجملةُ اعتراض

73

(فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة) أي الصيحةُ العظيمة الهائلة وقيل صيحةُ جبريل عليه الصلاة والسلام (مُشْرِقِينَ) داخلينَ في وقتِ شروق الشمس

74

(فَجَعَلْنَا عاليها) عاليَ المدينة أو عاليَ قُراهم وهو المفعولُ الأول لجعلنا وقوله تعالى (سَافِلَهَا) مفعول ثانٍ له وهو أدخلُ في الهول والفظاعة من العكس كما مر (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ) في تضاعيف ذلك قبل تمام الانقلابِ (حِجَارَةً) كائنة (مّن سِجّيلٍ) من طينٍ متحجرا أو طينٍ عليه كتاب وقد فصل ذلك في سُورة هود

75

(إِنَّ فِى ذَلِكَ) أي فيما ذكر من القصة (لاَيَاتٍ) لعلاماتٍ يُستدل بها على حقيقة الحق (لِلْمُتَوَسّمِينَ) أي المتفكّرين المتفرّسين الذين يثبتون في نظرهم حتى يعرِفوا حقيقة الشيء بسَمْته

76

(وَإِنَّهَا) أي المدينة أو القرى (لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ) أي طريق ثابتٍ يسلُكه الناس ويرَوْن آثارها

77

(إِنَّ فِى ذَلِكَ) فيما ذكر من المدينة أو القرى أو في كونها بمر أي من الناس يشاهدونها في ذهابهم وإيابهم (لآيَةً) عظيمةً (لِلْمُؤْمِنِينَ) بالله ورسولِه فإنهم الذين يعرِفون أن ما حاق بهم العذاب الذي ترك ديارَهم بلا قع إنما حاق بهم لسوء صنيعهم وأما غيرُهم فيحمِلون ذلك على الاتفاق أو الأوضاع الفلكية وإفراده الآية بعد جمعها فيما سبق لما أن المشاهدَ ههنا بقيةُ الآثارِ لا كلُّ القصة كما فيما سلف

الحجر

78

78 - 83 (وَإِن كَانَ) إنْ مخففةٌ منْ أنَّ وضمير الشأن الذي هو اسمُها محذوفٌ والَّلامُ هي الفارقةُ أي وإن الشأن كان (أصحاب الأيكة) وهو قوم شعيب عليه الصلاة والسلام والأيكة الشجرةُ الملتفةُ المتكاثِفة وكان عامة شجرِهم المقل وكانوا يسكنونها فبعثه الله تعالى إليهم (لظالمين) متجاوزين عن الحد

79

(فانتقمنا مِنْهُمْ) بالعذاب روي إن الله سلط عليهم الحرَّ سبعةَ أيام ثم بعث سحابة فالتجئوا إليها يلتمسون الرَّوْحَ فبعث الله تعالى عليهم منها ناراً فأحرقتهم فهو عذابُ يوم الظلة (وَإِنَّهُمَا) يعني سدوم والأيكة وقيل الايكة ومدين فإنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان مبعوثاً إليهما فذِكرُ أحدهما منبّهٌ على الآخر (لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ) لبطريق واضحٍ والإمام اسمُ ما يؤتمُّ به سُمِّيَ به الطريقُ ومطمر البناء واللوحُ الذي يكتب فيه لأنها مما يؤتم به

80

(وَلَقَدْ كَذَّبَ أصحاب الحجر) يعني ثمود (المرسلين) أي صالحاً فإن مَنْ كذب واحداً من الأنبياءِ عليهم السلام فقد كذب الجميعَ لاتفاقهم على التوحيد والأصولِ التي لا تخلف باختلاف الأممِ والأعصار وقيل المراد صالحٌ وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ كما قيل الخُبيبون لخبيب بن عبدِ الله بين الزبير وأصحابه والحجر وادٍ بين المدينة والشام كانوا يسكنونه

81

(وآتيناهم آياتنا) وهي الآياتُ المنزلة على نبيهم أو المعجزاتُ من الناقة وسَقْيها وشِرْبها ودرّها أو الأدلةُ المنصوبة لهم (فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ) إعراضاً كليًّا بل كانوا معارضين لها حيث فعلوا بالناقة ما فعلوا

82

(وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بيوتا آمنين) من الانهدام ونقْب اللصوص وتخريبِ الأعداء لوثاقتها أو من العذاب لحُسبانهم أن ذلك يحميهم منه عنْ جابرٍ رضيَ الله تعالى عنه أنه قال مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحِجْر فقال لا تدخُلوا مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ إلا أن تكونوا باكين حذارا أنْ يُصيبكم مثلُ ما أصاب هؤلاء ثم زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته فأسرع حتى خلّفها

83

(فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُصْبِحِينَ) وهكذا وقع في سورة هودٍ قيل صاح بهم جبريلُ عليه الصلاة والسلام وقيل أتتهم من السماء صيحةٌ فيها صوتُ كلِّ صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم وفي سورة الأعراف فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة أي الزَّلزلةُ ولعلها من روادف الصيحة المستتبعة لتموج الهواء تموجاً شديداً يفضي إليها كما مر في سورة هود

الحجر

84

84 - 87 (فما أعنى عَنْهُمْ) ولم يدفع عنهم ما نزل بهم (مَّا كانوا بكسبون) من بناء البيوتِ الوثيقة والأموالِ الوافرة والعُدد المتكاثرة وفيه تهكمٌ بهم والفاءُ لترتيبِ عدمِ الإغناءِ الخاصِّ بوقت نزول العذابِ حسبما كانوا يرجونه لا عدمِ الإغناءِ المطلق فإنه أمرٌ مستمر

85

(وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق) أي إلاَّ خلقاً مُلتبساً بالحق والحكمةِ والمصلحةِ بحيث لا يلائم استمرارَ الفساد واستقرارَ الشرور ولذلك اقتضت الحكمةُ إهلاكَ أمثال هؤلاء دفعاً لفسادهم وإرشاداً لمن بقيَ إلى الصلاح أو إلا بسبب العدل والإنصافِ يوم الجزاءِ على الأعمال كما ينبىء عنه قوله تعالى (وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ) فينتقم الله تعالى لك فيها ممن كذبك (فاصفح) أي أعرض عنهم (الصفح الجميل) إعراضاً جميلاً وتحمَّلْ أذِيَّتهم ولا تعجَلْ بالانتقام منهم وعامِلْهم معاملةَ الصَّفوح الحليم وقيل هي منسوخةٌ بآية السيف

86

(إِنَّ رَبَّكَ) الذي يبلّغك إلى غاية الكمال (هُوَ الخلاق) لك ولهم ولسائر الموجوداتِ على الإطلاق (العليم) بأحوالك وأحوالِهم بتفاصيلها فلا يَخْفى عليه شيءٌ مما جرى بينك وبينهم فهو حقيقٌ بأن تكِل جميع الأمورِ إليه ليحكُم بينكم أو هو الذي خلقكم وعلِم تفاصيلَ أحوالِكم وقد علم أن الصفحَ اليوم أصلحُ إلى أن يكون السيفُ أصلحَ فهو تعليلٌ للأمر بالصفح على التقديرين وفي مصحف عثمانَ وأُبيّ رضي الله تعالى عنهما هو الخالق وهو صالح للقليل والكثير والخلاقُ مختصٌّ بالكثير

87

(ولقد آتيناك سبعا) سبع آياتٍ وهي الفاتحةُ وعليه عمرُ وعليٌّ وابنُ مسعود وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهم والحسنُ وأبو العالية ومجاهدٌ والضحاكُ وسعيدُ ابن جبير وقَتادة رحمهم الله تعالى وقيل سبعُ سورٍ وهي الطوالُ التي سابعتُها الأنفالُ والتوبة فإنهما في حكم سورةٍ واحدة ولذلك لم يُفصَلْ بينهما بالتسمية وقيل يونسُ أو الحواميم السبعُ وقيل الصحائفُ السبعُ وهي الأسباع (مّنَ المثانى) بيانٌ للسبع من التثنية وهي التكريرُ فإن كان المرادُ الفاتحةَ وهو الظاهرُ فتسميتها مثاني لتكرر قراءتِها في الصلاة وأما تكررُ قراءتها في غير الصلاة كما قيل فليس بحيث يكون مدا ر للتسمية ولأنها تثنى بما يقرأ بعدها في الصلاة وأما تكررُ نزولها فلا يكون وجهاً للتسمية لأنها كانت مسماة بهذا الاسم قبل نزولها الثاني إذ السورةُ مكيةٌ بالاتفاق وإن كان المرادُ غيرَها من السور فوجهُ كونِها من المثاني أنَّ كلاًّ من ذلك تُكرّر قراءتُه وألفاظُه أو قصصه ومواعظُه أو من الثناء لاشتماله على ما هو ثناءٌ على الله واحدتها مَثْناةٌ أو مَثْنيةٌ صفة للآية وأما الصحائفُ وهي الأسباع فلما وقع فيها من تكرير القصص

الحجر 88 91 والمواعظ والوعدِ والوعيدِ وغيرِ ذلكَ ولما فيها من الثناء على الله تعالى كأنها تُثْني عليه سبحانه بأفعاله وصفاتِه الحسنى ويجوز أن يراد بالمثاني القرآنُ لما ذكر أولا لأنه مُثْنَى عليه بالإعجاز أو كتبُ الله تعالى كلُّها فمن للتبعيض وعلى الأول للبيان (والقرآن العظيم) إن أريد بالسبع الآياتُ أو السورُ فمِنْ عطف الكلِّ على البعض أو العام على الخاص وإن أريد به الأسباعُ أو كلُّ القرآن فهو عطفُ أحدِ الوصفين على الآخر كما في قولِه ... إلى الملكِ القَرمِ وابنِ الهُمام ... وليثِ الكتائبِ في المزدَحَمْ ... أي ولقد أتيناك ما يقال له السبعُ المثاني والقرآنُ العظيم

88

(لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) لا تطمَحْ ببصرك طُموحَ راغب ولا تُدِمْ نظرك (إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ) من زخارفِ الدنيا وزينتها ومحاسنِها وزَهْرتِها (أزواجا مّنْهُمْ) أصنافاً من الكفرة فإن ما في الدُّنيا من أصناف الأموالِ والذخائر بالنسبة إلى ما أوتيتَه مستحقَرٌ لا يُعبأ به أصلاً وفي حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه مَنْ أوتيَ القرآنَ فرآى أن أحداً أوتيَ أفضل مما أوتي فقد صغّر عظيماً وعظّم صغيراً وروي أنه وافَتْ من بصرى وأذْرِعاتَ سبعُ قوافلَ ليهود بني قُريظةَ والنّضِير فيها أنواعُ البَزِّ والطيب والجواهر وسائرُ الأمتعة فقال المسلمون لو كانت هذه الأموالُ لنا لتقوَّيْنا بها وأنفقناها في سبيل الله فقيل لهم قد أُعطِيتم سبعَ آياتٍ وهي خير من هذه القوافل السبْع (وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) حيث لم يؤمنوا ولم ينتظِموا أتباعك في سلك ليتقوى بهم ضعفاءُ المسلمين وقيل أو أنهم المتمتعون به ويأباه كلمة على فإن تمتّعهم به لا يكون مداراً للحزن عليهم (واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي تواضَعْ لهم وارفُق بهم وألِنْ جانبك لهم وطِبْ نفساً من إيمان الأغنياء

89

(وقل إنى أنا النذير المبين) أي المنذِرُ المُظْهِر لنزول عذاب الله وحلولِه

90

(كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين) قيل إنه متعلقٌ بقوله تعالى وَلَقَدْ آتيناك الخ أي أنزلناه عليك كما أنزلنا على أهل الكتاب

91

(الذين جعلوا القرآن عِضِينَ) أي قسَموه إلى حق وباطل حيث قالوا عِناداً وعدواناً بعضُه حقٌّ موافقٌ للتوراة والإنجيل وبعضُه باطلٌ مخالفٌ لهما أو اقتسموه لأنفسهم استهزاءً حيث كان يقول بعضُهم سورةُ البقرة لي وبعضُهم سورةُ آلِ عمران لي وهكذا أو قسموا ما قرءوا من كتبهم وحرّفوه فأقرّوا ببعضه وكذبوا ببعضه وحُمل توسط قوله تعالى لاتمدن عَيْنَيْكَ على إمداد ما هو المرادُ بالكلام من التسلية وعُقّب ذلك بأنه جلّ المقامُ عن التشبيه ولقد أُوتي عليهِ الصَّلاة والسَّلام ما لم يؤتَ أحدٌ قبله ولا بعده مثلَه وقيل

إنه متعلق بقوله إِنّى أَنَا النذير المبين فإنه في قوة الأمرِ بالإنذار كأنه قيل أنذِرْ قريشاً مثلَ ما أنزلنا على المقتسمين يعني اليهودَ وهو ما جرى على بني قريظةَ والنضير بأن جُعل المتوقَّعُ كالواقع وقد وقع كذلك وأنت خبيرٌ بأن ما يُشبَّه به العذابُ المنذَرُ لا بد أن يكون محققَ الوقوعِ معلومَ الحالِ عند المنذَرين إذ به تتحققُ فائدةُ التشبيهِ وهي تأكيدُ الإنذار وتشديدُه وعذابُ بني قريظةَ والنضير مع عدم وقوعِه إذ ذاك لم يسبِقْ به وعدٌ ووعيد فهم منه في غفلة محصنة وشك مُريب وتنزيلُ المتوقَّع منزلةَ الواقع له موقعٌ جليلٌ من الإعجاز لكن إذا صادف مقاماً يقتضيه كما في قوله تعالى إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ونظائرِه على أن تخصيصَ الاقتسام باليهود بمجرد احتصاص العذاب المذكور بهم مع شِرْكتهم للنصارى في الاقتسام المتفرِّع على الموافقة والمخالفة وفي الاقتسام بمعنى التحريف الشاملِ للكتابين بل تخصيصُ العذاب المذكور بهم مع كونه من نتائج الاقتسامِ تخصيصٌ من غير مخصِّص وقد جُعل الموصولُ مفعولاً أولَ لأنذر أي أنذر المعضين الذين جزءوا القرآن إلى سحر وشعر وأساطيرَ مثلَ ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشرَ الذين اقتسموا مداخلَ مكة أيام الموسم فقعد كل منهم في مدخل لينفروا الناس عن الإيمان برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم يقول بعضُهم لا تغترّوا بالخارج منا فإنه ساحرٌ ويقول الآخر شاعر والآخر كذابٌ فأهلكهم الله تعالى يوم بدر وقبله بآفات وفيه مع ما فيه من الاشتراك لما سبق في عدم كون العذابِ الذي شُبه به العذابُ المنذَرُ واقعاً ولا معلوماً للمنذَرين ولا موعودَ الوقوع أنه لا داعيَ إلى تخصيص وصفِ التعضِيةِ بهم وإخراجِ المقتسمين من بينهم مع كونهم أسوةً لهُم في ذلكَ فإنَّ وصفهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما وصفوا من السحر والشعر والكذب متفرعٌ على وصفهم للقرآن بذلك وهل هو إلا نفسُ التعضيةِ ولا إخراجهم من حكم الإنذارِ على أن ما نزل بهم من العذاب لم يكن من الشدة بحيث يُشبه به عذابُ غيرِهم ولا مخصوصاً بهم بل عامًّا لكلا الفريقين وغيرِهم مع أن بعضَ المنذَرين كالوليد بنِ المغيرة والعاص بن وائل والأسود ابن المطلب قد هلكوا قبل مهلِك أكثرِ المقتسمين يوم بدر ولا إلى تقديم المفعول الثاني على الأول كما ترى وقيل إنه وصفٌ لمفعول النذيرِ أقيمَ مُقامه والمقتسمون هم القاعدون في مداخل مكة كما حرر وفيه مع ما مر أن قوله تعالى كَمَآ أَنْزَلْنَا صريحٌ في أنَّهُ من قول الله تعالى لا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم والاعتذارُ بأن ذلك من باب ما يقوله بعضُ خواصِّ المَلِك أُمرْنا بكذا وإن كان الأمرُ هو الملكَ حسبما سلفَ في قولِه تعالى قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين تعسُّفٌ لا يخفى وأن إعمالَ الوصفِ الموصوف مما لم يجوِّزْه البصريون فلا بد من الهرب إلى مسلك الكوفيين أو المصير إلى جعله مفعولاً غيرَ صريح أي أنا النذيرُ المبين بعذاب مثلِ عذاب المقتسمين وقيل المراد بالمقتسمين الرهطُ الذين تقاسموا على أن يبيّتوا صالحا عليه الصلاة والسلام فأهلكهم الله تعالى وأنت تدري أن عذابَهم حيث كان متحققاً ومعلوماً للمنذرين حسبما نطقَ به القرآنُ العظيم صالحٌ لأن يقعَ مشبَّهاً به العذابُ المنذَر لكن الموصولَ المذكورَ عَقيبَه حيث لم يمكن كونُه صفةً للمقتسمين حينئذ فسواءٌ جعلناه مفعولاً أول للنذير أو لما دَلَّ هو عليهِ من أنذر لا يكون للتعرض لعنوان التعضية في حيز الصلة ولا لعنوان الاقتسام بالمعنى المزبور في حيز المفعول الثاني فائدة لما أنَّ ذلك إنَّما يكون للإشعار بعلّية الصلة والصفةِ للحكم الثابتِ للموصول والموصوف فلا يكون هناك وجهُ شبَهٍ يدور عليه

تشبيه عذابهم خاصة لعدم اشتراكِهم في السبب فإن المُعَضّين بمعزل من التقاسم على التثبيت الذي هو السبب لهلاك أولئك كما أن أولئك بمعزل من التعضية التي هي السبب لهلاك هؤلاء ولا علاقة بين السببين مفهوماً ولا وجوداً تصحّح وقوعَ أحدِهما في جانب والآخرِ في جانب واتفاقُ الفريقين على مطلق الاتفاقِ على الشر المفهوم من الاتفاق على الشر المخصوص الذي هو التثبيت المدلولُ عليه بالتقاسم غيرُ مفيد إذ لا دِلالةَ لعنوان التعضيةِ على ذلك وإنما يدل عليه اقتسامُ المداخِلِ وجعلُ الموصولِ مبتدأً على أن خبرَه الجملةُ القسَميةُ لا يليقُ بجزالةِ التنزيلِ وجلالة شأنِه الجليل إذا عرفت هذا فاعلم أن الأقربَ من الأقوال المذكورةِ أنه متعلِّق بالأول وأن المرادَ بالمقتسمين أهلُ الكتابين وأن الموصولَ مع صلته صفةٌ مبينة لكيفية اقتسامِهم ومحلُّ الكافِ النصبُ على المصدرية وحديثُ جلالة المقام عن التشبيه من لوائج النظرِ الجليل والمعنى لقد آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآنَ العظيم إيتاءً مماثلاً لإنزال الكتابين على أهلهما وعدمُ التعرض لذكر ما أنزل عليهم من الكتابين لأن الغرضَ بيانُ المماثلة بين الإيتاءين لا بين متعلَّقَيهما والعدولُ عن تطبيق ما في جانب المشبَّه به على ما في جانب المشبَّه بأن يقال كما آتينا المقتسِمين حسبما وقع في قولِه تعالى الذين آتيناهم الكتاب الخ للتنبيه على ما بين الإيتاءين من التنائي فإن الأول على وجه التكرِمة والامتنان وشتان بينه وبين الثاني ولا يقدَح ذلك في وقوعه مشبَّهاً به فإن ذلك إنما هو لمسلميته عندهم وتقديم وجودُه على المشبه زماناً لا لمزية وتعود إلى ذاته كما في الصلاة الخليلية فإن التشبيه فيها ليس لكون رحمة الله تعالى الفائضةِ على إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وآله أتمَّ وأكملَ مما فاض على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وإنما ذلك للتقدم في الوجود والتنصيصِ عليه في القرآن العظيم فليس في التشبيه شائبةُ إشعار بأفضلية المشبَّه به من المشبه فضلاً عن إيهام أفضليةِ ما تعلق به الأولُ مما تعلق به الثاني وإنما ذُكروا بعنوان الاقتسام إنكاراً لاتصافهم به مع تحقق ما ينفيه من الإنزال المذكورِ وإيذاناً بأنَّه كانَ من حقِّهم أن يؤمنوا بكله حسب إيمانِهم بما أنزل عليهم بحكم الاشتراكِ في العلة والاتحادِ في الحقيقة التي هي مطلقُ الوحي وتوسيطُ قوله تعالى لاتمدن الخ لكمال اتصالِه بما هو المقصودُ من بيان حالِ ما أوتيَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ولقد بُيِّن أولاً علوُّ شأنِه ورفعة مكانِه بحيث يستوجب اغتباطه عليه الصلاة والسلام بمكانه واستغناءَه به عما سواه ثم نُهي عن الالتفات إلى زَهرة الدنيا وعُبّر عن إيتائها لأهلها بالتمتيع المنْبىءِ عن وشك زوالِها عنهم ثم عن الحزَن بعدم إيمانِ المنهمكين فيها بمراعاة المؤمنين والاكتفاءِ بهم عن غيرهم وبإظهار قيامِه بمواجب الرسالة ومراسمِ النذارة حسبما فُصّل في تضاعيف ما أوتي من القرآن العظيم ثم رُجِع إلى كيفية إيتائه على وجه أُدمج فيه ما يُزيح شُبَهَ المنكِرين ويستنزِلهم عن العِناد من بيان مشاركتِه لما لا ريب لهم في كونه وحياً صادقاً فتأمل والله عنده علم الكتاب هذا وقد قيل المعنى قل إنى أنا النذير المبين كما قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيراً على أن المقتسِمين أهلُ الكتاب انتهى يريد أن ما في كما موصولةٌ والمراد بالمشابهة المستفادة من الكاف الموافقةُ وهيَ مع ما في حيِّزها في محل النصبِ على الحالية من مفعول قل أي قل هذا القولَ حالَ كونِه كما أنزلنا على أهل الكتابين أي موافقاً لذلك فالأنسبُ حينئذ حملُ الاقتسام على التحريف ليكون وصفُهم بذلك تعريضاً بما فعلوا من تحريفهم وكِتمانهم لنعت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقوله تعالى عِضِينَ جمعُ عضة وهي الفرقة

الحجر 92 96 أصلها عِضْوَةٌ فِعْلة من عضَّى الشاةَ تعضيةً إذا جعلها أعضاءَ وإنما جُمعت جمع السلامةِ جبراً للمحذوف كسنينَ وعِزينَ والتعبيرُ عن تجزئة القرآن بالتعضية التي هي تفريقُ الأعضاء من ذي الروح المستلزمُ لإزالة حياتِه وإبطالِ اسمِه دون مطلق التجزئةِ والتفريق اللذَيْن ربما يوجدان فيما لا يضره التبعيضُ من المِثليات للتنصيص على كمالِ قبحِ ما فعلوه بالقرآن العظيم وقيل هي فِعلة من عضهتُه إذا بهتُّه وعن عكرِمةَ العضه السحرُ بلسان قريشٍ فنقصانها على الأول واو وعلى الثاني هاء

92

(فوربك لنسألنهم أَجْمَعِينَ) أي لنسألن يوم القيامة أصنافَ الكفرة من المقتسمين وغيرهم سؤالَ توبيخٍ وتقريع

93

(عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) في الدُّنيا من قول وفعل وترْكٍ فيدخُل فيه ما ذُكر من الاقتسام والتعضيةِ دخولاً أولياً ولنجزيّنهم بذلك جزاءاً موفوراً وفيه من التشديد وتأكيد الوعيد مالا يخفى والفاءُ لترتيب الوعيدِ على أعمالهم التي ذكر بعضها وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ مضافا إليه عليه الصلاة والسلام إظهار اللطفِ به عليه الصلاة والسلام

94

(فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ) فاجهر به من صَدَع بالحجة إذا تكلم بها جِهاراً أو افرُق بين الحق والباطل وأصلُه الإبانةُ والتمييزُ وما مصدريةٌ أو موصولةٌ والعائدُ محذوفٌ أي ما تؤمر به من الشرائع المودعة في تضاعيف ما أوتيتَه من المثاني السبعِ والقرآنِ العظيم (وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين) أي لا تلتفت إلى ما يقولون ولا تبالِ بهم ولا تتصدَّ للانتقام منهم

95

(إنا كفيناك المستهزئين) بقمعهم وتدميرهم قيل كانوا خمسةً من أشراف قريش الوليدُ بن المغيرة والعاصِ بن وائل والحرث بن قيس بن الطَلاطِلةَ والأسودُ بنُ عبدِ يغوثَ والأسودُ بنُ المطلب يبالغون في إيذاء النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم والاستهزاء به فنزل جبريلُ عليه الصلاة والسلام فقال قد أُمرت أن أكفيكَهم فأومأ إلى ساق الوليد فمرَّ بنِبال فتعلق بثوبه سهمٌ فلم ينعطف تعظيما لأخذه فاصاب عرقافي عقبه فقطه فمات وأومأ إلى أخمَص العاص فدخلت فيه شوكةٌ فقال لدغت لُدغتُ وانتفخت رجلُه حتى صارت كالرّحى فمات وأشار إلى عيني الأسودِ بن المطلب فعمِيَ وإلى أنف الحرث فامتخط قيحاً فمات وإلى الأسود بن عبد يغوثَ وهو قاعدٌ في أصل شجرةٍ فجعل ينطح برأسه الشجرةَ ويضرب وجهه بالشوك حتى مات

96

(الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها آخر) وصفهم بذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهويناً للخطب عليه بإعلام أنهم لم يقتصروا على الاستهزاءِ به عليه الصَّلاة والسلام بل اجترءوا على العظيمة التي هي الإشراك بالله سبحانه (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبةَ ما يأتون ويذرون

الحجر

97

97 - 99 (ولقد نعلم أنك بضيق صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) من كلمات الشِّرك والطعنِ في القرآن والاستهزاء به وبك وتحليةُ الجملة بالتأكيد لإفادة تحقيقِ ما تتضمنه من التسلية وصيغةُ الاستقبال لإفادة استمرارِ العلم حسب استمرارِ متعلَّقه باستمرار ما يوجبه من أقوال الكفرة

98

(فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ) فافزَع إلى الله تعالى فيما نابك من ضيق الصدرِ والحرَج بالتسبيح والتقديس ملتبساً بحمده وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام مالا يخفى من إظهار اللطفِ به عليه الصلاة والسلام والإشعارِ بعلة الحُكم أعني الأمرَ بالتسبيح والحمد (وَكُنْ مّنَ الساجدين) أي المصلّين يكفيك ويكشِفِ الغمَّ عنك أو فنزِّهْه عما يقولون ملتبساً بحمده على أنْ هداك للحق المبين وعنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا حزبه أمرفرع إلى الصلاة

99

(واعبد رَبَّكَ) دُمْ على ما أنت عليه من عبادته تعالى وإيثارُ الإظهار بالعنوان السالف آنفاً لتأكيد ما سبق من إظهار اللطفِ به عليه الصلاة والسلام والإشعارِ بعلة الأمرِ بالعبادة (حتى يَأْتِيَكَ اليقين) أي الموتُ فإنه مُتيقَّنُ اللحوق بكل حي مخلوق وإسنادُ الإتيان إليه للإيذان بأنه متوجِّهٌ إلى الحيّ طالبٌ للوصول إليه والمعنى دم على العبادة ما دمت حيًّا من غير إخلالٍ بها لحظة عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الحِجْر كان له من الأجر عشر حسنا بعدد المهاجِرين والأنصارِ والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم

سورة النحل مكية وآياتها مائة وثمان وعشرون (سورة النحل مكية إلا وإن عاقبتم إلى آخرها وهي مائة وثمان وعشرون آية) بِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم

النحل

(أتى أَمْرُ الله) أي الساعة أو ما يعمُّها وغيرَها من العذاب الموعود للكفرة عبّر عن ذلك بأمر الله للتفخيم والتهويل وللإيذان بأن تحققَه في نفسه وإيتانه منوطٌ بحكمه النافذِ وقضائِه الغالب وإتيانُه عبارةٌ عن دنوّه واقترابِه على طريقة نظمِ المتوقَّعِ في سلك الواقع أو عن إتيان مباديه القريبةِ على نهج إسنادِ حال الأسبابِ إلى المسببات وأياما كان ففيه تنبيهٌ على كمال قربِه من الوقوع واتصالِه وتكميلٌ لحسن موقع التفريع في قولِه عزَّ وجلَّ (فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ) فإن النهيَ عن استعجال الشيءِ وإن صح تفريعُه على قرب وقوعِه أو على وقوع أسبابه القريبة لكنه ليس بمثابة تفريعِه على وقوعه إذ بالوقوع يستحيل الاستعجالُ رأساً لا بما ذكر من قرب وقوعِه ووقوعِ مباديه والخطابُ للكفرة خاصة كما يدل عليه القراءةُ على صيغة نهي الغائبِ واستعجالُهم وإن كان بطريق الاستهزاءِ لكنه حُمل على الحقيقة ونُهوا عنه بضرب من التهكم لا مع المؤمنين سواءٌ أريد بأمر الله ما ذُكر أو العذاب الموعود للكفرة خاصة أما الأول فلأنه لا يتصور من المؤمنين استعجالُ الساعة أو ما يعمُّها وغيرَها من العذاب حتى يعمهم النهيُ عنه وأما الثاني فلأن استعجالَهم له بطريق الحقيقةِ واستعجالَ الكفرة بطريق الاستهزاءِ كما عرَفْته فلا ينتظمها صيغةٌ واحدة والالتجاءُ إلى إرادة معنىً مجازيَ يعمهما معاً من غير أن يكون هناك رعايةُ نكتة سرّية تعسفٌ لا يليق بشأن التنزيلِ الجليلِ وما روي من أنه لما نزلت اقتربت الساعة قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعُم أن القيامة قد قرُبت فأمسِكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائنٌ فلما تأخّرت قالوا ما نرى شيئاً فنزلت اقترب لِلنَّاسِ حسابهم فأشفقوا وانتظروا اقربها فلما امتدت الأيامُ قالوا يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزلت أتى أَمْرُ الله فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع الناس رءوسهم فلما نزل فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ اطمأنوا فليس فيه دَلالةٌ على عموم الخطاب كما قيل لا لما تُوهم من أن التصديرَ بالفاء يأباه فإنه بمعزل عن إبائه حسبما تحققْتَه بل لأن مناطَ اطمئنانِهم إنما وقوفُهم على أن المرادَ بالإتيان هو الإتيانُ الادّعائي لا الحقيقيُّ الموجبُ لاستحالة الاستعجال المستلزم لامتناع النهي عنه لِما إن النهيَ عن الشيء يقتضي إمكانَه في الجملة ومدار ذلك الوقوف إنما هو النهيُ عن الاستعجال المستلزمِ لإمكانه المقتضي لعدم وقوعِ المستعجَل بعدُ ولا يختلف ذلك باختلاف المستعجِل كائناً مَنْ كان بل فيه دَلالةٌ واضحة على عدم

النحل 2 العمومِ لأن المراد بأمر الله إنما هو الساعةُ وقد عرفت استحالةَ صدور استعجالِها عن المؤمنين نعم يجوز تخصيصُ الخطاب بهم على تقدير كونِ أمر الله عبارةٌ عن العذابِ الموعودِ للكفرة خاصة لكن الذي يقضي به الإعجازُ التنزيليُّ أنه خاصٌّ بالكفرة كما ستقف عليه ولمّا كان استعجالُهم ذلك من نتائج إشراكِهم المستتبعِ لنسبة الله عزَّ وجلَّ إلى مالا يليق به من العجز والاحتياج إلى الغير واعتقادِ أن واحدا يحجُزه عن إنجاز وعدِه وإمضاء وعيدِه وقد قالوا في تضاعيفه إن صح مجيءُ العذاب فالأصنامُ تخلّصنا عنه بشفاعتها رُدَّ ذلك فقيل بطريق الاستئناف (سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه وتقدّس بذاته وجل عن إشراكهم المؤدِّي إلى صدور أمثالِ هذه الأباطيلِ عنهم أو عن أنْ يكون له شريكٌ فيدفعَ ما أراد بهم بوجه من الوجوه وصيغةُ الاستقبالِ للدِلالة على تجدد إشراكِهم واستمرارِه والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذانِ باقتضاء ذكرِ قبائحِهم للإعراض عنهم وطرحِهم عن رتبة الخطاب وحكايةِ شنائعهم لغيرهم وعلى تقدير تخصيصِ الخطابِ بالمؤمنين تفوت هذه النُّكتةُ كما يفوت ارتباطُ المنهي عنه بالمتنزه عنه وقُرىء على صيغة الخطاب

2

(يُنَزّلُ الملائكة) بيانٌ لتحتم التوحيدِ حسبما نُبّه عليه تنبيهاً إجمالياً ببيان تقدّس جنابِ الكبرياءِ وتعاليه عن أن يحوم حول شائبةُ أنْ يشارَكه شيءٌ في شيء وإيذانٌ بأنه دينٌ أجمع عليه جمهورُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأُمروا بدعوة الناسِ إليه مع الإشارة إلى سر البغتة والتشريعِ وكيفية إلقاءِ الوحي والتنبيهِ على طريق علمِ الرسول صلى الله عليه وسلم بإتيان ما أوعدهم به وباقترابه إزاحةً لاستبعادهم اختصاصَه عليه الصلاة والسلام بذلك وإظهاراً لبُطلان رأيهم في الاستعجال والتكذيب وإيثارُ صيغةَ الاستقبالِ للإشعارِ بأن ذلك عادةٌ مستمرةٌ له سبحانه والمرادُ بالملائكة إما جبريلُ عليهِ السَّلامُ قالَ الواحدي يسمَّى الواحدُ بالجمع إذا كان رئيساً أو هُو ومَنْ مَعَهُ من حفَظَة الوحي بأمر الله تعالى وقرىء يُنْزِل من الإنزال وتَنَزَّلُ بحذف إحدى التاءين وعلى صيغةِ المبنيِّ للمفعولِ من التنزيل (بالروح) أي بالوحي الذي من جملته القرآنُ على نهج الاستعارة فإنه يحي القلوب المبتة بالجهل أو يقوم في الدين مقامَ الروح في الجسد والباء متعلقةٌ بالفعل أو بما هو حالٌ من مفعوله أي ملتبسين بالروح (مِنْ أَمْرِهِ) بيانٌ للروحِ الذي أريدَ بهِ الوحيُ فإنَّه أمرٌ بالخيرِ أو حالٌ منِهُ أيْ حالَ كونِه ناشئاً ومبتدأً منه أو صفةٌ له على رأي من جوّز حذفَ الموصول مع بعض صلته أي بالروح الكائن من أمره الناشىءِ منه أو متعلقٌ بينزّل ومِنْ للسببيةِ كالباءِ مثلُ ما في قوله تعالى مّمَّا خطيئانهم أي ينزلهم بأمره (على مَن يَشَاء مِنْ عباده) أن ينزِّلَهم به عليهم لاختصاصهم بصفات تؤهّلهم لذلك (أَنْ أَنْذِرُواْ) بدلٌ من الروح أي ينزلهم ملتبسين بأن أنذِروا أي بهذا القول والمخاطَبون به الأنبياءُ الذين نزلت الملائكةُ عليهم والآمرُ هو الله سبحانه والملائكةُ نَقَلةٌ للأمر كما يُشعر به الباء في المبدَل منه وأن إما مخففةٌ من أنَّ وضميرُ الشأن الذي هو اسمُها محذوفٌ أي ينزلهم ملتبسين بأن

النحل 3 5 الشأنَ أقول لكم أنذِروا أو مفسّرةٌ على أن تنزيلَ الملائكة بالوحي فيه معنى القولِ كأنه قيل يقول بواسطة الملائكةِ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أنذروا فلا محلَّ لها من الإعرابِ أو مصدريةٌ لجواز كون صلتِها إنشائيةً كما في قوله تعالى وأن أَقِمْ وَجْهَكَ حسبما ذكر في أوائل سورة هودٍ فمحلُّها الجرُّ على البدلية أيضاً والإنذارُ الإعلام خلا أنه مختصٌّ بإعلام المحذورِ من نذر بالشيء إذا علمه فخذوه وأنذره بالأمر إنذاراً أي أعلمه وحذره وخوفه في إبلاغه كذا في القاموس أي أعلِموا الناس (أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ) فالضمير للشأن ومدارُ وضعِه موضعَه ادِّعاءُ شهرتِه المُغْنية عن التصريحِ بهِ وفائدةُ تصديرِ الجملة به الإيذانُ من أول الأمرِ بفَخامة مضمونِها مع ما فيه من زيادة تقريرٍ له في الذهن فإنَّ الضميرَ لا يُفهمُ منه ابتداءً إلا شأنٌ مبهمٌ لهُ خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما يعقبه فيتمكن لديه عند وروده فضلُ تمكن كأنه قيل أنذروا إن الشأنَ الخطيرَ هذا وإنباءُ مضمونِه عن المحذور ليس لذاته بل من حيث اتصافُ المنذَرين بما يضادُّه من الإشراك وذلك كافٍ في كون إعلامِه إنذاراً وقوله سبحانه (فائقون) خطابٌ للمستعجِلين على طريقة الالتفاتِ والفاءُ فصيحةٌ أي إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادتِه تعالى بتنزيل الملائكةِ على الأنبياءِ عليهم السلامُ وأمرِهم بأن ينذِروا الناسِ أنه لا شريكٍ له في الألوهية فائقون في الإخلال بمضمونه ومباشرةِ ما ينافيه من الإشراك وفروعِه التي من جُملتها الاستعجالُ والاستهزاءُ وبعد تمهيدِ الدليل السمعيِّ للتوحيد شُرِع في تحرير الأدلة العقلية فقيل

3

(خُلِقَ السموات والأرض بالحق) أي أوجدهما على ما هما عليه من الوجه الفائق والنمطِ اللائق (تَعَالَى) وتقدّس بذاته لا سيما بأفعاله التي من جملتها إبداعُ هذين المخلوقين (عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكِهم المعهودِ أو عن شركِة ما يشركونه به من الباطل الذي لا يُبدىء ولا يعيد وبعد ما نبّه على صنعه الكليِّ المنطوي على تفاصيل مخلوقاتِه شرَع في تعداد ما فيه من خلائقه فبدأ بفعله المتعلق بالأنفس فقال

4

(خَلَقَ الإنسان) أي هذا النوعَ غيرَ الفرد الأول منه (مِن نُّطْفَةٍ) جماد لا حسَّ له ولا حَراكَ سيالٍ لا يحفظ شكلاً ولا وضعاً (فَإِذَا هُوَ) بعد الخلق (خَصِيمٌ) مِنطيقٌ مجادِلٌ عن نفسه مكافِحٌ للخصوم (مُّبِينٌ) لحجته لقِنٌ بها وهذا أنسبُ بمقام الامتنانِ بإعطاء القدرة على الاستدلال بذلك على قدرته تعالى ووحدتِه أو مخاصمٌ لخالقه منكِرٌ له قائلٌ مَن يُحىِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ وهذا أنسبُ بمقام تعداد هَناتِ الكفرة روى أن ابي به خلفٍ الجُمَحي أتى النبيَّ صلَّى الله عليهِ وسلم بعظم رميم فقال يا محمدا أترى الله تعالى يحي هذا بعدما قد رمّ فنزلت

5

(والانعام) وهي الأزواجُ الثمانية من الإبلُ والبقرُ والضَّأنُ والمعزُ وانتصابه بمضمر يفسره قوله تعالى (خَلَقَهَا) أو بالعطف على الإنسان وما بعده بيانُ ما خُلق لأجله والذي بعده تفصيلٌ لذلك وقوله تعالى (لَكُمْ) إما متعلقٌ بخلَقها وقوله (فِيهَا) خبرٌ مقدم وقوله (دِفْء) مبتدأٌ وهو ما يُدفأ به فيقي من البرد والجملةُ حالٌ منَ المفعولِ أوِ

النحل 6 7 الظرفُ الأول خبرٌ للمبتدأ المذكور وفيها حال من دفء إذ لو تأخر لكان صفة (ومنافع) هي دَرّها ورُكوبها وحملُها والحِراثة بها وغيرُ ذلك وإنما عبّر عنها بها ليتناول الكل مع أنه الأنسب بمقام الامتنان بالنعم وتقديمُ الدفء على المنافع لرعاية أسلوب الترقي إلى الأعلى (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) أي تأكُلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم وغيرِ ذلك وتغييرُ النظم للإيماء إلى أنها لا تبقى عند الأكل كما في السابق واللاحقِ فإن الدفءَ والمنافعَ والجَمال يحصل منها وهي باقيةٌ على حالها ولذلك جُعلت محالَّ لها بخلاف الأكل وتقديمُ الظرف للإيذان بأن الأكلَ منها هو المعتادُ المعتمدُ في المعاش لأن الأكلَ مما عداها من الدجاج والبط وصيد البرِّ والبحرِ من قبيل التفكّه مع أنَّ فيهِ مراعاةً للفواصل ويحتمل أن يكون معنى الأكلِ منها أكلَ ما يحصل بسببها فإن الحبوبَ والثمارَ المأكولة تُكتسب بإكراء الإبلِ وبإثمار نِتاجها وألبانها وجلودها

6

(وَلَكُمْ فِيهَا) مع ما فصل من أنواع المنافع الضرورية (حمال) أي زينةٌ في أعين الناس ووَجاهةٌ عندهم (حِينَ تُرِيحُونَ) ترُدّونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) تخرِجونها بالغداة من حظائرها إلى مسارحها فالمفعول محذوفٌ من كلا الفعلين لرعاية الفواصل وتعيين الوقتيين لأن ما يدور عليه أمرُ الجمال من تزين الأفنية والأكنافِ بها وبتجاوب ثُغائها ورُغائها إنما هو عند ورودها وصدورها في ذينك الوقتين وأما عند كونِها في المراعي فينقطع إضافتُها الحسية إلى أربابها وعند كونِها في الحظائر لا يراها راءٍ ولا ينظر إليها ناظرٌ وتقديمُ الإراحةِ على السَّرْح لتقدم الورودِ على الصدور ولكنوها أظهرَ منه في استتباع ما ذُكر من الجمال وأتمَّ في استجلاب الأنسِ والبهجة إذ فيها حضورٌ بعد غَيبة وإقبالٌ بعد إدبار على أحسنِ ما يكون ملأى البطونِ مرتفعةَ الضروع وقرىء حيناً تريحون وحيناً تسرحون على أن كِلا الفعلين وصفٌ لحيناً بمعنى تريحون فيه وتسرحون فيه

7

(وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ) جمعُ ثَقَلٍ وهُو متاعُ المسافر وقيل أثقالكم أجرامكم (إلى بَلَدٍ) قال ابن عباس رضي الله عنهما أريد به اليمنُ ومصرُ والشامُ ولعله نظر إلى أنها متاجرُ أهل مكة وقال عكرمةَ أريد به مكةُ ولعله نظر إلى أن أثقالَهم وأحمالهم عند القُفول من متاجرهم أكثرُ وحاجتُهم إلى الحمولة أمسُّ والظاهرُ أنه عام لكل بلد سحيق (لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه) واصلين إليه بأنفسكم مجردين عن الأثقال لولا الإبل (إِلاَّ بِشِقّ الأنفس) فضلاً عن استصحابها معكم وقرىء بفتح الشين وهما لغتان بمعنى الكُلفة والمشقة وقيل المفتوحُ مصدرٌ من شق الأمرُ عليه شقاً وحقيقتُه راجعة إلى الشِق الذي هو الصَّدْع والمكسورُ النصفِ كأنه يُذهب نصفَ القوة لما يناله من الجهد فالإضافة إلى الأنفس مجازيةٌ أو على تقديرِ مضافٍ أي وإلا بشق قُوى الأنفس وهو استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأشياء أي لم تكونوا بالغيه بشيءٍ من الأشياءِ إلا بشق الأنفس ولعل تغييرَ النظمِ الكريم السابقِ الدال على كون الأنعامِ مدار للنعم السابقة إلى الجملة الفعلية المفيدة لمجرد الحوث للإشعار بأن

النحل 8 9 هذه النعمةَ ليست في العموم بحسب المنشأ وبحسب المتعلق وفي الشمول للأوقات والاطّراد في الأحيان المعهودة بمثابة النعمِ السالفة فإنها بحسب المنشأ وخاصةٌ بالإبل وبحسب المتعلق بالضاربين في الأرض المتقلبين فيها للتجارة وغيرِها في أحايينَ غيرِ مطّردة وأما سائرُ النعم المعدودةِ فموجودةٌ في جميع أصناف الأنعامِ وعامةٌ لكافة المخاطبين دائماً أو في عامة الأوقات (إِنَّ رَبَّكُمْ لرءوف رَّحِيمٌ) ولذلك أسبغ عليكم هذه النعمَ الجليلةَ ويسّر لكم الأمورَ الشاقة

8

(والخيل) هو اسمُ جنس للفرس لا واحد له من لفظه كالإبل وهو عطفٌ على الأنعام أي خلق الخيل (والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا) تعليلٌ بمعظم منافعها وإلا فالانتفاعُ بها بالحمل أيضاً مما لا ريب في تحققه (وَزِينَةٌ) عطفٌ على محل لتركبوها وتجريدُه عن اللام لكونه فعلاً لفاعل المعلل دون الأولِ وتأخيرُه لكون الركوبِ أهمَّ منه أو مصدرٌ لفعل محذوفٍ أي وتتزيّنوا بها زينةً وقرىء بغير واو أي خلقها زينةً لتركبوها ويجوزُ أنْ يكونَ مصدراً واقعاً موقعَ الحالِ من فاعلِ تركبوها أو مفعولِه أي متزينيين بها أو متزينا بها (ويخلق مالا تَعْلَمُونَ) أي يخلق في الدنيا غيرَ ما عُدد من أصناف النعم فيكم ولكم مالا تعلمون كنهَه وكيفيةَ خلقِه فالعدولُ إلى صيغة الاستقبال للدِلالة على الاستمرار والتجددِ أو لاستحضار الصورة أو يخلق لكم في الجنة غيرَ ما ذُكر من النعم الدنيوية مالا تعلمون أي ما ليس من شأنكم أن تعلموه وهو ما أُشير إليه بقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى أعددت لعبادى الصالحين مالا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر ويجوز أن يكون هذا إخباراً بأنه سبحانه يخلق من الخلائق مالا علمَ لنا به دَلالةً على قدرته الباهرة الموجبةِ للتوحيد كنعمته الباطنة والظاهرة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عن يمين العرش نهراً من نور مثلَ السمواتِ السبع والأرضين السبع والبحارِ السبعة يدخل فيه جبريلُ عليه السلام كل سَحَر فيغتسل فيزداد نوراً إلى نور وجمالاً إلى جمال وعِظماً إلى عظم ثم ينتفض فيخلق الله تُعالى مِنْ كلِّ قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألفَ ملَك فيدخل منهم كل يوم سبعون ألفَ ملكٍ البيتَ المعمور وسبعون ألف ملك الكعبة لا يعودون إليه إلى يوم القيامة

9

(وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل) القصدُ مصدر بمعنى الفاعل يقال سبيلٌ قصْدٌ وقاصدٌ أي مستقيم على طريقة الاستعارة أو على نهج إسنادِ حال سالكِه إليه كأنه يقصِد الوجهَ الذي يؤمه السالكُ لا يعدِل عنه أي حقٌّ عليه سبحانه وتعالى بموجب رحمته ووعدِه المحتوم بيانُ الطريق المستقيمِ الموصلِ لمن يسلكه إلى الحقِّ الذي هو التوحيدُ بنصب الأدلةِ وإرسالِ الرسل وإنزال الكتبِ لدعوة الناس إليه أو مصدرٌ بمعنى الإقامة والتعديل قاله أبو البقاء ي عليه عز وجل تقويمُها وتعديلها أي جعلُها بحيث يصل سالكُها إلى الحق لكن لا بعدما كانت في نفسها منحرفةً عنه بل إبداعُها ابتداءً كذلك على نهج قوله سُبحان مَنْ صغر البعوضَ وكبّر الفيل وحقيقتُه راجعةٌ إلى ما ذكر من نصب الأدلةِ وقد فَعل ذلك حيث أبدع هذه البدائعَ التى كلُّ واحد منها

لاحبٌّ يهتدى بمناره وعلَمٌ يُستضاء بناره وأَرسل رسلاً مبشرين ومنذرين وأَنزل عليهم كتباً من جملتها هذا الوحيُ الناطقُ بحقيقة الحقِّ الفاحصِ عن كل ما جلّ من الأسرار ودقّ الهادي إلى سبيل الاستدلال بتلك الأدلةِ المفضية إلى معالم الهدى المنحية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردى ألا يُرى كيف بيّن أولاً تنزُّهَ جنابِ الكبرياء وتعالِيَه بحسب الذات عن أن يحوم حوله شائبةُ توهمِ الإشراك ثم أوضح سرَّ إلقاءِ الوحي على الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسلام وكيفيةَ أمرِهم بإنذار الناس ودعوتِهم إلى التوحيد ونهيِهم عن الإشراك ثم كرّ على بيان تعاليه عن ذلك بحسب الأفعالِ مرشداً إلى طريقة الاستدلالِ فبدأ بفعله المتعلق بمحيط العالم الجُسماني ومركزِه بقوله تعالى خُلِقَ السموات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم فصّل أفعالَه المتعلقةَ بما بينهما فبدأ بفعله المتعلّق بأنفس المخاطَبين ثم ذكر ما يتعلق بما لا بد لهم منه في معايشهم ثم بين قدرته على خلق مالا يحيط به علمُ البشر بقوله ويخلق مالا تَعْلَمُونَ وكلُّ ذلك كما ترى بيانٌ لسبيل التوحيد غِبَّ بيانٍ وتعديلٌ له أيُّما تعديلٍ فالمرادُ بالسبيل على الأول الجنسُ بدليل إضافة القصد إليه قوله تعالى (وَمِنْهَا) في محلِ الرفعِ على الابتداء إما باعتبار مضمونِه وإما بتقدير الموصوف كما في قوله تعالى ومنادون ذلك وقد مرَّ في قولِه تعالى وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله وباليوم الأخر الخ أي بعضُ السبيل أو بعضٌ من السبيل فإنها تؤنث وتذكر (جَائِرٌ) أي مائلٌ عن الحق منحرفٌ عنه لا يوصِل سالكَه إليه وهو طرقُ الضلال التي لا يكاد يحصى عددُها المندرجُ كلُّها تحت الجائر وعلى الثاني نفسُ السبيل المستقيم والضميرُ في منها راجع إليها بتقدير المضاف أي ومن جنسها لما عرفتَ من أنَّ تعديلَ السبيل وتقويمَه إبداعُه ابتداءً على وجه الاستقامةِ والعدالةِ لا تقويمُه بعد انحرافه وأياما كان فليس في النظم الكريم تغييرُ الأسلوب رعايةً لأمر مطلوب كما قيل فإن ذلك إنما يكون فيما اقتضى الظاهر سبكاً معيناً ولكن يُعدل عن ذلك لنُكتة أهمَّ منه كما في قوله سبحانه الذى يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ فإن مقتضى الظاهرِ أن يقال والذي يُسقِمني ويشفينِ ولكن غُيِّر إلى مَا عليهِ النظمُ الكريمُ تفادياً عن إسناد ما تكرهه النفسُ إليه سبحانه وليس المرادُ ببيان قصدِ السبيل مجردَ إعلامِ أنه مستقيمٌ حتى يصِحّ إسنادُ أنه جائرٌ إليه تعالى فيُحتاجَ إلى الاعتذار عن عدم ذلك على أنه لو اريد ذاك لم يوجد لتغيير الأسلوبِ نكتةٌ وقد بُين ذلك في مواضعَ غير معدودةٍ بل المرادُ ما مر من نصب الأدلةِ لهداية الناسِ إليه ولا إمكانَ لإسناد مثلِه إليه تعالى بالنسبة إلى الطريق الجائر بأن يقال وجائرها ثم يُغير سبكُ النظم عن ذلك لداعية أقوى منه بل الجملةُ الظرفيةُ اعتراضيةٌ جيء بها لبيان الحاجةِ إلى البيان والتعديل وإظهارِ جلالة قدرِ النعمة في ذلك والمعنى على الله تعالى بيانُ الطريق المستقيم الموصِل إلى الحقِّ وتعديلُه بما ذكر من نصب الأدلةِ ليسلُكَه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصِد وهذا هو الهدايةُ المفسرة بالدلالة على ما يوصلُ إلى المطلوب لا الهدايةُ المستلزمةُ للاهتداء البتةَ فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته بل هو مُخلٌّ بحكمته حيث يستدعيه تسويةَ المحسِن والمسيء والمطيعِ والعاصي بحسب الاستعدادِ وإليه أُشير بقوله تعالى (وَلَوْ شَاء الله لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لو شاء أن يهديَكم إلى ما ذكر من التوحيد هدايةً موصلةً إليه البتةَ مستلزِمةً لاهتدائكم أجمعين لفعل ذلك ولكن لم يشأه لأن مشيئتَه تابعةٌ للحكمة الداعية إليها ولا

النحل 10 11 حكمةَ في تلك المشيئةِ لِما أن الذي عليه يدورُ فلَكُ التكليفِ وإليه ينسحب الثوابُ والعقابُ إنما هو الاختيارُ الجُزئي الذي عليه يترتب الأعمالُ التي بها نيط الجزاءُ هذا هو الذي يقتضيهِ المقامُ ويستدعيه حسنُ الانتظام وقد فُسّر كونُ قصدِ السبيل عليه تعالى بانتهائه إليه نهج الاستقامةِ وإيثارُ حرفِ الاستعلاءِ على أداة الانتهاءِ لتأكيد الاستقامةِ على وجه تمثيليَ من غير أن يكون هناك استعلاءٌ لشيء عليه سبحانه وتعالى عنه علواً كبيراً كما في قوله تعالى هَذَا صراط عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ فالقصدُ مصدرٌ بمعنى الفاعل والمرادُ بالسبيل الجنس كما مرَّ وقوله تعالى وَمِنْهَا جَائِرٌ معطوفٌ على الجملة الأولى والمعنى أن قصدَ السبيلِ واصلٌ إليه تعالى بالاستقامة وبعضُها منحرفٌ عنه ولو شاء لهداكم جميعاً إلى الأول وأنت خبيرٌ بأنَّ هَذا حقٌّ في نفسه ولكنه بمعزل عن نكتة موجبةٍ لتوسيطه بين ما سبق من أدلة التوحيدِ وبين ما لحِق ولمّا بُيِّن الطريقُ السمعيُّ للتوحيد على وجه إجماليَ وفصِّلَ بعضُ أدلتِه المتعلقة بأحوال الحيواناتِ وعُقب ذلك ببيان السرِّ الداعي إليه بعثاً للمخاطبين على التأمل فيما سبق وحثًّا على حسن التلقي لما لحِق أُتبِع ذلك ذِكرَ ما يدل عليه من أحوال النبات فقيل

10

(هُوَ الذى أَنَزلَ) بقدرته القاهرة (مّنَ السماء) أي من السحاب أو من جانب السماء (مَاء) أي نوعاً منه وهو المطرُ وتأخرُه عن المجرور لِما مر مرارا من أن المقصودَ هو الإخبارُ بأنه أنزل من السماء شيئاً هو الماء لا أنه أنزله من السماء والسرُّ فيه ما سلف من أن عند تأخيرِ ما حقُّه التقديم يبقى الذهنُ مترقباً له مشتاقاً إليه فيتمكّن لديه عند وروده عليه فضل تمكن (لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ) أي ما تشربونه وهو إما مرتفعٌ بالظرف الأول أو مبتدأٌ وهو خبرُه والجملةُ صفة لماءً والظرفُ الثاني نصبَ على الحالية من شراب ومن تبعيضيةٌ وليس في تقديمه إيهامُ حصر المشروب فيه حتى يفتقر إلى الاعتذار بأنه لا بأس به لأن مياهَ العيون والأبيارِ منه لقوله تعالى فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الارض وقولُه تعالى فَأَسْكَنَّاهُ فِى الأرض وقيل الظرفُ الأولُ متعلقٌ بأنزل والثاني خبرٌ لشرابٌ والجملةُ صفةٌ لماءً وأنت خبير بأن ما فيه من توسيط المنصوبِ بين المجرورين وتوسيطِ الثاني منهما بين الماء وصفتِه مما لا يليقُ بجزالةِ نظمِ التنزيلِ الجليل (وَمِنْهُ شَجَرٌ) من ابتدائيةٌ أي ومنه يحصل شجرٌ ترعاه المواشي والمرادُ به ما ينبُت من الأرض سواءٌ كان له ساق أو لا أو تبعيضيةٌ مجازاً لأنه لما كان سقيُه من الماء جعل كأنه منه كقوله أسنمةُ الآبالِ في ربابه يعني به المطرَ الذي ينبت به الكلأُ الذي تأكله الإبلُ فتسمَن أسنمتُها وفي حديث عكرِمة لا تأكُلوا ثمنَ الشجر فإنه سُحْت يعني الكلأ (فيه تسيمون) ترعون من سامت الماشيةُ وأسامها صاحبها وأصلُها السُّومة وهي العلامةُ لأنها تؤثر بالرعي علاماتٍ في الأرض

11

(ينبت) أي الله عزَّ وجلَّ وقرىء بالنون (لَكُمْ بِهِ) بما أنزل من السماء (الزرع والزيتون والنخيل والاعناب) بيان للنعم الفائضة عليهم من الأرض

النحل 12 بطريق الاستئنافِ وإيثارُ صيغةِ الاستقبال للدِّلالةِ على التَّجددِ والاستمرارِ وأنها سنتُه الجاريةُ على مر الدهور أو لاستحضار صورةِ الإنبات وتقديمُ الظرفين على المفعول الصريحِ لما مر آنفاً مع ما في تقديم أولهما من الاهتمام به لإدخال المسرّةِ ابتداءً وتقديمُ الزرعِ على ما عداه لأنه أصلُ الأغذية وعَمودُ المعاش وتقديمُ الزيتون لما فيه من الشرف من حيث إنه أدام من وجه وفاكهة من وجه وتقديم النخيل على الأعناب لظهور أصالتِها وبقائها وجمع الأعناب للإشارة إلى ما فيها من الاشتمال على الأصناف المختلفةِ وتخصيصُ الأنواعِ المعدودة بالذكرِ مع اندراجِها تحتَ قولِه تعالى (وَمِن كُلّ الثمرات) للإشعار بفضلها وتقديمُ الشجر عليها مع كونه غذاءً للأنعام لحصوله بغير صنعٍ من البشر أو للإرشاد إلى مكارم الأخلاقِ فإن مقتضاها أن يكون اهتمامُ الإنسان بأمر ما تحت يده وأكمل من اهتمامه بأمر نفسه أو لأن أكثرَ المخاطَبين من أصحاب المواشي ليس لهم زرعٌ ولا ثمرٌ وقيل المراد تقديمُ ما يسام لا تقديمُ غذائه فإنه غذاءٌ حيوانيّ للإنسان وهو أشرف الأغذية وقرىء يَنبُت من الثلاثي مسنداً إلى الزرع وما عُطف عليهِ (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي في إنزال الماء وإنباتِ ما فُصّل (لآيَةً) عظيمة دالة على تفرده تعالى بالألوهية لاشتماله على كمال العلمِ والقدرةِ والحكمة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإن من تفكر في أن الحبةَ أو النواة تقع في الأرض وتصِل إليها نداوةٌ تنفُذ فيها فينشق أسفلُها فيخرُج منه عروق تنبسط في أعماق الأرضِ وينشق أعلاها وإن كانت منتكِسةً في الوقوع ويخرج منه ساقٌ فينمو ويخرج منه الأوراقُ والأزهارُ والحبوبُ والثمار المشتملةُ على أجسام مختلفةِ الأشكال والألوان والخواصِّ والطبائع وعلى نواة قابلةٍ لتوليد الأمثالِ على النمط المحرر لا إلى نهاية مع اتحاد الموادِّ واستواءِ نسبة الطبائعِ السفلية والتأثيراتِ العلوية بالنسبة إلى الكل علم أن مَنْ هذه أفعالُه وآثارُه لا يمكن أن يشبهه شيءٌ في شيءٍ من صفات الكمالِ فضلاً عن أن يشاركه أخص الأشياء في أخص صفاتِه التي هي الألوهيةُ واستحقاقُ العبادة تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً وحيث افتقر سلوكُ هذه الطريقةِ إلى ترتيب المقدّماتِ الفكرية قطَع الآيةَ الكريمةَ بالتفكر

12

(وسخر لكم الليل والنهار) يتعاقبان خِلْفةً لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها (والشمس والقمر) يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالةً وخلافةً وإصلاحِهما لما نيط بهما صلاحُه من المكونات التي من جملتها ما فُصّل وأُجْمل كلُّ ذلك لمصالحكم ومنافعكم وليس المرادُ بتسخيرها لها تمكينهم من تصرفها كيف شاءوا كما في قوله تعالى سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا ونظائرِه بل هو تصريفُه تعالى لها حسبما يترتب عليه منافعُهم ومصالحُهم كأن ذلك تسخيرٌ لهم وتصرفٌ من قبلهم حسب إرادتِهم وفي التعبير عن ذلك التصريف بالتسخير إيماءٌ إلى ما في المسخَّرات من صعوبة المأخذ بالنسبة إلى المخاطبين وإيثارُ صيغةِ الماضي للدَلالة عَلى أنَّ ذلكَ أمرٌ واحدٌ مستمر وإن تجددت آثارُه (والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ) مبتدأٌ وخبرٌ أي سائرُ النجوم في

النحل 13 حركاتها وأوضاعها من التثليث والتربيع ونحوهما مسخراتٌ لله تعالى أو لما خُلقن له بإرادته ومشيئتِه وحيث لم يكن عَودُ منافعِ النجوم إليهم في الظهور بمثابة ما قبلها من المَلَوَين والقمَرَين لم يُنسَبْ تسخيرُها إليهم بأداة الاختصاص بل ذُكر على وجه يفيد كونَها تحتَ ملكوتِه تعالى من غير دِلالةٍ على شيء آخرَ ولذلك عُدِل عن الجملة الفعليةِ الدَّالَّةِ على الحدوث إلى الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار وقرىء برفع الشمسَ والقمرَ أيضاً وقرىء بنصب النجوم على أنَّه مفعولٌ أولٌ لفعل مقدر ينبىء عنه الفعل المذكور ومسخرات مفعولٌ ثانٍ له أي وجعل النجوم مسخرات بأمره أو على أنه معطوفٌ على المنصوبات المتقدمة ومسخراتٌ حالٌ من الكل والعامل ما في سخّر من معنى نفعَ أي نفعكم بها حالَ كونها مسخرات الله الذي خلقها ودبرها كيف شاء أو لما خُلقن له بإيجاده وتقديرِه أو لحكمه أو مصدرٌ ميميّ جُمع لاختلاف الأنواعِ أي أنواعاً من التسخير وما قيل من أن فيه إيذاناً بالجواب عما عسى يقال أن المؤثرَ في تكوين النباتِ حركاتُ الكواكب وأوضاعُها بأن ذلك إنْ سَلِم فلا ريب في أنها أيضاً أمورٌ ممكنةُ الذات والصفات واقعةٌ على بعض الوجوه الممْكِنة فلا بد لها من موجد مخصّصٍ مختار واجبِ الوجود دفعاً للدَّوْر والتسَلْسُل فمبناه حسبانُ ما ذُكر أدلةً على وجودِ الصَّانعِ تعالى وقدرته واختيارِه وأنت تدري أنْ ليس الأمرُ كذلك فإنه ليس مما ينازَع فيه الخصمُ ولا يتلعثم في قبوله قال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السمواتِ والأرضِ وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ وقال تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السماء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الارض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله الآية وإنما ذلك أدلةُ التوحيد من حيث إن مَنْ هذا شأنُه لا يتوهم أنْ يشارَكه شيءٌ في شيء فضلاً عن أن يشاركه الجمادُ في الألوهية (إِنَّ فِى ذَلِكَ) أي فيما ذكر من التسخير المتعلّق بما ذكر مُجملاً ومفصلاً (لاَيَاتٍ) باهرةً متكاثرة (لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وحيث كانت هذه الآثارُ العلويةُ متعددةً ودلالةُ إما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمةِ على الوحدانية أظهرَ جُمع الآياتُ وعُلّقت بمجرد العقلِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى التأمل والتفكر ويجوز أن يكون المرادُ لقوم يعقلون ذلك فالمشار إليه حينئذ تعاجيبُ الدقائق المُودعةِ في العلويات المدلولِ عليها بالتسخير التي لا يتصدَّى لمعرفتها إلا المهَرةُ من أساطين علماءِ الحكمة ولا ريب في أن احتياجَها إلى التفكر أكثرُ

13

(وَمَا ذَرَأَ) عطفٌ على قوله تعالى والنجوم رفعاً ونصباً على أنه مفعولٌ لجعل أي وما خلق (لَكُمْ فِى الأرض) من حيوان ونبات حالِ كونه (مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ) أي أصنافُه فإن اختلافها غالباً يكون باختلاف اللون مسخرٌ لله تعالى أو لما خُلق له من الخواصّ والأحوال والكيفياتِ أو جُعل ذلك مختلفَ الألوان أي الأصنافِ لتتمتعوا من ذلك بأي صنف شئتم وقد عُطف على ما قبله من المنصوبات وعُقِّب بأن ذكرَ الخلق لهم مغنٍ عن ذكر التسخير واعتُذر بأن الأول لا يستلزم الثانيَ لزوماً عقلياً لجواز كونِ ما خُلق لهم عزيزَ المرام صعبَ المنال وقيل هو منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ أي خلق وأنبت على أن قوله مختلفاً ألوانه حالٌ من مفعوله (إِنَّ فِى ذَلِكَ) الذي ذكر من التسخيرات ونحوها (لآيَةً) بينةَ الدِلالةِ على أن مَنْ هذا شأنُه واحد لا نِدَّ له ولا ضِدّ (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) فإن ذلك غيرُ محتاج إلا إلى تذكرِ ما عسى يغفل عنه من العلوم

النحل 14 15 الضرورية وأما ما يقال من أن اختلافها في الطباع والهيآت والمناظر ليس إلا بصنع صانع حكيم فمداره مالو حنا به من حسبان ما ذُكر دليلاً على إثبات الصانعِ تعالى وقد عرفتَ حقيقةَ الحال فإن إيراد ما يدل على اتصافه سبحانه بما ذُكر من صفاتِ الكمالِ ليس بطريق الاستدلالِ عليه بل من المقدِّمات المسلَّمةِ جيء به للاستدلال به على ما يقتضيه ضرورة من وحدانيته تعالى واستحالةُ أنْ يشاركَه شيءٌ في الألوهية

14

(وَهُوَ الذى سَخَّرَ البحر) شروعٌ في تعدادِ النعمِ المتعلقة بالبحر إثرَ تفصيل النعمِ المتعلقة بالبر حيواناً ونباتاً أي جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والغَوْص والاصطياد (لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا) هو السمك والتعبيرُ عنه باللحم مع كونه حيواناً للتلويح بانحصار الانتفاعِ به في الأكل ووصفُه بالطراوة للإشعار بلطافته والتنبيهِ على وجوب المسارعةِ إلى أكله كيلا يتسارع إليه الفسادُ كما ينبىء عنه جعلُ البحر مبتدأَ أكلِه وللإيذان بكمال قدرتِه تعالى في خلقه عذباً طرياً في ماء زعاق ومن إطلاق اللحمِ عليه ذهب مالكٌ والثوري أن مَنْ حلفَ لا يأكلُ اللحم حنِث بأكله والجوابُ أن مبنى الأيمان العُرفُ ولا ريب في أنه لا يُفهم من اللحم عند الإطلاق ولذلك لو أمر خادمه بشراء اللحمِ فجاء بالسمك لم يكن ممتثلاً بالأمر ألا يرى إلى أن الله تعالى سمّى الكافرَ دابة حيث قال إِنَّ شَرَّ الدواب عند الله الذي كفروات ولا يحنَث بركوبه من حلَف لا يركب دابة (وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً) كاللؤلؤ والمَرْجان (تَلْبَسُونَهَا) عبر في مقام الامتنان عن لُبس نسائِهم بلبسهم لكونهن منهم أو لكون لُبسِهن لأجلهم (وَتَرَى الفلك) السفن (مَوَاخِرَ فِيهِ) جواريَ فيه مُقبلةً ومدبرة ومعترضة بريح واحدة تشقه بحَيزومها من المخْر وهو شقُّ الماء وقيل هو صوتُ جَرْي الفلك (وَلِتَبْتَغُواْ) عطف على تستخرجوا وما عُطف هو عليه وما بينهما اعتراضٌ لتمهيد مبادىء الابتغاءِ ودفعِ توهم كونِه باستخراج الحِلية أو على علةٍ محذوفةٍ أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا ذكره ابن الأنباري أو متعلقةٌ بفعل محذوفٍ أي وفعَل ذلك لتبتغُوا (من فضلِه) من سَعة رزقِه بركوبها للتجارة (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي تعرِفون حقوقَ نعمِه الجليلةِ فتقومون بأدائها بالطاعة والتوحيد ولعل تخصيصَ هذه النعمةِ بالتعقيب بالشكر من حيث إن فيها قطعاً لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلةٍ في مدة قليلة من غير مزاولةِ أسبابِ السفر بل من غير حركة أصلاً مع أنها في تضاعيف المهالكِ وعدمُ توسيط الفوزِ بالمطلوب بين الابتغاء والشكر للإيذان باستغنائه عن التَّصريحِ به وبحصولهما معاً

15

(وألقى فِى الارض رَوَاسِىَ) أي جبالاً ثوابتَ وقد مرَّ تحقيقُه في أول سُورة الرَّعدِ (أَن تَمِيدَ بِكُمْ) كراهةَ أنْ تميلَ بكم وتضطرب أولئلا تميدبكم فإن الأرضَ قبل أن تُخلقَ فيها الجبالُ كانت كرةً خفيفةً بسيطةَ الطبع وكان من حقها أن تتحرك بالاستدارة كالأفلاك أو تتحركَ بأدنى سبب محرِّك فلما خُلقت الجبال تفاوتت حافاتها وتوجهت الجبال

النحل 16 17 بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد وقيل لما خلق الله تعالى الأرضَ جعلت تمورُ فقالت الملائكة ما هي بمقر أحدٍ على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال {وأنهارا} أي وجعل فيه أنهاراً لأن في ألقى معنى الجعل {وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} بها إلى مقاصدكم

16

{وعلامات} معالمَ يَستدِلّ بها السابلةُ بالنهار من جبل ومنهل وريح وقد نُقل أن جماعة يشمّون الترابَ ويتعرفون به الطرقات {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} بالليل في البراري والبحارِ حيث لا علامة غيرُه والمرادُ بالنجم الجنسُ وقيل هو الثريا والفَرْقدان وبنات النعش والجدي وقرئ بضمتين وبضمة وسكون وهو جمع كرُهْن ورُهُن وقيل الأول بطريق حذف الواو من النجوم للتخفيف ولعل الضميرَ لقريش فإنهم كانوا كثيري الترددِ للتجارة مشهورين بالاهتداء بالنجوم في أسفارهم وصرفُ النظمِ عن سنن الخطاب وتقديمُ النجم وإقحامُ الضمير للتخصيص كأنه قيل وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون فالاعتبار بذلك والشكر عليه ألزم لهم وأوجب عليهم

17

{أَفَمَن يَخْلُقُ} هذه المصنوعاتِ العظيمةَ ويفعل هاتيك الأفاعيلَ البديعة أو يخلق كلَّ شيء {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} شيئاً أصلاً وهو تبكيتٌ للكفرة وإبطالٌ لإشراكهم وعبادتِهم للأصنام بإنكار ما يستلزمه ذلك من المشابهة بينها وبينه سبحانه وتعالى بعد تعدادِ ما يقتضي ذلك اقتضاء ظاهراً وتعقيبُ الهمزة بالفاء لتوجيه الإنكارِ إلى توهم المشابهةِ المذكورة على ما فُصِّل من الأمور العظيمة الظاهرةِ الاختصاصِ به تعالى المعلومة كذلك فيما بينهم حسبما يُؤذِن به ما تلوناه من قولُه تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ الآيتين والاقتصارُ على ذكر الخلقِ من بينها لكونه أعظمَها وأظهرَها واستتباعِه إياها أو لكون كلَ منها خلقاً مخصوصاً أي أبعدَ ظهورِ اختصاصِه تعالى بمبدئية هذه الشئون الواضحةِ الدَّلالةِ على وحدانيته تعالى وتفرّدِه بالألوهية واستبدادِه باستحقاق العبادةِ يُتصوّر المشابهةُ بينه وبين ما هو بمعزل من ذلك بالمرة كما هو قضيةُ إشراكِكم ومدارها وإن كان على تشبيه غير الخالق بالخالق لكن التشبيه حيث كان نسبةٍ تقوم بالمنتسبين اختير مَا عليهِ النظمُ الكريمُ مراعاةً لحقّ سبْقِ الملَكةِ على العدم وتفادياً عن توسيط عدمِها بينها وبين جزئياتها المفصلة قبلها تبيها على كمالِ قبحِ ما فعلوه من حيث إن ذلك ليس مجردَ رفعِ الأصنام عن محلها بل هو حطٌّ لمنزلة الربوبيةِ إلى مرتبة الجماداتِ ولا ريب في أنه أقبحُ من الأول والمرادُ بمن لا يخلق كلُّ ما هذا شأنُه كائناً ما كان والتعبير عنه بما يختص بالعقلاء للمشاكلة أو العقلاءِ خاصة ويُعرف منه حالُ غيرهم لدِلالة النص فإن من يخلق حيث لم يكن كمن لا يخلق وهو من جملة العقلاءِ فما ظنُّك بالجماد وأياما كان فدخولُ الأصنام في حكم عدمِ المماثلة والمشابهةِ إما بطريق الاندراجِ تحت الموصولِ العام وإما بطريق الانفهام بدلالة النص على الطريقة البرهانية لا بأنها هي المرادةُ بالموصول خاصة {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أَلاَ تلاحظون فلا تتذكرون ذلك فإنه لوضوحه بحيث لا يفتقر إلى شيء سوى التذكر

18

{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله} تذكيرٌ إجمالي لنعمه تعالى بعد تعدادِ طائفة منها وكان الظاهرُ إيرادَه عقيبَها تكملةً لها على طريقة قوله تعالى ويخلق مالا تَعْلَمُونَ ولعل فصلَ ما بينهما بقوله تعالى أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ للمبادرة إلى إلزام الحجة وإلقام الحجر إثرَ تفصيلِ ما فُصل من الأفاعيل التي هي أدلةُ الوحدانية مع ما فيه من سر ستقف عليه ودَلالتُها عليها وإن لم تكن مقصورةً على حيثية الخلق ضرورةَ ظهور دلالتِها من حيثية الإنعام أيضاً لكنها حيث كانت مستتبعاتِ الحيثيةِ الأولى استُغنيَ عن التصريح بهائم بُين حالها بطريق الإجمال أي إن تعدو نعمته الفائضةَ عليكم ممَّا ذُكر ومَا لم يذكر حسبما يُعرب عنه قوله تعالى هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً {لاَ تُحْصُوهَا} أي لا تطيقوا حصرَها وضبطَ عددِها ولوْ إجمالاً فضلاً عن القيام بشكرها قد خرجنا عن عُهدة تحقيقه في سورة إبراهيمَ بفضل الله سبحانه {إِنَّ الله لَغَفُورٌ} حيث يستُر ما فرَط منكُم من كفرانها والإخلالِ بالقيام بحقوقها ولا يعاجلُكم بالعقوبة على ذلك {رَّحِيمٌ} حيث يُفيضها عليكم مع استحقاقكم للقطع والحِرمان بما تأتون وتذرون من أصناف الكفرِ التي من جملتها عدمُ الفرق بين الخالقِ وغيرِه وكلٌّ من ذلك نعمةٌ وأيُّما نعمة فالجملة تعليلٌ للحكم بعدم الإحصاءِ وتقديمُ وصفِ المغفرة على نعت الرحمةِ لتقدم التخلية على التحلية

19

{والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} تُضمرونه من العقائد والأعمال {وَمَا تُعْلِنُونَ} أي تظهرونه منهما وحُذف العائد لمراعاة الفواصلِ أي يستوي بالنسبة إلى علمه المحيطِ سرُّكم وعلنُكم وفيه من الوعيد والدِلالة على اختصاصه سبحانه بنعوت الإلهية مالا يخفى وتقديمُ السرِّ على العلن لما ذكرناه في سُورةِ البقرةِ وسُورة هودٍ من تحقيق المساواة بين عِلْميه المتعلِّقَين بهما على أبلغ وجهٍ كأن عِلمَه تعالى بالسرّ أقدمُ منه بالعلن أو لأن كلَّ شيء يعلن فهو قبل ذلك مضمرٌ في القلب فتعلّقُ علمِهِ تعالَى بحالتِهِ الأولى أقدمُ من تعلقه بحالته الثانية

20

{والذين يَدْعُونَ} شروع في تحقيق كونِ الأصنام بمعزل من استحقاق العبادةِ وتوضيحُه بحيث لا يبقى فيه شائبةُ ريب بتعديد أوصافِها وأحوالِها المنافية لذلك منافاةً ظاهرةً وتلك الأحوالُ وإن كانت غنيةً عن البيان لكنها شُرحت للتنبيه على كمال حماقةِ عبدَتِها وأنهم لا يعرفون ذلك إلا بالتصريح أي والآلهةُ الذين يعبدهم الكفار {مِن دُونِ الله} سبحانه وقرئ على صيغة المبني للمفعول وعلى الخطاب {لاَ يَخْلُقُونَ شيئا} من الأشياء أصلا أي ليس من شأنهم ذلك ولمَّا لم يكُنْ بينَ نفي الخالقية وبين المخلوقية تلازمٌ بحسب المفهومِ وإن تلازما في الصدق أثبت لهم ذلك تصريحا فقيل {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي شأنُهم ومقتضى ذاتِهم المخلوقيةُ لأنها ذواتٌ ممكنةٌ مفتقرةٌ في ما هياتها ووجوداتها إلى الموجد وبناء الفعل للمفعول لتحقيق التضادّ والمقابلة بين ما أُثبت لهم وبين ما نُفي

النحل 21 23 عنهم من وصفي المخلوقية والخالقية وللإيذان بعدم الافتقار إلى بيان الفاعلِ لظهور اختصاصِ الفعل بفاعله جل جلاله ويجوز أن يُجعل الخلقُ الثاني عبارةً عن النحت والتصوير رعايةً للمشاكلة بينه وبين الأول ومبالغةً في كونها مصنوعين لعبدتهم وأعجز عنهم وإيذاناً بكمال ركاكةِ عقولهم حيث أشركوا بخالقهم مخلوقَهم وأما جعلُ الأول أيضاً أيضاً عبارةً عن ذلك كما فعل فلا وجه له إذ القدرةُ على مثل ذلك الخلقِ ليست مما يدور عليه استحقاقُ العبادة أصلاً ولِما أن إثباتَ المخلوقية لهم غيرُ مستدعٍ لنفي الحياة عنهم لِما أن بعض المخلوقين أحياءٌ صرح بذلك فقيل

21

{أَمْوَاتٌ} وهو خبرٌ ثان للموصول لا للضمير كما قيل أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وحيث كان بعضُ الأموات مما يعتريه الحياة سابقاً أو لاحقاً كأجساد الحيوان والنطف التي يُنشِئها الله تعالى حيواناً احتُرز عن ذلك فقيل {غَيْرُ أَحْيَاء} أي لا يعتريها الحياة أصلاً فهي أمواتٌ على الإطلاق وأما قوله تعالى {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي ما يشعر أولئك الآلهةُ أيان يُبعث عَبَدتُهم فعلى طريقة التهكمِ بهم لأن شعورَ الجماد بالأمور الظاهرة بديهيُّ الاستحالة عند كل أحد فكيف بما لا يعلمُه إلا العليمُ الخبيرُ وفيه إيذانٌ بأن البعث من لوازم التكليفِ وأن معرفةَ وقته مما لابد منه في الألوهية

22

{إلهكم إله واحد} لا يشارَكه شيءٌ في شيءٍ وهو تصريحٌ بالمدعى وتمحيضٌ للنتيجة غِبَّ إقامةِ الحجة {فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة} وأحوالِها التي من جملتها ما ذُكر من البعث وما يعقُبه من الجزاء المستلزِمِ لعقوبتهم وذِلتهم {قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} للوَحدانية جاحدةٌ لها أو للآيات الدالة عليها {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} عن الاعتراف بها أو عن الآيات الدالة عليها والفاء للإيذان بأن إصرارَهم على الإنكار واستمرارَهم على الاستكبار وقعَ موقع النتيجة للدلائل الظاهرةِ والبراهينِ الباهرة والمعنى أنه قد ثبت بما قُرّر من الحجج والبينات اختصاصُ الإلهية به سبحانه فكان من نتيجة ذلك إصرارُهم على ما ذكر من الإنكار والاستكبار وبناءُ الحكم المذكورِ على الموصول للإشعار بكونه معللاً بما في حيز الصلة فإن الكفرَ بالأخرة وبما فيها من البعث والجزاءِ المتنوِّع إلى الثواب على الطاعة والعقابِ على المعصية يؤدِّي إلى قصر النظر على العاجل والإعراضِ عن الدلائل السمعية والعقليةِ الموجبِ لإنكارها وإنكارِ مؤدّاها والاستكبارِ عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتصديقِه وأما الإيمانُ بها وبما فيها فيدعو لا محالة إلى التأمل في الآيات والدلائلِ رغبةً ورهبة فيورث ذلك يقيناً بالوحدانية وخضوعاً لأمر الله تعالى

23

{لاَ جَرَمَ} أي حقاً وقد مرَّ تحقيقُه في سورة هود {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} من إنكار قلوبِهم {وَمَا يُعْلِنُونَ} من استكبارهم وقولِهم للقرآن أساطيرُ الأولين وغيرِ ذلك من قبائحهم فيجازيهم بذلك {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين} تعليلٌ لما تضمنه الكلامُ من الوعيد أي لا يحب المستكبرين عن التوحيد أو عن الآيات الدالة عليها أو

النحل 24 26 لا يحب جنسَ المستكبرين فكيف بمن استكبر عما ذكر

24

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي لأولئك المنكِرين المستكبرين وهو بيانٌ لإضلالهم غِبَّ بيانِ ضلالهم {مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ} القائلُ الوافدون عليهم أو المسلمون أو بعضٌ منهم على طريق التهكم وماذا منصوبٌ بما بعده أو مرفوع أي أيَّ شيءٍ أنزل أو ما الذي أنزله {قَالُواْ أساطير الأولين} أي ما تدّعون نزوله والمنزلُ بطريق السخرية أحاديثُ الأولين وأباطيلهم وليس من الإنزال في شيء قيل هؤلاء القائلون هم المقتسمون الذين اقتسموا مداخل مكة ينفِّرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سؤال وفودِ الحاجِّ عما نزل عليه صلى الله عليه وسلم

25

{لِيَحْمِلُواْ} متعلق بقالوا أي قالوا ما قالوا ليحملوا {أَوْزَارَهُمْ} الخاصةَ بهم وهي أوزارُ ضلالهم {كَامِلَةٌ} لم يكفَّرْ منها شيءٌ بنكبة أصابتهم في الدنيا كما يكفّر بها أوزارُ المؤمنين {يَوْمُ القيامة} ظرفٌ ليحمِلوا {وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ} وبعضِ أوزارِ مَنْ ضل بإضلالهم وهو وِزرُ الإضلال لأنهما شريكان هذا يُضله وهذا يطاوعه فيتحاملان الوزر واللام للتعليل في نفس الأمر من غير أن يكون غرضاً وصيغةُ الاستقبال الدلالة على استمرار الإضلالِ أو باعتبار حال قولِهم لا حالِ الحمل {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حالٌ من الفاعل أي يضلونهم غيرَ عالمين بأن ما يدْعون إليه طريقٌ الضلال وأمَّا حملُه على مَعْنَى غيرَ عالمين بأنهم يحمِلون يوم القيامة أوزارَ الضلال والإضلال على أن يكونَ العاملُ في الحال قالوا وتأييده بما سيأتي م قوله تعالى وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ من حيث إن مَنْ حملِ ما ذكر من أوزار الضلالِ والإضلال من قبيل إتيانِ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ فيردُّه أن الحملَ المذكورَ إنما هو يوم القيامة والعذابَ المذكور إنما هو العذابُ الدنيوي كما ستقف عليه أوحال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّلٌ وفائدةُ التقييد بها الإشعارُ بأن مكرهم لا يرُوج عند ذي لُب وإنما يتبعهم الأغبياءُ والجهلة والتنبيهُ على أن جهلَهم ذلك لا يكون عذراً إذ كان يجبُ عليهم أنْ يبحثوا ويميزوا بين المحق الحقيقِ بالاتباع وبين المُبطل {أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} أي بئس شيئاً يَزِرُونه ما ذكر

26

{قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ} وعيدٌ لهم برجوع غائلة مكرِهم إلى أنفسهم كدأبِ مِن قَبْلِهِم منَ الأممِ الخاليةِ الذين أصابهم ما أصابهُم من العذابِ العاجل أي قدسوا منصوباتٍ ليمكروا بها رسلَ الله تعالى {فَأَتَى الله} أي أمر هـ وحكمه {بنيانهم} وقرئ بيتهم وبيوتهم {مّنَ القواعد} وهي الأساطينُ التي تعمِده أو أساسُه فضعضَعَتْ أركانَه {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} أي سقط عليهم سقفُ بنيانهم إذ لا يتصور له القيام

النحل 27 بعد تهدّم القواعدِ شُبّهت حالُ أولئك الماكرين في تسويتهم المكايدَ والمنصوباتِ التي أرادوا بها الإيقاعَ برسل الله سبحانه وفي إبطاله تعالى تلك الحيلَ والمكايدَ وجعلِه إياها أسباباً لهلاكهم بحال قومٍ بنَوا بنياناً وعمَدوه بالأساطين فأُتيَ ذلك من قِبل أساطينِه بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف فهلكوا وقرئ فخر عليهم السُّقُفُ بضمتين {وأتاهم العذاب} أي الهلاك والدمار {مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} بإتيانه منه بل يتوقعون إتيانَ مقابلِه مما يريدون ويشتهون والمعنى أن هؤلاء الماكرين القائلين للقرآن العظيم أساطيرُ الأولين سيأتيهم من العذاب مثلُ ما أتاهم وهم لا يحتسبون والمرادُ به العذابُ العاجل لقوله سبحانه

27

{ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ} فإنه عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلام أي هذا الذي فُهم من التمثيل من عذاب هؤلاءِ أو ما هو أعمُّ منه ومما ذكر من عذاب أولئك جزاؤُهم في الدُّنيا وَيَوْمَ القيامة يُخزيهم أي يُذِلهم بعذاب الخِزْي على رؤس الأشهادِ وأصلُ الخزي ذُلٌّ يستحي منه وثم للإيماء إلى ما بين الجزاءين من التفاوت مع ما يدل عليه من التراخي الزماني وتغييرُ السبك بتقديم الظرف ليس لقصر الخزي على يوم القيامة كما هو المتبادَرُ من تقدير الظرف على الفعل بل لأن الإخبارَ بجزائهم في الدنيا مؤذِنٌ بأن لهم جزاء أخرويا فتقي النفسُ مترقبة إلى وروده سائلةً عنه بأنه ماذا مع تيقنها بأنه في الآخرة فسيق الكلامُ على وجه يُؤذِن بأن المقصود بالذكر إخزاؤهم لا كونُه يوم القيامة والضمير إما للمفترين في حقِّ القرآنِ الكريمِ أولهم ولمن مُثّلوا بهم من الماكرين كما أشير إليه وتخصيصُه بهم يأباه السِّباقُ والسياق كما ستقف عليه {وَيَقُولُ} لهم تفضيحاً وتوبيخاً فهو الخ بيان للإخزاء {أَيْنَ شُرَكَائِىَ} أضافهم إليه سبحانه حكاية لإضافتهم الكاذبة ففيه توبيخ إثر توبيخٌ مع الاستهزاء بهم {الذين كُنتُمْ تشاقون فِيهِمْ} أي تخاصمون الأنبياءَ والمؤمنين في شأنهم بأنهم شركاءُ حقاً حين بينوا لكم بطلانها والمراد بالاستفهام استحضارها للشفاعة أو المدافعةُ على طريقة الاستهزاء والتبكيتِ والاستفسارُ عن مكانهم لا يوجب غَيبتَهم حقيقةً حتى يُعتذَرَ بأنهم يجوز أن يُحال بينهم وبين عبدَتِهم حينئذ ليتفقدوها في ساعة علقوا بها الرجاءَ فيها أو بأنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم غُيّب بل يكفي في ذلك عدمُ حضورهم بالعنوان الذي كانوا يزعُمون أنهم متصفون من عنوان الإلهية فليس هناك شركاءُ ولا أماكنُها على أن قوله ليتفقدوا ليس بسديد فإنه قد تبين عندهم الأمرُ حينئذ فرجعوا عن ذلك الزعم الباطلِ فكيف يتصور منهم التفقد وقرئ بكسر النون أي تشاقّونني على أن مشاقّةَ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين لا سيما في شأن متعلق به سبحانه مشاقةٌ له عز وجل (قَالَ الذين أُوتُواْ العلم) من أهل الموقفِ وهم الأنبياءُ والمؤمنون الذين أوتوا علماً بدلائل التوحيدِ وكانوا يدْعونهم في الدنيا إلى التوحيد فيجادلونهم ويتكبرون عليهم أي توبيخا لهم وإظهار للشماتة بهم وتقريراً لما كانوا يعِظونهم وتحقيقاً لما أوعدوهم به وإيثارُ صيغةِ الماضي الدلالة على تحققه وتحتّم وقوعِه حسبما هو

النحل 28 29 المعتادُ في إخباره سبحانه وتعالى كقوله وَنَادَى أصحاب الجنة ونادى أصحاب الأعراف {إِنَّ الخزى} الفضيحةَ والذل والهوان {اليوم} منصوبٌ بالخزي على رأي من يرى إعمالَ المصدرِ المصدّر باللام أو بالاستقرار في الظرف وفيه فصلٌ بين العامل والمعمول بالمعطوف إلا إنه مغتفر في الظروف وإبراده للإشعار بأنهم كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ في عزّة وشِقاق {والسوء} العذاب {عَلَى الكافرين} بالله تعالى وبآياته ورسله

28

{الذين تتوفاهم الملائكة} بتأنيث الفعل وقرئ بتذكيره وبإدغام التاء في التاء والعدولُ إلى صيغة المضارعِ لاستحضار صورةِ توفِّيهم إياهم لما فيها من الهول والموصولُ في محل الجرِّ على أنه نعتٌ للكافرين أو بدلٌ منه أوفى محل النصبِ أو الرفع على الذم وفائدتُه تخصيصُ الخزي والسوءِ بمن استمر كفرُه إلى حينِ الموت دون مَن آمن منهم ولو في آخر عُمره أي على الكافرين المستمرين على الكفر إلى أن يتوفاهم الملائكة {ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} أي حالَ كونهم مستمرين على الكفر فإنه ظلمٌ منهم لأنفسهم وأيُّ ظلم حيث عرّضوها للعذاب المخلّد وبدّلوا فطرةَ الله تبديلاً {فَأَلْقَوُاْ السلم} أي فيُلقون والعدولُ إلى صيغة الماضي الدلالة على تحقق الوقوعِ وهو عطف على قوله تعالى وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ وما بينهما جملةٌ اعتراضية جيء بها تحقيقاً لما حاق بهم من الخزي على رؤوس الأشهادِ أي فيُسالمون ويتركون المُشاقّةَ وينزِلون عما كانُوا عليهِ في الدُّنيا من الكِبْر وشدةِ الشكيمة قائلين {مَا كُنَّا نَعْمَلُ} في الدنيا {مِن سُوء} أي من شرك قالوه منكِرين لصدوره عنهم كقولهم والله رَبّنَا مَا كُنَّا مشركين وإنما عبر واعنه بالسوء اعترافاً بكونه سيئاً لا إنكاراً لكونه كذلك مع الاعتراف بصدوره عنهم ويجوز أن يكون تفسيراً للسَّلَم على أن يكون المرادُ به الكلامَ الدالَّ عليه وعلى التقديرين فهو جوابٌ عن قوله سبحانه أين شركائي في سورة الأنعام لا عن قول أولي العلمِ ادعاءً لعدم استحقاقهم لما دهمهم من الخزي والسوء {بلى} رد عليهم من قِبل أولي العلم وإثباتٌ لما نفَوْه أي بلى كنتم تعملون ما تعملون {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فهو يجازيكم عليه وهذا أوانُه

29

{فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} أي كل صنف بابه المعدلة وقيل أبوابُها أصنافُ عذابها فالدخولُ عبارةٌ عن الملابسة والمقاساة {خالدين فِيهَا} إن أريد بالدخول حدوثُه فالحال مقدّرة وإن أريد مطلقُ الكون فيها فهي مقارِنة {فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} عن التوحيد كما قال تعالى قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ وذكرُهم بعنوان التكبر للإشعار بعلّيته لثُوائهم فيها والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي جهنم وتأويلُ قولهم مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء بأنا ما كنا عاملين ذلك في اعتقادنا رَوْماً للمحافظة على أن لا كذِبَ ثمة يرده الردُّ المذكور وما فيه سورة الأنعام من قوله تعالى انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أنفسهم

النحل

30

30 - 32 {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا} أي المؤمنين وُصفوا بالتقوى إشعاراً بأنَّ ما صدرَ عنُهم من الجواب ناشئ عن التقوى {مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا} سلكوا في الجواب مسلك السؤالِ من غير تلعثم ولا تغييرٍ في الصورة والمعنى أي أنزل خيراً فإنه جوابٌ مطابق للسؤال ولسبك الواقع في نفس الأمر مضموناً وأما الكفرةُ فإنهم خذلهم الله تعالى كما غيروا الجوابَ عن نهج الحق الواقعِ الذي ليس له من دافع غيّروا صورتَه وعدَلوا بها عن سَنن السؤال حيث رفعوا الأساطير رَوماً لما مر من إنكار النزول رُوي أن أحياءَ العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فإذا جاء الوافد كفّه المقتسمون وأمروه بالانصراف وقالوا إن لم تلفه كان خيراً لك فيقول أنا شرُّ وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمرَ محمد وأراه فيلقى أصحابَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ورضي عنهم فيخبرونه بحقيقة الحالِ فهم الذين قالوا خيراً {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} أي أعمالَهم أو فعلوا الإحسانَ {فِى هذه} الدار {الدنيا حَسَنَةٌ} أي مثوبةٌ حسنةٌ مكافأة فيها {وَلَدَارُ الاخرة} أي مثوبتُهم فيها {خَيْرٌ} مما أوتوا في الدنيا من المثوبة أو خيرٌ على الإطلاق فيجوز إسنادُ الخيرية إلى نفس دارِ الآخرة {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين} أي دار الآخرة حُذف لدلالةِ ما سبق عليه وهذا كلام مبتدأ مدَح الله تعالى به المتقين وعدّ جوابَهم المَحْكيَّ من جملة إحسانِهم ووعدهم بذلك ثوابي الدنيا والآخرة فلا محلَّ له من الإعراب أو بدلٌ من خيراً أوتفسير له أي أنزل خيراً هو هذا الكلامُ الجامعُ قالوه ترغيباً للسائل

31

{جنات عَدْنٍ} خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي لهم جنات ويجوز أن يكون هو المخصوصَ بالمدح {يَدْخُلُونَهَا} صفةٌ لجناتُ على تقدير تنكيرِ عدنٍ وكذلك {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} أو كلاهما حال على تقدير عَلَميته {لَّهُمْ فِيهَا} في تلك الجنات {ما يشاؤون} الظرفُ الأول خبرٌ لما والثاني حالٌ منه والعاملُ ما في الأول أو متعلق به أي حاصلٌ لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ من أنواع المشتَهيات وتقديمُه للاحتراز عن توهم تعلّقِه بالمشيئة أو لما مر مرارا من أن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ يوجب ترقب النفس إليه فيتمكن عند ورودِه عليها فضلُ تمكن {كذلك} مثلَ ذلك الجزاءِ الأوفى {يَجْزِى الله المتقين} اللام للجنس أي كلَّ من يتقي من الشِرْك والمعاصي ويدخُل فيه المتقون المذكورون دخولاً أولياً ويكون فيه بعثٌ لغيرهم على التقوى أو للعهد فيكون فيه تحسيرٌ للكفرة

32

{الذين تتوفاهم الملائكة} نعت للمتقين وقوله تعالى {طَيّبِينَ} أي طاهرين عن دنس الظلمِ لأنفسهم حال من الضمير

النحل 33 34 وفائدتُه الإيذانُ بأن مَلاكَ الأمر في التقوى هو الطهارةُ عما ذكر إلى وقت توفيهم ففيه حثٌّ للمؤمنين على الاستمرار على ذلك ولغيرهم على تحصيله وقيل فرحين طيِّبي النفوسِ ببشارة الملائكة إياهم بالجنة أو طيبين بقبض أرواحِهم لتوجه نفسهم بالكلية إلى جناب القُدس {يَقُولُونَ} حالٌ من الملائكة أي قائلين لهم {سلام عَلَيْكُمُ} قال القرظي رحمه الله إذا استُدْعيَت نفسُ المؤمن جاءه ملكُ الموت عليه السلام فقال السلام عليك يا وليَّ الله الله تعالى يقرأ عليك السلام وبشّره بالجنة {ادخلوا الجنة} اللام للعهد أي جناتِ عدن الخ لذلك جُرّدت عن النعت والمرادُ دخولُهم لها في وقته فإن ذلك بشارةٌ عظيمة وإن تراخى المبشَّرُ به لا دخولُ القبر الذي هو روضةٌ من رياضها إذ ليس في البِشارة به ما في البشارة بدخول نفسِ الجنة {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بسبب ثباتِكم على التقوى والطاعة أو بالذي كنتم تعملونه من ذلك وقيل المرادُ بالتوفّي التوفي للحشر لأن الأمر بالدخول حينئذ يتحقق

33

{هَلْ يَنظُرُونَ} أيْ ما ينتظر كفارُ مكةَ المارُّ ذكرُهم {إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة} لقبض أرواحِهم بالعذاب جُعلوا منتظرين لذلك وشتان بينهم وبين انتظارِه لا لأنه يلحقهم البتةَ لحوقُ الأمر المنتظرِ بل لمباشرتهم لأسبابه الموجبة المؤديةِ إليه فكأنهم يقصِدون إتيانه ويترصدون لوردوه وقرئ بتذكير الفصل {أو يأتي أمر ربك} التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم إشعارٌ بأن إتيانَه لطفٌ به صلى الله عليه وسلم وإن كان عذاباً عليهم والمرادُ بالأمر العذابُ الدنيويُّ لا القيامةُ لكن لا لأن انتظارها يجامع انتظارِ إتيان الملائكةِ فلا يلائمة العطفُ بأو لأنها ليست نصافى العناد إذ يجوز أن يعتبر منعُ الخلوّ ويرادَ بإيرادها كفايةُ كل واحد من الأمرين في عذابهم بل لأن قوله تعالى فيما سيأتي ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فأصابهم الآية صريحٌ في أنَّ المرادَ به ما أصابهُم من العذابِ الدنيوي {كذلك} أي مثلَ فعلِ هؤلاء من الشرك والظلمِ والتكذيب والاستهزاء {فَعَلَ الذين} خلَوا {مِن قَبْلِهِم} من الأممِ {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله} بما سيُتلى من عذابهم {ولكن كَانُواْ} بما كانوا مستمرين عليه من القبائح الموجبةِ لذلك {أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} كان الظاهرُ أن يقال ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين كما في سورة الزخرف لكنه أوثر مَا عليهِ النظمُ الكريمُ لإفادة أن غائلةَ ظلمِهم آيلةٌ إليهم وعاقبتَه مقصورةٌ عليهم مع استلزام اقتصارِ ظلمِ كل أحد على نفسه من حيث الوقوعُ اقتصارَه عليه من حيث الصدور وقد مرَّ تحقيقُه في سورة يونس

34

{فَأَصَابَهُمْ} عطف على قوله تعالى فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ وما بينهما اعتراضٌ لبيان أن فعلهم ذلك ظلمٌ لأنفسهم {سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أي أجزيةُ أعمالِهم السيئة على طريقة تسمية المسبَّب باسم سببِه إيذانا بفظاعته لا على حذف المضاف فإنه يُوهِم أن لهم أعمالاً غيرَ سيئاتهم {وَحَاقَ بِهِم} أي أحاط بهم من الحَيق الذي هو إحاطةُ الشر وهو أبلغ من الإصابة وأفظع {مَّا كانوا به يستهزؤون} من العذاب

35

6 - {وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ} أي أهلُ مكة وهو بيانٌ لفنٍ آخرَ من كفرهم والعدولُ عن الإضمار إلى الموصول لتقريعهم بما في حيز الصلة وذمِّهم بذلك من أول الأمر {لَوْ شآء الله ما عبدنا مِن دُونِهِ مِن شَىْء} أيْ لو شاءَ عدمَ عبادتِنا لشيء غيرِه كما تقول لما عبدنا ذلك {نحن ولا آباؤنا} الذي نقتدي بهم في ديننا {وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء} من السوائب والبحائرِ وغيرِها وإنما قالوا ذلك تكذيبا للرسول صلى الله عليه وسلم وطعناً في الرسالة رأساً متمسكين بأن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأْ يمتنع فلو أنه شاء أن نوحّده وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ولا نحرِّمَ مما حرمنا شيئاً كما يقول الرسلُ وينقُلونه من جهةِ الله عزَّ وجل لكان الأمرُ كما شاء من التوحيد ونفي الإشراكِ وما يتبعهما وحيث لم يكن كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئاً من ذلك وإنما يقوله الرسل من تلقاء أنفسهم فأجيب عنه بقوله عز وجل {كذلك} أي مثلَ ذلك الفعلِ الشنيع {فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِم} من الأمم أي أشركوا بالله وحرموا حِلَّه وردوا رسلَه وجادلوهم بالباطل حين نبهوهم على الخطأ وهدوهم إلى الحق {فَهَلْ عَلَى الرسل} الذين يُبَلّغُونَ رسالاتِ الله وعزائمَ أمره ونهيِه {إِلاَّ البلاغ المبين} أي ليست وظيفتُهم إلا تبليغَ الرسالة تبليغاً واضحاً أو موضَّحاً وإبانةً طريقَ الحق وإظهارَ أحكام الوحي الذي من جملتها تحتّمُ تعلقِ مشيئةِ الله تعالى باهتداء من صرف قدرته واختباره إلى تحصيل الحق لقوله تعالى والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وأما إلجاؤهم إلى ذلك وتنفيذُ قولِهم عليهم شاءوا أو أبواكما هو مقتضى استدلالِهم فليس ذلك من وظيفتهم ولا من الحكمةِ التي عليَها يدورُ أمرُ التكليفِ في شيء حتى يُستدلَّ بعدم ظهور آثارِه على عدم حقيقة الرسلِ أو على عدم تعلقِ مشيئتِه تعالى بذلك فإن ما يترتب عليه الثوابُ والعقابُ من أفعال العباد لابد في تعلق مشيئتِه تعالى بذلك فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من أفعال العباد لابد في تعلق مشيئتِه تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختياريةِ له وصرفِ اختيارِهم الجزئيِّ إلى تحصيله وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريَّيْن فالفاءُ للتعليل كأنه قيل كذلك فعل أسلافهم وذلك باطل فإن الرسلَ ليس شأنُهم إلا تبليغَ أوامرِ الله تعالى ونواهيه لا تحقيقَ مضمونِهما وإجراءَ موجبهما على الناس قسرا وإلجاء وإبراد كلمة على للإيذان بأنهم في ذلك مأمورون أو بأن ما يبلغونه حقٌّ للناس عليهم إيفاؤه وبهذا ظهر أن حملَ قولِهم لَوْ شَاء الله الخ على الاستهزاء لا يلائم الجواب والله تعالى أعلم بالصواب

36

{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً} تحقيقٌ لكيفية تعلقِ مشيئتِه تعالى بأفعال العبادِ بعد بيانِ أن الإلجاءَ ليس من وظائف الرسالةِ ولا من باب المشيئةِ المتعلقةِ بما يدور عليه الثواب والعقاب من الأفعال الاختياريةِ لهم أي بعثنا فى كُلّ أمَّةٍ منَ الأممِ الخالية رسولاً خاصة بهم {أَنِ اعبدوا الله} يجوز أن تكونَ أنْ مفسرةً لما في البعث من معنى القول وأن تكون مصدريةً أي بعثنا بأن اعبدوا الله حده {واجتنبوا الطاغوت}

هو الشيطانُ وكلُّ ما يدعو إلى الضلالة {فَمِنْهُمْ} أي من تلك الأمم والفاء فصيحة أي فبلَّغوا ما بُعثوا به من الأمر بعبادة الله وحده واجتنابِ الطاغوت فتفرقوا فمنهم {مَّنْ هَدَى الله} إلى الحقِّ الذي هو عبادتُه واجتنابُ الطاغوت بعد صَرْفِ قدرتهم واختيارِهم الجزئيّ إلى تحصيله {وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة} أي وجبت وثبتت إلى حين الموت لعِناده وإصرارِه عليها وعدمِ صرفِ قدرته إلى تحصيل الحق وتغيير الأسلوبِ للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارِهم كقوله تعالى وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ فلم يكن كلٌّ من مشيئة الهدايةِ وعدمِها إلا حسبما حصل منهم من التوجهُ إلى الحق وعدمه إلا بطريق القسرِ والإلجاءِ حتى يُستدلَ بعدمهما على عدم تعلقِ مشيئتِه تعالى بعبادتهم له تعالى وحده {فَسِيرُواْ} يا معشرَ قريش {فِى الارض فانظروا} في أكنافها {كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} من عاد وثمودَ ومن سار سيرتَهم ممن حقت عليه الضلالةُ لعلكم تَعتبرون حين تشاهدون في منازلهم وديارهم آثارَ الهلاك والعذابِ وترتيبُ الأمرِ بالسير على مجرد الإخبارِ بثبوت الضلالةِ عليهم من غير إخبارٍ بحلول العذابِ للإيذان بأنه غنيٌّ عن البيان وأنْ ليس الخبرُ كالعِيان وترتيبُ النظر على السير لما أنه بعده وأن مَلاك الأمر في تلك العاقبة هو التكذيبُ والتعلّلُ بأنه لو شآء الله ما عبدنا مِن دُونِهِ مِن شَىْء

37

{إِن تَحْرِصْ} خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقرئ بفتح الراء وهي لغية {على هُدَاهُمْ} أي إن تطلب هدايتَهم بجهدك {فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ يُضِلُّ} أي فاعلم أنه تعالى لا يخلق الهدايةَ جبراً وقسراً فيمن يخلق فيه الضلالةَ بسوء اختيارِه والمرادُ به قريش وإنما وضع الموصول موضع الضمير للتنصيص على أنهم ممن حقت عليه الضلالةُ وللإشعار بعلة الحُكمِ ويجوزُ أنْ يكونَ المذكورُ علةً للجزاء المحذوف أي إن تحرص على هداهم فلست بقادر على ذلك لأن الله لاَ يَهْدِى مَنْ يُضله وهؤلاء من جملتهم وقرئ لا يهدى على بناء المفعول أي لا يقدِرُ أحدٌ على هداية من يضله الله تعالى وقرئ لا يهَدّي بفتح الهاء وإدغام تاء يهتدي في الدال ويجوز أن يكون يهدي بمعنى يهتدي وقرئ يضل بفتح الياء وقرئ لا هاديَ لمن يُضِل ولمن أضل {وَمَا لَهُم مِن ناصرين} ينصرونهم في الهداية أو يدفعون العذابَ عنهم وصيغة الجمع في الناصرين باعتبار الجمعية في الضمير فإن مقابلةَ الجمعِ بالجمع يقتضي انقسامَ الآحادِ إلى الآحاد لا لأن المرادَ نفيُ طائفةٍ من الناصرين من كل منهم

38

{وَأَقْسَمُواْ بالله} شروع في بيان فنٍ آخرَ من أباطيلهم وهو إنكارهم البعث {جهد أيمانهم} مصدرفي موقع الحال أي جاهدين في أيمانهم {لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} ولقد رد الله تعالى عليهم أبلغَ ردَ بقوله الحق {بلى} أي بلى يبعثهم {وَعْداً} مصدرٌ مؤكدٌ لما دَلَّ عليه بلى فإن ذلك موعدٌ من الله سبحانه أو المحذوف أي وعَد بذلك وعداً {عَلَيْهِ} صفة لوعد أي وعداً ثابتاً عليه

النحل 39 40 إنجازُه لامتناع الخُلفِ في وعدِه أو لأن البعثَ من مقتضيات الحِكمة {حَقّاً} صفةٌ أخرى له أو نُصبَ على المصدريةِ أي حقَّ حقاً {ولكن أَكْثَرَ الناس} لجهلهم بشئون الله عز شأنه من العلم والقدرةِ والحكمة وغيرِها من صفات الكمالِ وبما يجوز عليه وما لا يجوز وعدمِ وقوفِهم على سرّ التكوين والغايةِ القصوى منه وعلى أن البعثَ مما يقتضيه الحكمةُ التي جرت عادتُه سبحانه بمراعاتها {لاَّ يَعْلَمُونَ} أنه يبعثهم فيبتون القولَ بعدمه أو أنه وعدٌ عليه حق فيكذبونه قائلين لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وآباؤنا هذا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أساطير الاولين

39

{لِيُبَيّنَ لَهُمُ} غايةٌ لما دل عليه بلى من البعث والضمير لمن يموت إذ التبيينُ يعم المؤمنين أيضاً فإنهم وإن كانوا عالمين بذلك لكنه عند معاينةِ حقيقةِ الحال يتضح الأمرُ فيصل علمُهم إلى مرتبة عينِ اليقين أي يبعثهم ليبينَ لهم بذلك وبما يحصُل لهم من مشاهدة الأحوالِ كما هي ومعاينتِها بصورها الحقيقيةِ الشأن {الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} من الحق المنتظمِ لجميع ما خالفوه مما جاء به الشرعُ المبين ويدخل فيه البعثُ دخولاً أولياً {وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ} بالله سبحانه بالإشراك وإنكارِ البعث وتكذيبِ وعده الحق {أَنَّهُمْ كَانُواْ كاذبين} في كل ما يقولون لا سيما في قولهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يموت والتعبيرُ عن الحق بالموصول للدِلالة على فخامته وللإشعار بعلية ما ذكر في حيز الصلةِ للتبيين وما عُطف عليه وجعلهما غاية للبعث المشار إليه باعتبار ورودِه في معرِض الردّ على المخالفين وإبطال مقالةِ المعاندين المستدعي للتعرض لما يردعهم عن المخالفة ويُلجِئهم إلى الإذعان للحق فإن الكفرة إذا علِموا أن تحقيقَ البعث إذا كان لتبيين أنه حق وليعلموا أنهم كاذبون في إنكاره كان ذلك أزجرَ لهم عن إنكاره وأدعى إلى الاعتراف به ضرورة أنه يدل على صدق العزيمةِ على تحقيقه كما تقول لمن ينكر أنك تصلّي لأصَلينّ رغماً لأنفك وإظهار لكذبك ولأن تكررَ الغايات أدلُّ على وقوع الفعل المغيابها وإلا فالغايةُ الأصلية للبعث باعتبار ذاتَه إنما هو الجزاءُ الذي هو الغايةُ القصوى للخلق المغيا بمعرفته عز وجل وعبادته وإنما لم يُذكر ذلك لتكرار ذكرِه في مواضعَ أُخَرَ وشهرتِه وإنما لم يُدرَج علمُ الكفار بكذبهم تحت التبيين بأن يقال وإن الذين كفروا كانوا كاذبين بل جئ بصيغة العلم لأن ذلك ليس مما تعلق به التبيينُ الذي هو عبارةٌ عن إظهار ما كان مُبهماً قبل ذلك بأن يخبرَ به فيُختلفَ فيه كالبعث الذي نطق به القرآن فاختلف فيه المختلفون وأما كذِبُ الكافرين فليس من هذا القبيل فما يتعلق به علمٌ ضروريٌّ حاصل لهم من قِبل أنفسِهم وقد مرَّ تحقيقُه في سورة التوبة عند قوله تعالى حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وإنما خُص الإسنادُ بهم حيث لم يقل وليعلموا أن الكافرين الآية لأن علمَ المؤمنين بذلك حاصل قبل ذلك أيضاً

40

{إِنَّمَا قَوْلُنَا} استئناف لبيان كيفية التكوينِ على الإطلاق إبداءً وإعادةً بعد التنبيهِ على آنية البعثِ ومنه يظهر كيفيتُه فما كافةٌ وقولُنا مبتدأ وقوله {لِشَىْء} أي أيِّ شيءٍ كان مما عزو هان متعلقٌ به على أن اللامَ للتبليغ كهي في قولك قلت له قم فقام وجعلها الزجاجُ سببيةً أي لأجل شيءٍ وليس بواضح والتعبيرُ عنه بذلك باعتبار وجودِه عند تعلُّقُ مشيئتِه تعالى به لا أنه كان شيئا

النحل 41 قبل ذلك {إِذَا أَرَدْنَاهُ} ظرفٌ لقولنا أي وقت إرادتِنا لوجوده {أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ} خبر للمبتدأ {فَيَكُونُ} إما عطفٌ على مقدر يُفصِحُ عنه الفاء وينسحب عليه الكلام أي فنقول ذلك فيكون كقوله تعالى إذا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فيَكُونُ وإما جوابٌ لشرط محذوف أي فإذا قلنا ذلك فهو يكون وليس هناك قولٌ ولا مقولٌ له ولا أمرٌ ولا مأمورٌ حتى يقال إنه يلزم منه أحدُ المُحالين إما خطابُ المعدومِ أو تحصيلُ الحاصل أو يقال إنما يستدعيه انحصار قوله تعالى كُنَّ وليس يلزم منه انحصارُ أسباب التكوين فيه كما يفيده قوله تعالى إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فإن المرادَ بالأمر هو الشأنُ الشاملُ للقول والفعل ومن ضرورة انحصارِه في كلمة كن انحصارُ أسبابه على الإطلاق فيه بل إنما هو تمثيلٌ لسهولة تأتّي المقدورات حسب تعلقِ مشيئتِه تعالى بها وتصويرٌ لسرعة حدوثِها بما هو علم في ذلك من طاعة المأمورِ المطيعِ لأمر الآمر المُطاع فالمعنى إنما إيجادُنا لشيء عند تعلق مشيئتِنا به أن نوجدَه في أسرع ما يكون ولما عبر عنه بالأمر الذي هو قولٌ مخصوصٌ وجب أن يُعبّر عن مطلق الإيجادِ بالقول المطلقِ فتأمل وفي الآية الكريمة من الفخامة والجزالةِ ما يحار فيه العقول والألباب وقرئ بنصب يكون عطفاً على نقول أو تشبيهاً له بجواب الأمر

41

{والذين هاجروا فِى الله} أي في شأن الله تعالى ورِضاه وفي حقه ولوجهه {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} ولعلهم الذين ظلمهم أهلُ مكة من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأخرجوهم من ديارهم فهاجروا إلى الحبشة ثم بوّأهم الله تعالى المدينةَ حسبما وعد بقوله سبحانه {لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدنيا حَسَنَة} أي مباءة حسنة أو توئة حسنة كما قال قتادة وهو الأنسبُ بما هو المشهورُ من كون السورةِ غيرَ ثلاثِ آياتٍ من آخرها مكيةً وأما ما نُقلَ عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنُهمَا مَنْ أنها نزلت في صهيبٍ وبلال وعمار وخباب وعايس وجُبير وأبي جندل بن سهيل أخذهم المشركون فجعلوا يعذّبونهم ليردوهم عن الإسلام فأما صهيبٌ فقال لهم أنا رجلٌ كبير إن كنت معكم لم أنفعْكم وإن كنت عليكم لم أضرَّكم فافتدى منهم بماله وهاجر فلما رآه أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه قال ربح البيعُ يا صهيب وقال عمر رضي الله عنه نعم العبدُ صهيبٌ لو لم يخَفِ الله لم يَعْصِهِ فإنما يناسب ما حُكي عن الأصم من كون كل السورةِ مدنيةً وما نقل عن قتادةَ من كون هذه الآية إلى آخر السورةِ مدنيةً فيُحمل ما نقلناه عنه من نزول الآيةِ في أصحاب الهجرتين على أن يكون نزولُها بالمدينة بين الهجرتين وأما جعلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جملتهم فلا يساعده نظمُ التنزيلِ ولا شأنُه الجليل وقرئ لنُثْوِينّهم ومعناه إثواءةً حسنةً أو لنُنزّلنهم في الدنيا منزلة حسنة وهي الغَلبةُ على من ظلمهم من أهل مكةَ وعلى العرب قاطبةً وأهلِ الشرقِ والغربِ كافة {وَلاَجْرُ الاخرة} أي أجرُ أعمالِهم المذكورةِ في الآخرة {أَكْبَرَ} مما يعجّل لهم في الدنيا وعن عمر رضيَ الله عنه أنَّه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاءً قال له خُذ بارك الله تعالى لك فيه هذا ما وعدك الله تعالَى في الدُّنيا وما ادّخر في الآخرة أفضلُ {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} الضمير للكفار أي لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خيرَ الدارين لوافقوهم في الدين وقيل للمهاجرين

النحل 42 44 أي لو علموا ذلك لزادوا فى الاجتهاد أو لَما تألموا لما أصابهم من المهاجَرة وشدائدِها

42

{الذين صَبَرُواْ} على الشدائد من أذية الكفار ومفارقةِ الأهل والوطن وغيرِ ذلك ومحلُّه النصبُ أو الرفع على المدح {وعلى رَبّهِمْ} خاصة {يَتَوَكَّلُونَ} منقطعين إليه تعالى معرِضين عما سواه مفوِّضين إليه الأمرَ كلَّه والجملةُ إما معطوفةٌ على الصلة وتقديمُ الجار والمجرور للدِلالة على قصر التوكلِ على الله تعالى وصيغةُ الاستقبال للدِلالة على دوام التوكل أو حالٌ من ضميرِ صبروا

43

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ} وقرئ بالياء مبنياً للمفعول وهو ردٌّ لقريش حين قالوا الله أجلُّ من أن يكون له رسولٌ من البشر كما هو مبنى قولهم لو شاء الله مَا عَبَدْنَا الخ أي جرت السنةُ الإلهية حسبما اقتضتْه الحكمةُ بأن لا يَبعَثَ للدعوة العامة إلا بشراً يوحي إليهم بواسطة الملَك أوامرَه ونواهيَه ليبلّغوها الناس ولما كان المقصودُ من الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيهَ الكفار على مضمونه صُرف الخطاب إليهم فقيل {فاسألوا أَهْلَ الذكر} أي أهلَ الكتاب أو علماءَ الأخبار أو كلَّ من يُذكرُ بعلم وتحقيقٍ ليعلّموكم ذلك {إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} حذفَ جوابُه لدِلالة ما قبله عليه وفيهِ دَلالةٌ عَلى أنَّه لم يُرسِلْ للدعوة العامة ملَكاً وقولُه تعالى جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً معناه رسلاً إلى الملائكة أو إلى الرسل ولا امرأةً ولا صبياً ولا ينافيه نبوةُ عيسى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو في المهْد لأنها أعمُّ من الرسالة وإشارةٌ إلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يُعلم

44

{بالبينات والزبر} بالمعجزات والكتبِ والباءُ متعلقةٌ بمقدر وقع جوابا عن سؤال من قال بمَ أُرسلوا فقيل أرسلوا بالبينات والزبر أو بما أرسلنا داخلاً تحت الاستثناء مع رجالاً عند من يجوّزه أي ما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات كقولك ما ضربت إلا زيداً بالسوط أو على نية التقديمِ قبل أداة الاستثناءِ أي مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ بالبينات والزبر إلا رجالاً عند من يجوّز تأخرَ صلةِ ما قبل إلا إلى ما بعده أو بما وقع صفةً للمستثنى أي إلا رجالاً ملتبسين بالبينات أو بنوحي على المفعولية أو الحالية من القائم مقامَ فاعل يوحى وهو إليهم على أنَّ قولَه تعالى فاسئلوا اعتراضٌ أو بقوله لاَ تَعْلَمُونَ على أن الشرطَ للتبكيت كقول الأجير إنْ كنتُ عمِلتُ لك فأعطِني حقي {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر} أي القرآنَ وإنما سُمّي به لأنه تذكيرٌ وتنبيهٌ للغافلين {لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ} كافةً ويدخل فيهم أهلُ مكة دخولاً أولياً {مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} في ذلك الذكرِ من الأحكام والشرائعِ وغير ذلك من أحوال القرونِ المهلَكة بأفانين العذابِ حسب أعمالِهم الموجبةِ لذلك على وجه التفصيلِ بياناً شافياً كما ينبئ عنه صيغةُ التفعيل في الفعلين لا سيما بعد ورود الثاني أولا على صيغة الإفعالِ ولِما أن التبيينَ أعمُّ من التصريح بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه دخل تحته القياسُ على الإطلاق سواءٌ كان في الأحكام الشرعية أو غيرِها ولعل قوله عز وجل {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} إشارةٌ إلى

النحل 45 47 ذلك أي إرادةَ أن يتأملوا فيتنبّهوا للحقائق وما فيه من العبر ويحترزوا عما يؤدي إلى مثل ما أصاب الأولين من العذاب

45

{أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات} هم أهلُ مكةَ الذين مكروا برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وراموا صدَّ أصحابِه عن الإيمان عليهم الرضوان لا الذين احتالوا الهلاك الأنبياءِ كما قيل ولا من يعُمّ الفريقين لِما أن المرادَ تحذيرُ هؤلاء عن إصابة مثلِ ما أصاب أولئك من فنون العذابِ المعدودة والسيئاتِ نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي مكروا المكَراتِ السيئاتِ التي قصت عنهم أو مفعولٌ به للفعل المذكور على تضمينه معنى العمل أي علموا السيئاتِ فقوله تعالى {أَن يخسف الله بهم الارض} مفعولٌ لأمِن أو السيئاتِ صفةٌ لما هو المفعولُ أي أي أفأمن الماكرون العقوباتِ السيئةَ وقوله أن يخسف الخ بدلٌ من ذلك وعلى كل حال فالفاءُ للعطفِ على مقدَّر ينسحبُ عليه النظم الكريم أي أنزلنا إليك الذكرَ لتبين لهم مضمونَه الذي من جملته إنباءُ الأممِ المهلَكة بفنون العذاب ويتفكروا في ذلك ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئاتِ أن يخسف الله بهم الارض كما فعل بقارون على توجيه الإنكارِ إلى المعطوفين معاً أو أتفكروا فأمِنوا على توجيهه إلى المعطوف على أن الأمنَ بعد التفكرِ مما لا يكاد يفعله أحد وقيل هو عطف على مقدر ينبئ عنه الصلةُ أي أَمُكِر فأمن الذين مكروا الخ {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} بإتيانه أي في حالة غفلتِهم أو من مأمنهم أو من حيث يرجون إيتان ما يشتهون كما حُكي فيما سلف مما نزل بالماكرين

46

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ} أي في حالة تقلُّبهم في مسائرهم ومتاجرهم {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} بممتنعين أو فائتين بالهرب والفِرار على ما يوهمه حالُ التقلب والسير والفاءُ إما لتعليل الأخذِ أو لترتيب عدمِ الإعجاز عليه دلالةً على دوامِ النفي لا نفْيِ الدوام

47

{أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} أي مخافةٍ وحذرٍ عن الهلاك والعذاب بأن يُهلك قوماً قبلهم فيتخوّفوا فيأخذَهم العذابُ وهم متخوّفون وحيث كانت حالتا التقلّبِ والتخوّف مَظِنةً للهرب عُبّر عن إصابة العذابِ فيهما بالأخذ وعن إصابته حالةَ الغفلة المنبئة عن السكون بالإيتان وقيل التخوّفُ التنقّص قال قائلهم ... تخوّفَ الرحلُ منها تامكاً قردا ... كما تخوّفَ عودَ النبعة السفن ... أي يأخذُهم على أن يَنْقُصَهم شيئاً بعد شيءٍ في أنفسهم وأموالِهم حتى يهلِكوا والمرادُ بذكر الأحوال الثلاثِ بيانُ قدرة الله سبحانه على إهلاكهم بأي وجهٍ كان لا الحصرُ فيها {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} حيث لا يعاجلكم بالعقوبة ويحلُم عنكم مع استحقاقكم لها

النحل

48

48 - 49 {أولم يروا} استفهام إنكاري وقرئ على صيغة الخِطاب والواو للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقامُ أي ألم ينظروا ولم يرَوا متوجهين {إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَىْء} أي من كل شيء {يَتَفَيَّأُ ظلاله} أي يرجِع شيئاً فشيئاً حسبما يقتضيه إرادةُ الخالق تعالى فإن التفيّؤَ مطاوِعُ الإفاءةِ وقرئ بتأنيث الفعل {عَنِ اليمين والشمآئل} أي ألم يرَوا الأشياءَ التي لها ظلالٌ متفيِّئةٌ عن أيْمانها وشمائلِها أي عن جانبي كل واحد منها استُعير لهما ذلك من يمين الإنسانِ وشمالِه {سُجَّدًا لِلَّهِ} حالٌ من الظلال كقوله تعالى وظلالهم بالغدو والاصال والمرادُ بسجودها تصرّفُها على مشيئة الله سبحانه وتأتّيها لإرادته تعالى في الامتداد والتقلصِ وغيرِهما غيرَ ممتنعةٍ عليه فيما سخرها له وقوله تعالى {وَهُمْ داخرون} أي صاغرون منقادون حال من الضمير في ظلاله والجمعُ باعتبار المعنى وإيرادُ الصيغةِ الخاصة بالعقلاء لما أن الدخورَ من خصائصهم والمعنى ترجِع الظلالُ من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارِها أو باختلاف مشارقِها ومغاربها فإنها كلَّ يوم من أيام السنة تتحرك على مدار معين من المدارات اليومية بتقدير العزيزِ العليم منقادةٌ لما قُدّر لها من التفيّؤ أو واقعةٌ على الأرض ملتصقةٌ بها على هيئة الساجد والحالُ أن أصحابها من الأجرام داخرةٌ منقادةٌ لحكمه تعالى ووصفُها بالدخور مغنٍ عن وصف ظلالها به أو كلاهما حالٌ من الضمير المشار إليه والمعنى ترجع ظلالُ تلك الأجرامِ حالَ كونها منقادةً لله تعالى داخرةً فوصفُها بهما مغنٍ عن وصف ظلالِها بهما ولعل المرادَ بالموصول الجماداتُ من الجبال والأشجارِ والأحجارِ التي لا يظهر لظلالها أثرٌ سوى التفيّؤِ بما ذُكر من ارتفاع الشمسِ وانحدارِها أو اختلافِ مشارقها ومغاربها وأما الحيوانُ فظلُّه يتحرك بتحركه وقيل المرادُ باليمين والشمائل يمينُ الفَلكِ وهو جانبُه الشرقيُّ لأن الكواكبَ منه تظهر آخذةً في الارتفاع والسطوعِ وشمالُه وهو جانبُه الغربيُّ المقابل له فإن الظلال في أول النهار تبتدئ من الشرق واقعةً على الرُّبع الغربي من الأرض وعند الزوال تبتدئ من الغرب واقعةً على الربع الشرقي منها وبعد ما بُيّن سجودُ الظلالِ وأصحابِها من الأجرام السفلية الثابتة في أخبارها ودخورُها له سبحانه وتعالى شُرع في بيان سجودِ المخلوقات المتحركة بالإرادة سواء كانت لها ظلال أو لا فقيل

49

{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ} أي له تعالى وحَدهُ يخضع وينقاد لا لشيء غيرِه استقلالا أو اشتراكا فالقصرُ ينتظم القلبَ والإفراد إلا أن الأنسب بحال المخاطبين قصرُ الإفراد كما يُؤذِن به قوله تعالى وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين {ما في السماوات} قاطبة {وَمَا فِى الأرض} كائناً ما كانَ {منْ دَابَّةٍ} بيانٌ لما في الأرض وتقديمُه لقلته ولئلا يقعَ بين المبين والمبين فصلٌ والإفرادُ مع أن المراد الجمل لإفادة وضوحِ شمولِ السجود لكل فرد من الدواب قال الأخفش هو كقولك ما أَتَانِي من رَجُلٍ مثلِه وما أتاني من الرجال مثله {والملائكة} عطف

النحل 50 52 على ما في السموات عطفَ جبريلَ على الملائكة تعظيماً وإجلالاً أو على أنْ يُرادَ بما في السموات الخلْقُ الذي يقال له الروح أو يراد به ملائكةُ السموات وبقوله والملائكةُ ملائكةُ الأرض من الحفَظة وغيرِهم {وَهُمْ} أي الملائكةُ مع علو شأنِهم {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عَنْ عِبَادَتِهِ عز وجل والسجود له وتقديمُ الضمير ليس للقصر والجملةُ إما حالٌ من ضمير الفاعل في يسجد مسندٌ إلى الملائكة أواستئناف أخبر عنهم بذلك

50

{يخافون رَبّهِمْ} أي مالكَ أمرِهم وفيه تربيةٌ للمهابة وإشعارٌ بعلة الحكم {مّن فوقهم} أي يخافون جل وعلا خوفَ هيبةٍ وإجلالٍ وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ أو يخافون أن يرسِل عليهم عذاباً من فوقهم والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في لا يستكبرون أو بيانٌ له وتقريرٌ لأن من يخاف الله سبحانه لا يستكبر عن عبادته {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي ما يُؤمرونَ بهِ من الطاعات والتدبيرات وإيرادُ الفعل مبنياً للمفعول جرْيٌ على سَنن الجلالة وإيذان بعدمِ الحاجة إلى التَّصريحِ بالفاعل لاستحالة استنادِه إلى غيره سبحانه وفيه أن الملائكة مكلّفون مُدارون بين الخوف والرجاء وبعد ما بُيّن أن جميعَ الموجودات يخصون الخضوع والانقياد الطبيعي ومَا يَجري مَجراه من عبادة الملائكة حيث لا يتصور منهم عدم الانقياد أصلا لله عز وجل أُردف ذلك بحكاية نهْيِه سبحانه وتعالى للمكلفين عن الإشراك فقيل

51

{وقال الله} عطفا على قوله ولله يسجد وإظهارُ الفاعل وتخصيصُ لفظة الجلالة بالذكر للإيذان بأنه متعيِّنُ الألوهية وإنما المنهيُّ عنه هو الإشراكُ به لا أن المنهيَّ عنه مطلقُ اتخاذِ إلهين بحيث يتحقق الانتهاءُ عنه برفض أيِّهما كان أي قال تعالى لجميع المكلفين {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} وإنما ذُكر العددُ مع أن صيغة التثنيةِ مغنيةٌ عن ذلكَ دلالةٌ على أنَّ مساق النهي هي الاثنَيْنيّة وأنها منافيةٌ للألوهية كما أن وصفَ الإله بالوَحدة في قولِه تعالى {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} لدلالة على أن المقصودَ إثباتُ الوحدانية وأنها من لوازم الإلهية وأما الإلهية فأمرٌ مسلَّمُ الثبوت له سبحانه وإليه أشير حيث أُسند إليه القول وفيه التفاتٌ منَ التكلمِ إلى الغَيبةِ على رأي من اكتفى في تحقق الالتفاتِ بكون الأسلوب الملتفَتِ عنه حقَّ الكلام ولم يشترِط سبقَ الذكرِ على ذلك الوجه {فإياي فارهبون} التفاتٌ من الغَيبةِ إلى التَّكلمِ لتربية المهابةِ وإلقاءِ الرهبة في القلوب ولذلك قدم وكرر الفعلَ أي إن كنتم راهبين شيئاً فإيايَ ارهبوا فارهبوا لا غيرُ فإني ذلك الواحدُ الذي يسجُد لَّهُ مَا فِي السموات والارض

52

{وله ما في السماوات والأرض} خلقاً ومُلكاً تقريرٌ لعلة انقيادِ ما فيها له سبحانه خاصة وتحقيقٌ لتخصيص الرهبة به تعالى وتقديم الظرف لتقوية ما في اللام من معنى الاختصاصِ وكذا في قولِه تعالى {وَلَهُ الدين} أي الطاعةُ والانقياد {وَاصِبًا} أي واجباً ثابتاً لا زوالَ له لِما تقرّر أنه الإله وحده الحقيقُ بأن يُرهَبَ وقيل واصباً من الوصب أي وله الدين ذا كلفة وقيل الدينُ الجزاءُ أي وله

النحل 53 55 الجزاءُ الدائمُ بحيث لا ينقطع ثوابُه لمن آمن وعقابُه لمن كفر {أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} الهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه السياقُ أي أعقيب تقرر الشئون المذكور من تخصيص جميعِ الموجودات للسجود به تعالى وكونِ ذلك كلِّه له ونهيِه عن اتخاذ الأندادِ وكونِ الدين له واصباً المستدعي ذلك لتخصيص التقوى به سبحانه غير الله الذي شأنُه ما ذكر تتقون فتطيعون

53

{وَمَا بِكُم} أيُ أيُّ شيءٍ يلابسكم ويصاحبكم {مِن نّعْمَةٍ} أية نعمةٍ كانت {فَمِنَ الله} فهي من الله فما شرطيةٌ أو موصولةً متضمنة لمعنى الشَّرطِ باعتبار الإخبارِ دون الحصول فإن ملابسةَ النعمةِ بهم سببٌ للإخبار بأنها منه تعالى لا لكونها منه تعالى {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر} مساما يسيرا {فإليه تجأرون} تتضرعون في كشفه لا إلى غيره والجُؤار رفعُ الصوت بالدعاء والاستغاثة قال الأعشى ... يرواح من صلوات المليك ... طوراً سجوداً وطوراً جؤارا ... وقرئ تَجَرون بطرح الهمزة وإلقاءِ حركتِها إلى ما قبلَها وفي ذكر المساس المنبئ عن أدنى إصابةٍ وإيرادِه بالجملة الفعلية المعربةِ عن الحدوث مع ثم الدالةِ على وقوعه بعد برهةٍ من الدهر وتحليةِ الضُّر بلام الجنس المفيدةِ لمساس أدنى ما ينطلق عليه اسمُ الجنس مع إيراد النعمةِ بالجملة الاسميةِ الدالةِ على الدوام والتعبير عن ملابستها للمخاطبين بباء الصاحبة وإيرادِ ما المعربةَ عن العموم مالا يخفى من الجزالة والفخامة ولعل إيرادَ إذا دون إن للتوسل به إلى تحقق وقوع الجواب

54

{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عنكم} وقرئ كاشَفَ الضر وكلمةُ ثم ليست للدلالة على تمادي زمانِ مِساس الضرّ ووقوعِ الكشفِ بعد برهة مديدةٍ بل للدلالة على تراخي رتبةِ ما يترتبُ عليه من مفاجأة الإشراك المدلولِ عليها بقوله سبحانه {إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ} فإنّ ترتبها على ذلك في أبعد غايةٍ من الضلال ثم إن وُجّه الخطابُ إلى الناس جميعاً فمِن للتبعيض والفريقُ فريقُ الكفرة وإن وجه إلى الكفرة فمن للبيان كأنه قيل إذا فريق كافر وهم أنتم ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر وازدجر كقوله تعالى فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ فمن تبعيضية أيضا التعرض لوصف الربوبية للإيذان بكمال قبحِ ما ارتكبوه من الإشراك والكفر ان

55

{ليكفروا بما آتيناهُم} من نعمةِ الكشف عنهم كأنهم جعلوا غرضَهم في الشرك كفر ان النعمة وإنكارَ كونها من الله عز وجل {فَتَمَتَّعُواْ} أمرُ تهديد والالتفاتُ إلى الخطابِ للإيذانِ بتناهي السخط وقرئ بالياء مبنياً للمفعول عطفاً على ليكفروا على أن يكون كفرانُ النعمة والتمتعُ غرضاً لهم من الإشراك ويجوز أن يكون اللامُ لامَ الأمرِ الواردِ للتهديد {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبةَ أمرِكم وما ينزل بكم من العذاب وفيه وعيدٌ أكيدٌ منبىءٌ عن أخذٍ شديد حيث لم يُذكر المفعولُ إشعاراً بأنه مما لا يوصف

النحل

56

57 - 59 {وَيَجْعَلُونَ} لعله عطف على ما سبق بحسب المعنى تعداداً لجناياتهم أي يفعلُون ما يفعلُون من الجُؤار إلى الله تعالى عند مساس الضر ومن الإشراك به عند كشفِه ويجعلون {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} أي لما لا يعلمون حقيقتَه وقدرَه الخسيسَ من الجمادات التي يتخذونها شركاءَ لله سبحانه وتعالى جهالةً وسَفاهةً ويزعُمون أنها تنفعهم وتشفعَ لهم على أن ما موصولةٌ والعائدُ إليها محذوف أو لما لا علم له أصلاً وليس من شأنه ذلك فما موصولةٌ أيضاً والعائدُ ما في الفعل من الضمير المستكنْ وصيغةُ جمعِ العقلاءِ لكون ما عبارةً عن آلهتهم التي وصفوها بصفات العقلاءِ أو مصدريةٌ واللامُ للتعليل أي لعدم علمهم والمجعول له للعلم بمكانه {نَصِيبًا مّمّا رزقناهم} من الزرع والأنعام وغيرِهما تقرباً إليها {تالله لتسألن} سؤالَ توبيخٍ وتقريع {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} في الدنيا بأنها آلهة حقيقةٍ بأن يُتقرَّب إليها وفي تصدير الجملةِ بالقسم وصرفِ الكلامِ من الغَيْبة إلى الخطاب المنبئ عن كمال الغضبِ من شدة الوعيد مالا يخفى

57

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنَاتِ} هم خُزاعةُ وكِنانةُ الذين يقولون الملائكةُ بناتُ الله {سبحانه} تنزيه وتقديس له عز وجل عن مضمون قولِهم ذلك أو تعجيب من جرائتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} من البنين وما مرفوعةُ المحلِّ على أنه مبتدأ والظرف مقدم خبرُه والجملةُ حاليةٌ وسبحانه اعتراضٌ في حق موقعِه وجعلُها منصوبةً بالعطف على البنات أي يجعلون لأنفسهم ما يشتهون من البنين يؤدّي إلى جعل الجعْلِ بمعنى يعمّ الزعمَ والاختيارَ

58

{وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالانثى} أي أخبر بولادتها {ظَلَّ وَجْهُهُ} أي صار أو دام النهارَ كلَّه {مُسْوَدّا} من الكآبة والحياءِ من الناس واسودادُ الوجه كنايةٌ عن الاغتمام والتشويش {وَهُوَ كظيم} ممتلى حَنقاً وغيظاً

59

{يتوارى} أي يستخفي {مِنَ القوم مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ} من أجل سوئِه والتعبيرُ عنها بما لإسقاطه عن درجة العقلاء {أَيُمْسِكُهُ} أي متردداً في أمره محدّثاً نفسَه في شأنه أيمسكه {على هُونٍ} ذل وقرئ هو أن {أَمْ يَدُسُّهُ} يُخفيه {فِى التراب} بالوأد والتذكيرُ باعتبار لفظ ما وقرئ بالتأنيث {أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ} حيث يجعلون ما هذا شأنُه عندهم من الهُون والحقارة لله المتعالي عن الصاحبة والولد والحالُ أنهم يتحاشَون عنه ويختارون لأنفسهم البنين فمدارُ الخطأ جعلُهم ذلك لله سبحانه مع إبائهم إياه لا جعلُهم البنين لأنفسهم ولا عدمُ جعلهم له سبحانه ويجوز أن يكون مدارُه التعكيس لقوله تعالى تِلْكَ إذا قسمة ضيزى

النحل

60

60 - 62 {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} ممن ذكرت قبائحُهم {مَثَلُ السوء} صفةُ السَّوْء الذي كالمثَل في القبح وهي الحاجةُ إلى الولد ليقوم مقامهم عند موتهم وإيثارُ الذكور للاستظهار بهم ووأدُ البنات لدفع العار وخشيةُ الإملاق المنادي كلَّ ذلك بالعجز والقصورِ والشحِّ البالغ ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ للإشعار بأن مدارَ اتصافِهم بتلك القبائح هو الكفرُ بالآخرة {وَللَّهِ} سبحانه وتعالى {المثل الاعلى} أي الصفةُ العجيبةُ الشأنِ التي هي مَثَلٌ في العلو مطلقاً وهو الوجوبُ الذاتيُّ والغِنى المطلقُ والجودُ الواسعُ والنزاهةُ عن صفات المخلوقين ويدخل فيه علوُّه تعالى عما قالوه علواً كبيراً {وَهُوَ العزيز} المتفرد بكمال القدرة لا سيما على مؤاخذتهم بذنوبهم {الحكيم} الذي يفعلُ كلَّ ما يفعلُ بمقتضى الحكمةِ البالغةِ وهذا أيضاً من جُملة صفاتِه العجيبة تعالى

61

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس} الكفارَ {بِظُلْمِهِمْ} بكفرهم ومعاصيهم التي مِن جُملتِها ما عُدّد من قبائحهم وهذا تصريحٌ بما أفاده قوله تعالى {وَهُوَ العزيز الحكيم} وإيذانٌ بأن ما أتَوْه من القبائح قد تناهى إلى أمد لا غايةَ وراءَه {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا} على الأرض المدلولِ عليها بالناس وبقوله تعالى {مِن دَابَّةٍ} أي ما ترك عليها شيئاً من دابة قطُّ بل أهلكها بالمرة بشؤم ظلمِ الظالمين كقولِه تعالى {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} وعن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّه سمع رجلاً يقول إن الظالم لا يضُرُّ إلا نفسَه فقال بلى والله حتى إن الحُبارَى لتموت في وَكرها بظلم الظالم وعن ابن مسعود رضي الله عنه كاد الجُعَلُ يهلِك في حجره بذنب ابن آدمَ أو من دابة ظالمة وقيل لو أَهْلك الآباءَ لم يكن الأبناءُ فيلزم أنْ لا يكونَ في الأرض دابةٌ لِما أنها مخلوقةٌ لمنافعِ البشر لقوله سبحانه هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً {ولكن} لا يؤاخذهم بذلك بل {يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا أو يكثر عذابُهم {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ} المسمّى {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ} عن ذلك الأجلِ أي لا يتأخرون وصيغةُ الاستفعال للإشعار بعجزهم عنه مع طلبهم له {سَاعَةِ} فذّةً وهي مثَلٌ في قلة المدة {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أي لا يتقدمون وإنما تعرض لذكره مع أنه لا يتصور الاستقدام عند مجئ الأجلِ مبالغةً في بيان عدمِ الاستئخارِ بنظمه في سلك ما يمتنع كما في قوله تعالى وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الآن ولا الذين يموت وَهُمْ كُفَّارٌ فإن من مات كافراً مع أنه لا توبةَ له رأساً قد نُظم في سِمْطِ من لم تُقبل توبته للإيذان فأنهما سيان في ذلك وقد مرَّ في تفسيرِ سورة يونس

62

{ويجعلون لله}

النحل 63 65 أي يُثْبتون له سبحانه وينسُبون إليه في زعمهم {مَا يَكْرَهُونَ} لأنفسهم مما ذكر وهو تكريرٌ لما سبق تثنيةً للتقريع وتوطئةً لقوله تعالى {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب} أي يجعلون له تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف ألسنتهم الكذب وهو {أَنَّ لَهُمُ الحسنى} العاقبةَ الحسنى عند الله تعالَى كقولِه وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى وقرئ الكُذُبُ وهو جمع الكَذوب على أنه صفةُ الألسنة {لاَ جَرَمَ} رد لكلامهم ذلك وإثباتٌ لنقيضه أي حقا {أن لهم} مكانه ما أمّلوا من الحسنى {النار} التي ليس وراءَ عذابها عذابٌ وهي عَلَمٌ في السُّوآى {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} أي مقدَّمون إليها من أفرطتُه أي قدّمتُه في طلب الماء وقيل مَنْسيّون من أفرطتُ فلاناً خلفي إذا خلفته ونسيته وقرئ بالتشديد وفتح الراء من فرَّطتُه في طلب الماء وبكسر الراء المشددة من التفريط في الطاعات وبكسر المخففة من الإفراط في المعاصي فلا يكونانِ حينئذ من أحوالهم الأخروية كما عطف عليه

63

{تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ} تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يناله من جهالات الكفرةِ ووعيدٌ لهم على ذلك أي أرسلنا إليهم رسلاً فدعَوْهم إلى الحق فلم يجيبوا إلى ذلك {فزين لهم الشيطان أَعْمَالَهُمْ} القبيحةَ فعكفوا عليها مُصِرّين {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ} أي قرينُهم وبئس القرينُ {اليوم} أي يوم زين لهم الشيطانُ أعمالهم فيه على طريق حكاية الحال الماضيةِ أو في الدنيا أو يومَ القيامةِ على طريق حكايةِ الحال الآتية وهي حالُ كونهم معذبين في النار والوليُّ بمعنى الناصر أي فهو ناصرهم اليوم لا ناصرَ لهم غيرُه مبالغةً في نفي الناصرِ عنهم ويجوزُ أنْ يكونَ الضميرُ عائداً إلى مشركي قريش والمعنى زيّن للأمم السالفة أعمالَهم فهو وليُّ هؤلاء لأنهم منهم وأن يكون على حذفِ المضافِ أي وليُّ أمثالهم {وَلَهُمْ} فى الأخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} هو عذابُ النار

64

{وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب} أي القرآنَ {إِلاَّ لِتُبَيّنَ} استثناء مفرغ من أعم العلل أي ما أنزلنا عليك لعلّةٍ من العلل إلا لتبين {لَهُمْ} أي للناس {الذى اختلفوا فِيهِ} من التوحيد والقدَر وأحكامِ الأفعال وأحوال المعاد {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} معطوفان على محل لتبين أي وللهداية والرحمة {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وإنما انتصبا لكونهما أثرَيْ فاعلِ الفعل المعلل بخلاف التبين حيث لم ينتصِبْ لفقدان شرطِه ولعل تقديمَه عليهما لتقدُّمه في الوجود وتخصيصُ كونهما هدًى ورحمةً بالمؤمنين لأنهم المغتنِمون آثارَه

65

{والله أَنزَلَ مِنَ السماء} من السحاب أو من جانب السماء حسبما مرّ وهذا تكرير لما سبق تأكيداً لمضمونه وتوطئةً لما يعقُبه من أدلة التوحيد {مَاء} نوعاً خاصاً من الماء هو المطرُ وتقديمُ المجرور على المنصوب لما مر مرارا

النحل 66 من التشويق إلى المؤخر فَأَحْيَا بِهِ الأرض بما أنبت به فيها من أنواع النباتات {بَعْدَ مَوْتِهَا} أي بعد يُبْسها وما يفيده الفاءُ من التعقيب العاديّ لا ينافيه ما بين المعطوفين من المهلة {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في إنزالِ الماءِ من السَّماءِ وإحياءِ الأرض الميتةِ به {لآيَةً} وأيةَ آيةٍ دالةٍ على وحدته سبحانه وعلمه وقدرتِه وحكمتِه {لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} هذا التذكيرَ ونظائرَه سماعَ تفكرٍ وتدبُّر فكأن مَنْ ليس كذلك أصمُّ

66

{وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام لَعِبْرَةً} عظيمةً وأيَّ عبرةٍ تَحار في دركها العقولُ وتهيم في فهمها ألبابُ الفحول {نُّسْقِيكُمْ} استئنافٌ لبيانِ ما أُبهم أولاً من العبرة {مّمَّا فِى بُطُونِهِ} أي بطون الأنعامِ والتذكيرُ هنا لمراعاة جانبِ اللفظِ فإنه اسم جمع ولذلك عدّه سيبويه في المفردات المبنيّة على أفعال كأكباش وأخلاق كما أن تأنيثه في سورة المؤمنين لرعاية جانب المعنى ومَن جعله جمعَ نَعَمٍ جعل الضميرَ للبعض فإن اللبَن ليس لجميعها أوله على المعنى فإن المرادَ به الجنس وقرئ بفتح النون ههنا وفي سورة المؤمنين {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا} الفرْثُ فُضالةُ ما يبقى من العلف في الكَرِش المنهضمةِ بعضَ الانهضام وكثيفُ ما يبقى في المعاء وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن البهيمةَ إذا اعتلفت وانطبخ العلفُ في كرشها كان أسفلُه فرثاً وأوسطُه لبناً وأعلاه دماً ولعل المرادَ به أن أوسطَه يكون مادةَ اللبن وأعلاه مادةَ الدم الذي يغذو البدنَ لأن عدم تكونهما في الكرش مما لا ريبَ فيه بل الكبِدُ تجذب صفاوة الطعام المنهضمِ في الكرش ويبقى ثفلُه وهو الفرثُ ثم يُمسكها ريثما يهضمها فيُحدثُ أخلاطاً أربعة معها مائيةً فتُميَّز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من المِرَّتين الصفراءِ والسوداء وتدفعها إلى الكِلْية والمرارة والطّحال ثم توزِّع الباقي على الأعضاء بحسبها فتُجري على كلَ حقَّه على ما يليق به بتقدير العزيز العليم ثم إن كان الحيوانُ أنثى زاد أخلاطَها على قدر غذائها لاستيلاء البردِ والرطوبةِ على مزاجها فيندفع الزائد أولا لأجل الجنينِ إلى الرحم فإذا انفصل انصب ذلك الزائدُ أو بعضُه إلى الضروع فيبيّض لمجاورته لحومَها العذوية البِيضِ ويلَذّ طعمُه فيصيرُ لبناً ومن تدبر في بدائعِ صنعِ الله تعالى فيما ذكر من الأخلاط والألبانِ وإعداد مقارّها ومجاريها والأسبابِ الموَلّدة لها وتسخيرِ القُوى المتصرفة فيها كلَّ وقت على ما يليق به اضطُرّ إلى الاعتراف بكمال علمِه وقدرتِه وحكمتِه وتناهي رأفته ورحمتِه فمِن الأولى تبعيضيةٌ لما أن اللبن بعضُ ما في بطونه لأنه مخلوقٌ من بعض أجزاءِ الدم المتولّدِ من الأجزاء اللطيفةِ التي في الفرث حسبما فصل والثانية ابتدائية كقوله سقَيت من الحوض لأن بين الفرث والدمِ مبدأَ الإسقاء وهي متعلقةٌ بنُسقيكم وتقديمه على المفعول لما مر مرارا من أن تقديم ما حقُّه التأخيرُ يبعث للنفس شوقاً إلى المؤخر موجبا لفضل تمكينه عند ورودِه عليها لا سيما إذا كان المقدمُ متضمناً لوصف منافٍ لوصف المؤخَّر كالذي نحن فيه فإن بين وصفَيْ المقدّمِ والمؤخر تنافياً وتنائياً بحيث لا يتراءى ناراهما فإن ذلك مما يزيد الشوقَ والاستشراف إلى المؤخر

النحل 67 69 كما في قوله تعالى الذى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الأخضر نَاراً أو حالٌ من لبناً قُدّم عليه لتنكيره والتنبيه على أنه موضعُ العبرة {خَالِصًا} عن شائبة ما في الدم والفرثِ من الأوصاف ببرزخٍ من القدرة القاهرة الحاجزةِ عن بغي أحدِهما عليه مع كونهما مكتنفين له {سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} سهلَ المرور في حلقهم قيل لم يغَصَّ أحدٌ باللبن وقرئ سيِّغاً بالتشديد وبالتخفيف مثل هيْن وهيِّن

67

{وَمِن ثمرات النخيل والأعناب} متعلقٌ بما يدلُّ عليهِ الإسقاء من مطلق الإطعامِ المنتظمِ لإعطاء المطعومِ والمشروبِ فإن اللبن مطعومٌ كما أنه مشروبٌ أي ونطعمكم من ثمرات النخيل ومن الأعناب أي من عصيرهما وقوله تعالى {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} استئنافٌ لبيان كُنه الإطعامِ وكشفِه أو بقوله تتخذون منه وتكريرُ الظرفِ للتأكيد أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ صفتُه تتخذون أي وَمِن ثمرات النخيل والأعناب ثمرٌ تتخذون منه وحَذْفُ الموصوف إذا كان في الكلام كلمةُ مِنْ سائغٌ نحو قوله تعالى {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} وتذكيرُ الضمير على الوجهين الأولين لأنه للمضاف المحذوفِ أعني العصير أو لأن المراد هو الجنسُ والسَّكَر مصدرٌ سُمّي به الخمرُ وقيل هو النبيذُ وقيل هو الطعم {وَرِزْقًا حَسَنًا} كالتمر والدبس والزبيب والخلّ والآية إن كانت سابقةَ النزول على تحريم الخمر فدالّةٌ على كراهتها وإلا فجامعةٌ بين العتاب والمِنّة {إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً} باهرةً {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يستعملون عقولَهم في الآيات بالنظر والتأمل

68

{وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} أي ألهمها وقذف في قلوبها وعلمها بوجه لا يعلمُه إلا العليمُ الخبيرُ وقرئ بفتحتين {أَنِ اتخذى} أي بأن اتخذي على أنَّ أنْ مصدريةٌ ويجوز أن تكون مفسِّرةً لما في الإيحاء من معنى القول وتأنيثُ الضمير مع أن النحلَ مذكر للحمل على المعنى أو لأنه جمعُ نحلة والتأنيثُ لغة أهل الحجاز {مِنَ الجبال بُيُوتًا} أي أوكاراً مع ما فيها من الخلايا وقرئ بيوتاً بكسر الباء {وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} أي يعرِشه الناسُ أي يرفعه من كرْم أو سقف وقيل المرادُ به ما يرفعه الناسُ ويبنونه للنحل والمعنى اتخذي لنفسك بيوتاً من الجبال والشجر إذا لم يكن لك أرباب وإلا فاتخذي ما يعرِشونه لك وإيرادُ حرفِ التبعيض لما أنها لا تبنى في كل جبل وكل شجر وكل عرش ولا في كل مكان منها

69

{ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثمرات} من كل ثمرة تشتهينها حُلوِها ومُرِّها {فاسلكى} ما أكلتِ منها {سُبُلَ رَبّكِ} أي مسالكَه التي برَأها بحيث يُحيل فيها بقدرته القاهرة النَّوَر المرَّ عسلاً من أجوافك أو فاسلكي الطرقَ التي ألهمك في عمل العسلِ أو فاسلكي راجعةً إلى بيوتك سبلَ ربك لا تتوعّر عليك ولا

النحل 67 69 تلتبس {ذُلُلاً} جمع ذَلول وهو حال من السبل أي مذللة غيرَ متوعرة ذللها الله سبحانه وسهلها لك أو من الضميرِ في اسلكي أي اسلكي منقادةً لما أُمرتِ به {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا} استئناف عُدل به عن خطاب النحلِ لبيان ما يظهر منها من تعاجيب صنعِ الله تعالى التي هي موضعُ العبرة بعد ما أُمِرتْ بما أمرتْ {شَرَابٌ} أي عسل لأنه مشروب واحتج به وبقوله تعالى كُلِى من زعم أن النحلَ تأكلُ الأزهار والأوراقَ العطِرة فتستحيل في بطنها عسلا ثم تقيئ ادّخاراً للشتاء ومن زعم أنها تلتقط بأفواهها أجزاءً قليلةً حُلوة صغيرة متفرقةً على الأزهار والأوراق وتضعها في بيوتها فإذا اجتمع فيها شئ كثيرٌ يكون عسلاً فسّر البطونَ بالأفواه {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أبيضُ وأسودُ وأصفرُ وأحمرُ حسب اختلاف سنِّ النحل أو الفصلِ أو الذي أخذت منه العسل {فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ} إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر الأمراض إذ قلما يكون معجونٌ لا يكون فيه عسلٌ مع أن التنكيرَ فيه مُشعرٌ بالتبعية ويجوز كونه للتفخيم وعن قتادةَ أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أخي يشتكي بطنه فقال صلى الله عليه وسلم اسقِه العسلَ فذهب ثم رجع فقال قد سقَيتُه فما نفع فقال اذهبْ فاسقِه عسلاً فقد صدق الله وكذب بطنُ أخيك فسقاه فبرئ كأنَّما أُنْشِط مِنْ عِقال وقيل الضميرُ للقرآن أو لما بين الله تعالى من أحوال النحل وعن ابن مسعود رضي الله عنه العسل شفاه لكل داء والقرآنُ شفاء لما في الصدور فعليكم بالشفاءَين العسلِ والقرآنِ {إِنَّ فِى ذَلِكَ} الذي ذكر من أعاجيب آثارِ قُدرةِ الله تعالى {لآيَةً} عظيمة {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فإن من تفكر في اختصاص النحلِ بتلك العلومِ الدقيقة والأفعالِ العجيبةِ المشتملةِ على حسن الصنعةِ وصِحة القسمة التي لا يقدر عليها حُذّاقُ المهندسين إلا بآلات رقيقة وأدواتٍ أنيقة وأنظار دقيقة جزم قطعاً بأن له خالقاً قادراً حكيماً يلهمها ذلك ويهديها إليه جل جلاله

70

{والله خَلَقَكُمْ} لما ذكر سبحانه من عجائب أحوالِ ما ذَكَر من الماء والنبات والأنعام والنحل أشار إلى بعض عجائبِ أحوالِ البشر من أول عمُره إلى آخره وتطوراتِه فيما بين ذلك وقد ضبطوا مراتبَ العمُر في أربع الأولى سن النشور والنماء والثانية سنُّ الوقوف وهي سن الشباب والثالثة سنُّ الانحطاط القليل وهي سنُّ الكهولة والرابعة سنُّ الانحطاط الكبير وهي سنُّ الشيخوخة {ثُمَّ يتوفاكم} حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على حِكَم بالغةٍ بآجال مختلفة أطفالاً وشباباً وشيوخاً {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ} قبل توفّيه أي يعاد {إلى أَرْذَلِ العمر} أي أخسِّه وأحقرِه وهو خمسٌ وسبعون سنة على ما رُوي عن علي رضي الله عنه وتسعون سنة على ما نقل عن قتادة رضيَ الله عنه وقيلَ خمسٌ وتسعون وإيثارُ الردِّ على الوصول والبلوغِ ونحوهما للإيذان بأن بلوغَه والوصولَ إليه رجوعٌ في الحقيقة إلى الضُّعف بعدَ القوةِ كقولِه تعالَى وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِى الخلق ولا عمُرَ أسوأُ حالاً من عمر الهرِمِ الذي يشبه الطفلَ في نقصان العقل والقوة {لكي لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ} كثير {شَيْئاً} من العلم أو من

النحل المعلومات أو لكيلا يعلم شيئاً بعد علمٍ بذلك الشيء وقيل لئلا يعقِلَ بعد عقله الأولِ شيئاً {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بمقادير أعماركم {قَدِيرٌ} على كل شيء يميت الشابَّ النشيطَ ويُبقي الهرِمَ الفانيَ وفيه تنبيهٌ على أن تفاوتَ الآجالِ ليس إلا بتقدير قادرٍ حكيم ركب أبنيتَهم وعدّل أمزجتَهم على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لما بلغ التفاوتُ هذا المبلغ

71

{والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِى الرزق} أي جعلكم متفاوتين فيه فأعطاكم منه أفضلَ مما أعطى مماليكَكم {فَمَا الذين فُضّلُواْ} فيه على غيرهم {بِرَآدّى رزقهم} الذي رزقهم إياه {على مَا مَلَكَتْ أيمانهم} على مماليكهم الذين هم شركاؤُهم في المخلوقية والمرزوقية {فَهُمُ} أي المُلاّك والمماليك {فِيهِ} أي في الرزق {سَوَآء} أي لا يردونه عليهم بحيث يساوونهم في التصرف ويشاركونهم في التدبير والفاء للدِلالة على ترتيب التساوي على الرد أي لا يردونه عليهم ردًّا مستتبعاً للتساوي وإنما يردون عليهم منه شيئاً يسيراً فحيث لا يرضَون بمساواة مماليكِهم لأنفسهم وهم أمثالُهم في البشرية والمخلوقية لله عز سلطانُه في شيء لا يختصّ بهم بل يعُمهم وإياهم من الرزق الذي هم أُسوةٌ لهم في استحقاقه فما بالُهم يشركون بالله سبحانه وتعالى فيما لا يليق إلا به من الألوهية والمعبوديةِ الخاصّة بذاته تعالى لذاته بعضَ مخلوقاته الذي هو بمعزل من درجة الاعتبار وهذا كما ترى مثل ضُرب لكمال قباحةِ ما فعله المشركون تقريعاً عليهم كقوله تعالى {هَلْ لَّكُمْ من ما مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء في ما رزقناكم فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء} الآية {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} حيث يفعلون ما يفعلون من الإشراك فإن ذلك يقتضي أن يضيفوا نعم الله سبحانه الفائضةَ عليهم إلى شركائهم ويجحدوا كونَها من عند الله تعالى أو يحث أنكروا أمثالَ هذه الحجج البالغة بعدما أنعم الله بها عليهم والباء لتضمين الجحودِ معنى الكفر نحوُ وَجَحَدُواْ بِهَا والفاء للعطف على مقدر وهي داخلةٌ في المعنى على الفعل أي أيشركون به فيجحدون نعمته وقرئ تجحدون على الخطاب أو ليس الموالي برادّي رزقهم على مماليكهم بل أنا الذي أرزقهم وإياهم فلا يحسبوا أنهم يعطونهم شيئاً وإنما هو رزقي أُجريه على أيدهم فهم جميعاً في ذلك سواءٌ لا مزيةَ لهم على مماليكهم ألا يفهمون ذلك فيجحدون نعمة الله فهو ردّ على زعم المفضَّلين أو على فعلهم المؤذِن بذلك أو ما المفضَّلون برادّي بعضِ فضلهم على مماليكهم فيتساووا في ذلك جميعاً مع أن التفضيلَ ليس إلا ليبلوَهم أيشكرون أم يكفرون ألا يعرِفون ذلك فيجحدون نعمةَ الله تعالى كأنه قيل فلم يردوه عليهم والجملةُ الاسميةُ للدلالة على استمرارهم على عدم الرد يحكى عن أبي ذرَ رضيَ الله عنْهُ أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما هم إخوانُكم فاكسُوهم مما تلبَسون وأطعِموهم مما تَطعَمون فما رؤيَ عبدُه بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزراره من غير تفاوت

72

{والله جعل لكم من أنفسكم}

النحل 73 74 أي من جنسكم {أزواجا} لتأنَسوا بها وتقيموا بذلك جميعَ مصالحِكم ويكون أولادُكم أمثالَكم وقيل هو خلقُ حواءَ من ضِلْع آدمَ عليه الصلاة والسلام {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم} وُضع الظاهرُ موضعَ المُضمرِ للإيذان بأن المرادَ جعلَ لكل منكم من زوجه لا من زوج غيره {بنين} وبأن نتيجةَ الأزواج هو التوالد {وَحَفَدَةً} جمعُ حافد وهو الذي يُسرع في الخِدمة والطاعة ومنه قولُ القانت وإليك نسعى ونحفد أي جعل لكم خدماً يسرعون في خدمتكم وطاعتِكم فقيل المرادُ بهم أولادُ الأولاد وقيل البناتُ عبّر عنهن بذلك إيذاناً بوجه المنة فإنهن يخْدُمن البيوت أتمَّ خدمة وقيل أولادُ المرأة من الزوج الأول وقيل البنون والعطفُ لاختلاف الوصفين وقيل الأختان على البنات وتأخيرُ المنصوب في الموضعين عن المجرور لما مر من التشويق وتقديمُ المجرور باللام على المجرور بمن للإيذانِ من أولِ الأمرِ بعَود منفعة الجعل إليهم إمداد للتشويق وتقويةً له أي جعل لمصلحتكم مما يناسبكم أزواجاً وجعل لمنفعتكم من جهة مناسبةٍ لكم بنين وحفَدة {وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} من اللذائذ أو من الحلالات ومن للتبعيض إذ المرزوقُ في الدنيا أنموذجٌ لما في الآخرة {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} وهو أن الأصنامَ تنفعهم وأن البحائرَ ونحوها حرامٌ والفاء في المعنى داخلةٌ على الفعل وهي للعطفِ على مقدَّرٍ أي أيكفرون بالله الذي شأنُه هذا فيؤمنون بالباطل أو أبعد تحقق ما ذكر من نعمِ الله تعالَى بالباطل يؤمنون دون الله سبحانه {وبنعمة الله} تعالى الفائضةِ عليهم مما ذكر ومما لا يحيطُ بهِ دائرةُ البيان {هُمْ يَكْفُرُونَ} حيث يضيفونها إلى الأصنام وتقديمُ الصلة على الفعل للاهتمام أو لإيهام الاختصاص مبالغةً أو لرعاية الفواصل والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذانِ باستيجاب حالِهم للإعراض عنهم وصرفِ الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجيباً لهم مما فعلوه

73

{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} لعله عطفٌ على يكفرون داخلٌ تحت الإنكار التوبيخيّ أي أيكفرون بنعمة الله ويعبدون مِن دونه {مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا من السماوات والأرض شَيْئاً} إنْ جُعل الرزقُ مصدراً فشيئاً نُصب على المفعولية منه أي فنصْبٌ على البدلية منه بمعنى قليلاً ومن السموات مطراً ولا من الأرض نباتاً وإن جُعل اسماً للمرزوق فنصْبٌ على البدلية منه بمعنى قليلاً ومن السموات والأرض صفةٌ لرزقاً أي كائناً منهما ويجوز كونه تأكيداً لِلا يملك أي لا يملك رزقاً ما شيئاً من الملك {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} أن يملكوه إذ لا استطاعةَ لهم رأساً لأنها مَواتٌ لا حَراك بها فالضميرُ للآلهة ويجوز أن يكون للكفرة على معنى أنهم مع كونهم أحياءً متصرفين في الأمور لا يستطيعون من ذلك شيئاً فكيف بالجماد الذي لا حِسّ به

74

{فلا تضربوا لله الأمثال} التفاتٌ إلى الخطاب للإيذان بالاهتمام بشأن النهي أي لا تشركوا به شيئاً والتعبيرُ عن ذلك بضرب المثَل للقصد إلى النهي عن الإشراك به تعالى في شأن من الشئون فإن ضربَ المثلِ مبناه تشبيهُ حالة بحالة وقصةٍ بقصة أي لا تُشَبّهوا بشأنه تعالى شأناً من الشئون واللامُ مَثَلُها في قولِه تعالَى ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأة نُوحٍ وَضَرَبَ الله مَثَلاً للذين آمنوا امرأة فِرْعَوْنَ لا مثلُها في قولِه تعالَى واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية

النحل 75 ونظائرِه والفاءُ للدلالة على ترتب النهي على ما عُدِّد من النِّعم الفائضةِ عليهم من جهته سبحانه وكونِ ما يشركون به تعالى بمعزل من أن يملِك لهم مِنْ أقطار السموات والأرض شيئاً من رزق ما فضلاً عما فُصّل من نعمة الخلق والتفضيل في الرزق ونعمةِ الأزواج والأولاد {أَنَّ الله يَعْلَمُ} تعليلٌ للنهي المذكور ووعيدٌ على المنهيّ عنه أي إنه تعالى يعلم كنهَ ما تأتونَ وما تذرونَ وأنه في غاية العِظم والقبح {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ذلك وإلا لَما فعلتموه أو أنه تعالى يعلم كُنهَ الأشياء وأنتم لا تعلمونه فدعوا رأيَكم وقِفوا مواقفَ الامتثالِ لِما ورد عليكم من الأمر والنهي ويجوز أن يُراد فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم كيف تُضرب الأمثال وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ذلك فتقعون فيما تقعون فيه من مهاوي الردى والضلال ثم علمهم كيفيةَ ضرب الأمثال في هذا الباب فقال

75

{ضَرَبَ الله مَثَلاً} أي ذكر وأورد شيئاً يُستدل به على تباين الحالِ بين جنابه عز وجل وبين ما أشركوا به وعلى تباعدهما بحيث ينادى بفساد ما ارتكبوه نداء جلياً {عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء} بدلٌ من مثلاً وتفسيرٌ له والمثَلُ في الحقيقة حالتُه العارضة له من المملوكية والعجزِ التامّ وبحسَبها ضربُ نفسِه مثلاً ووصفُ العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر لاشتراكهما في كونهما عبدان لله سبحانه وقد أُدمج فيه أن الكل عبيدٌ له تعالى وبعدم القدرة لتمييزه عن المكاتَب والمأذون اللذين لهما تصرف في الجملة وفي إبهام المثلِ أولاً ثم بيانِه بما ذكر مالا يخفى من الفخامة والجزالة {وَمَن رَّزَقْنَاهُ} مَنْ موصوفةٌ معطوفة على عبداً أي رزقناه بطريق المُلك والالتفاتُ إلى التكلم للإشعار باختلاف حالَيْ ضرب المثل والرزق {مِنَّا} من جنابنا الكبير المتعالي {رِزْقًا حَسَنًا} حلالاً طيباً أو مستحسَناً عند الناس مرضياً {فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ} تفضّلاً وإحساناً والفاءُ لترتيب الإنفاق على الرزق كأنه قيل ومَنْ رزقناه منا رزقاً حسناً فأنفق وإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريم من الجملة الاسمية الفعلية الخير للدِلالة على ثبات الإنفاقِ واستمرارِه التجدديّ {سِرّا وَجَهْرًا} أي حالَ السر والجهر أو إنفاقَ سرَ وإنفاقَ جهر والمرادُ بيانُ عمومِ إنفاقِه للأوقات وشمولِ إنعامه لمن يجتنب عن قبوله جهراً والإشارةُ إلى أصناف نعمِ الله تعالى الباطنةِ والظاهرةِ وتقديمُ السرِّ على الجهرِ للإيذان بفضله عليه والعدول عن تطبيق القرينتين بأن يقال وحرًّا مالكاً للأموال مع كونه أدلَّ على تباين الحالِ بينه وبين قسيمه لتوخّي تحقيقِ الحقِّ بأن الأحرارَ أيضاً تحت ربقة عبوديتِه سبحانه وتعالى وأن مالكيتَهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزُقَهم الله تعالى إياه من غير أن يكون لهم مدخلٌ في ذلك مع محاولة المبالغة في الدِلالة على ما قُصد بالمثل من تباين الحالِ بين الممثَّلين فإن العبدَ المملوك حيث لم يكن مثلَ العبد المالكِ فما ظنُّك بالجماد ومالكِ المُلك خلاّق العالمين {هَلْ يَسْتَوُونَ} جمعُ الضمير للإيذان بأن المرادَ بما ذُكر مَن اتصفَ بالأوصافِ المذكورةِ من الجنسين المذكورين لا فردان معنيان منهما أي هل يستوي العبيد والأحرار المصوفون بما ذُكر من الصِّفاتِ مع أن الفريقين سيانِ في البشرية والمخلوقية لله سبحانه

النحل 76 77 وأن ما ينفقه الأحرارُ ليس مما لهم دخلٌ في إيجاده ولا في تملكه بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث لم يستوِ الفريقان فَمَا ظنُّكم بِرَبّ العالمين حيث تشركون به ما لا ذليلَ أذلُّ منه وهو الأصنام {الحمد للَّهِ} أي كله لأنه مولى جميع النعم لا يستحقه أحدٌ غيرُه وإن ظهرت على أيدي بعض الوسايط فضلاً عن استحقاقِ العبادة وفيه إرشادٌ إلى ما هو الحقُّ من أنّ ما يظهر على يد مَنْ ينفق مما ذكر راجع إلى الله سبحانه كما لوح به قوله تعالى رَّزَقْنَاهُ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ما ذكر فيُضيفون نعمَه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجلها ونفيُ العلم عن أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك وإنما لا يعلمون بموجبه عناداً كقوله تعالى {يعرفون نعمة الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون}

76

{وَضَرَبَ الله مَثَلاً} أي مثلاً آخرَ يدل على ما دلَّ عليه المثلُ السابقُ على وجه أوضحَ وأظهرو بعد ما أبهم ذلك لتنتظرَ النفسُ إلى وروده وتترقبه حتى يتمكّن لديها عند وروده بيّن فقيل {رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} وهو من وُلد أخرسَ {لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء} من الأشياء المتعلّقةِ بنفسه أو بغيره بحدْس أو فراسة لقِلة فهمِه وسوءِ إدراكِه {وَهُوَ كَلٌّ} ثِقَلٌ وعِيالٌ {على مَوْلاهُ} على مَن يعوله ويلي أمرَه وهذا بيانٌ لعدم قدرتِه على إقامة مصالحِ نفسه بعد ذكر عدم قدرتِه على شيء مطلقاً وقوله تعالى {أَيْنَمَا يُوَجّههُّ} أي حيث يرسله مولاه في أمر بيانٌ لعدم قدرتِه على إقامة مصالحِ مولاه ولو كانت مصلحةً يسيرة وقرئ على البناء للمفعول وعلى صيغة الماضي من التوجه {لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} بنُجْح وكفايةِ مُهمّ البتةَ {هَلْ يَسْتَوِى هُوَ} مع ما فيه من الأوصاف المذكورةِ {وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} أي من هو منطبق فهو ذو رأي وكفاية ورشد ينفع الناسَ بحثهم على العدل الجامع لمجامعِ الفضائل {وَهُوَ} في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام للخاص والعام {على صراط مُّسْتَقِيمٍ} ومقابلةُ الصفاتِ المذكورة بهذين الوصفين لأنهما في حاق ما يقابلها فإن محصل الصفاتِ المذكورة عدمُ استحقاقِ المأمورية وملخصُ هذين استحقاقُ كمالِ الآمرية المستتبِعِ لحيازة المحاسنِ بأجمعها وتغييرُ الأسلوب حيث لم يقل والآخر آمرٌ بالعدل الآية لمراعاة الملائمة بينه وبين ما هو المقصودُ من بيان التبايُنِ بين القرينتين واعلم أن كلاًّ من الفعلين ليس المرادُ بهما حكايةَ الضربِ الماضي بل المرادُ إنشاؤُه بما ذُكر عَقيبه ولا يبعُد أن يقال إن الله تعالى ضرب مثلاً بخلق الفريقين على ما هما عليه فكان خلقُهما كذلك للاستدلال بعدم تساويهما على امتناع التساوي بينه سبحانه وبين ما يشركون فيكون كلٌّ من الفعلين حكايةً للضرب الماضي

77

{وَللَّهِ} تعالى خاصةً لا لأحد غيرِه استقلالا ولا اشتراكا {غيب السماوات والارض} أي الأمورُ الغائبةُ عن علوم المخلوقين

النحل 78 قاطبةً بحيث لا سبيلَ لهم إليها لا مشاهدةً ولا استدلالاً ومعنى الإضافةِ إليهما التعلقُ بهما إما باعتبار الوقوعِ فيهما حالاً أو مآلاً وإما باعتبار الغَيبة عن أهلهما والمرادُ بيانُ الاختصاصِ به تعالى من حيثُ المعلوميةُ حسبما ينبئ عنه عنوان الغيبة لا من حيث المخلوقيةُ والمملوكيةُ وإنْ كان الأمرُ كذلك في نفس الأمر وفيه إشعارٌ بأنَّ علمَه سبحانه حضوريٌّ فإن تحقق الغيوب في نفسها علم بالنسة إليه تعالى ولذلك لم يقل ولله علمُ غيبِ السموات والأرض {وَمَا أَمْرُ الساعة} التي هي أعظمُ ما وقع فيه المماراةُ من الغيوب المتعلقة بهما من حيث غيبتُها عن أهلهما أو ظهورُ آثارها فيهما عند وقوعها فأن وقتَ وقوعها بعينه من الغيوب المختصة به سبحانه وإن كان آنيّتُها من الغيوب التي نُصبت عليها الأدلة أي ما شأنُها في سرعة المجيء {إِلاَّ كَلَمْحِ البصر} أي كرجع الطرفِ من أعلى الحدَقة إلى أسفلها {أَوْ هُوَ} أي بل أمرُها فيما ذكر {أَقْرَبُ} من ذلك وأسرعُ زماناً بأن يقع في بعضٍ من زمانه فإن ذلك وإن قصر عن حركةٌ آنيةٌ لها هُوِيةٌ اتصاليةٌ منطبقةٌ على زمان له هويةٌ كذلك قابلٌ للانقسام إلى أبعاض هي أزمنة أيضاً بل في آن غيرِ منقسمٍ من ذلك الزمان وهو آنُ ابتداءِ تلك الحركةِ أو ما أمرُها إلا كالشيء الذي يُستقرب ويقال هو كلمح البصر أو هو أقرب وأياما كان فهو تمثيلٌ لسرعة مجيئها حسبما عبّر عنها في فاتحة السورة الشريفة بالإتيان {إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ} ومن جملة الأشياء أن يجيء بها أسرعَ ما يكون فهو قادر على ذلك أو وما أمرُ إقامةِ الساعة التي كُنهُها وكيفيتُها من الغيوب الخاصةِ به سبحانه وهي إماتةُ الأحياءِ وإيحاء الأمواتِ من الأولين والآخرين وتبديلُ صورِ الأكوان أجمعين وقد أنكرها المنكرون وجعلوها من قبيل مالا يدخُل تحت الإمكان في سرعة الوقوعِ وسهولةِ التأتي إلا كلمح البصر أو هو أقرب على ما مر من الوجهين أَنَّ الله على كُلّ شىء قدير فهو قادر على ذلك لا محالة وقيل غيبُ السموات والأرض عبارةٌ عن يوم القيامة بعينه لما أن علمه بخصوصه غائبٌ عن أهلهما فوضْعُ الساعة موضعَ الضمير لتقوية مضمونِ الجملة

78

{والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم} عطف على قوله تعالى والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا منتظمٌ معه في سلك أدلةِ التوحيد من قوله تعالى والله أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء وقولِه تعالى والله خَلَقَكُمْ وقوله تعالى والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ والأمهات بضم الهمزة وقرئ بكسرها أيضا جمع الأمر زيدت الهاء فيه كما زيدت في أهراق من أراق وشذّت زيادتُها في الواحدة قال ... أُمهتي خِندِفُ والياسُ أبي ... {لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} في موقعِ الحالِ أي غيرَ عالمين شيئاً أصلاً {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة} عطف على أخرجكم وليس فيه دلالةٌ على تأخر الجعل المذكورِ عن الإخراج لما أن مدلولَ الواو هو الجمعُ مطلقاً لا الترتيبُ على أن أثر ذلك الجعلِ لا يظهر قبل الإخراج أي جعل لكم هذه الأشياءَ آلاتٍ تحصّلون بها العلمَ والمعرفة بأن تُحِسوا بمشاعركم جزئياتِ الأشياء وتُدركوها بأفئدتكم وتتنبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرر الإحساسِ فيحصل لكم علوم

النحل 79 80 بديهيةٌ تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلومِ الكسبية والأفئدة جمع فؤاد وهو وسط القلب وهو من القلب كالقلب من الصدور وهو من جموع القلة التي جرت مَجرى جموعِ الكثرة وتقديمُ المجرور على المنصوبات لما مر من الإيذانُ من أول الأمرِ بكون المجعول نافعاً لهم وتشويقِ النفس إلى المؤخر ليتمكن عند ورودِه عليها فضلُ تمكن {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} كي تعرِفوا ما أنعم به عليكم طوراً غِبَّ طَورٍ فتشكروه وتقديمُ السمع على البصر لما أنه طريق تلقي الوحي أو لأن إدراكه أقدمُ من إدراك البصر وإفرادُه باعتبار كونه مصدراً في الأصل

79

{ألم يروا} وقرئ بالتاء {إِلَى الطير} جمع طائر أي ألم ينظروا إليها {مسخرات} مذلّلاتٍ للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسبابِ المساعدة له وفيه مبالغةٌ من حيث إن معنى التسخيرِ جعلُ الشيء منقاداً لآخرَ يتصرَّفُ فيه كيفَ يشاءُ كتسخير البحر والفُلك والدوابِّ للإنسان والواقع ههنا تسخيرُ الهواء للطير لتطير فيه كيف تشاء فكان مقتضى طبيعةِ الطير السقوطَ فسخرها الله تعالى للطيران وفيه تنبيه على أن الطيران ليس مقتضى طبعِ الطير بل ذلك بتسخير الله تعالى {فِى جَوّ السمآء} أي في الهواء المتباعدِ من الأرضَ والسكاك واللوح أبعدُ منه وإضافتُه إلى السماء لما أنه في جانبها من الناظر ولإظهار كمال القدرة {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الجوِّ حين قبْضِ أجنحتهن وبسطِها ووقوفِهن {إِلاَّ الله} عزَّ وجلَّ بقدرته الواسعة فإن ثقلَ جسدها ورِقّةَ قوامِ الهواء يقتضيان سقوطَها ولا عِلاقةَ من فوقها ولا دِعامة من تحتها وهو إما حالٌ من الضمير المستتر في مسخّرات أو من الطير وإما مستأنف {إِنَّ فِى ذَلِكَ} الذي ذكر من تسخير الطير للطيران بأن خلقها خِلْقةً تتمكن بها منه بأن جعل لها أجنحةً خفيفة وأذناباً كذلك وجعل أجسادها من الخِفة بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابَها لا يطيق ثقلها يخرق ما تحتها من الهواء الرقيق القوام وتخرق ما بين يديها من الهواء لأنها لا تلاقيه بحجم كبير {لاَيَاتٍ} ظاهرة {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي من شأنهم أن يؤمنوا وإنما خص ذلك بهم لأنهم المنتفعون به

80

{والله جَعَلَ لَكُمُ} معطوف على ما مر وتقديم لكم على ما سيأتي من المجرور والمنصوب لما مر من الإيذانُ من أول الأمرِ بأنه لمصلحتهم ومنفعتهم لتشويق النفسِ إلى وروده وقولُه تعالى {مِن بيوتكم} أي من بيوتكم المعهودة التي تبنونها من الحجر والمدر تبيين لذلك المجعول المبْهمِ في الجملة وتأكيدٌ لما سبق من التشويق {سَكَناً} فَعَلٌ بمعنى مفعول أي موضعاً تسكنون فيه وقت إقامتِكم أو تسكنون إليه من غير أن ينتقل من مكانه أي جعل بعضَ بيوتكم بحيث تسكنون إليه وتطمئنون به {وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الانعام بُيُوتًا}

أي بيوتاً أُخَرَ مغايرةً لبيوتكم المعهودةِ هي الخيامُ والقباب والأخبية والفاساطيط {تَسْتَخِفُّونَهَا} تجدونها خفيفةً سهلةَ المأخذ {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} وقت تَرحالِكم في النقض والحمل والنقل وقرئ بفتح العين {وَيَوْمَ إقامتكم} وقت نزولِكم في الضرب والبناء {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} عطفٌ على قوله تعالى مّن جُلُودِ والضمائر للأنعام على وجه التنويع أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبارِ الإبل وأشعار المعْزِ {أَثَاثاً} أي متاعَ البيت وأصلُه الكثرةُ والاجتماعُ ومنه شعرٌ أثيثٌ {ومتاعا} أي شيئاً يُتمتّع بهِ بفنون التمتع {إلى حِينٍ} إلى أن تقضوا منه أوطارَكم أو إلى أن يبلى ويفنى فإنه في معرض البلا والفناء وقيل إلى أن تموتوا والكلام في ترتيب المفاعيل مثلُ ما مر من قبل

81

{والله جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ} من غير صُنْع مِنْ قِبلكم {ظلالا} أشياءَ تستظلون بها من الحر كالغمام والشجرِ والجبل وغيرها امتنّ سبحانه بذلك لِما أن تلك الديارَ غالبةُ الحرارة {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا} مواضيع تسكنون فيها من لكهوف والغِيران والسُّروب والكلام في الترتيب الواقع بين المفاعيل كالذي مرَّ غير مرة {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} جمع سِربال وهو كل ما يُلبس أي جعل لكم ثياباً من القُطن والكَتان والصوف وغيرها {تَقِيكُمُ الحر} خصّه بالذكر اكتفاءً بذكر أحد الضدّين عن ذكر الآخر أو لأن وقايتَه هي الأهم عندهم لما مر آنفاً {وسرابيل} من الدروع والجواشن {تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} أي البأسَ الذي يصل إلى بعضكم من بعض في الحرب من الضرب والطعن ولقد منّ الله سبحانه علينا حيث ذكر جميعَ نعمِه الفائضةِ على جميع الطوائف فبدأ بما يخُص المقيمين حيث قال والله جعل لكم من بُيُوتِكُمْ سَكَنًا ثم بما يخص المسافرين ممن لهم قدرةٌ على الخيام وأضرابِها حيث قال وجعل لكم مّن جُلُودِ الانعام الخ ثم بما يعم من لا يقدرُ على ذلك ولا يأويه إلا الظلالُ حيث قال {جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظلالا} الخ ثم بما لابد منه لأحد حيث قال {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} الخ ثم بمالا غنى عنه في الحروب حيث قال وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ثم قَالَ {كذلك} أي مثلَ ذلك الإتمامِ البالغِ {يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} أي إرادةَ أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم الظاهرةِ والباطنةِ والأنفسيةِ والآفاقية فتعرِفوا حق منعهما فتؤمنوا به وحده وتذروا ما كنتم به تشركون وتنقادوا لأمره وإفرادُ النعمة إما لأن المرادَ بها المصدرُ أو لإظهار أنَّ ذلكَ بالنسبةِ إلى جانب الكبرياء شيء قليل وقرئ تَسلمون أي تسلمون من العذاب أو من الشرك وقيل من الجراح بلبس الدروع

82

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} فعل ماض على طريقة الالتفات وصرفُ الخطابِ عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليةٌ له أي فإنْ أعرضُوا عن الإسلام ولم يقبلوا منك ما ألقيَ إليهم من البينات والعبرة والعظات {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين} أي فلا قصور من جهتك لأن وظيفتك هي البلاغُ الموضح أو الواضح وقد فعلتَه بما لا مزيدَ عليهِ فهو من باب وضعِ السببِ موضعَ المسبب

النحل

83

83 - 86 {يعرفون نعمة الله} استئنافٌ لبيان أن تولّيَهم وإعراضَهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم بما عُدد من نعمِ الله تعالَى أصلاً فإنهم يعرِفونها ويعترفون أنها من الله تعالى {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} بأفعالهم حيث يعبدون غيرَ مُنعمها أو بقولهم إنها بشفاعة آلهتنا أو بسب كذا وقيل نعمةُ الله تعالى نبوة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم عرفوها بالمعجزات كما يعرفون أبناءَهم ثم أنكروها عِناداً ومعنى ثم لاستبعاد الإنكار بعد المعرفة لأن حق مَنْ عرف النعمة الاعترافُ بها لا الإنكارُ وإسنادُ المعرفة والإنكارِ المتفرِّعِ عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاقِ من باب إسنادِ حالِ البعض إلى الكل كقولهم بنُو فلان قتلُوا فلاناً وإنما القاتلُ واحدٌ منهم فإن بعضهم ليسوا كذلك لقوله سبحانه {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} أي المنكرون بقلوبهم غيرُ المعترفين بما ذكر والحُكم عليهم بمطلق الكفر المؤذِن بالكمال من حيث الكميةُ لا ينافي كمالَ الفِرقة الأولى من حيث الكيفية هذا وقد قيل ذكرُ الأكثر إما لأن بعضهم لم يَعرِفوا لنقصان العقل أو التفريطِ في النظر أو لم يقُم عليه الحجةُ لأنه لم يبلغ حد التكليف فتدبر

84

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} يشهد لهم بالإيمان والطاعةِ وعليهم بالكفر والعصيان وهو نبيها {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} في الاعتذار إذ لا عذرَ لهم وثمَّ للدَّلالة على أنَّ ابتلاءهم بالمنع عن الاعتذار المنيء عن الإقناط الكليِّ وهو عند ما يقال لهم اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ أشدُّ من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم السلام عليهم وأطمُّ {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} يُسترضَون أي لا يقال لهم ارضُوا ربكم إذ الآخرةُ دارُ الجزاء لا دارُ العمل وانتصابُ الظرف بمحذوف تقديرُه اذكرْ أو خوِّفْهم يوم نبعث الخ أو يوم نبعث يحيق بهم ما يحيق مما لا يوصف وكذا قوله تعالى

85

{وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب} الذي يستوجبونه بظلمهم وهو عذابُ جهنم {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} ذلك {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي يُمهلون كقوله تعالى بَلْ تَأْتِيهِم بغتة فتبهتهم

86

{وإذا رأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ} الذين كانوا يدعونهم في الدنيا وهم الأوثانُ أو الشياطينُ الذين شاركوهم في الكفر بالحمل عليه وقارنوهم في الغيّ والضلال {قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا ندعو مِن دُونِكَ} أي نعبدهم أو نطيعهم ولعلهم قالوا ذلك طمعاً في توزيع العذاب بينهم كما ينبئ عنه قوله سبحانه {فَأَلْقَوُاْ} أي شركاؤهم {إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون} فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ليس إلا للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونه وإنما كذبوهم وقد كانوا يعذبونهم ويطيعونهم لأن الأوثانَ ما كانوا راضين بعبادتهم لهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة لهم كما قالت الملائكةُ عليهم

النحل 87 89 السلام بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن يعنون أن الجنَّ هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لا نحن أو كذبوهم في تسميتهم شركاءَ وآلهةً تنزيهاً لله سبحانه عن الشريك والشياطينُ وإن كانوا راضين بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر والإلجاءِ كما قال إبليسُ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى فكأنهم قالوا ما عبدتمونا حقيقة بل إنما عبدتم أهواءكم

87

{وَأَلْقَوْاْ} أي الذين أشركوا {إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} الاستسلامَ والانقيادَ لحُكمه العزيز الغالب عبد الاستكبار عنه في الدنيا {وَضَلَّ عَنْهُم} أي ضاع وبطل {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من أن لله سبحانه شركاءَ وأنهم ينصُرون ويشفعون لهم وذلك حين كذبوهم وتبرءوا منهم

88

{الذين كَفَرُواْ} في أنفسهم {وَصُدُّواْ} غيرهم {عَن سَبِيلِ الله} بالمنع عن الإسلام والحمل على الكفر {زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب} الذي كانوا يتسحقونه بكفرهم قيل في زيادة عذابهم حياتٌ أمثالُ البُخْت وعقاربُ أمثالُ البغال تلسَع إحداهن فيجد صاحبها حُمَتَها أربعين خريفاً وقيل يُخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة البرد إلى النار {بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} متعلق بقوله زدناهم أي زدنا عذابهم بسب استمرارِهم على الإفساد وهو الصدّ المذكور

89

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ} تكريرٌ لما سبق تثنيةً للتهديد {فِى كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ} أي نبياً {مّنْ أَنفُسِهِمْ} من جنسهم قطعاً لمعذرتهم وفي قوله تعالى عَلَيْهِمْ إشعارٌ بأن شهادةَ أنبيائِهم على الأمم تكون بمحضر منهم {وَجِئْنَا بِكَ} إيثارُ لفظ المجيء على البعث لكمال العنايةِ بشأنه عليه السلام وصيغةُ الماضِي للدِلالة على تحقق الوقوع {شَهِيدًا على هَؤُلآء} الأممِ وشهدائِهم كقولِه تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً وقيل على أمتك والعاملُ في الظرف محذوفٌ كما مر والمراد به يوم القيامة {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب} الكاملَ في الكتابية الحقيقَ بأن يُخَص باسم الجنس وهو إما استئنافٌ أو حال بتقدير قد {تِبْيَانًا} بياناً بليغاً {لّكُلّ شَىْء} يتعلق بأمور الدين ومن جملة ذلك أحوالُ الأممِ مع أنبيائهم عليهم السلام فيكون كالدليل على كونه عليه السلام شهيداً عليهم وكذا من جملته ما أخبر به هذه الآيةُ الكريمة من بعث الشهداءِ وبعثِه عليه السلام شهيداً عليهم عليهم الصلاة والسلام والتبيانُ كالتِلقاء في كسر أوله وكونُه تبياناً لكل شيء من أمور الدين باعتبار أن فيه نصاً على بعضها وإحالةً لبعضها على السنة حيث أمر باتباع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وطاعته وقيل فيه وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى وحثًّا على الإجماع وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته باتباع أصحابه حيث قال أصحابي كالنّجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وقد اجتهدوا وقاسوا ووطئوا طرقَ الاجتهاد فكانت السنة والإجماعُ والقياسُ مستندةً إلى تبيان

النحل 90 91 الكتاب ولم يضُرَّ ما في البعض من الخفاء في كونه تبياناً فإن المبالغةَ باعتبار الكمية دون الكيفية كما قيل في قوله تعالى {وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ} إنه من قولك فلان ظالم لعبيده وظلام لعبيده ومنه قوله سبحانه وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} للعالمين فإن حرمان الكفر من مغانم آثارِه من تفريطهم لا من جهة الكتاب {وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} خاصة أو يكون كلُّ ذلك خاصاً بهم لأنهم المنتفِعون بذلك

90

{إِنَّ الله يَأْمُرُ} أي فيما نزّله تبياناً لكل شيء وهدًى ورحمةً وبشرى للمسلمين وإيثارُ صيغةِ الاستقبال فيه وفيما بعده لإفادة التجددِ والاستمرار {بالعدل} بمراعاة التوسطِ بين طرفي الإفراطِ والتفريطِ وهو رأسُ الفضائل كلِّها يندرج تحته فضيلةُ القوةِ العقلية المَلَكية من الحكمة المتوسطة بين الحر مزة والبَلادة وفضيلةُ القوةِ الشهوية البهيمية من العِفة المتوسّطة بين الخلاعة والخمود وفضيلةُ القوة الغضبية السبعية من الشجاعة المتوسطة بين التهوُّرِ والجُبن فمن الحِكم الاعتقادية التوحيدُ المتوسطُ بين التعطيل والتشريك نُقلَ عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ العدلَ هو التوحيدُ والقولُ بالكسب المتوسّطِ بين الجبر والقدَر ومن الحِكم العملية التبعد بأداء الواجبات المتوسطِ بين البَطالة والترهب ومن الحِكم الخليقية الجودُ المتوسط بين البخل والتبذير {والإحسان} أي الإتيانِ بما أمر به على الوجه اللائقِ وهو إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل أو بحسب الكيفيةِ كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام الإحسانُ أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراه فإنه يراك {وَإِيتَآء ذِى القربى} أي إعطاءِ الأقارب ما يحتاجون إليه وهو تخصيصٌ إثرَ تعميمٍ اهتماماً بشأنه {وينهى عَنِ الفحشاء} الإفراط في مشايعة القوة الشهوية كالزنا مثلاً {والمنكر} ما يُنكَر شرعاً أو عقلاً من الإفراط في إظهار آثار القوةِ الغضبية {والبغى} الاستعلاءُ والاستيلاءُ على الناس والتجبرُ عليهم وهو من آثار القوة الوهمية الشيطانيةِ التي هي حاصلةٌ من رذيلتَيْ القوتين المذكورتين الشهويةِ والغضبية وليس في البشر شرٌّ إلا وهو مندرجٌ في هذه الأقسام صادرٌ عنه بواسطة هذه القُوى الثلاث ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه هي أجمعُ آيةٍ في القرآن للخير والشر ولو لم يكن فيه غيرُ هذه الآية الكريمة لكفَتْ في كونه تبياناً لكل شيءٍ وهدى {يَعِظُكُمُ} بما يأمر وينهى وهو إما استئنافٌ وإما حالٌ من الضميرين في الفعلين {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} طلباً لأن تتعظوا بذلك

91

{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله} هو البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها مبايعةٌ لله سبحانه لقولِه تعالى إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله {إِذَا عاهدتم} أي حافظوا على حدود ما عاهدتم الله عليه وبايعتم به رسول الله صلى الله عليه وسلم

انحل 92 93 {وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان} التي تحلِفون بها عند المعاهدة {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} حسبما هو المعهودُ في أثناء العهودِ لا على أنْ يكونَ النهيُ مقيداً بالتوكيد مختصاً به {وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} شاهداً رقيباً فإن الكفيلَ مُراعٍ لحال المكفول به محافظٌ عليه {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} من نقض الأيمان والعهودِ فيجازيكم على ذلك

92

{وَلاَ تَكُونُواْ} فيما تصنعون من النقض {كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا} أي ما غزلتْه مصدرٌ بمعنى المفعول {مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} متعلق بنقضت أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامِه {أنكاثا} طاقاتٍ نكثتْ فتلَها جمع نِكْث وانتصابُه عَلى الحاليةِ من غزْلَها أو على أنَّه مفعولٌ ثانٍ لنقضت فإنه بمعنى صيّرت والمرادُ تقبيحُ حالِ النقض بتشبيه الناقض بمثل هذه الخرقاءِ المعتوهةِ قيل هي رَيْطةُ بنتُ سعد بن تيم وكانت خرقاءَ اتخذت مِغزلاً قدرَ ذراعٍ وصَنّارةً مثلَ أصبع وفلكةً عظيمةً على قدرها فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقُضْن ما غزَلْن {تَتَّخِذُونَ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ} حالٌ من الضمير في لا تكونوا أو في الجار والمجرور الواقعِ موقعَ الخبر أي مشابهين لا مرأة شأنُها هذا حالَ كونِكم متَّخذين أيمانَكم مفسدةً ودخَلاً بينكم وأصلُ الدخَل ما يدخُل الشيء ولم يكن منه {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ} أي بأن تكون جماعة {هِىَ أَرْبَى} أي أزيد عدداً وأوفر مالاً {مِنْ أُمَّةٍ} من جماعة أخرى أي لا تغدُروا بقوم لكثرتكم وقلتهم أو لكثرة مُنابذيهم وقوتهم كقريش فإنهم كانوا إذا رأوا شوكةً في أعادي حلفائِهم نقضوا عهدَهم وحالفوا أعداءهم {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ} أي بأن تكون أمةٌ أربى من أمة أي يعاملكم بذلك معاملةَ من يختبركم لينظر أتتمسكون بحبل الوفاءِ بعهد الله وبَيعةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم أم تغترّون بكثرة قريشٍ وشوكتِهم وقلةِ المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال {وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} حين جازاكم بأعمالكم ثواباً وعقاباً

93

{وَلَوْ شَاء الله} مشيئةَ قسرٍ وإلجاءٍ {لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدةً} متفقةٌ على الإسلام {ولكن} لا يشاء ذلك لكونه مزاحِماً لقضية الحِكمة بل {يُضِلُّ مَن يَشَاء} إضلالَه أي يخلق فيه الضلالَ حسبما يصرِفُ اختيارَه الجزئيَّ إليه {وَيَهْدِى مَن يَشَاء} هدايته حسبما يصرِف اختياره إلى تحصيلها {ولتسألن} جميعاً يوم القيامة {عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدُنيا وهذا إشارةٌ إلى ما لُوِّح به من الكسب الذي عليه يدورُ أمرُ الهداية والضلال

النحل

94

94 - 96 {وَلاَ تَتَّخِذُواْ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ} تصريحٌ بالنهي عنه بعد التضمين تأكيداً ومبالغةً في بيان قبحِ المنهيِّ عنه وتمهيداً لقوله سبحانه {فَتَزِلَّ قَدَمٌ} عن مَحَجّة الحق {بَعْدَ ثُبُوتِهَا} عليها ورسوخها فهيا بالإيمان وإفراد القديم وتنكيرُها للإيذان بأن زلَلَ قدمٍ واحدة أيَّ قدمٍ كانت عزّت أو هانت محذورٌ عظيم فكيف بأقدام كثيرة {وَتَذُوقُواْ السوء} أي العذابَ الدنيوي {بِمَا صَدَدتُّمْ} بصدودكم أو بصدّكم غيرَكم {عَن سَبِيلِ الله} الذين ينتظم الوفاءَ بالعهود والأيمان فإن من نقض البَيعةَ وارتدّ جَعل ذلك سنةً لغيره {ولكم} فِى الاخرة {عَذَابٌ عَظِيمٌ}

95

{وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله} أي لا تأخذوا بمقابلة عهدِه تعالى وبَيعةِ رسوله صلى الله عليه وسلم أو آياتِه الناطقة بإيجاب المحافظةِ على العهود والأيمان {ثَمَناً قَلِيلاً} أي لا تستبدلوا بها عرَضاً يسيراً وهو ما كانت قريشٌ يعِدّون ضعفةَ المسلمين ويشترطون لهم على الارتداد من حُطام الدنيا {إِنَّمَا عِنْدَ الله} عز وجل من النصر والتغنيم والثوابِ الأخرويّ {هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} مما يعِدونكم {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إنْ كنتُم من أهلِ العلمِ والتمييزِ وهو تعليلٌ للنهي على طريقة التحقيقِ كما أن قوله تعالى

96

{مَا عِندَكُمْ} تعليلٌ للخيرية بطريق الاستئنافِ أي ما تتمتعون به من نعيم الدنيا وإن جل بل الدنيا وما فيها جميعاً {يَنفَدُ} وإن جمّ عددُه وينقضي وإن طال أمدُه {وَمَا عِندَ الله} من خزائن رحمتِه الدنيوية والأخروية {باق} لا نفاذ له أما الأخرويةُ فظاهرةٌ وأما الدنيويةُ فحيث كانت موصولةً بالأخروية ومستتبِعةً لها فقد انتظمت في سِمْط الباقيات الصالحات وفي إيثار الاسمِ على صيغة المضارعِ من الدِّلالةِ على الدوام ما لا يخفى وقوله تعالى {وَلَنَجْزِيَنَّ} بنون العظمةِ على طريقة الالتفات تكرير الموعد المستفادِ من قولِه تعالَى إِنْ ما عِنْدَ الله هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ على نهج التوكيدِ القسميِّ مبالغةٌ في الحمل على الثبات في الدين والالتفاتُ عما يقتضيه ظاهرُ الحال من أن يقال ولنجزينكم أجركم بأحسن ما كنتم تعملون للتوسل إلى التعرض لأعمالهم والإشعارِ بعليتها للجزاء أي والله لنجزين {الذين صَبَرُواْ} على أذيَّةِ المشركينَ ومشاقِّ الإسلام التي من جملتها الوفاءُ بالعهود والفقر وقرئ بالياء من غير التفاتٍ {أَجْرَهُمْ} مفعولٌ ثانٍ لنجزين أي لنُعطِينّهم أجرَهم الخاصَّ بهم بمقابلة صبرِهم على ما مُنوا به من الأمور المذكورة {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي لنجزينهم بما كانوا يعملونه من الصبر المذكورِ وإنما أضيف إليه الأحسنُ للإشعار بكمال حسنِه كما في قوله سبحانه وَحُسْنَ ثَوَابِ الأخرة لا لإفادة قصرِ الجزاءِ على الأحسن منه دون الحسَن فإن ذلك مما لا يخطر ببال أحد لا سيما بعد قوله تعالى أجرهم أو لنجزينهم بحسب أحسنِ أفرادِ أعمالهم المذكور على معنى لنعطيهم بمقابلة الفردِ الأدنى من أعمالهم المذكورة ما نعطيه بمقابلة الفردِ الأعلى منها من الأجر الجزيلِ لا أنا نُعطي الأجر بحسب

النحل 97 98 أفرادِها المتفاوتةِ في مراتب الحسن بأن نجزيَ الحسنَ منها بالأجر الحسَنِ والأحسنَ بالأحسن وفيه ما لا يَخفْى من العدة الجميلة باغتفار ما عسى يعتريهم في تضاعيف الصبر من بعض جزَعٍ ونظمِه في سلك الصبر الجميل أو لنجزينهم بجزاءٍ أحسنَ من أعمالهم وأما التفسيرُ بما ترجح فعلُه من أعمالهم كالواجبات والمندوبات أو بما ترجح تركُه أيضاً كالمحرمات والمكروهات دلالةً على أنَّ ذلك هو المدارُ للجزاء دون ما يستوي فعلُه وتركُه كالمباحات فلا يساعده مقامُ الحثِّ على الثبات على ما هم عليه من الأعمال الحسنةِ المخصوصة والترغيبِ في تحصيل ثمراتها بل التعرضُ لإخراج بعض أعمالِهم عن مدارية الجزاءِ من قبيل تحجيرِ الرحمةِ الواسعة في مقام توسيع حماما

97

{مَّنْ عَمِلَ صالحا} أي عملاً صالحاً أيَّ عملٍ كان وهذا شروعٌ في تحريض كافةِ المؤمنين على كل عملٍ صالح غِبَّ ترغيبِ طائفةٍ منهم في الثبات على ما هم عليه من عمل صالحٍ مخصوصٍ دفعاً لتوهم اختصاصِ الأجر الموفورِ بهم وبعملهم المذكور وقولُه تعالى {من ذَكَرٍ أَوْ أنثى} مبالغةٌ في بان شمولِه للكل {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} قيّده به إذ لا اعتدادَ بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب أو تخفيفِ العذاب لقوله تعالى وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً وإيثارُ إيرادِه بالجملة الاسميةِ الحالية على نظمه في سلك الصلةِ لإفادة وجوبِ دوامه ومقارنتِه للعمل الصالح {فلنحيينه حياة طيبة} في الدنيا يعيش عيشا طيبا أما إن كان موسراً فظاهرٌ وأما إن كان معسِراً فيطيب عيشُه بالقناعة والرضى بالقسمة وتوقعِ الأجرِ العظيم كالصائم يطيب نهارُه بملاحظة نعيمِ ليلِه بخلاف الفاجر فإنه إن كان معسراً فظاهرٌ وإن كان موسراً فلا يدعه الحِرصُ وخوفُ الفوات أن يتهنأ بعيشه {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} في الآخرة {أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} حسبما نفعل بالصابرين فليسَ فيه شائبةُ تكرارٍ والجمعُ في الضمائر العائدةِ إلى الموصول لمراعاة جانبِ المعنى كما أن الإفراد فيما سلف لرعاية جانب اللفظ وإيثار ذلك على العكس لِما أن وقوعَ الجزاءِ بطريق الاجتماعِ المناسبِ للجمعية ووقوعَ مَا في حيزِ الصلةِ وما يترتب عليه بطريق الافتراقِ والتعاقُب الملائمِ للإفراد وإذ قد انتهى الأمرُ إلى أن مدار الجزاء المذكور هو صلاحُ العمل وحسنُه رُتّب عليه بالفاء الإرشاد إلى ما به يحسُن العمل الصالح ويخلُص عن شوب الفاسد فقيل

98

{فإذا قرأت القرآن} أي إذا أردت قراءتَه عبّر بها عن إرادتها على طريقة إطلاقِ اسمِ المُسبَّبِ على السبب إيذاناً بأن المرادَ هي الإرادةُ المتصلةُ بالقراءة {فاستعذ بالله} فاسأله عز جارُه أن يعيذك {مِنَ الشيطان الرجيم} من وساوسه وخطَراتِه كيلا يوسوسَك عند القراءة فإن له هَمّةً بذلك قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ} الآية وتوجيهُ الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخصيصُ قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لغيره صلى الله عليه وسلم وفي سائر الأعمال

النحل 99 101 الصالحة أهم فإنه صلى الله عليه وسلم حيث أُمر بها عند قراءةِ القرآن الذي لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا منْ خلفه فما ظنكم بمن عداه صلى الله عليه وسلم فما عدا القراءةَ من الأعمال والأمرُ للندب وهذا مذهبُ الجمهور وعند عطاءٍ للوجوب وقد أخذ بظاهر النظمِ الكريم فاستعاذ عَقيبَ القراءة أبو هريرةَ رضيَ الله عنه ومالكٌ وابنُ سيرينَ وداودُ وحمزةُ من القراء وعن ابن مسعود رضي الله عنه قرأتُ على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم فقلت أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم فقال صلى الله عليه وسلم قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريلُ عليه السلام عن القلم عن اللوح المحفوظ

99

{أَنَّهُ} الضمير للشأن أو للشيطان {لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} تسلّطٌ وولاية {على الذين آمنوا وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي إليه يفوضون أمروهم وبه يعوذون في كلِّ ما يأتُون وما يذرون فإن وسوستَه لا تؤثر فيهم ودعوتَه غيرُ مستجابة عندهم وإيثارُ صيغةِ الماضي في الصلةِ الأُولى للدلالةِ على التحقق كما أن اختيارَ صيغةِ الاستقبالِ في الثانية لإفادة الاستمرارِ التجدّدي وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ عِدَةٌ كريمةٌ بإعادة المتوكلين والجملة تعليلٌ للأمر بالاستعاذة أو لجوابه المنويِّ أي يُعِذْك أو نحوه

100

{إِنَّمَا سلطانه} أي تسلّطُه وولايتُه بدعوته المستتبعةِ للاستجابة لا سلطانُه بالقسر والإلجاء فإنه مُنتفٍ عن الفريقين لقوله سبحانه حكايةً عنه وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى وقد أفصح عنه قولُه تعالى {على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} أي يتخذونه وليًّا ويستجيبون دعوتَه ويطيعونه فإنه المقسورَ بمعزل من ذلك {والذين هُم بِهِ} سبحانه وتعالى {مُّشْرِكُونَ} أو بسبب الشيطانِ مشركون إذ هو الذي حملهم على الإشراك بالله سبحانه وقصُر سلطانه عليهم غِبَّ نفيه عن المؤمنين المتوكلين دليلٌ على أنْ لا واسطة في الخارج بين التوكلِ على الله تعالى وبين تولي الشيطان وإن كان بينهما واسطةٌ في المفهوم وأن من لم يتوكل عليه تعالى ينتظمُ في سلك مَنْ يتولّى الشيطانَ مِن حيثُ لاَ يحتسبُ إذ به يتم التعليلُ ففيه مبالغة في الحمل على التوكل والتحذيرِ عن مقابله وإيثارُ الجملة الفعليةِ الاستقبالية في الصلة الأولى لما مر من إفادة الاستمرارِ التجدّدي كما أن اختيارَ الجملةِ الاسميةِ في الثانية للدلالة على الثبات وتكريرُ الموصولِ للاحتراز عن توهم كونِ الصلةِ الثانية حاليةً مفيدةً لعدم دخول غيرِ المشركين من أولياء الشيطانِ تحت سلطانِه وتقديمُ الأولى على الثانية التي هي بمقابلة الصلة الأولى فيما سلف لرعاية المقارَنةِ بينها وبين ما يقابلها من التوكلِ على الله تعالى ولو رُوعيَ الترتيبُ السابق لا نفصل كلٌّ من القرينتين عما يقابلها

101

{وإذا بدلنا آية مكان آية} أي إذا أنزلنا آيةً من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلاً منها بأن نسخناها بها {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ} أولاً وآخِراً وبأن كلاًّ من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيهِ الحكمةُ والمصلحة فإن

النحل 102 103 كل وقت له مقتض غيرُ مقتضى الآخَر فكم من مصلحة في وقت تنقلب في وقت آخرَ مفسدةً وبالعكس لانقلاب الأمورِ الداعية إلى ذلك وما الشرائعُ إلا مصالحُ للعباد في المعاش والمعاد تدور حسبما تدور المصالحُ والجملةُ إما معترضةٌ لتوبيخ الكفرةِ والتنبيهِ على فساد رأيهم وفي الالتفات إلى الغَيبة مع إسناد الخبرِ إلى الاسم الجليلِ المستجمِع للصفات ما لا يَخفْى من تربية المهابةِ وتحقيقِ معنى الاعتراض أو حالية وقرئ بالتخفيف من الإنزال {قَالُواْ} أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ {إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} أي متقوّلٌ على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وحكايةُ هذا القول عنهم ههنا للإيذان بأن ذلك كَفْرةٌ ناشئة من نزغات الشياطين وأنه وليُّهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي لا يعملون شيئاً أصلاً أَوْ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ في النسخ حِكَماً بالغةً وإسنادُ هذا الحكمِ إلى الأكثر لما أن منهم مَنْ يعلمُ ذلكَ وإنما ينكره عِناداً

102

{قُلْ نَزَّلَهُ} أي القرآنَ المدلول عليه بالآية {رُوحُ القدس} يعني جبريلُ عليه السلام أي الروحُ المطهّر من الأدناس البشرية وإضافةُ الروحِ إلى القدس وهو الطُهْرُ كإضافة حاتم إلى الجود حيث قيل حاتمُ الجودِ للمبالغة في ذلك الوصفِ كأنه طبعٌ منه وفي صيغة التفعيلِ في الموضعين إشعارٌ بأن التدريجَ في الإنزال مما تقتضيه الحِكَمُ البالغة {مِن رَبّكَ} في إضافة الربِّ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من الدلالة على تحقيق إفاضةِ آثارِ الربوبية عليه صلى الله عليه وسلم ما ليس في إضافته إلى ياء المتكلم المبنيةِ على التلقين المحض {بالحق} أي ملتبساً بالحق الثابتِ الموافقِ للحكمة المقتضيةِ له بحيث لا يفارقها إنشاءً ونسخاً وفيه دَلالةٌ على أن النسخ حق {لِيُثَبّتَ الذين آمنوا} على الإيمان بأنه كلامُه تعالى فإنهم إذا سمعوا الناسخَ وتدبّروا ما فيهِ من رعايةِ المصالحِ اللائقة بالحال رسَخت عقائدُهم واطمأنت قلوبهم وقرئ ليُثبت من الإفعال {وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} المنقادين لحُكمه تعالى وهما معطوفان على محل ليثبت أي تثبيتاً وهدايةً وبشارةً وفيه تعريضٌ بحصول أضدادِ الأمورِ المذكورة لمن سواهم من الكفار

103

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ} غيرَ ما نُقلَ عنهم من المقالة الشنعاء {إِنَّمَا يُعَلّمُهُ} أي القرآنَ {بُشّرَ} على طريق البتّ مع ظهور أنه نزّله روحُ القدس عليه الصلاة والسلام وتحليةُ الجملةِ بفنون التأكيدِ لتحقيق ما تتضمنه من الوعيد وصيغةُ الاستقبال لإفادة استمرارِ العلم بحسب الاستمرارِ التجدّدي في متعلَّقه فإنهم مستمرون على تفوهِ تلكَ العظيمةِ يعنون بذلك جبر الروميَّ غلامَ عامر بنِ الحضرمي وقيل جبرا ويسيرا كانا يصنعانِ السيفَ بمكَّةَ ويقرآن التوراة والإنجيل وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمرّ عليهما ويسمع ما يقرآنه قيل عابساً غلامَ حويطِب بنِ عيد العزي قد أسلم وكان صاحبَ كتب وقيل سلمانَ الفارسي وإنما لم يصرَّح باسم من زعموا أنه يعلمه مع كونه أدخلَ في ظهور كذبِهم للإيذان بأن مدار خطابهم ليس بنسبته عليه السلام إلى التعلم من شخص معينٍ بل من البشر كائناً مَنْ كان مع كونه عليه

النحل 104 106 السلام معدِناً لعلوم الأولين والآخرين {لّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ} الإلحادُ الإمالةُ مِنْ ألحد القبرَ إذا أمال حفرَه عن الاستقامة فحفر في شق منه ثم استُعير لكل إمالةٍ عن الاستقامة فقالوا ألحد فلانٌ في قوله وألحد في دينه أي لغةُ الرجلِ الذي يُميلون إليه القول عن الاستقامة أعجميةٌ غير بينة وقرئ بفتح الياء والحاء وبتعريف اللسان {وهذا} أي القرآنُ الكريم {لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ} ذوبيان وفصاحة والجملتان متسأنفتان لإبطال طعنهم وتقريرُه أن القرآن معجزٌ بنظمه كما أنه معجزٌ بمعناه فإن زعمتم أن بشراً يعلّمه معناه فكيف يعلّمه هذا النظمَ الذي أعجز جميعَ أهل الدنيا والتشبثُ في أثناء الطعن بأذيال أمثالِ هذه الخرافاتِ الركيكة دليلٌ كمال عجزهم

104

{إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله} أي لا يصدّقون أنها من عند الله بل يقولون فيها ما يقولون يسمّونها تارة افتراءً وأخرى أساطيرَ معلَّمةً من البشر {لاَ يَهْدِيهِمُ الله} إلى الحق أو إلى سبيل النجاةِ هدايةً موصِّلةً إلى المطلوبِ لما علم أنهم لا يستحقون ذلك لسوء حالهم {وَلَهُمْ} فى الأخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهذا تهديدٌ لهم ووعيدٌ على ما هم عليه من الكفر بآياتِ الله تعالى ونسبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء والتعلم من البشر بعد إماطةِ شبُهتِهم وردّ طعنهم وقوله تعالى

105

{إِنَّمَا يَفْتَرِى الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله} ردٌّ لقولهم إنما أنت مفترٍ وقلبٌ للأمر عليهم ببيان أنهم هم المفترون بعد رده بتحقيق أنه منزلٌ من عند الله بواسطة روحِ القدس وإنما وُسّط بينهما قوله تعالى وَلَقَدْ نَعْلَمُ الآية لما لا يخفى من شدة اتصالِه بالرد الأول والمعنى والله تعالى أعلم إن المفترى هو الذين يكذّب بآيات الله ويقول إنه افتراءٌ ومعلَّمٌ من البشر أي تكذيبُها على الوجه المذكور هو الافتراءُ على الحقيقة لأن حقيقتَه الكذبُ والحكم بأن ما هو كلامُه تعالى ليس بكلامه تعالى في كونه كذباً وافتراءً كالحكم بأن ما ليس بكلامه تعالى كلامُه تعالى والتصريحُ بالكذب للمبالغة في بيان قُبحِه وصيغةُ المضارع لرعاية المطابقة بينه وبين ما هو عبارةٌ عنه أعني قولَه لاَ يُؤْمِنُونَ وقيل المعنى إنما يفتري الكذبَ ويليق ذلك بمن لا يؤمن بآيات الله لأنه لا يتقرب عقابا عليه ليرتدع عنها وأما من يؤمن بها ويخاف ما نطقتْ به من العقاب فلا يمكن أن يصدر عنه افتراءٌ البتةَ {وَأُوْلئِكَ} الموصوفون بما ذكر من عدم الإيمانِ بآيات الله {هُمُ الكاذبون} على الحقيقة أو الكاملون في الكذب إذ لا كذِبَ أعظمُ من تكذيب آياتِه تعالى والطعنِ فيها بأمثال هاتيك الأباطيلِ والسرُّ في ذلك أن الكذِبَ الساذَجَ الذي هو عبارةٌ عن الإخبار بعدم وقوعِ ما هو واقعٌ في نفس الأمرِ بخلق الله تعالى أو بوقوعِ ما لم يقعْ كذلك مدافعةٌ لله تعالى في فعله فقط والتكذيبُ مدافعةٌ له سبحانه في فعله وقولِه المنبئ عنه معاً أو الذين عادتُهم الكذبُ لا يزَعُهم عنه وازعٌ من دين أو مروءةٍ وقيل الكاذبون في قولهم إنما أنت مفتر

106

{مَن كَفَرَ بالله} أي تلفظ بكلمة الكفر {مِن بَعْدِ إيمانه} به تعالى وهو ابتداءُ كلامٍ لبيان حال

النحل 107 108 من كفر بآيات الله بعد ما آمن بها بعد بيانِ حالِ مَن لم يؤمن بها رأساً ومَنْ موصولةٌ ومحلُّها الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ محذوفٌ لدِلالة الخبرِ الآتي عليه أو هو خبرٌ لهما معاً أو النصبُ على الذم {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} على ذلك بأمر يخاف على نفسه أو على عضو من أعضائه وهو استثناءٌ متّصلٌ من حكم الغضبِ والعذاب أو الذمّ لأن الكفرَ لغة يتم بالقول كما أشير إليه وقوله تعالى {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} حالٌ من المستثنى والعاملُ هو الكفرُ الواقع بالإكراه لا نفس الاكراه لأن مقارنةَ اطمئنان القلبِ بالإيمان للإكراه لا تجدي نفعاً وإنما المجدي مقارنتُه للكفر الواقعِ به أي إلا مَنْ كفر بإكراه من إلا من أكره فكفروا والحالُ أن قلبه مطمئنٌّ بالإيمان لم تتغير عقيدتُه وإنما لم يصرح به إيماءً إلى أنه ليس بكفر حقيقة وفيه دليلٌ على أنَّ الإيمانَ هو التصديقُ بالقلب {ولكن مَّن} لم يكن كذلك بل {شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} أي اعتقده وطاب به نفساً {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} عظيم لا يُكتنه كُنهه {مِنَ الله} إظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابة وتقوية تعظيم العذاب {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} إذ لا جُرم أعظمُ من جرمهم والجمعُ في الضميرين المجرورين لمراعاة جانبِ المعنى كما أن الإفراد في المستكنّ في الصلة لرعاية جانب اللفظ روى أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسمية على الارتداد فأباه أبواه فربطوا سمية بين بعيرين ووجئت بحربة في قبلها وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال فقتلوها وقتلوا يسارا وهما أول قتيلين في الإسلام وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوا عليه فقيل يا رسولَ الله إنَّ عمارا كفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا إن عمارا مليء إيمانا من قَرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال مالك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت وهو دليل على جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه الملجئ وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازا للدين كما فعله أبواه وروى أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين فقال لأحدهما ما تقول في محمد قال رسول الله قال فما تقول في قال أنت أيضا فخلاه وقال للآخر ما تقول في محمد قال رسول الله قال فما تقول في قال أنا أصم فأعاد ثلاثا فأعاد جوابه فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أما الأول فقد أخذ برخصة وأما الثاني فقد صدع بالحق

107

{ذلك} إشارةٌ إلى الكفر بعد الإيمان أو إلى الوعيد المذكور {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {استحبوا الحياة الدنيا} آثروها {على الاخرة وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى} إلى الإيمان وإلى ما يوجب الثبات عليه هداية قسروا إلجاء {القوم الكافرين} في علمه المحيطِ فلا يعصمهم عن الزيغ وما يؤدِّي إليهِ من الغضب والعذابِ العظيم ولولا أحدا لأمرين إما إيثارُ الحياة الدنيا على الآخرة وإما عدمُ هدايةِ الله سبحانه للكافرين هدايةَ قسرٍ بأن آثروا الآخرة على الدنيا أو بأن هداهم الله تعالى هدايةَ قسرٍ لَما كان ذلك لكنّ الثانيَ مخالفٌ للحكمة والأولُ مما لا يدخُل تحت الوقوعِ وإليه أشير بقوله تعالى

108

{أولئك} أي أولئك الموصوفون بما ذكر من القبائح {الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم} فأبت عن إدراك الحقِّ والتأمل فيه {وَأُولَئِكَ هُمُ الغافلون}

أي الكاملون في الغفلة إذ لا غفلةَ أعظمُ من الغفلة عن تدبر العواقب

109

{لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاخرة هُمُ الخاسرون} إذْ ضيّعوا أعمارَهم وصرفوها إلى مالا يفضي إلا إلى العذاب المخلد

110

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا} إلى دار الإسلام وهم عمار وأصحابه رضي الله عنهم أي لهم بالولاية والنصرِ لا عليهم كما يوجبه ظاهرُ أعمالِهم السابقةِ فالجارُّ والمجرور خبرٌ لإن ويجوز أن يكون خبرُها محذوفاً لدِلالة الخبرِ الآتي عليهِ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلك خبراً لها وتكون إن الثانيةُ تأكيداً للأولى وثم للدِلالة على تباعد رتبةِ حالهم هذه عن رتبةِ حالهم التي يفيدها الاستثناءُ من مجرد الخروجِ عن حكم الغضب والعذابِ بطريق الإشارة لا عن رتبة حالِ الكفرة {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} أي عُذّبوا على الارتداد وتلفظوا بما يرضيهم مع اطمئنان قلوبهم بالإيمان وقرئ على بناء الفاعل أي عذَّبوا المؤمنين كالحضْرمي أكره مولاه جبرا حتى ارتدتم أسلما وهاجرا {ثُمَّ جاهدوا} في سبيل الله {وَصَبَرُواْ} على مشاقّ الجهاد {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} من بعد المهاجِرةَ والجهاد والصبرِ فهو تصريحٌ بما أَشعَرَ به بناء الحكم على الموصول من علية الصلة له أو من بعد الفتنة المذكورة فهو لبيان عدمِ إخلالِ ذلك بالحكم {لَغَفُورٌ} لما فعلوا من قبلُ {رَّحِيمٌ} يُنعم عليهم مجازاةً على ما صنعوا من بعد وفي التعرض لعنوان الربوبية في الموضعين إيماءٌ إلى علة الحُكم وفي إضافة الربِّ إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ مع ظهور الأثرِ في الطائفة المذكورة إظهارٌ لكمال اللطفِ به عليه السلام وإشعارٌ بأن إفاضة آثارِ الربوبيةِ عليهم من المغفرة والرحمةِ بواسطته عليه السلام ولكونهم أتباعاً له

111

{يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ} منصوب برحيم وما رُتِّب عليه أو بالذكر وهو يومُ القيامةِ يومَ يقوم الناس لرب العالمين {تجادل عَن نَّفْسِهَا} عن ذاتها تسعى في خلاصها بالاعتذار لا يُهِمّها شأنُ غيرها فتقول نفسي نفسي {وتوفى كُلُّ نَفْسٍ} أي تعطى وافياً كاملاً {مَّا عَمِلَتْ} أي جزاءَ ما عمِلت بطريق إطلاقِ اسمِ السببِ عَلى المسبَّب إشعاراً بكمال الاتصالِ بين الأجزية والأعمال وإيثارُ الإظهار على الإضمار لزيادة التقريرِ وللإيذان باختلاف وفتى المجادلةِ والتوفيةِ وإن كانتا في يوم واحد {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لا يُنقَصون أجورهم أولا يعاقبون بغير موجب ولا يُزاد في عقابهم على ذنوبهم

112

{وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً} قيل ضرْبُ المثل صنعُه واعتمالُه وقد مرَّ تحقيقُه في سورة البقرة ولا يتعدى إلا إلى مفعول واحد وإنما عدى إلى الاثنين لتضمنه معنى الجعْل وتأخيرُ قريةً مع كونها

النحل 113 مفعولا أول لئلا يحولَ المفعولُ الثاني بينها وبين صفتِها وما يترتب عليها إذْ التأخيرُ عن الكل مُخِلٌّ بتجاذب أطرافِ النظم وتجاوبها ولأن تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ مما يورث النفسَ ترقباً لوروده وتشوقا إليه لا سيما إذا كان في المقدَّم ما يدعو إليه فإن المثلَ مما يدعو إلى المحافظة على لا تفاصيل أحوالِ ما هو مثلٌ فيتمكن المؤخرُ عند ورودِه لديها فضلَ تمكنٍ والقريةُ إما محققةٌ في الغابرين وإما مقدرةٌ أي جعلها مثلاً لأهل مكةَ خاصةً أو لكل قوم أنعم الله تعالى عليهم فأبطرتهم النعمةُ ففعلوا ما فعلوا فبدل الله تعالى بنعمتهم نقمةً ودخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا {كانت آمنة} ذاتَ أمنٍ من كل مَخُوف {مُّطْمَئِنَّةً} لا يُزعج أهلَها مزعجٌ {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا} أقواتُ أهلها صفةٌ ثانية لقريةً وتغييرُ سبكها عن الصفة الأولى لما أن إتيانَ رزقِها متجددٌ وكونَها آمنةً مطمئنةً ثابتٌ مستمرٌّ {رَغَدًا} واسعاً {مّن كُلّ مَكَانٍ} من نواحيها {فَكَفَرَتْ} أي كفرَ أهلُها {بِأَنْعُمِ الله} أي بنِعَمه جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدِرع وأدرُع أو جمع نُعْم كبؤس وأبؤس والمراد بها نعمةُ الرزقِ والأمن المستمرِّ وإيثارُ جمعِ القلةِ للإيذان بأن كفرانَ نعمة قلية حيث أوجب هذا العذابَ فما ظنك بكفران نِعمٍ كثيرة {فَأَذَاقَهَا الله} أي أذاق أهلها {لِبَاسَ الجوع والخوف} شُبِّه أثرُ الجوعِ والخوف وضررُهما المحيطُ بهم باللباس الغاشي للاّبس فاستُعير له اسمُه وأُوقِع عليه الإذاقةُ المستعارة لمطلق الإيصالِ المنبئة عن شدة الإصابة بما فيها من اجتماع إدراكَيْ اللامسةِ والذائقة على نهج التجريد فإنها لشيوع استعمالِها في ذلك وكثرةِ جرَيانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقةِ كقول كثيِّر [غمْرُ الرداءِ إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقابُ المال] فإن الغمْرَ مع كونه في الحقيقة من أحوال الماءِ الكثير لمّا كان كثيرَ الاستعمال في المعروف المشبَّهِ بالماء الكثير جرى مجرى الحقيقةِ فصارت إضافتُه إلى الرداء المستعارِ للمعروف تجريداً أو شبّه أثرُهما وضررُهما من حيث الإحاطةُ بهم والكراهةُ لديهم تارة باللباس الغاشي لِلاّبس المناسبِ للخوف بجامع الإحاطةِ واللزوم تشبيهَ معقولٍ بمحسوس فاستُعير له اسمُه استعارةً تصريحيةً وأخرى بطعم المرِّ البشعِ الملائمِ للجوع الناشىءِ من فقد الرزق بجامع الكراهة فأُوميَ إليه بأن أوقع عليه الإذاقة المستعارة لإيصال المضار المنبئة عن شدة الإصابة بما فيها من اجتماع إدراكَيْ اللامسة والذائقة وتقديمُ الجوع الناشئ مما ذكر من فقدان الرزقِ على الخوف المترتب على زوال الأمن المقدمِ فيما تقدم على إتيان الرزق لكونه أنسبَ بالإذاقة أو لمراعاة المقارنة بينها وبين إتيان الرزقِ وقد قرئ بتقديم الخوفِ وبنصبه أيضاً عطفاً على المضاف أو إقامةً له مُقامَ مضافٍ محذوف وأصله ولبسا الخوف {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} فيما قبلُ أو على وجه الاستمرار وهو الكفرانُ المذكور أسند ذلك إلى أهل القريةِ تحقيقاً للأمر بعد إسنادِ الكفرانِ إليها وإيقاعِ الإذاقة عليها إرادةً للمبالغة وفي صيغة الصنعة إيذان بأن كفران نعمة صار صنعةً راسخةً لهم وسنةً مسلوكة

113

{وَلَقَدْ جَاءهُمْ} من تتمة المثل جئ بها لبيان أن ما فعلوه من كفران النعم لم يكن مزاحمةً منهم لقضية العقلِ فقط بل كان ذلك معارضةً لحجة الله على

النحل 114 الخلق أيضاً أي ولقد جاء أهلَ تلك القرية {رَسُولٌ مّنْهُمْ} أي من جنسهم يعرِفونه بأصله ونسبِه فأخبرهم بوجوب الشكرِ على النعمة وأنذرهم سوءَ عاقبة ما يأتون وما يذرون {فَكَذَّبُوهُ} في رسالته أو فيما أخبرهم به مما ذكر فالفاءُ فصيحةٌ وعدم ذكرِه للإيذان بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تلعثم {فَأَخَذَهُمُ العذاب} المستأصِلُ لشأفتهم غِبَّ ما ذاقوا نُبذةً من ذلك {وَهُمْ ظالمون} أي حالَ التباسهم بما هم عليه من الظلم الذي هو كفرانُ نعمِ الله تعالى وتكذيبُ رسوله غيرَ مُقلعين عنه بما ذاقوا من مقدماته الزاجرةِ عنه وفيه دَلالةٌ على تماديهم في الكفر والعِناد وتجاوزِهم في ذلك كلَّ حدَ معتاد وترتيبُ العذاب على تكذيب الرسول جرى على سنة الله تعالى حسبما يرشد إليه قولُه سبحانه وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً وبه يتم التمثيلُ فإن حالَ أهل مكةَ سواءٌ ضُرب المثلُ لهم خاصة أو لمن سار سيرتَهم كافةً محاذيةٌ لحال أهلِ تلك القريةِ حذو القذة بالقذة من غيرِ تفاوتٍ بينَهما ولو في خصلة فَذّة كيف لا وقد كانوا في حرم آمنٍ وَيُتَخَطَّفُ الناسُ مِنْ حَوْلِهِمْ وما يمر ببالهم طيفٌ من الخوف وكانت تجبى إليه ثمراتُ كُلّ شَىْء ولقد جاءهم رسولٌ منهم وأيُّ رسول يحار في إدراك سموِّ رتبته العقول صلى الله عليه وسلم ما اختلف الدبور والقبول فكفروا بأنعم الله وكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم فأذاقهم الله لباسَ الجوعِ والخوف حيث أصابهم بدعائه صلى الله عليه وسلم بقوله اللهمَّ أعِنِّي عليهم بسبْعٍ كسبع يوسفَ ما أصابهم من جدب شديدٍ وأزمة حصت كلَّ شيء حتى اضطرتهم إلى أكل الجِيف والكلابِ الميتة والعظام المحرفة والعلهز وهو الوبرُ المعالَجُ بالدم وقد ضاقت عليهم الأرضُ بما رَحُبتْ من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يُغيرون على مواشيهم وعِيرهم وقوافلهم ثم أخذهم يومَ بدرٍ ما أخذهم من العذاب هذا هو الذي يقتضيهِ المقامُ ويستدعيه حسنُ النظام وأما ما أجمع عليه أكثرُ أهلِ التفسيرِ من إنَّ الضَّمير في قولِه تعالى وَلَقَدْ جَاءهُمْ لأهل مكةَ قد ذُكر حالُهم صريحاً بعد ما ذكر مَثلُهم وأن المرادَ بالرسول محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالعذاب ما أصابهم من الجدب ووقعة بدر فبمعزل من التَّحقيقِ كيف لا وقوله سبحانه

114

{فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} مفرّعٌ على نتيجة التمثيل وصدٌّ لهم عما يؤدّي إلى مثل عاقبته والمعنى وإذ قد استبان لكم حالُ من كفر بأنعم الله وكذّب رسوله وما حل بهم بسبب ذلك من اللتيا والتي أولاً وآخِراً فانتهُوا عما أنتم عليهِ منْ كُفرانِ النعمِ وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم كيلا يحِلَّ بكم مثلُ ما حلَّ بهم واعرِفوا حقَّ نِعم الله تعالى وأطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه وكلوا من رزق الله حال كونه {حلالا طَيّباً} وذروا ما تفترون من تحريم البحائر ونحوها {واشكروا نعمة الله} واعرِفوا حقها ولا تقابلوها بالكفران والفاءُ في المعنى داخلةٌ على الأمر بالشكر وإنما أُدخلت على الأمر بالأكل لكون الأكل ذريعةً إلى الشكر فكأنه قيل فاشكروا نعمةَ الله غِبَّ أكلها حلالاً طيباً وقد أُدمج فيه النهيُ عن زعم الحرمة ولا ريب في أن هذا إنما يُتصوّر حين كان العذاب المستأصل متوقعا بعدو قد تمهدت مباديه وبعدما وقع ما وقع فمن ذا الذي يحظر ومن ذا الذي يُؤمر بالأكل والشكر وحمْلُ قوله تعالى فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظالمون على الإخبار بذلك قبل الوقوع يأباه الصدى لاستصلاحهم بالأمر والنهي وتوجيهُ خطاب الأمرِ بالأكل إلى المؤمنين

النحل 115 116 مع أن ما يتلوه من خطاب النهي متوجّهٌ إلى الكفار كما فعله الواحديُّ حيث قال فكلوا أنتم يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله من الغنائم مما لا يليق بشأن التنزيلِ الجليل {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي تطيعون أو إن صح زعمُكم أنكم تقصِدون بعبادة الآلهة عبادتَه تعالى

115

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} تعليلٌ لحِلّ ما أمرهم بأكله مما رزقهم أي إنما حرم هذه الأشياءَ دون ما تزعُمون حرمتَه من البحائر والسوائبِ ونحوِها {فَمَنِ اضطر} بما اعتراه من الضرورة فتناول شيئاً من ذلك {غَيْرَ بَاغٍ} أي على مضطر آخرَ {وَلاَ عَادٍ} أي متجاوزٍ قدرَ الضرورة {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي لا يؤاخذه بذلك فأُقيم سببُه مُقامه وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ إيماءٌ إلى علة الحُكم وفي الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم إظهارٌ لكمال اللطفِ به صلى الله عليه وسلم وتصديرُ الجملة بإنما لحصر المحرماتِ في الأجناس الأربعة إلا ما ضُمّ إليه كالسّباع والحمُر الأهلية ثم أكّد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم فقال

116

{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ} اللامُ صلةٌ مِثلُها في قولِه تعالى وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ أي لا تقولوا في شأن ما تصفه ألسنتُكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا من غير ترتب ذلك الوصفِ على ملاحظةٍ وفكر فضلاً عن استناده إلى وحي أو قياس مبنيَ عليه {الكذب} منتصب بلا تقولوا وقولُه تعالى {هذا حلال وهذا حَرَامٌ} بدلٌ منه ويجوز أن يتعلق بتصفُ على إرادةِ القولِ أيْ لا تقولوا لما تصف ألسنتُكم فتقولُ هذا حلالٌ وهذا حرام وأن يكون القول المقدر حالا من ألسنتهم أي قائلةً هذا حلال الخ ويجوز أن ينتصب الكذبَ بتصف ويتعلق هذا حلال الخ بلا تقولوا واللامُ للتعليل وما مصدريةٌ أي لا تقولا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتِكم الكذبَ أي لا تُحِلوا ولا تحرّموا لمجرد وصفِ ألسنتكم الكذبَ وتصويرِها له بصورة مستحسنة وتزيينِها له في المسامع كأن ألسنتهم لكونها منشأً للكذب ومنبعاً للزور شخصٌ عالمٌ بكنهه ومحيطٌ بحقيقته يصفه للناس ويعرِّفه أوضحَ وصفٍ وأبينَ تعريف على طريقة الاستعارة بالكناية كما يقال وجهُه يصفُ الجمالَ وعينُه تصف السحر وقرئ بالجر صفةً لما مع مدخولها كأنه قيل لوصفها الكذبِ بمعنى الكاذبِ كقوله تعالى بِدَمٍ كَذِبٍ والمرادُ بالوصف وصفُها البهائمَ بالحل والحرمة وقرب الكُذُبُ جمع كَذوب بالرفع صفةٌ للألسنة وبالنصب على الشتم أو بمعنى الكلِمِ الكواذب أو هو جمعُ الكذاب من قولهم كذب كذبا ذكره ابن جني {لّتَفْتَرُواْ على الله الكذب}

النحل 117 120 فإن مدارَ الحِلّ والحُرمة ليس إلا أمرُ الله تعالى فالحكمُ بالحل والحرمةِ إسنادٌ للتحليل والتحريم إلى الله سبحانه من غير أن يكون ذلك منه واللامُ لام العاقبة {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} في أمرٍ من الأمورِ {لاَ يُفْلِحُونَ} لا يفوزون بمطالبهم التي ارتكبوا الافتراءَ للفوز بها

117

{متاع قَلِيلٌ} خبرُ مبتدأ محذوف أي منفعتُهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعةٌ قليلة {وَلَهُمْ} فى الأخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} لا يكتنه كُنهُه

118

{وعلى الذين هادوا} خاصة دون غيرِهم من الأولين والآخِرين {حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} أي بقوله تعالى حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا الآية {مِن قَبْلُ} متعلقٌ بقصصنا أو بحرمنا وهو تحقيقٌ لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالفه من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون لسنا أولَ من حُرِّمتْ عليه وإنما كانت محرمةً على نوح وإبراهيم ومن بعدهما حتى انتهى المر إلينا {وَمَا ظلمناهم} بذلك التحريم {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه حسبما نعى عليهم قولُه تعالى فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ الآية ولقد ألقمهم الحج قوله تعالى كُلُّ الطعام كَانَ حلا لبني إسرائيلَ إلا ما حرم إسرائيل على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين روى أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك بهتوا ولم يجسروا أن يخرجوا التوراة كيف وقد بُيّن فيها أن تحريمَ ما حُرِّم عليهم من الطيبات لظلمهم وبغيهم عقوبةً وتشديداً أوضحَ بيانٍ وفيه تنبيهٌ على الفرقَ بينهم وبين غيرِهم في التحريم

119

{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بجهالة} أي بسبب جهالةٍ أو ملتبسين بها ليعُمَّ الجهلُ بالله وبعقابه وعدمِ التدبر في العواقب لغلبة الشهوة والسوءُ يعم الافتراءَ على الله تعالى وغيرَه {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك} أي من بعد ما عملوا ما عملوا والتصريحُ به مع دَلالة ثُمَّ عليه للتأكيد والمبالغة {وَأَصْلَحُواْ} أي أصلحُوا أعمالَهم أو دخلوا في الصلاح {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} من بعد التوبة {لَغَفُورٌ} لذلك السوءِ {رَّحِيمٌ} يثيب على طاعته تركاً وفعلاً وتكريرُ قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لتأكيد الوعدِ وإظهارِ كمال العناية بإنجازه والتعرضُ لوصفِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم مع ظهور الأثرِ في التائبين للإيماء إلى أن إفاضةَ آثارِ الربوبية من المغفرة والرحمة عليهم بتوسطه صلى الله عليه وسلم وكونِهم من أتباعه كما أُشيرَ إليهِ فيما مر

120

{إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} على حياله لحيازته من الفضائل البشريةِ ما لا تكاد توجد إلا متفرّقةً في

النحل 121 123 أمة جمّةً حسبما قيل [ليس على الله بمستَنْكَر أن يجمع العالَمَ في واحدِ] وهو رئيسُ أهل التوحيد وقدوةُ أصحابِ التحقيق جادل أهلَ الشرك وألقمهم الحجرَ ببينات باهرةٍ لاَ تُبقي وَلاَ تَذَرُ وأبطل مذاهبهم الزائغة بالبراهين القاطعة والحُججِ الدامغة أو لأنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمناً وحده والناسُ كلُّهم كفارٌ وقيل هي فُعْلة بمعنى مفعول كالرُّحلة والنُّخبة من أمّه إذا قصده أو اقتدى به فإن الناسَ كانوا يقصِدونه ويقتدون بسيرته لقوله تعالى إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا وإيراد ذكره صلى الله عليه وسلم عَقيبَ تزييفِ مذاهبِ المشركين من الشرك والطعنِ في النبوة وتحريمِ ما أحله الله تعالى للإيذان بأن حقِّيةَ دينِ الإسلام وبطلانَ الشرك وفروعِه أمرٌ ثابت لا ريب فيه {قانتا لِلَّهِ} مطيعاً له قائماً بأمره {حَنِيفاً} مائلاً عن كل دينٍ باطل إلى الدين الحقِّ غيرَ زائلٍ عنه بحال {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} في أمر من أمور دينهم أصلا وفرعاً صرح بذلك مع ظهوره لا رداً على كفار قريشٍ فقط في قولهم نحن على ملة أبينا إبراهيمَ بل عليهم وعلى اليهود المشركين بقولهم عزيرٌ ابنُ الله في افترائهم وادعائهم أنه عليه الصلاةُ والسلام كان على ما هم عليه كقوله سبحانه مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نصرانيا ولكن كان حنفيا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين إذ به ينتظم أمر إيراد التحريم والسبت سابقاً ولاحقاً

121

{شَاكِراً لاّنْعُمِهِ} صفةٌ ثالثة لأُمةً وإنما أوثر صيغةُ جمعِ القلة للإيذان بأنه عليه السلام كان لا يُخِلُّ بشكر النعمة القليلة فكيف بالكثيرة وللتصريح بكونه عليه السلام على خلاف ما هم عليه من الكفرانَ بأنعم الله تعالى حسبما بيّن ذلك بضرب المثل {اجتباه} للنبوة {وَهَدَاهُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصلٍ إليه سبحانه وهو ملةُ الإسلامِ وليست نتيجةُ هذه الهدايةِ مجردَ اهتدائِه عليه السلام بل مع إرشاد الخلقِ أيضاً بمعونة قرينةِ الاجتباء

122

{وآتيناه فِى الدنيا حَسَنَةً} حالةً حسنةً من الذكر الجميل والثناءِ فيما بين الناس قاطبةً حتى إنه ليس من أهلِ دينٍ إلا وهم يتولَّوْنه وقيل هي الخُلّة والنبوةُ وقيل قولُ المصلِّي منا كما صليتَ على إبراهيمَ والالتفاتُ إلى التكلم لإظهار كمالِ الاعتناء بشأنه وتفخيم مكانِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين} أصحابِ الدرجات العالية في الجنة حسبما سأله بقوله وَأَلْحِقْنِى بالصالحين واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الأخرين واجعلنى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم

123

{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} مع علو طبقتك وسموِّ رتبتك {أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم} الملةُ اسمٌ لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياءِ عليهم السلام من أمللتُ الكتابَ إذا أمليتُه وهو الدينُ بعينه لكنْ باعتبار الطاعة له وتحقيقُه أن الوضع الإلهي مهما نُسب إلى من يؤدّيه عن الله تعالى يسمّى ملةً ومهما نُسب إلى من يقيمه ويعمل به يسمى ديناً قال الراغب الفرقُ بينهما أن الملة لا تضاف إلا إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ولا تكاد توجد مضافةً إلى الله سبحانه ولا إلى آحاد الأمة ولا تستعمل إلا في جملة الشرائعِ دون آحادها والمرادُ بملّته عليه السلام الإسلام الذي عبر عنه آنفاً بالصراط المستقيم {حَنِيفاً}

النحل 124 حالٌ من المضاف إليه لما أن المضافَ لشدة اتصالِه به عليه السلام جرى منه مجرى البعضِ فعد بذلك من قبيل رأيتُ وجهَ هندٍ قائمةً والمأمورُ به الاتباع في الأصول دون الشرائعِ المتبدّلة بتبدل الأعصار وما في ثم من التراخي في الرتبة للإيذان بأن هذه النعمةَ من أجلّ النعم الفائضةِ عليه السلام {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} تكريرٌ لما سبق لزيادة تأكيدٍ وتقريرٍ لنزاهته عليه السلام عمَّا هُم عليهِ من عقد وعمل وقوله تعالى

124

{إِنَّمَا جُعِلَ السبت} أي فُرض تعظيمُه والتخلي فيه للعبادة وتركُ الصيد فيه تحقيقٌ لذلك النفي الكليِّ وتوضيحٌ له بإبطال ما عسى يُتوهم كونُه قادحاً في كلّيته حسبما سلفَ في قولِه تعالى وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا الخ فإن اليهود كانوا يدّعون أن السبتَ من شعائر الإسلام وأن إبراهيمَ عليه السلام كان محافظاً عليه أي ليس السبتُ من شرائع إبراهيمَ وشعائرِ ملّته التي أُمرْتَ باتباعها حتى يكون بينه عليه الصلاةُ والسَّلامُ وبين بعض المشركين علاقةٌ في الجملة وإنما شرُع ذلك لبني إسرائيل بعد مدةٍ طويلة وإيرادُ الفعل مبنيا للمفعول جري على سنن الكبرياء وإيذانٌ بعدمِ الحاجة إلى التَّصريحِ بالفاعل لاستحالة الإسنادِ إلى الغير وقد قرئ على البناء للفاعل وإنما عبر عن ذلك بالجعل موصولا بكلمة على وعنهم بالاسم الموصول باختلافهم فقيل إنما جعل السبت {على الذين اختلفوا فِيهِ} للإيذان بتضمنه للتشديد والابتلاءِ المؤدّي إلى العذاب وبكونه معلَّلاً باختلافهم في شأنه قبل الوقوعِ إيثاراً له على ما أمر الله تعالى به واختياراً للعكس لكن لا باعتبار شمولِ العلّية لطرفي الاختلاف وعمومِ الغائلةِ للفريقين بل باعتبار حالِ منشأ الاختلافِ من الطرف المخالفِ للحق وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام أمرَ اليهودَ أن يجعلوا في الأسبوع يوماً واحداً للعبادة وأن يكون ذلك يومَ الجمعة فأبَوا عليه وقالوا نريد اليوم الذي فرَغ الله تعالى فيه من خلقِ السمواتِ والأرضِ وهو السبت إلا شرذمةً منهم قد رضُوا بالجمعة فأذِن الله تعالى لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه فأطاع أمرَ الله تعالى الراضون بالجمعة فكانوا لا يَصيدون وأعقابُهم لم يصبِروا عن الصيد فمسخهم الله سبحانه قردةً دون أولئك المطيعين {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي بين الفريقين المختلفَين فيه {يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي يفصِل ما بينهما من الخصومة والاختلاف فيجازي كلّ فريق بما يستحقه من الثواب والعقاب وفيه إيماءٌ إلى أنَّ ما وقع في الدنيا من مسخ أحدِ الفريقين وإنجاءِ الآخر بالنسبة إلى ما سيقعُ في الآخرةِ شيءٌ لا يعتدّ به هَذَا هُو الذي يستدعيه الإعجازُ التنزيليُّ وقيل المعنى إنما جُعل وبالُ السبت وهو المسخُ على الذين اختلفوا فِيهِ أي أحلوا الصيدَ فيه تارةً وحرّموه أخرى وكان حتماً عليهم أن يتّفقوا على تحريمه حسبما أمر الله سبحانه به وفسّر الحكمُ بينهم بالمجازاة باختلاف أفعالهم بالإحلال تارةً والتحريمِ أخرى ووجهُ إيراده ههنا بأنه أريد به إنذارُ المشركين من سخط الله تعالى على العصاة والمخالفين لأوامره كضرب المثلِ بالقرية التي كفرت بأنعُم الله تعالى ولا ريب في أن كلمة بينهم تحكم بأن المرادَ بالحكم هو فصلُ ما بينَ الفريقينِ من الاختلاف وأن توسيطَ حديث المسخِ للإنذار المذكورِ بين

النحل 125 126 حكاية أمر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم باتباع ملَّةِ إبراهيمَ عليه الصلاةُ والسلام وبين أمره صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليها من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه فتأمل

125

{ادع} أي مَنْ بُعثتَ إليهم من الأمة قاطبةً فحذف المفعولُ للتعميم أو افعل الدعوةَ كما في قولهم يُعطِي ويمنعُ أيْ يفعلُ الإعطاءَ والمنع فحذفُه للقصد إلى إيجاد نفسِ الفعل إشعاراً بأن عموم الدعوةِ غنيٌّ عن البيان وإنما المقصود الأمر بإيجادها على وجه مخصوص {إلى سَبِيلِ رَبّكَ} إلى الإسلام الذي عبّر عنه تارةً بالصراط المستقيم وأخرى بملة إبراهيمَ عليه السلامُ وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئةِ عن المالكية وتبليغِ الشيء إلى كماله اللائقِ شيْئاً فشيئاً معَ إضافة الربِّ إلى ضمير النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في مقام الأمر بدعوة الأمة على الوجه الحكيم وتكميلِهم بأحكام الشريعةِ الشريفة من الدِلالة على إظهار اللطفِ به عليه الصلاة والسلام والإيماءِ إلى وجه بناءِ الحُكم ما لا يخفى {بالحكمة} أي بالمقالة المحكمةِ الصحيحة وهو الدليلُ الموضحُ للحق المزيحُ للشبهة {والموعظة الحسنة} أي الخطابياتِ المقنعةِ والعِبر النافعةِ على وجهٍ لا يخفى عليهم أنك تناصحهم وتقصِد ما ينفعهم فالأولى لدعوة خواصِّ الأمةِ الطالبين للحقائق والثانيةُ لدعوة عوامِّهم ويجوز أن يكون المرادُ بهما القرآنَ المجيد فإنه جامعٌ لكلا الوصفين {وجادلهم} أي ناظِرْ معانديهم {بالتى هِىَ أَحْسَنُ} بالطريقة التي هي أحسنُ طرقِ المناظرةِ والمجادلة من الرفق واللينِ واختيار الوجهِ الأيسرِ واستعمالِ المقدّمات المشهورةِ تسكيناً لشغَبهم وإطفاءً لِلَهبهم كما فعله الخليلُ عليه السلام {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} الذي أمرك بدعوة الخلقِ إليه وأعرضَ عن قَبول الحق بعدما عاين ما عاين من الحِكم والمواعظ والعبر {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} إليه بذلك وهو تعليلٌ لما ذُكر من الأمرين والمعنى والله تعالى أعلم اسلُكْ في الدعوة والمناظرةِ الطريقةَ المذكورةَ فإنه تعالى هو أعلمُ بحال من لا يرعوِي عنِ الضلالِ بموجب استعدادِه المكتسَب وبحال من يصير أمرُه إلى الاهتداء لما فيه من خير جبلي فما شرعه لك في الدعوة هو الذي تقتضيه الحكمةُ فإنه كافٍ في هداية المهتدين وإزالةِ عذر الضالّين أو ما عليك إلا ما ذكر من الدعوة والمجادلةِ بالأحسن وأما حصولُ الهداية أو الضلال والمجازاةُ عليهما فإلى الله سبحانه إذ هو أعلم بمن يبقى على الضلال وبمن يهتدي إليه فيجازي كلاًّ منهما بما يستحقة وتقديمُ الضالين لما أنَّ مساقَ الكلامِ لهم وإيرادُ الضلال بصيغة الفعلِ الدالِّ على الحدوث لما أنه تغييرٌ لفطرة الله التي فطرَ الناسَ عليها وإعراضٌ عن الدعوة وذلك أمرٌ عارضٌ بخلاف الاهتداء الذي هو عبارةٌ عن الثبات على الفطرة والجرَيانِ على موجب الدعوةِ ولذلك جيء به على صيغة الاسمِ المنبئ عن الثبات وتكريرُ هو أعلمُ للتأكيد والإشعارِ بتبايُنِ حالِ المعلومَين ومآلهما من العقاب والثواب وبعد ما أمره عليه الصلاة والسلام فيما يختص به من شأن الدعوةِ بما أمره به من الوجه اللائق عقّبه بخطاب شاملٍ له ولمن شايعه فيما يعم الكل فقال

126

{وإن عاقبتم}

النحل 127 أي إن أردتم المعاقبةَ على طريقة قول الطبيبِ للمحتمي إن أكلتَ فكلْ قليلاً (فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) أي بمثل ما فُعل بكم وقد عبّر عنه بالعقاب على طريقة إطلاقِ اسمِ المُسبَّبِ على السبب نحوُ كما تَدين تُدان أو على نهج المشاكلةِ والمقصودُ إيجابُ مراعاةِ العدل مع مَنْ يناصبُهم من غير تجاوزٍ حين ما آل الجِدالُ إلى القتال وأدّى النزاعُ إلى القِراع فإن الدعوةَ المأمورَ بها لا تكاد تنفك عن ذلك كيف لا وهي موجبةٌ لصرف الوجوهِ عن القُبل المعبودةِ وإدخالِ الأعناق في قِلادة غيرِ معهودةٍ قاضيةٍ عليهم بفساد ما يأتون وما يذرون وبطلان دين استمرت عليه آباؤهم الأولون وقد ضاقتْ عليهم الحيلُ وعيَّت بهم العِللُ وسُدّت عليهم طرقُ المُحاجّة والمناظرة وأُرتجتْ دونهم أبوابُ المباحثةِ والمحاورة وقيلَ إنَّه عليه الصلاةُ والسلام لما رأى حمزة رضيَ الله عنه يومَ أُحد قد مُثّل به قال لئن أظفَرني الله بهم لأمثّلنّ بسبعين مكانك فنزلت فكفّر عن يمينه وكف عما أراده وقرئ وإن عَقّبتم فعقِّبوا أي وإن قَفَّيْتم بالانتصار فقفّوا بمثل ما فُعل بكم غيرَ متجاوزين عنه والأمرُ وإن دل على إباحة المماثلة في المُثْلة من غير تجاوزٍ لكن في تقييده بقوله وإن عاقبتم حيث على العفو تعريضاً وقد صرّح به على الوجه الآكد فقيل {وَلَئِن صَبَرْتُمْ} أي عن المعاقبة بالمثل {لَهُوَ} أي لَصَبرُكم ذلك {خَيْرٌ} لكم من الانتصار بالمعاقبة وإنما قيل {للصابرين} مدحاً لهم وثناءً عليهم بالصبر أو وصفاً لهم بصفة تحصل لهم عند تركِ المعاقبةِ ويجوز عَودُ الضميرِ إلى مطلق الصبرِ المدلولِ عليه بالفعل فيدخُل فيه صبرُهم كدخول أنفسِهم في جنس الصابرين دخولاً أوليا ثم أُمرَ عليه الصلاةُ والسلامُ صريحاً بما ندَب إليه غيرَه تعريضاً من الصبر لأنه أولى الناس بعزائم الأمور لزيادة علمه بشئونه سبحانه ووفورِ وثوقِه به فقيل

127

{واصبر} أي على مَا أَصَابَكَ من جهتهم من فنون الآلامِ والأَذية وعاينتَ من إعراضهم عن الحق بالكلية {وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأشياء أي وما صبرُك ملابساً ومصحوباً بشيءٍ من الأشياءِ إلا بالله أي بذكره والاستغراقِ في مراقبة شئونه والتبتّلِ إليه بمجامع الهِمّة وفيه من تسليته عليه الصلاة والسلام وتهوينِ مشاقِّ الصبرِ عليه وتشريفه مالا مزبد عليه أو إلا بمشيئته المبينة على حِكَمٍ بالغة مستتبِعةٍ لعواقبَ حميدةٍ فالتسليةُ من حيث اشتمالُه على غايات جميلة وقيل إلا بتوفيقه ومعونتِه فهي من حيث تسهيلُه وتيسيرُه فقط {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي على الكفارين بوقوع اليأسِ من إيمانهم بك ومتابعتِهم لك نحو فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين وقيل على المؤمنين وما فُعل بهم والأولُ هو الأنسب بجزالة النظمِ الكريم {وَلاَ تَكُ فِى ضيق} بالفتح وقرئ بالكسر وهما لغتان كالقَوْل والقيل أي لا تكُن في ضيق صدرٍ وحرَج ويجوز أن يكون الأولُ تخفيفَ ضيِّق كهيْن من هيِّن أي في أمر ضيِّقٍ {مّمَّا يَمْكُرُونَ} أي من مكرهم بك فيما يُستقبل فالأولُ نهيٌ عن التألم بمطلوبٍ مِنْ قبلَهم فاتَ والثاني عن التألم بمحذور من جهتهم آتٍ والنهيُ عنهما مع أن انتفاءَهما من لوازم الصبرِ المأمورِ بهِ لا سيَّما على الوجه الأولِ لزيادة التأكيدِ وإظهارِ كمالِ العنايةِ بشأن التسليةِ وإلا فهل يخطُر ببال من توجّه إلى الله سبحانه بشر اشر نفسِه متنزهاً عن كلِّ ما سواهُ من الشواغل شيء من المطلوب فينهي عن الحزن

النحل 128 بفوانه أو محظور فكيف عن الخوف من وقوعه

128

{إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا} تعليلٌ لما سبقَ من الأمرِ والنَّهي والمرادُ بالمعية الولايةُ الدائمةُ التي لا تحوم حول صاحبها شائبة شيءٍ من الجزَع والحزنِ وضيق الصدر وما يشعر به دخول كلمة مع من متبوعية المتقين إنما هي من حيث إنهم المباشرون للتقوى وكذا الحالُ في قولِه سبحانه إِنَّ الله مَعَ الصابرين ونظائرِهما كافة والمرادُ بالتقوى المرتبةُ الثالثة منه الجامعة لما تحتها من مرتبة التوقي عن الشرك ومرتبة التجنبُ عن كلِّ ما يُؤثِّمُ من فعلٍ وتركٍ أعني التنزّهَ عن كل ما شغل سره عن الحق والتبتل إليه بشر اشر نفسِه وهو التقوى الحقيقيُّ المُورِث لولايته تعالى المقرونة ببشارة قوله سبحانه أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ والمعنى أن الله وليُّ الذين تبتلوا إليه بالكلية وتنزّهوا عن كل ما يشغل سرَّهم عنه فلم يخطُرْ ببالِهم شيءٌ من مطلوب أومحذور فضلاً عن الحزن بفواته أو الخوفِ من وقوعه وهو المعنيُّ بما به الصبرُ المأمورُ به حسبما أشير إليه وبه يحصل التقريب ويتم التعليل كما في قوله تعالى فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ على أحد التفسيرين كما حُقق في مقامه وإلا فمجردُ التوقي عن المعاصي لا يكون مداراً لشيء من العزائم المرخصِ في تركها فكيف بالصبر المشارِ إليه ورديفيه وإنما مدارُه المعنى المذكورُ فكأنه قيل إِنَّ الله مَعَ الذين صبروا وإنما أوثر مَا عليهِ النظمُ الكريمُ مبالغةً في الحث على الصبر بالتنبيه على أنه من خصائص أجل النعوتِ الجليلة وروادفِه كما أن قوله تعالى {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} للإشعار بأنَّه من باب الإحسانِ الذي يتنافس فيه المتنافسون على ما فُصل ذلك حيث قيل واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين وقد نُبّه على أنَّ كلاً من الصبر والتقوى من قبيل الإحسان في قوله تعالى إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين وحقيقةُ الإحسانُ الإتيانُ بالأعمال على الوجه اللائقِ الذي هو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتي وقد فسَّره عليهِ الصَّلاة والسَّلام بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّه يراكَ وتكريرُ الموصولِ للإيذان بكفاية كلَ من الصلتين في ولايته سبحانه من غير أن تكون إحداهما تتمةً للأخرى وإيرادُ الأولى فعليةٌ للدِلالة على الحدوث كما أن إيرادَ الثانيةِ اسميةٌ لإفادة كونِ مضمونِها شيمةً راسخةً لهم وتقديمُ التقوى على الإحسان لما أنَّ التخليةَ متقدِّمةٌ على التحلية والمرادُ بالموصولَين إما جنسُ المتقين والمحسنين وهو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ داخلٌ في زُمرتهم دُخولاً أوليَّا وإما هو عليهِ الصلاةُ والسلامُ ومنْ شايعه عبَّر عنهم بذلك مَدْحاً لهم وثناءً عليهم بالنعتين الجميلين وفيه رمزٌ إلى أنَّ صنيعَه عليه الصلاة والسلام مستتبع لإقتداء الأمةِ به كقول من قال لابن عباس رضي الله عنهما عند التعزية [اصبِرْ نكنْ بك صابرين فإنما صبرُ الرعية عند صبرِ الرأسِ] عن هرم بن حيان أنه قيل له حين الاحتضارِ أوصِ قال إنما الوصيةُ من المال وأوصيكم بخواتيم سورة النحل عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة النحل لَمْ يحاسبْه الله تعالَى بما أنعم عليهِ في دارِ الدُّنيا وإن مات في يومِ تلاها أو ليلتَه كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية والحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله أجمعين

سورة الإسراء مكية إلا الآيات 26 32 33 57 ومن آية 73 إلى آية 80 فمدنية وآياتها 111) بِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم

الإسراء

{سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ} سبحان عَلَمٌ للتسبيح كعُثمانَ للرجل وحيث كان المسمّى معنى لاعينا وجنساً لا شخصاً لم تكن إضافتُه من قبيل ما في زيدُ المعارك أو حاتم طئ وانتصابه بفعل متروكِ الإظهار تقديرُه أسبح الله سبحان الخ وفيه ما لا يَخفْى من الدلالة على التنزيه البليغِ من حيث الاشتقاقُ من السبْح الذي هو الذهابُ والإبعادُ في الأرض ومنه فرسٌ سَبُوحٌ أي واسعُ الجري ومن جهة النَّقلِ إلى التَّفعيلِ ومن جهة العدولِ من المصدر إلى الاسمِ الموضوعِ له خاصة لا سيما وهو علمٌ يشير إلى الحقيقةِ الحاضرةِ في الذهن ومن جهة قيامِه مَقام المصدرِ مع الفعلِ وقيل هو مصدرٌ كغُفرانٍ بمعنى التنزه ففيه مبالغةٌ من حيث إضافةُ التنزه إلى ذاته المقدسةِ ومناسبةٌ تامة بين المحذوف وبين ما عُطف عليه في قوله تعالى سبحانه وتعالى كأنه قيل تنزه بذاته وتعالى والإسراءُ السيرُ بالليل خاصة كالسُّرى وقوله تعالى {لَيْلاً} لإفادة قلةِ زمان الإسراءِ لِما فيه من التنكير الدالِّ على البعضية من حيث الأجزاءُ دَلالتَه على البعضية من حيث الأفراد فإن قولك سِرت ليلاً كما يفيد بعضيةَ زمان سيرِك من الليالي يفيد بعضيتَه من فرد واحد منها بخلاف ما إذا قلت سرتُ الليلَ فإنه يفيد استيعابَ السير له جميعاً فيكون معياراً للسير لا ظرفاً له ويؤيده قراءةُ من الليل أي بعضِه وإيثارُ لفظ العبدِ للإيذان بتمحضه عليه الصلاة والسلام في عبادته سبحانه وبلوغِه في ذلك غايةُ الغاياتِ القاصيةِ ونهايةُ النهايات النائية حسبما يلوّح به مبدأُ الإسراء ومنتهاه وإضافةُ التنزيه أو التنزّه إلى الموصول المذكورِ للإشعار بعلية مَا في حيزِ الصلةِ للمضاف فإن ذلك من أدلة كمال قدرته وبالغ حكمته ونهايةِ تنزهه عن صفات المخلوقين {مّنَ المسجد الحرام} اختُلف في مبدأ الإسراءِ فقيل هو المسجدُ الحرام بعينه وهو الظاهرُ فإنه روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال بينا أنا في المسجد الحرام في الحِجْر عند البيت بين النائم واليقظانِ إذْ أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام بالبُراق وقيل هو دارُ أم هانئ بنتِ أبي طالب والمراد بالمسجد الحرام الحرمُ لإحاطته بالمسجد والْتباسِه به أو لأن الحرم كلَّه مسجد فإنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم كان نائماً في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاءِ فكان ما كان فقصّه عليها فلما قام ليخرُج إلى المسجد تشبثت بثوبه صلى الله عليه وسلم لتمنعه خشية أن يكذبه القوم قال صلى الله عليه وسلم وإن كذبوني فلما خرج جلس إليه أبو جهل فأخبره صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراءِ فقال أبو جهل يا معشر كعبِ بنِ لؤي بنِ غالب هلم

الإسراء 2 فحدِّثْهم فمن مصفّق وواضعٍ يدَه على رأسه تعجباً وإنكاراً وارتد ناسٌ ممن كان آمن به وسعى رجالٌ إلى أبي بكر فقال إن كان قال ذلك لقد صدق قالوا أتصدّقه على ذلك قال إني أصدقه على أبعدَ من ذلك فسُمِّيَ الصِّديقُ وكان فيهم من يعرف بيت المقدس فاستنعتوه المسجدَ فجُلِّي له بيتُ المقدس فطفِق ينظر إليه وينعته لهم فقالوا أما النعتُ فقد أصابه فقالوا أخبِرْنا عن عِيرنا فأخبرهم بعدد جمالِها وأحوالها وقال تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمُها جملٌ أورَقُ فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فقال قائل منهم هذه والله الشمسُ قد أشرقت فقال آخرُ هذه والله العِيرُ قد أقبلت يقدمها جملٌ أورقُ كما قال محمد ثم لم يؤمنوا قاتلهم الله أنَّي يُؤفكون واختُلف في وقته أيضاً فقيل كان قبل الهجرةِ بسنة وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعثة واختلف أيضاً أنه في اليقظة أو في المنام فعن الحسن أنه كان في المنام وأكثرُ الأقاويل بخلافه والحق أنه كان في المنام قبل البعثة وفي اليقظة بعدها واختُلف أيضاً أنه كان جُسمانياً أو روحانياً فعن عائشةَ رضيَ الله عنها أنها قالت ما فُقِد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عُرج بروحه وعن معاوية أنه قال إنما عُرج بروحه والحقُّ أنه كان جُسمانياً على ما ينبئ عنه التصديرُ بالتنزيه وما في ضمنه من التعجب فإن الروحانيَّ ليس في الاستبعاد والاستنكار وخرقِ العادةِ بهذه المثابة ولذلك تعجبت منه قريشٌ وأحالوه ولا استحالة فيه فإنه قد ثبت في الهندسة أن قُطرَ الشمس ضِعفَ قطرِ الأرض مائة ونيفاً وستين مرة ثم إن طرفها الأسفلَ يصل إلى موضع طرفِها الأعلى بحركة الفَلك الأعظمِ مع معاوقة حركةِ فلكِها لها في أقلَّ من ثانية وقد تقرر أن الأجسام متساويةٌ في قَبول الأعراضِ التي من جملتها الحركةُ وأن الله سبحانه قادرٌ على كلَّ ما يحيطُ بهِ حيطة الإمكان فيقدر على أن يخلق يخلق مثل تلك الحركةَ بل أسرعَ منها في جسد النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أو فيما يحمِله ولو لم يكن مستبعداً لم يكن معجزة {إلى المسجد الأقصى} أي بيتِ المقدس سُمي به إذ لم يكن حينئذ وراءه مسجدٌ وفي ذلك من تربية معنى التنزيه والتعجب مالا يخفى {الذى بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ببركات الدين والدنيا لأنه مهبِطُ الوحي ومتعبَّدُ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام {لِنُرِيَهُ} غاية للإسراء {من آياتنا} العظيمةِ التي من جملتها ذهابُه في برهة من الليل مسيرةَ شهرٍ ولا يقدحُ في ذلك كونُه قبل الوصول إلى المقصِد ومشاهدةِ بيت المقدس وتمثّل الأنبياءِ له ووقوفِه على مقاماتهم العلية عليهم الصلاة والسلام والالتفاتُ إلى التكلم لتعظيم تلك البركاتِ والآياتِ وقرئ ليريَه بالياء {إِنَّهُ هُوَ السميع} لأقواله عليه الصلاة والسلام بلا أذن {البصير} بأفعاله بلا بصر حسبما يؤذِنُ به القصرُ فيكرمُه ويقرّبه بحسب ذلك وفيه إيماءٌ إلى أن الإسراءَ المذكورَ ليس إلا لتكرمته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ورفعِ منزلتِه وإلا فالإحاطةُ بأقواله وأفعاله حاصلةٌ منْ غيرِ حاجةٍ إلى التقريب والالتفاتُ إلى الغَيبة لتربية المهابة

2

{وآتينا موسى الكتاب} أي التوراة وفيه إيماءٌ إلى دعوتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى الطور وما وقع فيه من المناجاة جمعاً بين الأمرين المتّحدين في المعنى ولم يذكر ههنا العروج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء وما كان فيه مما لا يُكتنه كنهُه حسبما نطقتْ به سورةُ النجم تقريباً للإسراء إلى قَبول السامعين أي آتيناه التوراة بعد ما أسرينا به إلى الطور {وجعلناه} أي ذلك

الإسراء 3 5 الكتاب {هدى لبني إسرائيل} يهتدون بما في مطاويه {ألا تَتَّخِذُواْ} أي لا تتخذوا نحو كتبت إليه أن أفعل كذا وقرئ بالياء على أنَّ أنْ مصدريةٌ والمعنى آتينا موسى الكتابَ لهداية بني إسرائيلَ لئلا يتخذوا {مِن دُونِى وَكِيلاً} أي ربًّا تكِلون إليه أمورَكم والإفرادُ لما أن فعيلاً مفردٌ في اللفظ جمعٌ في المعنى

3

{ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} نُصب على الاختصاصِ أو النداءِ على قراءة النهي والمرادُ تأكيدُ الحملِ على التوحيد بتذكير إنعامِه تعالى عليهم في ضمن إنجاءِ آبائِهم من الغرق في سفينةِ نوحٍ عليهِ السلام أو على أنه أحدُ مفعولَيْ لا يتخذوا على قراءة النفي ومن دوني حالٌ من وكيلاً فيكون كقولِه تعالى وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أربابا وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أو بدلٌ من واو لا تتخذوا بإبدال الظاهرِ من ضمير المخاطَب كما هو مذهبُ بعض البغاددة وقرئ ذِرّية بكسر الذال {أَنَّهُ} أي أن نوحا عليه الصَّلاة والسَّلام {كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} كثيرَ الشكر في مجامع حالاتِه وفيه إيذانٌ بأن إنجاءَ مَنْ معه كان ببركة شكره عليه الصلاة والسلام وحثٌّ للذرية على الاقتداء به وزجرٌ لهم عن الشرك الذي هو أعظمُ مراتبِ الكُفرانِ وقيل الضمير لموسى عليه السلام

4

{وَقَضَيْنَا} أي أتممنا وأحكمنا منزلين {إلى بني إسرائيل} أي موحين إليهم {فِى الكتاب} أي في التوراة فإن الإنزالَ والوحيَ إلى مُوسى عليهِ السَّلامُ إنزالٌ ووحيٌ إليهم {لَتُفْسِدُنَّ فِى الأرض} جوابُ قسمٍ محذوفٍ ويجوز إجراءُ القضاء المحتومِ مُجرى القسمِ كأنه قيل وأقسمنا لتفسدن {مَّرَّتَيْنِ} مصدرٌ والعاملُ فيه من غير جنسه أولاهما مخالفةُ حكم التوراة وقتل شعياء عليه الصلاة والسلام وحبسُ أرمياءَ حين أنذرهم سخطَ الله تعالى والثانية قتلُ زكريا ويحيى وقصدُ قتلِ عيسى عليهم الصلاة والسلام {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} لتستكبِرُنّ عن طاعة الله سبحانه أو لتغلِبُنّ الناسَ بالظلم والعدوان وتفرّطُنّ في ذلك إفراطا مجاوز للحدود

5

{فَإِذَا جَآء وَعْدُ أولاهما} أي أولى كرَّتَي الإفساد أي حان وقتُ حلولِ العقاب الموعود {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ} لمؤاخذتكم بجناياتكم {عِبَادًا لَّنَا} وقرئ عبيداً لنا {أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} ذوي قوةٍ وبطش في الحروب هم سنجاريبَ من أهل نينوى وجنودُه وقيل بُخْتَ نصَّر عامل لهراسِبَ وقيل جالوت {فَجَاسُواْ} أي تردّدوا لطلبكم بالفساد وقرئ بالحاء والمعنى واحد وقرئ وجوسوا {خلال الديار} في أوساطها للقتل والغارة وقرئ خِلَلَ الديار فقتلوا علماءَهم وكبارهم وأحرقوا التوراةَ وخربوا المسجد وسبَوْا منهم سبعين ألفاً وذلك من قبيل تولية بعضِ الظالمين بعضاً مما جرت

الإسراء 6 8 به السنةُ الإلهية {وَكَانَ} ذلك {وَعْدًا مَّفْعُولاً} لا محالة بحيث لا صارفَ عنه ولا مبدِّلَ

6

{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة} أي الدولةَ والغلَبة {عَلَيْهِمْ} على الذين فعلوا بكم ما فعلوا بعد مائة سنةٍ حين تُبتم ورجعتم عما كنتم عليه من الإفساد والعلو قيل هي قتل بخت نصر واستنفاذ بني إسرائيلَ أُساراهم وأموالَهم ورجوعُ المُلْك إليهم وذلك أنه لما ورِث بَهْمنُ بنُ اسفنديارَ المُلك من جدِّه كشتاسفَ بنِ لهراسب ألقى الله تعالى في قلبه الشفقةَ عليهم فردّ أُساراهم إلى الشام وملّك عليهم دانيال عليه السلام فاستولَوا على من كان فيها من أتباع بختَ نصّر وقيل هي قتلُ داودَ عليه السلام لجالوت {وأمددناكم بأموال} كثيرة بعد ما نُهبت أموالُكم {وَبَنِينَ} بعدما سُبيَتْ أولادُكم {وجعلناكم أَكْثَرَ نَفِيرًا} مما كنتم من قبل أو من عدوكم والنفيرُ مَن ينفِر مع الرجل من قومه وقيل جمع نفروهم القومُ المجتمعون للذهاب إلى العدو كالعبيد والمعين

7

{إِنْ أَحْسَنتُمْ} أعمالكم سواءٌ كانت لازمةً لأنفسكم أو متعديةً إلى الغير أي عملتموها لا على الوجه اللائقِ ولا يُتصور ذلك إلا بعد أن تكون الأعمالُ حسنةً في أنفسها أو إن فعلتم الإحسان {أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ} لأن ثوابَها لها {وَإِنْ أَسَأْتُمْ} أعمالَكم بأن عملتموها لا على الوجه اللائق ويلزمه السوءُ الذاتيُّ أو فعلتم الإساءة {فَلَهَا} إذ عليها وبالها وعن عليٌّ كرم الله وجهه ما أحسنتُ إلى أحد ولا أسأت إليه وتلاها {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الأخرة} حان وقت ما وُعد من عقوبة المرة الآخرة {ليسوؤوا وُجُوهَكُمْ} متعلقٌ بفعل حُذف لدلالةِ ما سبق عليه أي بعثناهم لسوءوا ومعنى ليسوءوا وجوهَكم ليجعلوا آثارَ المساءة والكآبةِ باديةً في وجوهكم كقوله تعالى سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ وقرئ ليَسوءَ على أن الضمير لله تعالى أو للوعد أو للبعث ولنسوءَ بنون العظمةِ وفي قراءة علي رضي الله عنه لنسو أن على أنه جوابُ إذا وقرئ لنسو أن بالنون الخفيفة وليسو أن واللامُ في قولِه عزَّ وجلَّ {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد} عطف على ليسوءوا متعلقٌ بما تعلق هو به {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي في أول مرةٍ {وَلِيُتَبّرُواْ} أي يهلكوا {مَا عَلَوْاْ} ما غلبوه واستولَوْا عليه أو مدةَ علوِّهم {تَتْبِيرًا} فظيعاً لا يوصف بأن سلط الله عز سلطانه عليهم الفرسَ فغزاهم ملكُ بابلَ من ملوك الطوائف اسمه جودر دوقيل جردوس وقيل دخل صاحبُ الجيش مذبحَ قرابينَهم فوجد فيه دماً يغلي فسألهم عنه فقالوا دمُ قربانٍ لم يقبل منا فقال لم تصْدُقوني فقتل على ذلك ألوفاً فلم يهدأ الدم ثم قال إن لم تصدُقوني ما تركت منكم أحداً فقالوا إنه دمُ يحيى بنِ زكريا عليهما الصلاة والسلام فقال لمثل هذا ينتقم منكم ربُّكم ثم قال يا يحيى قد علم ربي وربُّك ما أصاب قومَك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أُبقيَ منهم أحداً فهدأ

8

{عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} بعد المرة الآخرة إن تبتم

الإسراء 9 11 توبةً أخرى وانزجرتم عما كنتم عليه من المعاصي {وَإِنْ عُدتُّمْ} إلى ما كنتم فيه من الفساد مرةً أخرى {عُدْنَا} إلى عقوبتكم ولقد عادوا فأعاد الله سبحانه عليهم النقمة بأن سلط عليهم الأكاسرةَ ففعلوا بهم ما فعلوا من ضرب الإتاوة ونحوِ ذلك وعن الحسن عادوا فبعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم فهم يُعطون الجزيةَ عن يد وهم صاغرون وعن قتادة مثلُه {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ للكافرين حَصِيرًا} أي محبِساً لا يستطيعون الخروجَ منها أبد الآبدين وقيل بِساطاً كما يبسط الحصيرُ وإنما عدل عن أن يقال وجعلنا جهنمَّ لكم تسجيلاً على كفرهم بالعَود وذماً لهم بذلك وإشعار بعلة الحكم

9

{إن هذا القرآن} الذي آتيناكَهُ {يَهْدِى} أي الناسَ كافةً لا فِرقةً مخصوصة منهم كدأب الكتابَ الذي آتيناهُ مُوسى {لِلَّتِى} للطريقة التي {هِىَ أَقْوَمُ} أي أقومُ الطرائقِ وأسدُّها أعني ملةَ الإسلامِ والتوحيدِ وتركُ ذكرها ليس لقصد التعميم لها وللحالة وللخصلة ونحوِها مما يعبّر به عن المقصد المذكور بل للإيذان بالغِنى عن التصريح بها لغاية ظهورِها لا سيما بعد ذكرِ الهدايةِ التي هي من روادفها والمرادُ بهدايته لها كونُه بحيث يهتدي إليها من يتمسك به لا تحصيلُ الاهتداء بالفعل فإنه مخصوصٌ بالمؤمنين حينئذ {وَيُبَشّرُ المؤمنين} بَما فِي تضاعيفِه من الأحكام والشرائع وقرئ بالتخفيف {الذين يَعْمَلُونَ الصالحات} التي شرحت فيه {أَنَّ لَهُمْ} أي بأن لهم بمقابلة تلك الأعمالِ {أَجْرًا كَبِيرًا} بحسب الذات وبحسب التضعيف عشرَ مرات فصاعداً

10

{وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} وأحكامِها المشروحة فيه من البعث والحسابِ والجزاء وتخصيصُها بالذِّكرِ من بين سائر ما كفروا به لكونها مُعظمَ ما أُمروا بالإيمان به ولمراعاة التناسبِ بين أعمالهم وجزائِها الذي أنبأ عنه قولُه عزَّ وجلَّ {أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وهو عذابُ جهنمَ أي أعتدنا لهم فيما كفروا به وأنكروا وجودَه من الآخرة عذاباً أليماً وهو أبلغُ في الزجر لما أن إتيانَ العذابِ مِن حيثُ لاَ يُحتسب أفظعُ وأفجعُ والجملةُ معطوفةٌ على جُملةِ يبشّر بإضمار يُخبر أو عَلى قولِه تعالَى إِنَّ لَهُمْ داخلةٌ معه تحت التبشير المرادِ به مجازاً مطلقُ الإخبار المنتظمِ للإخبار بالخبر السارِّ وبالنبأ الضار حقيقة فيكون ذلك بياناً لهداية القرآنِ بالترغيب والترهيب ويجوز كونُ التبشير بمعناه والمرادُ تبشير المؤمنين ببشارتين ثوابهم وعقابِ أعدائهم وقوله تعالى

11

{وَيَدْعُ الإنسان بالشر} بيانٌ لحال المهديِّ إثرَ بيان حالِ الهادي وإظهارٌ لما بينهما من التبيان والمرادُ بالإنسان الجنسُ أسند إليه حالُ بعضِ أفراده أو حُكي عنه حالُه في بعض أحيانه فالمعنى على الأول أن القرآنَ يدعو الإنسانَ إلى الخير الذي لا خيرَ فوقه من الأجر الكبير ويحذره من الشر الذي لا شر ورائه من العذاب الأليم وهو أي

الإسراء 12 بعضٌ منه وهو الكافرُ يدعو لنفسه بما هو الشرُّ من العذاب المذكور إما بلسانه حقيقةً كدأب مَنْ قال منهم اللهم إن كان هُوَ الحقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ومن قال فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين إلى غير ذلك مما حُكي عنهم وإما بأعمالهم السيئة المُفضية إليه الموجبةِ له مجازاً كما هو ديدنُ كلِّهم {دُعَاءهُ بالخير} أي مثلَ دعاءه بالخير المذكور فرضاً لا تحقيقاً فإنه بمعزل من الدعاء به وفيهِ رمزٌ إلى أنَّه اللائقُ بحاله {وَكَانَ الإنسان} أي مَن أُسند إليه الدعاءُ المذكورُ من أفراده {عَجُولاً} يسارع إلى طلب ما يخطر بباله متعامياً عن ضرره أو مبالغاً في العجلة يستعجل العذابَ وهو آتيه لا محالة ففيه نوعُ تهكمٍ به وعلى تقدير حمل الدعاءِ على أعمالهم تُحمل العَجوليةُ على اللَّجّ والتمادي في استيجاب العذابِ بتلك الأعمال وعلى الثاني أن القرآنَ يدعو الإنسانَ إلى ما هو خيرٌ وهو في بعضِ أحيانه كما عند الغضبِ يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شرٌّ وَكَانَ الإنسان بحسب جِبِلّته عجولاً ضجِراً لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه روي أنه عليه الصلاةُ والسلام دفع إلى سَوْدةَ أسيراً فأرخت كتافه رحمةً لأنينه بالليل من ألم القيد فهرب فلما أُخبر به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم قال اللهم اقطع يديها فرفعت سودة يديها تتوقع الإجابة فقال صلى الله عليه وسلم إن سألت الله تعالى أن يجعل دعائي على من لا يستحق من أهلي عذاباً رحمةً أو يدعو بما هو شر وهو يحسبه خيراً وكان الإنسان عجولاً غيرَ متبصّر لا يتدبر في أموره حقَّ التدبر ليتحقق ما هو خيرٌ حقيقٌ بالدعاء به وما هو شرٌّ جديرٌ بالاستعاذة منه

12

{وجعلنا الليل والنهار آيتين} شروع في بيان بعض وجوه ما ذُكر من الهداية بالإرشاد إلى مسلك الاستدلالِ بالآيات والدلائلِ الآفاقية التي كلُّ واحدة منها برهانٌ نيِّرٌ لا ريب فيه ومنهاجٌ بيِّنٌ لا يضل من لا ينتحيه فإن الجعلَ المذكورُ وما عُطف عليهِ من محو آية الليل وجعل آيةِ النهار مبصرةً وإن كانت من الهدايات التكوينية لكن الإخبارَ بذلك من الهدايات القرآنية المنبّهة على تلك الهداياتِ وتقديمُ الليل لمراعاة الترتيبِ الوجوديِّ إذ منه ينسلخ النهارُ وفيه تظهرُ غُررُ الشهور ولو أن الليلةَ أضيفت إلى ما قبلها من النهار لكانت من شهر وصاحبُها من شهر آخرَ ولترتيب غايةِ آيةِ النهار عليها بلا واسطة أي جعلنا الملوين بهيا تهما وتعاقبُهما واختلافِهما في الطول والقِصَر على وتيرةٍ عجيبة يحار في فهمها العقولُ آيتين تدلان على أن لهما صانعاً حكيماً قادراً عليماً وتهديان إلى ما هدى إليه القرآنُ الكريم من ملة الإسلام والتوحيد {فمحونا آية الليل} الإضافةُ إما بيانيةٌ كما في إضافة العددِ إلى المعدود أي محونا الآية التي هي الليلُ وفائدتُها تحقيق مضمون الجملة السابقةِ ومحوُها جعلُها ممحُوّةَ الضوءِ مطموستَه لكنْ لا بعدَ أنْ لم يكن كذلك بل إبداعُها على ذلك كما في قولِهم سُبحان مَنْ صغر البعوضَ وكبَّر الفيل أي أنشأهما كذلك والفاءُ تفسيريةٌ لأن المحو المذكورُ وما عُطف عليه ليس مما يحصل عَقيبَ جعل الجديدين آيتين بل هما من جملة ذلك الجعلِ ومتماته {وجعلنا آية النهار} أي الآية التي هي النهارُ على نحو ما مر {مُبْصِرَةً}

أي مضيئةً يبصَر فيها الأشياءُ وصفاً لها بحال أهلها أو مبصرةً للناس من أبصره فبصره وإما حقيقية وآية الليلُ والنهار نيِّراهما ومحوُ القمر إما خلقه مطموس التور في نفسه فالفاء كما ذكر وأما نقص ما استفادوا من الشمس شيئاً فشيئاً إلى المحاق على ما هو معنى المحو والفاءُ للتعقيب وجعلُ الشمس مبصرةً إبداعُها مضيئةً بالذات ذاتَ أشعة تظهر بها الأشياءُ المظلمة {لّتَبْتَغُواْ} متعلقٌ بقوله تعالى وجعلنا آية النهار كما أُشير إليه أي وجعلناها مضيئة لتطلُبوا لأنفسكم في بياض النهار {فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ} أي رزقاً إذ لا يتسنى ذلك في الليلِ وفي التعبيرِ عن الرزق بالفضل وعن الكسب بالابتغاء والتعرضُ لصفة الربوبيةِ المنبئةِ عن التبليغِ إلى الكمالِ شيئاً فشيئاً دلالةٌ على أن ليس للعبد في تحصيل الرزق تأثيرٌ سوى الطلبِ وإنما الإعطاءُ إلى الله سبحانه لا بطريق الوجوبِ عليه بل تفضلاً بحكم الربوبية {وَلِتَعْلَمُواْ} متعلقٌ بكِلا الفعلين أعني محو آية الليل وجعل آيةِ النهار مبصرةً لا بأحدهما فقط إذ لا يكون ذلك بانفراده مداراً للعلم المذكور أي لتعلموا بتفاوت الجديدَين أو نيِّريْهِما ذاتاً من حيث الإظلامُ والإضاءة مع تعاقبهما أو حركتهما وأوضاعِهما وسائرِ أحوالِهما {عَدَدَ السنين} التي يتعلق بها غرض علمي لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية {والحساب} أي الحسابَ المتعلقَ بما في ضمنها من الأوقات أي الأشهرَ واللياليَ والأيامَ وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة ونفس السنة من حيث تحققُها مما ينتظمه الحسابُ وإنما الذي تعلق به العدُّ طائفةٌ منها وتعلقُه في ضمن ذلك بكل واحدة منها ليس من الحيثية المذكورة أعني حيثية تحققِها وتحصُّلها من عدة أشهر قد تحصل كلَّ واحدٍ منها من عدة أيامٍ قد حصل كلٌ منها بطائفة من الساعات مثلاً فإن ذلك وظيفةُ الحساب بل من حيث إنها فرد من تلك الطائفة المعدودة يعدها أي يُفنيها من غيرِ أنْ يعتبرَ في ذلك تحصل شي معين وتحقيقُه ما مَرَّ في سورةِ يونس من أن الحساب أحصاه ماله كميةٌ منفصلة بتكرير أمثالِه من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين منه له اسمٌ خاصٌّ وحكمٌ مستقل كما أشير إليه آنفاً والعدُّ إحصاؤُه بمجرد تكرير أمثالِه من غير أن يتحصل منه شيء كذلك ولما أن السنين لم يعتبر فيها حدٌّ معين له اسم خاص وحكم مستقل أضيف إليها الغدد وعلق الحساب بما عاداها مما اعتبر فيه تحصُّل مراتبَ معينةٍ لها أسامٍ خاصة وأحكامٌ مستقلة وتحصّلُ مراتب الأعداد من العشرات والمئات والألوف اعتباري لا يجدي في تحصل المعدودات وتقديم العدد على الحساب مع أن الترتيبَ بين متعلّقيهما وجوداً وعلماً على العكس للتنبيه منْ أولِ الأمرِ عَلى أن متعلق الحساب ما في تضاعيف السنين من الأوقات أو لأن العلم المتعلق بعدد السنين علم إجمالي بما تعلق به الحساب تفصيلا أو لأن العدد من حيث إنه لم يعتبر فيه تحصلُ شيءٍ آخرَ منه حسبما ذكر نازلٍ من الحساب المعتبر فيه ذلك منزلة البسيط من المركب أو لأن العلم المتعلقَ بالأول أقصى المراتب فكان جديراً بالتقديم في مقام الامتنان والله سبحانه أعلم {وَكُلَّ شىْء} تفتقرون إليه في المعاش والمعادِ سوى ما ذكر من جعل الليل والنهار آيتين وما يتبعه من المنافع الدينيةِ والدنيويةِ وهو منصوبٌ بفعل يفسره قوله تعالى {فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} أي بيناه في القرآن الكريم بياناً بليغاً لا التباسَ معه كقوله تعالى وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء فظهر كونُه هادياً للتي هي أقوم ظهوراً بيناً

الإسراء

13

13 - 15 {وَكُلَّ إنسان} مكلف {ألزمناه طائره} أي عملَه الصادرَ عنه باختياره حسبما قُدِّر له كأنه طار إليه من عُشّ الغيب ووَكْر القدر أو ما وقع له في القسمة الأزلية الواقعةِ حسب استحقاقِه في العلم الأزليِّ من قولهم طار له سهمٌ كذا {فِى عُنُقِهِ} تصويرٌ لشدة اللزوم وكمالِ الارتباط أي ألزمناه عملَه بحيث لا يفارقه أبداً بل يلزمه لزومَ القِلادة أو الغُلّ للعنق لا ينفك عنه بحال وقرئ بسكون النون {وَنُخْرِجُ لَهُ} بنون العظمة وقد قرئ بالياء مبنياً للفاعل على أن الضميرُ لله عزَّ وجلَّ وللمفعول والضمير للطائر كما في قراءة يخرُج من الخروج {يوم القيامة} والبعث للحساب {كتابا} مسطوراً فيه ما ذكر من عمله نقيراً وقِطميراً وهو مفعول لنُخرجُ على القراءتين الأُوليين أو حالٌ من المفعول المحذوفِ الراجع إلى الطائر وعلى الأخرَيَين حالٌ من المستتر في الفعل من ضمير الطائر {يلقاه} أي يلقى الإنسان أو يلقاه الإنسان {مَنْشُوراً} وهما صفتان للكتاب أو الأولى صفةٌ والثاني حالٌ منها وقرئ يلقاه من لقِيته كذا أي يلقى الإنسانُ إياه قال الحسن بُسِطت لك صحيفةٌ ووكّل بك ملكان فهما عن يمينك وعن شمالك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتِك حتى إذا مُت طُويت صحيفتُك وجُعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة

14

{اقرأ كتابك} أي قائلين لك ذلك عن قتادة يقرأ ذلك اليومَ من لم يكن في الدنيا قارئاً وقيل المرادُ بالكتاب نفسُه المنتقشةُ بآثار أعماله فإن كل عمل يصدُر من الإنسان خيراً أو شرًّا يحدُث منه في جوهر روحِه أمرٌ مخصوصٌ إلا أنه يخفى ما دام الروحُ متعلقاً بالبدن مشتغلاً بواردات الحواسِّ والقُوى فإذا انقطعت علاقتُه عن البدن قامت قيامته لأن النفس كانت ساكنةً مستقرة في الجسد وعند ذلك قامت وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلويِّ فيزول الغطاءُ وتنكشف الأحوالُ ويظهر على لَوح النفس نقشُ كلِّ شيء عملِه في مدة عمرِه وهذا معنى الكتابة والقراءة {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} أي كفى نفسُك والباء زائدة واليومَ ظرفٌ لكفى وحسيباً تمييز وعلى صلتُه لأنه بمعنى الحاسب كالصريم بمعنى الصارم من حسَب عليه كذا أو بمعنى الكافي ووُضِع موضعَ الشهيد لأنه يكفي المدعي ما أهمه وتذكيرُه لأن ما ذُكر من الحساب والكفاية مما يتولاه الرجال أو لأنه مبنيٌّ على تأويل النفس بالشخص على أنَّها عبارةٌ عن النفس المذكر كقول جَبَلةَ بنِ حُريث [يا نفسُ إنكِ باللذاتِ مسرور فاذكرْ فهلْ ينفعَنْك اليومَ تذكيرُ]

15

{مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ} فذلكةٌ لما تقدم من بيان كون القرآن هادياً لأقوم الطرائقِ ولزومِ الأعمال لأصحابها أي من اهتدى بهدايته وعلم بَما فِي تضاعيفِه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه فإنما تعود

الإسراء 16 منفعته اهتدائِه إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتدِ {وَمَن ضَلَّ} عن الطريقة التي يهديه إليها {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي فإنما وبالُ ضلاله عليها لا على من عداه ممن لم يباشره حتى يمكن مفارقةُ العمل صاحبَه {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} تأكيد للجملة الثانية أي لا تحمل نفسٌ حاملةٌ للوزر وزرَ نفسٍ أخرى حتى يمكن تخلّصُ النفس الثانية عن وزرها ويختلَّ ما بين العامل وعلمه من التلازم بل إنَّما تحملُ كلٌّ منها وزرها وهذا تحقيقٌ لمعنى قوله عز وجل ولك إنسان ألزمناه طائره فِى عُنُقِهِ وأما ما يدلُّ عليه قولُه تعالى مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا وقوله تعالى لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ من حمل الغير وزر الغير وانتفاعِه بحسنته وتضرره بسيئته فهو في الحقيقة انتفاعٌ بحسنة نفسِه وتضرّرٌ بسيئته فإن جزاءَ الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العاملُ لازم له وإنما الذين يصل إلى مَنْ يشفع جزاءُ شفاعته لا جزاءُ أصل الحسنة والسيئة وكذلك جزاءُ الضلال مقصورٌ على الضالين وما يحمله المُضلون إنما هو جزاءُ الإضلال لا جزاءُ الضلال وإنما خُص التأكيدُ بالجملة الثانية قطعاً للأطماع الفارغةِ حيثُ كانُوا يزعُمون أنَّهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعةُ على أسلافهم الذين قلدوهم {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ} بيانٌ للعنايةِ الربَّانيةِ إثرَ بيان اختصاصِ آثارِ الهداية والضلال بأصحابها وعدم حِرمان المهتدي من ثمرات هدايته وعدمِ مؤاخذة النفس بجناية غيرها أي وما صحَّ وما استقام منا بل استحال في سنتنا المبنيةِ على الحِكَم البالغة أو ما كان في حكمنا الماضي وقضائِنا السابق أن نعذب أحداً من أهل الضلال والأوزارِ اكتفاءً بقضية العقل {حتى نَبْعَثَ} إليهم {رسولا} يهديهم إلى الحق ويردعهم عن الضلال ويقيم الحججَ ويمهد الشرائع حسبما في تضاعيف الكتاب المنزل عليه والمرادُ بالعذاب المنفيّ إما عذابُ الاستئصال كما قاله الشيخ أبو منصورا لما تريدي رحمه الله وهو المناسبُ لما بعدَه أو الجنسُ الشامل للدنيوي والأخروي هو من أفراده وأياما كان فالبعثُ غايةٌ لعدمِ صحَّة وقوعِه في وقتهِ المقدَّرِ لهُ لا لعدم وقوعِه مطلقاً كيف لا والأخرويُّ لا يمكن وقوعُه عَقيبَ البعث والدنيويُّ أيضاً لا يحصُل إلا بعد تحققِ ما يوجبه من الفسق والعصيان ألا يُرى إلى قوم نوحٍ كيف تأخر عنُهم ما حلَّ بهم زُهاءَ ألفَ سنةٍ وقولُه تعالى

16

{وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً} بيان لكيفية وقوع التعذيب بعد البعثة التي جعلت غاية لعدم صحته وليس المراد بالإرادة تحققها بالفعل إذ لا يتخلف عنها المراد ولا الإرادة الأزلية المتعلقة بوقوع المراد في وقتهِ المقدَّرِ لهُ إذ لا يقارنه الجزاء الآتي بل دنو وقتها كما في قوله تعالى أتى أَمْرُ الله أي وإذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك قرية بأن نعذب أهلها بما ذكرنا من عذاب الاستئصال الذي بينا أنه لا يصح منا قبل البعثة أو بنوع مما ذكرنا شأنه من مطلق العذاب أعني عذاب الاستئصال لما لهم من الظلم والمعاصي دنوا تقتضيه الحكمة من غير أن يكون له حد معين {أَمَرْنَا} بواسطة الرسول المبعوث إلى أهلها {مُتْرَفِيهَا} متنعميها وجباريها وملوكها خصهم بالذكر مع توجه الأمر

الإسراء 17 18 إلى الكل لأنهم الأصول في الخطاب والباقي أتباع لهم ولأن توجه الأمر إليهم آكدو عدم التعرض للمأمور به إما لظهور أن المرادَ به الحق والخير لأن الله لا يأمر بالفحشاء لا سيما بعد ذكرِ هداية القرآن لما يهدي إليه وإما لأن المراد وجد منا الأمر كما يقال فلان يعطي ويمنع {فَفَسَقُواْ فِيهَا} أي خرجُوا عن الطَّاعةِ وتمردوا {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} أي ثبت وتحقق موجبه بحلول العذاب إثر ما ظهر منهم من الفسق والطغيان {فَدَمَّرْنَاهَا} بتدمير أهلها {تَدْمِيراً} لا يُكتنه كُنهُه ولا يوصف هذا هو المناسب لما سبق وقيل الأمر مجاز عن الحمل على الفسق والتسبب له بأن صب عليهم ما أبطرهم وأفضى بهم إلى الفسوق وقيل هو بمعنى التكثير يقال أمرت الشيء فأمر أي كثرته فكثر وفي الحديث خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة أي كثيرة النتاج ويعضده قراءة آمرنا وأمرنا من الإفعال والتفعيل وقد جعلتا من الإمارة أي جعلناهم أمراء وكل ذلك لا يساعده مقام الزجر عن الضلال والحث على الاهتداء فإن مؤدى ذلك أن طغيانهم منوطاً بإرادة الله سبحانه وإنعامه عليهم بنعم وافرة أبطرتهم وحملتهم على الفسق حملا حقيقاً بأن يعبر عنه بالامر به

17

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا} أي وكثيراً ما أهلكنا {مّنَ القرون} بيانٌ لِكَم وتمييزٌ له والقَرنُ مدةٌ من الزمان يُخترَم فيها القومُ وهي عشرون أو ثلاثون أو أربعون أو ثمانون أو مائة وقد أيِّد ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام دعا لرجل فقال عِشْ قرناً فعاش مائة سنةٍ أو مائة وعشرون {مِن بَعْدِ نُوحٍ} من بعد زمنه عليه الصلاة والسلام كعادٍ وثمودَ ومَنْ بعدهم ممن قُصّت أحوالُهم في القرآن العظيم ومَنْ لم تُقَصَّ وعدمُ نظمِ قومِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في تلك القرون المهلَكة لظهور أمرِهم على أن ذِكرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ رمزٌ إلى ذكرهم {وكفى بِرَبّكَ} أي كفى ربُّك {بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا} يحيط بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها وتقديمُ الخبير لتقدم متعلَّقِه من الاعتقادات والنيات التي هي مبادئ الأعمالِ الظاهرةِ أو لعمومه حيث يتعلق بغير المُبصَرات أيضاً وفيه إشارةٌ إلى أن البعثَ والأمر وما يتلوهما من فسقهم ليس لتحصيل العلمِ بما صدرَ عنْهم منَ الذنوب فإن ذلك حاصلٌ قبل ذلك وإنما هو لقطع الأعذار وإلزامِ الحُجة من كل وجه

18

{مَن كَانَ يُرِيدُ} بأعماله التي يعملها سواءٌ كان ترتُّبُ المراد عليها بطريق الجزاءِ كأعمال البِرّ أو بطريق ترتبِ المعلولات على العلل كالأسباب أو بأعمال الآخرة فالمرادُ بالمريد على الأول الكفرةُ وأكثرُ الفسقة وعلى الثاني أهلُ الرياء والنفاق والمهاجِرُ للدنيا والمجاهدُ لمحض الغنيمة {العاجلة} فقط من غيرِ أن يريد معها الآخرة كما ينبئ عنه الاستمرارُ المستفادُ من زيادة كان ههنا مع الاقتصار على مطلق الإرادةِ في قسيمه والمرادُ بالعاجلة الدارُ الدنيا وبإرادتها إرادةُ ما فيها من فنُون مطالبِها كقوله تعالى وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا ويجوز أن يراد الحياة العاجلة كقوله عز وجل من كان يريد الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا لكن الأولَ أنسبُ بقوله {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا} أيْ في تلك العاجلة فإن

الإسراء 19 20 الحياةَ واستمرارها من جملة ما عُجِّل له فالأنسبُ بذلك كلمةُ مَن كما في قوله تعالى ومن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا {مَا نَشَاء} أي ما نشاء تعجيلَه له من نعيمها لا كلَّ ما يريد {لِمَن نُّرِيدُ} تعجيلَ ما نشاء له وهو بدلٌ من الضمير في له بإعادة الجارِّ بدلَ البعض فإنه راجعٌ إلى الموصول المنبئ عن الكثرة وقرئ لمن يشاء على أن الضميرَ لله سبحانه وقيل هو لِمَن فيكون مخصوصاً بمن أراد به ذلك وهو واحدٌ من الدهماء وتقييدُ المعجَّل والمعجَّل له بما ذُكر من المشيئة والإرادة لما أن الحِكمةَ التي عليَها يدورُ فلكُ التكوني لا تقتضي وصولَ كلِّ طالبٍ إلى مرامه ولا استيفاءَ كلِّ واصل لما يطلُبه بتمامه وأما ما يتراءى مِنْ قوله تعالى مَن كَانَ يريد الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ من نيل كلِّ مؤمِّلٍ لجميع آماله ووصولِ كلِّ عاملٍ إلى نتيجة أعمالِه فقد أُشير إلى تحقيق القولِ فيه في سورة هود بفضل الله تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ} مكان ما عجلنا له {جَهَنَّمَ} وما فيها من أصناف العذاب {يصلاها} يدخُلها وهو حالٌ منَ الضميرِ المجرورِ أو من جهنم أو استئنافٌ {مَذْمُومًا مَّدْحُورًا} مطروداً من رحمة الله تعالى وقيل الآية في المنافقين كانوا يراءون المسلمين ويغزون معهم ولم يكن غرضُهم إلا مساهمتَهم في الغنائم ونحوِها ويأباه ما يقال إن السورةَ مكيةٌ سوى آياتٍ معينة

19

{وَمَنْ أَرَادَ} بأعماله {الأخرة} الدارَ الآخرةَ وما فيها من النعيمِ المقيم {وسعى لَهَا سَعْيَهَا} أي السعْيَ اللائقَ بها وهو الإتيانُ بما أُمر والانتهاءُ عما نُهيَ لا التقرّبُ بما يخترعون بآرائهم وفائدةُ اللام اعتبارُ النيةِ والإخلاص {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} إيماناً صحيحاً لا يخالطه شيءٌ قادحٌ فيه وإيرادُ الإيمانِ بالجملة الحالية للدِلالة على اشتراط مقارنتِه لما ذُكر في حيِّز الصلة {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصولِ بعنوان اتصافِه بما في حيز الصلة وما في ذلك من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبُعد منزلتِهم والجمعيةُ لمراعاة جانب المعنى إيماءً إلى أن الإثابة المفهومةَ من الخبر تقع على وجه الاجتماعِ أي أولئك الجامعون لما مر من الخصال الحميدةِ أعني إرادةَ الآخرةِ والسعيَ الجميلَ لها والإيمانَ {كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} مقبولاً عند الله تعالى أحسنَ القَبول مُثاباً عليه وفي تعليق المشكوريّةِ بالسعْي دون قرينَيْهِ إشعارٌ بأنه العمدةُ فيها

20

{كلا} التنوين عوضٌ عن المضافِ إليهِ أي كلَّ واحدٍ من الفريقين لا الفريقِ الأخير المريد للخير الحقيقِ بالإسعاف فقط {نُّمِدُّ} أي نزيد مرة بعد مرة بحيث يكون الآنِفُ مدداً للسالف وما به الإمدادُ ما عُجّل لأحدهما من العطايا العاجلة وما أعد للآخر من العطايا الآجلةِ المشارِ إليها بمشكورية السعي وإنما لم يصرحْ به تعويلاً على ما سبقَ تصريحاً وتلويحاً واتكالاً على ما لحِق عبارةً وإشارة كما ستقف عليه وقوله تعالى {هَؤُلاء} بدل من كلاًّ {وَهَؤُلاء} عطف عليه أي نُمد هؤلاء المعجَّلَ لهم وهؤلاءِ المشكورَ سعيُهم فإن الإشارةَ متعرّضةٌ لذات المشار إليه بماله من العنوان لا للذات فقط كالإضمار ففيه تذكيرٌ لما به الإمدادُ وتعيينٌ المضاف إليه المحذوفِ دفعاً لتوهّم كونِه أفرادَ الفريقِ الأخير وتأكيدٌ للقصر المستفادِ من تقديم

الإسراء 21 22 المفعول وقوله تعالى {مِنْ عَطَاء رَبّكَ} أي من معطاه الواسعِ الذي لا تناهيَ له متعلقٌ بنُمد ومغْنٍ عن ذكر ما به الإمدادُ ومنبِّهٌ على أن الإمدادَ المذكورَ ليس بطريق الاستيجابِ بالسعي والعمل بل بمحض التفضل {وَمَا كَانَ عَطَاء رَبّكَ} أي دنيوياً كان أو أخروياً وإنما أُظهر إظهاراً لمزيد الاعتناءِ بشأنه وإشعاراً بعلّيته للحكم {مَحْظُورًا} ممنوعاً ممن يريده بل هو فائضٌ على مَن قُدّر له بموجب المشيئة المبينة على الحكمة وإن وُجد منه ما يقتضي الحظرَ كالكافر وهو في معنى التعليل لشمول الأمدادِ للفريقين والتَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ في الموضعين للإشعار بمبدئيتها لما ذُكر من الإمداد وعدم الحظر

21

{انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} كيف في محل النصبِ بفضّلنا على الحالية والمرادُ توضيحُ ما مر من الإمداد وعدمِ محظوريةِ العطاء بالتنبيه على استحضار مراتبِ أحد العطاءين والاستدلالِ بها على مراتب الآخر أي انظر بنظر الاعتبار كيف فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ فيما أمددناهم به من العطايا العاجلة فمِنْ وضيع ورفيع وظالع وضليع ومالكٍ ومملوكٍ ومُوسرٍ وصُعلوكٍ تعرِفْ بذلك مراتبَ العطايا الآجلةِ ودرجاتِ تفاضل أهلِها على طريقة الاستشهاد بحال الأدنى على حال الأعلى كما أفصح عنه قولُه تعالى {وَلَلأَخِرَةُ أَكْبَرُ} أي هي وما فيها أكبر من قدرُها ولا يُكتنه كُنهُها كيف لا وقد عُبّر عنه بما لا عينٌ رأتْ ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر هذا ويجوز أن يُراد بما به الإمدادُ العطايا العاجلةُ فقط ويُحمل القصرُ المذكورُ على دفع توهم اختصاصِها بالفريق الأول فإن تخصيصَ إرادتهم لها ووصولهم إلهيا بالذكر من غيرِ تعرضٍ لبيانِ النسبةِ بينها وبين الفريق الثاني إرادةً ووصولاً مما توهم اختصاصَها بالأولين فالمعنى كلُّ واحد من الفريقين نُمِد بالعطايا العاجلة لا مَنْ ذكرنا إرادتَه لها فقط من الفريق الأول من عطاء ربك الواسعِ وما كان عطاؤُه الدنيويُّ محظوراً من أحد ممن يريده وممن يريد غيره انظر كيف فضلنا في ذلك العطاءِ بعضَ كلَ من الفريقين على بعض آخرَ منهما وللآخِرةُ الآية واعتبارُ عدم المحظورية بالنسبة إلى الفريق الأولِ تحقيقاً لشمول الإمدادِ له كما فعله الجمهور حيث قالوا لا يمنعه مِن عاصٍ لعصيانه يقتضي كونَ القصر لدفع توهم اختصاصِ الإمداد الدنيويِّ بالفريق الثاني مع أنه لم يسبِقْ في الكلام ما يوهم ثبوتَه له فضلاً عن إيهام اختصاصِه

22

{لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخر} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمرادُ به أمتُه وهو منْ بابِ التَّهييج والإلهابِ أو كلِّ أحدٍ ممن يصلحُ للخطابِ {فَتَقْعُدَ} بالنصب جواباً للنهي والقعودُ بمعنى الصيرورة من قولهم شحذ الشفرةَ حتى قعَدتْ كأنها خَرِبة أو بمعنى العجز مِن قعد عنه أي عجز عنه {مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} خبران أو حالان أي جامعاً على نفسك الذمَّ من الملائكة والمؤمنين والخِذلانَ من الله تعالى وفيه إشعارٌ بأن الموحِّدَ جامعٌ بين المدح والنصرة

الإسراء

23

23 - 24 {وقضى رَبُّكَ} أي أمر أمرا مبرما وقرئ وأوصى ربُّك ووصّى ربك {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ} أي بأنْ لاَّ تَعْبُدُواْ {إِلاَّ إِيَّاهُ} على أنَّ أنْ مصدريةٌ ولا نافيةٌ أو أي لا تعبدُوا على أنَّها مفسرةٌ ولا ناهيةٌ لأن العبادة غايةُ التعظيمِ فلا تحِقُّ إلا لمن له غايةُ العظمة ونهايةُ الإنعام وهو كالتفصيل للسعي للآخرة {وبالوالدين} أي وبأن تُحسِنوا بهما أو وأحسنوا بهما {إحسانا} لأنهما السببُ الظاهرُ للوجود والتعيش {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} إما مركبةٌ من إنِ الشرطيةِ وما المزيدةِ لتأكيدها ولذلك دخل الفعلَ نونُ التأكيد ومعنى عندك في كنفك وكفالتك وتقديمُه على المفعول مع أن حقه التأخرُ عنه للتشويق إلى وروده فإنه مدار تضاعف الرعاية والإحسان وأحدُهما فاعل للفعل وتأخيره عن الظرف والمفعولِ لئلا يطولَ الكلامُ به وبما عطف عليه وقرئ يبلغان فأحدُهما بدلٌ من ضمير التثنية وكلاهما عطفٌ عليه ولا سبيل إلى جعل كلاهما تأكيداً للضمير وتوحيدُ ضمير الخطاب في عندك وفيما بعده مع أن ما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المرادِ فإن المقصودَ نهيُ كلِّ أحد عن تأفيف والديه ونهْرِهما ولو قوبل الجمعُ بالجمع أو بالتثنية لم يحصل هذا المرام {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا} أي لواحد منهما حالتي الانفراد والاجتماع {أُفّ} وهو صوتٌ ينبئ عن تضجر أو اسمُ فعل هو أتضجر وقرئ بالكسر بلا تنوين وبالفتح والضم منوناً وغيرَ مُنوّن أي لا تتضجر بها تستقذرُ منهما وتستثقل من مُؤَنهما وبهذا النهي يُفهم الهي عن سائر ما يؤذيهما بدلالة النصِّ وقد خُص بالذكر بعضه إظهار اللاعتناء بشأنه فقيل {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} أي لا تزجُرهما عما لا يعجبك بإغلاظ قيل النهيُ والنهرُ والنهْمُ أخواتٌ {وَقُل لَّهُمَا} بدلَ التأفيف والنهر {قولا كريما} ذات كرمِ أو هو وصفٌ له بوصف صاحبِه أي قولاً صادراً عن كرم ولطفٍ وهو القولُ الجميلُ الذي يقتضيه حسنُ الأدب ويستدعيه النزولُ على المروءة مثلُ أن يقول يا أباه ويا أماه كدأب إبراهيمَ عليه السلام إذ قال لأبيه يا أبتِ مع ما به من الكفر ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوءِ الأدب وديدنُ الدُعّار وسئل الفضيلُ بنُ عياض عن بر الوالدين فقال أن لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل وقيل أن لا ترفعَ صوتَك عليهما ولا تنظُرَ إليهما شزْراً ولا يَرَيا منك مخالفةً في ظاهر ولا باطن وأن تترحّم عليهما ما عاشا وتدعوَ لهما إذا ماتا وتقومَ بخدمة أوِدّائِهما من بعدهما فعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إنَّ مِنْ أَبَرِّ البِرِّ أنْ يصلَ الرجلُ أهلَ ودِّ أبيه

24

{واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل} عبارةٌ عن الإنة الجانبِ والتواضعِ والتذلل لهما فإن إعزازَهما لا يكون إلا بذلك فكأنه قيل واخفض لهما جناحك الذليل أو جُعل لذله جَناحٌ كما جَعل لبيدٌ في قوله [وغداةِ ريحٍ قد كشفت وقرة إذا أصبَحَتْ بيد الشَّمال زِمامُها] للقَرة زماماً وللشمال يداً تشبيهاً له بطائر يخفض جناحَه لأفراخه تربيةً لها وشفقةً عليها وأما جعلُ خفض الجناحِ عبارةً عن ترك الطيران كما فعله القفال فلا يناسب

الإسراء 25 26 المقام {مِنَ الرحمة} من فرْط رحمتِك وعطفِك عليهما ورقتك لهما لافتقارهما اليوم إلى مَنْ كان أفقرَ خلق الله تعالى إليهما ولا تكتفِ برحمتك الفانية بل ادعُ الله لهما برحمته الواسعة الباقية {وَقُل رَّبّ ارحمهما} برحمتك الدنيوية والأخرويةِ التي من جملتها الهدايةُ إلى الإسلام فلا ينافي ذلك كفرَهما {كَمَا رَبَّيَانِى} الكاف في محل النصب على نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي رحمةً مثلَ تربيتهما لي أو مثلَ رحمتهما لي على أن التربيةَ رحمةٌ ويجوز أن يكون لهما الرحمةُ والتربية معاً وقد ذُكر أحدُهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر كما يلوحُ به التعرضُ لعنوان الربوبيةِ في مطلع الدعاء كأنه قيل رب ارحمهما وربِّهما كما رحِماني وربّياني {صَغِيرًا} ويجوز أن تكون الكافُ للتعليل أي لأجل تربتهما لي كقوله تعالى واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ ولقد بالغ عز وجل في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفَع الإحسانَ إليهما بتوحيده سبحانه ونظمها في سلك القضاءِ بهما معاً ثم ضيّق الأمرَ في باب مراعاتهما حتى لم يرخِّصْ في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع ماله من موجبات الضجر مالا يكاد يدخل تحت الحصر وختمَها بأن جعل رحمتَه التي وسعت كل شيء مُشْبَهةٌ بتربيتهما وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم رِضى الله في رضى الوالدين وسخطُه في سخطهما وروي يفعل البارُّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخُل النارَ ويفعل العاقُّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخُل الجنة وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبوَيَّ بلغا من الكِبَر أنى أَلي منهما ما وَلِيا مني في الصغر فهل قضيتُهما حقهما قال لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يُحبّان بقاءَك وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما وري أن شيخاً أتى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فقال إن ابني هذا له مالٌ كثير وإنه لا ينفق عليَّ من ماله فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ وقال إن هذا الشيخَ قد أنشأ في أنبه أبياتاً ما قُرع سمعٌ بمثلها فاستنشهدها فأنشدها الشيخ فقال غذوتك مولدا ومُنْتُك يافعا تَعُلُّ بما أَجني عليك وتنهل ... إذا ليلة ضاقتك بالسُّقم لم أبِت لسُقمك إلا باكياً أتململ ... كأني أنا المطروقُ دونك بالذي طُرِقَتْ به دوني وعينَي تهمُل ... فلما بلغتَ السنَّ والغايةَ التي إليها مدى ما كنتُ فيك أؤمل ... جعلتَ جزائي غِلظةً وفظاظة كأنك أنت المنعمُ المتفضّل ... فليتك إذْ لم ترْعَ حقَّ أُبوتي فعلتَ كما الجارُ المجاورُ يفعل فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أنتَ ومالُكَ لأبيك

25

{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ} من البر والعقوق {إِن تَكُونُواْ صالحين} قاصدين للصلاح والبِرِّ دون العقوقِ والفساد {فَإِنَّهُ} تعالى {كَانَ لِلاْوَّابِينَ} أي الرجّاعين إليه تعالى عما فرَط منهم مما لا يكادُ يخلُو عنه البشر {غَفُوراً} لما وقع منهم من نوعِ تقصير أو أذيةٍ فعليةٍ أو قولية وفيه مالا يخفى من التشديد في الأمر بمراعاة حقوقِهما ويجوز أن يكون عاماً لكل تائبٍ ويدخُل فيه الجاني على أبويه دخولاً أولياً

26

{وآت ذَا القربى} أي ذا القرابةِ {حَقَّهُ} توصيةٌ بالأقارب إثرَ التوصية ببرّ الوالدين ولعل المرادَ بهم المحارمُ وبحقهم النفقة كما ينبئ عنه قوله تعالى {والمسكين وابن السبيل} فإن المأمورَ به في حقهما المواساةُ الماليةُ لا محالة أي وآتِهما حقَّهما مما كان مفترَضاً بمكةَ بمنزلة الزكاة وكذا النهيُ عن التبذير وعن الإفراط في القبض

الإسراء 27 29 والبسْطِ فإن الكلَّ من التصرفات المالية {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا} نهيٌ عن صرف المال إلى من سواهم ممن لا يستحقه فإن التبذيرَ تفريقٌ في غير موضعه مأخوذٌ من تفريق حباتٍ وإلقائِها كيفما كان من غير تعهّدٍ لمواقعه لا عن الإكثار في صرفه إليهم وإلا لناسبه الإسرافُ الذي هو تجاوزُ الحدِّ في صرفه وقد نهى عنه بقوله تعالى وَلاَ تَبْسُطْهَا وكلاهما مذموم

27

{إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين} تعليلٌ للنهي عن التبذير ببيان أنه يجعل صاحبَه ملزوزاً في قَرن الشياطين والمرادُ بالأخوة المماثلةُ التامة في كل مالا خيرَ فيه من صفات السوءِ التي من جملتها التبذيرُ أي كانوا بما فعلوا من التبذير أمثالَ الشياطين أو الصداقةُ والملازمةُ أي كانوا أصدقاءَهم وأتباعَهم فيما ذُكر من التبذير والصرْفِ في المعاصي فإنهم كانوا ينحَرون الإبلَ ويتياسرون عليها ويبذّرون أموالَهم في السمعة وسائر مالا خير فيه من المباهي والملاهي أو المقارنةُ أي قرناءَهم في النار على سبيل الوعيد {وَكَانَ الشيطان لِرَبّهِ كَفُورًا} من تتمة التعليل أي مبالِغاً في كفران نعمتِه تعالى لأن شأنه أن يصرِفَ جميع ما أعطاهُ الله تعالى منَ القُوى والقدر إلى غير ما خُلقت هي له من أنواع المعاصي والإفسادِ في الأرض وإضلالِ الناس وحملِهم على الكفر بالله وكفرانِ نِعَمه الفائضةِ عليهم وصرفِها إلى غير ما أمر الله تعالى به وتخصيصُ هذا الوصفِ بالذكرِ من بين سائرِ أوصافِه القبيحة للإيذان بأن التبذيرَ الذي هو عبارةٌ عن صرف نِعَم الله تعالى إلى غير مصْرِفها من باب الكفرانِ المقابلِ للشكر الذي هو عبارةٌ عن صرفها إلى ما خُلِقت هي له والتعرضُ لوصف الربوبيةِ للإشعار بكمال عُتوِّه فإن كفرانَ نعمةِ الربِّ مع كون الربوبية من قوى الدواعي إلى شكرها غايةُ الكُفران ونهايةُ الضلال والطغيان

28

{وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ} أي إن اعتراك أمرٌ اضطَرَّك إلى أن تُعرِض عن أولئك المستحقين {ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ} أي لفقد رزقٍ من ربك إقامةٌ للمسبّب مُقام السبب فإن الفقدَ سببٌ للابتغاء {تَرْجُوهَا} من الله تعالى لتُعطيَهم وكان صلى الله عليه وسلم إذا سُئل شيئاً وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياءً فأُمر بتعهّدهم بالقول الجميل لئلا تعتريَهم الوحشة بسكوته صلى الله عليه وسلم فقيل {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا} سهلاً ليّناً وعِدْهم وعداً جميلاً من يسُر الأمرُ نحوُ سعِد أو قل لهم رزَقنا الله وإياكم من فضله على أنه دعاءٌ لهم ييّسر عليهم فقرَهم

29

{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} تمثيلان لمنع الشحيحِ وإسرافِ المبذِّرِ زجراً لهما عنهما وحملاً على ما بينهما من الاقتصاد [كلا طرفي قصد الأمور ذميمُ] وحيث كان قبحُ الشحِّ مقارِناً له معلوماً من أول الأمر رُوعيَ ذلك في التصوير بأقبح الصور ولمّا كان غائلةُ الإسراف في آخره بُيِّن قبحُه في أثره فقيل {فَتَقْعُدَ مَلُومًا} أي فتصيرَ ملوما عند الله وعند الناسِ وعند نفسك إذا احتجتَ وندِمْت على ما فعلت {مَّحْسُوراً} نادماً أو منقطعاً بك لا شيءَ عندك من حسَره السفرُ إذا بلغ منه وما قيل من أنَّه

الإسراء 30 32 رُويَ عنْ جابرٌ رضيَ الله عْنهُ أنه قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ إذ أتاه صبيٌّ فقال إن أمي تستكْسيك درعا فقال صلى الله عليه وسلم من ساعة إلى ساعة فَعُد إلينا فذهب إلى أمه فقالت له قل إن أمي تستكسيك الدرعَ الذي عليك فدخل صلى الله عليه وسلم داره ونزَع قميصه وأعطاه وقعد عُرْياناً وأذّن بلالٌ وانتظروا فلم يخرُجْ للصلاة فنزلت فيأباه أن السورة مكيةٌ خلا آياتٍ في آخرها كذا ما قيل إنه صلى الله عليه وسلم أعطى الأقرعَ بنَ حابس مائة من الإبل وكذا عيينةَ بنَ حصنٍ الفزاريَّ فجاء عباس بن مرداس فأنشأ يقول أتجعل نهي ونهبَ العُبَي د بَيْنَ عُيَيْنَةَ والأَقْرَعِ ... وما كان حِصْنٌ ولا حابس يفوقان مِرداسَ في مجمع ... وما كنت دون امرئ منهما ومَنْ تَضَعِ اليومَ لا يرفع فقال صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر اقطعْ لسانه عنّي أعطه مائةً من الإبل وكانوا جميعاً من المؤلفة القلوب فنزلت

30

{إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} تعليلٌ لما مر أي يوسّعه على بعض ويضيِّقه على آخرين حسبما تتعلق به مشيئتُه التابعةُ للحِكمة فليس ما يَرْهقُك من الإضافة التي تحوِجُك إلى الإعراض عن السائلين أو نفاذ ما في يدك إذا بسطتَها كلَّ البسْطِ إلا لمصلحتك {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} تعليلٌ لما سبق أي يعلم سرَّهم وعلَنَهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم ويجوز أن يراد أن البسطَ والقبضَ من أمر الله العالم بالسرائر والظواهرِ الذي بيده خزائنُ السمواتِ والأرض وأما العبادُ فعليهم أن يقتصدوا وأن يراد أنه تعالى يبسُط تارةً ويقبِضُ أخرى فاستنّوا بسنته فلا تقبِضوا كلَّ القبض ولا تبسُطوا كل البسط وأن يراد أنه تعالى يبسُط ويقدِر حسب مشيئتِه فلا تبسُطوا على من قُدِر عليه رزقُه وأن يكون تميهدا لقوله

31

{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق} أي مخافةَ فقر وقرئ بكسر الخاء كانوا يئِدون بناتِهم مخافةَ الفقر فنُهوا عن ذلك {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} لا أنتم فلا تخافوا الفاقةَ بناء على علمكم بعجزكم عن تحصيل رزقِهم وهو ضمانٌ لرزقهم وتعليلٌ للنهي المذكور بإبطال موجِبه في زعمهم وتقديمُ ضميرِ الأولاد على المخاطَبين على عكس ما وقع في سورة الأنعام للإشعار بأصالتهم في إفاضة الرزقِ أو لأن الباعثَ على القتل هناك الإملاقُ الناجزُ ولذلك قيل من إملاق وههنا الإملاقُ المتوقع ولذلك قيل خشيةَ إملاقٍ فكأنه قيل نرزقُهم من غيرِ أنْ ينتقص من رزقكم شيءٌ فيعتريكم ما تخشَوْنه وإياكم أيضاً رزقاً إلى رزقكم {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطأ كَبِيراً} تعليلٌ آخرُ ببيان أنَّ المنهيَّ عنه في نفسه منكرٌ عظيم والخِطْءُ الذنب والإثم يقال خطء خطأ كإثم إثما وقرئ بالفتح والسكون وبفتحتين بمعناه كالحِذْر والحذَر وقيل بمعنى ضد الصواب وبكسر الخاء والمد وبفتحها ممدوداً وبفتحها وحذف الهمزة وبكسرها كذلك

32

{ولا تقربوا الزنى} بمباشرة مباديه القريبةِ أو البعيدة فضلاً عن مباشرته وإنما نهى عن قُربانه على خلاف ما سبق ولحِق من القتل للمبالغةِ في النَّهيِ عن نفسه ولأن قربانه داعٍ إلى مباشرته وتوسيط النهي

الإسراء 33 34 عنه بين النهي عن قتل الأولادِ والنهي عن قتل النفسِ المحرمة على الإطلاق باعتبار أنه قتلٌ للأولاد لِما أنه تضييعٌ للأنساب فإن من لم يثبُتْ نسبُه ميِّتٌ حكماً {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} فَعلةً ظاهرةَ القبح متجاوزةً عن الحد {وَسَاء سَبِيلاً} أي بئس طريقا طريقه فإنه غصْبُ الأبضاعِ المؤدّي إلى اختلال أمر الأنسابِ وهيَجانِ الفتن كيفَ لا وقَدْ قالَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إذا زنى العبدُ خرجَ منه الإيمانُ فكانَ على رأسه كالظُّلّةِ فإذا انقطع رجع إليه وقال صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن وعن حذيفة رضيَ الله عنه أنَّه قال صلى الله عليه وسلم إياكم والزنا فإن فيه ستَّ خصال ثلاثٌ في الدنيا وثلاثٌ في الآخرة فأما التي في الدنيا فذهابُ البهاء ودوامُ الفقر وقِصَرُ العمر وأما التي في الآخرة فسخطُ الله تعالى وسوءُ الحساب والخلودُ في النار

33

{ولا تقتلوا النفس التى حَرَّمَ الله} قتْلَها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد {إِلاَّ بالحق} إلا بإحدى ثلاث كفرٍ بعد إيمان وزِناً بعد إحصان وقتلِ نفس معصومة عمدا فالاستنثاء مفرَّغٌ أي لا تقتلوها بسببٍ من الأسبابِ إلا بسبب الحقِّ أو ملتبسين أو ملتبسةً بشيءٍ من الأشياءِ ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوفٍ أي لا تقتُلوها قتلاً ما إلا قتلاً ملتبسا بالحق {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا} بغير حق يوجب قتله أو يُبيحه للقاتل حتى إنه لا يُعتبر إباحتُه لغير القاتل فإن من عليه القصاصُ إذا قتله غيرُ من له القِصاصُ يُقتصّ له ولا يفيده قولُ الوليِّ أنا أمرتُه بذلك ما لم يكن الأمرُ ظاهراً {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ} لمن يلي أمرَه من الوارث أو السلطانِ عند عدم الوارث {سلطانا} تسلّطاً واستيلاءً على القاتل يؤاخذه بالقصاص أو بالدية حسبما تقتضيه جنايتُه أو حجةً غالبة {فَلاَ يُسْرِف} وقرئ لا نسرف {فى القتل} أي لا يُسرف الوليُّ في أمر القتل بأن يتجاوز الحدَّ المشروعَ بأن يزيد عليه المُثْلة أو بأن يقتُل غيرَ القاتل من أقاربه أو بأن يقتلَ الاثنين مكانَ الواحد كما يفعله أهلُ الجاهلية أو بأن يقتل القاتلَ في مادة الدية وقرئ بصيغة النفي مبالغةً في إفادة معنى النهي {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} تعليلٌ للنهي والضميرُ للولي على معنى أنه تعالى نصره بأن أوجب له القِصاصَ أو الديةَ وأمَر الحكامَ بمعونته في استيفاء حقِّه فلا يبغ ما وراء حقِّه ولا يستزِدْ عليه ولا يخرُجْ من دائرة أمرِ الناصر أو للمقتول ظلماً على معنى أنه تعالى نصره بما ذُكر فلا يسرف وليُّه في شأنه أو للذي يقتله الوليُّ ظلماً وإسرافاً ووجهُ التعليل ظاهرٌ وعن مجاهد أن الضميرَ في لا يسرفْ للقاتل الأول ويعضده قراءةُ فلا تسرفوا والضميران في التعليل عائدان إلى الولي أو المقتول فالمرادُ بالإسراف حينئذ إسرافُ القاتل على نفسه بتعريضه لها للهلاك العاجل والآجلِ لا الإسرافُ وتجاوزُ الحد في القتل أي لا يسرف على نفسه في شأن القتلِ كما في قوله تعالى {قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ}

34

{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} نهيٌ عن قربانه لما ذكر من المبالغة في النَّهيِ

الإسراء 35 36 عن التعرض له ومن إفضاء ذلك إليه وللتوسل إلى الاستثناء بقوله تعالى {إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ} أي إلا بالخَصلة والطريقة التي هي أحسنُ الخِصال والطرائق وهي حفظُه واستثماره {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} غايةٌ لجواز التصرفِ على الوجه الأحسن المدلولِ عليه بالاستثناء لا للوجهة المذكور فقط {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} سواءٌ جرى بينكم وبين ربِّكم أو بينكم وبين غيرِكم من الناس والإيفاءُ بالعهد والوفاءُ به هو القيامُ بمقتضاه والمحافظةُ عليه ولا يكاد يُستعمل إلا بالباء فرقاً بينه وبين الإيفاء الحسيِّ كإيفاء الكيل والوزن {إِنَّ العهد} أُظهر في مقام الإضمارِ إظهاراً لكمال العناية بشأنه أو لأن المرادَ مطلقُ العهد المنتظمِ للعهد المعهود {كَانَ مَسْؤُولاً} أي مسئولا عنه على حذف الجارِّ وجعْلِ الضمير بعد انقلابه مرفوعاً مستكناً في اسم المفعولِ كقوله تعالى {وذلك يوم مشهود} أي مشهود فيه ونظيرُه ما في قوله تعالى تلك آيات الكتاب الحكيم على أن أصلَه الحكيمُ قائلُه فحذُف المضافُ وجُعل الضمير مستكناً في الحكيم بعد انقلابه مرفوعاً ويجوز أن يكون تخييلاً كأنه يقال للعهد لم نكثتَ وهلاّ وفَّى بك تبكيتاً للناكث كما يقال للموءودة بأي ذنبٍ قُتلت

35

{وَأَوْفُوا الكيل} أي أتمُّوه وَلاَ تُخسِروه {إِذا كِلْتُمْ} أي وقت كيلِكم للمشترين وتقييدُ الأمر بذلك لما أن التطفيفَ هناك يكون وأما وقت الاكتيالِ على الناس فلا حاجة إلى الأمر بالتعديل قال تعالى إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ الآية {وَزِنُواْ بالقسطاس} وهو القرسطون وقيل كلُّ ميزان صغيراً كان أو كبيراً روميٌّ معرّب ولا يقدَح ذلك في عربية القرآن لانتظام المعرَّبات في سلك الكلم العربية وقرئ بضم القاف {المستقيم} أي العدْلِ السويّ ولعل الاكتفاءَ باستقامته عن الأمر بإيفاء الوزن لما أن عند استقامتِه لا يتصور الجَوْرُ غالباً بخلاف الكيل فإنه كثيراً ما يقع التطفيفُ مع استقامة الآلة كما أن الاكتفاءَ بإيفاء الكيل عن الأمر بتعديله لما أن إيفاءَه لا يُتصوَّر بدون تعديل المكيالِ وقد أُمر بتقويمه أيضاً في قوله تعالى وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط {ذلك} أي إيفاءُ الكيلِ والوزن بالميزان السوي {خَيْرٌ} في الدنيا إذ هو أمانةٌ توجب الرغبةَ في معاملته والذكرَ الجميلَ بين الناس {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} عاقبةً تفعيلٌ من آل إذا رجع والمرادُ ما يئول إليه

36

{وَلاَ تَقْفُ} ولا تتبعْ من قفا أثرَه إذا تبعه وقرئ ولا تقُفْ من قاف أثرَه أي قفاه ومنه القافةُ في جمع القائف {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي لا تكُن في اتباع مالا علمَ لك به من قولٍ أو فعل كمن يتّبعُ مسلكاً لا يدري أنه يوصله إلى مقصِده واحتج به من منع اتباعَ الظنِّ وجوابُه أن المرادَ بالعلم هو الاعتقادُ الراجحُ المستفادُ من سند قطعياً كان أو ظنيًّا واستعمالُه بهذا المعنى مما لا يُنكَر شيوعُه وقيل إنه مخصوصٌ بالعقائد وقيل بالرمي وشهادةِ الزورِ ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم مَنْ قفا مؤمناً بما ليس فيه حبَسه الله تعالى في رَدْغة الخَبال حتى يأتيَ بالمخرج ومنه قول الكميت ... ولا أرمي البرئ بغير ذنب ... ولا أقفوا الحواصِنَ إن رُمينا ... {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد} وقرئ بفتح الفاءِ والواو المقلوبةِ من الهمزة عند ضم الفاء {كل أولئك}

الإسراء 37 38 أي كلَّ واحدٍ من تلك الأعضاءِ فأُجريت مُجرى العقلاء لما كان مسئولة عن أحوالها شاهدةً على أصحابها هذا وإن أولاء وإن غلب في العقلاء لكنه من حيث إنه اسم جمع لذا الذي يعُمّ القَبيلين جاء لغيرهم أيضاً قال ... ذُمَّ المَنازِلَ بعد مَنزِلَة اللِّوى ... والعيشَ بعدَ أولئِكَ الأيامِ ... {كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} أي كان كلٌّ من تلك الأعضاء مسئولا عن نفسه على أن اسمَ كان ضميرٌ يرجِعُ إلى كلُّ وكذا الضميرُ المجرورُ وقد جُوّز أن يكون الاسمُ ضميرَ القافي بطريق الالتفات إذ الظاهرُ أن يقال كنتَ عنه مسئولا وقيل الجارُّ والمجرور في محل الرفع قد أُسند إليه مسئولا معللاً بأن الجارَّ والمجرور لا يلتبس بالمبتدأ وهو السببُ في منع تقديمِ الفاعلِ وما يقوم مقامَه ولكن النحاسَ حكى الإجماعَ على عدم جواز تقديمِ القائم مقامَ الفاعل إذا كان جاراً ومجروراً ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ باب الحذف على شريطة التفسير ويحذف الجارّ من المفسر ويعود الضميرُ مستكناً كما ذكرنا في قوله تعالى يَوْمَ مَّشْهُودٌ وجُوّز أن يكون مسئولا مسنداً إلى المصدر المدلولِ عليه بالفعل وأن يكون فاعلُه المصدرَ وهو السؤالُ وعنه في محل النصب وسأل ابن جني أبا علي عن قولهم فيك يُرغب وقال لا يرتفع بما بعده فأين المرفوع فقال المصدرُ أي فيك يُرغب الرغبةُ بمعنى تُفعل الرغبة كما في قولهم يُعطِي ويمنعُ أيْ يفعلُ الإعطاء والمنع وجُوز أنْ يكونَ اسمُ كانَ أو فاعله ضميرَ كلُّ بحذف المضافِ أي كان صاحبه عنه مسئولا أو مسئولا صاحبُه

37

{وَلاَ تَمْشِ فِى الارض} التقييدُ لزيادة التقريرِ والإشعارِ بأن المشيَ عليها مما لا يليق بالمرح {مَرَحاً} تكبراً وبطراً واختيالاً وهو مصدرٌ وقعَ موقِعَ الحالِ أي ذا مرحٍ أو تمرحُ مَرَحاً أو لأجلِ المرح وقرئ بالكسر {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض} تعليلٌ للنهي وفيه تهكّم بالمختال وإيذانٌ بأن ذلك مفاخرةٌ مع الأرض وتكبرٌ عليها أي لن تخرِقَ الأرض بدَوْسك وشدة وطأتك وقرئ بضم الراء {وَلَن تَبْلُغَ الجبال} التي هي بعضُ أجزاء الأرض {طُولاً} حتى يمكن لك أن تنكير عليها إذ التكبرُ إنما يكون بكثرة القوة وعِظَم الجنة وكلاهما مفقودٌ وفيه تعريضٌ بما عليه المختالُ من رفع رأسه ومشيِه على صدور قدميه

38

{كُلُّ ذلك} إشارةٌ إلى ما علم في تضاعيف ذكر الأوامرِ والنواهي من الخِصال الخمس والعشرين {كَانَ سَيّئُهُ} الذي نُهي عنه وهي اثنتا عشرة خَصلة {عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا} مبغَضاً غيرَ مَرْضيّ أو غيرَ مراد بالإرادة الأولية لا غيرَ مرادٍ مطلقاً لقيام الأدلةِ القاطعة على أن جميع الأشياء واقعةٌ بإرادته سبحانه وهو تتمةٌ لتعليل الأمور المنهيّ عنها جميعاً ووصفُ ذلك بمطلق الكراهة مع أن البعضَ من الكبائر للإيذان بأن مجردَ الكراهة عنده تعالى كافيةٌ في وجوب الانتهاءِ عن ذلك وتوجيهُ الإشارةِ إلى الكل ثم تعيينُ البعض دون توجيهها إليه ابتداءً لما أن البعض المذكورَ ليس بمذكور جملةً بل على وجه الاختلاطِ وفيه إشعارٌ بكون ما عداه مرضياً عنده تعالى وإنَّما لم يصرَّحْ بذلك إيذاناً بالغنى عنه وقيل الإضافةُ بيانيةٌ كما في آية الليل وآية النهار وقرئ سيئةً على أنه خبرُ كان وَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما نهي عنه من الأمور المذكورة

الإسراء 39 40 وكروها بدلٌ من سيئةً أو صفةٌ لها محمولةٌ على المعنى فإنه بمعنى سيئاً وقد قرئ به أو مُجرى على موصوفٍ مذكرٍ أي أمراً مكروهاً أو مُجرى مَجرى الأسماءِ زال عنه معنى الوصفية ويجوزُ كونُه حالاً من المستكنِّ في كان أو في الظرف على أنه صفة سيئة وقرئ سيئاته وقرئ شأنُه

39

{ذلك} أي الذي تقدم من التكاليف المفصلة {مِمَّا أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ} أي بعضٌ منه أو من جنسه {مِنَ الحكمة} التي هي علمُ الشرائعِ أو معرفةُ الحق لذاته والعملُ به أو من الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخُ والفساد وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآياتِ الثمانيَ عشرةَ كانت في ألواحُ مُوسى عليهِ السَّلامُ أولها لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخر قال تعالى وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الالواح مِن كُلّ شَىْء مَّوْعِظَةً وهي عشرُ آيات في التوراة ومِنْ إما متعلقةٌ بأوحى على أنها تبعيضية أو ابتدائيةٌ وإما بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الموصول أو من ضميره المحذوفِ في الصلة أي كائناً من الحِكمة وإما بدلٌ من الموصول بإعادة الجار ( {وَلاَ تَجْعَلْ مع الله إلها آخر} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيرُه ممن يتصور منه صدورُ المنهيِّ عنه وقد كُرر للتنبيه على أن التوحيد مبدأُ الأمرِ ومنتهاه وأنه رأسُ كل حكمةٍ وملاكُها ومن عدمِه لم ينفعه علومه وحكمه وإن بذفيها أساطينَ الحكماء وحكّ بيافوخه عنان السماء وقد رتب عليه ما هو عائدة الإشراك أو لا حيث قيل فتقعدَ مذموماً مخذولا ورتب عليه ههنا نتيجتُه في العقبى فقيل {فتلقى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا} من جهة نفسِك ومن جهة غيرك {مَّدْحُورًا} مبعَداً من رحمة الله تعالى وفي إيراد الإلقاء مبينا للمفعول جري على سنن الكبرياء وازدراءٌ بالمشرك وجعلٌ له من قبيل خشبةٍ يأخذها آخذٌ بكفه فيطرحها في التنور

40

{أفأصفاكم رَبُّكُم بالبنين واتخذ من الملائكة إِنَاثًا} خطاب للقائلين بأنَّ الملائكةَ بناتُ الله سبحانه والإصفاءُ بالشيء جعلُه خالصاً والهمزةُ للإنكار والفاء للعطف على مقدر يفسرّه المذكورُ أي أفَضَّلكم على جنابه فخصّكم بأفضل الأولاد على وجه الخُلوص وآثرَ لذاته أخسَّها وأدناها كما في قوله سبحانه أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الانثى وقوله تعالى {أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون} وقد قصد ههنا بالتعرض لعنوان الربوبية تشديدُ النكير وتأكيدُه وأشير بذكر الملائكة عليهم السلام وإيرادِ الإناث مكانَ البنات إلى كفْرة لهم أخرى وهي وصفُهم لهم عليهم السلام بالأنوثة التي هي أخسُّ صفات الحيوان كقوله تعالى وجعلوا الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ} بمقتضى مذهبِكم الباطلِ الذي هو إضافةُ الولدِ إليه سبحانه {قَوْلاً عَظِيمًا} لا يقادَر قدرُه في استتباعِ الإثمِ وخَرْقِه لقضايا العقول بحيث لا يجترئ عليه أحدٌ حيث يجعلونه تعالى من قبيل الأجسامِ المتجانسةِ السريعةِ الزوال وليس كمثله شيء وهو الواحد القهارُ الباقي بذاته ثم تضيفون إليه ما تكرهون من أخس الأولادِ وتفضِّلون عليه أنفسَكم بالبنين ثم تصِفون الملائكةَ الذين هم من أشرف الخلائقِ بالأنوثة التي هي أخسُّ أوصاف الحيوان فيالها

الإسراء 41 43 من ضَلّة ما أقبحَها وكَفْرةٍ ما أشنعها وأفظعها

41

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} هذا المعنى وكررناه {في هذا القرآن} على وجوه من التصريف في مواضعَ منه وإنما ترك الضميرُ تعويلاً على الظهور وقرئ بالتخفيف {لّيَذْكُرُواْ} ما فيه ويقفوا على بطلان ما يقولونه والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذانِ باقتضاء الحالِ أن يُعرَض عنهم ويحكي للسامعين هناتهم وقرئ بالتخفيف من الذكر بمعنى التذكر ويجوز أن يراد بهذا القرآنِ ما نطق ببُطلان مقالتِهم المذكورةِ من الآياتِ الكريمةِ الواردةِ على أساليب مختلفةٍ ومعنى التصريفِ فيه جعلُه مكاناً له أي أوقعنا فيه التصريفَ كقوله يجرح في عراقيها نَصْلي وقد جُوِّز أن يراد به إبطالُ إضافتهم إليه تعالى البناتِ وأنت تعلم أن إبطالَها من آثار القرآن ونتائجها {وَمَا يَزِيدُهُمْ} أي والحال أنه ما يزيدهم ذلك التصريفُ البالغ {إِلاَّ نُفُورًا} عن الحق وإعراضاً عنه فضلاً عن التذكر المؤدِّي إلى معرفة بُطلانِ ما هم عليه من القبائح

42

{قُلْ} في إظهار بطلانِ ذلك من جهة أخرى {لَّوْ كَانَ مَعَهُ} تعالى {آلهة كما يقولون} أي المشركون قاطبة وقرئ بالتاء خطاباً لهم من قبل النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم والكاف في محل النصب على أنها نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي كوناً مشابهاً لما يقولون والمرادُ بالمشابهة الموافقةُ والمطابقة {إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ} جوابٌ عن مقالتهم الشنعاءِ وجزاءٌ لِلَوْ أي لطلبوا {إلى ذِى العرش} أي إلى من له المُلك والربوبيةُ على الإطلاق {سَبِيلاً} بالمغالبة والممانعة كما هو ديدَنُ الملوكِ بعضِهم مع بعض على طريقة قوله تعالى لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا وقيل بالتقرب إليه تعالى كقوله تعالى أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة والأولُ هو الأظهرُ الأنسبُ

43

{سبحانه} فإنه صريحٌ في أن المراد بيانُ أنه يلزم مما يقولونه محذورٌ عظيم من حيث لا يحتسبون وأما ابتغاءُ السبيل إليه تعالى بالتقرب فليس مما يختص بهذا التقرير ولا هو مما يلزمهم مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ بل هو أمرٌ يعتقدونه رأساً أي تنَزَّهَ بذاتِه تنزُّهاً حقيقاً به {وتعالى} متباعداً {عَمَّا يَقُولُونَ} من العظيمة التي هي أن يكون معه آلهةٌ وأن يكون له بناتٌ {عَلَوْاْ} تعالياً كقوله تعالى والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً {كَبِيراً} لا غايةَ وراءه كيف لا وإنه سبحانه في أقصى غاياتِ الوجود وهو الوجوبُ الذاتيُّ وما يقولونه من أن له تعالى شركاءَ وأولاداً في أبعد مراتبِ العدمِ أعني الامتناعَ لا لأنه تعالى في أعلى مراتب الوجودِ وهو كونه واجب الوجودِ لذاته واتخاذُ الولد من أدنى مراتبِه فإنه من خواصَّ ما يمتنع بقاؤُه كما قيلَ فإنَّ مَا يقولونه ليس مجردَ اتخاذِ الولد بل اتخاذِه تعالى له وأن يكون معه آلهةٌ ولا ريب في أن ذلك ليس بداخل في حد الإمكان فضلاً عن دخولِه تحت الوجود وكونُه من أدنى مراتب الوجودِ إنما هو بالنسبة إلى من شأنه ذلك

الإسراء

44

44 - 46 {تسبح} بالفوقانية وقرئ بالتحتانية وقرئ سبحت {له السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ} من الملائكة والثقلين على أن لمراد بالتسبيح معنًى منتظمٌ لما ينطِق بهِ لسانُ المقال ولسانُ الحال بطريق عمومِ المجاز (وَإِن مِن شَىْء) من الأشياءِ حيواناً كان أو نباتاً أو جماداً (إِلاَّ يُسَبّحُ) ملتبساً (بِحَمْدِهِ) أي ينزِّهه تعالى بلسان الحالِ عما لا يليق بذاته الأقدسِ من لوازم الإمكانِ ولواحقِ الحدوثِ إذ ما من موجودٍ إلا وهو بإمكانه وحدوثِه يدل دَلالةً واضحة على أن له صانعاً عليماً قادراً حكيماً واجباً لذاته قطعاً للسَّلْسلة (ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) أيها المشركون لإخلالكم بالنظر الصحيحِ الذي به يفهم ذلك وقرئ لا يُفَقَّهون على صيغة المبني للمفعول من باب التفعيل (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا) ولذلك لم يعاجلْكم بالعقوبة مع ما أنتم عليه من موجباتها من الإعراض عن التدبر في الدلائل الواضحةِ الدالةِ على التوحيد والانهماك في الكفر والإشراكِ (غَفُوراً لمن تاب منكم

45

(وإذا قرأت القرآن) الناطقَ بالتسبيح والتنزيهِ ودعوتَهم إلى العملِ بما فيهِ من التوحيد ورفضِ الشرك وغير ذلك من الشرائع (جعلنا) بقدرتنا ومشيئتنا المنية على دواعي الحِكَم الخفية (بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة) أُوثر الموصولُ على الضمير ذمًّا لهم بما في حيز الصلة وإنما خُصَّ بالذكر كفرُهم بالآخرة منْ بينِ سائرِ ما كفروا به من التوحيد ونحوِه دَلالةً على أنها مُعظمُ ما أُمروا بالإيمان به في القرآن وتمهيداً لما سينقل عنهم من إنكار البعثِ واستعجالِه ونحو ذلك (حِجَاباً) يحجبهم من أن يدركوك على ما أنت عليه من النبوة ويفهموا قدرَك الجليلَ ولذلك اجترموا على تفوّه العظيمة التي هي قولُهم إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا أو حمل الحجاب على ما رُوي عن أسماءُ بنتِ أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ من أنه لما نزلت سورةُ تبّت أقبلت العوراءُ أمُّ جميل امرأةُ أبي لهبٍ وفي يدها فِهْرٌ والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد ومعه أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه فلما رآها قالَ يا رسولَ الله لقد أقبلت هذه وأخاف أن تراك قال صلى الله عليه وسلم إنها لن تراني وقرأ قرآناً فوقفت على أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ ولم تَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مما لا يقبله الذوقُ السليم ولا يساعده النظمُ الكريم (مَّسْتُورًا) ذا سَتْرٍ كما في قولهم سيلٌ مفعَمٌ أو مستوراً عن الحسن بمعنى غيرَ حسيَ أو مستوراً في نفسه بحجاب آخرَ أو مستوراً كونُه حجاباً حيث لا يدرون أنهم لا يدرون

46

(وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) أغطيةً كثيرة جمع كِنان (أَن يَفْقَهُوهُ) مفعولٌ لأجله أي كراهةَ أن يفقهوه أو مفعولٌ لما دل عليه الكلامُ أي منعناهم أن يقِفوا على كُنهه ويعرِفوا أنَّه من عندِ الله تعال (وفي

الإسراء 47 48 آذَانِهِم وَقْراً) صَمماً وثِقَلاً مانعاً من سماعه اللائِق به وهذه تمثيلاتٌ مُعرِبةٌ عن كمال جهلهم بشئون النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وفرطِ نُبوِّ قلوبهم عن فهم القرآنِ الكريم ومجِّ أسماعِهم له جيء بها بياناً لعدم فقهِهم لتسبيح لسانِ المقالِ إثرَ بيانِ عدمِ فقههم لتسبيح لسانِ الحال وإيذاناً بأن هذا التسبيحَ منَ الظهورِ بحيثُ لا يُتصوَّرُ عدمُ فهمِه إلا لمانع قويَ يعتري المشاعرَ فيُبطُلها وتنبيهاً على أن حالَهم هذا أقبحُ من حالهم السابق لا حكاية لما فهمِه إلا لمانع قويَ يعتري المشاعرَ فيُبطُلها وتنبيهاً على أن حالَهم هذا أقبحُ من حالهم السابق لا حكايةٌ لما قالوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى آذاننا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ كيف لا وقصدُهم بذلك إنما هو الإخبارُ بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم جهلاً وكفراً من اتصافهما بأوصافٍ مانعةٍ من التصديق والإيمانِ ككون القرآنِ سِحراً وشِعراً وأساطيرَ وقِسْ عليه حال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لا الإخبارُ بأن هناك أمراً وراء ما أدركوه قد حال بينهم وبين إدراكه حائلٌ من قِبَلِهم ولا ريب في أن ذلك المعنى مما لا يكاد يلائم المقام (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ) واحداً غيرَ مشفوعٍ به آلهتُهم وهو مصدرٌ وقعَ موقِعَ الحالِ أصلُه يحدو حده (وَلَّوْاْ على أدبارهم) أي هربوا ونفروا (نُفُورًا) أو ولَّوا نافرين

47

(نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ به) ملتبسين به من اللغو الاستخفاف والهُزْء بك وبالقرآن يروى أنه كان يقوم عن يمينه صلى الله عليه وسلم رجلان من بني عبد الدار وعن يساره رجلان فيصفّقون ويصفِرون ويخلِطون عليه بالأشعار (إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) ظرف لأعلم وفائدت تأكيدُ الوعيدِ بالإخبار بأنه كما يقع الاستماعُ المزبورُ منهم يتعلق به العلم لا أن العلمَ يستفاد هناك من أحد وكذا قولُه تعالى (وَإِذْ هُمْ نجوى) لكن لا من حيث تعلّقُه بما به الاستماعُ بل بما به التناجي المدلولُ عليه بسياق النظمِ والمعنى نحن أعلمُ بالذي يستمعون ملتبسين به مما لا خير فيه من الأمور المذكورةِ وبالذي يتناجَوْن به فيما بينهم أو الأولُ ظرفٌ ليستمعون والثاني ليتناجَون والمعنى نحن أعلمُ بما به الاستماعُ وقت استماعهم غير تأخيرٍ وبما به التناجي وقت تناجيهم ونجوى مرفوعٌ على الخبرية بتقدير المضافِ أي ذوو نجوى أو هو جمعُ نَجيّ كقتلى جمع قتيل أي متناجُون (إِذْ يَقُولُ الظالمون) بدل من إذ هم وفيه دليلٌ على أنَّ ما يتناجَون به غيرُ ما يستمعون به وإنما وُضع الظالمون موضعَ المُضمر إشعاراً بأنهم في ذلك ظالمون مجاوزون للحدّ أي يقول كلٌّ منهم للآخرين عند تناجيهم (إِن تَتَّبِعُونَ) ما تتبعون إنْ وُجد منكم الاتباعُ فرضاً أو ما تتبعون باللغو والهزء (إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا) أي سُحِر فجُنّ أو رجلاً ذا سَحْر أي رئةٍ يتنفس أي بشراً مثلَكم

48

(انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال) أي مثّلوك بالشاعر والساحر والمجنونِ (فُضّلُواْ) في جميع ذلك عن منهاج المُحاجّة (فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً) إلى طعن يمكن أن يقبله أحدٌ فيتهافتون ويخبِطون ويأتون بما لا يرتاب في بطلانه أحد أو إلى سبيل الحقِّ والرشاد وفيه من الوعيد وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى

الإسراء

49

49 - {وقالوا أئذا كُنَّا عظاما ورفاتا} استفهامٌ إنكاريٌّ مفيدٌ لكمال الاستبعادِ والاستنكارِ للبعث بعد ما آل الحالُ إلى هذا المآل لِما بين غضاضةِ الحيِّ ويُبوسة الرميم من التنافي كأن استحالةَ الأمر منَ الظهورِ بحيثُ لا يقدر المخاطبُ على التكلم به والرفاتُ ما بولغ في دقِّه وتفتيته وقال الفرَّاء هو التراب وهو قولُ مجاهدٍ وقيل هو الحُطامُ وإذا متمحّضةٌ للظرفية وهو الأظهرُ والعاملُ فيها ما دل عليه قوله تعالى (أئنا لَمَبْعُوثُونَ) لا نفسُه لأن مَا بعد إن والهمزةِ واللام لا يعملُ فيما قبلَها وهو نبعث أو نعاد وهو المرجِعُ للإنكارِ وتقييدُه بالوقت المذكور ليس لتخصيصه به فإنَّهم منكرِون للإحياءِ بعدَ الموتِ وإنْ كانَ البدنُ على حالِه بل لتقويةِ الإنكارِ للبعثِ بتوجيهه إليه في حالةٍ منافيةٍ له وتكريرُ الهمزة في قولهم أئنا لتأكيدِ النكيرِ وتحليةُ الجُملةِ بأنَّ واللامِ لتأكيدِ الإنكارِ لا لإنكارِ التأكيدِ كما عسى يُتوَّهم من ظاهرُ النظمِ فإنَّ تقديمَ الهمزةِ لاقتضائِها الصدارةَ كما في مثلِ قولِه تعالى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ونظائرِه عَلَى رأي الجمهورِ فإن المعنى عندهم تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التعقيبِ كما هو المشهورُ وليس مدارُ إنكارِهم كونَهم ثابتينَ في المبعوثية بالفعل في حال كونهم عطاما ورفاتاً كما يتراءى من ظاهر الجملةِ الاسمية بل كونِهم بعَرَضية ذلك واستعدادِهم له ومرجعُه إلى إنكارِ البعثِ بعد تلك الحالةِ وفيه من الدلالة على غلوهم في الكفر وتماديهم في الضلال ما لا مزيدَ عليه (خَلْقاً جَدِيداً) نصْبٌ على المصدر من غير لفظِه أو الحاليةِ على أن الخلق بمعنى المخلوق

50

(قل) جوابا لهم وقريبا لما استبعدوه (كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً)

51

(أَوْ خَلْقًا) آخرَ (مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ) أي يعظُم عندكم عن قبول الحياة لكمال المباينةِ والمنافاةِ بينها وبينه فإنكم مبعوثون ومُعادون لا محالة (فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا) مع ما بيننا وبين الإعادةِ من مثل هذه المباعدةِ والمباينة (قُلْ) لهم تحقيقاً للحق وإزاحة للاستبعاد وإرشاد لهم إلى طريقة الاستدلال (الذى) أي يعيدكم القادرُ العظيم الذي (فَطَرَكُمْ) اخترعكم (أَوَّلَ مَرَّةٍ) من غيرِ مثالِ يحتذيهِ ولا أسلوبٍ ينتحيه وكنتم تراباً ما شمّ رائحةَ الحياة أليس الذي يقدِر على ذلك بقادر على أن يعيدَ العظامَ الباليةَ إلى حالتها المعهودة بلى أَنَّهُ على كُلّ شَىْء قدير (فَسَيُنْغِضُونَ إليك رءوسهم) أي سيحركونها نحوَك تعجباً وإنكاراً (وَيَقُولُونَ) استهزاءً (متى هُوَ) أي ما ذكرتَه من الإعادة (قُلْ) لهم (عسى أَن يَكُونَ) ذلك (قَرِيبًا) نُصب على أنه خبرٌ ليكون أو ظرفٌ على أنَّ كانَ تامةٌ أي أن يقعَ في زمان قريب ومحلُّ أن مع ما في حيزها إما نصبٌ على أنه خبرٌ لعسى وهي ناقصة واسمُها ضميرٌ عائد إلى ما عاد إليه هو أي عسى البعث أن يكون قريبا أو عسى البعث يقعَ في زمان قريب أو رفع على أنه فاعل

الإسراء 52 55 لعسى وهي تامة أي عسى كونُه قريباً أو وقوعُه في زمان قريب

52

(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) منصوب بفعل مضمر أي اذكروا أو على أنه بدلٌ من قريباً على أنه ظرفٌ أو بيكونَ تامةً بالاتفاق أو ناقصةً عند من يجوّز إعمالَ الناقصة في الظروف أو بضمير المصدرِ المستكنِّ في عسى أو يكون أعني البعث عند من يجوز إعمالَ ضمير المصدر كما في قولِ زُهيرٍ ... وما الحربُ إلا ما علمتمْ وذُقتم ... وما هو عنها بالحديث المُرجّمِ ... فهو ضميرُ المصدر وقد تعلق به ما بعدَهُ من الجار (فَتَسْتَجِيبُونَ) أي يوم يبعثكم فتُبعثون وقد استُعير لهما الدعاءُ والإجابة إيذاناً بكمال سهولةِ التأتّي وبأن المقصودَ منهما الإحضارُ للمحاسبة والجواب (بِحَمْدِهِ) حال من ضمير تستجيبون أي منقادين له حامدين لما فَعل بكم غيرَ مستعصين أو حامدين له تعالى على كمال قدرتِه عند مشاهدة آثارها ومعاينةِ أحكامها (وَتَظُنُّونَ) عطف على تستجيبون أي تظنون عند ما ترون ما ترَوْن من الأمور الهائلة (إِن لَّبِثْتُمْ) أي ما لبثتم في القبور (إِلاَّ قَلِيلاً) كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ أو ما لبثتم في الدنيا

53

(وَقُل لّعِبَادِى) أي المؤمنين (يَقُولُواْ) عند محاورتِهم مع المشركين (التى) أي الكلمةَ التي (هِىَ أَحْسَنُ) ولا يخاشنوهم كقوله تعالى وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ (إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ) أي يُفسد ويَهيج الشر والمِراء ويُغري بعضَهم على بعض لتقع بينهم المشاقّةُ والمشارّة والمعارة والمضارّة فلعل ذلك يؤدي إلى تأكد العِناد وتمادي الفساد فهو تعليلٌ للأمر السابق وقرئ بكسر الزاء (إِنَّ الشيطان كَانَ) قدماً (للإنسان عَدُوّا مُّبِينًا) ظاهرَ العداوةِ وهو تعليلٌ لما سبق من أن الشيطان ينزَغ بينهم

54

(رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) بالتوفيق للإيمان (أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ) بالإمانة على الكفر وهذا تفسيرُ التي هي أحسنُ وما بينهما اعتراضٌ أيْ قولوا لهم هذه الكلمةَ وما يشاكلها ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار فإنه مما يَهيجهم على الشر مع أن العاقبَة مما لا يعلمُه إلا الله سبحانه فعسى يهديهم إلى الإيمان (وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) موكولاً إليك أمورُهم تقسِرهم على الإيمان وإنما أرسلناك بشيراً ونذيراً فدارِهم ومُرْ أصحابَك بالمداراة والاحتمال وترك المُحاقّة والمشاقّة وذلك قبل نزول آيةِ السيف وقبل نزلتْ في عمرَ رضيَ الله عنه شتمه رجلٌ فأُمر بالعفو وقيل أفرط أذيةُ المشركين بالمؤمنين فشكَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت وقيل الكلمة التي هي أحسنُ أن يقولوا يهديكم الله ويرحمكم الله

55

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى المسوات والأرض)

الإسراء 56 58 وتفاصيل أحوالِهم الظاهرة والكامنة التي بها يستأهلون الاصطفاءَ والاجتباءَ فيختار منهم لنبوته وولايتِه من يشاء ممن يستحقه وهو ردٌّ عليهم إذ قالوا بعيدٌ أن يكون يتيمُ أبي طالبٍ نبياً وأن يكون العراة الجوع أصحابَه دون أن يكونَ ذلكَ من الأكابر والصناديدِ وذكرُ من في السموات لإبطال قولِهم لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ وذكرُ مَن في الأرض لرد قولِهم لولا نُزِّل هذا القرآنُ على رَجُلٍ مّنَ القريتينِ عَظِيمٍ (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ) بالفضائل النفسانيةِ والتنّزهِ عن العلائق الجُسمانية لا بكثرة الأموالِ والاتباع (وآتينا داود زَبُوراً) بيانٌ لحيثية تفضيلِه عليه الصَّلاةُ وَالسلامُ فإنَّ ذلك إيتاءُ الزبور لا إيتاءُ الملك والسلطنةِ وفيه إيذانٌ بتفضيل النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فإن نعوتَه الجليلةَ وكونَه خاتمَ النبيين مسطورةٌ في الزبور وأن المرادَ بعباد الله الصالحين في قوله تعالى أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون هو النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم وأمته وتعريفُ الزبور تارة وتنكيرُه أخرى إما لأنه في الأصل فَعولٌ بمعنى المفعول كالحَلوب أو مصدر بمعناه كالقول وإما لأن المرادَ آتينا داودَ زبوراً من الزُّبُر أو بعضاً من الزبور فيه ذكرُه صلى الله عليه وسلم وقرئ بضم الزاي على أنه جمعُ زِبْرٍ بمعنى مزبور

56

(قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم) أنها آلهةٌ (مِن دُونِهِ) تعالى من الملائكة والمسيحِ وعُزيرٍ (فَلاَ يَمْلِكُونَ) فلا يستطيعون (كَشَفَ الضر عَنْكُمْ) بالمرة كالمرض والفقر والقَحطِ ونحو ذلك (وَلاَ تَحْوِيلاً) أي ولا تحويلَه إلى غيركم

57

(أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ) أي أولئك الآلهةُ الذين يدعوهم المشركون من المذكورين (يَبْتَغُونَ) يطلبون لأنفسهم (إلى رَبّهِمُ) ومالكِ أمورِهم (الوسيلة) القربةَ بالطاعة والعبادة (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) بدل من فاعل يبتغون وأيُّ موصولةٌ أي يبتغي مَنْ هو أقرب إليه تعالى الوسيلةَ فكيف بمن دونه أو ضُمّن الابتغاءُ معنى الحِرص فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقربَ إليه تعالى بالطاعة والعبادة (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ) بها (ويخافون عَذَابَهُ) بتركها كدأب سائرِ العباد فأين هم من كشف الضرِّ فضلاً عن الإلهية (إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا) حقيقاً بأن يحذرَه كلُّ أحدٍ حتى الملائكةُ والرسلُ عليهم الصلاة والسلام وهو تعليلٌ لقوله تعالى ويخافون عَذَابَهُ وتخصيصُه بالتعليل لما أن المَقام مقامُ التحذيرِ من العذاب وأن بينهم وبين العذاب بَوناً بعيداً

58

(وَإِن مّن قَرْيَةٍ) بيانٌ لتحتم حلول عذابِه تعالى بمن لا يحذره إثرَ بيانِ أنه حقيقٌ بالحذر وأن أساطينَ الخلق من الملائكة والنبيين عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على حذر من ذلك وكلمةُ إنْ نافيةٌ ومِنْ استغراقيةٌ والمرادُ بالقرية القريةُ الكافرةُ أي ما من قرية من قرى الكفار (إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا)

الإسراء 59 وتفاصيل أحوالِهم الظاهرة والكامنة التي بها يستأهلون أهلِها بالمرة لما ارتكبوا من عظائم الموبقات المستوجب لذلك وفي صيغة الفاعلِ وإن كانت بمعنى المستقبَل ما ليس فيهِ منَ الدِلالة عَلى التحقق والتقرّرِ وإنما قيل (قَبْلَ يَوْمِ القيامة) لأن الإهلاكَ يومئذ غيرُ مختصَ بالقرى الكافرة ولا هو بطريق العقوبةِ وإنما هو لانقضاء عمرِ الدنيا (أَوْ مُعَذّبُوهَا) أي معذبوا أهلِها على الإسنادِ المجازيِّ (عَذَاباً شَدِيداً) لا بالقتل والسبْي ونحوِهما من البلايا الدنيويةِ فقط بل بما لا يكتنه كنهه من فنون العقوبات الأخرويةِ أيضاً حسبما يفصخ عنه إطلاقُ التعذيبِ عما قُيد به الإهلاكُ من قَبْلية يومِ القيامة كيف لا وكثيرٌ من القرى العاتية العاصيةِ قد أُخّرت عقوباتُها إلى يوم القيامة (كَانَ ذَلِكَ) الذي ذكر من الإهلاك والتعذيب (فِى الكتاب) أي اللوح المحفوظ (مَسْطُورًا) مكتوباً لم يغادَرْ منه شيءٌ إلا بُيِّن فيه بكيفياته وأسبابِه الموجبةِ له ووقتِه المضروبِ له هذا وقد قيل الهلاكُ للقُرى الصالحة والعذابُ للطالحة وعن مقاتل وجدتُ في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها أما مكةُ فُيْخرِبها الحبشةُ وتهلِك المدينةُ بالجوع والبصرةُ بالغرق والكوفةُ بالترك والجبال بالصواعق والرواحف وأما خراسانُ فهلاكُها ضُروبٌ ثم ذكرها بلداً بلداً وقال الحافظ أبو عمْرو الدواني في كتاب الفتن أنه روي عن وهْب ابن منبّه أن الجزيرةَ آمنةٌ من الخراب حتى تخرَبَ أرمينية آمنةٌ حتى تخرَب مصرُ ومصرُ آمنةٌ حتى تخرَبَ الكوفةُ ولا تكون الملحمةُ الكبرى حتى تخرَب الكوفةُ فإذا كانت الملحمةُ الكبرى فتحت قسطنطينية على يَديْ رجلٍ من بني هاشم وخرابُ الأندلس من قِبَل الزَّنْج وخرابُ إفريقيةَ من قِبَل الأندلس وخرابُ مصرَ من انقطاع النيلِ واختلافِ الجيوش فيها وخرابُ العراقِ من الجوع وخرابُ الكوفة من قِبل عدوَ من ورائهم يحصُرهم حتى لا يستطيعون أن يشربوا من الفرات قطرةً وخرابُ البصرة من قِبل الغرق وخرابُ الأَيْلة من قبل عدوَ يحصُرهم برًّا وبحراً وخرابُ الرّيّ من الديلم وخرابُ خراسانَ من قبل التّبْت وخرابُ التبت من قبل الصّين وخرابُ الهندِ واليمن من قبل الجرَاد والسلطان وخرابُ مكةَ من الحبشة وخرابُ المدينة من قبل الجوع وعن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه إن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قال آخرُ قريةٍ من قرى الإسلام خراباً المدينةُ وقد أخرجه العمري من هذا الوجه وأنت خبيرٌ بأن تعميمَ القريةِ لا يساعده السباقُ ولا السياق

59

(وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالأيات) أي الآياتِ التي اقترحتها قريشٌ من إحياء الموتى وقلبِ الصَّفا ذهباً ونحو ذلك (إل أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون) استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي وما منعنا إرسالها شيءٌ من الأشياءِ إِلاَّ تكذيبُ الأولين بها حين جاءتهم باقتراحهم وعدمُ إرساله تعالى بها وإن كان بمشيئته المبنيةِ على الحِكَم البالغةِ لا لمنع مانعٍ عن ذلك من التكذيب أو غيرِه لاستحالة العجزِ عليه تعالى لكنّ تكذيبَهم المذكورَ بواسطة استتباعِه لاستئصالِهم بحُكم السنة الإلهية واستلزمه لتكذيب الآخرين بحكم الاشتراكِ في العتو والعتاد وإفضائِه إلى أن يحِل بهم مثلُ ما حَلَّ بهم بحكم الشِرْكة في الجريرة لمّا كان منافياً لإرسال ما اقترحوه

الإسراء 60 من الآيات لتعيين التكذيبِ المستدعي للاستئصال المخالفِ لما جرى به قلمُ القضاءِ من تأخير عقوباتِ هذه الأمةِ إلى الآخرة لحِكَمٍ باهرة من جملتها ما يُتوَّهم من إيمان بعض أعقابِهم عَبّر عن تلك المنافاةِ بالمنع على نهج الاستعارةِ إيذاناً بتعاضد مبادئ الإرسال لا كماز عموا من عدم إرادتِه تعالى لتأييده صلى الله عليه وسلم بالمعجزات وهو السرُّ في إيثارِ الإرسالِ على الإيتاء لما فيه من الإشعار بتداعي الآياتِ إلى النزول لولا أن تُمسْكَها يدُ التقدير وإسناد على هذا المنعِ إلى تكذيب الأولين لا إلى عمله تعالى بما سيكونُ من الآخَرَيْن كما في قوله تعالى وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ لإقامة الحجةِ عليهم بإبراز الا نموذج وللإيذان بأن مدارَ عدم الإجابةِ إلى إيتاء مقترحِهم ليس إلا صنيعَهم (وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة) عطفٌ على ما يُفصح عنه النظمُ الكريمُ كأنه قيل وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالأيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بها الأولون حيث آتيناهم ما اقترحوا من الآيات الباهرةِ فكذبوها وآتينا باقتراحهم ثمودَ الناقةَ (مُبْصِرَةً) على صيغةِ الفاعلِ أي بَيّنةً ذاتَ إبصارٍ أو بصائرَ يدركها الناسُ أو أُسند إليها حالُ من يشاهدها مجازاً أو جاعلتَهم ذوي بصائرَ من أبصره جعله بصيراً وقرئ على صيغة المفعول وبفتح الميم والصادر وهي نصبٌ على الحالية وقرئ بالرفع على أنَّها خبرُ مبتدإٍ محذوف (فَظَلَمُواْ بِهَا) فكفروا بها ظالمين أي لم يكتفو بمجرد الكفرِ بها بل فعلوا بها ما فعلوا من العقْر أو ظلموا أنفسَهم وعرّضوها للهلاك بسبب عقرِها ولعل تخصيصَها بالذكر لما أن ثمودَ عربٌ مثلُهم وأن لهم من العلم بحالهم مالا مزيد عليه حيث يشاهدون آثارَ هلاكِهم ورودا او صدودا أو لأنها من جهة إنها حيوانٌ أُخرج من الحجر أوضحُ دليلٍ على تحقق مضمونِ قوله تعالى قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (وَمَا نُرْسِلُ بالأيات) المقترَحة (إِلاَّ تَخْوِيفًا) لمن أُرسلت هي عليهم مما يعقُبها من العذاب المستأصِل كالطليعة له وحيث لم يخافوا ذلك فُعل بهم ما فُعل فلا محل للجملة حينئذ من الإعراب ويجوز أن تكون حالاً من ضمير ظلموا أي ظلموا بها ولم يخافوا عاقبتَه والحالُ أنا ما نُرسل بالآيات التي هي من جُملتِها إلا تخويفاً من العذاب الذي يعقُبها فنزل بهم ما نزل

60

(وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس) أي علماً كما نقله الإمامُ الثعلبيُّ عن ابن عباس رضي الله عنهما فلا يَخْفى عليه شيءٌ من أفعالهم الماضيةِ والمستقبلة من الكفر والتكذيبِ وفي قوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التى أريناك إِلاَّ فِتْنَةً لّلنَّاسِ) إلى آخر الآية تنبيه على تتحقها بالاستدلال عليها بما صدَر عنهم عند مجيءِ بعض الآياتِ لاشتراك الكلِّ في كونها أموراً خارقةً للعادات منزّلةً من جانب الله سبحانه لتصديق النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فتكذيبُهم لبعضها مستلزمٌ لتكذيب الباقي كما أن تكذيبَ الآخرين بغير المقترَحة يدل على تكذيبهم بالآيات المقترَحة والمرادُ بالرؤيا ما عاينه صلى الله عليه وسلم ليلةَ المِعراج من عجائب الأرضِ والسماءِ حسبَما ذُكر في فاتحةِ السورةِ الكريمة والتعبيرُ عن ذلك بالرؤيا إما لأنه لا فرقَ بينها وبين الرؤيةِ أو لأنها وقعت بالليل أو لأن الكفرةَ قالوا لعلها رؤيا أي وما جعلنا الرؤيا التي أريناكها عِياناً مع كونها آيةً عظيمةً وأيةَ آيةٍ حقيقةٍ بأن

الإسراء 61 لا يتلعثم في تصديقها أحدٌ ممن له أدنى بصيرةٍ إلا فتنةً افتُتن بها الناسُ حتى ارتد بعضهم (والشجرة الملعونة فِى القرآن) عطف على الرؤيا والمرادُ بلعنها فيه لعنُ طاعمِها على الإسنادِ المجازيِّ أو إبعادُها عن الرحمة فإنها تنبُت في أصل الجحيم في أبعدِ مكان من الرحمة أي وما جعلناها إلى فتنةً لهم حيث أنكروا ذلك وقالوا إن محمداً يزعُم أن الجحيمَ يحرُق الحجارةَ ثم يقول ينبُت فيها الشجرُ ولقد ضلوا في ذلك ضلالاً بعيداً حيث كابروا قضيةَ عقولهم فإنهم يرون النعامة تبتلغ الجمْرَ وقِطعَ الحديد المحمّاةَ فلا تضرّها ويشاهدون المناديلَ المتخَذةَ من وبْر السمندر تُلقى في النار فلا تؤثر فيها ويرَون أن في كل شجر ناراً وقرئ بالرفع على حذف الخبر كأنه قيل والشجرةُ الملعونةُ في القرآن كذلك (وتخوفهم) بذلك وبنظائرها من الآيات فإن الكلَّ للتخويف وإيثارُ صيغة الاستقبال للدِّلالةِ على التَّجددِ والاستمرارِ فما يزيدهم التخويفُ (إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا) متجاوزاً عن الحد فلو أنا أُرسلنا بما اقترحوه من الآيات لفعلوا بها ما فعلوا بنظائرها وفُعل بهم ما فُعل بأشياعهم وقد قضينا بتأخير العقوبةِ العامة لهذه الأمةِ إلى الطامة الكبرى هَذَا هُو الذي يستدعيه النظمُ الكريمُ وقد حمل أكثرُ المفسرين الإحاطةَ على الإحاطة بالقدرة تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما عسى يعتريه من عدم الإجابةِ إلى إنزال الآياتِ التي اقترحوها لأن إنزالها ليس بمصلحة من نوع حزنٍ من طعْن الكفرةِ حيث كانوا يقولون لَوْ كنتَ رسولاً حقاً لأتيت بهذه المعجزات كما أتى بها موسى وغيرُه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكأنه قيل اذكر وقتَ قولِنا لك إن ربك اللطيفَ بك قد أحاط بالناس فهم في قبضة قدرتِه لا يقدرون على الخروج من مشيئته فهو يحفَظُك منهم فلا تهتم بهم وامضى لما أمرتُك به من تبليغ الرسالة ألا يرى أن الرؤيا التي أريناك من قبلُ جعلناها فتنةً للناس مُورثةً للشبهة مع أنها ما أورثت ضَعفاً لأمرك وفتوراً في حالك وقد فُسر الإحاطةُ بإهلاك قريشٍ يوم بدر وإنما عبر عنه بالماضي مع كونه منتظرا حسبما ينبئ عنه قوله تعالى سَيُهْزَمُ الجمعُ وَيُوَلُّونَ الدبرَ وقوله تعالى قل للذين كفروا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وغيرُ ذلك جرياً على عادته سبحانه في أخباره وأُوّلت الرؤيا بما رآه صلى الله عليه وسلم في المنام من مصارعهم لما روى أنه صلى الله عليه وسلم لما ورد ماءَ بدرٍ قال والله لكأني أنظرُ إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الأرض هذا مصرَعُ فلان وهذا مصرعُ فلان فتسامعت به قريش فاستسخروا منه وبما رأه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه سيدخل مكةَ وأخبر به أصحابَه فتوجه إليها فصده عام المشركون الحديبية واعتذر عن كون ما ذكر مدنياً بأنه يجوز أن يكون الوحيُ بإهلاكهم وكذا الرؤيا واقعاً بمكة وذكرُ الرؤيا وتعيينُ المَصارعِ واقعَين بعد الهجرة وأنت خبيرٌ بأنه يلزم منه أن يكون افتتانُ الناسِ بذلك واقعاً بعد الهجرة وأن يكون ازديادُهم طغياناً متوقعاً غيرَ واقعٍ عند نزول الآية وقد قيل الرؤيا ما رآه صلى الله عليه وسلم في وقعة بدر من مضمون قوله تعالى إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ ولا ريب في أن تلك الرؤيا مع وقوعها في المدينة ما جعلت فتنة للناس

61

(وإذا قُلْنَا للملائكة) تذكيرٌ لما جرى منه تعالى من الأمر ومن الملائكة من الامتثال والطاعةِ من غير تردد وتحقيقٍ لمضمونِ ما سبقَ من قولِه تعالى أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويخافون عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كان محذورا ويعلم

الإسراء 62 63 من حال الملائكة حال غيرهم من عيسى وعُزيرٍ عليهما السلام في الطاعة وابتغاءِ الوسيلة ورجاءِ الرحمة ومخافةِ العذاب ومن حال إبليسَ حالُ من يعاند الحقَّ ويخالف الأمرَ أي واذكر وقتَ قولِنا لهم (اسجدوا لاِدَمَ) تحيةً وتكريماً لما له من الفضائل المستوجِبة لذلك (فَسَجَدُواْ) له من غير تلعثم امتثالاً للأمر وأداءً لحقه عليه الصلاد والسلام (إِلاَّ إِبْلِيسَ) وكان داخلاً في زُمرتهم مندرجاً تحت الأمرِ بالسجود (قَالَ) أي عند ما وُبِّخ بقوله عز سلطانه يا إبليس ما لك أن لا تكون مَعَ الساجدين وقولِه مَا مَنَعَكَ أن لا تسجد اذ أَمَرْتُكَ وقوله مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ كما أشير إليه في سورة الحجر (أأسجد) وأنا مخلوقٌ من العنصر العالي (لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا) نُصب على نزعِ الخافضِ أي من طين أو حالٌ من الراجعِ إلى الموصول أي خلقتَه وهو طينٌ أو من نفس الموصول أي أأسجُد له وأصلُه طينٌ والتعبيرُ عنه صلى الله عليه وسلم بالموصول لتعليل إنكارِه بما في حيز الصلة

62

(قَالَ) أي إبليسُ لكن لا عَقيبَ كلامِه المحكي بل بعد الإنظارِ المترتب على استنظاره المتفرِّع على الأمر بخروجه من بين الملأ الأعلى باللعن المؤبّدِ وإنما لم تصرح بذلك اكتفاء بما ذكر في مواضعَ أُخَرَ فإن توسيطَ قال بين كلامَيْ اللعين للإيذان بعدمِ اتصالِ الثاني بالأول وعدم ابتنائه عليه بل على غيره كما في قوله تعالى قال فما خطبكم بعد قوله تعالى قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ ربه إلا لضالون (أرأيتك هذا الذى كَرَّمْتَ عَلَىَّ) الكافُ لتأكيد الخطابِ لا محلَّ لها من الإعراب وهذا مفعولٌ أولٌ والموصولُ صفتُه والثاني محذوفٌ لدِلالة الصلةِ عليه أي أخبِرني عن هذا الذي كرّمته عليّ بأن أمرْتَني بالسجود له لِمَ كَرَّمْتَه عليّ وقيل هذا مبتدأٌ حُذف عنه حرفُ الاستفهام والموصولُ مع صلتِه خبرُه ومقصودُه الاستصغار والاستحقار ما يخاطبه به عَقيبه (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ) حياً (إلى يَوْمِ القيامة) كلامٌ مبتدأٌ واللامُ موطِّئةٌ للقسم وجوابُه قوله (لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ) أي لأستأصِلَنّهم من قولهم احتنَك الجرادُ الأرضَ إذا جرَد ما عليها أكلاً أو لأقودنّهم حيث ما شئتُ ولأستولِينّ عليهم استيلاءً قوياً من قولهم حنكْتَ الدابةَ واحتنكتَها إذا جعلتَ في حنَكها الأسفلِ حبلاً تقودُها به وهذا كقوله لازَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الأرض وَلاغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وإنما عَلِم تسنِّي ذلك المطلبِ له تلقّياً من جهة الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام أو استنباطاً من قولهم أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء أو نوسما من خَلْقه (إِلاَّ قَلِيلاً) مّنْهُمُ وهم المخْلَصون الذين عصمهم الله تعالى

63

(قَالَ اذهب) أي امضِ لشأنك الذي اخترتَه وهو طردٌ له وتخليةٌ بينه وبين ما سوّلت له نفسه (فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ) أي جزاؤُك وجزاؤهم فغُلّب المخاطَبُ في الغائب رعاية الحق المتبوعية (جَزَاء مَّوفُورًا) أي جزاءً مكملاً من قولهم فِرْ لصاحبك عِرضَه فِرَةً أي وفّر وهو نُصبَ على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لما في قوله فإن جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ من معنى تجازون أو للفعل المقدّر أو حالٌ موطئةٌ لقوله موفورا

الإسراء

64

64 - 66 (واستفزز) أي استخفَّ (مَنِ استطعت مِنْهُمْ) أن تستفِزَّه (بِصَوْتِكَ) بدعائك إلى الفساد (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم) أي صِحْ عليهم من الجَلَبة وهي الصياح (بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ) أي بأعوانك وأنصارِك من راكب وراجل من أهل العبث والفساد قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهدٌ وقتادةُ إن له خيلاً ورَجِلاً من الجن والإنس فما كان من راكب يقاتل في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليسَ وما كان من راجل يقاتل في معصية الله تعالى فهو من رَجِل إبليس والخيلُ الخيالة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم يا خيلَ الله اركبي والرّجْلُ اسمُ جمعٍ للراجل كالصحب والركب وقرئ بكسر الجيم وهي قراءةُ حفصٍ على أنه فَعِلٌ بمعنى فاعل كتعِب وتاعب وبضمة مثلُ حدِثٌ وحدُثٌ وندس وندِسٌ وندُسٌ ونظائرِهما أي جمعك الراجل ليطابق الخيل وقرئ رجالِك ورجالك ويجوز أن يكون استفزازُه بصوته وإجلابه بخيله ورَجْلِه تمثيلاً لتسلّطه على من يُغويه فكأنه مِغوارٌ أوقع على قوم فصوّت بهم صوتاً يزعجهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم واجلب عليهم يجنده من خيّالة ورَجّالَة حتى استأصلهم (وَشَارِكْهُمْ فِى الأموال) بحملهم على كسبها وجمعِها من الحرام والتصرفِ فيها على ما لا ينبغي (والأولاد) بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة والإشراكِ كتسميتهم بعبد العزّى والتضليلِ بالحمل على الأديان الزائغةِ والحِرَف الذميمة والأفعالِ القبيحة (وَعَدَّهُمْ) المواعيدَ الباطلةَ كشفاعة الآلهة والاتكالِ على كرامة الآباءِ وتأخيرِ التوبةِ بتطويل الأمل (وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً) اعتراضٌ لبيان شأنِ مواعيدِه والالتفاتُ إلى الغَيبة لتقوية معنى الاعتراضِ مع ما فيه من صرفِ الكلامِ عن خطابه وبيانِ شأنه للناس ومن الإشعار بعلية شيطنتِه للغرور وهو تزيينُ الخطأ بما يوهم أنه صواب

65

(إِنَّ عِبَادِى) الإضافةُ للتشريف وهم المخلَصون وفيه أن مَنْ تبعه ليس منهم وأن الإضافةَ لثبوت الحكمِ في قولِهِ تعالَى (لَّيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان) أي تسلّطٌ وقدرةٌ على إغوائهم كقوله تعالى إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمنوا وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (وكفى بِرَبّكَ وَكِيلاً) لهم يتوكلون عليه ويستمدون به في الخلاص عن إغوائك والتعرضُ لوصفِ الربوبيةِ المنْبئةِ عن المالكية المطلقة والتصرف الكلي مع الإضافة إلى ضمير إبليسَ للإشعار بكيفية كفايتِه تعالى لهم أعني سلْبَ قدرتِه على إغوائهم

66

(رَّبُّكُمُ الذى يُزْجِى لَكُمُ الفلك في البحر) مبتدأ وخبر والإزجاءُ السوقُ حالاً بعد حال أي هو القادرُ الحكيمُ الذي يسوق لمنافعكم الفُلك ويُجريها في البحر (لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ) من رزقه الذي هو فضلٌ من قِبَله أو من الربح الذي هو مُعطيه ومن مزيدةٌ أو تبعيضية وهذا تذكير لبعض النعم التي هي دلائلُ التوحيد وتمهيد لذكر توحيدهم

الإسراء 67 69 عند مِساسِ الضرِّ تكملةً لما مرَّ من قولِه تعالى فَلاَ يَمْلِكُونَ الآية (إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ) أزلاً وأبداً (رَّحِيماً) حيث هيأ لكُم ما تحتاجونَ إليهِ وسهّل عليكم ما يعسُر من مباديه وهذا تذييلٌ فيه تعليلٌ لما سبق من الإزجاء لابتغاء الفضلِ وصيغةُ الرحيم للدِلالة على أن المرادَ بالرحمة الرحمةُ الدنيويةُ والنعمةُ العاجلة المنقسمة إلى الجليلة والحقيرة

67

(وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِى البحر) خوفَ الغرقِ فيه (ضَلَّ مَن تَدْعُونَ) أي ذهب عن خواطركم ما كنتم تدعون من دون اله من الملائكة أو المسيحِ أو غيرهم (إِلاَّ إِيَّاهُ) وحده من غير أن يخطُر ببالكم أحدٌ منهم وتدعوه لكشفه استقلالاً أو اشتراكاً أو ضل كلُّ مَنْ تدعونه عن إغاثتكم وإنقاذِكم ولم يقدِر على ذلكَ إلا الله على الاستثناء المنقطع (فَلَمَّا نجاكم) من الغرق وأوصلكم (إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ) عن التوحيد أو اتسعتم في كُفران النعمة (وَكَانَ الإنسان كَفُورًا) تعليلٌ لما سبق من الإعراض

68

(أَفَأَمِنتُمْ) الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم (أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر) الذي هو مأمنُكم أي يقلِبه ملتبساً بكم أو بسبب كونِكم فيه وفي زيادة الجانبِ تنبيهٌ على تساوي الجوانب والجهاتِ بالنسبة إلى قدرته سبحانه وتعالى وقهرِه وسلطانه وقرئ بنون العظمة (أَوْ يُرْسِلَ عليكم) من فوقكم وقرئ بالنون (حاصبا) ريحاً ترمي بالحصباء (ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً) يحفظكم من ذلك أو يصرِفه عنكم فإنه لا رادَّ لأمره الغالب

69

(أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فيها) في البحر أو ثرت كلمةُ في على كلمة إلى المنبئة عن مجرد الانتهاء للدِلالة على استقرارهم فيه (تَارَةً أخرى) إسنادُ لإعادة إليه تعالى مع أن العود إليه بإختبارهم باعتبار خلقِ الدواعي الملجئةِ لهم إلى ذلك وفيه إيماءٌ إلى كمال شدةِ هول ما لا قوة في التارة الأولى بحيث لولا الإعادةُ لما عادوا (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ) وأنتم في البحر وقرئ بالنون (قَاصِفًا مّنَ الريح) وهي التي لا تمر بشيء إلا كسرَتْه وجعلتْه كالرميم أو التي لها قصيفٌ وهو الصوتُ الشديد كأنها تتقصّف أي تتكسر (فَيُغْرِقَكُم) بعد كسر فُلْكِكم كما ينبئ عنه عنوان القصف وقرئ بالنون وبالتاء على الإسنادِ إلى ضميرِ الريح (بِمَا كَفَرْتُمْ) بسبب إشراكِكم أو كفرانِكم لنعمة الإنجاء (ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) أي ثائراً يطالبنا بما فعلنا انتصاراً منا ودَرْكاً للثأر من جهتنا كقوله سبحانه وَلاَ يخاف عقباها

الإسراء

70

70 - 7 (ولقد كرمنا بني آدم) قاطبةً تكريماً شاملاً لبَرّهم وفاجرِهم أي كرمناهم بالصورة والقامة المعتدل والتسلط على ما في الأرض والتمتع به والتمكُّنِ من الصناعات وغير ذلك مما لا يكاد يُحيط به نِطاقُ العبارةِ ومن جملته ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن كلَّ حيوانٍ يتناول طعامَه بفيه إلا الإنسانَ فإنه يرفعه إليه بيده وما قيل من شِرْكة القرد له في ذلك مبنيٌّ على عدم الفرقِ بين اليد والرجل فإنه متناولٌ له برجله التي يطأ بها القاذورات لا بيده (وحملناهم فِى البر والبحر) على الدوابّ والسفن من حملْتَه إذا جعلتَ له ما يركبه وليس من المخلوقات شيءٌ كذلك وقيل حملناهم فيها حيث لم نخسِفْ بهم الأرضَ ولم نُغرِقْهم بالماء وأنت خبيرٌ بأن الأول هو الأنسبُ بالتكريم إذ جميعُ الحيواناتِ كذلك (وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات) أي فنون النعمِ وضُروب المستلذات مما يحصل بصنيعهم وبغير صنيعهم (وفضلناهم) في العلوم والإدراكاتِ بما ركّبنا فيهم من القُوى المدرِكةِ التي بها يتميز الحقُّ من الباطل والحسَنُ من القبيح (على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا) وهم من عدا الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام (تَفْضِيلاً) عظيماً فحق عليهم أن يشكروا هذه النعمَ ولا يكفروها ويستعملوا قُواهم في تحصيل العقائدِ الحقّةِ ويرفضوا ما هم عليه من الشرك الذي لا يقبله أحدٌ ممن له أدنى تميز فضلاً عمن فضل على من عدا الملأ الأعلى الذين هم العقولُ المحضةُ وإنما استُثنيَ جنسُ الملائكة من هذا التفضيلِ لأن علومَهم دائمةٌ عاريةٌ عن الخطأ والخلل وليس فيه دلالةٌ على أفضليتهم بالمعنى المتنازَعِ فيه فإن المراد هنا بيانُ التفضيل في أمر مشتركٍ بين جميع أفرادِ البشر صالحِها وطالحِها ولا يمكن أن يكون ذلك هو الفضلَ في عِظم الدرجةِ وزيادةِ القُربةِ عند الله سبحانه إن قيل أي حاجة إلى تعيين ما فيه التفضيلُ بعد بيانِ ما هو المرادُ بالمفضّلين فإن استثناءَ الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام من تفضيل جميع أفرادِ البشرِ عليهم لا يستلزم استثناءَهم من تفضيل بعضِ أفرادِه عليهم قلنا لا بد من تعيينه البتةَ إذ ليس من الأفراد الفاجرةِ للبشر أحدٌ يفضُل على أحد من الخلوقات فيما هو المتنازَعُ فيه أصلاً بل هم أدنى من كل دنئ حسبما ينبئ عنه قوله تعالى أُوْلَئِكَ كالأنعامِ بلْ هُم أضلُّ وقولُه تعالى إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كفروا

71

(يوم ندعو) نُصب على المفعولية بإضمار اذكُر أو ظرفٌ لما دلَّ عليه قولُه تعالى ولا يظلمون وقرئ بالياء على البناء للفاعل وللمفعول ويدعو بقلب الألف واواً على لغة من يقول في افعى افعوا وقد جوّز كونُ الواو علامةَ الجمعِ كما في قوله تعالى وَأَسَرُّواْ النجوى أو ضميرَه وكلَّ بدلاً منه والنونُ محذوفةٌ لقلة المبالاة فإنها ليست إلا علامةَ الرفع وقد يكتفى بتقديره كما في يدعى (كُلَّ أُنَاسٍ) من بني آدم الذين

الإسراء 72 73 فعلنا بهم في الدنيا ما فعلنا من التكريم والتفضيلِ وهذا شروعٌ في بيان تفاوتِ أحوالِهم في الآخرة بحسب أحوالِهم وأعمالهم في الدنيا (بإمامهم) أي بمن ائتمّوا به من نبي أو مقدّم في الدين أو كتاب أو دين وقيل بكتاب أعمالِهم التي قدموها فيقال يا أصحابَ كتابِ الخيرِ يا أصحابَ كتابِ الشر أو يا أهلَ دينِ كذا يا أهلَ كتابِ كذا وقيل الإمامُ جمعُ آمَ كُخف وخِفاف والحكمةُ في دعوتهم بأمهاتهم بإجلال عيسى عليه السلام وتشريفُ الحسنين رضي الله عنهما والسترُ على أولاد الزنا (فَمَنْ أُوتِىَ) يومئذ من أولئك المدعوّين (كتابه) صحيفةَ أعماله (بيمينه) إباننة لخطر الكتابِ المؤتى وتشريفاً لصاحبه وتبشيراً له من أول الأمرِ بما في مطاويه (فَأُوْلَئِكَ) إشارةٌ إلى مَنْ باعتبار معناه إيذاناً بأنهم حزبٌ مجتمعون على شأن جليل أو إشعار بأن قراءتَهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماعِ لا على وجه الانفرادِ كما في حال الإيتاءِ وما فيهِ منَ الدلالةِ عَلى البعد للإشعار برفعة درجاتِهم أي أولئك المختصون بتلك الكرامةِ التي يُشعِر بها الإيتاءُ المزبور (يَقْرَءونَ كتابهم) الذي أوتوه على الوجه المبين تبجّحاً بما سُطّر فيه من الحسنات المستتبِعةِ لفنون الكراماتِ (وَلاَ يُظْلَمُونَ) أي لا يُنقصون من أجور أعمالِهم المرتسمةِ في كتبهم بل يؤتَوْنها مضاعَفةً (فَتِيلاً) أي قدْرَ فتيلٍ وهو القِشرةُ التي في شق النواة أو أدنى شيءٍ فإن الفتيلَ مثلٌ في القِلة والحقارةِ

72

(وَمَن كَانَ) من المدعوّين المذكورين (فِى هذه) الدنيا التي فُعل بهم فيها ما فعل من فنون التكريمِ والتفضيل (أعمى) فاقدَ البصيرة لا يهتدي إلى رُشده ولا يعرِف ما أوليناه من نعمة التكْرِمةِ والتفضيلِ فضلاً عن شكرها والقيامِ بحقوقها ولا يستعمل ما أودعناه فيه من العقول والقُوى فيما خُلِقْن له من العلوم والمعارِف الحَقّة (فَهُوَ فِى الأخرة) التي عُبّر عنها بيومَ ندعو (أعمى) كذلك أي لا يهتدي إلى ما ينجيّه ولا يظفَر بما يُجديه لأن العمَى الأولَ موجبٌ للثاني وقد جُوّز كونُ الثاني بمعنى التفضيل على أن عماه في الآخرة أشد من عماه في الدنيا ولذلك قرأ أبو عمرو الأولَ مما لا والثاني مفخماً (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي من الأعمى لزوال الاستعدادِ المُمْكنِ وتعطلِ الآلاتِ بالكلية وهذا بعينه هو الذي أوتي كتابَه بشماله بدِلالة حال ما سبق من الفريق المقابل له ولعل العدولَ عن ذكره بذلك العنوانِ مع أنه الذي يستدعيه حسنُ المقابلة حسبما هو الواقعُ في سورة الحاقة وسورةِ الانشقاق للإيذان بالعلة الموجبةِ له كما في قوله تعالى وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضالين بعد قوله تعالى فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ اليمين وللرمز إلى علة حالِ الفريقِ الأول وقد ذكر في أحد الجانبين المسبّبُ وفي الآخرة السببُ ودل بالمذكور في كل منهما على المتروك في الآخر تعويلاً على شهادة العقلِ كما في قوله عز وعلا وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ

73

(وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ) نزلت في ثقيفٍ إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لا ندخُل في أمرك حتى تعطيَنا خِصالاً نفتخر بها على العرب لا نُعشر ولا نُحشر ولا نجبي في صلاتنا كل رِباً لنا فهو لنا كل رباً علينا فهو موضوعٌ عنا وأن تُمتّعنا باللات سنة وأن تحرم

الإسراء 74 77 واديَنا وَجّ كما حرّمت مكة فإذا قالت العربُ لم فعلتَ فقل إن الله أمرني بذلك وقيل في قريش حيث قالوا اجعل لنا آيةَ عذابٍ آيةَ رحمةٍ وآيةَ رحمةٍ آيةَ عذابٍ أو قالوا لا نُمكّنك من استلام الحجرِ حتى تُلمّ بآلهتنا فإنْ مخففةٌ من المشددة وضميرُ الشأنِ الذي هو اسمها محذوفٌ واللامُ هي الفارقةُ بينها وبين النَّافيةِ أي إنَّ الشأنَ قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين (عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) من أوامرنا ونواهينا ووعْدِنا ووعيدِنا (لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ) لتتقول علينا غيرَ الذي أوحينا إليك مما اقترحَتْه ثقيفٌ أو قريشٌ حسبما نقل (وإذن لا تخذوك خَلِيلاً) أي لو اتبعت أهواءَهم لكنتَ لهم وليًّا ولخرجتَ من ولايتي

74

(وَلَوْلاَ أَن ثبتناك) على ما أنت عليه من الحق بعِصمتنا لك (لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً) من الركون الذي هو أدنى ميلٍ أي لولا تثبيتنا لك لقاربت أن تميلَ إليهم شيئاً يسيراً من الميل اليسيرِ لقوة خَدعِهم وشدة احتيالِهم لكن أدركتك العصمة فنمنعك من أن تقرَبَ من أدنى مراتبِ الركونِ إليهم فضلاً عن نفس الركونِ وهذا صريحٌ في أنه صلى الله عليه وسلم ما همّ بإجابتهم مع قوة الداعي إليها ودليلٌ على أن العصمةَ بتوفيق الله تعالى وعنايته

75

(إذن) لو قاربت أن تركنَ إليهم أدنى ركنة (لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات) أي عذابَ الدنيا وعذابَ الآخرة ضعفَ ما يُعذَّب به في الدارين بمثل هذا الفعلِ غيرُك لأن خطأَ الخطيرِ خطيرٌ وكان أصلُ الكلامِ عذاباً ضِعفاً في الحياة وعذابا ضِعفاً في الممات بمعنى مضاعفاً ثم حُذف الموصوفُ وأُقيمت الصفةُ مُقامَه ثم أضيفت إضافةَ موصوفِها وقيل الضِعف من أسماء العذاب وقيل المرادُ بضِعف الحياة عذابُ الآخرة وبضِعف المماتِ عذابُ القبر (ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) يدفع عنك العذابَ

76

(وَإِن كَادُواْ) الكلامُ فيه كما في الأول أي كاد أهلُ مكة (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) أي ليُزعِجونك بعداوتهم ومكرِهم (مّنَ الأرض) أي الأرضِ التي أنت فيها وهي أرضُ مكة (لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وإذن لاَّ يَلْبَثُونَ) بالرفع عطفاً على خبر كاد وقرئ لا يلبثوا بالنصب بإعمال إذن على أن الجملةَ معطوفةٌ على جملة وإن كادوا ليستفزونك (خلافك) أي بعدك قال ... خلت الديارُ خِلافَهم فكأنما ... بسَطَ الشواطِبُ بينهن حصيرا ... أي وله خرجتَ لا يبقَون بعد خروجك وقرئ خلفك (إِلاَّ قَلِيلاً) إلا زماناً قليلاً وقد كان كذلك فإنهم أُهلكوا ببدر بعد هجرته صلى الله عليه وسلم وقيلَ نزلتِ الآيةُ في اليهود حيث حسدوا مقامَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بالمدينة فقالوا الشامُ مقامُ الأنبياءِ عليهم السلام فإن كنت نبياً فالحَقْ بها حتى نؤمِنَ بك فوقع ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم فخرج مرحلةً فنزلت فرجع ثم قُتل منهم بنو قريظة وأجلى بنوا النضير بقليل

77

(سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا) نُصب على

الإسراء 78 79 المصدرية أي سَنَّ الله تعالَى سُنةً وهي أن يُهلك كلَّ أمة أَخرجت سولهم من بين أظهرِهم فالسنةُ لله تعالى وإضافتُها إلى الرسل لأنها سُنّتْ لأجلهم على ما ينطِق به قولُه عزَّ وجلَّ (وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً) أي تغييرا

78

(أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس) لزوالها كما ينبئ عنه قوله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريلُ عليه السلام والدلوك الشمس حين زالت فصلّى بي الظهرَ واشتقاقُه من الدّلْك لأن من نظر إليها حينئذ يدُلك عينه وقيل لغروبها من دلَكَت الشمس أي غربت وقيل أصلُ الدلوك الميلُ فينتظم كِلا المعنيين واللامُ للتأقيت مِثلُها في قولك لثلاثٍ خلون (إلى غسق الليل) إلى اجتماع ظلمتِه وهو وقتُ صلاةِ العِشاء وليس المرادُ إقامتَها فيما بين الوقتين على وجه الاستمرارِ بل إقامةَ كل صلاةٍ في وقتها الذي عُيِّن لها ببيان جبريلَ عليهِ السَّلامُ كَما أن أعدادَ ركعاتِ كل صلاةٍ موكولةٍ إلى بيانه صلى الله عليه وسلم ولعل الاكتفاء بيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلواتِ من غير فصل بينها لما أن الإنسانَ فيما بين هذه الأوقاتِ على اليقظة فبعضُها متصلٌ ببعض بخلاف أولِ وقتِ العشاءِ والفجرِ فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم ينقطع أحدُهما عن الآخر ولذلك فُصل وقتُ الفجر عن سائر الأوقات وقيل المرادُ بالصلاة صلاةُ المغرب والتحديدُ المذكور بيانٌ لمبدئه ومنتهاه واستُدِل به على امتداد وقتِه إلى غروب الشفق وقوله تعالى (وقرآن الفجر) أي صلاةَ الفجر نُصب عطفاً على مفعول أقم أو على الإغراء قاله الزجّاج وإنما سُمِّيت قرآنا لأنه رُكنُها كما تُسمّى ركوعاً وسجوداً واستُدل به على الركنية ولكن لا دِلالةَ له على ذلك لجواز كون مدار الجوز كونَ القراءة مندوبةً فيها نعم لو فُسّر بالقراءة في صلاة الفجر لدل الأمر بإقامتها عن الوجوب فيها نصاً وفيما عداها دِلالةً ويجوز أن يكون وقرآنَ الفجر حثًّا على تطويل القراءةِ في صلاة الفجر (إن قرآن الفجر) أظهر في مقام الإضمارِ إبانةً لمزيد الاهتمامِ به (كَانَ مَشْهُودًا) يشهده ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار أو شواهدُ القدرة من تبدُّل الضياء بالظلمة والانتباهِ بالنوم الذي هُو أخوُ الموتِ أو يشهده كثيرٌ من المصلين أو من حقه أن يشهَده الجمُّ الغفيرُ فالآيةُ على تفسير الدُّلوك بالزوال جامعةٌ للصلوات الخمس وعلى تفسيره بالغروب لِما عدا الظهرَ والعصر

79

(ومن الليل) قيل هو نصبٌ على الإغراء أي الزمْ بعضَ الليل وقيل لا يكون المغرى به حرفاً ولا يجدي نفعاً كونُ معناها التبعيض فإن وامع ليست اسما بالاجتماع وإن كانت بمعنى الاسمِ الصريحِ بل هُو منصوبٌ على الظرفية بمضمر أي قم بعضَ الليل (فَتَهَجَّدْ بِهِ) أي أزِلْ وألقِ الهجر أي النوم فإن صيغةَ التفعّل تجيء للإزالة كالتحرّج والتحنّث والتأثّم ونظائرِها والضميرُ المجرورُ للقرآن من حيث هو لا يقيدلاإضافته إلى الفجر أو للبعض المفهومِ من قولِه تعالى وَمَن الليل أي تهجد في ذلك البعضِ على أن الباء بمعنى في وقيل منصوبٌ يتهجد أي تهجدْ بالقرآن بعضَ الليل على طريقة وإياي فارهبون (نَافِلَةً لَّكَ) فريضةً زائدةً على الصلوات الخمسِ المفروضةِ خاصةً بك دون الأمة ولعله هو الوجهُ في تأخير ذكرِها عن ذكر صلاةِ الفجر مع تقدم وقتها على وقتها أو تطوعاً لكن لا لكونها زيادة

الإسراء 80 81 على الفرائض بل لكونها زيادة له صلى الله عليه وسلم في الدرجات على ما قال مجاهد والسدي فإنه صلى الله عليه وسلم مغفورٌ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر فيكون تطوعُه زيادةً في درجاته بخلاف من عداه من الأمة فإن تطوعَهم لتكفير ذنوبهم وتدارُكِ الخللِ الواقعِ في فرائضهم وانتصابُها إما على المصدرية بتقدير تنفّلْ أو بجعل تهجدْ بمعناه أو يجعل نافلةً بمعنى تهجداً فإن ذلك عبادةٌ زائدةٌ وإما على الحاليةِ من الضميرِ الراجعِ إلى القرآن أي حالَ كونها صلاةً نافلةً وإما على المفعولية لتهجّدْ إذا جُعل بمعنى صلِّ وجعل الضميرُ المجرور للبعض أي فصلِّ في ذلك البعضِ نافلةً لك (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ) الذي يبلّغك إلى كمالك اللائقِ بك من بعد الموت الأكبرِ كما انبعثْتَ من النوم الذي هو الموتُ الأصغرُ بالصلاة والعبادة (مَقَاماً) نُصب على الظرفية على إضمار فيقيمَك أو تضمين البعثِ معنى الإقامة إذ لا بد من أن يكونَ العاملُ في مثل هذا الظرفِ فعلاً فيه معنى الاستقرارُ ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً بتقدير مضافٍ أي يبعثك ذا مَقام (مَّحْمُودًا) عندك وعند جميعِ الناس وفيه تهوينٌ لمشقة قيامِ الليل وروى أبو هريرةَ رضيَ الله عنه إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال المقامُ المحمودُ هو المقامُ الذي أشفع فيه لأمتي وعن ابن عباس رضي الله عنهما مقاماً يحمَدُك فيه الأولون والآخرون تشرف فيه على جميع الخلائق تسأل فتعطى وتشفع فتُشفّع ليس أحدٌ إلا تحت لوائك وعن حذيفة رضي الله عنه يُجْمَعُ الناسُ في صَعيدٍ واحد فلا تتكلم فيه نفسٌ فَأَوَّلُ مَدْعُوَ محمدٌ صلَّى الله عليهِ وسلم فيقولُ لبّيكَ وسَعْدَيْكَ والشرُّ ليسَ إليكَ والمَهْديُّ من هَدَيْتَ وعبدُكَ بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجا إلا إليكَ تباركتَ وتعاليتَ سبحانك ربَّ البيت

80

(وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى) أي القبرَ (مُدْخَلَ صِدْقٍ) أي إدخال مرضياً (وَأَخْرِجْنِى) أي منه عند البعثِ (مُخْرَجَ صِدْقٍ) أي إخراجا مرضيا ملقى بالكرامة فهو تلقين الدعاء بما وعده من البعث المقرونِ بالإقامة المعهودةِ التي لا كرامةَ فوقها وقيل المرادُ إدخالُ المدينةِ والإخراجُ من مكةَ وتغييرُ ترتيبِ الوجودِ لكون الإدخالِ هو المقصد وقيل إدخاله صلى الله عليه وسلم مكةَ ظاهراً عليها وإخراجُه منها آمناً من المشركين وقيل إدخالُه الغارَ وإخراجُه منه سالماً وقيل إدخالُه فيما حمله من أعباء الرسالةِ وإخراجُه منه مؤدياً حقَّه وقيل إدخالُه في كل ما يلابسه من مكان أو أمرٍ وإخراجُه منه وقرئ مَدخل ومَخرج بالفتح على معنى أدخلني فأدخُلَ دخولاً وأخرجوني فأخرُجَ خروجاً كقوله ... وعضّةُ دهرٍ يا ابنَ مروانَ لم تَدَع ... مِنَ المالِ إلا مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ ... أيْ لَم تدعَ فلم يبْقَ (واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا) حجةً تنصُرني على من يخالفني أو ملكا عزا ناصراً للإسلام مظهِراً له على الكفر فأجيبت دعوتُه صلى الله عليه وسلم بقوله عز وعلا والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرض

81

(وَقُلْ جَاء الحق) أي الإسلامُ والوحيُ الثابتُ الراسخ (وَزَهَقَ الباطل) أي ذهب وهلك الشرك والكفر وتسوبلات الشيطان من زهَق روحُه إذا خرج (إِنَّ الباطل) كائناً ما كان (كَانَ زَهُوقًا) أي شأنُه أن يكون مضمحلاً غيرَ ثابتٍ

الإسراء 82 83 وهو عِدةٌ كريمةٌ بإجابة الدعاءِ بالسلطان النصيرِ الذي لُقِّنه عنِ ابنِ مسعودٍ رضيَ الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكةَ يوم الفتح وحول البيت ثلثُمائة وستون صنماً فجعل ينكُت بمِخْصَرة كانت بيده في عين واحد واحد ويقول جاء الحقُ وزهق الباطلُ فينكبّ لوجهه حتى أَلقْى جميعَها وبقيَ صنمُ خُزاعةَ فوق الكعبة وكان من صُفْر فقال يا عليُّ ارمِ به فصعِد فرمى به فكسره

82

(وتنزل من القرآن) وقرئ نُنْزل من الإنزال (مَا هو شغاء) لَما في الصدورِ منْ أدواء الرَّيْب وأسقامِ الأوهام (وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ) به العالِمين بما في تضاعيفه أي ما هو في تقويم دينِهم واستصلاحِ نفوسِهم كالدواء الشافي للمرضى من بيانيةٌ قُدِّمت على المبيَّن اعتناءً فإن كلَّ القرآنِ كذلك وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم مَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بالقرآن فلا شفاه الله أو تبعيضية لكن لا بمعنى أن بعضَه ليس كذلك بل بمعنى إنا ننزل منه في كل نَوْبةٍ ما تستدعي الحكمةُ نزولَه حينئذ فيقع ذلك ممن نزل عليهم بسبب موافقتِه لأحوالهم الداعيةِ إلى نزوله موقعَ الدواء الشافي المصادف للا بأنه من المرضى المحتاجين إليه بحسب الحالِ من غير تقديم ولاتأخير فكلُّ بعضٍ منه متصفٌ بالشفاء لكن لا في كل حينٍ بل عند تنزيلِه وتحقيقُ التبعيضِ باعتبار الشفاءِ الجُسماني كما في الفاتحة وآياتِ الشفاء لا يساعده قوله سبحانه (وَلاَ يزيد الظالمين إلى خسارا) أي لايزيد القرآنُ كلُّه أو كلُّ بعضٍ منه الكافرين المكذبين به الواضعين لأشياء في غير مواضعِها مع كونِه في نفسِه شفاءً من الأسقام إلا خَساراً أي هلاكاً بكفرهم وتكذيبِهم لا نقصاناً كما قيلَ فإنَّ مَا بهم من داء الكفرِ والضلالِ حقيقٌ بأن يعبّر عنه بالهلاك لا بالنقصان المنبئ عن حصول بعض مبادئ الأسقامِ فيهم وزيادتِهم في مراتب الهلاك من حيث أنهم كلما جددوا الكفرَ والتكذيب بالآيات النازلة تدريجيا ازدادوا بذلك هلاكاً وفيه إيماءٌ إلى أنَّ ما بالمؤمنين من الشُّبَه والشكوك المعتربة لهم في أثناء الاهتداءِ والاسترشادِ بمنزلة الأمراضِ وما بالكفرة من الجهل والعناد بمنزلة الموتِ والهلاك وإسنادُ الزيادة المذكورةِ إلى القرآن مع أنهم هم المُزْدادون في ذلك بسوء صنيعهم واعتبار كونِه سبباً لذلك وفيه تعجيبٌ من أمره حيث يكون مداراً للشفاء والهلاك

83

(وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان) بالصحة والنعمة (أَعْرَضَ) عن ذكرنا فضلاً عن القيام بموجب الشكر (وَنَأَى) تباعدَ عن طاعتنا (بِجَانِبِهِ) النأيُ بالجانب أن يَلْويَ عن الشيء عِطفَه ويُولِيَه عُرضَ وجهِه فهو تأكيدٌ للإعراض أو عبارةٌ عن الاستكبار لأنه من ديدن المستكبرين (وذا مَسَّهُ الشر) من فقر أو مرض أو نازلةٍ من النوازل وفي إسناد المِساسِ إلى الشر بعد إسنادِ الإنعامِ إلى ضمير الجلالةِ إيذانٌ بأن الخيرَ مرادٌ بالذات والشرَّ ليس كذلك (كَانَ يَئُوساً) شديدَ اليأس من رَوْحنا وهذا وصفُ للجنس باعتبار بعضِ أفرادِه ممن هو على هذه الصفةِ ولا ينافيه وقوله تعالى وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ ونظائرُه فإن ذلك شأنُ بعضٍ آخرين منهم وقيل أريد به الوليدُ بنُ المغيرة وقرئ ناء إما على القلب كما يقال راءَ في رأي وإما على أنه بمعنى نهض

الإسراء

84

84 - 85 84 (قُلْ كُلٌّ) أي كلُّ أحدٍ منكم وممن هو على خلافكم (يَعْمَلُ) عمله (على شَاكِلَتِهِ) طريقتِه التي تشاكل حالَه في الهدى والضلال أو جوهرِ روحِه وأحوالِه التابعة لمزاج بدنه (قربكم) الذي برأكم على هذه الطبائِع المتخالفة (أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً) أي أسدُّ طريقاً وأبينُ مِنهاجاً وقد فُسِّرت الشاكلةُ بالطبيعة والعادة والدين

85

(ويسألونك عَنِ الروح) الظاهرُ أن السؤالَ كان عن حقيقة الروح الذي هو مدبّرُ البدنِ الإنساني ومبدأُ حياتِه رُوي أن اليهودَ قالوا لقريش سلوه عن أصحاب الكهفِ وعن ذي القَرنين وعن الرّوح فإن أجاب عنها جيمعا أو سكت فليس بنبي وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبيٌّ فبيّن لهم القصتين وأبْهم أمرَ الروح وهو مُبْهمٌ في التوراة (قُلِ الروح) أُظهر في مقام الإضمارِ إظهاراً لكمال الاعتناءِ بشأنه (مِنْ أَمْرِ رَبّى) كلمةُ من بيانيةٌ والأمرُ بمعنى الشأنِ والإضافةُ للاختصاص العِلْميِّ لا الإيجاديّ لاشتراك الكلِّ فيه وفيها من تشريف المضاف مالا يخفى كما في الإضافة الثانيةِ من تشريف المضافِ إليه أي هو من جنس ما استأثر الله تعالى بعلمه منَ الأسرارِ الخفيةِ التي لا يكاد يحوم حولها عقولُ البشر (وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً) لا يمكن تعلّقُه بأمثال ذلك روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا نحن مختصّون بهذا الخطاب قال صلى الله عليه وسلم بل نحن وأنتم فقالوا ما أعجبَ شأنَك ساعةً تقول وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا وساعةً تقول هذا فنزلت ولو أن ما الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ الآية وإنما قالوا ذلك لركاكة عقولِهم فإن الحكمةَ الإنسانيةَ أن يعلم من الخير ما تسعه الطاقةُ البشريةُ بل ما نيط به المعاشُ والمعادُ وذلك بالإضافة إلى مالا نهايةَ له من معلوماته سبحانه قليلٌ يُنال به خيرٌ كثيرٌ في نفسه أو بالنسبة إلى الإنسان أو هو من الإبداعيات الكائنةِ بمحض الأمرِ التكوينيِّ من غير تحصّلٍ من مادة وتولُّدٍ من أصل كأعضاء الجسدِ حتى يمكن تعريفُه ببعض مباديه ومآلُه أنه من عالم الأمرِ لا من عالم الخَلق وليس هذا من قبيل قوله سبحانه إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فيكون فإن ذلك عبارةٌ عن سرعة التكوينِ سواءٌ كان الكائنُ من عالم الأمرِ أو من عالم الخلقِ وفيه تنبيهٌ على أنَّه مما لا يحيط بكنهه دائرةُ إدراكِ البشر وإنما الممكن هذا القدرُ الإجماليُّ المندرجُ تحت ما استُثني بقوله تعالى وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً أي إلا علماً قليلاً تستفيدونه من طرُق الحواسِّ فإن تعقّلَ المعارفِ النظرية إنما هو من إحساس الجزيئات ولذلك قيل من فقد حسا فقد فقد علماً ولعل أكثر الأشياءِ لا يدركه الحسُّ ولا شيءٌ من أحواله التي يدور عليها معرفةُ ذاتِه وأما حملُ ما ذكر على السؤال عن قِدَمه وحدوثه وجعلُ الجوابِ إخباراً بحدوثه أي كائنٌ بتكوينه حادثٌ بإحداثه بالأمر التكويني فمع عدم ملاءمتِه لحال السائلين لا يساعده التعرّضُ لبيان قلةِ علمِهم فإن ما سألوا عنه مما يفي به علمُهم حينئذ وقد أُخبر عنه وقيل المرادُ بالروح خلقٌ عظيم رُوحاني أعظمُ من المَلَك وقيلَ جبريلَ عليهِ السَّلامُ وقيل القرآنُ ومعنى من أمر ربي من وحيه وكلامِه لا من كلام البشر

الإسراء

86

86 - 8 {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) من القرآن الذي هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ومنبَعٌ للعلوم التي أوتيتموها وثبتّناك عليه حين كادوا يفتنونك عنه ولولاه لكدتَ تركن إليهم شيئا قليلا وإنما عبّر عنه بالموصول تفخيماً لشأنه ووصفاً له بما في حيز الصلة ابتداءً وإعلاماً بحاله من أول الأمرِ وبأنه ليس من قبيل كلامِ المخلوقِ واللامُ موطئةٌ للقسم ولنذهبن جوابُه النائبُ منابَ جزاءِ الشرطِ وبذلك حسُنَ حذفُ مفعولِ المشيئةِ والمرادُ من الذهاب به المحوُ من المصاحف والصدورِ وهو أبلغُ من الإذهاب عنِ ابنِ مسعودٍ رضيَ الله عنه أن أولَ ما تفقِدون من دينكم الأمانةُ وآخرَ ما تفقِدون الصلاةُ وليُصَلّين قوم ولادين لهم وأن هذا القرآنَ تُصبحون يوماً وما فيكم منه شيءٌ فقال رجلٌ كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتْناه في مصاحفنا نعلّمه أبناءَنا ويعلمه أبناؤُنا أبناءَهم فقال يسرى عليه ليلاً فيصبح الناسُ منه فقراءَ تُرفع المصاحفُ وينزَعُ ما في القلوب (ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ به) أي القران (عَلَيْنَا وَكِيلاً) من يتوكل علينا استردادَه مسطوراً محفوظاً

87

(إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ) فإنها إن نالتْك لعلها تستردّه عليك ويجوز أن يكون الاستثناءُ منقطِعاً بمعنى ولكنْ رحمةٌ مّن رَّبِكَ تركَتْه غيرَ مذهوبٍ به فيكون امتناناً بإبقائه بعد المنة بتنزيله وترغيباً في المحافظه على أداء حقوقِه وتحذيراً من أن لا يُقدرَ قدرُه الجليلُ ويفرَّط في القيام بشكره وهو أجلُّ النعم وأعظمُها (إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا) كإرسالك وإنزالِ الكتابِ عليك وإبقائِه في حفظك وغير ذلك

88

(قُلْ) للذين لا يعرِفون جلالةَ قدرِ التنزيل ولا يفهمون فخامةَ شأنه الجليل بل يزعُمون أنه من كلام البشر (لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن) أي اتفقوا (على أن يأتو بمثل هذا القران) المنعوتِ بما لا تدركه العقولُ من النعوت الجليلةِ في البلاغة وحسن النظم وكمالِ المعنى وتخصيصُ الثقلين بالذكر لأن المنكِرَ لكونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما لا لأن غيرَهما قادرٌ على المعارضة (لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) أوثر الإظهارُ على إيراد الضميرِ الراجع إلى المِثْل المذكورِ احترازاً عن أن يُتوَّهم أن له مِثْلاً معيناً وإيذاناً بأن المرادَ نفيُ الإتيانِ بمثْلٍ ما أي لا يأتون بكلام مماثلٍ له فيما ذُكر من الصفات البديعةِ وفيهم العربُ العاربة أربابُ البراعةِ والبيانِ وهو جوابٌ للقسم الذي ينبئ عنه اللامُ الموطئةُ وسادٌّ مسدَّ جزاءِ الشرطِ ولولاها لكان جواباً له بغير جزمٍ لكون الشرط ماضياً كما في قولِ زُهيرٍ ... وَإِنْ أَتَاهُ خَليلٌ يَوْمَ مَسْأَلة ... يقُولُ لا غائبٌ مالي ولا حرِمُ ... وحيث كان المرادُ بالاجتماع على الإتيان بمثل القرآنِ مطلقَ الاتفاق عل ذلك سواءٌ كان التصدِّي للمعارضة من كلِّ واحدٍ منهم على الانفراد أو من المجموع بأن يتألّبوا على تلفيق كلامٍ واحد بتلاحق الأفكار وتعاضد الانظالر قيل وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لبعض ظهيرا

الإسراء 89 92 أي في تحقيق ما يتوخَّوْنه من الإتيان بمثله وهو عطفٌ على مقدرٍ أي لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضُهم ظهيراً لبعض ولو كان الخ وقد حُذف المعطوفُ عليه حذفاً مطّرداً لدِلالة المعطوفِ عليه دِلالةً واضحةً فإن الاتيان بمثله حيث انتفى عند التظاهرِ فلأَنْ ينتفيَ عند عدِمه أولى وعلى هذه النكتةِ يدورُ ما في إنْ ولو الوصليتين من التأكيد كما مر غيرَ مرة ومحلُّه النصبُ عَلى الحاليّةِ حسبما عُطف عليه أي لا يأتون بمثله على كل حالٍ مفروضٍ ولو في هذه الحال المنافيةِ لعدم الإتيانِ به فضلاً عن غيرها وفيه حسمٌ لأطماعِهم الفارغةِ في رَوْم تبديل بعض آياتِه ببعض ولا مساغَ لكون الآية تقريراً لما قبلها من قوله تعالى ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً كما قيل لكن لا لِما قيلَ من أن الإتيانَ بمثله أصعبُ من استرداد عينِه ونفيُ الشيء إنما يقرره نفي مادونه لانفي مافوقه فإن أصعبيةَ الاستردادِ بغير أمرِه تعالى من الإتيان بمثله مما لا شُبهةَ فيه بل لأن الجملةَ القسميةَ ليست مَسوقةً إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بل إلى المكابرين من قبله صلى الله عليه وسلم

89

(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا) كررنا وردّدنا على أنحاءٍ مختلفةٍ توجب زيادةَ تقريرٍ وبيان ووَكادةِ رسوخٍ واطمئنان (لِلنَّاسِ فِى هذا القرآن) المنعوتُ بما ذُكِرَ من النعوتِ الفاضلة (مِن كُلّ مَثَلٍ) من كل معنى بديع هو في الحسنُ والغرابةُ واستجلابُ النفسِ كالمَثَل ليتلقَّوْه بالقبول (فأبى أَكْثَرُ الناس (أوثر الإظهارُ على الإضمار تأكيداً وتوضيحاً (إِلاَّ كُفُورًا) أي إلا جُحوداً وإنما صح الاستثناءُ من الموجبُ مع أنه لا يصِح ضربتُ إلا زيداً لأنه متأوّل بالنفي كأنه قيل ما قَبِل أكثرُهم إلا كفوراً وفيه من المبالغة ما ليس في أبو الإيمانَ لأن فيه دِلالةً على أنهم لم يرضَوا بخَصلة سوى الكفورِ من الإيمان والتوقفِ في الأمر ونحو ذلك وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبةَ الإباءِ

90

(وَقَالُواْ) عند ظهور عجزهم ووضوحِ مغلوبيّتِهم بالإعجاز التنزيليّ وغيرِه من المعجزات الباهرةِ متعللين بما لا يمكن في العادة وجودُه ولا تقتضي الحكمةُ وقوعَه من الأمور كما هو دَيدَنُ المبهوتِ المحجوج (لَن نُّؤْمِنَ لك حتى تفجر) وقرئ بالتشديد (لَنَا مِنَ الأرض) أرضِ مكة (يَنْبُوعًا) عيناً لا ينضب ماؤها بفعول من نبع الماءُ كيعْبوب من عبّ الماءَ إذا زخر

91

(أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) أي بستانٌ تسترُ أشجارُه ما تحتها من العَرْصة (مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنهار) أي تجريها بقوة (خلالها تفجيرا) كثرا والمرادُ إما إجراءُ الأنهارِ خلالها عند سقْيها أو إدامة إجرائها كما ينبئ عنه الفاءُ لا ابتداؤه

92

(أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا) جمع كِسْفة كقطعة وقِطَع لفظاً ومعنى وقرىء بالسكون كسِدْرة وسِدْر وهي حالٌ من السماء والكاف في كما في محل النصبُ على أنَّه صفةُ مصدرٍ محذوفٍ أي إسقاطاً مماثلاً لما زعمت

الإسراء 93 94 يعنُون بذلك قولَه تعالى أو تسقط عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء (أو تأتي بالله والملائكة قَبِيلاً) أي مقابلاً كالعشير والمعاشِر أو كفيلاً يشهد بصِحة ما تدعيه وهو حالٌ من الجلالة وحالُ الملائكةِ محذوفةٌ لدِلالتها عليها أي والملائكة قبلاء كما حذف الخبرُ في قوله فإني وقيارٌ بها الغريب أو جماعةً فيكون حالاً من الملائكة

93

(أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ) من ذهب وقد قرئ به وأصلُه الزينة (أَوْ ترقى فِى السماء) أي في معارجها فحُذف المضافُ يقال رقيَ في السُّلّم وفي الدرجة (وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ) أي لأجل رُقيِّك فيها وحده أو لن نصدق رقيَّك فيها (حَتَّى تتنزل) منها (عَلَيْنَا كِتَابًا) فيه تصديقك (نقرؤه) نحن من غير أن يُتلقّى من قِبلك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال عبدُ اللَّه بنُ أبي أمية لن نؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سُلّماً ثم ترقى فيه وأنا أنظُر حتى تأتيَها وتأتَي معك بصك منشورٍ معه أربعةٌ من الملائكة يشهدون أنك كما تقول وما كانوا يقصِدون بهاتيك الاقتراحاتِ الباطلة إلا العنادَ واللجاج ولو أنهم أوتو أضعافَ ما اقترحوا من الآيات ما زادهم ذلك إلا مكابرةً وإلا فقد كما يكفيهم بعضُ ما شاهدوا من المعجزات التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال (قُلْ) تعجباً من شدة شكيمتِهم وتنزيهاً لساحة السُّبحات عما لا يكاد يليق بها من مثل هذه الاقتراحاتِ الشنيعة التي تكاد السمواتُ يتفطّرن منها أو عن طلبك ذلك وتنبيهاً على بطلان ما قالوه (سبحان ربي) وقرئ قال سبحان ربي (هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا) لا ملَكاً حتى يُتصور مني الرقي في السماء ونحوه (رَسُولاً) مأموراً من قبل ربي بتبليغ الرسالةِ من غير أن يكون لي خِيَرةٌ في الأمر كسائر الرسلِ وكانوا لا يأتون قومَهم إلا بما يظهره الله على أيديهم حسبما يلائم حالَ قومِهم ولم يكن أمرُ الآياتِ إليهم ولا لهم أن يتحكموا على الله سبحانه بشيء منها وقولُه بشراً خبرٌ لكنت ورسولاً صفتُه

94

(وَمَا مَنَعَ الناس) أي الذين حُكيت أباطيلُهم (أَن يُؤْمِنُواْ) مفعولٌ ثانٍ لمنع وقوله (إذا جَاءهُمُ الهدى) أي الوحيُ ظرفٌ لمنع أو يؤمنوا أي وما منعهم وقت مجئ الوحي المقرونِ بالمعجزاتِ المستدعيةِ للإيمان أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوّتك أو ما منعهم أن يؤمنوا بذلك وقت مجئ ما ذكر (إِلاَّ أَن قَالُواْ) في محلِ الرفعِ على أنه فاعلُ منع أي إلا قولُهم (أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً) منكِرين أن يكون رسولُ الله تعالى من جنس البشرِ وليس المرادُ أن هذا القولَ صدر عن بعضهم فمنع بعضاً آخرَ منهم بل المانعُ هو الاعتقادُ الشاملُ للكل المستتبعُ لهذا القول منهم وإنما عبرّ عنه بالقول إيذاناً بأنه مجردُ قولٍ يقولونه بأفواههم من غير أن يكون له مفهومٌ ومِصْداقٌ وحصرُ المانعِ من الإيمان فيما ذكر مع أن لهم موانعَ شتّى لِما أنه معظمُها أو لأنه هو المانعُ بحسب الحال أعني عند سماعِ الجواب بقوله تعالى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً إذ هو الذي يتشبّثون به حينئذ من غيرِ أنْ يخطُر ببالِهم شبهةً أخرى من شبههم الواهيةِ وفيه إيذانٌ بكمال عنادِهم حيث يشير إلى أن الجوابَ المذكورَ مع كونه حاسماً لموادّ

الإسراء 95 97 شُبَهِهم ملجئاً إلى الإيمان يعكُسون الأمرَ ويجعلونه مانعاً منه

95

(قُلْ) لهم أولاً من قبلها تبييناً للحكمة وتحقيقاً للحق المُزيحِ للرَّيب (لَّوْ كَانَ) أي ولو وجد واستقر (فِى الأرض) بدل البشر (ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ) قارّين فيها من غير أن يعرُجوا في السماء ويعلموا ما يجب أن يُعلم (لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً) يهديهم إلى الحق ويُرشِدُهم إلى الخير لتمَكُّنهم من الاجتماع والتلقي منه وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضةِ الملكية فكيف لا وهي منوطةٌ بالتناسب والتجانس فبعثُ الملَكِ إليهم مزاحِمٌ للحكمة التي عليها مبْنى التكوينِ والتشريع وإنما يُبعث الملَك من بينهم إلى الخواصّ المختصّين بالنفوس الزكية لمؤيدين بالقوة القدسية المتعلّقين بكلا العالَمَين الروحانيِّ والجُسماني ليتلقَّوا من جانب ويُلْقوا إلى جانب وقوله تعالى مَلَكًا يحتمل أنْ يكونَ حالاً من رسولاً وأن يكون موصوفاً به وكذلك بشراً في قوله تعالى أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً والأولُ أولى

96

(قُلْ) لهم ثانياً من جهتك بعد ما قلت لهم من قِبلنا ما قلتَ وبينتَ لهم ما تقتضيه الحكمةُ في البعثة ولم يرفعوا إليهِ رأساً 0 كفى بالله) وحده (شَهِيداً) على أني أدّيتُ ما عليّ من مواجب الرسالةِ أكملَ أداءٍ وأنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعِناد وتوجيهُ الشهادةِ إلى كونه صلى الله عليه وسلم رسولاً بإظهار المعجزةِ على وفق دعواه كما اختير لا يساعده قوله تعالى (بين وَبَيْنَكُمْ) وما بعده من التعليل وإنما لم يقل بيننا تحقيقاً للمفارقة وإبانةً للمباينة وشهيداً إما حالٌ أو تميير (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ) من الرسل والمرسَلِ إليهم (خَبِيرَا بَصِيرًا) محيطاً بظواهر أحوالِهم وبواطنها فيجازيهم على ذلك وهو تعليل الكفاية وفيه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديدٌ للكفار

97

(وَمَن يَهْدِ الله) كلامٌ مبتدأٌ يفصل ما أشار إليه الكلامُ السابق من مجازاة العبادِ إشارةً إجماليةً أي من يهدِه الله إلى الحق بما جاء من قبله من الهدى (فَهُوَ المهتد) إليه وإلى ما يُؤدِّي إليه من الثواب أو المهتدِ إلى كل مطلوب (وَمَن يُضْلِلِ) أي يخلق فيه الضلال بسوء اختيارِه كهؤلاء المعاندين (فَلَن تَجِدَ لَهُمْ) أوثر ضميرُ الجماعة اعتباراً لمعنى مَنْ غِبّ ما أوثر في مقابله الإفرادُ نظراً إلى لفظها تلويحاً بوَحدة طريقِ الحقِّ وقلةِ سالكيه وتعددِ سبلِ الضلال وكثرةِ الضلال (أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ) من دونِ الله تعالَى أي أنصاراً يهدونهم إلى طريقِ الحقِّ أو إلى طريق يوصلهم إلى مطالبهم الدنيويةِ والأخروية أو إلى طريق النجاة من العذاب الذي يستدعيه ضلالُهم على معنى أن تجدَ لأحد منهم وليًّا على ما تقتضيه قضيةُ مقابلة بالجمع من انقسام الآحادِ إلى الآحاد (وَنَحْشُرُهُمْ) التفاتٌ من الغَيبةِ إلى التَّكلمِ إيذاناً بكمال الاعتناءِ بأمر الحشرِ (يَوْمَ القيامة عَلَى وُجُوهِهِمْ) حالٌ من الضمير المنصوبِ أي

الإسراء 98 100 كائنين عليها سحبا كقوله تعالى يوم يسحبون فِى النار على وُجُوهِهِمْ أو مشياً فقد روي أنَّه قيلَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم كيف يمشون على وجوههم قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادرٌ على أن يُمشِيَهم على وجوههم (عُمْيًا) حالٌ منَ الضميرِ المجرورِ في الحال السابقة (وَبُكْمًا وَصُمّا) لا يُبصِرون ما يُقِرّ أعينَهم ولا ينطِقون ما يُقبل منهم ولا يسمعون ما يُلذّ مسامعَهم لما قد كانوا في الدنيا لا يستبصرون بالآيات والعبرِ ولا ينطِقون بالحق ولا يستمعونه ويجوز أن يُحشَروا بعد الحسابِ من الموقفِ إلى النَّارِ مُوفَيْ القُوى والحواسّ وأن يحشروا كذلك ثم يعاد إليهم قواهم وحواسُّهم فإن إدراكاتِهم بهذه المشاعرِ في بعض المواطنِ مما لا ريبَ فيه (مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) إما حالٌ أو استئنافً وكذا قوله تعالى {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} أي كلما سكن لهبُها بأن أكلت جلودَهم ولحومَهم ولم يبق فيهم ما تتعلق به النارُ وتحرِقه زدناهم توقداً بأن بدّلناهم جلوداً غيرَها فعادت ملتهبةً ومستعرةً ولعل ذلك عقوبةٌ لهم على إنكارهم الإعادةَ بعد الفناءِ بتكريرها مرةً بعد أخرى ليروها عينا حيث لم يعلموها برهاناً كما يفصحُ عنه قولُه تعالى

98

(ذلك) أي ذلك العذابُ (جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ) أي بسببِ أنَّهم {كفروا بآياتنا} العقليةِ والنقليةِ الدالةِ على صحة الإعادةِ دَلالةً واضحةً فذلك مبتدأٌ وجزاؤُهم خبرُه ويجوز أن يكون مبتدأً ثانياً وبأنهم خبرُه والجملةُ خبراً لذلك وأن يكون جزاؤهم بدلاً من ذلك أو بياناً له والخبرُ هو الظرف (وَقَالُواْ) منكرِين أشد الانكار {أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} إما مصدرٌ مؤكدٌ من غير لفظِه أي لمبعوثون بعثاً جديداً وإما حالٌ أي مخلوقين مستأنفين

99

(أَوَ لَمْ يَرَوْاْ) أيْ ألم يتفكَّروا ولم يعلموا {أَنَّ الله خلق السماوات والأرض} من غير مادةٍ مع عظمهما {قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} في الصغر على أن المِثْلَ مُقحَمٌ والمرادُ بالخلق الإعادةُ كما عبر عنها بذلك حيث قيل خلقاً جديداً {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ} ) عطف على أولم يروا فإنه في قوة قدر أو واو المعنى قد علموا أن من قدَر على خلق السموات والأرضِ فهو قادرٌ على خلق أمثالِهم من الإنس وجعل لهم ولبعثهم أجلاً محققاً لا ريبَ فيهِ هو يومُ القيامة {فأبى الظالمون} وُضع موضعَ الضميرِ تسجيلاً عليهم بالظُّلم وتجاوزِ الحدِّ بالمرة {إِلاَّ كُفُورًا} أي جحوداً

100

{قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى} خزائنَ رزقِه التي أفاضها على كافة الموجوداتِ وأنتم مرتفعٌ بفعل يفسّره المذكورُ كقول حاتم لو ذاتُ سِوارٍ لَطَمتْني وفائدة ذلك المبالغةُ والدلالة على الاختصاص (إذن لأمسكتم) لبخليم (خشية الانفاق) مخالفة النفاد

الإسراء 101 102 بالإنفاق إذ ليس في الدنيا أحدٌ إلا وهو يختار النفعَ لنفسه ولو آثر غيرَه بشيء فإنما يُؤثره لِعَوض يفوقه فإذن هو بخيلٌ بالإضافة إلى جودِ الله سبحانه {وَكَانَ الإنسان قَتُورًا} مبالغاً في البخل لأن مبْنى أمرِه على الحاجة والضِّنّة بما يحتاج إليه وملاحظةِ العِوضِ بما يبذله

101

{ولقد آتينا موسى تسع آيات بَيّنَاتٍ} واضحاتِ الدِلالة على نبوته وصِحّةِ ما جَاء بهِ من عند الله وهي العَصا واليدُ والجَرادُ والقُمّل والضفادعُ والدمُ والطوفانُ والسّنونَ ونقصُ الثمرات وقيل انفجارُ الماء من الحجر ونتْقُ الطورِ على بني إسرائيلَ وانفلاقُ البحرِ بدل الثلاث الأخيرة ويأباه أن هذه الثلاثَ لم تكن منزلةً إذ ذاك وأن الأولَين لا تعلقَ لهما بفرعون وإنما أوتيهما بنو اسرائيل عن صفوانَ بن عسّال أن يهوديا سأل النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم عنها فقال أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ شيئاً ولا تسرِقوا ولا تزنوا ولا تقتُلوا النفس التى حَرَّمَ الله إلا بالحق ولا تسحرَوا ولا تأكُلوا الربا ولا تمشوا ببرئ إلى ذي سلطان ليقتُله ولا تقذِفوا مُحصنةً ولا تفِرّوا من الزحف وعليكم خاصّةَ اليهودِ أن لا تعْدوا في السبت فقبّل اليهودي يده ورجله صلى الله عليه وسلم ولا يساعده أيضاً ما ذكر ولعل جوابه صلى الله عليه وسلم بذلك لما أنه المُهم للسائل وقبولُه لما أنه كان في التوارة مسطوراً وقد علِم أنه ما علمه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا من جهة الوحي {فاسأل بني إسرائيل} وقرئ فسَلْ أي فقلنا له سلْهم من فرعون وقل له أرسلْ معيَ بني إسرائيلَ أو سلهم عن إيمانهم أو عن حال دينِهم أو سلْهم أن يعاضدوك ويؤيده قراءةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على صيغة الماضي وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي فاسألهم عن تلك الآياتِ لتزدادَ يقيناً وطُمَأْنينةً أو ليظهر صِدقُك {إِذْ جَاءهُمُ} متعلق بقلنا وبسأل على القراءة المذكورة وبآياتنا أو بمضمر هو يخبروك أو اذكر على تقدير كونِ الخطابِ للرسول صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ) الفاءُ فصيحةٌ أي فأظهرَ عند فرعون ما آتيناه من الآيات البيناتِ وبلّغه ما أُرسل به فقال له فرعون

102

{إني لأظنك يا موسى مَّسْحُورًا} سُحرْت فتخبّط عقلك {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء} يعني الآياتِ التي أظهرها {إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض} ) خالقُهما ومدبرُهما والتعرّضُ لربوبيته تعالى لهما للإيذان بأنه لا يقدِر على إيتاء مثلِ هاتيك الآياتِ العظامِ إلا خالقُهما ومدبّرهما {بَصَائِرَ} حالٌ من الآيات أي بيناتٍ مكشوفاتٍ تُبصّرك صدقي ولكنك تعاند وتكابر نحوُ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ومن ضرورة ذلك العلم العلم بأنه صلى الله عليه وسلم على كمال رصانةِ العقلِ فضلاً عن توهم المسحورية وقرئ علمتُ على صيغة التكلمِ أي لقد علمتُ بيقين أن هذه الآياتِ الباهرةَ أنزلها الله عز سلطانه فكيف يُتوهم أن يحومَ حولي سحر {وَإِنّى لاظُنُّكَ يا فرعون مَثْبُورًا} ) مصروفاً عن الخير مطبوعاً على الشر من قولهم ما ثبَرك عن هذا أي ما صرفك أو هالكاً ولقد قارع صلى الله عليه وسلم ظنَّه بظنه وشتان بينهما كيف لا وظنُّ فرعونَ

الإسراء 103 107 إنك مبين وظنه صلى الله عليه وسلم يتاخم اليقين

103

(فَأَرَادَ) أي فرعون (أَن يَسْتَفِزَّهُم) أي يستخِفَّهم ويُزعجَهم {مّنَ الأرض} أرضِ مصرَ أو من الأرض مطلقاً بالقتل كقوله سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا} فعكسنا عليه مكرَه واستفززناه وقومَه بالإغراق

104

{وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ} من بعد إغراقهم {لبني إسرائيل اسكنوا الأرض} التي أراد أن يستفزّكم منها {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الأخرة} الكرةُ الآخرةُ أو الحياةُ أو الساعةُ والدارُ الآخرة أي قيامُ القيامة {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} مختلطين إياكم وإياهم ثم نحكُم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم اللفيف الجماعاتُ من قبائلَ شتى

105

{وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} ) أي وما أنزلنا القرآنَ إلا ملتبساً بالحق المقتضي لإنزاله وما نزل إلا ملتبساً بالحق الذي اشتمل عليه أو ما أنزلناه من السماء إلا محفوظاً وما نزل على الرسول إلا محفوظاً من تخليط الشياطينِ ولعل المرادَ بيانُ عدم اعتراءِ البطلان له أولَ الأمرَ وآخرَه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا} للمطيع بالثواب {وَنَذِيرًا} للعاصي من العقاب وهو تحقيقٌ لحقية بعثته صلى الله عليه وسلم إثرَ تحقيقِ حقية إنزالِ القرآن

106

{وقرآنا} منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى {فرقناه} وقرئ بالتشديد دَلالةً على كثرة نجومِه {لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} على مَهل وتثبُّتٍ فإنه أيسرُ للحفظ وأعون على الفهم وقرئ بالفتح وهو لغة فيه {ونزلناه تَنْزِيلاً} حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحة ويقع من الحوادث والواقعات

107

{قل} للذين كفروا {آمنوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ} فإن إيمانَكم به لا يزيده كمالاً وامتناعَكم لا يورثه نقصاً {إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ} أي العلماء الذين قرءوا الكتبَ السالفةَ من قبل تنزيلِه وعرَفوا حقيقةَ الوحي وأماراتِ النبوةِ وتمكّنوا من التمييز بين الحقِّ والباطلِ والمُحقِّ والمبطلِ ورأوا فيها نعتَك ونعتَ ما أنزل إليك (إِذَا يتلى) أي القرآنُ {عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} أي يسقطون على وجوههم {سُجَّدًا} تعظيماً لأمر الله تعالى أو شكراً لإنجاز ما وعد به في تلك الكتبِ من بعثتك وتخصيصُ الأذقانِ بالذكر للدِلالة على كمال التذللِ إذ حينئذ يتحقق الخُرور عليها وإيثارُ اللام للدِلالة على اختصاص الخُرور بها كما في قوله [فخرَّ صريعاً لليدين وللفمِ] وهو تعليلٌ لما يُفهم من قولِه تعالَى آمنوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ من عدم المبالاة بذلك أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به أحسنَ إيمانٍ مَنْ هو خيرٌ منكم ويجوز أن يكون تعليلاً لقُلْ على سبيل التسليةِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل تسلَّ بإيمان العلماءِ عن إيمان الجهلةِ ولا تكترث بإيمانهم وإعراضِهم

الإسراء

108

108 - 110 {وَيَقُولُونَ} في سجودهم {سُبْحَانَ رَبّنَا} عما يفعل الكفرةُ من التكذيب أو عن خُلْف وعده {إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً} إن مخففةٌ من المثقّلة واللامُ فارقةٌ أي إن الشأن هذا

109

{وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} كرر الخُرورَ للأذقان لاختلاف السبب فإن الأولَ لتعظيم أمر الله تعالى أو الشكرِ لإنجاز الوعدِ والثاني لِما أثّر فيهم من مواعظ القرآنِ حالَ كونِهم باكين من خشية الله {وَيَزِيدُهُمْ} أي القرآنُ بسماعهم {خُشُوعًا} كما يزيدهم علماً ويقيناً بالله تعالى

110

{قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} ) نزل حين سمع المشركون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول يا ألله يا رحمن فقالوا إنه ينهانا عن عبادة إلهين وهو يدعو إلها آخرَ وقالت اليهود إنك لتُقِلّ ذكرَ الرحمن وقد أكثره الله تعالى في التوراة والمرادُ على الأول هو التسويةُ بين اللفظين بأنهما عبارتان عن ذات واحدةٍ وإن اختلف الاعتبارُ والتوحيدُ إنما هو للذات الذي هو المعبودُ وعلى الثاني أنهما سيّان في حسن الإطلاقِ والإفضاء إلى المقصود وهُو أوفقُ لقولِه تعالى (أياما تَدْعُواْ فَلَهُ الأسماء الحسنى) والدعاءُ بمعنى التسمية وهو يتعدى إلى مفعولين حُذف أولُهما استغناءً عنه وأو للتخيير والتنوينُ في أياً عوضٌ عن المضافِ إليهِ وما مزيدةٌ لتأكيد ما في أي من الإبهام والضميرُ في له للمسمّى لأن التسميةَ له لا للاسم وكان أصلُ الكلامِ أياما تدعوا فهو حسنٌ فوضع موضعَه فله الأسماءُ الحسْنى للمبالغة والدِلالة على ما هو الدليلُ عليه إذ حسنُ جميعِ أسمائِه يستدعي حسنَ ذينك الاسمين وكونُها حُسنى لدلالتها على صفات الكمال من الجلالة والجمال والإكرام (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) أي بقراءة صلاتِك بحيث تُسمع المشركين فإن ذلك يحملهم على السب واللغوِ فيها {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} أي بقراءتها بحيث لا تُسمع من خلفك من المؤمنين {وابتغ بَيْنَ ذلك} أي بين الجهرِ والمخافتة على الوجه المذكور {سَبِيلاً} أمراً وسَطاً قصْداً فإن خيرَ الأمور أوساطُها والتعبيرُ عن ذلك بالسبيل باعتبار أنه أمرٌ يتوجه إليه المتوجهون ويؤُمّه المقتدون ويوصلُهم إلى المطلوب وروي أن أبا بكرٍ رضيَ الله تعالَى عنه كان يخفِت ويقول أناجي ربي وقد علم حاجتي وعمر رضى الله عنه كان يجهر بها ويقول أطرُد الشيطان وأوقظ الوسْنان فلما نزلت أمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يرفعَ قليلاً وعمرَ أن يخفِض قليلاً وقيل المعنى لا تجهَرْ بصلاتك كلِّها ولا تخافت بها بأسرها وابتغِ بين ذلك سبيلاً بالمخافتة نهاراً والجهرِ ليلاً وقيل بصلاتك بدعائك وذهب قوم إلى أنها منسوخةٌ بقوله تعالى ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وخفية

الإسراء

111

111 - {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} كما يزعمُ اليهودُ والنصارى وبنو مليح حيث قالوا عزيز ابنُ الله والمسيحُ ابنُ الله والملائكةُ بناتُ الله تعالى عن ذلكَ علوَّاً كبيراً {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الملك} أي الألوهيةِ كما يقوله الثنويةُ القائلون بتعدد الآلية {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذل} ناصرٌ ومانعٌ منه لاعتزازه به أو لم يوالِ أحداً من أجل مذلةٍ ليدفعها به وفي التعرض في أثناء الحمدِ لهذه الصفاتِ الجليلة إيذانٌ بأن المستحقَّ للحمد مَنْ هذه نعوتُه دون غيره إذ بذلك يتم الكمالُ والقُدرةُ التامةُ على الإيجاد وما يتفرَّع عليه من إضافة أنواعِ النعم وما عداه ناقص مملوك نعمته أو منعم عليه ولذلك عُطف عليه قولُه تعالى (وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا) وفيه تنبيه على أن العبدَ وإن بالغ في التنزيه والتمجيد واجتهد في الطاعة والتحميد ينبغي أن يعترِف بالقصور في ذلك رُوي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أفصح الغلامُ من بني عبد المطلب علمه هذه الآية لكريمة وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأ سورةَ بني إسرائيلَ فرقّ قلبُه عند ذكرِ الوالدَين كان له قنطارٌ في الجنة والقنطارُ ألفُ أوقية ومائتا أوقية والحمد لله سبحانه وله الكبرياء والعظمة والجبروت

(سورة الكهف مكية إلا الآيات 28 ومن آية 83 إلى آية 101 فمدنية وآياتها 110) بِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم

الكهف

{الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عبده} محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم {الكتاب} أي الكتابَ الكاملَ الغنيُّ عن الوصف بالكمال المعروفِ بذلك من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتابِ به وهو عبارةٌ عنِ جميع القرآن أو عن جميع المُنْزَل حينئذ كما مر مراراً وفي وصفه تعالى بالموصول إشعارٌ بعلية مَا في حيزِ الصلةِ لاستحقاق الحمدِ وإيذانٌ بعِظم شأنِ التنزيلِ الجليلِ كيف لا وعليه يدور فَلكُ سعادةِ الدارين وفي التعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبد مضافاً إلى ضمير الجلالةِ تنبيهٌ على بلوغه صلى الله عليه وسلم إلى أعلى معارجِ العبادةِ وتشريف له أي تشريف وإشعارٌ بأن شأنَ الرسولِ أن يكون عبداً للمرسِل لا كما زعمت النَّصارى في حقِّ عيسى عليه السلام وتأخيرُ المفعول الصريح عن الجار والمجرور مع أن حقه التقديمُ عليه ليتصل به قوله تعالى {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} أي شيئاً من العِوَج بنوع اختلالٍ في النظم وتَنافٍ في المعنى أو انحرف عن الدعوة إلى الحق وهو في المعاني كالعِوَج في الأعيان وأما قوله تعالى لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً مع كون الجبالِ من الأعيان فللدلالة على انتفاء مالا يُدرك من العوج بحاسة البصر بل إنما يوقف عليه بالبصيرة بواسطة استعمالِ المقاييسِ الهندسيةِ ولمّا كان ذلك مما لا يُشعِر به بالمشاعر الظاهرةِ عُدّ من قبيل ما في المعاني وقيل الفتحُ في اعوجاج المنتصِبِ كالعُود والحائِط والكسرُ في اعوجاج غيرِه عيناً كان أو معنى

2

{قَيِّماً} بالمصالح الدينيةِ والدنيويةِ للعباد على ما ينبئ عنه ما بعده من الإنذار والتبشيرِ فيكون وصفاً له بالتكميل بعد وصفِه بالكمال أو على ما قبله من الكتب السماويةِ شاهداً بصِحتها ومهيمناً عليها أو متناهياً في الاستقامة فيكون تأكيداً لما دل عليه نفيُ العِوج مع إفادة كونِ ذلك من صفاته الذاتيةِ اللازمةِ له حسبما تنبئ عنه الصيغةُ لا أنه نُفي عنه العوجُ مع كونه من شأنه وانتصابُه على تقديرِ كونِ الجملةِ المتقدمةِ معطوفةً على الصلة بمضمر ينبىء عنه نفيُ العِوَج تقديرُه جعلَه قيماً وأما على تقدير كونِها حاليةً فهو على الحاليَّةِ من الكتابِ إذ لا فصل حينئذ بني أبعاضِ المعطوفِ عليه بالمعطوف وقرئ قيماً {لّيُنذِرَ} متعلقٌ بأنزل والفاعلُ ضميرُ الجلالة كما في الفعلين المعطوفين عليه والإطلاقُ عن ذكر المفعولِ الأول للإيذان بأن ما سيق له الكلامُ هو

الكهف 3 5 المفعولُ الثاني وأن الأولَ ظاهرٌ لا حاجةَ إلى ذكره أي أنزل الكتابَ لينذر بما فيه الذين كفروا له {بَأْسًا} أي عذاباً {شَدِيدًا مّن لَّدُنْهُ} أي صادراً من عنده نازلاً من قِبله بمقابلة كفرِهم وتكذيبهم وقرئ من لدْنِه بسكون الدال مع إشمام الضمةِ وكسر النونِ لالتقاء السَاكنين وكسر الهاء للاتباع {ويبشر} بالشديد وقرئ بالتخفيف {المؤمنين} أي المصدقين به {الذين يَعْمَلُونَ الصالحات} الأعمالَ الصالحةَ التي بيّنت في تضاعيفه وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ في الصلة للإشعار بتجدد الأعمالِ الصالحة واستمرارِها وإجراءُ الموصولِ على موصوفه المذكورِ لما أن مدارَ قَبولِ الأعمالِ هو الإيمان {أَنَّ لَهُمْ} أي بأن لهم بمقابلة إيمانِهم وأعمالِهم المذكورة {أَجْرًا حَسَنًا} هو الجنَّةَ وما فيها من المثوبات الحُسنى

3

{مَّاكِثِينَ} حالٌ منَ الضميرِ المجرورِ في لهم {فِيهِ} أي في ذلكَ الأجر {أبدا} من غير انتهاء أي خالدين فيه وهو نصبٌ على الظرفية لماكثين وتقديمُ الإنذار على التبشير لإظهار كمال العنايةِ بزجر الكفّارِ عما هم عليه مع مراعاة تقديمِ التخليةِ على التحلية وتكريرُ الإنذار بقوله تعالى

4

{وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا} متعلقاً بفِرْقة خاصة ممن عمّه الإنذارُ السابقُ من مستحقي البأسِ الشديد لإيذان بكمال فظاعةِ حالِهم لغاية شناعةِ كفرِهم وضلالِهم أي وينذرَ من بين سائر الكفرة هؤلا المتفوّهين بمثل هاتيك العظيمةِ خاصة وهم كفارُ العرب الذين يقولون الملائكةُ بناتُ الله تعالى واليهودُ القائلون عزيز ابنُ الله والنصارى القائلون المسيحُ ابن الله وتركُ إجراءِ الموصولِ على الموصوف كما فُعل في قوله تعالى وَيُبَشّرُ المؤمنين للإيذان بكفاية مَا في حيزِ الصلةِ في الكفر على أقبح الوجوه وإيثارُ صيغةِ الماضي في الصلة للدِلالة على تحقق صدورِ تلك الكلمةِ القبيحة عنهم فيما سيق وجعلُ المفعولِ المحذوفِ فيما سلف عبارةً عن هذه الطائفة يؤدي إلى خروج سائرِ أصنافِ الكفرة عن الإنذار والوعيدِ وتعميمُ الإنذارِ هناك للمؤمنين أيضاً بحمله على معنى مجردِ الإخبارِ بالخبر الضارِّ من غير اعتبار حُلول المنذَرِ به على المنذَر كما في قوله تعالى أَنْ أَنْذِر الناس وبشر الذين آمنوا يُفضي إلى خلوّ النظمِ الكريم عن الدلالة على حلول البأسِ الشديدِ على مَنْ عدا هذه الفرقةِ ويجوز أن يكون الفاعلُ في الأفعال الثلاثة ضميرَ الكتاب أو ضميرَ الرسول صلى الله عليه وسلم

5

{مَا لَهُمْ بِهِ} أي باتخاذه سبحانه وتعالى ولداً {مِنْ عِلْمٍ} مرفوعٌ على الابتداء أو الفاعلية لاعتماد الظرفِ ومِن مزيدةٌ لتأكيد النفي والجملةُ حاليةٌ أو مستأنَفةٌ لبيان حالِهم في مقالهم أي مالهم بذلك شيءٌ من علم اصلالا لإخلالهم بطريقة مع تحقق المعلومِ أو إمكانِه بل لاستحالته في نفسه {وَلاَ لأََبَائِهِمْ} الذين قلدوهم فتاهوا جميعاً في تيه الجهالةِ والضلالةِ أو ما لهم علمٌ بما قالوه أهو صوابٌ أم خطأٌ بل إنما قالوه رمياً عن عمى وجهالة من غير فكر ورويّةٍ كما في قوله تعالى وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ أو بحقيقة ما قالوه وبعظم رُتبتِه في الشناعة كما في قوله تعالى وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدَا تكاد السموات

الكهف 6 7 يتفطرن من الآيات وهو الأنسبُ بقولِه تعالى {كَبُرَتْ كَلِمَةً} أي عظُمت مقالتُهم هذه في الكفر والافتراءِ لما فيها من نسبته سبحانه إلى ما لا يكادُ يليقُ بجناب كبريائِه والفاعلُ في كبُرت إما ضميرُ المقالةِ المدلولِ عليها بقالوا وكلمةً نُصب على التمييز أو ضميرٌ مبهمٌ مفسَّرٌ بما بعده من النكرة المنصوبةِ تمييزاً كبئس رجلاً والمخصوصُ بالذم محذوفٌ تقديرُه كبُرت هي كلمةً خارجةً من أفواههم وقرئ كبْرتْ بإسكان الباء مع إشمام الضم وقرئ كلمةٌ بالرفع (تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ) صفةٌ للكلمة مفيدةٌ لاستعظام اجترائِهم على التفوه بها وإسنادُ الخروجِ إليها مع أن الخارجَ هو الهواءُ المتكيفُ بكيفية الصوتِ لملابسته بها {إِن يَقُولُونَ} ما يقولون في ذلك لا الشأنِ {إِلاَّ كَذِبًا} أي إلا قولاً كذباً لا يكادُ يدخُل تحتَ إمكانِ الصدق أصلاً والضميران لهم لآبائهم مثل حاله صلى الله عليه وسل 4 م في شدة الوجدِ على إعراض القومِ وتولّيهم عن الإيمان بالقرآن وكمالِ التحسّر عليهم بحال من يُتوقع منه إهلاكُ نفسِه إثرَ فوت ما يُحِبّه عند مفارقة أحبّتِه تأسفاً على مفارقتهم وتلهفا عليهم على مهاجَرتهم فقيل على طريقة التمثيلِ حملاً له صلى الله عليه وسلم على الحذر والإشفاق من ذلك

6

{فَلَعَلَّكَ باخع} أي مُهلكٌ {نفسك على آثارهم} غماً ووجداً على فراقهم وقرئ بالإضافة {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث} أي القرآنِ الذي عبّر عنه في صدر السورةِ بالكتاب وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقة بدلالة ما سبقَ عليه وقرئ بأنْ المفتوحةِ أي لأن لم يؤمنوا فإعمالُ باخعٌ يحمله على حكاية حالٍ ماضيةٍ لاستحضار الصورةِ كما في قوله عز وجل باسط ذارعيه {أَسَفاً} مفعولٌ له لباخعٌ أي لِفَرْط الحزنِ والغضبِ أو حالٌ مما فيه من الضمير أي متأسفاً عليهم ويجوز حملُ النظمِ الكريم على الاستعارة التبعيةِ بجعل التشبيهِ بين أجزاءِ الطرفين لا بين الهيئتين المنتزَعتين منهما كما في التمثيل وقد مرَّ تحقيقُه في تفسير قوله تعالى خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ

7

{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض} استئنافٌ وتعليلٌ لما في لعل من معنى الإشفاقِ أي إنا جعلنا ما عليها ممن عدا مَنْ وُجّه إليه التكليفُ من الزخارف حيواناً كان أو نباتاً أو معدِناً كقوله تعالى هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً {زِينَةُ} مفعولٌ ثانٍ للجعل إن حُمل على معنى التصييرِ أو حالٌ إن حمل على معنى الإبداعِ واللام في {لَهَا} إما متعلقةٌ بزينةً أو بمحذوف هو صفة لها أي كائنةً لها أي ليتمتع بها الناظرون من المكلفين وينتفعوا بها نظراً واستدلالاً فإن الحياتِ والعقاربَ من حيث تذكيرُهما لعذاب الآخرة من قبيل المنافِع بل كلُّ حادثٍ داخلٌ تحت الزينة من حيث دَلالتُه على وجود الصانعِ ووَحدتِه فإن الأزواجَ والأولادَ أيضاً من زينة الحياةِ الدنيا بل أعظمُها ولا يمنع ذلك كونُهم من جملة المكلفين فإنهم من جهة انتسابهم إلى أصحابهم داخلون تحت الزينةِ ومن جهة كونهم مكلفين داخلون تحت الابتلاء {لِنَبْلُوَهُمْ} متعلقٌ بجعلنا أي جعلنا ما جعلنا لنعاملَهم معاملةَ من يختبرهم {أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} فنجازيهم بالثواب والعقابِ حسبما تبيَّن المحسنُ من المسيء وامتازت طبقاتُ أفرادِ كلَ من الفريقينِ حسب امتياز مراتب علوهم المرتبة 205

الإسراء 8 9 على أنظارهم وتفاوتِ درجاتِ أعمالِهم المتفرّعةِ على ذلك كما قررناه في مطلع سورة هود وأيُّ إما استفهاميةٌ مرفوعةٌ بالابتداء وأحسنُ خبرُها والجملةُ في محل النصبِ معلِّقةٌ لفعل البلوى لما فيه من معنى العلمِ باعتبار عاقبتِه كالسؤال والنظرِ ولذلك أجريَ مَجراه بطريقِ التمثيلِ أو الاستعارةِ التبعية وإما موصولةٌ بمعنى الذي وأحسن خبر مبتدا مضمر والجملةُ صلةٌ لها وهي في حيز النصبِ بدلٌ من مفعول لنبلوَهم والتقديرُ لنبلوَ الذي هو أحسنُ عملاً فحينئذ يحتمل أن تكون الضمةُ في أيُّهم للبناء كما في قوله عز وجل ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً على أحد الأقوالِ لتحقق شرط البناءِ الذي هو الإضافةُ لفظاً وحذفُ صدرِ الصلةِ وأن تكون للإعراب لأن ما ذكر شرطٌ لجواز البناءِ لا لوجوبه وحُسنُ العملِ الزهدُ فيها وعدمُ الاغترار بها والقناعةُ باليسير منها وصرفُها على ما ينبغي والتأملُ في شأنها وجعلُها ذريعةً إلى معرفة خالقِها والتمتعُ بها حسبما أذِن له الشرعُ وأداءُ حقوقها والشكرُ لها لا اتخاذُها وسيلةً إلى الشهوات والأغراضِ الفاسدة كما يفعله الكفرةُ وأصحاب الأهواء وإيرادُ صيغةِ التفضيلِ معَ أن الابتلاء شاملٌ للفريقين باعتبارِ أعمالهِم المنقسمةِ إلى الحسنِ والقبيحِ أيضاً لا إلى الحسنِ والأحسَن فقطْ للإشعار بأن الغاية الأصلية للجعل المذكور إنما هو ظهورُ كمالِ إحسانِ المحسنين على ما حقق في تفسيرِ قولِه تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً

8

{وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ} فيما سيأتي عند تناهي عُمرِ الدنيا {مَا عَلَيْهَا} من المخلوقات قاطبةً بإفنائها بالكلية وإنما أظهر في مقام الإضمارِ لزيادة التقريرِ أو لإدراج المكلفين فيه {صَعِيداً} مفعولٌ ثانٍ للجعل والصعيدُ الترابُ أو وجهُ الأرضِ قال أبو عبيدةَ هُو المستوي من الأرض وقال الزجاجُ هو الطريق الذي لانبات فيه {جُرُزاً} تراباً لا نباتَ فيه بعد ما كان يَتعجَّب من بهجته النُّظارُ وتتشرف بمشاهدته الأبصارُ يقال أرضٌ جرُزٌ لا نباتَ فيها وسَنةٌ جرُزٌ لا مطر فيها قال الفراء جُرِزَت الأرضُ فهي مجرُوزة أي ذهب نباتُها بقحط أو جراد ويقال جرَزها الجرادُ والشاةُ والإبلُ إذا أكلت ما عليها وهذه الجملةُ لتكميل ما في السابقة من التعليل والمعنى لا تحزنْ بما عاينْتَ من القوم من تكذيب ما أنزلنا عليك من الكتاب فإنا قد جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض من فنون الاشياء زينة لها لنختبرَ أعمالَهم فنجازِيَهم بحسبها وإنا لَمُفْنون جميعَ ذلك عن قريب ومجازون لهم بحسب أعمالهم

9

{أم حسبتم} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمرادُ إنكارُ حُسبانِ أمّته وأم منقطعةٌ مقدرةٌ ببل التي هي للانتقال من حديث إلى حديث لا للابطال وبهمزة الاستفهام عند الجمهور وببل وحدها عند غيرِهم أي بل أحسبت {أَنَّ أصحاب الكهف والرقيم كَانُواْ} في بقائهم على الحياة مدةً طويلةً من الدهر {من آياتنا} من بين آياتِنا التي من جملتها ما ذكرناه مِنْ جعْل مَا عَلَى الأرض زِينَةً لها للحكمة المشارِ إليها ثم جعلِ ذلك كلِّه صعيداً جرُزاً كأن لم تغْنَ بالأمس {عَجَبًا} أي آيةً ذاتَ عجَبٍ وضْعاً له موضعَ المضاف أو وصفاً لذلك بالمصدر مبالغةً وهو خبرٌ لكانوا ومن آياتنا حالٌ منه والمعنى أن قصّتَهم وإن كانت خارقةً للعادات ليست بعجيبة بالنسبة

الكهف 10 11 إلى سائر الآياتِ التي من جملتها ما ذكر من تعاجيب خلق الله تعالى بل هي عندها كالنزْر الحقير والكهفُ الغارُ الواسعُ في الجبل والرقيمُ كلبُهم قال أميَّةُ بنُ أبي الصَّلت ... وليس بها إلا الرقيمُ مجاورا ... وصيدُهمُ والقومُ في الكهف هُمَّدُ ... وقيل هو لوحٌ رصاصيٌّ أو حجَري رُقمت فيه أسماؤُهم وجُعل على باب الكهفِ وقيل هو الوادي الذي فيه الكهفُ فهو من رَقْمة الوادي أي جانبِه وقيل الجبلُ وقيل قريتُهم وقيل مكانُهم بين غضبانَ وأيْلةَ دون فلسطين وقيل أصحابُ الرقيم آخرون وكانوا ثلاثةً انطبق عليهم الغارُ فنجَوْا بذكر كلَ منهم أحسنَ عمله على ما فصل في الصحيحين

10

{إِذْ أَوَى} ظرفٌ لعجباً لا لحسِبتَ أو مفعولٌ لا ذكر أي حين التجأ {الفتية} أي أصحابُ الكهف أوثر الإظهارُ على الإضمار لتحقيق ما كانُوا عليهِ في أنفسهم من حال الفتوةِ فإنهم كانوا فتيةً من أشراف الرومِ أرادهم دقيانوسُ على الشرك فهربوا منه بدينهم ولأن صاحبيّةَ الكهف من فروع التجائِهم إلى الكهف فلا يناسب اعتبارُها معهم قبل بيانه {إِلَى الكهف} بجبلهم للجلوس واتخذوه مأوى {فَقَالُواْ ربنا آتنا مِن لَّدُنكَ} من خزائن رحمتِك الخاصةِ المكنونةِ عن عيون أهلِ العادات فمن ابتدائية متعلقة بآيتنا أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعوله الثاني قُدِّمت عليهِ لكونِه نكرةٌ ولو تأخرتْ لكانتْ صفةً له أي آتنا كائنةً من لدنك {رَحْمَةً} خاصةً تستوجب المغفرةَ والرزقَ والأمنَ من الأعداء {وهيئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا} الذي نحن عليه من مهاجَرة الكفارِ والمثابرة على طاعتك وأصلُ التهيئةِ إحداثُ هيئةِ الشي أي أصلحْ ورتِّب وأتممْ لنا من أمرنا {رَشَدًا} إصابةً للطريق الموصلِ إلى المطلوب واهتداءً إليه وكِلا الجارين متعلق بهيء لاختلافهما في المعنى وتقديمُ المجرورين على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بهما وإبرازِ الرغبةِ في المؤخَّر بتقديمِ أحوالِه فإن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ عما هو من أحواله المُرَغّبة فيه كما يورث شوقَ السامعِ إلى وروده يُنبىء عن كمال رغبةِ المتكلّمِ فيه واعتنائِه بحصوله لا محالة وكذا الكلامُ في تقديم قوله تعالى مِن لَّدُنْكَ على تقدير تعلّقِه بآتنا وتقديمُ لنا على من أمرنا للإيذانِ من أولِ الأمرِ يكون المسئول مرغوباً فيه لديهم أو اجعل أمرنا رشدا كلَّه على أن من تجريديةٌ مثلُها في قولك رأيتُ منك أسداً

11

{فضربنا على آذانهم} أي أَنَمناهم على طريقة التمثيل المبنيِّ على تشبيه الإنامةِ الثقيلةِ المانعةِ عن وصول الأصواتِ إلى الآذان بضرب الحجابِ عليها وتخصيصُ الآذان بالذكر مع اشتراك سائرِ المشاعرِ لها في الحجْب عن الشعور عند النومِ لما أنها المحتاجُ إلى الحجب عادة إذ هي الطريقةُ للتيقظ غالباً لا سيما عند انفرادِ النائم واعتزالِه عن الخلق وقيل الضربُ على الآذان كنايةٌ عن الإنامة الثقيلةِ وحملُه على تعطيلها كما في قولهم ضرب الأميرُ على يد الرعيةِ أي منعهم من التصرف مع عدم ملاءمتِه لما سيأتي من البعث لا يدل على النوم مع أنه المرادُ قطعاً والفاء في فضربنا كما في قوله عز وجل فاستجبنا لَهُ بعد قوله تعالى إِذْ نادى فإن الضربَ المذكور وما ترتب عليه من التقليب ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال والبعثِ وغير ذلك

الكهف 12 إيتاءُ رحمةً لدنيّةٍ خافيةٍ عن أبصار المتمسكين بالأسباب العادية استجابةً لدعوتهم {فِى الكهف} ظرف مكان لضربنا {سِنِينَ} ظرفُ زمان له باعتبار بقائِه لا ابتدائِه {عَدَدًا} أي ذواتَ عدد أو تُعدّ عدداً على أنَّه مصدرٌ أو معدودةً على أنَّه بمعنى المفعولِ ووصفُ السنين بذلك إما للتكثير وهو الأنسبُ بإظهار كمالِ القدرةِ أو للتقليل وهو الأليقُ بمقام إنكارِ كون القصةِ عجباً من بين سائر الآياتِ العجيبة فإن مدة لُبثهم كبعض يوم عنده عز وجل

12

{ثُمَّ بعثناهم} أي أيقظناهم من تلك النومةِ الثقيلة الشبيهة بالموت {لَنَعْلَمُ} بنون العظمة وقرئ بالياء مبنياً للفاعل بطريق الالتفاتِ وأيا ما كان فهو غايةٌ للبعث لكن لا يجعل العلمِ مجازاً من الإظهار والتمييز أو بحمله على ما يصِح وقوعُه غايةً للبعث الحادثِ من العلم الحالي الذي يتعلق به الجزاءُ كما في قوله تعالى إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يتبعُ الرسولَ مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ وقولُه تعالَى وليعلمَ الله الذين آمنوا ونظائِرهما التي يتحقق فيها العلمُ بتحقق متعلقِه قطعاً فإن تحويلَ القِبلة قد ترتب عليه تحزّبُ الناس إلى متّبعٍ ومنقلب وكذا مداولةُ الأيامِ بين الناس ترتب عليه تحزّبُهم إلى الثابت على الإيمان والمتزلزلِ فيه وتعلق بكل من الفريقين العلمُ الحالي والإظهارُ والتمييزُ وأما بعثُ هؤلاء فلم يترتب عليه تفرقُهم إلى المَحْصيِّ وغيره حتى يتعلق بهما العلم أو الإظهارُ والتمييزُ ويتسنى نظمُ شيء من ذلك في سلك الغاية وإنما الذي تربت عليه تفرقُهم إلى مقدِّر تقديراً غيرَ مصيب ومفوِّض إلى العلم الرباني وليس شيءٌ منهما من الإحصاء في شيء بل يحمل النظمِ الكريمُ على التمثيل المبنيِّ على جعل العلمِ عبارةً عن الاختبار مجازاً بطريق إطلاقِ اسمِ المسبَّب على السبب وليس من ضرورة الاختبارِ صدورُ الفعل المختبَرِ به عن المختبَرِ قطعاً بل قد يكون لإظهار عجزِه عنه على سنن التكاليفِ التعجيزيةِ كقوله تعالى فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب وهو المراد ههنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملةَ من يختبرهم {أَيُّ الحِزْبَيْنِ} أي الفريقين المختلفَين في مدة لُبثهم بالتقدير والتفويض كما سيأتي {أحصى} أي أضبط {لِمَا لَبِثُواْ} أي للبثهم {أَمَدًا} أي غايةً فيظهر لهم عجزُهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير وليتعرفوا حالَهم وما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانِهم وأديانِهم فيزدادوا يقيناً بكمال قدرتِه وعلمِه ويستبصروا به أمرَ البعث ويكون ذلك لطفاً لمؤمني زمانِهم وآيةً بينة لكفارهم وقد اقتصر ههنا من تلك الغايات الجليلةِ على ذكر مبدئِها الصادرِ عنه عز وجل وفيما سيأتي على ما صدرَ عنهُم من التساؤل المؤدّي إليها وهذا أولى من تصوير التمثيلِ بأن يقال بعثناهم بعْثَ من يريد أن يَعلمَ الخ حسبما وقع في تفسيرِ قولِه تعالى وليعلمَ الله الذين آمنوا على أحد الوجوهِ حيث حُمل على معنى فعلنا ذلك فِعْلَ مَن يُريد أنْ يَعلمَ مَن الثابتُ على الإيمان من غير الثابت إذ ربما يتوهم منه استلزامُ الإرادةِ لتحقق المراد فيعود المحذورُ فيصار إلى جعل إرادةِ العلم عبارةً عن الاختبار فاختبر واختر هذا وقد قرئ ليُعْلِمَ مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل من الإعلام على أن المفعولَ الأولَ محذوفٌ والجملة المصدرةُ بأي فِي مَوْقعِ المفعولِ الثانِي فقط إن جعل العلمُ عِرفانياً أوفى موقع المفعولين إن جعل يقينيا أي ليعمل الله الناسَ أيَّ الحزبين أحصى الخ وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أحدَ الحزبين الفتيةُ والآخرَ الملوكُ الذين تداولوا المدينةَ مُلكاً

بعد ملك وقيل كلاهما من غيرهم والأولُ هو الأظهرُ فإن اللامَ للعهد ولا عهدَ لغيرهم والأمدُ بمعنى المدى كالغاية في قولهم ابتداءُ الغاية وانتهاءُ الغاية وهو مفعولٌ لأحصي والجارُّ والمجرور حالٌ منه قُدِّمت عليهِ لكونِه نكرةٌ وليس معنى إحصاءِ تلك المدةِ ضبطَها من حيث كميتُها المتصلةُ الذاتيةُ فإنه لا يسمى إحصاءً بل ضبطَها من حيث كميتُها المفصلة العارضةُ لها باعتبار قسمتِها إلى السنينَ وبلوغها من تلك الحيثيةِ إلى مراتبِ الأعداد على ما يرشدك إليه كونُ تلك المدة عبارةٌ عمَّا سبقَ من السنين ويجوز أن يراد بالأمد معناه الوضعيُّ بتقدير المضافِ أي لزمان لُبثِهم وبدونه أيضاً فإن الُلبثَ عبارةٌ عن الكون المستمرِّ المنطبق على الزمان المذكورِ فباعتبار الامتدادِ العارضِ له بسبه يكون له أمدٌ لا محالة لكن ليس المارد به ما يقع غايةً ومنتهًى لذلك الكونِ المستمرِّ باعتبار كميتِه المتصلةِ العارضةِ له بسبب انطباقِه على الزمان الممتدِّ بالذات وهو آنُ انبعاثِهم من نومهم فإن معرفتَه من تلك الحيثيةِ لا تخفى على أحد ولا تسمّى إحصاءكما مر بل باعتبار كميّتِه المفصلة معارضة له بسبب عروضوها لزمانه المنطبقِ هو عليه باعتبار انقسامِه إلى السنين ووصولِه إلى مرتبة معينةٍ من مراتب العددِ كما حقق في الصورة الأولى والفرقُ بين الاعتبارين أن ما تعلق به الإحصاءُ في الصورة السابقةِ نفسُ المدة المقسمة إلى السنين فهو مجموعُ ثلثمائة وتسعِ سنين وفي الصورة الأخيرةِ منتهى تلك المدةِ المنقسمة إلهيا أعني السنةَ التاسعةَ بعد الثلثمائة وتعلقُ الإحصاءِ بالأمد بالمعنى الأول ظاهرٌ وأما تعلقُه به بالمعنى الثاني فباعتبار انتظامِه لما تحته من مراتب العددِ واشتمالِه عليها هذا على تقديرِ كونِ ما في قوله تعالى لِمَا لَبِثُواْ مصدريةً ويجوز أن تكون موصولةً حُذف عائدُها من الصلة أي للذي لبثوا فيه من الزمان الذي عبّر عنه فيما قبل بسنينَ عدداً فالأمدُ بمعناه الوضعيِّ على ما تحققْتَه وقيل اللامُ مزيدةٌ والموصولُ مفعولٌ وأمداً نصبٌ على التمييز وأما ما قيل من أن أحصى اسمُ تفضيل لأنه الموافقُ لما وقع في سائر الآيات الكريمةِ نحوُ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً إلى غير ذلك مما لا يحصى ولأن كونَه فعلاً ماضياً يُشعر بأن غايةَ البعث هو العلم بالإحصاء المتقدمِ على البعث لا بالإحصاء المتأخرِ عنه وليس كذلك وادعاءُ أن مجيءَ أفعل التفضيل من المزيدة عليه غيرُ قياسي مدفوعٌ بأنه عند سيبويهِ قياسٌ مطلقاً وعند ابن عصفورٍ فيما ليست همزتُه للنقل ولا ريب في أن ما نحن فيه من ذلك القبيلِ وامتناعُ عمله إنما هو في غير التمييز من المعمولات وأما أن التمييزَ يجب كونُه فاعلاً في المعنى فلمانعٍ أن يمنعَه بصحة أن يقال أيُّهم أحفظُ لهذا الشعر وزناً أو تقطيعاً أو يقالَ إن العاملَ في أمداً فعلٌ محذوفٌ يدلُّ عليه المذكور أي يُحصي لما لبثوا أمداً كما في قوله [وأضرَبُ منا بالسيوف القوانسا] وحديثُ الوقوع في المحذور بلا فائدة مدفوعٌ بما أشير إليه من فائدة الموافقةِ للنظائر فمع ما فيه من الاعتسافِ والخللِ بمعزل من السَّداد لأن مؤداه أن يكون المقصود بالإخبار إظهارَ أفضلِ الحزبين وتمييزَه عن الأدنى مع تحقق أصلِ الإحصاء فيهما ومن البيِّنِ أنْ لا تحقُّقَ له أصلاً وأن المقصودَ بالاختبار إظهارُ عجزِ الكلِّ عنه رأساً فهو فعل ماضٍ قطعاً وتوهُم إيذانِه بأن غاية البعث هو العلمُ بالإحصاء المتقدمِ عليه مردودٌ بأن صيغةَ الماضي باعتبار حالِ الحكايةِ والله تعالى أعلم

الكهف

13

13 - {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} شروعٌ في تفصيل ما أجمل فيما سلف من قوله تعالى إِذْ أَوَى الفتية الخ أي نحن نخبرك بتفاصيل أخبارِهم وقد مر بيانُ اشتقاقِه في مطلع سورة يوسف عليه السلام {نبَأَهُم} النبأُ الخبرُ الذي له شأنٌ وخطرٌ {بالحق} إما صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من ضميرِ نقصّ أو من نبأَهم أو صفةٌ له على رأي من يرى حذفَ الموصول مع بعض صلته أي نقصّ قَصصاً ملتبساً بالحق أو نقصّه ملتبسين به أو نقص نبأهم ملتبساً به أو نبأهم الملتبس به أو نبأهم حسبما ذكره محمدُ بن إسحاقَ بنِ يسارَ أنه قد مرَج أهلُ الإنجيل وعظُمت فيهم الخطايا وطغت ملوكُهم فعبدوا الأصنامَ وذبحوا للطواغيت وكان ممن بالغ في ذلك وعتا عتوًّا كبيراً دقيانوس فإنه غلا فيه غلوًّا شديداً فجاس خلالَ الديار والبلاد بالعيث والفسادِ وقتل مَنْ خالفه من المتمسكين بدين المسيحِ عليه السلام وكان يتبع الناسَ فيخيّرهم بين القتل وعبادةِ الأوثانِ فمن رغِب في الحياة الدنيا الدنية يصنع ما يصنع ومن آثر عليها الحياةَ الأبديةَ قتله وقطع آرابه وعلقها في سور المدينةِ وأبوابِها فلما رأى الفتيةُ ذلك وكانوا عظماءَ أهلِ مدينتهم وقيل كانوا من خواصّ الملك قاموا فتضرعوا إلى الله عزَّ وجلَّ واشتغلوا بالصلاة والدعاء فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أعوانُ الجبار فأحضروهم بين يديه فقال لهم ما قال وخيّرهم بين القتل وبين عبادةِ الأوثان فقالوا إن لنا إلها ملأ السمواتِ والأرضَ عظمتُه وجبورته لن ندعوَ من دونه أحدا ولن نقر لما تدعونا إليه إبداً فاقضِ مَا أَنتَ قاضٍ فأمر بنزع ما عليهم من الثياب الفاخر وأخرجهم من عنده وخرج هو إلى مدينة نينوى لبعض شأنِه وأمهلهم إلى رجوعه ليتأملوا في أمرهم فإن تبِعوه وإلا فُعل بهم ما فُعل بسائر المسلمين فأزمعت الفتيةُ على الفرار بالدين والالتجاء إلى الكهف الحصين فأخذ كل منهم من بيت أبيه شيئاً فتصدّقوا ببعضه وتزوّدوا بالباقي فأوَوا إلى الكهف فجعلوا يصلّون فيه آناءَ الليل وأطرافَ النهار ويبتهلون إلى الله سبحانه بالأنين والجُؤار وفوّضوا أمرَ نفقتِهم إلى يمليخا فكان إذا أصبح يضع عنه ثيابَه الحِسانَ ويلبس لباس المساكين ويدخُل المدينة ويشتري ما يُهمّهم ويتحسس ما فيها من الأخبار ويعود إلى أصحابه فلبِثوا على ذلك إلى أنْ قدم الجبارُ إلى المدينةَ فطلبهم وأحضر آباءَهم فاعتذروا بأنهم عصوهم ونهبوا أموالَهم وبذروها في الأسواق وفرّوا إلى الجبل فلما رأى يمليخا ما رأى من الشر رجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه قليلٌ من الزاد فأخبرهم بما شهده من الهول ففزعوا إلى الله عزَّ وجلَّ وخرّوا له سُجّداً ثم رفعوا رءوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم فينماهم كذلك إذ ضرب الله تعالى على آذانهم فناموا ونفقتهم عند رءوسهم فخرج دقيانوس في طلبهم بخيله ورَجِلِه فوجدوهم قد دخلوا الكهفَ فأمر بإخراجهم فلم يُطِق أحدٌ أن يدخله فلما ضاق بهم ذرعاً قال قائل منهم أليس لو كنتَ قدَرتَ عليهم قتلتَهم قال بلى قال فابْنِ عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعاً وعطشاً وليكن كهفُهم قبراً لهم ففعل ثم كان من شأنهم ما قص الله عز وجل عنهم {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} استئنافٌ تحقيقيٌّ مبني على تقدير السؤالِ من قبل المخاطَب والفتيةُ جمعُ قلة للفتى كالصبية للصبي {آمنوا بربهم} أوثر

الكهف 14 15 الالتفاتُ للإشعار بعلّية وصفِ الربوبية لإيمانهم ولمراعاة ما صدرَ عنهُم من المقالة حسبما سيُحكى عنهم {وزدناهم هُدًى} بأن ثبتناهم على ما كانُوا عليهِ من الدين وأظهرنا لهم مكنوناتِ محاسنِه وفيه التفاتٌ من الغيبة إلى ما عليه سبكُ النظمِ سباقاً وسياقاً من التكلم

14

{وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ} أي قويناها حتى اقتحموا مضايقَ الصبر على هجر الأهلِ والأوطان والنعيم والإخوان واجترؤا على الصدْع بالحق من غير خوف وحذار والرد على دقيانوسَ الجبار {إِذْ قَامُواْ} منصوبٌ بربطنا والمرادُ بقيامهم انتصابُهم لإظهار شعارِ الدين قال مجاهد خرجوا من المدينة فاجتمعوا على غير ميعادٍ فقال أكبرُهم إني لأجد في نفسي شيئاً أن ربي ربُّ السمواتِ والأرض فقالوا نحن أيضاً كذلك فقاموا جميعاً {فقالوا ربنا رب السماوات والأرض} ضمّنوا دعواهم ما يحقق فحواها ويقضي بمقتضاها فإن ربوبيته عز وجل لهما تقتضي ربوبيتَه لما فيهما أيَّ اقتضاءٍ وقيل المراد قيامُهم بين يدي الجبارِ من غير مبالاةٍ به حين عاتبهم على ترك عبادةِ الأصنام فحينئذ يكون ما سيأتِي من قولِه تعالى هَؤُلاء الخ منقطعاً عما قبله صادراً عنهم بعد خروجِهم من عنده {لَن نَّدْعُوَاْ} لن نعبدَ أبداً {مِن دُونِهِ إلها} معبوداً آخرَ لا استقلالاً ولا اشتراكاً والعدولُ عن أن يقال ربًّا للتنصيص على رد المخالفين حيث كانوا يسمون أصنامَهم آلهةً وللإشعار بأن مدارَ العبادة وصفُ الألوهية وللإيذان بأن ربوبيتَه تعالى بطريق الألوهيةِ لا بطريق المالكية المجازية {لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} أي قولاً ذَا شططٍ أي تجاوزَ عن الحد أو قولاً هو عينُ الشطط على أنه وُصفَ بالمصدر مبالغةً ثم اقتُصر على الوصف مبالغةً على مبالغة وحيث كانت العبادةُ مستلزِمةً للقول لما أنها لا تَعرَى عن الاعتراف بألوهية المعبودِ والتضرّعِ إليه قيل لقد قلنا وإذاً جوابٌ وجزاءٌ أي لو دعَونا من دونه إلها والله لقد قلنا قولاً خارجاً عن حد العقولِ مُفْرِطاً في الظلم

15

{هَؤُلاء} هو مبتدأ وفي اسم الإشارةِ تحقيرٌ لهم {قَوْمُنَا} عطفُ بيانٍ له {اتخذوا من دونه آلهة} خبرُه وفيه معنى الإنكار {لولا يأتون} تحضيض فيه معنى الإنكارِ والتعجيزِ أي هلا يأتون {عَلَيْهِمْ} على ألوهيتهم أو على صحة اتخاذِهم لها آلهةً {بسلطان بَيّنٍ} بحجة ظاهرةِ الدلالةِ على مُدّعاهم وهو تبكيتٌ لهم وإلقامُ حجرٍ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} بنسبة الشريكِ إليهِ تعالَى عن ذلكَ عُلواً كبيراً والمعنى أنه أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ وإن كان سبك النظمِ على إنكار الأظلميةِ من غير تعرّضٍ لإنكار المساواة كما مرَّ تحقيقُهُ في سورة هود

الكهف

16

16 - 17 {وَإِذِ اعتزلتموهم} أي فارقتموهم في الاعتقاد أو أردتم الاعتزالَ الجُسمانيَّ {وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ الله} عطفٌ على الضمير المنصوبِ وما موصولةٌ أو مصدريةٌ أي إذِ اعتزلتموهم ومعبودِيهم إلا الله أو وعبادتَهم إلا عبادةَ الله وعلى التقديرين فالاستثناءُ متصلٌ على تقدير كونِهم مشركين كأهل مكةَ ومنقطعٌ على تقدير تمحضهم في عبادة الأوثان ويجوز كونُ ما نافيةً على أنه إخبارٌ من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترضٌ بين إذْ وجوابِه {فَأْوُواْ} أي التجِئوا {إِلَى الكهف} قال الفراء هو جوابُ إذ كما تقول إذْ فعلتَ فافعل كذا وقيل هو دليلٌ على جوابه أي إذ اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقادياً فاعتزلوهم اعتزالاً جُسمانياً أو إذا أردتم اعتزالَهم فافعلوا ذلك بالالتجاء إلى الكهف {يَنْشُرْ لَكُمْ} يبسُطْ لكم ويوسِّعْ عليكم {رَبُّكُمْ} مالكُ أمرِكم {مّن رَّحْمَتِهِ} في الدارين {ويهيئ لَكُمْ} يسهلْ لكم {مّنْ أَمْرِكُمْ} الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين {مّرْفَقًا} ما ترتفقون وتنتفعون به وقرئ بفتح الميم وكسر الفاء مصدراً كالمرِجع وتقديمُ لكم في الموضعين لما مر مرارا من الإيذانُ من أول الأمرِ بكون المؤخر من منافعِهم والتشويقِ إلى وروده

17

{وَتَرَى الشمس} بيانٌ لحالهم بعد ما أَوَوا إلى الكهف ولم يصرَّح به إيذانا بعدم الحاجة إليه لظهور جرَيانِهم على موجب الأمرِ به لكونه صادراً عن رأي صائبٍ وتعويلاً على ما سلف من قوله سبحانه إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف وما لحق من إضافة الكهفِ إليهم وكونِهم في فجوة منه والخطاب للرسول صلى لله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب وليس المرادُ به الإخبارَ بوقوع الرؤيةِ تحقيقاً بل الإنباءُ بكون الكهفِ بحيث لو رأيته ترى الشمس {إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ} أي تتزاوَر وتتنحّى بحذف إحدى التاءين وقرئ بإدغام التاء في الزاي وتزور كتخمر وتزوار كتخمار وتزوئر وكلها من الزَّوَر وهو الميل {عَن كَهْفِهِمْ} الذي أووا إليه فالإضافة لأدنى ملابسة {ذَاتَ اليمين} أي جهةَ ذاتِ يمين الكهفِ عند توجه الداخلِ إلى قعره أي جانبه الذي يلي المغرِبَ فلا يقع عليهم شعاعُها فيؤذيهم {وَإِذَا غَرَبَت} أي تراها عند غروبها {تَّقْرِضُهُمْ} أي تقطَعهم من القطيعة والصَّرْم ولا تقربهم {ذَاتَ الشمال} أي جهةَ ذاتِ شمال الكهف أي جانبه الذي يلي المشرِق وكان ذلك بتصريف الله سبحانه على منهاج خرقِ العادةِ كرامةً لهم وقوله تعالى {وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ} جملةٌ حالية مبينةٌ لكون ذلك أمراً بديعاً أي تراها تميل عنهم يميناً وشمالاً ولا تحوم حولهم مع أنهم في متّسع من الكهف معرَّضٍ لإصابتها لولا أن عرفتها عنهم يدُ التقدير {ذلك} أي ما صنع الله بهم من تزاوُر الشمسِ وقَرْضِها حالتي الطلوعِ والغروب

الكهف 18 مع كونهم في موقع شعاعِها {مِنْ آيات الله} العجيبةِ الدالةِ على كمال علمِه وقدرتِه وحقية التوحيدِ وكرامةِ أهله عنده سبحانه وتعالى وهذا قبل أن سد دقيانوسُ بابَ الكهف وقيل كان بابَ الكهف شمالياً مستقبلَ بناتِ نْعشٍ وأقربُ المشارقِ والمغاربِ إلى محاذاته رأسُ مشرِق السرَطان ومغربِه والشمسُ إذا كان مدارُها مدارَه تطلُع مائلةً عنه مقابلةً لجانبه الأيمن وهو الذين يلي المغربَ وتغرُب محاذيةً لجانبه الأيسرِ فيقع شعاعُها على جنبيه وتحلّل عفونتَه وتعدّل هواءه ولا يقع عليهم فيؤذي أجسادَهم ويُبْلي ثيابَهم ولعل ميلَ الباب إلى جانب الغرب كان أكثر ولذلك أوقع التزاورَ على كهفهم والقرضَ على أنفسهم فذلك حينئذ إشارةٌ إلى إيوائهم إلى كهف هذا شأنُه وأمَّا جعلُه إشارةً إلى حفظ الله سبحانه إياهم في ذلك الكهفِ تلك المدةَ الطويلةَ أو إلى إطلاعه سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم على أخبارهم فلا يساعده إيرادُه في تضاعيف القِصّةِ {مَن يَهْدِ الله} إلى الحق بالتوفيق له {فَهُوَ المهتد} الذي أصاب الفلاحَ والمرادُ إما الثناءُ عليهم والشهادةُ لهم بإصابة المطلوبِ والإخبارُ بتحقيق ما أمّلوه من نشر الرحمةِ وتهيئةِ المرافق أو التنبيهُ على أن أمثالَ هذه الآيةِ كثيرةٌ ولكن المنتفعَ بها من وفقه الله تعالى للاستبصار بها {وَمَن يُضْلِلِ} أي يخلق فيه الضلال لصرف اختيارِه إليه {فَلَن تَجِدَ لَهُ} أبداً وإن بالغتَ في التتبع والاستقصاء {وَلِيّاً} ناصراً {مُّرْشِدًا} يهديه إلى ما ذكر من الفلاح لاستحالة وجودِه في نفسه لا أنك لا تجده مع وجوده أو إمكانه

18

{وتحسبهم} بفتح السين وقرئ بكسرها أيضاً والخطابُ فيه كما سبق {أَيْقَاظًا} جمع يَقظ بكسر القاف وفتحها وهو اليقظانُ ومدارُ الحسبانِ انفتاحُ عيونِهم على هيئة الناظرِ وقيل كثرةُ تقلّبهم ولا يلائمه قوله تعالى وَنُقَلّبُهُمْ {وَهُمْ رُقُودٌ} أي نيام وهو تقريرٌ لما لم يُذْكَر فيما سلف اعتماداً على ذكره السابقِ من الضرب على آذانهم {وَنُقَلّبُهُمْ} في رقدتهم {ذَاتَ اليمين} نصبٌ على الظرفية أي جهةً تلي أَيمانهم {وَذَاتَ الشمال} أي جهةً تلي شمائلهم كيلا تأكلَ الأرضُ ما يليها من أبدانهم قال ابن عباس رضي الله عنهما لو لم يقلّبوا لأكلتْهم الأرضُ قيل لهم تقليبتان في السنة وقيل تقليبةٌ واحدةٌ يوم عاشوراءَ وقيل في كل تسع سنين وقرئ يقلبهم على الإسنادِ إلى ضميرِ الجلالة وتقَلُّبَهم على المصدر منصوبا بمضمر ينبئ عنه وتحسبهم أي وترى تقلّبَهم {وَكَلْبُهُمْ} قيل هو كلبٌ مروا به فتبعهم فطروده مرار فلم يرجِع فأنطقه الله تعالى فقال لا تخشَوا جانبي فإني أحب أحباءَ الله تعالى فناموا حتى أحرُسَكم وقيل هو كلبُ راعٍ قد تبعهم على دينهم ويؤيده قراءة كالبُهم إذا الظاهرُ لحوقُه بهم وقيل كلبُ صيد أحدِهم أو زرعِه أو غنمِه واختلف في لونه فقيل كان أنمرَ وقيل أصفرَ وقيل أصهبَ وقيل غير ذلك وقيل كان اسمُه قطمير وقيل ريان وقبل تتوه وقيل قطمورو قيل ثور قال خالدُ بنُ مَعْدان ليس في الجنة من الدواب إلا كلبُ أصحاب الكهف وحمار يلعم وقيل لم يكن ذلك من جنس الكلاب بل كان أسداً {باسط ذِرَاعَيْهِ} حكايةُ حالٍ ماضية ولذلك أعلم اسمُ الفاعل وعند الكسائي وهشام وأبي جعفر من البصريين يجوز

الكهف 19 إعمالُه مطلقاً والذراعُ من المرفق إلى رأس الأُصبَعِ الوسطى {بالوصيد} أي بموضع الباب من الكهف {لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ} أي لو عاينتَهم وشاهدتَهم وأصلُ الاطّلاع الإشرافُ على الشيء بالمعاينة والمشاهدة وقرئ بضم الواو {لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} هرباً مما شاهدتَ منهم وهو إما نصبٌ على المصدرية من معنى ما قبله إذ التوليةُ والفِرارُ من واد واحدٍ وإما على الحالية يجعل المصدرِ بمعنى الفاعل أي فارا أو يجعل الفاعلِ مصدراً مبالغة كما في قولها فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ وإما على أنَّه مفعولٌ له {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} وقرئ بضم العين أي خوفاً يملأ الصدرَ ويُرعِبه وهو إما مفعولٌ ثانٍ أو تمييز ذلك لما ألبسهم الله عزَّ وجلَّ من الهيبة والهيئةِ كانت أعينُهم مفتّحةً كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم وقيل لطول أظفارِهم وشعورِهم ولا يساعده قولُهم لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وقوله ولا يشعرون بِكُمْ أَحَدًا فإن الظاهرَ من ذلك عدمُ اختلافِ أحوالِهم في أنفسهم وقيل لعِظم أجرامِهم ولعل تأخيرَ هذا عن ذكر التوليةِ للإيذانِ باستقلالِ كلَ منهُما في الترتب على الاطلاع إذ لو رُوعيَ ترتيبُ الوجودِ لتبادرَ إلى الفهم ترتبُ المجموعِ من حيث هو هو عليه وللإشعار بعدم زوالِ الرعبِ بالفرار كما هو المعتادُ وعن معاوية لما غزا الروم فمرّ بالكهف قال لو كشفتَ لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس رضي الله عنهما ليس لك ذلك قد منع الله تعالى من هو خيرٌ منك حيث قال لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ الآية قال معاوية لا أنتهي حتى أعلمَ علمَهم فبعث ناساً وقال لهم اذهبوا فانظُروا ففعلوا فلما دخلوا الكهفَ بعثَ الله تعالى ريحاً فأحرقتهم وقرئ بتشديد اللام على التكثير وبإبدال الهمزةِ ياءً مع التخفيف والتشديد

19

{وكذلك بعثناهم} أي كما أنمناهم وحفِظنا أجسادَهم من البِلى والتحلّل آيةً دالةً على كمال قدرتِنا بعثناهم من النوم {لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ} أي ليسأل بعضُهم بعضاً فيترتب عليه ما فُصّل من الحِكَم البالغةِ وجعلُه غايةً للبعث المعلّل فيما سبق بالاختبار من حيث إنه من أحكامه المترتبةِ عليه والاقتصارُ على ذكره لاستتباعه لسائر آثارِه {قَالَ} استئنافٌ لبيان تساؤلِهم {قَائِلٌ مّنْهُمْ} هو رئيسُهم واسمُه مكسليمنا {كَمْ لَبِثْتُمْ} في منامكم لعله قاله لِما رأى من مخالفة حالِهم لما هو المعتادُ في الجملة {قَالُواْ} أي بعضُهم {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قبل إنما قالوه لما أنهم دخلوا الكهفَ غُدوةً وكان انتباهُهم آخرَ النهار فقالوا لبثنا يوماً فلما رأَوا أن الشمسَ لم تغرُبْ بعْدُ قالوا أو بعضَ يوم وكان ذلك بناءً على الظن الغالب فلم يُعْزوا إلى الكذب {قَالُواْ} أي بعضٌ آخرُ منهم بما سنح لهم من الأدلة أو بإلهام من الله سبحانه {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} أي أنتم لا تعلمون مدة لبثِكم وإنما يعلمها الله سبحانه وهذا ردٌّ منهم على الأولين بأجملِ ما يكون من مراعاة حسن الأدب وبه يتحقق التحزبُ إلى الحزبين المعهودين فيما سبق وقد قيل القائلون جميعُهم ولكن في حالتين ولا يساعده النظمُ الكريم فإن الاستئنافَ في الحكاية والخطابَ في المحكيّ يقضي بأن الكلامَ جارٍ على منهاج المحاورة

الكهف 20 21 والمجاوبةِ وإلا لقيل ثم قالوا ربنا أعلمُ بما لبثنا {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة} قالوه إعراضاً عن التعمق في البحث وإقبالاً على ما يُهمّهم بحسب الحالِ كما ينبئ عنه الفاءُ والورِقُ الفضةُ مضروبةً أو غيرَ مضروبة ووصفُها باسم الإشارةِ يُشعر بأن القائلَ ناولها بعضَ أصحابه ليشتريَ بها قوتَ يومهم ذلك وقرئ بسكون الراء وإدغام القافِ في الكاف وبكسر الواو وبسكون الراء مع الإدغام وحملُهم لها دليلٌ على أن التزودَ لا ينافي التوكلِ على الله تعالى {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا} أي أهلِها {أزكى} أحلُّ وأطيبُ أو أكثرُ وأرخصُ {طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} أي من ذلك الأزكى طعاماً {وَلْيَتَلَطَّفْ} وليتكلّف اللُّطفَ في المعاملة كيلا يُغبَنَ أو في الاستخفاء لئلا يُعرَف {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} من أهل المدينةِ فإنه يستدعي شيوعَ أخبارِكم أي لا يفعلنّ ما يؤدّي إلى ذلك فالنهيُ على الأول تأسيسٌ وعلى الثاني تأكيدٌ للأمر بالتلطف

20

{إِنَّهُمْ} تعليلٌ لما سبقَ من الأمرِ والنَّهي أي لِيبالِغْ في التلطف وعدمِ الإشعار لأنهم {إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} أي يطّلعوا عليكم أو يظفَروا بكم والضميرُ للأهل المقدّر في أيُّها {يَرْجُمُوكُمْ} إن ثبتُّم على ما أنتُم عليهِ {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ} أي يصيروكم إلهيا ويُدخلوكم فيها كُرهاً من العَوْد بمعنى الصيْرورة كقوله تعالى أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا وقيل كانوا أولاً على دينهم وإيثارُ كلمةِ في على كلمة إلى للدِلالة على الاستقرار الذي هو أشدُّ شيءٍ عندهم كراهة وتقديم احتمال الرجم على احتمال الإعادةِ لأن الظاهرَ من حالهم هو الثباتُ على الدين المؤدي إليه وضميرُ الخطاب في المواضع الأربعة للمبالغة في محل المبعوثِ على الاستخفاء وحثِّ الباقين على الاهتمام بالتوصية فإن محاض النُّصحِ أدخلُ في القَبول واهتمامُ الإنسان بشأن نفسِه أكثروا أوفر {وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا} أي إن دخلتم فيها ولو بالكرُه والإلجاء لن تفوزوا بخير {أَبَدًا} لا في الدنيا ولا في الآخرة وفيه من التشديد في التحذير مالا يخفى

21

{وكذلك} أي وكما أَنَمناهم وبعثناهم لما مرّ من ازديادهم في مراتب اليقينِ {أَعْثَرْنَا} أي أطلعْنا الناسَ {عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ} أي الذين أعثرناهم عليهم بما عاينوا من أحوالهم العجيبة {إِنَّ وَعْدَ الله} أي وعدَه بالبعث أوموعوده الذي هو البعثُ أو أن كل وعده أو كل موعودِه فيدخُل فيه وعدُه بالبعث أو البعث الموعودِ دخولاً أولياً {حَقّ} صادقٌ لا خُلْف فيه أو ثابتٌ لا مردَّ له لأن نومهم وانتباهم كحال من يموت ثم يُبعث {وَأَنَّ الساعة} أي القيامةَ التي هي عبارةٌ عن وقت بعثِ الخلائقِ جميعاً للحساب والجزاء {لاَ رَيْبَ فِيهَا} لا شك في قيامها فإن من شاهد أنه جل وعلا توفي نفوسهم وأمسكها ثلثمائة سنة وأكثرَ حافظاً أبدانَها من التحلل والتفتّت ثم أرسلها إليها لا يبقى له شائبةُ شك في أن وعدَه تعالى حقٌّ وأنه يبعث مَنْ فى القبور فيرد إليهم

الكهف 22 أرواحَهم فيحاسبهم ويجزيهم بحسب أعمالم {إِذْ يتنازعون} ظرف لقوله أعثرنا قُدّم عليه الغايةُ إظهاراً لكمال العنايةِ بذكرها لا لقوله ليعلموا كما قيل لدِلالته على أن التنازعَ يحدُث بعد الإعثار وليس كذلك أي أعثرناهم عليهم حين يتنازعون {بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} ليرتفع الخلافُ ويتبينَ الحقُّ قيل المتنازعُ فيه أمرُ دينهم حيث كانوا مختلفين في البعث فمِن مُقِرّ له وجاحدٍ به وقائلٍ يقول ببعث الأرواحِ دون الأجساد وآخرَ يقول ببعثهما معاً قيل كان ملكُ المدينة حينئذ رجلاً صالحاً مؤمناً وقد اختلف أهلُ مملكته في البعث حسبما فُصّل فدخل الملكُ بيتَه وأغلق بابه ولبس مِسْحاً وجلس على رماد وسأل ربه أن يظهر الحق فألقى الله عزَّ وجلَّ في نفس رجل من رعيانهم فهدَم ما سد به دقيانوسُ بابَ الكهف ليتخذه حظيرةً لغنمه فعند ذلك بعثهم الله تعالى فجرى بينهم من التقاول ما جرى روي أن المبعوثَ لما دخل المدينة أخرج الدرهمَ ليشتريَ به الطعامَ وكان على ضرب دقيانوس فاتهموه بأنه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملكِ فقصّ عليه القِصة فقال بعضُهم إن آباءَنا أخبرونا بأن فتيةً فرّوا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاءِ فانطلق الملكُ وأهلُ المدينة من مسلم وكافر وأبصروهم وكلّموهم ثم قالت الفتيةُ للملك نستودعك الله ونعيذك به من شر الإنسِ والجنّ ثم رجعوا إلى مضاجعهم فماتوا فألقى الملكُ عليهم ثيابَه وجعل لكم منهم تابوتاً من ذهب فرآهم في المنام كارهين للذهب فجعلها من الساج وبنى على باب الكهف مسجداً وقيل لما انتهَوْا إلى الكهف قال لهم الفتى مكانَكم حتى أدخُل أولاً لئلا يفزَعوا فدخل فعمِيَ عليهم المدخلُ فبنَوا ثمةَ مسجداً وقيل المتنازعَ فيه أمرُ الفتية قبل بعثهم أي أعثرنا عليهم حين يتذاكرون بينهم أمرَهم وما جرى بينهم وبين دقيانوسَ من الأحوال والأهوالِ ويتلقَّوْن ذلك من الأساطير وأفواهِ الرجال وعلى التقديرين فالفاء في قولِه عزَّ وجلَّ {فَقَالُواْ} فصيحةٌ أي أعثرناهم عليهم فرأوا ما رأوا فماتوا فَقَالُواْ أي قال بعضهم {ابنوا عَلَيْهِمْ} أي على باب كهفِهم {بنيانا} لئلا يتطرقَ إليهم الناسُ ضنا يتربتهم ومحافظةً عليها وقوله تعالى {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} من كلام المتنازِعين كأنهم لما رأَوا عدم اهتدائِهم إلى حقيقة حالِهم من حيث النسب ومن حيث العددُ ومن حيث اللُّبثُ في الكهف قالوا ذلك تفويضاً للأمر إلى علاّم الغيوب أو من كلام الله تعالى ردًّا لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المنازعين وقيل هو أمرُهم وتدبيرُهم عند وفاتِهم أو شأنُهم في الموت والنومِ حيث اختلفوا في أنهم ماتوا أو ناموا كما في أول مرة فإذا حينئذ متعلق بقوله تعالى {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ} وهم الملِكُ والمسلمون {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا} وقوله تعالى فَقَالُواْ معطوفٌ على يتنازعون وإيثارُ صيغةِ الماضي للدَلالة على أن هذا القولَ ليس مما يستمر ويتجدد كالتنازُع وقيل متعلقٌ باذكر مضمَراً وأما تعلقُه بأعثرنا فيأباه أن إعثارِهم ليس في زمان تنازُعِهم فيما ذكر بل قبلَه وجعلُ وقتِ التنازع ممتداً يقع في بعضه الإعثارُ وفي بعضه التنازعُ تعسفٌ لا يخفى مع أنه لا مخصَّصَ لإضافته إلى التنازُع وهو مؤخرٌ في الوقوع

22

{سيقولون}

الكهف 23 الضميرُ في الأفعال الثلاثة للخائضين في قصتهم في عهد النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من أهل الكتابِ والمسلمين لكنْ لا على وجهِ إسنادِ كلَ منها إلى كلهم بل إلى بعضهم {ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} أي هم ثلاثةُ أشخاص رابعُهم أيْ جاعلُهم أربعةً بانضمامه إليهم كلبُهم قيل قالته اليهودُ وقيل قاله السيد من نصارى نَجرانَ وكان يعقوبيا وقرئ ثلاةٌ بإدغام الثاء في التاء {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} قيل قالتْه النصارى أو العاقبُ منهم وكان نِسْطورياً {رَجْماً بالغيب} رمياً بالخبر الخفيِّ الذي لا مُطَّلَعَ عليه أو ظنًّا بالغيب من قولهم رجَمَ بالظن إذا ظن وانتصابُه عَلى الحاليةِ من الضمير في الفعلين جميعاً أي راجمين أو على المصدرية منهما فإن الرجْمَ والقولَ واحد أو من محذوف مستأنَفٍ واقعٍ موقعَ الحال من ضمير الفعلين معاً أي يرجُمون رجماً وعدم إيرادِ السينِ للاكتفاء بعطفه على ما فيه ذلك {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} هو ما يقوله المسلمون بطريق التلقي من هذا الوحي وما فيه مما يرشدهم إلى ذلك من عدم نظمِه في سلك الرجْمِ بالغيب وتغييرُ سبكه بزيادة الواو المفيدةِ لزيادة وكادةِ النسبة فيما بين طرفيها لا بوحي آخرَ كما قيل {قُلْ} تحقيقاً للحق وردًّا على الأولين {رَّبّى أَعْلَمُ} أي أقوى علماً {بِعِدَّتِهِم} بعددهم {مَّا يَعْلَمُهُمْ} أي ما يعلم عِدّتهم أو ما يعلمهم فضلاً عن العلم بعِدتهم {إِلاَّ قَلِيلٌ} من الناس قد وفقهم الله تعالى للاستشهاد بتلك الشواهد قال ابن عباس رضي الله عنه حين وقعت الواو وانقطعت العِدّةُ وعليه مدارُ قوله رضي الله عنه أنا من ذلك القليل ولو كان في ذلك وحيٌ آخرُ لما خفيَ عليه ولما احتاج إلى الاستشهاد بالواو ولكان المسلمون أسوةً له في العلم بذلك وعن عليٌّ كرم الله وجهه أنهم سبعةُ نفر أسماؤهم بمليخا ومكشليينا ومشليينا هؤلاء أصحابُ يمينِ الملكِ وكان عن يساره مرنوش ودبرنو وشاذنوش وكان يستشير هؤلاء الستةَ في أمره والسابعُ الراعي الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس واسمه كفيشططيوش {فَلاَ تُمَارِ} الفاءُ لتفريع النَّهيِ على ما قبله أي إذ قد عرفتَ جهل أصحاب القولين الأولين فلا تجادلهم {فِيهِمْ} في شأن الفتية {إِلاَّ مِرَآء ظاهرا} قدرَ ما تعرّض له الوحيُ من وصفهم بالرجم بالغيب وعدمِ العلم على الوجه الإجمالي وتفويضِ العلم إلى الله سبحانه من غير تصريحٍ بجهلهم وتفضيح لهم فإنه مما يُخِلُّ بمكارم الأخلاق {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ} في شأنهم {مِنْهُمْ} من الخائضين {أَحَدًا} فإن فيما قُص عليك لمندوحةً عن ذلكَ مع أنَّه لا علمَ لهم بذلك وقال عطاء إلا قليلٌ من أهل الكتابِ فالضمائرُ الثلاثة في الأفعال الثلاثةِ لهم وما ذكر من الشواهد لإرشاد المؤمنين إلى صحة القولِ الثالثِ وفيه محيصٌ عَّما في الأولِ من التكلف في جعل أحدِ الأقوالِ المحكية المنظومةِ في سِمْط واحدٍ ناشئاً عن الحكاية مع كون الأخيرين بخلافه ووضوحٌ في سبب حذف المفعولِ في لا تُمار والمعنى حينئذ وإذ قد وقفتَ على أن كلَّهم ليسوا على خطأ في ذلك فلا تجادِلْهم إلا جدالاً ظاهراً نطَق به الوحيُ المبين من غير تجهيل لجميعهم فإن فيهم مُصيباً وإن قل والنهيُ عن الاستفتاء لدفع ما عسى يُتوهَّم من احتمال جوازِه أو احتمالِ وقوعِه بناءً على إصابة بعضهم فالمعنى لا تراجع إليهم في شأن الفتيةِ ولا تصدّق القولَ الثالثَ من حيث صدورُه عنهم بل من حيث التلقّي من الوحي

23

{وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء} أي لأجل شيءٍ تعزم عليه {إِنّى فَاعِلٌ ذلك}

الشيءَ {غَداً} أي فيما يُستقبل من الزمانِ مطلقاً فيدخُل فيه الغدُ دخولاً أولياً فإنه نزل حين قالت اليهودُ لقريش سلُوه عن الروح وعن أصحاب الكهفِ وذي القرنين فسأوله صلى الله عليه وسلم فقال ائتوني غداً أُخبرْكم ولم يستثنِ فأبطأ عليه الوحيُ حتى شق عليه وكذّبته قريشٌ وما قيل من أن المدلولَ بالعبارة هو الغدُ وما بعد ذلك مفهومٌ بطريق دِلالة النصِّ يرده أن ما بعده ليس بمعناه في مناط النهي فإن وسعةَ المجالِ دليلُ القدرة فليتأمل

24

{إلا أن يشاء الله} استثناءٌ مفرَّغٌ من النهي أي لا تقولن ذلك في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ ملابستِه بمشيئته تعالى على الوجه المعتادِ وهو أن يقال إن شاء الله أو في وقتٍ من الأوقاتِ إلا وقتَ أنْ يشاءَ الله أن تقوله لا مطلقاً بل مشيئته إذن مشيئته إذن فإن النسيانَ أيضاً بمشيئته تعالى ولا مساغَ لتعليقه بفاعل لعدم سِدادِ استثناءِ اقترانِ المشيئة بالفعل ومنافاةِ استثناءِ اعتراضها النهي وقيل الاستثناءُ جارٍ مَجرى التأييد كأنه قيل لا تقولنّه أبداً كقوله تعالى وَمَا كان لنا أن نعود فهيا إلا أن يشاء الله {واذكر رَّبَّكَ} بقولك إن شاء الله مداركا له {إِذَا نَسِيتَ} إذا فرَطَ منك نسيانٌ ثم ذكرتَه وعن ابن عباس رضي الله عنهما ولو بعد سنةٍ ما لم يحث ولذلك جوّز تأخيرُ الاستثناءِ وعامةُ الفقهاء على خلافه إذ لو صح ذلك لما تقرر إقرارٌ ولا طلاقٌ ولا عَتاقٌ ولم يُعلم صِدقٌ ولا كذِبٌ قال القرطبيُّ هذا في تدارك التبرك والتخلص عن الإثم وأما الاستثناءُ المغير للحكم فلا يكون إلا متصلا ويجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناءُ مبالغةٌ في الحثِّ عليه أو اذكر ربَّك وعقابَه إذا تركت بعضَ ما أمرك به ليبعثك ذلك على التدارُك أو اذكره إذا اعتراك النسيانُ ليذكِّرك المنسيَّ وقد حُمل على أداء الصلاةِ المنْسية عند ذكرِها {وَقُلْ عسى أن يهدين رَبّى} أي يوفقني {لاِقْرَبَ مِنْ هذا} أي لشيء أقربَ وأظهرَ من نبأ أصحاب الكهف من الآيات والدلائل الدالةِ على نبوتي {رَشَدًا} أي إرشاداً للناس ودلالةً على ذلك وقد فعل عز وجل ذلك حيث آتاه من البينات ما هو أعظمُ من ذلك وأبينُ كقصص الأنبياءِ المتباعدِ أيامُهم والحوادثِ النازلة في الأعصار المستقبلةِ إلى قيام الساعةِ أو لأقربَ رشداً وأدنى خبراً من المنسيّ

25

{وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ} أحياءً مضروباً على آذانهم {ثلاث مائة سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا} وهي جملةٌ مستأنَفةٌ مبينةٌ لما أُجمل فيما سلف وأُشير إلى عزة منالِه وقيل إنه حكايةُ كلامِ أهلِ الكتابِ فإنهم اختلفوا في مدة لُبثِهم كما اختلفوا في عِدّتهم فقال بعضهم هكذا وبعضهم ثلثمائة وروى عن عليَ رضيَ الله عنه أنه قال عند أهلِ الكتاب أنهم لبثوا ثلثمائة سنةٍ شمسيةٍ والله تعالى ذكر السنةَ القمريةَ والتفاوتَ بنيهما في كل مائة سنةٍ ثلاث سنين فيكون ثلثمائة وتسعَ سنين وسنينَ عطفُ بيان ثلثمائة وقيل بدل وقرئ على الإضافة وضعاً للجمع موضعَ المفردِ ومما يحسّنه ههنا أن علامةَ الجمعِ فيه جبر

الكهف 26 28 لما حُذف في الواحد وأن الأصلَ في العدد إضافتُه إلى الجمع

26

{قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لبثوا} أي بالزمان الذين لبثوا فيه {لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض} أيْ ما غابَ فيهما وخفيَ من أحوال أهلِهما واللامُ للاختصاص العلميِّ دون التكوينيِّ فإنه غيرُ مختص بالغيب {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} دلّ بصيغة التعجبِ على أن شأنَ علمِه سبحانه بالمبصَرات والمسموعاتِ خارجٌ عما عليه إدراكُ المدرِكين لا يحجُبه شيءٌ ولا يحول دونه حائلٌ ولا يتفاوت بالنسبة إليه اللطيفُ والكثيفُ والصغيرُ والكبيرُ والخفيُّ والجليُّ والهاءُ ضميرُ الجلالة ومحلُّه الرفعُ على الفاعلية والباء مَزيدةٌ عند سيبويهِ وكان أصله أبصَرَ أي صار ذا بَصَر ثم نقل إلى صيغة الأمرِ للإنشاء فبرز الضميرُ لعدم لياقة الصيغة له أو لزيادة الباء كما في كفى به والنصبُ على المفعولية عند الأخفشِ والفاعلُ ضميرُ المأمورِ وهو كلُّ أحد والباءُ مزيدة إن كانت الهمزةُ التعدية ومعدية إن كانت للصيرورة ولعل تقديمَ أمرِ إبصارِه تعالى لما أن الذي نحن بصدده من قبيل المبصَرات {مَّا لَهُم} لأهل السمواتِ والأرض {مِن دُونِهِ} تعالى {مِن وَلِىّ} يتولى أمورَهم وينصُرهم استقلالاً {وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ} في قضائه أو في علم الغيب {أَحَدًا} منهم ولا يُجعل له فيه مدخلاً وهو كما ترى أبلغُ في نفي الشريكِ من أن يقال من ولي ولا شريك وقرئ على صيغة نهى الحاضرة على أن الخطابَ لكل أحدٍ ولما دل انتظامُ القرآنِ الكريم لقصة أصحابِ الكهف من يحث إنها بالنسبة إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من المغيبات على أنه وحي معجز أمره صلى الله عليه وسلم بالمداومة على دراسته فقال

27

{واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ كتاب رَبّكَ} ولا تسمَعْ لقولهم ائتِ بقرآن غيرِ هذا أو بدِّلْه {لاَ مُبَدّلَ لكلماته} لا قادرَ على تبديله وتغييره غيرُه {وَلَن تَجِدَ} أبدَ الدهر وإن بالغتَ في الطلب {مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} ملجأً تعدل إليه عند إلمام مُلِمّة

28

{واصبر نَفْسَكَ} احبِسها وثبِّتها مصاحِبةً {مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى} أي دائبين على الدعاء في جميع الأوقاتِ وقيل في طرف في النهار وقرئ بالغُدوة على أن إدخال اللام عليها وهي علمٌ في الأغلب على تأويل التنكيرِ بهم والمرادُ بهم فقراءُ المؤمنين مثلُ صُهيبٍ وعمار وخباب ونحوهم رضي الله عنهم وقيل أصحابُ الصُّفَّة وكانوا نحو سبعِمائة رجل قيل إنه قال قومٌ من رؤساء الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم نحِّ هؤلاء المواليَ الذين كأن ريحَهم ريحُ الضأن حتى نجالسَك كما قال قومُ نوحٍ عليه السلام أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون فنزلت والتعبيرُ عنهم بالموصول لتعليل الأمر بما في حيز

الكهف 29 الصلة من الخَصلة الداعيةِ إلى إدامة الصحبة {يُرِيدُونَ} بدعائهم ذلك {وَجْهَهُ} حالٌ من المستكنِّ في يدْعون أي مريدين لرضاه تعالى وطاعته {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} أي لا يجاوِزْهم نظرُك إلى غيرهم مِن عدَاه أي جاوزه واستعمالُه بعن لتضمينه معنى النبوِّ أولا تصرِفْ عيناك النظرَ عنهم إلى غيرهم من عدَوتُه عن الأمر أي صرفتُه عنه على أن المفعولَ محذوف لظهوره وقرئ ولا تعد عينيك ولا تُعْدِ عينيك من الإعداء والتعدية ووالمراد نهيه صلى الله عليه وسلم عن الازدراء بهم لرثاثة زِيِّهم طموحاً إلى زِيّ الأغنياء {تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا} أي تطلب مجالسةَ الأشراف والأغنياءِ وأصحابِ الدنيا وهي حالٌ من الكاف على الوجه الأولِ من القراءة المشهورة ومن الفاعل على الوجه الثاني منها وضمير تريد للعينين وإسنادُ الإرادةِ إليه مجازٌ وتوحيدُه للتلازم كما في قوله ... لمن زحلوقة زُل ... بها العينان تنهلُّ ... ومن المستكنّ في الفعل على القراءتين الأخيرتين {وَلاَ تطع} في تحية الفقراءِ عن مجالسك {مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} أي جعلناه غافلاً لبطلان استعدادِه للذكر بالمرة أو وجدناه غافلاً كقولك أجبَنْتُه وأبخلتُه إذا وجدتُه كذلك أو هو مِنْ أَغفلَ إبِلَه أي لم نسمِّه بالذكر {عَن ذِكْرِنَا} كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراءِ عن مجلسك فإنهم غافلون عن ذكرنا على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء في مجامع الأوقاتِ وفيهِ تنبيهٌ على أن الباعثَ له على ذلك الدعاءِ غفلةُ قلبه عن جناب الله سبحانه وجهته وانهماكُه في الحسيات حتى خفيَ عليه أن الشرفَ بحِلْية النفس لا بزينة الجسد وقرئ أغفلَنا قلبُه على إسنادِ الفعلِ إلى القلب أي حسِبَنا غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة من أغفلتُه إذا وجدتُه غافلاً {واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} ضيَاعاً وهلاكاً أو متقدماً للحق والصواب نا بذاله وراءَ ظهره من قولهم فرسٌ فرُطٌ أي متقدِّمٌ للخيل أو هو بمعنى الإفراط والتفريطِ فإن الغفلةَ عن ذكره سبحانه تؤدّي إلى اتباع الهوى المؤدِّي إلى التجاوز والتباعُدِ عن الحق والصواب والتعبيرُ عنهم بالموصول للإيذان بعلية مَا في حيزِ الصِّلةِ للنهي عن الإطاعة

29

{وَقُلْ} لأولئك الغافلين المتبعين هواهم {الحق مِن رَّبّكُمْ} أي ما أوحيَ إليَّ الحقُّ لا غيرُ كائناً من ربكم أو الحقُّ المعهودُ من جهة ربكم لا من جهتي حتى يُتصور فيه التبديلُ أو يُمكنَ الترددُ في اتباعه وقوله تعالى {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} إما من تمام القولِ المأمورِ بهِ والفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها بطريق التهديد لا لتفريعه عليهِ كما في قولِهِ تعالى {هذا عَطَاؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وقوله تعالى الحق مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين أي عَقيبَ تحقق أن ما أوحي إليَّ حقٌّ لا ريب فيه وأن ذلك الحقَّ من جهة ربكم فمن شاء أن يؤمن به فليؤمن كسائر المؤمنين ولا يتعللَ بما لا يكاد يصلُح للتعليل ومن شاء أن يكفر به فليفعلْ وفيه من التهديد وإظهارِ الاستغناءِ عن متابعتهم وعدمِ المبالاةِ بهم وبإيمانهم وجودا وعدما مالا يخفى وإما تهديدٌ من جهة الله تعالى والفاءُ لترتيب ما بعدها من التهديد على الأمر لا على مضمون

الكهف 30 31 المأمورِ به والمعنى قل لهم ذلك وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدِّقَك فيه فليؤمن ومن شاء أن يكفُر به أو يكذِّبَك فيه فليفعل فقوله تعالى {إِنَّا أَعْتَدْنَا} وعيدٌ شديدٌ وتأكيدٌ للتهديد وتعليلٌ لما يفيده من الزجر عن الكفر أو لما يُفهم من ظاهر التخييرِ من عدم المبالاةِ بكفرهم وقلةِ الاهتمامِ بزجرهم عنه فإن إعدادَ جزائِه من دواعي الإملاءِ والأمهالِ وعلى الوجه الأول هو تعليلٌ للأمر بما ذكر من التخيير التهديديِّ أي قل لهم ذلك إنا أعتدنا {للظالمين} أي هيأنا للكافرين بالحق بعد ما جاء من الله سبحانه والتعبيرُ عنهم بالظاليمن للتنبيه على أن مشيئةَ الكفر واختيارَه تجاوزٌ عن الحد ووضعٌ للشيء في غير موضعِه {نَارًا} عظيمةً عجيبة {أَحَاطَ بِهِمْ} أي يحيط بهم وإيثارُ صيغةِ الماضِي للدَلالة على التحققِ {سرادقها} أي فسطاطها شُبّه به ما يحيط بهم من النار وقيل السرادِقُ الحجرةُ التي تكون حول الفُسطاطِ وقيل سرادِقُها دُخانُها وقيل حائط من نار {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ} من العطش {يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل} كالحديد المذاب وقيل كدُرْدِيِّ الزيت وهو على طريقة قوله فاعتُبوا بالصَّيْلم {يَشْوِى الوجوه} إذا قدم ليُشرَب انشوى الوجهُ لحرارته عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم هو كعَكَر الزيت فإذا قُرب إليه سقطت فروةُ وجهه {بِئْسَ الشراب} ذلك {وَسَاءتْ} النار {مُرْتَفَقًا} متكأً وأصل الاتفاق نصبُ المِرْفقِ تحت الخد وأنى ذلك في النار وإنما هو بمقابلة قوله تعالى {وحسنت مرتفقا}

30

{إن الذين آمنوا} في محل التعليلِ للحث على الإيمان المنفهِم من التخيير كأنه قيل والذين آمنوا ولعل تغييرَ سبكه للإيذان بكمال تنافي مآليْ الفريقين أي إن الذين آمنوا بالحق الذي أوحيَ إليك {وَعَمِلُواْ الصالحات} حسبما بين في تضاعيفه {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} خبرُ إن الأولى هي الثانيةُ مع ما في حيزها والراجعُ محذوفٌ أي من أحسنَ منهم عملاً أو مستغنًى عنه كما في قولك نعم الرجل زيدا أو واقعٌ موقعَه الظاهرَ فإن من أحسن عملاً في الحقيقة هو الذين آمن وعمِل الصالحات

31

{أولئك} المنعوتون بالنعوت الجليلةِ {لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} استئنافٌ لبيان الأجر أو هو الخبر وما بنيهما اعتراضٌ أو هو خبرٌ بعد خبر {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} من الأولى ابتدائيةٌ والثانيةُ بيانية صفةٌ لأساور والتنكيرُ للتفخيم وهو جمعُ أَسوِرة أو أسور جمع سِوار {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} خُصت الخُضرة بثيابهم لأنها أحسنُ الألوان وأكثرُها طراوة {مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} أي ممارق من الديباج وما غلظ جمعَ بين النوعين للدِلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفسُ وتلَذّ الأعين {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك} على السرُر على ما هو شأن المتنعمين {نِعْمَ الثواب} ذلك {وَحَسُنَتْ} أي الآرائك {مرتفقا}

الكهف 32 34 أي متكأ

32

{واضرب لَهُم} أي للفريقين الكافر والمؤمن {مثلا رجلين} مفعولان لا ضرب أولُهما ثانيهما لأنه المحتاجُ إلى التفصيل والبيان أي اضرب للكافرين والمؤمنين لا من حيث أحوالُهما المستفادةُ مما ذكر آنفاً من أن للأولين في الآخرة كذا وللآخرين كذا بل من حيث عصيانُ الأولين مع تقلبهم في نعم الله تعالى وطاعةِ الآخرين مع مكابدتهم مشاقَّ الفقر مثلاً حالَ رجلين مقدرَين أو محققَين هما أخوان من بني إسرائيلَ أو شريكان كافرٌ اسمُه قطروس ومؤمنٌ اسمه يهوذا اقتسما ثمانيةَ آلافِ دينار فاشترى الكافرُ بنصيبه ضِياعاً وعَقاراً وصرف المؤمن نصيبه إلى وجوه المبارِّ فآل أمرُهما إلى ما حكاه الله تعالى وقيل هما أخوان من نبي مخزومٍ كافرٌ هو الأسودُ بن عبد الأسد ومسلم هو أبو سلمة عبدَ اللَّه بنَ عبدِ الأسد زوجُ أم سلمة رضي الله عنها أولاً {جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا} وهو الكفار {جنتين} بستانين {مّنْ أعناب} من كروم متنوعة والجملة بتمامها بيانٌ للتمثيل أو صفةٌ لرجلين {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أي جعلنا النخل محيطةً بهما مؤزَّراً بها كرومُهما يقال حفّه القومُ إذا طافوا به وحففتُه بهم جعلتُهم حافّين حوله فيزيده الباء مفعولاً آخر كقولك غشَّيتُه به {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا} وسطهما {زَرْعًا} ليكون كلٌّ منهما جامعاً للأفوات والفواكهِ متواصلَ العِمارة على الهيئة الرائقةِ والوضعِ الأنيق

33

{كِلْتَا الجنتين اتَتْ أُكُلَهَا} ثمرَها وبلغت مبلغاً صالحاً للأكل وقرئ بسكون الكاف وقرئ كلُّ الجنتين آتى أكُلَه {وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ} لم تنقُص من أُكُلها {شَيْئاً} كما يعهد ذلك في سائر البساتينِ فإن الثمارَ غالباً تكثُر في عام وتقِلُّ في آخر وكذا بعضُ الأشجارِ يأتي بالثمر في بعض الأعوامِ دون بعض {وَفَجَّرْنَا خلالهما} فيما بين كلَ من الجنتين {نَهَراً} على حِدَة ليدوم شربهما ويزيد بهاؤهما وقرئ بالتخفيف ولعل تأخير ذكر تفجيرِ النهر عن ذكر إيتاء الكل مع أن الترتيب الخارجيَّ على العكس للإيذان باستقلال كلَ من إيتاء الأكل وتفجيرِ النهر في تكميل محاسنِ الجنتين كما في قصة البقرة ونحوها ولو عكس لا نفهم أن المجموعَ خَصلةٌ واحدة بعضُها مترتبٌ على بعض فإن إيتاءَ الأكلِ متفرِّعٌ على السقْي عادةً وفيه إيماءٌ إلى أن إيتاء الأكلِ لا يتوقف على السقى كقوله تعالى {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء} وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ

34

{وَكَانَ لَهُ} لصاحب الجنتين {ثَمَرٌ} أنواعٌ من المال غيرُ الجنتين من ثمر مالَه إذا كثّره قال ابن عباس رضي الله عنهما هو جميعُ المال من الذهب والفضة والحيوانِ وغير ذلك وقال مجاهد هو الذهبُ والفضة خاصة {فَقَالَ لصاحبه} المؤمن {وَهُوَ} أي القائلُ {يحاوره} أي صاحبَه المؤمنَ وإن جاز العكسُ أي يراجعه في الكلام من حار إذا رجع {أنا أكثر منك مالا وَأَعَزُّ نَفَراً} حشَماً وأعواناً أو أولاداً ذُكوراً لأنهم الذين ينفرون معه

الكهف

35

35 - 38 {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} التي شُرحت أحوالها وعددها وصفانها وهيآتُها وتوحيدها إما لعدم تعلق الغرض بتعدادها وإما لاتصال إحداهما بالأخرى وإما لأن الدخولَ يكون في واحدة فواحدة {وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ} ضارٌّ لها بعُجبه وكفره {قَالَ} استئنافٌ مبني على سؤال نشأ من ذكر دخولِ جنته حالَ ظلمِه لنفسه كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ إذ ذاك فقيل قال {مَا أظن أن تبيد هذه} الجنةُ أي تفنى {أَبَدًا} لطول أملِه وتمادي غفلتِه واغترارِه بمُهلته ولعله إنما قاله بمقابلة موعظةِ صاحبِه وتذكيرِه بفناء جنّتيه ونهيِه عن الاغترار بهما وأمره بتحصيل الباقيات الصالحات

36

{وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} كائنةً فيما سيأتي {وَلَئِن رُّدِدتُّ} بالبعث عند قيامها كما تقول {إلى رَبّى لاجِدَنَّ} يومئذ {خَيْراً مّنْهَا} أي من هذه الجنةِ وقرئ منهما أي من الجنتين {مُنْقَلَباً} مرجعاً وعاقبةً ومدارُ هذا الطمعِ واليمينِ الفاجرةِ اعتقادٌ أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا لاستحقاقه الذاتي وكرامتِه عليه سبحانه ولم يدرِ أن ذلك استدراجٌ

37

{قَالَ لَهُ صاحبه} استئناف كما سبق {وَهُوَ يحاوره} جملةٌ حاليةٌ كما مر فائدتُها التنبيهُ من أول الأمر على أن ما يتلوه كلامٌ معتنًى بشأنه مسوقٌ للمحاورة {أَكَفَرْتَ} حيث قلت ما أظن الساعةَ قائمةً {بالذى خَلَقَكَ} أي في ضمن خلقِ أصلِك {مّن تُرَابٍ} فإن خلقَ آدمَ عليه السلام منه متضمّنٌ لخلقه منه لِما أن خلقَ كلَّ فردٍ من أفراد البشر له حظٌّ من خلقه عليه السلام إذ لم تكن فطرته الشريفة مقصورةً على نفسه بل كانت أُنموذَجاً منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستنبعا لجَرَيان آثارِها على الكل فكان خلقَه عليه السلامُ من الترابِ خلقا للكل منه وقيل خلقَك منه لأنه أصلُ مادتِك إذ به يحصُل الغذاءُ الذي منه تحصل النطفةُ فتدبر {مِن نُّطْفَةٍ} هي مادتُك القريبة فالمخلوقُ واحدٌ والمبدأُ متعددٌ {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} أي عَدلك وكمّلك إنساناً ذكراً أو صيّرك رجلاً والتعبيرُ عنه تعالى بالموصول للإشعار بعلية مَا في حيزِ الصِّلةِ لإنكار الكفرِ والتلويحِ بدليل البعثِ الذي نطَق به قولُه عز من قائل يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مّن تُرَابٍ الخ

38

{لكن هُوَ الله رَبّى} أصله لكن إنا وقد قرئ كذلك فحُذفت الهمزةُ فتلاقت النونان فكان الإدغام وهو ضميرُ الشأن وهو مبتدأٌ خبرُه الله ربي وتلك الجملةُ خبرُ أنا والعائدُ منها إليه الضمير وقرئ بإثبات ألفِ أنا في الوصل وفي الوقف جميعاً وفي الوقف خاصة وقرئ لكنه بالهاء ولكن بطرح أنا ولكن أنا لا إله إلا هو ربي ومدارُ الاستدراك قوله تعالى أَكَفَرْتَ كأنه قال أنت كافرٌ لكني مؤمنٌ موحّد {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا} فيه إيذانٌ بأن كفرَه كان

الكهف 39 42 بطريق الإشراك

39

{وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ} أي هلاّ قلت عندما دخلتَها وتقديمُ الظرف على المحضَّض عليه للإيذان بتحتّم القولِ في آن الدخولِ من غير ريث لا للقصر {مَا شَاء الله} أي الأمرُ ما شاء الله أو ما شاء الله كأن على أن ما موصولةٌ مرفوعةُ المحلِّ أو أيَّ شيء شاء الله كان على أنها شرطيةٌ منصوبةٌ والجوابُ محذوفٌ والمرادُ تحضيضُه على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها {لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} أي هلا قلت ذلك اعترافاً بعجزك وبأن ما تيسر لك من عِمارتها وتدبيرِ أمرِها إنما هو بمعونته تعالى وإقداره عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم من رأى شيئاً فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضُرَّه {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا} أنا إما مؤكدٌ لياء المتكلمِ أو ضميرُ فصْلٍ بين مفعولي الرؤيةِ إن جعلت عملية وأقلَّ ثانيهما وحالٌ إن جُعلت بصَريةً فيكون أنا حينئذ تأكيداً لا غيرُ لأن شرطَ كونِه ضميرَ فصلٍ توسطُه بين المبتدأ والخبرِ أو ما أصلُه المبتدأ والخبر وقرئ أقلُّ بالرفع خبراً لأنا والجملةُ مفعولٌ ثانٍ للرؤية أو حالٌ وفي قوله تعالى وَوَلَدًا نُصرةٌ لمن فسر النفرَ بالولد

40

{فعسى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ} هو جوابِ الشرطِ والمعنى إنْ ترنِ أفقرَ منك فأنا أتوقع من صنع الله سبحانه أن يقلِبَ ما بي وما بك من الفقر والغنى فيرزُقني لإيماني جنةً خيراً من جنتك ويسلُبَك لكفرك نعمتَه ويُخْرِب جنتك {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا} هو مصدرٌ بمعنى الحِساب كالبُطلان والغفران أي مقداراً قدره الله تعالى وحسَبه وهو الحكمُ بتخريبها وقيل عذابَ حُسبانٍ وهو حسابُ ما كسبت يداه وقيل مَراميَ جمعُ حسبانا وهي الصواعقُ ومساعدة النظمِ الكريم فيما سيأتي للأولين أكثر {مِّنَ السماء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} مصدرٌ أُريد به المفعولُ مبالغةً أي أرض ملساء يُزْلَق عليها لاستئصال ما عليها من البناء والشجر والنبات

41

{أَوْ يُصْبِحَ} عطف على قوله تعالى فَتُصْبِحُ وعلى الوجه الثالث على يرسلَ {مَاؤُهَا غَوْرًا} أي غائراً في الأرض أُطلق عليه المصدر المبالغة {فَلَن تَسْتَطِيعَ} أبداً {لَهُ} أي للماء الغائرِ {طَلَبًا} فضلاً عن وجدانه وردِّه

42

{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} أُهلك أموالُه المعهودةُ من جنتيه وما فيهما وأصلُه من إحاطة العدوِّ وهو عطفٌ على مقدر كأنه قيل فوقع بعضُ ما توقع من المحذور وأُهلك أمواله وإنما حذف لدلالة السياق والسياقِ عليه كما في المعطوف عليه بالفاء الفصيحة {فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ} ظهراً لبطن وهو كنايةٌ عن الندم كأنه قيل فأصبح يندم {عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} أي في عِمارتها من المال لعل تخصيصَ الندم به دون ما هلك الآن من الجنة لما أنه إنما يكون على الأفعال الاختياريةِ ولأن ما أتفق في عمارتها كان

الكهف 43 45 مما يمكن صيانتُه عن طوارق الحدَثانِ وقد صرفه إلى مصالحها رجاء أي يتمتع بها أكثر مما يتمتعَ به وكان يرى أنه لا تنالها أيدي الردَى ولذلك قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاكُ ندم على ما صنع بناءً على الزعم الفاسدِ من إنفاق ما يمكن ادخارُه في مثل هذا الشيءِ السريع الزوال {وَهِىَ} أي الجنةُ من الأعناب المحفوفةِ بنخل {خَاوِيَةٍ} ساقطةٌ {على عُرُوشِهَا} أي دعائمها المصنوعةِ للكروم لسقوطها قبل سقوطِها وتخصيصُ حالها بالذكر دون النخل والزرعِ إما لأنها العُمدةُ وهما من متمماتها وإما لأن ذكرَ هلاكِها مغنٍ عن ذكر هلاك الباقي لأنها حيث هلكت وهي مُشيَّدةٌ بعروشها فهلاكُ ما عداها بالطريق الأولى وإما لأن الإنفاقَ في عمارتها أكثرُ وقيل أرسل الله تعالى نارا فأحرقتها وغار ماؤُها {وَيَقُولُ} عطف على يقلّب أو حالٌ من ضميرِه أي وهو يقول {يا ليتني لم أشرِك بِرَبّى أَحَدًا} كأنه تذكر موعظةَ أخيه وعلم أنه إنما أُتيَ من قِبل شِرْكِه فتمنى لو لم يكن مشركاً فلم يُصبْه ما أصابه قبل ويحتمل أن يكون ذلك توبةً من الشرك وندَماً على ما فرَط منه

43

{ولم تكن له} وقرئ بالتاء التحتانية {فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ} يقدِرون على نصره بدفع الإهلاكِ وعلى رد المهلك والإتيان بمثله وجمعُ الضميرِ باعتبار المعنى كما في قوله عز وعلا يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ {من دون الله} أنه القادرُ على ذلك وحده {وَمَا كَانَ} في نفسه {مُنْتَصِراً} ممتنعاً بقوته عن انتقامه سبحانه

44

{هُنَالِكَ} في ذلك المقامِ وفي تلك الحال {الولاية لله الحق} أي النصر له وحده لا يقدِر عليها أحدٌ فهو تقريرٌ لما قبله وينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة كما نصر بما فعل بالكافر أخاه المؤمنَ ويعضُده قوله تعالى {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} أي لأوليائه وقرأ الولاية بكسر الواو ومعناه الملك والسلطان أي هنالك السلطان له عز وجل لا يُغلَب ولا يُمتَنع منه أو لا يُعبد غيره كقوله تعالى فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين فيكون تنبيهاً على أن قوله {يا ليتني لم أشرِك} الخ كان عن اضطرار وجزَعٍ عمّا دهاه على أسلوب قوله تعالى الآن وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ من المفسدين وقيل هناك إشارةٌ إلى الآخرة كقوله تعالى {لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الواحد القهار} وقرئ برفع الحقِّ على أنه صفة الولاية وبنصبه على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ وقرئ عقبا بضم القاف وعقبا كرُجعى والكلُّ بمعنى العاقبة

45

{واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا} أي واذكر لهم ما يُشبهها في زَهْرتها ونَضارتها وسرعةِ زوالها لئلا يطمئنوا بها وليعكفوا عليها ولا يَضرِبوا عن الآخرة صفحاً بالمرة أو بيِّنْ لهم صفتَها العجيبة التي هي في الغرابة كالمثَل {كَمَاء} استئنافٌ لبيان المثَل أي هي كَمَاء {أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء} ويجوز كونه مفعولا ثانيا لا ضرب على أنه بمعنى صيّر {فاختلط به} اشتبك بسبيه {نَبَاتُ الارض}

فالتفّ وخالط بعضه بعضاً من كثرته وتكاثفه أو نجَع الماءُ في النبات حتى رو ورفّ فمقتضى الظاهرِ حينئذ فاختلط بنبات الأرض وإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريم عليه للمبالغة بالكثرة فإن كلا المختلِطَين موصوفٌ بصفة صاحبِه {فَأَصْبَحَ} ذلك النباتُ الملتفُّ إثرَ بهجتها ورفيفِها {هَشِيمًا} مهشوماً مكسوراً {تَذْرُوهُ الرياح} تفرقه وقرئ تُذْريه من أذراه وتذروه الريحُ وليس المشبَّهُ به نفسَ الماء بل هو الهيئةُ المنتزَعةُ من الجملة وهي حالُ النبات المُنبَتِ بالماء يكون أخضرَ وارفاً ثم هشيماً تطيِّره الرياحُ كأن لم يغن بالأمس {وَكَانَ الله على كُلّ شىء} من الأشياء التي من جملتها الإنشاءُ والإفناءُ {مُّقْتَدِرًا} قادراً على الكمال

46

{المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} بيانٌ لشأن ما كانوا يفتخِرون به من محسّنات الحياة الدنيا كما قال الأخُ الكافرُ أنا أكثر منك مالا وأعز نفراً إثرَ بيانِ شأن نفسها بما مر من المثَل وتقديمُ المال على البنين مع كونهم أعز منه كما في الآية المحكية آنفاً وقولِه تعالى {وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ} وغيرِ ذلك من الآيات الكريمة لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمدادِ وغيرِ ذلك وعمومِه بالنسبة إلى الأفراد والأوقات فإنه زينةٌ ومُمِدٌّ لكل أحدٍ من الآباء والبنين في كل وقت وحينٍ وأما البنون فزينتُهم وإمدادُهم إنما يكون بالنسبة إلى مَنْ بلغ مبلغَ الأُبوةِ ولأن المالَ مناطٌ لبقاء النفسِ والبنين لبقاء النوع ولأن الحاجةَ إليه أمسُّ من الحاجة إليهم ولأنه أقدم منهم في الوجود ولأنه زينةٌ بدونهم من غير عكس فإن من له بنونَ بلا مال فهو في ضيقِ حالٍ ونكال وإفرادُ الزينة مع أنها مسنَدةٌ إلى الإثنين لما أنها مصدرٌ في الأصل أُطلق على المفعول مبالغة كأنهما نفسُ الزينة والمعنى أن ما يفتخرون به من المال والبنين شيءٌ يُتزيّن به في الحياة الدنيا وقد عُلم شأنُها في سرعة الزوال وقرب الاضمحلال فكيف بما هو من أوصافها التي شأنُها أن تزول قبل زوالِها {والباقيات الصالحات} هي أعمالُ الخير وقيل هي في الصلواتُ الخمسُ وقيل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبرُ وقيل كلُّ ما أريد به وجهُ الله تعالى وعلى كل تقدير يدخُل فيها أعمالُ فقراءِ المؤمنين الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى يريدون وجهَه دخولاً أولياً أما صلاحُها فظاهر وأما بقاؤها فبقاء عوائدِها عند فناءِ كلِّ ما تطمح إليه النفسُ من حظوظ الدنيا {خَيْرٌ} أي مما نُعت شأنُه من المال والبنين وإخراجُ بقاءِ تلك الأعمالِ وصلاحِها مُخرَجَ الصفات المفروغِ عنها مع أن حقهما أي يكون مقصودَي الإفادةِ لا سيما في مقابلة إثباتِ الفناء لما يقابلها من المال والبنين على طريقة قوله تعالى ما عندكم ينفذ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ للإيذان بأن بقاؤها أمرٌ محقّقٌ لا حاجةَ إلى بيانه بل لفظُ الباقيات اسم له وصفٌ ولذلك لم يُذكر الموصوفُ وإنما الذي يُحتاج إلى التعرض له خيرتها {عِندَ رَبّكَ} أي في الآخرة وهو بيانٌ لما يظهر فيه آثار خيرتها بمنزلة إضافة الزينةِ إلى الحياة الدنيا لا لأفضليتها فيها من المال والبنين مع مشاركة الكلِّ في الأصل إذ لا مشاركةَ لهما في الخيرية في الآخرة {ثَوَاباً} عائدةً تعود إلى صاحبها {وَخَيْرٌ أَمَلاً} حيث ينال بها صاحبُها في الآخرة كلَّ ما كان يؤمله في الدنيا

الكهف 47 48 وأما ما مر من المال والبنين فليس لصاحبه أملا يناله وتكريرُ خيرٌ للإشعار باختلاف حيثية الخيرية والمبالغةِ فيها

47

{وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال} منصوبٌ بمضمر أي اذكرْ حين نقلَعُها من أماكنها ونسيّرها في الجوِّ على هيئاتِها كما ينبئ عنه قولُه تعالى وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب أو نسير أجزاءَها بعد أن نجعلها هباءً مُنْبَثّاً والمرادُ بتذكيره تحذيرُ المشركين مما فيه من الدواهي وقيل هو معطوفٌ على ما قبله من قوله تعالى {عِندَ رَبّكَ} أي الباقياتُ الصالحات خيرٌ عند الله ويوم القيامة وقرئ تُسيَّر على صيغة البناءِ للمفعولِ من التفعيلِ جرياً على سَنن الكبرياءِ وإيذانا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لتعينه وقرئ تَسِير {وَتَرَى الأرض} أي جميعَ جوانبها والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يتأتى منه الرؤيا وقرئ تُرَى على صيغة البناء للمفعول {بَارِزَةً} أما بروزُ ما تحت الجبال فظاهرٌ وأما ما عاداه فكانت الجبالُ تحول بينه وبين الناظرِ قبل ذلك فالآن أضحى قاعاً صفْصِفاً لنرى فيها ولا أمة {وحشرناهم} جمعناهم إلى الموقف من كل أَوْب وإيثارُ صيغةِ الماضي بعد نسيّر وتَرى للدِلالة على تحقق الحشْرِ المتفرِّع على البعث الذي يُنكره المنكرون وعليه يدورُ أمرُ الجزاءِ وكذا الكلام فيما عطف عليه منفياً وموجَباً وقيل هو للدَّلالة على أن حشْرهم قبل التسيير والبروزِ ليعاينوا تلك الأهوالَ كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك {فَلَمْ نُغَادِرْ} أي لم نترُك {مّنْهُمْ أَحَداً} يقال غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدْرُ الذي هو تركُ الوفاءِ والغديرُ الذي هو ماءٌ يتركه السيلُ في الأرض الغائرة وقرئ بالياء وبالفوقانية على إسنادِ الفعلِ إلى ضمير الأرض كما في قوله تعالى وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ

48

{وَعُرِضُواْ على رَبّكَ} شُبّهت حالُهم بحال جندٍ عُرضوا على السلطان ليأمُر فيهم بما يأمُر وفي الالتفات إلى الغَيبة وبناءِ الفعل للمفعول مع التعرض لعنوان الربوبيةِ والإضافةِ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تربية المهابةِ والجَرْيِ على سَنن الكِبرياء وإظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى {صَفَّا} أي غيرَ متفرِّقين ولا مختلِطين فلا تعرّض فيه لوَحدة الصفِّ وتعدّدِه وقد ورد في الحديث الصحيح يجمع الله الأولين والآخِرين في صعيد واحد صُفوفاً {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا} على إضمار القولِ على وجه يكون حالاً من ضمير عُرضوا أي مقولة لهم أو وقلنا لهم وأما كونُه عاملاً في يومَ نسيّر كما قيل فبعيدٌ من جزالة التنزيلِ الجليلِ كيف لا ويلزم منه أن هذا القولَ هو المقصودُ بالأصالة دون سائر القوارعِ مع أنه خاصُّ التعلق بما قبله من العَرض والحشر دون تسييرِ الجبال وبروزِ الأرض {كَمَا خلقناكم} نعتٌ لمصدر مقدّرٍ أي مجيئاً كائناً مجيئكم عند خلْقِنا لكم {أَوَّلَ مرة} أوحال من ضمير جئتمونا أي كائنين كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ حُفاةً عُراة غُرْلاً أو ما معكم شيءٌ مما تفتخرون به من الأموال والأنصار كقوله تعالى {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا} فرادى {كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ} وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم وَرَاء ظُهُورِكُمْ {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا} إضرابٌ وانتقالٌ من كلام إلى كلام كلاهما للتوبيخ

الكهف 49 50 والتقريعِ أي زعمتم في الدنيا أنه لن نجعلَ لكم أبداً وقتاً نُنْجز فيه ما وعدناه من البعث وما يتبعه وأنْ مخففةٌ من المثقلة فُصِل بحرف النفي بينها وبين خبرِها لكونه جملةً فعليةً متصرِّفةً غيرَ دعاءٍ والظرفُ إما مفعولٌ ثانٍ للجعل وهو بمعنى التصييرِ والأولُ هو موعداً أو حال من موعد أو هو بمعنى الخلق والإبداعِ

49

{وَوُضِعَ الكتاب} عطف على عُرضوا داخلٌ تحت الأمورِ الهائلة التي أريد تذكيرُها بتذكير وقتِها أُورد فيه ما أورد في أمثاله من صيغة الماضي دَلالة على التقرر أيضاً أي وُضع صحائفُ الأعمالِ وإيثارُ الإفرادِ للاكتفاء بالجنس والمرادُ بوضعها إما وضعُها في أيدي أصحابِها يميناً وشمالاً وإما في الميزان {فَتَرَى المجرمين} قاطبةً فيدخل فيهم الكفرةُ المنكِرون للبعث دخولاً أولياً {مُشْفِقِينَ} خائفين {مِمَّا فِيهِ} من الجرائم والذنوب {وَيَقُولُونَ} عند وقوفِهم على ما في تضاعيفه نقيراً وقطميرا {يا ويلتنا} منادين لهِلَكتهم التي هلكوها من بين الهلَكات مستدْعين لها ليهلِكوا ولا يرَوا هول ما لقوه أي يا ويلتَنا احضُري فهذا أوانُ حضورِك {مَا لهذا الكتاب} أي أيُّ شيء له وقولُه تعالى {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} أي حواها وضبطَها جملةٌ حاليةٌ محقِّقةٌ لما في الجملة الاستفهاميةِ من التعجب أو استئنافيةٌ مبنيّةٌ على سؤال نشأ من التعجب كأنه قيل ما شأنُه حتى يُتعجَّب منه فقيل لا يغادر سيئةً صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ} في الدنيا من السيئات أو جزاءَ ما عملوا {حَاضِرًا} مسطوراً عتيداً {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} فيكتب ما لم يُعمَل من السيئات أو يزيد في عقابه المستحَّقِ فيكون إظهاراً لِمَعْدلة القلمِ الأزلي

50

{وإذ قُلْنَا للملائكة} أي اذكر وقتَ قولِنا لهم {اسجدوا لاِدَمَ} سجودَ تحيةٍ وتكريم وقد مر تفصيلُه {فَسَجَدُواْ} جميعاً امتثالاً بالأمر {إِلاَّ إِبْلِيسَ} فإنه لم يسجُد بل أبى واستكبر وقوله تعالى {كَانَ مِنَ الجن} كلام مستئنف سبق مساقَ التعليلِ لما يفيده استثناءُ اللعين من الساجدين كأنه قيل ماله لم يسجُد فقيل كان أصلُه جنيًّا {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} أي خرج عن طاعته كما ينبئ عنه الفاءُ أو صار فاسقاً كافراً بسبب أمرِ الله تعالى إذ لولاه أبى وتعرض لوصف الربوبيةِ المنافية للفسق لبيان كمال قبح ما فعله والمرادُ بتذكير قصّتِه تجديد النكيرِ على المتكبرين المفتخرين بأنسابهم وأموالِهم المستنكفين عن الانتظامِ في سلكِ فقراءِ المؤمنين ببيان أن ذلك من صنيع إبليس وأنه في ذلك تابعون لتسويله كما ينبئ عنه قوله تعالى {أَفَتَتَّخِذُونَهُ} الخ فإن الهمزةَ للإنكار والتعجيب والفاء للتعقيب والفاء أي أعَقيبَ علمِكم بصدور تلك القبائحِ عنه تتخذونه {وذريته} أي وأولاده وأتباعَه جعلوا ذريتَه مجازاً قال قتادة يتوالدون كما يتوالد بنو آدمَ وقيل يُدخل ذنبَه في دُبُره فيبيض فتنفلق البيضةُ عن جماعة من الشياطين {أَوْلِيَاء من دوني} فتستبدلونه بي فتطيعونهم

الكهف 51 بدَل طاعتي {وَهُمْ} أي والحال أن إبليسَ وذريته {لكم عدو} أي أعداءكما في قولِهِ تعالَى فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى إِلاَّ رَبَّ العالمين وقوله تعالى هُمُ العدو وإنما فُعل به ذلك تشبيها له بالمصدر نحو القبول والولوع وتقيد الاتخاذِ بالجملة الحالية لتأكيد الإنكارِ وتشديدِه فإن مضمونَها مانعٌ من وقوع الاتخاذِ ومنافٍ له قطعاً {بِئْسَ للظالمين} أي الواضعين للشيء في غير موضعِه {بَدَلاً} من الله سبحانه إبليسُ وذريتُه وفي الالتفات إلى الغَيبة مع وضع الظالمين موضعَ الضمير من الإيذان بكمال السُخطِ والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلمٌ قبيح ما لا يخفى

51

{مَّا أَشْهَدتُّهُمْ} استئنافٌ مَسوق لبيان عدمِ استحقاقِهم للاتخاذ المذكورِ في أنفسهم بعد بيانِ الصوارفِ عن ذلك من خباثة المَحتِد والفسق والعداوة أي ما أحضَرْتُ إبليس وذريته {خلق السماوات والأرض} حيث خلقتُهما قبل خلقِهم {وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} أي ولا أشهدتُ بعضَهم خلقَ بعض كقوله تعالى {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} هذا ما أجمع عليه الجمهورُ حِذاراً من تفكيك الضميرين ومحافظةً على ظاهر لفظ الأنفس ولك أن تُرجع الضميرَ الثانيَ إلى الظالمين وتلتزمَ التفكيكَ بناءً على قَوْد المعنى إليه فإن نفيَ إشهادِ الشياطين خلقَ الذين يتولَّونهم هُو الذي يدورُ عليه إنكارُ اتخاذهم أولياء بنا على أن أدنى ما يصحح التوليَ حضورُ الوليِّ خلقَ المتولى وحيث لا حضورَ لا مصحِّحَ للتولي قطعا وأما نفي إشهاد بعضِ الشياطينِ خلقَ بعض منهم فليس من مدارية الإنكارِ المذكور في شيء على أن إشهادَ بعضهم خلقَ بعض إن كان مصحِّحاً لتولي الشاهدِ بناءً على دِلالته على كماله باعتبار أن له مدخلاً في خلق المشهودِ في الجملة فهو مُخِلٌّ بتولي المشهودِ بناء على قصوره عمّن شهِد خلقَه فلا يكون نفيُ الإشهادِ المذكورِ متمحّضاً في نفي الكمالِ المصحِّح للتولي عن الكل والمناط للإنكار المذكور {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين} أي متّخذَهم وإنما وُضع موضعَه المظهرُ ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالإضلال وتأكيداً لما سبق من إنكار اتخاذِهم أولياءَ {عَضُداً} أعواناً في شأن الخلقِ أو في شأن من شئوني حتى يُتوهّم شِرْكتُهم في التولي بناء على الشركة في بعض أحكامِ الربوبية وفيه تهكمٌ بهم وإيذانٌ بكمال ركاكةِ عقولِهم وسخافةِ آرائِهم حيث لا يفهمون هذا الأمرَ الجليَّ الذي لا يكاد يشتبه على البُلْه والصبيان فيحتاجون إلى التصريح به وإيثارُ نفي الإشهاد على نفي شهودِهم ونفي اتخاذِهم أعواناً على نفي كونهم كذلك للإشعار بأنهم مقهورون تحت قدرتِه تعالى تابعون لمشيئته وإرادتِه فيهم وأنهم بمعزل من استحقاق الشهودِ والمعونة من تلقاء أنفسِهم من غير إحضارٍ واتخاذ وإنما قُصارى ما يتوهم في شأنهم أن يبلُغوا ذلك المبلغَ بأمر الله عز وجل ولم يكد ذلك يكون وقيل الضميرُ للمشركين والمعنى ما أشهدتم خلقَ ذلك وما أطلعتُهم على أسرار التكوينِ وما خصَصْتُهم بفضائلَ لا يَحويها غيرُهم حتى يكونوا قدوةً للناس فيؤمنوا بإيمانهم كما يزعُمون فلا يُلتفت إلى قولهم طمعاً في نُصرتهم الدين فإنه لا ينبغي لي أن أعتضِدَ بالمُضِلّين ويعضُده القراءةُ بفتح التاءِ خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى ما صح لك الاعتضادُ بهم ووصفُهم بالإضلال

الكهف 52 55 لتعليل نفي الاتخاذ وقرئ متّخِذاً المُضلّين على الأصل وقرئ عُضْداً بضم العين وسكون الضاد وبفتح وسكون بالتخفيف وبضمتين بالاتباع وبفتحتين على أنه جمع عاضد كرَصَد وراصد

52

{وَيَوْمَ يَقُولُ} أي الله عز وجل للكافرين توبيخا وتعجيزا وقرئ بنون العظمة {نَادُواْ شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ} أنهم شفعاؤُكم ليشفعوا لكم والمرادُ بهم كلُّ ما عُبد من دونه تعالى وقيل إبليسُ وذرِّيتُه {فَدَعَوْهُمْ} أي نادَوهم للإغاثة وفيه بيانٌ لكمال اعتنائِهم بإعانتهم على طريقة الشفاعةِ إذ معلومٌ أن لا طريقَ إلى المدافعة {فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} فلم يُغيثوهم إذ لا إمكان لذلك وفي إراده مع ظهوره تهكمٌ بهم وإيذانٌ بأنهم في الحماقه بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم} بين الداعين والمدعوّين {مَّوْبِقاً} اسمُ مكانٍ أو مصدرٌ من وبَق وُبوقاً كوثب وثوبا أو وبِق وبَقاً كفرح فرحاً إذا هلَك أي مهلِكاً يشتركون فيه وهو النارُ أو عداوة هي في الشدة نفسُ الهلاك كقول عمر رضي الله عنه لا يكن حبُّك كلَفاً ولا بغضُك تلَفاً وقيل البينُ الوصلُ أي وجعلنا تواصلَهم في الدنيا هلاكاً في الآخرة ويجوز أن يكون المرادُ بالشركاء الملائكةَ وعزيراً وعيسى عليهم السلام ومريمَ وبالمَوْبق البرزخَ البعيدَ أي جعلنا بينهم أمداً بعيداً يُهلِك فيه الأشواطُ لفرط بعدهم لأنهم في قعر جهنمَ وهم في أعلى الجنان

53

{وَرَأَى المجرمون النار} وُضع المُظْهر مقامَ المُضْمَر تصريحاً بإجرامهم وذماً لهم بذلك {فَظَنُّواْ} أي فأيقنوا {أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} مخالطوها واقعون فيها أو ظنوا إذ رأوها من مكان بعيد أنهم مواقعوها الساعةَ {وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا} انصرافاً أو معدِلاً ينصرفون إليه

54

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} أي كررنا وأوردنا على وجوه كثيرةٍ من النظم {فِى هذا القرآن لِلنَّاسِ} لمصلحتهم ومنفعتِهم {مِن كُلّ مَثَلٍ} من جملته ما مر مِن مَثَل الرجلين ومثَل الحياةِ الدنيا أو من كل نوعٍ من أنواع المعاني البديعةِ الداعيةِ إلى الإيمان التي هي في الغرابة والحسنِ واستجلابُ النفسِ كالمَثَل ليتلقَّوْه بالقَبول فلم يفعلوا {وَكَانَ الإنسان} بحسب جِبِلّته {أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً} أي أكثرَ الأشياءِ التي يتأتى منها الجدل وهو ههنا شدةُ الخُصومةِ بالباطل والمماراةِ من الجدْل الذي هو الفتْلُ والمجادلةُ الملاواةُ لأن كلاًّ من المجادِلَين يلتوي على صاحبه وانتصابُه على التمييز والمعنى أن جد له أكثرُ من جدَل كلِّ مجادل

55

{وَمَا مَنَعَ الناس} أي أهلَ مكةَ الذين حُكيت أباطيلُهم {أَن يُؤْمِنُواْ} من أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا ما هم فيه من الإشراك {إِذْ جَاءهُمُ الهدى} أي القرآنُ العظيم الهادي إلى الإيمان بما فيه من فنون المعاني الموجبةِ له {وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ} عما فرَط منهم من أنواع الذنوب

الكهف 56 57 التي من جملتها مجادلتُهم للحق بالباطل {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} أي إلا طلبُ إتيانِ سُنّتهم أو إلا انتظار إيتانها أو إلا تقديرُه فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مُقامَه وسنتُهم الاستئصالُ {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب} أي عذابُ الآخرة {قُبُلاً} أي أنواعاً جمعُ قَبيل أو عِياناً كما في قراءة قِبَلاً بكسر القاف وفتحِ الباء وقرئ بفتحتين أي مستقبَلاً يقال لقِيتُه قُبُلاً وقَبَلاً وقِبَلاً وانتصابُه عَلى الحاليةِ من الضمير أو العذاب والمعنى أن ما تضمنه القرآنُ الكريم من الأمور المستوجبةِ للإيمان بحيث لو لم يكن مثلَ هذه الحكمةِ القوية لما امتنع الناسُ من الإيمان وإن كانوا مجبولين على الجدَل المفْرِط

56

{وَمَا نُرْسِلُ المرسلين} إلى الأمم ملتبسين بحال من الأحوالِ {إلا} حالَ كونهم {مُبَشّرِينَ} للمؤمنين بالثواب {وَمُنذِرِينَ} للكفرة والعصاة بالعقاب {ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل} باقتراح الآياتِ بعد ظهور المعجزاتِ والسؤالِ عن قصة أصحاب الكهفِ ونحوها تعنّتاً {لِيُدْحِضُواْ بِهِ} أي بالجدال {الحق} أي يُزيلوه عن مركزه ويُبْطلوه من إدحاض القدمِ وهو إزلاقُها وهو قولهم للرسلِ عليهمْ الصلاةُ والسلامُ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة ونحوُهما {واتخذوا آياتي} التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال {وَمَا أُنْذِرُواْ} أي أُنذروه من القوارع الناعيةِ عليهم العقابَ والعذابَ أو إنذارهم {هزوا} استهزاء وقرئ بسكون الزاي وهو ما يستهزأ به

57

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بآيات رَبّهِ} وهو القرآنُ العظيم {فَأَعْرَضَ عَنْهَا} ولم يتدبرها ولم يتذكرْ بها وهذا السبكُ وإن كان مدلولُه الوضعيُّ نفيَ الأظلميةِ من غيرِ تعرضٍ لنفي المساواة في الظلم إلا أن مفهومَه العُرْفيَّ أنه أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ وبناءُ الأظلمية على مَا في حيِّز الصِّلةِ من الإعراض عن القرآن للإشعار بأن ظلمَ من يجادل فيه ويتخذُه هزواً خارجٌ عن الحد {وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} أي عملَه من الكفر والمعاصي التي من جملتها ما ذكر من المجادلة بالباطل والاستهزاءِ بالحق ولم يتفكر في عاقبتها {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أغطيةً كثيرة جمع كِنان وهو تعليلٌ لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوعٌ على قلوبهم {أَن يَفْقَهُوهُ} مفعولٌ لما دل عليه الكلامُ أي منعناهم أن قفوا على كُنهه أو مفعولٌ له أي كراهةَ أن يفقهوه {وَفِي آذَانِهِم} أي جعلنا فيها {وِقْراً} ثِقَلاً يمنعهم من استماعه {وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً} أي فلن يكون منهم اهتداءٌ البتةَ مدةَ التكليف وإذن جزاءٌ للشرط وجوابٌ عن سؤال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم المدلولِ عليه بكمال عنايتِه بإسلامهم كأنه قال صلى الله عليه وسلم مالي لا أدعوهم فقيل إن تدعهم الخ وجمعُ الضميرِ الراجع إلى الموصول في هذه المواضع الخمسة باعتبار معناه كما أن إفراده في المواطن الخمسة المتقدمة باعتبار لفظه

الكهف

58

58 - 60 {وَرَبُّكَ} مبتدأ وقوله تعالى {الغفور} خبرُه وقوله تعالى {ذُو الرحمة} أي الموصوفُ بها خبرٌ بعد خبرٍ وإيرادُ المغفرة على صيغة المبالغة دون الحرمة للتنبيه على كثرة الذنوب ولأن المغفرةَ تركُ المضارّ وهو سبحانه قادرٌ على ترك ما لا يتناهى من العذاب وأما الرحمةُ فهي فعل وإيجادٌ ولا يدخل تحت الوجود إلا ما يتناهى وتقديمُ الوصف الأولِ لأن التخليةَ قبل التحلية أو لأنه أهمُّ بحسب الحال إذا المقام مقام بيان تأخر العقوبة عنهم بعد استيجابهم لها كما يُعرب عنه قوله عز وجل {لَوْ يُؤَاخِذُهُم} أي لو يريد مؤاخذتهم {بِمَا كَسَبُواْ} من المعاصي التي من جملتها ما حكي عنهم من مجادلتهم بالباطل وإعراضِهم عن آيات ربهم وعدمِ المبالاة بما اجترحوا من المُوبقات {لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب} لاستيجاب أعمالهم لذلك وإثار المؤاخذةِ المنبئة عن شدة الأخذِ بسرعة على التعذيب والعقوبةِ ونحوهما للإيذان بأن النفيَ المستفادَ من مقدَّم الشرطية متعلقٌ بوصف السرعة كما ينبئ عنه تاليها وإثار صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن انتفاءَ تعجيلِ العذاب لهم بسبب استمرار عدمِ إرادة المؤاخذة فإن المضارعَ الواقعَ موقعَ الماضي يفيد استمرارَ انتفاءِ الفعل فيما مضى كما حُقّق في موضعه {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} اسمُ زمان هو يومُ بدر أو يوم القيامة والجملةُ معطوفةٌ على مقدر كأنه قيل لكنهم ليسوا بمؤاخذين بغتةً {لَّن يَجِدُواْ} البتةَ {مِن دُونِهِ مَوْئِلاً} منْجى أو ملجأً يقال وأل أي نجا ووأل إليه أي لجأ إليه

59

{وَتِلْكَ القرى} أي قرى عاد وثمودَ وأضرابِها وهي مبتدأٌ على تقدير المضافِ أي وأهلُ تلك القرى خبرُه قوله تعالى {أهلكناهم} أو مفعولٌ مضمرٌ مفسر به {لَمَّا ظَلَمُواْ} أي وقت ظلمِهم كما فعلت قريشٌ بما حُكي عنهُم من القبائحِ وتركُ المفعول إما لتعميم الظلم أو لتنزيله منزلةَ اللازم أي لما فعلوا الظلم ولمّا إما حرفٌ كما قال ابنُ عصفور وإما ظرفٌ استعمل للتعليل وليس المرادُ به الوقتَ المعين الذي عملوا فيه الظلم بل زمانٌ ممتدٌ من ابتداء الظلم إلى آخره {وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم} أي عيّنّا لهلاكهم {مَّوْعِدًا} أي وقتاً معيناً لا محيدَ لهم عن ذلك وهذا استشهاد على ما فُعل بقريش من تعيين الموعد ليتنبهوا لذلك ولا يغتروا بتأخر العذاب وقرئ بضم الميم وفتح اللام أي إهلاكهم وبفتحهما

60

{وَإِذْ قَالَ موسى} نصب بإضمار فعل أي اذكر وقت قوله عليه السلام {لفتاه} وهو يوشَعُ بنُ نونِ بنِ أفرايمَ بنِ يوسفَ عليه السلام سُمّي فتاه إذ كان يخدُمه ويتبعه وقيل كان يتعلم منه ويسمى التلميذُ فتًى وإن كان شيخاً ولعل المرادَ بتذكيره عَقيب بيانِ أن لكل أمة موعداً تذكيرُ ما في القصة من موعد الملاقاة مع ما فيها من سائر المنافعِ الجليلة {لا أَبْرَحُ} من برِح الناقصِ كزال يزال أي لا أزال أسير فحُذف الخبر اعتماداً على

الكهف 61 62 قرينة الحالِ إذْ كان ذلك عند التوجه إلى السفر واتكالاً على ما يعقبُه من قوله {حتى أَبْلُغَ} فإن ذلك غايةٌ تستدعي ذا غايةً يؤدّي إليها ويجوز أن يكون أصلُ الكلام لا يبرَح مسيري حاصلاً حتى أبلُغ فيُحذف المضافُ ويقام المضافُ إليه مُقامَه فينقلب الضمير البارزُ المجرورُ المحلِّ مرفوعاً مستكنًّا والفعلُ من صيغة الغَيبة إلى التكلم ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ برح التامِّ كزال يزول أي لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ {مَجْمَعَ البحرين} هو ملتقى بحرِ فارسَ والروم مما يلي المشرِق وقيل طَنْجَةُ وقيل هما الكر والرس بامينية وقيل افريقية وقرئ بكسر الميم كمشرق {أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً} أسير زماناً طويلاً أتيقن معه فواتَ المطلب والحُقب الدهرُ أو ثمانون سنة وكان منشأُ هذه العزيمة أن موسى عليه السلام لما ظهر على مصر مع بني إسرائيلَ واستقروا بها بعد هلاكِ القِبْط أمره الله عزَّ وجلَّ أن يذكّر قومَه النعمةَ فقام فيهم خطيباً بخطبة بديعةٍ رقت بها القلوبُ وذرَفت العيون فقالوا له مَنْ أعلمُ الناس قال أنا فعتب الله تعالى عليه إذ لم يردّ العلم إليه عز وجل فأوحى إليه بل أعلمُ منك عبدٌ لي عند مجمع البحرين وهو الخِضْرُ عليه السلام وكان في أيام أفريذون قبل موسى عليه السلام وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى وقيل إن موسى عليه السلام سأل ربه أيُّ عبادِك أحبُّ إليك قال الذي يذكرُني ولا ينساني قال فأي عباد أقضى قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى قال فأيُّ عبادك أعلمُ قال الذي يبتغي علمَ الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمةً تدله على هدى أو تردّه عن ردَى فقال إن كان في عبادك من هو أعلمُ مني فدلَّني عليه قال أعلمُ منك الخِضْرُ قال أين أطلبه قال على ساحل البحر عند الصخرة قال يا رب كيف لي به قال تأخذ حوتاً في مِكْتل فحيثما فقَدته فهو هناك فأخذ حوتاً فجعله في مِكتل فقال لفتاه إذا فقدتَ الحوتَ فأخبرني فذهبا يمشيان

61

{فَلَمَّا بَلَغَا} الفاءُ فصيحة كما أشير إليه {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} أي مجمعَ البحرين وبينِهما ظرفٌ أضيف إليه اتساعاً أو بمعنى الوصل {نَسِيَا حُوتَهُمَا} الذي جُعل فقدانُه أمارةَ وُجدانِ المطلوب أي نسيا تفقّد أمره وما يكون منه وقيل نسي يوشع أن يقدّمه وموسى عليه أن يأمره فيه بشيء روي أنهما لما بلغا مجمع البحرين وفيه الصخرةُ وعينُ الحياة التي لا يصيب ماؤها ميْتاً إلا حي وضعا رؤوسَهما على الصخرة فناما فلما أصاب الحوتَ بردُ الماء ورَوحُه عاش وقد كانا أكلا منه وكان ذلك بعد ما استيقظ يوشع عليه السلام وقيل توضأ عليه السلام من تلك العينِ فانتضح الماءُ على الحوت فعاش فوقع في الماء {فاتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر سَرَباً} مسلَكاً كالسرب وهو النفق قيل امسك الله عز وجل جريةَ الماء على الحوت فصار كالطاق عليه معجزةً لموسى أو للخضر عليهما السلام وانتصابُ سَرباً على أنه مفعولٌ ثانٍ لاتخذ وفي البحر حالٌ منه أو من السبيل ويجوز أن يتعلق باتخذ

62

{فَلَمَّا جَاوَزَا} أي مجمعَ البحرين الذي جُعل موعداً للملاقاة قيل ادلجا وسار الليلةَ والغدَ إلى الظهر وأُلقي على موسى عليه السلام الجوعُ فعند ذلك {قال لفتاه آتنا غَدَاءنَا} أي ما نتغدى به وهو الحوتُ كما ينبئ عنه الجواب {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا}

إشارةٌ إلى ما سارا بعد مجاوزةِ الموعد {نَصَباً} تعباً وإعياءً قيل لم ينصب ولم يجمع قبل ذلك والجملةُ في محل التعليل للأمر بإيتاء الغداء إما باعتبار أن النصب إنما يعترى بسب الضعفِ الناشىء عن الجوع وإما باعتبار ما في أثناء التغدي من استراحة ما

63

{قَالَ} أي فتاه عليه السلام {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة} أي التجأنا إليها وأقمنا عندها وذكرُ الإِواءِ إليها مع أن المذكور فيما سبق مرتين بلوغُ مجمعِ البحرين لزيادة تعيينِ محلِّ الحادثة فإن المجمَع محلٌ متسعٌ لا يمكن تحقيقُ المراد المذكور بنسبة الحادثة إليه ولتميد العذر فإن الإِواءَ إليها والنومَ عندها مما يؤدي إلى النسيان عادة والرؤيةُ مستعارةٌ للمعرفة التامة والمشاهدة الكاملةِ ومرادُه بالاستفهام تعجيبُ موسى عليه السلام مما اعتراه هناك من النسيان مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى وقد جُعل فقدانُه علامةً لوجدان المطلوب وهذا أسلوبٌ معتادٌ فيما بين الناس يقول أحدهم لصاحبه إذا نابه خطب أرأيتَ ما نابني يريد بذلك تهويلَه وتعجيبَ صاحبه منه وأنه مما لا يعهد وقوعُه لا استخبارُه عن ذلك كما قيل والمفعولُ محذوفٌ اعتماداً على ما يدلُّ عليهِ من قوله عز وجل {فَإِنّى نَسِيتُ الحوت} وفيه تأكيدٌ للتعجيب وتربيةٌ لاستعظام المنسيِّ وإيقاعُ النسيان على اسم الحوتِ دون ضمير الغَداءِ مع أنه المأمورُ بإتيانه للتنبيه منْ أولِ الأمرِ عَلى أنه ليس من قبيل نِسيان المسافرِ زادَه في المنزل وأن ما شاهده ليس من قبيل الأحوالِ المتعلقة بالغداء من حيث هو غَداءٌ وطعامٌ بل من حيث هو حوتٌ كسائر الحِيتان مع زيادة أي نسِيتُ أن أذكر لك أمرَه وما شاهدتُ منه من الأمور العجيبة {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان} بوسوسته الشاغلةِ عن ذلكَ وقولُه تعالَى {أَنْ أَذْكُرَهُ} بدلُ اشتمال من الضمير أي ما أنساني أن أذكرَه لك وفي تعليق الإنساء بضمير الحوتِ أولاً وبذكره له ثانياً على طريق الإبدالِ المنبئ عن تنحية المبدَل منه إشارةٌ إلى أن متعلَّقَ النسيان أيضاً ليس نفسَ الحوتِ بل ذكرُ أمره وقرئ أن أذكّره وإيثارُ أن أذكُرَه على المصدر للمبالغة فإن مدلوله نفسُ الحدث عند وقوعه والحالُ وإن كانت غريبةً لا يُعهد نسيانُها لكنه لما تعوّد بمشاهدة أمثالِها عند موسى عليه السلام وألِفَها قل اهتمامه بالمحافظة عليها {واتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر عَجَبًا} بيانٌ لطرف من أمر الحوت منبئ عن طرف آخرَ منه وما بينهما اعتراضٌ قُدم عليه للاعتناء بالاعتذار كأنه قيل حَيِيَ واضطرب ووقع في البحر واتخذ سبيله فيه سبيلاً عجباً فعجباً ثاني مفعولَي اتخَذ والظرفُ حالٌ من أولهما أو ثانيهما أو هو المفعولُ الثاني وعجباً صفةُ مصدرٍ محذوف أي اتخاذا عجبا وهو كونُ مسلَكه كالطاق والسرَب أو مصدرُ فعلٍ محذوف أي أتعجب منه عجباً وقد قيل إنه من كلام موسى عليه الصلاة والسلام وليس بذاك

64

{قَالَ} أي موسى عليه الصلاة والسلام {ذلك} الذي ذكرتَ من أمر الحوت {مَا كُنَّا نبغ}

وقرئ بإثبات الياء والضميرُ العائد إلى الموصول محذوفٌ أصلُه نبغيه أي نطلبه لكونه أَمارةً للفوز بالمرام {فارتدا} أي رجعا {على آثارهما} طريقِهما الذي جاءا منه {قَصَصًا} يقُصان قَصصاً أي يتّبعان آثارَهما اتباعاً أو مقتصّين حتى أتيا الصخرة

65

{فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا} التنكيرُ للتفخيم والإضافةُ للتشريف والجمهور على أنه الخصر واسُمه بَلْيَا بنُ مَلْكَان وقيل اليسع وقيل إلياس عليهم الصلاة والسلام {آتيناه رحمة من عندنا} هي الوحيُ والنبوةُ كما يُشعِرُ به تنكيرُ الرحمة واختصاصُها بجناب الكبرياء {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} خاصاً لا يُكتنه كُنهُه ولا يُقادَرُ قدرُه وهو علمُ الغيوب

66

{قَالَ لَهُ موسى} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من السباق كأنه قيل فماذا جرى بنيهما من الكلام فقيل قال له موسى {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلّمَنِ} استئذاناً منه في اتّباعه له على وجه التعلم {مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً} أي علماً ذا رُشدٍ أرشُد به في ديني والرشدُ إصابةُ الخير وقرئ بفتحتين وهو مفعولُ تعلّمنِ ومفعول عُلّمت محذوفٌ وكلاهما منقولٌ من عِلم المتعدي إلى مفعول واحد ويجوز كونُه علةً لأتبعُك أو مصدراً بإضمار فعله ولا ينافي نبوتَه وكونَه صاحبَ شريعةٍ أن يتعلم من نبي آخر مالا تعلقَ له بأحكام شريعتِه من أسرار العلومِ الخفية ولقد راعى في سَوق الكلام غايةَ التواضع معه عليهما السلام

67

{قال} أي الخصر {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً} نفى عنه استطاعةَ الصبر معه على وجه التأكيد كأنه مما لا يصِحّ ولا يستقيم وعلله بقوله

68

{وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} إيذاناً بأنه يتولى أموراً خفيةَ المدارِ مُنْكَرةَ الظواهرِ والرجلُ الصالح لا سيما صاحبِ الشريعة لا يتمالك أن يشمئز عند مشاهدتها وفي صحيح البخاري قال الخضر يا موسى إنى على علمٍ من علم الله تعالى علَّمنيه لا تعلَمُه وأنت على علمٍ من علم الله علّمكه الله لا أعلمه وخبراً تمييز أي لم يحط به خبرك

69

{قال} موسى عليه الصلاة والسلام {ستجدنى إن شاء الله صَابِرًا} معك غيرَ معترضٍ عليك وتوسيطُ الاستثناء بين مفعولَي الوُجدان لكمال الاعتناءِ بالتيمن ولئلا يتوهم تعلقه بالصبر {وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً} عطف على صابراً أي ستجدني صابراً وغيرَ عاصٍ وفي وعد هذا الوُجدان من المبالغة ما ليس في الوعد بنفس الصبرِ وتركِ العصيان أو على ستجدني فلا محلَّ له من الإعراب والأولُ هو الأولى لما عرفته ولظهور تعلقِه بالاستثناء حينئذ وفيه دليلٌ على أنَّ أفعالَ العبادِ بمشيئةِ الله سبحانه وتعالى

الكهف

70

70 - 74 {قَالَ فَإِنِ اتبعتنى} أذِن له في الاتّباع بعد اللتيا والتي والفاءُ لتفريع الشرطيةِ على ما مر من التزام موسى عليه الصلاة والسلام للصبر والطاعة {فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء} تشاهده من أفعالي أي لا تفاتحْني بالسؤال عن حكمته فضلاً عن المناقشة والاعتراض {حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} ي حتى أبتدئ ببيانه وفيه إيذانٌ بأن كلَّ ما صدر عنه فله حكمةٌ وغايةٌ حميدةٌ البتةَ وهذا من أدب المتعلم من العالم والتابعِ مع المتبوع وقرئ فلا تسألَنّي بالنون المثقلة

71

{فانطلقا} أي موسى والخضِرُ عليهما الصلاة والسلام على الساحل يطلبان السفينةَ وأما يوشعُ فقد صرفه موسى عليه الصلاة السلام إلى بني إسرائيلَ قيل إنهما مرا بسفينة فكلّما أهلها فعرفوا الخضِرَ فحملوهما بغير نَول {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة} استعمالُ الركوب في أمثالِ هذهِ المواقعِ بكلمة في مع تجريده عنها في مثل قوله عز وجل لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً على ما يقتضيه تعديتُه بنفسه لِما أشرنا إليه في قوله تعالى وَقَالَ اركبوا فيها لا لما قيلَ من أن في ركوبها معنى الدخول {خَرَقَهَا} قيل خرقها بعد ما لججوا حيث أخذ فأساً فقلع من ألواحها لوحين مما يلي الماء فعند ذلك {قَالَ} موسى عليه السلام {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} من الإغراق وقرئ بالتشديد من التغريق وليغرَقَ أهلُها من الثلاثي {لَقَدْ جِئْتَ} أتيت وفعلت {شَيْئًا إِمْرًا} أي عظيماً هائلاً من أمرِ الأمرُ إذا عظُم قيل الأصل أَمِراً فخفف

72

{قَالَ} أي الخضِرُ عليه السلام {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً} تذكير لماقاله من قبلُ وتحقيقٌ لمضمونه متضمنٌ للإنكار على عدم الوفاء وعده

73

{قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نسيت} بنسياني أو بالذي نسيته أو بشيء نسيتُه وهو وصيتُه بأن لا يسألَه عن حكمة ما صدر عنه من الأفعال الخفيةِ الأسبابِ قبلَ بيانه أراد أنه نسِيَ وصيته ولا مؤاخذةَ على الناسي كما ورد في صحيح البخاريّ من أن الأولَ كان من موسى نسياناً أو أَخْرج الكلامَ في معرِض النهي عن المؤاخذة بالنسيان يوهمه أنه قد نسِيَ ليبسُطَ عذرَه في الإنكار وهو من معاريض الكلام التي يتقى بها الكذبُ مع التوصل إلى الغرض أو أراد بالنسيان التركَ أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة {وَلاَ تُرْهِقْنِى} أي لا تُغشِّني ولا تحمّلني {مِنْ أَمْرِى} وهو اتباعه إياه {عُسْراً} أي لا تعسِّرْ عليّ متابعتك ويسِّرها عليّ بالإغضاء وترك المناقشة وقرئ عُسُراً بضمتين

74

{فانطلقا} الفاءُ فصيحةٌ أي فقِبل عذرَه فخرجا من السفينة فانطلقا {حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ}

قيل كان الغلامُ يلعب مع الغلمان فقتل عُنقَه وقيل ضرب برأسه الحائطَ وقيل أضجعه فذبحه بالسكين {قَالَ} أي موسى عليه الصلاة والسلام {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} طاهرةً من الذنوب وقرئ زاكيةً {بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي بغير قتلِ نفسٍ محرمة وتخصيصُ نفْي هذا المبيحِ بالذكر من بين سائر المبيحات من الكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصانِ لأنه الأقربُ إلى الوقوع نظراً إلى حال الغلام ولعل تغييرَ النظمِ الكريم بجعل ما صدر عن الخضر عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ههنا من جملة الشرطِ وإبرازِ ما صدر عن موسى عليه الصلاة والسلام في معرض الجزاءِ المقصودِ إفادتُه مع أن الحقيقَ بذلك إنما هو ما صدر عن الخضر عليه الصلاة والسلام من الخوارق البديعة لاستشراف النفسِ إلى ورود خبرِها لقلة وقوعِها في نفس الأمر ونُدرة وصولِ خبرها إلى الأذهان ولذلك روعيت تلك النكتةُ في الشرطيةِ الأولى لِما أن صدورَ الخوارقِ منه عليه الصلاة والسلام خرج بوقوعه مرة مَخرجَ العادة فانصرفت النفسُ عن ترقبّه إلى ترقب أحوالِ موسى عليه الصلاة والسلام هل يحافظ على مراعاة شرطِه بموجب وعدِه الأكيدِ عند مشاهدةِ خارقٍ آخرَ أو يسارع إلى المناقشة كما مر في المرة الأولى فكان المقصودُ إفادةَ ما صدر عنه عليه الصلاة والسلام ففعل ما فعل ولله درُ شأنِ التنزيلِ وأما ما قيل من أن القتلَ أقبحُ والاعتراضَ عليه أدخلُ فكان جديراً بأن يُجعل عمدةً في الكلام فليس من دفع الشبهةِ في شيء بل هو مؤيدٌ لها فإن كونَ القتل أقبحَ من مبادي قلة صدورِه عن المؤمن العاقلِ ونُدرةِ وصولِ خبره إلى الأسماع وذلك مما يستدعي جعلَه مقصوداً بالذات وكونَ الاعتراضِ عليه أدخلَ من موجبات كثرة صدورِه عن كل عاقل وذلك مما لا يقتضي جعله كذلك {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً} قيل معناه أنكرُ من الأول إذ لا يمكن تدارُكه كما يمكن تداركُ الأول بالسدّ ونحوِه وقيل الأمرُ أعظمُ من النكرة لأن قتلَ نفس واحدةٍ أهونُ من إغراق أهلِ السفينة

75

{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً} زيد لك لزيادة المكافحةِ بالعتاب على رفض الوصيةِ وقلة التثبّتِ والصبرِ لمّا تكرر منه الاشمئزازُ والاستنكار ولم يَرعَوِ بالتذكير حتى زاد في النكير في المرة الثانية

76

{قَالَ} أي موسى عليه الصلاة والسلام {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء بَعْدَهَا} أي بعد هذه المرة {فلا تصاحبني} وقرئ من الإفعال أي لا تجعلني صاحبك {قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً} أي قد أعذرتَ ووجدتَ من قِبلي عُذراً حيث خالفتُك ثلاثَ مرات عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك لو لبث مع صاحبه لأبصرَ أعجبَ الأعاجيب وقرئ لدني بتخفيف النون وقرئ بسكون الدال كعضْد في عضُد

77

{فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ}

هي أنطاكيةُ وقيل أَيْلةُ وهي أبعدُ أرض الله من السماء وقيل هي برقة وقيل بلدة بأندلس عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم كانوا أهلَ قرية لئاما وقيل شرُّ القرى التي لا يضاف فيها الضيفُ ولا يُعرف لابن السبيل حقُّه وقوله تعالى {استطعما أَهْلَهَا} في محل الجرِّ على أنه صفةٌ لقرية ولعل العدول عن استطعماهم على أن يكون صفةً لأهل لزيادة تشنيعهم على سوء صنيعِهم فإن الإباءَ من الضيافة وهم أهلُها قاطنون بها أقبحُ وأشنع روي أيهما طافا في القرية فاستطعماهم فلم يطعموهما واستضافاهم {فَأَبَوْاْ أن يضيفوهما} بالتشديد وقرئ بالتخفيف من الإضافة يقال ضافه إذا كان له ضيفاً وأضافه وضيّفه أنزله وجعله ضيفاً له وحقيقةُ ضاف مال إليه من ضاف السهمُ عن الغرَض ونظيرُه زاره من الازورار {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} أي يداني أن يسقُط فاستعيرت الإرادةُ للمشارفة للدِلالة على المبالغة في ذلك والانقضاضُ الإسراعُ في السقوط وهو انفعالٌ من القض يقال قضضته فانقضّ ومنه انقضاضُ الطير والكوكبِ لسقوطه بسرعة وقيل هو افْعِلالٌ من النقض كاحمر من الحمرة وقرئ أن ينقُض من النقْض وأن ينقاض من انقاضّت السن إذا انشقت طولاً {فَأَقَامَهُ} قيل مسحه بيده فقام وقيل نقضه وبناه وقيل أقامه بعمود عمَده به قيل كان سَمكُه مائة ذاع {قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} تحريضاً له على أخذ الجُعْل لينتعشا به أو تعريضاً بأنه فضولٌ لما في لو من النفي كأنه لما رأى الحِرمانَ ومِساسَ الحاجة واشتغالَه بما لا يعنيه لم يتمالك الصبرَ واتخذ افتعل من تخِذ بمعنى أخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ عند البصريين وقرئ لتخذت أي لأخذت وقرئ بإدغامِ الذالِ في التَّاءِ

78

{قَالَ} أي الخضِرُ عليه الصلاة والسلام {هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} على إضافة المصدر إلى الظرف اتساعا وقد قرئ على الأصل والمشارُ إليه إما نفسُ الفِراق كما في هذا أخوك أو الوقتُ الحاضرُ أي هذا الوقتُ وقتُ فراق بيني وبينِك أو السؤالُ الثالث أي هذا سببُ ذلك الفراقِ حسبما هو الموعودُ {سَأُنَبّئُكَ} السين للتأكيد لعدم تراخي التنبئة {بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} التأويلُ رجْعُ الشيءِ إلى مآله والمراد به ههنا المآلُ والعاقبةُ إذ هو المنبَّأُ به دون التأويل وهو خلاصُ السفينة من اليد العادِيَة وخلاصُ أبوَي الغلام من شره مع الفوز بالبدل الأحسنِ واستخراجُ اليتيمين للكنز وفي جعل صلةِ الموصول عدمَ استطاعةِ موسى عليه الصلاة والسلام للصبر دون أن يقال بتأويل ما فعلتُ أو بتأويل ما رأيتَ ونحوِهما نوع تعريض به عليه الصلاة والسلام وعتاب

79

{أَمَّا السفينة} التي خرقتُها {فَكَانَتْ لمساكين} لضعفاءَ لا يقدرون على مدافعة الظَّلَمة وقيل كانت لعشرة إخوةٍ خمسة منهم زمنى وخمسة {يَعْمَلُونَ فِى البحر} وإسنادُ العمل إلى الكل حينئذ إنما هو بطريق التغليب أو لأن عمل الوكلاء بمنزلة عمل الموكِّلين {فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا} أي أجعلها ذاتَ عيب {وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ} أي أمامهم وقد قرئ به أو خلفَهم وكان رجوعهم

الكهف 80 عليه لا محالة واسمه جَلَندَي بنُ كركر وقيل منولة بن جلندي الأزْدي {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ} أي صالحة وقد قرئ كذلك {غَصْباً} من أصحابها وانتصابُه على أنه مصدرٌ مبينٌ لنوع الأخذ ولعل تفريعَ إرادةِ تعييب السفينةِ على مسكنة أصحابِها قبل بيان خوفِ الغصْب مع أن مدارَها كلا الأمرين للاعتناء بشأنها إذ هي المحتاجةُ إلى التأويل وللإيذان بأن الأقوى في المدارية هو الأمرُ الأولُ ولذلك لا يبالي بتخليص سفنِ سائرِ الناس مع تحقق خوفِ الغصبِ في حقهم أيضاً ولأن في التأخير فصلاً بين السفينة وضميرِها مع توهم رجوعِه إلى الأقرب

80

{وأما الغلام} الذي قتله {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} لم يصرح بكفرانه أو بكفره إشعاراً بعدم الحاجة إلى الذكر لظهوره {فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا} فخِفنا أن يغْشَى الوالدَين المؤمنَين {طُغْيَانًا} عليهما {وَكُفْراً} لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعِه ويُلحق بهما شراً وبلاءً أو يُقرَنَ بإيمانهما طغيانُه وكفره فيجتمَع في بيت واحد مؤمنان وطاغٍ كافرٌ أو يُعدِيَهما بدائه ويُضلّهما بضلاله فيرتدّا بسببه وإنما خشي الخضر عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ منه ذلك لأن الله سبحانه أعلمه بحاله وأطلعه على سر أمره وقرئ فخاف ربك أي كره سبحانه كراهةَ مَن خاف سوء عاقبة الأمر فغيّره ويجوز أن تكون القراءةُ المشهورة على الحكاية بمعنى فكرِهنا كقوله تعالى لاِهَبَ لَكِ

81

{فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً} منه بأن يرزُقهما بدلَه ولداً خيراً {مِنْهُ} وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما مالا يَخفْى من الدلالةِ على إرادة وصولِ الخير إليهما {زكاة} طهارةً من الذنوب والأخلاق الرديئة {وَأَقْرَبَ رُحْماً} أي رحمةً وعطفاً قيل وُلدت لهما جارية تزوجها نبيا فولدت نبيا هدى الله تعالى على يديه أمةً من الأمم وقيل ولدت سبعين نبياً وقيل أبدلهما ابناً مؤمناً مثلَهما وقرئ يبدلهما بالتشديد وقرئ رُحُماً بضم الحاء أيضاً وانتصابُه على التمييز مثلُ زكاة

82

{وَأَمَّا الجدار} المعهودُ {فَكَانَ لغلامين يَتِيمَيْنِ فِى المدينة} هي القريةُ المذكورة فيما سبق ولعل التعبيرَ عنها بالمدينة لإظهار نوعِ اعتدادٍ بها باعتداد ما فيها من اليتيمين وأبيهما الصالحِ قيل اسماهما أصرم وصريم واسمُ المقتول جيسور {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} من فضة وذهب كما رُوي مرفوعاً والذمُّ على كنزهما في في قولِه عزَّ وجلَّ والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة لمن لا يؤدي زكاتَهما وسائرَ حقوقهما وقيل كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه عجبْتُ لمن يؤمن بالقدر كيف يحزَن وعجبتُ لمن يؤمن بالرزق كيف يتعَب وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفُل وعجبت لمن يعرِف الدنيا وتقلُّبَها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله الله محمدٌ رسول الله وقيل

الكهف 83 صحفٌ فيها علم {وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا} تنبيهٌ على أن سعيَه في ذلك كان لصلاحه قيل كان بينهما وبين الأب الذي حُفظا فيه سبعةُ آباء {فَأَرَادَ رَبُّكَ} أي مالكُك ومدبرُ أمورك ففي إضافة الربِّ إلى ضمير موسى عليه الصلاة والسلام دون ضميرهما تنبيه له عليه الصلاة والسلام على تحتم كمالِ الانقيادِ والاستسلامِ لإرادته سبحانه ووجوبِ الاحترازِ عن المناقشة فيما وقع بحسبها من الأمور المذكورة {أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} أي حلمهما وكما رأيهما {وَيَسْتَخْرِجَا} بالكلية {كَنزَهُمَا} من تحت الجدار ولولا أنى أقمته لا نقض وخرج الكنزُ من تحته قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميتِه وضاع {رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} مصدرٌ في موقعِ الحالِ أي مرحومَين منه عز وجل أو مفعولٌ له أو مصدرٌ مؤكدٌ لأراد فإن إرادةَ الخير رحمةٌ وقيل متعلقٌ بمضمر أي فعلتُ ما فعلتُ من الأمور التي شاهدتَها رحمةً من ربك ويعضُده إضافةُ الرب إلى ضمير المخاطبِ دون ضميرهما فيكون قوله عز وعلا {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى} أي عن رأيي واجتهادي تأكيد لذلك {ذلك} إشارة إلى العواقب المنظومةِ في سلك البيان وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد درجتِها في الفخامة {تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع} أي لم تستطع فحُذف التاء للتخفيف {عَّلَيْهِ صَبْراً} من الأمور التي رابتْه أي مآلُه وعاقبتُه فيكون إنجازاً للتنبئة الموعودةِ أو إلى البيان نفسه فيكون التأويلُ بمعناه وعلى كل حالٍ فهو فذلكةٌ لما تقدم وفي جعل الصلة عينَ ما مر تكرير للتنكير وتشديدٌ للعتاب تنبيه اختلفوا في حياة الخضر عليهِ الصَّلاة والسَّلام فقيلَ إنه حيٌّ وسببُه أنه كان على مقدمة ذي القرنين فلما دخل الظلماتِ أصاب الخضرُ عينَ الحياة فنزل واغتسل منها وشرب من مائها وأخطأ ذو القرنين الطريقَ فعاد قالوا وإلياسُ أيضاً في الحياة يلتقيان كلَّ سنة بالموسم وقيل إنه ميتٌ لما رُوي أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم صلى العشاءَ ذاتَ ليلة ثم قال أرأيتَكم ليلتَكم هذه فإن رأسَ مائةِ سنة منها لا يبقي ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدٌ ولو كان الخضرُ حينئذ حيًّا لما عاش بعد مائة عام رُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يفارقه قال أوصِني قال لا تطلب العلمَ لتحدّث به واطلبُه لتعمل به

83

{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى القرنين} هم اليهودُ سألوه على وجه الامتحان أو سأله قريشٌ بتلقينهم وصيغةُ الاستقبال للدلالة على استمرارهم على ذلك إلى ورود الجوابِ وهو ذو القرنين الأكبرُ واسمه الإسكندر ابن فيلفوس اليوناني وقال ابن إسحاق اسمه مر زبان بنُ مردبةَ من ولد يافثَ بنِ نوحٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وكان أسودَ وقيل اسمُه عبد اللَّه بن الضحاك وقيل مصعبُ بنُ عبد اللَّه بن الضحاك وقيل مصعبُ بنُ عبد اللَّه بنِ فينانَ بنِ منصور بن عبد الله بن الآزَرِ بن عون بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرُبَ بن قحطانَ وقال السهيلي قيل إن اسمه مَرْزُبانُ بنُ مُدرِكةَ ذكره ابن هشام وهو أول التبابِعة وقيل إنه أفريذون بنُ النعمانِ الذي قتل الضحاك وذكر أبو الريحان البيروتي في كتابه المسمى بالآثار الباقية عن القرون الخالية أن ذا القرنين هو أبو كرب سمى ابن عيرين بن أفريقيس الحِمْيري وأن مُلكَه بلغ مشارقَ الأرض ومغاربَها وهو الذي افتخر به التبّعُ اليماني حيث قال قد كان ذو القرنين جدّي مسلما ملِكاً علا في الأرض غيرَ مفنَّد ... بلغ المشارقَ والمغاربَ يبتغي أسبابَ أمرٍ من حكيم مُرشد وجعلَ هذا القولَ أقربَ لأن الأذواءَ كانوا من اليمن كذي المنار وذي نواس وذي النون وذي

رُعَين وذي يزَن وذي جَدَن قال الإمام الرازي والأولُ هو الأظهر لأن من بلغ ملكَه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيلُ الجليلُ إنما هو الإسكندر اليونانيُّ كما تشهد به كتبُ التواريخ يروى أنه لما مات أبوه جَمع مُلكَ الروم بعد أن كان طوائفَ ثم قصد ملوكَ العرب وقهرَهم ثم أمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصرَ فبنى الاسكندرية وسماها باسمه ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيلَ وورد بيتَ المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف إلى أرمينيةَ وبابِ الأبواب ودان له العراقيون والقِبطُ والبربرُ ثم توجه نحو دار ابن دارا وهزمه مراراً إلى أن قتله صاحبُ حرسِه واستولى على ممالك الفرسِ وقصدَ الهند وفتحه وبنى مدينة سرنديبَ وغيرَها من المدن العظامِ ثم قصد الصينَ وغزا الأمم البعيدةَ ورجع إلى خراسانَ وبنى بها مدائنَ كثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهر زور ومات انتهى كلام الإمام وروي أن أهلَ النجوم قالوا له إنك لا تموت إلا على أرض من حديد وتحت سماه من خشب وكان يدفِن كنزَ كل بلدةٍ فيها ويكتب ذلك بصفته وموضعِه فبلغ بابل فرعَف وسقط عن دابته فبُسطت له دروعٌ فنام عليها فآذته الشمس فأظلوه بترس فنظر فقال هذه أرض من حديد وسماءٌ من خشب فأيقن بالموت فمات وهو ابنُ ألفٍ وستمائة سنة وقيل ثلاثةِ آلافِ سنة قال ابن كثير وهذا غريب وأغربُ منه ما قاله ابنُ عساكر من أنه بلغني أنه عاش ستاً وثلاثين سنة أو ثنتين وثلاثين سنة وأنه كان بعد داودُ وسليمانُ عليهما السلام فإن ذلك لا ينطبق إلا على ذي القرنين الثاني كما سنذكره قلت وكذا ما ذكره الإمام من قصد بني إسرائيلَ وورودِ بيت المقدس والذبحِ في مذبحه فإنه مما لا يكاد يتأتى نسبتُه إلى الأول واختُلف في نبوته بعد الاتفاق على إسلامه وولايتِه فقيل كان نبياً لقوله تعالى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض وظاهر أنه متناولٌ للتمكين في الدين وكمالُه بالنبوة ولقوله تعالى {واتيناه مِن كُلّ شَىْء سَبَباً} ومن جملة الأشياء النبوةُ ولقوله تعالى {قُلْنَا يا ذا القرنين} ونحوِ ذلك وقيل كان ملكاً لما رُوي أن عمر رضي الله عنه سمع رجلاً يقول لآخر يا ذا القرنين فقال اللهم غفراً أما رضِيتم أن تتسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة قال ابن كثير والصحيحُ أنه ما كان نبياً ولا ملكاً وإنما كان ملكاً صالحاً عادلاً ملَك الأقاليَم وقهر أهَلها من الملوك وغيرَهم ودانتْ له البلادُ وأنه كان داعياً إلى الله تعالى سائراً في الخلق بالمَعْدلة التامة والسلطانِ المؤيَّدِ المنصورِ وكان الخضر على مقدمة جيشِه بمنزلة المستشار الذي هو من الملك بمنزلة الوزير وقد ذكر الأزرقي وغيرُه أنه أسلم على يدَيْ إبراهيمَ الخليلِ عليه الصلاة والسلام فطاف معه بالكعبة هو وإسماعيلُ عليهم السلام ورُوي أنه حج ماشياً فلما سمع إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بقدومه تلقاه ودعا له وأوصاه بوصايا ويقال إنه أُتيَ بفرس ليركب فقال لا أركب في بلد فيه الخليل فعند ذلك سخر له السحاب وطوي له الأسباب وبشره إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام بذلك فكانت السحابُ تحمله وعساكرَه وجميعَ آلاتِهم إذا أرادوا غزوةَ قومٍ وقال أبو الطفيل سُئل عنه عليٌّ كرم الله وجهه أكان نبياً أم ملِكاً فقال لم يكن نبياً ولا ملكاً لكن كان عبداً أحب الله فأحبه وناصح الله فناصحه سُخر له السحابُ ومُدّ له الأسباب واختلف في وجه تسميته بذي القرنين فقيل لأنه بلغ قَرني الشمس مشرِقَها ومغربَها وقيل لأنه ملَك الرومَ وفارسَ وقيل الرومَ والتركَ وقيل لأنه كان في رأسه أو في تاجه ما يشبه القرنين وقيل لأنه كان له ذؤابتان وقيل لأنه كانت صفحتا رأسِه من النحاس وقيل لأنه دعا الناس إلى الله عزَّ وجلَّ فضرب

الكهف 84 بقرنه الأيمنِ فمات ثم بعثه الله تعالى فضَرب بقرنه الأيسرِ فمات ثم بعثه الله تعالى وقيل لأنه رأى في منامه أنه صعِد الفَلكَ فأخذ بقرني الشمس وقيل لأنه انقرض في عهده قَرنان وقيل لأنه سُخّر له النورُ والظلمة فإذا سرَى يهديه النورُ من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه وقيل لُقّب به لشجاعته هذا وأما ذو القرنين الثاني فقد قال ابن كثير إنه الإسكندر بن فيليس بنِ مصريمَ بنِ هُرمُسَ بنِ ميطونَ بنِ رومي بن ليطى بن يونان ابن يافثَ بن نونه بن شرخونَ بن روميةَ بن ثونط بن نوفيلَ بن رومي بن الأصفرِ بن العنز بن العيصِ بن إسحاقَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ عليهما الصلاة والسلام كذا نسبه ابنُ عساكرَ المقدونيُّ اليوناني المصريُّ باني الإسكندريةِ الذي يؤرِّخ بأيامه الرومُ وكان متأخراً عن الأول بدهر طويلٍ أكثرَ من ألفي سنة كان هذا قبل المسيح عليه السلام بنحو من ثلاثمائة سنة وكان وزيرُه أرسطاطاليس الفيلسوفَ وهو الذي قتل دارا ابن دار أو أذل ملوك الفرس ووطئ أرضهم ثم قال ابن كثير وإنما بيّنا هذا لأن كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحدٌ وأن المذكورَ في القرآن العظيم هو هذا المتأخرُ فيقع بذلك خطأ كبير وفساد كثيرٌ كيف لا والأولُ كان عبداً صالحاً مؤمناً وملكاً عادلاً وزيرُه الخضرُ عليه الصلاةُ والسلامُ وقد قيل إنه كان نبياً وأما الثاني فقد كان كافراً وزيرُه أرسطاطاليس الفيلسوفُ وقد كان ما بينهما من الزمان أكثرَ من ألفي سنة فأين هذا من ذاك انتهى قلت المقدوني نسبةً إلى بلد من بلاد الروم غربيَّ دارِ السلطنة السنية قُسطنطينيةَ المحمية لا زالت مشحونةً بالشعائر الدينية بينهما من السافة مسيرة خمسة عشرة يوماً أو نحوِ ذلك عند مدينة سَيروزَ اسمُها بلغة اليونانيين مقدونيا كانت سريرَ مُلك هذا الإسكندرِ وهي اليوم بلقَعٌ لا يقيم بها أحد ولكن فيها علائمُ تحكي كمالَ عِظَمها في عهد عُمرانها ونهايةِ شوكةِ واليها وسلطانِها ولقد مررتُ بها عند القُفول من بعض المغازي السُّلطانية فعاينتُ فيها من تعاجيب الآثارِ ما فيه عبرةٌ لأولي الأبصار {قُلْ} لهم في الجواب {سأتلو عَلَيْكُمْ} أي سأذكر لَكُمْ {مِنْهُ} أيْ منَ ذي القرنين {ذِكْراً} أي نبأ مذكور أو حيث كان ذلك بطريق الوحي المتلو حكاية عن جهةِ الله عزَّ وجلَّ قيل سأتلو أو سأتلو في شأنه من جهته تعالى ذكراً أي قرآناً والسينُ للتأكيد والدِلالة على التحقيق المناسبِ لمقام تأييدِه عليه الصلاة والسلام وتصديقِه بإنجاز وعدِه أي لا أترك التلاوةَ البتةَ كما في قول من قال ... سأشكر عَمْراً إن تراخت منيتى ... أيادى لم تمنى وإن هي جلَّتِ ... لا الدلالة على أن التلاوة ستقع فيما يستقبل كما قيل لأن هذه الآيةَ ما نزلت بإنفرادها قبل الوحي بتمام القصة بل موصولةٌ بما بعدها ريثما سألوه صلى الله عليه وسلم عنه وعن الروح وعن أصحاب الكهفِ فقال لهم صلى الله عليه وسلم ائتوني غداً أخبرْكم فأبطأ عليه الوحي خمسة عشرة يوماً أو أربعين كما ذكر فيما سلف وقوله عز وجل

84

{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض} شروعٌ في تلاوة الذكر المعهودِ حسبما هو الموعود والتمكين ههنا الإقدارُ وتمهيدُ الأسباب يقال مكّنه ومكّن له ومعنى الأولِ جعله قادراً وقوياً ومعنى الثاني جعل له قدرة وقوة ولتلازمها في الوجود وتقاربهما في المعنى يُستعمل كلٌّ منهما في محل الآخر كما في قوله عز وعلا مكناهم فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ أي جعلناهم

الكهف 85 86 قادرين من حيث القُوى والأسبابُ والآلاتُ على أنواع التصرفاتِ فيها ما لم نجعلْه لكم من القوة والسَّعة في المال والاستظهارِ بالعَدد والأسباب فكأنه قيل ما لم نمكنْكم فيها أي ما لم نجعلْكم قادرين على ذلك فيها أو مكنّا لهم فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وهكذا إذا كان التمكينُ مأخوذاً من المكان بناءً على توهّم ميمِه أصليةً كما أشير إليه في سورة يوسف عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمعنى إنا جعلنا له مَكِنةً وقدرةً على التصرف في الأرض من يحث التدبيرُ والرأيُ والأسبابُ حيث سخر له السحاب ومدله في الأسباب وبُسط له النورُ وكان الليلُ والنهار عليه سواءً وسُهِّل عليه السيرُ في الأرض وذُلّلت له طرقها {واتيناه مِن كُلّ شَىْء} أراده من مُهمّات مُلكه ومقاصدِه المتعلقة بسلطانه {سَبَباً} أي طريقاً يوصله إليه وهو كلُّ ما يُتوصَّل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة

85

{فَأَتْبَعَ} بالقطع أي فأراد بلوغَ المغرب فأتبع {سَبَباً} يوصله إليه ولعل قصدَ بلوغِ المغرب ابتداءً لمراعاة الحركة الشمسية وقرئ فاتّبع من الافتعال والفرق أن الأولَ فيه معنى الإدراك والإسراعِ دون الثاني

86

{حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس} أي منتهى الأرضِ من جهة المغرب بحيث لا يتمكن أحدٌ من مجاوزته ووقف على حافة البحر المحيطِ الغربي الذي يقال له أو قيانوس الذي فيه الجزائرُ المسماة بالخالدات التي هي مبدأُ الأطوال على أحد القولين {وَجَدَهَا} أي الشمس {تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ} أي ذاتِ حَمأة وهي الطينُ الأسود من حمِئت البئرُ إذا كثرت حمأتها وقرئ حامية أي حارّة روي أن معاوية رضي الله عنه قرأ حامية وعنده ابن عباس رضي الله عنهما فقال حَمِئة فقال معاوية لعبد اللَّه بن عمرو بن العاص كيف تقرأ قال كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمسَ تغرب قال في ماء وطين وروي في ثَأْط فوافق قولُ ابن عباسٍ رضيَ الله عنهما وليس بينهما منافاةٌ قطعية لجواز كون العينِ جامعةً بين الوصفين وكونِ الياء في الثانية منقلبةً عن الهمزة لانكسار ما قبلها وأما رجوعُ معاوية إلى قولُ ابن عباسٍ رضيَ الله عنهم بما سمعه من كعب مع أن قراءته محتمَلةً ولعله لما بلغ ساحلَ المحيط رآها كذلك إذ ليس في مطمح بصره غيرُ الماء كَما يلوحُ بهِ قولُه تعالى وَجَدَهَا تَغْرُبُ {وَوَجَدَ عِندَهَا} عند تلك العين {قَوْماً} قيل كان لباسُهم جلودَ لوحوش وطعامُهم ما لفَظه البحر وكانوا كفاراً فخيّره الله جل ذكره بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوَهم إلى الإيمان وذلك قوله تعالى {قلنا يا ذا القرنين إِمَّا أَن تُعَذّبَ} بالقتل من أول الأمرِ {وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} أي أمراً ذا حُسْن على حذف المضافِ أو على طريقةِ إطلاقِ المصدر على موصوفه مبالغةً وذلك بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع ومحلُّ أن مع صلته إمَّا الرفعُ عَلَى الابتداءِ أو الخبرية وإما النصبُ على المفعولية أي إما تعذيبُك واقع أو إما أمرك تعذيبك

الكهف 87 90 أو إما تفعلُ تعذيبَك وهكذا الحال في الاتخاذ ومن لم يقل بنبوته قال كان ذلك الخطابُ بواسطة نبيَ في ذلك العصر أو كان ذلك إلهاماً لا وحياً بعد أن كان ذلك التخييرُ موافقاً لشريعة ذلك النبي

87

{قَالَ} أي ذو القرنين لذلك النبيِّ أو لمن عنده من خواصّه بعد ما تلقّى أمرَه تعالى مختار للشق الأخير {أَمَّا مَن ظَلَمَ} أي نفسَه ولم يقبل دعوتي وأصرّ على ما كان عليه من الظلم العظيمِ الذي هو الشركُ {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} بالقتل وعن قتادة أنه كان يطبُخ مَنْ كفر في القدور ومن آمن أعطاه وكساه {ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبّهِ} في الآخرة {فَيْعَذّبُهُ} فيها {عَذَاباً نُّكْراً} أي مُنكراً فظيعاً وهو عذابُ النار وفيه دِلالةٌ ظاهرةٌ على أن الخطابَ لم يكن بطريق الوحي إليه وأن مقاولتَه كانت مع النبي أو مَعَ مَنْ عنده من أهل مشورتِه

88

{وَأَمَّا مَنْ امَنَ} بموجب دعوتي {وَعَمِلَ} عملاً {صالحا} حسبما يقتضيه الإيمان {فَلَهُ} في الدارين {جَزَاء الحسنى} أي فله المثوبةُ الحسنى أو الفِعلةُ الحسنى أو الجنةُ جزاءً على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لمضمون الجملة قُدّم على المبتدأ اعتناءً به أو منصوب بمضمر أي نجزي بها جزاء والجملةُ حالية أو معترضة بين المبتدأ والخبرِ المتقدمِ عليه أو حال أي مجزياً بها أو تمييز وقرئ منصوباً غيرَ منوّن على أنه سقط تنويه لالتقاء الساكنين ومرفوعاً منوّناً على أنه المبتدأُ والحسنى بدله ولخبر الجارُّ والمجرور وقيل خُيّر بين القتل والأسرِ والجوابُ من باب الأسلوبِ الحكيم لأن الظاهرَ التخييرُ بينهما وهم كفار فقال أما الكافرُ فيراعى في حقه قوةُ الإسلام وأما المؤمنُ فلا يُتعرَّض له إلا بما يجب ويجوز أن تكون إما وأما للتوزيع دون التخيير أي وليكن شأنُك معهم إما التعذيبَ وإما الإحسانَ فالأول لمن بقيَ على حاله والثاني لمن تاب {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا} أي مما نأمر به {يُسْراً} أي سهلاً متيسراً غيرَ شاقَ وتقديرُه ذا يُسر أو أُطلق عليه المصدر مبالغة وقرئ بضمتين

89

{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} أي طريقاً راجعاً من مغرب الشمس موصلاً إلى مشرقها

90

{حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس} يعني الموضِعَ الذي تطلع عليه الشمسُ أولاً من معمورة الأرض وقرئ بفتح اللام على تقديرِ مضافٍ أي مكان طلوعِ الشمس فإنه مصدر قيل {وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً} من اللباس والبناء قيل هم الزَّنْج وعن كعب أن أرضَهم لا تُمسك الأبنية وبها أسرابٌ فإذا طلعت الشمسُ دخلوا الأسرابَ أو البحر فإذا ارتفع النهارُ خرجوا إلى معايشهم وعن بعضهم خرجتُ حتى جاوزت الصينَ فسألت عن هؤلاء فقالوا بينك وبينهم مسيرةُ يومٍ وليلة فبغلتهم فإذا أحدُهم يفرُش أُذنه ويلبَس الأخرى ومعي صاحبٌ يعرِف لسانهم فقالوا له جئتنا تنظر كيف

الكهف 91 94 تطلُع الشمس قال فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغُشيَ عليّ ثم أفقتُ وهم يمسحونني بالدُّهن فلما طلعت الشمسُ على الماء إذا هو فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سرَباً لهم فلما ارتفع النهارُ خرجوا إلى البحر يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضَج لهم وعن مجاهد من لا يلبَس الثيابَ من السودان عند مطلع الشمس أكثرُ من جميع أهلِ الأرض

91

{كذلك} أي أمرُ ذي القرنين كما وصفناه لك في رفعة المحلِّ وبسطةِ المُلك أو أمرُه فيهم كأمره في أهل المغرِب من التخيير والاختيارِ ويجوزُ أن يكونَ صفةَ مصدرٍ محذوف لوجد أو نجعل أو صفةَ قومٍ أي على قوم مثلَ ذلك القَبيل الذي تغرُب عليهم الشمس في الكفر والحُكم أو ستراً مثلَ سترِكم من اللباس والأكنان والجبال وغيرِ ذلك {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ} من الأسباب والعَدد والعُدد {خُبْراً} يعني أن ذلك من الكثرة بحيث لا يحيط به إلا علمُ اللطيفِ الخبير هذا على الوجه الأولِ وأما على الوجوه الباقيةِ فالمرادُ بما لديه ما يتناول ما جرى عليه وما صدر عنه وما لاقاه فتأمل

92

{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} أي طريقا ثلثا معترِضاً بين المشرق والمغرب آخذاً من الجنوب إلى الشمال

93

{حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} بين الجبلين الذين سُدّ ما بينهما وهو منقطَعُ أرضِ الترك مما يلي المشرِق لا جبلا أرمينيةَ وأَذَرْبيجان كما توهم وقرئ بالضم قيل ما كان من خلقِ الله تعالَى فهو مضموم وما كان من عمل الخلق فهو مفتوح وانتصاب بين على المفعولية لأنه مبلوغ وهو من الظروف التي تستعمل أسماءً أيضاً كما ارتفع في قولِه تعالَى لَّقَدْ تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وانجرّ في قوله تعالى هَذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا} أي من ورائهما مجاوزاً عنهما {قَوْماً} أي أمة من الناس {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم وقرئ من باب الإفعال أي لا يُفهمون السامعَ كلامَهم واختلفوا في أنهم من أي الأقوام فقال الضحاك هم جيلٌ من الترك وقال السدي التّركُ سريةٌ من يأجوم ومأجوم خرجت فضرب ذو القرنين السدّ فبقيت خارجَه فجميعُ الترك منهم وعن قتادة أنهم اثنتان وعشرون قبيلة سدّ ذو القرنين على إحدى وعشرين قبيلةً منهم وبقيت واحدة فسُمّوا التركَ لأنهم تركوا خارجين قال أهل التاريخ أولادُ نوح عليه السلام ثلاثةٌ سامٌ وحام ويافث فسام أبو العرب والعجمِ والروم وحامٌ أبو الحبشةِ والزَّنج والنُّوبة ويافثُ أبو الترك والخَزَر والصقالبة ويأجوجَ ومأجوج

94

{قَالُواْ} أي بواسطة مترجمِهم أو بالذات على أن يكون فهم

الكهف 95 96 ذي القرنين كلامَهم وإفهامُ كلامِه إياهم من جملة ما آتاه الله تعالى من الأسباب {يا ذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ} قد ذكرنا أنهما من أولاد يافثَ بنِ نوحٍ عليه السلام وقيل يأجوجُ من الترك ومأجوجُ من الجيل واختلف في صفاتهم فقيل في غاية صِغرِ الجُثة وقِصَر القامة لا يزيد قدُّهم على شبر واحد وقيل في نهاية عِظَم الجسم وطولِ القامة تبلغ قدُودهم نحوَ مِائةٍ وعشرين دراعا وفيهم من عَرضُه كذلك وقيل لهم مخالبُ وأضراسٌ كالسباع وهما اسمانِ أعجميان بدليل منْع الصرفِ وقيل عربيان من أجّ الظليمُ إذا أسرع وأصلهما الهمزة كما قرأ عاصم وقد قرئ بغير همزةٍ ومُنع صرفُهما للتعريف والتأنيث {يفسدون فِى الأرض} أي في أرضنا بالقتل والتخريب وإتلافِ الزروع قيل كانوا يخرُجون أيام الربيع فلا يتركون أخضرَ إلا أكلوه ولا يباسا إلا احتملوه وقيل كانوا يأكلون الناسَ أيضاً {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} أي جُعْلاً من أموالنا والفاء لتفريع العَرض على إفسادهم في الأرض وقرئ خَراجا وكلاهما واحد كالنَّول والنوال وقيل الخراجُ ما على الأرض والذمة والخَرْجُ المصدر وقيل الخرج ما كان على كل رأس والخراجُ ما كان على البلد وقيل الخرجُ ما تبرعت به والخراج ما لزِمك أداؤُه {على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا} وقرئ بالضم

95

{قَالَ مَا مَكَّنّى} بالإدغام وقرئ بالفك أي ما مكّنني {فِيهِ رَبّى} وجعلني فيه مكينا قادرا من المُلك والمال وسائرِ الأسباب {خَيْرٌ} أي مما تريدون أن تبذُلوه إليّ من الخَرْج فلا حاجة بي إليه {فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ} أي بفَعَلة وصُنّاع يُحسنون البناء والعمل وبآلات لابد منها في البناء والفاءُ لتفريع الأمر بالإعانة على خيرية ما مكّنه الله تعالى فيه من مالهم أو على عدم قَبولِ خَرْجهم {أَجَعَلَ} جواب للأمر {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ} تقديمُ إضافةِ الظرف إلى ضمير المخاطبين على إضافته إلى ضمير يأجوج ومأجوج لإظهار كمالِ العناية بمصالحهم كما راعَوْه في قولهم بيننا وبينهم {رَدْمًا} أي حاجزاً حصيناً وبرزخاً متيناً وهو أكبرُ من السدّ وأوثقُ يقال ثوبٌ مُرَدّم أي فيه رِقاع فوق رِقاعٍ وهذا إسعافٌ بمرامهم فوق ما يرجونه

96

{آتوني زُبَرَ الحديد} جمع زُبْره كغرف في غرفة وهي القطعةُ الكبيرة وهذا لا ينافي ردّ خراجِهم لأن المأمورَ به الإيتاءُ بالثمن أو المناولة كما ينبئ عنه القراءة بوصل الهمزة أي جيئوني بزُبَر الحديد على حذف الباء كما في أمرتك الخيرَ ولأن إيتاءَ الآلة من قبيل الإعانةِ بالقوة دون الخَراج على العمل ولعل تخصيصَ الأمر بالإيتاء بها دون سائرِ الآلات من الصخور والحطبِ ونحوِهما لِما أن الحاجة إليها أمسُّ إذ هي الركنُ في السد ووجودُها أعزُّ قيل حفَر للأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساسَ من الصخر والنحاس المذابِ والبنيانَ من زُبر الحديد بينها الحطبُ والفحم حتى سدّ ما بين الجبلين إلى أعلاهما وكان مائةَ فرسخ وذلك قولُه عز قائلاً {حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين} أي آتَوه إياها فإخذ يبني شيئاً فشيئاً حتى إذا جعل ما بين ناحيتي الجبلين من البنيان مساوياً لهما

الكهف 87 98 في السَّمْك على النهج المحكيِّ قيل كان ارتفاعُه مائتي ذراع وعرضه خمسين ذراعا وقرئ سوّى من التسوية وسُووِيَ على البناء للمجهول {قَالَ} للعَمَلة {انفخوا} أي بالكيران في الحديد المبني ففعلوا {حتى إِذَا جَعَلَهُ} أي المنفوخ فيه {نَارًا} أي كالنار في الحرارة والهيئة وإسنادُ الجعل المذكور إلى ذي القرنين مع أنه فعلُ الفَعَلة للتنبيه علي أنه العُمدة في ذلك وهم بمنزلة الآلةِ {قَالَ} للذين يتولَّوْن أمرَ النحاس من الإذابة ونحوها {اتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} أي آتوني قِطراً أي نُحاساً مذاباً أفرِغْ عليه قطراً فحُذف الأولُ لدِلالة الثاني عليه وقرئ بالوصل أي جيئوني كأنه يستدعيهم للإعانة باليد عند الإفراغ وإسنادُ الإفراغِ إلى نفسه للسر الذي وقفت عليه آنفاً وكذا الكلامُ في قولِه تعالى سَاوِى وقولِه تعالى أَجَعَلَ

97

{فَمَا اسطاعوا} بحذف تاء الافتعال تخفيفاً وحذَراً عن تلاقي المتقاربين وقرئ بالإدغام وفيه جمعٌ بين الساكنين على غير حِدَة وقرئ بقلب السين صاداً والفاء فصيحةٌ أي فعلوا ما أُمروا به من إيتاء القِطْر أو الإتيانِ فأفرغَه عليه فاختلط والتصق بعضُه ببعض فصار جبلاً صَلْداً فجاء يأجوجُ ومأجوجُ فقصدوا أن يعلُوه وينقُبوه فما استطاعوا {أَن يَظْهَرُوهُ} أي يعلوه ويرقَوا فيه لارتفاعه وملاسته {وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْبًا} لصلابته وثخانتِه وهذه معجزةٌ عظيمةٌ لأن تلك الزُبَرَ الكثيرةَ إذا أثرت فيها حرارةُ النار لا يقدر الحيوانُ على أن يحومُ حولَها فضلاً عن النفخ فيها إلى أن تكون كالنار أو عن إفراغ القِطر عليها فكأنه سبحانه وتعالى صرف تأثيرَ تلك الحرارةِ العظيمة عن أبدان أولئك المباشرين للأعمال فكان ما كان والله على كُلّ شَيْء قدير وقيل بناه من الصخور مرتبطاً بعضُها ببعض بكلاليب من حديد ونحاسٍ مُذاب في تجاويفها بحيث لم يبق هناك فُرجةٌ أصلاً

98

{قَالَ} أي ذو القرنين لمن عنده من أهل تلك الديارِ وغيرهم {هذا} إشارةٌ إلى السد وقيل إلى تمكينه من بنائه والفضلُ للمتقدم أي هذا الذي ظهر على يدي وحصل بمباشرتي من السد الذي شأنه ما ذكر من المتانة وصعوبةِ المنال {رَحْمَةً} أي أثرُ رحمةٍ عظيمة عبر عنه بها مبالغةً {مّن رَّبّى} على كافة العباد لا سيما على مجاوريه وفيه إيذانٌ بأنه ليس من قبيل الآثارِ الحاصلةِ بمباشرة الخلقِ عادةً بل هو إحسانٌ إلهي محضٌ وإن ظهر بمباشرتي والتعرّضُ لوصف الربوبيةِ لتربية معنى الرحمة {فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى} مصدر بمعنى المفعول وهو يومُ القيامة لا خروجُ يأجوجَ ومأجوجَ كما قيلَ إذْ لا يساعده النظمُ الكريم والمراد بمجيئه ما ينتظم مجيئَه ومجيءَ مباديه من خروجهم وخروجِ الدجالِ ونزولِ عيسى عليه الصلاة والسلام ونحوِ ذلك لا دنوُّ وقوعِه فقط كما قيل فإن بعضَ الأمور التي ستحكى تقع بعد مجيئِه حتماً {جَعَلَهُ} أي السدَّ المشارَ إليه مع متانته ورصانتِه وفيه من الجزالة ما ليس في توجيه الإشارةِ السابقة إلى التمكين المذكور {دَكَّاء} أي أرضاً مستوية وقرئ دكاً أي مدكوكاً مسوَّى بالأرض وكلُّ ما انبسط بعد ارتفاعٍ فقد اندك ومنه الجملُ الأدكُّ أي المنبسطُ السنام وهذا الجعلُ وقت مجيءِ الوعد بمجيء بعضِ مباديه وفيه بيانٌ لعظم قدرته عز

الكهف 99 101 وجل بعد بيان سعةِ رحمته {وَكَانَ وَعْدُ رَبّى} أي وعدُه المعهودُ أو كلُّ ما وعد به فيدخُل فيه ذلك دخولاً أولياً {حَقّاً} ثابتاً لا محالةَ واقعاً البتة وهذه الجملةُ تذييلٌ من ذي القرنين لما ذكره من الجملة الشرطيةِ ومقرِّرٌ مؤكدٌ لمضمونها وهو آخرُ ما حُكي من قصته وقوله عز وجل

99

{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ} كلامٌ مَسوقٌ من جنابه تعالى معطوفٌ على قوله تعالى جَعَلَهُ دَكَّاء ومحقِّقٌ لمضمونه أي جعلنا بعضَ الخلائق {يَوْمَئِذٍ} أي يوم إذ جاء الوعد بمجيء بعض مباديه {يموج فى بعض} آخر منهم يضطربون اضطرابَ أمواجِ البحر ويختلط إنسُهم وجنُّهم حَيارى من شدة الهول ولعل ذلك قبل النفخةِ الأولى أو تركنا بعضَ يأجوجَ ومأجوجَ يموج في بعض آخرَ منهم حين يخرُجون من السد مزدحمين في البلاد روي أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابَّه ثم يأكلون الشجرَ ومن ظفِروا به ممن لم يتحصّن منهم من الناس ولا يقدِرون أن يأتوا مكةَ والمدينة وبيتَ المقدسِ ثم يبعث الله عز وجل نَغَفاً في أقفائهم فيدخُل آذانَهم فيموتون موتَ نفس واحدة فيرسل الله تعالى عليهم طيراً فتلقيهم في البحر ثم يرسل مطراً يغسل الأرض ويطهرها من نَتْنهم حتى يترُكها كالزَّلَفة ثم يوضع فيها البركة وذلك بعد نزولِ عيسى عليه الصلاة والسلام وقتْل الدجال {وَنُفِخَ فِى الصور} هيَ النفخة الثانية بقضية الفاء في قوله تعالى {فجمعناهم} ولعل عدمَ التعرضِ لذكر النفخةِ الأولى لأنها داهيةٌ عامةٌ ليس فيها حالةٌ مختصة بالكفار ولئلا يقعَ الفصلُ بين ما يقع في النشأة الأولى من الأحوال والأهوالِ وبين ما يقع منها في النشأة الآخرة أي جمعنا الخلائقَ بعدما تفرقت أوصالُهم وتمزقت أجسادُهم في صعيد واحدٍ للحساب والجزاء {جَمْعاً} أي جمعاً عجيباً لا يُكتَنُه كُنهُه

100

{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ} أي أظهرناها وأبرزناها {يَوْمَئِذٍ} أي يومَ إذْ جمعنا الخلائقَ كافة {للكافرين} منهم حيث جعلناها بحيث يرَوْنها ويسمعون لها تغيظاً وزفيراً {عَرْضاً} أي عرضاً فظيعاً هائلاً لا يُقادَر قدرُه وتخصيصُ العَرض بهم مع أنها بمرأى من أهل الجمعِ قاطبةً لأن ذلك لأجلهم خاصة

101

{الذين كانت أعينهم} وهم في الدنيا {فِى غِطَاء} كثيف وغشاوةٍ غليظة محاطة بذاك من جميع الجوانب {عَن ذِكْرِى} عن الآيات المؤديةِ لأولي الأبصار المتدبرين فيها إلى ذكري بالتوحيد والتمجيدِ أو كانت أعينُ بصائِرهم في غطاء عن ذكري على وجه يليق بشأني أو عن القرآن الكريم {وَكَانُواْ} مع ذلك {لاَ يَسْتَطِيعُونَ} لفَرْط تصامِّهم عن الحق وكمالِ عداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم {سَمْعاً} استماعاً لذكري وكلامي الحقِّ الذي لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا منْ خلفه وهذا تمثيلٌ لإعراضهم عن الأدلة السمعيةِ كما أن الأولَ تصويرٌ لتعاميهم عن الآيات المشاهَدةِ بالأبصار والموصولُ نعتٌ للكافرين أو بدلٌ منه أو بيانٌ جيء به لذمِّهم بما في حيزِ الصلةِ وللإشعار بعلّيته لإصابة ما أصابهم من عرض جهنم لهم

الكهف 102 103 فإن ذلك إنما هو لعدم استعمالِ مشاعرِهم فيما عَرَض لهُم في الدُّنيا من الآيات وإعراضِهم عنها مع كونها أسباباً منجِّيةً عما ابتُلوا به في الآخرة

102

{أفحسب الذين كفروا} أي كفروا بي كما يُعرب عنه قوله تعالى عِبَادِى والحُسبان بمعنى الظن وقد قرئ أفظنّ والهمزةُ للإنكار والتوبيخِ على معنى إنكارِ الواقعِ واستقباحِه كما في قولك أضربتَ أباك لا إنكارُ الوقوعِ كما في قوله أأضرِبُ أبي والفاء للعطف على مقدر يُفصِحُ عنه الصلةُ على توجيه الإنكارِ والتوبيخِ إلى المعطوفَين جميعاً كما إذا قُدّر المعطوفُ عليه في قولِه تعالى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ منفياً أي ألا تسمعون فلا تعقلون لا إلى المعطوف فقط كما إذا قُدّر مُثْبتاً أي أتسمعون فلا تعقلون والمعنى أكفروا بي مع جلالة شأني فحسِبوا {أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى} من الملائكة وعيسى وعُزيرٍ عليهم السلام وهم تحت سلطاني وملكوتي {أَوْلِيَاء} معبودين ينصُرونهم من بأسي وما قيل إنها للعطف على ما قبلها من قوله تعالى كَانَتْ الخ وَكَانُواْ الخ دَلالةً على أن الحُسبانَ ناشىءٌ من التعامي والتصامِّ وأُدخل عليها همزةُ الإنكار ذماً على ذم وقطعاً له عن المعطوف عليهما لفظاً لا معنى للإيذان بالاستقلال المؤكّدِ للذم يأباه تركُ الإضمار والتعرضُ لوصف آخرَ غيرِ التعامي والتصامِّ على أنهما أُخرجا مُخرَجَ الأحوال الجِبِلّية لهم ولم يذكروا منْ حيثُ إنَّهما منَ أفعالهم الاختيارية الحادثة كحُسبانهم ليحسُن تفريعُه عليهما وأيضاً فإنه دينٌ قديمٌ لهم لا يمكن جعلُه ناشئاً عن تصامّهم عن كلام الله عز وجل وتخصيصُ الإنكار بحُسبانهم المتأخرِ عن ذلك تعسفٌ لا يخفى وما في حيز صلةِ أن سادٌّ مسدَّ مفعولَيْ حسِب كما في قوله تعالى وَحَسِبُواْ أَن لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ أي أفحسبوا أنهم يتخذونهم أولياءَ على معنى أن ذلك ليس من الاتخاذ في شيء لِما أنه إنما يكون من الجانبين وهم عليهم الصلاة والسلام منزَّهون عن وَلايتهم بالمرة لقولهم سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ وقيل مفعولُه الثاني محذوفٌ أي أفحسبوا اتخاذَهم نافعاً لهم والوجهُ هو الأولُ لأن في هذا تسليماً لنفس الاتخاذِ واعتداداً به في الجملة وقرئ أفحسب الذين كفروا أي أفحسبُهم وكافيهم أن يتخذوهم أولياءَ على الابتداء والخبرِ أو الفعلِ والفاعل فإن النعتَ إذا اعتمد الهمزةَ ساوى الفعلَ في العمل فالهمزة حينئذ بمعنى إنكار الوقوع {إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ} أي هيأناها {للكافرين} المعهودين عدلَ عن الإضمار ذمًّا لهم وإشعاراً بأن ذلك الاعتادَ بسبب كفرهم المتضمّنِ لحسبانهم الباطل {نُزُلاً} أي شيئاً يتمتعون به عند ورودِهم وهو ما يقام للنزيل أي الضيفِ مما حضر من الطعامِ وفيه تخطئةٌ لهم في حسبانهم وتهكّمٌ بهم حيث كان اتخاذُهم إياهم أولياءَ من قبيل إعتاد العتادِ وإعدادِ الزاد ليوم المعاد فكأنه قيل إنا أعتدنا لهم مكان ما أعدّوا لأنفسهم من العُدة والذُّخْر جهنمَّ عُدّةً وفي إيراد النُزُل إيماءٌ إلى أن لهم وراءَ جهنمَ من العذاب ما هو أنموذجٌ له وقيل النزلُ موضعُ النزول ولذلك فسره ابن عباس رضي الله عنهما بالمثوى

103

{قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم} الخطابُ الثاني للكفرة على وجه

الكهف 104 105 التوبيخِ والجمعُ في صيغة المتكلم لتعيينه من أول الأمر وللإيذان بمعلومية النبأ للمؤمنين أيضاً {بالأخسرين أعمالا} نصبٌ على التمييز والجمعُ للإيذان بتنوعها وهذا بيانٌ لحال الكفرة باعتبار ما صدرَ عنهُم من الأعمال الحسَنةِ في أنفسها وفي وحسبانهم أيضاً حيث كانوا معجَبين بها واثقين بنيل ثوابِها ومشاهدةِ آثارِها غِبَّ بيان حالِهم باعتبار أعمالِهم السيئةِ في أنفسها مع كونها حسنةً في حسبانهم

104

{الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ} في إقامة تلك الأعمالِ أي ضاع وبطل بالكلية {في الحياة الدنيا} متعلقٌ بالسعي لا بالضلال لأن بُطلاَن سعيِهم غيرُ مختصَ بالدنيا قيل المرادُ بهم أهلُ الكتابين قاله ابن عباس وسعدُ بنُ أبي وقاص ومجاهد رضي الله عنهم ويدخُل في الأعمال حينئذ ما عمِلوه من الأحكام المنسوخةِ المتعلقةِ بالعبادات وقيل الرهابنةُ الذين يحبِسون أنفسَهم في الصوامع ويحمِلونها على الرياضات الشاقّة ولعله ما يُعمهم وغيرَهم من الكفرة ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على أنه خبر مبتدأ محذوف لأنه جوابٌ للسؤال كأنه قيل مَنْ هم فقيل الذين الخ وجعلُه مجروراً على أنه نعتٌ للأخسرين أو بدلٌ منه أو منصوباً على الذم على أن الجوابَ ما سيأتِي من قولِه تعالى أولئك الآية يأباه أن صدرَه ليس مُنْبئاً عن خُسران الأعمالِ وضلالِ السعي كما يستدعيه مقامُ الجواب والتفريعُ الأولُ وإن دل على حبوطها لكنه ساكتٌ عن إنباء ما هو العُمدة في تحقيق معنى الخسرانِ من الوثوق بترتب الربحِ واعتقاد النفعِ فيما صنعوا على أن التفريعَ الثانيَ مما يقطع ذلك الاحتمالَ رأساً إذ لا مجال لإدراجه تحت الأمرِ بقضية نونِ العظمة {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} الإحسانُ الإتيانُ بالأعمال على الوجه اللائقِ وهو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتي أي يحسبَون أنهم يعملون ذلك على الوجه اللائقِ وذلك لإعجابهم بأعمالهم التي سعَوا في إقامتها وكابدوا في تحصيلها والجملة حال من فاعل ضل أي بطل سعيُهم المذكورُ والحالُ أنهم يحسَبون أنهم يُحسنون في ذلك وينتفعون بآثاره أو من المضاف إليه لكونه في محل الرفعِ نحوُ قوله تعالى إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً أي بطل سعيُهم والحالُ أنهم الخ والفرقُ بينهما أن المقارِنَ لحال حُسبانِهم المذكورِ في الأول ضلالُ سعيهم وفي الثاني نفسُ سعيهم والأولُ أدخلُ في بيان خطئهم

105

{أولئك} كلامٌ مستأنفٌ من جنابه تعالى مَسوقٌ لتكميل تعريفِ الأخسرين وتبيينِ سبب خسرانِهم وضلالِ سعيهم وتعيينِهم بحيث ينطبق التعريفُ على المخاطبين غيرُ داخلٍ تحت الأمر أي أولئكَ المنعوتونَ بما ذكر من ضلال السعي مع الحسبان المزبورِ {الذين كفروا بآيات ربِّهم} بدلائله الداعيةِ إلى التوحيد عقلاً ونقلاً والتعرضُ لعنوان الربوبيةِ لزيادة تقبيحِ حالِهم في الكفر المذكور {وَلِقَائِهِ} بالبعث وما يتبعه من أمور الآخرة على ما هي عليه {فَحَبِطَتْ} لذلك {أعمالهم} المعهودةُ حبوطاً كلياً {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ}

أي لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمالِ وقرئ بالياء {يَوْمَ القيامة وَزْناً} أي فنزدريهم ولا نجعل لهم مقداراً واعتباراً لأن مدارَه الأعمالُ الصالحة وقد حبِطت بالمرة وحيث كان هذا الازدراءُ من عواقب حبوطِ الأعمال عُطف عليه بطريق التفريعِ وأما ما هو من أجزية الكفرِ فسيجئ بعد ذلك أولا نضع لأجل وزنِ أعمالِهم ميزاناً لأنه إنما يوضع لأهل الحسناتِ والسيئاتِ من الموحدين ليتميز به مقاديرُ الطاعات والمعاصي ليترتب عليه التكفير أو عدمُه لأن ذلك في الموحدين بطريق الكمية وأما الكفرُ فإحباطه للحسنات بحسب الكيفيةِ دون الكمية فلا يوضع لهم الميزانُ قطعاً

106

{ذلك} بيانٌ لمآل كفرهم وسائرِ معاصيهم إثرَ بيان مآلِ أعمالِهم المحبَطة بذلك أي الأمرُ ذلك وقوله عز وجل {جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ} جملةٌ مبيِّنةٌ له أو ذلك مبتدأٌ والجملةُ خبرُه والعائدُ محذوفٌ أي جزاؤُهم به أو جزاؤهم بدلَه وجهنمُ خبرُه أو جزاؤهم خبرُه وجهنمُ عطفُ بيانٍ للخبر {بِمَا كَفَرُواْ} تصريحٌ بأن ما ذكر جزاءٌ لكفرهم المتضمن لسائر القبائحِ التي أنبأ عنها قوله تعالى {واتخذوا آياتي وَرُسُلِى هُزُواً} أي مهزوًّا بهما فإنهم لم يقتنعوا بمجرد الكفرِ بالآيات والرسل بل ارتكبوا مثلَ تلك العظيمة أيضاً

107

{إن الذين آمنوا} بيانٌ بطريق الوعدِ لمآل الذين اتصفوا بأضداد ما اتصف به الكفرةُ إثرَ بيان مآلهم بطريق الوعيد أي آمنوا بآيات ربِّهم ولقائه {وَعَمِلُواْ الصالحات} من الأعمال {كَانَتْ لَهُمْ} فيما سبق من حكم الله تعالى ووعدِه وفيه إيماءٌ إلى أن أثرَ الرحمةِ يصل إليهم بمقتضى الرأفةِ الأزليةِ بخلاف ما مر من جعل جهنم للكافرين نزلاً فإنه بموجب ما حدث من سوء اختيارِهم {جنات الفردوس} عن مجاهد أن الفردوسَ هو البستانُ بالرومية وقال عكرمة هو الجنةُ بالحبشية وقال الضحاك هو الجنة الملتفّةُ الأشجار وقيل هي الجنةُ التي تُنبتُ ضروباً من النبات وقيل هي الجنةُ من الكرم خاصة وقيل ما كان غالبة كَرْماً وقال المبرد هو فيما سمعتُ من العرب الشجر الملتفِّ والأغلب عليه أن يكون من العنب وعن كعب أنه ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنةِ مائةَ درجةٍ ما بين كلِّ درجةٍ مسيرةُ مائة عام والفردوسُ أعلاها وفيها الأنهارُ الأربعةُ فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفِردوسَ فإن فوقه عرشَ الرحمن ومنه تفجّر أنهار الجنة {نُزُلاً} خبرُ كانت والجار والمجرور متعلقٌ بمحذوف على أنه حالٌ من نزلاً أو على أنه بيانٌ أو حالٌ من جنات الفردوس والخبرُ هو الجارُّ والمجرورُ فإن جعل النزول بمعنى ما يُهيَّأ للنازل فالمعنى كانت لهم ثمارُ جناتِ الفردوس نزلاً أو جُعلت نفسُ الجنّات نزلاً مبالغةً في الإكرام وفيه إيذانٌ بأنها عند ما أعد الله لهم على ما جرى على لسان النبوة من قوله أَعْدَدْتُ لعباديَ الصالحين مالا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر بمنزلة النزلِ بالنسبة إلى الضيافة وإن جُعل بمعنى المنْزِل فالمعنى ظاهر

الكهف

108

108 - 110 (خالدين فِيهَا) نصبٌ على الحالية (لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) مصدرٌ كالعِوج والصِّغر أي لا يطلبون تحوّلاً عنها إذ لا يُتصوّر أن يكونَ شيءٌ أعزَّ عندهم وأرفعَ منها حتى تُنازِعَهم إليه أنفسُهم وتطمَح نحوه أبصارُهم ويجوز أن يراد نفيُ التحول وتأكيدُ الخلود والجملة حالٌ من صاحب خالدين أو من ضميره فيه فيكون حالاً متداخِلةً

109

(قُل لَّوْ كَانَ البحر) أي جنسُ البحر (مِدَاداً) وهو ما تُمِدُّ به الدواةُ من الحبر (لكلمات رَبّى) لتحرير كلماتِ علمِه وحكمتِه التي من جملتها ما ذكر من الآيات الداعيةِ إلى التوحيد المحذّرة من الإشراك (لنفذ البحر) مع كثرته ولم يبقَ منه شيء لتناهيه (قبل أن تنفد) وقرئ بالياء والمعنى من غير أَن تَنفَدَ (كلمات رَبّى) لعدم تناهيها فلا دِلالةَ للكلام على نفادها بعد نفادِ البحرِ وفي إضافة الكلماتِ إلى اسم الرب المضاف إلى ضميره صلى الله عليه وسلم في الموضعين من تفخيم المضافِ وتشريفِ المضاف إليه ما لا يخفى وإظهارُ البحر والكلماتِ في موضعِ الإضمارِ لزيادةِ التقرير (وَلَوْ جِئْنَا) كلامٌ من جهتِه تعالى غيرُ داخلٍ في الكلامِ الملقنِ جيء به لتحقيق مضمونِه وتصديقِ مدلولِه مع زيادة مبالغةٍ وتأكيد والواوُ لعطف الجملة على نظيرتها المستأنفةِ المقابلةِ لها المحذوفة لدِلالة المذكورةِ عليها دَلالةً واضحة أي لنفد البحرُ من غير نفادِ كلماته تعالى لو لم نجيء بمثله مدادا ولو جئنا بقدرتنا الباهرة (بمثله مدادا) عوناً وزيادةً لأن مجموعَ المتناهيَيْن متناهٍ بل مجموعُ ما يدخُل تحت الوجودِ من الأجسام لا يكون إلا متناهياً لقيام الأدلةِ القاطعة على تناهي الأبعادِ وقرئ مدادا جمع مُدّة وهي ما يستمده الكاتب وقرئ مِداداً

110

(قُلْ) لهم بعد ما بينْتَ لهم شأن كلماتِه تعالى (إِنَّمَا أَنَاْ بشرٌ مثلُكم) لا أدّعي الإحاطةَ بكلماته التامة (بوحي إِلَىَّ) من تلك الكلماتِ (أنما إلهكم إله واحد) لا شريكَ له في الخلق ولا في سائر أحكامِ الألوهيةِ وإنما تميزْتُ عنكم بذلك (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ) الرجاءُ توقعُ وصولِ الخير في المستقبل والمرادُ بلقائه تعالى كرامتُه وإدخالُ الماضي على المستقبل للدِلالة على أن اللائقَ بحال المؤمن الاستمرارُ والاستدامةُ على رجاء اللقاءِ أي فمن استمر على رجاء كرامتِه تعالى (فَلْيَعْمَلِ) لتحصيل تلك الطِّلْبةِ العزيزة (عَمَلاً صالحا) في نفسه لائقاً بذلك المرجوِّ كما فعله الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا) إشراكاً جلياً كما فعله الذين كفروا بآيات ربِّهم ولقائه ولا إشراكا خفيا كما يفعله أهلُ الرياء ومَنْ يطلبُ به أجراً وإيثارُ وضعِ المُظهَر موضعَ المُضمر في الموضعين مع التعرض لعنوان الربوبيةِ لزيادة التقريرِ وللإشعار بعلية العنوانِ للأمر والنهي ووجوبِ الامتثالِ فعلاً وتركاً روي أن جندب بن زهير رضيَ الله عنْهُ قالَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعمل العملَ لله تعالى فإذا اطّلع عليه سرني فقال صلى الله عليه وسلم إن الله لا يقبل ما شورك فيه

سورة مريم عليها السلام مكية وآياتها ثمان وتسعون بسم الله الرحمن الرحيم مريم 1 2 فنزلت تصديقاً له وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال له لك أجران أجرُ السرِّ وأجرُ العلانية وذلك إذا قصد أن يقتدي به وعنه صلى الله عليه وسلم اتقوا الشركَ الأصغرَ قيل وما الشركُ الأصغرُ قال الرياء عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الكهفِ من آخرها كانت له نوراً من قَرنه إلى قدمه ومن قرأها كلَّها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأ عند مضجعه قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بشرٌ مثلُكم يوحى إِلَىَّ الخ كان له مضجعه نوراً يتلألأ إلى مكةَ حشْوُ ذلك النورِ ملائكة يصلون عليه حتى يقوم وإن كان مضجعُه بمكةَ كان له نوراً يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمورِ حشوُ ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ الحمد لله سبحانه على نعمه العِظام سورة مريم عليها السلام مكية إلا الآيات 58 و 71 فمدنيتان وآيتها 98 بسم الله الرحمن الرحيم

مريم

(كهيعص) بإمالة الهاءِ والياء وإظهار الدال وقرئ بفتح الهاء وإمالةِ الياء وبتفخيمهما وبإخفاء النونِ قبل الصادِ لتقاربهما وقد سلف أن مالا يكون من هذه الفواتح مفردة ولا موازِنةً لمفرد فطريقُ التلفظ بها الحكايةُ فقط ساكنةُ الأعجاز على الوقف سواءٌ جُعلت أسماءً للسور أو مسرودةً على نمط التعديدِ وإن لزِمها التقاءُ الساكنين لكونه مغتفراً في باب الوقف قطعاً فحق هذه الفاتحة الكريمةِ أن يوقف عليها جريا على الأصل وقرئ بإدغام الدال فيما بعدها لتقاربهما في المخرج فإن جُعلت اسماً للسورة على ما عليه إطباقُ الأكثرِ فمحلُّه الرفعُ إما على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ والتقديرُ هذا كهيعص أي مسمًّى به وإنما صحت الإشارةُ إليه مع عدم جرَيانِ ذكرِه لأنه باعتبار كونِه على جناح الذكرِ صار في حكم الحاضِرِ المشاهَد كما يقال هذا ما اشترى فلان أو على أنَّه مبتدأٌ خبرُه

2

(ذكر رحمة رَبّكَ) أي المسمّى به ذكرُ رحمة الخ فإن ذكرَها لمّا كان مطلَعَ السورةِ الكريمة ومعظمَ ما انطوت هي عليه جُعلت كأنها نفسُ ذكرها والأولُ هو الأولى لأن ما يُجعلُ عُنواناً للموضوعِ حقَّه أن يكون معلومَ الانتسابِ إليه عند المخاطَب وإذ لا عِلْمَ بالتسمية من قبلُ فحقُها الإخبارُ بها كما في الوجه الأول وإن جُعلت مسرودةً على نمط التعديدِ حسما جنَح إليه أهلُ التحقيقِ فذكرُ الخ خبرٌ لمبتدأ محذوف هو ما ينبئ عنه تعديدُ الحروفِ كأنه قيل المؤلَّفُ من جنس هذه الحروف المبسوطةِ مراداً به السورةُ ذكرُ الرحمة الخ أو اسمُ إشارةٍ أُشير به إليه تنزيلاً لحضور المادة منزلة حضور المؤلف منها أي هذا ذكر رحمة الخ وقيل هو مبتدأٌ قد حذف خبره

مريم 3 4 أي فيما يتلى عليك ذكرها وقرئ ذكَّر رحمةَ ربك على صيغة الماضي من التذكير أي هذا المتلوُّ ذكّرها وقرئ ذكر على صيغة الأمر والتعرضُ لوصفِ الربوبيةِ المنبئةِ عن التبليغِ إلى الكمالِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم للإيذان بأن تنزيلَ السورة عليه صلى الله عليه وسلم تكميل له صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى (عَبْدِهِ) مفعولٌ لرحمة ربك على أنها مفعولٌ لما أضيف إليها وقيل للذكر على أنه مصدرٌ أضيف إلى فاعله على الاتساع ومعنى ذكرِ الرحمةِ بلوغُها وإصابتُها كما يقال ذكرني معروفُ فلان أي بلغني وقوله عز وعلا (زَكَرِيَّا) بدلٌ منه أو عطفُ بيان له

3

(إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً) ظرفٌ لرحمة ربك وقيل لذِكرُ على أنه مضافٌ إلى فاعله اتساعاً لا على الوجه الأولِ لفساد المعنى وقيل هو بدلُ اشتمالٍ من زكريا كما في قوله واذكر فِى الكتاب مَرْيَمَ إِذِ انتبذت ولقد راعى عليه الصلاة والسلام حسنَ الأدب في إخفاء دعائِه فإنه مع كونه بالنسبة إليه عز وجل كالجهر أدخلُ في الإخلاص وأبعدُ من الرياء وأقربُ إلى الخلاص عن لائمة الناس على طلب الولدِ لتوقفه على مباد لا يليق به تعاطيها في أوان الكِبَر والشيخوخة وعن غائلة مواليه الذين كان يخافهم وقيل كان ذلك منه عليه السلام لضَعف الهرم قالوا كان سنُّه حينئذ ستين وقيل خمساً وستين وقيل سبعين وقيل خمساً وسبعين وقيل ثمانين وقيل أكثرَ منها كما مر في تفسير سورة آل عِمرانَ

4

(قَالَ) جملةٌ مفسِّرةٌ لنادى لا محلَّ لها من الإعراب (رَبّ إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى) إسنادُ الوهن إلى العظم لِما أنه عمادُ البدن ودِعامُ الجسد فإذا أصابه الضَّعفُ والرخاوة أصاب كلَّه أو لأنه أشدُّ أجزائه صلابةً وقِواماً وأقلُّها تأثراً من العلل فإذا وهَن كان ما وراءه أوهنَ وإفرادُه للقصد إلى الجنس المنبئ عن شمول الوهْنِ لكُلِّ فردٍ منْ أفرادِهِ ومنّي متعلق بمحذوف هو حال من العظم وقرئ وهِن بكسر الهاء وبضمها أيضاً وتأكيدُ الجملة لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونها (واشتغل الرأس شيبا) شبه عليه الصلاة والسلام الشيبَ في البياض والإنارة بشُواظ النار وانتشارَه في الشعر وفُشوَّه فيه وأخذَه منه كلَّ مأخذ باشتعالها ثم أخرجه مُخرجَ الاستعارةِ ثم أَسند الاشتعالَ إلى محل الشعرِ ومنبِتِه وأخرجه مُخرج التمييز وأطلق الرأسَ اكتفاءً بما قيّد به العظمَ وفيه من فنون البلاغة وكمال الجزالة مالا يخفى حيث كان الأصلُ اشتعل شيبُ رأسي فأسند الاشتعالَ إلى الرأس كما ذُكر لإفادة شمولِه لكلها فإن وِزانَه بالنسبة إلى الأصل وزانُ اشتعل بيتُه ناراً بالنسبة إلى اشتعل النارُ في بيته ولزيادة تقريرِه بالإجمال أولاً والتفصيلِ ثانياً ولمزيد تفخيمِه بالتنكير وقرئ بإدغام السينِ في الشين (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً) أي ولم أكن بدعائي إياك خائباً في وقت من أوقات هذا العمُر الطويلِ بل كلما دعوتُك استجبتَ لي والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها أو حالٌ من ضميرِ المتكلم إذِ المعنى واشتعل رأسي شيباً وهذا توسلٌ منه عليهِ الصَّلاة والسَّلام بما سلف منه من الاستجابة عند كلِّ دعوة إثرَ تمهيدِ ما يستدعي الرحمةَ ويستجلب الرأفةَ من كِبَر السّنِّ وضَعفِ الحال فإنه تعالى بعد ما عوّد عبدَه بالإجابة دهراً طويلاً لا يكاد

مريم 5 6 يُخيّبه أبداً لا سيما عند اضطرارِه وشدة افتقارِه والتعرض في الموضعين لوصفِ الربوبيةِ المنبئةِ عن إضافة ما فيه صلاحُ المربوبِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لا سيما توسيطُه بين كان وخبرها لتحريك سلسلةِ الإجابةِ بالمبالغة في التضرّع ولذلك قيل إذا أراد العبدُ أن يُستجابَ له دعاؤُه فليدعُ الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاتِه (وَإِنّي خِفْتُ الموالى) عطف على قوله تعالى إِنّى وَهَنَ العظم مترتبٌ مضمونه على مضمونه فإن ضَعفَ القُوى وكِبَر السنِّ من مبادئ خوفه عليه السلام من يلي أمرَه بعد موته ومواليه بنو عمه وكانوا أشرارَ بني إسرائيلَ فخاف أن لا يُحسِنوا خلافتَه في أمته ويبدّلوا عليهم دينَهم وقوله

5

(مِن وَرَائِى) أي بعد موتي متعلقٌ بمحذوف ينساق إليه الذهنُ أي فِعلَ الموالي من بعدي أو جور الموالي وقد قرئ كذلك أو بما في الموالي من معنى الوِلاية أي خِفتُ الذين يلون الأمرَ من ورائي لا يخفت لفساد المعنى وقرئ ورايَ بالقصر وفتح الياء وقرئ خفّت الموالي من ورائي أي قلوا وعجَزوا عن القيام بأمور الدين بعدي أو خفّت الموالي القادرون على إقامة مراسمِ الملة ومصالحِ الأمة من خفَّ القوام أي ارتحلوا مسرعين أي درَجوا قُدّامي ولم يبقَ منهم من به تَقوَ واعتضادٌ فالظرفُ حينئذ متعلقٌ بِخفّتْ (وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا) أي لا تلد من حينِ شبابها (فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ) كلا الجارّين متعلقٌ بهب لاختلاف معنييهما فاللامُ صلةٌ له ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً وتقديمُ الأول لكون مدلولِه أهمَّ عنده ويجوز تعلّقُ الثاني بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المفعول ولدُنْ في الأصل ظرفٌ بمعنى أولُ غايةِ زمانٍ أو مكان أو غيرِهما من الذوات وقد مر تفصيله في أوائل سورة آل عمران أي أعطِني من مَحْض فضلِك الواسعِ وقدرتِك الباهرةِ بطريق الاختراعِ لا بواسطة الأسباب العادية (وَلِيّاً) أي ولداً من صُلبي وتأخيرُه عن الجارَّين لإظهار كمالِ الاعتناءِ بكون الهبةِ له على ذلك الوجه البديعِ مع ما فيه من التشويق إلى المؤخَّر فإنَّ ما حقَّه التقديمُ إذا أُخرَ تبقى النفسُ مستشرقه فعند ورودِه لها يتمكن عندها فضلُ تمكّنٍ ولأن فيه نوعَ طولٍ بما بعده من الوصف فتأخيرُهما عن الكل أو توسيطُهما بين الموصوف والصفه مما لا يليقُ بجزالةِ النظم الكريم والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قيلها فإن ما ذِكرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من كبر السن وضعف القُوى وعقرِ المرأة موجبٌ لانقطاع رجائِه عليه السلام عن حصول الولدِ بتوسط الأسبابِ العادية واستيهابِه على الوجه الخارِق للعادة ولا يقدحُ في ذلك أن يكون هناك داعٍ آخرُ إلى الإقبال على الدعاء المذكورِ من مشاهدته عليه السلام للخوارق الظاهرةِ في حق مريمَ كما يعرب عنه قوله تعالى هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ الآية وعدمُ ذكرِه ههنا للتعويل على ذكره هناك كما أن عدمَ ذكرِ مقدمةِ الدعاء هناك للاكتفاء بذكره ههنا فإن الاكتفاءَ بما ذكر في موطنٍ عما تُرك في موطن آخرَ من النكت التنزيلية وقوله تعالى

6

(يرثني) صفة لوليا وقرئ هو وما عُطف عليه بالجزم جواباً للدعاء أي يرثني من حيث العلمُ والدينُ والنبوةُ فإن الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام لا يورثون المال قال صلى الله عليه وسلم

مريم 7 نحن معاشرَ الأنبياءِ لا نورَث ما تركنا صدقةٌ وقيل يرثني الحُبورة وكان عليه السلام حِبْراً (وَيَرِثُ من آل يَعْقُوبَ) يقال ورِثه وورِث منه لغتان وآلُ الرجل خاصّته الذين يؤُول إليه أمرُهم للقرابة أو الصُّحبة أو الموافقة في الدين وكانت زوجةُ زكريا أختَ أمِّ مريمَ أي ويرث منهم الملكَ قيل هو يعقوب بن اسحاق ابن إبراهيمَ عليهم الصلاة والسلام وقال الكلبي ومقاتل هو يعقوبُ بنُ ماثانَ أخو عمرانَ بنِ ماثان من نسل سليمانَ عليه السلام وكان آلُ يعقوب أخوالَ يحيى بنِ زكريا قال الكلبي كان بنو ماثانَ رءوس بني إسرائيلَ وملوكَهم وكان زكريا رئيسَ الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولدُه حبورتَه ويرثَ من بني ماثان ملكهم وقرئ ويرث وارثَ آلِ يعقوب على أنه حال من المستكن في يرث وقرئ أو يرث آل يعقوب بالتصغير ففيه إيماءٌ إلى وراثته عليه السلام لما يرثه في حالة صِغَره وقرئ وارثٌ من آل يعقوب على أنه فاعلُ يرثني على طريقة التجريد أي يرثني به وارثٌ وقيل من للتبغيض إذ لم يكن كلُّ آلِ يعقوبَ عليه السلام أنبياءَ ولا علماءَ (واجعله رَبّ رَضِيّاً) مرضياً عندك قولاً وفعلاً وتوسيطُ ربِّ بين مفعولي اجعَلْ للمبالغة في الاعتناء بشأن ما يستدعيه

7

(يَا زَكَرِيَّا) على إرادةِ القولِ أيْ قال تعالى يَا زَكَرِيَّا (إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى) لكن لا بأن يخاطبه عليه الصلاة والسلام بذلك بالذات بل بواسطة الملَك على أن يحكيَ له عليه الصلاة والسلام هذه العبارة عنه عز وجل على نهج قوله تعالى قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ الآية وقد مرَّ تحقيقُه في سورةِ آلِ عمران وهذا جوابٌ لندائه عليه الصلاة والسلام ووعدٌ بإجابة دعائِه لكن لا كلا كما هو المتبادَرُ من قوله تعالى فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى الخ بل بعضاً حسبما تقتضيه المشيئةُ الإلهيةِ المبنيةِ على الحِكَم البالغة فإن الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام وإن كانوا مستجابي الدعوةِ لكنهم ليسوا كذلك في جميع الدعواتِ ألا يرى إلى دعوة إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في حق أبيه وإلى دعوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم حيث قال وسألته أن لا يُذيقَ بعضَهم بأسَ بعض فمنعنيها وقد كان من قضائه عز وعلا أن يهبَه يحيى نبياً مرضياً ولا يرثه فاستجيب دعاؤُه في الأول دون الثاني حيث قتل قبلَ موت أبيه عليهما الصلاة والسلام على ما هو المشهورُ وقيل بقي بعده برهةً فلا إشكال حينئذ وفي تعيين اسمه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تأكيدٌ للوعد وتشريف له عليه الصلاة والسلام وفي تخصيصه به عليه السلام حسبما يُعرب عنه قوله تعالى (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً) أي شريكاً له في الاسم حيث لم يُسمَّ أحدٌ قبله بيحيى مزيدُ تشريف وتفخيم له عليه الصلاة والسلام فإن التسميةَ بالأسامي البديعة الممتازة عن أسماء سائرِ الناس تنويهٌ بالمسمّى لا محالة وقيل سميا شبها في الفضل والكمالِ كما في قوله تعالى هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً فإن المتشاركين في الوصف بمنزلة المتشاركين في الاسم قالوا لم يكن له عليه الصلاة والسلام مِثْلٌ في أنه لم يعصِ الله تعالَى ولم يهُمَّ بمعصية قط وأنه ولد من شيخٍ فانٍ وعجوزٍ عاقر وأنه كان حَصوراً فيكون هذا إجمالاً لما نزل بعده من قوله تعالى مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله وَسَيّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيّا مّنَ الصالحين والأظهرُ أنه اسمٌ أعجميٌّ وإن كان عربياً فهو منقول عن الفعل كيعمَرَ ويَعيشَ قيل سمي به لأنه حي به رحم أمه أوحى دينُ الله تعالى بدعوته

مريم 8 9

8

(قال) استئناف مبني على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قال عليه الصلاة والسلام حينئذ فقيل قال (رَبّ) ناداه تعالى بالذات مع وصول خطابِه تعالى إليه بتوسيط الملَك للمبالغة في التضرع والمناجاة والجِدِّ في التبتل إليه تعالى والاحترازِ عما عسى يُوهم خطابُه للملك من توهُّم أن علمَه تعالى بما يصدُر عنه متوقِّفٌ على توسطه كما أن علمَ البشرِ بما يصدر عنه سبحانه متوقِّفٌ على ذلك في عامة الأوقات (أنى يَكُونُ لِي غلام) كلمة أنى بمعنى كيف أو من أين وكان إما تامةٌ وأنى واللام متعلقتان بها وتقديمُ الجارِّ على الفاعلِ لما مرَّ مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أُخر أي كيف أو من أين يحدُث لي غلامٌ ويجوزُ أن تتعلق اللامُ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من غلامٌ إذ لو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ أي أنى يحدث كائناً لي غلام أو ناقصةٌ اسمُها ظاهرٌ وخبرُها إما أنى ولي متعلقٌ بمحذوف كما مر أو هو الخبر وأنى نصبٌ على الظرفية وقوله تعالى (وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا) حال من ضمير المتكلم بتقدير قد وكذا قوله تعالى (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً) حالٌ منه مؤكدةٌ للاستبعاد إثرَ تأكيد أي كانت امرأتي عاقراً لم تلِدْ في شبابها وشبابي فكيف وهي الآن عجوزٌ وقد بلغتُ أنا من أجل كِبَر السنِّ جساوة وقحولاً في المفاصل والعِظام أو بلغتُ من مدارج الكِبَر ومراتبه ما يسمى عِتيًّا من عتا يعتو وأصله عتو وكقعود فاستُثقل توالي الضمتين والواوين فكسرت التاء فانقلبت الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ثم قلبت الثانية أيضا لاجماع الواو والياء وسبْقِ إحداهما بالسكون وكُسرت العينُ إتباعاً لها لما بعدها وقرئ بضمها ولعل البداءة ههنا بذكر حال امرأتِه على عكس ما في سورة آل عمرانَ لِما أنه قد ذُكر حالُه في تضاعيف دعائِه وإنما المذكورُ ههنا بلوغُه أقصى مراتبِ الكِبَر تتمةً لما ذكر قبل وأما هنالك فلم يسبِقْ في الدعاء ذكرُ حاله فلذلك قدّمه على ذكر حال امرأتِه لِما أن المسارعةَ إلى بيان قصورِ شأنه أنسبُ وإنما قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع سبق دعائِه بذلك وقوةِ يقينه بقدرة الله لا سيما بعد مشاهدتِه للشواهد المذكورة في سورة آلِ عمران استعظاماً لقدرة الله تعالى وتعجيباً منها واعتداداً بنعمته تعالى عليه في ذلك بإظهار أنه من محضِ لطفِ الله عز وعلا وفضله مع كونه في نفس من الأمور المستحيلةِ عادة لا استبعاداً له وقيل إنما قاله ليُجابَ بما أجيب به فيزدادَ المؤمنون إيقاناً ويرتدعَ المبطلون وقيل كان ذلك منه عليه الصلاة والسلام استفهاماً عن كيفية حدوثه وقيل بل كان ذلك بطريق الاستبعادِ حيث كان بين الدعاء والبِشارة ستون سنة وكان قد نسِيَ دعاءَه وهو بعيد

9

(قال) استناف كما مر مبنيٌّ على سؤال نشأ مما سلف والكافُ في قوله تعالى (كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ) مقحمةٌ كما في مثلُك لا يبخل محلُّها إما النصبُ على أنَّه مصدرٌ تشبيهي لقال الثاني وذلك إشارةٌ إلى مصدره الذي هو عبارةٌ عن الوعد السابقِ لا إلى قول آخرَ شُبِّه هذا به وقد مرَّ تحقيقُه في تفسير قوله تعالى وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا وقولُه تعالى (هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ) جملةٌ مقرِّرةٌ للوعد المذكورِ دالةٌ على إنجازه داخلةٌ في حيز قال الأول كأنه قيل قال الله عز وجل مثلَ

ذلك القولِ البديع قلت أي مثلَ ذلك الوعدِ الخارق للعادة وعدت هو علي خاصة هين وإن كان في العادة مستحيلاً وقرئ وهو علي هينٌ فالجملة حينئذ حالٌ من ربك والياء عبارةٌ عن ضميره كما ستعرفه أو اعتراضٌ وعلى كل حالٍ فهي مؤكدةٌ ومقرِّرةٌ لما قبلها ثم أُخرج القولُ الثاني مُخرجَ الالتفاتِ جرياً على سَنن الكبرياء لنريه المهابةِ وإدخال الروعةِ كقول الخلفاء أميرُ المؤمنين يرسُم لك مكان أنا أرسم ثم أُسند إلى اسم الربِّ المضاف إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ تشريفاً له وإشعاراً بعلة الحُكم فإن تذكيرَ جرَيانِ أحكامِ ربوبيتِه تعالى عليه الصلاة والسلام من إيجاده من العدم وتصريفِه في أطوار الخلقِ من حال إلى حال شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغ كمالَه اللائقَ به مما يقلَع أساسَ استبعاده عليه الصلاة والسلام لحصول الموعود ويورثه عليه الصلاة والسلام الاطمئنانَ بإنجازه لا محالة ثم التُفت من ضمير الغائبِ العائدِ إلى الرب إلى ياء العظمةِ إيذاناً بأن مدارَ كونه هيّناً عليه سبحانه هو القدرةُ الذاتيةُ لا ربوبيتُه تعالى له عليه الصلاة والسلام خاصة وتمهيداً لما يعقُبه وقيلَ ذلكَ إشارةٌ إِلى مُبهمٌ يفسّره قولُه تعالى هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ على طريقة قوله تعالى وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ولا يخرج هذا الوجهُ على القراءة بالواو ولأنها لا تدخل بين المفسِّر والمفسَّر وإما الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما تقدم من وعده تعالى أي قال عز وعلا الأمرُ كما وعدتُ وهو واقعٌ لا محالةَ وقولُه تعالَى قَالَ رَبُّكِ الخ استئنافٌ مقرِّر لمضمونه والجملةُ المحكية على القراءة الثانية معطوفةٌ على المحكية الأولى أو حالٌ من المستكنِّ في الجار والمجرور وأيا ما كان فتوسيطُ قال بينهما مُشعرٌ بمزيد الاعتناءِ بكل منهما والكلامُ في إسناد القولِ إلى الرب ثم الالتفاتِ إلى التكلم كالذي مر آنفاً وقيلَ ذلكَ إشارةٌ إِلى ما قاله زكريا عليه الصلاة والسلام أي قال تعالى الأمرُ كما قلت تصديقاً له فيما حكاه من الحالة المباينةِ للولادة في نفسه وفي امرأته وقوله تعالى قَالَ رَبُّكِ الخ استئنافٌ مَسوقٌ لإزالة استبعادِه بعد تقريره أي قال تعالى وهو مع بعده في نفسه علي هين والقراءة الثاني أَدخلُ في إفادة هذا المعنى على أن الواو للعطف وأما جعلُها للحال فمُخِلٌّ بسِداد المعنى لأن مآلَه تقريرُ صعوبته حال سهولتِه عليه تعالى مع أن المقصودَ بيانُ سهولتِه عليه سبحانه مع صعوبته في نفسه وقولُه تعالَى (وَقَدْ خَلَقْتُكَ من قبل ولم تكن شَيْئاً) جملةٌ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها والمرادُ به ابتداء خلق البشر هو الواقعُ إثرَ العدم المحضِ لا ما كان بعد ذلك بطريق التوالدِ المعتادِ وإنما لم يُنسَبْ ذلك إلى آدم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو المخلوقُ من العدم حقيقةً بأن يقال وقد خلقتُ أباك أو آدمَ من قبل ولم يك شيئاً مع كفايته في إزالة الاستبعادِ بقياس حالِ ما بُشّر به على حالُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لتأكيد الاحتجاج به وتوضيح منهاجِ القياس حيث نبه على أن كلَّ فردٍ من أفراد البشر له حظٌّ من إنشائه عليه الصلاة والسلام من العدم إذ لم تكن فطرتُه البديعةُ مقصورةً على نفسه بل كانت أُنموذَجاً منطوياً على فطرية سائرِ آحادِ الجنس انطواءً إجمالياً مستتبِعاً لجَرَيان آثارِها على الكل فكان إبداعه عليه الصلاة والسلام على ذلك الوجه إبداعاً لكل أحد من فروعه كذلك ولما كان خلقَه عليه الصَّلاة والسَّلام على هذا النمطِ الساري إلى جميع أفراد ذريتِه أبدعَ من أن يكون ذلك مقصوراً على نفسه كما هو المفهومُ من نسبة الخلقِ المذكورِ إليه وأدلَّ على عظم قدرتِه تعالَى وكمالِ علمِه وحكمتِه وكان عدم

مريم 10 12 زكريا حينئذ أظهرَ عنده وأجلى وكان حالُه أولى بأن يكون معياراً لحال ما بشر به نُسب الخلقُ المذكور إليه كما نُسب الخلقُ والتصويرُ إلى المخاطَبين في قولِه تعالى وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم توفيةً لمقام الامتنانِ حقَّه فكأنه قيل وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ في تضاعيف خلقِ آدمِ ولم تكن إذ ذاك شيئاً أصلاً بل عدماً بحتاً ونفياً صِرْفاً هذا وأما حملُ الشيء على المعتدّ به أي ولم تكن شيئاً معتداً به فيأباه المقام ويرده نظم الكلام وقرئ خلقناك

10

(قال رب اجعل آية) أي علامةً تدلني على تحقق المسؤولِ ووقوعِ الحبَل ولم يكن هذا السؤالُ منه عليه الصلاة والسلام لتأكيد البِشارة وتحقيقِها كما قيل فإن ذلك مما لا يليق بمنصِب الرسالة وإنما كان ذلك لتعريف وقت العُلوق حيث كانت البشارةُ مطلقةً عن تعيينه وهو أمرٌ خفيٌّ لا يوقف عليه فأراد أن يُطلعه الله تعالى عليه ليتلقّى تلك النعمة الجلية بالشكر من حين حدوثِها ولا يؤخِّرَه إلى أن تظهر ظهوراً معتاداً وقد مرت الإشارةُ في تفسير سورة آل عمران إلى أن هذا السؤالَ ينبغي أن يكون بعدما مضى بعد البشارة بُرهةٌ من الزمان لما روي أن يحيى كان أكبرَ من عيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهر أو بثلاث سنين ولا ريب في أن دعاءَ زكريا عليه الصَّلاة والسَّلام كان في صِغَر مريمَ لقوله تعالى هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ وهي إنما ولدت عليسى عليه الصلاة والسلام وهي بنتُ عشرِ سنين أو بنتُ ثلاثَ عشْرةَ سنةً والجعلُ إبداعيٌّ واللامُ متعلقة به وتقديمُها على المفعول به لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من آية إذ لو تأخرَ لكان صفةً لهَا وقيل بمعنى التصبير المستدعي لمفعولين أو لهما آيةً وثانيهما الظرفُ وتقديمُه لأنه لا مسوِّغَ لكون آيةٌ مبتدأً عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديمِ الظرف فلا يتغير حالُهما بعد ورودِ الناسخ (قال آيتك أَن لا تُكَلّمَ الناس) أي أن لا تقدر على أن تكلمهم بكلام الناسِ مع القدرة على الذكر والتسبيح (ثلاث لَيَالٍ) مع أيامهن للتصريح بها في سورة آل عمران (سَوِيّاً) حال من فاعل تكلم مفيدٌ لكون انتفاءِ التكلم بطريق الاضطرار دون الاختيار أي تُمنع الكلامَ فلا تطيق به حال كونك سوى الخلق سليمَ الجوارحِ ما بك شائبةُ بَكَم ولا خَرَس

11

(فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب) أي من المصلّى أو من الغرفة وكانوا من وراء المحرابِ ينتظرونه أن يفتح لهم البابَ فيدخلوه ويصلّوا إذْ خرج عليهم متغيِّراً لونُه فأنكروه وقالوا مالك (فأوحى إِلَيْهِمْ) أي أومأ إليهم لقوله تعالى إِلاَّ رَمْزًا وقيل كتب على الأرض وأنْ في قولِه تعالَى (أَن سَبّحُواْ) إما مفسرةٌ لأوحى أو مصدريةٌ والمعنى أي صلّوا أو بأن صلوا (بُكْرَةً وَعَشِيّاً) هما ظرفا زمانٍ للتسبيح عن أبي العالية أن المرادَ بهما صلاةُ الفجر وصلاةُ العصر أو نزِّهوا ربكم طرفي النهار ولعله كان مأموراً بأن يسبِّح شكراً ويأمرَ قومه بذلك

12

(يَا يحيى) استئناف طُويَ قبله جملٌ كثيرةٌ مسارعةً إلى الإنباء بإنجاز الوعدِ الكريم أي قلنا

مريم 13 17 يا يحيى (خُذِ الكتاب) التوراةَ (بِقُوَّةٍ) أي بجد واستظهار بالتوفيق (وَاتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً) قال ابن عباس رضي الله عنهما الحكمُ النبوةُ استنبأه وهو ابنُ ثلاثِ سنين وقيل الحُكمُ الحِكمةُ وفهمُ التوراة والفقهُ في الدين روي أنه دعاه الصبيانُ إلى اللعب فقال ما لِلَّعب خُلقنا

13

(وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا) عطف على الحُكم وتنوينُه للتفخيم وهو التحنّنُ والاشتياق ومن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة له مؤكدةٌ لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي وآتيناه رحمةً عظيمةً عليه كائنة من جنابنا أو رحمةً في قلبه وشفقةً على أبويه وغيرهما (وزكاة) أي طهارةً من الذنوب أو صدقةً تصدقنا به على أبويه أو وفقناه للتصديق على الناس (وَكَانَ تَقِيّا) مطيعاً متجنباً عن المعاصي

14

(وَبَرّا بوالديه) عطف على تقياً أي بارًّا بهما لطيفاً بهما محسناً إليهما (وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً) متكبراً عاقاً لهما أو عاصياً لربه

15

(وسلام عَلَيْهِ) من الله عز وجل (يَوْمَ وُلِدَ) من أن يناله الشيطانُ بما ينال به بني آدم (وَيَوْمَ يَمُوتُ) من عذاب القبر (وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً) من هول القيامةِ وعذاب النار

16

(واذكر في الكتاب) مستأنفٍ خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم وأُمر بذكر قصة مريمَ إثرَ قصةِ زكريا لما بينهما من كمال الاشتباكِ والمرادُ بالكتاب السورةُ الكريمة لا القرآنُ إذ هي التي صُدّرت بقصة زكريا المستتبعةِ لذكر قصتها وقصصِ الأنبياء المذكورين فيها أي واذكر للناس (مَرْيَمَ) أي نَبأَها فإن الذكرَ لا يتعلق بالأعيان وقوله تعالى (إِذِ انتبذت) ظرف لذلك المضافِ لكن لا على أن يكون المأمورُ به ذكر نبذها عند انتباذِها فقط بل كلَّ ما عُطف عليه وحُكيَ بعده بطريق الاستئنافِ داخلٌ في حيز الظرف متممٌ للنبأ وقيل بدلُ اشتمال من مريم على أنَّ المرادَ بها نبؤها فإن الظروفَ مشتملةٌ على ما فيها وقيل بدلَ الكلِّ على أن المرادَ بالظرف ما وقع فيه وقيل إذ بمعنى أن المصدرية كما في قولك أكرمتك إذ لم تكرمني أي لأن لم تكرمني فهو بدلُ اشتمالٍ لا محالةَ وقولُه تعالَى (مّنْ أَهْلِهَا) متعلق بانتبذت وقوله (مَكَاناً شَرْقِياً) مفعولٌ له باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيانِ المترتبِ وجوداً واعتباراً على أصل معناه العاملِ في الجار والمجرور وهو السرفي تأخيره عنه أي اعتزلت وانفردت منهم وأتت مكاناً شرقياً من بيت المقدِس أو من دارها لتتخلّى هنالك للعبادة وقيل قعدت مشرقة لتغتسل من الحيض محتجبةً بحائط أو بشيء يستُرها وذلك قوله تعالى

17

(فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً) وكان موضعُها المسجدَ فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهُرت عادت إلى المسجد فبيناهى

مريم 18 21 في مغتسلها أتاها الملَكُ عليه الصلاة والسلام في صورة آدميَ شابّ أمردَ وضئ والوجه جعْدِ الشعر وذلك قوله تعالى (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) أي جبريل عليه الصلاة والسلام عبرّ عنه بذلك توفيةً للمقام حقه وقرئ بفتح الراء لكونه سبباً لما فيه من روحُ العباد الذي هو عُدّةُ المقربين في قولِه تعالى فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ (فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً) سويَّ الخلقِ كاملَ البُنية لم يفقِدْ من حِسان نعوتِ الآدمية شيئاً وقيل تمثل في سورة تِرْبٍ لها اسمُه يوسفُ من خدم بيتِ المقدس وذلك لتستأنسَ بكلامه وتتلقّى منه ما يلقى إليها من كلماته تعالى إذ لو بدا لها على الصورة الملَكيةِ لنفرَتْ منه ولم تستطع مفاوضتَه وأما ما قبل من أن ذلك لتهييج شهوتِها فتنحدر نطفتُها إلى رحمها فمع مخالفته لمقام بيانِ آثارِ القدرة الخارقةِ للعادة يكذبه قوله تعالى

18

(قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بالرحمن منك) فإنه شاهد عدْلٌ بأنه لم يخطُر ببالها شائبةُ ميل ما إليه فضلاً عما ذُكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتبِ الميل والشهوة نعم كان تمثيلُه على ذلك الحسنِ الفائقِ والجمالِ الرائقِ لابتلائها وسبْر عِفّتها ولقد ظهر منها من الورع والعَفافِ ما لا غايةَ وراءَه وذكرُه تعالى بعنوان الرحمانيةِ للمبالغة في العياذ به تعالى واستجلابِ آثارِ الرحمةِ الخاصة التي هي العصمةُ مما دهِمَها وقوله تعالى (إِن كُنتُ تَقِيّاً) أي تتقي الله تعالى وتبالي بالاستعاذة به وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة السياقِ عليه أي فإني عائذةٌ به أو فتعوّذْ بتعوذي أو فلا تتعرّضْ لي

19

(قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ ربك) يريد عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إِنّى لست ممن يُتوقّع منه ما توهّمتِ من الشر وإنما أنا رسولُ ربك الذي استعذتِ به (لأَهَبَ لَكِ غلاما) أي لأكون سبباً في هبته بالنفخ في الدِّرْع ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ حكاية لقوله تعالى ويؤيده القراءة بالياء والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتسليتِها والإشعارِ بعِلة الحُكم فإن هبةَ الغلامِ لها من أحكام تربيتها وفي بعض المصاحفِ أمرَني أن أهبَ لك غلاماً (زَكِيّاً) طاهراً من الذنوب أو نامياً على الخير أي مترقياً من سن إلى سن على الخير والصلاح

20

(قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غلام) كما وصفت (وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ) أي والحال أنه لم يباشرْني بالنكاح رجلٌ وإنما قيل بشرٌ مبالغةً في بيان تنزُّهها من مبادئ الولادة (وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً) عطف على لم يمسَسْني داخل معه في حكم الحالية مفصِحٌ عن كون المِساس عبارةً عن المباشرة بالنكاح أي ولم أكن فاجرةً تبغي الرجالَ وهي فَعولٌ بمعنى الفاعل أصلها بغُويٌ فأدغمت الواوُ بعد قلبها ياء في الياء وكسرت الغين للياء وقيل هي فعيل بمعنى الفاعل وإلا لقيل بَغُوٌّ كما يقال فلان نَهُوٌّ عن المنكر وإنما لم تلحَقْه التاءُ لأنها من باب النسب كطالق أو بمعنى المفعول أي يبغيها الرجالُ للفجور بها

21

(قال) أي

مريم 22 23 الملك تقرير لمقالته وتحقيقاً لها (كذلك) أي الأمر كما قالت لك وقوله تعالى (قَالَ رَبُّكِ) الخ استئنافٌ مقرِّر له أي قال ربك الذي أرسلني إليك (هُوَ) أي ما ذكرتُ لك من هبة الغلامِ من غير أن يمسَّك بشرٌ أصلاً (عَلَىَّ) خاصة (هَيّنٌ) وإن كان مستحيلاً عادة لما أنى أحتاج إلى الأسباب والوسائطِ وقوله تعالى (ولنجعله آية لّلْنَّاسِ) إما علةٌ لمعلَّلٍ محذوف أي ولنجعل وهْبَ الغلام آيةً لهم وبرهاناً يستدلون به على كمال قدرتِنا نفعل ذلك أو معطوفٌ على علة أخرى مضمَرةٍ أي لنبين به عِظَمَ قدرتِنا ولنجعله آية الخ والواو على الأول اعتراضيةٌ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإظهار كمالِ الجلالةِ (وَرَحْمَةً) عظيمةً كائنة (مِنَّا) عليهم يهتدون بهدايته ويسترشدون بإرشاده (وكان) ذلك (أمرامقضيا) مُحكماً قد تعلق به قضاؤنا الأزليُّ أو قُدّر وسُطّر في اللوح لا بد من جريانه عليك البتةَ أو كان أمراً حقيقيا بأن يقضى ويُفعلَ لتضمنّه حِكَماً بالغة

22

(فَحَمَلَتْهُ) بأن نفخ جبريلُ عليه الصلاة والسلام في دِرعها فدخلت النفخةُ في جوفها قيلَ إنَّه عليه الصلاةُ والسلام رفع دِرعَها فنفخ في جيبه فحمَلت وقيل نفخ عن بُعد فوصل الريحُ إليها فحملت في الحال وقيل إن النفحة كانت في فيها وكانت مدةُ حملها سبعةَ أشهر وقيل ثمانيةً ولم يعِشْ مولود وُضع لثمانية أشهر غيرُه وقيل تسعةَ أشهرٍ وقيل ثلاثَ ساعات وقيل ساعة كما حملت وضعتْه وسنُّها حينئذ ثلاثَ عشْرةَ سنةً وقيل عشرُ سنين وقد حاضت حيضتين {فانتبذت بِهِ} أي فاعتزلت وهو في بطنها كما في قوله ... تدوس بنا الجماجمَ والنريبا ... فالجارُّ والمجرور في حيز النصبِ على الحالية أي فانتبذت ملتبسةً به {مَكَاناً قَصِيّاً} بعيداً من أهلها وراء الجبل وقيل أقصى الدار وهو الأنسب بقصر مدة الحمل

23

{فَأَجَاءهَا المخاض} أي فألجأها وهو في الأصل منقول من جاء لكنه لم يستعمل في غيره كآتى في أعطى وقرئ المِخاض بكسر الميم وكلاهما مصدرُ مخِضَت المرأةُ إذا تحرك الولدُ في بطنها للخروج {إلى جِذْعِ النخلة} لتستتر به وتعتمد عليه عند الوِلادة وهو ما بين العِرْق والغصن وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خُضرة وكان الوقت شتاءً والتعريفُ إما للجنس أو للعهد إذا لم يكن ثمةَ غيرُها وكانت كالمتعالم عند الناس ولعله تعالى ألهمها ذلك ليُريَها من آياتها ما يسكّن رَوْعتها ويطعمها الرُّطَبَ الذي هو خُرْسةُ النُّفَساءِ الموافقة لها {قالت يا ليتني مّتَّ} بكسر الميمِ من مات يمات كخفت وقرئ بضمها من مات يموت {قَبْلَ هذا} أي هذا الوقتِ الذي لقِيتُ فيه ما لقِيت وإنما قالته مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريلُ عليهِ السَّلامُ من الوعد الكريم استحياءً من الناس وخوفاً من لائمتهم أو حِذاراً من وقوع الناس في المعصية بما تكلموا فيها أو جرياً على سَنن الصالحين عند اشتدادِ الأمر عليهم كما روي عن عمر رضيَ الله عنه أنَّه أخذ تِبْنةً من الأرض فقال يا ليتنى هذه التبنةُ ولم أكن شيئاً وعن بلال أنه قال ليت بلال لم تلده أمُّه {وَكُنتُ نَسْياً} أي شيئاً تافهاً شأنُه أن يُنسى ولا يعتد به أصلا وقرئ بالكسر قيل هما لغتان في ذلك كالوتر والوتر وقيل هو بالكسر اسمٌ لما يُنسى كالنِّقْض اسمٌ

مريم 24 26 لما يُنقض وبالفتح مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ مبالغةً وقرئ بهما مهموزاً من نسأتُ اللبن إذا صببتُ عليه الماء فصار مستهلَكاً فيه وقرئ نساً كعصاً {مَّنسِيّاً} لا يخطُر ببالِ أحدٍ من الناس وهو نعتٌ للمبالغة وقرئ بكسر الميم إتباعاً له بالسين

24

{فَنَادَاهَا} أي جبريلُ عليهِ السَّلامُ {مِن تَحْتِهَا} قيل إنه كان يقبل الولد وقيل من تحتها أي من مكان أسفلَ منها تحت الأكمة وقيل من تحت النخلة وقيل ناداها عيسى عليه السلام وقرئ فخاطبها مَنْ تحتَها بفتح الميم {ألا تَحْزَنِى} أي لا تحزني على أنَّ أنْ مفسرةٌ أو بأن لا تحزني على أنها مصدرية قد حذف عنها الجار {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ} أي بمكان أسفل منك وقيل تحت أمرِك إنْ أمرْتِ بالجري جرى وأن أمرت بالإمساك أُمسِك {سَرِيّاً} أي نهراً صغيراً حسبما روي مرفوعاً قال ابن عباس رضي الله عنه أنَّ جبريلَ عليهِ السَّلامُ ضرب برجله الأرضَ فظهرت عينُ ماء عذبٍ فجرى جدْولاً وقيل فعله عيسى عليه السلام وقيل كان هناك نهر يابسٌ أجرى الله عز وجل فيه الماءَ حينئذ كما فعل مثلَه بالنخلة فإنها كانت نخلةً يابسة لا رأسَ لها ولا ورق فضلاً عن الثمر وكان الوقت شتاءً فجعل الله لها إذ ذاك رأساً وخُوصاً وثمراً وقيل كان هناك ماءٌ جارٍ والأول هو الموافقُ لمقام بيانِ ظهورِ الخوارق والمتبادرُ من النظم الكريم وقيل سرياً أي سيدا نبيلا رفيعَ الشأن جليلاً وهو عيسى عليه السلام فالتنوينُ للتفخيم والجملة تعليل لانتفاء الحزْنِ المفهوم من النهي عنه والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيدِ التعليل وتكميلِ التسلية

25

{وهزي} هزُّ الشيء تحريكُه إلى الجهات المتقابلة تحريكاً عنيفا متداركا والمراد ههنا ما كان منه بطريق الجذبِ والدفعِ لقوله تعالى {إِلَيْكَ} أي إلى جهتك والباء في قوله عز وجل {بِجِذْعِ النخلة} صلةٌ للتأكيد كما في قوله تعالى وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ الخ قال الفراء تقول العرب هَزّه وهزّ بِه وأخذ الخطامَ وأخذ بالخطام أو لإلصاق الفعل بمدخولها أي افعلي الهز بجذعها أو هزي الثمرة بهزه وقيل هي متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعول الهز أي هزي إليك الرطب كائنا بجذعها {تساقط} أي تُسقِطِ النخلة {عَلَيْكَ} إسقاطاً متواتراً حسب تواتر الهز وقرئ تُسقِطْ ويُسقِط من الإسقاط بالتاء والياء وتتساقطْ بإظهار التاءين وتَساقطْ بطرح الثانية وتسّاقَطْ بإدغامها في السين ويَسّاقط بالياء كذلك وتسقُطْ ويسقُطْ من السقوط على أن التاء في الكل للنخلة والياء للجذع وقوله تعالى {رُطَباً} على القراءات الثلاث الأولى مفعول وعلى ولست البواقي تمييزٌ وقوله تعالى {جَنِيّاً} صفةٌ له وهو ما قُطع قبل يَبْسه فعيل بمعنى مفعول أي رطباً مجنياً أي صالحاً للاجتناء وقيل بمعنى فاعل أي طريا طيبا وقرئ جِنياً بكسر الجيم للاتباع

26

{فكلي واشربي}

مريم 27 29 أي ذلك الرطبَ وماءَ السَّريِّ أو من الرطب وعصيرِه {وَقَرّى عَيْناً} وطِيبي نفساً وارفضي عنها ما أحزنك وأهمك فإنه تعالى قد نزّه ساحتَك عما اختلج في صدور المتعبدين بالأحكام العادية بأن أظهر لهم من البسائط العنصريةِ والمركباتِ النباتية ما يخرِق العاداتِ التكوينيةَ ويرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرِك وقرئ وقِرّي بكسر القاف وهي لغة نجد واشتقاقُه من القرار فإن العينَ إذا رأت ما يسرّ النفسَ سكنت إليه من النظر إلى غيره أو من القَرّ فإن دمعةَ السرور باردةٌ ودمعةَ الحُزن حارة ولذلك يقال قُرّة العين وسُخْنةُ العين للمحبوب والمكروه {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً} أي آدمياً كائناً من كان وقرئ تَرئِنّ على لغة من يقول لبّأْتُ بالحج لما بين الهمزة والياءِ من التآخي {فَقُولِى} له إن استنطقك {إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} أي صمتاً وقد قرئ كذلك أو صياماً وكان صيامُهم بالسكوت {فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً} أي بعد أن أخبرتُكم بنذري وإنما أكلم الملائكةَ وأناجي ربي وقيل أُمِرت بأن تخبرَ بنذرها بالإشارة وهو الأظهرُ قال الفراء العربُ تسمِّي كلَّ ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريقٍ وصَل ما لم يؤكَّدْ بالمصدر فإذا أُكّد لم يكنْ إلا حقيقةُ الكلام وإنما أمرت بذلك لكراهة مجادلةِ السفهاء ومناقلتهم والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام فإنه نصٌّ قاطعٌ في قطع الطعن

27

{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا} أي جائتهم مع ولدها راجعة إليهم عندما طهرت من نفسها {تَحْمِلُهُ} أي حاملةً له {قَالُواْ} مؤنبين لها {يا مريم لَقَدْ جِئْتَ} أي فعلت {شَيْئاً فَرِيّاً} أي عظيماً بديعاً منكراً من فرَى الجلدَ أي قطعه أو جئتِ مجيئاً عجيباً عبر عنه بالشيء تحقيقاً للاستغراب

28

{يا أخت هارون} استئناف لتجديد التعبير وتأكيدِ التوبيخ عنَوا به هرون النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وكانت مِن أعقاب مَن كان معه في طبقة الأخوة وقيل كانت من نسله وكان بينهما ألف سنة وقيل هو رجلٌ صالح أو طالح كان في زمانهم شبّهوها به أي كنت عندنا مثله في الصلاح أو شتموها به {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} تقريرٌ لكون ما جاءت به فِرّياً منكراً وتنبيهٌ على أن ارتكابَ الفواحش من أولاد الصالحين أفحشُ

29

{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} أي إلى عيسى عليه السلام أنْ كلّموه والظاهر أنها حينئذ بينت نذرَها وأنها بمعزل عن محاورة الإنس حسبما أُمرت ففيه دلالةٌ على أن المأمورَ به بيانُ نذرها بالإشارة لا بالعبارة والجمعُ بينهما مما لا عهدَ به {قَالُواْ} منكرين لجوابها {كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى المهد صَبِيّاً} ولم نعهَد فيما سلف صبياً يكلمه عاقل وقيل كان لإيقاع مضمونِ الجملة في زمان ماضٍ مبهمٍ صالحٍ لقريبه وبعيده وهو ههنا لقريبه خاصة بدليل أنه مَسوقٌ للتعجب وقيل هي زائدة والظرفُ صلة مَنْ وصبياً حالٌ من المستكنِّ فيهِ أو هي تامة أو دائمة كما في قوله تعالى وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً

مريم

30

30 - 34 {قال} استئناف مبني على سؤال نشأ من سياق النظمُ الكريمُ كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك فقيل قال عيسى عليه السلام {إِنّى عَبْدُ الله} أنطقه الله عز وجل بذلك آثرَ ذي أثيرٍ تحقيقاً للحق وردًّا على من يزعُم ربوبيته قيل كان المستنطِقُ لعيسى زكريا عليهما الصلاة والسلام وعن السدي رضي الله عنه لما أشارت إليه غضِبوا وقالوا لَسُخرَيتُها بنا أشدُّ علينا مما فعلت وروي أنه عليه السلام كان يرضَع فلما سمع ذلك ترك الرَّضاعَ وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار إليهم بسبابته فقال ما قال الخ وقيل كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان {آتاني الكتاب} أي الإنجيلَ {وَجَعَلَنِى نَبِيّاً}

31

{وَجَعَلَنِى} مع ذلك {مُبَارَكاً} نفّاعاً معلِّماً للخير والتعبيرُ بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتومِ أو بجعل ما في شرَفِ الوقوعِ لا محالة واقعاً وقيل أكمله الله عقلا واستنباه طفلا {أين ما كُنتُ} أي حيثما كنت {واوصانى بالصلاة} أي أمرني بها أمرا مؤكدا {والزكاة} زكاةِ المال إن ملكتُه أو بتطهير النفسِ عن الرذائل {مَا دُمْتُ حَيّاً} في الدنيا

32

{وَبَرّاً بِوَالِدَتِى} عطفٌ على مباركاً أي جعلني بارًّا بها وقرئ بالكسرِ على أنهُ مصدرٌ وُصف به مبالغةً أو منصوبٌ بمضمر دل عليه أوصاني أي وكلفني بَرًّا ويؤيده القراءةُ بالكسر والجر عطفاً على الصلاة والزكاة والتنكيرُ للتفخيم {وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً} عنيداً لله تعالى لفَرْط تكبّره

33

{والسلام عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} كما هو على يحيى على أن التعريفَ للعهد والأظهرُ أنه للجنس والتعريضِ باللعن على أعدائه فإن إثباتَ جنسِ السلام لنفسه تعريضٌ بإثبات ضدِّه لأضداده كما في قوله تعالى والسلام على مَنِ اتبع الهدى فإنه تعريضٌ بأن العذابَ على من كذّب وتولى

34

{ذلك} إشارةٌ إلى من فُصّلت نعوتُه الجليلةُ وما فيه من معنى البعد للدِلالة على علو مرتبتِه وبُعد منزلتِه وامتيازِه بتلك المناقبِ الحميدةِ عن غيره ونزولِه منزلةَ المشاهَد المحسوس {عِيسَى ابن مَرْيَمَ} لا ما يصفه النصارى وهو تكذيبٌ لهم فيما يزعُمونه على الوجه الأبلغِ والمنهاج البرهانيِّ حيث جعله موصوفاً بأضداد ما يصفونه {قَوْلَ الحق} بالنصب على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لقال إني عبد الله الخ وقولُه تعالَى ذلك {عِيسَى ابن مَرْيَمَ} اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هُو قولُ الحق الذي لا ريب فيه والإضافةُ للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة وقيل صفةُ عيسى أو بدلُه أو خبر ثان

مريم 35 38 ومعناه كلمة الله وقرئ قالَ الحقِّ وقول الحق فإن القولَ والقال في معنى واحد {الذى فِيهِ يَمْتُرُونَ} أي يشكون أو يتنازعون فيقول اليهودُ ساحرٌ والنصارى ابن الله وقرئ بتاء الخطاب

35

{مَا كَانَ للَّهِ} أي ما صح وما استقام له تعالى {أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سبحانه} تكذيبٌ للنصارى وتنزيهٌ له تعالى عما بَهتوه وقوله تعالى {إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} تبكيتٌ لهم ببيان أن شأنه تعالى إِذَا قَضَى أَمْرًا من الأمور أن يعلِّق به إرادتَه فيكونَ حينئذ بلا تأخير فَمْن هذا شأنُه كيف يُتوهّم أن يكون له ولد وقرئ فيكونَ بالنصب على الجواب وقوله تعالى

36

{وَإِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} من تمام كلامِ عيسى عليه السلام قيلَ هُو عطفٌ على قوله إِنّى عَبْدُ الله داخلٌ تحت القول وقد قرئ بغير واو وقرئ بفتح الهمزة على حذف اللام أي ولأنه تعالى ربي وربُّكم فاعبُدوه كقوله تعالى وَأَنَّ المساجدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً وقيل معطوفٌ على الصلاة {هذا} أي الذي ذكرتُه من التوحيد {صراط مُّسْتَقِيمٍ} لا يضِلُّ سالكه والفاء في قوله تعالى

37

{فاختلف الأحزاب مِن بَيْنَهُمْ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها تنبيهاً على سوء صنيعِهم بجعلهم ما يوجب الاتفاقَ منشأً للاختلاف فإن ما حُكي من مقالات عيسى عليه السلام مع كونها نصوصاً قاطعةً في كونه عبدَه تعالى ورسولَه قد اختلفت اليهودُ والنصارى بالتفريط والإفراط أو فرّق النصارى فقالت النُّسطوريةُ هو ابنُ الله وقالت اليعقوبيةُ هو الله هبط إلى الأرض ثم صعِدَ إلى السماء تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً وقالت الملكانية هو عبدُ الله ونبيُّه {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} وهم المختلفون عبّر عنهم بالموصول إيذاناً بكفرهم جميعاً وإشعاراً بعلة الحُكم {مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي من شهود يومٍ عظيمِ الهول والحساب والجزاء وهو يومُ القيامة أو من وقت شهودِه أو من مكان الشهود فيه أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن يشهد عليهم الملائكةُ والأنبياءُ عليهم السلام وألسنتُهم وآذانُهم وأيديهم وأرجلُهم وسائرُ آرابِهم بالكفر والفسوق أو من وقت الشهادة أو من مكانها وقيل هو ما شِهدوا به في حق عيسى وأمِّه عليهما السلام {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} تعجّبٌ من حِدّة سمعِهم وأبصارِهم يومئذ ومعناه أن أسماعَهم وأبصارهم

38

{يَوْمَ يَأْتُونَنَا} للحساب والجزاء أي يوم القيامة جديرٌ بأن يُتعجَّب منها بعد أن كانوا في الدنيا صُمًّا عُمياً أو تهديدٌ بما سيسمعون ويُبصرون يومئذ وقيل أُمر بأن يُسمِعَهم ويُبصرهم مواعيدَ ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه والجار والمجرور على الأول في موقع الرفعِ وعلى الثاني في حيز النصب {لكن الظالمون اليوم} أي في الدنيا

مريم 39 42 {فِى ضلال مُّبِينٍ} لا تُدرك غايتُه حيث أغفلوا الاستماعَ والنظرَ بالكلية ووضعُ الظالمين موضعَ الضمير للإيذان بأنهم في ذلك ظالمون لأنفسهم

39

{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} أي يوم يتحسر الناسُ قاطبةً أما المسيءُ فعلى إساءته وأما المحسنُ فعلى قلة إحسانِه {إِذْ قُضِىَ الأمر} أي فُرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار روي أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم سُئلَ عنْ ذلِكَ فقالَ حين يجاء بالموت على صورة كبشٍ أملحَ فيذبح والفريقان ينظرون فينادي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت فيزداد أهلُ الجنة فرحاً إلى فرح وأهلُ النار غمًّا إلى غم وإذ بدلٌ من يومَ الحسرة أو ظرفٌ للحسرة فإن المصدرَ المعرّفَ باللام يعمل في المفعول الصريح عند بعضِهم فكيف بالظرف {وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ} أي عما يُفعل بهم في الآخرة {وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} وهما جملتان حاليتان من الضمير المستتر في قولِه تعالى فِى ضلال مُّبِينٍ أي مستقرون في ذلك وهم في تينك الحالتين وما بينهما اعتراضٌ أو من مفعول أنذِرْهم أي أنذرهم غافلين غيرَ مؤمنين فيكون حال متضمنةً لمعنى التعليل

40

{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} لا يبقى لأحد غيرِنا عليها وعليهم مُلكٌ ولا مَلِك أو نتوفى الأرضَ ومن عليها بالإفناء والإهلاك توَفيَ الوارثِ لإرثه {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أي يُردّون للجزاء لا إلى غيرنا استقلالاً أو اشتراكاً

41

{واذكر} عطف على أنذِرْهم {فِى الكتاب} أي في السورة أو في القرآن {إِبْرَاهِيمَ} أي اتلُ على الناس قصته وبلِّغها إياهم كقوله تعالى واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم فإنهم ينتمون إليه عليه السلام فعساهم باستماع قصته يُقلِعون عما هم في من القبائح {إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً} ملازماً للصدق في كلِّ ما يأتي ويذر أو كثيرَ التصديق لكثرة ما صدق به من غيوبَ الله تعالى وآياتِه وكتبَه ورسلَه والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل موجبِ الأمر فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكرِه {نَبِيّاً} خبرٌ آخرُ لكان مقيدٌ للأول مخصِّصٌ له كما ينبئ عَنْهُ قولِهِ تَعَالى مَن البيين والصديقين الآية أي كان جامعاً بين الصدّيقية والنبوة ولعل هذا الترتيبَ للمبالغة في الاحتراز عن توهم تخصيص الصديقية بالنوبة فإن كلَّ نبيَ صديقٌ

42

{إِذْ قَالَ} بدلُ اشتمالٍ من إبراهيمَ وما بينهما اعتراض مقرر لما قبله أو متعلق بكان أو بنبياً وتعليقُ الذكر بالأوقات مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيها من الحوادث قد مر سرُّه مرارا أي كان جامعاً بين الأثَرتين حين قال {لأبيه} آزر متطلفا في الدعوة مستميلاً له {يا أبت} أي يا أبي فإن التاء عوضٌ عن ياء الإضافة ولذلك لا يجتمعان وقد قيل يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ} ثناءَك عليه عند عبادتِك له وجؤارِك إليه {وَلاَ يَبْصِرُ} خضوعَك وخشوعَك بين يديه أولا يسمع ولا يبصر شيئاً من المسموعات والمُبصَرات فيدخُل في ذلك

مريم 43 45 ما ذكر دخولا أولياء {وَلاَ يُغْنِى} أي لا يقدرُ على أنْ يغنيَ {عَنكَ شَيْئاً} في جلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسنَ منهاجٍ وأقوم سبيل واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدبٍ وخلقٍ جميل لئلا يركبَ متنَ المكابرة والعناد ولا يُنكّبَ بالكلية عن مَحَجّة الرشاد حيث طَلب منه علةَ عبادتِه لِما يستخفّ به عقلُ كل عاقل من عالم وجاهل ويأبى الركون غليه فضلاً عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم مع أنها لا تحِقُّ إلا لمَنْ له الاستغناءُ التامُّ والإنعامُ العام الخالقِ الرازقِ المحيي المميتِ المثيبِ المعاقب ونبّه على أن العاقل يجب أن يفعلُ كلَّ ما يفعلُ لداعيةٍ صحيحة وغرضٍ صحيح والشيءُ لو كان حياً مميّزاً سميعاً بصيراً قادراً على النفع والضرِّ مطيقاً بإيصال الخير والشر لكن كان ممكِناً لاستنكف العقلُ السليمُ عن عبادته وإن كان أشرفَ الخلائق لما يراه مِثْلَه في الحاجة والانقيادِ للقدرة القاهرةِ الواجبة فما ظنُّك بجماد مصنوع من حجر أو شجر ليس له من أوصاف الإحياءِ عينٌ ولا أثرٌ ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديَه إلى الحق المبين لِما أنه لم يكن محظوظا من العلم الإلهي مستقلاً بالنظر السويّ مصدّراً لدعوته بما مر من الاستمالة والاستعطاف حيث قال

43

{يا أبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ} ولم يسِمْ أباه بالجهل المُفرِط وإن كان في أقصاه ولا نفسَه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل أبرز نفسه في صورة رفيقٍ له أعرفَ بأحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق حيث قال {فاتبعنى أَهْدِكَ صراطا سَوِيّاً} أي مستقيماً موصلاً إلى أسنى المطالب منجياً عن الضلال المؤدّي إلى مهاوي الردى والمعاطب ثم ثبّطه عما كان عليه بتصويره بصورة يستنكرها كلُّ عاقل ببيانِ أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلبٌ لضرر عظيم فإنه في الحقيقة عبادةُ الشيطان لِما أنه الآمرُ به فقال

44

{يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان} فإن عبادتك للأصنام عبادةٌ له إذ هو الذي يسو لهالك ويغريك عليها وقوله {إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} تعليلٌ لموجب النهي وتأكيدٌ له ببيان أنه مستعصٍ على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم ولا ريب أن المطيعَ للعاصي عاصٍ وكلُّ مَن هو عاصٍ حقيقٌ بأن يسترد منه النعم وينتقم منه والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ لزيادة التقرير والإقتصاد على ذكر عصيانه من بين سائر جناياتِه لأنه مَلاكُها أو لأنه نتيجةُ معاداتِه لآدمَ عليه السلام وذريته فتذكيرُه داعٍ لأبيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته والتعرضُ لعنوان الرحمانية لإظهار كمالِ شناعة عصيانِه وقوله

45

{يا أبت إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرحمن} تحذيرٌ من سوء عاقبةِ ما كان عليه من عبادة الشيطان وهو ابتلاؤُه بما ابتُليَ به معبودُه من العذاب الفظيع وكلمةُ مِن متعلقةٌ بمضمر وقع صفةً للعذاب مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافية وإظهارُ الرحمن للإشعار بأن وصفَ الرحمانية لا يدفع حلولَ العذاب كما في قوله عز وجل مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم {فَتَكُونَ للشيطان وَلِيّاً} أي قريناً له في اللعن المخلّد وذكرُ الخوف للمجاملة

مريم 46 47 وإبرازِ الاعتناء بأمره

46

{قَالَ} استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ أبوه عندما سمِع منه عليه السلام هذه النصائحَ الواجبةَ القَبولِ فقيل قال مُصرًّا على عِناده {أَرَاغِبٌ أنت عن آلهتي يا إبراهيم} أي أمُعرضٌ ومنصرفٌ أنت عنها بتوجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجب كأن الرغبةَ عنها مما لا يصدُر عن العاقل فضلاً عن ترغيب الغير عنها وقوله {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} تهديدٌ وتحذير عما كان عليه من العِظة والتذكير أي والله لئِن لَمْ تنته عما كنت عليه من النهي عن عبادتها لأرجُمنك بالحجارة وقيل باللسان {واهجرنى} أي فاحذَرْني واتركني {مَلِيّاً} أي زماناً طويلاً أو ملياً بالذهاب مطيقاً به

47

{قال} استئناف كما سلف {سلام عَلَيْكَ} توديعٌ ومُتارَكةٌ على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة أي لا أصيبك بمكروه بعدُ ولا أشافهك بما يؤذيك ولكن {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي} أي أستدعيه أن يغفر لك بأن يوفقك للتوبة ويهديَك إلى الإيمان كما يلوح به تعليلُ قوله تعالى واغفر لاِبِى بقولِه تعالَى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين والاستغفارُ بهذا المعنى للكافر قبل تبين أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه وإنما المحظورُ استدعاءُ المغفرة له مع بقائه على الكفر فإنه مما لا مساغَ له عقلاً ولا نقلاً وأما الاستغفارُ له بعد موته على الكفر فلا تأباه قضيةُ العقل وإنما الذي يمنعه السمعُ ألا يرى إلى أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمه أبي طالب لا أزال أستغفرُ لك ما لم أُنُهَ عنه فنزل قوله تعالى {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} الآية والاشتباه في أن هذا الوعدَ من إبراهيمَ عليه السلام وكذا قولُه لأستغفرن لك وما ترتب عليهما من قوله واغفر لاِبِى الآية إنما كان قبل انقطاعِ رجائِه عن إيمانه لعدم تبيّن أمرِه لقوله تعالى فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ كما مر في تفسير سورة التوبة واستثناؤه عما يؤتسى به في قوله تعالى إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ لا يقدح في جوازه لكن لا لأن ذلك كان قبل ورودِ النَّهيِ أو لموعِدة وعَدَهَا إياه كما قيل لما أن النهيَ إنما ورد في شأن الاستغفارِ بعد تبيّن الأمرِ وقد كان استغفارُه عليه السلام قبل التبيُّن فلم يتناولْه النهيُ أصلاً وأن الوعدَ بالمحظور لا يرفع خطره بل لأن المرادَ بما يُؤْتَسَى به ما يجبُ الائتساءُ بهِ حتماً لورودِ الوعيدِ على الإعراضِ عنه بقوله تعالى لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الاخر وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد فاستثناؤهُ عن ذلك إنما يفيدُ عدمَ وجوبِ استدعاء الإيمان للكافر المرجو إيمانُه لا سيما وقد انقطع ذلك عند ورودِ الاستثناء وذلك مما لا يتردد فيه أحدٌ من العقلاء وأما عدمُ جوازه قبل تبيّن الأمرِ فلا دِلالةَ للاستثناءِ عليهِ قطعاً وتوجيهُ الاستثناءِ إلى العِدَة بالاستغفارِ لا إلى نفسِ الاستغفارِ بقولِهِ واغفِر لاِبِى الآيةَ لأنها كانَتْ هي الحاملةَ له عليه السلام عليه وتخصيصُ تلك العِدَة بالذكر دون ما وقع ههنا لورودها على نهج التأكيدِ القسَميّ وأما جعلُ الاستغفارِ دائرة عليها وترتيبُ التبرُّؤ على تبين الأمرِ فقد مَرَّ تحقيقُه في تفسير سورة التوبة وقوله {إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً} أي بليغاً في البِرّ والإلطاف تعليلٌ لمضمون ما قبله

مريم

48

48 - 51 {وَأَعْتَزِلُكُمْ} أي أتباعد عنك وعن قومك {وَمَا تَدْعُون من دون الله} بالمهاجرة بديني حيث لم تؤثّرْ فيكم نصائحي {وَأَدْعُو رَبّى} أعبدُه وحده وقد جُوِّز أن يراد به دعاؤُه المذكورُ في تفسير سورةِ الشعراء ولا يبعُد أن يراد به استدعاءُ الولد أيضاً بقوله {رَبّ هَبْ لِى مِن الصالحين} حسبما يساعده السباق والسياق {عسى ألا أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا} أي خائباً ضائعَ السعي وفيه تعريضٌ بشقائهم في عبادة آلهتِهم وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضعِ ومراعاة حسنِ الأدب والتنبيهِ على حقيقة الحقِّ من أن الإجابةَ والإثابةَ بطريق التفضل منه عز وجل لا بطريق الوجوبِ وأن العبرةَ بالخاتمة وذلك من الغيوب المختصّةِ بالعليم الخبير ما لا يخفى

49

{فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} بالمهاجرة إلى الشام {وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ} بدلَ مَنْ فارقهم من أقربائه الكفرة لكن لا عَقيبَ المهاجرة فإن المشهورَ أن الموهوبَ حينئذ إسماعيلُ عليه السلام لقوله تعالى فبشرناه بغلام حَلِيمٍ إثرَ دعائِه بقولِه {رَبّ هَبْ لِى مِن الصالحين} ولعل ترتيبَ هِبتهما على اعتزاله ههنا لبيان كمالِ عِظَم النّعم التي أعطاها الله تعالى إياه بمقابلة مَن اعتزلهم من الأهل والأقرباء فإنها شجرتا الأنبياء لهما أولادٌ وأحفادٌ أوُلو شأنٍ خطير وذو عدد كثير هذا وقد رُوي أنه عليه السلام لما قصد الشام أتى أولاً حَرّان وتزوج بسارة وولدت له إسحق وولد لإسحق يعقوبُ والأولُ هو الأقربُ الأظهر {وَكُلاًّ} أي كلُّ واحدٍ منهما أو منهم وهو مفعولٌ أولٌ لقوله تعالى {جعلنا نبيا} قدم عليه للتخصيص لكن لا بالنسبة إلى من عداهم بل بالنسبة إلى بعضهم أي كلُّ واحد منهم جعلنا نَبِيّاً لا بعضَهم دون بعض

50

{وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا} هي النبوةُ وذكرُها بعد ذكر جعلِهم نبياً للإيذان بأنها من باب الرحمةِ وقيل هي المالُ والأولادُ ما بُسط لهم من سَعة الرزقِ وقيل هو الكتابُ والأظهر أنها عامةٌ لكل خير ديني ودنيويَ أُوتوه مما لم يُؤتَه أحدٌ من العالمين (وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً) يفتخر بهم الناسُ ويثنون عليهم استجابة لدعوة بقوله واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاخرين والمرادُ باللسان ما يوجد به الكلام ولسانُ العرب لغتُهم واضافته إلى إلى الصدق ووصفُه بالعلو للدلال على أنهم أحِقّاءُ بما يثنون عليهم وأن محامِدَهم لا تخفى على تباعد الأعصارِ وتبدُّل الدول وتحوُّل المِلل والنِحَل

51

(واذكر فِى الكتاب موسى) قُدّم ذكرُه على ذكر إسمعيل لئلا ينفصل عن ذكر يعقوبَ عليهما السلام (إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً) موحّداً أخلصَ عبادته عن الشرك والرواه أو أسلم وجهَه لله تعالى وأخلص نفسَه عما سواه وقرىء مخلَصاً على أن الله تعالى أخلصه (وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً) أرسله الله تعالى إلى الخلق فأنبهم عنه ولذلك قُدّم رسولاً مع كونه أخص وأعلى

سورة مريم 52 56

52

(وناديناه مِن جَانِبِ الطور الأيمن) الطورُ جبلٌ بين مصرَ ومدْيَنَ والأيمنُ صفةٌ للجانب أي ناديناه من ناحيته اليُمنى من اليمين وهي التي تلي يمينَ مُوسى عليه السلامُ أو من جانبه الميمونِ من اليُمن ومعنى ندائِه منه أنه له الكلامُ من تلك الجهة (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً) تقريبَ تشريفٍ مُثّل حالُه عليه السلام بحال من قرّبه المللك لمنا جاته واصطفاه لمصاحبته ونجياً أي مناجياً حالٌ منْ أحدِ الضميرينِ في ناديناه أو قربناه وقيل مرتفعاً لما روي أنه عليه السلام رفع فوق السموات حتى سمع صَريفَ القلم

53

(وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا) أي من أجل رحمتِنا ورأفتِنا له أو بعضِ رحماتنا (أَخَاهُ) أي معاضَدةَ أخيه ومؤزرته إجابةً لدعوته بقوله واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى هرون أخي لانفسه لأنه كان أكبرَ منه عليهما السلامُ وهو على الأولِ مفعولٌ لوهبنا وعلى الثاني بدل قوله تعالى (هرون) عطفُ بيانٍ له وقولُه تعالى (نَبِيّاً) حال منه

54

(واذكر في الكتاب إسمعيل) فُصّل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه لإبراز كمال الاعتناءِ بأمره بإيراده مستقلاً وقولُه تعالَى (إِنَّهُ كان صادق الوعد) تعليلٌ لموجب الأمر وإيرادك عليه السلام بهذا الوصف لكمال شهرتِه به وناهيك أنه وعَدَ الصبرَ على الذبح بقوله سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين فوفّى (وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً) فيه دلالةٌ على أن الرسولَ لا يجب أن يكون صاحبَ شريعةٍ فإن أولاد إبراهيمَ عليه السلام كانوا على شريعته

55

(وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة) اشتغالاً بالأهم وهو أن يُقْبل الرجلُ بالتكميل على نفسه ومن هو أقربُ الناس إليه قال تعالى وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقريين وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة قُواْ أنفسكم وأهليكم نارا وقصدا إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوةٌ يؤتسى بهم وقيل أهلُه أمتُه فإن الأنبياءَ عليهم السلام آباءُ الأمم (وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مرضيا) لا تصافه بالنعوت الجليلةِ التي من جملتها ما ذكر من خصاله الحميدة

56

(واذكر فِى الكتاب إِدْرِيسَ) وهو سِبطُ شَيْثٍ وجدُّ أبي نوحٍ فإنه نوحُ بن لمك بن متو شلح بنِ أُخنوخ وهو إدريسُ عليه السلام واشتقاقُه من الدّرس يُرده منعُ صرفِه نعم لا يبعُد أن يكون معناه في تلك اللغة قريباً من ذلك فلُقّب به لكثرة دراسته روي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفةً وأنه أول من حط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب (إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً) ملازماً للصدق في جميع أحوالِه (نَبِيّاً) خبرٌ آخرُ لكان مخصّصٌ للأول إذ ليس كلُّ صدّيق نبيا

سورة مريم 57 58

57

(ورفعنا مَكَاناً عَلِيّاً) هو شرفُ النبوة والزُّلفى عند الله عز وجل وقيل علوُّ الرتبة بالذكر الجميل في الدنيا كما في قوله تعالى وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ وقيل الجنة وقيل السماءُ السادسةُ أو الرابع روي عن كعب وغيره في سبب رفعِ إدريسَ عليه السلام أنه سُئل ذاتَ يوم في حاجة فأصابه وهَجُ الشمس فقال يا رب إني قد مشَيتُ فيها يوماً وقد أصابني منها وأصابني فكيف من يحمِلها مسيرةَ خمسِمائة عام في يوم واحد اللهم خففْ عنه من ثقلها وحرها فما أصبح المَلَك وجد من خفة الشمس وحرها مالا يعرف فقال يا رب ما الذي قضيت فيه قال إن عبدي إدريسَ سألني أن أخففَ عنك حَملَها وحرَّها فأجبتُه قال يا رب اجعل بيني وبينه خُلّةً فأذِن الله تعالى له فرفعه إلى السماء

58

(أولئك) إشارةٌ إلى المذكورين في السورة الكريمة وما فيه من معنى البعد للإشارة بعلو رتبهم منزلَتهِم في الفضلِ وهو مبتدأٌ وقوله تعالى (الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم) صفتُه أي أنعم عليهم بفنون النِعَم الدينيةِ والدنيويةِ حسبما أشير إليه مجملاً وقوله تعالى (مّنَ النبيين) بيان للموصول وقوله تعالى (مِن ذرية آدم) بدلٌ منه بإعادة الجارُّ ويجوز أن تكون كلمةُ من فيه للتبغيض لأن المنعَمُ عليهم أعمُّ من الأنبياء وأخصُّ من الذرية {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أي ومن ذرية مَنْ حملنا معه خصوصاً وهم مَنْ عدا إدريسَ عليه السلام فإن إبراهيمَ كان من ذرية سامِ بنِ نوح (وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم) وهم الباقون (وإسرائيل) عطفٌ على إبراهيمُ أي ومن ذرية إسرائيلَ وكان منهم موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام وفيه دليلٌ على أنَّ أولادَ البناتِ من الذرية (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينا أي ومن جملة من هديناهم إلى الحق واجتبيناهم للنبوة والكرامة وقولُه تعالَى (إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً) خبر لأولتك ويجوز أن يكون الخبرُ هو الموصول وهذا استئنا فامسوقا لبيان حشيتهم من الله تعالى وإخباتِهم له مع حالهم من علوّ الرتبة وسموِّ الطبقة في شرف النسَب وكمالِ النفس والزُلفى من الله عز سلطانه وسجّداً وبُكياً حالان من ضمير خروا أي ساجدين باكين عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم المو القرآن وابكُوا فإن لم تبكُوا فتباكوا والبُكِيُّ جمع باكٍ كالسُّجّد جمع ساجد وأصله بُكُويٌ فاجتمعت الواوُ والياء وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون فقُلبت الواو ياءو أدغمت الياء في الباء وحُرّكت الكافُ بالكسر المجانس للياء وقرىء يُتلى بالياء التحتانيةِ لأن التأنيثَ غيرُ حقيقي وقرىء بِكِيّاً بكسر الباء للإتباع قالوا ينبغي أن يدعوَ الساجد في سجدته بما يليق بآيتها فههنا يقول اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهدبين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك وفي آية الإسراء يقول اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك وفي آية التنزيل السجدة يقول اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك

سورة مريم

59

59 - 62 {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} يقال لعَقِب الخير خلفٌ بفتح اللام ولعقب شر خلْفٌ بالسكون أي فعقَبهم وجاء بعدهم عَقِبُ سوءٍ {أضاعوا الصلاة} وقرئ الصلواتِ أي تركوها أو أخّروها عن وقتها {واتبعوا الشهوات} من شرب الخمر واستحلالِ نكاحِ الأختِ من الأب والانهماكِ في فنون المعاصي وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه هم من بني المشيد وركب المنظور ولُبس المشهور {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} أي شراً فإن كلَّ شر عند العرب غيٌّ وكل خير رشادٌ كقوله فمن يلقَ خيراً يحمَدِ الناسُ أمرَه ... ومن يغولا يعدَمْ على الغي لائما وعن الضحاك جزاءَ غيَ كقوله تعالى {يَلْقَ أَثَاماً} أي جزاء أثام أو غياً عن طريق الجنة وقيل غَيٌّ وادٍ في جهنمَ تستعيذ منه أوديتُها وقوله تعالى

60

{إلا من تاب وآمن وَعَمِلَ صالحا} يدل على أن الآيةَ في حق الكفرة {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلةِ وما فيهِ منْ معنى البعدِ لما مرَّ مراراً أي فأولئك المنعوتون بالتوبة والإيمانِ والعمل الصالح {يَدْخُلُونَ الجنة} بموجب الوعد المحتوم وقرئ يُدْخَلون على البناءِ للمفعولِ {وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} أي لا يُنقصون من جزاء أعمالِهم شيئاً أو لا ينقصون شيئاً من النقص وفيه تنبيه على أن كفرَهم السابقَ لا يضرهم ولا ينقُص أجورَهم

61

{جنات عَدْنٍ} بدلٌ من الجنةَ بدلَ البعض لاشتمالها عليها وما بينهما اعتراضٌ أو نُصب على المدحِ وقرئ بالرفع على أنه خبرُ لمبتدأ محذوفٍ أي هي أو تلك جنات الخ أو مبتدأ خبره إلى وعد الخ وقرئ جنة عدْنَ نصباً ورفعاً وعدْنُ علمٌ لمعنى العَدْن وهو الإقامةُ كما أن فيْنةَ وسحرَ وأمسَ فيمن لم يصرِفها أعلامٌ لمعاني الفينةِ وهي الساعة التي أنت فيها والسحرِ والأمسِ فجرى لذلك مجرى العدْن أو هو علم الأرض الجنة خاصةً ولولا ذلك لما ساغ إبدالُ ما أضيف إليه من الجنة بلا وصفٍ عند غير البصريين ولا وصفة بقوله تعالى {التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ} وجعلُه بدلاً منه خلافُ الظاهر فإن الموصولَ في حكم المشتقّ وقد نصّوا على أن البدَل بالمشتق ضعيفٌ والتعرضُ لعنوان الرحمة للإيذان بأن وعدَها وإنجازَه لكمال سَعةِ رحمته تعالى والباء في قوله تعالى {بالغيب} متعلقةٌ بمضمرٍ هو حالٌ من المضمر العائدِ إلى الجنات أو من عباده أي وعدها إياهم ملتبسةً أو ملتبسين بالغيب أي غائبةً عنهم غيرَ حاضرة أو غائبين عنها لا يرَوْنها وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار أو بمضمر هو سبب للوعد أي وعدها إياهم بسبب إيمانِهم {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ} أي موعوده كائناً ما كان فيدخل فيه الجناتُ الموعودةُ دخولاً أولياً ولما كانت هي مثابةً يُرجَع إليها قيل {مَأْتِيّاً} أي يأتيه مَنْ وُعِد له لا محالة بغير خُلْف وقيل هو مفعولٌ بمعنى فاعل وقيل مأتياً أي مفعولاً مُنجَزاً من أتى إليه إحساناً أي فعَلَه

62

{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً}

أي فضولَ كلامٍ لا طائلَ تحته وهو كنايةٌ عن عدم صدورِ اللغوِ عن أهلها وفيه تنبيهٌ على أن اللغوَ مما ينبغي أن يُجتنَب عنه في هذه الدارِ ما أمكن {إِلاَّ سلاما} استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ يسمعون تسليمَ الملائكة عليهم أو تسليمَ بعضهم على بعض أو متصلٌ بطريق التعليقِ بالمُحال أي لا يسمعون لغواً ما إلا سلاما فيحث استحال كونُ السلامِ لغواً استحال سماعُهم له بالكليةِ كما في قولِه ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم ... بهن فُلولٌ من قراع الكتائبِ أو على أن معناه الدعاءُ بالسلامة وهم أغنياء عنه من باب اللغو ظاهراً وإنما فائدتُه الإكرامُ وقوله تعالى {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بكرة وعشيا} وأراد على عادة المتنعّمين في هذه الدار وقيل المرادُ دوامُ رزقِهم ودُرورُه وإلا فليس فيها بكرةٌ ولا عشيٌّ

63

{تِلْكَ الجنة} مبتدأٌ وخبرٌ جيء به لتعظيم شأنِ الجنةِ وتعيينِ أهلِها فإن ما في إسمِ الإشارةِ من معنى البعد للإيذان يبعد منزلتِها وعلوِّ رتبتها {التى نُورِثُ} أي نورثها {مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} أي نُبقيها عليهم بتقواهم ونمتّعهم بها كما نُبقي على الوارث مالَ مُورِّثه ونمتّعه به والوِراثةُ أقوى ما يستعمل في التملك والاستحقاق من الألفاظ من حيث إنها لا تُعقَبُ بفسخ ولا استرجاعٍ ولا إبطالٍ وقيل يُورَّث المتقون من الجنة المساكنَ التي كانت لأهل النار لو آمنوا وأطاعوا زيادةً في كرامتهم وقرئ نورّث بالتشديد

64

{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ} حكايةٌ لقول جبريلَ حين استبطأه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أصحاب الكهفِ وذي القرنين والروح فلم يدرِ كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه فأبطأ عليه أربعين يوماً أو خمسةَ عشرَ فشق ذلك عليه مشقةً شديدة وقال المشركون وَدَّعَه ربُّه وقلاه ثم نزل ببيان ذلك وأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآيةَ وسورة الضحى والتنزيل النزولُ على مَهل لأنه مطاوعٌ للتنزيل وقد يطلق على مطلق النزولِ كما يطلق التنزيلُ على الإنزال والمعنى وما نتنزل وقتاً غَبَّ وقتٍ إلا بأمر الله تعالى على ما تقتضيه حكمته وقرئ وما يَتنزَّل بالياء والضمير للوحي {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك} وهو ما نحن فيه من الأماكن والأزمنة ولا ينتقل من مكان إلى مكان ولا نتنزّل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} أي تاركاً لك يعني أن عدم النزول لم يكن إلا لعدم الأمر به لحكمة بالغةٍ فيه ولم يكن لتركه تعالى لك وتوديعِه إياك كما زعمَتِ الكفرة وفى إعادة اسمِ الربّ المُعربِ عن التبليغِ إلى الكمالِ اللائقِ مضافاً إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ من تشريفه والإشعار بعلة الحكم مالا يخفى وقيل أولُ الآية حكايةُ قولِ المتقين حين يدخُلون الجنة مخاطِباً بعضُهم بعضاً بطريق التبجّح والابتهاج والمعنى وما نتنزّل الجنةَ إلا بأمر الله تعالى ولطفه وهو مالكُ الأمورِ كلها أسالفها ومترقيها وحاضرِها فما وجدناه وما نجده من لطفه وفضلِه وقوله تعالى وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً تقريرٌ لقولهم من وجهة الله تعالى أي وما كان ناسياً لأعمال العاملين وما وعدهم من الثواب عليها وقوله تعالى

65

{رب السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} بيانٌ لاستحالة النسيان عليه تعالى

فإن مَن بيده ملكوتُ السموات والأرض وما بينهما كيف يُتصوَّر أن يحوم حول ساحة سبحانه الغفلةُ والنسيانُ وهو خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أو بدلٌ من ربك والفاء في قوله تعالى {فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ} لترتيب ما بعَدَها منَ موجب الأمرين على ما قبلها من كونه تعالَى ربَّ السمواتِ والأرضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وقيل من كونه تعالى غيرَ تارك له عليه السلام أو غيرَ ناس لأعمال العاملين والمعنى فحين عرفتَه تعالى بما ذُكر من الربوبية الكاملةِ فاعبده الخ فإن إيجابَ معرفته تعالى كذلك لعبادته مما لا ريبَ فيه أو حين عرفتَ أنه تعالى لا ينساك أو ينسى أعمالَ العاملين كائناً مَنْ كان فأقبِلْ على عبادته واصطبرْ على مشاقّها ولا تحزن بإبطاء الوحي وهُزْؤ الكفرةِ فإنه يراقبك ويراعيك ويلطُف بك في الدنيا والآخرة وتعديةُ الاصطبار باللام لا بحرف الاستعلاء كما في قوله تعالى {واصطبر عَلَيْهَا} لتضمينه معنى الثباتِ للعبادة فيما تورِد عليه من الشدائد والمشاقّ كقولك للمبارز اصطبرُ لِقَرنك أي اثبُت له فيما يورِد عليك من شدائده {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سميا} السمي هو الشريكُ في الاسم والظاهرُ أن يراد به ههنا الشريكُ في اسم خاص قد عُبِّر عنه تعالى بذلك وهو ربُّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا والمرادُ بإنكارُ العلم ونفيُه إنكار المعلوم ونفيه على أبلغ وجه وآكد فالجملةُ تقريرٌ لما أفاده الفاءُ من علّية ربوبيته العامةِ لوجوب عبادتِه بل لوجوب تخصيصها به تعالى ببيان استقلالِه عز وجل بذلك الاسمِ وانتفاءِ إطلاقِه على الغير بالكلية حقاً أو باطلاً وقيل المرادُ هو الشريكُ في الاسم الجليلِ فإن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسمّوا الصنم بالجلالة أصلاً وقيل هو الشريكُ في اسم الإله والمرادُ بالتسمية التسميةُ على الحق فالمعنى هل تعلم شيئاً يسمى بالاستحقاق إلها وأما التسميةُ على الباطل فهي كلا تسميةٍ فتقريرُ الجملة لوجوب العبادة باعتبار ما في الاسمين الكريمين من الإشعار باستحقاق العبادةِ فتدبر

66

{وَيَقُولُ الإنسان} المرادُ به إما الجنسُ بأسره وإسنادُ القول إلى الكل لوجود القولِ فيما بينهم وإن لم يقله الجميع كما يقال بنُو فلان قتلُوا فلاناً وإنما القاتلُ واحدٌ منهم وإما البعضُ المعهودُ منهم وهو الكفرةُ أو أُبيُّ بنُ خلف فإن أخذ عظاماً باليةً ففتّها وقال يزعُم محمد أنا نبعث بعد ما نموت ونصير إلى هذه الحال أي يقول بطريق الإنكار والإستبعاد {أئذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} أي أُبعث من الأرض أو من حال الموت وتقديمُ الظرف وإيلاؤه حرفَ الإنكار لما أن المنكرَ كونُ ما بعد الموت وقت الحياة وانتصابُه بفعل دل عليه أُخرجُ لا به فإن ما بعد اللام لا يعملُ فيما قبلَها وهي ههنا مخلَصةٌ للتوكيد مجرّدةٌ عن معنى الحال كما خلَصت الهمزةُ واللامُ للتعويض في يا ألله فساغ اقترانُها بحرف الاستقبال وقرئ إذا ما مِتّ بهمزة واحدة مكسورة على الخبر

67

{أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإنسان} من الذكر الذي يراد به التفكرُ والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لزيادة التقريرِ والإشعارِ بأن الإنسانيةَ من دواعي التفكرِ فيما جرى عليه من شئون التكوينِ المُنْحِية بالقلع عن القول المذكور وهو السرفي إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان والهمزةُ للإنكار التوبيخيِّ والواوُ

لعطف الجملة المنفيةِ على مقدر يدلُّ عليه يقول أي أيقول ذلك ولا يذكر {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ} أي من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالةُ بقائِه {وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} أي والحالُ أنه لم يكن حينئذ شيئاً أصلاً فحيث خلقناه وهو في تلك الحالةِ المنافيةِ للخلق بالكلية مع كونه أبعدَ من الوقوع فلأَنْ نَبعثَه بجمع الموادِّ المتفرِّقة وإيجادِ مثلِ ما كان فيها من الأعراض أولى وأظهر فماله لا يذكُره فيقعَ فيما يقع فيه من النكير وقرئ يذّكّر ويتذكر على الأصل

68

{فَوَرَبّكَ} إقسامُه باسمه عزّت أسماؤه مضافاً إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ لتحقيق الأمرِ بالإشعار بعلّيته وتفخيمِ شأنِه صلى الله عليه وسلم ورفع منزلته {لنحشرنهم} أي لنجمعَن القائلين بالسَّوق إلى المحشر بعد ما أخرجناهم من الأرض أحياءً ففيه إثباتٌ للبعث بالطريق البرهانيّ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه كأنه أمرٌ واضحٌ غنيٌ عن التصريح به وإنما المحتاجُ إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال {والشياطين} معطوفٌ على الضمير المنصوبِ أو مفعولٌ معه روي أن الكفرةَ يُحشرون مع قرنائهم من الشياطين التي كانت تُغْويهم كلٌّ منهم مع شيطانه في سلسلة وهذا وإن كان مختصاً بهم لكن ساغ نسبتُه إلى الجنس باعتبار أنهم لما حُشروا وفيهم الكفرةُ مقرونين بالشياطين فقد حشروا معهم جميعاً كما ساغ نسبة القول المحكيّ إليه مع كون القائل بعضَ أفراده {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} ليرى السعداءُ ما نجاهم الله تعالى منه فيزدادوا غِبطةً وسروراً وينالَ الأشقياءُ ما ادخّروا لِمَعادهم عُدّةً ويزدادوا غيظاً من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب وشماتتِهم بهم والجِثيُّ جمع جاثٍ من جثا إذا قعد على ركبتيه وأصله جثو وبواوين فاستُثقل اجتماعُهما بعد ضمتين فكسرت الثاء لتخفيف فانقلبت الواو الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فاجتمعت واو وياء وسبق إحداهما بالسكون فقُلبت الواوُ ياءً وأُدغمت فيها الياء الأولى وكُسرت الجيم إتباعاً لما بعدها وقرئ بضمها ونصبُه على الحالية من الضمير البارز أي لنُحضرنهم حول جهنم جاثين على رُكَبهم لما يدهَمُهم من هول المطلَعِ أو لأنه من توابع التواقُفِ للحساب قبل التواصُل إلى الثواب والعقاب فإن أهلَ الموقف جاثون كما ينطِق به قوله تعالى وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً على ما هو المعتادُ في مواقف التقاول وإن كان المرادُ بالإنسان الكفرةَ فلعلهم يساقون من الموقف إلى شاطئ جهنم جُثاةً إهانةً بهم أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من الشدة

69

{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ} أي من كل أمة شاعت ديناً من الأديان {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً} أي مَنْ كان منهم أعصى وأعتى فنطرَحهم فيها وفي ذكر الأشدّ تنبيهٌ على أنه تعالى يعفو عن بعضٍ من أهل العصيان وعلى تقدير تفسير الإنسانِ بالكفرة فالمعنى إنا نميز من كل طائفةٍ منهم أعصاهم فأعصاهم وأعتاهم فأعتاهم فنطرحهم في النار على الترتيب أو نُدخل كلاًّ منهم طبقتَها اللائقةَ به وأيُّهم مبنيٌّ على الضم عند سيبويه لأن حقه أن يُبنى كسائر الموصولاتِ لكنه أُعرب حملاً على كلٍ وبعض للزوم الإضافة وغذا حُذف صدرُ صلتِه زاد نقصُه فعاد إلى حقه ومنصوب المحل بننزعن ولذلك قرئ منصوباً ومرفوعٌ عند غيره بالابتداء

على أنه استفهاميٌّ وخبرُه أشدُّ والجملةُ محكيةٌ والتقديرُ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ الذين يقال لهم أيُّهم أشدُّ أو مُعلّقٌ عنها لننزعن لتضمّنه معنى التمييزِ اللازمِ للعلم أو مستأنفةٌ والفعل واقعٌ على كل شيعة على زيادة من أو على معنى لننزعن بعض كل شيعة كقوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا وعلى للبيان فيتعلق بمحذوف كأنّ سائلاً قال على مَنْ عتَوا فقيل على الرحمن أو متعلقٌ بأفعل وكذا الباءُ في قوله تعالى مريم

70

70 - 73 {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} أي هم أولى بصلبها أو صليهم أولى بالنار وهم المنتزَعون ويجوز أن يراد بهم وبأشدهم عتيا رؤساء الشيعة فإن عذابَهم مضاعفٌ لضلالهم وإضلالهم والصِّليُّ كالعِتيّ صيغةً وإعلالا وقرئ بضم الصاد

71

{وَإِن مّنكُمْ} التفاتٌ لإظهار مزيدِ الاعتناءِ بمضمون الكلامِ وقيل هو خطابٌ للناس من غير التفاتٍ إلى المذكور ويؤيد الأولَ أنه قرئ وإن منهم أي ما منكم أيها الإنسانُ {إِلاَّ وَارِدُهَا} أي واصلُها وحاضرٌ دونها يمرّ بها المؤمنون وهي خامدة وتهار بغيرهم وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم سئل عنه فقال إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ قال بعضُهم لبعض أليس قد وعدنا ربنا أن نرِدَ النار فيقال لهم قد وردتُموها وهي خامدةٌ وأما قولُه تعالى {أُوْلَئِكَ عنها مبعدون} فالمراد به الإبعادُ عن عذابها وقيل ورودُها الجوازُ على الصراط الممدودِ عليها {كَانَ} أي ورودُهم إياها {على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} أي أمراً محتوما أوجبه الله عزَّ وجلَّ على ذاته وقضى أنه لا بد من وقوعه البتة وقيل أقسم عليه

72

{ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا} الكفرَ والمعاصيَ مما كانوا عليه من حال الجُثُوّ على الركب على الوجه الذي سلف فيُساقون إلى الجنة وقرئ نُنْجي بالتخفيف ويُنْجي وينجَى على البناء للمفعول وقرئ ثَمةَ نُنجّي بفتح الثاء أي هناك ننجيهم {وَّنَذَرُ الظالمين} بالكفر والمعاصي {فِيهَا جِثِيّاً} منهاراً بهم كما كانوا قيل فيه دليلٌ على أنَّ المراد بالورود الجثُوُّ حواليها وأن المؤمنين يفارقون الفجرةَ بعد تجاثيهم حولها ويُلقى الفجرةُ فيها على هيآتهم وقوله تعالى

73

{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ} الآية إلى آخرها حكايةٌ لما قالوا عند سماعِ الآياتِ الناعية عليهم فظاعةَ حالِهم ووخامةَ مآلِهم أي وإذا تتلى على المشركين {آياتِنا} التي من جملتها هاتيك الآياتُ الناطقةُ بحسن حالِ المؤمنين وسوءِ حالِ الكفرةِ وقوله تعالى {بينات} أي مِرتّلاتِ الألفاظ مبيَّناتِ المعاني بنفسها أو ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم أو بيِّناتِ الإعجاز حالٌ مؤكدةٌ من آياتنا {قَالَ الذين كَفَرُواْ} أي قالوا ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يتلى عليهم رادّين له أو قال الذين مرَدوا منهم على الكفر ومرَنوا على العتوّ والعِناد وهم النضر بن الحرث وأتباعُه

الفجرةُ واللام في قوله تعالى {للذين آمنوا} للتبليغ كما في مثلِ قولِه تعالى وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ وقيل لامُ الأجْل كما في قوله تعالى وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ أي قالوا لأجلهم وفي حقهم والأولُ هو الأولى لأن قولهم ليس في حق المؤمنين فقط كما ينطِق به قوله تعالى {أَىُّ الفريقين} أيُّ المؤمنين والكافرين كأنهم قالوا أينا {خَيْرٌ} نحن أو أنتم {مَقَاماً} أي مكانا وقرئ بضم الميم أي موضِعَ إقامةٍ ومنزلٍ {وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} أي مجلِساً ومجتمَعاً يروى أنهم كانوا يرجّلون شعورَهم ويدهنونها ويتطيبون ويتزينون بالزين الفاخر ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين يريدون بذلك أن خيريتهم حالا وأحسنيتهم منالا مما لا يقبل الإنكارَ وأن ذلك لكرامتهم على الله سبحانه وزُلْفاهم عنده إذ هو العيارُ على الفضل والنقصانِ والرفعة والضَّعة وأن من ضرورته هوانَ المؤمنين عليه تعالى لقصور حظِّهم العاجلِ وما هذا القياسُ العقيمُ والرأيُ السقيم إلا لكونهم جهَلةً لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا وذلك مبلغُهم من العلم فرُدَّ عليهم ذلك من جهته تعالى بقوله

74

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئيا} أي كثيراً من القرون التي كانت أفضلَ منهم فيما يفتخرون به من الحظوظ الدنيوية كعادٍ وثمودَ وأضرابِهم من الأمم العاتيةِ قبل هؤلاء أهلكناهم بفنون العذاب ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا لما فعلْنا بهمْ مَا فعلنَا وفيه من التهديد والوعيد مالا يخفى كأنه قيل فينتظر هؤلاءِ أيضاً مثلَ ذلك فكم مفعولُ أهلكنا ومِن قرنٍ بيانٌ لإبهامها وأهلُ كل عصرٍ قَرنٌ لمن بعدهم لأنهم يتقدّمونهم مأخوذٌ من قَرْن الدابة وهو مقدّمها وقوله تعالى {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً} في حيز النصبِ على أنه صفةٌ لِكم وأثاثاً تمييزُ النسبة وهو متاعُ البيت وقيل هو ما جد منه والخرئي مالبس منه ورث والرثى المنظرُ فِعْلٌ من الرؤية لما يُرَى كالطِّحْن لما يطحن وقرئ رِيًّا على قلب الهمزة ياءً وإدغامِها أو على أنه من الرِّيّ وهو النعمة والترفه وقرئ ريئاً على القلب ورِيَا بحذف الهمزة وزَيا بالزاي المعجمة من الزَّيّ وهو الجمعُ فإنه عبارةٌ عن المحاسن المجموعة

75

{قُلْ مَن كَانَ فِى الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} لما بيّن عاقبةَ أمرِ الأمم المهلَكة مع ما كانَ لَهُم منْ التمتع بفنون الحظوظِ العاجلة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب هؤلاء المفتخِرين بما لهم من الحظوظ ببيان مآلِ أمر الفريقين إما على وجه كليَ متناولٍ لهم ولغيرهم من المنهمكين في اللَّذة الفانية المبتهجين بها على أن مَن على عمومها وإما على وجه خاصَ بهم على أنها عبارةٌ عنهم ووصفُهم بالتمكن لذمِّهم والإشعارِ بعلةِ الحُكم أي مَنْ كان مستقراً في الضلالة مغموراً بالجهل والغَفلةِ عن عواقب الأمورِ فليمدُد له الرحمن أي يمدله ويُمهِله بطول العمُرِ وإعطاءِ المال والتمكينِ من التصرفات وإخراجُه على صيغة الأمر للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحِكمة لقطع المعاذير كما ينبئ عنه قولُه عزَّ وجلَّ {أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ} مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ أو للاستدراج كما ينطق به

قولِه تعالى إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وقيل المرادُ به الدعاءُ بالمد والتنفيس وعلى اعتبار الاستقرارِ في الضلال لما أن المد لا يكون إلا للمُصِرّين عليها إذ رُبّ ضالَ يهديه الله عز وجل والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن المد من أحكام الرحمة الدنيوية وقولُه تعالى {حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} غايةٌ للمدّ الممتدِّ لا لقول المفتخِرين كما قيل إذ ليس فيه امتدادٌ بحسب الذات وهو ظاهرٌ ولا استمرارٌ بحسب التكرار لوقوعه في حيّز جوابِ إذا وجمعُ الضميرِ في الفعلينِ باعتبارِ معنى مَنْ كما أن الإفراد في الضميرين الأولين باعتبارِ لفظِها وقولُه تعالَى {إما العذاب وَإِمَّا الساعة} تفصيلٌ للموعود بدلٌ منه على سبيل البدل فإنه إما لعذاب الدنيويُّ بغلَبة المسلمين واستيلائِهم عليهم وتعذيبهم إياهم قتلاً وأسْراً وإما يومُ القيامة وما نالهم فيه من الخزي والنَّكالُ على طريقة منع الخلوّ دون منع الجواب فإن العذابَ الأخرويَّ لا ينفك عنهم بحال وقوله تعالى {فَسَيَعْلَمُونَ} جوابُ الشرط والجملةُ محكيةٌ بعد حتى أي حتى إذا عاينوا مَا يُوعَدُونَ من العذابِ الدنيويِّ أو الأخرويِّ فقط فسيعلمون حينئذ {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً} من الفريقين بأن يشاهدوا الأمرَ على عكس ما كانوا يقدّرونه فيعلمون أنهم شرٌ مكاناً لا خيرٌ مقاماً {وَأَضْعَفُ جندا} أي فئة وأنصار ألا أحسنُ ندِياً كما كانوا يدّعونه وليس المرادُ أن له ثمّةَ جنداً ضعفاءَ كلا وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً وإنما ذُكر ذلك رداً لما كانوا يزعمون أن لهم أعواناً من الأعيان وأنصاراً من الأخيار ويفتخرون بذلك في الأندية والمحافل

76

{وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان حال المهتدين إثرَ بيانِ حال الضالين وقيل عطفٌ على فليمدُدْ لأنه في معنى الخبر حسبما عرفته كأن قيل مَن كان في الضلالة يمُده الله ويزيد المهتدين هدايةً كقوله تعالى والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وقيل عطفٌ على الشرطية المحكية بعد القول كأنه لما بين أن إمهالَ الكافر وتمتيعَه بالحياة ليس لفضله عقّب ذلك ببيان أن قصورَ حظّ المؤمنِ منها ليس لنقصه بل لأنه تعالى أراد به ما هو خيرٌ من ذلك وقوله تعالى {والباقيات الصالحات خَيْرٌ} على تقديرَي الاستئنافِ والعطف كلامٌ مستأنفٌ واردٌ من جهته تعالى لبيان فضل أعمالِ المهتدين غيرُ داخلٍ في حيز الكلام الملقّن لقوله تعالى {عِندَ رَبّكَ} أي الطاعات التي تبقى فوائدُها وتدوم عوائدُها ومن جملتها ما قيل من الصلوات الخمس وما قيل من قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خيرٌ عند الله تعالَى والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره لتشريفه صلى الله عليه وسلم {ثَوَاباً} أي عائدةً مما يَتمتّع به الكفرةُ من النعم المُخدَجةِ الفانية التي يفتخرون بها لا سيما ومآلُها النعيمُ المقيمُ ومآلُ هذه الحسرةِ السرمدية والعذاب الأليم كما أشير إليه بقوله تعالى {وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} أي مرجعا وعافية وتكريرُ الخيرِ لمزيد الاعتناءِ ببيان الخيريةِ وتأكيدٌ لها وفي التفضيل مع أن ما للكفرة بمعزل من أن يكون له خيرية في العاقة تهكّمٌ بهم

77

{أفرأيت الذي كفر بآياتنا}

أي بآياتنا التي من جملتها آياتُ البعث نزلتْ في العاصِ بنِ وائلٍ كان لخبّابٍ بنِ الأرتّ عليه مالٌ فاقتضاه فقال لا حتى تكفرَ بمحمد قال لا والله لا أكفرُ به حياً ولا ميْتاً ولا حين بُعِثتُ قال فإذا بعثت جئني فيكونُ لي ثمّةَ مالٌ وولدٌ فأعطِيَك وفي رواية قال لا أكفر به حتى يُميتك ثم تُبعثَ فقال إني لميِّتٌ ثم مبعوثٌ قال نعم قال دعني حتى أموتَ وأُبعث فسأوتى مالاً وولداً فأقضيَك فنزلت فالهمزةُ للتعجيب من حاله والإيذانِ بأنها من الغرابة والشناعةِ بحيث يجب أن تُرى ويُقضَى منها العجب ومن فرّق بين ألم ترو إلى أرأيت بعد بيان اشتراكِهما في الاستعمال لقصد التعجيبِ بأن الأولَ يعلّق بنفس المتعجبِ منه فيقال أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى صنع كذا بمعنى انظُرْ إليه فتعجَّبْ من حاله والثاني يعلّق بمثل المتعجَّب منه فيقال أرأيتَ مثْلَ الذي صنع كذا بمعنى أنه من الغرابة بحيث لا يُرى له مِثْلٌ فقد حفِظ شيئاً وغابت عنه أشياءُ وكأنه ذهب عليه قوله عز وجل أرأيت الذى يُكَذّبُ بالدين والفاءُ للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أنظَرْتَ فرأيتَ الذي كفر بآياتنا الباهرةِ التي حقُّها أن يؤمِنَ بها كلُّ من يشاهدها {وقال} مستهزئا بها مصدر لكلامه باليمن الفاجرةِ والله {لأُوتَيَنَّ} في الآخرة {مَالاً وَوَلَدًا} أي انظر إليه فتعجب من حالته البديعة وجراءته الشنيعة هَذَا هُو الذي يستدعيه جزالةُ النظمِ الكريمِ وقد قيل إن أرأيت بمعنى أخبِرْ والفاءُ على أصلها والمعنى أخبِرْ بقصة هذا الكافرِ عقيبَ حديثِ أولئك الذين قالوا أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً الآية وأنت خبيرٌ بأن المشهورَ استعمال أرأيت في معنى أخبرني بطريق الاستفهامِ جارياً على أصله أو مُخْرَجاً إلى ما يناسبه من المعاني لا بطريق الأمر بالإخبار لغيره وقرئ وُلْداً على أنه جمع وَلد كأُسْد جمعُ أسد أو على أنه لغة فيه كالعُرْب والعَرَب وقوله تعالى

78

{أَطَّلَعَ الغيب} ردٌّ لكلمته الشنعاء وإظهارٌ لبطلانها إثرَ ما أشير إليه بالتعجيب منها أي أقد بلغ من عظمة الشأنِ إلى أن ارتقى إلى علم الغيب الذي استأثر به العليمُ الخبير حتى ادعى أن أن يؤتى في الآخرة مالاً وولداً وأقسم عليه {أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} بذلك فإنه لا يُتوصَّل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين والتعرضُ لعنوان الرحمانية للإشعار بعلية لإيتاء ما يدّعيه وقيل العهدُ كلمةُ الشهادة وقيل العملُ الصالح فإن وعدَه تعالى بالثواب عليهما كالعهد وهذا مجاراةٌ مع اللعين بحسب منطوقِ مقالِه كما أن كلامَه مع خبّاب كان كذلك وقوله تعالى

79

{كَلاَّ} ردعٌ لهُ عنْ التفوّه بتلك العظيمةِ وتنبيهٌ على خطئه {سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} أي سنُظهر أنا كتبنا قوله كقوله ... إذا ما نتسبنا لم تلدني لئيمة ... أي يتبينُ أني لم تلدني لئيمة أو سننتقم منه انتقامَ مَنْ كتب جريمةَ الجاني وحفِظها عليه فإن نفس الكتيبة لا تكاد تتأخر عن القول لقوله عز وعلا مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ فمبنى الأولِ تنزيلُ إظهارِ الشيءِ الخفيِّ منزلةَ إحداثِ الأمرِ المعدومِ بجامع أن كلاًّ منهما إخراجٌ من الكُمون إلى البروز فيكون استعارةً تبعيةً مبنية على تشبيه إظهارِ الكتابة على رءوس الأشهاد بإحداثها ومدارُ الثاني تسميةُ الشيء باسم سببِه فإن

مريم 79 82 كتابةَ جريمةِ المجرمِ سببٌ لعقوبته قطعاً {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} مكانَ ما يدّعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد أي نطوّل له من العذاب ما يستحقه أو نزيد عذابه ونضاعفه له لكُفره وافترائِه على الله سبحانه واستهزائِه بآياته العِظام ولذلك أُكّد بالمصدر دَلالةً على فرط الغضب

80

{وَنَرِثُهُ} بموته {مَا يَقُولُ} أي مسمَّى ما يقول ومصداقَه وهو ما أوتيه في الدنيا من المال والولد وفيه إيذانٌ بأنه ليس لما يقوله مصداقٌ موجودٌ سوى ما ذكر أي ننزِع عنه ما آتيناه {وَيَأْتِينَا} يوم القيامة {فَرْداً} لا يصحبه مالٌ ولا ولدٌ كان له في الدنيا فضلاً أن يؤتى ثمةَ زائداً وقيل نزوي عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة ونعطيه ما يستحقه ويأباه معنى الإرث وقيل المرادُ بما يقول نفسُ القول المذكور لا مسمّاه والمعنى إنما يقول هذا القولَ ما دام حياً فإذا قبضناه حُلْنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضاً له منفرداً عنه وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ مبنيٌّ على أن صدورَ القول المذكورِ عنه بطريق الاعتقادِ وأنه مستمرٌّ على التفوّه به راجٍ لوقوع مضمونِه ولا ريب في أن ذلك مستحيلٌ ممن كفر بالبعث وإنما قال ما قال بطريق الاستهزاء وتعليقِ أداءِ دَيْنه بالمُحال

81

{واتخذوا مِن دُونِ الله آلهة} حكايةٌ لجناية عامةٍ للكل مستتبعة لضد ما يرجعون ترتّبه عليها إثرَ حكاية مقالةِ الكافرِ المعهودِ واستتباعِها لنقيض مضمونِها أي اتخذوا الأصنامَ آلهةً متجاوزين الله تعالى {لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً} أي ليتعززوا بهم بأن يكونوا لهم وصلة إليه عز وجل وشفعاءَ عنده

82

{كَلاَّ} ردعٌ لهم عن ذلك الاعتقاد الباطل وإنكارٌ لوقوع ما علّقوا به أطماعَهم الفارغةَ {سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم} أي ستجحد الآلهةُ بعبادتهم لها بأن يُنطِقَها الله تعالى وتقولَ ما عبدتمونا أو سينكر الكفرةُ حين شاهدوا سوءَ عاقبة كفرهم عبادتَهم لها كما في قولِهِ تعالى والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ومعنى قوله تعالى {وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} على الأول تكون الآلهةُ التي كانوا يرجون أن تكون لهم عِزاً ضدّاً للعز أي ذلا وهوانا أو تكون عوناً عليهم وآلةً لعذابهم حيث تُجعل وقود النار وحصب جنهم أو حيث كانت عبادتُهم لها سبباً لعذابهم وإطلاقُ الضدِّ على العَون لما أن عَونَ الرجل يُضادُّ عدوَّه وينافيه بإعانته له عليه وعلى الثاني يكون الكفرة ضدا وأعداء اللآلهة كافرين بها بعد أن كانوا يحبونها كحب الله ويعبُدونها وتوحيدُ الضدِّ لوَحدة المعنى الذي عليه تدور مُضادّتُهم فإنهم بذلك كشيء واحدٍ كما في قولِه عليه السلام وهم يدٌ على من سواهم وقرئ كَلاًّ بفتح الكاف والتنوين على قلب الألفِ نوناً في الوقف قلْبَ ألفِ الإطلاق في قوله أقِليِّ اللومَ عاذِلَ والعِتابَن ... وقولي إن أصبتُ لقد أصابنْ أو على معنى كَلَّ هذا الرأي كلا وقرئ كلاّ على إضمار فعل يفسِّره ما بعده أي سيجحدون كلاّ سيكفرون الخ

مريم

83

83 - 87 {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين} تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما نطَقت به الآياتُ الكريمةُ السالفةُ وحكتْه عن هؤلاء الكفرة والغواة والمَرَدةِ العُتاةِ من فنون القبائِح من الأقاويل والأفاعيلِ والتمادي في الغي والانهماكِ في الضلال والإفراطِ في العِناد والتصميمِ على الكفر من غير صارف يلويهم ولا عاطفٍ يثنيهم والإجماعِ على مدافعة الحقّ بعد اتضاحِه وانتفاءِ الشك عنه بالكلية وتنبيهٌ على أن جميعَ ذلك منهم بإضلال الشياطينِ وإغوائِهم لا لأن له مسوِّغاً ما في الجملة ومعنى إرسالِ الشياطينِ عليهم إما تسليطُهم عليهم وتمكينُهم من إضلالهم وإما تقييضُهم لهم وليس المرادُ تعجيبَه عليه السلام من إرسالهم عليهم كما يوهمه تعليقُ الرؤية به بل مما ذُكر من أحوال الكفرةِ من حيث كونُها من آثار إغواءِ الشياطينِ كما ينبئ عنه قوله تعالى {تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} فإنه إمَّا حالٌ مقدّرةٌ منْ الشياطين أو استئنافٌ وقعَ جَواباً عما نشأ من صدر الكلام كأنه قيل ماذا يفعل الشياطينُ بهم حينئذ فقيل تؤزّهم أي تُغريهم وتُهيّجهم على المعاصي تهييجاً شديداً بأنواع الوساوسِ والتسويلات فإن الأزَّ والهزّ والاستفزازَ أخواتٌ معناها شدةُ الإزعاج

84

{فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} أي بأن يُهلَكوا حسبما تقتضيه جناياتُهم ويَبيدوا عن آخرهم وتطهُرَ الأرض من فساداتهم والفاء للإشعار بكون ما قبلها مظلة لوقوع المنهي عنه مُحوِجةً إلى النهي كما في قوله تعالى إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة وقوله تعالى {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} تعليلٌ لموجب النهي ببيان اقترابِ هلاكهم أي لا تستعجلْ بهلاكهم فإنه لم يبقَ لهم إلا أيامٌ وأنفاسٌ نعدّها عداً

85

{يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين} منصوبٌ على الظرفية بفعل مؤخّرٍ قد حُذف للإشعار بضيق العبارةِ عن حصره وشرحِه لكمال فظاعةِ ما يقع فيهِ من الطَّامةِ التَّامةِ والدواهي العامة كأنه قيل يوم نحشر المتقين أي نجمعهم {إِلَى الرحمن} إلى ربهم الذي يغمرُهم برحمته الواسعة {وَفْداً} وافدين عليه كما يفد الوفودُ على الملوك منتظِرين لكرامتهم وإنعامِهم

86

{وَنَسُوقُ المجرمين} كما تُساق البهائم {إلى جَهَنَّمَ وِرْداً} عِطاشاً فإن مَنْ يرد الماءَ لا يورِدُه إلا العطشُ أو كالدوابّ التي ترِد الماءَ نفعل بالفريقين من الأفعال مالا يفي ببيانه نطاقُ المقال وقيل منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ مقدمٍ خوطب به النبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أي اذكر لهم بطريق الترغيبِ والترهيبِ يوم نحشر الخ وقيل على الظرفية لقوله تعالى

87

{لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة}

والذي يقتضيه مقامُ التهويلِ وتستدعيه جزالةُ التنزيل أن ينتصبَ بأحد الوجهين الأولَين ويكونُ هذا استئنافاً مبيناً لبعض ما فيه من الأمور الدالةِ على هوله وضميرُه عائداً إلى العباد المدلولِ عليهم بذكر الفريقين لانحصارهم فيهما وقيل إلى المتقين خاصة وقيل إلى المجرمين من الكفرة وأهلِ الإسلام والشفاعةُ على الأولين مصدرٌ من المبنيّ للفاعل وعلى الثالث ينبغي أن تكون مصدراً من المبنيّ للمفعول وقوله تعالى {إِلاَّ مِن اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} على الأولِ استثناءٌ متصلٌ مِن لا يملكون ومحلُّ المستثنى إما الرفعُ على البدل أو النصبُ على أصلِ الاستثناءِ والمَعْنى لا يملك العبادُ أن يشفعوا لغيرهم إلا من استعَدّ له بالتحلّي بالإيمان والتقوى أو من أُمر بذلك من قولهم عهدِ الأميرُ إلى فلان بكذا إذا أمرَه به فيكون ترغيباً للناس في تحصيل الإيمانِ والتقوى المؤدِّي إلى نيل هذه الرتبةِ وعلى الثاني استثناءٌ من الشفاعة على حذف المضافِ والمستثنى منصوبٌ على البدل أو على أصل الاستثناءِ أي لا يملك المتقون الشفاعةَ إلا شفاعةَ من اتخذ العهد بالإسلام فيكون ترغيباً في الإسلام وعلى الثالث استثناءٌ مِنْ لا يملكون أيضاً والمستثنى مرفوعٌ على البدل أو منصوبٌ على الأصل والمعنى لا يملك المجرمون أن يَشفع لهم إلا مَنْ كان منهم مسلماً

88

{وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} حكايةٌ لجناية اليهودِ والنصارى ومن يزعُم من العرب أن الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً إثرَ حكاية عبَدةِ الأصنام بطريق عطفِ القصة على القصة وقوله تعالى

89

{لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدَا} ردٌّ لمقالتهم الباطلةِ وتهويلٌ لأمرها بطريق الالتفات المبني عن كمال السخطِ وشدةِ الغضب المُفصِح عن غاية التشنيعِ والتقبيحِ وتسجيلٌ عليهم بنهاية الوقاحةِ والجهل والجراءة والإدُّ بالكسر والفتح العظيمُ المنكر والإدّةُ الشدةُ وأدَني الأمرُ وآدَني أثقلني وعظُم عليّ أي فعلتم أمراً منكراً شديداً لا يقادَر قدره من جاء وأتى يستعملان في معنى فعل فيعديان تعديته وقوله تعالى

90

{تكاد السماوات} الخ صفةٌ لإدًّا أو استئناف ببيان عظيم شأنه في الشدة والهول وقرئ يكاد بالتذكير {يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} يتشقّقن مرةً بعد أخرى من عِظم ذلك الأمر وقرئ ينفطرْن والأولُ أبلغُ لأن تفعّل مطاوِعُ فعّل وانفعلَ مطاوعُ فَعَل ولأن أصل التفعّل التكلف {وَتَنشَقُّ الأرض} أي وتكاد تنشق الأرض {وَتَخِرُّ الجبال} أي تسقُط وتتهدم وقوله تعالى {هَدّاً} مصدرٌ مؤكّدٌ لمحذوف وهو حال من الجبال أي تُهدّ هدًّا أو مصدرٌ من المبنيِّ للمفعول مؤكّدٌ لتخِرُّ على غير الصدر لأنه حينئذ بمعنى التهدّم والخرُور كأنه قيل وتخِرّ الجبال خروراً أو مصدرٌ بمعنى المفعول منصوبٍ على الحالية أي مهدودةً أو مفعول له أي لأنها تُهَدّ وهذا تقريرٌ لكونه إدًّا والمعنى أن هَولَ تلك الشنعاءِ وعِظمَها بحيث لو تَصوّرتْ بصورة محسوسة لم تُطِقْ بها هاتيك الأجرامُ العظام وتفتت من شدتها أو أن فظاعتَها في استجلاب الغضَبِ واستيجابِ السَّخَط

بحيث لولا حِلْمُه تعالى لخُرِّب العالمُ وبُدِّدت قوائمُه غضباً على من تفوه بها مريم

91

91 - 96 {أن دعوا للرحمن ولدا} منصوبٌ على حذف اللام المتعلقةِ بتكاد أو مجرورٌ بإضمارها أي تكاد السموات يتفطرّن والأرضُ تنشق والجبالُ تخِرّ لأَن دعَوا له سبحانه ولداً وقيل اللامُ متعلقةٌ بهدًّا وقيل الجملةُ بدلٌ منَ الضميرِ المجرورِ في منه كما في قوله ... على جودِه لَضَنَّ بالماء حاتِمُ ... وقيل خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي الموجبُ لذلك أنْ دعوا الخ وقيل فاعلُ هدًّا أي هدّها دُعاءُ الولد والأولُ هو الأولى ودعَوا من دعا بمعنى سمَّى المتعدّي إلى مفعولين وقد اقتُصر على ثانيهما ليتناولَ كل ما دُعيَ له ولداً أو من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعُه ادّعى إلى فلان أي انتسب إليه وقوله تعالى

92

{وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} حالٌ من فاعل قالوا أو دعَوا مقرّرةٌ لبطلان مقالتهم واستحالةِ تحقق مضمونها أي قالوا اتخذ الرحمن ولداً أو أن دعوا للرحمن ولدا والحال أنه ما يليق به تعالى اتخاذُ الولد ولا يُتطلب له لو طُلب مثلاً لاستحالته في نفسه ووضعُ الرحمن موضعَ الضميرِ للإشعارِ بعلةِ الحُكم بالتنبيه على أنَّ كلَّ ما سواهُ تعالى إما نعمةٌ أو مُنعَمٌ عليه فكيف يتسنى أن يجانس من هو مبدأُ النعمِ ومولى أصولِها وفروعِها حتى يتوهَّم أن يتخذه ولداً وقد صرح له قومٌ به عز قائلاً

93

{إِن كُلُّ مَن فِى السماوات والأرض} أي ما منهم أحدٌ من الملائكة والثقلين {إِلاَّ اتِى الرحمن عَبْداً} إلا وهو مملوكٌ له يأوي إليه بالعبودية والانقيادِ وقرئ آتٍ الرحمن على الأصل

94

{لَّقَدْ أحصاهم} أي حصَرهم وأحاط بهم بحيث لا يكاد يخرج منهم أحدٌ من حِيطة علمِه وقبضة قدرتِه وملكوتِه {وَعَدَّهُمْ عَدّاً} أي عد أشخاصَهم وأنفاسَهم وأفعالَهم وكلُّ شيء عنده بمقدار

95

{وكلهم آتيه يَوْمَ القيامة فَرْداً} أي كلُّ واحدٍ منهم آتٍ إياه تعالى منفرداً من الأتباع والأنصار وفي صيغة الفاعلِ من الدِلالة على إتيانهم كذلك البتةَ ما ليس في صيغة المضارع لو قيل يأتيه فإذا كان شأنُه تعالى وشأنُهم كما ذكر فأنى يُتوهم احتمالُ أن يتخذ شيئاً منهم ولداً

96

{إن الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} لما فُصّلت قبائحُ أحوالِ الكفرة عُقّب ذلك بذكر محاسنِ أحوالِ المؤمنين {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً} أي سيُحدث لهم في القلوب مودّةً من غير تعرضٍ منهم لأسبابها سوى ما لهُم من الإيمانِ والعملِ الصالحِ والتعرضُ لعنوان الرحمانيةِ لِما أن الموعودَ من آثارها

وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إذا أحبّ الله عبداً يقول لجبريلَ عليه السلام إني أحبُّ فلاناً فأحِبَّه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله أحب فلاناً فأحِبُّوه فيحبه أهلُ السماء ثم يوضع له المحبةُ في الأرض والسينُ لأن السورةَ مكيةٌ وكانوا إذ ذاك ممقوتين بين الكفرة فوعدهم ذلك ثم أنجزه حين ربا الإسلامُ أو لأن الموعودَ في القيامة حين تُعرض حسناتُهم على رءوس الأشهاد فينزع مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ الغِلّ الذي كان في الدنيا ولعل إفرادَ هذا بالوعد من بين ما سيُؤْتَون يوم القيامة من الكرامات السنية لِما أن الكفرةَ سيقع بينهم يومئذ تباغضٌ وتضادٌّ وتقاطع وتلاعن مريم

97

97 - 98 {فَإِنَّمَا يسرناه} أي القرآنَ {بِلَسَانِكَ} بأن أنزلناه على لغتك والباء بمعنى على وقيل ضُمّن التيسيرُ معنى الإنزالِ أي يسرنا القرآنَ منزِلين له بلغتك والفاءُ لتعليل أمرٍ ينساق إليه النظمُ الكريمُ كأنه قيل بعد إيحاءِ السورةِ الكريمة بلِّغْ هذا المنزلَ أو بشر به وأنذر فإنما يسرناه بلسانك العربي المبين {لِتُبَشّرَ بِهِ المتقين} أي الصائرين إلى التقوى بامتثال ما فيه من الأمر والنهي {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} لا يؤمنون به لجَاجاً وعِناداً واللُّد جمعُ الألد وهو الشديدُ الخصومة اللَّجوجُ المعانِدُ وقوله تعالى

98

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ} وعدٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ضمن وعيدِ الكفرة بالإهلاك وحث له صلى الله عليه وسلم على الإنذار أي قَرْناً كثيراً أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين وقوله تعالى {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ} إستئناف مقرر لمضمون ماقبله أي هل تشعُر بأحد منهم وترى {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} أي صوتاً خفيا وأصلُ الرِكْز هو الخفاءُ ومنه رَكَز الرمحَ إذا غيب طرفه فى الرض والرِّكازُ المالُ المدفونُ المخفيُّ والمعنى أهلكناهم بالكلية واستأصلناهم بحيث لا يُرى منهم أحدٌ ولا يسمع منهم صوتٌ خفيّ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة مريمَ أُعطِي عشرَ حسناتٍ بعدد من كذّب زكريا وصدّق به ويحيى وعيسى ومريم وسائرَ الأنبياءِ المذكورين فيها وبعدد مَنْ دعا الله تعالَى في الدُّنيا ومن لم يدْع الله تعالى

سورة طه طه {

طه

{طه} فخّمهما قالونُ وابنُ كثير وابنُ عامر وحفصٌ ويعقوبُ على الأصل والطاءَ وحده أبو عمْرو وورْشٌ لاستعلائه وأمالَهما الباقون وهو من الفواتح التي يُصدّر بها السورُ الكريمةُ وعليه جمهورُ المتْقنين وقيل معناه يا رجلُ وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهدٍ وسعيدِ بنِ جُبير وقَتادة وعِكرِمةَ والكلبي إلا أنه عند سعيدٍ على اللغة النبْطية وعند قتادة على السُّريانية وعند عكرمة على الحبشية وعند الكلبي على لغة عكا وقيل عُكْل وهي لغة يمانيةٌ قالوا إن صح فلعل أصلَه يا هذا فتصرّفوا فيه بقلب الياء طاءً وحذفِ ذا من هذا وما استُشهد به من قول الشاعر ... إن السفاهة طه في خلائِقِكُم ... لا قدّس الله أخلاقَ الملاعينِ ... ليس بنص في ذلك لجواز كونِه قسماً كما في حم لا يُنْصرون وقد جوز أن يكون الأصل طَأْها بصيغة الأمر من الوطء فقلبت الهمزة في يطأ ألفا لانفتاح ما قبلَها كَما في قول من قال لا هَناك المرتُع وها ضميرُ الأرض على أنه خطابٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم بأن يطأ الأرضَ بقدميه لمّا كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه مبالغةً في المجاهدة ولكن يأباه كتابتُهما على صورة الحرف كما تأبى التفسيرَ يا رجلُ فإن الكتابةَ على صور الحرف مع كون التلفظِ بخلافه من خصائص حروفِ المعجم وقرئ طه إما على أن أصلَه طأ فقلب همزتُه هاءً كما في أمثال هَرَقتَ أو قلبت الهمزة في يطأ ألفا كما مر ثم بُني منه الأمر وألحق به هاءُ السكت وإما على أنه اكتفى في التفظ بشطْري الاسمين وأُقيما مُقامَهما في الدِلالة على المسمَّيين فكأنهما اسماهما الدالان عليهما وعلى هذا ينبغي أن يحمل قولُ من قال أو اكتفى بشطري الكلمتين وعبّر عنهما باسمهما وإلا فالشطران لم يذكرا من حيث إنهما مسمَّيان لاسمَيهما ليقعا معبَّراً عنهما بل من حيث إنهما جزءان لهما قد اكتُفيَ بذكرهما عن ذكرهما ولذلك وقع التلفظُ بأنفسهما لا باسميهما بأن يراد بضمير التثنية في الموضعين الشطران من حيث هما مسميان لا من حيث هما جزءان للاسمين ويراد باسمهما الشطران من حيث هما قائمان مقامَ الاسمين فالمعنى اكتُفي في التلفظ بشطري الكلمتين أي الاسمين فعبّر عنهما أي عن الشطرين من حيث هما مسمَّيان بهما من حيث هما قائمان مقامَ الاسمين وأمَّا حملُه على مَعْنَى أنه اكتُفي في الكتابة بشطري الكلمتين يعني طا على تقديري كونِه أمراً وكونِه حرفَ نداءوها على تقديري كونِها كنايةً عن الأرض وكونِها حرفَ تنبيهٍ وعُدل عن ذينك الشطرين في التلفظ باسمهما فبين البطلان كيف وطاؤها على ما ذكر من التقادير ليسا باسمين للحرفين المذكورين بل الأول

طه 1 { أمرٌ أو حرفُ نداء والثاني ضميرُ الأرض أو حرفُ تنبيهٍ على أن كتابةَ صورةِ الحرف والتلفظَ بغيره من خواصّ حروفِ المعجم كما مر فالحق ما سلف من أنها من الفواتح إما مسرودةٌ على نمط التعديدِ بأحد الوجهين المذكورين في مطلع سورة البقرة فلا محلَّ لها من الإعرابِ وكذا ما بعدها من قولِه تعالَى

2

{ما أنزلنا عليك القرآنَ لتشقى} فإنه استئنافٌ مَسوقٌ لتسليته صلى الله عليه وسلم عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب فإن الشقاءَ شائعٌ في ذلك المعنى ومنه أشقى من رائض مُهْرٍ أي ما أنزلناه عليك لتتعب بالمبالغة في مكابدة الشدائد في مقاولة العُتاةِ ومحاورة الطغاةِ وفرْطِ التأسّف على كفرهم به والتحسرّ على أن يؤمنوا كقوله له عز وجل فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على آثارهم الآية بل للتبليغ والتذكير وقد فعلتَ فلا عليك إن لم يؤمنوا به بعد ذلك أو لصرفه صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من المبالغة في المجاهدة في العبادة كما يروى أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم بالليل حتى ترم قدماه قال له جبريلُ عليهِ السَّلامُ أَبْقِ على نفسك فإن لها عليك حقاً أي ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسِك وحملِها على الرياضات الشاقةِ والشدائدِ الفادحة وما بُعثت إلا بالحنيفية السمحة وقيل إن أبا جهل والنظر بن الحرث قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك شقيٌّ حيث تركت دينَ آبائِك وإن القرآنَ نزل عليك لتشقى به فرُدّ ذلك بأنا ما أنزلناه عليك لِما قالوا والأولُ هو الأنسبُ كما يشهد به الاستثناء الآتي هذا وإما اسمٌ للقرآن محلُّه الرفعُ على أنه مبتدأٌ وما بعده خبرُه والقرآنُ ظاهرٌ أوقع موقعَ العائد إلى المبتدأ كأنه قيل القرآنُ ما أنزلناه عليك لتشقى أو النصبُ على إضمار فعلٍ القسم أو الجرُّ بتقدير حرفِه وما بعده جوابُه وعلى هذين الوجهين يجوز أن يكون اسماً للسورة أيضاً بخلاف الوجهِ الأول فإنه لا يتسنى على ذلك التقدير لكن لا لأن المبتدأ يبقى حينئذ بلا عائد ولا قائم مَقامَه فإن القرآنَ صادقٌ على الصورة لا محالة إما بطريق الاتحاد بأن يراد به القدْرُ المشترَكُ بين الكل والبعض أو باعتبار الاندراجِ إن أريد به الكلُّ بل لأن نفيَ كونِ إنزالِه للشقاء يستدعي سبق وقوع الشقاء مترتباً على إنزاله قطعاً إما بحسب الحقيقة كما لو أريد به معنى التعب أو بحسب زعْم الكفرةِ كما لو أريد به ضدُّ السعادة ولا ريب في أن ذلك إنما يُتصور في إنزال ما أُنزل من قبل وأما إنزالُ السورةِ الكريمة فليس مما يمكن ترتبُ الشقاءِ السابق عليه حتى يُتصدّى لنفيه عنه أما باعتبار الاتحادِ فظاهرٌ وأما باعتبار الاندراج فلأن مآلَه أن يقال هذه السورةُ ما أنزلنا القرآنَ المشتمِلَ عليها لتشقى ولا يخفى أن جعْلَها مُخبَراً عنها مع أنه لا دخلَ لإنزالها في الشقاء السابق أصلاً مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل وقوله تعالى

3

{إِلاَّ تَذْكِرَةً} نُصب على أنَّه مفعولٌ له لأنزلنا لكن لا من حيث أنه معللٌ بالشقاء على معنى ما أنزلنا عليك القرآنَ لتتعب بتبليغه إلا تذكرةً الآية كقولك ما ضربتُك للتأديب إلا إشفاقاً لما أنه يجب في أمثاله أن يكون بين العلتين ملابسةٌ بالسببية والمسبَّبية حتماً كما في المثال المذكورِ وفي قولك ما شافهتُك بالسوء لتتأذّى إلا زجراً لغيرك فإن التأديبَ في الأول مسبَّبٌ عن الإشفاق والتأذّي في الثاني سبب لزجر

طه 4 5 الغير وقد عرفت ما بين الشقاءِ والتذكرةِ من التنافي ولا يُجدي أن يراد به التعبُ في الجملة المجامِعُ للتذكرة لظهور أن لا ملابسةَ بينهما بما ذكر من السببية والمسببية وإنما يتصور ذلك أن لو قيل مكانَ إلا تذكرةً إلا تكثيراً لثوابك فإن الأجر بقدر التعب ولا من حيث أنه بدلٌ من محل لتشقى كما في قوله تعالى مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ لوجوب المجانسةِ بين البدلين وقد عرفتَ حالَهما بل من حيث إنه معطوفٌ عليه بحسب المعنى بعد نفيه بطريق الاستدارك المستفادِ من الاستثناء المنقطعِ كأنه قيل ما أنزلنا عليك القرآنَ لتتعب في تبليغه ولكن تذكرةً {لّمَن يخشى} وقد جرد التذكرة عن اللام لكونها فعلاً لفاعل الفعل المعلّل أي لمَنْ مِنْ شأنُه أن يخشى الله عز وعلا ويتأثرَ بالإنذار لرقة قلبه ولينِ عَريكتِه أو لمن علمَ الله تعالَى أنَّه يخشى بالتخويف وتخصيصا بهم مع عموم التذكرة والتبليغ لأنهم المنتفعون بها وقوله تعالى

4

{تَنْزِيلاً} مصدرٌ مؤكدٌ لمضمر مستأنفٌ مقرَّرٌ لما قبله أي نُزّل تنزيلاً أو لما تفيده الجملةُ الاستثنائيةُ فإنها متضمِّنةٌ لأن يقال أنزلناه للتذكرة والأولُ هو الأنسبُ بما بعده من الالتفات أو منصوبٌ على المدحِ والاختصاص وقيل هو منصوب يخشى على المفعولية أي يخشى تنزيلاً من الله تعالى وأنت خبير بأن تعليقَ الخشيةِ والخوفِ ونظائرِهما بمطلق التنزيلِ غيرُ معهودٍ نعم قد يعلق ذلك ببعض أجزائه المشتملة على الوعيد ونظائرِه كما في قوله تعالى يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم وقيلَ هو بدلٌ من تذكرةً لكن لا على أنَّه مفعولٌ له لأنزلنا إذلا يعلل الشيءُ بنفسه ولا بنوعه بل على أنه مصدرٌ بمعنى الفاعل واقعٌ موقعَ الحال من الكاف في عليك أو من القرآن ولا مساغَ له إلا بأن يكون قيداً لأنزلنا بعد تقييده بالقيد الأول وقد عرفت حاله فيما سلف وقرئ تنزيلٌ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف ومِنْ في قولِه تعالَى {مّمَّنْ خَلَق الأرض والسماوات العلى} متعلقةٌ بتنزيلاً أو بمضمرٍ هو صفةٌ له مؤكدةٌ لما في تنكيره من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافية ونسبةُ التنزيلِ إلى الموصول بطريق الالتفات إلى الغَيبة بعد نسبته إلى نون العظمة لبيان فخامتِه تعالى بحسب الأفعال والصفات إثرَ بيانها بحسب الذات بطريق الإبهامِ ثم التفسيرِ لزيادة تحقيق وتقريرٍ وتخصيصُ خلقِهما بالذكر مع أن المراد خلقُهما بجميع ما يتعلق بهما كما يفصحُ عنه قولُه تعالى {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} الآية لأصالتهما واستتباعِهما لما عداهما وتقديمُ الأرض لكونه أقربَ إلى الحس وأظهرَ عنده ووصفُ السمواتِ بالعُلا وهو جمعُ العليا تأنيثُ الأعلى لتأكيد الفخامةِ مع ما فيه من مراعاة الفواصل وكل ذلك إلى قوله تعالى لَهُ الأسماء الحسنى مَسوقٌ لتعظيم شأنِ المنزِّل عز وجل المتتبع لتعظيم شأنِ المنزَّل الداعي إلى تربية المهانة وإدخالِ الروعةِ المؤديةِ إلى استنزال المتمرّدين عن رتبة العتو والطغيان واستمالهم نحو الخشية المُفْضِية إلى التذكرة والإيمان

5

{الرحمن} رُفع على المدح أي هو الرحمن وقد عرفت في صدر سورةِ البقرةِ أن المرفوعَ مدحاً في حكم الصفةِ الجاريةِ في ما قبله وإن لم يكن تابعاً له في الإعراب ولذلك التزموا حذفَ المبتدأ ليكون في صورة متعلق من

طه 6 8 متعلقاته وقد قرئ بالجر على أنه صفةٌ صريحةٌ للموصول وما قيل من أن الأسماءَ الناقصةَ لا يوصف منها إلا الذي وحده مذهب الكوفيين وأيا ما كان فوصفُه بالرحمانية إثرَ وصفِه بخالقية السموات والأرض للإشعار بأن خلقَهما من آثار رحمته تعالى كما أن قوله تعالى رب السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا الرحمن للإيذان بأن ربوبيتَه تعالى بطريق الرحمةِ وفيه إشارةٌ إلى أن تنزيلَ القرآنِ أيضاً من أحكام رحمتِه تعالى كما ينبئ عنه قوله تعالى {الرحمن علم القرآن} أو رُفع على الابتداء واللامُ للعهد والإشارةِ إلى الموصول والخبرُ قوله تعالى {عَلَى العرش استوى} وجعلُ الرحمة عنوانَ الموضوع الذي شأنُه أن يكون معلومَ الثُبوت للموضوع عند المخاطَب للإيذان بأن ذلك أمرٌ بيِّنٌ لا سِترةَ به غنيَ عنِ الإخبارِ بهِ صريحاً وعلى متعلقةٌ باستوى قدمت عليه لمراعاة الفواصل والجار والمجرور على الأولِ خبرُ مبتدأ محذوفٍ كما في القراءة الجرِّ وقد جُوِّز أن يكون خبراً بعد خبر والاستواءُ على العرش مجازٌ عن الملك والسلطان متفرع على الكناية فيمن يجوّز عليه القعودَ على السرير يقال استوى فلانٌ على سرير الملك يراد به مَلَك وإن لم يقعُدْ على السرير أصلاً والمرادُ بيانُ تعلقِ إرادتِه الشريفة إيجاد الكائنات وتدبيرِ أمرها وقوله تعالى

6

{له ما في السماوات وَمَا فِي الأرض} سواء كان ذلك بالجزئية مهما أو بالحلولِ فيهما {وَمَا بَيْنَهُمَا} من الموجودات الكائنة في الجو دائماً كالهواء والسحاب أو أكثر يا كالطير أي له وحده دون غيرِه لا شِرْكةً ولا استقلالاً كلُّ ما ذكر مُلكاً وتصرفاً وإحياءً وإمالة وإيجاداً وإعداماً {وَمَا تَحْتَ الثرى} أي ما وراءَ الترب وذكرُه مع دخوله تحت ما في الأرض لزيادة التقريرِ روي عن محمد بن كعب أنه ما تحت الأرضينَ السبعِ وعن السدّي أن الثرى هو الصخرةُ التي عليها الأرضُ السابعة

7

{وَإِن تَجْهَرْ بالقول} بيانٌ لإحاطةِ علمِه تعالَى بجميع الأشياء إثرَ بيانِ سعةِ سلطنتِه وشمولِ قدرتِه لجميع الكائنات أي وإن تجهَرْ بذكره تعالى ودعائِه فاعلم أنه تعالى غني عن جهرك {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} أي ما أسرَرْته إلى غيرك وشيئاً أخفى من ذلك وهو ما أخطَرْته ببالك من غير أن تتفوّه به أصلاً أو ما أسرَرْتَه لنفسك وأخفى منه وهو ما ستسره فيما سيأتي تنكيره للمبالغة في الخفاء وهذا إما نهيٌ عن الجهر كقوله تعالى واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجهر مِنَ القول وإما ارشادٌ للعباد إلى أن الجهرَ ليس لإسماعه سبحانه بل لغرض آخرَ من تصوير النفسِ بالذكر وتثبيتِه فيها ومنْعِها من الاشتغال بغيره وقطعِ الوسوسةِ عنها وهضمها بالتضرع ولا جؤار وقوله تعالى

8

{الله} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ استئناف مَسوقٌ لبيانِ أن ما ذكرَ من صفات الكمالِ موصوفُها ذلك المعبودُ بالحق أي ذلك المنعوتُ بما ذُكِرَ من النعوتِ الجليلة الله عزَّ وجلَّ وقولُه تعالَى {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} تحقيقٌ للحق وتصريح بما تصمنه ما قبله من اختصاص الألوهيةِ به سبحانه فإن ما أُسند إليه تعالى من خلق جميعِ الموجوداتِ

طه 9 10 والرحمانيةِ والمالكيةِ للكل والعلمِ الشاملِ مما يقتضيه اقتضاءً بيناً وقوله تعالى {لَهُ الأسماء الحسنى} بيانٌ لكون ما ذكرَ من الخالقية والرحمانيةِ والمالكيةِ والعالَمية أسماءَه وصفاتِه من غير تعددٍ في ذاته تعالى فإنه روي أن المشركين حين سمعوا النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يقول يا ألله يا رحمن قالوا ينهانا أن نعبُدَ إلهين وهو يدعو إلها آخرَ والحُسنى تأنيثُ الأحسن بوصف به الواحدةُ المؤنثةُ والجمعُ من المذكر والمؤنث كمآربُ أخرى وآياتِنا الكبرى

9

{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير أمر التوحيد الذي إليه ينتهي مَساقُ الحديث وبيانِ أنه أمرٌ مستمرّ فيما بين الأنبياء كابراً عن كابر وقد خوطب به موسى عليه الصلاة والسلام حيث قيل له إني أَنَا الله لاَ إله إِلا أَنَاْ وبه ختَم عليه الصلاة والسلام مقالَه حيث قال إِنَّمَا إلهكم الله الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ وأما ما قيل من أن ذلك لترغيب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في الائتساء بموسى عليه الصلاة والسلام في تحمل أعباءِ النبوة والصبرِ على مقاساة الخطوبِ في تبليغ أحكامِ الرسالة فيأباه أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ لصرفِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن اقتحام المشاقِّ وقوله تعالى

10

{إِذْ رَأَى نَاراً} ظرفٌ للحديث وقيل لمضمر مؤخّر أي حين رأى ناراً كان كيتَ وكيت وقيل مفعولٌ لمضمر مقدّم أي اذكرْ وقتَ رؤيته ناراً روي أنه عليه الصلاةُ والسلام استأذن شعبيا عليهما الصلاة والسلام في الخروج إلى أمّه وأخيه فخرج بأهله وأخذ على غير الطريق مخافةً من ملوك الشام فلما وافى وادي طوى وهو بالجانب الغربيُّ من الطور وُلد له وَلدٌ في ليلة مظلمة شانية مُثلجة وكانت ليلةَ الجمعة وقد ضل الطريقَ وتفرّقت ماشيتُه ولا ماءَ عنده وقَدَح فصَلَد زندُه فبينما هو في ذلك إذ رأى ناراً على يسار الطريق من جانب الطور {فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا} أي أقيموا مكانكم أمرهم عليه الصلاة والسلام بذلك لئلا يتْبعوه فيما عزم عليه الصلاة والسلام من الذهاب إلى النار كما هو المعتادُ لا لئلا ينتقلوا إلى موضع آخرَ فإنه مما لا يخطُر بالبال والخطابُ للمرأة والولدِ والخادمِ وقيل لها وحدها والجمعُ إما لظاهر لفظ الأهلِ أو للتفخيم كما في قول من قال [وإن شئتِ حرمتُ النساءَ سواكمُ] {إِنّى آنَسْتُ نَاراً} أي أبصرتُها إبصاراً بيّناً لا شُبهةَ فيه وقيل الإيناسُ خاصٌّ بإبصار ما يؤنَس به والجملةُ تعليلٌ للأمر أو المأمورِ به {لعلي آتيكم مِّنْهَا} أي أجيئكم من النار {بِقَبَسٍ} أي بشُعلة مقتبَسةٍ من معظم النارِ وهي المُرادةُ بالجذوة في سورة القَصص وبالشهاب القبسُ {أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى} هادياً يدلني على الطريق على أنه مصدرٌ سمّي به الفاعلُ مبالغةً أو حُذف منه المضافُ أي ذا هدايةٍ أو على أنه إذا وُجد الهادي فقد وجد الهُدى وقيل هادياً يهديني إلى أبواب الدين فإن أفكارَ الأبرار مغمورة بالهمّة الدينية في عامة أحوالِهم لا يشغَلهم عنها شاغلٌ والأولُ هو الأظهرُ لأن مَساقَ النظمِ الكريم لتسلية أهلِه وقد نُصّ عليهِ في سورةِ القَصص حيث قيل لعلي آتيكم منها بخير أو جذوة الآية وكلمةُ أو في الموضعين لمنع الخلوِّ دون منْعِ الجمعِ ومعنى الاستعلاء في قوله

طه 11 12 تعالى عَلَى النار أن أهلَ النارِ يستعلون المكانَ القريب منها أو لأنهم عند الاصطلاءِ يكتنفونها قِياماٍ وقعوداً فيُشرفون عليها ولما كان الإتيانُ بهما مترقَّباً غيرَ محقَّقِ الوقوعِ صُدّر الجملة بكلمة النرجى وهي إما علةٌ لفعل قد حذف ثقةً بمَا يدلُّ عليهِ من الأمر بالمُكث والإخبار بإيناس النارِ وتفادياً عن التصريح بما يوحشهم وإما حالٌ من فاعله أي فأَذهب إليها لآتيَكم أو كي آتيَكم أو راجياً أن آتيَكم منها بقبس الآية وقد مر تحقيقُ ذلك مفصلاً في تفسيرِ قولِه تعالى يأيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

11

{فلما أتاها} أي النار التي آنسها قال ابن عباس رضي الله عنهما رأى شجرةً خضراءَ أطافت بها من أسفلها إلى أعلاها نارٌ بيضاءُ تتقدُ كأضْوإ ما يكون فوقف متعجباً من شدة ضوئها وشدةِ خُضرة الشجرة فلا النارُ تُغيّر خضرتها ولا كَثرةُ ماء الشجرة تُغيّر ضوءَها قالوا النارُ أربعةُ أصنافٍ صنفٌ يأكل ولا يشرب وهي نارُ الدنيا وصنفٌ يشرب ولا يأكل وهي نارُ الشجرِ الأخضر وصنفٌ يأكل ويشرب وهي نار جهنم وصنفٌ لا يأكلُ ولا يشرب وهي نار موسى عليه الصلاة والسلام وقالوا أيضا هي أربعةُ أنواعٍ نوعٌ له نورٌ وإحراقٌ وهي نارُ الدنيا ونوع لا نورَ له ولا إحراقَ وهي نارُ الأشجار ونوعٌ له نورٌ بلا إحراقٍ وهي نار موسى عليه الصلاة والسلام ونوعٌ له إحراقٌ بلا نور وهي نارُ جهنم روي أن الشجرة كانت عَوْسَجةً وقيل كانت سَمُرة {نودي يا موسى} أي نودي فقيل يا موسى

12

{إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ} أو عومل النداءُ معاملةَ القول لكونه ضربا منه وقرئ بالفتح أي بأني وتكريرُ الضمير لتأكيد الدلالة وتحقيقِ المعرفة وإماطةِ الشبهة روي أنه لما نودي يا موسى قال عليه الصلاة والسلام من المتكلم فقال الله عز وجل أنا ربك فوسوس إليه إبليسُ لعلك تسمع كلامَ شيطان فقال أنا عرفتُ أنه كلامُ الله تعالى بأني أسمعه من جميع الجهاتِ بجميع الأعضاء قلت وذلك لأن سماعَ ما ليس من شأنه ذلك من الأعضاء ليس إلا من آثار قدرة الخلاق العليم تعالى وتقدس وقيل تلقى عليه الصلاة والسلام كلامَ رب العزة تلقياً روحانياً ثم تمثل ذلك الكلامُ لبدنه وانتقل إلى الحس المشترك فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهه {فاخلع نَعْلَيْكَ} أُمر عليه الصلاةُ والسلامُ بذلك لأن الحفْوةَ أدخلُ في التواضع وحسنِ الأدب ولذلك كان السلفُ الصالحون يطوفون بالكعبة حافين وقيل ليباشر الواديَ بقدميه تبركاً به وقيل لما أن نعليه كانا من جلد حمارٍ غيرِ مدبوغ وقيل معناه فرِّغْ قلبَك من الأهل والمال والفاءُ لترتيبِ الأمرِ على ما قبلها فإن ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من موجبات الأمر ودواعيه وقوله تعالى {إِنَّكَ بالواد المقدس} تعليلٌ لوجوب الخَلْع المأمور به وبيانٌ لسبب ورودِ الأمر بذلك من شرف البُقعة وقُدْسِها روي أنه عليه الصلاةُ والسلام خلعهما وألقاهما وراء الوادي {طُوًى} بضمِّ الطاءِ غيرُ منون وقرئ منونا وقرئ بالكسرِ منوناً وغيرَ منونٍ فمَنْ نونَّهُ أوَّلهُ بالمكانِ دونَ البقعةِ وقيلَ هُو كثنى من الطي مصدرٌ لنوديَ أو المقدس أي نودي نداءين أو قدس مرة

طه 13 15 بعد أخرى

13

{وَأَنَا اخترتك} أي اصطفيتك للنبوة والرسالة وقرئ وأنّا اخترناك بالفتح والكسر والفاء في قوه {فاستمع} لترتيب الأمرِ أو المأمورِ به على ما قبلها فإن اختيارَه عليه السلام لما ذكر مر موجبات الاستماع والأمرِ به واللام في قوله تعالى {لِمَا يُوحَى} متعلقةٌ باستمعْ وما موصولةٌ أو مصدريةٌ أي فاستمع للذي يوحى إليك أو للوحي لا باخترتك كما قيل لكن لا لما قيلَ من أنه من باب التنازُعِ وإعمالِ الأول فلا بد حينئذٍ من إعادة الضميرِ مع الثاني بل لأن قوله تعالى

14

{إِنَّنِى أَنَا الله لاَ إله إِلا أَنَاْ} بدلٌ من ما يوحى ولا ريب في أن اختيارَه عليهِ الصلاةُ والسلامُ ليسَ لهذا الوحي فقط والفاء في قوله تعالى {فاعبدنى} لترتيب المأمورِ به على ما قبلها فإن اختصاص الألوهية به سبحانه وتعالى من موجبات تخصيصِ العبادة به عز وجل {وأقم الصلاة} خُصت الصلاةُ بالذكر وأُفردت بالأمر مع اندراجها في الأمر بالعبادة لفضلها وإنافتِها على سائر العبادات بما نيطت به من ذكر المعبودِ وشُغل القلبِ واللسانِ بذكره وذلك قوله تعالى {لذكري} أي لتذكرني فإني ذِكْري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادةِ والصلاة أو لتذكُرني فيها لاشتمالها على الأذكار أو لذكري خاصةً لا تشوبُه بذكر غيري أو لإخلاص ذكري وابتغاءِ وجهي لا تُرائي بها ولا تقصِدُ بها غرضاً آخرَ أو لتكون ذاكراً لي غيرَ ناس وقيل لذكري إياها وأمْري بها في الكتب أو لأنْ أذكُرَك بالمدح والثناء وقيل لأوقات ذكري وهي مواقيتُ الصلاة أو لذِكْر صلاتي لما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال من نام عن صلاة أو نسِيَها فليصلِّها إذا ذكرها لأن الله تعالى يقول وأقم الصلاة لذكري وقرئ لذكرى بألف التأنيثِ وللذكرى معروفا وللذكْر بالتعريف والتنكير وقوله تعالى

15

{إن الساعة آتية} تعليلٌ لوجوب العبادة وإقامةِ الصلاة أي كائنةٌ لا محالة وإنما عُبّر عن ذلك بالإتيان تحقيقاً لحصولها بإبرازها في معرِض أمرٍ محققٍ متوجِّهٍ نحو المخاطبين {أَكَادُ أُخْفِيهَا} أي لا أظهرها بأن أقول إنها آتية لولا أن ما في الإخبار بذلك من اللطف وقطعِ الأعذار لما فعلتُ أو أكاد أظهرُها بإيقاعها من أخفاه إذا أظهره بسلب خفائِه ويؤيده القراءةُ بفتح الهمزة من خفاه بمعنى أظهره وقيل أخفاه من الأضداد يجيء بمعنى الإظهار والسَّترِ وقوله تعالى {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} متعلقٌ بآتيةٌ وما بينهما اعتراضٌ أو بأخفيها على المعنى الأخير وما مصدرية أي لتُجزى كلُّ نفس بسعيها في تحصيل ما ذُكر منَ الأمورِ المأمور بها وتخصيصُه في معرِض الغاية لإتيانها مع أنه الجزاء كلِّ نفس بما صدر عنها سواءٌ كان سعياً فيما ذكر أو تقاعداً عنه بالمرة أو سعياً في تحصيل ما يُضادّه للإيذانِ بأنَّ المرادَ بالذاتِ من إتيانها هو الإثابةُ بالعبادة وأما العقابُ بتركها فمن مُقتَضَيات سوءِ اختيارِ العصاة وبأن المأمورَ به في قوة الوجوبِ والساعةَ في شدة الهول والفظاعة بحيث يوجِبان على كل نفسٍ أن تسعى في الامتثال بالأمر وتجِدَّ في تحصيل ما ينجّيها من الطاعات وحينئذ تحترز عن

طه 16 17 اقتراف ما يُرديها من المعاصي وعليه مدارُ الأمر في قولِه تعالى وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً فإن الابتلاء مع شموله لكافة المكلفين باعتبارِ أعمالهِم المنقسمةِ إلى الحسنِ والقبيحِ أيضاً لا إلى الحسنِ والأحسنِ فقطْ قد عُلّق بالأخيرين لما ذكر من أن المقصودَ الأصليَّ من إبداع تلك البدائعِ على ذلك النمطِ الرائعِ إنما هو ظهورُ كمالِ إحسانِ المحسنين وأن ذلك لكونه على أتم الوجوهِ الرائقةِ وأكملِ الأنحاءِ اللائقةِ يوجب العملَ بموجبه بحيث لا يَحيدُ أحدٌ عن سَننه المستبينِ بل يهتدي كلُّ فردٍ إلى ما يُرشد إليه من مطلق الإيمانِ والطاعةِ وإنما التفاوتُ بينهم في مراتبهما بحسب القوة والضعفِ وأما الإعراضُ عن ذلكَ والوقوعُ في مهاوي الضلالِ فبمعزل من الوقوعِ فضلاً عن أن ينتظم في سلك الغايةِ لذلك الصنعِ البديعِ وإنَّما هُو عملٌ يصدُر عن عاملِهِ بسوءِ اختيارِه من غيرِ مصحِّحٍ لهُ أو مسوِّغ هذا ويجوز أن يُراد بالسعي مطلقُ العمل

16

{فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} أي عن ذكر الساعةِ ومراقبتِها وقيل عن تصديقها والأولُ هو الأليقُ بشأن موسى عليه الصلاة والسلام وإن كان النهيُ بطريق التهييجِ والإلهاب وتقديمُ الجارِّ والمجرور على قوله تعالى {مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا} لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفس مستشرقة لهُ فيتمكنُ عندَ ورودِه لها فضلُ تمكنٍ ولأن في المؤخر نوعَ طولٍ ربما يُخِلّ تقديمُه بجزاله النظمِ الكريم وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكافر عن صد موسى عليه الصلاة والسلام عن الساعة لكنه في الحقيقة نهيٌ له عليه الصلاة والسلام عن الانصداد عنها على أبلغِ وجهٍ وآكدِه فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤديةِ إليه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسبية من أصلها كما في قوله تعالى وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ الخ فإن صدَّ الكافر حيث كان سبباً لانصداده عليه الصَّلاة والسَّلام كان النهيُ عنه نهياً بأصله وموجِبه وإبطالاً له بالكلية ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ باب النهي عن المسبَّب وإرادةِ النهي عن السبب على أن يراد نهيُه عليه الصلاة والسلام عن إظهار لينِ الجانبِ للكفرة فإن ذلك سببٌ لصدّهم إياه عليه الصلاة والسلام كما في قوله لا أرينك ههنا فإن المراد به نهيُ المخاطب عن الحضور لديه الموجبِ لرؤيته {واتبع هَوَاهُ} أي ما تهواه نفسه من اللذات الحسية الفانية {فتردى} أي فتهلِكَ فإن الإغفالَ عنها وعن تحصيل ما ينجِّي عن أهوالها مستتبِعٌ للهلاك لا محالة وهو في محل النصبِ على جواب النهي أو في محلِ الرفعِ على أنه خبر مبتدأ محذوف أي فأنت تردى

17

{وما تلك بيمينك يا موسى} شروعٌ في حكاية ما كلف به عليه الصلاة والسلام من الأمور المتعلقةِ بالخلق إثرَ حكايةِ ما أُمر بهِ من الشؤون الخاصة بنفسه فما استفهاميةٌ في حيز الرفعِ بالابتداء وتلك خبرُه أو بالعكس وهو أدخلُ بحسب المعنى وأوفقُ بنفسه فما استفهاميةٌ في حيز الرفعِ بالابتداء وتلك خبرُه أو بالعكس وهو أدخلُ بحسب المعنى وأوفقُ بالجواب وبيمينك متعلِّقٌ بمُضْمَرٍ وقعَ حالاً أي وما تلك قارّةً أو مأخوذةً بيمينك والعاملُ معنى الإشارةِ كما في قوله عز وعلا وهذا بَعْلِى شَيْخًا وقيل تلك موصولةٌ أي ما التي هي بيمينك وأيا ما كان فالاستفهامُ

طه 18 20 إيقاظ وتنبيه له عليه الصلاة والسلام على ما سيبدو له من التعاجيب وتكريرُ النداء لزيادة التأنيسِ والتنبيه

18

{قَالَ هِىَ عَصَاىَ} نسبها إلى نفسه تحقيقاً لوجه كونها بيمينه وتميدها لما يعقُبه من الأفاعيل المنسوبة إليه عليه الصلاة والسلام وقرئ عَصَيَّ على لغة هذيل {أتوكأ عَلَيْهَا} أي أعتمد عليها عند الإعياءِ أو الوقوفِ على رأس القطيع {وَأَهُشُّ بِهَا} أي أخبِط بها الورقَ وأُسقطه {على غَنَمِى} وقرئ أهِشّ بكسر الهاء وكلاهما من هشّ الخبزُ يهش إذا انكسر لهشاشته وقرئ بالسين غيرِ المعجمة وهو زجرُ الغنم وتعديتُه بعلي لتضمين معنى الإنحاء والإقباء أي أزجُرها مُنْحِياً ومُقبلاً عليها {وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أخرى} أي حاجات أخر من هذا الباب مثلُ مَا رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان إذا سار ألقاها على عاتقه فعلق به أدواتِه من القوس والكِنانة والحِلاب ونحوِها وإذا كان في البرية ركَزها وعرض الزندين على شعبيتها وألقى عليها الكِساء واستظل به وإذا قصُر الرِّشاءُ وصله بها وإذا تعرضت لغنمه السباعُ قاتل بها وقيل ومن جملة المآربِ أنها كانت ذات شبعتين ومِحْجَن فإذا طال الغصنُ حناه بالمحجن وإذا أراد كسره لواه بالشعبتين وكأنه عليه الصلاة والسلام فهم أن المقصودَ من السؤال بيانٌ حقيقتها وتفصيلُ منافعِها بطريق الاستقصاءِ حتى إذا ظهرت على خلاف تلك الحقيقةِ وبدت منها خواصُّ بديعةٌ علم أنها آياتٌ باهرة ومعجزاتٌ قاهرة أحدثها الله تعالى وليست من الخواصّ المترتبةِ عليها فذكرُ حقيقتَها ومنافعَها على التفصيل والإجمال على معنى أنها من جنس العِصِيّ مستتبِعةٌ لمنافعِ بناتِ جنسِها ليطابقَ جوابُه الغرضَ الذي فهمه من سؤال العليم الخبير

19

{قال} استئناف مبني على سؤال ينساق إليه الذهنُ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ عز وجل فقيل قال {ألقها يا موسى} لترى من شأنها ما لم يخطر ببالك من الأمور وتكرير النداءِ لتأكيد التنبيه

20

{فألقاها} على الأرض {فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى} رُوي أنه عليه الصلاةُ والسلام حين ألقاها انقلبت حيةً صفراءَ في غِلَظ العصا ثم انتفخت وعظُمت فلذلك شُبّهت بالجانّ تارةً وسميت ثُعباناً أخرى وعبّر عنها ههنا بالاسم العامّ للحالين وقيل قد انقلبت من أول الأمر ثعباناً وهو الأليقُ بالمقام كما يفصحُ عنه قولُه عز وجل فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وإنما شبهت بالجان في الجلادة وسُرعة الحركةِ لا في صِغَر الجُثة وقوله تعالى تسعى إما صفةٌ لحيّةٌ أو خبرٌ ثانٍ عند من يجوز كونَه جملة

21

{قَالَ} استئناف كما سبق {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ} عن ابن عباس رضي الله عنهما انقلبت ثعباناً ذكَراً يبتلع كلَّ شيء من الصخر والشجَر فلما رآه كذلك خاف ونفر وملكه ما يملك البشرُ عند مشاهدةِ الأهوال والمخاوفِ من الفزع والنّفار وفي عطف النهي على الأمر إشعارٌ بأن عدم النهي عنه

مقصودٌ لذاته لا لتحقيق المأمور به فقط وقوله تعالى {سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى} مع كونه استئنافا مسوق لتعليل الامتثال بالأمر والنهي فإن إعادتَها إلى ما كانَتْ عليهِ من موجبات أخذها وعدمِ الخوفِ منها عِدَةٌ كريمةٌ بإظهار معجزةٍ أخرى أخرى على بدء عليه الصلاة والسلام وإيذانٌ بكونها مسخَّرةً له عليه الصلاة والسلام ليكون على طُمَأْنينة من أمره ولا يعتريه شائبةُ تَزلزُلٍ عند مُحاجّة فرعون أي سنعيدها بعد الأخذ إلى حالتها الأولى التي هي الهيئةُ العَصَوية قيل بلغ عليه الصلاةُ والسلامُ عند ذلك من الثقة وعدمِ الخوف إلى حيث كان يُدخل يدَه في فمها ويأخذ بلَحْيَيها والسِّيرةُ فِعْلةٌ من السير تجوز بها للطريقة والهيئة وانتصابُها على نزعِ الجارِّ أي إلى سيرتها أو على أنّ أعاد منقولٌ من عاده بمعنى عاد إليه أو على الظرفية أي سنعيدها في طريقتها أو على تقدير فعلها وإيقاعِها حالاً من المفعول أي سنعيدها عصاً كما كانت من قبل تسير سيرتَها الأولى أي سائرةً سيرتَها الأولى فتنتفعَ بها كما كنت تنتفع من قبل

22

{واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} أُمرَ عليه الصلاةُ والسلامُ بذلك بعد ما أخذ الحيةَ وانقلبت عصاً كما كانت أي أدخلها تحت عضُدِك فإن جناحَيْ الإنسانِ جنباه كما أن جناحيَ العسكر ناحيتاه مستعارٌ من جناحي الطائرِ وقد سميا جناحين لأنه بجنحهما أي يُميلهما عند الطيران وقوله تعالى {تُخْرِجُ} جوابُ الأمر وقوله تعالى {بَيْضَاء} حالٌ من الضمير فيه وقوله تعالى {مِنْ غَيْرِ سُوء} متعلقٌ بمحذوف هو حال من الضمير في بيضاء أي كائنةً من غير عيب وقبح كنّي به عن البرص كما كنى بالسوءة عن العورة لما أن الطباع تعافه وتنفر عنه روي أنه عليه الصلاةُ والسلام كان آدمَ فأخرج يده من مُدرّعته بيضاءَ لها شُعاعٌ كشعاع الشمس تُغشّي البصر {آية أخرى} أي معجزةً أخرى غيرَ العصا وانتصابُها على الحالية إما من الضمير في تخرجْ على أنها بدلٌ من الحال الأولى وإما من الضمير في بيضاءَ وقيل من الضميرِ في الجارِّ والمجرور وقيل هي منصوبةٌ بفعل مضمرٍ نحوُ خذْ أو دونك وقوله تعالى

23

{لنريك من آياتنا الكبرى} متعلقٌ بمضمر ينساق إليه النظمُ الكريمُ كأنه قيل فعلنَا مَا فعلنَا منْ الأمر والإظهارِ لنُريَك بذلك بعضَ آياتنا الكبرى على أن الكبرى صفةٌ لآياتنا أو نريَك بذلك من آياتنا ما هي كُبرى على أن الكبرى مفعول ثان لنريك من آياتنا متعلق بمحذوف هو حال من ذلك المفعولِ وأياً ما كان فالآيةُ الكبرى عبارةٌ عن العصا واليدِ جميعاً وأما تعلقُه بما دل عليه آيةٌ أي دلّلنا بها لنريك الخ أو بقوله تعالى واضمم أو بقوله تُخْرِجُ أو بما قُدّر من نحو خذ ودونك كما قال بكلٍ من ذلك قائل فيؤدّي إلى عَراء آيةِ العصا عن وصف الكِبَر فتدبر

24

{اذهب إلى فِرْعَوْنَ} تخلّصٌ إلى ما هو المقصودُ من تمهيد المقدمات السالفةِ فُصل عما قبله من الأوامر إيذاناً بأصالته أي اذهبْ إليه بما رأيتَه من الآيات الكبرى وادْعُه إلى عبادتي وحذّره نَقِمتي وقوله تعالى {إِنَّهُ طغى} تعليلٌ للأمرِ أو لوجوب المأمورِ به أي جاوز الحدَّ في التكبر والعتوّ والتجبر حتى تجاسر على

طه 25 27 العظيمة التي هي دعوى الروبية

25

{قال} استئناف مبني على سؤال ينساق إليه الذهنُ كأنه قبل فماذا قال عليه الصلاة والسلام حين أُمر بهذا الأمر الخطيرِ والخطبِ العسير فقيل قال مستعينا بربه عز وجل {رَبّ اشرح لِى صَدْرِى}

26

{وَيَسّرْ لِى أَمْرِى} لما أُمر بما أُمر به من الخطب الجليلِ تضرّع إلى ربِّه عزَّ وجلَّ وأظهر عجْزَه بقوله ويضيق صدري ولا ينطلق لساني وسأله تعالى أن يوسعّ صدرَه ويفسَحَ قلبه ويجعله عليماً بشؤون الحق وأحوالِ الخلق حليما حمولا يستقل ما عَسَى يرِدُ عليه مِنْ الشدائد والمكاره بجميل الصبرِ وحسن الثبات ويتلقّاها بصدر فسيحٍ وجأش رابط وأن يسّهل عليه مع ذلك أمرَه الذي هو أجلُّ الأمور وأعظمُها وأصعبُ الخطوب وأهولُها بتوفيق الأسبابِ ورفع الموانعِ وفي زيادة كلمة لي مع انتظام الكلامِ بدونها تأكيدٌ لطلب الشرح والتيسير بإيهام الشروح والميسّر أولاً وتفسيرِهما ثانياً وفي تقديمها وتكريرِها إظهارُ مزيدِ اعتناءٍ بشأن كل من المطلوبَيْن وفضلِ اهتمامٍ باستدعاء حصولهما له واختصاصِهما به

27

{واحلل عُقْدَةً مّن لّسَانِى} رُوي أنَّهُ كانَ في لسانِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ رُتّةٌ من جمرة أدخلها فاه في صغره وذلك أن فرعون حمله ذاتَ يوم فأخذ لحيته ينتفها لما كانَ فيها من الجواهر فغضب وأمر بقتله فقالت آسيةُ إنه صبيٌّ لا يفرق بين الجمر والتمر والياقوت فأُحضِرا بين يديه فأخذ الجمرةَ فوضعها في فيه قيل واحترقت يده فاجتهد فرعونُ في علاجها فلم تبرأ ثم لما دعاه قال إلى أي ربّ تدعوني قال إلى الذي أبرأ يدي وقد عَجزْتَ عنه واختلف في زوال العُقدة بكمالها فمن قال به تمسك بقوله تعالى قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ومن لم يقل به احتج بقوله تعالى هُوَ أَفْصَحُ مِنّى وقوله تعالى وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ وأجاب عن الأول بأنه لم يسأل حلَّ عُقدة لسانه بالكلية بل حلَّ عقدةٍ تمنع الإفهام ولذلك نكرّها ووصفها بقوله مّن لّسَانِى أي عقدةً كائنة من عُقَد لساني وجعل قوله تعالى

28

{يَفْقَهُواْ قَوْلِي} جوابَ الأمر وغرضا من الدعاء فيحلها في الجملة يتحقق إيتاءُ سؤله عليه الصلاة والسلام والحقُّ أن ما ذكر لا يدل على بقائها في الجملة أما قوله تعالى هُوَ أَفْصَحُ مِنّى فلأنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قاله استدعاءا لحل كما ستعرفه على أن أفصحيّتَه منه عليهما الصلاة والسلام لا تستدعي بقاءها اصلا بل تستدعي عدمَ البقاءِ لما أن الأفصيحة توجب ثبوتَ أصلِ الفصاحة في المفضول أيضاً وذلك منافٍ للعقدة رأساً وأما قوله تعالى وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فمن باب غلوِّ اللعين في العتوّ والطغيان وإلا لدل على عدم زوالِها أصلاً وتنكيرُها إنما يفيد قِلتها في نفسها لا قِلَّتها باعتبار كونِها بعضاً من الكثير وتعلقُ كلمة مِن في قوله تعالى من لّسَانِى بمحذوف هو صفةٌ لها ليس بمقطوع به بل الظاهرُ تعلُّقها بنفس الفعل فإن المحلولَ إذا كان

طه 29 34 متعلقا بشيء ومتصلاً به فكما يتعلق الحلُّ به يتعلق بذلك الشيء أيضاً باعتبار إزالتِه عنه أو ابتداءِ حصوله منه

29

{واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى هارون أَخِى} أي موازرا يعاونني في تحمّل أعباء ما كُلّفتُه على أن اشتقاقَه من الوِزْر الذي هو الثِقَلُ أو ملجأً أعتصمُ برأيه على أنه من الوَزَر وهو الملجأ وقيل أصله أَزير من الأزْر بمعنى القوة فعيل بمعنى فاعل كالعشير والجليسِ قُلبت همزتُه واواً كقلبها في مُوازِر ونصبُه على أنه مفعولٌ ثان لا جعل قُدّم على الأول الذي هو قوله تعالى هرون اعتناءً بشأن الوزارة ولي صلةٌ للجعل أو متعلقٌ بمحذوف هو حال من وزيراً إذ هو صفةٌ له في الأصل ومن أهلي إما صفةٌ لوزيراً أو صلة لا جعل وقيل مفعولاه لي وزيراً وهرون عطفُ بيانٍ للوزير ومن أهلي كما مر من الوجهين وأخي في الوجهين بدل من هرون أو عطفُ بيان آخرَ وقيل هما وزيراً من أهلي وبي وتبيين كما في قوله تعالى وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ورُدّ بأن شرطَ المفعولين في باب النواسخِ صحةُ انعقاد الجملةِ الاسمية ولا مساغَ لجعل وزيراً مبتدأً ويُخبر عنه بما بعده

31

{اشدد بِهِ أَزْرِى} {وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى} كلاهما على صيغة الدعاءِ أي أحكِمْ به قوتي واجعله شريكي في أمر الرسالة حتى نتعاونَ على أدائها كما ينبغي وفصلُ الأول عن الدعاء السابق لكمال الاتصالِ بينهما فإن شدَّ الأزْر عبارةٌ عن جعله وزيراً وأما الإشراكُ في الأمر فحيث كان من أحكام الوزارة توسّطَ بينهما العاطف

33

{كَىْ نُسَبّحَكَ كَثِيراً} {وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} غايةٌ للأدعية الثلاثةِ الأخيرة فإن فعل فيها كل واحد منهما من التسبيح والذكر مع كونه مكثِراً لفعل الآخر ومضاعفاً له بسبب انضمامِه إليه مكثرٌ له في نفسه أيضاً بسبب تقويتِه وتأييدِه إذ ليس المرادُ بالتسبيح والذكر ما يكون منهما بالقلب أو في الخلَوات حتى لا يتفاوت حالُه عند التعدد والانفرادِ بل ما يكون منهما في تضاعيف أداءِ الرسالة ودعوةِ المَرَدة العُتاة إلى الحق وذلك مما لا ريب في اختلاف حالِه في حالتي التعددِ والانفراد فإن كلاًّ منهما يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحقِّ ما لا يكاد يصدر عنه مثلُه في حال الانفراد وكثيراً في الموضعين نعتٌ لمصدر محذوف أو زمانٍ محذوف أي ننزّهك عما لا يليق بك من الصفات والأفعالِ التي منْ جُملتها ما يدّعيه فرعونُ الطاغيةُ ويقبَلُه منه فئتُه الباغية من ادّعاء الشِرْكةِ في الألوهية ونصفُك بما يليق بك من صفات الكمالِ ونعوتِ الجمال والجلال تنزيها

طه 35 38 كثيراً أو زماناً كثيراً من جملته زمانُ دعوةِ فرعون وأوانُ المُحاجّة معه وأما ما قيل من أن المعنى كي نصليَ لك كثيراً ونحمَدَك ونُثنيَ عليك فلا يساعده المقام

35

{إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} أي عالماً بأحوالنا وبأن ما دعوتُك به مما يُصلحنا ويفيدنا في تحقيق ما كُلّفتُه من إقامة مراسم الرسالة وبأن هرون نِعمَ الرِّدْءُ في أداء ما أُمرت به والباءُ متعلقة ببصيراً قُدّمت عليه لمراعاة الفواصل

36

{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ} أي أُعطيتَ سُؤْلك فُعْلٌ بمعنى مفعول كالخبز والأُكْل بمعنى المخبوز والمأكول والإيتاءُ عبارةٌ عن تعلق إرادتِه تعالى بوقوع تلك المطالبِ وحصولِها له عليه السلام البتة وتقديرِه إياها حتماً فكلُّها حاصلةٌ له عليه السلام وإن كان وقوعُ بعضها بالفعل مترقباً بعدُ كتيسير الأمر وشدِّ الأزْر وباعتباره قيل سنشُدّ عضُدَك بأخيك وقوله تعالى {يا موسى} تشريفٌ له عليه السلام بشرف الخِطاب إثرَ تشريفِه بشرف قَبول الدعاء وقوله تعالى

37

{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما قبله وزيادةِ توطينِ نفس موسى عليه السلام بالقبولِ ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعمِ التامة من غير سابقةِ دعاءٍ منه وطلبٍ فلأَن يُنعِم عليه بمثلها وهو طالبٌ له وداعٍ أَوْلى وأحرى ونصديره بالقسم لكمال الاعتناءِ بذلكَ أي وبالله لقد أنعمنا {مَرَّةً أخرى} أي في وقت غيرِ هذا الوقت لا أن ذلك مؤخّرٌ عن هذا فإن أخرى تأنيت آخَرَ بمعنى غير والمرةُ في الأصل اسمٌ للمرور الواحدِ ثم أُطلق على كل فعلة واحدة من الفَعَلات متعديةً كانت أو لازمة ثم شاع في كل فرد واحدٍ من أفراد ماله أفرادٌ متجددةٌ متعددة فصار علماً في ذلك حتى جُعل معياراً لما في معناه من سائر الأشياء فقيل هذا بناء المرة ويقرب منها الكرّةُ والتارَةُ والدفعة والمراد بها ههنا الوقتُ الممتدُ الذي وقع فيه ما سيأتي ذكرُه من المنن العظيمة الكثيرة وقوله تعالى

38

{إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمّكَ مَا يوحى} ظرفٌ لمننّا والمرادُ بالإيحاء إما الإيحاءُ على لسان نبيَ في وقتها كقوله تعالى وإذا أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين الآية وإما الإيحاءُ بواسطة الملَك لا على وجه النبّوة كما أوحيَ إلى مريم وإما الإلهام كما في قوله تعالى وأوحى رَبُّكَ إلى النحل وإما الإرادة في المنام والمرادُ بما يوحى وسيأتي من الأمر بقذفه في التابوت وقذْفِه في البحر أيهم أولاً تهويلاً له وتفخيماً لشأنه ثم فُسّر ليكون أقرَّ عند النفسِ وقيل معناه ما ينبغي أن يوحى ولا يُخَلَّ به لعِظم شأنه وفرْطِ الاهتمام به وقيل مالا يُعلم إلا بالوحي وفيه أنه لا يلائم المعنيين الأخيرين للوحي إذ لا تفخيمَ لشأنه في أن يكون مما لا يُعلم إلا بالإلهام أو بالإرادة في المنام

طه 39 40 وأنْ في قولِه تعالَى

39

{أَنْ اقذفيه فِى التابوت} مفسِّرةٌ لأن الوحيَ من باب القول أو مصدرية محذف منها الباء أي بأن اقذفيه ومعنى القذف ههنا الوضعُ وأما في قوله تعالى {فاقذفيه فِى اليم} فالإلقاءُ وهذا التفصيلُ هو المرادُ بقوله تعالى فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى اليم لا القذفُ بلا تابوت {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} لما كان إلقاءُ البحرِ إياه بالساحل أمراً واجبَ الوقوع لتعلق الإرادةِ الربانية به جُعل البحرُ كأنه ذو تمييزٍ مطيعٍ أُمر بذلك وأُخرج الجوابُ مُخرجَ الأمر والضمائرُ كلُّها لموسى عليه السلام والمقذوفُ في البحر والمُلقى بالساحل وإن كان هو التابوتَ أصالةً لكنْ لما كان المقصودُ بالذات ما فيه جعل التابوت تابعا له في ذلك {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ} جوابٌ للأمر بالإلقاء وتكريرُ العدو للمبالغة والتصريحِ بالأمر والإشعارِ بأن عداوتَه له مع تحققها لا تؤثر فيه ولا تضرُه بل تؤدي إلى المحبة فإن الأمرَ بما هو سبب للهلاك صورةً من قذفه في البحر ووقوعِه في يد عدو الله تعالى وعدوِّه مشعرٌ بأن هناك لُطفاً خفياً مندرجاً تحت قهرٍ صوريّ وقيل الأولُ باعتبار الواقعِ والثاني باعتبار المتوقَّع وليس المرادُ بالساحل نفس الشاطئ بل ما يقابل الوسطَ وهو ما يلي الساحلَ من البحر بحيث يجري ماؤه إلى نهر فرعون لما روي أنها جَعلتْ في التابوت قُطناً ووضعتْه فيه ثم قيّرتْه وألقتْه في اليم وكان يشرَع منه إلى بستان فرعون نهرٌ صغير فدفعه الماءُ إليه فأتى به إلى بِرْكة في البستان وكان فرعونُ جالساً ثمّةَ مع آسية بنت مزاحم بأمر به فأُخرج ففُتح فإذا هو صبيٌّ أصبحُ الناس وجهاً فأحبه عدوُّ الله حباً شديداً لا يكاد يتمالك الصبرَ عنه وذلك قوله تعالى {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى} كلمةَ مِنْ متعلقةٌ بمحذوف هو صفة لمحبةً مؤكدةٌ لما في تنكيرها من الفخامة الإضافيةِ أي محبةً عظيمة كائنةً مني قد زرعتُها في القلوب بحيث لا يكاد يصبِر عنك من رآك ولذلك أحبك عدوُّ الله وآلُه وقيل هي متعلقةٌ بألقيت أي أحببتُك ومن أحبه الله تعالى أحبته القلوبُ لا محالةَ وقولُه تعالَى {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى} متعلقٌ بألقيتُ معطوفٌ على علة له مُضمَرةٍ أي ليتعطف عليك ولنربي بالحنوّ والشفقة بمراقبتي وحِفظي أو بمضمرة مؤخّرٍ هو عبارةٌ عما قبله من إلقاء المحبةِ والجملةُ مبتدَأةٌ أي ولتصنع على عيني فعلتُ ذلك وقري ولِتُصْنعْ على صيغة الأمر بسكون اللام وكسرها وقرئ بفتح التاء والنصب أي وليكونَ عملُك على عين مني لئلا يخالَفَ به عن أمري

40

{إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ} ظرفٌ لتُصنعَ على أن المرادَ به وقتٌ وقع فيه مشيُها إلى بيت فرعونَ وما ترتب عليه من القول والرجْعِ إلى أمها وتربيتِها له بالبر والحُنوّ وهو المِصداق لقوله تعالى وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِى إذ لا شفقةَ

أعظمُ من شفقة الأم وصنعُها على موجب مراعاتِه تعالى وقيلَ هو بدلٌ من إذ أوحينا على أن المرادَ به زمانٌ متّسعٌ متباعدُ الأطراف وهو الأنسبُ بما سيأتي من قوله تعالى فنجيناك مِنَ الغم الخ فإن جميع ذلك من المنن الإلهية ولا تعلق لشيء منها الصنع المذكور وأما كونُه ظرفاً لألقيت كما جُوّز فربما يوهم أن إلقاءَ المحبة لم يحص قبل ذلك ولا ريب في أن معظمَ آثارِ إلقائِها ظهر عند فتحِ التابوت {فَتَقُولُ} أي لفرعون وآسيةَ حين رأتهما يطلبان له عليه السلام مرضعةً يقبل ثديَها وكان لا يقبل ثدياً وصيغةُ المضارعِ في الفعلين لحاكية الحالِ الماضية {هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ} أي يضمه إلى نفسه ويربّيه وذلك إنما يكون بقَبوله ثديَها يروى أنه فشا الخبر بمصر أن آلَ فرعون أخذوا غلاما في النيل لا يرتضع ثديَ امرأة واضطروا إلى تبليغ النساء فخرجت أختُه مريمُ لتعرِف خبرَه فجاءتهم متنكّرة فقالت ما قالت وقالوا ما قالوا فجاءت بأمه فقبل ثديها فالفاء في قوله تعالى {فرجعناك إلى أُمّكَ} فصيحةٌ معربةٌ عن محذوف قبلها يُعطَف عليه ما بعدها أي فقالوا دُلّينا عليها فجاءت بأمك فرجعناك إليها {كَى تَقَرَّ عَيْنُها} بلقائك {وَلاَ تَحْزَنْ} أي لا يطرأَ عليها الحزنُ بفراقك بعد ذلك وإلا فزوالُ الحزن مقدمٌ على السرور المعبَّر عنه بقُرّة العين فإن التخليةَ متقدّمةٌ على التحلية وقيل ولا تحزنَ أنت بفقد إشفاقها {وَقَتَلْتَ نَفْساً} هي نفس القِبْطيّ الذي استغاثه الإسرائيليُّ عليه {فنجيناك مِنَ الغم} أي غمِّ قْتلِه خوفاً من عقاب الله تعالى بالمغفرة ومن اقتصاص فرعونَ بالإنجاء منه بالمهاجَرة إلى مدين {وفتناك فُتُوناً} أي ابتليناك ابتلاءً أو فتوناً من الابتلاء على أنه جمعُ فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحُجوز في حجزة وبُدور في بَدْرة أي خلصناك مرة أخرى وهو إجمالُ ما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقةِ الأُلاّف والمشْي راجلاً وفقْدِ الزاد وقد روي أن سعيدَ ابن جبير سأل عنه ابنَ عباس رضي الله عنهما فقال خلّصناك من محنة بعد محنة ولد في عام كان يُقتل فيه الوِلْدانُ فهذه فتنةٌ يا ابنَ جبير وألقتْه أمُّه في البحر وهمّ فرعونُ بقتله وقتلَ قِبْطياً وآجَرَ نفسه عشر سنين وضلّ الطريقَ وتفرّقت غنمُه في ليلة مظلمة وكان يقول عند كلِّ واحدةٍ فهذه فتنةٌ يا ابنَ جبير ولكن الذي يقتضيه النظمُ الكريم أن لا تُعدَّ إجارةُ نفسه وما بعدها من تلك الفُتون ضرورةَ أن المرادَ بها ما وقع قبل وصولِه عليه السلام إلى مدين بقيضة الفاء في قوله تعالى {فلبثت سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ} إذْ لا ريبَ في أن الإجارةَ المذكورة وما بعدها مما وقع بعد الوصولِ إليهم وقد أشير بذكر لُبثه عليه السلام فيهم دون وصولِه إليهم إلى جميع ما قاساه عليه السلام في تضاعيف تلك السنينَ العشْر من فنون الشدائد والمكاره التى كلُّ واحد منها فتنةٌ وأيُّ فتنة ومدينُ بلدةُ شعيب عليه الصلاة والسلام على ثماني مراحل مصرَ {ثُمَّ جِئْتَ} إلى المكان الذين أُونس فيه النارُ ووقع فيه النداءُ والجُؤار وفي كلمة التراخي إيذانٌ بأن مجيئَه عليه السلام كان بعد اللَّتيا وَالتى من ضلال الطريق وتفرُّقِ الغنم في الليلة المظلمةِ الشاتية وغيرِ ذلك {على قَدَرٍ} أي تقديرٍ قدّرتُه لأن أكلك وأستنبئَك في وقت قد عينته لذلك فما جئت إلا على ذلك القدَرِ غير مستقدم ولا مستأجر وقيل على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم السلام وهو رأسُ أربعين سنةً وقوله تعالى {يا موسى} تشريفٍ له عليه الصَّلاةُ والسلام وتنبيهٌ على انتهاء الحكايةِ التي هي تفصيلُ المرةِ الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولا

طه 41 44 وقوله تعالى

41

{واصطنعتك لِنَفْسِى} تذكير لقوله تعالى وأنا اخترتك وتمهيدٌ لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيّداً بأخيه حسبما استدعاه بعد تذكير المنن السابغة السابقة تأكيداً لوثوقه عليه السلام بحصول نظائرِها اللاحقة وهذا تمثيلٌ لما خوّله عز وعلا من الكرامة العظمى بتقريب الملِكِ بعضَ خواصّه واصطناعِه لنفسه وترشيحِه لبعض أمورِه الجليلة والعدولُ عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى وفتناك ونظيرَيه السابقين تمهيدٌ لإفراد لفظِ النفسِ اللائقِ بالمقام فإنه أدخلُ في تحقيق معنى الاصطناعِ والاستخلاص أي اصطفيتُك برسالاتي وبكلامي وقوله تعالى

42

{اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ} أي وليذهبْ أخوك حسبما استدعيتَ استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما هو المقصودُ بالاصطناع {بآياتي} أي بمعجزاتي التي أرَيتُكَها من اليد والعصا فإنهما وإن كانتا اثنتين لكن في كل منهما آياتٌ شتى كما في قوله تعالى فيه آيات بينات مَّقَامُ إبراهيم فإن انقلاب العصا حيواناً آيةٌ وكونَها ثعباناً عظيما لا يقادَر قدرُه آيةٌ آخرى وسرعةَ حركتِه مع عِظم جِرْمه آيةٌ أخرى وكونَه مع ذلك مسخراً له عليه السلام بحيث كان يُدخل يده في فمه فلا يضره آيةٌ أخرى ثم انقلابُها عصاً آيةٌ أخرى وكذلك اليدُ فإن بياضها في نفسه آيةٌ وشعاعَها آيةٌ ثم رجوعُها إلى حالتها الأولى آيةٌ أخرى والباء للمصاحبة لا للتعدية إذ المراد ذهابُهما إلى فرعون ملتبسين بالآيات متمسّكين بها في إجراء أحكامِ الرسالة وإكمالِ أمر الدعوة لا مجردُ إذهابِها وإيصالها إليه {وَلاَ تَنِيَا} لا تفتُرا ولا تقصّرا وقرئ لا تِنيا بكسر التاء للاتباع {فِى ذِكْرِى} أي بما يليق بي من الصفات الجليلةِ والأفعال الجميلة عند تبليغِ رسالتي والدعاءِ إليّ وقيل المعنى لا تنيا في تبليغ رسالتي فإن الذكرَ يقع على جميع العبادات وهو أجلُّها وأعظمُها وقيل لا تنسَياني حيثما تقلبتما واستمِدّا بذكري العونَ والتأييدَ واعلما أن أمراً من الأمور لا يتأتى ولا يتسنّى إلا بذكري

43

{اذهبا إلى فِرْعَوْنَ} جمعهما في صيغة أمر الحاضرِ مع غَيبة هارون إذ ذاك للتغليب وكذا الحالُ في صيغة النهي روي أنه أوحي إلى هارونَ وهو بمصر أن يتلقّى موسى عليهما السلام وقيل سمِع بإقباله فتلقاه {إِنَّهُ طغى} تعليلٌ لموجب الأمر والفاء في قوله تعالى

44

{فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً} لترتيب ما بعدها على طغيانه فإن تليينَ القولِ مما يكسِر سَوْرةَ عنادِ العُتاة ويُلين عريكةَ الطغاة قال ابن عباس رضي الله عنهما لا تُعنّفا في قولكما وقيل القولُ اللين مثل هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ فإنها دعوةٌ في صورة عَرْض ومَشورة ويرده ما سيجئ من قوله تعالى فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ الآيتين وقيل كنِّياه وكان له ثلاثُ كُنًى أبو العباس وأبو الوليد وأبو مُرّة وقيل

طه 45 47 عِداه شباباً لا يهرَم ويبقى له لذةُ المطعم والمشرب ومنكح ومُلكاً لا يزول إلا بالموت وقرئ لَيْنا {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ} بما بلغتُماه من ذكري ويرغب فيمار رغّبتماه فيه {أَوْ يخشى} عقاب ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحال من ضمير التثنية أي فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً راجين أن يتذكر أو يخشى وكلمةُ أو لمنع الخُلوّ أي باشِرا الأمرَ مباشرةَ مَنْ يرجو ويطمع في أن يُثمر علمه ولا يخيبَ سعيُه وهو يجتهد بطَوْقه ويحتشد بأقصى وُسْعه وجدوى إرسالِهما إليه مع العلم بحاله إلزامُ الحجة وقطعُ المعذرة

45

{قَالاَ رَبَّنَا} أُسند القولُ إليهما مع أن القائلَ حقيقة هو موسى عليهِ الصلاةُ والسلامُ بطريقِ التغليبِ إيذاناً بأصالته في كل قولٍ وفعلٍ وتبعيّةِ هارونَ عليه السلام له في كلِّ ما يأتي ويذر ويجوز أن يكون هارونُ قد قال ذلك بعد تلاقيهما فحَكى ذلك مع قولِ موسى عليه السلام عند نزولِ الآية كما في قوله تعالى يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات فإن هذا الخطابَ قد حُكي لنا بصيغة الجمع مع أن كلاًّ من المخاطَبين لم يخاطَب إلا بطريق الانفرادِ ضرورةَ استحالةِ اجتماعِهم في الوجود فكيف باجتماعهم في الخطاب {إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا} أي يعجَلَ علينا بالعقوبة ولا يصبِرَ إلى إتمام الدعوةِ وإظهارِ المعجزة من فرَط إذا تقدّم ومنه الفارِطُ وفرسٌ فارِطٌ يسبِق الخيل وقرئ يُفرِطَ من أفرطه إذا حمله على العجلة أي نخاف أن يحمِله حاملٌ من الاستكبار أو الخوف على المُلك أو غيرهما على المعاجلة بالعقاب {أَوْ أَن يطغى} أي يزداد طغياناً إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لكمال جراءتِه وقساوته وإطلاقُه من حسن الأدب وإظهارُ كلمة أن مع سَداد المعنى بدونه لإظهار كمالِ الاعتناء بالأمرِ والإشعارِ بتحقق الخوفِ من كل منهما

46

{قال} استئناف مبني على السؤال الناشىءِ من النظم الكريم ولعل إسناد الفعلِ إلى ضمير الغَيبة للإشعار بانتقال الكلامِ من مساق إلى آخرَ فإن ما قبله من الأفعال الواردةِ على صيغة التكلم حكايةٌ لموسى عليه السلام بخلاف ما سيأتِي من قولِه تعالى فلنا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعلى فإن ما قبله أيضاً واردٌ بطريق الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ لهما ربُّهما عند تضرُّعِهما إليه فقيل قال {لاَ تَخَافَا} ما توهمتما من الأمرين وقوله تعالى {إِنَّنِى مَعَكُمَا} تعليلٌ لموجب النهي ومزيدُ تسليةٍ لهما والمرادُ بالمعية كمالُ الحفظ والنُّصرة كما ينبئ عنه قوله تعالى {أَسْمَعُ وأرى} أي ما جري بينكما وبينه من قول وفعلٍ فأفعلُ في كل حال ما يليق بها من دفع ضُرّ وشر وجلب نفعٍ وخير ويجوز أن لا يُقدَّر شيءٌ على معنى أنني حافظُكما سميعاً بصيراً والحافظ الناصرُ إذا كان كذلك فقد تم وبلغت النُّصرةُ غايتها

47

{فَأْتِيَاهُ} أُمِرا بإتيانه الذي هو عبارةٌ عن الوصول إليه بعدما أمر بالذهاب إليه فلا تكرار وهو عطف على لا تخافا باعتبار

طه 48 49 تعليلِه بما بعده {فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ} أُمرا بذلك تحقيقاً للحق من أول الأمر ليعرِف الطاغيةُ شأنَهما ويبني جوابُه عليه وكذا التعرضُ لربوبيته تعالى له والفاء في قوله تعالى {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسرائيل} لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن كونَهما رسوليْ ربِّه مما يوجب إرسالَهم معهما والمرادُ بالإرسال إطلاقُهم من الأسر والقسر وإخراجُهم من تحت يدِه العاديَةِ لا تكليفُهم أن يذهبوا معه معهما إلى الشام كما ينبئ عنه قوله تعالى {وَلاَ تُعَذّبْهُمْ} أي بإبقائهم على ما كانُوا عليهِ من العذاب فإنهم كانوا تحت مَلَكَة القِبْط يستخدمونهم في الأعمال الصعبة الفادحة من الحفر ونقْلِ الأحجار وغيرهما من الأمور الشاقةِ ويقتُلون ذكورَ أولادِهم عاماً دون عام ويستخدمون نساءَهم وتوسيطُ حكمِ الإرسال بين بيان رسالتِهما وبين ذكرِ المجيء بآية دالةٍ على صحتها لإظهار الاعتناءِ به مع ما فيه من تهوين الأمرِ على فرعون فإن إرسالَهم معهما من غير تعرّض لنفسه وقومِه بفنون التكاليف الشاقةِ كما هو حكمُ الرسالة عادةً ليس مما يشُقّ عليه كلَّ المشقة ولأن في بيان مجيءِ الآية نوعَ طُولٍ كما ترى فتأخيرُ ذلك عنْهُ مُخِلٌّ بتجاوُب أطرافِ النظمِ الكريم وأما ما قيل من أن ذلك دليلٌ على أن تخليصَ المؤمنين من الكفرة أهمُّ من دعوتهم إلى الإيمان فكلا {قد جئناك بآية مّن رَّبّكَ} تقريرٌ لما تضمنه الكلامُ السابق من دعوى الرسالةِ وتعليلٌ لوجوب الإرسالِ فإن مجيئَهما بالآية من جهته تعالى مما يحقق رسالتهما ويقررها ويوجب الامتثالَ بأمرهما وإظهارُ اسمِ الربِّ في موضع الإضمار مع الإضافة إلى ضمير المخاطبِ لتأكيد ما ذُكِرَ من التقريرِ والتعليل وتوحيدُ الآيةِ مع تعدّدها لأن المرادَ إثباتُ الدعوى ببرهانها لا بيانُ تعدّد الحجةِ وكذلك قوله تعالى قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ وقولُه تعالى أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ وأما قوله تعالى فأت بآية إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فالظاهرُ أن المرادَ بها آيةٌ من الآيات {والسلام} المستتبِعُ لسلامة الدارين من الله تعالى والملائكةِ وغيرهم من المسلمين {على مَنِ اتبع الهدى} بتصديق آياتِ الله تعالى الهاديةِ إلى الحق وفيه من ترغيبه في اتباعهما على ألطف وجهٍ مالا يخفى

48

{إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا} من جهة ربنا {أَنَّ العذاب} الدنيويَّ والأخروي {على مَن كَذَّبَ} أي بآياته تعالى {وتولى} أي أعرض عن قَبولها وفيه من التلطيف في الوعيد حيث لم يصرَّحْ بحلول العذاب به مالا مزبد عليه

49

{قال} أي فرعون بعدما أتياه وبلَّغاه ما أُمرا به وإنما طوي ذكره للإيجاز والإشعارِ بأنهما كما أُمرا بذلك سارعا إلى الامتثال به من غير تلعثم وبأن ذلك منَ الظهورِ بحيثُ لا حاجة إلى التصريح به {فَمَن ربكما يا موسى} لم يُضِف الربَّ إلى نفسه ولو بطريق حكاية ما في قوله تعالى إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ وقوله تعالى قد جئناك بآية مّن رَّبّكَ لغاية عتوِّه ونهاية طُغيانه بل أضافه إليهما لما أن المرسِلَ لابد أن يكون رباً للرسول أو لأنهما قد صرحا بربوبيته تعالى للكل بأن قالا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين كما وقعَ في سورةِ الشعراء والاقتصار ها هنا على ذكر ربوبيته تعالى لفرعون لكفايته فيما هو المقصودُ والفاءُ لترتيب السؤال على ما سق من كونهما رسولَيْ ربِّهما أي إذا كنتما رسولَي ربكما فأخبرا من ربكما الذي

طه 50 51 أرسلكما وتخصيصُ النداء بموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع توجيه الخطابِ إليهما لما أنه الأصلُ في الرسالة وهارونُ وزيرُه وأما ما قيل من أن ذلك لأنه قد عرف أن له عليه الصلاة والسلام رُتّةً فأراد أن يُفحِمه فيردُّه ما شاهده منه عليه الصلاة والسلام من حسن البيانِ القاطعِ لذلك الطمع الفارع وأما قوله وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فمن غلوّه في الخُبث والدعارة كما مر

50

{قَالَ} أي موسى عليه الصلاة والسلام مجيباً له {رَبَّنَا} إما مبتدأٌ وقوله تعالى {الذى أعطى كل شىء خلقه} خبرُه أو هو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ والموصولُ صفتُه وأياً ما كان فلم يريدا بضمير المتكلم أنفسَهما فقط حسبما أراد اللعينُ بل جميعَ المخلوقاتِ تحقيقاً للحق ورداً عليه كما يُفصح عنه مَا في حيزِ الصلةِ أي هو ربُّنا الذي أعطى كل شئ من الأشياء خلقَه أي صورتَه وشكلَه اللائقَ بما نيط به من الخواصّ والمنافِع أو أعطى مخلوقاتِه كل شئ تحتاج هي إليه وترتفق به وتقديمُ المفعول الثاني للاهتمام به أو أعطى كلَّ حيوان نظيرَه في الخلق والصورة حيث زوّج الحصان بالفرس والبعيرَ بالناقة والرجلَ بالمرأة ولم يزوِّج شيئاً من ذلك بخلاف جنسه وقرئ خَلَقه على صيغة الماضي على أن الجملة صفةٌ للمضاف أو المضافِ إليه وحَذفُ المفعولِ الثاني إما للاقتصار على الأول أي كلَّ شيء خلقه الله تعالى لم يحرِمْه من عطائه وإنعامِه أو للاختصار من كونه منوياً مدلولاً عليه بقرينة الحالِ أي أعطى كل شىء خلقه الله تعالى ما يحتاج إليه {ثُمَّ هدى} أي إلى طريق الانتفاع والاتفاق بما أعطاه وعرّفه كيف يَتوصّل إلى بقائه وكماله إما اختياراً كما في الحيوانات ولمّا كان الخلقُ الذي هو عبارةٌ عن تركيب الأجزاءِ وتسويةِ الأجسام متقدماً على الهدايةِ التي هي عبارةٌ عن إيداع القُوى المحرِّكةِ والمدْرِكة في تلك الأجسامِ وُسِّط بينهما كلمةُ التراخي ولقد ساق عليه الصلاة والسلام جوابَه على نمط رائقٍ وأسلوب لائقٍ حيث بين أنه تعالى عالمٌ قادرٌ بالذات خالقٌ لجميع الأشياء مُنعِمٌ عليها بجميع ما يليق بها بطريق التفضلِ وضمّنه أن إرسالَه تعالى إلى الطاغية من جملة هداياته تعالى إياه بعد أن هداه إلى الحق بالهدايات التكوينيةِ حيث ركّب فيه العقلَ وسائرَ المشاعرِ والآلاتِ الظاهرةِ والباطنة

51

{قَالَ فَمَا بَالُ القرون الاولى} لما شاهر اللعين مانظمه عليه الصلاة والسلام في سلك الاستدلالِ من البرهان النيّر على الطراز الرائِع خاف أن يُظهر للناس حقية مقالاته عليه الصلاة والسلام وبُطلانَ خرافات نفسِه ظهوراً بيّناً فأراد أن يصرِفه عليه الصلاة والسلام عن سننه إلى مالا يعنيه من الأمور التي لا تعلُّقَ لها بالرسالة من الحكايات ويشغَلَه عما هو بصدده عسى يظهر فيه نوعُ غفلةٍ فيتسلق بذلك إلى أن يدّعيَ بين يدي قومه نوعَ معرفة فقال ما حالُ القرونِ الماضية والأممِ الخالية وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة فأجاب عليه الصلاة والسلام بأن العلمَ بأحوالهم مفصّلةً مما لا ملابسة له بمنصِب الرسالة وإنما علمُها عند اللَّهُ عزَّ وجلَّ وأما ما قيل من أنه سأله عن حال مَنْ خلا من القرون وعن شقاء من شقيَ منهم وسعادةِ من سعِد فيأباه

طه 52 53 قوله تعالى

52

{قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّى} فإن معناه أنه من الغيوب التي لا يعلمُها إلا الله تعالى وإنما أنا عبدٌ لا أعلم مها إلا ما علّمنيه من الأمور المتعلقة بما أُرسلت به ولو كان المسؤولُ عنه ما ذكر من الشقاوة والسعادةِ لأجيب ببيان أن من اتبع الهدى منهم فقد سلِم ومن تولى فقد عُذّب حسبما نطق به قوله تعالى والسلام الآيتين {فِى كتاب} أي مُثْبتٍ في اللوحِ المحفوظِ بتفاصيلِه ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ تمثيلاً لتمكنه وقرره في علم الله عزل وجل بما استحفظه العالَم وقيده بالكَتَبة كَما يلوحُ بهِ قولُه تعالى {لاَ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى} أي لا يخطئ ابتداءً ولا يذهب علمه بقاء بل ثابتٌ أبداً فإنهما مُحالان عليه سبحانه وهو على الأول لبيان أن إثباتَه في اللوح ليس لحاجته تعالى إليه في العلم به ابتداءً أو بقاءً وإظهارُ ربي في موقع الإضمار للتلذذ بذكره ولزيادة التقريرِ والإشعارِ بعِلة الحُكم فإن الربوبيةَ مما يقتضي عدمَ الضلالِ والنسيانِ حتماً ولقد أجاب عليه الصلاة والسلام عن السؤال بجواب عبقري بديعٍ حيث كشف عن حقيقة الحقِّ حجابَها مع أنه لم يخرُجْ عما كان بصدده من بيان شئونه تعالى ثم تخلّص إليه حيث قال بطريق الحكايةِ عن الله عز وجل لما سيأتي من الالتفات

53

{الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} على أن الموصولَ إما مرفوعٌ على المدح أو منصوبٌ عليه أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي جعلها لكم كالمهد تتمهدونها أو ذاتَ مهدٍ وهو مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ وقرئ مِهاداً وهو اسمٌ لما يُمْهد كالفِراش أو جمعُ مهد أي جعل كلَّ موضع منها مهداً لكل واحد منكم {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أي حصّل لكم طرقاً ووسّطها بين الجبال والأودية والبراري تسلُكونها من قُطْر إلى قطر لتقضُوا منها مآربَكم وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} هو المطر {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أيْ بذلكَ الماءِ وهو عطفٌ على أنزل داخلٌ تحت الحكاية وإنما التُفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيهِ منَ الدلالةِ عَلى كمال القدرةِ والحكمة والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مُطاعٍ عظيمِ الشأن تنقاد لأمره وتُذعِن لمشيئته الأشياءُ المختلفة كما في قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزل مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وقولِه تعالى أَم مَّنْ خلقِ السمواتِ والأرضِ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ خلا أن ما قبل الالتفاتِ هناك صريحُ كلامِه تعالى وأما ها هنا فحكايةٌ عنه تعالى وجَعْلُ قوله تعالى فأخرجا بِهِ هو المحكيَّ مع كون ما قبله كلاَم موسى عليه الصلاة والسلام خلافُ الظاهر مع أنه يفوّت حينئذ الالتفاتَ لعدم اتحادِ المتكلم {أزواجا} أصنافاً سميت بذلك لازدواجها واقترانِ بعضِها ببعض {مّن نبات} بيانٌ أو صفةٌ لأزواجاً أي كائنة من نبات وكذا قوله تعالى {شتى} أي متفرقة جمعُ شتيت ويجوزُ أن يكونَ صفةً لنبات لما أنه في الأصل مصدرٌ يستوي فيه الواحدُ والجمعُ يعني أنها شتّى مختلفةٌ في الطعم والرائحة والشكل والنفع بعضُها صالح للباس على اختلاف وجوهِ الصلاح وبعضُها للبهائم فإن من تمام نعمته تعالى

طه 54 56 أن أرزاقَ عبادِه لما كان تحصّلها بعمل الأنعامِ جعل علَفها مما يفضُل عن حاجاتهم ولا يليق بكونه طعاماً لهم وقوله تعالى

54

{كُلُواْ وارعوا أنعامكم} حال من ضمير فأخرجنا على إرادةِ القولِ أيْ أخرجنا منها أصنافَ النباتِ قائلين كلوا وارعَوا أنعامَكم أي معدّيها لانتفاعكم بالذات وبالواسطة آذنين في ذلك {إِنَّ فِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذكر من شئونه تعالى وأفعاله وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتِه وبُعدِ منزلتِه في الكمال والتنكيرُ في قوله تعالى {لاَيَاتٍ} للتفخيم كماً وكيفاً أي لآياتٍ كثيرةً جليلةً واضحةَ الدِلالة على شئون الله تعالى في ذاتِهِ وصفاتِه وأفعالِهِ وعلى صحة نبوةِ موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام {لأُوْلِى النهى} جمع نُهْية سمّي بها العقلُ لنهيه عن اتباع الباطلِ وارتكاب القبائح كما سمّي بالعقل والحِجْر لعقله وحَجْره عن ذلك أي لذوي العقول الناهية عن الأباطيل التي من جملتها ما يدّعيه الطاغية ويقبله منه فئتُه الباغية وتخصيصُ كونها آياتٍ بهم مع أنها آياتٌ للعالمين باعتبار أنهم المنتفعون بها

55

{مِنْهَا خلقناكم} أي في ضمن أبيكم آدم عليه الصلاة والسلام منها فإن كلَّ فردٍ من أفراد البشر له حظٌّ من خلقه عليه الصلاة والسلام إذ لم تكن قطرته البديعةُ مقصورةً على نفسه عليه الصلاة والسلام بل كانت أُنموذَجاً منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبِعاً لجَرَيان آثارِها على الكل فكان خلقَه عليه الصَّلاة والسَّلام منها خلقا للكل مها وقيل المعنى خلقنا أبدانَكم من النُطفة المتولدة من الأغذية المتولّدة من الأرض بوسائطَ وقيل إن الملَك الموكلَ بالرحِم يأخذ من تربة المكان الذي يُدفن المولود فيبدّدها على النطفة فيخلق من التراب والنطفة {وفيها نعيدكم} بالإمانة وتفريقِ الأجزاء وإيثار كلمةُ في على كلمة إلى للدِلالة على الاستقرار المديدِ فيها {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} بتأليف أجزائِكم المتفتّتة المختلطةِ بالتراب على الهيئة السابقةِ وردِّ الأرواح إليها وكونُ هذا الإخراجِ تارةً أخرى باعتبار أن خلقَهم من الأرض إخراجٌ لهم منها وإن لم يكن على نهج التارةِ الثانيةِ والتارة في الأصل اسمٌ للتَّوْر الواحد وهو الجرَيانُ ثم أطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات المتجددة كما مر في المرة

56

{وَلَقَدْ أريناه} حكايةٌ إجماليةٌ لما جرى بين موسى عليه الصلاةُ والسلام وبين فرعونَ إثرَ حكايةِ ما ذِكرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بجلائل نَعمائِه الداعيةِ له إلى قَبول الحقِّ والانقيادِ له وتصديرُها بالقسم لإبراز كما العنايةِ بمضمونها وإسنادُ الإراءةِ إلى نون العظمةِ نظراً إلى الحقيقة لا إلى موسى نظر إلى الظاهر لتهويل أمرِ الآياتِ وتفخيمِ شأنها وإظهار كمال شاعة للعين وتماديه في المكابرة والعناد أي وبالله لقد بصّرنا فرعون أو عرفناه {آياتنا} حين قال لموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآية فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين وصيغةُ الجمع مع كونهما اثنتين باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمورِ التي كلٌّ منهَا آيةٌ بينةٌ لقوم يعقلون

طه 57 حسبما بُيّن في تفسيرِ قولِه تعالى اذهب أَنتَ وأخوك بآياتي وقد ظهر عند فرعونَ أمورٌ أُخَرُ كلُّ واحد منها داهيةٌ دهياءُ فإنَّه رُويَ أنَّه عليهِ الصلاةُ والسلام لما ألقاها انقلبتْ ثُعباناً أشعَرَ فاغراً فاهُ بين لَحْيَيهِ ثمانونَ ذراعاً وَضع لَحيَه الأسفلَ عَلى الأرضِ والأَعْلى على سور القصر وتوجه نحوَ فرعونَ فهربَ وأحدثَ وانهزم الناسُ مزدحِمين فماتَ منهُم خمسةٌ وعشرونَ ألفاً من قومه فصاح فرعونُ يا موسى أنشدكَ بالذي أرسلكَ إلا أخذتَه فأخذَهُ فعادَ عصا وروي أنها انقلبتْ حيةً ارتفعتْ في السماءِ قدرَ ميلٍ ثمَّ انحطتْ مُقبلةً نحوَ فرعونٍ وجعلتْ تقولُ يا مُوسَى مُرْني بما شئتَ ويقولُ فرعون أنشدك الخ ونزع يده من جيبه فإذا هي بيضاءُ بياضاً نورانيا خراجا عن حدود العادات قد غلب شعاعُه شعاعَ الشمس يجتمع عليه النَّظارةُ تعجباً من أمره ففي تضاعيف كلَ من الآيتين آياتٌ جمّةٌ لكنها لما كانت غيرَ مذكورةٍ صراحة أُكدتْ بقوله تعالى {كُلَّهَا} كأنه قيل أريناه آيتَيْنا بجميع مُستتبَعاتِهما وتفاصيلِهما قصداً إلى بيان إنه لم يبقَ له في ذلك عذرٌ ما ولا مساغَ لعد بقية الآياتِ التسعِ منها لما أنها إنما ظهرتْ على يدِه عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ بعدما غلبَ السحرةَ على مهلٍ في نحوٍ من عشرينَ سنةً كما مرَّ في تفسير سورةِ الأعرافِ ولا ريبَ في أن أمرَ السحرةِ مترقَّبٌ بعُد وأبعدُ من ذلك أن يُعدَّ منها ما جُعل لإهلاكهم لا لإرشادهم إلى الإيمان من فلْق البحرِ وما ظهر بعد مهلِكِه من الآيات الظاهرةِ لبني إسرائيل من نتْق الجبل والحجر سواءٌ أريد به الحجرَ الذي فرَّ بثوبه أو الذي انفجرت منه العيون وكذا أن يُعدّ منها الآياتِ الظاهرةِ على يد الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام بناءً على أن حكايته عليه الصلاة والسلام إياها لفرعون في حكم إظهارِها بين يديه وإراءتِه إياها لاستحالة الكذب عليه عليه الصَّلاةُ وَالسلامُ فإنَّ حكايته عليه الصلاة والسلام إياها لفرعون مما لم يجر ذكره ههنا على أن ما سيأتي من حمل ما أظهره عليه الصلاة والسلام على السحر والتصدي للمعارضة بالمثل يأباه إباءً بيّناً وينطِق بأن المرادَ بها ما ذكرناه قطعاً ولولا ذلك لجاز جعلُ ما فصله عليه الصلاة والسلام من أفعاله تعالى الدالة على اختصاصه بالربوبية وأحكامِها من جملة الآيات {فَكَذَّبَ} موسى عليه الصلاة والسلام من غير تردّد وتأخُّر مع ما شاهد في يده من الشواهد الناطقةِ بصدقه جحوداً وعِناداً {وأبى} الإيمانَ والطاعةَ لعتوّه واستكبارِه وقيل كذب بالآيات جميعاً وأبى أن يقبل شيئاً منها أو أبى قَبولَ الحق وقوله تعالى

57

{قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أرضنا بسحرك يا موسى} استئنافٌ مبينٌ لكيفية تكذيبه وإبائِه والهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه وادعاءِ أنه أمرٌ محال والمجئ إما على حقيقته أو بمعنى الإقبال على الأمر والتصدي له أي أجئتنا من مكانك الذي كنتَ فيه بعدما غِبت عنا أو أقبلت علينا لتُخرِجنا من مصرَ بما أظهرْته من السحر فإن ذلك مما لا يصدُر عن العاقل لكونه من باب محاولة المُحال وإنما قاله لحمل قومِه على غاية المقْت لموسى عليه الصَّلاة والسَّلامِ بإبراز أن مرادَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ ليس مجردَ إنجاءِ بني إسرائيلَ من أيديهم بل إخراجُ القِبط من وطنهم وحيازة أموالهم وأملاكهم بالكية حتى لا يتوجّهَ إلى اتباعه أحدٌ ويبالغوا في المدافعة والمخاصمة وسمي ما أظهره عليه الصلاة والسلام من المعجزة الباهرة سحراً لتجسيرهم على المقابلة ثم ادّعى أنه يعارضه

طه 58 61 بمثل ما أتى به عليه الصلاة والسلام فقال

58

{فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ} الفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ كأنَّه قيلَ إذَا كان كذلك فو الله لنأتينك بسحر مثلِ سحرِك {فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً} أي وعدا كما ينبئ عنه وصفُه بقوله تعالى {لاَّ نُخْلِفُهُ} فإنه المناسبُ لا المكانُ والزمانُ أي لا نخلف ذلك الوعد {نَحْنُ وَلا أَنتَ} وإنما فوّض اللعينُ أمرَ الوعد إلى موسى عليه الصلاة والسلام للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب وضيقِ المجال وإظهارِ الجلادة وإراءة أنه متمكّنٌ من تهيئه أسباب المعارضةِ وترتيبِ آلاتِ المغالبة طال الأمدُ أم قصُر كما أن تقديمَ ضميره على ضمير موسى عليه الصلاة والسلام وتوسيطَ كلمةِ النفي بينهما للإيذان بمسارعته إلى عدم الإخلافِ وأن عدم إخلافِه لا يوجب إخلافه عليهِ الصلاةُ والسلامُ ولذلكَ أُكّد النفيُ بتكرير حرفِه وانتصابُ {مَكَاناً سُوًى} بفعل يدل عليه المصدرُ لا به فإنه موصوفٌ أو بأنه بدلٌ من موعداً على تقدير مكان مضاف إليه فحينئذ تكون مطابقةُ الجواب في قوله تعالى

59

{قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} من حيث المعنى فإن يوم الزينة يدلّ على مكان مشتهرٍ باجتماع الناس فيه يومئذ أو بإضمار مثلَ مكانِ موعدِكم مكانَ يوم الزينة كما هو على الأول أو وعدُكم وعدُ يوم الزينة وقرئ يومَ بالنصب وهو ظاهرٌ في أنَّ المرادَ بِه المصدرُ ومعنى سُوى مُنتصَفاً تستوي مسافته إلينا وإليك وهو في النعت كقولهم قوم عدي في الشذوذ وقرئ بكسر السين قيل يومُ الزينة يومُ عاشوراءَ أو يومُ النَّيْروز أو يومُ عيد كان لهم في كل عام وإنما خصه عليه الصلاة والسلام بالتعيين لإظهار كمالِ قوتِه وكونِه على ثقة من أمره وعدم مشهور على رءوس الأشهاد ويشيع ذلك فيما بين كل حاضرٍ وباد {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} عطفٌ على يومُ أو يوم الزينة وقرئ على البناء للفاعل بالتاء على خطاب فرعونَ وبالياء على أن الضميرَ له على سنن الملوك أو لليوم

60

{فتولى فِرْعَوْنُ} أي انصرف عن المجلس {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} أي ما يُكادُ به من السحرة وأدواتِهم {ثُمَّ أتى} أي الموعدَ ومعه ما جمعه من كيده وفي كلمة التراخي إماء إلى أنه لم يسارعْ إليه بل أتاه بعد لأْيٍ وتلعثم وقوله تعالى

61

{قَالَ لَهُمْ موسى} الخ بطريق الاستئنافِ المبنيِّ على السؤال يقضي بأن المترقَّبَ من أحواله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينئذٍ والمحتاجَ إلى السؤال والبيانِ ليس إلا ما صدر عنه عليه الصلاة والسلام من الكلام وأما إتيانُه أولاً فأمرٌ محققٌ غنيٌّ عن التصريحِ بهِ كأنهُ قيل فماذا صنعَ موسى عليه الصلاةُ والسلامُ عند إتيان فرعون بما جمعه من السحرة فقيل قال لهم بطريق النصيحة {وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً}

بأن تدْعوا آياتِه التي ستظهر على يدي سِحراً كما فعل فرعون {فَيُسْحِتَكُم} أي يستأصلكم بسببه {بِعَذَابِ} هائل لا يقادر قدره وقرئ يَسحَتُكم من الثلاثي على لغة أهلِ الحجاز والإسحاتُ لغةُ بني تميم ونجد {وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى} أي على الله كائناً مَنْ كان بأي وجهٍ كان فيدخل فيه الافتراءُ المنهيُّ عنه دخولاً أولياً أو وقد خاب فرعونُ المفتري فلا تكونوا مثلَه في الخَيبة والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قلها

62

{فتنازعوا} أي السحرةُ حين سمعوا كلامِه عليه الصَّلاة والسَّلام كأن ذلك غاظهم فتنازعوا {أمرهم} الذين أريد منهم مِنْ مغالبته عليه الصلاة والسلام وتشاوروا وتناظروا {بَيْنَهُمْ} في كيفية المعارضةِ وتجاذبوا أهدابَ القول في ذلك {وَأَسَرُّواْ النجوى} أي من موسى عليه الصلاة والسلام لئلا يقِفَ عليه فيدافعَه وكان نجواهم ما نطَق به قولُه تعالى

63

{قَالُواْ} أي بطريق التناجي والإسرار {إن هذان لساحران} الخ فإنه تفسيرٌ له ونتيجةٌ لتنازعهم وخلاصةُ ما استقرت عليه آراؤُهم بعد التناظرِ والتشاور وإنْ مخففةٌ من أن قد أهملت عن العمل واللام فارقة وقرئ بتشديد نون هذان وقيل هي نافيةٌ واللامُ بمعنى إلا أي ما هذان إلا ساحران وقرئ إنّ بالتشديد وهذان اسمُها على لغة بلحارث بن كعب فإنهم يُعربون التثنيةَ تقديراً وقيل اسمُها ضميرُ الشأن المحذوفُ وهذان لساحران خبرُها وقيل إن بمعنى نعم وما بعدها جملةٌ من مبتدإٍ وخبر وفيهما أن اللامَ لا تدخُل خبرَ المبتدأ وقيل أصله إنه هذان لهما ساحران فحذف الضمير وفيه أن المؤكدَ باللام لا يليق به الحذف وقرئ إن هذين لساحران وهي قراءةٌ واضحة {يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ} أي أرض مصرَ بالاستيلاء عليها {بِسِحْرِهِمَا} الذي أظهراه من قبل {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى} أي بمذهبكم الذي هو أفضلُ المذاهب وأمثلُها بإظهار مذهبهما وإعلاءِ دينهما يريدون به ما كان عليه قومُ فرعون لا طريقةَ السحر فإنهم ما كانوا يعتقدونه ديناً وقيل أرادوا أهلَ طريقتكم وهم بنو إسرائيل لقول موسى عليه الصلاة والسلام أرسل معنا نبي إسرائيلَ وكانوا أربابَ علمٍ فيما بنيهم ويأباه أن إخراجَهم من أرضهم إنما يكون الاستيلاء عليها تمكناً وتصرفاً فكيف يتصور حينئذ نقلُ بني إسرائيلَ إلى الشام وحملُ الإخراج على أخراج بني إسرائيلَ منها مع بقاء قومِ فرعون على حالهم مما يجب تنزيهُ التنزيلِ عن أمثالِه على أن هذه المقالةَ منهم للإغراء بالمبالغة في المغالبة والاهتمامِ بالمناصبة فلا بد أن يكون الإنذارُ والتحذيرُ بأشد المكاره وأشقِّها عليهم ولا ريب في أن إخراجَ بني إسرائيل من بنيهم والذهابَ بهم إلى الشام وهم آمنون في ديارهم ليس فيه كثيرُ محذورٍ وقيل الطريقةُ اسمٌ لوجوه القوم وأشرافِهم لما أنهم قُدوةٌ لغيرهم ولا يخفى أن تخصيصَ الإذهاب بهم مما لا مزية فيه

طه 64 65 وقوله تعالى

64

{فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} تصريحٌ بالمطلوب إثرَ تمهيدِ المقدّمات والفاءُ فصيحةٌ أي إِذا كانَ الأمرُ كَما ذُكر من كونهما ساحرَين يريد أن بكم ما ذُكر من الإخراج والإذهاب فأزمعوا كيدَكم واجعلوه مُجمَعاً عليه بحيث لا يتخلّف عنه واحدٌ منكم وارمُوا عن قوس واحدةٍ وقرىء فاجْمعوا من الجمع ويعضدُه قوله تعالى فجمع كيده أي فاجمعوا أدواتِ سحركم ورتّبوها كما ينبغي {ثُمَّ ائتوا صَفّاً} أي مصطفّين أُمروا بذلك لأنه أهْيبُ في صدور الرائين وأدخلُ في استجلاب الرهبة من المشاهِدين قيل كانوا سبعين ألفاً مع كل منهم حبلٌ وعصاً وأقبلوا عليه إقبالةً واحدة وقيل كانوا اثنين وسبعين ساحراً اثنان من القِبط والباقي من بني إسرائيل وقيل تِسعَمائة ثلاثُمائةٍ من الفرس وثلاثُمائةٍ من الروم وثلاثمائة من الإسكندرية وقيل خمسةَ عشرَ ألفاً وقيل بضعةً وثلاثين ألفاً والله أعلم ولعل الموعدَ كان مكاناً متسعاً خاطبهم موسى عليهِ الصَّلاة والسَّلام بمَا ذكره في قُطر من أقطاره وتنازعوا أمرهم في قُطر آخرَ منه ثم أُمروا بأن يأتوا وسَطَه على الوجه المذكور وقد فُسّر الصفُّ بالمصلّى لاجتماع الناسِ فيه في الأعياد والصلواتِ ووجهُ صِحّتِه أن يكون علماً لموضع معّينٍ من المكان المعود وأما إرادةُ مصلًّى من مصليات بعد تعين المكان الموعودِ فلا مساغ لها قطعاً وقوله تعالى {وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى} اعتراضٌ تذييليٌّ من قِبلهم مؤكدٌ لما قله من الأمرين أي قد فاز بالمطلوب من غلب يريدون بالمطلوب ما وعدهم فرعونُ من الأجر والتقريب حسبما نطق به قوله تعالى قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين وبمن غلب أنفسَهم جميعاً على طريقة قولهم بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون أو مَنْ غلب منهم حثاً لهم على بذل المجهودِ في المغالبة هذا هو اللائقُ بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم وقد قيل كان نجواهم أن قالوا حين سمِعوا مقالة موسى عليه الصلاة والسلام ما هذا بقول ساحر وقيل كان ذلك أن قالوا إن غَلَبنا موسى اتّبعناه وقيل كان ذلك قولَهم إن كان ساحراً فسنغلِبه وإن كان من السماء فله أمرٌ فيكون إسرارُهم حينئذ من فرعون ومَلئِه ويُحمل قولُهم إن هذان لساحران الخ على أنهم اختلفوا فيما بنيهم على الأقاويل المذكورةِ ثم رجعوا عن ذلك بعد التنازُعِ والتناظُر واستقرت آراؤهم على ذلك وأبَوْا إلا المناصبةَ للمعارضة وأما جعلُ ضمير قالوا لفرعون وملَئِه على أنهم قالوا ذلك للسحرة رداً لهم عن الاختلاف وأمروهم الإجماع والإزماعِ وإظهارِ الجلادة بالإتيان على وجه الاصطفافِ فمُخِلٌّ بجزالة النظمِ الكريم كما يشهد به الذوقُ السليم

65

{قالوا} استئناف مبني على سؤال ناشئ من حكايةِ ما جَرَى بينَ السحرة من المقاولة كأنَّه قيلَ فمَاذا فعلُوا بعد ما قالوا فيما بينهم ما قالوا فقيل قالوا {يا موسى} وإنما لم يتعرض لإجماعهم وإتيانِهم بطريق الاصطفافِ إشعاراً بظهور أمرِهما وغناهما عن البيان {إِمَّا أَن تُلْقِىَ} أي ما نلقيه أولاً على أن المفعولَ محذوفٌ لظهوره أو تفعل الإلقاءَ أولاً على أن الفعلَ منزّلٌ منزلةَ اللازم {وإما أن نكون أول مَنْ ألقى} ما يُلقيه أو أولَ من يفعل الإلقاء خيروه عليهِ الصَّلاة والسَّلام بمَا ذُكر مراعاةً للأدب لِما رأوا

طه 66 69 منه عليه الصلاة والسلام ما رأَوا من مخايل الخيرِ ورزانةِ الرأْي وإظهاراً للجلادة بإراءة أنه لا يختلف حالُهم بالتقديم والتأخير وأنْ مع ما في حيزها منصوبٌ بفعل مضمر أو مرفوعٌ بخبرية مبتدأ محذوفٍ أي اخترْ إلقاءَك أولاً أو إلقاءَنا أو الأمرُ إما إلقاؤُك أو إلقاؤنا

66

{قال} استئناف كما سلف ناشىءٌ من حكاية تخييرِ السحرة إياه عليه الصلاة والسلام كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ عليهِ الصَّلاة والسَّلام فقيلَ قال {بَلْ أَلْقُواْ} أنتم أولاً مقابلةً للأدب بأحسنَ مِنْ أدبهم حيث بتّ القولَ بإلقائهم أولاً وإظهاراً لعدم المبالاةِ بسحرهم ومساعدةً لما أوهموا من الميل إلى البدء وليبُرِزوا ما معهم ويستفرغوا أقصى جُهدِهم ويستنفدوا قُصارى وُسعِهم ثم يظهر الله عز وجل سلطانَه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه لمّا علم أن ما سيظهر بيده سيلقَف ما يصنعون من مكايد السحر {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} الفاءُ فصيحة معربة عن مسارعتهم إلى الإلقاء كما في قوله تعالى فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق أي فألقَوا فإذا حبالُهم وهي للمفاجأة والتحقيقُ أنها أيضاً ظرفيةٌ تستدعي متعلَّقاً بنصبها وجملة تضاف إليها لكنها خُصت بكون متعلَّقِها فعلَ المفاجأة والجملةُ ابتدائيةٌ والمعنى فألقوا ففاجأ موسى عليه الصلاة والسلام وقت أن يُخيَّل إليه سعيُ حبالِهم وعِصِيِّهم من سحرهم وذلك أنهم كانوا لطّخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمسُ اضطربت واهتزت فخُيل إليه أنها تتحرك وقرئ تُخيِّل بالتاء على إسناده إلى ضمير الحبال والعِصِيّ وإبدالِ أنها تسعى منه بدل اشتمال وقرئ يُخيِّل بإسناده إليه تعالى وقرئ تَخَيَّل بحذف إحدى التاءين من تتخيل

67

{فأوجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفة موسى} أي أضمر فيها بعضَ خوفٍ من مفاجأته بمقتضى البشريةِ المجبولةِ على النفْرة من الحيّات والاحترازِ من ضررها المعتاد من اللسْع ونحوِه وقيل من أن يخالج الناسَ شكٌّ فلا يتبعوه وليسَ بذاكَ كما ستعرفُهُ وتأخيرُ الفاعل لمراعاة الفواصل

68

{قُلْنَا لاَ تَخَفْ} أي ما توهمتَ {إِنَّكَ أَنتَ الأعلى} تعليلٌ لما يوجبه النهيُ من الانتهاء عن الخوف وتقريرٌ لغلبته على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه كما يُعرب عنه الاستئنافُ وحرفُ التحقيق وتكريرُ الضمير وتعريفُ الخبر ولفظ العلو المنبئ عن الغلَبة الظاهرة وصيغةُ التفضيل

69

{وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ} أي عصاك كما وقعَ في سورةِ الأعراف وإما أُوثر الإبهامُ تهويلاً لأمرها وتفخيماً لشأنها وإيذاناً بأنها ليست من جنس العِصِيِّ المعهودة المستتبعةِ للآثار المعتادة بل خارجةٌ عن حدود سائرِ أفراد الجنسِ مبهمةُ الكُنْهِ مستتبِعةٌ لآثار غريبةٍ وعدمُ مراعاة هذه النُّكتةِ عند حكايةِ الأمرِ في موضع آخرَ لا يستدعي عدمَ مراعاتها عند وقوع المحكيّ هذا وحملُ الإبهامِ على التحقير بأن يراد لا تُبالِ بكثرة حبالِهم

طه 70 وعصيهم وألق العويدالذي في يدك فإنه بقدرة الله تعالى يلقَفها مع وَحدته وكثرتها وصِغره وعِظَمها يأباه ظهورُ حالها فيما مر مرتين على أن ذلك المعنى إنما يليقُ بما لو فعلتْ العصا ما فعلتْ وهي على هيئتها الأصليةِ وقد كان منها ما كان وقوله تعالى {تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ} بالجزم جواباً للأمر من لقِفه إذا ابتلعه والتقمه بسرعة والتأنيثُ لكون ما عبارةً عن العصا أي تبتلع ما صنعوه من الحبال والعِصِيّ التي خُيّل إليك سعيُها وخِفّتُها والتعبيرُ عنها بما صنعوا للتحقير والإيذان بالتمويه والتزوير وقرئ تَلَقّف بتشديد القاف وإسقاطِ إحدى التاءين من تتلقف وقرئ بالرفع على الحال اوالاستئناف والجملةُ الأمرية معطوفةٌ على النهي متمّمةٌ بما في حيزها لتعليل موجبِه ببيان كيفية غلبتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وعلوِّه فإن ابتلاعَ عصاه لأباطيلهم التي منها أوجسَ في نفسه ما أوجس مما يقلَع مادّته بالكلية وهذا كما ترى صريحٌ في أن خوفه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يكن مما ذكر من مخالجة الشكِّ للناس وعدمِ اتّباعِهم له عليه الصلاة والسلام وإلا لعُلّل بما يُزيله من الوعد بما يوجب إيمانهم واتباعهم له عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى {إنما صَنَعُواْ} الخ تعليلٌ لقوله تعالى تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ وما إما موصولةٌ أو موصوفةٌ أي إن الذي صنعوه أو إن شيئاً صنعوه {كَيْدُ سَاحِرٍ} بالرفع على أنه خبرُ لن أي كيدُ جنسِ الساحر وتنكيرُه للتوسل به إلى تنكير ما أضيف إيه للتحقير وقرئ بالنصب على أنه مفعولٌ صنعوا وما كافة وقرئ كيدُ سحرٍ على أن الإضافةَ للبيان كما في علمُ فقةٍ أو على معنى ذي سحر أو على تسمية الساحر سحراً مبالغةً وقوله تعالى {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر} أي هذا الجنسُ {حَيْثُ أتى} أي حيث كان وأين أقبل من تمام التعليل وعدمُ التعرض لشأن العصا وكونِها معجزةً إلهية مع ما في ذلك من تقوية التعليلِ للإيذان بظهور أمرِها والفاء في قوله تعالى

70

{فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّداً} كما سلف فصيحةٌ معربةٌ عن محذوفين ينساق إيهما النظمُ الكريم غنيّين عن التصريح بهما لعدم احتمال تردّدِ موسى عليه السلام في الامتثال بالأمر واستحالةِ عدمِ وقوعِ اللقْف الموعود أي فألقاه عليه السلام فوقع ما وقع من اللقف فألقى السحرةُ سجّداً لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر وإنما هي آيةٌ من آياتِ الله عز وجل روي أن رئيسَهم قال كنا نغلِب الناسَ وكانت الآلاتُ تبقى علينا فلو كان هذا سحراً فأين ما ألقَيناه من الآلاتِ فاستَدلّ بتغير أحوال الأجسامِ على الصانع القادرِ العالِم وبظهور ذلك على يد موسى عليه الصلاة والسلام على صحة رسالتِه لا جرم ألقاهم ما شاهدوه على وجوههم وتابوا وآمنوا وأتَوا بما هو غايةُ الخضوعِ قيل لم يرفعوا رءوسهم حتى رأَوا الجنةَ والنارَ والثوابَ والعقاب وعن عِكرمة لما خرّوا سجداً أراهم الله تعالى في سجودهم منازلَهم في الجنة ولا ينافيه قولهم إِنَّا امَنَّا بربنا يغفر لَنَا خطايانا الخ لأن كونَ تلك المنازلِ منازلَهم باعتبار صدورُ هذا القول عنهم {قَالُواْ} استئنافٌ كما مر غيرَ مرة {امَنَّا بِرَبّ هارون وموسى} تأخيرُ موسى عند حكاية كلامِهم لرعاية الفواصل وقد جُوّز أن يكون ترتيبُ كلامهم أيضاً هكذا إما لِكبَر سن هارون عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وَأَمَّا للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطلِ من جهة فرعونَ وقومِه حيث كان فرعون ربي موسى عليه الصلاة والسلام فلو قدموا موسى عليه الصلاة والسلام لربما توهم اللعينُ وقومُه من أول الأمر

طه 71 72 أن مرادَهم فرعونُ

71

{قَالَ} أي فرعون للسحرة {آمنتم له} أي لموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ واللامُ لتضمين الفعلِ معنى الاتباع وقرئ على الاستفهام التوبيخي {قَبْلَ أن آذن لَكُمْ} أي من غير أن آذن لكم في الإيمان له كما في قوله تعالى لنقد البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى لا أن إذنَه لهم في ذلك واقعٌ بعده أو متوقَّع {أنه} يعني موسى عليه الصلاة والسلام {لَكَبِيرُكُمُ} أي في فنكم وأعلمُكم به وأستاذكُم {الذى علمكم السحر} فتواطأتم على ما فعلتم أو فعلّمكم شيئا دون شيء فلذلك غلبكم وهذه شهة زوّرها اللعينُ وألقاها على قومه وأراهم أن أمرَ الإيمان منوطٌ بإذنه فلما كان إيمانُهم بغير إذنه لم يكن معتدًّا به وأنهم من تلامذته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فلا عبرةَ بما أظهره كما لا عبرةَ بما أظهروه وذلك لِما اعتراه من الخوف من اقتداء الناسِ بالسحرة في الأيمان بالله تعالى ثم أقبل عليهم بالوعيد المؤكّد حيث قال {فلأقطعن} أي فو الله لاقَطّعَنَّ {أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ} أي اليدَ اليمنى والرجلَ اليسرى ومن ابتدائيةٌ كأن القطعَ ابتداءٌ من مخالفة العضو العضو فإن المبتدئ من المعروض مبتدئ من العارض أيضاً وهي مع مجرورها في حيز النصبِ على الحالية أي لأقطعنها مخلفات وتعيينُ تلك الحال للإيذان بتحقيق الأمر وإيقاعِه لا محالة بتعيين كيفيتِه المعهودة في باب السياسة لا لأنها أفظعُ من غيرها {وَلاصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النخل} أي عليها وإثار كلمةِ في للدلالة على إبقائهم عليها زماناً مديداً تشبيهاً لاستمرارهم عليها باستقرار المظروف في الظرف المشتملِ عليه قالوا وهو أولُ من صَلَب وصيغةُ التفعيل في الفعلَين للتكثير وقد قرئا بالتخفيف {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا} يريد به نفسه وموسى عليه الصلاة والسلام لقوله آمنتم له قبل أن آذَنَ لكم واللامُ مع الإيمان في كتاب الله تعالى لغيره تعالى وهذا إما لقصد توضيعِ موسى عليه الصلاة والسلام والهُزْءِ به لأنه لم يكن من التعذيب في شيء وإما لإراءة أن إيمانَهم لم يكن عن مشاهدة المعجزة ومعاينةِ البرهان بل كان عن خوف من قبل موسى عليه الصلاة والسلام حيث رأوا ابتلاعَ عصاه لحبالهم وعِصِيَّهم فخافوا على أنفسهم أيضاً وقيل يريد به ربَّ موسى الذي آمنوا به بقولهم آمنا برب هارون وموسى {أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى} أي أدوم

72

{قَالُواْ} غير مكترثين بوعيده {لَن نُّؤْثِرَكَ} لن نختارك بالإيمان والاتّباع {على مَا جَاءنَا} من الله على يد موسى عليه الصلاة والسلام {مِنَ البينات} من المعجزات الظاهرة فإن ما ظهر بيده عليه الصلاة والسلام من العصا كان مشتملاً على معجزاته جمعة كما مر تحقيقه فيما سلف فإنهم كانوا عارفين بجلائلها ودقائِقها {والذى فَطَرَنَا} أي خلقنا وسائرَ المخلوقات وهو عطفٌ على ما جاءنا وتأخيرُه لأن ما في ضمنه آيةٌ عقليةٌ نظرية وما شاهدوه آيةٌ حسيةٌ ظاهرة وإيرادُه تعالى بعنوان فاطريته تعالى لهم للإشعارِ بعلَّةِ الحُكم فإنَّ خالقيته تعالى لهم وكونَ فرعونَ من جملة مخلوقاتِه مما يوجب عدَم إيثارِهم له عليه

طه 73 75 سبحانه وتعالى وهذا جوابٌ منهم لتوبيخ فرعونَ بقوله آمنتم له قبل أن آذن لكم وقيل هو قسَمٌ محذوفُ الجواب لدِلالة المذكورِ عليه أي وحقَّ الذي فطرنا لا نؤثرك الخ ولا مساغَ لكون المذكورِ جواباً له عند من يجوّز تقديمَ الجواب أيضاً لما أن القسمَ لا يجاب بلن إلا على شذوذ وقوله تعالى {فاقضِ مَا أَنتَ قاضٍ} جوابٌ عن تهديده قوله لأقطعن الخ أي فاصنع ما أنت صانعُه أو فاحكم ما أنت حاكم به وقوله تعالى {إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} مع ما بعده تعليلٌ لعدم المبالاة المستفادِ مما سبق من الأمر بالقضاء أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه فِى هذه الحياةِ الدنيا فحسبُ وما لنا من رغبة في عذْبها ولا رهبةٍ من عذابها

73

{إِنَّا امَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا} التي اقترفنا فيها من الكفر والمعاصي ولا يؤاخذَنا بها في الدار الآخرة لا ليمتّعنا بتلك الحياةِ الفانية حتى نتأثرَ بما أوعدتَنا به من القطع والصلب وقوله تعالى {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر} عطفٌ على خطايانا أي ويغفرَ لنا السحر الذي علمناه في معارضة موسى عليه الصلاة والسلام بإكراهك وحشرِك إيانا من المدائن القاصية خصّوه بالذكر مع اندراجه في خطاياهم إظهاراً لغاية نفرتِهم عنه ورغبتهم في مغفرته وذكرُ الإكراه للإيذان بأنه مما يجب أن يُفرَد بالاستغفار منه مع صدوره عنهم بالإكراه وفيه نوعُ اعتذارٍ لاستجلاب المغفرةِ وقيل أرادوا الإكراهَ على تعلم السحر حيث روي أن رؤساءَهم كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القِبط والباقي من بني إسرائيل وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر وقيل إنه أكرههم على المعارضة حيث روي أنهم قالوا لفرعون أرِنا موسى نائماً ففعل فوجدوه تحرسه عصاه فاقلوا ما هذا بسحر فإن الساحرَ إذا نام بطل سحرُه فأبى إلا أن يعارضوه ويأباه تصدّيهم للمعارضة على الرغبة والنشاط كما يعرب عنه قولهم أئن لَنَا لاجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين وقولهم بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون {والله خَيْرُ} أي في خد ذاتِه وهو ناظرٌ إلى قولهم والذي فطرنا {وأبقى} أي جزاءً ثواباً كان او عذابا خيرٌ ثواباً وأبقى عذاباً وقوله تعالى

74

{أَنَّهُ} إلى آخر الشرطيتين تعليلٌ من جهتهم لكونه تعالى خيراً وأبقى جزاءٌ وتحقيقٌ له وإبطالٌ لما ادّعاه فرعون وتصديرُهما بضمير الشأنِ للتنبيه على فخامة مضمونِهما لأن مناطَ وضْع الضمير موضعه ادعاء شهدته المغْنيةِ عن ذكره مع ما فيه من زيادة التقريرِ فإنَّ الضميرَ لا يُفهمُ منه من أولِ الأمرِ إلا شأنٌ مبهمٌ لهُ خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما يعقُبه فيتمكنُ عندَ ورودِه لَهُ فضلُ تمكُّنٍ كأنه قيل إن الشأنَ الخطيرَ هذا أي قوله تعالى {مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} بأن مات على الكفر والمعاصي {فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا} فينتهيَ عذابُه وهذا تحقيقٌ لكون عذابه أبقى {ولا يحيى} حياةً ينتفع بها

75

{وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً} به تعالى وبما جاء من عنده من المعجزاتِ التي من جملتها ما شاهدناه {قَدْ عَمِلَ الصالحات} الصالحةُ كالحسنة جاريةٌ مجرى الاسم ولذلك لا تُذكر غالباً مع

طه 76 77 الموصوف وهي كلُّ ما استقام من الأعمال بدليل العقلِ والنقل {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الفعلين السابقين باعتبار لفظِها وما فيهِ من معنى البعد للإشعار بعلو درجتِهم وبُعد منزلتِهم أي فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات {لَهُمْ} بسبب إيمانِهم وأعمالِهم الصالحة {الدرجات العلى} أي المنازلُ الرفيعةُ وليس فيه ما يدل على عدم اعتبارِ الإيمانِ المجرد عن العمل الصالحِ في استتباع الثوابِ لأن ما نيط بالإيمان المقرون بالأعمال الصالحة هو الفوزُ بالدرجات العلى لا بالثواب مطلقاً وهل التشاجرُ إلا فيه

76

{جنات عَدْنٍ} بدلٌ من الدرجات العلى أو بيان وقد مر أنّ عدْناً علمٌ لمعنى الإقامة أو لأرض الجنة فقوله تعالى {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} حال من الجنات وقولُه تعالَى {خالدين فِيهَا} حال من الضمير في لهم والعاملُ معنى الاستقرارِ أو الإشارةِ {وَذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما أتيح لهم من الفوز بما ذُكر من الدرجات العُلى ومعنى البُعدِ لما مر من التفخيم {جَزَاء مَن تزكى} أيْ تطهرَ من دنس الكفرِ والمعاصي بما ذُكر من الإيمان والأعمالِ الصالحةِ وهذا تحقيقٌ لكون ثوابِه تعالى أبقى وتقديمُ ذكرِ حال المجرمِ للمسارعة إلي بيان أشدّية عذابِه ودوامِه رداً على ما ادعاه فرعونُ بقوله أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى هذا وقد قيل هذه الآياتُ الثلاثُ ابتداءُ كلامٍ من الله عز وجل قالوا ليس في القرآن أن فرعونَ فعل بأولئك المؤمنين ما أوعدهم به ولم يثبُت في الأخبار

77

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى موسى} حكايةٌ إجماليةٌ لما انتهى إليه أمرُ فرعونَ وقومِه وقد طُويَ في البين ذِكرُ ما جرى عليهم من الآيات المفصّلات الظاهرةِ على يد موسى عليه الصلاة والسلام بعد ما غلب السحرةَ في نحوٍ من عشرينَ سنةً حسبما فُصِّل في سورة الأعراف وتصديرُها بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها وأنْ في قولِه تعالَى {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى} إما مفسرةُ لأن الوحيَ فيه معنى القول أو مصدريةٌ حذف عنها الجارُّ والتعبيرُ عنهم بعنوان كونِهم عباداً له تعالى لإظهار المرحمةِ والاعتناءِ بأمرهم والتنبيهِ على غاية قُبح صنيعِ فرعونَ بهم حيث استعبدهم وهم عباده عز وجل وفعل بهم من فنون الظلم ما فعل أي وبالله لقد أوحينا إليه عليه الصلاة والسلام إن أسرِ بعبادي الذين أرسلتُك لإنقاذهم من مَلَكة فرعونَ أي سربهم من مصرَ ليلاً {فاضرب لَهُمْ} أي فاجعل أو فاتخذْ لهم {طَرِيقاً فِى البحر يَبَساً} أي يابساً على أنه مصدر وُصف به الفاعل مبالغةً وقرئ يَبْساً وهو إما مخففٌ منه أو وصفٌ كصعب أو جمعُ يابس كصحْب وصف به الواحد للمبالغة أو لتعدّده حسبَ تعدّدِ الأسباط {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً} حالٌ من المأمور رأى آمِناً من أن يُدركَكم العدوُّ أو صفةٌ أخرى لطريقا والعائد محذوف وقرئ لا تخَفْ جواباً للأمر {وَلاَ تخشى} عطف على لا تخاف داخلٌ في حُكمهِ أيْ ولا تخشى الغرقَ وعلى قراءة الجزم استئنافٌ أي وأنت لا تخشى أو عطفٌ عليه والألفُ للإطلاق كما في قوله تعالى وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا وتقديم نفي الخوفِ المذكورِ للمسارعة إلى إزاحة

طه 78 80 ما كانوا عليه من الخوف العظيمِ حيث قالوا إنا لمدرَكون

78

{فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} أي تبِعهم ومعه جنودُه حتى لحِقوهم يقال أتْبعتُهم أي تبِعتُهم وذلك إذا كانوا سبقوك فلحِقتهم ويؤيده أنه قرئ فاتّبعهم من الافتعال وقيل المعنى أتْبعهم فرعونُ نفسَه فحذف المفعولُ الثاني وقيل الباءُ زائدةٌ والمعنى فأتبعهم فرعون جنوده أي سافهم خلفهم وأياً ما كان فالفاءُ فصيحةٌ مُعرِبة عن مُضمر قد طُوي ذكرُه ثقةً بغاية ظهورِه وإيذاناً بكمال مسارعة موسى عليه الصلاة والسلام إلى الامتثال بالأمر أي ففعل ما أُمر بهِ من الإسراء بهم وضرْب الطريقِ وسلوكِه فأتبعهم فرعونُ بجنوده براً وبحراً رُوي أن موسى عليه الصلاة والسلام خرج بهم أولَ الليل وكانوا ستَّمائةٍ وسبعين ألفاً فأخبر فرعونُ بذلك فاتّبعهم بعساكره وكانت مقدمتُه سبعَمائة ألف فقص أثرهم فلحِقهم بحيث تراءى الجمعان فعند ذلك ضرب عليه الصلاة والسلام بعصاه البحرَ فانفلق على اثني عشر فرِقاً كلُّ فرق كالطود العظيم فعبر موسى عليه الصلاة والسلام بمن معه من الأسباط سالمين وتبِعهم فرعونُ بجنوده {فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} أي علاهم منه وغمرهم ما غرمهم من الأمر الهائلِ الذي لا يُقَادرُ قدرُهُ ولا يُبلغ كُنهُه وقيل غشِيهم ما سُمِعَت قِصتُه وليس بذاك فإن مدارَ التهويلِ والتفخيمِ خروجُه عن حدود الفهم والوصفِ لا سماعُ قصته وقرئ فغشّاهم من اليم ما غشاهم أي غطاهم ما غطاهم والفاعلُ هو الله عز وعلا أو ما غشاهم وقيل فرعونُ لأنه الذي ورّطهم للهلكة ويأباه الإظهارُ في قوله تعالى

79

{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ} أي سلك بهم مسلَكاً أداهم إلى الخَيبة والخُسران في الدين والدنيا معاً حيث ماتوا على الكفر بالعذاب الهائلِ الدنيويّ المتصل بالعذاب الخالدِ الأخروي وقوله تعالى {وَمَا هدى} أي ما أرشدهم قطُّ إلى طريق موصلٍ إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية تقريرٌ لإضلاله وتأكيدٌ له إذ رُبّ مضِلٍ قد يُرشد من يُضِلّه إلى بعض مطالبِه وفيه نوعُ تهكمٍ به في قوله وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد فإن نفيَ الهدايةِ عن شخص مُشعرٌ بكونه ممن يُتصور منه الهدايةَ في الجملة وذلك إنما يُتصور في حقه بطريق التهكم وحملُ الإضلالِ والهداية على ما يختص بالديني منهما يأباه مقامُ بيانِ سَوْقه بجنوده إلى مساق الهلاكِ الدنيوي وجعلُهما عبارةً عن الإضلال في البحر والإنجاءِ منه مما لا يقبله العقل السليم

80

{يا بني إسرائيل} حكايةٌ لما خاطبهم الله تعالى بعد إغراقِ فرعونَ وقومِه وإنجائِهم منهم لكن لا عَقيب ذلك بل بعد ما أفاض عليهم من فنون النعمِ الدينية والدنيوية ما أفاض وقيل هو إنشاءُ خطابٍ للذين كانوا منهم في عهد النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم على معنى أنه تعالى قد منّ عليهم بما فعل بآبائهم أصالة وبهم تبَعاً ويردُّه ما سيأتِي من قولِه تعالى وما أَعْجَلَكَ الآية ضرورةَ استحالةِ حملِه على الإنشاء فالوجهُ

طه 81 83 هو الحكايةُ بتقدير قلنا عطفاً على أوحينا أي وقلنا يا بني إسرائيل {قَدْ أنجيناكم مّنْ عَدُوّكُمْ} فرعونَ وقومِه حيث كانوا يبغونكم الغوائلَ ويسومونكم سوءَ العذاب يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وقرئ نجيناكم ونجيتُكم {وواعدناكم جَانِبَ الطور الأيمن} بالنصب على أنه صفة للمضاف وقرئ بالجرّ للجوار أي واعدناكم بواسطة نبيكم إيتان جانبِه الأيمنِ نظراً إلى السالك من مصرَ إلى الشام أي إتيانَ موسى عليه الصلاة والسلام للمناجاة وإنزالَ التوراة عليه ونسبت المواعدة إليهم مع كونها لموسى عليه الصلاة والسلام نظراً إلى ملابستها إياهم وسِراية منفعتِها إليهم وإيفاءً لمقام الامتنان حقَّه كما في قوله تعالى وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم حيث نُسب الخلقُ والتصويرُ إلى المخاطبين مع أن المخلوقَ المصوّر بالذات هو آدمُ عليه الصلاة والسلام وقرئ واعدتُكم ووعدناكم {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} أي الترنجبين والسماني حيث كان ينزل عليهم المنُّ وهم في التيه مثلَ الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسانٍ صاع ويبعب الجنوب عليهم السماء فيذبح الرجلُ منه ما يكفيه كما مر مراراً

81

{كُلُواْ} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيان إباحة ما ذكر لهم وإماما للنعمة عليهم {مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم} أي من لذائذه او حلالاته وقرئ رزقتكم وفي البدء بنعمة الإنجاءِ ثم بالنعمة الدينية ثم بالنعمة الدنيوية من حسن النظم ولطف الترتيب مالا يخفى {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} أي فيما رزقناكم بالإخلال بشكره والتعدّي لما حُدّ لكم فيه كالسرَف والبطَر والمنع من المستحِق {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى} جواب للنهي أي فتلزمَكم عقوبتي وتجبَ لكم من حلّ الدَّينُ إذا وجب أداؤه {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هوى} أي تردّى وهلك وقيل وقع في الهاوية وقرئ فيحُلَّ بضم الحاء من حل يحُل إذا نزل

82

{وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ} من الشرك والمعاصي التي من جملتها الطغيانُ فيما ذكره {وآمن} بما يجب الإيمان به {وعمل صالحا} أي علم صالحاً مستقيماً عند الشرع والعقلِ وفيه ترغيبٌ لمن وقع منه الطغيانُ فيما ذكر وحثٌّ على التوبة والإيمان وقوله تعالى {ثُمَّ اهتدى} أي استقام على الهدى إشارةٌ إلى أنَّ مَنْ لم يسئمر عليه بمعزل من الغفران وثم للتراخي الرتبي

83

{وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يا موسى} حكايةٌ لما جرى بينه تعالى وبين موسى عليه الصلاة والسلام من الكلام عند ابتداءِ موافاته الميقاتَ بموجب المواعدةِ المذكورة أي وقلنا له أي شئ أعجلك منفرداً عن قومك وهذا كما ترى سؤالٌ عن سبب تقدمه على النقباء مَسوقٌ لإنكار انفرادِه عنهم لما في ذلك بحسب الظاهر من مخايل إغفالهم وعدمِ الاعتداد بهم مع كونه مأموراً باستصحابهم وإحضارهم معه لا لإنكار نفسَ العجلة الصادرةِ عنه عليه الصلاة والسلام لكونها نقيصةً منافية للحزم اللائقِ بأولي العزم ولذلك أجاب عليه

طه 84 86 الصلاة والسلام بنفي الانفرادِ المنافي للاستصحاب والمعية حيث

84

{قَالَ هُمْ أُوْلاء على أَثَرِى} يعني إنهم معي وإنما سبقتهم بخُطاً يسيرة ظننتُ أنها لا تُخِل بالمعية ولا تقدح في الاستصحاب فإن ذلك مما لا يعتد به فيما بين الرفقةِ أصلاً وبعد ما ذكر عليه الصَّلاةُ والسلام إن تقدّمَه ذلك ليس لأمر منكر ذكَر أنه لأمر مَرضيّ حيث قال {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لترضى} عنّي بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك واعتنائي بالوفاء بعهدك وزيادةُ ربِّ لمزيد الضراعةِ والابتهال رغبةً في قَبول العذر

85

{قال} استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ اعتذاره عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو السرُّ في وروده على صيغة الغائبِ لا أنه التفاتٌ منَ التكلمِ إلى الغَيبة لما أن المقدرَ فيما سبق من الموضعين على صيغة التكلم كأنه قيل من جهة السامعين فماذا قال له ربه حينئذ فقيل قال {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} أي ابتليناهم بعبادة العِجل من بعد ذهابك من بينهم وهم الذين خلقهم مع هارون عليهِ الصلاةُ والسلامُ وكانُوا ستَّمائة ألفٍ ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشرَ ألفاً والفاءُ لترتيب الإخبار بما ذكر من الابتلاء على إخبار موسى عليه الصلاة والسلام بعجَلته لكن لا لأن الإخبارَ بها سببٌ موجبٌ للإخبار به بل لِمَا بينهما من المناسبة المصحِّحة للانتقال من أحدهما إلى الآخر من حيث إن مدارَ الابتلاءِ المذكور عجَلةُ القوم فإنه روي أنهم أقاموا على ما وصّى به موسى عليه الصلاة والسلام عشرين ليلةً بعد ذهابه فحسَبوها مع أيامها أربعين وقالوا قد أكملنا العدةَ وليس من موسى عليه الصَّلاةُ والسلام عينٌ ولا أثر {وَأَضَلَّهُمُ السامرى} حيث كان هو المدبرَ في الفتنة فقال لهم إنما أخلفَ موسى عليه الصلاة والسلام ميعادَكم لما معكم من حُلِيّ القوم وهو حرامٌ عليكم فكان من أمر العجل ما كان فاخبره تعالى بوقوع هذه الفتنةِ عند قدومه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إمَّا باعتبار تحققِها في علمه تعالى ومشيئتِه وإما بطريق التعبيرِ عن المتوقَّع بالواقع كما في قوله تعالى وَنَادَى أصحاب الجنة ونظائرِه أو لأن السامريَّ كان قد عزم على إيقاع الفتنةِ عند ذهاب موسى عليه الصلاة والسلام وتصدّى لترتيب مبانيها وتمهيدِ مباديها فكانت الفتنةُ واقعةً عند الإخبار بها وقرئ وأضلُّهم السامريُّ على صيغة لتفضيل أي أشدُّهم ضلالاً لأنه ضالٌّ ومُضلٌّ والسامريُّ منسوبٌ إلى قبيلة من بني إسرائيلَ يقال لها السامرة وقيل كان عِلْجاً من كَرْمان وقيل من أهل باجرما واسمُه موسى بنُ ظفر وكان منافقاً قد أظهر الإسلام وكان من قوم يبعدون البقر

86

{فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ} عند رجوعِه المعهود أي بعد ما استوفى الأربعين وأخذ التوراة لا عَقيبَ الإخبار بالفتنة فسببيةُ ما قبل الفاء لما بعدها إنما هي باعتبار قيد الرجوعِ المستفادِ من قوله تعالى

طه 87 {غضبان أَسِفًا} لا باعتبار نفسه وإن كانت داخلةً عليه حقيقةً فإن كونَ الرجوعِ بعد تمام الأربعين أمر مقرر مشهرو لا يذهبُ الوهمُ إلى كونه عند الإخبار بالفتنة كما إذا قلتَ شايعتُ الحُجاجَ ودعوتُ لهم بالسلامة فرجعوا سالمين فإن أحداً لا يرتاب في أن المراد رجوعُهم المعتادُ لا رجوعُهم إثرَ الدعاء وأن سببيةَ الدعاءِ باعتبار وصفِ السلامة لا باعتبار نفس الرجوعِ والآسِفُ الشديدُ الغضبِ وقيل الحزين {قَالَ} استئنافٌ مبني على سؤالٍ ناشىءٍ من حكايةِ رجوعِه كذلك كأنه قيل فماذا فعل بهم فقيل قال {يا قوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حسنا} بأن يعطيكم التوراة فيها ما فيها من النور والهدى والهمزةُ لإنكار عدم الوعدِ ونفيِه وتقريرِ وجودِه على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه أي وعَدكم بحيث لا سبيلَ لكم إلى إنكاره والفاء في قوله تعالى {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد} أي الزمان للعطف على مقدر والهمزةُ لإنكار المعطوفِ ونفيه فقط أي أوعدكم ذلك فطال زمانُ الإنجاز فأخطأتم بسبيه {أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ} أي يجبَ {عَلَيْكُمْ غَضَبٌ} شَدِيدٍ لا يقادَر قدرُه كائنٌ {مّن رَّبّكُمْ} أي من مالك أمرِكم على الإطلاق {فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى} أي وعْدَكم إياي بالثبات على ما أمرتُكم به إلى أن أرجِع من الميقات على إضافة المصدر إلى مفعوله للقصد إلى زيادة تقبيحِ حالِهم فإن إخلافَهم الوعدَ الجاريَ فيما بينهم وبينه عليهِ السلامُ منْ حيثُ إضافتُه إليه عليه السلام أشنعُ منه من حيث إضافتُه إليهم والفاءُ لترتيب ما بعدها على كل واحدٍ من شِقَّي الترديد على سبيل البدلِ كأنه قيل أنسيتم الوعدَ بطول العهد فأخلفتموه خطأً أم أردتم حلولَ الغضب عليكم فأخلفتموه عمْداً وأما جعلُ الموعدِ مضافاً إلى فاعله وحملُ إخلافه على معنى وجدانِ الخلُف فيه أي فوجدتم الخُلفَ في موعدي لكم بالعَود بعد الأربعين فما لا يساعده السباقُ ولا السياق أصلاً

87

{قَالُواْ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ} أي وعدنا إياك الثابت على ما أمرتَنا به وإيثارُه على أن يقال موعدَنا على إضافة المصدرِ إلى فاعله لما مر انفاً {بِمَلْكِنَا} أي بأن ملكنا أمور نايعنون أنالو خُلّينا وأمورَنا ولم يسوّل لنا السامريُّ ما سوله مع مساعدة بعضِ الأحوالِ لما أخلفناه وقرئ بمِلْكنا بكسر الميم وضمِّها والكلُّ لغاتٌ في مصدر ملَكتُ الشيءَ {ولكنا حُمّلْنَا أَوْزَاراً مّن زِينَةِ القوم} استدراكٌ عما سبق واعتذارٌ عما فعلوا ببيان منشأ الخطأ وقرئ حلمنا بالتخفيف أي حمَلْنا أحمالاً من حُليِّ القِبْط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصرَ باسم العُرس وقيل كانوا استعاروها لعبد كان لهم ثم لم يردّوها إليهم عند الخروجِ مخافةَ أن يقفوا على أمرهم وقيل هي ما ألقاه البحرُ على الساحل بعد إغراقهم فأخذوها ولعل تسميتهم لها أوزاراً لأنها تبعاتٌ وآثامٌ حيث لم تكن الغنائمُ تحِلّ حينئذ {فَقَذَفْنَاهَا} أي في النار رجاءً للخلاص عن ذنبها {فَكَذَلِكَ} أي فمثلَ ذلك القذف {أَلْقَى السامرى} أي ما كان معه منها وقد كان أراهم أنه أيضاً يُلقي ما كان معه من الحُليّ فقالوا ما قالوا على زعمهم وإما كان الذي ألقاه التربةَ التي أخذها من أثر الرسولِ كما سيأتي روي أنه قال لهم إنما تأخر موسى عنكم لما معكم من الأوزار فالرأي أن نحفِرَ

طه 88 90 حفيرةً ونسجّر فيها ناراً ونقذفَ فيها كلَّ ما معنا ففعلوا

88

{فَأَخْرُجْ} أي السامريُّ {لَهُمْ} للقائلين {عِجْلاً} من تلك الحُلِيّ المُذابة وتأخيرُه مع كونه مفعولاً صريحاً عن الجار والمجرور لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يُخِلّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم فإن قوله تعالى {جَسَداً} أي جُثةً ذا دمٍ ولحمٍ أو جسداً من ذهب لا روحَ له بدلٌ منه وقوله تعالى {لَّهُ خُوَارٌ} أي صوتُ عجلٍ نعتٌ له {فَقَالُواْ} أي السامريُّ ومن افتُتن به أولَ ما رآه {هذا إلهكم وإله موسى فَنَسِىَ} أي غفَل عنه وذهب يطلُبه في الطور وهذا حكايةٌ لنتيجة فتنةِ السامريّ فعلاً وقولاً من جهته تعالى قصداً إلى زيادة تقريها ثم ترتيبِ الإنكار عليها لا من جهة القائلين وإلا لقيل فأخرج لنا والحملُ على أن عدولَهم إلى ضمير الغيبة لبيان أن الإخراجَ والقولَ المذكورَيْن للكل لا للعابدة فقط خلافُ الظاهر مع أنه مُخلٌّ باعتذارهم فإن مخالفةَ بعضهم للسامري وعدَم افتتانِهم بتسويله مع كون الإخراجِ والخطاب لهم مما يهون مخالفته للمعتذرين فافتتانهم بعد ذلك أعظمُ جنايةً وأكثر شناعةً وأما ما قيل من أن المعتذرين هم الذين لم يعبُدوا العجلَ وأن نسبة الإخلافِ إلى أنفسهم وهم برآء منه من قبيلِ قولِهم بنُو فلان قتلُوا فلاناً مع أن القاتل واحد منهم كأنهم قالوا ما وجد الإخلافِ فيما بيننا بأمر كنا نملِكه بل تمكنت الشبهةُ في قلوب العبَدةِ حيث فعل السامريُّ ما فعل فأخرج لهم ما أخرج وقال ما قال فلم نقدِرْ على صرفهم عن ذلك ولم نفارقهم مخافةَ ازديادِ الفتنة فيقضي بفساده سباقِ النظمِ الكريم وسياقه وقوله تعالى

89

{أَفَلاَ يَرَوْنَ} الخ إنكار وتقيح من جهته تعالى الحال الضالّين والمُضلّين جميعاً وتسفيهٌ لهم فيما أقدموا عليه من المنكَر الذي لا يشتبه بطلانُه واستحالتُه على أحد وهو اتخاذُه إلها والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقامُ أي ألا يتفكرون فلا يعلمون {ألا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً} أي أنه لا يرجِعُ إليهم كلاماً ولا يرد عليهم جواباً فكيف يتوهّمون أنه إله وقرئ يرجَع بالنصب قالوا فالرؤية حينئذ بصرية فإن الناصبة لا تقع بد أفعالِ اليقين أي ألا ينظرون فلا يُبصرون عدمَ رجْعِه إليهم قولاً من الأقوال وتعليقُ الإبصار بما ذُكر مع كونه أمراً عديما للتنبيه على كمال ظهورِه المستدعي لمزيد تشنيعِهم وتركيكِ عقولِهم وقوله تعالى {وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} عطف على لا يرجعُ داخلٌ معه في حيزِ الرؤية أي أفلا يرون أنه لا يقدرُ على أنْ يدفعَ عنهم ضرًّا أو يجلُبَ لهم نفعاً أو لا يقدرُ على أنْ يضرَّهم إن لم يعبدوه أو ينفعَهم إن عبدوه

90

{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هارون مِن قَبْلُ} جملةٌ قسميةٌ مؤكدة لما قبلها من الإنكار والتشنيع ببيان عُتوِّهم واستعصائِهم على الرسول إثرَ بيان مكابرتهم لقضية

طه 91 93 العقولِ أي وبالله لقد نصح لهم هرون ونبّههم على كُنه الأمرِ من قبل رجوعِ موسى عليه السلام إليهم وخطابِه إياهم بما ذكر من المقالات وقيل من قبل قولِ السامري كأنه عليه السلام أو وما أبصره حين طلع من الحفيرة توهم منهم الافتتان به فساع إلى تحذيرهم وقال لهم {يا قوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} أي أُوقِعتم في الفتنة بالعجل أو أُضللتم به على توجيه القصر المستفادِ من كلمة إنما إلى نفس الفعل بالقياس إلى مقابله الذي يدّعيه القومُ لا إلى قيده المذكور بالقياس إلى قيد آخرَ على معنى إنما فُعل بكم الفتنة لا الإرشادُ إلى الحق لا على معنى إنما فتنتم بالعجل لا بغيره وقوله تعالى {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن} بكسر إن عطفاً على إنما إرشادٌ لهم إلى الحق إثرَ زجرهم عن الباطل والتعرّضُ لعنوان الربوبيةِ والرحمة للاعتناء باستمالتهم إلى الحق كما أن التعرضَ لوصف العجل للاهتمام بالزجر عن الباطل أي إن ربكم المستحقَّ للعبادة هو الرحمن لا غيرُ والفاء في قوله تعالى {فاتبعونى} لترتيب ما بعدها على ما قبلها من مضمون الجملتين أي إذا كان الأمرُ كذلك فاتبعوني في الثبات على الدين {وَأَطِيعُواْ أَمْرِى} هذا واترُكوا عبادةَ ما عرفتم شأنه

91

{قالوا} في جواب هرون عليه السلام {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ} على العجل وعبادته {عاكفين} مقيمين {حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى} جعلوا رجوعَه عليه السلام إليهم غايةً لعُكوفهم على عبادة العجلِ لكن لا على طريق الوعدِ بتركها عند رجوعِه عليه السلام بل بطريق التعليل والتسويق وقد دسوا تحت ذلك أنه عليه السلام لا يرجِع بشيء مبين تعويلاً على مقالة السامريّ روي أنهم لما قالوه اعتزلهم هرون عليه السلام في اثني عشر ألفاً وهم الذين لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى عليه السلام وسمع الصياحَ وكانوا يرقُصون حول العجل قال للسبعين الذين كانوا معه هذا صوتُ الفتنة فقال لهم ما قال وسمع منهم ما قالوا وقولُه تعالى

92

{قال} استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ جوابهم لهرون عليه السلام كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ موسى لهرون عليهما السلام حين سمع جوابهم له وهل رضيَ بسكوته بعد ما شاهد منهم ما شاهد فقيل قال له وهو مغتاظٌ قد أخذ بلحيته ورأسه {يَا هارون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ} بعبادة العجل وبلغوا من المكابرة إلى أن شافهوك بتلك المقالةِ الشنعاء

93

(ألا تَتَّبِعَنِ) أي أن تتّبعَني على أن لا تريدة وهو مفعولٌ ثانٍ لمنع وهو عامل في إذ أيُّ شيءٍ منعك حين رؤيتك لضلالهم أن تتبعني في الغضب لله تعالى والمقاتلة مع من كفر به وقيل المعنى ما حملك على أن لا تتبعني فإن المنع عن الشيء مستلزمٌ للحمل على مقابله وقيل ما منعك أن تلحقَني وتُخبرَني بضلالهم فتكونَ مفارقتُك مزْجرةً لهم وفيه أن نصائح هرون عليه السلام حيث لم تزجُرْهم عما كانوا عليه فلأن لا تزجُرَهم مفارقتُه إياهم عنه أولى والاعتذارُ بأنهم إذا علموا أنه يلحقه ويخبره القصة يخافون رجوعَ موسى عليه السلام فينزجروا عن ذلك بمعزل من حيز القبول كيف لا وهم قد صرحوا بأنهم عاكفون عليه إلى حين رجوعه عليه السلام

طه 94 96 {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى} أي بالصلابة في الدين والمحاماةِ عليه فإن قوله له عليهما السلام اخلفني متضمن الأمر بهما حتماً فإن الخلافةَ لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخف لو كان حاضراً والهمزةُ للإنكار التوبيخي والفاءُ للعطف على مقدر يقتضيه المقامُ أي ألم تتبعني أو أخالفتني فعصيت أمري

94

{قال يا ابن أُمَّ} خَصّ الأمَّ بالإضافة استعظاماً لحقها وترقيقاً لقلبه لا لما قيلَ من أنه كان أخاه لأم فإن الجمهورَ على أنهما كانا شقيقين {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى} أي ولا بشعر رأسي روي أنه عليه السلام أخذ شعرَ رأسِه بيمينه ولحيتَه بشماله من شدة غيظِه وفرْطِ غضبِه لله وكان عليه السلام حديداً متصلّباً في كل شيء فلم يتمالكْ حين رآهم يعبدون العجلَ ففعل ما فعل وقوله تعالى {إِنّى خَشِيتُ} الخ استئنافٌ سيق لتعليل موجبِ النهي ببيان الداعي إلى ترك المقاتلةِ وتحقيقِ أنه غيرُ عاصٍ لأمره بل ممتثلٌ به أي إني خشيتُ لو قاتلت بعضَهم بعض وتفانَوا وتفرقوا {أَن تَقُولَ فرقت بين بني إسرائيل} برأيك مع كونهم أبناءَ واحد كما ينبأ عنه ذكرُهم بذلك العنوان دون القوم ونحوِه وأراد عليه السلام بالتفريق ما يستتبعه القتالُ من التفريق الذي لا يرُجى بعده الاجتماعُ {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى} يريد به قولُه عليه السلام اخلُفني في قومي وأصلح الخ يعني إني رأيت أن الإصلاحَ في حفظ الدَّهْماءِ والمداراةِ معهم إلى أن ترجِع إليهم فلذلك استأنيتُك لتكون أنت المتدارِكَ للأمر حسبما رأيت لا سيما وقد كانُوا في غاية القوةِ ونحن على القلة والضّعف كما يعرب عنه قوله تعالى إِنَّ القوم استضعفونى وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى

95

(قَالَ) استئنافٌ وقع جوابا عما نشأ من حكاية ما سلف من اعتذار القوم بإسناد الفسادِ إلى السامري واعتذار هرون عليه السلام كأنه قيل فماذا صنع موسى عليه السلام بعد سماع ما حُكي من الاعتذارين واستقرارِ أصل الفتنة على السامري فقيل قال موبخاً له هذا شأنهم {فما خطبك يا سامري} أي ما شأنُك وما مطلوبُك مما فعلت خاطبه عليه السلام بذلك ليُظهر للناس بُطلانَ كيدِه باعترافه ويفعلَ به وبما صنعه من العقاب ما يكون نكالاً للمفتونين به ولمن خلفهم من الأمم

96

(قَالَ) أي السامريُّ مجيباً له عليه السلام {بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} بضم الصاد فيما وقرئ بكسرها فى الأول وفتحِها في الثاني وقرئ بالتاء على الوجهين على خطاب موسى عليه السلام وقومِه أي علمتُ ما لم يعلمه القوم وفطن لما لم يفطَنوا له أو رأيت ما لم يرَوه وهو الأنسبُ بما سيأتي من قوله وكذلك سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى لا سيما على القراءة بالخطاب فإن ادعاءَ علمِ ما لم يعلمه موسى عليه السلام جرأةٌ عظيمة لا تليق بشأنه ولا بمقامه بخلاف ادعاءِ رؤيةِ ما لم يره

طه 97 عليه السلام فإن مما يقع بحسب ما يتفق وقد كان رأى أنَّ جبريلَ عليهِ السَّلامُ جاء راكبا فرسا وكان كلما رفع الفرسُ يديه أو رجليه على الطريق اليبس يخرج من تحته النباتُ في الحال فعرف أن له شأناً فأخذ من موطئه حفنةً وذلك قوله تعالى {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} وقرئ من أثر فرسِ الرسولِ أي من تربة موطئ فرسِ الملَك الذي أُرسل إليك ليذهبَ بك إلى الطور ولعل ذكرَه بعنوان الرسالة للإشعار بوقوفه على ما لم يقِفْ عليه القومُ من الأسرار الإلهية تأكيداً لما صدّر به مقالتَه والتنبيهِ على وقت أخذ ما اخذ والقبضة المرة من القبض أُطلقت على المقبوض مرةً وقرئ بضم القاف وهو اسمُ المقبوض كالغرفة والمضغة وقرئ فقبصْت قبصة بالصاد المهملة والأول للأخذ بجميع الكف والثاني بأطراف الأصابع ونحوُهما الخضْمُ والقضم فَنَبَذْتُهَا أي في الحُليّ المُذابة فكان ما كان {وكذلك سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى} أي ما فعلتُه من القبض والنبذ فقوله تعالى ذلك إشارةٌ إلى مصدر الفعلِ المذكور بعده ومحلُّ كذلك في الأصلِ النصبُ على أنه مصدرٌ تشبيهيٌّ أي نعتٌ لمصدر محذوف والتقديرُ سولت لي نفسي تسويلاً كائناً مثلَ ذلك التسويلِ فقُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر واعتُبرت الكافُ مقحمةً لإفادة تأكيدِ ما أفاده اسمُ الإشارة من افخامة فصار نفسَ المصدرِ المؤكدِ لا نعتاً له أي ذلك التزيين البديع زيت لي نفسي ما فعلتُه لا تزييناً أدنى منه ولذلك فعلتُه وحاصلُ جوابه أن ما فعله إنما صدر عنه بمحض اتباعِ هوى النفسِ الأمارة بالسوء وإغوائِها لا بشيء آخرَ من البرهان العقليّ أو الإلهامِ الإلهي فعند ذلك

97

{قَالَ} عليه السلام {فاذهب} أي من بين الناس وقولُه تعالى {فإن لك في الحياة} الخ تعليلٌ لموجب الأمرِ وفي متعلقةٌ بالاستقرار في لك أي ثابتٌ لك في الحياة أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الكاف والعاملُ معنى الاستقرارِ في الظرف المذكورِ لاعتماده على ما هو مبتدأٌ معنى لا بقوله تعالى {أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} لِمَكان أي أن ثابت لك كائناً في الحياة أي مدةَ حياتك أن تفارقَهم مفارقةً كلية لكن لا بحسب الاختيارِ بموجب التكليفِ بل بحسب الاضطرار الملجئ إليها وذلك أنه تعالى رماه بداء عَقام لا يكاد يمَسّ أحداً أو بمسه أحدٍ كائناً مَنْ كان إلا حما من ساعته حُمّى شديدةً فتحامى الناسَ وتحامَوْه وكان يصيح بأقصى طَوقه لا مساس وحرم عليهم ملاقته ومواجهتُه ومكالمتُه ومبايعتُه وغيرُها مما يُعتاد جرَيانُه فيما بين الناسِ من المعاملات وصار بين الناس أوحشَ من القاتل اللاجئ إلى الحَرم ومن الوحش النافِر في البرية ويقال إن قومَه باقٍ فيهم تلك الحالةُ إلى اليوم وقرئ لا مَساسِ كفَجارِ وهو علمٌ للمسّة ولعل السرَّ في مقابلة جنايتِه بتلك العقوبةِ خاصة ما بينهما من مناسة لتضاد فإنه لما أنشأ الفتنةَ بما كانت ملابستُه سبباً لحياة الموات عوقب مما يُضادُّه حيث جُعلت ملابستُه سبباً للحمّى التي هي من أسبابُ موتِ الأحياء {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً} أي في الآخرة {لَّن تُخْلَفَهُ} أي لن يُخلفَك الله ذلك الوعدَ بل ينجزه لك البتةَ بعد ما عاقبك في الدنيا وقرئ بكسر اللام والأظهر أنه من أخلفتُ الموعدَ أي وجدته خلفا وقرئ

طه 98 99 بالنون على حكاية قوله عز وجل {وانظر إلى إلهك الذى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} أي ظلِلْتَ مقيماً على عبادته فحُذفت اللامُ الأولى تخفيفاً وقرئ بكسر الظاءِ بنقل حركةِ اللام إليها {لَّنُحَرّقَنَّهُ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ بالنار ويؤيده قراءةُ لنُحْرِقنه من الإحراق وقيل بالمِبْرد على أنه مبالغةٌ في حرق إذا بُرد بالمِبرَد ويعضده قراءة لنَحْرُقنه {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ} أي لنذرينه وقرئ بضم السين {فِي اليم} رمادا أو مبرودا كأنه هباءٌ {نسفاً} بحيث لا يبقى منه عينٌ ولا أثرٌ ولقد فعل عليه السلام ذلك كلَّه يشهد به الأمرُ بالنظر وإنما لم يصرح به تنبيهاً على كمال ظهورِه واستحالةِ الخُلْف في وعده المؤكّدِ باليمين

98

{إِنَّمَا إلهكم الله} استئناف مَسوقٌ لتحقيق الحقِّ إثرَ إبطالِ الباطل بتلوين الخطابِ وتوجيه إلى الكل أي إنما معبودُكم المستحقُّ للعبادة الله {الذى لاَ إله} في الوجود لشيءٍ من الأشياءِ {إِلاَّ هُوَ} وحده من غير أن يشاركه شيءٌ من الأشياءِ بوجهٍ من الوجوه التي من جملتها أجكام الألوهية وقرئ الله لاَ إله إِلاَّ هو الرحمن ربُّ العرش وقوله تعالى {وَسِعَ كُلَّ شَىْء عِلْماً} أي وسع علمُه كلَّ ما مِن شأنه أن يُعلم بدلٌ من الصلة كأنه قيل إنما إلهكم الله الذى وسع كل شىء علما لا غيرُه كائناً ما كان فيدخل فيه العِجْلُ دخولا أوليا وقرئ وسّع بالتشديد فيكون انتصابُ عِلْماً على المفعولية لأنه على القراءة الأولى فاعلٌ حقيقةً وبنقل الفعل إلى التعدية إلى المفعولين صار الفاعل مفعولا أول كأنه قيل وسِع علمُه كلَّ شيء وبه تم حديث موسى عليه السلام المذكورُ لتقرير أمر التوحيدِ حسبما نطقت به خاتمتُه وقوله تعالى

99

{كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ} كلامٌ مستأنفٌ خوطب به النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بطريق الوعدِ الجميل بتنزيل أمثالِ ما مر من أنباء الأممِ السالفة وذلك إشارةٌ إلى اقتصاص حديثِ موسى عليه السلام وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتِه وبُعدِ منزلتِه في الفضل ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنه نعت لمصدر مقدر أي نقصُّ عليك {من أنباء مَا قَدْ سَبَقَ} من الحوادث الماضيةِ الجارية على الأمم الخاليةِ قصًّا مثلَ ذلك القَصِّ المارِّ والتقديمُ للقصر المفيدِ لزيادة التعيين ومِنْ في قولِه تعالَى مِنْ أَنْبَاء في حيز النصبِ إما على أنه مفعول نقص باعتبار مضمونه وإما على أنه متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ للمفعول كما في قوله تعالى وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ أي جمْعٌ دون ذلك والمعنى نقص عليك بعض من أنباء ما قد سبق أو بعضاً كائناً من أنباء ما قد سبق وقد مرَّ تحقيقُه في تفسير قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ الخ وتأخيرُه عن عليك لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أي مثلَ ذلك القصِّ البديعِ الذي سمِعتَه نقصّ عليك ما ذكر من الأنباء لا قصًّا ناقصاً عنه تبصِرةً لك وتوفير لعلمك وتكثيرا لمعجزاتك وتذكر للمستبصرين من أمتك {وَقَدْ اتيناك مِن لَّدُنَّا ذِكْراً} أي كتاباً منطوياً على هذه الأقاصيص والأخبار حقيقا بالتفكر والاعتبار وكلمةُ مِنْ متعلقةٌ بآتيناك وتنكير ذكر للتفخيم وتأخيرِه عن الجارّ والمجرور لما أن مرجِعَ الإفادةِ في الجملة كونُ المؤتى من لدنه تعالى ذكراً عظيماً وقرآناً كريماً جامعاً لكل كمالٍ لا كون ذلك الذكر مؤتى من لَدْنه عزَّ وجلَّ مع ما فيه من نوع طول بما بعده من

طه 100 103 الصفة فتقديمُه يذهب برونق النظمِ الكريم

100

{مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} عن ذلك الذكرِ العظيم الشأنِ المستتبِع لسعادة الدارين وقيل عن الله عز وجل ومَنْ إما شرطيةٌ أو موصولةٌ وأياً ما كانت فالجملةُ صفةٌ لذكراً {فَإِنَّهُ} أي المعرِضُ عنه {يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً} أي عقوبةً ثقيلةً فادحة على كفره وسائرِ ذنوبه وتسميتُها وِزراً إما لتشبيهها في ثِقلها على المعاقَب وصعوبةِ احتمالها بالحِمْل الذي يفدَح الحاملَ وينقُض ظهرَه أو لأنها جزاءُ الوِزْر وهو الإثمُ والأولُ هو الأنسبُ بما سيأتي من تسميتها حِملاً وقوله تعالى

101

{خالدين فِيهِ} أي في الوزر أو في احتماله المستمرِّ حالٌ من المستكن في يحملُ والجمعُ بالنظرِ إلى مَعْنى مَنْ لما أن الخلودَ في النار مما يتحقق حالَ اجتماعِ أهلِها كما أن الإفراد فيما سبق من الضمائر الثلاثةِ بالنظر إلى لفظها {وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً} أي بئس لهم ففيه ضميرٌ مبهمٌ يفسّره حِمْلاً والمخصوصُ بالذم محذوفٌ أي ساء حملاً وِزرُهم واللامُ للبيانِ كما في هَيْتَ لك كأنه لما قيل ساء قيل لمن يقال هذا فأجيب لهم وإعادةُ يوم القيامة لزيادة التقريرِ وتهويلِ الأمر

102

{يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور} بدل من يوم القيامة أو منصوبٌ بإضمار اذكُرْ أو ظرفٌ لمضمر قد حُذف للإيذان بضيق العبارةِ عن حصره وبيان حسبما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل وقوله تعالى يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وفدا وقرئ ننفخ بالنون على إسناد النفخِ إلى الآمرِ به تعظيماً له وبالياء المفتوحة على أن ضميره لله عز وجل أو لإسرافيلَ عليه السلام وإن لم يجْرِ ذكرُه لشهرته {وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ} أي يوم إذ ينفخ في الصور وذكرُه صريحاً مع تعيّن أن الحشرَ لا يكون إلا يومئذ للتهويل وقرئ ويُحشَر المجرمون {زُرْقاً} أي حالَ كونهم زُرْقَ العيون وإنما جعلوا كذلك لأن الزُّرقةَ أسوأُ ألوانِ العين وأبغضُها إلى العرب فإن الرومَ الذين كانوا أعدى عدوِّهم زُرقٌ ولذلك قالوا في صفة العدو أسودُ الكِبد وأصهبُ السِّبال وأزرقُ العين أو عُمياً لأن حدَقةَ الأعمى تزرقّ وقوله تعالى

103

{يتخافتون بَيْنَهُمْ} أي يخفِضون أصواتَهم ويُخفونها لما يملأ صدورَهم من الرعب والهول استئنافٌ ببيان ما يأتون وما يذرون حينئذ أو حالٌ أخرى من المجرمين أي يقول بعضُهم لبعض بطريق المخافتة {إِن لَّبِثْتُمْ} أي ما لبثتم في الدنيا {إِلاَّ عَشْراً} أي عشر ليال استقصار لمدة لبثهم فيها لزوالها أو لاستطالتهم مدةَ الآخرة أو لتأسفهم عليها لمّا عاينوا الشدائدَ وأيقنوا أنهم استحقوها على إضاعتها في قضاء الأوطارِ واتّباعِ الشهوات أو في القمر وهو الأنسبُ بحالهم فإنهم حين يشاهدون البعثَ الذي كانوا ينكرونه في الدنيا ويعُدّونه من قبيل المُحالات لا يتمالكون من أن يقولوا ذلك اعترافاً به وتحقيقاً لسرعة وقوعِه كأنهم قالوا قد بُعثتم وما لبثتم في القبر إلا مدة يسيرة

طه 104 108 وإلا فحالُهم أفظعُ من أن تمكّنهم من الاشتغال بتذكر أيامِ النعمة والسرورِ واستقصارِها والتأسف عليها

104

{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} وهو مدةُ لبثهم {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً} أي أعد لهم رأياً أو عملاً {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} ونسبةُ هذا القولِ إلى أمثلهم استرجاع منه تعالى له لكن لا لكونه أقربَ إلى الصدق بل لكونه أدلَّ على شدة الهول

105

{ويسألونك عَنِ الجبال} أي عن مآل أمرِها وقد سأل عنه رجل من ثقيف وقيل مشركو مكةَ على طريق الاستهزاء {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً} أي يجعلها كالرمل ثم يُرسل عليها الرياحَ فتُفرّقها والفاء للمسارعة إلى إلزام السائلين

106

{فَيَذَرُهَا} الضميرُ إما للجبال باعتبار أجزائها السالفة الباقيةِ بعد النسفِ وهي مقارُّها ومراكزُها أي فيذر ما انبسط منها وساوى سطحُه سطوحَ سائرِ أجزاءِ الأرض بعد نسف مانتا منها ونشزو إما للأرض المدلول عليها بقرينة الحالِ لأنها الباقيةُ بعد نسفِ الجبال وعلى التقديرين يذر الكلَّ {قَاعاً صَفْصَفاً} لأن الجبالَ إذا سُوّيت وجُعل سطحُها مساوياً لسطوح سائر أجزاءِ الأرض فقد جُعل الكلُّ سطحاً واحداً والقاعُ قيل السهلُ وقيل المنكشفُ من الأرض وقيل المستوى الصُّلْبُ منها وقيل مالا نباتَ فيه ولا بناء والصفصف الأض المستويةُ الملساءُ كأن أجزاءَه صفٌّ واحد من كل جهة وانتصابُ قاعاً على الحاليةِ من الضميرِ المنصوبِ أو هو مفعولٌ ثانٍ ليذر على تضمين معنى التصييرِ وصفصفاً إما حالٌ ثانية أو بدلٌ من المفعول الثاني وقوله تعالى

107

{لاَّ ترى فِيهَا} أي مقارّ الجبال أو في الأرض على ما مر من التفصيل {عِوَجَا} بكسر العين أي اعوجاجاً ما كأنه لغاية خفائِه من قبيل ما في المعاني أي لا تدركه إن تأملْتَ بالمقاييس الهندسية {وَلا أَمْتاً} أي نتُوءاً يسيراً استئنافٌ مبينٌ لكيفية ما سبق من القاع الصفْصَف أو حالٌ أخرى أو صفة لقاعاً والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن تأتي منه الرؤيةُ وتقديمُ الجارّ والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من طولٍ ربَّما يُخِلّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظم الكريم

108

{يومئذ} أي يوم إذ نُسفت الجبالُ على إضافة اليوم إلى وقت النسْفِ وهو ظرفٌ لقوله تعالى {يَتَّبِعُونَ الداعى} وقيل بدلٌ من يَوْمَ القيامة وليس بذاك أي يتبع الناسُ داعي الله عزَّ وجلَّ إلى المحشر وهو إسرافيلُ عليه السلام يدعو الناسَ عند النفخةِ الثانية قائماً على صخرة بيتِ المقدس ويقول أيتها العِظامُ النخِرةُ والأوصالُ المتفرّقةُ واللحومُ المتمزّقة قومي إلى

طه 109 112 عَرْض الرحمن فيُقبلون من كل أَوبٍ إلى صَوْبه {لاَ عِوَجَ لَهُ} لا يعوج له مدوعو ولا يعدِل عنه {وَخَشَعَتِ الاصوات للرحمن} أي خضعت لهيبته {فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} أي صوتاً خفياً ومنه الهميسُ لصوت أخفافِ الإبل وقد فُسر الهمْسُ بخفق أقدامِهم ونقلِها إلى المحشر

109

{يومئذ} أي يوم إذ يقع ما ذُكر منَ الأمورِ الهائلةِ {لاَّ تَنفَعُ الشفاعة} من الشعفاء أحداً {إِلاَّ مَنْ أذِن لَهُ الرحمن} أن يشفع له {وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً} أي ورضيَ لأجله قولَ الشافع في شأنه أو رضي قوله لأجله وفي شأنه وأما من عداه فلا تكاد تنفعه وإنْ فُرِضَ صدورُها عن الشفعاء المتصدّين للشفاعة للناس كقوله تعالى فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين فالاستثناءُ كما ترى من أعم المفاعيل وأما كونُه استثناءً من الشفاعة على معنى لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن أن يشفع لغيره كما جوزوه فلا سبيل إليه لِما أن حُكم الشفاعةِ ممن لم يؤذَنْ له أن لا يملِكَها ولا تصدرُ هي عنه أصلاً كما في قوله تعالى لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً وقوله تعالى وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى فالإخبارُ عنها بمجرد عدم نفعِها للمشفوع له ربما يوهم إمكانَ صدورِها عمن لم يؤذَنْ له مع إخلاله بمقتضى مقامِ تهويل اليوم وأما قوله تعالى وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شفاعة فمعناه عدمُ الإذنِ في الشفاعة لا عدمُ قبولها بعد وقوعها

110

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي ما تقدمهم من الأحوال وقيل من أمر الدنيا {وَمَا خَلْفَهُمْ} وما بعدهم مما يستقبلونه وقيل من أمر الآخرة {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} أي لا تحيط علومُهم بمعلوماته تعالى وقيل بذاته أي من حيث اتصافُه بصفات الكمالِ التي من جملتها العلمُ الشاملُ وقيل الضمير لأحد الموصولين أو لمجموعها فإنهم لا يعلمون جميع ذلك ولا تفصيلَ ما علموا منه

111

{وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَىّ القيوم} أي ذلت وخضعت خضوعَ العتاة أي الأُسارى في يد الملكِ القهارِ ولعلها وجوه المجرمين كقوله تعالى سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كفورا ويؤيده قوله تعالى {وَقَدْ خاب من حمل ظلما} قال ابن عباس رضي الله عنهما خسِر من أشرك بالله ولم يتُب وهو استئنافٌ لبيان ما لأجله عنت وجوهُهم أو اعتراضٌ كأنه قيل خابوا وخسِروا وقيل حالٌ من الوجوه ومَنْ عبارةٌ عنها مغنيةٌ عن ضميرها وقيل الوجوهُ على العموم فالمعنى حينئذ وقد خاب من حمل منهم ظلماً فقوله تعالى

112

{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} الخ قسم لقوله تعالى وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً لا لقوله تعالى وَعَنَتِ الوجوه الخ كما أنه كذلك على الوجه الأول أي ومن يعملْ بعضَ الصالحات أو بعضاً من الصالحات على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ في تفسيرِ قولِه تعالى مِنْ أنباء ما قد سبق {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فإن الإيمان شرطٌ في صحة الطاعاتِ وقَبول الحسنات {فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً} أي منْعَ ثوابٍ مستحَقٍ بموجب الوعد {وَلاَ هَضْماً}

ولا كسْراً منه يَنْقُص أو لا يخاف جزاءَ ظلم وهضم إذا لم يصدُر عنه ظلمٌ ولا هضمٌ حتى يخافَهما وقرئ فلا يخَفْ على النهي

113

{وكذلك} عطفٌ على كذلك نَقُصُّ وذلك إشارةٌ إلى إنزال ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد المنبثة عما سيقع من أحوالِ القيامةِ وأهوالِها أي مثلَ ذلك الإنزالِ {أنزلناه} أي القرآنَ كلَّه وإضمارُه من غير سبق ذكرِه للإيذان بنباهة شأنِه وكونِه مركوزاً في العقول حاضراً في الأذهان {قرآنا عَرَبِيّاً} ليفهمه العربُ ويقفوا على ما فيه من النظم المعجزِ الدالِّ على كونِه خارجاً عن طَوْق البشرِ نازلاً من عند خلاّق القُوى والقدر {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيدِ} أي كررنا فيه بعضَ الوعيد أو بعضاً من الوعيد حسبمَا أشيرَ إليهِ آنِفاً {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي كي يتقو الكفرَ والمعاصيَ بالفعل {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} اتعاظاً واعتباراً مؤدياً بالآخرة إلى الاتقاء

114

{فتعالى الله} استعظامٌ له تعالى ولشئونه التي يُصرّف عليها عبادَه من الأوامر والنواهي والوعدِ والوعيدِ وغيرِ ذلكَ أي ارتفع بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاتِهِ وصفاتِه وأفعالِه وأحواله {الملك} النافذ أمره ونهيه الحقيق بأن يُرجى وعدُه ويُخشَى وعيدُه {الحق} في ملكوته وألوهيتِه لذاته أو الثابتُ في ذاته وصفاته {وَلاَ تعجل بالقرآن مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ} أي يتِمَّ {وَحْيُهُ} كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ألقى إليه جبريلُ عليه السلام الوحيَ يتبعه عند تلفظ كل حرفٍ وكل كلمةٍ لكمال اعتنائِه بالتلقّي والحِفظ فنُهيَ عن ذلك إثرَ ذكرِ الإنزال بطريق الاستطرادِ لِما أن استقرارَ الألفاظِ في الأذهان تابعٌ لاستقرار معانيها فيها وربما يَشغَل التفظ بكلمة عن سماع ما بعدها وأُمر باستفاضة العلمِ واستزادتِه منه تعالى فقيل {وَقُلْ} أي في نفسك {رَّبّ زِدْنِى عِلْماً} أي سل الله عز وجل زيادةَ العلمِ فإنه الموصلُ إلى طِلْبتك دون الاستعجالِ وقيل إنه نهُي عن تبليغ ما كان مجملاً قبل أن يأتيَ بيانُه وليس بذلك فإن تبليغَ المُجملِ وتلاوتَه قبل البيان مما لا ريب في صحته ومشروعيّتِه

115

{ولقد عهدنا إلى آدم} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما سبق من تصريف الوعيدِ في القرآن وبيانِ أن أساسَ بني آدمَ على العصيان وعِرْقُه راسخٌ في النسيان مع ما فيه من إنجاز الموعودِ في قوله تعالى كذلك نقصُّ عليك من أنباء مَا قَدْ سَبَقَ يقال عَهدِ إليه المِلكُ وعزم عليه وتقدّم إليه إذا أمره ووصاه والمعهودُ محذوفٌ يدل عليه ما بعده واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ وأُقسِم أو وبالله أو تالله لقد أمرناه ووصّيناه {مِن قَبْلُ} أي من قبل هذا الزمانِ {فَنَسِىَ} أي العهدَ ولم يعتنِ به حتى غفلَ عنه أو تركه ترك المسي عنه وقرئ فنُسِّيَ أي نسّاه الشيطان {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}

طه 116 119 تصميمَ رأيٍ وثباتَ قدم في المور إذ لو كان كذلك لما أزله الشيطانُ ولَما استطاع أن يغُرّه وقد كان ذلك منه عليه السلام في بدء أمره من قلبل أن يجرّب الأمورَ ويتولّى حارَّها وقارَّها ويذوقَ شَرْيَها وأريها عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم لو وُزنت أحلامُ بني آدمَ بحِلْم آدمَ لرجح حِلْمُه وقد قال الله تعالى وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وقيل عزماً على الذنب فإنه أخطأ ولم يتعمّد وقوله تعالى وَلَمْ نَجِدْ إن كان من الوجود العلميّ فله عزماً مفعولا قُدّم الثاني على الأول لكونه ظرفاً وإن كان من الوجود المقابلِ للعدم وهو الأنسبُ لأن مصبَّ الفائدةِ هو المفعولُ وليس في الإخبار بكون العزْم المعدومِ له مزيدُ مزيةٍ فله متعلقٌ به قُدّم على مفعوله لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أو بمحذوفٍ هو حالٌ من مفعوله المنَكّر كأنه قيل ولم نصادِفْ له عزماً وقوله تعالى

116

{وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لاِدَمَ} شروعٌ في بيان المعود وكيفيةِ ظهور نسيانِه وفُقدانِ عزمِه وإذْ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطبَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم أي واذكر وقتَ قولِنا لهم وتعليقُ الذكر بالوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث لما مر مرارا من المبالغة في إيجاب ذكرِها فإن الوقتَ مشتملٌ على تفاصيل الأمورِ الواقعةِ فيه فالأمرُ بذكره أمرٌ بذكر تفاصيلِ ما وقع فيه بالطريق البرهانيِّ ولأن الوقتَ مشتملٌ على أعيان الحوادثِ فإذا ذكر صارت الحوادثُ كأنها موجودةٌ في ذهن المخاطب بوجوداتها لعينية أي اذكر ما وقع في ذلك الوقتِ منا ومنه حتى يتبين لك نسيانُه وفقدانُ عزمِه {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ} قد سبق الكلامُ فيه مراراً {أبى} جملةٌ مستأنفةٌ وقعت جوابا عن سؤال نشأ عن الأخبار بعدم سجودِه كأنه قيل ما بالُه لم يسجُدْ فقيل أبى واستكبر ومفعول أبى إما محذوفٌ أي أبى السجودَ كما قوله تعالى أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين أو غيرُ مَنْويَ رأساً بتنزيله منزلة اللازم أي فعل الإباءَ وأظهره

117

{فَقُلْنَا} عَقيبَ ذلك اعتناءً بنصحه {يا آدم إِنَّ هذا} الذي رأيتَ ما فعل {عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا} أي لا يكونَنّ سبباً لإخراجكما مِنَ الجنة والمرادُ نهيُهما عن أن يكونا بحيث يستبب الشيطانُ إلى إخراجهما منها بالطريق البرهاني كما في قولك لا ارينك ههنا والفاءُ لترتيب موجبِ النهى على عداوته لهما أو على الإخبار بها فتشقى جوابٌ للنهي وإسنادُ الشقاء إليه خاصةً بعد تعليقِ الإخراجِ الموجبِ له بهما معاً لأصالته في الأمور واستلزامِ شقائِه لشقائها مع ما فيه من مراعاة الفواصل وقيل المرادُ بالشقاء التعب في تحصيل مبادئ المعاشِ وذلك من وظائف الرجال

118

{إن لك ألا تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى} {وأنك لا تظمأ فِيهَا وَلاَ تضحى} تعليلٌ لما يوجبه النهيُ فإن اجتماعَ أسبابِ الراحة فيها ممَّا يوجبّ المبالغةَ في الإهتمام بتحصيل

مبادئ البقاءِ فيها والجِدّ في الانتهاء عما يؤدّي إلى الخروج عنها والعدول عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعّماً بفنون النعمِ من المآكلِ والمشاربِ وتمتعاً بأصناف الملابسِ البهية والمساكنِ المرْضيةِ مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها ما لا يَخْفى إلى ما ذكر من نفْي نقائِضها التي هي الجوعُ والعطشُ والعُرْي والضُحِيّ لتذكير تلك الأمورِ المنْكرة والتنبيهِ عَلى ما فَيها من أنواع الشِّقوةِ التي حذّره عنها ليبالغَ في التحامي عن السبب المؤدي إليها على أن الترغيبَ قد حصل بما سوّغ له من التمتع بجميع ما فيها سوى ما استنثى من الشجرة حسبما نطق به قوله تعالى ويا آدم اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وقد طُوي ذكرُه هَهُنا اكتفاءً بما ذكر في موضع آخرَ واقتصر على ما ذكر من الترغيب المتضمن الترهيب ومعنى أَن لا تَجُوعَ فِيهَا الخ أن لا يصيبَه شيء من الأمور الأربعة أصلا فغن الشبع والري والكسوة والكن قد تحصُل بعد عروض أضدادِها بإعواز الطعام والشرابِ واللباس والمسكنِ وليس الأمر فيها كذلك بل كلُّ ما وقع فيها شهوةٌ وميلٌ إلى شيء من الأمور المذكورة تمتع به من غير أن يصل إلى حد الضرورة ووجهُ إفرادِه عليه السلام بما ذكر ما مر آنفاً وفصلُ الظمأ عن الجوع في الذكر مع تجانُسهما وتقارنِهما في الذكر عادةً وكذا حالُ العُرْي والضَّحْو المتجانسين لتوفية مقامِ الامتنان حقَّه بالإشارة إلى أن نفي كلُّ واحد من تلك الأمور نعمةٌ على حيالها ولو جمُع بين الجوعِ والظمأ لربما تُوهم أن نفيَهما نعمةٌ واحدةٌ وكذا الحال في الجمع بين العُرْي والضَّحْو على منهاج قصة البقرة ولزيادة التقريرِ بالتنبيه على أن نفي كل واحد من الأمور المذكوره مقصوده بالذات مذكوره بالأصالة لا أن نفيَ بعضها مذكورة بطريق والتبعية لنفي بعضٍ آخرَ كما عسى يُتوهم لو جمع بين كلَ من المتجانسين وقرىء إنك بالكسر والجمهورُ على الفتح بالعطف على أن لا تجوع وصحة وقوع الجملة بأن المفتوحة اسماً للمكسورة المشاركة لها في إفادة التحقيقِ مع امتناع وقوعِها خبراً لها لما أن المحذور احتماع حرفي التحقيق في مادة واحدة لا اجتماعَ فيما نحن فيه لاختلاف مناطِ التحقيقِ فيما في حيز هما بخلاف ما لو وقعت خبراً لها فإن اتحادَ المناطِ حينئذ مما لا ريبَ فيه بيانُه أن كلَّ واحد من المكسورة والمفتوحة موضوعةٌ لتحقيق مضمونِ الجملة الخبريةِ المنعقدةِ من اسمها وخبرِها ولا يخفى أن مرجِعَ خبريّتها ما فيها من الحُكم الإيجابي أو السلبيِّ وأن مناطَ ذلك الحكمِ خرها لا اسمُها فمدلولُ كلَ منهما تحقيقُ ثبوتِ خبرِها لا سمها لا ثبوتِ اسمِها في نفسها فاللازمُ من وقوع الجملةِ المصدرة بالمفتوحة اسماً للمكسورة تحقيقُ ثبوتِ خبرها لتلك الجملةِ المؤولة بالمصدر وأما تحقيقُ ثبوتِها في نفسها فهو مدلولُ المفتوحةِ حتماً فلم يلزَم اجتماعُ حرفي التحقيق في مادة واحدة قطعاً وإنما لم يجوّزوا أن يقال إن أن زيدا قائم حق مع اختلاف المناطِ بل شرطوا الفصلَ بالخبر كقولنا إن عندي أن زيادا قائم للتجافي عن صورة الاجتماعِ والواوُ العاطفة وإن كانت نائبة عن الكسورة التي يمتنع دخولُها على المفتوحة بلا فصل وقائمةً مقامَها في إفضاء معناها وإجراء أحكامِها على مدخولها لكنها حيث لم تكن حرفاً موضوعاً للتحقيق لم يلزم من دخولها على المفتوحة اجتماع حرفي التقحيق أصلاً فالمعنى إن لك عدمَ الجوعِ وعدمَ العُري وعدَم الظمأ خلا أنه لم يقتصِرْ على بيان أن الثابتَ له عليه السلام عدمُ الظمأ والضَّحْو مطلقاً كما فُعل مثلُه في المعطوف عليه بل قُصد بيانُ أن الثابتَ له عليه السلام تحقيقُ عدمها فوُضِع موضعَ الحرفِ المصدريّ

سورة طه الآية 120 123 المحصن إنّ المفيدةُ له كأنه قيل إن لك فيها عدمَ ظمئك على التحقيق

120

{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان} أي أنهى إليه وسوسته أو أسرها إليه {قَالَ} إما بدل من وسوس أن استئناف وقع وجوابا عن سؤالٍ نشأَ منْهُ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ في وسوسته فقيل قال {يا آدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد} أيْ شجرةٍ مَنْ أكلَ منها خلّد ولم يمُت أصلاً سواءٌ كان على حاله أو بأن يكون ملَكاً لقوله تعالى إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين {وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} أي لا يزول ولا يختلّ بوجه من الوجوه

121

{فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سوآتهما} قال ابن عباس رضي الله عنهما عَرِيا عن النور الذي كان الله تعالى ألبسهما حتى بدت فروجُهما {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} قد مرَّ تفسيرُه في سورةِ الأعراف {وعصى آدم رَبَّهُ} بما ذكر من أكل الشجرة {فغوى} ضل عن مطلوبه الذي هو الخلود أو عن المأمورُ به أو عن الرَّشَد حيث اغتر بقول العدو العدوّ وقرىء فغوي من غوي الفصيل إذا أُتخم من اللبن وفي وصفه عليه السلام بالعصيان والغَواية مع صغر زلّتِه تعظيمٌ لها وزجرٌ بليغ لأولاده عن أمثالها

122

{ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ} أي اصطفاه وقربه إليه بالجمل على التوبة والتوفيقِ لها من اجتبى الشيءَ بمعنى جباه لنفسه أي جمعه كقولك اجتمعتُه أو من جبى إليّ كذا فاجتبيته مثل جليب على العروس فاجتليتها وأصلُ الكلمة الجمعُ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام مزيدُ تشريفٌ له عليه السلام {فَتَابَ عَلَيْهِ} أي قبِل توبتَه حين تاب هو وزوجتُه قائلين رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين وإفرادُه عليه السلام بالاجتباء وقَبولِ التوبة قد مرّ وجهُه {وهدى} أي إلى الثبات على التوبة والتمسكِ بأسباب العصمة

123

{قال} استئناف مبني على السؤال نشأ من الإخبار بأنه تعالى قبِل توبته وهداه كأنه قيل فماذا أمره تعالى بعد ذلك فقيل قال له ولزوجته {اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً} أي انزِلا من الجنة إلى الأرض وقوله تعالى {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} حالٌ من ضمير المخاطب في اهبِطا والجمعُ لما أنهما أصلُ الذرية ومنشأُ الأولاد أي مُتعادِين في أمر المعاشِ كما علي الناسُ من التجاذُب والتحارُب {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى} من كتاب ورسول {فَمَنِ اتبع هُدَاىَ} وُضع الظاهرُ موضعَ المُضمرِ مع الإضافة إلى ضميره تعالى لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعِه {فَلاَ يَضِلُّ} في الدنيا {وَلاَ يشقى} في الآخرة

سورة طه الآية

124

124 - 128 {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى} أي عن الهدى الذاكرِ لي والداعي إليّ {فَإِنَّ لَهُ} في الدنيا {مَعِيشَةً ضَنكاً} ضيقاً مصدرٌ وصف به ولذلك يستوي فيه المذكرُ والمؤنثُ وقرئ ضنكى كسَكْرى وذلك لأن مجامعَ همتِه ومطامحَ نظرِه مقصورةٌ على أعراض الدنيا وهو متهالكٌ على ازديادها وخائف من انتقاصها بخلاف المؤمنِ الطالبِ للآخرة مع أنه قد يضيق الله بشؤم الكفر ويوسع ببركة الإيمان كما قال تعالى وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وقال تعالى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمنوا واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بركات مّنَ السماء والارض وقوله تعالى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب آمنوا إلى قوله تعالى لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم وقيل هو الضَّريعُ والزقومُ في النار وقيل عذاب القبر {ونحشره} وقرئ بسكون الهاء على لفظ الوقف والجزمِ عطفاً على محل فإن له معيشةً ضنكاً لأنه جواب الشرط {يَوْمَ القيامة أعمى} فاقدَ البصر كما في قوله تعالى وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمّا لا أعمى عن الحجة كما قيل

125

{قَالَ} استئناف كما مر {رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} أى في الدنيا وقرئ أعمى بالإمالة في الموضعين وفي الأول فقط لكونه جديراً بالتغيير لكونه رأسَ الآية ومحلَّ الوقف

126

{قَالَ كذلك} أي مثلَ ذلك فعلتَ أنت ثم فسره بقوله تعالى {أَتَتْكَ اياتنا} واضحةً نيِّرةً بحيث لا تخفى على أحد {فَنَسِيتَهَا} أي عَمِيتَ عنها وتركتها ترْكَ المنسيِّ الذي لا يُذكر أصلاً {وكذلك} ومثلَ ذلك النسيانِ الذي كنت فعلته في الدنيا {اليوم تنسى} تترك في العمى والعذاب جزاءً وفاقاً لكن لا أبداً كما قيل بل إلى ما شاء الله ثم يزيله عنه فيرى أهوالَ القيامة ويشاهد مقعدَه من النار ويكون ذلك له عذاباً فوق العذاب وكذا البَكَم والصمَمُ يزيلهما الله تعالى عنهم أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا

127

{وكذلك} أي مثلَ ذلك الجزاءِ الموافقِ للجناية {نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ} بالانهماك في الشهوات {ولم يؤمن بآيات رَبّهِ} بل كذبها وأعرض عنها {وَلَعَذَابُ الأخرة} على الإطلاق أو عذابُ النار {أَشَدُّ وأبقى} أي من ضنْك العيشِ أو منه ومن الحشر على العمى

128

{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من قوله تعالى وكذلك نجزي الآية والهمزةُ للإنكار التوبيخي والفاءُ للعطف على مقدر يقتضيه المقام واستعمالُ الهداية باللام إما لتنزيلها منزلةَ اللام فلا حاجة

سورة طه الآية 129 إلى المفعول أو لأنها بمعنى التبيينِ والمفعولُ محذوف وأياً ما كان فالفاعلُ هو الجملة بمنصوبها ومعناها وضمير لهم للمشركين المعاصرين لرسوله الله صلى الله عليه وسلم والمعنى أغَفلوا فلم يَفعل الهدايةَ لهم أو فلم يبيَّن لهم مآلُ أمرِهم كثرة أهلا كنا للقرون الأولى وقد مرَّ في قولِه عزَّ وجلَّ أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرض مِن بَعْدِ أَهْلِهَا الآية وقيل الفاعلُ الضميرُ العائد إلى الله عزَّ وجلَّ ويؤيده القراءةُ بنون العظمة وقوله تعالى كَمْ أَهْلَكْنَا الخ إما معلِّقٌ للفعل سادٌّ مسدَّ مفعولِه أو مفسّرٌ لمفعوله المحذوف هكذا قيل والأوجهُ أن لا يلاحظ له مفعولٌ كأنه قيل أفلم يفعلِ الله تعالى لهم الهدايةَ ثم قيل بطريق الالتفاتِ كم أهلكنا الخ بياناً لتلك الهدايةِ ومن القرون في محل النصب على أنه وصفٌ لممُيِّزِكَم أي كم قرناً كائناً من القرون وقوله تعالى {يَمْشُونَ فِى مساكنهم} حالٌ من القرون أو من مفعول أهلكْنا أي أهلكناهم وهم في حال أمنٍ وتقلّبٍ في ديارهم أو من الضميرِ في لهم مؤكدٌ للإنكار والعاملُ يهد والمعنى أفلم يهد لهم إهلا كنا للقرون السالفة من أصحاب الحِجْر وثمودَ وقُريّات قوم لوطٍ حالَ كونهم ماشين في مساكنهم إذا سافروا إلى الشام مشاهدين لآثار هلاكِهم مع أن ذلك مما يوجب أن يهتدوا إلى الحق فيعتبروا لئلا يحِل بهم مثلُ ما حل بأولئك وقرىء يُمْشَوْن على البناء للمفعول أي يمكنون من المشي {إِنَّ فِى ذَلِكَ} تعليلٌ للإنكار وتقريرٌ للهداية مع عدم اهتدائِهم وذلك إشارةٌ إلى مضمون قوله تعالى كَمْ أَهْلَكْنَا الخ وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعْد منزلتِه وعلوِّ شأنه في بابه {لاَيَاتٍ} كثيرةً عظيمةً واضحاتِ الهداية ظاهراتِ الدِلالة على الحق فإذن هو هادوا إيما هادٍ ويجوز أن تكون كلمةُ في تجريدية فافهم {لأُوْلِى النهى} لذوي العقولِ الناهيةِ عن القبائح التي من أقبحها ما يتعاطاه كفارُ مكّة من الكفر بآياتِ الله تعالى والتعامي عنها وغيرِ ذلك من فنون المعاصي وفيه دلالةٌ على أن مضمونَ الجملة هو الفاعلُ لا المفعول وقوله تعالَى

129

{وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان حِكمة عدمِ وقوعِ ما يُشعر به قوله تعالى أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الآية من أنْ يصيبَهم مثلُ ما أصاب القرونَ المهلَكة أي ولولا الكلمةُ السابقةُ وهي العِدَةُ بتأخير عذابِ هذه الأمةِ إلى الآخرة لحكمة تقتضيه ومصلحةٍ تستدعيه {لَكَانَ} عقابُ جناياتِهم {لِزَاماً} أي لازماً لهؤلاء الكفرةِ بحيث لا يتأخر عن جناياتهم ساعةً لزومُ ما نزل بأولئك العابرين وفي التعرض لعنواب الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام تلويحٌ بان ذلك لتأخير لتشريفه عليه السلام كما ينبىء عنه قوله تعالى وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ واللِّزامُ إما مصدرٌ لازمٌ وُصِف به مبالغةً وإما فِعالٌ بمعنى مِفْعل جُعل آلةَ اللزوم لفَرْط لزومه كما يقال لِزازُ خصم {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} عطفٌ على كلمةٌ أي ولولا أَجَلٍ مسمًّى لأعمارهم أو لعذابهم وهو يومُ القيامة ويومُ بدر لما تأخر عذابُهم أصلاً وفصلُه عما عطف عليه للمسارعة إلى بيان جوابِ لولا وللإشعار باستقلال كلَ منهما بنفي لزومِ العذابِ ومراعاةِ فواصل الآي الكريمةِ وقد جوّز عطفُه على المستكن في كان العائدِ إلى الأخذ العاجلِ المفهومِ من السياق تنزيلاً للفصل بالخبر منزلةَ التأكيد أي لكان الأخذُ العاجلُ وأجلٌ مسمى لازمَين لهم كدأب عاد وثمود

سورة طه الآية 130 131 وأضرابِهم ولم ينفرد الأجلُ المسمى دون الأخذِ العاجل

130

{فاصبر على مَا يَقُولُونَ} أي إذا كان الأمر على ما ذكر من أن تأخيرَ عذابِهم ليس بإهمال بل إمهالٍ وأنه لازمٌ لهم البتةَ فاصبِرْ على مَا يَقُولُونَ من كلمات الكفرِ فإن علمه عليه السلام بأنهم معذبون لا محالة مما يسلّيه ويحمِلُه على الصبر {وَسَبّحْ} ملتبساً {بِحَمْدِ رَبّكَ} أي صلِّ وأنت حامدٌ لربك الذي يبلّغك إلى كمالك على هدايته وتوفيقِه أو نزهه تعالى عما ينسوبه إليه مما لا يليق بشأنه الرفيعِ حامداً له على ما ميّزك بالهدى معترفاً بأنه مولى النّعم كلِّها والأولُ هو الأظهرُ المناسبُ لقوله تعالى {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} الخ فإن توقيت التنزيه غيرُ معهودٍ فالمرادُ صلاة الفجر {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} يعني صلاتي الظهرِ والعصر لأنهما قبل غروبِها بعد زوالها وجمعها لمناسبة قوله تعالى قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ صلاة العصر {ومن آناء الليل} أي من ساعاته جمع إِنًى بالكسر والقصر وآناء بالفتح والمد {فَسَبّحْ} أي فصلِّ والمرادُ به المغربُ والعشاء وتقديم الوقت فيهما لاختصاصهما بمزيد الفضلِ فإن القلبَ فيهما أجمعُ والنفسَ إلى الاستراحة أميلُ فتكون العبادةُ فيهما أشقَّ ولذلك قال تعالى إن ناشئة الليل هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً {وَأَطْرَافَ النهار} تكريرٌ لصلاة الفجر والمغرِب إيذاناً باختصاصهما بمزيد مزيةٍ ومجيئُه بلفظ الجمع لأمن من الإلباس كقول من قال ظَهراهما مثلُ ظهورِ التُّرسين أو أمرٌ بصلاة الظهر فإنه نهايةُ النصفِ الأول من النهار وبدايةُ النصف الأخيرِ وجمعُه باعتبار النصفين أو لأن النهارَ جنسٌ أو أمرٌ بالتطوع في أجزاء النهار {لَعَلَّكَ ترضى} متعلق بسبح أي سبح في هذه الأوقات رجاءَ أن تنال عنده تعالى ما ترضَى به نفسُك وقرىء تُرضَى على صيغة البناء للمفعول من أرضى أي يُرضيك ربك

131

{وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} أي لا تطل نظر هما بطريق الرغبة والميل {إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} من زخارف الدنيا وقوله تعالى {أزواجا منهم} أي أصناما من الكَفَرة مفعول متّعنا قُدِّم عليه الجارُّ والمجرورُ للاعتناء به أو هو حالٌ من الضميرِ والمفعولُ منهم أي إلى الذي متعنا به وهو أصنافُ وأنواعُ بعضِهم على أنه معنى من التبعيضة أو بعضاً منهم على حذف الموصوفِ كما مر مراراً {زَهْرَةَ الحياة الدنيا} منصوبٌ بمحذوف يدل عليه متعنا أي أعطينا أو به على تضمين معناه أو بالبدلية من محل به اومن أزواجاً بتقدير مضافٍ أو بدونه أو بالذم وهي الزينةُ والبهجةُ وقرىء زهَرةَ بفتح الهاء وهي لغة كالجهَرة في الجهْرة أو جمعُ زاهر وصفٌ لهم بأنهم زاهر والدنيا لتنعُّمهم وبهاءِ زِيِّهم بخلاف ما عليه المؤمنون الزهّاد {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} متعلقٌ بمتعنا جيء به للتنفير عنه ببيان سوءِ عاقبتِه مآلاً إثرَ إظهارِ بهجتِه حالاً أي لنعاملهم معاملةَ من يبتليهم ويختبرُهم فيه أو لنعذّبهم في الآخرة بسببه {وَرِزْقُ رَبّكَ} أي ما ادخّر لك في الآخرة أو ما رزقك في الدنيا من النبوة والهدى {خَيْرٌ} مما منحهم في الدنيا لأنه مع كونه

سورة طه الآية 132 134 في نفسه أجلَّ ما يتنافس فيه المتنافسون مأمونُ الغائلةِ بخلاف ما منحوه {وأبقى} فإنه لا يكاد ينقطع نفْسُه أو أثرُه أبداً كما عليه زهرة الدينا

132

{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة} أُمر صلى الله عليه وسلم بأن يأمر أهلَ بيته أو التابعين له من أمته بالصلاة بعد ما أُمر هو بها ليتعاونوا على الاستعانة على خَصاصتهم ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفتَ أربابِ الثروة {واصطبر عَلَيْهَا} وثابرْ عليها غيرَ غيرَ مشتغلٍ بأمر المعاش {لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً} أي لا نكلّفك أن ترزُقَ نفسَك ولا أهلَك {نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} وإياهم ففرِّغْ بالَك بأمر الآخرة {والعاقبة} الحميدةُ {للتقوى} أي لأهل التقوى على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه تنبيهاً على أن مَلاك الأمرِ هو التقوى روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب أهلَه ضُرٌّ أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية

133

{وقالوا لولا يأتينا بآية مّن رَّبّهِ} حكايةٌ لبعضٍ أقاويلهم الباطلةِ التي أُمر صلى الله عليه وسلم بالصبر عليها أي هلا يأتينا بآية تدل على صدقة في دعوى النبوةِ أو أية مما اقترحوها بلغوا من المكابرة والعِناد إلى حيث لم يعُدّوا ما شاهدوا من المعجزات التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال من قَبيل الآيات حتى اجترءوا على التفوُّه بهذه العظيمةِ الشنعاء وقوله تعالى {أَوَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيّنَةُ مَا فِى الصحف الأولى} أي التوراةُ والإنجيلُ وسائرُ الكتبِ السماوية ردمن جهته عزوعلا لمقالتهم القبيحةِ وتكذيبٌ لهم دسوا تحتها من إنكار إتيان الآية بإتيان القرآنِ الكريم الذي هو أمُّ الآياتِ وأس المعجزات وأعظمها فيما وأبقاها لأن حقيقةَ المعجزةِ اختصاصُ مدّعي النبوة بنوع من الأمور الخارقةِ للعادات أيِّ أمرٍ كان ولا ريب في أن العلمُ أجلُّ الأمور وأعلاها إذ هو أصلُ الأعمال ومبدأَ الأفعالِ ولقد ظهر مع حيازته لجميع علومِ الأولين والآخرين على يد أميَ لم يمارس شيئاً من العلوم ولم يدارس أحداً من أهلها أصلاً فأيُّ معجزة تُراد بعدَ ورودِه وأيُّ آية ترام مع وجوده وفي إيراده بعنوان كونه بينة لما في الصحف الأولى من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية أي شاهداً بحقية ما فيها من العقائد الحقةِ وأصولِ الأحكام التي أجمعت عليها كافةُ الرسل وبصحة ما تنطِقُ به من أنباء الأمم من حيث أنه غنيٌّ بإعجازه عما يشهد بحقّيته حقيقٌ بإثبات حقية غيره مالا يخفى من تنويه شأنِه وإنارة برهانِه ومزيدُ تقريرٍ وتحقيقٍ لإتيانه وإسنادُ الإتيان إليه مع جعلهم إياه مأتياً به للتنبيه على أصالته فيه مع ما فيه من المناسبة للبينة والهمزةُ لإنكار الوقوعِ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقامُ كأنه قيلَ ألم تأتهم سائرُ الآياتِ ولم تأتهم خاصةً بينةُ ما في الصحف الأولى تقريرا لإ تيانه وإيذانا بانه من الوضوح بحيث لا يتأتى منهم إنكارُه أصلاً وإن اجترءوا على إنكار سائر الآياتِ مكابرة وعنادا وقرىء أو لم يأتهم بالياء التحتانية وقرىء الصُّحْفِ بالسكون تخفيفاً وقوله تعالى

134

{وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ}

إلى آخر الآية جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لتقرير ما قبلها من كون القرآن آيةً بينةً لا يمكن إنكارُها ببيان أنهم يعترفون بها يوم القيامة والمعنى لو أنا أهلكناهم في الدينا بعذاب مستأصِل {مِن قَبْلِهِ} متعلقٌ بأهلكنا أو بمحذوف هو صفةٌ لعذاب أي بعذاب كائنٍ من قبل إتيان البينة أو من قبل محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم {لَقَالُواْ} أي يوم القيامة {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا} في الدنيا {رَسُولاً} مع كتاب {فنتبع آياتك} التي جاءنا بها {مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ} بالعذاب في الدنيا {ونخزى} بدخول النار اليوم اليوم ولكنا لم نُهلكهم قبل إتيانِها فانقطعت معذِرتُهم فعند ذلك قالوا بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَىْء

135

{قُلْ} لأولئك الكفرة المتمردين {كُلٌّ} أي كلُّ واحدٍ منا ومنكم {مُّتَرَبّصٌ} منتظِرٌ لما يؤول إليه أمرُنا وأمرُكم {فَتَرَبَّصُواْ} وقرىء فتمتعوا {فَسَتَعْلَمُونَ} عن قريب {مَنْ أصحاب الصراط السوي} أي المستقيمِ وقرىء السواءِ أي الوسطِ الجيد وقرىء السوءِ والسوءى والسُّوَي تصغيرُ السوء {وَمَنِ اهتدى} من الضلالة ومَنْ في الموضعين استفهاميةٌ محلُّها الرفع بالابتداء خبرها وما بعدها والجملةُ سادّةٌ مسدَّ مفعوليْ العلم أو مفعولِه ويجوز كونُ الثانية موصولةً بخلاف الأولى لعدم العائد فتكون معطوفةً على محل الجملةِ الاستفهامية المعلَّقِ عنها الفعلُ على أن العلم بمعنى المعرفة أو على أصحاب أو على الصراط وقيل العائدُ في الأولى محذوفٌ والتقديرُ من هم أصحابُ الصراط عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة طه أُعطِيَ يوم القيامة ثوابَ المهاجرين والأنصار وقال لا يقرأ أهلُ الجنة من القرآن إلا سورة طه ويس

سورة الأنبياء الآية { سورة الأنبياء مكية وآياتها مائة وإثنتا عشرة آية 1 - {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

الأنبياء

{اقترب لِلنَّاسِ حسابهم} مناسبةُ هذه الفاتحةِ الكريمة لما قبلها من الخاتمة الشريفة غنيةٌ عن البيان قال ابن عباس رضي الله عنهما المرادُ بالناس المشركون وهو الذي يُفصح عنه ما بعده والمرادُ باقتراب حسابِهم اقترابُه في ضمن اقترابِ الساعةِ وإسنادُ الاقترابِ إليه لا إلى الساعة مع استتباعها له ولسائر ما فيها من الأحوال والأهوال الفظيعة لانسياق الكلامِ إلى بيان غفلتِهم عنه وإعراضِهم عما يذكّرهم ذلك واللامُ متعلقةٌ بالفعل وتقديمُها على الفاعل للمسارعة إلى إدخال الروعةِ فإن نسبةَ الاقتراب إليهم من أول الأمر مما يسوؤهم ويُورثهم رَهبةً وانزعاجاً من المقترِب كما أن تقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريحِ في قولِه تعالى هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض لتعجيل المسرّة لما أن بيانَ كونِ الخلق لأجل المخاطَبين مما يسرّهم ويزيدهم رغبةً فيما خُلق لهم وشوقاً إليه وجعلها تأكيداً للإضافة على أن الأصلَ المتعارفَ فيما بين الأوساط اقترب حسابُ الناس ثم اقترب للناس الحسابُ ثم اقترب للناس حسابُهم مع أنه تعسفٌ تامٌّ بمعزل عما يقتضيه المقامُ وإنَّما الذي يستدعيه حسنُ النظام ما قدمناه والمعنى دنا منهم حسابُ أعمالِهم السيئةِ الموجبة للعقاب وفي إسناد الاقترابِ المنبىءِ عن التوجه نحوَهم إلى الحساب مع إمكان العكس بأن يُعتبرَ التوجّهُ والإقبالُ من جهتهم نحوه من تفخيم شأنِه وتهويلِ أمره مالا يخفى لما فيه من تصويره بصورة شيءٍ مقبلٍ عليهم لا يزال يطالبهم ويصيبهم لا محالة ومعنى اقترابِه لهم تقارُبُه ودُنوُّه منهم بعدَ بُعدِه عنهم فإنه في كل ساعة من ساعات الزمان أقربُ إليهم منه في الساعة السابقة هذا وأما الاعتذارُ بأن قربَه بالإضافة إلى ما مضى من الزمان أو بالنسبة إلى الله عزوجل أو باعتبار أن كلَّ آتٍ قريبٌ فلا تعلّقَ له بما نحن فيه من الاقتراب المستفادِ من صيغة الماضي ولا حاجة إليه في تحقيق أصلِ معناه نعم قد يفهم عنه عُرفاً كونُه قريباً في نفسه أيضاً فيصار حينئذ إلى التوجيه بالوجه الأولِ دون الأخرين أما الثاني فلا سبيلَ إلى اعتباره ههنا لأن قربَه بالنسبة إليه تعالى مما لا يُتصور فيه التجددُ والتفاوتُ حتماً وإنما اعتبارُه في قوله تعالى لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ ونظائرِه مما لا دَلالةَ فيه على الحدوث وأما الثالثُ فلا دلالةَ فيه على الحدوث وأما الثالثُ فلا دلالةَ فيه على القرب حقيقةً ولو بالنسبة إلى شيء آخر {وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ} أي في غفلة تامةٍ منه ساهون عنه بالمرة لا أنهم غيرُ مبالين به مع اعترافهم بإتيانه بل منكرون له كافرون به مع اقتضاء عقولِهم أن الأعمالَ لا بد لها من الجزاء {مُّعْرِضُونَ} أي عن الآيات والنذرُ المنبّهة لهم عن سِنَة الغفلة وهما خبران للضمير وحيث كانت

سورة الأنبياء الآية 2 3 الغفلةُ أمراً جِبِلّياً لهم جُعل الخبرُ الأول ظرفاً منبئاً عن الاستقرار بخلاف الإعراض والجملةُ حالٌ من الناس وقد جُوّز كونُ الظرف حالاً من المستكنِّ في معرضون

2

{مَا يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ} من طائفة نازلة من القرآن تذكّرهم ذلك أكملَ تذكير وتنبههم عن الغفلة أتم تنبيه كأنها نفس الذكر ومِنْ في قولِه تعالَى {مّن رَّبّهِمُ} لابتداء الغايةِ مجازا متعلقةٌ بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة لذكر وأياما كان ففيه دلالة على فضله وشرفِه وكمالِ شناعةِ ما فعلوا به والتعرضُ لعنوان الربوبية لتشديد التشنيع {مُّحْدَثٍ} بالجر صفةٌ لذكر وقرىء بالرفع حملاً على محلّه أي محدَثٌ تنزيلُه بحسب اقتضاءِ الحكمةِ وقوله تعالى {إِلاَّ استمعوه} استثناءٌ مفرغ محلُّه النصبُ على أنَّهُ حال من مفعول يأتيهم بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور وقوله تعالى {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} حالٌ من فاعل استمعوه وقوله تعالى

3

{لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ} إما حالٌ أخرى منه اومن واو يلعبون والمعنى ما يأتيهم ذِكْرٍ من رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ استماعِهم إياه لاعبين مستهزئين به لاهين عنه أو لاعبين به حالَ كون قلوبِهم لاهيةً عنه لتناهي غفلتِهم وفرْطِ إعراضِهم عن النظر في الأمور والتفكرِ في العواقب وقرىء لاهية بالفرع على أنه خبرٌ بعدَ خبر {وَأَسَرُّواْ النجوى} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ جناياتهم خاصة إثرَ حكايةِ جناياتهم المعتادة والنجوى اسمٌ من التناجي ومعنى إسرارِها مع أنها لا تكون إلا سرًّا أنهم بالغوا في إخفائها أوأسروا نفسَ التناجي بحيث لم يشعُر أحدٌ بأنهم متناجون وقوله تعالى {الذين ظَلَمُواْ} بدلٌ من واو أسروا منبىء عن كونهم موصوفين بالظلم الفاحش فيما أسروا به أو هو مبتدأٌ خبرُه أسروا النجوى قُدّم عليه اهتماما به والمعنى هم أسرّوا النجوى فوُضِع الموصولُ موضعَ الضمير تسجيلاً على فعلهم بكونه ظلماً أو منصوبٌ على الذمِّ وقوله تعالى {هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} الخ في حيز النصبِ على أنه مفعولٌ لقول مضمرٍ هو جواب عن سؤال نشأ عما قبله كأنه قيل ماذا قالوا في نجواهم فقيل قالوا هل هذا الخ أو بدلٌ من أسرّوا أو معطوفٌ عليه أو على أنه بدلٌ من النجوى أي أسروا هذا الحديثَ وهل بمعنى النفي والهمزة في قوله تعالى {أَفَتَأْتُونَ السحر} للإنكار والفاء للعطب على مقدر يقتضيه المقام وقوله تعالى {وأنتم تبصرون} حال من فاعل تأتون مقرِّرة للإنكار ومؤكدةٌ للاستبعاد والمعنى ما هذا إلا بشرٌ مثلُكم أي من جنسكم وما أتى به سحرٌ أتعلمون ذلك فتأتونه وتحضُرونه على وجه الإذعان والقَبول وأنتم تعاينون أنه سحر قالوه بناءً على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغِ أن الرسولَ لا يكونُ إلا ملَكاً وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحر وزل عنهم أن ارسال البشر إلى عامة البشر هو الذي تقتضيه الحكمةُ التشريهية قاتلهم الله أنَّي يُؤفكون وإنما أسروا ذلك لأنه كان على طريق توثيقِ العهدِ وترتيب مبادي الشرِّ والفساد وتمهيدِ مقدمات المكرِ والكيد في هدم أمرِ النبوة وإطفاءِ نورِ الدين والله

سورة الأنبياء الآية 4 6 متمٌّ نورَه ولو كره الكافرون

4

(قَالَ رَبّى يَعْلَمُ القول فِى السماء والأرض) حكايةٌ منْ جهتِه تعالَى لما قله عليه السلام بعد ما أوحى إليه أحوالَهم وأقوالَهم بياناً لظهور أمرِهم وانكشافِ سرِّهم وإيثارُ القول المنتظمِ للسر والجهر على السر لإثبات علمه تعالى بالسر على النهج البرهانى مع ما فيه من الإيذان بأن علمه تعالى بالسر والجهر على وتيرة واحدة لا تفاوتَ بينهما بالجلاء والخفاء قطعاً كما في علوم الخلقِ وقرىء قل ربي الخ وقوله تعالى فِى السماء والأرض متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من القول أي كائناً في السماء والأرض وقوله تعالى {وَهُوَ السميع العليم} أي المبالغُ في العلم بالمسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أسروه من النجوى فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم اعتراضٌ تذييلي مقرر لمضمون ما قبله متضمنٌ للوعيد

5

(بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ) إضرابٌ من جهته تعالى وانتقال من حكاية قولهم السابق الى حكاية قول آخرَ مضطربٍ في مسالك البطلان أي لم يقتصرُوا على أن يقولوا في حقه عليه السلام هل هذا إلا بشرٌ وفي حق ما ظهر على يده من القرآن الكريم إنه سحرٌ بل قالوا تخاليطُ الأحلام ثم أضربوا عنه فقالوا (بَلِ افتراه) من تلقاء نفسِه من غير أن يكون له أصلٌ أو شبه أصلٍ ثم قالوا (بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) وما أتى به شعرٌ يُخيّل إلى السامع معانيَ لا حقيقة لها وهكذا شأنُ المبطِلِ المحجوج متحير لايزال يتردد بين باطلٍ وأبطلَ ويتذبذب بين فاسد وأفسدَ فالإضرابُ الأول كما ترى من جهته تعالى والثاني والثالث من قبلهم وقد قيل الكلُّ من قبلهم حيث أضربوا عن قولهم هو سحرٌ إلى أنه تخاليطُ أحلام ثم إلى أنه كلامٌ مفترًى ثم إلى أنه قولُ شاعر ولا ريب في أنه كان ينبغى حينئذ بأن قال قالوا بل أضغاثُ أحلامٍ والاعتذارُ بأن بل قالوا مقولٌ لقالوا المضمرِ قبل قوله تعالى هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ الخ كأنه قيل وأسرو النجوى قالوا هل هذا إلى قوله بل أضغاثُ أحلام وإنما صرح بقالوا بعدبل لبُعْد العهد مما يجب ننزيه ساحة التنزيل عن أمثاله (فَلْيَأتِنا بِآيَة) جوابُ شرطٍ محذوفٍ يفصح عنه السياقُ كأنه قيل وإن لم يكن كما قلنا بل كان رسولاً من الله تعالى فليأتنا بآية (كَمَا أُرْسِلَ الأولون) أي مثلَ الآية التي أرسل بها الأولون كا ليد والعصا ونظائرِهما حتى نؤمن به فما موصولةٌ ومحلُّ الكاف الجرُّ على أنها صفةٌ لآية ويجوز أن تكون مصدرية فالكافُ منصوبةٌ على أنها مصدرٌ تشبيهيٌّ أي نعت لمصدر محذوف أي فليأتنا بآية إتياناً كائناً مثلَ إرسالِ الأولين بها وصِحّةُ التشبيه من حيث إن الإتيانَ بالآية من فروع الإرسالِ بها ألى مثلَ إتيانٍ مترتبٍ على الإرسال ويجوز أن يحمل النظمُ الكريمُ على أنه أريد كلُّ واحد من الإتيان والإرسال في كلِّ واحدٍ من طرفي التشبيه لكنه تُرك في جانب المشبّه ذكرُ الإرسال وفي جانب المشبَّه به ذكرُ الإتيانِ اكتفاءً بما ذكر في كل موطنٍ عما تُرك في الموطن الآخر حسبما مر في آخر سورة يونس عليه السلام

6

(ما آمنت قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ) كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لتكذيبهم فيما تنبىء عنه خاتمةُ مقالهم من الوعد

الضمنيّ بالإيمان كما أشير إليه وبيانِ أنهم في اقتراح تلك الآياتِ كالباحث عن حَتْفه بظِلْفه وأن في ترك الإجابة إليه إبقاءً عليهم كيف لا ولو أُعطوا ما اقترحوا مع عدم إيمانهم قطعاً لوجب استئصالُهم لجريان سنةِ الله عزوجل في الأمم السالفة على أن المقترحين إذا أُعطوا ما اقترحوه ثم لم يؤمنوا نزل بهم عذابُ الاستئصال لا محالة وقد سبقت كلمةُ الحق منه تعالى أن هذه الأمةَ لا يعذبون بعذاب الاستئصالِ فقوله من قرية أي من أهل قرية في محلِ الرفعِ على الفاعلية ومن مزيدةٌ لتأكيد العمومِ وقوله تعالى {أهلكناها} أي بإهلاك أهلِها لعدم إيمانِهم بعد مجيءِ ما اقترحوه من الآيات صفةٌ لقرية والهمزة في قوله تعالى {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} لإنكار الوقوعِ والفاء للعطف إما على مقدر دخلتْه الهمزةُ فأفادت إنكارَ وقوعِ إيمانِهم ونفيَه عقيب عدمِ إيمان الأولين فالمعنى أنه لم تؤمنْ أمةٌ من الأمم المهلَكة عند إعطاء ما اتقرحوه من الآيات أهم لم يؤمنوا فهؤلاء يؤمنون لو أجيبوا إلى ما سألوا وأعطوا ما اقترحوا مع كونهم أعنى منهم وأطغى وإما على ما آمنت على أن الفاء متقدمةٌ على الهمزة في الاعتبار مفيدةٌ لترتيب إنكارِ وقوعِ إيمانِهم على عدم إيمانِ الأولين وإنما قُدّمت عليها الهمزةُ لاقتضائِها الصدارةَ كما هو رأي الجمهور وقولُه عزَّ وجلَّ

7

{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً} جوابٌ لقولهم هل هذا إلا بشر الخ متضمنٌ لردّ ما دسّوا تحت قولهم كما أُرسل الأولون من التعرض بعدم كونِه عليه السلام مثلَ أولئك الرسلِ صلواتُ الله تعالَى عليهم أجمعينَ ولذلك قُدّم عليه جوابُ قولهم فليأتنا بآية ولأنهم قالوا ذلك بطريق التعجيزِ فلا بد من المسارعة إلى رده وإبطالِه كما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ وقوله تعالى مَا نُنَزّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ ولأن في هذا الجواب نوعَ بسطٍ يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظم الكريم والحقُّ أن ما اتخذوه سبباً للتكذيب موجبٌ للتصديق في الحقيقة لأن مقتضى الحكمةِ أن يُرسلَ إلى البشر البشرُ وإلى الملَك الملَكُ حسبما ينطِق به قوله تعالى قُل لَوْ كَانَ فِى الارض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً فإن عامةَ البشر بمعزل من استحقاق المفاوضةِ الملَكية لتوقّفها على التناسب بين المُفيض والمستفيض فبعثُ الملَكِ إليهم مزاحِمٌ للحكمة التي عليها يدورُ فلكُ التكوينِ والتشريع وإنما الذي تقتضيه الحكمةُ أن يبعث الملكُ منهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيَّدين بالقوة القدسية المتعلّقين بكلا العالمين الروحاني والجسماني ليتلقَّوا من جانب ويُلْقوا إلى جانب آخرَ وقوله تعالى {نوحي إليهم} اسئناف مبينٌ لكيفية الإرسالِ وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضية المستمرةِ وحُذف المفعولُ لعدم القصدِ إلى خصوصه والمعنى وما أرسلنا إلى الأمم قبلَ إرسالك إلى أمتك إلا رجالاً مخصوصين من أفراد الجنسِ مستأهلين للاصطفاء والإرسال نوحي إليهم بواسطة الملَك ما نوحي من الشرائع والأحكام وغيرهما من القصص والأخبار كما نوحي إليك من غير فرقٍ بينهما في حقيقة الوحي وحقية مدلولِه حسبما يَحكيه قوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين إلى قوله تعالى وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً كمالا فرق بينك وبينك وبينهم في البشرية فمالهم لا يفهمون أنك لست بدْعاً من الرسل وأن ما أُوحيَ إليك ليس مخالفاً لما أوحيَ أليهم

سورة الأنبياء الآية 8 9 فيقولون ما يقولون وقرىء يوحى إليهم بالياء على صيغة المبني للمفعول جرياً على سَنن الكبرياءِ وإيذانا بتعين الفاعل وقوله تعالى {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى الكفرة لتبكيتهم واستنزالِهم عن رتبة الاستبعادِ والنكير إثرَ تحقيق الحقِّ على طريقة الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه الحقيقُ بالخطاب في أمثال تلك الحقائقِ الأنيقةِ وأما الوقوفُ عليها بالاستخبار من الغير فهو من وظائف العوامِّ والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقةً بدِلالة المذكورِ عليهِ أيْ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ ما ذُكر فاسألوا أيها الجهلةُ أهلَ الكتاب الوافقين على أحوال الرسلِ السالفةِ عليهم الصلوات لنزول شبهتُكم أُمروا بذلك لأن إخبارَ الجمِّ الغفير يوجب العلم لا سيماوهم كانوا يشايعون المشركين في عداوته عليه السلام ويشاورونهم في أمره عليه السلام ففيه من الدِلالة عَلى كمالِ وضوحِ الأمر وقوةِ شأن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ما لا يخفى

8

{وَمَا جعلناهم جَسَداً} بيان لكون الرسل عليهم السلام أُسوةً لسائر أفراد الجنسِ في أحكام الطبيعةِ البشرية إثرَ بيانِ كونهم أسوةً لهم في نفس البشرية والجسدُ جسمُ الإنسانِ والجنِّ والملائكة ونصبُه إما على أنه مفعولٌ ثانٍ للجعل لكن لا بمعنى جعلِه جسداً بعد أن لم يكن كذلك كما هو المشهورُ من معنى التصبير بل بمعنى جعله كذلك ابتداءً على طريقة قولِهم سُبحان مَنْ صغر البعوض وكبر الفيل كما مر في قوله تعالى وَجَعَلْنَا آية النهار مبصرة وإما حالٌ من الضمير والجعلُ إبداعيٌّ وإفرادُه لإرادة الجنس المنتظمِ للكثير أيضاً وقيل بتقدير المضافِ أي ذوي جسدو قوله تعالى {لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام} صفةٌ له أي وما جعلناهم جسداً مستغنياً عن الأكل والشرب بل محتاجاً إلى ذلك لتحصيل بدَلِ ما يتحلل منه (وَمَا كَانُواْ خالدين) لأن مآلَ التحلّلِ هو الفناءُ لا محالة وفي إيثار ما كانوا على ما جعلناهم تنبيهٌ على أن عدمَ الخلود مقتضي جِبِلّتِهم التي أشير إليها بقوله تعالى وما جعلنا هم الخ لا بالجعل المستأنَف والمرادُ بالخلود إما المكثُ المديدُ كما هو شأنُ الملائكة أو الا بدية وهم معتقدون أنهم لا يموتون والمعنى جعلناهم أجسادامتغذية صائرةً إلى الموت بالآخرة على حسب آجالِهم لا ملائكةً ولا أجساداً مستغنيةً عن الأغذية مصونةً عن التحلل كالملائكة فلم يكن لها خلودٌ كخلودهم فالجملةُ مقررة لما قيلها من كون الرسلِ السالفةِ عليهم السلام بشراً لا ملَكاً مع ما في ذلك من الرد على قولهم مَا لهذا الرسول يأكل الطعامَ وقوله تعالى

9

{ثُمَّ صدقناهم الوعد} عطفٌ على ما يُفهم من حكاية وحْيِه تعالى إليهم على الاستمرار النجددي كأنه قيل أوحينا إليهم ما أوحينا ثم صدقناهم في الوعد الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي بإهلاك أعدائِهم {فأنجيناهم وَمَن نَّشَاء} من المؤمنين وغيرهم ممن تستدعي الحكمةُ إبقاءَه كمن سيؤمن هو أو بعضُ فروعِه بالآخرة وهو السرُّ في حماية العرب من عذاب الاستئصال {وَأَهْلَكْنَا المسرفين} أي المجاوزين للحدود في الكفر والمعاصي

سورة الأنبياء الآية

10

10 - 13 {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ} كلامٌ مستأنفٌ مَسوق لتحقيق حقيةِ القرآنِ العظيم الذي ذُكر في صدرِ السورةِ الكريمةِ إعراضُ الناس عما يأتيهم من آياته واستهزاؤُهم به وتسميتهم تارة سحرا أو تارة أضغاثَ أحلام وأخرى مفترًى وشعراً وبيانُ علوِّ رتبته إثر تحقيق رسالته صلى الله عليه وسلم ببيان أنه كسائر الرسلِ الكرام عليهم الصلاة والسالم قد صدر بالتوكيد القسمي إظهاراً لمزيد الاعتناء بمضمونه وإيذانا يكون المخاطبين في أقصى مراتب النكيرِ أي والله لقد أنزلنا إليكم يا معشرَ قريش {كتابا} عظيمَ الشأن نيِّر البرهان وقوله تعالى {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} صفةٌ لكتاباً مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ التفخيميُّ من كونه جليلَ المقدار بأنه جميلُ الآثار مستجلبٌ لهم منافعَ جليلةً أي فيه شرفكم وصِيتُكم كقوله تعالَى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وقيل ما تحتاجون إليه في أمور دينكم ودنياكم وقيل ما تطلُبون به حَسَنَ الذكر من مكارم الأخلاف وقيل فيه موعظتُكم وهو الأنسبُ بسباق النظمِ الكريمِ وسياقِه فإنَّ قولِه تعالى {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} إنكارٌ توبيخيٌّ فيه بعثٌ لهم على التدبر في أمر الكتابِ والتأمل فيما في تضاعيفه من فنون المواعظِ والزواجر التي من جملتها القوارعُ السابقةُ واللاحقةُ والفاءُ للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلامُ أي ألا تتفكرون فلا تعقِلون أن الأمرَ كذلك أولا تعقلون شيئا من الأشياء التي من جملتها ما ذكروقوله تعالى

11

{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ} نوعُ تفصيل لإجمالِ قوله تعالى وَأَهْلَكْنَا المسرفين وبيانٌ لكيفية إهلاكِهم وسببِه وتنبيهٌ على كثرتهم وكم خبريةٌ مفيدةٌ للتكثيرِ محلُّها النصبُ على أنَّها مفعولٌ لقصمنا ومن قرية تمييزٌ وفي لفظ القصْمِ الذي هو عبارةٌ عن الكسر بإبانة أجزاء المكسورة وإزالةِ تأليفها بالكلية من الدِلالة على قوة الغضبِ وشدة السخط مالا يخفى وقوله تعالى {كَانَتْ ظالمة} في محل الجرِّ على أنها صفةٌ لقرية بتقدير مضافٍ ينبىء عنه الضميرُ الآتي أي وكثيراً قصمنا من أهل قريةٍ كانوا ظالمين بآيات الله تعالى كافرين بها كدأْبكم {وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا} أي بعد إهلاكها {قوما آخرين} أي ليسوا منهم نسباً ولا ديناً ففيه تنبيهٌ على استئصال الأولين وقطعِ دابرهم بالكليةِ وهُوَ السرُّ في تقديم حكاية إنشاءِ هؤلاء على حكاية مبادىء إهلاكِ أولئك بقوله تعالى

12

{فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا إِذَا هم} ) أي أدركوا عذابَنا الشديدَ إدراكاً تاماً كأنه إدراكُ المشاهد المحسوس {مّنْهَا يَرْكُضُونَ} يهرُبون مسرعين راكضين دوابَّهم أو مُشبَّهين بهم في فرْط الإسراع

13

{لاَ تَرْكُضُواْ} أي قيل لهم بلسانِ الحالِ أو بلسانِ المقالِ من الملَك أو ممن ثمّةَ من المؤمنين بطريق الاستهزاءِ والتوبيخِ لا تركُضوا {وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} من التنعم والتلذّذ والإترافُ إبطارُ النعمة {ومساكنكم} التي كانتم تفتخرون بها {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} تُقصَدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات

والنوازل أو تنفقدون إذا رُئيت مساكنُكم خاليةً وتُسألون أين أصحابُها أو يسألكم الوافدون نوالَكم على أنهم كانوا أسخياءَ ينفقون أموالهم رياء وبخلاء فقيل لهم ذلك تهكماً إلى تهكم

14

{قَالُواْ} لما يئسوا من الخلاص بالهرب وأيقنوا بنزول العذاب {يا ويلنا} أي هلاكَنا {إِنَّا كُنَّا ظالمين} أي مستوجبين للعذاب وهو اعترافٌ منهم بالظلم وباستتباعه للعذاب وندمٌ عليه حين لم ينفعْهم ذلك

15

{فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} أي فما زالوا يرددون تلك الكلمةَ وتسميتُها دعوى أي دعوة لأن المدلول كأنه يدعوا الويلَ قائلاً يا ويل تعالَ فهذا أوانُك {حتى جعلناهم حَصِيداً} أي مثلَ الحصيدِ وهو المحصودُ من الزرع والنبت ولذلك لم يُجمع {خامدين} أي ميتين من خمَدت النارُ إذا طَفِئت وهو مع حصيداً في حيز المفعول الثاني للجعْل كقولك جعلتُه حُلْواً حامضا والمعنى جعلنا هم جامعين لمماثلة الحصيدِ والخمود أو حال من الضمير المنصوب في جعلناهم أو من المستكنّ في حصيداً أو صفة لحصيدا لنعدده معنًى لأنه في حكم جعلناهم أمثالَ حصيد

16

{وما خلقنا السماء والأرض} إشارةٌ إجماليةٌ إلى أن تكوينَ العالمَ وإبداعَ بني آدمَ مؤسسٌ على قواعد الحِكَم البالغةِ المستتبِعة للغايات الجليلةِ وتنبيهٌ على أن ما حُكي من العذاب الهائلِ والعقاب النازلِ بأهل القرى من مقتَضيات تلك الحِكَم ومتفرِّعاتها حسبَ اقتضاءِ أعمالِهم إياه وأن للمخاطَبين المقتدرين بآثارهم ذَنوباً مثلَ ذَنوبهم أي مَا خلقناهما {وَمَا بينَهما} من المخلوقات التي لا تُحصى أجناسُها وأفرادُها ولا تحصر أنواعُها وآحادُها على هذا النمط البديعِ والأسلوب المنيعِ خاليةٌ عن الحِكَم والمصالح وإنما عبّر عن ذلك باللعب واللهو حيث قيل {لاَعِبِينَ} لبيان كمالِ تنزّهه تعالى عن الخَلْق الخالي عن الحِكمة بتصويره بصورة مالا يرتاب أحدٌ في استحالة صدورِه عنه سبحانه بل إنما خلقناهما وما بينهما لتكون مبدأً لوجود الإنسان وسبباً لمعاشه ودليلاً يقودُه إلى تحصيل معرفتِنا التي هي الغايةُ القصوى بواسطةِ طاعتِنا وعبادتنا كما ينطِق به قوله تعالَى وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء ليبوكم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وقولُه تعالى وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ وقوله تعالى

17

{لو أردنا أن نتخذ لَهْواً} استئنافٌ مقرر لما قبله من انتفاء اللعبِ واللهو أي لو أردنا أن نتخذ ما يُتَلهّى به ويُلعب {لاتخذناه مِن لَّدُنَّا} أي من جهة قدرتِنا أو من عندنا مما يليق بشأننا من المجردات لا من الأجسام المرفوعةِ والأجرامِ الموضوعة كدَيدن الجبابرةِ في رفع العروش وتحسينها وتسويةِ الفروش وتزيينها لكن يستحيل إرادتُنا له لمافاته الحِكمةَ فيستحيل اتخاذُنا له قطعاً وقوله تعالى {إِن كنا فاعلين} جرا به محذوفٌ ثقةً بدلالةِ ما قبلَهُ عليه أي إن كنا فاعلين لاتخذناه وقيل إن نافية أي ما كنا فاعلين أي لاتخاذ اللهو لعدم إرادتِنا إياه فيكون بياناً

لانتفاء التالي لانتفاء المقدّم أو لإرادة إتخاذ فيكون بياناً لانتفاء المقدّمِ المستلزِمِ لانتفاء التالي وقيل اللهوُ 18 - الولدُ بلغة اليمن وقيل الزوجةُ والمرادُ الردُّ على النصارى ولا يخفى بُعدُه

18

{بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل} إضرابٌ عن اتخاذ اللهوِ بل عن إرادته كأنه قيل لكنا لا نريده بل شأنُنا أن نُغلّب الحقَّ الذي من جملته الجِدُّ على الباطل الذي من قبيله اللهوُ وتخصيصُ شأنِه هذا من بين سائر شئونه تعالى بالذكر للتخلص إلى ما سيأتي من الوعيد {فَيَدْمَغُهُ} أي يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المَحْكية وقد استُعير لإيراد الحقِّ على الباطل القذفُ الذي هو الرمْيُ الشديدُ بالجِرم الصُّلْب كالصخرة وَلمَحْقه للباطل الدمغُ الذي هو كسرُ الشيء الرِّخْوِ الأجوفِ وهو الدِّماغ بحيث يشق غشاءَه المؤدّيَ إلى زُهوق الروحِ تصويراً له بذلك وقرىء فيدمغَه بالنصب وهو ضعيف وقرىء فيدمُغه بضم الميم {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي ذاهب بالكلية وفي إذا الفجائية والجملة الاسميةِ من الدِلالة عَلى كمالِ المسارعةِ في الذهاب والبطلان مالا يخفى فكأنه زاهقٌ من الأصل {وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ} وعيدٌ لقريش بأن لهم أيضاً مثلَ ما لأولئك من العذاب والعقاب ومن تعليليةٌ متعلقةٌ بالاستقرار الذي تعلق به الخبرُ أو بمحذوف هو حال من الويل أومن ضميره في الخبر وما إما مصدرية أو موصولةٌ أو موصوفةٌ أي واستقر لكم الويلُ والهلاكُ من أجل وصفِكم له سبحانه بما لا يليقُ بشأنه الجليلِ أو بالذي تصفونه به من الولد أوكائنا مما تصفونه تعالى به

19

{وله من في السماوات والأرض} استئنافٌ مقررٌ لما قبله من خلقة تعالى لجميع مخلوقاتِه على حكمة بالغةٍ ونظامٍ كامل وأنه تعالى يُحِق الحقَّ ويُزْهق الباطل أي له تعالى خاصة جميعُ المخلوقات خلقاً ومُلكاً وتدبيراً وتصرفاً وإحياءً وإماتةً وتعذيباً وإثابةً من غير أن يكون لأحد في ذلك دخلٌ ما استقلالاً أو استتباعاً {وَمَنْ عِندَهُ} وهم الملائكةُ عليهم السلام عبّر عنهم بذلك إثرَ ما عبّر عنهم بمن في السموات تنزيلالهم لكرامتهم عليه عزوعلا وزُلْفاهم عنده منزلةَ المقربين عند الملوك بطريق التمثيل وهو مبتدأ خبرُه {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} أي لا يتعظمون عنها ولا يُعدّون أنفسهم كبيراً {وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} ولا يكلون ولا يعبون وصيغةُ الاستفعال المنبئةِ عن المبالغة في الحُسور للتنبيه على أن عباداتِهم بثقلها ودوامها حقيقةٌ بأن يُستَحسَرَ منها ومع ذلك لا يستحسرون لا لإفادة نفي المبالغة في الحسور مع ثبوت أصلِه في الجملة كا أن نفيَ الظلاّمية في قوله تعالى وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ لإفادة كثرةِ الظلم المفروضِ تعلقُّه بالعبيد لا لإفادة نفي المبالغة في الظلم مع ثبوت أصلِ الظلم في الجملة وقيل من عنده معطوف على من الأولى وإفرادُهم بالذكر مع دخولهم في مَن فِى السموات والأرض للتعظيم كما في قوله تعالى وجبريل وميكال فقوله تعالى لاَ يَسْتَكْبِرُونَ حينئذ حال من الثانية

20

{يُسَبّحُونَ الليل والنهار} أي ينزهونه في جميع الأوقات ويعظّمونه ويمجدونه دائماً وهو استئنافٌ

وقعَ جوابا عما نشأ مما قبله كأنه قيل ماذا يصنعون في عباداتهم أوكيف يعبدون فقيل يسبحون الخ أوحال من فاعل يستحسرون وكذا قوله تعالى {لاَ يَفْتُرُونَ} أي لا يتخلل تسبيحَهم فترةٌ أصلاً بفراغ أو بشغل آخر

21

{أم اتخذوا آلهة} حكايةٌ لجناية أخرى من جناياتهم بطريق الإضرابِ والانتقال من فن إلى فن آخر من التوبيخ إثرَ تحقيق الحق ببيان أنه تعالى خلق جميع المخلوقات على منهاج الحكمة وأنهم قاطبةً تحت ملكوته وقهره وأن عبادَه مذعنون لطاعته ومثابرون على عبادته منزِّهون له عن كل مالا يليقُ بشأنِه من الأمور التي من جملتها الأندادُ ومعنى الهمزة في أم المنقطعة إنكار الواقع وقوله تعالى {مّنَ الأرض} متعلقٌ باتخذوا أو بمحذوف هو صفة لآلهة وأيا ما كان فالمرادُ هو التحقيرُ لا التخصيصُ وقوله تعالى {هُمْ يُنشِرُونَ} أي يَبعثون الموتى صفةٌ لآلهةً وهو الذي يدور عليه الإنكارُ والتجهيلُ والتشنيع لانفس الاتخاذ فإنه واقعٌ لا محالة أي بل أتخذوا آلهةً من الأرض هم خاصة مع حقارتهم وجماديتهم يُنشِرون الموتى كلا فإن ما اتخذوها آلهةً بمعزل من ذلك وهم وإن لم يقولوا بذلك صريحاً لكنهم حيث ادَّعَوا لها الإلهية فكأنهم ادعوا لها الإنشارَ ضرورةَ أنه من الخصائص الإلهية حتماً ومعنى التخصيص في تقديم الضمير ما أشيرَ إليهِ من التنبيه على كمال مباينةِ حالهم للإنشار الموجبةِ لمزيد الإنكار كما في قوله تعالى أَفِى الله شَكٌّ وقوله تعالى أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون فإن تقديمَ الجارِّ والمجرورِ للتنبيه على كمال مباينةِ أمرِه تعالى لأن يُشَك فيه ويُستهزأَ به ويجوز أن يُجعلَ ذلك من مستتبعات ادّعائِهم الباطلِ لأن الألوهيةَ مقتضيهٌ للاستقلال بالإبداء والإعادة فحيث ادَّعَوا للأصنام الإلهية فكأنهم ادعوا لها الاستقلالَ بالإنشار كما أنهم جعلوا بذلك مدّعين لأصل الإنشار

22

{لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله} إبطالٌ لتعدد الإله بإقامة البرهان على انتفائه بل على استحالته وإيرادُ الجمع لوروده إثرَ إنكار اتخاذِ الآلهة لا لأن للجمعية مدخلاً في الإستدلال وكذا فرض كونها فيهما وإلا بمعنى غير على أنها صفةٌ لآلهة ولا مساغَ للاستثناء لاستحالة شمول ما قبلَها لما بعدَها وإفضائِه إلى فساد المعنى لدلالته حينئذ على أن الفسادَ لكونها فيهما بدونه تعالى ولا للرفع على البدل لأنه متفرّع على الاستثناء ومشروطٌ بأن يكون في كلامٍ غيرِ موجب أي لو كان في السموات والأرض آلهةٌ غيرُ الله كما هو اعتقادُهم الباطل {لَفَسَدَتَا} أي لبطلتا بما فيهما جميعاً وحيث انتفى التالي عُلم انتفاء المقدم قطعا بيان الملازمة أن الإلهية مستلزِمةٌ للقدرة على الاستبداد بالتصرف فيهما على الإطلاق تغييراً وتبديلاً وإيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة فبقاؤهما على ما هما عليه إما بتأثير كل منها وهو محالٌ لاستحالة وقوعِ المعلولِ المعيّن بعلل متعددة وإما بتأثير واحدٍ منها فالبواقي بمعزل من الإلهية قطعاً واعلم أن جعلَ التالي فسادَهما بعد وجودِهما لِما أنه اعتُبر في المقدم تعددُ الآلهةِ فيهما وإلا فالبرهانُ يقضي باستحالة التعدد على الإطلاق فإنه لو تعدد الإله فإنْ توافقَ الكلِّ في المراد تطاردت عليه القدر وإن تخالفت

سورة الأنبياء الآية 23 24 تعاوقت فلا يوجد موجودٌ أصلاً وحيث انتفى التالي تعيّن انتفاءُ المقدّم والفاء في قوله تعالى {فَسُبْحَانَ الله} لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان أي فسبحوه سبحانه اللائقَ به ونزهوه عمَّا لا يليقُ به من الأمور التي من جملتها أن يكون له شريط في الألوهية وإيرادُ الجلالة في موضع الإضمارِ للإشعارِ بعلَّةِ الحُكم فإنَّ الألوهيةَ مناطٌ لجميع صفاتِ كمالِه التي من جملتها تنزّهُه تعالى عما لا يليق به ولتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة وقوله تعالى {رَبُّ العرش} صفةٌ للاسم الجليل مؤكدة لتنزهه عزوجل {عَمَّا يَصِفُونَ} متعلق بالتسبيح أي فسبحوه عما يصفونه من أن يكون من دونه آلهةٌ

23

{لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} استئنافٌ ببيان أنه تعالى لقوة عظمته وعزةِ سلطانه القاهرِ بحيث ليس لأحد من مخلوقاته أن يناقشه ويسألَه عما يفعل من أفعاله إثرَ بيانِ أن ليس له شريكٌ في الإلهية {وهم} أي العباد {يسألون} عما يفعلون نقيراً 24 - وقطميراً لأنهم مملوكون له تعالى مستعبَدون ففيه وعيدٌ للكفرة

24

{أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلهة} إضرابٌ وانتقالٌ من إظهار بُطلانِ كون ما اتخذوه آلهةً آلهةً حقيقةً بإظهار خلوها عن خصائص الإلهية التي من جملتها الإنشارُ وإقامةُ البرهان القاطعِ على استحالة تعدد الإله على الإطلاق وتفرّدِه سبحانه بالألوهية إلى إظهار بطلانِ اتخاذِهم تلك الآلهة مع عرائها عن تلك الخصائص بالمرة شركاء لله عزسلطانه وتبكيتُهم بإلجائهم إلى إقامة البرهان على دعواهم الباطلة وتحقيقُ أن جميع الكتب السماويةِ ناطقةٌ بحقية التوحيد وبطلانِ الإشراك والهمزةُ لإنكار الاتخاذ المذكور واستقباحه واستعظامه ومن متعلقةٌ باتخذوا والمعنى بل أُتخذوا متجاوزين إياه تعالى مع ظهور شئونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية آلهة مع ظهور خلودهم عن خواصّ الألوهية بالكلية {قُلْ} لهم بطريق التبكيتِ وإلقامِ الحجر {هَاتُواْ برهانكم} على ما تدّعونه من جهة العقل والنقلِ فإنه لا صحةَ لقولٍ لا دليلَ عليه في الأمور الدينية لا سيما في مثل هذا الشأنِ الخطير وما في إضافة البرهان إلى ضميرهم من الإشعار بأن لهم برهاناً ضربٌ من التهكم بهم وقوله تعالى {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى} إنارةٌ لبرهانه وإشارةٌ إلى أنه مما نطقت به الكتبُ الإلهية قاطبةً وشهِدت به ألسنةُ الرسلِ المتقدمة كافةً وزيادةُ تهييجٍ لهم على إقامة البرهان لإظهار كمالِ عجزِهم أي هذا الوحيُ الواردُ في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطعِ العقليّ ذكرُ أمتي أي عظنهم وذكرهم الأمم السافة قد أقمتُه فأقيموا أنتم أيضاً برهانَكم وقيل المعنى هذا كتابٌ أُنزل على أمتي وهذا كتابٌ أنزل على أمم الأنبياءِ عليهم السلام من الكتب الثلاثةِ والصحفِ فراجعوها وانظُروا هل في واحد منها غيرُ الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك ففيه تبكيتٌ لهم متضمن لإثبات نقيضِ مُدّعاهم وقرىء بالتنوين والإعمال كقوله تعالى أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مسغبة يقيما وبه وبمن الجارة على أن مع اسمٌ هو ظرف كقبلٍ وبعْدٍ وقوله تعالى {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق}

سورة الأنبياء 25 27 إضرابٌ من جهتِه تعالى غيرُ داخلٍ في الكلامِ الملقنِ وانتقالٌ من الأمر بتبكيتهم بمطالبة البرهانِ إلى بيان أنه لا ينجح فيهم المحاجة بإظهار حقية الحقِّ وبُطلانِ الباطل فإن أكثرهم لا يفهمون الحقَّ ولا يميزون بينه وبين الباطل {فَهُمُ} لأجل ذلك {مُّعْرِضُونَ} أي مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباعِ الرسول لا يرعوون عمَّا هُم عليهِ من الغي والضلال وإن كُرّرت عليهم البينات والحجج أو معرضون عما ألقي عليهم من البراهين العقلية والنقلية وقرىء الحقُّ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وسِّط بين السبب والمسببِ تأكيداً للسببية وقوله تعالى

25

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون} 25 - استئنافٌ مقررٌ لما أُجمل فيما قبله من كون التوحيد مما نطقت به الكتب الإلهية وأجمعت عليه الرسلُ عليهم السلام وقرىء يوحى على صيغة الغائب مبنياً للمفعول وأياً ما كان فصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ استحضارا لصورة الوحي

26

{وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} حكايةٌ لجناية فريق من المشركين جيء بها لإظهار 26 - بُطلانِها وبيانِ تنزّهه تعالى عن ذلك إثرَ بيان تنزّهِه سبحانه عن الشركاء على الإطلاق وهم حيٌّ من خُزاعَةَ يقولون الملائكةُ بناتُ الله تعالى ونقل الواحدي أن قريشاً وبعضَ أجناس العرب جهينة وبني سلمةَ وخُزاعةَ وبني مَليحٍ يقولون ذلك والتعرضُ لعنوان الرحمانية المنبئةِ عن كون جميع ماسواه تعالى مربوباً له تعالى نعمةً أو مُنعَماً عليه لإبراز كمالِ شناعةِ مقالتِهم الباطلةِ {سبحانه} أي تنزّه بالذات تنزّهَه اللائقَ به على أن السبحان مصدر من سبح أي بَعُد أو أسبّحه تسبيحَه على أنه علمٌ للتسبيح وهو مقولٌ على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحَه وقوله تعالى {بَلْ عِبَادٌ} إضرابٌ وإبطالٌ لما قالوه كأنه قيل ليست الملائكةُ كما قالوا بل هم عبادٌ له تعالى {مُّكْرَمُونَ} مقربون عنده وقرى مكرمون بالتشديد وفيه تنبيهٌ على منشأ غلطِ القوم وقوله تعالى

27

{لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول} صفةٌ أخرى لعباد منبئةٌ عن كمال طاعتهم وانقيادِهم لأمره تعالى أي 27 - لا يقولون شيئاً حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به وأصلُه لا يسبق قولُهم قولَه تعالى فأسند السبق إليهم منسوباً إليه تعالى تنزيلاً لسبق قولِهم قولَه تعالى منزلةَ سبقهم إياه تعالى لمزيد تنزيههم عن ذلك وللتنبيه على غاية استهجان السبقِ المعرَّضِ به للذين يقولون مالا يقوله الله تعالى وجعلُ القول محلاً للسبق وأداةً له ثم أنيب اللامُ عن الإضافة للاختصار والنجافى عن التكرار وقرىء لا يسبقونه بضم الباء من سابقته فسبقته أسبُقه وفيه مزيدُ استهجانٍ للسبق وإشعارٌ بأن من سبق قولُه قولَه تعالى فقد تصدّى لمغالبته تعالى في السبق فسبقه فغلبه والعياذ بالله تعالى وزيادةُ تنزيهٍ لهم عما نُفيَ عنهم ببيان أن ذلك عندهم بمنزلة الغلبة بعد المغالبة فأتى يتوهم صدور عنهم {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} بيان لتبيعتهم له تعالى في الأعمال إثرَ بيانِ تبعيتهم له تعالى في الأقوال فإن نفيَ سبقِهم له تعالى بالقول عبارةٌ عن تبعيّتهم له تعالى فيه كأنه قيل هم بأمره يقولون وبأمره

سورة الأنبياء 28 30 يعملون لا بغير أمره أصلاً فالقصرُ المستفادِ من تقديم الجار معتبرٌ بالنسبة إلى غير أمرِه لا إلى أمر 28 - غيرِه

28

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} استئنافٌ وقع تعليلاً لما قبله وتمهيداً لما بعده فإن لعلمهم بإحاطته تعالى بما قدموا وأخروا من الأقوال والأعمال لايزالون يراقبون أحوالهم فلا يقدرون على قول أو عمل بغير أمره تعالى {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} أن يشفعَ له مهابةً منه تعالى {وَهُمْ} مع ذلك {من خشيته} عزوجل {مشفقون} مر تعدون وأصلُ الخشية الخوفُ مع التعظيم ولذلك خص بها العلماءُ والإشفاق الخوفُ مع الاعتناء فعند تعديتِه بمن يكون معنى الخوف فيه أظهرَ وعند تعديته 29 - بعلى ينعكس الأمر

29

{وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ} أي من الملائكة الكلامَ فيهم وفي كونهم بمعزل مما قالوا في حقهم {إِنّى إله من دونه} متجاوزا إياه تعالى {فَذَلِكَ} الذي فُرض قولُه فرضَ مُحال {نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} كسائر المجرمين ولا يغني عنهم ما ذُكر من صفاتهم السنية وأفعالِهم المَرْضية وفيه من الدِلالة على قوة ملكوتِه تعالى وعزة جبروتِه واستحالةِ كون الملائكة بحيث يتوهم في حقهم ماتوهمه أولئك الكفرة مالا يخفى {كذلك نَجْزِى الظالمين} مصدرٌ تشبيهيٌّ مؤكد لمضمون ما قبله أي مثلَ ذلك الجزاءِ الفظيعِ نجزي الذين يضعون الأشياءَ في غير مواضعِها وبتعدون أطوارَهم والقصرُ المستفادُ من التقديم معتبرٌ بالنسبة إلى النقصان 40 - دون الزيادة أي لا جزاءً أنقصَ منه

30

{أَوَلَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ} تجهيل لهم تتقصيرهم في التدبُّر في الآيات التكوينيةِ الدالةِ على استقاله تعالى بالألوهية وكن جميع ما سواه مقهوراً تحت ملكوتِه والهمزةُ للإنكارِ والواوُ للعطفِ على مقدر وقرىء بغير واو الرؤية قلبيةٌ أيْ ألم يتفكَّروا ولم يعلموا {أن السماوات والأرض كَانَتَا} أي جماعتا السمواتِ والأرضين كما في قوله تعالى إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أن تَزُولاَ {رَتْقاً} الرتْق الضمُّ والالتحامُ والمعنى إما على حذف المضافِ أو هو بمعنى المفعولِ أي كانتا ذواتي رتق أو مر توقتين وقرىء رتقا شيئا تقا أي مرتوقاً {ففتقناهما} قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عكرمة والحسن البصري وقتادة وسعيد بن جبير كانتا شيئاً واحداً ملتزمين ففصل الله تعالى بينهما ورفع السماءَ إلى حيث هي وأقرّ الأرض وقال كعب خلق الله تعالى السمواتِ والأرض ملتصقين ثم خلق ريحاً فتوسطتها ففتقتْها وعن الحسن خلق الله تعالى الأرضَ في موضعِ بيتِ المقدس كيئة الفِهْر عليها دخانٌ ملتزقٌ بها ثمَّ أصعدَ الدخانَ وخلقَ منهُ السمواتِ وأمسكَ الفِهْرَ في موضعِها وبسَط منها الأرضَ وذلكَ قولُه تعالى كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما وقال مجاهد والسدي كانت السموات مرتتقة طبعة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات وكذلك الأرضُ كانت مرتفعة طبعة واحدة ففتقها فجعلها سبع أرضين وقال ابن عباس في

سورة الأنبياء 31 33 رواية عطاء وعليه أكثرُ المفسرين إبن السمواتِ كانت رتْقاً مستويةً صُلبة لا تمطر والأرضُ رتْقاً لا تُنبت ففتق السماءَ بالمطر والأرضَ بالنبات فيكون المراد بالسموات السماءَ الدنيا والجمعُ باعتبار الآفاقِ أو السمواتِ جميعاً على أن لها مدخلاً في الأمطار وعلمُ الكفرةِ الرتْقَ والفتقَ بهذا المعنى مما لا سِترةَ به وأما بالمعاني الأُوَل فهم وإن لم يعلموهما لكنهم متمكنون من علمها إما بطريق النظر والتفكير فغن الفتق عارض مفترق إلى مؤثر قديم وإما بالاستفسار من العلماء ومطالعةِ الكتب {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَىْء حَىّ} أي خلقنا من الماء كلَّ حيوان كقوله تعالى والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء وذلك لأنه من أعظم موادِّه أو لفرْط احتياجِه إليه وانتفاعِه به أو صيرنا كلَّ شيء حي من الماء أي بسبب منه لا بد له من ذلك وتقديمُ المفعول الثاني للاهتمام به لا لمجرد أن المفعولين في الأصل مبتدأٌ وخبرٌ وحقُّ الخبر عند كونه ظرفاً أن يتقدم على المبتدأ فإن ذلك مصحِّحٌ محض لامر جح وقرىء حيًّا على أنه صفةُ كلَّ أو مفعولٌ ثانٍ والظرفُ كما في الوجه الأول قُدّم على المفعول للاهتمام به والتشوق إلى المؤخر {أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} إنكار لعدم إيمانِهم بالله وحده مع ظهور ما يوجبه حتماً من الآيات الآفافية والأنفسيةِ الدالةِ على تفرده عز وجل بالألوهية وعلى كون ما سواه من مخلوقاته مقهورةً تحت ملكوته وقدرتِه والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الإنكارُ السابق أي أيعلمون ذلك فلا يؤمنون

31

{وَجَعَلْنَا فِى الأرض رَوَاسِىَ} أي جبالاً ثوابتَ جمعُ راسية مِنْ رسَا الشيءُ 31 - إذَا ثبت ورسَخ ووصفُ جمع المذكر يجمع المؤنثِ في غيرِ العقلاءِ مما لا ريب في صحته كقوله تعالى أَشْهُرٌ معلومات وأياما معدودات {أَن تَمِيدَ بِهِمْ} أي كراهةَ أن تتحرك وتضطرب بهم أولئلا تميدَ بهم بحذف اللام ولا لعدم الإلباس {وَجَعَلْنَا فِيهَا} أي في الأرض وتكريرُ الفعل لاختلاف المجعولين ولتوفية مقام الامتنان حقَّه أو في الرواسي لأنها المحتاجةُ إلى الطرق {فِجَاجاً} مسالكَ واسعةً وإنما قدم على قوله تعالى {سُبُلاً} وهو وصفٌ له ليصير حالاً فيفيد أنه تعالى حين خلقَها كذلك أو ليبدل منها سبلاً فيدل ضمناً على أنه تعالى خلقها ووسعها اللسابلة مع ما فيه من التوكيد {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي إلى مصالحهم ومَهمّاتهم

32

{وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} من الوقوع بقدرتنا القاهرةِ أو الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم 32 - بمشيئتنا أو من استراق السمعِ بالشُهُب {وَهُمْ عن آياتها} الدالةِ على وحدانيته تعالى وعلمِه وحكمتِه وقدرتِه وإرادتِه التي بعضُها محسوسٌ وبعضُها معلومٌ بالبحث عنه في علمَي الطبيعة والهيئة {مُّعْرِضُونَ} لا يتدبرون فيها فيبقَون على ما هم عليه من الكفر والضلال وقوله تعالَى

33

{وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس} 33 - القمر اللذين هما آيتاهما بيانٌ لبعض تلك الآياتِ التي هم عنها معرضون بطريق الالتفات الموجب

سورة الأنبياء 34 36 لتأكيد الاعتناءِ بفحوى الكلام أي هو الذي خلقهن وحده {كُلٌّ} أي كلُّ واحدٍ منهما على أن التنوين عوضٌ عن المضافِ إليهِ {فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي يجْرون في سطح الفلك كالسبْح في الماء والمرادُ بالفَلَك الجنسُ كقولك كساهم الخليفةُ حُلّةً والجملة حالٌ من الشمس والقمر وجاز انفرادُهما بها لعدم اللَّبْس 34 - والضميرُ لهما والجمعُ باعتبار المطالعِ وجُعل الضميرُ واو العق لأن السباحة حالُهم

34

{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد} أي في الدنيا لكونه مخالفاً للحكمة التكونية والتشريعية {أفَإن مِتَ} بمقتضى حكمتِنا {فَهُمُ الخالدون} نزلت حين قالوا انتربص به ريبَ المَنون والفاءُ لتعليق الشرطيةِ بما قبلها والهمزةُ لإنكار مضمونِها بعد تقرّر القاعدةِ الكلية النافية لذلك بالمرة والمرادُ بإنكار خلودِهم ونفيه إنكارُ ما هو مدارٌ له وجوداً وعدما من شماتنهم بموته صلى الله عليه وسلم فإن الشماتةَ بما يعتريه أيضاً مما لا ينبغي أن تصدر عن العاقل كأنه قيل أفإن 35 - متَّ فهم الخالدون حتى يشمتوا بموتك وقوله تعالى

35

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت} أى ذائقة مرارة مفارقها جسدَها برهانٌ على ما أنكر من خلودكم {وَنَبْلُوكُم} الخطابُ إما للناس كافة بطريق التلوينِ أو للكفرة بطريق الالتفات أي نعاملكم معاملة من يبلوكم {بالشر والخير} بالبلايا والنعم هل تصبرون وتشكرون أولا {فِتْنَةً} مصدرٌ مؤكد لنبلوَكم من غير لفظِه {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} لا إِلى غيرِنا لا استقلالاً ولا اشتراكاً فنجازيكم حسبما يظهر منكم من الأعمال فهو على الأول وعد ووعيدٌ وعلى الثاني وعيدٌ محضٌ وفيه إيماءٌ إلى أن المقصود من هذه الحياة الدنيا الابتلاءُ والتعريضُ للثواب والعقاب وقرىء يُرجعون بالياء على الالتفات

36

26 - {وَإِذَا رَاكَ الذين كَفَرُواْ} أي المشركون {إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} أي ما يتخذونك إلا مهزوءا به على معنى قصر معاملتهم معه عليه السلام على اتخاذهم إياه هُزواً لا على معنى قصر اتخاذهم على كونه هزواً كما هو المتبادرُ كأنه قيل ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزوا وقد مرَّ تحقيقُه في قولِه تعالى أَنِ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ في سورة الأنعام {أهذا الذى يَذْكُرُ الِهَتَكُمْ} على إرادةِ القولِ أيْ ويقولون أو قائلين ذلك أي يذكرهم بسوء كما في قوله تعالى سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ الخ وقوله تعالى {وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كافرون} في حيز النصبِ على الحالية من ضمير القول المقدرِ والمعنى أنهم يعيبون عليه عليه الصلاة والسلام أن يذكُرَ آلهتَهم التي لا تضُرّ ولا تنفع بالسوء والحالُ أنهم بذكر الرحمن المنْعِم عليهم بما يليقُ بهِ من التوحيد أوبإرشاد الخلق بإرسال الرسل وإنرال الكتب أو بالقرآن كافرون فهم أحقاء بالعيب والإنكار فالضمير الأول مبتدأ خبره كافرون وبذكر متعلق بالخبر والتقدير وهم كافرون بذكر الرحمن والضمير الثاني تأكيدٌ لفظيٌّ للأول

سورة الأنبياء (34 36) فوقع الفصلُ بين العامل ومعموله بالمؤكدو بين المؤكِّد والمؤكَّد بالمعمول

37

{خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} جُعل لفرْطِ 37 - استعجالِه وقلة صبره كأنه مخلوقٌ منه تنزيلاً لما طُبع عليه من الأخلاق منزلةَ ما طبع منه من الأركان إيذاناً بغاية لزومِه له وعدم انفكاكه عنه ومن عجلته مبادرتُه إلى الكفر واستعجالُه بالوعيد رُوِيَ أنَّها نزلتْ في النضر بن الحرث حين استعجل العذابَ بقوله اللهم إِن كَانَ هَذا هُوَ الحقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ الآية وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالإنسان آدمُ عليه السلام وأنه حين بلغ الروحُ صدرَه ولم يتبالغْ فيه أراد أن يقوم وروي أنه لما دخل الروع في عينيه نظر إلى ثما رالجنة ولما دخل جوفَه اشتهى الطعامَ وقيل خلقه الله تعالى في آخر النهار يومَ الجمعة قبل غروبِ الشمس فأسرعَ في خلقه قبل غيبتِها فالمعنى خُلق الإنسان خلقاً ناشئاً من عجل فذكرُه لبيان أنه من دواعي عجلته في الأمور والأظهر أنَّ المرادَ بِهِ الجنسُ وإن كان خلقُه عليه السلام سارياً إلى أولاده وقيل العجلُ الطينُ بلغة حِمْير ولا تقريب له ههنا وقوله تعالى {سأريكم آياتي} تلوينٌ للخطاب وصرْفٌ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المستعجِلين بطريق التهديدِ والوعيد أي سأريكم نقِماتي في الآخرة كعذاب النار وغيره {فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ} بالإتيان بها والنهي عما جُبلت عليه نفوسُهم ليُقعِدوها عن مرادها

38

{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} أي وقت مجيء الساعة التي كانوا يوعدون وإنما كانوا يقولونه استعجالا لمجيتة بطريق الاستهزاء والإنكار كا يرشد إليه الجوابُ لا طلباً لتعيين وقتِه بطريق الإلزام كما في سورة الملك {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في وعدكم بأنه يأتينا والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين يتلون الآياتِ الكريمةَ المنبئةَ عن مجيء الساعة وجوابُ الشرط محذوفٌ ثقةً بدِلالة ما قبلَهُ عليه حسبما حُذف في مثلِ قولِه تعالى فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فإن قولهم متى هذا الوعد استبطاء منهم للموعود وطلبٌ لإتيانه بطريق العجَلة فإن ذلك في قوة الأمرِ بالإتيان عجلةً كأنه قيل فليأتنا بسرعة إن كنتم صادقين

39

{لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ} استئنافٌ 39 - مَسوقٌ لبيان شدةِ هول ما يستعجلونه وفظاعةِ ما فيهِ من العذاب وأنهم إنما يستعجلونه لجهلهم بشأنه وإيثارُ صيغةِ المضارعِ في الشرط وإن كان المعنى على المُضِيّ لإفادة استمرارِ عدم العلم فإن المضارعَ المنفيَّ الواقعَ موقعَ الماضي ليس بنص في إفادة انتفاءِ استمرارِ الفعل بل يفيد استمرارَ انتفائِه أيضاً بحسبِ المقامِ كما في قولِك لو تحسن إلي لشكرتك فإن المعنى أن انتفاءَ الشكر لاستمرار انتفاءِ الإحسان لا لانتفاء استمرارِ الأحسان ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ للتنبيهِ بما في حيزِ الصلة على علّة استعجالِهم وقوله تعالى {حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ} مفعول يعلم وهو عبارةٌ عن الوقت الموعودِ الذي كانوا

سورة الأنبياء (40 41) يستعجلونه وإضافتُه إلى الجملة الجارية مَجرى الصفة التي حقَّها أن تكونَ معلومةَ الانتسابِ إلى الموصوف عند المخاطب أيضاً مع إنكار الكفرة لذلك للإبذان بأنه منَ الظهورِ بحيثُ لا حاجة له إلى الإخبار به وإنما حقُّه الانتظامُ في سلك المسلّمات المفروغ عنها وجوابُ لو محذوفٌ أي لو لم يستمر عدم عليهم بالوقت الذي يستعلجونه بقولهم متى هذا الوعد من الحين الذي تحيط بهم النار فيه من كل جانب وتخصيصُ الوجوه والظهور بالذكر بمعنى القُدّام والخَلْف لكونهما أشهرَ الجوانب واستلزامِ الإحاطة بهما الإحاطةَ بالكل بحيثُ لا يقدرُون على دفعها بأنفسهم من جانب من جوانبهم {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} من جهة الغير في دفعها الخ لما فعلُوا ما فعلُوا من الاستعجال ويجوز أن يكون يعلم متروكَ المفعول مُنزّلاً منزلةَ اللازم أي لو كان لهم علم لما فعلوه وقوله تعالى حِينٍ الخ استئنافٌ مقرر لجهلهم ومبينٌ لاستمراره إلى ذلك الوقت 40 - كأنه قيل حين يرون ما يرَوْن يعلمون حقيقةَ الحال

40

{بَلْ تَأْتِيهِم} عطف على لا يكفون أي لا يكفّونها بل تأتيهم أي العدَةُ أو النار أو الساعة {بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} أي تغلبهم أوتحيرهم وقرىء الفعلان بالتذكير على أن الضمير للوعد أو الحين وكذا الهاء في قوله تعالى {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} بتأويل الوعد بالنار أو العِدة والحينِ بالساعة ويجوز عَودُه إلى النار وقيل إلى البغتة أي لا يستطيعون ردها عنهم بالكلية {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي يمهلون ليستريحوا طرفةَ عين وفيه تذكيرٌ لإمهالهم في الدنيا

41

{ولقد استهزئ بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ} تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به صلى الله عليه وسلم في ضمن الاستعجال وعِدةٌ ضمنيةٌ بأنَّه يُصيبُهم مثلُ ما أصاب المتسهزئين بالرسل السالفةِ عليهم الصلاة والسلام وتصديرُها بالقسم لزيادة تحقيقِ مضمونها وتنوينُ الرسل للتفخيم والتكثير ومِنْ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ له أي وبالله لقد استُهزىء برسل أولي شأنٍ خطيرٍ وذوي عدد كثير أوحل أو نحوُ ذلك فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يُستعمل إلا في الشر والحَيْق ما يشتمل على الإنسان من مكروهِ فِعْلِه وقوله تعالى {بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ} أي من أولئك الرسلِ عليهم السلام متعلق بحاق وتقديمُه على فاعله الذي هو قوله تعالى {مَّا كَانُوا به يستهزؤون} للمسارعة إلى بيان لحوقِ الشرّ بهم وما إما موصولةٌ مفيدةٌ للتهويل والضمير المجرورُ عائدٌ إليها والجار متعلق بالفعل وتقديمُه عليه لرعاية الفواصلِ أي فأحاط بهم الذين كانوا يستهزئون به حيث أُهلكوا لأجله وإما مصدريةٌ فالضمير المجرور راجعٌ حينئذ إلى جنس الرسول المدلولِ عليه بالجمع كما قالوا ولعل إيثارَه على الجمع للتنبيه على أنه يحيق بهم جزاءُ استهزائهم بكل واحدٍ واحدٌ منهم عليه السلام لا جزاءُ استهزائهم بكلهم من حيثُ هو كلٌّ فقط أي فنزل بهم جزاءُ استهزائهم على وضع السبب موضع السبب إيذاناً بكمال الملابسةِ بينهما أو عينُ استهزائهم إن أريد بذلك العذابُ الأخرويُّ بناء على تجسم الأعمال فإن الأعمالَ الظاهرةَ في هذه النشأةِ بصور عرضيةٍ تبرُز في النشأة الآخرة بصور جوهريةٍ مناسبةٍ لها في الحسن والقبح

وعلى ذلك بني الوزن وقد مر تفصيله في سورة الأعراف وفي قولِه تعالَى إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أنفسكم الآية إلى آخرها

42

{قُلْ} خطابٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إثرَ تسليته بما ذكر من مصير أمرِهم إلى الهلاك وأمرٌ له عليهِ 42 - السَّلامُ بأنْ يقولَ لأولئك المتسهزئين بطريق التقريع والتبكيت {مَن يكلؤكم} أي يحفظكم {بالليل والنهار مِنَ الرحمن} أي بأسه الذي تستحقون نزولَه ليلا أو نهار أو تقديم الليل لما أن الدواهيَ أكثرُ فيه وقوعاً وأشدُّ وقعاً وفي التعرض لعنوان الرحمانية إيذان بأن كلئهم ليس إلا رحمتُه العامةُ وبعد ما أُمر عليه السلام بما ذكر من السؤال على الوجه المذكور حسبما تقتضيه حالُهم لأنهم بحيث لولا أن الله تعالى يحفظهم في المَلَوَيْن لحل بهم فنون الآفاتِ فهم أحقاد بأن يكلفوا الاعترافَ بذلك فيوبخوا على ما هم عليه من الإشراك أُضرب عن ذلكَ بقولِه تعالَى {بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ} ببيان أن لهم حالاً أخرى مقتضيةً لصرف الخطابِ عنهم هي أنهم لا يُخطِرون ذكرَه تعالى ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسَه ويعدّوا ما كانوا عليه من الأمن والدعَةِ حفظاً وكَلاءةً حتى يسألوا عن الكالِىءِ على طريقة قول من قال عوجوا فحيوا النعمى دمنة الدار ماذا تحيون من نُؤْيٍ وأحجارِ وفي تعليق الإعراض بذكره تعالى وإيرادِ اسمِ الرب المضافِ إلى ضميرهم المنبىء عن كونهم تحت ملكوتِه وتدبيره وتربيتِه تعالى من الدلالة على كونهم في الغايةِ القاصيةِ من الضلالة والغيّ مالا يخفى وكلمةُ أم في قوله تعالى

43

{أَمْ لَهُمْ الِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا} منقطعةٌ وما فيها من معنى بل للإضراب والانتقالِ عما قبله من بيان أن جهلَهم بحفظه تعالى إياهم لعدم خوفِهم الناشىءِ عن إعراضهم عن ذكر ربهم بالكلية إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهتهم وإسنادِهم الحفظَ إليها والهمزةُ لإنكار أن يكون لهم آلهةٌ تقدر على ذلك والمعنى ألهم آلهةٌ تمنعهم من العذاب تتجاوز منعنا أوحفظنا أو من عذابٍ كائنٍ من عندنا فهم معوّلون عليها واثقون بحفظها وفي توجيه الإنكارِ والنفي إلى وجود الآلهةِ الموصوفةِ بما ذكرَ من المنع لا إلى نفس الصفةِ بأن يقال أم تمنعهم آلهتُهم الخ من الدِلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود فضلاً عن رتبة المنع مالا يخفى وقولع عزوعلا {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نصرَ أنفسِهم وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ} استئناف مقرر لما قبله من الإنكار وموضِّحٌ لبُطلان اعتقادِهم أي هم لا يستطيعون أن ينصُروا أنفسهم ولا يُصحَبون بالنصر من جهتنا فكيف يتوهم أن ينصُروا غيرهم وقوله تعالى

44

{بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر} إضراب عما توهما ببيان أن الداعيَ 44 - إلى حفظهم تمتيعُنا إياهم بما قدر لهم من الأعمال أو عن الدِلالة على بطلانه بيان ما أوهمهم ذلك هو أنه تعالى متعهم بالحياة الدنيا وأمهلهم حتى طالت أعمارُهم فحسِبوا أن لا يزالوا كذلك وأنه بسبب ماهم عليه

سورة الأنبياء (45 47) ولذلك عقّب بما يدل على أنه طمعٌ فارغٌ وأمل كذاب حيث قيل {أَفَلاَ يَرَوْنَ} أي ألا ينظرون فلا يَرَوْنَ {أَنَّا نَأْتِى الأرض} أي أرضَ الكفرة {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا وهو تمثيلٌ وتصويرٌ لما يخربه الله عزوجل من ديارهم على أيدي المسلمين ويُضيفها إلى دار الإسلام {أَفَهُمُ الغالبون} على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم والمؤمنين والفاء لإنكار ترتيب الغالبيةِ على ما ذكر من نقص أرضِ الكفرةِ بتسليط المسلمين عليها كأنه قيل أبعدَ ظهورِ ما ذكر ورؤيتِهم له يتوهم غلَبتُهم كما مر في قوله تعالى أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ وقولِه تعالى قُلْ أفاتخذتم مّن دُونِهِ أَوْلِيَاء وفي التعريف تعريضٌ بأن المسلمين هم المتعيِّنون للغلَبة 45 - المعروفون بها

45

{قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم} بعد ما بُيّن من جهته تعالى غايةُ هول ما يستعجله المستعجلون ونهايةُ سوءِ حالهم عند إتيانه ونُعيَ عليهم جهلُهم بذلك وإعراضُهم عن ذكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل والنهار وغيرُ ذلك من مساوي أحوالهم امر صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إنما أنذركم ما تستعجلونه من الساعة {بالوحى} الصادق الناطقِ بإتيانها وفظاعةِ ما فيها من الأهوال أي إنما شأني أن أنذرَكم بالإخبار بذلك لا بالإتيان بها فإنه مزاحمٌ للحكمة التكوينية والتشريعية إذ الإيمانُ برهانيٌّ لا عياني وقوله تعالى {ولا يسمع الصم الدعاء} إما من تتمة الكلامِ الملقّن تذييلٌ له بطريق الاعتراض قد أُمر عليه السلام بأن يقوله لهم توبيخاً وتقريعاً وتسجيلاً عليهم بكمال الجهلِ والعِناد واللامُ للجنس المنتظمِ للمخاطبين انتظاماً أولياً أو للعهد فوضَعَ المُظهرَ موضعَ المُضمر للتسجيل عليهم بالتصامّ وتقييدُ نفي السماعِ بقوله تعالى {إِذَا مَا يُنذَرُونَ} مع أن الصمَّ لا يسمعون الكلام إنذاراً كان أو تبشيراً لبيان كمال شدةِ الصّمَمِ كما أن إيثارَ الدعاء الذي هوعبارة عن الصوت والنداءِ على الكلام لذلك فإن الإنذارَ عادة يكون بأصواب عالية مكررة مقارنة لهيآت دالةٍ عليه فإذا لم يسمعوها يكون صَممُهم في غايةٍ لا غايةَ وراءَهَا وإما من جهته تعالى على طريقة قوله تعالى بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ ويؤيده القراءةُ على خطاب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من الإسماع بنصب الصمُّ والدعاءَ كأنَّه قيلَ قُلْ لَهُم ذلك وأنت بمعزل من إسماعهم وقرىء بالياء أيضاً على أن الفاعلَ هو عليه السلام وقُرِىءَ على 46 - البناءِ للمفعولِ أي لا يقدِرُ أحدٌ على إسماع الصمِّ وقوله تعالى

46

{وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ} بيان لسرعة تأثرِهم من مجيء نفس العذابِ إثرَ بيان عدمِ تأثرِهم من مجيء خبرِه على نهج التوكيدِ القسميِّ أي وبالله لئن أصابهم أدنى إصابة أدنه شيءٍ من عذابِهِ تعالَى كما ينبىء عنه المس والنفحة بجوهرها وبنائها فإن أصل النفخ هبوبُ رائحة الشيء {لَيَقُولُنَّ يا ويلنا إِنَّا كُنَّا ظالمين} ليدْعُنّ على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترِفُنّ 47 - عليها بالظلم وقوله تعالى

47

{وَنَضَعُ الموازين القسط} بيانٌ لما سيقع عند إتيانِ ما أُنذروه أي نقيم الموازين

سورة الأنبياء (48 49) العادلةَ التي توزن بها صحائفُ الأعمال وقيل وضعُ الموازين تمثيلٌ لإرصاد الحسابِ السويِّ والجزاء على حسب الأعمال وقد مر تفصيلُ ما فيه من الكلالم في سورة الأعراف وإفرادُ القسطِ لأنه مصدرٌ وُصف به مبالغةً {لِيَوْمِ القيامة} التي كانوا يستعجلونها أي لجزائه أو لأجل أهلِه أو فيه كما في قولك جئت لخمسٍ خلَوْن من الشهر {فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ} من النفوسِ {شَيْئاً} حقاً من حقوقها أو شيئاً ما من الظلم بل يوفى كلَّ ذِي حقَ حقَّه إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرا فشر والفاء لترتيب انتفاء الظلم على وضع الموازين {وَإِن كَانَ} أي العملُ المدلولُ عليه بوضع الموازين {مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ} أي مقدارَ حبة كائنةٍ من خردل أي وإنْ كانَ في غايةِ القِلّة والحقارةِ فإن حبةَ الخردل مَثَلٌ في الصِغر وقرىء مثقالُ حبة بالرفعِ على أنَّ كانَ تامةٌ {أَتَيْنَا بِهَا} أي أحضرنا ذلك العملَ المعبَّر عنه بمثقال حبةِ الخردل للوزن والتأنيث لإضافته إلى الحبة وقرىء آتينابها أي جازينا بها من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأةِ لأنهم أتَوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء وقرىء أثبنا من الثواب وقرىء جئنابها {وكفى بِنَا حاسبين} إذ لامزيد على علمناوعدلنا

48

{ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان} {وَضِيَاء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} نوعُ تفصيلٍ لَما أُجمل في قوله تعالى وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ إلى قوله تعالى وَأَهْلَكْنَا المسرفين وإشارةٌ إلى كيفية إنجائهم وإهلاكِ أعدائهم وتصديرُه بالتوكيد القسمي لإظهار كمال الإعتناء بمضمونه والمراد بالقرقان هو التوراة وكذا بالضياء والذكر أي وبالله لقد آتيناهما وحياً ساطعاً وكتاباً جامعاً بين كونه فارقاً بين الحقِّ والباطلِ وضياء الجهلِ والغَواية وذِكْراً يتعظ به الناسُ وتخصيصُ المتقين بالذكر لأنهم المستضئون بأنواره المغتنمون لمغانم آثارِه أو ذكر ما يحتاجونَ إليهِ من الشرائع والأحكامِ وقيل الفرقا النصرُ وقيل فلقُ البحر والأول هو اللائقُ بمساق النظمِ الكريم فإنه لتحقيق أمر القرآن المشارك لسائر الكتبِ الإلهية لا سيما التوراةِ فيما ذكرَ من الصفات ولأن فلقَ البحر هو الذي اقترح الكفرةُ مثله بقولهم فليأتنا بآية كما أُرسل الأولون وقرىء ضياءً بغير واو على أنه حالٌ من الفرقان وقوله تعالى

49

{الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم} أي عذابَه مجرورُ المحل على أنه صفةٌ مادحة للمتقين أو بدلٌ أو بيانٌ أو منصوبٌ أو مرفوعٌ على المدح {بالغيب} حالٌ منَ المفعولِ أيْ يخشَون عذابه تعالى وهو غائبٌ عنهم غيرُ مشاهد لهم ففيه تعريضٌ بالكفرة حيث لا يتأثرون بالإنذار مالم يشاهِدوا ما أنذروه وقيل من الفاعل {وَهُمْ مّنَ الساعة مُشْفِقُونَ} أي خائفون منها بطريق الاعتناء وتقديمُ الجار لمراعاة الفواصل وتخصيصُ إشفاقهم منها بالذكر بعدوصفهم بالخشية على الإطلاق للإيذان بكونها معظمَ المَخُوفاتِ وللتنصيص على اتصافهم بضد ما اتصف به المستعجلون وإيثارُ الجملة الاسميةِ للدلالة على ثبات الإشفاق ودوامِه

50

{وهذا} أي القرآنُ الكريم أشير إليه بهذا إيذاناً بغاية وضوحِ أمرِه {ذُكِرَ} يتذكر به

من يُتذكّر وُصف بالوصف الأخير للتوراة لمناسبة المقام وموافقتِه لما مر في صدرِ السورةِ الكريمةِ {مُّبَارَكٌ} كثيرُ الخير غزيز النفع يُتبرّك به {أنزلناه} إما صفةٌ ثانية لذكر أو خبر آخر {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} إنكارٌ لإنكارهم بعد ظهرو كون إنزالِه كإيتاء التوراة كأنه قيل أبعد أن علِمتم أن شأنَه كشأن التوراة في الإيتاء والإيحاءِ أنتم منكرون لكونه منزّلاً من عندنا فإن ذلك بعد ملاحظةِ حالِ التوراة مما لا مساغَ له أصلا

51

{ولقد آتينا إبراهيم رُشْدَهُ} أي الرشدَ اللائقَ به وبأمثاله من الرسل الكبارِ وهو الاهتداءُ الكاملُ المستند إلى الهداية الخاصةِ الحاصلةِ بالوحي والاقتدار على إصلاح الأمةِ باستعمال النواميسِ الإلهية وقرىء رَشَدَه وهما لغتان كالخزن والحَزَن {مِن قَبْلُ} أي من قبل إيتاءِ موسى وهارونَ التوراةَ وتقديمُ ذكر إيتائها لما بينه وبين إنزال القرآن من الشبه التامّ وقيل من قبل استنبائِه أو قبلَ بلوغِه ويأباه المقام {وَكُنَّا بِهِ عالمين} أي بأنه أهلٌ لما آتيناه وفيه من الدليل على لنه تعالى عالم بالجزئيات مخار في أفعاله ما لا يخفى

52

{إذ قال لابيه وقومه} ظرفٌ لآتينا على أنه وقت متّسعٌ وقع فيه الإيتاءُ وما ترتب عليه من أفعاله وأقواله وقيل مفعولٌ لمضمر مستأنَفٍ وقع تعليلاً لما قبله أي اذكر وقتَ قولِه لهم {مَا هذه التماثيل التى أَنتُمْ لَهَا عاكفون} لتقف على كمال رشدِه وغايةِ فضله والتِمثالُ اسمٌ لشيء مضنوع مشبَّهٍ بخلق من خلائق الله تعالى وهذا تجاهلٌ منه عليه السلام حيث سألهم عن أصنامهم بما التي يُطلب بها بيانُ الحقيقة أو شرحُ الاسم كأنه لا يعرف أنها مذا مع إحاطته بأن حقيقتها حجرٌ أو شجرٌ اتخذوها معبوداً وعبّر عن عبادتهم لها بمطلق العكُوف الذي هو عبارةٌ عن اللزوم والاستمرار على الشيء لغرض من الأغراض قصداً إلى تحقيرها وإذلالها وتوبيخاً لهم على إجلالها واللام في لها للاختصاص دون التعديةِ وإلا لجيء بكلمة على والمعنى أنتم فاعلون العكوفَ لها وقد جُوّز تضمينُ العكوف معنى العبادة كما ينبىء عنه قوله تعالى

53

{قالوا وجدنا آباءنا لَهَا عابدين} أجابوا بذلك لما أن مآلَ سؤاله عليه السلام الاستفسارُ عن سبب عبادتِهم لها كما ينبىء عنه وصفُه عليه السلام إياهم بالعكوف لها كأنه قال ما هي هل تستحق ما تصنعون من العكوف عليها فلما لم يكن لهم ملجأٌ يعتدّ به التجأوا إلى التقليد فأبطله عليه السلام على طريقة التوكيد القسمي حيث

54

{قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وآباؤكم} الذين سنوا للكم هذه السنةَ الباطلة {فِى ضلال} عجيبٍ لا يقادَر قدرُه {مُّبِينٌ} أي ظاهر بيّن بحيثُ لا يَخْفى على أحد من العقلاء كونُه كذلك ومعنى كنتم مطلقُ استقرارِهم على الضلال لا استقرارُهم الماضي الحاصلِ قبل زمانِ الخطاب المتناولِ لهم ولآبائهم أي والله لقد كنتم مستقرين على ضلال عظيم

سورة الأنبياء (51 54) ظاهرٍ لعدم استنادِه إلى دليل ما والتقليدُ إنما يجوز فيما يحتمل الحقية في الجملة

55

{قَالُواْ} لما سمعوا مقالته عليه السلام استبعاداً لكون ماهم عليه ضلالاً وتعجباً من تضليله عليه السلام إياهم بطريق التوكيدِ القسمي وتردداً في كون ذلك منه عليه السلام على وجه الجد {أَجِئْتَنَا بالحق} أي بالجِد {أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين} فتقول ما تقول على وجه المداعبةِ والمزاحِ وفي إيراد الشِّقِّ الأخير بالجملة الاسميةِ الدالةِ على الثبات إيذانٌ برُجْحانه عندهم

56

{قَالَ} عليه السلام إضراباً عما بنوا عليه مقالهم من اعتقاد كونِها أرباباً لهم كما يُفصح عنه قولُهم نعبدُ أصناماً فنظل لها عاكفين كأنه قيل ليس الأمر كذلك {بل ربكم رب السماوات والأرض الذى فطَرَهُنَّ} وقيل هو إضرابٌ عن كونه لاعباً بإقامة البرهانِ على ما ادّعاه وضميرُ هن للسموات والأرض وصَفه تعالى بإيجادهن إثرَ وصفِه تعالى بربوبيته تعالى لهن تحقيقاً للحقِّ وتنبيهاً على أن ها لا يكون كذلك بمعزل من الربوبية أي أنشأهن بما فيهن من المخلوقات التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدون من غيرِ مثالِ يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيه ورجْعُ الضمير إلى التماثيل أدخلُ في تضليلهم وأظهرُ في إلزام الحجة عليهم لما فيه من التصريح المغني عن التأمل في كون ما يعبُدونه من جملة المخلوقات {وَأَنَاْ على ذلكم} الذي ذكرتُه من كون ربكم رب السموات والأرض فقط دون ما عداهُ كائناً ما كان {من الشاهدين} أي العالِمين به على سبيل الحقيقةِ المُبرهنين عليه فإن الشاهدَ على الشيء مَنْ تحققه وحقّقه وشهادتُه على ذلك إدلاؤه بالحجة عليه وإثباتُه بها كأنه قال وأنا أبين ذلك وأبرهن عله

57

{وتالله} وقرىء بالباء وهو الأصلُ والتاء بدل من الواو التي هي بدلٌ من الأصل وفيها تعجيب {لاكِيدَنَّ أصنامكم} أي لأجتهدنّ في كسرها وفيه إيذانٌ بصعوبة الانتهاز وتوقّفِه على استعمال الحيل وإنما قاله عليه السلام سرًّا وقيل سمعه رجل واحد {بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} من عبادتهم إلى عيدكم وقرىء تَوَلّوا من التولي بحذف إحدى التاءين ويعضُدها قوله تعالى فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ والفاء في قوله تعالى

58

{فَجَعَلَهُمْ} فصيحةٌ أي فولَّوا فجعلهم {جُذَاذاً} أي قُطاعاً فُعال بمعنى مفعول من الجذّ الذي هو القطعُ كالحُطام من الحطْم الذي هو الكسرُ وقرىء بالكسر وهي لغة أوجمع جذيذ كخِفاف وخفيف وقرىء بالفتح وجُذُذاً جمع جذيذ وجُذَذاً جمع جُذة روي أن آزر خرج به في يوم عيدٍ لهم فبدءوا ببيت الأصنام فدخلوه فسجدوا لها ووضعوا بينها طعاماً خرجوا به معهم وقالوا إلى أن نرجع تركت الآلهةُ على طعامنا فذهبوا وبقيَ إبراهيمُ عليه السلام فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنماً مصطفّاً وثمّةَ صنمٌ عظيم مستقبلَ الباب وكان من ذهب وفي عينيه

سورة الأنبياء (59 63) جوهرتان تضيئان بالليل فكسر الكلَّ بفأس كانت في يده ولم يبقق إلا الكبيرُ وعلّق الفأس في عنقه وذلك قوله تعالى {إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ} أي للأصنام {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ} أي إلى إبراهيمَ عليه السلام {يَرْجِعُونَ} فيحاجّهم بما سيأتي فيحجّهم ويبكّتهم وقيل يرجعون إلى الكبير فيسألونه عن الكاسر لأن من شأن المعبودِ أن يُرجَعَ إليه في المُلمّات وقيل يرجِعون إلى الله تعالى وتوحيدِه عند تحقّقهم عجزَ آلهتِهم عن دفع ما يصيبهم وعن الإضرار بمن كسرهم

59

{قَالُواْ} أي حين رجعوا من عيدهم ورأوا مارأوا {من فعل هذا بآلهتنا} على طريقة الإنكارِ والتوبيخِ والتشنيع وإنما عبروا عنها بما ذكر ولم يشتروا إليها بهؤلاء وهي بين أيديهم مبالغةً في التشنيع وقوله تعالى {إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين} اسئناف مقرر لما قبله وقيل مَنْ موصولةٌ وهذه الجملةُ في حين الرفعِ على أنها خبرٌ لها والمعنى الذي فعل هذا الكسرَ والحطْمَ بآلهتنا إنه معدودٌ من جملة الظَّلَمة إما لجُرأته على إهانتها وهي حقيقةٌ بالإعظام أو لإفراطه في الكسر والحطْمِ وتماديه في الاستهانة بها أو بتعريض نفسِه للهلكة

60

{قَالُواْ} أي بعضٌ منهم مجيبين للسائلين {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} أي يَعيبُهم فلعله فعل ذلك بها فقوله تعالى يَذْكُرُهُمْ إما مفعولٌ ثانٍ لسمِع لتعلّقه بالعين أو صفةٌ لفتى مصحِّحةٌ لتعلقه به هذا إذا كان القائلون سمِعوه عليه السلام بالذات يذْكُرهم وإن كانوا قد سمِعوا من الناس أنه عليه السلام يذكرهم بسوء فلا حاجة إلى المصحّح {يُقَالُ لَهُ إبراهيم} صفةٌ أخرى لفتى أي يطلق عليه هذا الاسم

61

{قَالُواْ} أي السائلون {فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس} أي بمرأىً منهم بحيث يكون نصبَ أعينهم في مكان مرتفع لا يكاد يخفى على أحد {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} أي يحضُرون عقوبتنا له وقيل لعلهم يشهدون بفعله أو بقوله ذلك فالضمير حينئذ ليس للباس بل لبعض منهم مُبهم أو معهود

62

{قالوا} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولهم كأنَّه قيلَ فمَاذا فعلُوا به عليهِ السلامُ بعدَ ذلكَ هل أتوابه أولا فقيل أتوا به ثم قالوا {أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إِبْرَاهِيمَ} اقتصاراً على حكاية مخاطبتِهم إياه عليه السلام للتنبيه على أن إتيانَهم به ومسارعتهم إلى ذلك أمرٌ محقَّقٌ غنيٌّ عن البيان

63

{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} مشيراً إلى الذي لم يكسِرْه سلك عليه السلام مسلكاً تعريضياً يؤديه إلى مقصِده الذي هو إلزامُهم الحجّةَ على ألطف وجهٍ وأحسنِه بحملهم على التأمل في شأن آلهتهم مع مافيه من التوقي من الكذب حيث أبرز الكبيرَ قولاً في معرض المباشِرِ للفعل بإسناده إليه كما أبرزه في ذلك

سورة الأنبياء (64 65) المعرض فعلا يجعل الفأسَ في عنقه وقد قصد إسنادَه إليه بطريق التسبيب حيث كانت تلك الأصنامُ غاظته عليه السلام حين أبصرها مصطفةً مرتّبةً للعبادة من دون الله سبحانه وكان غيظ كبيرهم أكبرَ وأشدَّ حسب زيادة تعظيمهم له فأسند الفعلَ إليه باعتبار أنه الحاملُ عليه وقيل هو حكايةٌ لما يقود إلى تجويزه مذهبُهم كأنه قال لهم ما تنكرون أن يفعله كبيرُهم فإن من حق من يعبد ويدعى إلها أن يقدِر على ما هو أشدُّ من ذلك ويحكى أنه عليه السلام قال فعله كبيرُهم هذا غضِبَ أن تُعبدَ معه هذه الصغار وهوأكبر منها فيكون تمثيلاً أراد به عليه السلام تنبيهَهم على غضب الله تعالى عليهم لإشراكهم بعبادته الأصنامَ وأما ما قيل من أنه عليه السلام لم يقصد نسبة الفعل الصادرِ عنه إلى الضم بل إنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلُغ فيه غرضه من إلزامهم الحجةَ وتبكيتِهم ومُثِّل لذلك بما لو قال لك أمي فيما كتبتُه بخط رشيقٍ وأنت شهير بحسن الحظ أأنت كتبت هذا فقلت له بل أنت كتبته كان قصدُك تقريرَ الكتابة لنفسك مع الاستهزاء بالسائل لانفيها عنك وإثباتَها له فبمعزل من التحقيق لأن خلاصةَ المعنى في المثال المذكور مجردُ تقريرِ الكتابة لنفسك وإدعاءُ ظهور الأمر مع الاستهزاء بالسائل وتجهيلِه في السؤال لابتنائه على أن صدورَها عن غيرك محتملٌ عنده مع استحالته عندك ولا ريب في أن مرادَه عليه السلام من إسناد الكسرِ إلى الصنم ليس مجردَ تقريرِه لنفسه ولا تجهيلَهم في سؤالهم لابتنائه على احتمال صدوره عن الغير عندهم بل إنما مرادُه عليه السلام توجيهُهم نحو التأملِ في أحوال أصنامهم كما ينبىء عنه قوله {فاسألوهم إِن كَانوُاْ يَنطِقُونَ} أي إن كانوا ممن يمكن أن ينطِقوا وإنما لم يقل عليه السلام إن كانوا يسمعون أو يعقِلون مع أن السؤال موقوفٌ على السمع والعقل أيضاً لما أن نتيجةَ السؤالِ هو الجوابُ وأن عدم نطقِهم أظهرُ وتبكيتَهم بذلك أدخلُ وقد حصل ذلك أولاً حسبما نطق به قوله تعالى

64

{فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ} أي راجعوا عقولَهم وتذكروا أن مالا يقدر على دفع المضَرّةِ عن نفسه ولا على الإضرار بمن كسَره بوجه من الوجوه يستحيل أن يقدر على دفع مضرَّةٍ عن غيره أوجلب منفعة له فكيف يستحق أن يكون معبوداً {فَقَالُواْ} أي قالَ بعضُهم لبعضٍ فيما بينهم {إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون} أي بهذه السؤالِ لأنه كان على طريقة التوبيخِ المستتبِعِ للمؤاخذة أو بعبادة الأصنام لامن ظلمتموه بقولكم إنه لمن الظالمين أو أنتم ظالمون بعبادتها لا مَنْ كسرها

65

{ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُؤُوسَهُمْ} أي انقلبوا إلى المجادلة بعد ما استقاموا بالمراجعة شبّه عودَهم إلى الباطل بصيرورة أسفلِ الشيءِ أعلاه وقرىء نُكّسوا بالتشديد ونكَّسوا على البناء للفاعل أي نكّسوا أنفسَهم {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ} على إرادةِ القولِ أيْ قائلين والله لقد علمت أن ليس من شأنهم النطق فيكف تأمرُنا بسؤالهم على أن المرادَ استمرارُ نفي النطقِ لا نفيُ استمراره كما توهمه صيغة المضارع

سورة الأنبياء (66 99)

66

{قَالَ} مبكّتاً لهم {أَفَتَعْبُدُونَ} أي أتعلمون ذلك فتعبدون {مِن دُونِ الله} أي متجاوزين عبادتَه تعالى {مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً} من النفع {وَلاَ يَضُرُّكُمْ} فإن العلمَ بحاله المنافيةِ للألوهية مما يوجبُ الاجتنابَ عن عبادته قطعاً

67

{أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} تضجّرٌ منه عليه السَّلام من إصرارهم على الباطل البيّن وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ لمزيد استقباحِ ما فعلوا وأفَ صوتُ المتضجِّر ومعناه قُبحاً ونتْناً واللام لبيان المتأقف له {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي ألا تتفكرون فلا تعقلون قبحَ صنيعكم

68

{قَالُواْ} أي قالَ بعضُهم لبعض لما عجَزوا عن المحاجة وضاقتْ عليهِ الحيلُ وعيَّت بهم العلل وهكذا دَيدنُ المبطِلِ المحجوجِ إذا قَرَعْتَ شبُهتَه بالحجة القاطعة وافتُضِح لا يبقى له مفزِعٌ إلا المناصبةُ {حَرّقُوهُ} فإنه أشدُّ العقوبات {وانصروا آلهتكم} الانتقام لها {إِن كُنتُمْ فاعلين} أي للنصر أو لشيء يعتدبه قيل القائل نمرودبن كنعان بن السنجاريب ابن نمرود بن كوسِ بن حاء بن نوح وقيل رجلٌ من أكراد فارسَ اسمُه هيون وقيل هدير خُسِفت به الأرض روي أنهم لما أجمعوا على إحراقه عليه السلام بنَوا له حظيرةً بكُوثَى قرية من قرى الأنباط وذلك قوله تعالى قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم فجمعوا له صِلاب الحطب من أصناف الخشبِ مدةَ أربعين يوماً فأوقدوا ناراً عظيمة لا يكاد يحوم حولها أحدٌ حتى إن كانت الطير لتمرّ بها وهي في أقصى الجو فتحترق من شدة وهَجِها ولم يكد أحد يحوم حولها فلم يعلموا كيف يُلقونه عليه السلام فيها فأتى إبليسُ وعلمهم عمل المِنْجنيق فعمِلوه وقيل صنعه لهم رجل من الأكراد فخسف الله تعالى به الأرضَ فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ثم عَمدوا إلى إبراهيم عليه السلام فوضعوه فيه مغلولاً فرمَوا به فيها فقال له جبريلُ عليهما السلام هل لك حاجةٌ قال أما إليك فلا قال فاسأل ربك قال حسبي من سؤالي علمُه بحالي فجعل الله تعالى ببركة قوله الحظيرةَ روضةً وذلك قوله تعالى

69

{قلنا يا نار كُونِى بَرْداً وسلاما على إبراهيم} أي كوني ذاتَ بردٍ وسلامٍ أي ابرُدي برداً غيرَ ضارّ وفيه مبالغات جعلُ النارِ المسخرةِ لقدرته تعالى مأمورةً مطاوِعةً وإقامةَ كوني ذاتَ بردٍ مقامَ ابردي ثم حذفُ المضافِ وإقامةِ المضافِ غليه مُقامَه وقيل نصب سلاماً بفعله أى وسلمنا سلاما عليه روي أن الملائكة أخذوا بضَبْعَي إبراهيمَ وأقعدوه على الأرض فإذا عينُ ماءٍ عذبٍ ووردٌ أحمرُ ونرجسٌ ولم تحرِق النارُ إلا وَثاقه وروي أنه عليه السلام مكث فيها أربعين يوماً أو خمسين وقال ما كنت أطيبَ عيشاً مني إذ كنت فيها قال ابن يسار وبعث الله تعالى ملَكَ الظل فقعد إلى جنبه يؤنسه فنظر نمرودُ من صَرْحه فأشرف عليه فرآه جالساً في روضة مُونِقة ومعه جليسٌ على أحسنِ ما يكون من الهيئة

سورة الأنبياء (70 73) والنارُ محيطةٌ به فناداه يا ابراهيم هل تسطيع أن تخرج منها قال نعم قال فقم فاخرُج فقام يمشي فخرج منها فاستقبله نمرودُ وعظّمه وقال مَن الرجلُ الذي رأيته معك قال ذلك ملَك الظلّ أرسله ربي ليؤنسني فقال إني مقرِّبٌ إلى إهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك فقال عليه السلام لا يقبل الله منك ما دمت على دينك هذاقال لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبح له أربعةَ آلافِ بقرة فذبحها وكف عن إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ وكان إذ ذاك ابنَ ستَّ عشْرةَ سنة وهذا كما ترى من أبدع المعجزات فإن انقلابَ النار هواء طيباً وإن لم يكن بدعاً من قدرة الله عزوجل لكن وقوعَ ذلك على هذه الهيئة مما يخرِق العاداتِ وقيل كانت النار على حالها لكنه تعالى دفع عنه عليه السلام أذاها كما تراه في السَّمَنْدل كما يشعر به ظاهرُ قوله تعالى على إبراهيم

70

{وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً} مكراً عظيماً في الإضرار به {فجعلناهم الأخسرين} أي أخسرَ من كل خاسرٍ حيث عاد سعهيم في إطفاء نور الحقِّ برهاناً قاطعاً على أنه عليه السلام على الحق وهم على الباطل وموجباً لارتفاع درجته واستحقاقِهم لأشد العذاب

71

{ونجيناه وَلُوطاً إِلَى الأرض التى باركنا فيها للعالمين} أي من العراق إلى الشام وبركاته العامة أن أكثر الأنبياءِ بُعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعُهم التي هي مبادي الكمالات والخيراتِ الدينية والدنيويةِ وقيل كثرةُ النعم والخِصْبُ الغالب روي أنه عليه السلام نزل بِفلَسطين ولوطٌ عليه السلام بالمؤتفكة وبينهما مسيرةُ يومٍ وليلة

72

{وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} أي عطيةً فهي حالٌ منهما أو ولدٌ ولدٌ أو زيادةٌ على ما سأل وهو إسحق فتختص بيعقوبَ ولا لَبْس فيه للقرينة الظاهرةِ {وَكُلاًّ} أي كلَّ واحدٍ من هؤلاء الأربعة لا بعضَهم دون بعض {جَعَلْنَا صالحين} بأن وفقناهم للصلاح في الدين والدنيا فصاروا كاملين

73

{وجعلناهم أَئِمَّةً} يقتدى بهم في أمور الدين إجابةً لدعائه عليه السلام بقوله وَمِن ذُرّيَتِى {يَهْدُونَ} أي الأمة إلى الحق {بِأَمْرِنَا} لهم بذلك وإرسالِنا إياهم حتى صاروا مكملين {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات} ليحثوّهم عليه فيتم كمالهم بانضمام العملِ إلى العلم وأصلُه أن تفعل الخيراتِ ثم فعلا الخيرات وكذا قوله تعالى {وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ} وهو من عطف الخاصِّ على العام دَلالةً على فضله وإنافتِه وحُذفت تاءُ الأقامة المعوّضة من إحدى الألفين لقيام المضاف إليه مَقامة {وَكَانُواْ لَنَا} خاصة دون غيرنا {عابدين} لا يخطر ببالهم غيرُ عبادتنا

سورة الإنبياء (7478)

74

{وَلُوطاً} قيل هو منصوبٌ بمضمر يفسره قوله تعالى {آتيناه} أي وآتينا لوطاً وقيل باذكُرْ {حُكْمًا} أي حكمةً أو نبوة أو فصلاً بين الخصوم بالحق {وَعِلْماً} بما ينبغي علمُه للأنبياء عليهم السلام {ونجيناه مِنَ القرية التى كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث} أي اللّواطةَ وُصفت بصفة أهلها وأُسندت إليها على حذف المضاف وإقامتها مُقامه كما يُؤذِن به قوله تعالى {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فاسقين} فإنه كالتعليل له

75

{وأدخلناه فِى رَحْمَتِنَا} أي في أهل رحمتِنا أو في جنتنا {إِنَّهُ مِنَ الصالحين} الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى

76

{وَنُوحاً} أي اذكر نوحاً أي خبرَه وقوله تعالى {إِذْ نادى} أى دعا الله تعالى على قومه بالهلاك ظرف للمضاف المقدر أي اذكر نبأَه الواقعَ وقت دعائه {مِن قَبْلُ} أي من قبل هؤلاء المذكورين {فاستجبنا لَهُ} أي دعاءَه الذي من جملته قولُه إني مغلوبٌ فانتصر {فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} وهو الطوفانُ وقيل أذيّةُ قومِه وأصلُ الكرب الغمُّ الشديد

77

{ونصرناه} نصراً مستتبِعاً للانتقام والانتصار ولذلك قيل {مِنَ القوم الذين كذبوا بآياتنا} وحملُه على فانتصر يأباه ما ذكر من دعائه عليه السلام فإن ظاهرَه يوجب إسنادَ الانتصارِ إليه تعالى مع ما فيه من تهويل الأمر وقوله تعالى {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء} تعليلٌ لما قبله وتمهيد لما بعده من قوله تعالى {فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} فإن الإصرارَ على تكذيب الحقِّ والانهماكَ في الشر والفساد مما يوجب الإهلاك قطعا

78

{وداود وسليمان} إما عطفٌ على نوحاً معمولٌ لعامله وإما لمضمر معطوفٍ على ذلك العامل بتقدير المضاف وقوله تعالى {إِذْ يَحْكُمَانِ} ظرفٌ للمضاف المقدر وصيغةُ المضارعِ حكايةٌ للحال الماضيةِ لاستحضار صورتِها أي اذكر خبرَهما وقت حُكمِهما {فِى الحرث} أي في حق الزرعِ أو الكرم المتدلّي عناقيدُه كما قبل أو بدلُ اشتمال منهما وقوله تعالى {إِذْ نَفَشَتْ} أي تفرّقت وانتشرت {فِيهِ غَنَمُ القوم} ليلاً بلا راعٍ فرَعَتْه وأفسدتْه ظرفٌ للحكم {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ} أي لحُكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما فإن الإضافةَ لمجرد الاختصاص المنتظمِ لاختصاص القيامِ واختصاصِ الوقوع وقرىء لحكمهما {شاهدين} حاضرين علماً والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ للحكم ومفيدٌ لمزيد الاعتناء بشأنه

سورة الإنيباء (79)

79

{ففهمناها سليمان} عطفٌ على يحكمان فإنه في حكم الماضي وقرىء فأفهمناها والضمير والضميرُ للحكومة أو الفُتيا روي أنه دخل على داودَ عليه السلام رجلان فقال أحدهما إن غنَمَ هذا دخلت في حرثي ليلاً فأفسدتْه فقضى له بالغنم فخرجا فمرّا على سليمان عليه السلام فأخبراه بذلك فقال غيرُ هذا أرفقُ بالفريقين فسمعه داودُ فدعاه فقال له بحق البنوة والأبوة إلا أخبرتَني بالذي أرفقُ بالفريقين فقال أرى أن تُدفع الغنَمُ إلى صاحب الأرض لينتفعَ بدرها ونسلِها وصوفِها والحرثَ إلى أرباب الغنم ليقوموا عليه حتى يعودَ إلى ما كان ثم بترادا فقال القضاءُ ما قضيتَ وأمضى الحُكْمَ بذلك والذي عندي أن حكمها عليه السلام كان بالاجتهاد فإن قول سليمان عليه السلام غيرُ هذا أرفقُ بالفريقين ثم قولُه أرى أن تُدفع الخ صريحٌ في أنه ليس بطريق الوحي وإلا لبتّ القولَ بذلك ولما ناشده داودُ عليهما السلام لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يظهره بدء أو حرم عليه كتمُه ومن ضرورته أن يكون القضاءُ السابقُ أيضاً كذلك ضرورةَ استحالة نقضِ حكم النصِ بالاجتهاد بل أقول والله تعالى أعلم إن رأْيَ سليمان عليه السلام استحسانٌ كما ينبىء عنه قوله أرفقُ بالفريقين ورأيَ داودَ عليه السلام قياسٌ كما أن العبدَ إذا جنى على النفس يدفعه المولى عند أبي حنيفة إلى المجنيِّ عليه او يفديه وببيعه في ذلك أو يفديه عند الشافعي وقد روي أنه لم يكن بين قيمة الحرثِ وقيمة الغنمِ تفاوتٌ وأما سليمانُ عليه السلام فقد استحسن حيث جعل الانتفاعَ بالغنم بإزاء مافات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول مُلكُ المالك عن الغنم وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث إلى أن يزولَ الضررُ الذي أتاه من قِبله كما قال أصحابُ الشافعيِّ فيمن عصب عبداً فأبَقَ منه أنه يضمن القيمةَ فينتفعَ بها المغصوبُ منه بإزاء ما فوّته الغاصبُ من المنافع فإذا ظهر الآبقُ ترادّا وفي قوله تعالى ففهمناها سليما دليلٌ على رجحان قولِه ورجوعِ داودَ عليه السلام إليه مع أن الحكمَ المبنى على الإجتهاد لاينقض باجتهاد آخرَ وإن كان أقوى منه لما أن ذلك من خصائص شريعتِنا على أنه ورد في الأخبار أن داودَ عليهِ السلامُ لم يكُنْ بتّ الحم في ذلك حتى سمع من سليمان ما سمع وأما حكم المسئلة في شريعتنا فعند أبي حنيفةَ رحمَهُ الله تعالى لاضمان إن لم يكن معبا سائقٌ أو قائد وعند الشافعي يجب الضمانُ ليلاً لا نهاراً وقوله تعالى {وكلا آتينا حُكْماً وَعِلْماً} لدفع ما عسى يُوهِمه تخصيصُ سليمانَ عليه السلام بالتفهيم من عدم كون حكم داودَ عليه السلام حكماً شرعياً أي وكلُّ واحد منهما آتينا حكماً وعلماً كثيراً لاسليمان وحده وهذا إنما يدل على خطأَ المجتهدِ لا يقدح في كونه مجتهداً وقيل بل على أن كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ وهو مخالفٌ لقوله تعالى ففهمناها سليمان ولولا النقلُ لاحتمل توافقُهما ما على أنَّ قولَه تعالى ففهمناها سليمان لإظهار ما تفضّل عليه في صِغره فإنه عليه السلام كان حينئذ ابن إحدى عشْرة سنةً {وسخرنا مع داود الجبال} شروعٌ في بيان ما يختص بكل منهما من كرامته تعالى إثرَ بيان كرامتِه العامة لهما {يُسَبّحْنَ} أي يقدسن الله عزوجل معه بصوت يتمثل له أو يخلقُ الله تعالى فيها الكلامَ وقيل يسِرْن معه بأن السباحة

سورة الإنبياء (80 83) وهو حال من الجبال أو استئناف مبين لكيفية التسخيرِ ومع متعلقةٌ بالتسخير وقيل بالتسبيح وهو بعيد {والطير} عطف على الجيال أو مفعولٌ معه وقُرِىءَ بالرفعِ على الابتداءِ والخبر محذوفٌ أي والطيرُ مسخراتٌ وقيل على العطف على الضمير في يسبحن وفيه ضعفٌ لعدم التأكيد والفصلِ {وَكُنَّا فاعلين} أي من شأننا أن نفعل أمثالَه فليس ذلك ببِدْعٍ منا وإن كان بديعاً عندكم

80

{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} أي عملَ الدِّرْعِ وهو في الأصل اللباسُ قال قائلهم ... إلبَسْ لكل حالة لَبوسَها ... إما نعيمَها وإما بوسَها ... وقيل كانت صفائح فحلقها وسرَدها {لَكُمْ} متعلقٌ بعلّمنا أو بمحذوف هوصفة لَبوس {لِتُحْصِنَكُمْ} أي اللبوسُ بتأويل الدرع وقرىء بالتذكير على أن الضمير لداودَ عليه السلام أو للّبوس وقرىء بنون العظمة وهو بدلُ اشتمال من لكم بإعادة الجارّ مبينٌ لكيفية الاختصاصِ والمنفعةِ المستفادةِ من لام لكم {مّن بَأْسِكُمْ} قيل من حرب عدوِّكم وقيل من وقع السلاح فيكم {فَهَلْ أَنتُمْ شاكرون} أمرٌ واردٌ على صورة الاستفهامِ للمبالغة أو التقريع

81

{ولسليمان الريح} أي وسخرنا له الريحَ وإيرادُ اللام ههنا دون الأول للدِلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت فإن تسخيرَ ما سخر له عليه السلام من الريح وغيرِها كان بطريق الانقيادِ الكليِّ له والامتثالِ بأمره ونهيِه والمقهوريةِ تحت ملكوتِه وأما تسخيرُ الجبال والطيرِ لداودَ عليه السلام فلم يكن بهذه المثابة بل بطريق التبعيةِ له عليه السلام والاقتداء به في عبادة الله عزوعلا {عَاصِفَةً} حالٌ من الريح والعاملُ فيها الفعلُ المقدرُ أي وسخرنا له الريح حالَ كونِها شديدةَ الهبوبِ من حيث أنها كانت تبعُد بكرسيه في مدة يسيرة من الزمان كما قال تعالى غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وكانت رُخاءً في نفسها طيبةً وقيل كانت رُخاءً تارة وعاصفةً اخرى حسب إرادته عليه السلام وقرىء الريحُ بالرفع على الابتداء والخبرُ هو الظرفُ المقدم وعاصفةً حينئذ حال من ضمير المبتدأ في الخبر والعاملُ ما فيه من معنى الاستقرارِ وقرىء الرياح نصباً ورفعاً {تَجْرِى بِأَمْرِهِ} بمشيئته حالٌ ثانية أو بدلٌ من الأولى أوْ حالٌ منْ ضميرِها {إِلَى الأرض التى بَارَكْنَا فِيهَا} وهي الشام رَواحاً بعد ما ساربه منه بكرةً قال الكلبي كان سليمانُ عليه السلام وقومه يركبون عليها من اصطخْرَ إلى الشام وإلى حيث شاء ثم يعود إلى منزله {وَكُنَّا بِكُلّ شيء عالمين} فنجزيه حسبما تقتضيه الحِكمة

82

{ومن الشياطين} أي وخسر ناله من الشياطين {مَن يَغُوصُونَ لَهُ} في البحار ويستخرجون له من نفائسها وقيل مَنْ رفعٌ على الابتداء وخبرُه ما قبله والأولُ هو الأظهرُ {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك} أي غيرَ ما ذُكر من بناءِ المدن والقصورِ واختراعِ الصنائعِ الغريبة لقوله تعالى يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن محاريب وتماثيل الآية وهؤلاء أما الفرقةُ الأولى أو غيرها لعموم كلمة مَنْ كأنه قيل ومَن يعملون وجمعُ الضمير الراجع إليها باعتبار معناها بعد ما رشح جانبُه بقوله تعالى وَمِنَ الشياطين روي أن المسخَّر له عليه السلام كفارهم

سورة الإنبياء (83 84) لا مؤمنوهم لقوله تعالى وَمِنَ الشياطين وقوله تعالى {وَكُنَّا لَهُمْ حافظين} أي من أن يزيغوا عن أمره أو يُفسدوا على ما هو مقتضى جِبِلّتهم قيل وكل بهم جمعاً من الملائكة وجمعاً من مؤمني الجن وقال الزجاجُ كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عمِلوا وكان دأبُهم أن يفسدوا بالليل ماعملوه بالنهار

83

{وَأَيُّوبَ} الكلامُ فيه كما مرَّ في قوله تعالى وداود وسليمان أي واذكر خبرَ أيوبَ {إِذْ نادى رَبَّهُ أَنّى} أي بأَنِّي {مَسَّنِىَ الضر} وقُرِىءَ بالكسرِ على إضمارِ القولِ أو تضمين النداء معناه والضرُّ شائع في كل ضررٍ وبالضم خاص بما في النفس من مرض وهُزال ونحوهما {وأنت أرحم الراحمين} وصفة تعالى بغاية الرجمة بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها واكتفى به عن عرض المطلب لطفاً في السؤال وكان عليه السلام رومياً من ولد عيص بن إسحاق استسبأه الله تعالى وكثُر أهلُه وماله فابنلاه الله تعالى بهلاك أولادِه بهدم بيت عليهم وذهابِ أمواله والمرضِ في بدنه ثمانيَ عشرةَ سنة أو ثلاثَ عشرةَ سنة أو سبعاً وسبعةَ أشهر وسبعة أيام وسبعَ ساعات روي أن امرأتَه ماخيرَ بنتَ ميشا ابن يوسفَ عليه السلام أو رحمة بنت أفرايم بن يوسف قالت له بوما لو دعوتَ الله تعالى فقال كم كانت مدةُ الرخاء فقالت بمانين سنة فقال استحي من الله تعالى أن أدعوَه وما بلغتْ مدةُ بلائي مدةَ رخائي وروي أن إبليسَ أتاها على هيئة عظيمة فقال أنا إله الأرضِ فعلتُ بزوجك ما فعلت لأنه تركني وعبدَ إله السماء فلو سجد لي سجدةً لرددتُ عليه وعليك جميعَ ما أخذتُ منكما وفي رواية لو سجدتِ لي سجدةً لرَجعتُ المالَ والولد وعافيتُ زوجَك فرجعت إلى أيوبَ وكان ملْقًى في الكُناسة لا يقرُب منه أحدٌ فأخبرته بالقصة فقال عليه السلام كأنك افتُتِنْتِ بقول اللعين لئن عافاني الله عزوجل لأضرِبنّك مائة سَوْط وحرامٌ عليّ أن أذوق بعد هذا شيئاً من طعامك وشرابِك فطردها فبقيَ طريحاً على الكُناسة لا يحوم حوله أحدٌ من الناس فعند ذلك خر ساجداً فقال ربّ أَنّى مَسَّنِىَ الضرُّ وَأَنتَ أرحمُ الراحمين فقيل له ارفعْ رأسك فقد استجبت لك اركُضْ برجلك فركض فنبعتْ من تحته عينُ ماء فاغتسل منها فلم ببق في ظاهر بدنه دابةٌ إلا سقطتْ ولا جراحةٌ إلا برِئت ثم ركض مرة اخرى فنبعث عينٌ أخرى فشرب منها فلم يبقَ في جوفه داءٌ إلا خرج وعاد صحيحاً ورجع إليه شبابُه وجمالُه ثم كُسِيَ حلة وذلك قوله تعالى

84

{فاستجبنا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ} فلما قام جعل يلفت فلا يرى شيئاً مما كان له من الأهل والمالِ إلا وقد ضاعفه الله تعالى وذلك قوله تعالى {وآتيناه أَهْلَهُ وَمِثْلَهمْ مَعْهمْ} وقيل كان ذلك بأن وُلد له ضِعفُ ما كان ثم إن امرأتَه قالت في نفسها هبْ أنه طردني أفأترُكه حتى يموتَ جوعا ويأكله السباع لأرجِعنّ إليه فلما رجعت ما رأت تلك الكُناسة ولا تلك الحال وقد تغيرت الأمورُ فجعلت تطوفُ حيث كانت الكُناسة وتبكي وهابت صاحبَ الحُلة أن

سورة الإنبياء (85 87) تأتيَه وتسألَ عنه فأرسل إليها أيوبُ ودعاها فقال ما تريدين يا أمةَ الله فبكت وقالت أريد ذلك المبتلى الذي كان ملقًى على الكناسة قال لها ما كان منك فبكت وقالت بعْلي قال أتعرِفينه إذا رأيتِه قالت وهل يخفى عليّ فتبسم فقال أنا ذلك فعرفته بضحكه فاعتنقتْه {رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وذكرى للعابدين} أي آتيناه ما ذُكر لرحمتنا أيوبَ وتذكرةً لغيره من العابدين ليصبِروا كما صبر فيُثابوا كما أثيب أو لرحمتنا العابدين الذين من جملتهم أيوبُ وذكْرِنا إياهم بالإحسان وعدمِ نسياننا لهم

85

{وإسماعيل وَإِدْرِيسَ وَذَا الكفل} أي واذكرهم وذو الكِفل إلياسُ وقيل يوشَعُ بنُ نون وقيل زكريا سُمّي به لأنه كان ذا حظ من الله تعالى أو تكفل منه أوضعف عمل أنبياء زمانه وثوابهم فإن الكفل يجيىء بمعنى النصيب والكفالة والضِعْف {كُلٌّ} أي كلَّ واحدٍ من هؤلاء {مّنَ الصابرين} أي على مشاقّ التكاليف وشدائدِ النُّوَب والجملةُ استئنافٌ وقعَ جواباً عن سؤال نشأ من الأمر بذكرهم

86

{وأدخلناهم فِى رَحْمَتِنَا} أي في النبوة أو في نعمة الآخرة {إِنَّهُمْ مّنَ الصالحين} أي الكاملين في الصلاح الكاملِ الذي لا يحومُ حولَهُ شائبةُ الفساد وهم الأنبياءُ فإن صلاحَهم معصومٌ من كَدَر الفساد

87

{وَذَا النون} أي واذكر صاحب الحوت وهو يونسُ عليهِ السَّلامُ {إِذ ذَّهَبَ مغاضبا} أي مراغِماً لقومه لمّا برِمَ من طول دعوته إياهم وشدةِ شكيمتهم وتمادي إصرارِهم مهاجراً عنهم قبل أن يؤمر وقيل وعدَهم بالعذاب فلم يأتِهم لميعادهم بتوبتهم ولم يعرف الحال فظن أنه كذّبهم فغضِب من ذلك وهو من بناء المغالبة للمبالغة أو لأنه أغضبهم بالمهاجَرة لخوفهم لحوق العذاب عندها وقرىء مُغضَباً {فَظَنَّ أَن لن نقدر عليه} أن لن نضيّقَ عليه أو لن نقضيَ عليه بالعقوبة من القدر ويؤيده أنه قرىء مشدداً أو لن نُعمِل فيه قدرتَنا وقيل هو تمثيلٌ لحاله بحال من يظن أن لن نقدر عليه أي نعامله معاملةَ من يظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومَه من غير انتظار لأمرنا كما في قوله تعالى يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ أي نعامله معاملةَ من يحسَب ذلك وقيل خطرةٌ شيطانية سبقت إلى وهمه فسُمّيت ظنًّا للمبالغة وقرىء بالياء مخففاً ومثقلا مبنيًّا للفاعلِ ومبنيًّا للمفعولِ {فنادى} الفاءُ فصيحة أي فكان ما كان من المساهمة والتقامِ الحوت فنادى {فِى الظلمات} أي في الظلمة الشديدةِ المتكاثفة أو في ظلمات بطنِ الحوتِ والبحرِ والليل وقيل ابتلع حوتَه حوتٌ أكبرُ منه فحصل في ظلمتي بطني الحوتين وظلمتي البحر والليل {أَن لاَّ إلَه إِلاَّ أَنتَ} أي بأنه لا إله إلا أنت على أنَّ إنْ مخففةٌ من أنَّ وضميرُ الشأنِ محذوف أو أي لا إله إلا أنت على أنها مفسّرة {سبحانك} أنزهك تنزيهاً لائقابك من أن يُعجزك شيءٌ أو أن يكون ابتلائي بهذا بغير سبب

سورة الإنبياء (88 91) من جهتي {إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين} لأنفسهم بتعريضها للهلكة حيث بادرت إلى المهاجرة

88

{فاستجبنا لَهُ} أي دعاءَه الذي دعاه في ضمن الاعترافِ بالذنب على ألطف وجهٍ وأحسنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مكروبٍ يدعو بهذا الدعاء إلا استُجيب له {ونجيناه مِنَ الغم} بأن قذفه الحوتُ إلى الساحل بعد أربع ساعاتٍ كان فيها في بطنه وقيل بعد ثلاثة أيام وقيل الغمُّ غمُّ الالتقام وقيل الخطئية {وكذلك} أي مثلَ ذلك الإنجاءِ الكامل {نُنجِى المؤمنين} من غمومٍ دَعَوُا الله تعالى فيها بالإخلاق لا إنجاءً أدنى منه وفي الإمام نجى ولذلك أخفى الجماعةُ النون الثانية فإنها تخفى مع حروف الفم وقرىء بتشديد الجيم على أن أصله نُنجّي فحذفت الثانية كما حذفت التاء في تَظاهرون وهي وإن كانت فاء فحدفها أوقعُ من حذف حرفِ المضارَعة التي لِمعنًى ولا يقدح فيه اختلافُ حركتي النونين فإن الداعيَ إلى الحذف اجتماعُ المِثلين مع تعذّر الإدغام وامتناعُ الحذفِ في تتجافى لخوف اللَّبس وقيل هوماض مجهولٌ أسند إلى ضمير المصدر وسُكّن آخره تخفيفاً ورُدّ بأنه لا يسند إلى المصدر والمفعول مذكور والماضي لا يسكن آخرُه

89

{وَزَكَرِيَّا} أي واذكر خبره {إِذْ نادى رَبَّهُ} وقال {رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً} أي وحيداً بلا ولدٍ يرثى {وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين} فحسبي أنت إن لم ترزُقني وارثاً

90

{فاستجبنا لَهُ} أي دعاءَه {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى} وقد مر بيانُ كيفية الاستجابة والهبة في سورة مريم {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أي أصلحناها للولادة بعد عُقْرها أو أصلحناها للمعاشرة بتحسين خلقِها وكانت حَرِدةً وقوله تعالى {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الخيرات} تعليل لما فصل من فنون إحسانِه تعالى المتعلقة بالأنبياء المذكورين أي كانوا يبادرون في وجوه الخيراتِ مع ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير وهو السرُّ في إيثارِ كلمةُ في على كلمة إلى المُشعرة بخلاف المقصودِ من كونهم خارجين عن أصل الخيراتِ متوجهين إليها كما في قوله تعالى وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} ذوي رغَبٍ ورهَب أوراغبين في الثواب راجين للإجابة أوفي الطاعة وخائفين العقاب أو المعصية أو للرغب والرهب {وَكَانُواْ لَنَا خاشعين} أي مُخْبتين متضرعين أو دائمي الوجَل والمعنى أنهم نالوا من الله تعالى ما نالوا بسبب اتصافِهم بهذه الخصال الحميدة

91

{والتى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي اذكر خبرَ التي أحصنتْه على الإطلاق من الحلال والحرام والتعبيرُ عنها بالموصول لتفخيم شأنِها وتنزيهها عما زعموه في حقها آثرَ ذي أثيرٍ {فَنَفَخْنَا فِيهَا} أي أحيينا عيسى في جوفها {مِن رُّوحِنَا} من الروح الذي هو من أمرنا وقيل فعلنا النفخَ فيها من جهة روحنا جبريل

سورة الأنبياء (92 95) عليه السلام {وجعلناها وابنها} أي قصتهما أو حالهما {آية للعالمين} فإن مَنْ تأمل حالهما تحقق كمالَ قدرتِه عز وجل فالمرادُ بالآية ما حصل بهما من الآية التامةِ مع تكاثر آياتِ كلِّ واحد منهما وقيل أريد بالآية الجنس الشامل لمالكل واحدٍ منهما من الآيات المستقلة وقيل المعنى وجعلناها آيةً وابنها آيةً فحذفت الأولى لدلالةِ الثانية عليها

92

{إِنَّ هذه} أي ملةَ التوحيد والإسلام أشير إليها بهذه تنبيهاً على كمال ظهور أمرها في الصحة والسَّداد {أُمَّتُكُمْ} أي ملتُكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتُراعوا حقوقَها وَلاَ تُخِلّوا بشيءٍ منْهَا والخطابُ للناس قاطبة {أُمَّةً وَاحِدَةً} نصب على الحالية من أمتُكم أي غيرَ مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم السلام إذ لا مشاركةَ لغيرها في صحة الاتباعِ ولا احتمال لتبدّلها وتغيُّرها كفروع الشرائعِ المتبدلة حسب تبدّلِ الأممِ والأعصار وقرىء امتكم بالنصب على البدلية من اسمِ إن وأمة واحدةٌ بالرفع على الخبرية وفرتنا بالرقع على أنهما خبران {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ} لا إله لكم غيري {فاعبدون} خاصة لا غيرُ وقوله تعالى

93

{وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} التفاتٌ إلى الغَيبة لينعى عليهم ما أفسدوه من التفرق في الدين وجعلِ أمره قِطَعاً مُوَزّعةً وينهى قبائحَ أفعالهم إلى الآخرين كأنه قيل ألا ترَون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله الذي أجمعت عليه كافةُ الأنبياء عليهم السلام {كُلٌّ} أي كلُّ واحدةٍ من الفرق المتقطعة أوكل واحد من آحاد كلِّ واحدةٍ من تلك الفرق {إِلَيْنَا راجعون} بالبعث لا إلى غيرنا فتجازيهم حينئذ بحسب أعماله وإيرادُ اسمِ الفاعل للدِلالة على الثبات والتحقق وقولُه تعالَى

94

{فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} الخ تفصيلٌ للجزاء أي فمن يعملْ بعضَ الصالحات أو بعضاً من الصالحات {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بالله ورسله {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي لا حِرمانَ لثواب عملِه ذلك عبّر عن ذلك بالكفران الذي هو سَتْرُ النعمة وجحودُها لبيانِ كمالِ نزاهتِه تعالَى عنه بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنه تعالى من القبائح وإبرازِ الإثابةِ في معرِض الأمورِ الواجبةِ عليه تعالى ونفى نفيِ الجنسِ للمبالغةِ في التنزيه وعبّر عن العمل بالسعي لإظهار الاعتداد به {وَإِنَّا لَهُ} أي لسعيه {كاتبون} أي مُثبّتون في صحائف أعمالِهم لا نغادر من ذلك شيئاً

95

{وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ} أي ممتنعٌ على أهلها غيرُ متصوَّر منهم وقرىء حِرْمٌ وهي لغة كالحِل والحلال {أهلكناها} قدّرنا هلاكها أو حكمنا به لغاية طغيانهم وعنوهم وقوله تعالى {إِنَّهُمْ لاَ يرجعون} في حيز كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون وما في أنّ من معنى التحقيق معتبرٌ في النفي المستفاد الرفع على أنَّه مبتدأٌ خبرُه حرامٌ أو فاعل له سادٌّ مسدَّ خبرِه والجملةُ لتقرير مضمونِ ما قبلها من قوله تعالى من حرام لا في المنفي أي ممتنعٌ البتةَ عدمُ رجوعِهم إلينا للجزاء لا أن عدمَ رجوعِهم المحقق ممتنعٌ وتخصيصُ امتناعِ عدم رجوعها بالذكر مع شمول

سورة الإنبياء (96 98) الامتناعِ لعدم رجوعِ الكل حسبما نطق به قوله تعالى كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون لأنهم المنكِرون للبعث والرجوعِ دون غيرهم وقيل ممتنعٌ رجوعُهم إلى التوبة على أن لا صلةٌ وقرىء أنهم لا يرجِعون بالكسر على أنه استئنافٌ تعليليٌّ لما قبله فحرامٌ خبرُ مبتدأ محذوف أي حرام عليها ذلك وهو ما ذكر في الآية السابقة من العمل الصالح المشفوعِ بالإيمان والسعي المشكور ثم علل بقوله تعالى أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ عمَّا هُم عليهِ من الكفر فكيف لا يمتنع ذلك ويجوز حملُ المفتوحة أيضاً على هذا المعنى بحذف اللامِ عنها أي لأنهم لا يرجعون وحتى في قولِه تعالى

96

{حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} الخ هي التي يُحكى بعدها الكلامُ وهي على الأول غايةٌ لما يدل عليه ما قبلها كأنه قيل يستمرون على ما هم عليه من الهلاك حتى إذا قامت القيامةُ يرجعون إلينا ويقولون يا ويلنا الخ وعلى الثاني غايةٌ للحُرمة أي يستمر امتناعُ رجوعِهم إلى التوبة حتى إذا قامت القيامة يرجعون إليها حين لا تنفعهم التوبةُ وعلى الثالث غايةٌ لعدم الرجوعِ عن الكفر أي لا يرجعون عنه حتى إذا قامت القيامة يرجعون عنه حين لا ينفعهم الرجوع ويأجوجُ ومأجوجُ قبيلتان من الإنس قالوا الناسُ عشرةُ أجزاء تسعةٌ منها يأجوجُ ومأجوج والمرادُ بفتحها فتحُ سدِّها على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه وقرىء فتّحت بالتشديد {وَهُمْ} أي يأجوجُ ومأجوجُ وقيل الناس {مّن كُلّ حَدَبٍ} أي نشَز من الأرض وقرىء جدَث وهو القبر {يَنسِلُونَ} أي يسرعون وأصله مقاربةُ الخَطْو مع الإسراع وقرىء بضم السين

97

{واقترب الوعد الحق} عطف على فُتحت والمرادُ به ما بعد النفخة الثانية من البعث والحسابِ والجزاء لا النفخةُ الأولى {فَإِذَا هِىَ شاخصة أبصار الذين كَفَرُواْ} جوابُ الشرط وإذا للمفاجاة تسد مسد الفاه الجزائية كما في قوله تعالى إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ فإذا دخلتها الفاء تظاهرت على وصل الجزاء بالشرط والضميرُ للقصة أو مُبْهمٌ يفسِّره ما بعدَهُ {يا ويلنا} على تقدير قول وقع حالاً من الموصول أي يقولون يا ويلنا تعالَ فهذا وأن حضورِك وقيل هو الجواب للشرط {قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ} تامة {مّنْ هذا} الذي دهمنا من البعث والرجوع إليه تعالى للجزاء ولم نعلم أنه حقٌ {بَلْ كُنَّا ظالمين} إضرابٌ عما قبله من وصف أنفسهم بالغفلة أي لم نكن غافين عنه حيث نبهناعليه بالآيات والنذر بل كنا ظالمين بتلك الآيات والنذُرِ مكذّبين بها أو ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب وقوله تعالى

98

{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} خطابٌ لكفار مكةَ وتصريحٌ بمآل أمرهم مع كونه معلوماً مما سبق على وجه الإجمالِ مبالغة في الإنذار وإزاحةِ الاعتذار وما تعبدون عبارةٌ عن أصنامهم لأنها التي يعبدونها كما يُفصح عنه كلمةُ ما وقد رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين

تلا الآيةَ قال له ابن الزبعري خصمتك ورب الكعبة أليست اليهود عبدواعزيزا والنصارى المسيحَ وبنو مليحٍ الملائكةَ ردّ عليه بقوله صلى الله عليه وسلم ما أجهلك بلغة قومك أما فهمت أن مالما لا يعقل ولا يعارضه ماروى إنه صلى الله عليه وسلم رده بقوله بل هم عبدو الشياطين التي أمرتهم بذلك ولاماروى أن ابن الزُّبعري قال هذا شيءٌ لآلهتنا خاصة أو لكل من عُبد من دون الله فقال صلى الله عليه وسلم بل لكل من عُبد من دونِ الله تعالَى إذ ليس شيءٌ منهما نصاً في عموم كلمة ما كما أن الأولَ نصٌّ في خصوصها وشمولُ حكم النص لا يقتضي شمولَه بطريق العبارة بل يكفي في ذلك شمولُه لهم بطريق دِلالة النصِّ بجامع الشركةِ في المعبودية من دونِ الله تعالَى فعلله صلى الله عليه وسلم بعدما بين مدلولَ النظمِ الكريم بما ذكر وعدمَ دخول المذكورين في حكمه بطريق العبارةِ بيّن عدم دخولِهم فيه بطريق الدِلالة أيضاً تأكيداً للرد والإلزام وتكريراً للتبكيت والإفحام لكن لا باعتبار كونهم معبودين لهم كما هو زعمُهم فإن إخراجَ بعضِ المعبودين عن حكم منبىءٍ عن الغضب على العبَدة والمعبودين مما يوهم الرخصةَ في عبادته في الجملة بل بتحقيق الحقِّ وبيانِ أنهم ليسوا من العبودية في شيء حتى يُتوهم دخولُهم في الحكم المذكورِ دلالة بموجب شركتهم للأصنام في المعبودية من دونِ الله تعالَى وإنما معبودُهم الشياطينُ التي أمرتهم بعبادتهم كما نطق به قوله تعالى سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن الآية فهم الداخلون في الحُكم المذكور لاشتراكهم مع الأصنامَ في المعبودية من دونه تعالى دون المذكورين عليهم السلام وهذا هو الوجهُ في التوفيق بين الأخبار المذكورة وأما تعميمُ كلمةِ ما للعقلاء أيضاً وجعلُ ما سيأتِي من قولِه تعالى إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ منا الحسنى الخ بياناً للتجوز أو التخصيص فما لا يساعده السباقُ والسياق كما يشهد به الذوقُ السليم والحَصَبُ ما يُرمى به ويهيج به النار من حصَبه إذا رماه بالحصْباء وقرىء بسكون الصاد وصفا له ئبالمصدر للمبالغة {أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} استئنافٌ أو بدلٌ من حصبُ جهنمَ واللامُ معوّضة من على الدلالة على الاختصاص وأن وردهم لأجلها والخطابُ لهم ولما يعبدون تغليباً

99

{لَوْ كَانَ هَؤُلاء} أي أصنامهم {آلهة} كما يزعمون {مَّا وَرَدُوهَا} وحيث تبين ورودُهم إياها تعين امتناعُ كونها آلهةً بالضرورة وهذا كما ترى صريحٌ في أنَّ المرادَ بما يعبدون هي الأصنامُ لأن المرادَ إثباتُ نقيضِ ما يدّعونه وهم إنما يدّعون إلهية الأصنام لا إلهية الشياطين حتى يحت بوردها النارَ على عدم آلِهيّتها وأما ما وقع في الحديث الشريف فقد وقع بطريق التكملة بانجرار الكلام إليه عند بيان ما سيق له النظم الكريم بطريق العبارة حيث سأل ابنُ الزبعرى عن حال سائرِ المعبودين وكان الاقتصارُ على الجواب الأول مما يوهم الرخصةَ في عبادتهم في الجملة لأنهم المعبودون عندهم أجيب بيان أن المعبودين هم الشياطينُ وأنهم داخلون في حكم النص لكن بطريق العبارة لئلا يلزَمَ التدافعُ بين الخبرين {وَكُلٌّ} أي من العبَدة والمعبودين {فيها خالدون} لاخلاص لهم عنها

100

{لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} أي أنينٌ وتنفسٌ شديدٌ وهو مع كونه من أفعال العبَدة أضيف إلى الكل للتغليب ويجوزُ أنْ يكونَ الضميرُ

للعبدة لعدم الإلباس وكذا في قولِه تعالى {وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} أي لا يسمع بعضُهم زفيرَ بعض لشدة الهول وفظاعةِ العذاب وقيل لا يسمعون ما يسرهم من الكلام

101

{إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} شروعٌ في بيان حال المؤمنين إثرَ شرح حالِ الكفرة حسبما جرت به سنةُ التنزيل من شفْع الوعد بالوعيد وإيرادِ الترغيب مع الترهيب أي سبقت لهم منا في التقدير الخَصلةُ الحسنى التي هي أحسنُ الخِصال وهي السعادة وقبل التوفيقُ للطاعة أو سبقت لهم كلمتُنا بالبشرى بالثواب على الطاعة وهو الأدخلُ الأظهرُ في الحمل عليها لما أن الأولَين مع خفائهما ليسا من مقدورات المكلفين فالجملةُ مع ما بعدها تفصيلٍ لَما أُجمل في قوله تعالى فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتبون كما أن ما قبلها من قوله تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ الخ تفصيلٍ لَما أُجمل في قوله تعالى وَحَرَامٌ الخ {أولئك} إشارةٌ إلى الموصول باعتبر اتصافه بما في حيز الصلةِ وما فيهِ منْ معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وبُعد منزلتِهم في الشرفِ والفضلِ أيْ أولئكَ المنعوتونَ بما ذُكِرَ من النعت الجميل {عَنْهَا} أي عن جهنم {مُبْعَدُونَ} لأنهم في الجنة وشتان بينها وبين النار وما روي أن علياً رضي الله عنه خطب يوماً فقرأ هذه الآية ثم قال أنا منهم وأبو بكر وعمرُ وعثمانُ وطلحةُ والزبيرُ وسعدٌ وسعيدٌ وعبدِ الرحمن بنِ عوف وأبو عبيدةَ بنُ الجراح رضوانُ الله تعالى عنهم أجمعين ثم أقيمت الصلاةُ فقام يجرّ رداءه ويقول

102

{لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} ليس بنص في كون الموصول عبارةً عن طائفة مخصوصة والحسيسُ صوتٌ يُحَسّ به أي لا يسمعون صوتَها سمعاً ضعيفاً كما هو المعهودُ عند كون المصوِّت بعيداً وإن كان صوتُه في غاية الشدة لا أنهم لا يسمعون صوتَها الخفيَّ في نفسه فقط والجملة بدل من مبعودن أو حال ن ضميره مَسوقةٌ للمبالغة في إنقاذهم منها وقوله تعالى {وَهُمْ فِى مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خالدون} بيانٌ لفوزهم بالمطالب إثرَ بيان خلاصِهم من المهالك والمعاطب أي دائمون في غاية التنعمَ وتقديمُ الظرف للقصر والاهتمام به وقوله تعالى

103

{لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} بيان لنجانهم من الأفزاع بالكلية بعد بيان نجاتِهم من النار لأنهم إذا لم يُحزُنْهم أكبرُ الأفزاع لا يحزنهم ما عداه بالضرورة عن الحسن رضيَ الله عنه أنَّه الانصرافُ إلى النار وعن الضحاك حتى يطبَقَ على النار وقيل حين يُذبح الموتُ في صُورةِ كبشٍ أملحَ وقيل النفخةُ الأخيرة لقوله تعالى فَفَزِعَ مَن فى السموات ومن فى الأرض وليس بذاك فإن الآمنَ من ذلك الفزع من استثناه الله تعالى بقوله إِلاَّ مَن شَاء الله لا جميعُ المؤمنين الموصوفين بالأعمال الصالحة على أن الأكثرين على أن ذلك في النفخة الأولى دون الأخيرة كما سيأتي في سورة النمل {وتتلقاهم الملائكة} أي تستقبلهم مهنّئين لهم {هذا يَوْمُكُمُ} على إرادةِ القولِ أيْ قائلين هذا اليومُ يومُكم {الذى كنتم توعدون} في الدنيا وتبشرون بما فيه من فنون المَثوبات على الإيمان والطاعات وهذا كما ترى صريحٌ في أنَّ المرادَ بالذين

سورة الإنبياء (64 106) سبقت لهم الحسنى كافةُ المؤمنين الموصوفين بالإيمان والأعمال الصالحةِ لا مَنْ ذكر من المسيح وعُزيرٍ والملائكة عليهم السلام خاصة كما قيل

104

{يَوْمَ نَطْوِى السماء} بنون العظمة منصوبٌ باذكرْ وقيل ظرفٌ لقولِه تعالى لاَّ يَحْزُنُهُمُ الفزع وقيل بتتلقاهم وقيلَ حالٌ مقدرةٌ من الضمير المحذوفِ في توعدون والطيُّ ضدُّ النشر وقيل المحوِ وقرىء يُطوى بالياء والتاء والبناء للمفعول {كَطَىّ السجل} وهي الصحيفة أي طياً كطيّ الطوُّمار وقرىء السَّجْل كلفظ الدلو وبالكسر والسُّجُلّ على وزن العُتُلّ وهما لغتان واللام في قوله تعالى {لِلْكُتُبِ} متعلقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من السجلّ أو صفةٌ له على رأي من يجوِّز حذفَ الموصول مع بعض صلتِه أي كطي السجل كائناً للكتب أو الكائن للكتب فإن الكتبَ عبارةٌ عن الصحائف وما كتب فيها فسجلُّها بعضُ أجزائها وبه يتلعق الطيُّ حقيقةً وقرىء للكتاب وهو إما مصدرٌ واللامُ للتعليل أي كما يُطوى الطومارُ للكتابة أو اسم كالإمام فاللامُ كما ذكر أولا قيل السجلُّ اسمُ ملَكٍ يطوي كتبَ أعمالِ بني آدمَ إذا رُفعت إليه وقيل هو كاتبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} أي نعيد ما خلقناه مبتدأً إعادةً مثلَ بدئنا إياه في كونها إيجاداً بعد العدم أو جمعاً من الأجزاء المتبدّدة والمقصودُ بيانُ صِحّةِ الإعادةِ بالقياس على المبدأ لشمول الإمكانِ الذاتي المصحّح للمقدورية وتناولِ القدرة لهما على السواء وما كافةٌ أو مصدرية وأولَ مفعولٌ لبدأنا أو لفعل يفسّره نعيده أو موصولةٌ والكافُ متعلقةٌ بمحذوف يفسره نعيده أي نعيد مثل الذي بدأناه وأولَ خلقٍ ظرفٌ لبدأنا أو حال ضمير الموصول المحذوف {وَعْداً} مصدرٌ مؤكد لفعله ومقرّرٌ لنعيده أو منتصف به لأنه عِدَةٌ بالإعادة {عَلَيْنَا} أي علينا إنجازُه {إِنَّا كُنَّا فاعلين} لما ذكر لا محالة

105

{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور} هو كتاب دواد عليه السلام وقيل هو اسمٌ لجنس ما أُنزل على الأنبياءِ عليهم السلامُ {مِن بَعْدِ الذكر} أي التوراةِ وقيل اللوحِ المحفوظ أي وبالله لقد كتبنا في كتاب داودَ بعد ما كتبنا في التوراة أو كتبنا في جميع الكتب المنزلة بعدما كتبنا وأثبتنا في اللوح المحفوظ {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون} أي عامةُ المؤمنين بعد إجلاءِ الكفار وهذا وعدٌ منه تعالى بإظهار الدينِ وإعزازِ أهلِه وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ المرادَ أرضُ الجنة كما ينبىء عنه قوله تعالى وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى صدقناه وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء وقيل الأرضُ المقدسة يرثها أمة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم

106

{إِنَّ فِى هذا} أي فيَما ذكرَ في السورةِ الكريمة من الأخبار والمواعظِ البالغة والوعدِ والوعيد والبراهينِ القاطعة الدالة على التوحيد وصحةِ النبوة {لبلاغا} أي كفايةً أو سببَ بلوغٍ إلى البُغية {لّقَوْمٍ عابدين} أي لقوم همهم

سورة الإنبياء (107 111) العبادةُ دون العادة

107

{وَمَا أرسلناك} بما ذكر وبأمثاله من الشرائع والأحكامِ وغيرُ ذلكَ من الأمورِ التي هي مناطٌ لسعادة الدارين {إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} هو في حيز النصبِ على أنه استثناءٌ من أعم العللِ أو من أعم الأحوال أيْ ما أرسلناك أذكر لعلة من العلل إلا برحمتنا الواسعةِ للعالمين قاطبةً أو ما أرسلناك في حالٍ من الأحوالِ إلا حال كونِك رحمةً لهم فإن لها بُعثتَ به سببٌ لسعادة الدارين ومنشأ لا نتظام مصالحهم في البشأتين ومن لم يغتنمْ مغانمَ آثارِه فإنما فرَّط في نفسه وحُرمةِ حقه لا أنه تعالى حَرَمه مما يُسعِده وقيل كونُه رحمةً في حق الكفار أمنُهم من الخسف والمسخِ والاستئصال حسبما ينطِق به قوله تعالى وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ

108

{قُلْ إِنَّمَا يوحى إِلَىَّ أنما إلهكم إله واحد} أي ما يُوحَى إليَّ إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحدٌ لأنه المقصودُ الأصليُّ من البعثة وأما ماعداه فمن الأحكام المتفرِّعة عليه فإنما الأولى لقصر الحُكم على الشيء كقولك إنما يقوم زيد أي ما يقوم إلا زيد والثانيةُ لقصر الشيءِ على الحكم كقولك إنما زبد قائم أي ليس له إلا صفةُ القيام {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} أي مخلِصون العبادةَ لله تعالى مخصِّصون لها به تعالى والفاءُ للدلالة على أن ما قبلها موجبٌ لما بعدها قالوا فيه دلالةٌ على أن صفةَ الوَحْدانية تصحّ أن يكون طريقُها السمعَ

109

{فَإِن تَوَلَّوْاْ} عن الإسلام ولم يلتفتوا إلى ما يوجبه من الوحي {فَقُلْ} لهم {آذنتكم} أي أعلمتُكم ما أُمرت به أو حربي لكم {على سواء} كائنتين على سواءٍ في الإعلام به لم أطْوِه عن أحد منكم أومستوين به أنا وأنتم في العلم بما أعلمتُكم به أو في المعادة أوإيذانا على سواء وقيل أعلمتكم أني على سواء أي عدلٍ واستقامة رأيٍ بالبرهان النيّر {وَإِنْ أَدْرِى} أي ما أدْرِي {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} من غلَبة المسلمين وظهورِ الدين أو الحشرُ مع كونه آتيالا محالة

110

{إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول} أي ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام وتكذيبِ الآياتِ التي من جملتها ما نطق بمجيء الموعود {وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} من الإحْن والأحقاد للمسلمين فيجازيكم عليه نقيراً أو قمطيرا

111

{وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ} أي ما أدري لعل تأخيرَ جزائِكم استدراجٌ لكم وزيادةٌ في افتتانكم أو امتحانٌ لكم لينظُرَ كيف تعملون {ومتاع إلى حِينٍ} أي وتمتُّعٌ لكم إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحكم البالغةِ ليكون ذلك حجةً عليكم

سورة الإنبياء (112)

112

{قَالَ رَبّ احكم بالحق} حكاية لدعائه صلى الله عليه وسلم وقرىء قلْ رب على صيغة الأمر أي اقضِ بيننا وبين أهل مكةَ بالعدل المقتضي لتعجيل العذابِ والتشديد عليهم وقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم حيث عذبوا بيد أيَّ تعذيبٍ وقرىء ربُّ احكم بضم الباء وربى أحكَمُ على صيغةِ التفضيل وربي أَحكِمْ من الإحكام {وَرَبُّنَا الرحمن} مبتدأ أي كثيرُ الرحمة على عباده وقوله تعالى {المستعان} أي المطلوبُ منه المعونة وخبر آخرُ للمبتدأ وإضافةُ الربِّ فيما سبق إلى ضميره صلى الله عليه وسلم خاصة لما أن الدعاءَ من الوظائف الخاصةِ به صلى الله عليه وسلم كما أن إضافته ههنا إلى ضمير الجمعِ المنتظمِ للمؤمنين أيضاً لما أن الاستعانةَ من الوظائف العامة لهم {على مَا تَصِفُونَ} من الحال فإنهم كانُوا يقولونَ إنْ الشوكةَ تكون لهم وإن رايةَ الإسلام تخفُق ثم تركُد وإن المتوعَّد به لو كان حقاً لنزل بِهِم إلى غير ذلكَ مما لا خيرَ فيها فاستجاب الله عزوجل دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم فخيب آمالَهم وغيّر أحوالَهم ونصر أولياءَه عليهم فأصابهم يومَ بدرٍ ما أصابهم والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله وقرىء يصفون بالياء التحتانية وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من قرأ اقترب حاسبه الله تعالى حسابا يسيروا وصافحه وسلم عليه كلُّ نبيَ ذُكر اسمُه في القرآن

سورة الحج (1 2) سورة الحج مدنية إلا الآيات 52 53 54 55 فبين مكة والمدينة وآياتها 78 {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

الحج

{يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ} خطابٌ يعم حكمه الملكفين عند النزول ومن سنتظم في سلكهم بعدُ من الموجودين القاصرين عن رتبةِ التكليفِ والحادثين بعدَ ذلك إلى يومِ القيامةِ وإنْ كان خطابُ المشافهةِ مختصًّا بالفريق الأولِ على الوجه الذي مرَّ تقريرُه في مطلعِ سورةِ النساءِ ولفظُ النَّاسِ ينتظمُ الذكورَ والإناثَ حقيقةً وأما صيغةُ جمعِ المذكورِ فواردةٌ على نهجِ التغليبِ لعدمِ تناولِها للإناثِ حقيقةً إلا عندَ الحنابلةِ والمأمورُ به مطلقُ التَّقوى الذي هو التجنبُ عن كلِّ ما يُؤثِّمُ من فعلٍ وتركٍ ويندرجُ فيه الإيمانِ بالله واليومِ الآخرِ حسبما وردَ به الشرعُ اندراجاً أولياً والتعرضُ لعنوانِ الربوبية المبئة عن المالكيةِ والتربيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطبينَ لتأييدا الأمرِ وتأكيدِ إيجابِ الامتثالِ به ترهيباً وترغيباً أي احذورا عقوبةَ مالكِ أمورِكم ومُربِّيكم وقولُه تعالى {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَىْء عَظِيمٌ} تعليلٌ لموجبِ الأمرِ بذكرِ بعضِ عقوباتِه الهائلةِ فإنَّ ملاحظةَ عِظَمِها وهولِها وفظاعةِ ما هيَ من مباديهِ ومقدماتِه من الأحوالِ والأهوالِ التي لا مَلْجأَ منها سوى التَّدرعِ بلباسِ التَّقوى مما يوجبُ مزيدَ الاعتناءِ بملابستِه وملازمتِه لا محالةَ والزلزلةُ التحريكُ الشديدُ والإزعاجُ العنيفُ بطريقِ التكريرِ بحيث يزيلُ الأشياءَ من مقارِّها ويُخرجُها عن مراكزِها وإضافتُها إلى الساعةِ إمَّا إضافةُ المصدرِ إلى فاعلِه على المجازِ الحكميِّ كأنَّها هي التي تزلزلُ الأشياءَ أو إضافتُه إلى الظَّرفِ إمَّا بإجرائِه مُجرى المفعولِ به اتساعاً أوبتقدير في كَما في قولِه تعالى بل مكر الليل والنهار وهي الزَّلزلةُ المذكورةُ في قولِه تعالى إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا عن الحسنِ أنَّها تكونُ يومَ القيامةِ وعن ابن عباس رضي الله عنهُمَا زلزلةُ السَّاعةِ قيامُها وعن علقمةَ والشَّعبيِّ أنَّها قبلَ طلوعِ الشَّمسِ من مغربِها فإضافتُها إلى الساعةِ حينئذٍ لكونِها من أشراطِها وفي التعبيرِ عنها بالشيءِ إيذانٌ بأنَّ العقولَ قاصِرةٌ عنْ إدراكِ كُنهِها والعبارةُ ضيقةٌ لا تحيطُ بها إلاَّ على وجهِ الإبهامِ وقوله تعالى

2

{يَوْمَ تَرَوْنَهَا} منتصبٌ بما بعدَهُ قُدِّم عليهِ اهتماما بهِ والضميرُ للزَّلزلةِ أي وقتَ رؤيتِكم إيَّاها ومشاهدتِكم لهولِ مطلعِها {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أي مباشرةٍ للإرضاعِ {عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي تغفلُ مع دهشةٍ عمَّا هيَ بصدد

سورة الحج (3) إرضاعِه من طفلِها الذي ألقمتْهُ ثديَها والتعبيرُ عنه بمَا دونِ مَنْ لتأكيدِ الذهولِ وكونِه بحيثُ لا يخطرُ ببالِها أنَّه ماذا لا أنها تعرف شيئته لكن لا تدري من هو بخصوصه وقيل مَا مصدريةٌ أي تذهلُ عنْ إرضاعِها والأولُ أدلُّ على شدةِ الهولِ وكمالِ الانزعاجِ وقُرَىءَ تُذهَل من الإذهالِ مبنياً للمفعولِ أو مبنياً للفاعلِ مع نصبِ كلُّ أي تُذهلها الزلزلةُ {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} أي تلقى جنيها لغيرِ تمامٍ كما أنَّ المرضعةَ تذهلُ عن ولدِها لغيرِ فطامٍ وهذا ظاهرٌ على قولِ علقمةَ والشَّعبيِّ وأمَّا على ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهُمَا فقدْ قيلَ إنَّه تمثيلٌ لتهويلِ الأمرِ وفيه أنَّ الأمرَ حينئذٍ أشدُّ من ذلكَ وأعظمُ وأهولُ ممَّا وُصفَ وأطمُّ وقيلَ إنَّ ذلكَ يكونُ عند النفخةِ الثَّانيةِ فإنَّهم يقومونَ على ما صُعقوا في النفخةِ الأولى فتقومُ المرضعةُ على إرضاعِها والحاملُ على حملِها ولا ريبَ في أنَّ قيامَ الناسِ من قبورِهم بعد النَّفخةِ الثَّانيةِ لا قبلَها حتى يتصورَ ما ذُكر {وَتَرَى الناس} بفتحِ التَّاءِ والرَّاءِ على خطاب كل أحد من المُخاطبينَ برؤيةِ الزَّلزلةِ والاختلافُ بالجمعيةِ والإفرادِ لِمَا أنَّ المرئيَّ في الأولِ هي الزلزلةُ التي يشاهدُهَا الجميعُ وفي الثَّاني حالُ مَن عَدَا المخاطبِ منهم فلا بدَّ من إفرادِ المخاطبِ على وجهٍ يعمُّ كل واحد منهم لكن من غيرِ اعتبارِ اتِّصافِه بتلكَ الحالةِ فإنَّ المرادَ بيانُ تأثيرِ الزَّلزلةِ في المرئيِّ لا في الرَّائي باختلافِ مشاعرِه لأنَّ مدارَه حيثيةُ رؤيتِه للزلزلةِ لا لغيرِها كأنَّه قيلَ ويصيرُ النَّاسُ سُكارى الخ وإنما أوثر عليهِ ما في التنزيلِ للإيذانِ بكمالِ ظهورِ تلك الحالةِ فيهم وبلوغِها من الجلاءِ إلى حدَ لا يكاد يخفى على أحدأى يراهم كلُّ أحدٍ {سكارى} أي كأنَّهم سُكارى {وَمَا هُم بسكارى} حقيقةً {ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} فيُرهقهم هولُه ويطيرُ عقولَهم ويَسلُبُ تمييزَهُم فهو الذي جعلَهم كما وُصفوا وقُرِىءَ تُرَى بضم التاء وفتح وقُرِىءَ برفعِ النَّاسَ على إسنادِ الفعلِ المجهولِ إليهِ والتأنيثُ على تأويلِ الجماعةِ وقرىء ترى بضم التاء وكسرِ الرَّاءِ أي تُرِي الزلزلةُ الخلقَ جميعَ الناسِ سُكارى وقُرِىءَ سَكْرى وسَكْرى كعطْشى وجَوْعى إجراءً للسُّكرِ مجرَى العللِ

3

{وَمِنَ الناس} كلامٌ مبتدأٌ جيءَ به إثرَ بيانِ عظيم شأنِ السَّاعةِ المُنبئةِ عن البعثِ بياناً لحالِ بعضِ المُنكرينَ لها ومحلُّ الجارِّ الرفع على الابتدأ إمَّا بحملِه على المعنى أو بتقديرِ ما يتعلَّقُ به كما مرَّ مراراً أي وبعضُ النَّاسِ أو وبعضٌ كائنٌ من النَّاس {مَن يجادل فِى الله} أي في شأنِه تعالى ويقول فيه مالا خيرَ فيه من الأباطيلِ وقوله تعالى {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حالٌ من ضمير يجادلُ موضحة لما يشعرُ بها المجادلة من الجهلِ أي مُلابساً بغيرِ علمٍ رُوي أنَّها نزلتْ في النضر بن الحرث وكان جَدَلاً يقولُ الملائكةُ بناتُ الله والقرآنُ أساطيرُ الأولينَ ولا بعثَ بعد الموتِ وهي عامَّة له ولأضرابِه من العُتاةِ المُتمرِّدين {وَيَتَّبِعْ} أي فيما يتعاطاهُ من المُجادلةِ أو في كلِّ ما يأتي وما يذرُ من الأمورِ الباطلةِ التي من جُمْلتِها ذلكَ {كُلَّ شيطان مَّرِيدٍ} عاتٍ متمرِّدٍ متجرِّدٍ للفسادِ وأصلُه العرى المنبىءعن التمخص له كالتِّشمرِ ولعله مأخوذٌ من تجرُّدِ المصارعينَ عند المُصارعة قال الزَّجَّاجُ المريدُ والماردُ المرتفعُ الأملسُ والمرادُ إمَّا رُؤساءُ الكَفَرةِ الذين يَدْعُون مَن دونَهُم إلى الكفرِ وإمَّا إبليسُ وجنودُه

سورة الحج (4 5) وقوله تعالى

4

{كُتِبَ عَلَيْهِ} أي على الشَّيطانِ صفة أخرى له وقوله تعالى {أَنَّهُ} فاعلُ كتبَ والضَّميرُ للشَّأنِ أي رُقم به لظهور ذلك من حاله أنَّ الشَّأنَ {مَن تَوَلاَّهُ} أي اتَّخذهُ وليًّا وتبعه {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} بالفتح على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ والجملة جوابُ الشرطِ إنْ جُعلت مَن شرطيةً وخبرٌ لها إنْ جُعلتْ موصولةً متضمنة لمعنى الشَّرطِ أي من تولاه فشأنه أنه يُضلَّه عن طريق الجنَّةِ أو طريق الحقِّ أو فحقٌّ أنَّه يُضلُّه قطعاً وقيل فإنَّه معطوفٌ على أنَّه وفيه من التَّعسفِ مالا يخفى وقيلَ وقيلَ ممَّا لا يخلو عن النمحل والتأويلِ وقُرىء فإنَّه بالكسرِ على أنَّه خبرٌ لمَن أو جوابٌ لها وقُرىء بالكسرِ فيهما على حكايةِ المكتوبِ كما هو مثلُ ما في قولِك كتبتُ إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدلِ والإحسانِ أو على إضمارِ القولِ أو تضمينِ الكتبِ معناهُ على رأيِ مَن يراهُ {وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير} بحملِه على مباشرةِ ما يُؤدِّي إليه من السيئات

5

{يا أَيُّهَا الناس} إثرَ ما حكى أحوالَ المُجادلين بغير علمٍ وأُشير إلى ما يؤول إليه أمرُهم أقيمتْ الحجة الدالة على تحقيق ما جادلوا فيه من البعثِ {إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ البعث} من إمكانه وكونه مقدروا له تعالى أو من وقوعِه وقُرىء من البَعَثِ بالتَّحريكِ كالجَلَبِ في الجَلْب والتعبيرُ عن اعتقادِهم في حقِّه بالرَّيبِ مع التَّنكيرِ المنبىءِ عن القلَّةِ مع أنَّهم جازمون باستحالتِه وإيرادِ كلمة الشَّكِّ مع تقررِ حالِهم في ذلك وإيثارِ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ عَلى أنْ يقالَ إنِ ارتبتُم في البعثِ فقد مَرَّ تحقيقُه في تفسيرِ قولِه تعالى وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا {فَإِنَّا خلقناكم} أي فانظُروا إلى مبدأ خلقِكم ليزولَ ريبُكم فإنَّا خلقناكُم أي خلقنا كلَّ فردٍ منكُم {مّن تُرَابٍ} في ضمن خلق آدمَ منه خلقاً إجماليًّا فإن خلق كلَّ فردٍ من أفراد البشر له خظ من خلقه عليه السلام إذا لم تكن فطرته الشريفة مقصورةً على نفسه بل كانت أُنموذَجاً منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبِعاً لجَرَيان آثارِها على الكل فكان خلقَه عليه السلامُ من الترابِ خلقا للكل منه كما مرَّ تحقيقُه مراراً {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} أي ثمَّ خلقناكُم خلقاً تفصيلياً من نُطفةٍ أي من منيَ من النَّطفِ الذي هو الصَّبُّ {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} أي قطعةٍ من الدَّمِ جامدةٍ متكوِّنةٍ من المنيِّ {ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ} أي من قطعة اللَّحمِ متكوِّنةٍ من العَلَقةِ وهي في الأصلِ مقدارُ ما يُمضغ {مُّخَلَّقَةٍ} بالجرِّ صفةُ مضغةٍ أي مستبينة الخلقِ مصوَّرةٍ {وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} أي لم يستبنْ خلقُها وصورتُها بعد والمرادُ تفصيلُ حالِ المضغةِ وكونُها أَوَّلاً قطعةً لم يظهرْ فيها شيءٌ

من الأعضاءِ ثمَّ ظهرتْ بعد ذلك شَيئاً فشَيئاً وكان مُقتضى التَّرتيبِ السَّابقِ المبنيِّ على التَّدرجِ من المبادىءِ البعيدةِ إلى القريبةِ أنْ يقدِّمَ غيرَ المخلَّقةِ على المخلَّقةِ وإنَّما أُخِّرتْ عنها لأنَّها عدمُ المَلَكةِ هذا وقد فُسِّرتَا بالمُسوَّاةِ وغيرِ المُسوَّاةِ وبالتَّامةِ والسَّاقطةِ وليس بذاكَ وفي جعلِ كل واحدةٍ من هذه المراتبِ مبدأً لخلقِهم لا لخلقِ ما بعدَها من المراتبِ كما في قولِه تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً الآيةَ مزيدُ دلالة على عظيمِ قدرتِه تعالى وكسرٍ لسَورةِ استبعادِهم {لّنُبَيّنَ لَكُمْ} متعلِّقٌ بخلقنا وتركُ المفعولِ لتفخيمِه كمًّا وكيفاً أي خلقناكُم على هذا النَّمطِ البديعِ لنبين لكم بذلك مالا تحصرُه العبارةُ من الحقائقِ والدَّقائقِ التي من جُملتها سرُّ البعثِ فإنَّ مَن تأمَّل فيما ذُكر من الخلقِ التدريجيِّ تأمُّلاً حقيقيًّا جزمَ جَزْماً ضروريًّا بأنَّ على خلق البشر أو لا من تراب لم يشَمَّ رائحةَ الحياةِ قَطُّ وإنشائِه على وجهٍ مصحِّحٌ لتوليدِ مثلِه مرَّةً بعد أُخرى بتصريفِه في أطوارِ الخلقةِ وتحويلِه منْ حالٍ إلى حالٍ مع ما بينَ تلك الأطوارِ والأحوالِ من المُخالفةِ والتَّباينِ فهو قادرٌ على إعادتِه بل هو أهو في القياسِ نظراً إلى الفاعلِ والقابلِ وقُرىء ليبيِّن بطريقِ الالتفاتِ وقولُه تعالى {وَنُقِرُّ فِى الأرحام مَا نَشَاء} استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ حالِهم بعد تمامِ خلقِهم وعدمُ نظمِ هذا وما عُطف عليه في سلكِ الخلق المعلل بالتبين مع كونِهما من متمماتِه ومن مبادي التَّبيين أيضاً لما أنَّ دلالةَ الأوَّلِ عَلى كمالِ قدرتِه تعالى على جميعِ المقدُورات التي منْ جُملتها البعثُ المبحوثُ عنه أجلى وأظهرُ أي ونحنُ نقرُّ في الأرحامِ بعد ذلك ما نشاءُ أن نقرَّه فيهَا {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو وقت الوضعِ وأدناهُ ستَّةُ أشهرٍ وأقصاهُ سنتانِ وقيل أربعُ سنين وفيه إشارةٌ إلى أنَّ بعضَ ما في الأرحامِ لا يشاءُ الله تعالى إقرارَه فيها بعد تكاملِ خلقِه فتسقطه والتَّعرضُ للإزلاقِ لا يُناسبُ المقامَ لأنَّ الكلامَ فيما جرى عليه أطوارُ الخلقِ وهذا صريحٌ في أنَّ المراد بغير المخلَّقةِ ليس من وُلدَ ناقصاً أو مَعيباً وأنَّ ما فُصِّل إلى هنا هو الأطوارُ المتواردةُ على المولودِ قبلَ الولادةِ وقُرىء يُقرُّ بالياءِ ونقُرُّ ويقُرُّ بضمِّ القافِ من قَررتَ الماءَ إذا أصببته {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ} أي من بطونِ أمَّهاتِكم بعد إقرارِكم فيها عند تمامِ الأجلِ المُسمَّى {طِفْلاً} أي حالَ كونِكم أطفالاً والإفرادُ باعتبارِ كلِّ واحدٍ منهم أو بإرادةِ الجنسِ المنتظمِ للواحدِ والمتعدِّدِ وقُرىء يُخرجكم بالياءِ وقولُه تعالى {ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أشدكم} علة لنجرجكم معطوفةٌ على علةٍ أخرى له مناسبة لها كأنه قيل ثمَّ نُخرجكم لتكبرُوا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والعقل والتَّمييزِ وقيل التَّقديرُ ثم تمهلكم لتبلغُوا الخ وما قيل إنَّه معطوفٌ على نبين مخل بجزالة النظم الكريم هذا وقد قرىء مما قبله من الفِعلينِ بالنَّصبِ حكايةً وغَيْبةً فهو حينئذٍ عطفٌ على نبين مثلهما والمعنى خلقناكُم على التَّدريجِ المذكورِ لغايتينِ مترتبتينِ عليه إحداهما ان نبين شئوننا والثَّانيةُ أنْ نُقرَّكم في الأرحامِ ثم نُخرجَكم صغاراً ثم لتبلغُوا أشدَّكم وتقديمُ التَّبيينِ على ما بعدَهُ مع أنَّ حصولَه بالفعلِ بعد الكل للإبذان بأنَّه غايةُ الغاياتِ ومقصودٌ بالذات وإعادة اللام ههنا مع تجريدِ الأَوَّلينِ عنها للإشعارِ بأصالتِه في الغرضيَّةِ بالنَّسبةِ إليهما إذْ عليه يدورُ التَّكليفُ المُؤدِّي إلى السَّعادةِ والشَّقاوةِ وإيثارُ البلوغِ مُسنداً إلى المخاطبينَ على التَّبليغِ مُسنداً إليه تعالى كالأفعال السابقة لأنَّه المناسبُ لبيانِ حالِ اتَّصافِهم بالكمالِ واستقلالِهم بمبدئيةِ الآثارِ والأفعالِ والأشُدُّ من ألفاظِ الجموعِ التي لم يستعمل لها واحد كالأسد والقَتُودِ وكأنَّها حين كانتْ شدَّةً في غيرِ شيءٍ بُنيتْ على لفظِ الجمعِ {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى} أي بعد بلوغ الأشد أو قبله

سورة الحج (6 7) وقُرىء يَتوفَّى مبنيًّا للفاعلِ أي يتوفَّاه الله تعالى {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمرِ} وهُو الهَرَمُ والخوف وقُرىء بسكونِ الميمِ وإيرادُ الردِّ والتَّوفِّي على صيغةِ المبنيِّ للمفعولِ للجَريِ على سنَنِ الكبرياءِ لتعيين الفاعلِ {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ} أي علمٍ كثيرٍ {شَيْئاً} أي شيئا من الأشياءِ أو شيئا من العلمِ مبالغةً في انتفاص علمه وانتكاس حاله أي ليعود إلى ما كان عليهِ في أوان الطفولية من ضعف البنية وسخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما علمِه ويُنكر ما عرفَهُ ويعجزُ عمَّا قدرَ عليه وفيهِ من التَّنبيهِ على صحة البعث مالا يخفَى {وَتَرَى الأرض هَامِدَةً} حجَّةٌ أُخرى على صحَّةِ البعثِ والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن يتأتى منه الرؤية وصيغة المضارع للدلالة على التَّجددِ والاستمرارِ وهي بصريةٌ وهامدةً حالٌ من الأرضِ أي ميِّتةً يابسةً من همدتِ النَّارُ إذَا صارتْ رَمَاداً {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء} أي المطرَ {اهتزت} تحرَّكتْ بالنَّباتِ {وَرَبَتْ} انتفختْ وازدادتْ وقُرىء ربأتْ أي ارتفعتْ {وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ} أي صنفٍ {بَهِيجٍ} حسنٍ رائقٍ يسرُّ ناظرَه

6

{ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق} كلامٌ مستأنَفٌ جيءَ به إثرَ تحقيقِ حقِّيةِ البعث وإقامةِ البُرهان عليه من العالَمينِ الإنسانيِّ والنباتيِّ لبيانِ أنَّ ذلك من آثارِ أُلوهيتِه تعالى وأحكامِ شئونه الذَّاتيةِ والوصفيةِ والفعليةِ وأنَّ ما ينكرون وجودَه بل إمكانه من إتيانِ السَّاعةِ والبعثِ من أسبابِ تلك الآثارِ العجيبةِ التي يُشاهدونها في الأنفس والآفاقِ ومبادي صدورِها عنه تعالى وفيه من الإيذن بقوة الدليل وأصله المدلول في التحقيق وإظهار بطلان إنكاره مالا يخفى فإنَّ إنكارَ تحقُّق السبب مع الجزم بتحقيق المُسبَّبِ ممَّا يَقْضي ببُطلانِه بديهةُ العقولِ والمرادُ بالحقِّ هو الثَّابتُ الذي يحِق ثبوتُه لا محالة لكونِه لذاتِه لا الثَّابتُ مطلقاً وَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما ذُكر من خلقِ الإنسانِ على أطوارٍ مختلفةٍ وتصريفِه في أحوالٍ مُتباينةٍ وإحياءِ الأراض بعد موتِها وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِه في الكمالِ وهومبتدأ خبرُه الجارُّ والمجرورُ أي ذلك الصُّنعُ البديع حاصلٌ بسبب أنَّه تعالى هو الحقُّ وحده في ذاتِه وصفاتِه وأفعالِه المحقِّقُ لما سواه من الأشياءِ {وَأنَهُ يحيي الموتى} أي شأنُه وعادته إحياؤُها وحاصلُه أنَّه تعالى قادر على إحيائها بدء وإعادةً وإلاَّ لما أحيا النطقة والأرضَ الميتةَ مراراً بعد مراروما تُفيده صيغةُ المضارعِ من التجدد إنما هوبإعتبار تعلق القدرة ومتعلها لا باعتبارِ نفسِها {وَأَنَّهُ على كل شىء قدير} أي مبالغٌ في القُدرةِ وإلاَّ لما أوجد هذه الموجودات القائتة للحصرِ التي من جُملتها ما ذُكر وأمَّا الاستدلالُ على ذلك بأنَّ قدرته تعالى لذاتِه الذي نسبته إلى الكلِّ سواءٌ فلمَّا دلَّتِ المشاهدةُ على قدرتِه على إحياءِ بعض الأمواتِ لزم اقتدارُه على إحياءِ كلها فمنشأة الغفول عما سيق له النَّظمُ الكريمُ من بيانِ كون الآثار الخاتمة المذكورةِ من فروعِ القُدرةِ العامة اللامة ومسبَّباتِها وتخصيصُ إحياءِ الموتى بالذكر مع كونه من جُملةِ الأشياءِ المقدُورِ عليها للتَّصريحِ بما فيه النِّزاعُ والدفع في نحور المنكرينَ وتقديمُه لإبرازِ الاعتناءِ به

7

{وأن الساعة آتية} أي فيما سيأتي وإيثارُ صيغةِ الفاعلِ على الفعلِ للدلالة على تحقيق إتيانِها وتقرره البتةَ لاقتضاءِ الحكمة إيَّاه لا محالةَ وتعليله بأنَّ التَّغيُّرِ من مقدمات الانصرامِ وطلائعِه مبنيٌّ على ما ذكر من الغفولِ وقولُه تعالَى {لاَ رَيْبَ فيهِ} إما خبر

سورة الحج (8 7) ثان ى ن أو حالٌ من ضميرِ السَّاعةِ في الخبرِ ومعنى نفيِ الرَّيبِ عنها أنَّها فى ظهور أمرها ووضوح دلائلِها التَّكوينيَّةِ والتَّنزيليَّةِ بحيثُ ليس فيها مظنةُ أنْ يُرتاب في إتيانِها حسبما مرَّ في مطلعِ سورةِ البقرةِ والجملةُ عطفٌ على المجرورِ بالباء كما قبلها من الجُملتينِ داخلةٌ مثلهما في حيِّزِ السَّببيةِ وكذا قولُه عزَّ وجلَّ {وَإِن الله يبعث مَنْ فى القبور} لكنْ لا من حيثُ أن إتيانَ السَّاعةِ وبعثَ الموتى مؤثِّرانِ فيما ذكر من أفاعليه تعالى تأثيرَ القُدرة فيها بل من حيثُ إنَّ كُلاًّ منهما سببٌ داعٍ له عزَّ وجلَّ بموجبِ رأفتِه بالعبادِ المبنيَّةِ على الحكمِ البالغةِ إلى ما ذُكرَ من خلقِهم ومن إحياءِ الأرضِ الميتة على نمطٍ بديعٍ صالحٍ للاستشهادِ به على مكانِهما ليتأمَّلوا في ذلكَ ويستدلُّوا به على وقوعِهما لا محالة ويصدقوا بمَا ينطق بهما من الوحيِ المُبينِ وينالُوا به السَّعادةَ الأبديَّةَ ولولا ذلكَ لما فعل تعالى ما فعل بل لما خلق العالم رأساً وهذا كما تَرَى من أحكام حقيته تعالى فى أفعاله وابتنائها على الحكم الباهرةِ كما أنَّ ما قبلَهُ من أحكام حقِّيته تعالى في صفاتِه وكونها في غايةِ الكمالِ وقد جُعل إتيانُ السَّاعةِ وبعث مَنْ في القبورِ لكونهما من روادفِ الحكمةِ كناية عن كونِه تعالى حكيماً كأنَّه قيل ذلك بسببِ أنَّه تعالى قادرٌ على إحياءِ المَوْتى وعلى كلِّ مقدورٍ وأنَّه حكيمٌ لا يُخلف ميعادَه وقد وُعد بالسَّاعةِ والبعث فلا بُدَّ أنْ ينفى بما وعد وأنتَ خبيرٌ بأن مآله الاستدلالُ بحكمته تعالى على إتيان السَّاعة والبعثِ وليس الكلامُ في ذلكَ بل إنَّما هُو فى سببيتها لما مرَّ من خلقِ الإنسان وإحياء الارض فنأمل وكن على الحق المبين وقيل قوله تعالى وَإِنَّ الساعة آتية ليس معطُوفاً على المجرورِ بالياء ولا داخلاً في حيِّز السببية بل هو خبرٌ والمبتدأ محذوفٌ لفهم المَعْنى والتَّقديرُ والأمرُ أنَّ السَّاعةَ آتيةٌ وأنَّ الثَّانيةَ معطوفةٌ على الاول وقيل المَعْنى ذلك لتعلمُوا بأن الله هو الحق الآيتين

8

{وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله} هو أبُو جهلٍ بنُ هشامٍ حسبَما روي عن ابن عباس رضى الله عنهما وقيل هُو من يتصدَّى لإضلالِ النَّاسِ وإغوائِهم كائناً مَنْ كان كما أنَّ الأولَ من يُقلدهم على أنَّ الشَّيطانَ عبارةٌ عن المضلِّ المُغوي على الإطلاقِ {بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ضمير يجادلُ أي كائناً بغيرِ علم والمراد بالعلم العلم الضروري كماأن المرادَ بالهُدى في قوله قوله تعالى {وَلاَ هُدًى} هو الاستدلالُ والنَّظرُ الصَّحيحُ الهادي إلى المعرفةِ {وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ} وحي مظهرٍ للحقِّ أي يجادل في شأنِه تعالى من غير تمسُّكٍ بمقدِّمةٍ ضروريةٍ ولا بحجَّةٍ نظريةٍ ولا ببرهانٍ سمعيَ كما في قوله تعالى وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا وماليس لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وأما ما قيل من أن المراد به المجادلة الأوَّلُ والتَّكريرُ للتَّأكيدِ والتَّمهيدِ لما بعدَهُ من بيانِ أنه لاسند له من استدلالٍ أو وحيٍ فلا يُساعدُه النظمُ الكريمُ كيفَ لا وإنَّ وصفَه باتِّباعِ كلِّ شيطانٍ موصوفٍ بما ذُكر يُغني عن وصفِه بالعراءِ عن الدَّليلِ العقليِّ والسِّمعيِّ

9

{ثَانِىَ عِطْفِهِ} حالٌ أخرى من فاعلِ يُجادل أي عاطفاً لجانبه وطاوياً كَشْحَه مُعرضاً متكبِّراً فإنَّ ثنْيَ العطف كناية عن

سورة الحج (10 11) التَّكبُّرِ وقُرىء بفتحِ العينِ أي مانعاً لتعطُّفِه {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} متعلِّقٌ بيجادلُ فإنَّ غرضَه الإضلالُ عنه وإن لم يعترفْ بأنَّه إضلالٌ والمرادُ به إمَّا الإخراجُ من الهُدى إلى الضَّلالِ فالمفعولُ مَن يُجادلُه من المؤمنينَ أَو النَّاس جميعاً بتغليب المؤمنين على غيرِهم وإمَّا التَّثبيتُ على الضَّلالِ أو الزِّيادةُ عليه مجازاً فالمفعولُ هم الكفرةُ خاصَّةً وقُرىء بفتح الياءِ وجُعل ضلالُه غايةً لجدالِه من حيثُ إنَّ المرادَ به الضَّلالُ المبينُ الذي لا هدايةَ له بعدَهُ مع تمكُّنِه منها قبلَ ذلك {لَهُ فِى الدنيا خِزْىٌ} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيانِ نتيجةِ ما سلكَه من الطَّريقةِ أي يثبُت له في الدُّنيا بسببِ ما فعله خزيٌ وهُو ما أصابَه يومَ بدرٍ من القتلِ والصَّغَارِ {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق} أي النَّارِ المُحرقةَ

10

{ذلك} أي ما ذكر من العذابِ الدنيويِّ والأُخرويِّ وما فيه من معنى البعد للإيذان بكونه في الغايةِ القاصيةِ من الهول والفظاعةِ وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أي بسببِ ما اقترفتَهُ من الكفرِ والمعاصِي وإسنادُه إلى يديهِ لما أنَّ الاكتسابَ عادةً يكونُ بالأيدي والالتفاتُ لتأكيدِ الوعيدِ وتشديدِ التَّهديدِ ومحلُّ أنَّ في قوله عز وعلا {وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} الرفعُ على أنَّه خبر مبتدأ محذوف أي والأمرُ أنَّه تعالى ليس بمعذِّب لعبيدِه بغيرِ ذنبٍ منْ قِبلهم والتعبيرُ عن ذلك بنفيِ الظلمِ معَ أنَّ تعذيبَهم بغيرِ ذنبٍ ليس بظُلمٍ قطعاً على ما نقرر من قاعدة أهلِ السنة فضلا عن كونه ظالما بالغاً قد مرَّ تحقيقُه في سورة آل عمران والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضون ما قبلها وأمَّا ما قيلَ من أنَّ محلَّ أنَّ هُو الجرُّ بالعطفِ على ما قدمتْ فقد عرفتَ حالَه في سورة الأنفال

11

{وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ} شروعٌ فى بيان المُذبذبين إثرَ بيانِ حالِ المُجاهرين أي ومنهُم من يعبده تعالى على طَرَفٍ من الدِّين لاثبات له فيه كالَّذي ينحرفُ إلى طَرَفِ الجيشِ فإنْ أحسَّ بظَفَرٍ قَرَّ وإلا فَرَّ {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} أي دنيويٌّ من الصَّحَّةِ والسَّعةِ {اطمأن بِهِ} أي ثبتَ على ما كانَ عليه ظاهرا ألا أنَّه اطمأنَّ به اطمئنانَ المُؤمنينَ الذينَ لا يَلويهم عنه صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} أي شيءٌ يُفتتنُ به من مكروهٍ يعتريهِ في نفسِه أو أهلِه أو مالِه {انقلب على وَجْهِهِ} رُوِيَ أنَّها نزلتْ في أعاريبَ قدمُوا المدينةَ وكانَ أحدُهم إذَا صحَّ بدنُه ونُتجتْ فرسُه مُهراً سَرِيًّا وولدتِ امرأتُه ولداً سَويًّا وكثُر مالُه وماشيتُه قال ما أصبتُ منذُ دخلتُ في ديني هذا إلاَّ خَيْراً واطمأنَّ وإن كانَ الأمرُ بخلافِه قال ما أصبتُ إلاَّ شرًّا وانقلبَ وعن أبي سعيدٍ الخدريُّ رضيَ الله عنه إن يهُوديًّا أسلمَ فأصابتْهُ مصائبُ فتشاءَم بالإسلامِ فأتَى النبيَّ صلَّى الله عليهِ وسلم فقال أقلنى فقال صلى الله عليه وسلم إنَّ الإسلامَ لا يُقال فنزلت وقيل نزلت في المؤلَّفةِ قلوبُهم {خَسِرَ الدنيا والأخرة} فقدَهُما وضيَّعهما بذهابِ عصمتِه وحبوطِ عملِه بالارتدادِ وقُرىء خاسرَ بالنَّصبِ على الحالِ والرَّفعُ على الفاعليةِ ووضع موضع الضمير

سورة الحج (12 14) تنصيصاً على خُسرانِه أو على أنَّه خبرٌ مبتدأ محذوفٍ {ذلك} أي ما ذُكر من الخُسران وما فيه من معنى البعد للإيذانِ بكونه في غايةِ ما يكونُ {هُوَ الخسران المبين} الواضحُ كونُه خُسراناً إذا لا خُسرانَ مثله

12

{يَدْعُو مِن دُونِ الله} استئنافٌ مبيِّنٌ لعِظم الخُسرانِ أي يعبد مُتجاوزاً عبادةَ الله تعالى {مَا لاَ يَضُرُّهُ} إذا لم يعبدْهُ {وَمَا لاَ يَنفَعُهُ} إنْ عبدَهُ أي جماداً ليسَ من شأنه الضرُّ والنفع كما يُلوِّحُ به تكريرُ كلمةِ ما {ذلك} الدُّعاءُ {هُوَ الضلال البعيد} عن الحقِّ والهُدى مستعارٌ من ضلالِ مَن أبعدَ في التَّيهِ ضالاًّ عن الطَّريقِ

13

{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} استئنافٌ مسوق لبيانِ مآلِ دُعائِه المذكورِ وتقريرِ كونِه ضلالاً بعيداً مع إزاحةِ ما عسى يُتوهَّمُ من نفيِ الضَّررِ عن معبودِه بطريقِ المباشرةِ نفيه عنه بطريق التسبب أيضاً فالدُّعاءُ بمعنى القول واللاَّمُ داخلةٌ على الجملة الواقعةِ مقولاً له ومَن مبتدأٌ وضرُّه مبتدأٌ ثانٍ خبرُه أقربُ والجملة صلة للمبتدأ الأوَّلِ وقوله تعالى {لبئس المولى ولبئس العشير} جوابٌ لقسم مقدَّرٍ هو وجوابه خبرٌ للمبتدأ الأولِ وإيثارُ مَن على مَا مع كون معبودِه جماداً وإيرادُ صيغةِ التفضيلِ معَ خلوِّه عن النَّفع بالمرَّةِ للمبالغة في تقبيح حاله والإمعانِ في ذمِّه أي يقول ذلك الكافرُ يوم القيامةِ بدعاء وصُراخٍ حين يرى تضرُّرَه بمعبوده ودخولَه النَّارَ بسببه ولا يرى منه أثرَ النَّفعِ أصلاً لمن ضره أقرب من نفعه والله لبئسَ النَّاصرُ هو ولبئسَ الصَّاحبُ هو فكيف بما هو ضررٌ محضٌ عارٍ عن النَّفعِ بالكلِّيةِ ويجوزُ أن يكون يدعُو الثَّاني إعادةً للأولِ لا تأكيد له فقط بل وتمهيداً لما بعدَهُ من بيانِ سوءِ حالِ معبودِه إثرَ بيانِ سوءِ حالِ عبادتِه بقوله تعالى ذلك هُوَ الضلال البعيد كأنَّه قيلَ من جهتِه تعالى بعد ذكر عبادتِه لما لا يضرُّه ولا ينفعُه يدعو ذلك ثم قيلَ لمَن ضره أقرب من نفعه والله لبئسَ المَوْلى ولبئس العَشيرُ فكلمة مَن وصيغةُ التَّفضيلِ للتهكُّمِ به وقيل اللاَّمُ زائدةٌ ومَنْ مفعول يدعو ويؤيده القراء بغير لامٍ أي يعبد من ضره أقربُ من نفعه وإيراد كلمةِ مَن وصيغة التَّفضيلِ تهكُّمٌ به أيضاً والجملة القسميةُ مستأنفة

14

{إِنَّ الله يُدْخِلُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جنات} استئنافٌ جيء به لبيان كمال حسنِ حالِ المؤمنينَ العابدينَ له تعالى وأنَّ الله عزَّ وجلَّ يتفضَّل عليهم بما لا غايةَ وراءه من أجلِّ المنافعِ وأعظمِ الخيراتِ إثرَ بيانِ غايةِ سوءِ حالِ الكفرةِ ومآلِهم من فريقَيْ المجاهرينَ والمذبذبينَ وأنَّ معبودَهم لا يُجديهم شيئاً من النَّفع بل يضرُّهم مضرَّةً عظيمةً وأنَّهم يعترفون بسوءِ ولايتِه وعشرتِه ويذمونه مذمة عامة وقوله تعالى {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} صفة لجنَّاتٍ فإن أُريد بها الأشجارُ المتكاثقة السائرة لما تحتها فجريانُ الأنهارِ من تحتها ظاهرٌ وإنْ أُريد بها الأرضُ فلا بُدَّ من تقدير مضافٍ

سورة الحج (15 16) أي من تحت أشجارِها وإن جُعلت عبارةً عن مجموعُ الأرضِ والأشجارِ فاعتبارُ التَّحتيَّةِ بالنَّظرِ إلى الجزءِ الظاهِرِ المصحِّح لإطلاقِ اسمِ الجنَّةِ على الكلِّ كما مر تفصيله في أوائل سورةِ البقرةِ وقوله تعالى {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} تعليلٌ لما قبلَه وتقريرٌ له بطريقِ التَّحقيقِ أي يفعلُ البتة كلَّ ما يريدُه من الأفعالِ المتقنةِ اللاَّئقةِ المبنيَّةِ على الحكمِ الرَّائقةِ التي من جُملتها إثابةُ مَن آمنَ به وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقابُ مَن أشركَ به وكذب برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم ولمَّا كانَ هذا من آثارِ نُصرته تعالى له صلى الله عليه وسلم عُقِّب بقولِه عزَّ وعلا

15

{مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِى الدنيا والأخرة} تحقيقاً لها وتقريراً لثبوتها على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه وفيه إيجازٌ بارعٌ واختصارٌ رائعٌ والمعنى أنَّه تعالى ناصرٌ لرسوله في الدنيا والآخرة لا محالة من غير صارف بلويه ولا عاطفٍ يَثنيه فمن كانَ يغيظُه ذلك من أعاديهِ وحُسَّادِه ويظنُّ أنْ لَنْ يفعله تعالى بسببِ مدافعتِه ببعضِ الأمورِ ومباشرة ما يردُّه من المكايد فليبالغْ في استفراغِ المجهودِ وليجاوزْ في الجِد كلَّ حدَ معهودٍ فقُصارى أمرِه وعاقبةِ مكرِه أنْ يختنقَ حنقاً ممَّا يرى من ضلالِ مساعيهِ وعدمِ إنتاجِ مقدِّماتِه ومباديهِ {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء} فليمدُدْ حبلاً إلى سقفِ بيتِه {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} أي ليختنقْ من قطَع إذا اختنقَ لأنَّه يقطع نفَسَه بحبسِ مجاريهِ وقيل ليطع الحبلَ بعد الاختناقِ على أنَّ المرادَ به فرضُ القطعِ وتقديرُه كما أنَّ المرادَ بالنَّظرِ في قوله تعالى {فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} تقديرُ النَّظر وتصويرُه أي فليصوِّر في نفسِه النَّظرَ هل يُذهبنَّ كيدُه ذلك الذي هو أقصى ما انتهتْ إليه قدرتُه في باب المُضادَّةِ والمُضارَّةِ ما يغيظه من النُّصرةِ كلا ويجوز أنْ يُراد فلينظر الآنَ أنَّه إنْ فعلَ ذلك هَلْ يُذهب ما يغيظُه وقيل المعنى فليمدُدْ حبلاً إلى السَّماءِ المُظِلَّةِ وليصعدْ عليه ثم ليقطعْ الوحيَ وقيل ليقطعَ المسافةَ حتَّى يبلغَ عنانَها فيجتهدَ في دفعِ نصرِه ويأباهُ أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ بيانُ أنَّ الأمورَ المفروضةَ على تقديرِ وقوعِها وتحقُّقِها بمعزلٍ من إذهابِ ما يغيظُ ومن البيِّنِ أنْ لا معنى لفرضِ وقوعِ الأمورِ الممتنعةِ وترتيبِ الأمرِ بالنَّظرِ عليه لاسيما قطعُ الوحيِ فإنَّ فرضَ وقوعِه مخلٌّ بالمرامِ قطعاً وقيل كان قوم من المسلمينَ لشدَّةِ غيظِهم وحنقِهم على المُشركين يستبطئونَ ما وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من النَّصرِ وآخرون من المشركين يريدون اتباعه صلى الله عليه وسلم ويخشَون أنْ لا يثبت أمرُه فنزلتْ وقد فسِّر النَّصرُ بالرِّزق فالمعنى أنَّ الرزاق بيدِ الله تعالى لا تُنال إلاَّ بمشيئتِه تعالى فلا بُدَّ للعبدِ من الرِّضا بقسمتِه فمن ظنَّ أنَّ الله تعالى غيرُ رازقِه ولم يصبرْ ولم يستسلمْ فليبلغ غايةَ الجزعِ وهو الاختناقُ فإنَّ ذلكَ لا يغلبُ القسمةَ ولا يردُّه مرزوقاً

16

{وكذلك} أي مثلَ ذلك الإنزالِ البديعِ المنطوي على الحِكَم البالغةِ {أنزلناه} أي القرآنَ الكريمَ كلَّه وقوله تعالى {آيات بينات} أي واضحاتِ الدلالة على معانيها الرَّائقةِ حالٌ من الضَّميرِ المنصوبِ مبينةٍ لما أُشير إليه بذلك {وَأَنَّ الله يَهْدِى} به ابتداءً أو يثبِّت على الهُدى أو يزيدُ فيه {من يريد} هدايته

سورة الحج (17 18) أو تثبيتَه أو زيادتَه فيها ومحلُّ الجملةِ إمَّا الجرُّ على حذف الجارِّ المتعلق بمحذوفٍ مؤخَّرٍ أي ولأنَّ الله يهدي من يريد أنزلَه كذلك أو الرفعُ عَلى أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي والأمرُ أنَّ الله يهدي من يريد هدايته

17

{إن الذين آمنوا} أي بما ذُكر من الآياتِ البيِّناتِ بهدايةِ الله تعالى أو بكلِّ ما يجبُ أنْ يُؤمَنَ به فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أوليًّا {والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس} قيل هم قوم يعبدون النَّارَ وقيل الشَّمسَ والقمرَ وقيل هم قومٌ من النَّصارى اعتزلُوا عنهم ولبسوا المُسوح وقيل أخذُوا من دين النَّصارى شيئاً ومن دين اليَّهودِ شيئاً وهم القائلون بأنَّ للعالم أصلينِ نوراً وظلمة {والذين أَشْرَكُواْ} هم عَبَدة الأصنامِ وقوله تعالى {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} في حيِّز الرفع على أنه خبر لإنَّ السَّابقةِ وتصدير طرفَيْ الجملتين بحرفِ التَّحقيق لزيادة التقرير والتَّأكيدِ أي يقضي بين المؤمنينَ وبين الفرقِ الخمسِ المنفقة على ملَّةِ الكُفرِ بإظهار المحقِّ من المبطل وتوفيةِ كلَ منهما حقَّهُ من الجزاء بإثابة الأوَّلِ وعقاب الثَّاني بحسب استحقاقِ أفراد كلَ منهما وقوله تعالى {إِنَّ الله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ} تعليل لما قبله من الفصل أي عالمٌ بِكُلّ شَيْء من الأشياء ومراقبٌ لأحواله ومن قضيَّتِه الإحاطةُ بتفاصيل ما صدرَ عن كلَّ فردٍ من أفراد الفرق المذكورةِ وإجراءُ جزائه اللاَّئقِ به عليه وقوله تعالى

18

{أَلَمْ تَر أنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن في السماوات وَمَن فِى الأرض} الخ بيان لما يُوجب الفصلَ المذكور من أعمال الفرقِ المذكورةِ مع الإشارةِ إلى كيفيَّتِه وكونه بطريقِ التَّعذيبِ والإثابة والإكرام والإهانة إثرَ بيان ما يُوجبه من كونِه تعالى شهيداً على جميع الأشياء التي من جُملتها أحوالُهم وأفعالُهم والمراد بالرُّؤيةِ العلم عبَّر عنه بها إشعار بظهورِ المعلوم والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن يتأتى منه الرُّؤيةُ بناء على أنَّه من الجلاءِ بحيثُ لا يَخْفى على أحدٍ والمرادُ بالسُّجودِ هو الانقيادُ التَّامُّ لتدبيره تعالى بطريق الاستعارةِ المبنية على تشبهه بأكمل أفعالِ المكلَّفِ في باب الطَّاعةِ إيذاناً بكونه في أقصى مراتب التَّسخُّرِ والتَّذلُّلِ لا سجودُ الطَّاعةِ الخاصَّةِ بالعُقلاءِ سواءٌ جُعلتْ كلمةُ من عامةً لغيرهم أيضاً وهو الأنسبُ بالمقام لإفادته شمولَ الحكم لكلِّ ما فيهما بطريقِ القرارِ فيهما أو بطريق الجُزئيَّةِ منهما فيكون قوله تعالى {والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب} إفراداً لها بالذِّكرِ لشُهرتِها واستبعادِ ذلك منها عادة أوجعلت خاصَّةً بالعقلاء لعدم شمول سجود الطَّاعةِ لكلِّهم حسبما ينبيء عنه قوله تعالى {وَكَثِيرٌ مّنَ الناس} فإنَّه مرتفعٌ بفعل مُضمر يدلُّ عليه المذكورُ أي ويسجدُ له كثيرٌ من النَّاسِ سجود

سورة الحج (19 21) طاعةٍ وعبادةٍ ومن قضيَّتِه انتفاءُ ذلك عن بعضِهم وقيل هو مرفوعٌ على الابتداء حُذف خبرُه ثقةً بدلالة خبر قسيمه عليه نحو حقَّ له الثَّوابُ والأوَّلُ هو الأَولى لما فيه من التَّرغيبِ في السُّجودِ والطَّاعةِ وقد جُوِّز أنْ يكونَ من النَّاسِ خبراً له أي من النَّاسِ الذين هم النَّاسُ على الحقيقةِ وهم الصَّالحون والمتَّقون وأنْ يكون قوله تعالى {وَكَثِيرٌ} معطوفاً على كثيرٌ الأول للإيذانِ بغاية الكثرةِ ثم يخبر عنهم باستحقاقِ العذابِ كأنَّه قيل وكثير وكثيرٌ من النَّاسِ {حَقَّ عَلَيْهِ العذاب} أي بكفرِه واستعصائه وقرئ حُقَّ بالضمِّ وحقًّا أي حقَّ عليه العذابُ حقًّا {وَمَن يُهِنِ الله} بأن كتبَ عليه الشَّقاوةَ حسبما علمه من صرفِ اختياره إلى الشرِّ {فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} يُكرمه بالسَّعادةِ وقرئ بفتح الراء على أنه مصدرٌ ميميٌّ {إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء} من الأشياء التي من جملنها الإكرامُ والإهانةُ

19

{هذان} تعيينٌ لطرفَيْ الخصامِ وإزاحة لما عسى يتبادرُ إلى الوهمِ من كونِه بين كل واحدةٍ من الفرقِ الستِّ وبين البواقي وتحريرٌ لمحلِّه أي فريق المؤمنينَ وفريقُ الكفرة المقسم إلى الفرقِ الخمسِ {خَصْمَانِ} أي فريقانِ مختصمانِ وإنما قيل {اختصموا فِى رَبّهِمْ} حملاً على المعنى أي اختصمُوا في شأنِه عزَّ وجلَّ وقيل في دينه وقيل في ذاته وصفاته والكّل من شئونه تعالى فإنَّ اعتقادَ كلَ من الفريقينِ بحقيَّةِ ما هُو عليه وبُطلانِ ما عليه صاحبُه وبناءَ أقوالِه وأفعالِه عليه خصومةٌ للفريقِ الآخرِ وإنْ لم يجرِ بينهما التَّحاورُ والخصامُ وقيل تخاصمتِ اليَّهودُ والمؤمنونَ فقالتِ اليَّهودُ نحنُ أحقُّ بالله وأقدمُ منكم كتاباً ونبيُّنا قبل نبيِّكم وقال المؤمنون نحنُ أحقُّ بالله منكُم آمنا بمحمد ونبيكم وبما أَنزل الله من كتابٍ وأنتمُ تعرفون كتابَنا ونبيَّنا ثم كفرتُم به حسداً فنزلت {فالذين كَفَرُواْ} تفصيلٍ لَما أُجمل في قوله تعالى يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة {قُطّعَتْ لَهُمْ} أي قُدِّرت على مقاديرِ جثثهم وقرئ بالتَّخفيفِ {ثِيَابٌ مّن نَّارِ} أي نيرانٍ هائلةٍ تحيطُ بهم إحاطةَ الثِّيابِ بلابسِها {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الحميم} أي الماءُ الحارُّ الذي انتهتْ حرارتُه قال ابن عباس رضي الله عنهما لو قطرت قطرةٌ منها على جبال الدُّنيا لأذابتَها والجملةُ مستأنفةٌ أو خبرٌ ثانٍ للموصولِ أو حالٌ من ضميرِ لهم

20

{يُصْهَرُ بِهِ} أي يُذاب {مَا فِى بُطُونِهِمْ} من الأمعاء والأحشاء وقرئ يُصهَّر بالتَّشديدِ {والجلود} عطف على مَا وتأخيرُه عنه إمَّا لمراعاة الفواصلِ أو للإشعارِ بغاية شدَّةِ الحرارةِ بإيهامِ أنَّ تأثيرَها في الباطنِ أقدمُ من تأثيرِها في الظَّاهرِ مع أنَّ ملابستَها على العكسِ والجملةُ حالٌ من الحميمُ

21

{وَلَهُمْ} للكفرةِ أي لتعذيبهم وأجلِهم {مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} جمع مِقْمعةٍ وهي آلةُ القمعِ

22

{كلما أرادوا أن يخرجوا مِنْهَا} أي أشرفُوا على

سورة الحج (23 25) الخروجِ من النَّار ودَنَوا منه حسبما يُروى أنَّها تضربُهم بلهيبها فترفعُهم حتَّى إذا كانُوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهروا فيها سبعينَ خريفاً {مِنْ غَمّ} أي من غمَ شديدٍ من غمومِها وهو بدلُ اشتمالٍ من الهاء بإعادة الجارِّ والرابط محذوفٌ كمَا أُشير إليهِ أو مفعولٌ له للخروج {أُعِيدُواْ فِيهَا} أي في قعرِها بأنْ رُدُّوا من أعاليها إلى أسافلِها من غيرِ أنْ يُخرجوا منها {وَذُوقُواْ} على تقدير قولٍ معطوفٍ على أعيدوا أي وقيل لهم ذُوقُواْ {عَذَابَ الحريق} أي الغليظَ من النَّارِ المنتشر العظيم الإهلاك

23

{إِنَّ الله يُدْخِلُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} بيانٌ لحسنِ حالِ المُؤمنين إثرَ بيانُ سوءِ حالِ الكفرةِ وقد غير الأسلوب فيها بإسناد الإدخالِ إلى الله عزَّ وجلَّ وتصديرُ الجملة بحرفِ التَّحقيقِ إيذاناً بكمال مباينةِ حالِهم لحالِ الكفرةِ وإظهاراً لمزيدِ العنايةِ بأمرِ المؤمنين ودلالة على تحقق مضمونِ الكلام {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} على البناء للمفعولِ بالتَّشديدِ من التحلية وقرئ بالتَّخفيفِ من الإحلاءِ بمعنى الإلباسِ أي يُحلِّيهم الملائكةُ بامره تعالى وقرئ يُحلَّون من حليةِ المرأةِ إذا لبستْ حِليتَها ومِنْ في قولِه تعالَى {من أَسَاوِرَ} إما للتبعيضِ أي بعضِ أساورَ وهي جمع أَسْوِرةٍ جمع سِوارٍ أو للبيانِ لِما أنَّ ذكرَ التحلية مما ينبئ عن الحلى المبهمِ وقيل زائدةٌ وقيل نعتٌ لمفعولٍ محذوفٍ ليحلون فإنَّه بمعنى يلبسون {مّن ذَهَبٍ} بيانٌ للأساورِ {وَلُؤْلُؤاً} عطفٌ على محلِّ من أساورَ أو على المفعولِ المحذوفِ أو منصوبٌ بفعل مضمرٍ يدلُّ عليه يحلون أي يُؤتون وقُرىء بالجرِّ عطفا على أساور وقرئ لؤلؤاً بقلب الهمزة الثَّانيةِ واواً ولولياً بقلبها ياءً بعد قلبهما واواً وليليا بقلبهما ياءً {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} غُيِّر الأسلوبُ حيثُ لم يقُلْ ويلبسون فيها حريراً لكن لا للدِّلالةِ على أنَّ الحريرَ ثيابُهم المعتادة أو لمجرَّدِ المحافظةِ على هيئةِ الفواصلِ بل للإيذانِ بأن ثبوت اللباسِ لهم أمرٌ محققٌ غنيٌّ عن البيان إذ لا يمكن عراؤهم عنْهُ وإنَّما المحتاجُ إلى البيانِ أنَّ لباسَهم ماذا بخلافِ الأساورِ واللؤلؤ فإنَّها ليستْ من اللَّوازمِ الضَّروريَّةِ فجعل بيان تحليتهم بها مقصوداً بالذَّاتِ ولعلَّ هذا هو الباعثُ لى تقديمِ بيانِ التَّحليةِ على بيانِ حالِ اللِّباس

24

{وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول} وهو قولُهم الحمد لله الذى صدقنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ من الجنة الآيةَ {وَهُدُواْ إلى صراط الحميد} أي المحمودِ نفسُه أو عاقبتُه وهو الجنة ووجه تأخير هذه الهداية عن ذكر الهداية إلى القول المذكور المتأخر عن دخول الجنة المتأخر عن الهداية إلى طريقها لرعاية الفواصل وقيل المراد بالحميد الحق المستحق لذاته لغاية الحمد وهو الله عزَّ وجلَّ وصراطه الإسلام ووجه التَّأخيرِ حينئذٍ أنَّ ذكرَ الحمد يستدعِي ذكرَ المحمودِ

25

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}

ليس المرادُ به حالاً ولا استقبالاً وإنَّما هو استمرارُ الصَّدِّ ولذلك حسُن عطفُه على الماضي كما في قوله تعالى الذين آمنوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله وقيلَ هُو حالٌ من فاعل كفروا أي وهم يصدُّون وخبر إنَّ محذوفٌ لدلالة آخرِ الآية الكريمة عليه فإنَّ من ألحدَ في الحرمِ حيثُ عُوقب بالعذاب الأليم فلأنْ يُعاقبَ من جمعَ إليه الكفرَ والصد عن سبيل اله بأشدَّ من ذلك أحقُّ وأولى {والمسجد الحرام} عطف على سبيلِ اللَّهِ قيل المرادُ به مكَّةُ بدليل وصفه بقوله تعالى {الذى جعلناه لِلنَّاسِ} أي كائناً من كان من غير فرقٍ بين مكيَ وآفاقيَ {سَوَاء العاكف فِيهِ والباد} أي المقيم والطارئ وسواء أي مستوياً مفعول ثانٍ لجعلناه والعاكفُ مرتفع به واللاَّمُ متعلِّقٌ به ظرفٌ له وفائدةُ وصفِ المسجدِ الحرامِ بذلك زيادةُ تشنيع الصادين عنه وقرئ سواءٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مقدَّمٌ والعاكفُ مبتدأٌ والجملة مفعول ثانٍ للجعل وقرئ العاكفِ بالجرِّ على أنَّه بدلٌ من النَّاسِ {وَمَن يرد فيه} مما ترك مفعولُه ليتناولَ كلَّ متناول كأنه قبل ومن برد فيه مراداً ما {بِإِلْحَادٍ} بعدولٍ عن القصدِ {بِظُلْمٍ} بغير حقَ وهما حالانِ مترادفانِ أو الثَّاني بدلٌ من الأوَّلِ بإعادة الجارِّ أو صلة أي ملحداً بسبب الظُّلمِ كالإشراك واقتراف الآثام {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} جواب لمن

26

{وَإِذْ بَوَّأْنَا} يقال بوَّأهُ منزلاً أي أنزلَه فيه ولمَّا لزمه جعل الثَّاني مباءة للأول قيل {لإبراهيم مَكَانَ البيت} وعليه مَبْنى قولِ ابن عبَّاسٍ رضيَ اله عنهما جعلناهُ أي اذكر وقتَ جعلنا مكانَ البيت مباءةً له عليه السَّلامُ أي مرجعاً يرجع إليه للعمارةِ والعبادةِ وتوجيه الأمرِ بالذِّكرِ إلى الوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مرَّ بيانُه غيرَ مرَّةٍ وقيل اللاَّمُ زائدةٌ ومكانَ ظرفٌ كما في أصل الاستعمالِ أي أنزلناهُ فيه قيل رفع البيع إلى السَّماءِ أيَّامِ الطُّوفانِ وكان من ياقوتةٍ حمراءَ فأعلم اللَّهُ تعالى إبراهيمَ عليه السَّلامُ مكانَه بريحٍ أرسلها يقال لها الخجوجُ كنست ما حوله فيناه على رأسه القديمِ رُوي أنَّ الكعبةَ الكريمة بُنيت خمس مرَّاتٍ إحداها بناءُ الملائكةِ وكانت من ياقوتةٍ حمراءَ ثمَّ رُفعت أيَّام الطُّوفانِ والثَّانيةُ بناءُ إبراهيمَ عليه السلام والثَّالثة بناءُ قُريشٍ في الجاهليةِ وقد حضر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذا البناءَ والرَّابعةُ بناءُ ابن الزُّبيرِ والخامسةُ بناءُ الحجَّاجِ وقد أوردنا ما في هذا الشَّأنِ من الأقاويل في تفسيرِ قولِه تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت وأنْ في قولِه تعالَى {أن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً} مفسِّرةٌ لبوَّأنا من حيث إنَّه متضمِّنٌ لمعنى تعبدنا لأن البوئة للعبادة أو مصدريَّةٌ موصولة بالنَّهي وقد مرَّ تحقيقُه في أوائل سورة هود أي فعلنا ذلك لئلاَّ تشركَ بي في العبادة شيئاً {وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ والقائمين والركع السجود} أي وطهِّرْ بيتي من الأوثانِ والأقذارِ لمن يطوفُ به ويصلِّي فيه ولعلَّ التَّعبيرَ عن الصَّلاةِ بأركانِها للدِلالة على أنَّ كلَّ واحدٍ منها مستقلٌّ باقتضاء ذلك فكيف وقد اجتمعت وقرئ يُشرك بالياء

27

{وَأَذّن فِى الناس} أي ناد فيهم وقرئ آذان {بالحج} بدعوة

سورة الحج (2830) الحجِّ والأمر به رُوي أنَّه عليه السلام صعد أبا قبيس فقال يأيها النَّاسُ حجُّوا بيت ربِّكم فأسمعه اللَّهُ تعالى من في أصلاب الرِّجالِ وأرحام النِّساءِ فيما بين المشرقِ والمغربِ ممَّن سبق في علمه تعالى أنْ يحجَّ وقيل الخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أُمر بذلك في حجَّةِ الوداع ويأباهُ كونُ السُّورةِ مكِّيةً {يَأْتُوكَ} جوابٌ للأمر {رِجَالاً} أي مُشاةً جمع راجلٍ كقيامٍ جمع قائمٍ وقرئ بضمِّ الرَّاءِ وتخفيفِ الجيمِ وتشديدِه ورجالى كعجالى {وعلى كُلّ ضَامِرٍ} عطفٌ على رجالا أي وركبانا على كل بعير مهزولٍ أتعبه بعدُ الشُّقِّةِ فهزله أو زادَ هزالُه {يَأْتِينَ} صفةٌ لضامرٍ محمولة على المعنى وقرئ يأتُون على أنَّه صفةٌ للرِّجالِ والرُّكبانِ أو استئنافٌ فيكون الضَّميرُ للنَّاسِ {مِن كُلّ فَجّ} طريقٍ واسع {عميق} بعيد وقرئ مُعيقٍ يقال بئرٌ بعيدة العُمقِ وبعيدةُ المُعقِ بمعنى كالجَذْبِ والجَبْذِ

28

{لّيَشْهَدُواْ} متعلِّقٌ بيأتُوك لا بأذِّنْ أي ليحضرُوا {منافع} عظيمةَ الخطرِ كثيرةَ العددِ أو نوعاً من المنافع الدينيةِ والدنيويةِ المختصَّةِ بهذه العبادة واللاَّمُ في قوله تعالى {لَهُمْ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لمنافع أي منافع كائنةً لهم {وَيَذْكُرُواْ اسم الله} عند إعداد الهَدَايا والضَّحايا وذبحها وفي جعله غايةً للإتيانِ إيذانٌ بأنَّه الغاية القصوى دون غيرِه وقيل هو كناية عن الذَّبحِ لأنَّه لا ينفكُّ عنه {فِى أَيَّامٍ معلومات} هي أيَّامُ النَّحرِ كما نيبئ عنه قولُه تعالى {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام} فإنَّ المراد بالذِّكرِ ما وقع عند الذَّبحِ وقيل هي عشرُ ذي الحجة وقد علِّق الفعلُ بالمرزوقِ وبُيِّنَ بالبهيمة تحريضاً على التَّقرُّبِ وتنبيهاً على الذِّكرِ {فَكُلُواْ مِنْهَا} التفاتٌ إلى الخطاب والفاءُ فصيحةٌ عاطفة لمدخولِها على مقدَّرٍ قد حُذف للإشعار بأنَّه أمرٌ محقَّقٌ غير مُحتاجٍ إلى التَّصريح به كما في قوله تعالى فانفجرت أي فاذكرُوا اسمَ اللَّهِ على ضحاياكم فكلُوا من لحومِها والأمرُ للإباحة وإزاحةِ ما كانت عليه أهلُ الجاهليَّةِ من التَّحرُّجِ فيه أو للنَّدبِ إلى مواساة الفُقراء ومساواتِهم {وَأَطْعِمُواْ البائس} أي الذي أصابه بُؤسٌ وشدَّةٌ {الفقير} المُحتاجَ وهذا الأمرُ للوجوب وقد قيل به في الأوَّلِ أيضاً

29

{ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ} أي ليؤذوا إزالة وَسَخِهم أو ليحكموها بقصِّ الشَّاربِ والأظفارِ ونتفِ الإبْطِ والاستحدادِ عند الإحلال {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ} ما ينذرون من البِرِّ في حجِّهم وقيل مواجب الحج وقرئ بفتح الواو وتشديدِ الفاءِ {وَلْيَطَّوَّفُواْ} طوافَ الرُّكنِ الذي به يتمُّ التَّحللُ فإنَّه قرينة فضاء التَّفثِ وقيل طواف الوداع {بالبيت العتيق} أي القديمِ فإنَّه أوَّلُ بيت وُضع للنَّاسِ أو المُعتَقِ من تسلُّطِ الجبابرةِ فكأينْ من جبَّارٍ سار إليه ليهدِمه فقصَمه اللَّهُ عزَّ وجلَّ وأما الحجَّاجُ الثَّقفي فإنَّما قصد إخراجَ ابنِ الزُّبيرِ رضي اللَّه عنهما منه لا التَّسلُّطَ عليه

30

{ذلك} أي الأمرُ ذلك وهذا وأمثاله

سورة الحج (31) يُطلق للفصل بين الكلامينِ أو بين وجهَيْ كلامٍ واحد {وَمَن يُعَظّمْ حرمات الله} أي أحكامَه وسائر مالا يحلُّ هتكُه بالعلم بوجوب مُراعاتها والعملِ بموجبه وقيل الحُرمُ وما يتعلَّق بالحجِّ من التكليف وقيل الكعبةُ والمسجدُ الحرامُ والبلدُ الحرامُ والشَّهرُ الحرامُ {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} أي فالتَّعظيمُ خير له ثواباً {عِندَ رَبّهِ} أي في الآخرة والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافة إلى ضمير مَن لتشريفه والإشعار بعلَّةِ الحكم {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام} وهي الأزواجُ الثَّمانيةُ على الإطلاقِ فقوله تعالى {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} أي إلا ما يتلى عليكم آيةُ تحريمهِ استثناءٌ متَّصلٌ منها على أنَّ مَا عبارةٌ عمَّا حُرِّم منها لعارضٍ كالميتة وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله تعالى والجملةُ اعتراضٌ جيءَ به تقريراً لما قبله من الأمرِ بالأكل والإطعام ودفعاً لما عسى بتوهم أنَّ الإحرامَ يحرِّمُه كما يحرم الصَّيدُ وعدمُ الاكتفاء ببيان عدم كونها من ذلك القبيلِ بحمل الأنعام على ما ذكر من الضَّحايا والهدايا المعهودة خاصَّةً لئلاَّ يحتاج إلى الاستثناء المذكورِ إذ ليس فيها ما حُرِّمَ لعارضٍ قطعاً لمراعاة حسنِ التَّخلصِ إلى ما بعدَهُ من قوله تعالى {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} فإنَّه مترتِّبٌ على ما يُفيده قولُه تعالَى ومن يعظم حرمات الله من وجوب مراعاتها والاجتنابِ عن هتكِها ولمَّا كان بيانُ حلِّ الأنعام من دَوَاعي التَّعاطِي لا مِن مبادئ الاجتنابِ عُقِّب بما يُوجب الاجتنابَ عنه من المحرَّماتِ ثم أمر بالاجتناب عمَّا هو أقصى الحرماتِ كأنَّه قيل ومَن يعظِّم حرماتِ الله فهو خيرٌ له والأنعامُ ليستْ من الحُرُماتِ فإنَّها محلَّلةٌ لكم إلاَّ ما يتلى عليكم آية تحريمه فإنَّه ممَّا يجبُ الاجتنابُ عنه فاجتنبُوا ما هو معظمُ الأمورِ التي يجب الاجتناب عنها وقولُه تعالى {واجتنبوا قَوْلَ الزور} تعميمٌ بعد تخصيصٍ فإنَّ عبادة الأوثان رأس لزور كأنَّه لمَّا حثَّ على تعظيم الحُرمات أتبعَ ذلك ردًّا لما كانت الكفرةُ عليه من تحريم البحائرِ والسَّوائبِ ونحوهِما والافتراءِ على الله تعالى بأنَّه حَكَم بذلك وقيل شهادة الزُّورِ لما روي أنه عليه السلام قالَ عَدلت شهادةُ الزُّورِ الإشراكَ بالله تعالى ثلاثاص وتلا هذه الآية والزُّورُ من الزَّور وهو الانحرافُ كالإفكِ المأخوذِ من الأفْك الذي هو القلبُ والصَّرفُ فإنَّ الكذبَ منحرفٌ مصروفٌ عن الواقعِ وقيل هو قولُ أهلِ الجاهلية في تلبيتهم لبَّيكَ لا شريكَ لكَ إلاَّ شريكٌ هو لك تملكُه وما ملكَ

31

{حُنَفَاء للَّهِ} مائلين عن كلِّ دين زائغٍ إلى الدين الحق مخلصين له تعالى {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} أي شيئاً من الأشياءِ فيدخل في ذلك الأوثانُ دخولاً أوليًّا وهما حالانِ من واو فاجتنبُوا {وَمَن يُشْرِكْ بالله} جملةٌ مبتدأةٌ مؤكدة لما قبلها من الاجتناب عن الإشراك وإظهارُ الاسم الجليل لإظهار حال قُبح الإشراكِ {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء} لأنَّه مُسْقَط من أوجِ الإيمان إلى حضيض الكفرِ {فَتَخْطَفُهُ الطير} فإنَّ الأهواء المُرديةَ توزِّعُ أفكاره وقرئ فتخَطَّفه بفتح الخاء وتشديد الطَّاءِ وبكسرِ الخاء والطَّاء وبكسر التَّاءِ مع كسرهما وأصلُهما تَخْتطفُه {أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح} أي تُسقطه وتقذفُه {فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ} بعيدٍ فإنَّ الشَّيطانَ قد طوَّحَ به في الضَّلالةِ

سورة الحج (32 34) وأو للتَّخييرِ كما في أَوْ كَصَيّبٍ أو للتَّنويعِ ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ باب التَّشبيهِ المُركَّبِ فيكون المعنى وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ هلكتْ نفسُه هلاكاً شَبيهاً بهلاكِ أحدِ الهالكينَ

32

{ذلك} أي الأمرُ ذلك أو امتثلُوا ذلك {وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله} أي الهَدَايا فإنَّها من معالم الحجِّ وشعائرِه تعالى كما ينبئ عنه والبدن جعلناها لَكُمْ مّن شعائر الله وهو الأوفقُ لما بعده وتعظيمُها اعتقادُ أنَّ التَّقربَ بها من أجلِّ القُرباتِ وأنْ يختارَها حِساناً سِماناً غاليةَ الأثمان روي أنه صلى الله عليه وسلم أهدى مائةَ بَدَنةٍ فيها جملٌ لأبي جهلٍ في أنفه بُرَةٌ من ذهبٍ وأن عمر رضي الله عنه أهدى نَجيبةً طُلبتْ منه بثلثمائة دينارٍ {فَإِنَّهَا} أي فإنَّ تعظيمَها {مِن تَقْوَى القلوب} أي من أفعال ذَوي تقوى القلوبِ فحُذفتْ هذه المضافاتُ والعائدُ إلى مَن أو فإن تعظيمها ناشئ من تقوى القلوب وتخصيصُها بالإضافة لأنَّها مراكزُ التَّقوى التي إذا ثبتتْ فيها وتمكَّنتْ ظهر أثرُها في سائر الأعضاءِ

33

{لَكُمْ فِيهَا} أي في الهَدَايا {منافع} هي درُّها ونسلُها وصوفُها وظهرُها {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو وقت نحرِها والتَّصدُّقُ بلحمها والأكلُ منه {ثُمَّ مَحِلُّهَا} أي وجوبُ نحرِها أو وقت نحرِها منتهيةً {إلى البيت العتيق} أي إلى ما يليهِ من الحرمِ وثمَّ للتَّراخي الزَّمانيِّ أو الرُّتَبِّي أي لكم فيها منافعُ دنيويَّةٌ إلى وقتِ نحرِها ثمَّ منافعُ دينيَّةٌ أعظمها في النَّفعِ محلُّها أي وجوبُ نحرِها أو وقت وجوبِ نحرِها إلى البيتِ العتيقِ أي منتهيةً إليه هذا وقد قيل المرادُ بالشَّعائرِ مناسكُ الحجِّ ومعالمُه والمعنى لكُم فيها منافعُ بالأجر والثَّوابِ في قضاءِ المناسكِ وإقامةِ شعائرِ الحجَّ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى هو انقضاءُ أيَّامِ الحجِّ ثمَّ محلُّها أي محلُّ النَّاسِ من إحرامهم إلى البيتِ العتيقِ أي منتهٍ إليه بأن يطوفُوا به طوافَ الزِّيارةِ يومَ النَّحرِ بعد قضاء المناسكِ فإضافةُ المحلِّ إليها لأدنى ملابسةٍ

34

{وَلِكُلّ أُمَّةٍ} أي لكلِّ أهلِ دينٍ {جَعَلْنَا مَنسَكًا} أي مُتعبَّداً وقُرباناً يتقرَّبون به إلى الله عزَّ وجلَّ وقرئ بكسر السِّين أي موضعُ نُسُكٍ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على الفعل للتَّخصيص أي لكل أمة من الأمم جعلنا منسكاً لا لبعضٍ دونَ بعضٍ {لّيَذْكُرُواْ اسم الله} خاصَّةً دون غيرِه ويجعلُوا نسيكتهم لوجهه الكريمِ عُلِّل الجعلُ به تنبيهاً على أنَّ المقصودَ الأصليَّ من المناسكِ تذكُّرُ المعبودِ {على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام} عند ذبحِها وفيه تنبيه على أن القُربان يجبُ أنْ يكونَ من الأنعام والخطابُ في قولِه تعالَى {فإلهكم إله واحد} للكلِّ تغليباً والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلَها فإنَّ جعلَه تعالى لكل أمة من الأُمم مَنْسكاً ممَّا يدلُّ على وحدانيَّته تعالى وإنَّما قيل إله واحدٌ ولم يُقل واحدٌ لما أنَّ المرادَ بيانُ أنَّه تعالى واحدُ في ذاتهِ كما أنَّه واحدٌ في إلهيته للكلِّ والفاءُ في قوله تعالى {فَلَهُ أَسْلِمُواْ} لترتيب ما بعَدَها منَ الأمر بالإسلام على وحدانيَّتهِ تعالى وتقديم الجار والمجرور على الأمر

سورة الحج (3537) للقصر أي فإذا كان إلهكم إلها واحداً فأخلصوا له التَّقرُّبَ أو الذِّكرَ واجعلُوه لوجههِ خاصَّةً ولا تشوبُوه بالشِّرك {وَبَشّرِ المخبتين} تجريد للخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المُتواضعينَ أو المُخلِصين فإنَّ الإخباتَ من الوظائف الخاصَّةِ بهم

35

{الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} منه تعالى لإشراق أشعةِ جلاله عليها {والصابرين على مَا أَصَابَهُمْ} من مشاقِّ التَّكاليفِ ومُؤناتِ النَّوائبِ {والمقيمى الصلاة} في أوقاتها وقرئ بنصب الصَّلاةِ على تقدير النون وقرئ والمقيمينَ الصَّلاةَ على الأصلِ {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} في وجوه الخيراتِ

36

{والبدن} بضمِّ الباءِ وسكون الدال وقرئ بضمِّها وهُما جَمْعا بَدَنةٍ وقيل الأصلُ ضمُّ الدَّالِ كخُشُبٍ وخَشَبةٍ والتَّسكينُ تخفيفٌ منه وقرئ بتشديدِ النُّونِ على لفظِ الوقفِ وإنَّما سُمِّيتْ بها الإبلُ لعظمِ بَدَنِها مأخوذةٌ من بدن بداية وحيثُ شاركها البقرةُ في الإجزاءِ عن سبعةٍ بقوله صلى الله عليه وسلم البُدْنةُ عن سبعةٍ والبقرةُ عن سبعةٍ جُعلا في الشَّريعةِ جنساً واحداً وانتصابُه بمضمرٍ يفسِّرهُ {جعلناها لَكُمْ} وقرئ بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ والجملةُ خبرُهُ وقولُه تعالى {مِن شَعَائِرِ الله} أي من أعلامِ دينهِ التي شرعها اللَّهُ تعالى مفعولٌ ثانٍ للجعل ولكُم ظرفٌ لغوٌ متعلقٌ به وقولُه تعالى {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} أي منافعُ دينيَّةٌ ودنيويَّةٌ جملةٌ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا} بأنْ تقولُوا عند ذبحِها اللَّهُ أكبرُ لا إله إلا الله والله أكبرُ اللهمَّ منكَ وإليكَ {صَوَافَّ} أي قائماتٍ قد صففن أيديهن وأرجلهن وقرئ صَوَافنَ من صَفن الفرسُ إذا قام على ثلاثٍ وعلى طرفِ سُنْبكِ الرَّابعةِ لأنَّ البدنةَ تُعقل إحدى يديها فتقومُ على ثلاثٍ وقرئ صوافا بإبدالِ التَّنوينِ من حرفِ الإطلاق عند الوقف وقرئ صَوَافى أي خَوَالصَ لوجهِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ وصَوَافْ على لغة مَن يُسكِّنُ الياءَ على الإطلاق كما في قوله لعلِّي أرى باق على الحدثان {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} سقطتْ على الأرضِ وهو كنايةٌ عن الموت {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع} الرَّاضيَ بما عنده وبما يعطى من غير مسئلة ويؤيده أنه قرئ القنع أو السَّائلَ من قَنع إليه قُنوعاً إذا خضعَ له في السُّؤالِ {والمعتر} أي المتعرِّضَ للسُّؤالِ وقرئ المُعتري يقال عَرّهُ وعَرَاهُ واعترَّهُ واعتراهُ {كذلك} مثلَ ذلك التَّسخيرِ البديعِ المفهومِ من قولِه تعالى صواف {سخرناها لَكُمْ} مع كمالِ عظمِها ونهايةِ قوَّتِها فلا تستعصي عليكم حتَّى تأخذوها منقادة فتقلونها وتحبسونها صافَّة قوائمها ثم تطعنونَ في لبَّاتِها {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لتشكرُوا إنعامَنا عليكم بالتَّقرُّب والإخلاصِ

37

{لَن يَنَالَ الله} أي لن يبلغَ مرضاتَهُ ولن يقعَ منه موقعَ القَبُولِ {لحومها}

سورة الحج (3839) المُتصدَّقُ بها {وَلاَ دِمَاؤُهَا} المُهَراقةُ بالنَّحر من حيثُ إنَّها لحومٌ ودماءٌ {ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ} ولكن يُصيبه تقوى قلوبِكم التي تدعُوكم إلى الامتثال بأمره تعالى وتعظيمه والتَّقرُّبِ إليه والإخلاصِ له وقيل كانَ أهلُ الجاهليةِ يُلطِّخون الكعبةَ بدماءِ قَرَابينهم فهمَّ به المُسلمون فنزلتْ {كذلك سَخَّرَهَا لكم} تكرير للتذكر والتَّعليلِ بقوله تعالى {لِتُكَبّرُواْ الله} أي لتعرفُوا عظمتَه باقتداره على ما لا يقدِرُ عليه غيرُه فتوحِّدُوه بالكبرياءِ وقيل هو التَّكبيرُ عند الإحلالِ أو الذَّبحِ {على مَا هَدَاكُمْ} أي أرشدَكُم إلى طريق تسخيرِها وكيفيَّة التَّقرُّبِ بها وما مصدريةٌ أو موصولةٌ أي على هدايتِه أيَّاكم أو على ما هَدَاكُم إليه وعلى متعلِّقةٌ بتكبِّروا لتضمُّنهِ معنى الشُّكرِ {وَبَشّرِ المحسنين} أي المُخلصين في كلِّ ما يأنون وما يذرُون في أمورِ دينهم

38

{إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لتوطينِ قلوبِ المُؤمنين ببيانِ أنَّ الله تعالى ناصرُهم على أعدائِهم بحيثُ لا يقدرُون على صدِّهم عن الحجِّ ليتفرَّغُوا إلى أداءِ مناسكِه وتصديرُه بكلمةِ التَّحقيقِ لإبرازِ الاعتناءِ التَّامِّ بمضمونهِ وصيغةُ المفاعلةِ إمَّا للمبالغةِ أو الدلالة على تكرُّرِ الدَّفعِ فإنَّها قد تُجرَّدُ عن وقوعِ الفعلِ المتكرِّرِ من الجانبينِ فيبقى تكرُّره كما في الممارسةِ أي يبالغ في دفع غائلة المشكرين وضررِهم الذي من جُملته الصدُ عَن سَبِيلِ الله مبالغةً من يغالب فيه أو يدفعها عنهم مرَّةً بعد أُخرى حسبما تجدَّدَ منهم القصدُ إلى الإضرارِ بالمسلمينَ كما في قولِه تعالى كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أطفأها الله وقرئ يدفعُ والمفعولُ محذوفٌ وقوله تعالى {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} تعليلٌ لما في ضمن الوعدِ الكريمِ من الوعيد للمشركينَ وإيذانٌ بأنَّ دفعهم بطريقِ القهرِ والخِزْيِ ونفيُ المحبةِ كنايةٌ عن البُغضِ أي أنَّ اللَّهَ يُبغضُ كلَّ خَوَّانٍ في أماناته تعالى وهي أوامرُه ونواهيه أو في جميعِ الأماناتِ التي هي معظمُها كفورٌ لنعمته وصيغةُ المُبالغةِ فيهما لبيان أنَّهم كذلك لا لتقييدِ البُغضِ بغايةِ الخيانةِ والكفرِ أو للمبالغةِ في نفيِ المحبَّةِ على اعتبارِ النفي أو لا وإيراد معنى المبالغةِ ثانياً

39

{أذن} أي رخص وقرئ على البناء للفاعل أي أَذِن اللَّهُ تعالى {لِلَّذِينَ يقاتلون} أي يُقاتلهم المشركون والمأذونُ فيه محذوفٌ لدلالة المذكورِ عليه فإنَّ مقاتلة المشكرين إيَّاهُم دالَّةٌ على مقاتلتهم إياهم دلالة نيرة وقرئ على صيغة المبنيِّ للفاعلِ أي يُريدون أنْ يُقاتلوا المشكرين فيما سيأتي ويَحرصون عليه فدلالتُه على المحذوفِ أظهرُ {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} أي بسبب أنَّهم ظُلموا وهم أصحابُ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ورضي عنهم كان المشكون يؤذونهم وكانوا يأتونه صلى الله عليه وسلم بين مضروبٍ ومَشْجُوجٍ ويتظلَّمون إليه فيقول صلى الله عليه وسلم لم اصبرُوا فإنِّي لم أُومر بالقتالِ حتَّى هاجرُوا فأُنزلتْ وهي أوَّلُ آيةٍ نزلتْ في القتالِ بعد ما نُهيَ عنه في نَيِّفٍ وسبعينَ آيةً {وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} وعدٌ لهم بالنَّصرِ وتأكيدٌ لما مرَّ من العدةِ الكريمةِ بالدَّفعِ وتصريحٌ بأنَّ المرادَ به ليسَ مجرَّدَ تخليصهم من أيدي المشركين بلْ تغليبهم وإظهارَهم عليهم والإخبارُ بقُدرتهِ تعالى على نصرِهم واردٌ على سَننِ الكبرياءِ وتأكيدُه بكلمة التَّحقيقِ واللاَّمِ للمزيد تحقيقِ مضمونِه وزيادةِ توطينِ نفوس المؤمنين

سورة الحج (40 41) وقولُه تعالى

40

{الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن ديارهم} في حيِّز الجرِّ على أنه صفة للموصولِ الأوَّلِ أو بيانٌ له أو بدلٌ منه أو في محلِّ النصبِ على المدحِ أو في محلِّ الرَّفعِ بإضمارِ مبتدأ والجملةُ مرفوعةً على المدح والمرادُ بديارِهم مكَّةُ المعظَّمةُ {بِغَيْرِ حَقّ} متعلِّقٌ بأُخرجوا أي أُخرجوا بغير ما يُوجب إخراجَهم وقوله تعالى {إَّلا أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله} بدلٌ من حقَ أي بغير موجبٍ سوى التَّوحيدِ الذي ينبغي أنْ يكون مُوجباً للإقرارِ والتَّمكينِ دون الإخراجِ والتَّسيير لكن لا على الظَّاهر بل على طريقة قولِ النَّابغةِ [ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم بهن فُلولٌ من قراع الكتائب] وقي الاستثناءُ منقطعٌ {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} بتسليط المؤمنين على الكفارين في كلِّ عصرٍ وزمانٍ وقرئ دفاع {لهدمت} لخربت ابتسيلاء المشكرين على أهل الملل وقرئ هُدِمت بالتَّخفيفِ {صوامع} للرَّهابنةِ {وَبِيَعٌ} للنَّصارى {وصلوات} أي وكنائسُ لليهودِ سُمِّيتْ بها لأنَّها يُصلَّى فيها وقيل أصلها صلوتا بالعبريَّةِ فعُرِّبتْ {ومساجد} للمسلمين {يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً} أي ذكراً كثيراً أو وقتاً كثيرا صفةٌ مادحة للمساجدِ خُصَّت بها دلالةً على فضلها وفضلِ أهلها وقيل صفةٌ للأربعِ وليس كذلك فإنَّ بيان ذكرِ الله عزَّ وجلَّ في الصَّوامعِ والبيعِ والكنائسِ بعد انتساخِ شرعيَّتها ممَّا لا يقتضيه المقامُ ولا يرتضيه الأفهامُ {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ} أي وبالله ينصرن اللَّهُ من ينصر أولياءَهُ أو من ينصر دينَه ولقد أنجزَ اللَّهُ عزَّ سلطانُه وعدَهُ حيث سلَّطَ المهاجرين والأنصارَ على صناديدِ العربِ وأكاسرةِ العجمِ وقياصرةِ الرُّوم وأورثهم أرضَهم وديارَهم {إِنَّ الله لَقَوِىٌّ} على كل ما يريده من مراداتهِ التي من جُملتها نصرُهم {عَزِيزٌ} لا يُمانعه شيءٌ ولا يُدافعه

41

{الذين إِنْ مكناهم فِى الارض أَقَامُواْ الصلاة وَاتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر} وصفٌ من الله عزَّ وجلَّ للذين أُخرجوا من ديارِهم بما سيكون منهم من حسن السِّيرةِ عند تمكينه تعالى إيَّاهُم في الأرض وإعطائه إيَّاهم زمام الأحكام منيء عن عِدَّةٍ كريمة على أبلغ وجهٍ وألطفِه وعن عثمانُ رضيَ الله عنْهُ هذا واللَّهِ ثناءٌ قبل بلاءٍ يُريد أنَّه تعالى أثنى عليهم قبلَ أنْ يُحدثوا من الخيرِ ما أحدثوا قالُوا وفيه دليلٌ على صحَّة أمر الخلفاءِ الرَّاشدينَ لأنَّه تعالى لم يعطِ التَّمكينَ ونفاذَ الأمرِ مع السِّيرةِ العادلةِ غيرهم من المهاجرين لاحظ في ذلك للأنصارِ والطُّلقاءِ وعنِ الحسنِ رحمَهُ الله هم أمة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وقيل الذينَ بدلٌ من قولهِ مَنْ ينصرُه {وَللَّهِ} خاصَّةً {عاقبة الأمور} فإنَّ مراجعها إلى حُكمهِ وتقديره فقط وفيه تأكيدٌ للوعد بإظهار أوليائه وإعلاء كلمته

سورة الحج (4245)

42

{وإن يكذبوك فقد كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم متضمِّنةٌ للوعدِ الكريمِ بإهلاكِ مَن يُعاديه من الكفَرَةِ وتعيينٌ لكيفيَّةِ نصرِه تعالى له الموعودِ بقوله تعالى وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ وبيان لرجوع عاقبة لأمور إليه تعالى وصيغةُ المضارع في الشَّرطِ مع تحقُّقِ التَّكذيبِ لما أنَّ المقصودَ تسليته صلى الله عليه وسلم عمَّا يترتَّبُ على التَّكذيبِ من الحزن المتوقَّعِ أي وإنْ تحزنْ على تكذيبِهم إيَّاك فاعلم أنَّك لست بأوحدى في ذلك فق كذبت قبل تذكيب قومِك إيَّاك قَوْمِ نُوحٍ

43

{وَعَادٍ وَثَمُودَ} {وَقَوْمِ إبراهيم وَقَوْمُ لُوطٍ}

44

{وأصحاب مَدْيَنَ} أي رُسُلَهم ممَّن ذُكر ومَن لم يُذكر وإنَّما حُذف لكمال ظهور المرادِ أو لأنَّ المرادَ نفسُ الفعل أي فعلتْ التَّكذيبَ قومُ نوحٍ إلى آخره {وَكُذّبَ موسى} غُيِّر النَّظمُ الكريم بذكرِ المفعولِ وبناء الفعل له لا لأنَّ قومَه بنوُ إسرائيل وهم لم يكذِّبوه وإنَّما كذَّبه القِبْطُ لما أنَّ ذلك إنَّما يقتضي عدمَ ذكرِهم بعُنوان كونِهم قومَ مُوسى لا بعنوانٍ آخرَ على أنَّ بني إسرائيلَ أيضاً قد كذَّبوه مرَّةً بعد أُخرى حسبما ينطِق به قوله تعالى لن نؤمن لك حتى نَرَى الله جَهْرَةً ونحو ذلك من اآيات الكريمة بل للإيذانِ بأنَّ تكذيبَهم له كان في غاية الشَّناعةِ لكون آياتِه في كمال الوضوحِ وقوله تعالى {فَأمْلَيْتُ للكافرين} أي أمهلتهم حتَّى انصرمتْ حبالُ آجالِهم والفاءُ لترتيبِ إمهالِ كل فريق من فرق المكذِّبينَ على تكذيب ذلك الفريقِ لا لترتيب إمهال الكلِّ على تكذيب الكلِّ ووضعُ الظاهر موضعَ الضمير العائد إلى المكذِّبين لذمِّهم بالكفرِ والتَّصريحِ بمكذبِي موسى عليه السلام حيث لم يذكروا فيما قبل صَريحاً {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي أخذتُ كل فريق من فرق المكذِّبين بعد انقضاء مدَّةِ إملائِه وإمهالِه {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكارِي عليهم بالإهلاك أي فكان ذلك في غايةِ ما يكونُ من الهول والفظاعة وقوله تعالى

45

{فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} منصوبٌ بمضمر يفسره قوله تعالى {أهلكناها} أي فأهلكنا كثيراً من القُرى بإهلاك أهلهِا والجملةُ بدلٌ من قوله تعالى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ أو مرفوعٌ على الابتداءِ وأهلكنا خبرُهُ أي فكثيرٌ من القرى أهلكناها وقرئ أهلكتُها على وفق قوله تعالى فَأمْلَيْتُ للكافرين ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ {وهى ظالمة} جملة حالية من مفعول أهلكنا وقوله تعالى {فَهِىَ خَاوِيَةٌ} عطفٌ على أهلكناها لأعلى وهي ظالمةٌ لأنَّها حالٌ والإهلاك ليس في حالِ خواتها فعلى الأوَّلِ لا محلَّ له من الإعرابِ كالمعطوف عليه وعلى الثَّاني في محلِّ الرَّفعِ لعطفه على الخبرِ والخَوَاءُ إمَّا بمعنى السُّقوطِ من خَوَى النَّجمُ إذا سقطَ فالمعنى فهي ساقطةٌ حيطانها

سورة الحج (46 47) {على عُرُوشِهَا} أي سُقوفِها بأنْ تعطَّل بنيانُها فخرَّتْ سقوفُها ثم تهدَّمتْ حيطانُها فسقطتْ فوق السُّقوفِ وإسنادُ السُّقوطِ على العُروش إليها لتنزيلِ الحيطانِ منزلةَ كلِّ البنيانِ لكونها عمدةً فيه وإمَّا بمعنى الخُلوِّ من خَوَى المنزلُ إذا خَلاَ من أهله فالمعنى فهي خالية مع بقاء عروشها وسلامتها فتكونُ على بمعنى مع ويجوز أن يكونَ عَلَى عُروشها خبراً بعد خبرٍ أي فهي خالية وهي على عُروشها أي قائمةٌ مشرفةٌ على عروشِها على معنى أنَّ السُّقوفَ سقطتْ إلى الأرضِ وبقيتْ الحيطانُ قائمةً فهي مشرفة على السُّقوفِ السَّاقطةِ وإسنادُ الإشرافِ إلى الكلِّ مع كونِه حال الحيطانِ لما مرَّ آنِفاً {وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ} عطفٌ على قريةٍ أي وكم بئر عارة في البوادي تُركت لا يُستقى منها لهلاكِ أهلِها وقرئ بالتَّخفيفِ من أعطلَه بمعنى عطَّله {وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} مرفوعِ البنيانِ أو مجصَّصٍ أخليناهُ عن ساكنيهِ وهذا يؤيِّد كونَ معنى خاويةٌ على عروشِها خاليةً مع بقاء عروشِها وقيل المراد بالبئرِ بئرٌ بسفحِ جبلٍ بحضْرَمَوت وبالقصرِ قصرٌ مشرفٌ على قُلَّتهِ كانا لقومِ حنظلةَ بنِ صفوانَ من بقايا قومِ صالحٍ فلما قتلُوه أهلكَهم الله تعالى وعطَّلهما

46

{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض} حثٌّ لهم أن يُسافروا ليرَوا مصارع المهلَكين فيعتبروا وهمُ وإنْ كانُوا قد سافروا فيها ولكنَّهم حيث لم يُسافروا للاعتبارِ جُعلوا غيرَ مسافرين فحثُّوا على ذلك والفاءُ لعطفِ ما بعدها على مقدَّرٍ يقتضيه المقام أي أغفِلُوا فلم يسيروا فيها {فَتَكُونَ لَهُمْ} بسبب ما شاهدُوه من موادِّ الاعتبار ومظانِّ الاستبصار {قُلُوبٌ يعقلون بِهَا} ما يجبُ أنْ يعقل من التوحيد {أو آذان يَسْمَعُونَ بِهَا} ما يجبُ أنْ يُسمع من الوحيِ أو من أخبارِ الأُممِ المُهلَكة ممَّن يُجاورهم من النَّاسِ فإنَّهم أعرف منهم بحالِهم {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} الضَّميرُ للقصَّةِ أو مبهمٌ يفسِّرُه الأبصارُ وفي تعمى ضمير راجعٌ إليه وقد أقيم الظَّاهرُ مُقامَه {ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور} أي ليس الخلل في مشارهم وإنَّما هو في عقولِهم باتِّباع الهَوَى والانهماكِ في الغَفْلةِ وذكر الصُّدورِ للتَّأكيدِ ونفيِ تَوهُّمِ التَّجوزِ وفضل التَّنبيه على أنَّ العَمَى الحقيقيَّ ليس المتعارف الذي يختصُّ بالبصر قيل لمَّا نزل قوله تعالى وَمَن كَانَ فِى هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى قال ابنُ أُمِّ مكتومٍ يا رسولَ الله أنا في الدُّنيا أعمى أفأكونُ في الآخرةِ أعمى فنزلت

47

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} كانوا منكرين لمجئ العذابِ المتوعَّدِ به أشدَّ الإنكارِ وإنَّما كانوا يستعجلون به استهزاءً برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وتعجيزاً له على زعمِهم فحَكَى عنهم ذلك بطريقِ التَّخطئةِ والاستنكارِ فقوله تعالى {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} إما جملة حالية جئ بها لبيانِ بُطلانِ إنكارِهم لمجيئه في ضمن استعجالِهم به وإظهار خطئِهم فيه كأنَّه قيل كيف يُنكرون مجئ العذابِ الموعود والحالُ أنَّه تعالى لا يُخلف وعدَه أبداً وقد سبق الوعدُ فلابد من مجيئِه حتماً أو اعتراضية مبينة لمَا ذُكر وقولُه تعالى {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كألف سنة مما تعدون} جملة مستأنفة إنْ كانت الأُولى حاليَّةً ومعطوفةٌ عليها إنْ كانتْ اعتراضيةً سيقت لبيان

سورة الحج (48 49) خطئِهم في الاستعجال المذكورِ ببيان كمال سَعةِ ساحةِ حلمه تعالى ووقاره وإظهار غاية ضيق عطهم المستنبع لكون المُدَّة القصيرةِ عنده تعالى مُدداً طوالاً عندهم حسبما ينطِق به قوله تعالَى إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً ولذلك يرَون مجيئَه بعيداً ويتَّخذونه ذريعةً إلى إنكاره ويجترئون على الاستعجالِ به ولا يدرون أنَّ معيار تقدير الأمور كلِّها وقوعاً وأخباراً ما عنده تعالى من المقدار وقراءة يعدّون على صيغة الغَيبة أي يعده المستعجلون أوفقُ لهذا المعنى وقد جعل الخطابُ في القراءةِ المشهورة لهم أيضاً بطريقِ الالتفاف لكن الظَّاهرُ أنَّه للرسولِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ وقيل المرادُ بوعدِه تعالى ما جعل لهلاك كلِّ أُمَّةٍ من موعد معيَّنٍ وأجل مسمَّى كما في قوله تعالى وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ العذاب فتكون الجملةُ الأُولى حالية كانتْ أو اعتراضيةً مبيِّنة لبطلانِ الاستعجالِ به ببيان استحالةِ مجيئِه قبل وقته الموعود والجملةُ الأخيرةُ بياناً لبطلانه ببيانِ ابتناء على استطالةِ ما هو قصير عنده تعالى على الوجه الذي مر بيانه فلا يكون في النَّظمِ الكريمِ حينئذٍ تعرُّضٌ لإنكارِهم الذي دسُّوه تحت الاستعجال بل يكون الجوابُ مبنيًّا على ظاهر مقالِهم ويكتفى في ردِّ إنكارِهم ببيان عاقبةِ من قبلهم من أمثالِهم هذا وحملُ المستعجَلِ به على عذاب الآخرة وجعلُ اليَّومِ عبارةً عن يوم العذابِ المستطال لشدَّتِه أو عن أيام الآخرةِ الطَّويلةِ حقيقةً أو المُستطالة لشدَّةِ عذابها ممَّا لا يُساعده سباقُ النظمِ الجليلِ ولا سياقُه فإنَّ كُلاًّ منهما ناطقٌ بأنَّ المرادَ هو العذابُ الدُّنيويُّ وأن الزَّمانَ الممتدُّ هو الذي مرَّ عليهم قبل حلولِه بطريق الإملاء والإمهال لا الزَّمانُ المقارن له ألا يُرى إلى قوله تعالى

48

{وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} الخ فإنه كما سلف من قوله تعالى فَأمْلَيْتُ للكافرين ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ صريحٌ في أنَّ المرادَ هو الأخذُ العاجلُ الشَّديدُ بعد الإملاء المديدِ أي وكم منْ أهلِ قريةٍ فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مقامه في الإعرابِ ورجع الضَّمائرِ والأحكامِ مبالغةً في التَّعميمِ والتَّهويلِ {أَمْلَيْتُ لَهَا} كما أمليتُ لهؤلاء حتَّى أنكرُوا مجئ ما وُعدوا من العذابِ واستعجلُوا به استهزاءً برسلِهم كما فعل هؤلاء {وهى ظالمة} جملة حالية مفيدةٌ لكمال حلمِه تعالى ومشعرةٌ بطريق التَّعريضِ بظلم المستعجلينَ أي أمليتُ لها والحالُ أنَّها ظالمةٌ مستوجِبةٌ لتعجيل العقوبةِ كدأبِ هؤلاءِ {ثُمَّ أَخَذْتُهَا} بالعذاب والنَّكالِ بعد طول الإملاءِ والإمهالِ وقولُه تعالى {وَإِلَىَّ المصير} اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله ومصرِّحٌ بما أفاده ذلك بطريقِ التَّعريضِ من أنَّ مالَ أمر المُستعجلين أيضاً ما ذُكر من الأخذِ الوبيلِ أي إلى حُكمي مرجعُ الكُلِّ جميعاً لا إلى أحدٍ غيري لا استقلالاً ولا شركة فأفعل بهم ما أفعل ممَّا يليقُ بأعمالِهم

49

{قل يَا أيُّها الناسُ إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أنذركم إنذاراً بيِّناً بما أُوحي من أنباء الأمم المهلكة من غير أن يكون لي دخل في إتيانِ ما تُوعدونه من العذاب حتَّى تستعجلوني به والاقتصارُ على الإنذارِ مع بيان حالِ الفريقين بعدَه لما أُشير إليه من أنَّ مساقَ الحديث للمشركين وعقابِهم وإنَّما ذُكر المؤمنون وثوابُهم زيادةً في غيظهم

سورة الحج (50 52)

50

{فالذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لما ندرَ منهم من الذُّنوبِ {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} هي الجنَّةُ والكريمُ من كلِّ نوع ما يجمع فصائله ويجوز كما لأنه

51

{والذين سعوا في آياتنا معاجزين} أي سابقين أو مُسابقين في زعمِهم وتقديرهم طامعين أنَّ كيدَهم للإسلام يتمُّ لهم وأصلُه من عاجزَهُ وعجزَه فأعجزَه إذا سابقَه فسبقَه لأنَّ كُلاًّ من المتسابقينَ يريدُ إعجازَ الآخرِ عن اللَّحاق بهِ وقرئ مُعجزين أي مُثبِّطينَ النَّاسَ عن الإيمان على أنَّه حالٌ مقدرةٌ {أولئك} الموصوفون بما ذُكر من السَّعيِ والمُعاجزة {أصحاب الجحيم} أي ملازمو النَّارَ المُوقدةِ وقيل هو اسم دَرْكةٍ من دَرَكاتِها

52

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ} الرَّسولُ من بعثه الله تعالى بشريعةٍ جديدةٍ يدعُو النَّاسَ إليها والنَّبيُّ يعمُّه ومَن بعثه لتقريرِ شريعةٍ سابقةٍ كأنبياءِ بني إسرائيلَ الذين كانُوا بين موسى وعِيْسَى عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ولذلك شبه صلى الله عليه وسلم علماءَ أُمَّتِه بهم فالنَّبيُّ أعم من الرسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن الأنبياءِ فقال مائةُ ألفٍ وأربعةٌ وعشرونَ ألفا قيل فكم الرسل منهم فقال ثلثمائة وثلاثة عشر جماء غفيراً وقيل الرَّسولُ من جمعَ إلى المعجزةِ كتاباً منزَّلاً عليه والنَّبيُّ غيرُ الرَّسولِ من لا كتابَ له وقيل الرَّسولُ من يأتيهِ المَلَكُ بالوحيِ والنَّبيُّ يقال لَه ولمن يُوحى إليهِ في المنامِ {إِلاَّ إِذَا تمنى} أي هيَّأ في نفسِه ما يهواه {أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ} في تشهِّيه ما يُوجب اشتغاله بالدنيا كماقال صلى الله عليه وسلم وإنَّه ليُغانُ على قَلبي فأستغفرُ الله في اليَّومِ سعين مَرَّة {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان} فيُبطله ويذهبُ به بعصمتِه عن الرُّكونِ إليه وإرشادِه إلى ما يُزيحه {ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته} أي يُثبت آياتِه الدَّاعية إلى الاستغراق في شئون الحقِّ وصيغةُ المضارعِ في الفعلينِ للدِّلالةِ على الاستمرار التَّجدُّدي وإظهارُ الجلالةِ في موقعِ الإضمار لزيادة التقرير والإيذانِ بأنَّ الأُلوهيَّةَ من موجباتِ أحكامِ آياتِه الباهرةِ {والله عَلِيمٌ} مبالِغٌ في العلمِ بكلِّ ما مِن شأنِه أنْ يُعلم ومن جُملتِه ما صدرَ عن العباد من قول وفصل عمداً أو خطأ {حَكِيمٌ} في كلِّ ما يفعلُ والإظهار ههنا أيضا لما كر مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذييلي قيل حدَّث نفسَه بزوال المسكنةِ فنزلتْ وقيل تمنَّى لحرصِه على إيمان قومِه أنْ ينزل عليه ما يُقرِّبهم إليه واستمرَّ به ذلك حتَّى كان في ناديهم فنزلتْ عليه سورةُ النَّجم فأخذَ يقرؤها فلمَّا بلغَ ومناةَ الثَّالثةَ الأُخرى وسوسَ إليه الشَّيطانُ حتَّى سبق لسانُه سهواً إلى أنْ قال تلكَ الغرانيقُ العُلا وإنَّ شفاعتهنَّ لتُرتجى ففرح به المشركون حتَّى شايعُوه بالسُّجودِ لمَّا سجدَ في آخرِها بحيث لم يبْقَ في المسجد مؤمنٌ ولا مشركٌ إلاَّ سجد ثم نبَّهه جَبريل عليه السلام فاغتنم به فعزَّاه الله عزَّ وجلَّ بهذه الآيةِ وهو مردودٌ عند المحقِّقين ولئن صحَّ فابتلاءٌ يتميَّز به الثَّابتُ على الإيمانِ عن المتزلزل فيه وقيل

سورة الحج (53 55) تمنَّى بمعنى قرأ كقوله [تمنَّى كتابَ الله أولَ ليلة تمنِّيَ داودَ الزَّبورَ على رسلِ وأمنيَّتُه قراءتُه وإلقاءُ الشَّيطانِ فيها أنْ يتكلَّم بذلك رافعاً صوتَه بحيثُ ظنَّ السَّامعون أنَّه من قراءة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقد رُدَّ بأنه أيضاً يخلُّ بالوثوقِ بالقُرآنِ ولا يندفعُ بقولِه تعالى فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان ثم يحكم الله آياته لأنَّه أيضاً يحتملُه وفي الآيةِ دِلالةٌ على جوازِ السَّهو من الأنبياءِ عليهم السلام وتطرق الوسوسةِ إليهم

53

{لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيطان} علة لما ينبئ عنه ما ذكر من إلقاءِ الشَّيطان من تمكينه تعالى إيَّاهُ من ذلك في حق النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم خاصَّة كما يعرب عنه سياقُ النظمِ الكريمِ لما أنَّ تمكينَه تعالى إيَّاهُ من الإلقاء في حقِّ سائرِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ لا يمكن تعليلُه بما سيأتي وفيه دلالةٌ على أنَّ ما يُلقيه أمر ظاهرٌ يعرفه المحقُّ والمبطل {فِتْنَةً لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي شكٌّ ونفاق كما في قوله تعالى فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ الآيةَ {والقاسية قُلُوبُهُمْ} أي المشركين {وَإِنَّ الظالمين} أي الفريقينِ المذكورينِ فوضعُ الظَّاهرِ موضعَ ضميرِهم تسجيلاً عليهم بالظلم مع ما وُصفوا بهِ من المرض والقساوةِ {لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي عداوةٍ شديدةٍ ومخالفةٍ تامَّةٍ ووصفُ الشِّقاقِ بالبُعد مع أنَّ الموصوفَ به حقيقةٌ هو معروضة للمبالغةِ والجملةُ اعتراضٌ تذييلي مقرر لمضمون ما قبله

54

{وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ} أي القرآنَ {الحق مِن رَّبّكَ} أي هو الحقُّ النَّازل من عنده تعالى وقيل ليعلمُوا أنَّ تمكين الشيطان من الإلقاء هو الحقُّ المتضمنُ للحكمةِ البالغة والغايةِ الجميلةِ لأنَّه ممَّا جرتْ به عادتُه في جنس الإنس من لدُنْ آدمَ عليهِ السلام فحينئذٍ لا حاجة إلى تخصيصِ التَّمكينِ فيما سبق بالإلفاء في حقه عليه السلام لكن يأباه قولُه تعالى {فَيُؤْمِنُواْ بِهِ} أي بالقرآنِ أي يثبتوا على الإيمانِ به أو يزدادوا إيماناً بردِّ ما يُلقي الشَّيطانُ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ بالانقياد والخشية والإذعانِ لما فيه من الأوامرِ والنَّواهي ورجعُ الضميرين لا سيَّما الثَّاني إلى تمكين الشيطان من الإلقاء مما لا وجهَ لَهُ {وإن الله لهاد الذين آمنوا} أي في الأمورِ الدِّينيةِ خُصوصاً في المداحض والمشكلاتِ التي من جملتها ما ذكر {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} هو النَّظرُ الصحيحُ الموصل إلى الحقِّ الصَّريحِ والجملةُ اعتراض مقر لما قبله

55

{وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ} أي في شكَ وجدال {مِنْهُ} أي من القرآن وقيل من الرسول صلى الله عليه وسلم والأَوَّلُ هو الأظهرُ بشهادة ما سبقَ من قولِه تعالى ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته وقوله تعالى أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ وما لَحِقَ من قوله تعالى وكذبوا بآياتنا وأمَّا تجويزُ كون الضَّميرِ

سورة الحج (56 57) لما أَلْقَى الشَّيطانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فممَّا لا مساغ له لأنَّ ذلك ليس من هنانهم التي تستمرُّ إلى الأمدِ المذكورِ بل إنَّما هي مريتُهم في شأن القُرآن ولا يُجدي حملُ مِن على السَّببيةِ دون الابتدائيَّةِ لما أنَّ مريتهم المستمرَّةَ كما أنَّها ليست مبتدأةً من ذلك ليئست ماشئة منه ضرورةَ أنَّها مستمرَّة منهم من لَدُن نزول القرآن الكريم {حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة} أي القيامةُ نفسُها كما يُؤذِن به قوله تعالى {بغتة} أي فجاءة فإنَّها الموصوفةُ بالإتيان كذلك لا أشراطُها وقيل الموت {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} أي يومٌ لا يومَ بعده كأنَّ كلَّ يوم يلدُ ما بعده من الأيَّامِ فما لا يومَ بعده يكون عقيماً والمرادُ به السَّاعةُ أيضاً كأنَّه قيل أو يأتيَهم عذابُها فوضع ذلك موضعَ ضميرِها لمزيد التَّهويلِ ولا سبيل إلى حمل السَّاعةِ على أشراطِها لما عرفتَه وأما ما قيل من أنَّ المراد يومُ حربٍ يُقتلون فيه كيومِ بدرٍ سُمِّي به لأنَّ أولاد النِّساء يُقتلون فيه فيصِرْن كأنهنَّ عُقُمٌ لم يلدن أو لأنَّ المقاتلين أبناءُ الحرب فإذا قُتلوا صارتْ عقيماً أي ثَكْلى فوصف اليَّومُ بوصفها اتِّساعاً أو لأنَّه لا خيرَ لهم فيه ومنه الرِّيحُ العقيمُ لما لم ينشئ مطراً ولم يلقح شَجراً أو لأنَّه لا مثلَ له لقتال الملائكةِ عليهم السَّلامُ فيه فممَّا لا يساعده سياقُ النظم الكريم أصلا كيف لا وإن تخصيصَ الملك والتَّصرفِ الكُليِّ فيه بالله عزَّ وجلَّ ثم بيانَ ما يقع فيه من حكمِه تعالى بين الفريقينِ بالثَّواب والعذابِ الأُخرويينِ يقضي بأنَّ المرادَ به يومُ القيامةِ قضاءً بيِّناً لا ريبَ فيه

56

{الملك} أي السُّلطانُ القاهرُ والاستيلاء التَّامُّ والتَّصرُّفُ على الإطلاقِ {يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وحدَه بلا شريكٍ أصلاً بحيث لا يكونُ فيه لأحدٍ تصرُّفٌ من التَّصرُّفاتِ في أمرٍ من الأمورِ لا حقيقةً ولا مجازاً ولا صورةً ولا معنى كما في الدُّنيا فإنَّ للبعضِ فيها تصرُّفاً صُورياً في الجملة وليس التَّنوينُ نائباً عمَّا تدلُّ عليه الغايةُ من زوالِ مريتهم كما قيل ولا عمَّا يستلزمه ذلك من إيمانهم كما قيل لما أنَّ القيدَ المعتبر مع اليَّومِ حيث وُسِّط بين طرفَيْ الجملة يجب أنْ يكون مداراً لحكمها أعني كون الملكِ لله عزَّ وجلَّ وما يتفرَّع عليه من الإثابة والتَّعذيبِ ولا ريبَ في أنَّ إيمانَهم أو زوالَ مريتهم ليس مماله تعلق ما بما ذُكر فضلاً عن المداريةِ له فلا سبيل إلى اعتبارِ شيءٍ منهما مع اليوم قطعاص وإنَّما الذي يدورُ عليه ما ذُكر إتيانُ السَّاعةِ التي هي مُنتهى تصرُّفاتِ الخلق ومبدأُ ظهور أحكام المَلك الحقِّ جلَّ جلالُه فإذن هو نائبٌ عن نفس الجملة الواقعة غايةً لمريتهم فالمعنى الملكُ يوم إذْ تأتيهم السَّاعةُ أو عذابُها لله تعالى وقولُه تعالى {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} جملةٌ مستأنفةٌ وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الإخبار بكونِ الملكِ يومئذٍ لله كأنَّه قيل فماذا يُصنع بهم حينئذٍ فقيل يحكم بين فريقي المؤمنينَ به والمُمارينَ فيه بالمجازاةِ وقوله تعالى {فالذين آمنوا} الخ تفسير للحُكم المذكور وتفصيلٌ له أي فالذين آمنُوا بالقرآن الكريم ولم يُماروا فيه {وَعَمِلُواْ الصالحات} امتثالاً بما أُمروا في تضاعيفِه {فِي جنات النعيم} أي مستقرُّون فيها

57

{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا} أي أصرُّوا على ذلك واستمرُّوا {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتَّكذيبِ وما فيه من معنى البعد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في

سورة الحج (58 60) الشر والفساد أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الكفر والتَّكذيبِ وهو مبتدأٌ وقولُه تعالى {لَهُمْ عَذَابَ} جملةٌ اسميَّةٌ منْ مبتدأٍ وخبرٍ مقدَّمٍ عليه وقعت خبرا لأولئك أو لهم خبرٌ لأولئك وعذابٌ مرتفعٌ على الفاعلية بالاستقرارِ في الجارِّ والمجرور لاعتماده على المبتدأ وأولئك مع خبرِه على الوجهين خبر للمصول وتصديرُه بالفاء للدِّلالةِ على أنَّ تعذيب الكفَّارِ بسبب أعمالِهم السَّيئةِ كما أنَّ تجريدَ خبرِ الموصول الأوَّلِ عنها للإيذانِ بأنَّ إثابة المؤمنينَ بطريق التَّفضُّلِ لا لإيجاب الأعمال الصَّالحةِ إيَّاها وقولُه تعالى {مُّهِينٌ} صفة لعذابٌ مؤكِّدة لما أفادَه التَّنوينُ من الفخامةِ وفيه من المبالغةِ من وجوهٍ شتَّى ما لا يخفى

58

{والذين هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ الله} أي في الجهادِ حسبما يلوحُ بهِ قولُه تعالَى {ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ} أي في تضاعيف المُهاجرة ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على الابتداءِ وقولُه تعالَى {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله} جواب لقسم محذوفٍ والجملةُ خبرُه ومن منع وقوعَ الجملةِ القسميَّةِ وجوابِها خبراً للمبتدأ يُضمر قولاً هو الخبرُ والجملةُ محكية به وقوله تعالى {رِزْقًا حَسَنًا} إمَّا مفعول ثانٍ على أنَّه من باب الرَّعي والذَّبحِ أي مَرزوقاً حسناً أو مصدرٌ مؤكِّد والمراد به ما لا ينقطعُ أبداً من نعيمِ الجنَّةِ وإنَّما سوى بينهما في الوعدِ لاستوائهما في القصد وأصلُ العمل على أن مراتبَ الحُسنِ متفاوتةٌ فيجوزُ تفاوتُ حال المرزوقينَ حسب تفاوت الأرزاقِ الحسنةِ ورُوي أنَّ بعضَ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قالوا يا نبيَّ الله هؤلاءِ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله قد علمنا ما أعطاهُم الله تعالى من الخيرِ ونحنُ نجاهد معك كما جاهدُوا فما لنا إنْ مُتنا معك فنزلت وقيل نزلت في طوائفَ خرجُوا من مكةَ إلى المدينةِ للهجرةِ فتبعهم المشركون فقتلوهم {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} فإنَّه يرزق بغير حسابٍ مع أنَّ ما يرزقه لا يقدِر عليه أحدٌ غيرُه والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لما قبله وقوله تعالى

59

{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} بدلٌ من قوله تعالى لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله أو استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونه ومُدخلاً إمَّا اسمُ مكانٍ أُريد به الجنَّة فهو مفعول ثانٍ للإدخال أو مصدرٌ ميميٌّ أُكِّد به فعلُه قال ابن عباس رضي الله عنهما إنَّما قيل يَرضونه لما أنهم يرون فيها ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَر على قلب بشر فيرضونه {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ} بأحوالِهم وأحوالِ معاديهم {حَلِيمٌ} لا يُعاجلهم بالعقوبة

60

{ذلك} خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك والجملةُ لتقرير ما قبله والتَّنبيهِ على أنَّ ما بعده كلامٌ مستأنفٌ {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} أي لم يَزد في الاقتصاصِ وإنَّما سُمِّي الابتداءُ بالعقاب الذي هو جاز الجنايةِ للمشاكلةِ أو لكونِه سبباً له {ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ} بالمعاودة إلى العُقوبة {لَيَنصُرَنَّهُ الله} على مَن بغى عليه لا محالة {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أيْ مبالغٌ في العفوِ والغفران

سورة الحج (61 65) فيعفُو عن المنتصرِ ويغفرُ له ما صدرَ عنه من ترجيحِ الانتقامِ على العفوِ والصبرِ المندوبِ إليهما بقوله تعالى وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ أي ما ذُكر من الصَّبرِ والمغفرةِ لَمِنْ عَزْمِ الأمور فإنَّ فيه حثًّا بليغاً على العفوِ والمغفرةِ فإنَّه تعالى مع كمالِ قُدرتِه لمَّا كانَ يعفُو ويغفُر فغيرُه أَوْلى بذلك وتنبيهاً على أنَّه تعالى قادرٌ على العقوبةِ إذ لا يُوصف بالعفوِ إلاَّ القادرُ على ضدِّهِ

61

{ذلك} إشارةٌ إلى النَّصر وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته ومحله الرفع على الابتداء خبرُهُ قولُه تعالى {بِأَنَّ الله يولج الليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار في الليل} أي بسببِ أنَّه تعالى من شأنه وسننه تغليبُ بعض مخلوقاته على بعضٍ والمداولةُ بين الأشياءِ المتضادَّةِ وعبَّر عن ذلك بإدخالِ أحدِ المَلَوين في الآخرِ بأنْ يزيد فيه ما ينقص على الآخرِ أو بتحصيلِ أحدِهما في مكان الآخر لكونه أظهرَ الموادِّ وأوضحَها {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ} بكلِّ المسموعاتِ التي من جُملتها قول الماقب {بَصِيرٌ} بجميع المُبصراتِ ومن جُملتها أفعاله

62

{ذلك} أي الاتِّصافُ بما ذُكر من كمال القدرة والعلمِ وما فيه من معنى البُعدِ لما مر آنِفاً وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى {بأن الله هُوَ الحق} الواجبُ لذاته الثَّابتُ في نفسِه وصفاتِه وأفعالِه وحدَهُ فإنَّ وجوبَ وجودِه ووحدتِه يقتضيانِ كونَه مبدأً لكُلِّ ما يُوجدُ من الموجوداتِ عالِماً بكلِّ المعلوماتِ أو الثَّابتُ إلهية فلا يصلح لها إلاَّ مَن كان عالماً قادراً {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ من دونه} إلها وقرئ على البناءِ للمفعولِ على أن الواو لما فإنه عبارة عن الآلهة وقرئ بالتَّاءِ على خطابِ المُشركين {هُوَ الباطل} أي المعدومُ في حدِّ ذاتِه أو الباطلُ ألوهيَّتُه {وَأَنَّ الله هُوَ العلى} على جميعِ الأشياءِ {الكبير} عن أنْ يكون له شريكٌ لا شيء أعلى منه شأناً وأكبر سلطاناً

63

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزل من السماء ماء} استفهام تقرير كما يفصح عنه الرفعُ في قوله تعالى {فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً} بالعطف على أنزلَ وإيثار صيغةَ الاستقبالِ للإشعارِ بتجدُّدِ أثرِ الإنزالِ واستمرارِه أو لاستحضارِ صورةِ الاخضرارِ {إِنَّ الله لَطِيفٌ} يصل لطفُه أو علمُه ألى كلِّ ما جلَّ ودقَّ {خَبِيرٌ} بما يليقُ من التَّدابيرِ الحسنةِ ظاهراً وباطناً

64

{له ما في السماوات وَمَا فِي الأرض} خَلْقاً ومُلْكاً وتصَرُّفاً {وَإِنَّ الله لَهُوَ الغنيُّ} عن كلِّ شيءٍ {الحميد} المستوجبُ للحمدِ بصفاته وأفعاله

65

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سخر لَكُم مَّا فِى الارض} أي جعلَ ما فيها من الأشياءِ مذلَّلةً لكم معدَّةً لمنافعكم تتصرَّفون فيها كيفَ شئتُم فلا

سورة الحج (66 67) أصلبَ من الحجرِ ولا أشدَّ من الحديدِ ولا أهيبَ من النَّارِ وهي مسخَّرةٌ لكم وتقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمامِ بالمقدَّمِ لتعجيل المسرَّةِ والتِّشويقِ إلى المؤخَّرِ {والفلك} عطفٌ على مَا أو على اسم أن وقرئ بالرَّفعِ على الابتداء {تَجْرِى فِى البحر بِأَمْرِهِ} حالٌ من الفلك على الأوَّلِ وخبرٌ على الأخيرينِ {وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض} أي من أن تقعَ أو كراهةَ أن تقع بأنْ خلقَها على هيئةٍ متداعيةٍ إلى الاستمساك {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} أي بمشيئته وذلك يومُ القيامةِ وفيه ردٌّ لاستمساكها بذاتها فإنَّها مساويةٌ في الجسميَّةِ لسائر الأجسامِ القابلةِ للميلِ الهابط فتقبله كقبولِ غيرِها {إِنَّ الله بالناس لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} حيث هيَّأ لهم أسبابَ معاشِهم وفتحَ عليهم أبوابَ المنافعِ وأوضح لهم مناهجَ الاستدلالِ بالآيات التَّكوينيةِ والتَّنزيليةِ

66

{وَهُوَ الذى أَحْيَاكُمْ} بعد أنْ كنتُم جماداً عناصرَ ونطفاً حسبما فُصِّل في مطلع السورةِ الكريمة {ثُمَّ يميتكم} عند مجئ آجالِكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} عند البعثِ {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ} أي جَحودٌ للنِّعمِ مع ظهورِها وهذا وصف للجنس بوصف بعضِ أفرادِه

67

{لِكُلّ أُمَّةٍ} كلام مستأنف جئ به لزجر معاصريه صلى الله عليه وسلم من أهل الأديان السَّماويةِ عن منازعته صلى الله عليه وسلم ببيان حالِ ما تمسكوا به من الشَّرائع وإظهارِ خطئِهم في النَّظرِ أي لكلِّ أمةٍ معيَّنةٍ من الأممِ الخاليةِ والباقيةِ {جَعَلْنَا} أي وضعنَا وعيَّنا {مَنسَكًا} أي شريعةً خاصَّةً لا لأمةٍ أُخرى منهم على معنى عيَّنا كلَّ شريعةٍ لأمةٍ معيَّنةٍ من الأمم بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتَها المعيَّنةَ لها إلى شريعةٍ أُخرى لا استقلالاً ولا اشتراكاً وقوله تعالى {هُمْ نَاسِكُوهُ} صفة لمَنْسكاً مؤكِّدةٌ للقصر المستفادِ من تقديم الجارِّ والمجرور على الفعل والضَّميرُ لكلِّ أمة باعتبار خصومها أي تلك الأُمَّةُ المعيَّنةُ ناسكوه والعاملون به لا أمةٌ أُخرى فالأمةُ التي كانت من مبعث مُوسى عليه السَّلامُ إلى مبعث عيسَى عليه السَّلامُ منسَكُهم التَّوراةُ هم ناسكوها والعاملونَ بها لا غيرُهم والتي كانت من مَبعثِ عيسى إلى مبعث النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم منسكُهم الإنجيلُ هم ناسكُوه والعاملون به لا غيرُهم وأما الأمَّةُ الموجودةُ عند مبعث النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ومن بعدهم من الموجودينَ إلى يومِ القيامةِ فهُم أمةٌ واحدةٌ منسكهم الفرقانُ ليس إلاَّ كما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا والفاء في قوله تعالى {فَلاَ ينازعنك فِى الأمر} لترتيب الهي أو موجبِه على ما قبلها فإنَّ تعيينَه تعالى لكل أمة من الأمم التي من جُملتهم هذه الأمةُ شريعةً مستقلَّةً بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتَها المعيَّنةَ لها موجبٌ لطاعةِ هؤلاء لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وعدمِ منازعتِهم إيَّاهُ في أمرِ الدِّينِ زعماً منهم أنَّ شريعتَهم ما عُيِّن لآبائِهم الأوَّلينَ من التَّوراةِ والإنجيلِ فإنَّهما شريعتانِ لمن مَضَى من الأمم قبل انتساخهما وهؤلاء أمةٌ مستقلَّةٌ منسكهم القرآنُ المجيد فحسب والنَّهيُ إما على حقيقته أو كلية عن نهيه صلى الله عليه وسلم عن الالتفات إلى نزاعهم للنبي على زعمهم المذكورِ وأما جعله عبارةً عن نهيِه صلى الله عليه وسلم

سورة الحج (68 71) عن مازعنهم فلا يساعده المقام وقرئ فلا ينزعنَّك على تهييجِه صلى الله عليه وسلم والمبالغةِ في تثبيتِه وأيًّا ما كان فمحلُّ النِّزاعِ ما ذكرناهُ وتخصيصُه بأمر النسائك وجعلُه عبارةً عن قول الخُزاعيين وغيرِهم للمسلمينَ ما لكم تأكُلون ما قتلتُم ولا تأكاوا ما قتلَه الله تعالى مما لا سبيلَ إليه أصلاً كيف لا وأنَّه يستدعِي أن يكونَ أكلُ الميتةِ وسائرُ ما يدينونَه من الأباطيلِ من جملة المناسكِ التي جعلها الله تعالى لبعضِ الأُممِ ولا يرتابُ في بُطلانِه عاقلٌ {وادع} أي وادعُهم أو وادعُ النَّاسَ كافَّةً على أنَّهم داخلونَ فيهم دُخولاً أولياً {إلى رَبّكَ} إلى توحيدِه وعبادتِه حسبما بُيِّن لهم في منسكِهم وشريعتِهم {إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ} أي طريقٍ موصِّلٍ إلى الحقِّ سويّ والمرادُ به إما الدِّينُ والشَّريعةُ أو أدلنها

68

{وَإِن جادلوك} بعد ظهورِ الحقِّ بما ذُكر من التَّحقيق ولزومِ الحُجَّةِ عليهم {فَقُلْ} لهم على سبيل الوعيدِ {الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأباطيلِ التي من جُملتها المجادلةُ

69

{الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يفصل بين المؤمنين منكُم والكافرينَ {يَوْمُ القيامة} بالثَّوابِ والعقابِ كما فصَل في الدُّنيا بالحججِ والآياتِ {فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من أمرِ الدِّينِ

70

{أَلَمْ تَعْلَمْ} استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله والاستفهامُ للتَّقرير أي قد علمتَ {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السماء والأرض} فلا يَخْفى عليه شيءٌ من الأشياء التي من جملتها ما يقوله الكَفَرةُ وما يعملونَهُ {إِنَّ ذلك} أي ما فى السماء والأرض {فِى كتاب} هو اللَّوحُ قد كُتب فيه قبل حدوثِه فلا يُهمنَّك أمرُهم مع علمِنا به وحفظِنا له {إِنَّ ذلك} أي ما ذُكر من العلمِ والإحاطةِ به وإثباتِه في اللوح أو الحكم ببينكم {عَلَى الله يَسِيرٌ} فإنَّ علمَه وقدرتَه مُقتضى ذاتِه فلا يَخْفى عليه شيءٌ ولا يعسرُ عليه مقدورٌ

71

{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} حكايةٌ لبعض أباطيلِ المشركينَ وأحوالِهم الدَّالَّةِ على كمال سخافةِ عقولِهم وركاكةِ آرائِهم من بناء أمرِ دينِهم على غيرِ مَبْنى من دليلٍ سمعيَ أو عقليَ وإعراضِهم عمَّا أُلقي عليهم من سلطانٍ بيِّنٍ هو أساسُ الدِّينِ وقاعدتُه أشدَّ إعراضٍ أي يعبدُون متجاوزينَ عبادةَ الله {مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ} أي بجوازِ عبادتِه {سلطانا} أي حجَّةً {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ} أي بجواز عبادتِه {عِلْمٍ} من ضرورة العقلِ أو استدلاله {وَمَا للظالمين} أي الذينَ ارتكبُوا مثل هذا الظُّلمِ العظيمِ الذي يقضي ببطلانِه وكونِه ظُلماً بديهةُ العقولِ {مِن نَّصِيرٍ} يساعدُهم بنصرةِ مذهبِهم وتقريرِ رأيهم أو بدفعِ العذابِ الذي يعتريهم بسبب ظلمهم

سورة الحج (72 73)

72

{وإذا تتلى عليهم آياتنا} عطفٌ على يعبدونَ وما بينهما اعتراضٌ وصيغة المضارعِ للدلالة على الاستمرار التجددي {بينات} أي حالَ كونِها واضحاتِ الدِلالةِ على العقائدِ الحَقَّةِ والأحكام الصَّادقةِ أو على بطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام أو على كونِها من عندِ الله عزَّ وجل {تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر} أي الإنكارَ كالمُكرَم بمعنى الإكرامِ أو الفظيعَ من التَّجهمِ والبُسورِ أو الشَّرِّ الذي يقصدونَهُ بظهورِ مخايلِه من الأوضاعِ والهيئاتِ وهو الأنسبُ بقولِه تعالى {يكادون يَسْطُونَ بالذين يتلون عليهم آياتنا} أي يَثِبُون ويبطِشُون بهم من فرط الغيظِ والغضبِ لأباطيلَ أخذُوها تقليداً وهل جهالةٌ أعظمُ وأطمُّ من أنْ يعبدُوا ما لا يوهم صحَّةَ عبادتِه شيءٌ ما أصلاً بل يقضي ببطلانِها العقلُ والنَّقلُ ويظهروا لمن يهديهم إلى الحقِّ البيِّنِ بالسُّلطانِ المُبينِ مثلَ هذا المنكرِ الشَّنيعِ كَلاَّ ولهذا وضعَ الذين كفروا موضعَ الضَّميرِ {قُلْ} ردًّا عليهم وإقناطاً عما يقصدونَه من الإضرارِ بالمسلمينَ {أَفَأُنَبّئُكُم} أي أخاطبكم فأخبرُكم {بِشَرّ مّن ذلكم} الذي فيكم من غيظكم على التَّالينَ وسطوتِكم بهم أو مما تبغونَهم من الغوائلِ أو مما أصابكم من الضَّجرِ بسبب ما تلَوه عليكم {النار} أي هو النَّارُ على أنَّه جوابٌ لسؤالٍ مقدرٍ كأنَّه قيلَ ما هُو وقيلَ هو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى {وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} وقرئ النَّارَ بالنَّصبِ على الاختصاص وبالجرِّ بدلاً من شرَ فتكون الجملةُ الفعليةُ استئنافاً كالوجهِ الأول أو حالاً من النَّارِ بإضمار قَدْ {وبئس المصير} النار

73

{يا أيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ} أي بُيِّن لكم حالٌ مستغربةٌ أو قصَّةٌ بديعةٌ رائعةٌ حقيقةٌ بأنْ تسمَّى مَثَلاً وتسيرَ في الأمصارِ والأعصارِ أو جُعل لله مثلٌ أي مثل في استحقاقِ العبادةِ وأُريد بذلك ما حُكي عنهم من عبادتِهم للأصنامِ {فاستمعوا لَهُ} أي للمثلِ نفسِه استماعَ تدبر وتفكُّرٍ أو فاستمعُوا لأجلِه ما أقولُ فقوله تعالى {إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} الخ بيانٌ للمثل وتفسيرٌ له على الأوَّلِ وتعليلٌ لبطلان جعلهم الأصنامَ مثلَ الله سبحانه في استحقاق العبادةِ على الثاني وقرئ بياء الغَيبةِ مبنيًّا للفاعلِ ومبنيًّا للمفعولِ والرَّاجع إلى الموصولِ على الأولين محذوفٌ {لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً} أي لن يقدروا على خلقه أبداً مع صغره وحقارتِه فإنَّ لن بما فيها من تأكيد النَّفيِ دالَّةٌ على مُنافاة ما بين المنفيِّ والمنفيِّ عنه {وَلَوِ اجتمعوا لَهُ} أي لخلقه وجوابُ لو محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه والجملةُ معطوفةٌ على شرطيةٍ أُخرى محذوفةٍ ثقةً بدلالة هذه عليها أي لو لم يجتمعوا عليه لن يخلقُوه ولو اجتمعُوا له لن يخلقُوه كما مرَّ تحقيقُه مراراً وهما في موضع الحالِ كأنَّه قيل لن يخلقوا ذبابا

سورة الحج (74 77) على كلِّ حالٍ {وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً} بيان لعجزهم عن الامتناع عمَّا يفعل يهم الذُّبابُ بعد بيانِ عجزِهم عن خلقِه أي إنْ يأخذِ الذُّبابُ منهم شيئاً {لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} مع غايةِ ضعفِه ولقد جُهلوا غايةَ التَّجهيلِ في إشراكِهم بالله القادرِ على جميع المقدورات المنفرد بإيجاد كافةِ الموجوداتِ تماثيلَ هي أعجزُ الأشياءِ وبين ذلك بأنَّها لا تقدرُ على أقل الأحياءِ وأذلِها ولو اتَّفقُوا عليه بل لا تقوى على مقاومةِ هذا الأقلِ الأذلِّ وتعجز عن ذبِّه عن نفسِها واستنقاذِ ما يختطفُه منها قيل كانُوا يطيِّبونها بالطِّيبِ والعسلِ ويُغلقون عليها الأبوابَ فيدخل الذُّبابُ من الكُوى فيأكلُه {ضَعُفَ الطالب والمطلوب} أي عابدُ الصَّنمِ ومعبودُه أو الذُّبابُ الطَّالبُ لما يسلبُه من الصَّنمِ من الطِّيبِ والصَّنمُ المطلوبُ منه ذلك أو الصَّنمُ والذُّبابُ كأنَّه يطلبه ليستنقذَ منه ما يسلبه ولو حقَّقتَ وجدتَ الصَّنمَ أضعفَ من الذُّبابِ بدرجاتٍ وعابدَه أجهلَ من كلِّ جاهلٍ وأضلَّ من كلِّ ضالَ

74

{مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عرفُوه حقَّ معرفتِه حيث أشركُوا به وسمَّوا باسمه ما هو أبعدُ الأشياءِ عنه مناسبةً {إِنَّ الله لَقَوِىٌّ} على خلق الممكناتِ بأسرها وإفناءِ الموجوداتِ عن آخرها {عَزِيزٌ} غالبٌ على جميع الأشياءِ وقد عرفتَ حالَ آلهتِهم المقهورةِ لأذلها العجزة عن أقلها والجملةُ تعليلٌ لما قبلها من نفيِ معرفتهم له تعالى

75

{الله يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلاً} يتوسَّطون بينَه تعالَى وبينَ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ بالوحيِ {وَمِنَ الناس} وهم المختصون بالنفوس الزكية المؤيدون بالقُوَّة القدسيةِ المتعلِّقون بكلا العالمينِ الرُّوحانيِّ والجُسمانيِّ يتلقَون من جانبٍ ويلقون إلى جانب ولا يعوقهم التعلقُ بمصالحِ الخلقِ عن التبتل إلى جناب الحقِّ فيدعونَهم إليه تعالى بما أنزل عليهم ويعلِّمونهم شرائعَه وأحكامَه كأنَّه تعالى لمَّا قرَّر وحدانيَّتَه في الأُلوهية ونفى أنْ يشاركَه فيها شيءٌ من الأشياء بيَّن أنَّ له عباداً مُصطفَين للرِّسالة يُتوسل بإجابتهم والاقتداءِ بهم إلى عبادته عزَّ وجلَّ وهو أعلى الدَّرجاتِ وأقصى الغاياتِ لمن عداه من الموجوداتِ تقريراً للنُّبوة وتزييفاً لقولِهم لَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة وقولهم مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إلى الله زلفى وقولهم الملائكةُ بناتُ الله وغيرِ ذلك من الأباطيلِ {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} عليم بجميعِ المسموعاتِ والمبصراتِ فلا يَخْفى عليه شيءٌ من الأقوالِ والأفعالِ

76

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} لا إلى أحدٍ غيرِه لا اشتراكاً ولا استقلالا

77

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اركعوا واسجدوا} أي في صلواتِكم أمرَهم بهما لمَا أنَّهم ما كانُوا يفعلونَهما أول الإسلام أوصلوا عبر عن الصَّلاةِ بهما لأنَّهما أعظمُ أركانِها أو اخضعُوا لله تعالى وخِرُّوا له سجدا

سورة الحج (78) {وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ} بسائر ما تعبَّدكم به {وافعلوا الخير} وتحرَّوا ما هو خيرٌ وأصلحُ في كلِّ ما تأتون وما تذرونَ كنوافلِ الطَّاعاتِ وصلةِ الأرحامِ ومكارمِ الأخلاقِ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي افعلُوا هذه كلَّها وأنتُم راجُون بها الفلاحَ غيرَ متيقنينَ له واثقينَ بأعمالكم والآيةُ آيةُ سجدةٍ عند الشافعي رحمه الله لظاهر ما فيها من الأمر باسجود ولقوله صلى الله عليه وسلم فُضِّلتْ سورةُ الحجِّ بسجدتينِ مَن لم يسجدْهُما فلا يقرأها

78

{وجاهدوا فِى الله} أي لله تعالى ولأجلِه أعداءَ دينِه الظاهرة كأهلِ الزَّيغِ والباطنةِ كالهَوَى والنَّفسِ وعنه صلى الله عليه وسلم أنَّه رجعَ من غزوةِ تبوكَ فقال رجعنا من الجهادِ الأصغرِ إلى الجهادِ الأكبرِ {حَقَّ جهاده} أي جهاداً فيه حقًّا خالصاً لوجهه فعكسَ وأضيف الحقُّ إلى الجهادِ مبالغةً كقولِك هو حقٌّ عالمٌ وأُضيف الجهادُ إلى الضَّمير اتِّساعاً أو لأنَّه مختصٌّ به تعالى من حيثُ أنَّه مفعولٌ لوجهِه ومن أجلِه {هُوَ اجتباكم} أي هو اختاركُم لدينِه ونصرتِه لا غيرُه وفيه تنبيهٌ على ما يقتضي الجهادَ ويدعُو إليه {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ} أي ضيقٍ بتكليف ما يشقُّ عليكم إقامتُه إشارة إلى أنَّه لا مانعَ لهم عنْهُ ولا عذرَ لهم في تركِه أو إلى الرُّخصةِ في إغفالِ بعضِ ما أمرَهم به حيث يشقُّ عليهم لقولِه صلى الله عليه وسلم إذا أمرتُكم بشيءٍ فأتُوا منه ما استطعتُم وقيل ذلك بأنْ جعلَ لهم من كلِّ ذنبٍ مخرجاً بأنْ رخَّص لهم في المضايقِ وفتحَ لهم بابَ التَّوبةِ وشرَع لهم الكفَّاراتِ في حقوقِه والأروشَ والدِّياتِ في حقوقِ العبادِ {مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم} نُصب على المصدرِ بفعلٍ دلَّ عليه مضمونُ ما قبلَه بحذفِ المضافِ أي وسع عليكم دينَكم توسعةَ ملَّةِ أبيكم أو على الإغراءِ أو على الاختصاصِ وإنَّما جعله أباهم لأنَّه أبوُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو كالأبِ لأمَّتِه من حيثُ أنَّه سببٌ لحياتِهم الأبديَّةِ ووجودِهم على الوجه المعتدِّ به في الآخرةِ أو لأنَّ أكثرَ العربِ كانوا من ذريته صلى الله عيه وسلم فغُلِّبُوا على غيرِهم {هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ} في الكتبِ المُتقدِّمةِ {وَفِى هذا} أي في القرآنِ والضَّميرُ لله تعالى ويُؤيِّده أنه قرئ الله سمَّاكُم أو لإبراهيمَ وتسميتُهم بالمسلمينَ في القُرآن وإنْ لم تكُنْ منه صلى الله عليه وسلم كانت بسببِ تسميته من قبلُ في قوله وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وقيل وفي هذا تقديرُه وفي هذا بيانُ تسميتِه إيَّاكم المسلمينَ {لِيَكُونَ الرسول} يومَ القيامةِ متعلِّقٌ بسمَّاكُم {شَهِيداً عَلَيْكُمْ} بأنَّه بلَّغكُم فيدلُّ على قبولِ شهادتِه لنفسِه اعتماداً على عصمتِه أو بطاعة مَن أطاعَ وعصيانِ مَن عصى {وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس} بتبليغِ الرسل إليهم {فأقيموا الصلاة وآتَوْا الزَّكَاةَ} أي فتقرَّبُوا إلى الله بأنواع الطاعات وتخصيصهما بالذكرلأنافتهما وفضلِهما {واعتصموا بالله} أي ثقُوا به في مجامعِ أمورِكم ولا تطلبُوا الإعانةَ والنُّصرةَ إلاَّ منْه {هُوَ مولاكم} ناصرُكم ومتولِّي أمورِكم {فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} هو إذْ لا مثلَ له في الوَلاَيةِ والنُّصرةِ

سورة الحج (1 3) بل لا ولِيَّ ولا نصيرَ في الحقيقةِ سواهُ عزَّ وجلَّ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سُورةَ الحجِّ أُعطيَ من الأجرِ كحجَّةٍ حجَّها وعمرةٍ اعتمرَها بعددِ مَن حجَّ واعتمرَ فيما مضى وفيما بقى سورة المؤمنون مكية وهي عند البصريين مائة وتسع عشرة آية وعند الكوفيين مائة وثماني عشرة آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

المؤمنون

{قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} الفلاحُ الفوزُ بالمرام والنجاةُ من المكروه وقيل البقاءُ في الخير والإفلاحُ الدُّخولُ في ذلكَ كالإبشارِ الذي هو الدخولُ في البشارةِ وقد يجيءُ متعدياً بمعنى الإدخال فيه وعليه قراءةُ مَن قرأ على البناء للمفعول وكلمة قد ههنا لإفادةِ ثبوتِ ما كان متوقعَ الثُّبوتِ من قبلُ لا متوقعَ الإخبارِ به ضرورةَ أنَّ المتوقعَ من حال المؤمنينَ ثبوتُ الفلاحِ لهم لا الإخبارُ بذلك فالمعنى قد فازوا بكلِّ خيرٍ ونجوا من كلِّ ضيرٍ حسبما كان ذلك متوقعاً من حالِهم فإنَّ إيمانَهم وما تفرَّعَ عليه من أعمالهم الصالحةِ من دواعي الفلاحِ بموجب الوعدِ الكريمِ خلا أنَّه إنْ أُريد بالإفلاح حقيقةُ الدُّخولِ في الفلاح الذي لا يتحققُ إلا في الآخرة فالإخبارُ به على صيغة الماضي الدلالة على تحققه لا محالةَ بتنزيله منزلةَ الثابتِ وإنْ أُريد كونُهم بحالٍ تستتبعُه البتةَ فصيغةُ الماضي في محلها وقرئ أفلحُوا على الإبهامِ والتفسيرِ أو على أكلوني البراغيثُ وقرئ أفلحُ بضمة اكتفَى بها عن الواوِ كما في قولِ من قال [ولو أنَّ الأطبَّا كانُ حَولي] والمرادُ بالمؤمنينَ إمَّا المصدِّقون بما عُلم ضرورةَ أنَّه من دينِ نبينا صلى الله عليه وسلم من التَّوحيدِ والنبوةِ والبعثِ والجزاءِ ونظائرِها فقولُه تعالى

2

{الذين هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خاشعون} وما عُطف عليه صفاتٌ مخصصةٌ لهم وإما الآتون بفروعه أيضاً كما ينبئ عنه إضافةُ الصَّلاة إليهم فهي صفاتٌ موضحةٌ أو مادحةٌ لهم حسب اعتبارِ ما ذكر في حيز الصِّلةِ من المعاني مع الإيمان إجمالاً أو تفصيلاً كما مرَّ في أوائل سُورة البقرة والخشوعُ الخوفُ والتَّذللُ أي خائفون من الله عزَّ وجلَّ متذلِّلون له ملزمون أبصارَهم مساجدَهم روى أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلَّى رفع بصره إلى السَّماءِ فلمَّا نزلتْ رمى ببصره نحوَ مسجدِه وأنَّه رأى مُصلِّياً يعبث بلحيته فقال لو خشعَ قلبُ هذا لخشعتْ جوارحُه

3

{والذين هُمْ عَنِ اللغو} أي عمَّا لا يعنيهم من الأقوال والأفعال

سورة المؤمنون (47) {مُّعْرِضُونَ} أي في عامَّة أوقاتهم كما ينبئ عنه الاسمُ الدَّالُّ على الاستمرار فيدخل في ذلك إعراضُهم عنه حالَ اشتغالِهم بالصَّلاةِ دخولاً أوليًّا ومدارُ إعراضهم عنه ما فيه من الحالة الدَّاعيةِ إلى الإعراض عنه لا مجرَّدَ الاشتغالِ بالجدِّ في أمور الدِّينِ كما قيل فإنَّ ذلك رُبَّما يُوهم أنْ لا يكونَ في اللَّغوِ نفسه ما يزجرُهم عن تعاطيهِ وهو أبلغُ من أنْ يُقالَ لا يلهون من وجوه جعلِ الجملةِ اسميَّةً وبناءِ الحكم على الضَّميرِ والتَّعبيرِ عنه بالاسمِ وتقديمُ الصِّلةِ عليه وإقامةُ الإعراضِ مُقامَ التَّركِ ليدلَّ على تباعدهم عنه رأساً مباشرةً وتسبُّباً وميلاً وحضوراً فإنَّ أصلَه أنْ يكونَ في عرضٍ غيرِ عرضِه

4

{والذين هم للزكاة فاعلون} وصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصَّلاة والزَّكاةُ مصدر لأنَّه الأمرُ الصَّادرُ عن الفاعل لا المحلُّ الذي هو موقعُه ومعنى الفعلِ قد مرَّ تحقيقُه في تفسيرِ قولِه تعالى فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ ويجوزُ أنْ يُرادَ بها العينُ على تقدير المضاف

5

{والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون} ممسكون لها فالاستثناءُ في قوله تعالى

6

{إِلاَّ على أزواجهم} من نفي الإرسال الذي ينبئ عنه الحفظُ أي لا يُرسلونها على أحدٍ إلاَّ على أزواجِهم وفيه إيذانٌ بأنَّ قوَّتهم الشَّهويَّة داعيةٌ لهم إلى ما لا يخفى وأنَّهم حافظون لها من استيفاءِ مقتضاها وبذلك يتحقق كما العفَّةِ ويجوز أنْ تكون على بمعنى من وإليه ذهبَ الفرَّاءُ كما في قوله تعالى إِذَا اكتالوا عَلَى الناس أي حافظون لها من كلِّ أحدٍ إلا من أزواجِهم وقيل هي متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ضمير حافظون أي حافظون لها في جميعِ الأحوال إلاَّ حالَ كونهم والينَ أو قوَّامين على أزواجِهم وقيل بمحذوفٍ يدلُّ عليه غيرَ ملُومين كأنَّه قيل يُلامون على كلِّ مباشرٍ إلاَّ على ما أُطلق لهم فإنَّهم غيرُ ملومين وحملُ الحفظِ على القصر عليهنَّ ليكونَ المعنى حافظون فروجَهم على الأزواجِ لا يتعداهُنَّ ثمَّ يقال غير حافظينَ إلا عليهنَّ تأكيداً على تأكيدٍ تكلُّفٌ على تكلُّف {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} أي سراريهم عبر عنهن بما إجراءً لهنَّ لمملوكيتهنَّ مُجرى غيرِ العُقلاءِ أو لأنوثتهنَّ المنبئة عن المقصود وقوله تعالى {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} تعليلٌ لمَا يفيدهُ الاستثناءُ منْ عدم حفظ فروجهم منهنَّ أي فإنَّهم غيرُ ملومين على عدم حفظِها منهنَّ

7

{فَمَنِ ابتغى وَرَاء ذَلِكَ} الذي ذُكر من الحدِّ المتَّسعِ وهو أربعٌ من الحرائر وما شاء من الإماءِ {فَأُوْلَئِكَ هُمُ العادون} الكاملونَ في العُدوانِ المتناهُون فيه وليس فيه ما يدلُّ حتماً على تحريمِ المتعةِ حسبما نُقل عن القاسمِ بن محمَّدٍ فإنَّه قال إنَّها ليستْ زوجةً له فوجبَ أن لا تحمل له أما

سورة المؤمنين (8 12) إنها ليست زوجة له فلأنَّهما لا يتوارثانِ بالإجماعِ ولو كانتْ زوجةً له لحصل التَّوارثُ لقوله تعالى وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم فوجب أنْ لا تحلَّ لقوله تعالى إِلاَّ على أزواجهم لأنَّ لهم أنْ يقولوا إنَّها زوجةٌ له في الجُملةِ وأمَّا أنَّ كلَّ زوجةٍ ترثُ فهم لا يُسلِّمونها وأما ما قيل من أنه إنْ أُريد لو كانت زوجةً حالَ الحياةِ لم يفدو إن أُريدَ بعد الموتِ فالملازمةُ ممنوعةٌ فليس له معنى محصَّلٌ نعم لو عُكسَ لكان له وجهٌ

8

{والذين هُمْ لاماناتهم وَعَهْدِهِمْ} لما يُؤتمنون عليه ويُعاهدون من جهة الحقِّ أو الخلقِ {راعون} أي قائمون عليها حافظون لها على وجه الإصلاح وقرئ لأمانتِهم

9

{والذين هُمْ على صلواتهم} المفروضةِ عليهم {يُحَافِظُونَ} يُواظبون عليها ويُؤدُّونها في أوقاتها ولفظُ الفعلِ فيه لما في الصَّلاةِ من التَّجدُّدِ والتَّكرُّر وهو السرُّ في جمعها وليسَ فيه تكريرٌ لما أنَّ الخشوعَ في الصَّلاة غيرُ المحافظةِ عليها وفصلُهما للإيذانِ بأنَّ كلاً منهما فضيلةٌ مستقلَّةٌ على حيالِها ولو قُرنا في الذِّكرِ لربَّما توهِّم أنَّ مجموعَ الخشوعِ والمحافظةِ فضيلةٌ واحدةٌ

10

{أولئك} إشارةٌ إلى المؤمنين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصِّفاتِ وإيثارُها على الإضمار للإشعار بامتيازهم بها عن غيرهم ونزولهم منزلة المُشار إليه حِسًّا وما فيه من معنى البُعد للإيذانِ بعلوِّ طبقتِهم وبُعدِ درجتهم في الفضل والشَّرفِ أي أولئك المنعوتُون بالنُّعوت الجليلةِ المذكورةِ {هُمُ الوارثون} أي الأحِقَّاءُ بأنْ يُسمَّوا ورَّاثاً دون مَنْ عداهم ممَّن ورِثَ رغائب الأموال والذَّخائرِ وكرائمهما

11

{الذين يَرِثُونَ الفردوس} بيانٌ لما يرثونَه وتقييدٌ للوراثة بعد إطلاقها وتفسيرٌ لها بعد إبهامِها تفخيماً لشأنها ورفعا لمحلها وهي اتسعارة لاستحقاقهم الفِردوسَ بأعمالهم حسبما يقتضيه الوعدُ الكريمُ للمبالغة فيه وقيل إنَّهم يرثون من الكفَّارِ منازلهم فيها حيث فوَّتُوها على أنفسِهم لأنَّه تعالى خلقَ لكلِّ إنسان منزلاً في الجنَّةِ ومنزلاً في النَّارِ {هُمْ فِيهَا} أي في الفردوسِ والتَّأنيثُ لأنَّه اسمٌ للجنَّةِ أو لطبقتها العُليا وهو البستان الجامعُ لأصناف الثَّمرِ رُوي أنَّه تعالى بَنَى جنَّة الفِردوسِ لبنةً من ذهبٍ ولَبنةً من فضَّةٍ وجعلَ خلالَها المسكَ الأذفرَ وفي روايةٍ ولبنةً من مسكٍ مذريَ وغرسَ فيها من جيِّدِ الفاكهةِ وجيِّدِ الرَّيحانِ {خالدون} لا يخرجُون منها أبداً والجملة إمَّا مستأنفةٌ مقرِّره لما قبلها وإمَّا حالٌ مقدرةٌ من فاعل يرثون أو مفعولهِ إذ فيها ذِكرُ كلَ منهما ومعنى الكلامِ لا يموتُون ولا يخرجون منها

12

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} شروعٌ في بيان مبدأ خلقِ الإنسانِ وتقلُّبهِ في أطوارِ الخلقةِ وأدوارِ الفطرةِ بياناً إجماليا

سورة المؤمنون (13 14) إثرَ بيانِ حال بعضِ أفرادِه السُّعداءِ واللاَّمُ جوابُ قسمٍ والواوُ ابتدائيَّةٌ وقيل عاطفةٌ على ما قبلَها والمرادُ بالإنسان الجنسُ أي وبالله لقد خلقنا جنسَ الإنسان في ضِمن خلقِ آدمَ عليه السلام خلقا إجماليًّا حسبما تحقَّقته في سورة الحجِّ وغيرِها وأمَّا كونُه مخلوقاً من سلالاتٍ جُعلتْ نُطَفاً بعد أدوارٍ وأطوارٍ فبعيدٌ {مِن سلالة} السُّلالةُ ما سُلَّ من الشَّيء واستُخرجَ منه فإن فُعالة اسمٌ لما يحصُل من الفعلِ فتارةً تكون مقصوداً منه كالخُلاصةِ وأُخرى غيرَ مقصودٍ منه كالقُلامةِ والكُناسةِ والسُّلالةُ من قبيلِ الأوَّلِ فإنَّها مقصودةٌ بالسَّلِّ ومن ابتدائيةٌ متعلِّقةٌ بالخلقِ ومِنْ في قولِه تعالَى {مِن طِينٍ} بيانيةٌ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع صفةً لسُلالة أي خلقناهُ من سُلالةٍ كائنةٍ من طينٍ ويجوزُ أنْ تتعلَّق بسُلالة على أنَّها بمعنى مسلولةٍ فهي ابتدائيةٌ كالأُولى وقيل المرادُ بالإنسان آدم عليه السلام فإنَّه الذي خُلق من صفوةٍ سُلَّتْ من الطِّينِ وقد وقفت على التَّحقيق

13

{ثُمَّ جعلناه} أي الجنسَ باعتبار أفراده المغايرة لآدمَ عليه السَّلامُ أو جعلنا نسلَه على حذفِ المضافِ إنْ أُريد بالإنسان آدمُ عليه السَّلامُ {نُّطْفَةٍ} بأن خلقناه منها أو ثمَّ جعلنا السُّلالةَ نُطفةً والتَّذكيرُ بتأويل الجوهرِ أو المسلولِ أو الماءِ {فِى قَرَارٍ} أي مستقَرَ وهو الرَّحِمُ عبر عنها بالقرارِ الذي هو مصدرٌ مبالغةً وقولُه تعالى {مَّكِينٍ} وصفٌ لها بصفة ما استقرَّ فيها مثلُ طريقٌ سائرٌ أو بمكانتها في نفسِها فإنَّها مكنت بحيث هي وأُحرزتْ

14

{ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً} أي دماً جامداً بأن أحلنا النُّطفة البيضاءَ علقةً حمراءَ {فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً} أي قطعةَ لحمٍ لا استبانة ولا تمايزَ فيها {فَخَلَقْنَا المضغة} أي غالبَها ومعظمها أو كلَّها {عظاما} بأنْ صلبناها وجعلناها عموداً للبدنِ على هيئاتٍ وأوضاعٍ مخصوصةٍ تقتضيها الحكمةُ {فَكَسَوْنَا العظام} المعهودة {لَحْماً} من بقية المضغةِ أو ممَّا أنبتنا عليها بقدرتنا ممَّا يصلُ إليها أي كسونا كلَّ عظمٍ من تلك العظام ما يليقُ به من اللَّحمِ على مقدارٍ لائقٍ به وهيئةٍ مناسبةٍ له واختلافِ العواطفِ للتَّنبيه على تفاوتِ الاستحالاتِ وجمعُ العظام لاختلافها وقرئ على التَّوحيدِ فيهما اكتفاءً بالجنسِ وبتوحيدِ الأوَّلِ فَقَطْ وبتوحيد الثَّاني فحسب {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقَاً آخَر} هي صورةُ البدنِ أو الرُّوحِ أو القُوى بنفخه فيه أو المجموعُ وثمَّ لكمالِ التَّفاوتِ بين الخلقينِ واحتجَّ به أبو حنيفة رحمه الله على أنَّ من غصبَ بيضةً فأفرختْ عنده لزمه ضمانُ البيضةِ لا الفرخُ لأنَّه خلقٌ آخرُ {فَتَبَارَكَ الله} فتعالى شأنُه في علمه الشَّاملِ وقُدرتهِ الباهرة والالتفات إلى الأسام الجليل لتربية المهابةِ وإدخالِ الرَّوعة والإشعارِ بأنَّ ما ذُكر من الأفاعيلِ العجيبة من أحكام الأُلوهيَّةِ وللإيذانِ بأنَّ حقَّ كلِّ مَن سمع ما فُصِّل من آثار قُدرتهِ عزَّ وعلا أو لاحظَه أنْ يُسارعَ إلى التَّكلُّمِ به إجلالاً وإعظاماً لشؤونهِ تعالى {أَحْسَنُ الخالقين} بدلٌ من الجلالة وقيل نعت له بناءً على أنَّ الإضافةَ ليستْ لفظيَّةً وقيل خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هو أحسنُ الخالقينَ خَلْقاً أي المقدِّرين تقديراً حُذف المميِّز

سورة المؤمنون (15 18) لدلالة الخالقينَ عليه كما حُذف المأذونُ فيهِ فِي قَوْلِه تَعَالَى أُذِنَ لِلَّذِينَ يقتلون لدِلالة الصلةِ عليه أي أحسنُ الخالقين خَلْقاً فالحُسنُ للخلقِ قيلَ نظيرُه قولُه صلى الله عليه وسلم إنَّ اللَّهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ أي جميلٌ فعلُه فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مقامه فانقلب مرفوعا فاستكنَّ رُوي أنَّ عبدَ اللَّه بنِ أبي سَرْح كان يكتبُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى قوله خلقاً آخرَ سارع عبدُ اللَّه إلى النُّطقِ به قبل إملائه صلى الله عليه وسلم فقال اكتبْهُ هكذا نزلتْ فشكَّ عبدُ اللَّه فقال إنْ كان محمَّدٌ يُوحى إليه فأنا كذلك فلحقَ بمكَّة كافراً ثمَّ أسلمَ يوم الفتحِ وقيل ماتَ على كُفرِه ورَوى سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال لمَّا نزلتْ هذهِ الآيةُ قال عمرُ رضي الله عنه فتبارك الله أحسن الخالقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا نزلَ يا عمرُ وكان رضي الله عنه يفتخرُ بذلك ويقولُ وافقتُ ربِّي في أربعٍ الصَّلاةُ خلفَ المُقامِ وضربُ الحجابِ على النِّسوةِ وقولي لهنَّ أو ليبدله الله خيراً منكنَّ فنزل قولُه تعالى عسى ربه عن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ الآية والرابعُ فتباركَ اللَّهُ أحسنُ الخالقينَ انظر كيفَ وقعتْ هذه الواقعةُ سبباً لسعادةِ عمر رضي الله عنه وشقاوة ابن أبي سَرْح حسبما قال تعالى يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا لا يقالُ فقد تكلَّم البشرُ ابتداءً بمثل نظمِ القُرآن وذلك قادحٌ في إعجازِه لما أنَّ الخارجَ عن قُدرة البشرِ ما كان مقدارَ أقصرِ السُّورِ على أنَّ إعجازَ هذه الآيةِ الكريمةِ منوطٌ بما قبلها كما نعرب عنه الفاءُ فإنَّها اعتراضٌ تذييلي مقرر لمضمون ما قبله

15

{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك} أي بعد ما ذُكر منَ الأمورِ العجيبةِ حسبما ينبئ عنه ما في اسمِ الإشارةِ من معنى البعد المُشعرِ بعلوِّ رُتبةِ المُشار إليهِ وبُعدِ منزلتِه في الفضلِ والكمالِ وكونهِ بذلك ممتازاص منزَّلاً منزلةَ الأمور الحسيَّةِ {لَمَيّتُونَ} لصائرونَ إلى الموتِ لا محالَة كما تُؤذِنُ به صيغةُ النَّعتِ الدَّالَّةِ على الثُّبوتِ دُون الحدوثِ الذي تُفيده صيغةُ الفاعلِ وقد قرئ لمائتون

16

{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة} أي عند النَّفخةِ الثَّانيةِ {تُبْعَثُونَ} من قبورِكم للحسابِ والمُجازاةِ بالثَّوابِ والعقابِ

17

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ} بيانٌ لخلقِ ما يحتاج إليه بقاؤُهم إثرَ بيانِ خلقِهم أي خلقنا في جهةِ العلوِّ من غيرِ اعتبارِ فوقيَّتِها لهم لأنَّ تلك النِّسبة إنما تعرَّض لها بعد خلقِهم {سَبْعَ طَرَائِقَ} هي السموات السَّبعُ سُمِّيتْ بها لأنَّها طُورق بعضُها فوق بعضٍ مُطارقةَ النَّعلِ فإنَّ كلَّ ما فوقه مثلُه فهو طريقةٌ أو لأنَّها طرائقُ الملائكةِ أو الكواكبِ فيها مسيرُها {وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق} عن ذلك المخلوق الذي هو السموات أو عن جميع المخلوقاتِ التي هي من جُملتِها أو عن النَّاسِ {غافلين} مُهملين أمرَها بل نحفظُها عن الزَّوال والاختلالِ وندبر أمرَها حتَّى تبلغَ مُنتهى ما قُدِّر لها من الكمال حسبما اقضته الحكمةُ وتعلقتْ به المشيئةُ ويصل إلى ما في الأرض منافعها كما ينبئ عنه قولُه تعالى

18

{وأنزلنا من السماء ماء} هو المطرُ أو الأنهار النازلة من

سورة المؤمنون (19 20) الجنَّة قيل هي خمسةُ أنهار سيحُون نهرُ الهندِ وجيحونُ نهر بَلْخِ ودجلةُ والفرات نهر العراقِ والنِّيلُ نهرُ مصرَ أنزلها اللَّهُ تعالى من عينٍ واحدةٍ من عيونِ الجنَّةِ فاستودَعها الجبالَ وأجراها في الأرضِ وجعل فيها منافعَ للنَّاسِ في فُنونِ معايشهم ومن ابتدائيَّةٌ متعلِّقةٌ بأنزلنا وتقديمُها على المفعولِ الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخَّرِ والعدولِ عن الإضمارِ لأنَّ الإنزالَ لا يُعتبر فيه عنوانُ كونها طرائقَ بل مجرَّدُ كونها جهة العلوِّ {بِقَدَرٍ} بتقديرٍ لائق لاستجلابِ منافعهم ودفعِ مضارِّهم أو بمقدارِ ما علمنا من حاجاتهم ومصالحهم {فَأَسْكَنَّاهُ فِى الارض} أي جعلناه ثابتاً قارًّا فيها {وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ} أي إزالتهِ بالإفسادِ أو التَّصعيدِ أو التَّغويرِ بحيثُ يتعذبر استنباطُه {لقادرون} كما كُنَّا قادرين على إزالة وفي تنكيرِ ذهابٍ إيماءٌ إلى كثرةِ طُرقهِ ومبالغةٌ في الإبعادِ به ولذلك جعل أبلغ من قوله تعالى قُل أَرَأَيْتُمْ عن أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ

19

{فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ} أيْ بذلكَ الماءِ {جناتٌ مّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا} في الجنَّاتِ {فواكه كَثِيرَةٌ} تتفكَّهون بها {وَمِنْهَا} من الجنَّاتِ {تَأْكُلُونَ} تغذياً أو تُرزقون وتحصِّلُون معايشَكُم من قولهم فلانٌ يأكل من حرفته ويجوز أن يعود الضميرانِ للنَّخيلِ والأعنابِ أي لكم في ثمراتها أنواعٌ من الفواكه الرُّطبِ والعنب والتَّمرِ والزَّبيبِ والعصير والدِّبسِ وغير ذلك وطعام يأكلونه

20

{وَشَجَرَةً} بالنَّصبِ عطف على جنات وقرئ بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ دلَّ عليهِ ما قبلَهُ أيْ وممَّا أنشئ لكم به شجرةٌ وتخصيصُها بالذكر من بين الأشجار لاستقلالِها بمنافعَ معروفةٍ قيل هي أوَّلُ شجرةٍ نبتت بعد الطُّوفانِ وقوله تعالى {تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء} وهو جبلُ موسى عليه السَّلامُ بين مصرَ وأيلة وقيل بفلسطينَ ويقال له طور سنين فإمَّا أنْ يكون الطُّورُ اسم الجبل وسيناءُ اسمَ البُقعةِ أُضيف إليها أو المركب منهما علم له كامرئ القَيْس ومُنع صرفُه على قراءةِ من كسر السِّينَ للتَّعريفِ والعُجمةِ أو التَّأنيثِ على تأويل البُقعةِ لا للألف لأنَّه فِيعالٌ كدِيماسٍ من السَّناءِ بالمدِّ وهو الرِّفعةُ أو بالقصر وهو النور أو ملحق بفعلان كعلباء من السِّين إذ لا فعلاء بألف التَّأنيثِ بخلاف سيناء فإنه فَيعالٌ ككيسان أو فعلاء كصَحْراءَ إذ لا فَعلال في كلامهم وقرئ بالكسرِ والقصرِ والجملةُ صفةٌ لشجرةً وتخصيصها بالخروج منه مع خروجِها من سائر البقاعِ أيضاً لتعظيمها ولأنَّه المنشأُ الأصليُّ لها وقولُه تعالى {تَنبُتُ بالدهن} صفة أخرى لشجرة والباءُ متعلقةٌ بمحذوف وقع حالا منها أي تنبتُ ملتبسةً به ويجوزُ كونُها صلةً معدية أي تنبيته بمعنى تتضمَّنه وتحصِّله فإنَّ النَّباتَ حقيقةً صفةٌ للشَّجرةِ لا للدهن وقرئ تُنبت من الإفعالُ وهو إمَّا من الإنباتِ بمعنى النَّباتِ كما في قولِ زُهيرٍ [رَأيتُ ذَوي الحاجاتِ حولَ بيوتهِم قَطيناً لهم حتَّى إذا أنبتَ البقلُ] أو على تقديرِ تُنبت زيتونها ملتبسا بالدهن وقرئ على البناءِ للمفعول وهو كالأوَّلِ وتُثمر بالدُّهنِ وتخرُج بالدُّهنِ وتنبت بالدِّهانِ {وَصِبْغٍ لّلاكِلِيِنَ} معطوف على الدُّهنِ جارٍ على إعرابه عطف أحد وصفَيْ الشَّيءِ على

سورة المؤمنون (21 23) الآخرِ أي تنبت بالشَّيءِ الجامع بين كونهِ دُهناً يُدهنُ به ويُسرجُ منه وكونهِ إداماً يُصبغ فيه الخبز أي يُغمس فيه للائتدام وقرئ وصباغٍ كدباغٍ في دِبْغٍ

21

{وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام لعبرة} بيان للنعم الفائضة عليهم من جهة الحيوانِ إثرَ بيانِ النِّعم الواصلةِ إليهم من جهة الماءِ والنَّبات وقد بُيِّن أنها مع كونها في نفسِها نعمةً ينتفعون بها على وجوهٍ شتى عبرةٌ لابد من أنْ يعتبرُوا بها ويستدلُّوا بأحوالها على عظيم قدرة الله عز وجل وسابغ رحمته ويشكروه ولا يكفروه وخُصَّ هذا بالحيوان لما أنَّ محلَّ العبرة فيه أظهرُ ممَّا في النَّباتِ وقولُه تعالى {نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهَا} تفصيلٌ لما فيها من مواقعِ العبرةِ وما في بطونِها عبارة إمَّا عن الألبانِ فمِن تبعيضيةٌ والمرادُ بالبطونِ الجَوفُ أو عن العلف الذي يتكوَّن منه اللَّبنُ فمن ابتدائيةٌ والبطون على حقيقتها وقرئ بفتح النُّونِ وبالتَّاءِ أي تسقيكم الأنعامُ {وَلَكُمْ فيِهَا منافع كَثِيرَةٌ} غيرَ ما ذُكر من أصوافِها وأشعارِها {ومنها تأكلون} فتنتفعون بأعيابها كما تنتفعون بما يحصُل منها

22

{وَعَلَيْهَا} أي على الأنعامِ فإنَّ الحملَ عليها لا يقتضي الحملَ على جميعِ أنواعِها بل يتحقَّقُ بالحمل على البعضِ كالإبل ونحوِها وقيل المرادُ هي الإبلُ خاصَّة لأنَّها هي المحمولُ عليها عندهم والمناسبُ للفلك فإنَّها سفائنُ البرِّ قال ذُو الرُّمَّةِ [سفينةُ بَرَ تحتَ خَدِّي زِمامُها] فالضَّميرُ فيهِ كما في قوله تعالى وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ {وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} أي في البرِّ والبحرِ وفي الجمع بينها وبين الفُلكِ في إيقاع الحملِ عليها مبالغةٌ في تحمُّلِها للحملِ وهو الدَّاعي إلى تأخير ذكرِ هذه المنفعةِ مع كونِها من المنافعِ الحاصلةِ منها عن ذكرِ منفعةِ الأكلِ المتعلِّقة بعينِها

23

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ} شروعٌ في بيانِ إهمال الأُمم السَّابقةِ وتركهم النَّظرَ والاعتبارَ فيما عُدِّد من النِّعمِ الفائتة للحصر وعدم تذكرهم بتذكير رسلهم وما حاقَ بهم لذلك من فُنون العذاب تحذيراً للمُخاطبين وتقديمُ قصَّةِ نوحٍ عليه السَّلامُ على سائرِ القصصِ مما لا يخفى وجهُه وفي إيرادِها إثرَ قوله تعالى وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ من حُسنِ الموقِع ما لا يُوصف والواوُ ابتدائيةٌ واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ وتصديرُ القِصَّةِ به لإظهار كمالِ الاعتناءِ بمضمونِهَا أي وبالله لقد أرسلنا نوحا الأخ ونسبهُ الكريمُ وكيفيَّةُ بعثهِ وكميَّةُ لبثهِ فيما بينهم قد مرَّ تفصيله في سورة الأعراف وسورة هود {فعال} متعطِّفاً عليهم ومستميلاً لهم إلى الحق {يا قوم اعبدوا الله} أي اعبدوه وحدَه كما يُفصح عنه قولُه تعالى في سُورة هود أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله وتركَ التَّقييدِ به للإبذان بإنَّها هي العبادةُ فقط والعبادة بالإشراكِ فليستْ من العبادة في شيءٍ رأساً وقولُه تعالى {مَّا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ} استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل العبادةِ المأمورِ بها أو تلعيل الأمرِ بها وغيرُه بالرَّفعِ صفة

سورة المؤمنون (24 25) لإله باعتبارِ محلِّه الذي هو الرفعِ على أنَّه فاعلُ أو مبتدأٌ خبرُه لكُم أو محذوفٌ ولكُم للتَّخصيصِ والتَّبيينِ أي ما لكُم في الوجودِ أو في العالمِ إله غيرُه تعالى وقرئ بالجرِّ باعتبار لفظه {أَفَلاَ تتقون} أي أفلا تقوت أنفسَكم عذابَه الذي يستوجبه ما أنتم عليه من ترك عبادته كما يفصحُ عنه قولُه تعالى إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وقولُه تعالى عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ وقيل أفلا تخافون أنْ ترفضُوا عبادة الله الذي هو ربُّكم الخ وليس بذاكَ وقيل أفلا تخافون أنْ يُزيل عنكم نعمَه الخ وفيهِ ما فيهِ والهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه والفاء للعطف على مقدر يقتضيهِ المقامُ أي أتعرفون ذلك أي مضمونَ قولِه تعالى مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ فلا تتَّقون عذابَه بسبب إشراكِكم به في العبادة ما لا يستحقُّ الوجودَ لولا إيجادُ الله تعالى إيَّاهُ فضلاً عن استحقاقِ العبادة فالمنكر عدمُ الاتِّقاءِ مع تحقُّق ما يُوجبه أو ألا تلاحِظون ذلكَ فلا تتَّقُونه فالمنكر كلا الأمرين فالممالعة حينئذٍ في الكميَّةِ وفي الأوَّلِ في الكيفيَّةِ

24

{فَقَالَ الملأ} أي الأشراف {الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} وصف الملأ بما ذُكر مع اشتراك الكلِّ فيه للإيذان بكمال عراقتِهم في الكُفرِ وشدَّةِ شكيمتهم فيه أي قالوا لعوامِّهم {مَا هذا إلا بشر مثلكم} أي في الجنسِ والوصفِ من غير فرقٍ بينكم وبينَه وصفوه عليه السَّلامُ بذلك مبالغةً في وضع رتبته العالية وحطِّها عن منصب النُّبوة {يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي يريدُ أنْ يطلبَ الفضلَ عليكم ويتقدَّمكم بادِّعاءِ الرَّسالةِ مع كونهِ مثلكم وصفوه بذلك إغضاباً للمُخاطبين عليه عليه السَّلامُ وإغراءً لهم على معاداته عليه السَّلامُ وقولُه تعالى {وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة} ) بيانٌ لعدم رسالة البشر على الإطلاقِ على زعمِهم الفاسدِ بعد تحقيق بشريَّتهِ عليه السَّلامُ أي لو شاء الله تعالى إرسالَ الرَّسولِ لأرسل رُسُلاً من الملائكة وإنَّما قيل لأنزل لأنَّ إرسالَ الملائكة لا يكونُ إلا بطريقِ الإنزالِ فمفعولُ المشيئة مطلقُ الإرسالِ المفهوم من الجواب لأنفس مضمونِه كما في قوله تعالى وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ ونظائره {مَّا سَمِعْنَا بهذا} أي بمثل هذا الكلامِ الذي هو الأمرُ بعبادة الله خاصَّةً وتركُ عبادة ما سواه وقيل بمثل نوحٍ عليه السَّلامُ في دعوى النُّبوةِ {في آبائنا الأولين} أي الماضين قبلِ بعثتِه عليه السَّلامُ قالوه إمَّا لكونهم وآبائهم في فترة متطاولةٍ وإما لفرطِ غلوِّهم في التكذيب والعناد وأنهما كهم في الغيِّ والفساد وأيَّا ما كان فقولُهم هذا ينبغي أنْ يكونَ هو الصادر عنهم في مبادئ دعوتهِ عليه السَّلامُ كما تنبئ عنه الفاء في قوله تعالى فَقَالَ الملا الخ وقيل معناه ماسمعنا به عليه السَّلامُ أنَّه نبيٌّ فالمرادُ بآبائِهم الأوَّلين الذين مضموا قبلهم في زمنِ نوحٍ عليه السَّلامُ وقولهم المذكور هو الذي صدر عنهم في أواخرِ أمرِه عليه السَّلامُ وهو المناسبُ لما بعدَه من حكاية دُعائهِ عليه السَّلامُ وقولهم

25

{إِنْ هُوَ} أي مَا هو {إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي جُنونٌ أو جنٌّ يخيلونه ولذلك يقولُ ما يقولُ {فَتَرَبَّصُواْ بِهِ} أي احتمِلوه واصبِروا عليه وانتظروا {حتى حِينٍ} لعلَّه يُفيقُ ممَّا فيه محمول حينئذ

سورة المؤمنون (26 27) على ترامي أحوالهم في المكابرةِ والعنادِ وإضرابِهم عمَّا وصفُوه عليه السَّلامُ به من البشرية وإرادةِ التَّفضُّلِ إلى وصفِه عليه السَّلامُ بما ترى وهم يعرفون أنَّه عليه السَّلامُ أرجحُ النَّاسِ عَقْلاً وأرزنهم قولاً وعلى الأوَّل على تناقضِ مقالاتِهم الفاسدةِ قاتلهم اللَّهُ أنَّى يُؤفكون

26

{قال} استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ كلامِ الكَفَرةِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ عليه السَّلامُ بعد ما سمع منهم هذه الأباطيلَ فقيل قال لمَّا رآهم قد أصرُّوا على الكفر والتكذيبِ وتمادَوا في الغواية والضَّلالِ حتَّى يئسَ من إيمانهم بالكلِّيةِ وقد أوحى اللَّهُ إليه أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قومك إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ {رَبّ انصرنى} بإهلاكهم بالمرَّةِ فإنَّه حكاية إجماليَّةٌ لقوله عليه السَّلامُ ربِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دياراًَ الخ {بِمَا كَذَّبُونِ} أي بسبب تكذيبهم إياي أو بدل تكذيبهم

27

{فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} عند ذلك {أَنِ اصنع الفلك} أنْ مفسِّرة لما في الوحي من معنى القول {بِأَعْيُنِنَا} ملتبساً بحفظِنا وكلاءتِنا كأنَّ معه عليه السَّلامُ منه عزَّ وعلا حُفَّاظاً وحُرَّاساً يكلئونه بأعينهم من التَّعدِّي أو من الزَّيغِ في الصَّنعةِ {وَوَحْيِنَا} وأمرِنا وتعليمنا لكيفيَّة صُنعها والفاء في قوله تعالى {فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا} لترتيب مضمون ما بعدها على تمام صُنع الفُلك والمرادُ بالأمر العذابُ كما في قوله تعالى لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله لا الأمرُ بالرُّكوبِ كما قيل وبمجيئه كمالُ اقترابهِ أو ابتداءُ ظهورهِ أي إذا جاء إثرَ تمامِ الفُلكِ عذابُنا وقوله تعالى {وَفَارَ التنور} عطفُ بيانٍ لمجيء الأمر رُوي أنَّه قيل له عليه السَّلامُ إذا فار الماءُ من التَّنُّورِ اركبْ أنت ومن معك وكان تنُّور آدمَ عليه السَّلامُ فصار إلى نوحٍ عليهِ السَّلامُ فلمَّا نبع منه الماء أخبرتْهُ امرأتهُ فركبُوا واختُلف في مكانه فقيل كان في مسجدِ الكوفةِ أي في موضعه عن يمينِ الدَّاخلِ من باب كِندة اليوم وقيل كان في عين وَردة من الشَّامِ وقد مر تفصيله في تفسير سُورة هودٍ عليه السَّلامُ {فاسلك فِيهَا} أي أدْخِلْ فيها يقال سَلَك فيه أي دَخَلَ فيه وسلكه فيه أدْخَلَه فيه ومنه قوله تعالى مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ {مِن كُلّ} أي من كلِّ أمِّةٍ {زَوْجَيْنِ} أي فردينِ مزدوجينِ كما يعرب عنه قوله تعالى {اثنين} فإنَّه نصٌّ في الفردين دون الجمعينِ أو الفريقين وقرئ بالإضافةِ على أنَّ المفعولَ اثنينِ أي من كلِّ أمتي زوجينِ وهُما أمَّة الذَّكرِ وأُمَّة الأُنثى كالجمالِ والنُّوقِ والحصنِ والرماك وهذا صريحٌ في أنَّ الأمر كان قبل صُنعه الفُلكَ وفي سُورةِ هودٍ حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ فالوجهُ أنْ يحملَ إمَّا على أنَّه حكايةٌ لأمرٍ آخرَ تنجيزيَ ورد عند فَوَران التَّنُّورِ الذي نِيط به الأمرُ التعليقيُّ اعتناءً بشأن المأمور به أو على أنَّ ذلك هو الأمرُ السَّابقُ بعينه لكن لمَّا كان الأمرَ التَّعليقيُّ قبل تحققِ المعلَّقِ به في حقِّ إيجابِ المأمورِ به بمنزلة العدم جُعل كأنَّه إنَّما حدث عند تحقُّقهِ فحُكي على صورة النجيز وقد مرَّ في تفسيرِ قوله

سورة المؤمنون (28 32) تعالى وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لاِدَمَ {وَأَهْلَكَ} منصوبٌ بفعل معطوف على فاسلُك لا بالعطف على زوجينِ أو اثنين على القراءتينِ لأدائه إلى اختلالِ المعنى أي واسلُك أهلَك والمرادُ به امرأتُه وبنُوه وتأخيرُ الأمر بإدخالهم عمَّا ذُكر من إدخال الأزواجِ فيها لكونِه عريقاً فيما أُمر به من الإدخال فإن نحتاج إلى مزاولة الأعمالِ منه عليه السَّلامُ بل إلى معاونةٍ من أهلِه وأتباعِه وأماهم فإنَّما يدخلونَها باختيارِهم بعد ذلك ولأنَّ في المؤخَّر ضربَ تفصيلٍ بذكر الاستثناء وغيرِه فتقديمُه يؤدِّي إلى الإخلالِ بتجاوبِ أطرافِ النظمِ الكريم ي {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ} أي القولُ بإهلاكِ الكَفَرةِ وإنَّما جيء بعلى لكون السابقِ ضارًّا كما جيء باللامِ في قوله تعالى إن الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى لكونِه نافعاً {وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ} بالدُّعاءِ لإنجائهم {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} تعليلٌ للنهي أو لما ينبئ عنه من عدم قبول الدُّعاءِ أي إنَّهم مقضيٌّ عليهم بالإغراقِ لا محالةَ لظُلمهم بالإشراك وسائر المَعَاصي ومَن هذا شأنُه لا يُشفعُ له ولا يُشفَّعُ فيه كيف لا وقد أُمر بالحمدِ على النَّجاةِ منهم بهلاكِهم بقوله تعالى

28

{فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ} أي من أهلِك وأشياعِك {عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ الذى نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين} على طريقةِ قوله تعالى فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبّ العالمين

29

{وَقُل رَّبّ أَنزِلْنِى} في السَّفينةِ أو منها {مُنزَلاً مُّبَارَكاً} أيْ إنزالاً أو موضعَ إنزالٍ يستتبعُ خيراً كثيرا وقرئ مَنْزلاً أي موضعَ نزولٍ {وَأَنتَ خَيْرُ المنزلين} أُمر عليه السَّلامُ بأنْ يشفع دعاءه بما يُطابقه من ثنائه عزَّ وجلَّ توسُّلاً به إلى الإجابةِ وإفرادُه عليه السَّلامُ بالأمر مع شركة الكلِّ في الاستواءِ والنَّجاةِ لإظهار فضله عليه السَّلامُ والإشعارِ بأنَّ في دُعائه وثنائِه مندوحةً عمَّا عداهُ

30

{إِنَّ فِى ذَلِكَ} الذي ذكر مما فعل به عليه السَّلامُ وبقومِه {لاَيَاتٍ} جليلةً يستدلُّ بها أُولو الأبصارِ ويعتبر بها ذَوُو الاعتبار {وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} إنْ مخففةٌ منْ أنَّ واللامُ فارقةٌ بينها وبين النَّافيةِ وضميرُ الشَّأنِ محذوفٌ أي وإنَّ الشَّأنَ كُنَّا مصيبين قومَ نوحٍ ببلاء عظيم وعقاب شديد ومختبرين بهذه الآياتِ عبادَنا لننظر مَن يعتبرُ ويتذكَّر كقولِه تعالى ولقد تركناها آية فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ

31

{ثم أنشأنا من بعدهم} أي من بعد إهلاكهم {قرنا آخرين} هم عادٌ حسبما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعليه أكثرُ المُفسِّرين وهو الأوفقُ لما هو المعهودُ في سائرِ السورِ الكريمةِ من إيراد قصَّتهم إثرَ قصَّةِ قومِ نوحٍ وقيل هم ثمودُ

32

{فأرسلنا فيهم} جعلوا

سورة المؤمنون (33 35) موضعاً للإرسالِ كَما في قولِه تعالى كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ ونحوه لا غايةً له كما في مثلِ قولِه تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ مَن أُرسل إليهم لم يأتِهم من غير مكانِهم بل إنَّما نشأَ فيما بين أظهرِهم كما ينبئ عنه قولُه تعالى {رَسُولاً مّنْهُمْ} أي من جُملتهم نسباً فإنَّهما عليهما السَّلامُ كانا منهم وأنْ في قولِه تعالَى {أن اعبدوا الله} مفسِّرةٌ لأرسلنا لتضمُّنِه معنى القولِ أي قُلنا لهم على لسانِ الرَّسولِ اعبدُوا الله تعالى وقولُه تعالى {مَّا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ} تعليلٌ للعبادة المأمورة بها أو للأمرِ بها أو لوجوبِ الامتثالِ بهِ {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أي عذابَه الذي يستدعيه ما أنتُم عليه من الشِّركِ والمعاصي والكلامُ في العطفِ كالذي مرَّ في قصَّةِ نوحٍ عيه السَّلامُ

33

{وَقَالَ الملا مِن قَوْمِهِ} حكايةٌ لقولهم الباطل إثرَ حكاية القول الحقِّ الذي ينطق به حكايةُ إرسال الرَّسولِ بطريق العطفِ على أنَّ المرادَ حكايةُ مطلقِ تكذيبهم له عليه السَّلامُ إجمالاً لا حكايةُ ما جَرى بينَهُ عليه السَّلامُ وبينهم من المُحاورةِ والمُقاولةِ تفصيلاً حتَّى يُحكى بطريقِ الاستئنافِ المبنيِّ على السؤال كما ينبئ عنه ما سيأتي من حكايةِ سائر الأُمم أي وقال الأشرافُ من قومِه {الذين كَفَرُواْ} في محلِّ الرَّفعِ على أنَّه صفةٌ للملأُ وُصفوا بذلك ذمًّا لهم وتنبيهاً على غلوِّهم في الكُفرِ وتأخيرُه عن مِن قومِه لعطفِ قوله تعالى {وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الأخرة} وما عُطف عليه على الصِّلةِ الأُولى أي كذَّبُوا بلقاء ما فيها من الحسابِ والثَّوابِ والعقابِ أو بمعادِهم إلى الحياة الثَّانيةِ بالبعث {وأترفناهم} ونعَّمناهم {فِى الحياة الدنيا} بكثرةِ الأموالِ والأولادِ أي قالوا لأعقابهم مضلِّين لهم {مَا هذا إلا بشر مثلكم} أي في الصِّفاتِ والأحوالِ وإيثارُ مئلكم على مثلنا للمبالغة في تهوين أمره عليه لاسلام وتوهينِه {يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} تقريرٌ للمماثلة وما خبريةٌ والعائدُ إلى الثَّاني منصوبٌ محذوف أو مجرور قد حُذف مع الجارِّ لدلالةِ ما قبله عليه

34

{وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ} أي فيما ذكر من الأحوالِ والصِّفات أي إنِ امتثلتم بأوامر {إِنَّكُمْ إِذاً} أي على تقديرِ الاتباع {لخاسرون} عقولكم ومغبونون في آرائكم حيث أذللتم أنفسكم انظر كيف جعلُوا اتباعَ الرَّسولِ الحقِّ الذي يوصِّلُهم إلى سعادةِ الدَّارينِ خُسراناً دُون عبادةِ الأصنامِ التي لا خُسرانَ وراءها قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون وإذاً وقع بين اسمِ إنَّ وخبرِها لتأكيد مضمون الشَّرطِ والجملةُ جوابٌ لقسمٍ محذوفٍ قبل إنِ الشَّرطيةِ المصدَّرةِ باللام الموطئةِ أي وبالله لئن أطعتمُ بشراً مثلَكم إنَّكم إذاً لخاسرونَ

35

{أَيَعِدُكُمْ} استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من زجرهم عن اتِّباعِه عليه السَّلامُ بإنكار وقوع ما يدعُوهم إلى الإيمان به واستبعاده {أَنَّكُمْ إِذَا مِتّم} بكسر الميمِ من مات يموت وقرئ بضمها من مات

سورة المؤمنون (36 41) يموتُ {وَكُنتُمْ تُرَاباً وعظاما} نَخِرةً مجرَّدةً عن اللُّحوم والأعصابِ أي كان بعضُ أجزائِكم من اللَّحم ونظائرِه تُراباً وبعضُها عظاماً وتقديمُ التُّراب لعراقتِه في الاستبعادِ وانقلابِه من الأجزاءِ الباديةِ أو كان متقدِّموكم تُراباً صِرفاً ومتأخِّروكم عظاماً وقوله تعالى {إِنَّكُمْ} تأكيد للأوَّلِ لطول الفصلِ بينه وبين خبرِه الذي هو قولُه تعلى {مُّخْرَجُونَ} أي من القبورِ أحياءً كما كنتُم وقيل أنَّكم مخرجون مبتدأٌ وإذا مِتُم خبرُه على معنى إخراجُكم إذا متُم ثم أخبر بالجملة عن أنَّكم وقيل رُفع أنَّكم مخرجون بفعل هوجزاء الشَّرطِ كأنَّه قيل إذا مِتُم وقعَ إخراجُكم ثم أُوقعتْ الجملةُ الشَّرطيةُ خبراً عن أنَّكم والذي تقتضيهِ جزالةُ النظمِ الكريمِ هو الأول وقرئ أيعدكم إذَا متم الخ

36

{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ} تكريرٌ لتأكيد البُعدِ أي بُعدِ الوقوع أو الصِّحةِ {لِمَا تُوعَدُونَ} وقيل اللامُ لبيان المستبعَدِ ما هو كما في هَيْتَ لَكَ كأنَّهم لما صوَّتوا بكلمةِ الاستبعادِ قيل لماذا هذا الاستبعادُ فقيل لما تُوعدون وقيل هيهاتَ بمعنى البُعدِ وهو مبتدأٌ خبرُه لما توعدون وقرئ بالفتحِ مُنوَّناً للتَّنكيرِ وبالضَّمِّ منوَّناً على أنَّه جمعُ هيهة وغير منون تشبها بقبلُ وبالكسرِ على الوجهينِ وبالسُّكون على لفظِ الوقفِ وإبدالِ التَّاء هاءً

37

{إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} أصله إنْ الحياةُ إلاَّ حياتُنا فأُقيم الضَّميرُ مقام الأولى لدى الثَّانيةِ عليها حَذَراً من التكرار وإسعارا بإغنائِها عن التَّصريحِ كما في هي النَّفسُ تتحملُ ما حُمِّلتْ وهي العربُ تقول ما شاءتْ وحيثُ كان الضَّميرُ بمعنى الحياةِ الدالة على الجنسِ كانتْ إنِ النَّافيةُ بمنزلةِ لا النَّافيةِ للجنسِ وقولُه تعالى {نَمُوتُ وَنَحْيَا} جملةٌ مفسِّرةٌ لما ادَّعوه مِن أنَّ الحياةَ هي الحياة الدُّنيا أي يموتُ بعضُنا ويولد بعضٌ إلى انقراضِ العصرِ {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} بعد الموتِ

38

{إِنْ هُوَ} أي مَا هُو {إِلاَّ رَجُلٌ أفترى عَلَى الله كَذِباً} فيما يدَّعيه من إرسالِه وفيما يَعدُنا من أنَّ الله يبعثُنا {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدِّقين فيما يقولُه

39

{قَالَ} أي هودُ عليه السَّلامُ عند يأسِه من إيمانهم بعد ما سلكَ في دعوتِهم كلَّ مسلكٍ متضرِّعاً إلى الله عزَّ وجلَّ {رب انصرني} عليهم وانتقم لي منهم {بِمَا كذبون} أي بسبب تكذيبهم أيَّاي وإصرارِهم عليه

40

{قَالَ} تعالى إجابةً لدعائِه وعدةً بالقَبُول {عَمَّا قَلِيلٍ} أي عن زمانٍ قليلٍ ومَا مزيدةٌ بينَ الجارِّ والمجرورِ لتأكيدِ معنى القلَّةِ كما زِيدتْ في قوله تعالى فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله أو نكرةٌ موصوفةٌ أي عن شيءٍ قليلٍ {لَّيُصْبِحُنَّ نادمين} على ما فعلوه من التَّكذيب وذلك عند معاينتِهم للعذابِ

41

{فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} لعلَّهم حين أصابتهم

سورة المؤمنون (42 44) الرِّيحُ العقيمُ أُصيبوا في تضاعيفها بصيحةٍ هائلةٍ أيضاً وقد رُوي أنَّ شدَّادَ بن عاد حين أتم بناءُ إرمَ سار إليها بأهلِه فلمَّا دنا منها بعثَ الله عليهم صيحةً من السَّماءِ فهلكُوا وقيل الصَّيحةُ نفسُ العذابِ والموتِ وقيل هي العذابُ المصطَلِمُ قال قائلُهم ... صاحَ الزَّمانُ بآلِ بَرمكَ صيحة ... خَرُّوا لشدَّتِها عَلَى الأذقانِ ... {بالحق} متعلِّقٌ بالأخذ أي بالأمرِ الثَّابتِ الذي لا دفاعَ له أو بالعدل من الله تعالى أو بالوعد الصِّدقِ {فجعلناهم غُثَاء} أي كغُثاءِ السَّيلِ وهو حَميلُه {فَبُعْداً لّلْقَوْمِ الظالمين} إخبار أو دعاء وبُعداً من المصادر التي لا يكادُ يُستعمل ناصبُها والمعنى بعدُوا بُعداً أي هلكُوا واللامُ لبيانِ مَن قيلَ له بُعداً ووضعُ الظَّاهر موضعَ الضَّميرِ للتَّعليلِ

42

{ثم أنشأنا من بعدهم} أي بعد هلاكِهم {قُرُوناً آخرين} هم قومُ صالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ عليهم السَّلامُ وغيرُهم

43

{مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} أي ما تتقدَّمُ أمة من الأمم المهلكة الوقت الذي عُيِّن لهلاكِهم أي ما تهلكُ أمةٌ قبل مجئ أجلها {وما يستأخرون} ذلك الأجلَ بساعةٍ وقوله تعالى

44

{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} عطفٌ على أنشأنا لكنْ لا على مَعْنى أنَّ إرسالَهم مُترَاخٍ عن إنشاء القُرون المذكورةِ جميعاً بل على مَعْنى أنَّ إرسالَ كلِّ رسولٍ متأخِّرٌ عن إنشاءِ قرنٍ مخصُوصٍ بذلك الرَّسولِ كأنَّه قيل ثمَّ أنشأنا من بعدِهم قُروناً آخرينَ قد أرسلنا إلى كلِّ قرنٍ منهُم رسولاً خاصًّا بهِ والفصلُ بين المعطوفينِ بالجملة المعترضة الناطقة بعدم تقدُّمِ الأممِ أجلَها المضروبَ لهلاكِهم للمسارعةِ إلى بيان هلاكِهم على وجهٍ إجماليَ {تترا} أي متواتِرينَ واحداً بعد واحدٍ من الوِتْرِ وهو الفَردُ والتَّاءُ بدلٌ من الواوِ كما في تولج ويتقوا والألفُ للتأنيثِ باعتبار أنَّ الرسل جماعة وقرئ بالتوين على أنه مصدرٌ بمعنى الفاعلِ وقع حالاً وقولُه تعالى {كل ما جاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ} استئنافٌ مبيِّنٌ لمجيء كلِّ رسولٍ لأمَّتِه ولما صدرَ عنهم عند تبليغِ الرِّسالةِ والمرادُ بالمجيءِ إمَّا التَّبليغُ وإمَّا حقيقةُ المجيء للإيذانِ بأنَّهم كذبوه في أو المُلاقاة وإضافةُ الرَّسولِ إلى الأُمَّةِ مع إضافة كلِّهم فيما سبق إلى نُونِ العظمةِ لتحقيق أنَّ كلَّ رسولٍ جاء أُمَّته الخاصَّةَ به لا أنَّ كلَّهم جاءوا كلَّ الأممِ والإشعارِ بكمالِ شناعتِهم وضلالِهم حيثُ كذَّبتْ كلُّ واحدةٍ منهُم رسولَها المعيَّنِ لها وقيل لأنَّ الإرسالَ لائقٌ بالمرسلِ والمجيءُ بالمرسلِ إليهم {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً} في الهلاكِ حسبما تبع بعضُهم بعضاً في مباشرة أسبابِه التي هي الكفرُ والتَّكذيبُ وسائرُ المعاصي {وجعلناهم أَحَادِيثَ} لم يبقَ منُهم إلا حكاياتٌ يعتبر بها المعتبرون وهو اسمُ جمعٍ للحديثِ أو جمعُ أُحدوثةٍ وهي ما يُتحدَّثُ به تَلهِّياً كأعاجيبَ جمعُ أُعجوبةٍ وهي ما يُتعجَّبُ منه أي جعلناهم أحاديثَ يُتحدَّثُ بها تَلهِّياً وتعجُّباً {فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاَّ يؤمنون} اقتصر ههنا على وصفهم بعدمِ الإيمانِ حسبما

سورة المؤمنين (45 47) اقتصر على حكايةِ تكذيبهم إجمالاً وأمَّا القُرونُ الأَوَّلُون فحيث نُقل عنهم ما مرَّ من الغُلوِّ وتجاوزِ الحدِّ في الكُفرِ والعُدوانِ وُصفوا بالظُّلمِ

45

{ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هارون بآياتنا} هي الآياتُ التِّسعُ من اليدِ والعَصَا والجرادِ والقُمَّلِ والضَّفادعِ والدَّمِ ونقصِ الثَّمراتِ والطَّاعون ولا مساغَ لعدِّ فلق البحر منهاإذ المرادُ هي الآياتُ التي كذَّبوها واستكبرُوا عنها {وسلطان مُّبِينٍ} أي حجَّةٍ واضحةٍ مُلزمةٍ للخَصمِ وهي إمَّا العَصَا وإفرادُها بالذِّكرِ مع اندراجِها في الآياتِ لما أنَّها أمُّ آياتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأُولاها وقد تعلقتْ بها معجزاتٌ شَتَّى من انقلابِها ثُعباناً وتلقُّفها لما أفكته السَّحرةُ حسبما فُصِّل في تفسير سُورةِ طه وأما التعرض لانقلاق البحرِ وانفجارِ العُيون من الحجرِ بضربها وحراستِها وصيرورتِها شمة وشجرةً خضراءَ مثمرةً ودَلْواً ورِشَاءَ وغيرَ ذلك ممَّا ظهرَ منها من قبلُ ومن بعدُ في غير مشهدِ فرعونَ وقومِه فغيرُ ملائم لمتقضى المقامِ وأمَّا نفسُ الآياتِ كقولِه إلى الملكِ القَرمِ وبان الهُمامِ الخ عبَّر عنها بذلك على طريقةِ العطفِ تنبيهاً على جمعها لعُنوانينِ جليلينِ وتنزيلاً لتغايرِهما منزلةَ التَّغايرِ الذَّاتيِّ

46

{إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي أشرافِ قومِه خُصُّوا بالذِّكرِ لأنَّ إرسالَ بني إسرائيلَ منوطٌ بآرائِهم لا بآراءِ أعقابهم {فاستكبروا} عن الانقيادِ وتمرَّدوا {وَكَانُواْ قَوْماً عالين} متكبِّرين مُتمرِّدين

47

{فَقَالُواْ} عطفٌ على استكبرُوا وما بينهما اعتراض مقرر للاستكبارِ أي كانُوا قوماً عادتُهم الاستكبارُ والتَّمرد أي قالُوا فيما بينهم بطريقِ المُناصحةِ {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} ثَنَّى البشرَ لأنَّه يُطلقُ على الواحد كقوله تعالى بشرا سويا كما يُطلقُ على الجمعِ كما في قوله تعالى فأما تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً ولم يثنِّ المِثْلَ نظراً إلى كونِه في حكمِ المصدرِ وهذه القصصُ كما نرى تدلُّ على أنَّ مدار شُبَه المُنكرين للنُّبوةِ قياسُ حالِ الأنبياءِ على أحوالِهم بناءً على جهلِهم بتفاصيلِ شؤونِ الحقيقةِ البشريَّةِ وتباينِ طبقاتِ أفرادِها في مراقي الكمالِ ومَهَاوي النُّقصانِ بحيثُ يكونُ بعضُها في أعلى عِلّيين وهم المختصُّون بالنُّفوس الزَّكيَّةِ المؤيِّدونَ بالقُوَّة القدسيةِ المتعلِّقون لصفاءِ جواهرِهم بكِلا العالمينِ الرُّوحانيِّ والجُسمانيِّ يتلقَون من جانبٍ ويلقون إلى جانب ولا يعوقهم التلق بمصالح الخلقِ عن التبتل إلى جنابِ الحقِّ وبعضُها في أسفلِ سافلينَ كأولئك الجَهَلة الذين هم كالأنعامِ بل هم أصل سبيلاً {وَقَوْمُهُمَا} يعنون بني إسرائيلَ {لَنَا عابدون} أي خادمون مُنقادون لنا كالعبيدِ وكأنَّهم قصدُوا بذلك التَّعريضَ بشأنِهما عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وخطر تبتهما العليَّةِ عن منصب الرِّسالةِ من وجهٍ آخرَ غيرِ البشريَّةِ واللامُ في لنا متعلقة بعابدون قدمت عليه رعايةً للفواصلِ والجملةُ حالٌ من فاعلِ نُؤمنُ مؤكِّدةٌ لإنكارِ الإيمانِ لهما بناءً على زعمهم الفاسدِ المُؤَسَّسِ على قياسِ الرِّياسةِ الدِّينيةِ على الرِّياساتِ الدُّنيويَّةِ الدَّائرةِ على التَّقدُّمِ في نيل الحظوظ

سورة المؤمنين (48 50) الدَّنيةِ من المالِ والجاهِ كدأبِ قُريشٍ حيثُ قالُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وقالُوا لَوْلاَ نُزِّل هذا القرآنُ على رَجُلٍ مّنَ القريتينِ عظيم وجهلِهم بأنَّ مناطَ الاصطفاءِ للرِّسالةِ هو السَّبقُ في حيازةِ ما ذُكر من النُّعوت العليةِ وإحرازِ الملَكات السَّنية جِبِلّةً واكتساباً

48

{فَكَذَّبُوهُمَا} أي فتموا على تكذيبهما وأصروا واستكبروا استكباراص {فَكَانُواْ مِنَ المهلكين} بالغرقِ في بحرِ قُلْزم

49

{ولقد آتينا} أي بعد إهلاكِهم وإنجاءِ بني إسرائيلَ من ملكتهم {موسى الكتاب} أي التوراة وحيث كان إيتاؤُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاها لإرشاد قومِه إلى الحقِّ كما هو شأنُ الكتبِ الإلهية جعلوا كأنَّهم أُوتوها فقيلَ {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي إلى طريق الحقِّ بالعمل بما فيها من الشَّرائعِ والأحكام وقيل أُريد آتينا قومَ مُوسى فحُذف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مقامَه كما في قوله تعالى على خَوْفٍ مّن فرعونَ وَمَلَئِهِمْ أي من آلِ فرعونَ وملئهم ولا سبيلَ إلى عود الضَّميرِ إلى فرعونَ وقومه لظهور أنَّ التَّوراةَ إنَّما نزلتْ بعد إغراقِهم لبني إسرائيلَ وأمَّا الاستشهادُ على ذلك بقولِه تعالى وَلَقَدْ آتينا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الاولى فمما لا سبيلَ إليه ضرورةَ أنْ ليس المرادُ بالقرونِ الأُولى ما يتناولُ قوم فرعون بل مِن قَبْلِهِم من الأممِ المُهلكةِ خاصَّةً كقومِ نوحٍ وقومِ هُودٍ وقومِ صالحٍ وقومِ لوطٍ كما سيأتي في سورة القصص

50

{وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آية} وأيةَ آيةٍ دالةٍ على عظيمِ قُدرتِنا بولادتِه منها من غير مسيس بشرف الآية أمرٌ واحدٌ نُسب إليهما أو جعلنا ابنَ مريمَ آيةً بأنْ تكلَّم في المهدِ فظهرتْ منه معجزاتٌ جمَّةٌ وأمَّه آيةً بأنَّها ولدتْهُ من غير مسيسٍ فحذفت الأولى لدلالةِ الثانية عليها والتبعير عنهما بما ذُكر من العُنوانينِ وهما كونُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ابنَها وكونُها أمَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للإيذان من أول الأمرِ بحيثيةِ كونِهما آيةً فإنَّ نسبته عليه الصلاة والسلام إليها مع أنَّ النَّسبَ إلى الآباءِ دالة على أنَّ لا أبَ له أي جعلنا ابنَ مريمَ وحدَها من غيرِ أنْ يكونَ له أبٌ وأمه التي ولدته خاصَّةً من غيرِ مشاركةِ الأبِ آيةً وتقديمُه عليه الصِّلاةُ والسَّلامُ لأصالتِه فيما ذُكر من كونِه آيةً كما أنَّ تقديمَ أمِّه في قولِه تعالى وجعلناها وابنها آية للعالمين لأصالتِها فيما نُسب إليها من الإحصان والنَّفخِ {وَآوَيناهُمَا إِلَى ربوَةٍ} أي أرضٍ مُرتفعةٍ قيل هي إيليا أرضُ بيتِ المقدسِ فإنَّها مرتفعةٌ وأنها كبدُ الأرضِ وأقربُ الأرضِ إلى السَّماءِ بثمانيةَ عشرَ ميلاً على ما يُروى عن كعبٍ وقيل دمشقُ وغوطتُها وقيل فِلسطينُ والرَّملةُ وقيل مصرُ فإنَّ قُراها على الربا وقرئ بكسرِ الرَّاءِ وضمِّها ورِباوةٍ بالكسرِ والضَّمِّ {ذَاتِ قَرَارٍ} مستقرَ من أرضٍ منبسطةٍ سهلةٍ يستقرُّ عليها ساكنُوها وقيل ذاتِ ثمارٍ وزروعٍ لأجلها يستقرُّ فيها ساكنُوها {وَمَعِينٍ} أي وماءٍ مَعينٍ ظاهرٍ جارٍ فعيلٌ من مَعنَ الماءُ إذا جَرى وأصلُه الإبعادُ في المشيِ أو من الماعون

سورة المؤمنين (51 52) وهو النَّفعُ لأنَّه نَفَّاعٌ أومفعول من عانَه إذا أدركَه بالعَينِ فإنَّه لظهورِه يُدرك بالعُيونِ وُصف ماؤُها بذلك للإيذانِ بكونِه جامعاً لفُنون المنافعِ من الشُّربِ وسقيِ ما يُسقى من الحيوان والنَّباتِ بغيرِ كُلفةٍ والتنزُّهِ بمنظره الموفق

51

{يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} حكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهِ الإجمالِ لما خُوطب به كلُّ رسولٍ في عصرِه جيءَ بها إثرَ حكايةِ إيواءِ عِيْسى عليه السَّلامُ وأمِّه إلى الرَّبوةِ إيذاناً بأنَّ ترتيبَ مبادئ التَّنعم لم يكن من خصائصِه عليه السَّلامُ بل إباحةُ الطَّيباتِ شرعٌ قديمٌ جرى عليه جميعُ الرُّسلِ عليهم السلام ووصوا به أي وقُلنا لكلِّ رسولٍ كُلْ من الطَّيباتِ واعملْ صالحاً فعبَّر عن تلك الأوامرِ المُتعدِّدةِ المتعلِّقةِ بالرُّسلِ بصيغةِ الجمعِ عند الحكايةِ إجمالاً للإيجازِ وفيه من الدِّلالةِ على بُطلان ما عليهِ الرَّهابنةُ من رفضِ الطَّيباتِ ما لا يَخْفى وقيل حكايةٌ لما ذُكر لعيسَى عليه السَّلامُ وأمِّه عند إيوائِهما إلى الرَّبوةِ ليقتديَا بالرُّسلِ في تناولِ ما رُزقا وقيل نداءٌ وخطابٌ له والجمعُ للتَّعظيمِ وعن الحسنِ ومُجاهدٍ وقتادة والسدى والكبي رحمهم الله تعالى أنَّه خطابٌ لرسولِ الله صلى لله عليه وسلم وحدَهُ على دأبِ العربِ في مخاطبةِ الواحدِ بلفظِ الجمعِ وفيه إبانةٌ لفضلِه وقيامِه مقامَ الكلِّ في حيازة كما لا تهتم والطَّيباتُ ما يُستطاب ويُستلذُّ من مباحاتِ المأكلِ والفواكِه حسبما ينبئ عنه سياقُ النظمِ الكريم فالأمرُ للتَّرفيهِ {واعملوا صالحا} أي عملاً صالحاً فإنَّه المقصودُ منكم والنَّافعُ عند ربِّكم {إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ} منَ الأعمالِ الظَّاهرةِ والباطنةِ {عليم} أجازيكم عليهِ

52

{وَإِنَّ هذه} استئنافٌ داخلٌ فيما خُوطب به الرُّسلُ عليهم السَّلامُ على الوجهِ المذكورِ مسوقٌ لبيانِ أنَّ ملَّة الإسلامِ والتَّوحيدِ ممَّا أُمر به كافَّةُ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ والأممِ وإنَّما أُشير إليها بهذه للتَّنبيهِ على كمالِ ظهورِ أمرها في الصِّحَّة والسَّدادِ وانتظامِها بسببِ ذلكَ في سلكِ الأمور المُشاهَدةِ {أُمَّتُكُمْ} أي ملَّتُكم وشريعتُكم أيُّها الرُّسل {أُمَّةً وَاحِدَةً} أي مِلَّةً وشريعةً متَّحدةً في أصولِ الشرائعِ التي لا تتبدلُ بتبدل الأعصارِ وقيل هذه إشارةٌ إلى الأممِ المؤمنةِ للرُّسلِ والمعنى إنَّ هذه جماعتُكم جماعةً واحدةً متَّفقةً على الإيمانِ والتَّوحيدِ في العبادةِ {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ} من غيرِ أنْ يكونَ لي شريكٌ في الرُّبوبيَّةِ وضميرُ المُخاطَب فيهِ وفي قولِه تعالى {فاتقون} أي في شقِّ العَصَا والمخالفةِ بالإخلالِ بمواجبِ ما ذُكر من اختصاص الرُّبوبيةِ بي للرُّسلِ والأممِ جميعاً على أنَّ الأمرَ في حقِّ الرُّسلِ للتَّهييجِ والإلهابِ وفي حقِّ الأممِ للتَّحذيرِ والإيجابِ والفاءُ لترتيبِ الأمرِ أو وجوبِ الامتثالِ به على ما قبلَه من اختصاصِ الرُّبوبيةِ به تعالى واتِّحادِ الأمَّةِ فإنَّ كُلاًّ منهما موجبٌ للاتِّقاءِ حتما وقرئ وأنَّ هذه بفتحِ الهمزةِ على حذف اللام أي ولأنَّ هذه أمَّتُكم أمةً واحدةً وأنا ربُّكم فاتَّقون أي إنْ تتَّقونِ فاتَّقونِ كما مر في قوله تعالى وإياى فارهبون وقيل على العطفِ على مَا أي إنِّي عليمٌ بأنَّ أمَّتَكم أمَّةٌ الخ وقيل على حذفِ فعلٍ عاملٍ فيه أي واعلموا أنَّ هذه أمَّتُكم الخ وقرئ وأنْ هذه على أنَّها مُخفّفة من إن

سورة المؤمنون (53 57)

53

{فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ} حكايةٌ لما ظهرَ من أممِ الرُّسلِ بعدَهم من مخالفةِ الأمرِ وشقِّ العَصَا والضَّميرُ لما دلَّ عليه الأمةُ من أربابها أولها على التفسير بن والفاء لترتيبِ عصيانِهم على الأمرِ لزيادةِ تقبيحِ حالِهم أي تقطَّعوا أمرَ دينِهم مع اتِّحادِه وجعلُوه قِطعاً متفرِّقةً وأدياناً مُختلفةً {بَيْنَهُمْ زُبُراً} أي قطعاً جمعُ زبور بمعنى الفرقة ويؤديه قراءةُ زُبَراً بفتحِ الباءِ جمعُ زَبرةٍ وهو حالٌ من أمرَهم أو مِن واوِ تقطَّعوا أو مفعولٌ ثانٍ له فإنَّه متضمِّنٌ لمعنى جعلوا وقبل كُتُباً فيكون مفعولاً ثانياً أو حالاً من أمرَهم على تقدير المضافِ أي مثل زبر وقرئ بتخفيفِ الباءِ كرُسْلٍ في رُسُلٍ {كُلُّ حِزْبٍ} من أولئك المتحزِّبين {بِمَا لَدَيْهِمْ} من الدِّين الذي اختارُوه {فَرِحُونَ} مُعجَبون مُعتقِدون أنَّه الحقُّ

54

{فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ} شُبه ما هم فيه من الجهالة بالماء الذي يغمرُ القامةَ لأنَّهم مغمورون فيها لاعبون بها وقرئ غَمَراتِهم والخطابُ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم والفاءُ لترتيبِ الأمرِ بالتَّركِ على ما قبله من كونِهم فرحينَ بما لديهم فإنَّ انهماكَهم فيما هم فيه وإصرارَهم عليه من مخايل كونِهم مطبوعاً على قُلوبهم أي اتركْهُم على حالهم {حتى حِينٍ} هو حينِ قتلِهم أو موتِهم على الكُفرِ أو عذابهم فهو وعيد لم بعذابِ الدُّنيا والآخرةِ وتسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونهيٌ له عن الاستعجالِ بعذابِهم والجزعِ من تأخيرهِ وفي التَّنكيرِ والإبهام ما لا يَخفْى من التَّهويلِ

55

{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} أي نعطيهم إيَّاه ونجعلُه مدداً لهم فما موصولةٌ وقولهُ تعالى {مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} بيانٌ لها وتقديمُ المال على البنين مع كونِهم أعزَّ منه قد مرَّ وجهُه في سورةِ الكهفِ لا خبرٌ لأنَّ وإنَّما الخبرُ قولُه تعالى

56

{نسارع لهم فى الخيرات} على حذفِ الرَّاجعِ إلى الاسمِ أي أيحسبون أنَّ الذي نمدُّهم به من المالِ والبنينَ نسارعُ به لهم فيما فيهِ خيرُهم وإكرامُهم على أنَّ الهمزةَ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه وقولُه تعالَى {بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلامُ أي كلاَّ لا نفعل ذلك بل هُم لا يشعرونَ بشيءٍ أصلاً كالبهائمِ لا فطنة لهم ولا شعورَ ليتأمَّلوا ويعرفُوا أنَّ ذلكَ الإمدادَ استدراجٌ لهم واستجرارٌ إلى زيادةِ الإثمِ وهُم يحسبونَهُ مسارعةً لهم في الخيراتِ وقرئ بمدهم على الغَيبةِ وكذلك يسارعُ ويسرعُ ويُحتمل أنْ يكون فيهما ضمير الممد به وقرئ يُسارع مبنيًّا للمفعولِ

57

{إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ مَن له المسارعةُ في الخيرات إثرَ إقناطِ الكُفَّار عنها وإبطالِ حسبانهم الكاذبِ أي من خوف عذابه حذرون

سورة المؤمنون (58 61)

58

{والذين هم بآيات رَبَّهِمْ} المنصوبة والمنزلةِ {يُؤْمِنُونَ} بتصديقِ مدلولِها

59

{والذين هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ} شِرْكاً جليًّا ولا خفيًّا ولذلك أُخِّر عن الإيمانِ بالآياتِ والتَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ في المواقع الثَّلاثةِ للإشعارِ بعلِّيتها للإشفاقِ والإيمانِ وعدمِ الإشراكِ

60

{والذين يؤتون ما آتوا} أي يُعطون ما أعطوه من الصدقات وقرئ يأتون ما أتوا أي يفعلون ما فعلُوه من الطَّاعاتِ وأيّاً ما كان فصيغةُ الماضي في الصِّلة الثانية الدلالة على التحقق كما أن صيغة المضارعِ في الأُولى للدِّلالة عن الاستمرار {وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} حالٌ من فاعلِ يُؤتون أو يأتون أي يُؤتون ما آتوه أو يفعلون من العباداتِ ما فعلُوه والحالُ أنَّ قلوبهم خائفةٌ أشدَّ الخوفِ {أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون} أي من أنَّ رجوعهم إليهِ عزَّ وجلَّ على أنَّ مناط الوجل أن لا يقبل منهم ذلك وأن لا يقعَ على الوجهِ اللاَّئقِ فيُؤاخذُوا به حينئذٍ لا مجرَّدُ رجوعهم إليه تعالى وقيل لأنَّ مرجعَهم إليه تعالى والموصولاتُ الأربعةُ عبارةٌ عن طائفةٍ واحدةٍ متَّصفةٍ بما ذكر في حين صِلاتِها من الأوصافِ الأربعةِ لا عن طوائفَ كلُّ واحدة منها متَّصفةٍ بما ذُكر في حيِّزِ صِلاتِها من الأوصافِ الأربعةِ لا عن طوائفَ كلُّ واحدةٍ منها متَّصفةٌ كأنَّه قيلَ إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مشفقون وبآيات ربهم يُؤْمِنُونَ الخ وإنَّما كُرِّر الموصولُ إيذاناً باستقلالِ كلِّ واحدةٍ من تلكَ الصِّفاتِ بفضيلةٍ باهرةٍ على حيالِها وتنزيلاً لاستقلالها منزلة استقلالِ الموصوفِ بها

61

{أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتصافِهم بها وما فيهِ من معنى البعد للإشعار ببُعدِ رُتبتِهم في الفضلِ أي أولئك المنعوون بما فُصّل من النُّعوتِ الجليلةِ خاصَّةً دُونَ غيرِهم {يسارعون فِى الخيرات} أي في نيلِ الخيراتِ التي من جملها الخيراتُ العاجلةُ الموعودةُ على الأعمالِ الصَّالحةِ كما في قوله تعالى فاتاهم الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة وقوله تعالى وآتيناه أجره في الدنيا وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين فقد أثبتَ لهم ما نُفيَ عن أضدادِهم خلا أنَّه غيَّر الأسلوبَ حيثُ لم يقُلْ أولئكَ نُسارع لهم في الخيراتِ بل أسند المسارعة إليهم إيمان لي كمالِ استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسنِ أعمالهِم وإيثارُ كلمةُ في على كلمة إلى للإيذان بأنَّهم متقلِّبون في فنون الخيرات لاأنهم خارجُون عنها متوجِّهون إليها بطريق المسارعة في قوله تعالى كَمَا وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ الآية {وَهُمْ لَهَا سابقون} أي إيَّاها سابقون واللاَّمُ لتقويةِ العملِ كما في قوله تعالى هُمْ لَهَا عاملون أي ينالونَها قبل الآخرةِ حيثُ عُجِّلتْ لهم في الدُّنيا وقيل المرادُ بالخيراتِ الطَّاعاتُ والمعنى يرغبون في الطَّاعاتِ والعباداتِ أشدَّ الرَّغبةِ وهم لأجلها سابقون فاعلون السَّبقَ أو لأجلِها الناس

سورة المؤمنون (62 63) والأوَّلُ هو الأولى

62

{وَلاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} جملةٌ مستأنفة سِيقتْ للتَّحريضِ على ما وُصف به السابقون من فعلِ الطَّاعاتِ المؤدِّي إلى نيل الخيرات ببيانِ سُهولتهِ وكونه غيرَ خارجٍ عن حدِّ الوسعِ والطَّاقةِ أي عادتُنا جاريةٌ على أنْ لا نكلِّفَ نَفْساً من النُّفوسِ إلاَّ ما في وُسعِها على أن المراد استمرار النَّفيِ بمعونةِ المقامِ لا نَفيُ الاستمرارِ كما مرَّ مراراً أو للتَّرخيصِ فيما هو قاصرٌ عن درجة أعمالِ أولئك الصَّالحينَ ببيانِ أنَّه تعالى لا يُكلِّفُ عباده إلاَّ ما في وُسعهم فإنْ لم يبلغوا في فعل الطَّاعاتِ مراتبَ السَّابقينَ فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم وبستفرغوا وُسعهم قال مقاتلٌ من لم يستطعِ القيامَ فليصلِّ قاعداً ومَن لم يستطعِ القُعودَ فليومِ إيماءً وقولُه تعالى {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ} الخ تتمة لما قبلَه ببيانِ أحوالِ ما كُلِّفوه من الأعمالِ وأحكامِها المترتِّبةِ عليها من الحسابِ والثوابِ والعقابِ والمرادُ بالكتابِ صحائفُ الأعمالِ التي يقرءونها عند الحسابِ حسبما يُعرب عنه قولُه تعالى {يَنطِقُ بالحق} كقوله تعالى هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ أي عندنا كتابٌ قد أُثبتَ فيه أعمالُ كلِّ أحدٍ على ما هي عليهِ أو أعمالُ السَّابقينَ والمُقتصدينَ جميعاً لا أنَّه أُثبتَ فيه أعمالُ الأوَّلينَ وأُهمل أعمالُ الآخرينَ ففيهِ قطعُ معذرتِهم أيضاً وقولُه بالحقِّ متعلِّقٌ بينطقُ أي يظهر الحقَّ المطابقَ للواقعِ على ما هو عليهِ ذاتاً ووصفاً ويبيِّنهُ للناظرِ كما يُبيِّنه النُّطقُ ويُظهره للسَّامعِ فيظهر هنالك جلائلُ أعمالهم ودقائقُها ويُرتب عليها أجزيتُها إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرا فشرٌّ وقولُه تعالى {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بيانٌ لفضلهِ تعالى وعد له في الجزاءِ إثرَ بيانِ لُطفه في التَّكليفِ وكَتْبِ الأعمال أي لا يُظلمون في الجزاء بنقص ثواب أبزيادة عذاب بل يُجزون بقدرِ أعمالهم التي كُلِّفوها ونطقت بها صحائفها بالحقِّ وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ تقريراً لما قبله من التَّكليفِ وكَتْبِ الأعمال أي لا يُظلمون بتكليفِ ما ليس في وُسعهم ولا بعدم كَتْبِ بعض أعمالهم التي من جُملتِها أعمالُ المقتصدين بناءً على قُصورها عن درجة أعمال السَّابقينَ بل يُكتب كلٌّ منها على مقاديرِها وطبقاتها والتَّعبيرُ عمَّا ذُكرِ من الأمور بالظُّلم مع أنَّ شيئاً منها ليسَ بظلمِ عَلى مَا تقرر من أنَّ الأعمال الصَّالحة لا تُوجب أصل الثَّوابِ فضلاً عن إيجاب مرتبةٍ معينةٍ منه حتى تعد الإنابة بما دونها نقصاً وكذلك الأعمالُ السَّيئةُ لا توجبُ درجةً معينة من العذابِ حتى يعد التَّعذيبِ بما فوقها زيادة وكذا تكليفُ ما في الوسعِ وكتبُ الأعمالِ ليسا ممَّا يجبُ عليه سُبحانه حتَّى يعد تركُهما ظُلماً لكمالِ تنزيه ساحةِ السُّبحانِ عنها بتصويرِها بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنه تعالى وتسميتُها باسمهِ وقولُه تعالى

63

{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مّنْ هذا} إضرابٌ عمَّا قبله والضَّميرُ للكَفرة لا للكلِّ كما قبله أي بل قلوبُ الكَفَرةِ في غَفْلةٍ غامرةٍ لها من هذا الذي بُيِّن في القُرآن من أنَّ لديه تعالى كتابا ينطق بالحلق ويظهر لهم أعمالهم السَّيئةَ على رؤوس الأشهاد فيُجزون بها كما ينبىء عنه ما سيأتِي من قولِه تعالى قد كانتْ آياتي تُتلى عَلَيْكُمْ الخ وقيل ممَّا عليه أولئك الموصُوفون بالأعمالِ الصَّالحةِ {وَلَهُمْ أعمال} سيِّئةٌ كثيرةٌ {مِن دُونِ ذَلِكَ}

سورة المؤمنون (64 66) الذي ذُكر من كون قلوبِهم في غفلةٍ عظيمةٍ ممَّا ذُكر وهي فنونُ كفرهم ومعاصيهم التي مِن جُملتِها ما سيأتي من طعنِهم في القُرآن حسبما ينبئ عنه قولُه تعالى مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامرا تَهْجُرُونَ وقيل متخطية لما وُصف به المؤمنون من الأعمالِ الصَّالحةِ المذكورةِ وفيه أنَّه لا مزيَّة في وصف أعمالهم الخبيثة بالتَّخطِّي للأعمال الحسنة للمؤمنين وقيل متخطية عماهم عليه من الشرك ولا يخفى بعده لعدم جريان ذكره {هُمْ لَهَا عاملون} مستمرُّون عليها مُعتادُون فعلَها ضارون بها لا يكادون يَبرحُونها

64

{حتى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ} أي متنعميهم وهم الذين أمدَّهم الله تعالى بما ذُكر من المالِ والبنينَ وحتَّى مع كونها غايةً لأعمالهم المذكورةِ مبدأ لما بعدها من مضمون الشَّرطيةِ أي لا يزالون يعملُون أعمالَهم إلى حيثُ إذا أخذنا رؤساءهم {بالعذاب} قيل هو القتلَ والأسرَ يومَ بدرٍ وقيل هو الجُوع الذي أصابهم حين دَعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله اللهمَّ اشدُدْ وطأتكَ على مُضر واجعلْها عليهم سنينَ كسِني يوسُفَ فقحطُوا حتى أكلُوا الكلابَ والجِيفَ والعظامَ المحرقة والأولادَ وأُلحق أنه العذابُ الأُخرويُّ إذ هو الذي يُفاجئون عنده الجؤارِ فيجابون بالردِّ والإقناطِ عن النَّصر وأما عذابُ يومِ بدرٍ فلم يُوجد لهم عنده جؤار حسبما ينبئ عنه قوله تعالى وَلَقَدْ أخذناهم بالعذات فَمَا استكانوا لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ فإنَّ المرادَ بهذا العذاب ما جرى عليهم يومَ بدرٍ من القتلِ والأسرِ حَتْماً وأمَّا عذابُ الجوع فإنَّ أبا سُفيانَ وإنْ تضرَّع فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنْ لم يرد عليه بالإقناطِ حيث رُوي أنَّه صلى الله عليه وسلم قد دَعَا بكشفِه فكُشفَ عنهم ذلك {إِذَا هُمْ يجأرون} أي فاجئوا الصُّراخَ بالاستغاثةِ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ كقوله تعالى فإليه تجأرون وهو جوابُ الشَّرطِ وتخصيصُ مُترفيهم بما ذُكر من الأخذِ بالعذابِ ومفاجأةِ الجؤارِ مع عمومه لغيرهم أيضاً لغايةِ ظهورِ انعكاسِ حالهم وانتكاسِ أمرِهم وكونِ ذلك أشقَّ عليهم ولأنَّهم مع كونهم متمنِّعين محميينَ بحمايةِ غيرِهم من المنعةِ والحَشَم حين لقُوا ما لقُوا من الحالة الفظيعة فأن يلقاها مَنْ عداهم من الحُماةِ والخدمِ أوْلى وأقدمُ

65

{لا تجأروا اليوم} على إضمار القول مَسُوقاً لردِّهم وتبكيتهم وإقناطِهم مما علقوا به أطماعَهم الفارغةَ من الإغاثة والإعانة من جهته تعالى وتخصيص اليوم بالذكر لتهويله والإيذان بتفويتهم وقتَ الجُؤارِ وقد جُوِّز كونُه جوابَ الشَّرطِ وأنت خبيرٌ بأنَّ المقصودَ الأصليَّ في الجملةِ الشَّرطيةِ هو الجوابُ فيؤدِّي ذلك إلى أنْ يكونَ مفاجأتُهم إلى الجُؤارِ غيرَ مقصودٍ أصليَ وقولُه تعالى {إِنَّكُمْ مّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} تعليلٌ للنَّهي عن الجُؤارِ ببيانِ عدمِ إفادته ونفعهِ أي لا يلحقُكم من جهتِنا نصرةٌ تنجِّيكُم ممَّا دهمكُم وقيل لا تُغاثون ولا تُمنعون منَّا ولا يساعدُه سِباقُ النَّظمِ الكريمِ لأنَّ جُؤارهم ليس إلى غيرِه تعالى حتَّى يرد عليهم بعدمِ منصور يتهم من قبلهِ ولا سياقهُ فإن قوله تعالى

66

{قد كانتْ آياتي تُتلى عَلَيْكُمْ} الخ صريحٌ في أنَّه تعليلٌ لما ذكرنا من عدم لحوقِ النَّصرِ من جهته

سورة المؤمنون (67 69) تعالى بسببِ كُفرِهم بالآياتِ ولو كانَ النَّصرُ المنفيُّ مُتوهَّماً من الغيرِ لعُلِّل بعجزه وذُلِّه أو بعزَّةِ الله تعالى وقوَّتهِ أي قد كانتْ آياتي تُتلى عليكم في الدنيا {فكنتم على أعقابكم تَنكِصُونَ} أي تُعرضون عن سماعها أشدَّ الإعراضِ فضلاً عن تصديقها والعملِ بها والنُّكوصُ الرُّجوعُ قهقرى

67

{مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أي بالبيتِ الحرامِ أو بالحَرَمِ والإضمارُ قيل الذِّكرِ لاشتهارِ استكبارِهم وافتخارِهم بأنَّهم خُدَّامهُ وقُوَّامُه أو بكتابي الذي عبر عنه بآياتي على تضمينِ الاستكبارِ معنى التَّكذيبِ أو لأنَّ استكبارَهم على المُسلمين قد حدثَ بسببِ استماعِه ويجوزُ أنْ تتعلَّق الباء بقولهِ تعالى {سامرا} أي تسمرُون بذكرِ القُرآنِ وبالطَّعنِ فيه حيثُ كانُوا يجتمعونَ حولَ البيتِ باللَّيلِ يسمرُون وكانت عامَّة سمرِهم ذكرَ القُرآن وتسميته سِحْراً وشِعْراً والسَّامرُ كالحاضرِ في الإطلاقِ على الجمعِ وقيل هو مصدرٌ جاء على لفظ الفاعل وقرئ سَمَراً وسُمَّاراً وأن تتعلق بقولهِ تعالى {تَهْجُرُونَ} من الهَجَر بالفتح بمعنى الهَذَيانِ أو الترك أي تهذُون في شأنِ القُرآنِ أو تتركونَه أو من الهجر بالضَّمِّ وهو الفُحشُ ويؤيِّدُه قراءةُ تُهجرون من أهجرَ في منطقه إذا فحش فيه وقرئ تهجّرون من هجّر الذي هو مبالغةٌ في هجَر إذا هذى

68

{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول} الهمزةُ لإنكار الواقع واسقباحه والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي افعلُوا ما فعلُوا من النُّكوصِ والاستكبارِ والهجرِ فلم يتدبَّروا القُرآنَ ليعرفُوا بما فيه من إعجازِ النَّظمِ وصحَّةِ المدلُول والإخبار عن الغيبِ أَنَّهُ الحقُّ مِن رَّبّهِمْ فيؤمنُوا به فضلاً عمَّا فعلُوا في شأنه من القبائحِ وأمْ في قوله تعالى {أَمْ جَآءَهُم ما لم يأت آباءهم الأولين} منقطعةٌ وما فيها من معنى بل للإضراب ولاانتقال عن التَّوبيخَ بما ذُكر إلى التَّوبيخِ بآخرَ والهمزةُ لإنكارِ الوقوعِ لا لإنكارِ الواقعِ أي بل أجاءهُم من الكتابِ ما لَمْ يأت أباءهم الأولين حى استبدعُوه واستبعدُوه فوقعوا فيَما وقعُوا فيهِ من الكفرِ والضَّلالِ يعني أنَّ مجيءَ الكتبِ من جهتهِ تعالى إلى الرُّسلِ عليهم السَّلامُ سنَّةٌ قديمةٌ له تعالى لا يكادُ يتسنَّى إنكارُه وأنَّ مجيءَ القُرآن على طريقته فمن أين يُنكرونه وقيل أمْ جاءهُم من الأمنِ من عذابه تعالى ما لم يأت آباءهم الأوَّلينَ كإسماعيلَ عليه السَّلامُ وأعقابه من عدنان وقَحْطانَ ومضر وربيعة وقس والحرث بنِ كعبٍ وأسدَ بنِ خُزيمةَ وتميمِ بنِ مُرَّة وتُبَّعَ وضبَّة بنِ أُدَّ فآمنُوا به تعالى وبكتبهِ ورسلِه وأطاعُوه

69

{أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ} إضرابٌ وانتقالٌ من التَّوبيخِ بما ذُكر إلى التَّوبيخِ بوجهٍ آخرَ والهمزةُ لإنكارِ الوقوعِ أيضاً أي بل ألم يعرفوه صلى الله عليه وسلم بالأمانةِ والصِّدقِ وحسنِ الأخلاقِ وكمالِ العلمِ مع عدم التَّعلمِ من أحدٍ وغير ذلك ممَّا حازَه من الكمالاتِ اللاَّئقةِ بالأنبياء عليهم السَّلامُ {فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي جاحِدُون بنبُّوته فجحودهم بها مترتِّبٌ على عدم معرفقتهم بشأنه عليه السَّلامُ ومن ضرورة انتفاءِ المبنيِّ بطلانُ ما بُنيَ عليه أي فهُم غيرُ عارفينَ له عليهِ السَّلامُ فهو تأكيدٌ لما قبله

سورة المؤمنون (70 71)

70

{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} انتقالٌ إلى توبيخٍ آخر والهمزةُ لإنكارِ الواقعِ كالأُولى أي بل أيقولُون به جنَّةٌ أي جنونٌ مع أنَّه أرجحُ النَّاسِ عَقْلاً وأثقبهم ذِهْناً وأتقنُهم رأياً وأوفرُهم رزانةً ولقد رُوعي في هذه التَّوبيخاتِ الأربعةِ التي اثنانِ منها متعلِّقانِ بالقرآن والباقيان به صلى الله عليه وسلم الترقي من الأدنى إلى الأعلى حيث وبخوا أو لا بعدمِ التَّدبرِ وذلك يتحقَّقُ مع كونِ القولِ غيرَ متعرِّضٍ له بوجهٍ من الوجوه ثمِّ وُبِّخوا بشيءٍ لو اتَّصف به القولُ لكان سبباً لعدمِ تصديقهم به ثمَّ وُبِّخوا بما يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم من عدم معرفتهم به صلى الله عليه وسلم وذلك يتحقَّق بعدمِ المعرفةِ بخير ولا شرثم بما لو كان فيه صلى الله عليه وسلم ذلك لقدحَ في رسالتهِ صلى الله عليه وسلم ما سبقَ أي ليس الأمرُ كما زعمُوا في حق القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم بل جاءهم صلى الله عليه ولم بالحقِّ أي الصِّدقِ الثَّابتِ الذي لا محيد عنه أصلاً ولا مدخلَ فيه للباطلِ بوجهٍ من الوجوهِ {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقّ} من حيثُ هو حقٌّ أي حقَ كان لا لهذا الحقِّ فقط كما يُنبىء عنه الإظهارُ في موقعِ الإضمارِ {كارهون} لما في جبلتهم من الزَّيغِ والانحرافِ المناسبِ للباطلِ ولذلك كرهُوا هذا الحقَّ الأبلجَ وزاغُوا عن الطَّريقِ الأنهجِ وتخصيصُ أكثرهم بهذا الوصفِ لا يقتضي إلاَّ عدمَ كراهةِ الباقين لكلِّ حقَ من الحقوقِ وذلك لا يُنافي كراهتهم لهذا الحق المبين فنأمل وقيل تقييدُ الحُكمِ بالأكثرِ لأنَّ منهم من تركَ الإيمانَ استنكافاً من توبيخِ قومهِ أو لقلَّةِ فطنتهِ وعدمِ تفكُّرهِ لا لكراهته الحقَّ وأنتَ خبيرٌ بأنَّ التَّعرضَ لعدمِ كراهةِ بعضهم للحقِّ مع اتِّفاقِ الكُلِّ على الكُفرِ به ممَّا لا يُساعدُه المقامُ أصلاً

71

{وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَاءهُمْ} استئناف مسوق لبيان أن أهواءَهم الزَّائغة التي ما كرهوا الحقَّ إلا لعدم موافقته إيَّاها مقتضيةٌ للطَّامةِ أي لو كان ما كرهُوه من الحقِّ الذي مِن جُملتهِ ما جاء به صلى الله عليه وسلم موافقاً لأهوائِهم الباطلةِ {لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} وخرجتْ عن الصَّلاحِ والانتظامِ بالكليةِ لأنَّ مناطَ النِّظامِ ليس إلاَّ ذلكَ وفيه من تنويهِ شأنِ الحقِّ والتَّنبيهِ على سُموِّ مكانه ما لا يخفى وأما ما قيل لو اتبع الحقِّ الذي جاءَ به صلى الله عليه وسلم أهواءَهم وانقلبَ شِركاً لجاء اللَّهُ تعالى بالقيامةِ ولأهلكَ العالَم ولم يؤخِّرْ ففيهِ أنَّه لا يُلائم فرضَ مجيئه صلى الله عليه وسلم به وكذا ما قيل لو كانَ في الواقعِ إلهان لا يناسبُ المقامَ وأمَّا ما قيل لو اتبع الحقُّ أهواءَهم لخرجَ عن الإلهية فمالا احتمالَ له أصلاً {بَلْ أتيناهم بِذِكْرِهِمْ} انتقالٌ من تشنيعهم بكراهةِ الحقِّ الذي به يقومُ العالمُ إلى تشنيعهم بالإعراضِ عمَّا جُبلَ عليه كلُّ نفسٍ من الرَّغبةِ فيما فيه خيرُها والمرادُ بالذِّكرِ القرآنُ الذي هو فخرُهم وشرفهم حسبما ينطِق به قوله تعالَى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ أي بل أتيناهُم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجبُ عليهم أنْ يقبلُوا عليه أكملَ إقبالٍ {فَهُمُ} بما فعلُوه من النُّكوصِ {عَن ذِكْرِهِمْ} أي فخرهم وشرفهم خاصَّةً {مُّعْرِضُونَ} لا عن غير ذلك مما لا يُوجبُ الإقبالَ عليه والاعتناءَ به وفي وضع للظاهر موضعَ الضَّميرِ مزيدُ تشنيعٍ لهم وتقريعٍ والفاءُ لترتيب ما بعدَها من إعراضِهم عن ذكرهم

سورة المؤمنون (72 75) على ما قبلها من إيتاءَ ذكرِهم لا لترتيبِ الإعراضِ على الإيتاءِ مُطلقاً فإنَّ المستتبعَ لكونِ إعراضِهم إعراضاً عن ذكرِهم هو إيتاء ذكرهم لا الإتياء مُطلقاً وفي إسنادِ الإتيانِ بالذكر إلى نور العظمةِ بعد إسنادِه إلى ضميره صلى الله عليه وسلم تنويه لشأن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وتنبيهٌ على كونه بمثابةٍ عظيمةٍ منه عزَّ وجلَّ وفي إيرادِ القُرآنِ الكريمِ عند نسبته إليه صلى الله عليه وسلم بعنوان الحقية وعند نسبتهِ إليه تعالى بعُنوان الذكر من لانكتة السِّريَّةِ والحكمةِ العبقريَّةِ ما لا يَخْفى فإنَّ التَّصريحَ بحقِّيتهِ المستلزمةِ لحقِّيةِ مَن جاء به هُو الذي يقتضيهِ مقامُ حكايةِ ما قاله المُبطلون في شأنه وأمَّا التَّشريفُ فإنَّما يليقُ به تعالى لا سيَّما رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدُ المشرَّفين وقيل المرادُ بالذِّكرِ ما تمنَّوه بقولهم لو أن عندنا ذكرا من الأوَّلينَ وقيل وعظهُم وايد ذلك أنه قرئ بذكراهُم والتَّشنيعُ على الأوَّلينَ أشدُّ فإنَّ الإعراضَ عن وعظهم ليسَ في مثابةِ إعراضهم عن شرفهم أو عن ذكرهم الذي يتمنونه في الشَّناعةِ والقباحةِ

72

{أم تسألهم} انتقالٌ من توبيخهم بما ذُكر من قوله أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ إلى التَّوبيخِ بوجهٍ آخرَ كأنَّه قيل أمْ يزعمُون أنَّك تسألهم على أداء الرِّسالةِ {خَرْجاً} أي جُعْلاً فلأجل ذلك لا يُؤمنون بك وقوله تعالى {فَخَرَاجُ رَبّكَ خَيْرٌ} أي رزقُه في الدُّنيا وثوابُه في الآخرةِ تعليلٌ لنفيِ السُّؤالِ المستفادِ من الإنكارِ أي لا تسألهم ذلك فإنَّ ما رزقك اللَّهُ تعالَى في الدُّنيا والعُقْبى خيرٌ لك من ذلكَ وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تعليلِ الحكمِ وتشريفه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى والخَرْجُ بإزاءِ الدَّخْلِ يقال لكلِّ ما تخرجه إلى غيرِك والخَرَاجُ غالبٌ في الضَّريبةِ على الأرضِ وقيل الخَرْجُ ما تبرعت به والخراج ما لزمَك وقيل الخَرْجُ أخصُّ من الخَراجِ ففي النَّظمِ الكريمِ إشعارٌ بالكثرةِ واللزوم وقرئ خرجاً فخَرْجُ وخراجاً فخراج {وهو خير الرازقين} تقريرٌ لخيريَّةِ خراجهِ تعالى

73

{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} تشهدُ العقول السَّليمةُ باستقامته ليس فيهِ شائبةُ اعوجاجٍ تُوهم اتَّهامَهم لك بوجهٍ من الوجوهِ ولقد ألزمَهم اللَّهُ عزَّ وعلا وأزاحَ عللهم في هذه الآياتِ حيث حصرَ أقسامَ ما يُؤدِّي إلى الإنكارِ والاتهام وبين انتفاء ماعدا كراهتهم للحقِّ وقِلَّة فطنتهم

74

{وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} وُصفوا بذلك تشنيعاً لهم بما هُم عليهِ من الانهماكِ في الدُّنيا وزعمهم أنْ لا حياة إلاَّ الحياةُ الدُّنيا وإشعاراً بعلَّةِ الحُكمِ فإنَّ الإيمانَ بالآخرةِ وخوفَ ما فيها من الدَّواهي من أَقْوى الدَّواعي إلى طلبِ الحقِّ وسلوكِ سبيلهِ {عَنِ الصراط} أي عن جنسِ الصِّراطِ {لناكبون} لعادلون فضلاً عن الصراط المستقيم أو عن الصِّراطِ المستقيمِ الذي تدعُوهم إليه والأوَّلُ أدلُّ على كمال ضلالهم وغايةِ غوايتهم لما أنه ينبئ عن كون ما ذهبُوا إليه ممَّا لا يُطلق عليه اسمُ الصِّراطِ ولو كان مُعوجّاً

75

{وَلَوْ رحمناهم وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مّن ضُرّ} أي قحطٍ وجدبٍ {لَّلَجُّواْ} لتمادَوا {فِي طغيانهم}

إفراطِهم في الكُفرِ والاستكبارِ وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {يَعْمَهُونَ} أي عامهينَ عن الهُدى رُوي أنَّه لمَّا أسلمَ ثُمامةُ بنُ أثالٍ الحنفيُّ ولحقَ باليمامةِ ومنعَ الميرةَ عن أهلِ مكَّةَ وأخذَهُم اللَّهُ تعالى بالسِّنينَ حتى أكلُوا العِلْهِزَ جاءَ أبُو سفيانَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ له أنشُدكَ اللَّهَ والرَّحِمَ ألستْ تزعمُ أنَّك بُعثتَ رحمةً للعالمينَ قال بلى فقال قتلتَ الآباءَ بالسَّيفِ والأبناءَ بالجُوعِ فنزلتْ والمعنى لو كشفنا عنهُم ما أصابَهم من القحطِ والهُزال برحمتنا إيَّاهم ووجدُوا الخصبَ لارتدُّوا إلى ما كانوا عليه من الإفراط في الكُفرِ والاستكبارِ ولذهبَ عنهم هذا التملُّقُ والإبلاسُ وقد كان كذلك وقوله تعالى

76

{وَلَقَدْ أخذناهم بالعذاب} استئنافٌ مسوقٌ للاستشهادِ على مضمونِ الشَّرطيةِ والمرادُ بالعذابِ ما نالهم يومَ بدرٍ من القتلِ والأسرِ وما أصابَهم من فنونِ العذابِ التي من جملتها القَحْطُ المذكور واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ وبالله لقد أخذناهُم بالعذاب {فما استكانوا لربهم} بذلك أي لم يخضعوا ولم يتذلَّلوا على أنَّه إمَّا استفعالٌ من الكَوْنِ لأنَّ الخاضع ينتقل من كونٍ إلى كونٍ أو افتعالٌ من السُّكونِ قد أُشبعت فتحتُه كمنتزاحٍ في مُنتزحٍ بل أقاموا على ما كانُوا عليهِ من العُتوِّ والاستكبارِ وقوله تعالى {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله أي وليس من عادتهم التَّضرعُ إليه تعالى

77

{حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} هو عذاب الآخرة كما ينبئ عنه التَّهويلُ بفتح الباب والوصف بالشدة وقرئ فتَّحنا بالتَّشديدِ {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي متحيِّرون آيسون من كلِّ خيرٍ أي محناهم بكلِّ محنةٍ من القتل والأسر والجوع وغير ذلك فما رُؤي منهم لينُ مقادةٍ وتوجهٌ إلى الإسلامِ قط وأمَّا ما أظهره أبُو سفيانَ فليس من الاستكانةِ له تعالى والتَّضرعِ إليه تعالى في شيءٍ وإنَّما هو نوعُ خُنُوعٍ إلى أنْ يتمَّ غرضُه فحالُه كما قيل إذَا جاعَ ضَغَا وإذا شبِعَ طَغَا وأكثرُهم مستمرُّون على ذلك إلى ن يَرَوا عذابَ الآخرةِ فحينئذٍ يُبلسون وقيل المرادُ بالبابِ الجوعُ فإنَّه أشدُّ وأعمُّ من القتلِ والأسرِ والمعنى أخذناهُم أوَّلاً بما جرى عليهم يومَ بدرٍ من قتلِ صناديدِهم وأسرهِم فما وُجد منهم تضرعٌ واستكانةٌ حتَّى فتحنا عليهم بابَ الجوعِ الذي هو أطمُّ وأتمُّ فأُبلِسُوا السَّاعة وخضعتْ رقابهم وجاءك أعتاهُم وأشدُّهم شكيمةً في العناد يستعطفُك والوجهُ هو الأوَّلُ

78

{وَهُوَ الذى أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار} لتشاهدُوا بها الآياتَ التَّنزيليةَ والتَّكوينيَّةَ {والأفئدة} لتتفكروا بها ما تُشاهدونَهُ وتعتبروا اعتباراً لائقاً {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي شكراً قليلاً غيرَ معتدَ به تشكرون تلك النِّعمَ الجليلةَ لما أنَّ العُمدةَ في الشُّكرِ صرفُ تلك القرى التي هي في أنفسها نعمٌ باهرةٌ إلى ما خُلِقت هي له وأنتُم تخون بذلك إخلالا عظيما

سورة المؤمنون (76 85)

79

{وَهُوَ الذى ذَرَأَكُمْ فِى الأرض} أي خلقَكم وبثَّكم فيها بالتَّناسلِ {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي تُجمعون يومَ القيامةِ بعد تفرُّقكم لا إلى غيرِه فما لكُم لا تُؤمنون به ولا تَشكرونَهُ

80

{وهو الذي يحيي وَيُمِيتُ} من غير أنْ يشاركَه في ذلك شيءٌ من الأشياءِ {وَلَهُ} خاصَّةً {اختلاف الليل والنهار} أي هُو المؤثِّرُ في اختلافِهما أي تعاقبِهما أو اختلافِهما ازدياداً وانتِقاصاً أو لأمرِه وقضائِه اختلافُهما {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي ألا تتفكَّرون فلا تعقلون أو أتتفكَّرون فلا تعقلونَ بالنَّظرِ والتَّأمُّلِ أنَّ الكُلَّ منَّا وأنَّ قدرتَنا تعمُّ جميعَ الممكناتِ التي منْ جُملتِها البعثُ وقرئ يعقلونَ على أنَّ الالتفاتَ إلى الغَيبةِ لحكايةِ سوء حالِ المُخاطبين لغيرِهم وقيل على أنَّ الخطابَ الأَوَّلَ لتغليبِ المؤمنينَ وليس بذاكَ

81

{بَلْ قَالُواْ} عطفٌ على مضمرٍ يقتضيهِ المقامُ أي فلم يعقلُوا بل قالُوا {مِثْلَ مَا قَالَ الأولون} أي آباؤُهم ومَن دان بدينهم

82

{قالوا أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أئنا لَمَبْعُوثُونَ} تفسيرٌ لما قبله من المُبهم وتفصيلٌ لما فيهِ من الإجمالِ وقد مرَّ الكلامُ فيه

83

{لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا} أي البعثَ {مِن قَبْلُ} متعلِّقٌ بالفعلِ من حيثُ إسنادُه إلى آبائِهم لا إليهم أي ووُعد آباؤُنا من قبل أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من آباؤنا أي كائنينَ مِن قَبْلُ {إِنَّ هَذَا} أي ما هذا {إِلاَّ أساطير الأولين} أي أكاذيبُهم التي سَطَرُوها جمع أُسطورةٍ كأُحدوثةٍ وأُعجوبةٍ وقيل جمعُ أسطارٍ جمعُ سطرٍ

84

{قُل لّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَا} من المخلوقاتِ تغليباً للعُقلاءِ على غيرِهم {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} جوابُه محذوفٌ ثقةً بدلالة الاستفهامِ عليهِ أيْ إنْ كنتُم تعلمون شيئا ما فأخبرونِي به فإنَّ ذلك كافٍ في الجوابِ وفيهِ من المُبالغةِ في وضوحِ الأمرِ وفي تجهيلِهم ما لا يَخْفى أَوَ إنْ كنتُم تعلمون ذلكَ فأخبرونِي وفيه استهانةٌ بهم وتقريرٌ لجهلِهم ولذلك أخبرَ بجوابهم قبل أنْ يُجيبوا حيثُ قيل

85

{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} لأنَّ بديهةَ العقلِ تضطرُّهم إلى الاعترافِ بأنَّه تعالى خالقُها {قُلْ} أي عندَ اعترافِهم بذلك تبكيتاً لهم {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أتعلمون ذلكَ أو أتقولون ذلكَ فلا تتذكَّرون أنَّ مَن فطرَ الأرضَ وما فيها ابتداءً قادرٌ على إعادتها ثانياً فإنَّ البَدْءَ ليس بأهونَ من الإعادةِ

سورة المؤمنون (86 91) بلِ الأمرُ بالعكس في قياس العقول وقرئ تتذكَّرون على الأصل

86

{قل من رب السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم} أُعيد الرَّبُّ تنويهاً لشأن العرش ورفعاً لمحلِّه عن أن يكونَ تبعاً للسَّمواتِ وجُوداً وذِكراً ولقد رُوعي في الأمر بالسُّؤال التَّرقِّي من الأدنى إلى الأعلى

87

{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} باللامِ نظراً إلى معنى السُّؤالِ فإنَّ قولك مَن رَبُّه ولمنْ هُو في معنى واحدٍ وقرئ هُو وما بعدَهُ بغير لامٍ نظراً إلى لفظ السُّؤالِ {قُلْ} إفحاماً لهم وتوبيخاً {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أي أتعلمون ذلك ولا تقُون أنفسَكم عقابَهُ بعدم العمل بموجب العلم حيثُ تكفرون به وتُنكرون البعث وتُثبتون له شريكاً في الرُّبوبيَّةِ

88

{قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء} ممَّا ذُكر ومَا لم يُذكرْ أي ملكه التَّامُّ القاهرُ وقيل خزائنُه {وَهُوَ يُجْيِرُ} أي يُغيث غيرَه إذا شاء {وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} أي ولا يُغيث أحدٌ عليه أي لا يُمنع أحدٌ منه بالنَّصر عليه {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي شيئاً ما أو ذلك فأجيبُوني على ما سبق

89

{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي لله ملكوتُ كلِّ شيءٍ وهو الذي يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ {قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ} أي فمِن أين تُخدعون وتُصرفون عن الرُّشدِ مع علمكم به إلى ما أنتم عليه من الغنى فإنَّ مَن لا يكونُ مسحوراً مختلَّ العقل لا يكونُ كذلك

90

{بَلْ أتيناهم بالحق} الذي لا محيدَ عنه من التَّوحيدِ والوعد بالبعث {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} فيما قالُوا من الشِّركِ وإنكار البعث

91

{مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ} كما يقوله النَّصارى والقائلون إنَّ الملائكةُ بناتُ الله تعالى عن ذلكَ عُلوًّا كبيراً {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} يُشاركه في الأُلوهيَّةِ كما يقوله عبدة الأوثان وغيرهم {إذا لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ} جوابٌ لمحاجَّتِهم وجزاءٌ لشرطٍ قد حُذف لدلالةِ ما قبله عليه أي لو كان معه آلهةٌ كما يزعمون لذهبَ كلُّ واحدٍ منهم بما خلقَه واستبدَّ به وامتاز ملكُه عن مُلك الآخرينَ ووقع بينهم التَّغالبُ والتَّحارُبُ كما هُو الجاري فيما بينَ المُلوكِ {وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} فلم يكن بيدِه وَحْدَهُ ملكوتُ كلِّ شيءٍ وهو باطلٌ لا يقولُ به عاقلٌ قط مع قيام البرهان على استباد جميعِ المُمكنات إلى واجبِ الوجودِ واحد بالذَّاتِ {سبحان الله عَمَّا يَصِفُونَ} أي يصفونه

سورة المؤمنون (92 97) من أن يكون له أندادٌ وأولادٌ

92

{عالم الغيب والشهادة} بالجرِّ على أنه بدل من الجلالة وقيل صفةٌ لها وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ وأيا ما كان فهُو دليلٌ آخرُ على انتفاءِ الشَّريكِ بناءً على توافقهم في تفرُّدِه تعالى بذلك ولذلك رُتّب عليه بالفاءِ قولُه تعالى {فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فإنَّ تفرُّدَه تعالى بذلك موجبٌ لتعاليهِ عن أنْ يكون له شريكٌ

93

{قُل رَّبّ إِمَّا تُرِيَنّى} أي إن كان لابد مِن أنْ تريني {مَا يُوعَدُونَ} من العذابِ الدنيوي المستأصلِ وأمَّا العذابُ الأُخرويُّ فلا يناسبُه المقامُ

94

{رَبّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى القوم الظالمين} أي قَريناً لهم فيمَا هُم فيهِ من العذابِ وفيه إيذانٌ بكمالِ فظاعةِ ما وُعدوه من العذابِ وكونِه بحيثُ يجبُ أنْ يستعيذَ منه من لا يكاد يمكن أن يخيق به ورُدَّ لإنكارِهم إيَّاهُ واستعجالِهم به على طريقة الاستهزاءِ به وقيل أُمر به صلى الله عليه وسلم هضماً لنفسِه وقيل لأنَّ شُؤمَ الكَفَرةِ قد يحيقُ بمن وَرَاءهُم كقولِه تعالى واتقوا فِتْنَةً لا تصبن الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً ورُوي أنَّه تعالى أخبرَ نبيه صلى الله عليه وسلم بأنَّ له في أمَّتِه نقمةً ولم يُطلعه على وقتِها فأمرَه بهذا الدُّعاءِ وتكريرِ النِّداءِ وتصديرُ كلَ من الشَّرطِ والجزاءِ به لإبرازِ كمالِ الضَّراعةِ والابتهالِ

95

{وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ} من العذابِ {لقادرون} ولكنَّا نُؤخِّره لعلمنا بأنَّ بعضَهم أو بعضَ أعقابهم سيؤمنون أولأنا لا نُعذبهم وأنتَ فيهم وقيل قد أَراهُ ذلكَ وهو ما أصابَهم يومَ بدرٍ أو فتحُ مكَّةَ ولا يَخْفى بُعدُه فإنَّ المبتادر أنْ يكونَ ما يستحقُّونه من العذابِ الموعودِ عذاباً هائلاً مستأصِلاً لا يظهرُ على يديه صلى الله عليه وسلم للحكمة الدَّاعيةِ إليه

96

{ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ السيئة} وهو الصَّفحُ عنها والإحسانُ في مقابلتِها لكن لا بحيثُ يؤدِّي إلى وَهَن في الدِّينِ وقيل هي كلمةُ التَّوحيدِ والسَّيئةُ الشِّركُ وقيل هو الأمرُ بالمعروفِ والسَّيئةُ المنكرُ وهو أبلغُ من ادفعْ بالحسنةِ السَّيئةَ لما فيه من التَّنصيصَ على التَّفضيلِ وتقديمُ الجار والمجرور على المفعول في الموضعينِ للاهتمامِ {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي بما يصفونَك به أو بوصفِهم إيَّاك على خلافِ ما أنتَ عليه وفيه وعيدٌ لهم بالجزاءِ والعُقوبة وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإرشاد له صلى الله عليه وسلم إلى تفويضِ أمرِه إليه تعالى

97

{وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين} أي وساوسِهم المُغريةِ على خلاف ما أُمرت به من المحاسنِ التي من جُملتها

سورة المؤمنون (98 101) دفعُ السَّيئةِ بالحسنةِ وأصلُ الهمزِ النَّخسُ ومنه مهمازُ الرَّائضِ شُبِّه حثُّهم للنَّاسِ على الماصي بهمزِ الرَّائضِ الدَّوابَّ على الإسراعِ أو الوثبِ والجمعُ للمرَّاتِ أو لتنوُّعِ الوساوسِ أو لتعدُّدِ المضافِ إليه

98

{وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يحضرون} أمر صلى الله عليه وسلم بأنْ يعوذَ به تعالى من حضورِهم بعد ما أمر بالعوذ من همزاتِهم للمبالغة في التَّحذيرِ مِن مُلابستهم وإعادةُ الفعلِ مع تكريرِ النِّداءِ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بالمأمورِ به وعرضِ نهايةِ الابتهالِ في الاستدعاءِ أي أعوذُ بك مِن أنْ يحضرونِي ويحومُوا حولي في حالٍ من الأحوالِ وتخصيصُ حالِ الصَّلاةِ وقراءةِ القُرآنِ كما رُويَ عن ابنِ عباس رضي الله عنهما وحالِ حلولِ الأجلِ كما روى عن عكرمة رحمه الله لأنَّها أحرى الأحوالِ بالاستعاذةِ منها

99

{حتى إذا جاء أحدهم الموت} حتَّى هي التي يُبتدأ بها الكلامُ دخلتْ على الجملةِ الشرطيةِ وهي مع ذلك غايةٌ لما قبلها متعلِّقةٌ بيصفُون وما بينهُما اعتراضٌ مؤكِّدٌ للإغضاءِ بالاستعاذة به تعالى من الشياطين أن يزلوه صلى الله عليه وسلم عن الحِلْمِ ويُغروه على الانتقام لكنْ لا بمعنى أنَّه العاملُ فيه لفساد المعنى بل بمعنى أنَّه معمولٌ لمحذوفٍ يدلُّ عليه ذلك وتعلُّقها بكاذبونَ في غاية البُعدِ لفظاً ومعنى أي يسمرون على الوصف المذكورِ حتَّى إذا جاءَ أحدَهم أيَّ أحدٍ كان الموتُ الذي لأمر دله وظهرتْ له أحوالُ الآخرةِ {قَالَ} تحسُّراً على ما فَرَّطَ فيه من الإيمانِ والطَّاعةِ {رَبّ ارجعون} أي رُدَّني إلى الدُّنيا والواوُ لتعظيم المخاطَبِ وقيل لتكرير قوله ارجعنِي كما قيل في قفانيك ونظائرِه

100

{لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا فِيمَا تَرَكْتُ} أي في الإيمان الذي تركتُه لم ينظمه في سلك الرَّجاءِ كسائر الأعمالِ الصَّالحةِ بأنْ يقولَ لعلى أو من فأعمل الخ للإشعار بأنَّه أمرٌ مقرَّرُ الوقوعِ غنيٌّ عن الإخبارِ بوقوعِه قطعاً فضلاً عن كونِه مرجوَّ الوقوعِ أي لعلي أعملُ في الإيمانِ الذي أتى به البتةَ عملاً صلاحا وقيل فيما تركتُه من المالِ أو من الدُّنيا وعنه صلى الله عليه وسلم إذا عاين المؤمنُ الملائكةَ قالوا أنرجعك إلى الدُّنيا فيقول إلى دار الهُموم والأحزانِ بل قُدوماً إلى الله تبارك وتعالى وأمَّا الكافرُ فيقول أرجعونِي {كَلاَّ} ردعٌ عن طلب الرَّجعةِ واستبعادٌ لها {أَنَّهَا} أي قوله ربِّ ارجعون الخ {كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} لا محالةَ لتسلُّط الحسرة عليه {وَمِن وَرَائِهِمْ} أي أمامَهم والضَّميرُ لأحدِهم والجمعُ باعتبار المعنى لأنَّه في حُكم كلِّهم كما أنَّ الإفرادَ في الضَّمائرِ الأُوَلِ باعتبار اللَّفظِ {بَرْزَخٌ} حائلٌ بينهم وبين الرَّجعةِ {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} يوم القيامةِ وهو إقناطٌ كُلِّيٌّ عن الرَّجعة إلى الدُّنيا لما عُلم أنَّه لا رجعة يومَ البعثِ إلى الدُّنيا وإنَّما الرَّجعةُ يومئذٍ إلى الحياةِ الأُخرويَّةِ

101

{فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور} لقيام السَّاعة وهي النَّفخةُ الثَّانيةُ التي يقع عندها البعث والنُّشورُ وقيل المعنى فإذا نفخ

سورة المؤمنون (102 106) في الأجساد أرواحُها على أنَّ الصُّورَ جمع الصُّورةِ لا القَرنِ ويؤيِّده القراءةُ بفتح الواو به مع كسرِ الصَّادِ {فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ} تنفعُهم لزوال الزاحم والتَّعاطُفِ من فرط الحيرة واستيلاءِ الدَّهشةِ بحيث يفرُّ المرءُ مِنْ أَخِيهِ وأمِّه وَأَبِيهِ وصاحبتِه وبنيهِ أو لا أنسابَ يفتخرون بها {يَوْمَئِذٍ} كما هي بينُهم اليَّومَ {وَلاَ يَتَسَاءلُونَ} أي لا يسألُ بعضُهم بعضاً لاشتغالِ كلَ منهُم بنفسِه ولا يناقضُه قولُه تعالى فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ لأنَّ هذا عند ابتداءِ النَّفخةِ الثَّانيةِ وذلك بعد ذلك

102

{فَمَن ثَقُلَتْ موازينه} موزوناتُ حسناتِه من العقائدِ والأعمالِ أي فمن كانتْ له عقائدُ صحيحةٌ وأعمالٌ صالحةٌ يكون لها وزنٌ وقدرٌ عند الله تعالى {فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} الفائزونَ بكل مطلوبٍ النَّاجُون من كلِّ مهروبٍ

103

{وَمَنْ خَفَّتْ موازينه} أي ومَن لم يكُن له من العقائد والأعمال ماله وزن وقدر عنده وهم الكُفَّارُ لقوله تعالى فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً وقد مرَّ تفصيلُ ما في هذا المقامِ من الكلامِ في تفسيرِ سورة الأعرافِ {فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} ضيَّعُوها بتضييع زمانِ استكمالِها وأبطلُوا استعدادها لنيل كما لها واسمُ الإشارةِ في الموضعينِ عبارةٌ عن الموصولِ وجمعُه باعتبار معناه كما أنَّ أفرادَ الضميرينِ في الصِّلتينِ باعتبارِ لفظه {فِى جَهَنَّمَ خالدون} بدلٌ من الصلة أو الخبر ثانٍ لأولئك

104

{تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار} تحرِقُها واللَّفحُ كالنَّفخُ إلاَّ أنَّه أشدُّ تأثيراً منه وتخصيصُ الوجوهِ بذلك لأنَّها أشرفُ الأعضاء فبيانُ حالِها أزجرُ عن المعاصي المؤدِّيةِ إلى النَّارِ وهو السِّرُّ في تقديمها على الفاعل {وَهُمْ فِيهَا كالحون} من شدَّةِ الاحتراقِ والكُلوحُ تقلُّصُ الشَّفتينِ عن الأسنان وقرئ كلحون

105

{ألم تكُن آياتِي تُتلى عَلَيْكُمْ} على إضمارِ القولِ أي يُقال لهم تعنيفاً وتوبيخاً وتذكيراً لما به استحقُّوا ما ابتُلوا به من العذابِ ألم تكُن آياتِي تُتلى عليكمُ في الدُّنيا {فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذّبُونَ} حينئذٍ

106

{قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا} أي ملكتَنا {شِقْوَتُنَا} التي اقترفناها بسوءِ اختيارِنا كما ينبئ عنه إضافتُها إلى أنفسِهم وقرئ شقوتنا بالفتح وشقاواتنا أيضاً بالفتحِ والكسرِ {وَكُنَّا} بسببِ ذلك {قَوْماً ضَالّينَ} عن الحق لذلك فعلنَا مَا فعلنَا منْ التَّكذيب وهذا كما ترى اعترافٌ منهم بأنَّ ما أصابهم قد أصابَهم بسوءِ صنيعهم وأمَّا ما قيل من أنَّه اعتذارٌ منهم بغلبة ما كُتب عليهم من الشَّقاوةِ الأزليَّةِ فمع أنَّه باطلٌ في نفسِه لما أنَّه لا يُكتبُ عليهم من السَّعادةِ والشَّقاوةِ إلا ما علمَ الله تعالى أنَّهم يفعلونَه باختيارِهم ضرورةَ أنَّ العلمَ تابعٌ للمعلومِ يردُّه قولُه تعالى

سورة المؤمنون (107 112)

107

{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظالمون} أي أخرجْنَا من النَّار وارجعنا إلى الدُّنيا فإنْ عُدنا بعد ذلكَ إلى ما كُنَّا عليهِ من الكُفر والمَعاصي فإنَّا مُتجاوزون الحدَّ في الظُّلم ولو كانَ اعتقادُهم أنَّهم مجبورون على ما صَدَر عنهم لما سألُوا الرَّجعةَ إلى الدُّنيا ولما وَعدُوا الإيمانَ والطَّاعةَ بل قولُهم فإنْ عُدنا صريحٌ في أنَّهم حينئذٍ على الإيمانِ والطَّاعةِ وإنَّما الموعُود على تقدير الرَّجعةِ إلى الدنيا إحدائهما

108

{قال اخسؤوا فِيهَا} أي اسكتُوا في النَّارِ سكوتَ هوانٍ وذِلُّوا وانزجرُوا انزجارَ الكلابِ إذا زُجرتْ من خسأتُ الكلبَ إذا زجرتَه فَخَسِأ أي انزجرَ {وَلاَ تُكَلّمُونِ} أي باستدعاءِ الإخراجِ من النَّار والرَّجْعِ إلى الدُّنيا وقيل لا نكلمون في رفع العذابِ ويردُّه التعليل الآتِي وقيل لا تُكلِّمونِ رأساً وهو آخرُ كلامٍ يتكلَّمونَ به ثم لا كلامَ بعد ذلكَ إلا الشَّهيقُ والزَّفيرُ والعُواءُ كعواءِ الكلبِ لا يَفْهمون ولا يُفهمون ويردُّه الخطاباتُ الآتيةُ قطعاً وقوله تعالى

109

{إنه} تعليل لما قبله من الزجرِ عن الدُّعاءِ أي أن الشأن وقرئ بالفتحِ أي لأنَّ الشَّأنَ {كَانَ فَرِيقٌ مّنْ عِبَادِى} وهم المؤمنون وقيل أنهم الصَّحابةُ وقيل أهلُ الصُّفَّةِ رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعينَ {يَقُولُونَ} في الدُّنيا {ربنا آمنا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خير الراحمين}

110

{فاتخذتموهم سِخْرِيّاً} أي اسكتُوا عن الدُّعاءِ بقولكم ربنا الخ لأنَّكم كنتُم تستهزئُون بالدَّاعينَ بقولهم ربنا آمنا الخ وتتشاغلُون باستهزائِهم {حتى أَنسَوْكُمْ} أي الاستهزاءُ بهم {ذِكْرِى} من فرطِ اشتغالِكم باستهزائِهم {وَكُنْتُمْ مّنْهُمْ تَضْحَكُونَ} وذلك غايةُ الاستهزاءِ وقولُه تعالى

111

{إِنِى جَزَيْتُهُمُ اليوم} استئنافٌ لبيانِ حُسنِ حالِهم وأنَّهم انتفعُوا بمَا آذوهم {بِمَا صَبَرُواْ} بسبب صبرِهم على أذيَّتِكم وقولُه تعالى {أَنَّهُمْ هُمُ الفائزون} ثاني مفعولَيْ الجزاءِ أي جزيتُهم فوزَهم بمجامع مرادتهم مخصوصين به وقرئ بكسرِ الهمزةِ على أنَّه تعليلٌ للجزاءِ وبيانٌ لكونِه في غايةِ ما يكونُ من الحُسنِ

112

{قَالَ} أي الله عزَّ وجلَّ أو المَلَكُ المأمور بذلك تذكيراً لِما لبثُوا فيما سألوا الرجوع غليه من الدُّنيا بعد التَّنبيهِ على استحالته بقوله اخسئوا فيها الخ وقرئ قُل على الأمرِ للمَلَكِ {كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الأرض} التي تدعون إليها {عَدَدَ سِنِينَ} تمييزٌ لكم

سورة المؤمنون (113 117)

113

{قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} استقصاراً لمدَّةِ لبثهم فيها {فَاسْأَلِ العادين} أي المتمكِّنينِ من العدِّ فإنما بما دهمَنا من العذاب بمعزلٍ من ذلك أو الملائكةَ العادِّين لأعمار العبادِ وأعمالهم وقرئ العادين بالتخفيف أي المعتدين فإنَّهم أيضاً يقولُون ما نقولُ كأنَّهم الأتباعُ يُسمُّون الرُّؤساءَ بذلك لظُلمهم إيَّاهم إضلالهم وقرئ العَاديينَ أي القدماءَ المُعمِّرين فإنَّهم أيضاً يستقصرُون مدَّة لبثِهم

114

{قَالَ} أي الله تعالَى أو الملك وقرئ قُل كما سبق {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} تصديقاً لَهُم في ذلك {لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تعمون شيئا ولو كنتُم من أهلِ العلمِ والجوابُ محذوفٌ ثقةً بدلالة ما سبقَ عليه أي لعلمتُم يومئذٍ قلَّةَ لبثِكم فيها كما علمتُم اليومَ ولعملتم بموجبِه ولم تُخلِدوا إليها

115

{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً} أي ألم تعلمُوا شيئاً فحسبتُم أنَّما خلقناكُم بغيرِ حكمةٍ بالغةٍ حتَّى أنكرتُم البعثَ فعبثاً حالٌ من نون العظمةِ أي عابثينَ أو مفعول له أي إنَّما خلقناكم للعَبَث {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} عطفٌ على أنَّما فإنَّ خلقَكم بغير بعثٍ من قبيل العَبَثِ وإنَّما خلقناكُم لنعيدَكُم ونجازيكم على أعمالكم وقرئ ترجعون بفتح التاء من الرُّجوعِ

116

{فتعالى الله} استعظامٌ له تعالى لشئون التي تُصرَّفُ عليها عبادُه من البدءِ والإعادةِ والإثابةِ والعقابِ بموجب الحكمةِ البالغةِ أي ارتفع بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاتِه وصفاتِه وأحوالِه وأفعالِه وعن خلوِّ أفعالِه عن الحكمِ والمصالحِ والغاياتِ الحميدةِ {الملك الحق} الذي يحقُّ له الملك على الإطلاق إيجادا وإعداما بدءا إعادة إحياءً وإماتةً عقاباً وإثابةً وكلُّ ما سواهُ مملوكٌ له مقهورٌ تحتَ ملكوتِه {لا إله إلا هو} فإنَّ كلَّ ما عداهُ عبيدُه {رَبُّ العرش الكريم} فكيف بما تحتَهُ ومحاط به من الموجوداتِ كائناً ما كان ووصفُه بالكرمِ إمَّا لأنَّه منه ينزلُ الوحيُ الذي منه القرآنُ الكريمُ أو الخيرُ والبركةُ والرحمةُ أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين وقرئ الكريمُ بالرَّفعِ عَلى أنَّه صفةُ الرَّبِّ كما في قوله تعالى ذُو العرش المجيد

117

{وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إلها آخر} يعبده إفرادا وإشراكا {لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} صفةٌ لازمةٌ لإلها كقولِه تعالى يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ جيءَ بها للتَّأكيدِ وبناءِ الحُكمِ عليه تنبيهاً على أنَّ التَّدينِ بما لا دليلَ عليه باطلٌ فكيفَ بما شهدتْ بديهةُ العُقولِ بخلافِه أو اعتراضٌ بين الشَّرط والجزاء كقولك من

سورة المؤمنون (118) أحسنَ إلى زيدٍ لا أحقَّ منه بالإحسانِ فالله مثيبُه {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبّهِ} فهو مجازٍ له على قدرِ ما يستحقُّه {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} أي إنَّ الشَّأنَ الخ وقرئ بالفتحِ على أنَّه تعليلٌ أو خبرٌ ومعناهُ حسابُه عدمُ الفلاحِ والأصلُ حسابُه إنَّه لا يُفلحُ هو فوُضعَ الكافرونَ موضعَ الضّميرِ لأنَّ من يدعُ في معنى الجمعِ وكذلك حسابُه أنَّه لا يفلحُ في معنى حسابُهم أنَّهم لا يُفلحون بُدئتِ السُّورةُ الكريمةُ بتقريرِ فلاحِ المُؤمنين وخُتمتْ بنفيِ الفلاحِ عن الكافرينَ ثم أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالاستغفارِ والاسترحامِ فقيل

118

{وَقُل رَّبّ اغفر وارحم وأنت خير الراحمين} إيذاناً بأنَّهما من أهمِّ الأمورِ الدِّينيةِ حيثُ أُمر به من قد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر فكيف بمَن عداهُ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سورةَ المُؤمنين بشَّرتْهُ الملائكةُ بالرَّوحِ والرَّيحانِ وما تقرُّ به عينُه عند نزولِ مَلَك الموتِ وعنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال لقد أُنزلتْ عليَّ عشرُ آياتٍ من أقامهنَّ دخلَ الجنَّة ثُم قرأَ قد أفلحَ المُؤمنون حتَّى خَتَم العشرَ ورُوي أنَّ أوَّلَها وآخرَها من كنوزِ الجنَّةِ من عملَ بثلاثِ آياتٍ من أوَّلِها واتَّعظ بأربعٍ من آخرِها فقد نَجَا وأفلحَ

سورة النور (12) سورة النور مدنية وهي اثنتان أو أربع وستون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

النور

{سُورَةٌ} خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي هذه سورةٌ وإنَّما أُشير إليها مع عدمِ سبقِ ذكرِها لأنَّها باعتبار كونِها في شرف الذِّكرِ في حكم الحاضِرِ المشاهَد وقولُه تعالَى {أنزلناها} معَ ما عُطف عليه صفاتٌ لها مؤكِّدةٌ لما أفادَهُ التنكيرُ من الفخامة من حيثُ الذَّاتُ بالفخامة من حيثُ الصِّفاتُ وأمَّا كونُها مبتدأً محذوفَ الخبرِ على أنْ يكونَ التَّقديرُ فيما أوحينا إليك سورةٌ أنزلناها فيأباهُ أنَّ مُقتضى المقام بيانُ شأن السُّورةِ الكريمةِ لا أنَّ في جُملة ما أُوحي إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم سورةً شأنُها كَذا وكَذا وحملُها على السُّورةِ الكَريمةِ بمعونةِ المقامِ يُوهم أنَّ غيرَها من السُّورِ الكريمةِ ليستْ على تلكَ الصِّفاتِ وقرئ بالنصب على إضمار فعلِ يُفسِّره أنزلناهَا فلا محلَّ له حينئذٍ من الإعرابِ أو على تقديرِ اقرأْ ونحوه أو دونك عند من يُسوِّغُ حذفَ أداةِ الإغراءِ فمحلُّ أنزلنا النَّصبُ على الوصفيَّةِ {وفرضناها} أي أو أوجبنَا ما فيها من الأحكامِ إيجاباً قطعيًّا وفيه من الإيذانِ بغايةِ وكادةِ الفرضيَّةِ ما لا يَخْفى وقرئ فرَّضناها بالتَّشديدِ لتأكيدِ الإيجابِ أو لتعددِ الفرائضِ أو لكثرةِ المفروضِ عليهم من السَّلفِ والخلفِ {وَأَنزَلْنَا فِيهَا} أي في تضاعيفِ السُّورةِ {آيات بَيّنَاتٍ} إنْ أُريد بها الآياتُ التي نِيطتْ بها الأحكامُ المفروضةُ وهو الأظهرُ فكونُها في السُّورةِ ظاهرٌ ومعنى كونِها بيناتٍ وضوحُ دلالاتِها على أحكامِها لا على معانيها على الإطلاقِ فإنَّها أسوةٌ لسائرِ الآياتِ في ذلكَ وتكريرُ أنزلنا معَ استلزام إنزالِ السُّورةِ لإنزالِها لإبرازِ كمالِ العنايةِ بشأنِها وإنْ أُريد جميعُ الآياتِ فالظَّرفيةُ باعتبار اشتما ل الكلِّ على كلِّ واحدٍ من أجزائِه وتكريرُ أنزلنا مع أنَّ جميعَ الآياتِ عين السورة وإنزالها عين إنزالها لاستقلالها بعنوان رائق داع إلى تخصيصِ إنزالِها بالذِّكرِ إبانةً لخطرِها ورفعاً لمحلِّها كقوله تعالى ونجيناه مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ بعد قوله تعالى ونجينا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} بحذفِ إحدى التَّاءينِ وقرئ بإدغامِ الثَّانيةِ في الذَّالِ أي تتذكرونها فتعلمون بموجبِها عند وقوعِ الحوادثِ الدَّاعيةِ إلى إجراءِ أحكامِها وفيه إيذانٌ بأنَّ حقَّها أنْ تكونَ على ذكرٍ منهم بحيثُ مَتَى مسَّتِ الحاجةُ إليها استحضرُوها

2

{الزانية والزانى} شروعٌ في تفصيلِ ما ذُكِر منَ الآياتِ البيِّناتِ وبيانِ أحكامِها

سورة النور (3) والزَّانيةُ هي المرأةُ المُطاوِعةُ للزِّنا الممكِّنةُ منه كما تنبئ عنه الصِّيغةُ لا المزنيةُ كُرهاً وتقديمُها على الزَّاني لأنَّها الأصلُ في الفعل لكونِ الدَّاعيةِ فيها أوفرَ ولولا تمكينُها منه لم يقعْ ورفعُهما على الابتداءِ والخبرُ قولُه تعالى {فاجلدوا كلُّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مائةَ جَلْدَةٍ} والفاءُ لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشرط إذا اللاَّمُ بمعنى الموصولِ والتَّقديرُ التي زنتْ والذي زَنى كما في قوله تعالى واللذان يأتياها منكم فآذوهما وقيل الخبرُ محذوفٌ أي فيما أنزلنا أو فيما فرضنا الزانيةُ والزَّاني أي حُكمهُما وقولُه تعالى فاجلدوا الخ بيانٌ لذلكَ الحُكمِ وكانَ هذا عامًّا في حقِّ المُحصنِ وغيرِه وقد نُسخَ في حقِّ المحصنِ قَطْعاً ويكفينا في تعيينِ الناسخ القطع بأنه صلى الله عليه وسلم قد رجم ماعزا أو غيره فيكونُ من بابِ نسخِ الكتابِ بالسُّنَّةِ المشهُورةِ وفي الإيضاحِ الرَّجمُ حكمٌ ثبتَ بالسنَّةِ المشهورةِ المتفقِ عليها فجازتِ الزيادةُ بها على الكتابِ ورُوي عن عليَ رضي الله عنه جلدتُها بكتابِ اللَّهِ ورجمتُها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيلَ نُسخ بآيةٍ منسوخةِ التلاوة وهي الشيخ والشيخة إذا زينا فارجمُوهما البتة نكالاً من اللَّهِ واللَّهُ عزيزٌ حكيمٌ ويأباهُ ما رُوي عن علي رضي الله عنه {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} وقرئ بفتحِ الهمزةِ وبالمدِّ أيضاً على فَعَالةٍ أي رحمةٌ ورقَّةٌ {فِى دِينِ الله} في طاعتهِ وإقامةِ حدِّه فتطلوه أو تسامحوه فيهِ وقد قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لو سرقتْ فاطمةُ بنتُ محمَّدٍ لقطعتُ يدها {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر} منْ بابِ التَّهييج والإلهابِ فإنَّ الإيمانَ بهما يقتضي الجدَّ في طاعته تعالى والاجتهادَ في إجراءِ أحكامِه وذكرُ اليومِ الآخرِ لتذكيرِ ما فيهِ من العقابِ في مقابلةِ المُسامحةِ والتَّعطيلِ {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين} أي لتحضره زيادةً في التَّنكيلِ فإنَّ التَّفضيحَ قد يُنكِّلُ أكثرَ ممَّا يُنكلُّ التَّعذيبُ والطَّائفةُ فرقةٌ يُمكن أنْ تكونَ حافَّةً حولَ شيءٍ من الطَّوفِ وأقلُّها ثلاثةٌ كما روي عن فنادة وعن ابن عباس رضي الله عنهما أربعةٌ إلى أربعينَ وعن الحسنِ عشرةٌ والمرادُ جمعٌ يحصلُ بهِ التَّشهيرُ والزَّجرُ

3

{الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} حكمٌ مؤسَّسٌ على الغالبِ المُعتادِ جيءَ به لزجر المؤمنين بهنَّ وقد رَغِب بعضٌ من ضَعَفةِ المُهاجرينَ في نكاح وسرات كانتْ بالمدينةِ من بَغَايا المُشركينَ فاستأذنُوا رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في ذلكَ فنُفِّروا عنه ببيانِ أنَّه من أفعالِ الزُّناةِ وخصائصِ المُشركين كأنَّه قيلَ الزَّاني لا يرغبُ إلاَّ في نكاحِ إحداهما والزَّانيةُ لا يرغبُ في نكاحِها إلا أحدُهما فلا تحومُوا حولَه كيلا تنتظمُوا في سلكهما أو تتسِمُوا بسمتِهما فإيرادُ الجُملةِ الأُولى مع أنَّ مناطَ التَّنفيرِ هي الثَّانيةُ إمَّا للتعريضِ بقصرهم الرَّغبةَ عليهنَّ حيثُ استأذنُوا في نكاحهنَّ أو لتأكيدِ العلاقةِ بين الجانبينِ مبالغة في الزجر والتنفير وعدمِ التَّعرضِ في الجُملة الثَّانيةِ للمشركةِ للتنبيهِ على أنَّ مناطَ الزَّجرِ والتَّنفيرِ هوالزنا لا مجردُ الإشراكِ وإنَّما تعرَّضَ لها في الأُولى إشباعاً في التَّنفير عن الزَّانيةِ بنظمها في سلكِ المُشركةِ {وَحُرّمَ ذلك} أي نكاحُ الزَّواني {عَلَى المؤمنين} لما أنَّ فيهِ من التَّشبهِ بالفسقةِ والتَّعرضِ للتُّهمةِ والتَّسببِ لسوءِ القالةِ والطَّعنِ في النسب واختلال

سورة النور (4) أمرِ المعاشِ وغيرِ ذلكَ من المفاسدِ ما لا يكادُ يليقُ بأحدٍ من الأداني والأراذلِ فضلاً عنِ المُؤمنينَ ولذلكَ عبَّر عن التنزيهِ بالتَّحريمِ مُبالغةً في الزَّجرِ وقيل النَّفيُ بمعنى النهي وقد قرئ بهِ والتَّحريمُ على حقيقته والحكمُ إمَّا مخصوصٌ بسبب النُّزولِ أو منسوخٌ بقولهِ تعالى وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ فإنَّه متناولٌ للمسافحاتِ ويُؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم سُئلَ عنْ ذلِكَ فقالَ أولهُ سِفاحٌ وآخرُه نِكاحٌ والحرامُ لا يُحرِّمُ الحلالَ وما قيل من أن المرادَ بالنِّكاحِ هو الوطءُ بيِّنُ البُطلانِ

4

{والذين يَرْمُونَ المحصنات} بيانٌ لحكمِ العَفَائفِ إذا نُسبن إلى الزِّنا بعد بيانِ حُكمِ الزَّوانِي ويُعتبر في الإحصان ههنا مع مدلولهِ الوضعيِّ الذي هو العِفَّةُ عن الزِّنا الحريَّةُ والبُلوغُ والإسلامُ وفي التَّعبيرِ عن التَّفوهِ بما قالُوا في حقهنَّ بالرَّمي المنبئ عن صلابةِ الآلةِ وإيلامِ المَرميِّ وبعدِه عن الرَّامِي إيذانٌ بشدَّةِ تأثيره فيهنَّ وكونهِ رجماً بالغيبِ والمرادُ به رميهنَّ بالزِّنا لا غير وعدمُ التَّصريحِ به للاكتفاءِ بإيرادهنَّ عقيبَ الزَّواني ووصفِهنَّ بالإحصانِ الدَّالِّ بالوضعِ على نزاهتهن عن الزنا خاصَّة فإنَّ ذلكَ بمنزلةِ التَّصريحِ بكونِ رميهنَّ به لا محالة ولا حاجة في ذلكَ إلى الاستشهادِ باعتبارِ الأربعةِ من الشُّهداءِ على أنَّ فيه مؤنة بيانِ تأخُّرِ نزولِ الآيةِ عن قوله تعالى فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً ولا بعدمِ وجوبِ الحدِّ بالرَّميِ بغيرِ الزنا على أنَّ فيه شبهة المصاردة كأنَّه قيلَ والذينَ يرمُون العفائفَ المنزَّهاتِ عمَّا رُمين به من الزنا {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} يشهدونَ عليهنَّ بما رموهنَّ به وفي كلمةِ ثمَّ إشعارٌ بجوازِ تأخيرِ الإتيانِ بالشُّهودِ كما أنَّ في كلمةِ لم إشارةً إلى تحقيق العجزِ عن الإتيانِ بهم وتقرره خلا أنَّ اجتماعَ الشُّهودِ لا بُدَّ منه عندَ الأداءِ خلافاً للشَّافعيِّ رحمه الله تعالى فإنَّه جَوَّزَ التَّراخي بينَ الشَّهاداتِ كما بينَ الرَّميِ والشَّهادةِ ويجوزُ أنْ يكونَ أحدُهم زوجَ المقذوفةِ خلافا له أيضا وقرئ بأربعة شهداء {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} لظهورِ كذبهِم وافترائِهم بعجزِهم عن الإتيانِ بالشُّهداءِ لقوله تعالى فإذا لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ الله هُمُ الكاذبون وانتصابُ ثمانينَ كانتصابِ المصادرِ ونصبُ جلدةً على التَّمييزِ وتخصيصُ رميهنَّ بهذا الحكم مع أنَّ حكم رَميِ المُحصنين أيضاً كذلك لخصوصِ الواقعةِ وشيوعِ الرَّمي فيهنَّ {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً} عطفٌ على اجلدُوا داخلٌ في حكمهِ تتمةٌ له لما فيه من معنى الزَّجرِ لأنَّه مؤلمٌ للقلبِ كما أنَّ الجلدَ مؤلمٌ للبدنِ وقد آذى المقذوفَ بلسانه فعُوقبَ بإهدار منافعهِ جزاءً وِفاقاً واللاَّمُ في لهُم متعلقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من شهادةً قدمتْ عليها لكونها نكرةً ولو تأخرتْ عنها لكانتْ صفةً لها وفائدتُها تخصيصُ الردِّ بشهادتهم النَّاشئةِ عن أهليَّتهم الثَّابتةِ لهم عندَ الرَّميِ وهُو السِّرُّ في قبولِ شهادةِ الكافرِ المحدودِ في القذفِ بعد التَّوبةِ والإسلامِ لأنَّها ليستْ ناشئةً عن أهليَّتهِ السَّابقةِ بل عن أهلية حَدَثتْ له بعد إسلامهِ فلا يتناولُها الردُّ فتدبَّرْ ودعْ عنك ما قيل من أنَّ المسلمينَ لا يعبأون بسبب الكفَّارِ فلا يلحقُ المقذوفَ بقذفِ الكافرِ من الشَّينِ والشَّنارِ ما يلحقهُ بقذفِ المسلمِ فإنَّ ذلكَ بدونِ مامر من الاعتبارِ تعليلٌ في مُقابلةِ النصِّ ولا يخفى حالُه فالمعنى لا تقبلُوا منهم شهادةً من الشَّهاداتِ حال كونها

سورة النور (5 6) حاصلةً لهم عندَ الرَّميِ {أَبَدًا} أي مُدَّة حياتهم وإنْ تابُوا وأصلحُوا لما عرفتَ من أنَّه تتمةٌ للحدِّ كأنَّه قيلَ فاجلدُوهم وردُّوا شهادتهم أي فاجمعُوا لهم الجلدَ والردَّ فيبقى كأصله {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون} كلامٌ مستأنفٌ مقررٌ لما قبلَه ومبينٌ لسُّوءِ حالهم عند الله عز وجل وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر والفسادِ أيْ أُولئك هم المحكومُ عليهم بالفسقِ والخروجِ عن الطَّاعةِ والتَّجاوزِ عن الحدودِ الكاملون فيه كأنَّهم هم المستحقُّون لإطلاقِ اسمِ الفاسقِ عليهم لا غيرُهم منَ الفَسَقةِ وقولُه تعالَى

5

{إِلاَّ الذين تَابُواْ} استثناءٌ من الفاسقين كما ينبئ عنْهُ التَّعليلُ الآتِي ومحلُّ المستثني النصب لأنه من موجبٍ وقولُه تعالى {مِن بَعْدِ ذلك} لتهويلِ المتوبِ عنه أي من بعدِ ما اقترفُوا ذلكَ الذَّنبَ العظيمَ الهائلَ {وَأَصْلَحُواْ} أي أصلحُوا أعمالَهم التي منْ جُملتِها ما فرطَ منهم بالتَّلافي والتَّداركِ ومنهُ الاستسلامُ للحدِّ والاستحلالُ من المقذوفِ {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تعليلٌ لمَا يفيدهُ الاستثناءُ منْ العفوِ عن المؤاخذةِ بموجبِ الفسقِ كأنَّه قيلَ فحينئذٍ لا يؤاخذُهم اللَّهُ تعالى بما فَرَط منهُم ولا ينظمهم في سلكِ الفاسقينَ لأنَّه تعالى مبالِغٌ في المغفرةِ والرَّحمةِ هذا وقد علق الشافعي رحمه الله الاستثناءَ بالنَّهيِ فمحلُّ المستثنى حينئذٍ الجرُّ على البدليَّةِ من الضمير في لهم وجعل الأبدَ عبارةً عنْ مُدَّةِ كونه قاذفاً فتنتهي بالتَّوبةِ فتُقبل شهادتهُ بعدَها

6

{والذين يَرْمُونَ أزواجهم} بيانٌ لحكم الرَّامين لأزواجِهم خاصَّة بعد بيانِ حكم الرامين لغيرهنَّ لكنْ لا بأن يكونَ هذا مخصصاً للمحصناتِ بالأجنبياتِ ليلزم بقاءُ الآيةِ السَّابقةِ ظنيةً فلا يثبتُ بها الحدُّ فإنَّ من شرائطِ التَّخصيصِ أنْ لا يكونَ المخصصُ متراخيَ النزولِ بل بكونهِ ناسخاً لعمومها ضرورة تراخي نزولها كما سيأتي فتبقى الآيةُ السَّابقةُ قطعية الدِّلالةِ فيما بقيَ بعدَ النَّسخِ لما بُيِّن موضعِه أنَّ دليلَ النَّسخِ غيرُ مُعلَّلٍ {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَاء} يشهدُون بما رموهن به من الزنا وقرئ بتأنيثِ الفعل {إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} بدلٌ من شهداءُ أو صفةٌ لها على أن إلاَّ بمعنى غير جعلوا من جُملة الشُّهداء إيذاناً من أولِ الأمرِ بعدمِ إلغاءِ قولهم بالمرَّةِ ونظمِه في سلكِ الشَّهادةِ في الجُملةِ وبذلكَ ازدادَ حسنُ إضافةِ الشَّهادةِ إليهم في قوله تعالى {فشهادة أَحَدِهِمْ} أي شهادةُ كلِّ واحدٍ منهُم وهو مبتدأٌ وقولهُ تعالى {أَرْبَعُ شهادات} خبرُه أي فشهادتهم المشروعةُ أربعُ شهاداتٍ {بالله} متعلِّقٌ بشهاداتٍ لقُربِها وقيلَ بشهادةُ لتقدُّمِها وقرئ أربعَ شهاداتٍ بالنَّصبِ على المصدرِ والعاملُ فشهادةُ على أنَّه إمَّا خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي فالواجبُ شهادةُ أحدهم وإمَّا مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أيْ فشهادةُ أحدهم واجبةٌ {إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} أي فيما رماها به من الزنا وأصلُه على أنَّه الخ فحُذفَ الجارُّ وكُسرتْ إنّ وعُلِّق العاملُ عنها للتَّأكيدِ

سورة النور (710)

7

{والخامسة} أي الشهادةُ الخامسةُ للأربعِ المتقدِّمةِ أي الجاعلةُ لها خَمْساً بانضمامها إليهنَّ وإفرادُها عنهنَّ مع كونها شهادةً أيضاً لاستقلالها بالفحوى أو كادتها في إفادةِ ما يُقصد بالشَّهادةِ من تحقيقِ الخبرِ وإظهارِ الصِّدقِ وهي مبتدأٌ خبرُه {أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين} فيما رماها به من الزنا فإذالا عن الزَّوجُ حُبستِ الزَّوجةُ حتَّى تعترف فترجم أو تلاعن

8

{ويدرأ عَنْهَا العذاب} أي العذابَ الدنيويَّ وهو الحبسُ المغيَّا على أحد الوجهين الرجم الذي هو أشدُّ العذابِ {أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ} أي الزوج {لَمِنَ الكاذبين} أي فيما رَمَاني به من الزِّنا

9

{والخامسة} بالنصب على أربع شهادات {أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَا إِن كَانَ} أي الزوج {مِنَ الصادقين} أي فيما رَمَاني به في الزنا وقرئ والخامسةُ بالرَّفعِ على الابتداءِ وقرئ أنْ بالتَّخفيفِ في الموضعينِ ورفع اللعنة والغضب وقرئ أنْ غضِبَ اللَّهُ وتخصيصُ الغضبِ بجانبِ المرأةِ للتغليظِ عليها لما أنَّها مادةُ الفجورِ ولأنَّ النِّساءَ كثيراً ما يستعملنَ اللَّعن فربما يجترئن على التفوُّهِ به لسقوطِ وقعهِ عن قلوبهنَّ بخلافِ غضبهِ تعالى رُوي أنَّ آيةَ القذفِ لمَّا نزلتْ قرأها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على المنبرِ فقامَ عاصمُ بن عدي الأنصاري رضيَ الله عنه فقالَ جعلني اللَّهُ فداكَ إنْ وجدَ رجلٌ مع امرأته رجُلاً فأخبرَ جُلد ثمانينَ ورُدَّتْ شهادتُه وفُسِّقَ وإنْ ضربه بالسَّيفِ قُتل وإن سكت سكت عل غيظٍ وإلى أنْ يجيءَ بأربعةِ شهداءَ فقد قضى الرَّجلُ حاجته ومضى اللهمَّ افتحْ وخرجَ فاستقبله هلالُ بن أُميَّة أو عُويمرٌ فقال ما وراءكَ قالَ شَرٌّ وجدتُ على امرأتي خَوْلة وهي بنتُ عاصمٍ شريك بن سحماه فقالَ واللَّهِ هذا سُؤالي ما أسرعَ ما ابتُليتَ به فرجعا فأخبرا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فكلم خولة فأنكرت فنزلت فلاعنَ بينهما والفُرقةُ الواقعةُ باللِّعانِ في حُكم التَّطليقةِ البائنةِ عندَ أبي حنيفةَ ومحمَّدٍ رحمهُما اللَّهُ ولا يتأبَّدُ حكمُها حتَّى إذا أكذبَ الرَّجلُ نفسَه بعدَ ذلكَ فحُدَّ جازَ له أنْ يتزوَّجها وعند أبي يوسف وزُفر والحسنِ بنِ زياد والشَّافعيِّ رحمهم اللَّهُ هي فُرقةٌ بغيرِ طلاقٍ تُوجبُ تَحريماً مؤبَّداً ليس لهما اجتماعٌ بعد ذلكَ أبدا

10

{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ} التفاتٌ إلى خطابِ الراجين والمرميَّاتِ بطريقِ التَّغليبِ لتوفيةِ مقامَ الامتنانِ حقَّه وجوابُ لولا محذوفٌ لتهويله والإشعارِ بضيق العبارة عن حصره كأنَّه قيل ولولا تفضُّلُه تعالى عليكم ورحمتُه وأنَّه تعالى مبالغٌ في قبولِ التَّوبةِ حَكِيمٌ في جميعِ أفعالِه وأحكامه التي من جملتها ما شرعَ لكُم من حكمِ اللِّعانِ لكانَ ما كانَ مما لا يحيطُ به نطاقُ البيانِ ومن جُمْلتهِ أنَّه تعالى لو لم يشرعْ لهم ذلك لوجبَ على الزَّوجِ حدُّ القذفِ مع أنَّ الظاهرَ صدقُه لأنَّه أعرفُ بحالِ زوجته وأنّه لا يفترِي عليها لاشتراكهما في الفضاحة وبعد ما شرعَ لهم ذلك لو جعل

سورة النور (11) شهاداته موجبة لحد الزنا عليها لفات النظر لها ولو جعل شهاداتها موجبةً لحدِّ القذفِ عليه لفاتَ النَّظرُ له ولا ريبَ في خروجِ الكلِّ عن سننِ الحكمةِ والفضلِ والرَّحمةِ فجعلَ شهاداتِ كلَ منهُما مع الجزمِ بكذبِ أحدِهما حتماً دارئةً لما توجَّهَ إليهِ من الغائلةِ الدُّنيويةِ وقد ابتُليَ الكاذبُ منهما في تضاعيفِ شهاداتهِ من العذابِ بما هو أتمُّ مما درأتْهُ عنه وأطمُّ وفي ذلكَ من أحكامِ الحكمِ البالغةِ وآثارِ التَّفضلِ والرحمةِ ما لا يخفى أمَّا على الصَّادقِ فظاهرٌ وأمَّا على الكاذبِ فهو إمهالُه والسَّترُ عليهِ في الدُّنيا ودرءُ الحدِّ عنه وتعريضُه للتَّوبةِ حسبما ينبئ عنه التَّعرضُ لعُنوانِ توَّابيته سُبحانه ما أعظمَ شأنَهُ وأوسعَ رحمتَهُ وأدقَّ حكمتَهُ

11

{إن الذين جاؤوا بالإفك} أي بأبلغَ ما يكونُ من الكذبِ والافتراءِ وقيل هو البُهتانُ لا تشعرُ به حتَّى يفجأكَ وأصلُه الإفكُ وهو القلبُ لأنه مأفوكٌ عن وجهه وسننهِ والمرادُ به ما أُفكَ بهِ الصديقة أم المؤمنين رضي الله عنها وفي لفظ المجيءِ إشارةٌ إلى أنَّهم أظهرُوه من عندِ أنفسِهم من غير أن يكون له أصل وذلكَ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله علي وسلم كانَ إذا أرادَ سفراً أقرعَ بين نسائهِ فأيتهنَّ خرجتْ قرعتُها استصحبَها قالتْ عائشةَ رضيَ الله عنها فأقرعَ بيننا في غزوةٍ غزاها قيلَ غزوةُ بني المُصطلقِ فخرجَ سهمي فخرجتُ معه صلى الله علي وسلم بعد نزولِ آيةِ الحجابِ فَحُملت في هَوْدجٍ فسرنا حتَّى إذا قفلنا ودنَونا من المدينةِ نزلنا منزلاً ثم نُودي بالرَّحيل فقُمت ومشيتُ حتَّى جاوزتُ الجيشَ فلمَّا قضيتُ شأني أقبلتُ إلى رَحْلي فلمستُ صَدري فإذا عِقدي من جَزَعِ ظَفَارَ قد انقطعَ فرجعتُ فالتمستُه فحبسني ابتغاؤه وأقبلَ الرَّهطُ الذينَ كانُوا يُرحلون بي فاحتملُوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أنِّي فيه لخفَّتي فلم يستنكرُوا خفَّة الهودجِ وذهبُوا بالبعير ووجدت عقدي بعد ما استمررت الجيش فجئتُ منازلَهم وليس فيها داعٍ ولا مجيبٌ فتممت منزلي وظننتُ أنِّي سيفقدونني ويعودونَ في طَلَبي فبينا أنا جالسةٌ في منزلي غلبتني عيني فنِمتُ وكانَ صفوانُ بنُ المُعطِّلِ السُّلَميُّ من وراءِ الجيشِ فلمَّا رآنِي عرفنِي فاستيقظتُ باسترجاعهِ فخمرت وجهي بالجلبابي وواللَّهِ ما تكلَّمنا بكلمةٍ ولا سمعتُ منه كلمةً غيرَ استرجاعِه وهَوى حتَّى أناخ راحلته فوطئ على يديها فقمتُ إليها فركبتُها وانطلقَ يقودُ بي الرَّاحلةَ حتى أتينا الجيشَ مُوغرين في نحرِ الظَّهيرةِ وهُم نزولٌ وافتقدنِي النَّاسُ حين نزلُوا وماجَ القومُ في ذكرِي فبينا النَّاسُ كذلكَ إذ هجمتُ عليهم فخاضَ النَّاسُ في حديثي فهلكَ مَن هلكَ وقولُه تعالى {عُصْبَةٌ مّنْكُمْ} خبرُ إنَّ أي جماعةٌ وهي من العشرة إلى الأربعينَ وكذا العِصابةُ وهم عبدُ اللَّهِ بنُ أُبيَ وزيدُ بنُ رفاعة وحسَّانُ بنُ ثابتٍ ومسطحُ بنُ أثاثة وحِمْنةُ بنتُ جحشٍ ومن ساعدهم وقولُه تعالى {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ} استئنافٌ خُوطب به رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأبوُ بكرٍ وعائشةُ وصفوانُ رضي الله عنهم تسليةً لهم من أولِ الأمرِ والضَّميرُ للإفكِ {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لاكتسابِكم به الثَّوابَ العظيمَ وظهورِ كرامتِكم على اللَّهِ عزَّ وجلَّ بإنزالِ ثماني عشرة آيةً في نزاهةِ ساحتِكم وتعظيمِ شأنِكم وتشديدِ الوعيدِ فيمَن تكلَّم فيكُم والثَّناءِ على مَنْ ظنَّ بكُم خيرا {لكل امرئ منهم}

أي من أولئكَ العُصبةِ {مَّا اكتسب مِنَ الإثم} بقدرِ ما خاضَ فيه {والذى تولى كِبْرَهُ} أي معظمه وقرئ بضم الكاف وهي لغة فيهِ {مِنْهُمْ} من العُصبةِ وهو ابنُ أُبيَ فإنَّه بدأ به وأذاعَه بين النَّاسِ عداوةً لرسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وقيل هُو وحسَّانُ ومِسْطَحُ فإنَّهما شايعاهُ بالتَّصريحِ به فإفرادُ الموصولِ حينئذٍ باعتبارِ الفوجِ أو الفريقِ أو نحوهما {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي في الآخرةِ أو في الدُّنيا أيضاً فإنَّهم جلدُوا وردَّتْ شهادتهم وصارَ ابنُ أبيَ مطروداً مشهوداً عليه بالنِّفاق وحسَّانُ أعمى وأشلَّ اليدينِ ومسطحُ مكفوفَ البصرِ وفي التَّعبير عنه بالذي وتكريرِ الإسنادِ وتنكيرِ العذابِ ووصفهِ بالعظم من تهويل الخطب ما لا يخفى

12

{لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} تلوينٌ للخطاب وصرْفٌ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذويهِ إلى الخائضينَ بطريق الالتفاتِ لتشديد ما في لولا التحفيضة من التَّوبيخِ ثمَّ العدول عنه إلى الغيبةِ في قوله تعالى {ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً} لتأكيدِ التَّوبيخِ والتَّشنيعِ لكنْ لا بطريقِ الإعراضِ عنهم وحكايةِ جناياتِهم لغيرهم على وجهِ المثابة بل بالتَّوسلِ بذلكَ إلى وصفهم بما يوجبُ الإتيانَ بالمحضض عليه ويقتضيهِ اقتضاءً تامًّا ويزجرُهم عن ضدِّه زَجْراً بليغاً فإنَّ كونَ وصفِ الإيمانِ ممَّا يحملُهم على إحسان الظَّنِّ ويكفُّهم عن أسامة بأنفسِهم أي بأبناءِ جنسِهم النَّازلين منزلة أنفسهم كقولهِ تعالى ثُمَّ أَنتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وقوله تعالى وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ ممَّا لايب فيه فإخلاهم بموجب ذلك الوصفِ أقبحُ وأشنعُ والتَّوبيخُ عليه أدخلُ مع ما فيه من التَّوسل به إلى التَّصريحِ بتوبيخ الخائضاتِ ثمَّ إنْ كان المرادُ بالإيمان الإيمانَ الحقيقيَّ فإيجابُه لما ذُكر واضحٌ والتَّوبيخُ خاصٌّ بالمؤمنينَ وإن كان مطلقَ الإيمانِ الشَّاملِ لما يُظهره المنافقون أيضاً فإيجابُه له من حيثُ أنَّهم كانُوا يحترزون عن إظهارِ ما يُنافي مُدَّعاهم فالتَّوبيخُ حينئذٍ متوجِّهٌ إلى الكلِّ وتوسيطُ الظَّرفِ بينَ لولا وفعلِها لتخصيصِ التخصيص بأولِ زمانِ سماعهم وقصرُ التوبيخ على تأخير الإنيان بالمحضَّضِ عليه عن ذلك الآنَ والتَّردد فيه ليفيدَ أنَّ عدمَ الإتيانِ به رأساً في غايةِ ما يكونُ من القباحةِ والشَّناعةِ أي كان الواجبُ أنْ يظنَّ المؤمنونَ والمؤمناتُ أول ما سمعوه ممَّن اخترعَه بالذَّاتِ أو بالواسطةِ من غيرِ تلعثُمٍ وترددٍ بمثلِهم من آحادِ المؤمنينَ خيراً {وَقَالُواْ} في ذلكَ الآنَ {هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ} أي ظاهرٌ مكشوفٌ كونُه إفكاً فكيفَ بالصِّدِّيقةِ ابنةِ الصِّدِّيقِ أمِّ المؤمنينَ حُرمةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم

13

{لولا جاؤوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} إما من تمامِ القولِ المُحضَّضِ عليهِ مسوقٌ لحثِّ السامعينَ على إلزامِ المسمِّعين وتكذيبهم إ تكذيب ماسمعوه منهم بقولهم هذا إفكٌ مبينٌ وتوبيخهم على تركه أي هلاَّ جاءَ الخائضونَ بأربعةِ شُهداءَ يشهدُون على ما قالُوا {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ} بهم وإنَّما قيل {بِالشُّهَدَاء} لزيادة التَّقريرِ {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الخائضينَ وما فيه من معنى البعد للإيذان بغلوهم في الفسادِ وبعد منزلتهم عن الشَّرِّ أي أولئك المُفسدون {عَندَ الله} أي في حُكمهِ وشَرْعه المؤسَّسِ على الدَّلائلِ الظَّاهرةِ المتقنةِ {هُمُ الكاذبون} الكاملونَ في الكذب المشهود

سورة النور (14 16) عليهم بذلك المستحقُّون لإطلاقِ الاسمِ عليهم دُونَ غيرهم ولذلك رتب عليهم الحدُّ خاصَّة وإما كلامٌ مبتدأٌ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى للاحتجاج على كذبهم بكونِ ما قالُوه قولاً لا يساعدُه الدَّليلُ أصلاً

14

{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ} خطابٌ للسَّامعينَ والمسمِّعينَ جميعاً {وَرَحْمَتُهُ فِى الدنيا} من فنونِ النِّعمِ التي من جُملتها الإمهالُ للتَّوبة {والأخرة} من الآلاءِ التي من جُملتها العفوُ بعد التَّوبةِ {لَمَسَّكُمْ} عاجلاً {فِيمَا أَفَضْتُمْ فِيهِ} بسبب ما خضتُم فيه من حديث الإفكِ والإبهامُ لتهويل أمره والاستهجان بذكره بقال أفاضَ في الحديثِ وخاضَ واندفعَ وهضبَ بمعنى {عَذَابٌ عظِيمٌ} يُستحقر دونَه التَّوبيخُ والجلدُ

15

{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} بحذف إحدى التَّاءينِ ظرفٌ للمسِّ أي لمسَّكم ذلكَ العذابُ العظيمُ وقتَ تلقِّيكم إيَّاه من المخترعين {بألسنتكم} والتقي والتلقُّفُ والتلقُّنُ معانٍ متقاربةٌ خلا أنَّ في الأولِ معنى الاستقبالِ وفي الثَّاني معنى الخَطفِ والأخذِ بسرعةٍ وفي الثَّالثِ معنى الحِذْقِ والمهارة وقرئ تتلقونه تَتَلقَونه على الأصل وتلقونه من لقيَه وتلقونَه بكسرِ حرفِ المُضارعةِ وتُلقونه من إلقاء بعضهم على بعض وتَلْقُونه وتألقونَه من الولقِ والألق وهو الكذبُ وتثقفونَه من ثقفتُه إذا طلبتُه فوجدته وتثقفونه أي تتعبونه {وَتَقُولُونَ بأفواهكم مَّا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي تقولونَ قولاً مختصًّا بالأفواهِ من غير أن يكون له مصداقٌ ومنشأٌ في القلوبِ لأنَّه ليسَ بتعبيرٍ عن علم به قلوبكم كقوله تعالى يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ {وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً} سهلاً لا تبعةَ لهُ أو ليسَ له كثيرُ عقوبةٍ {وَهُوَ عِندَ الله} والحالُ أنَّه عنده عزَّ وجلَّ (عظِيمٌ) لا يُقادرُ قَدرُه في الوِزرِ واستجرارِ العذابِ

16

{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} من المخزعين والمشايعين لهم {قُلْتُمْ} تكذيباً لهُم وتهويلاً لما ارتكبُوه {مَّا يَكُونُ لَنَا} ما يُمكننا {أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا} وما يصدرُ عنَّا ذلكَ بوجهٍ من الوجوهِ وحاصلُه نفيُ وجودِ التَّكلمِ به لا نفيُ وجوده على وجه الصِّحَّةِ والاستقامةِ والانبغاءِ وهذا إشارةٌ إلى ما سمعُوه وتوسيطُ الظَّرفِ بينَ لولا وقلتُم لما مرَّ من تخصيص التخضيض بأول وقتِ السَّماعِ وقصرِ التَّوبيخِ واللَّومِ على تأخيرِ القولِ المذكورِ عن ذلك الآنَ ليفيدَ أنَّه المحتملُ للوقوع المفتقر إلى التخضيض على تركه وأما تركُ القول نفسه رأسا فيما لا يُتوهَّم وقوعُه حتَّى يحضَّض على فعلِه ويلامَ على تركه وعلى هذا ينبغي أنْ يحملَ ما قيل إنَّ المعنى أنَّه كان الواجب عليهم أن يتفادَوا أولَ ما سمعُوا بالإفك عن التَّكلُّم به فلمَّا كان ذكرُ الوقتِ أهم وجب التقديم وأماما قيل من أنَّ ظروفَ الأشياء منزلة منزَّلةٌ أنفسَها لوقوعِها فيها وأنها لا تنفكُّ عنها لذلك يتسع فيها مالا

سورة النور (1719) يتَّسعُ في غيرِها فهي ضابطة ربما تستعمل فيماإذا وضع الظَّرفُ موضعَ المظروفِ بأن ج مفعولاً صريحاً لفعلٍ مذكورٍ كما في قوله تعالى واذكروا إذا جَعَلَكُمْ خُلَفَاء أو مقدَّرٍ كعامة الظروف المنصوبة إضمار اذكروا أما ههنا فلا حاجةَ إليها أصلاً لما تحققت أنَّ مناطَ التقديم توجبه التحضيضِ إليه وذلك يتحقَّقُ في جميع متعلقاتِ الفعلِ كما في قولِه تعالى فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا {سبحانك} تعجُّبٌ ممَّن تفوَّه به وأصلُه أن يذكرُ عند معاينةِ العجيبِ من صنائعِه تعالى تنزيها له سبحانه على أنْ يصعبَ عليه أمثالُه ثمَّ كثُر حتَّى استُعملَ في كلِّ متعجَّبٍ منه أو تنزيهٌ لهُ تعالَى عن أنْ تكونَ حُرمةُ نبيِّه فاجرةً فإنَّ فجورَها تنفيرٌ عنه ومخلٌّ بمقصودِ الزَّواجِ فيكون تقريراً لمَا قبلَه وتمهيداً لقوله تعالى {هذا بهتان عظيم} لعظم المبهوتِ عليه واستحالةِ صدقِه فإنَّ حقارةَ الذُّنوبِ وعظمَها باعتبار مُتعلقاتِها

17

{يَعِظُكُمُ الله} أي ينصحُكم {أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ} أي كراهةَ أنْ تعودُوا أو يزجركم من أن تعودوا أو في أن تعودُوا من قولِك وعظتُه في كذا فتركَه {أَبَدًا} أي مدَّةَ حياتِكم {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فإنَّ الإيمانَ وازعٌ عنه لا محالةَ وفيه تهييجٌ وتقريعٌ

18

{وَيُبَيّنُ الله لَكُمُ الأيات} الدالةَ على الشَّرائعِ ومحاسنِ الآداب دلالة ذلك واضحةً لتتَّعِظوا وتتأدَّبوا بها أي يُنزلها كذلكَ أي مبنية ظاهرةَ الدِّلالةِ على معانيها لا أنَّه يُبينها بعد أن لم تكن كذلك وهذا كما في قولِهم سُبحان مَنْ صغر البعوضَ وكبَّر الفيلَ أي خلقَهُما صغيراً وكبيراً ومنه قولُك ضَيِّقْ فمَ الرَّكِيةِ ووُسِّعَ أسفلُها وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمار شأنِ البيانِ {والله عَلِيمٌ} بأحوالِ جميعِ مخلوقاتِه جلائلِها دقائقها {حَكِيمٌ} في جميع تدابيرِه وأفعالِه فأنَّى يمكن صدقُ ما قيل في حقِّ حُرمةِ مَن اصطفاهُ لرسالاته وبعثه إلى كافة الخلقِ ليرشدَهم إلى الحقِّ ويزكيهم ويطهرهم تطهيرا وإظهارا الاسم الجليل ههنا لتأكيد استقلال الاعتراض التذبيلي والإشعارِ بعلَّةِ الأُلوهيَّةِ للعلم والحكمةِ

19

{إِنَّ الذين يُحِبُّونَ} أي يُريدون ويقصدُون {أَن تَشِيعَ الفاحشة} أي تنتشرَ الخَصلةُ المفرطةُ في القُبح وهي الفريةُ والرَّميُ بالزِّنا أو نفسُ الزِّنا فالمراد بشيوعِها شيوعُ خبرِها أي يحبُّون شيوعَها ويتصدَّون مع ذلكَ لإشاعتِها وإنَّما لم يُصرِّحْ به اكتفاءً بذكرِ المحبَّةِ فإنَّها مستتبعةٌ له لا محالة {في الذين آمنوا} متعلق بتشيع أنْ تشيعَ فيما بين النَّاسِ وذكرُ المؤمنينَ لأنَّهم العمدةُ فيهم أو بمضمرٍ هو حالٌ من الفاحشةِ فالموصولُ عبارةٌ عن المؤمنينَ خاصة أن يحبُّون أنْ تشيعَ الفاحشةُ كائنةً في حقِّ المؤمنينَ وفي شأنهم {لَهُمْ} بسببِ ما ذُكر {عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدنيا} من الحدِّ وغيرِه ممَّا يتفقُ من البَلايا الدُّنيويةِ ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي وحسَّاناً ومِسْطَحاً حدَّ القذفِ وضربَ صفوانُ حسَّاناً ضربةً بالسيف وعف بصره

سورة النور (20 21) {والأخرة} من عذابِ النَّارِ وغيرِ ذلكَ ممَّا يعلمُه الله عزَّ وجلَّ {والله يَعْلَمُ} جميعَ الأمورِ التي من جملتها ما في الضَّمائر من المحبَّة المذكورةِ {وأنتم تَعْلَمُونَ} ما يعلمُه تعالى إنَّما تعلمونَ ما ظهرَ لكم من الأقوال والأفعالِ المحسوسة فابتلوا أموركم على ما تعملونه وعاقبُوا في الدُّنيا على ما تشاهدونَه من الأحوالِ الظَّاهرةِ والله سبحانَه هو المتولِّي للسَّرائرِ فيعاقبُ في الآخرةِ على ما تُكنُّه الصُّدورُ هذا إذا جُعلَ العذابُ الأليمُ في الدُّنيا عبارةً عن حدِّ القذفِ أو متنظما له كما أطبقَ عليه الجمهورُ أمَّا إذا بقي على إطلاقِه يُراد بالمحبَّةِ نفسُها من غيرِ أنْ يقارنَها التَّصدِّي للإشاعةِ وهو الأنسبُ بسياقِ النظمِ الكريم فيكونُ ترتيبُ العذابِ عليها تنبيها على أن عذاب مَن يُباشر الإشاعةَ ويتولاَّها أشدَّ وأعظمَ ويكون الاعتراض التذبيلي أعني قولَه تعالى والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ تقريراً لثبوت العذابِ الأليمِ لهم وتعليلاً له

20

{وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} تكريرٌ للمنَّةِ بترك المعالجة بالعقاب للتنبيه على كمال عظم الجزيرة {وأن الله رؤوف رَّحِيمٌ} عطفٌ على فضلُ الله وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابةِ والإشعارِ باستتباع صفةِ الأُلوهية للرَّأفة والرَّحمةِ وتغييرُ سبكِه وتصديرُه بحرفِ التحقيق لما أن بيانُ اتِّصافِه تعالى في ذاتِه بالرَّأفةِ التي هي كمالُ الرَّحمةِ والرَّحيميةِ التي هي المبالغةُ فيها على الدَّوامِ والاستمرارِ لا بيانُ حدوثِ تعلُّق رأفتِه ورحمتِه بهم كما أن المراد بالمعطوفِ عليه وجوابُ لَولا محذوفٌ لدلالةِ ما قبله عليه

21

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} أي لا تسلكُوا مسالكَه كل ما تأتون وما تذرُون من الأفاعيل التي من جُملتِها إشاعةُ الفاحشةِ وحبها وقرئ خُطْواتِ بسكونِ الطَّاءِ وبفتحِها أيضاً {وَمَن يَتَّبِعْ خطوات الشيطان} وُضعَ الظَّاهرانِ موضعَ ضمير يهما حيثُ لم يُقلْ ومَن يتبعها أو ومَن يتبع خطواتِه لزيادة التقريرِ والمبالغةِ في التَّنفيرِ والتَّحذيرِ {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشاء والمنكر} علَّة للجزاءِ وضعتْ موضعَه كأنَّه قيل فقدار تكب الفحشاء والمنكر لأن دأبُه المستمرُّ أنْ يأمرَ بهما فمَن اتبعَ خطواتِه فقدِ امتثلَ بأمرِه قطعاً والفحشاءُ ما أفرطَ قبحُه كالفاحشةِ والمنكرُ ما يُنكره الشرع ضمير إنَّه للشَّيطانِ وقيل للشَّأنِ على ما رأي مَن لا يوجبُ عودَ الضَّميرِ من الجُملةِ الجزائيَّةِ إلى اسمِ الشَّرطِ أو على أنَّ الأصلَ يأمرُه وقيل هو عائدٌ إلى مَن أي فإنَّ ذلك المتَّبعَ يأمرُ النَّاسَ بهما لأنَّ شأنَ الشَّيطانِ هو الإضلالُ فمن اتَّبعه يترقَّى من رُتبة الضَّلالِ والفساد إلى رُتبة الإضلالِ والإفسادِ {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بما مِن جُملتِه هاتيك البياناتُ والتَّوفيقُ للتوبة الماحصة للذنوب وشرع الحُدودِ المُكفِّرةِ لها {مَا زكا} أي ما طهُر من دنسها وقرىءماركى بالتَّشديدِ أي ما طهَّر الله تعالى ومِنْ في قولِه تعالَى {مّنكُمْ} بيانيَّةٌ وفي قوله

سورة النور (22 23) تعالى {مّنْ أَحَدٍ} زائدةٌ وأحدٌ في حيِّزِ الرَّفعِ على الفاعليَّةِ على القراءةِ الأُولى وفي محلِّ النصبِ على المفعوليَّةِ على القراءةِ الثَّانيةِ {أَبَدًا} لا إلى نهايةٍ {ولكن الله يُزَكّى} يُطهِّر {مَن يَشَآء} من عباده بإضافة آثار فضله ورحمته على التَّوبةِ ثمَّ قبولِها منه كما فَعَل بكُم {والله سَمِيعٌ} مبالغٌ في سمعِ الأقوالِ التي مِنْ جُملتِها ما أظهرُوه من التَّوبةِ {عَلِيمٌ} بجميعِ المعلوماتِ التي مِنْ جُملتِها نيَّاتُهم وفيه حثٌّ لهم على الإخلاص في التوبة وإظهارالإسم الجليلِ للإيذانِ باستدعاءِ الأُلوهيَّةِ للسمعِ والعلمِ مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذبيلي

22

{وَلاَ يَأْتَلِ} أي لا يحلفْ افتعالٌ من الأَليّة وقيل لا يُقصِّرُ من الألو والأول هوالأظهر لنزولِه في شأنِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه حينَ حلفَ أنْ لا ينفقَ على مِسْطحٍ بعدُ وكانَ ينفقُ عليه لكونِه ابنَ خالتِه وكانَ من فُقراءِ المُهاجرينَ ويَعضده قراءةُ من قرأ ولا يتأل {أولوا الفضل مِنكُمْ} في الدِّين وكفَى به دليلاً على فضلِ الصديقَ رضي الله تعالى عنه {والسعة} في المالِ {أَن يُؤْتُواْ} أيْ على أنْ لا يُؤتوا أو قرئ بناء الخطابِ على الالتفاتِ {أُوْلِى القربى والمساكين والمهاجرين فِى سَبِيلِ الله} صفاتٌ لموصوفٍ واحد جئ بها بطريقِ العطفِ تنبيهاً على أنَّ كلاًّ منها علة مستقلة لاستحقاقه الإيتاء وقيل لموصوفاتٍ أقيمتْ هي مقامَها وحُذف المفعولُ الثَّاني لغايةِ ظهورِه أي على أنْ لا يُؤتوهم شيئاً {وَلْيَعْفُواْ} ما فَرَطَ منهم {وَلْيَصْفَحُواْ} بالإغضاءِ عنه وقد قرئ الأمر أن بتاءِ الخطابِ على وفقِ قولِه تعالى {أَلاَ تُحِبُّونَ أن يغفر الله لكم} أي بمقابلة عفوِكم وصفحِكم وإحسانِكم إلى مَن أساءَ إليكُم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} مبالِغٌ في المغفرةِ والرحمةِ مع كمال قدرتِه على المؤاخذة وكثرة ذنوب الدَّاعيةِ إليها وفيهِ ترغيبٌ عظيمٌ في العفو ووعدٌ الكريم بمقابلتِه كأنَّه قيل ألا تحبون أن يغفر الله لكُم فهذا من موجباتِه روى أنه صلى الله عليه وسلم قرأها على أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ فقال بلى أحبُّ أنْ يغفرَ الله لي فرجع إلى مسطحٍ نفقته وقال الله أعلم لا أنزعها أبداً

23

{إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات} أي العفائفَ ممَّا رُمين به من الفاحشةِ {الغافلات} عنها على الإطلاقِ بحيثُ لم يخطرْ ببالهنَّ شيءٌ منها ولا من مُقدِّماتِها أصلاً ففيها من الدِّلالةِ عَلى كمالِ النَّزاهةِ ما ليس في المحصناتِ أي السليمات الصدور التقيات القلوبِ عن كلِّ سوءٍ {المؤمنات} أي المتصفاتِ بالإيمانِ بكلِّ ما يجبُ أنْ يؤمن به من الواجبات والمحظوات وغيرِها إيماناً حقيقياً تفصيلياً كما ينبئ عنه تأخيرُ المؤمناتِ عمَّا قبلها مع أصالةِ وصفِ الإيمانِ فإنَّه للإيذان بأنَّ المرادَ بها المعنى الوصفي المعرب عما ذُكر لا المعنى الاسميُّ المصححُ لإطلاق الاسمِ في الجملةِ كما هو المتبادرُ على تقديرِ التَّقديمِ والمرادُ بها عائشة الصدِّيقةُ رضيَ الله عنَها والجمع باعتبار

سورة النور (2425) أنَّ رميَها رميٌ لسائرِ أمَّهاتِ المُؤمنينَ لاشتراكِ الكلِّ في العصمةِ والنَّزاهةِ والانتسابِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى كذبت قوم نوح لمرسلين ونظائرِه وقيلَ أمَّهاتُ المؤمنينَ فيدخلُ فيهن الصِّدِّيقةُ دُخولاً أوليًّا وأما ما قيل منْ أنَّ المرادَ هي الصِّدِّيقةُ والجمعُ باعتبارِ استتباعِها للمتَّصفاتِ بالصِّفاتِ المذكورةِ من نساءِ الأمةِ فيأباهُ أنَّ العقوباتِ المترتبةَ على رميِ هؤلاءِ عقوباتٌ مختصَّةٌ بالكفَّارِ والمنافقينِ ولا ريبَ في أنَّ رميَ غيرِ أمَّهاتِ المُؤمنين ليس بكفرٍ فيجبُ أن يكونَ المرادُ إيَّاهُنَّ على أحدِ الوجهينَ فإنهنَّ قد خصصنَّ من بين سائرِ المُؤمناتِ فجعل رميهنَّ كفراً إبرازاً لكرامتهنَّ على الله عزَّ وجلَّ وحمايةً مِنْ أنْ يحومَ حولَه أحد بسور حتَّى إنَّ ابنَ عبَّاسٍ رضي الله عنهما جعلَه أغلظَ من سائرِ أفرادِ الكفرِ حينَ سُئل عن هذه الآياتِ فقالَ مَن أذنبَ ذنباً ثمَّ تابَ منه قُبلت توبتُه إلا مَن خاضَ في أمر عائشةَ رضيَ الله عنها وهل هو منه رضي الله عنه إلا لتهويلِ أمرِ الإفكِ والتنبيه على أن كفرٌ غليظٌ {لُعِنُواْ} بما قالُوه في حقهنَّ {فِى الدنيا والأخرة} حيثُ يلعنُهم اللاعنونَ من المؤمنينَ والملائكةِ أبداً {وَلَهُمْ} معَ ما ذُكر من اللَّعنِ الأبديِّ {عَذَابٌ عظِيمٌ} هائلٌ لا يقادَرُ قدرُه لغاية عظمِ ما اقترفُوه من الجنايةِ وقولُه تعالى

24

{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ} الخ إمَّا متصلٌ بما قبلَه مسوقٌ لتقريرِ العذابِ المذكورِ بتعيينِ وقتِ حلولِه وتهويلِه ببيان ظهور جناياتهم الموجبةِ له مع سائرِ جناياتِهم المستتبعةِ لعقوباتِها عَلَى كيفيةٍ هائلةٍ وهيئةٍ خارقةٍ للعاداتِ فيومَ ظرفٌ لما في الجارِّ والمجرورِ المتقدمِ من معنى الاستقرارِ لا لعذاب وإن أغضبنا عن وصفِه لإخلالِه بجزالةِ المعنى وإمَّا منقطعٌ عنه مسوق لتهويل اليوم ما يحويهِ على أنَّه ظرفٌ لفعلٍ مؤخَّرٍ قد ضُرب عنه الذِّكرُ صَفْحاً للإيذانِ بقصورِ العبارةِ عن تفصيل ما يفع فيهِ من الطَّامةِ التَّامةِ والداهية العامة كأنه قي قبل يوم تشهد عليكم {أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يكونُ من الأحوال والأهوال مالا يحيطُ به حيطةَ المقالُ على أنَّ الموصولَ المذكورَ عبارةٌ عن جميعِ أعمالِهم السَّيئةِ وجناياتِهم القبيحةِ لا عن جناياتهم المعهودةِ فَقَطْ ومعنى شهادةِ الجوارحِ المذكورةِ بها أنَّه تعالى يُنطقها بقدرته فتخبر كلُّ جارحةٍ منها بما صدرَ عنها من أفاعيل صاحبِها لا أنَّ كلاًّ منها يخبر بجناياتهم المعهودة فحسب والموصول والمحذوف عبارةٌ عنها وعن فنونِ العُقوباتِ المترتبةِ عليها كافَّة لا عنْ إحداهما خاصَّة ففيهِ من ضروبِ التَّهويلِ وبالإجمال والتَّفصيلِ ما لا مزيدَ عليه وجعلُ الموصولِ المذكورِ عبارة عن خصوص جناياتهم المعهودةِ وحملُ شهادةِ الجوارحِ على إخبارِ الكلِّ بها فَقَط تحجيرٌ للواسعِ وتهوينُ لأمر الوازعِ والجمعُ بين صيغتي الماضِي والمستقبلِ للدِّلالةِ على استمرارِهم عليها في الدُّنيا وتقديمُ عليهم على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون الشَّهادةَ ضارةٌ لهم مع ما فيه من التشويق إلى المؤخرِ كما مرَّ مِراراً وقولُه تعالى

25

{يَوْمَئِذٍ يُوَفّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق} أي يومَ إذْ تشهدُ جوارحُهم بأعمالِهم القبيحةِ يطيعهم الله تعالى جزاءَهم الثَّابتَ الذي يحقِّقُ أنْ يثبتَ

سورة النور (26) لهم لا محالةَ وافياً كاملاً كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ لبيانِ ترتيبِ حكمِ الشَّهادةِ عليها متض لبيان ذلك لمبهم المحذوفِ على وجهِ الإجمالِ ويجوزُ أنْ يكونَ يومَ يشهد ظرفاً ليوفِّيهم ويومئذٍ بدلاً منه وقيلَ هو منصوبٌ على أنه مفعول لفعل مضمرٍ أي اذكُر يومَ تشهد بالتذكير للفصل {ويعملون} عند معاينتِهم الأهوالَ والخُطوبَ حسبما نطقَ به القرآنُ الكريم {أَنَّ الله هُوَ الحق} الثَّابتُ الذي يحقُّ أن يثبت لا محالة في ذاته وصفا وأفعاله التي من جملتها كلماتها التامات المنبئة عن الشئون التي يشاهدونها منطبقة عليها {المبين} المظهرُ للأشياءِ كما هي في أنفسِها أو الظَّاهرُ أنَّه هو الحقُّ وتفسيرُه بظهورِ ألوهيَّتِه تعالى وعدمِ مشاركةِ الغير له فيها وعدمِ قُدرة ما سواه على الثَّوابِ والعقابِ ليس له كثيرُ مناسبةٍ للمقام كما أنَّ تفسيرَ الحقِّ بذي الحقِّ البين أي العادل الظَّاهر عدلُه كذلك ولو تتبعتَ ما في الفُرقان المجيدِ من آياتِ الوعيد الواردة حقِّ كلِّ كَفَّارٍ مريدٍ وجبَّارٍ عَنيدٍ لا تجدُ شيئا منها فوق هانيك القوارعِ المشحونةِ بفُنون التَّهديدِ والتَّشديدِ وما ذاكَ إلاَّ لإظهار منزلة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في عُلُّو الشَّأنِ والنباهةِ وإبراز رتبة الصدِّيقةُ رضيَ الله عنَها في العِفَّةِ والنَّزاهةِ وقولُه تعالى

26

{الخبيثات} إلخ كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ على قاعدةِ السنةُ الإلهية الجاريةُ فيما بين الخلقِ على موجب أنَّ لله تعالى مَلَكاً يسوقُ الأهلَ إلى الأهلِ أي الخبيثاتُ من النِّساءِ {لِلْخَبِيثِينَ} من الرِّجال أي مختصَّاتٌ بهم لا يكَدْنَ يتجاوزْنَهم إلى غيرِهم على أنَّ اللامَ للاختصاصِ {والخبيثون} أيضاً {للخبيثات} لأنَّ المُجانسةَ من دَوَاعي الانضمامِ {والطيبات} منهنَّ {للطيبين} أيضا منهم {والطيبون} {للطيبات} منهنَّ بحيثُ لا يك يجاوزوهنَّ إلى من عداهنَّ وحيثُ كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أطيبَ الأطيبينِ وخيرةَ الأوَّلين والآخرين تبين كونُ الصِّدِّيقةِ رضيَ الله عنَها من أطيب الطَّيباتِ بالضَّرورةِ واتَّضح بطلانُ ما قيل في حقِّها من الخُرافاتِ حسبما نطق به قوله تعالى {أولئك مبرؤون مما يقولون} عل أنَّ الإشارةَ إلى أهلِ البيتِ المنتظِمين للصِّدِّيقةِ انتظاماً أوَّليًّا وقيل إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والصِّدِّيقةِ وصفوانَ وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البعد للإيذان بعلو رتبة المشارِ إليهم وبُعد منزلتِهم في الفضلِ أي أولئك الموصُوفون بعلُّوِ الشَّأنِ مُبرَّءون مما نقوله أهلُ الإفكِ في حقِّهم من الأكاذيبِ الباطلةِ وقيل الخبيثات من القول للخبثين من الرِّجالِ والنِّساءِ أي مختصَّة ولائقة بهم لا ينبغي أنْ تُقال في حقِّ غيرِهم وكذا الخبيثون من الفريقين أحفاء بأنْ يُقال في حقِّهم خبائثُ القول والطَّيباتُ من الكلم للطَّيبين من الفريقينِ مختصَّةٌ وحقيقة بهم وهم أحفاء بأنْ يُقال في شأنهم طيِّباتُ الكلمِ أولئك الطَّيبون مبرَّءون ممَّا يقول الخبيثون في حقِّهم فمآلُه تنزيهُ الصِّدِّيقةِ أيضاً وقيل خبيثاتُ القول مختصَّةٌ بالخبيثين من فريقَيْ الرِّجالِ والنِّساءِ لا تصدرُ عن غيرِهم والخبيثون من الفريقينِ مختصُّون بخبائث القولِ متعرِّضُون لها والطَّيباتُ من الكلام للطَّيبين من الفريقينِ أي مختصَّةٌ بهم لا تصدرُ عن غيرِهم والطَّيبون من الفريقينِ مختصُّون بطيِّباتِ الكلامِ لا يصدرُ عنهم غيرُها أولئك الطَّيبون مبرَّءون ممَّا يقولُه الخبيثون من

سورة النور (27 28) الخبائثِ أي لا يصدرُ عنهم مثلُ ذلك فمآلُه تنزيهُ القائلينِ سبحانَك هذا بهتانٌ عظيمٌ {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} عظيمةٌ لما لا يخلُو عنه البشرُ من الذُّنوب {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} هو الجنَّةُ

27

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} إثرَ ما فُصل عن الزِّنا وعن رميِ العفائف عنه شُرع في تفصيل الزَّواجر عمَّا عسى يُؤدِّي إلى أحدهما من مخالطة الرجال والنساء ودخولِهم عليهنَّ في أوقات الخلوات وتعليمِ الآدابِ الجميلة والأفاعيل المرضيَّة المستتبعة لسعادةِ الدَّارين ووصف البيوت بمغايرة بيوتِهم خارجٌ مخرجَ العادة التي هي سُكنى كلِّ أحدٍ في ملكه وإلا فالمآجر والمُعير أيضاٌ منهيَّانِ عن الدخول بغير إذن وقرئ بِيوتاً غيرَ بِيوتكم بكسرِ الباءِ لإجلِ الياءِ {حتى تَسْتَأْنِسُواْ} أي تستأذنوا مَن يملكُ الإذن من أصحابها من الاستئناس بمعنى الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره فإن المستأنس مستعلم للحال مستكشف أنه هل يؤذن له أو من الستئساس الذي هو خلاف الاستيحاش لما أن المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا أذن له استأنس {وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا} عند الاستئذان روي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أن التسليم أن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات فإن أذن له دخل وإلا رجع {ذلكم} أي الاستئذان مع التسليم {خَيْرٌ لَّكُمْ} من أن تدخلوا بغتة أو على تحية الجاهلية حيث كانَ الرجلُ منهُم إذَا أراد أن يدخل بيتاً غير بيته يقول حييتم صباحاً حييتم مساء فيدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف وروي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أستأذن على أمي قال له نعم قال ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كما دخلت قال صلى الله عليه وسلم أتحب أن تراها عريانة قال لا قال صلى الله عليه وسلم فاستأذن {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} متعلق بمضمر أي أمرتم به أو قيل لكم هذا كي تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بموجبه

28

{فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَا أَحَداً} أي ممن يملك الإذن على أنَّ مَن لا يملكه من النِّساءِ والولدانُ وُجدانُه كفُقدانِه أو أحداً أصلاً على أنَّ مدلول النصِّ الكريم عبارةٌ هو النَّهي عن دُخول البيوتِ الخاليةِ لما فيه من الاطلاع على ما يعتادُ النَّاسُ إخفاءَه مع أنَّ التَّصرفَ في ملك الغير محظور وطلقا وأمَّا حُرمة دخول ما فيه النساء والولدان فثابتةٌ بدلالة النصِّ لأنَّ الدخول حيث حَرُمَ مع ما ذكر من العلَّة فلأن يحرُمَ عند انضمامِ ما هو أقوى منه إليه أعني الاطِّلاعَ على العَورات أَولى {فَلاَ تَدْخُلُوهَا} واصبروا {حتى يُؤْذَنَ لَكُمُ} أي من جهة مَن يملكُ الإذنَ عند إتيانه ومَن فسَّره بقوله حتى يأتي من بأذن لكم أو حتَّى تجدوا مَن يأذنُ لكم أو حتَّى تجدوا من يأذن لكم فقد أبرز القطعيَّ في معرض الاحتمال ولما كان جعل النهي مغيا بالإذنِ ممَّا يُوهم الرُّخصة في الانتظار على الأبواب مُطلقاً بل في تكرير الاستئذانِ ولو بعد الردِّ ذلك بقوله {وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا} أي إن

سورة النور (29 30) أُمرتم من جهةِ أهلِ البيتِ بالرُّجوع سواء كان الأمرُ ممَّن يملكُ الإذن أولا فارجعُوا ولا تلحّوا بتكرير الاستئذانِ كما في الوجهِ الأول ولا تلجوا بالإصرار على الانتظار إلى أنْ يأتيَ الآذنُ كما في الثَّاني فإنَّ ذلك ممَّا يجلبُ الكراهةَ في قلوب النَّاسِ ويقدحُ في المروءةِ أيَّ قدحٍ {هُوَ} أي الرُّجوعُ {أزكى لَكُمْ} أي أظهر مما لا يخلوا عنه اللجُّ والعناد والوقوف على الأبواب من دنس الدناءةِ والرَّذالة {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فيعلم ما تأتونَ وما تذرونَ ممَّا كلفتموه فيجازيكم عليه

29

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ} أي بغير استئذانٍ {بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} أي غيرَ موضوعةٍ لسكنى طائفةٍ مخصوصةٍ فقط بل ليتمتَّعَ بها من يُضطر إليها كائنا من كان من غير أنْ يتخذَها سكناً كالرُّبطِ والخَاناتِ والحوانيتِ والحمَّاماتِ ونحوِها فإنَّها معدَّةٌ لمصالح الناس كافة كما ينبئ عنه قولُه تعالى {فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ} فإنَّه صفةٌ للبيوتِ أو استئنافٌ جارٍ مجرى التَّعليلِ لعدم الجُناح أي فيها حقُّ تمتعٍ لكم كالاستكنان من الحرِّ والبرد وإيواء الأمتعة والرجال والشِّراءِ والبيعِ والاغتسالِ وغيرِ ذلك ممَّا يليقُ بحال البُيوت وداخليها فلا بأسَ بدخولها بغير استئذانٍ من داخليها من قبل ولا ممن بعد يتولَّى أمرَها ويقومُ بتدبيرها من قوام الرِّباطاتِ والخاناتِ وأصحاب الحوانيت ومتصر في الحمَّاماتِ ونحوِهم ويُروى أنَّ أبا بكرٍ رضيَ الله عنْهُ قالَ يا رسولَ الله إنَّ الله تعالى قد أنزل عليك آيةً في الاستئذان وإنَّا نختلفُ في تجاراتِنا فننزل هذه الخاناتِ أفلا ندخلها إلابإذن فنزلتْ وقيل هي الخَرِباتُ يُتبرَّزُ فيها والمتاع التَّبرزُ والظَّاهر أنَّها من جُملة ما ينتظمه البيوتُ لا أنها المرادةُ فقط وقولُهُ تعالى {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وما تكتمون} وعيدا لمن يدخلُ مدخلاً من هذه المداخل لفسادٍ أو اطِّلاعٍ على عوراتٍ

30

{قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ} شروعٌ في بيان أحكام كليَّة شاملة للمؤمنين كافَّة يندرج فيها حكم المستأذنين عند خولهم البيوت اندراجاً أوليًّا وتلوينُ الخطاب وتوجيهه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتفويضُ ما في حيِّزِه من الأوامر والنَّواهي إلى رأيه صلى الله عليه وسلم لأنَّها تكاليفُ متعلِّقةٌ بأمورٍ جُزئيةٍ كثيرةِ الوقوعِ حقيقةٌ بأن يكون الأمر بهار المتصدي لتدبيرها حافظاً ومُهيمناً عليهم ومفعولُ الأمر أمرٌ آخرُ قد حُذف تعويلاً على دلالة جوابه عليه أي قُل لهم غُضُّواً {يَغُضُّواْ مِنْ أبصارهم} عمَّا يحرُم ويقتصر به على ما يحلُّ {وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} إِلاَّ على أزواجِهم أَوْ ما ملكتْ أيمانُهم وتقييدُ الغضِّ بمن التبعيضيَّةِ دونَ الحفظ لما في أمر النَّظر من السَّعةِ وقيل المرادُ بالحفظِ ههنا خاصَّة هو السِّترُ {ذلك} أي ما ذكر من الغضِّ والحفظ {أزكى لَهُمْ} أي طهر لهم من دنس الرِّيبة {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} لا يخفى عليه شيءٌ ممَّا يصدرُ عنهم من الأفاعيل التي من جملتها جالة النَّظرِ واستعمالُ سائرِ الحواس وتحريك

سورة النور (31) الجوارحِ وما يقصدون بذلك فليكونوا على حذرٍ منه في كلِّ ما يأتُون وما يذرُون

31

{وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن} فلا ينظرون إلى ما لا يحلُّ لهنَّ النَّظرُ إليه {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} بالتَّسترِ أو التَّصونِ عن الزِّنا وتقديمُ الغضِّ لأن النظر يريد الزِّنا ورائدُ الفسادِ {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} كالحُليِّ وغيرِها ممَّا يُتزين بهِ وفيهِ من المبالغةِ في النَّهيِ عن إبداء مواضعها ما لا يخفى {إِلاَّ مَا ظهر منها} عند مزوالة الأمورِ التي لا بُدَّ منها عادةً كالخاتمِ والكُحلِ والخضابِ ونحوها فإنَّ في سترها حرجا بيننا وقيلَ المرادُ بالزِّينةِ مواضعُها على حذف المضافِ أو ما يعمُّ المحاسنَ الخَلقيةَ والتزيينة والمُستثنى هو الوجهُ والكفَّانِ لأنَّها ليستْ بعورةٍ {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ} إرشادٌ إلى كيفيَّة إخفاءِ بعضِ مواضع الزِّينة بعد النَّهي عن إبدائِها وقد كانتِ النِّساءُ على عادةِ الجاهليةِ يسدُلْن خُمرَهنَّ من خلفهنَّ فتبدو نحو رهن وقلائدهُنَّ من جيوبِهنَّ لوسعِها فأُمرن بإرسالِ خمرهنَّ إلى جيوبهنَّ ستراً لما يبدُو منها وقد ضُمِّن الضَّربُ معنى الإلقاء فعلى بعدى وقُرىء بكسرِ الجيمِ كما تقدَّم {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} كرر النهي لاستثناء بعضِ موادِّ الرُّخصةِ عنه باعتبار الناظر بعدما استُثني عنه بعضُ موادِّ الضَّرورةِ باعتبارِ المنظُور {إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} فإنَّهم المقصودون بالزِّينة ولهم أنْ ينظرُوا إلى جميع بدنهنَّ حتَّى الموضعِ المعهودِ {أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} لكثرةِ المخالطةِ الضَّروريَّةِ بينهم وبينهنَّ وقلة توقع الفتنةِ من قبلهم لما في الطباع الفريقينِ من النَّفرة عن الماسة القرائبِ ولهم أنْ ينظرُوا منهن ما عند المهنةِ والخدمةِ وعدمُ ذكر وعدمُ ذكرِ الأعمامِ والأخوالِ لما أنَّ الأحوطَ أنْ يتسترن عنهم حذرا أنْ يصفوهنَّ لأبنائهم {أَوْ نِسَائِهِنَّ} المختصَّات بهن بالصُّحبة والخدمةِ من حرائر المؤمناتِ فإنَّ الكوافرَ لا يتحرجنَّ عن وصفهنَّ للرِّجالِ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} أي من الإماءِ فإنَّ عبدَ المرأةِ بمنزلة الأجنبيِّ منها وقيل مِن الإماءِ والعَبيدِ لما روى أنه صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة رضي الله عنها بعبدٍ وهبه لها وعليها ثوبٌ إذا قنَّعتْ به رأسَها لم يبلغْ رجليها وإذا غطَّت رجليها لم يبلغ رأسها فقال صلى الله عليه وسلم إنَّه ليس عليك بأسٌ إنَّما هو أبوكِ وغلامكِ {أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِى الإربة مِنَ الرجال} أي أولي الحاجةِ إلى النِّساء وهم شيوخ الهم والممسوحون في المحبوب والخَصيِّ خلافٌ وقيل هُم البُله الذين يتتبعون النَّاس لفضل طعامِهم ولا يعرفون شيئاً من أمور النِّساء وقُرىء غيرَ بالنَّصبِ على الحاليَّةِ {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النساء}

سورة النور (32) لعدم تمييزهم من الظُّهور بمعنى الاطِّلاع أو لعدم بلوغهم حدَّ الشَّهوةِ من الظُّهور بمعنى الغَلَبة والطِّفلُ جنس وضع موضع الجمع اكتفاءً بدلالةِ الوصفِ {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ} أي ما يخفينَه من الرؤيةِ {مِن زِينَتِهِنَّ} أي ولا يضربن بأرجلِهنَّ الأرض ليتقعقع خلخالهن فليعلم أنهن ذوات خلخال فإنَّ ذلك ممَّا يُورث الرِّجالَ ميلاً إليهنَّ ويُوهم أن لهن ميلا إليهم وفي النَّهيِ عن إبداء صوتِ الحُلى بعد النَّهي عن إبداءِ عينها من المبالغةِ في الزَّجرِ عن إبداء موضعها مالا يخفى {وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً} تلوينٌ للخطابِ وصرْفٌ له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكُلِّ بطريق التَّغليبِ لإبراز كمال العنايةِ بما في حيِّزه من أمرِ التوبة وأنَّها من معظمات المهمَّاتِ الحقيقة بأنْ يكونَ سبحانَهُ وتعالى هو الآمرَ بها لما أنه لا يكاد يخلوا أحدٌ من المكلَّفين عن نوعِ تفريطٍ في إقامة مواجبِ التَّكاليفِ كما ينبغي وناهيك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم شيَّبتني سورةُ هودٍ لمَا فيها من قولهِ عزَّ وجلَّ فاستقم كَمَا أُمِرْتَ لا سيما إذا كان المأمورُ به الكفَّ عن الشَّهواتِ وقيل توبُوا عمَّا كنتُم تفعلونَه في الجاهليَّةِ فإنه إن وجب بالإسلام لكن يجب الندم عليه والعزمِ على تركهِ كلَّما خطرَ ببالهِ وفي تكرير الخطابِ بقوله تعالى {أيها المؤمنون} تأكيدٌ للإيجاب وإيذانٌ بأنَّ وصفَ الإيمانِ موجبٌ للامتثال حتما وقرئ أيّهُ المؤمنون {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تفوزونَ بذلكَ بسعادةِ الدَّارينِ

32

{وأنكحوا الأيامى منكم} بعد ما زَجر تعالى عن السِّفاحِ وماديه القريبةِ والبعيدةِ أمرَ بالنِّكاحِ فإنَّه مع كونهِ مقصُوداً بالذَّات من حيثُ كونُه مناطاً لبقاء النَّوعِ خيرُ مزجرةٍ عن ذلك وأيامى مقلوب أيا يم جمعُ أيِّم وهو مَن لا زوج له من الرِّجالِ والنِّساءِ بكراً كان أو ثيِّباً كما يُفصح من قالَ ... فإنْ تَنْكحِي أنكِحْ وإنْ تتأيَّمي ... وإنْ كُنتُ أفتى مِنكُم أتأيَّمِ ... أي زَوِّجُوا مَن لا زوجَ له مِن الأحرارِ والحَرَائرِ {والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} على أنَّ الخطابَ للأولياءِ والسَّاداتِ واعتبارُ الصَّلاحِ في الأرقَّاءِ لأنَّ من لا صلاحَ له منهم بمعزل من أن يكون خليفا بأن يعتني مولاه بشأنه ويشق عليه ويتكلَّفُ في نظمِ مصالحهِ بما لا بدَّ منه شَرعاً وعادةً من بذل المالِ والمنافعِ بل حقه أن يستبقيَه عنده وأمَّا عدمُ اعتبار الصَّلاحِ في الأحرارِ والحرائرِ فلأنَّ الغالبَ فيهم الصَّلاحُ على أنَّهم مُستبدُّون في التَّصرفاتِ المتعلِّقةِ بأنفسهِم وأموالهم فإذا عزمُوا النِّكاحَ فلا بدَّ من مساعدةِ الأولياءِ لهم إذ ليسَ عليهم في ذلك غرامةٌ حتَّى يُعتبر في مقابلتها غنيمةٌ عائدةٌ إليهم عاجلةً أو آجلةً وقيل المرادُ هو الصَّلاحُ للنِّكاحِ والقيامِ بحقوقهِ {إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ} إزاحةً لما عسى يكونُ وازعاً من النِّكاحِ من فقرِ أحدِ الجانبينِ أي لا يمنعنَّ فقرُ الخاطبِ أو المخطوبةِ من المُناكحةِ فإنَّ في فضل اللَّهِ عزَّ وجلَّ غُنيةً عن المال فإنه فقر أحد غادروائح يرزق مَن يشاء مِن حيثُ لاَ يحتسبُ أو وعدٌ منه سبحانه بالإغناءِ لقوله صلى الله عليه وسلم اطلبُوا الغِنى في هذه الآيةِ لكنَّه مشروطٌ بالمشيئةِ كما في قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إن شاء الله {والله واسع} غنيٌّ ذُو سَعةٍ لا يرزؤُه إغناءُ الخلائق إذا لا نفادَ لنعمتهِ ولا غاية لقدرته مع ذلك {عليم} يبسط

سورة النور (32) الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ حسبما تقضيه الحكمةُ والمصلحةُ

33

{وَلْيَسْتَعْفِفِ} إرشادٌ للعاجزينَ عن مبادِي النِّكاحِ وأسبابِها إلى ما هُو أولى لهم وأحْرى بهم بعدَ بيانِ جواز منا كحة الفُقراءِ أي ليجتهدْ في العفة وقمع شهوة {الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً} أي أسباب نكاح أولا يتمكَّنون ممَّا يُنكح به من المالِ {حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} عدةٌ كريمة بالتفضل عليه بالغِنى ولطفٌ لهم في استعفافِهم وتقويةٌ لقلوبهم وإيذانٌ بأنَّ فضلَه تعالى أولى بالإعفاءِ وأدنى من الصُّلحاءِ {والذين يبتغون الكتاب} بعد ما أمرَ بإنكاحِ صَالحي المماليك الأحقَّاءِ بالإنكاح أمرَ بكتابة من ستحقها منهم والكتابُ مصدر كاتبَ كالمُكاتبة أي الذين يطلبون المكاتبة {من ما مَلَكَتْ أيمانكم} عبداً كان أو أمةً وهي أنْ يقولَ المولى لمملوكه كاتبتُك على كذا درهماً تؤدِّيه إليَّ وتعتق ويقول المملوكُ قبلتُه أو نحوُ ذلك فإنْ أدَّاه إليه عتق قالوا معناه وكتبت لك على نفسي أنْ تعتق منِّي إذا وفَّيت بالمال وكتبت لي على نفسك أنْ تفيَ بذلك أو كتبت عليك الوفاءَ بالمال وكتبتُ عليَّ العتقَ عنده والتَّحقيقُ أنَّ المكاتبةَ اسمٌ للعقد الحاصل من مجموع كلاميهما كسائر العُقودِ الشَّرعيَّةِ المُنعقدةِ بالإيجاب والقبولِ ولا ريب في أن ذلك لا يصدرُ حقيقةً إلا من المتعاقدين وليس وظيفةُ كلِّ منهما في الحقيقة إلا الإتيان بأحد شطريه مُعرباً عمَّا يتمُّ من قِبله ويصدر عنه من الفعلِ الخاصِّ به من غير تعرُّضٍ لما يتمُّ من قبل صاحبه ويصدر عنه من فعله الخاصِّ به إلاَّ أنَّ كلاًّ من ذينكَ الفعلينِ لما كان بحيثُ لا يمكن تحقُّقه في نفسهِ إلا منوطاً بتحقُّقِ الآخرِ ضرورةَ أنَّ التزامَ العتقِ بمقابلة البدلِ من جهة المولى لا يُتصور تحقُّقه إلا بالتزام البدل من طرف العبد كما أنَّ عقدَ البيع الذي هو تمليك المَبيعِ بالثَّمن من جهة البائعِ لا يُمكن تحققه بتملُّكه به من جانب المشتري لم يكن بدمن تضمينِ أحدهِما الآخر وقت الإنشاء فكما أنَّ قول البائع بعتُ إنشاءٌ لعقد البيع على معنى أنَّه إيقاعٌ لما يتمُّ من قبله أصالةً ولما يتمُّ من قبل المُشتري ضمناً إيقاعاً متوقفاً على رأيهِ توقفاً شبيهاً بتوقُّفِ عقد الفضوليِّ كذلك قولُ المولى كاتبتُك على كذا إنشاء لعقدِ الكتابةِ أي إيقاعٌ لما يتمُّ من قبله من التزام العتقِ بمقابلة البدلِ أصالةً ولما يتمُّ من قبلِ العبدِ من التزامِ البدلِ ضمناً إيقاعاً متوقِّفاً على قبوله فإذا قُبل تمَّ العقدُ ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على الابتداء خبرُه {فكاتبوهم} والفاءُ لتضمُّنهِ معنى الشَّرطِ أو النَّصبُ على أنه مفعول لمضمر يفسِّره هذا والأمر فيه للنَّدب لأنَّ الكتابة عقدٌ يتضمَّن الإرفاقَ فلا تجبُ كغيرِها ويجوزُ حالاً ومؤجَّلاً ومنجَّماً وغيرَ منجَّمٍ وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله لا يجوزُ إلا مؤجَّلاً منهما وقد فُصل في موضعه {إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} أي أمانةً ورُشداً وقدرة على أداء البدلِ بتحصيله من وجه حلال وصلاحها لا يؤذي النَّاسَ بعد العتق وإطلاق العنان {وآتوهم مِن مَّالِ الله الذى آتاكم} أمر للوالي ببذل شيءٍ من أموالهم وفي حكمه حطُّ شيء

من مال الكتابة ويكفي في ذلك أقلُّ ما يتمول وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه حطُّ الرُّبع وعن ابن عباس رضي الله عنهما الثُّلثُ وهو للنَّدبِ عندنا وعند الشافعيِّ للوجوبِ ويردُّه قوله صلى الله عليه وسلم المُكاتَبُ عبدٌ ما بقي عليه درهم إذا لو وجب الحطُّ لسقط عنه الباقي حتماً وأيضاً لو وَجَب الحطُّ لكان وجوبُه معلَّقاً بالعقد فيكون العقد مُوجِباً ومُسقِطاً معاً وأيضاً فهو عقدُ مُعاوضةٍ فلا يُجبر على الحَطيطةِ كالبيع وقيل معنى آتُوهم أقرِضُوهم وقيل هو أمرٌ لهم بأنْ يُنفقوا عليهم بعد أنْ يؤدُّوا ويعتقوا وإضافةُ المال إليه تعالى ووصفه بإينائه إيَّاهم للحثِّ على الامتثال بالأمر بتحقيق المأمور به كما في قوله تعالى وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فإنَّ ملاحظة وصولِ المال إليهم من جهته تعالى مع كونه هو المالكَ الحقيقيَّ له من أَقْوى الدَّواعي إلى صرفه إلى الجهة المأمور بها وقيل هو أمرٌ بإعطاءِ سهمهِم من الصَّدقات فالأمرُ للوجوبِ حَتْماً والإضافةُ والوصفُ لتعيين المأخذِ وقيل هو أمرُ ندبٍ لعامَّة المسلمين بإعانة المُكاتبين بالتَّصدق عليهم ويحلُّ ذلك للمولى وإنْ كان غنيًّا لتبدل العُنوان حسبما ينطِق به قوله صلى الله عليه وسلم في حديثِ بَريرةَ هو لها صدقةٌ ولنا هديَّةٌ {وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم} أي إماءكم فإنَّ كُلاَّ من الفَتَى والفَتاةِ كنايةٌ مشهورةٌ عن العبدِ والأمَةِ وعلى ذلك مبنى قوله صلى الله عليه وسلم ليقُلْ أحدُكم فتاي وفتاتي ولا يقُل عبدي وأمَتي لهذه العبارةِ في هذا المقامِ باعتبار مفهومِها الأصلي حسنُ موقعٍ ومزيدُ مناسبةٍ لقولهِ تعالى {عَلَى البغاء} وهو الزِّنا من حيثُ صدورُه عن النساءِ لأنهنَّ اللاَّتي يُتوقَّع منهنَّ ذلك غالباً دُون مَن عداهنَّ من العجائزِ والصَّغائرِ وقولُه تعالى {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} ليس لتخصيص النَّهي بصورة إرادتهِنَّ التَّعففَ عن الزِّنا وإخراجِ ما عداها من حُكمه كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهنَّ الزِّنا لخصوصِ الزَّاني أو لخصوصِ الزَّمانِ أو لخصوصِ المكانِ أو لغيرِ ذلكَ من الأُمور المُصحِّحةِ للإكراه في الجُملةِ بل للمحافظةِ على عادتهم المستمرَّة حيثُ كانُوا يكرهونهنَّ على البغاء وهنَّ يُردن التَّعففَ عنه مع وفورِ شهوتهنَّ الآمرةِ بالفُجورِ وقصورهنَّ في معرفةِ الأمورِ الدَّاعيةِ إلى المحاسنِ الزَّاجرةِ عن تَعَاطي القبائحِ فإنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ أُبيَ كانت له ست جوار يكرهن على الزِّنا وضربَ عليهنَّ ضرائبَ فشكتِ اثنتانِ منهنَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلتْ وفيهِ من زيادةِ تقبيحِ حالهم وتشنيعهِم على ما كانُوا عليهِ من القبائحِ ما لا يَخْفى فإنَّ مَن له أدنى مروءةٍ لا يكادُ يرضى بفجور من يحويهِ حرمُه من إمائهِ فضلاً عن أمرهن به أو إكراهن عليه لا سيما إرادتهنَّ التَّعففَ فتأمَّلْ ودَعْ عنكَ ما قيلَ من أنَّ ذلكَ لأنَّ الإكراه لا يتأتَّى إلا مع إرادة التَّحصُّنِ وما قيل من أنَّه إنْ جُعل شرطاً للنَّهي لا يلزم من عدمِه جوازُ الإكراه لجوازِ أنْ يكون ارتفاعُ ئالنهى لامتناع المنهيِّ عنه فإنَّهما بمعزلٍ من التَّحقيق وإيثار كلمةِ إنْ على إذا مع تحقُّق الإرادةِ في موردِ النَّصِّ حتماً للإيذانِ بوجوبِ الانتهاء عن الإكراه عند كونِ إرادةِ التَّحصنِ في حيِّز التَّردد والشَّكِّ فكيفَ إذا كانت مُحقَّقة الوقوع كما هو الواقعُ وتعليلُه بأنَّ الإرادةَ المذكورة منهنَّ في حيِّز الشَّاذ النادرِ مع خُلوه عن الجَدْوى بالكُلِّية يأباهُ اعتبارُ تحققها إباء ظاهرا تعالى {لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا} قيدٌ للإكراه لكنْ لا باعتبارِ أنَّه مدارٌ النهى عنه باعتبار أنَّه المعتادُ فيما بينهم كما قبله لهُم فيما هُم عليه من احتمال الوزرِ الكبيرِ لأجل النَّزْرِ الحقيرِ أي لا تفعلُوا ما أنتُم عليه من إكراههنَّ على البغاءِ لطلب المتاعِ السَّريعِ الزَّوالِ الوشيكِ الاضمحلالِ فالمرادُ بالابتغاء الطَّلبُ المقارنُ لنيل المطلوبِ واستيفائهِ بالفعل إذْ

سورة النور (34) هُو الصَّالحُ لكونه غايةً للإكراهِ مترتِّباً عليه لا المطلقُ المتناولُ للطَّلبِ السَّابقِ الباعثِ عليه {وَمَن يُكْرِههُنَّ} الخ جملةٌ مستأنفةٌ سِيقتْ لتقرير النَّهيِ وتأكيدِ وجوبِ العملِ به ببيان خلاص المكروهات عن عقوبة المُكره عليه عبارةً ورجوعِ غائلة الإكراه إلى المُكرِهين إشارةً أي ومَن يكرهنَّ على ما ذُكر من البغاء {فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي لهنَّ كما وقع في مصحف ابن مسعود عليه قراءةُ ابن عبَّاسً رضي الله تعالى عنهم وكما ينبئ عَنْهُ قولِهِ تَعَالى مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ أي كونهنَّ مكرهاتٍ على أنَّ الإكراه مصدرٌ من المبنيِّ للمفعولِ فإن توسيطَه بين اسمِ إنَّ وخبرِها للإيذانِ بأنَّ ذلك هو السببُ للمغفرةِ والرَّحمةِ وكان الحسنُ البصريُّ رحمه الله إذا قرأ هذه الآيةَ يقولُ لهنَّ واللَّهِ لهنَّ والله في تخصيصها بهنَّ وتعيين مدارِهما مع سبق ذِكرِ المكرهين أيضاً في الشَّرطيةِ دلالةٌ بينة على كونهم محرومين منهما بالكُلِّية كأنَّه قيل لا للمكروه ولظهوره هذا التَّقديرِ اكتفى به عن العائدِ إلى اسم الشرط فتجويز تعلقها بهم بشرطِ التَّوبةِ استقلالاً أو معهنَّ إخلالٌ بجزالة النَّظمِ الجليلِ وتهوينٌ لأمر النَّهيِ في مقامِ التَّهويلِ وحاجتهن إلى المغفرة المتنبئة عن سابقةِ الإثمِ إمَّا باعتبار أنهنَّ وإن كنَّ مكروهات لا يخلون في تضاعيفِ الزِّنا عن شائبة مطاوعةٍ ما بحكم الجبلَّة البشريَّةِ وإمَّا باعتبارِ أنَّ الإكراه قد يكونُ قاصراً عن حدِّ الإلجاءِ المُزيلِ للاختيارِ بالمرَّة وإما لغايةِ تهويلِ أمرِ الزِّنا وحثِّ المكرهاتِ على التثبت في التَّجافي عنه والتَّشديد في تحذيرِ المُكرهين ببيانِ أنهنَّ حيثُ كنَّ عرضةً للعقوبة لولا أن تدارَكَهن المغفرةُ والرَّحمةُ مع قيام العُذر في حقهنَّ فما حالُ من يكرهن في استحقاقِ العذاب

34

{ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} كلامٌ مستأنَفٌ جيءَ به في تضاعيف ما وردَ من الآيات السَّابقةِ واللاحقة لبيان جلالة شئونها المستوجبةِ للإقبال الكليِّ على العمل بمضمونِها وصُدِّر بالقسم الذي تُعرب عنه اللاَّمُ لإبراز كمالِ العنايةِ بشأنهِ أي وباللَّهِ لقد أنزلنا إليكم هذه السورةِ الكريمة آياتٍ مبيِّناتٍ لكلِّ ما بكم حاجةٌ إلى بيانه من الحدود وسائرِ الأحكام والآدابِ وغير ذلك ممَّا هو من مبادئ بيانِها على أنَّ إسنادَ التبيينِ إليها مجازيٌّ أو آياتٍ واضحاتٍ تصدِّقها الكتبُ القديمةُ والعقولُ السَّليمةُ على أنَّ مبيِّنات من بيَّن بمعنى تَبيَّن ومنه المثلُ قد بَيَّن الصّبحُ لذي عينين وقرئ على صيغة التي بُيِّنتْ وأوضحتْ في هذه السورةِ من معاني الأحكامِ والحدودِ وقد جُوِّز أن يكونَ الأصلُ مبيَّناً فيها الأحكام فانسع في الظَّرف بإجرائه مُجرى المفعولِ {وَمَثَلاً مّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} عطفٌ على آياتٍ أي وأنزلنا مثلاً كائناً من قبيل أمثالِ الذين مضوا من قبلِكم من القصصِ العجيبةِ والأمثالِ المضروبة لهم في الكتب السَّابقةِ والكلماتِ الجاريةِ على ألسنة الأنبياءِ عليهم السَّلامُ فينتظمُ قصَّة عائشة رضي الله عنها المحاكية لقصَّةِ يوسفَ عليه السلام وقصة مريم رضي الله عنها وسائرِ الأمثالِ الواردةِ في السُّورةِ الكريمةِ انتظاماً واضحاً وتخصيصُ الآياتِ المبيِّناتِ بالسوابقِ وحملُ المثلِ على القصَّة العجيبة فقط يأباه تعقيب الكلامِ بما سيأتِي من التمثيلاتِ {وَمَوْعِظَةً} تتَّعظِون به وتنزجِرُون عمَّا لا ينبغي من المحرَّمات والمكروهاتِ وسائرِ ما يخلُّ بمحاسنِ الآدابِ فهي عبارةٌ عمَّا سبقَ من الآيات والمثل لظهورِ كونها من المواعظ بالمعنى المذكور

سورة النور (35) ومدارُ العطف هو التَّغايرُ العنوانيُّ المنزَّلُ منزلة التَّغايرِ الذَّاتيِّ وقد خُصَّت الآياتُ بما يبيِّنُ الحدودَ والأحكامَ والموعظةَ بما وُعظ به من قولهِ تعالى وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ الله وقوله تعالى لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ وغيرِ ذلك من الآياتِ الواردةِ في شأنِ الآدابِ وإنَّما قيل {لّلْمُتَّقِينَ} مع شمولِ الموعظةِ للكلِّ حسب شمول الإنزال لقوله تعالى أَنْزَلْنَا إليكم حثا للخاطبين على الاعتناء بالانتظام في سلك المتَّقين ببيان أنَّهم المغتنمون لآثارها المُقتبسون من أنوارها فحسب وقيل المرادُ بالآيات المبيناتِ والمثلِ والموعظةِ جميعُ ما في القُرآنِ المجيدِ من الآياتِ والأمثالِ والمواعظِ فقولُه تعالى

35

{الله نور السماوات والأرض} الخ حينئذٍ استئنافٌ مَسوقٌ لتقريرِ ما فيها من البيانِ مع الإشعارِ بكونه في غاية الكمالِ على الوجه الذي ستعرفُه وأمَّا على الأوَّلِ فلتحقيقِ أنَّ بيانه تعالى ليس مقصُوراً على ما وردَ في السُّورة الكريمة بل هو شاملٌ لكلِّ ما يحقُّ بيانُه من الأحكام والشَّرائعِ ومباديها وغاياتها المترتِّبة عليها في الدُّنيا والآخرة وغيرِ ذلك ممَّا له مدخلٌ في البيان وأنَّه واقعٌ منه تعالى على أتمِّ الوجوهِ وأكملِها حيث عبَّر عنه بالتَّنوير الذي هو أقوى مراتب البيانِ وأجلاها وعبَّر عن المنوِّر بنفس النُّور تنبيهاً على قوَّةِ التَّنوير وشدَّةِ التَّأثيرِ وإيذاناً بأنه تعالى ظاهرٌ بذاته وكلُّ ما سواه ظاهرٌ بإظهاره كما أنَّ النُّور نيِّرٌ بذاته وما عداه مستنير به وأضيف النُّور إلى السَّمواتِ والأرضِ للدِّلالةِ على كمال شيوع البيان المُستعار له وغاية شمولهِ لكلِّ ما يليقُ به من الأمور التي لها مدخل في إرشاد النَّاسِ بوساطة بيان شمول المُستعار منه لجميع ما يقبله ويستحقُّه من الأجرام العُلويَّةِ والسُّفليَّةِ فإنَّهما قُطرانِ للعالم الجسمانيِّ الذي لا مظهر للنُّور الحسيِّ سواه أو على شمول البيان لأحوالهما وأحوال مَا فِيهمَا مِنَ الموجُودات إذ ما من موجودٍ إلا وقد بُيِّن من أحواله ما يستحقُّ البيانَ إمَّا تفصيلاً أو إجمالاً كيف لا ولا ريبَ في بيان كونهِ دليلاً على وجود الصَّانعِ وصفاته وشاهداً بصحَّة البعثِ أو على تعلُّق البيان بأهلهما كما قال ابن عباس رضي الله عنهما هادي أهل السماوات والأرضِ فهم بنوره يهتدون وبهداه من حَيرة الضَّلالةِ ينجُون هذا وأما حملُ التَّنوير على إخراجهِ تعالى للماهيَّاتِ من العدمِ إلى الوجود إذ هو الأصلُ في الإظهار كما أنَّ الإعدامَ هو الأصلُ في الإخفاء أو على تزيينِ السموات بالنيِّرينِ وسائر الكواكب وما يفيض منها من الأنوار أو بالملائكة عليهم السَّلامُ وتزيين الأرض بالأنبياءِ عليهم السَّلامُ والعلماء والمؤمنين أو بالنبات والأشجارِ أو على تدبيره تعالى لأمورهما وأمور ما فيهما فمما لا يلائمُ المقامَ ولا يساعد حسنُ النِّظامِ {مَثَلُ نُورِهِ} أي نورهِ الفائض منه تعالى على الأشياء المُستنيرة به وهو القرآنُ المبينُ كما يعرب عنهُ ما قبلَهُ من وصف آياته بالإنزال والتَّبيينِ وقد صرّح بكونهِ نوراً أيضاً في قولِه تعالى وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وزيد

ابن أسلم رحمهم الله تعالى وجعلُه عبارةً عن الحقِّ وإن شاع استعارته له كا ستعارة الظُّلمة للباطل يأباه مقامُ بيان شأن الآياتِ ووصفِها بما ذُكر منْ التَّبيين مع عدم سبق ذكر الحقِّ ولأنَّ المعتبرَ في مفهوم النُّور هو الظُّهورُ والإظهار كما هو شأنُ القُرآن الكريم وأما الحقُّ فالمعتبر في مفهومِه من حيثُ هو حقٌّ هو الظُّهورُ لا الإظهارُ والمراد بالمثل الصِّفةُ العجيبةُ أي صفة نوره العجيبة {كَمِشْكَاةٍ} أي كصفة كوة نافذةٍ في الجدار في الإنارة والتَّنويرِ {فِيهَا مِصْبَاحٌ} سراجٌ ضخمٌ ثاقبٌ وقيل المشكاةُ الأُنبوبةُ في وسطِ القنديلِ والمصباحُ الفتيلةُ المشتعلةُ {المصباح فِى زُجَاجَةٍ} أي قنديلٍ من الزُّجاجِ الصَّافي الأزهر وقرئ بفتح الزَّاي وكسرِها في الموضعينِ {الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دري} متلألئ وقَّادٌ شبيه بالدُّرِّ في صفائه وزُهرته ودراري الكواكب عظامها المشهورة وقرئ درئ بدالٍ مكسورةٍ وراءٍ مشدَّدةٍ وياءٍ ممدودةٍ بعدها همزةٌ على أنَّه فِعيلٌ من الدَّرءِ وهو الدَّفعُ أي مبالغٌ في دفعِ الظَّلامِ بضوئهِ أو في دفعِ بعضِ أجزاءِ ضيائهِ لبعضٍ عند البريق واللمعان وقرئ بضمِّ الدَّال والباقي على حالهِ وفي إعادةِ المصباحِ والزجاجة معرفين إثرَ سبقهما مُنكرين والإخبار عنهما بما بعدهما مع انتظامِ الكلامِ بأنْ يقالَ كمشكاةٍ فيها مصباحٌ في زجاجةٍ كأنَّها كوكبٌ دُرِّيٌّ من تفخيمِ شأنهما ورفعِ مكانهِما بالتَّفسيرِ إثرَ الإبهامِ والتفصيل بعد الإجمال وبإثبات ما بعدهما لهما بطريقِ الإخبار المنبئ عن القصد الأصليِّ دونَ الوصفِ المبنيِّ على الإشارة إلى الثُّبوت في الجملةِ ما لا يخفى ومحلُّ الجملةِ الأُولى الرفع على أنها صفةُ لمصباحٌ ومحلُّ الثَّانيةِ الجرُّ على أنَّها صفةٌ لزجاجةٍ واللاَّمُ مغنيةٌ عن الرَّابط كأنه قيل فيها لمصباح الجرُّ على أنها صفةٌ لزجاجةٍ واللاَّمُ مغنيةٌ عن الرَّابط كأنَّه قيل فيها مصباحٌ هو في زُجاجةٍ هي كأنَّها كوكبٌ دُرِّيٌّ {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ} أي يبتدأُ إيقادُ المصباحِ من شجرةٍ {مباركة} أي كثيرةِ المنافعِ بأنْ رُويت ذبالتُه بزيتها وقيلَ إنَّما وُصفتْ بالبركةِ لأنَّها تنبتُ في الأرضِ التي باركَ اللَّهُ تعالى فيها للعالمينَ {زَيْتُونَةٍ} بدلٌ من شجرةٍ وفي إبهامِها ووصفِها بالبركةِ ثم الإبدالِ منها تفخيمٌ لشأنِها وقرئ توقد بالناء على أنَّ الضَّميرَ القائمَ مقامَ الفاعل للزُّجاجة دون المصباح وقرئ توقَّدَ على صيغة الماضي من التَّفعُّلِ أي ابتداءُ ثقوب المصباح منها وقرئ تَوقَّدُ بحذف إحدى التَّاءين من تتوقدُ على إسناده إلى الزُّجاجةِ {لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ} تقعُ الشَّمسُ عليها حيناً دُونَ حينٍ بل بحيثُ تقعُ عليها طولَ النَّهار كالتي على قُلَّة أو صحراء واسعةٍ فتقع الشَّمسُ عليها حالتَيْ الطُّلوع والغروب وهَذا قولُ ابنِ عبَّاسِ رضي الله عنهما وسعيدُ بن جبير وقَتادة وقال الفرَّاءُ والزَّجاجُ لا شرقيَّة وحدها ولا غربيَّة وحدها لكنَّها شرقيَّةٌ وغربيَّةٌ أي تصيبها الشَّمسُ عند طلوعِها وعند غروبِها فتكون شرقيَّةً وغربيَّةً تأخذ حظَّها من الأمرينِ فيكون زيتُها أضوأ وقيل لا ثابتة في شرقِ المعمُورة ولا في غربِها بل في وسطِها وهو الشَّامُ فإن زيوتَها أجودُ ما يكون وقيل لا في مَضحى تشرقُ الشَّمسُ عليها دائماً فتحرِقُها ولا في مَقْنأةٍ نغيب عنها دائما فتتركها نيأ وفي الحديث لا خيرَ في شجرةٍ ولا في نباتٍ في مَقْنأةٍ ولا خير فيهما في مَضْحى {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لم تمسسه نار} أي هو في الصَّفاءِ والإنارةِ بحيثُ يكادُ يُضيءُ بنفسِه من غير مساسِ نارٍ أصلا وكلمة في أمثالِ هذهِ المواقعِ ليستْ لبيان انتفاء شيءٍ في الزمان الماضي لانتفاء غيرِه فيه فلا يلاحظ لها جوابٌ قد حُذف ثقةٍ بدلالةِ ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصدِ إلى بيان الإعرابِ على القواعد الصناعيةِ بل هي لبيان تحققِ ما يفيده الكلامُ السابق من الحُكم الموجَبِ أو المنفى كلما

كل حالٍ مفروض من الأحوال المُقارنة له إجمالاً بإدخالها على أبعدها منه إما لوجودِ المانع كما في قولِه تعالى أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وإما لعدم الشَّرط كما في هذه الآية الكريمة ليظهرَ بثبوته أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤُه مع عداه من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشيءَ متى تحقَّقَ مع ما ينافيه من وجود المانعِ أو عدم الشَّرطِ فلأنْ يتحققَ بدون ذلك أولى ولذلك لا يُذكر معه شيءٌ آخرُ من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفةِ للجملة عل نظيرتها المقابلةِ لها المتناولة لجميع الأحوالِ المغايرةِ لها عند تعدّدِها وهذا معنى قولِهم أنها لاستقصاء الأحوالِ على سبيلِ الإجمالِ وهذا أمر مطَّرد في الخبر الموجَبِ والمنفيِّ فإنَّك إذا قلت فلانٌ جوادٌ يُعطي ولو كان فقيراً أو بخيلٌ لا يُعطي ولو كان غنيًّا تريد بيان تحقُّقِ الإعطاء في الأوَّلِ وعدم تحقُّقِه في الثَّانِي في جميع الأحوال المفروضة والتَّقديرُ يُعطي لو لم يكنْ فَقيراً ولو كان فقيراً ولا يُعطي لو لم يكن غنيا ولو كان غنيًّا فالجملة مع ما عُطفت هي عليه في حيز النصبِ على الحاليةِ من المستكنِّ في الفعل الموجب أو المنفيِّ أي يعطى أولا يُعطي كائناً على جميعِ الأحوال وتقديرُ الآية الكريمة يكادُ زيتُها يضيءُ لو مسَّته نارٌ ولو لم تمسه نارٌ أي يضيءُ كائناً على كل حال من وجود الشَّرطِ وعدمه وقد حُذفت الجملةُ الأولى حسبما هو المطَّردُ في الباب لدلالة الثَّانيةِ عليها دلالةً واضحةً {نُورٍ} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وقولُه تعالى {على نُورٍ} متعلِّق بمحذوفٍ هو صفةٌ له مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ من الفخامة والجملة فَذْلكةٌ للتَّمثيل وتصريحٌ بما حصلَ منه وتمهيدٌ لما يعقبه أي ذلك النُّور الذي عُبِّر به عن القرآن ومُثِّلتْ صفتُه العجيبةُ الشَّأنِ بما فُصِّل من صفة المشكاة نورٌ عظيمٌ كائن على نور كذلك لا على أنَّه عبارةٌ عن نور واجد معيَّن أو غير معيَّنٍ فوق نور آخرَ مثله ولا عن مجموع نورينِ اثنينِ فقط بل عن نورٍ مُتضاعفٍ من غير تحديد لتضاعفه بحدَ مُعيَّنٍ وتحديدُ مراتبِ تضاعُف ما مُثّل به من نورِ المشكاةِ بما ذُكر لكونِه أقصى مراتب تضاعفِه عادةً فإنَّ المصباحَ إذا كان في مكانٍ متضايق كالمشكاةِ كان أضوأَ له وأجمعَ لنورِه بسبب انضمامِ الشُّعاعِ المنعكس منه إلى أصلِ الشُّعاعِ بخلاف المكان المتَّسعِ فإنَّ الضَّوءَ ينبثُّ فيه وينتشرُ والقنديل أعونُ شيءٍ على الزيادة الإنارة وكذلك الزي وصفاؤه وليس وراء هذه المراتبِ ممَّا يزيد نورَها إشراقاً ويمدُّه بإضاءةٍ مرتبةٌ أُخرى عادةً هذا وجعل النُّورِ عبارةً عن النُّورِ المشبه به مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل {يَهْدِى الله لِنُورِهِ} أي يَهْدِى هدايةً خاصَّةً موصِلةً إلى المطلوب حتماً لذلك النُّور المتضاعف العظيمِ الشَّأنِ وإظهارُه في مقام الإضمارِ لزيادة تقريرِه وتأكيدِ فخامتِه الذَّاتيَّةِ بفخامتِه الإضافيةِ النَّاشئةِ من إضافتِه إلى ضميره عزَّ وجلَّ {مَن يَشَآء} هدايتَه من عباده بأنْ يوفِّقَهم لفهم مَا فيهِ منْ دلائلِ حقِّيتِه وكونِه من عندِ الله تعالى من الإعجاز والإخبارِ عن الغيبِ وغير ذلك من مُوجباتِ الإيمانِ به وفيه إيذانٌ بأنَّ ماط هذه الهدايةِ ومِلاكَها ليس إلا مشيئتَه تعالى وأنَّ تظاهرَ الأسباب بدونها بمعزلٍ من الإفضاء إلى المطالب {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ} في تضاعيف الهداية حسبَما يقتضِي حالُهم فإنَّ له دخلاً عظيماً في باب الإرشاد لأنه إبرار للمعقول في هيئة المحسوس وتصويرٌ لأوابدِ المعاني بصورة المأنُوسِ ولذلك مُثّل نورُه المعبد به عن القُرآن المُبين بنور المشكاة وإظفاره الاسمِ الجليلِ في مقام الإضمار للإيذان

سورة النور (36) باختلاف حال ما أُسند إليه تعالى من الهدايةَ الخاصَّةَ وضربِ الأمثالِ الذي هو من قبيلِ الهداية العامَّةِ كما يُفصح عنه تعليقُ الأُولى بمن يشاءُ والثَّانيةِ بالنَّاس كافَّة {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} مفعولا كان أو محسوساً ظاهراً كان أو باطناً ومن قضيَّتِه أنْ تتعلقَ مشيئتُه بهداية مَن يليق بها ويستحقُّها مِن النَّاسِ دُونَ مَن عداهم لمخالفتِه الحكمةَ التي عليها مبْنى التكوينِ والتَّشريعِ وأنْ تكونَ هدايتُه العامَّة على فنونٍ مختلفةٍ وطرائقَ شتَّى حسبما تقتضيهِ أحوالُهم والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لما قبله وإظهارُ الاسمِ الجليل لتأكيد استقلالِ الجملة والإشعارِ بعلَّةِ الحكم وبما ذُكر من اختلافِ حال المحكومِ به ذاتاً وتعلُّقاً

36

{فِى بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه} لمَّا ذُكر شأنُ القرآن الكريم في بيانه للشَّرائع والأحكام ومباديها وغاياتها المترتِّبةِ عليها من الثَّوابِ والعقاب وغير ذلك من أحوال الآخرة وأهوالِها وأُشير إلى كونِه في غايةِ ما يكونُ من التَّوضيحِ والإظهار حيثُ مُثِّل بما فُصِّل من نور المشكاة وأُشير إلى أنَّ ذلك النُّورَ مع كونِه في أقصى مراتبِ الظُّهور إنَّما يهتدي بهداه من تعلَّقتْ مشيئةُ الله تعالى بهدايته دُونَ مَن عداه عقَّب ذلك بذكر الفريقينِ وتصوير بعض أعمالهم المُعربةِ عن كيفيَّةِ حالهم في الاهتداءِ وعدمه والمرادُ بالبيوتِ المساجدُ كلِّها حسبما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما وقيل هي المساجدُ التي بناها نبيٌّ من أنبياء الله تعالى الكعبةُ التي بناها إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السَّلامُ وبيتُ المقدسِ الذي بناه داودُ وسليمانُ عليهما السَّلامُ ومسجدُ المدينةِ ومسجدُ قُباءَ اللذانِ بناهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتنكيرُها للتَّفخيم والمرادُ بالإذنِ في رفعها الأمرُ ببنائها رفيعةً لا كسائر البيوتِ وقيل هو الأمر برفعِ مقدارها بعبادة الله تعالى فيها فيكونُ عطفُ الذِّكرِ عليه من قبيل العطفِ التفسيري وأياما كان ففي التَّعبير عنه بالإذن تلويحٌ بأنَّ اللائقَ بحال المأمور أنْ يكونَ متوجِّهاً إلى المأمور به قبل ورود الأمر به ناوياً لتحقيقِه كأنَّه مستأذنٌ كأنَّه مستأذنٌ في ذلك فيقع الأمرُ به موقعَ الإذن فيه والمرادُ بذكر اسمه تعالى ما يعمُّ جميع أدكاره تعالى وكلمةُ في متعلِّقةٌ بقوله تعالى {يُسَبّحُ لَهُ} وقولُه تعالى {فِيهَا} تكريرٌ لها للتَّأكيد والتَّذكيرِ لما بينهما من الفاصلةِ وللإيذانِ بأنَّ التَّقديمَ للاهتمام لا لقصر التَّسبيحِ على الوقوع في البيوت فقط وأصلُ التَّسبيحِ التَّنزيهُ والتَّقديسُ يُستعملُ باللامِ وبدونِها أيضاً كَما في قولِه تعالى {سَبِّحِ اسم ربك الأعلى} به الصَّلواتُ المفروضةُ كما ينبئ عنه تعيينُ الأوقاتِ بقوله تعالى {بالغدو والأصال} أي بالغَدَواتِ والعَشَايا على أنَّ الغُدوَّ إمَّا جمعُ غداةٍ كقُنيَ في جمع قَنَاةٍ كما قيل أو مصدرٌ أُطلق على الوقت حسبما يشعر به اقترانه بالآصالو هو جمع أَصيلٍ وهو العَشِيُّ والعشى وهو الشامل الأوقات ما عدا صلاةَ الفجرِ المؤداة يالغداة ويجوزُ أن يرادَ بهِ نفسُ التَّنزيه على أنَّه عبارة عمَّا يقعُ منه في أثناء الصَّلواتِ وأوقاتها لزيادةِ شرفِه وإنافتِه على سائر أفراده أو عمَّا يقعُ في جميع الأوقاتِ وإفرادُ طَرَفي النَّهارِ بالذِّكرِ لقيامِهما مقامَ كلِّها لكونِهما العمدة فيها بكونهما مشهودين وكونِهما أشهرَ ما يقعُ فيه المباشرةُ للأعمال والاشتغالُ بالاشغال وقرئ والإيصالِ وهو الدُّخولُ في الأصيل وقوله تعالى

سورة النور (37 38)

37

{رِجَالٌ} فاعلُ يسبِّح وتأخيرُه عن الظُّروفِ لما مرَّ مرارا من الاعتناء بالمقدم والتَّشويق إلى المؤخَّر ولأنَّ في وصفِه نوعَ طُولٍ فيُخلُّ تقديمُه بحسن الانتظام وقرئ يُسبِّح على البناء للمفعول بإسناده إلى أحد الظُّروف ورحال مرفوع بما ينبئ عنه حكايةُ الفعلِ من غير تسميةِ الفاعل على طريقة قوله لبيك يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ كأنه قيل مَنْ يُسبِّح له فقيل يُسبِّح له رجالٌ وقرئ تُسبِّح بتأنيثِ الفعلِ مبنيًّا للفاعلِ لأنَّ جمعَ التَّكسيرِ قد يُعامل معاملةَ المؤنَّثِ ومبنياً للمفعول على أنْ يسند إلى أوقات الغدو والآصالِ بزيادة الباءِ وتجعلُ الأوقاتُ مسبِّحةً مع كونِها مسبحا فيها أو يُسند إلى ضمير التسبيحة أي تسبيح له التَّسبيحةُ على المجازِ المسوِّغ لإسناده إلى الوقتينِ كما خرَّجُوا قراءة أبي جَعفرٍ ليُجزَى قوماً أي ليُجزَى الجزاءُ قَوْماً بل هذا أولى من ذل هنا مفعولٌ صريحٌ {لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة} صفةٌ لرجالٌ مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ من الفخامةِ مفيدةٌ لكمال تبتُّلِهم إلى الله تعالى واستغراقهم فيها حُكي عنهم من التَّسبيحِ من غير صارف يلويهم ولا عاطفٍ يثنيهم كائناً ما كان وتخصيصُ التِّجارةِ بالذكر لكونهما أقوى الصَّوارفِ عندهم وأشهرَها أي لا يشغلُهم نوعٌ من أنواعِ التِّجارةِ {وَلاَ بَيْعٌ} أي ولا فردٌ من أفراد البياعاتِ وإنْ كانَ في غايةِ الرِّبحِ وإفرادُه بالذِّكرِ مع اندراجِه تحتَ التِّجارة للإيذانِ بإنافتِه على سائرِ أنواعِها لأنَّ ربحَهُ متيقَّنٌ ناجزٌ وربحُ ما عداه متوقَّعٌ في الثاني الحال عند البيع فلم يلزمْ من نفيِ إلهاءِ ما عداه نفيُ إلهائِه ولذلك كُرِّرت كلمةُ لا لتذكيرِ النَّفيِ وتأكيدِه وقد نُقل عن الواقديِّ أنَّ المرادَ بالتِّجارة هو الشِّراءُ لأنَّه أصلُها ومبدؤها وقيل هو الجَلَبُ لأنَّه الغالبُ فيها ومنه يُقال تَجَر في كَذا أي جَلَبه {عَن ذِكْرِ الله} بالتَّسبيحِ والتَّحميدِ {وإِقَامِ الصلاة} أي إقامتِها لمواقيتها من غير تأخيرٍ وقد أُسقطتْ التَّاءُ المعوض عن العينِ السَّاقطةِ بالإعلال وعُوِّض عنها الإضافةُ كما في قوله [وَأَخْلفُوك عِدَ الأمرِ الذي وَعدُوا] أي عدة الأمر {وإيتاء الزكاة} أي المال الذي فُرض إخراجه للمستحقين وإيراده ههنا وإنْ لم يكن ممَّا يُفعل في البيوت لكونِه قرينةً لا تُفارق إقامةَ الصَّلاةِ في عامَّة المواضع مع ما فيه من التَّنبيه على أنَّ محاسنَ أعمالِهم غيرُ منحصرةٍ فيما يقعُ في المساجدِ وكذلك قوله تعالى {يَخَافُونَ} الخ فإنه صفةٌ ثانيةٌ لرجالٌ أو حالٌ من مفعول لا تُلهيهم وأيًّا ما كان فليس خوفُهم مقصُوراً على كونِهم في المساجد وقوله تعالى {يَوْماً} مفعولُ ليخافون لا ظرفٌ له وقولُه تعالى {تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار} صفةٌ ليوماً أي تضطربُ وتتغيرُ في أنفسها من الهول والفزعِ وتشخصُ كما في قولِه تعالى وإذ زاغت والأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر أو تتغيرُ أحوالُها وتتقلَّب فتتفقّه القلوبُ بعد أن كانتْ مطبوعاً عليها وتُبصر الأبصارُ بعد أنْ كانت عمياءَ أو تتقلَّب القلوبُ بين توقع النجارة وخوفِ الهلاكِ والإبصار من أيِّ ناحيةٍ يُؤخذ بهم ويُؤتى كتابُهم

38

{لِيَجْزِيَهُمُ الله} متعلِّق بمحذوفٍ يدلُّ عليه ما حُكي من أعمالهم المرضيَّةِ أي

سورة النور (39) يفعلون ما يفعلون من المُداومة على التَّسبيح والذِّكرِ وإيتاءِ الزَّكاةِ والخوفِ من غير صارفٍ لهم عن ذلك ليجزيهم الله تعالى {أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} أي أحسنَ جزاءِ أعمالِهم حسبما وعد لهم بمقابلةِ حسنةٍ واحدة عشرة أمثالهِا إلى سبعمائةِ ضعفٍ {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} أي يتفضَّلُ عليهم بأشياءَ لم تُوعد لهم بخصوصيَّاتِها أو بمقاديرِها ولم تخطُر ببالِهم كيفيَّاتُها ولا كميَّاتُها بل إنَّما وُعدت بطريقِ الإجمالِ في مثلِ قولِه تعالى لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ وقوله صلى الله عليه وسلم حكايةً عنه عزَّ وجلَّ أعددت لعبادي الصالحين مالا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلبِ بشرٍ وغيرِ ذلك من المواعيدِ الكريمةِ التي من جملتها قوله تعالى {والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بغير حساب} فإنه تذبيل مقرر للزيادة وعد كريم بأنَّه تعالى يُعطيهم غيرَ أجزيةِ أعمالِهم من الخيرات ما لا يفي به الحساب وأما عدمُ سبقِ الوعدَ بالزِّيادة ولو إجمالاً وعدمُ خُطورِها ببالِهم ولو بوجهٍ ما فيأباهُ نظمُها في سلك الغايةِ والموصولُ عبارةٌ عمَّن ذُكرتْ صفاتُهم الجميلةُ كأنَّه قيل والله يرزقُهم بغير حسابٍ ووضعه موضع ضميرهم للتنبيهِ بما في حيزِ الصلة على أنَّ مناطَ الرِّزقِ المذكُور في محضُ مشيئتِه تعالى لا أعمالُهم المحكيَّةُ كما أنَّها الماط لما سبقَ من الهداية لنوره تعالى لا لظاهر الأسباب وللإيذان بأنَّهم ممَّن شاء الله تعالى لأن يرزقَهم كما أنَّهم ممَّن شاء الله تعالى أن يهديَهم لنُوره حسبَما يُعرب عنه ما فُصِّل من أعمالهم الحسنةِ فإنَّ جميعَ مل ذُكر من الذِّكرِ والتَّسبيحِ وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ وخوفِ اليوم الآخرِ وأهوالِه ورجاءِ الثَّوابِ مقتبسٌ من القرآن الكريم العظيم الذي هو المعنيُّ بالنُّور وبه يتمُّ بيانُ أحوالِ مَن اهتدى بهُداه على أوضح وجه وأجلاه وهذا وقد قيلَ قولُه تعالى فِى بُيُوتٍ الخ من تتمة التَّمثيلِ وكلمةُ في متعلقةٌ بمحذوفٍ هي صفة لمشكاةٍ أي كائنةٍ في بيوتٍ وقيل لمصباح وقيل لزجاجة وقيل متعلِّقةٌ بيُوقَد والكلُّ مما لا يليقُ بشأن التنزيلِ الجليلِ كيف لا وأنَّ ما بعد قولِه تعالى وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ على ما هو الحقُّ أو ما بعد قوله تعالى نُّورٌ على نُورٍ على ما قيل إلى قولِه تعالى بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ كلامٌ متعلِّقٌ بالمُمَثَّل قطعاً فتوسيطُه بين أجزاءِ التَّمثيل مع كونِه من قبيل الفصل بين الشَّجر ولحائِه بالأجنبيِّ يؤدِّي إلى كون ذكر حال المنتفعين بالتَّمثيلِ المهديِّينَ لنور القُرآن الكريم بطريق الاستتباعِ والاستراط مع كون بيان حال أضدادِهم مقصوداً بالذَّاتِ ومثلُ هذا ممَّا لا عهدَ به في كلام الناسِ فضلاً أنْ يُحملَ عليه الكلامُ المعجِزُ

39

{والذين كَفَرُواْ} عطف على ما ينساق إليه ما قبلَهُ كأنَّه قيلَ الذين آمنوا أعمالهم حالا وما لا كما وُصفَ والذين كفرُوا {أعمالهم} أي أعمالُهم التي هي من أبواب البِرِّ كصلةِ الأرحامِ وفكِّ العُناةِ وسقاية الحاجِّ وعمارة البيت وإغاثة الملهُوفين وقِرى الأضيافِ ونحوِ ذلك ممَّا لو قارنَه الإيمانُ لاستتبعَ الثوابَ كما في قوله تعالى مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ الآيةَ {كَسَرَابٍ} وهو ما يُرى في الفَلَوات من لمَعَانِ الشَّمسِ عليها وقتَ الظَّهيرةِ فيُظنُّ أنه ماء يسرب أي يجري {بِقِيعَةٍ} متعلِّق بمحذوفٍ هو صفةٌ لسرابٍ أي كائن في قاعٍ وهي الأرض المنبسطة

سورة النور (40) المستويةُ وقيل هي جمعُ قاعٍ كجيرة جمعُ جارٍ وقُرىء بقيعاتٍ بتاء ممدودةٍ كديماتٍ إمَّا على أنَّها جمعُ قيعةٍ أو على أنَّ الأصلَ قيعة قد أُشبعت فتحةُ العينِ فتولَّد منها ألِفٌ {يَحْسَبُهُ الظمان مَاء} صفةٌ أخرى لسرابٍ وتخصيص الحسبان بالظَّمآن مع شموله لكلِّ مَن يراه كائنا من كان من العطشانِ والريَّانِ لتكميل التَّشبيهِ بتحقيق شركة طرفيه في وجهِ الشَّبهِ الذي هو المطلع المطمع والمقطع الموئس {حتى إذا جاءه} أي إذا جاءَ العطشانُ ما حَسِبَه ماءً وقيل موضعَه {لَمْ يَجِدْهُ} أي ما حسبَه ماءً وعلَّق به رجاءه {شيئا} أصلالا محقَّقاً ولا متوهَّماً كما كان يراهُ من قبلُ فضلاً عن وجدانه ماء وبه تمَّ بيانُ أحوالِ الكفرة بطريق التَّمثيل وقوله تعالى {وَوَجَدَ الله عِندَهُ فوفاه حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} بيانٌ لبقيَّة أحوالِهم العارضة لهم بعد ذلك بطريقِ التَّكملة لئلاَّ يتوَّهم أنَّ قُصارى أمرِهم هو الخيبةُ والقنوط فقطْ كما هُوَ شأنُ الظَّمآنِ ويظهر أنَّه يعتريهم بعد ذلك التَّمثيل من عدمِ وجدان الكَفَرةِ من أعمالِهم المذكُورةِ عيناً ولا أثراً كما في قوله تعالى وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً كيف لا وأنَّ الحكم بأنَّ أعمالَ الكَفَرة كسرابٍ يحسبه الظمآنُ ماء حتَّى إذا جاءه لم يجدُه سيئا حكمٌ بأنَّها بحيث يحسبونَها في الدُّنيا نافعةً لهم في الآخرة حتَّى إذا جاءوها لم يجدُوها شيئاً كأنه قيل حتى إذا جاء الكَفَرةُ يومَ القيامةِ أعمالَهم التي كانُوا في الدُّنيا يحسبونها نافعةً لهم في الآخرة يجدُوها شيئاً ووجدُوا الله أي حكمَهُ وقضاءَهُ عند المجيءِ وقيل عند العملِ فوفَّاهم أي أعطاهُم وافياً كاملاً حسابَهم أي حسابَ أعمالِهم المذكورةِ وجزاءها فإنَّ اعتقادَهم لنفعها بغير إيمانٍ وعملهم بموجبه كفرٌ على كفره وجب للعقاب قطا وإفرادُ الضَّميرينِ الرَّاجعينِ إلى الذين كفروا إمَّا لإرادة الجنس كالضمان الواقع في التَّمثيلِ وإمَّا للحملِ على كلِّ واحدٍ منهم وكذا إفرادُ ما يرجع إلى أعمالِهم هذا وقدفيل نزل في عُتْبةُ بنُ ربيعةَ بنِ أُميَّة كان قد تعبَّد في الجاهليَّةِ وليس المسوحَ والتمسَ الدِّينَ فلمَّا جاء الإسلامُ كفرَ

40

{أَوْ كظلمات} عطفٌ على كسراب وكلمة للتَّنويع 40 إثرَ ما مُثِّلت أعمالُهم التي كانُوا يعتمدونَ عليها أقوى اعتمادٍ ويفتخرون بها في كلِّ وادٍ ونادٍ بما ذُكر من حال السَّرابِ مع زيادةِ حسابٍ وعقابٍ مُثِّلتْ أعمالُهم القبيحةُ التي ليس فيها شائبةٌ خيريَّةٌ يغترُّ بها المغترُّون بظلماتٍ كائنة {فِى بَحْرٍ لُّجّىّ} أي عميقٍ كثيرِ الماءِ منسوبٍ إلى اللُّجِّ وهو معظمُ ماءِ البحرِ وقيل إلى اللُّجَّةِ وهي أيضاً معظمُه {يغشاه} صفة أُخرى للبحر أي يسترُه ويُغطِّيه بالكُلِّية {مَوْجٍ} وقوله تعالى {من فوقه مَوْجٌ} جملةٌ مِن مبتدأ أو خبر محلُّها الرَّفعُ على أنَّها صفةُ لموجٌ أو الصِّفةُ هي الجارُّ والمجرورُ وموجٌ الثَّانِي فاعلٌ له لاعتمادِه على الموصوفِ والكلامُ فيهِ كما مرَّ في قوله تعالى نُّورٌ على نُورٍ أي يغشاهُ أمواجٌ متراكمةٌ متراكبةٌ بعضُها على بعضٍ وقوله تعالى {من فوقه سَحَابٌ} صفةٌ لموجٌ الثَّاني على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ من فوق ذلك الموجِ سحابٌ ظلمانيٌّ ستَر أضواءَ النُّجومِ وفيه إيماءٌ إلى غاية تراكم الأمواج وتضاعيفها حتى كأنها بلغت

سورة النور (41) السحاب {ظلمات} حبر مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هيَ ظلماتٌ {بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} أي متكاثفة متراكمة وهذا بيان لكمال شدَّةِ الظُّلماتِ كما أن قوله تعالى نُورٍ بيانٌ لغاية قُوَّةِ النُّورِ خلا أنَّ ذلك متعلِّق بالمشبَّهِ وهذا بالمشبَّه به كما يُعرِبُ عنه ما بعده وقُرىء بالجرِّ على الإبدالِ من الأُولى وقُرىء بإضافةِ السَّحابِ إليها {إِذَا أَخْرَجَ} أي مَن ابتُليَ بها وإضمارُه من غير ذكرِه لدلالة المَعْنى عليه دلالةً واضحة {يَدَهُ} جعلها بمرأى منه قريبةً من عينه لينظرَ إليها {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} وهي أقربُ شيءٍ منه فضلاً عن أنْ يراها {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً} الخ اعتراضٌ تذييليٌّ جىءَ به لتقدير ما أفاده التَّمثيلُ من كون أعمالِ الكَفَرةِ كما فُصِّل وتحقيق أنَّ ذلك لعدمِ هدايتِه تعالى إيَّاهم لنورِه وإيرادُ الموصولِ للإشارة بما في حيز الصلة إلى علة الحكم وأيهم ممَّن لم يشأ الله تعالى هدايتهم أي مَن لم يشأ الله أنْ يهديَه لنوره الذي هُو القرآنُ هدايةً خاصَّةً مستتبعة للاهتداء حتماً ولم يوقفه للإيمان به {فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} أي فما له هدايةٌ ما من أحدٍ أصلاً وقوله تعالى

41

{أَلَمْ تَرَ} الخ استئنافٌ خُوطبَ بهِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم للإيذان بأنه تعالى أفاض عليه صلى الله عليه وسلم أعلى المراتب النُّور وأجلاها وبيَّن له من أسرار الملك الملكوت وأدقها وأخفَاها والهمزةُ للتَّقرير أي قد علمت عملا يقينيّاً شبيهاً بالمشاهدة في القوَّة والرَّصانةِ بالوحي الصَّريحِ والاستدلالِ الصَّحيحِ {أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ} أي ينزهه تعالى على الدَّوام في ذاتِهِ وصفاتِه وأفعالِهِ عن كل مالا يليقُ بشأنه الجليلِ من نقص أو خللٍ {مَن في السماوات والأرض} أي ما فيهما إما بطريف الاستقرارِ فيهما من العُقلاء وغيرِهم كائناً ما كان أو بطريق الجزئية منهما تنزيها تفهمه العقولُ السَّليمةُ فإنَّ كل موجود من الموجودات المُمكنة مُركبّاً كان أو بسيطاً فهو من حيثُ ماهيته ووجود أحواله يدلُّ على وجود صانعٍ واجبِ الوجود متَّصفٌ بصفاتِ الكمال مقدَّسٌ عن كلِّ مالا يليق بشأن من شئونه الجليلةِ وقد نبَّه على كمالِ قُوَّةِ تلك الدِّلالةِ وغاية وضوحِها حيثُ عبَّر عنها بما يخص العقلاء من التَّسبيح الذي هو أقوى مراتب التَّنزيه وأظهرها تنزيلاً للسان الحالِ منزلةَ لسانِ المقالِ وأكَّدَ ذلك بإيثار كلمةِ مَن على مَا كأنَّ كلَّ شيءٍ ممَّا عزَّ وهان وكلَّ فردٍ من أفراد الأعراضِ والأعيان عاقلٌ ناطقٌ ومخبرٌ صادقٌ بعلُّوِ شأنِه تعالى وعزَّةِ سُلطانه وتخصيصُ التَّنزيه بالذِّكر مع دلالةِ ما فيهما على اتِّصافِه تعالى بنعوتِ الكمالِ أيضاً لما أنَّ مساقَ الكلامِ لتقبيح حال الفكرة في إخلالهم بالتَّنزيه بجعلهم الجماداتِ شركاءَ له في الأُلوهيَّةِ ونسبتهم إيَّاه إلى اتخاذ الولد تعالى عن ذلكَ عُلُّواً كبيراً وحملُ التَّسبيح على ما يليقُ بكلِّ نوعٍ من أنواع المخلوقات بأن يرادبه معنى مجازيٌّ شاملٌ لتسبيحِ العُقلاءِ وغيرهم حسبما هو المتبادرُ من قوله تعالى كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ يردُّه أنَّ بعضاً من العُقلاءِ وهم الكفرةُ من الثَّقلينِ لا يسبِّحونَهُ بذلك المعنى قطعاً وإنَّما تسبيحُهم ما ذُكر من الدِّلالةِ التي يُشاركهم فيها غيرُ العُقلاءِ أيضاً وفيه مزيد تخطئة لهم وتعيير ببيان أنَّهم يسبِّحونه تعالى باعتبارِ أخسِّ جهاتهم التي هي الجماديَّةُ والجسميَّةُ والحيوانيَّةُ ولا

يسبِّحونه باعتبارِ أشرفها التي هي الإنسانيَّةُ {والطير} بالرَّفعِ عطفاً على مَن وتخصيصُها بالذكر مع اندارجها في جُملة ما في الأرض لعدم استقرار قراها واستقلالها بصنعٍ بارعٍ وإنشاءٍ رائعٍ قُصد بيانُ تسبيحها من تلك الجهةِ لوضوح إنبا عن كمال قُدرةِ صانعِها ولطفِ تدبير مُبدعِها حسبما يعرب عنه التقيد بقوله تعالى {صافات} أي تسبيحه تعالى حال كونِها صافاتٍ أجنحتَها فإنَّ إعطاءه تعالى للأجرام الثَّقيلةِ ما تتمكنُ من الوقوف في الجوِّ والحركةِ كيف تشاءُ من الأجنحةِ والأذنابِ الخفيفةِ وإرشادها إلى كيفية استعمالهما بالقبضِ والبسط حجَّةٌ نيِّرةٌ واضحة المكنونِ وآيةٌ بيِّنة لقومٍ يعقلون دالَّةٌ على كمالِ قُدرة الصَّانعِ المجيد وغاية حكمة المبتدىء المُعيدِ وقولُه تعالى {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} بيانٌ لكمالِ عراقةِ كلِّ واحدٍ مما ذكر في التَّنزيه ورسوخ قدمِه فيه بتمثيل حالِه بحالِ مَن يَعلمُ ما يصدرُ عنه من الأفاعيلِ فيفعلها عن قصدٍ ونيَّةٍ لا عن اتفاقٍ بلا رويَّةٍ وقد أدمج في تضاعيفِه الإشارة إلى أنَّ لكلِّ واحدٍ من الأشياء المذكورةِ مع ما ذُكر من التَّنزيه حاجةً ذاتيَّةً إليه تعالى واستفاضه من لا يهمه بلسان استعدادِه وتحقيقه أنَّ كلَّ واحدٍ من الموجُوداتِ الممكنةِ في حدِّ ذاته بمعزلٍ من استحقاقِ الوجودِ لكنَّه مستعدٌّ لأنْ يفيضَ عليه منه تعالى ما يلقى بشأنه من الوجودِ وما يتبعه من الكمالاتِ ابتداءً وبقاء فهو مستفيضٌ منه تعالى على الاستمرار ففيض عليه في كلِّ آنٍ من فيوض الفُنونِ المتعلِّقةِ بذاته وصفاته مالا يحيط به نطاق البيان بحيثُ لو انقطعَ ما بينه وبين العناية والربانية من العلاقة لانعدم بالمدة وقد عبَّر عن تلك الاستفاضةِ المعنويَّةِ بالصَّلاةِ التي هي الدُّعاءُ والابتهالُ لتكميل التَّمثيل وإفادة المزايا المذكُورة فيما مرَّ على التَّفصيلِ وتقديمُها على التَّسبيحِ في الذكر لقدمها عليه في الرتبة وهذا ويجور أنْ يكونَ العلمُ على حقيقتِه ويراد به مطلقُ الإدراكِ وبما ناب عنه التَّنوينُ في كلِّ أنواع الطير وأفرادها بالصلاة وبالتسبيح ما ألهمه الله تعالى كلُّ واحدٍ منها من الدُّعاءِ والتَّسبيحِ المخصوصينِ بِهِ لكنْ لا على أن يكونَ الطَّيرُ معطُوفاً على كلمة مَن مرفوعاً برافعِها فإنَّه يؤدِّي إلى أنْ يُرادَ بالتَّسبيح معنى مجازيٌّ شاملٌ للتَّسبيحِ المقاليِّ والحاليِّ من العُقلاءِ وغيرهم وقد عرفتَ ما فيه بل بفعل مُضمرٍ أريد به التَّسبيحُ المخصوص بالطَّيرِ معطوف على المذكورِ كما مرَّ في قولِه تعالى وَكَثِيرٌ من الناس أي تسبح الطَّيرِ تسبيحاً خاصًّا بها حال كونها صافات أجنحتها وقوله تعالى قل قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أي دعاه وتسبيحَه اللَّذينِ ألهمهما الله عزَّ وجلَّ إيَّاه لبيان كمال رُسوخه فيهما وأنَّ صدورَهما عنه ليس بطريقِ الاتفاق بلا رويَّةٍ بل عن علمٍ وإيقانٍ من غير إخلالٍ بشيءٍ منهما حسبما ألهمَه الله تعالى فإنَّ إلهامَه تعالى لكلِّ نوعٍ من أنواعِ المخلوقاتِ علوماً دقيقةً لا يكادُ يهتدِي إليه جهابذةُ العُقلاءِ ممَّا لا سبيلَ إلى إنكارِه أصلا كيف لا وإن القُنفذَ مع كونه أبعدَ الأشياءِ من الإدراك قالُوا إنَّه يحسُّ بالشَّمالِ والجَنوبِ قبل هبوبِها فيغير المدخلَ إلى حجرة حتَّى رُوي أنَّه كان بقُسطنطينيَّةَ قبل الفتحِ الإسلاميِّ رجلٌ قد أثرى بسببِ أنَّه كان يُنذر النَّاسَ بالرِّياحِ قبل هبوبِها وينتفعون بإنذارِه بتدارُكِ أمورِ سفائنِهم وغيرها وكانَ السَّببُ في ذلك أنَّه كان يقتنِي في دارِه قُنفذاً يستدلُّ بأحوالِه على ما ذُكر وتخصيص تسبيحِ الطَّيرِ بهذا المَعْنى بالذِّكرِ لما أنَّ أصواتَها أظهرُ وجُوداً وأقربُ حملاً على التَّسبيحِ وقولُه تعالَى {والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} أي ما يفعلونَهُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله وما على الوجه الأوَّل عبارةَ عمَّا ذُكر من الدِّلالة الشَّاملةِ لجميع الموجُوداتِ من العُقلاءِ وغيرِهم والتَّعبيرُ عنها بالفعل مسنداً

سورة النور (42 43) إلى ضميرِ العُقلاء لما مرَّ غيرَ مرَّةٍ وعلى الثَّاني إمَّا عبارة عنها عن التَّسبيح الخاصِّ بالطَّير معاً أو تسبيح الطَّيرِ فقط فالفعلُ على حقيقته وإسناده إلى ض لما مرَّ والاعتراضُ حينئذٍ مقررٌ لتسبيح الطَّيرِ فقط وعلى الأوَّلينِ لتسبيح الكلِّ هذا وقد قيلَ إنَّ الضَّمير في قولِه تعالى وقد علم الله عز وجل وفي صلاته وتسبيحه لكلٌّ أي قدْ علَم الله تعالَى صلاةَ كلِّ واحدٍ مما في السماوات والأرضِ وتسبيحه فالاعتراضُ حينئذٍ مقررٌ لمضمونه على الوجهينِ لكن لأعلى أنْ تكونَ ما عبارةً عمَّا تعلَّق به علمُه تعالى من صلاتِه وتسبيحِه بل عن جميع أحوالِه العارضةِ له وأفعاله الصَّادرةِ عنه وهما داخلتانِ فيها دخولاً أوليًّا

42

{ولله ملك السماوات والأرض} لا لغيرِه لأنَّه الخالقُ لهما ولما فيهما من الذَّواتِ والصِّفاتِ وهو المتصرفُ في جميعِها إيجاداً وإعداماً بدءاً وإعادةً وقولُه تعالى {وإلى الله} أي إليهِ تعالى خاصَّة لا إلى غيرِه {المصير} أي رجوعُ الكلِّ بالفناء والبعثِ بيانٌ لاختصاصِ المُلك به تعالى في المعادِ إثرَ بيانِ اختصاصِه به تعالى في المبدإِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمار لتربية المهابةِ والإشعارِ بعلَّةِ الحُكم

43

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَاباً} الإزجاءُ سوقُ الشَّيءِ برفقٍ وسهولة غلبَ في سوقِ شيءٍ يَسيرٍ أو غيرِ معتدَ به ومنه البضاعةُ المُزجاة ففيه إيماءٌ إلى أنَّ السَّحابَ بالنسبةِ إلى قُدرتِه تعالى مما لا يعتد به {ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ} أي بين أجزائِه بضمِّ بعضِها إلى بعض وقرئ يُوَلِّف بغير همزةٍ {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً} أي مُتراكماً بعضُه فوقَ بعضٍ {فَتَرَى الودق} أي المطرَ إثرَ تراكمِه وتكاثفِه وقوله تعالى {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} أي من فتوقِه حالٌ من الوَدْق لأنَّ الرُّؤيةَ بصريَّةٌ وفي تعقيب الجعلِ المذكورِ برؤيته خارجاً لا بخروجه من المبالغةِ في سرعةِ الخُروج على طريقة قوله تعالى فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق ومن الاعتناءِ بتقرير الرُّؤيةِ ما لا يخفى والخِلالُ جمع خَلَلٍ كجِبَالٍ وجَبَلٍ وقيل مفردٌ كحِجابٍ وحِجاز ويؤيده أنه قرئ من خَلَلِه {وَيُنَزّلُ مِنَ السماء} من الغمامِ فإن كلَّ ما علاك سماءٌ {مِن جِبَالٍ} أي من قطعٍ عظامٍ تُشبه الجبالَ في العِظَمِ كائنة {فِيهَا} وقوله تعالى {مِن بَرَدٍ} مفعولُ ينزل على أنَّ مِن تبعيضيَّةٌ والأُوليانِ لابتداء الغايةِ على أنَّ الثَّانية بدلُ اشتمالٍ من الأُولى بإعادة الجار أن ينزل مبتدئا من السماء من جبال فيها بعضُ يرد وقيل المفعولُ محذوفٌ ومِن برد بيان للجبال أن ينزل مبتدئا من السماء من جبالٍ فيها من جنس البَرَدِ برداً والأولُ أظهرُ لخُلوهِ عن ارتكاب الحذف والتصريح ببعضه المنزل وقيل المفعولُ مِن مشبهة بالجبالِ في الكثرةِ وأياما كان فتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعول لما غيرَ مرةٍ من الاعتناء بالمقدم

سورة النور (24 45) والتشريق إلى المؤخَّر وقيل المرادُ بالسَّماءِ المظلة وفيها جبال من برد أن كما في الأرض جبالاً من حَجَرٍ وليس في العقل وما ينفيه من قاطع والمشهر أن الأنجرة إذا تصاعدت ولم تحللها حرارة فبلغت الطبق الباردةَ من الهواءِ وقوي البردُ اجتمع هناك وصار سَحَاباً وإنْ لم يشتدَّ البردُ تقاطر مطراً وإنِ اشتدَّ فإنْ وصلَ إلى الأجزاء البُخاريَّةِ قبل اجتماعها نزل ثلجا وإلا نزل بَرَداً وقد يبردُ الهواءُ برداً مُفرطاً فينقبض وينعقدُ سحاباً وينزل منه المطر أو الثلجُ وكلُّ ذلك مستند إلى إدارة الله تعالى ومشيئتِه المبنيَّةِ على الحِكم والمَصَالحِ {فَيُصِيبُ به} أي ما ينزله من البَرَد {مَن يَشَآء} أنْ يصيبَه به فيناله ما يناله من ضرر نفسه وماله {وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء} أنْ يصرفَه عنه فينجُو من غائلتِه {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} أي ضوءُ برقِ السَّحابِ الموصوفِ بما مرَّ من الإزجاءِ والتَّأليفِ وغيرِهما وإضافةُ البرقِ إليه قبل الإخبار بوجودِه فبه للإيذانِ بظهور أمرِه واستغنائِه عن التَّصريح به وقُرىء بالمدِّ بمعنى الرِّفعةِ والعُلو وبإدغامِ الدَّالِ في السِّينِ وبرقه يفتح الرَّاءِ على أنَّه جمع برقه وهي مقدار على البرق كالغُرفةِ وبضمِّها للإتباع لضمَّة الباءِ {يَذْهَبُ بالأبصار} أي يخطفُها من فرطِ الأضاءة وسرعق ورودِها وفي إطلاق الأبصارِ مزيدُ تهويلٍ لأمرِه وبيانٌ لشدَّةِ تأثيرِه فيها كأنَّه يكادُ يذهبُ بها ولو عندَ الإغماضِ وهذا مِن أقوى الدَّلائلِ على كمالِ القُدرةِ من حيثُ أنَّه توليدٌ للضدِّ من الضدِّ وقُرىء يُذهب من الإذهابِ على زيادةِ الباءِ

44

{يقلب الله الليل والنهار} بالمُعاقبة بينهما أو ينقص أحدِهما وزيادةِ الآخرِ أو بتغيير أحوالهما بالحرِّ والبردِ وغيرهما ممَّا يقعُ فيهما من الأمور التي من جملها ما ذُكر من إزجاءِ السَّحابِ وما ترتَّب عليهِ {إِنَّ فِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما فُصِّل آنِفاً وما فيه من معنى البُعد مع قُربِ المشارِ إليه للإيذان يعلو رتبته بعد منزلتِه {لَعِبْرَةً} أي لدلالةً واضحةً على وجود الصَّانعِ القديمِ ووحدتِه وكمال قُدرتِه وإحاطة علمِه بجميعِ الأشياءِ ونفاذ مشيئته وتنزيهِه عمَّا لا يليقُ بشأن العليِّ {لأُوْلِى الأبصار} لكلِّ مَن له بصرٌ

45

{والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} أي كلَّ حيوانٍ يدبُّ على الأرض وقُرىء خالقُ كلِّ دابةٍ بالإضافة {مِن ماء} وهو جزء مادة أو ماء مخصوص وهو النُّطفةُ فيكون تنزيلاً للغالب منزلةَ الكلِّ لأنَّ من الحيوانات ما يتولَّد لا عن نُطفةٍ وقيل من ماء متعلق بداية وليس صلة الخلق {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بطنه} كالحية وتسمية حركها مشياً مع كونِها زَحْفاً بطريقِ الاستعارةِ أو المُشاكلةِ {ومنهم من يمشى على رِجْلَيْنِ} كالإنسِ والطَّيرِ {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على أَرْبَعٍ} كالنعم والوحش وعدم التعريض لما يمشي على أكثرَ من أربعٍ كالعناكبِ ونحوِها من الحشرات لعدمِ الاعتدادِ بها وتذكيرُ الضَّميرِ في منهم لتغليبِ العُقلاءِ والتَّعبير عن الأصنافِ بكلمة مَن ليوافقَ التَّفصيلُ الإجمالَ والتَّرتيبُ لتقديم ما هُو أعرفُ في القُدرةِ {يَخْلُقُ الله مَا يَشَاء} ممَّا ذُكر وممَّا لم يُذكرْ بسيطاً كان أو مركّباً على ما يشاء من الصُّورَ والأعضاء

سورة النور (46 49) والهيئات والحَرَكات والطَّبائعِ والقُوَى والأفاعيلِ مع اتِّحادِ العُنصرِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضعِ الإضمارِ لتفخيمِ شأنِ الخلقِ المذكورِ والإيذانِ بأنَّه من أحكامِ الأُلوهيَّةِ {إِنَّ الله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيفعلُ ما يشاءُ كما يشاءُ وإظهارُ الجلالةِ كما ذُكر مع تأكيد استقلال الاستئنافِ التعليليِّ

46

{لقد أنزلنا آيات مبينات} أي لكل مل يليقُ بيانُه من الأحكام الدِّينيةِ والأسرار التَّكوينيَّةِ {والله يَهْدِى مَن يَشَاء} أنْ يهديَه بتوفيقِه للنَّظرِ الصَّحيحِ فيما وإرشاد إلى التَّأملِ في مطاويها {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصلٍ إلى حقيقة الحقِّ والفوز بالجنَّةِ

47

{وَيِقُولُونَ امَنَّا بالله وبالرسول} شروعٌ في بيان أحوالِ بعضِ مَن لم يشأ الله هدايتَه إلى الصِّراطِ المستقيمِ قال الحسنُ نزلتْ على المُنافقين الذين كانُوا يُظهرون الإيمانَ ويُسرُّون الكفرَ وقيل نزلتْ في بشرٍ المُنافقِ خاصمَ يهوديّاً فدعاهُ إلى كعب بن الأشراف واليهوديُّ يدعُوه إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقيل في المغيرةِ بنِ وائل خاصم عليا رضي الله عنه في أرض وماء فإني أن يحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأياما كان فصيغةُ الجمعِ للإيذانِ بأنَّ للقائلِ طائفةً يُساعدونَهُ ويُشايعونَهُ في تلك المقالةِ كما يقال بنُو فلان قتلُوا فُلاناً والقاتلُ واحدٌ منهم {وأطعنا} أي أطعناها في الأمرِ والنَّهيِ {ثُمَّ يتولى} عن قبول حُكمِه {فَرِيقٌ مّنْهُمْ مِن بَعْدِ ذلك} أي من بعد ما صدرَ عنهم ما صدرَ من ادِّعاءِ الإيمانِ بالله وبالرَّسولِ والطَّاعةِ لهما على التَّفصيلِ وما في ذلك من معنى البُعد للإيذانِ بكونه أمراً معتدًّا به واجبَ المُراعاةِ {وَمَا أُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى القائلينَ لا إلى الفريقِ المتولِّي منهم فقط لعدمِ اقتضاءِ نفيِ الإيمانِ عنهم نفيَه عن الأوَّلينَ بخلافِ العكسِ فإنَّ نفيَه عنِ القائلينَ مقتضٍ لنفيِه عنهم على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلتهم في الكفر والفسادِ أي وما أُولئك الذين يدَّعُون الإيمانَ والطَّاعةَ ثم يتولَّى بعضُهم الذين يشاركونهم في العقدِ والعملِ {بالمؤمنين} أي المؤمنينَ حقيقةً كما يُعرب عنه اللامُ أي ليسو بالمؤمنينَ المعهودين بالإخلاص في الإيمان والثَّباتِ عليه

48

{وَإِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ} أي الرَّسولُ {بَيْنَهُمْ} لأنَّه المباشرُ حقيقةً للحكمِ وإنْ كانَ ذلك حكمَ الله حقيقةً وذكرُ الله تعالى لتفيخمه صلى الله عليه وسلم والإيذانِ بجلالةِ محلِّه عندَهُ تعالى {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} أي فاجأ فريقٌ منهم الإعراضَ عن المحاكمةِ إليه صلى الله عليه وسلم لكون الحق عليهم بأنه صلى الله عليه وسلم يحكمُ بالحقِّ عليهم وهو شرح للتَّولِّي ومبالغةٌ فيه

49

{وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق} لا عليهم {يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} مُنقادين لجزمِهم بأنَّه صلى الله عليه وسلم يحكمُ لهم وإلى صلةٌ ليأتُوا فإنَّ الإتيانَ والمجيءَ يُعدَّيان بإلى أو لمذعنين

سورة النور (50 51) على تضمينِ معنى الإسراعِ والإقبال كما في قولِه تعالى فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ والتقديمُ للاختصاصِ

50

{أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} إنكارٌ واستقباحٌ لإعراضِهم المذكورِ وبيانٌ لمنشئه بعد استقصاء عدَّةٍ من القبائح المحقَّقةِ فيهم والمتوقَّعةِ منهم وترديدِ المنشئية بينها فمدارُ الاستفهام ليس نفسَ ما وليتْه الهمزةُ وأَمْ من الأمورِ الثَّلاثة بل هو منشئيتها له كأنَّه قيل أذلك أي إعراضُهم المذكورُ لأنَّهم مرضى القلوبِ لكفرِهم ونفاقِهم {أَمْ} لأنَّهم {ارتابوا} في أمر نبوته صلى الله عليه وسلم مع ظهور حقيَّتِها {أَمْ} لأنَّهم {يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} ثمَّ أُضربَ عن الكلِّ وأُبطلت منشيته وحُكم بأنَّ المنشأَ شيءٌ آخرُ من شنائعِهم حيثُ قيلَ {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} أي ليسَ ذلك لشيءٍ ممَّا ذُكر أمَّا الأوَّلانِ فلأنَّه لو كان لشيء منها لأعرضوا عنه صلى الله عليه وسلم عند كونِ الحقِّ لهم ولما أتوا إليه صلى الله عليه وسلم مُذعنينَ لحُكمِه لتحقُّقِ نفاقِهم وارتيابِهم حينئذٍ أيضاً وأمَّا الثالث فلا نتفائه رأساً حيثُ كانُوا لا يخافون الحيفَ أصلاً لمعرفتِهم بتفاصيل أحواله صلى الله عليه وسلم في الأمانةِ والثَّباتِ على الحقِّ بل لأنَّهم هم الظالمون يُريدون أنْ يظلمُوا مَن له الحقُّ عليهم ويتمُّ لهم جحودُه فيأبون المحاكمة إليه صلى الله عليه وسلم لعلمهم بأنه صلى الله عليه وسلم يقضي عليهم بالحقِّ فمناطُ النَّفيِ المُستفادِ من الإضراب في الأوَّلينِ هو وصف منشئيَّتِهما للإعراضِ فقط مع تحقُّقِهما في نفسِهما وفي الثَّالثِ هو الأصلُ والوصف جميعاً هذا وقد خُصَّ الارتياب بماله منشأٌ مصححٍ لعروضِه لهم في الجُملةِ والمعنى أمِ ارتابُوا بأنْ رَأَوا منه صلى الله عليه وسلم تُهمةً فزالتْ ثقتُهم ويقينُهم به صلى الله عليه وسلم فمدارُ النَّفيِ حينئذٍ نفسُ الارتياب ومنشيته معاً فتأمَّل فيما ذُكر على التَّفصيلِ ودَعْ عنك ما قيل وقيل حسبما 51 - يقتضيه النَّظرُ الجليلُ

51

{إنما كان قول المؤمنين} بالنَّصبِ على أنَّه خبرُ كانَ وأنْ مع ما في حيزها اسمها وقرئ بالرَّفعِ على العكسِ والأوَّلُ أقوى صناعةً لأنَّ الأَولى للاسميَّةِ ما هُو أوغلُ في التَّعريفِ وذلكَ هو الفعلُ المصدَّرُ بأَنْ إذْ لا سبيلَ إليه للتَّنكيرِ بخلافِ قولَ المُؤمنين فإنَّه يحتملُه كما إذا اعتزلتْ عنه الإضافةُ لكن قراءةُ الرَّفعِ أقعدُ بحسب المَعْنى وأوفى لمُقتضى المقام لما أنَّ مصبَّ الفائدةِ وموقِعَ البيانِ في الجُملِ هو الخبرُ فالأحقُّ بالخبريَّةِ ما هو أكثرُ إفادةً وأظهرُ دلالةً على الحدوثِ وأوفرُ اشتمالاً على نِسَب خاصةٍ بعيدةٍ من الوقُوع في الخارج وفي ذهن السَّامعِ ولا ريب في أن ذلك ههنا في أنْ مع ما في حيُّزها أتمَّ وأكملَ فإذا هو أحق بالخيرية وأما ما تفيدُه الإضافةُ من النِّسبةِ المطلقةِ الإجماليةِ فحيث كانتْ قليلةَ الجَدوى سهلةَ الحصولِ خارجاً وذِهناً كان حقُّها أنْ تلاحَظَ ملاحظةً مجملةً وتجعلَ عُنواناً للموضوعِ فالمعنى إنَّما كانَ مطلقُ القولِ الصَّادرِ عن المؤمنين {إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ} أي الرسول صلى الله عليه وسلم {بينهم} أى وبين

سورة النور (52 53) خصومِهم سواءً كانُوا منهم أو من غيرِهم {إِن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي خصوصية هذا القولِ المحكيِّ عنهم لا قولاً آخرَ أصلاً وأما قراءةُ النَّصبِ فمعناها إنما كانَ قولُ المؤمنين أي إنما كانَ قولاً لهم عند الدَّعوةِ خصوصيةَ قولِهم المحكيِّ عنهم ففيه من جعل النِّسبتينِ وأبعدهما وقوعاً وحضُوراً في الأذهانِ وأحقِّهما بالبيان مفروغاً عنها عُنواناً للموضوعِ وإبرازِ ما هو بخلافِها في معرضِ القصدِ الأصليِّ ما لا يخفى وقرئ ليُحكمَ على بناءِ الفعلِ للمفعولِ مُسنداً إلى مصدرِه مجاويا لقوله تعالى إذا إِذَا دُعُواْ أي ليُفعل الحكمُ كما في قولِه تعالى لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ أي وقعَ التَّقطُّعُ بينكم {وَأُوْلئِكَ} إشارةٌ إلى المؤمنينَ باعتبارِ صدورِ القولِ المذكُورِ عنهم وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو رتبتِهم وبُعد منزلتِهم في الفضلِ أي أولئكَ المنعوتونَ 52 - بما ذكر من النعت الجميلِ {هُمُ المفلحون} أي هُم الفَائزون بكلِّ مطلبٍ والنَّاجُون من كلِّ محذورٍ

52

{وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} استئناف جئ به لتقرير مضمونِ ما قبله من حُسنِ حالِ المُؤمنين وترغيب مَن عداهُم في الانتظام في سلكِهم أي ومَن يُطعهما كائناً مَن كان فيما أُمرا به من الأحكامِ الشَّرعيَّةِ اللازمةِ والمتعديَّةِ وقيل في الفرائضِ والسُّننِ والأولُ هو الأنسبُ بالمقام {وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ} بإسكانِ القافِ المبنيِّ على تشبيهه بكنف وقرئ بكسرِ القافِ والهاءِ وبإسكانِ الهاءِ أي ويخشَ الله على ما مَضَى من ذنوبِه ويتقه فيما يستقبلُ {فَأُوْلَئِكَ} الموصُوفون بما ذُكر من الطَّاعةِ والخشية والاتِّقاءِ {هُمُ الفائزون} بالنَّعيم المُقيم 53 - لا مَن عداهُم

53

{وَأَقْسَمُواْ بالله} حكايةٌ لبعضٍ آخَرَ من أكاذيبِهم مؤكَّد بالأيمانِ الفاجرةِ وقولُهُ تعالى {جَهْدَ أيمانهم} نُصبَ على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لفعله الذي هو في حيِّز النصبِ على أنه حالٌ من فاعلِ أقسمُوا أي أقسمُوا به تعالى يجهدون أيمانَهم جَهداً ومعنى جَهد اليمينِ بلوغُ غايتِها بطريقِ الاستعارةِ من قولِهم جهدَ نفسَه إذا بلغَ أقصى وُسعِها وطاقتِها أي جاهدين بالغينَ أقصى مراتبِ اليمينِ في الشدَّةِ والوكادةِ وقيل هو مصدرٌ مؤكدٌ لأقسمُوا أي أقسمُوا إقسامَ اجتهادٍ في اليمينِ قال مقاتلٌ مَن حلفَ بالله فقدِ اجتهدَ في اليمينِ {لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ} أي بالخروجِ إلى الغزوِ لا عن ديارِهم وأموالِهم كما قيل لأنَّه حكايةٌ لما كانُوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أينما كنتَ نكُنْ معك لئن خرجتَ خرجنَا وإنْ أقمتَ أقمنَا وإن أمرتَنا بالجهادِ جاهدنَا وقوله تعالى {لَيُخْرِجَنَّ} جوابٌ لأقسمُوا بطريقِ حكايةِ فعلِهم لا حكايةِ قولِهم وحيثُ كانتْ مقالتُهم هذه كاذبةً ويمينُهم فاجرةً أمر صلى الله عليه وسلم بردِّها حيثُ قيل {قُلْ} أي ردًّا عليهم وزَجْراً لهم عن التَّفوه بها وإظهاراً لعدمِ القَبُول لكونِهم كاذبينَ فيها {لاَّ تُقْسِمُواْ} أى على ما ينبئ عنه كلامُكم من الطَّاعةِ وقوله تعالى {طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ تعليلٌ للنَّهيِ أي لا تقسمُوا على ما تدَّعُون من الطَّاعةِ لأنَّ طاعتَكم طاعةٌ نفاقيةٌ واقعةٌ باللِّسان فَقَط من غيرِ مُواطأةٍ من القلبِ وإنَّما عبر عنها بمعروفةٌ للإيذانِ بأنَّ كونها كذلك

سورة النور (245) مشهورٌ معروفٌ لكلِّ أحدٍ وقرئ بالنَّصبِ والمعنى تُطيعون طاعةً معروفة هذاوحملها على الطَّاعةِ الحقيقيَّةِ بتقديرِ ما يُناسبها من مبتدأ أو خبرٍ أو فعلٍ مثلُ الذي يُطلب منكم طاعة معروفة حقيقتة لا نفاقيةٌ أو طاعةٌ معروفةٌ أمثلُ أو ليكُن طاعةً معروفةً أو أطيعوا طاعةً معروفةً ممَّا لا يُساعده المقامُ {إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمال الظاهرةِ والباطة التي من جملتها ما تُظهرونه من الأكاذيب المؤكِّدةِ بالأيمان الفاجرةِ وما تُضمرونه في قلوبكم من الكفرِ والنَّفاقِ والعزيمةِ على مُخادعة المُؤمنين وغيرِها من فُنون الشرِّ والفسادِ تضمرونه الجملة تعليلٌ للحكم بأنَّ طاعتَهم طاعة نفاقية مشعر بأنَّ مدارَ شُهرةِ أمرِها فيما بينَ المُؤمنين إخبارُه تعالى بذلك 54 - ووعيدٌ لهم بأنَّه تعالى مجازيهم بجميع أعمالِهم السَّيئةِ التي منها نفاقُهم

54

{قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول} كرَّر الأمرَ بالقول لإبراز كمالِ العنايةِ به والإشعارِ باختلافهما من حيثُ أنَّ المقولَ في الأوَّلِ نهيٌ بطريق الردِّ والتَّقريعِ كما في قوله تعالى {اخسؤوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} وفي الثَّاني أمرٌ بطريقِ التَّكليفِ والتَّشريعِ وإطلاقُ الطَّاعة المأمورِ بها عن وصفِ الصحَّةِ والإخلاصِ ونحوهما بعد وصف طاعتهم بما ذُكر للتَّنبيه على أنَّها ليستْ من الطَّاعةِ في شيءٍ أصلاً وقوله تعالى {فَإِن تَوَلَّوْاْ} خطابٌ للمأمورين بالطَّاعةِ من جهتِه تعالى واردٌ لتأكيد الأمر بها والمبالغةِ في إيجاب الامتثال به والحملِ عليه بالتَّرهيب والتَّرغيبِ لما أنَّ تغييرَ الكلامِ المَسوقِ لمعنى من المعاني وصَرْفَه عن سننه المسلوك ينبئ عن اهتمامٍ جديدٍ بشأنه من المتكلِّم ويستجلبُ مزيدَ رغبةٍ فيه من السَّامعِ كما أشير إليه في تفسيرِ قولِه تعالى {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} لا سيَّما إذا كان ذلك بتغيير الخطابِ بالواسطةِ إلى الخطابِ بالذَّاتِ فإنَّ في خطابِه تعالى إيَّاهم بالذَّات بعد أمرِه تعالى إيَّاهم بوساطته صلى الله عليه وسلم وتصدِّيه لبيان حُكمِ الامتثالِ بالأمر والتولِّي عنه إجمالاً وتفصيلاً من إفادةِ ما ذُكر من التَّأكيدِ والمُبالغةِ ما لا غايةَ وراءَه وتَوهُّم أنَّه داخلٌ تحت القولِ المأمورِ بحكايتِه من جهته تعالى وأنَّه أبلغُ في التَّبكيتِ تعكيسٌ للأمرِ والفاءُ لترتيب ما بعدها على تبليغه صلى الله عليه وسلم للمأمور به إليهم وعدمُ التَّصريحِ به للإيذانِ بغاية ظهور مسارعته صلى الله عليه وسلم إلى تبليغ ما أُمرَ به وعدم الحاجةِ إلى الذِّكرِ أي إنْ تتولَّوا عن الطَّاعةِ إثرَ ما أُمرتم بهَا {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ} أي فاعلمُوا أنَّما عليه صلى الله عليه وسلم {ما حمل} أي ما أُمر بهِ من التَّبليغِ وقد شاهدتمُوه عند قوله أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول {وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ} أي ما أُمرتم بهِ منَ الطَّاعة ولعلَّ التَّعبيرَ عنه بالتَّحميل للإشعارِ بثقله وكونِه مُؤنةً باقيةً في عهدتِهم بعدُ كأنَّه قيل وحيثُ توليتُم عن ذلك فقد بقيتم تحت ذلك الحملِ الثَّقيلِ وقولُه تعالى مَا حُمّلَ محمولٌ على المُشاكلة {وَإِن تُطِيعُوهُ} أي فيما أَمركم به من الطَّاعةِ {تَهْتَدُواْ} إلى الحقِّ الذي هو المقصدُ الأصليُّ المُوصلُ إلى كلِّ خيرٍ والمُنجِّي من كلِّ شرَ وتأخيرُه عن بيانِ حكم التَّولِّي لما في تقديم التَّرهيبِ من تأكيد التَّرغيبِ وتقريبه ممَّا هو من بابه من الوعد الكريمِ وقولُه تعالى {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} اعتراضٌ مقرر لما قبله من أنَّ غائلةَ التولِّي وفائدة الإطاعةِ مقصورتانِ عليهم واللامُ إمَّا للجنسِ المُنتظمِ له صلى الله عليه وسلم

سورة النور (55) انتظاما أوليا أو للعهد أي ما على جنس الرَّسولِ كائناً مَن كان أو ما عليه صلى الله عليه وسلم إلاَّ التَّبليغُ الموضِّحُ لكلِّ ما يَحتاج إلى الإيضاحِ أو الواضحُ على أنَّ المُبينَ مِن أبانَ بمعنى بانَ وقد علمتُم أنَّه قد فعله بما لا مزيدَ عليهِ 55 - وإنما بقيَ ما حُمِّلتم وقوله تعالى

55

{وعد الله الذين آمنوا مِنْكُمْ} استئنافٌ مقرِّرٌ لما في قوله تعالى وأن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ من الوعد الكريمِ ومُعربٌ عنه بطريق التَّصريحِ ومبينٌ لتفاصيلِ ما أُجمل فيه من فنون السَّعاداتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّة التي هي من آثار الاهتداءِ ومتضمِّنٌ لما هو المرادُ بالطَّاعة التي نيطَ بها الاهتداءُ والمرادُ بالذين آمنُوا كلُّ من اتَّصف بالإيمان بعد الكُفر على الإطلاق من أيِّ طائفةٍ كان وفي أيِّ وقتٍ كان لا مَن آمنَ من طائفةِ المُنافقين فقط ولا مَن آمنَ بعد نزولِ الآيةِ الكريمةِ فحسب ضرورةَ عمومِ الوعد الكريم للكلِّ كافَّةً فالخطاب في منكم لعامَّةِ الكَفَرةِ لا للمنافقين خاصَّةً ومِن تبعيضيَّةٌ {وَعَمِلُواْ الصالحات} عطفٌ على آمنُوا داخلٌ معه في حيزِ الصِّلةِ وبه يتمُّ تفسيرُ الطَّاعةِ التي أُمر بها ورُتِّب عليها ما نُظم في سلك الوعدِ الكريمِ كما أُشير إليه وتوسيطُ الظَّرف بين المعطُوفينِ لإظهار أصالةِ الإيمانِ وعراقتِه في استتباع الآثارِ والأحكامِ وللإيذانِ بكونِه أوَّلَ ما يُطلب منهم وأهمَّ ما يجبُ عليهم وأمَّا تأخيرُه عنهما في قولِه تعالى وَعَدَ الله الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً فلأنَّ مِن هناك بيانيَّةٌ والضمير الذين معه صلى الله عليه وسلم من خُلَّصِّ المؤمنين ولا ريب في أنه جامعون بين الإيمان والأعمال الصَّالحةِ مثابرون عليهما فلا بُدَّ من ورود بيانِهم بعد ذكر نُعوتهم الجليلة بكمالِها هذا ومَن جعلَ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأُمةِ عُموماً على أنَّ من تبعيضية أوله صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المُؤمنينَ خُصوصاً على أنَّها بيانيَّةٌ فقد نَأَى عمَّا يقتضيهِ سباقُ النظمِ الكريم وسياقه بمنازلَ وأبعدَ عمَّا يليقُ بشأنه صلى الله عليه وسلم بمراحلَ {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرض} جواب للقسم إما بالإضماء أو بتنزيل وعدِه تعالى منزلةَ القسمِ لتحقُّق إنجازِه لا محالة أى ليجعلهم خلفاءَ مُتصرِّفين فيها تصرُّفَ الملوكِ في ممالكهم أو خَلَفاً من الذين لم يكونُوا على حالهم من الإيمانِ والأعمالِ الصَّالحةِ {كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} هم بنوُ إسرائيلَ استخلفهم الله عزَّ وجلَّ في مصرَ والشَّامَ بعد إهلاكِ فرعونَ والجبابرةِ أو هُم ومَنْ قبلهم من الأمم المؤمنةِ التي أُشير إليهم في قوله تعالى أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله جاءتهم رسلهم بالبينات إلى قوله تعالى فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين ولنسكتكم الأرض مِن بَعْدِهِمْ ومحلُّ الكافِ النصبُ على أنه مصدرٌ تشبيهيٌّ مؤكِّدٌ للفعل بعد تأكيدِه بالقسم وما مصدريةٌ أي ليستخلفنَّهم استخلافاً كائنا كاستخلافه تعالى للذين من قبلهم وقرئ كما استُخلفَ على البناء للمفعول فليس العاملُ في الكاف حينئذٍ الفعل المذكور بل ما يدلُّ هو عليه من فعلٍ مبنيَ للمفعول جارٍ منه مجرى المطاوعِ فإنَّ استخلافَه تعالى إيَّاهم مستلزمٌ لكونِهم مستخلَفين

سورة النور (56) لا محالة كأنَّه قيل ليستخلفنَّهم في الأرض فيُستخلفُنَّ فيها استخلافاً أيْ مستخلفيَّةً كائنة كمستخفلية من قبله وقد مرَّ تحقيقُه في قوله تعالى كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ ومن هذا القَبيلِ قولُه تعالَى وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا على أحد الوجهين أى فنتبت نباتاً حسناً وعليهِ قولُ مَنْ قالَ وعضّةُ دهرٍ يا ابنَ مروانَ لم تَدَع ... مِنَ المالِ إلا مُسْحَتٌ أو بحلف أى فلم يبق إال مُسحتٌ الخ {وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ} عطفٌ على ليستخلفنَّهم منتظم معه ف سلك الجوابِ وتأخيرُه عنه مع كونه أجلَّ الرَّغائبِ الموعودة وأعظمها لما أنَّ النُّفوسَ إلى الحظوظِ العاجلة أميلُ فتصدير المواعيد بها في الاستمالةِ أدخلُ والمعنى ليجعلنَّ دينَهم ثابتاً مُقرَّراً بحيثُ يستمرُّون على العمل بأحكامِه ويرجعون إليهِ في كلِّ ما يأتُون وما يذرُون والتَّعبيرُ عن ذلك بالتَّمكينِ الذي هو جُعل الشَّيءِ مكاناً لآخرَ يُقال مكَّن له في الأرضِ أي جعلها مقرًّا له ومنه قولُه تعالى إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض ونظائره وكلمة في للإبذان بأنَّ ما جُعل مقرًّا له قطعةٌ منها لا كلُّها للدِّلالةِ على كمال ثبات الدِّين ورصانةِ أحكامِه وسلامتِه من التَّغييرِ والتَّبديلِ لا بتنائه على تشبيهِه بالأرض في الثَّبات والقرار مع ما فيه من مُراعاةِ المُناسبة بينه وبين الاستخلافِ في الأرضِ وتقديمُ صلةِ التَّمكينِ على مفعوله الصَّريحِ للمُسارعةِ إلى بيان كونِ الموعودِ من منافعهم تشويقها لهم إليه وترغيباً لهم في قبوله عند ورودِه ولأنَّ في توسيطها بينَهُ وبينَ وصفِه أعني قوله تعالى {الذى ارتضى لَهُمْ} وفي تأخيرِها عنه من الإخلالِ بجَزَالةِ النظمِ الكريمِ مَا لاَ يَخْفى وفي إضافة الدِّين إليهم وهو دينُ الإسلامِ ثم وصفُه بارتضائه لهم تأليفٌ لقلوبِهم ومزيدُ ترغيبٍ فيه وفضلُ تثبيتٍ عليه {وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ} بالتَّشديدِ وقرئ بالتَّخفيفِ من الإبدالِ {مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ} أي من الأعداء {آمنا} حيثُ كان أصحابُ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قبل الهجرةِ عشرَ سنين بل أكثرَ خائفين ثم هاجرُوا إلى المدينةِ وكانوا يُصبحون في السِّلاحِ ويُمسون كذلك حتى قالَ رجلٌ منهم ما يأتي علينا يومٌ نأمنُ فيه فقالَ صلى الله عليه وسلم لا تعبرون إلايسيرا حتى يجلسَ الرَّجلُ منكم في الملإِ العظيمِ مُحتبياً ليس معه حديدةٌ فأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآية وأنجزو عده وأظهرَهم على جزيرةِ العربِ وفتح لهم بلادَ الشَّرقِ والغرب وصاروا لى حالٍ يخافُهم كلُّ مَن عداهُم وفيه من الدِّلالةِ على صحَّة النُّبوةِ للإخبارِ بالغيبِ على ما هُو عليه قبل وقوعِه ما لا يخفى وقيل المرادُ الخوفُ من العذابِ والأمنُ منه في الآخرةِ {يَعْبُدُونَنِى} حالٌ من الموصول الأوَّلِ مفيدةٌ لتقييد الوعد بالثَّباتِ على التَّوحيدِ أو استئنافٌ ببيان المقتضى للاستخفاف وما انتظم معه في سلكِ الوعدِ {لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً} حالٌ من الواوِ أي يعبدوننِي غيرَ مشركين بي في العبادة شيئاً {وَمَن كَفَرَ} أي اتَّصف بالكُفر بأنْ ثبتَ واستمرَّ عليه ولم يتأثَّر بما مرَّ من التَّرهيب الترغيب فإنَّ الإصرارَ عليه بعد مُشاهدةِ دلائلِ التَّوحيدِ كفرٌ مستأنف زائدة على الأصل وقيل كفرَ بعد الإيمانِ وقيل كفرَ هذه النِّعمةَ العظيمةَ والأولُ هو الأنسبُ بالمقامِ {بَعْدَ ذَلِكَ} أي بعد ذلك الوعدِ الكريمِ بما فُصِّل من المطالب العاليةِ المستوجبةِ لغاية الاهتمامِ بتحصيلها والسعيِ الجميلِ في حيازتِها {فَأُوْلَئِكَ} البُعداءُ عن الحقِّ التائهون في تيهِ الغَواية والضَّلال {هُمُ الفاسقون} الكاملونَ في الفِسق والخروجِ عن حُدودِ الكُفر والطُّغيانِ

56

{وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة}

عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلامُ ويستدعيهِ النظامُ فإنَّ خطابَه تعالى للمأمورينَ بالطَّاعةِ على طريقِ التَّرهيبِ من التَّولِّي بقوله تعالى فَإِن تَوَلَّوْاْ الخ وترغيبَه تعالى إيَّاهم في الطَّاعة بقوله تعالى وَإِن تُطِيعُوهُ تهتدوا الخ وعده تعالى إيَّاهم على الإيمان والعملِ الصَّالحِ بما فُصِّل من الاستخلافِ وما يتلُوه من الرَّغائبِ الموعُودةِ ووعيدَه على الكفرِ ممَّا يوجبُ الأمرَ بالإيمانِ والعملِ الصَّالحِ والنَّهيِ عن الكُفر فكأنَّه قيل فآمنوا وعملوا صلاحا وأقيمُوا أو فلا تكفرُوا وأقيمُوا وعطفُه على أطيعُوا الله مما لا يليقُ بجزالةِ النَّظمِ الكريمِ {وَأَطِيعُواْ الرسول} أمرهم الله سبحانه وتعالى بالذَّاتِ بما أمرَهم به بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعتِه التي هي طاعتُه تعالى في الحقيقة تأكيداً للأمرِ السَّابقِ وتقريراٌ لمضمونه على أنَّ المرادَ بالمُطاع فيه جميعُ الأحكامِ الشَّرعيةِ المنتظمةِ للآداب المرضيَّةِ أيضاً أي وأطيعُوه في كلِّ ما يأمرُكم به وينهاكم عنه أو تكميلاً لما قبله من الأمرين الخاصَّينِ المتعلِّقينِ بالصَّلاةِ والزَّكاةِ على أنَّ المرادَ بما ذُكر ما عداهما من الشَّرائعِ أي وأطيعُوه في سائر ما يأمرُكم به الخ وقوله تعالى {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} متعلِّقٌ على الأوَّلِ بالأمرِ الأخيرِ المُشتمل على جميعِ الأوامرِ وعلى الثَّانِي بالأوامرِ الثَّلاثةِ أي افعلُوا ما ذُكر من الإقامةِ والإيتاءِ 57 - والإطاعةِ راجينَ أنْ ترجموا

57

{لا تحسبن الذين كفروا} لمَّا بُيِّن حالَ من أطاعه صلى الله عليه وسلم وأُشير إلى فوزِه بالرَّحمةِ المُطلقة المستتبعةِ لسعادةِ الدَّارينِ عُقّب ذلك ببيانِ حالِ من عصاه صلى الله عليه وسلم ومآل أمره في الدينا والآخرةِ بعد بيانِ تناهيهِ في الفسقِ تكميلاً لأمرِ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ والخطاب إما لكل أحد ممن يصلُح له كائناً من كانَ وإما للرسول صلى الله عليه وسلم على منهاج قوله تعالى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين ونظائرِه للإيذانِ بأنَّ الحُسبانَ المذكورَ من القُبحِ والمحذوريةِ بحيث ينهى عنه من يمتنعُ صدورُه عنه فكيف بمَن يمكن ذلك منه ومحلُّ الموصولِ النَّصبُ على أنَّه مفعولٌ أوَّلٌ للحُسبانِ وقوله تعالى {معجزين} ثانيهما وقوله تعالى {فِى الأرض} ظرفٌ لمعجزين لكن لا لإفادةِ كون الإعجاز المنفيّ فيها لا في غيرها فإن ذلك مما لا يحتاجُ إلى البيانِ بل لإفادة شمولِ عدم الإعجازِ بجميعِ أجزائِها أي لا تحسبنَّهم مُعجزين الله عزَّ وجلَّ عن إدراكِهم وإهلاكِهم في قُطر من أقطارِ الأرضِ بما رحُبتْ وإنْ هربُوا منها كلَّ مهرب وقرئ لا يَحسَبنَّ بياءِ الغَيْبة على أنَّ الفاعلَ كلُّ أحدٍ والمعنى كما ذُكر أي لا يَحسبنَّ أحدٌ الكافرينَ معجزين له سبحانَهُ في الأرضِ أو هو الموصولُ والمفعولُ الأولُ محذوفٌ لكونه عبارةً عن أنفسِهم كأنَّه قيل لا تحسبنَّ الكافرين أنفسَهم مُعجزين في الأرضِ وأما جعلُ معجزين مفعولاً أوَّلَ وفي الأرضِ مفعولاً ثانياً فبمعزلٍ من المُطابقة لمقتضى المقامِ ضرورةَ أنَّ مصبَّ الفائدةِ هو المفعولُ الثَّاني ولا فائدةَ في بيانِ كونِ المُعجزين في الأرضِ وقد مرَّ في قولِه تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً وقولِه تعالى {وَمَأْوَاهُمُ النار} معطوفٌ على جملة النَّهيِ بتأويلِها بجُملةٍ خبريَّةٍ لأنَّ المقصودَ بالنَّهيِ عن الحُسبان تحقيقُ نفيِ الحُسبانِ كأنَّه قيل ليسَ الذين كفرُوا مُعجزين ومأواهم الخ أو على جملةٍ مقدَّرةٍ وقعتْ تعليلاً للنَّهيِ كأنَّه قيل لا تحسبنَّ الذين كفرُوا معجزين في الأرضِ فإنَّهم مُدرَكُونَ ومأواهم الخ وقيل الجملةُ المقدَّرةُ بل هم مقهورون فتدبر {ولبئس المصير}

سورة (58) جوابٌ لقسمٍ مقدَّرٍ والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي وبالله لبئسَ المصيرُ هي أي النار والحملة اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله وفي إيراد النَّارِ بعنوان كونها مأوى ومصير الهم إثرَ نفيِ فَوتِهم بالهرب في الأرض كلَّ مهرَبٍ من الجزالة مالا غايةَ وراءَهُ فللَّه درُّ شأنِ التنزيل

58

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} رجوع إلى بيان تتمةِ الأحكامِ السَّابقةِ بعد تمهيدِ ما يُوجب الامتثالَ بالأوامر والنَّواهي الواردة فيها وفي الأحكام اللاَّحقةِ من التمثيلات والتَّرغيبِ والتَّرهيبِ والوعدِ والوعيدِ والخطابُ إمَّا للرِّجالِ خاصَّةً وللنساء داخلاتٌ في الحكم بدلالة النَّصِّ أو للفريقينِ جميعاً بطريقِ التَّغليبِ رُوي أنَّ غلام الأسماء بنتِ أبي مَرْثَدٍ دخل عليها في وقتٍ كرهتْهُ فنزلتْ وقيلَ أرسلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِدْلَجَ بنَ عمروٍ الأنصاريَّ وكانَ غُلاماً وقتَ الظَّهيرةِ ليدعو عمر رضي الله عنه فدخلَ عليه وهو نائمٌ قد انكشفَ عنه ثوبُه فقال عمرُ رضي الله عنه لودتت أنَّ الله تعالى نَهَى آباءَنا وأبناءَنا وخدمَنا أنْ لا يدخلوا علينا هذه السَّاعاتِ إلا بإذنٍ ثمَّ انطلقَ معه إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فوجدَه وقد أُنزلتْ عليه هذه الآيةُ {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} من العبيدِ والجَوَاري {والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم} أي الصِّبيانُ القاصرُون عن درجة البلوغِ المعهود والتَّعبيرُ عنه بالحُلُم لكونِه أظهرَ دلائلِه مّنكُمْ أي من الأحرارِ {ثَلاَثَ مَرَّاتٍ} أي ثلاثةَ أوقاتٍ في اليَّومِ واللَّيلةِ والتَّعبيرُ عنها بالمرَّات للإيذانِ بأنَّ مدارَ وجوبِ الاستئذانِ مقارنةُ تلك الأوقاتِ لمرور المستأذنينَ بالمخاطبينَ لا أنفسِها {مّن قَبْلِ صلاة الفجر} لظهورِ أنَّه وقتُ القيامِ من المضاجعِ وطرحِ ثيابِ النَّومِ ولبسِ ثيابِ اليقظةِ ومحلُّه النصبُ على أنَّه بدل من ثلاث مرات أو مرات أو الرع على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي أحدُها من قبل الخ {وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم} أي ثيابَكم التي تلبسونَها في النَّهارِ وتخلعونَها لأجل القَيلولةِ وقوله تعالى {مّنَ الظهيرة} وهي شدَّةُ الحرِّ عند انتصافِ النَّهارِ بيان للحين والصريح الأمرِ أعني وضعَ الثِّيابِ في هذا الحينِ دُون الأوَّلِ والآخرِ لما أنَّ التَّجردَ عن الثِّيابِ فيه لأجل القيلولةِ لقلَّة زمانِها كما ينبئ عنها إيرادُ الحين مُضافاً إلى فعل حادث متقض ووقوعُها في النَّهارِ الذي هُو مَئِنَّةٌ لكثرةِ الورودِ والصُّدورِ ومَظِنَّةٌ لظهورِ الأحوالِ وبروزِ الأمورِ ليسَ من التَّحقُّقِ والاطرادِ بمنزلةِ ما في الوقتينِ المذكورينِ فإنَّ تحقُّقَ التَّجردِ واطِّرادَه فيهما أمرٌ معروفٌ لا يحتاجُ إلى التَّصريحِ به {وَمِن بَعْدِ صلاة العشاء} ضرورةَ أنَّه وقتُ التَّجردِ عن اللِّباسِ والالتحافِ باللِّحافِ وليسَ المرادُ بالقبليَّةِ والبعديَّةِ المذكورتينِ مطلقَهُما المتحقِّقَ في الوقتِ الممتدِّ المتخللِ بينَ الصَّلاتينِ كما في قوله تعالى وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين وقوله تعالى مِن بَعْدِ أن نزع الشيطان بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى بل ما يعرض منهما

سورة النور 59 لطرفي ذلك الوقتِ الممتدِّ المتصلين بالصَّلاتينِ المذكورتينِ اتِّصالاً عاديّاً وقولُه تعالى {ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وقولُه تعالى {لَكُمْ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لثلاثُ عوراتٍ أي كائنةٌ لكم والجملة استئناف مسوق لبيان علَّةِ وجوبِ الاستئذانِ أي هنَّ ثلاثةُ أوقاتٍ يختلُّ فيها التَّستُّر عادةً والعورةُ في الأصلِ هو الخللُ غلبَ في الخللِ الواقعِ فيما يهمُّ حفظُه ويُعتنى بسترِه أُطلقتْ على الأوقاتِ المُشتملةِ عليها مبالغةً كأنَّها نفس العورة وقرئ ثلاثَ عوراتٍ بالنَّصبِ بدلاً من ثلاثَ مرَّاتٍ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ} أي على المماليكِ والصِّبيانِ جُنَاحٌ أي إثمٌ في الدُّخولِ بغيرِ استئذانٍ لعدمِ ما يُوجبه من مخالفةِ الأمرِ والاطِّلاعِ على العوراتِ {بَعْدَهُنَّ} أي بعد كلِّ واحدةٍ من تلك العوراتِ الثَّلاثِ وهي الأوقاتُ المتخلِّلةُ بين كلِّ اثنتينِ منهنَّ وإيرادُها بعُنوان البعديَّةِ مع أنَّ كلَّ وقتٍ من تلكَ الأوقاتِ قبل عورةٍ من العَورات كما أنَّها بعد أخرى منهنَّ لتوفيةِ حقِّ التَّكليفِ والتَّرخيصِ الذي هو عبارة عن رفعه إذا لرخصة إنَّما تتصور في فعل يقعُ بعد زمان وقوعِ الفعلِ المكلَّف والجملة على القراءتينِ مستأنَفة مَسوقة لتقرير ما قبلها بالطرد والكس وقد جُوِّز على القراءة الأولى كونُها في محلِّ الرفعِ على أنها صفة أخرى لثلاثُ عوراتٍ وأمَّا على القراءة الثَّانيةِ فهي مستأنفةٌ لا غير إذ لو جُعلت صفةً لثلاثُ عورات وهي بدلٌ من ثلاثَ مرَّاتٍ لكانَ التَّقديرُ ليستأذنكم هؤلاءِ في ثلاث عورات لا إثمَ في ترك الاستئذانِ بعدهنَّ وحيثُ كان انتفاءُ الإثمِ حينئذٍ ممَّا لم يعلمه السَّامعُ إلا بهذا الكلامِ لم يتسنَّ إبرازُه في معرض الصِّفةِ بخلافِ قراءة الرَّفع فإنَّ انتفاءَ الإثمِ حينئذٍ معلومٌ من صدر الكلام وقوله تعالى {طوافون عَلَيْكُمْ} استئنافٌ ببيان العذر المرخَّص في ترك الاستئذان وهي المخالطةُ الضَّروريةُ وكثرةُ المداخلةِ وفيه دليلٌ على تعليل الأحكامِ وكذا في الفرق بين الأوقات الثَّلاثةِ وبين غيرِها بكونها عَورات {بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} أي بعضكم طائفٌ على بعضٍ طوافاً كثيراً أو بعضُكم يطوفُ على بعضٍ {كذلك} إشارةٌ إلى مصدرِ الفعلِ الذي بعده وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا من تفخيم شأنِ المشار إليه والإيذان ببعد منزلته وكونه من الوضوح بمنزلة المشار إليهِ حسّاً أي مثلَ ذلك التبيينِ {يُبيّنُ الله لكم الأيات} الدالة على الأحكامِ أي ينزلها بينةً واضحة الدلالاتِ عليها لا أنَّه تعالى يبينها بعد أن لم تكن كذلك والكافُ مقحمةٌ وقد مرَّ تفصيلُه في قوله تعالى وكذلك جعلناكم أُمَّةً وسطا ولكم متعلق يبين وتقديمُهُ على المفعولِ الصريحِ لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخَّر وقيل يبين عللَ الأحكامِ وليس بواضحٍ مع أنَّه مؤدٍ إلى تخصيص الآيات بما ذكر ههنا {والله عَلِيمٌ} مبالِغٌ في العلمِ بجميع المعلوماتِ فيعلم أحوالَكم {حَكِيمٌ} في جميع أفاعيلِه فيشرع لكُم ما فيه صلاحُ أمرِكم معاشاً ومعاداً

59

{وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم} لمَّا بيِّن فيما مرَّ آنفاً حكمَ الأطفالِ في أنَّه لا جناح عليهم في ترك الاستئذانِ فيما عدا الأوقاتِ الثلاثة عقب ببيان حالِهم بعد البلوغِ دفعاً لمَا عسى يُتوهم أنَّهم وإنْ كانُوا

سورة النور 60 61 أجانبَ ليسُوا كسائرِ الأجانبِ بسببِ اعتيادهم الدُّخولَ أي إذا بلغَ الأطفالُ الأحرارُ الأجانبُ {فَلْيَسْتَأْذِنُواْ} إذا أرادُوا الدخولَ عليكم وقوله تعالى {كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ} في حيِّز النَّصبِ على أنه نعتٌ لمصدرٍ مؤكدٍ للفعل السَّابقِ والموصول عبارةٌ عمَّن قيل لهم لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ الآية ووصفهم بكونِهم قبل هؤلاء باعتبار ذكرِهم قبل ذكرِهم لا باعتبار بلوغِهم قبل بلوغِهم كما قيل لما أنَّ المقصودَ بالتشبيه بيانُ كيفيَّةِ استئذان هؤلاءِ وزيادةُ إيضاحِه ولا يتسنَّى ذلك إلا بتشبيهِه باستئذانِ المعهودين عند السَّامعِ ولا ريبَ في أنَّ بلوغهم قبلَ بولغ هؤلاءِ مما لا يخطُر ببال أحدٍ وإنْ كان الأمرُ كذلك في الواقع وإنَّما المعهودُ المعروفُ ذكرهم قبلَ ذكرِهم أي فليستأذنُوا استئذاناً كائناً مثل استئذانِ المذكورينَ قبلهم بأنْ يستأذنُوا في جميع الأوقاتِ ويرجعُوا إنْ قيل لهم ارجعُوا حسبما فُصِّل فيما سلف {كذلك يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} الكلامُ فيه كالذي سبقَ والتَّكريرُ للتأكيد والمبلغة في الأمر بالاستئذانِ وإضافةُ الآياتِ إلى ضمير الجلالةِ لتشريفها

60

{والقواعد مِنَ النساء} أي العجائزُ اللاتي قعدنَ عن الحيض والحملِ {اللاتى لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً} أي لا يطمعنَ فيه لكبرهنَّ {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} أي الثيابَ الظَّاهرةَ كالجلباب ونحوِه والفاءُ فيه لأن اللاَّمَ في القواعدِ بمعنى اللاَّتِي أو للوصفِ بها {غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ} غير مظهراتٍ لزينةٍ ممَّا أمر بإخفائِه في قوله تعالى وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ وأصلُ التَّبرجِ التَّكلُّفُ في إظهارِ ما يَخْفى من قولِهم سفينةٌ بارجةٌ لا غطاءَ عليها والبَرَجُ سعةُ العين بحيث يرى بيضاها محيطاً بسوادِها كلِّه إلا أنَّه خُصَّ بكشفِ المرأةِ زينتَها ومحاسنَها للرِّجال {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ} بترك الوضعِ {خَيْرٌ لَّهُنَّ} من الوضعِ لبُعده من التُّهمَة {والله سَمِيعٌ} مبالغٌ في سمعِ جميعِ ما يُسمع فيسمعُ ما يَجري بينهنَّ وبين الرِّجالِ من المقاولةِ {عَلِيمٌ} فيعلم مقاصدهنَّ وفيه من التَّرهيبِ ما لا يخفى

61

{لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} كانت هؤلاء الطوائفُ يتحرَّجُون من المؤاكلة الأصحَّاءِ حِذاراً من استقذارِهم إيَّاهم وخَوفاً من تأذِّيهم بأفعالِهم وأوضاعِهم فإنَّ الأعمى رُبَّما سبقتَ يدُه إلى ما سبقت حِذاراً من استقذارِهم إيَّاهم وخَوفاً من تأذِّيهم بأفعالِهم وأوضاعِهم فإنَّ الأعمى رُبَّما سبقتَ يدُه إلى ما سبقتْ إليه عينُ أكيلِه وهو لا يشعرُ به والأعرج بتفسح في مجلسِه فيأخذُ أكثرَ من موضعِه فيضيقُ على جليسِه

والمريضُ لا يخلُو عن حالةٍ تُؤذي قرينَه وقيل كانُوا يدخلُون على الرَّجل لطلبِ العلمِ فإذا لم يكُن عنده ما يُطعمهم ذهبَ بهم إلى بيوتِ آبائِهم وأمَّهاتِهم أو إلى بعضِ مَن سمَّاهم الله عزَّ وجلَّ في الآيةِ الكريمةِ فكانُوا يتحرَّجون من ذلكَ ويقولُون ذهبَ بنا إلى بيتِ غيرِه ولعلَّ أهلَه كارهون لذلكَ وكذا كانُوا يتحرَّجُون من الأكلِ من أموالِ الذينَ كانُوا إذا خرجُوا إلى الغزوِ خلفوا هؤلاء في بيوتِهم ودفعُوا إليهم مفاتيحَها وأذنُوا لهم أنْ يأكلُوا مما فيها مخافةَ أنْ لا يكون إذنُهم عن طيبِ نفسٍ منهم وكانَ غيرُ هؤلاء أيضاً يتحرَّجون من الأكلِ في بيوتِ غيرِهم فقيل لهم ليسَ على الطوائفِ المعدودةِ {وَلاَ على أَنفُسِكُمْ} أي عليكم وعلى مَن يُماثلكم في الأحوالِ من المؤمنينَ حرجٌ {أَن تَأْكُلُواْ} أي تأكلُوا أنتُم وهم معكم وتعميمُ الخطابِ للطَّوائفِ المذكورةِ أيضاً يأباهُ ما قبله وما بعدَه فإنَّ الخطابَ فيهما لغير أولئكَ الطَّوائفِ حتماً {مِن بُيُوتِكُمْ} أي البيوتِ التي فيها أزواجُكم وعيالُكم فيدخل فيها بيوتُ الأولادِ لأنَّ بيتَهم كبيتِه لقوله صلى الله عليه وسلم أنت ومالك لأبين وقوله صلى الله عليه وسلم إنَّ أطيبَ مالِ الرَّجلِ من كسبِه وإنَّ ولدَه من كسبِه {أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} وقرئ بكسرِ الهمزةِ والميمِ وبكسرِ الأُولى وفتحِ الثَّانيةِ {أَوْ بُيُوتِ إخوانكم أَوْ بُيُوتِ أخواتكم أَوْ بُيُوتِ أعمامكم أَوْ بُيُوتِ عماتكم أَوْ بُيُوتِ أخوالكم أَوْ بُيُوتِ خالاتكم أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ} من البيوتِ التي تملكُون التَّصرفَ فيها بإذنِ أربابِها على الوجهِ الذي مرَّ بيانُه وقيل هي بيوتُ المماليكِ والمفاتحُ جمع مِفْتحٍ وجمعُ المفتاحِ مفاتيحُ وقرئ مُفتاحَه {أَوْ صَدِيقِكُمْ} أي أو بيوتِ صديقِكم وإنْ لم يكُن بينكم وبينهم قرابةٌ نَسَبيةٌ فإنَّهم أرضى بالتَّبسطِ وأسرُّ به من كثيرٍ من الأقرباءِ رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ الصَّديقَ أكبرُ من الوالدينِ إن الجهنميين لمَّا استغاثُوا لم يستغيثوا بالآباءِ والأمَّهاتِ بل قالُوا فما لنا من شافعين ولا صديقٍ حميم والصَّديقُ يقعُ على الواحدِ والجمعِ كالخَليط والقَطينِ وأضرابِهما وهذا فيما إذا عَلم رضَا صاحبِ البيتِ بصريحِ الإذنِ أو بقرينةٍ دالَّةٍ عليه ولذلكَ خصص هؤلاء بالذكر الاعتيادهم التَّبسطَ فيما بينُهم وقولُه تعالى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ حكمٍ آخرَ من جنسِ ما بُيِّن قبله حيثُ كان فريقٌ من المؤمنين كبني ليث ابن عمروٍ من كِنانةَ يتحرَّجون أنْ يأكلُوا طعامَهم مُنفردين وكانَ الرَّجلُ منهم لا يأكلُ ويمكثُ يومَه حتَّى يجدَ ضيفاً يأكلُ معه فإنْ لم يجدْ من يُؤاكله لم يأكلْ شيئاً ورُبَّما قعدَ الرَّجلُ والطَّعامُ بين يديهِ لا يتناولُه من الصَّباحِ إلى الرَّواحِ ورُبَّما كانتْ معه الإبلُ الحُفّلِ فلا يشربُ من ألبانِها حتَّى يجدَ مَن يُشاربه فإذا أمسى ولم يجد أحد أكلَ وقيل كان الغنيُّ منهم يدخلُ على الفقيرِ من ذوي قرابته وصدقته فيدعُوه إلى طعامِه فيقول إنِّي أتحرَّجُ أنْ آكلَ معك وأنا غنيٌّ وأنت فقيرٌ وقيل كان قومٌ من الأنصار لا يأكلون إذا نزلَ بهم ضيفٌ إلا مع ضيفِهم فرُخِّص لهم في أن يأكلُوا كيف شاءوا وقيل كانوا إذا اجتمعُوا ليأكلوا طعاماً عزلُوا للأعمى وأشباهِه طعاماً على عده فبيَّن الله تعالى أن ذلك ليس بواجبٍ وقوله تعالى جَمِيعاً حالٌ من فاعلِ تأكلوا وأشتاتاً عطفٌ عليهِ داخلٌ في حُكمه وهو جمعُ شَتَ على أنَّه صفةٌ كالحقِّ يقال أمر شتٌّ أي متفرِّقٌ أو على أنه في الأصلِ مصدرٌ وُصف به مبالغةً أي لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تأكلوا مجتمعين أو متفرِّقين {فَإِذَا دَخَلْتُمْ} شروع في بيان الآدابِ التي تجب رعايتها عند مباشرةِ ما رُخِّص فيه إثرَ بيان الرُّخصةِ فيه {بُيُوتًا} أي من البيوتِ

سورة النور 62 المذكورة {فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} أي على أهلِها الذين بمنزلة أنفسِكم لما بينكم وبينهُم من القرابة الدِّينيةِ والنَّسبيةِ الموجبة لذلك {تَحِيَّةً مّنْ عِندِ الله} أي ثابتةً بأمره مشروعةً من لدنه ويجوزُ أنْ يكون صلةً للتَّحية فإنَّها طلبُ الحياة التي هي من عنده تعالى وانتصابُها على المصدريَّةِ لأنَّها بمعنى التَّسليمِ {مباركة} مستتبعة لزيادة الخيرِ والثواب ودوامهما {طَيّبَةً} تطيبُ بها نفسُ المستمع وعن أنسٌ رضيَ الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال متى لقيتَ أحداً من أمَّتي فسلِّم عليه يطُلْ عمرُك وإذا دخلتَ بيتَك فسلِّم عليهم يكثُر خيرُ بيتك وصلِّ صلاةَ الضُّحى فإنَّها صلاةُ الأبرارِ الأوَّابينَ {كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} تكرير لتأكيد الأحكامِ المختتمةِ به وتفخيمها {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي ما في تضاعيفها من الشَّرائعِ والأحكامِ وتعملون بموجبها وتحوزُون بذلك سعادةَ الدَّارين وفي تعليل هذا التَّبيينِ بهذه الغاية القُصوى بعد تذييل الأولين بما يُوجبهما من الجزالة ما لا يخفى

62

{إنما المؤمنون الذين آمنُوا بالله ورسولِه} استئناف جئ به في أواخر الأحكام السَّابقةِ تقريراً لها وتأكيداً لوجوب مراعاتِها وتكميلاً لها ببيانِ بعضٍ آخرَ من جنسها وإنَّما ذكر الإيمان بالله ورسوله في حيِّز الصِّلةِ للموصولِ الواقع خبراً للمبتدأ مع تضمُّنِه له قطعا تقرير لما قبله وتمهيداً لما بعده وإيذانا بأنه حقيق بأن يجعل قريناً للإيمان بهما مُنتظماً في سلكه فقوله تعالى {وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ} الخ معطوفٌ على آمنُوا داخلٌ معه في حيزِ الصلة أي إنَّما الكاملون في الإيمانِ الذين آمنُوا بالله ورسولِه عن صميم قلوبهم وأطاعوهُما في جميع الأحكامِ التي من جملتها ما فُصِّل من قبل من الأحكامِ المتعلِّقةِ بعامة أحوالِهم المطَّردة في الوقوع وأحوالِهم الواقعة بحسب الاتِّفاقِ كما إذا كانوا معه صلى الله عليه وسلم على أمر مهمَ يجب اجتماعُهم في شأنه كالجمعةِ والأعيادِ والحروبِ وغيرِها من الأمور الدَّاعيةِ إلى اجتماع أولي الآراءِ والتَّجارِب ووصف الأمر بالجمع للمبالغة وقرئ أمرٍ جميعٍ {لَّمْ يَذْهَبُواْ} أي من المجمعِ مع كون ذلك الأمرِ مما لا يوجبُ حضورَهم لا محالةَ كما عند إقامة الجمعةِ ولقاء العدوِّ بل يسوِّغ التَّخلفَ عنه {حتى يستأذنوه} صلى الله عليه وسلم في الذهابِ لا على أنَّ نفسَ الاستئذانِ غايةٌ لعدم الذَّهاب بل الغاية هي الإذنُ المنوط برأيِه صلى الله وعليه وسلم والاقتصار على ذكرِه لأنَّه الذي يتمُّ من قبلهم وهو المعتبرُ في كمال الإيمانِ لا الإذنُ ولا الذهابُ المترتِّبُ عليه واعتبارُه في ذلك لِما أنَّه كالمصداقِ لصحَّتِه والمميِّز للمخلصِ فيه عن المنافق فإنَّ ديدنه التَّسللُ للفرار ولتعظيم ما في الذهابِ بغير إذنه صلى الله عليه وسلم من الجنايةِ وللتَّنبيهِ على ذلك عقب بقوله تعالى {إن الذين يستأذنونك أُوْلَئِكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ} فقَضَى بأنَّ المستأذنينَ هم المؤمنون بالله ورسولِه كما حكم في الأول بأنَّ الكاملينَ في الإيمان هم الجامعونَ بين الإيمانِ بهما وبين الاستئذانِ وفي أولئك من تفخيم شأنِ المستأذنينَ ما لا يخفى {فإذا استأذنوك} بيانٌ لما هو وظيفتُه صلى الله عليه وسلم في هذا البابِ إثرَ بيانِ ما هو وظيفةُ المؤمنينَ وأن الإذن عند الاستئذان

سورة النور 63 ليس بأمرٍ محتومٍ بل هو مفوَّض إلى رأيِه صلى الله عليه وسلم والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي بعد ما تحقَّق أنَّ الكاملين في الإيمان هم المستأذنُون فإذا استأذنوك {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} أي لبعضِ أمرِهم المهم وخَطبهم المُلِّمِ {فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} لما علمتَ في ذلك من حكمةٍ ومصلحةٍ {واستغفر لَهُمُ الله} فإنَّ الاستئذانَ وإنْ كان لعذرٍ قويَ لا يخلُو عن شائبةِ تقديمِ أمرِ الدُّنيا على أمرِ الآخرةِ {أَنَّ الله غَفُورٌ} مبالِغٌ في مغفرةِ فرطاتِ العبادِ {رَّحِيمٌ} مبالِغٌ في إفاضةِ آثار الرَّحمةِ عليهم والجملةُ تعليلٌ للمغفرة الموعودةِ في ضمن الأمرِ بالاستغفار لهم

63

{لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول بَيْنَكُمْ} استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله والالتفاتُ لإبراز مزيدِ الاعتناءِ بشأنِه أَيْ لاَ تجعلوا دعوته صلى الله عليه وسلم إيَّاكم في الاعتقاد والعملِ بها {كَدُعَاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً} أي لا تقيسُوا دعاءَه صلى الله عليه وسلم إيَّاكُم على دعاء بعضِكم بعضاً في حالٍ من الأحوالِ وأمرٍ من الأمور التي من جُملتها المساهلةُ فيه والرُّجوعُ عن مجلسه صلى الله عليه وسلم بغير استئذانٍ فإنَّ ذلكَ من المحرَّماتِ وقيل لا تجعلوا دعاءه صلى الله عليه وسلم ربَّه كدعاءِ صغيرِكم كبيرَكم يجيبه مرَّةً ويردُّه أُخرى فإنَّ دعاءَه مستجابٌ لا مردَّ له عند الله عزَّ وجلَّ وتقريرُ الجملةِ حينئذٍ لما قبلها أما من حيثُ إنَّ استجابتَه تعالى لدعائه صلى الله عليه وسلم ممَّا يُوجب امتثالَهم بأوامره صلى الله عليه سلم ومتابعتَهم له في الورود والصُّدورِ أكملَ إيجابٍ وأما من حيثُ إنها موجبةٌ للاحتراز عن التَّعرض لسخطه صلى الله عليه وسلم المؤدِّي إلى ما يُوجبُ هلاكهم من دعائه صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ وأمَّا ما قيل من أنَّ المعنى لا تجعلوا نداءه صلى الله عليه وسلم كنداءِ بعضِكم بعضاً باسمِه ورفع الصَّوتِ والنِّداءِ من رواء الحجرات ولكن بلقيه المعظَّم مثل يا رسولَ الله يا نبيَّ الله مع غايةِ التَّوقيرِ والتَّفخيمِ والتَّواضعِ وخفضِ الصَّوتِ فلا يناسب المقامَ فإن قوله تعالى {قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ} الخ وعيد لمخالفي أمره صلى الله عليه وسلم فيما ذكرَ من قبلُ فتوسيطُ ما ذكر بينهما مما لا وجهَ لَهُ والتسلل الخروج من البيت على التَّدريجِ والخفيةِ وقد للتَّحقيق كما أنَّ رُبَّ تجئ للتَّكثير حسبما بُيِّن في مطلع سورةِ الحجرِ أي يعلمُ الله الذين يخرجُون من الجماعة قليلاٌ قليلاً على خُفيةٍ {لِوَاذاً} أي مُلاوذةً بأن يستترَ بعضُهم ببعضٍ حتَّى يخرجَ أو بأن يلوذَ بمن يخرجُ بالإذنِ إراءةً أنَّه من أتباعه وقرئ بفتحِ اللاَّمِ وانتصابُه عَلى الحاليةِ من ضمير يتسللون أي مُلاوذين أو على أنَّه مصدرٌ مؤكدٌ لفعل مضمرٍ هو الحالُ في الحقيقة أي يلوذُون لِواذاً والفاء في قوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الذين يخالفون عَنْ أَمْرِهِ} لترتيب الحذرِ أو الأمرِ به على ما قبلها من علمه تعالى بأحوالهم فإنَّه ممَّا يُوجب الحذرَ البتةَ أي يخالفون أمرَه بترك مقتضاه ويذهبونَ سمتا خلاف سمته وعن إما لتضمُّنه معنى الإعراضِ أو حملِه على معنى يصدون عن أمره دُون المؤمنين من خالفَه عن الأمر إذا صدَّ عنه دونه وحذفُ المفعولِ لما أنَّ المقصودَ بيانُ المُخالِفِ والمُخالَفَ عنه والضَّميرُ لله تعالى لأنَّه الآمرُ حقيقةً أو للرَّسول صلى الله عليه وسلم لأنَّه المقصودُ بالذِّكر {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي محنةٌ في الدُّنيا أَوْ {يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي في الآخرةِ وكلمةُ أَوْ لمنعِ الخُلوّ دونَ الجمعِ وإعادة الفعل صريحا

سورة النور 64 للاعتناء بالتَّهديد والتَّحذيرِ واستُدل به على أنَّ الأمرَ للإيجاب فإنَّ ترتيب العذابينِ على مخالفته كما يُعرب عنه التَّحذيرُ عن إصابتهما يوجبُ وجوبَ الامتثالِ به حتماً

64

{أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السماوات والأرض} من الموجوداتِ بأسرِها خلفا وملكا وتصرفا إيجادا وإعداما بدء وإعادةً {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} أيُّها المُكلَّفون من الأحوالِ والأوضاعِ التي من جُملتها الموافقةُ والمخالفةُ والإخلاصُ والنِّفاقُ {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} عطفٌ على ما أنتُم عليهِ أي يعلمُ يومَ يُرجع المنافقون المخالفون للأمرِ إليه تعالى للجزاءِ والعقابِ وتعليقُ علمِه تعالى بيومِ رجوعِهم لا يرجعهم لزيادةِ تحقيق علمِه تعالى بذلك وغايةُ تقريرِه لما أنَّ العلمَ بوقت وقوع الشيء مستلزم للعمل بوقوعِه على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وفيه إشعارٌ بأنَّ علمَه تعالى لنفسِ رجوعِهم منَ الظهورِ بحيثُ لا يحتاجُ إلى البيانِ قطعاً ويجوزُ أن يكونَ الخطابُ أيضاً خاصّاً بالمنافقين على طريقه الالتفات وقرئ يَرجعون مبنيّاً للفاعلِ {فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} منَ الأعمال السَّيئةِ التي من جُملتها مخالفةُ الأمر فيترتب عليه ما يليقُ به من التَّوبيخ والجزاء وقد مرَّ وجهُ التَّعبيرِ عن الجزاء بالتنبئة في قولِه تعالى إِنَّمَا بغيكم على أَنفُسِكُمْ الآيةَ {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ من مثقالُ ذَرَّةٍ في الأرضِ ولا في السَّماءِ} عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سُورةَ النُّور أُعطِيَ من الأجر عشرَ حسناتٍ بعددِ كلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ فيما مَضَى وفيما بَقِي والله سبحانَهُ وتعالَى أعلم

سورة الفرقان 1 { سورة الفرقان مكية إلا الآيات 68 و 69 و 70 فمدنية وآياتها 77 {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم}

الفرقان

{تَبَارَكَ الذى نَزَّلَ الفرقان} البركةُ النَّماءُ والزِّيادةُ حسيَّةً كانتْ أو معنويَّةً وكثرةُ الخير ودامه أيضاً ونسبتُها إلى الله عزَّ وجلَّ على المَعْنى الأوَّل وهُو الأليقُ بالمقامِ باعتبارِ تعاليهِ عمَّا سواهُ في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ التي من جملتها تنزيل القُرآنِ الكريمِ المُعجزِ النَّاطقِ بعلُوِّ شأنِه تعالى وسموِّ صفاتِه وابتناءِ أفعالِه على أساس الحِكَمِ والمصالحِ وخلوِّها عن شائبة الخَلَلِ بالكُلِّيةِ وصيغةُ التَّفاعلُ للمبالغةِ فيما ذكر فإن مالا يُتصوَّرُ نسبتُه إليهِ سبحانَهُ حقيقةً من الصِّيغ كالتَّكبر ونحوِه لا تُنسب إليه تعالى إلا باعتبار غايتِها وعلى المعنى الثَّاني باعتبارِ كثرةِ ما يفيضُ منهُ على مخلوقاتِهِ لا سيَّما على الإنسان من فُنون الخيراتِ التي من جُملتها تنزيلُ القُرآن المنطويِ على جميع الخيراتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ والصِّيغةُ حينئذٍ يجوزُ أنْ تكون الإفادة نماءِ تلك الخيراتِ وتزايدها شيئاً فشيئاً وآناً فآناً بحسبِ حدوثِها أو حدوثِ متعلَّقاتِها ولاستقلالِها بالدِّلالة على غايةِ الكمالِ وتحقُّقِها بالفعلِ والإشعارِ بالتَّعجُّبِ المناسبِ للإنشاءِ والإنباءِ عن نهايةِ التَّعظيمِ لم يجُز استعمالُها في حقِّ غيرِه تعالى ولا استعمالُ غيرِها من الصِّيغِ في حقِّه تعالى والفُرقان مصدرُ فرقَ بينَ الشَّيئينِ أي فصَل بينهُما سمِّيَ به القرآنُ لغاية فرقِه بين الحقِّ والباطلِ بأحكامه أو بين المحق والمبطل بإعجازِه أو لكونه مفصولاً بعضِه من بعضٍ في نفسه أو في إنزاله {على عبده} محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وإيراده صلى الله عليه وسلم بذلك العُنوانِ لتشريفه والإيذانِ بكونه صلى الله عليه وسلم في أقصى مراتب العُبوديَّةِ والتنبيهِ على أنَّ الرَّسولَ لا يكونُ إلا عبداً للمرسِل ردًّا على النَّصارى {ليكون} غاية التنزيل أي نزَّله عليه ليكونَ هو صلى الله عليه وسلم أو الفرقانُ {للعالمين} من الثَّقلينِ {نَذِيراً} أيْ مُنذراً أو إنذاراً مبالغةً أو ليكون تنزيله إنذارا أو عدم التَّعرضِ للتَّبشير لانسياق الكلامِ على أحوالِ الكَفَرةِ وتقديمُ اللامِ على عاملِها لمراعاةِ الفواصل وإبراز تنزيل لفرقان في معرض الصِّلةِ التي حقَّها أن تكونَ معلومةَ الثبوتِ للموصولِ عند السَّامعِ مع إنكار الكَفَرةِ له لإجرائِه مُجرى المعلومِ المسلَّمِ تنبيهاً على كمال قُوَّةِ دلائلِه وكونِه بحيثُ لا يكادُ يجهلُه أحدٌ كقوله تعالَى لاَ رَيْبَ فِيهِ

2

{الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} أي له خاصَّة دُونَ غيرِه لا استقلالاً ولا اشتراكاً

سورة الفرقان 3 السطان القاهرِ والاستيلاءِ الباهرِ عليهما المستلزمانِ للقدرة التَّامَّةِ والتَّصرفِ الكليِّ فيهمَا وفيمَا فيهما إيجاداً وإعداماً وإحياءً وإماتة وأمراً ونهياً حسبما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكم والمَصَالحِ ومحلُّه الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها أو على أنَّه نعتٌ للموصولِ الأوَّلِ أو بيانٌ له أو بدلٌ منه وما بينهُمَا ليس بأجنبيَ لأنَّه من تمامِ صلتِه ومعلوميةُ مضمونِه للكَفرة مما لا ريبَ فيه لقولِه تعالى قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ونظائرِه أو مدحٌ له تعالى بالرفع أو بالنصر {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} كما يزعمُ الذين يقولون في حق المسيح ولملائكة ما يقولُون فسبحان الله عمَّا يصفون وهو معطوفٌ على ما قبله من الجملةِ الظَّرفيةِ ونظمه في سلك الصِّلةِ للإيذانِ بأنَّ مضمونَهُ من الوضوحِ والظهورِ بحيث لا يكاد يجهله جاهلٌ لا سيَّما بعد تقرير ما قبله {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الملك} أي مُلكِ السَّمواتِ والأرضِ وهو أيضاً عطفٌ على الصِّلةِ وإفرادُه بالذِّكر مع أنَّ ما ذُكر من اختصاص ملكِهما به تعالى مستلزمٌ له قطعاً للتَّصريح ببُطلان زعم الثَّنويَّةِ القائلينِ بتعددِ الآلهةِ والدَّرءِ في نحورِهم وتوسيطُ نفيِ اتِّخاذِ الولدِ بينهُما للتنبيهِ على استقلالِه وأصالتِه والاحترازِ عن توهُّم كونِه تتمة للأوَّلِ {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء} أي أحدثَ كلَّ موجودٍ من الموجوداتِ إحداثاً جارياً على سَنن التَّقديرِ حسبما اقتضتْهُ إرادتُه المبنيَّةُ على الحكم البالغةِ بأنْ خلقَ كُلاًّ منها من موادَّ مخصوصةٍ على صورٍ معينةٍ ورتَّب فيه قُوى وخواصَّ مختلفةَ الآثارِ والأحكامِ {فَقَدَّرَهُ} أي هيَّأه لما أرادَ به من الخصائص والأفعالِ اللاَّئقةِ به {تَقْدِيراً} بديعاً لا يُقادرُ قَدُرُه ولا يُبلغ كُنهُه كتهيئة الإنسانِ للفهمِ والإدراكِ والنَّظرِ والتَّدبرِ في أمور المعاشِ والمعادِ واستنباط الصائع المتنوع ومزاولةِ الأعمالِ المختلفةِ وهكذا أحوالُ سائرِ الأنواعِ وقيل أُريد بالخَلْقِ مطلقَ الإيجادِ والإحداثِ مجازاً من غيرِ ملاحظةِ معنى التَّقديرِ وإنْ لم يخلُ عنه في نفس الأمر فالمعنى أوجدَ كلَّ شيء فقدَّره في ذلك الإيجاد تقديراً وأما ما قيل من أنه أنَّه سَمَّى إحداثه تعالى خَلْقاً لأنَّه تعالى لا يُحدث شيئاً إلاَّ على وجه التَّقديرِ من غير تفاوت ففيه أنَّ ارتكابَ المجاز بحملِ الخلقِ على مُطلق الإحداثِ لتجريده عن معنى التَّقديرِ فاعتباره فيه بوجهٍ من الوجوه مخلٌّ بالمرام قطعاً وقيل المراد بالتَّقدير الثَّانِي هو التَّقديرُ للبقاء إلى الأجل المُسمَّى وأيا ما كان فالجملةُ جاريةٌ مجرى التَّعليلِ لما قبلها من الجُمل المنتظمةِ مثلَها في سلك الصِّلةِ فإنَّ خلقَهُ تعالى لجميع الأشياء على ذلك النَّمطِ البديعِ كما يقتضي استقلاله تعالى باتِّصافه بصفات الأُلوهيَّةِ يقتضي انتظامَ كلِّ ما سواه كائناً ما كان تحت ملكوته القاهرة بحيثُ لا يشِذُّ عنها شيءٌ من ذلك قطعاً وما كان كذلك كيف يُتوَّهم كونُه ولداً له سبحانه أو شريكاً في ملكه

3

{واتخذوا من دونه آلهة} بعدما بيَّن حقيقةَ الحقِّ في مطلع السورةِ الكريمة بذكر تنزله تعالى للفُرقان العظيم على رسوله صلى الله عليه وسلم ووصفِه تعالى بصفاتِ الكمال وتنزيهِه عمَّا لا يليقُ بشأنه الجليل عقَّب ذلك بحكايةِ أباطيلِ المُشركين في حقِّ المنزِّل سبحانَهُ والمنزَّلِ والمُنزَلِ عليه على التَّرتيب وإظهار بطلانها

سورة الفرقان 4 والإضمارُ من غير جريان ذكرِهم للثقة بدلالة ما قبله من نفيِ الشَّريكِ عليهم أي اتَّخذوا لأنفسِهم متجاوزين الله تعالى الذي ذكر بعض شئونه الجليلةِ من اختصاصِ مُلكِ السَّمواتِ والأرضِ به تعالى وانتفاءِ الولد والشَّريكِ عنه وخلقِ جميعِ الأشياء وتقديرِها أبدعَ تقديرٍ آلهة {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا} أي لا يقدرون على خلق شيءٍ من الأشياءِ أصلاً {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} كسائر المخلوقاتِ وقيل لا يقدِرون على أن يختلقُوا شيئاً وهم يُختلقون حيث تختلقهم عبدتُهم بالنَّحت والتَّصويرِ وقولُه تعالى {وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً} لبيان ما لم يدلَّ عليه ما قبله من مراتبِ عجزِهم وضعفِهم فإنَّ بعضَ المخلوقين العاجزينَ عن الخلقِ رُبَّما يملك دفع الضر وجلب النفع في الجملة كالحيوان وهؤلاءِ لا يقدرون على التصرف في ضُرَ ما ليدفعُوه عن أنفسِهم ولا في نفعٍ ما حتَّى يجلبوه إليهم فكيف يملكون شَيئاً منهما لغيرِهم وتقديمُ ذكرِ الضُّرِّ لأنَّ دفعَه مع كونِه أهمَّ في نفسه أوَّلُ مراتبِ النَّفعِ وأقدمُها والتَّنصيصُ على قولِه تعالى {وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةًَ وَلاَ نُشُوراً} أي لا يقدرون على التصرف في شيءٍ منها بإماتةِ الأحياءِ وإحياءِ المَوْتى وبعثِهم بعد بيانِ عجزِهم عمَّا هو أهونُ من هذه الأمور من دفع الضُّرِّ وجلب النَّفعِ للتَّصريحِ بعجزهم عن كلَّ واحدٍ ممَّا ذُكر على التَّفصيلِ والتَّنبيهِ على أنَّ الإله يجبُ أنْ يكونَ قادراً على جميعِ ذلك وفيه إيذانٌ بغاية جهلهم وسَخافةِ عقولِهم كأنَّهم غيرُ عارفين بانتفاء ما نُفي عن ألهتم من الأمور المذكورة مفتقرون إلى التَّصريح بذلك

4

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ} شروعٌ في حكاية أباطليهم المتعلِّقةِ بالمنزَّلِ والمنزَّل عليه معاً وإبطالِها والموصولُ إمَّا عبارةٌ عن غُلاتِهم في الكفر والطُّغيانِ وهم النَّضرُ بن الحرث وعبدُ اللَّهِ بنُ أميةَ ونوفلَ بنِ خُويلدٍ ومَن ضامّهم ورُوي عن الكَلْبيِّ ومُقاتلٍ أنَّ القائلَ هُو مضر بن الحرث والجمعُ لمشايعةِ الباقين له في ذلك وإمَّا عن كلِّهم ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم لذمِّهم بما في حيِّز الصِّلةِ والإيذانِ بأنَّ ما تفوَّهوا به كفرٌ عظيم في كلمةِ هذا حطٌّ لرتبة المشارِ إليه أي ما هذا إِلاَّ كذبٌ مصروفٌ عن وجهِه {افتراه} يريدون أنَّه اختلقَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ} أي على اختلاقه {قوم آخرون} يعنُون اليَّهودَ بأنْ يُلقوا إليه أخبار الأممِ الدَّارجةِ وهو يعبِّر عنها بعبارتِه وقيل هما جبرٌ ويسارٌ كانا يصنعانِ السيفَ بمكَّةَ ويقرآنِ التَّوراةَ والإنجيلَ وقيل هو عابسٌ وقد مرَّ تفصيلُه في سورة النَّحلِ {فقد جاؤوا ظُلْماً} منصوبٌ بجاءوا فإنَّ جاءوا أتى يستعملان في معنى فعل فيُعدَّيانِ تعديتَه أو بنزعِ الخافضِ أي بظلمٍ قاله الزَّجَّاجُ والتَّنوينُ للتَّفخيمِ أي جَاءوا بما قالُوا ظلماً هائلاً عظيما لا يُقادر قَدرُه حيث جعلُوا الحقَّ البحتَ الذي لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا منْ خلفِه إفكاً مُفترى من قبل البشرِ وهو من جهة نظمِه الرَّائقِ وطرزه الفائقِ بحيث لو اجتمعتِ الإنسُ والجنُّ على مباراتِه لعجزُوا عن الإتيان بمثل آيةٍ من آياتِه ومن جهة اشتمالِه على الحِكَمِ الخفيَّةِ والأحكامِ المستتبعةِ للسَّعاداتِ الدِّينيةِ والدُّنيويَّةِ والأمور الغيبيَّةِ بحيثُ لا يناله عقولُ البشرِ ولا يفي بفهمه القُوى والقُدر

سورة الفرقان 7 {وَزُوراً} أي كذباً كبيراً لا يُبلغ غايتُه حيث نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم ما هو برئ منه والفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنَّهما أمرانِ مُتغايرانِ حقيقة يقع أحدُهما عقيب الآخرِ أو يحصل بسببه بل على أنَّ الثَّانِي هو عينُ الأوَّلِ حقيقة وإنَّما الترتيبُ بحسَب التَّغايرِ الاعتباريِّ وقد لتحقيقِ ذلك المعنى فإنَّ ما جاءوه من الظَّلمِ والزُّورِ هو عينُ ما حُكي عنهم لكنه لما كان مُغايراً له في المفهوم وأظهرَ منه بُطلاناً رُتِّبَ عليه بالفاء ترتيبَ اللازم على الملزوم تَهويلاً لأمره

5

{وَقَالُواْ أساطير الأولين} بعد ما جعلوا الحقَّ الذي لا محيدَ عنه إفكاً مختلَقاً بإعانة البشرِ بيَّنوا على زعمهم الفاسدِ كيفيَّةَ الإعانة والأساطير جمع أساطر أو أُسطورةٍ كأُحدوثةٍ وهي ما سطرَه المتقدِّمون من الخُرافاتِ {اكتتبها} أي كتبها لنفسِه على الإسنادِ المجازيِّ أو استكتبها وقرئ على البناءِ للمفعولِ لأنَّه صلى الله عليه وسلم أُميٌّ وأصله اكتتبها له كاتبٌ فحذف اللامُ وأُفضيَ الفعلُ إلى الضَّميرِ فصار اكتتبَها إيَّاه كاتبٌ ثم حُذف الفاعلُ لعدم تعلقِ الغرضِ العلميِّ بخصوصِه وبُني الفعلُ للضَّميرِ المنفصلِ فاستترَ فيه {فَهِىَ تملى عَلَيْهِ} أي تُلقي عليه تلك الأساطيرُ بعد اكتتابِها ليحفظَها من أفواهِ مَن يُمليها عليه من ذلك المكتتب لكونِه أميّاً لا يقدرُ على أنْ يتلقَّاها منه بالقراءةِ أو تملي على الكاتب على أنَّ معنى اكتتبها أرادَ اكتتابَها أو استكتابَها ورجعُ الضَّميرِ المجرورِ إليه صلى الله عليه وسلم لإسنادِ الكتابةِ في ضمن الاكتتاب إليه صلى الله عليه وسلم {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي دائماً أو خُفية قبل انتشارِ الناس وحين يأوون إلى مساكنِهم انظُر إلى هذهِ الرُّتبةِ من الجراءةِ العظيمةِ قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون

6

{قُلْ} لهم ردًّا عليهم وتحقيقاً للحقِّ {أَنزَلَهُ الذى يعلم السر في السماوات والأرض} وصفه تعالى بإحاطةِ علمِه بجميع المعلومات الجليَّةِ والخفيَّةِ للإيذان بانطواءِ ما أنزله على أسرارٍ مطويَّةٍ عن عقول البشر مع ما فيه من التَّعريضِ بمجازاتِهم بجناياتهم المحكيَّةِ التي هي من جُملة معلوماتِه تعالى أي ليس ذلك ممَّا يُفترى ويُفتعل بإعانة قومٍ وكتابة آخرين من الأحاديثِ المُلفَّقة وأساطيرِ الأوَّلينَ بل هو أمر سماويٌّ أنزله الله الذي لاَ يعزُب عنْ علمِه شيء من الأشياءِ وأودع فيه فنونَ الحكمِ والأسرارِ على وجهٍ بديعٍ لا يحومُ حوله الأفهامُ حيث أعجزَكم قاطبةً بفصاحتِه وبلاغتِه وأخبركم بمغيَّباتٍ مستقبلةٍ وأمورٍ مكنونةٍ لا يُهتدى إليها ولا يُوقف عليها إلا بتوفيق العليم الخبيرِ وقد جعلتمُوه إفكاً مُفترى من قبيل الأساطير واستوجبتُم بذلك أنُ يُصَبَّ عليكم سوطُ العذابِ صبّاً فقولُه تعالى {إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} تعليلٌ ما هو المشاهد من تأخير العقوبة أي أنَّه تعالى أزلاً وأبداً مستمرٌّ على المغفرةِ والرَّحمةِ المستتبعين للتَّأخيرِ فلذلك لا يُعجِّلُ بعقوبتِكم على ما تقولن في حقِّه مع كمال استيجابِه إيَّاها وغاية قُدرتِه تعالى عليها

7

{وَقَالُواْ مَا لهذا الرسول} شروع في حكاية

سورة الفرقان 8 9 جنايتهم المتعلِّقة بخصوصيَّةِ المنزَّلِ عليهِ وما استفهاميَّةٌ بمعنى إنكار الوقوع ونفيه مرفوعةٌ على الابتداءِ خبرُها مَا بعدها من الجارِّ والمجرورِ وفي هذا تصغيرٌ لشأنه صلى الله عليه وسلم وتسميته صلى الله عليه وسلم رسولاً بطريقِ الاستهزاءِ به صلى الله عليه وسلم كما قال فرعونُ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إليكم وقولُه تعالى {يَأْكُلُ الطعام} حالٌ من الرَّسولِ والعاملُ فيها ما عملَ في الجارِّ من مَعْنى الاستقرارِ أيْ أيُّ شيءٍ وأيُّ سببٍ حصلَ لهذا الذي يدَّعي الرِّسالةَ حالَ كونِه يأكلُ الطَّعامَ كما نأكلُ {وَيَمْشِى فِى الأسواق} لابتغاءِ الأرزاقِ كما نفعلُه على توجهيه الإنكارِ والنَّفي إلى السببِ فقط مع تحقُّقِ المُسبَّبِ الذي هو مضمون الجملة الحاليَّةِ كما في قوله تعالى فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وقوله مالكم لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً فكما أنَّ كلاً من عدمِ الإيمانِ وعدمِ الرجاءِ أمرٌ محققٌ قد أنكروا ستبعد تحقُّقه لانتفاءِ سببِه بل لوجود سبب نقيضه كذلك كل من الأكل والمشي أمرٌ محقَّقٌ قد استبعد تحقُّقه لانتفاءِ سببِه بل لوجود سبب عدمِه خَلاَ أنَّ استبعادَ المسبَّبِ وإنكارَ السَّببِ ونفيَه في عدمِ الإيمانِ وعدمِ الرجاءِ بطريق التَّحقيقِ وفي الأكل والمشيِ بطريق التَّهكُّمِ والاستهزاء فإنَّهم لا يستبعدونهما ولا يُنكرون سببَهما حقيقةً بل هم مُعترفون بوجودِهما وتحقُّقِ سببِهما وإنَّما الذي يستبعدونَهُ الرِّسالةَ المُنافيةَ لهما على زعمِهم يعنون أنَّه إنْ صحَّ ما يدَّعيه فما بالُه لم يخالفْ حالُه حالَنا وهل هو إلا لعمهِهم ورَكَاكةِ عقولِهم وقصور أنظارهم على المحسُوسات فإنَّ تميُّزَ الرُّسلِ عمَّن عداهم ليس بأمورٍ جُسمانيَّةٍ وإنما هو بأمورٍ نفسانيَّةٍ كما أُشير إليه بقولِه تعالى قُلْ إنما أنا بشرٌ مثلُكم يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ {لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} أي على صورتِه وهيئتِه {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} تنزُّلٌ منهم من اقتراحِ أنْ يكونَ مَلَكاً مستغنيا عن الأكل والشرب إلى اقتراح أنْ يكونَ معه مَلكٌ يصدِّقه ويكون رِدْءاً له في الإنذار وهو يُعبر عنه ويفسِّر ما يقوله للعامَّةِ وقوله تعالى

8

{أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ} تنزُّلٌ من تلك المرتبةِ إلى اقتراح أنْ يُلقى إليه من السَّماءِ كنزٌ يستظهرُ به ولا يحتاجُ إلى طلب المعاشِ ويكون دليلاً على صدقه وقولُه تعالى {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} تنزُّلٌ من ذلك إلى اقتراحِ ما هو أيسرُ منه وأقرب من الوقوع وقرئ نأكلُ بنون الحكايةِ وفيه مزيدُ مكابرةٍ وفَرط تَحكُّمٍ {وَقَالَ الظالمون} هم القائلونَ الأوَّلونَ وإنما وضع المظهرِ وضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم وتجاوزِ الحدِّ فيما قالوه ملكونه إضلالاً خارجاً عن حدِّ الضَّلالِ مع ما فيه من نسبته صلى الله عليه وسلم إلى المَسْحُوريَّةِ أي قالُوا للمؤمنينَ {إِن تَتَّبِعُونَ} أي ما تَتَّبِعُونَ {إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} قد سُحرَ فغُلبَ على عقلِه وقيل ذَا سَحْرٍ وهي الرِّئةُ أي بَشراً لا مَلكاً على أنَّ الوصفَ لزيادة التَّقريرِ والأوَّلُ هو الأنسبُ بحالِهم

9

{انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} استعظامٌ للأباطيل التي اجترءوا على التفوه بها وتجيب منها أي انظُر كيف قالوا في حقِّك تلكَ الأقاويلَ العجيبةَ الخارجة عن العقول الجاريةَ لغرابتها مجرى الأمثالِ واخترعُوا لك تلك الصِّفاتِ والأحوالِ الشَّاذةَ البعيدة من الوقوعِ {فُضّلُواْ} أي عن طريقِ المُحاجّةِ حيث لم يأتُوا بشيءٍ يُمكن صدوره

سورة الفرقان 10 11 عمَّن له أدنى عقلٍ وتمييز فبقوا متحيرين {فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً} إلى القدح في نبوتك بأنْ يجدوا قولاً يستقرُّون عليه وإنْ كان باطلاً في نفسِه أو فضلُّوا عن الحقِّ ضلالاً مبيناً فلا يحدون طريقاً موصِّلاً إليه فإنَّ مَن اعتاد استعمال أمثال هذه الأباطيلِ لا يكادُ يهتدِي إلى استعمال المقدِّماتِ الحقَّةِ

10

{تَبَارَكَ الذى} أي تكاثرَ وتزايد خيرالذي {إِن شَاء جَعَلَ لَكَ} في الدُّنيا عاجلاً شيئاً {خَيْرًا} لك {مّن ذلك} الذي اقترحُوه مِن أنْ يكونَ لك جنَّةٌ تأكل منها بأن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرةِ وقولُه تعالَى {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} بدلٌ من خَيراً ومحقق لخيرته مَّما قالُوا لأنَّ ذلك كان مُطلقاً عن قيدِ التَّعددِ وجريان الأنهارِ {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} عطفٌ على محلِّ الجزاء الذي هو جعل وقرئ بالرَّفعِ عطفاً على نفسِه لأنَّ الشرَّطَ إذا كان ماضياً جاز في جزائِه الرَّفعُ والجزمُ كما في قولِ القائل ... وَإِنْ أَتَاهُ خليل يوم مسئلة ... يقُولُ لا غَائبٌ مالِي ولا حرِمُ ... ويجوزُ أنْ يكونَ استئنافاً بوعدِ ما يكون له في الآخرةِ وقرئ بالنصب على أنه جواب بالواوِ وتعليقُ ذلك بمشيئتِه تعالى للإيذانِ بأنَّ عدمَ جعلها بمشيئته المبنيةِ على الحِكَم والمصالحِ وعدمُ التعَّرضِ لجواب الاقتراحينِ الأوَّلينِ للتنبيه على خروجِهما عن دائرة العقل واستغنائهما عن الجواب لظهورِ بُطلانِهما ومنافاتِهما للحكمة التَّشريعيَّةِ وإنَّما الذي له وجهٌ في الجملة هو الاقتراحُ الأخيرُ فإنَّه غير منافٍ للحكمة بالكلِّيةِ فإنَّ بعضَ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام قد أو توافي الدُّنيا مع النُّبوةِ مُلكاً عظيماً

11

{بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة} إضرابٌ عن توبيخهم بحكاية جناياتهم السَّابقةِ وانتقالٌ منه إلى توبيخهم بحكاية جناياتهم الأخرى للتَّخلُّص إلى بيان ما لهم في الآخرة بسببها من فُنون العذابِ بقوله تعالى {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً} الخ أي أعتدنا لهم ناراً عظيمةً شديدةَ الاشتعالِ شأنُها كيتَ وكيتَ بسبب تكذيبهم بها على ما يُشعر به وُضع الموصولُ موضعَ ضميرِهم أو لكلِّ مَن كذَّب بها كائناً مَنْ كان وهم داهلون في زُمرتهم دُخولاً أوليَّا ووضعُ السَّاعة موضعَ ضميرهِا للمبالغةِ في التَّشنيع ومدارُ إعناد السَّعيرِ لهم وإنْ لم يكن مجرَّد تكذيبهم بالسَّاعةِ بل مع تكذيبهم بسائر ما جاء به الشريعة الشَّريفة لكن السَّاعةَ لمَّا كانتْ هي العلَّةَ القريبة لدخولِهم السَّعيرَ أُشير إلى سببيَّةِ تكذيبها لدخولِها وقيل هو عطفٌ على وقالُوا ما لهاذ الخ على معنى بل أتوا بأعجبَ من ذلك حيثُ كذَّبوا بالسَّاعةِ وأنكروها والحالُ أنَّا قد أعتدنا لكلِّ مَن كذَّب بها سعيراً فإنَّ جراءتَهم على التَّكذيب بها وعدمَ خوفِهم مَّما أُعدَّ لمن كذَّب بها من أنواعِ العذابِ أعجبُ من القولِ السَّابقِ وقيل هو مُتَّصل بما قبلَه من الجوابِ المبنيِّ على التحقيق المنبئ عن الوعدِ بالجنَّاتِ في الآخرةِ مسوق لبيان أنَّ ذلك لا يجُدي نفعاً ولا يحلى بطائل على طريقة قول من قال ... عُوجُوا لنُعمٍ فَحَيُّوا دِمنَةَ الدار ... ماذا تحيون من نُؤيٍ وأحجارِ ... والمعنى أنَّهم لا يُؤمنون بالسَّاعةِ فكيفَ يقتنعُون بهذا الجوابِ وكيف يصدقون بتعجيل

سورة الفرقان 12 13 14 مثل ما وعدك في الآخرة وقيل المنى بل كذَّبوا بها فقصُرت أنظارُهم على الحظوظِ الدُّنيوَّيةِ وظنُّوا أنَّ الكرامة ليستْ إلا بالمالِ وجعلُوا فقرك ذريعةً إلى تكذيبك وقولُه تعالى

12

{إِذَا رَأَتْهُمْ} الخ صفة للسَّعيرِ أي إذا كانت منهم بمرأى الناظرِ في البُعد كقوله صلى الله عليه وسلم لا تَتَراءَى نارَاهُما أيْ لا تتقاربانِ بحيثُ تكونُ إحداهما بمرأى مِن الأُخرى على المجاز كأنَّ بعضَها يرى البعضَ ونسبةُ الرُّؤيةِ إليها لا إليهم للإيذان بأنَّ التغيظ والزفير منها لهجيان غضبِها عليهم عند رُؤيتها إيَّاهم حقيقةً أو تمثيلاً ومِنْ في قولِه تعالَى {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} إشعارٌ بأن بعد ما بينها وبينهم من المسافة حين رأتهُم خارجٌ عن حدود البُعدِ المعتاد في المسافات المعهودةِ وفيه مزيدُ تهويلٍ لأمرها قال الكَلْبيُّ والسُّدِّيُّ من مسيرةِ عامٍ وقيل من مسيرة مائةِ سنةٍ {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} أي صوتُ تغيظٍ على تشبيه صوتِ غليانها بصوتِ المُغتاظِ وزفيرِه وهو صوتٌ يُسمع من جوفِه هذا وإن الحياةَ لمَّا لم تكُن مشروطةً عندنا بالبنية أمكن أنْ يخلُق الله تعالى فيها حياةً فترى وتتغيظُ وتزفرُ وقيل إنَّ ذلك لزبانيتها فنُسب إليها على حذفِ المضافِ

13

{وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً} نُصبَ على الظَّرفَّيةِ ومنها حالٌ منه لأنَّه في الأصلِ صفةٌ له {ضَيّقاً} صفةٌ لمكاناً مفيدةٌ لزيادة شدَّةٍ فإنَّ الكَرْبَ مع الضَّيقِ كما أنَّ الرَّوحَ مع السَّعةِ وهو السِّرُّ في وصف الجنَّةِ بأنَّ عرضها السموات والأرض وعن ابن عباسٍ وابنِ عمرَ رضي الله تعالى عنهم تضيقُ جهنَّمُ عليهم كما يضيقُ الزُّجُّ على الرمح وسئل النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم عن ذلك فقال والذي نفسي بيدهِ إنَّهم ليُستكرهون في النَّارِ كما يُستكرِه الوَتِدُ في الحائطِ قال الكلبيُّ الأسفلُون يرفعهم اللَّهبُ والأعْلوَن يحطُّهم الدَّاخلونَ فيزدحمُون فيها وقرئ ضَيْقاً بسكون الياء {مُقْرِنِينَ} حالٌ من مفعول أُلقوا أي إذا أُلقوا منها مكاناً ضَيِّقاً حالَ كونِهم مقرَّنين قد قُرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامَع وقيل مقرَّنين مع الشَّياطين في السَّلاسلِ كلُّ كافرٍ مع شيطانٍ وفي أرجلهم الأصفادُ {دَعَوْاْ هُنَالِكَ} أي في ذلك المكانِ الهائلِ والحالةِ الفظيعةِ {ثُبُوراً} أي يتمنَّون هلاكاً وينادُونه يا ثبُوراه تعالَ فهذا حِينُك وأوانُك

14

{لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا} على تقدير قول إمَّا منصوبٌ على أنَّه حالٌ من فاعلِ دَعَوا أي دَعَوه مقُولاً لهم ذلك حقيقة بأنْ يخاطبهم الملائكةُ به لتنبيههم على خلودِ عذابِهم وأنَّهم لا يُجابون إلى ما يَدْعُونه ولا ينالون ما يتمنَّونه من الهلاكِ المنجِّي أو تمثيلاً وتصويراً لحالهم بحال مَن يُقال له ذلك من غير أن يكون هناك قولٌ ولا خطابٌ أي دَعَوه حالَ كونِهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك وإمَّا مُستأنفٌ وقع جوابا عن سؤال ينسحبُ عليه الكلامُ كأنَّه قيلَ فماذَا يكونُ عند دُعائِهم المذكورِ فقيل يُقال لهم ذلك إقناطاً مَّما علَّقوا به أطماعَهم من الهلاك وتنبيهاً على أنَّ عذابهم الملجئ لهم إلى استدعاء الهلاكِ بالمَّرةِ أبديٌّ لا خلاصَ لهم منه أي

سورة الفرقان 15 16 لا تقتصِرُوا على دُعاء ثبورٍ واحدٍ (وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً) أي بحسب كثرة الدُّعاء المتعلِّق به لا بحسب كثرتِه في نفسِه فإنَّ ما يدعونَه ثبورٌ واحدٌ في حدِّ ذاته لكنه كلَّما تعلَّق به دعاءٌ من تلك الأدعية الكثيرةِ صارَ كأنَّه ثبورٌ مغايرٌ لما تعلَّق به دعاءٌ آخرُ منها وتحقيقُه لا تدعُوه دُعاءً واحداً وادعُوه أدعيةً كثيرةً فإنَّ ما أنتُم فيه من العذابِ لغايةِ شدَّتِه وطولِ مُدَّتِه مستوجبٌ لتكرير الدُّعاءِ في كلِّ آنٍ وهذا أدلُّ على فظاعة العذابِ وهو له من جعل تعدد الدُّعاءِ وتجدده لتعدد العذاب بتعدد أنواعه وألوانِه أو لتعدُّدِه بتجدُّدِ الجلودِ كما لا يَخْفى وأما ما قيل من أنَّ المعنى إنَّكم وقعتُم فيما ليس ثبورُكم فيه واحداً إنَّما هو ثبورٌ كثيرٌ إمَّا لأنَّ العذابَ أنواعٌ وألوانٌ كلُّ نوعٍ منها ثبورٌ لشدَّتِه وفظاعتِه أو لأنَّهم كلمَّا نضجتْ جلودُهم بُدِّلوا غيرَها فلا غاية لهلاكِهم فلا يلائم المقامَ كيف لا وهُم إنَّما يدعُون هَلاَكاً ينهي عذابهم وينجيهم منه فلابد أنْ يكونَ الجوابُ إقناطاً لهم من ذلك ببيانِ استحالتِه ودوام ما يوجبُ استدعاءَه من العذاب الشَّديدِ وتقييدُ النَّهي والأمر باليوم لمزيد التَّهويل والتَّفظيعِ والتَّنبيهِ على أنَّه ليس كسائر الأيَّامِ المعهُودةِ

15

(قُلْ) تقريعاً لهم وتهكُّماً بهم وتحسيراً على ما فاتَهم (أذلك) إشارةٌ إلى ما ذُكر من السَّعير باعتبار اتَّصافها بما فُصِّل من الأحوال الهائلة وما فيه من معنى البعد للإشعار بكونها في الغايةِ القاصيةِ من الهول والفظاعة أي قُل لهم أذلك الذي ذُكر من السَّعير التي أعتدت لمن كذَّب بالسَّاعة وشأنُها كيتَ وكيتَ وشأنُ أهلِها ذيتَ وذيتَ (خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التى وُعِدَ المتقون) أي وُعدها المتَّقون وإضافةُ الجَّنةِ إلى الخُلد للمدحِ وقيل للتَّمييز عن جنَّاتِ الدُّنيا والمرادُ بالمتَّقين المتَّصفون بمطلق التقَّوى لا بالمرتبة الثَّانيةِ ولا الثَّالثةِ منها فَقَطْ (كَانَتْ) تلك الجَّنةُ (لَهُمْ) في علم الله تعالى أو في اللوحِ المحفوظِ أو لأنَّ ما وعده الله تعالى فهو كائنٌ لا محالةَ فحُكي تحقُّقه ووقوعُه (جَزَاء) على أعمالِهم حسبما مرَّ من الوعد الكريم (وَمَصِيراً) ينقلبون إليه

16

(لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ) أي ما يشاءونه من فنُون الملاذِّ والمُشتَهيات وأنواع النَّعيمِ كما في قولِه تعالى وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ ولعلَّ كلَّ فريقٍ منهم يقتنعُ بما أُتيح له من درجات النَّعيم ولا تمتدُّ أعناقُ هممِهم إلى ما فوق ذلك من المراتبِ العاليةِ فلا يلزم الحرمانُ ولا تساوي مراتبِ أهلِ الجنانِ (خالدين) حالٌ من الضَّمير المستكن في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ وقيل من فاعل يشاءون (كَانَ) أي ما يشاءونه وقيل الوعدُ المدلولِ عليه بقوله تعالى وُعد المتقَّون (على رَبّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً) أي موعُوداً حقيقيَّا بأنْ يُسألَ ويُطلبَ لكونِه مَّما يتنافسُ فيه المُتنافسون أو مسئولا يسألُه النَّاسُ في دُعائهم بقولِهم ربنا وآتنا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ أو الملائكة بقولهم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم وما في على من معنى الوجوبِ لامتناع الخُلفِ في وعدِه تعالى ولا يلزم منه الإلجاءُ إلى الإنجازِ فإنَّ تعلَّق الإرادة بالموعودِ متقدِّمٌ على الوعدِ الموجبِ للإنجاز وفي التَّعرضِ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه والإشعارِ بأنه صلى الله عليه وسلم هو الفائزُ آثر ذي أثيرٍ بمغانم الوعدِ الكريمِ مَا لاَ يَخْفى

سورة الفرقان

17

17 - 1 {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) نُصب على أنَّه مفعول لمضمرٍ مقدَّمٍ معطوف على قوله تعالى قل أذلك الخ أي واذكر لهم بعد التَّقريعِ والتَّحسيرِ يوم يحشرهم الله عزَّ وجلَّ وتعليقُ التَّذكيرِ باليوم مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادثِ الهائلةِ قد مرَّ وجُهه غيرَ مرَّةٍ أو على أنَّه ظرفٌ لمضمرٍ مؤخَّرٍ قد حُذف للتَّنبيةِ على كمال هو له وفظاعةِ ما فيه والإيذانِ بقُصورِ العبارةِ عن بيانِه أي يومَ يحشرُهم يكون من الأحوالُ والأهوالُ ما لا يفي ببيانِه المقالُ وقرئ بنونِ العظمةِ بطريقِ الالتفاتِ من الغَيبةِ إلى التَّكلمِ وبكسرِ الشِّينِ أيضاً (وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله) أُريد به ما يعمُّ العقلاء وغيرَهم إمَّا لأنَّ كلمةَ ما موضوعةٌ للكلِّ كما ينبئ عنه أنك إذا رأيت شَبَحاً من بعيدٍ تقولُ ما هو أو لأنَّه أُريد به الوصفُ لا الذَّاتُ كأنَّه قيل ومعبوديهم أو لتغليب الأصنامِ على غيرِها تنبيهاً على أنَّهم مثلُها في السُّقوطِ عن رتبة المعبودية أو اعتبارا لغلبة عبدتِها أو أُريد به الملائكةُ والمسيحُ وعزيرٌ بقرينةِ السُّؤالِ والجوابِ أو الأصنامُ ينطقها الله تعالى أو تكلُّم بلسانِ الحالِ كما قيل في شهادةِ الأيدِي والأرجلِ (فَيَقُولُ) أي الله عزل وجلَّ للمعبودينَ إثرَ حشرِ الكلِّ تقريعاً للعَبَدةِ وتبكيتاً لهم وقرئ بالنُّون كما عُطف عليه وقرئ هذا بالياء والأولُ بالنُّون على طريق الالتفاتِ إلى الغيبة (أأنتم أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاَء) بأنْ دعوتُموهم إلى عبادتِكم كما في قوله تعالى أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله (أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل) أي عن السَّبيلِ بأنفسِهم لإخلالِهم بالنَّظر الصَّحيحِ وإعراضهم عن المرشدِ فحذف الجارَّ وأوصل الفعلُ إلى المفعول كقوله تعالى وهو يهدِي السَّبيلَ والأصلُ إلى السَّبيلِ أو السبيل وتقديم الضَّميرينِ على الفعلينِ لأنَّ المقصودَ بالسُّؤالِ هو المُتصدَّي للفعل لا نفسُه

18

(قالوا) استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالوا في الجواب فقيل قالوا (سبحانك) تعجُّباً ممَّا قيل لهم لأنَّهم إمَّا ملائكة معصومون وجمادات لا قُدرةَ لها على شيءٍ أو إشعاراً بأنَّهم الموسُومون بتسبيحِه تعالى وتوحيدِه فكيف يتأتَّى منهم إضلالُ عبادِه أو تنزيهاً له تعالى عن الأندادِ (مَا كان ينبغي لها) أي ما صح وما استقام لنا (أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ) أي متجاوزينَ إيَّاك (مِنْ أَوْلِيَاء) نعبدُهم لِما بنا من الحالةِ المُنافيةِ له فأنَّى يُتصوَّرُ أن نحمل غيرنا على أنْ يتَّخذَ ولياً غيرَك فضلاً أنْ يتخذنا وليا أو أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ أولياءَ أي أتباعاً فإنَّ الولي كما يُطلق على المتبوعِ يُطلق على التَّابعِ كالمَوْلى يُطلق على الأَعلى والأسفلِ ومنه أولياءُ الشَّيطانِ أي أتباعه وقرئ على البناءِ للمفعولِ من المتعدي إلى المفعولين كما في قوله تعالى واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً ومفعوله الثَّاني من أولياء على أنَّ مِن للتبعيضِ أي أنْ نتخذَ بعضَ أولياءٍ وهي على الأول مزيدةٌ وتنكيرُ أولياء من حيثُ إنَّهم أولياء مخصوصون

سورة الفرقان 19 وهم الجنُّ والأصنام (ولكن متعتهم وآباءهم) استدارك مسوقٌ لبيان أنَّهم هم الضَّالُّون بعد بيان تنزههم عن إضلالهم وقد نُعي عليهم سوءُ صنيعِهم حيث جعلُوا أسبابَ الهداية أسباباً للضَّلالة أي ما أضللناهم ولكنَّك متعتهم وآباءَهم بأنواع النِّعم ليعرفوا حقَّها ويشكروها فاستغرقُوا في الشَّهواتِ وانهمكُوا فيها (حتى نَسُواْ الذكر) أي غفَلوا عن ذكرِك أو عن التَّذكرِ في آلائِك والتَّدبرِ في آياتِك فجعلُوا أسبابَ الهداية بسوء اختيارِهم ذريعةً إلى الغَوايةِ (وَكَانُواْ) أي في قضائِك المبنيِّ على علمِك الأزليِّ المتعلق بما سيصدرُ عنهم فيما لا يزال باختيارِهم من الأعمالِ السَّيئةِ (قَوْماً بُوراً) أي هالكينَ على أنَّ بُوراً مصدرٌ وُصف به الفاعلُ مبالغةً ولذلك يستوي فيه الواحدُ والجمعُ أو جمعُ بائرٍ كعُوذٍ في جمعِ عائذٍ والجملةُ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله وقوله تعالى

19

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) حكايةٌ لاحتجاجِه تعالى على العَبَدة بطريق تلوين الخطابِ وصرفِه عن المعبودينَ عند تمام جوابِهم وتوجيهه إلى العَبَدة مبالغةٌ في تقريعهم وتبكيتِهم على تقديرِ قولٍ مرتَّبٍ على الجواب أي فقال الله تعالى عند ذلك فقد كذَّبوكم المعبودون أيُّها الكفرةُ (بِمَا تَقُولُونَ) أي في قولِكم إنَّهم آلهةٌ وقيل في قولكم هؤلاء أضلُّونا ويأباه أنَّ تكذيبَهم في هذا القول لا تعلق له بما بعَدُه من عدم استطاعتِهم للصَّرف والنصر أصلاً وإنما الذي يستتبُعه تكذيبُهم في زعمهم أنَّهم آلهتهم وناصروهم وأيَّا ما كان فالباءُ بمعنى في أو هي صلةٌ للتكذيب على أنَّ الجارَّ والمجرورَ بدل اشتمال من الضمير المنصوب وقرئ بالياء أي كَذبوكم بقولهم سبحانك الآيةَ (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ) أي ما تملكُون (صَرْفاً) أي دفعاً للعذاب عنكم بوجه من الوجه كما يعرف عنه التَّنكيرُ أي لا بالذَّاتِ ولا بالواسطة وقيل حيلةً من قولهم إنَّه ليتصرف في أموره أي يحتال فهيا وقيل توبة (وَلاَ نَصْراً) أي فرداً من أفراد النَّصر لا من جهةِ أنفسِكم ولا من جهةِ غيرِكم والفاءُ لترتيبِ عدمِ الاستطاعةِ على ما قبلها من التَّكذيبِ لكن لا على منى أنه لولاء لوُجدتْ الاستطاعةُ حقيقةً بل في زعمِهم حيثُ كانُوا يزعُمون أنَّهم يدفعون عنهم العذابَ وينصرونهم وفيه ضربُ تهكّمٍ بهم وقرئ يستطيعون على صيغة الغَيبةِ أي ما يستطيعُ آلهتُكم أنْ يصرفوا عنكم العذابَ أو يحتالُوا لكم ولا ينصروكم وترتب ما بعد الفاء عَلى ما قبلَها كَما مرَّ بيانُه (وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ) أيُّها المكلَّفون كدأبِ هؤلاءِ حيث ركبُوا متنَ المُكابرة والعناد واستمرُّوا على ما هم عليه من الفساد وتجاوزوا في اللجاجِ كلَّ حدَ معتادٍ (نُذِقْةُ) في الآخرة (عَذَاباً كَبِيراً) لاَ يقادَر قدرُه وهُوَ عذابُ النار وقرئ يُذقه على أنَّ الضَّمير لله سبحانه وتعالى وقيل لمصدر الفعلِ الواقعِ شرطاً وتعميمُ الظُّلمِ لا يستلزمُ اشتراكَ الفاسقِ للكافر في إذاقة العذابِ الكبيرِ فإنَّ الشَّرطَ في اقتضاء الجزاءِ مقيَّدٌ بعدمِ المُزاحمِ وفاقاً وهو التَّوبةُ والإحباطِ بالطَّاعةِ إجماعا وبالعفو عندنا

سورة الفرقان

20

20 - 2 (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِى الأسواق) جوابٌ عن قولهم مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الأسواق والجملةُ الواقعةُ بعد إلاَّ صفةٌ لموصوفٍ قد حُذف ثقةٍ بدلالةِ الجارِّ والمجرورِ عليه وأقيمتْ هي مقامَه كما في قوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ والمعنى ما أرسلَنا أحداً قبلكَ من المُرسلين إلا آكلينَ وماشينَ وقيل هي حالٌ والتَّقديرُ إلاَّ وإنَّهم ليأكلون الخ وقرئ يمشون على البناء للمفعول أي يُمشيهم حوائجُهم أو النَّاسُ (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ) تلوينٌ للخطاب بتعميمِه لسائر الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسلامُ بطريق التَّغليبِ والمرادُ بهذا البعضِ كفار الأمم فإن اختصاهم بالرُّسل وتبعيتهم لهم مصحِّحٌ لأنْ يعدُّوا بعضاً منهم وبما في قوله تعالى (لِبَعْضٍ) رسلِهم لكنْ لا على مَعْنى جعلنا مجموعَ البعضِ الأولِ (فِتْنَةً) أي ابتلاءً ومحنةً لمجموعِ البعض الثَّاني ولا على معنى جعلنا كلَّ فردٍ من أفراد البعض الأول فتنةً لكلِّ فردٍ من أفراد البعض الثَّاني ولا على معنى جعلنا بعضاً مُبهماً من لأولين فتنةً لبعضٍ مُبهمٍ من الآخرين ضرورةَ أنَّ مجموعَ الرُّسل من حيثُ هو مجموعٌ غير مفتون بجموع الأُممِ ولا كلُّ فردٍ منهم بكلِّ فردٍ من لأم ولا بعض مبهمٌ من الأولين ببعض منهم من الآخرين على بل معنى جعلنا كلَّ بعضً مُعيَّنٍ من الأُمم فتنةً لبعض معَّين من الرُّسلِ كأنَّه قيل وجعلنا كلَّ أمَّةٍ مخصوصةٍ من الأُممِ الكافرةِ فتنةً لرسولِها المعيَّنِ المبعوثِ إليها وإنَّما لم يصرخ بذلك تعويلاً على شهادةِ الحالِ هذا وأمَّا تعميمُ الخطابِ لجميع المكلَّفين وإبقاء البعضين على العمومِ والإبهامِ على معنى وجعلنا بعضَكم ايها الناس فتنةً لبعضٍ آخرَ منكم فيأباهُ قولُه تعالى (أَتَصْبِرُونَ) فإنَّه غايةٌ للجعلِ المذكورِ ومن البيِّنِ أنْ ليسَ ابتلاءُ كلِّ أحدٍ من آحادِ النَّاسِ مُغيًّا بالصَّبرِ بل بما يناسبُ حالَه على أنَّ الاقتصارَ على ذكرهِ من غير تعرّض لمعادل له مما يدلُّ على أنَّ الَّلائقَ بحال المفتونينَ والمتوقع صدورُه عنهم هو الصبر لا غير فلابد أنْ يكونَ المرادُ بهم الرُّسلَ فيحصل به تسليتُه صلى الله عليه وسلم فالمعنى جرتْ سُنَّتنا بموجب حكمتِنا على ابتلاءِ المُرسلينَ بأممِهم وبمناصبتهم لهم العداوةَ وإيذائهم لهم وأقاويلِهم الخارجةِ عن حدود الإنصاف لنعم صبرَكم وقوله تعالى (وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً) وعدٌ كريم للرسول صلى الله عليه وسلم بالأجرِ الجزيلِ لصبرِه الجميلِ مع مزيدِ تشريفٍ له صلى الله عليه وسلم بالالتفاتِ إلى اسمِ الربِّ مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم

21

(وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا) شروعٌ في حكايةِ بعضٍ آخرَ من أقاويلِهم الباطلةِ وبيانِ بُطلانِها إثرَ إبطالِ أباطيلهم السَّابقةِ والجملةُ معطوفةٌ على قولِه تعالى وَقَالُواْ مَا لهذا الرسول الخ ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ للتنبيهِ بما في حيزِ الصلة على أن ما يُحكى عنهم من الشَّناعةِ بحيثُ لا يصدرُ عمَّن يعتقدُ المصيرَ إلى الله

سورة الفرقان 22 عزَّ وجلَّ ولقاءُ الشَّيءِ عبارةٌ عن مصادفتهِ من غيرِ أنْ يمنعَ مانعٌ من إدراكِه بوجهٍ من الوجوهِ والمرادُ بلقائِه تعالى إمَّا الرجوعُ إليه تعالى بالبعث والحشر رأو لقاءُ حسابه تعالى كما في قوله تعالى أن ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ وبعدم رجائِهم إيَّاه عدمُ توقُّعهم له أصلاً لإنكارِهم البعث والحساب بالكليِّة لا عدمُ أملِهم حسنَ اللقاءِ ولا عدمُ خوفِهم سوءَ اللقَّاءِ لأنَّ عدمَهما غيرُ مستلزمٍ لِما هم عليه من العُتوِّ والاستكبار وإنكارِ البعثِ والحسابِ رأساً أي وقال الذَين لا يتوقعَّون الرجوعَ إلينا أو حسابَنا المؤدِّيَ إلى سُوءِ العذابِ الذي تستوجبه مقالتُهم (لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلائِكَةُ) أي هلاَّ أُنزلوا علينا ليخبرونا بصدق محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وقيل هَلاَّ أُنزلوا علينا بطريق الرسالة وهو الأنسب قولهم (أَوْ نرى رَبَّنَا) من حيثُ أنَّ كلا القولينِ ناشئ عن غايةِ غُلوهم في المكابرة العتو حسبما يُعرب عنه قوله تعالى (لَقَدِ استكبروا فِى أَنفُسِهِمْ) أي في شأنِها حتى اجترءوا على التَّفوه بمثل هذه العظيمةِ الشنعاءِ (وَعَتَوْا) أي تجاوزا الحدَّ في الظُّلم والطُّغيانِ (عُتُوّاً كَبِيراً) بالغاً أقصَى غاياتَه حيثُ أمَّلوا نيلَ مرتبةِ المفاوضةِ الإلهيةِ من غير توسطِ الرَّسولِ والمَلك كما قالوا لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله ولم يكتفُوا بما عاينوا من المعجزاتِ القاهرةِ التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبالِ فذهبْوا في الاقتراح كلَّ مذهبٍ حتَّى منَّتهم أنفسُهم الخبيثةُ أمانيَّ لا تكاد ترنوا إليها أحداقُ الأممِ ولا تمتدُّ إليها أعناقُ الهمم ولا ينالها إلا أولوا العزائم الماضيةِ من الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ والله لقد استكبروا الآيةَ وفيه من الدلالة على غايةِ قُبح ما هُم عليه والإشعارِ بالتَّعجبِ من استكبارِهم وعُتوِّهم ما لا يخفى

22

(يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة) استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ ما يلقَونه عند مشاهدتِهم لما اقترحُوه من نزول الملائكة علهم السَّلامُ بعد استعظامِه وبيانِ كون في غايةِ ما يكونُ من الشَّناعة وإنمَّا قيلَ يوم يَرَون دُون أنْ يقالَ يومَ ينزلُ الملائكةُ إيذانا من أولِ الأمرِ بأنَّ رؤيتَهم لهم ليست على طريقِ الإجابةِ إلى ما اقترحُوه بل على وجهٍ آخرَ غيرِ معهودٍ ويومَ منصوبٌ على الظَّرفية بما يدلُّ عليه قولُه تعالى (لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ) فإنَّه في معنى لا يُبشَّر يومئذٍ المُجرمون والعُدولُ إلى نفيِ الجنسِ للمبالغةِ في نفيِ البُشرى وما قيل من أنَّه بمعنى يمُنعون البُشرى أو يعدمونها تهوين للخطب في مقام التَّهويل فإنَّ منعَ البُشرى وفقدانُها مُشعرانِ بأنَّ هناك بُشرى يمنعونَها أو يفقِدونها وأينَ هذا من نفيها بالكُليِّة وحيثُ كان نفيُها كنايةً عن إثباتِ ضدِّها كما أنَّ نفيَ المحبةِ في مثلِ قولِه تعالى والله لاَ يُحِبُّ الكافرين كنايةٌ عن البُغض والمَقْتِ دلَّ على ثبوت النذر لهم على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وقيل منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ يُؤكِّده بشرى على أنَّ لا غير نافية للجنس وقيل منصور على المفعولة بمضمرٍ مقدَّمٍ عليه أي اذكُر يومَ رؤيتهم الملائكةَ ويومئذٍ على كلِّ حالٍ تكريرٌ للتأكيد والتَّهويلِ مع ما فيه من الإيذانِ بأنَّ تقديمَ الظَّرفِ للاهتمامِ لا لقصرِ نفيِ البُشرى على ذلك الوقتِ فقط فإنَّ ذلك مخلٌّ بتفظيعِ حالِهم وللمجرمين تبيين على أنَّه مظهرٌ وُضع موضعَ الضميرِ تسجيلاً عليه بالإجرام مع ما هم عليه من الكفر وحملُه على العموم بحيث يتناولوا فسَّاقَ المؤمنين ثم الالتجاءُ في إخراجِهم عن الحرمانِ الكليِّ إلى أنَّ نفيَ البُشرى حينئذٍ لا يستلزمُ نفيَه في جميعِ الأوقاتِ فيجوزُ أنْ يُبشَّروا بالعفوِ والشَّفاعةِ في وقتٍ آخرَ بمعزلٍ عن الحقِّ بعيدٍ

سورة الفرقان 23 24 (وَيَقُولُونَ) عطفٌ على ما ذُكر من الفعلِ المنفيِّ المنبئ عن كمال فظاعة ما يحيق بهم من الشر وغاية هول مطلعه ببيان أنهم يقولون عند مشاهدتِهم له (حِجْراً مَّحْجُوراً) وهي كلمةٌ يتكلَّمون بها عند لقاءِ عدوَ موتورٍ وهجومِ نازلةٍ هائلةٍ يضعونها موضعَ الاستعاذةِ حيثُ يطلبون من الله تعالى أن يمنع المكروه فلا يلحقهم فكان المَعنى نسألُ الله تعالى أنْ يمنعَ ذلك مَنْعاً ويحجُره حَجْراً وكسرُ الحاءِ تصرف فيه لاختصاصه بموضوع واحدٍ كما في قِعدَك وعمرك وقد قرئ حُجْراً بالضمِّ والمعنى أنَّهم يطلبون نزولَ الملائكةِ عليهم السَّلامُ ويقترحونَه وهم إذا رَأوهم كرِهُوا لقاءهم أشدَّ كراهةٍ وفزعُوا منهم فزعاً شَديداً وقالوا ما كانوا يقولونَه عند نزولِ خطبٍ شنيعٍ وحلولِ بأسٍ شديدٍ فظيعٍ ومحجُوراً صفةٌ لحِجراً وإرادةٌ للتَّأكيدِ كما قالوا ذيلٌ ذَائلٌ وليلٌ أليلُ وقيل يقولُها الملائكةُ إقناطاً للكفرة بمعنى حراما محركا عليكم الغفرانُ أو الجنَّة أو البُشرى أي جعل الله تعالى ذلك حَرَاماً عليكم وليس بواضح

23

{وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} بيانٌ لحالِ ما كانُوا يعملونَه في الدُّنيا من صلةِ رحمٍ وإغاثةِ ملهوفٍ وقرى ضيفٍ ومنَ على أسير وغير ذلك من مكارمِهم ومحاسِنهم التي لو كانُوا عملُوها مع الإيمانِ لنالُوا ثَوابَها بتمثيلِ حالهم وحال أعمالهم المذكور بحال قومٍ خالفُوا سلطانَهم واستعصَوا عليه فقدمَ إلى أشيائِهم وقصدَ ما تحت أيديهم فأنحى عليها بالإفسادِ والتحريف ومزَّقها كلَّ تمزيقٍ بحيث لم يَدع لها عيناً ولا أثراً أي عمَدنا إليها وأبطلَناها أي أظهرنا بُطلانَها بالكلِّيةِ من غير أنْ يكونَ هناك قدومٌ ولا شيء يُقصد تشبيهه به والهَبَاءُ شبه غبارٍ يُرى في شعاعِ الشَّمسِ يطلع من الكُوَّة من الهبوةِ وهي الغبارُ ومنثُوراً صفتُه شبه به أعمالَهم المُحبَطةَ في الحقارةِ وعدمِ الجَدوى ثمَّ بالمنثُور منه في الانتشارِ بحيثُ لا يمكن نظمُه أو مفعولٌ ثالثٌ من حيثُ إنَّه كالخبر بعد لخبر كما في قوله تعالى كَونُواْ قِرَدَةً خاسئين

24

{أصحاب الجنة} هم المؤمنون المشارِ إليهم في قوله تعالى قل أذلك خير أَمْ جَنَّةُ الخلد التى وُعد المتَّقون الخ {يَوْمَئِذٍ} أي يومَ إذ يكونُ ما ذكر رمن عدمِ التَّبشير وقولِهم حِجْراً محجُوراً وجعلِ أعمالِهم هباءً منثُوراً {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} المستقرُّ المكانُ الذي يُستقرُّ فيه في أكثرِ الأوقاتِ للتَّجالسِ والتَّحادثِ {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} المقيلُ المكانُ الذي يؤوى إليه للاسترواح إلى الأزواج والمتنع بمغازلتهم سُمِّي بذلك لما أنَّ التَّمتعَ به يكون وقتَ القَيلولهِ غالباً وقيل لأنه يُفرغٍ من الحسابِ في منتصف ذلك اليوم فيقيل أهلُ الجَّنة في الجنَّةِ وأهلُ النَّار في النَّارِ وفي وصفه بزيادةِ الحُسن مع حصولِ الخيرَّيةِ بعطفه على المستقرِّ رمزٌ إلى أنه مزَّينٌ بفنون الزَّينِ والزَّخارفِ والتَّفضيلُ المُعتبر فيهما إمَّا لإرادةِ الزِّيادةِ على الاطلاقِ أي هُم في أقصى ما يكونُ من خيرَّيةِ المُستقرِّ وحسنِ المَقيلِ وإمَّا بالإضافةِ إلى مَا للكَفَرةِ المُتنعِّمينَ في الدُّنيا أو إلى ما لَهُم في الآخرةِ بطريق التَّهكُّمِ بهم كما مرَّ في قوله تعالى قل أذلك خَيْرٌ الآيةَ هذا وقد جوِّز أنْ يُرادَ بأحدِهما المصدرُ أو الزَّمانُ إشارةً إلى أنَّ مكانَهم وزمانَهم أطيب ما يتخيل من الأمكنة والأزمنة

سورة الفرقان (25 27)

25

{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء} أي تتفتحُ وأصلُه تتشقَّقُ فحُذفتْ إحدى التَّاءينِ كما في تلظى وقرئ بإدغامِ التَّاءِ في الشِّينِ {بالغمام} بسببِ طلوعِ الغمامِ منها وهو الغَمامُ الذي ذُكر في قوله تعالى هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام والملائكة قيل هو غمامٌ أبيضُ رقيقٌ مثل الضبابة لم يكُنْ إلاَّ لبني إسرائيلَ {وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً} أي تنزيلاً عجيباً غيرَ معُهودٍ قيل تنشق سماءً سماءً وينزل الملائكةُ خلالَ ذلك الغمامِ بصحائفِ أعمالِ العبادِ وقرئ ونزلت الملائكة وننزيل وتنزل على صيغة المتكلم من الإنزالِ والتَّنزيل ونزَّل الملائكةَ وأنزل الملائكة ونزل الملائكةُ على حذف النُّون الذي هو فاءُ الفعلِ من تنزل

26

{الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} أي السَّلطنةُ القاهرِةُ والاستيلاءُ الكليُّ العام الثَّابتُ صورةً ومعنى ظاهراً وباطناً بحيثُ لا زوالَ له أصلاً ثابت للرحمن يؤمئذ فالمُلكُ مبتدأٌ والحقُّ صفتُه وللرحمن خبرة ويومئذ ظرفٌ لثبُوتِ الخبرِ للمبتدأِ وفائدةُ التَّقييدِ أنَّ ثبوت المُلك المذكور له تعالى خاصَّةً يومئذٍ وأمَّا فيما عداهُ من أيَّامِ الدُّنيا فيكون لغيرهِ أيضاً تصرُّفٌ صوريُّ في الجُملةِ وقيل المُلك مبتدأٌ والحقُّ خبرُه وللرَّحمنُ متعلَّق بالحقِّ أو بمحذوفٍ على التَّبيين أو بمحذوفٍ هو صفةٌ للحقِّ ويومئذٍ معمولٌ للملك وقيلَ الخبرُ يومئذٍ والحقُّ نعتٌ للملكِ وللرحمن على ما ذُكر وأيَّاً ما كان فالجملةُ بمعناها عاملةٌ في الظَّرفِ أي ينفردُ الله تعالَى بالملكِ يومَ تشقَّقُ وقيل الظَّرفُ منصوبٌ بما ذُكر فالجملةُ حينئذٍ استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ أحوالِه وأهوالِه وإيرادُه تعالى بعُنوانِ الرَّحمانيةِ للإيذانِ بأنَّ اتصِّافَه تعالى بغايةِ الرَّحمةِ لا يهُوِّنُ الخَطْبَ على الكَفَرةِ لعدمِ استحقاقِهم للرَّحمةِ كما في قوله تعالى يأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم والمعنى أنَّ الملكَ الحقيقيَّ يومئذٍ للرَّحمنِ {وَكَانَ} ذلكَ اليوم مع كونِ المُلكِ فيه لله تعالى المبالغ في الرَّحمةِ لعبادِه {يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً} شَديداً لهُم وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لمُراعاةِ الفواصلِ وأمَّا للمُؤمنين فيكون يَسيراً بفضلِ الله تعالى وقد جاءَ في الحديثِ أنَّه يُهوَّن يومُ القيامةِ على المؤمنِ حتَّى يكونَ أخفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبةٍ صلاَّها في الدّنيا والجملةُ اعتراضٌ تذييلي مقرر لما قبله

27

{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} عضُّ اليدينِ والأناملِ وأكلُ البنانِ وحرقُ الأسنانِ ونحوها كناياتٌ عن الغيظِ والحسرة لأنها من رواد فهما والمرادُ بالظَّالمِ إمَّا عقبةُ بنُ أبي مُعيطٍ على ما قيلَ من أنه كان يُكثر مجالسةَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فدعاه صلى الله عليه وسلم يوماً إلى ضيافتِه فأبى صلى الله عليه وسلم أنْ يأكلَ من طعامِه حتَّى ينطِقَ بالشَّهادتينِ ففعلَ وكان أُبيُّ بنُ خَلَفٍ صديقَه فعاتبَه فقال صَبأتَ فقال لا ولكنْ أَبَى أنْ يأكلَ منْ طَعَامي وهو في بيتي فاستحييتُ منه فشهدتُ له فقال إنيِّ لا أرضى منكَ إلا أنْ تأتيَه فتطأَ قفاهُ وتبزقَ في وجههِ فوجدَه ساجداً في دارِ النَّدوةِ ففعل ذلك فقال صلى الله عليه وسلم لا ألقاكَ خارجاً من مكَّةَ إلاَّ علوتُ رأسَك بالسَّيفِ فأُسرَ يوم بدرٍ فأمر

سورة الفرقان (28 30) عليا رضي الله عنه فقتَلَه وقيل قَتَله عاصمُ بن ثابت الأنصاري وطعن صلى الله عليه وسلم أُبيَّاً يومَ أُحدٍ في المُبارزة فرجعَ إلى مكَّةَ وماتَ وإما جنسُ الظَّالم وهو داخلٌ فيه دُخولاً أوليَّا وقولُه تعالَى {يِقُولُ} الخ حالٌ من فاعلِ بعض وقوله تعالى {يا ليتني} الخ محكيٌّ به ويَا إمَّا لمجرَّدِ التَّنبيهِ من غيرِ قصدٍ إلى تعيينِ المنبَّهِ أو المُنادي محذوفٌ أي يا هؤلاءِ ليتني {اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً} أي طريقاً واحداً منجياً من هذه الورطاتِ وهو طريقُ الحقِّ ولم تتشعبْ بي طريق الضَّلالةِ أو حَصَّلتُ في صحبته صلى الله عليه وسلم طريقاً ولم أكُن ضالاَّ لا طريقَ لي قط

28

{يا ويلنا} بقلب ياءِ المتكلِّمِ الفاً كما في صحارى ومدارى وقرئ على الأصل ياويلتي أي هَلَكتي تعالَيْ واحضريْ فهذا أوانُكِ {لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} يريدُ مَن أضلَّه في الدُّنيا فإنَّ فُلانا كنايةٌ عن الأعلامِ كما أن الهَنَ كنايةُ عن الأجناسِ وقيل فُلانٌ كنايةٌ عن علَم ذكورِ مَن يعقلُ وفُلانةٌ عن علم إناثم وفل كنايةٌ عن نكرةِ مَن يعقلُ من الذكور وفُلة عمَّن يعقلُ من الإناثِ والفُلانُ والفُلانةُ من غير العاقل ويخص فُل بالنِّداءِ إلاَّ في ضرورةٍ كما في قوله ... في لُجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاناً عن فل ... وقوله ... خذ حد ثاني عن فلن وفُلانِ ... وليس فُل مرخَّماً من فُلان خلافاً للفرَّاء واختلفُوا في لامِ فُل وفُلان فقيلَ واوٌ وقيل ياءٌ هذا فإنْ أرُيدَ بالظَّالم عقبةُ ففُلان كنايةٌ عن أَبيَ وإنْ أُريدَ بن الجنسُ فهوُ كنايةٌ عن علَمِ كلِّ مَن يضلُّه كائنا من كان من شياطينِ الإنس والجنِّ وهذا التَّمنِّي منه وإنْ كان مسُوقاً لإبراز النَّدمِ والحسرةِ لكنَّه متضمنٌ لنوعِ تعللٍ واعتذارٍ بتوريك جنايتِه إلى الغيرِ وقوله تعالى

29

{لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذكر} تعليلٌ لتمنيه المذكورِ وتوضيحٌ لتعللُّهِ وتصديُره باللامِ القسميَّةِ للُمبالغةِ في بيانِ خطئِه وإظهارِ ندمهِ وحسرتِه أي والله لقد أضلَّني عن ذكرِ الله تعالى أو عن القرآنِ أو عن موعظةِ الرسول صلى الله عليه وسلم أو كلمةِ الشَّهادةِ {بَعْدَ إِذْ جَاءنِى} وتمكَّنتُ منه وقوله تعالى {وَكَانَ الشيطان للإنسان خَذُولاً} أي مُبالغاً في الخِذلانِ حيثُ يواليهِ حتَّى يؤدِّيه إلى الهلاكِ ثمَّ يتركُه ولا ينفَعُه اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَه إما من جهتِه تعالى أو من تمام كلامِ الظَّالمِ على أنَّه سَمَّي خليلَه شيطاناً بعد وصفهِ بالإضلالِ الذي هو أخصُّ الأوصافِ الشَّيطانيَّةِ أو على أنَّه أرادَ بالشَّيطانِ إبليسَ لأنَّه الذي حملَه على مخالَّةِ المُضلِّين ومخالفةِ الرسول الهادي صلى الله عليه وسلم بوسوستِه وإغوائِه لكن وصفُه بالخِذلانِ يُشعر بأنَّه كانَ يعِدُه في الدُّنيا ويُمنيه بأن ينفعه في الآخرةِ وهو أوفقُ بحالِ إبليسَ

30

{وَقَالَ الرسول} عطفٌ على قوله تعالى وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وما بينها اعتراض مسوق لاستعظام ما قالُوه وبيانِ ما يحيقُ بهم في الآخرةِ من الأهوال والخطوب وإيراده صلى الله عليه وسلم بعُنوانِ الرِّسالةِ لتحقيقِ الحقِّ والردِّ على نحورِهم حيثُ كانَ ما حُكي عنهم قدحا في رسالته صلى الله عليه وسلم أي قالُوا كيتَ وكيتَ وقال الرَّسولُ إثرَ ما شاهد منهم غاية

سورة الفرقان (31 32) العُتوِّ ونهايةَ الطُّغيان بطريق البثِّ إلى ربِّه عزَّ وجل (يا رب إِنَّ قَوْمِى) يعني الذين حُكي عنهم ما حُكي من الشَّنائعِ ( {اتخذوا هذا القُرآنَ} الذي من جُملتِه هذه الآياتُ النَّاطقةُ بما يحيقُ بهم في الآخرةِ من فُنونِ العقابِ كما ينبئ عنه كلمةُ الإشارةِ (مَهْجُوراً) أي أنه متروكاً بالكلِّيةِ ولم يُؤمنوا به ولم بعرفوا إليهِ رأساً ولم يتأثَّرُوا بوعيدِه وفيه تلويحٌ بأنَّ من حقِّ المؤمنِ أنْ يكونَ كثيرَ التَّعاهدِ للقرآن كيلا يندرجَ تحت ظاهرُ النَّظمِ الكريمِ فإنَّه رُوي عنه صلى الله عليه السلام أنَّه قال مَن تعلَّم القرآنَ وعلَّق مُصحفاً لم يتعاهدْهُ ولم ينظرْ فيهِ جاءَ يومَ القيامةِ متعلِّقاً به العالمين عبدك هذا أتخذل مهجُوراً اقضِ بيني وبينَهُ وقيل هو من هجَر إذا هَذَى أي جعلوه مهجُوراً فيه إمَّا على زعمِهم الباطلِ وإمَّا بأنْ هجَّروا فيه إذا سمعُوه كما يحكى عنهم من قولِهم لا تسمعُوا لهذا القُرآنِ والغَوا فيهِ وقد جوز أن يكون المهجورُ بمعنى الهَجْر كالمجلود والمعقول فالمعنى اتخذوه وهجرا وهذيانا وفيه من التخدير والتخويف مالا يَخْفى فإنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ إذا شكَوا إلى الله تعالى قولهم عجَّل لهم العذابَ ولم يُنظَروا وقوله تعالى

31

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً مّنَ المجرمين} تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحملٌ له على الاقتداءِ بمن قبلَه من الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أي كما جعلنا لك أعداءً من المُشركين يقولُون ما بقولون ويفعلون من الأباطيلِ جعلنا لكلِّ نبيَ من الأنبياءِ الذينَ هم أصحابُ الشَّريعةِ والدّعوة إليها عدوَّاً من مُجرمي قومِهم فاصبرْ كما صبرُوا وقوله تعالى (وكفى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) وعدٌ كريمٌ له صلى الله عليه وسلم بالهدايةِ إلى كافَّةِ مطالبِه والنَّصرِ على أعدائِه أي كَفَاك مالكُ أمرِك ومُبلِّغك إلى الكمالِ هَادياً لك إلى ما وصلك إلى غاية الغابات التي من جُملتها تبليغُ الكتابِ أجلَه وإجراء أحكامِه في أكتاف الدُّنيا إلى يومِ القيامةِ ونصيراً لك على جميعِ مَن يُعاديك

32

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} حكايةٌ لا قتراحم الخاصِّ بالقُرآن الكريمِ بعد حكايةِ اقتراحِهم في حقِّه صلى الله عليه وسلم والقائلون هم القائلونَ أوَّلاً وإيرادُهم بعُنوانِ الكفرِ لذمِّهم به والإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ {لولا نزل عليه القرآن} التَّنزيلُ هَهُنا مجرَّدٌ عن مَعْنى التَّدريجِ كما في في قوله تعالى أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء ويجوزُ أن يرادَ بهِ الدِّلالةُ على كثرةِ المُنزَّلِ في نفسِه أي هلاَّ أُنزل كلُّه {جُمْلَةً واحدة} كالكتب الثَّلاثةِ وبُطلان هذه الكلمةِ الحمقاءِ ممَّا لا يكاد يخفى على أحد فإنَّ الكتبَ المتقدِّمةَ لم يكُن شاهدَ صحَّتِها ودليلَ كونها من عند الله تعالى إعجازُها وأمَّا القرآنُ الكريم فبينة صحته آية كونه من عند الله تعالى نظمُه المعجزُ الباقي على مرِّ الدّهورِ المتحقِّقُ في كلُّ جزءٍ من أجزائه المرقدة بمقدار أقصرِ السُّورِ حسبما وقع به التَّحدِّي ولا ريب في أن ما يدور عليه فلَكُ الإعجاز هو المطابقةُ لما تقتضيه الأحوالُ ومن ضرورة تغيّرِها وتجدُّدها تغيُّر ما يُطابقها حتماً على أنَّ فيه فوائد جمه أشير إلى بعض منها بقوله تعالى {كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} فإنَّه استئناف وارد من جهته تعلى لرد مقالهم الباطل

سورة الفرقان (33) وبيانِ الحكمة في التَّنزيلِ التَّدريجيِّ ومحلُّ الكافِ النَّصبُ على أنَّها صفة لمصدرٍ مؤكِّدٍ لمضمر معلَّلٍ بما يعده وَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما يُفهم من كلامِهم أي مثلَ ذلك التَّنزيلِ المُفرَّق الذي قد حوا فيه واقترحوا خلافه ونزلناه لا تنزيل مُغايراً له لنقويَ بذلك التَّنزيلِ المفرَّقِ فؤادَك فإنَّ فيه تيسير الحفظ النَّظمِ وفهم المعانِي وضبطِ الأحكامِ والوقوفِ على تفاصيلِ ما رُوعي فيها من الحكم والمصالح المبينة على المناسبة على أنها مونطة بأسبابها الدَّاعيةِ إلى شَرعها ابتداءً أو تبديلاً بالنَّسخِ من أحوال المكلَّفينَ وكذلك عامة ما وردَ في القرآنِ المجيدِ من الأخبار وغيرِها متعلِّقةٌ بأمورٍ حادثةٍ من الأقاويل والأفاعيل ومن قضية تجدُّدِها تجددُ ما يتعلَّقُ بها كالاقتراحاتِ الواقعة من الكَفَرة الدَّاعيةِ إلى حكايتِها وإبطالِها وبيانِ ما يؤول إليه حالُهم في الآخرِة على أنَّهم في هذا الاقتراحِ كالباحث عن حَتْفه بظلفه حيثُ أُمروا بالاتيان بمثل نَوبةٍ من نُوبِ التَّنزيل فظهرَ عجزُهم عن المعارضةِ وضاقتْ عليهم الأرضُ بما رَحُبتْ فكيف لو تُحدُّوا بكلمة وقوله تعالى (رتلناه تَرْتِيلاً) عطفٌ على ذلك المُضمر وتنكيرُ ترتيلاً للتَّفخيمِ أي كذلك نزَّلناهُ ورتلناهُ تَرتْيلا بديعاً لا يُقادرُ قدره معنى ترتيلهِ تفريقُه آيةً بعدَ آيةٍ قالَه النَّخعيُّ والحسنُ وقَتَادةُ وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما بيَّناهُ بياناً فيه ترتيلٌ وتثيبت وقال السُّدِّيُّ فصَّلناهُ تفصيلاً وقال مجاهُدُ جعلنا بعضَه في إثر بعضٍ وقيل هو الأمرُ بترتيلِ قراءتِه بقوله تعالى ورتل القرآن تَرْتِيلاً وقيل قرأناه عليكَ بلسانِ جبرِيلَ عليهِ السَّلامُ شيئا فشئيا في عشرين أو ثلاث وعشرين سنة على تُؤَدةٍ وتَمهلٍ

33

{وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} من الأمثال من جملتها ما حكي من اقتراحاتِهم القبيحةِ الخارجةِ عن دائرةِ العقولِ الجاريةِ لذلك مجرى الأمثالِ أي لا يأتونَك بكلامٍ عجيبٍ هو مَثَلٌ في البُطلان يريدون به القَدْحَ في حقِّك وحقِّ القُرآنِ {إِلاَّ جئناك} في مُقابلتِه {بالحق} أي بالجوابِ الحقِّ الثَّابتِ الذي ينْحي عليه بالإبطالِ ويَحسمُ مادَّةَ القِيلِ والقالِ كما مرَّ من الأجوبةِ الحقَّةِ القالعةِ لعروقِ أسئلتِهم الشَّنيعةِ الدَّامغةِ لها بالكُلِّيةِ وقوله تعالى {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} عطفٌ على الحقِّ أي جئناك بأحسن الحُسنِ في حدِّ ذاته لا أنَّ ما يأتون به له حَسنٌ في الجملة وهذا أحسنُ منه كما مروا الاستثناء مفرغ محلُّه النصب على الحالية أي لا يأنونك بمثل إلا حال إتياننا إيَّاك الحقَّ الذي لا مجيد عنه وفيه من الدِلالة على المُسارعة إلى إبطالِ ما أتوا به وتثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم مالا يخفى وهذا بعبارته ناطقٌ ببطلان جميع الأسئلة وبصحَّةِ جميع الأجوبة وبإشارته منبىءٌ عن بُطلانِ السُّؤالِ الأخير وصحة جوابة إذلولا أنَّ تنزيلَ القرآن على التَّدريجِ لما أمكن إبطالُ تلك الاقتراحاتِ الشَّنيعةِ ولما حصل تثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم من تلك الحيثيَّةِ هذا وقد جوِّز أنْ يكون المَثَلُ عبارةً عن الصِّفةِ العريبة التي كانُوا يقترحون كونَه صلى الله عليه وسلم عليها من مقارنة الملكِ والاستغناء عن الأكل والشُّربِ وحيازة الكنز والجنَّة ونزول القرآن عليه جملةً واحدةً على معنى لا يأتوك بحال عجيبة يقترحون اتِّصافك بها قائلين هلاَّ كان على هذه الحالة إلا أعطياك نحنُ من الأحوال الممكنة ما يحقُّ لك في حكمتِنا ومشيئتنا أنْ تُعطاهُ وما هو أحسنُ تكشيفاً لما بُعثت عليه ودلالةً على صحَّته وهو الذي أنتَ عليه في الذَّاتِ

سورة الفرقان (3436) والصِّفاتِ ويأباهُ الاستثناءُ المذكور فإن المتبادر منه يكون ما أعطاهُ الله تعالى منَ الحقِّ مترتباً على ما أتَوا به من الأباطيلِ دامغاً لها ولا ريب في ما آتاه الله تعالى من المَلَكاتِ السَّنيةِ اللاَّئقةِ بالرَّسالة قد أتاه من أوَّلِ الأمر لا بمقابلة ما حكي عنهم من الاقتراحات لأجلِ دمغها وإبطالِها

34

{الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ} أي يُحشرون كائين على وجوههم يسبحون عليها ويُجرُّون إلى جهنَّمَ وقيل مقلوبين وجوهُهم على قفاهم وأرجلُهم إلى فوقٍ روى عنه صلى الله عليه وسلم يُحشر النَّاسُ يومَ القيامةِ على ثلاثةِ أثلاثٍ ثلثٌ على الدَّوابِّ وثُلثٌ على وجوههم وثلث على وثُلثٌ على أقدامِهم ينسِلون نَسلاً وأما ما قيل متعلقةً قلوبهم بالسُّفليَّاتِ متوجِّهةً وجوههم إليها فبيعد لأنَّ هول ذلك اليومِ ليس بحيث يبقى لهم عنده تعلُّقٌ بالسُّفليَّاتِ أو توجُّه إليها في الجملة ومحلُّ الموصول إمَّا النَّصبُ أو الرفع على الذم أو الرفعُ على الابتداءِ وقولُه تعالَى {أولئك} بدلٌ منه أو بيانٌ له وقوله تعالى {شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} خبر له أو اسمُ الإشارة مبتدأٌ ثانٍ وشرُّ خبرُه والجملة خبر للمصول ووصف السَّبيلِ بالضَّلالِ من باب الإسناد المجازيِّ للمبالغة والمفضل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم على مهاج قوله تعالى قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ كأنه قي إنَّ حاملهم على هذه الاقتراحات تحقير مكانه صلى الله عليه وسلم بتضليل سبيله ولا يعلمون حالَهم ليعلموا أنَّهم شرٌّ مكاناً وأضلُّ سبيلاً وقيل هو متَّصلٌ بقوله تعالى أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً

35

(ولقد آتينا موسى) جملةٌ مستأنفةٌ سيقتْ لتأكيد ما مرَّ من التَّسليةِ والوعد بالهداية والنَّصرِ في قوله تعالى وكفى بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً بحكايةِ ما جرى بينَ مَن ذُكر من الأنبياء عليهم الصلاة والسَّلامُ وبين قومِهم حكايةً إجماليَّةً كافيةً فيما هو المقصود واللامُ جوابٌ لقسمٍ محذوف أي وبالله لقد آتينا مُوسى التَّوراةَ أي أنزلناها عليه بالآخرةِ {وَجَعَلْنَا مَعَهُ} الظَّرف متعلِّق بجعلنا وقوله تعالى {أَخَاهُ} مفعولٌ أوَّلٌ له وقوله تعالى {هارون} بدل منن أخاه أو عطفُ بيانٍ له على عكس ما وقع في سورةِ طه وقوله تعالى {وزيرا} وفعول به ثان له وقد مرئمة معنى الوير أي جلعناه في أوَّلِ الأمر وزيراً له

36

{فقلنا} لهما حينذ {اذهبا إِلَى القوم الذين كذبوا بآياتنا} هم فرعونُ وقومه والآياتُ هي المعجزات التِّسعُ المفصَّلاتُ الظَّاهرُة على يَدَيْ موسى عليع السَّلامُ ولم يُوصفِ القومُ لهما عند إرسالِهما إليهم بهذا الوصف ضرورةَ تأخُّرِ تكذيب الآيات عن إظهارِها المتأخِّر عن ذهابهما المتأخِّر عن الأمر به بل إنما وصفوا بذلك عنه الحكاية لرسو ل الله صلى الله عليه وسلم بيانا لعلة استحفافهم لما يُحكى بعده من التَّدميرِ أي فذهبا إليهم فأرياهم آياتتا كلَّها فكذَّبوها تكذيباً مُستمرَّاً {فدمرناهم} التكذيب إثرَ ذلك التَّكذيبِ المستمرِّ {تَدْمِيرًا} عجيباً هائلاً لا يُقادرُ قَدرُه ولا يُدرك كُنهُه فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء

سورة الفرقان (37 35) بما هو المقصودُ وحَملُ قوله تعالى فدمَّرناهم على معنى فحكمنا بتدميرِهم مع كونه تعسفا ظاهرا مما لا وجهَ لَهُ إذ لا فائدةَ يُعتدُّ بها في حكاية الحكم بيتدمير قد وقع وانقضى والتَّعرضُ في مطلع القصَّةِ لإيتاء الكتاب مع أنَّه كان بعد مهلكِ القوم ولم يكن له مدخلٌ في هلاكهم كسائرِ الأيات للإيذانِ من أوَّلِ الأمرِ ببلوغِه صلى الله عليه وسلم غايةَ الكمالِ ونيله نهايةَ الآمالِ التي هي إنجاءُ بني إسرائيلَ من ملكة فرعون وإرشادهم إلى الطريق الحق صلى الله عليه وسلم غايى الكمال ونيله نهاية بما في التَّوراة من الأحكام إذا به يحصُلُ تأكيدُ الوعدِ بالهدايةِ على الوجه الذي مربيانه وقرىء فدمرتهم وفدمراهم وفدمراهم على التَّأكيد بالنُّون الثَّقيلةِ

37

{وَقَوْمَ نُوحٍ} منصوبٌ بمضمرٍ يدل عليه قوله تعالى فدمَّرناهم أي ودمَّرنا قومَ نوحٍ وقيل عطف على مفعول فدمر ناهم وليس من ضرورة ترتيب تدميرهم على ما قبله ترتُّبُ تدميرِ هؤلاء عليه لا سيَّما وقد بُيِّن سببُه بقوله تعالى {لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل} أي نوحاً ومن قبله من الرُّسل أو نوحاً وحدَهُ لأنَّ تكذيبه تكذيب للكل لا تفاقهم على التَّوحيدِ والإسلامِ وقيل هو منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى {أغرقناهم} وإنَّما يتسنَّى ذلك على تقديرِ كونِ كلمة لَّماً ظرفَ زمانٍ وأمَّا على تقدير كونِها حرفَ وجودٍ لوجودٍ فلا لأنَّه حينئذٍ جواب لها وجواب لما لا يفسَّر ما قبله مع أنَّه مخلٌّ بعطف المنصوبات الآتية على قوم نوح لما أنَّ إهلاكَهم ليس بالإغراق فالوجهُ ما نقدم وقوله تعالى أغرقناهم استناف مبيِّن لكيفيَّةِ تدميرِهم (وجعلناهم) أي جعلنا إفراقهم أو قصتهم (للاس آيه) أيْ آيةً عظيمةً يعتبرُ بها كلُّ مَن شاهدها أو سمعها وهي مفعول ثانٍ لجعلنا وللنَّاس ظرفٌ لغوله أو متعلق محذوف وق حالاً من آيةً إذ لو تأخَّر عنها لكان صفةً لها (وَأَعْتَدْنَا للظالمين) أي لهم والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ للإبذان بتجاوزهم الحدَّ في الكفر والتَّكذيبِ (عَذَاباً أَلِيماً) هو عذاب الآخرة لا فائدة في الإخبار بإعتياد العذابِ الذي قد أُخبر بوقوعه من قبلُ أو لجميع الظَّالمينَ الباقينَ الذين لم يعتبرُوا بمَا جَرى عليهمْ من العذاب فيدخل في زُمرتهم قُريشٌ دخولاً أة ليا ويحتمل العذاب الدنيوي الأخروى

38

(وَعَاداً) عطفٌ على قوم نوح وقيل على المفعول الأول لجعلناهم وقيل على الظالمين إذهو في معنى وعدنا الظالمين وكلاهما بعيدٌ (وَثَمُودُ) الكلامُ فيه وفيما بعدَه كما فيما قبلَه وقُرىء وثموداً على تأويل الحى أنه الأبِ الأقصى (وأصحاب الرس) هم قومٌ يعبدون الأصنامَ فبعثَ الله تعالى إليهم شُعيباً عليه السَّلامُ فكذَّبُوه فبينما هم حَولَ الرَّسِّ وهي البءر التي لم تُطْوَ بعدُ إذِ انهارتُ فخُسف بهم وبديارِهم وقيل الرَّسُّ قرية بفَلْجِ اليمامةِ كان فيها بقايا ثمودَ فبَعث إليهم نبي فقتلوخ فهلكوا أو قيل هو الأخدود وقيل بءر بأنطاكيَّةَ قتلوا فيها حبيباً النَّجارَ وقيل هم أصحابُ حنظلةَ بنِ صفوانَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ابتلاهم الله بطيرٍ عظيمٍ كان فيها من كلِّ لون وسمَّوها عنقاءَ لطولِ عُنقِها وكانت تسكنُ جبلَهم الذي يقالُ له فتخ أو دمخ فتنقضُّ على صبيانِهم فتخطفُهم إن أعوزها الصيد

سورة الفرقان (39 40) ولذلك سُمِّيتْ مُغْرِبا فدعا عليها حنظلةُ عليه السَّلامُ فأصابتْها الصَّاعقةُ ثم إنَّهم قتلُوه عليه السَّلامُ فأُهلكوا وقيل قومٌ كذَّبُوا رسولَهم فرسُّوه أي دسُّوه في بئرٍ {وَقُرُوناً} أي أهلَ قرونٍ قيل القرنُ أربعونَ سنةً وقيل سبعونَ وقيل مائةٌ وعشرون {بَيْنَ ذلك} أي بين ذلك المذكورِ من الطَّوائفِ والأُمم وقد يذكرُ الذَّاكرُ أشياءَ مختلفةً ثمَّ يشيرُ إليها بذلك ويحسبُ الحاسبُ أعداداً مُتكاثرةً ثمَّ يقولُ فذلك كيتَ وكيتَ على ذلك المذكورِ وذلك المحسوبِ {كَثِيراً} لا يعلم مقدارَها إلاَّ العليمُ الخبيرُ ولعلَّ الاكتفاءَ في شؤن تلك القرُونِ بهذا البيان الإجماليِّ لما أنَّ كلَّ قرنٍ منها لم يكن في الشُّهرةِ وغرَابةِ القصَّةِ بمثابة الأُممِ المذكِورةِ

39

{وَكُلاًّ} منصوبٌ بمضمرٍ يدلُّ عليه ما بعده فإنَّ ضربَ المثلِ في معنى التَّذكيرِ والتَّحذيرِ والمحذوفُ الذي عُوّض عنه التنوينُ عبارةٌ إمَّا عن الأُممِ التي لم يُذكر أسبابُ إهلاكِهم وإمَّا عن الكلِّ فإنَّ ما حُكي عن قومِ نوحٍ وقومِ فرعونَ تكذيبُهم للآياتِ والرُّسلِ لا عدمُ التأثير من الأمثالِ المضروبة أي ذكرنا وأنذرنا كلَّ واحدٍ من المذكورين {ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال} أي بينَّا له القصص العجينة الزَّاجرةَ عمَّا هُم عليهِ من الكُفر والمعاصي بواسطةِ الرسل {وكلا} الآمالِ التي هي إنجاءُ بني إسرائيل {تبرنا تتبيرا} عجيبا هلائلا لما أنَّهم لم يتأثَّروا بذلكَ ولم يرفعُوا له رأساً وتمادَوا على ما هم عليه عن الكُفرِ والعُدوانِ وأصلُ التَّتبيرُ التَّفتيتُ قال الزَّجَّاجُ كلُّ شيء كسرته وفتتته فقد تبَّرتَه ومنه التِّبرُ لفئات الذَّهبِ والفِضَّةِ

40

{وَلَقَدْ أَتَوْا} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيانِ مشاهدتهم لآثارِ هلاك بعض الأُمم المتبَّرةِ وعدم اتِّعاظِهم بها وتصديرُها بالقسم لمزيدِ تقريرِ مضمونِها أي وبالله لقد أتى قُريشٌ في متاجرهم إلى الشَّامِ {عَلَى القرية التى أُمْطِرَتْ} أي أُهلكت بالحجارة وهي قُرى قومِ لوطٍ وكانت خمسَ قُرى ما نجتْ منها إلاَّ واحدةٌ كان أهلُها لا يعملون العملَ الخبيثَ وأمَّا البواقي فأهلكها الله تعالى بالحجارةِ وهي المرادة بقول تعالى {مَطَرَ السوء} وانتصابُه إمَّا على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ بحذف الزَّوائد كما قيل في أنبتَه الله تعالى نباتاً حسنَاً أي إمطارَ السَّوءِ أو على تركهم بعلَّةِ الحُكمِ {لَوْلاَ نُزّلَ عليه القرآن} التَّنزيلُ هَهُنا مجرَّدٌ عن مَعْنى التَّدريجِ كما في قوله تعالى يسألك الآمالِ التي هي إنجاءُ بني إسرائيل التَّذكر عند مُشاهدة ما يُوجبه والهمزة لإنكار نفي استمرار رؤيتِهم لها وتقريرِ استمرارِها حسب استمرارِ ما يُوجبها من إتيانِهم عليها لا لإنكارِ استمرارِ نفي رؤيتِهم وتقريرِ رؤيتِهم لها في الجُملةِ والفاءُ لعطفِ مدخولِها على مقدَّرٍ يقتضيه المقامُ أي ألم يكونوا ينظرون إليها فلم يكونوا يَرونها أو أكانُوا ينظرون إليها فلم يكونُوا يَرونها في مرارِ مرورِهم ليتَّعظِوا بما كانُوا يُشاهدونَهُ من آثارِ العذابِ فالمنكر في الأوَّلِ تركُ النَّظرِ وعدمُ النظر الرُّؤيةِ معاً وفي الثَّانِي عدمُ الرُّؤيةِ مع تحقُّقِ النَّظرِ الموجبِ لها وقوله تعالى {بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً} إما إضرابٌ عمَّا قبلَه من عدمِ رؤيتِهم لآثار ما جَرى على أهلِ القُرى من العقوبة وبيان لكون وعدم اتِّعاظِهم بسبب إنكارِهم لكون ذلك عقوبة

سورة الفرقان 41 43 لمعاصيهم لا لعدم رؤيتهم لآثارِها خلا أنَّه اكتفى عن التَّصريحِ بإنكارِهم ذلك بذكرِ ما يستلزمُه من إنكارهم للجزاءِ الأُخرويِّ الذي هو الغابة من خلق العالمِ وقد كُني عن ذلك بعدم النُّشورِ أي عدم توقُّعهِ كأنَّه قيل بل كانُوا ينكرون النُّشورَ المستتبع للجزاءِ الأُخرويِّ ولا يرَون لنفسٍ من النُّفوسِ نُشوراً أصلاً مع تحقُّقهِ حتماً وشمولِه للنَّاسِ عموماً واطِّرادِه وقوعاً فكيف يعترفُون بالجزاء الدٌّنيويِّ في حقِّ طائفةٍ خاصَّةً مع عدم الاطِّرادِ والملازمة بينه وبين المعاصي حتَّى يتذكَّروا ويتَّعظوا بما شاهدوه من آثارِ الهلاك وإنَّما يحملونه على الاتِّفاقِ وإمَّا انتقالٌ من التَّوبيخِ بما ذُكر منْ تركِ التَّذكرِ إلى التَّوبيخِ بما هو أعظمُ منه من عدمِ توقُّعِ النُّشورِ

41

{وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} أي ما يتخذونك إلا مهزوءا به على معنى قصر معاملتهم معه صلى الله عليه وسلم على اتخاذهم إياه صلى الله عليه وسلم هُزؤاً لا على معنى قصر اتخاذهم على كونه هُزؤاً كما هو المتبادَرُ من ظاهر العبارةِ كأنَّه قيل ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزؤا وقد مرَّ تحقيقُه في قولِه تعالى أَنِ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ من سورة الأنعام وقوله تعالى {أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً} محكيٌّ بعد قول مضمر هو حالٌ من فاعلِ يتَّخذونك أي يستهزؤن بك قائلينَ أهذا الذي الخ والإشارةُ للاستحقارِ وإبراز بعث الله رسولاً في معرض التَّسليمِ بجعله صلةً للموصول الذي هو صفتُه صلى الله عليه وسلم مع كونِهم في غاية النكير لبعثه صلى الله عليه وسلم بطريقِ التَّهكُّمِ والاستهزاءِ وإلاَّ لقالُوا أبعثَ الله هذا رسولا أو أهذأ الذي يزعمُ أنَّه بعثه الله رسولاً

42

{إِن كَادَ} إنْ مخففةٌ منْ أنَّ وضميرُ الشأن محذوفٌ أيْ إنَّه كادَ {ليضلنا عن آلهتنا} أي ليصرفنا عن عبادتِها صرفاً كليَّاً بحيث يُبعدنا عنها لا عن عبادتِها فقط والعدولُ إلى الإضلال لغاية ضلالِهم بادَّعاء أنَّ عبادتَها طريقٌ سويٌّ {لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا} ثبتْنا عليها واستمسكنَا بعبادتِها ولولا في أمثال هذا الكلامِ تجري مَجرى التقييدِ للحُكم المطلقِ من حيثُ المعنى كما أشير إليه في قوله تعالى وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ الخ وهذا اعترافٌ منهم بأنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الاجتهادِ في الدعوة إلى الحق وإظهارِ المعجزاتِ وإقامةِ الحججِ والبيِّناتِ إلى حيثُ شارفُوا أنْ يتركُوا دينَهم لولا فرطُ لجَاجِهم وغايةُ عنادِهم يُروى أنَّه من قولِ أبي جهلٍ {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} جوابٌ من جهتهِ تعالى لآخرِ كلامِهم وردٌّ لما ينبىءُ عنه من نسبته صلى الله عليه وسلم إلى الضَّلالِ في ضمن الإضلال أي سوف يعلمونَ البتةَ وإنْ تراخى {حِينَ يَرَوْنَ العذاب} الذي يستوجبُه كفرُهم وعنادُهم {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وفيه ما لا يَخفْى من الوعيدِ والتَّنبيهِ على أنَّه تعالى لا يهملهم وإن أمهلهم

43

{أرأيت مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من شناعةِ حالِهم بعد حكاية قبائحِهم من الأقوالِ

سورة الفرقان 44 والأفعالِ وبيانِ ما لهم من المصيرِ والمآلِ وتنبيهٌ على أنَّ ذلك من الغرابةِ بحيث يجبُ أنْ يرى ويتعجَّبَ منه وإلههَ مفعول ثانٍ لاتَّخذ قُدِّم على الأوَّلِ للاعتناء به لأنَّه الذي يدورُ عليهِ أمرُ التعجب ومَن توهَّم أنهما على التَّرتيبِ بناء على تساويهما في التَّعريفِ فقد زلَّ منه أن المفعول الثَّانِي في هذا الباب هو المتلبِّسُ بالحالة الحادثِة أي أرأيتَ مَن جعلَ هواهُ إلهاً لنفسهِ من غير أن يلاحَظ وبنى عليه أمرَ دينِه مُعرِضاً عن استماع الحجَّةِ الباهرة البرهان النيِّرِ بالكلِّيةِ على معنى انظُر إليه وتعجَّب منه وقولُه تعالى {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} إنكارٌ واستبعادٌ لكونه صلى الله عليه وسلم حفيظاً عليه يزجرُه عمَّا هو عليه من الضَّلالِ ويُرشده إلى الحقَ طوعاً أو كَرهاً والفاءُ لترتيب الإنكارِ على ما قبله من الحالةِ المُوجبةِ له كأنَّه قيل أبعد ما شاهدت غلوَّه في طاعة الهوى وعتوَّه عن اتباع الهُدى تقسره على الإيمان شاء أو أَبَى وقوله تعالى

44

{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} إضرابٌ وانتقال عن الإنكار المذكورِ إلى إنكار حسبانه صلى الله عليه وسلم لهم ممَّن يسمعُ أو يعقلُ حسبما ينبىءُ عنه جده صلى الله عليه وسلم في الدَّعوةِ واهتمامُه بالإرشاد والتَّذكيرِ لكن لا على أنَّه لا يقعُ كالأوَّلِ بلْ على أنَّه لا ينبغي أنْ يقعَ أي بل أتحسب أنَّ أكثرهم يسمعون ما تتلوا عليهم من الآيات حتى السَّماعِ أو يعقلون ما في تضاعيفها من المواعظ الزَّاجرةِ عن القبائح الدَّاعيةِ إلى المحاسن فتعتنِي بشأنِهم وتطمعُ في إيمانهم وضميرُ أكثرَهم لمَن وجمعُه باعتبارِ معناها كما أن الإفرادَ في الضَّمائرِ الأُوَلِ باعتبار لفظِها وضميرُ الفعلينِ لأكثرَ لاَ لِمَا أُضيف هُو إليهِ وقولُه تعالى {إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام} الخ جملةٌ مستأنَفة مَسوقة لتقرير النَّكيرِ وتأكيدِه وحسم مادة الحُسبانِ بالمرَّةِ أي ما هُم في عدم الانتفاعِ بما يقرعُ آذانَهم من قوارع الآياتِ وانتفاء التَّدبرِ فيما يشاهدونَهُ من الدَّلائلِ والمُعجزاتِ إلا كالبهائمِ التي هي مَثَلٌ في الغفلةِ وعَلَمٌ في الضَّلالةِ {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} منها {سَبِيلاً} لما أنها تنقادُ لصاحبها الذي يعلِفها ويتعهدُّها وتعرف مَن يُحسِن إليها ممَّن يُسيء إليها وتطلبُ ما ينفعها وتجتنبُ ما يضرُّها وتهتدي لمراعيها ومشاربها وتأوِي إلى معاطنِها وهؤلاءِ لا ينقادونَ لربِّهم وخالقِهم ورازقِهم ولا يعرفون إحسانهم إليهم من إساءةِ الشَّيطانِ الذي هو أعدى عدوِّهم ولا يطلبون الثَّوابَ الذي هو أعظمُ المنافع ولا يتَّقون العقابَ الذي هو أشدُّ المضارِّ والمهالك ولا يهتدون للحقِّ الذي هو المشرع الهنيُّ والمورد العذبُ الرَّويُّ ولأنها إنْ لم تعتقِد حقَّاً مستتبِعاً لاكتساب الخيرِ لم تعتقد باطلاً مستوجباً لاقترافِ الشَّرِّ بخلاف هؤلاء حيث مهّدوا قواعدَ الباطلِ وفرَّعُوا عليها أحكامُ الشُّرورِ ولأنَّ أحكامَ جهالتِها وضلالتها مقصورةٌ على أنفسها لاتتعدى إلى أحدٍ وجهالةُ هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفتنى والفسادِ وصدِّ النَّاسِ عن سنين السَّدادِ وهيجان الهَرْجِ والمَرْجِ فيما بين العباد ولأنَّها غيرُ معطلةٍ لقوَّةٍ من القُوى المُودَعة بل صارفة لها إلى ما خُلِقت هي له فلا تقصيرَ من قبلها في طلبِ الكمالِ وأمَّا هؤلاءِ فهم مُعطِّلون لقواهم العقلية مضيِّعون للفطرةِ الأصليةِ التي فُطر النَّاسُ عليها مستحقُّون بذلك أعظم العقابِ وأشدَّ النَّكالِ

سورة الفرقان 45

45

{أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ} بيانٌ لبعضِ دلائل التَّوحيدِ إثرَ بيانِ جهالةِ المُعرِضينِ عنها وضلالتهم والخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم والهمزةُ للتَّقريرِ والتَّعرضُ لعُنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه صلى الله عليه وسلم وللإيذانِ بأنَّ ما يعقُبه من آثارِ ربوبيَّتِه ورحمتِه تعالى أيْ ألمْ تنظرُ إِلَى بديعِ صُنعه تعالى {كَيْفَ مَدَّ الظل} أي كيف أنشأ ظلَّ أيَّ مُظَلَ كان من جبلٍ أو بناء أو شجر عند ابتداء طلوع الشَّمسِ ممتداً لا أنَّه تعالى مدَّهَ بعد أنْ لم يكن كذلك كما بعدَ نصفِ النهار إلى غروبها فإنَّ ذلك مع خُلوِّه عن التَّصريح بكون نفسه بإنشائه تعالى وإحداثِه يأباهُ سياق النظم الكريم وأم ما قيل من أن المرادَ بالظِّل ما بينَ طُلوعِ الفجرِ وطُلوع الشَّمسِ وأنه أطيبُ الأوقاتِ فإنَّ الظُّلمةَ الخالصةَ تنفِرُ عنها الطِّباعُ وشعاع الشمس يسخِّنُ الجوَّ ويبهر البصرَ ولذلك وَصَف به الجَّنةَ في قوله تعالى وَظِلّ مَّمْدُودٍ فغير سديد إذ لاريب في أنَّ المرادَ تنبيهُ النَّاسِ على عظيم قُدرة الله عزَّ وجلَّ وبالغِ حكمتِه فيما يشاهدونَه فلا بدَّ أنْ يُرادُ بالظلِّ ما يتعارفونه من حالةٍ مخصوصةٍ يشاهدونها في موضعٍ يحول بينه وبين الشَّمسِ جسمٌ كثيفٌ مخالفةً لما في جوانبه من مواقعِ ضحِّ الشَّمسِ وما ذُكر وإن كانَ في الحقيقةِ ظلاَّ للأفق الشرقيِّ لكنَّهم لا يعدونه ظلاً ولا يصفونه بأوصافهِ المعهودةِ ولعلَّ توجيه الرُّؤية إليه سبحانه وتعالى مع أنَّ المرادَ تقرير رؤيته صلى الله عليه وسلم لكيفة مدِّ الظِّلِّ للتنبيهِ على أن نظره صلى الله عليه وسلم غير مقصور على ما يُطالعه من الآثارِ والصَّنائعِ بل مطمح أنظارِه معرفةُ شئون الصَّانعِ المجيدِ وقوله تعالى {وَلَوْ شَآء لجعله ساكنا} جملةٌ اعترضتْ بين المعطوفين للتنبيه منْ أولِ الأمرِ عَلى أنَّه لا مدخل فيما ذكر من المدِّ للأسباب العاديَّةِ وإنَّما المؤثر فيه المشيئةُ والقدرةُ ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ على القاعدة المستمرَّة من وقوعها وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ أي ولو شاء سكونَه لجعله ساكناً أي ثابتاً على حالِه من الطُّولِ والامتدادِ وإنما عُبِّر عن ذلك بالسُّكونِ لما أنَّ مقابِلَه الذي هو تغيُّر حاله حسب تغُّيرِ الأوضاعِ بين المضل وبين الشَّمسِ يُرَى رأيَ العينِ حركة وانتقالاً وحاصلُه أنه لا يعتريهِ اختلافُ حالٍ بأن لا تنسخه الشَّمسُ وأمَّا التَّعليلُ بأنْ يجعل الشَّمسَ مقيمةً على وضع واحد فمداره الغفُول عما سيق له النظم الكريم ونطقَ به صريحاً من بيان كمال قُدرته القاهرة وحِكمته الباهرة بنسبة جميعِ الأمور الحادثة إليه تعالى الذات وإسقاط الأسباب العاديَّةِ عن رُتبة السَّببيَّةِ والتَّاثيرِ بالكُلِّيةِ وقصرِها على مجرَّدِ الدِّلالةِ على وجود المسبَّبات لا بذكر قُدرته تعالى على بعض الخوارق كإقامةِ الشَّمسِ في مُقام واحدٍ على أنَّها أعظمُ من إبقاء الظلِّ على حالِه في الدِلالة على ما ذُكر من كمال القُدرةِ والحكمة مكونه من فُروعها ومُستتبعاتها فهي أَوْلَى وأحقُّ بالإيراد في معرضِ البيانِ وقولُه تعالى {ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً} عطفٌ على مدَّ داخلٌ في حُكمهِ أيْ جعلناها علامةً يستدلُّ بأحوالها المتغيِّرة على أحوالِه من غير أنْ يكونَ بينهما سببيّة وتأثيرٌ قطعاً حسبما نطقَ به الشَّرطيةُ المعترضة والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لما في الجعلِ المذكورِ العاري عن التَّأثيرِ مع ما يشاهد بين الشَّمسِ والظلِّ من الدَّورانِ المُطَّردِ المنبىءِ عن السَّببيّةِ من مزيد دلالة على عظمِ القُدرةِ ودقة الحكمةِ وهو السرُّ في إيراد كلمة التَّراخي وقولُه تعالى {ثُمَّ قبضناه}

سورة الفرقان (46 48)

46

{ثُمَّ قبضناه} عطف على مد داخل في حكمه وثمَّ للتَّراخي الزَّماني لما أنَّ في بيان كون القبض والمد مر تبين دائرينِ على قطبِ مصالحِ المخلوقاتِ مزيدَ دلالةِ على الحكمة الرَّبانيَّةِ ويجوز أنْ تكونَ للتَّراخي الرُّتبي أي أزلناه بهد ما أنشأناهُ ممتدَّاً ومحوناه بمحص قُدرتنا ومشيئتنا عند إيقاعِ شعاعِ الشَّمس موقعَه من غير أن يكون له تأثيرٌ في ذلك أصلاً وإنَّما عبَّر عنه بالقبضِ المنبىء عن جميع المنبسطِ وطيِّه لمَا أنَّه قد عبَّر عن إحداثِه بالمدِّ الذي هو البسطُ طولاً وقوله تعالى {إِلَيْنَا} للتَّنصيصِ على كونِ مرجعِه إليه تعالى كما أنَّ حدوثَه منع عزَّ وجلَّ {قَبْضاً يَسِيراً} أي على مهل قليلاً حسب ارتفاعِ دليله على وتيرة معيَّنةٍ مطَّردةٍ مستتبعة لمصالح المخلوقات ومرافقها وقبل إنَّ الله تعالى حين بنى السماء كالقبلة المضروبة ودَحَا الأرضَ تحتها ألقت القبة طلها على الأرضِ لعدمِ النيِّر وذلك مدُّه تعالى إيَّاه ولو شاء لجعله ساكنا مستقرَّاً على تلك الحالةِ ثم خلق الشَّمسَ وجعلها على ذلك الظلِّ أي سلَّطها عليه ونصَبها دليلاً متبوعاً له كما يتبعُ الدَّليل في الطَّريقِ فهو يزيدُ بها وينقصُ ويمتدُّ ويقلصُ ثم نسخه بها فقبضه قبضاً سهلاً يسيراً غير عسيرا وقبضا سهلاً عند قيام السَّاعةِ بقبضِ أسبابهِ وهي الأجرامُ التي تلقي الظلَّ فيكون قد ذُكر إعدامُه بإعدامِ أسبابِه كما ذُكر إنشاؤه بإنشائِها ووصفه باليسرِ على طريقةِ قوله تعالى ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على تحقُّقِ الوقوع

47

{وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً} بيانٌ لبعض بدائعِ آثارِ قُدرتِه تعالى وحكمتِه وروائع أحكام رحمته ونعمه الفائضِة على الخلق وتلوينُ الخطابِ لتوفيةِ مقامِ الامتنانِ حقَّه واللامُ متعلِّقةٌ بجعلَ وتقديمُها على مفعولَيْه للاعتناءِ ببيان كونِ ما يعقُبه من منافعِهم وفي تعقيبِ بيان أحوال الظل ببيان أحكامِ اللَّيلِ الذي هُو ظلُّ الأرضِ من لُطف المسلكِ ما لا مزيدَ عليه أي هُوَ الذى جعلَ لكُم اللَّيلَ كاللِّباسِ يسترُكم بظلامِه كما يسترُكم اللِّباسُ {والنوم سُبَاتاً} أي وجعلَ النَّومَ الذي يقعُ في اللَّيلِ غالباً قطعاً عن الأفاعيل المختصَّة بحال اليقظةِ عبَّر عنه بالسُّباتِ الذي الموتُ لما بينها من المُشابهةِ التَّامةِ في انقطاعِ أحكامِ الحياةِ وعليهِ قولُه تعالى وَهُوَ الذى يتوفاكم بالليل وقولُه تعالى الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا {وَجَعَلَ النهار نُشُوراً} أي زمانَ بعثٍ من ذلك السُّباتِ كبعثِ الموتى على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مُقامَه أو نفسُ البعثِ على طريق المبالغة وفيه إشارة إلى أن النَّومَ واليقظةَ أنموذجٌ للموتِ والنُّشورِ وعن لُقمانَ عليه السَّلامُ يا بُنيَّ كما تنامُ فتوقظُ كذلك تموتُ وتنشرُ

48

{وَهُوَ الذى أَرْسَلَ الرياح} وقُرىء بالتَّوحيدِ على أنَّ المرادَ هو الجنسُ {بُشْرًا} تخفيفُ بُشُر جمعُ بَشُورٍ أي مُبشِّرينَ وقُرىء بُشْرى وقرى نُشْراً بالنُّونِ جمعُ نَشور أي ناشرات للَّسَّحابِ وقُرىء بالتَّخفيفِ وبفتحِ النُّونِ أيضاً على أنه مصدرٌ

سورة الفرقان (46 48) وُصف به مبالغةً وقولُه تعالى {بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} استعارةٌ بديعةٌ أي قُدامَ المطرِ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ في قولِه تعالى {وَأَنزَلْنَا من السماء ماء طَهُوراً} لإبرازِ كمالِ العنايةِ بالإيزال لأنَّه نتيجةُ ما ذُكر من إرسالِ الرِّياحِ أي أنزلنا بعظمتِنا بما رتَّبنا من إرسالِ الرِّياح من جهةِ الفوقِ ماءً بليغاً في الطَّهارةِ وما قيل إنَّه ما يكون طاهراً في نفسه ومطهراً لغيرهِ فهو شرح لبلاغته في الطَّهارةِ كما ينبُىء عنه قوله تعالى وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ فإنَّ الطَّهورَ في العربيةِ إمَّا صفةٌ كما تقول ماء طهورا واسم كما في قوله صلى الله عليه وسلم التُّرابُ طهورُ المؤمنِ وقد جاء بمعنى الطَّهارةِ كما في قولك تطهرتُ طَهوراً حسناً كقولك وَضُوءاً حسناً ومنه قوله تعالى صلى الله عليه وسلم لا صلاةَ إلا بطَهورٍ ووصف الماءِ به إشعارٌ بتمام النِّعمةِ فيه وتتميم للنِّعمةِ فيما بعده فإنَّ الماءَ الطَّهورَ أهنأُ وأنفعُ ممَّا خالطه ما يزيل طهوريَّتَه وتنبيه على أنَّ ظواهرهم لما كانت ممَّا ينبغي أن يطهورها فبواطهم أحقُّ بذلك وأولى

49

{لّنُحْيِىَ بِهِ} أي بما أنزلنا من الماءِ الطَّهورِ {بَلْدَةً مَّيْتاً} بإنبات النَّباتِ والتَّذكيرُ لأنَّ البلدةَ بمعنى البلدِ ولأنَّه غير جارٍ على الفعل كسائر أبنية المبالغةِ فأُجريَ مُجرى الجامدِ والمرادُ به القطعةُ من الأرضِ عامرةً كانت أو غامرةً {وَنُسْقِيَهِ} أي ذلك الماءُ الطَّهورُ عند جريانه في الأوديةِ أو اجتماعه في الحياضِ والمنافعِ أو الآبارِ {مِمَّا خَلَقْنَا أنعاما وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً} أي أهلَ البوادي الذين يعيشون بالحَيَا ولذلك نكَّر الأنعامَ والأَناسيَّ وتخصيصهم بالذكر لأنَّ أهل القرى والأمصار يقيمون بقرب الأنهار والمبالغ فيهم وبما لهم من الأنعام غنيةٌ عن سُقيا السَّماءِ وسائرُ الحيوانات تبعدُ في طلب الماء فلا يُعوِزُها الشُّربُ غالباً مع أنَّ مساقَ الآياتِ الكريمةِ كما هو للدِّلالة على عظم القدرة فهو لتعداد أنواع النِّعمةِ والأنعامُ حيث كانت قُنيةً للإنسان وعامة منافعهم ومعايشهم مَنوطةٌ بها قُدِّمَ سقيُها على سقيهم كما قُدِّم عليها إحياءُ الأرضِ فإنَّه سببٌ لحياتِها وتعيُّشِها وقُرىء نُسقيه وأَسْقَى وسَقَى لغتان وقيل أسقاهُ جعل له سُقيا وأَناسيَّ جمع إنسيَ أو إنسانٍ كظرابي في ظربان على أنَّ أصله أناسينَ فقُلبت نونُه ياءً وقُرىء أَناسيْ بالتَّخفيفِ بحذف ياءِ أفاعيلَ كأناعمَ في أناعيمَ

50

{ولقد صرفناه} أي وبالله لقد كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر لما مر من الغايات الجميلة في القرآن وغيره من الكتب السماوية {بينهم} أي بين الناس من المتقدمين والمتأخرين {ليذكروا} ليتفكروا ويعرفوا بذلك كمال قدرته تعالى وواسع رحمته في ذلك ويقوموا بشكر نعمته حق قيام وقيل الضمير للمطر وتصريفه بينهم إنزاله في بعض البلاد دون غيرها أو في بعض الأوقات دون بعض أو جعله تارة وابلا وأخرى طلا وحينا ديمه ووقتا رهمة والأول هو الأظهر {فأبى أكثر الناس} ممن سلف وخلف {إلا كفورا} أي لم يفعل إلا كفران النعمة وقلة الاكتراث لها أو وإلا جحودها بأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ولا يذكر وصنع الله تعالى ورحمته ومن لا يرى الأمطار إلا من الأنواء فهو كافر بخلاف من يرى أن الكل يخلق الله تعالى

سورة الفرقان (51 53) والأنواء أمارات لجعله تعالى

51

{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} نبيَّاً ينذر أهلها فيخف عليك أعباءَ النبوةِ لكن لم نشأْ ذلك فلم نفعلْه بل قصرنا الأمرَ عليك حسبما ينطِق به قوله تعالى لِيَكُونَ للعالمين نَذِيراً إجلالاً لك وتعظيماً وتفضيلاً لك على سائر الرُّسلِ

52

{فَلاَ تُطِعِ الكافرين} أي فقابل ذلك بالثَّباتِ والاجتهاد في الدَّعوةِ وإظهار الحقِّ والتَّشددِ معهم كأنَّه نهيٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المُداراة معهم والتَّلطفِ في الدَّعوةِ لما أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يودُّ أنْ يدخُلوا في الإسلام ويجتهدُ في ذلك بتأليفِ قلوبهم أشدَّ الاجتهاد {وجاهدهم بِهِ} أي بالقُرآن بتلاوةِ ما في تضاعيفِه من القوارع والزَّواجرِ والمَواعظِ وتذكير أحوال الأممِ المكذِّبةِ {جِهَاداً كَبيراً} فإنَّ دعوةَ كلِّ العالمينَ على الوجهِ المذكورِ جهادٌ كبيرٌ لا يُقادرُ قدرُه كمًّا وكيفاً وقيل الضَّميرُ المجرورُ لتِركِ الطَّاعةِ المفهوم من النَّهي عن الطَّاعةِ وأنتَ خبيرٌ بأنَّ مجرَّد تركِ الطَّاعةِ يتحقَّقُ بلا دعوةٍ أصلاً وليس فيه شائبةُ الجهاد فضلان عن الجهاد الكبيرِ اللهمَّ إلاَّ أنْ تجعلَ الباء للملابسةِ ليكون المعنى وجاهِدْهم بما ذُكر من أحكامِ القُرآن الكريم ملابَساً بتركِ طاعتِهم كأنَّه قيل فجاهدْهم بالشِّدَّةِ والعُنفِ لا بالمُلاءمةِ والمُداراةِ كما في قوله تعالى يأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ وقد جُعل الضميرُ لما دلَّ عليه قولُه تعالى ولو شئنا لَبَعَثْنَا فِى كُلّ قَرْيَةٍ نذيرا من كونه صلى الله عليه وسلم نذيرَ كافَّةِ القُرى لأنَّه لو بُعث في كلِّ قرية نذير لوجبَ على كلِّ نذير مجاهدةُ قريتِه فاجتمعتْ على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم تلك المجاهداتُ كلُّها فكبُر من أجلِ ذلك جهادُه وعظم فقيل له صلى الله عليه وسلم وجاهدْهم بسببِ كونِك نذيرَ كافَّةِ القُرى جهاداً كبيراً جامعاً لكلِّ مُجاهدةٍ وأنت خبيرٌ بأنَّ بيانَ سبب كِبَرِ المُجاهدةِ بحسب الكميَّةِ ليس فيه مزيد فإنَّه بيِّنٌ بنفسِه وإنَّما اللائقُ بالمقامِ بيانُ سببِ كبرِها وعظمِها في الكيفيَّةِ

53

{وَهُوَ الذى مَرَجَ البحرين} أي خلاَّهما متجاورينِ مُتلاصقين بحيثُ لا يتمازجانِ من مَرَجَ دابَّته إذا خلاَّها {هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} قامعٌ للعطشِ لغايةِ عذوبتِه {وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} بليغُ المُلوحةِ وقُرىء مَلْحٌ فلعلَّه تخفيفُ مالحٍ كبَرْدٍ في باردٍ {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} حاجزاً غيرَ مرئيَ من قُدرتِه كما في قوله تعالى بغير عمد وترونها {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} وتنافراً مُفرِطاً كأن كلامهما يتعوَّذُ من الآخرِ بتلك المقالِة وقيل حَدَّاً محدُوداً وذلك كدجلةَ تدخلُ البحرَ وتشقُّه وتجري في خلالِه فراسخَ لا يتغيَّرُ طعمُها وقيل المرادُ بالبحرِ العذبِ اله العظيمُ وبالمالحِ البحرُ الكبيرُ وبالبرزخ ما بينهما من الأرضِ فيكون أثرُ القُدرة في الفصلِ واختلافِ الصِّفةِ مع أنَّ مُقتضى طبيعةِ كلِّ عُنصرٍ التَّضامُّ والتَّلاصقُ والتشابه في الكيفية

سورة الفرقان (54 59)

54

{وَهُوَ الذى خَلَقَ مِنَ الماء بَشَراً} هو الماءُ الذي خمَّر به طينة آدمَ عليه السَّلامُ أو جعله جُزءاً من مادَّةِ البشر ليجتمع ويسلسَ ويستعدَّ لقبول الأشكال والهيئاتِ بسهولة أو هو النُّطفةُ {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} أي قسمه قسمينِ ذوَيْ نسبٍ أي ذكوراً يُنتسبُ إليهم وذوات صهرا أي أناثاً يُصاهرُ بهنَّ كقولهِ تعالى فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والانثى {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} مبالغاً في القُدرة حيث قدرَ على أنْ يخلقَ من مادَّةٍ واحدةٍ بشراً ذَا أعضاءٍ مختلفةٍ وطباعٍ مُتباعدةٍ وجعله قسمين متقابلتين ورُبَّما يخلق من نُطفةٍ واحدة توأمين ذكرا وأنثى

55

{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} الذي شأنه ما ذكر {مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ} أي ما ليس من شأنِه النَّفعُ والضُّرُّ أصلاً وهو الأصنامُ أو كل ما يعبدون من دونه تعالى إذْ ما من مخلوقٍ يستقلُّ بالنَّفع والضُّرُّ {وَكَانَ الكافر على رَبّهِ} الذي ذُكرتْ آثارُ ربوبَّيتهِ {ظَهِيرًا} يُظاهر الشَّيطانَ بالعداوةِ والشركِ والمرادُ بالكافر الجنسُ أو أبُو جهلٍ وقيل هيِّناً مهيناً لا اعتدادَ به عندَه تعالى من قولِهم ظهرتَ به إذا نبذته خلفَ ظهرِك فيكون كقولِه تعالى وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ

56

{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا} للمؤمنين {وَنَذِيرًا} للكافرين

57

{قُلْ} لهم {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على تبليغِ الرَّسالةِ الذي ينبىءُ عنه الإرسالُ مِنْ {أَجْرٍ} من جهتكم {إِلاَّ مَن شَاء أن يتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً} أي الأفعال من يُريد أنْ يتقرَّبَ إليه تعالى ويطلبَ الزُّلْفى عندَه بالإيمانِ والطَّاعةِ حسبَما أدعُوهم إليهما فصوَّرَ ذلك بصورةِ الأجرِ من حيثُ إنَّه مقصودُ الإتيانِ به واستثنى منه قلعاً كلَّياً لشائبةِ الطَّمعِ وإظهاراً لغاية الشَّفقةِ عليهم حيثُ جعلَ ذلك مع كونِ نفعِه عائدا إليهم عائدا إليه صلى الله عليه وسلم وقيل الاستثناءُ منقطعٌ أي لكِنْ منَ شاء أنْ يتخذ إلى ربه سبيلا فليفعلْ

58

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الحى الذى لاَ يَمُوتُ} في الاستكفاءِ عن شرورِهم والإغناءِ عن أجورِهم فإنَّه الحقيقُ بأنْ يتوكل بأن عليه دون الأحياء الذين من شأنِهم الموتُ فإنَّهم إذا ماتوا اضاع مَن توكَّل عليهم {وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ} ونزَّهه عن صفاتِ النُّقصانِ مُثنياً عليه بنعوتِ الكمالِ طالباً لمزيدِ الإنعامِ بالشُّكرِ على سوابغِه {وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ} ما ظهرَ منها وما بطنَ {خَبِيراً} أي مُطَّلِعاً عليها بحيثُ لا يَخْفى عليه شيءٌ منها فيجزيهم جزاءً وافيا

59

{الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش}

قد سلفَ تفسيرُه ومحلُّ الموصولِ الجرُّ على أنَّه صفةٌ أُخرى للحيِّ وصف بالصِّفةِ الفعلية بعد وصفهِ بالأبديَّةِ التي هي من الصَّفاتِ الذَّاتيةِ والإشارةُ إلى الصافة بالعلمِ الشَّاملِ لتقريرِ وجوبُ التوكلِ عليه تعالى وتأكيده فإنَّ من أنشأَ هذه الأجرامَ العظامَ على هذا النمطِ الفائقِ والنَّسقِ الرَّائقِ بتدبيرٍ متينٍ وترتيبٍ رصينٍ في أوقاتٍ معيَّنة مع كمال قدرتِه على إبداعها دفعةً لحكمِ جليلةٍ وغاياتٍ جميلةٍ لا تقف على تفاصيلِها العقولُ أحقُّ مَن يُتوكَّل عليه وأَولى من يُفوَّضُ الأمرُ إليه {الرحمن} مرفوعٌ على المدحِ أي هو الرحمنُ وهو في الحقيقةِ وصفٌ آخرُ للحيِّ كما قُرىء بالجرِّ مفيد لزيادة تأكيد ما ذُكر من وجوبُ التوكلِ عليه تعالى وإنْ لم يتبْعه في الإعرابِ لما تقرَّر من أنَّ المنصوبَ والمرفوعَ مَدحاً وإنْ خرجَا عن التبيعة لما قبلهما صورةً حيثُ لم يتبعاهُ في الإعرابِ وبذلك سُمّيا قطعاً لكنَّهما تابعانِ له حقيقةً أَلاَ يرى كيف النزموا حذف الفعل والمتدأ في النصب والرفع وما لتصوير كلَ منهما بصورةِ متعلِّقٍ من متعلَّقات ما قبلَه وتنبيهاً على شدَّةِ الاتِّصالِ بينهما وقد مرَّ تمامُ التَّحقيق في تفسير قولِه عزَّ وجلَّ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب الآيةَ وقيل الموصولُ مبتدأٌ والرَّحمنُ خبرُه وقيل الرَّحمنُ بدلٌ من المستكنِّ في استوى {فَاسْأَلْ بِهِ} أي بتفاصيلِ ما ذُكر إجمالاً من الخَلْقِ واستواء لا بنفسِهما فقط إذْ بعد بيانِهما لا يبقى إلى السُّؤالِ حاجةٌ ولا في تعديتهِ بالباءِ فائدةٌ فإنَّها مبنيَّةٌ على تضمينهِ معنى الاعتناءِ المستدعِي لكون المسؤل أمراً خطيراً مهتمًّا بشأنِه غيرَ حاصلٍ للسَّائلِ وظاهرٌ أنَّ نفسَ الخلقِ والاستواءِ بعد الذِّكرِ ليس كذلكَ وما قيل من أن التَّقديرَ إنْ شككتَ فيه فاسألْ به خَبيراً على أن الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمرادَ غيرُه بمعزلٍ من السَّدادِ بل التَّقديرُ إنْ شئتَ تحقيقَ ما ذُكر أو تفصيلَ ما ذُكر فاسألْ معنيًّا بهِ {خَبِيراً} عظيمَ الشَّأنِ محيطاً بظواهرِ الأمورِ وبواطِنها وهو الله سبحانَه يُطلعك على جليَّةِ الأمرِ وقيل فاسألْ به من جده في الكتبِ المتقدِّمةِ ليصدُقكَ فيه فلا حاجةَ حينئذٍ إلى ما ذَكرنا وقيل الضَّميرُ للرَّحمنِ والمعنى إنْ أنكرُوا إطلاقُه على الله تعالى فاسألْ عنه مَن يُخبرك من أهلِ الكتابِ ليعرفوا مجيء ما يردافه في كتبِهم وعلى هَذا يجوزُ أنْ يكونَ الرَّحمنُ مبتدأ وما بعده خبرا وقُرىء فَسَلْ

60

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن} قالوا لما أنهم ما كانوا يُطلقونَهُ على الله تعالى أو لأنَّهم ظنُّوا أنَّ المرادَ به غيرُه تعالى ولذلك قالُوا {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} أي للذي تأمرُنا بسجودِه أو لأمرِك إيَّانا من غيرِ أنْ نعرفَ أن المسجود له ماذا وقيل لأنَّه كانَ مُعرَّباً لم يسمعُوه وقُرىء يأْمُرنا بياءِ الغَيبةِ على أنَّه قولُ بعضِهم لبعضٍ {وَزَادَهُمْ} أي الأمرُ بسجودِ الرَّحمنِ {نُفُورًا} عن الإيمانِ

61

{تَبَارَكَ الذى جَعَلَ فِى السماء بُرُوجاً} هيَ البروجُ الاثنَا عشرَ سُّمِّيتْ به وهي القُصور العاليةُ لأنَّها للكواكبِ السَّيارةِ كالمنازلِ الرَّفيعةِ لسُكَّانِها واشتقاقُه من البُرجِ لظهورِه {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} هي الشَّمسُ لقولِه تَعالَى وجعل الشَّمسَ سراجاً وقُرىء سرجا وهي

سورة الفرقان (62 65) الشَّمسُ والكواكبُ الكبارُ {وَقَمَراً مُّنِيراً} مُضيئاً بالليَّل وقُرىء قمرا أي ذا قمر وهي مع قَمراءَ ولما أنَّ اللَّياليَ بالقمر تكون قمرا ضيف إليها ثمَّ حُذفَ وأُجريَ حكمُه على المضافِ إليهِ القائمِ مقامَهُ كما في قولِ حسَّانَ رضَي الله عنه {بردى يضيق بالرَّحيقِ السَّلسلِ} أي ماءُ بَردى ويُحتمل أنَّ يكونَ بمعنى القمرِ كالرَّشدِ والرُّشدِ والعَرَبِ والعُرْبِ

62

{وهو الذي جعل الليل والنهار خِلْفَةً} أي ذَوَي خلفةٍ يخلفُ كلٌّ منهما الآخرَ بأنْ يقومَ مقامَه فيما ينبغي أنْ يَعملَ فيه أو بأنْ يَعتِقبا كقوله تعالى واختلاف الليل والنهار وهي اسمٌ للحالةِ من خلفَ كالرِّكبةِ والجِلسةِ من رَكِبَ وجَلَس {لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} أي يتذكَّر آلاءَ الله عزَّ وجلَّ ويتفكَّر في بدائعِ صُنَعهِ فيعلم أنَّه لا بُدَّ لها من صانعٍ حكيمٍ واجبِ الذَّاتِ رحيمٍ للعبادِ {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} أي أنْ يشكَر الله تعالى على ما فيهما من النِّعمِ أو ليكونا وقتين للذاكربن مَن فاتَهُ وِرْدُه في أحدهما تداركه في الآخر وقرى أنْ يذكُرَ من ذَكَر بمعنى تذكَّر

63

{وَعِبَادُ الرحمن} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أو صاف خلَّصِ عبادِ الرَّحمنِ وأحوالِهم الدَّنيويةِ والأخُروَّيةِ بعد بيان حال النَّافرين عن عبادتِه والسُّجودِ له والإضافةُ للتَّشريفِ وهو مبتدأ خبرُه ما بعدَهُ من الموصولِ وما عُطف عليهِ وقيلَ هو ما في آخرِ السُّورةِ الكريمةِ من الجُملةِ المصدَّرةِ الإشارةِ وقُرىء عبادُ الرَّحمنِ أي عبادُه المقبُولونَ {الذين يَمْشُونَ على الارض هَوْناً} أي بسكينةٍ وتواضعٍ وهَوْناً مصدرٌ وُصف به ونصبُه إمَّا على أنَّه حالٌ من فاعلِ يمشُون أو على أنه نعث لمضدره أي يمشُون هيِّنين ليِّنيِ الجانبِ من غيرِ فظاظةٍ أو مشياً هيِّنا وقولُه تعالى {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون} أي السُّفهاءُ كما في قول من قال ألا لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَينا فنجهل فوق جهل الجاهلية ... {قَالُواْ سَلاَماً} بيانٌ لحالِهم في المُعاملة مع غيرِهم إِثرَ بيانِ حالِهم في أنفسِهم أي إذا خاطبُوهم بالسُّوءِ قالوا تسليماً منكمُ ومتاركةً لا خيرَ بيننا وبينكم شرَّ وقيل سَداداً من القولِ يسلمُون به من الأذيَّةِ والإثمِ وليسَ فيه تعرُّضٌ لمعاملتِهم مع الكَفَرةِ حتَّى يُقالَ نسختها آيةُ القتالِ كما نُقل عن أبي العاليةِ وقولُه تعالى

64

{وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّداً وقياما} بيانٌ لحالِهم في معاملتِهم مع ربِّهم أي يكونون ساجدين لربِّهم وقائمين أي يحبون اللَّيلَ كُلاًّ أو بعضاً بالصَّلاةِ وقيل من قرأ شيئاً من القُرآنِ في صلاةٍ وإنْ قلَّ فقد باتَ ساجداً وقائماً وقيل هُما الرَّكعتانِ بعد المغربِ والرَّكعتانِ بعد العشاءِ وتقديمُ السُّجودِ على القيامِ لرعايةِ الفواصلِ

65

{والذين يَقُولُونَ} أي في أعقابِ صلواتِهم أو في عامة أو قاتهم {رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً}

أي شراً دائماً وهلاكاً لازماً وفيه مزيدُ مدحٍ لهم ببيان أنَّهم مع حُسن معاملتِهم مع الخلقِ واجتهادِهم في عبادةِ الحقِّ يخافُون العذابَ ويبتهلون إلى الله تعالَى في صرفِه عنهم مختلفين بأعمالِهم كقوله تعالَى والذين يُؤْتُونَ ما آتوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون

66

{إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} تعليلٌ لاستدعائِهم المذكورِ بسوءِ حالِها في نفسها إثرَ تعليلهِ بسوء حالِ عذابِها وقد جوز أن يكون تعليلاً للأُولى وليس بذاك وساءتْ في حكم بئستُ وفيها ضميرٌ مبهمٌ يفسِّره مستقرَّاً والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ معناه ساءتْ مستقرَّاً ومقاماً هَي وهذا الضَّميرُ هو الذي ربطَ الجملة باسمِ إنَّ وجعلَها خبراً لها قيلَ ويجوزُ أنْ يكونَ ساءتْ بمعنى أحزنتْ وفيها ضميرا اسم إنَّ ومستقرَّاً حالٌ أو تمييزٌ وهو بعيدٌ خالٍ عَّما في الأولِ من المبالغةِ في بيانِ سوءِ حالِها وكذا جعل التعليلينِ من جهتِه تعالى

67

{والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ} لم يجاوزُوا حدَّ الكرمِ {وَلَمْ يَقْتُرُواْ} ولم يضيِّقُوا تضييقَ الشَّحيحِ وقيل الإسراف هو الإتفاق في المعاصِي والقترُ منعُ الواجباتِ والقُربِ وقُرىء بكسرِ التَّاءِ مع فتحِ الياءِ وبكسرها مخففة ومشدة مع ضمِّ الياءِ {وَكَانَ بَيْنَ ذلك} أي بين ما ذكر من الإسراف والقَترِ {قَوَاماً} وسطاً وعدلاً سُمِّي به لاستقامةِ الطَّرفينِ كما سُمِّيَ به سواءً لا ستوائهما وقُرىء بالكسرِ وهو ما يُقام به الحاجةُ لا يفضلُ عنها ولا ينقصُ وهو خبرٌ ثانٍ أو حالٌ مؤكِّدة أو هو الخبرُ وبين ذلك لغوٌ وقد جوز أن يكون اسمَ كانَ على أنَّه مبنيٌّ لأضافتِه إلى غيرِ متمكِّن ولا يَخْفى ضعفُه فإنَّه بمعنى القوام فيكون كالإخبارِ بشيءِ عن نفسِه

68

{والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخر} شروعٌ في بيان اجتنابِهم عن المعاصي بعد بيانِ إتيانِهم بالطَّاعات وذكرُ نفيِ الإسرافِ والقَتْرِ لتحقيقِ معنى الاقتصادِ والتَّصريحُ بوصفِهم بنفيِ الإشراكِ مع ظهورِ إيمانِهم لإظهارِ كمالِ الاعتناء بالتَّوحيدِ والإخلاصِ وتهويلِ أمرِ القتلِ والزِّنا بنظمِهما في سلكِه وللتَّعريضِ بما كانَ عليه الكَفَرةُ من قُريشٍ وغيرِهم أي لا يعبدونَ معه تعالى إلهاً آخرَ {وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التى حَرَّمَ الله} أي حرَّمها بمعنى حرَّم قتلَها فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مقامه مبالغةً في التَّحريمِ {إِلاَّ بالحق} أي لا يقتلونَها بسببٍ من الأسبابِ إلا بسببِ الحقِّ المزيلِ لحُرمتِها وعصمتِها أو لا يقتلون قتلاً ما إلا قتلاً ملتبساً بالحقِّ أو لا يقتلونها في حالٍ من الأحوالِ إلا حال كونهم ملتبسين بالحقِّ {وَلاَ يَزْنُونَ} أي الذين لا يفعلُون شيئاً من هذه العظائمِ القبيحةِ التي جمعهنَّ الكفرةُ حيث كانُوا مع إشراكِهم به سبحانه مداومين على قتلِ النُّفوسِ المحرَّمةِ التي من جُملتها الموءودةُ مكبِّين على الزنا لا يرعون عنه أصلاً {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي ما ذُكر كما هو دأبُ الكَفرةِ

سورة الفرقان (69 72) المذكُورين {يَلْقَ} في الآخرةِ وقرىء يلقَّ بالتَّشديدِ مجزوماً {أَثَاماً} وهو جزاءُ الإثمِ كالوبال والنِّكال وزناً ومعنى وقيل هو الإثم أي يلقَ جزاءُ الإثم والتَّنوينُ على التَّقديرين للتفخيم وقُرىء أيَّاماً أي شدائدَ يقال يومٌ ذُو أيَّام لليومِ الصَّعبِ

69

{يضاعف لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة} بدلٌ من يلقَ لاتِّحادِهما في المعنى كقوله ... متى تأتِنا تُلمِمْ بنا في ديارِنا ... تجدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تأجَّجاً وقُرىء ... بالرَّفع على الاستئنافِ أو على الحالَّيةِ وكذا ما عُطف عليه وقرىء يُضعَّف ونُضعِّف له العذابَ بالنُّون ونصبِ العذابِ {وَيَخْلُدْ فِيهِ} أي في ذلكَ العذابِ المضاعفِ {مُهَاناً} ذليلاً مستحقراً جامعاً للعذاب الجُسمانيِّ والرُّوحانيِّ وقرىء يُخلَد ويُخلَّد مبنياً للمفعول من الإخلاد والتَّخليدِ وقُرىء تخلُد بالتاء على الالتفات المنبىءِ عن شدَّة الغضبِ ومضاعفةِ العذابِ لانضمامِ المعاصي إلى الكفر كما يفصحُ عنه قولُه تعالى

70

{إلا من تاب وآمن وعمل صالحا} وذكر الموصوفِ مع جريانِ الصَّالحِ والصَّالحاتِ مَجرى الإسم للإعتناء والتنَّصيص على مغايرتهِ للأعمال السَّابقةِ {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصولِ والجمعُ باعتبارِ معناه كما أن الإفراد في الأفعالِ الثَّلاثة باعتبار لفظةِ أي أولئك الموصُوفون بالتَّوبةِ والإيمانِ والعملِ الصَّالحِ {يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} بأنْ يمحوَ سوابقَ معاصِيهم بالتَّوبةِ ويثبت مكانَها لواحقَ طاعتِهم أو يبدلَ بملكة المعصيةِ ودواعيها في النفس ملكةَ الطَّاعةِ بأنْ يُزيلَ الأُولى ويأتيَ بالثَّانيةِ وقيل بأنْ يُوفقَه لأضدادِ ما سلف منه أو أن يُثبت له بدَل كلِّ عقابٍ ثواباً وقيل يبدلهم بالشِّركِ إيماناً وبقتل المسلمينَ قتلَ المشركين وبالزِّنا عفَّةً وإحصاناً {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} اعتراض تذيبلى مقرِّرٌ لما قبله من المحوِ والإثبات

71

{وَمَن تَابَ} أي عن المعاصي بتركها بالكليَّة والنَّدمِ عليها {وَعَمِلَ صالحا} يتلافى به ما فَرَطَ منه أو خرج عن المعاصي ودخل في الطَّاعات {فَإِنَّهُ} بما فعلَ {يَتُوبُ إِلَى الله} أي يرجعُ إليه تعالى {مَتاباً} أي متاباً عظيمَ الشَّأنِ مرضيّاً عنده تعالى ما حيا للعقاب محصِّلاً للثَّوابِ أو يتوب متاباً إلى الله تعالى الذي يحبُّ التَّوابينَ ويحسن إليهم أو فإنَّه يرجعُ إليه تعالى أو إلى ثوابه مرجعاً حسناً وهذا تعيمم بعد تخصيصِ

72

{والذين لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} لا يُقيمون الشَّهادةَ الكاذبةَ أو لا يحضُرون محاضرَ الكذبِ فإنَّ مشاهدةَ الباطل مشاركةٌ فيه {وَإِذَا مَرُّواْ} على طريقِ الاتفاقِ {باللغو} أي ما يجبُ أنْ يُلغى ويُطرحَ مَّما لا خيرَ فيه {مَرُّواْ كِراماً} معرضين عنه مكرِمين أنفسَهم عن الوقوف عليه والخوض فيه ومن ذلك الإغضاءُ عن الفواحش والصَّفحُ عن الذُّنوب والكنايةُ عمَّا يُستهجنُ التصريح به

سورة الفرقان (73 75)

73

{والذين إذا ذكروا بآيات رَبّهِمْ} المنطويةِ على المواعظ والأحكامِ {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} أي أكبُّوا عليها سامعين بآذانٍ واعيةٍ مجلين لها بعيون راعية وإنما عبَّر عن ذلك بنفي الضِّدِّ تعريضاً بما يفعله الكفرةُ والمنافقون وقيل الضَّميرُ للمعاصي المدلولِ عليها باللغو

74

{والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} بتوفيقهم للطَّاعةِ وحيازة الفضائلِ فإنَّ المؤمنَ إذا ساعده أهلُه في طاغة الله عزَّ وجلَّ وشاركوه فيها يُسرُّ بهم قلبُه وتقرُّ بهم عينُه لما يشاهدُه من مشايعتهم له في مناهجِ الدِّينِ وتوقُّعِ لحوقِهم به في الجنَّة حسبما وعد بقوله تعالى أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ ومِن ابتدائتة او بيانية وقرئ وذريتا وتنكيرُ الأعينِ لإرادة تنكيرِ القُرَّة تعظيماً وتقليلُها لأنَّ المراد أعين المنقين ولا ريبَ في قلَّتِها نظراً إلى غيرِها {واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} أي اجعلنا بحيثُ يقتدون بنا في إقامة مواسم الدِّين بإفاضة العلم والتَّوفيقِ للعمل وتوحيدُه للدِّلالة على الجنس وعدم الإلباس كقوله تعالى ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً أو لأنَّ المرادَ واجعلْ كلَّ واحدٍ مَّنا إماماً أو لأنَّهم كنفس واحدةٍ لاتِّحاد طريقتهم واتِّفاق كلمتِهم كذا قالُوا وأنت خبيرٌ بأن مدارَ الكلِّ صدورُ هذا الدُّعاء إما عن الكلِّ بطريق المعيَّةِ وأنه محال لاستحانة اجتماعِهم في عصرٍ واحدٍ فما ظك باجتماعهم في مجلسٍ واحدٍ واتِّفاقِهم على كلمةٍ واحدةَ وإما عنْ كلَّ واحدٍ منْهُم بطريق تشريك غيره في استدعاءِ الإمامةِ وأنَّه ليس بثابتٍ جَزْماً بل الظَّاهرُ صوره عنهم بطريقِ الانفرادِ وأنَّ عبارةَ كلِّ واحدٍ منهم عند الدُّعاء واجعلني للمتَّقين إماماً خلا أنه حُكيت عباراتُ الكلِّ بصيغة المتكلِّم مع الغيرِ للقصدِ إلى الإيجاز على طريقة قوله تعالى يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا وأتقى إماماً على حاله وقيل الإمامُ جمعُ آمَ بمعنى قاصد كصيام جمع صائم ومعناه قاصدين لهم مُقتدين بهم وإعادةُ الموصولِ في المواقع السَّبعةِ مع كفايةِ ذكرِ الصِّلات بطريقِ العطفِ على صلة الموصول الأول للإبذان بأنَّ كلَّ واحدٍ ممَّا ذُكر في حيَّزِ صلةِ الموصولاتِ المذكورة وصفٌ جليلٌ على حِياله له شأنٌ خُطيرٌ حقيقٌ بأنْ يُفردَ له موصوفٌ مستقلٌّ ولا يُجعل شيءٌ من ذلكَ تتمة لغيرهِ وتوسيط العاطفِ بين الموصولاتِ لتنزيلِ الاختلافِ العنوانيِّ منزلةَ الاختلافِ الذاتيِّ كما في قولِه ... إلى الملكِ القَرمِ وابنِ الهُمَام ... وليثِ الكتائبِ في المزْدَحَمْ ...

75

{أولئك} إشارةٌ إلى المتَّصفين بما فصل في حين صلة الموصُولات الثمَّانيةِ من حيثُ اتِّصافُهم به وفيهِ دلالةٌ على أنَّهم متميِّزون بذلك أكملَ تميُّز منتظِمون بسببه في سِلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإيذانِ ببُعد منزلتِهم في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى {يُجْزَوْنَ الغرفة} والجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب مبينةٌ لما لَهُمْ فِى الآخرةِ من السَّعادةِ الأبديَّةِ إثرَ بيانِ ما لهُم في الدُّنيا من الأعمال السَّنيةِ والغُرفة الدَّرجةُ العاليةُ من المنازل وكلُّ بناء

سورة الفرقان (76 77) مرتفعٍ عالٍ أي يُثابون أعلى منازل الجنَّةِ وهي اسمُ جنسٍ أُريد به الجمع كقولِه تعالى وَهُمْ في الغرفات آمنون وقيل هي اسمٌ من أسماء الجنَّةِ {بِمَا صَبَرُواْ} أي بصبرِهم على المشاقِّ من مضض الطَّاعاتِ ورفض الشَّهواتِ وتحمُّلِ المجاهدات {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا} من جهةِ الملائكةِ {تحية وسلاما} أي يحيهم الملائكةُ ويدعُون لهم بطول الحياة والسَّلامةِ من الآفاتِ أو يعطون النبقية والتَّخليدَ مع السَّلامةِ من كلِّ آفةٍ وقيل يُحيِّي بعضُهم بعضاً ويُسلِّم عليه وقُرىء يلقَون من لَقِي

76

{خالدين فِيهَا} لا يموتُون ولا يُخرجون {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} الكلامُ فيه كالذي مرَّ في مقابلة

77

{قُلْ} أُمرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأنْ يبيِّن للنَّاسِ أنَّ الفائزون بتلك النَّعماءِ الجليلةِ التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ إنَّما نالُوها بما عُدِّدَ من محاسنهم ولولاها لم يُعتدَّ بهم أصلاً أي قُل لهم كافَّةً مشافِهاً لهم بما صدرَ عن جنسهم من خيرٍ وشر {ما يعبأ بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ} أيْ أيُّ عبءٍ يُعبأُ بكم وأيُّ اعتدادٍ يُعتدُّ بكم لولا عبادتُكم له تعالى حسبما مرَّ تفصيلُه فإنَّ ما خُلق له الإنسانُ معرفتُه تعالى وطاعتُه وإلاَّ فهو وسائرُ البهائمِ سواءٌ وقال الزَّجَّاجُ معناه أيُّ وزنٍ يكون لكم عنده وقيل معناه ما يصنع بكم ربي لولا دعاؤه إيَّاكم إلى الإسلامِ وقيل ما يصنعُ بعذابِكم لولا دعاؤكم معه آلهةً ويجوز أن تكون مانافية وقوله تعالى {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} بيانٌ لحال الكَفَرةِ من المخاطَبين كما أنَّ ما قبله بيانٌ لحال المُؤمنين منُهم أي فقد كذَّبتُم بما أخبرتكم به وخالقتموه أيُّها الكَفَرةُ ولم تعملوا عملَ أولئك المذكورينَ وقيل فقد قصَّرتمُ في العبادة من قولهم كذَب القتالُ إذا لم يُبالغ فيه وقُرىء فقد كذبَ الكافرون أي الكافرون منكُم لعمومِ الخطابِ للفريقينِ وفائدتُه الإيذانُ بأنَّ مناطَ فوزِ أحدِهما وخسرانِ الآخر مع الاتِّحاد الجنسيِّ المصحِّحِ للاشتراكِ في الفوزِ ليس إلا اختلافُهما في الأعمال {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} أي يكون جزاءُ التكذيبِ أو أثرُه لازماً يحيقُ بكم لا محالةَ حتَّى يُكبكم في النَّارِ كما تُعربُ عنه الفاءُ الدَّالَّةُ على لزومِ ما بعدها لما قبلَها وإنَّما أُضمر من غير ذكرٍ للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره وللتنبيه على أنه مَّما لا يُكتنهه البيانُ وقيل يكون العذابُ لزاماً وعن مجاهد رحمه الله هو القتلُ يومَ بدرٍ وأنه لُوزم بين القَتْلى وقُرىء لَزاماً بالفتح بمعنى اللُّزومِ كالثَّباتِ والثُّبوتِ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سورةَ الفرقانِ لقي الله تعالَى وهُو مؤمن بأن الساعة آنية لا ريبَ فيها وأُدخلَ الجنة بغير نصب

سورة الشعراء (1 4) سورة الشعراء مكية إلا الآيات 197 ومن آية 224 إلى آخر السورة فمدنية وآياتها 227 {بِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم}

الشعراء

{طسم} بتفخيمِ الألف وبإمالتِها وإظهارِ النُّونِ وبإدغامِها في الميمِ وهو إمَّا مسرودٌ على نمطِ التعديدِ بطريقِ التَّحدِّي على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ في فاتحة البقرةِ فلا محلَّ له من الإعرابِ وإمَّا اسمٌ للسورة كما عليه الإطباق الأكثرِ فمحلُّه الرفعُ على أنَّه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ وهو أظهرُ من الرَّفع على الابتداءِ وقد مرَّ وجهُه في مطلعِ سُورة يونسَ عليه السَّلامُ أو النصبُ بتقديرِ فعلِ لائقٍ بالمقام نحوُ اذكُر أو اقرأْ وتلكَ في قولِه تعالى

2

{تلك آيات الكتاب المبين} إشارةٌ إلى السُّورة سواءٌ كانَ طسم مسروداً على نمطِ التعديدِ أو اسماً للسُّورة حسبما مرَّ تحقيقُه هناك وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البُعد للتنبيه على بُعد منزلةِ المشارِ إليه في الفخامةِ ومحلُّه الرفعُ على أنه مبتدأ خبرُه ما بعَدُه وعلى تقديرِ كونِ طسم مبتدأً فهو مبدأ ثانٍ أو بدلٌ من الأَّولِ والمرادُ بالكتابِ القرآنُ وبالمبينِ الظَّاهرُ إعجازُه على أنه من أبان بمعنى بانَ أو المُبينُ للأحكامِ الشَّرعيةِ وما يتعلَّقُ بها أو الفاصلِ بين الحقِّ والباطلِ والمعنى هي آياتٌ مخصوصةٌ منه مترجمةٌ باسمِ مستقلٍ والمرادُ ببيانُ كونِها بعضا منه وصفُها بما اشتُهر به الكُلُّ من النُّعوتِ الفاضلةِ

3

{لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ} أي قاتلٌ وأصلُ البَخعِ أنْ يبلغَ بالذَّبحِ النُّخاعَ وهو عرقٌ مستبطنُ الفقارِ وذلك أقصى حدِّ الذَّبحِ وقُرىء باخِعُ نفسِك على الإضافةِ ولعل للإشتفاق أي أشفقْ على نفسِك أنْ تقتلَها حسرةً على ما فاتَك من إسلامِ قومِك {أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي لعدمِ إيمانِهم بذلكَ الكتابِ المبينِ أو خيفةَ أنْ لا يُؤمنوا به وقوله تعالى

4

{إِن نَّشَأْ} الخ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليلِ ما يُفهم من الكلام من النَّهي عن التَّحسرِ المذكور ببيانِ أنَّ إيمانَهم ليس ممَّا تعلَّقتْ به مشيئةُ الله تعالى حتماً فلا وجهَ للطَمعِ فيه والتَّألمِ من فواتِه ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لكونه مضمونَ الجزاءِ أعني قوله تعالى {نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ من السماء آية} أي ملجئةً لهم إلى الإيمانِ قاسرةً عليه وتقديمُ الظَّرفينِ على المفعول الصَّريحِ لما مر مرارا من الإهتمام بالمقدم

سورة الشعراء (5 7) والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ {فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين} أي مُنقادين وأصلُه فظلوا لها خاضعين فأقتحمت الأعناقُ لزيادةِ التَّقريرِ ببيانِ موضعِ الخضوعِ وتُرك الخبرُ على حالِه وقيل لمَّا وُصفت الأعناقُ بصفاتِ العُقلاء أُجريتْ مجراهم في الصِّيغةِ أيضاً كَما في قولِه تعالى رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ وقيل أُريد بها الرُّؤساءُ والجماعاتُ من قولِهم جاءنا عنقٌ من النَّاسِ أي فوجٌ منهم وقُرىء خاضعةً وقولُه تعالى فظلَّتْ عطفٌ على تنزل باعتبارِ محلِّه وقولُه تعالَى

5

{وَمَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ من الرحمن محدث إلا كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ} بيانٌ لشدَّةِ شكيمتهم وعدمِ ارعوائهم عمَّا كانوا عليه من الكُفر والتَّكذيبِ بغير ما ذُكر من الآيةِ المُلجئةِ لصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرصِ على إسلامِهم وقطعِ رجائِه عنه ومِن الأولى مزيدة لتأكيد العموم والثَّانيةُ لابتداء الغايةِ مجازاً متعلقةٌ بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة الذكر وأياما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وشاعة ما فعلوا به والتعرض لعنُوان الرَّحمةِ لتغليظِ شناعتِهم وتهويلِ جنايتِهم فإنَّ الإعراضَ عمَّا يأتيهم من جنابِه عزَّ وجلَّ على الإطلاقِ شنيع قبيحٌ وعما يأتيهم بموجبِ رحمته تعالى المحض منفعتِهم أشنعُ وأقبحُ أي ما يأتيهم من موعظةٍ من المواعظ القرآنية أومن طائفة نازلة من القرآن تذكِّرهم أكملَ تذكيرٍ وتنبِّههم عن الغفلة أتم تنبيه كأنَّها نفسُ الذِّكرِ من جهتهِ تعالى بمقتضى رحمتِه الواسعةِ مجدد تنزيله حسبما تقتضيه الحكْمةُ والمصلحة إلا جدَّدوا إعراضاً عنه على وجه التكذيبِ والاستهزاء وإصرار أعلى ما كانوا عليه من الكفرِ والضَّلالِ والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ الأحوالِ محلُّه النصبُ على الحالية من مفعول يأتيهم بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهورِ أي مَا يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ في حالٍ من الأحوالِ إلا حال كونهم مُعرضين عنه

6

{فَقَدْ كَذَّبُواْ} أي كذَّبوا بالذِّكرِ الذي يأتيهم تكذيباً صَريحاً مُقارناً للاستهزاءِ به ولم يكتفُوا بالإعراضِ عنه حيثُ جعلُوه تارة سحراً وأُخرى أساطيرَ وأُخرى شعراً والفاء في قوله تعالى {فَسَيَأْتِيهِمْ} لترتيبِ ما بعدها على ما قبلَها والسِّينُ لتأكيد مضمونِ الجملة وتقريرهِ أي فسيأتيهم البتةَ من غير تخلّفٍ أصلاً {أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون} عدلَ عمَّا يقتضيه سائرُ ما سلف من الإعراض والتَّكذيبِ للإيذان بأنَّهما كانا مقارنين للاستهزاءِ كما أشير إليه حسبما وقع في قوله تعالى وما تأتيهم من آيةٍ من آيات رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤن وأنباؤُه ما سيحيقُ بهم من العُقوبات العاجلةِ والآجلةِ عبر عنها بذاك إما لكونها مما نبأ أبها القُرآنُ الكريمُ وإمَّا لأنَّهم بمشاهدتِها يقفُون على حقيقةِ حالِ القُرآنِ كما يقفُون على الأحوالِ الخافيةِ عنهم باستماعِ الأنباءِ وفيه تهويلٌ له لأنَّ النَّبأَ لا يُطلق إلا على خبرٍ خطيرٍ له وقعٌ عظيمٌ أي فسيأتيهم لا محالةَ مصداق ما كانوا يستهزءون به قَبلُ مِنْ غير أنْ يتدَّبروا في أحوالِه ويقفوا عليها

7

{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ} الهمزةُ للإنكار التوبيخي

سورة الشعراء (8 10) والواو للعطف على مقدار يقتضيه المقام أي افعلُوا ما فعلُوا من الإعراضِ عن الآيات والتَّكذيبِ والاستهزاء بها ولم ينظرُوا {إِلَى الأرض} أي عجائبها الزَّاجرةِ عمَّا فعلُوا الدَّاعيةِ إلى الإقبال على ما أعرضُوا عنه وإلى الإيمانِ بهِ وقولُه تعالَى {كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} استئنافٌ مبيِّن لما في الأرضِ من الآيات الزَّاجرةِ عن الكُفر الدَّاعيةِ إلى الإيمان وكمْ خبريةٌ منصوبةٌ بما بعدها على المفعوليَّةِ والجمعُ بينها وبينَ كلِّ لإفادةِ الإحاطةِ والكثرةِ معاً ومن كل زوج أي صنف تمييز والكريمُ من كلِّ شيءٍ مرضيُّه ومحمودُه أي كثيراً من كلِّ صنفٍ مرضيَ كثير المنافع أنبتنا فيها وتخصيصُ إنباته بالذِّكر دون ما عداه من الأصنافِ لاختصاصِه بالدِّلالةِ على القُدرة والنعمة معاً ويُحتمل أنْ يرادَ به جميعُ أصناف النبات نافعِها وضارِّها ويكون وصفُ الكلِّ بالكرمِ للتنبيه على أنَّه تعالى ما أنبتَ شيئا إلا وفيه حكمة فائدةٌ كما نطقَ به قوله تعالى هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً فإنَّ الحكيمَ لا يكادُ يفعلُ فعلاً إلا وفيه حكمةٌ بالغةٌ وإنْ غفلَ عنها الغافلونَ ولم يتوصَّلْ إلى معرفةِ كُنْهِها العاقلون

8

{إِنَّ فِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى مصدرِ أنبتنا أو إلى كلُّ واحدٍ من تلك الأزواجٍ وأيَّا ما كان فما فيه من معنى البعد للإبذان ببُعدِ منزلتِهِ في الفضلِ {الآية} أي آيةً عظيمةً دالَّةً على كمالِ قُدرةِ مُنبتها وغايةِ وفُورِ علمهِ وحكمتِه ونهايةِ سعَةِ رحمتِه موجبةً للإيمانِ وازعةً عن الكُفرِ {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ} أي أكثر قومه صلى الله عليه وسلم {مُّؤْمِنِينَ} قيل أي في علم الله تعالى وقضائِه حيثُ علم أزلاً أنَّهم سيُصرفون فيما لا يزالُ اختيارُهم الذي عليه يدورُ أمرُ التَّكليفِ إلى جانب الشَّرِّ ولا يتدبَّرون في هذه الآياتِ العظامِ وقال سيبويِه كانَ صلةٌ والمعنى وما أكثرُهم مؤمنين وهو الأنسبُ بمقامِ بيانِ عُتوِّهم وغُلوِّهم في المكابرةِ والعنادِ مع تعاضد موجبات الإيمان من جهتِه تعالى وأما نسبةُ كفرِهم إلى علمهِ تعالى وقضائِه فرُبَّما يتُوهَّم منها كونُهم معذورينَ فيه بحسبِ الظَّاهرِ لأنَّ ما أُشير إليهِ من التَّحقيقِ ممَّا خفيَ على مَهَرةِ العُلماء المُتقنين كأنَّه قيل إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً باهرةً موجبةً للإيمانِ وما أكثرُهم مُؤمنين مع ذلكَ لغايةِ تمادِيهم في الكُفرِ والضلالة وانهاكهم في المعنى والجَهَالةِ ونسبةُ عدمِ الإيمانِ إلى أكثرِهم لأنَّ منهم مَن سُيؤمن

9

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز} الغالبُ على كلِّ ما يريده من الأمور التي من جملتها الانتقام من هؤلاء {الرحيم} المبالغ الرحمة ولذلك يمهلهم ولا يؤاخذهم بغته بما احترؤا عليهِ من العظائمِ المُوجبةِ لفُنون العُقُوباتِ وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفهِ والعِدَةِ الخفيَّةِ بالانتقامِ من الكَفَرةِ ما لا يَخفْى

10

{وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من إعراضِهم عن كلِّ ما يأتيهم من الآيات التنَّزيليةِ وتكذيبِهم بها إثرَ بيانِ إعراضهم عمَّا يُشاهدونه من الآياتِ التَّكوينَّيةِ وإذ منصوب

سورة الشعراء (11 13) على المفعوليةِ بمضمرِ خوطبَ به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم أي وأذكرُ لأولئك المعرضين المكذِّبين وقت ندائه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام وذكِّرهم بما جَرى على قوم فرعونَ بسبب تكذيبِهم إيَّاه زجراً لهم عمَّا هُم عليهِ من التكذيب وتحذيراً من أنْ يحيقَ بهم مثلُ ما حاق بأضرابهم المكذِّبين الظَّالمين حتَّى يتَّضحَ لك أنَّهم لا يُؤمنون بما يأتيهم من الآيات لكنْ لا بقياس حالِ هؤلاء بحالِ أُولئك فقط بل بمشاهدةِ إصرارُهم على ما هم عليه بعد سماع الوحي النَّاطقِ بقصَّتِهم وعدم اتِّعاظِهم بذلك كما يُلوِّحُ به تكريرُ قوله تعالى إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ عقيب كلِّ قصَّةٍ وتوجيهُ الأمر بالذِّكرِ إلى الوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مر سره مرارا {أَنِ ائت} بمعنى أي ائت على أنَّ أنْ مفسرةٌ أو بأن ائت على أنَّها مصدريةٌ حُذف منها الجارُّ {القوم الظالمين} أي بالكفر واالمعاصي واستبعاد بني إسرائيلَ وذبحِ أبنائِهم وليس هذا مطلعَ ما رود في حيِّزِ النَّداءِ وإنَّما هو ما فُصِّل في سورةِ طه من قوله تعالى إِنّى أَنَاْ رَبُّكَ إلى قوله لِنُرِيَكَ مِنْ آياتنا الكبرى وإيراد ما جرى في قصَّةٍ واحدةٍ من المقالاتِ بعباراتٍ شَتَّى وأساليبَ مختلفةٍ قد مرَّ تحقيقُه في أوائل سورةِ الأعرافِ عند قوله تعالى أَنظِرْنِى

11

{قَوْمِ فِرْعَونَ} بدلٌ من الأولِ أو عطفُ بيانٍ له جيء به للإيذانِ بأنَّهم عَلَمٌ في الظُّلم كأنَّ معنى القومِ الظَّالمينَ وترجمتَهُ قومُ فرعونَ والاقتصارُ على ذكرِ قومِه للإيذانِ بشهرةِ أنَّ نفسَه أَوَّلُ داخلٍ في الحُكم {أَلا يَتَّقُونَ} استئنافٌ جيء به إثرَ إرسالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إليهم للإنذارِ تعجيباً من غُلوِّهم في الظُّلم وإفراطِهم في العُدوان وقُرىء بتاء الخطابِ على طريقة الالتفاتِ المنبىءِ عن زيادة الغَضَبِ عليهم كأنَّ ذكرَ ظُلمِهم أدَّى إلى مشافهتِهم بذلك وهُم وإن كانُوا حينئذٍ غُيّباً لكنَّهم قد أُجروا مجرى الحاضرين في كلام المُرسل إليهم من حيثُ إنَّه مبلغه إليهم وإسماعُه مبتدأُ إسماعِهم مع ما فيه من مزيد الحثِّ على التقوى لمن تدبَّر وتأمَّل وقُرىء بكسرِ النُّونِ اكتفاءً به عن باء المتكلِّم وقد جُوِّزَ أنْ يكون بمعنى ألا ياناس اتقون نحو أن لا يسجدُوا

12

{قال} استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ ما مضى كأ هـ قيل فماذا قال موسى ععليه السَّلامُ فقيل قال متضرِّعاً إلى الله عزَّ وجلَّ {رَبّ إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ} من أوَّلِ الأمرِ

13

{ويضيق صدري ولا ينطلق لساني} معطوفا على أخافُ {فَأَرْسِلْ} أي جبريلَ عليهِ السَّلامُ {إِلَىَّ هارون} ليكون معنى وأتعاضدُ به في تبليغِ الرِّسالة رتَّب عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من حَبسةِ اللِّسان بانقباضِ الرُّوحِ إلى باطنِ القلبِ عند ضيقِه بحيث لا ينطبق لأنَّها إذا اجتمعتْ تمسُّ الحاجةُ إلى معينٍ يُقوِّي قلبه وينوبُ منابَه إذا اعتراء حبسه حتى

سورة الشعراء (14 18) لا تختلَّ دعوتُه ولا تنقطعَ حجَّتُه وليس هذا من التَّعلل والتَّوقف في تلقِّي الأمرِ في شيءٍ وإنَّما هو استدعاءٌ لما يُعينه على الامتثالِ به وتمهيدُ عذرٍ فيه وقُرىء ويضيق ولا ينطق بالنَّصبِ عطفاً على يكذِّبون فيكونانِ من جملةً ما يَخافُ منه

14

{وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ} أي تبعةُ ذنبٍ فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مقامه أو سمِّي باسمِه والمرادُ به قتلُ القِبْطيِّ وتسميتُه ذنباً بحسبِ زعمِهم كما ينبىءُ عنه قولُه لهم وهذا إشارةٌ إلى قصَّةٍ مبسوطةٍ في غيرِ موضعٍ {فَأَخَافُ} أي إنْ أتيتهم وحدي {أَن يَقْتُلُونِ} بمقابلتِه قبل أداءِ الرِّسالةِ كما ينبِغي وليس هذا أيضاً تعلُّلاً وإنما هو استدفاعٌ المبلية المتوقّعةِ قبل وقوعِها وقوله تعالى

15

{قال كلا فاذهبا بآياتنا} حكايةٌ لإجابتِه تعالى إلى الطِّلبتينِ الدَّفعِ المفهومِ من الرَّدعِ عن الخوفِ وضمِّ أخيهِ المفهومِ من توجيهِ الخطابِ إليهما بطريقِ التَّغليبِ فإنه معطوف على مضمر ينبىءُ عنه الرَّدعُ كأنَّه قيل ارتدِع يا موسى عمَّا تظنُّ فاذهب أنت ومن استدعيته وفي قوله بآياتنا رمزٌ إلى أنَّها تدفع ما يخافه وقوله تعالى {إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ} تعليلٌ للرَّدعِ عن الخوفِ ومزيد تسلية لهما بضمانِ كمال الحفظ والنصرة كقولِه تعالى إِنَّنِى مَعَكُمَا أسمع وأرى حيث كان الموعد بمحضرٍ من فرعونَ اعتبر ههنا في المعيَّةِ وقيل أجريا مجرى الجماعةِ ويأباهُ ما قبله وما بعده من ضمير التثنية أي سامعون ما يجري بينكما وبينه فنظهر كما عليه مثَّل حالَه تعالى بحالِ ذِي شَوكةٍ قد حضَر مجادلَة قومٍ يستمعُ ما يجري بينَهم ليمدَّ أولياءَهُ ويُظهرهم على أعدائِهم مبالغةً في الوعدِ بالإعانةِ أو استعير الاستماع الذي هو بمعنى الإصغاءِ للسَّمعِ الذي هو العلمُ بالحروفِ والأصواتِ وهو خبرٌ ثانٍ أو خبرُ وحدَهُ ومعكم ظرفُ لغوٍ والفاءُ في قوله تعالى

16

{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين} لترتيبِ ما بعدها على ما قبلَها من الوعدِ الكريمِ وليس هَذا مجرَّدَ تأكيدٍ للأمرِ بالذِّهابِ لأنَّ معناهُ الوصولُ إلى المأتيِّ لا مجرَّدَ التَّوجهِ إليه كالذِّهابِ وإفراد الرَّسول إمَّا باعتبارِ رسالةِ كلَ منهُمَا أو لاتحاد مطلهما اولأنه مصدرٌ وُصفَ به وأنْ في قولِه تعالَى

17

{أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسرائيل} مفسِّرةٌ لتضمن الإرسالِ المفهومِ من الرَّسولِ معنى القولِ ومعنى إرسالِهم تخليتُهم وشأنَهم ليذهبُوا معهما إلى الشَّامِ

18

{قَالَ} أي فرعونُ لموسى عليه السلام بعد ما أتياهُ وقالا له ما أمر به يُروى أنَّهما انطلقا إلى بابِ فرعونَ فلم يؤذن لهم سنةً حتَّى قال البَّوابُ إنَّ ههنا إنساناً يزعمُ أنَّه رسولُ ربِّ العالمين فقال ائذنْ له لعلَّنا نضحكُ فأدَّيا إليه الرِّسالةَ فعرف

سورة الشعراء (19 22) مُوسى عليه السَّلامُ فقال عند ذلك {أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا} في حِجرِنا ومنازلِنا {وَلِيداً} أي طِفلاً عبر عنه بذلك لقُرب عهده بالولادة {وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} قيل لبثَ فيهم ثلاثين سنةً ثم خرجَ إلى مدينَ وأقام بها عشرَ سنين ثمَّ عاد إليهم يدعُوهم إلى الله عزَّ وجلَّ ثلاثينَ سنة ثم بقي بعدَ الغرقِ خمسينَ سنة وقيل وكز القبطيَّ وهو ابنُ اثنتي عشرةَ سنة وفرَّ منهم على أثرِ ذلك والله أعلم

19

{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التى فَعَلْتَ} يعني قتلَ القبطيِّ بعد ما عدَّد عليه نعمتَهُ من تربيته وتبليغِه مبلغَ الرِّجالِ وبَّخه بَما جَرَى عليه من قتلِ خبَّازِه وعظَّم ذلك وفظَّعه وقُرىء فِعلتك بكسر الفاء لأنَّها كانتْ نَوْعاً من القتل {وَأَنتَ مِنَ الكافرين} أي بنعمتي حيثُ عمدتَ إلى قتلِ رجلٍ من خواصّي أو أنت حينئذٍ ممَّن تكفِّرهم الآنَ وقد افترى عليه عليه الصلاة والسلام أو جهلَ أمره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حيثُ كان يعايشهم بالتقنية وإلا فأينَ هُو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من مشاركتِهم في الدين فالجملة حيئذ حال من إحدى التأمين ويجوزُ أنْ يكونَ حُكماً مبتدأ عليه أنه من الكافرينَ بإلهيته أو ممَّن يكفرُون في دينِهم حيثُ كانتْ لهم آلهةٌ يعبدونها أو من الكافرين بالنِّعم المعتادين لغمطها ومنِ اعتادَ ذلك لا يكونُ مثلُ هذه الجنايةِ بدعاً منْهُ

20

{قَالَ} مجُيباً له مصدِّقاً له في القتلِ ومكذِّباً فيما نسبه إليه من الكفر {فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} أي من الجاهلينَ وقد قُرىء كذلك لا من الكافرينَ كما زعمت افتراءً أي من الفاعلين فعل الجهلة والسُّفهاءِ أو من المخطئين لآنه لم يعتمد قتلَه بل أرادَ تأديبَه أو الذَّاهبين عمَّا يُؤدِّي إليه الوكز أو الناسين كقوله تعالى {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى

21

! فَفَرَرْتُ مِنكُمْ إلى ربيِّ {لما خفتكم} أن تصيبونني بمضرة وتؤاخذوني بماء لا استحقه بجنابتي من العقابِ {فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْماً} أي حكمةً أو النبوة {وجعلني من المرسلين} ردأ ولا بذلك ما وبَّخه به قدحاً في نبُّوته ثم كرَّ على ما عده عليه من النِّعمةِ ولم يصرِّحْ بردِّه حيثُ كان صدقاً غيرَ قادحٍ في دعواه بل نبَّه على أنَّ ذلك كان في الحقيقة نقمة فقال

22

{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أنْ عبَّدتَ بني إسرائيلَ} أي تلك التربيةُ نعمةٌ تمنُّ بها عليَّ ظاهراً وهي في الحقيقةِ تعبيدُك بني إسرائيلَ وقصدُك إيَّاهم بذبحِ أبنائِهم فإنَّه السببُ في وقوعي عندكَ وحصولي في تربيتِك وقيل إنه مقدَّرٌ بهمزةِ الإنكار أي أوَ تلك نعمة تمنُّها عليَّ وهي أنْ عبَّدتَ بني إسرائيلَ ومحلُّ أنْ عبَّدتَ الرُّفعُ على أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ أو بدلٌ من نعمةٌ أو الجرُّ بإضمارِ الباءِ أو النَّصبُ بحذفهِا وقيل تلك إشارةٌ إلى خصلةٍ شنعاءَ مبهمةٍ وأنْ عبَّدتَ عطفُ بيانٍ لها والمعنى تعبيدُك بني إسرائيلَ نعمةٌ تمنُّها عليَّ وتوحيدُ الخطابِ في تمنُّها وجمعه فيما قبلَه لأن المنة منه خاصَّة والخوفُ والفرارُ منه ومن ملئه

سورة الشعراء (23 28)

23

{قَالَ فِرْعَوْنُ} لمَّا سمعَ منه عليه الصلاة والسلام تلك المقالةَ المتينةَ وشاهد تصلُّبهَ في أمرِه وعدمَ تأثُّرِه بما قدَّمه من الإبراقِ والإرعاد شرعَ في الاعتراض على دعواهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فبدأ بالاستفسارِ عن المُرْسِل فقال {وَمَا رَبُّ العالمين} حكايةٌ لما وقع في عباراته عليه الصلاة والسلام أي أيُّ شيءٍ رب العالمينَ الذي أدَّعيتَ أنَّك رسولُه منكراً لأنْ يكون للعالمين ربٌّ سواه حسبما يُعرب عنه قولُه أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى وقولُه مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى وينطق به وعيدُه عند تمام أجوبتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ

24

{قال} موسى عليه السلام مجيبا له {رب السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} بتعيين ما أراه بالعالمين وتفصيله لزيادةِ التَّحقيقِ والتَّقريرِ وحسم مادَّةِ تزويرِ اللَّعينِ وتشكيكهِ بحملِ العالمينَ على ما تحت مملكتِه {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} أي إن كنتم موقنين الأشياء محقِّقين لها علمتُم ذلك أو إنْ كنتُم موقنينَ بشيءٍ من الأشياءِ فهذا أولى بالإيقانِ لظهورِه وإنارةِ دليله

25

{قَالَ} أي فرعونُ عند سماع جوابِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خوفاً من تأثيرِه في قلوبِ قومِه وإذعانِهم له {لِمَنْ حَوْلَهُ} من أشراف قومه قال ابن عباس رضي الله عنهما كانوا خمسائة عليهم الأساورُ وكانت للملوك خاصَّةً {أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} مرائياً لهمَّ أنَّ ما سمعُوه من جوابِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع كونِه ممَّا لا يليق بأن يعتدبه أمر حقيق بأنْ يتُعجَّب منه كأنَّه قال ألا تستمعُون ما يقولُه فاستمعُوه وتعجَّبوا منه حيثُ يدَّعي خلافَ أمرٍ محقَّقٍ لا اشتباه فيه يُريد به ربوبيةَ نفسِه

26

{قال} عليه الصلاة والسلام تصريحاً بما كان مُندرجاً تحت جوابيِه السَّابقينِ {رَبُّكُمْ ورب آبائكم الأولين} وحطّاً له من ادِّعاءِ الرُّبوبيَّةِ إلى مرتبةِ المربُوبَّيةِ

27

{قَالَ} أي فرعونُ لمَّا واجهه مُوسى عليه السَّلامُ بما ذُكر غاظه ذلك وخافَ من تأثُّر قومِه منه فأراهُم أنَّ ما قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مما لا يصدُر عن العُقلاء صدَّاً لهمُ عن قبوله فقال مؤكدا لمفالته الشنعاء بحر في التَّأكيدِ {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} ليفتنهم بذلَك ويصرفهم عن قبولِ الحقِّ وسَّماهُ رسولاً بطريقِ الإستهزاء وأضافه إلى محاطبية ترفُّعاً من أنْ يكونَ مُرْسَلاً إلى نفسِه

28

{قال} عليه الصلاة والسلام {رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا} قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تكميلاً لجوابه الأوَّلِ وتفسيرا له

سورة الشعراء (29 30) وتنبيهاً على جهلِهم وعدمِ فهمِهم لمعنى مقالتِه فإنَّ بيانَ ربوبيَّتهِ تعالى للسَّموات والأرضِ وما بينَهما وإنْ كان متضمِّناً لبيانِ ربوبيَّتِه تعالى للخافقينِ وما بينَهُما لكن لمَّا لم يكُن فيه تصريحٌ بإستناد حركات السَّمواتِ وما فيها وتغيُّراتِ أحوالِها وأوضاعِها وكون الأرض تارةً مظلمةً وأخرى منورةً إلى الله تعالى أرشدَهُم إلى طريقِ معرفةِ ربوبيته تعالى لمَّا ذكر فإن ذكر المشرقِ والمغربِ منبىءٌ عن شروقِ الشَّمسِ وغروبِها المنُوطينَ بحركاتِ السَّمواتِ وما فيها على نمطٍ بديعٍ بترتيب عليه هذه الأوضاع الرَّصينةُ وكلُّ ذلك أمورٌ حادثةٌ مفتقرةٌ إلى محدثٍ قادرٍ عليمٍ حكيمٍ لا كذواتِ السَّمواتِ والأرضِ التي ربما يتوهَّم جهلةُ المُتوهمينَ باستمرارِها استغناءها عن الموجد المُتصرِّفِ {إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} أي إنْ كنتُم تعقلون شَيْئاً من الأشياءِ أو إنْ كنتُم من أهلِ العقلِ علمتُم أنَّ الأمرَ كمَا قتله وفيه إيذانٌ بغايةِ وضوحِ الأمرِ بحيثُ لا يشتبه على مَن له عقلٌ في الجُملةِ وتلويحٌ بأنَّهم بمعزلٍ من دائرةِ العقلِ وأنَّهم المتَّصفون بما رَمَوه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ به من الجنونِ

29

{قَالَ} لما سمع اللَّعينُ منه عليه الصلاة والسلام تلك المقالاتِ المبنيةِ على أساسِ الحِكَم البالغةِ وشاهدَ شدَّةَ حزمِه وقوَّةَ عزمِه على تمشية أمرِه وأنَّه ممَّن لا يجارى في حلبة المجاورة ضرب صفحا عن عن المُقاولةِ بالإنصافِ ونَأَى بجانبه إلى عُدْوةِ الجورِ والاعتسافِ فقال مُظهراً لما كانَ يُضمره عند السُّؤال والجوابِ {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} لم يقتنْع منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بتركِ دعَوى الرِّسالةِ وعدمِ التَّعرض له حتَّى كلَّفه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يتَّخذَه إلهاً لغاية عتوه وغلوه فيما فيه من دَعْوى الأُلوهيَّةِ وهذا صريحٌ في أنَّ تعجُّبَه وتعجيبَه من الجوابِ الأوَّلِ ونسبَتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى الجنُونِ في الجوابِ الثَّاني كان لنسبته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الرُّبوبَّيةَ إلى غيرِه وأما ما قيلَ مِنْ أنَّ سؤالَه كان عن حقيقةِ المُرْسِل وتعجُّبه من جوابِه كان لعدمِ مُطابقتِه له لكونِه بذكر أحوالَه فلا يُساعده النظمُ الكريمُ ولا حال فرعونَ ولا مقالُه واللامُ في المسجونينَ للعهدِ أي لأجعلنَّك ممَّن عرفتَ أحوالَهم في سجوني حيثُ كان يطرحُهم في هُوَّةٍ عميقة حتَّى يموتُوا ولذلك لم يقُل لأسجنَّنك

30

{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىء مُّبِينٍ} أي أتفعلُ بي ذلك ولو جئتُك بشيء مبينٍ أي موضِّحٍ لصدقِ دعو اى يريد به المعجزةَ فإنَّها جامعةٌ بين الدِّلالةِ على وجودِ الصَّانعِ وحكمتِه وبين الدِّلالةِ على صدقِ دَعْوى مَن ظهرتْ على يدِه والتغيير عنها بالشَّيءِ للتَّهويلِ قالوا الواوُ في أولو جئتُك للحالِ دخلتْ عليها همزةُ الاستفهامِ أي جائياً بشيء مبينٍ وقد سلفَ منَّا مرار أنَّها للعطفِ وأنَّ كلمةَ لَوْ ليستْ لانتفاءِ الشيءِ في الزمان الماضي لانتفاء غيرِه فيه فلا يلاحظ لها جوابٌ قد حُذف تعويلاً على دِلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصدِ إلى بيان الإعرابِ على القواعد الصناعيةِ بل هي لبيان تحققِ ما يفيده الكلامُ السابق من حكم الموجَبِ أو المنفي على كل حالٍ مفروض من الأحوالِ المقارنةِ له على الإجمالي بإدخالها على أبعدها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهرَ

سورة الشعراء (31 35) بثبوته أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤُه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشيءَ متى تحقق مع المنافي القويَّ فلأنْ يتحقَّقَ مع غيره أولى لذلك لا يُذكرُ معه شيءٌ من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر العاطف للجُملة على نظيرتها المقابلةِ لها الشاءلة لجميع الأحوالِ المغايرةِ لها عند تعدُّدها ليظهر ما ذكر من تحقُّق الحكم على جميع الأحوال فإنَّك إذا قلتَ فلانٌ جوادٌ يُعطي ولو كان فقيرا تريد بيان تحقق الإعطاء منه على كلِّ حالٍ من أحوالِه المفروضةِ فتعلق الحكم بأبعدِها منه ليظهر بتحقُّقهِ معه تحقُّقه معَ ما عداه من الأحوال التي لا مُنافاة بينها وبينَ الحكم بطريقِ الأولويَّةِ المُصحِّحةِ للاكتفاء بذكرِ العاطفِ عن تفصيلِها كأنَّك قلتَ فلانٌ جوادٌ يُعطي لو لم يكنْ فَقيراً ولو كان فَقيراً أي يُعطى حال كونه غنيا وحال كونِه فقيراً فالحالُ في الحقيقة كلنا الجملتين المتعاطفين لا المذكورةُ على أنَّ الواوُ للحالِ وتصديرُ المجيءِ بما ذُكر من كلمة لَوْ دون أنْ ليس لبيانِ استبعادُه في نفسه بل بالنِّسبة إلى فرعونَ والمعنى أتفعلُ بي ذلك حال عدم مجييء بسيء مبين وحال مجيىء به

31

{قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي فيما يدل عليه كلامُك من أنكَّ تأتي بشيءٍ مبينٍ موضِّحٍ لصدقِ دَعْواك أو في دَعْوى الرِّسالة وجوابُ الشَّرطِ المحذوفُ لدلالةِ ما قبله عليه

32

{فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} أي ظاهرٌ تثعبانيته لا أنَّه شيءٌ يُشبهه واشتقاق الثعبان من ثعبت الماءَ فانثعبَ أي فجَّرتُه فانفجرَ وقد مرَّ بيانُ كيفيةِ الحالِ في سوُرة الأعرافِ وسورة طه

33

{ونزع يده} من جيبه {فَإِذَا هِىَ بَيْضَاء للناظرين} قيل لَّما رأى فرعون الآيةَ الأُولى وقال هل لكَ غيرُها فأخرجَ يدَهُ فقال ما هذه قال فرعونُ يدُك فما فيها فأدخلها في إبطهِ ثمَّ نزَعَها ولها شعاعٌ يكادُ يغشي الأبصارَ ويسدُّ الأفقَ

34

{قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ} أي مستقرِّين حولَه فهو ظرفٌ وقعَ موقعَ الحالِ {إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ} فائقٌ في فنِّ السِّحرِ

35

{يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم} قَسْراً {مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تأمرون} بهره سلطان لمعجزة وحيرَّه حتَّى حطَّه عن ذروةِ ادَّعاءِ الرُّبوبيةِ إلى حضيضِ الخُضوعِ لعبيدِه في زعمه والإمتثال بأمرهم وإلى مقامِ مؤامرتِهم ومشاورتِهم بعد ما كانَ مستقلاً في الرَّأيِ والتَّدبيرِ وأظهر استشعارُ الخوفِ من استيلائه على مُلكه ونسبةُ الإخراج والأرض إليهم لتنفيرهم عن موسى عليه السلام

سورة الشعراء (36 44)

36

{قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} أخِّر أمرهما وقيل احبسهُما {وابعث فِى المدائن حاشرين} أي شُرَطاً يحشرُون السَّحرةَ

37

{يَأْتُوكَ} أي الحَاشرون {بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} فائقٍ في فنِّ السِّحرِ وقُرىء بكلِّ ساحرٍ

38

{فَجُمِعَ السحرة لميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} هو ما عيَّنه مُوسى عليه السَّلامُ بقوله مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى

39

{وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ} قيل لهم ذلك استبطاءً لهم في الاجتماعِ وحثّاً لهم على المُبَادرة إليه

40

{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين} أي نتبعهم في دينِهم إنْ كانوا الغالبين لا مُوسى عليه السَّلامُ وليس مرادُهم بذلك أنْ يتَّبعوا دينَهم حقيقةً وإنَّما هو أنْ لا يتَّبعوا مُوسى عليه السَّلامُ لكنَّهم ساقُوا كلامَهم مساقَ الكنايةِ حَمْلاً لهم على الاهتمامِ والجِدَّ في المُغالبة

41

{فَلَمَّا جَاء السحرة قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ إئِنَّ لَنَا لاجْرًا} أي أجراً عظيماً {إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} لا مُوسى عليه السَّلامُ

42

{قَالَ نَعَمْ} لكُم ذلك {وَإِنَّكُمْ} مع ذلك {إِذاً لَّمِنَ المقربين} عندي قيل قال لهم تكونُون أولَ من يدخلُ عليَّ وآخرَ مَن يخرجُ عنِّي وقُرىء نعِم بكسرِ العين وهُما لغُتانِ

43

{قَالَ لَهُمْ موسى} أي بعد ما قالَ له السَّحرةُ إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أنْ نكون أول من ألقى {أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ} ولم يُرد به الأمرَ بالسِّحرِ والتَّمويهَ بل الإذنَ في تقديمِ ما هُم فاعلُوه البتةَ توسُّلاً به إلى إظهارِ الحقِّ وإبطالِ الباطلِ

44

{فَأَلْقَوْاْ حبالهم وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ} أي وقد قالُوا عند الإلفاء {بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون} قالُوا ذلك لفرطِ اعتقادِهم في أنفسِهم وإتيانِهم بأقصى ما يُمكن أنْ يُؤتى به من السِّحرِ

سورة الشعراء (45 51)

45

{فألقى موسى عصاه فَإِذَا هِىَ تلقَف} أي تبتلعُ بسرعة وقرىء تلقف بحذق إحدى التأمين من تَتَلقَّفُ {مَا يَأْفِكُونَ} أي ما يقلبونَهُ من وجهه وصورته بتمويههم وتزويرهم فيخيِّلُون حبالَهم وعصيَّهم أنَّها حيَّاتٌ تسعى أو إفكهم تسميةً للمأفوكِ به مبالغةً

46

{فَأُلْقِىَ السحرة ساجدين} أي إثر ما شتهدوا ذلك من غيرِ تلعثمٍ وترددٍ غير متمالكينَ كأنَّ مُلقياً ألقاهُم لعلمِهم بأنَّ مثلَ ذلك خارجٌ عن حدودِ السِّحرِ وأنه أمرٌ إلهيٌّ قد ظهر على يدهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لتصديقه وفيه دليلٌ على أنَّ قصارَى ما ينتهِي إليه هممُ السَّحرةِ هو التَّمويهُ والتزوير تخيبل شيءٍ لا حقيقةَ له

47

{قالوا آمنا بِرَبّ العالمين} بدلُ اشتمالٍ من أُلقي أو حالٌ بإضمار قد وقوله تعالى

48

{ربَّ موسى وهارون} بدلٌ من ربِّ العالمين للتَّوضيحِ ودفعِ توهم إرادةِ فرعونَ حيثُ كان قومُه الجَهَلةُ يسمونه بذلك والإشعار بأنَّ الموجبَ لإيمانِهم به تعالى ما أجراهُ على أيديهما من المُعجزةِ القاهرةِ

49

{قال} أي فرعون للسحرة {آمنتم له قبل أن آذن لَكُمْ} أي بغيرِ أنْ آذان لكم كما في قوله تعالى لنقد البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى لا أن الإذنَ منه ممكنٌ أو متوقَّعٌ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذى علمكم السحر} فتواطأتم على ما فعلتم أو علَّمكم شيئا دون شيء ولذلك غلبَكم أرادَ بذلك التَّلبيس على قومِه كيلا يعتقدُوا أنَّهم آمنُوا عن بصيرةٍ وظهورِ حقَ وقُرىء أأمنتُم بهمزتينِ {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي وبالَ ما فعلتُم وقوله {لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ وَلاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} بيانٌ لما أو عدهم به

50

{قَالُواْ} أي السَّحرةُ {لاَ ضَيْرَ} لا ضررَ فيه علينا وقولُه تعالى {إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ} تعليلٌ لعدم الضَّيرِ أي لا ضيرَ في ذلك بل لنا فيه نفعٌ عظيمٌ لما يحصلُ لنا في الصَّبرِ عليه لوجهِ الله تعالى من تكفيرِ الخَطَايا والثَّوابِ العظيم أو لا ضيرَ علينا فيما تتوعَّدنا به من القتلِ أنه لا بُدَّ لنا من الانقلابِ إلى رَّبنا بسببِ من أسبابِ الموتِ والقتلُ أهونُها وأرجاها وقولُه تعالى

51

{إنا نطمع أن يغفر لَنَا رَبُّنَا خطايانا أَن كُنَّا} أي لأن كنا {أَوَّلُ المؤمنين} أي من أتباعِ فرعونَ أو من أهل المشهد تعليل

سورة الشعراء (52 58) ثانٍ لنفي الضَّيرِ أي لا ضيرَ علينا في قتلِك إنَّا نطمعُ أنْ يغفر لنا ربنا خطايانا لكونِنا أوَّلَ المُؤمنين وقُرىء إِنْ كُنَّا على الشَّرطِ لهضمِ النَّفسِ وعدم الثَّقةِ بالخاتمة أو على طريقةِ قول المُدلِّ بأمرِه كقول العاملِ لمستأجرٍ أخَّر أجرتَه إنْ كنتُ عمِلتُ لك فوفِّني حقِّي

52

{وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى} وذلك بعد بضعِ سنينَ أقامَ بين أظهُرِهم يدعُوهم إلى الحقِّ ويُظهر لهم الآياتِ فلم يزيدُوا إلاَّ عُتُوَّاً وعناداً حسبما فُصِّل في سورة الاعراف بقوله تعالى وَلَقَدْ أخذنا آل فِرْعَوْنَ بالسنين الآيات وقرىء بكسر النون ووصل الألف من سرى وقرىء أنْ سِرْ من السير {إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} تعليلٌ للأمرِ بالإسراءِ أي يتبعكُم فرعونُ وجنودُه مصبحينَ فأسرِ بمَن معك حتَّى لا يُدركوكم قبل الوصولِ إلى البحرِ فيدخلُوا مداخلَكم فأُطبقَه عليهم فأُغرقَهم

53

{فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ} حين أُخبر بمسيرهم {فِى المدائن حاشرين} جامعينَ للعساكرِ ليتبعُوهم

54

{إِنَّ هَؤُلآء} يريدُ بني إسرائيلَ {لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} استقلَّهم وهم ستمائة ألفٍ وسبعونَ ألفاً بالنسبةِ إلى جُنوده إذروي أنَّه أرسل في أثرِهم ألف ألف وخمسائة مَلكٍ مُسوَّرٍ مع كل مَلِكٍ ألفٌ وخرجَ فرعونُ في جمعٍ عظيم وكانت مقدِّمتُه سبعَمائة ألفِ رجلٍ على حصان وعلى رأسِه بيضةٌ وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما خرجَ فرعونُ في ألفِ ألفِ حصانٍ سوى الإناثِ

55

{وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} أي فاعلون ما يغيظُنا

56

{وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذرون} يريدُ أنَّهم لقلَّتهم لا يُبالى بهم ولا يتوقَّع غلبتَهم وعلوَّهم ولكنَّهم يفعلون أفعالاً تغيظا وتضيق صدورَنا ونحن قومٌ عادتا التَّيقُّظُ والحذرُ واستعمالُ الحزمِ في الأمورِ فإذا خرجَ علينا خارج سارعنا إلى إطفاء نائرة فسادِه وهذه معاذيرُ اعتذر بها إلى أهلِ المدائن لئلاَّ يُظنُّ به ما يكسر من قهرهِ وسلطانه وقُرىء حَذِرون فالأوَّلُ دالٌّ على التَّجدُّدِ والثَّاني على الثَّباتِ وقيل الحاذرُ المؤدِّي في السلام وقُرىء حادِرون بالدَّالِ المُهملة أي أقوياءُ وأشدَّاءُ وقيل مدجَّجون في السِّلاحِ قد كسبهم ذلك حدارةً في أجسامِهم

57

{فأخرجناهم} بأن خقلنا فيهم داعيةَ الخروجِ بهذا السبب فحملتهم عليه {مّن جنات وَعُيُونٍ}

58

{وكنوز ومقام كريم { سورة الشعراء (59 65) كانت لهم جملة ذلك {كذلك}

59

{كذلك} إمَّا مصدرٌ تشبيهيٌّ لأخرجنا أي مثلَ ذلك لإخراج العجيبِ أخرجناهُم أو صفة لمقام كريم أي من مقامٍ كريمٍ كائنٍ كذلك أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي الأمرُ كذلك {وأورثناها بني إسرائيل} أي ملَّكناها إيَّاهم على طريقةِ تمليكِ مالِ المورَّثِ للوارثِ كأنَّهم ملكُوها من حينِ خروجِ أربابِها منها قبل أنْ يقبضُوها ويتسلَّموها

60

{فَأَتْبَعُوهُم} أي فلحقُوهم وقُرىء فاتَّبعوهم {مُشْرِقِينَ} داخلينَ في وقتِ شُروق الشَّمسِ أي طلوعها

61

{فلما تراءى الجمعان} تقارَبا بحيثُ رأى كل واحد منهما الآخرون وقُرىء تَراءتِ الفئتانِ {قَالَ أصحاب موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} جاءوا بالجملةِ الاسميةِ مؤكَّدة بحر في التَّأكيدِ للدِّلالةِ على تحقُّقِ الإدراك واللحاقِ وتنجُّزهما وقُرىء لمدَّركُون بتشديد الدَّالِ من أدرك الشَّيءُ إذا تتابعَ ففنيَ أي لمتتابعون في الهلاكِ على أيديهم

62

{قَالَ كَلاَّ} ارتدِعُوا عن ذلك فإنَّهم لا يُدركونكُم {إِنَّ مَعِىَ رَبّى} بالنَّصرةِ والهدايةِ {سَيَهْدِينِ} البتةَ إلى طريق النَّجاةِ منُهم بالكلَّية رُوي أَنَّ يُوشعِ عليه السَّلامُ قال يا كليَم الله أين أُمرتَ فقد غشِيَنا فرعونُ والبحرُ أمامَنا قال عليه السَّلامُ ههُنا فخاضَ يوشعُ عليه السَّلامُ الماءوضرب مُوسى عليه السَّلامُ بعصاهُ البحرَ فكانَ ما كانَ ورُوي أنَّ مؤمناً من آل فرعونَ كان بين يدي موسى عليه السلام فقال أينَ أُمرت فهذا البحرُ أمامَك وقد غشيك آلُ فرعونَ قال عليه السَّلامُ أُمرتُ بالبحر ولعلي أُومر بما أصنعُ فأمر بما أُمر بهِ وذلك قولُه تعالى

63

{فَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى أَنِ اضرِبْ بّعَصَاكَ البحر} الفلزم أو النِّيلَ {فانفلق} الفاء فصيحةٌ أي فضربَ فانفلق فصارَ اثني عشر فِرقاً بعددِ الأسباطِ بينهنّ مسالكُ {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} حاصلٍ بالانفلاق {كالطود العظيم} كالجبلِ المنيف الثابت في مقرِّه فدخلُوا في شعابِها كلُّ سِبْطٍ في شعبٍ منها

64

{وَأَزْلَفْنَا} أي قرَّبنا {ثَمَّ الاخرين} أي فرعونَ وقومَه حتَّى دخلُوا على أثرِهم مداخلَهم

65

{وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ} بحفظِ البحرِ على تلك الهيئةِ إلى أنْ عبروا إلى البر

سورة الشعراء (66 68)

66

(ثم أغرقنا الآخرين) بإطبافه عليهم

67

{إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في جميعِ ما فُصِّل ممَّا صدرَ عن مُوسى عليه السَّلامُ وظهر على يديهِ من المعجزاتِ القاهرةِ وممَّا فعلَ فرعونُ وقومُه من الأقوالِ والأفعالِ وما فُعل بهمْ منَ العذابِ والنَّكالِ وما في إسمِ الإشارةِ من معنى البعد لتهويل أمرِ المُشار إليهِ وتفظيعِه كتنكير الآيةِ في قوله تعالى {لآيَةً} أي أيّة آيةٍ أو أيةً عظيمة لا تكادُ تَوصف موجبة لأنْ يعتبرَ بها المعتبرون ويقيسُوا شأنَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بشأنِ مُوسى عليه السَّلامُ وحال أنفسهم بحال أولئك المُهَلكين ويجتنبُوا تعاطيَ ما كانُوا يتعاطَونه من الكفرِ والمَعَاصي ومخالفةِ الرَّسُولِ ويُؤمنوا بالله تعالى ويُطيعوا رسولَه كيلا يحِل بهم مثلُ ما حلَّ بأولئك أو إنَّ فيما فُصِّل من القصَّةِ من حيثُ حكايتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاها على ما هي عليه من غير أن يسمعها من أحد لآيَةً عظيمة دالة على أن ذلك بطريقِ الوحيِ الصَّادقِ موجبةً للإيمانِ بالله تعالى وَحْدَهُ وطاعةِ رسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ} أي أكثرُ هؤلاءِ الذينَ سمعُوا قصَّتهم منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {مُّؤْمِنِينَ} لا بأنْ يقيسُوا شأنَه بشأن مُوسى عليهما السَّلامُ وحالَ أنفسِهم بحال أولئك المكذِّبين المهلكينَ ولا بأنْ يتدبَّروا في حكايتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لقصتهم من غيرِ أن يسمعها من أحد مع كونِ كلَ من الطَّريقينِ مَّما يُؤدِّي إلى الإيمان قطعاً ومعنى ما كان أكثرهم مؤمنين وما أكثرُهم مؤمنين على أنَّ كانَ زائدة كما هُو رأيُ سيبويهِ فيكون كقولِه تعالى وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وهو إخبارٌ منه تعالى بما سيكون من المشركين بعد ما سمعُوا الآياتِ النَّاطقةَ بالقصَّة تقريراً لما مرَّ من قوله تعالى وَمَا يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ الخ وإيثارُ الجملة الاسميةِ للدلالة على استقرارهم على عدمِ الإيمانِ واستمرارهم عليه ويجوزُ أن يجعل كان كان بمعنى صَار كما فعل ذلك في قولِه تعالَى وَكَانَ مِنَ الكافرين فالمَعْنى وما صار أكثرُهم مؤمنين مع ما سمعُوا من الآية العظيمة الموجبة له بما ذُكر من الطرفين فيكون الإخبارُ بعدم الصَّيرورةِ قبل الحدوث للدِّلالةِ على كمالِ تحقُّقهِ وتقرّره كقولِه تعالى أتى أَمْرُ الله الآيةَ

68

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز} الغالبُ على كلِّ ما يريده من الأمور التي من جملتها الانتقام من المكذِّبين {الرحيم} المبالِغُ في الرحمة ولذلك بمهلهم ولا يجعل عقوبتَهم بعدم إيمانهم بعد مُشاهدة هذه الآية العظيمة بطريقِ الوحيِ مع كمال استحقاقِهم لذلك هذا هو الذي يقتضيهِ جزالةُ النَّظمِ الكريمِ من مطلعِ السُّورةِ الكريمةِ إلى آخر القِصص السبع بل إلى آخرِ السورة الكريمة اقتضاء بيِّناً لا ريبَ فيه وأما ما قيل من أنَّ ضميرَ أكثرُهم لأهل عصرِ فرعونَ من القبطِ وغيرِهم وأنّ المعنى وما كان أكثرُ أهل مصرَ مؤمنين حيثُ لم يؤمن منهم إلا آسيةُ وحِزقيلُ ومريمُ ابنةُ يامُوشاً التي

سورة الشعراء (69 72) دلَّتْ على تابوتِ يوسفَ عليه السَّلامُ وبنُو إسرائيلَ بعد ما نجَوا سألُوا بقرةً يعبدونَها واتَّخذوا العجلَ وقالُوا لن نؤمنَ لك حتى نرى الله جهرة فبمزل من التَّحقيقِ كيف لا ومساقُ كل قصَّةٍ من القصص الواردةِ في السُّورة الكريمة سوى قصَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ إنَّما هو لبيان حال طائفة معيَّنةٍ قد عتَوا عن أمر ربَّهم وعصَوا رسلَه عليهم الصلاة والسلام كما بفصح عنه تصدير القصصِ بتكذيبهم المرسلينَ بعد ما شاهدُوا بأيديهم من الآياتِ العظامِ ما يُوجب عليهم الإيمان ويزجرُهم عن الكفرِ والعصيانِ وأصرُّوا على ما هم عليه من التَّكذيب فعاقبهم الله تعالى لذلك بالعُقوبة الدُّنيويَّةِ وقطع دابَرهم بالكُليَّة فكيف يُمكن أن يخبرَ عنهم بعدم إيمان أكثرهم لا سيما بعد الإخبار بإهلاكهم وعدّ المؤمنين من جُملتهم أولاً وإخراجهم منها آخِراً مع عدم مشاركتِهم لهم في شيء ما حكي عنهم من الجنايات أصلاً مَّما يُوجب تنزيهُ التنزيلِ عن أمثالِه فتدبَّر

69

{واتل عَلَيْهِمْ} عطفٌ على المضمرِ المقدَّر عاملاً لإذ نادى الخ أي واتل على المشركينَ {نَبَأَ إبراهيم} أي خبَره العظيمَ الشَّأنِ حسبما أُوحيَ إليك لتقف على ما ذكر م عدمِ إيمانِهم بما يأتيهم من الآيات بأحد الطَّريقين

70

{إِذْ قَالَ} منصوب إما على الظَّرفيةِ للنبأ أي نبأه وقت قوله {لاِبِيهِ وقومه} أو على المفعولية لاتلُ على أنَّه بدلٌ من نبأ أي واتلُ عليهم وقت قوله لهم {مَا تَعْبُدُونَ} على أنَّ المتلو ما قاله لهم في ذلك الوقتِ سألهم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن ذلك ليبني على جوابِهم أنَّ ما يعبدونه بمعزل من استحقاقِ العبادةِ بالكُلِّية

71

{قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عاكفين} لم يقتصرُوا على الجواب الكافي بأنْ يقولُوا أصناماً كما في قوله تعالى ويسألونك مَاذا يُنْفِقُونَ قُل العفو وقوله تعالى مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق ونظائرهما بل أطنبُوا فيه بإظهار الفعلِ وعطفُ دوامِ عكوفهم على أصنامِهم قصداً إلى إبرازِ ما في نفوسِهم الخبيثةِ من الابتهاجِ والافتخارِ بذلك والمرادُ بالظلول الدَّوامُ وقيل كانُوا يعبدونَها بالنَّهارِ دُون اللَّيلِ وصلة العكوف كلمةُ عَلَى وإيرادُ اللاَّمِ لإفادةِ معنى زائدٍ كأنَّهم قالوا فنظلُّ لأجلِها مُقبلين على عبادتها أو مستدبرين حولَها وهذا أيضاً من جملة إطباعهم

72

{قال} استئناف مبني على سؤالِ نشأ من تفصيلِ جوابهم {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} أي هل يسمعُون دعاءَكم على حذف المضافِ أو يسمعونكم تدعُون كقولك سمعتُ زَيْداً يقول كيتَ وكيتَ فخذف لدلالةِ قوله تعالى {إِذْ تَدْعُونَ} عليه وقُرىء هل يُسمعونكم من الإسماع أي هل يُسمعونكم شَيْئاً من الأشياءِ أو الجواب عن دعائكم وهل يقدِرون على ذلك وصيغة المضارع مع إذ على حكايةِ الحالِ

سورة الشعراء (73 78) الماضيةِ لاستحضار صُورتِها كأنَّه قيل لهم استحضُروا الأحوالَ الماضيةَ التي كنتُم تدعونها فيها وأجيبُوا هل سمعُوا أو سنعوا قط

73

{أَوْ يَنفَعُونَكُمْ} بسبب عبادتِكم لها {أَوْ يَضُرُّونَ} أي يضرونكم بترككم لعبادتها إذا لابد للعبادة لا سيَّما عند كونِها على ما وصفتُم من المبالغة فيها من جلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ

74

{قالُوا بل وجدنا آباءَنا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} اعترفُوا بأنَّها بمعزلٍ مَّما ذكر من السَّمعِ والمنفعةِ والمضرَّةِ بالمرَّة واضطرُّوا إلى إظهار أنْ لا سندَ لهم سوى التَّقليد أي ما علمنا أو ما رأينا منهم ما ذُكِرَ منَ الأمورِ بل وجدنا آباءَنا كذلك يفعلُون أي مثلَ عبادِتنا يعبدون فاقتدينا بهم

75

{قال أفرأيتم مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} أي أنظرتُم فأبصرتُم أو أتأمَّلتمُ فعلمتم ما كنتُم تعبدونَهُ

76

{أنتم وآباؤكم الأقدمون} حقَّ الإبصارِ أو حقَّ العلمِ وقوله

77

{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى} بيانٌ لحال ما يعبدونَه بعد التَّنبيهِ على عدم علمِهم بذلك أي فاعلموا أنَّهم أداء لعابديهم الذين يجبونهم كحبِّ الله تعالى لما أنهم يتضرَّرون من جهتهم فوق ما يتضرَّر الرَّجلُ من جهة عدوِّه أو لأنَّ مَن يُغريهم على عبادتهم ويحملُهم عليها هو الشيطان الذي هو أعدى عدوِّ الإنسانِ لكنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ صوَّر الأمر في نفسه تعريضاً بهم فإنَّه أنفعُ في النَّصيحة من التَّصريح وإشعاراً بأنَّها نصيحة بدأ بها نفسَه ليكون أدعى إلى القَبولِ والعدوُّ والصَّديقُ يجيئانِ في معنى الواحدِ والجمعِ ومنه قولَه تعالى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ شبها بالمصادر للموازنةِ كالقبول والولوع والحنين والصَّهيلِ {إلا رب العالمين} استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ ربُّ العالمينَ ليس كذلك بل هو وليّ في الدُّنيا والآخرة لا يزال يتفضَّلُ عليَّ بمنافعهما حسبما يُعرب عنه ما وصفه تعالى به من أحكام الولايةِ وقيل متَّصلٌ وهو قولُ الزَّجاجِ على أنَّ الضَّميرَ لكلِّ معبود وكان من آبائِهم من عبدَ الله تعالى وقوله تعالى

78

{الذى خَلَقَنِى} صفةٌ لربِّ العالمينَ وجعلُه مبتدأً وما بعْدَه خبراً غيرُ حقيقٍ بجزالة التَّنزيلِ وإنَّما وصفه تعالى بذلك وبما عطفه عليهِ مع اندراجِ الكلِّ تحت ربوبيتهِ تعالى للعالمين تصريحاً بالنِّعم الخاصَّةِ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وتفصيلاً لها لكونِها أدخلَ في اقتضاءِ تخصيصَ العبادةِ به تعالى وقصرِ الالتجاء في جلبِ المنافعِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ المضارِّ العاجلةِ والآجلةِ عليه تعالى {فهو يهدين}

سورة الشعراء (79 82) يهديك أي هو يهديني وحدَهُ إلى كلِّ ما يُهمني ويُصلحني من أمور الدِّين والدُّنيا هدايةً متصلةً بحين الخلقِ ونفخ الرُّوحِ متجددة على الاستمرار كما ينبىءُ عنه الفاءُ وصيغةُ المضارعِ فإنَّه تعالى يهدي كلَّ ما خلقه لما خُلق له من أمور المعاش والمعادِ هدايةً متدرجة من مبدأ إتجاده إلى منتهى أجلِه يتمكَّن بها من جلبِ منافعهِ ودفع مضارِّه إمَّا طبعاً وإمَّا اختياراً مبدؤُها بالنَّسبة إلى الإنسان هداية الجنينِ لامتصاص دمِ الطَّمثِ ومنتهاها الهدايةُ إلى طريق الجنَّةِ والتَّنعمِ بنعيمها المقيمِ

79

{والذى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ} عطفٌ على الصِّفة الأولى وتكريرُ الموصولِ في المواقعِ الثَّلاثةِ مع كفاية عطف ما وقع في حيِّز الصِّلةِ من الجُمل السِّتِّ على صلة الموصول الأول للإيذانِ بأنَّ كلَّ واحدةٍ من تلك الصِّلاتِ نعتٌ جليلٌ له تعالى مستقلٌّ في استيجاب الحكم حقيقة بأنْ تجري عليه تعالى بحيالها ولا تجعل من روادِف غيرها

80

{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} عطفٌ على يُطعمني ويسقين نُظم معهما في سلك الصِّلةِ لموصول واحدٍ لما أنَّ الصِّحَّةَ والمرض من متفرِّعاتِ الأكل والشُّرب غالباً ونسبةُ المرضِ إلى نفسه والشفاءء إلى الله تعالى مع أنَّهما منه تعالى لمراعاة حُسنِ الأدبِ كما قال الخَضِرُ عليه السَّلامُ فأردتُ أنْ أعيبها وقال فأرادَ ربُّك أنْ يبلُغا أشدَّهما وأما الإماتُة فحيث كانتْ من معظم خصائصِه تعالى كالإحياءِ بدَءاً وإعادةً وقد نيطتْ أمورُ الآخرةِ جميعاً بها وبما بعدَها من البعث نظمهما في سمطٍ واحدٍ في قوله تعالى

81

{والذى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ} على أنَّ الموتَ لكونه ذريعةً إلى نيله عليه الصلاةُ والسَّلامُ للحياة الأبديَّةِ بمعزل من أن يكون غيرَ مطبوع عنده عليه الصَّلاة والسَّلام

82

{والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين} ذِكرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هضماً لنفسه وتعليماً للأمَّةِ أنْ يجتنبُوا المعاصي ويكونوا على حَذَرٍ وطلب مغفرة لَما يفرطُ منهم وتلافياً لما عَسَى يندرُ منه عليه الصلاة والسلام من الصَّغائر وتنبيهاً لأبيه وقومه على أنْ يتأمَّلوا في أمرهم فيقفُوا على أنَّهم من سوء الحال في درجةٍ لا يقادَر قدرُها فإنَّ حالَه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مع كونه ف طاعة الله تعالى وعبادتِه في الغاية القاصيةِ حيثُ كانت بتلك المثابة فما ظك بحال أولئك المغمُورين في الكُفر وفُنون المعاصي والخطايا وحملُ الخطيئة على كلماتِه الثَّلاثِ إنِّي سقيمٌ بل فعله كبيرُهم وقوله لسارَّةَ حتى أختي مَّما لا سبيلَ إليه لأنَّها مع كونها معاريض لا من قبيل الخطايا المفتقرةِ إلى الاستغفار إنَّما صدرتْ عنه عليه الصلاة والسلام بعد هذه المقاولةِ الجاريةِ بينه وبين قومِه أما الثَّالثةُ فظاهرةٌ لوقوعِها بعد مهاجرتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى

الشأمِ وأما الأوليانِ فلأنَّهما وقعتا مكتنفتينِ بكسرِ الأصنامِ ومن البيِّن أنَّ جريانَ هذه المقالاتِ فيما بينهم كان في مبادىءِ الأمرِ تعليق مغفرةِ الخطيئةِ بيومِ الدَّينِ مع أنَّها إنَّما تُغفر الدنيا لأن أثرها يومئذ يتبيَّن ولأنَّ في ذلك تهويلاً له وإشارةً إلى وقوعِ الجزاءِ فيه إنْ لم تُغفر

83

{رَبّ هَبْ لِى حُكْماً} بعد ما ذكر عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم فنونَ الألطافِ الفائضةِ عليه من الله عزَّ وجلَّ من مبدأِ خلقِه إلى يومِ بعثهِ حمله ذلك على مُناجاتِه تعالى ودعائِه لربط العتيدِ وجلبِ المزيدِ والحكم الحكمة التي هي الكمالُ في العلم والعملِ بحيثُ يتمكَّنُ به من خلافةِ الحقِّ ورياسة الخلقِ {وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} ووفقنِي من العُلومِ والأعمال والملكات لما يرشحن للانتظامِ في زُمرةِ الكاملينَ الرَّاسخينَ في الصَّلاحِ المنزَّهينَ عن كبائرِ الذُّنوبِ وصغائِرها أو اجمعْ بيني وبينَهُم في الجنَّة ولقد أجابَه تعالى حيثُ قال وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين

84

{واجعل لّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الأخرين} أي جاهاً وحسنَ صيت في الدُّنيا بحيثُ يبقى أثرُه إلى يومِ الدِّين ولذلك لا ترى أمةً من الأُمم إلا وهي محبَّةٌ له ومثنيةٌ عليه أو صادقاً من ذريتي يحدد أصلَ ديني ويدعُو النَّاسَ إلى ما كنتُ أدعُوهم إليهِ من التَّوحيدِ وهو النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أنا دعوةُ أبي إبراهيمَ

85

{واجعلنى} في الآخرةِ {مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم} وقد مرَّ معنى الوراثة في سورةِ مريمَ

86

{واغفر لاِبِى} بالهدايةِ والتَّوفيقِ للإيمان كما يلوحُ به تعليلُه بقوله {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين} أي طريقَ الحقَّ وقد مرَّ تحقيقُ المقامِ في تفسير سورة التَّوبةِ وسورة مريمَ بما لا مزيدَ عليهِ

87

{وَلاَ تُخْزِنِى} بمعاتبتي على ما فرطت أو ينقص رُتبتي عن بعض الورَّاثِ أو بتعذيبي لخفاءِ العاقبةِ وجوازِ التَّعذيبِ عقلاً كلُّ ذلك مبنيٌّ على هضمِ النَّفسِ منه عليه الصَّلاةُ والسلام أو بتعذيب ولدي أو يبعثه في عدادِ الضَّالين بعدمِ توفيقِه للإيمانِ وهو من الخِزيِ بمعنى الهران أو من الخزايةِ بمعنى الحياءِ {يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي النَّاسُ كافَّةً والإضمار قبل الذكرِ لما في عُموم البعثِ من الشُّهرة الفاشيةِ المغنيةِ عنه وتخصيصه بالضَّالِّين مما يخلُّ بتهويلِ اليوم

88

{يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ} بدلٌ من يومَ يبعثُون جِيء به تأكيداً للتَّهويلِ وتمهيداً لما يعقُبه منْ الإستثناء وهو من أعمِّ المفاعيلِ أي

سورة الشعراء (89 94) لا ينفعُ مالٌ وإن كان مصرُوفاً في الدُّنيا إلى وجوهِ البرِّ والخيراتِ ولا بنون وإن كانُوا صُلحاءَ مستأهلينَ للشَّفاعةِ أحداً

89

{إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي عن مرض الكُفرِ والنِّفاقِ ضرورةَ اشتراطِ نفع كلَ منهما بالإيمان وفيه تأييدٌ لكونِ استغفارِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأبيه طلباً لهدايتِه إلى الإيمانِ لاستحالةِ طلبِ مغفرتِه بعد موته كافراً مع علمه عليه الصلاة والسلام بعدم نفعه لأنَّه من باب الشَّفاعةِ وقيل هو استثناءُ من فاعلٍ ينفعُ بتقدير المضاف أي إلا مال من أو بنو من أتى الله الآية وقيل المضاف المحذوف ليس من جنس المُستثنى منه حقيقةً بل بضرب من الاعتبارِ كما في قولِه تحيةُ بينِهم ضربٌ وجيعُ أي إلا حالَ من أتى الله بقلبٍ سليم على أنَّها عبارةٌ عن سلامة القلبِ كأنَّه قيل إلا سلامةَ قلبِ مَن أتى الله الآية وقيل المضاف المحذوف ما دلَّ عليه المالُ والبنون من الغنى وهو المُستثنى منه كأنَّه قيل يومَ لا ينفعُ غِنَى إلا غنى من أتى الله الآيةَ لأنَّ غنى المرءِ في دينِه بسلامةِ قلبِه وقيل الاستثناءُ منقطعُ والمعنى لكن سلامة قلبه تنفعه

90

{وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ} عطف على لا ينفع وصيغةُ الماضي فيه وفيما بعدَهُ من الجُمل المنتظمةِ معه في سلك العطف للدِّلالة على تحقُّق الوقوعِ وتقرُّره كما أن صيغة المضارع في المعطوفِ عليه للدِّلالة على استمرار انتفاءِ النَّفع ودوامِه حسبما يقتضيهِ مقامُ التَّهويل والتَّفظيعِ أي قُربتِ الجنَّةُ للمتَّقين عنِ الكفرِ والمعاصِي بحيثُ يُشاهدونها من الموقفِ ويقفُون عَلى ما فَيها من فنُون المحاسنِ فيبتهجُون بأنَّهم المحشورون إليها

91

{وَبُرّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ} الضَّالِّين عن طريقِ الحقِّ الذي هو الإيمانُ والتَّقوى أي جُعلت بارزةً لهم بحيث يَرَونها مع ما فيها من أنواع الأحوالِ الهائلةِ ويُوقنون بأنَّهم مواقعوها ولا يجدون عنها مصرفا

92

{قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} في الدنيا {ما تَعْبُدُونَ} {مِن دُونِ الله} أي أين آلهتكم الذين كنتُم تزعمون في الدُّنيا أنَّهم شفعاؤكم في هذا الموقفِ {هَلْ يَنصُرُونَكُمْ} بدفعِ العذابِ عنكم {أَوْ يَنتَصِرُونَ} بدفعه عن أنفسهم وهذا سؤالُ تقريعٍ وتبكيتٍ لا يُتوقَّع له جوابٌ ولذلك قيل

94

{فَكُبْكِبُواْ فِيهَا} أي أُلقوا في الجحيمِ على وجوهِهم مرة بعد أرى إلى أنْ يستقرُّوا في قعرها {هُمْ} أي آلهتُهم {والغاوون} الذين كانُوا يعبدونهم وفي تأخير

سورة الشعراء (95 99) ذكرهم عن ذكر آلهتم رمزٌ إلى أنَّهم يؤخَّرون عنها في الكبكبةِ ليُشاهدوا سوءَ حالِها فيزدادوا غمِّاً إلى غمَّهم

95

{وجنود إبليس} أي شياطنية الذين كانوا يغرونهم ويُوسوسون إليهم ويسوِّلون لهم ما هم عليه من عبادةِ الأصنام وسائر فنون الكُفر والمعاصي ليجتمعُوا في العذاب حسبما كانُوا مجتمعين فيما يُوجبه وقيل متبعوه من عصاة الثَّقلينِ والأوَّلُ هو الوجه {أجمعين} تأكيد للضمير وما عُطِف عليه وقوله تعالى

96

{قَالُواْ} الخ استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ حالهم كأنه قيل ماذا قالوا حينَ فُعل بهم ما فُعل فقيل قال العَبَدةُ {وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} أي قالوا معترفين بخطئهم في أنهما كهم في الضَّلالةِ متحسَّرين معيِّرين لأنفسهم والحال أنَّهم في الجحيم بصددِ الاختصام مع من معهم من المذكورينَ مخاطبين لمعبودِيهم على أنَّ الله تعالَى يجعلُ الأصنامَ صالحةً للاختصام بأنْ يُعطيها القدرةَ على الفهم والنُّطقِ

97

{تالله إِن كُنَّا لَفِى ضلال مُّبِينٍ} إنْ مخففةٌ من الثَّقيلةِ قد حُذف اسمَها الذي هو ضميرُ الشأن واللام فارقة بينها وبن النَّافيةِ أي إنَّ الشأنَ كُنَّا في ضلال واضح لإخفاء فيه ووصفهم له بالوضوح للإشباع في إظهار ندمهم وتحسُّرهم وبيان عِظَمِ خطئهم في رأيهم مع وضوح الحقِّ كما ينبىءُ عنه تصديرُ قَسَمهم بحرف التَّاءِ المُشعرةِ بالتَّعجُّبِ وقوله تعالى

98

{إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ العالمين} ظرفٌ لكونهم في ضلالٍ مبين وقيل لما دل عليه الكلامُ أي ضللنا وقيل للضَّلال المذكورِ وإن كان فيه ضعفٌ صناعيٌّ من حيث إنَّ المصدرَ الموصوفَ لا يعمل بعد الوصف وقيل ظرفٌ لمبين وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ الصُّورَةِ الماضية أي تالله لقد كُنَّا في غاية الضَّلالِ الفاحش وقت تسويتنا إيَّاكُم أيُّها الأصنامُ في استحقاقِ العبادة بربِّ العالمين الذي أنتم أدنى مخلوقاته وأدلهم وأعجزُهم وقولهم

99

{وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ المجرمون} بيان لسبب ضلالهم بعد اعترافِهم بصدوره عنهم لكنْ لا على مَعْنى قصرِ الإضلال على المجرمين دون عداهم بل على مَعنى قصر ضلالِهم على كونه بسبب إضلالهم من غير أنْ يستقلُّوا في تحقُّقهِ أو يكون بسبب إضلال الغيرِ كأنَّه قيل وما صدرَ عنَّا ذلك الضَّلالُ الفاحش إلا بسبب إضلالِهم والمرادُ بالمجرمين الذين أضلوهم روساؤهم وكُبراؤُهم كما في قولِه تعالى رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا وعن السدى رحمة الله الأَوَّلُون الذين اقتدَوا بهم وأياما كان ففيه أوفرُ نصيب من التعريض الذين قالُوا بل وجدنا آباءَنا كذلك يفعلون وعن ابنِ جريج

سورة الشعراء (100 103) إبليسُ وابنُ آدمَ القاتلُ لأنَّه أوَّلُ من سَنَّ القتلَ وأنواعَ المعاصِي

100

{فما لنا من شافعين} كما للمؤمنينَ من الملائكةِ والأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ

101

{وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} كما نرى لهم أصدقاءَ أو فما لنا من شافعين ولا صديقٍ حميمٍ من الذين كنَّا نعدُّهم شفعاءَ وأصدقاءَ على أنَّ عدمَهما كنايةٌ عن عداوتِهما كما أنَّ عدمَ المحبَّةِ في مثلِ قولِه تعالى والله لاَ يُحِبُّ الفساد كنايةٌ عن البُغضِ حسبما ينبىءُ عنه قوله تعالى الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين أو وقعنا في مهلكة لا يخلصنا منها شافعٌ ولا صديقٌ على أنَّ المرادَ بعدمهما عدمُ أثرهِما وجمعُ الشَّافعِ لكثرة الشُّفعاءِ عادةً كما أنَّ إفرادَ الصَّديقِ لقلَّتهِ أو لصحَّةِ إطلاقِه على الجمعِ كالعدوِّ تشبيهاً لهما بالمصادرِ كالحنينِ والقَبولِ وكلمةُ لَوْ في قوله تعالى

102

{فلو أن لنا كرة} للتَّمنِّي كليتَ لما أنَّ بينَ معنييهما تلاقياً في معنى الفرضِ والتَّقديرِ كأنَّه قيل فليتَ لنا كرَّةً أي رجعةً إلى الدُّنيا وقيل هي علي أصلِها من الشَّرطِ وجوابُه محذوفٌ كأنَّه قيل فلو أنَّ لنا كرةً لفعلنا من الخيراتِ كيتَ وكيتَ ويأَّباهُ قوله تعالى {فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} لتحتُّم كونِه جواباً للتمني مفيدا لترتيب إيمانهم على وقوعِ الكَرَّةِ البتة بلا تخلف كما هو مقتضى حالِهم وعطفه على كرة طريقة للبس عباءة وتقرعيني كما يستدعيه كون لو على أصلها إنَّما يفيد تحقُّقَ مضمون الجوابِ على تقدير تحقق كرتهموإيمانهم معاً من غير دلالة على استلزامِ الكرَّة للإيمانِ أصلاً مع أنَّه المقصودُ حتماً

103

{إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذُكر من نبأ إبراهيمَ عليه السَّلامُ المشتملِ على بيان بُطلانِ ما كان عليه أهلُ مكَّةَ من عبادةِ الأصنامِ وتفصيلِ ما يؤول إليه أمرُ عَبَدتها يومَ القيامةِ من اعترافِهم بخطئِهم الفاحشِ وندمِهم وتحسُّرهم على ما فاتَهُم من الإيمان وتمنِّيهم الرَّجعةَ إلى الدُّنيا ليكونُوا من المؤمنين عند مشاهدتِهم لما أزلفت لهم جنَّاتُ النَّعيمِ وبُرِّزتْ لأنفسهم الجحيم وغشيهم ما غشيهم من ألوانِ العذابِ وأنواعِ العقابِ {لآيَةً} أي آية عظيمةٌ لا يُقادرُ قَدرُها موجبةً على عبدة الأصنامِ كافَّةً لا سيَّما على أهلِ مكَّةَ الذين يدَّعُون أنَّهم على ملَّةِ إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يجتنبُوا كلَّ الاجتنابِ ما كانُوا عليه من عبادتها خوفاً أنْ يحيقَ بهم مثلُ ما حاق بأولئك من العذابِ بحكم الاشتراكِ فيما يُوجبه أو أن في ذكر نبئةِ وتلاوته عليهم على ما هو عليه من غير أنْ تسمعه من أحد لآيَةً عظيمة دالَّة على أنَّ ما تتلوه عليهم وحيٌ صادقٌ نازلٌ من جهةِ الله تعالى موجبة للإيمان به قطعاً {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مؤمنين} أي أكثرُ هؤلاءِ الذينَ تتلُو عليهم النبأَ مؤمنين بل هم مُصرُّون على ما كانُوا عليهِ من الكُفرِ والضَّلالِ وأمَّا أنَّ ضمير أكثرُهم لقومِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ كما توهَّمُوا فمما لا سبيلَ إليه أصلاً لظهور أنَّهم ما ازدادوا مما سمعُوا منه عليه الصَّلاةُ والسلام

سورة الشعراء (104 111) إلا طُغياناً وكفراً حتَّى اجترؤا على تلك العظيمةِ التي فعلُوها به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فكيف يعبَّر عنهم بعدم إيمان أكثرِهم وإنما آمنَ له لوطٌ فنجَّاهُما الله عزَّ وجلَّ إلى الشَّامِ وقد مرَّ بقيَّةُ الكلام في آخرِ قصَّةِ موُسى عليه السَّلامُ

104

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} أي هو القادرُ على تعجيلِ العُقوبةِ لقومِك ولكنه يمهلهم بحكم الواسعةِ ليؤمن بعضٌ منهم أو من ذريَّاتِهم

105

{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} القوم مؤَّنثٌ ولذلك يُصغَّر على قُويمةٍ وقيل القومُ بمعنى الأُمَّةِ وتكذيبهم للمرسلين إما باعتبارِ إجماع الكلِّ على التَّوحيد وأصولِ الشَّرائعِ التي لا تختلفُ باختلاف الأزمنةِ والأعصارِ وإمَّا لأنَّ المرادَ بالجمعِ الواحدُ كما يقال فلانٌ يركب الدَّوابَّ ويلبس البرود وماله إلا دابة وبردة وإذفى قوله تعالى

106

{إِذْ قَالَ لَهُمْ} ظرفٌ للتَّكذيبِ على أنَّه عبارةٌ عن زمانٍ مديدٍ وقعَ فيه ما وقعَ من الجانبينِ إلى تمام الأمر كما أنَّ تكذيبَهم عبارةٌ عمَّا صدرَ عنهم من ابتداءِ دعوتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى انتهائها {أَخُوهُمْ} أي نسيبُهم {نُوحٌ أَلاَ تتقون} الله حين تعبدُون غيرهَ

107

{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ} من جهته تعالى {أَمِينٌ} مشهور بالأمانةِ فيما بينكم

108

{فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} فيما آمرُكم به من التَّوحيدِ والطَّاعةِ لله تعالى

109

{وما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على ما أنا متصدَ له من الدُّعاءِ والنُّصحِ {مِنْ أَجْرٍ} أصلاً {إِنْ أَجْرِىَ} فيما أتولاَّهُ {إِلاَّ على رَبّ العالمين} والفاء في قوله تعالى

110

{فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها من تنزهه عليه الصلاة والسلام عن الطَّمعِ كما أن نظيرتَها السَّابقةَ لترتيب ما بعدها على أمانتِه والتَّكريرُ للَّتأكيدِ والتَّنبيهِ على أن كلاًّ منهما مستقلٌّ في إيجاب التَّقوى والطَّاعةِ فكيف إذا اجتمَعا وقُرىء إن أَجْرِيْ بسكون الياء

111

{قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} أي الأقلُّون جاهاً ومالاً جمع الأرذلِ على الصِّحَّةِ فإنَّه بالغلبة صار جاريا مجرى الإسم

سورة الشعراء (112 118) كالأكبرِ والأكابرِ وقيل جمعُ أرذُلٍ جمعُ رَذْلٍ كأكالبَ وأَكلُبٍ وكَلْبٍ وقُرىء وأتباعُك وهو جمع تابعٍ كشاهدٍ وأشهادٍ أو جمع تَبَع كبطلٍ وأبطالٍ يعنُون أنَّه لا عبرةَ باتِّباعِهم لك إذْ ليس لهم رزانةُ عقلٍ ولا إصابةَ رأيٍ وقد كان ذلك منهم في بادىءٍ الرَّأي كما ذكر في موضع آخر وهذا من كمال سخافةِ عقولِهم وقصرهم أنظارَهم على حطام الدنيا وكون الأشراف عندهم مَن هو أكثرُ منها حظَّاً والأرذلُ مَن حُرمها وجهلِهم بأنَّها لا تزنُ عندَ الله جناحَ بعوضةٍ وأنَّ النعيم هو نعيمُ الآخرةِ والأشرفُ من فازَ به والأرذلُ من حُرمه

112

{قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} جواب عَّما أُشير إليه من قولهم إنَّهم لم يُؤمنوا عن نظرٍ وبصيرةٍ أي وما وظيفتي إلاَّ اعتبارُ الظَّواهرِ وبناءُ الأحكامِ عليها دون التَّفتيشِ عن بواطنهم والشَّقِّ عن قلوبهم

113

{إِنْ حِسَابُهُمْ} أي ما محاسبةُ أعمالِهم والتَّنقيرُ عن كفايتها البارزةِ والكامنةِ {إِلاَّ على ربي} فإنه المضطلع السَّرائرِ والضَّمائرِ {لَوْ تَشْعُرُونَ} أي بشيءٍ من الأشياءِ أو لو كنتُم من أل الشُّعور لعلمتم ذلك ولكنَّكم لستُم كذلك فتقولون ما تقولُون

114

{وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين} جواب عمَّا أوهمُه كلامُهم من استدعاءِ طردِهم وتعليقِ إيمانِهم بذلك حيثُ جعلوا اتِّباعَهم مانعاً عنه وقوله

115

{إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} كالعلَّةِ أي ما أنا إلا رسولٌ مبعوثٌ لإنذار المكلَّفين وزجرهِم عن الكفر والمعاصي سواءً كانُوا من الأعزَّاء أو الأذِلاَّء فكيف يتسنَّى طرد الفُقراء لاستتباع الأغنياءِ أو ما عليَّ إلاَّ إنذارُكم بالبرهان الواضحِ وقد فعلتُه وما عليَّ استرضاءُ بعضِكم بطردِ الآخرين

116

{قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا نوح} عمَّا تقول {لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين} من المشتُومين أو المرميين بالحجارةِ قالوه قاتلهم الله تعالى في أواخرِ الأمرِ ومعنى قوله تعالى

117

{قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِى كذبون} تموا على تكذيبي وأصرُّوا على ذلك بعد ما دعوتُهم هذه الأزمنةَ المُتطاولة ولم يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً كما يُعرب عنه دُعاؤْه بقولِه

118

{فافتح بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} أي أحكُم بيننا بما يستحقُّه كلُّ واحدٍ منَّا وهذه حكايةٌ إجماليةٌ لدعائِه المفصَّل في سورة نوحٍ عليه {وَنَجّنِى وَمَن مَّعِى مِنَ المؤمنينَ} أي من قصدِهم أو من

سورة الشعراء (119 128) شؤمِ أعمالِهم

119

{فأنجيناه وَمَن مَّعَهُ} حسب دعائِه {فِى الفلك المشحون} أي المملوءِ بهم وبما لابد لهم منه

120

{ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ} أي بعد إنجائِهم {الباقين} أي من قومِه

121

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وما كان أكثرهم مؤمنين} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} الكلامُ فيه كالذي مرَّ خلا أنَّ حمل أكثرهم على أكثر قومِ نوحٍ أبعدُ من السَّدادِ وأبعدُ

123

{كذبت عاد المرسلين} أنت عادٌ باعتبار القبيلةِ وهو اسمُ أبيهم الأقصى

124

{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} الكلام في أن المراد بتكذيبهم وبما وقعَ فيه من الزَّمانِ ماذا كما مرَّ في صدرِ قصَّة نوحٍ عليه السلام أي أَلا تَتَّقُونَ الله تعالى فتفعلون ما تفعلونَ

125

{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} {فاتقوا الله وأطيعون} {وما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إن أجرى إلا على رَبّ العالمين} الكلامُ فيه كالذي مرَّ وتَصديرُ القصص به للتنبيه على أنَّ مبنى البعثةِ هو الدُّعاءِ إلى معرفةِ الحقِّ والطَّاعةِ فيما يُقرب المدعوَّ إلى الثَّوابِ ويُبعده من العقابِ وأنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ مُجمعون على ذلك وإن اختلفُوا في بعض فروع الشَّرائعِ المختلفة باختلاف الأزمنةِ والأعصارِ وأنَّهم متنزِّهون عن المطامع الدنية والأغراض الدُّنيويةِ بالكُلِّية

128

{أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ} أي مكانٍ مرتفعٍ ومنه رِيعُ الأرض لإرتفاعها {آية} عَلَماً للمارة {تَعْبَثُونَ} أي ببنائها إذْ كانُوا يهتدون بالنُّجومِ في أسفارِهم فلا يحتاجُون إليها أو بروج الحمام

سورة الشعراء (129 137) أو بُنياناً يجتمعون إليه ليعبثوا لمن مرَّ عليهم أو قُصوراً عاليةً يفتخرونَ بها

129

{وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ} أي مآخذَ الماءِ وقيل قُصوراً مشيَّدة وحصوناً {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} أي راجين أنْ تُخلدوا في الدُّنيا أي عاملين عملَ من يرجو من ذلك فلذلك تحكمُون بنيانها

130

{وإذا بطشتم} بصوت أو سيفٍ {بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} متصلطين غاشمينَ بلا رأفةٍ ولا قصدِ تأديبٍ ولا نظرٍ في العاقبةِ

131

{فاتقوا الله} واتركُوا هذه الأفعال {وأطيعونِ} فيما أدعُوكم إليه فإنَّه أنفعُ لكم

132

{واتقوا الذى أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ} من أنواع النَّعماء وأصنافِ الآلاءِ أجملَها أوَّلاً ثم فصَّلها بقوله

133

{أَمَدَّكُمْ بأنعام وَبَنِينَ} بإعادة الفعل لزيادةِ التَّقريرِ فإنَّ التَّفصيلَ بعد الإجمال والتَّفسيرَ إثر الإبهامِ أدخلُ في ذلك

134

{وجنات وَعُيُونٍ} {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} إنْ لم تقوموا بشكرِ هذهِ النِّعم {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} في الدُّنيا والآخرةِ فإنَّ كُفران النِّعمةِ مستتبعٌ للعذاب كما أنَّ شكرَها مستلزمٌ لزيادتِها قال تعالى لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى شديد

136

{قَالُواْ سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أم لم تكن من الواعظين} فإنَّا لنْ نرعويَ عما نحن عليه وتغير الشِّقِّ الثِّاني عن مقابله للمبالغة في بيان قلَّةِ اعتدادها بوعضه كأنهم قالوا ألم تكُن من أهلِ الوعظ ومباشريهِ أصلاً

137

{إِنَّ هَذَا} ما هذا الذي جئتنا به {إِلاَّ خلق الأولين} أي عادتهم كانوا يلفِّقون مثلَه ويسطرونَه أو ما هذا الذي نحنُ عليه من الدِّين إلَّا خُلُق الأولين وعادتهم ونحن بهم مقتدون أو ما هذا الذي نحن عليه من الموتِ والحياةِ إلا عادةٌ قديمةٌ لم يزل النَّاسُ عليها وقُرىء خَلْق الأوَّلين بفتح الخاء أي إختلاق الأولَّينَ كما قالُوا أساطيرُ الأوَّلينَ أو ما خلقُنا هذا إلا خلقُهم نحيا

سورة الشعراء (150 158) كما حيُوا ونموت كما ماتُوا ولا بعثَ ولا حسابَ

138

{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} على ما نحنُ عليه من الأعمالِ

139

{فَكَذَّبُوهُ} أي أصرُّوا على ذلك {فأهلكناهم} بسببه بريحٍ صرصرٍ {إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} {كَذَّبَتْ ثَمُودُ المرسلين} إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالح أَلا تَتَّقُونَ {الله تعالى} إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين} {أتتركون في ما ها هنا آمِنِينَ} إنكارٌ ونفيٌ لأن يتركوا فيما هيم فيه من النِّعمة أو تذكير للنعمة في تخلينه تعالى إيَّاهم وأسباب تنعمِهم آمنين وقولُه تعالى

147

{فِى جنات وَعُيُونٍ} {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} تفسير لما قبله من المبهم والهضيمُ اللَّطيفُ الليِّنُ للطف الثمر أو لأنَّ النخلَ أُنثى وطلع الإناث ألطفُ وهو ما يطلع منها كنصل السَّيفِ في جوفه شماريخُ القنوِ أو متدلَ متكسرٌ من كثرةِ الحملِ وإفراد النخل لفضله على سائر أشجارِ الجنَّاتِ أو لأن المرادَ بها غيرُها من الأشجارِ

149

{وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فارهين}

بطرين أو حازقين من الفراهةِ وهي النَّشاطُ فإنَّ الحاذقَ يعملُ بنشاطٍ وطلب قلب وقرئ فَرِهين وهو أبلغ

150

{فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} {وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ المسرفين} استعير الطَّاعة التي هي انقيادُ الأمرِ لامتثالِ الأمر وارتسامِه أو نُسب حكم الأمر إلى أمرِه مجازاً

152

{الذين يُفْسِدُونَ فِى الأرض} وصف موضِّحٌ لإسرافهم ولذلك عطف {وَلاَ يُصْلِحُونَ} على يُفسدون لبيان خلوصِ إفسادِهم عن مخالطةِ الإصلاحِ

153

{قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين} أي الذين سُحروا حتَّى غُلب على عقولِهم أو من ذوي السَّحْر أي من الإنسِ فيكون قوله تعالى

154

{مَا أَنتَ إِلاَّ بشرٌ مّثْلُنَا} تأكيداً له {فَأْتِ بآية إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي في دعواكَ

155

{قَالَ هذه نَاقَةٌ} أي بعد ما أخرجَها الله تعالى من الصَّخرةِ بدعائه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حسبمَا مرَّ تفصيلُه في سورة الأعراف وسورة هودٍ {لَّهَا شِرْبٌ} أي نصيبٌ من الماء كالسِّقيِ والقِيت للحظِّ من السِّقيِ والقوت وقرئ بالضَّمِّ {وَلَكُمْ شربُ يومٍ مَّعْلُومٍ} فاقتنعُوا بشربكم ولا تزاحمُوا على شِربها

156

{وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء} كضرب وعقر {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وصف اليوم بالعظمِ لعظم ما يحلُّ فيه وهو أبلغُ من تعظيم العذابِ

157

{فَعَقَرُوهَا} أسند العقرَ إلى كلِّهم لما أنَّ عاقَرها عقرَها برأيهم ولذلك عمَّهم العذابُ {فَأَصْبَحُواْ نادمين} خوفاً من حُلول العذابِ لا توبةً أو عند معاينتهم لمباديه ولذلكَ لَمُ ينفعْهم النَّدمُ وإن كان بطريق التَّوبةِ

158

{فَأَخَذَهُمُ العذاب} أي العذابُ الموعودُ {إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مؤمنين}

سورة الشعراء (159 168)

159

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} قيل في نفيِ الإيمان عن أكثرهم فلي هذا المعرض إيماءً إلى أنَّه لو آمن أكثرُهم أو شطرُهم لما أُخذوا بالعذابِ وأنَّ قُريشاً إنَّما عُصموا من مثلِه ببركةِ مَن آمنَ منهم وأنتَ خبيرٌ بأن قُريشاً هم المشهورونَ بعدمِ إيمانِ أكثرِهم

160

{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المرسلين} {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} {وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أجرى إلا على رب العالمين} {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين} أى أتأتون من بينِ منَ عداكم من العالمين الذكران لا يشارككم فيه غيرُكم أو أتأتون الذكران من أولادِ آدمَ مع كثرتِهم وغلبة النَّساءِ فيهم مع كونهم أليقَ بالاستمتاعِ فالمرادُ بالعالمين على الأول ما يُنكح من الحيوانِ وعلى الثَّاني الناسُ

166

{وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ} لأجل استمتاعِكم وكلمة مِن في قوله تعالى {مّنْ أزواجكم} للبيان إنْ أريد يما جنسُ الإناثِ وهو الظَّاهرُ وللتبعيضِ إنْ أُريد بها العُضو المباحُ منهنَّ تعريضاً بأنَّهم كانُوا يفعلون ذلك بنسائِهم أيضاً {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} متعدُّون متجاوزونَ الحدَّ في جميعِ المعاصي وهذا من جُملتها وقيل متجاوزونَ عن حدِّ الشَّهوةِ حيث زادُوا على سائرِ النَّاسِ بل الحيواناتِ

167

{قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا لوط} أي عن تقبيح أمرِنا ونهينا عنه أو عن دَعْوى النُّبوة التي من جُملةِ أحكامِها التَّعرضُ لنا {لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين} أي من المنفيينَ من قريتنا وكأنَّهم كانوا يخرجون منَ أخرجوه من بيتهم على عنفٍ وسوءِ حالٍ

168

{قَالَ إِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَ القالين}

أي من المُبغضين غايةَ البغضِ كأنه يقْلى الفؤادَ والكبدَ لشدَّتِه وهو أبلغُ من أنْ يُقال إنِّي لعملِكم قالٍ لدلالتِه على أنه عليه الصلاةُ والسلام من زُمرة الرَّاسخين في بعضه المشهورينَ في قِلاه ولعلَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أراد إظهارَ الكراهة في مُساكنتِهم والرَّغبةِ في الخلاصِ من سوءِ جوارهم ولذلك أعرضَ عن محاورتِهم وتوجَّه إلى الله تعالى قائلاً

169

{رَبّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ} أي من شؤمِ عملهم وعائلته

170

{فنجيناه وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} أي أهلَ بيتهِ ومَن اتبعه في الدِّين بإخراجِهم من بينهم عند مشارفةِ حُلولِ العذابِ بهم

171

{إِلاَّ عَجُوزاً} هي امرأةُ لوط استثنيت من أهله فلا يضرُّه كونُها كافرةً لأنَّ لها شركةً في الأهلية بحقِّ الزَّواجِ {فِى الغابرين} أي مقدرا كونُها من الباقين في العذابِ لأنَّها كانت مائلةً إلى القوم راضيةً بفعلهم وقد أصابها الحجرُ في الطَّريقِ فأهلكها كما مرَّ في سُورة الحجرِ وسُورة هودٍ وقيل كانت فيمن بقيَ في القريةِ ولم تخرجْ مع لوطٍ عليه السلام

172

{ثُمَّ دَمَّرْنَا الاخرين} أهلكناهم أشدَّ إهلاكٍ وأفظَعه

173

{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} أي مطراً غيرَ معهودٍ قيل أمطر الله تعالى على شُذّاذ القوم حجارةً فأهلكتهم {فَسَاء مَطَرُ المنذرين} اللام فيه للجنسِ وبه يتسنَّى وقوعُ المضاف إليه فاعلَ ساءَ والمخصوص بالذمِّ محذوفٌ وهو مطرهم

174

{إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وما كان أكثرهم مؤمنين} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} {كذب أصحاب الأيكة المرسلين} الأيكةُ الغَيضةُ التي تُنبتُ ناعمَ الشَّجر وهي غَيضةٌ بقرب مَدْيَن يسكنها طائفة وكانُوا ممَّن بُعثَ إليهم شعيبٌ عليه السالم وكان أجنبيَّاً منهم ولِذلك قيل

177

{إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ} ولم يقُل

سورة الشعراء (178 187) أخُوهم وقيل الأيكةُ الشَّجرُ الملتفُّ وكان شجرُهم الدَّومَ وهو المقل وقرئ بحذف الهمزةِ وإلقاءِ حركتِها على اللامِ وقُرئت كذلك مفتوحةً على أنَّها لَيْكةُ وهي اسمُ بلدهم وإنَّما كُتبت ههنا وفي ص بغيرِ ألفٍ إتباعاً للفظِ اللافظ

178

{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} {فاتقوا الله وأطيعون} {وما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إن أجرى إلا على رب العالمين} {وَأَوْفُوا الكيل} أي أتمُّوه {وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين} أي حقوقَ النَّاس بالتّطفيف

182

{وَزِنُواْ} أي الموزوناتِ {بالقسطاس المستقيم} بالميزانِ السَّويِّ وهو إن كانَ عربيَّاً فإنْ كان من القسط ففعلا س بتكرير العين وإلا ففعلا ل وقرئ بضمِّ القاف

183

{وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} أي لا تُنقصوا شيئاً من حقوقِهم أي حقَ كان وهذا تعميمٌ بعد تخصيصِ بعضِ الموادِّ بالذكر لغاية أنهما كهم فيها {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ} بالقتل والغارة وقطعِ الطَّريقِ

184

{واتقوا الذى خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين} أى ذوى الجُبْلَّةِ الأوَّلينَ وهم مَن تقدمهم من الخلائق وقرئ بضمِّ الجيمِ والباءِ وبكسرِ الجيمِ وسكون الباءِ كالخِلْقة

185

{قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ المسحرين} {وَمَا أَنتَ إِلاَّ بشرٌ مثلُنا} إدخالُ الواو بين الجملتينِ للدِّلالة على أنَّ كلاً من التَّسحيرِ والبشريةِ منافٍ للرِّسالةِ مبالغةً في التَّكذيبِ {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين} أي فيما تدَّعيه من النُّبوة

187

{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماءِ} أى قطعا وقرئ بسكون السِّينِ وهو أيضاً جمعُ كِسفةٍ وقيل الكِسفُ والكِسفةُ كالرِّيعِ والرِّيعةِ وهي القطعةُ والمرادُ بالسَّماءِ إمَّا السَّحابُ أو المظلة ولعلَّه جواب

سورة الشعراء (188 192) لام أشعر به الأمرُ بالتَّقوى من التَّهديد {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في دعواكَ ولم يكُن طلبُهم ذلك إلا لتصميمهم على الجُحود والتَّكذيبِ وإلاَّ لمَا أخطرُوه ببالهم فضلاً أنْ يطلبُوه

188

{قَالَ رَبّى أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} من الكُفر والمعاصي وبما تستحقُّون بسببه من العذابِ فسينزله عليكم في وقتهِ المقدَّرِ لهُ لا محالة

189

{فَكَذَّبُوهُ} أي فتمُّوا على تكذيبه وأصرُّوا عليه {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة} حسبما اقترحُوا أمَّا إن أرادُوا بالسَّماءِ السَّحابُ فظاهرٌ وأما إن أرادوا المظلة فلأنَّ نزولَ العذابِ من جهتها وفي إضافة العذابِ إلى يومِ الظُّلَةِ دون نفسها إيذانٌ بأنَّ لهم يومئذٍ عذاباً آخرَ غيرَ عذاب الظُّلة وذلك بأنْ سلَّط الله عليهم الحرَّ سبعةَ أيام ولياليَها فأخذَ بأنفاسهم لا ينفعه ظل ولا ماءٌ ولا سَرَبٌ فاضطرُّوا إلى أنْ خرجُوا إلى البريَّةِ فأظلتُهم سحابةٌ وجدوا لها بَرْداً ونَسيماً فاجتمعُوا تحتها فأمطرتْ عليهم ناراً فاحترقُوا جميعاً رُوي أن شعيبا عليه السلام بُعث إلى أمَّتينِ أصحابِ مَدْينَ وأصحابِ الأَيكةِ فأُهلكتْ مَدْينُ بالصَّيحةِ والرَّجفةِ وأصحابُ الأيكةِ بعذابِ يوم الظُّلَّةِ {إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم} أي في الشِّدَّةِ والهَوْلِ وفظاعةِ ما وقع فيه من الطَّامةِ والدَّاهيةِ التَّامةِ

190

{إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين} {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم} هذا آخرُ القِصصِ السَّبعِ التي أُوحيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لصرفه صلى الله عليه وسلم عن الحرصِ على إسلام قومِه وقطعِ رجائه عنه ودفع تحسُّره على فواتِه تحقيقاً لمضمونِ ما مرَّ في مطلعِ السورةِ الكريمة من قوله تعالى وَمَا يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق الآيةَ فإنَّ كلَّ واحدةٍ من هذه القصص ذكرٌ مستقلُّ متجدِّد النُّزولِ قد أتاهم من جهتِه تعالى بموجب رحمتِه الواسعة وما كان أكثرُهم مؤمنين بعد ما سمعُوها على التَّفصيلِ قصَّةً بعد قصَّةٍ لا بأنْ يتدَّبروا فيها ويعتبروا بما في كلِّ واحدة منها من الدَّواعي إلى الإيمان والزَّواجرِ عن الكفر والطُّغيان ولا بأنْ يتأمَّلوا في شأن الآياتِ الكريمةِ النَّاطقة بتلك القصص على ما هي عليه مع علمهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يسمعْ شيئاً منها من أحدٍ أصلاً واستمرُّوا على ما كانُوا عليهِ من الكفرِ والضَّلالِ كأنْ لم يسمعوا شيئاً يزجرهم عن ذلكَ قطعاً كما حُقِّقَ في خاتمة قصَّةِ موسى عليه السلام

192

{وَأَنَّهُ} أي ما ذُكر من الآيات الكريمة النَّاطقةِ بالقصص المحكيَّة أو القُرآن الذي هي مِن جُملته {لَتَنزِيلُ رَبّ العالمين} أي منزَّل من جهتِه تعالى سمِّي به مبالغةً ووصفه تعالى بربوبيَّةِ العالمين للإيذانِ بأنَّ تنزيلَه من أحكامِ تربيتهِ تعالى ورأفتِه للكُلِّ كقوله تعالى ومن أرسلناك إلا رحمة

سورة الشعراء (193 197) العالمين

193

{نَزَلَ بِهِ} أي أنزلَه {الروح الأمين} أي جبريلَ عليهِ السَّلامُ فإنَّه أمينُ وحيهِ تعالى وموصِلُه إلى أنبيائِه عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وقرئ بتشديدِ الزَّايِ ونصبِ الرُّوحِ والأمينِ أي جعل الله تعالى الرُّوحَ الأمينَ نازلاً به

194

{على قَلْبِكَ} أي رُوحك وإن أُريد به العُضو فتخصيصه به لأنَّ المعانَيَ الرُّوحانيَّةَ تنزل أولاً على الرُّوحِ ثمَّ تنتقلُ منه إلى القلبِ لما بينَهما من التَّعلُّق ثم تتصعدُ إلى الدماغ فينتصف بها لوحُ المتخيلةِ {لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} متعلِّق بنزلَ به أي أنزله لتنذرَهم بَما فِي تضاعيفِه من العقوباتِ الهائلةِ وإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريم للدلالة على انتظامه صلى الله عليه وسلم في سلكِ أولئك المنذرينَ المشهورينَ في حقِّيةِ الرِّسالةِ وتقرُّرِ وقوعِ العذابِ المُنذَر

195

{بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ} واضحِ المعنى ظاهرِ المدلولِ لئلاَّ يبقَى لهُم عذرٌ ما وهُو أيضاً متعلِّق بنزل به وتأخيره للاعتناءِ بأمر الإنذارِ وللإيماء إلى أنَّ مدارَ كونِه من جُملة المنذرين المذكورينَ عليهم السَّلامُ مجرد انزاله عليه صلى الله عليه وسلم لا إنزالُه باللِّسان العربيِّ وجعلُه متعلِّقاً بالمنذرين كما جَوَّزه الجمهورُ يؤدِّي إلى أنَّ غاية الإنزال كونُه صلى الله عليه وسلم من جملة المنذرينَ باللغة العربية فقط من هود وصالح وشعيب عليه السلام ولا يخفى فسادُه كيف لا والطَّامةُ الكُبرى في باب الإنذارِ ما أنذره نوح وموسى عليهما السلام وأشدُّ الزَّواجرِ تأثيراً في قلوب المشركينَ ما أنذَره إبراهيمُ عليه السلام لانتمائِهم وادِّعائِهم أنهم على ملَّته عليه الصلاة والسلام

196

{وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأولين} أي وإنَّ ذكره أو معناه لفي الكتبِ المتقدِّمةِ فإن أحكامه التي لا تحتملُ النَّسخَ والتَّبديلَ بحسب تبدُّلِ الأعصار من التَّوحيد وسائر ما يتعلَّق بالذَّات والصِّفاتِ مسطورة فيها وكذا ما في تضاعيفِه من المواعظ والقصصِ وقيلَ الضَّميرُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وليس بواضحٍ

197

{أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آية} الهمزة للإنكارِ والنَّفيِ والواو للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه الماقم كأنَّه قيل أغفلوا عن ذلك ولم يكن لهم آيةٌ دالَّةٌ على أنَّه تنزيلٌ مّن ربِّ العالمينَ وأنه في زُبُر الأوَّلينَ على أنه لهم متعلق بالكون قُدِّم على اسمه وخبرهِ للإهتمام به أو بمحذوفٍ هو حالٌ من آيةً قُدِّمت عليها لكونها نكرةً وآية خبر للكون قُدِّم على اسمهِ الذي هو قوله تعالى {أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بني إسرائيل} لما مر مرارا من الاعتياء والتشويق إلى المؤخر أي أن يعرفوه بنعوتِه المذكورة في كُتبهم ويعرفُوا من أنزل عليه وقرئ تكن بالتَّأنيثِ وجعلت آيةٌ اسماً وأن يعلمه خبراً وفيه ضعفٌ حيث وقع النَّكرةُ اسماً والمعرفة خبراً وقد قيل في تكن ضمير القصة

سورة الشعراء (198 203) وآية أنْ يعلمَه جملة واقعة موقعَ الخبرِ ويجوزُ أن يكون لهم آيةٌ هي جملة الشَّأنِ وأن يعلمه بدلاً من آية ويجوز مع نصبِ آية تأنيث تكُن كما في قوله تعالى ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قالوا وقرئ تعلمُه بالتَّاءِ

198

{وَلَوْ نزلناه} كما هو بنظمه الرَّائقِ المعجز {على بَعْضِ الأعجمين} الذين لا يقدرُون على التَّكلُّمِ بالعربيةِ وهو جمع أعجمِي على التَّخفيفِ ولذلك جُمع جمعَ السلامة وقرئ الأعجميينَ وفي لفظ البعضِ إشارةٌ إلى كونِ ذلك واحداً من عرض تلك الطَّائفةِ كائناً من كان

199

{فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم} قراءةً صحيحة خارقة للعادات {مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} مع انضمامِ إِعجازَ القراءة إلى إعجازِ المقروءِ لفرطِ عنادِهم وشدَّةِ شكيمتهم في المكابرةِ وقيل المعنى ولو نزَّلناه على بعض الأعجمين بلغة العجمِ فقرأَهُ عليهم ما كانُوا به مؤمنين لعدم فهمِهم واستنكافِهم من اتِّباع العجمِ وليس بذاكَ فإنَّه بمعزل من المناسبة لمقام بيان تمادِيهم في المكابرةِ والعنادِ

200

{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ} أي مثلَ ذلك السَّلْكِ البديعِ المذكورِ سلكناهُ أي أدخلنا القرآنَ {فِى قُلُوبِ المجرمين} ففهمُوا معانيه وعرَفوا فصاحتَه وأنه خارجٌ عن القُوى البشرَّية من حيث النَّظمُ المُعجزُ ومن حيث الإخبار عن الغيبِ وقد انضمَّ إليه اتِّفاقُ علماء أهل الكتبِ المنزلة قبله على تضمها للبشارة إنزاله وبعثةِ مَن أنزل عليه بأوصافِه فقوله تعالى

201

{لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيانِ أنَّهم لا يتأثَّرون بأمثال تلك الأمور الداعية إلى الإيمان به بل يستمرُّون على ما هم عليه {حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم} الملجئ إلى الإيمانِ به حين لا ينفعُهم الإيمانُ

202

{فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً} أي فجأةً في الدَّنيا والآخرةِ {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بإتيانِه

203

{فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} تحسُّراً على ما فاتَ من الإيمانِ وتمنيَّاً للإمهالِ لتلاِفي ما فرَّطُوه وقيل معنى كذلك سلكناهُ مثل تلك الحالِ وتلك الصِّفةِ من الكفرِ به والتَّكذيبِ له وضعناه في قلوبِهم وقوله تعالى لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ في موقعِ الإيضاحِ والتَّلخيص له أو في موقعِ الحالِ أي سلكناهُ فيها غير مؤمنٍ به والأولُ هو الأنسبُ بمقام بيان غايةِ عنادِهم ومكابرتِهم مع تعاضدِ أدلَّة الإيمانِ وتآخذ مبادئ الهدايةِ والإرشادِ وانقطاعِ أعذارِهم بالكلِّية وقيل ضمير سلكناهُ للكُفر المدلولِ عليه بمَا قَبْلَهُ منْ قولِه تعالى مَّا كَانُواْ بِهِ مؤمنين ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسنِ ومجاهدٍ رحمهما الله تعالى أدخلنا

سورة الشعراء [204 209] الشِّركَ والتَّكذيبَ في قلوب المجرمين

204

{أفبعذابنا يستعجلون} بقولهم أمطر عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وقولهم فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ونحوهِما وحالهم عند نزولِ العذابِ كما وصف من طلبِ الإنذارِ فالفاءُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقام أي أيكونُ حالُهم كما ذُكر من الاستنظارِ عند نزول العذابِ الأليمِ فيستعجلون بعذابِنا وبينهما من التَّنافي ما لا يخفى لى أحد وأيغفلون عن ذلك مع تحقُّقِه وتقرُّرهِ فيستعجلونَ الخ وإنَّما قُدمِّ الجارُّ والمجرورُ للإيذانِ بأنَّ مصبَّ الإنكارِ والتَّوبيخِ كون المستعجل به عذابَه تعالى مع ما فيهِ من رعايةِ الفواصلِ

205

{أَفَرَأَيْتَ} لمَّا كانت الرُّؤيةُ من أقوى أسبابِ الإخبارِ بالشَّيء وأَشهرِها شاعَ استعمالُ أرأيت في معنى أخبرني والخطابُ لكلِّ من يصلُح له كائناً من كانَ والفاء لترتيب الاستخبار على قولهم هل نحن منظرون وما بينَهما اعتراض للتَّوبيخِ والتَّبكيتِ وهي متقدِّمةٌ في المعنى على الهمزةِ وتأخيرها عنها صورةً لاقتضاءِ الهمزةِ الصدارة كما هو رأي الجمهور أي فاخبرنِي {إِن متعناهم سِنِينَ} متطاولةً بطول الأعمار وطيب المعاش

206

{ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ} من العذابِ

207

{مَا أغنى عَنْهُمْ} أيُّ شيء أو أى أعناه أغنى عنهم {ما كانوا يُمَتَّعُونَ} أي كونُهم ممتَّعينَ ذلك التمتيعَ المديدَ عَلى أنَّ مَا مصدريةٌ أو ما كانُوا يمتَّعون به من متاعِ الحياةِ الدُّنيا على أنَّها موصولةٌ حذف عائدها وأيَّاً ما كان فالاستفهامُ الإنكار والنَّفي وقيل ما نافيةٌ أي لم يغن عنهم تمتعهم المتطاولُ في دفعِ العذابِ وتخفيفِه والأول هو الأَولى لكونِه أوفقَ لصورة الاستخبارِ وأدلَّ على انتفاءِ الإغ 2 باء على أبلغِ وجهٍ وآكدِه كأن كلَّ مَن مِن شأنِه الخطابُ قد كلِّف أنْ يخبر بأنَّ تمتيعهم ماذا أفادَهم وأي شيء أغنى عنُهم فلم يقدرْ أحدٌ على أنْ يخبر بشيءٍ من ذلك أصلاً وقرئ يمتعون من الإمتاعِ

208

{وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} من القُرى المهلكة {إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} قد أنذروا أهلَها إلزاماً للحجَّةِ

209

{ذِكْرِى} أي تذكرةً ومحلُّها النصب على العلَّةِ أو المصدر لأنَّها في معنى الإنذارِ كأنَّه قيل مذكرون ذكرى أو على أنَّه مصدرٌ مؤكد لفعل هو صفةٌ لمنذرون أي إلا لها منذرون يذكرونهم ذكرى أو الرَّفع على أنَّها صفةُ منذرون بإضمار ذوو أو بجعلِهم ذكرى لإمعانِهم في التَّذكرةِ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ

سورة الشعراء [210 215] والجملةُ اعتراضيةٌ وضميرُ لها للقُرى المدلولِ عليها بمفردِها الواقع في حيِّز النَّفي على أنَّ معنى أن للكل منذرين أعمُّ من أن يكونَ لكلِّ قريةٍ منها منذر واحد أو أكثر {وَمَا كُنَّا ظالمين} فنهلك غيرَ الظَّالمينَ وقيل الإنذارُ والتعبيرُ عن ذلك بنفي الظالمية مع أنه إهلاكَهم قبل الإنذارِ ليس بظلمٍ أصلاً على ما تقرر من قاعدةِ أهلِ السُنَّةِ لبيانِ كمالِ نزاهتِه تعالَى عنْ ذلكَ بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنْهُ تعالَى من الظلم وقد مرَّ في سورةِ آلِ عمرانَ عند قولِه تعالى وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ

210

{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين} ردٌّ لما زعمه الكفرةُ في حقِّ القرآنِ الكريمِ من أنه من قبيل ما يُلقيه الشَّيطانُ على الكَهنةِ بعد تحقيقِ الحقِّ بيان أنه نزل به الرُّوحُ الأمينُ

211

{وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ} أي وما يصِحّ وما يستقيمُ لهم ذلك {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} ذلك أصلاً

212

{إِنَّهُمْ عَنِ السمع} لكلامِ الملائكة {لمعزولون} لانتفاء المشاركةِ بينهم وبين الملائكةِ في صفاء الذوات الاستعداد لقبولِ فيضان أنوار الحقِّ والانتقاش بصور العلومِ الرَّبانيةِ والمعارف النُّورانيةِ كيف لا ونفوسُهم خبيثةٌ ظلمانية شريرةٌ بالذَّاتِ غير مستعدة إلا لقبولِ ما لا خيرَ فيه أصلاً من فنُون الشُّرورِ فمن أينَ لهُم أنْ يحومُوا حولَ القرآن الكريم المنطوي على الحقائقِ الرَّائقةِ الغيبَّيةِ التي لا يمكن تلقِّيها إلا من الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام

213

{فَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخر فَتَكُونَ مِنَ المعذبين} خُوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم مع ظهور استحالة صدور المنهى عنه عنه صلى الله عليه وسلم تهييجاً وحثاً على ازديادِ الإخلاصِ ولطفاً لسائرِ المكلَّفين ببيانِ أنَّ الإشراكَ من القُبح والسُّوء بحيث يُنهى عنه من لا يمكنُ صدورُه عنه فكيف بمن عداهُ

214

{وَأَنذِرِ} العذابَ الذي يستتبعهُ الشِّركُ والمُعاصي {عَشِيرَتَكَ الأقربين} الأقربَ منهم فالأقربَ فإنَّ الإهتمامَ بشأنِهم أهمُّ رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ صعدَ الصفا وناداهم فحذا فَخِذاً حتى اجتمعُوا إليه فقال لو أخبرتُكم أنَّ بسفح هذا الجبلِ خيلاً أكنتُم مُصدِّقِيّ قالوا نعمَ قال فإنيِّ نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد وروى أنه قال يا بنى عبدِ المطَّلبِ يا بني هاشمِ يا بني عبدِ منافٍ افتدُوا أنفسَكم من النَّارِ فإنِّي لا أُغني عنكم شيئاً ثم قالَ يا عائشةُ بنت أبي بكرٍ ويا حفصةُ بنتَ عمرَ ويا فاطمةُ بنتَ محمَّدٍ ويا صفيَّةُ عمَّة محمَّدٍ اشترينَ أنفسكنًّ من النَّارِ فإنِّي لا أُغني عنكُنَّ شيئاً

215

{واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك من المؤمنين}

سورة الشعراء [216 223] أي ليِّن جانَبك لهم مستعارٌ من حال الطَّائرِ فإنَّه إذا أرادَ أنْ ينحطَّ خفضَ جناحَه ومن للتَّبيين لأنَّ من اتبَّع أعمّ ممَّن اتبع لدينِ أو غيره أو للتَّبعيض على أن المراد بالمؤمنينَ المشارفون للإيمانِ أو المصدِّقون باللَّسانِ فحسب

216

{فَإِنْ عَصَوْكَ} ولم يتَّبعوك {فَقُلْ إِنّى بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ} أي ممَّا تعملُون أو من أعمالكم

217

{وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم} الذي يقدرُ على قهرِ أعدائِه ونصرِ أوليائِه يكفِك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم وقرئ فتوكل على أنَّه بدلٌ من جواب الشَّرطِ

218

{الذى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي إلى التَّهجد

219

{وَتَقَلُّبَكَ فِى الساجدين} وتردُّدك في تصفُّحِ أحوالِ المتهجديَن كما روي أنه لما نسخ فرضُ قيام اللَّيلِ طاف صلى الله عليه وسلم تلك الليلةَ ببيوت أصحابِه لينظرَ ما يصنعون حرصاً على كثرةِ طاعتِهم فوجدها كبيوتِ الزَّنابيرِ لمَا سمع منها من دندنِتهم بذكر الله تعالى والتِّلاوةِ أو تصرّفَك فيما بين المصلِّين بالقيامِ والرُّكوعِ والسُّجودِ والقُعودِ إذا أممتهم وإنَّما وصفَ الله تعالى ذاتَه بعلمِه بحاله صلى الله عليه وسلم التي بها يستأهلُ ولايتَه بعد أنْ عبَّر عنه بما ينبئ عن قهرِ أعدائِه ونصرِ أوليائِه من وصفي العزيزِ الرَّحيمِ تحقيقاً للتَّوكلِ وتوطيناً لقلبه عليه

220

{إِنَّهُ هُوَ السميع} لما تقوله {العليم} بما تنويه وتعلمه

221

{هَلْ أُنَبّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين} أي تتنزلُ بحذف إحدى التامين وهو استئناف مسوق لبيان استحالةِ تنزُّلِ الشيَّاطينِ على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم بعد بيانِ امتناع تنزُّلهم بالقرآنِ ودخولُ حرفِ الجرِّ على مَن الاستفهاميةِ لما أنَّها ليستْ موضوعةً للاستفهامِ بل الأصلُ أمن فحذف حرفُ الاستفهامِ واستمر الاستعمالُ على حذفِه كما حُذف من هَلْ والأصل أهَلْ وقوله تعالى

222

{تَنَزَّلُ على كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} قصرٌ لتنزُّلهم على كل من اتَّصف بالإفكِ الكثيرِ والإثمِ الكبيرِ من الكهنةِ والمتنبّئة وتخصيصٌ له بهم بحيثُ لا يتخطَّاهم إلى غيرِهم وحيثُ كانت ساحة رسول الله صلى الله عليه وسلم منزَّهةً عن أنْ يحومَ حولَها شائبةُ شيءٍ من تلك الأوصافِ اتَّضح استحالةُ تنزلهم عليه صلى الله عليه وسلم

223

{يُلْقُون} أي الأفَّاكون {السمع}

سورة الشعراء [224] إلى الشَّياطينِ فيتلَّقَون منهم أوهاماً وأماراتٍ لنقصان علمهم فيضمُّون إليها بحسبِ تخيلاتِهم الباطلةِ خرافاتٍ لا يُطابق أكثرُها الواقعَ وذلك قوله تعالى {وَأَكْثَرُهُمْ كاذبون} أي فيما قالُوه من الأقاويلِ وقدور في الحديثِ الكلمة يخطفُها الجنيُّ فيقرُّها في أذنِ وليَّهِ فيزيد فيها أكثرَ من مائةِ كذبةٍ أو يلقون السَّمعَ أي المسموعَ من الشياطين إلى الناس وأكثرُهم كاذبون يفترُون على الشَّياطينِ ما لم يوحوا إليهم والأظهر أنَّ الأكثريةَ باعتبار أقوالهم على معنى أنَّ هؤلاء قلَّما يصدُقون فيما يحكون عن الجنيِّ وأما في أكثره فهم كاذبونَ ومآلُه وأكثرُ أقوالِهم كاذبةٌ لا باعتبار ذواتِهم حتى يلزمَ من نسبة الكذبِ إلى أكثرهم كونُ أقلِّهم صادقينَ على الإطلاقِ وليس معنى الأفَّاكِ من لا ينطقُ إلا بالإفكَ حتَّى يمتنعَ منه الصِّدقُ بل من يكثُر الإفكَ فلا ينافيه أن يصدقَ نادراً في بعض الأحايين وقيل الضَّميرُ للشَّياطينِ أي يلقون السَّمعَ أي المسموعَ من الملأ الاعلى قبل أنْ رجموا من بعضِ المغيبات إلى أوليائِهم وأكثرُهم كاذبونَ فيما يُوحون به إليهم إذ لا يسمعُونهم على نحو ما تكلَّمت به الملائكةُ لشرارتِهم أو لقصورِ فهمهم أو ضبطهم أو إفهامِهم ولا سبيلَ إلى حملِ إلقاء السَّمعِ على تسمُّعهم وإنصاتِهم إلى الملأ الأعلى قبل الرَّجمِ كما جَوَّزه الجمهورُ لما أن يلقون كما صرَّحوا به إما حالٌ من ضمير تنزل مفيدة لمقارنة التنزل للإلقاءِ أو استئناف مبيِّنٌ للغرض من التَّنزلِ مبنيٌّ على السَّؤالِ عنه ولا ريبَ في أن إلقاء السَّمعِ إلى الملأ الأعلى بمعزلٍ من احتمال أنْ يقارن التَّنزل أو يكون غرضاً منه لتقدُّمهِ عليه قطعاً وإنَّما المحتملُ لهما الإلقاء بالمعنى الأول فالمعنى على تقدير كونِه حالاً تنزل الشَّياطينِ على الأفَّاكين ملقين إليهم ما سمعوه من الملأ الأ على وعلى تقدير كونه فهو وصفة لكلِّ أفَّاكٍ لأنَّه في معنى الجمعِ سواء أُريد بإلقاء السَّمعِ الإصغاءُ إلى الشَّياطينِ أو إلقاء المسموعِ إلى النَّاس ويجوزُ أنْ يكونَ استئنافُ إخبارٍ بحالِهم على كِلا التَّقديرينِ لِما أنَّ كُلاًّ من تلقيهم من الشَّياطينِ وإلقائِهم إلى الناسِ يكون بعد التَّنزيلِ وأنْ يكونَ استئنافاً مبنيَّاً على السُّؤالِ على التَّقديرِ الأوَّلِ فقط كأنَّه قيل ما يفعلونَ عند تنزلِ الشَّياطينِ عليهم فقيل يُلقون إليهم أَسماعَهم ليحفظُوا ما يُوحون به إليهم وقولُه تعالى وأكثرُهم كاذبونَ على التَّقدير الأوَّلِ استئنافٌ فقط وعلى الثَّاني يحتملُ الحاليةَ من ضميرِ يُلقون أي ما سمِعُوه من الشَّياطين إلى النَّاس والحالُ أنهم في أكثرِ أقوالِهم كاذبونَ فتدبَّرْ

224

{والشعراء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون} استئنافٌ مسوقٌ لإبطال ما قالُوا في حقِّ القُرآنِ العظيمِ من أنه من قبيل الشِّعرِ وأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من الشعراء ببيان حال الشعراء المنافية لحاله صلى الله عليه وسلم بعد إبطالِ ما قالُوا أن من قبيلِ ما يلقي الشَّياطينُ على الكهنةِ من الأباطيلِ بما مرَّ من بيانِ أحوالِهم المضادة لأحوالِه صلى الله عليه وسلم والمعنى أنَّ الشُّعراءَ يتَّبعُهم أي يُجاريهم ويسلكُ مسلكَهم ويكونُ من جُملتهم الغاوون الضَّالُّون عن السَّنَنِ الحائرون فيما يأتُون وما يَذَرُون لا يستمرُّون على وَتيرةٍ واحدة الأفعالِ والأقوالِ والأحوالِ لا غيرُهم من أهلِ الرُّشدِ المهتدين إلى

سورة الشعراء (225 227) طريقِ الحقِّ الثَّابتينِ عليهِ وقوله تعالى

225

{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ} استشهادٌ على أنَّ الشُّعراء إنَّما يتبعُهم الغَاوُون وتقريرٌ له والخطابُ لكلِّ من تتأتَّي منه الرُّؤيةُ للقصدِ إلى أنَّ حالَهم من الجَلاءِ والظُّهورِ بحيثُ لا تختصُّ برؤيةِ راءٍ دُونَ راءٍ أي ألم تَر أنَّ الشُّعراءَ في كلِّ وادٍ من أوديةِ القيلِ والقالِ وفي كلِّ شِعبٍ من شِعابِ الوهمِ والخيالِ وفي كلِّ مسَلكٍ من مسالك الغَيِّ والضَّلالِ يهيمونَ على وجوهِهم لا يهتدون إلى سبيلٍ مُعيَّنٍ من السُّبلِ بل يتحيرَّون في فيافي الغَوايةِ والسَّفاهةِ ويتيهُون في تيه المجُون والوقاحِة دينُهم تمزيقُ الأعراضِ المحميَّةِ والقَدحُ في الأنسابِ الطَّاهرةِ السَّنيَّةِ والتسيب بالحرامِ والغَزلُ والإبتهارُ والتَّرددُ بين طرفي الإفراطِ والتفريطِ في المدحِ والهجاءِ

226

{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} من الأفاعيلِ غيرَ مُبالين بما يستتبعُه من اللوائم فيكف يُتوهَّم أنْ يتبعَهم في مسلكِهم ذلكَ ويلتحقَ بهم وينتظمَ في سلكهم مَن تنزَّهت ساحتُه عن أنْ يحومَ حولها شائبةُ الإتصافِ بشيءٍ من الأمورِ المذكُورةِ واتَّصف بمحاسنِ الصِّفاتِ الجليلةِ وتخلَّق بمكارمِ الأخلاقِ الجميلةِ وحازَ جميعَ الكمالاتِ القدسيَّةِ وفاز بجُملة الملكاتِ الأنسيَّةِ مُستقراً على المنهاجِ القويمِ مستمرَّاً على الصِّراطِ المستقيمِ ناطقاً بكلِّ أمرٍ رشيدٍ دَاعياً إلى صراطِ العزيزِ الحميدِ مؤيَّداً بمعجزاتٍ قاهرةٍ وآياتٍ ظاهرةٍ مشحونةٍ بفنونِ الحكمِ الباهرةِ وصنوفِ المعارفِ الزَّاهرةِ مستقلَّةٍ بنظمٍ رائقٍ أعجز كل منطيق ماهرٍ وبكَّت كلَّ مُفلقٍ ساحرٍ هذا وقد قيل في تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن أن يكونَ من الشعراء أن أباع الشُّعراء الغَاوون وأتباعَ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ليسُوا كذلك ولا ريبَ في أنَّ تعليلَ عدمِ كونه صلى الله عليه وسلم منهم بكون أتباعه صلى الله عليه وسلم غير غاوين مما ليا يليقُ بشأنِه العالِي وقيل الغَاوُون الراوُون وقيل الشَّياطينُ وقيل هم شُعراء قُريشٍ عبد الله بن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب المَخزوميُّ ومسافعُ بنُ عبدِ منافٍ وأبُو عَّزةَ الجُمَحيُّ ومن ثقيفٍ أميَّةُ بنُ أبي الصَّلتِ قالوا نحنُ نقول مثل قول نحمد صلى الله عليه وسلم وقرئ والشُّعراءَ بالنَّصبِ على إضمارِ فعلِ يفسره الظاهر وقرئ يتْبَعُهم على التَّخفيفِ ويتبعْهم بسكون العين تشبها لبعه بعضد

227

{إلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً وانتصروا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} استثناءٌ للشُّعراء المؤمنينَ الصَّالحينَ الذينُ يكثرون ذكرَ الله عزَّ وجلَّ ويكونُ أكثرُ أشعراهم في التَّوحيدِ والثَّناءِ على الله تعالى والحثِّ على طاعتِه والحكمةِ والموعظةِ والزُّهُدِ في الدُّنيا والتَّرغيبِ عن الركونِ إليها والزَّجرِ عن الاغترارِ بزخارفِها والافتتانِ بملاذِّها الفانية ولو وقع منهم في بعضِ الأوقات هجوٌ وقع ذلك منهم بطريقِ الانتصارِ ممَّن هجاهُم وقيل المرادُ بالمستثنَينَ عبدُ اللَّه بنِ رَواحةَ وحسَّانُ بنُ ثابتٍ وكعبُ بنُ مالكٍ وكعبُ بنُ زُهيرِ بنِ أبي

سُلْمى والذين كانُوا يُنافحون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكافحون هُجاةَ قُريشٍ وعن كعبِ بنِ مالكٍ رضي الله تعالى عنْهُ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له اهجهم فو الذي نفسِي بيدِه لهُو أشدُّ عليهم من النَّبلِ وكان يقولُ لحسَّانَ قُل ورُوحُ القُدُسِ مَعَك {وَسَيَعْلَمْ الذين ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} تهديد شديد وعيد أكيدٌ لما في سيعلمُ من تهويلٍ متعلَّقةِ وفي الذين ظلموا من الإطلاقِ والتعميم وفي أيَّ منقلبٍ ينقلبون من الإبهامِ والتهويلِ وقد قاله أبُو بكرٍ لعمر رضي الله عنها حين عهد غليه وقرئ أي مُنفلتٍ ينفلتونَ من الانفلاتِ بمعنى النجاةِ والمعنى أنَّ الظَّالمين يطمعُون أنْ ينفلتُوا من عذابِ الله تعالى وسيعلمُون أنْ ليس لهم وجهٌ من وجوهِ الانفلات عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سورةَ الشُّعراءِ كان له منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعدد من صدَّقَ بنوحٍ وكذَّبَ به وهودٍ وصالحٍ وشُعيبٍ وإبراهيمَ وبعددِ من كذَّب بعيسى وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم سورة النمل مكية وهي ثلاث أو أربع وتسعون آية بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم

النمل

{طس} بالتفخيم وقرئ بالإمالةِ والكلامُ فيهِ كالذي مرَّ في نظائرِه من الفواتحِ الشريفةِ ومحلَّه على تقديرِ كونِه اسماً للسورةِ وهو الأظهر الأشهر الرفع على أنه خبر لمبتدأٍ محذوفٍ أي هذا طس أي مسمَّى بهِ والإشارةُ إليهِ قبلَ ذكرِه قد مرَّ وجهُها في فاتحةِ سورةِ يونسَ وغيرِها ورفعُه بالابتداءِ على أنَّ ما بعده خبره ضعيفٌ لما ذُكر هناك {تِلْكَ} إشارةٌ إلى نفسِ السُّورةِ لأنَّها التي نوَّهتْ بذكرِ اسمِها لا إلى آياتِها لعدمِ ذكرِها صريحاً لأنَّ إضافتَها إليها تأبى إضافتَها إلى القُرآنِ كما سيأتي وما في اسمِ الإشارةِ من معنى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان ببعد منزلِته في الفضلِ والشرفِ ومحله الرفعُ على الابتداء خبره {آيات القرآن} والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما أفادَه التسميةُ من نباهةِ شأنِ المسمَّى والقرآنُ عبارةٌ عن الكلِّ أو عن الجميعِ المنزلِ عند نزولِ السُّورةِ حسبَما ذُكر في فاتحة فاتحةِ الكتابِ أي تلك السورةُ آياتُ القرآنِ المعروفِ بعلوِّ الشأنِ أي بعضٌ منه مترجمٌ مستقلٌّ باسمٍ خاصَ {وكتاب} أي كتابٌ عظيمِ الشأنِ {مُّبِينٌ} مظهرٌ لما في تضاعيفهِ من الحكمِ والأحكامِ وأحوالِ الآخرةِ التي من جُملتِها الثوابُ والعقابُ أو لسبيلِ الرشدِ والغيِّ أو فارقٍ بين الحقِّ والباطلِ والحلالِ والحرامِ أو ظاهرُ الإعجازِ على أنه من أبان بمعنى بانَ ولقد فخَّم شأَنه الجليلَ بما جَمع فيه من وصفِ القرآنيةِ المنبئةِ عن كونِه بديعاً في بابهِ ممتازاً عن غيرِه بالنظمِ المعجزِ كما يُعربُ عنه قوله تعالى قرآنا عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِى عِوَجٍ ووصفُ الكتابيةِ المعربةِ عن اشتمالُه على صفاتِ كمالِ الكتبِ الإلهيةِ فكأنه كلُّها وقدَّم الوصفَ الأولَ ههنا نظراً إلى تقدمِ حالِ القرآنية على

سورة النمل (25) حالِ الكتابيةِ وعكسَ في سورةِ الحجرِ نظراً إلى ما ذُكر هناك من الوجهِ وما قيلَ من أنَّ الكتابَ هو اللوحُ المحفوظُ وإبانته أنَّه خطَّ فيهِ ما هو كائنٌ فهو يبينه للناظرينَ فيه لا يساعدُه إضافةُ الآياتِ إليه إذ لا عهدَ باشتمالِه على الآياتِ ولا وصفِه بالهداية والبشارة إذا هُما باعتبارِ إبانتِه فلا بُدَّ من اعتبارِها بالنسبةِ إلى النَّاسِ الذين من جملتهم المؤمنون الا إلى الناظرين فيه وقرئ وكتابُ بالرفعِ على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مقامَه أي وآياتُ كتابٍ مبينٍ

2

{هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ} في حيز النصبِ على الحالية من الآياتِ على أنَّهما مصدرانِ أُقيما مُقامَ الفاعلِ للمبالغةِ كأنَّهما نفسُ الهُدَى والبشارةِ والعاملُ معنى الإشارة أى هادية ومبشرة أو الرفع على أنَّهما بدلانِ من الآياتِ أو خبرانِ آخرانِ لتلك أو لمبتدأٍ محذوفٍ ومعنى هدايتها لهم وهمُ مهتدون أنَّها تزيدُهم هُدى قال تعالى فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأمَّا معنى تبشيرِها إيَّاهُم فظاهرٌ لأنَّها تبشِّرهم برحمةٍ من الله ورضوان وجنَّاتٍ لهم فيها نعيمٌ مقيمٌ وقولُه تعالى

3

{الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة} صفةٌ مادحةٌ لهم وتخصيصُهما بالذكرِ لأنَّهما قرينَتا الإيمانِ وقطر العباداتِ البدنيَّةِ والماليَّةِ مستتبعانِ لسائرِ الأعمالِ الصَّالحةِ وقولُه تعالى {وَهُم بالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ} جملةٌ اعتراضيةٌ كأنَّه قيلَ وهؤلاء الذينَ يُؤمنون ويعملُون الصَّالحاتِ هم الموقنون بالآخرة حقَّ الإيقانِ لا مَن عداهُم لأنَّ تحمُّلَ مشاقِّ العباداتِ لخوفِ العقابِ ورجاءِ الثَّوابِ أو هُو مِن تتمةِ الصِّلةِ والواوُ حالَّيةٌ أو عاطفةٌ له على الصِّلةِ الأُولى وتغييرُ نظمه الدلالة على قوَّةِ يقينهم وثباتِه وأنَّهم أوحديُّون فيه

4

{إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} بيانٌ لأحوالِ الكَفَرة بعدَ بيانِ أحوالِ المُؤمنينَ أي لا يُؤمنون بها وبما فيها من الثَّوابِ على الأعمالِ الصَّالحةِ والعقابِ على السَّيِّئاتِ حسبما ينطقُ به القرآنُ {زَيَّنَّا لَهُمْ أعمالهم} القبيحةَ حيثُ جعلناها مشتهاةً للطَّبعِ محبوبةً للنَّفسِ كما ينبئ عنه قوله صلى الله عليه وسلم حُفَّتِ النَّارُ بالشَّهواتِ أو الأعمالَ الحسنةَ ببيانِ حُسنها في أنفسِها حالاً واستتباعِها لفنونِ المنافعِ مآلاً وإضافتُها إليهم باعتبارِ أمرِهم بها وإيجابِها عليهم {فَهُمْ يَعْمَهُونَ} يتحيرون ويتردَّدون على التَّجددِ والاستمرارِ فمع الاشتغالِ بها والانهماكِ فيها من غيرِ ملاحظةٍ لما يتبعها من نفع وضرَ أو في الضَّلالِ والإعراض عنها والفاء على الأول لترتيبِ المسبَّبِ على السَّببِ وعلى الثَّاني لترتيبِ ضدِّ المُسبَّبِ على السَّببِ كما في قولك وعظتُه فلم يتَّعظ وفيه إيذانٌ بكمالِ عتوِّهم ومكابرتِهم وتعكيسهم في الأمور

5

{أولئك} إشارةٌ إلى المذكورين وهو مبتدأ خبرُه الموصولُ بعدَهُ أَيْ أولئكَ الموصُوفون بالكُفر والعمهِ {الذين لَهُمْ سُوء العذاب}

أي في الدَّنيا كالقتلِ والأسرِ يومَ بدرٍ {وَهُمْ فِى الأخرة هُمُ الأخسرون} أي أشدُّ النَّاس خُسراناً لفواتِ الثَّوابِ واستحقاقِ العقابِ

6

{وإنك لتلقى القرآن} كلام مستأنفٌ قد سيق بعد بيان بعض شئون القرآن الكريمِ تمهيداً لما يعقبُه من الأقاصيصِ وتصديرُه بحرفَيْ التَّأكيدِ لإبراز كمالِ العنايةِ بمضمونِه أي لتؤتاه بطريق التَّلقيةِ والتَّلقينِ {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} أيْ أيِّ حكيمٍ وأيِّ عليمٍ وفي تفخيمهما تفخيمٌ لشأن القرآن وتنصيصٌ على علوِّ طبقته صلى الله عليه وسلم في معرفتِه والإحاطةِ بما فيه منْ الجلائلِ والدقائقِ فإنَّ من تلقى العلومَ والحكمَ من مثل ذلك الحكيمِ العليمِ يكون عَلَماً في رصانةِ العلمِ والحكمةِ والجمع بينهما مع دخولِ العلم في الحكمةِ لعموم العلمِ ودلالة الحكمة على إتقانِ الفعلِ وللإشعارِ بأنَّ ما في القرآنِ من العلوم منها منا هو حكمةٌ كالعقائدِ والشَّرائعِ ومنها ما ليسَ كذلك كالقصصِ والأخبارِ الغيبَّية وقولُه تعالى

7

{إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ} منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم وأُمر بتلاوةِ بعضٍ من القرآن الذي يلقاه صلى الله عليه وسلم من لَدْنه عزَّ وجلَّ تقريراً لما قبله وتحقيقاً له أي أذكُر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسَّلامُ لأهلِه في وادي طوى وقد غشيتُهم ظلمةُ اللَّيلِ وقدَح فأصلَدَ زنده فبدا له من جانب الطور نار {إِنّى آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ} أي عن حال الطَّريقِ وقد كانوا ضلوه والسين الدلالة على نوعِ بُعدٍ في المسافةِ وتأكيد الوعد والجمع إنْ صحَّ أنَّه لم يكن معَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إال امرأتُه لما كنى عنها بالأهلِ أو للتَّعظيمِ مبالغةً في التَّسليةِ {أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ} بتنوينهما على أن الثَّاني بدلٌ من الأَوَّلِ أو صفة له لأنَّه بمعنى مقبوسٍ أي بشعلة نارٍ مقبوسةٍ أي مأخوذه من أصلها وقرئ بالإضافةِ وعلى التَّقديرينِ فالمرادُ تعيينُ المقصودِ الذي هو القَبس الجامعُ لمنفعتي الضِّياءِ والاصطلاءِ لأنَّ من النَّار ما ليس بقبسٍ كالجمرِ وكلتا العُدَّتينِ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بطريق الظنِّ كما يفصحُ عن ذلك ما في سورةِ طه من صيغة التَّرجى والتَّرديدُ للإيذانِ بأنَّه إن لم يظفرْ بهما لم يعدم أحدهما بناءً على ظاهرِ الأمرِ وثقةً بسُنَّةِ الله تعالى فإنَّه تعالى لا يكادُ يجمع على عبده حرمانينِ {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} رجاءَ أنْ تستدفئوا بها والصِّلاءُ النَّارُ العظيمةُ

8

{فَلَمَّا جَاءهَا نُودِىَ} من جانب الطُّورِ {أَن بُورِكَ} معناه أي بُورك على أن مفسرة لما في النِّداءِ من معنى القولِ أو بأن بروك على أنها مصدرية حذف عنها الحار جرياً على القاعدة المستمرَّةِ وقيل مخفَّفةٌ من الثَّقيلة ولا ضير فلي فقدان التعويض بلا أوقد أو السِّينِ أو سوفَ لما أنَّ الدُّعاء يخالفُ غيرَه في كثير من الأحكامِ {مَن فِى النار وَمَنْ حَوْلَهَا} أي من في مكانِ النَّارِ وهي البقعةُ المباركةُ المذكورةُ في قوله سبحانه نُودي من

سورة النمل (910) شاطئ الوادي الأيمنِ في البقعة المباركة ومن حولَ مكانها وقرئ تباركتِ الأرضُ ومَن حولَها والظَّاهرُ عمومُه لكلِّ مَن في ذلك الوادِي وحواليه من أرض الشَّامِ الموسومةِ بالبركات لكونها مبعثَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلام وكفاتهم أحياءً وأمواتاً ولا سيَّما تلك البقعةُ التي كلَّم الله تعالى فيها مُوسى وقيل المرادُ موسى والملائكةُ الحاضرونَ وتصديرُ الخطابِ بذلك بشارةٌ بأنَّه قد قضى له أمر عظيمٌ دينيٌّ تنتشر بركاتُه في أقطارِ الشَّامِ وهو تكليمُه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام واستنباؤه له وإظهار المعجزات على يدِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ {وسبحان الله رَبّ العالمين} تعجيبٌ لموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من ذلك وإيذان بأن ذلك مر يده ومكونُه ربُّ العالمينَ تنبيهاً على أنَّ الكائنَ من جلائل الأمور وعظائم الشئون ومن أحكامِ تربيته تعالى للعالمين

9

{يا موسى إِنَّهُ أَنَا الله} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان آثارِ البركةِ المذكورة والضمير إما للشأن وأنا اللَّهُ جملة مفسِّرةٌ له وإمَّا راجعٌ إلى المتكلِّمِ وأنا خبرُه والله بيانٍ له وقولُه تعالى {العزيز الحكيم} صفتانِ لله تعالى ممهدتانِ لما أريد إظهارُه على يدِه من المعجزاتِ أى أما القويُّ القادرُ على ما لا تناله الأوهامُ من الأمورِ العظامِ التي من جُملتها أمرُ العصا واليدُ الفاعل كلَّ ما أفعله بحكمةٍ بالغة وتدبير رصين

10

{وَأَلْقِ} عطف على بُورك منتظمٌ معه في سلك تفسير النِّداءِ أي نُودي أنْ بُورك وأن ألقِ {عَصَاكَ} حسبما نطقَ به قولُه تعالى وأنْ ألقِ عصاك بتكريرِ حرفِ التَّفسير كما تقول كتبتُ إليه أنْ حُجَّ وأنِ اعتمرْ وإن شئتَ أن حجَّ واعتمرْ والفاء في قوله تعالى {فلما رآها تهتز} فصيحة تفصيح عن جملة قدد حُذفت ثقةً بظهورها ودلالةً على سرعةِ وقوع مضمونِها كما في قوله تعالى فلما رأينه أكبرنه بعد قوله تعالى اخرج عَلَيْهِنَّ كأنه قيل فألقاها فانقلب حيةً تسعى فأبصرَها فلَّما أبصرها متحركةً بسرعة واضطراب قوله تعالى {كَأَنَّهَا جَانٌّ} أي حيَّةٌ خفيفة سريعة الحركة جملة حالية إما من مفعول رأى مثل تهتز كمَا أُشير إليهِ أو من ضميرِ تهتز على طريقة التداخل وقرئ جأن على لغةِ مَنْ جدَّ في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ {ولى مُدْبِراً} من الخوفِ {وَلَمْ يُعَقّبْ} أي لم يرجعْ على عقبةِ مِن عقّب المقاتلُ إذا كرَّ بعد الفرِّ وإنما اعتراهُ الرُّعب لظنِّه أن ذلك لأمر أريد به كما ينبئ عنه قوله تعالى {يا موسى لاَ تَخَفْ} أي من غيري ثقةً بي أو مطلقاً لقوله تعالى {إِنّى لا يخاف لدى المرسلون} فإنَّه يدلُّ على نفيِ الخوفِ عنهم مُطلقاً لكن لا في جميعِ الأوقاتِ بل حين يُوحى إليهم كوقتِ الخطابِ فإنَّهم حينئذٍ مستغرقون في مطالعة شئون الله عزَّ وجلَّ لا يخطرُ ببالِهم خوفٌ من أحدٍ أصلاً وأما في سائرِ الأحيانِ فهم أخوفُ النَّاسِ منه سبحانَه أو لا يكون لهم عندي سوءُ عاقبة ليخافُوا منه

سورة النمل (11 14)

11

{إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوء فَإِنّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} استثناءٌ منقطع استدرك به ما عسى يختلِجُ في الخلد من نفي الخوفِ عن كلِّهم مع أنَّ منهم مَنْ فرطت منه صغيره ما مما يجوز صدورُه عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنَّهم وإنْ صدرَ عنهم شيءٌ من ذلك فقد فعلوا عقيبه ما يبطلُه ويستحقُّون به من الله تعالى مغفرةً ورحمةً وقد قصد به التَّعريض بما وقعَ من موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من وكزهِ القبطيَّ والاستغفارِ وتسميتُها ظُلماً لقوله صلى الله عليه وسلم رب إني ظلمت نفسي فاغفرْ لي فغفرَ له

12

{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} لأنَّه كان مدرعةَ صوفٍ لا كم لها وقيل الجيبُ القميصُ لأنَّه يُجاب أي يُقطع {تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء} أي آفة كبر ص ونحوه {في تسع آيات} في جُملتها أو معها على أنَّ التِّسعَ هي الفَلْقُ والطوفانُ والجَرادُ والقُمّلُ والضفادعُ والدَّمُ والطَّمسةُ والجَدبُ في بواديهم والنُّقصان في مزارعِهم ولمن عدَّ العصَا واليدَ من التسعِ أن يعدَّ الأخيرين واحداً ولا يعدُّ الفَلْق منها لأنه لم يُبعث به إلى فرعونَ أو اذهب في تسع آيات على أنه استئنافٌ بالإرسالِ فيتعلَّق به {إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} وعلى الأولين يتعلَّق بنحو مبعوثاً أو مرسلاً {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين} تعليل للإرسالِ أي خارجين عن الحدود في الكفرِ والعُدوان

13

{فلما جاءتهم آياتنا} وظهرتْ على يدِ مُوسى {مُبْصِرَةً} بينة اسم فاعلِ أطلق على المفعول إشعاراً بأنَّها لفرطِ وضوحِها وإنارتِها كأنَّها تُبصر نفسَها لو كانت ممَّا يبُصر أو ذاتُ تبصُّرٍ من حيث أنها تهدي والعمي لا تهتدي فضلاً عن الهدايةِ أو مبصرة كلَّ مَن ينظر إليها ويتأمَّلُ فيها وقرئ مَبْصرة أي مكاناً يكثُر فيه التَّبصرُ {قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} واضحٌ سحريته

14

{وَجَحَدُواْ بِهَا} أي كذَّبوا بها {واستيقنتها أَنفُسُهُمْ} الواو للحالِ أي وقد استيقنتها أى علمتها أنفسه علماً يقينياً {ظُلْماً} أي للآياتِ كقوله تعالى بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ ولقد ظلُموا بها أيَّ ظلم حيث حطُّوها عن رتُبتها العاليةِ وسمَّوها سحراً وقيل ظُلماً لأنفسِهم وليس بذاك {وَعُلُوّاً} أي استكباراً عن الإيمان بها كقوله تعالى والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها وانتصابهما إما على العلَّةِ من جحدوا بها أو على الحاليةِ من فاعله أي جحدُوا بها ظالمين لها مستكبرين عنها {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين} من الإغراقِ على الوجهِ الهائل الذي هو عبرةٌ للعالمين وإنَّما لم يذكر تنبيهاً على أنَّه عرضة لكل ناظر مشهور فيما بين كل بادٍ وحاضرٍ

سورة النمل (15 16)

15

{ولقد آتينا داود وسليمان عِلْماً} كلامٌ مستأنفٌ مَسوقٌ لتقرير ما سبق من أنه صلى الله عليه وسلم يلقى القرآن من لدن حكيمٍ عليمٍ فإنَّ قصَّتهمَا عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ من جملة القرآنِ الكريمِ لُقّيه صلى الله عليه وسلم من لدنه تعالى كقصَّةِ موسى عليه الصلاة والسلام وتصديرُه بالقسمِ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِه أي آتينا كل واحد منهما طائفةً من العلم لائقةً به من علمِ الشرَّائعِ والأحكامِ وغير ذلك مما يختصُّ بكلَ منهما كصنعةِ لبوسٍ ومنطقِ الطَّيرِ أو علماً سنياً عزيزاً {وَقَالاَ} أي قال كلُّ واحد منهما شُكراً لما أوتيه من العلمِ {الحمد لِلَّهِ الذي فضلنا} بما أتاناه من العلمِ {على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ المؤمنين} على أنَّ عبارةَ كلَ منهما فضَّلني إلا أنَّه عبَّر عنهما عند الحكايةِ بصيغة المتكلِّم مع الغير إيجازاً فإن حكايةَ الأقوالِ المتعدِّدة سواء كانتْ صادرةً عن المتكلِّم أو عن غيره بعبارةٍ جامعة للكُلِّ مما ليس بعزيزٍ ومن الأوَّلِ قوله تعالى يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا وقد مرَّ في سورةِ قد أفلح المؤمنون وبهذا ظهر حسنُ موقع العطفِ بالواو إذ المتبادر من العطفِ بالفاء ترتبُ حمدِ كلَ منهما على إيتاءِ ما أوتي كلٌّ منهما لا على إيتاءِ ما أوتي نفسه فقط وقيل في العطفِ بالواوِ إشعارٌ بأنَّ ما قالاهُ بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلمِ وشيء من مواجبه فأضمر ذلك ثم عطف عليه التَّحميد كأنَّه قيل ولقد آتيناهُما علماً فعملا به وعلمناه وعرفا حقِّ النِّعمةِ فيه وقالا الحمدُ لله الآية فتأمَّل والكثيرُ المفضل عليه من لم يُؤت مثل علمهما وقيل من لم يُؤت علماً ويأباه تبيينُ الكثير بالمؤمنين فإنَّ خلوهم من العلم بِالمرةِ مما لا يمكن وفي تخصيصها الأكثرَ بالذِّكر رمزٌ إلى أنَّ البعضَ مفضَّلون عليهما وفيه أوضحُ دليلٍ على فضل العلمِ وشرفِ أهلهِ حيثُ شكرا على العلمِ وجعلاه أساسَ الفضلِ ولم يعتبرا دونَه ما أُوتيا من الملكِ الذي لم يُؤته غيرهما وتحريضٌ للعلماءِ على أن يحمدُوا الله تعالى على ما آتاهُم من فضلِه ويتواضعوا ويعتقدُوا أنَّهم وإنْ فُضِّلوا على كثيرِ فقد فضل عليهم كثيرو فوق كلَّ ذي علمٍ عليمٌ ونِعمّا قال أميرَ المؤمنينَ عمرَ رضي الله عنه كلُّ النَّاس أفقهُ من عمر

16

{وورث سليمان داود} أي النُّبوةَ والعلمَ أو الملكَ بأنْ قامَ مقامَهُ في ذلكَ دونَ سائرِ بنيهِ وكانُوا تسعةَ عشَر {وَقَالَ} تشهيراً لنعمةِ الله تعالى وتنويهاً بها ودعاءً للنَّاسِ إلى التصديقِ بذكرِ المُعجزاتِ الباهرةِ التي أُوتيها {يا أيها الناس عُلّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلّ شَىْء} المنطقُ في المتعارَفِ كلُّ لفظٍ يُعبَّر بهِ عمَّا في الضميرِ مُفرداً كانَ أو مُركباً وقد يُطلق على كلِّ ما يُصوَّتُ بهِ من المفرد والمؤلَّفِ المفيدِ وغيرِ المفيدِ يقالُ نطقت الحمامةُ وكلُّ صنفٍ من أصنافِ الطيرِ يتفاهُم أصواتُه والذي عُلِّمه سليمانُ عليه السَّلامُ من منطقِ الطيرِ هو ما يُفهم بعضُه من بعضٍ من معانيهِ وأغراضِه ويُحكَى أنَّه مرَّ على بُلبلٍ في شجرةٍ يُحرِّكُ رأسَهُ ويُميلُ ذنبَهُ فقالَ لأصحابِه أتدرونَ ما يقولُ قالوُا الله ونبيه أعلم قال

سورة النمل (17) يقولُ إذا أكلتُ نصفُ تمرةٍ فعلى الدُّنيا العَفاءُ وصاحتْ فاختةٌ فأَخبرَ أنَّها تقولُ ليتَ الخلقَ لم يخلقوا وصاح طاوس فقالَ يقول كَمَا تَدينُ تُدانُ وصاحَ هُدهدٌ فقالَ يقول استغفرُوا الله يا مُذنبينَ وصاحَ طَيْطَوى فقال يقول كُلُّ حيَ ميتٌ وكلُّ جديدٍ بالٍ وصاحَ خُطَّافٌ فقالَ يقولُ قَدِّمُوا خيراً تجدوه وصاحَ قَمْريٌّ فأَخبرَ أنَّه يقولُ سُبحانَ ربِّي الأَعْلَى وصاحت رخمةٌ فقال تقول سبحان ربي الأعلى ملءَ سمائِه وأرضِه وقالَ الحِدَأةُ تقولُ كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا الله والقطاةُ تقولُ منْ سكتَ سلَمْ والببغاءُ تقولُ ويلٌ لمنْ الدٌّنيا همُّه والديكُ يقولُ اذكرُوا الله يا غافلينَ والنَّسرُ يقولُ يا ابنَ آدمَ عِشْ مَا شئتَ آخرُكَ الموتُ والعُقابُ تقولُ في البعدِ عن النَّاسِ أُنسٌ والضِّفدِعُ يقولُ سبُحانَ رَبِّي القُدُّوسِ وأرادَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه عُلِّمنا وأُوتينَا بالنُّونِ التي يُقال لها نونُ الواحدِ المُطاع بيانَ حالِه وصفتِه من كونِه ملكاً مطاعاً لكنْ لا تجبُّراً وتكبُّراً بل تمهيداً لما أرادَ منهم من حُسنِ الطاعةِ والانقيادِ له في أوامرِه ونواهيِه حيثُ كان على عزيمةِ المسيرِ وبقولِه من كلِّ شيءٍ كثرةَ ما أُوتيه كما يُقال فلانٌ يقصده كلُّ أحدٍ ويعلمُ كلَّ شيءٍ ويُرادُ بهِ كثرةَ قُصَّادِه وغزارةَ علمهِ ومثلُه قولُه تعالى وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء وقالَ ابن عباس رضي الله عنهُمَا كلُّ ما يهمُّه من أمرِ الدُّنيا والآخرةِ وقال مقاتلٌ يعني النُّبوةَ والملكَ وتسخيرَ الجنِّ والإنسِ والشياطينِ والريحِ {إِنَّ هَذَا} إشارةٌ إلى ما ذكر من التعليمِ والإيتاء {لَهُوَ الفضل} والإحسانُ من الله تعالَى {المبين} الواضحُ الذي لا يخفى على أحد أو إنَّ هَذا الفضلَ الذي أُوتيهِ لهو الفضلُ المبينُ على أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلامُ قاله على سبيل الشكرِ والمحمدةِ كما قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخرَ أي أقولُ هذا القولَ شُكراً لا فخراً ولعلَّه عليهِ الصَّلاة والسَّلام رتَّب على كلامه ذلك دعوةَ النَّاسِ إلى الغزوِ فإنَّ إخبارَهم بإيتاءِ كُلّ شَىْء من الأشياء التي من جُملتها آلاتُ الحربِ وأسبابُ الغزوِ ممَّا ينبئ عن ذلك فمعنى قوله تعالى

17

{وَحُشِرَ لسليمان جُنُودُهُ} جُمع له عساكرُه {مِنَ الجن والإنس والطير} بمباشرة مخاطبيِه فإنَّهم كانوا رؤساءَ مملكتِه وعظماءَ دولتهِ من الثَّقلينِ وغيرِهم بتعميم النَّاس للكلِّ تغليباً وتقديمُ الجنِّ على الإنسِ في البيانِ للمسارعةِ إلى الإيذانِ بكمالِ قوَّة مُلكِه وعزَّةِ سُلطانِه من أولِ الأمرِ لما أنَّ الجن طائفة عانية وقبيلةٌ طاغيةٌ ماردةٌ بعيدةٌ من الحشرِ والتسخيرِ {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يُحبس أوائلُهم على أواخِرهم أي يُوقف سُلافُ العسكرِ حتى يلحقَهم التَّوالي فيكونُوا مجتمعينَ لا يتخلف منهم أحدٌ وذلك للكثرة العظيمةِ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ لترتيب الصُّفوفِ كما هو المُعتاد في العساكرِ وفيه إشعارٌ بكمال مسارعتِهم إلى السير وتخصيص حبس أوائلِهم بالذكر دون سوقِ أواخرهم مع أنَّ التلاحقَ يحصلُ بذلكَ أيضاً لما أنَّ أواخرَهم غيرُ قادرينَ على ما يقدرُ عليه أوائلُهم من السيرِ السريعِ وهذا إذَا لم يكُن سيرُهم بتسييرِ الرِّيح في الجوِّ رُوي أنَّ معسكرَه عليه الصَّلاة والسَّلام كان مائةَ فرسخٍ في مائةٍ خمسةٌ وعشرونَ للجنِّ وخمسةٌ وعشرونَ للإنس وخمسةٌ وعشروَن للطيرِ وخمسةٌ وعشرونَ للوحشِ وكان له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ألف بيتٍ من قوارير على الخشب فيها ثلثمائة منكوحةٍ وسبعمائةُ سريةٍ وقد نسجتْ له الجنُّ بساطاً من ذهبٍ وإِبْرِيْسَمَ فرسخاً في فرسخٍ وكان يُوضعُ منبرُه في وسطِه وهو من ذهب

سورة النمل (18) فيقعدُ عليه وحوله ستمائة ألفِ كرسيَ من ذهبٍ وفضةٍ فيقعدُ الأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على كَرَاسي الذهبِ والعلماءُ على كَرَاسي الفضَّةِ وحولَهم النَّاسُ وحول النَّاسِ الجنُّ والشياطينُ وتظله الطيرُ بأجنحتِها حتَّى لا تقعَ عليه الشمسُ وترفع ريحُ الصَّبا البساطَ فتسيرُ به مسيرةَ شهرٍ ويُروى أنَّه كان يأمُر الريحَ العاصفَ تحملُه ويأمُر الرُّخاء تسيره فأَوحى الله تعالى إليهِ وهو يسيرُ بين السماءِ والأرضِ إنَّي قد زدتُ في ملككَ لا يتكلم أحدٌ بشيءٍ إلا ألقته الريحُ في سمعِك فيُحكى أنه مرَّ بحرَّاثٍ فقال لقد أُوتيَ آلُ داودَ ملكاً عظيماً فألقته الريحُ في أذنِه فنزلَ ومشى إلى الحرَّاثِ وقال إنَّما مشيتُ إليكَ لئلاَّ تتمنى مالا تقدرُ عليه ثمَّ قال لتسبيحةٌ واحدةٌ يقبلها الله تعالى خيرٌ مما أُوتي آلُ داودَ

18

{حتى إِذَا أَتَوْا على وَادِى النمل} حتَّى هي التي يُبتدأ بها الكلامُ ومع ذلك هي غايةٌ لما قبلها كالتي في قولهِ تَعالَى حتى إذا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل الآيةَ وهي ههنا غاية لما ينبئ عنه قولُه تعالى فهُم يُوزعونَ من السير كأنَّه قيلَ فسارُوا حتَّى إذا أتَوا الخ ووادي النَّمل وادٍ بالشامِ كثيرُ النَّمل على ما قالَه مقاتلٌ رضي الله عنه وبالطَّائفِ على ما قالَه كعب رضيَ الله عنه وقيلَ هو وادٍ تسكنُه الجنُّ والنملُ مراكبُهم وتعديةُ الفعلِ إليه بكلمةِ عَلى إمَّا لأنَّ إتيانَهم كان من فوق وإمَّا لأنَّ المرادَ بالإتيانِ عليه قطعُه من قولِهم أتَى على الشيءِ إذا أنفَدَه وبلغَ آخرَهُ ولعلَّهم أرادُوا أنْ ينزلُوا عند مُنتهى الوادي إذْ حينئذٍ يخافُهم ما في الأرضِ لا عند سيرِهم في الهواءِ وقولُه تعالى {قَالَتْ نَمْلَةٌ} جوابُ إذا كأنَّها لما رأتهُم متوجهينَ إلى الوادي فرَّتْ منهم فصاحتْ صيحةً تنبهتْ بها ما بحضرتِها من النملِ لمرادِها فتبعها في الفرارِ فُشبِّه ذلك بمخاطبةِ العُقلاءِ ومناصحتِهم فأُجروا مُجراهم حيث جُعلتْ هي قائلةً وما عداها من النمل مقولا لهم حيث قيل {يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} مع أنَّه لا يمتنعُ أنْ يخلُق الله تعالى فيها النُّطقَ وفيما عداها العقلَ والفهم وقرئ نملة يأيها النَّمُل بضمِّ الميمِ وهو الأصلُ كالرجُل وتسكينُ الميمِ تخفيفٌ منه كالسَّبْعِ في السبع وقرئ بضمِّ النونِ والميمِ قيل كانتْ نملةً عرجاءَ تمشي وهي تتكاوسُ فنادتْ بما قالتْ فسمعَ سليمانُ عليه السَّلام كلامَها من ثلاثةِ أميالٍ وقيل كان اسمُها طاخية وقرئ مسكنَكم وقولُه تعالى {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ} نهيٌ في الحقيقة للنَّملِ عن التأخرِ في دخولِ مساكنِهم وإنْ كانَ بحسبِ الظَّاهر نهياً له عليه الصَّلاة والسَّلام ولجنودِه عن الحطْمِ كقولِهم لا أرينَّك هَهُنا فهُو استئنافٌ أو بدلٌ من الأمرِ كقولِ مَنْ قالَ فقلتُ له ارحلْ لا تُقيمنّ عندنا لا جوابَ له فإنَّ النُّون لا تدخلُه في السعة وقرئ لا يحطمنكم بالنون الخفيفة وقرئ لا يَحَطَمنكم بفتحِ الحاءِ وكسرِها وأصلُه لا يحتطمنَّكم وقولُه تعالى {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} حالٌ من فاعلِ يحطمنَّكم مفيدةٌ لتقييدِ الحطمِ بحالِ عدمِ شعورِهم بمكانِهم حتَّى لو شعروا بذلك لم يحطَّمُوا وأرادتْ بذلكَ الإيذان بأنها عارفة بشئون سليمانَ وسائرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام من عصمتِهم عن الظُّلم والإيذاءِ وقيل هو استئنافٌ أي فهمَ سليمان ما قالته وللقوم

سورة النمل لا يشعرونَ بذلكَ

19

{فَتَبَسَّمَ ضاحكا مّن قَوْلِهَا} تعجباً من حذرها واهتدائِها إلى تدبير مصالحِها ومصالحِ بني نوعِها وسروراً بشهرة حالِه وحالِ جنودِه في بابِ التَّقوى والشَّفقةِ فيما بين أَصنافِ المخلوقاتِ التي هي أبعدُها من إدراك أمثالِ هذه الأمورِ وابتهاجاً بما خصَّه الله تعالى به من إدراك همسِها وفهمِ مُرادِها رُوي أنَّها أحسَّتْ بصوتِ الجنودِ ولا تعلمُ أنَّهم في الهواءِ فأمرَ سليمانُ عليه السَّلام الريحَ فوقفتْ لئلاَّ يذعَرنَ حتَّى دخلن مساكنهنَّ {وَقَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} أي اجعلني أزعُ شكرَ نعمتكَ عندي واكفَّه وأرتبطُه بحيثُ لا ينفلتُ عنِّي حتَّى لا أنفكُّ عن شكرك أصلا وقرئ بفتحِ ياءِ أَوزعني {التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ} أدرج فيه ذكرهما تكثيراً للنعمة فإنَّ الإنعامَ عليهما إنعامٌ عليه مستوجبٌ للشُّكرِ {وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه} إتماماً للشُّكرِ واستدامةً للنِّعمةِ {وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين} في جملنهم الجنَّةَ التي هي دارُ الصالحينَ

20

{وَتَفَقَّدَ الطير} أي تعرَّف أحوال الطير فلم يرا الهُدهدَ فيما بينها {فَقَالَ ما لي لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغائبين} كأنَّه قال أولا مالي لا أراه لسائر سترَه أو لسببٍ آخرَ ثم بدا له أانه غائبٌ فأضربَ عنْه فأخذَ يقولُ أهو غائبٌ

21

{لاعَذّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} قيلَ كان تعذيبُه للطيرِ بنتفِ ريشه وتشميسه وقيل يجعله مع ضده في قفص وقيل بالتفريق بينه وبين إلفِه {أَوْ لاَذْبَحَنَّهُ} ليعتبرَ به أبناءُ جنسهِ {أَوْ لَيَأْتِيَنّى بسلطان مُّبِينٍ} بحجَّةٍ تبينُ عذرَهُ والحَلِفُ في الحقيقةِ على أحدِ الأَولينِ على تقديرِ عدمِ الثَّالث وقرئ ليأتينَّنِي بنونينِ أولاهُما مفتوحةٌ مشددةٌ قيلَ إنَّه عليه الصلاةُ والسَّلامُ لما أتمَّ بناء بيتَ المقدسِ تجهَّز للحجِّ بحشرهِ فَوَافى الحرِمَ وأقامَ به ما شاء وكان يقرِّب كلَّ يومٍ طولَ مقامِه خمسةَ آلافِ ناقةٍ وخمسةَ آلافِ بقرةٍ وعشرينَ ألفَ شاةٍ ثم عزمَ على السير إلى اليمنِ فخرج من مكةَ صباحاً يؤمُّ سُهَيلاً فوافى صنعاءَ وقتَ الزَّوالِ وذلكَ مسيرةَ شهرٍ فرأى أرضاً حسناءَ أعجبته خضرتها فنزل ليتغذى ويصلِّي فلم يجد الماءَ وكان الهدهد قناقنه وكان يَرَى الماءَ من تحتِ الأرضِ كما يَرَى الماء في الزجاجة فيجئ الشياطينُ فيسلخونَها كما يُسلخُ الأهابُ ويستخرجون الماءَ فتفقَّده لذلك وقد كانَ حين نزل سليمان عليه السلام حلَّق الهدهُد فرأى هدهداً واقعاً فانحطَّ إليه فوصفَ له ملكَ سليمانَ عليه السَّلام وما سخر له من كلِّ شيءٍ وذكر له صاحبُه ملكَ بلقيسَ وأنَّ تحت يدِها اثني عشرَ ألفَ قائدٍ تحت يد كلِّ قائدٍ مائةُ ألفٍ وذهبَ معه لينظرَ فما رجع إلا بعدَ العصرِ وذلك قوله تعالى

سورة النمل (22)

22

{فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي زمانا غير مديد وقرئ بضمِّ الكافِ وذُكر أنَّه وقعتْ نفحةٌ من الشمس على رأسِ سليمانَ عليه السَّلام فنظر فإذا موضعُ الهدهدِ خالٍ فدعا عرِّيفَ الطير وهوالنسر فسألَه عنه فلم يجدْ عنده علمَه ثم قال لسيدِ الطيرِ وهو العُقابُ عليَّ به فارتفعتْ فنظرتْ فإذا هو مقبلٌ فقصدتْهُ فناشدها الله وقال بحقِّ الله الذي قوَّاكِ وأقدركِ عليَّ إلاَّ رحِمتنِي فتركتْهُ وقالتْ ثكلتكَ أمُّك إنَّ نبيَّ الله قد حلفَ ليعذبنَّك قال وما استثنَى قالت بلى قال أوليأتيني بعذرٍ مبينٍ فلمَّا قرُب من سليمان عليه السلام أَرْخى ذنبَه وجناحيِه يجرُّها على الأرضِ تواضعاً له فلما دنا منه أخذ عليه السَّلام برأسه فمدَّه إليه فقال يا نبيَّ الله اذكرُ وقوفكَ بين يدَي الله تعالى فارتعدَ سليمانُ عليه السَّلام وعفا عنه ثم سألَه {فَقَالَ أحطت بما لم تحط بِهِ} أي علماً ومعرفةً وحفظتُه من جميعِ جهاتِه وقرئ أحطتُ بادغامِ الطَّاءِ في التَّاءِ بإطباقٍ وبغيرِ إطباقٍ ولا خفاء في أنَّه لم يُرد بما ادَّعى الإحاطةَ به ما هو من حقائق العلومِ ودقائقِ المعارفِ التي تكونُ معرفتُها والإحاطةُ بها من وظائف أربابِ العلمِ والحكمةِ لتوقفها على علمٍ رصينٍ وفضلٍ مبينٍ حتَّى يكونَ إثباتُها لنفسه بين يدي نبيِّ الله سليمانَ عليه السَّلام تعدِّياً عن طورهِ وتجاوزاً عن دائرة قدرهِ ونفيُها عنه عليه الصَّلاة والسَّلام جنايةً على جنايةٍ فيُحتاجَ إلى الاعتذار عنخ بأنه ذلك كان منهلا بطريق الإلهامِ فكافَحه عليه الصَّلاة والسَّلام بذلك مع ما أُوتي عليهِ الصَّلاة والسَّلام من فضل النُّبوة والحكمةِ والعلومِ الجمَّة والإحاطةِ بالمعلوماتِ الكثيرةِ ابتلاءً له عليه الصلاة والسلام في علمِه وتنبيهاً على أنَّ في أدنى خلقِه تعالى وأضعفِهم من أحاطَ علماً بما لم يُحط به لتتحاقر إليه نفسُه ويتصاغر إليه علمُه ويكون لطفاً له في تركِ الاعجاب الذي هو فتنةُ العلماء بل أرادَ به ما هو من الأمورِ المحسوسةِ التي لا تُعد الإحاطةُ بها فضيلة ولا الغفلةُ عنها نقيصةً لعدم توقف إدراكِها إلا على مجردِ إحساسٍ يستوى فيه العقلاءُ وغيرُهم وقد علم أنَّه عليه الصلاةُ والسلام ولم يشاهدْهُ ولم يسمعْ خبره من غيرِه قطعاً فعبَّر عنه بما ذُكر لترويج كلامِه عنده عليه الصَّلاة والسَّلام وترغيبهِ في الإصغاء إلى اعتذاره واستمالةِ قلبهِ نحو قبولِه فإنَّ النفسَ للإعتذار المنبئ عن أمرٍ بديعٍ أقبلُ وإلى تلقِّي ما لا تعلمُه أميلُ ثم أيَّده بقولِه {وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} حيثُ فسَّر إبهامه نوع تفسير وأرادَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه كان بصدد إقامةِ خدمةٍ مهمةٍ له حيثُ عبَّر عمَّا جاء به بالنبأِ الذي هو الخبرُ الخطيرُ والشَّأنُ الكبيرُ ووصفَهُ بما وصفَهُ وإلاَّ فماذا صدر عنه عليه الصلاة والسَّلامُ مع ما حُكي عنه ما حُكي من الحمد والشُّكرِ واستدعاءِ الإيزاعِ حتَّى يليقَ بالحكمة الإلهيةِ تنبيهُه عليه الصَّلاة والسَّلام على تركِه وسبأٌ منصرفٌ على أنَّه اسمٌ لحيَ سُمُّوا باسم أبيهم الأكبرِ وهو سبأُ بنُ يشجبَ بن يعرب بن قحطان قالُوا اسمُه عبدُ شمسٍ لُقِّب به لكونه أوَّلَ من سبى وقرئ بفتحِ الهمزةِ غيرَ مُنصرفٍ على أنَّه اسمٌ للقبيلةِ ثمَّ سُميت مدينةُ مأربَ بسبأٍ وبينها وبينَ صنعاءَ مسيرةُ ثلاثٍ وعلى هذه القراءةِ يجوزُ أنْ يرادَ به القبيلةُ والمدينةُ وأمَّا عَلى القراءةِ الأُولى فالمرادُ هو الحيُّ لا غيرُ وعدمُ وقوفِ سليمانَ عليه السَّلامُ على نبئِهم قبلَ إنباءِ الهُدهدِ ليس بأمرٍ بديعٍ لا بدَّ له من حكمةٍ داعيةٍ إليه البتةَ وإنِ استحال خلوُّ إفعالِه تعالى من الحكمِ والمصالحِ لما أنَّ المسافةَ بين محطِّه عليه الصَّلاة

سورة النمل (23 25) والسَّلام وبين مأربَ وإن كانتْ قصيرةً لكن مدةُ ما بين نزولِه عليه الصَّلاة والسَّلام هناك وبين يجئ الهدهدِ بالخبرِ أيضاً قصيرةٌ نعم اختصاصُ الهدهدِ بذلك مع كون الجنِّ أقوى منه مبنيٌّ على حِكَمٍ بالغةٍ يستأثرُ بها علاَّمُ الغُيوبِ وقولُه تعالى

23

{إِنّى وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ} استئنافٌ ببيان ما جاء به من النبأ وتفصيلٌ له إثرَ الإجمالِ وهي بلقيسُ بنتُ شراحيلَ بنِ مالكِ بنِ ريَّانَ وكان أبُوها ملكَ أرضِ اليمنِ كلِّها ورثَ المُلكَ من أربعين أباً ولم يكُن له ولدٌ غيرُها فغلبتْ بعدَه على المُلكِ ودانتْ لها الأمَّة وكانتْ هي وقومُها مجوساً يعبدونَ الشمسَ وإيثارُ وجدتُ على رأيتُ لما أشير إليه من الإيذانِ بكونِه عند غيبته بصددِ خدمتِه عليه الصَّلاة والسَّلامِ بإبراز نفسه في معرضِ من يتفقدُ أحوالَها ويتعرَّفها كأنَّها طِلبتُه وضالَّتُه ليعرضَها على سليمانَ عليه السَّلامُ وضميرُ تملكُهم لسبأٍ على أنَّه اسمٌ لحيَ أو لأهلها المدلولِ عليهم بذكرِ مدينتِهم على أنَّه اسمٌ لها {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء} أيْ منَ الأشياءِ التي يحتاجُ إليها الملوكُ {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} قيل كان ثلاثينَ ذراعاً في ثلاثين عَرضاً وسَمكاً وقيل ثمانينَ في ثمانينَ من ذهب وفضه مكالا بالجواهر وكانت قوامه من ياقوتٍ أحمرَ وأخضرَ ودُرَ وزمردٍ وعليه سبعةُ أبياتٍ على كلِّ بيتٍ بابٌ مغلقٌ واستعظامُ الهدهدِ لعرشِها مع ما كان يشاهدُه من ملكِ سليمانَ عليه السَّلام إمَّا بالنسبة إلى حالِها أو إلى عروشَ أمثالِها من الملوكِ وقد جوز أن يكون لسليمانَ عليه السَّلامَ مثلُه وأيا ما كان فوصفُه بذلكَ بينَ يديهِ عَلَيهِ الصَّلاة والسَّلام لما مرَّ من ترغيبِه عليه الصَّلاة والسَّلام في الإصغاءِ إلى حديثِه وتوجيهِ عزيمتِه عليه الصَّلاة والسَّلام نحو تسخيرِها ولذلك عقبه بما وجب غزوها من كُفرِها وكُفر قومِها حيثُ قال

24

{وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} أي يعبدونَها متجاوزينَ عبادةَ الله تعالى {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم} التي هي عبادةُ الشمسِ ونظائِرها منْ أصنافِ الكفرِ والمَعَاصي {فَصَدَّهُمْ} بسببِ ذلكَ {عَنِ السبيل} أي سبيلِ الحقِّ والصوابِ فإنَّ تزيينَ أعمالِهم لا يتصورُ بدون تقويمِ طرقِ كفرِهم وضلالِهم ومن ضرورته نسبةُ طريقِ الحقِّ إلى العوجِ {فهم} بسبب ذلك {لا يَهْتَدُونَ} إليهِ وقولُه تعالى

25

{أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ} مفعولٌ له إمَّا للصدِّ أو للتزيينِ عَلَى حذفِ اللامِ منهُ أى فصدهم لئلا يسجدوا له تعالى أو زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا أو بدلٌ على حالِه من أعمالَهم وما بينهما اعتراضٌ أيْ زيَّن لهم أنْ لا يسجدوا وقيل هو في موقع المفعولِ ليهتدون بإسقاطِ الخافضِ ولا مزبدة كما في قوله تعالى لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب والمعنى فهم لا يهتدون إلى أنْ يسجدوا له تعالى وقرئ أَلاَ يَا اسجدُوا على التنبيه والنداء محذوفٌ أيْ أَلاَ يا قوم اسجدوا كما

سورة النمل (26 28) في قولِه [أَلاَ يا اسلَمي يا دارَ مَي عَلَى البِلَى] ونظائِره وعلى هذا يحتملُ أنُ يكونَ استشافا من جهةِ الله عزَّ وجلَّ أو من سليمانَ عليه السَّلام ويُوقف على لا يهتدونَ ويكون أمراً بالسجود وعلى الوجوهِ المتقدمةِ ذمَّاً على تركه وأياما كان فالسجود واجب وقرئ هَلاّ وهَلاَ بقلبِ الهمزتينِ هاء وقرئ هَلاَّ تسجدون بمعنى ألا تسجدونَ على الخطاب (الذى يخرج الخبء في السموا والأرض) أيْ يظهرُ ما هو مخبوء ومخفى فيهما كائناً ما كان وتخصيصُ هذا الوصفِ بالذكرِ بصددِ بيانِ تفرُّده تعالى باستحقاق السُّجودِ له من بين سائرِ أوصافِه الموجبةِ لذلك لما أنَّه أرسخُ في معرفتِه والإحاطةِ بأحكامه بمشاهدة آثارهِ التي من جُملتها ما أودعَه الله تعالى في نفسه من القدرة على معرفةِ الماءِ تحتَ الأرضِ وأشارَ بعطفِ قولِه {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تعلنون} ) عل يخرجُ إلى أنَّه تعالى يخرج ما في العالم الإنسانيِّ من الخَفَايَا كما يخرج ما في العالم الكبير من الخَبَايَا لِما أنَّ المرادَ يظهرُ ما تُخفونَهُ من الأحوال فيجازيكُم بها وذكرُ ما تُعلنون لتوسيع دائرة العلم أو للتنبيه على تساويهما بالنسبة إلى العلم الإلهي وقرئ ما يُخفون وما يُعلنون على صيغةِ الغَيبةِ بلا التفاتٍ وإخراجُ الخبءِ يعمُّ إشراقَ الكواكبِ وإظهارَها من آفاقها بعد استنارها وراءها وإنزالَ الأمطارِ وإنباتَ النباتِ بل الإنشاءَ الذي هو إخراجُ ما في الشيء بالقوَّةِ إلى الفعلِ والإبداعَ الذي هو إخراجُ ما في الإمكان والعدمِ إلى الوجود وغيرَ ذلك من غيوبِه عزَّ وجلَّ وقرئ الخَبَ بتخفيف الهمزةِ بالحذفِ وقرئ الخبا بتخفيفها بالقلب وقرئ ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون

26

(الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم) الذي هو أولُ الأجرامِ وأعظمها وقرئ العظيمُ بالرَّفعِ عَلى أنَّه صفةُ الربِّ واعلمْ أن ما حُكي من الهُدهدِ من قولِه الذي يُخرج الخبءَ إلى هُنا ليس داخلاً تحت قولِه أحطتُ بما لم تحط به وإنما هو من لعلوم والمعارفِ التي اقتبسها من سليمانَ عليه السَّلام أوردَهُ بياناً لما هو عليهِ وإظهاراً لتصلُّبهِ في الدِّينِ وكلُّ ذلكَ لتوجيهِ قلبِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ نحو قبولِ كلامِه وصرفِ عَنَانِ عزيمتِه عليه السَّلامُ إلى غزوِها وتسخيرِ ولايتِها

27

{قال} استشاف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية كلام الهُدهدِ كأنَّه قيلَ فماذا فعلَ سليمانُ عليه السَّلام عند ذلكَ فقيل قال {سَنَنظُرُ} أي فيما ذكرتَه من النَّظر بمعنى التَّأملِ والسِّينُ للتأكيدِ أي سنتعرفُ بالتجربةِ البتةَ (أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين) كان مُقتضى الظَّاهرِ أم كذبتَ وإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ للإيذانِ بأنَّ كذبَهُ في هذه المادة يستلزمه انتظامَهُ في سلكِ الموسومينَ بالكذبِ الراسخينَ فيه فإنَّ مساقَ هذه الأقاويلِ الملفَّقةِ على ترتيبٍ أنيقِ يستميلُ قلوبَ السامعينَ نحوَ قَبُولِها من غير أن يكون لها مصداقٌ أصلاً لا سيما بين يَدَي نبيَ عظيم الشأنِ لا يكادُ يصدرُ إلا عمَّن له قدم راسخٌ في الكذب والإفكِ وقولُه تعالى

28

{اذهب بّكِتَابِى هذا فَأَلْقِهْ}

سورة النمل (29 31) {إليهم} استئناف مبين لكيفية النَّظر الذي وعدَه عليه الصَّلاة والسَّلام وقد قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ما كتبَ كتابَه في ذلكَ المجلسِ أو بعدَهُ وتخصيصُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاه بالرِّسالةِ دونَ سائرِ ما تحتَ مُلكِه من أمناءِ الجنِّ الأقوياءِ على التصرف والتعرُّفِ لما عاينَ فيه من مخايل العلمِ والحكمةِ وصحَّةِ الفراسةِ ولئلاَّ يبقى له عذرٌ أصلاً {ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} أي تنحَّ إلى مكانٍ قريبٍ تَتَوارى فيه {فانظر} أي تأمَّلَ وتعرَّفْ {مَاذَا يَرْجِعُونَ} أي ماذا يرجعُ بعضُهم إلى بعضٍ من القول وجمعُ الضمائرِ لما أنَّ مضمونَ الكتابِ الكريمِ دعوةُ الكُلِّ إلى الإسلام

29

{قَالَتْ} أي بعدَ ما ذهبَ الهدهدُ بالكتابِ فألقاهُ إليهم وتنحَّى عنهم حسبما أُمر به وإنَّما طُوي ذكرُه إيذاناً بكمالِ مسارعتِه إلى إقامةِ ما أُمر بهِ من الخدمة وإشعاراً باستغنائه عن التَّصريحِ به لغايةِ ظهورِه روُي أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلام كتب كتابَه وطبعه بالمسكِ وختَمه بخاتمِه ودفعَه إلى الهدهدِ فوجدَها الهدهدُ راقدةً في قصرِها بمأربَ وكانتْ إذا رقدتْ غلَّقتِ الأبوابِ ووضعتِ المفاتيحَ تحتَ رأسِها فدخلَ من كُوَّةٍ وطرحَ الكتابَ على نحوها وهي مستقلية وقيل نقرَها فانتبهتْ فَزِعةً وقيل أتاها والقادةُ والجنودُ حواليَها فرفرفَ ساعةً والنَّاسُ ينظرونَ حتَّى رفعتْ رأسَها فألقى الكتاب على حجرِها وكانت قارئةً كاتبةً عربيةً من نسلٍ تُبَّع الحميريِّ كَما مَرَّ فلما رأتِ الخاتمَ ارتعدتْ وخضعتْ فعندَ ذلكَ قالتْ لأشرافِ قومها {يا أيها الملا إِنّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} وصفتْه بالكرمِ لكرمِ مضمونِه أو لكونِه من عندَ ملكٍ كريمٍ أو لكونِه مختوماً أو لغرابةِ شأنِه ووصولِه إليها على منهاجٍ غيرِ معتادٍ

30

{إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ} استئنافٌ وقعَ جواباً لسؤالٍ مقدرٍ كأنَّه قيل ممن هُو وماذا مضمونُه فقالتْ إنَّه منْ سُليمان {وَأَنَّهُ} أي مضمونُه أو المكتوبُ فيه {بسم الله الرحمن الرحيم} وفيه إشارةٌ إلى سببِ وصفها إياه بالكرم وقرئ أنَّه وأنَّه بالفتحِ على حذفِ اللامِ كأنها عللتْ كرمَه بكونِه من سليمانَ وبكونِه مُصدَّراً باسمِ الله تعالى وقيل على أنَّه بدل من كتاب وقرئ أنْ من سُليمان وأنْ بسم الله الرحمن الرحيم على أنْ المفسرةُ

31

{أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ} أنْ مفسرةٌ ولا ناهيةٌ أي لا تتكبروا كما يفعلُ جبابرةُ الملوكِ وقيل مصدريةٌ ناصة للفعلِ ولا نافيةٌ محلُّها الرفع على أنها من كتابٌ أو خبرٌ لمبتدأٍ مضمرٍ يليقُ بالمقام أي مضمونُه أنْ لا تعلُوا أو النَّصبُ بإسقاطِ الخافضِ أي بأنْ لا تعلوا علي وقرئ أن لا تغلُوا بالغينِ المعجمةِ أي لا تجاوزُوا حدَّكم {وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} أي مؤمنينَ وقيل منقادينَ والأولُ هو الأليقُ بشأن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم على أنَّ الإيمانَ مستتبعٌ للانقياد حتماً روي أنَّ نسخةَ الكتابِ من عبدِ الله سليمان بنِ داودَ إلى بلقيسَ ملكةِ سبأً السَّلامُ على من اتبعَ الهُدَى أمَّا بعدُ فلا تعلُوا عليَّ وأتوني مسلمينَ وليسَ الأمرُ فيه بالإسلامِ قبل إقامةِ الحجَّة على رسالتِه حتَّى يُتوهم كونه استدعاء للتقليدِ فإنَّ إلقاء الكتابِ إليها على تلك الحالةِ معجزةٌ باهرةٌ دالَّةٌ على رسالةِ مُرسِلها دلالةً بينةً

سورة النمل (32 35)

32

{قَالَتْ} كُررتْ حكايةُ قولِها للإيذانِ بغايةِ اعتنائِها بما في حيزه من قولِها {يا أيها الملا أَفْتُونِى فِى أَمْرِى} أي أجيبونِي في أمرِي الذي حَزَبني وذكرتُ لكم خُلاصتَه وعبرتْ عن الجوابِ بالفَتوى التي هي الجواب في الحوادث المشكلة غالباً تهويلاً للأمر ورفعاً لمحلهم بالإشعار بأنهم قادرونَ على حلِّ المشكلاتِ المُلمَّةِ وقولُها {مَا كُنتُ قاطعة أَمْراً} أي من الأمورِ المتعلقةِ بالملكِ {حتى تَشْهَدُونِ} أي إلا بمحضرِكم وبموجبِ آرائِكم استعطاف لهم واستمالة لقلوبِهم لئلاَّ يخالفُوها في الرَّأي والتدبير

33

{قالوا} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولِها كأنَّه قيل فمَاذا قالُوا في جوابِها فقيلَ قالُوا {نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ} في الأجسادِ والآلاتِ والعُددِ {وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي نجدةٍ وشجاعةٍ مفرطةٍ وبلاءٍ في الحربِ {والأمر إِلَيْكِ} أي هو موكولٌ إليكِ {فانظرى مَاذَا تَأْمُرِينَ} ونحنُ مطيعونَ لكِ فمُرينا بأمرِك نمتثلْ به ونتبعْ رأيكِ وأرادوا نحنُ من أبناءِ الحربِ لا من أبناءِ الرأي والمشورةِ وإليكِ الرَّأي والتَّدبيرِ فانظرِي ماذا ترينَ نكنْ في الخدمةِ فلَّما أحسَّتْ منهم الميلَ إلى الحرابِ والعدولَ عن سَنَنِ الصَّوابِ شرعت في تزييف مقلتهم المبنيةِ على الغفلةِ عن شأنِ سليمانَ عليه السَّلامُ وذلك قولُه تعالى

34

{قَالَتْ إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً} من القُرى على منهاجِ المقاتلةِ والحرابِ {أَفْسَدُوهَا} بتخريبِ عماراتِها وإتلافِ ما فيها من الأموالِ {وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} بالقتلِ والأسرِ والإجلاءِ وغيرِ ذلك من فُنونِ الإهانةِ والإذلالِ {وكذلك يَفْعَلُونَ} تأكيدٌ لما وصفتْ من حالِهم بطريقِ الاعتراضِ التذييليِّ وتقريرٌ له بأنَّ ذلك عادتُهم المستمرةُ وقيل تصديقٌ لها من جهة الله تعالى على طريقة قوله تعالى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً إثر قوله تعالى لنفد البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى

35

{وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} تقرير لرأيها بعدما زيفتْ آراءَهم وأتتْ بالجملةِ الاسميةِ الدالةِ على الثبات المصدرةِ بحرفِ التحقيق للإيذانِ بأنَّها مزمعةٌ على رأيها لا يَلويها عنه صارفٌ ولا يَثْنيها عاطفٌ أيْ وإنِّي مرسلةٌ إليهم رُسُلاً بهديةٍ عظيمة {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون} حتَّى أعملَ بما يقتضيهِ الحالُ رُوي أنَّها بعثت خمسمائةِ غلامٍ عليهم ثيابُ الجَوَاري وحليُّهن الأساورُ والأطواقُ والقِرَطةُ راكبى خيلٍ مغشَّاةٍ بالديباجِ محلاَّةِ اللُّجمِ والسُّروجِ بالذهبِ المُرَّصعِ بالجواهرِ وخمسمائةِ جاريةٍ على رِماك في زيِّ الغلمانِ وألفَ لبنةٍ من ذهبٍ وفضةٍ وتاجاً مكللاً بالدرِّ والياقوتِ المرتفعِ والمسكِ والعنبرِ وحُقَّاً فيه درةٌ عذراءُ وجزعة معوجة الثقبِ وبعثتْ رجلاً من أشرافِ قومِها المنذرَ بنَ عمروٍ وآخرَ ذار أي وعقلٍ وقالتْ إنْ كانَ نبياً ميَّز بين الغلمانِ والجواري وثقب الدرة نقبا مستوياً وسلك في الخرزةِ خيطاً ثمَّ قالتْ للمنذرِ إنْ نظرَ إليكَ نظرَ غضبانَ فهو ملكٌ فلا يهولنك

سورة النمل (36 37) وإن رأيته بشاص لطيفاً فهو نبيٌّ فأقبلَ الهدهدُ فأخبرَ سليمانَ عليه السَّلامُ بذلك فأمرَ الجنَّ فضربُوا لِبنَ الذهبِ والفضَّةِ وفرشُوه في ميدانٍ بين يديِه طولُه سبعةُ فراسخ وجعلُوا حولَ الميدانِ حائطاً شرفاتُه من الذَّهبِ والفِضَّةِ وأمرَ بأحسنِ الدَّوابِّ في البرِّ والبحرِ فربطُوها عن يمينِ الميدانِ ويسارِه على اللبن وأمرَ بأولادِ الجنِّ وهم خلقٌ كثيرٌ فأُقيمُوا على اليمينِ واليسارِ ثم قعدَ على سريرِه والكراسيُّ من جانبيِه واصطفتِ الشياطينُ صفوفاً فراسخَ والإنسُ صفوفاً فراسخَ والوحشُ والسباعُ والطيورُ والهوامُّ كذلك فلما دنا القومُ ونظرُوا بُهتوا ورَأوا الدوابَّ تروثُ على اللبنِ فتقاصرتْ إليهم نفوسُهم ورمَوا بما معهم ولما وقفُوا بين يديِه نظَر إليهم بوجهٍ طَلْقٍ وقال ما وراءكم وقال أينَ الحُقُّ وأخبرَهُ جبريلُ عليهما السَّلامُ بما فيه فقالَ لهم إنَّ فيه كذا وكذا ثم أمرَ بالأَرَضةِ فأخذتْ شعرةً ونفذتْ في الدُّرة فجعلَ رزقَها في الشَّجرةِ وأخذتْ دودةٌ بيضاءُ الخيطَ بفيها ونفذتْ في الجَزَعةِ فجعلَ رزقَها في الفواكِه ودعا بالماءِ فكانتِ الجاريةُ تأخذُ الماء بيدِها فتجعلُه في الأُخرى ثم تضربُ به وجهَها والغلامُ كما يأخذُه يضربُ به وجهه ثم رد الهدية وذلك قولُه تعالى

36

{فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ} أي الرَّسولُ {قَالَ} أي مخاطباً للرَّسولِ والمُرْسِلِ تغليباً للحاضرِ على الغائبِ وقيل للرَّسولِ ومن مَعه ويؤيدُه أنَّه قرئ فلمَّا جاءُوا والأولُ أَولى لما فيِه من تشديدِ الإنكارِ والتَّوبيخِ وتعميمهُما لبلقيسَ وقومِها ويؤيدُه الإفرادُ في قولِه تعالى ارجعْ إليهم {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} وهو إنكارٌ لإمدادِهم إيَّاه عليه الصَّلاة والسَّلام بالمالِ مع عُلوِّ شأنِه وسعَةِ سُلطانِه وتوبيخٌ لهم بذلكَ وتنكيرُ مالٍ للتحقيرِ وقولُه تعالى {فَمَا آتاني الله} أيْ ممَّا رأيتُم آثارَه منَ النُّبوةِ والمُلكِ الذي لا غايةَ وراءَه {خير مما آتاكم} أي منَ المالِ الذي مِنْ جُملتِه ما جئتُم به فلا حاجةَ لي إلى هديَّتِكم ولا وقعَ لها عندي تعليل للإنكارِ ولعلَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّما قال لهم هذه المقالةَ إلى آخرِها بعدَ مَا جَرى بينَهُ وبينهم ما حكي من قصة الحُقِّ وغيرها كما أشير إليه لا أنه عليه الصلاةُ والسَّلامُ خاطبَهم بها أولَ ما جاءوه كما يُفهم من ظاهرِ قولِه تعالى فلمَّا جاءَ الخ وقرئ أتُمدُّونِّي بالإدغامِ وبنونٍ واحدةٍ وبنونين وحذفِ الياءِ وقولُه تعالى {بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} إضرابٌ عمَّا ذكر من إنكارِ الإمدادِ بالمالِ إلى التَّوبيخِ بفرحِهم بهديتهم التي أهدَوها إليه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فرحَ افتخارٍ وامتنانٍ واعتدادٍ بها كما ينبئ عنه ما ذكر من حديثِ الحقِّ والجَزَعةِ وتغييرِ زيِّ الغِلمانِ والجواري وغيرِ ذلك وفائدةُ الإضرابِ التَّنبيهُ على أنَّ إمدادَهُ عليه الصَّلاة والسَّلام بالمالِ منكرٌ قبيح وعدُّ ذلكَ مع أنَّه لا قدرَ له عنده عليه الصلاة والسلام مما يتنافسُ فيه المتنافسون أقبحُ والتَّوبيخُ به أدخلُ وقيلَ المضافُ إليهِ المُهدى إليهِ والمعنى بل أنتمُ بما يهدى إليكم تفرحونَ حُبَّاً لزيادةِ المالِ لما أنَّكم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياةِ الدُّنيا

37

{اْرجِعِ} أفردَ الضميرَ هَهُنا بعد جمعِ الضمائر الخمسةِ فيما سبقَ لاختصاصِ الرجوعِ بالرسول عموم الإمداد ونحوه

سورة النمل (38 40) للكلِّ أي ارجعْ أَيُّها الرَّسُولُ {إِلَيْهِمُ} أي إلى بلقيس وقومها فليأتينهم أي فوالله لنأتينَّهم {بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي لا طاقةَ لَهمُ بمقاومتِها ولا قدرةَ لهم على مقابلتها وقرئ بهم {وَلَنُخْرِجَنَّهُم} عطفٌ على جوابِ القسمِ {مِنْهَا} من سبأٍ {أَذِلَّةٍ} أي حالَ كونهم أذلة بعدما كانُوا فيه من العزِّ والتمكينِ وفي جمعِ القِلَّةِ تأكيدٌ لذِلَّتِهم وقولُه تعالى {وَهُمْ صاغرون} أي أُسارَى مُهَانون حالٌ أخرى مفيدةٌ لكونِ إخراجِهم بطريقِ الأسرِ لا بطريقِ الإجلاءِ وعدمُ وقوعِ جوابِ القسمِ لأنَّه كانَ معلَّقاً بشرطٍ قد حُذفَ عندَ الحكايةِ ثقةٍ بدلالةِ الحالِ عليهِ كأنَّه قيلَ ارجعْ إليهم فليأتُوا مسلمينَ وإلا فلنأتينَّهم الخ

38

{قال يا أيها الملا أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا} قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما دَنا مجيءُ بلقيسَ إليه عليه الصلاة والسلام يُروى أنَّه لمَّا رجعتْ رسلُها إليها بما حُكي من خبرِ سُليمانَ عليه السَّلام قالتْ قد علمتُ والله ما هذا بملكٍ ولا لبابه من طاقةٌ وبعثتْ إلى سليمانَ عليه السَّلام إنِّي قادمةٌ إليكَ بملوكِ قَوْمي حتى أنظرَ ما أمرُك وما تدعُو إليهِ من دينِك ثمَّ آذنتْ بالرَّحيلِ إلى سليمانَ عليه السلام فشخصتْ إليه في اثني عشر ألف قيل تحتَ كلِّ قَيْلٍ ألوفٌ ويُروى أنَّها أمرتْ فجُعِلَ عرشُها في آخرِ سبعةِ أبياتٍ بعضُها في بعضٍ في آخرِ قصرٍ من قصورٍ سبعةٍ لها وغلَّقتِ الأبوابَ ووكَّلتْ به حَرَساً يحفظونَهُ ولعَلَّه أُوحيَ إلى سليمانَ عليه السلام باستيثاقِها من عرشِها فأرادَ أنْ يُريها بعضَ ما خصَّه الله عزَّ سلطانُه به من إجراءِ التعاجيبِ على يدهِ مع إطلاعِها على عظيم قدرتِه تعالى وصحة نبوتِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ ويختبرَ عقلَها بأنْ يُنكِّرَ عرشَها فينظرَ أتعرفُه أم لا وتقييدُ الإتيانِ به بقولِه تعالى {قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ} لمَا أنَّ ذلكَ أبدعُ وأغربُ وأبعدُ من الوقوعِ عادةً وأدل على عظيم قدرة الله تعالى وصحَّةِ نبُّوتِه عليه الصَّلاة والسَّلام وليكونَ اختبارُها وإطلاعُها على بدائعِ المعجزاتِ في أولِ مجيئِها وقيلَ لأنَّها إذَا أتتْ مُسلمةً لم يحلَّ له أخذُ ما لها بغيرِ رِضَاها

39

{قَالَ عِفْرِيتٌ} أي ماردٌ خبيثٌ {مّن الجن} بيانٌ له إذْ يقالُ للرجلِ الخبيثِ المنكرِ المعفرِ لأقرانِه وكان اسمُه ذكوانَ أو صخرا {أنا آتيك بِهِ} أي بعرشِها {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} أي من مجلِسك للحكومةِ وكان يجلسُ إلى نصفِ النَّهار وآتيكَ إمَّا صيغةُ المضارعِ أو الفاعلِ وهو الأنسبُ لمقامِ ادِّعاءِ الإتيانِ به لا محالةَ وأوفقُ لما عُطفَ عليه من الجملةِ الاسميةِ أي أنا آتٍ به في تلك المُدَّةِ البتةَ {وَإِنّى عَلَيْهِ} أي على الإتيانِ به {لَقَوِىٌّ} لا يثقلُ عليَّ حملُه {أَمِينٌ} لا أختزلُ منه شيئاً ولا أُبدِّلُه

40

{قَالَ الذى عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الكتاب} فُصلَ عمَّا قبلَه للإيذانِ بما بينَ القائلينِ ومقاليهما

وكيفيّتي قدرتِهما على الإتيانِ به من كمال التباينِ أو لإسقاطِ الأولِ عن درجةِ الاعتبارِ قيلَ هو آصِفُ بن بزخيا وزيرُ سليمانَ عليه السَّلام وقيل رجلٌ كان عنده اسمُ الله الأعظمُ الذي إذا سُئل به أجابَ وقيل الخَضِرُ أو جبريلُ أو مَلَكٌ أيَّده الله عزَّ وجلَّ بهِ عليهم السَّلام وقيل هو سُليمانُ نفسُه عليه السَّلام وفيه بُعدٌ لا يَخْفى والمرادُ بالكتابِ الجنسُ المنتظِمُ لجميعِ الكتبِ المنزلِة أو اللوحُ وتنكيرُ عِلْمٌ للتفخيمِ والرمزِ إلى أنَّه علمٌ غيرُ معهودٍ ومِن ابتدائيةٌ {أَنَاْ آتيك بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} الطَّرفُ تحريكُ الأجفانِ وفتحُها للنَّظرِ إلى شيء وارتداده انضمامها ولكونِه أمراً طبيعياً غيرَ منوطٍ بالقصدِ أُوثر الارتدادُ على الردِّ ولمَّا لم يكُنْ بينَ هذا الوعدِ وإنجازه مدة ما كما في وعدِ العفريتِ استغنى عن التأكيدِ وطُوي عند الحكاية ذكرُ الإتيانِ به للإيذانِ بأنَّه أمرٌ متحققٌ غنيٌّ عنِ الإخبارِ بهِ وجيءَ بالفاءِ الفصيحةِ لا داخلة على جملةٍ معطوفة على دجنلة مقدرةٍ دالةٍ على تحققِه فقط كما في قولِه عز وجل فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق ونظائِره بل داخلة على الشرطيةِ حيثُ قيل {فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه} أيْ رأى العرشَ حاضراً لديهِ كما في قولِه عزَّ وجلَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ للدلالةِ على كمالِ ظهورِ ما ذُكر مِن تحققةِ واستغنائِه عن الإخبارِ به ببيان ظهورِ ما يترتبُ عليه من رؤيةِ سُليمان عليه السَّلامُ إيَّاهُ واستغنائِه أيضاً عن التصريح به إذِ التَّقديرُ فأتاه به فَرآهُ فلمَّا رآه الخ فحذفَ ما حذف لما ذكرو للإيذان بكمالِ سرعةِ الإتيانِ به كأنَّه لم يقعْ بينَ الوعدِ به وبين رؤيتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاه شيءٌ ما أصلاً وفي تقييدِ رؤيتِه باستقرارِه عندَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تأكيدٌ لهذا المَعْنى لإيهامهِ أنَّه لم يتوسط بينَهما ابتداء الإتيانِ أيضاً كأنَّه لم يزلْ موجُوداً عندَهُ معَ ما فيه من الدلالة على دوامِ قرارِه عنده مُنتظماً في سلكِ مُلكه {قال} أي سليمان عليه السَّلامُ تلقياً للنعمةِ بالشُّكرِ جرياً على سَنَن أبناءِ جنسه من أنبياء الله تعالى عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وخلَّصِ عبادِه {هذا} أي حضورُ العرشِ بين يديِه في هذهِ المُدَّة القصيرةِ أو التمكنُ من إحضارِه بالواسطةِ أو بالذاتِ كما قيلَ {مِن فَضْلِ رَبّى} أي تفضله عليَّ منْ غيرِ استحقاقٍ لهُ من قِبلَي {ليبلوني أأشكر} بأنْ أراهُ محضَ فضلِه تعالى من غيرِ حولٍ من جهتي ولا قوةٍ وأقومَ بحقِّه {أَمْ أَكْفُرُ} بأنْ أجدَ لنفسي مدخلاً في البينِ أو أقصِّر في إقامةِ مواجبِه كما هو شأنُ سائرِ النعمِ الفائضةِ على العبادِ {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأنَّه يرتبطُ به عتيدُها ويستلجب به مزيدُها ويحطُّ بهِ عن ذمَّته عبءَ الواجبِ ويتخلصُ عن وصمةِ الكُفرانِ {وَمَن كَفَرَ} أيْ لم يشكُرْ {فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ} عن شُكرهِ {كَرِيمٌ} بتركِ تعجيلِ العقوبةِ والإنعامِ مع عدمِ الشكرِ أيضاً

41

{قال} أي سليمان عليه السَّلام كُررتِ الحكايةُ مع كونِ المحكيِّ سابقاً ولاحقاً من كلامِه عليه الصَّلاة والسَّلام تنبيهاً على ما بين السَّابقِ واللاحقِ من المخالفةِ لما أنَّ الأولَ من باب الشكر لله تعالى والثَّاني أمرٌ لخدمِه {نَكّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} أي غيِّروا هيئتَه بوجهٍ من الوجوه {ننظر} بالجزمِ على أنَّه جوابُ الأمر وقرئ بالرَّفعِ على الاستئنافِ {أَتَهْتَدِى} إلى معرفتِه أو إلى الجوابِ اللائقِ بالمقام وقيل إلى الإيمانِ بالله تعالى ورسولِه عند رؤيتِها لتقدمِ عرشها عرشِها من مسافةٍ طويلةٍ في مدةٍ قليلةٍ وقد خلَّفته مغلقةً عليه الأبوابَ موكلةً عليه الحَّراسَ والحجَّابَ

سورة النمل (42 43) ويأباهُ تعليقُ النظرِ المتعلقِ بالاهتداءِ بالتنكيرِ فإنَّ ذلكَ ممَّا لا دخلَ فيه للتنكيرِ {أَمْ تَكُونُ} أي بالنسبةِ إلى علمنا {مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ} أي إلى ما ذكر من معرفةِ عرشِها أو الجوابِ الصَّوابِ فإنَّ كونَها في نفسِ الأمرِ منهم وإنْ كان أمرا مستمرا لكن كونُها منهم عند سليمان عليه السلام وقومه أمرٌ حادثٌ يظهرُ بالاختبارِ

42

{فَلَمَّا جَاءتْ} شروعٌ في حكايةِ التَّجربةِ التي قصدَها سليمانُ عليه السَّلام أَي فلمَّا جاءتْ بلقيسُ سليمانَ عليه السلام وقد كان العرشُ بين يديِه {قِيلَ} أي من جهةِ سُليمانَ عليه السَّلامُ بالذاتِ أو بالواسطةِ {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} لم يقُل أهذا عرشُكِ لئلاَّ يكونَ تلقيناً لها فيفوتَ ما هو المقصودُ من الأمرِ بالتَّنكيرِ من إبرازِ العرشِ في مَعْرضِ الإشكالِ والاشتباهِ حتَّى يتبينَ حالها وقد ذكرت عنده عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بسخافةِ العقلِ {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} فأنبأتْ عن كمالِ رجاحةِ عقلِها حيثُ لم تقُلْ هُو هُو مع علمِها بحقيقةِ الحالِ تلويحاً بما اعتراهُ بالتَّنكير من نوعِ مغايرةٍ في الصِّفاتِ مع اتحادِ الذاتِ ومراعاةً لحسنِ الأدبِ في محاورتِه عليه الصَّلاة والسَّلامُ {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} من تتمةِ كلامِها كأنَّها ظنَّت أنه عيه الصَّلاةُ والسَّلامُ أرادَ بذلك اختبارَ عقِلها وإظهارَ معجزةٍ لها فقالتْ أُوتينا العلمَ بكمالِ قدرةِ الله تعالى وصحَّةِ نبوتِك من قبلِ هذه المعجزةِ التي شاهدنَاها بما سمعناهُ من المنذرِ من الآياتِ الدالَّةِ على ذلكَ وكُنَّا مسلمينَ من ذلكَ الوقتِ وفيهِ من الدِّلالةِ على كمالِ رزانةِ رأيها ورصانةِ فكرِها ما لا يخفى وقوله تعالى

43

{وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله} بيانٌ منْ جهتِه تعالَى لِمَا كانَ يمنعُها من إظهارِ ما ادَّعتْهُ من الإسلامِ إلى الآنَ أي صدَّها عن ذلكَ عبادتُها القديمةُ للشمسِ وقولُه تعالى {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين} تعليلٌ لسببيةِ عبادتِها المذكورةِ للصدِّ أيْ أنَّها كانتْ من قومٍ راسخينَ في الكفرِ ولذلكَ لم تكُنْ قادرةً على إظهارِ إسلامِها وهي بينَ ظهرانيهم إلى أنْ دخلتْ تحتَ مُلكةِ سليمان عليه السلام وقرئ أنَّها بالفتحِ على البدليةِ من فاعلِ صدَّ أو على التَّعليلِ بحذفِ اللامِ هذا وأمَّا مَا قيلَ مِنْ أنَّ قولَه تعالى وَأُوتِينَا العلم إلى قولِه تعالى مِن قَوْمٍ كافرين من كلامِ سليمانَ عليه السَّلامُ وملئِه كأنَّهم لما سمعُوا قولهَا كأنَّه هُو تفطنُوا لإسلامِها فقالُوا استحساناً لشأنِها أصابتْ في الجوابِ وعلمت قدرةَ الله تعالى وصحَّةَ النُّبوةِ بما سمعتْ من المنذرِ من الآياتِ المتقدمةِ وبما عاينِتْ من هذهِ الآيةِ الباهرةِ من أمرِ عرشِها ورُزقتِ الإسلامَ فعطفُوا عَلى ذلك قولَهم وأُوتينَا العلمَ الخ أي وأُوتينا نحنُ العلمَ بالله تعالى وبقرته وبصحَّةِ ما جاءَ من عنده قبلَ علمِها ولم نزلْ على دينِ الإسلامِ شُكراً لله تعالَى على فضلِهم عليها وسبقِهم إلى العلمِ بالله تعالَى والإسلام قبلها وصدَّها عن التقدمِ إلى الإسلامِ عبادةُ الشمسِ ونشؤُها بين ظهراني الكفرةِ فمما لا يخف ما فيهِ من البُعدِ والتعسف

سورة النمل (44 46)

44

{قِيلَ لَهَا ادخلى الصرح} الصَّرحُ القصرُ وقيل صحنُ الدَّارِ رُوي أنَّ سليمانَ عليهِ السَّلامُ أمرَ قبلَ قدومِها فبنَى له على طريقها قصر من زجاجٍ أبيضَ وأُجري منْ تحته الماءُ وأُلقَي فيه من دوابَ البحرِ السَّمك وغيرُه ووضعَ سريرُه في صدرِه فجلسَ عليهِ وعكفَ عليه الطيرُ والجنُّ والإنسُ وإنَّما فعلَ ذلك ليزيدها استعظاما لأمه وتحققا لبنوته وثباتاً على الدِّينِ وزعمُوا أنَّ الجنَّ كرهوا أنْ يتزوجَها فتفضيَ إليه بأسرارِهم لأنَّها كانتْ بنتَ جنيةٍ وقيل خافُوا أنْ يولَد له منْهَا ولدٌ يجتمعُ له فطنةُ الجنِّ والإنسِ فيخرجونَ من مُلكِ سلِيمانَ عليه السَّلامُ إلى مُلكٍ هو أشدُّ وأفظعُ فقالُوا إنَّ في عقلِها شيئاً وهي شَعراءُ الساقينِ ورجلُها كحافِر الحمارِ فاختبرَ عقلَها بتنكيرِ العرشِ واتخذَ الصَّرحَ ليتعرَّفَ ساقَها ورجلَها {فَلَمَّا رَأَتْهُ} وهو حاضرٌ بينَ يديها كما يَعربُ عنه الأمرُ بدخولِها وأحاطتْ بتفاصيلِ أحوالِه خبراً {حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا} وتشمرتْ لئلاَّ تبتلَّ أذيالُها فإذَا هي أحسنُ النَّاسِ ساقاً وقدماً خلا أنَّها شعْراءُ قيلَ هيَ السببُ في اتخاذِ النورةِ أمرَ بها الشياطينَ فاتخذوهَا واستنكحَها عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأمرَ الجنَّ فبنَوا لها سيلحينَ وغمدانَ وكان يزورُها في الشهرِ مرةً ويقيمُ عندها ثلاثةَ أيامٍ وقيل بل زوَّجها ذا تُبَّعٍ ملكِ هَمْدانَ وسلَّطه علي اليمنِ وأمر زوبعةَ أميرَ جنِّ اليمنِ أنْ يطيعَه فبنى له المصانع وقرئ سأفيها حملا للمفردِ على الجمعِ في سُؤْقٍ وأَسْؤُقٍ {قَالَ} عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين رأَى ما اعتراها من الدَّهشةِ والرُّعبِ {أَنَّهُ} أي ما توهمْتُه ماءً {صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ} أي مملسٌ {مّن قَوارِيرَ} من الزجاجِ {قَالَتْ} حينَ عاينتْ تلكَ المعجزَة أيضاً {رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى} بما كنتُ عليهِ إلى الآنَ من عبادةِ الشمس وقيل بظى بسليمانَ حيثُ ظنَّتْ أنَّه يريدُ إغراقَها في اللُّجةِ وهو بعيدٌ {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان} تابعةً له مقتديةً به وما في قولِه تعالى {لِلَّهِ رَبّ العالمين} من الانتفات إلى الاسمِ الجليلِ ووصفُه بربوبيةِ العالمينَ لإظهارِ معرفتِها بألوهيتِه تعالَى وتفرُّده باستحقاقِ العبادة وبوبيته لجميعِ الموجُوداتِ التي منْ جُملتها ما كانتْ تعبدُه قبلَ ذلكَ من الشَّمسِ

45

{وَلَقَدْ أَرْسَلنَا} عطفٌ على قوله تعالى ولقد آتينا داود وسليمان عِلْماً مسوقٌ لما سيقَ هُو له من تقريرِ أنَّه عليه الصلاةُ والسلام يلقى القرآن من لدن حكيمٍ عليمٍ فإنَّ هذه القصة أيضا من جملة القرآن الكريم الذي لقيَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ وبالله لقد أرسلنَا {إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا} وأنْ في قولِه تعالَى {أَنِ اعبدوا الله} مفسرةٌ لما في الإرسالِ من معنى القولِ أو مصدريةٌ حُذف عنها الباءُ وقرئ بضمِّ النُّونِ إتباعاً لها للباءِ {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يختصمون} ففاجئوا التفرق والاختصامَ فآمنَ فريقٌ وكفر فريق والواو لمجموع الفريقين

46

{قال} عليه

سورة النمل (47 49) الصَّلاة والسَّلام للفريقِ الكافرِ منهم بعدَ ما شاهدَ منهم ما شاهدَ من نهايةِ العتوِّ والعنادِ حتَّى بلغُوا من المُكابرةِ إلى أنْ قالُوا له عليه الصَّلاة والسَّلام يا صالحُ ائتِنا بما تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين {يا قوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة} أي بالعقوبةِ السيئةِ {قَبْلَ الحسنة} أي التوبةِ فتؤخرونَها إلى حينِ نزولِها حيثُ كانُوا من جهلِهم وغوايتِهم يقولونَ إنْ وقعَ إيعادُه تُبنَا حينئذٍ وإلاَّ فنحنُ على ما كناعليه {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله} هلاَّ تسغفرونه تعالَى قبل نزولِها {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} بقبولها إذ لا إمكانَ للقبولِ عندَ النُّزولِ

47

{قَالُواْ اطيرنا} أصلُه تطَّيرنَا والتَّطيرُ التشاؤمُ عُبِّر عنه بذلك لما أنَّهم كانُوا إذا خرجُوا مسافرينَ فيمرّون بطائرٍ يزجرونَه فإنْ مرَّ سانحاً تيمَّنوا وإنْ مرَّ بارحاً تشاءمُوا فلما نسبُوا الخيرَ والشرَّ إلى الطائرِ استُعير لما كانَ سبباً لهما من قدرِ الله تعالى وقسمتِه أو من عمل العبدِ أي تشاءمنا {بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ} في دينك حيث تتابعت علينا الشدائدُ وقد كانُوا قحطوا أو لم نزل في اختلافٍ وافتراقٍ مُذ اخترعتُم دينَكُم {قَالَ طَائِرُكُمْ} أي سببُكم الذي منْهُ ينالُكم ما ينالُكم من الشرِّ {عَندَ الله} وهو قدرُه أو عملُكم المكتوبُ عندَهُ وقولُه تعالى {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} أي تُختبرون بتعاقبِ السرَّاءِ والضرَّاءِ أو تعذبون أو بفتنكم الشيطانُ بوسوستِه إليكم الطيرةَ إضرابٌ من بيانِ طائرِهم الذي هو مبدأُ ما يحيقُ بهم إلى ذكِر ما هو الدَّاعي إليهِ

48

{وَكَانَ فِى المدينة} وهي الحِجْرُ {تِسْعَةُ رَهْطٍ} أي أشخاصٍ وبهذا الاعتبارِ وقعَ تمييزاً للتسعةِ لا باعتبارِ لفظِه والفرقُ بينه وبينَ النَّفرِ أنَّه من الثلاثةِ أو من السبعةِ إلى العشرةِ والنَّفرُ من الثلاثةِ إلى التسعةِ وأسماؤهم حسبَما نُقل عن وهبٍ الهذيلُ بنُ عبدِ ربَ وغُنم بنُ غنمٍ ورئابُ بنُ مهرجٍ ومصدعُ بنُ مهرجٍ وعميرُ بنُ كردبةَ وعاصمُ بنُ مخرمةَ وسبيطُ بنُ صدقةَ وشمعانُ بنُ صفي وقُدارُ بن سالف وهم الذين سَعَوا في عَقْرِ النَّاقةِ وكانُوا عتاةَ قومِ صالحٍ وكانُوا من أبناءِ أشرافِهم {يُفْسِدُونَ فِى الأرض} لا في المدينةِ فقط إفساداً بحتاً لا يُخالطُه شيءٌ ما من الإصلاحِ كما ينطق به قوله تعالى {وَلاَ يُصْلِحُونَ} أي لا يفعلون شيئا من الإصلاحِ أو لا يصلحون شيئاً من الأشياءِ

49

{قالوا} اسئناف ببيانِ بعضِ ما فعلُوا من الفسادِ أي قالَ بعضُهم لبعضٍ في أثناءِ المُشاورةِ في أمرِ صالحٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وكانَ ذلَك غِبَّ ما أنذرَهُمْ بالعذب وقولِه تمتعُوا في دارِكم ثلاثةَ أيامٍ الخ {تَقَاسَمُواْ بالله} إمَّا أمرٌ مقولٌ لقالُوا أو ماضٍ وقعَ بدلاً منه أو حالاً من فاعلِه بإضمارِ قدْ وقولُه تعالى {لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} أي لنباغتنَّ صالحاً وأهلَه ليلا ونقتلنهم وقرئ بالتَّاءِ على خطابِ بعضِهم لبعض وقرئ بياءِ الغَيبةِ وضمِّ التَّاءِ على أنَّ تقاسمُوا فعلٌ ماضٍ {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيّهِ} أي لولي صالح وقرئ بالتَّاءِ والياءِ كما قبلَه {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} أي ما حضرنَا هلاكَهم أو وقت هلاكَهم أو مكانَ هلاكِهم فضلاً أنْ نتولَّى إهلاكَهم وقرئ مهلَك بفتحِ اللامِ فيكونَ مصدراً {وِإِنَّا لصادقون} من تمامِ القولِ أو حالٌ أي نقول

سورة النمل (50 54) ما نقولُ والحالُ إنَّا لصادقونَ في ذلكَ لأنَّ الشاهدَ للشيءِ غيرُ المباشرِ له عُرفاً أو لأنَّا ما شاهدنا مهلكَهم وحدَه بل مهلِكه ومهلكَهم جميعاً كقولِك ما رأيتُ ثمةَ رجلاً بل رجلين

50

{وَمَكَرُواْ مَكْراً} بهذهِ المواضعةِ {وَمَكَرْنَا مَكْراً} أي أهلكَناهم إهلاكاً غيرَ معهودٍ {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أو جازيناهم مكرُهم من حيثُ لا يحتسبونَ

51

{فانظر كيف كان عاقبة مَكْرِهِمْ} شروعٌ في بيانِ ما ترتَّبَ على ما باشرُوه من المكرِ وكيفَ معلِّقةٌ لفعلِ النظرِ ومحلُ الجملةِ النصبُ بنزعِ الخافضِ أي فتفكر في أنَّه كيف كان عاقبة مكرهم وقولُه تعالى {أَنَّا دمرناهم} إما بدلٌ من عاقبةُ مكرِهم على أنَّه فاعلُ كان وهي تامَّة وكيفَ حالٌ أي فانظُرْ كيفَ حصلَ أي على أيِّ وجهٍ حدثَ تدميرُنا إيَّاهُم وإمَّا خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ والجملةُ مبينة لما في عاقبةُ مكرِهم من الإبهامِ أي هي تدميرُنا إيَّاهم {وَقَوْمَهُمْ} الذين لم يكونُوا معُهم في مباشرةِ التبييتِ {أَجْمَعِينَ} بحيثُ لم يشذ منهم شاذو إما تعليل لما ينبئ عنه الأمرُ بالنَّظرِ في كيفيةِ عاقبةِ مكرِهم من غايةِ الهولِ والفظاعةِ بحذفِ الجارِّ أي لأنَّا دمَّرناهم الخ وقيلَ كانَ ناقصةٌ اسمها عاقبة مكرم وخبرها كيفَ كانَ فالأوجُه حينئذٍ أنْ يكونَ قولُه تعالى أنَّا دمَّرناهم الخ تعليلاً لما ذكر وقرئ إنَّا دمَّرناهم الخ بالكسرِ على الاستئنافِ رُوي أنَّه كانَ لصالحٍ عليه السَّلام مسجدٌ في الحجر في شعبٍ يصلِّي فيهِ فقالُوا زعمَ صالحٌ أنَّه يفرغُ منَّا إلى ثلاثٍ فنحنُ نفرغُ منه ومن أهلهِ قبل الثَّلاثِ فخرجُوا إلى الشِّعبِ وقالُوا إذَا جاءَ يُصَلِّي قتلناهُ ثمَّ رجعنَا إلى أهله فقلناهم فبعثَ الله تعالى صخرةً من الهضبِ حيالَهم فبادرُوا فطبقتِ الصَّخرةُ عليهم فم الشِّعبِ فلم يدرِ قومُهم أينَ هُم ولم يدروا ما فُعل بقومِهم وعذَّب الله تعالى كلاً منهم في مكانِه ونجَّى صالحاً ومَن معه وقيلَ جاءُوا بالليلِ شاهرِي سيوفِهم وقد أرسلَ الله تعالى الملائكةَ ملءَ دارِ صالحِ فدمغُوهم بالحجارةِ يرون الحجارةَ ولا يَرون رامياً

52

{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ} جملةً مقرِّرة لما قبلها وقوله تعالى {خَاوِيَةٍ} أي خاليةً أو ساقطةً متهدمةً {بِمَا ظَلَمُواْ} أي بسببِ ظلمِهم المذكورِ حالٌ من بيوتُهم والعاملُ معنى الإشارة وقرئ خاويةٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ لمبتدأٍ محذوفٍ {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذُكر من التَّدميرِ العجيبِ بظلِمهم {لآيَةً} لعبرةً عظيمةً {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي ما مِنْ شأنه أن يُعلم شَيْئاً من الأشياءِ أو لقومٍ يتصفونَ بالعلم

53

{وأنجينا الذين آمنوا} صالحاً ومَن مَعَهُ من المؤمنينَ {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} أي الكفَر والمعاصي اتقاءً مستمراً فلذلك خُصُّوا بالنَّجاةِ

54

{وَلُوطاً} منصوبٌ بمضمرٍ معطوفٍ على أرسلنا

سورة النمل (55 59) في صدرِ قصَّة صالحٍ داخلٌ معه في حيزِ القسمِ أي وأرسلنا لوطاً وقولُه تعالى {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} ظرفٌ للإرسالِ على أنَّ المرادَ به أمرٌ ممتدٌ وقعَ فيه الإرسالُ وما جرَى بينَه وبينَ قومِه من الأقوالِ والأحوالِ وقيل انتصابُ لوطاً بإضمارِ اذكُر وإذْ بدلٌ منه وقيل بالعطفِ على الَّذِينَ آمنُوا أي ونجينا لوطاً وهو بعيدٌ {أَتَأْتُونَ الفاحشة} أي الفعلة المتناهية في القُبح والسَّماجةِ وقولُه تعالى {وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} جملةٌ حاليةٌ من فاعلِ تأتُون مفيدةٌ لتأكيدِ الإنكارِ وتشديدِ التَّوبيخِ فإنَّ تعاطيَ القبيحِ من العِالمِ بقُبحه أقبحُ وأشنعُ وتُبصرون من بصرِ القلبِ أي أتفعلونَها والحالُ أنَّكم تعلمونَ علماً يقينياً بكونِها كذلك وقيل يبصرُها بعضُكم من بعضٍ لما كانُوا يُعلنون بَها

55

{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً} تثنية للغنكار وتكريرٌ للتوبيخِ وبيانٌ لما يأتونَهُ من الفاحشةِ بطريق التصريح وتحلية الجملة بحر في التأكيدِ للإيذانِ بأنَّ مضمونَها مما لا يُصدِّق وقوعَه أحدٌ لكمالِ بُعدِه من العقولِ وإيرادُ المفعولِ بعُنوانِ الرُّجوليةِ لتربيةِ التقبيحِ وتحقيقِ المباينةِ بينها وبين الشهوةِ التي عُلل بها الإتيانُ {مّن دُونِ النساء} متجاوزينَ النساءَ اللاتي هُنَّ محالُّ الشهوةِ {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} تفعلونَ فعلَ الجاهلينَ بقبحِه أو تجهلون العاقبةَ أو الجهلُ بمعنى السَّفاهة والمجُون أي بل أنتُم قوم سفهاء ما جنون والتَّاءُ فيه مع كونِه صفةً لقومٍ لكونِهم في حيِّزِ الخطابِ

56

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ آل لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} يتنزهونَ عن أفعالِنا أو عن الأقذارِ ويعدّون فعلَنا قذراً وعن أن عباس رضي الله تعالى عنُهمَا أنَّه استهزاءٌ وقد مرَّ في سورةِ الأعرافِ أنَّ هذا الجوابَ هو الذي صدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات مواعظ لوط عليه السلام بالأمرِ والنَّهي لا أنَّه لم يصدُرْ عنهم كلامُ آخرُ غيرُه

57

{فأنجيناه وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قدرناها} أي قدرنَا أنَّها {مِنَ الغابرين} أي الباقينَ في العذابِ

58

{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} غيرَ معهودٍ {فَسَاء مَطَرُ المنذرين} قد مرَّ بيانُ كيفيةِ ما جرى عليهم من العذابِ غيرَ مرَّةٍ

59

{قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى} إثرَ ما قصَّ الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قصصَ الأنبياءِ المذكورينَ عليهم الصَّلاة والسَّلام وأخبارَهم الناطقةَ بكمالِ قُدرته تعالى وعظمِ شأنِه وبما خصَّهم به من الآياتِ القاهرةِ والمعجزاتِ الباهرةِ الدالَّةِ على جلالةِ أقدارِهم وصحَّةِ أخبارِهم وبيَّن على ألسنتهم حقِّيةَ الإسلامِ والتَّوحيدِ وبطلانَ الكفرِ والإشراكِ وأنَّ من اقتَدى بهم فقد اهتدَى ومن أعرضَ عنهم فقد تردَّى في مَهاوي الرَّدى وشرح صدَره عليهِ الصَّلاة والسَّلام بمَا في تضاعيف تلك

سورة النمل (60) القصص من فنونِ المعارفِ الرَّبانية ونوَّر قلبَه بأنوارِ الملكاتِ السُّبحانية الفائضةِ من عالمِ القدسِ وقرَّر بذلكَ فحوى ما نطقَ به قولُه عزَّ وجلَّ وَإِنَّكَ لتلقي القرآن من لدن حكيم عَلِيمٍ أمرهَ عليه الصَّلاة والسَّلام بأنْ يحمدَه تعالى على ما أفاضَ عليه من تلك النِّعمِ التي لا مطمعَ وراءَها لطامعٍ ولا مطمحَ من دونِها لطامحٍ ويسلِّم على كافَّةِ الأنبياءِ الذين من جُمْلتهم الذين قصَّت عليه أخبارُهم التي هي من جُملة المعارف التي أوجبت إليه عليه الصلاة والسلام أداء لحق تقمهم واجتهادِهم في الدِّين وقيلَ هو أمرٌ للوطٍ عليه السَّلامُ بأنْ يحمدَه تعالى على إهلاكِ كَفَرة قومِه ويسلِّم على من اصطفَاه بالعصمةِ عن الفواحشِ والنَّجاةِ عن الهلاكِ ولا يخفى بعدُه {الله خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} أي أللَّهُ الذي ذكرت شئونه العظيمةُ خيرٌ أمْ مَا يشركونَه به تعالى من الأصنامِ ومرجعُ الترديدِ إلى التَّعريضِ بتبكيتِ الكفرةِ من جهتِه تعالى وتسفيِه آرائِهم الركيكةِ والتهكمِ بهم إذْ من البيِّن أنْ ليسَ فيما أشركُوه به تعالى شائبةُ خيرٍ ما حتَّى يمكن أنْ يوازنَ بينَهُ وبينَ مَنْ لا خيرَ إلا خيرُه ولا إلَه غيره وقرئ تشركونَ بالتَّاءِ الفوقانيَّةِ بطريقِ تلوينِ الخطابِ وتوجيهِه إلى الكفرةِ وهو الأليقُ بما بعدَهُ من سياقِ النَّظمِ الكريمِ المبنيِّ على خطابِهم وجعلُه من جملةِ القولِ المأمورِ به يأباهُ قولُه تعالى فأنبتْنا الخ فإنَّه صريحٌ في أنَّ التبكيتَ من قبله عزَّ وجلَّ بالذاتِ وحملُه على أنَّه حكايةٌ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما أمر به بعبارته كما في قولِه تعالى قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ تعسفٌ ظاهر من غيرِ داعٍ إليهِ وأمْ في قولِه تعالى

60

{أمْ مَنْ خلقَ السماوات والأرض} منقطعةٌ وما فيها من كلمةِ بَلْ على القراءةِ الأولى للاضرابِ والانتقالِ من التبكيت تعريضاً إلى التَّصريحِ به خطاباً على وجهٍ أظهرَ منه لمزيد التأكيد والتشديدِ وأمَّا على القراءةِ الثَّانية فلتثنية التبكيتِ وتكريرِ الإلزامِ كنظائرِها الآتيةِ والهمزةُ لتقريرِهم أي حملِهم على الإقرارِ بالحقِّ على وجهِ الاضطرارِ فإنَّه لا يتمالك أحدٌ ممن له أدنى تمييزٍ ولا يقدرُ على أنْ لا يعترفَ بخيريةِ مَن خلقَ جميعَ المخلوقاتِ وأفاضَ على كلَ منها ما يليقُ به من منافعِه من أخسِّ تلك المخلوقاتِ وأدناها بل بأن لا خير يرى فيه بوجه ممن الوجوهِ قطعاً ومَن مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ مع أمِ المُعادِلةِ للهمزةِ تعويلاً على ما سبقَ في الاستفهامِ الأولِ خلا أنَّ تُشركون ههنا بتاءِ الخطابِ على القراءتينِ معاً وهكذا في المواضعِ الأربعةِ الآتية والمعنى بلْ أمَّن خلقَ قُطري العالمِ الجسمانيِّ ومبدأي منافع ما بينهما {وَأَنزَلَ لَكُمْ} التفاتٌ إلى خطابِ الكَفَرةِ على القِراءةِ الأُولَى لتشديدِ التبكيتِ والإلزامِ أي أَنزل لأجلكم ومنعتكم {مِنَ السماء مَاء} أي نوعاً منه هو المطرُ {فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ} أي بساتينَ محدقةً ومحاطةً بالحوائطِ {ذَاتَ بَهْجَةٍ} أي ذاتَ حُسنٍ ورَوْنقٍ يبتهجُ به النُّظَّارُ {مَّا كَانَ لَكُمْ} أي ما صح وما أمكنَ لكُم {أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} فضلاً عن ثمرها وسائرِ صفاتِها البديعةِ خيرٌ أم ما تشركون وقرئ أَمَنْ بالتَّخفيفِ على أنَّه بدلٌ من الله وتقديمُ صِلَتى الإنزالِ على مفعولِه لما مر مرارا من التَّشويقِ إلى المؤخَّرِ والالتفاتُ إلى التكلم في

سورة النمل (61) قوله تعالى فَأَنبَتْنَا لتأكيدِ اختصاصِ الفعلِ بذاتِه تعالى والإيذانِ بأنَّ إنباتَ تلك الحدائقِ المختلفةِ الأصنافِ والأوصافِ والألوانِ والطُّعومِ والرَّوائحِ والأشكالِ مع ما لها من الحُسنِ البارعِ والبهاءِ الرَّائعِ بماءٍ واحدٍ ممَّا لا يكادُ يُقدر عليه إلا هو وحده حسبما ينبئ عنه تقييدُها بقولِه تعالى مَّا كَانَ لَكُمْ الخ سواء كانت صفةً لها أو حالاً وتوحيدُ وصفها الأولِ أعني ذاتَ بهجةٍ لما أنَّ المَعنى جماعةُ حدائقَ ذاتُ بهجةٍ على نهجِ قولِهم النِّساءُ ذهبتْ وكذا الحالُ في ضميرِ شجرها {أإله مَّعَ الله} أي أإلهٌ آخرُ كائنٌ مع الله الذي ذُكرَ بعضُ أفعالِه التي لا يكادُ يقدرُ عليها غيرُه حتَّى يتوهَّم جعلَه شريكاً له تعالَى في العبادةِ وهذا تبكيتٌ لهم بنفي الألوهيةِ عمَّا يُشركونه به تعالى في ضمنِ النَّفي الكليِّ على الطريقةِ البُرهانيةِ بعد تبكيتِهم بنفي الخيريةِ عنْهُ بما ذكرَ من التَّرديدِ فإنَّ أحداً ممَّن له تمييزٌ في الجُملةِ كما لا يقدرُ على إنكارِ انتفاءِ الخيريةِ عنه بالمرةِ لا يُكاد يَقدِر على إنكارِ انتفاءِ الألوهيةِ عنه رأساً لا سيَّما بعد ملاحظةِ انتفاءِ أحكامِها عمَّا سواهُ تعالى وهكذا الحالُ في المواقعِ الأربعةِ الآتيةِ وقيل المرادُ نفَي أنْ يكونَ معه تعالى إلهٌ آخرُ فيما ذكر من الخلقِ وما عطفَ عليه لكن لا على أنَّ التبكيتَ بنفس ذلك النفي فقط كيفَ لا وهم لا يُنكرونَه حسبما ينطِق به قولُه تعالى وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ من خَلَقَ السمواتِ والأرضِ لَيَقُولُنَّ الله بل بإشراكِهم به تعالَى في العبادةِ ما يعترفون بعدمِ مشاركتِه له تعالى فيما ذكرَ من لوازمِ الألوهيَّةِ كأنَّه قيلَ أإلهٌ آخرُ مع الله في خواصِّ الأُلوهيةِ حتى يجعل شريكا له تعالى في العبادةِ وقيل المعنى أغيرُه يُقرن به ويجعلُ له شريكاً في البعادة مع تفرد تعالى بالخلقِ والتَّكوينِ فالإنكارُ للتوبيخِ والتبكيتِ مع تحقيقِ المنكرِ دون النفي كما في الوجهينِ السابقينِ والأولُ هو الأظهرُ الموافقُ لقولِه تعالَى وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله والأوفى بحقِّ المقامِ لإفادتِه نفي وجودِ إلهٍ آخرَ معه تعالى رأساً لا نفيَ معيَّته في الخلقِ وفروعِه فقط وقرئ آإلهٌ بتوسيطِ مدةٍ بينَ الهمزتينِ وبإخراجِ الثَّانيةِ بينَ بين وقرئ أإلها بإضمار فعلٍ يناسبُ المقامَ مثل أندعون أو أتشركونَ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} إضرابٌ وانتقالٌ من تبكيتِهم بطريقِ الخطابِ إلى بيانِ سوءٍ حالِهم وحكايتِه لغيرِهم أي بل هُم قومٌ عادتُهم العُدولُ عن طريقِ الحقِّ بالكليةِ والانحراف عن الساتقامة في كلِّ أمرٍ من الأمورِ فلذلك يفعلونَ ما يفعلونَ من العُدول عن الحقِّ الواضحِ الذي هو التَّوحيدُ والعُكوفُ على الباطلِ البيِّن الذي هو الإشراكُ وقيل يعدلونَ به تعالَى غيرَهُ وهو بعيدٌ خالٍ عن الإفادةِ

61

{أَم مَّنْ جَعَلَ الأرض قَرَاراً} قيلَ هو بدلٌ من أمْ مَنْ خلقَ السمواتِ الخ وكذا ما بعدَه من الجُملِ الثَّلاثِ وحكم الكلِّ واحدٌ والأظهرُ أنَّ كلَّ واحدةٍ منها إضرابٌ وانتقالٌ من التبكيتِ بما قبلها إلى التبكيتِ بوجهٍ آخرَ أدخلُ في الإلزامِ بجهةٍ من الجهاتِ أي جعلها بحيث يستقر عليها الإنسان والدواب بإيذاء بعضها من الماء ودحوها وتسويتِها حسبما تدورُ عليه منافعهُم {وَجَعَلَ خِلاَلَهَا} أوساطَها {أَنْهَاراً} جاريةً ينتفعونَ بها

سورة النمل (62 63) {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ} أي جبالاً ثوابتَ تمنعها أنْ تميدَ بأهلها ويتكونُ فيها المعادنُ وينبعُ في حضيضِها الينابيعُ ويتعلقُ بها من المصالح مالا يُحصى {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين} أي العذب والمالحِ أو خليجيْ فارسَ والرومِ {حَاجِزاً} برزخاً مانعاً من الممازجةِ وقد مرَّ في سورةِ الفرقانِ والجعلُ في المواقعِ الثلاثةِ الأخيرةِ إبداعيٌّ وتأخيرُ مفعولِه عن الظرفِ لما مرَّ مرارا من التشويق {أإله مَّعَ الله} في الوجودِ أو في إبداعِ هذه البدائعِ على ما مرَّ {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي شيئاً من الأشياءِ ولذلك لا يفهمونَ بطلانَ ما هم عليه من الشركِ مع كمالِ ظهورِه

62

{أَم مَّنْ يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} وهو الذي أحوجتْه شدةٌ من الشَّدائدِ وألجأته إلى اللجَأِ والضَّراعةِ إلى الله عزَّ وجلَّ اسم مفعولٍ من الاضطرارِ الذي هو افتعالٌ من الضِّرورةِ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هو المجهودُ وعن السدى رحمه الله تعالى مَن لا حولَ له ولا قوةَ وقيل المذنبُ إذا استغفرَ واللامُ للجِنسِ لا للاستغراقِ حتَّى يلزمَ إجابة كلِّ مضطرٍ {وَيَكْشِفُ السوء} وهُو الذي يعترِي الإنسانَ مما يسوؤُه {ويجعلكم خلفاء الأرض} أي خلفاءَ فيها بأنْ ورَّثكم سُكناها والتَّصرفَ فيها ممَّن قبلكم من الأممِ وقيل المرادُ بالخلافةِ الملك والتسلط {أإله مَّعَ الله} الذي يُفيض على كافةِ الأنامِ هذه النعمَ الجسامَ {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} أي تذكرا قليال أو زماناً قليلاً تتذكرونَ وما مزيدةٌ لتأكيدِ معنى القلَّةِ التي أريدَ بها العدمُ أو ما يجري مجراه في الحقارةِ وعدمِ الجدوى وفي تذييل الكلامِ بنفي التذكرِ عنهم إيذانٌ بأنَّ مضمونَهُ مركوزٌ في ذهنِ كلِّ ذكيَ وغبيَ وأنَّه من الوضوحِ بيحث لا يتوقفُ إلا على التوجه إليه وتذكره وقرئ تتذكرونَ على الأصلِ وتذّكرون ويذكرون بالتاءِ والياءِ مع الإدغامِ

63

{أَم مَّنْ يَهْدِيكُمْ فِى ظلمات البر والبحر} أي في ظلماتِ الليالي فيهما على أنَّ الإضافةَ للملابسةِ أو في مشتَبِهات الطرقِ يقالُ طريقةٌ ظلماءُ وعمياءُ للتي لا منارَ بها {وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} وهي المطرُ ولئن صحَّ أن السببَ الأكثريَّ في تكونِ الريحِ معاودةُ الأدخنةِ الصاعدةِ من الطبقةِ الباردةِ لانكسارِ حرِّها وتمويجِها للهواءِ فلا ريبَ في أنَّ الأسبابَ الفاعليةَ والقابليةَ لذلك كلِّه من خلقِ الله عزَّ وجلَّ والفاعلُ للسببِ فاعلٌ للمسبب قطعا {أإله مَّعَ الله} نفيٌ لأنْ يكونَ معه إلهٌ آخرُ وقولُه تعالى {تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} تقريرٌ وتحقيقٌ له وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ للإشعارِ بعلةِ الحُكمِ أي تعالَى وتنزه بذاتِه المنفردةِ بالألُوهيةِ المستتبعةِ لجميعِ صفات الكمال ونعوت الجمال والجلالِ المقتضيةِ لكونِ كلِّ المخلوقاتِ مقهُوراً تحتَ قُدرتِه عمَّا يُشركون أيْ عنْ وجودِ ما يُشركونَه به تعالَى لا مُطلقاً فإنَّ وجودَه مما لا مردَّ له بل عن

سورة النمل (64 66) وجودِه بعُنوانِ كونِه إلهاً وشريكاً له تعالَى أو عن إشراكِهِم

64

{أَم مَّنْ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي بلْ أمن يبدأُ الخلقَ ثمَّ يعيده بعد الموت بالبعث {وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض} أي بأسبابٍ سماويةٍ وأرضيةٍ قد رتبَّها على ترتيبٍ بديعٍ تقتضيهِ الحكمةُ التي عليها بُني أمرُ التكوينِ خيرٌ أمْ ما تشركونَه به في العبادةِ من جمادٍ لا يتوهم قدرتُه على شيءٍ ما أصلاً {أإله} آخرُ موجودٌ {مَعَ الله} حتى يجعل شريكا له في العبادةِ وقولُه تعالَى {قُلْ هَاتُواْ برهانكم} أمرٌ له عليه الصلاة والسلام بتبكيتِهم إثرَ تبكيتٍ أي هاتُوا بُرهاناً عقلياً أو نقلياً يدلُّ على أنَّ معه تعالى إلهاً لا على أنَّ غيرَه تعالى يقدُر على شيءٍ ممَّا ذُكر من أفعالِه تعالى كما قيلَ فإنَّهم لا يدعونَهُ صريحاً ولا يلتزمونَ كونَه من لوازمِ الألوهيةِ وإن كان منها في الحقيقةِ فمطالبتُهم بالبرهانِ عليه لا على صريحِ دعواهم مما لا وجهَ لَهُ وفي إضافةِ البرُهان إلى ضميرهم تهكمٌ بهم لما فيَها من إيهامٍ أنَّ لهم برهاناً وأنَّى لهُم ذلكَ {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في تلك الدَّعوى

65

{قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن في السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} بعدما حقق تفرده تعالى بالأُلوهيةِ ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة التامة والرحمة الشاملة العامة عقبه بذكر ما هو من لوازمه وهو اختصاصِه بعلمِ الغيبِ تكميلاً لما قبله وتمهيداً لما بعدَه من أمرِ البعثِ والاستثناءُ منقطعٌ ورفعُ المستثنى على اللُّغةِ التميمية للدِّلالةِ على استحالةِ علمِ الغيبِ من أهلِ السَّمواتِ والأرضِ بتعليقِه بكونِه سُبحانه وتعالَى منُهم كأنَّه قيلَ إنْ كانَ الله تعالَى ممن فيهما ففيهم مَن يعلمُ الغيبَ أو متصلٌ على أنَّ المرادَ بِمَنْ فِى السَّمواتِ والأَرضِ مَن تعلقَ علمُه بهما واطَّلع عليهما اطِّلاعَ الحاضرِ فيهما فإنَّ ذلكَ معنى مجازيٌّ عامٌّ له تعالَى ولأوُلي العلمِ من خلقِه ومَن موصولةٌ أو موصوفةٌ {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي مَتَى يُنشرون من القبورِ معَ كونِه ممَّا لا بُدَّ لهم منْهُ ومن أهم الأُمورِ عندهم وأيَّان مركبةٌ من أي وآن وقرئ بكسرِ الهمزةِ والضَّميرُ للكفرةِ وإنْ كانَ عدمُ الشُّعورِ بما ذُكر عامَّاً لئلاَّ يلزمَ التفكيكُ بينَه وبينَ ما سيأتي من الضَّمائِر الخاصَّةِ بهم قطعاً وقيلَ الكل لمن وإساد خواصِّ الكفرةِ إلى الجميعِ من قبيلِ قولِهم بنُو فُلانٍ فعلُوا كَذَا والفاعلُ بعض منهم

66

{بل ادَّارك علمُهم في الآخرةِ} لمَّا نفَى عنهم علمَ الغيبِ وأكَّد ذلكَ بنفِي شعورِهم بوقت ما هو مصيرُهم لا محالةَ بُولغَ في تأكيدِه وتقريرِه بأنْ أضربَ عنْهُ وبيَّن أنَّهم في جهلٍ أفحشَ من جهلهِم بوقت بعثِهم حيثُ لا يعلمونَ أحوالَ الآخرةِ مُطلقاً معَ تعاضدِ أسبابِ معرفِتها على أنَّ معنى ادَّارك علمُهم في الآخرةِ تداركَ وتتابعَ علمُهم في شأنِ الآخرةِ التي ما ذُكر من البعثِ حالٌ مِن أحوالِها حتَّى انقطعَ ولم يبقَ لهم علمٌ بسيء ممَّا سيكونُ فيها قطعاً لكنْ لا على مَعْنى أنه

سورة النمل (67) كانَ لهم علمٌ بذلكَ على الحقيقةِ ثمَّ انتفَى شيئاً فشيئاً بلْ على طريقةِ المجازِ بتنزيلِ أسبابِ العلمِ ومباديِه من الدَّلائلِ العقليةِ والسَّمعيةِ منزلةَ نفسِه وإجراءِ تساقطِها عن درجةِ اعتبارِهم كلَّما لاحظُوها مُجرى تتابعِها إلى الانقطاعِ ثمَّ أضربَ وانتقلَ عن بيانِ عدمِ علمِهم بها إلى بيانِ ما هُو أَسوأُ منه وهو حيرتُهم في ذلكَ حيثُ قيلَ {بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا} أي في شكَ مُريبٍ من نفسِ الآخرةِ وتحققها كَمن تحيَّر في أمرٍ لا يجدُ عليه دليلاً فضلاً عن الأمورِ التي ستقعُ فيها ثمَّ أضربَ عن ذلكَ إلى بيانِ أنَّ ما هُم فيه أشدُّ وأفظعُ من الشكِّ حيث قيل {بل هم مّنْهَا عَمُونَ} بحيثُ لا يكادونَ يُدركون دلائلَها لاختلالِ بصائرهم بالكلية وقرئ بل أدّرك علمُهم بمعنى انتهى وفَنِيَ وقد فسَّره الحسن البصري اضمحل علمهم وقيل كلنا الصيغتين على معناها الظاهرِ أي تكاملَ واستحكَم أو تمَّ أسبابُ علمِهم بأن القيامة كائنةٌ لا محالةَ من الآيات القاطعةِ والحُججِ السَّاطعةِ وتمكَّنُوا من المعرفِة فضلَ تمكنٍ وهم جاهلُون في ذلكَ وقولُه تعالَى بَلْ هُمْ فِى شَكّ مّنْهَا إضرابٌ وانتقالٌ من وصفهم بمطلقِ الجهلِ إلى وصفِهم بالشكِّ وقولُه تعالَى بَلْ هُمْ مهاعمون إضرابٌ من وصفِهم بالشكِّ إلى وصفِهم بَما هُو أشدُّ منْهُ وأفظعُ من العَمَى وأنتَ خبيرٌ بأنَّ تنزيلَ أسبابِ العلمِ منزلةَ العلمِ سَننٌ مسلوكٌ لكنْ دلالةُ النَّظمِ الكريمِ على جهلِهم حينئذٍ ليستْ بواضحةٍ وقيلَ المرادُ بوصفِهم باستحكامِ العلمِ وتكاملِه التَّهكمُ بهم فيكونَ وصفاً لهُم بالجهل مُبالَغةً والإضرابانِ على ما ذُكر وأصلُ ادَّاركَ تَدَارك وبه قرأَ أُبَيٌّ فأُبدلتِ التَّاءُ دالاً وسُكِّنتْ فتعذَّرَ الابتداءُ فاجتُلِبتْ همزةُ الوصلِ فصار ادارك وقرئ بلِ ادَّرك وأصلُه افتعلَ وبلْ أَأَدَّرك بهمزتينِ وبلْ آأدْرَك بألفٍ بينَهما وبلْ أدرك بالتَّخفيفِ والنَّقلِ وبَلَ ادَّرك بفتحِ اللامِ وتشديدِ الدَّالِ وأصلُه بلْ أدّركَ على الاستفهامِ وبَلَى ادّركَ وبَلَى أَأَدْرك وأمْ تَدَارك وأمِ ادَّرك فهذهِ ثِنْتا عشرةَ قراءةً فما فيهِ استفهامٌ صريحٌ أو مضمَّنٌ من ذلكَ فهُو إنكارٌ ونفيٌ وما فيهِ بَلَى فإثباتٌ لشعورِهم وتفسيرٌ له بالإدراكِ على وجهِ التَّهكمِ الذي هو أبلغُ وجوهِ النَّفي والإنْكارِ وما بعدَهُ إضرابٌ عن التَّفسيرِ مبالغةً في النَّفي ودلالةً على أنَّ شعورَهم بها أنَّهم شاكُّون فيها بلْ إنَّهم منها عمون أورد إنكار لشعورِهم

67

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} بيانٌ لجهلِهم بالآخرةِ وعَمَهِهم منها بحكايةِ إنكارِهم للبعثِ ووضعُ الموصول موضع ضميرهم لذمِّهم بما في حيزِ صلته والإشعارِ بعلَّة حكمِهم الباطلِ في قولهم {أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لَمُخْرَجُونَ} أي أنخرجُ من القبورِ إذا كنَّا تُراباً كما ينبئ عنه مخرجونَ ولا مَساغَ لأنْ يكونَ هو العاملَ في إذَا لاجتماعِ موانعَ لو تفرَّدَ واحدٌ منها لكَفَى في المنعِ وتقييدُ الإخراجِ بوقتِ كونِهم تُراباً ليس لتخصيصِ الإنكارِ بالإخراجِ حينئذٍ فقط فإنَّهم منكرِون للإحياءِ بعدَ الموتِ مُطلقاً وإنْ كانَ البدنُ على حالِه بل لتقويةِ الإنكارِ بتوجيههِ إلى الإخراجِ في حالةٍ منافيةٍ له وقولُه تعالَى وآباؤُنا عطفٌ على اسمِ كانَ وقامَ الفصلُ مع الخبرِ مقامَ الفصلِ بالتأكيدِ وتكريرُ الهمزةِ في أثنا للمبالغةِ والتَّشديدِ في الإنكارِ وتحليةُ الجُملةِ بأنَّ واللامِ لتأكيدِ الإنكارِ لا لإنكارِ التاكيد كما يوهمه ظاهرِ النظمِ فإنَّ تقديمَ الهمزةِ لاقتضائِها الصدارةَ كما في قولِه تعالى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ونظائرِه عَلَى رَأي الجُمهورِ فإن المعنى عندهم تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التعقيبِ كما هو المشهور

سورة النمل (68 73) وقرئ إذَا كنَّا بهمزةٍ واحدةٍ مكسورة وقرئ إنَّا لمخرجُون على الخبرِ

68

{لَقَدْ وُعِدْنَا هذا} أي الإخراج {نحن وآباؤنا مِن قَبْلُ} أي من قبلِ وعدِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وتقديمُ الموعودِ على نحنُ لأنَّه المقصودُ بالذكرِ وحيثُ أُخّرَ قُصد به المبعوثَ والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتقريرِ الإنكارِ وتصديرُها بالقسمِ لمزيدِ التأكيدِ وقولُه تعالى {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين} تقريرُ إثرَ تقريرٍ

69

{قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين} بسببِ تكذيبِهم للرُّسلِ عليهمْ الصَّلاةُ والسَّلامُ فيما دَعَوهم إِلَيْهِ منَ الإيمانِ بالله عزَّ وجلَّ وحَدهُ وباليومِ الآخرِ الذي تُنكرونَهُ فإنَّ في مشاهدةِ عاقبتِهم ما فيهِ كفايةٌ لأُولي الأبصارِ وفي التعبيرِ عن المُكذبينَ بالمجرمينَ لُطفٌ بالمؤمنينَ في تَرْكِ الجرائم

70

{وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} لإصرارِهم على الكُفْرِ والتَّكذيبِ {وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ} في حَرَجِ صدرٍ {مّمَّا يَمْكُرُونَ} من مكرِهم فإنَّ الله تعالى يعصمك من لاناس وقرئ بكسرِ الضَّادِ وهُو أيضاً مصدر ويجوزأن يكونَ المفتوحُ مخفَّفاً من ضيق وقد قرئ كذلكَ أي لا تكُن في أمرٍ ضيِّقٍ

71

{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} أي العذابُ العاجلُ الموعودُ {إِن كُنتُمْ صادقين} في إخبارِكم بإتيانِه والجمعُ باعتبارِ شركة المؤنين في الإخبارِ بذلَك

72

{قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} أي تبعكُم ولحقكُم والَّلامُ مزيدةٌ للتأكيدِ كالباءِ في قولهِ تعالى وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة أو الفعلُ مضمَّنٌ معنى فعلٍ يُعدَّى باللَّامِ وقرئ بفتحِ الدَّالِ وهي لغةٌ فيه {بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ} وهو عذابُ يومِ بدرٍ وعسَى ولعلَّ وسوف في مواعيد الملوك بمنزلة الجزم بها وإنما يطلقونها إظهار اللوقار وإسعارا بأنَّ الرَّمزَ من أمثالِهم كالتَّصريحِ ممَّن عداهُم وعلى ذلك مَجرى وعدِ الله تعالى ووعيدهِ وإيثارُ مَا عليهِ النَّظمُ الكريمُ عَلى أنْ يُقالَ عَسى أنْ يردفَكم الخ لكونِه أدلَّ على تحققِ الوعدِ

73

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} أي لذُو إفضالٍ وإنعامٍ على كافَّة النَّاسِ ومن جُملةِ إنعاماتِه تأخيرُ عقوبةِ هؤلاءِ على ما يرتكبونَهُ من المَعَاصي التي من جُملتِها استعجالُ العذابِ {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} لا يعرفون حقَّ النعمةِ فيه فلا يشكرونَهُ بل يستعجلونَ بجهلِهم وقوعَهُ كدأب هؤلاء

سورة النمل (74 80)

74

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} أي ما تخفيه وقرئ بفتحِ التَّاءِ من كننتُ الشيءَ إذا سترتُه {وَمَا يُعْلِنُونَ} من الأفعالِ والأقوالِ التي من جملتها ما حُكي عنهم من استعجالِ العذابِ وفيه إيذانٌ بأنَّ لهم قبائحَ غيرَ ما يُظهرونَهُ وأنَّه تعالَى يُجازيهم على الكلِّ وتقديمُ السرِّ على العَلَن قد مرَّ سرُّه في سُورةِ البقرةِ عند قوله تعالى أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ

75

{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السماء والأرض} أي من خافيةٍ فيهما وهُما من الصِّفاتِ الغالبةِ والتَّاءُ للمبالغة كَما في الرِّوايةِ أو اسمانِ لما يغيبُ ويَخْفى والتَّاءُ للنقلِ إلى الاسميَّةِ {إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ} أيْ بيِّنٍ أو مُبينٍ لما فيهِ لَمنْ يُطالعه وهو اللَّوحُ المحفوظُ وقيلَ هُو القضاءُ العدلُ بطريقِ الاستعارة

76

{إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} منْ جُملتِه ما اختلفُوا في شأنِ المسيحِ وتخزبوا فيهِ أحزاباً وركبُوا متنَ العُتوِّ والغُلوِّ في الإفراطِ والتَّفريطِ والتَّشبيهِ والتَّنزيهِ ووقعَ بينُهم التَّناكُدُ في أشياءَ حتَّى بلغَ المُشاقَّة إلى حيثُ لعنَ بعضُهم بعضاً وقد نزلَ القرآنُ الكريمُ ببيانِ كُنْهِ الأمرِ لو كانُوا في حيِّز الإنصافِ

77

{وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤمِنِينَ} على الإطلاقِ فيدخلُ فيهم مَن آمنَ مِن بني إسرائيلَ دُخولاً أَوَّلِياً

78

{إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ} أي بينَ بني إسرائيلَ {بِحُكْمِهِ} بما يحكمُ بهِ وهو الحقُّ أو بحكمتِه ويؤيده أنه قرئ بحُكمه {وَهُوَ العزيز} فلا يردُّ حكمُه وقضاؤُه {العليم} بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جُملتها ما يقضى بهِ والفاءُ في قوله تعالى

79

{فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} لترتيبِ الأمرِ على ما ذكر من شئونه عزَّ وجلَّ فإنَّها موجبةٌ للتوكلِ عليهِ وداعيةٌ إلى الأمرِ بهِ أي فتوكَّل عَلى الله الذي هَذا شأنُه فإنَّه موجبٌ على كلِّ أحدٍ أنْ يتوكلَ عليهِ ويفوض جميعَ أمورِه إليهِ وقولُه تعالى {إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} تعليلٌ صريحٌ للتَّوكلِ عليه تعالَى بكونه عليه الصلاة والسلام على الحقِّ البيِّنِ أو الفاصلِ بينَهُ وبينَ الباطلِ أو بين المحق والمبطل فإنَّ كونَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كذلكَ ممَّا يُوجبُ الوثوقَ بحفظِه تعالى ونُصرتِه وتأييدِه لا محالةَ وقولُه تعالَى

80

{إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى}

الخ تعليلٌ آخرُ للتَّوكلِ الذي هو عبارة عن التبتُل إلى الله تعالَى وتفويضِ الأمرِ إليهِ والإعراضِ عن التشبث بما سواه وقد عُلِّل أولاً بما يُوجبه من جهتِه تعالى أعني قضاءَهُ بالحقِّ وعزَّتِه وعلمهِ تعالى وثانياً بما يُوجبه من جهتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على أحدِ الوجهينِ أعنِي كونَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على الحقِّ ومن جهتِه تعالى على الوجهِ الآخرِ أعني إعانتَه تعالى وتأييده للمحق ثم عُلِّل ثالثاً بما يُوجبه لكنْ لا بالذَّاتِ بل بواسطةِ إيجابِه للإعراضِ عن التشبث بما سواه تعالى فإنَّ كونَهم كالمَوتى والصُمِّ والعُمْي موجبٌ لقطعِ الطمعِ عن مشايعتِهم ومعاضدتِهم رأساً وداعٍ إلى تخصيصِ الاعتضادِ به تعالى وهو المعنى بالتَّوكل عليه تعالى وإنَّما شُبِّهوا بالموتى لعدمِ تأثرِهم بما يُتلى عليهم من القوارعِ وإطلاقُ الإِسماعِ عن المفعولِ لبيانِ عدمِ سماعهم لشيءٍ من المسموعاتِ ولعل المراد تشببه قلوبِهم بالمَوتى فيما ذُكر من عدمِ الشُّعور فإنَّ القلبَ مَشعرٌ من المشاعرِ أشُير إلى بطلانِه بالمرةِ ثم بُيِّن بطلانُ مشعري الأذنِ والعينِ كما في قولِه تعالى لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ يبصرون بها وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا وإلا فبعد تشبيهِ أنفسِهم بالمَوتى لا يظهر لتشبيهِهم بالصُّمِّ والعمى مزيد مزية {وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء} أي الدَّعوةَ إلى أمرٍ من الأمُور وتقييدُ النفيِّ بقولِه تعالى {إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} لتكميلِ التشبيهِ وتأكيدِ النفيِّ فإنَّهم مع صَمَمِهم عن الدُّعاء إلى الحقِّ معُرضونَ عن الدَّاعي مولُّون على أدبارِهم ولا ريبَ في أنَّ الأصمَّ لا يسمعُ الدُّعاءَ مع كونِ الدَّاعِي بمقابلةِ صُماخه قريباً منه فكيفَ إذا كانَ خلفَهُ بعيدا منه وقرئ ولا يسمع الصم الدعاء

81

{وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم} هدايةً موصِّلةً إلى المطلوبِ كما في قولِه تعالى إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ فإنَّ الاهتداءَ منوطٌ بالبصرِ وعن متعلِّقِةٍ بالهدايةِ باعتبارِ تضمنِه معنى الصَّرفِ وقيل بالعمى يقال عمى عن كذا وفيهِ بعدٌ وإيرادُ الجملةِ الاسميةِ للمُبالغةِ في نفي الهداية وقرئ وما أنت تَهدي العُميَ {إِن تُسْمِعُ} أي ما تُسمع سماعاً يُجدي السامعَ نفعاً {إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بآياتنا} أي مِن شأنِهم الإيمانُ بها وإيرادُ الإسماعِ في النفيِّ والإثباتِ دونَ الهدايةِ مع قُربها بأنْ يقالَ إنْ تُهدي إلا مَن يُؤمن الخ لِما أنَّ طريقَ الهدايةِ هو إسماعُ الآياتِ التنزيليَّةِ {فَهُم مُّسْلِمُونَ} تعليلٌ لإيمانِهم بَها كأنَّه قيلَ فإنَّهم مُنقادونَ للحقَّ وقيلَ مُخلصون لله تعالى من قولِه تعالى بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ

82

{وَإِذْا وَقَعَ القول عَلَيْهِم} بيانٌ لما أُشير إليه بقولِه تعالى بَعْضُ الذى تَسْتَعْجِلُونَ من بقيةِ ما يستعجلونَهُ من السَّاعةِ ومباديها والمُرادُ بالقولِ ما نطقَ من الآيات الكريمة بمجئ السَّاعةِ وما فيها مِنْ فُنونِ الأَهوالِ التي كانُوا يستعجلُونها وبوقوعِه قيامُها وحصولُها عبَّر عن ذلكَ به للإيذان بشدَّةِ وقعِها وتأثيرِها وإسنادُه إلى القولِ لِما أنَّ المرادُ بيانُ وقوعِها منْ حيثُ إنَّها مصداقٌ للقولِ النَّاطقِ بمجيئها وقد أُريدَ بالوقوعِ دُنوُّه واقترابُه كما في قوله تعالى أتى أَمْرُ الله أي إذا دَنَا وقوعُ مدلولِ القولِ

المذكورِ الذي لا يكادُون يسمعونَهُ ومصداقُه {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ الأرض} وهي الجسَّاسةُ وفي التَّعبيرِ عنها باسمِ الجنسِ وتأكيدُ إبهامِه بالتَّنوينِ التفخيميِّ من الدِّلالةِ على غَرَابةِ شأنِها وخروجِ أوصافِها عن طور البيانُ ما لا يخفى وقد وردَ في الحديثِ أنَّ طولها ستُّون ذراعاً لا يدركها طالبٌ ولا يفوتها هارب وروي أن لها أربع قوائم ولها زغب وريشٌ وجناحانِ وعن ابن جُريجٍ في وصفِها رأسُ صور وعين خنزير وأذن قيل وقرنُ أيلُ وعنقُ نعامةٍ وصدرُ أسدٍ ولونُ نمرٍ وخاصرةُ هرةٍ وذَنَبُ كبشِ وخُفُّ بعيرٍ وما بين المفصلينِ اثنا عشرَ ذراعاً بذراعِ آدمَ عليهِ السَّلامُ وقال وهبٌ وجهُها وجه الرَّجلِ وباقي خَلقِها خَلْقُ الطَّيرِ ورُوي عن عليَ رضيَ الله عنه أنَّه قال ليس بدابةٍ لها ذنبٌ ولكنْ لها لحيةٌ كأنه يشير إلى أنه رجلٌ والمشهورُ أنَّها دابَّةٌ وروي لا تخرجُ إلا رأسُها ورأسُها يبلغُ عنانَ السَّماءِ أو يبلغُ السَّحابَ وعن أبي هريرةَ رضيَ الله تعالى عنه فيها كلُّ لونٍ ما بينَ قَرنيها فرسخٌ للرَّاكبِ وعن الحسنِ رضيَ الله عنه لا يتمُّ خروجُها إلا بعدَ ثلاثةِ أيَّام وعنْ علي رضي الله عنه أنَّها تخرجُ ثلاثَة أيَّامٍ والنَّاسُ ينظرونَ فلا يخرجُ كلَّ يومٍ إلا ثلثُها وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه سُئل من أين تخرجُ الدَّابةُ فقال من أعظمِ المساجدِ حرمةً على الله تعالى يعني المسجدَ الحرامَ ورُوي أنَّها تخرجُ ثلاثَ خرجاتٍ تخرجُ بأقصى اليمن ثم تتكمن ثم تخرجُ بالباديةِ ثم تتكمن دهراً طويلاً فبينا النَّاسُ في أعظمِ المساجدِ حرمةً على الله تعالى وأكرمِها فما يهولُهم إلا خروجُها من بينِ الركنِ حذاءً دار بني مخزومِ عن يمين الخارجِ من المسجد فقومٌ يهربون وقومٌ يقفون نظارةً وقيل تخرجُ من الصفاو روى نبينا عيسى عليه السَّلامُ يطوفُ بالبيتِ ومعه المُسلمون إذْ تضطربُ الأرضُ تحتهم تحرُّكَ القنديلِ وينشقُّ الصَّفا مَّما يلِي المَسْعى فتخرجُ الدَّابةُ من الصَّفا ومعها عصا مُوسى وخاتمُ سليمانَ عليهما السَّلام فتضربُ المؤمنَ في مسجدِه بالعصَا فتنكتُ نُكتةً بيضاء فتفشو حتى يضء لها وجهُه وتكتبُ بين عينيهِ مؤمنٌ وتنكتُ الكافرَ بالخاتمِ في أنفهِ فتفشُو النكتةُ حتَّى يسودَّ لها وجهُه وتكتبُ بين عينيهِ كافرٌ ثم تقولُ لهم أنتَ يا فلانُ من أهل الجنَّة وأنتَ يا فلانُ من أهل الجنَّة وانتلا يا فلان من أهل النَّارِ ورُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قرع الصفا بعصاء وهو مُحرمٌ وقال إنَّ الدَّابةَ لتسمعُ قرعَ عصايَ هذه ورَوَى أبُو هريرةَ عن النبي صلى اله عليه وسلم أنَّه قال بئسَ الشّعبُ شِعبُ أجيادٍ مرتينِ أو ثلاثاً قيلَ ولم ذاكَ يا رسولَ الله قالَ تخرجُ منه الدَّابةُ فتصرخُ ثلاثَ صرخاتٍ يسمعُها مَن بين الخافقينِ فتتكلمُ بالعربيةِ بلسانٍ ذلقٍ وذلك قولُه تعالى {تُكَلّمُهُمْ أَنَّ الناس كانوا بآياتنا لاَ يُوقِنُونَ} أي تُكلمهم بأنَّهم كانُوا لا يُوقنون بأياتِ الله تعالى النَّاطقةِ بمجئ السَّاعة ومباديها أو بجميع آياته التي من جملتها تلك الآياتُ وقيل بآياته التي من جُملتها خروجُها بينَ يدي السَّاعةِ والأولُ هو الحقُّ كما سُتحيط به علما وقرئ بأنَّ النَّاس الآيةَ وإضافةُ الآياتِ إلى نُونِ العظمةِ لأنَّها حكايةٌ منه تعالى لمعنى قولِها لا لعينِ عبارتِها وقيل لأنَّها حكايةٌ منها لقولِ الله عزَّ وجَلَّ وقيل لاختصاصِها به تعالى وأثرتِها عنده كما يقولُ بعضُ خواصِّ الملكِ خيلُنا وبلادُنا وإنَّما الخيلُ والبلادُ لمولاهُ وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ أي بآياتِ ربِّنا ووصفُهم بعدمِ الإيقانِ بها معَ أنَّهم كانُوا جاحدينَ بها للإيذانِ بأنَّه كانَ من حقِّهم أنْ يُوقنوا بها ويقطعُوا بصحتها وقد اتصفوا بنقيضه وقرئ إنَّ النَّاس بالكسرِ على إضمارِ القولِ أو إجراءِ الكلامِ مَجراهُ والكلامُ في الإضافةِ كالذي سبقَ وقيل هو استئنافٌ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى لتعليلِ إخراجِها أو تكليمِها ويردُّه الجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل

سورة النمل (83 95) فإنَّه صريحٌ في كونِه حكايةً لعدمِ إيقانِهم السابقِ في الدُّنيا والمرادُ بالنَّاسِ إمَّا الكَفَرةُ على الإطلاقِ أو مُشركو مكَّةَ وقد رُوي عن وهْبٍ أنَّها تخبرُ كل مَن تراهُ أنَّ أهلَ مكَّةَ كانُوا بمحمدٍ والقرآنِ لا يوُقنون وقرئ تُكلِّمهم مِن الكَلْمِ الذي هو الجُرْحُ والمُرادُ به ما نُقلِ من الوسمِ بالعَصَا والخاتمِ وقد جُوِّزَ كونُ القراءةِ المشهورةِ أيضاً منه لمعنى التَّكثيرِ ولا يخفى بعدُه

83

{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلّ أُمَّةٍ فَوْجاً} بيانٌ إجماليٌّ لحال المُكذِّبينَ عند قيامِ السَّاعةِ بعد بيانِ بعضِ مَبَاديها ويومَ منصوبٌ بمضمرٍ خوطبَ به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم والمرادُ بهذا الحشرِ هو الحشرُ للعذابِ بعدَ الحشرِ الكُليِّ الشَّاملِ لكافَّةِ الخَلْق وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيانُ سرِّه مراراً أي واذكرُ لهم وقتَ حشرنا أي جمعِنا مِن كُلّ أمَّةٍ من أممِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام أو من أهلِ كلِّ قَرن من القُرون جماعةً كثيرةً فمن تبعيضيةٌ لأنَّ كلَّ أمةٍ منقسمةٌ إلى مصدَّقٍ ومكذِّبٍ وقولُه تعالى {مّمَّن يكذب بآياتنا} بيانُ للفوجِ أي فوجاً مكذبين بها {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يحبس أولهم على أخرِهم حتىَّ يتلاحقُوا ويجتمعُوا في موقف التوبيخ والمنافشة وفيه من الدلالة على كثرةِ عددِهم وتباعُدِ أطرافِهم ما لاَ يخفي وعن ابن عباس رضي الله عنهما أبوُ جهلٍ والوليدِ بن المُغيرة وشَيُبةُ بنُ ربيعةَ يُساقون بين يَدَي أهلِ مكَّةَ وهكذا يُحشر قادةُ سائرِ الأُمم بينَ أيديهم إلى النَّارِ

84

{حتى إذا جاؤوا} إلى موقفِ السُّؤالِ والجَوَاب والمُناقشةِ والحسابِ {قَالَ} أي الله عزَّ وجلَّ موبَّخاً لهم على التَّكذيبِ والالتفاتِ لتربية المهابة {أكذبتم بآياتي} النَّاطقةِ بلقاءِ يومِكم هذا وقولُه تعالى {وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً} جملةٌ حاليَّةٌ مفيدةٌ لزيادةِ شَنَاعة التَّكذيبِ وغايةِ قُبْحهِ ومؤكدةٌ للإنكارِ والتَّوبيخِ أي أكذَّبتُم بها بادئ الرَّأي غيرَ ناظرينَ فيها نظراً يُؤدِّي إلى العلمِ بكُنهِها وأنَّها حقيقةٌ بالتَّصديقِ حَتماً وهذا نصٌ في أنَّ المرادَ بالآياتِ فيما سلف في الموضعينِ هي الآياتُ القُرآنيةُ لأنَّها هيَ المُنطويةُ على دَلائلِ الصِّحةِ وشواهدِ الصِّدقِ التي لم يُحيطوا بها علماً مع وجُوبِ أنْ يتأمَّلوا ويتدبَّروا فيها لا نفسُ السَّاعة وما فيها وقيلَ هو معطوفٌ على كذَّبتم أي أجمعتُم بين التكذيب وعدم التَّدبرِ بها {أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي أمْ أيُّ شيءٍ كنتم تعملون بها أو أمْ أيُّ شيءٍ كنتُم تعملون غيرَ ذلكَ بمعنى أنَّه لم يكُن لهم عملٌ غيرُ ذلكَ كأنَّهم لم يُخلقوا إلا للكفر والمَعَاصي مع أنَّهم ما خُلقوا إلا للإيمانِ والطَّاعةِ يخاطبون بذلك تبكيا ثم يُكبُّون في النَّار وذلك قولُه تعالى

85

{وَوَقَعَ القول عَلَيْهِم} أي حلَّ بهم العذابُ الذي هو مدلولُ القولِ النَّاطقِ بحلولِه ونزولِه {بِمَا ظَلَمُواْ} بسببِ ظُلمِهم الذي هو تكذيبُهم بآياتِ الله {فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ} لانقطاعِهم عن الجوابِ بالكُلِّية وابتلائِهم بشغلٍ شاغلٍ من العذابِ الأليمِ

سورة النمل (86 87)

86

{أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ} الرؤيةٌ قلبية لا بصريةٌ لأنَّ نفسَ الليلِ والنَّهارِ وإنْ كانَا من المُبصرات لكن جعلُهما كما ذُكر من قبيلِ المعقولاتِ أي ألم يعلموا أنَّا جعلنا الليل بما فيهِ من الإظلامِ ليستريحُوا فيه بالنَّومِ والقرارِ {والنهار مُبْصِراً} أي ليبُصروا بما فيهِ من الإضاءةِ طرقَ التقلبِ في أمورِ المعاش فبُولغَ فيه حيثُ جُعل الإبصارُ الذي هو حالُ النَّاسِ حالاً له ووصفاً من أوصافِه التي جُعل عليها بحيثُ لا ينفكُّ عنها ولم يسلك في الليلِ هذا المسلكَ لما أنَّ تأثيرَ ظلامِ الليَّلِ في السُّكونِ ليس بمثابةِ تأثيرِ ضَوْء النَّهارِ في الأبصارِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في جعلِهما كما وُصفا وما في اسمِ الإشارةِ من معنى البعد للإشعارِ ببُعدِ درجتِه في الفضلِ {لأَيَاتٍ} أي عظيمةً كثيرةً {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} دالةٌ على صحَّةِ البعثِ وصدقِ الآياتِ النَّاطقةِ به دلالةً واضحةً كيف لا وإنَّ مَن تأمَّلَ في تعاقُبِ اليل والنهارِ واختلافِهما على وجوه بديعةٍ مبنيةٍ على حِكَمٍ رائقة تحار في فهمها العقول ولا يُحيطُ بها إلا الله عزَّ وجلَّ وشاهدَ في الآفاقِ تبدلَ ظُلمةِ الليلِ المحاكيةِ للموتِ بضياءِ النهار المضاهي للحية وعاينَ في نفسِه تبدلَ النَّومِ الذي هُو أخوُ الموتِ بالانتباه الذي هو مثلُ الحَيَاةِ قَضَى بأنَّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنَّ الله يبعثُ مَنْ في القبورِ قضاءً متقناً وجزمَ بأنَّه تعالى قد جعلَ هذا أُنموذجاً له ودليلاً يستدلُّ به على تحققِه وأنَّ الآياتِ الناطقةَ به وبكونِ حالِ اللَّيل والنهار بُرهاناً عليهِ وسائرَ الآياتِ كلِّها حقٌّ نازلٌ من عندِ الله تعالى

87

{وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور} إمَّا معطوفٌ على يومَ نحشرُ منصوبٌ بناصبِه أو بمضمرٍ معطوفٍ عليه والصُّور هُو القَرْنُ الذي ينفخُ فيه إسرافيلُ عليه السَّلامُ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه إن رسولَ الله صلى اله عليه وسلم قالَ لمَّا فرغَ الله تعالى مِن خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ خلقَ الصُّور فأعطاهُ إسرافيلَ فهُو واضُعه على فيهِ شاخصٌ بصرُه إلى العرشِ متى يُؤمر قال قلتُ يا رسولَ الله ما الصُّور قال القَرنُ قال قلتُ كيف هُو قال عظيمٌ والذي نفسي بيدِه إنَّ عظَم دارةٍ فيه كعرضِ السماءِ والأرضِ فيُؤمر بالنَّفخِ فيه فينفُخ نفخةً لا يبقَى عندها في الحياةِ أحدٌ غيرُ مَن شاءَ الله تعالى وذلكَ قولُه تعالى وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فى السموات ومن فى الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله ثم يُؤمر بأُخرى فينفُخ نفخةً لا يبقَى معها ميتٌ إلا بُعث وقامَ وذلكَ قولُه تعالى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ والذي يستدعيِه سِباقُ النظمِ الكريمِ وسياقُه أنَّ المرادَ بالنَّفخ هَهُنا هي النفخة الثانية وبالفزعِ في قولِه تعالى {فَفَزِعَ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الأرض} ما يعتري الكلَّ عند البعثِ والنِّشورِ بمشاهدةِ الأمورِ الهائلةِ الخارقةِ للعاداتِ في الأنفس والآفاق من الرُّعبِ والتَّهيبِ الضروريين الجبلين وإيراد صيغة الماضي مع كونِ المعطوفِ عليه أعني ينفخُ مضارعاً للدِّلالةِ على تحققِ وقوعِه إثرَ النَّفخِ ولعلَّ تأخيرَ بيانِ الأحوالِ الواقعةِ عند ابتداءِ النَّفخةِ عن بيانِ ما يقعُ بعدها من حشرِ المكذبينَ من كلِّ أُمَّة لتثنيةِ التَّهويل بتكريرِ التَّذكيرِ إيذاناً بأنَّ كلَّ واحدٍ منهما

سورة النمل (88) طَّامةٌ كُبرى وداهيةٌ دهياء حقيقة بالتَّذكيرِ على حيالِها ولو رُوعي الترتيبُ الوقوعيُّ لربما توهم أن الكل داهيةٌ واحدةٌ قد أُمر بذكرِها كما مرَّ في قصَّةِ البقرةِ {إِلاَّ مَن شَاء الله} أي أنْ لا يفزعَ قيلَ هُم جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ وعزرائيلُ عليهم السَّلام وقيلَ الحُورُ والخزنة وحَمَلةُ العَرْشِ {وَكُلٌّ} أي كلَّ واحدٍ من المبعوثينَ عند النَّفخةِ {أَتَوْهُ} حضُروا الموقف بين يدي ربَّ العِزَّة جلَّ جلالُه للسؤالِ والجواب والمناقشة والحساب وقرئ أَتَاهُ باعتبارِ لفظِ الكلِّ كَما أنَّ القراءةَ الأُولى باعتبار معناه وقرئ آتُوه أي حاضِرُوه {داخرين} أي صاغرين وقرئ دَخِرينَ وقولُه تعالى

88

{وَتَرَى الجبال} عطفٌ على يُنفخ داخلٌ في حكمِ التَّذكيرِ وقولُه عزَّ وجلَّ {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} أي ثابتةً في أماكنِها إمَّا بدلٌ منه أو حالٌ من ضميرِ تَرَى أو من مفعولِه وقولُه تعالى {وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} حالٌ من ضميرِ الجبالِ في تحسبُها أو في جامدةً أي تَرَاها رأيَ العينِ ساكنةً والحالُ أنَّها تمرُّ مرَّ السَّحابِ التي تسيرها الرِّياح سيراً حثيثاً وذلكَ أنَّ الأجرامَ العظامَ إذا تحركتْ نحوَ سمتٍ لا تكادُ تتبينُ حركتُها وعليهِ قولُ مَنْ قالَ ... بأر عن مثلِ الطَّوْدِ تحسَب أنَّهم ... وقوفٌ لحاجٍ والرِّكابُ تُهَمْلِجُ ... وقد أُدمج في هذا التشبيه حالِ الجبالِ بحالِ السَّحابِ في تخلخل الأجزاءِ وانتفاشِها كما في قوله تعالى وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش وهذا أيضاً ممَّا يقعُ بعد النَّفخةِ الثَّانيةِ عندَ حشرِ الخلقِ يُبدِّلُ الله عزَّ وجلَّ الأرضَ غيرَ الأرضَ ويغيرُ هيآتِها ويُسيِّر الجبالَ عن مقارِّهَا عَلى ما ذُكر من الهيئةِ الهائلةِ ليُشاهدَها أهلُ المحشرِ وهيَ وإنِ اندكتْ وتصدعتْ عند النَّفخةِ الأولى لكنْ تسييرُها وتسويِةُ الأرضِ إنَّما يكونانِ بعد النَّفخةِ الثانيةِ كما نطقَ به قوله تعالى ويسألونك عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صفصا لا ترى فيها عوجا وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى وقولُه تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسمواتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحدِ الْقَهَّارِ فإنَّ اتّباعَ الدَّاعِي الذي هُو إسرافيلُ عليه السَّلام وبروزُ الخلقِ لله تعالى لا يكونُ إلا بعدَ النَّفخةِ الثَّانيةِ وقد قالُوا في تفسيرِ قولِه تعالى وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وحشرناهم إنَّ صيغةَ الماضِي في المعطوفِ مع كونِ المعطوفِ عليه مُستقبلاً للدِّلالةِ على تقدمِ الحشر على التسيير والرؤوية كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك هذا وقد قيلَ إنَّ المرادَ هي النَّفخةُ الأُولى والفزعُ هو الذي يستتبعُ الموتَ لغايةِ شدَّةِ الهولِ كما في قولِه تعالى فَصَعِقَ مَن فِى السموات ومن فى الأرض الآية فيختص أثرها بما كانَ حياً عندَ وقوعِها دُونَ مَن ماتَ قبلَ ذلك من الأُمم وجُوِّز أنَّ يرادَ بالإتيانِ داخرينَ رجوعُهم إلى أمرِه تعالى وانقيادُهم له ولا ريبَ في أنَّ ذلك ممَّا ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عن أمثاله وأبعدُ مِن هذا ما قبل إنَّ المرادَ بهذه النَّفخةِ نفخةُ الفزعِ التي تكونُ قبل نفخةِ الصَّعقِ وهي التي أريدتْ بقولِه تعالى ما ينظر هَؤُلآء إِلاَّ صَيْحَةً واحدة مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ فيسيِّرُ الله تعالى عندها الجبالَ فتمرُّ مرَّ السَّحابِ فتكون سراباً وتُرجُّ الأرضُ بأهلِها رجَّاً فتكون كالسَّفينةِ الموثقة في البحرِ أو كالقنديلِ المعلَّق ترججه الأرواحُ

سورة النمل (89 90) فإنَّه ممَّا لا ارتباطَ له بالمقامِ قطعاً والحقُّ الذي لا محيدَ عنه ما قدمناه ومَّما هُو نصٌّ في البابِ ما سيأتِي من قولِه تعالى وَهُمْ مّن فزع يومئذ آمنون {صنع الله} مصدرٌ مؤكّدٌ لمضمون ما قبله أي صنعَ الله ذلك صُنعاً على أنَّه عبارةَ عمَّا ذُكر من النَّفخِ في الصُّورِ وما ترتَّب عليهِ جميعاً قُصد به التنبيهُ على عظَمِ شأنِ تلك الأفاعيلِ وتهويلِ أمرِها والإيذانُ بأنَّها ليستْ بطريقِ إخلالِ نظامِ العالمِ وإفسادِ أحوالِ الكائناتِ بالكُلِّية من غيرِ أنْ يدعوَ إليها داعيةٌ أو يكونَ لها عاقبةٌ بل هي من قبيلِ بدائعِ صنعِ الله تعالى المبنية على أساسِ الحكمةِ المستتبعةِ للغاياتِ الجميلةِ التي لأجلِها رُتبت مقدماتُ الخلق ومبادئ الإبداعِ على الوجهِ المتينِ والهج الرَّصينِ كما يُعرب عنه قولُه تعالى {الذى أَتْقَنَ كُلَّ شَىْء} أي أحكَم خلقَهُ وسوَّاهُ على ما تقتضيِه الحكمةُ وقولُه تعالى {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} تعليلٌ لكون ما ذُكر صُنعاً مُحكماً له تعالى ببيانِ أنَّ عِلمَهُ تعالى بظواهرِ أفعالِ المُكلفينَ وبواطنِها مَّما يدعُو إلى إظهارِها وبيانِ كيفيَّاتِها على ما هي عليه من الحسن والسُّوء وترتيب أجزيتها عليها بعد بعثهم وحشرِهم وجعلُ السَّمواتِ والأرضِ والجبالِ على وُفقِ ما نطقَ به التَّنزيلُ ليتحققُوا بمشاهدةِ ذلك أن وعد حقٌّ لا ريب فيه وقرئ خبيرٌ بما يفعلونَ وقولُه تعالى

89

{مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مّنْهَا} بيانٌ لما أُشير إليه بإحاطةِ علمِه تعالى بأفعالِهم من ترتيبِ أجزيتِها عليها أي مَن جاءَ منكُم أو من أولئكَ الذين أتَوه تعالى بالحسنة فله من الجزاءِ ما هو خيرٌ منها إمَّا باعتبارِ أنَّه أضعافُها وإمَّا باعتبارِ دوامِه وانقضائِها وقيلَ فلُه خيرٌ حاصلٌ من جهتِها وهو الجنَّةُ وعن ابن عباس رضي الله عنهما الحسنةُ كلمةُ الشَّهادةِ {وَهُمْ} أي الذينَ جاءوا بالحسناتِ {مّن فَزَعٍ} أي عظيمٍ هائل لاَ يقادَر قدرُه وهُوَ الفزعُ الحاصِلُ من مشاهدة العذابِ بعد تمامِ المُحاسبةِ وظهورِ الحَسَنات والسيئاتِ وهُو الَّذي في قولِه تعالى لاَ حزنهم الفزع الأكبر وعنِ الحَسَنِ رحَمهُ الله تعالى حينَ يُؤمر بالعبدِ إلى النَّارِ وقالَ ابنُ جريجٍ حينَ يذُبح الموتُ ويُنادِي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت {يومئذ} أي يوم إذ ينفخ في الصور {آمنون} لا يعتريهم ذلكَ الفزعُ الهائلُ ولا يلحقهم ضررُه أصلاً وأما الفزعُ الذي يعتري كلَّ مَن فى السموات ومن فى الأرض غيرَ مَنِ استثناه الله تعالى فإنَّما هو التَّهيبُ والرُّعبُ الحاصلُ في ابتداءِ النَّفخةِ من معاينةِ فنونِ الدَّواهي والأهوالِ ولا يكادُ يخلُو منه أحدٌ بحكم الجبلَّةِ وإنْ كان آمِناً من لُحوق الضَّررِ والأمنُ يُستعمل بالجارِّ وبدونِه كما في قولِه تعالى أَفَأَمِنُواْ مكر الله وقرئ من فزع يومئذ بالإضافة مع كسر الميم وفتحِها أيضاً والمرادُ هو الفزعُ المذكورُ في القراءةِ الأُولى لا جميعُ الأفزاعِ الحاصلةِ يومئذٍ ومدارُ الإضافةِ كونُه أعظمَ الأفزاعِ وأكبرُها كأنَّ ما عداهْ ليس بفزعٍ بالنسبةِ إليهِ

90

{وَمَن جَاء بالسيئة} قيل هو الشركُ {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النار} أي كُبُّوا فيها على وجوهِهم منكوسين أو كُبَّت فيها أنفسُهم على طريقةِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} على الالتفاتِ للتَّشديدِ أو على إضمارِ القولِ أي مقولاً لهم ذلك

سورة النمل (91 92)

91

{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبّ هَذِهِ البلدة الذى حرمها} أمر صلى الله عليه وسلم أنْ يقولَ لهم ذلك بعد ما بيَّن لهم أحوالَ المبدأِ والمعادِ وشرحَ أحوالَ القيامةِ تنبيهاً لهم على أنَّه قد أتمَّ أمرَ الدَّعوةِ بما لا مزيدَ عليهِ ولم يبقَ له صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شأنٌ سوى الاشتغالِ بعبادةِ الله عزَّ وجلَّ والاستغراقِ في مُراقبتهِ غيرَ مُبالٍ بهم ضلُّوا أمْ رشدُوا صلحُوا أو فسدُوا ليحملَهم ذلك على أنْ يهتمُّوا بأمورِ أنفسِهم ولا يتوهَّمُوا من شدَّةِ اعتنائه صلى الله عليه وسلم بأمر دعوتهم أنه صلى الله عليه وسلم يُظهر لهم ما يُلجئهم إلى الإيمانِ لا محالةَ ويشتغلوا بتداركِ أحوالِهم ويتوجَّهُوا نحوَ التَّدبرِ فيما شاهدُوه من الآياتِ الباهرةِ والبلدةُ هي مكَّةُ المعظمةُ وتخصيصُها بالإضافةِ لتفخيمِ شأنِها وإجلال مكانها والتعرف لتحريمهِ تعالى إيَّاها تشريفٌ لها بعد تشريفٍ وتعظيمٌ إثرَ تعظيمٍ مع ما فيه من الإشعارِ بعلَّةِ الأمرِ وموجبِ الامتثالِ به كما في قوله تعالى فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وآمنهم مّنْ خوْفٍ ومن الرَّمزِ إلى غايةِ شَنَاعةِ ما فعلُوا فيها ألا يَرَى أنَّهم مع كونِها محرَّمةً من أنْ تنتهكَ حرمتُها باختلاءِ خلاها وعضْدِ شجرِها وتنفيرِ صيدِها وإرادةِ الإلحادِ فيها بوجهٍ من الوجوهِ قد استمرُّوا فيها على تعاطِي أفجرِ أفرادِ الفُجور وأشنعِ آحادِ الإلحادِ حيثُ تركُوا عبادةَ ربَّها ونصبُوا فيها الأوثانَ وعكفُوا على عبادتِها قاتلَهم الله أنَّى يُؤفكون وقرئ حَرَمَها بالتَّخفيفِ وقولُه تعالى {وَلَهُ كُلُّ شَىء} أي خلقاً وملكاً وتصرُّفاً من غير أن يشاركه شيء في شيء من ذلك تحقيقٌ للحقِّ وتنبيهٌ على أنَّ إفرادَ مكَّةَ بالإضافةِ لما ذُكر من التَّفخيمِ والتَّشريفِ مع عُمومِ الرُّبوبيةِ لجميعِ الموجُوداتِ {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} أي أثبت على ما كنتُ عليهِ من كونِي من جُملةِ الثَّابتين على ملَّة الإسلامِ والتَّوحيدِ أي الذين أسلمُوا وجوهَهم لله خالصةً من قوله تعالى وَمَن أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ

92

{وأن أتلو القرآن} أي أواظبَ على تلاوتِه لتنكشفَ لي حقائقُه الرائعةُ المخزونةُ في تضاعيفهِ شيئاً فشيئاً أو على تلاوتِه على النَّاسِ بطريقِ تكريرِ الدَّعوةِ وتثنيةِ الإرشادِ فيكونَ ذلك تنبيهاً على كفايتهِ في الهدايةِ والإرشادِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى إظهارِ مُعجزةٍ أُخرى فمعنى قولِه تعالى {فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ} حينئذٍ فَمَنُ اهتدى بالإيمانِ به والعملِ بما فيهِ من الشَّرائعِ والأحكامِ وعلى الأولِ فمنِ اهتدَى باتَّباعِه إيَّاي فيما ذُكر من العبادةِ والإسلامِ وتلاوةِ القُرآن فإنَّما منافعُ اهتدائهِ عائدةٌ إليهِ لا إليَّ {وَمَن ضَلَّ} بالكفرِ به والإعراضِ عن العملِ بما فيه أو بمُخالِفتي فيما ذُكر {فَقُلْ} في حقَّه {إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ المنذرين} وقد خرجتُ عن عُهدة الإنذارِ فليسَ عليَّ من وبالِ ضلالِه شيءٌ وإنَّما هو عليه فقط

سورة النمل (93)

93

{وَقُلِ الحمد لِلَّهِ} أي علَى ما أفاضَ عليَّ من نعمائِه التي أجلُّها نعمةُ النُّبوةِ المستتبعةِ لفنونِ النِّعمِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ ووفَّقنِي لتحمل أعبائِها وتبليغِ أحكامِها إلى كافَّة الوَرَى بالآياتِ البينةِ والبراهينِ النيرةِ وقولُه تعالى {سيريكم آياته} من جُملةِ الكلامِ المأمورِ به أي سيُريكم البتةَ في الدُّنيا آياتِه الباهرةَ التي نطقَ بها القرآنُ كخروجِ الدابةِ وسائرِ الأشراطِ وقد عُدَّ منها وقعةُ بدرٍ ويأباهُ قولُه تعالى {فَتَعْرِفُونَهَا} أي فتعرفونَ أنَّها آياتُ الله تعالى حينَ لا تنفعُكم المعرفةُ لأنَّهم لا يتعرفون بكونِ وقعةِ بدرٍ كذلك وقيل سيُريكم في الآخرةِ وقولُه تعالَى {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} كلامٌ مسوقٌ من جهتِه تعالى بطريقِ التَّذييلِ مقررٌ لما قبلَه متضمنٌ للوعدِ والوعيدِ كما ينبئ عنه إضافةُ الربِّ إلى ضمير النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وتخصيصُ الخطابِ أولاً به صلى الله عليه وسلم وتعميمُه ثانياً للكَفَرةِ تغليباً أيْ وَمَا رَبُّكَ بغافلٍ عَمَّا تعملُ أنتَ من الحسناتِ وما تعملونَ أنتُم أيُّها الكفرةُ من السيئاتِ فيُجازي كُلاًّ منكم بعملِه لا محالة وقرئ عمَّا يعملُون على الغَيبةِ فهُو وعيدٌ محضٌ والمعنى وما ربُّك بغافلٍ عن أعمالِهم فسيعذبُهم البتةَ فلا يحسبُوا أنَّ تأخيرَ عذابِهم لغفلتِه تعالى عن أعمالِهم الموجبةِ له والله تعالى أعلم عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سورةَ طس كان له منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعدد من صدق بسليمان وهو وصالحٍ وإبراهيمَ وشُعيبٍ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ومن كذَّب بهم ويخرجُ من قبرِه وهو ينادي لا له إلا الله تم بحمد الله الجزء السابع ويليه الجزء الثامن وأوله سورة القصص قوله (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) التلاوة فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ وحينئذ فلا حاجة لبيان نكتة التعبير بالربوبية المضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام بقوله (وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ الخ)

سورة القصص 1 5 مكية وقيل إلا قوله الذين آتيناهم الكتاب إلى قوله الجاهلين وهي ثمان وثمانون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}

القصص

{طسم تلك آيات الكتاب المبين} قد مرَّ ما يتعلقُ به من الكلام بالإجمال والتَّفصيلِ في أشباهه

3

{نتلواُ عَلَيْكَ} أي نقرأُ بواسطة جبريلَ عليهِ السَّلامُ ويجوزُ أنْ تكونَ التِّلاوةُ مجازاً من التَّنزيلِ {مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ} مفعولُ نتلو أي نتلوا عليه بعضَ نبئِهما {بالحق} متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من فاعل نتلُو أوْ منْ مفعولِه أو صفةٌ لمصدرِه أي بعضَ نبئِهما مُلتبسينَ أو متلبِّساً بالحقِّ أو تلاوةً ملتبسةً بالحقِّ {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} متعلقٌ بنتلو وتخصيصُهم بذلكَ مع عُموم الدَّعوةِ والبيانِ للكلِّ لأنَّهم المنتفعونَ بِه

4

{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض} استثناف جارٍ مجرى التَّفسيرِ للمُجمل الموعودِ وتصديرُه بحرف التَّأكيدِ للاعتناء بتحقيقِ مضمُونِ ما بعدَهُ أي أنَّه تجبَّر وطغا في أرضِ مصرَ وجاوزَ الحدودَ المعهودةَ في الظُّلم والعُدوانِ {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً} أي فِرقاً يشيِّعونه في كلِّ ما يُريده من الشرِّ والفسادِ أو يشيِّعُ بعضُهم بعضاً في طاعته أو أصنافاً في استخدامه يستعملُ كلَّ صنفٍ في عملٍ ويُسخِّرُه فيهِ من بناءٍ وحرثٍ وحفرٍ وغيرِ ذلكَ من الأعمالِ الشَّاقةِ ومَن لم يستعملْه ضربَ عليه الجزيةَ أو فرقاً مختلفةً قد أغرى بينهم العداوةَ والبغضاءَ لئلاَّ تتفقَ كلمتُهم {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ} وهم بنُو إسرائيلَ والجملةُ إما حالٌ من فاعلِ جعلَ أو صفةٌ لشيعاً أو استئنافٌ وقولُه تعالَى {يذبح أبناءهم ويستحيي نِسَاءهُمْ} بدلٌ منها وكان ذلكَ لِما أنَّ كاهناً قال له يُولد في بني إسرائيلَ مولودٌ يذهبُ ملكُك على يدِه وما ذاك إلا لغايةِ حُمقِه إذْ لو صدقَ فما فائدةُ القتلِ وإن كذبَ فما وجهُه {إِنَّهُ كَانَ مِنَ المفسدين} أي الرَّاسخينَ في الإفسادِ ولذلكَ اجترأَ على مثل تلك العظيمةِ

القصص 6 7 من قتلِ المعصومينَ من أولادِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام

5

{وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ} أي نتفضلُ {عَلَى الذين استضعفوا فِى الارض} على الوجهِ المذكورِ بإنجائِهم من بأسِه وصيغةُ المضارعِ في نُريد حكايةُ حالٍ ماضيةٍ وهو معطوفٌ على إنَّ فرعونَ علا الخ لتناسبُهما في الوقوع في في حيِّزِ التَّفسيرِ للنبأ أو حالٌ من يستضعفُ بتقدير المبتدأ أي يستضعفُهم فرعونُ ونحنُ نريدُ أنْ نمنَّ عليهم وليس من ضرورةِ مقارنةِ الإرادةِ للاستضعاف مقارنةُ المرادِ له لما أنَّ تعلُّقَ الإرادةِ للمنِّ تعلق استقبال على أنَّ مِنَّةَ الله تعالى عليهم بالخلاص لمَّا كانتْ في شرفِ الوقوعِ جازَ إجراؤُها مُجرى الواقعِ المقارنِ له ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ لإبانةِ قدرِ النِّعمةِ في المنَّة بذكر حالتِهم السَّابقةِ المُباينةِ لها {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} يُقتدى بهم في أمور الدِّينِ بعد أنْ كانُوا أتباعاً مسخَّرين لآخرين {وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين} لجميع ما كان منتظماً في سلك مُلك فرعونَ وقومِه وراثةً معهودةً فيما بينهم كما ينبئ عنه تعريفُ الوارثينَ وتأخيرُ ذكرِ وراثتِهم له عن ذكرِ جعلِهم أئمةً مع تقدمِها عليه زماناً لانحطاطِ رُتبتها عن الإمامةِ ولئلاَّ ينفصلَ عنه ما بعده مع كونِه من روادفِه أعني قولَه تعالى

6

{وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى الارض} الخ أي نُسلطهم على مصرَ والشامِ يتصرفون فيهما كيفما يشاءون وأصلُ التمكينِ أنْ تجعلَ للشيءِ مكاناً يتمكَّنُ فيه {وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ} أي من أولئكَ المُستضعَفين {مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ} ويجتهدونَ في دفعه من ذهاب مُلكِهم وهُلْكِهم على يدِ مولودٍ منه وقرئ يرى بالياءِ ورفعِ ما بعده على الفاعليةِ

7

{وَأَوْحَيْنَا إلى أُمّ موسى} بإلهامٍ أو رُؤيا {أَنْ أَرْضِعِيهِ} ما أمكنك إخفاؤُه {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} بأنْ يحسَّ به الجيرانُ عند بكائِه وينمُّوا عليه {فَأَلْقِيهِ فِي اليم} في البحرِ وهو النِّيلُ {وَلاَ تَخَافِى} عليهِ ضيعةً بالغرقِ ولا شدَّةً {وَلاَ تَحْزَنِى إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} عن قريبٍ بحيثُ تأمنينَ عليهِ {وجاعلوه مِنَ المرسلين} والجملةُ تعليلٌ للنَّهي عن الخوف والحزنِ وإيثارُ الجملةِ الاسميةِ وتصديرُها بحرفِ التَّحقيقِ للاعتناء بتحقيق مضمونِها أي إنَّا فاعلونَ لردِّه وجعلِه من المُرسلينَ لا محالةَ رُوي أنَّ بعضَ القَوَابلِ المُوكلاتِ من قبلِ فرعونَ بحَبالَى بني إسرائيلَ كانتْ مصافيةً لأمِّ موسى عليه السَّلامُ فقالتْ لها لينفعني حبُّكِ اليومَ فعالجتها فلما وقع على الأرضِ هالها نورٌ بين عينيهِ وارتعشَ كلُّ مفصلٍ منها ودخل حبُّه في قلبِها ثم قالتْ ما جئتكِ إلا لأقبلَ مولودكِ وأُخبر فرعونَ ولكنِّي وجدتُ لابنكِ في قلبي محبَّةً ما وجدتُ مثلَها لأحدٍ فاحفظيهِ فلمَّا خرجتْ جاء عيونُ فرعونَ فلفَّته في خرقةٍ فألقتْهُ في تنُّورٍ مسجورٍ لم تعلمْ ما تصنعُ لما طاشَ من عقلِها فطلبُوا فلم يلْقَوا شيئاً فخرجُوا وهي لا تدري مكانَه فسمعتْ بكاءه من التنُّور فانطلقتْ إليه وقد جعل الله تعالى النار عليه بردا وسلاما فلما ألحَّ فرعونُ في طلب الولدانِ أَوْحى الله تعالى إليها ما أَوْحى وقد رُوي أنَّها أرضعتْهُ ثلاثةَ أشهرٍ في تابوتٍ من بَرْديَ مطليَ بالقارِ من داخلِه والفاءُ في قوله تعالى

القصص

8

8 - 9 {فالتقطه آل فِرْعَوْنَ} فصيحةٌ مفصحةٌ عن عطفِه على جملةٍ مترتبةٌ على ما قبلها من الأمرِ بالإلقاءِ قد حُذفت تعويلا على دلالة الحال وإيذاناً بكمال سرعةِ الامتثالِ أي فألقتْهُ في اليمِّ بعد ما جعلتْهُ في التابوت حسبما أمرت فالتقطه آلُ فرعونَ أي أخذوه اعتناءٍ به وصيانةٍ له عن الضَّياعِ قال ابنُ عباس رضي الله عنهما وغيره كانَ لفرعونَ يومئذٍ بنتٌ لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ غيرُها وكانتْ من أكرمِ النَّاسِ إليه وكان بها بَرَصٌ شديدٌ عجزتِ الأطِّباءُ عن علاجِه فقالُوا لا تبرأُ إلا من قبل البحرِ يُؤخذ منه شِبهُ الإنسِ يومَ كذا وساعةَ كذا من شهرِ كذا حين تُشرق الشَّمسُ فيؤخذُ من ريقِه فيلطخ به برصُها فتبرأْ فلمَّا كان ذلك اليومُ غدا فرعونُ في مجلسٍ له على شفيرِ النِّيلِ ومعه امرأتُه آسيةُ بنتُ مزاحمِ بنِ عُبيدِ بنِ الرَّيَّانِ بنِ الوليدِ الذي كان فرعونَ مصرَ في زمنِ يوسفَ الصِّدِّيقِ عليه السَّلامُ وقيل كانتْ من بني إسرائيلَ من سبطِ مُوسى عليه الصلاة والسلام وقيل كانتْ عمَّته حكاه السُّهيليُّ وأقبلتْ بنتُ فرعونَ في جَواريها حتَّى جلستْ على شاطئ النِّيلِ فإذا بتابوتٍ في النِّيلِ تضربُه الأمواجُ فتعلَّق بشجرةٍ فقالَ فرعونُ ائتونِي به فابتدرُوا بالسُّفنِ فأحضرُوه بين يديهِ فعالجُوا فتحَهُ فلم يقدرُوا عليهِ وقصدُوا كسرَه فأعياهم فنظرتْ آسيةٌ فرأتْ نُوراً في جوفِ التَّابوتِ لم يرَهُ غيرُها فعالجتْهُ ففتحتْهُ فإذا هيَ بصبيَ صغيرٍ في مهدِه وإذا نورٌ بين عينيهِ وهو يمصُّ إبهامَه لبناً فألقى الله تعالى محبَّتَه في قلوبِ القومِ وعمدتْ ابنةُ فرعونَ إلى ريقِه فلطَّختْ به برصَها فبرأتْ من ساعتها وقيل لما نظرتْ إلى وجهِه برأتْ فقالتِ الغُواة من قومِ فرعونَ إنَّا نظنُّ أنَّ هذا هو الذي نحذرُ منه رُميَ في البحرِ فَرَقاً منك فامتله فهمَّ فرعونُ بقتلِه فاستوهبتْهُ آسيةُ فتركَه كما سيأتِي واللام في قوله تعالى {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} لامُ العاقبةِ أُبرز مدخولُها في معرضِ العلَّةِ لالتقاطِهم تشبيها له في الترتب عليه بالغرضِ الحاملِ عليه وقرئ حُزْناً وهما لغتانِ كالسَّقَمِ والسُّقْمِ جُعل عليه الصَّلاة والسَّلام نفسَ الحزنِ إيذاناً بقوَّةِ سببيتِه لحزنِهم {إِنَّ فِرْعَوْنَ وهامان وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خاطئين} أي في كلِّ ما يأتون وما يذرون فلا غروَ في أنْ قتلو الاجله ألوفاثم أخذُوه يربُّونَه ليكبرَ ويفعلَ بهم ما كانُوا يحذرون رُوي أنَّه ذُبح في طلبِه عليه الصَّلاة والسَّلام تسعون ألفَ وليدٍ أو كانُوا مذنبينَ فعاقبهم الله تعالى بأنْ ربَّى عدوَّهم على أيديهم فالجُملة اعتراضيةٌ لتأكيد خطئهم أو لبيان المُوجب لما ابتلوا به وقرئ خَاطين على أنَّه تخفيفُ خاطئينَ أو على أنَّه بمعنى مُتعدِّين الصَّوابَ إلى الخطأ

9

{وقالت امرأة فِرْعَوْنَ} أي لفرعونَ حينَ أخرجتْهُ من التَّابوتِ {قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ} أي هو قرَّةُ عينٍ لنا لِما أنَّهما لمّا رأياهُ أحبَّاهُ أو لما ذُكر من بُرءِ ابنتِه من البَرَصِ بريقِه وفي الحديثِ أنه قال لك لالى ولو قال كما هُو لكِ لهداهُ الله تعالى كما هداها {لاَ تَقْتُلُوهُ} خاطبتْهُ بلفظِ الجمعِ تعظيماً ليساعدَها فيما تريدُه {عسى أَن يَنفَعَنَا}

فإنَّ فيه مخايلَ اليُمنِ ودلائلَ النَّجابةِ وذلك لِمَا رأتْ فيهِ من العلاماتِ المذكورةِ {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أي نتبنَّاهُ فإنَّه خليقٌ بذلكَ {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} حالٌ من آلِ فرعونَ والتَّقديرُ فالتقطَه آلُ فرعونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً وقالت امرأته كيتَ وكيتَ وهُم لا يشعرون بأنَّهم على خطأ عظيمٍ فيما صنعُوا من الالتقاط ورجاءِ النَّفعِ منه والتَّبني له وقولُه تعالى أَن فِرْعَوْنَ الآيةَ اعتراضٌ وقعَ بين المعطوفينِ لتأكيدِ خطئِهم وقيل حالٌ من أحدِ ضميريّ نتخذُه على أنَّ الضَّميرَ للنَّاسِ أيْ وهُم لا يعلمونَ أنَّه لغيرِنا وقد تبنيناهُ

10

{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً} صفراً من العقلِ لِمَا دهمَها من الخوفِ والحيرةِ حين سمعتْ بوقوعِه في يدِ فرعونَ لقولِه تعالى وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء أي خلاءُ لا عقولَ فيها ويعضده أنه قرئ فَرغاً من قولِهم دماؤهم بينهم فرغٌ أي هَدرٌ وقيل فارغاً من الهمِّ والحُزن لغايةِ وثوقِها بوعدِ الله تعالى أو لسماعِها أنَّ فرعونَ عطفَ عليه وتبناه وقرئ مُؤْسى بالهمزِ إجراءً للضَّمة في جارة الواوِ مجرى ضمَّتِها فهمزت كما في وجوهٍ {إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ} أي إنَّها كادتْ لتظهرُ بموسى أي بأمرِه وقصَّتِه من فرطِ الحيرةِ والدَّهشةِ أو الفرحِ بتبنيهِ {لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} بالصَّبرِ والثَّباتِ {لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين} أي المُصدِّقين بوعدِ الله تعالى أو من الواثقينَ بحفظِه لا بتبنِّي فرعونَ وتعطفِه وهو علَّةُ الرَّبطِ وجوابُ لَولا محذوفٌ لدلالةِ ما قبله عليهِ

11

{وَقَالَتْ لاخْتِهِ} مريمَ والتَّعبيرُ عنها بأخوَّتِه عليه الصَّلاة والسَّلام دونَ أنْ يقال لبنتِها للتَّصريحِ بمدار المحبَّةِ الموجبةِ للامتثالِ بالأمرِ {قُصّيهِ} أي اتبعِي أثرَه وتتبَّعي خبرَه {فَبَصُرَتْ بِهِ} أي أبصرتْهُ {عَن جُنُبٍ} عن بعد وقرئ بسكونِ النُّونِ وعن جانبٍ والكلُّ بمعنى {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أنَّها تقُصُّه وتتعرفُ حاله أو انها أختُه

12

{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع} أي منعناه أنْ يرتضعَ من المرضعاتِ والمَرَاضعُ جمعُ مرضعٍ وهي المرأةُ التي تُرضع أو مُرضع وهو الرَّضاعُ أو موضعُه أعني الثَّديَ {مِن قَبْلُ} أي من قبلِ قصِّها أثرَه {فَقَالَتْ} عند رؤيتِها لعدمِ قَبُولِه الثَّديَ واعتناءَ فرعونَ بأمرِه وطلبَهم من يقبلُ ثديَها {هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ} أي لأجلِكم {وَهُمْ لَهُ ناصحون} لا يُقصِّرون في إرضاعِه وتربيتِه رُوي أنَّ هامان لمَّا سمعَه منها قال إنَّها لتعرفُه وأهلَه فخذُوها حتَّى تخبرَ بحالِه فقالتْ إنَّما أردتُ وهم للملكِ ناصحُون فأمرَها فرعونُ بأنْ تأتيَ بمَن يكفلُه فأتتْ بأمِّه ومُوسى على يدِ فرعونَ يبكِي وهو يُعلله فدفعَه إليها فلمَّا وجدَ ريحَها استأنسَ والتقمَ ثديها فقالَ مَن أنتِ منه فقد أبَى كلَّ ثديٍ إلا ثديكِ فقالتْ إنِّي امرأةٌ طيبةُ الريح طيبة اللبنِ لا أُوتى بصبيَ إلا قبلني

القصص 13 16 فقرر في يدِها وأجرى عليها فرجعت به إلى بيتِها من يومِها وذلكَ قولُه تعالى

13

{فرددناه إلى أُمّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} بوصولِ ولدِها إليها {وَلاَ تَحْزَنْ} بفراقِه {وَلِتَعْلَمَ إِنَّ وَعْدَ الله} أي جميعَ ما وعدَهُ من ردِّه وجعلِه من المرسلين {حق} لاخلف فيه بمشاهدةِ بعضِه وقياسِ بعضِه عليه {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أنَّ الأمرَ كذلكَ فيرتابونَ فيهِ أو أنَّ الغرضَ الأصليَّ من الردِّ علمُها بذلك وما سواه تبعٌ وفيه تعريضٌ بما فَرَط منها حين سمعتْ بوقوعِه في يدِ فرعونَ

14

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي المبلغَ الذي لا يزيدُ عليه نشؤُه وذلك من ثلاثين الى أربعين فإنَّ العقلَ يكملُ حينئذٍ ورُوي أنَّه لم يُبعثْ نبيٌّ إلا على رأسِ الأربعينَ {واستوى} أي اعتدلَ قدُّه أو عقلُه {اتَيْنَاهُ حُكْمًا} أي نبوَّةً {وَعِلْماً} بالدِّينِ أو علمَ الحُكماءِ والعُلماءِ وسمتَهم قبل استنبائِه فلا يقولُ ولا يفعلُ ما يُستجهلُ فيهِ وهو أوفقُ لنظْمِ القصَّةِ لأنَّه تعالى استنبأهُ بعد الهجرةِ في المُراجعةِ {وكذلك} ومثلَ ذلكَ الذي فعلنَا بمُوسى وأمِّه {نَجْزِى المحسنين} على إحسانِهم

15

{وَدَخَلَ المدينة} أي مصرَ من قصرِ فرعونَ وقيل منفُ أو حابينُ أو عينُ شمسٍ من نواحِيها {على حِينِ غفلةٍ مّنْ أَهْلِهَا} في وقتٍ لا يُعتادُ دخولُها أو لا يتوقعونَه فيه قيل كان وقتَ القيلولةِ وقيل بينَ العشاءينِ {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هذا مِن شِيعَتِهِ} أي ممَّن شايعُه على دينِه وهم بنو إسرائيلَ {وهذا مِنْ عَدُوّهِ} أي من مخالفيه دنياوهم القِبطُ والإشارةُ على الحكايةِ {فاستغاثه الذى مِن شِيعَتِهِ} أي سألَه أنْ يغيثَه بالإعانة كما ينبىءُ عنه تعديته بعلى وقرئ استعانَه {عَلَى الذى مِنْ عَدُوّهِ فَوَكَزَهُ موسى} أي ضرب القبطيَّ بجُمعِ كفِّه وقرى فلكزَه أي فضربَ به صدرَهُ {فقضى عَلَيْهِ} فقتلَه وأصلُه أنهى حياتَه من قوله تعالى وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الامر {قَالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان} لأنَّه لم يكُن مأموراً بقتلِ الكفَّار أو لأنَّه كان مأموناً فيما بينهم فلم يكُن له اغتيالُهم ولا يقدَح ذلك في عصمتِه لكونِه خطأً وإنما عدَّه من عملِ الشَّيطانِ وسمَّاه ظُلماً واستغفرَ منه جرياً على سُنَنِ المقرَّبينَ في استعظامِ ما فرطَ منهم ولو كانَ من مُحقِّراتِ الصَّغائرِ {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} ظاهرُ العداوةِ والإضلالِ

16

{قَالَ} توسيطُه بين كلاميهِ صلى الله عليه وسلم لإبانةِ ما بينهما من المخالفةِ من حيثُ إنَّه مناجاة

القصص 17 20 ودعاءٌ بخلافِ الأولِ {رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى} أي بقتلِه {فاغفر لِى} ذَنبي {فَغَفَرَ لَهُ} ذلك {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} أي المبالغُ في مغفرةِ ذنوبِ عبادِه ورحمتِهم

17

{قَالَ رَبّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ} إمَّا قسمٌ محذوفُ الجوابِ أي أقسمُ بإنعامِك عليَّ بالمغفرةِ لأتوبنَّ {فَلَنْ أَكُونَ} بعدَ هذا أبداً {ظهيرا للمجرمين} وما استعطافٌ أي بحقِّ إنعامِكَ عليَّ اعصمنِي فلنْ أكونَ معيناً لمن تؤدي معاونتُه إلى الحرم وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه عليه الصلاةُ والسلام لم يستثن فابتُليَ به مرَّةً أُخرى وهذا يؤيدُ الأولَ وقيل معناهُ بما أنعمتَ عليَّ من القوَّةِ أعينُ أولياءكَ فلن استعملَها في مُظاهرةِ أعدائِكَ

18

{فَأَصْبَحَ فِى المدينة خَائِفاً يترقب} يترصد الاستقادة أو الأجنادَ {فَإِذَا الذى استنصره بالامس يَسْتَصْرِخُهُ} أي يستغيثُه برفعِ الصَّوتِ من الصُّراخ {قَالَ لَهُ موسى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ} أي بيِّنُ الغوايةِ تسببتَ لقتلِ رجلٍ وتُقاتلُ آخرَ

19

{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ} مُوسى {أَن يَبْطِشَ بالذى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا} أي لموسى وللإسرائيليِّ إذ لم يكن على دينِهما ولأنَّ القِبطَ كانُوا أعداءً لبني إسرائيلَ على الإطلاقِ وقُرىء يبطُش بضمِّ الطَّاءِ {قَالَ} أي الإسرائيلي ظانا أنه صلى الله عليه وسلم يبطشُ به حسبما يُوهمه تسميته إياه غوبا {يا موسى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالامس} قالُوا لما سمعَ القبطيُّ قولَ الإسرائيليُّ علمَ أنَّ موسى هو الذي قتلَ ذلك الفرعونيَّ فانطلق إلى فرعونَ فأخبرَهُ بذلك وأمرَ فرعونُ بقتلِ مُوسى عليه السَّلامُ وقيل قاله القبطيُّ {إِن تُرِيدُ} أي ما تريدُ {إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الارض} وهو الذي يفعلُ كلَّ ما يريدُه من الضربِ والقتلِ ولا ينظرُ في العواقبِ وقيل المتعظِّمُ الذي لا يتواضعُ لأمرِ الله تعالى {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين} بينَ النَّاسِ بالقولِ والفعلِ

20

{وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة} أي كائنٌ من آخراها أو جاءَ من آخِرها {يسعى} أي يسرعُ صفةٌ لرجلٌ أو حالٌ منه على أنَّ الجارَّ والمجرورَ صفةٌ له لا متعلَّق بجاء فإن تخصصه يلحقه بالمعارفِ قيل هو مؤمنُ آلِ فرعونَ واسمُه حِزْقيلُ وقيل شَمعُون وقيل شَمعانُ {قَالَ يَا موسى} {إنِ الملا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} أي يتشاورُون بسببكَ فإنَّ كلا من المتشاورين بأمر الآخرينَ ويأتمرُ {فاخرج} أي من المدينةِ {إِنّى لَكَ من الناصحين} اللام للبيان

القصص 21 24 لما أنَّ معمولَ الصِّلةِ لا يتقدمُها

21

{فَخَرَجَ مِنْهَا} أي من المدينةِ {خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} لحوقَ الطَّالبينَ {قَالَ رَبّ نَجّنِى مِنَ القوم الظالمين} خلِّصنِي منهم واحفظنِي من لُحوقِهم

22

{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ} أي نحوَ مدينَ وهي قريةُ شُعيبٍ عليه السَّلامُ سميت باسمِ مدينَ بنِ إبراهيمَ ولم تكُن تحتَ سلطانِ فرعونَ وكان بينها وبين مصرَ مسيرةُ ثمانيةِ أيَّامٍ {قَالَ عسى رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل} توكلاً على الله تعالى وثقةً بحُسنِ توفيقِه وكان لا يعرفُ الطرقَ فعنَّ له ثلاثُ طرائقَ فأخذَ في الوسطى وجاء الطلابُ فشرعُوا في الأُخريين وقيل خرجَ حافياً لا يعيشُ إلا بورقِ الشَّجرِ فما وصلَ حتَّى سقطَ خفُّ قدميه وقيل جاء مَلَكٌ على فرسٍ وبيدِه عنزَةٌ فانطلقَ به إلى مدينَ

23

{وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ} أي وصلَ إليهِ وهو بئر كانوا يسقون منه {وَجَدَ عَلَيْهِ} أي فوقَ شفيرِها {أُمَّةً} جماعةً كثيفةً {مّنَ الناس يَسْقُونَ} أي مواشيَهم {وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} أي في موضعٍ أسفلَ منهم {امرأتين تَذُودَانِ} أي تمنعانِ ما معهما من الأغنامِ عن التقدمِ إلى البئرِ كيلا تختلطَ بأغنامِهم مع عدمِ الفائدة في التَّقدمِ {قَالَ} عليه السَّلام لهما حينَ رآهُما على ماهما عليه من التأخر والذود {مَا خَطْبُكُمَا} ما شأنُكما فيما أنتُما عليه من التَّأخرِ والذَّودِ ولم لا تباشرانِ السقيَ كدأبِ هؤلاءِ {قَالَتَا لاَ نَسْقِى حتى يُصْدِرَ الرعاء} أي عادتُنا أن لا نسقيَ حتَّى يصرف الرعاة مواشيهم بعدريها عن الماءِ عجزاً عن مساجلتِهم وحذراً عن مخالطةِ الرجالِ لا أنا لا نسقي اليومَ إلى تلك الغايةِ وحذفُ مفعولِ السَّقيِ والذَّودِ والإصدارِ لمَا أنَّ الغرضَ هو بيانُ تلك الأفعالِ أنفسِها إذْ هي التي دعتْ مُوسى عليه السَّلامُ إلى ما صنعَ في حقِّهما من المعروفِ فإنه عليه الصلاة والسلام إنَّما رحمَهما لكونِهما على الذيادِ للعجزِ والعفَّةِ وكونِهم على السقيِ غيرَ مُبالين بهما وما رحمهما لكن مذودِهما غنماً ومسقيهم إبلاً مثلاً وقُرىء لا نُسقي من الإسقاءِ ويَصدُر من الصُّدورِ والرُّعاء بضمِّ الرَّاءِ وهو اسم جمع كالرخاء وأما الرِّعاءِ فجمعٌ قياسيٌّ كصِيامٍ وقِيامٍ وقولُه تعالى {وأبونا شيخ كبير} إبراء منهم للعُذرِ إليه عليه السَّلامُ في تولِّيهما للسَّقيِ بأنفسِهما كأنَّهما قالتَا إنَّا امرأتانِ ضعيفتانِ مستورتانِ لا نقدرُ على مُساجلةِ الرِّجالِ ومزاحمتِهم وما لنا رجلٌ يقومُ بذلكَ وأبُونا شيخٌ كبيرُ السنِّ قد أضعفَه الكبرُ فلا بدَّ لنا من تأخيرِ السَّقيِ إلى أنْ يقضي النَّاسُ أوطارَهم من الماءِ

24

{فسقى لَهُمَا} رحمةً عليهما والكلامُ في حذفِ مفعولِه كما مرَّ آنِفاً رُوي أنَّ الرُّعاةَ كانُوا يضعونَ على رأسِ البئرِ حَجَراً لا يُقلُّه إلا سبعةُ رجالٍ وقيل عشرةُ وقيل أربعون وقيل مائة فأفله وحدَهُ مع ما كان به من الوصبِ والجراحةِ والجوع ولعله

القصص 25 عليه الصَّلاة والسَّلام زاحمَهم في السَّقيِ لهما فوضعُوا الحجرَ على البئرِ لتعجيزِه عليه الصلاة والسلام عن ذلكَ فإنَّ الظاهرَ أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلام غبَّ ما شاهد حالهما شارع الى السقى لهما وقدروى أنَّه دفعهم عن الماءِ إلى أنْ سقى لهُما وقيل كانت هناك بئرٌ أُخرى عليها الصَّخرةُ المذكورةُ ورُوي أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلامُ سألَهم دَلْواً من ماءٍ فأعطَوه دلوهُم وقالُوا استقِ بها وكان لا ينزعُها إلا أربعون فاستقَى بها وصبَّها في الحوضِ ودعا بالبركةِ ورَوى غنمَهما وأصدرَهما {ثُمَّ تولى إِلَى الظل} الذي كانَ هُناك {فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ} أيْ أيَّ شيءٍ أنزلتَهُ إليَّ {مّنْ خَيْرٍ} جلَّ أو قلَّ وحملَه الأكثرونَ على الطعامِ بمعونةِ المقامِ {فَقِيرٌ} أي محتاج ولنضمنه معنى السؤال والطلب جئ بلامِ الدعامةِ لتقويةِ العملِ وقيل المَعنى لما أنزلتَ إليَّ من خيرٍ عظيمٍ هو خيرُ الدارينِ صرتُ فقيراً في الدُّنيا لأنَّه كانَ في سَعَةٍ من العيشِ عندَ فرعونَ قالَه عليه الصَّلاة والسَّلام إظهاراً للبجح والشُّكرِ على ذلك

25

{فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا} قيل هي كُبراهما واسُمها صفُوراءُ أو صفراءُ وقيل صُغراهما واسمُها صُفيراءُ أي جاءتْهُ عقيبَ ما رجعتا الى أبيها رُوي أنَّهما لما رجعتَا إلى أبيهما قبلَ النَّاسِ وأغنامُهما حُفلٌ بطانٌ قال لُهما ما أعجلَكُما قالتَا وجدنَا رجلاً صالحاً رحمنَا فسقَىَ لنا فقالَ لإحداهُما اذهبي فادعيِه لي وقولُه تعالى {تَمْشِى} حالٌ من فاعل جاءتْ وقوله تعالى {عَلَى استحياء} متعلقٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من ضميرِ تمشي أي جاءتْه تمشِي كائنةً على استحياءٍ فمعَناهُ انها كانت على استحياء حالتي المثى والمجيءِ معاً لا عندَ المجيءِ فقط وتنكيرُ استحياءٍ للتفخيمِ قيل جاءتْه متخفرةً أي شديدةَ الحياءِ وقيل قد استترتْ بكُمِّ دِرعِها {قالت} استئاف مبني على سؤال نشأ من حكايةِ مجيئِها إيَّاه عليه الصلاة والسلام كأنه قيلَ فماذا قالتْ له عليه الصَّلاة والسَّلام فقيلَ قالتْ {إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} أي جزاءَ سقيكَ لنا أسندتِ الدَّعوةَ إلى أبيها وعللنها بالجزاءِ لئلاَّ يُوهمَ كلامُها ريبةً وفيهِ من الدِّلالةِ على كمالِ العقلِ والحياءِ والعفَّةِ ما لا يخَفْى رُويَ أنه عليه الصلاةُ والسَّلام أجابَها فانطلَقا وهي أمامه فألزقتِ الرِّيحُ ثوبَها بجسدها فوصفتْهُ فقال لها أمشِي خلفي وانعَتي لي الطريقَ ففعلتْ حتَّى أتيا دارَ شُعيب عليهما السَّلامُ {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص} أي ما جَرى عليهِ من الخبرِ المقصُوصِ فإنَّه مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ كالعللِ {قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} الذي يلوحُ من ظاهرِ النظمِ الكريمِ أنَّ موسى عليه السَّلام إنَّما أجابَ المستدعيةَ من غيرِ تلعثُمٍ ليتبرَّكَ برؤيةِ شعيبٍ عليه السَّلام ويستظهرَ برأيهِ لا ليأخذ بمعروفِه أجراً حسبَما صرَّحتْ به ألا يُرى إلى ما رُوي أنَّ شُعيباً لما قدَّمَ إليه طعاماً قال إنَّا أهلُ بيتٍ لا نبيع ديننا بطِلاعِ الأرضِ ذهباً ولا نأخذُ على المعروفِ ثمناً ولم يتناولْ حتَّى قال شُعيبٌ عليه السَّلام هذهِ عادتُنا مع كلِّ مَن ينزلُ بنا فتناولَ بعد ذلكَ على سبيلِ التقبلِ لمعروفٍ مُبتدأٍ كيف لا وقد قصَّ عليه قصصَهُ وعرَّفَهُ أنَّه من بيتِ النُّبوةِ

القصص 26 28 من أولادِ يعقوبَ عليه السَّلامِ ومثله حَقيقٌ بأنْ يُضيَّفَ ويكرَّمَ لا سيَّما في دارِ نبيَ من أنبياءِ الله تعالى عليهم الصَّلاة والسَّلام وقيلَ ليس بمستنكرٍ منه عليه الصَّلاة والسَّلام أن يقبلَ الأجرَ لاضطرارِ الفقرِ والفاقةِ وقد رُوي عن عطاءِ بن السَّائبِ أنَّه عليهِ السلامُ رفعَ صوتَهُ بدعائِه ليُسمَعها ولذلك قيلَ له ليجزَيك الخ ولعلَّه عليه السَّلام إنَّما فعلَه ليكونَ ذريعة الى استدعائه لا الى استيفاء الأجرِ

26

{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا} وهي التي استدعتْهُ إلى أبيها وهي التي زوَّجها مِن موسى عليهما السلام {يا أبت استأجره} أيْ لرعي الغنمِ والقيامِ بأمرِها {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوى الامين} تعليلٌ جارٍ مجرى الدِّليلِ على أنَّه حقيقٌ بالاستئجارِ وللمبالغةِ في ذلكَ جُعل خيرَ اسماً لأنَّ وذُكر الفعلُ على صيغةِ الماضي للدَلالة على أنَّه أمينٌ مجرَّبٌ رُوي أن شعيبا عليهِ السَّلامُ قالَ لهَا وما أعلمكِ بقوَّتِه وأمانتِه فذكرتْ ما شاهدتْ منه عليه السَّلام من إقلالِ الحجر ونزعِ الدَّلِو وأنَّه صوَّبَ رأسه حتَّى بلَّغتْهُ رسالتَه وأمَرها بالمشي خلفَهُ

27

{قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتى هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِى} أي تكون أجير الى أو تثيبني من أجرتُ كذا إذا أثبتُه إيَّاه فقولُه تعالى {ثَمَانِىَ حِجَجٍ} على الأولِ ظرفٌ وعلى الثَّاني مفعولٌ به على تقديرِ مضافٍ أي رِعيةَ ثماني حججٍ ونُقل عن المبرِّدِ أنَّه يُقال أجرتُ داري ومملوكي غيرَ ممدودٍ وآجرتُ ممدوداً والأولُ أكثرُ فَعلَى هذا يكون المفعولُ الثَّاني محذوفاً والمعنى على أنْ تأجرنِي نفسَك وقولُه تعالى ثماني حججٍ ظرفٌ كالوجِه الأولِ {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً} في الخدمةِ والعملِ {فَمِنْ عِندِكَ} أي فهوُ مِن عندك بطريقِ التَّفضلِ لا من عندِي بطريقِ الإلزامِ عليك وهذا من شُعيبٍ عرضٌ لرأيه على مُوسى عليهما السلامَ واستدعاءٌ منه للعقدِ لا إنشاءٌ وتحقيقٌ له بالفعل {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} بالزامِ إتمامِ العشرِ أو المُناقشةِ في مُراعاةِ الأوقاتِ واستيفاءِ الأعمالِ واشتقاقُ المشقةِ من الشقِّ فإنَّ ما يصعبُ عليك يشقُّ عليك اعتقادُك في إطاقته ويوزعُ رأُيك في مزاولتِه {سَتَجِدُنِى إن شاء الله من الصالحين} في حُسنِ المعاملةِ ولينِ الجانبِ والوفاءِ بالعهدِ ومراده عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالاستثناءِ التبرُّكُ بهِ وتفويضُ أمرِه إلى توفيقِه تعالى لا تعليقُ صلاحِه بمشيئتِه تعالى

28

{قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ} مبتدأُ وخبرٌ أي ذلكَ الذي قلتَهُ وعاهدتِني فيه وشارطتِني عليه قائمٌ وثابتٌ بينَنا جميعاً لا يخرجُ عنه واحدٌ منَّا لا أناعما شرطتُ علي ولا أنتَ عمَّا شرطتَ على نفسِك وقولُه تعالى {أَيَّمَا الاجلين} أي أكثرَهما أو أقصرَهما {قضيت} أي وفتيكه بأداءِ الخدمةِ فيه {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ} تصريحٌ بالمرادِ وتقريرٌ لأمرِ الخيرةِ أي لا عُدوانَ عليَّ بطلبِ الزيادةِ على ما قضيتُه من الأجلينِ وتعميمُ انتفاءِ العُدوانِ لكلا الأجلين بصددِ المُشارطةِ مع عدمِ تحققِ العُدوانِ في أكثرِهما رأساً للقصدِ إلى التَّسويةِ بينهما في الانتفاء

القصص 29 أي كما لا أطالبُ بالزيادةِ على العشرِ لا أطالبُ بالزيادةِ على الثمانِ أو أيَّما الأجلينِ قضيتُ فلا إثمَ عليَّ يعني كما لاَ إثمَ عليَّ في قضاءِ الأكثرِ لا إثمَ عليَّ في قضاءِ الأقصرِ فقطْ وقُرىء أيَّ الأجلينِ ما قضيتُ فمَا مزيدةٌ لتأكيدِ القضاءِ كما أنَّها في القراءةِ الأُولى مزيدةٌ لتأكيدِ إبهامِ أيَ وشياعِها وقُرىء أيْما بسكونِ الياءِ كقولِ مَن قال تنظَّرتُ نصراً والسماكينِ أيْهما عليَّ من الغيثِ استهلتْ مواطرُه والله على مَا نَقُولُ من الشُّروطِ الجاريةِ بيننا {وكيل} شاهد وحفظ فلا سبيلَ لأحدٍ منَّا إلى الخروجِ عنه أصلاً وليس ما حُكي عنهما عليهما الصَّلاة والسَّلام تمامَ ما جرى بينهما من الكلامِ في إنشاءِ عقدِ النِّكاحِ وعقدِ الإجارةِ وإيقاعِهما بل هُو بيانٌ لما عز ما عليه واتفقا على ايفاعه حسبما يتوقفُ عليه مساقُ القصَّةِ إجمالاً من غيرِ تعرضٍ لبيانِ مواجبِ العقدينِ في تلك الشريعةِ تفصيلاً رُوي أنَّهما لمَّا أتمَّا العقدَ قال شعيبٌ لموسى عليهما السَّلام ادخُلْ ذلكَ البيتَ فخُذ عصاً من تلكَ العصيِّ وكانت عنده عِصِيُّ الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام فأخذَ عصا هبطَ بها آدمُ عليه الصَّلاة والسَّلام من الجنَّةِ ولم يزلِ الأنبياءُ يتوارثونَها حتَّى وقعتْ إلى شُعيبٍ عليه السَّلام فمسَّها وكان مكفوفاً فضنَّ بها فقال خُذ غيرَها فما وقعَ في يده إلا هي سبعَ مرَّاتٍ فعلم أنَّ له شأناً وقيل أخذَها جبريلُ عليه السَّلام بعد موتِ آدمَ عليه السَّلام فكانتْ معه حتَّى لقَي بها مُوسى عليه السَّلام ليلاً وقيل أودعها شعيباً ملَكٌ في صورةِ رجلٍ فأمرَ بنتَه أنْ تأتيَه بعصا فأتتْهُ بها فردَّها سبعَ مرَّاتٍ فلم يقعْ في يدها غيرُها فدفعَها إليه ثم ندِمَ لأنَّها وديعةٌ فتبعَه فاختصَما فيها ورضيا ان يحكم بينها أولُ طالعٍ فأتاهُما المَلكُ فقالَ ألقياها فمَن رفعَها فهَي له فعالَجها الشَّيخُ فلم يُطِقْها ورفعَها مُوسى عليه السَّلام وعن الحسنِ رضيَ الله تعالى عنه ما كانتْ إلا عصاً من الشَّجرِ اعترضها اعتراضاً وعن الكلبي رحمة الله الشَّجرةُ التي منها نُوديَ شجرةُ العَوسجِ ومنها كانت عصاهُ ولمَّا أصبحَ قال له شُعِيبٌ صلواتُ الله وسلامُه عليهما إذا بلغتَ مفرقَ الطَّريقِ فلا تأخذْ على يمينكَ فإنَّ الكلأَ وإنْ كانَ بها أكثرَ إلاَّ أنَّ فيها تِنِّيناً أخشاهُ عليكَ وعلى الغنم فأخذتِ الغنمُ ذاتَ اليمينِ فلم يقدرْ على كفِّها ومشَى على أثرِها فإذا عشبٌ وريف لم يرَ مثلَه فنامَ فإذا بالتنِّينِ قد أقبل فحاربتْهُ العَصا حتَّى قتلتْهُ وعادتْ إلى جنبِ مُوسى عليه السَّلامُ داميةً فلما أبصرَها داميةً والتنِّينَ مقتولاً ارتاحَ لذلك ولما رجعَ إلى شُعيبٍ عليهما السَّلامُ مسَّ الغنمَ فوجدَها ملأى البُطونِ غزيرةَ اللبنِ فأخبرَه مُوسى عليه السَّلام بالشَّأنِ ففرحَ وعلَم أنَّ لموسى والعصا شأناً وقال له إنِّي وهبتُ لك من نتاجِ غنمي هذا العامِ كلَّ أدرعَ ودعاء فأُوحي إليه في المنام أن اضربْ بعصاك مُستقى الغنمِ ففعلَ ثم سقَى فما أخطأتْ واحدةٌ إلا وضعت أَدرعَ ودرعاءَ فوفَّى له بشرطِه والفاءُ في قولِه تعالى

29

{فلما قضى موسى الأجل} فصيحةٌ أي فعقدا العقدينِ وباشر موسى ما لتزمه فلما أتمَّ الأجلَ {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} نحوَ مصرَ بإذنٍ من شُعيبٍ عليهما السَّلامُ رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قضى ابعدالا جلين ومكثَ عنَدُه بعد ذلك عشر سنين ثمَّ عزمَ على العودِ إلى مصرَ فاستأذنَه في

القصص 30 32 ذلكَ فأذنَ له فخرجَ بأهلِه {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور} أي أبصرَ من الجهةِ التي تلي الطُّورَ {نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم مّنْهَا بِخَبَرٍ} أي بخبرِ الطريق وقد كانوا ضلوه {أَوْ جَذْوَةٍ} أي عُودٍ غليظٍ سواء كانتْ في رأسه نارا ولا قال قائلُهم باتتْ حواطبُ لَيْلَى يلتمسنَ لها جزلَ الجذى غير حوار ولا دعِرِ وقال وألقى على قبْسٍ من النَّار جذوة شديداً عليها حرُّها والتهابُها ولذلك بيَّن بقولِه تعالى {من النار} وقرئ بكسرِ الجيمِ وبضمِّها وكلَّها لغاتٌ {لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي تستدفئونَ

30

{فلما أتاها} أي النار التي آنسَها {نُودِىَ مِن شاطئ الوادى الأيمن} أي أتاهُ النداءُ من الشاطئ الأيمنِ بالنسبةِ إلى مُوسى عليهِ السَّلامُ {فِى البقعة المباركة} متصل بالشاطئ أو صلةٌ لنُوديَ {مِنَ الشجرة} بدلُ اشتمالٍ من شاطئ لأنَّها كانتْ نابتةً على الشاطئ {أن يا موسى إِنّى أَنَاْ الله رب العالمين} وهذ وإنْ خالفَ لفظاً لما في طه والنَّملِ لكنَّه موافقٌ له في المَعنى المرادِ

31

{وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} عطفٌ على أنْ يا مُوسى وكلاهما مفسرٌ لنودَي والفاءُ في قوله تعالى {فلما رآها تهتز} فصيحة مفصحةٌ عن جُمَلٍ قد حُذفت تعويلا على دلالة الحالِ عليها وإشعاراً بغايةِ سرعةِ تحققِ مدلولاتِها أي فألقاها نصارت ثُعباناً فاهتزتْ فلمَّا رَآها تهتزُّ {كَأَنَّهَا جَانٌّ} أي في سُرعةِ الحركةِ مع غاية عظم جئتها {ولى مُدْبِراً} أي مُنهزماً من الخوفِ {وَلَمْ يُعَقّبْ} أيْ لم يرجعْ {يَا موسى} أي قيلَ يا مُوسى {أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الامنين} من المخاوفِ فإنَّه لا يخافُ لديَّ المُرسلون

32

{اسلك يَدَكَ فِى جَيْبِكَ} أي أَدخلْها فيهِ {تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوء} أي عيبٍ {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} أي يديك المبسوطتينِ لتتَّقي بهما الحيَّةَ كالخائفِ الفزعِ بإدخالِ اليمنى تحتَ العضد الأيسرِ واليسرى تحتَ الأيمنِ أو بإدخالِهما في الجيبِ فيكون تكريراً لغرضٍ آخرَ هو أنْ يكونَ ذلك في وجهِ العدوِّ إظهارَ جراءةٍ ومبدأ لظهورٍ معجزةٍ ويجوزُ أنْ يرادَ بالضمِّ التَّجلدُ والثباتُ عند انقلابِ العَصَا ثعباناً استعارةٌ من حال الطائر فإنه إذَا خافَ نشَر جناحيِه وإذا أمنَ واطمأنَّ ضمَّهما إليهِ {مِنَ الرهب} أي من أجلِ الرَّهبِ أي إذا عراكَ الخوفُ فافعلْ ذلك تجلُّداً وضبطاً لنفسكَ وقُرىء بضمِّ الراءِ وسكونِ الهاء وبضمهما والكل لغات {فَذَانِكَ} إشارةٌ إلى العَصَا واليدِ وقُرىء بتشديدِ النُّونِ فالمخفف مثنى ذاك والمشد مثنَّى ذلكَ {برهانان} حجَّتانِ نيِّرتانِ وبُرهان فُعلان لقولِهم أبرَه الرَّجلُ إذا جاءَ بالبُرهانِ من قولِهم برهَ الرَّجلُ إذا ابيضَّ ويُقال

القصص 33 37 للمرأةِ البيضاءِ برهاءُ وبَرَهْرَهةٌ ونظيرُه تسميةِ الحجَّةِ سُلطاناً من السَّليطِ وهو الزَّيتُ لإنارتِها وقيل هو فُعلال لقولِهم برهنَ ومِنْ في قولِه تعالَى {مِن رَبّكَ} متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لبرهانانِ أي كائنانِ منْهُ تعالى {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} واصلانِ ومنتهيانِ إليهم {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين} خارجينَ عن حُدود الظُّلمِ والعُدوان فكانُوا أحِقَّاءَ بأنْ نُرسلَك إليهم بهاتينِ المُعجزتينِ الباهرتينِ

33

{قَالَ رَبّ إِنّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يقتلون} بمقابلتها

34

{وأخي هارون هُوَ أَفْصَحُ مِنّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ رِدْءاً} أي مُعيناً وهو في الأصلِ اسمُ ما يُعان به كالدفء وقرئ ردأ بالتخفيف {يصدقني} بتخليص الحقِّ وتقريرِ الحجَّةِ بتوضيحِها وتزييفِ الشُّبهةِ {إِنّى أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ} ولسانِي لا يُطاوعني عند المُحاجةِ وقيل المرادُ تصديقُ القومِ لتقريرِه وتوضيحِه لكنَّه أسندَ إليه إسناد الفعلِ إلى السببِ وقرئ يصدقْني بالجزمِ على أنَّه جوابُ الأمرِ

35

{قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أي سنقويكَ به فإنَّ قوَّةَ الشَّخصِ بشدة اليدِ على مُزاولةِ الأمورِ ولذلكَ يعبّرُ عنه باليدِ وشدَّتِها بشدَّة العضدِ {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سلطانا} أي تسلطاً وغلبةً وقيل حجَّةً وليس بذاكَ {فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} باستيلاءٍ أو محاجة {بآياتنا} متعلقٌ بمحذوفٍ قد صُرِّح به في مواضعَ أُخَر أي اذهَبا بآياتِنا أو بنجعل أي نسلطكما بآياتِنا أو بمعنى لا يصَلون أي تمتنعونَ منهم بها وقيل هو قسمٌ وجوابُه لا يصلونَ وقيلَ هو بيانٌ للغالبونَ في قولِه تعالى {أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون} بمعنى أنَّه صلة لما يبينه أوصلة له على أنَّ اللامَ للتعريفِ لا بمعنى الذي

36

{فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات} أي واضحات الدلالة على صحَّةِ رسالةِ مُوسى عليه السَّلام منه تعالى والمرادُ بها العَصَا واليدُ إذ هُما اللتانِ أظهرَهُما مُوسى عليه السَّلام إذْ ذاكَ والتَّعبيرُ عنْهمَا بصيغةِ الجمعِ قد مرَّ سرُّه في سورةِ طه {قَالُواْ مَا هَذا إِلاَّ سحرٌ مُّفْتَرًى} أي سحرٌ مختلقٌ لم يُفعل قبلَ هذا مثلُه أو سحرٌ تعمله ثم تفتريهِ على الله تعالى أو سحرٌ موصوفٌ بالافتراءِ كسائرِ أصنافِ السِّحِر {وَمَا سَمِعْنَا بهذا} أي السِّحرِ أو ادعاءِ النُّبوةِ {في آبائنا الأولين} أي واقعاً في أيَّامِهم

37

{وَقَالَ موسى رَبّى أَعْلَمُ بِمَن جَاء بالهدى مِنْ عِندِهِ}

يريد به نفسه وقرئ قال بغير واولانه جوابٌ عن مقالِهم ووجهُ العطفِ أنَّ المرادَ حكايةُ القولينِ ليوازنَ السَّامعُ بينهما فيميِّز صحيحَهما من الفاسدِ {وَمَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار} أي العاقبةُ المحمودُة في الدَّارِ وهي الدُّنيا وعاقبتُها الأصليةُ هي الجَّنة لأنَّها خُلقتْ مجازاً إلى الآخرةِ ومزرعة لها والمقصودُ بالذاتِ منها الثَّوابُ وأمَّا العقابُ فمن نتائجِ أعمالِ العصاه وسيئات الغواة وقرئ يكونُ بالياءِ التحتانيَّةِ {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} أي لا يفوزونَ بمطلوبٍ ولا ينجون عن محذُورٍ

38

{وقال فرعون يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى} قاله اللعينُ بعدَ ما جمعَ السَّحرةَ وتصدَّى للمُعارضةِ فكانَ من أمِرهم ما كانَ {فَأَوْقِدْ لي يا هامان عَلَى الطين} أي أصنعْ آجرَّاً {فاجعل لّى} منه {صَرْحاً} أي قصراً رفيعاً {لَّعَلّى أَطَّلِعُ إلى إله موسى} كأنَّه توهَّم أنَّه لو كان لكان جسماً في السَّماءِ يمكن الرُّقيُّ إليه ثم قال {وَإِنّى لاظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} أو أرادَ أنْ يبنيَ له رَصَداً يترصَّدُ منه أوضاعَ الكواكبِ فيرى هل فيها ما يدلُّ على بعثةِ رسولٍ وتبدلِ دولتِه وقيل المراد بنفى العلم نفى المعلومِ كما في قولِه تعالى {قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السماوات وَلاَ فِى الارض} فإنَّ معناهُ بما ليس فيهنَّ وهذا من خواصِّ العلومِ الفعليةِ فإنَّها لازمةٌ لتحققِ معلوماتِها فيلزم من انتفائِها انتفاءُ معلوماتِها ولا كذلكَ العلومُ الانفعاليةُ قيل أولُ من اتَّخذَ الآجرَّ فرعونُ ولذلك أُمرِ باتخاذِه على وجهٍ يتضمَّنُ تعليمَ الصَّنعةِ مع ما فيه من تعظيم ولذلك نادى هامانَ باسمهِ بيافي وسطِ الكلامِ

39

{واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الارض} أرضِ مصرَ {بِغَيْرِ الحق} بغيرِ استحقاقٍ {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ} بالبعث للجزاء وقرئ بفتحِ الياءِ وكسرِ الجيمِ من رجعَ رجُوعاً والأولُ من رجع رجعاً وهو الأنسبُ بالمقامِ

40

{فأخذناه وَجُنُودَهُ} عقيبَ ما بلغُوا من الكفرِ والعتُوِّ أقصى الغاياتِ {فنبذناهم فِى اليم} قدمر تفصيلُه وفيه من تفخيمِ شأنِ الأخذِ وتهويلِه واستحقارِ المأخوذينَ المنبوُذينَ ما لا يخفى كأنَّه تعالى أخذَهم مع كثرتِهم في كفَ وطرحَهم في البحرِ ونظيُره قولُه تعالى وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والارض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسموات مطويات بِيَمِينِهِ {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين} وبيَّنها للنَّاسِ ليعتبرُوا بها

41

{وجعلناهم} أي صيَّرناهم في عهدِهم {أَئِمَّةً يَدْعُونَ} النَّاسَ {إِلَى النار} إلى ما يُؤدِّي إليها من الكفرِ والمَعَاصي أي قدوةً يَقتِدي بهم أَهلُ الضَّلالِ لمَّا صرفُوا اختيارَهم إلى تحصيلِ تلك الحالة وقيل

القصص 42 44 سمَّيناهم أئمةً دعاةً إلى النَّار كما في قولِه تعالى وجعلوا الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا فالأنسبُ حينئذٍ أن يكونَ الجعلُ بعدهم فيما بين الأممِ وتكونَ الدَّعوة الى نفس البار وقيل معنى الجعلِ منعُ الألطافِ الصَّارفةِ عن ذلك {وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ} بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوهِ

42

{وأتبعناهم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} طرداً وإبعاداً من الرَّحمةِ ولعناً من اللاعنينَ حيثُ لا يزالُ يلعنُهم الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام والمؤمنون خَلَفاً عن سَلَفٍ {وَيَوْمَ القيامة هُمْ مّنَ المقبوحين} من المطرُودينِ المُبعدينَ وقيل من الموسُومين بعلامةٍ منكرةٍ كزرقةِ العُيون وسوادِ الوجهِ قالَه ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما يُقال قبَّحه الله وقبَحه إذا جعلَه قبيحاً وقال أبوُ عُبيدةَ من المقبُوحين من المُهلكينَ ويومَ القيامةِ إمَّا متعلقٌ بالمقبوحينَ على أنَّ اللامَ للتعريفِ لا بمعنى الذي أو بمحذوفٍ يُفسره ذلك كأنَّه قيل وقبحوا يوم القيامة نجو لعملِكم من القالينَ

43

{ولقد آتينا موسى الكتاب} أي التوراة {مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الاولى} هم أقوامُ نوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ عليهم السَّلام والتَّعرض لبيانِ كون إبتائها بعدإهلاكهم للإشعارِ بمساس الحاجةِ الدَّاعيةِ إليه تمهيداً لما يعقبُه من بيانِ الحاجةِ الدَّاعية إلى إنزالِ القُرآن الكريمِ على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم فإنَّ إهلاكَ القُرون الأُولى من مواجبات اندراسِ معالمِ الشَّرائعِ وانطماسِ آثارِها وأحكامِها المؤديينِ إلى اختلالِ نظامِ العالمِ وفسادِ أحوالِ الأُمم المستدعيينَ للتشريعِ الجديد بتقرير الأُصولِ الباقيةِ على مرِّ الدُّهورِ وترتيب الفروعِ المتبدلة بتبدلِ العُصور وتذكير أحوالِ الأُممِ الخاليةِ الموجبةِ للاعتبارِ كأنَّه قيلَ ولقد آتينَا مُوسى التوراةَ على حين حاجةٍ إلى إيتائِها {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ} أي أنواراً لقلوبِهم تبصر بها الحقائقَ وتميزُ بين الحقِّ والباطلِ حيثُ كانتْ عُمياً عن الفهم والادراك بالكُلِّية فإنَّ البصيرةَ نورُ القلبِ الذي به يستبصرُ كما أنَّ البصرَ نورٌ العينِ الذي به تبصرُ {وهدى} أي هدايةً إلى الشَّرائعِ والاحكامِ التي هي سُبلُ الله تعالى {وَرَحْمَةً} حيثُ ينالُ من عملَ به رحمةَ الله تعالى وانتصابُ الكلِّ على الحاليَّةِ من الكتابِ على أنَّه نفسُ البصائرِ والهُدى والرَّحمة أو على حذفِ المضافِ أي ذَا بصائرَ الخ وقيل على العلَّة أي آتيناهُ الكتابَ للبصائرِ والهُدى والرَّحمةِ {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ليكونُوا على حالٍ يُرجى منه التَّذكرُ وقد مرَّ تحقيقُ القولِ في ذلك عند قولِه تعالى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} من سورةِ البقرةِ وقوله تعالى

44

{وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى} شروعٌ في بيانِ أنَّ إنزالَ القرآنِ الكريمِ أيضاً واقعٌ في زمانِ شدَّة مساسِ الحاجةِ إليه واقتضاءِ الحكمةِ له البتةَ وقد صدرَ بتحقيقِ كونِه وحياً صادقاً من عندِ الله عزَّ وجلَّ ببيانِ أنَّ الوقوفَ على ما فُصِّل من الأحوال لا يتسنَّى

القصص 45 46 إلا بالمشاهدةِ أو التعلُّمِ ممَّن شاهدَها وحيثُ انتفى كلاهُما تبينَ أنَّه بوحيٍ من علاَّمِ الغُيُوبِ لا محالةَ على طريقةِ قولِه تعالى {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} الآيةَ أيْ وما كنتَ بجانبِ الجبلِ الغربِّي أو المكانِ الغربيِّ الذي وقعَ فيه الميقاتُ على حذفِ الموصوفِ وإقامةِ الصِّفةِ مُقامَهُ أو الجانبِ الغربِّي على إضافةِ الموصُوفِ إلى الصِّفةِ كمسجدِ الجامعِ {إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الامر} أي عهدنَا إليهِ وأحكمَنا أمرَ نبوَّتِه بالوحي وإيتاء التَّوراةِ {وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين} أي من جُملة الشاهدينَ للوحي وهم السبعونَ المختارون للميقاتِ حتَّى تشاهدَ ما جرى من أمرِ موسى في ميقانه وكتبةِ التَّوراةِ له في الألواحِ فتخبَره للنَّاسِ

45

{وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً} أي ولكنَّا خلقنا بين زمانِك وزمانِ مُوسى قُروناً كثيرةً {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر} وتمادَى الأمدُ فتغيرتِ الشَّرائعُ والأحكامُ وعَميتْ عليهم الأنباءُ لا سيما على آخرهم فافتضى الحالُ التَّشريعَ الجديدَ فأوحينَا إليكَ فحذفَ المستدرَكَ اكتفاءً بذكِر ما يُوجبه ويدلُّ عليهِ وقولُه تعالى {وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِى أَهْلِ مَدْيَنَ} نفيٌ لاحتمالِ كونِ معرفتِه عليه الصَّلاة والسَّلام للقصَّةِ بالسَّماعِ ممَّن شاهدَها أي وما كنتَ مُقيماً في أهلِ مدينَ من شُعيبٍ والمؤمنينَ به وقولُه تعالى {تَتْلُو عَلَيْهِمْ} أي تقرأُ على أهلِ مدينَ بطريق التعلم منهم {آياتنا} الناطقةَ بالقصَّةِ إمَّا حالٌ من المُستكنِّ في ثاوياً أو خبرٌ ثانٍ لكنتَ {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} إيَّاك ومُوحين إليكَ تلك الآياتِ ونظائرَها

46

{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا} أي وقتَ ندائنا موسى إِنّى أَنَا الله رَبُّ العالمين واستنبائنا إيَّاه وإرسالِنا له الى فرعونَ {ولكنْ رحمةٌ مّن رَّبِكَ} أي ولكنْ أرسلناكَ بالقُرآنِ النَّاطقِ بما ذُكر وبغيرِه لرحمةٍ عظيمةٍ كائنةٍ منَّا لك وللنَّاسِ وقيل علمناكَ وقيل عرَّفناك ذلك وليسَ بذاكَ كما ستعرفُهُ والالتفاتُ إلى اسمِ الربِّ للإشعارِ بعلَّةِ الرَّحمةِ وتشريفِه صلى الله عليه وسلم بالإضافةِ وقد اكتُفي عن ذكرِ المستدركِ هُهنا بذكر ما يُوجبه من جهتِه تعالى كما اكتفى عنْهُ في الأولِ بذكرِ ما يُوجبه من جهةِ النَّاسِ وصرَّح به فيما بينُهما تنصيصا على ما هو المقصودُ وإشعاراً بأنَّه المرادُ فيهما أيضا ولله درُّ شأنِ التنزيلِ وقولُه تعالى {لِتُنذِرَ قَوْماً} متعلقٌ بالفعلِ المعلَّلِ بالرَّحمةِ فُهو ما ذكرنا من إرساله صلى الله عليه وسلم بالقُرآنِ حتماً لما أنَّه المعللُ بالإنذارِ لا تعليمُ ما ذكر وقرئ رحمةٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوف وقوله تعالى {مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ} صفةٌ لقوماً أي لم يأتهم نذيرٌ لوقوعِهم في فترةٍ بينك وبينَ عيسى وهي خمسمائةٌ وخمسونَ سنةً أو بينك وبين اسمعيل بناء على أن دعوة موسى عيسى عليهما السَّلامُ كانتْ مختصَّةً ببني اسرائيلَ {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أيْ يتعظونَ بإنذارِك وتغييرُ الترتيب الوقوعي بين

القصص 47 49 قضاء الأمر والنواء في أهلِ مدينَ والنِّداءِ للتنبيهِ على أنَّ كلاً من ذلك برهانٌ مستقلُّ على أن حكايته صلى الله عليه وسلم للقصَّةِ بطريقِ الوحِى الإلهيِّ ولو ذُكر أولاً نفيُ ثوائه صلى الله عليه وسلم من أهلِ مدينَ ثمَّ نفيَ حضوره صلى الله عليه وسلم عندَ النِّداءِ ثم نُفي حضورُه عند قضاءِ الأمرِ كما هو الموافقُ للترتيبِ الوقوعي لربما توهم أن الكلَّ دليلٌ واحدٌ على ما ذُكِرَ كما مَرَّ في سورة البقرةِ

47

{وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ} أي عقوبةٌ {بِمَا قَدَّمَتْ أيديهم} أي ما اقترفُوا من الكفرِ والمعَاصي {فَيَقُولُواْ} عطفٌ على تُصيبَهم داخلٌ في حيِّزِ لولا الامتناعيَّةِ على أنَّ مدارَ انتفاءِ ما يُجاب به هو امتناعُه لا امتناعُ المعطُوفِ عليه وإنما ذكرَه في حيزها للإبذان بأنه السبب الملجئ لهم إلى قولِهم {رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رسولا} أي هلاَّ أرسلتَ إلينا رسولاً مؤيداً مِن عندك بالآيات {فنتبع آياتك} الظَّاهرةَ على يدِه وهو جوابُ لولا الثَّانيةِ {وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} بهَا وجوابُ لولا الأُولى محذوفٌ ثقةٍ بدلالةِ الحالِ عليهِ والمَعْنى لولا قولُهم هذا عندَ إصابة عقوبة جاياتهم التي قدَّمُوها ما أرسلناكَ لكن لمَّا كانَ قولُهم ذلكَ محقَّقاً لا محيدَ عنه أرسلناك قطعا لماذيرهم بالكُلِّيةِ

48

{فَلَمَّا جَاءهُمُ} أي أهلَ مكَّةَ {الحق مِنْ عِندِنَا} وهو القرآنُ المنزلُ عليهِ صلى الله عليه وسلم {قَالُواْ} تعنُّتاً واقتراحاً {لَوْلا أوتي} يعنونه صلى الله عليه وسلم {مِثْلَ مَا أُوتِىَ موسى} من الكتابِ المنزَّلِ جملةً وأمَّا اليدُ والعَصَا فلا تعلُّق لهما بالمقامِ كسائرِ معجزاتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقوله تعالى {أَوَ لَمْ يَكْفُرُواْ بِمَا أُوتِىَ موسى مِن قَبْلُ} ردٌّ عليهم وإظهارٌ لكونِ ما قالُوه تعنُّتاً محضاً لا طلباً لما يُرشدهم إلى الحقِّ أي ألم يكفُروا من قبلِ هذا القولِ بما أوتى موسى من الكتاب كما كفرُوا بهذا الحقِّ وقولُه تعالى {قَالُواْ} استئنافٌ مَسُوقٌ لتقريرِ كُفرِهم المستفادِ من الإنكارِ السَّابقِ وبيانِ كيفيَّتِه وقولُه تعالى {سِحْرَانِ} خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي هُما يعنونَ ما أُوتي محمدٌ وما أُوتي مُوسى عليهما السَّلام سحرانِ {تَظَاهَرَا} أي تعاوَنا بتصديقِ كلُّ واحدٍ منهُما الآخَرَ وذلك أنَّهم بَعثوا رهطاً منهم إلى رؤساءِ اليَّهودِ في عيدلهم فسألوهم عن شأنه صلى الله عليه وسلم فقالُوا إنَّا نجدُه في التَّوارةِ بنعتِه وصفتِه فلمَّا رجعَ الرَّهطُ وأخبرُوهم بما قالتِ اليَّهودُ قالُوا ذلكَ وقولُه تعالى {وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلّ} أي بكلِّ واحدٍ من الكتابينِ {كافرون} تصريحٌ بكفرِهم بهما وتأكيدٌ لكفرِهم المفهومِ من تسميتهما سحراً وذلك لغايةِ عُتوهم وتمادِيهم في الكفر والطغيان وقرئ ساحران تظاهران يعنون مُوسى ومحمَّداً صلَّى الله عليه وسلم هذا هُو الذي تستدعيهِ جَزالةُ النَّظمِ الجليلِ فتأملْ ودعْ عنكَ ما قيلَ وقيلَ ألا ترى إلى قولِه تعالى

49

{قُلْ فَأْتُواْ بكتاب مّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى منهما} مما أوتياه

القصص 50 54 من التَّوراةِ والقُرآنِ وسمَّيتُموهما سحرينِ فإنَّه نصٌّ فيما ذُكر وقوله تعالى {أَتَّبِعْهُ} جوابٌ للأمرِ أي إنْ تأتُوا به أتَّبعْهُ ومثلُ هذا الشَّرطِ ممَّا يأتِي به من يدلُّ بوضوحِ حُجَّتِه وسُنوحِ محجَّتِه لأنَّ الإتيانَ بما هو أهدى من الكتابينِ أمرٌ بيِّنُ الاستحالةِ فيوسع دائرةَ الكلامِ للتَّبكيتِ والإفحامِ {إِن كُنتُمْ صادقين} أي في أنَّهما سحرانِ مختلقانِ وفي إيراد كلمةِ إنْ مع امتناعِ صدقِهم نوعُ تهكُّمٍ بهم

50

{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ} أي فإنْ لم يفعلُوا ما كلَّفتهم من الإتيانِ بكتابٍ أهدى منهما كقولِه تعالى فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وإنَّما عُبِّر عنه بالاستجابةِ إيذانا بأنه صلى الله عليه وسلم على كمالِ أمنٍ من أمره كأن أمره صلى الله عليه وسلم لهم بالإتيانِ بما ذُكر دعاءٌ لهم إلى أمرٍ يريدُ وقوعَه والاستجابةُ تتعدَّى إلى الدُّعاءِ بنفسِه وإلى الدَّاعِي باللامِ فيحذف الدُّعاء عندَ ذلكَ غالباً ولا يكادُ يقال استجابَ الله له دعاءَه {فاعلم أَنَّمَا يتبعون أهواءهم} الزائفة من غير أن يكون لهم متمسَّكٌ ما أصلاً إذْ لَوْ كانَ لهُم ذلكَ لأَتَوا بهِ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن اتبع هواه} استفهامٌ إنكاريٌّ للنَّفيِ أيْ لا أضلَّ ممَّن اتَّبع هواهُ {بِغَيْرِ هُدًى مّنَ الله} أي هو أضلُّ من كلِّ ضالَ وإنْ كانَ ظاهرُ السَّبكِ لنفيِ الأصلِ لا لنفيِ المُساوي كما مرَّ في نظائرِه مراراً وتقييدُ اتِّباعِ الهَوَى بعدمِ الهُدى من الله تعالى لزيادةِ التَّقريعِ والإشباعِ في التَّشنيعِ والتَّضليلِ وإلا فمقارنتُه لهدايتِه تعالى بينةُ الاستحالةِ {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} الذين ظلمُوا أنفسَهم بالانهماكِ في اتباعِ الهَوَى والإعراضِ عن الآياتِ الهاديةِ إلى الحقِّ المُبينِ

51

{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول} وقرئ بالتَّخفيف أي أنزلنا القرآنَ عليهم متواصلاً بعضَه إثرَ بعضٍ حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحةُ أو متتابعاً وعداً ووعيداً قصصاً وعبراً ومواعظَ ونصائحَ {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فيؤمنون بما فيه

52

{الذين آتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ} أي منْ قبلِ إيتاءِ القُرآنِ {هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} وهم مُؤمنو أهلِ الكتابِ وقيلَ أربعون من أهلِ الإنجيلِ اثنانِ وثلاثون جاءوا مع جعفر من الحبشة وثمانة ي من الشامِ

53

{وَإِذَا يتلى} أي القرآنُ عَلَيْهِمْ {قالوا آمنا بِهِ أَنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا} أي الحقُّ الذي كما نعرف حقيته وهو استئناف لييان ما أوجب إيمانَهم وقولُه تعالَى {إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ} أي منْ قبلِ نزولِه {مُسْلِمِينَ} بيانٌ لكونِ إيمانِهم به أمراً متقادمَ العهدِ لما شاهدوا ذكرَه في الكتب المنقدمة وأنَّهم على دينِ الإسلام قبل نزولِ القرآنِ

54

{أولئك} الموصوفون بما ذكر من النعوت

القصص 55 57 {يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} مرةً على إيمانِهم بكتابِهم ومرةً على إيمانِهم بالقرآنِ {بِمَا صَبَرُواْ} بصبرِهم وثباتِهم على الإيمانينِ أو على الإيمان بالقرآنِ قبل النزول وبعده أو على أذى من هاجرهم أهلِ دينِهم ومن المشركين {ويدرؤون بالحسنة السيئة} أي يدفعونَ بالطاعة المعصية لقوله صلى الله عليه وسلم وأتبعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} في سبيلِ الخيرِ

55

{وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو} من اللاغينَ {أَعْرَضُواْ عَنْهُ} عن اللَّغو تكرماً كقولِه تعالى وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً {وَقَالُواْ} لهم {لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم سلام عَلَيْكُمْ} بطريقِ المُتاركةِ والتَّوديعِ {لاَ نَبْتَغِى الجاهلين} لا نطلبُ صحبتَهم ولا نريدُ مخالطتَهم

56

{إِنَّكَ لاَ تَهْدِى} هدايةً موصِّلةً إلى البُغيةِ لا محالةَ {مَنْ أَحْبَبْتَ} من النَّاسِ ولا تقدرُ على أنْ تدخلَه في الإسلامِ وإنْ بذلت فيه غايةَ المجهودِ وجاوزتَ في السعيِ كلَّ حدَ معهودٍ {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَآء} أنْ يهديَه فيدخلَه في الإسلامِ {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} بالمستعدِّينَ لذلك والجمهورُ على أنَّها نزلتْ في أبي طالبٍ فإنَّه لما احتُضر جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالَ له يا عمِّ قُل لا إله إلا الله كلمةً أحاجُّ بها لك عندَ الله قال له يا ابنَ أخِي قد علمتُ إنَّك لصادقٌ ولكنِّي أكرَه أنْ يقال جزع عند الموتِ ولولا أنْ يكونَ عليك وعلى بني أبيكَ غضاضةٌ بعدي لقُلتها ولأقررتُ بها عينَك عندَ الفراقِ لما أَرَى من شدَّة وَجْدِك ونصيحتِك ولكنِّي سوفَ أموتُ على ملَّةِ الأشياخِ عبدِ المطَّلبِ وهاشمٍ وعبدِ منافٍ

57

{وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} نزلت في الحرث بن عثمان ابن نوفلَ بنِ عبدِ منافٍ حيث أتى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فقال نحنُ نعلم أنَّك على الحقِّ ولكنَّا نخافُ إنِ اتَّبعناك وخالفنَا العربَ وإنما نحنُ أكلةُ رأسٍ أنْ يتخطَّفونا من أرضِنا فرُد عليهم بقولِه تعالى {أو لم نمكن لهم حرما آمناً} أي ألم نعصمْهم ولم نجعلْ مكانَهم حرماً ذا أمنٍ لحرمةِ البيتِ الحرامِ الذي تتناحرُ العرب حوله وهو آمنون {يجبى إليه} وقرئ تجبى أي تجمع وتحمل إليه {ثمراتُ كُلّ شَىْء} من كلِّ أوبٍ والجملةُ صفةٌ أخرى لحَرماً دافعةٌ لمَا عَسَى يُتوهَّم من تضررِهم بانقطاعِ الميرةِ {رّزْقاً مّن لَّدُنَّا} فإذا كان حالهم ما ذكروهم عبدةُ أصنامٍ فكيف يخافونَ التخطفَ إذا ضمُّوا إلى حُرمةِ البيتِ حُرمةَ التَّوحيدِ {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي جهلة لا ينفطنون له ولا يتفكَّرون ليعلمُوا ذلك وقيل هو متعلِّق بقولِه تعالى مّن لَّدُنَّا أي قليل منهم بتدبرون فيعلمونَ أنَّ ذلك رزقٌ من عند الله تعالى إذ لو علمُوا لما خافُوا غيرَه وانتصابُ رزقاً على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ لمعنى يجبى أو حالٌ من ثمراتُ على أنَّه بمعنى مرزوقٍ لتخصصها بالإضافةِ ثم بَيّن أن الأمر بالعكس

القصص 58 60 وأنَّهم أحقَّاءُ بأنْ يخافوا بأسَ الله تعالى بقوله

58

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أي وكثيرٌ من أهلِ قريةٍ كانت حالُهم كحالِ هؤلاءِ في الأمنِ وخفضِ العيشِ والدَّعةِ حتَّى أشِرُوا فدمَّرنا عليهم وخرَّبنا ديارَهم {فَتِلْكَ مساكنهم} خاويةٌ بما ظلمُوا {لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ} من بعدِ تدميرِهم {إِلاَّ قَلِيلاً} أي إلا زماناً قليلاً إذْ لا يسكنُها إلا المارَّةُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أولم يبقَ من يسكنُها إلا قليلاً من شؤمِ معاصيِهم {وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين} منهم إذ لم يخلفهم أحدٌ يتصرَّفُ تصرَّفَهم في ديارِهم وسائرِ ذاتِ أيديهم وانتصابُ معيشتَها بنزعِ الخافضِ أو يجعلها ظرفاً بنفسِها كقولِك زيدٌ ظنِّي مقيمٌ أو بإضمارِ زمانٍ مضافٍ إليه أو يجعله مفعولاً لبطرتْ بتضمينِ معنى كفرتْ

59

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى} بيانٌ للعنايةِ الربَّانيةِ إثرَ بيانِ إهلاكِ القُرى المذكورةِ أي وما صحَّ وما استقامَ بل استحال في سنَّته المبنيةِ على الحكمِ البالغةِ أو ما كان في حكمِه الماضِي وقضائِه السَّابق أنْ يُهلكَ القرى قبلَ الإنذارِ بل كانتْ عادتُه أنْ لا يهلكَها {حتى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا} أي في أصلِها وقُصبتِها التي هي أعمالُها وتوابعُها لكون أهلِها أفطنَ وأنبلَ {رسولا يتلو عليهم آياتنا} الناطقةَ بالحقِّ ويدعُوهم إليه بالتَّرغيبِ والتَّرهيبِ وذلك لإلزام الحجَّة وقطع المعذرةِ بأنْ يقولوا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فنتبعَ آياتِك والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لتربيةِ المهابة وإدخال الروعة وقوله تعالى {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى} عطفٌ على ما كانَ ربُّك وقولُه تعالى {إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون} استثناءٌ مفرغ من أعم الأحوال أي وما كنَّا مهلكينَ لأهلِ القُرى بعد ما بعثنا في أمِّها رسولاً يدعُوهم إلى الحقِّ ويُرشدهم إليه في حالٍ من الأحوالِ إلا حال كونهم ظالمينَ بتكذيبِ رسولِنا والكفرِ بآياتِنا فالبعثُ غايةٌ لعدمِ صحَّة الإهلاكِ بموجبِ السنَّة الإلهية لا لعدمِ وقوعِه حتَّى يلزمَ تحققُ الإهلاكِ عقيبَ البعثِ وقد مرَّ تحقيقُه في سورةِ بني إسرائيلَ

60

{وَمَا أُوتِيتُم مّن شَىْء} من أمور الدُّنيا {فمتاع الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} أي فهو شئ شأنه أنْ يتمتَّعَ ويتزينَ به أياماً قلائل {وَمَا عِندَ الله} وهو الثَّوابُ {خَيْرٌ} في نفسِه من ذلك لأنَّه لذَّةٌ خالصةٌ عن شوائبِ الألم وبهجةٌ كاملة عارية عن سِمةِ الهمِّ {وأبقى} لأنَّه أبديّ {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} ألا تتفكرونَ فلا تعقِلون هذا الأمرَ الواضحَ فتستبدلون الذي هُوَ أدنى بالذي هو خيرٌ وقرئ بالياء على الالنفات المبنيِّ على اقتضاء سوء صنيعهم الإعراضَ عن مخاطبتِهم

القصص

61

61 - 63 {أَفَمَن وعدناه وَعْداً حَسَناً} أي وَعداً بالجنَّة فإنَّ حسنَ الوعدِ بحسن الموعودِ {فَهُوَ لاَقِيهِ} أي مدركُه لا محالةَ لاستحالةِ الخُلفِ في وعدِه تعالى ولذلك جئ بالجملة الاسميةِ المفيدة لتحققِه البتةَ وعُطفت بالفاء المنبئةِ عن معنى السببيةِ {كَمَن متعناه متاع الحياة الدنيا} الذي هو مشوبٌ بالآلامِ منغصٌ بالأكدارِ مستتبع للتَّحسرِ على الانقطاع ومعنى الغاء الأُولى ترتيبُ إنكارِ التَّشابهِ بين أهلِ الدُّنيا وأهلِ الآخرةِ على ما قبلها من ظهورِ التَّفاوتِ بين متاعِ الحياة الدُّنيا وبين ما عندَ الله تعالى أي أبعدَ هذا التَّفاوت الظاهرِ يسوَّى بين الفريقينِ وقولُه تعالى {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين} عطفٌ على متَّعناه داخلٌ معه في حيزِ الصلة مؤكد لإنكار التشابه ومقرر له كأنَّه قيل كمن متعناه متاعَ الحياة الدنيا ثم نحضرُه أو أحضرنَاه يومَ القيامةِ النَّارَ أو العذابَ وإيثارُ الجملة الاسميةِ للدلالةِ على التحققِ حتماً وفي جعله من جلمة المحضرينَ من التَّهويلِ ما لا يخفى وثم للنراخى في الزمان أو في الرتبة وقرئ ثم هْو بسكونِ الهاءِ تشبيهاً للمنفصلِ بالمتَّصلِ

62

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} منصوبٌ بالعطفِ على يومَ القيامةِ لاختلافهما عُنواناً وإنِ اتَّحدا ذاتاً أو بإضمارِ اذكُر {فَيَقُولُ} تفسيرٌ للنِّداءِ {أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي الذينَ كنتُم تزعمونَهم شركائي فحُذف المفعولانِ معاً ثقةً بدلالةِ الكلامِ عليهما

63

{قال} استئناف مبني على حكاية السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا صدرَ عنهُم حينئذٍ فقيل قالَ {الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} وهم شركاؤهم مِن الشَّياطينِ أو رؤساؤهم الذين اتَّخذوهم أرباباً من دونِ الله تعالَى بأنْ أطاعوهم في كلِّ ما أمروهم به ونهَوا عنه ومعنى حقَّ عليهم القول أنه ثبتَ مُقتضاه وتحقَّق مؤدَّاه وهو قوله تعالى لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ وغيره من آياتِ الوعيد وتخصيصُهم بهذا الحكم مع شمولِه للأتباع أيضاً لأصالتِهم في الكفرِ واستحقاقِ العذابِ حسبما يُشعر به قوله تعالى لاملان جهنم منك وممن تَبِعَكَ مِنْهُمْ ومسارعتُهم إلى الجوابِ مع كون السؤال للعَبَدة إما لتفطُّنهم أنَّ السؤال عنهم لاستحضارِهم وتوبيخهم بالإضلال وجزمهم بأنَّ العَبَدةَ سيقولون هؤلاءِ أضلُّونا وإمَّا لأنَّ العبَدَة قد قالوه اعتذار أو هؤلاء إنَّما قالوا ما قالوا ردّاً لقولِهم إلا أنَّه لم يُحكَ قولُ العَبَدة إيجازاً لظهوره {رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا} أي هم الذين أغويناهُم فحذف الرَّاجع إلى الموصولِ ومرادُهم بالإشارة بيانُ أنَّهم يقولون ما يقولون بمحضرٍ منهم وأنَّهم غيرُ قادرينَ على إنكارِه وردِّه وقوله تعالى {أغويناهم كَمَا غَوَيْنَا} هو الجوابُ حقيقةً وما قبله تمهيدٌ له أي

القصص 64 68 ما أكرهناهم على الغيِّ وإنما أغويناهم بطريقِ الوسوسةِ والتَّسويل لا بالقسر والإلجاء فغَووا باختيارِهم غيّاً مثل غيِّنا باختيارِنا ويجوز أن يكون الذين صفةً لاسم الإشارة وأغويناهم الخبرَ {تَبَرَّأْنَا إليك} منهم وممَّا اختارُوه من الكفرِ والمعاصي هوى منهم وهو تقريرٌ لما قبله ولذلك لم يعطف عليهِ وكذا قولُه تعالى {مَّا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} أي ما كانُوا يعبدوننا وإنَّما كانوا يعبدون أهواءَهم وقيل ما مصدريةٌ متَّصلة بقوله تعالى تَبَرَّأْنَا أي تبرأنا من عبادتِهم إيَّانا

64

{وَقِيلَ ادعوا شُرَكَاءكُمْ} إما تهكما بهم أو إتبكيتا لهم {فَدَعَوْهُمْ} لفرطِ الحيرةِ {فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} ضرورةَ عدمِ قُدرتهم على الاستجابةِ والنُّصرة {وَرَأَوُاْ العذاب} قد غشيهم {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} لوجهٍ من وجوهِ الحيلِ يدفعون به العذابَ أو إلى الحقِّ لما لقُوا ما لقُوا وقيل لو للتَّمنِّي أي تمنَّوا لو أنَّهم كانُوا مهتدين

65

{وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين} عطفٌ على ما قبله سُئلوا أولاً عن إشراكِهم وثانياً عن جوابِهم للرُّسلِ الذين نَهَوهم عن ذلك

66

{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانباء يَوْمَئِذٍ} أي صارتْ كالعَمَى عنهم لا تهتدي إليهم وأصله فعَمُوا عن الأنباءِ وقد عكس للمبالغةِ والتنبيهِ على أنَّ ما يحضر الذهن يفيضُ عليه ويصل إليه من خارجٍ فإذا أخطأ لم يكُن له حيلةٌ إلى استحضارِه وتعديةُ الفعلِ بعلى لتضمنه معنى الخفاءِ والاشتباهِ والمرادُ بالأنباءِ إمَّا ما طلب منهم ممَّا أجابُوا به الرُّسلَ أو جميعُ الأنباءِ وهي داخلةٌ فيه دخولاً أولياً وإذا كانتِ الرسلُ عليهم الصَّلاة والسَّلام يفوِّضون العلمَ في ذلك المقامِ الهائلِ إلى علاَّم الغُيوب مع نزاهتِهم عن غاية المسئول فما ظنُّك بأولئكَ الضُّلاَّل من الأممِ {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ} لا يسألُ بعضُهم بعضا عن الجواب الفرط الدَّهشة أو العلمِ بأنَّ الكلَّ سواءٌ في الجهل

67

{فَأَمَّا مَن تَابَ} من الشركِ {وَامَنَ وَعَمِلَ صالحا} أي جمعَ بين الإيمانِ والعملِ الصَّالح {فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين} أي الفائزينَ بالمطلوبِ عنده تعالى النَّاجينَ عن المهروبِ وعسى للتَّحقيقِ على عادةِ الكرامِ أو للترجِّي من قبلِ التَّائبِ بمعنى فليتوقعِ الإفلاحَ

68

{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء} أنْ يخلقَه {وَيَخْتَارُ} ما يشاءُ اختيارَه من غيرِ إيجابٍ عليه ولا منعٍ له أصلاً {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} أي التَّخيُّرُ كالطِّيرةِ بمعنى التَّطيرِ والمرادُ نفيُ الاختيارِ المؤثرِ عنهم وذلك مما لاريب فيه وقيل المرادُ أنَّه ليس لأحدٍ من خلقِه أنْ يختارَ عليه ولذلك خَلا عن العاطفِ ويؤيدُه ما رُوي أنَّه نزل في قولِ الوليدِ بنِ المُغيرةِ لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرآنُ على رَجُلٍ مّنَ القريتينِ عظيم والمعنى

القصص 69 73 لا يبعثُ الله تعالى الرُّسلَ باختيارِ المرسَلِ إليهم وقيل معناه ويختار الذي كان لهم فيه الخيرُ والصَّلاحُ {سبحان الله} أي تنَزَّهَ بذاتِه تنزُّهاً خاصّاً به من أنْ ينازعَه أحدٌ أو يزاحم اختيارَه اختيارٌ {وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} عن إشراكِهم أو عن مشاركةِ ما يشركونَه به

69

{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صدورهم} كعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقدهم عليه {وَمَا يُعْلِنُونَ} كالطَّعنِ فيه

70

{وَهُوَ الله} أي المستحقُّ للعبادة {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} لا أحدَ يستحقُّها إلا هو {لَهُ الحمد فِى الاولى والاخرة} لأنَّه المولى للنِّعم كلِّها عاجلِها وآجلِها على الخلق كافةً يحمَده المؤمنون في الآخرةِ كما حمِدُوه في الدُّنيا بقولهم الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن الحمد لله الذى صدقنا وعدَه ابتهاجاً بفضلِه والتذاذاً بحمدِه {وَلَهُ الحكم} أي القضاءُ النَّافذُ في كلِّ شيءٍ من غيرِ مشاركةٍ فيه لغيرِه {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالبعثِ لا إلى غيرِه

71

{قُلْ} تقريراً لما ذُكر {أرأيتم} أي أخبرونِي {إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً} دائماً من السَّرد وهو المتابعةُ والاطِّرادِ والميمُ مزيدةٌ كما في دلاء مص من الدِّلاص يقال درع دلاصٌ أي ملساءُ لينةٌ {إلى يَوْمِ القيامة} بإسكانِ الشَّمس تحت الأرضِ أو تحريكها حول الأُفقِ الغائر {مَّنْ إله غَيْرُ الله} صفةٌ لإله {يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء} صفة أخرى له عليها يدورُ أمرُ التبكيتِ والإلزامِ كما في قوله تعالى قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض وقوله تعالى فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ ونظائرِهما خلا أنَّه قُصدَ بيانُ انتفاءِ الموصوفِ انتفاء الصِّفة ولم يُقَل هل إله الخ لإيرادِ التَّبكيت والالزام على زعمهم وقرئ بضئاءٍ بهمزتينِ {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} هذا الكلامَ الحقَّ سماعَ تدبُّرٍ واستبصارٍ حتَّى تُذعنوا له وتعملوا بموجبِه

72

{قل أرأيتم إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة} بإسكانِها في وسطِ السَّماء أو بتحريكِها على مدارٍ فوقَ الأُفق {مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} استراحةً من متاعبِ الأشغالِ ولعلَّ تجريدَ الضَّياءِ عن ذكرِ منافعِه لكونِه مقصوداً بذاتِه ظاهرَ الاستتباعِ لِما نيطَ به من المنافعِ {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} هذه المنفعةَ الظَّاهرةَ التي لا تَخْفى على مَن له بصرٌ

73

{وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} أي في الليلِ {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ}

في النَّهارِ بأنواعِ المكاسبِ {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولكيْ تشكرُوا نعمتَه تعالى فعلَ ما فعلَ أو لكي تعرفُوا نعمتَه تعالى وتشكروه عليها

74

{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} منصوبٌ باذكُر {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} تقريعٌ إثرَ تقريعٍ للإشعارِ بأنَّه لا شئ اجلب لغضب الله عزوجل من الإشراكِ كما لا شئ أدخلُ في مرضاتِه من توحيدِه سبحانَه وقولُه تعالى

75

{وَنَزَعْنَا} عطفٌ على يُناديهم وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التَّحققِ أو حالٌ من فاعلِه بإضمارِ قد والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبرازِ كمال الاعتنا بشأنِ النَّزعِ وتهويلِه أي أخرجنَا {مِن كُلّ أمَّةٍ} منَ الأممِ {شَهِيداً} نبياً يشهَدُ عليهم بما كانُوا عليه كقولِه تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ {فَقُلْنَا} لكلِّ أمةٍ من تلك الأممِ {هَاتُواْ برهانكم} على صحَّة ما كنتُم تدينون به {فَعَلِمُواْ} يومئذٍ {أَنَّ الحق لِلَّهِ} في الإلهية لا يشاركه فيها أحدٌ {وَضَلَّ عَنْهُم} أي غابَ عنهم غيبةَ الضَّائعِ {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} في الدُّنيا من الباطلِ

76

{إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى} كان ابنَ عمِّه يصهر بن قاهث ابن لاوى بنِ يعقوبَ عليه السَّلام وموسى عليه السَّلام ابن عمران بن قاهث وقيل كان موسى عليه السلام ابنَ أخيهِ وكان يسمَّى المنوَّر لحسنِ صورتِه وقيل كان أقرأَ بني إسرائيل للتوارة ولكنَّه نافق كما نافقَ السَّامريُّ وقال إذا كانت النُّبوة لموسى والمذبحُ والقربانُ لهرون فما لي ورُوي أنَّه لما جاوز بهم مُوسى عليه السَّلام البحرَ وصارتِ الرسالة والحبورة والقربان لهرون وجد قارونُ في نفسِه وحسدَهُما فقال لموسى الأمرُ لكما ولست على شئ إلى متى أصبرُ قال موسى عليه السَّلام هذا صُنعُ الله تعالى قال لا أُصدِّقك حتَّى تأتيَ بآيةٍ فأمر رؤساءَ بني إسرائيل أن يجئ كلُّ واحدٍ بعصاةٍ فحزمها وألقاها في القبَّة التي كان الوحيُ ينزلُ إليه فيها فكانوا يحرسون عصيَّهم بالليل فأصبحُوا فإذا بعصا هرون تهتزُّ ولها ورقٌ أخضرُ فقال قارون ما هو بأعجبَ ممَّا تصنعُ من السِّحرِ وذلك قولُه تعالى {فبغى عَلَيْهِمْ} فطلبَ الفضلَ عليهم وأنْ يكونُوا تحتَ أمرِه أو ظلمَهم قيل وذلكَ حينَ ملَّكه فرعونُ على بني إسرائيلَ وقيل حسدَهم وذلك ما ذُكر منه في حقِّ موسى وهرون عليهما السَّلامُ {وآتيناه من الكنوز} أي الأموالِ المُدَّخرةِ {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ} أي مفاتحَ صناديقِه وهو جمعُ مِفتح بالكسر وهو ما يفتح به وقيل خزائنه وقياسُ واحدِها المَفتح بالفتحِ {لتنوء بالعصبة أولى القوة} خبر إن والجملةُ صلةُ ما وهُو ثاني مفعُولَيْ آتَى وناءَ به الحملُ إذا أثقلَه حتَّى أمالَه والعُصبة والعُصابةُ الجماعةُ الكثيرةُ وقُرىء لينوءُ بالياءِ على إعطاءِ المضافِ حكمَ المضافِ إليهِ كما مرَّ في قولِه تعالى إن رحمةَ الله

القصص 77 78 قريب من المحسنين {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} منصوبٌ بتنوءُ وقيل ببغى ورُدَّ بأنَّ البغيَ ليس مقيَّداً بذلك الوقت وقيل بآنيناه ورُدَّ بأنَّ الإيتاءَ أيضاً غيرُ مقيَّدٍ به وقيل بمضمرٍ فقيل هو اذكُر وقيل هو أظهرَ الفرحَ ويجوزُ أنْ يكونَ منصُوباً بما بعدَهُ من قولِه تعالى قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ وتكون الجملةُ مقررةً لبغيه {لاَ تَفْرَحْ} أي لا تبطرْ والفرحُ في الدُّنيا مذمومٌ مُطلقاً لأنَّه نتيجةُ حبِّها والرِّضا بها والذهولِ عن ذهابِها فإنَّ العلمَ بأن ما فيها من اللذةِ مفارقةٌ لا محالةَ يوجبُ التَّرحَ حتماً ولذلكَ قالَ تعالى وَلاَ تَفْرَحُواْ بما آتاكم وعلل النهي ههنا بكونِه مانعاً من محبَّتِه عزَّ وعلاَ فقيلَ {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} أي بزخارفِ الدُّنيا

77

{وابتغ} وقُرىء واتَّبع {فِيمَا آتاك الله} من الغِنى {الدار الاخرة} أي ثوابَ الله تعالى فيها يصرفه إلى ما يكونُ وسيلةً إليه {وَلاَ تَنسَ} أي لا تتركْ تركَ المنسيِّ {نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا} وهو أنْ تحصلَ بها آخرتك وتأخذَ منها ما يكفيك {وَأَحْسَنُ} أي إلى عبادِ الله تعالى {كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} فيما أنعمَ به عليك وقيل أحسنْ بالشكرِ والطَّاعةِ كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ بالإنعامِ {وَلاَ تَبْغِ الفساد فِى الارض} نهيٌ عما كان عليه من الظُّلمِ والبغيِ {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين} لسوء أفعالِهم

78

{قَالَ} مُجيباً لناصحيهِ {إِنَّمَا أوتيته على علم عندى} كأنَّه يريدُ به الردَّ على قولِهم كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ لإنبائِه عن أنَّه تعالى أنعم عليه بتلكَ الأموالِ والذخائرِ من غير سببٍ واستحقاقٍ مِن قِبَلِه أي فُضلت به على النَّاسِ واستوجبتَ به التفوقَ عليهم بالمالِ والجاهِ وعلى علمٍ في موقعِ الحالِ وهو علمُ التَّوراةِ وكانَ أعلمَهم بها وقيل علمُ الكيمياءِ وقيل علم النجارة والدَّهقنةِ وسائرِ المكاسبِ وقيل علم فتح الكنوزِ والدَّفائنِ وعندي صفةٌ له أو متعلقٌ بأوتيتُه كقولِك جازَ هذا عندي أو في ظنِّي ورأيي {أو لم يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} توبيخٌ له من جهةِ الله تعالى على اغترارِه بقوَّتِه وكثرةِ مالِه مع علمِه بذلك قراءةً في التَّوراةِ وتلقياً مِن موسى عليه السَّلام وسماعاً من حُفَّاظِ التَّواريخِ وتعجبٌ منه فالمعنى ألمْ يقرأِ التَّوراةَ ولم يعلمْ ما فعلَ الله تعالى بأضرابِه من أهلِ القُرونِ السَّابقةِ حتَّى لا يغترَّ بما اغترُّوا به اورد لا دعائه العلمَ وتعظمه به بنفيِ هذا العلمِ منه فالمعنى أعَلِم ما ادَّعاه ولم يعلم هذا حتى بقي به نفسَه مصارعَ الهالكينَ {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} سؤالُ استعلامٍ بل يُعذَّبون بها بغتةً كأنَّ قارونَ لما هُدِّد بذكرِ إهلاكِ من قبله ممَّن كان أقوى منه وأغنى أكَّد ذلك بأنْ بيَّن أنَّ ذلك لم يكن مما يخصُّ أولئك المُهلَكين بل الله تعالى مطلعٌ على ذنوبِ كافَّة المجرمين يعاقبهم عليها لا محالةَ

القصص

79

79 - 81 {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ} عطفٌ على قال وما بينهما اعتراضٌ وقولُه تعالى {فِى زِينَتِهِ} إمَّا متعلقٌ بخرجَ أو بمحذوفٍ هو حالٌ من فاعلِه أي فخرجَ عليهم كائناً في زينتِه قيل خرجَ على بغلةٍ شهباء عليه الأرُجوانُ وعليها سرجٌ من ذهبٍ ومعه أربعةُ آلافٍ على زيِّه وقيلَ عليهم وعلى خيولِهم الدِّيباجُ الاحمر وعن يمينه ثلثمائة غلام وعن يساره ثلثمائة جاريةٍ بيضٍ عليهنَّ الحليُّ والدِّيباجُ وقيل في تسعينَ الفا عليهم المُعصفراتُ وهو أولُ يومٍ رُئيَ فيه المُعصفرُ {قَالَ الذين يُرِيدُونَ الحياة الدنيا} من المؤمنين جرياً على سَنَنِ الجبلَّةِ البشريةِ من الرغبةِ في السَّعةِ واليسارِ {يا ليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قارون} وعن قَتَادةَ أنَّهم تمنَّوه ليتقربُوا بهِ إلى الله تعالَى وينفقُوه في سُبُلِ الخيرِ وقيل كان المتمنَّون قوماً كفَّاراً {إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ} تعليلٌ لتمنيَّهم وتأكيدٌ له

80

{وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم} أي بأحوالِ الدُّنيا والآخرةِ كَما ينبغي وإنَّما لم يُوصفوا بإرادةِ ثوابِ الآخرةِ تنبيهاً على أنَّ العلَمِ بأحوال النَّشأتينِ يقتضِي الإعراضَ عنِ الأُولى والإقبالَ على الثَّانيةِ حتماً وأنَّ تمنِّي المتمنين ليس إلا لعدمِ علمِهم بهما كما ينبغِي {وَيْلَكُمْ} دعاءٌ بالهلاكِ شاعَ استعماله في الزجر عمالا لا يُرتضَى {ثَوَابُ الله} في الآخرةِ {خَيْرٌ} ممَّا تتمنونه {لمن آمن وَعَمِلَ صالحا} فلا يليقُ بكم أنْ تتمنَّوه غيرَ مكتفين بثوابِه تعالى {وَلاَ يُلَقَّاهَا} أي هذه الكلمةَ التي تكلَّم بها العلماءُ أو الثَّوابَ فإنَّه بمعنى المثْوبةِ أو الجنَّةِ أو الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ فإنَّهما في معنى السِّيرةِ والطَّريقةِ {إِلاَّ الصابرون} أي على الطَّاعاتِ وعن الشَّهواتِ

81

{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الارض} رُوي أنَّه كان يُؤذي مُوسى عليه السَّلام كلَّ وقتٍ وهو يداريهِ لقرابتِه حتَّى نزلتِ الزَّكاةُ فصالحَه عن كلِّ ألفٍ على واحد فحسبه فاستكثره فعَمدَ إلى أنْ يفضحَ موسى عليه السلام بين بني إسرائيلَ فجعل لبغيَ من بَغَايا بني إسرائيلَ ألفَ دينارٍ وقيل طَشتاً من ذهبٍ مملوءةٍ ذهباً فلما كان يومُ عيدٍ قام مُوسى عليه السَّلام حطيبا فقال من سرق قطعناهُ ومن زنَى غيرَ محصنٍ جلدناهُ ومن زنَى محصناً رجمناهُ فقال قارونُ ولو كنتَ قال ولو كنتُ قال إنَّ بني إسرائيلَ يزعمُون أنَّك فجرت بفلانةٍ فأحضرت فناشدها عليه السَّلام أنُ تصدقَ فقالت جعل لي قارونُ جُعْلاً على أنْ أرميك بنفسي فخرَّ مُوسى ساجداً لربِّه يبكي ويقول يا ربُّ إنْ كنتُ رسولَك فاغضبْ لي فأُوحي إليه أنْ مرِ الأرضَ بما شئت فإنَّها مطيعةٌ لك فقال يا بني إسرائيلَ إنَّ الله بعثني إلى قارونَ كما بعثني إلى فرعونَ فمن كان معه فليلزم مكانَه ومن كان معي فليعتزلْ

القصص 82 84 عنه فاعتزلُوا جميعاً غيرَ رجلينِ ثم قال يا أرضُ خُذيهم فأخذتهُم إلى الرُّكبِ ثم قال خُذيهم فأخذتُهم إلى الأوساطِ ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى الأعناقِ وهم يُناشدونَهُ عليه الصَّلاة والسَّلام بالله تعالى وبالرَّحِم وهو لا يلتفتُ إليهم لشدَّةِ غيظِه ثم قال خُذيهم فانطبقتْ عليهم فأصبحتْ بنُو إسرائيلَ يتناجَون بينهم إنَّما دعا عليه موسى عليه الصلاة والسلام ليستبدَّ بدارِه وكنوزِه فدعا الله تعالى حتى خُسفَ بدارِه وأموالِه {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ} جماعةٍ مشفقةٍ {يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله} بدفع العذابَ عنه {وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين} أي الممتنعين منه بوجهٍ من الوجوهِ يقال نصره من عدِّوه فانتصَر أي منعه فامتنع

82

{وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ} منزلتَه {بالأمس} منذ زمانٍ قريبٍ {يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} أي يفعلُ كلَّ واحدٍ من البسطِ والقدرِ بمحضِ مشيئتهِ لا لكرامةٍ تُوجب البسطَ ولا لهوانٍ يقتضِي القبضَ وويكأن عند البصريينَ مركبٌ من وى للتعجيب وكأنَّ للتشبيهِ والمعنى ما أشبَه الأمرَ أنَّ الله يبسط الخ وعند الكوفيينَ من وَيْكَ بمعنى ويلك وأنَّ وتقديرُه وَيكَ أعلَم أنَّ الله وإنَّما يستعملُ عند التنبهِ على الخطأِ والتندُّم والمعنى أنَّهم قد تنبهوا على خطئهم في تمنِّيهم وتندَّموا على ذلك {لَوْلا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا} بعدم إعطائِه إيانَّا ما تمنيناهُ وإعطائنا مثلَ ما أعطاه إيَّاه وقُرىء لولا مَنَّ الله علينا {لَخَسَفَ بِنَا} كما خسفَ بهِ وقُرىء لخُسِف بنا على البناء للمفعولِ وبنا هُو القائمُ مقامَ الفاعلِ وقُرىء لا تْخسفَ بنا كقولِك أنقطعَ بهِ وقرُىء لتُخْسف بنا {وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون} لنعمةِ الله تعالى أو المكذَّبون برسلِه وبما وعدُوا من ثوابِ الآخرةِ

83

{تِلْكَ الدار الاخرة} إشارةُ تعظيمٍ وتفخيمٍ كأنَّه قيل تلك التي سمعتَ خبَرها وبلغَك وصفُها {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الارض} أي غلبةً وتسلطاً {وَلاَ فَسَاداً} أي ظُلماً وعدُواناً على العبادِ كدأبِ فرعونَ وقارونَ وفي تعليق الموعد بترك إرادتهما لا بتركِ أنفسهما مزيدُ تحذير منهما وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه أنَّ الرَّجلَ ليعجبه أنْ يكونَ شِراكُ نعلِه أجودَ من شراكَ نعلِ صاحبِه فيدخلُ تحتَها {والعاقبة} الحميدة {لّلْمُتَّقِينَ} أي الذين يتَّقون مالا يرضاه الله تعالى من الأفعالِ والأقوالِ

84

{مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ} بمقابلتِها {خَيْرٌ مّنْهَا} ذاتاً ووصفاً وقدراً {وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى الذين عملوا السيئات} وُضع فيه الموصولُ والظَّاهرُ موضعَ الضَّميرِ لتهجينِ حالِهم بتكريرِ إسنادِ السَّيئةِ إليهم {إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي إلا مثل ما كانُوا يعملون فحُذفَ المثلُ وأُقيم مقامَه ما كانُوا يعملون مبالغةً في المماثلة

القصص

85

85 - 88 {إِنَّ الذى فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن} أوجبَ عليك تلاوتَه وتبليغَه والعملَ به {لَرَادُّكَ إلى معاد} أي معاد معادٍ تمتدُّ إليه أعناقُ الهممِ وترنُو إليه أحداقُ الأممِ وهو المقامُ المحمودُ الذي وعدك أنْ يبعثك فيه وقيل هو مكَّةُ المعظَّمةُ على أنَّه تعالى قد وعدَه وهو بمكَّةَ في أذيَّةِ وشدَّة من أهلها أنَّه يُهاجرُ به منها ثم يعيدُه إليها بعزَ ظاهرٍ وسلطانٍ قاهرٍ وقيل نزلتْ عليه حينَ بلغ الجُحْفةَ في مهاجرهِ وقد اشتقاق إلى مولده ومولدِ آبائِه وحرمِ إبراهيمَ عليه السَّلام فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ فقال له أتشتاقُ إلى مكَّةَ قال نعمَ فأَوحاها إليهِ {قُل رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بالهدى} وما يستحقُّه من الثَّوابِ والنَّصرِ ومَن منتصبٌ بفعلٍ يدلُّ عليهِ أعلمُ أي يعلُم وقيل بأعلُم على أنَّه بمعنى عالمٍ {وَمَنْ هُوَ فِى ضلال مُّبِينٍ} وما استحقَّه من العذابِ والإذلالِ يعني بذلك نفسَه والمشركينَ وهو تقريرٌ للوعيدِ السَّابقِ وكذا قولُه تعالى

86

{وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب} أي سيردُّك إلى معادِك كما القي اليك الكتابَ وما كنتَ ترجُوه {إِلاَّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} ولكن الفاه إليك رحمةً منه ويجوزُ أنْ يكون استثناءً محمُولاً على المعنى كأنه قيل وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمةً أي لأجلِ التَّرحُّمِ {فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين} بمداراتهم والتحملِ عنهم والإجابةِ إلى طلبتِهم

87

{وَلاَ يَصُدُّنَّكَ} أي الكافرون {عن آيات الله} أي عن قراءتِها والعملِ بها {بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ} وفُرضت عليكَ وقُرىء يُصِدُّنك من أَصَدَ المنقولِ من صَدَّ اللازمِ {وادع} النَّاسَ {إلى رَبّكَ} إلى عبادتِه وتوحيدِه {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} بمساعدتِهم في الأمورِ

88

{وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخر} هذا وما قبلَهُ للتَّهييجِ والألهابِ وقطعِ أطماعِ المُشركينَ عن مساعدتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم وإظهارِ أنَّ المنهيَّ عنه في القُبحِ والشرِّية بحيثُ يُنهى عنْهُ من لا يمكن صدروه عنه أصلاً {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} وحدَهُ {كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} إلا ذاتَه فإنَّ ما عداهُ كائناً ما كان ممكنٌ في حدِّ ذاتِه عرضةٌ للهلاكِ والعدمِ {لَهُ الحكم} أي القضاء النافذ في الخلقِ {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} عندَ البعثِ للجزاءِ بالحقِّ والعدل عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ طسم القصصَ كان له من الأجر بعددِ مَن صدَّق مُوسى وكذَّب ولم يبقَ مَلَكٌ في السَّمواتِ والأرضِ إلا شهدَ له يومَ القيامةِ أنَّه كانَ صادقاً

سورة العنكبوت 1 3 مكية وهي تسع وستون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}

العنكبوت

{الم} الكلامُ فيه كالذي مرَّ مراراً في نظائرِه من الفواتحِ الكريمةِ خلا أنَّ ما بعده لا يحتملُ أنُ يتعلَّق به تعلُّقاً إعرابياً

2

{أَحَسِبَ الناس} الحسبانُ ونظائره لا يتعلَّق بمعاني المُفرداتِ بل بمضامينِ الجملِ المفيدةِ لثبوت شيء لشيء او انتفاء شيءٍ بحيثُ يتحصّلُ منها مفعولاه إمَّا بالفعلِ كما في عامَّة المواقع وإما بنوع تصرُّفٍ فيها كما في الجُملِ المصدَّرةِ بأن والواقعة صلةً للموصولِ الاسميِّ أو الحرفيِّ فإنَّ كلاًّ منها صالحةٌ لأنْ يُسبكَ منها مفعولاه لأنَّ قولَه تعالى {أحِسب الناسُ أَن يُتْرَكُواْ أن يقولوا آمنا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون} في قوَّةِ أنْ يقالَ أحسبُوا أنفسَهم متروكين بلا فتنةٍ بمجرَّدِ أنْ يقولوا آمنَّا أوان يقالَ أحسبوا تركَهم غيرَ مفتونينَ بقولِهم آمنَّا حاصلاً متحقِّقاً والمَعْنى إنكارُ الحُسبانِ المذكور واستبعادُه وتحقيقُ أنَّه تعالى يمتحنُهم بمشاقِّ التَّكاليفِ كالمهاجرةِ والمجاهدة ورفضِ ما تشتهيةِ النَّفسُ ووظائفِ الطَّاعاتِ وفنونِ المصائبِ في الأنفسِ والأموالِ ليتميَّز المخلصُ من المنافقِ والرَّاسخُ في الدِّينِ من المتزلزلِ فيه ويجازيَهم بحسبِ مراتبِ أعمالِهم فإنَّ مجرَّدَ الإيمانِ وإنْ كانَ عن خُلوصٍ لا يقتضِي غيرَ الخلاصِ من الخُلودِ في النَّارِ رُوي أنَّها نزلتْ في ناسٍ من الصَّحابةِ رضوانُ الله تعالى عليهم أجمعينَ جزعُوا من أذيَّةِ المشركينَ وقيل في عمَّارٍ قد عُذِّب في الله وقيل في مهجعٍ مَولى عمرَ بنِ الخطَّابِ رضي الله عنهما رماهُ عامرُ بنُ الحضرميِّ بسهم يومَ بدرٍ فقتلَه فجزع عليه ابواه وامرأتُه وهو أولُ منِ استُشهد يومئذٍ من المسلمينَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيِّدُ الشُّهداءِ مهجعٌ وهو أولُ من يُدعى إلى بابِ الجنَّةِ من هذه الأمَّةِ

3

{وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ} متَّصلٌ بقوله تعالى أحسِب أو بقولِه تعالى لا يُفتنون والمعنى أنَّ ذلك سنَّة قديمةٌ مبنية على الحكمِ البالغةِ جاريةٌ فيما بين الأممِ كلَّها فلا ينبغي أنْ يُتوقَّع خلافُها والمعنى أنّ الأممَ الماضيةَ قد أصابَهم من ضروبِ الفتنِ والمحنِ ما هو أشدُّ ممَّا أصاب هؤلاءِ فصبروا كما يُعرِبُ عنه قولُه تعالى وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا الآياتِ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قد كان منَ قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار

العنكبوت 4 6 على رأسه فيفرق فرقتينِ ما يصرفُه ذلك عن دينِه ويمشَّط بأمشاطِ الحديدِ ما دون عظمِه من لحمٍ وعصبٍ ما يصرفه ذلك عن دينه {فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُوا} أي في قولِهم آمنا {وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} في ذلك والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما يُفصح عنه ما قبلَها من وقوع الامتحانِ واللامُ جوابُ القَسَمِ والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لإدخال الروعةِ وتربيةِ المهابةِ وتكريرُ الجواب لزيادة التَّأكيدِ والتقرير أي فو الله ليتعلقن علمُه بالامتحان تعلُّقاً حالياً يتميزُ به الذين صدقُوا في الإيمان الذي أظهروه والذين هم كاذبونَ فيه مستمرَون على الكذب ويترتبُ عليه أجزيتُهم من الثَّواب والعقابِ ولذلك قيل المعنى ليميزن أو ليجازين وقُرىء وليُعلمنَّ من الإعلامِ أي وليعرِّفنَّهم النَّاسَ أو ليسمنّهم بسِمة يُعرفون بها يومَ القيامة كبياضِ الوجوه وسوادِها

4

{أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا} أي يفوتُونا فلا نقدرَ على مجازاتهم بمساوى أعمالهم وهو ساد مفعولى حسب لا شتماله على مُسندٍ ومُسندٍ إليهِ وأمْ منقطعةٌ وما فيها من معنى بل للإضراب والانتقالِ عن التَّوبيخ بإنكارِ حسبانهم متروكين غير مفتُونين إلى التَّوبيخ بإنكارِ ما هو أبطلُ من الحسبان الاول وهو حسبانُهم أنْ لا يجازُوا بسيئاتهم وهم وإنْ لم يحسبوا أنَّهم يفوتونَهُ تعالى ولم يحدِّثوا نفوسَهم بذلك لكنهم حيثُ أصرُّوا على المعاصي ولم يتفكَّروا في العاقبةِ نزلوا منزلة من يطمع في ذلك كما في قوله تعالى يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} أي بئسَ الذي يحكمونَهُ حكمُهم ذلك أو بئس حكما يحكمونه حكمُهم ذلك

5

{مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله} أي يتوقَّعُ مُلاقاةَ جزائه ثوابا أو عِقاباً أو مُلاقاةُ حُكمِه يومَ القيامةِ وقيل يرجُو لقاء الله عزَّ وجلَّ في الجنَّة وقيل يرجُو ثوابَه وقيل يخافُ عقابَه وقيل لقاؤه تعالى عبارةٌ عن الوصول إلى العاقبةِ من تلقِّي مَلَكِ الموتِ والبعثِ والحسابِ والجزاءِ على تمثيلِ تلك الحالِ بحالِ عبدٍ قدِم على سيِّده بعد عهدٍ طويلٍ وقد عَلِم مولاهُ بجميعِ ما كان يأتِي ويذرُ فإمَّا أنْ يلقاه ببشرٍ وكرامةٍ لمَا رضي من أفعالِه أو بضدِّه لما سخَطَه {فَإِنَّ أَجَلَ الله} الأجل عبارةٌ عن غايةِ زمان ممتد عينت لأمرٍ من الأمورِ وقد يُطلق على كلِّ ذلكَ الزَّمانَ والأولُ هو الأشهرُ في الاستعمالِ أي فإنَّ الوقتَ الذي عيَّنه تعالى لذلكَ {لأَتٍ} لا محالة من غير صارفٍ يلويهِ ولا عاطفٍ يثنيه لأنَّ أجزاءَ الزَّمانِ على التقضِّي والتَّصرُّم دائماً فلا بدَّ من إتيان ذلك الجزاءِ أيضاً البتةَ وإتيانُ وقتِه موجبٌ لإتيانِ اللِّقاءِ حتماً والجوابُ محذوفٌ أي فليخترْ من الأعمالِ ما يؤدي إلى حُسنِ الثَّوابِ وليحذرْ ما يسوقُه إلى سوءِ العذابِ كما في قوله تعالى {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} وفيه من الوعدِ والوعيدِ ما لا يَخْفى وقيل فليبادرْ الى ما يحقق أملَه ويصدِّق رجاءَهُ أو ما يُوجبُ القُربةَ والزُّلفى {وَهُوَ السميع} لأقوالِ العبادِ {العليم} بأحوالِهم من الأعمالِ الظَّاهرةِ والعقائدِ

6

{وَمَن جَاهَدَ} في طاعةِ الله عزَّ وجلَّ {فَإِنَّمَا يجاهد لِنَفْسِهِ} لعود منفعتِها

العنكبوت 7 9 إليها {إِنَّ الله لَغَنِىٌّ عَنِ العالمين} فلا حاجةٍ له إلى طاعتِهم وإنَّما أمرهم بها تعريضاً لهم للثَّوابِ بموجب رحمتِه

7

{والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ} الكفرَ بالإيمانِ والمعاصيَ بما يتبعُها من الطَّاعاتِ {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي أحسنَ جزاءِ أعمالهم لا جزاء أحسر أعمالِهم فقط

8

{وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} أي بإيتاء والديهِ وإيلائهما فعلاً ذَا حُسنٍ أو ما هو في حدِّ ذاته حسنٌ لفرطِ حُسنِه كقولِه تعالى وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا ووصَّى يجري مجرى أمرَ معنى وتصرُّفاً غيرَ أنَّه يُستعمل فيما كان في المأمورِ به نفعٌ عائدٌ إلى المأمورِ أو غيرِه وقيل هُو بمعنى قال فالمعنى وقلنا أحسِنْ بوالديك حُسنا وقيل انتصابُ حُسنا بمضمرٍ على تقدير قولٍ مفسِّرٍ للتَّوصيةِ أي وقُلنا أوْلِهما أو افعلْ بهما حُسنا وهو أوفق لما بعدَه وعليه يحسنُ الوقفُ على بوالديه وقرئ حسناً وإحساناً {وَإِن جاهداك لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أي بالهيته عبَّر عن نفيها بنفيِ العلمِ بها للإيذان بأنَّ ما لا يعلم صحته لا يجوزُ اتِّباعُه وإنْ لم يُعلم بطلانُه فكيف بما عُلم بطلانُه {فَلاَ تُطِعْهُمَا} في ذلك فإنَّه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ ولا بُدَّ من إضمارِ القولِ إن لم يُضمر فيما قبل وفي تعليقِ النَّهي عن طاعتهما بمجاهدتهما في التكاليف إشعارٌ بأنَّ موجبَ النَّهي فيما دونها من التَّكليفِ ثابت بطريقِ الأولويَّةِ {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي مرجعُ مَن آمن منكُم ومَن أشركَ ومن برَّ بوالديِه ومن عقَّ {فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تعملون} بأن أجازي كلا منكم بعملِه إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرا فشر والآيةُ نزلتْ في سعدَ بنَ أبي وقاصٍ رضي الله تعالى عنه عند إسلامِه حيثُ حلفت أمُّه حمنهُ بنتُ أبي سفيانَ ابن أُميَّة أن لا تنتقلَ من الضحِّ إلى الظلِّ ولا تَطعمُ ولا تشربُ حتَّى يرتدَّ فلبثتْ ثلاثةَ أيامٍ كذلك وكذا التي في سُورة لقمانَ وسورةِ الأحقافِ وقيل نزلتْ في عياشَ بنَ أبي ربيعةَ المخزُومي وذلك أنه هاجر مع عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه حتَّى نزلا المدينةَ فخرجَ أبو جهل والحرث أخواه لأمِّه أسماء فنزلا بعيَّاش وقالا له إن من دين محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم صلةَ الأرحامِ وبرَّ الوالدينِ وقد تركتَ أمَّك لا تطعمُ ولا تشربُ ولا تأوي بيتاً حتَّى تراك فاخرجْ معنا وفتلا منه في الذِّروة والغاربِ واستشار عمر رضي الله عنه فقال هُما يخدعانِك ولك على أنْ أقسمَ مالي بيني وبينك فما زالا به حتَّى أطاعهما وعصى عمر رضي الله عنه فقال عمرُ رضي الله عنه أما إذا عصيتني فخذنا فتى فليس في الدُّنيا بعيرٌ يلحقها فإنْ رابك منهما ريبٌ فارجع فلمَّا انتهَوا إلى البيداءِ قال أبوُ جهل إن ناقتي قد كلَّت فاحملني معك فنزل ليوطئ لنفسِه وله فأخذاه فشدَّاه وثاقاً وجلده كلُّ واحدٍ مائةَ جلدةٍ وذهبا به إلى أمِّه فقالت لا تزالُ في عذاب حتَّى ترجعَ عن دينِ محمَّدٍ

9

{والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصالحين}

أي في زُمرةِ الرَّاسخينَ في الصَّلاحَ والكمالُ في الصَّلاحِ مِنتهى درجاتِ المؤمنينَ وغايةُ مأمولِ أنبياءِ الله المُرسلين قال الله تعالى حكايةً عن سليمانَ عليه السَّلام وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصالحين وقال في حقِّ إبراهيمَ عليه السَّلام وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين أو في مدخلِ الصَّالحين وهو الجنَّة

10

{وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمنا بالله فَإِذَا أُوذِىَ فِى الله} أي في شأنِه تعالى بأنْ عذَّبهم الكفرةُ على الإيمان {جَعَلَ فِتْنَةَ الناس} أي ما يصيبُه من أذيتَّهم {كَعَذَابِ الله} في الشدَّة والهولِ فيرتدَّ عن الدِّين مع أنَّه لا قدرَ لها عند نفحة من عذابه تعالى أصلاً {وَلَئِنْ جَاء نَصْرٌ مّن رَّبّكَ} أي فتحٌ وغنيمةٌ {لَّيَقُولَنَّ} بضمِّ اللامِ نظراً إلى مَعْنى مَنْ كما أنَّ الإفرادَ فيما سبقَ بالنَّظرِ إلى لفظها وقرئ بالفتحِ {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أي مشايعينَ لكم في الدين فأشر كونا في المغنمِ وهم ناسٌ من ضَعَفةِ المُسلمين كانُوا إذا مسَّهم أذى من الكفَّارِ وافقُوهم وكانُوا يكتمونَهُ من المسلمينَ فرُدّ عليهِم ذلكَ بقولِه تعالى {أو ليس الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ العالمين} أي بأعلم منهم بما في صدورهم من الإخلاصِ والنِّفاقِ حتَّى يفعلوا ما يفعلون من الارتدادِ والاخفاءِ عن المسلمين وإدِّعاءِ كونِهم منهم لنيلِ الغنيمةِ وهذا هو الأوفقُ لما سبقَ ولما لَحِقَ من قوله تعالى

11

{وليعلمن الله الذين آمنوا} أي بالإخلاصِ {وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين} سواء كان كفرُهم بإذية الكفرة أولا أي ليجزينَّهم بما لهم من الإيمان والنِّفاقِ

12

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا} بيانٌ لحملهم للمؤمنين على الكفر بالاستمالة بعد بيان حملِهم لهم عليه بالأذيَّةِ والوعيد وصفهم بالكفرِ هَهُنا دونَ ما سبق لما أنَّ مساقَ الكلامِ لبيان جناياتهم وفيما سبق لبيانِ جنايةِ من أضلُّوه واللامُ للتَّبليغِ أي قالُوا مخاطبينَ لهم {اتبعوا سَبِيلَنَا} أي اسلكُوا طريقتنا التي نسلكُها في الدِّينِ عبَّر عن ذلكَ بالاتباعِ الذي هو المشيُ خلفَ ماشٍ آخرَ تنزيلاً للمسلك منزلةَ السَّالكِ فيه أو اتبعونا في طريقتنا {وَلْنَحْمِلْ خطاياكم} أي إنْ كان ذلك خطيئةً يُؤاخذ عليها بالبعثِ كما تقُولونَ وإنَّما أَمروا أنفسَهم بالحمل عاطفين له على أمرِهم بالأتَّباعِ للمبالغة في تعليق الحملِ بالاتِّباع والوعدِ بتخفيفِ الأوزار عنهم إن كان ثمَةَ وزرٌ فرُد عليهم بقولِه تعالى {وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مّن شَىْء} وقُرىء من خطيآتِهم أي وما هم بحاملين شيئاً مِن خطاياهم التي التزمُوا أنْ يحملُوا كلَّها على أن مِن الأُولي للتبيين والثانية مزيدةٌ للاستغراق والجملةُ اعتراضٌ أو حالٌ {إِنَّهُمْ لكاذبون} حيث أخبروا في ضمنِ وعدِهم بالحمل بأنَّهم قادرون على انجاز ما وعدوا فإنَّ الكذبَ كما يتطَّرقُ إلى الكلامِ باعتبار

العنكبوت 13 16 منطوقِه يتطرَّقُ إليه باعتبارِ ما يلزمُ مدلوله كما مر في قوله تعالى أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صادقين

13

{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} بيانٌ لما يستتبعه قولُهم ذلك في الآخرةِ من المضرة لأنفسِهم بعد بيانِ عدم منفعتِه لمخاطبيهم أصلاً والتَّعبيرُ عن الخطايا بالاثقال للابذان بغاية ثقلِها وكونِها فادحةً واللامُ جوابُ قَسَمٍ مضمرٍ أيْ وبالله ليحملنَّ أثقالَ أنفسِهم كاملةً {وَأَثْقَالاً} أُخرَ {مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} لمَّا تسببُوا بالاضلالِ والحملُ على الكفرِ والمَعاصي من غيرِ أنْ ينتقص من أثقالِ من أضلُّوه شيء ما اصلا {وليسألن يوم القيامة} سؤالَ تقريعٍ وتبكيتٍ {عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي يختلقونَه في الدُّنيا من الأكاذيبِ والأباطيلِ التي من جملتها كذبُهم هذا

14

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} شروعٌ في بيان افتتانِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأذية أممهم إثرَ بيانِ افتتانِ المؤمنين بأذيةِ الكفَّارِ تأكيداً للإنكارِ على الذين يحسبُون أنْ يُتركوا بمجرَّدِ الإيمان بلا ابتلاءٍ وحثًّا لهم على الصَّبرِ فإنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث ابتُلوا بما أصابَهم من جهةِ أُممهم من فنونِ المكارِه وصبرُوا عليها فَلأن يصبرَ هؤلاءِ أولى وأحرى قالُوا كان عمرُ نوحٍ عليه السَّلام ألفاً وخمسين عاماً بعث على رأس أربعين سنةٍ ودعا قومَه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفانِ ستين سنة وعن وهبٍ أنَّه عاشَ ألفاً وأربعمائة سنة ولعلَّ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ للدِّلالةِ على كمال العددِ فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرُب منه ولَما في ذكرِ الألفِ من تخييلِ طولِ المدَّةِ فإنَّ المقصودَ من القصة تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيته على ما كان عليه من مُكابدةِ ما يناله من الكفرةِ وإظهارُ ركاكةِ رأي الذين يحسبونَ أنَّهم يُتركون بلا ابتلاءٍ واختلافُ المميزِ لما في التَّكريرِ من نوع بشاعةٍ {فأخذهم الطوفان} أي عقب تمامِ المَّدةِ المذكورةِ والطُّوفان يطلق على كل ما يطوفُ بالشيء على كثرةٍ وشدَّةٍ من السَّيلِ والرَّيحِ والظَّلامِ وقد غلب على طُوفانِ الماءِ {وَهُمْ ظالمون} أي والحالُ أنَّهم مستمرُّون على الظُّلمِ لم يتأثَّروا بما سمعُوا من نوحٍ عليه السَّلام من الآياتِ ولم يرعَوُوا عمَّا هُم عليهِ من الكفر والمعاصي هذه المدَّة المتماديةِ

15

{فأنجيناه} أي نوحاً عليهِ السَّلام {وأصحاب السفينة} أي ومَن ركب فيها معه من أولادِه وأتباعِه وكانُوا ثمانين وقيل ثمانيةً وسبعين وقيل عشرةً وقيل ثمانيةً نصفُهم ذكورٌ ونصفُهم إناثٌ {وجعلناها} أيِ السَّفينةَ أو الحادثةَ والقصَّةَ {آيَةً للعالمين} يتَّعظِون بها

16

{وإبراهيم} نُصب بالعطفِ على نوحا وقيل

العنكبوت 17 19 بإضمارِ أذكُر وقُرىء بالرَّفع على تقديرِ ومن المرسلينَ إبراهيمُ {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} على الأولِ ظرفٌ للإرسالِ أي أرسلناه حينَ تكامل عقلُه وقدر على النَّظرِ والاستدلال وترقى من رُتبة الكمال إلى درجة التَّكميلِ حيث تصدَّى لإرشادِ الخلقِ إلى طريق الحقِّ وعلى الثَّاني بدلُ اشتمالٍ من إبراهيمَ {اعبدوا الله} أي وحدَه {واتقوه} أن تُشركُوا به شيئاً {ذلكم} أي ما ذُكر من العبادةِ والتَّقوى {خَيْرٌ لَّكُمْ} أي ممَّا أنتُم عليه ومعنى التفضيلِ مع أنَّه لا خيريةَ فيه قطعاً باعتبارِ زعمِهم الباطلِ {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي الخيرَ والشرَّ وتُميزون أحدَهما من الآخرِ أو إنْ كنتُم تعلمونَ شيئاً من الأشياءِ بوجهٍ من الوجوهِ فإنَّ ذلك كافٍ في الحكمِ بخيريةِ ما ذكره من العبادةِ والتَّقوى

17

{إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أوثانا} بيانٌ لبطلانِ دينِهم وشرِّيته في نفسِه بعد بيانِ شرِّيته بالنَّسبةِ إلى الدِّينِ الحقِّ أي إنَّما تعبدونَ من دُونه تعالى أوثاناً هي في نفسِها تماثيلُ مصنوعةٌ لكم ليس فيها وصفٌ غير ذلك {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} أي وتكذبون كذباً حيثُ تسمُّونها آلهةً وتدَّعون أنَّها شفعاؤكم عندَ الله تعالَى أو تعملونَها وتنحتونَها للإفكِ وقُرىء تخلقُون بالتَّشديدِ للتكثيرِ في الخلقِ بمعنى الكذبِ والافتراءِ وتخلقُون بحذفِ إحدى التَّاءينِ من تخلَّق بمعنى تكذَّبَ وتخرَّص وقُرىء أَفِكاً على أنَّه مصدرٌ كالكذِب واللَّعِب أو نعتٌ بمعنى خلقاً ذا إفكٍ {إِنَّ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} بيانٌ لشرِّيةِ ما يعبدونَه من حيثُ إنَّه لا يكادُ يجُديهم نفعاً {لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} أي لا يقدِرون على أن يرزقوكَم شيئاً من الرِّزقِ {فابتغوا عِندَ الله الرزق} كلَّه فإنَّه هو الرزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المتينِ {واعبدوه} وحدَهُ {واشكروا لَهُ} على نعمائِه متوسِّلين إلى مطالبِكم بعبادتِه مقيدين بالشُّكرِ للعتيدِ ومستجلبين للمزيد {وإليه ترجعون} أي بالموتِ ثمَّ بالبعثِ لا إلى غيرِه فافعلُوا ما أمرتُكم به وقرىء تَرجعون من رَجَع رُجوعاً

18

{وَإِن تُكَذّبُواْ} أي تكذِّبُوني فيما أخبرتُكم به من أنَّكم إليه تُرجعون بالبعثِ {فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ} تعليلٌ للجوابِ أي فلا تضرونني بتكذيبكم فإنَّ من قبلكم من الأممِ قد كذَّبوا مَنْ قبلي من الرُّسلِ وهم شيثُ وإدريُس ونوحٌ عليهم السَّلام فلم يضرَّهم تكذيبهم شيئاً وإنمَّا ضرَّ أنفسَهم حيثُ تسبَّب لما حلَّ بهمْ منَ العذابِ فكذا تكذيُبكم {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين} أي التَّبليغُ الذي لا يبقى معه شكٌّ وما عليه أنْ يُصدِّقَه قومُه البتةَ وقد خرجتُ عن عُهدةِ التَّبليغِ بما لا مزيدَ عليهِ فلا يضرُّني تكذيُبكم بعد ذلك أصلاً

19

{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يبدئ الله الخلق} كلامٌ مُستأنفٌ مسوقٌ من جهتِه تعالَى للإنكارِ على تكذيبهم بالبعث معَ وضوحِ دليلِه وسنوحِ سبيلِه والهمزةُ لإنكارِ عدمِ رؤيتهم الموجبِ لتقريرها والواوُ للعطفِ على مقدَّرٍ أي الم ينظروا

العنكبوت 20 22 ولم يعلموا علماً جارياً مجرى الرؤيةِ في الجلاءِ والظُّهور كيفيةَ خلقِ الله تعالى الخلقَ ابتداءً من مادَّةٍ ومن غير مادَّةٍ أي قد علموا ذلك وقُرىء بصيغةِ الخطابِ لتشديدِ الإنكارِ وتأكيدِه وقُرىء يبدأُ وقوله تعالى {ثُمَّ يُعِيدُهُ} عطفٌ على أو لم يرو الا على يُبدىء لعدمِ وقوعِ الرُّؤية عليه فهو إخبارٌ بأنَّه تعالى يعيد الخلقَ قياساً على الإبداءِ وقد جُوِّز العطفُ على يُبدىء بتأويل الإعادةِ بإنشائِه تعالى كل سنة مثلَ ما أنشأه في السَّنةِ السَّابقةِ من النبات والثمار وغيرِهما فإنَّ ذلك ممَّا يُستدلُّ به على صِحَّة البعثِ ووقوعه من غير رَيبٍ {إِنَّ ذلك} أي ما ذكر من الإعادة {عَلَى الله يَسِيرٌ} إذ لا يفتقر الى شئ أصلاً

20

{قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض} أمرٌ لإبراهيمَ عليه السَّلام أنْ يقولَ لهم ذلك أي سِيروا فيها {فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق} أي كيف خلقهم ابتداءعلى أطوارٍ مختلفةٍ وطبائعَ متغايرةٍ وأخلاقٍ شتَّى فإنَّ ترتيبَ النَّظر على السَّيرِ في الأرضِ مؤذنٌ بتتبعِ أحوالِ أصنافِ الخلق القاطنينَ في أقطارها {ثم الله ينشئ النشأة الاخرة} بعدَ النَّشأةِ الأُولى التي شاهدتُموها والتَّعبيرُ عن الإعادةِ التي هي محلُّ النزاعِ بالنَّشأةِ الآخرةِ المشعرةِ بكون البدِء نشأةً أولى للتَّنبيهِ على أنَّهما شأنٌ واحدٌ من شؤونِ الله تعالى حقيقةً وإسماً من حيث إن كلامنهما اختراعٌ وإخراجٌ من العدمِ إلى الوجودِ ولا فرقَ بينَهما إلا بالأوليةِ والآخريةِ وقرئ النَّشاءَة بالمدِّ وهما لُغتانِ كالرَّأفةِ والرَّآفةِ ومحلُّها النصبُ على أنَّها مصدرٌ مؤكِّدٌ لينشئ بحذف الزَّوائد والأصلُ الإنشاءةِ أو بحذف العاملِ أي ينشئ فينشأون النَّشأةَ الآخرةَ كما في قوله تعالى {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} والجملةُ معطوفةٌ على جُملةِ سيروا في الارض داخلةٌ معها في حيِّز القول وإظهارُ الاسمِ الجليلِ وإيقاعُه مبتدأً مع إضمارِه في بدأ لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ ببيانِ تحقُّق الإعادةِ بالإشارة إلى عِلَّة الحُكم وتكريرِ الإسنادِ وقولُه تعالى {إِنَّ الله على كل شىء قدير} تعطيل لِمَا قبلَهُ بطريقِ التَّحقيق فإنَّ من علِم قدرتَهُ تعالى على جميعِ الأشياءِ التي من جُملتِها الإعادةُ لا يتصوَّر أنْ يترددَ في قدرتِه عليها ولا في وقوعِها بعد ما أخبر به

21

{يُعَذّبُ} أي بعد النَّشأةِ الآخرةِ {مَن يَشَآء} أنْ يعذَبهُ وهم المنكرون لها حَتماً {وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء} أنْ يرحمَه وهم المصدِّقُون بها والجملةُ تكملة لما قبلها وتقديمُ التَّعذيبِ لما أنَّ التَّرهيبَ أنسبُ بالمقام من الترَّغيبِ {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} عند ذلك لا إلى غيرهِ فيفعلُ بكم ما يشاء من التعذيب والرَّحمةِ

22

{وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} له تعالى عن إجراءِ حُكمه وقَضائه عليكم {فِي الارض وَلاَ فِى السماء} أي بالتَّواري في الأرضِ أو الهبوطِ في مَهَاويها ولا بالتَّحصُّنِ في السَّماءِ التي هي أفسحُ منها لو استطعتُم الرُّقيَّ فيها كما في قوله تعالى {أن استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السماوات والأرض فانفذوا} او

العنكبوت 23 25 القلاعِ الذَّاهبةِ فيها وقيل في السَّماء صفةٌ لمحذوفٍ معطوفٍ على أنتُم أي ولامن في السَّماءِ {وَمَا لَكُم من دُونِ الله مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} يحرسكم ممَّا يُصيبكم من بلاءٍ يظهرُ من الأرضِ أو ينزلُ من السَّماءِ ويدفعُه عنكم

23

{والذين كفروا بآيات الله} أي بدلائلِه التَّكوينيةِ والتَّنزيليةِ الدَّالَّةِ على ذاتِه وصفاتِه وأفعالِه فيدخلُ فيها النَّشأةُ الأُولى الدَّالَّة على تحقُّق البعثِ والآياتُ النَّاطقةُ به دُخولاً أولياً وتخصيصُها بدلائلَ وحدانيتِه تعالى لا يناسبُ المقامَ {وَلِقَائِهِ} الذي تنطقُ به تلك الآياتُ {أولئك} الموصوفون بما ذكر مِن الكفر بآياتِه تعالى ولقائِه {يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى} أي ييأسون منها يومَ القيامةِ وصيغةُ الماضِي للدِّلالة على تحقُّقِه أو يئسوا منها في الدُّنيا لإنكارِهم البعثَ والجزاءَ {وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وفي تكرير اسمِ الإشارة وتكريرِ الإسناد وتنكيرِ العذابِ ووصفهِ بالأليمِ من الدلالةِ عَلى كمالِ فظاعةِ حالِهم ما لا يَخْفى أي أولئك الموصُوفون بالكفر بآياتِ الله تعالى ولقائِه وباليأس من رحمتِه الممتازون بذلك عن سائر الكَفَرة لهم بسبب تلك الأوصافِ القبيحةِ عذابٌ لا يقادَر قدرُه في الشِّدَّةِ والإيلامِ

24

{فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} بالنَّصبِ على أنَّه خبرُ كان واسمُها قولُه تعالى {إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أو حرقوه} وقرئ بالرَّفعِ على العكسِ وقد مرَّ ما فيهِ في نظائِره وليس المرادُ أنَّه لم يصدُرْ عنُهم بصددِ الجوابِ عن حُججِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ إلا هذه المقالةُ الشَّنيعةُ كما هو المتبادَرُ من ظاهر النَّظْمِ الكريمِ بل إنَّ ذلك هو الذي استقرَّ عليه جوابُهم بعد اللَّتيا والِّتي في المرَّةِ الأخيرةِ وإلا فقد صدرَ عنُهم من الخُرافاتِ والأباطيلِ ما لا يُحصى {فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار} الفاءُ فصيحةٌ أي فألقَوه في النَّار فأنجاهُ الله تعالى منها بأنْ جعلَها عليه الصَّلاة والسَّلام بَرداً وسلاماً حسبما بُيِّن في مواضعَ أُخَرَ وقد مرَّ في سورةِ الأنبياءِ بيانُ كيفَّيةِ إلقائِه عليه الصَّلاة والسَّلام فيها وإنجائِه تعالى إيَّاه تفصيلاً قيل لم ينتفعْ يومئذٍ بالنَّارِ في موضعٍ أصلاً {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أي في إنجائِه منها {لآيَاتٍ} بينةً عجيبةً هي حفظُه تعالى إيَّاه من حرِّها وإخمادِها في زمانٍ يسيرٍ وإنشاءُ رَوْضٍ في مكانِها {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وأما مَن عداهُم فهم عن اجتلائِها غافلون ومن الفوزِ بمغانمِ آثارِها محرومون

25

{وَقَالَ} أيْ إبراهيُم عليهِ السَّلامُ مُخاطباً لهم {إِنَّمَا اتخذتم مّن دُونِ الله أوثانا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى الحياة الدُّنْيَا} أي لتتوادُّوا بينكم وتتواصلُوا لاجتماعِكم على عبادتِها وائتلافِكم وثَاني مفعولَيْ اتخذتم مخذوف أي أوثاناً آلهةً ويجوزُ أن يكونَ مودَّةَ هو المفعولَ بتقديرِ المُضافِ أو بتأويلها بالمودودة أو يجعلها نفسَ المودَّةِ مُبالغةً أي اتخذتم أو ثانا سبب المودة

العنكبوت 26 28 بينكم أو مودودةً أو نفس المودة وقرئ مودةً منونةً منصوبةً ناصبةَ الظَّرفِ وقُرئت بالرَّفعِ والإضافةِ على أنَّها خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أي هي مودودةٌ أو نفسُ المودةِ أو سببُ مودةِ بينكم والجملةُ صفة او ثانا أو خبرُ إنَّ عَلى أنَّ مَا مصدريةٌ أو موصولةٌ قد حذف عائدها وهو المفعولُ الأولُ وقُرئت مرفوعةً منوَّنةً ومضافةً بفتحِ بينكم كما قرئ لقد تقطَّع بينكم على أحد الوجهين وقرئ إنمَّا مودةُ بينكم والمعنى أنَّ اتخاذكم إيَّاها مودةَ بينكم ليس إلاَّ في الحياة وقد أجريتم أحكامه حيث فعلتُم بي ما فعلتُم لأجلِ مودَّتِكم لها انتصارا منى كما ينبئ عنه قولُه تعالى وانصُروا آلهتكم {ثُمَّ يَوْمَ القيامة} تنْقلَبُ الأمورُ ويتبدَّلُ التوادُّ تباغُضاً والتَّلاطف تلاعُناً حيث {يكفر بعضكم} وهم العَبَدةُ {بِبَعْضِ} وهم الأوثانُ {ويلعن بعضكم بعضا} أي يلعنُ كلُّ فريقٍ منكم ومن الأوثانِ حيثُ يُنطقها الله تعالَى الفريقَ الآخرَ {وَمَأْوَاكُمُ النار} أي هي منزلكم الذي تأوون إليه ولا ترجعونَ منه أبداً {وَمَا لَكُمْ مّن ناصرين} يُخلِّصونكُم منها كما خلَّصني ربِّي من النَّارِ التي ألقيتُموني فيها وجمعَ النَّاصرَ لوقوعِه في مقابلة الجمع أي مَا لأحدٍ منكُم من ناصر اصلا

26

{فآمن لَهُ لُوطٌ} أي صدَّقه في جميع مقالاتِه لا في نُبُّوتِه وما دعا إليه من التَّوحيدِ فقط فإنَّه كان منزَّهاً عن الكُفر وما قيل إنَّه آمنَ له حين رَأى النَّارَ لم تحرقْهُ ينبغي أن يُحمَلَ على ما ذكرنا أو على أنْ يُرادَ بالإيمانِ الرُّتبةَ العاليةَ منها وهي التي لا يرتقِي اليها الا هم الأفرادِ الكُمَّل ولوطُ هو ابنُ أخيهِ عليهما السَّلامُ {وَقَالَ إِنّى مُهَاجِرٌ} أي من قومِي {إلى رَبّى} إلى حيثُ أمرني ربِّي {إِنَّهُ هُوَ العزيز} الغالبُ على أمرِه فيمنعني من أعدائِي {الحكيم} الذي لا يفعل فعلا إلا وفيه حكمةٌ ومصلحةٌ فلا يأمرني الا بما فيه صلاحي رُوي أنَّه هاجر من كُوثَى سوادِ الكُوفةِ مع لوطَ وسارَّة ابنة عمِّه إلى حرَّانَ ثمَّ منها إلى الشأمِ فنزلَ فلسطينَ ونزل لوطُ سَدُومَ

27

{وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ} ولداً ونافلةً حين أيسَ من عجوز عافر {وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النبوة} فكثُر منهم الأنبياءُ {والكتاب} أي جنسَ الكتابِ المتناولِ للكتبِ الأربعةِ {وآتيناه أجره} بمقابلة هجرتِه إلينا {فِى الدنيا} بإعطاءِ الولد والذُّرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم وانتماءِ أهل المللِ إليه والثناء والصَّلاة عليه إلى آخرِ الدَّهر {وَإِنَّهُ فِى الاخرة لَمِنَ الصالحين} أي الكاملينَ في الصَّلاح

28

{وَلُوطاً} منصوبٌ إمَّا بالعطفِ على نوحاً أو على إبراهيمَ والكلامُ في قوله تعالى {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} كالذي مر في قصة إبراهيمَ عليه السَّلام {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة} أي الفعلةَ المُتناهيةَ في القُبح وقُرىء أَئِنَّكم {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين} استئنافٌ مقررٌ لكمالِ قُبحها فإنَّ إجماعَ جميع أفرادِ العالمينَ على التَّحاشي عنها ليس إلا لكونِها مما تشمئزُّ منه الطِّباع وتنفرُ منه النفوس

العنكبوات

29

29 - 32 {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال وَتَقْطَعُونَ السبيل} وتتعرَّضُون للسَّابلةِ أي الفاحشة حيثُ رُوي أنَّهم كانُوا كثيراً ما يفعلونَها بالغُرباء وقيل تقطعون سبيلَ النِّساءِ بالإعراضِ عن الحَرثِ وإتيانِ ما ليس بحرثٍ وقيل تقطعونَ السَّبيلَ بالقتلِ وأخذِ المالِ {وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ} أي تفعلون في مجلسِكم الجامعِ لأصحابكم {المنكر} كالجماعِ والضُّراطِ وحلِّ الإزارِ وغيرِها مما لا خير فيه من الأفاعيل المنكرةِ وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو الحَذفُ بالحَصَى والرَّميُّ بالبنادق والفرقعةُ ومضغُ العلكِ والسِّواكِ بينَ النَّاس وحلُ الإزارِ والسِّبابُ والفُحشُ في المِزاحِ وقيل السُّخريةُ بمن مرَّ بهم وقيل المجاهرةُ في ناديهم بذلكَ العملِ {فَمَا كان جواب قومه إلا أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} أي فما كان جواباً من جهتِهم شيءٌ من الأشياءِ إِلاَّ هذه الكلمة الشَّنيعةُ أي لم يصدُرْ عنهم في هذه المرَّةِ من مرات مواعظ لوط عليه السلام وقد كان أوعدهم فيها بالعذابِ وأمَّا ما في سُورة الأعرافِ من قولِه تعالَى {وَمَا كَانَ جواب قومه إلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ} الآيةَ وما في سورة النَّمل من قولِه تعالى فَمَا كَانَ جَوَابَ قومه إلا أن قالوا اخرجوا آل لُوطٍ مّن قَرْيَتِكُمْ الآيةَ فهو الذي صَدر عنهم بعده هذه المرةُ وهي المرة الأخيرة من مرات المُقاولاتِ الجاريةِ بينهم وبينه عليه الصلاةُ والسلامُ وقد مر تحقيقه في سورة الأعرافِ

30

{قَالَ رَبّ انصرنى} أي بإنزالِ العذابِ الموعودِ {عَلَى القوم المفسدين} بابتداعِ الفاحشةِ وسنِّها فيمن بعدَهُم والإصرارِ عليها واستعجالِ العذابِ بطريقِ الاستهزاءِ وإنما وصفَهم بذلك مبالغةً في استنزالِ العذابِ عليهم

31

{وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إبراهيم بالبشرى} أي بالبشارةِ بالولدِ والنافلة {قَالُواْ} أي لإبراهيمَ عليه السلام في تضاعيف الكلامِ حسبما فُصِّل في سورة هود وسورة الحجرِ {إِنَّا مُهلكو أهلِ هذه القرية} أي قريةِ سَدُومَ والإضافةُ لفظيةٌ لأنَّ المَعنى على الاستقبالِ {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظالمين} تعليلٌ للإهلاكِ بإصرارِهم على الظُّلم وتمادِيهم في فُنون الفسادِ وأنواعِ المَعَاصي

32

{قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً} فكيف تُهلكونها {قَالُواْ نَحْنُ أعلمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} أرادُوا أنَّهم غيرُ غافلينَ عن مكانِ لوطٍ عليه السَّلام فيها بل عمَّن لم يتعرض له إبراهيمُ عليه السَّلامُ من أتباعِه المؤمنينَ وأنَّهم معتنُون بشأنهم أتَّم اعتناءٍ حسبما يُنبيء عنه تصديرُ الوعد بالتَّنجيةِ بالقسمِ أيْ والله لننجينَّه وأهلَه {إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين} أي الباقين في العذاب أو القرية

العنكبوت

33

33 - 37 {وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا} المذكورون بعد مفارقتِهم لإبراهيمَ عليه السَّلامُ {لُوطاً سِىء بِهِمْ} اعتراه المساءة بسبهم مخافةَ أنْ يتعرَّض لهم قومُه بسوءٍ وكلمةُ أنْ صلةٌ لتأكيدِ ما بين الفعلينِ من الاتِّصالِ {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أي ضاقَ بشأنِهم وتدبير أمِرهم ذرعُه أي طاقتُه كقولِهم ضاقتْ يدُه وبإزائِه رَحُبَ ذَرْعُه بكذا اذا كان مطيقا به قادراً عليه وذلك أنَّ طويلَ الذِّراعِ ينالُ ما لا يناله قصير الذِّراع {وَقَالُواْ} ريثما شاهدوا فيه مخايلَ التَّضجرِ من جهتهم وعاينوا أنه عجزَ عن مُدافعةِ قومِه بعد اللَّتيا والتِّي حتى آلتْ به الحالُ إلى أنْ قالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ اوِى إلى رُكْنٍ شديدٍ {لاَ تَخَفْ} أي من قومِك علينا {وَلاَ تَحْزَنْ} أي على شئ وقيل بإهلاكِنا إيَّاهم {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} ممَّا يُصيبهم من العذابِ {إِلاَّ امرأتك كانت من الغابرين} وقرئ لننجينَّك ومنجُّوك من الإنجاءِ وأيا ما كان فمحل الكافِ الجرُّ على المختارِ ونصب أهلكَ بإضمار فعلٍ أو بالعطفِ على محلِّها باعتبارِ الأصلِ

34

{إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مّنَ السماء} استئساف مسُوقٌ لبيانِ ما أشير إليه بوعدِ التَّنجيةِ من نزول العذابِ عليهم والرِّجزُ العذابُ الذي يُقلقُ المعذَّبَ أي يُزعجُه من قولِهم ارتجزَ إذا ارتجسَ واضطربَ وقرئ مُنزِّلون بالتَّشديدِ {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} بسببِ فسقِهم المستمرِّ

35

{وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا} أي من القريةِ {آيَةً بَيّنَةً} هي قصتها العجيبة وآثار ديارها الخربةِ وقيل الحجارةُ الممطورة فإنَّها كانتْ باقيةً بعدها وقيل الماءُ الأسودُ على وجهِ الأرضِ {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} يستعملون عقولَهم في الاستبصارِ والاعتبارِ وهو متعلقٌ إما بتركنا أو بينة

36

{وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً} متعلق بمضمرٍ معطوفٍ على أرسلنا قي قصة نوح عليه السلام أي وأرسلنا إلى مدينَ شعيبا {فقال يا قوم اعبدوا الله} وحدَه {وارجوا اليوم الاخر} أي توقَّعوه وما سيقعُ فيه من فُنون الأهوالِ وافعلُوا اليوم من الأعمالِ ما تأمنون غائلتَهُ وقيل وارجُوا ثوابَه بطريقِ إقامةِ المسبَّبِ مقامَ السَّببِ وقيل الرَّجاءُ بمعنى الخوفِ {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الارض مُفْسِدِينَ}

37

{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} أي الزَّلزلةُ الشَّديدةُ وفي سورة هود وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ أي صيحةُ جبريلَ عليهِ السَّلام فإنَّها المُوجِبة للرَّجفة بسبب تمويجِها للهواءِ وما يُجاورها من

العنكبوت 38 41 الأرض {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ} أي بلدِهم أو منازِلهم والإفرادُ لأمنِ اللَّبسِ {جاثمين} باركينَ على الرُّكبِ ميِّتينَ

38

{وَعَاداً وَثَمُودَ} منصوبانِ بإضمارِ فعل ينبئ عنه ما قبلَه أي أهلكنا وقرئ ثموداً بتأويلِ الحيِّ {وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مّن مساكنهم} أي وقد ظهرَ لكم إهلا كنا إيَّاهم من جهةِ مساكنِهم بالنَّظر إليها عند اجتيازِكم بها ذهاباً إلى الشَّامِ وإياباً منه {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم} من فُنون الكفرِ والمَعاصي {فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} السَّويِّ الموصِّلِ إلى الحق {وكانوا مستبصرين} متمكنين من النَّظرِ والاستدلالِ ولكِنَّهم لم يفعلُوا ذلك أو متبينين أن العذاب لا حق بهم بإخبارِ الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم ولكنَّهم لجُّوا حتَّى لقُوا ما لقُوا

39

{وقارون وَفِرْعَوْنَ وهامان} معطوفٌ على عاداً قيل تقديمُ قارونَ لشرفِ نسبِه {وَلَقَدْ جَاءهُمْ موسى بالبينات فاستكبروا فِى الارض وَمَا كَانُواْ سابقين} مفلتينَ فائتينَ من قولِهم سبقَ طالبَه إذا فانه ولم يُدركه ولقد أدركَهم أمر الله عزوجل أيَّ إدراكٍ فتداركُوا نحوَ الدَّمارِ والهَلاَكِ

40

{فكلا} تفسير لما ينيئ عنه عدمُ سبِقهم بطريقِ الإبهامِ أي فكلُّ واحدٍ من المذكورينَ {أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} أي عاقبناهُ بجنايتِه لا بعضِه دُون بعضٍ كما يُشعر به تقديمُ المفعولِ {فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حاصبا} تفصيل للأخذِ أي ريحاً عاصفاً فيها حصباءُ وقيل مَلَكاً رماهم بهاؤهم قومُ لوطٍ {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة} كمدينَ وثمود {وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الارض} كقارون {وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا} كقومِ نوحٍ وفرعونَ وقومِه {وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} بما فعل بهم فإنَّ ذلك محالٌ من جهتِه تعالى {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بالاستمرارِ على مُباشرةِ ما يُوجبُ ذلك من أنواعِ الكفرِ والمَعاصي

41

{مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء} أي فيما اتخذوه متعمدا ومتَّكلاً {كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً} فيما نسجتْهُ في الوهنِ والخورِ بل ذلك أوهنُ من هذا لأنَّ له حقيقةً وانتفاعاً في الجُملة أو مَثَلُهم بالإضافةِ إلى المُوحَّدِ كمثله بالإضافة إلى رجلٍ بنى بيتاً من حجرٍ وجِصَ والعنكبوتُ يقعُ على الواحدُ والجمعُ والمذكرُ والمؤنَّثِ والغالبُ في الاستعمال التأنيث وتاؤه

العنكبوت 42 45 كتاءِ طاغوت ويُجمع على عناكبَ وعنكبوتاتٍ وأمَّا العِكَابُ والعُكُبُ والأَعْكُبُ فأسماءُ الجموعِ {وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت} حيثُ لا يُرى شئ يدانيِه في الوَهَنِ والوَهَى {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي شيئاً من الأشياءِ لجزمُوا ان هذا مثلهم او ان دينهم أو هي من ذلكَ ويجوزُ أنْ يجعلَ بيتُ العنكبوتِ عبارةً عن دينِهم تحقيقاً للتَّمثيلِ فالمعنى وإنَّ أوهنَ ما يُعتمد به في الدِّين دينُهم

42

{أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شىء} على إضمار الفول أي قُل للكَفَرةِ إنَّ الله الخ وما استفهامَّيةٌ منصوبةٌ بيدعونَ معلقةٌ ليعلم ومِن للتَّبيينِ أو نافيةٌ ومن مزيدة وشئ مفعولُ يدعون أو مصدريةٌ وشئ عبارةٌ عن المصدرِ أو موصولةٌ مفعولٌ ليعلمُ ومفعولُ يدعون عائده المحذوف وقرئ تَدعُون بالتَّاءِ والكلامُ على الأولين تجهيلٌ لهم وتأكيدٌ للمثل وعلى الاخيرين وعيدلهم {وَهُوَ العزيز الحكيم} تعليلٌ على المعنيينِ فإنَّ إشراكَ ما لا يُعدُّ شيئاً بمن هَذا شأنُه من فرطِ الغباوةِ وإنَّ الجمادَ بالنسبة إلى القادرِ القاهرِ على كل شئ البالغِ في العلم وإتقانِ الفعلِ الغايةَ القاصيةَ كالمعدومِ البحت وأنَّ منَ هذه صفاتُه قادرٌ على مجازاتِهم

43

{وَتِلْكَ الامثال} أي هذا المثلُ وأمثاله {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} تقريباً لما بعُد من أفهامِهم {وَمَا يَعْقِلُهَا} على ما هي عليه من الحُسنِ واستتباع الفوائدِ {إِلاَّ العالمون} الرَّاسخون في العلمِ المتدبِّرون في الأشياءِ على ما ينبغي وعنه صلى الله عليه وسلم أنَّه تَلاَ هذه فقال العالمُ من عقلَ عنِ الله تعالى وعمِل بطاعتِه واجتنبَ سَخَطَه

44

{خلق الله السماوات والارض بالحق} أي مُحقَّاً مُراعياً للحكمِ والمَصَالح على أنه حال من فاعل خلقَ أو ملتبسةً بالحقِّ الذي لا محيد عنه مستتبعةً للمنافعِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ على أنه حال من مفعولِه فإنَّها مع اشتمالِها على جميعِ ما يتعلَّقُ به معايشهم شواهد دالة على شئونه تعالى المتعلقةِ بذاتِه وصفاتِه كما يفصحُ عنه قولُه تعالى {إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} دالَّة لهم على ما ذكر من شئونه سبحانه وتخصيصُ المؤمنينَ بالذكر مع عمومِ الهدايةِ والإرشادِ في خلقهِما للكلِّ لأنَّهم المُنتفعون بذلكَ

45

{اتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} تقرُّباً إلى الله تعالى بقراءتِه وتذكُّراً لما في تضاعيفهِ من المعاني وتذكيرا للنا س وحملاً لهم على العملِ بما فيهِ من الأحكامِ ومحاسنِ الآدابِ ومكارمِ الأخلاقِ {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ} أي داوِمْ على إقامتِها وحيثُ كانتِ الصَّلاةُ منتظمةً للصَّلواتِ المكتوبةِ المؤدَّاةِ بالجماعةِ وكان أمرُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بإقامتِها متضمناً لأمرِ الأمَّة بها علِّل بقوله تعالى {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ والْمُنكَر}

كأنّه قيل وصلِّ بهم إن الصلاة تنهاهم عن الفحشاء والمنكر ومعنى نهيها عنهُما أنَّها سببٌ للانتهاءِ عنُهما لأنَّها مناجاةٌ لله تعالى فلا بدَّ أنْ تكونَ مع إقبالٍ تامَ على طاعتِه وإعراضِ كليَ عن معاصيِه قال ابنُ مسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما في الصَّلاةِ مُنتهى ومُزدجرٌ عن مَعَاصي الله تعالى فمَن لم تأمْره صلاتُه بالمعروفِ ولم تنهَه عن المنكرِ لم يزددْ بصلاتِه من الله تعالى إلا بُعداً وقال الحسنُ وقَتادةُ من لم تنهَه صلاتُه عن الفحشاءِ والمنكر فصلاتُه وبالٌ عليه ورَوَى أنسٌ رضيَ الله عنه إنَّ فتى من الأنصارِ كانَ يصلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ لا يدع شيئاً من الفواحِش إلا ركبَهُ فوصف له صلى الله عليه وسلم حاله فقال إنَّ صلاتَه ستنهاهُ فلم يلبثْ أن تابَ وحسُنَ حالُه {وَلَذِكْرُ الله أكبر} أي للصلاة أكبرُ من سائرِ الطَّاعاتِ وإنَّما عبرَّ عنها بهِ كما في قوله تعالى فاسعوا إلى ذِكْرِ الله للإيذانِ بأنَّ ما فيها من ذكرِ الله تعالى هو العمدةُ في كونِها مفضَّلةً على الحسناتِ ناهيةً عن السيئاتِ وقيل ولذكرُ الله تعالى عندَ الفحشاءِ والمُنكر وذكرُ نهيهِ عنهُما ووعيدِه عليهما أكبرُ في الزَّجرِ عنهما وقيل ولذكرُ الله إيَّاكم برحمتِه أكبرُ من ذكِركم إيَّاه بطاعتِه {والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} منه ومن سائرِ الطَّاعات فيجازيكم بها أحسن المجازاة

46

{وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب} من اليَّهودِ والنَّصارَى {إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ} أي بالخَصلة التي هي أحسنُ كمقابلةِ الخشونةِ باللِّينِ والغضبِ بالكظمِ والمشاغبةِ بالنُّصحِ والسَّورةِ بالأَناة على وجهٍ لا يدلُّ على الضَّعفِ ولا يُؤدِّي إلى إعطاءِ الدَّنيةِ وقيل منسوخٌ بآيةِ السَّيفِ {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} بالإفراطِ في الاعتداءِ والعنادِ أو بإثباتِ الولدِ وقولِهم يدُ الله مغلولةٌ ونحوِ ذلك فإنَّه يجبُ حينئذٍ المُدَافعةُ بما يليقُ بحالِهم {وَقُولُواْ آمنا بالذى أُنزِلَ إِلَيْنَا} من القُرآنِ {وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} أي وبالذي أُنزل إليكُم من التَّوراةِ والإنجيلِ وقد مرَّ تحقيقُ كيفيَّةِ الإيمانِ بهما في خاتمةِ سورةِ البقرةِ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لا تُصدِّقوا أهلَ الكتابِ ولا تكذِّبُوهم وقولُوا آمنَّا بالله وبكتبه وبرسله فإن قالوا باطلالم تصدِّقوهم وإنْ قالُوا حقّاً لم تكذِّبُوهم {وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ} لا شريكٍ له في الأُلوهيَّةِ {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} مُطيعونَ خاصَّة وفيه تعريضٌ بحالِ الفريقينِ حيثُ اتَّخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أَرْبَاباً من دُونِ الله

47

{وكذلك} تجريدٌ للخطابِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ الفعل الذي بعده وما فيه من معنى البعد للإيذان ببُعد منزلةِ المشار إليه في الفضلِ أي مثلَ ذلك الإنزالِ البديع الموافقِ لإنزالِ سائرِ الكتبِ {أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب} أي القُرآنَ الذي من جُملتِه هذهِ الآيةُ الناطقةِ بما ذُكر من المُجادلةِ بالحُسْنَى {فالذين آتيناهم الكتاب} من الطَّائفتينِ {يُؤْمِنُونَ به} أريدبهم عبدُ اللَّه بنُ سَلاَم وأضرابِه من أهلِ الكتابين خاصَّة كأنَّ من عداهُم لم يُؤتَوا الكتابَ حيثُ لم يعملوا بما فيهِ أو مَنْ تقدم عهدَ رسول الله

العنكبوت 48 51 صلى الله عليه وسلم منهم حيثُ كانُوا مصدِّقين بنزولِه حسبما شاهدُوا في كتابيهما وتخصيصُهم بإيتاءِ الكتابِ للإيذانِ بأنَّ مَن بعدهم من مُعاصري رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قد نُزع عنهم الكتابُ بالنَّسخِ فلم يُؤتَوه والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإنَّ إيمانَهم به مترتِّبٌ على إنزالِه على الوجهِ المذكُورِ {وَمِنْ هَؤُلاء} أي ومِن العربِ أو أهلِ مكَّةَ على الأولِ أو ممَّن في عصره صلى الله عليه وسلم على الثَّانِي {مَن يُؤْمِنُ بِهِ} أي بالقُرآنِ {وَمَا يجحد بآياتنا} عبَّر عن الكتابِ بالآياتِ للتنبيهِ على ظهورِ دلالتِها على معانيها وعلى كونِها من عند الله تعالى وأضيفتْ إلى نونِ العظمةِ لمزيدِ تفخيمِها وغايةِ تشنيعِ مَنْ يجحدُ بها {إِلاَّ الكافرون} المتوغِّلون في الكُفر المصمِّمون عليهِ فإنَّ ذلكَ يصدُّهم عن التَّأملِ فيما يُؤدِّيهم إلى معرفةِ حقّيتها وقيل هم كعبُ بنُ الأشرفِ وأصحابِه

48

{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ} أي ما كنتَ قبل إنزالِنا إليك الكتابَ تقدرُ على أنْ تتلوَ شيئاً من كتابٍ {وَلاَ تَخُطُّهُ} أي ولا تقدرُ على أنْ تخطَّه {بِيَمِينِكَ} حسبَما هُو المعتادُ أو ما كانت عادَتُك أنْ تتلوَه ولا أنْ تخطَّه {إِذاً لارتاب المبطلون} أي لو كنتَ ممَّن يقدرُ على التِّلاوةِ والخطِّ أو ممَّن يعتادُهما لارتابُوا وقالُوا لعلَّه التقطَه من كتبِ الأوائلِ وحيثُ لم تكن كذلكَ لم يبقَ في شأنِك منشأُ ريبٍ أصلاً وتسميتُهم مُبطلينَ في ارتيابِهم على التَّقديرِ المفروضِ لكونِهم مُبطلينَ في اتِّباعِهم للاحتمالِ المذكورِ مع ظهورِ نزاهتِه صلى الله عليه وسلم عن ذلكَ

49

{بَلْ هُوَ} أي القرآنُ {آيَاتٌ بَيّنَاتٌ} واضحاتٌ ثابتةٌ راسِخةٌ {فِى صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم} من غيرِ أنْ يُلتقطَ من كتابٍ يحفظونَهُ بحيثُ لا يقدِرُ أحدٌ على تحريفِه {وَمَا يجحد بآياتنا} مع كونِها كما ذُكر {إِلاَّ الظالمون} المُتجاوزونَ للحدودِ في الشرِّ والمكابرةِ والفسادِ

50

{وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيات مّن رَّبّهِ} مثلُ ناقةِ صالحٍ وعَصَا مُوسى ومائدةُ عيسى عليهم السلام وقرئ آيةٌ {قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِندَ الله} يُنزِّلها حسبَما يشاءُ من غيرِ دخلٍ لأحدٍ في ذلكَ قطعاً {وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} ليسَ من شأنِي إلا الإنذارُ بما أُوتيتُ من الايات

51

{أو لم يَكْفِهِمْ} كلامٌ مستأنفٌ واردٌ من جهتِه تعالى ردّاً على اقتراحِهم وبياناً لبُطلانِه والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقامُ أي أقصُر ولم يكفِهم آيةٌ مغنيةٌ عن سائرِ الآياتِ {أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب} الناطقَ بالحقِّ المصدِّق لما بين يديهِ من الكتبِ السَّماويَّةِ وأنتَ بمعزلٍ عن مدارستِها وممارستِها {يتلى عَلَيْهِمْ} في كلِّ زمانٍ ومكانٍ فلا يزالُ معهم آيةٌ ثابتةٌ لا تزولُ ولا تضمحلُّ كما تزولُ كلُّ آيةٍ بعدَ كونِها وتكونُ في مكانٍ دُونَ مكانٍ أو يُتلى على اليَّهودِ بتحقيقِ ما في أيديهم من نعتِك ونعتِ دينِكَ {إِنَّ فِى ذلك} الكتاب العظيم

العنكبوت 52 54 الشَّأنِ الباقِي على مرِّ الدُّهورِ {لَرَحْمَةً} أي نعمةً عظيمةً {وذكرى} أي تذكرةً {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي لقوم همُّهم الإيمانُ لا التعنُّتُ كأولئك المُقترحينَ وقيلَ إنَّ ناساً من المؤمنينَ أَتَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتف فيها بعضُ ما يقولُه اليَّهودُ فقال كَفَى بها ضلالةَ قومٍ أنْ يرغبُوا عمَّا جاءَ به نبيُّهم إلى ما جاءَ به غيرُ نبيِّهم فنزلتْ

52

{قُلْ كفى بالله بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً} بمَا صدرَ عنِّي وعنكُم {يَعْلَمُ مَا في السماوات والارض} أي من الأُمورِ التي من جُمْلتِها شأنِي وشأنُكم فهو تقريرٌ لما قبلَه من كفايتِه تعالى شهيدا {والذين آمنوا بالباطل} وهو ما يُعبد من دونِ الله تعالى {وَكَفَرُواْ بالله} مع تعاضُد موجباتِ الإيمانِ به {أولئك هُمُ الخاسرون} المغبُونون في صفقتِهم حيثُ اشترَوُا الكفرَ بالإيمانِ بأنْ ضيَّعوا الفطرةَ الأصليَّةَ والأدلَّةَ السمعيَّةَ الموجبةَ للإيمانِ والآيةُ من قبيلِ المُجادلةِ بالتي هي أحسنُ حيثُ لم يُصرِّحْ بنسبةِ الإيمانِ بالباطلِ والكفرِ بالله والخسرانِ إليهم بل ذُكر على منهاجِ الإبهامِ كما في قولِه تعالى وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مبين

53

{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} على طريقةِ الاستهزاءِ بقولِهم متى هذا الوعد وقولهم امطر عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ ونحوِ ذلكَ {وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى} قد ضربَهُ الله تعالى لعذابِهم وبيَّنه في اللَّوحِ {لَّجَاءهُمُ العذاب} المعيَّنُ لهم حسبما استعجلوا به قيل المرادُ بالأجلِ يومُ القيامةِ لما رُوي أنَّه تعالى وعدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنْ لا يُعذِّبَ قومَه بعذابِ الاستئصال وأنْ يؤخِّر عذابَهم إلى يومِ القيامةِ وقيلَ يوم بدر وقيل وقتُ فنائِهم بآجالِهم وفيه بُعدٌ ظاهرٌ لِمَا أنَّهم ما كانُوا يُوعدون بفنائِهم الطبيعيِّ ولا كانُوا يستعجلونَ به {وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ} جملةٌ مستأنفةٌ مبينةٍ لما أُشير إليه في الجُملةِ السَّابقةِ من مجئ العذابِ عند محلِّ الأجلِ أي وبالله ليأتينَّهم العذابُ الذي عُيِّن لهم عند حُلولِ الأجلِ {بَغْتَةً} أي فجأةً {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي بإتيانِه ولعلَّ المرادَ بإتيانِه كذلك أنَّه لا يأتيهم بطريقِ التَّعجيلِ عند استعجالِهم والاجابة الى مسئولهم فإنَّ ذلك إتيانٌ برأيهم وشعورِهم لا أنَّه يأتيهم وهم غارُّون آمِنُون لا يخطرونَه بالبالِ كدأبِ بعضِ العُقوباتِ النازلةِ على بعضِ الأممِ بياتاً وهم نائمونَ أو ضُحى وهم يلعبُون لما أنَّ إتيانَ عذابِ الآخرةِ وعذابِ يومِ بدرٍ ليس من هذا القبيلِ

54

{يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} استئنافٌ مسوقٌ لغايةِ تجهيلِهم ورَكَاكةِ رأيِهم وفيه دلالة على أن ما استعجلوه عذابُ الآخرةِ أي يستعجلونك بالعذابِ والحال أنَّ محلَّ العذابِ الذي لاعذاب فوقَه محيطٌ بهم كأنَّه قيل يستعجلونك بالعذابِ وإنَّ العذاب لمحيط بهم أي سيحيط بهم وإنما

العنكبوت 55 58 جئ بالجملةِ الاسميةِ دلالةً على تحقُّقِ الإحاطةِ واستمرارِها أو تنزيلاً لحالِ السَّببِ منزلةَ حالِ المسبَّبِ فإنَّ الكفرَ والمعاصيَ الموجبةَ لدخولِ جهنَّم محيطةٌ بهم وقيل إنَّ الكفرَ والمعاصيَ هي النَّار في الحقيقةِ لكنَّها ظهرتْ في هذهِ النَّشأةِ بهذه الصُّورةِ وقد مرَّ تفصيلُه في سورةِ الأعرافِ عند قوله تعالى {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} ولامُ الكافرينَ إمَّا للعهدِ ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ المضمرِ للإشعارِ بعلةِ الحُكمِ أو للجنس وهم داخلون فيه دُخولاً أولياً

55

{يَوْمَ يغشاهم العذاب} ظرفٌ لمضمرٍ قد طُوي ذكرُه إيذاناً بغايةِ كثرتِه وفظاعتِه كأنَّه قيلَ يومَ يغشاهُم العذابِ الذي أشير إليه بإحاطةِ جهنَّم بهم يكونُ من الأحوالُ والأهوالُ ما لا يفي به المقالُ وقيل ظرفٌ للإحاطةِ {مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} أي من جميعِ جهاتِهم {وَيَقُولُ} أي الله عزَّ وجلَّ ويعضدُه القِراءةُ بنونِ العظمةِ أو بعضُ ملائكتِه بأمرِه {ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي جزاءَ ما كنتُم تعملونَهُ في الدُّنيا على الاستمرارِ من السيئاتِ التي من جُملتها الاستعجالُ بالعذابِ

56

{يَا عِبَادِى الذين آمَنُواْ} خطابُ تشريفٍ لبعضِ المؤمنينَ الذين لا يتمكَّنُون من إقامةِ أمورِ الدينِ كما ينبغِي لممانعةٍ من جهةِ الكَفَرةِ وإرشادٌ لهم إلى الطَّريقِ الأسلمِ {إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فاعبدون} أي إذا لم يتسهَّل لكُم العبادةُ في بلدٍ ولم يتيسَّر لكُم إظهارُ دينِكم فهاجِرُوا إلى حيثُ يتسنَّى لكم ذلك وعنه صلى الله عليه وسلم من فربدينه من أرضٍ إلى أرضٍ ولو كان شبراً استوجبَ الجنَّة وكان رفيقَ إبراهيمَ ومحمَّدٍ عليهما السَّلامُ والفاءُ جوابُ شرطٍ محذوفٍ إذِ المعنى إنَّ أرضي واسعةٌ إنْ لم تُخلصوا العبادةَ لي في أرضٍ فأخلِصُوها في غيرِها ثم حُذفَ الشَّرطُ وعُوِّض عنه تقديمُ المفعولِ مع إفادةِ تقديمِه معنى الاختصاصِ والإخلاصِ

57

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} جملةٌ مستأنفة جئ بها حثاً على المُسارعة في الامتثالِ بالأمرِ أي كُلُّ نَفْسٍ منَ النفوسِ واجدةٌ مرارةَ الموتِ وكربَه فراجعةٌ إلى حُكمِنا وجَزَائِنا بحسبِ أعمالِها فمَنْ كانت عاقبته هذه فليس له بدٌّ من التزود والاستعداد لها وقرئ يرجعون

58

{والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُبَوّئَنَّهُمْ} لننزلنَّهم {مّنَ الجنة غُرَفَاً} أي عَلاليَ وهو مفعولٌ ثانٍ للتبوئة وقرئ لثوينهم من الثُّواء بمعنى الإقامةِ فانتصابُ غُرفاً حينئذٍ إمَّا بإجرائِه مُجرى لنُنزلنَّهم أو بنزع الخافض او بتشببه الظرف الموقت بالمبهم كا في قولِه تعالى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} صفة لغرفاً {خالدين فِيهَا} أي في الغُرَفِ أو في الجنَّة {نِعْمَ أَجْرُ العاملين} أي الأعمالُ الصَّالحةُ والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ ثقةً بدلالةِ ما قبلَهُ عليه وقرئ فمنعم

العنكبوب

59

59 - 63 {الذين صَبَرُواْ} إمَّا صفةٌ للعاملينَ أو نُصب على المدحِ أي صَبَرُواْ على أذيَّةِ المشركينَ وشدائدِ المهاجرةِ وغيرِ ذلكَ من المحنِ والمشاقِّ {وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي ولم يتوكَّلوا فيما يأتُون ويذرونَ إلا عَلى الله تعالى

60

{وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا} رُوي أنَّ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لمَّا أمرَ المُؤمنينَ الذين كانُوا بمكَّةَ بالمهاجرةِ إلى المدينةِ قالُوا كيفَ نقدُم بلدةً ليس لنا فيها معيشةٌ فنزلتْ أي وكم من دابةٍ لا تطيقُ حمل رزقها لضعفها أولا تدخره وإنَّما تُصبح ولا معيشةَ عندها {الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} ثمَّ إنَّها مع ضعفِها وتوكُّلِها وإيَّاكم مع قوَّتِكم واجتهادِكم سواء في أنَّه لا يرزقُها وإيَّاكم إلا الله تعالى لأنَّ رزقَ الكلِّ بأسبابٍ هو المسبِّبُ لها وحدَهُ فلا تخافُوا الفقرَ بالمُهاجرةِ {وَهُوَ السميع} المبالغُ في السَّمعِ فيسمعُ قولَكم هذا {العليم} المبالغُ في العلمِ فيعلمُ ضمائرَكم

61

{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} أي أهلَ مكة {من خلق السماوات والارض وَسَخَّرَ الشمس والقمر لَيَقُولُنَّ الله} إذ لا سبيلَ لهم إلى إنكارِه ولا الى النردد فيه {فأنى يُؤْفَكُونَ} إنكارٌ واستبعادٌ من جهتِه تعالى لتركِهم العملَ بموجبِه أي فكيفَ يُصرفون عن الإقرارِ بتفرُّدِه تعالى في الإلهية مع إقرارِهم بتفرُّدِه تعالى فيما ذكر من الخلق والتَّسخيرِ

62

{الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء} أنْ يبسطَه له {مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} أي يقدرُ لمن يشاءُ أنْ يقدرَ له منهم كائناً مَن كانَ على أنَّ الضَّميرَ مبهمٌ حسبَ إبهامِ مرجعِه أو يقدرُ لمن ببسطه له على التَّعاقبِ {أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} فيعلم مَن يليقُ ببسطِ الرِّزقِ فيبسطُه له ومن يليقُ بقدره فيقدرُه له أو فيعلم أنَّ كلاًّ من البسطِ والقدرِ في أيِّ وقتٍ يوافق الحكمة والمصلحة فيفعل كلا منها في وقتِه

63

{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السماء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الارض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله} معترفينَ بأنه الموجد للمكنات بأسرِها أصولِها وفروعِها ثمَّ إنَّهم يُشركون به بعضَ مخلوقاتِه الذي لا يكادُ يُتوهَّمُ منه القدرةُ على شئ ما أصلاً {قُلِ الحمد لِلَّهِ} على أنْ جعلَ الحقَّ بحيث لا يجترئ المبطلون على حجوده وأنَّه أظهرَ حجَّتَك عليهم وقيل على أنْ عصَمَك من أمثال هذهِ الضَّلالاتِ ولا يخفى بعدُه {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي شيئاً من الأشياءِ فلذلك لا يعلمون بمُقتضى قولِهم هذا فيُشركون به سبحانَه أخسَّ مخلوقاتِه وقيل لا يعقلونَ ما تُريد بتحميدِك عند مقالِهم ذلك

العنكبوت 64 68

64

{وَمَا هذه الحياة الدنيا} إشارة تحقير وازدراء الدنيا وكيفَ لا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كانتِ الدُّنيا تزنُ عندَ الله جناحَ بعوضةٍ ما سَقَى الكافرَ منها شَرْبةَ ماءٍ {إِلاَّ لَهْوٌ ولعب} أي إلاكما يُلهى ويلعبُ به الصبيانُ يجتمعون عليهِ ويبتهجون به ساعةً ثم يتفرَّقُون عنه {وَإِنَّ الدار الاخرة لَهِىَ الحيوان} أي لهيَ دارُ الحياة الحقيقية لا متناع طريانِ الموتِ والفناءِ عليها أوهي في ذاتِها حياةٌ للمبالغةِ والحيوان مصدر حي سُمِّيَ بهِ ذُو الحياة وأصلُه حَيَيانُ فقُلبتْ الياءُ الثَّانيةُ واواً لما في بناءِ فَعَلان من مَعْنى الحَرَكةِ والاضطرابِ اللازم للحَيَوان ولذلك اختِير على الحياةِ في هذا المقامِ المُقتضي للمبالغةِ {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي لما آثرُوا عليها الدُّنيا التي أصلُها عدمُ الحياةِ ثمَّ ما يحدثُ فيها من الحَيَاةِ عارضةٌ سريعةُ الزَّوالِ وشيكةُ الاضمحلالِ

65

{فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك} متَّصلٌ بما دلَّ عليه شرحُ حالِهم والرُّكوب هو الاستعلاء على الشئ المتحرِّكِ وهُو متعدَ بنفسِه كما في قوله تعالى والخيل والبغال والحمير لنركبوها واستماله ههنا وفي أمثالِه بكلمة في للإيذانِ بأنَّ المركوبَ في نفسِه من قبيلِ الأمكنةِ وحركتُه قسريةٌ غيرُ إراديةٍ كما مر في سورة هُودٍ والمعنى أنَّهم على ما وُصفوا من الإشراكِ فإذا ركبُوا في البحرِ ولقواشدة {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي كائنينَ على صورةِ المُخلصين لدينِهم من المؤمنينَ حيثُ لا يدعُون غيرَ الله تعالى لعلمِهم بأنَّه لا يكشفُ الشَّدائدَ عنهم إلا هُو {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هم يشركون} أي فاجئوا المعاودةَ إلى الشِّركِ

66

{ليكفروا بما آتيناهم وَلِيَتَمَتَّعُواْ} أي يفاجئونَ الإشراكَ ليكونُوا كافرينَ بما آتيناهُم من نعمةِ الإنجاءِ التي حقُّها أنْ يشكرُوها {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي عاقبةَ ذلكَ وغائلتَه حينَ يَرَون العذابَ

67

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} أي ألم ينظرُوا ولم يشاهدُوا {إِنَّا جَعَلْنَا} أي بلدَهم {حَرَماً آمنا} مصُوناً من النَّهبِ والتَّعدِّي سالماً أهلُه من كلِّ سوءٍ {وَيُتَخَطَّفُ الناسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} أي والحالُ أنَّهم يُختلسون من حولِهم قتلاً وسبياً إذ كانتِ العربُ حولَه في تغاورٍ وتناهُبٍ {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} أي أبعد ظهورِ الحقِّ الذي لا ريبَ فيه بالباطلِ خاصَّة يُؤمنون دُون الحقِّ {وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ} وهي المستوجبةُ للشُّكرِ حيثُ يُشركون به غيرَهُ وتقديمُ الصِّلةِ في الموضعينِ لإظهارِ كمالِ شناعةِ ما فعلُوا

68

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} بأن

العنكبوت 69 زعمَ أنَّ له شريكاً أيْ هُو أظلمَ منْ كل ظالم وإن كان سبكُ النَّظمِ دالاًّ على نفيِ الأظلمِ من غيرِ تعرضٍ لنفْي المساوي وقد مرَّ مراراً 2 {أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَاءهُ} أي بالرَّسولِ أو بالقُرآنِ وفي لمَّا تسفيهٌ لهم بأنْ لم يتوقفُوا ولم يتأمَّلوا حينَ جاءَهم بل سارعُوا إلى التَّكذيبِ آثر ذي أثيرٍ {أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين} تقريرٌ لثُوائِهم فيها كقولِ من قالَ ألستُم خيرَ من رَكبَ المَطَايا أي أَلاَ يستوجبونَ الثَّواء فيها وقد فعلُوا ما فعلُوا من الافتراءِ على الله تعالى والتَّكذيبِ بالحقِّ الصَّريحِ أو إنكارٌ واستبعادٌ لاجترائِهم على ما ذُكر من الافتراءِ والتَّكذيبِ مع علمِهم بحالِ الكَفَرةِ أي ألم يعلمُوا أَنَّ فى جهنم مثوى للكافرين حتى اجترءوا هذه الجراءة

69

{والذين جاهدوا فِينَا} أي في شاننا ولوجهنا خالصاً أطلقَ المُجاهدةَ ليعمَّ جهادَ الأعادِي الظاهرةِ والباطنةِ {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} سُبُلَ السَّيرِ إلينا والوصولِ إلى جنابِنا أو لنزيدنَّهم هدايةً إلى سبل الخير وتوفيقها لسلُوكها كقولِه تعالى والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وفي الحديثِ من عمِل بما علِم ورَّثه الله علمَ ما لم يعلَمْ {وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين} معيةَ النصر والمعونة عنه صلى الله عليه وسلم مَن قرأَ سورةَ العنكبوتِ كان له منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعدد كلِّ المؤمنينَ والمُنافقينَ

سورة الروم 1 4 مكية إلا قوله فسبحان الله الآية وهى ستون آية بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

الروم

{الم} الكلامُ فيه كالذي مرفى أمثالِه من الفواتحِ الكريمةِ

2

{غُلِبَتِ الروم} {فِى أَدْنَى الارض} أي أدنى أرضِ العربِ منهم إذ هيَ الأرضُ المعهودةُ عندهم وهي أطراف الشَّامِ أو في أدنى أرضِهم من العربِ على أنَّ اللامَ عوضٌ عن المضافِ إليهِ قال مجاهدٌ هي أرضُ الجزيرةِ وهي أدْنى أرضِ الرُّومِ إلى فارسَ وعن ابن عباس رضي الله عنهما الأردنُّ وفلسطينُ وقُرىء أدانِي الأرضِ {وَهُمْ} أي الرُّوم {مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ} أي من بعد مغلوبيَّتهم وقُرىء بسكونِ اللامِ وهي لغةٌ كالجَلَب والجَلْب {سَيَغْلِبُونَ} أي سيَغلِبون فارسَ

4

{فِى بِضْعِ سِنِينَ} رُوي أنَّ فارسَ غَزَوا الرُّومَ فوافَوهم بأَذْرِعَاتٍ وبُصرَى وقيل بالجزيرةِ كما مرَّ فغلبوا عليهم وبلغ الخبرُ مكَّة ففرح المشركون وشمِتُوا بالمسلمينَ وقالوا انتم والنصارى واهل كتابٍ ونحن وفارسُ أميُّون وقد ظهر إخوانُنا على إخوانِكم فلنظهرنَّ عليكم فقال أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه لا يقْرِرِ الله أعينَكم فو الله ليظهرنَّ الرومُ على فارسَ بعد بضعِ سنين فقال له أُبيُّ بنُ خَلَف اللَّعينُ كذبتَ اجعل بيننا اجلا انا حبك عليه فناحبَه على عشرِ قلائصَ من كلَ منهُما وجعلا الأجلَ ثلاثَ سنينَ فأخبربه أبُو بكرٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ البِضْعُ ما بين الثَّلاثِ إلى التِّسعِ فزيدُوه في الخطرِ ومادِّه في الأجلِ فجعلاها مائةَ قلوصٍ إلى تسعِ سنينَ ومات أبيُّ من جرحِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وظهرتِ الرُّوم على فارسَ عند رأسِ سبعِ سنينَ وذلك يومَ الحديبيةِ وقيل كانَ النَّصرُ للفريقينِ يومَ بدرٍ فأخذَ أبُو بكر الخَطَر من ذريَّةِ أبيَ فجاء به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ تصدَّق به وكانَ ذلك قبلَ تحريمِ القِمارِ وهذه الآياتُ من البيِّناتِ الباهرةِ الشَّاهدةِ بصحَّةِ النُّبوةِ وكونِ القرآنِ مِنْ عندِ الله عزَّ وجلَّ حيثُ أخبرتْ عن الغيبِ الذي لا يعلمُه إلا العليمُ الخبيرُ وقُرىء غَلَبت على البناءِ للفاعلِ وسيُغلبون على البناءِ للمفعولِ والمعنى أنَّ الروم

الرُّوم 5 7 غلبتْ على ريفِ الشامِ وسيغلبُهم المسلمونَ وقد غَزَاهُم المسلمون في السَّنةِ التَّاسعةِ من نزولِها ففتحُوا بعضَ بلادِهم فإضافةُ الغَلَب حينئذٍ إلى الفاعلِ {لِلَّهِ الامر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} أي في أولِ الوقتينِ وفي آخرِهما حين غُلبوا وحين يغلِبون كأنَّه قيل من قبلِ كونِهم غالبينَ وهو وقتُ كونِهم مغلوبينَ ومن بعدِ كونِهم مغلوبينَ وهو وقتُ كونِهم غالبينَ والمعنى أنَّ كلاًّ من كونِهم مغلوبينَ أولاً وغالبين آخراً ليس إلا بأمرِ الله تعالى وقضائِه وَتِلْكَ الايام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس وقُرىء منْ قُبلُ ومن بعدِ بالجرِّ من غيرِ تقديرِ مُضافٍ إليهِ واقتطاعِه كأنَّه قيل قبلاً وبَعْداً بمعنى أولاً وآخِراً {وَيَوْمَئِذٍ} أي يومَ إذْ يغلبُ الرُّومُ على فارسَ ويحلُّ ما وعدَه الله تعالى من غلبتِهم {يَفْرَحُ المؤمنون}

5

{بِنَصْرِ الله} وتغليبِه من له كتابٌ على من لا كتابَ له وغيظِ من شمِت بهم من كفَّار مكَّةَ وكونِ ذلك من دلائلِ غلبةِ المؤمنينَ على الكفَّار وقيل نصرُ الله إظهارُ صدقِ المؤمنينَ فيما أخبرُوا به المشركينَ من غَلَبة الرُّومِ على فارسَ وقيل نصرُه تعالى أنَّه ولَّى بعضَ الظَّالمين بعضاً وفرَّق بين كلمتِهم حتَّى تناقصُوا وتفانوا وفلَّ كل منهم شوكةَ الآخرِ وفي ذلك قوَّةٌ وعن أبي سعيدٍ الخدريُّ رضيَ الله عنه أنَّه وافقَ ذلك يومَ بدرٍ وفيهِ من نصرِ الله العزيزِ للمؤمنينَ وفرحِهم بذلك مالا يَخْفى والأولُ هو الأنسبُ لقولِه تعالى {يَنصُرُ مَن يشاء} أي من يشاء أن ينصره من عبادِه على عدوِّه ويُغلِّبه عليهِ فإنَّه استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ قولِه تعالى الله الامر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ {وَهُوَ العزيز} المبالغُ في العزَّةِ والغَلَبةِ فلا يُعجزه مَن يشاءُ أنْ ينصرَ عليهِ كائناً مَن كان {الرحيم} المبالِغُ في الرَّحمةِ فينصرُ من يشاءُ أنْ ينصرَه أيَّ فريقٍ كان والمرادُ بالرَّحمةِ هي الدُّنيوية أمَّا على القراءةِ المشهُورة فظاهرٌ لما أنَّ كِلا الفريقينِ لا يستحقُّ الرَّحمةَ الأُخرويَّةَ وأمَّا على القراءةِ الأخيرةِ فلأنَّ المُسلمينَ وإنْ كانُوا مستحقِّين لها لكن المراد ههنا نصرُهم الذي هُو من آثارِ الرَّحمةِ الدُّنيويةِ وتقديمُ وصفِ العزَّةِ لتقدمِه في الاعتبارِ

6

{وَعَدَ الله} مصدرٌ مؤكدٌ لنفسِه لأنَّ ما قبله في مَعنى الوعدِ كأنَّه قيل وعد الله وعدا {لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ} أيَّ وعدٍ كانَ ممَّا يتعلَّقُ بالدُّنيا والآخرةِ لاستحالةِ الكذبِ عليهِ سبحانَه وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتعليلِ الحُكْمِ وتفخيمِه والجملةُ استئنافٌ مقررٌ لمعنى المصدرِ وقد جُوِّز أنْ تكونَ حالاً منه فيكونَ كالمصدرِ الموصوفِ كأنَّه قيل وعدا الله غيرَ مُخلفٍ {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أيْ ما سبق من شئونه تعالى

7

{يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا} وهو ما يُشاهدونَهُ من زخارِفها وملاذِّها وسائرِ أحوالِها الموافقةِ لشهواتِهم الملائمةِ لاهوائهم المستدعية لانهما كهم فيها وعكوفِهم عليها لا تمتعهم بزخارِفها وتنعمهم بملاذِّها كما قيلَ فإنَّهما ليسا ممَّا علمُوه منها بل من أفعالِهم المترتبةِ على علومِهم وتنكيرُ ظاهراً للتَّحقيرِ والتخسيس

الروم 8 دون الواحدة كما تُوهِّم أي يعلمون ظاهراً حقيراً خسيساً من الدُّنيا {وَهُمْ عَنِ الاخرة} التي هي الغاية القصوى والمطلبُ الأسنَى {هُمْ غافلون} لا يُخطرونَها بالبالِ ولا يُدركون من الدُّنيا ما يؤدي إلى معرفتِها من أحوالِها ولا يتفكَّرون فيها كما سيأتي والجملةُ معطُوفةٌ على يعلمونَ وإيرادُها إسمية للدلالةِ على استمرارِ غفلتِهم ودوامِها وهُم الثَّانية تكريرٌ للأولى أو مبتدأٌ وغافلون خبرُه والجملةُ خبرٌ للأولى وهو عَلَى الوجهينِ منادٍ على تمكُّنِ غفلتِهم عن الآخرةِ المحققِّةِ لمقتضَى الجملةِ المتقدمةِ تقريراً لجهالتِهم وتشبيهاً لهم بالبهائمِ المقصورِ إدراكاتُها من الدُّنيا على ظواهِرها الخسيسةِ دونَ أحوالِها التي هي مَبَادي العلمِ بأمورِ الآخرةِ وإشعاراً بأنَّ العلمَ المذكورَ وعدمَ العلمِ رأساً سيان

8

{أو لم يَتَفَكَّرُواْ} إنكارٌ واستقباحٌ لِقصَرِ نظرِهم على ما ذُكر من ظاهرِ الحياةِ الدُّنيا مع الغفلةِ عن الآخرةِ والواو للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقام وقوله تعالى {فِى أَنفُسِهِمْ} ظرفٌ للتفكُّرِ وذكرُه مع ظهورِ استحالةِ كونِه في غيرِها لتحقيق أمرهِ وتصويرِ حالِ المتفكِّرينِ وقولُه تعالى {مَّا خَلَقَ الله السماوات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا} الخ متعلقٌ إمَّا بالعلمِ الذي يؤدِّي إليه التَّفكُّر ويدلُّ عليهِ أو بالقولِ الذي يترتب عليهِ كما في قولِهِ تعالى {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السماوات والارض رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا} أي أعلمُوا ظاهرَ الحياةِ الدُّنيا فقط أو أقصَروا النَّظرَ عليه ولم يُحدِثُوا التفكُّرَ في قلوبِهم فيعلمُوا أنَّه تعالى ما خلقَهما وَمَا بَيْنَهُمَا من المخلُوقاتِ التي هُم من جُملتها ملتبسةً بشيءٍ من الأشياءِ {إِلا} ملتبسةً {بالحق} او يقولُوا هذا القولَ مُعترفين بمضمونِه إثرَ ما علمُوه والمرادُ بالحقِّ هو الثَّابتُ الذي يحِق أن يثبت لا محالة لابتنائه على الحكمةِ البالغةِ والغرضِ الصَّحيحِ الذي هو استشهادُ المكلَّفين بذواتِها وصفاتِها وأحوالِها المتغيرةِ على وجودِ صانعِها عزَّ وجلَّ ووحدتِه وعلمِه وقدرتِه وحكمتِه واختصاصِه بالمعبُوديَّةِ وصحَّةِ أخبارِه التي مِن جُملتِها إحياؤهم بعد الفناءِ بالحياةِ الأبديَّةِ ومجازاتِهم بحسبِ أعمالِهم غِبّ ما تبيَّن المحسنُ من المسيء وامتازتْ درجاتُ أفرادِ كلَ من الفريقينِ حسبَ امتيازِ طبقاتِ علومِهم واعتقاداتِهم المترتبةِ على أنظارِهم فيما نُصبَ في المصنُوعاتِ من الآياتِ والدَّلائلِ والامارات والمخايل كما نطق به قوله تعالَى وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً فإنَّ العملَ غيرُ مختصَ بعملِ الجوارحِ ولذلكَ فسَّرَهُ صلى الله عليه وسلم بقولِه أيُكم أحسنُ عقلاً وأورَعُ عن محارمِ الله وأسرعُ في طاعةِ الله وقد مرَّ تحقيقُه في أوائلِ سورةِ هُودٍ عليه السَّلام وقولُه تعالى {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} عطفٌ على الحقِّ أي وبأجلٍ معينٍ قدرَه الله تعالى لبقائِها لا بدَّ لها مِن أنْ تنتهيَ إليه لا محالةَ وهو وقتُ قيامِ السَّاعةِ هذا وقد جوِّز أنْ يكونَ قولُه تعالى في أنفسِهم صلةً للتفكُّرِ على معنى او لم يتفكرُوا في أنفسِهم التي هي أقربُ المخلوقاتِ إليهم وهم اعلم بشئونها وأخبرُ بأحوالِها منهم بأحوالِ ما عداها فيتدبَّروا ما أودَعها الله تعالى ظاهراً وباطناً من غرائبِ الحكمِ الدَّالَّةِ على التَّدبيرِ دونَ الاهمال

الروم 9 10 وانه لابد لها من انتهاءٍ إلى وقتٍ يُجازيها فيه الحكيم الذي دبَّر أمرَها على الإحسانِ إحساناً وعلى الإساءةِ مثلَها حتَّى يعلموا عند ذلك أنَّ سائرَ الخلائقِ كذلك أمرُها جارٍ على الحكمةِ والتَّدبيرِ وأنَّه لا بدَّ لها من الانتهاءِ إلى ذلك الوقتِ وأنتَ خبيرٌ بأنَّ أمرَ معادِ الإنسانِ ومُجازاتِه بما عملَ من الإساءةِ والإحسانِ هو المقصودُ بالذَّاتِ والمحتاجُ إلى الإثباتِ فجعلُه ذريعةً إلى إثباتِ معادِ ما عَداهُ مع كونِه بمعزلٍ من الجزاء تعكيس للامر فتدبر قوله تعالى {وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبّهِمْ لكافرون} تذييلٌ مقررٌ لمَا قبلَهُ ببيانِ أن أكثرَهم غيرُ مقتصرين على ما ذُكر من الغفلةِ عن أحوالِ الآخرةِ والإعراضِ عن التَّفكُّرِ فيما يُرشدهم إلى معرفتِها من خلقِ السمواتِ والأرضِ وما بينهما من المصنُوعاتِ بل هم مُنكرون جاحدون بلقاءِ حسابِه تعالى وجزائِه بالبعثِ

9

{أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ} توبيخٌ لهم بعدم اتِّعاظِهم بمشاهدةِ أحوالِ أمثالِهم الدالة على عاقبتهم ومآ لهم والهمزةُ لتقريرِ المنفيِّ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقامُ أي أقعدُوا في أماكنِهم ولم يسيرُوا {فِى الارض} وقولُه تعالى {فَيَنظُرُواْ} عطفٌ على يسيروا داخلٌ في حكمِ التَّقريرِ والتَّوبيخِ والمعنى أنَّهم قد سارُوا في أقطارِ الأرضِ وشاهدُوا {كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِم} من الأممِ المهلكةِ كعادٍ وثمودَ وقوله تعالى {كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} الخ بيانُ لمبدأِ احوالهم ومآ لها يعني انهم كانُوا أقدرَ منهم على التَّمتع بالحياةِ الدُّنيا حيثُ كانوا أشد منهم قوة {وَأَثَارُواْ الارض} أي قلبُوها للزراعةِ والحرثِ وقيل لاستنباطِ المياه واستخراجِ المعادنِ وغيرِ ذلك {وَعَمَرُوهَا} أي عمَّرَها أولئك بفنونِ العماراتِ من الزِّراعةِ والغرسِ والبناءِ وغيرها ممَّا يُعدُّ عمارةً لها {أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} أي عمارةً أكثرَ كمَّا وكيفاً وزماناً من عمارةِ هؤلاءِ إيَّاها كيف لا وهُم أهلُ وادٍ غيرِ ذي زرع لاتبسط لهم في غيرهِ وفيه تهكُّم بهم حيثُ كانوا مغترِّين بالدُّنيا مفتخرينَ بمتاعِها مع ضعفِ حالِهم وضيقِ عطنِهم إذْ مدارُ أمرِها على التبسطِ في البلادِ والتسلطِ على العبادِ والتقلبِ في أكنافِ الأرضِ بأصنافِ التصرفات وهم ضعفة ملجئون إلى وادٍ لا نفعَ فيه يخافُون أنْ يتخطَّفَهم النَّاسُ {وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} بالمعجزات أو الآياتِ الواضحاتِ {فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ} أي فكذَّبوهم فأهلَكهم فما كانَ الله ليهلَكهم من غير جُرمٍ يستدعيِه من قِبلهم والتعبيرُ عن ذلك بالظَّلمِ مع أنَّ إهلاكَه تعالى إيَّاهم بلا جُرمٍ ليس من الظالم في شيء على ما تقرر من قاعدةِ أهلِ السنةِ لإظهارِ كمالِ نزاهتِه تعالَى عنْ ذلك بإبرازهِ في معرضِ ما يستحيل صدروه عنه تعالى وقد مرَّ في سورةِ الأنفالِ وسورةِ آلِ عمرانَ {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بأن اجترءوا على اقترافِ ما يُوجبه من المعاصِي العظيمةِ

10

{ثُمَّ كَانَ عاقبة الذين أساؤوا} أي عملوا السيئات

الروم 11 15 وُضع الموصولُ موضعَ ضميرِهم للتَّسجيلِ عليهم بالإساءةِ والإشعارِ بعلَّةِ الحكمِ {السَّوأى} أي العقوبةِ التي هي أسوأُ العقوبات وأفظعها التي هي العقوبةُ بالنارِ فإنَّها تأنيثُ الأسوأِ كالحُسنى تأنيثُ الأحسنِ أو مصدرٌ كالبُشرى وُصفَ به العقوبةُ مبالغةً كأنَّها نفس السوأى وهي مرفوعةٌ على أنَّها اسمُ كانَ وخبرُها عاقبةَ وقُرىء عَلى العكسِ وهو أدخلُ في الجَزَالةِ وقولُه تعالى {أَنْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} علة لماء أُشير إليه من تعذيبِهم الدُّنيويِّ والأُخرويِّ أي لأنْ كذَّبُوا أو بأنْ كذَّبُوا بآياتِ الله المنزَّلةِ على رسله عليهم الصلاة والسلام ومعجزاتِه الظَّاهرةِ على أيديهم وقولُه تعالى {وَكَانُواْ بِهَا يستهزؤون} عطفٌ على كذَّبوا داخلٌ معه في حُكمِ العِلِّيةِ وإيرادُ الاستهزاءِ بصيغةِ المضارعِ للدِّلالةِ على استمرارِه وتجدُّدِه هذا هو اللائقُ بجزَالةِ النَّظمِ الجليلِ وقَدْ قيلَ وقيل

11

{الله يَبْدَأُ الخلق} أي يُنشئهم {ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد الموتِ بالبعثِ {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إلى موقفِ الحسابِ والجزاءِ والالتفاتُ للمُبالغةِ في التَّرهيبِ وقُرىء بالياءِ

12

{وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} التي هي وقتُ إعادة الخلق ورجعهم إليه {يُبْلِسُ المجرمون} أي يسكُتون مُتحيِّرينَ لا ينبِسُون يقال ناظرتُه فأبلسَ إذا سكتَ وأيسَ من أنْ يحتجَّ وقُرىء بفتحِ اللامِ من أبلسَه إذا أفحمَه وأسكتَه

13

{وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء} يجيرونَهم من عذابِ الله تعالى كما كانُوا يزعمونَه وصيغةُ الجمعِ لوقوعِها في مقابلةِ الجمعِ أي لم يكُن لواحدٍ منهم شفيعٌ أصلاً {وَكَانُواْ بشركائهم كافرين} أي بإلهيتهم وشركتهم لله سبحانه حيثُ وقفُوا على كُنهِ أمرِهم وصيغةُ الماضِي للدِّلالةِ على تحقُّقِه وقيلَ كَانُواْ في الدُّنيا كافرين بسببِهم وليسَ بذاكَ إذْ ليسَ في الإخبارِ به فائدةٌ يعتدُّ بها

14

{وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} أُعيدَ لتهويلِه وتفظيعِ ما يقعُ فيه وقولُه تعالى {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} تهويلٌ له إثرَ تهويلٍ وفيه رمزٌ إلى أنَّ التَّفرقَ يقعُ في بعضٍ منه وضميرُ يتفرَّقُون لجميعِ الخلقِ المدلولِ عليهم بما تقدَّمَ من بدئِهم وإعادتِهم ورجعِهم لا المجرمون خاصَّة وليسَ المرادُ بتفرُّقِهم افتراقَ كلِّ فردٍ منهم عن الآخرِ بل تفرُّقَهم إلى فريقَيْ المؤمنينَ والكافرينَ كما في قوله تعالى فريق فى الجنة وفريق فِى السعير وذلك بعد تمامِ الحسابِ وقولُه تعالى

15

{فأما الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} تفصيلٌ وبيانٌ لأحوالِ ذينكَ الفريقينِ والرَّوضةُ كلُّ أرضٍ ذاتِ نباتٍ وماءٍ ورَوْنقٍ ونَضارةٍ وتنكيرُها للتَّفخيم والمرادُ بها الجَّنةُ والحُبورُ السُّرورُ يقال حبرَهُ إذا سرَّهُ سُروراً تهلَّل له وجهُه وقيل الحبرة كل نعمة حسنة والتحبير التحسين واختفلت فيه الأقاويلُ لاحتمالِه وجوهَ جميع المسارفعن ابنِ عبَّاسٍ ومُجاهدٍ يُكرمون وعن قتادة

الروم 16 18 يُنعَّمون وعن ابن كيسانَ يُحلَّون وعن بكر بن عياش التيجان على رءوسهم وعن وكيعٍ السَّماعُ في الجَّنةِ وعنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم أنَّه ذكَر الجنَّةَ وما فيها من النعيمِ وفي آخرِ القومِ أعرابيُّ فقالَ يا رسولَ الله هَلْ في الجَّنةِ من سماعٍ قال صلى الله عليه وسلم يا أعرابيُّ إنَّ في الجنة لنهرا حافتاه لابكار من كلِّ بيضاءَ خُوصانيةِ يتغنَّين بأصواتٍ لم يسمعِ الخلائقُ بمثلِها قَطّ فذلكَ أفضلُ نعيمِ الجنَّةِ قال الرَّاوي فسألتُ أبا الدرداءِ رضي الله عنه بمَ يتغنَّين قال بالتَّسبيحِ ورُوي إنَّ في الجنَّةِ لأشجاراً عليها أجراسٌ من فضَّةٍ فإذا أرادَ أهلُ الجَّنةِ السَّماعَ بعثَ الله تعالى ريحاً من تحتِ العرشِ فتقعُ في تلكَ الأشجارِ فتحركُ تلك الأجراسَ بأصواتٍ لو سمعها أهلُ الدُّنيا لماتُوا طرباً

16

{وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا} التي من جُمْلتِها هذهِ الآياتُ الناطقةُ بما فُصِّل {وَلِقَاء الاخرة} صرَّح بذلك مع اندارجه في تكذيبِ الآياتِ للاعتناءِ بأمرِه وقولُه تعالى {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتكذيب بآياتِه تعالى وبلقاءِ الآخرةِ للإيذانِ بكمالِ تميُّزِهم بذلكَ عن غيرِهم وانتظامِهم في سلكِ المُشاهداتِ وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بالمشارِ إليهِ للإشعارِ ببُعدِ منزلتِهم في الشرِّ أي أولئكَ الموصوفونَ بما فُصِّل من القبائحِ {فِى العذاب مُحْضَرُونَ} على الدّوام لا يغيبونَ عنه أبداً

17

{فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} {وَلَهُ الحمد في السماوات والارض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} إثرَ ما بُيِّن حالُ فربقي المؤمنينَ العاملينَ للصالحاتِ والكافرينَ المكذِّبينَ بالآياتِ وما لهُما من الثَّوابِ والعذابِ أُمروا بما يُنجِّي من الثَّاني ويُفضِي إلى الأول من تنزيهِ الله عزَّ وجلَّ عن كل مالا يليقُ بشأنِه سبحانَهُ ومن حمدِه تعالى على نعمِه العظامِ وتقديمُ الأولِ على الثَّاني لما أنَّ التخليةَ متقدِّمةٌ على التَّحليةِ والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلَها أي إذا علمتُم ذلك فسبِّحوا الله تعالى أي نزِّهُوه عمَّا ذكر سبحانَهُ أي تسبيحَه اللائق في هذه الأوقاتِ واحمدُوه فإنَّ الإخبارَ بثبوتِ الحمدِ له تعالى ووجوبِه على المميِّزينَ من أهلِ السَّمواتِ والأرضِ في معنى الأمرِ به على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وتوسيطُه بينَ أوقاتِ التَّسبيحِ للاعتناءِ بشأنِه والإشعارِ بأنَّ حقَّهما أنْ يُجمعَ بينَهما كما ينبيءُ عنه قولُه تعالى وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وقولُه تعالى فَسَبّحْ بحمد ربك وقوله صلى الله عليه وسلم من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمدِه مائةَ مرَّةٍ حُطَّت خطاياهُ وإنْ كانتْ مثلَ زبد البحر وقوله صلى الله عليه وسلم من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمدِه مائةَ مرَّةٍ لم يأتِ أحدٌ يومَ القِيامةِ بأفضلَ ممَّا جاءَ بهِ إلا أحدٌ قالَ مثلَ ما قال اوزاد عليه وقوله صلى الله عليه وسلم كلمتانِ خفيفتانِ على اللَّسانِ ثقيلتانِ في الميزانِ سبحانَ الله وبحمدِه سبحانَ الله العظيمِ وغيرُ ذلكَ ممَّا لا يُحصى من الآياتِ والأحاديثِ وتخصيصُهما بتلكَ الأوقاتِ للدلالة على أن ما يحدثُ فيها من آياتِ قدرته واحكام

الروم 19 21 رحمتِه ونعمتِه شواهدُ ناطقةٌ بتنزهِه تعالى واستحقاقِه الحمدَ وموجبةٌ لتسبيحِه وتحميدِه حتماً وقولُه تعالى وعشيَّاً عطفٌ على حينَ تُمسون وتقديمُه على حينَ تُظهرون لمُراعاةِ الفواصلِ وتغييرُ الأسلوبِ لِمَا أنَّه لا يجيءُ منه الفعلُ بمعنى الدُّخولِ في العشى كالمساء والصباحِ والظَّهيرة ولعلَّ السرَّ في ذلك أنَّه ليس من الأوقاتِ التي تختلفُ فيها أحوالُ النَّاس وتتغيرُ تغيراً ظاهراً مصحِّحاً لوصفِهم بالخروجِ عمَّا قبلها والدُّخولِ فيها كالأوقاتِ المذكورةِ فإنَّ كلاًّ منها وقتٌ تتغير فيه الأحوالُ تغيراً ظاهراً أمَّا في المساء والصَّباح فظاهرٌ وأمَّا في الظَّهيرة فلأنَّها وقتٌ يعتاد فيه التَّجرُّدُ عن الثيابِ للقيلولةِ كما مر في سورة النُّور وقيل المرادُ بالتَّسبيح والحمد الصَّلاة لاشتمالِها عليهما وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية جامعةٌ للصلوات الخمس تُمسون صلاتا المغربِ والعشاءِ وتُصبحون صلاةُ الفجرِ وعشياً صلاةُ العصرِ وتُظهرون صلاةُ الظُّهرِ ولذلك ذهبَ الحسنُ إلى أنَّها مدنيةٌ إذ كان يقول إن الواجبَ بمكَّةَ ركعتانِ في أي وقتٍ اتفقتا وإنما فرضت الخمسُ بالمدينة والجمهورُ على أنها فُرضت بمكَّةَ وهو الحقُّ لحديث المعراج وفي آخره هنَّ خمسُ صلواتٍ كل يوم وليلة عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم مَنْ سرَّه أنْ يُكالَ له بالقفيزِ الأَوفى فليقُل فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وحينَ تُصبحون الآيةَ وعنه صلى الله عليه وسلم من قال حين يصبح فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وحينَ تُصبحون إلى قولِه تعالى وكذلك تُخرجونَ أدرك ما فاتَه في يومِه ومن قالَها حينَ يُمسي أدرك ما فاته في ليلتِه وقُرىء حينا تُمسون وحينا تُصبحون أي تُمسون فيه وتُصبحون فيه

19

{يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} كالإنسان من النطفة والطير من البيضة {وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} النُّطفةَ والبيضةَ من الحيوانِ ويُحْيِى الارض بالنبات بعد موتها يبسها وكذلك ومثلَ ذلك الإخراجُ تُخْرَجُونَ من قبورِكم وقُرىء تَخرُجون بفتح التَّاءِ وضمِّ الرَّاءِ وهذا نوعُ تفصيلٍ لقوله تعالى الله يَبْدَأُ الخلقَ ثُمَّ يُعيده

20

{ومن آياته} الباهرةِ الدَّالَّةِ على أنَّكم تُبعثون دلالةً أوضحَ ممَّا سبق فإنَّ دلالةَ بدءِ خلقِهم على إعادتِهم أظهرُ من دلالةِ إخراجِ الحيِّ من الميتِ وإخراجِ الميتِ من الحيِّ ومن دلالة إحياءِ الأرضِ بعد موتِها عليها {أَنْ خَلَقَكُمْ} أي في ضمن خلق آدمَ عليه السَّلامُ لما مرَّ مرارا من أنَّ خلقَه صلى الله عليه وسلم منطوٍ على خلق ذرياتِه انطواءً إجمالياً {مّن تُرَابٍ} لم يشَمَّ رائحةَ الحياة قطّ ولا مناسبة بينه وبين ما أنتُم عليه في ذاتِكم وصفاتِكم {ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} أي فاجأتُم بعد ذلك وقت كونِكم بشراً تنتشرون في الأرضِ وهذا مجمل ما فُصِّل في قولِه تعالى يا يها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ البعث فَإِنَّا خلقناكم مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ الآية

21

{ومن آياته} الدَّالَّةِ على ما ذُكر من البعث وما بعده من الجزاءِ {أَنْ خَلَقَ لكم} أي

الروم 22 لأجلِكم {مّنْ أَنفُسِكُمْ أزواجا} فإنَّ خلق أصلِ أزواجكم حواءَ من ضِلْعِ آدمَ عليه السَّلام متضمن لخلقهنَّ من أنفسكم على ما عرفته من التَّحقيقِ أو من جنسكم لا من جنسٍ آخرَ وهو الأوفقُ لقولِه تعالى {لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا} أي لتألفُوها وتميلُوا إليها وتطمئنُّوا بها فإنَّ المُجانسةَ من دَوَاعي التَّضامِّ والتَعارفِ كما أنَّ المخالفةَ من أسبابِ التفرُّقِ والتَّنافرِ {وَجَعَلَ بَيْنَكُم} أي بين الأزواجِ اما على تغليب الرِّجالِ على النِّساءِ في الخطاب أو على حذفِ ظرفٍ معطوفٍ على الظَّرفِ المذكُورِ أي جعل بينكم وبينهنَّ كما مر في قوله تعالى لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ من رُّسُلِهِ وقيل أو بين أفرادِ الجنسِ أي بينَ الرِّجالِ والنِّساءِ ويأباهُ قولُه تعالى {مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} فإنَّ المرادَ بهما ما كان منهما بعصمةِ الزَّواج قطعاً أي جعلَ بينكم بالزَّواج الذي شرعَه لكم توادَّاً وتراحُماً من غير أنْ يكونَ بينكم سابقةُ معرفةٍ ولا رابطةٌ مصحِّحةٌ للتَّعاطفِ من قرابةٍ أو رحمٍ قيل المودَّةُ والرَّحمةُ من قِبَل الله تعالى والفَرْك من الشَّيطانِ وَعَنِ الحَسَنِ رَحِمَهُ الله المَودَّةُ كِنايةٌ عنِ الجِمَاعِ وَالرَّحمةُ عَنِ الولدِ كما قال تعالى ورحمةً منا {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذُكر من خلقِهم من تُرابٍ وخلقِ أزواجِهم من أنفسِهم وإلقاءِ المودَّةِ والرَّحمةِ بينهم وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بالمشارِ إليهِ للإشعارِ ببُعد منزلتِه {لاَيَاتٍ} عظيمةٌ لا يُكتَنه كُنهُها كثيرةً لا يُقَادر قدرُها {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في تضاعيفِ تلك الافاعيل المتينة المبنية على الحكم البالغة والجُملة تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله مع التنبيهُ على أنَّ ما ذُكر ليس بآيةٍ فذَّةٍ كما ينبىء عنه قوله تعالى ومن آياتِه بل هي مشتملةٌ على آياتٍ شتَّى

22

(ومن آياته) الدَّالَّةِ على ما ذُكر من أمر البعثِ وما يتلُوه من الجزاءِ {خُلِقَ السماوات والارض} إما من حيثُ إنَّ القادرَ على خلقِهما بما فيهما من المخلوقات بلا مادَّة مستعدةِ لها أظهرُ قدرة على إعادِة ما كان حيَّاً قبل ذلك وإمَّا منْ حيثُ إن خلقهما ومافيهما ليس إلا لمعاشِ البشرِ ومعادِه كما يُفصح عنه قولُه تعالى هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً وقولُه تعالَى وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً {واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ} أي لغاتِكم بأنْ علَّم كلَّ صنفٍ لغتَهُ وألهمه وضعَها وأقدرَه عليها او اجناس نطقكم وأشكالِه فإنَّك لا تكادُ تسمعُ منطقينِ متساويينِ في الكيفيَّةِ من كلِّ وجهٍ {وألوانكم} ببياضِ الجلدِ وسوادِه وتوسطِه فيما بينهما أو تخطيطات الاعضاء وهيآتها وألوانِها وحُلاها بحيثُ وقعَ بها التمايز بين الاشخاص حتَّى إنَّ التَّوأمينِ مع توافقِ موادِّهما وأسبابِهما والأمورِ المتلاقيةِ لهما في التَّخليقِ يختلفانِ في شيءٍ من ذلك لا محالَة وإنْ كانا في غايةِ التَّشابِه وإنَّما نُظِمَ هذا في سلك الآيات الآفافية من خلقِ السمواتِ والأرضِ مع كونِه من الآياتِ الانفسية الحقيقة بالانتظامِ في سلكِ ما سبق من خلقِ أنفسِهم وأزواجِهم للإيذانِ باستقلالِه والاحترازِ عن توهُّمِ كونِه من تتمَّاتِ خلقِهم {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذكر من خلقِ السمواتِ والأرضِ واختلافِ الألسنةِ والألوانِ {لاَيَاتٍ} عظيمة في أنفسها كثيرة في عددِها {للعالمين} أي المتَّصفين بالعلمِ كما في قولِه تعالى وَمَا يَعْقِلُهَا

الروم 23 25 إِلاَّ العالمون وقُرىء بفتحِ اللامِ وفيه دلالةٌ على كمالِ وضوحِ الآياتِ وعدمِ خفائِها على أحدٍ من الخلق كافة

23

{ومن آياته منامكم بالليل والنهار} لاستراحةِ القوى النَّفسانيةِ وتقوِّي القُوى الطَّبيعيةِ {وابتغاؤكم مّن فَضْلِهِ} فيهما فإنَّ كُلاًّ من المنامِ وابتغاءِ الفضلِ يقعُ في المَلَوينِ وإنْ كان الأغلبُ وقوعَ الأول في الأولِ والثَّاني في الثَّانِي أو منامُكم بالليلِ وابتغاؤُكم بالنَّهارِ كما هو المعتادُ والموافقُ لسائرِ الآيات الواردة في ذلك خَلاَ أنَّه فصَل بين القرينينِ الأولينِ بالقرينينِ الآخيرينِ لأنَّهما زمان والزَّمانُ مع ما وقعَ فيه كشيءٍ واحدٍ مع اعادة اللفِّ على الاتحادِ {إِنَّ فى ذلك لآيات لقوم يَسْمَعُونَ} أي شأنُهم أنْ يسمعُوا الكلامَ سماعَ تفهمٍ واستبصارٍ حيثُ يتأمَّلون في تضاعيفِ هذا البيانِ ويستدلُّون بذلك على شئونه تعالى

24

{ومن آياته يُرِيكُمُ البرق} الفعلُ إمَّا مقدَّرٌ بأنْ كما في قول من قال ألا ابهذا الزَّاجِري أحضُرَ الوَغَى أي أنْ أحضُرَ أو منزَّلٌ منزلة المصدروبه فُسِّر المثلُ المشهُورُ تسمعُ بالمُعَيديِّ خيرٌ مِنْ أَنْ تَرَاهُ أو هو على حالِه صفةٌ لمحذوفٍ أي آيةٌ يريكم بها البرق كقولِ مَن قال ... وَمَا الدهر الا نارتان فمنها أموتُ وأُخرى أَبتغِي العيشَ أَكْدَحُ ... أي فمنهما تارةً أموتُ فيها وأُخرى أبتغِي فيها أو ومن آياتِه شيءٌ أو سحابٌ يُرِيكُمُ البرقَ خَوْفًا من الصَّاعقةِ أو للمسافرِ {وَطَمَعًا} في الغيثِ أو للمقيمِ ونصبُهما على العِلَّةِ لفعلٍ يستلزمُه المذكورُ فإنَّ إراءتهم البرقَ مستلزمةٌ لرؤيتِهم إيَّاه أو للمذكورِ نفسِه على تقديرِ مضافٍ نحو إراءةِ خوفٍ وطمعٍ أو على تأويلِ الخوفِ والطمعِ بالإخافةِ والإطماعِ كقولك فعلنه رغماً للشَّيطانِ أو على الحالِ نحو كلَّمتُه شِفاهاً {وَيُنَزّلُ مِنَ السماء مَاءً} وقُرىء بالتَّخفيفِ {فَيُحْيِى بِهِ الارض} بالنبات {بعد موتها} يُبسها {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإنَّها من الظُّهورِ بحيث يكفي في إدراكِها مجرَّدُ العقل عند استعمالِه في استنباطِ أسبابِها وكيفيَّةِ تكوُّنِها

25

{ومن آياته أَن تَقُومَ السماء والارض بِأَمْرِهِ} أي بإرادتِه تعالى لقيامهِما والتَّعبيرُ عنها بالأمر للدِّلالةِ على كمال القدرة والغني عن المبادى والأسبابِ وليس المرادُ بإقامتهما إنشاءهما لأنَّه قد بُيِّن حاله بقولِه تعالى وَمِنْ آياته خَلْقُ السموات والارض ولا إقامتهما بغير مقيم محسوسٍ كما قيل فإن ذلك من تتماتِ إنشائِهما وإنْ لم يصرَّحْ به تعويلاً على ما ذُكر في غير موضعٍ من قوله تعالى خَلَقَ السموات بِغَيْرِ عمد ترونها الآية

الروم 26 27 بل قيامَهما واستمرارَهما على ما هُما عليه إلى أجلهما الذي نطقَ به قوله تعالى فيما قبل ما خلق السموات والأرض وما بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وحيث كانتْ هذه الآيةُ متأخرةً عن سائرِ الآياتِ المعدودةِ متَّصلةً بالبعثِ في الوجودِ أُخرت عنهنَّ وجُعلت متَّصلةً به في الذِّكرِ أيضاً فقيلَ {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مّنَ الارض إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} فإنه كلامٌ مسوق للاخبار بوقوعِ البعثِ ووجودِه بعد انقضاء أجل قيامِهما مترتِّب على تعداد آياتِه الدَّالَّةِ عليه غير منتظمٍ في سلكها كما قيا كأنَّه قيل ومن آياتِه قيامُ السَّمواتِ والأرضِ على هيآتهما بأمرِه تعالى إلى أجل مسمى قدره الله تعالى لقيامِهما ثمَّ إذا دعاكم أي بعد انقضاءِ الأجلِ من الأرض وأنتُم في قبورِكم دعوة واحدة بأنْ قال أيُّها الموتى اخرجُوا فاجأتم الخروجَ منها وذلك قولُه تعالى يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى ومن الأرضِ متعلق بدعاكُم إذ يكفي في ذلك كون المدعوِّ فيها يقال دعوته من أسفلِ الوادِي فطلع إليَّ لا بتخرجون لأنَّ ما بعد إذا لا يعملُ فيما قبلَها

26

{وَلَهُ} خاصة {مَن فِى السماوات والارض} من الملائكةِ والثَّقلين خَلقاً ومُلكاً وتصرُّفاً ليس لغيره شركة في ذلك بوجهٍ من الوجوه {كُلٌّ لَّهُ قانتون} أي منقادُون لفعله لا يمتنعون عليه في شأن من شئونه تعالى

27

{وَهُوَ الذى يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} بعد موتِهم وتكريره لزياة التَّقريرِ والتَّمهيدِ لما بعده من قولِه تعالى {وَهُوَ أهون عليه} أي بإضافة إلى قُدَرِكم والقياس على أصولِكم وإلا فُهما عليه سواءٌ وقيل أهونُ بمعنى هَيِّنٌ وتذكير الضمير مع رجوعِه إلى الإعادة لما أنَّها مؤَّولةٌ بأنْ يُعيد وقيل هو راجعٌ إلى الخلقِ وليس بذاك وأما ما قيل من أن الإنشاء بطريقِ التَّفضل الذي يتخيَّر فيه الفاعلُ بين الفعل والتَّرك والإعادةُ من قبيلِ الواجبِ الذي لا بدَّ من فعله حتماً فكان أقربَ إلى الحصولِ من الإنشاءِ المترددِ بين الحصولِ وعدمِه فبمعزلٍ من التَّحصيل إذ ليس المرادُ بأهونيةِ الفعل أقربيَّتَه إلى الوجود باعتبار كثرةِ الأمورِ الدَّاعية للفاعل إلى إيجادِه وقوَّة اقتضائها لتعلق قدرته به بل أسهلية تأتَّيه وصدوره عنه بعد تعلق قدرته بوجوده وكونِه واجباً بالغيرِ ولا تفاوتَ في ذلك بين أنْ يكون ذلك التعليق بطريق الإيجابِ أو بطريقِ الاختيارِ {وَلَهُ المثل الاعلى} أي الوصفُ الأعلى العجيبُ الشأنِ من القدرة العامَّةِ والحكمة التَّامةِ وسائر صفاتِ الكمال التي ليس لغيرِه ما يُدانيها فضلاً عمَّا يساويها ومن فسره بقول لا إله إلا الله اراد به الوصف بالواحدانية {في السماوات والارض} متعلق بمضمونِ الجملة المتقدِّمةِ على معنى أنَّه تعالى قد وُصف به وعُرف فيهما على ألسنةِ الخلائقِ وألسنةِ الدَّلائلِ وقيل متعلق بالا على وقيلَ بمحذوفٍ هُوَ حالٌ منه أو من المثل أو من ضميرِه في الأعلى {وَهُوَ العزيز} القادر الذي لا يعجزُ عن بدء ممكن واعادته

الروم 28 29 {الحكيم} الذي يجري الأفعالَ على سَنَنِ الحكمة والمصلحةِ

28

{ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً} يتبيَّن به بطلانُ الشِّركِ {مّنْ أَنفُسِكُمْ} أي مُنتزعاً من أحوالِها التي هي أقربُ الأمورِ إليكم وأعرفُها عندكم وأظهرُها دلالةً على ما ذُكر من بطلان الشِّرك لكونها بطريقِ الأولوية وقولُه تعالى {هَلْ لَّكُمْ} الخ تصوير للمثلِ أي هَلْ لَّكُمْ {مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم} من العبيدِ والإماءِ {مّن شركاء في ما رزقناكم} من الأموالِ وما يجري مجراها مَّما تتصرَّفون فيها فمِن الأُولى ابتدائيةٌ والثَّانيةُ تبعيضيةٌ والثَّالثةُ مزيدةٌ لتأكيدِ النفيُ المستفادِ من الاستفهامِ فقوله تعالى {فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء} تحقيقٌ لمعنى الشركة وبيان لكونهم وشركائهم متساوين في التَّصرف فيما ذُكر من غير مزيَّةِ لهم عليها على أنَّ هناك محذوفاً معطوفاً على أنتُم لا أنَّه عامٌّ للفريقين بطريق التَّغليب أي هل ترضَون لأنفسكم والحالُ أنَّ عبيدَكم أمثالُكم في البشريةِ وأحكامِها أنْ يشاركوكم فيما رزقناكم وهو معار لكم فأنتم وهم فيه سواءٌ يتصرَّفون فيه كتصرُّفكم من غير فرقٍ بينكم وبينهم {تَخَافُونَهُمْ} خبرٌ آخرُ لأنتم أو حالٌ من ضميرِ الفاعل في سواءٌ أي تهابون أنْ تستبدُّوا بالتَّصرُّف فيه بدون رأيهم {كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أي خيفةً كائنةً مثلَ خيفتِكم من الاحرار المساهمين لكم فيما ذُكر والمعنى نفيُ مضمونِ ما فُصِّل من الجملةِ الاستفهامَّيةِ أي لا ترضَون بأنْ يشاركَكم فيما هو معارٌ لكم مماليكُكم وهم أمثالُكم في البشريةِ غيرُ مخلوقين لكُم بل لله تعالى فكيف تُشركون به سبحانه في المعبوديةِ التي هي من خصائصِه الذاتيةِ مخلوقَه بل مصنوعَ مخلوقِه حيثُ تصنعونَه بأيديكم ثم تعبدونَه {كذلك} أي مثلَ ذلك التَّفصيلِ الواضح {نُفَصّلُ الآيات} أي نبيِّنها ونوضِّحها لا تفصيلاً أدنى منه فإنَّ التَّمثيل تصويرٌ للمعاني المعقولة بصورةِ المحسوسِ وإبرازٌ لأوابدِ المُدركاتِ على هيئة المأنوسِ فيكون في غايةِ الإيضاحِ والبيان {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي يستعملون عقولَهم في تدبُّرِ الأمور وتخصيصُهم بالذِّكرِ مع عموم تفصيلِ الآياتِ للكلِّ لأنَّهم المنتفعون بها

29

{بَلِ اتبع الذين ظَلَمُواْ} إعراضٌ عن مخاطبتهم ومحاولةُ إرشادِهم إلى الحقِّ بضربِ المثلِ وتفصيلِ الآياتِ واستعمالِ المقدِّماتِ الحقَّةِ المعقولةِ وبيانٌ لاستحالةِ تبعيتهم للحقِّ كأنَّه قيل لم يعقلوا شيئاً من الآيات المفصلة بل اتَّبعوا {أَهْوَاءهُمْ} الزائغةَ ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم للتَّسجيلِ عليهم بأنَّهم في ذلك الاتباعِ ظالمون واضعون للشيءِ في غيرِ موضعِه أو ظالمون لأنفسِهم بتعريضِها للعذابِ الخالدِ {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي جاهلين ببطلانِ ما أتَوَا مكبِّين عليه لا يَلويهم عنه صارفٌ حسبما يصرِّف العالم إذا اتبع الباطل علمه ببطلانه {فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ الله} أي خلقَ فيه الضلالَ بصرفِ اختيارِه إلى كسبِه أي لا يقدرُ على هدايتِه أحدٌ {وَمَا لَهُمْ} أي لمن أضلَّه الله تعالى والجمعُ باعتبارِ المعنى {مّن ناصرين} يُخلِّصونهم من الضَّلالِ ويحفظونهم من تبعانه وآفاتِه على معنى ليس لواحدٍ منهم ناصرٌ واحدٌ على ما هو قاعدةُ مقابلة الجمع بالجمع

الروم

30

30 - 32 {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ} تمثيلٌ لإقباله على الدِّين واستقامتهِ وثباتِه عليه واهتمامِه بترتيبِ أسبابِه فإنَّ من اهتمَّ بشيءٍ محسوسٍ بالبصر عقدَ عليه طرفَه وسدَّد إليه نظره وقوم له وجهة مُقبلاً به عليه أي فقوم وجهك له وعدله غيرَ ملتفتٍ يميناً وشمالاً وقولُه تعالى {حَنِيفاً} حالٌ من المأمورِ أو من الدِّين {فِطْرَةَ الله} الفطرةُ الخلِقةُ وانتصابُها على الإغراءِ أي الزمورا أو عليكم فطرةَ الله فإن الخطاب للكل كما يفصحُ عنه قولُه تعالى منيبين والإفراد في أقِم لما أنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم امام الامة فأمره صلى الله عليه وسلم مستتبع لأمرِهم والمرادُ بلزومِها الجريانُ على موجبِها وعدمُ الإخلالِ به باتباعِ الهَوَى وتسويلِ الشَّياطينِ وقيل على المصدرِ أي فطرَ الله فطرةً وقولُه تعالى {التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} صفةٌ لفطرةَ الله مؤكدةٌ لوجوبِ الامتثالِ بالأمرِ فإنَّ خلقَ الله النَّاسَ على فطرتِه التي هي عبارةٌ عن قبولِهم للحقَّ وتمكُّنُهم من إدراكِه أو عن ملَّة الإسلامِ من موجباتِ لزومِها والتمسُّك بها قطعاً فإنَّهم لو خُلُّوا وما خُلقوا عليه أدَّى بهم إليها وما اختاروا عليها ديناً آخر ومن غَوى منهم فبإغواءِ شياطين الإنسِ والجنِّ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم حكايةٌ عن ربَّ العِزَّةِ كلَّ عبادِي خلقتُ حنفاءَ فاجتالتْهُم الشياطينُ عن ديِنهم وأمرُوهم أنْ يُشركوا بي غيري وقوله صلى الله عليه وسلم كلُّ مولودٍ يُولد على الفطرةِ حتَّى يكونَ أَبَواه هُما اللذانِ يهوِّدانه ويُنصِّرانِه وقولُه تعالى {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} تعليلٌ للأمرِ بلزومِ فطرتِه تعالَى أو لوجوبِ الامتثالِ به أي لا صَّحةَ ولا استقامةَ لتبديلةِ بالإخلالِ بموجبِه وعدمِ ترتيبِ مقتضاهُ عليه باتِّباعِ الهَوَى وقبولِ وسوسةِ الشَّيطانِ وقيل لا يقدِرُ أحدٌ على ان يغير فلا بد حينئذٍ من حملِ التَّبديلِ على تبديلِ نفسِ الفطرةِ بإزالتِها رأساً ووضعِ فطرةٍ أُخرى مكانَها غيرِ مصححةٍ لقبولِ الحقِّ والتمكنِ من إدراكِه ضرورةَ أنَّ التبديل بالمعنى الأول مقدور بل واقع قطعاً فالتعليل حينئذ من جهة أنَّ سلامة الفطرةِ متحققةٌ في كلِّ أحدٍ فلا بدَّ من لزومِها بترتيبِ مُقتضاها عليها وعدمُ الإخلالِ به بما ذُكر من اتِّباعِ الهوى وخطواتِ الشَّيطانِ ذلك إشارةٌ إلى الدِّين المأمورِ بإقامةِ الوجهِ له أو إلى لزومِ فطرةِ الله المستفادِ من الاغراءِ أو إلى الفطرةِ إنْ فسِّرت بالملَّة والتَّذكيرُ بتأويلِ المذكورِ أو باعتبارِ الخبرِ {الدين القيم} المُستوِي الذي لا عِوَجَ فيه {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ذلكَ فيصدُّون عنه صُدوداً

31

{منيبين إِلَيْهِ} حالٌ من الضَّميرِ في النَّاصبِ المقدَّرِ لفطره الله أو في أقِم لعمومِه للأمَّةِ حسبما أُشير إليهِ وما بينَهما اعتراضٌ أي راجعين إليه من أنابَ إذَا رجعَ مرَّةً بعدَ أُخرى وقولُه تعالى {واتقوه} أي من مخالفةِ أمرهِ عطفٌ على المقدَّرِ المذكورِ وكذا قولُه تعالى {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين} المبدِّلين لفطرةِ الله تعالى تبديلاً

32

{مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} بدلٌ من المشركينَ بإعادةِ الجارِّ وتفريقُهم لدينهم اختلافُهم فيما يعبدونه على

الروم 33 37 اختلافِ أهوائِهم وفائدةُ الإبدالِ التَّحذيرُ عن الانتماءِ إلى حزبٍ من أحزابِ المشركينَ ببيان أنَّ الكلَّ على الضَّلالِ المبينِ وقُرىء فارقُوا أي تركُوا دينَهم الذي أُمروا به {وَكَانُواْ شِيَعاً} أي فِرقاً تشايعُ كلٌّ منها إمامَها الذي أضلَّها {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ} من الدينِ المعوجِ المؤسَّس على الرَّأيِ الزَّائغِ والزَّعمِ الباطلِ {فَرِحُونَ} مسرورون ظنَّاً منهم أنَّه حقٌّ وأَنَّى له ذلك فالجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله من تفريقِ دينِهم وكونِهم شيعاً وقد جُوِّز أنْ يكونَ فرحون صفةً لكلُّ على أنَّ الخبرَ هو الظرفُ المقدَّمُ أعني من الذين فرَّقُوا ولا يخفى بعدُه

33

{وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ} أي شدَّةٌ {دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ} راجعينَ إليه من دعاءِ غيرِه {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً} خلاصاً من تلك الشدَّة {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ بِرَبّهِمْ} الذي كانُوا دَعَوه منيبين إليه {يُشْرِكُونَ} أي فاجأ فريقٌ منهم الإشراكَ وتخصيصُ هذا الفعلِ ببعضِهم لما أنَّ بعضَهم ليسُوا كذلك كما في قوله تعالى فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ أي مقيمٌ على الطَّريقِ القصدِ أو متوسط في الكفر لانزجاره في الجُملة

34

{ليكفروا بما آتيناهم} اللامُ فيه للعاقبةِ وقيل للأمرِ التَّهديديِّ كقولِه تعالى {فَتَمَتَّعُواْ} غيرَ أنَّه التفتَ فيه للمبالغةِ وقرىء وليتمتَّعوا {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبةَ تمتُّعِكم وقُرىء بالياءِ على أنَّ تمتَّعوا ماضٍ والالتفاتُ إلى الغيبة في قوله تعالى

35

{أم أنزلنا عليهم} للإبذان بالإعراضِ عنهم وتعديدِ جناياتِهم لغيرِهم بطريقِ المُباثّةِ {سلطانا} أي حجَّةً واضحةً وقيل ذا سلطانٍ أي مَلَكاً معه برهانٌ {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} تكلُّمَ دلالةٍ كما في قولِه تعالى هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق أو تكلُّمَ نطقٍ {بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} بإشراكهم به تعالى أو بالأمر الذي بسببه يُشركون

36

{وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} أي نعمة من صَّحةٍ وسَعَةٍ {فَرِحُواْ بِهَا} بَطَراً وأشَراً لا حَمْداً وشُكْراً {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} شدَّةٌ {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بشؤمِ معاصِيهم {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} فاجئوا القُنوطَ من رحمتهِ تعالى وقرىء بكسر النون

37

{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ} أي ألم ينظرُوا ولم يشاهدُوا {أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ} فما لهم لم يشكرُوا ولم يحتسبُوا في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ كالمؤمنينَ {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} فيستدلُّون

الروم 38 41 بها على كمالِ القدرةِ والحكمة

38

{فآت ذَا القربى حَقَّهُ} من الصلةِ والصدقةِ وسائرِ المَبَرَّاتِ {والمسكين وابن السبيل} ما يستحقَّانِه والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لمن بُسط له كما تُؤذن به الفاءُ {ذَلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله} ذاتَه أو جهتَه ويقصدون بمعروفهم إيَّاه تعالى خالصاً أو جهةَ التقربِ إليه لا جهةً أُخرى {وأولئك هُمُ المفلحون} حيث حصَّلْوا بما بُسط لهم النَّعيمَ المُقيمَ

39

{وما آتيتم مّن رِباً} زيادةٌ خاليةٌ عن العوضِ عند المعاملةِ وقُرىء أتيتُم بالقصرِ أي غشيتمُوه أو رهقتمُوه من إعطاء ربا {ليربو فِى أَمْوَالِ الناس} ليزيدَ ويزكو في أموالِهم {فَلاَ يربو عند الله} أي لايبارك فيه وقُرىء لتربُوا أي لتزيدُوا أو لتصيرُوا ذوي ربا {وما آتيتم مّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله} أي تبتغُون به وجهَه تعالى خالِصاً {فَأُوْلَئِكَ هم المضعفون} أي ذووا الأضعافِ من الثَّوابِ ونظيرُ المُضْعف المُقْوى والموسر لذي القوة واليسارِ أو الذين ضعّفوا ثوابَهم وأموالَهم بالبركةِ وقُرىء بفتحِ العينِ وفي تغييرِ النَّظمِ الكريمِ والالتفاتِ من الجزالة مالايخفي

40

{الله الذى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَىْء} أثبت له تعالى لوازمَ الأُلوهيَّةِ وخواصَّها ونفاها رأساً عَّما اتخذوه شركاء له تعالى من الأصنامِ وغيرِها مؤكِّداً بالإنكارِ على ما دلَّ عليه البرهانُ والعيانُ ووقع عليه الوفاقُ ثم استنتج منه تنزهه عن الشُّركاءِ بقولِه تعالى {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقد جُوِّز أن يكونَ الموصولُ صفةً والخبرُ هل من شركائِكم والرابطُ قولُه تعالى مِن ذلِكم لأنه بمعنى من أفعاله ومن الأولى والثانية تفيدانِ شيوعَ الحُكمِ في جنسِ الشُّركاءِ والأفعالِ والثَّالثة مزيدةٌ لتعميمِ المنفيِّ وكل منها مستقلة بالتأكيدِ وقُرىء تُشرِكون بصيغةِ الخطابِ

41

{ظهر الفساد فى البر والبحر} كالجدبِ والمَوَتانِ وكثرةِ الحَرَقِ والغَرَقِ وإخفاقِ الغاصةِ ومحقِ البركاتِ وكثرةِ المضارِّ أو الضَّلالةِ والظُّلمِ وقيل المرادُ بالبحرِ قُرى السَّواحلِ وقُرى البحورِ {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس} بشؤمِ مَعَاصيهم أو بكسبِهم إيَّاها وقيل ظهر الفساد فى البر بقتلِ قابيلَ أخاهُ هابيلَ وفي البحرِ بأنَّ جَلَندى

الروم 42 46 كانَ يأخذُ كلَّ سفينةٍ غَصْباً {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذى عَمِلُواْ} أي بعضَ جزائِه فإن اتمامه في الآخرةِ واللامُ للعلَّةِ أو للعاقبةِ وقُرىء لنُذيقهم بالنَّونِ {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عمَّا كانُوا عليه

42

{قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلُ} ليشاهدُوا آثارَهم {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ} استئنافٌ للدَّلالة على أنَّ ما أصابَهم لفشوِّ الشركِ فيما بينَهم أو كان الشركُ في أكثرِهم وما دونه من المَعاصي في قليلٍ منهم

43

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ القيم} أي البليغِ الاستقامة {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ} لا يقدِرُ أحدٌ على ارده {من الله} متعلق بيأني أو بمردِّ لأنه مصدرٌ والمعنى لا يردُّه الله تعالى لتعلُّقِ إرادتِه القديمةِ بمجيئِه {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أصله يتصدَّعون أي يتفرَّقُون فريقٌ فى الجنة وفريق فى السَّعيرِ

44

{مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي وبال كفر وهو النَّارُ المؤبَّدة {وَمَنْ عَمِلَ صالحا فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} أي يسوون منزلاً في الجنَّة وتقديمُ الظَّرفِ في الموضعينِ للدِّلالة على الاختصاصِ

45

{ليجزي الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات من فضله} متعلق بيصدَّعُون وقيل بيمهدون أي يتفرَّقون بتفريقِ الله تعالى فريقينِ ليُجزي كلاً منهما بحسبِ أعمالِهم وحيث كان جزاءُ المؤمنين هو المقصودَ بالذَّاتِ أُبرز ذلك في معرضِ الغايةِ وعبر عنه بالفضلِ لما أَنَّ الإثابةَ بطريق التفضل لا الوجوبِ وأُشير إلى جزاءِ الفريقِ الآخرِ بقولِه تعالى {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين} فإنَّ عدمَ محبتهِ تعالى كنايةٌ عن بُغضهِ الموجبِ لغضبهِ المستتبعِ للعقوبةِ لا محالة

46

{ومن آياته أَن يُرْسِلَ الرياح} أي الشَّمالَ والصَّبَا والجَنوبَ فإنَّها رياحُ الرَّحمةِ وأما الدَّبُورُ فريحُ العذابِ ومنه قولُه صلى الله عليه وسلم اللهمَّ اجعلْهَا رياحاً ولا تجعلْها ريحاً وقُرىء الريحَ على إرادةِ الجنسِ {مبشرات} بالمطرِ {وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ} وهي المنافعُ التَّابعةُ لها وقيل الخصبُ التَّابعُ لنزولِ المطرِ المسبَّبِ عنها أو الرَّوح الذي هو مع هبُوبِها واللامُ متعلقةٌ بيرسل والجملةُ معطوفةٌ على مبشِّراتٍ على المعنى كأنه قيل ليبشركم بها وليذقكم أو بمحذوفٍ يُفهم من ذكرِ الإرسالِ تقديرُه وليذيقكم وليكون كذا وكذا يُرسلها لا لأمرٍ آخرَ لا تعلق له بمنافعِكم {وَلِتَجْرِىَ الفلك} بسوقِها {بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} بتجارةِ البحرِ {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولتشكروا نعمةَ الله فيما ذُكر من

الروم 47 50 الغاياتِ الجليلةِ

47

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ} كما أرسلناك إلى قومك {فجاؤوهم بالبينات} أي جاء كلُّ رسولٍ قومَه بما يخصُّه من البيِّنات كما جئتَ قومَك ببيِّناتك والفاءُ في قولِه تعالى {فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ} فصيحةٌ أي فكذَّبُوهم فانتقمنَا منهم وإنَّما وضع ضميرِهم الموصولُ للتنبيه على مكانِ المحذوفِ والإشعارِ بكونِه علَّةً للانتقامِ وفي قوله تعالى {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} مزيدُ تشريفٍ وتكرمةٍ للمؤمنينَ حيثُ جُعلوا مستحقِّين على الله تعالَى أنْ ينصرَهم وإشعارٌ بأنَّ الانتقامَ من الكفرةِ لأجلهِ وقد يُوقف على حقَّاً على أنَّه متعلق بالانتقامِ ولعلَّ توسيط الآيةِ الكريمةِ بطريقِ الاعتراضِ بين ما سبَقَ وما لَحِق من أحوالِ الرِّياحِ وأحكامِها لإنذارِ الكَفَرةِ وتحذيرِهم عن الإخلالِ بمواجبِ الشُّكرِ المطلوبِ بقولِه تعالى لعلَّكم تشكرُون بمقابلةِ النعمِ المعدودةِ المنوطةِ بإرسالِها كيلا يحلَّ بهم مثلُ ماحل بأولئك الأممِ من الانتقامِ

48

{الله الذى يُرْسِلُ الرياح} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما أُجمل فيما سبقَ من أحوالِ الرِّياحِ {فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ} متصلاً تارةً {فِى السماء} في جوِّها {كَيْفَ يَشَاء} سائراً وواقفاً مُطبقاً وغيرَ مطبقٍ من جانبٍ دون جانبٍ إلى غيرِ ذلك {وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} تارةً أُخرى أي قِطعاً وقُرىء بسكونِ السِّينِ على أنَّه مخففٌ جمعُ كِسْفة أو مصدرٌ وصفَ به {فَتَرَى الودق} المطرَ {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} في التارتين {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} أي بلادَهم وأراضيَهم {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} فاجئوا الاستبشارَ بمجيء الخِصْبِ

49

{وَإِن كَانُواْ} إنْ مخففةٌ منْ أنَّ وضمير الشأن الذي هو اسمُها محذوفٌ أي وإنَّ الشَّأنَ كانَوا {مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي المطرُ {مِن قبله} تكرير للتأكد والإيذانِ بطولِ عهدِهم بالمطرِ واستحكامِ يأسِهم منه وقيل الضَّميرُ للمطرِ أو السَّحابِ أو الإرسالِ وقيل للكسف على القراءةِ بالسكون وليس بواضحٍ وأقربُ من ذلك أنْ يكونَ الضَّميرُ للاستبشارِ ومن متعلقة بينزل لتفيد سرعةَ تقَلبِ قلوبِهم من اليأسِ إلى الاستبشار بالإشارةِ إلى غايةِ تقاربِ زمانيهما ببيان اتصال اليأس بالئزيل المتصل بالاستبشار بشهادة إذا الفجائية {لَمُبْلِسِينَ} خبرُ كانُوا واللامُ فارقةٌ أي آيسين

50

{فانظر إلى آثار رَحْمَةِ الله} المترتبةِ على تنزيلِ المطرِ من النباتِ والأشجارِ وأنواعِ الثمارِ والفاءُ للدِلالة على سرعةِ ترتبها عليه وقرىء أثر

الروم 51 53 بالتوَّحيدِ وقولُه تعالى {كَيْفَ يحيي} أي الله تعالى {الارض بَعْدَ مَوْتِهَا} في حيِّزِ النِّصبِ بنزعِ الخافضِ وكيفَ معلِّقٌ لانظرْ أي فانظُرْ إلى إحيائِه البديعِ للأرضِ بعد موتِها وقيلَ على الحاليَّةِ بالتَّأويلِ وأيَّاً ما كان فالمرادُ بالأمرِ بالنَّظرِ التنبيهُ عَلَى عظمِ قُدرتِه تعالى وسعةِ رحمته ما فيه من التَّمهيدِ لما يعقبُه مِنْ أمرِ البعث وقرىء تحي بالتَّأنيثِ على الإسنادِ إلى ضميرِ الرَّحمةِ {إِنَّ ذَلِكَ} العظيمُ الشأنِ الذي ذُكر بعض شئونه {لَمُحْيِى الموتى} لقادرٌ على إحيائِهم فإنَّه إحداثٌ لمثلِ ما كانَ في موادِّ أبدانِهم من القُوى الحَيَوانيَّةِ كما أنَّ إحياءَ الأرضِ إحداثٌ لمثلِ ما كانَ فيها منَ القُوى النباتيَّةِ أو لمحييهم البتةَ وقولُه تعالى {وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله أي مبالغٌ في القُدرةِ على جميع الأشياء التي من جملتها إحياؤُهم لما أنَّ نسبةَ قُدرتِه إلى الكُلِّ سواءٌ

51

{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ} أي الأثرَ المدلُولَ عليه بالآثار او النبات المعبر عنه بالآثارِ فإنَّه اسمُ جنسٍ يعمُّ القليلَ والكثيرَ {مُصْفَرّاً} بعد خُضرتِه وقد جُوِّز أنْ يكونَ الضَّميرُ للسَّحابِ لأنَّه إذا كان مُصفرَّاً لم يُمطر ولا يخفى بعدُه واللامُ في لئن موطِّئةٌ للقسمِ دخلتْ على حرفِ الشَّرطِ والفاءُ في فَرأَوه فصيحة واللامُ في قولِه تعالى {لَّظَلُّواْ} لامُ جواب القسم ساد مسدَّ الجوابينِ أي وبالله لئنْ أرسلنا ريحاً حارةً أو باردةً فضربتْ زرْعَهُم بالصَّفارِ فرأَوَه مُصفرَّاً ليظلنَّ {مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} من غيرِ تلعثُمٍ وفيه منْ ذمِّهم بعد تثبيتِهم وسرعةِ تزلزلِهم بين طَرَفيْ الإفراطِ والتفريطِ مالا يخفى حيثُ كان الواجبُ عليهم أن يتوكلوا على الله تعالى في كل حال ويلجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبسَ عنهم القطرُ ولا ييأسوا من رَوْح الله تعالى ويبادرُوا إلى الشُّكرِ بالطَّاعةِ إذا أصابَهم برحمتِه ولا يفرِّطوا في الاستبشارِ وأنْ يصبرُوا على بلائِه إذا اعترى زرعَهم آفةٌ ولا يكفرُوا بنعمائِه فعكسُوا الأمرَ وأبَوا ما يُجديهم وأَتَوا بما يُرديهم

52

{فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} لما انهم مثلهم لانسداد مشاعرِهم عن الحقِّ {وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} تقييدُ الحكم بما ذُكر لبيانِ كمالِ سوءِ حالِ الكفرةِ والتنبيه على أنَّهم جامعُون لخصلتي السُّوءِ نبوِّ أسماعِهم عن الحقَّ وإعراضِهم عن الإصغاءِ إليهِ ولو كانَ فيهم إحداهُما لكفاهُم ذلك فكيفَ وقد جمعُوهما فإنَّ الأصمَّ المقبلَ إلى المتكلِّمِ ربَّما يفطَنُ من أوضاعِه وحركاتِه لشىءٍ من كلامِه وإنْ لم يسمعْهُ أصلاً وأمَّا إذا كانَ مُعرضاً عنه فلا يكادُ يفهمُ منه شيئاً وقُرىء بالياءِ المفتوحةِ ورفعِ الصُّمِّ

53

{وَمَا أَنتَ بِهَادِى العمى عَن ضلالتهم} سمُّوا عُمياً إما لفقدِهم المقصودِ الحقيقيِّ من الإبصارِ أو لعَمَى قلوبِهم وقُرىء تهدِي العميَ {إِن تُسْمِعُ} أي ما تُسمِعُ {إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} فإنَّ إيمانَهم يدعُوهم إلى التَّدبرِ فيها وتلقِّيها بالقَبُولِ إو إلاَّ من يُشارفُ الإيمانَ بها ويُقبل عليها إقبالاً لائقاً {فَهُم مُّسْلِمُونَ} مُنقادُون لما تأمرُهم به من الحق

الروم

54

54 - 57 {الله الذى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ} مبتدأٌ وخبرٌ أي ابتدأكُم ضعفاءَ وجعلَ الضَّعفَ أساسَ أمرِكم كقولِه تعالى وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً أي خلقكُم من أصلٍ ضعيفٍ هو النُّطفة {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} وذلك عند بلوغِكم الحُلُمَ أو تعلقِ الرُّوح بأبدانِكم {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} إذا أخذَ منكم السنُّ وقُرىء بضمِّ الضَّادِ في الكلِّ وهو أَقوى لقولِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قرأتها على رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم فأقرأنِي من ضُعفٍ وهُما لغُتانِ كالفَقْرِ والفُقْرِ والتَّنكيرُ معَ التَّكريرِ لأنَّ المتقدِّمَ غيرُ المتأخرِ {يَخْلُقُ مَا يشاء} من الأشياء التي من جُمْلتها ما ذكِرَ منَ الضَّعفِ والقُوَّةِ والشَّيبةِ {وَهُوَ العليم القدير} المبالغُ في العلمِ والقدرةِ فإنَّ التَّرديدَ فيما ذُكر من الأطوارِ المختلفةِ من أوضحِ دلائلِ العلمِ والقدرةِ

55

{وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} أي القيامةُ سُمِّيتْ بها لأنَّها تقوم في آخرِ ساعةٍ من ساعاتِ الدُّنيا أو لأنَّها تقعُ بغتة وصارتْ عَلَماً لها كالنَّجمِ للثُّريَّا والكوكَبِ للزُّهْرةِ {يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ} أي في القبُورِ أو في الدُّنيا والأولُ هُو الأظهرُ لأنَّ لبثَهم مُغيَّا بيومِ البعثِ كما سيأتي وليسَ لبثُهم في الدُّنيا كذلكَ وقيلَ فيما بين فناءِ الدُّنيا والبعثِ وانقطاع عذابِهم وفي الحديثِ ما بينَ فناءِ الدُّنيا وَالبَعثِ أربعونَ وهُو محتملٌ للسَّاعاتِ والأيَّامِ والأعوامِ وقيلَ لا يعلم أهي أربعونَ سنة أو أربعونَ ألفِ سنة {غَيْرَ سَاعَةٍ} استقلُّوا مدَّة لبثهم نسياناً أو كذباً أو تخميناً {كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ} مثلَ ذلكَ الصَّرفِ كانوا يُصرفون في الدُّنيا عن الحقِّ والصِّدقِ

56

{وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان} في الدُّنيا من الملائكةِ والإنسِ {لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله} في علمهِ أو قضائهِ أو ما كتبَه وعيَّنه أو في اللوح أو القرآن وهو قوله تعالى وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ {إلى يَوْمِ البعث} ردُّوا بذلك ما قالُوه وأيَّدوه باليمين كأنَّهم من فرطِ حَيرتِهم لم يدرُوا أنَّ ذلك هو البعثُ الموعودُ الذي كانُوا ينكرونَه وكانُوا يسمعون أنَّه يكونُ بعد فناءِ الخلقِ كافَّة ويقدرون لذلك زماناً مديداً وإنْ لم يعتقدُوا تحقُّقه فردَّ العالِمونَ مقالتَهم ونبَّهوهم على أنَّهم لبثُوا إلى غايةٍ بعيدةٍ كانُوا يسمعونَها وينكرونَها وبكَّتوهم بالإخبارِ بوقوعِها حيثُ قالُوا {فهذا يَوْمُ البعث} الذي كنتُم تُوعدون في الدُّنيا {ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أنَّه حقٌّ فتستعجلون به استهزاءً والفاءُ جوابُ شرطٍ محذوفٍ كما في قول من قالَ ... قالُوا خراسانُ أقْصَى ما يرادبنا ... ثمَّ القُفولُ فقد جِئنا خُراساناً ...

57

{فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ} أي عذرُهم وقُرىء تنفعُ بالتاء محافظةً على ظاهرِ اللفظِ وإنْ توسط

الروم 58 60 بينهما فاصلٌ {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} لا يُدعون إلى ما يقتضِي إعتابَهم أي إزالةَ عَتْبِهم من التَّوبة والطَّاعةِ كما دُعوا إليه في الدُّنيا من قولِهم استعتبني فلانٌ فاعتبتُه أي استرضانِي فأرضيته

58

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرآن مِن كُلّ مَثَلٍ} أي وبالله لقد بينَّا لهم كل حال ووصفنالهم كلَّ صفةٍ كأنَّها في غرابتها مَثَلٌ وقصصنا عليهم كلَّ قصَّةٍ عجيبةِ الشَّأنِ كصفةِ المبعوثينَ يومَ القيامةِ وقصتهم وما يقولُونَ وما يُقال لهم ويفعلُ بهم من ردِّ اعتذارِهم {وَلَئِن جئتهم بآية} من آياتِ القُرآنِ النَّاطقةِ بأمثالِ ذلك {لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ} لفرطِ عتوِّهم وعنادِهم وقساوةِ قلوبِهم مخاطبينَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} أي مزوِّرون

59

{كذلك} مثلَ ذلك الطَّبعِ الفظيعِ {يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَّ يَعْلَمُونَ} لا يطلبونَ العلمَ ولا يتحرَّون الحقَّ بل يُصرُّون على خرافاتٍ اعتقدوها وتُرَّهاتٍ ابتدعُوها فإن الجهلَ المركَّبَ يمنعُ إدراكُ الحقِّ ويوجبُ تكذيبَ المُحقِّ

60

{فاصبر} على ما نشاهد منهم من الأقوالِ الباطلةِ والافعال السيئة {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} وقد وعدك بالنُّصرةِ وإظهارِ الدِّينِ وإعلاءِ كلمةِ الحقِّ ولا بُدَّ من إنجازِه والوفاءِ به لا محالةَ {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ} لا يحملنَّك على الخفَّةِ والقلقِ {الذين لاَ يُوقِنُونَ} بما تتلُو عليهم من الآياتِ البيِّنةِ بتكذيبِهم إيَّاها وإيذائِهم لك بأباطِيلِهم التي مِنْ جُملتها قولُهم إنْ أنتُم إلا مُبطلون فإنَّهم شاكُّون ضالُّون ولا يُستبعد منهم أمثالُ ذلك وقُرىء بالنُّون المخففةِ وقُرىء ولا يستحقنَّك من الاستحقاقِ أي لا يفتُننَّك فيملكوك وبكونوا أحقَّ بك من المؤمنينَ وأياً ما كان فظاهرُ النظمِ الكريمِ وإنْ كانِ نهياً للكَفَرةِ عن استخفافِه صلى الله عليه وسلم واستحقاقه لكنه في الحقيقة نهيٌ له صلى الله عليه وسلم عن التَّاثرِ من استخفافِهم والافتتان بفتنتِهم على طريقِ الكنايةِ كما في قوله تعالى ولا يجر منكم شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَن لا تَعْدِلُواْ عن رسولِ الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الرُّوم كان له منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعدد كلِّ مَلَكٍ يُسبِّحُ الله تعالى بينَ السَّماءِ والأرضِ وأدركَ ما ضيَّع في يومِه وليلتهِ

سورة لقمان 1 6 مكية وقيل إلا الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة فإن وجوبهما بالمدينة وهو ضعيف لأنه ينافى شرعيتهما بمكة وقيل إلا ثلاثاً من قوله وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وهى اربع وثلاثون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

لقمان

{الم تلك آيات الكتاب} سلفَ بيانُه في نظائرِه {الحكيم} أي ذي الحكمةِ لاشتماله عليها أو هو وصفٌ له بنعته تعالى أو أصلُه الحكيمُ منزله او قائلُه فحُذف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مقامه فانقلب مرفُوعاً فاستكنَّ في الصِّفةِ المُشبَّهةِ وقيل الحكيمُ فعيلٌ بمعنى مُفْعَلٍ كما قالُوا أعقدتُ اللَّبنَ فهو عَقِيدٌ أي مُعْقَدٌ وهو قليلٌ وقيلَ بمعنى فاعلٍ

3

{هُدًى وَرَحْمَةً} بالنَّصبِ على الحاليَّةِ من الآياتٍ والعاملُ فيهما معنى الإشارةِ وقُرئا بالرفع على أنهما خبران آخرانِ لاسمِ الإشارة أو لمبتدأ محذوف {لّلْمُحْسِنِينَ} أي العاملين للحسنات فإن أريد بها مشاهيرُها المعهودةُ في الدِّينِ فقولُه تعالى

4

{الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وهم بالأخرة هم يوقنون} بيانٌ لما عملوها من الحسناتِ على طريقةِ قولِه الأَلْمعيُّ الَّذِي يَظُنُّ بِكَ الظن كأن قدر رَأَى وقَدْ سَمِعا وإنْ أُريد بها جميعُ الحسناتِ فهو تخصيصٌ لهذه الثلاثِ بالذكر من بين سائر شُعبِها لإظهارِ فضلِها وإنافتِها على غيرِها وتخصيصُ الوجهِ الأولِ بصورةِ كونِ الموصولِ صفةً للمحسنين والوجهِ الآخيرِ بصورةِ كونِه مبتدأً مما لا وجهَ لَهُ

5

{أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} الفائزون بكلِّ مطلوبٍ والنَّاجُون من كلِّ مهروبٍ لحيازتِهم قُطريْ العلمِ والعملِ وقد مرَّ ما فيه من المقالِ في مطلع سورةِ البقرة بما لا مزيدة عليهِ

6

{وَمِنَ الناس} محلُّه الرفعُ على الابتداءِ باعتبارِ مضمونِه

لقمان 7 8 أو بتقديرِ الموصوفِ ومِنْ في قولِه تعالَى {من يَشْتَرِى لَهْوَ الحديث} موصولةٌ أو موصوفةٌ محلُها الرَّفعُ على الخبرَّيةِ والمعنى وبعضُ النَّاسِ أو وبعضٌ مِن النَّاسِ الذي يشترِي أو فريقٌ يشتِري على أنَّ مناطَ الإفادةِ والمقصودَ بالأصالةِ هو اتِّصافُهم بما في حِّيزِ الصِّلةِ أو الصِّفةِ لا كونُهم ذواتِ أولئك المذكورينَ كما مرَّ في قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله وباليوم الأخر الآياتِ ولهوُ الحديثِ ما يُلهى عمَّا يُعنى من المهمَّاتِ كالأحاديثِ التي لا أصلَ لها والأساطير التي لا اعتدادَ بها والمضاحكِ وسائرِ مالا خيرَ فيه من فضُولِ الكلامِ والإضافةُ بمعنى من التبيينة إنْ أُريد بالحديثِ المنكرُ وبمعنى التبعيضيةِ إن أُريد به الأعمُّ مِن ذلكَ وقيلَ نزلتِ الآيةُ في النضر بن الحرث اشترى كتبَ الأعاجمِ وكان يُحدِّثُ بها قُريشاً ويقولُ ان كان محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم يُحدِّثكم بحديثِ عادٍ وثمودٍ فأَنا أُحدِّثكم بحديثِ رُسْتُمَ واسفِنْدِيارَ والأكاسرةِ وقيلَ كان يشترِي القيانَ ويحملهنَّ على مُعاشرةِ مَن أرادَ الإسلامَ ومنعِه عنْهُ {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله} أي دينِه الحقِّ الموصِّلِ إليهِ تعالى أو عن قراءةِ كتابِه الهادِي إليه تعالى وقُرىء ليَضلَّ بفتح الياء أي ليثبُتَ ويستمرَّ على ضلالِه أو ليزدادَ فيه {بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي بحالِ ما يشتريِه أو بالتِّجارةِ حيثُ استبدلَ الشرَّ البَحتَ بالخيرِ المحضِ {وَيَتَّخِذَهَا} بالنَّصبِ عطفاً على يُضلَّ والضَّميرُ للسَّبيلِ فإنَّه ممَّا يُذكِّرُ ويُؤنَّثُ وهو دينُ الإسلامِ أو القُرآنِ أي ويتخذَها {هُزُواً} مَهزُواً بهِ وقُرىء ويتخذُها بالرَّفعِ عطفاً على يشترِي وقولُه تعالى {أولئك} إشارةٌ إلى من والجمعُ باعتبارِ مَعناهَا كما أن الإفراد في الفعلينِ باعتبارِ لفظِها وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بذكرِ المُشارِ إليهِ للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في الشَّرارةِ أي أولئك الموصوفون بما ذُكر من الاشتراءِ للإضلالِ {لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} لما اتَّصفُوا به من إهانتِهم الحقِّ بإيثارِ الباطلِ عليهِ وترغيبِ النَّاس فيه

7

{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ} أي على المشتري افراد الضَّميرُ فيه وفيما بعدَه كالضَّمائرِ الثلاثةِ الأولِ باعتبارِ لفظةِ مَن بعدَ ما جُمع فيما بينهما باعتبارِ معناها {آياتنا} التي هي آياتُ الكتابِ الحكيمِ وهدى ورحمةٌ للمحسنين {وَلَّى} أعرض عنها غيرَ معتدبها {مُسْتَكْبِراً} مبالغاً في التَّكَبُّر {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا} حالٌ من ضمير ولَّى أو من ضميرٍ مستكبراً والأصلُ كأنَّه فحذف ضميرُ الشَّأنِ وخُفِّفتْ المُثقَّلةُ أي مشبهاً حاله حالَ مَن لم يسمعها وهو سامعٌ وفيه رمزٌ إلى أنَّ مَن سمعها لا يُتصوَّرُ منه التَّوليةُ والاستكبارُ لِما فيها منَ الأمورِ الموجبةِ للإقبالِ عليها والخضوعِ لها على طريقة قول من قال كأنَّك لم تَجْزَعْ على ابنِ طَرِيْفِ {كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْراً} حال من ضميرِ لم يسمعْها أي مشبها حاله حال من في اذنيه ثقَلٌ مانع من السَّماعِ ويجوز أنْ يكونا استئنافين وقُرىء في أُذْنيهِ بسكونِ الذَّالِ {فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي فأعلمه بأنَّ العذابَ المفرط في الإيلام لاحقٌ به لا محالة وذكرُ البشارةِ للتَّهكمِ

8

{إن الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} بيانٌ لحالِ المُؤمنين بآياتِه تعالى إثرَ بيانِ حالِ الكافرينَ بها أي الذين آمنُوا بآياتِه تعالى وعملُوا بموجبِها {لَهُمْ} بمقابلة ما ذكر من ايمانهم واعمالهم {جنات النعيم} أي

لقمان 9 11 نعيمُ جنَّاتٍ فعكسَ للمُبالغةِ والجملة خبرُ أنَّ والأحسن أنْ يجعلَ لَهمُ هو الخبرَ لأنَّ وجنَّاتُ النَّعيمِ مرتفعاً بِه على الفاعليَّةِ وقولُه تعالَى

9

{خالدين فِيهَا} حالٌ من الضَّميرِ في لهم أو مِن جنَّاتِ النَّعيمِ لاشتماله على ضميريهِما والعاملُ ما تعلَّق به اللامُ {وَعْدَ الله حَقّا} مصدرانِ مؤكِّدانِ الاول لنفسه والثَّاني لغيرهِ لأنَّ قولَه تعالَى لهم جنَّاتُ النَّعيمِ في معنى وعَدَهم الله جنات النعيم فأكد معنى الوعد بالوعد واما حقا فدال على معنى الثبات اكد به معنى الوعد ومؤكدهما جميعا لهم جنَّاتِ النَّعيمِ {وَهُوَ العزيز} الذي لا يغلبه شيء ليمنعه من إنجازِ وعدِه أو تحقيقِ وعيدِه {الحكيم} الذي لا يفعل إلا ما تقتضيهِ الحِكمةُ والمصلحةُ

10

{خلق السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ} الخ استئنافٌ مسوقٌ للاستشهادِ بما فُصِّل فيه على عزَّتِه تعالى التي هي كمالُ القدرةِ وحكمتِه التي هي كمالُ العلمِ وتمهيدُ قاعدةِ التوحيد وتقريرُه وإبطالُ أمرِ الإشراكِ وتبكيتُ أهلِه والعَمَدُ جمعُ عمادٍ كأَهبٍ جمعُ إهابٍ وهو ما يُعمَد به أي يُسند يُقال عمَدتُ الحائطَ إذا دعَّمتُه أي بغيرِ دعائم على أنَّ الجمعَ لتعددِ السَّمواتِ وقولُه تعالى {تَرَوْنَهَا} استئنافٌ جِيءَ بهِ للاستشهادِ على ما ذُكر من خلقِه تعالى لها غير معهودة بمُشاهدتِهم لها كذلك أو صفةٌ لعَمَدٍ أي خلقَها بغيرِ عمدٍ مرئيَّةٍ على أنَّ التَّقييدَ للرَّمزِ إلى أنَّه تعالى عمَّدها بعَمدٍ لا تَرَونها هي عَمَدُ القُدرةِ {وألقى فِى الارض رَوَاسِىَ} بيانٌ لصُنعه البديعِ في قرارِ الأرض إثرَ بيانِ صُنعه الحكيمِ في قرار السموات أي ألقى فيها جبالاً ثوابتَ وقد مرَّ ما فيه من الكلام في سُورة الرَّعدِ {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} كراهةَ أنْ تميلَ بكم فإنَّ بساطةَ أجزائِها تقتضِي تبدُّلَ أحيازِها وأوضاعِها لامتناعِ اختصاصِ كلَ منها لذاتِه أو لشيءٍ من لوازمِه بحيِّزٍ معيَّنٍ ووضعٍ مخصوصٍ {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ} من كلِّ نوعٍ من أنواعِها {وَأَنزَلْنَا من السماء ماء} هو المطرُ {فَأَنبَتْنَا فِيهَا} بسببٍ ذلك الماءِ {مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} من كلِّ صنفٍ كثيرِ المنافعِ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ في الفعلينِ لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ بأمرِها

11

{هذا} أي ما ذكر من السَّمواتِ والأرضِ وما تعلَّق بهما من الأمورِ المعدودةِ {خَلَقَ الله} أي مخلوقُه {فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ} ممَّا اتخذ تموهم شركاءً له سبحانه في العبادةِ حتَّى استحقُّوا به المعبوديَّةَ وماذا نُصب بخَلْقُ أو مَا مرتفعٌ بالابتداءِ وخبرُه ذَا بصلتِه وأرُوني متعلقٌ به وقولُه تعالى {بَلِ الظالمون فِى ضلال مُّبِينٍ} إضرابٌ عن تبكيتِهم بما ذُكر إلى التَّسجيلِ عليهم بالضَّلالِ البيِّنِ المُستدعي للإعراضِ عن مخاطبتِهم بالمقدِّماتِ المعقولةِ الحقَّةِ لاستحالة أنْ يفهمُوا منها شيئاً فيهتدوا به إلى العلمِ ببطلانِ ما هُم عليه أو يتأثَّروا من الإلزامِ والتَّبكيتِ فينزجُروا عنه ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ ضميرِهم للدِّلالةِ على انهم بإشراكهم

لقمان 12 14 واضعون للشيء في غير موضعِه ومتعدُّون عن الحدودِ وظالمون لأنفسِهم بتعريضِها للعذابِ الخالِدِ

12

{ولقد آتينا لُقْمَانَ الحكمة} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ بطلانِ الشِّركِ وهو لقمان بن باعوارء من اولاد آزر ابن أختِ أيُّوبَ عليه السَّلامُ أو خالتِه وعاشَ حتَّى أدركَ داودَ عليه السَّلامُ وأخذ عنْهُ العلمَ وكان يُفتي قبل مبعثِه وقيل كان قاضياً في بني إسرائيلَ والجمهورُ على أنَّه كانَ حكيماً ولم يكُنْ نبيِّاً والحكمةٌ في عُرفِ العُلماءِ استكمالُ النَّفسِ الإنسانيَّةِ باقتباس العلوم النظرية واكتسابِ المَلَكة التَّامةِ على الأفعالِ الفاضلةِ على قدرِ طاقتِها ومن حكمتِه أنَّه صحبَ داودَ عليه السَّلام شُهوراً وكان يسرد الدِّرعَ فلم يسألْه عنها فلمَّا أتمَّها لبسها وقال نعمَ لبوسُ الحربِ أنتِ فقال الصَّمتُ حكمةٌ وقليلٌ فاعلُه فقال له داودُ عليه السَّلامُ بحقَ ما سُمِّيت حكيما وان داود عليه السلام قال له يوماً كيفَ أصبحتَ فقال أصبحتُ في يَدَيْ غيرِي فتفكَّر داودُ فيه فصعِق صعقةً وأنَّه أمرَه مولاهُ بأنْ يذبحَ شاةً ويأتي بأطيبِ مُضغتينِ منها فأتى باللِّسانِ والقلبِ ثمَّ بعد أيَّامٍ أمره بأنْ يأتيَ بأخبثِ مُضغتينِ منها فأتى بِهما أيضاً فسأله عن ذلك فقالَ هما أطيب شئ إذا طَابَا وأخبثُ شيءٍ إذا خُبثا ومعنى {أَنِ اشكر للهِ} أي اشكُر له تعالى على أنَّ أنْ مفسِّرةٌ فإنَّ إيتاءَ الحكمةِ في معنى القَولِ وقوله تعالى {وَمَن يَشْكُرْ} الخ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله موجبٌ للامتثالِ بالأمر أي ومَن يشكُرْ له تعالى {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} لأنَّ منفعتَهُ التي هي ارتباطُ العتيدِ واستجلابُ المزيدِ مقصورةٌ عليها {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ} عن كلِّ شيءٍ فلا يحتاجُ إلى الشُّكرِ ليتضررَ بكفرِ مَن كفَرَ {حَمِيدٌ} حقيقٌ بالحمد وإنْ لم يحمَدْه أحدٌ أو محمودٌ بالفعل ينطقُ بحمدِه جميعُ المخلوقاتِ بلسانِ الحالِ وعدمُ التَّعرضِ لكونِه تعالى مشكُوراً لما أنَّ الحمدَ متضمنٌ للشكرِ بل هو رأسُه كما قال صلى الله عليه وسلم الحمدُ رأسُ الشُّكرِ لم يشكرِ الله عبدٌ لم يحمدْهُ فإثباتُه له تعالى إثباتٌ للشكرِ له قطعاً

13

{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ} أنعمَ وقيل أشكمَ وقيل ماثان {وهو يعظه يا بني} تصغير إشفاق وقرئ يا بنيْ بإسكانِ الياءِ وبكسرِها {لاَ تُشْرِكْ بالله} قيل كانَ ابنُه كافراً فلم يزلْ به حتَّى أسلم ومن وقفَ على لا تُشركْ جعلَ بالله قسماً {إِنَّ الشرْكَ لظُلم عَظِيمٌ} تعليلٌ للنَّهي أو للانتهاءِ عن الشِّركِ

14

{وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه} الخ كلامُ مستأنفٌ اعترض بهِ على نهجِ الاستطرادِ في أثناءِ وصيَّةِ لقمانَ تأكيداً لما فيها من النَّهيِ عن الشِّركِ وقولُه تعالى {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ} إلى قولِه في عامينِ اعتراضٌ بين المفسَّر والمفسِّر وقولُه تعالى {وَهْناً} حالٌ من أمِّه أي ذاتَ وهنٍ أو مصدرٌ مؤكد لفعل هو الحالُ أي تهِنُ وَهْناً

لقمان 15 17 وقولُه تعالى {على وَهْنٍ} صفة للمصدرِ أي كائناً على وَهنٍ أي تضعُف ضعفاً فوقَ ضعفٍ فإنَّها لا تزالُ يتضاعفُ ضعفُها وقرئ وَهَنا على وَهَن بالتَّحريك يقالُ وَهِن يَهِنُ وَهَنا ووَهَن يَوْهِنُ وَهْناً {وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ} أي فطامُه في تمامِ عامينِ وهي مدَّةُ الرَّضاعِ عند الشَّافعيِّ وعند أبي حنيفةَ رحمهما الله تعالى هي ثلاثُون شهراً وقد بُيِّن وجهُه في موضعه وقرئ وفَصْلُه {أَنِ اشكر لِى ولوالديك} تفسيرٌ لوصَّينا وما بينهما اعتراضٌ مؤكِّدٌ للوصيِّةِ في حقِّها خاصَّة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لمن قالَ له مَن أبرُّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ أمَّك ثمَّ قالَ بعدَ ذلكَ ثمَّ أباكَ {إِلَىَّ المصير} تعليلٌ لوجوبِ الامنثال أي إليَّ الرُّجوع لا إلى غيرِي فأجازيك على ما صَدَر عنْك من الشُّكرِ والكُفرِ

15

{وَإِن جاهداك على أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ} أي بشركتِه له تعالى في استحقاقِ العبادةِ {عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} في ذلك {وصاحبهما فِى الدنيا مَعْرُوفاً} أي صحاباً معروفاً يرتضيِه الشَّرعُ وتقتضيه المروءةُ {واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ} بالتَّوحيدِ والإخلاصِ في الطَّاعةِ {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} أي مرجعُك ومرجعُهما ومرجعُ من أناب إليَّ {فَأُنَبِئُكُم} عند رجوعِكم {بِمَا كنتم تعملون} بأن أجازي كُلاًّ منكم بما صدَر عنْهُ منَ الخيرِ والشرِّ وقولُه تعالى

16

{يَا بَنِى} الخ شروعٌ في حكايةِ بقيةِ وصايا لقمانَ إثرَ تقريرِ ما في مطلعِها من النَّهيِ عن الشِّركِ وتأكيدهِ بالاعتراضِ {إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ} أي إنَّ الخصلةَ من الإساءةِ أو الإحسانِ إنْ تكُ مثلاً في الصِّغرِ كحَّبةِ الخردل وقرئ برفعِ مثقال على أنَّ الضَّميرَ للقصَّةِ وكانَ تامَّةٌ والتَّانيثُ لإضافةِ المثقالِ إلى الحبَّةِ كما في قولِ مَن قالَ كَما شرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّمِ أو لأنَّ المرادَ بهِ الحسنةُ أو السيِّئةُ {فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السماوات أَوْ فِى الارض} أي فتكُن مع كونِها في أقصى غاياتِ الصِّغرِ والقَماءةِ في أخفى مكانٍ وأحرزه كجوفِ الصَّخرةِ أو حيثُ كانتْ في العالمِ العُلويِّ أو السُّفليِّ {يَأْتِ بِهَا الله} أي يُحضرها ويُحاسبُ عليها {إِنَّ الله لَطِيفٌ} يصلُ علمُه إلى كلِّ خفى {خَبِيرٌ} بكُنهِه وبَعْدَ ما أمرَهُ بالتَّوحيدِ الذي هُو أولُ ما يجبُ على الإنسانِ في ضمنِ النَّهي عن الشِّركِ ونبَّهه على كمالِ علمِ الله تعالى وقدرتِه أمرَه بالصَّلاة التي هي أكملُ العباداتِ تكميلاً له من حيثُ العملُ بعد تكميلِه من حيثُ الاعتقادُ فقال مستميلاً له

17

{يَا بَنِىَّ أَقِمِ الصلاة} تكميلاً لنفسِك {وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر} تكميلاً لغيرِك {واصبر على مَا أَصَابَكَ} من الشَّدائدِ والمحنِ لا سيَّما فيما أُمرت به {إِنَّ ذلك} إشارةٌ إلى

لقمان 18 20 كلِّ ما ذُكر وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مرَّ مراراً من الإشعارِ ببُعدِ منزلتِه في الفضل {مِنْ عَزْمِ الامور} أي ممَّا عزمَهُ الله تعالى وقطَعه على عبادِه من الأمورِ لمزيدِ مزيَّتِها مصدرٌ أُطلق على المفعولِ وقد جُوِّز أنْ يكونَ بمعنى الفاعلِ من قوله تعالى فَإِذَا عَزَمَ الامر أي جدَّ والجملةُ تعليلٌ لوجوبِ الامتثالِ بما سبقَ من الأمرِ والنَّهي وإيذانٌ بأنَّ ما بعدها ليس بمثابتِه

18

{وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} أي لا تُمِله ولا تُولِّهم صفحة وجهِك كما هو ديدنُ المتكبرينَ من الصَّعرِ وهو الصَّيَدُ وهو داءٌ يصيبُ البعيرَ فيلوى منه عنقَهُ وقُرىء ولا تُصاعرْ وقُرىء ولا تصعر من الاغعال والكل بمعنى مثل وعلاه وعالاه {وَلاَ تَمْشِ فِى الارض مَرَحًا} أي فَرَحاً مصدرٌ وقعَ موقِعَ الحالِ أو مصدرٌ مؤكد لفعل هو الحالُ أي تمرحُ مَرَحاً أو لأجلِ المرحِ والبَطَرِ {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} تعليلٌ للنَّهي أو موجبِه وتأخيرُ الفخورِ مع كونِه بمقابلةِ المصعِّرِ خدَّه عن المختالِ وهو بمقابلةِ الماشِي مَرَحا لرعاية الفواصل

19

{واقصد فِى مَشْيِكَ} بعد الاجتنابِ عن المَرَح فيه أي توسَّطْ بين الدبيبِ والاسراع وعنه صلى الله عليه وسلم سرعةُ المشيِ تُذهُب بهاءَ المُؤمنِ وقولُ عائشةَ في عمرَ رضيَ الله عنهما كانَ إذا مشَى أسرعَ فالمرادُ به ما فوقَ دبيب المنماوت وقُرىء بقطعِ الهمزةِ من أقصَدَ الرَّامِي إذا سدَّدَ سهمَه نحوَ الرَّميةِ {واغضض مِن صَوْتِكَ} وانقُص منه واقصُر {إِنَّ أَنكَرَ الاصوات} أي أوحشَها {لَصَوْتُ الحمير} تعليلٌ للأمرِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه مبنيٌّ على تشبيهِ الرَّافعينَ أصواتَهم بالحميرِ وتمثيل اصواتهم بالهاق وإفراطٌ في التَّحذيرِ عن رفعِ الصَّوتِ والتَّنفيرِ عنه وإفرادُ الصَّوتِ مع إضافتِه إلى الجمعِ لما أنَّ المرادَ ليس بيانَ حالِ صوتِ كلَّ واحدٍ من آحادِ هذا الجنسِ حتى يُجمعَ بل بيانَ حالِ صوتِ هذا الجنسِ من بينِ أصواتِ سائرِ الأجناسِ وقولُه تعالَى

20

{أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سخر لكم ما فى السماوات وَمَا فِي الارض} رجوعٌ الى سنن ما سلفَ قبل قصَّةِ لقمانَ من خطابِ المشركينَ وتوبيخٌ لهم على إصرارُهم على ما هم عليه مع مشاهدتِهم لدلائلِ التَّوحيدِ والمرادُ بالتَّسخير إمَّا جعلُ المسخَّرِ بحيثُ ينفعُ المسخَّرَ له أعمُّ من أنْ يكونَ مُنقاداً له يتصرَّفُ فيه كيفَ يشاءُ ويستعملُه حسبما يريدُ كعامَّة ما في الأرضِ من الأشياءِ المسخَّرة للإنسانِ المستعملةِ له من الجمادِ والحيوانِ أو لا يكون كذلك بل يكونُ سبباً لحصولِ مرادِه من غير أن يكون له دخلٌ في استعمالِه كجميعِ ما في السَّمواتِ من الأشياءِ التي نِيطتْ بها مصالحُ العبادِ معاشاً ومعادا وما جعلُه منقاداً للأمرِ مذللاً على أنَّ معنى لكُم

لقمان 21 24 لأجلِكم فإنَّ جميعَ ما في السمواتِ والأرض من الكائنات مسخر لله تعالى مستتبعةٌ لمنافعِ الخلقِ وما يستعملُه الإنسانُ حسبما يشاءُ وإن كان مسخَّراً له بحسبِ الظَّاهرِ فهو في الحقيقةِ مسخَّرٌ لله تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً} محسوسةً ومعقولةً معروفةً لكم وغيرَ معروفةٍ وقد مرَّ شرحُ النِّعمةِ وتفصيلُها في الفاتحةِ وقرىء اصيغ بالصَّادِ وهو جارٍ في كلِّ سينٍ قارنت الغينَ أو الخاءَ أو القافَ كما تقولُ في سَلَخ صَلَخ وفي سَقَر صَقَر وفي سَالِغ صالغ وقُرىء نعمةً {وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله} في توحيدِه وصفاتِه {بِغَيْرِ عِلْمٍ} مستفادة من دليلٍ {وَلاَ هُدًى} من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم {وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ} أنزلَه الله سبحانُه بل بمجرَّدِ التَّقليدِ

21

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي لمن يجادلُ والجمعُ باعتبار المعنى {اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نتبعُ ما وجدْنا عليه آباءنا} يُريدون به عبادةَ الأصنامِ {أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ} أي آباءَهم لا أنفسَهم كما قيل فإنَّ مدارَ إنكارِ الاتباعِ واستبعادِه كونُ المتبوعينَ تابعينَ للشَّيطانِ لا كونُ أنفسِهم كذلك أي أيتبعونَهم ولو كان الشَّيطانُ يدعُوهم فيما هم عليه من الشِّرك {إلى عَذَابِ السعير} فهُم متوجهون إليه حسبَ دعوتِه والجملةُ في حيز النصبِ على الحالية وقد مرَّ تحقيقُه في قولِه تعالى أَوْ لَّوْ كَانَ آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ من سورة البقرة بما لا مزيدَ عليهِ

22

{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله} بأنْ فوَّض إليه مجامعَ أمورِه وأقبلَ عليه بكلّيته وحيثُ عُدِّي باللامِ قصد معنى الاختصاصِ وقُرىء بالتَّشديدِ {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي في أعمالِه آتٍ بها جامعةً بين الحُسنِ الذاتِيِّ والوصفيِّ وقد مرَّ في آخرِ سورةِ النَّحلِ {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} أي تعلَّق بأوثقِ ما يتعلَّق به من الأسبابِ وهو تمثيلٌ لحالِ المتوكلِ المشتغلِ بالطَّاعةِ بحالِ من أراد أنْ يترقَّى إلى شاهقِ جبلٍ فتمسَّك بأوثقِ عُرى الحبلِ المُتدلِّي منه {وإلى الله} لا إلى أحدٍ غيرِه {عاقبة الامور} فيجازيه أحسنَ الجزاء

23

{وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} فإنَّه لا يضُّرك في الدنيا ولا في الآخرةِ وقُرىء فلا يُحزِنْك من أحزن المنقولِ من حزِن بكسرِ الزَّاي وليس بمستفيضٍ {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} لا إلى غيرِنا {فَنُنَبّئُهُم بِمَا عملوا} في الدُّنيا من الكفرِ والمَعَاصي بالعذابِ والعقابِ والجمعُ في الضَّمائرِ الثَّلاثةِ باعتبارِ معنى مَنْ كما أنَّ الإفرادَ في الأولِ باعتبارِ لفظِها {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليلٌ للتنبئةِ المعبَّرِ بها عن التَّعذيبِ

24

{نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً} تمتيعاً أو زماناً قليلاً فإنَّ ما يزول وإنْ كانَ بعد امد

لقمان 25 29 طويلٍ بالنسبةِ إلى ما يدومُ قليلٌ {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ} يثقُل عليهم ثقلَ الأجرامِ الغلاظِ أو يضمُّ إلى الإحراقِ الضَّغطَ والتضييق

25

{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والارض لَيَقُولُنَّ الله} لغايةِ وضوحِ الأمرِ بحيث اضطروا إلى الاعترافِ به {قُلِ الحمد لِلَّهِ} على أنْ جعلَ دلائلَ التَّوحيدِ بحيثُ لا يكادُ ينكرها المكابرون أيضاً {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} شيئاً من الأشياءِ فلذلك لا يعملون بمقتضى اعترافِهم وقيل لاَ يَعْلَمُونَ أنَّ ذلك يلزمُهم

26

{لله ما في السماوات والارض} فلا يستحقُّ العبادةَ فيهما غيرُه {إِنَّ الله هُوَ الغنى} عن العالمينَ {الحميد} المستحقُّ للحمدِ وإنْ لم يحمَدْه أحدٌ أو المحمود بالفعلِ يحمدُه كلُّ مخلوقٍ بلسانِ الحال

27

{ولو أنما فِى الأرض مِن شَجَرَةٍ أقلام} أي لوان الأشجارَ أقلامٌ وتوحيدُ الشَّجرةِ لما أنَّ المراد تفصيلُ الآحادِ {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ} أي من بعدِ نفاده {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} أي والحالُ أنَّ البحرَ المحيطَ بسعته يمده الا بحر السبعةُ مدَّاً لا ينقطعُ أبداً وكتبتْ بتلك الأقلامِ وبذلك المدادِ كلماتُ الله {مَا نَفِدَتْ كلمات الله} ونفدِتْ تلك الأقلامُ والمدادُ كما في قوله تعالى لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تنفذ كلمات رَبّى وقُرىء يُمدُّه من الإمدادِ بالياء والتاءِ وإسنادُ المدِّ إلى الأبحرِ السَّبعةِ دونَ البحرِ المحيطِ مع كونِه أعظمَ منها وأطمَّ لأنَّها هي المجاورةُ للجبالِ ومنابعِ المياه الجاريةِ وإليها تنصبُّ الأنهارُ العظامُ أولاً ومنها ينصبُّ إلى البحرِ المحيطِ ثانياً وإيثارُ جمعِ القلَّةِ في الكلماتِ للإيذانِ بأنَّ ما ذُكر لا يَفي بالقليلِ منها فكيفَ بالكثيرِ {أَنَّ الله عَزِيزٌ} لا يُعجزه شيءٌ {حَكِيمٌ} لا يخرجُ عن علمِه وحكمتِه أمرٌ فلا تنفد كلماتُه المؤسسةُ عليهما

28

{مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة} أي إلا كخلقِها وبعِثها في سهولة التأتي إذ لا يشغَلُه شأنٌ عن شأنٍ لأن مناطَ وجودِ الكلِّ تعلقُ إرادتِه الواجبةِ مع قدرتِه الذاتيَّةِ حسبما يُفصح عنه قولُه تعالى انما امرنا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ {أَنَّ الله سَمِيعٌ} يسمعُ كلَّ مسموعٍ {بَصِيرٌ} يبصرُ كلَّ مبصَرٍ لا يشغلُه علمُ بعضِها عن علمِ بعضٍ فكذلك الخلقُ والبعثُ

29

{أَلَمْ تَرَ} قيل الخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل عامٌّ لكلِّ أحدٍ ممن يصلُح للخطابِ وهو الا وفق لما سبقَ وما لحقَ أي ألم تعلم علما

لقمان 30 قويَّاً جارياً مجرى الرؤيةِ {أن الله يولج الليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى الليل} أي يُدخل كلَّ واحدٍ منهما في الآخرِ ويضيفه إليه فيتفاوتُ بذلك حالُه زيادةً ونقصاناً {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} عطفٌ على يُولج والاختلافُ بينهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجددٌ في كلِّ حينٍ وأما تسخير النيرين فأمر لا تعددَ فيه ولا تجددَ وإنَّما التعدُّدُ والتجدّد في آثارِه وقد أُشير إلى ذلك حيثُ قيل {كُلٌّ يَجْرِى} أي بحسبِ حركته الخاصة وحركته القسرية على المداراتِ اليوميةِ المتخالفةِ المتعددةِ حسب تعددِ الأيَّامِ جريا مستمراً {إلى أَجَلٍ مسمى} قدره الله تعالى لجريهما وهو يوم القيامةِ كما رُوي عن الحسنِ رحمة الله فإنَّه لا ينقطعُ جريُهما إلا حينئذٍ والجملةُ على تقدير عمومِ الخطاب اعتراضٌ بين المعطوفينِ لبيانِ الواقعِ بطريق الاستطرادِ وعلى تقديرِ اختصاصِه به صلى الله عليه وسلم يجوزُ أنْ يكونَ حالاً من الشَّمسِ والقمرِ فإنَّ جريانَهما إلى يومِ القيامةِ من جُملةِ ما في حيز رؤيته صلى الله عليه وسلم هذا وقد جُعل جريانُهما عبارةً عن حركتِهما الخاصَّة بهما في فلكِهما والأجلُ المسمَّى عن منتهى دورتِهما وجُعل مَّدةُ الجريانِ للشمسِ سنة وللقمرِ شهراً فالجملةُ حينئذٍ بيان لحكمِ تسخيرِهما وتنبيهٌ على كيفيَّةِ إيلاجٍ أحد الملوين في الآخر وكونِ ذلك بحسبِ اختلافٍ جَرَيانِ الشَّمسِ على مَدَاراتِها اليوميَّةِ فكُلما كان جريانُها متوجهاً إلى سمتِ الرَّأسِ تزدادُ القوسُ التي هي فوق الأرضِ كبراً فيزدادُ النَّهارُ طُولاً بإنضمامِ بعضِ أجزاءِ الليلِ إليهِ إلى أنْ يبلغَ المدارَ الذي هو أقربُ المداراتِ إلى سمت الرأس وذلك عند بلوغها الى رأسِ السَّرطانِ ثم ترجعُ متوجهةً إلى التباعدِ عن سمت الراس فلا تزال القِسيُّ التي هي فوقَ الأرضِ تزدادُ صغراً فيزدادُ النَّهارُ قِصراً بانضمامِ بعضِ أجزائِه إلى اللَّيلِ إلى أنْ يبلغَ المدارَ الذي هو أبعدُ المداراتِ اليوميةِ عن سمتِ الرأسِ وذلك عندَ بلوغِها برجَ الجَدي وقولُه تعالى {وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عطفٌ على أنَّ الله يُولج الخ داخلٌ معه في حيِّز الرؤيةِ على تقديري خصوصِ الخطابِ وعمومه فإنَّ مَن شاهدَ مثلَ ذلك الصُّنعِ الرَّائقِ والتَّدبيرِ الفائقَ لا يكادُ يغفلُ عن كونِ صانعِه عزَّ وجلَّ محيطاً بجلائلِ أعمالِه ودقائقِها

30

{ذلك} إشارة إلى ما تُلي من الآياتِ الكريمةِ وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِها في الفضل وهو مبتدأ خبرُهُ قولُه تعالى {بِأَنَّ الله هُوَ الحق} أي بسببِ بيانِ أنَّه تعالى هو الحقُّ إلهيَّته فقط ولأجلِه لكونِها ناطقةً بحقيةِ التَّوحيدِ {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل} أي ولا جل بيانِ بطلانِ آلهيّةِ ما يدعونَه من دونِه تعالى لكونها شاهدةً بذلك شهادةً بينةً لا ريبَ فيها وقُرىء بالتَّاءِ والتصريحُ بذلك مع أنَّ الدِّلالةَ على اختصاصِ حقَّيةِ الإلهيةِ به تعالى مستتبعةٌ للدِّلالةِ على بُطلانِ إلهيّةٍ ما عداهُ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بأمرِ التَّوحيدِ وللإيذانِ بأنَّ الدِّلالةَ على بُطلانِ ما ذُكر ليستْ بطريقِ الاستتباعِ فقط بلْ بطريقِ الاستقلالِ أيضاً {وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير} أي وبيانُ أنَّه تعالى هو المترفعُ عن كلِّ شيءٍ المتسلطُ عليه فإنَّ ما في تضاعيفِ الآياتِ الكريمةِ مبيِّنٌ لاختصاصِ العلوِّ والكبرياءِ به تعالى أيّ بيانٍ هذا وقيل ذلك أي ما ذكر من سَعةِ العلمِ وشمولِ القُدرةِ وعجائب الصنع واختصاصِ البارِي تعالى بِه بسببِ أنَّه الثَّابتُ في ذاتِه الواجبُ من جميَعِ جهاتِه أَو الثابتُ إلهيّتُه وانت

لقمان 31 33 خبيرٌ بأنَّ حقَّيته تعالى وعلوَّه وكبرياءَهُ وإنْ كانتْ صالحةً لمناطيةِ ما ذُكر من الأحكامِ المعدودةِ لكنّ بطلانَ إلهية الأصنامِ لا دخلَ له في المناطيَّةِ قطعاً فلا مساغَ لنظمِه في سلكِ الأسبابِ بل هو تعكيسٌ للأمرِ ضرورةَ أنَّ الأحكامَ المذكورةَ هي المقتضيةُ لبطلانِها لا أنَّ بطلانَها يقتضيها

31

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تجري في البحر بنعمة الله} بإحسانِه في تهيئةِ أسبابِه وهو استشهادٌ آخرُ على باهرِ قُدرتِه وغايةِ حكمتِه وشمولِ إنعامِه والباءُ إمَّا متعلقةٌ بتجرِي أو بمقدَّرٍ هُو حالٌ من فاعلِه أي ملتبسةٌ بنعمتِه تعالى وقُرىء الفُلُك بضمِّ اللامِ وبنعماتِ الله وعينُ فَعَلات يجوزُ فيه الكسرُ والفتحُ والسكونُ {لِيُرِيَكُمْ مّنْ آياته} أي بعضَ دلائلِ وحدتِه وعلمهِ وقدُرتِه وقولُه تعالى {إِنَّ فِى ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} تعليلٌ لمَا قبلَهُ أيْ إنَّ فيما ذُكر لآياتٍ عظيمةً في ذاتِها كثيرةً في عددِها لكلِّ مَن يُبالغ في الصَّبرِ على المشاقِّ فيتعبُ نفسَه في التفكرِ في الأنفسِ والآفاقِ ويبالغُ في الشُّكرِ على نعمائِه وهما صِفتا المُؤمنِ فكأنَّه قيلَ لكلَّ مؤمنٍ

32

{وَإِذَا غَشِيَهُمْ} أي علاهُم وأحاطَ بهم {مَّوْجٌ كالظلل} كما يظل من جبلٍ أو سحابٍ أو غيرِهما وقُرىء كالظِّلالِ جمْعِ ظُّلةٍ كقُلَّةٍ وقِلالٍ {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} لزوالِ ما ينازعُ الفطرةَ من الهَوَى والتَّقليدِ بما دهاهم من الدَّواهي والشَّدائدِ {فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} أي مقيمٌ على القصدِ السويِّ الذي هو التَّوحيدُ أو متوسطٌ في الكفر لانزجاره في الجملة {وما يجحد بآياتنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ} غدَّارٍ فإنه نقض للعهدِ الفطريَّ أو رفضٌ لما كان في البحرِ والخترُ أشدُّ الغدرِ وأقبحُه {كَفُورٍ} مبالغٌ في كفرانُ نعمِ الله تعالى

33

{يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ} أي لا يقضي عنه وقُرىء لا يُجزى من أجزأَ إذا أغنَى والعائدُ إلى الموصوفِ محذوفٌ أي لا يجزى فيهِ {وَلاَ مَوْلُودٌ} عطفٌ على والدٌ أو هُو مبتدأٌ خبرُه {هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} وتغييرُ النَّظمِ للدِّلالةِ على أنَّ المولودَ أولى بأن لا يجزي وقطع مِنَ توقَّع من المؤمنينَ أنْ ينفع أباهُ الكافرَ في الأخرة {إِنَّ وَعْدَ الله} بالثَّوابِ والعقابِ {حَقّ} لا يمكن إخلافُه أصلاً {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور} أي الشَّيطانُ المبالغُ في الغرورِ بأنْ يحملَكم على المعاصي

لقمان 34 بتزيينها لكمُ ويرجِّيكُم التوبةَ والمغفرةَ

34

{إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} علمُ وقتِ قيامِها لما روى ان الحرث بنَ عمروٍ أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال مَتَى السَّاعةُ وإنيِّ قد ألقيتُ حَبَّاتي في الأرضِ فمتى السماءُ تُمطر وحَمْلُ امرأتِي ذكرٌ أَمْ أُنثى وما أعملُ غداً وأينَ أموتُ فنزلتْ وعنه صلى الله عليه وسلم مفاتحُ الغيبِ خمسٌ وتلا هذه الآية {وَيُنَزّلُ الغيث} في إبَّانهِ الذي قدَّره وإلى محلِّهِ الذي عيَّنه في علمِه وقُرىء يُنْزِل من الإنزالِ {وَيَعْلَمُ مَا فِى الارحام} من ذَكَرٍ أَوْ أنثى تامَ أو ناقصٍ {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ} من النُّفوسِ {مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} من خيرٍ أو شرَ وربما تعزمُ على شيءٍ منهما فتفعلُ خلافَه {وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ} كما لا تدرِي في أيِّ وقتٍ تموتُ رُوي أنَّ ملكَ الموتِ مرَّ على سُليمانَ عليهما السَّلامُ فجعلَ ينظرُ إلى رجلٍ من جلسائِه يُديمُ النَّظرَ إليهِ فقال الرَّجُل مَن هذا قالَ مَلَكُ الموتِ فقال كأنه يُريدني فمرِ الرَّيحَ أن تحملَني وتلقيني ببلادِ الهندِ ففعلَ ثم قال المَلَكُ لسليمانَ عليهما السَّلامُ كان دوامُ نظري إليه تعجُّباً منه حيثُ كنت أُمرتُ بأنْ أقبضَ روحَهُ بالهندِ وهو عندَك ونسبةُ العلمِ إلى الله تعالى والدراية إلى العبدِ للإيذانِ بأنَّه إنْ أعملَ حِيلَه وبذلَ في التَّعرفِ وسعَه لم يعرفْ ما هُو لاحقٌ به من كسبهِ وعاقبتِه فكيف بغيرِه مما لم ينُصبْ له دليلٌ عليه وقُرىء بأيَّةِ أرضٍ وشبَّه سيبويهِ تأنيثَها بتأنيثِ كلَ في كلتهنَّ {إِنَّ الله عَلِيمٌ} مبالغٌ في العلمِ فلا يعزُب عنْ علمِه شيءٌ من الأشياء التي من جُملتِها ما ذُكر {خَبِيرٌ} يعلم واطنها كما يعلمُ ظواهرَها عنْ رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم منَ قرأَ سورةَ لقمانَ كان له لقمانُ رفيقاً يومَ القيامةِ وأُعطَي من الحسناتِ عشراً بعددِ من عملَ بالمعروفِ ونهى عن المُنكر

سورة السجدة 1 3 مكية وهى ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}

السجدة

{الم} إمَّا اسمٌ للسورةِ فمحلُّه الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف أي هذا مسمى ب الم والإشارةُ إليها قبل جَرَيانِ ذكرِها قد عرفتَ سرَّها وإمَّا مسرودٌ على نمطِ التعديدِ فلا محلَّ له من الإعرابِ وقولُه تعالى

2

{تَنزِيلُ الكتاب} على الأولِ خبرٌ بعدَ خبرٍ على أنَّه مصدرٌ أُطلق على المفعولِ مبالغة وعلى الثَّاني خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي المؤلَّفُ من جنسِ ما ذُكر تنزيلُ الكتابِ وقيلَ خبرا الم أي المُسمَّى به تنزيلُ الكتابِ وقد مرَّ مراراً أنَّ ما يُجعل عُنواناً للموضوعِ حقُه أنْ يكونَ قبلَ ذلكَ معلومَ الانتسابِ إليه وإذْ لا عهدَ بالتَّسميةِ قبلُ فحقُها الإخبارُ بها وقوله تعالَى {لاَ رَيْبَ فِيهِ} خبرٌ ثالثٌ على الوجهِ الأولِ وثانٍ على الأخيرينِ وقيل خبرٌ لتنزيلُ الكتابِ فقولُه تعالى {من رب العالمين} متعلقٌ بمضمرٍ هُو حالٌ من الضمير المجرور أي كائناً منه تعالى لا بتنزيلُ لأنَّ المصدرَ لا يعملُ فيما بعد الخبرِ والأوجهُ حينئذٍ أنَّه الخبرُ ولا ريبَ فيهِ حالٌ من الكتابِ أو اعتراضٌ والضَّميرُ في فيهِ راجعٌ إلى مضمونِ الجملةِ كأنَّه قيل لا ريبَ فِى ذَلِكَ أي في كونِه منزَّلاً من ربِّ العالمين ويُؤيده قولُه تعالى

3

{أَمْ يَقُولُونَ افتراه} فإنَّ قولَهم هذا إنكارٌ منهم لكونه من ربَّ العالمين فلا بد أن يكون موردُه حكماً مقصودَ الإفادةِ لا قيداً للحكم بنفيِ الرَّيب عنه وقد رُدَّ عليهم ذلك وأُبطل حيث جِيء بأم المنقطعةِ إنكاراً له وتعجيباً منه لغاية ظهورٍ بُطلانِه واستحالةِ كونِه مفترى ثم أُضرب عنه إلي بيانِ حقِّيةِ ما أنكروه حيثُ قيل {بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ} بإضافة اسم الربِّ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم بعد إضافته فيما سبق إلى العالمين تشريفاً له صلى الله عليه وسلم ثم أيَّد ذلك ببيان غايته حيثُ قيل {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} فإنَّ بيان غايةِ الشيءِ وحكمته لا سيَّما عند كونها غاية حميدةً مستتبعة لمنافعَ جليلةٍ في وقت شدَّةِ الحاجة إليها ممَّا يُقرر وجودَ الشيءِ ويؤكِّده لا محالة ولقد كانت قريشٌ أضلَّ النَّاسِ وأحوجَهم إلى الهدايةِ بإرسال الرَّسول وتنزيل الكتاب حيثُ لم يبعث اليهم

السجدة 4 6 من رسول قبله صلى الله عليه وسلم أيْ ما أتَاهُم مِن نذير من قبل إنذارِك أو من قبل زمانِك والتَّرجِّي معتبرٌ من جهته صلى الله عليه وسلم أي لتنذرهم راجياً لاهتدائهم أو لرجاء اهتدائهم واعلم أنَّ ما ذُكر من التَّأييدِ إنَّما يتسنَّى على ما ذُكر من كون تنزيلُ الكتابِ مبتدأً وأما على سائرِ الوجوهِ فلا تأييدَ أصلاً لأنَّ قولَه تعالى مِن رَّبّ العالمين خبرٌ رابعٌ على الوجهِ الأولِ وخبرٌ ثالثٌ على الوجهين الأخيرينِ واياما كان فكونُه من ربِّ العالمين حكمٌ مقصودُ الإفادةِ لاقيد لحكمٍ آخرَ فتدبَّر

4

{الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} مرِّ بيانُه فيما سلفَ {مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ} أي ما لكُم إذا جاوزتُم رضاه تعالى أحدٌ ينصُركم ويشفعُ لكم ويجيركم من بأسهِ أي ما لكُم سواه وليٌّ ولا شفيعٌ بل هو الذي يتولَّى مصالحَكم وينصُركم في مواطنِ النَّصرِ على أنَّ الشَّفيعَ عبارةٌ عن النَّاصرِ مجازاً فإذا خذلكم لم يبقَ لكُم وليٌّ ولا نصير {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} أي ألا تسمعُون هذه المواعظَ فلا تتذكرون بها أو أتسمعونها فلا تتذكرون بها فالإنكارُ على الأول متوجه إلى عدمِ السَّماعِ وعدم التَّذكر معاً وعلى الثاني على عدمِ التذكر مع تحقُّق ما يُوجبه من السَّماعِ

5

{يدبِّرُ الأمرَ مِنَ السماء إِلَى الارض} قيل يدبِّرُ أمر الدُّنيا بأسبابٍ سماويةٍ من الملائكةِ وغيرها نازلةٍ آثارُها وأحكامُها إلى الأرضِ {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أي يثبت في علمِه موجوداً بالفعل {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ} أي في بُرهةٍ من الزَّمان متطاولةٍ والمرادُ بيانُ طول امتدادِ ما بين تدبيرِ الحوادث وحدوثِها من الزَّمان وقيل يدبر أمرَ الحوادثِ اليوميَّةِ بإثباتها في اللَّوحِ المحفوظِ فينزِلَ بها الملائكةُ ثم تعرجُ إليه في زمانٍ هو كألف سنة مما تعدون فإنَّ ما بين السَّماء والأرض مسيرةُ خمسمائةِ عامٍ وقيل يقضي قضاءَ ألفِ سنةٍ فينزل به المَلَكُ ثم يعرج بعد الألفِ لألفٍ أُخرَ وقيل يدبر أمرَ الدُّنيا جميعاً إلى قيامِ السَّاعةِ ثم يعرج إليه الأمرُ كلُّه عند قيامها وقيل يدبِّرُ المأمور به من الطَّاعاتِ منزلاً من السماء إلى الارض بالوحي ثم لا يعرجُ إليه خالصاً إلا في مدة متطاولة المخلصين والأعمال الخلَّص وأنت خبيرٌ بأنَّ قلَّةَ الأعمال الخالصةِ لا تقتضي بطءَ عروجِها إلى السَّماءِ بل قِلَّتَه وقُرىء يعدُّون بالياء

6

{ذلك} إشارةٌ إلى الله عزَّ وجلَّ باعتبارِ اتصافِه بما ذُكر من خلقِ السَّمواتِ والأرضِ والاستواءِ على العرشِ وانحصارِ الولايةِ والنُّصرةِ فيه وتدبيرِ أمرِ الكائناتِ على ما ذكر من الوجهِ البديعِ وهو مبتدأٌ خبرُه ما بعده أي ذلك العظيمُ الشَّأنِ {عالم الغيب والشهادة} فيدبِّر أمرَهما حسبما تقتضيه الحكمةُ {العزيز} الغالب على امره

السجدة 7 9 {الرحيم} على عبادِه وهُما خبرانِ آخرانِ وفيه إيماءٌ إلى أنَّه تعالى متفضِّلٌ في جميعِ ما ذُكر فاعلٌ بالإحسانِ

7

{الذى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ} خبرٌ آخرُ أو نُصب على المدحِ أي حسّن كلَّ مخلوقٍ خلقَه إذ ما من مخلوق خلقَه إلا وهو مرتبٌ على ما تقتضيه الحكمة واوجبته المصلحة فجميع المخلوقاتِ حسنةٌ وإن تفاوتت إلى حسنٍ وأحسنَ كما قال تعالَى لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وقيل علم كيفَ يخلقُه من قوله قيمةُ المرءِ ما يُحسِن أي يُحسن معرفَته أي يعرفِه معرفةً حسنةً بتحقيقٍ وإيقانٍ وقُرىء خلْقَه على أنَّهُ بدلُ اشتمالٍ من كلِّ شيءٍ والضَّميرُ للمبدَل منه أي حسّن خلقَ كلِّ شيءٍ وقيل بدلَ الكلِّ على أن الضَّميرَ للَّهِ تعالى والخلقُ بمعنى المخلوقِ أي حسّن كلَّ مخلوقاتِه وقيل هو مفعولٌ ثانٍ لأحسنَ على تضمينه معنى أعطَى أي أعطَى كلَّ شيءٍ خلقَه اللائقَ به بطريقِ الإحسانِ والتَّفضل وقيل هو مفعولُه الأولُ وكلّ شيءٍ مفعولُه الثاني والخلقُ بمعنى المخلوقِ وضميرُه لله سبحانَه على تضمينِ الإحسانِ معنى الإلهام والتَّعريفِ والمَعنى ألهم خلقَه كلَّ شيءٍ ممَّا يحتاجون إليهِ وقال أبو البقاءِ عرَّفَ مخلوقاتِه كلَّ شيءٍ يحتاجُون إليهِ فيؤول إلى مَعنى قوله تعالى {الذى أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان من بينِ جميعِ المخلوقاتِ {مِن طِينٍ} على وجهٍ بديعٍ تحارُ العقولُ في فهمِه حيثُ برَأ آدمَ عليه السَّلامُ على فطرةٍ عجيبة منطويةٍ على فطرةِ سائرِ أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبِعاً لخروج كلَّ فردٍ منها من القوةِ إلى الفعلِ بحسبِ استعداداتها المتفاوتةِ قُرباً وبُعداً كما ينبىء عنه قوله تعالى

8

{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} إلخ أي ذُريَّتَه سُميتْ بذلك لأنَّها تنسلُ وتنفصلُ منه {مِن سُلاَلَةٍ مّن مَّاء مَّهِينٍ} هو المنيُّ المُمتهنُ

9

{ثُمَّ سَوَّاهُ} أي عدَّله بتكميلِ أعضائِه في الرَّحمِ وتصويرِها على ما ينبغِي {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} أضافَه إليه تعالى تَشريفاً له وإيذاناً بأنَّه خلقٌ عجيبٌ وصنعٌ بديعٌ وأنَّ له شأناً له مناسبةٌ إلى حضرةِ الرُّبوبيةِ وأنَّ أقصى ما تنتهي إليه العقولُ البشريةُ من معرفتِه هذا القدرُ الذي يُعبر عنه تارةً بالإضافةِ إليه تعالى وأُخرى بالنسبةِ إلى أمرهِ تعالى كما في قولِه تعالى قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّى {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار والافئدة} الجعلُ إبداعيٌّ واللامُ متعلقة به والتقديمُ على المفعولِ الصَّريحِ لما مرَّ مراتٍ من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طولٍ يُخِلُّ تقديمُه بجزاله النظمِ الكريمِ أي خلق لمنفعتِكم تلك المشاعرَ لتعرفُوا أنها مع كونِها في أنفسِها نعماً جليلةً لا يُقادر قدرُها وسائلُ إلى التَّمتعِ بسائرِ النِّعمِ الدِّينية والدُّنيويةِ الفائضةِ عليكم وتشكروها بأنْ تصرفُوا كلاًّ منها إلى ما خُلق هو له فتُدركوا بسمعِكم الآياتِ التنزيليةَ الناطقةَ بالتَّوحيدِ والبعثِ وبأبصارِكم الآياتِ التكوينيةَ الشاهدةَ بهما وتستدلوا بأفئدتكم على حقيقتهما وقولُه تعالى {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} بيانٌ لكفرِهم بتلك النِّعمِ بطريقِ الاعتراضِ التَّذييليِّ على أنَّ القِلَّةَ بمَعْنَى

السجدة 10 12 النَّفيِ كما يُنبىء عنه ما بعده أيُ شكراً قليلاً أو زمانا قليلا تشكرون وفي حكايةِ أحوالِ الإنسانِ من مبدأِ فطرتِه إلى نفخِ الرُّوح فيه بطريقِ الغَيبةِ وحكايةِ أحوالِه بعد ذلك بطريقِ الخطابِ المنبىءِ عن استعدادِه للفهمِ وصلاحيتِه له من الجَزَالةِ مالا غايةَ وراءَهُ

10

{وَقَالُواْ} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أباطيلِهم بطريقِ الالتفاتِ إيذاناً بأنَّ مَا ذُكر من عدمِ شكرِهم بتلك النِّعمِ موجبٌ للإعراضِ عنهم وتعديدِ جناياتِهم لغيرهم بطريق المباثة {أئذا ضَلَلْنَا فِى الارض} أي صِرنا ترُاباً مخلوطاً بترابِها بحيثُ لا نتميَّز منه أو غبنا فيها بالدَّفنِ وقُرىء ضلِلنا بكسرِ اللامِ من بابِ عَلِمَ وصلِلنا بالصاد المهملة من صلَّ اللحمُ إذا أنتنَ وقيل من الصِّلةِ وهي الأرضُ أي صرنا من جنسِ الصِّلَّةِ قيل القائل ابي بن خَلَفٍ ولرضاهم بقولِه أُسند القولُ إلى الكلِّ والعاملُ فِي إذَا ما يدلُّ عليه قوله تعالى {أئنا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهو نبعثُ أو يُجدد خلقَنا والهمزةُ لتذكيرِ الإنكارِ السَّابقِ وتأكيدِه وقُرىء إنَّا على الخبرِ وأيّاً ما كان فالمَعنى على تأكيدِ الإنكارِ لا إنكارٍ التَّأكيد كما هو المتبادَرُ من تقدمِ الهمزةِ على إنَّ فإنها مؤخَّرةٌ عنها في الاعتبارِ وإنَّما تقديمُها عليها لاقتضائِها الصَّدارةَ {بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ كافرون} إضرابٌ وانتقالٌ منِ بيانِ كفرِهم بالبعثِ إلى بيانِ ما هُو أبلغُ وأشنعُ منه وهو كفرُهم بالوصولِ إلى العاقبةِ وما يلقَونه فيها من الأحوالِ والأهوالِ جميعاً

11

{قُلْ} بياناً للحقِّ وردَّا على زعمِهم الباطلِ {يتوفاكم مَّلَكُ الموت} لا كما تزعمون أنَّ الموتَ من الأحوالِ الطَّبيعيةِ العارضةِ للحيوانِ بموجبِ الجبلَّةِ أي يقبضُ أرواحكم بحيث لايدع فيكم شيئاً أو لا يتركُ منكم أحداً على أشد مايكون من الوجوهِ وأفظعِها من ضربِ وجوهِكم وأدبارِكم {الذى وكل بكم} أي بقبض أرواحِكم وإحصاءِ آجالِكم {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ} بالبعث للحسابِ والجزاءِ

12

{وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون} وهم القائلون أئذا ضللنا في الارض الآيةِ أو جنس المجرمينَ وهم من جملتهم {ناكسو رؤوسهم عِندَ رَبّهِمْ} من الحياءِ والخزيِ عند ظهورِ قبائحهم التي اقترفُوها في الدُّنيا {رَبَّنَا} أي يقولون رَبَّنَا {أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} أي صرنا ممَّن يُبصرُ ويسمعُ وحصل لنا الاستعدادُ لإدراك الآياتِ المُبصَرةِ والآياتِ المسمُوعةِ وكنَّا من قبلُ عُميا وصُمَّا لا ندركُ شيئاً {فارجعنا} إلى الدُّنيا {نَعْمَلْ} عملاً {صالحا} حسبما تقتضيهِ تلك الآياتُ وقولُه تعالى {إِنَّا مُوقِنُونَ} إدِّعاءٌ منهم لصحَّةِ الأفئدةِ والاقتدارِ على فهم معانِي الآياتِ والعملِ بموجبِها كما أنَّ ما قبله ادِّعاءٌ لصحَّةِ مشعري البصرِ والسَّمعِ كأنَّهم قالُوا وأيقنا وكنَّا من قبل لا نعقل شيئا أصلاً وإنما عدلُوا إلى الجملة الإسميةِ المؤكدةِ إظهاراً لثباتِهم على الإيقانِ وكمالِ رغبتهم فيه وكلُّ ذلك للجدِّ في الاستدعاءِ طمعاً في الإجابةِ إلى ما سألوه

السجدة 13 من الرَّجعةِ وأنَّى لهم ذلك ويجوز أنْ يقدَّر لكلَ من الفعلينِ مفعولٌ مناسبٌ له مَّما يُبصرونه ويسمعونَه فإنَّهم حينئذٍ يشاهدون الكفرَ والمعاصيَ على صورٍ منكرةٍ هائلةٍ ويخبرهم الملائكةُ بأنَّ مصيرَهم إلى النَّار لا محالَة فالمعنى أبصرْنا قبحَ أعمالِنا وكنَّا نَراها في الدُّنيا حَسنةً وسمعنا أنَّ مردَّنا إلى النَّارِ وهو الأنسبُ لما بعدَهُ من الوعدِ بالعملِ الصَّالحِ هذا وقد قيل المعنى وسمعنَا منك تصديقَ رُسلِك وأنت خبيرٌ بأنَّ تصديقَه تعالى لهم حينئذٍ يكون بإظهارِ مدلولِ ما أُخبروا به من الوعد والوعيد لا بالإخبارِ بأنَّهم صادقون حتَّى يسمعوه وقيل وسمعنا قولَ الرُّسلِ أي سمعناه سمعَ طاعةٍ وإذعانٍ ولا يقدر لترى مفعولٌ إذ المعنى لو تكون منك رؤيةٌ في ذلك الوقتِ أو يقدر ما ينبىءُ عنه صلة إذ والمضيُّ فيها وفي لو باعتبارِ أنَّ الثَّابتَ في علمِ الله تعالى بمنزلةِ الواقعِ وجوابُ لو محذوفٌ أي لرأيتَ أمراً فظيعاً لا يُقادر قدرُه والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن يصلُح له كائناً من كانَ إذِ المرادُ بيانُ كمالِ سوءِ حالِهم وبلوغِها من الفظاعةِ إلى حيثُ لا يختصُّ استغرابُها واستفظاعُها براءٍ دونَ راءٍ ممَّن اعتادَ مشاهدةَ الأمورِ البديعةِ والدَّواهيِ الفظيعةِ بل كلُّ منْ يتأتى منْهُ الرؤيةُ يتعجبُ من هولِها وفظاعتِها هذا ومَنْ علّل عمومِ الخطابِ بالقصدِ إلى بيانِ أنَّ حالَهم قد بلغتْ من الظُّهورِ إلى حيث يمتنع خفاؤها البتةَ فلا تختصُّ رؤيةُ راءٍ دون راءٍ بل كلُّ منْ يتأتى منْهُ الرُّؤيةُ فله مدخلٌ في هذا الخطابِ فقد نأى عن تحقيقِ الحقِّ لأنَّ المقصودَ بيانُ كمالِ فظاعةِ حالِهم كما يفصحُ عنه الجوابُ المحذوفُ لا بيانُ كمالِ ظهورِها فإنَّه مسوقٌ مساقَ المسلَّمات فتدبَّر

13

{وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} مقدر بقولٍ معطوفٍ على ما قُدِّر قبل قولِه تعالى رَبَّنَا أَبْصَرْنَا الخ أي ونقولُ لو شئنا أي لو تعلقتْ مشيئتُنا تعلقاً فعلياً بأنْ نُعطي كُلُّ نَفْسٍ منَ النفوسِ البرة والفاجرة ما تهتدي به إلى الإيمانِ والعملِ الصالحِ لأعطيناها إيَّاه في الدُّنيا التي هي دارُ الكسبِ وما أخَّرناه إلى دارِ الجزاءِ {ولكن حَقَّ القول مِنْى} أي سبقت كلمتي حيثُ قلتُ لإبليسَ عند قوله لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين فالحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن اتبعك منهم أجمعين وهو المعنيُّ بقوله تعالى {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} كما يلوحُ به تقديمُ الجِنَّة على النَّاسِ فبموجبِ ذلكَ القولِ لم نشأْ إعطاءَ الهُدى على العمومِ بل منعناه من أتباعِ إبليسَ الذين أنتُم من جُملتِهم حيثُ صَرفتُم اختيارَكم إلى الغيِّ بإغوائِه ومشيئتُنا لأفعال العباد منوطةٌ باختيارِهم إيَّاها فلمَّا لم تختارُوا الهُدى واخترتُم الضَّلالةَ لم نشأْ إعطاءَه لكم وإنَّما أعطيناه الذين اختارُوه من النُّفوسِ البرَّةِ وهم المعنيّون بما سيأتي من قولِه تعالى إِنَّمَا يؤمن بآياتنا الآيةَ فيكونُ مناطُ عدمِ مشيئة إعطاءَ الهُدى في الحقيقةِ سوءَ اختيارِهم لا تحققَ القولِ وإنَّما قيدنا المشيئةَ بما مر من التعليق الفعليِّ بأفعالِ العبادِ عند حدوثِها لأنَّ المشيئةَ الأزليةَ من حيثُ تعلُّقها بما سيكونُ من أفعالِهم إجمالاً متقدِّمةٌ على تحققِ كلمةِ العذابِ فلا يكونُ عدمُها منوطاً بتحققِها وإنَّما مناطُه علمُه تعالى أزلاً بصرفِ

السجدة 14 16 اختيارِهم فيما سيأتي إلى الغيِّ وإيثارِهم له على الهدى فلو أُريدت هي من تلك الحيثيةِ لاستدرك بعدمِها ونيطَ ذلك بما ذُكر من المناطِ على منهاجِ قولِه تعالى وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ فمن توهَّم أنَّ المَعنى ولو شئنا لأعطينا كلَّ نفسٍ ما عندنا من اللُّطفِ الذي لو كان منهم اختيارُه لاهتدَوا ولكن لم نُعطهم لمّا علمنا منهم اختيارَ الكفر وإيثارَه فقد اشتبه عليه الشئون والفاء في قوله تعالى

14

{فذوقوا} لترتيب الأمر بالذوق على ما يُعرب عنهُ ما قبلَهُ من نفيِ الرَّجعِ إلى الدُّنيا أو على الوعيدِ المحكيِّ والباء في قوله تعالى {بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا} للإيذانِ بأنَّ تعذيبَهم ليس لمجردِ سبقِ الوعيدِ به فقط بل هو وسبقُ الوعيدِ أيضاً بسببٍ موجبٍ له من قِبَلهم كأنَّه قيل لا رجعَ لكم الى الدنيا أو حتى وعيدي فذوقُوا بسببِ نسيانِكم لقاءَ هذا اليومِ الهائلِ وتركِكم التفكُّرَ فيهِ والاستعدادَ له بالكُلِّيةِ {إِنَّا نسيناكم} أي تركناكُم في العذابِ تركَ المنسيِّ بالمرَّةِ وقولُه تعالى {وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تكريرٌ للتَّأكيدِ والتَّشديدِ وتعيينُ المفعولِ المطويِّ للذوقِ والإشعارِ بأنَّ سببَه ليس مجرَّد ما ذُكر من النِّسيانِ بل له أسبابٌ أخرُ من فنونِ الكفرِ والمَعاصي التي كانُوا مستمرِّين عليها في الدُّنيا وعدمُ نظمَ الكلِّ في سلكٍ واحدٍ للتنبيهِ على استقلالِ كلَ منها في استيجابِ العذابِ وفي إبهامِ المذوقِ أولاً وبيانِه ثانياً بتكريرِ الأمرِ وتوسيطِ الاستئناف المنبئ عن كمالِ السُّخطِ بينهما من الدلالة على غاية التَّشديدِ في الانتقامِ منهم ما لا يخفى وقوله تعالى

15

{إنما يؤمن بآياتنا} استئنافٌ مسوقٌ لتقريرِ عدمِ استحقاقِهم لإيتاءِ الهُدى والإشعارِ بعدمِ إيمانِهم لو أُوتوه بتعيينِ مَن يستحقُّه بطريقِ القصرِ كأنَّه قيل إنَّكم لا تُؤمنون بآياتِنا ولا تعملون بموجبِها عملاً صالحاً ولو رَجَعناكم إلى الدُّنيا كما تدَّعون حسبما ينطِق به قولُه تعالى وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وإنَّما يُؤمن بها {الذين إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا} أي وُعِظوا {خَرُّواْ سُجَّداً} آثِرَ ذي أثيرٍ من غيرِ تردُّدٍ ولا تلعثمٍ فضلاً عن التَّسويفِ إلى معاينةِ ما نطقتْ به من الوعدِ والوعيدِ أي سقطُوا على وجوهِهم {وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} أي ونزَّهُوه عند ذلك عن كلِّ ما لا يليقُ به من الأمور التي من جُملتها العجزُ عن البعثِ ملتبسين بحمدِه تعالى على نعمائِه التي أجلُّها الهدايةُ بإيتاءِ الآياتِ والتَّوفيقِ للاهتداءِ بها والتعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيةِ بطريقِ الالتفاتِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم للإشعارِ بعلَّةِ التَّسبيحِ والتَّحميدِ وبأنَّهم يفعلونهما بملاحظةِ ربوبيتِه تعالى لهم {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} أي والحالُ أنَّهم خاضعون له تعالى لا يستكبرون عمَّا فعلُوا من الخُرور والتَّسبيحِ والتَّحميدِ

16

{تتجافى جُنُوبُهُمْ} أي تنبُو وتتنحى {عَنِ المضاجع} أي الفُرشِ ومواضعِ المنامِ والجملةُ مستأنفةٌ لبيانِ بقيةِ محاسنِهم وهم المُتهجِّدونَ بالليلِ قال أنسٌ رضي الله عنه نزلتْ فينا معاشرَ الأنصارِ كنَّا نصلِّي المغربَ فلا نرجعُ إلى رحالِنا حتى نصلي

السجدة 17 19 العشاء مع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وعن انس ايضا رضيَ الله عنه أنَّه قال نزلتْ في أناسٍ من اصحاب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كانوا يصلُّون من صلاةِ المغربِ إلى صلاةِ العشاءِ وهي صلاةُ الأوَّابينَ وهو قولُ أبي حازمٍ ومحمَّدِ بنِ المُنْكَدِرِ وهو مرويٌّ عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال عطاءهم الذين لا ينامُون حتَّى يصلو العشاءَ الآخرةَ والفجرَ في جماعةٍ والمشهورُ أنَّ المرادَ منه صلاةُ اللَّيلِ وهو قولُ الحسنِ ومجاهدٍ ومالكٍ والاوزاعي وجماعة لقوله صلى الله عليه وسلم أفضلُ الصِّيامِ بعد شهرِ رمضانَ شهرُ الله المحرَّمُ وأفضلُ الصَّلاةِ بعد الفريضةِ صلاةُ اللَّيلِ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في تفسيرِها قيامُ العبدِ من الليل وعنه صلى الله عليه وسلم إذا جمعَ الله الأوَّلينَ والآخرينَ جاء منادٍ ينادي بصوتٍ يُسمع الخلائقَ كلَّهم سيعلم أهلُ الجمعِ اليَّومَ من أولى بالكرمِ ثم يرجعُ فيُنادي ليقُم الذين كانتْ تتجَافى جنوبُهم عن المضاجعِ فيقومونَ وهُم قليلٌ ثم يرجعُ فيُنادي ليقُم الذين كانُوا يحمدون الله في السرَّاءِ والضَّراءِ فيقومون وهُم قليلٌ فيسرَّحُون جميعاً إلى الجنَّةِ ثم يُحاسَب سائرُ النَّاسِ وقولُه تعالى {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} حالٌ من ضميرِ جنوبُهم أي داعينَ له تعالى على الاستمرارِ {خَوْفًا} من سخطِه وعذابِه وعدمِ قبولِ عبادتِه {وَطَمَعًا} في رحمتِه {وَمِمَّا رزقناهم} من المالِ {يُنفِقُونَ} في وجوهِ البرِّ والحسناتِ

17

{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ} من النفوس لاملك مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسلٌ فضلاً عمَّن عداهم {مَّا أُخْفِىَ لَهُم} أي لأولئكَ الذين عُدِّدت نعوتُهم الجليلةُ {مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} مما تقرُّ به أعينُهم وعنْهُ صلى الله عليه وسلم يقولُ الله عزَّ وجلَّ أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَر على قلبِ بشرٍ بَلْهَ ما أطلعتم عليه اقرءوا إنْ شئتُم فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرة اعين وقرئ ما أُخفي لهم وما نُخفي لهم وما أَخفيتُ لَهُم على صيغةِ المتكلِّمِ وما أخفى لهم على البناءِ للفاعلِ وهو الله سبحانه وقرئ قُرَّاتِ أعينٍ لاختلافِ أنواعِها والعِلمُ بمعنى المعرفةِ وما موصولةٌ أو استفهاميةٌ عُلِّق عنها الفعلُ {جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي جُزوا جزاء أو أُخفي لهم للجزاءِ بما كانُوا يعملونَه في الدُّنيا من الأعمالِ الصَّالحةِ قيل هؤلاءِ القومُ أخفَوا أعمالَهم فأخفَى الله تعالى ثوابَهم

18

{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} أي أبعدَ ظهورِ ما بينهُما من التَّباينِ البيِّنِ يُتوهَّمُ كونُ المؤمنِ الذي حُكيت أوصافُه الفاضلةُ كالفاسقِ الذي ذُكرت أحوالُه {لاَّ يَسْتَوُونَ} التَّصريح به مع إفادةِ الإنكارِ لنفيِ المشابهةِ بالمرَّة على أبلغِ وجهٍ وآكدِه لبناء التَّفصيل الآتِي عليه والجمعُ باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما سبق باعتبارِ لفظِها وقولُه تعالَى

19

{أما الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جنات المأوى} تفصيلٌ لمراتبِ الفريقينِ في الآخرةِ بعد ذكرِ أحوالِهما في الدُّنيا وأضيفتْ الجنَّةُ إلى المَأْوى لأنَّها المأوى الحقيقيُّ وإنَّما الدُّنيا منزلٌ مرتحلٌ عنه لا محالةَ وقيل المَأْوى جنَّةٌ من الجنَّاتِ وأياً ما كانَ فلا يبعُد أنْ يكونَ فيه رمزٌ إلى ما ذُكر من تجافِيهم عن مضاجعِهم

السجدة 20 23 التي هي مأواهم في الدُّنيا {نُزُلاً} أي ثواباً وهو في الأصلِ ما يعد النازل من الطَّعامِ والشَّرابِ وانتصابُه على الحاليَّةِ {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في الدُّنيا من الأعمالِ الصالحةِ أو بأعمالِهم

20

{وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ} أي خرجُوا عن الطَّاعةِ {فَمَأْوَاهُمُ} أي ملجؤهم ومنزلُهم {النار} مكانَ جنَّاتِ المأوى للمؤمنينَ {كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فيها} اسئناف لبيانِ كيفيةِ كونِ النَّارِ مأواهم يُروى أنَّه يضربُهم لهَبُ النَّارِ فيرتفعونَ إلى طبقاتِها حتَّى إذا قربُوا من بابِها وأرادُوا أنْ يخرجُوا منها يضربُهم اللَّهبُ فيهوون إلى قعرِها وهكذا يُفعل بهم أبداً وكلمةُ فِي للدِّلالةِ على أنَّهم مستقرُّون فيها وإنَّما الإعادةُ من بعضِ طبقاتِها إلى بعضٍ {وَقِيلَ لَهُمْ} تشديداً عليهم وزيادةً في غيظِهم {ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ} أي بعذابِ النَّارِ {تُكَذّبُونَ} على الاستمرارِ في الدُّنيا

21

{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الادنى} أي عذابِ الدُّنيا وهو ما مُحِنُوا به من السَّنةِ سبعَ سنينَ والقتلِ والأسرِ {دُونَ العذاب الأكبر} الذي هُو عذابُ الآخرةِ {لَعَلَّهُمْ} لعلَّ الذين يُشاهدونه وهُم في الحياةِ {يَرْجِعُونَ} يتوبُون عن الكفرِ رُوي أن الوليدَ بنَ عُقبةَ فاخرَ عليًّا رضيَ الله عنه يومَ بدرٍ فنزلتْ هذه الآياتُ

22

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بآيات رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} بيانٌ إجماليٌّ لحالِ مَنْ قابلَ آياتِ الله تعالى بالإعراضِ بعد بيانِ حالِ مَن قابلها بالسُّجودِ والتَّسبيحِ والتَّحميدِ وكلمةُ ثمَّ لاستبعادِ الإعراضِ عنها عقلاً مع غاية وضوحها وإرشادها إلى سعادةِ الدَّارينِ كما في بيتِ الحماسةِ وَلاَ يَكْشِفُ الغَمَّاءَ إِلاَّ ابْنُ حُرَّة يَرَى غَمَراتِ المَوْتِ ثُمَّ يزُورُها أيْ هُو أظلمَ منْ كل ظالم وإنْ كانَ سبكُ التركيبِ على نفيِ الأظلمِ من غيرِ تعرضٍ لنفْي المساوي وقد مرَّ مراراً {إِنَّا مِنَ المجرمين} أي من كلُّ منِ اتَّصف بالإجرامِ وإنْ هانتْ جريمتُه {مُنتَقِمُونَ} فكيفَ ممَّن هُو أظلمَ منْ كلِّ ظالم وأشر جُرماً من كلِّ مجرم

23

{ولقد آتينا موسى الكتاب} أي التوراة عبَّر عنها باسمِ الجنسِ لتحقيقِ المجانسةِ بينها وبينَ الفرقان والتنبيه أنَّ إيتاءَه لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم كإبنائها لمُوسى عليهِ السَّلامُ {فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ} من لقاءِ الكتابِ الذي هو الفُرقان كقوله وإنك لتلقَّى القرآنَ والمعنى إنَّا آتينا مُوسى مثلَ ما آتيناك من الكتابِ ولقَّيناه من الوحيِ مثلَ ما لقَّيناك من الوحيِ فلا تكُن في شكَ من أنَّك لقيتَ مثلَه ونظيرَه وقيل من لقاءِ مُوسى الكتاب أو من لقائك موسى وعنه صلى الله عليه وسلم رأيتُ ليلة أُسري بي مُوسى رجلاً آدَمَ طُوالاً وجعدا كأنه من رجال شنوأة {وجعلناه} أي

السجدة 24 27 الكتابَ الذي آتيناهُ مُوسى {هدى لبني إسرائيل} قيل لم يُتعبدْ بما في التوراة ولد إسمعيل

24

{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ} بقيتهم بما في تضاعيفِ الكتابِ من الحُكم والأحكامِ إلى طريقِ الحقِّ أو يهدونَهم إلى ما فيهِ من دينِ الله وشرائعِه {بِأَمْرِنَا} إيَّاهم بذلك أو بتوفيقِنا له {لَمَّا صَبَرُواْ} هي لما التي فيها مَعنى الجزاءِ نحو أحسنتُ إليك لمَّا جئتنِي والضَّميرُ للأئمةِ تقديرُه لمَّا صبرُوا جعلناهُم أئمةً أو هي ظرفٌ بمعنى الحينِ أي جعلناهُم أئمةً حين صبرُوا والمرادُ صبرُهم على مشاقِّ الطاعات ومقاسات الشَّدائدِ في نُصرةِ الدِّينِ أو صبرُهم عن الدُّنيا وقرئ لِمَا صبرُوا أي لصبرِهم {وكانوا بآياتنا} التي في تضاعيفِ الكتابِ {يُوقِنُونَ} لإمعانِهم فيها النَّظرَ والمعنى كذلك لنجعلنَّ الكتابَ الذي آتيناكَه هُدى لأمَّتِك ولنجعلنَّ منهم أئمَّةً يهدون مثلَ تلك الهدايةِ

25

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ} أي يقضِي {بَيْنَهُمْ} قيل بينَ الأنبياءِ وأممِهم وقيل بين المؤمنينَ والمشركينَ {يَوْمُ القيامة} فيميِّزُ بين المُحقِّ والمباطل {فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أمورِ الدِّينِ

26

{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} الهمزةُ فلإنكار والواوُ للعطفِ على منويَ يقتضيه المقام وفعل الهداية إما من قبيل فلانٌ يعطي في أنَّ المرادَ إيقاعُ نفسِ الفعلِ بلا ملاحظةِ المفعولِ وإمَّا بمعنى التبيينِ والمفعولُ محذوفٌ والفاعلُ ما دلَّ عليهِ قوله تعالى {كَمْ أَهْلَكْنَا} أي أغفلُوا ولم يفعلِ الهدايةَ لهم أو ولم يبيَّن لهم مآلُ أمرِهم كثرة إهلاكنا {مَنْ قبلهم مّنَ القرون} مثلُ عادٍ وثمود وقوم لوط وقرئ نهدِ لهم بنونِ العظمةِ وقد جوز أن يكون الفاعلُ على القراءةِ الأولى أيضاً ضميرُه تعالى فيكون قوله تعالى كَمْ أَهْلَكْنَا الخ استئنافاً مبيِّناً لكيفيَّةِ هدايتِه تعالى {يَمْشُونَ فِى مساكنهم} أي يمرُّون في متاجرِهم على ديارِهم وبلادِهم ويشاهدُون آثارَ هلاكِهم والجملةُ حالٌ من ضمير لهم وقرئ يمشُون للتَّكثيرِ {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذكر من كثرةِ إهلاكِنا للأممِ الخاليةِ العاتيةِ أو في مساكنِهم {لآيَاتٍ} عظيمةً في أنفسِها كثيرةً في عددِها {أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} هذه الآياتِ سماعَ تدبرٍ واتِّعاظٍ

27

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الماء إِلَى الارض الجرز} أي التي جَرزَ نباتُها أي قُطع وأُزيل بالمرَّةِ وقيل هو اسمُ موضعٍ باليمنِ {فَنُخْرِجُ بِهِ} من تلك الأرضِ {زَرْعاً تَأْكُلُ} أي من ذلك الزَّرعِ {أنعامهم} كالتِّبنِ والقصيلِ والورقِ وبعضِ الحبوبِ المخصوصةِ بها وقرئ يأكلُ بالياءِ {وَأَنفُسِهِمْ} كالحبوبِ التي يقتاتُها الإنسانُ والثمارِ {أفلا يبصرون}

السجدة 28 30 أي ألا ينظرون فلا يُبصرون ذلك ليستدلُّوا به عَلى كمالِ قدرتِه تعالى وفضله

28

{وَيَقُولُونَ} كان المسلمونَ يقولون الله سيفتحُ لنا على المشركين أو يفصلُ بيننا وبينهم وكان أهلُ مكَّةَ إذا سمعُوه يقولون بطريقِ الاستعجالِ تكذيباً واستهزاءً {متى هذا الفتح} أي النَّصرُ أو الفصلُ بالحكومةِ {إِن كُنتُمْ صادقين} في أنَّ الله تعالى ينصرُكم أو يفصلُ بيننا وبينكم

29

{قُلْ} تبكيتاً لهم وتحقيقاً للحقِّ {يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كَفَرُواْ إيمانهم وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} يومُ الفتح يومُ القيامةِ وهو يومُ الفصلِ بين المؤمنين وأعدائِهم ويومُ نصرِهم عليهم وقيل هو يومُ بدرٍ وعن مجاهدٍ والحسنِ يومُ فتحِ مكَّةَ والعدولُ عن تطبيقِ الجوابِ على ظاهرِ سؤالِهم للتَّنبيهِ على أنَّه ليسَ ممَّا ينبغِي أنْ يُسألَ عنه لكونِه أمراً بيِّناً غنياً عن الإخبارِ به وكذا إيمانُهم واستنظارُهم يومئذٍ وإنَّما المحتاجُ إلى البيانِ عدمُ نفعِ ذلك الإيمانِ وعدمُ الإنظارِ كأنَّه قيل لا تستعجلُوا فكأنِّي بكم قد آمنتُم فلم ينفعْكم واستنظرتُم فلم تُنظروا وهذا على الوجهِ الأولِ ظاهرٌ وأمَّا على الأخيرينِ فالموصولُ عبارةٌ عن المقتولينَ يؤمئذ لا عن كافَّة الكَفَرةِ كما في الوجه الأول كيف لا وقد نفعَ الإيمانُ الطُّلقاءَ يومَ الفتحِ وناساً أمنُوا يومَ بدرٍ

30

{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ولا تُبالِ بتكذيبِهم {وانتظر} النُّصرةَ عليهم وهلاكَهم {إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} قيل أيِ الغلبةَ عليكم كقولِه تعالى فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ والأظهرُ أنْ يقالَ إنَّهم منتظرون هلاكَهم كما في قوله تعالى {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام} الآيةَ ويقرُب منه ما قيلَ {وانتظرْ} عذابَنا {إنهم منتظرون} فإنَّ استعجالَهم المذكورَ وعكوفَهم على ما هم عليه منَ الكُفر والمَعاصي فِي حُكم انتظارِهم العذابَ المترتِّبَ عليه لا محالة وقرئ على صيغةِ المفعولِ على مَعْنى أنَّهم أحقَّاءُ بأنْ يُنتظرَ هلاكُهم أو فإنَّ الملائكةَ ينتظرونَهُ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ ألم تنزيلُ وتباركَ الذي بيدِه الملكُ أُعطيَ منَ الأجرِ كأنَّما أحيا ليلة القدر وعنه صلى الله عليه وسلم مَن قرأَ ألم تنزيلُ في بيتِه لم يدخُلْه الشَّيطانُ ثلاثةَ أيَّامٍ

سورة الاحزاب 1 2 {بسم الله الرحمن الرحيم}

الأحزاب

{يا أيها النبى اتق الله} في ندائه صلى الله عليه وسلم بعنوانِ النُّبوةِ تنويهٌ بشأنِه وتنبيهٌ على سموِّ مكانِه والمرادُ بالتَّقوى المأمورِ به الثباتُ عليهِ والازديادُ منه فإنَّ له باباً واسعاً وعرضاً عريضاً لا يُنال مداهُ {وَلاَ تُطِعِ الكافرين} أي المجاهرينَ بالكُفر {والمنافقين} المُضمرين له أي فيما يعودُ بوهنٍ في الدِّينِ وإعطاء دنيَّةٍ فيما بين المسلمينَ رُوي أنَّ أبا سفيانَ بنَ حربٍ وعكرمةَ بنَ أبي جهلٍ وأبا الأعورِ السُّلَمي قدِمُوا عليهِ صلى الله عليه وسلم في الموادعةِ التي كانتْ بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم وقامَ معهم عبدُ اللَّهِ بن أبيَ ومعتب بن قُشير والجدُّ بنُ قيسٍ فقالُوا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أرفضْ ذكرَ آلهتِنا وقل إنَّها تشفعُ وتنفعُ وندعك وربَّك فشقَّ ذلك على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم والمؤمنين وهموا بقلتهم فنزلتْ أي اتقِ الله في نقضِ العهدِ ونبذِ الموادعةِ ولا تساعدِ الكافرينَ من أهلِ مكةَ والمنافقينَ من أهلِ المدينةِ فيما طلبُوا إليكَ {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} حَكِيماً مبالِغاً في العلمِ والحكمةِ فيعلمُ جميعَ الأشياءِ من المصالحِ والمفاسدِ فلا يأمرُك إلا بما فيه مصلحةٌ ولا ينهاك إلا عمَّا فيه مفسدةٌ ولا يَحكُم إلا بما تقتضيهِ الحكمةُ البالغةُ فالجملةُ تعليلٌ للأمرِ والنَّهي مؤكدٌ لوجوبِ الامتثالِ بهما

2

{واتبع} أي في كلِّ ما تأتِي وتذر من أمورِ الدِّينِ {مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبّكَ} منَ الآياتِ التي منْ جملتها هذه الآيةُ الآمرةُ بتقوى الله الناهيةُ عن مساعدةِ الكَفَرةِ والمنافقينَ والتَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيةِ لتأكيدِ وجوبِ الامتثالِ بالأمرِ {إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} قيل الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والجمعُ للتَّعظيمِ وقيل له صلى الله عليه وسلم وللمؤمنينَ وقيلَ للغائبينَ بطريقِ الالتفاتِ ولا يخفى بعدُه نعم يجوز أن يكون للكلِّ على ضربٍ من التَّغليبِ وأيا ما كانَ فالجملةُ تعليلٌ للأمرِ وتأكيدٌ لموجبه أمَّا على الوجهينِ الأولين فبطريق الترغيب والترهيب كأنه قبل إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تعملونَه من الامتثالِ وتركه فيرتب على كلَ منهما جزاءَه ثواباً وعقاباً وأمَّا على الوجهِ الأخيرِ فبطريقِ الترغيب فقط كأنَّه قيل إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يعملُه كلا الفريقينِ فيرشدك إلى ما فيه صلاحٌ حالِك وانتظامُ أمرِك ويُطلعك على ما يعملونَه من المكايدِ والمفاسدِ ويأمُرك بما ينبغِي لك أنْ تعملَه في دفعِها وردِّها فلا بُدَّ من اتباعِ الوحيِ والعمل بمقتضاه حتما

الاحزاب 3 5

3

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} أي فوض جميع أمورك إليه {وكفى بالله وَكِيلاً} حافظاً موكُولاً إليه كلُّ الأمورِ

4

{مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ} شروعٌ في إلقاءِ الوحيِ الذي أمر صلى الله عليه وسلم باتباعه وهذا مَثَلٌ ضربه الله تعالى تمهيداً لما يعقُبه منْ قولِه تعالى {وما جَعَلَ أزواجكم اللائى تظاهرون مِنْهُنَّ أمهاتكم وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ} وتنبيهاً على أنَّ كون المُظاهَرِ منها اما وكون الدعى ابناً أي بمنزلة الأمِّ والابنِ في الآثارِ والأحكامِ المعهودة فيما بينهم في الاستحالةِ بمنزلة اجتماعِ قلبينِ في جوفٍ واحدٍ وقيل هو ردٌّ لما كانتِ العربُ تزعمُ من أنَّ اللَّبيبَ الأريبَ له قلبانِ ولذلك لأبي معمرٍ أو لجميلِ بن سيد الفهريِّ ذُو القلبينِ أي ما جمعَ الله تعالى قلبينِ في رجلٍ وذِكرُ الجوفِ لزيادةِ التَّقريرِ كما في قولِه تعالى ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور ولا زوجيَّةَ ولا أمومةَ في امرأةٍ ولا دعوةَ وبنوَّةَ في شخصٍ لكن لا بمعنى نفيِ الجمع بين حقيقة الزوجية والأمومة ونفى بين حقيقة الدعوة والنبوة كما في القلبِ ولا بمعنى نفيِ الجمعِ بين أحكامِ الزوجيةِ وأحكامِ الأُمومةِ ونفيِ الجمعِ بين أحكامِ الدعوة وأحكام النبوة على الإطلاقِ بل بمعنى نفيِ الجمعِ بين حقيقةِ الزوجية وأحكام الأمومة ونفي الجمعِ بين حقيقةِ الدَّعوةِ واحكام النبوة لإبطالِ ما كانُوا عليهِ من إجراءِ أحكامِ الأُمومةِ على المظاهرِ منها وإجراءِ احكام النبوة على الدَّعيِّ ومعنى الظِّهارِ أنْ يقولَ لزوجتِه أنتِ عليَّ كظهرِ أمِّي مأخوذٌ من الظَّهر باعتبارِ اللَّفظ كالتَّلبيةِ من لبيكَ وتعديته بمن لتضمنِه معنى التجنبِ لأنَّه كان طلاقاً في الجاهليةِ وهو في الإسلامِ يقتضِي الطَّلاقَ أو الحُرمةَ إلى أداءِ الكفَّارةِ كما عُدِّي آلَى بها وهو بمعنى حلفَ وذُكر الظِّهارُ للكنايةِ عن البطنِ الذي هو عمودُه فإنَّ ذِكرَه قريبٌ من ذكرِ الفرجِ أو التغليظ في التَّحريمِ فإنَّهم كانُوا يُحرِّمون إتيانَ الزَّوجةِ وظهرُها الى السماء وقرئ اللاء وقرئ تظاهرونَ بحذفِ إحدى التَّاءينِ من تتَظَاهرون وتَظّاهرون بإدغامِ التَّاءِ الثَّانيةِ في الظَّاءِ وتُظْهرون من أظهرَ بمعنى تظَهَّر وتَظْهَرون من ظَهَر بمعنى ظاهَر كعقدَ بمعنى عاقَد وتَظْهُرون من ظَهر ظُهوراً وأدعياءُ جمع دَعيَ وهو الذي يُدعى ولداً على الشُّذوذِ لاختصاصِ أَفعِلاء بفعيلٍ بمعنى فاعلٍ كتقيَ وأتقياء كأنَّه شُبِّه به في اللَّفظِ فجُمع جمعَه كقُتلاء وأُسراء {ذلكم} إشارةٌ إلى ما يُفهم ممَّا ذكر من الظهار والدعاء أو إلى الأخيرِ الذي هو المقصودُ من مساقِ الكلامِ أي دعاءُكم بقولِكم هذا ابني {قَوْلُكُم بأفواهكم} فقط من غيرِ أن يكونَ له مصداقٌ وحقيقةٌ في الأعيانِ فإذن هُو بمعزلٍ من استتباعِ أحكامِ البنوَّةِ كما زعمتُم {والله يَقُولُ الحق} المطابقَ للواقعِ {وَهُوَ يَهْدِى السبيل} أي سبيلِ الحقِّ لا غيرَ فدعُوا أقوالَكم وخُذوا بقوله عزَّ وجلَّ

5

{ادعوهم لآبَائِهِمْ} أي أنسبُوهم

الأحزاب 76 إليهم وخُصُّوهم بهم وقولُه تعالى {هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله} تعليلٌ له والضَّميرُ لمصدرِ ادعُوا كما في قولِه تعالى اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى وأقسطُ أفعلُ قُصد به الزيادةَ مطلقاً من القسطِ بمعنى العدلِ أي الدُّعاء لآبائِهم بالغٌ في العدلِ والصِّدقِ في حُكمِ الله تعالى وقضائِه {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُم} فتنسبُوهم إليهم {فَإِخوَانُكُمْ} فهم إخوانُكم {فِى الدين ومواليكم} وأولياؤكم فيه أي فادعُوهم بالاخوة الدينية والمولوبة {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي إثمٌ {فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} أي فيما فعلتمُوه من ذلك مخطئينَ بالسَّهوِ أو النِّسيانِ أو سبقِ اللِّسانِ {ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي ولكن الجناحُ فيما تعمَّدت قلوبُكم بعد النَّهي أو ما تعمَّدت قلوبُكم فيه الجناحَ {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} لعفوهِ عن المخطئ وحكمُ التبنِّي بقولِه هو ابني إذا كان عبداً للفائل العتقِ على كلِّ حالٍ ولا يثبُت نسبُه منه إلاَّ إذا كان مجهولَ النَّسبِ وكان بحيثُ يُولد مثلُه لمثلِ المتبنِّي ولم يُقرَّ قبله بنسبِه من غيرهِ

6

{النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي في كلِّ أمرٍ من أمورِ الدِّينِ والدُّنيا كما يشهدُ به الإطلاق فيجب عليه ان يكون صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليهم من أنفسِهم وحكمُه أنفذَ عليهم من حكمِها وحقُّه آثرَ لديهم من حقوقِها وشفقتُهم عليه أقدمَ من شفقتِهم عليها روى انه صلى الله عليه وسلم أراد غزوةَ تبوكَ فأمرَ الناس بالخروج فقال ناس نستأذنُ آباءَنا وأُمَّهاتِنا فنزلتْ وقرئ وهو أبٌ لهم أي في الدِّينِ فإنَّ كلَّ نبيَ أبٌ لأمَتهِ من حيثُ إنَّه أصلٌ فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون إخوةً {وأزواجه أمهاتهم} أي منزلات منزلَة الأمَّهاتِ في التَّحريمِ واستحقاقِ التَّعظيمِ وأما فيما عَدا ذلك فهنَّ كالأجنبياتِ ولذلك قالتْ عائشةَ رضيَ الله عنها لسنا أُمَّهاتِ النِّساءِ {وَأُوْلُو الأرحام} أي ذو القراباتِ {بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} في التَّوارث وهو نسخٌ لما كان في صدرِ الإسلام من التوارث بالهجرةِ والمُوالاة في الدِّينِ {فِى كتاب الله} في اللَّوح أو فيما أنزلَه وهو هذه الآيةُ أو آيةُ المواريثِ أو فيما فرضَ الله تعالى {مِنَ المؤمنين والمهاجرين} بيانٌ لأولي الأرحامِ أو صلةٌ لأُولي أي أولُو الأرحامِ بحقِّ القرابةِ أَولى بالميراثِ من المؤمنينَ بحقِّ الدِّينِ ومن المهاجرينَ بحقِّ الهجرةِ {إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً} استثناء من أعمِّ ما تُقدَّرُ الأولويَّةُ فيهِ من النَّفعِ والمرادُ بفعلِ المعروفِ التَّوصيةُ أو منقطع {كَانَ ذلك فِى الكتاب مَسْطُورًا} أي كانَ مَا ذُكر من الآيتينِ ثابتاً في اللَّوحِ أو القُرآنِ وقيل في التوارة

7

{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ} أي اذكُر وقتَ أخذنا من النبيينَ كافَّةَ عهودِهم بتبليغِ الرِّسالةِ والدُّعاءِ إلى الدِّينِ الحقِّ {وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وإبراهيمُ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} وتخصيصُهم بالذكر مع

الاحزاب 8 9 اندارجهم في النبيين اندارجا بيناً للإيذانِ بمزيدِ مزيَّتِهم وفضلِهم وكونِهم من مشاهيرِ أربابِ الشَّرائعِ وأساطينِ أولي العزم من الرسال وتقديم نبينا عليهم عليهم الصَّلاة والسَّلام لإبانةِ خطرهِ الجليلِ {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً} أي عهداً عظيمَ الشَّأنِ أو مُؤكَّداً باليمينِ وهذا هو الميثاقُ الأولُ بعينِه وأخذُه هو أخذُه والعطفُ مبنيٌّ على تنزيلِ التغايُرِ العنوانيِّ منزلَة التغايرِ الذَّاتيِّ تفخيماً لشأنِه كما في قوله تعالى وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ اثر قولِه تعالى فلمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وقولُه تعالى

8

{لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ} متعلق بمضمر مستأنفٌ مسوقٌ لبيان ما هو داع إلى ما ذكر من أخذِ الميثاقِ وغاية له لا بأخذنا فإنَّ المقصودَ تذكيرُ نفسِ الميثاقِ ثمَّ بيانُ الغرضِ منه بياناً قصديَّاً كما ينبىءُ عنه تغييرُ الأسلوبِ بالالتفات إلى الغَيبةِ أي فعل الله ذلك ليسألَ يومَ القيامةِ الأنبياءَ ووضعَ الصَّادقينَ موضعَ ضميرِهم للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّهم صادقون فيما سُئلوا عنه وإنَّما السُّؤالُ لحكمةٍ تقتضِيه أي ليسألَ الانبياء الذين صدقوا عهدهم عمَّا قالُوه لقومِهم أو عن تصديقِهم إيَّاهم تبكيتاً لهم كما في قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ أو المصدِّقين لهم عن تصديقِهم فإنَّ مصدِّقَ الصَّادقِ صادقٌ وتصديقَه صدقٌ وأما ما قيل من أن المعنى ليسأل المؤمنينَ الذين صدقُوا عهدَهم حين أشهدَهم على أنفسِهم عن صدقِهم عهدَهم فيأباهُ مقامُ تذكيرِ ميثاقِ النبيينَ وقولُه تعالى {وَأَعَدَّ للكافرين عَذَاباً أَلِيماً} عطف ما ذُكر من المضمرِ لا على أخذَنا كما قيلَ والتَّوجيه بأنَّ بعثةَ الرُّسلِ وأخذَ الميثاقِ منهم لإثابةِ المؤمنينَ أو بأنَّ المعنى أنَّ الله تعالى أكَّد على الأنبياءِ الدَّعوةَ إلى دينِه لأجلِ إثابةِ المؤمنين تعسف ظاهر أنَّه مفضٍ إلى كونِ بيانِ إعدادِ العذابِ الأليمِ للكافرينَ غيرُ مقصودٍ بالذَّاتِ نعم يجوزُ عطفُه على ما دل عليه قوله تعالى ليسألَ الصَّادقينَ كأنَّه قيل فأثابَ المؤمنينَ وأعدَّ للكافرين الآية

9

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} إنْ جُعل النِّعمةَ مصدرَاً فالجارُّ متعلِّقٌ بها وإلا فهوُ متعلِّق بمحذوفٍ هو حالٌ منها أي كائنةً عليكُم {إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} ظرفٌ لنفسِ النِّعمةِ أو لثبوتِها لهم وقيل منصوبٌ باذكروا على أنَّه بدلُ اشتمالٍ من نعمةَ الله والمرادُ بالجنودِ الأحزابُ وهُم قريشٌ وغَطَفانُ ويهودُ قريظةَ والنَّضيرِ وكانُوا زُهاءَ اثني عشرَ ألفاً فلمَّا سمعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالِهم ضربَ الخندقَ على المدينةِ بإشارةِ سلمانَ الفارسيِّ ثمَّ خرجَ في ثلاثةِ آلافٍ من المُسلمينَ فضربَ معسكَرهُ والخندقُ بينَهُ وبينَ القومِ وأمرَ بالذَّرارىِ والنِّساءِ فَرفعوا في الآطامِ واشتدَّ الخوفُ وظنَّ المؤمنونَ كلَّ ظنَ ونجمَ النِّفاقُ في المنافقينَ حتَّى قال معتِّبُ بنُ قُشيرٍ كان محمدٌ يَعِدنا كنوزَ كسرى وقيصرَ ولا نقدرُ أنْ نذهبَ إلى الغائطِ ومضَى على الفريقينِ قريبٌ من شهرٍ لا حربَ بينهم إلا أنَّ فوارسَ من قريشٍ منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبد الله وضرارُ بنُ الخطَّابِ ومرداسُ أخُو بني محاربٍ قد ركبوا

الأحزاب 10 خيولَهم وتيَّممُوا من الخندقِ مكاناً مضيقاً فضربُوا خيولَهم فاقتحمُوا فجالتْ بهم في السَّبخة بين الخندقِ وسلعٍ فخرج عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه في نفرٍ من المسلمين حتَّى أخذَ عليهم الثَّغرة التي اقتحمُوا منها فأقبلتِ الفرسانُ نحوَهم وكان عمروٌ معلماً ليُرى مكانُه فقال له عليٌّ رضيَ الله عنه يا عمر واني أدعُوك إلى الله ورسولِه والإسلامِ قال لا حاجةَ لي اليه فإنيِّ أدعُوك إلى النِّزالِ قال يا ابنَ أخي والله لا أحبُّ أنْ أقتلَك قال عليٌّ لكنِّي والله أحبُّ أنْ أقتلَك فحمي عمروٌ عند ذلكَ وكان غيُوراً مشهُوراً بالشَّجاعةِ واقتحمَ عن فرسِه فعقَره أو ضربَ وجهَه ثم أقبلَ عَلَى عليَ فتناولاَ وتجاولاَ فضربه علي رضي الله عنه ضربةً ذهبتْ فيها نفسُه فلما قتلَه انهزمتْ خيلُه حتى اقتحمتْ من الخندقِ هاربةً وقتل مع عمروٍ رجلين منبه بن عثمان ابن عبدِ الدَّار ونوفلُ بنُ عبدِ اللَّهِ بنِ المُغيرةِ المخزومِّي قتلَه أيضاً عليٌّ رضي الله عنه وقيل لم يكُن بينهم إلا التَّرامي بالنَّبلِ والحجارةِ حتَّى أنزل الله تعالى النَّصرَ وذلكَ قولُه تعالى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} عطفٌ على جاءتْكُم مسوقٌ لبيانِ النِّعمةِ إجمالاً وسيأتي بقيَّتُها في آخرِ القصَّة {وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكةُ عليهم السَّلامُ وكانُوا ألفاً بعثَ الله عليهم صَباً باردةً في ليلةٍ شاتيةٍ فأخصرتْهمُ وسفتِ التُّرابَ في وجوهِهم وأمرَ الملائكةَ فقلعت الأوتادَ وقطَّعتِ الأطنابَ وأطفأتِ النِّيرانَ وأكفأتِ القُدورَ وماجتِ الخيلُ بعضُها في بعضٍ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب وكبَّرتِ الملائكةُ في جوانبِ عسكرِهم فقال طليحةُ بنُ خوُيلدِ الأسديُّ أما محمدٌ فقد بدأكم بالسِّحرِ فالنَّجاءَ النَّجاءَ فانهزمُوا من غيرِ قتالٍ {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ} من حفرِ الخندقِ وترتيب مبادي الحربِ وقيل من التجائِكم إليه ورجائِكم من فضلِه وقُرىء بالياءِ أي بما يعملُه الكفَّارُ أي من التَّحرزِ والمحاربةِ أو من الكفرِ والمعاصِي {بَصِيراً} ولذلكَ فعلَ ما فعلَ من نصرِكم عليهم والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله

10

{إذ جاؤوكم} بدلٌ من إذْ جاءتْكُم {مّن فَوْقِكُمْ} من أعلى الوادِي من جهةِ المشرقِ وهم بنُو غطَفَان ومَن تابعهم من اهل نجد قائدُهم عيينةُ بن حِصْنٍ وعامرُ بنُ الطُّفيلِ في هوازنَ وضامتهم اليهودُ من قريظةَ والنضِير {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} أي من أسفلِ الوادِي من قبلِ المغربِ وهم قُريشٌ ومن شايعهم من الأحابيشِ وبني كِنانةَ وأهل تِهامةَ وقائدُهم أبوُ سفيانَ وكانُوا عشرةَ آلافٍ {وَإِذْ زَاغَتِ الابصار} عطفٌ على ما قبلَه داخلٌ معه في حُكمِ التَّذكيرِ أي حين مالتْ عن سَننِها وانحرفتْ عن مُستوى نظرِها حيرةً وشُخوصاً وقيل عدلتْ عن كلِّ شيءٍ فلم تلتفتْ إلاَّ إلى عدوِّها لشدَّةِ الرَّوعِ {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} لأنَّ الرئةَ تنتفخ من شدَّةِ الفزعِ فيرتفعُ القلبُ بارتفاعِها إلى رأسِ الحنجرةِ وهي مُنتهى الحُلقومِ وقيل هو مثلٌ في اضطرابِ القلوب ووجيبِها وإنْ لم تبلغْ الحناجرَ حقيقة والخطابُ في قولِه تعالَى {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} لمن يُظهر الإيمانَ على الإطلاقِ أي تظنُّون بالله تعالى أنواعَ الظُّنونِ المختلفةِ حيثُ ظنَّ المُخلصون الثُّبتُ القلوبِ أنَّ الله تعالى يُنجز وعدَهُ في إعلاءٍ دينِه كما يُعرب عنه ما سيُحكى عنهم من قولِهم هذا مَا وَعَدَنَا

الأحزاب 11 13 الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ الآيةَ أو يمتحنهم فخافُوا الزَّللَ وضعفَ الاحتمالِ والضِّعافُ القلوبِ والمنافقون ما حُكي عنهم ممَّا لا خيرَ فيهِ والجملُة معطوفةٌ على زاغتِ وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ الصُّورةِ والدِّلالة على الاستمرار وقرىء الظُّنونَ بغيرِ ألفٍ وهو القياسُ وزيادتُها لمراعاةِ الفواصلِ كما تُزاد في القوافِي

11

{هُنَالِكَ} ظرفُ زمانٍ أو ظرفُ مكانٍ لما بعدَه أي في ذلك الزِّمانِ الهائلِ أو المكانِ الدَّحضِ {ابتلى المؤمنون} أي عُوملوا معاملةَ مَن يُختبر فظهرَ المخلص من المنافق والراسخ من المتزلزلِ {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} من الهَولِ والفزعِ وقُرىء بفتحِ الزَّاي

12

{وَإِذْ يَقُولُ المنافقون} عطفٌ على إذْ زاغتِ وصيغةُ المضارعِ لما مرَّ من الدِلالة على استمرارِ القولِ واستحضارِ صورتِه {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي ضعفُ اعتقادٍ {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} من إعلاءِ الدِّينِ والظَّفرِ {إِلاَّ غُرُوراً} أي وعدَ غرورٍ وقيل قولاً باطلاً والقائلُ مُعتبُ بنُ قُشيرٍ وأضرابُه راضون به قال يَعِدنا محمدٌ بفتحِ كنوزِ كِسرى وقيصرَ وأحدُنا لا يقدرُ أنْ يتبرزَ فَرَقاً ما هذا إلا وعدُ غرورٍ

13

{وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ} هم أوسُ بنُ قَيظى وأتباعُه وقيل عبدُ اللَّه بن أبي واشياعه {يا أهل يَثْرِبَ} هو اسمُ المدينةِ المُطهَّرةِ وقيل اسمُ بقعةٍ وقعتِ المدينةُ في ناحيةٍ منها وقد نهى النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنْ تُسمَّى بها كراهةً لها وقال هي طَيبةُ أو طَابةُ كأنَّهم ذكروها بذلك الاسمِ مخالفةً له صلى الله عليه وسلم ونداؤُهم إيَّاهم بعنوانِ أهليَّتِهم لها ترشيحٌ لما بعدَه من الأمرِ بالرُّجوعِ إليها {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} لا موضعَ إقامةٍ لكُم أو لا إقامةَ لكُم ههنا يُريدون المعسكرَ وقُرىء بفتحِ الميمِ أي لا قيامَ اولا موضعَ قيامٍ لكم {فارجعوا} أي إلى منازلِكم بالمدينةِ مرادُهم الأمرُ بالفرارِ لكنَّهم عبَّروا عنه بالرُّجوعِ ترويجاً لمقالِهم وإيذاناً بأنَّه ليس من قبيلِ الفرارِ المذمومِ وقيل المعنى لاقيام لكم في دين محمد صلى الله عليه وسلم فارجعُوا إلى ما كنتُم عليه من الشِّركِ أو فارجعوا عما يعتموه عليه وأسلمُوه إلى أعدائِه اولا مقامَ لكُم في يثربَ فارجعُوا كفَّاراً ليتسنَّى لكُم المقامُ بها والأولُ هو الأنسبُ لما بعدَه فإنَّ قولَه تعالى {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النبى} معطوفٌ على قالتْ وصيغةُ المضارعِ لما مرَّ من استحضارِ الصُّورةِ وهم بنُو حارثةَ وبنُو سلمة استأذنوه صلى الله عليه وسلم في الرُّجوعِ ممتثلينَ بأمرِهم وقولُه تعالى {يَقُولُونَ} بدلٌ مِن يستأذنُ أو حالٌ من فاعلِه أو استئنافٌ مبنيُّ على السُّؤالِ عن كيفيَّةِ الاستئذانِ {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي غيرُ حصينةٍ معرِّضةٌ للعدوِّ والسُّرَّاقِ فأذنْ لنا حتَّى نُحصنها ثم نرجع إلى العسكرِ والعورةُ في الأصلِ الخللُ أُطلقت على المُختلِّ مبالغةً وقد جُوِّز أنْ تكونَ تخفيفَ عورة من عورة الدَّارُ إذا اختلَّتْ وقد قرئ بها والأولُ هو الأنسبُ بمقامِ الاعتذارِ كما يُفصح عنه تصديرُ مقالِهم بحرفِ التَّحقيقِ {وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ} والحالُ أنَّها ليستْ كذلكَ

الاحزاب 14 17 {إِن يُرِيدُونَ} ما يُريدون بالاستئذانِ {إِلاَّ فِرَاراً} من القتالِ

14

{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} أُسند لدخول إلى بيوتِهم وأُوقع عليهم لما أنَّ المرادَ فرضُ وهم فيها الا فرضُ دخولِها مطلقاً كما هو المفهومُ لو لم يذكر الجارُّ والمجرورُ ولا فرضُ الدُّخولِ عليهم مطلقاً كما هو المفهومُ لو أُسند إلى الجارُّ والمجرورُ {مّنْ أَقْطَارِهَا} أي من جميعِ جوانبِها لا من بعضها دُون بعضٍ فالمعنى لو كانتْ بيوتُهم مختَّلةً بالكُلِّيةِ ودخلَها كلُّ مَن أرادَ من أهلِ الدَّعارةِ والفسادِ {ثُمَّ سُئِلُواْ} من جهةِ طائفةٍ أُخرى عند تلكَ النازلةِ والرَّجفةِ الهائلةِ {الفتنة} أي الردَّةَ والرَّجعةَ إلى الكفرِ مكانَ ما سُئلوا الآنَ من الإيمانِ والطَّاعةِ {لأَتَوْهَا} لأعطَوها غيرَ مُبالين بما دَهَاهم من الدَّاهيةِ الدَّهياءِ والغارةِ الشَّعواءِ وقُرىء لأتَوَها بالقصرِ أي لفعلوها وجاءوها {وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا} بالفتنةِ أي ما ألبثُوها وما أخرُّوها {إِلاَّ يَسِيراً} ريثما يسعُ السُّؤالُ والجوابُ من الزَّمانِ فضلاً عن التعلل باختلال البيوتِ مع سلامتِها كما فعلُوا الآنَ وقيل ما لبثُوا بالمدينةِ بعد الارتدادِ إلا يسيراً والأولُ هو اللائقُ بالمقامِ هذا وأما تخصيصُ فرضِ الدُّخولِ بتلك العساكرِ المتحزبةِ فمع منافاتِه للعمومِ المستفادِ من تجريدِ الدُّخولِ عن الفاعلِ ففيه ضربٌ من فسادِ الوضعِ لما عرفتَ من أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيانِ أنَّهم إذا دُعوا إلى الحقِّ تعللُوا بشيءٍ يسيرٍ وإنْ دُعوا إلى الباطلِ سارعُوا إليه آثِرَ ذي أثيرٍ من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم ففرضُ الدُّخولِ عليهم من جهةِ العساكرِ المذكورةِ وإسنادِ سؤالِ الفتنةِ والدَّعوةِ إلى الكفرِ إلى طائفةٍ اخرى مَعَ أنَّ العساكرَ هم المعرُوفون بعداوةٍ الدِّينِ المُباشرون لقتالِ المؤمنين المُصرُّون على الإعراضِ عن الحقِّ المُجدُّون في الدُّعاءِ إلى الكُفر والضَّلالِ بمعزلٍ من التَّقريبَ

15

{وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الادبار} فإنَّ بني حارثةَ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ أُحدٍ حينَ فشلُوا أنْ لا يعودُوا لمثلِه وقيل هم قُومٌ غابُوا عن وقعةِ بدرٍ ورَأَوا ما أَعطى الله أهَل بدرٍ من الكرامةِ والفضيلةِ فقالُوا لئن أشهدَنا الله قتالاً لنقاتلنَّ {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْؤُولاً} مطلوباً مقتضى حتَّى يوفَّى به وقيل مسئولا عن الوفاءِ به ومجازي عليهِ

16

{قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل} فإنَّه لا بدَّ لكلِّ شخصٍ من حتف انف او قتل سيفٍ في وقتٍ معيَّنٍ سبقَ به القضاءُ وجرى عليه القلم {وإذا لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي وإنْ نفعكم الفرارُ مثلاً فمُتعتم بالتَّأخيرِ لم يكُن ذلك التَّمتيعُ إلاَّ تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً

17

{قُلْ مَن ذَا الذى يَعْصِمُكُمْ مّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}

أي أو يصيبكم بسوءٍ إنْ أرادَ بكُم رحمةً فاختُصر الكلامُ أو حُمل الثَّاني على الأولِ لما في العصمةِ من مَعنى المنعِ {وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيّاً} ينفعُهم {وَلاَ نَصِيراً} يدفعُ عنهم الضَّررَ

18

{قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ} أي المُثبطين للنَّاسِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهُم المنافقونَ {والقائلين لإخوانهم} من منافِقي المدينةِ {هَلُمَّ إِلَيْنَا} وهو صوتٌ سُمي به فعل متعد نحوا احضرْ أو قرِّب ويستوي فيه الواحدُ والجماعةُ على لغةِ أهلِ الحجازِ وأمَّا بنُو تميمٍ فيقولون هُلمَّ يا رجلُ وهلمُّوا يا رجالُ أي قرِّبوا أنفسَكم إلينا وهذا يدلُّ على أنَّهم عند هذا القولِ خارجون من المعسكرِ متوجِّهون نحوَ المدينةِ {وَلاَ يَأْتُونَ البأس} أي الحرابَ والقتالَ {إِلاَّ قَلِيلاً} أي إتياناً أو زماناً أو بأساً قليلاً فإنَّهم يعتذرون ويُثبطون ما أمكنَ لهم ويخرجون مع المؤمنين يوهمونهم انهم معهم ولا تراهُم يبارزون ويُقاتلون إلا شيئاً قليلاً إذا اضطروا إليه كقولِه تعالى مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً وقيل إنَّه من تتمةِ كلامِهم معناه ولا يأتي أصحابُ محمدٍ حربَ الأحزابِ ولا يُقاومونهم إلا قليلاً

19

{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أي بخلاءُ عليكم بالمعاونةِ أو النَّفقةِ في سبيلِ الله أو الظَّفرِ والغنيمةِ جمع شحيحٍ ونصبُه على الحالية من فاعل يأنون او من المعوقينَ أو على الذمِّ {فَإِذَا جَاء الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ} في أحداقِهم {كالذى يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} صفةٌ لمصدرِ ينظرون أو حالٌ من فاعلِه أو لمصدرِ تدورُ أو حالٌ من أعينُهم أي ينظرون نظراً كائناً كنظرِ المغشيِّ عليه من معالجةِ سكراتِ الموت حذرا وخورا ولو اذا بك أو ينظرون كائنين كالذي الخ أو تدورُ أعينُهم دوراناً كائناً كدورانِ عينِه أو تدورُ أعينُهم كائنةً كعينهِ {فَإِذَا ذَهَبَ الخوف} وحِيزت الغنائمُ {سَلَقُوكُم} ضربُوكم {بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} وقالُوا وفروا قسمَتنا فإنَّا قد شاهدناكم وقاتلنا معكُم وبمكاننا غلبتُم عدوَّكم وبنا نُصرتم عليه والسَّلْق البسطُ بقهرٍ باليدِ أو باللِّسانِ وقُرىء صَلَقوُكم {أَشِحَّةً عَلَى الخير} نُصب على الحاليَّةِ أو الذمِّ ويُؤيده القراءةُ بالرَّفعِ {أولئك} الموصوفون بما ذكر من صفاتِ السُّوء {لَمْ يُؤْمِنُواْ} بالإخلاصِ {فَأَحْبَطَ الله أعمالهم} أي أظهرَ بطلانَها إذ لم يثبُت لهم أعمالٌ فتبطل أو أبطل تصنعهم ونفاقَهم فلم يبقَ مستتبعا لمنفعة دنيويةٍ أصلاً {وَكَانَ ذلك} الإحباطُ {عَلَى الله يَسِيراً} هيناً وتخصيصُ يُسره بالذكرِ مع أنَّ كلَّ شيءٍ عليه تعالى يسيرٌ لبيانِ أنَّ أعمالَهم حقيقةٌ بأنْ يظهر حبُوطها لكمالِ تعاضدِ الدَّواعِي وعدمِ الصَّوارفِ بالكُلِّيةِ

20

{يَحْسَبُونَ الاحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ} أي هؤلاء

الأحزاب 21 22 لجبنِهم يظنُّون أنَّ الأحزابَ لم ينهزمُوا ففرُّوا إلى داخلِ المدينةِ {وَإِن يَأْتِ الاحزاب} كرَّةً ثانيةً {يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الاعراب} تمنَّوا أنَّهم خارجون إلى البدوِ حاصلون بين الاعراب وقرئ بُدَّى جمع بادٍ كغازٍ وغزى {يسألون} كلَّ قادمٍ من جانبِ المدينة وقرئ يُساءلون أي يتساءلُون ومعناه يقولُ بعضُهم لبعضٍ ماذا سمعتَ ماذا بلغكَ أو يتساءلُون الأعرابَ كما يقال رأيتُ الهلالَ وتراءيناهُ فإنَّ صيغةَ التَّفاعلِ قد تُجرَّدُ عن معنى كونِ ما أُسندت إليه فاعلاً من وجهٍ ومفعولاً من وجهٍ ويكتفي بتعدُّدِ الفاعلِ كما في المثال المذكورة ونظائرِه {عَنْ أَنبَائِكُمْ} عمَّا جَرَى عليكم {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ} هذه الكرَّة ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال {مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً} رياءً وخوفاً من التَّعييرِ

21

{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} خصلة حسنة حقها يُؤتسى بها كالثَّباتِ في الحربِ ومقاساةِ الشَّدائدِ أو هو في نفسه قدوة يحق النأسي به كقولك في البيضة عشرون منّاً حديداً أي هي في نفسِها هذا القدر من الحديد وقرئ بكسرِ الهمزةِ وهي لُغةٌ فيها {لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} أي ثوابَ الله أو لقاءَهُ أو أيَّامَ الله واليَّومَ الآخرَ خُصوصاً وقيل هو مثلُ قولِك أرجُو زيداً وفضَله فإنَّ اليومَ الآخرَ من أيامِ الله تعالى ولمن كان صلة لحسنة أو صفة لها وقيل بدلٌ من لكُم والأكثرونَ على أنَّ ضميرَ المخاطبِ لا يُبدلُّ منه {وَذَكَرَ الله} أي وقَرن بالرَّجاءِ ذكَر الله {كَثِيراً} أي ذِكراً كَثيراً أو زماناً كَثيراً فإنَّ المُثابرةَ على ذكرِه تعالى تُؤدِّي إلى مُلازمةِ الطَّاعةِ وبها يتحقَّقُ الائتساء برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم

22

{وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب} بيانٌ لما صدَر عن خُلَّصِ المؤمنينَ عند اشتباهِ الشئون واختلافِ الظُّنونِ بعد حكايةِ ما صدرَ عن غيرِهم أي لمَّا شاهدُوهم حسبما وصفُوا لهم {قَالُواْ هذا} مُشيرين إلى ما شاهدُوه من حيثُ هو من غيرِ أنْ يخطرَ ببالِهم لفظٌ يدلُّ عليهِ فضلاً عنْ تذكيرِه وتأنيثِه فإنَّهما من أحكامِ اللَّفظِ كما مر في قوله تعالَى فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةًً قَالَ هذا رَبّى وجعله إشارةً إلى الخطبِ أو البلاءِ من نتائجِ النَّظرِ الجليلِ فتدبَّر نَعم يجوزُ التذكير باعتبار الخبر بالذي هُو {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} فإنَّ ذلكَ العُنوان أولُ ما يخطُر ببالِهم عند المُشاهدةِ ومرادُهم بذلك ما وعدُوه بقولِه تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء إلى قوله تعالى إلا أن نَصْرَ الله قَرِيبٌ وقولِه وقوله صلى الله عليه وسلم سيشتدُّ الأمرُ باجتماعِ الأحزابِ عليكم والعاقبةُ لكم عليهم وقوله صلى الله عليه وسلم إنَّ الأحزابَ سائرونَ إليكُم بعدَ تسعِ ليالٍ أو عشر وقرئ بكسرِ الرَّاءِ وفتح الهمزةِ {وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} أي ظهَر صدقُ خبرِ الله تعالى ورسولِه أو صَدَقا في النُّصرة والثَّوابِ كما صَدَقا في البلاءِ وإظهارِ الاسمِ للتَّعظيم {وَمَا زَادَهُمْ} أي ما رَأَوه {إِلاَّ إِيمَانًا} بالله تعالى وبمواعيدهِ

الاحزاب 23 {وَتَسْلِيماً} لأوامرِه ومقاديرِه

23

{مِنَ المؤمنين} أي المؤمنينَ بالإخلاصِ مُطلقاً لا الذينَ حُكيتْ محاسنُهم خاصَّة {رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ} من الثَّباتِ مع الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم والمقاتلةِ لأعداءِ الدِّينِ وهُم رجال منَ الصحابةِ رضيَ الله عنهم نذرُوا أنَّهم إذا لقُوا حرباً مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثبتُوا وقاتلُوا حتَّى يستشهدوا وهُم عثمانُ بنُ عفَّان وطلحةُ بنُ عُبيدِ اللَّهِ وسعيدُ بنُ زيدِ بنِ عمروِ بن نفيلٍ وحمزةُ ومصعب ابن عمير وأنس بن النضر وغيرُهم رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين ومعنى صَدَقُوا أَتَوا بالصِّدقِ من صَدَقني إذا قال لك الصِّدقَ ومحل ما عاهدُوا النَّصبُ إمَّا بطرحِ الخافضِ عنه وإيصالِ الفعلِ إليه كَما في قولِهم صَدَقني سنّ بكرِه أي في سنِّهِ وإما يجعل المُعاهد عليهِ مصدُوقاً على المجازِ كأنَّهم خاطبُوه خطابَ من قال لكرمائِه نحرتني الأعداءُ إنْ لَم تنحرِي وقالوا له سنفي بك وحيث وفوا به فقد صدقُوه ولو كانُوا نكثُوه لكذبُوه ولكان مكذُوباً {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} تفصيلٌ لحال الصادقين وتقسيم الى قسمين والحب النَّذرُ وهو أنْ يلتزمَ الإنسانُ شيئاً من أعمالِه ويُوجبه على نفسِه وقضاؤُه الفراغُ منه والوفاءُ به ومحلُّ الجارِّ والمجرورِ الرَّفعُ على الابتداءِ على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ في قولِه تعالى {وَمِنَ الناس مَن يقول آمنا بالله} الآيةَ أي فبعضُهم أو فبعضٌ منهُم مَن خرجَ عن العُهدةِ كحمزةَ ومصعب بن عمير وأنس بنِ النَّضرِ عمِّ أنسِ ابن مالكٍ وغيرِهم رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين فإنَّهم قد قضَوا نذورَهم سواء كانَ النَّذرُ على حقيقتِه بأنْ يكونَ ما نذرُوه أفعالَهم الاختياريةَ التي هي المقاتلةُ المغيَّاةُ بما ليسَ منها ولا يدخلُ تحتَ النَّذرِ وهو الموتُ شَهيداً أو كان مُستعاراً لالتزامِه على ما سيأتي {وَمِنْهُمُ} أي وبعضهم أو وبعضٌ منهم {مَّن يَنتَظِرُ} أي قضاء نحبه لكونه موقتا كعثمانَ وطلحةَ وغيرِهما ممَّن استُشهد بعد ذلك رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين فإنَّهم مستمرُّون على نذورِهم قد قضَوا بعضَها وهو الثَّباتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والقتالُ إلى حينِ نزولِ الآيةِ الكريمةِ ومنتظرونَ لقضاءِ بعضِها الباقِي وهو القتالُ إلى الموتِ شهيداً هذا ويجوزُ أنْ يكونَ النَّحبُ مُستعاراً لالتزامِ الموتِ شهيداً إما بتنزيل أسبابِه التي هي أفعالٌ اختيارية للناذر منزلة الالتزام نفسه وإما بتتزيل نفسِه منزلةَ أسبابِه وإيرادِ الالتزامِ عليه وهو الأنسبُ بمقام المدح وأياما كان في وصفهم بالانتظار المنبئ عن الرَّغبةِ في المنتظرِ شهادةٌ حقَّةٌ بكمالِ اشتياقِهم إلى الشَّهادةِ وأمَّا ما قيلَ من أنَّ النَّحبَ استُعير للموتِ لأنَّه كنذرٍ لازمٍ في رقبةِ كلِّ حيوانٍ فمسخٌ للاستعارةِ وذهابٌ برونقِها وإخراجٌ للنَّظمِ الكريمِ عن مُقتضى المقامِ بالكلِّيةِ {وَمَا بَدَّلُواْ} عطفٌ على صدَقُوا وفاعلُه فاعلُه أي وما بدَّلُوا عهدَهم وما غيَّروه {تَبْدِيلاً} أي تبديلاً ما لا أصلاً ولا وصفاً بل ثبتُوا عليهِ راغبينَ فيه مُراعين لحقوقِه على أحسنِ ما يكون أمَّا الذينَ قضَوا فظاهرٌ وأما الباقُون فيشهدُ به انتظارُهم أصدقَ شهادةٍ وتعميمُ عدمِ التَّبديلِ للفريقِ الأول مع ظُهورِ حالِهم للإيذانِ بمساواةِ الفريقِ الثَّاني لهُم في الحكم

الاحزاب 24 25 ويجوزُ أنْ يكونَ ضميرُ بدَّلُوا للمنتظرينَ خاصَّة بناءً على أنَّ المحتاجَ إلى البيانِ حالُهم وقد رُوي أن طلحة رضى الله عنه ثبتَ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يومَ أحدٍ حتَّى أُصيبتْ يده فقال صلى الله عليه وسلم أوجبَ طلحةُ الجنَّة وفي رواية أوجبَ طلحةُ وعنه صلى الله عليه وسلم في رواية جابرٌ رضيَ الله عْنهُ من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرضِ فلينظُر إلى طلحةُ بنُ عُبيدِ اللَّهِ وفي رواية عائشةَ رضيَ الله عنها من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على الأرضِ وقد قضَى نحبَه فلينظُر إلى طلحةَ وهذا يشيرُ إلى أنَّه من الأولينَ حُكماً

24

{لّيَجْزِىَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ} متعلق بمضمر مستأنف مسوق بطريقِ الفذلكةِ لبيانِ ما هُو داعٍ إلى وقوعِ ما حُكي من الأحوالِ والأقوالِ على التَّفصيلِ وغاية له كما مرَّ في قوله تعالى ليسأل الصادقين عَن صِدْقِهِمْ كأنَّه قيلَ وقعَ جميعُ ما وقعَ ليجزيَ الله الصَّادقين بما صدرَ عنهُم منَ الصِّدقِ والوفاءِ قولاً وفعلاً {وَيُعَذّبَ المنافقين} بما صدرَ عنهُم منَ الأعمالِ والأقوالِ المحكيَّةِ {إِن شَاء} تعذيبَهم {أَوْ يتوبَ عَلَيْهِمْ} إنْ تابُوا وقيل متعلقٌ بما قبلَه من نفيِ التَّبديلِ المنطوقِ وإثباته المعرضَ به كأنَّ المُنافقين قصدُوا بالتَّبديلِ عاقبةَ السُّوءِ كما قصدَ المُخلصون بالثباتِ والوفاءِ العاقبةَ الحُسنى وقيلَ تعليلٌ لصدقُوا وقيل لما يُفهم من قولِه تعالَى وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً وقيل لما يُستفاد من قولِه تعالَى وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الاحزاب كأنَّه قيل ابتلاهُم الله تعالى برؤية ذلك الخطيب ليجزيَ الآيةَ فتأمَّل وبالله التَّوفيق {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} أي لمن تابَ وهُو اعتراضٌ فيه بعثٌ إلى التَّوبةِ وقولُه تعالى

25

{وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ} رجوعٌ إلى حكايةِ بقيةِ القصَّةِ وتفصيلُ تتمةِ النِّعمةِ المشارِ إليها إجمالاً بقولِه تعالى فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا معطوفٌ إمَّا على المضمرِ المقدرُ قبل قولِه تعالى لّيَجْزِىَ الله كأنَّه قيل إثرَ حكايةِ الأمورِ المذكورةِ وقعَ ما وقعَ من الحوادثِ وردَّ الله الخ وإمَّا على أرسلنَا وقد وسِّط بينهما بيانُ كونِ ما نزَل بهم واقعةً طامَّة تحيَّرتْ بها العقولُ والأفهامُ وداهيةً تامَّةً تحاكت منها الرُّكبُ وزلَّتِ الأقدامُ وتفصيلُ ما صدَر عن فريقَيْ أهلِ الإيمانِ وأهلِ الكفرِ والنفاقِ من الأحوالِ والأقوالِ لإظهار عظم النعمة إبانه خطرِها الجليلِ ببيانِ وصولِها إليهم عند غايةِ احتياجِهم إليها أي فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ورددنا بذلك الذين كفرُوا والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة وقولُه تعالى {بِغَيْظِهِمْ} حالٌ من الموصولِ أي مُلتبسين بهِ وكذا قولُه تعالى {لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} بتداخلٍ أو تعاقبٍ أي غيرَ ظافرينَ بخير أو الثَّانية بيانٌ للأُولى أو استئنافٌ {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} بما ذُكر من إرسالِ الرِّيحِ والجُنودِ {وَكَانَ الله قَوِيّاً} على إحداثِ كلِّ ما يريد {عزيزا}

الاحزاب 26 28 غالبا على كل شئ

26

{وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم} أي عاونُوا الأحزابَ المردودةَ {مّنْ أَهْلِ الكتاب} وهُم بنُو قريظةَ {مِن صَيَاصِيهِمْ} من حصونهم جميع صِيصِيَة وهي ما يُتحصَّن به ولذلكَ يقالُ لقرنِ الثَّورِ والظَّبيِ وشوكةِ الدِّيكِ {وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب} الخوفَ الشَّديدَ بحيثُ أسلمُوا أنفسَهم للقتلِ وأهليهم وأولادَهم للأسرِ حسبَما ينطِق به قولُه تعالى {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} من غيرِ أن يكون من جهتِهم حَراكٌ فضلاً عن المُخالفةِ والاستعصاءِ رُوي أنَّ جبريلَ عليهِ السلام أتى رسول صلى الله عليه وسلم صبيحةَ اللَّيلةِ التي انهزمَ فيها الأحزابُ ورجعَ المُسلمون إلى المدينةِ ووضعُوا السِّلاحَ فقال أتنزعْ لأمَتك والملائكةُ ما وضعُوا السِّلاحَ إنَّ الله يأمرُك أن تسيرَ إلى بني قُريظةَ وأنا عامدٌ إليهم فأذَّن في النَّاسِ أنْ لا يصلُّوا العصرَ إلا ببني قُريظةَ فحاصرُوهم إحدى وعشرينَ أو خَمساً وعشرين ليلةً حتَّى جهدَهم الحصارُ فقال لهم تنزلُون على حُكمي فأبَوا فقالَ عَلى حُكم سُعد بن معاذٍ فرضُوا به فحكم سعد بقتل وسبيِ ذرارِيهم ونسائِهم فكبَّر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقالَ لقد حكمتَ بحُكم الله من فوقِ سبعةِ أرقعةٍ فقُتلَ منهم ستمائةُ مقاتلٍ وقيل من ثمانمائةُ إلى تسعمائةُ وأُسر سبعمائةٌ وقُرىء تأسُرونَ بضمِّ السِّينِ كما قُرىء الرُّعبُ بضمِّ العينِ ولعلَّ تأخيرَ المفعولِ في الجُملةِ الثَّانيةِ مع أنَّ مساقَ الكلامِ لتفصيلِه وتقسيمِه كما في قولِه تعالى فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ وقوله تعالى فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ لمراعاةِ الفواصلِ

27

{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم} أي حصونهم {وأموالهم} ونقودهم وأثاثَهم ومواشيهم رُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جعلَ عقارَهم للمهاجرينَ دونَ الأنصارِ فقالتِ الأنصارُ في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم إنَّكم في منازلِكم فقال عمرُ رضي الله عنه أَمَا تُخمس كما خمَّستَ يوم بدر فقال صلى الله عليه وسلم لا إنَّما جُعلتْ هذه لي طعمةً دونَ النَّاسِ قالُوا رضينَا بما صنعَ الله ورسولُه {وَأَرْضاً لَّمْ تطؤوها} أي أورثَكم في علمِه وتقديرِه أرضاً لم تقبضُوها بعدَ كفارسَ والرُّومِ وقيل كلُّ أرضٍ تُفتح إلى يومِ القيامةِ وقيلَ خيبرُ {وَكَانَ الله على كُلّ شَىْءٍ قَدِيراً} فقد شاهدتُم بعض مقدوراته من إيراثِ الأراضِي التي تسلَّمتموها فقيسُوا عليها ما عَدَاها

28

{يا أيها النبى قُل لازواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا} أي السَّعةَ والتَّنعمَ فيها {وزينتها} وزخافها {فَتَعَالَيْنَ} أي أقبلنَ بإرادتِكن واختيارِكن لإحدى الخصلتينِ كما يُقال أقبل يُخاصمني وذهبَ يُكلِّمني وقامَ يُهددني {أُمَتّعْكُنَّ} بالجزمِ جواباً للأمرِ وكذا {وأسرحكن} أي أعطكن المتعة وأطلقكن {سَرَاحاً جَمِيلاً} طلاقاً من غير ضرار وقرئ بالرَّفعِ على الاستئنافِ رُوي أنهن سألنه صلى الله عليه وسلم ثيابَ الزِّينةِ وزيادةَ النَّفقةِ فنزلت فبدأ بعائشة

الاحزاب 29 30 فخيَّرها فاختارتْ الله ورسولَه والدَّارَ الآخرةَ ثمَّ اختارتِ الباقياتُ اختيارَها فشكرَ لهنَّ الله ذلكَ فنزلَ لاَّ يحل لك النساء من بَعْدُ واختُلف في أنَّ هذا التخييرَ هل كان تفويض الطَّلاقِ إليهنَّ حتَّى يقعَ الطَّلاقُ بنفسِ الاختيارِ أولا فذهبَ الحسنُ وقَتَادةُ وأكثرُ أهلِ العلمِ إلى أنَّه لم يكُن تفويضَ الطَّلاقِ وإنَّما كانَ تخييراً لهنَّ بينَ الإرادتينِ على أنهنَّ إنْ أردنَ الدُّنيا فارقهنَّ صلى الله عليه وسلم كما ينبئ عنه قولُه تعالى فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ وَأُسَرّحْكُنَّ وذهبَ آخرون إلى أنَّه كانَ تفويضاً للطَّلاقِ إليهنَّ حتَّى لو أنهنَّ اخترنَ أنفسهنَّ كان ذلك طلاقاً وكذا اختُلف في حكمِ التَّخييرِ فقال ابنُ عمرَ وابنِ مسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهم إذَا خيَّر رجلٌ امرأتَه فاختارتْ زوجَها لا يقع شئ أصلاً ولو اختارتْ نفسَها وقعتْ طلقةً بائنةً عندنا ورجعيَّةً عند الشَّافعيِّ وهو قولُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ وابنِ أبي لَيْلَى وسفيانَ ورُوي عن زيدِ بنِ ثابتٍ أنَّها إنِ اختارتْ زوجَها يقعُ طلقةً واحدةً وإنِ اختارتْ نفسَها يقعُ ثلاثَ طَلَقاتٍ وهو قولُ الحسنِ وروايةٌ عن مالكٍ ورُوي عن عليَ رضي الله عنه أنها إن اختارت زوجها فواحدة رجعية وإن اختارتْ نفسَها فواحدةٌ بائنةٌ ورُوي عنه أيضاً أنها إنِ اختارتْ زوجَها لا يقع شئ أصلاً وعليه إجماعُ فقهاءِ الأمصارِ وقد رُوي عَنْ عائشةَ رضيَ الله عنها خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترنَاهُ ولم يعدَّه طلاقاً وتقديمُ التَّمتيعِ على التَّسريحِ من بابِ الكرمِ وفيه قطعٌ لمعاذيرهنَّ من أولِ الأمرِ والمتعةُ في المطلقةِ التي لم يُدخل بها ولم يُفرض لها صَداقٌ عند العقدِ واجبةٌ عندَنا وفيما عداهنَّ مستحبَّةٌ وهي دِرعٌ وخمارٌ وملحفةٌ بحسبِ السَّعةِ والإقتارِ إلا أنْ يكونَ نصفُ مهرِها أقلَّ من ذلكَ فحينئذٍ يجبُ لها الأقلُّ منهُما ولا يُنقص عن خمسةِ دراهمٍ

29

{وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ} أي تردنَ رسولَه وذكر الله عز وجل للإيذان بجلالة محله صلى الله عليه وسلم عندَه تعالى {والدار الاخرة} أي نعيمَها الذي لا قدرَ عندَه للدُّنيا وما فيها جميعاً {فَإِنَّ الله أَعَدَّ للمحسنات مِنكُنَّ} بمقابلةِ إحسانِهن {أَجْراً عَظِيماً} لا يقادر قدره ولا يبلغ غايتُه ومِن للتَّبيينِ لأنَّ كلَّهن محسناتٌ وتجريدُ الشَّرطيةِ الأُولى عن الوعيدِ للمبالغةِ في تحقيقِ معنى التَّخييرِ والاحترازِ عن شائبةِ الإكراهِ وهو السرُّ فيما ذُكر من تقديمِ التَّمتيعِ على التَّسريحِ وفي وصفِ السَّراح بالجميل

30

{يا نساء النبى} تلوينٌ للخطابِ وتوجيهٌ له إليهنَّ لإظهارِ الاعتناءِ بنُصحهنَّ ونداؤهن ههنا وفيما بعده بالاضافة اليه صلى الله عليه وسلم لأنَّها التي يدورُ عليها ما يردُ عليهنَّ من الأحكامِ {مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة} بكبيرةٍ {مُّبَيّنَةٍ} ظاهرةِ القُبحِ من بيَّن بمعنى تَبيَّن وقرئ بفتحِ الياءِ والمرادُ بها كلُّ ما اقترفنَ من الكبائرِ وقيل هي عصيانُهنَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهنَّ وطلبهنَّ منه ما يشقُّ عليه أو ما يضيق به ذرعُه ويغتمُّ لأجله وقرئ تأتِ بالفوقانيَّةِ {يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} أي يعذبنَّ ضعفي عذابِ غيرهنَّ أي مثليهِ لأنَّ الذنبَ منهنَّ أقبحُ فإنَّ زيادةَ قُبحه تابعةٌ لزيادةِ فضلِ المذنبِ والنعمة عليه

الاحزاب 31 33 ولذلك جُعل حدُّ الحرِّ ضعفَ حدِّ الرَّقيقِ وعُوتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما لا يُعاتب به الامم وقرئ يُضعَّف على البناءِ للمفعولِ ويُضاعف ونُضعِّف بنونِ العظمةِ على البناءِ للفاعلِ ونَصبِ العذابِ {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} لا يمنعُه عن التَّضعيفِ كونُهنَّ نساءَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بل يدعُوه إليهِ لمراعاةِ حقِّهِ

31

{ومن يقنت منكن} وقرئ بالتَّاءِ أي ومن يدُم على الطَّاعةِ {للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالحا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} مرةً على الطَّاعةِ والتَّقوى وأُخرى على طلبهن رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقناعة وحسن المعاشرة وقرئ يَعملْ بالياءِ حملاً على لفظِ مَنْ ويُؤتها على أنَّ فيهِ ضميرَ اسمِ الله تعالى {وَأَعْتَدْنَا لَهَا} في الجنَّةِ زيادةً على أجرِها المضاعفِ {رِزْقاً كَرِيماً} مرضيا

32

{يا نساء النبى لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النساء} أصلُ أحدٍ وَحَد بمعنى الواحدِ ثم وُضع في النَّفيِ مستوياً فيه المذكرُ والمؤنثُ والواحدُ والكثيرُ والمعنى لستنَّ كجماعةٍ واحدةٍ من جماعاتِ النِّساءِ في الفضلِ والشَّرفِ {إِنِ اتقيتن} مخالفةَ حكمِ الله تعالى ورضا رسولِه أو إنِ اتصفتنَّ بالتَّقوى كما هُو اللائقُ بحالِكنَّ {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول} عند مخاطبةِ النَّاسِ أي لا تُجبْن بقولِكن خاضعاً ليِّناً على سَننِ قولِ المريبات والمُومساتِ {فَيَطْمَعَ الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي فجور وريبة وقرئ بالجزمِ عطفاً على محلِّ فعل النَّهي على أنَّه نهيٌ لمريضِ القلبِ عن الطمعِ عقيب نهيهنَّ عن الإطماعِ بالقولِ الخاضعِ كأنَّه قيل فلا تخضعْنَ بالقولِ فلا يطمعَ مريضُ القلبِ {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} بعيداً عن الريبة والاطماع بحد وخشُونةٍ من غيرِ تخنيثٍ أو قولاً حسناً مع كونِه خَشِناً

33

{وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ} أمرٌ من قريقر من بابِ علَم وأصله اقرَرْنَ فحُذفتْ الرَّاءُ الأولى وألقيتْ فتحتُها عَلى ما قبلَها كَما في قولِك ظلْن أو من قارَّ يقار إذا اجتمع وقرئ بكسرِ القافِ من وَقِر يَقِر وَقَاراً إذا ثبتَ واستقرَّ وأصلُه أوقرنَ ففعل به ما فُعل بعِدن من وَعد أو من قريقر حذفت إحدى راءي اقررن ونُقلت كسرتُها إلى القافِ كما تقول ظلن {وَلاَ تَبَرَّجْنَ} أي لا تتبخترْن في مشيكنَّ {تَبَرُّجَ الجاهلية الاولى} أي تبرجاً مثلَ تبرجِ النساءِ في الجاهليةِ القديمةِ وهي ما بينَ أدمَ ونوحٍ وقيلَ ما بين إدريس ونوحٍ عليهما السَّلامُ وقيل الزَّمانُ الذي وُلد فيه إبراهيمُ عليه السَّلامُ كانت المرأة تلبس درعها من اللُّؤلؤِ فتمشِي وسطَ الطَّريقِ تعرض نفسَها على الرِّجالِ وقيل زمنُ داودُ وسليمانُ عليهما السَّلامُ والجاهليَّةُ الأُخرَى ما بينَ عيسَى ومحمَّدٍ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل الجاهلية الاولى جاهلية

الاحزاب 34 35 الكفرُ والجاهليَّةُ الأُخرى الفسوقُ في الاسلام ويؤيد قوله صلى الله عليه وسلم لأبي الدَّرداءِ إنَّ فيكَ جاهلية قال جاهليةَ كفرٍ أو جاهليةَ إسلامٍ قال بل جاهليةُ كفرٍ {وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} أُمرن بهما لإنافتِهما على غيرهما وكونهما اصلى الطَّاعاتِ البدنيةِ والماليةِ {وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ} أي في كل ما تأتن وما تذرن لا سيما فيما أمرتن به ونهيتن عنه {إنما يريد الله ليذهب عَنكُمُ الرجس} أي الذَّنبَ المدنس لعرضِكم وهو تعليلٌ لأمرهنَّ ونهيهنَّ على الاستئنافِ ولذلك عمم الحكم بتعمميم الخطابِ لغيرهنَّ وصرَّحَ بالمقصودِ حيثُ قيل بطريقِ النِّداءِ أو المدحِ {أَهْلَ البيت} مُراداً بهم من حَواهم بيتُ النُّبوة {وَيُطَهّرَكُمْ} من أوضارِ الأوزارِ والمَعاصي {تَطْهِيراً} بليغاً واستعارةُ الرِّجسِ للمعصيةِ والتَّرشيحُ بالتَّطهيرِ لمزيدِ التَّنفيرِ عنها وهذهِ كما ترى آيةٌ بينةٌ وحجَّةٌ نيرةٌ على كونِ نساءِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من أهلِ بيتِه قاضيةً ببُطلان رأيِ الشِّيعةِ في تخصيصهم أهل البيتِ بفاطمةَ وعليَ وابنيهما رضوانُ الله عليهم وأمَّا ما تمسكوا به من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجَ ذاتَ غُدوةٍ وعليه مرط مرجل من شَعَرٍ أسودَ وجلسَ فأتتْ فاطمةُ فأدخلَها فيهِ ثم جاءَ عليٌّ فأدخلَه فيه ثم جاء الحسنُ والحسينُ فأدخلَهما فيهِ ثمَّ قال إنَّما يُريد الله ليُذهبَ عنكم الرِّجسَ أهلَ البيتِ فإنَّما يدلُّ على كونِهم من أهلِ البيتِ لاعلى أنَّ من عداهم ليسُوا كذلك ولو فُرضت دلالتُه على ذلك لما اعتدَّ بها لكونِها في مُقابلةِ النَّصِّ

34

{واذكرن مَا يتلى فِى بُيُوتِكُنَّ} أي اذكُرن للنَّاس بطريقِ العظةِ والتَّذكيرِ ما يُتلى في بيوتكنَّ {مِنْ آيات الله والحكمة} من الكتابِ الجامعِ بين كونِه آياتِ الله البينةِ الدَّالَّةِ على صدقِ النُّبوةِ بنظمِه المُعجزِ وكونِه حكمةً منطويةً على فُنونِ العلومِ والشَّرائعِ وهو تذكيرٌ بما أنعم عليهنَّ حيثُ جعلهنَّ أهلَ بيتِ النُّبوةِ ومهبِطِ الوحيِ وما شاهدْن من بُرَحاءِ الوحيِ ممَّا يُوجب قوةَ الإيمانِ والحرصَ على الطَّاعةِ حثًّا على الانتهاءِ والائتمارِ فيما كُلّفنه والتعرضُ للتِّلاوةِ في البيوت دون النزول فيها مع أنَّه الأنسبُ لكونِها مهبطَ الوحيِ لعمومِها لجميعِ الآياتِ ووقوعِها في كلِّ البيوتِ وتكرُّرِها الموجبِ لتمكنهنَّ من الذِّكرِ والتَّذكيرِ بخلافِ النزولِ وعدمُ تعيينِ التَّالي لتعمَّ تلاوةَ جبريلَ وتلاوةَ النبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ وتلاوتهنَّ وتلاوةَ غيرهنَّ تعليماً وتعلُّماً {إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} يعلمُ ويدبِّرُ ما يصلحُ في الدِّينِ ولذلك فعلَ ما فعلَ من الأمرِ والنَّهيِ أو يعلمُ مَن يصلُح للنُّبوةِ ومن يستأهلُ أنْ يكونَ من أهلِ بيتِه

35

{إِنَّ المسلمين والمسلمات} أي الدَّاخلينَ في السِّلمِ المُنقادينَ لحكمِ الله تعالى من الذُّكورِ والإناثِ {والمؤمنين والمؤمنات} المصدِّقينَ بما يجبُ أنْ يصدق

الاحزاب 36 37 بهِ من الفريقينِ {والقانتين والقانتات} المداومين على الطاعة القائمينَ بها {والصادقين والصادقات} في القولِ والعملِ {والصابرين والصابرات} على الطَّاعاتِ وعَنِ المَعَاصي {والخاشعين والخاشعات} المتواضعينَ لله بقلوبِهم وجوارحِهم {والمتصدقين والمتصدقات} بما وجبَ في مالِهم {والصائمين والصائمات} الصَّومَ المفروضَ {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات} عن الحرام {والذاكرين الله كثيرا والذاكرات} بقلوبِهم وألسنتِهم {أَعَدَّ الله لَهُمْ} بسببِ ما عمِلوا من الحسناتِ المذكورةِ {مغفرة} اقترفُوا من الصَّغائرِ لأنهنَّ مكفراتٌ بما عملُوا من الأعمالِ الصَّالحةِ {وَأَجْراً عَظِيماً} على ما صدرَ عنهُم من الطاعات والايات وعدلهن ولأمثالِهنَّ على الطَّاعةِ والتَّدرعِ بهذهِ الخصالِ الحميدةِ رُوي أن أزواج النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ورضي عنهنَّ قلنَ يا رسولَ الله ذَكَر الله الرِّجالَ في القرآنِ بخيرٍ فما فينا خيرٌ نذكرُ به إنَّا نخافُ أنْ لا تقبل منَّا طاعةٌ فنزلتْ وقيلَ السَّائلةُ أمُّ سلمةَ ورُوي أنَّه لمَّا نزلَ في نساء النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ما نزلَ قالَ نساءُ المؤمنينَ فما نزلَ فينا شئ فنزلتْ وعطفُ الإناثِ على الذُّكورِ لاختلافِ الجنسينِ وهو ضروريٌّ وأمَّا عطفُ الزَّوجينِ على الزَّوجينِ فلتغايرِ الوصفينِ فلا يكونُ ضرورياً ولذلكَ تُرك في قولِه تعالى مسلمات مؤمنات وفائدتُه الدِّلالةُ على أنَّ مدارَ إعدادِ ما أُعدَّ لهُم جمعُهم بين هذهِ النُّعوتِ الجميلةِ

36

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ} أي ما صحَّ وما استقامَ لرجلٍ ولا امرأةٍ من المؤمنينَ والمؤمناتِ {إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً} أيْ إذا قضَى رسولُ الله وذكرُ الله تعالى لتعظيم امره صلى الله عليه وسلم أو للإشعارِ بأنَّ قضاءَهُ صلى الله عليه وسلم قضاءُ الله عزَّ وجلَّ لأنَّه نزلَ في زينبَ بنتِ جحشٍ بنتِ عمَّتِه أميمةَ بنتِ عبدِ المُطَّلبِ خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيدِ بنِ حارثةَ فأبتْ هيَ وأخُوها عبدُ اللَّه وقيلَ في أمِّ كُلثوم بنتِ عقبةَ بنِ أبي معيطٍ وهبتْ نفسَها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فزوَّجها من زيدٍ فسخطتْ هي وأخُوها وقالا إنَّما أردنا الله ورسول الله فزوَّجنا عبدَه {أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ} أنْ يختارُوا من أمرِهم ما شاءوا بل يجبُ عليهم أنْ يجعلُوا رايهم تبعا لرأيه صلى الله عليه وسلم واختيارهم تلو الاختيار وجمعُ الضَّميرينِ لعمومِ مؤمنٍ ومؤمنةٍ لوقوعِهما في سياقِ النَّفيِ وقيل الضَّميرُ الثَّانِي الرسول صلى الله عليه وسلم والجمع للتعظيم وقرئ تكونَ بالتَّاءِ {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} في أمرٍ من الأمورِ ويعملْ فيهِ برأيِه {فَقَدْ ضَلَّ} طريقَ الحق {ضلال مُّبِينٍ} أي بيِّن الانحرافِ عن سَنَنِ الصَّوابِ

37

{وَإِذْ تَقُولُ} أي واذكُر وقتَ قولِك {لِلَّذِى أَنعَمَ الله عليه} بتوفيقه

الاحزاب 38 للإسلامِ وتوفيقِك لحسنِ تربيتِه ومراعاتِه {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالعملِ بما وفَّقك الله له من فنونِ الإحسانِ التي من جُملتها تحريرُه وهو زيد بنُ حارثةَ وإيرادُه بالعنوانِ المذكورِ لبيانِ منافاةِ حالِه لما صدرَ عنه صلى الله عليه وسلم من إظهارِ خلافِ ما في ضميرِه إذ هُو إنَّما يقعُ عند الاستحياءِ أو الاحتشامِ وكلاهما ممَّا لا يُتصور في حقِّ زيدٍ {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} أي زينبَ وذلك أنَّه صلى الله عليه وسلم أبصرَها بعد ما أنكحَها إيَّاه فوقعتْ في نفسِه حالةٌ جبلِّيةٌ لا يكادُ يسلمُ منها البشرُ فقالَ سبحانَ الله مقلبِ القلوبِ وسمعتْ زينبُ بالتَّسبيحةِ فذكرتْها لزيدٍ ففطِن لذلكَ ووقعَ في نفسِه كراهةُ صُحبتِها فاتى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقال أريدُ أنْ أفارقَ صاحبتي فقال مالك أرابك منها شئ قال لا والله ما رأيتُ منها إلا خيراً ولكنَّها لشرفِها تتعظمُ عليَّ فقال له أمسكْ عليكَ زوجَك {واتق الله} في أمرِها فلا تُطلقها إضراراً وتعللاً بتكبّرها {وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} وهو نكاحُها إنْ طلَّقها أو إرادةُ طلاقِها {وَتَخْشَى الناس} تعييرَهم إيَّاك به {والله أَحَقُّ أَن تخشاه} إنْ كانَ فيه ما يُخشى والواوُ للحالِ وليستْ المعاتبةُ على الإخفاءِ وحدَه بل على الإخفاءِ مخافةَ قالةِ النَّاسِ وإظهارِ ما ينافى إضمار فإنَّ الأَولى في أمثالِ ذلك أنْ يصمتَ أو يُفوِّضَ الأمرَ إلى ربِّه {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً} بحيثُ لم يبقَ له فيها حاجةٌ وطلَّقها وانقضتِ عدَّتُها وقيل قضاءُ الوَطَرِ كنايةٌ عن الطَّلاقِ مثلُ لا حاجةَ لي فيك {زوجناكها} وقرئ زوَّجتكها والمرادُ الأمرُ بتزويجِها منه صلى الله عليه وسلم وقيل جعَلَها زوجتَه بلا واسطةِ عقدٍ ويُؤيده أنَّها كانتْ تقولُ لسائرِ نساءِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إنَّ الله تعالى تولَّى نكاحي وأنتنَّ زوجكنَّ أولياؤكنَّ وقيل كان زيدٌ السَّفيرَ في خطبتِها وذلك ابتلاءٌ عظيمٌ وشاهدُ عدلٍ بقوَّةِ إيمانه {لكي لا يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ} ضيقٌ ومشقَّةٌ {فِى أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} أي في حقِّ تزوجهن {إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً} فإنَّ لهم فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حسنة وفيه دلالة على أن حكمه صلى الله عليه وسلم وحكمَ الأمَّة سواءٌ إلا ما خصَّه الدَّليلُ {وَكَانَ أَمْرُ الله} أي ما يرتد تكوينَه من الأمورِ أو مأموره الخاص بكُنْ {مَفْعُولاً} مكوناً لا محالةَ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبلَه

38

{مَّا كَانَ عَلَى النبى مِنْ حَرَجٍ} أي ما صحَّ وما استقامَ في الحكمةِ أن يكونَ له ضيقٌ {فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ} أي قسمَ له وقدَّر من قولِهم فرَضَ له في الدِّيوانِ كذا ومنه فروضُ العساكرِ لأعطياتِهم {سُنَّةَ الله} اسمٌ موضوعٌ موضع المصدر كقولهم ترابا وجنَدْلاَ مؤكدٌ لما قبلَه من نفيِ الحرجِ أي سنَّ الله ذلك سُنَّةً {فِى الذين خَلَوْاْ} مضَوا {مِن قَبْلُ} من الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام حيث وسَّع عليهم في بابِ النِّكاحِ وغيره ولقد كانتْ لداودَ عليه السَّلامُ مائة امرأة وثلثمائة سرّية ولسليمان عليه السلام ثلثمائة امرأة وسبعمائة وقولُه تعالَى {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} أي قضاءً مقضيَّا وحُكما مبتوتاً اعتراضٌ وُسِّط بين الموصولينِ الجاريينِ مجرى الواحدِ للمسارعةِ إلى تقريرِ نفيِ الحَرجِ وتحقيقه

الاحزاب 39 42

39

{الذين يُبَلّغُونَ رسالاتِ الله} صفةٌ للذين خَلَوا أو مدحٌ لهم بالنَّصبِ أو بالرفع وقرئ رسالةَ الله {وَيَخْشَوْنَهُ} في كلِّ ما يأتُون ويذرُون لا سيِّما في أمرِ تبليغِ الرِّسالةِ حيثُ لا يخرمُون منها حرَفاً ولا تأخذُهم في ذلكَ لومةُ لائمٍ {وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله} في وصفِهم بقصرِهم الخشيةَ على الله تعالى تعريض بما صدَرَ عنه صلى الله عليه وسلم من الاحترازِ عن لائمةِ الخلقِ بعد التَّصريحِ في قولِه تعالى وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تخشاه {وكفى بالله حَسِيباً} كافياً للمخاوفِ فينبغي أنْ لا يُخشى غيرُه أو محاسباً على الصَّغيرةِ والكبيرةِ فيجبُ أنْ يكونَ حقُّ الخشيةِ منْهُ تعالى

40

{مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ} أي على الحقيقة حتى يثبتُ بينَهُ وبينَهُ ما يثبت بين الولد وولدِه من حُرمةِ المُصاهرة وغيرِها ولا ينتقضُ عمومُه بكونه صلى الله عليه وسلم ابا الطاهر والقاسمِ وإبراهيمَ لأنهم لم يبلغوا الحُلُمَ ولو بلغُوا لكانوا رجالا له صلى الله عليه وسلم لا لَهمُ {ولكن رَّسُولَ الله} أي كانَ رسولاً لله وكلُّ رسولٍ أبُو أمَّتهِ لكنْ لا حقيقةً بل بمعنى أنَّه شفيقٌ ناصحٌ لهم وسببٌ لحياتِهم الابدية وما زيدٌ إلا واحدٌ من رجالِكم الذين لا ولادة بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم فحكمه حكمُهم وليس للتبنِّي والادِّعاءِ حكمٌ سوى التَّقريبِ والاختصاصِ {وَخَاتَمَ النبيين} أي كان آخرهم الذي خُتموا به وقُرىء بكسر التَّاءِ أي كان خاتمِهم ويؤيده قراءةُ ابنِ مسعود ولكنْ نبياً ختَم النبيِّينَ وأيّاً ما كانَ فلو كانَ له ابنٌ بالغٌ لكان نبيّاً ولم يكنُ هو صلى الله عليه وسلم خاتمَ النبيِّينَ كما يُروى أنَّه قالَ في إبراهيمَ حينَ تُوفِّي لو عاشَ لكانَ نبيّاً ولا يقدحُ فيه نزولُ عيسىَ بعدَهُ عليهما السَّلامُ لانَّ معنى كونِه خاتمَ النبيِّينَ أنَّه لا ينبأ احد بعده وعيسى ممَّن نُبِّىء قبلَه وحينَ ينزلُ إنَّما ينزلُ عملا على شريعةِ محمدٍ صلَّى الله عليه وسلم مُصلِّياً إلى قبلتِه كأنَّه بعضُ أمَّتهِ {وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيماً} ومن جُملتهِ هذهِ الأحكامُ والحِكمُ التي بيَّنها لكُم وكنتمُ منها في شكَ مريبٍ

41

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اذكروا الله} بما هُو أهلُه من التَّهليلِ والتحميد والتَّمجيدِ والتقديس {ذِكْراً كَثِيراً} يعمُّ الأوقاتِ والأحوالَ

42

{وَسَبّحُوهُ} ونزِّهوه عمَّا لا يليقُ به {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي أوَّلَ النَّهارِ وآخرَه على أنَّ تخصيصَهُما بالذِّكرِ ليسَ لقصرِ التَّسبيحِ عليهما دُونَ سائرِ الأوقاتِ بل لإبانةِ فضلِهما على سائرِ الأوقاتِ لكونِهما مشهُودينِ كأفرادِ التَّسبيحِ من بينِ الأذكارِ مع اندراجهِ فيها لكونِه العُمدةَ فيها وقيل كِلا الفعلينِ متوجهٌ إليهما كقولِك صُمْ وصَلِّ يومَ الجمعةِ وقيلَ المرادُ بالتَّسبيحِ الصَّلاةُ

الاحزاب 43 45

43

{هُوَ الذى يُصَلّى عَلَيْكُمْ} الخ استئنافٌ جارٍ مجرى التعليل لما قبله من الأمرينِ فإنَّ صلاتَهُ تعالى عليهم مع عدمِ استحقاقِهم لها وغناهُ عن العالمينَ ممَّا يُوجبُ عليهم المُداومةَ علَى ما يستوجبُه تعالى عليهم من ذكرِه تعالى وتسبيحِه وقوله تعالى {وملائكته} عطفٌ على المستكنِّ في يصلِّي لمكانِ الفصلِ المغنيِّ عن التَّأكيدِ بالمنفصلِ لكنْ لا على أنْ يُرادَ بالصَّلاةِ الرَّحمةُ أوَّلاً والاستغفارُ ثانياً فإنَّ استعمالَ اللَّفظِ الواحدِ في معنيينِ مُتغايرينِ ممَّا لا مساغَ له بل عَلى أنْ يُرادَ بهما معنى مجازيٌّ عامٌّ يكون كلا المعنيينِ فرداً حقيقياً له وهو الاعتناءُ بما فيهِ خيرُهم وصلاحُ أمرِهم فإنَّ كُلاًّ منَ الرَّحمةِ والاستغفارِ فردٌ حقيقيٌّ له أو التَّرحُّمُ والانعطافُ المعنويُّ المأخوذُ من الصَّلاةِ المُشتملةِ على الانعطافِ الصُّوري الذي هو الرُّكوعُ والسُّجودُ ولا ريبَ في أنَّ استغفارَ الملائكةِ ودعاءَهم للمؤمنينَ تَرحُّمٌ عليهم وأمَّا أنَّ ذلك سببٌ للرَّحمةِ لكونِهم مُجابي الدَّعوةِ كما قيلَ فاعتبارُه ينزعُ إلى الجمعِ بينَ المعنيينِ المُتغايرينِ فتدبَّرْ {لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ الظلمات إِلَى النور} متعلق بيصلِّي أي يعتني بأمورِكم هو وملائكتُه ليخرجَكم بذلك من ظلماتِ المعصيةِ إلى نُور الطَّاعةِ وقولُه تعالى {وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً} اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله أي كانَ بكافَّة المُؤمنينَ الذين انتم من زمرتم رحيماً ولذلك يَفعل بكم ما يفعلُ من الاعتناءِ بإصلاحِكم بالذَّاتِ وبالواسطةِ ويهديكم إلى الإيمانِ والطَّاعةِ أو كانَ بكُم رحيماً على أنَّ المُؤمنين مُظهرٌ وُضعَ موضع المضمر مدحا لهم وإشعاراً بعلَّة الرَّحمةِ وقولُه تعالى

44

{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام} بيانٌ للأحكامِ الآجلةِ لرحمةِ الله تعالى بهم بعدَ بيانِ آثارها العاجلةِ التي هي الاعتناءُ بأمرِهم وهدايتُهم إلى الطَّاعةِ أي ما يُحيَّون به على أنَّه مصدرٌ أُضيفَ إلى مفعولِه يومَ لقائِه عند الموتِ أو عندَ البعثِ منَ القُبورِ أو عندَ دخولٍ الجنَّةِ تسليم عليهم منَ الله عزَّ وجَلَّ تعظيماٍ لهُم أو منَ الملائكةِ بشارةً لهم بالجنَّةِ أو تكرمة لهُم كما في قولِه تعالى والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام عَلَيْكُمُ أو إخبارٌ بالسَّلامةِ عن كلِّ مكروهٍ وآفةٍ وقولُه تعالى {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} بيانٌ لأثارِ رحمتِه الفائضةِ عليهم بعدَ دُخولِ الجنَّةِ عقيبَ بيانِ آثارِ رحمتِه الواصلةِ إليهم قبلَ ذلكَ ولعلَّ إيثارَ الجملةِ الفعليةِ على الإسمية المناسبة لما قبلها بأن يقال مثلاً وأجرهم أجر كريم أو ولهم أجر كريم للمبالغة في التَّرغيبِ والتَّشويقِ إلى الموعُودِ ببيانِ أنَّ الأجرَ الذي هُو المقصِدُ الأقصى مِنْ بينِ سائرِ آثارِ الرَّحمةِ موجود بالفعل مهيأ لهم مع ما فيه من مراعاة الفواصل

45

{يا أيها النبى إِنَّا أرسلناك شَاهِداً} على مَن بُعثتَ إليهم تُراقبُ أحوالهم وتُشاهدُ أعمالَهم وتتحمَّلُ منهم الشَّهادةَ بما صدرَ عنهُم منَ التَّصديقِ والتَّكذيبِ وسائرِ ما هُم عليهِ من الهدى والضَّلالِ وتُؤدِّيها يومَ القيامةِ أداءً مقبولا

الاحزاب 46 49 فيما لهُم وما عليهم وهو حالٌ مقَّدرةٌ {وَمُبَشّراً وَنَذِيراً} تُبشر المؤُمنينَ بالجنَّةِ وتُنذرُ الكافرينَ بالنَّارِ

46

{وَدَاعِياً إِلَى الله} أي إلى الإقرارِ به وبوحدانيَّتِه وبسائرِ ما يجبُ الإيمانُ بهِ من صفاتِه وأفعالِه {بِإِذْنِهِ} أي بتيسيرِه أُطلق عليه مجازاً لمَا أنَّه من أسبابِه وقُيِّدَ به الدَّعوةُ إيذاناً بأنَّها أمرٌ صعبُ المنالِ وخَطبٌ في غايةِ الإعضالِ لا يتأتَّى إلا بإمدادٍ من جنابِ قُدسِه كيفَ لا وهُو صرفٌ للوجوهِ عن القُبل المعبودةِ وإدخالِ الأعناق في قِلادة غيرِ معهودةٍ {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} يُستضاءُ به في ظلمات الجهل والغواية ويُهتدى بأنوارِه إلى مناهجِ الرُّشدِ والهدايةِ

47

{وَبَشّرِ المؤمنين} عطفٌ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ ويستدعيهِ النظامُ كأنَّه قيل فراقبْ أحوالَ النَّاسِ وبشِّرِ المؤمنين منهُم {بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً} أي على مُؤمني سائرِ الأممِ في الرُّتبةِ والشَّرفِ أو زيادةً على أجورِ أعمالِهم بطريقِ التَّفضلِ والإحسانِ

48

{وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} نهيٌ عن مداراتِهم في أمرِ الدَّعوةِ واستعمالِ لينِ الجانبِ في التبليغِ والمسامحةِ في الإنذارِ كُني عن ذلكَ بالنَّهيِ عن طاعتِهم مبالغة في الزجر والتنفيرِ عن المنهيِّ عنه بنظمه في سلكِها وتصويرِه بصورتِها ومن حمل النهي على التَّهييجِ والإلهابِ فقَدْ أبعدَ عنِ التَّحقيقِ بمراحلَ {وَدَعْ أذاهم} أي لاتبال بأذيَّتِهم لك بسببِ تصلبكَ في الدَّعوةِ والإنذارِ {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} في كلِّ ما تأتِي وما تذرُ من الشئون التي من جملتها هذا الشَّأنُ فإنَّه تعالى يكفيكهُم {وكفى بالله وَكِيلاً} موكُولاً إليهِ الأمورُ في كلِّ الأحوالِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضعِ الإضمارِ لتعليلِ الحكمِ وتأكيدِ استقلالِ الاعتراضِ التذييل ولما وصف صلى الله عليه وسلم بنعوتٍ خمسةٍ قُوبل كلٌّ منها بخطابٍ يُناسبه خلاَ أنَّه لم يُذكر مقابلَ الشَّاهدِ صَريحاً وهُو الأمرُ بالمراقبةِ ثقةً بظهورِ دلالةِ مقابلِ المبشَّر عليهِ وهو الأمرُ بالتَّبشيرِ حسبما ذُكر آنِفاً وقُوبلَ النَّذيرُ بالنَّهيِ عن مُداراةِ الكُفَّارِ والمُنافقين والمُسامحةِ في إنذارِهم كما تحققَتُه وقُوبل الدَّاعِي إلى الله بإذنه بالامر بالتوكل عليهِ منْ حيثُ إنَّه عبارةٌ عن الاستمدادِ منه تعالى والاستعانةِ به وقُوبل السِّراجُ المنيرُ بالاكتفاءِ به تعالى فإنَّ من أيَّده الله تعالىَ بالقُوَّة القُدسيةِ ورشَّحه للنُّبوةِ وجعلَه بُرهاناً نيِّراً يهدي الخلقَ من ظلماتِ الغَيِّ إلى نورِ الرِّشادِ حقيقٌ بأنْ يَكتفي بهِ عن كلِّ ما سواهُ

49

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} أي تجامعوهنَّ وقُرىء تُماسُّوهن بضمِّ التَّاءِ {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} بأيامٍ يتربصنَّ فيها بأنفسهنَّ {تَعْتَدُّونَهَا} تستوفونَ عددَها من عددتُ الدَّراهمَ فاعتدَّها وحقيقتُه عدُّها لنفسِه وكذلك كِلتُه فاكتَالَهُ والإسنادُ إلى الرَّجالِ للدَّلالةِ على أنَّ العِدَّةَ حق

الاحزاب 50 الأزواجِ كما أشعرَ به قولُه تعالى فما لَكُم وقُرىء تَعْتَدُونها على إبدالِ إحدى الدَّالينِ بالتَّاءِ أو على أنَّه من الاعتداءِ بمعنى تعتدُون فيها والخلوةُ الصَّحيحةُ في حكمِ المسِّ وتخصيصُ المؤمناتِ مع عمومِ الحكم للكتابيات للتنبيه على أنَّ المؤمنَ من شأنِه أنْ يتخَّيرَ لنطفتةِ ولا ينكحُ إلاَّ مؤمنةً وفائدةُ ثمَّ إزاحةُ ما عسى يُتوهَّم أنَّ تراخِيَ الطَّلاقِ ريثما تمكنُ الإصابةُ يؤثر في العِدَّةِ كما يُؤثر في النَّسبِ {فَمَتّعُوهُنَّ} أي إنْ لم يكُن مفروضاً لها في العقدِ فإن الواجبَ للمفروضِ لها نصفُ المفروض دُونَ المُتعةِ فإنها مستحبَّةٌ عندنَا في روايةٍ وفي أُخرى غيرُ مستحبَّةٍ {وَسَرّحُوهُنَّ} أخرجُوهنَّ من منازلِكم إذْ ليسَ لكُم عليهنَّ عَّدةٌ {سَرَاحاً جَمِيلاً} من غيرِ ضرارٍ ولا منعِ حقَ ولا مساغَ لتفسيرِه بالطَّلاقِ السُّنيِّ لأنَّه إنَّما يتسنَّى في المدخُولِ بهنَّ

50

{يا أيها النبى إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك اللاتي آتيت أُجُورَهُنّ} أي مهورهِنَّ فإنَّها أجورُ الأبضاعِ وإيتاؤها إمَّا إعطاؤُها معجَّلةً أو تسميتُها في العقدِ وأيّاً ما كانَ فتقييدُ الإحلالِ له صلى الله عليه وسلم به ليسَ لتوقفِ الحلِّ عليه ضرورةَ أنَّه يصحُّ العقدُ بلا تسميةٍ ويجبُ مهرُ المثلِ أو المتعةُ على تقديرَيْ الدُّخولِ وعدمِه بل لإيثارِ الأفضلِ والأولى له صلى الله عليه وسلم كتقييدِ إحلالِ المملوكةِ بكونِها مسْبيةً في قولِه تعالى {وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْكَ} فإنَّ المُشتراةَ لا يتحققُ بدءُ أمرِها وما جَرى عليها وكتقييد القرائبِ بكونهنَّ مهاجراتٍ معه في قولِه تعالى {وَبَنَاتِ عَمّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك اللاتى هاجرن مَعَكَ} ويحتملُ تقييدَ الحلِّ بذلكَ في حقه صلى الله عليه وسلم خاصَّة ويعضدُه قولُ أمِّ هانئ بنتِ أبي طالبٍ خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرتُ إليه فعذرَني ثم أنزلَ الله هذه الآيةَ فلم أحِلَّ له لأنِّي لم أُهاجر معه كنتُ من الطُّلقاءِ {وامرأة مُّؤْمِنَةً} بالنَّصبِ عطفاً على مفعولِ أحللنَا إذْ ليسَ معناهُ إنشاءَ الإحلالِ النَّاجزِ بل إعلامَ مطلقِ الاحلالِ المنتظمِ لما سبق ولحق وقرئ بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي أحللناهَا لكَ أيضاً {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ} أي مَّلكتْه بُضعَها بأيِّ عبارةٍ كانتْ بلا مهٍر إنْ اتفقَ ذلك كما ينبئ عنه تنكيرُها لكنْ لا مطلقاً بل عندَ إرادتِه صلى الله عليه وسلم استنكاحَها كما نطقَ به قوله عز وجل {أن أَرَادَ النبى أَن يَسْتَنكِحَهَا} أي أنْ يتملَّكَ بُضعَها كذلكَ أي بلا مهرٍ فإنَّ ذلكَ جارٍ منه صلى الله عليه وسلم مَجرى القبولِ وحيثُ لم يكنُ هذا نصَّاً في كونِ تمليِكها بلفظِ الهبةِ لَم يصلُحْ أنّ يكونَ مَنَاطاً للخلافِ في انعقادِ النكاح بلفظ الهبة إيجابا أو سلباً واختُلف في اتفاقِ هذا العقدِ فعنِ ابن عباس رضي الله عنهما لم يكن عنده صلى الله عليه وسلم أحدٌ منهنَّ بالهبةِ وقيل الموهوبات أربعٌ ميمونةُ بنتُ الحرث وزينب بنتُ خُزيمةَ الأنصاريَّة وأمُّ شريكِ بنتُ جابر وخولة بنت حكيم وإيراده صلى الله عليه وسلم في الموضعين

الاحزاب 51 بعُنوان النُّبوةِ بطريقِ الالتفاتِ للتكرمةِ والإيذانِ بأنَّها المناطُ لثبوتِ الحُكمِ فيختصُّ به صلى الله عليه وسلم حسب اختصاصها به كما ينطق به قوله تعالى {خَالِصَةً لَّكَ} أي خلصَ لك إحلالُها خالصةً أي خُلوصاً فإنَّ الفاعلةَ في المصادرِ غيرُ عزيزٍ كالعافيةِ والكاذبةِ أو خلصَ لك إحلالُ ما أحللنَا لكَ من المذكُوراتِ على القُيودِ المذكورةِ خالصةً ومَعنى قولِه تعالى {مِن دُونِ المؤمنين} على الأولِ أنَّ الإحلالَ المذكورَ في المادَّةِ المعهُودةِ غير متحقق في حقهم وإنَّما المتحقِّقُ هناك الإحلالُ بمهر المثل وعلى الثاني أنَّ إحلالَ الجميعِ على القُيودِ المذكورةِ غير متحقِّقٍ في حقِّهم بل المتحقِّقُ فيه إحلالُ البعضِ المعدودِ على الوجه المعهود وقرئ خالصةٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي ذلكَ خلوصٌ لك وخصوصٌ أو هيَ أيْ تلك المرأةُ أو الهبةُ خالصةٌ لك لا تتجاوزُ المؤمنينَ حيث لا تحل لهم بغيرِ مهرٍ ولا تصحُّ الهبةُ بل يجبُ مهر المثلِ وقولُه تعالى {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} أي على المؤمنين {فِى أزواجهم} أي في حقِّهنَّ اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَه من خلوصِ الإحلالِ المذكور لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم تجاوزِه للمؤمنينَ ببيانِ أنَّه قد فُرض عليهم منْ شرائطِ العقدِ وحقوقِه ما لم يُفرضْ عليه صلى الله عليه وسلم تكرمةً له وتوسعةً عليهِ أي قد علمنَا ما ينبغِي أنْ يُفرض عليهم في حقِّ أزواجِهم {وَمَا مَلَكَتْ أيمانهم} وعلى أيِّ حدَ وأيِّ صفةٍ يحقُّ أن يُفرضَ عليهم ففرضنا ما فرضنا على ذلك الوجه وخصصناك ببعضِ الخصائصِ {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} أي ضيقٌ واللامُ متعلقةٌ بخالصةٍ باعتبار ما فيها من معَنى ثبوتِ الإحلالِ وحصوله له صلى الله عليه وسلم لا باعتبارِ اختصاصه به صلى الله عليه وسلم لأنَّ مدارَ انتفاءِ الحرجِ هو الأوَّلُ لا الثَّانِي الذي هو عبارة عن عدمُ ثبوتِه لغيرِه {وَكَانَ الله غَفُوراً} لما يعسرُ التَّحرزُ عنه {رَّحِيماً} ولذلكَ وسَّع الأمرَ في مواقعِ الحَرَجِ

51

{تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ} أيْ تُؤخِّرها وتتركُ مضاجعتَها {وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء} وتضمُّ إليكَ مَن تشاءُ منهنَّ وتُضاجعها أو تطلِّق مَن تشاءُ منهنّ وتُمسك من تشاء وقرئ ترجئ بالهمزةِ والمعنى واحدٌ {وَمَنِ ابتغيت} أي طلبتَ {مِمَّنْ عزلت} طلقت بالرجعية {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} في شئ مَّما ذُكر وهذه قسمةٌ جامعةٌ لما هو الغرضُ لأنَّه إمَّا أنْ يطلِّقَ أو يمسكَ فإذا أمسكَ ضاجعَ أو تركَ وقسمَ أو لم يقسم وإذا طلِّق فإمَّا أنْ يخلِّيَ المعزولةَ أو يبتغيَها ورُوي أنَّه أَرْجى منهنَّ سَوْدةَ وجُويريةَ وصفيَّةَ وميمُونةَ وأمَّ حبيبةٍ فكانَ يقسمُ لهنَّ ما شاءَ كما شاءَ وكانتْ ممَّا آوى إليهِ عائشةُ وحفصةُ وأمُّ سلمةٍ وزينبُ وأرجَى خمْساً وآوى أربعاً ورُوي أنَّه كان يُسوِّي بينهنَّ مع ما أُطلق له وخُيِّر إلا سودَة فإنَّها وهبتْ ليلتَها لعائشة رضى الله عنهن وقالتْ لا تُطلِّقْني حَتَّى أُحشرَ في زُمرةِ نسائكِ {ذلك} أي ما ذكر من تفويضِ الأمرِ إلى مشيئتِك {أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بما آتيتهن كُلُّهُنَّ} أي أقربُ إلى قُرَّةِ عُيونهنَّ ورضاهنَّ جميعاً لأنَّه حكمٌ كلُّهنَّ فيهِ سواءٌ ثمَّ إنْ سَوَّيتَ بينهنَّ وجدنَ ذلكَ تفضُّلاً منكَ وإنْ رجَّحت بعضهنَّ علمن

الاحزاب 52 أنَّه بحكمِ الله فتطمئنَّ به نفوسهن وقرئ تُقِرَّ بضمِّ التَّاءِ ونصب أعينهنَّ وتُقَرُّ على البناءِ للمفعول وكلهنَّ تأكيدٌ لنونِ يرضينَ وقرى بالنَّصبِ على أنَّه تأكيدٌ لهنَّ {والله يَعْلَمُ مَا فِى قُلُوبِكُمْ} من الضَّمائرِ والخواطرِ فاجتهدُوا في إحسانِها {وَكَانَ الله عَلِيماً} مُبالغاً في العلمِ فيعلمُ كلَّ ما تُبدونَهُ وتُخفونَهُ {حَلِيماً} لا يُعاجلُ بالعقوبةِ فلا تغترُّوا بتأخيرِها فإنَّه إمهالٌ لا إهمالٌ

52

{لا يحل لك النساء} بالياءِ لأنَّ تأنيثَ الجمعِ غيرُ حقيقيَ ولوجودِ الفصلِ وقرئ بالتاء {مِن بَعْدُ} أي من بعدِ التِّسعِ وهو في حقِّه كالأربعِ في حقِّنا وقالَ ابنُ عبَّاسٍ وقَتَادةُ من بعدِ هؤلاء التَّسعِ اللاتِي خيرتهنَّ فاخترنَك وقيلَ من بعد اختيارِهنَّ الله ورسولَه ورضاهنَّ بما تؤتيهنَّ من الوصلِ والهُجرانِ {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ} أي تتبدلَ بحذفِ إحدى التَّاءينِ {بِهِنَّ} أي بهؤلاءِ التِّسعِ {مِنْ أَزْوَاجٍ} بأنْ تُطلقَ واحدةً منهنَّ وتنكحَ مكانَها أُخرى ومنْ مزيدةٌ لتأكيدِ الاستغراقِ أرادَ الله تعالى لهنَّ كرامةً وجزاءً على ما اخترنَ ورضينَ فقصرَ رسولَه عليهنَّ وهنَّ التِّسعُ اللاتي توفى صلى الله عليه وسلم عنهنَّ وهُنَّ عائشةُ بنتُ أبي بكرٍ وحفصةُ بنتُ عمرَ وأمُّ حبيبةٍ بنتُ ابي سفيان وسَوْدةُ بنتُ زَمْعَه وأمُّ سلمةَ بنتُ أبي أُميَّة وصفية بنت حيي الخيبرية وميمونة بنت الحرث الهلالية وزينب بنت جحش الاسدية وجويرية بنت الحرث المصطلِقيةُ وقالَ عكرمةُ المعنى لا يحل لك النساء من بعدِ الاجناسِ الأربعةِ اللاتِي أحللناهنَّ لكَ بالصِّفةِ التي تقدَّم ذكرُها من الأعرابياتِ والغرائبِ أو من الكتابياتِ أو من الإماءِ بالنِّكاحِ ويأباهُ قولُه تعالى وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ فإنَّ معنَى إحلالِ الأجناسِ المذكورةِ إحلالُ نكاحهنَّ فلا بدَّ أنْ يكونَ معنى التبدلِ بهنَّ إحلالَ نكاحِ غيرِهنَّ بدلَ إحلالِ نكاحهنَّ وذلكَ إنَّما يُتصوَّرُ بالنَّسخِ الذي ليسَ من الوظائفِ البشريَّةِ {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} أي حسنُ الأزواجِ المستبدلةِ وهو حالٌ من فاعلِ تبدلَ لا من مفعولِه وهو من أزواج لنوغله في التنكيرِ قيل تقديرُه مفروضاً إعجابُك بهنَّ وقد مرَّ تحقيقُه في قوله تعالى وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خيرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وقيل هي أسماءُ بنتُ عُميسٍ الخَثعميَّةُ امرأةُ جعفرَ بنِ أبي طالبٍ أي هي ممن أعجبه صلى الله عليه وسلم حسنُهنَّ واختُلف في أنَّ الآيةَ محكمةٌ أو منسوخةٌ قيل بقولِه تعالى تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِى إِلَيْكَ مَن تَشَاء وقيل بقولِه تعالى إنَّا أحللنَا لكَ وترتيبُ النُّزولِ ليس على ترتيبِ المُصحفِ وقيل بالسنة وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها مامات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى أحلَّ له النِّساءُ وقال أنسٌ رضيَ الله عنه مات صلى الله عليه وسلم على التَّحريم {إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} استثناءٌ من النِّساءِ لأنَّه يتناولُ الأزواجَ والإماء وقيل منقطعٌ {وَكَانَ الله على كُلّ شىء رَّقِيباً} حافظاً مُهيمناً فاحذرُوا مجاوزةَ حدودِه وتخطِّي حلالِه الى حرامه

الاحزاب 53

53

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبى} شروعٌ في بيان ما يجبُ مراعاتُه على النَّاسِ من حُقوقِ نساءِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إثرَ بيانِ ما يجبُ مراعاته عليه صلى الله عليه وسلم منَ الحقوقِ المُتعلقةِ بهنَّ وقوله الى {إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوالِ أي لا تدخلُوها في حالٍ من الأحوالِ إلا حال كونكم مأوذنا لكم وقيل منْ أعمِّ الأوقاتِ أيْ لا تدخلُوها في وقتٍ من الأوقاتِ إلا وقتَ أنْ يُؤذنَ لكُم وردَّ عليهِ بأنَّ النحاة نصوا على أنَّ الوقوعَ موقعَ الظَّرفِ مختصٌّ بالمصدرِ الصَّريحِ دُونَ المؤولِ لا يُقال آتيكَ أنْ يصيحَ الدِّيكُ وإنَّما يقالُ آتيكَ صياحَ الدِّيكِ وقولُه تعالى {إلى طَعَامٍ} متعلَّقٌ بيؤذنُ بتضمينِ معنى الدُّعاءِ للإشعارِ بأنَّه لا ينبغِي أنْ يدخلُوا على الطَّعامِ بغيرِ دعوةٍ وإنْ تحققَ الإذنُ كما يُشعر به قوله تعالى {غَيْرَ ناظرين إناه} أي غيرَ منتظرينَ وقتَهُ أو إدراكَه وهو حالٌ من فاعلِ لا تدخلوُا على أنَّ الاستثناءَ واقعٌ على الوقتِ والحالِ معاً عندَ مَنْ يُجوزه أو من المجرور في لكم وقرئ بالجرِّ صفةً لطعامٍ فيكون جارياً على غيرِ مَن هُو له بلا إبرازِ الضِّميرِ ولا مساغٍ له عند البصريين وقرئ بالإمالةِ لأنَّه مصدرٌ أنَى الطعامَ أي أدركَ {وَلَكِنْ إذا دعيتم فادخلوا} استداراك من النَّهيِ عن الدُّخولِ بغيرِ إذنٍ وفيهِ دلالةٌ بيِّنةٌ على أنَّ المرادَ بالإذنِ إلى الطَّعامِ هو الدَّعوةُ إليهِ {فَإِذَا طَعِمْتُم فانتشروا} فتفرقُوا ولا تلبثُوا لانه خطاب لقوم كان يتحينون طعام النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فيدخُلون ويقعدُون منتظرين لإدراكِه مخصوصةً بهم وبأمثالِهم وإلاَّ لما جازلا حد ان يدخل بيوته صلى الله عليه وسلم بإذنٍ لغيرِ الطَّعامِ ولا اللبث بعد الطعام لأمرمهم {وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} أي لحديثِ بعضِكم بَعضاً أو لحديثِ أهلِ البيتِ بالتَّسمعِ له عطفٌ على ناظرينَ أو مقدَّرٌ بفعلٍ أي ولا تدخلوا أو لا تمكثُوا مستأنسين الخ {إِنَّ ذَلِكُمْ} أي الاستئناسُ الذي كنتُم تفعلونَهُ من قبل {كَانَ يُؤْذِى النبى} لتضييقِ المنزَّلِ عليهِ وعلى أهلِه وإيجابِه للاشتغالِ بما لا يعينه وصدِّه عن الاشتغالِ بما يعنيه {فيستحيي مّنكُمْ} أي من إخراجِكم لقولِه تعالى {والله لاَ يستحيي مِنَ الحق} فإنَّه يستدعِي أنْ يكونَ المستحى منه أمراً حقَّاً متعلِّقاً بهم لا انفسهم وما ذاك إلا إخراجهم فينبغي أنْ لا يُترك حياءً ولذلك لم يتركْه تعالى وأمرَكم بالخروجِ والتَّعبيرُ عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة كله وقرئ لا يستحِي بحذفِ الياءِ الأُولى وإلقاءِ حركتِها إلى ما قبلَها {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ} الضمير لسناء النبيِّ المدلولِ عليهنَّ بذكرِ بيوته صلى الله عليه وسلم {متاعا} أي شيئاً يُتمتّع بهِ من الماعونِ وغيرِه {فاسألوهن} أي المتاعَ {مِن وَرَاء حجاب} أي ستر ورُوي أن عمر رضي اله عنه قالَ يا رسولَ الله يدخلُ عليكَ البرُّ والفاجرُ فلو أمرتَ أمَّهاتِ المؤمنينَ بالحجابِ فنزلتْ وقيلَ إنَّه صلى الله عليه وسلم كان يَطعمُ ومعه بعضُ أصحابِه فأصابتْ يدُ رجلٍ منهم يد

الاحزاب 54 56 عائشةَ رضيَ الله عنها فكرِه النبيُّ ذلكَ فنزلتْ {ذلكم} أي ما ذُكر من عدمِ الدُّخولِ بغير إذن وعدم الاستئاس للحديثِ عند الدُّخولِ وسؤالِ المتاع من وراء حجاب {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أي أكثرُ تطهيراً من الخواطرِ الشَّيطانيَّةِ {وَمَا كَانَ لَكُمْ} أي وما صحَّ وما استقامَ لكُم {أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} أي أنْ تفعلُوا في حياتِه فعلاً يكرهه ويتأذَّى به {وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بعده أبدا} أي من بعدَ وفاتِه أو فراقِه {إِنَّ ذَلِكُمْ} إشارةٌ إلى ما ذُكر منْ إيذائِه صلى الله عليه وسلم ونكاحِ أزواجهِ من بعده وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشرِّ والفسادِ {كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} أي أمراً عظيماً وخطباً هائلاً لا يُقادر قدرُه وفيهِ من تعظيمِه تعالى لشأنِ رسوله صلى الله عليه وسلم وإيجابِ حُرمتِه حيَّاً وميِّتاً مالا يخفى ولذلكَ بالغَ تعالى في الوعيدِ حيثُ قال

54

{إِن تُبْدُواْ شَيْئاً} ممَّا لا خيرَ فيه كنكاحهنَّ على ألسنتِكم {أَوْ تُخْفُوهْ} في صدورِكم {فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً} فيجازيكم بما صدرَ عنكُم من المعاصِي الباديةِ والخافيةِ لا محالَة وفي هذا التعميمِ مع البُرهانِ على المقصودِ مزيدُ تهويلٍ وتشديدٍ ومبالغةٍ في الوعيدِ

55

{لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى آبائهن وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء أخواتهن} استئنافٌ لبيانِ مَن لا يجبُ الاحتجابُ عنهم رُوي أنَّه لمَّا نزات آيةُ الحجابِ قالَ الآباءُ والأبناءُ والأقاربُ يا رسولَ الله أوَ نكلمهن أيضاً من وراءِ الحجابِ فنزلتْ وإنَّما لم يُذكر العمُّ والخالُ لأنَّهما بمنزلةِ الوالدينِ ولذلك سُمِّي العمُّ أباً في قولِه تعالى وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل واسحق أو لأنَّه اكتُفي عن ذكرِهما بذكرِ أبناءِ الإخوةِ وأبناءِ الأخواتِ فإنَّ مناطَ عدمِ لزومِ الاحتجابِ بينهنَّ وبينَ الفريقينِ عينُ ما بينهنَّ وبينَ العمِّ والخالِ من العمومةِ والخؤولةِ لما أنهنَّ عمَّاتٌ لأبناءِ الإخوةِ وخالاتٌ لأبناءِ الأخوات وقيل لأنَّه كره تركَ الاحتجابِ منُهما مخافةَ أنْ يصِفاهنَّ لا بنائهما {وَلاَ نِسَائِهِنَّ} أي نساءِ المُؤمناتِ {وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} من العبيدِ والإماءِ وقيلَ من الإماءِ خاصَّة وقد مرَّ في سورةِ النُّورِ {واتقين الله} في كل ما تأتن وما تذرن لاسيما فيما أمرتن به ونهيتن عنْهُ {إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء شَهِيداً} لا تَخفى عليهِ خافيةٌ ولا تتفاوتُ في علمهِ الأحوالُ

56

{إِنَّ الله وملائكته} وقُرىء وملائكتُه بالرَّفعِ عطفاً عَلى محلِ ان اسمها عند الكوفيينَ وحملاً على حذفِ الخبرِ ثقةً بدلالةِ ما بعدَه عليهِ على رَأي البصريينَ {يُصَلُّونَ عَلَى النبى} قيل الصَّلاةُ من الله الرَّحمةُ ومن الملائكةِ الاستغفارُ وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهما أرادَ أنَّ الله يرحمُه والملائكةَ يدعُون له وعنْهُ أيضاً يصلُّون يبرِّكُون وقالَ أبوُ العاليةِ صلاةُ الله

الاحزاب 57 58 تعالى عليهِ ثناؤُه عليهِ عندَ الملائكةِ وصلاتُهم دعاؤُهم له فينبغي أنْ يُرادَ بها في يصلُّون معنى يجازي عامٌّ يكونُ كلُّ واحدٍ من المَعَاني المذكورةِ فَرْداً حقيقا له أي يعتنون بما فيهِ خيرُه وصلاحُ أمرهِ ويهتمُّون بإظهارِ شرفِه وتعظيمِ شأنِه وذلكَ منَ الله سبحانَهُ بالرَّحمةِ ومن الملائكةِ بالدُّعاءِ والاستغفارِ {يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} اعتنُوا أنتُم أيضاً بذلكَ فإنَّكُم أولى بهِ {وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} قائلينَ اللهمُّ صلِّ على محمدٍ وسلِّم أو نحوَ ذلكَ وقيلَ المرادُ بالتسليمِ انقيادُ أمرهِ والآيةُ دليلٌ على وجوبِ الصَّلاةِ والسَّلامِ عليهِ مُطلقاً من غيرِ تعرضٍ لوجوبِ التَّكرارِ وعدمِه وقيل يجبُ ذلكَ كلَّما جَرى ذكرُه لقولِه صلى الله عليه وسلم رغمَ أنفُ رجلٍ ذُكرتُ عنده فلم يصل علي وقوله صلى الله عليه وسلم مَن ذُكرتُ عندَهُ فلم يصلِّ عليَّ فدخلَ النَّارَ فأبعدَهُ الله ويُروى أنَّه صلى الله عليه وسلم قالَ وكَّل الله تعالى بي ملكينِ فلا أُذكر عندَ مسلمٍ فيصلِّي عليَّ إلاَّ قالَ ذانِك الملكانِ غفرَ الله لكَ وقالَ الله تعالى وملائكتُه جواباً لذينكَ الملكينِ آمينَ ولا أُذكر عندَ مسلمٍ فلا يصلِّي عليَّ إلاَّ قال دانك ملكان لا غفرَ الله لكَ وقالَ الله تعالى وملائكتُه جواباً لذينكَ الملكينِ آمينَ ومنهم من قال بجب في كلِّ مجلسٍ مرَّةً وان تكرر ذكره صلى الله عليه وسلم كما قِيل في آيةٍ السَّجدةِ وتشميتِ العاطسِ وكذلك في كلِّ دعاءٍ في أوَّلهِ وآخرِه ومنهُم مَن قال بالوجوبِ في العُمر مرَّةً وكذا قالَ في إظهارِ الشَّهادتينِ والذي يقتضيهِ الاحتياط ويستدعيه معرفة علو شأنه صلى الله عليه وسلم أنْ يُصلَّى عليهِ كلَّما جَرَى ذكُره الرَّفيعُ وأمَّا الصَّلاةُ عليهِ في الصَّلاةُ بأن يُقالَ اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنَّك حميدٌ مجيدٌ فليستْ بشرطٍ في جوازِ الصَّلاةِ عندَنا وعن إبراهيمَ النَّخعيَّ رحمَهُ الله أنَّ الصَّحابةَ كانُوا يكتفُون عن ذلكَ بما في التَّشهدِ وهو السَّلامُ عليكَ أيُّها النبيُّ وأمَّا الشَّافعيُّ رحَمهُ الله فقد جعلَها شرطاً وأمَّا الصَّلاةُ على غيرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فتجوزُ تبعاً وتُكره استقلالاً لأنَّه في العُرفِ شعارُ ذكرِ الرُّسلِ ولذلكَ كُره أنْ يُقالَ محمدٌ عزَّ وجلَّ مع كونِه عزيزاً جليلاً

57

{إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} أُريد بالإيذاء إمَّا فعلُ ما يكرهانِه من الكُفرِ والمعَاصي مجازاً لاستحالةِ حقيقةِ التَّأذِي في حقِّه تعالى وقيلَ في إيذائِه تعالى هو قول اليَّهودِ والنَّصارَى والمُشركين يدُ الله مغلولةٌ وثالثُ ثَلاثَة والمسيحُ ابنُ الله والملائكةُ بناتُ الله والأصنامُ شُركاؤه تعالَى الله عن ذلكَ عُلواً كبيراً وقيلَ قولُ الذينَ يُلحدون في آياتِه وفي ايذاء الرسول صلى الله عليه وسلم هو قولُهم شاعرٌ ساحرٌ كاهنٌ مجنونٌ وقيل هو كسرُ رَباعيتَه وشجُّ وجهَه الكريمَ يومَ أُحد وقيلَ طعنُهم في نكاحِ صفيَّةَ والحقُّ هو العمومُ فيهما واما ايذاؤه صلى الله عليه وسلم خاصَّة بطريقِ الحقيقةِ وذكرُ الله عزَّ وجلَّ لتعظيمِه والإيذانِ بجلالةِ مقدارهِ عندَه تعالى وايذاؤه صلى الله عليه وسلم إيذاءٌ له سبحانَه {لَّعَنَهُمُ الله} طردَهم وأبعدَهُم من رحمتِه {فِى الدنيا والاخرة} بحيثُ لا يكادُون ينالُون فيهما شَيئاً منها {وَأَعَدَّ لَهُمْ} معَ ذلكَ {عَذَاباً مُّهِيناً} يصيبهم في الآخرةِ خاصَّة

58

{والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات} يفعلونَ بهم ما يتأذون به من قولٍ أو فعل وتقييده

الاحزاب 59 61 بقول تعالى {بِغَيْرِ مَا اكتسبوا} أي بغيرِ جنايةٍ يستحقُّون بها الأذيةَ بعد إطلاقِه فيما قبلَه للإيذانِ بأنَّ أذى الله ورسولِه لا يكونُ إلا غيرَ حقَ وأما أَذَى هؤلاءِ فَمنُه ومنه {فَقَدِ احتملوا بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً} أي ظَاهراً بيّناً قيل إنَّها نزلتْ في مُنافقينَ كانُوا يؤُذون عليا رضي الله عنه ويسمعونه مالا خيرَ فيه وقيلَ في أهلِ الإفكِ وقال الضحَّاكُ والكلبيُّ في زُناةٍ يتَّبعونَ النِّساءَ إذَا برزنَ بالليَّلِ لقضاء حوائجهن كانوا لا يتعرَّضُون إلاَّ للإماءِ ولكنْ رُبَّما كانَ يقعُ منهما التَّعرُّضُ للحرائرِ أيضاً جَهْلاً أو تجاهُلاً لاتحادِ الكلِّ في الزيِّ واللِّباسِ والظاهرُ عمومُه لكلِّ ما ذُكر ولمَا سيأتِي من أراجيفِ المرجفين

59

{يا أيها النبي} بعدما بيَّن سوءَ حالِ المُؤذين زَجْراً لهم عن الإيذاءِ امر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بأن يأمر بعض المتأذنين منهُم بما يدفعُ إيذاءَهم في الجُملةِ من السترِ والتميزِ عن مواقعِ الإيذاءِ فقيلَ {قُل لأزواجك وبناتك وَنِسَاء المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} الجلباب ثوبٌ أوسعُ من الخمارِ ودُونَ الرداء تلوبه المراة على راسها وتقي منه ما لرسله على صدرِها وقيل هي الملْحفةُ وكل ما يُتسترُ به أي يغطينَّ بها وجوههنَّ وأبدانهنَّ إذَا برزن لداعيةٍ من الدَّواعِي ومِنْ للتبغيض لما مرَّ منْ أنَّ المعهودَ التَّلفعُ ببعضِها وإرخاءُ بعضِها وعن السُّدِّيِّ تُغطيِّ إحدَى عينيها وجبهتَها والشقَّ الآخرَ إلا العينَ {ذلك} أي ما ذكر من التَّغطِّي {أدنى} أقربُ {أَن يُعْرَفْنَ} ويُميزنَّ عن الإماءِ والقيناتِ اللاتِي هنَّ مواقعُ تعرُّضِهم وإيذائِهم {فَلاَ يُؤْذَيْنَ} من جهة اهل الريبة بالتعرضِ لهنَّ {وَكَانَ الله غَفُوراً} لما سلفَ منهنَّ منَ التَّفريطِ {رَّحِيماً} بعبادِه حيثُ يُراعي من مصالحهم أمثالَ هاتيكَ الجُزئياتِ

60

{لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون} عمَّا هُم عليهِ من النِّفاقِ وأحكامِه الموجبةِ للإيذاءِ {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} عمَّا هُم عليهِ من النزلزل وما يستتبعُه ممَّا لا خيرَ فيهِ {والمرجفون فِى المدينة} من الفريقينِ عمَّا هُم عليهِ من نشرِ أخبارِ السُّوءِ عن سَرَايا المُسلمينَ وغيرِ ذلكَ من الا راجيف الملَّفقةِ المُستتبعةِ للأذَّيةِ وأصلُ الإرجافِ التَّحريكُ من الرَّجفةِ التي هي الزَّلزلةُ وُصفت به الأخبارُ الكاذبةُ لكونِها متزلزلةً غيرَ ثابتةٍ {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} لنأمرنَّك بقتالِهم وإجلائِهم أو بما يضطرهم إلى الجلاءِ ولنحرضنَّك على ذلكَ {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ} عطفٌ على جوابِ القسمِ وثمَّ الدلالة على ان الجلاء ومفارقة جوار الرسول صلى الله عليه وسلم أعظمُ ما يُصيبهم {فِيهَا} أي في المدينةِ {إِلاَّ قَلِيلاً} زَمَاناً أو جواراً قليلاً ريثما يتبينُ حالُهم من الانتهاءِ وعدمِه

61

{مَّلْعُونِينَ} نُصب على الشَّتمِ أو الحالِ على أنَّ الاستثناءَ واردٌ عليهِ أيضاً على رَأْي مَن يجوِّزه كما مر في قوله تعالى غير ناظرين إناه ولا سبيلَ إلى انتصابِه عن قولِه تعالى {أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً}

الاحزاب 62 67 لأنَّ ما بعد كلمةِ الشرط لا يعمل فيها قبلَها

62

{سُنَّةَ الله فِى الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} أي سنَّ الله ذلكَ في الأممِ الماضيةِ سُنَّةً وهي ان يقتل الذين نافقُوا الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وسعَوا في توهينِ أمرِهم بالإرجافِ ونحوهِ أَينما ثُقفوا {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تبديلا} اصلا لا بتنائها على أساسِ الحكمةِ التي عليَها يدورُ فلكُ التَّشريع

63

{يسألك الناس عَنِ الساعة} أي عن وقتِ قيامِها كانَ المشركون يسألونه صلى الله عليه وسلم عن ذلكَ استعجالاً بطريقِ الاستهزاءِ واليهودُ امتحاناً لما أنَّ الله تعالى عَمَّى وقتَها في التَّوراةِ وسائرِ الكتبِ {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} لا يُطلعُ عليهِ ملكاً مقرَّباً ولا نبَّياً مُرسلاً وقولُه تعالى {وَمَا يُدْرِيكَ} خطابٌ مستقلٌّ له صلى الله عليه وسلم غيرُ داخلٍ تحت الأمر مسوقٌ لبيانِ أنَّها معَ كونِها غيرَ معلومةٍ للخلقِ مرجوَّة المجيءِ عن قريبٍ أيْ أيُّ شيءٍ يُعلمك بوقتِ قيامِها أي لا يُعلمك به شيءٌ أَصْلاً {لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً} أي شَيْئاً قَريباً أو تكونُ السَّاعةُ في وقتٍ قريبٍ وانتصابُه على الظَّرفيَّةِ ويجوزُ أنْ يكونَ التَّذكيرُ باعتبارِ أنَّ السَّاعةَ في مَعنْى اليَّوم أو الوقتِ وفيهِ تهديدٌ للمُستعجلينَ وتبكيتٌ للمتعنتينَ والإظهارُ في حيِّزِ الاضمار للتهويل وزيادةِ التَّقريرِ وتأكيدِ استقلالِ الجُملة كما أُشير إليهِ

64

{إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين} على الإطلاقِ أي طردَهُم وأبعدَهُم من رحمتِه العاجلةِ والآجلةِ {وَأَعَدَّ لَهُمْ} مع ذلكَ {سَعِيراً} ناراً شديدةَ الاتقادِ يقاسُونها في الآخرةِ

65

{خالدين فِيهَا أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً} يحفظُهم {وَلاَ نصيرا} بخلصهم منها

66

{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النار} ظرفٌ لعدمِ الوجدانِ وقيل لخالدينَ وقيل لنصيراً وقيل مفعول لا ذكر أي يومَ تُصرَّفُ وجوهُهم فيها من جهةٍ إلى جهةٍ كلحمٍ يُشوى في النَّارِ أو يُطبخُ في القِدرِ فيدورُ به الغليانُ من جهةٍ إلى جهةٍ أو من حالٍ إلى حالٍ أو يُطرحُون فيها مقلوبينَ منكوسين وقُرىء تقلَّب بحذف إحدى التاءين من تنقلب ونُقلِّب بإسنادِ الفعلِ إلى نونِ العظمةِ ونصْبِ وجوهِهم وتقلب بإساده إلى السَّعيرِ وتخصيصُ الوجوهِ بالذكرِ لِما أنَّها أكرمُ الأعضاءِ ففيهِ مزيدُ تفظيعٍ للأمرِ وتهويلٌ للخطبِ ويجوزُ أنْ تكونَ عبارةً عن كلِّ الجسدِ فقولُه تعالى {يَقُولُونَ} استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من حكاية حالِهم الفظيعةِ كأنَّه قيل فماذا يصنعُون عندَ ذلكَ فقيلَ يقولُون مُتحسِّرين على ما فاتهم {يا ليتنا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا} فلا نُبتلى بهذا العذابِ أو حالٌ من ضميرِ وجوهُهم أو من نفسها أو هو العاملُ في يوم

67

{وقالوا}

الاحزاب 68 71 عطفٌ على يقولُون والعدولُ إلى صيغةِ المَاضي للإشعارِ بأنَّ قولَهم هذا ليس مستمرَّاً كقولِهم السَّابقِ بل هو ضربُ اعتذارِ أرادُوا به ضرباً من التَّشفي بمضاعفةِ عذابِ الذين ألقَوهم في تلك الورطةِ وإنَّ علمُوا عدَم قبولِه في حقِّ خلاصِهم منها {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا} يعنُون قادتَهم الذين لقَّنوهم الكفرَ وقُرىء ساداتِنا للدِّلالةِ على الكثرة والتَّعبيرُ عنهم بعُنوانِ السِّيادة والكبر لتقوية الاعتذار وإلاَّ فهم في مقام التحقير والإهانة {فَأَضَلُّونَا السبيلا} بما زيَّنوا لنا من الاباطيل والألفُ للإطلاق كما في واطعنا الرسولا

68

{ربنا آتهم ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب} أي مِثْلَي العذاب الذي آتيتناهُ لأنَّهم ضلُّوا وأضلُّوا {والعنهم لَعْناً كَبِيراً} أي شديداً عظيماً وقُرىء كثيراً وتصديرُ الدُّعاءِ بالنِّداءِ مكرَّراً للمبالغةِ في الجؤارِ واستدعاءِ الإجابةِ

69

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لا تكونوا كالذين آذوا موسى} قيل نزلتْ في شأنِ زيدٍ وزينبَ وما سُمع فيه من قالة النَّاسِ {فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قالوا} أي فأظهر براته صلى الله عليه وسلم ممَّا قالُوا في حقِّه أي من مضمونِه ومؤدَاه الذي هُو الأمرُ المعيبُ وذلكَ أنَّ قارونَ أغرَى مومسةً على قذفِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بنفسِها بأنْ دفعَ إليها مالاً عظيماً فأظهرَ الله تعالى نزاهتَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عن ذلكَ بأنْ أقرتِ المومسةُ بالمُصانعةِ الجاريةِ بينها وبينَ قارونَ وفُعلَ بقارونَ ما فُعلَ كما فُصِّل في سُورةِ القصصِ وقيل أتَّهمه ناس بقتل هرون عند خروجِه معه إلى الطُّورِ فماتَ هُناك فحملتْهُ الملائكةُ ومرُّوا به حتَّى رأَوه غيرَ مقتولٍ وقيل أحياهُ الله تعالى فأخبرَهم ببراءتِه وقيل قذفُوه بعيبٍ في بدنِه من برصٍ أو أُدْرةٍ لفرطِ تسترِه حياءِّ فأطلعهم الله تعالى على براءتِه بأنْ فرَّ الحجرُ بثوبِه حينَ وضعَه عليه عند اغتسالِه والقصَّةُ مشهورةٌ {وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً} ذَا قُربةٍ ووجاهةٍ وقُرىء وكانَ عبدُ اللَّهِ وجيها

70

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اتقوا الله} أي في كل ما تأتون وما تذرُون لا سيَّما في ارتكابِ ما يكرُهه فضلاً عما يؤذي رسوله صلى الله عليه وسلم {وَقُولُواْ} في كلِّ شأنٍ من الشئون {قَوْلاً سَدِيداً} قاصِداً إلى الحقِّ من سَدَّ يَسِدُّ سَداداً يقال سَدَّدَ السَّهمَ نحوَ الرَّميةِ إذا لم يعدلْ به عن سمتِها والمرادُ نهيُهم عمَّا خاضُوا فيه من حديثِ زينبَ الجائرِ عن العدلِ والقصدِ

71

{يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكم} يُوفقكم للأعمالِ الصَّالحةِ أو يُصلحها بالقَبُولِ والإثابةِ عليها {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ويجعلُها مكفرةً باستقامتِكم في القولِ والعملِ {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} في الاوامر والنهي التي من جُمْلتِها هذهِ التكليفاتُ {فَقَدْ فَازَ} في الدَّارينِ {فَوْزاً عَظِيماً} لا يُقادرُ قدره ولا يبلغ غايته

الاحزاب 72 73

72

{إِنَّا عَرَضْنَا الامانة عَلَى السماوات والارض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} لمَّا بيَّن عِظَم شأنِ طاعةِ الله ورسولِه ببيانِ مآلِ الخارجين عنْها من العذابِ الأليمِ ومنال المُراعين لها من الفوزِ العظيمِ عقَّب ذلكَ ببيانِ عظمِ شأنِ ما يُوجبها من التَّكاليفِ الشَّرعيةِ وصعوبة أمرِها بطريقِ التَّمثيلِ مع الإيذانِ بأنَّ ما صدرَ عنهُم من الطَّاعةِ وتركِها صدرَ عنُهم بعد القَبُولِ والالتزامِ وعبر عنها بالأمانةِ تنبيهاً على أنَّها حقوقٌ مرعيةٌ أودعَها الله تعالى المكلَّفين وائتمنَهم عليها وأوجبَ عليهم تلقِّيَها بحسنِ الطَّاعةِ والانقيادِ وأمرَهُم بمراعاتِها والمحافظةِ عليها وأدائِها من غير إخلالٍ بشيء من حقوقِها وعبرَّ عن اعتبارِها بالنسبةِ إلى استعدادِ ما ذُكر من السَّمواتِ وغيرها بالعرض عليها لإظهارِ مزيدِ الاعتناءِ بأمرِها والرَّغبةِ في قبولهنَّ لها وعن عدمِ استعدادهنَّ لقبولِها بالإباءِ والإشفاقِ منها لتهويلِ أمرِها وتربيةِ فخامتِها وعن قبولِها بالحملِ لتحقيقِ معنى الصُّعوبة المُعتبرةِ فيها بجعلِها من قبيلٍ الأجسامِ الثَّقيلةِ التي يستعمل فيها القُوى الجسمانَّيةٌ التي أشدُّها وأعظمُها ما فيهنَّ من القُوَّةِ والشدَّةِ والمَعنى أنَّ تلك الأمانةَ في عظمِ الشَّأنِ بحيثُ لو كُلِّفت هاتيكَ الأجرامُ العظامُ التي هي مَثَلٌ في القُوَّةِ والشِّدَّةِ مراعاتَها وكانتْ ذاتَ شُعورٍ وادراك لا بين قبولَها وأشفقنَ منها ولكنْ صرفُ الكلامِ عن سَنَنِه بتصويرِ المفروضِ بصورةِ المحققِ رَوْماً لزيادةِ تحقيقِ المعنى المقصودِ بالتَّمثيلِ وتوضيحِه {وَحَمَلَهَا الإنسان} أي عند عرضِها عليه إمَّا باعتبارِها بالإضافةِ إلى استعدادِه أو بتكليفةِ إيَّاها يومَ الميثاقِ أي تكلّفها والتزمَها مع ما فيهِ من ضعفِ البنيةِ ورخاوةِ القُوَّةِ وهُو إمَّا عبارةٌ عن قبولِه لها بموجبِ استعدادِه الفطريِّ أو عن اعترافِه بقولِه بَلَى وقولُه تعالَى {إِنَّهُ كان ظَلُوماً جَهُولاً} اعتراضٌ وسط بين الحملِ وغايتِه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بعدمِ وفائِه بما عهدَهُ وتحملّه أي إنَّه كانَ مفرِطاً في الظُّلمِ مبالِغاً في الجهلِ أي بحسبِ غالبِ أفرادِه الذينَ لم يعملُوا بموجبِ فطرتِهم السَّليمةِ أو اعترافهم السَّابقِ دُونَ مَنْ عداهُم منْ الذينَ لم يبدلُوا فطرةَ الله تبديلاً وإلى الفريقِ الأولِ أُشير بقوله تعالى

73

{لّيُعَذّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} أي حملَها الإنسانُ ليعذبَ الله بعضَ أفرادِه الذينَ لم يُراعوها ولم يقابلُوها بالطَّاعةِ على أنَّ اللاَم للعاقبةِ فإنَّ التَّعذيبَ وإنْ لم يكُن غرضَاً له من الحملِ لكن لما ترتَّبَ عليهِ بالنسبةِ إلى بعضِ أفرادِه ترتُّبَ الأغراضِ على الأفعالِ المُعلَّلةِ بها أبرز في معرضِ الغرضِ أي كان عاقبةُ حملِ الإنسانِ لها أنْ يعذبَ الله تعالى هؤلاءِ من أفرادِه لخيانتِهم الأمانةَ وخروجِهم عن الطَّاعةِ بالكُلِّية وإلى الفريقِ الثَّاني أُشير بقولِه تعالى {وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات} أي كان عاقبةُ حملِه أنْ يتوبَ الله تعالى على هؤلاءِ من أفراده أي يقبلُ توبتَهم لعدمِ خلعِهم رِبقةَ الطَّاعةِ عن رقابِهم بالمرَّةِ وتلافيهم لما

فَرَطَ منهم من فَرَطاتٍ قلَّما يخلُو عنها الإنسانُ بحكمِ جبلّتهِ وتداركهم لها بالتَّوبةِ والإنابةِ والالتفاتُ إلى الاسمِ الجليلِ أوَّلاً لتهويلِ الخطبِ وتربيةِ المهابةِ والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ ثانياً لإبرازِ مزيدِ الاعتناءِ بأمرِ المُؤمنينَ توفيةً لكُلَ مِنْ مَقَامَي الوعيدِ والوعدِ حقَّه والله تعالى أعلمُ وجعلُ الامانة التي شأنِها أنْ تكونَ من جهتِه تعالى عبارةً عن الطَّاعةِ التي هي من أفعالِ المكلَّفين التابعةِ للتَّكليفِ بمعزلٍ من التَّقريبِ وحملُ الكلامِ على تقريرِ الوعدِ الكريمِ الذي يُنبىء عنْهُ قولُه تعالى وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً يجعلُ تعظيمَ شأنِ الطَّاعةِ ذريعةً إلى ذلكَ بأنَّ مَن قامَ بحقوقِ مثلِ هذا الأمرِ العظيمِ الشَّأنِ وراعَاها فهو جديرٌ بأنْ يفوزَ بخيرِ الدَّارينِ يأباه وصفه بالظَّلمِ والجهلِ أولاً وتعليلُ الحملِ بتعذيبِ فريقٍ والتَّوبةِ على فريقٍ ثانياً وقيل المرادُ بالأمانةِ مطلقُ الانقيادِ الشَّاملِ للطبيعي والاختياريِّ وبعرضِها استدعاؤُها الذي يعمُّ طلبَ الفعلِ من المختارِ وإرادةَ صدورِه من غيرِه وبحملِها الخيانةُ فيها والامتناعُ عن ادائِها فيكونُ الإباءُ امتناعاً عن الخيانةِ وإتياناً بالمرادِ فالمَعنى أنَّ هذهِ الأجرامَ مع عِظَمِها وقُوَّتِها أبينَ الخيانةَ لأمانتِها واتين بما امرهن به كقولِه تعالى أتينا طائعين وخانَها الإنسانُ حيثُ لم يأتِ بما أمرنَاهُ به إنَّه كان ظلُوماً جهُولاً وقيل إنَّه تعالى لمَّا خلقَ هذه الأجرامَ خلقَ فيها فهماً وقال لها إني فرضتُ فريضةً وخلقتُ جنَّةً لمن أطاعنِي فيها وناراً لمنْ عَصَاني فقلنَ نحنُ مسخرَّاتٌ لِما خلقتنا لا نحتملُ فريضةً ولا نبغي ثواباً ولا عقاباً ولمَّا خلقُ آدمُ عليهِ السَّلامُ عُرض عليه مثلُ ذلك فحملَه وكانَ ظلُوماً لنفسِه بتحمُّلهِ ما يشقُّ عليها جَهُولاً بوخامةِ عافيته وقيلَ المرادُ بالأمانةِ العقلُ أو التَّكليفُ وبعرضِها عليهنَّ اعتبارُها بالإضافةِ إلى استعدادهنَّ وبإبائهنَّ الإباءُ الطبيعيُّ الذي هو عدمُ اللياقةِ والاستعدادِ لها وبحمل الإنسانِ قابليَّتُه واستعدادُه لها وكونِه ظلوماً جَهولاً لما غلبَ عليه من القُوَّةِ الغضبيا والشهويَّةِ هذا قريبٌ من التَّحقيقِ فتأمَّل والله الموفقُ وقُرىء ويتوبُ الله على الاستئنافِ {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} مُبالغاً في المغفرةِ والرحمةِ حيثُ تابَ عليهم وغفرَ لهمُ فرَطاتِهم وأثابَ بالفوزِ على طاعاتِهم قالَ صلى الله عليه وسلم مَن قرأَ سورةَ الأحزابِ وعلَّمها أهلَه وما ملكتْ يمينُه أُعطَي الأمانَ من عذابِ القبرِ والله أعلمُ

سورة سبإ 1 2 سورة سبأ مكية وقيل إلا ويرى الذينَ أُوتُوا الْعِلْم الآية وهى أربع وخمسون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

سبأ

{الحمد للَّهِ الذى لَهُ ما في السماوات وَمَا فِي الأرض} أي له تعالى خلقا وملكا وتصرُّفاً بالإيجادِ والإعدامِ والإحياءِ والامانة جميعُ ما وُجد فيهما داخلاً في حقيقتِهما أو خارجاً عنهما مُتمكِّناً فيهما فكأنَّه قيل له جميعُ المخلوقاتِ كما مرَّ في آيةِ الكُرسيِّ ووصفُه تعالى بذلك لتقرير ما أفاده تعليقُ الحمدِ المعرَّفِ بلام الحقيقة بالاسم الجليلِ من اختصاصِ جميعِ أفراده به تعالى على ما بُيِّنَ في فاتحة الكتاب ببيان تفرُّدِه تعالى واستقلاله بما يُوجب ذلك وكونِ كلِّ ما سواه من الموجودات التي من جملتها الإنسان تحت ملكوتِه تعالى ليس لها في حدِّ ذاتها استحقاق الوجود فضلاً عمَّا عداه من صفاتها بل كلُّ ذلك نعمٌ فائضة عليها من جهته عزَّ وجلَّ فما هذا شأنُه فهوَ بمعزلٍ منَ استحقاقِ الحمد الذي مداره الجميل الصَّادرُ عن القادر بالاختيار فظهر اختصاصِ جميعِ أفراده به تعالى وقولُه تعالى {وَلَهُ الحمد فِى الاخرة} بيانٌ لاختصاص الحمد الأخرون به تعالى إثرَ بيانِ اختصاص الدُّنيويِّ به على أنَّ الجارَّ متعلقٌ إمَّا بنفس الحمد أو بَما تعلَّق به الخبرُ من الاستقرارِ وإطلاقُه عن ذكرِ ما يُشعر بالمحمودِ عليه ليس للاكتفاءِ بذكر كونه في الآخرةِ عن التعيين كما اكتفي فيما سبق بذكر كون المحمود عليه في الدُّنيا عن ذكر كونِ الحمد أيضاً فيها بل ليعمَّ النِّعمَ الأُخرويَّةَ كما في قوله تعالى الحمد لله الذى صدقنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة وقوله تعالى الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ الآيةَ وما يكون ذريعةً إلى نيلِها من النِّعمِ الدُّنيويَّةِ كما في قوله تعالى الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا أي لِما جزاؤُه هذا من الإيمان والعملِ الصالحِ والفرق بين الحمدينِ مع كون نعمتَيْ الدُّنيا والآخرةِ بطريق التَّفضلِ أنَّ الأوَّلَ على نهج العبادة والثَّانِي على وجه التَّلذذِ والاغتباطِ وقد ورد في الخبرِ أنَّهم يُلهمون التَّسبيحَ كما يُلهمون النَّفسَ {وَهُوَ الحكيم} الذي أحكم أمور الدين والدنيا ودبَّرها حسبما تقتضيه الحكمةُ {الخبير} ببواطن الأشياءِ ومكنوناتِها وقوله تعالى

2

{يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الارض}

الخ تفصيلٌ لبعض ما يحيط به علمُه من الأمور التي نِيطتْ بها مصالحهم الدُّنيويةُ والدِّينيةُ أي يعلم ما يدخل فيها من الغيثِ والكُنوزِ والدَّفائنِ والأموات ونحوها {وَمَا يَخْرُجُ منها} كالحيوان والنبات وما العيون ونحوها {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء} كالملائكةِ والكتبِ والمقادير ونحوها وقرئ وما نزل بالتَّشديدِ ونونِ العظمةِ {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} كالملائكةِ وأعمالِ العبادِ والأبخرةِ والأَدْخنةِ {وَهُوَ الرحيم} للحامدينَ على ما ذُكر من نِعَمِه {الغفور} للمفرطين في ذلك وكرمِه

3

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة} أرادوا بضمير المُتكلِّمِ جنسَ البشر قاطبةً لا أنفسَهم أو معاصريهم فقط كما أرادُوا بنفيِ إتيانها نفيَ وجودِها بالكُلِّيةِ لاعدم حضورِها مع تحقُّقها في نفس الأمر وإنما عبَّروا عنه بذلك لأنَّهم كانوا يُوعدون بإتيانها ولأنَّ وجود الأمور الزَّمانيةِ المُستقبلةِ لا سيَّما أجزاءُ الزَّمانِ لا يكون إلا بالإتيانِ والحضورِ وقيل هو استبطاءٌ لإتيانها الموعودِ بطريق الهُزءِ والسُّخريةِ كقولهم متى هذا الوعدُ {قُلْ بلى} ردٌّ لكلامِهم وإثباتٌ لِما نفَوه على معنى ليسَ الأمرُ إلاَّ إتيانَها وقولُه تعالى {وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ} تأكيدٌ له على أتم الوجوه وأكملها وقرئ ليأتينَّكم على تأويل السَّاعةِ باليَّومِ أو الوقتِ وقوله تعالى {عالم الغيب} الخ إمداد للتَّأكيدِ وتسديدٌ له إثرَ تسديدٍ وكسر لسَورةِ نكيرِهم واستبعادهم فإنَّ تعقيب القسم بحلائل نُعوت المُقسَمِ بهِ على الإطلاق يُؤذنُ بفخامة شأنِ المُقْسَمِ عليه وقوَّةِ ثباته وصحته لما أن لك في حكمِ الاستشهادِ على الأمرِ ولا ريب في أن المستشهدَ به كلَّما كان أجل وأعلا كانت الشهادة أكدو أقوى والمستشهدُ عليه أحقَّ بالثُّبوتِ وأولى لا سيَّما إذا خص بالذكر من البعوت ماله تعلُّقٌ خاصٌّ بالمُقسَمِ عليه كما نحنُ فيهِ فإنَّ وصفَه بعلم الغيب الذي أشهرُ أفرادِه وأدخلُها في الخفاء هو المقسمُ عليهِ تنبيه لهم على علَّةِ الحكم وكونه ممَّا لا يحومُ حوله شائبةُ ريبٍ ما وفائدة الأمر بهذه المرتبة من اليمين أنْ لا يقى المعاندين عذرٌ ما أصلاً فإنَّهم كانوا يعرفون أمانتَه ونزاهتَه عن وصمةِ الكذب فضلاً عن اليمين الفاجرةِ وإنَّما لم يصدقوه مكابرة وقرئ علاَّمُ الغيبِ وعالمُ الغيبِ وعالمُ الغُيوبِ بالرَّفعِ على المدحِ {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} أي لا يعد وقرئ بكسرِ الزَّايِ {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} مقدارُ أصغرِ نملةٍ {فِي السماوات وَلاَ فِى الارض} أي كائة فيهما {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك} أي من مثقالِ ذرَّةٍ {وَلا أَكْبَرَ} أي منه ورفعُهما على الابتداءِ والخبرُ قولُه تعالى {إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ} هو اللَّوحُ المحفوظُ والجملةُ مؤكِّدةٌ لنفى العزوب وقرئ ولا أصغرَ ولا أكبرَ بفتحِ الرَّاءِ على نفيِ الجنسِ ولا يجوزُ أن يُعطفَ المرفوعُ على مثقالُ ولا المفتوحُ على ذَرَّةٍ بانه فتح في حيز الجر لا متاع الصَّرفِ لما أنَّ الاستثناءَ يمنعه إلا أنْ يُجعل الضميرُ في عنه للغيب ويُجعلَ المثبتُ في اللَّوحِ خارجاً عنه لبروزه للمطالعينَ له فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب شئ إلا مسطوراً في اللَّوحِ

4

{ليجزي الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات} علَّةٌ لقوله تعالى لتأنينكم وبيان لما

سبإ 5 7 يقتصى إتيانها {أولئك} إشارةٌ إلى الموصولِ من حيثُ اتصافُه بما في حيز الصلةِ وما فيهِ منْ مَعْنى البُعدِ للإيذانِ ببعدِ منزلتهم في الفضل والشرف أي أولئك الموصوفون بالصِّفاتِ الجليلةِ {لَهُمْ} بسبب ذلك {مَغْفِرَةٌ} لما فَرَط منهم من بعض فَرَطاتٍ قلَّما يخلُو عنها البشرُ {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لا تعبَ فيه ولا منَّ عليه

5

{والذين سعوا في آياتنا} بالقدحِ فيها وصدِّ النَّاسِ عن التَّصديقِ بها {معاجزين} أي مسابقين كي يفوتونَا وقرئ مُعجزين أي مُثبِّطينَ عن الإيمانِ مَن أراده {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ} الكلامُ فيه كالذي مرَّ آنِفاً ومِنْ في قولِه تعالَى {من رّجْزٍ} للبيانِ قال قَتَادةُ رضى الله عنه الرِّجزُ سوءُ العذابِ وقولُه تعالى {أَلِيمٌ} بالرَّفعِ صفةُ عذابٌ أي أولئك السَّاعُون لهم عذابٌ من جنس سوء العذاب شديدُ الإيلامِ وقرئ أليمٍ بالجرِّ صفة لرجزٍ

6

{ويرى الذين أوتوا العلم} أي يعلم أولُو العلمِ من أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ومن يشايعهم من عُلماءِ الأمَّةِ أو مَنْ آمنَ مِنْ علماء أهلِ الكتابِ كعبدِ اللَّه بنِ سَلاَم وكعبٍ وأضرابِهما رضى الله عنهم {الذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} أي القرآنَ {هُوَ الحق} بالنصب على أنه مفعولٌ ثانٍ ليَرى والمفعولُ الأولُ هو الموصولُ الثَّانِي وهو ضمير الفصل وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر والجملةُ هو المفعولُ الثَّاني ليَرى وقولُه تعالى وَيَرَى الخ مستأنفٌ مسوقٌ للاستشهادِ بأولي العلم على الجَهَلةِ السَّاعينَ في الآياتِ وقيل منصوبٌ عطفاً على يجزيَ أي وليعلمَ أولو العلم عند مجئ السَّاعةِ مُعاينةً أنَّه الحقُّ حسبما علمُوه الآنَ بُرهاناً ويحتجُّوا به على المكذِّبين وقد جُوِّز أن يراد بأولي العلم مَن لم يؤمنْ من الأحبار أي ليعلمُوا يومئذٍ أنَّه هو الحقُّ فيزدادوا حسرةً وغمًّا {وَيَهْدِى} عطف على الحقَّ عطف الفعل على الاسم لأنَّه في تأويله كما في قوله تعالى صافات ويقبض أي وقابضاتٍ كأنَّه قيل ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك الحقَّ وهادياً {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} الذي هو التوحيدُ والتدرُّع بلباس التَّقوى وقيل مستأنف وقيل حالٌ من الذي أُنزل على إضمارِ مبتدأ أي وهو يهدي كما في قوله من قال نجوت وأرهنهم مالكاً

7

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} هم كفَّارُ قُريشٍ قالوا مخاطباً بعضهم {هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ} يعنون به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم وإنَّما قصدُوا بالتَّنكيرِ الطَّنزَ والسُّخريةَ قاتلهم الله تعالى {يُنَبّئُكُمْ} أي يُحدِّثكم بعجبٍ عجاب وقرئ ينبئكم من الإنباءِ {إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي إذا متُم ومُزِّقتْ أجسادُكم كلَّ تمزيقٍ وفُرِّقت كلَّ تفريقٍ بحيث صرتُم تُراباً ورُفاتاً {إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي مستقرُّون فيه عدل إليه عن الجملة الفعليةِ الدَّالَّةِ على الحدوث مثل تبعثون أو

سبإ 8 9 تخلقون خلقاً جديداً للإشباعِ في الاستبعاد والتعجب وكذلك تقديم الظَّرفِ والعامل فيه ما دلَّ عليه المذكورُ لا نفسه لما أنَّ ما بعد إنَّ لا يعملُ فيما قبلَها ويد فعيلٌ بمعنى فاعلٍ من جَدَّ فهو جديدٌ وقلَّ فهو قليلٌ وقيل بمعنى مفعولٍ من جدَّ النَّسَّاجُ الثوبَ إذا قطعه ثمَّ شاع

8

{أفترى عَلَى الله كَذِباً} فيما قاله {أَم بِهِ جِنَّةٌ} أي جنونٌ يوهمه ذلك ويُلقيه على لسانِه والاستدلالُ بهذا التَّرديدِ على أنَّ بين الصِّدقِ والكذب واسطةً هو ما لا يكون من الإخبار عن بصيرةٍ بين الفساد لظهور كون الافتراء أخصَّ من الكذبِ {بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة فِى العذاب والضلال البعيد} جوابٌ من جهة الله تعالى عن ترديدِهم الوارد على طريقةِ الاستفهامِ بالإضرابِ عن شقَّيهِ وإبطالها وإثباتِ قسمٍ ثالثٍ كاشفٍ عن حقيقةِ الحال ناعٍ عليهم سوءَ حالهم وابتلاءهم بما قالُوا في حقِّه صلى الله عليه وسلم كأنه قيل ليس الأمرُ كما زعمُوا بل هم في كمال اختلال العقل وغاية الضَّلالِ عن الفهم والإدراك الذي هو الجنون حقيقةً وفيما يؤدِّي إليه ذلك من العذابِ ولذلك يقولونَ ما يقولونَ وتقديمُ العذاب على ما يُوجبه ويستتبعه للمسارعةِ إلى بيانِ ما يسوؤُهم ويفتُّ في أعضادِهم والإشعارِ بغاية سُرعة ترتُّبِه عليه كأنَّه يُسابقه فيسبقه ووصفُ الضَّلالِ بالبُعد الذي هو وصف الضَّالِ للمبالغة ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرهم للتنبيهِ بما في حيزِ الصلة على أن علة ما ارتكبوه واجترءوا عليه من الشَّناعةِ الفظيعةِ كفرُهم بالآخرة وَمَا فِيْهَا منْ فنونِ العقاب ولولاه لما فعلُوا ذلك خوفاً من غائلتِه وقوله تعالى

9

{أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والارض} استئنافٌ مسوق لتهويل ما اجترُءوا عليه من تكذيبِ آياتِ الله تعالى واستعظامِ ما قالُوا في حقه صلى الله عليه وسلم وأنَّه من العظائمِ الموجبة لنزول أشدِّ العقاب وحلول أفظع العذاب من غير ريثٍ وتأخير والفاءُ للعطفِ على مقدر يقتضيه المقام وقوله تعالى {إِن نَّشَأْ} الخ بيان لما ينبئ عنه ذكرُ إحاطتِهما بهم من المحذورِ المتوقَّعِ من جهتهما وفيه تنبيهٌ على أنَّه لم يبقَ من أسباب وقوعِه إلا تعلُّقُ المشيئة به أي افعلُوا ما فعلُوا من المنكر الهائلِ المستتبع للعُقوبة فلم ينظروا إلى ما أحاطَ بهم من جميع جوانبِهم بحيثُ لا مفرَّ لهم عنه ولا محيصَ إنْ نَشَأْ جرياً على موجب جناياتِهم {نَخْسِفْ بِهِمُ الارض} كما خسفناها بقارونَ {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً} أي قِطعاً {مّنَ السماء} كما أسقطناها على أصحابِ الأَيْكةِ لاستيجابهم ذلك بما ارتكبُوه من الجرائم وقيل هو تذكيرٌ بما يُعاينونَهُ ممَّا يدلُّ على كمال قُدرتِه وما يحتمل فيه إزاحة لاستحالتِهم البعث حتى جعلوه افتراء وهزءا وتهديد عليها والمعنى أعمُوا فلمْ ينظرُوا إِلَى ما أحاطَ بجوانبهم من السَّماءِ والأرضِ ولم يتفكَّروا أهمْ أشدُّ خلقاً أم هي وإنْ نَشَأْ نخسف بهم الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً لتكذيبِهم بالآياتِ بعد ظهورِ البينات فتأمل وكن الحق المبين وقرئ يخسف

سبإ 10 11 ويَسقط بالياء لقوله تعالى افترى عَلَى الله وكِسْفاً بسكون السِّينِ {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذكر من السَّماء والأرضِ من حيث إحاطتُهما بالنَّاظرِ من جميع الجوانب أو فيما تُلي منَ الوحيِ النَّاطقِ بما ذُكر {لآيَةً} واضحةً {لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} شأنُه الإنابةُ إلى ربِّه فإنه إذا تأمَّلَ فيهما أو في الوحيِ المذكورِ ينزجرُ عن تعاطى القبائح وبنيب إليه تعالى وفيه حثٌّ بليغٌ على التَّوبةِ والإنابة وقد أكدَّ ذلك بقولِه تعالى

10

{ولقد آتينا داود مِنَّا فَضْلاً} أي آتيناه لحسن إنابتِه وصحَّةِ توبته فضلاً على سائرِ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسَّلامُ أي نوعاً من الفضل وهو ما ذُكر بعد فإنَّه معجزة خاصة به صلى الله عليه وسلم أو على سائر النَّاسِ فيندرج فيه النُّبوةُ والكتاب والمُلك والصَّوتُ الحسن فتنكيره للتَّفخيمِ ومنَّا لتأكيدِ فخامتِه الذَّاتيةِ بفخامته الإضافيَّةِ كما في قوله تعالى وَآتَيْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا وتقديمُه على المفعولِ الصَّريحِ للاهتمام بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا اخر تقى النَّفسُ مترقبةً له فإذا وردها يتمكَّن عندها فضلُ تمكّنٍ {يا جبال أَوّبِى مَعَهُ} من التَّأويبِ أي رجِّعي معه التَّسبيحَ أو النَّوحةَ على الذَّنبِ وذلك إمَّا بأنْ يخلقَ الله تعالى فيها صوتاً مثلَ صوتِه كما خلق الكلام في الشَّجرةِ أو بأنْ يتمثَّلَ له ذلك وقُرىء أُوبي من الأَوْبِ أي ارْجِعي معه في التَّسبيحِ كلما رجعَ فيه وكان كلَّما سبَّح عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُسمع من الجبال ما يُسمع من المسبِّحِ معجزةً له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل كان ينوحُ على ذنبه بترجيعٍ وتحزينٍ وكانتِ الجبالُ تُسْعِدُه على نَوحِه بأصدائها والطَّيرُ بأصواتِها وهو بدل من آتينا بإضمار قلنا أو من فضلاً بإضمار قولنا والطير بالنَّصبِ عطفاً على فضلاً بمعنى وسخَّرنا له الطَّيرَ لأنَّ إيتاءَها إيَّاهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تسخيرها له فلا حاجة إلى إضمارِه كما نُقل عن الكِسائيِّ ولا إلى تقدير مضافٍ أي تسبيح الطَّيرِ كما نُقل عنه في رواية وقيل عطفاً على محلِّ الجبالِ وفيه من التكلف لفظا ومعنى مالا يخفى وقُرىء بالرَّفعِ عطفا على لفظها تشبيهاً للحركة البنائيَّةِ العارضة بالحركةِ الإعرابيَّةِ وقد جُوِّزَ انتصابُه على أنَّه مفعولٌ معه والأول هو الوجهُ وفي تنزيل الجبال والطَّيرِ منزلةَ العُقلاءِ المُطيعين لأمره تعالى المُذعنينَ لحكمه المشعر بأنَّه ما من حيوانٍ وجمادٍ وصامتٍ وناطقٍ إلا وهو منقادٌ لمشيئته غير ممتنعٍ على إرادته من الفخامة المُعربةِ عن غاية عظمةِ شأنِه تعالى وكمال كبرياءِ سلطانِه مالا يخفى على أولي الألباب {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} أي جعلناه ليِّناً في نفسه كالشَّمعِ يُصرِّفه في يده كيف يشاءُ من غير إحماءٍ بنارٍ ولا ضربٍ بمطرقةٍ أو جعلناه بالنِّسبةِ إلى قوَّتِه التي آتيناها إيَّاهُ ليِّناً كالشَّمعِ بالنسبة إلى سائرِ القُوى البشريَّةِ

11

(أَنِ اعمل) أمرناه أنِ اعمل على أنَّ أنْ مصدريةٌ حُذف عنها الباءُ وفي حملها على المفسِّرةِ تكلُّفٌ لا يخفى سابغات واسعاتٍ وقُرىء صابغاتٍ وهي الدُّروعُ الواسعة الضَّافيةُ وهو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أوَّلُ من اتَّخذها وكانت قبلُ صفائحَ قالوا كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين ملكَ على بني إسرائيلَ يخرجُ متنكر فيسألُ النَّاسَ ما تقولون في داودَ فيُثنون عليه فقيَّضَ الله تعالى له ملكا في

سبإ 12 13 صورةِ آدميَ فسأله على عادتِه فقال نِعْمَ الرَّجلُ لولا خَصلةٌ فيه فريع داودُ فسألَه عنها فقالَ لولا أنَّه يُطعم عيالَه من بيتِ المالِ فعند ذلك سألَ ربَّه أنْ يُسبِّب له ما يستغني به عن بيتِ المال فعلَّمه تعالى صنعةَ الدُّروعِ وقيل كان يبيع الدروع بأربعةِ آلافٍ فينفقُ منها على نفسِه وعيالِه ويتصدَّقُ على الفقراء {وَقَدّرْ فِى السرد} السَّردُ نسجُ الدُّروعِ أي اقتصد في نسجِها بحيث تتناسب حِلَقُها وقيل قدِّرْ في مساميرِها فلا تعملها رقاقا ولا غِلاظاً ورُدَّ بأنَّ دروعَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم تكُن مسمَّرة كما ينبئ عنه إلانةُ الحديدِ وقيل معنى قَدِّرْ في السَّردِ لا تصرفْ جميعَ أوقاتِك إليه بل مقدارَ ما يحصلُ به القوتُ وأمَّا الباقي فاصرِفْه إلى العبادة وهو الأنسبُ بقولِه تعالى {واعملوا صالحا} عمَّم الخطابَ حسب عموم التَّكليفِ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ولأهلِه {إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تعليل للأمر أو لوجوب الامتثالِ به

12

{ولسليمان الريح} أي وسخرنا له الريح وقرئ برفع الرِّيحِ أي ولسليمان الريح مسخرة وقرئ الرِّياحَ {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي جريها بالغَداةِ مسيرةُ شهرٍ وجريها بالعَشيِّ كذلك والجملةُ إمَّا مستأنفةٌ أو حالٌ من الرِّيحِ وقرئ غُدوتُها ورَوحتُها وعنِ الحسنِ رحمَهُ الله كان يغدُو أي من دمشقَ فيقيلُ باصطَّخَر ثمَّ بروح فيكون رَوَاحه بكابُلَ وقيل كان يتغدى بالرَّيِّ ويتعشَّى بسمرقندَ ويُحكى أنَّ بعضَهم رأى مكتوباً في منزلٍ بناحيةِ دِجْلَة كتبه بعضُ أصحابِ سليمانَ عليه السَّلامُ نحنُ نزلنَاهُ وما بنيناهُ ومبنيًّا وجدناهُ غدونَا من اصطَّخَر فقلناهُ ونحن رائحون منه فبايتونَ بالشَّامِ إنْ شاءَ الله تعالى {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} أي النُّحاسَ المُذابَ أسالَه من معدنِه كما آلانَ الحديدَ لدَّاودَ عليهما السَّلامُ فنبع منه نبوعَ الماء من الينبوعِ ولذلك سُمِّي عيناً وكان ذلك باليمنِ وقيل كان يسيلُ في الشَّهرِ ثلاثةَ أيَّامٍ وقوله تعالى {وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} إمَّا جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ أو مَن يعملُ عطفٌ على الرِّيحَ ومن الجنِّ حالٌ متقدِّمةٌ {بِإِذْنِ رَبّهِ} بأمرِه تعالى كما ينبئ عنه قولُهُ تعالَى {وَمِنَ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} أي ومَن يعدلْ منهم عمَّا أمرناهُ به من طاعة سليمان وقرئ يزغ على البناء المفعول من أزاغَه {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير} أي عذابِ النَّارِ في الآخرةِ رُوي عن السدى رحمه الله كان معه مَلكٌ بيده سَوطٌ من نارٍ كلُّ منِ استعصى عليه ضربَه من حيثُ لا يراه الجنيُّ

13

{يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء} تفصيلٌ لما ذُكر من عملِهم وقوله تعالى {مِن محاريب} الخ بيانٌ لمَا يشاءُ أي من قصورٍ حصينةٍ ومساكنَ شريفةٍ سُمِّيتْ بذلك لأنَّها يُذبُّ عنها ويُحاربُ عليها وقيل هي المساجدُ {وتماثيل} وصور الملائكةِ والأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على ما اعتادُوه فإنَّها كانتْ تعمل حينئذٍ في المساجدِ ليراها النَّاسُ ويعبدوا مثلَ عباداتِهم وحرمةُ التَّصاويرِ شرعٌ جديدٌ ورُوي أنَّهم عملوا أسدينِ في أسفل كرسِّيهِ ونِسرين فوقه فإذا أراد أن يصعدَ بسط الأسدان ذراعيهما

سبإ 14 وإذا قعد أظله النَّسرانِ بأجنحتِهما {وَجِفَانٍ} جمع جفنة وهي الصفحة {كالجواب} كالحياضِ الكبارِ جمع جابيةٍ من الجباية لاجتماعِ الماء فيها وهي من الصفات الغالبة كالدابة وقرئ بإثبات الياءِ قيل كان يقعدُ على الجفنةِ ألفُ رجل {وقدور راسيات} ثابتاتٍ على الأَثَافي لا تنزل عنها لعظمِها {اعملوا آل داود شكرا} حكايةً لما قيلَ لهم وشُكراً نصبٌ على أنَّه مفعولٌ له أو مصدرٌ لاعملُوا لأنَّ العمل للمنعمِ شكرٌ له أو لفعله المحذوفِ أي اشكرُوا شكراً أو حالٌ أي شاكرين أو مفعولٌ به أي اعملُوا شُكراً {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} أي المتوفِّرُ على أداءِ الشُّكرِ بقلبه ولسانِه وجوارحِه أكثر أوقاتِه ومع ذلك لا يوفِّي حقَّه لأنَّ التَّوفيقَ للشكرِ نعمةٍ تستدعِي شكراً آخرَ لا إلى نهايةٍ ولذلك قيل الشَّكورُ من يرى عجزَه عن الشُّكرِ ورُوي أنه عليه الصلاةُ والسلام جزَّأَ ساعاتِ اللَّيلِ والنَّهارِ على أهله فلم تكنُ تأتِي ساعةٌ من السَّاعاتِ إلا وإنسانٌ من آلِ داودَ قائمٌ يُصلِّي

14

{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت} أي على سليمانَ عليه السَّلامُ {مَا دَلَّهُمْ} أي الجنَّ أو آلَه {على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاْرْضِ} أي الأَرَضةُ أضيفتْ إلى فعلها وقرئ بفتحِ الرَّاءِ وهو تأثُّرُ الخشبةِ من فعلِها يقالُ أَرَضتَ الأَرَضةُ الخشبةَ أرضاً فأرضتْ أرضْاً مثل أكلتِ القوارح أسنانَه أَكْلاً فأكلتْ أَكلاَ {تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} أي عصاهُ من نسأتُ البعيرَ إذا طردَته لأنَّها يُطرد بها ما يطرد وقرئ مِنُساتَه بألفٍ ساكنةٍ بدلاً من الهمزة وبهمزةِ ساكنةٍ وبإخراجها بينَ بينَ عند الوقف ومنساءته عل مفعالةٍ كميضاءَةٍ في ميضأَةٍ ومن ساته أي من طرفِ عصاهُ من سأةِ القوسِ وفيه لغتانِ كما في قِحَةٍ بالكسرِ والفتحِ وقُرىء أكلتْ مِنْساتَهُ {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن} من تبيَّنت الشيءَ إذا علمته بعد التباسه عليك أي علمت الجنّ علماً بيِّنا بعد التباسِ الأمر عليهم {أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِى العذاب المهين} أي أنَّهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلمُوا موتَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينما وقع فلم يلبثُوا بعده حولاً في تسخيرِه إلى أن خرَّ أو من تبيَّن الشيءُ إذا ظهرَ وتجلَّي أي ظهرتِ الجنُّ وأنْ مع ما في حيِّزِها بدلُ اشتمالٍ من الجنُّ أي ظهر أنَّ الجنَّ لو كانوا يعلمون الغيبَ الخ وقُرىء تبيَّنت الجنُّ على البناءِ للمفعولِ على أنْ المتبيَّن في الحقيقة هو أن مع ما في حيِّزِها لأنه بدلٌ وقُرىء تبيَّنت الإنسُ والضَّميرُ في كانُوا للجنِّ في قوله تعالى ومن الجن مَن يَعْمَلُ وفي قراءةُ ابن مسعود رضي الله عنه تبينتِ الأنسُ أنَّ الجنَّ لو كانوا يعلمون الغيب رُوي أنَّ داودَ عليه السَّلامُ أسَّس بنيان بيت المقدس في موضعِ فُسطاطِ مُوسى فتوفِّي قبل تمامه فوصَّى به إلى سليمانَ عليهما السَّلامُ فاستعمل فيه الجنَّ والشَّياطينَ فباشروه حتىَّ إذا حانَ أجلُه وعلم به سألَ ربَّه أنْ يُعمِّي عليهم موتَه حتَّى يفرغُوا منه ولتبطلَ دعواهم علمَ الغيبِ فدعاهم فبنَوا عليه صَرحاً من قواريرَ ليس له بابٌ فقام يُصلِّي متكئاً على عصاهُ فقُبض روحُه وهو متكىءٌ عليها فبقي كذلك وهم فيما أُمروا به من الأعمالِ حتَّى أكلتِ الأَرَضةُ عصاهُ فخرَّ ميِّتاً وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه

سبإ 15 16 اينما صلى صلى الله عليه وسلم فلم يكن ينظر إليه الشيطان في صلاتِه إلاَّ احترقَ فمرَّ به يوماً شيطانٌ فنظر فإذا سليمانُ عليه السَّلامُ قد خرَّ ميتاً ففتحُوا عنه فإذا عصاهُ قد اكلها الأرَضةُ فأرادوا أن يعرفُوا وقتَ موتِه فوضعُوا الأَرضةَ على العصا فأكلتْ منها في يومٍ وليلةٍ مقداراً فحسبُوا على ذلك فوجدُوه قد مات منذُ سنةٍ وكان عمرُه ثلاثاً وخمسين سنة ملك وهو ابن ثلاثَ عشرةَ سنة وبقي في ملكه أربعينَ سنةً وابتدأ بناءَ بيتِ المقدسِ لأربعٍ مضين من مُلكِه

15

{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} بيان لإخبار بعض الكافرين بنعم الله تعالى إثرَ بيانِ أحوال الشَّاكرينَ لها أي لأولاد سبأِ بن يشجبَ بن يعرب بن قحطان وقُرىء بمنع الصَّرفِ على أنه اسمُ القبيلةِ وقُرىء بقلب الهمزةِ ألفاً ولعله إخراجٌ لها بينَ بينَ {فِى مَسْكَنِهِمْ} وقُرىء بكسرِ الكافِ كالمسجِدِ وقُرىء بلفظ الجمعِ أي مواضع سُكناهم وهي باليمنِ يقال لها مَأْرِبُ بينها وبين صنعاءَ مسيرة ثلاث ليال آية دالَّة بملاحظه أحوالِها السَّابقةِ واللاَّحقةِ على وجود الصَّانعِ المُختار القادر على كلِّ ما يشاء من الأمور البديعة المُجازي للمحسنِ والمسيءِ معاضدةً للبرهان السَّابقِ كما في قصتي داودُ وسليمانُ عليهما السَّلامُ {جَنَّتَانِ} بدل من آيةً أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي هي جنتان وفيه معنى المدح ويُؤيِّدُه قراءةُ النَّصبِ على المدح والمرادُ بهما جماعتانِ من البساتين {عَن يَمِينٍ وشمال} جماعة يمينِ بلدِهم وجماعةٌ عن شمالِه كلِّ واحدةٍ من تَيْنكَ الجماعتينِ في تقاربِهما وتضامِّهما كأنَّهما جنَّةٌ واحدةٌ أو بستاناً كلُّ رجلٍ منهم عن يمين مسكنِه وعن شمالِه {كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ واشكروا لَهُ} حكايةً لما قيلَ لهم على لسان نبيِّهم تكميلاً للنِّعمةِ وتذكيراً لحقوقِها أو لما نطقَ به لسانُ الحالِ أو بيان لكونهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك {بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} استئنافٌ مبيِّن لما يوجب الشُّكرَ المأمور به أي بلدتُكم بلدةٌ طيبةٌ وربكم الذي رزقكم مافيها من الطَّيباتِ وطلب منكم الشُّكرَ ربٌّ غفورٌ لفرطات مَن يشكره وقُرىء الكلُّ بالنَّصبِ على المدح قيل كان أطيبَ البلاد هواء واحصبها وكانتِ المرأةُ تخرج وعلى رأسها المِكْتلُ فتعمل بيديها وتسير فيما بين الأشجار فيمتلىءُ المِكْتَلُ مما يتساقطُ فيه من الثِّمارِ ولم يكن فيه من مؤذياتِ الهُوامِّ شيء

16

{فَأَعْرِضُواْ} عن الشُّكر بعد إبانة الآيات الدَّاعيةِ لهم إليه قيل أرسل الله إليهم ثلاثةَ عشرَ نبَّياً فدَعوهم إلى الله تعالى وذكَّروهم بنعمه وأنذروهم عقابه فكذَّبوهم {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم} أي سيلَ الأمر العرم أي الصَّعبِ من عَرِمَ الرَّجلُ فهو عارمٌ وعَرِمٌ إذا شرس خلقُه وصعب أو المطر الشَّديدُ وقيل العرم جمعُ عُرمةٍ وهي الحجارة المركومة وقيل هو السكر الذي يحبس الماء وقيل هو اسمُ للبناء الذي يُجعلُ سدَّاً وقيل هو البناء الرَّصينُ الذي بنته الملكةُ بلقيسُ بين الجبلينِ بالصَّخرِ والقارِ وحقنت به ماء العيون والأمطار وتركت فيه خُرُوقاً على ما يحتاجونَ إليه في

سبإ 17 18 سقيهم وقيل العرمُ الجُرَذُ الذي نَقَبَ عليهم ذلك السدَّ وهو الفأرُ الأعمى الذي يقال له الخُلْدُ سلَّطه الله تعالى على سدِّهم فنقَبه فغرَّق بلادَهم وقيل العَرِمُ اسم الوادي وقرئ العَرْم بسكون الرَّاءِ قالوا كان ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى والنَّبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ {وبدلناهم بجنتيهم} أي أذهبنا جنَّتيهم وآتيناهم بدلهما {جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ} أي ثمرٍ بشعٍ فإنَّ الخَمْطَ كل نبت أخذ طعماً من مرارة حتَّى لا يمكن أكلُه وقيل هو الحامضُ والمرُّ من كل شئ وقيل هو ثمرةُ شجرةٍ يقال لها فَسْوةُ الضبع على صورة الخَشْخَاشِ لا يُنتفع بها وقيل هو الاراك وكل شجرٍ ذي شوكٍ والتَّقديرُ أكل أكل خمط فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مقامه وقرئ أكل خمط بالاضافة وبتخفيف أكل {وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} معطوفان على أُكلٍ لا على خَمْطٍ فإن الأَثْلَ هو الطَّرفاءُ وقيل شجرٌ يُشبهه أعظم منه ولا ثمر له وقرئ وأَثْلاً وشيئاً عطفاً على جنَّتين قيل وصف السِّدْرُ بالقلَّةِ لما أنَّ جناهُ وهو النَّبقُ مَّما يطيبُ أكلُه ولذلك يغرس في البساتينِ والصَّحيح أنَّ السِّدْرِ صنفانِ صنفٌ يُؤكلُ من ثمره ويُنتفع بورقه لغسلِ اليد وصنف له ثمرة عَفْصةٌ لا تُؤكل أصلاً ولا يُنتفع بورقهِ وهو الضَّالُ والمرادُ ههنا هو الثَّاني حتماً وقال قَتادةُ كان شجرُهم خيرَ الشَّجرِ فصيَّرُه الله تعالى من شرِّ الشَّجرِ بأعمالِهم وتسميةُ البدلِ جنَّتين للمشاكلةِ والتَّهكُّمِ

17

{ذلك} إشارة إلى مصدر قوله تعالى {جزيناهم} أو إلى ما ذُكرَ من التَّبديلِ وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد رُتبتهِ في الفظاعة ومحلُّه على الأوَّلِ النصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكدِّ للفعل المذكور وعلى الثَّاني النَّصبُ على أنه مفعولٌ ثانٍ له أي ذلك الجزاءَ الفظيع جزيناهم لاجزاء آخرَ أو ذلك التَّبديلَ جزيناهم لا غيرَه {بِمَا كَفَرُواْ} بسبب كفرانهم النِّعمة حيثُ نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدَّها أو بسبب كفرهم بالرُّسلِ {وَهَلْ نُجَازِى إِلاَّ الكفور} أي وما نجزى هذا الجزاءَ إلا المُبالغَ في الكُفرانِ أو الكفر وقرئ يُجازِي على البناءِ للفاعلِ وهو الله عزَّ وجلَّ وهل يُجازَى على البناءِ للمفعولِ ورفعِ الكفورَ وهل يجزى على البناء للمفعول أيضاً وهذا بيانُ ما أُوتوا من النَّعم الحاضرة في مساكنهم وما فعَلُوا بها من الكُفرانِ وما فُعل بهم من الجزاء وقوله تعالى

18

{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا} حكاية لما أُوتوا من النَّعمِ البادية في مسايرهم ومتاجرهم وما فعلوا بها من الكفران وما حاق بهم بسبب ذلك تكملةً لقصتهم وبياناً لعاقبتهم وإنما لم يذكر الكلَّ معاً لما في التَّثنيةِ والتكريرِ من زيادة تنبيه وتذكير وهو عطف على كل لسبأٍ لا على ما بعده من الجمل النِّاطقةِ بأفعالهم أو بأجزيتها أي وجعلنا مع ما آتيناهم في مساكنهم من فُنون النِّعمِ بينهم أي بين بلادهم وبين القُرى الشَّاميةِ التى باركنا فيها للعالمين {قُرًى ظاهرة} متواصلة يُرى بعضُها من بعضٍ لتقاربها فهي ظاهرة لأعينُ أهلها أو راكبة متنَ الطريق ظاهرة للسَّابلةِ غير بعيدة عن مسالكهم حتَّى تخفى عليهم {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير} أي جعلناها في نسبة بعضها

سبإ 19 إلى بعضٍ على مقدار معيَّنٍ يليقُ بحال أبناء السَّبيلِ قيل كان الغادي من قرية يقيلُ في أخرى والرَّائحُ منها يبيت في أُخرى إلى أنْ يبلغً الشَّامَ كلُّ ذلك كان تكميلاً لما أُوتوا من أنواع النَّعماءِ وتوفيراً لها في الحضر والسَّفرِ {سِيرُواْ فِيهَا} على إرادةِ القولِ أيْ وقُلنا لهم سيروا في تلك القُرى {لَيَالِىَ وَأَيَّاماً} أي متى شئتُم من الليالي والأيَّامِ {آمنين} من كلِّ ما تكرهونه لا يختلف الأمنُ فيها باختلاف الأوقاتِ أو سيروا فيها آمنينَ وإن تطاولتْ مُدَّةُ سفرِكم وامتدتْ لياليَ واياما كثية أو سيروا فيها لياليَ أعمارِكم وأيَّامَها لا تلقَون فيها إلا الأمنَ لكن لا على الحقيقة بل على تنزيل تمكينهم من السَّيرِ المذكور وتسوية مباديه وأسبابه على الوجه المذكور منزلة أمرهم بذلك

19

{فَقَالُواْ رَبَّنَا باعد بَيْنَ أسفارنا} وقرئ يا ربَّنا بطروا النِّعمةَ وسئِمُوا أطيبَ العيشِ وملُّوا العافية فطلبوا الكدَّ والتَّعبَ كما طلب بنو إسرائيلَ الثوم والبصل مكان المنِّ والسَّلوى وقالوا لو كان جنى جناننا أبعدَ لكان أجدرَ أن نشتهيَه وسألوا أنْ يجعل الله تعالى بينهم وبين الشأمِ مفاوزَ وقفاراً ليركبُوا فيها الرَّواحل ويتزوَّدوا الأزواد ويتطاولُوا فيها على الفقراء فعجَّل الله تعالى لهم الإجابةَ بتخريب تلك القُرى المتوسطة وجعلها بَلْقَعاً لا يُسمع فيها داعٍ ولا مجيب وقرئ بعد وربنا بعِّدْ بين أسفارنا وبعُدَ بينُ أسفارنا على النداء وإسناد الفعل إلى بين ورفعه به كما يقال سير فرسخان وبُوعد بين أسفارنا وقرئ ربنا باعد بين أسفارنا وبين سفرِنا وبعَّد برفع ربنا على الابتداء والمعنى على خلاف الأول وهو استبعادُ مسايرهم مع قِصرها أو دنوِّها وسهولة سلوكها لفرطِ تنعُّمهم وغاية ترفههم وعدم اعتدادهم بنعم الله تعالى كأنَّهم يتشاجَون على الله تعالى ويتحازنون عليه {وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} حيث عرَّضُوها للسَّخطِ والعذاب حين بطروا النِّعمةَ أو غمطُوها {فجعلناهم أحاديث} أي جعلناهم بحيث يتحدثُ النَّاسُ بهم متعجِّبين من أحوالَهم ومعتبرين بعاقبتهم ومآلِهم {ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي فرَّقناهم كلَّ تفريقٍ على أنَّ المُمزَّقَ مصدرٌ أو كلَّ مطرحِ ومكانِ تفريقٍ على أنه اسم مكان وفي عبارة التَّمزيقِ الخاص بتفريق المتَّصل وخرفه من تهويل الأمرِ والدِّلالةِ على شدَّةِ التَّأثيرِ والإيلامِ ما لا يخفى أي مزَّقناهم تمزيقاً لا غاية وراءه بحيث يُضرب به الأمثال في كلِّ فُرقة ليس بعدها وصالٌ حتى لحق غسَّانُ بالشَّأمِ وأنمارٌ بيثربَ وجُذامُ بتهامةَ والأزدُ بُعمانَ وأصلُ قصَّتهم على ما رواه الكلبيُّ عن أبي صالحٍ أنَّ عمروَ بن عامرِ من أولاد سبأ وبينهما اثنى عشر أباً وهو الذي يُقال له مُزَيْقِيا بنُ ماءِ السَّماءِ أَخبرتْهُ طريفةُ الكاهنةُ بخراب سدِّ مأربَ وتفريق سيل العرم الجنَّتين وعن أبي زيد الأنصاريِّ أن عمرا راى جرزا يفر السَّدَّ فعلم أنَّه لا بقاءَ له بعدُ وقيل إنَّه كان كاهناً وقد عَلمه بكهانتِه فباع أملاكَه وسار بقومه وهم ألوفٌ من بلدٍ إلى بلدٍ حتى انتهى إلى مكَّة المعظَّمة وأهلها جُرهمٌ وكانوا قهروا النَّاسَ وحازوا ولايةَ البيت على بني إسمعيل عليه السَّلامُ وغيرهم فأرسل إليهم ثعلبةَ بن عمرو ابن عامر يسألُهم المقام معهم إلى أنْ يرجع إليه رُوَّادُه الذين أرسلهم إلى أصقاع البلاد يطلبون له موضعا

سبإ 20 21 يسَعه ومَن معه من قومه فأبَوا فاقتتلُوا ثلاثةَ أيَّامٍ فانهزمت جُرهمٌ ولم يفلت منهم إلا الشَّريدُ وأقام ثعلبةُ بمكَّةَ وما حولها في قومِه وعساكرِه حولاً فأصابْتُهم الحُمَّى فاضطرُوا إلى الخروج وقد رجع إليه رُوَّادُه فافترقوا فرقتينُ فرقةٌ توجَّهت نحو عُمانَ وهم الأُزد وكندة وحِمْيرُ ومَن يتلوهم وسار ثعلبةُ نحو الشَّامِ فنزل الأوسُ والخزرجُ ابنا حارثةَ بنِ ثعلبةَ بالمدينةِ وهم الأنصارُ ومضت غسَّانُ فنزلوا بالشَّأمِ وانخزعتْ خزاعة بمكَّةَ فأقام بها ربيعةُ بن حارثةَ بن عمرو بن عامر وهو لحيُّ فولِي أمرَ مكَّةَ وحجابةَ البيتِ ثم جاءهم اولاد إسمعيل عليه السَّلامُ فسألوهم السُّكنى معهم وحولهم فأذِنُوا لهم في ذلك ورُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ فروةَ بن مُسيكٍ الغطيفى سأل النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم عن سبأ فقال صلى الله عليه وسلم هو رجلٌ كان له عشرةُ أولاد ستَّةٌ منهم سكنُوا اليمنَ وهم مَذْحِجُ وكِنْدةُ والأَزدُ والأشعريُّون وحِمْيَرُ وأَنمارٌ منهم بَجِيلةُ وخَثْعَمُ وأربعةٌ منهم سكنُوا الشّأَمَ وهم لَخْمٌ وجُذَامٌ وعَامِلةُ وغَسَّانُ لما هلكتْ أموالُهم وخربتْ بلادُهم تفرَّقُوا أَيْدِي سَباً شَذَرَ مَذَرَ فنزلتْ طوائفُ منهم بالحجاز فمنهم خزاعة نزلوا بظاهر مكَّةَ ونزلتِ الأوسُ والخزرجُ بيثربَ فكانوا أوَّلَ مَن سكنها ثم نزل عندهم ثلاثُ قبائلَ من اليهود بنو فينقاع وبنُو قُريظَة والنَّضيرِ فحالفوا الأوسَ والخزرجَ وأقاموا عندهم ونزلتْ طوائفُ أُخر منهم بالشأمِ وهم الذين تنصَّروا فيما بعد وهم غسَّانُ وعَاملةُ ولَخْمٌ وجُذَامٌ وتَنْوخُ وتَغْلِبُ وغيرُهم وسَبَأٌ تجمعُ هذه القبائلَ كلَّها والجمهورُ على أنَّ جميعَ العرب قسمانِ قحطانيّةُ وعدنانيَّةُ والقحطانيَّةُ شعبان سبأ وحضر موت والعدنانَّيةُ شعبانِ رَبيعةُ ومُضَرُ وأما قُضَاعةُ فمختلفٌ فيها بعضهم ينسبونَها إلى قَحْطانَ وبعضُهم إلى عدنانَ والله تعالى أعلم {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيمَا ذكرَ من قصَّتهم {لآيَاتٍ} عظيمةً {لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي شأنه الصَّبرُ عن الشَّهواتِ ودواعي الهَوَى وعلى مشاقِّ الطَّاعاتِ والشُّكرُ على النِّعمِ وتخصيصُ هؤلاء بذلك لأنهم المُنتفعون بها

20

{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} أي حقَّق عليهم ظنَّه أو وجده صادقاً وقرئ بالتَّخفيف أي صدَق في ظنِّه أو صدَقَ بظنَ ظنُّه ويجوز تعدية الفعل إليه بنفسه لأنَّه نوعٌ من القولِ وقرئ بنصب إبليسَ ورفعِ الظَّنِّ مع التَّشديدِ بمعنى وجدَه ظنُّه صادقاً ومع التَّخفيف بمعنى قال له الصِّدقُ حين خيل له إغراءهم وبرفعهما والتخفيف على الإبدال وذلك إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشَّهواتِ أو ببني آدمَ حين شاهدَ آدمَ عليه السَّلامُ قد أصغى إلى وسوسته قال إنَّ ذُريَّتَه أضعفُ منه عزماً وقيل ظنَّ ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكةَ أنَّه يجعلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ويسفك الدِّماءَ وقال لأضلنَّهم ولأغوينَّهم {فاتبعوه} أي أهلُ سبأٍ أو النَّاسُ {إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين} إلا فريقاً هم المؤمنون لم يتَّبعوه على أنَّ مِن بيانيةٌ وتقليلُهم بالإضافة إلى الكُفَّارِ أو إلا فريقاً من فِرقِ المؤمنين لم يتَّبعوه وهم المُخلَصون

21

{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سلطان} أي تسلّطٍ

سبإ 22 23 واستيلاء بالوسوسة والاستواء وقولُه تعالى {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالاخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ} استثناء مفرغ من أعلم العللِ ومَن موصولةٌ أي وما كان تسلُّطُه عليهم إلا ليتعلَّقَ علمُنا بمَنْ يُؤمن بالآخرةِ متميِّزاً ممَّن هو في شكَ منها تعلُّقاً حالياً يترتَّب عليه الجزاءُ أو إلا ليتمَّيزَ المؤمنُ من الشَّاكِّ أو إلا ليؤمن قُدِّر إيمانُه ويشكُّ من قُدِّر ضلالُه والمراد من حصول العلم حصول متعلَّقه مبالغةً {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ حَفِيظٌ} أي محافظ عليه فإنَّ فَعيلاً ومُفاعِلاً صيغتانِ متآخيتانِ

22

{قُلْ} أي للمشركين إظهاراً لبُطلان ما هُم عليه وتَبكيتاً لهم {ادعوا الذين زعمتم} أي زعمتموهم آلهةً وهما مفعولا زعمَ ثم حُذف الأوَّلُ تخفيفاً لطول الموصول بصلتِه والثَّاني لقيام صفتِه أعني قوله تعالى {مِن دُونِ الله} مقامه ولا سبيل إلى جعله مفعولاً ثانياً لأنَّه لا يلتئمُ مع الضَّميرِ كلاماً وكذا لا يملكُون لأنَّهم لا يزعمونه والمعنى ادعوهم فيما يهمُّكم من جلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ لعلَّهم يستجيبون لكُم إنْ صح دعواكم ثم أجاب عنهم إشعاراً بتعيُّن الجوابِ وأنَّه لا يقبلُ المكابرةَ فقال {لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ} من خير وشرَ ونفع وضرَ {فِي السماوات وَلاَ فِى الارض} أي في أمرٍ ما من الأمور وذكرُهما للتَّعميمِ عُرفاً أو لأنَّ آلهتَهم بعضُها سماويةٌ كالملائكةِ والكواكبِ وبعضُها أرضية كالأصنامِ أو لأنَّ الاسباب القريبة للخير سماويةٌ وأرضيةٌ والجملة استئنافٌ لبيانِ حالِهم {وَمَا لَهُمْ} أي لآلهتِهم {فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} أي شَركةٍ لا خلقاً ولا مُلكاً ولا تصرُّفاً {وَمَا لَهُ} أيْ لله تعالى {مِنْهُمْ} من آلهتِهم {مّن ظَهِيرٍ} يُعينه في تدبير أمرِهما

23

{وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ} أي لا توُجد رأساً كما في قوله ولاَ ترَى الضبَّ بها ينجحِرُ لقوله تعالى {مَّن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} وإنَّما علَّق النَّفيَ بنفعها لا بوقوعِها تصريحاً بنفي ما هو غرضُهم من وقوعها وقوله تعالى {إِلاَّ لِمَنْ أذِنَ لَهُ} استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لاتقع الشَّفاعةُ في حالٍ من الأحوالِ إلا كائنة لمن أذنَ له في الشَّفاعةِ من النبيِّين والملائكةِ ونحوِهم من المستأهلين لمقام الشَّفاعةِ فتبيَّن حرمانُ الكَفرَة منها بالكُلِّية أما من جهةِ أصنامِهم فلظهور انتفاء الإذن لها ضرورةَ استحالةِ الإذنِ في الشفاعة لجمادٍ لا يعقلُ ولا ينطق وأمَّا من جهةِ مَن يعبدونَهُ من الملائكةِ فلأنَّ إذنَهم مقصورٌ على الشَّفاعةِ للمستحقِّين لها لقولِه تعالى {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أذِن لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} ومن البيِّن أنَّ الشَّفاعةَ للكفرةِ بمعزل من الصَّوابِ أولا تنفع الشفاعة من الشفعاء المستأهلين لها في حالٍ من الأحوالِ إلا كائنة لمن إذِن له أي لأجلهِ وفي شأنِه من المستحقِّين للشَّفَّاعة وأمَّا مَن عداهُم من غيرِ المستحقِّين لها فلا تنفعُهم أصلاً وإنْ فُرض وقوعُها وصدورُها عن الشُّفعاءِ إذ لم يؤذَن لهم في شفاعتهم بل في شفاعة غيرِهم فعلى هذا يثبتُ حرمانُهم من شفاعة هؤلاء بعبارة النَّصِّ ومن شفاعة الأصنام بدلالته إذ حيث

سبإ 24 حُرموها من جهةِ القادرين على شفاعة بعض المحتاجين إليها فلأن حرموها من جهة العَجَزةِ عنها أولى وقرئ أُذِنَ له مبنيّاً للمفعولِ {حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ} أي قلوب الشُّفعاءِ والمشفوعِ لهم من المؤمنين وأمَّا الكَفَرةُ فهم من موقف الاستشفاع بمعزلٍ وعن التَّفزيعِ عن قلوبهم بألفِ منزلٍ والتفزيع إزالةُ الفزعِ ثمَّ ترك ذكر الفزع وأسند الفعلُ إلى الجارِّ والمجرورِ وحتى غاية لما ينبئ عنه ما قبلها من الإشعار بوقوع الإذنِ لمن أذن له فإنَّه مسبوق بالاستئذان المستدعِي للتَّرقبِ والانتظارِ للجواب كأنَّه سُئل كيف يُؤذن لهم فقيل يتربَّصون في موقف الاستئذانِ والاستدعاءِ ويتوقَّفون على وَجَلٍ وفَزَعٍ مليّاً حتَّى إذا أُزيلَ الفزعُ عن قلوبهم بعد اللتا والتي وظهرت لهم تباشيرا الإجابةِ قَالُواْ أي المشفوعُ لهم اذهم المحتاجون إلى الإذنِ والمهتمُّون بأمره مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ أي في شأنِ الإذنِ قَالُواْ أي الشُّفعاءُ لأنَّهم المُباشرون للاستئذان بالذَّاتِ المتوسِّطُون بينهم وبينه عزَّ وجلَّ بالشَّفاعةِ الحق أي قال ربُّنا القول الحقَّ وهو الإذن في الشفاعةِ للمستحقَّين لها وقُرىء الحقُّ مرفوعاً أي ما قاله الحقُّ {وَهُوَ العلى الكبير} من تمام كلام الشُّفعاء قالوه اعترافاً بغاية عظمة جناب العزَّةِ عزَّ وجلَّ وقصور شأنِ كلِّ مَن سواه أي هو المنفرد بالعلوِّ والكبرياءِ ليس لأحدٍ من أشراف الخلائقِ أنْ يتكلَّم إلا بإذنه وقُرىء فُزع مخفَّفاً بمعنى فزع وقرىء فَزِع على البناءِ للفاعلِ وهو الله وحدَه وقرىء فزع بالراء المهملة والغين المعجمة أي نفي الوجلٍ عنها وأفنى من فرغَ الزَّادُ إذا لم يبقَ منه شيءٌ وهو من الإسنادِ المجازيِّ لأنَّ الفراغَ وهو الخلوُّ حال ظرفه عند نفادِه فأُسند إليه على عكسِ قولِهم جَرَى النَّهر وعن الحسن تخفيفُ الرَّاءِ وأصله فَرغ الرجل عنها أي انتفى عنها وفنى ثم حذف الفاعل وأُسند إلى الجارِّ والمجرور وبه يُعرف حال التَّفريغِ وقُرىء ارتفعَ عن قلوبِهم بمعنى انكشفَ عنها {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماوات والأرض} امر صلى الله عليه وسلم بتبكيتِ المشركين بحملهم على الإقرارِ بأنَّ آلهتَهم لا يملكونَ مثقالَ ذَرَّةِ فيهما وأنَّ الرَّازقَ هو الله تعالى فإنَّهم لا ينكرونه كما ينطق به قوله تعالى

24

{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض أَم مَّنْ يَمْلِكُ السمع والابصار وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى وَمَن يُدَبّرُ الامر} فَسَيَقُولُونَ الله وحيث كانُوا يتلعثمُون أحياناً في الجواب مخافةَ الالزام قيل له صلى الله عليه وسلم قُلِ الله إذ لا جواب سواء عندهم أيضاً وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ أي وإنَّ أحدَ الفريقينِ من الذين يوحِّدون المتوحِّدَ بالرِّزقِ والقُدرة الذَّاتيةِ ويخصونه بالعبادة والذين يُشركون به في العبادةِ الجمادَ النَّازلَ في أدنى المراتبِ الإمكانية لعلى أحدِ الأمرينِ من الهُدى والضَّلالِ المُبين وهذا بعد ما سبق من التَّقرير البليغ النَّاطقِ بتعيين من هُو على الهدى ومن هو في الضَّلالِ أبلغ من التَّصريحِ بذلك لجريانه على سَننِ الإنصاف المُسكتِ للخَصمِ الألدِّ وقُرىء وأنَا أو إيَّاكم إما على هُدًى أَوْ فِى ضلال مبين واختلافُ الجارِين للإيذان بأنَّ الهاديَ كمن استعلى مناراً ينظرُ الأشياءَ ويتطلَّع

سبإ 25 30 عليها والضَّالُّ كأنَّه منغمسٌ في ظلامٍ لا يَرى شيئاً أو محبوسٌ في مطمورةٍ لا يستطيعُ الخروجَ منها

25

{قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عَمَّا تَعْمَلُونَ} وهذا أبلغُ في الإنصافِ وأبعدُ من الجَدَلِ والاعتسافِ حيثُ أسند فيه الإجرامُ وإنْ أُريد به الزَّلَّةُ وتركُ الأولى إلى أنفسهم ومطلقُ العمل إلى المخاطَبين مع أن أعمالهم أكبرُ الكبائرِ

26

(قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا) يومَ القيامةِ عند الحشرِ والحسابِ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق أي يحكمُ بيننا ويفصلُ بعد ظهورِ حالِ كلَ منّا ومنكم بأن يدخل المحقِّين الجنة والمبطلين النار وَهُوَ الفتاح الحاكم الفيصل في القضايا المنغلقة العليم بما ينبغي أنْ يُقضى به

27

{قُلْ أَرُونِىَ الذين أَلْحَقْتُمْ} أي ألحقتمُوهم {بِهِ شُرَكَاء} أُريد بأمرهم بإراءةِ الأصنامِ مع كونها بمرأى منه صلى الله عليه وسلم إظهار خطئِهم العظيمِ وإطلاعهم على بُطلانِ رأيهم أي اروينها لأنظرَ بأيِّ صفةٍ ألحقتُموها بالله الذي ليسَ كمثلِه شيءٌ في استحقاقِ العبادةِ وفيه مزيدُ تبكيتٍ لهم بعد إلزامِ الحجَّةِ عليهم كَلاَّ ردعٌ لهم عن المشاركةِ بعد إبطالِ المقايسةِ {بَلْ هُوَ الله العزيز الحكيم} أي الموصوفُ بالغلبةِ القاهرةِ والحكمةِ الباهرةِ فأينَ شركاؤكم التي هي أخسُّ الاشياء اذ لها من هذه الرُّتبةِ العاليةِ والضمير اما الله عز وعلا أو للشَّأنِ كما في قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ

28

{وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} أي إلا إرسالةً عامة لهم فإنهم إذا عمَّتهم فقد كفتْهمِ أنْ يخرجَ منها أحدٌ منهم أو إلا جامعاً لهم في الابلاغ فهي حالٌ من الكافِ والتَّاءِ للمُبالغةِ ولا سبيلَ إلى جعلِها حالاً من النَّاسِ لاستحالةِ تقدُّمِ الحالِ على صاحبها المجرورِ {بَشِيراً وَنَذِيراً ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك فيحملُهم جهلُهم على ما هم عليه من الغيِّ والضَّلالِ

29

{وَيَقُولُونَ} من فرطِ جهلِهم وغايةِ غيِّهم متى هذا الوعد بطريقِ الاستهزاءِ يعنون به المبشَّر به والمنذَر عنه أو الموعود بقوله تعالى بجمع بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا {إِن كُنتُمْ صادقين} مخاطبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به

30

{قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ} أي وعدُ يومٍ أو زمان وعدو الاضافة للتبيِّينِ وقُرىء ميعادٌ يومٌ منَّونينِ على البدل ويوماً بإ 4 ضمار اعنى للتعظيم {لا تستأخرون عَنْهُ} عند مفاجأتِه {سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ} صفةً لميعادُ وفي هذا الجواب من المبالغة في التهديد مالا يخفى حيثُ جعل الاستئخارَ في الاستحالة كالا ستقدام الممتنعِ عقلاً وقد مرَّ بيانُه مراراً ويجوزُ أنْ يكون نفي الاستئجار والاستقدامِ غيرَ مقيَّدٍ بالمُفاجأة فيكون وصفُ الميعادِ بذلك لتحقيقة

سبإ 31 33 وتقريرِه

31

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نؤمن بهذا القرآن وَلاَ بالذى بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من الكتبِ القديمةِ الدَّالَّةِ على البعث وقيل إنَّ كُفَّار مكَّةَ سألُوا أهلَ الكتابِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرُوهم أنَّهم يجدون نعتَهُ في كتبهم فغضبُوا فقالُوا ذلكَ وقيل الذي بين يديه القيامة {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون} المنكرون للبعث {مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ} أي في موقفِ المحاسبة {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول} أي يتحاورونَ ويتراجعون القولَ يَقُولُ الذين استضعفوا بدل من يرجع الخ أي يقول الأتباع {لِلَّذِينَ استكبروا} في الدُّنيا واستتبعوهم في الغيِّ والضَّلالِ {لَوْلاَ أَنتُمْ} أي لولا إضلالُكم وصدُّكم لنا عن الإيمانِ {لَكُنَّا مؤمنين} باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم

32

{قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الذين استكبرُوا في الجواب فقيل قالُوا {أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ} مُنكرين لكونهم هم الصَّادِّين لهم عن الإيمانِ مُثبتين أنَّهم هم الصَّادُّون بأنفسهم بسبب كونِهم راسخين في الإجرام

33

{وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا} اضرابا عن إضرابِهم وإبطالاً له {بَلْ مكرَ اللَّيلِ والنَّهارِ} أي بل صدَّنا مكرُكم بنا باللَّيلِ والنَّهارِ فحُذف المضافُ إليه وأقيم مقامَه الظَّرفُ اتَّساعاً أو جُعل ليلُهم ونهارُهم ماكريْنِ على الإسناد المجازي وقُرىء بل مكرٌ اللَّيلَ والنَّهارَ بالتَّنوينِ ونصب الظَّرفينِ أي بل صدَّنا مكرُكم في اللَّيلِ والنَّهارِ على أن التنوين عوضٌ عن المُضافِ إليهِ أو مكرٌ عظيمٌ على أنَّه للتَّفخيمِ وقُرىء بل مكرٌ اللَّيلِ والنَّهارِ بالرَّفعِ والنَّصبِ أي تكرون الاغواء مكراً دائباً لا تفترون عنه فالرفع على الفاعلية أي بل صدَّنا مكركم الإغواء في اللَّيل والنَّهارِ على ما سبق من الاتِّساع في الظَّرفِ بإقامتِه مقامَ المضافِ إليه والنَّصبِ على المصدرية أي بل تكرون الإغواءِ مكرَ اللَّيلِ والنَّهارِ أي مكرا دائما وقوله تعالى {إِذْ تَأْمُرُونَنَا} ظرفٌ للمكرِ أي بل مكرُكم الدَّائمُ وقتَ أمرِكم لنا {أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} على أنَّ المرادَ بمكرِهم إمَّا نفسُ أمرِهم بما ذُكر كما في قوله تعالى يا قوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء

سبإ 34 37 وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً فإنَّ الجعلينِ المذكورينِ نعمةٍ من الله تعالَى وأيُّ نعمةٍ وإما أمورٌ أُخَرُ مقارنة لأمرهم داعية إلى الامتثال به من التَّرغيب والتَّرهيبِ وغير ذلك وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب أي أضمرَ الفريقانِ الندامة على ما فَعَلا من الضَّلالِ والإضلالِ وأخفاها كلٌّ منهما عن الآخرِ مخافةَ التَّعييرِ أو أظهرُوها فإنَّه من الأضدادِ وهو المناسب لحالِهم {وَجَعَلْنَا الاغلال فِى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ} أي في أعناقِهم والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ للتَّنويهِ بذمِّهم والتنَّبيهِ على موجب أغلالِهم {هَلْ يُجزون إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي لا يُجزون إِلاَّ جزاءَ ما كانُوا يعملون أو إلاَّ بما كانُوا يعملونه على نزعِ الجارِّ

34

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ} من القُرى {مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ممَّا مُنِّيَ به من قومِه من التَّكذيبِ والكُفرِ بما جاء به والمنافسة بكثرةِ الأموالِ والأولادِ والمفاخرةِ بحظوظِ الدُّنيا وزخارفِها والتَّكبرِ بذلك على المُؤمنين والاستهانةِ بهم من أجلِه وقولهم أى الفريقين خير مقاما وأحسنُ نَديَّاً بأنَّه لم يرسل قط أهل قريةٍ من نذيرٍ إلاَّ قال مُترفوهم مثلَ ما قال مُترفو أهلِ مكة في حقه صلى الله عليه وسلم وكادُوا به نحوَ ما كادوا به صلى الله عليه وسلم وقاسوا أمورَ الآخرةِ الموهومةِ والمفروضةِ عندهم على أمورِ الدُّنيا وزعموا أنَّهم لو لم يَكْرُموا على الله تعالى لما رزقهم طيبات الدُّنيا ولولا أنَّ المؤمنينَ هانُوا عليهِ تعالى لمَا حرُمهموها وعلى ذلك الرأيِّ الرَّكيكِ بنَوَا أحكامَهم

35

{وَقَالُواْ نَحْنُ أكثرُ أموالا وأولادا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} إمَّا بناءً على انتفاءِ العذابِ الأُخرويِّ رأساً أو على اعتقادِ أنَّه تعالى أكرمَهم في الدُّنيا فلا يُهينهم في الآخرةِ على تقديرِ وقوعِها

36

(قُلْ) رَدَّاً عليهم وحسماً لمادَّةِ طمعِهم الفارغِ وتحقيقاً للحقِّ الذي عليه يدورُ أمرُ التَّكوين {إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء} ان يبسط له {وَيَقْدِرُ} على مَن يَشَاء أنْ يقدرَه عليه من غير أن يكون لاحد من الفريقينِ داعٍ إلى ما فُعل به من البسطِ والقَدْرِ فربُّما يُوسِّعُ على العاصِي ويُضيِّقُ على المطيعِ وربَّما يُعكس الأمرُ ورُبَّما يُوسِّع عليهما معاً وقد يُضيَّق عليهما وقد يُوسِّع على شخصٍ تارةً ويُضيِّق عليه أخرى يفعلُ كُلاًّ من ذلك حسْبما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكم البالغةِ فلا يُقاس على ذلك أمرُ الثَّوابِ والعذابِ اللَّذينِ مناطُهما الطَّاعةُ وعدمُها وقُرىء ويُقدِّر بالتَّشديدِ {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك فيزعمون أنَّ مدارَ البسطِ هو الشَّرفُ والكرامةُ ومدارَ القَدْرِ هو الهوانُ ولا يدرون أنَّ الأوَّلَ كثيراً ما يكونُ بطريقِ الاستدراجِ والثَّاني بطريقِ الابتلاءِ ورفعِ الدَّرجاتِ

37

{وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى}

كلام مستأنفٌ من جهته عزَّ وعلا خُوطب به النَّاسُ بطريقِ التَّلوينِ والالتفاتِ مبالغةً في تحقيقِ الحقِّ وتقريرِ ما سبق أي وما جماعةُ أموالِكم وأولادِكم بالجماعةِ التي تُقربكم عندنا قُربةً فإنَّ الجمعَ المكسَّر عقلاؤُه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث أو بالخصلة التي تقرِّبكم وقُرىء بالذَّي أيْ بالشِّيءِ الذَّي {إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} استثناءٌ من مفعول تقربكم أي وما الأموالُ والأولادُ تقرِّبُ أحداً إلا المؤمنَ الصَّالحَ الذي أنفقَ أموالَه في سبيلِ الله تعالى وعلَّم أولادَه الخيرَ ورَبَّاهم على الصَّلاح ورشَّحهم للطَّاعةِ وقيل من أموالِكم وأولادِكم على حذفِ المضافِ أي إلاَّ أموالَ من الخ {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الفعلينِ باعتبارِ لفظِها وما فيهِ من معنى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذانِ بعلوِّ رتبتِهم وبُعد منزلتِهم في الفضلِ أي فأولئكَ المنعوتُون بالإيمانِ والعملِ الصَّالحِ {لَهُمْ جَزَاء الضعف} أي ثابتٌ لهم ذلك على أنَّ الجارَّ والمجرورَ خبرٌ لما بعده والجملةَ خبرٌ لأولئك وفيه تأكيدٌ لتكررِ الإسنادِ أو يثبت لهم ذلك على أنَّ الجارُ والمجرورَ خبرٌ لأولئك وما بعدَهُ مرتفعٌ على الفاعليةِ وإضافة الجزاءِ إلى الضِّعفِ من إضافة المصدرِ إلى المفعولِ أصله فأولئك لهم أنْ يجازوا الضعف ثم جزاء الضعف ثمَّ جزاءَ الضِّعفِ ومعناه أنَّ تضاعفَ لهم حسناتُهم الواحدةُ عشراً فما فوقَها وقرىء جزاء الضعف على فأولئك لهم الضِّعفُ جزاءً وجزاءٌ الضِّعفَ على أنْ يجازوا الضِّعفَ وجزاءٌ الضِّعفُ بالرفع على أنَّ الضِّعفُ بدلٌ من جزاءٌ {بِمَا عَمِلُواْ} من الصَّالحاتِ {وَهُمْ فِى الغرفات} أي غرفات الجنة {آمنون} من جميع المكارِه وقُرىء بفتح الرَّاءِ وسكونِها وقُرىء في الغُرفةِ على إرادةِ الجنسِ

38

{والذين يسعون في آياتنا} بالردِّ والطَّعنِ فيها {معاجزين} سابقينَ لأنبيائِنا أو زاعمينَ أنَّهم يفوتُوننا {أُوْلَئِكَ فِى العذاب مُحْضَرُونَ} لا يجديهم ما عوَّلوا عليه نَفْعاً

39

{قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} أي يُوسعه عليهَ تارةً {وَيَقْدِرُ لَهُ} أي يضيقُه عليه تارةً أُخرى فلا تخشَوا الفقرَ وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله وتعرَّضُوا لنفحاتِه تعالى {وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ} عِوضاً إمَّا عاجلاً وإمَّا آجلا {وهو خير الرازقين} فإنَّ غيرَه واسطة في إيصالِ رزقِه لا حقيقة لرازقيتِه

40

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} أي المستكبرينَ والمستضعفينَ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دون الله ويومَ ظرفٌ لمضمرٍ متأخِّر سيأتي تقديرُه أو مفعولٌ لمضمرٍ مقدَّمٍ نحو اذكُر {ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} تقريعاً للمشركينَ وتبكيتاً لهم على نهجِ قوله تعالى أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ الخ افناطا لهم عمَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ من شفاعتِهم وتخصيص الملائكة

سبإ 41 43 لأنَّهم أشرفُ شركائِهم والصَّالحونَ للخطابِ منهم ولأنَّ عبادتَهم مبدأُ الشِّركِ فبظهور قصورِهم عن رتبة المعبودَّيةِ وتنزههم عن عبادتِهم يظهر حالُ سائرِ شركائِهم بطريقِ الأولويةِ وقُرىء الفعلانِ بالنُّونِ

41

{قالوا} استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية سؤالِ الملائكةِ كأنه قيل فماذا يقول الملائكةِ حينئذٍ فقيل يقولون متنزِّهين عن ذلك {سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ} والعدولُ إلى صيغة الماضي الدلالة على التَّحقُّقِ أي أنت الذي نواليهِ من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم كأنَّهم بيَّنوا بذلك براءتَهم من الرِّضا بعبادتهم ثم أضربُوا عن ذلكَ ونفَوا أنَّهم عبدُوهم حقيقةً بقولهم {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} أي الشَّياطينَ حيثُ أطاعُوهم في عبادِة غيرِ الله سبحانه وتعالى وقيل كانُوا يتمثَّلون لهم ويخيِّلون لهم أنَّهم الملائكةُ فيعبدونهم وقيل يدخلونَ أجوافَ الأصنامِ إذا عُبدت فيعبدون بعبادتِها {أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} الضَّميرُ الأوَّلُ للإنسِ أو للمشركينَ والأكثرُ بمعنى الكلِّ والثَّاني للجنِّ

42

{فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً} من جملة ما يقال للملائكةِ عند جوابهم بالتَّنزه والتَّبرؤِ عمَّا نَسب إليهم الكفرةُ يخُاطبون بذلك على رءوس الأشهادِ إظهاراً لعجزهِم وقصورِهم عند عَبَدتهم وتنصيصاً على ما يُوجب خيبةَ رجائِهم بالكلِّية والفاءُ ليستْ لترتيبِ ما بعَدَها منَ الحكمِ على جوابِ الملائكةِ فإنَّه محقَّقٌ أجابُوا بذلك أم لا بل لترتيبِ الإخبار به عليه ونسبة عدمِ النَّفعِ والضُّرِّ إلى البعضِ المبهمِ للمبالغةِ فيما هو المقصودُ الذي هو بيانُ عدمِ نفعِ الملائكةِ للعبدةِ بنظمه في سلكِ عدم نفعِ العَبَدةِ لهم كأنَّ نفعَ الملائكةِ لعبدتِهم في الاستحالةِ والانتفاء كنفعِ العبدةِ لهم والتعرضِ لعدم الضُّرِّ مع أنَّه لا بحث عنه أصلاً إمَّا لتعميمِ العجزِ أو لحملِ عدمِ النَّفعِ على تقديرِ العبادةِ وعدمِ الضُّرِّ على تقديرِ تركِها أو لأنَّ المرادَ دفعُ الضُّرِّ على حذفِ المضاف وتقييد هذا الحكمِ بذلك اليومِ مع ثبوتِه على الإطلاقِ لانعقادِ رجائِهم على تحقُّقِ النَّفعِ يومئذٍ وقولُه عزَّ وجلَّ {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} عطفٌ على نقول للملائكةِ لا على لا يملكُ كما قيل فإنَّه ممَّا يقالُ يوم القيامةِ خطاباً للملائكةِ مترتباً على جوابِهم المحكيِّ وهذا حكاية لرسول صلى الله عليه وسلم لما سيقالُ للعبدةِ يومئذٍ إثر حكايةِ ما سيقالُ للملائكةِ أي يومَ نحشرُهم جميعاً ثُمَّ نَقُولُ للملائكةِ كذا وكذا ويقولون كذا وكذا ونقولُ للمشركينَ {ذُوقُواْ عَذَابَ النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ} يكون من الاهوال والاحوال مالا يحيطُ به نطاقُ المقالِ وقوله تعالى

43

{وإذا تتلى عليهم آياتنا بَيّنَاتٍ}

بيانٌ لبعضٍ آخرَ من كفرانِهم أي إذا تُتلى عليهم بلسان الرسول صلى الله عليه وسلم آياتُنا الناطقةُ بحقِّيةِ التوحيدِ وبُطلان الشِّركِ {قَالُواْ مَا هذا} يعنون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم {إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم} فيستتبعكم بما يستدعيِه من غير أن يكون هناك دينٌ إلهيٌّ وإضافة الآباءِ إلى المخاطَبين لا إلى أنفسِهم لتحريكِ عرقِ العصبيةِ منهم مبالغةً في تقريرِهم على الشِّركِ وتنفيرِهم عن التَّوحيد {وَقَالُواْ مَا هذا} يعنون القرآنَ الكريمَ {إِلاَّ إِفْكٌ} أي كلام مصروفٌ عن وجهه لا مصداق له في الواقع {مُّفْتَرًى} بإسنادِه إلى الله تعالى {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ} أي لأمرِ النبوَّةِ أو الإسلامِ أو القرآن على أنَّ العطفَ لاختلافِ العُنوان بأنْ يُراد بالأولِ معناهُ والثاني نظمَه المعجزَ {لَمَّا جَاءهُمْ} مِنْ غيرِ تدبُّرٍ ولا تأمُّلٍ فيه {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهرٌ سحريّتُه وفي تكرير الفعلِ والتَّصريحِ بذكر الكفرةِ وما في الَّلامينِ من الإشارةِ إلى القائلينَ والمقولِ فيهِ ومَا في لمَّا مِنْ المسارعة الى البيت بهذا القولِ الباطلِ إنكارٌ عظيمٌ له وتعجيبٌ بليغٌ منه

44

{وما آتيناهم مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} فيها دليلٌ على صحَّةِ الإشراكِ كما في قوله تعالى أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ وقولِه تعالى {أم آتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} وقُرىء يدرسُونها ويدَّرسونها بتشديدِ الدَّالِ يفتعلون من الدَّرسِ {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ} يدعُوهم إليه وينذرُهم بالعقابِ إن لم يُشركوا وقد بان من قبلُ أنْ لا وجهَ له بوجهٍ من الوجوهِ فمن أينَ ذهبُوا هذا المذهبَ الزَّائغَ وهذا غايةُ تجهيلٍ لهم وتسفيهٍ لرأيهم ثمَّ هدَّدهم بقولِه تعالى

45

{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} من الأمم التقدمة والقُرون الخاليةِ كما كذَّبوا {وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا آتيناهم} أي ما بلغَ هؤلاءِ عشرَ ما آتينا أولئكَ من القوَّة وطولِ العمر وكثرةِ المالِ أو ما بلغ أولئك عشرَ ما آتينا هؤلاءِ من البيِّناتِ والهُدى {فَكَذَّبُواْ رُسُلِى} عطف على كذَّب الذينَ الخ بطريقِ التَّفصيلِ والتَّفسيرِ كقولِه تعالَى {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} الخ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكارِي لهم بالتَّدميرِ فليحذَرْ هؤلاء من مثلِ ذلك

46

{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة} أي ما أُرشدكم وأنصح لكم إلا بخصلة واحدة هي ما دل عليه قوله تعالى {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ} على أنَّه بدلٌ منها أو بيانٌ لها أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي هي أن تقومُوا من مجلس رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو تنتصبُوا للأمرِ خالصاً لوجهِ الله تعالى معرضاً عن المُماراةِ والتَّقليدِ {مثنى وفرادى} أي متفرِّقين اثنينِ اثنين وواحداً واحداً فإنَّ الازدخام يُشوش الأفهامَ ويخلطُ الأفكار بالأوهامِ وفي تقديمِ مَثْنى إيذانٌ بأنَّه أوثقُ وأقربُ إلى الاطمئنانِ {ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ}

في أمره صلى الله عليه وسلم وما جاء به لتعلمُوا حقيقتَه وحقِّيتَه وقوله تعالى {ما بصاحبكم من جنة} استئنافٌ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى للتَّنبيه على طريقةِ النَّظر والتَّأملِ بأنَّ مثلَ هذا الأمرِ العظيمِ الذي تحتَه ملك الدُّنيا والآخرةِ لا يتصدى لا دعائه إلا مجنونٌ لا يُبالي بافتضاحِه عند مطالبته بالبُرهان وظهور عجزهِ أو مؤيدٌ من عندِ الله مرشَّح للنُّبوةِ واثق بحجَّتهِ وبرهانه وإذ قد علمتُم أنَّه صلى الله عليه وسلم أرجحُ العالمين عقلاً وأصدقُهم قولاً وأنزههم نفساً وأفضلُهم علماً وأحسنُهم عملاً وأجمعُهم للكمالاتِ البشريَّةِ وجبَ أنْ تصدِّقُوه في دعواهُ فكيف وقد انضمَّ إلى ذلك معجزاتٌ تخِرُّ لها صُمُّ الجبالِ ويجوزُ أن يتعلَّق بما قبلَه على معنى ثم تتفكَّروا فتعلموا ما بصاحِبكم من جنَّةٍ وقد جُوِّز أن تكون ما استفهاميةً على معنى ثم تتفكروا أي شئ به من آثارِ الجنونِ {إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد} هو عذاب الآخرة فإنه صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ في نَسَمِ السَّاعةِ

47

{قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أجر} أي أي شئ سألتُكم من أجرٍ على الرِّسالة {فَهُوَ لَكُمْ} والمرادُ نفيُ السُّؤالِ رأساً كقولِ مَن قال لمن لم يُعطه شيئاً إنْ أعطيتني شيئاً فخُذه وقيل مَا موصولةٌ أُريد بها ما سألهم بقوله تعالى مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يتخذ إلى ربه سبيلا وقوله تعالى لاَ أَسْأَلُكُم عَلَيهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى واتخاذ السَّبيلِ إليه تعالى منفعتهم الكُبرى وقرباه صلى الله عليه وسلم قرباهم {إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله وَهُوَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٍ} مطَّلع يعلمُ صدقي وخلوصَ نيتَّي وقرئ إن أجري بسكون الياء

48

{قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق} أي يُلقيه ويُنزله على من يجتبيهِ من عبادِه أو يرمي به الباطلَ فيدمغُه أو يرمي به في أقطارِ الآفاقِ فيكون وعداً بإظهارِ الإسلامِ وإعلاءِ كلمةِ الحقِّ {علام الغيوب} صفةٌ محمولةٌ على محلِّ إنَّ واسمِها أو بدلٌ من المستكنِّ في يقذفُ أو خبرٌ ثانٍ لأنَّ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وقرئ بالنَّصبِ صفة لربِّي أو مقدرا بأعنى وقرئ بكسرِ الغَين وبالفتحِ كصبور مبالغةُ غائب

49

{قُلْ جَاء الحق} أي الإسلامُ والتوحيد {وما يبدئ الباطل وَمَا يُعِيدُ} أي زهقَ الشِّركُ بحيث لم يبقَ أثرُه أصلاً مأخوذُ من هلاكِ الحيِّ فإنَّه إذا هلكَ لم يبقَ له إبداءٌ ولا إعادةٌ فجُعل مَثَلاً في الهلاكِ بالمرَّة ومنْهُ قولُ عُبيْدٍ أَقْفرَ مِن أَهْلِه عُبيد فليسَ يُبدي وَلاَ يُعيدُ وقيل الباطلُ إبليسُ أو الصنم والمعنى لا ينشئ خلقاً ولا يُعيد أو لا يبدئ خيراً لأهلِه ولا يُعيد وقيل ما استفهاميِّةٌ منصوبةٌ بما بعدَها

50

{قُلْ إِن ضَلَلْتُ} عن الطَّريقِ الحقِّ {فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى} فإنَّ وبالَ ضلالِي عليها لأنَّه بسببها إذهى الجاهلةُ بالذَّاتِ والأمَّارةُ بالسُّوءِ وبهذا الاعتبارِ قُوبل الشَّرطيةُ بقولِه تعالى {وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى} لأنَّ الاهتداءَ بهدايتِه وتوفيقِه وقرئ ربِّيَ بفتح الياء {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}

يعلم قولَ كلَ من المُهتدي والضَّالِّ وفعلَه وإنْ بالغَ في إخفائِهما

51

{وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ} عند الموتِ أو البعثِ أو يومِ بدرٍ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ ثمانين ألفاً يغزُون الكعبةَ ليخرِّبوها فإذا دخلُوا البيداءَ خُسف بهم وجوابُ لو محذوفٌ أي لرأيتَ أمراً هائلاً {فَلاَ فَوْتَ} فلا يفوتُون الله عزَّ وجل يهرب أو تحصُّنٍ {وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} من ظهرِ الأرضِ أو من الموقفِ إلى النَّارِ أو من صحراء بدرٍ إلى قَليبها أو من تحت أقدامهم إذا خُسف بهم والجملةُ معطوفة على فَزِعوا وقيل على لافوت على معنى إذْ فَزعُوا فلم يفوتُوا وأُخذوا ويؤيده أنه قرئ وأُخذ بالعطف على محلِّه أي فلا فوت هنا وهناك أخذ

52

{وقالوا آمنا به} أي بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد مرَّ ذكرُه في قوله تعالى ما بصاحِبكم {وأنى لَهُمُ التناوش} التَّناوشُ التَّناولُ السَّهلُ أي ومِن أينَ لهم أنْ يتناولُوا الإيمانَ تناولاً سهلاً {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} فإنَّه في حيِّزِ التكليف وهُم منه بمعزلٍ بعيدٍ وهو تمثيلُ حالِهم في الاستخلاصِ بالإيمانِ بعد ما فاتَ عنهم وبعُد بحالِ مَنْ يُريدُ أن يتناول الشئ من غَلْوةٍ تناوله من ذراع في الاستحالة وقرئ بالهمزة على قلبِ الواوِ لضمِّها وهو من نأشت الشئ إذا طلبتُه وعن أبي عمرو التَّناؤشُ بالهمزِ التَّناولُ من بُعدٍ من قولِهم نأشتُ إذا أبطأتَ وتأخَّرتَ ومنه قولُ مَن قالَ تمنَّى نَئيشا أنْ يكون أطاعنِي وقد حدثتْ بعدَ الامور أمورُ

53

{وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ} أي بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بالعذابِ الشَّديدِ الذي أنذرهم إياه {مِن قَبْلُ} أي من قبلِ ذلك في أوانِ التَّكليفِ {وَيَقْذِفُونَ بالغيب} ويَرجمون بالظَّنِّ ويتكلَّمون بما لم يظهر لهم في حق الرسول صلى الله عليه وسلم من المطاعنِ أو في العذاب المذكورِ من بت القول بنفيه {مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ} من جهةٍ بعيدةٍ من حاله صلى الله عليه وسلم حيث ينسبونه صلى الله عليه وسلم إلى الشِّعرِ والسِّحرِ والكذب وإن ابعد شئ ممَّا جاءَ به الشِّعرُ والسحر وأبعد شئ من عادته المعروفة فيما بين الدَّاني والقاصِي الكذبُ ولعله تمثيلٌ لحالِهم في ذلك بحالِ مَن يرمي شيئاً لا يراهُ من مكانٍ بعيدٍ لا مجالَ للوهم في لحوقه وقرئ ويُقذفون على أنَّ الشَّيطانَ يلقي إليهم ويلقِّنهم ذلك وهو معطوفٌ على قد كفروا به على حكايةِ الحالِ الماضيةِ أو على قالُوا فيكون تمثيلاً لحالِهم بحال القاذفِ في تحصيل ما ضيِّعُوه من الإيمان في الدُّنيا

54

{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يشتهون} من نفعِ الإيمانِ والنَّجاة من النار وقرئ بإشمامِ الضَّمِّ للحاء {كَمَا فُعِلَ بأشياعهم مّن قَبْلُ} أي بأشباهِهم من كفرةِ الأُمم الدَّارجة {إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكّ مُرِيبٍ} أي مُوقعٌ في الرِّيبةِ أو ذي ريبة والأوَّلُ منقولٌ ممَّن يصحُّ أن يكونَ مُريباً من الأعيانِ إلى المعنى والثاني من صاحبِ الشَّكِّ إلى الشَّكِّ كما يُقال شعرٌ شاعرٌ والله أعلم عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ سبأٍ لم يبقَ رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ كان له يومَ القيامة رفيقاً ومُصافحاً

سورة فاطر 1 سورة فاطر مكية وهى خمس وأربعون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

فاطر

{الحمد لله فاطر السماوات والارض} مبدِعهما من غيرِ مثالِ يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيهِ من الفَطرِ وهو الشَّقُّ وقيل الشَّقُّ طولاً كأنَّه شقَّ العدمَ بإخراجِهما منه وإضافته محضة لأنَّه بمعنى الماضي فهو نعتٌ للاسمِ الجليلِ ومن جعلها غيرَ محضةٍ جعله بدلاً منه وهو قليلٌ في المشتقِّ {جَاعِلِ الملائكة} الكلامُ في إضافتِه وكونِه نعتاً أو بدلاً كما قبلَه وقوله تعالى {رُسُلاً} منصوبٌ به على الوجهِ الثَّانِي من الاضافة الاتفاق وأمَّا على الوجهِ الأولِ فكذلك عند الكِسائِّي وأمَّا عند البصريينَ فبمضمرٍ يدلُّ هو عليه لأنَّ اسمَ الفاعلِ إذا كان بمعنى الماضي لا يعملُ عندهم إلا معرَّفاً باللام وقال أبو سعيدٍ السِّيرافيُّ اسم الفاعلِ المتعدِّي إلى اثنينِ يعملُ في الثَّانِي لإنَّ بإضافتَه إلى الأوَّلِ تعذرتْ إضافتُه إلى الثَّانِي فتعيِّن نصبُه له وعلل بعضُهم ذلك بأنَّه بالإضافة أشبه المعرَّفِ باللامِ فعمِل عملَه وقرئ جاعلُ بالرَّفعِ على المدح وقرئ الذى فَطَرَ السموات والارض وَجَعَلَ الملائكة أي جاعلهم وسائطَ بينه تعالى وبين أنبيائِه والصَّالحينَ من عبادِه يبلِّغون إليهم رسالاتِه بالوحيِ والإلهامِ والرُّؤيا الصَّادقةِ أو بينه تعالى وبين خلقِه أيضاً حيثُ يوصِّلون إليهم آثارَ قدرتِه وصنعِه هذا على تقديرِ كونِ الجعلِ تصبيريا أمَّا على تقديرِ كونِه إبداعيَّاً فرُسلاً نُصب على الحالية وقرئ رُسْلاً بسكونِ السِّينِ {أُوْلِى أَجْنِحَةٍ} صفةً لرُسلاً وأولو اسمُ جمعٍ لذُو كما أن أولاء اسم لذا ونظيرُهما في الأسماءِ المتمكِّنة المخاضُ والخلفةُ وقوله تعالى {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} صفاتٌ لأجنحة أي ذَوي أجنحة متعدِّدةٍ مُتفاوتةٍ في العدد حسب تفاوتِ ما لَهُم من المتراتب ينزلون بها ويعرجُون أو يسرعون بها والمعنى أنَّ من الملائكة خَلْقاً لكلِّ واحد منهم جناحانِ وخَلْقاً اجنحة كل منهم ثلاثة وخَلْقاً آخر لكلِّ منهم أربعة أجنحة ويُروى أنَّ صنفاً من الملائكة لهم ستة أجنحة بجناحين منها يُلقون أجسادَهم وبآخرينِ منها يطيرون فيما أُمروا به من جهتِه تعالى وجناحانِ منها مرخيَّانِ على وجوههم حياءً من الله عزَّ وجلَّ وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه رأى جبريلَ عليه السَّلامُ ليلةَ المعراجِ وله ستمائةُ جناح ورُوي أنَّه سألَه عليهما السَّلامُ أنْ يتراءى له في صورتِه فقال إنَّك لن تطيقَ ذلك قال إنِّي أحبُّ أنْ تفعل فخرج صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ مُقمرةٍ فأتاهُ جبريلُ عليهما السَّلامُ في صورته فغشى عليه صلى الله عليه وسلم ثم أفاق وجبريل مسندُهُ وإحدى يديِه على صدرِه والأخرى بين كتفيِه فقال سبحانَ الله ما كنتُ أرى أنَّ شيئاً من الخلقِ هكذا فقال جبريلُ عليه السَّلامُ فكيف لو رأيت

فاطر 2 3 إسرافيلَ له اثنا عشرَ جناحاً جناحٌ منها بالمشرقِ وجناحٌ منها بالمغربِ وإنَّ العرشَ على كاهلِه وإنَّه ليتضاءلُ الأحايينَ لعظمةِ الله عزَّ وجلَّ حتَّى يعودَ مثلَ الوَصَعِ وهو العصفورُ الصَّغيرُ {يَزِيدُ فِى الخلق ما يشاء} استثناف مقرِّرٌ لما قبله من تفاوتِ أحوالِ الملائكةِ في عددِ الأجنحةِ ومؤذنٌ بأنَّ ذلكَ من أحكامِ مشيئتِه تعالى لا لأمرٍ راجعٍ إلى ذَواتهم ببيان حكم كلِّي ناطق بأنَّه تعالى يزيدُ في أيِّ خلقٍ كان كلِّ ما يشاءُ أنْ يزيدَه بموجبِ مشيئتِه ومُقتضى حكمتِه من الأمورِ التي لا يحيطُ بَها الوصفُ وما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من تخصيص بعض المعاني بالذِّكرِ من الوجهِ الحسنِ والصَّوتِ الحسنِ والشَّعرِ الحسنِ فبيانٌ لبعضِ الموادِّ المعهودةِ بطريقِ التَّمثيلِ لا بطريقِ الحصرِ فيها وقولُه تعالى {إِنَّ الله على كل شَىْء قَدِيرٌ} تعليلٌ بطريقِ التَّحقيق للحُكمِ المذكورِ فإنَّ شمولِ قدرتِه تعالى لجميعِ الأشياءِ ممَّا يوجبُ قدرتَه تعالَى على أنَّ يزيدَ كلَّ ما يشاؤه إيجاباً بيِّناً

2

{مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} عبَّر عن إرسالِها بالفتحَ إيذاناً بأنَّها أنفسُ الخزائنِ التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ وأعزُّها منالاً وتنكيرُها للإشاعةِ والإبهام أيْ أي شئ يفتحُ اللَّهُ من خزائنِ رحمتِه أيَّة رحمةٍ كانتْ من نعمةٍ وصحَّةٍ وأمنٍ وعلمٍ وحكمةٍ إلى غيرِ ذلكَ ممَّا لا يُحاط به {فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} أي لا أحدَ يقدِر على إمساكِها {وَمَا يُمْسِكْ} أي أي شئ يُمْسِكْ {فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ} أي لا أحدَ يقدِر على إرسالِه واختلافُ الضَّميرينِ لما أنَّ مرجعَ الأوَّلِ مفسَّرٌ بالرَّحمةِ ومرجعَ الثَّانِي مطلقٌ يتناولُها وغيرَها كائناً ما كان وفيه إشعارٌ بأنَّ رحمتَه سبقتْ غَضبه {مِن بَعْدِهِ} أي من بعدِ إمساكِه {وَهُوَ العزيز} الغالبُ على كلِّ ما يشاءُ من الأمورِ التي من جُملتها الفتحُ والإمساك {الحكيم} الذي يفعلُ كلَّ ما يفعلُ حسبما تقتضيِه الحِكمةُ والمصلحةُ والجملةُ تذييلٌ مقرِّر لما قبلها ومعربٌ عن كونِ كلَ من الفتحِ والإمساكِ بموجبِ الحكمةِ التي عليَها يدورُ أمرُ التَّكوينِ وبعد ما بيَّن سبحانَه أنَّه الموجدُ للملك والملكوتِ والمتصرِّفُ فيهما بالقبضِ والبسطِ من غيرِ أنْ يكون لأحد في ذلك دخلٌ ما بوجهٍ من الوجوهِ أمرَ النَّاس قاطبةً أو أهلَ مكَّةَ خاصَّةً بشكر نعمه فقال

3

{يا أيها الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} أي إنعامَه عليكم إنْ جُعلت النِّعمةُ مصدراً أو كائنةً عليكم إنْ جُعلت اسماً أي راعُوها واحفظُوها بمعرفةِ حقِّها والاعترافِ بها وتخصيصِ العبادةِ والطَّاعةِ بموليها ولمَّا كانتْ نعمُ الله تعالى مع تشعُّبِ فنونِها منحصرةً في نعمةِ الإيجادِ ونعمةِ الإبقاءِ نَفَى أنْ يكونَ في الوجودِ شئ غيرُه تعالى يصدرُ عنه إحدى النِّعمتينِ بطريقِ الاستفهامِ الإنكاريِّ المُنادِي باستحالةِ أنْ يُجاب عنه بنعَم فقال {هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله} أي هَلْ خالقٌ مغايرٌ له تعالى موجودٌ على أنَّ خالقٍ مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ زيدتْ عليه كلمة مِن لتأكيدِ العُمومِ وغيرِ الله نعتٌ له باعتبارِ محلِّه كما أنَّه نعتٌ له في قراءةِ الجر باعتبار لفظه وقرئ

فاطر 4 5 بالنَّصبِ على الاستثناءِ وقوله تعالى {يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض} أي بالمطرِ والنَّباتِ كلامٌ مبتدأٌ على التَّقاديرِ لا محلَّ له من الإعراب داخل من حيِّز النَّفي والإنكار ولا مساغَ لما قيلَ من أنَّه صفةٌ أخرى لخالق مرفوعةُ المحلِّ أو مجرورتُه لأنَّ معناه نفي وجودِ خالقٍ موصوفٍ بوصفَيْ المغايرةِ والرَّازقيَّةِ معاً من غيرِ تعرضٍ لنفْي وجودِ ما اتَّصف بالمغايرةِ فَقَطْ ولا لما قيلَ من أنه الخبرُ للمبتدأِ ولا لما قيلَ من أنَّه مفسِّر لمضمرٍ ارتفع به قولُه تعالى مِنْ خالقٍ على الفاعلية أي هل يرزقكم من خالق الخ لما أنَّ معناهما نفي رازقيَّة خالقٍ مغايرٍ له تعالى من غيرِ تعرضٍ لنفيِ وجودِه رأساً مع أنَّه المرادُ حتماً ألا يُرى إلى قولِه تعالى {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} فإنَّه استئنافٌ مسوقٌ لتقرير النَّفيِ المستفادِ منه قصداً وجارٍ مجرى الجوابِ عمَّا يوهمه الاستفهامُ صورةً فحيث كان هذا ناطقاً بنفيِ الوجودِ تعيّنَ أنْ يكونَ ذلك أيضاً كذلك قطعاً والفاءُ في قوله تعالى {فأنى تُؤْفَكُونَ} لترتيبِ إنكارِ عدولهم عن التَّوحيدِ إلى الإشراكِ على ما قبلها كأنه قيل وإذا تبيَّن تفرُّده تعالى بالألوهية والخالقية والرازقية فمنْ أيِّ وجهٍ تُصرفون عن التَّوحيدِ إلى الشِّركِ وقوله تعالى

4

{وإن يكذبوك فقد كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين خطابي النَّاسِ مسارعةً الى تسليته صلى الله عليه وسلم بعمومِ البليَّةِ أولاً والإشارةِ إلى الوعدِ والوعيدِ ثانياً أيْ وإن استمرُّوا على أنْ يكذِّبوك فيما بلَّغتَ إليهم من الحقِّ المُبين بعد ما أقمتَ عليهم الحجَّةَ وألقمتَهم الحجرَ فتأسَّ بأولئك الرُّسلِ في المُصابرةَ على ما أصابهُم من قبل قومِهم فوضعَ موضعهَ ما ذُكر اكتفاءً بذكرِ السَّببِ عن ذكرِ المسبَّبِ وتنكيرُ الرُّسل للتَّفخيمِ الموجبِ لمزيدِ التَّسليةِ والتَّوجهِ إلى المُصابرةِ أي رسلٌ أولو شأنٍ خطير وذوو عدد كثيرٍ {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} لا إلى غيرِه فيُجازِي كَّلاً منك ومنُهم بما أنتُم عليهِ من الأحوالِ التي من جملتها صبرُك وتكذيبُهم وفي الاقتصارِ على ذكرِ اختصاصِ المرجعِ بالله تعالى مع إبهامِ الجزاءِ ثواباً وعقاباً من المبالغةِ في الوعدِ والوعيدِ ما لا يخفى وقرئ تَرْجعُ بفتحِ التَّاءِ من الرُّجوع والأولُ أدخلُ في التهويلِ

5

{يا أيها الناس} رجوعٌ إلى خطابِهم وتكريرُ النِّداءِ لتأكيدِ العظةِ والتَّذكير {إِنَّ وَعْدَ الله} المشارَ إليه برجعِ الأمورِ إليه تعالى من البعث والجزاء {حَقّ} ثابتٌ لا محالةَ من غيرِ خُلفٍ {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا} بأنْ يُذهلكم التَّمتع بمتاعِها ويُلهيكم التَّلهي بزخارِفها عن تداركِ ما يهمكم يومَ حلولِ الميعادِ والمرادُ نهيُهم عن الاغترار بها وإنْ توجَّه النَّهيُ صورةً إليها كما في قوله تعالى لا يجر منكم شِقَاقِى {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله} وعفوِه وكرمه تعالى {الغرور} أي المبالغُ في الغُرور وهو الشَّيطانُ بأنْ يمنيكم المغفرةَ مع الإصرارِ على المعاصِي قائلاً اعملوا ما شئتُم أَنَّ الله غَفُورٌ يغفِرُ الذُّنوبَ جميعاً فإنَّ ذلكَ وإنْ أمكنَ لكنْ تعاطي الذّنوبِ بهذا التَّوقعِ من قبيلِ تناولِ السُّمِّ تعويلاً على دفعِ الطَّبيعةِ وتكريرُ فعلِ النَّهي للمبالغةِ فيه ولاختلافِ الغرورينِ في الكيفية وقرئ الغُرور بالضَّمِّ على أنَّه مصدرٌ أو جمعُ غَارٍ كقعود جمع قاعد

فاطر

6

6 - 8 {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ} عداوةً قديمةً لا تكاد تزولُ وتقديمُ لكم للاهتمامِ به {فاتخذوه عَدُوّاً} بمخالفتِكم له في عقِائدِكم وأفعالِكم وكونِكم على حَذَرٍ منه في مجامعِ أحوالِكم وقولُه تعالى {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير} تقريرٌ لعداوتِه وتحذيرٌ من طاعتِه بالتَّنبيهِ على أنَّ غرضَه في دعوةِ شيعتِه إلى اتِّباعِ الهَوَى والركونِ إلى ملاذِّ الدُّنيا ليس تحصيلَ مطالبِهم ومنافِعهم الدُّنيويَّةِ كما هو مقصد المُتحابِّين في الدُّنيا عند سعي بعضِهم في حاجةِ بعضٍ بل هو توريطُهم وإلقاؤُهم في العذابِ المُخلَّد من حيثُ لا يحتسبون

7

{الذين كَفَرُواْ لَهُمْ} بسببِ كفرِهم وإجابتِهم لدعوةِ الشَّيطانِ واتِّباعِهم لخطواتِه {عَذَابٌ شَدِيدٍ} لا يقادَر قَدُره مديدٌ لا يُبلغ مداهُ {والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم} بسببِ ما ذُكر من الإيمانِ والعملِ الصالحِ الذي من جُملتِه عداوةُ الشِّيطانِ {مَغْفِرَةٌ} عظيمة {وأجر كبير} لاغاية لهما

8

{أَفَمَن زُين لَهُ سوءُ عَمَلِهِ فرآه حَسَناً} إمَّا تقريرٌ لما سبقَ من التَّبايُنِ البيِّنِ بين عاقبتيْ الفريقينِ ببيان تباين حاليهما المُؤدِّيينِ إلى تَينكِ العاقبتينِ والفاءُ لإنكارِ ترتيبِ ما بعدها على ما قبلها أي أبعدَ كونِ حاليهما كما ذُكر يكون من زُيِّن له الكفرُ من جهةِ الشَّيطانِ فانهمك فيه كمنْ استقبحَه واجتنَبه واختارَ الإيمانَ والعملَ الصَّالحَ حتَّى لا تكون عاقبتاهما كما ذُكر فحُذِفَ ما حُذف لدلالةِ ما سبق عليه وقولُه تعالى {فَإِنَّ الله يُضِلُّ} الخ تقريرٌ له وتحقيقٌ للحقِّ ببيانِ أنَّ الكُل بمشيئتِه تعالى أيْ فإنَّه تعالىَ يُضلُّ {مَن يَشَآء} أنْ يضلَّه لاستحسانه واستحبابِه الضَّلالَ وصرفِ اختيارِه إليه فيردَّه أسفلَ سافلينَ {وَيَهْدِى مَن يَشَآء} أنْ يهديَه بصرفِ اختيارِه إلى الهُدى فيرفعه إلى أعلى عليين وإمَّا تمهيدٌ لما يعقُبه من نهيه صلى الله عليه وسلم عن التَّحسرِ والتَّحزنِ عليهم لعدمِ إسلامِهم ببيانِ أنَّهم ليُسوا بأهلٍ لذلَك بلْ لأنْ يُضربَ عنهم صَفْحاً ولا يُبالي بهم قطعاً أي أبعدَ كونِ حالِهم كما ذُكر تتحسَّر عليهم فحُذف لما دلَّ عليه قولُه تعالى {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات} دلالة بيِّنةٌ وإمَّا تمهيدٌ لصرفِه صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من الحرصِ الشديدِ على إسلامِهم والمبالغةِ في دعوتِهم إليه ببيان استحالة تحولهم عن الكفرِ لكونِه في غايةِ الحسنِ عندهم أي أبعدَ ما ذُكر من زُيِّن له الكفرُ من قبل الشيطان فرآه فانهمك فيه يقبلُ الهدايةَ حتَّى تطمعَ في إسلامِه وتُتعبَ نفسَك في دعوتِه فحُذِفَ ما حُذف لدلالة ما مرَّ من قولِه تعالى فَإِنِ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء الخ على أنَّه ممن شاء الله تعالى أنْ يضلَّه فمن يهدى من أضل الله وَمَا لَهُم مِن ناصرين وقرئ فلا تُذهب نفسك وقولُه تعالى حسراتِ إمَّا مفعول له أي فلا

فاطر 9 10 تهلك نفسك للحسرات والجمعُ للدِّلالةِ على تضاعفِ اغتمامِه صلى الله عليه وسلم على أحوالِهم أو على كثرةِ قبائحِ أعمالِهم الموجبةِ للتَّأسُّفِ والتَّحسرِ وعليهم صلةُ تذهب كما يقال هَلك عليه حبا ومات عليه حُزناً أو هو بيانٌ للمتحسَّر عليهِ ولا يجوزُ أنْ يتعلَّق بحسراتٍ لأنَّ المصدرَ لا تتقدَّمُ عليه صلتُه وإمَّا حالٌ كأن كلها صارت حسرات وقوله تعالى {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} أي من القبائحِ تعليلٌ لما قبله على الوجوهِ الثلاثةِ مع ما فيه فيه من الوعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّها نزلتْ في أبي جهلٍ ومُشركِي مكَّةَ

9

{والله الذى أَرْسَلَ الرياح} مبتدأ وخبر وقرئ الريح وصيغةُ المضارعِ في قوله تعالى {فَتُثِيرُ سحابا} لحكايةِ الحالِ الماضيةِ استحضاراً لعلك الصُّورةِ البديعةِ الدَّالَّةِ على كمال القدرةِ والحكمةِ ولأنَّ المرادَ بيانُ إحداثِها لتلك الخاصَّيةِ ولذلك أُسند إليها أو للدِّلالةِ على استمرارِ الإثارةِ {فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ ميت} وقرئ بالتَّخفيفِ {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الارض} أي بالمطرِ النَّازلِ منه المدلولِ عليه بالسَّحابِ فإنَّ بينهما تلازماً في الذِّهنِ كما في الخارجِ أو بالسَّحابِ فإنَّه سببُ السَّببِ {بَعْدَ مَوْتِهَا} أي يُبسها وإيرادُ الفعلينِ على صيغةِ الماضِي للدَلالة على التحققِ وإسنادهما الى نون العظمة المنبئ عن اختصاصِهما به تعالى لما فيهما من مزيدِ الصُّنعِ ولتكميل المُماثلةِ بين إحياءِ الأرضِ وبين البعثِ الذي شُبِّه به بقوله تعالى {كَذَلِكَ النشور} في كمال الاختصاصِ بالقُدرةِ الرَّبانيةِ والكافُ في حيِّزِ الرفعِ على الخبرية أي مثلَ ذلك الإحياءِ الذي تشاهدونَه إحياءٌ الأمواتِ في صحَّة المقدوريَّةِ وسهولةِ التأتِّي من غيرِ تفاوتٍ بينَهما أصلاً سوى الألفِ في الأوَّلِ دُونَ الثَّانِي وقيل في كيفيَّةِ الإحياءِ يُرسل الله تعالى من تحت العرشِ ماءً فينبتُ منه أجسادُ الخلقِ

10

{مَن كَانَ يُرِيدُ العزة} هم المشركونَ الذينَ كانُوا يتعزَّزون بعبادةِ الأصنامِ كقولِه تعالى {واتخذوا مِن دُونِ الله آلهة لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً} والذين كانوا يتعزَّزون بهم من الذينَ آمنُوا بألسنتِهم كما في قوله تعالى {الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة} والجمعُ بين كانَ ويريد الدلالة على دَوام الإرادةِ واستمرارِها {فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً} أي له تعالى وحَدهُ لا لغيرِه عزَّةُ الدُّنيا وعزَّةُ الآخرةِ أي فليطلبها منْهُ لا من غيرِه فاستُغني عن ذكرِه بذكرِ دليلِه إيذاناً بأنَّ اختصاصَ العزَّةِ به تعالى موجبٌ لتخصيصِ طلبها به تعالى وقوله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} بيان لما يُطلب به العزَّةُ وهو التَّوحيدُ والعملُ الصَّالحُ وصعودُهما إليه مجازٌ عن قبولِه تعالى إيَّاهُما أو صعودُ الكَتَبةِ بصحيفتهما وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عبارةٌ عن كمالِ الاعتدادِ به كقولِه تعالى وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات أي إليه يصلُ الكلمُ الطَّيبُ الذي به يُطلب العزَّةَ لا إلى الملائكةِ الموكَّلين بأعمال العبادِ فَقطَ وهو يعزُّ صاحَبهُ ويعطى طلبته بالذات

فاطر 11 والمستكّنُّ في يرفعه للكلم فإنَّ مدارَ قبولِ العملِ هو التَّوحيدُ ويُؤيده القراءةُ بنصب العمل أو العمل فإنَّه يحققُ الإيمانَ ويقويه ولا يُنال الدَّرجاتُ العاليةُ إلا به وقرئ يُصعد من الإصعادِ على البناءين والمُصعدُ هو الله سبحانَه أو المتكلِّم به أو الملكُ وقيل الكلمُ الطَّيبُ يتناول الذِّكرَ والدُّعاءَ والاستغفارَ وقراءةَ القُرآن وعنه صلى الله عليه وسلم انه سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبرُ إذَا قالَها العبدُ عرجَ بها الملكُ إلى السَّماءِ فحيا بها وجَه الرحمن فإذا لم يكُن عمل صالحا لم تُقبل وعن ابن مسعود رضي الله عنه ما من عبدٍ مسلمٍ يقول خمس كلمات سبحان والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله إلا أخذهنَّ ملكٌ فجعلهنَّ تحتَ جناحِه ثم صعدَ بهنَّ فما يمرُّ بهنَّ على جمعٍ من الملائكةِ إلا استغفرُوا لقائلهنَّ حتَّى يحيى بهنَّ وجَه ربِّ العالمين ومصداقُه قوله عزَّ وجلَّ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب الخ {والذين يَمْكُرُونَ السيئات} بيانٌ لحال الكَلِمِ الخَبيثِ والعملِ السيء وأهلِهما بعد بيانِ حالِ الكلم الطيب والعمل الصالح وانتِّصابُ السَّيئاتِ على أنَّها صفةٌ للمصدرِ المحذوفِ أي يمكرون المكَرَاتِ السَّيئاتِ وهي مكرات قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم في دارِ النَّدوةِ وتداورِهم الرَّأيِ في إحدى الثَّلاثِ التي هي الإثباتُ والقتلُ والإخراجُ {لَهُمْ} بسببَ مكراتِهم {عذاب شَدِيدٍ} لا يقادَر قَدرُه ولا يُؤبه عندَهُ لمَا يمكرونَ {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ} وضعَ اسمِ الإشارةِ موضعَ ضميرِهم للإيذانِ بكمالِ تميُّزهم بما هُم فيه من الشَّرِّ والفسادِ عن سائرِ المُفسدينَ واشتهارِهم بذلك وما فيه من معنى البعد للتنبيه على تَرامي أمرهِم في الطُّغيانِ وبُعد منزلِتهم في العُدوانِ أي ومكرُ أولئكَ المُفسدين الذينَ أرادُوا ان يمكروا به صلى الله عليه وسلم {هُوَ يَبُورُ} أي هو يهلكُ ويفسدُ خاصَّةً لا مَن مكرُوا بهِ ولقد أبارَهُم الله تعالى بعد إبارةِ مكراتِهم حيثُ أخرجَهم من مكَّةَ وقتلَهم وأثبتَهم في قَليبِ بدرٍ فجمعَ عليهم مكراتِهم الثَّلاثَ التي اكتفوا في حقه صلى الله عليه وسلم بواحدةٍ منهن

11

{والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} دليلٌ آخرُ على صحَّةِ البعثِ والنُّشورِ أي خلقكم ابتداءً منه في ضمنِ خلق آدمَ عليه السلام خلقاً إجماليَّاً كما مرَّ في تحقيقُه مراراً {ثُمَّ مِن نطفة} أي ثم خلقكم منها خلقاً تفصيلياً {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا} أي أصنافاً أو ذُكراناً وإناثاً وعن قَتادةَ جعل بعضَكم زَوْجاً لبعضٍ {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} إلا ملتبسةً بعلمِه تابعةً لمشيئتِه {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ} أي من أحدٍ وإنما سُمِّي معمَّراً باعتبارِ مصيرِه أي وما يُمدُّ في عمرِ أحدٍ {وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} أي من عمرِ أحدٍ على طريقةِ قولِهم لا يُثيب الله عبداً ولا يُعاقبه إلا بحقَ لكنْ لاعلى معنى لا يُنقص عمره بعد كونه زائدا بل على معنى لا يُجعل من الابتداءِ ناقصاً وقيل الزِّيادةُ والنَّقصُ في عمرٍ واحدٍ باعتبارِ أسبابِ مختلفةٍ أُثبتتْ في اللَّوحِ مثلِ أنْ يكتبَ فيه إنْ حجَّ فلانٌ فعمرُه ستُّونَ وإلا فأربعونَ وإليه أشارَ صلى الله عليه وسلم بقولِه الصَّدقة والصِّلةُ تُعمِّرانِ الدِّيارَ وتزيدانِ في الأعمارِ وقيلَ المرادُ بالنَّقصِ ما يمرُّ من عمرِه وينقصُ فإنَّه يكتب في الصَّحيفةِ عمرُه كذا وكذا سنة ثم يُكتب تحتَ ذلك ذهبَ يومٌ ذهبَ يومانِ وهكذا حتَّى يأتي على آخره وقرئ ولا ينقص عل البناءِ للفاعلِ ومن عُمْره

فاطر 12 13 بسكونِ الميمِ {إِلاَّ فِى كتاب} عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه اللَّوحُ وقيل عِلمُ الله عزَّ وجلَّ وقيل صحيفةُ كلِّ إنسانٍ {إِنَّ ذلك} أي ما ذكر من الخلقِ وما بعدَهُ مع كونِه محاراً للعقولِ والأفهامِ {عَلَى الله يَسِيرٌ} لاستغنائِه عن الأسبابِ فكذلك البعثُ

12

{وَمَا يَسْتَوِى البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ} مَثلٌ ضُرب للمؤمنِ والكافرِ والفُراتُ الذي يكسرُ العطشَ والسَّائغُ الذي يَسهلُ انحدارُه لعذوبتِه والأُجاج الذي يحرق بملوحته وقرئ سيِّغ كَسيِّد وسَيْغٌ بالتَّخفيفِ ومَلِح ككَتِفٍ وقوله تعالى {وَمِن كُلّ} أي من كلِّ واحدٍ منهما {تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ} أي من المالحِ خاصَّةً {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} إمَّا استطرادٌ في صفةِ البحرينِ وما فيهما من النِّعمِ والمنافعِ وإمَّا تكملةٌ للتَّمثيلِ والمعنى كما أنَّهما وإن اشتركا في بعضِ الفوائدِ لا يتساويانِ من حيثُ أنَّهما متفاوتانِ فيما هو المقصودُ بالذَّاتِ من الماءِ لمَّا خالطَ أحدهما ما أفسدَه وغيَّره عن كمال فطرته لا يساوي الكافرُ المؤمنَ وإنْ شاركه في بعض الصِّفاتِ كالشَّجاعةِ والسَّخاوةِ ونحوهما لتباينهما فيما هو الخاصيَّةُ العُظمى لبقاء أحدهما على فطرته الأصليَّةِ وحيازتِه لكماله اللائقِ دون الآخر أو تفضيلٌ للأُجاجِ على الكافرِ من حيثُ أنَّه يشارك العذبَ في منافعَ كثيرةٍ والكافرُ خِلْوٌ من المنافعِ بالكُلِّية على طريقة قوله تعالى ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك فَهِىَ كالحجارةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الانهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله والمرادُ بالحلية اللؤلؤُ والمرجانُ {وَتَرَى الفلك فِيهِ} أي في كلَ منهما وإفرادُ ضميرِ الخطابِ مع جمعِه فيما سبقَ وما لحقَ لان الخطاب الكل حد تتأتَّى منه الرُّؤيةُ دونَ المنتفعينَ بالبحرينِ فَقَطْ {مَوَاخِرَ} شواقَّ للماءِ بجريها مقبلةً ومدبرةً بريحٍ واحدةٍ {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} من فضلِ الله تعالى بالنقلة فيها واللام متعلِّقة بمواخرَ وقد جُوِّز تعلُّقها بما يدلُّ عليه الأفعالُ المذكورةُ أي فعلَ ذلك لتبتغُوا مِن فَضْلِهِ {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولتشكُروا على ذلك وحرفُ التَّرجِّي للإيذانِ بكونِه مرضياً عند الله تعالى

13

{يولج الليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار في الليل} بزيادةِ أحدِهما ونقصِ الآخرِ بإضافةِ بعضِ أجزاءِ كلٌّ منهما إلى الآخَر {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} عطفٌ على يُولج واختلافُهما صيغةً لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجددٌ حيناً فحيناً وأمَّا تسخِّيرُ النيرِّينِ فأمر لا تعدد فيه وإنَّما المتعددُ والمتجددُ آثارُه وقد أُشير إليهِ بقولِه تعالى {كُلٌّ يَجْرِى} أي بحسبِ حركتِه الخاصَّةِ وحركتِه القسرية على المدارات اليومية المُتعدِّدةِ حسب تعدُّدِ أيَّام السَّنةِ جَرياناً مستمرَّاً {لاِجَلٍ مسمى}

فاطر 14 17 قدَّره الله تعالى لجريانهما وهو يوم القيامة كما رُوي عن الحسن رحمه الله وقيل جريانُهما عبارةٌ عن حركتيهما الخاصَّتينِ بهما في فلكيهما والأجلُ المُسمَّى هو منتهى دورتيهما ومدَّةُ الجريانِ للشمس سنة والقمر شهرٌ وقد مرَّ تفصيلُه في سُورة لقمانُ {ذلكم} إشارةٌ إلى فاعلِ الأفاعيلِ المذكورة وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية العظمةِ وهو مبتدأٌ وما بعدَه أخبارٌ مترادفةٌ أي ذلكم العظيمُ الشأنِ الذي أبدعَ هذه الصَّنائعَ البديعةَ {الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك} وفيه من الدلالة على أنَّ إبداعَه تعالى لتلك البدائعِ ممَّا يُوجبُ ثبوتَ تلك الاخبار له مالا يخفى ويجوزُ أنْ يكونَ الأخيرُ كلاماً مُبتدأً في مقابلةِ قوله تعالى {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يملكون من قطمير} الدلالة على تفرُّدِه تعالى بالأُلوهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ وقُرىء يَدعُون بالياءِ التحتانيةِ والقطميرُ لفافةُ النَّواةِ وهو مثلٌ في القِلة والحقارةِ

14

{إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ} استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله كاشفٌ عن جليةِ حالِ ما يدعونَه بأنَّه جمادٌ ليس من شأنِه السَّماعُ {وَلَوْ سَمِعُواْ} على الفرضِ والتَّقديرِ {مَا استجابوا لَكُمْ} لعجزِهم عن الأفعالِ بالمرَّةِ لا لما قيلَ من أنَّهم متبرِّئون منكم وممَّا تدعُون لهم فإن ذلك مما لا يُتصور منهم في الدُّنيا {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي يجحدونَ بإشراكِكم لهم وعبادتِكم إيَّاهم بقولِهم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ {وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي لا يخبرك بالأمرِ مخبرٌ مثلُ خبيرٍ أخبرَك به وهو الحقُّ سبحانَه فإنَّه الخبيرُ بكُنهِ الأمورِ دُون سَائرِ المخبرين والمرادُ تحقيقُ ما أخبر به من حالِ آلهتِهم ونفيُ ما يدَّعُون لهم من الإلهيةِ

15

{يا أيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله} في أنفسِكم وفيما يعن لكم من امرمهم او خطب علم وتعريفُ الفقراءِ للمبالغةِ في فقرِهم كأنَّهم لكثرةِ افتقارِهم وشدَّةِ احتياجِهم هم الفقراءُ فحسب وأنَّ افتقارَ سائرِ الخلائقِ بالنسبةِ إلى فقرِهم بمنزلة العدمِ ولذلك قال تعالى وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً {والله هُوَ الغنى الْحَمِيدُ} أي المستغنِي على الإطلاقِ المنعمُ على سائرِ الموجوداتِ المستوجبُ للحمدِ

16

{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} ليسُوا على صفتِكم بل مستمرُّون على الطَّاعةِ أو بعالمٍ آخرَ غيرِ ما تعرفونَهُ

17

{وَمَا ذلك} أي ما ذُكر من الإذهابِ بهم والإتيانِ بآخرينَ {عَلَى الله بِعَزِيزٍ} بمتعذرٍ ولا متعسرٍ

فاطر 18 22

18

{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ} أي لا تحملٌ نفسٌ آثمةٌ {وِزْرَ أخرى} إثمَ نفسٍ أُخرى بل إنَّما تحملُ كلٌّ منهما وزرها وأماما في قولِه تعالى وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ من حملِ المضلِّين أثقالاً غيرَ أثقالِهم فهو حملُ أثقالِ إضلالِهم مع أثقالِ ضلالِهم وكلاهما أوزارُهم ليس فيها من أوزارِ غيرِهم شئ {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} أي نفسٌ أثقلَها الأوزارُ {إلى حِمْلِهَا} لحملِ بعضِ أوزارِها {لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء} لم تجب بحمل شئ منه {وَلَوْ كَانَ} أي المدعُو المفهوم من الدَّعوةِ {ذَا قربى} ذا قرابةٍ من الداعى وقرئ ذُو قُربى وهذا نفيٌ للحملِ اختياراً والأوَّلُ نفيٌ له جبارا {إِنَّمَا تُنذِرُ} استئنافٌ مسوق لبيان من يتَّعظُ بما ذُكر أي إنَّما تنذر بهذه الإنذاراتِ {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} أي يخشَونَه تعالى غائبينَ عن عذابِه أو عن النَّاسِ في خلواتِهم أو يخشَون عذابَه وهو غائبٌ عنهم {وَأَقَامُوا الصلاة} أي راعَوها كما ينبغي وجعلوها مَنَاراً منصوباً وعَلَماً مرفُوعاً أي إنما ينفعُ إنذارُك وتحذيرُك هؤلاءِ من قومِك دُون مَنْ عداهُم منْ أهل التَّمرد والعناد {ومن تزكى} أن تطهرَ من أوضار الأوزارِ والمعاصِي بالتَّاثرِ من هذهِ الإنذاراتِ {فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ} لاقتصارِ نفعِه عليها كما أنَّ مَن تدنَّس بها لا يتدنَّس إلا عليها وقرئ من ازكَّى فإنَّما يزكَّى وهو اعتراضٌ مقررٌ لخشيتهم وإقامِتهم الصَّلاةَ لأنَّها من معظمِ مبادِي التزكِّي {وإلى الله المصير} لا إلى أحدٍ غيرِه استقلالاً أو اشتراكاً فيجازيهم على تزكِّيهم أحسنَ الجزاء

19

{وما يستوى الاعمى والبصير} أي الكافرُ والمؤمنُ

20

{وَلاَ الظلمات وَلاَ النور} أي ولا الباطلُ ولا الحقُّ وجمع الظلمات مع أفرادِ النُّورِ لتعدُّدِ فنونِ الباطلِ واتِّحاد الحقِّ

21

{وَلاَ الظل وَلاَ الحرور} أي ولا الثَّوابُ ولا العقاب وإدخال لاعلى المتقابلينِ لتذكيرِ نفيِ الاستواءِ وتوسيطها بينهما للتأكيد والحرور فَعولٌ من الحرِّ غلب على السَّمومِ وقيل السَّمومُ ما يهبُّ نهاراً والحَرورُ ما يهبُّ ليلاً

22

{وَمَا يَسْتَوِى الاحياء وَلاَ الاموات} تمثيلٌ آخرُ للمؤمنينَ والكافرين

فاطر 23 27 أبلغُ من الأوَّلِ ولذلك كُرِّر الفعلُ وأُوثر صيغةُ الجمعِ في الطَّرفينِ تحقيقاً للتَّباينَ بين أفرادِ الفريقينِ وقيل تمثيلٌ للعُلماءِ والجَهَلةِ {إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء} أنْ يُسمَعه ويوفِّقه لفهم آياتِه والاتَّعاظِ بعظاتِه {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور} ترشيحٌ لتمثيل المصرِّينَ على الكُفرِ بالأمواتِ وإشباع في إقناطه صلى الله عليه وسلم من إيمانِهم

23

{إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} ما عليكَ إلا الإنذارُ وأمَّا الإسماعُ البتةَ فليس من وظائفك ولا حيلة لك إليه في المطبوعِ على قلوبهم

24

{إِنَّا أرسلناك بالحق} أي محقَّين أو محقّاً أنتَ أو إرسالاً مصحُوباً بالحقِّ ويجوز أن يتعلق بقوله {بَشِيراً وَنَذِيراً} أي بشيراً بالوعدِ الحقِّ ونذيراً بالوعيدِ الحقِّ {وَإِن مّنْ أُمَّةٍ} أي ما مِنْ أُمَّةٍ من الأممِ الدَّارجةِ في الأزمنةِ الماضيةِ {إِلاَّ خَلاَ} أي مَضَى {فِيهَا نَذِيرٌ} من نبيَ أو عالمٍ يُنذرهم والاكتفاءُ بذكرهِ للعلمِ بأنَّ النَّذارةَ قرينةُ البشارةِ لا سيِّما وقد اقترنا آنِفاً ولأنَّ الإنذارَ هو الأنسبُ بالمقَامِ

25

{وَإِن يُكَذّبُوكَ} أي تموا على تكذيبكَ فلا تُبالِ بهم وبتكذيِبهم {فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم} من الأممِ العاتيةِ {جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي المعجزاتِ الظاهرةِ الدالةِ على نُبوُّتهم {وبالزبر} كصُحفِ إبراهيمَ {وبالكتاب المنير} كالتوراة والإنجيلِ والزَّبورِ على إرادةِ التفصيل دون الجمع ويجوز أنْ يُرادَ بهما واحدٌ والعطفُ لتغايرِ العُنوانينِ

26

{ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ} وضعَ الموصولُ موضعَ ضميرِهم لذمِّهم بما في حيز الصَّلةِ والإشعارِ بعلَّةِ الأخذِ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكارِي بالعقوبة وفيه مزيدُ تشديدٍ وتهويلٍ لها

27

{أَلَمْ تَرَ} استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من اختلافِ أحوالِ النَّاسِ ببيان أنَّ الاختلافَ والتَّفاوتَ أمرٌ مطردٌ في جميعِ المخلوقات من النَّباتِ والجمادِ والحيوانِ والرؤيةُ قلبيةٌ أيْ ألم تعلمَ {أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ} بذلك الماءِ والالتفات لإظهارِ كمال الاعتناءِ بالفعلِ لما فيه من الصُّنعِ البديع المنبئ عن كمالِ القُدرةِ والحكمةِ {ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا} أي أجناسُها أو أصنافُها على أنَّ كلاًّ منها ذُو أصناف مختلفة أو هيآتها وأشكالُها أو ألوانُها من الصفرة والخضرة والحُمرةِ وغيرِها وهو الأوفقُ لما في قوله تعالى {ومن الجبال جُدَدٌ} أي ذو جدد أي خططٍ وطرائقَ ويقالُ جدة الحمارِ للخطةِ السَّوداءِ

فاطر 28 29 على ظهره وقرئ جُدُد بالضَّمِّ جمع جديدةٍ بمعنى الجدة وجَدَد بفتحتينِ وهو الطَّريقُ الواضحُ {بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها} بالشِّدةِ والضَّعفِ {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} عطفٌ على بيضٌ أو على جدُد كأنَّه قيل ومن الجبالِ مُخطَّطٌ ذو جُددٍ ومنها ما هو على لونٍ واحدٍ غرابيبَ وهو تأكيد لمضمر يفسِّره ما بعدِه فإنَّ الغربيبَ تأكيدٌ للأسواد كالفاقعِ للأصفرِ والقانِي للأحمرِ ومن حقِّ التَّأكيدِ أنْ يتبعَ المؤكَّدَ ونظيرُه في الصِّفةِ قولُ النَّابغةِ والمؤمنِ العائذاتِ الطَّيرَ يمسحُها وفي مثلهِ مزيدٌ تأكيدٍ لما فيه من التَّكرارِ باعتبار الإضمارِ والإظهارِ

28

{وَمِنَ الناس والدواب والانعام مُخْتَلِفٌ ألوانه} أي ومنهم بعضٌ مختلفٌ ألوانُه أو وبعضُهم مختلفٌ ألوانُه على ما مرَّ في قوله تعالى وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمنا بالله وإيراد الجملتينِ اسميتين مع مشاركتِهما لما قبلَهُما من الجملةِ الفعليةِ في الاستشهادِ بمضمونِهما على تباينِ النَّاسِ في الأحوالِ الباطنةِ لما أنَّ اختلافَ الجبالِ والنَّاسِ والدَّوابِّ والأنعامِ فيما ذُكر من الألوانِ أمرٌ مستمرٌ فعبَّر عنه بما يدلُّ على الاستمرارِ وأمَّا إخراجُ الثَّمراتِ المختلفةِ فحيثُ كان أمراً حادثاً عبَّر عنه بما يدلُّ على الحدوثِ ثم لما كان فيه نوعُ خفاءً علَّق به الرُّؤية بطريقِ الاستفهامِ التقريري المنبئ عن الحمل عليها والتَّرغيبِ فيها بخلافِ أحوالِ الجبالِ والنَّاسِ وغيرِهما فإنَّها مُشاهدَة غنيَّةٌ عن التأمُّلِ فلذلك جُرِّدتْ عن التَّعليقِ بالرُّؤيةِ فتدبر وقوله تعالى {كذلك} مصدرٌ تشبيهيٌّ لقوله تعالى مختلفٌ أي صفة لمصدره المؤكِّد تقديرُه مختلفٌ اختلافاً كائناً كذلك أي كاختلاف الثمار والجبال وقرئ الوانا وقرئ والدَّوابَ بالتَّخفيفِ مبالغةً في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ وقوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} تكملة لقوله تعالى إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب بتعيين من يخشاه عزَّ وجلَّ من النَّاس بعد بيانِ اختلافِ طبقاتِهم وتباينِ مراتبِهم أمَّا في الأوصافِ المعنويَّةِ فبطريقِ التَّمثيلِ وأما في الأوصافِ الصُّوريةِ فبطريقِ التَّصريحِ توفية لكلَّ واحدةٍ منهما حقَّها اللائقَ بها من البيانِ أي إنَّما يخشاه تعالى بالغيب العالمون به عزَّ وجلَّ وبما يليق به من صفاتِه الجليلةِ وأفعالِه الجميلةِ لما أنَّ مدارَ الخشية معرفة المخشى والعلم بشئونه فمن كان أعلم به تعالى كانَ أخشى منه عزَّ وجلَّ كما قال صلى الله عليه وسلم أنا أخشاكُم لله وأتقاكُم له ولذلك عقَّب بذكرِ أفعالِه الدالةَ على كمالِ قدرتِه وحيث كان الكَفَرةُ بمعزلٍ من هذه المعرفةِ امتنع إنذارُهم بالكلِّية وتقديمُ المفعولِ لأن المقصودَ حصرُ الفاعليَّةِ ولو أُخِّر انعكسَ الأمر وقرئ برفع الاسم الجليلة ونصبِ العلماءِ على أنَّ الخشية مستعارةٌ للتَّعظيمِ فإنَّ المعظَّم يكونُ مهيباً {إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ} تعليل لوجوبِ الخشيةِ لدلالتهِ على أنَّه معاقبٌ للمصرِّ على طغيانِه غفورٌ للتائب عن عصيانِه

29

{إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله} أي يداومُون على قراءته أو متابعةِ ما فيه حتى

فاطر 30 32 صارتْ سمةً لهم وعُنواناً والمرادُ بكتابِ الله تعالى القُرآنُ وقيلَ جنسُ كتبِ الله فيكون ثناءً على المصدِّقين من الأممِ بعد اقتصاصِ حالِ المكذِّبين منهم وليسَ بذاك فإنَّ صيغةَ المضارعِ مناديةٌ باستمرارِ مشروعيةِ تلاوتِه والعملِ بما فيه واستتباعِهما لما سيأتي من توفيةِ الأجورِ وزيادةِ الفضلِ وحملُها على حكايةِ الحالِ الماضيةِ مع كونِه تعسُّفاً ظاهرا مما لا سبيل إليه كيفَ لا والمقصودُ الترغيبُ في دينِ الإسلامِ والعملُ بالقُرآن النَّاسخِ لما بين يديهِ من الكتبِ فالتَّعرضُ لبيان حقيقتها قبل انتساخِها والإشباعُ في ذكرِ استتباعها لما ذُكر من الفوائدِ العظيمةِ مَّما يُورث الرَّغبةَ في تلاوتِها والإقبالِ على العملِ بها وتخصيصُ التِّلاوةِ بما لم ينسخ منها باطلٌ قطعاً لما أنَّ الباقي مشروعاً ليس إلا حكمها لكنْ لا من حيث أنه حكَّمها بل من حيثُ انه حكّم القرآنَ وأما تلاوتُها فبمعزلٍ من المشروعيَّةِ واستتباع الأجر بالمرَّة فتدبر {وَأَقَامُواْ الصلاة وأنفقوا من ما رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيةً} كيفما اتَّفق من غيرِ قصدٍ إليهما وقيل السِّرُّ في المسنونةِ والعلانيةُ في المفروضةِ {يَرْجُونَ تجارة} تحصيلَ ثوابٍ الطاعة وهو خبرُ إنَّ وقوله تعالى {لَّن تَبُورَ} أي لن تكسد ولن تهك بالخسرانِ أصلاً صفةٌ لتجارةَ جيء بها للدِّلالةِ على أنَّها ليستْ كسائرِ التِّجاراتِ الدَّائرةِ بين الرِّبحِ والخُسرانِ لأنَّه اشتراءُ باقٍ بفانٍ والإخبارُ برجائِهم من أكرمِ الأكرمينَ عِدَةٌ قطعيةٌ بحصولِ مرجوِّهم وقولُه تعالى

30

{لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} متعلقٌ بلَنْ تبورَ على معنى أنَّه ينتفي عنها الكسادُ وتنفُق عند الله تعالى ليوفيَهم أجورَ أعمالِهم {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} على ذلك من خزائنِ رحمتِه ما يشاءُ وقيل بمضمرٍ دلَّ عليه ما عُدَّ من أفعالهم المرضيَّةِ أي فعلُوا ذلك ليوفيَهم إلخ وقيل بيرجُون على أن اللامَ للعاقبةِ {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} تعليلٌ لما قبلَه من التَّوفيةِ والزِّيادةِ أي غفورٌ لفرطاتِهم شكورٌ لطاعاتِهم أي مجازيهم عليها وقيل هُو خبرُ إنَّ الذينَ ويرجُون حالٌ من واوِ أنفقُوا

31

{والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب} وهو القرآنُ ومِن للتَّبيين أو الجنسِ ومن للتَّبعيضِ وقيل اللَّوحَ ومِن للابتداءِ {هُوَ الحق مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي أُحِقُّه مصدِّقاً لّمَا تقدَّمه من الكتبِ السَّماويةِ حالٌ مؤكِّدة لأنَّ حقِّيتَه تستلزمُ موافقتَه إيَّاهُ في العقائدِ وأصولِ الأحكامِ {إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} محيطٌ ببواطنِ أمورِهم وظواهرِها فلو كانَ في أحوالِك ما ينافي النُّبوة لم يُوحِ إليك مثلُ هذا الحقَّ المعجزِ الذي هو عيارٌ على سائرِ الكتبِ وتقديمُ الخبيرِ للتَّنبيه على أنَّ العمدةَ هي الأمورُ الرُّوحانيَّةُ

32

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب} أي قضينا بتوريثةِ منك أو نورِّثه والتَّعبيرُ عنه بالماضِي لتقرره

فاطر 33 34 وتحققه وقيل أورثناهُ من الأممِ السَّالفةِ أي أخَّرناه عنهم وأعطيناهُ {الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} وهم علماءُ الأمةِ من الصَّحابةِ ومن بعدهم ممَّن يسيرُ سيرتَهم أو الأمة بأسرِهم فإنَّ الله تعالى اصطفاهم على سائرِ الأممِ وجعلهم أمةً وسطاً ليكونُوا شهداءَ على النَّاسِ واختصَّهم بكرامةِ الانتماءِ إلى أفضلِ رسله عليهم الصلاة والسلام وليس من ضرورةِ وراثةِ الكتابِ مراعاتُه حقَّ رعايتِه لقوله تعالى فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب الآيةَ {فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ} بالتقصير في العمل به وهو المرجأُ لأمرِ الله {وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} يعملُ به في أغلبِ الأوقاتِ ولا يخلُو من خلط السَّيءِ {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله} قيل هم السّابقونَ الأوَّلُون من المهاجرينَ والأنصارِ وقيل هم المُداومون على إقامةِ مواجبهِ علماً وعملاً وتعليماً وفي قوله بِإِذْنِ الله أي بتيسيره وتوفيقِه تنبيةٌ على عزَّةِ منال هذه الرتبة وصعوبةِ مأخذِها وقيل الظَّالمُ الجاهلُ والمقتصدُ المتعلِّم والسَّابقُ العالمُ وقيل الظالمُ المجرمُ والمقتصدُ الذي خلطَ الصَّالحَ بالسَّيءِ والسَّابقُ الذي ترَّجحتْ حسناته بحيثُ صارتْ سيِّئاتُه مكفَّرةً وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم وَأَمَّا الذين سَبَقُواْ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَأَمَّا المقتصد فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون فى طول المحشر ثم يتلقاهم الله تعالى برحمته وقد رُوي أن عمر رضي الله عنه قال وهو على المنبرِ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقُنا سابقٌ ومقتصدُنا ناجٍ وظالمُنا مغفورٌ له {ذلك} إشارةٌ إلى السَّبقِ بالخيراتِ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار بعلو رتبتِه وبُعدِ منزلته في الشَّرفِ {هُوَ الفضل الكبير} من الله عز وجل لا يُنال إلا بتوفيقِه تعالى

33

{جنات عَدْنٍ} إمَّا بدلٌ من الفضلُ الكبيرُ بتنزيلِ السَّببِ منزلةَ المسَّببِ أو مبتدأٌ خبرُه {يَدْخُلُونَهَا} وعلى الأوَّلِ هو مستأنفٌ وجمعُ الضَّميرِ لأنَّ المرادَ بالسَّابقِ الجنسُ وتخصيصُ حالِ السَّابقينَ ومآلِهم بالذِّكرِ والسُّكوتُ عن الفريقينِ الآخرينِ وإنْ لم يدلَّ على حرمانِهما من دخولِ الجنةِ مُطلقاً لكنَّ فيه تحذيراً لهما من التَّقصيرِ وتحريضاً على السَّعيِ في إدراكِ شأوِ السَّابقينَ وقُرىء جنَّاتِ عدنٍ وجَّنةَ عدنٍ على النَّصبِ بفعلٍ يفسِّره الظَّاهرُ وقُرىء يُدخَلُونها على البناءِ للمفعولِ {يُحَلَّوْنَ فِيهَا} خبرٌ ثانٍ أو حالٌ مقدرةٌ وقُرىء يحلُون من حَلِيتْ المرأةُ فهي حاليةٌ {مِنْ أَسَاوِرَ} هيَ جمع أسورة جمع سوار {من ذهب} من الأولى تبعيضيَّةٌ والثَّانيةُ بيانيَّةٌ أي يُحلَّون بعضَ أساورَ من ذهبٍ كأنَّه أفضلُ من سائرِ أفرادِها {وَلُؤْلُؤاً} بالنَّصبِ عطفاً عَلى محلِّ منْ أساورَ وقُرىء بالجرِّ عطفا على ذهبٍ أي من ذهبٍ مرصعٍ باللُّؤلؤِ أو من ذهبٍ في صفاءِ اللُّؤلؤِ {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} وتغيير الاسلوب قد مر في سورةِ الحجِّ

34

{وَقَالُواْ} أي يقولون وصيغةَ الماضِي للدلالةِ على التحقق {الحمد لله الذي أذهب عَنَّا الحزن} وهو ما أهمَّهم من خوفِ سوءِ العاقبةِ وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما حَزَنُ الأعراضِ والآفاتُ وعنه حَزَنُ الموتِ وعن الضَّحَّاكِ لحزن وسوسةِ إبليسَ وقيل همُّ المعاش وقيل حزن

فاطر 35 37 زوالِ النِّعمِ والظَّاهرُ أنَّه الجنسُ المنتظمُ لجميعِ أحزانِ الدِّينِ والدُّنيا وقُرىء الحُزْنَ وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسَ على أهلِ لا إله إلا الله وحشةٌ في قبورِهم ولا في محشرِهم ولا في مسيرِهم وكأنِّي بأهل لا إله إلا الله يخرجُون من قبورِهم ينفضُون التُّرابَ عن وجوهِهم ويقولُون الحمدُ لله الذي أذهب عنا الحزن {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ} أي للمذنبينَ {شَكُورٌ} للمطيعينَ

35

{الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة} أي دارَ الإقامةِ التي لا انتقالَ عنها أبداً {مِن فَضْلِهِ} من إنعامِه وتفضُّلِه من غيرِ أنْ يوجبَه شيءٌ من قبلنا {لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} تعب {وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} كلالٌ والفرقُ بينهما ان النصب نفس المشقَّة والكُلفة واللُّغوب ما يحدث منه من الفتورِ والتَّصريحُ بنفي الثَّاني مع استلزامِ نفي الأوَّلِ له وتكريرُ الفعلِ المنفي للمبالغةِ في بيانِ انتفاءِ كلَ منهما

36

{والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ} لا يُحكم عليهم بموتٍ ثانٍ {فَيَمُوتُواْ} ويستريحُوا ونصبُه بإضمارِ أنْ وقُرىء فيموتونَ عطفاً على يقضي كقوله تعالى وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ {وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا} بل كلَّما خبتْ زيد إسعارُها {كذلك} أي مثلَ ذلك الجزاء الفظيعِ {نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ} مبالغٍ في الكفرِ أو الكفرانِ لا جزاء أخف وأدنى منه وقُرىء يُجزى على البناءِ للمفعولِ وإسناده إلى الكلِّ وقرىء يجازى

37

{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} يستغيثُون والاصطراخُ افتعالٌ من الصُّراخِ استُعمل في الاستغاثةِ لجهد المستغيثِ صوتَه {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ} بإضمارِ القولِ وتقييدِ العملِ الصَّالحِ بالوصفِ المذكورِ للتَّحسرِ على ما عملوه من غيرِ الصَّالحِ والاعترافِ به والإشعارِ بأنَّ استخراجَهم لتلافيهِ وأنَّهم كانُوا يحسبونه صالحاً والآنَ تبيَّن خلافُه وقولُه تعالى {أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} جوابٌ من جهتِه تعالى وتوبيخٌ لهم والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيه المقامُ ومَا نكرةٌ موصوفةٌ أي ألم نمهلْكُم أو ألم نؤخرْكُم ولم نعمْركُم عمراً يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ أي يتمكَّنُ فيه المتذكرُ من التَّذكُّرِ والتَّفكُّرِ قيل هو أربعون سنةً وعن ابن عباس رضي الله عنهما ستُّون سنة ورُوي ذلكَ عن عليَ رضيَ الله عنه وهو العُمر الذي أعذرَ الله فيه إلى ابنِ آدم قال صلى الله عليه وسلم أعذرَ الله إلى امرىءٍ أخَّر أجلَه حتَّى بلغَ ستِّين سنة وقولُه تعالى {وَجَاءكُمُ النذير} عطفٌ عَلَى الجملةِ الاستفهاميةِ لأنَّها في معنى قد عمَّرناكم كما في قوله تعالى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ووضعنا الخ لأنَّه في معنى قد شرحنا الخ والمرادُ بالنذير رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ما معه من القُرآن وقيل العقلُ وقيل الشَّيبُ وقيل موتُ الأقاربِ والاقتصارُ على ذكرِ النَّذيرِ لانه الذى

فاطر 38 40 يقتضيهِ المقامُ والفاءُ في قوله تعالى {فذوقوا} لترتيب الأمر بالذوق على ما قبلها من التَّعميرِ ومجيءِ النَّذيرِ وفي قولِه تعالى {فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ} للتَّعليلِ

38

{إِنَّ الله عالم غَيْبِ السماوات والارض} بالإضافةِ وقُرىء بالتَّنوينِ ونصبِ غيبَ على المفعوليةِ أي لا يَخفى عليهِ خافيةٌ فيهما فلا تخفى عليه أحوالُهم {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} قيل إنَّه تعليلٌ لما قبله لأنَّه إذا علمَ مضمراتِ الصُّدورِ وهي أخفى ما يكونُ كان أعلمَ بغيرِها

39

{هُوَ الذى جَعَلَكُمْ خلائف فِى الارض} يقال للمستخلَفِ خليفة والأول يُجمع خلائفَ والثَّانِي خلفاءَ والمعنى أنَّه تعالى جعلكم خلفاءَه في إرضه وألقى إليكم مقاليدَ التَّصرفِ فيها وسلَّطكم على ما فيها وأباحَ لكم منافعها أو جعلكم خلفاءَ ممَّن قبلكم من الأممِ وأورثكَم ما بأيديهم من متاعِ الدُّنيا لتشكُروه بالتَّوحيدِ والطَّاعةِ {فَمَن كَفَرَ} منكُم مثلَ هذه النِّعمةِ السَّنيةِ وغمطَها {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي وبالُ كفرِه لا يتعداهُ إلى غيرِه وقولُه تعالى {وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً} بيانٌ لوبالِ الكفرِ وغائلتِه وهو مقتُ الله تعالى إيَّاهم أي بغضه الشَّديد الذي ليسَ وراءَهُ خزيٌّ وصغارٌ وخسارُ الأخرةِ الذي ما بعدَهُ شرٌّ وخسارٌ والتَّكريرُ لزيادةِ التَّقريرِ والتَّنبيهِ على أن اقتضاءِ الكُفر لكلِّ واحدٍ من الأمرين الهائلينِ القبيحينِ بطريقِ الاستقلالِ والأصالةِ

40

{قل} تبكيتا لهم {أرأيتم شُرَكَاءكُمُ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} أي آلَهتكم والإضافةُ إليهم لأنَّهم جعلوهم شركاءَ لله تعالى من غير أن يكون له أصلٌ ما أصلاً وقيل جعلُوهم شركاءَ لأنفسِهم فيما يملكونَهُ ويأباه سباقُ النظمِ الكريمِ وسياقُه {أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الارض} بدلُ اشتمالِ من أرأيتُم كأنَّه قيل أخبرُوني عن شركائِكم أرُوني أيَّ جزءٍ خلقُوا من الأرضِ {أَمْ لَهُمْ شرك في السماوات} أي أمْ لهم شركةٌ مع الله سبحانه في خلقِ السَّمواتِ ليستحقُّوا بذلك شركةً في الألوهَّيةِ ذاتيَّةً {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً} ينطقُ بأنَّا اتخذَّناهُم شركاءَ {فَهُمْ على بَيّنَةٍ مّنْهُ} أي حجَّةٍ ظاهرةٍ من ذلكَ الكتابِ بأنَّ لهم شركةً جعليةً ويجوزُ أنْ يكونَ ضميرُ آتيناهُم للمشركينَ كما في قوله تعالى أم أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا الخ وقُرىء على بيِّناتٍ وفيه إيماءٌ إلى أنَّ الشِّركَ أمرٌ خطيرٌ لا بُدَّ في إثباتهِ من تعاضدِ الدَّلائلِ {بَلْ إِن يَعِدُ الظالمون بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً} لمَّا نَفَى أنواعَ الحُججِ في ذلك أضربَ عنه بذكرِ ما حملَهم عليه وهو تغريرٌ الأسلافِ للأخلافِ وإضلالُ الرُّؤساءِ للأتباعِ بأنَّهم شفعاءُ عند الله يشفعُون لهم بالتَّقريبِ إليه

فاطر

41

41 - 44 {إن الله يمسك السماوات والارض أَن تَزُولاَ} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ غايةِ قُبحِ الشرك وهو له أي يمسكها كراهةَ زوالِهما أو يمنعهما أنْ تزولا لأنَّ الإمساك منع {وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا} أي مَا أمسكهما {مِنْ أَحَدٍ مِن بَعْدِهِ} من بعدِ إمساكِه تعالى أو من بعدِ الزَّوالِ والجملةُ سادَّةٌ مسدَّ الجوابينِ ومن الأولى مزيدة لتأكيد العُمومِ والثَّانيةُ للابتداءِ {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} غيرَ معاجلٍ بالعقوبةِ التي تستوجبُها جناياتُهم حيثُ أمسكَهما وكانتا جديرتينِ بأنْ تهدّا هداً حسبما قال تعالى تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الارض وقُرىء ولو زَالَتا

42

{وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الامم} بلغ قُريشاً قبل مبعثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ أهلَ الكتابِ كذَّبوا رسلَهم فقالُوا لعنَ الله اليَّهودَ والنَّصارَى أتتُهم الرُّسلُ فكذبوهم فو الله لئن أتانا رسولٌ لنكونَّن أهدى من إحدى الامم اليَّهودِ والنَّصارَى وغيرِهم أو من الأمَّةِ التي يُقال لها إِحدى الأممِ تفضيلاً لها على غيرِها في الهُدَى والاستقامةِ {فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ} وأيُّ نذير أشرفُ الرسلُ عليهم الصلاة والسلام {مَّا زَادَهُمْ} أي النَّذيرُ أو مجيئةُ {إِلاَّ نُفُورًا} تُباعداً عن الحقِّ

43

{استكبارا فِى الارض} بدلٌ من نفورا او مفعول له {ومكر السيء} أصلُه وإنْ مكرُوا السَّيءَ أيَّ المكرَ السَّىءَ ثم ومكرا السيء ثم ومكرو السيء وقرىء بسكونِ الهمزةِ في الوصلِ ولعلَّه اختلاسٌ ظن سكوتا وقفةٌ خفيفةٌ وقرىء مكراً سيِّئاً {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيء إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ} أي ما ينتظرونَ {إِلا سُنَّةَ آلاْوَّلِينَ} أي سُنَّة الله فيهم بتعذيبِ مكذِّبيهم {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} بأنْ يضع موضعَ العذابِ غيرَ العذابِ {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً} بأنْ ينقله من المكذِّبين إلى غيرِهم والفاءُ لتعليلِ ما يُفيدُه الحكمُ بانتظارِهم العذابَ من مجيئهِ ونفيُ وجدانِ التَّبديلِ والتَّحويلِ عبارةٌ عن نفي وجودهما بالطَّريقِ البُرهانِّي وتخصيصُ كلَ منُهما بنفيٍ مستقلَ لتأكيدِ انتفائهما

44

{أو لم يَسِيرُواْ فِى الارض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} استشهاد على ما قبلَه من جريانِ سُنَّتِه تعالى على تعذيبِ المكذبين بما يشاهدونه

فاطر 45 في مسايرِهم إلى الشَّامِ واليمنِ والعراقِ من آثار دمار الأممِ الماضيةِ العاتيةِ والهمزة للانكار والنفي الواو للعطفِ على مقدَّرٍ يليقُ بالمقامِ أي أقعدُوا في مساكنِهم ولم يَسِيرُواْ فِى الارض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين من قبلهم {وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} وأطولَ أعماراً فما نفعُهم طولُ المَدَى وما أغنَى عنهم شدَّةُ القُوى ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحالية وقوله تعالى {وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْء} أي ليسبقه ويفوته {في السماوات وَلاَ فِى الارض} اعتراضٌ مقررٌ لما يُفهم مَّما قبله من استئصالِ الأممِ السَّالفةِ وقولُه تعالىَ {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} أي مُبالغاً في العلمِ والقُدرةِ ولذلك علمَ بجميعِ أعمالِهم السَّيئةِ فعاقبَهم بموجبِها تعليل لذلك

45

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس} جميعاً {بِمَا كَسَبُواْ} من السَّيئاتِ كما فُعل بأولئكَ {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا} أي على ظهرِ الأرضِ {مِن دَابَّةٍ} من نسمةٍ تدُبُّ عليها من بني آدمَ وقيل ومن غيرِهم أيضاً من شؤمِ معاصِيهم وهو المرويُّ عن ابن مسعود وانس رضي الله عنهما ويعضُد الأولَ قولُه تعالى {ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} وهو يومُ القيامةِ {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} فيجازيهم عندَ ذلك بأعمالِهم إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شرَّاً فشرٌّ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سورةَ الملائكةِ دعتْهُ ثمانيةُ أبوابِ الجنَّةِ أنِ ادخلْ من أيِّ بابٍ شئتَ والله تعالَى أعلم

سورة يس 1 3 سورة يس مكية وعنه صلى الله عليه وسلم تدعى المعمة تعم صاحبها خير الدارين والدافعة والقاضية تدفع عنه كل سوء وتقضى له كل حاجة وآياتها ثلاث وثمانون {بِسْمِ الله الرحمن الرحيم}

يس

{يس} إمَّا مسرودٌ على نمطِ التَعديدِ فلا حظَّ له من الإعرابِ أو اسم السورة كما نصَّ عليه الخليلُ وسيبويةِ وعليه الأكثرِ فمحلُّه الرفعُ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أو النَّصبُ على أنه مفعول لفعل مضمرٍ وعليهما مدارُ قراءةِ يس بالرَّفع والنَّصبِ أي هَذه يس او اقرا يس ولا مَساغَ للنَّصب بإضمارِ فعلِ القسمِ لأنَّ ما بعدَهُ مُقسمٌ بِه وقد ابو الجمعَ بين قَسَمين على شيءٍ واحدٍ قبل انقضاءِ الأوَّلِ ولا مجالَ للعطفِ لاختلافِهما إعراباً وقيل هو مجرورٌ بإضمارِ باءِ القسمِ مفتوحٌ لكونِه غيرَ منصرفٍ كما سلف في فاتحةِ سُورة البقرةِ من أنَّ ما كانتْ من هذه الفواتحِ مفردة مثلَ صاد وقاف ونون أو كانت موازنةً لمفردٍ نحوِ طس ويس وحم الموازنةِ لقابيلَ وهابيلَ يتأتَّى فيها الإعرابُ اللفظيُ ذكره سيبويه في بابِ أسماءِ السُّورِ من كتابِه وقيل هُما حركتا بناءٍ كما في حيثُ وأينَ حسَبما يشهدُ بذلك قراءة يس بالكسر كجَيْرِ وقيل الفتحُ والكسرُ تحريكٌ للجِدِّ في الهربِ من التقاءِ السَّاكنينِ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ معناه يا إنسانُ في لغةِ طَيءٍ قالُوا المرادُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولعلَّ أصلَه يا أُنيسين فاقتُصر على شطرِه كما قيل مَنُ الله في ايمن الله

2

{والقرآن} بالجر على أنه مقسم به ابتداءً وقد جُوِّز أنْ يكونَ عطفاً على يس على تقدير كونه مجرورا بإضمارِ باءِ القسمِ {الحكيم} أي المتضمِّنِ للحكمةِ أو النَّاطقِ بها بطريقِ الاستعارةِ أو المتَّصفِ بها على الإسنادِ المجازيِّ وقد جُوِّز أنْ يكونَ الأصلُ الحكيمُ قائلُه فحذُف المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه فبانقلابِه مرفوعاً بعد الجرِّ استكنَّ في الصِّفةِ المُشبَّهةِ كما مرَّ في صدرِ سُورة لُقمانَ

3

{إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} جوابٌ للقسم والجملةُ لردِّ إنكار الكَفَرةِ بقولِهم في حقِّه صلى الله عليه وسلم لستَ مُرسَلاً وهذه الشَّهادةُ منه عزَّ وجلَّ من جملة ما أُشير إليه بقوله تعالى في جوابهم قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وفي تخصيص القُرآن بالإقسامِ به أَوَّلاً وبوصفه بالحكيمِ ثانياً تنويهٌ بشأنه وتنبيهٌ على أنه كما يشهد برسالته صلى الله عليه وسلم من حيث نظمُه المعجزُ المُنطوي على بدائعِ الحكم يشهدُ بها من هذه الحيثيَّةِ أيضاً لما أنَّ الاقسام بالشيء

يس 4 7 استشهاد به على تحقُّقِ مضمون الجملة القسميةِ وتقوية لثبوتِه فيكون شاهداً به ودليلاً عليه قَطْعاً وقوله تعالى

4

{على صراط مُّسْتَقِيمٍ} خبرٌ آخَرُ لأنَّ أو حالٌ من المستكنِّ في الجار والمجرور على أنَّه عبارةٌ عن الشَّريعةِ الشَّريفةِ بكمالها لا عن التَّوحيدِ فقط وفائدتُه بيانُ أنَّ شريعتَه صلى الله عليه وسلم اقوم الشَّرائعِ وأعدلُها كما يُعرب عنه التَّنكيرُ التَّفخيميُّ والوصفُ اثر بيان انه صلى الله عليه وسلم من جملة المرسلين بالشَّرائعِ

5

{تَنزِيلَ العزيز الرحيم} نصب على المدح وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ وبالجرِّ على أنه بدلٌ من القرآن وأيا ما كان فهو مصدرٌ بمعنى المفعولِ عبَّر به عن القرآنُ بياناً لكمال عراقتِه في كونِه منزَّلاً من عندِ الله عزَّ وجلَّ كأنَّه نفس التَّنزيلِ واظهارا لفخامتِه الإضافيةِ بعدَ بيانِ فخامتِه الذَّاتيَّةِ بوصفه بالحكمة وفي تخصيص الاسمينِ الكريمينِ المُعربينِ عن الغلبةِ التَّامةِ والرأفة العامة حيث على الايمان ترهيباً وترغيباً وإشعارٌ بأنَّ تنزيلَه ناشيءٌ عن غايةِ الرَّحمةِ حسبما نطقَ به قولُه تعالى وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين وقيل النصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعلِه المضمرِ أي نزل تنزيل العزيزِ الرَّحيمِ على أنَّه استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما ذُكر من فخامةِ شأنِ القُرآن وعلى كلِّ تقديرٍ ففيهِ فضلُ تأكيدٍ لمضمونِ الجملة القسميةِ

6

{لّتُنذِرَ} متعلِّقٌ بتنزيل على الوجوهِ الأُولِ وبعامله المضمرِ على الوجهِ الآخيرِ أي لتنذَر به كما في صدرِ الأعرافِ وقيل هو متعلقٌ بما يدلُّ عليهِ لمن المرسلين أي إنَّك مرسلٌ لِتُنذِرَ {قَوْماً مَّا أُنذِرَ آباؤهم} أي لم يُنذْر آباؤُهم الأقربون لتطاولِ مدَّة الفترةِ على أنَّ ما نافيةٌ فتكون صفةً مبيِّنةً لغاية احتياجهم إلى الإنذارِ أو الذي أنذره أو شيئاً أُنذره آباؤهم الأبعدون على أنَّها موصولةٌ أو موصوفة فيكون مفعولاً ثانياً لتنذرَ أو إنذار آبائِهم الأقدمين على أنَّها مصدريةٌ فيكون نعتاً لمصدرٍ مؤكَّدٍ أي لتنذر انذار كائناً مثلَ إنذارِهم {فَهُمْ غافلون} على الوجهِ الأولِ متعلِّق بنفي الإنذارِ مترتِّب عليه والضَّميرُ للفريقينِ أي لم تنذر آباؤهم فهم جميعاً لأجلِه غافلون وعلى الوجوهِ الباقيةِ متعلِّقٌ بقوله تعالى لّتُنذِرَ أو بما يفيده إنَّك لمن المُرسلين وارد لتعليل انذاره صلى الله عليه وسلم أو إرساله بغفلتهم المحوجةِ إليهما على أنَّ الضميرَ للقوم خاصَّةً فالمعنى فهم غافلُون عنه أي عمَّا أُنذر آباؤهم الأقدمونَ لامتدادِ المُدَّة واللاَّمُ في قولِه تعالى

7

{لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ} جوابُ القسمِ أيْ والله لقد ثبت وتحقَّقَ عليهم البتةَ لكن لا بطريق الجبرِ من غير أنْ يكون من قبلهم ما يقتضيِه بل بسبب إصرارِهم الاختياريِّ على الكُفر والإنكار وعدم تأثُّرهم من التَّذكيرِ والإنذار وغلوِّهم في العُتوِّ والطُّغيانِ وتماديهم في اتِّباعِ خُطُوات الشَّيطانِ بحيثُ لا يَلْويهم صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ كيف لا والمرادُ بما حقَّ من القول قوله

يس 8 11 تعالى لإبليسَ عند قوله لأغوينَّهم أجمعين لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ منك وممن تبعك منهم أجمعين وهو المعنيُّ بقوله تعالى لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والنار والناس أجمعين كما يلوحُ به تقديمُ الجنة على النَّاسِ فإنَّه كما ترى قد أوقع فيه الحكم بإدخال جهنَّم على مَن تبعَ إبليسَ وذلك تعليلٌ له بتبعيته قطعاً وثبوت القولِ على هؤلاء الذين عبَّر عنهم بأكثرِهم إنَّما هو لكونِهم من جملة أولئك المصرِّين على تبعيَّةِ إبليسَ أبداً وإذ قد تبيَّن أنَّ مناطَ ثبوتِ القول وتحقُّقهِ عليهم إصرارُهم على الكُفرِ إلى الموتِ ظهر أنَّ قوله تعالى {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} متفرِّعٌ في الحقيقةِ على ذلك لا على ثُبوت القول وقوله تعالى

8

{إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا} تقريرٌ لتصميمهم على الكُفرِ وعدم ارعوائِهم عنه بتمثيلِ حالِهم بحال الذين غُلَّتْ أعناقُهم {فَهِىَ إِلَى الاذقان} أي فالأغلالُ منتهيةٌ إلى أذقانِهم فلا تدعُهم يلتفتونَ إلى الحقِّ ولاَ يَعطفونَ أعناقَهم نحوَه ولا يطأطئون رءوسهم له {فَهُم مُّقْمَحُونَ} رافعونَ رءوسهم غاضُّون أبصارَهم بحيثُ لا يكادُون يَروَن الحقَّ أو ينظرُون إلى جهتِه

9

{وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فأغشيناهم فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} إمَّا تتَّمةٌ للتَّمثيل وتكميلٌ له أي تكميلٍ أي وجعلنا مع ما ذُكر من أمامهم سَدَّاً عظيماً ومن ورائهم سَدَّاً كذلك فغطينا بها أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يقدرونَ على إبصارِ شيءٍ ما أصلاً وإمَّا تمثيلٌ مستقلٌّ فإنَّ ما ذُكر من جعلهم محصورينَ بين سَدَّينِ هائلين قد غطَّيا أبصارَهم بحيث لا يُبصرون شيئاً قطعاً كافٍ في الكشف عن كمال فظاعةِ حالِهم وكونِهم محبوسين في مطمورةِ الغيِّ والجهالاتِ محرومين عن النَّظرِ في الأدلَّةِ والآياتِ وقُرىء سُدَّاً بالضمِّ وهي لغةٌ فيه وقيل ما كان من عمل النَّاسِ فهو بالفتحِ وما كان من خلقِ الله فبالضمِّ وقُرىء فأعشينَاهم من العَشَا وقيل الآيتانِ في بني مخزومٍ وذلك أنَّ أبا جهلٍ حلف لئِن رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي ليرضخنَّ رأسَه فأتاه وهو يصلي صلى الله عليه وسلم ومعه حجرٌ ليدمغَه فلَّما رفع يدَه انثنتْ يدُه إلى عنقِه ولزق الحجرُ بيده حتَّى فكُّوه عنها بجهدٍ فرجع إلى قومه فأخبرَهم بذلك فقال مخزوميٌّ آخرُ أنا أقتلُه بهذا الحجرِ فذهب فأَعمى الله تعالى بصرَهُ

10

{وسواء عليهم أأنذرتهم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} بيانٌ لشأنِهم بطريق التَّصريحِ إثرَ بيانه بطريق التمثيل أي مستوٍ عندهم إنذارُك إيَّاهم وعدمُه حسبما مرَّ تحقيقُه في سورةِ البقرةِ وقوله تعالى {لاَ يُؤْمِنُونَ} استئنافٌ مؤكِّدٌ لما قبله مبيِّنٌ لما فيه من إجمالِ ما فيه الاستواءُ أو حالٌ مؤكدةٌ له أو بدلٌ منه ولما بُيِّن كونَ الإنذارِ عندهم كعدمِه عقب ببيانِ من يتأثَّر منه فقيل

11

{إِنَّمَا تُنذِرُ} أي إنذاراً مستتبعاً للأثر {مَنِ اتبع الذكر} أي القُرآنَ بالتَّامُّلِ فيه أو الوعظِ ولم يصرَّ على اتِّباعِ خُطُوات الشَّيطانِ {وَخشِىَ الرحمن بالغيب} أي

يس 12 14 خافَ عقابَه وهو غائبٌ عنْهُ على أنَّه حالٌ من الفاعلِ أو المفعولِ أو خافَه في سريرتِه ولم يغترَّ برحمتِه فإنَّه منتقمٌ قهَّار كما أنَّه رحيمٌ غَفَّار كما نطق به قولُه تعالَى نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الأليم {فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} عظيمةٍ {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} لا يُقادر قدرُه والفاء لترتيب البشارةِ أو الأمرِ بها على ما قبلها من اتِّباعِ الذِّكرِ والخشيةِ

12

{إنا نحن نحيي الموتى} بيانٌ لشأنٍ عظيمٍ ينطوي على الإنذارِ والتَّبشيرِ انطواءً إجماليَّاً أي نبعثُهم بعد مماتِهم وعن الحسنِ إحياؤهم إخراجُهم من الشِّركِ إلى الإيمانِ فهو حينئذٍ عدةٌ كريمةٌ بتحقيق المُبشَّر به {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ} أي ما أسلفُوا من الأعمالِ الصالحة وغيرها {وآثارهم} التي أبقوها من الحسناتِ كعلمٍ علمُوه أو كتابٍ ألَّفُوه أو حبيسٍ وقفُوه أو بناءٍ بنوَه من المساجدِ والرِّباطاتِ والقناطرِ وغيرِ ذلك من وجوهِ البرِّ ومن السَّيئاتِ كتأسيسِ قوانينِ الظلم والعدوان وترتيب مبادي الشرِّ والفساد فيما بين العباد وغير ذلك من فنون الشُّرور التي أحدثُوها وسنُّوها لمن بعدهم من المُفسدين وقيل هي آثار المشَّائينَ إلى المساجدِ ولعلَّ المرادَ أنَّها من جُملةِ الآثارِ وقُرىء ويُكتب على البناءِ للمفعولِ ورفعِ آثارَهم {وَكُلَّ شىْء} من الأشياءِ كائناً ما كانَ {أحصيناه فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ} أصلٍ عظيمِ الشَّأنِ مظهر لجميعِ الأشياءِ ممَّا كانَ وما سيكونُ وهو اللَّوحُ المحفوظُ وقُرىء كلُّ شيءٍ بالرَّفعِ

13

{واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية} ضربُ المَثَلِ يُستعملُ تارةً في تطبيقِ حالةٍ غريبةٍ بحالةٍ أُخرى مثلِها كما في قوله تعالى ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كفروا امراة نوح وامراة لُوطٍ وأخرى في ذكر حالةٍ غريبةٍ وبيانِها للنَّاس من غير قصدٍ إلى تطبيقِها بنظيرةِ لها كما في قولِهِ تعالى وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال على أحدِ الوجهينِ أي بيَّنا لكم أحوالاً بديعةً هي في الغرابةِ كالأمثالِ فالمَعْنى على الأوّلِ اجعلْ أصحابَ القريةِ مثلاً لهؤلاء في الغُلوِّ في الكفرِ والإصرارِ على تكذيبِ الرُّسلِ أي طبِّق حالَهم بحالهم على أنَّ مثلاً مفعولٌ ثان لا ضرب وأصحابَ القريةِ مفعولُه الأوَّلَ أُخِّر عنْهُ ليتَّصل بهِ ما هو شرحُه وبيانُه وعلى الثَّاني اذكُر وبيِّن لهم قصَّةً هي في الغرابةِ كالمَثَل وقوله تعالى أصحابَ القريةِ بدلٌ منه بتقديرِ المضافِ أو بيانٌ له والقريةُ أنطاكيِّةُ {إِذْ جَاءهَا المرسلون} بدلُ اشتمالٍ من أصحابَ القريةِ وهم رُسلُ عيسى عليه السَّلامُ إلى أهلِها ونسبةُ إرسالِهم إليهِ تعالى في قولِه

14

{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين} بناء على أنَّه كان بأمره تعالى لتكميلِ التَّمثيلِ وتتميم التَّسليةِ وهما يحيى وبُولس وقيل غيرُهما {فَكَذَّبُوهُمَا} أي فأتياهم فدعواهم إلى الحقِّ فكذَّبوهما في الرِّسالةِ {فَعَزَّزْنَا} أي قوَّينا يقال عزز المطر الارض اذ لبَّدها وقُرىء بالتَّخفيفِ من عزَّه إذا غلبَه وقهرَه وحُذف المفعولُ لدلالة ما قبله عليه ولأنَّ المقصدَ ذكر المعزَّزِ به {بِثَالِثٍ} هو شَمعُون {فَقَالُواْ} أي جميعاً {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} مُؤكِّدين كلامَهم لسبق الإنكارِ لما أنَّ تكذيبَهما تكذيبٌ للثَّالثِ لاتِّحادِ كلمتهم وذلك أنَّهم كانوا عَبَدَة أصنام فأرسل اليهم

يس 15 17 عيسى عليه السلام اثنينِ فلما قَرُبا من المدينة رأياً شيخاً يَرعى غُنيماتٍ له وهو حبيبٌ النَّجارُ صاحب يس فسألهما فأخبراهُ قال أمعكما آيةٌ فقالا نشفي المريضَ ونُبرىء الأكْمَه والأبرصَ وكان له ولدٌ مريضٌ منذ سنتينِ فمسحاهُ فقام فآمن حبيبٌ وفشا الخبرُ وشُفي على أيديهما خلقٌ وبلغ حديثُهما إلى الملكِ وقال لهما ألنا إلهٌ سوى آلهتِنا قالا نعم من أوجدَك وآلهتَك فقال حتَّى أنظرَ في أمرِكما فتبعهما النَّاسُ وقيل ضربُوهما وقيل حُبسا ثمَّ بعث عيسى عليه السَّلامُ شَمعُون فدخلَ مُتنكِّرا وعاشر حاشيةَ الملك حتَّى استأنُسوا به ورفعوا خبرَه إلى الملكِ فأنسَ به فقالَ له يَوْماً بلغني أنَّك حبستَ رجلينِ فهل سمعت مايقولونه قال لاَ حال الغضبُ بيني وبينَ ذلكَ فدعاهُما فقال شَمعُون مَن أرسلكُما قالا الله الذي خَلَق كلَّ شيءٍ وليسَ له شريكٌ فقال صفاهُ وأَوْجِزا قالاَ يفعلُ مَا يشاءُ ويحكُم ما يريدُ قال وما آيتكُما قالا ما يتمنَّى الملكُ فَدَعا بغلامٍ مطمُوسِ العينينِ فدعَوَا الله تعالى حتَّى انشقَّ له بصرٌ فأخذا بُندقتينِ فوضعاهما في حدقتيهِ فصارتا مُقلتينِ ينظرُ بهما فقال له شَمعُون أرأيتَ لَو سألتَ إلهَك حتَّى يصنعَ مثلَ هذا فيكونَ لك وله الشَّرفُ قال ليس لي عنك سرٌّ إن إلهنَا لا يُبصر ولا يَسمع ولا يضرُّ ولا ينفعُ وكان شمعُون يدخلُ معهم على الصَّنمِ فيصلِّي ويتضرَّعُ وهم يحسبون أنَّه منهم ثم قال إنْ قدر إلهُكما على إحياءِ ميِّتٍ آمنَّا به فدعَوا بغلامٍ ماتَ من سبعةِ أيامٍ فقامَ وقال إنِّي أُدخلت في سبعةِ أوديةٍ من النَّارِ وإنِّي أُحذركم ما أنتُم فيه فآمِنُوا وقال فُتحت أبوابُ السَّماء فرأيتُ شَاباً حسنَ الوجهِ يشفعُ لهؤلاء الثَّلاثةِ قال الملكُ من هُم قال شمعُونُ وهذانِ فتعجَّبَ الملكُ فلمَّا رأى شمعُون أنَّ قولَه قد أثر فيه نصحَه فآمنَ وآمنَ قومٌ ومَن لم يُؤمن صاحَ عليهم جبريلُ عليه السَّلامُ فهلكُوا هكذا قالُوا ولكن لا يُساعده سياقُ النظمِ الكريمِ حيثُ اقُتصر فيه على حكايةِ تمادِيهم في العنادِ واللَّجاجِ وركوبِهم متنَ المُكابرةِ في الحِجاجِ ولم يُذكرْ فيه ممَّن يؤمن أحدٌ سوى حبيبٍ ولو أنَّ الملكَ وقوماً من حواشيه آمنُوا لكان الظَّاهرُ أنْ يُظاهروا الرُّسلَ ويساعدوهم قُبلوا في ذلك أو قُتلوا كدأب النَّجار الشهيد ولكان لهم فيه ذكرٌ ما بوجه من الوجوه اللَّهم إلاَّ أن يكونَ إيمانُ الملكِ بطريق الخُفيةِ على خوفٍ من عناة ملئِه فيعتزلُ عنهم مُعتذراً بعذرٍ من الأعذارِ

15

{قَالُواْ} أي أهلُ أنطاكيَّةَ الذينَ لَم يُؤمنوا مُخاطبينَ للثَّلاثةِ {مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مثلنا} من غير مزيةٍ لكُم عَلينا مُوجبةٍ لاختصاصكم بما تدعونَه ورفعُ بشرٌ لانتقاضِ النَّفيِ المُقتضي لإعمالِ ما بإلاَّ {وَمَا أَنَزلَ الرحمن مِن شَىْء} ممَّا تدعُونه من الوحي والرِّسالةِ {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} في دَعْوى رسالتِه

16

{قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إليكم لمرسلون} استشهدوا بعلمِ الله تعالى وهو يَجْري مجرى القسمِ مع ما فيه من تحذيرِهم معارضةَ علم الله تعالى وزادُوا الَّلامَ المؤكِّدةَ لِما شاهدُوا منُهم من شدَّةِ الإنكارِ

17

{وَمَا عَلَيْنَا} أي من جهةِ ربِّنا {إِلاَّ البلاغ المبين} أي إلاَّ تبليغُ رسالتِه تبليغاً ظَاهِراً بيِّناً

يس 18 22 بالآياتِ الشَّاهدةِ بالصِّحَّةِ وقد خرجنا عن عُهدته فلا مؤاخذةَ لنا بعد ذلك من جهة ربِّنا أو ما علينا شيءٌ نُطالب به من جهتِكم إلا تبليغُ الرِّسالةِ على الوجهِ المذكورِ وقد فعلناه فأيُّ شيءٍ تطلبون منَّا حتَّى تُصدِّقوُنا بذلك

18

{قَالُواْ} لمَّا ضاقتْ عليهم الحيلُ وعيَّت بهم العلل {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} تشاءمنا بكم جرياً على دَيْدنِ الجَهَلةِ حيث كانُوا يتيَّمنون بكلِّ ما يُوافق شهواتِهم وإن كان مستجلباً لكلِّ شر ووبال ويتشاءمون بمالا يُوافقها وإنْ كان مستتبعاً لسعادةِ الدَّارينِ أو بناء على الدعوة لاتخلو عن الوعيدِ بما يكرهونَه من اصابة ضر متعلق بأنفسهم وأهليهم وأموالِهم إنْ لم يُؤمنوا فكانوا ينفرون عنه وقد رُوي أنَّه حُبس عنهم القطرُ فقالوه {لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ} أي عن مقالتِكم هذه {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} بالحجارةِ {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} لا يُقادرُ قَدرُه

19

{قَالُواْ طائركم} أي سببُ شُؤمكم {مَّعَكُمْ} لا مِن قِبلنا وهو سوءُ عقيدتِكم وقبحُ أعمالكم وقُرىء طَيركُم {أئن ذُكّرْتُم} أي وُعظتُم بما فيه سعادتُكم وجوابُ الشَّرط محذوفٌ ثقةً بدِلالة ما قبلَهُ عليه أي تطيرتُم وتوعدتُم بالرَّجمِ والتَّعذيبِ وقُرىء بألفٍ بين الهمزتينِ وبفتحِ أنْ بمعنى أتطيرتُم لأنْ ذُكِّرتم وأنْ ذكِّرتم وإنْ ذُكِّرتم بغيرِ استفهام وأينَ ذُكِّرتم بمعنى طائركم معكم حيثُ جرى ذكركُم وهو أبلغُ {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} إضرابٌ عمَّا تقتضيه الشَّرطيَّةُ من كونِ التَّذكيرِ سبباً للشُّؤمِ أو مصحِّحاً للتوعد أي ليس الأمرُ كذلك بل أنتُم قومٌ عادتُكم الإسرافُ في العصيان فلذلك أتاكُم الشُّؤمُ أو في الظُّلمِ والعُدوانِ ولذلك تَوعدتُم وتَشاءمتُم بمن يجبُ إكرامُه والتَّبركُ به

20

{وَجَاء مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى} هو حبيبٌ النَّجارُ وكان ينحتُ أصنامَهم وهو ممَّن آمنَ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وبينهما ستمائةُ سنةٍ كما آمنَ به تُبَّعُ الأكبرُ وورقةُ بنُ نوفلٍ وغيرُهما ولم يؤمن من بنبي غيره صلى الله عليه وسلم أحدٌ قبل مبعثِه وقيل كان في غارٍ يعبدُ الله تعالى فلمَّا بلغه خبرُ الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أظهرَ دينَه {قَالَ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ مجيئهِ ساعياً كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ عند مجيئِه فقيل قال {يا قوم اتبعوا المرسلين} تعرض لعُنوانِ رسالتهم حثَّاً لهم على اتِّباعِهم كما أنَّ خطابَهم بيا قوم لتأليفِ قلوبِهم واستمالتِها نحو قبولِ نصيحتِه وقوله تعالى

21

{اتبعوا من لا يسألكم أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} تكريرٌ للتأكيد والتوسل به إلى وصفهم بما يرغِّبُهم في اتِّباعهم من التَّنزهِ عن الغرض الدُّنيويِّ والاهتداء إلى خير الدُّنيا والدِّينِ

22

{وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى} تلطُّفٌ في الارشاد

يس 23 27 بإيراده في معرض المُناصحةِ لنفسِه وإمحاض النُّصحِ حيثُ أراهم أنَّه اختارَ لهم ما يختارُ لنفسه والمرادُ تقريعُهم على ترك عبادةِ خالقِهم إلى عبادةِ غيرِه كما ينبىء عنه قوله {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} مبالغةً في التَّهديدِ ثمَّ عاد إلى المساق الاول فقال

23

{أأتخذ من دونه آلهة} إنكارٌ ونفيٌ لاتِّخاذِ الآلهة على الإطلاق وقوله تعالى {إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرّ لاَّ تُغْنِ عَنّى شفاعتهم شَيْئاً} أي لا تنفعني شيئا من النفع {ولا يُنقِذُونَ} من ذلك الضُّرِّ بالنصرة والمظاهرة استئناف سيق لتعليلٍ النَّفي المذكور وجعلُه صفةً لآلهةً كما ذهب إليه بعضُهم رُبَّما يُوهم أنَّ هناك آلهةً ليستْ كذلكَ وقُرىء إنْ يَردن بفتح الياءِ على معنى إنْ يُوردني ضراً أي يجعلنِي مورداً للضُّرِّ

24

{إِنّى إِذاً} أي إذا اتخذتُ من دونه آلهةً {لَفِى ضلال مُّبِينٍ} فإنَّ اشراك ماليس من شأنِه النَّفعُ ولا دفعُ الضُّرِّ بالخالق المقتدرِ الذي لا قادرَ غيرُه ولا خيرَ إلا خيرُه ضلال بيِّن لا يَخْفى على أحدٍ ممَّن له تمييزٌ في الجملةِ

25

{إني آمنت بِرَبّكُمْ} خطاب منه للرُّسلِ بطريق التَّلوينِ قيل لمَّا نصحَ قومَه بما ذُكر همُّوا برجمِه فأسرع نحوَ الرُّسلِ قبل أن يقتلُوه فقال ذلك وإنَّما أكَّده لإظهارِ صدوره عنه بكمال الرغبة والنشاط واضاف الربَّ إلى ضميرِهم رَوْماً لزيادة التَّقريرِ وإظهاراً للاختصاصِ والاقتداء بهم كأنَّه قالَ بربِّكم الذي أرسلَكم أو الذي تدعُوننا إلى الإيمانِ به {فاسمعون} أي اسمعُوا إيمانيَ واشهدُوا لي به عند الله تعالى وقيل الخطابُ للكفرةِ شافههَم بذلك إظهاراً للتَّصلُّبِ في الدِّينِ وعدم المبالاة بالقتلِ وإضافةُ الرَّبِّ إلى ضميرهم لتحقيقِ الحقِّ والتَّنبيهِ على بُطلان ما هم عليه من اتِّخاذِ الأصنامِ أرباباً وقيل للنَّاس جميعاً

26

{قِيلَ ادخل الجنة} قيل له ذلك لمَّا قتلُوه إكراماً له بدخولِها حينئذٍ كسائر الشُّهداءِ وقيل لما همُّوا بقتله رفعَه الله تعالى إلى الجنَّةِ قاله الحسنُ وعن قَتادةَ أدخلَه الله الجنَّةَ وهو فيها حيٌّ يُرزقُ وقيل معناه البُشرى بدخولِ الجنَّةِ وأنَّه من أهلِها وإنَّما لم يُقل له لأنَّ الغرضَ بيان المقول لا المقول له لظهوره وللمبالغةِ في المسارعةِ إلى بيانِه والجملةُ استئنافٌ وقعَ جواباً عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ حالِه ومقالهِ كأنَّه قيلَ كيفَ كان لقاءُ ربِّه بعد ذلك التصلُّب في دينه والتسخي بروحه لوجهه تعالى فقيل قيل ادخل الجنَّة وكذلك قوله تعالى {قَالَ يَا ليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ}

27

{بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ المكرمين} فإنَّه جواب عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ حالهِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ عند نيلِه تلك الكرامةَ السَّنيةَ فقيل قال الخ وإنما تمنَّى علَم قومه بحاله ليحملَهم ذلك عن اكتسابِ مثله

يس 28 31 بالتَّوبةِ عن الكُفرِ والدخول في الإيمانِ والطَّاعةِ جرياً على سَننِ الأولياء في كظم الغيظ والتَّرحمِ على الأعداءِ أو ليعلموا أنهم كانُوا على خطأٍ عظيمٍ في أمره وأنَّه كان على الحقِّ وأنَّ عداوتَهم لم تكسبه إلاَّ سعادةً وقُرىء من المكرمين وما موصولةٌ أو مصدريةٌ والباء صلةُ يعلمون أو استفهاميةٌ وردت على الاصل والباء متعلِّقةٌ بغفرَ أي بأي شيءٍ غفرَ لي ربِّي يريدُ به تفخيمَ شأنِ المهاجرةِ عن ملَّتِهم والمصابرةِ على أذيَّتِهم

28

{وَمَا أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ} من بعد قتلِه أو رفعِه {مِن جُندٍ مّنَ السماء} لإهلاكِهم والانتقامِ منهم كما فعلناه يوم بدر والخندق بل كفينا أمرَهم بصيحةِ مَلَكٍ وفيه استحقار لهم لاهلاكهم وإيماء إلى تفخيمِ شأن الرسول صلى الله عليه وسلم {وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} وما صحَّ في حكمتِنا أنْ ننزلَ لإهلاكِ قومِه جُنداً من السَّماءِ لما أنَّا قَدَّرنا لكلِّ شيءٍ سَبَباً حيثُ أهلكنا بعضَ مَن أهلكنا من الأُمم بالحاصبِ وبعضَهم بالصيحة وبعضَهم بالخسفِ وبعضَهم بالإغراقِ وجعلنا إنزالَ الجندِ من خصائصِك في الانتصارِ من قومك وقيل ما موصولة معطوفة على جندٍ أي وما كنَّا مُنزلين على مَن قبلهم من حجارةٍ وريحٍ وأمطارٍ شديدةٍ وغيرِها

29

{إِن كَانَتْ} أي ما كانتْ الأخذةُ أو العقوبةُ {إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} صاحَ بها جبريلُ عليه السَّلامُ وقُرىء إلاَّ صيحةٌ بالرَّفعِ على أنَّ كانَ تامة وقُرىء إلا زَقيةً واحدةً من زَقَا الطَّائرُ إذا صاحَ {فَإِذَا هُمْ خامدون} ميِّتُون شُبِّهوا بالنَّارِ الخامدةِ رمزا الى أنَّ الحيَّ كالنَّارِ السَّاطعةِ في الحَرَكةِ والالتهابِ والميِّتُ كالرماد كما قال لَبيدٌ ... وَمَا المرءُ إلاَّ كالشَّهاب وضوئِه ... يحورُ رَمَاداً بعدَ إذْ هُو ساطع ...

30

(يا حسرة عَلَى العباد) تعالى فهذه من الأحوالِ التي حقُّها أنْ تحضرِي فيها وهي ما دل عليه قوله تعالى {وَمَا يَأْتِيهِم من رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤون} فإنَّ المستهزئينَ بالنَّاصحينَ الذين نيطت بنصائِحهم سعادةُ الدَّارينِ أحقَّاءُ بأنْ يتحسَّروا ويتحسَّرُ عليهم المتحسِّرون أو قد تلهَّفَ على حالهم الملائكةُ والمؤمنون من الثَّقلينِ وقد جُوِّز أنْ يكون تحسُّراً عليهم من جهةِ الله تعالى بطريق الاستعارةِ لتعظيم ما جنوه على أنفسِهم ويؤيِّده قراءةُ يَا حسرتَا لأنَّ المعنى يا حسرتِي ونصبُها لطولِها بما تعلَّق بها من الجارِّ وقيل بإضمارِ فعلِها والمنادى محذوف وقرىء ياحسرة العبادِ بالإضافةِ إلى الفاعلِ او المفعول ويا حسرة على العبادِ بإجراءِ الوصلِ مجرى الوقفِ

31

{أَلَمْ يَرَوْاْ} أي ألم يعلمُوا وهو معلَّقٌ عن العمل في قوله تعالى {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون} لأنَّ كم لا يعملُ فيها ما قبلها وإنْ كانتْ خبريَّةً لأنَّ أصلَها الاستفهامُ خلا أنَّ معناه نافذٌ في الجُملةِ كما نفذَ في قولك ألم تَرَ إنَّ زيداً لمنطلقٌ وإن لم يعملْ في لفظه {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ}

بدلٌ من كم أهلكنا على المعنى أيْ ألم يروا كثرةَ إهلاكِنا من قبلهم من المذكُورين آنِفاً ومن غيرهم كونهم غير راجعين إليهم وقُرىء بالكسرِ على الاستئنافِ وقُرىء ألم يَرَوا من أهلكنا والبدلُ حينئذٍ بدلُ اشتمالٍ

32

{وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} بيانٌ لرجوع الكلِّ إلى المحشرِ بعد بيان عدم الرُّجوعِ إلى الدُّنيا وأنْ نافية وتنوينُ كلٌّ عوضٌ عن المضافِ إليهِ ولمَّا بمعنى إلاَّ وجميعُ فعيلٌ بمعنى مفعولٍ ولدينا ظرفٌ له أو لما بعده والمعنى ما كلُّهم إلاَّ مجموعون لدينا مُحضرون للحسابِ والجزاءِ وقيل محضرون معذبون فكل عبارةٌ عن الكَفَرة وقُرىء لما بالتَّخفيفِ على أنَّ مُخفّفة من الثقيلة واللامُ فارقةٌ وما مزيدةٌ للتأكيد والمعنى أنَّ كلهم مجموعون الخ

33

{وآية لهم الأرض الميتة} بالتخفيف وقُرىء بالتَّشديدِ وقوله تعالى آيةٌ خبرٌ مقدَّمٌ للاهتمامِ به وتنكيرُها للتفخيم ولهم إمَّا متعلِّقةٌ بها لأنَّها بمعنى العلامةِ أو بمضمرٍ هو صفةٌ لها والأرضُ مبتدأٌ والميتةُ صفتُها وقوله تعالى {أحييناها} استئنافٌ مبيّن لكفية كونها آيةً وقيل آيةٌ مبتدأٌ ولهم خبرٌ والأرضُ الميتةُ مبتدأ موصوف وأحييناها خبره والجملة مفسِّرة لآية وقيل الإرض مبتدأ وأحييناها خبرُه والجملةُ خبرٌ لآيةٌ وقيل الخبرُ لها هو الأرضُ وأحييناها صفتُها لأنَّ المرادَ بها الجنسُ لا المعيِّنة والأولُ هو الأَولى لأن مصب الفائدة هو كونُ الأرضِ آيةً لهم لا كونُ الآيةِ هي الأرضُ {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً} جنس الحبِّ {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} تقديم الصِّلةِ للدِّلالةِ على أنَّ الحبَّ معظم ما يُؤكل ويُعاش به

34

{وجعلنا فيها جناتٌ من نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي من أنواعِ النَّخلِ والعنبِ ولذلك جُمعا دون الحبِّ فإنَّ الدّالّ على الجنسِ مشعرٌ بالاختلافِ ولا كذلك الدَّالُّ على الأنواعِ وذكرُ النَّخيلِ دُون التُّمور ليطابقَ الحبَّ والأعنابَ لاختصاص شجرها بمزيدِ النَّفعِ وآثار الصُّنعِ {وَفَجَّرْنَا فِيهَا} وقُرىء بالتَّخفيفِ والفجرُ والتَّفجيرُ كالفتح والتفتيح لفظاً ومعنى {مِنَ العيون} أي بعضاً من العُيون فحذف الموصوفُ وأُقيمت الصفةُ مُقامَه أو العيون ومن مزيدةٌ على رأي الأخَفْشِ

35

{لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرَهِ} متعلِّقٌ بجعلنا وتأخيرُه عن تفجير العيون لانه من مبادى الأثمارِ أي وجعلنا فيها جنَّاتٍ من نخيلٍ ورتبنا مبادى أثمارِها ليأكُلوا من ثمرِ ما ذُكر من الجنَّاتِ والنَّخيلِ بإجراء الضَّميرِ مجرى اسمِ الإشارةِ وقيل الضَّميرُ لله تعالى بطريقِ الالتفاتِ إلى الغَيبةِ والإضافةُ لأنَّ الثَّمرَ يخلقُه تعالى وقُرىء بضمَّتينِ وهي لغةٌ فيه أو جمع ثمارٍ وبضمَّةٍ وسكونٍ {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} عطفٌ على ثمرِه وهو ما يُتَّخذُ منه من العصير والدِّبس ونحوهما وقيل ما نافيةٌ والمعنى أن الثمر بخلق الله تعالى لا بفعلهم ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحاليةِ ويؤكد الأوَّلَ قراءة

يس 36 38 عملتُ بلا هاءٍ فإنَّ حذفَ العائدِ من الصِّلةِ أحسنُ من الحذفِ من غيرِها {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} إنكارٌ واستقباحٌ لعدم شكرِهم للنِّعم المعدودةِ والفاء للعطفِ على مقدر يقتضيه المقام أي أيرون هذه النِّعمَ أو أيتنعمون بها فلا يشكرونَها

36

{سُبْحَانَ الذي خَلَق الازواج كُلَّهَا} استئنافٌ مسوقٌ لتنزيهه تعالى عمّا فعلوه من ترك شكره على آلائه المذكورة واستعظام ما ذُكر في حيز صلة من بدائعِ آثارِ قُدرتِه وأسرارِ حكمتِه وروائعِ نعمائِه الموجبةِ للشُّكرِ وتخصيصِ العبادةِ به والتَّعجيب من إخلالِهم بذلك والحالةُ هذه وسبحانَ علمٌ للتَّسبيحِ الذي هو التبعيدُ عن السُّوءِ اعتقاداً وقولاً أي اعتقادَ البعدِ عنه والحكمَ به مِنْ سبَح في الأرضِ والماءِ إذا أبعدَ فيهما وأمعنَ ومنه فرسٌ سَبُوحٌ أي واسعُ الجرْي وانتصابُه على المصدريّةِ ولا يكاد يُذكر ناصبُه أي أُسبِّحُ سبحانَه أي أنزّهُه عمَّا لا يليقُ به عقْداً وعملاً تنزيهاً خاصَّا به حقيقاً بشأنِه وفيه مبالغةٌ من جهة الاشتفاق من السَّبْح ومن جهة النَّقلِ إلى التَّفعيلِ ومن جهة العدولِ عن المصدرِ الدَّالِ على الجنسِ إلى الاسمِ الموضوع له خاصَّة لاسيما العلمُ المشيرُ إلى الحقيقةِ الحاضرةِ في الذِّهنِ ومن جهة إقامتهِ مُقامَ المصدرِ مع الفعلِ وقيل هو مصدرٌ كغُفرانٍ أُريد به التنزُّهُ التامُّ والتَّباعد الكُلِّيُ عن السُّوءِ ففيه مبالغةٌ من جهةِ إسنادِ التَّنزه إلى الذَّاتِ المُقدَّسةِ فالمعنى تنزه بذاتِه عن كلِّ ما لا يليقُ به تنزُّهاً خاصَّا به فالجملةُ على هذا إخبارٌ من الله تعالى بتنزهِه وبراءتِه عن كل مالا يليقُ به مَّما فعلُوه وما تركُوه وعلى الأوَّلِ حكم منه عزَّ وجلَّ بذلك وتلقين للمؤمنين أنْ يقولوه ويعتقدُوا مضمونَه ولا يُخلُّوا به ولا يغفلُوا عنه المراد بالأزواجِ الأصنافُ والأنواعُ {مِمَّا تُنبِتُ الارض} بيانٌ لها والمرادُ به كلُّ ما ينبتُ فيها من الأشياءِ المذكورةِ وغيرها {وَمِنْ أَنفُسِهِمْ} أي خلقَ الأزواجَ من أنفسِهم أي الذَّكرَ والأُنثى {وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} أي والأزواجَ مما لم يُطلعهم الله تعالى على خُصوصيَّاتهِ لعدمِ قُدرتِهم على الاحاطةِ بها ولمَّا لم يتعلَّق بذلك شيءٌ من مصالحِهم الدِّينيةِ والدُّنيويةِ وإنما أطلعَهم على ذلك بطريقِ الإجمالِ على منهاج قوله تعالى وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ لما نبط به وقوفُهم على عظمِ قدرتِه وسعةِ مُلكهِ وسلطانِه

37

{وآية لهم الليل} جملةٌ من خبرٍ مقدمٍ ومبتدأٍ مؤخَّرٍ كما مرَّ وقوله تعالى {نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} جملةٌ مبيِّنة لكيفيَّةِ كونِه آيةً أي نُزيله ونكشفُه عن مكانِه مستعارٌ من السَّلخِ وهو إزالةُ ما بين الحيوانِ وجلدِه من الاتِّصالِ والأغلبُ في الاستعمالِ تعليقُه بالجلدِ يقال سلختُ الإهابَ من الشَّاةِ وقد يُعكس ومنه الشَّاةُ المسلوخةُ {فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ} أي داخلونَ في الظَّلامِ مفاجأةً وفيه رمزٌ إلى أنَّ الأصلَ هو الظَّلامُ والنُّورُ عارضٌ

38

{والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا} لحدَ مُعين ينتهي إليهِ دورُها فشبه بمستقرِّ المسافرِ اذا قطع مسيرَه أو لكبد السَّماءِ فإنَّ حركتَها فيه توجد ابطأ

يس 39 41 بحيثُ يظنُّ أنَّ لها هناك وقفةً قال والشَّمسُ حَيْرى لها بالجوِّ تدويمُ أو لا استقرارَ لها على نهجٍ مخصوصٍ أو لمنتهى مقدَّر لكلِّ يومٍ لكلِّ يومٍ من المشارقِ والمغاربِ فإنَّ لها في دورِها ثلاثمائة وستِّين مشرقاً ومغرباً تطلع كلَّ يومٍ من مطلعِ وتغربُ من مغرب ثم لا يعود إليهما إلى العامِ القابلِ او المنقطع جريها عند خرابِ العالمِ وقُرىء إلى مستقرَ لها وقُرىء لا مستقرَّ لها أي لاسكون لها فإنَّها متحرِّكةٌ دائماً وقُرىء لا مستقرَّ لها على أنَّ لا بمعنى ليسَ {ذلك} إشارةٌ إلى جريها وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بالمُشار إليه للإيذان بعلو رتبتِه وبُعدِ منزلتِه أي ذلك الجريُ البديعِ المنطوي على الحِكَم الرَّائعةِ التي تحارُ في فهمها العقولُ والأفهامُ {تَقْدِيرُ العزيز} الغالبِ بقُدرته علَى كلِّ مقدورٍ {العليم} المحيطِ علمُه بكلِّ معلومٍ

39

{والقمر قدرناه} بالنَّصبِ بإضمار فعل يفسره الظاهر وقُرِىءَ بالرَّفعِ على الابتداءِ أي قدَّرنا له {مَنَازِلَ} وقيل قدرنا مسيرَه منازلَ وقيل قدرنَاهُ ذا منازلَ وهي ثمانية وعشرون الشرطين البطان الثُّريَّا الدبَرانُ الهقعةُ الهنعةُ الذراعُ النثرةُ الطرفُ الجبهةُ الزبرةُ الصِّرفةُ العَوَا السِّماكُ الغفر الزباني الا كليل القلبُ الشوْلةُ النعائمُ البلدةُ سعدُ الذابحُ سعدُ بلَع سعدُ السعودِ سعدُ الأخبيةِ فرغُ الدلوِ المقدَّم فرغُ الدَّلوِ المؤخّرُ الرَّشا وهو بطنُ الحوتِ ينزل كلَّ ليلةٍ في واحدٍ منها لا يتخطَّاها ولا يتقاصرُ عنها فإذا كان في آخرِ منازلِه وهو الذي يكون قبيلَ الاجتماع دقَّ واستقوسَ {حتى عَادَ كالعرجون} كالشِّمراخِ المُعوجِ فعلون من الانعراجِ وهو الاعوجاجُ وقُرىء كالعَرجونَ وهما لغتانِ كالبُزيَون والبِزيونِ {القديم} العَتيقِ وقيل هو ما مرَّ عليه حولٌ فصاعداً

40

{لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا} أي يصحُّ ويتسهَّلُ {أَن تدْرِكَ القمر} في سرعةِ السَّيرِ فإنَّ ذلكَ يخلُّ بتكون النَّباتِ وتعيُّشِ الحيوانِ أو في الآثارِ والمنافعِ أو في المكانِ بأن تنزلَ في منزلِه أو في سلطانه فتطمس نورَه وإيلاءُ حرفِ النَّفي الشَّمسَ للدلالة على انها مسخرات لا يتيسر لها إلا ما قُدرِّ لها {ولا الليل سَابِقُ النهار} أي يسبقُه فيفوتُه ولكنْ يعاقُبه وقيل المراد بهما آيتاهما وهما النيِّرانِ وبالسبقِ سبقُ القمرِ إلى سُلطانِ الشَّمسِ فيكون عكساً للأوَّلِ وإيراد السَّبقِ مكان الإدراك لأنَّه الملائمُ لسرعةِ سيرهِ {وَكُلٌّ} أي وكلُّهم على أن التنوين عوضٌ عن المضافِ إليهِ الذي هو الضميرُ العائدُ إلى الشَّمسِ والقمرِ والجمعُ باعتبارِ التَّكاثرِ العارضِ لهما بتكاثرِ مطالعهما فإنَّ اختلافَ الأحوالِ يُوجب تَعدداً ما في الذَّاتِ أو إلى الكواكبِ فإنَّ ذكرَهما مشعرٌ بها {فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يسيرُون بانبساط وسهولة

41

{وآية لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ} أولادَهم الذين يبعثُونهم إلى تجاراتِهم أو صبيانَهم ونساءَهم الذين يستصحبونهم فإنَّ الذُّريةَ تطلقُ عليهن لا سيَّما مع الاختلاطِ وتخصيصُهم بالذِّكرِ لما أنَّ استقرارَهم في السُّفنِ أشقُّ واستمساكهم فيها أبدعُ {فِى الفلك المشحون} أي المملوءِ وقيل هو فلك نوح

يس 42 45 عليه السَّلامُ وحملُ ذريَّاتِهم فيها حملُ آبائِهم الأقدمين وفي أصلابِهم هؤلاء وذرياتُهم وتخصيصُ أعقابِهم بالذَّكرِ دُونَهم لأنه أبلغَ في الامتنانِ وأدخلُ في التَّعجيبِ الذي عليه يدورُ كونُه آيةً

42

{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ} ممَّا يماثلُ الفُلكَ {مَا يَرْكَبُونَ} من الإبل فإنها سفائنُ البرِّ أو ممَّا يُماثل ذلك الفُلكَ من السُّفنِ والزَّوارقِ وجعلها مخلوقةً لله تعالى مع كونِها من مصنوعاتِ العبادِ ليس لمجرَّدِ كون صُنعِهم بأقدارِ الله تعالى وإلهامِه بل لمزيدِ اختصاصِ أصلِها بقُدرته تعالى وحكمته حسبما يُعرب عنه قولُه عزَّ وجلَّ واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا والتَّعبيرُ عن مُلابستهم بهذه السُّفنِ بالرُّكوبِ لأنَّها باختيارهم كما أنَّ التعبيرَ عن مُلابسة ذُرِّيَّتهم بفُلكِ نوحٍ عليه السَّلامُ بالحَملِ لكونِها بغير شعورٍ منهم واختيارٍ

43

{وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ} الخ من تمامِ الآيةِ فإنَّهم معترفون بمضمونِه كما ينطقُ به قولُه تعالى وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين وقرئ نُغرِّقهم بالتَّشديدِ وفي تعليق الإغراقِ بمحض المشيئةِ إشعار بأنَّه قد تكامل ما يُوجب إهلاكَهم من معاصيهم ولم يبقَ آلاَّ تعلُّقُ مشيئتِه تعالى به أي إنْ نشأْ نغرقهم في اليمِّ مع ما حملناهم فيه من الفُلك فحديثُ خَلْقِ الإبل حينئذٍ كلامٌ جئ به في خلالِ الآيةِ بطريق الاستطرادِ لكمالِ التَّماثلَ بين الإبلِ والفُلكِ فكأنَّها نوعٌ منه أو مع ما يركبون من السُّفنِ والزَّوارقِ {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} أي فلا مُغيثَ لهم يحرسهم من الغَرَق ويدفعه عنهم قبل وقوعِه وقيل فلا استغاثةَ لهم من قولِهم أتاهم الصَّريخُ {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ} أي ينجُّون منه بعد وقوعِه وقوله تعالى

44

{إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا وَمَتَاعاً} استثناء مفرغ من أعم العللِ الشَّاملةِ للباعث المتقدِّمِ والغاية المتأخِّرةِ أي لا يغاثون ولا ينقذون لشئ من الأشياءِ إلا لرحمةٍ عظيمةٍ من قبلنا داعيةٍ إلى الإغاثةِ والانقاذِ وتمتيع بالحياة مترتِّب عليهما ويجوزُ أنْ يُرادَ بالرَّحمةِ ما يُقارن التَّمتيعَ من الرَّحمةِ الدُّنيويَّةِ فيكون كلاهما غايةً للإغاثةِ والانقاذِ أي لنوعٍ من الرحمة وتمتيع {إلى حِينٍ} أي إلى زمانٍ قُدِّر فيه آجالُهم كما قيل ... ولم أسلمْ لكي أبقَى ولكن ... سَلِمتُ من الحِمامِ إلى الحِمامِ ...

45

{وإذا قيل لهم اتقوا} بيانٌ لإعراضِهم عن الآياتِ التَّنزيليةِ بعد بيانِ إعراضِهم عن الآيات الآفافية التي كانُوا يشاهدونَها وعدم تأمُّلِهم فيها أيْ إذَا قيل لهم بطريقِ الإنذارِ بما نزل من الآيات أو بغيره اتَّقوا {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} من الآفاتِ والنَّوازلِ فإنَّها محيطة بكم أو ما يصيبكم من المكاره مِن حيثُ تحتسبون ومن حيثُ لا تحتسبون أو من الوقائع النَّازلةِ على الأُمم الخالية قبلكم والعذاب المعدِّ لكم في الآخرة أو من نوازل السَّماءِ ونوائب

يس 46 47 الأرض أو من عذابَ الدُّنيا وعذابَ الآخرةِ أو ما تقدَّم من الذُّنوبِ وما تأخَّر {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} إمَّا حال من واوِ اتقوا أو غايةٌ له أي راجين أنْ تُرحموا أو كي تُرحموا فتنجُوا من ذلك لما عرفتُم أنَّ مناط النَّجاةِ ليس إلاَّ رحمةَ الله تعالى وجوابُ إذا محذوف ثقةً بانفهامِه من قوله تعالى

46

{وما تأتيُهم من آيةٍ من آيات رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} انفهاماً بيِّناً أمَّا إذا كان الإنذارُ بالآيةِ الكريمة فبعبارةِ النَّصِّ وأمَّا إذا كان بغيرها فبدلالته لأنَّهم حين أعرضوا عن آياتِ ربِّهم فلأنْ يُعرضوا عن غيرِها بطريق الأولويَّةِ كأنَّه قيل وإذا قيل لهم اتَّقوا العذاب أعرضُوا حسبما اعتادُوه وما نافيةٌ وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرارِ التَّجدُّدِي ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم والثاني تبعيضيةٌ واقعةٌ مع مجرورِها صفةً لآيةٍ وإضافةُ الآيات إلى اسم الرب المضافِ إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتْبِعِ لتهويل ما اجترُءوا عليه في حقِّها والمراد بها إمَّا الآياتُ التنزيليةُ فإتيانُها نزولُها والمعنى ما ينزِلُ إليهم آيةٌ من الآيات القرآنيةَ التي من جُمْلتِها هذهِ الآياتُ الناطقةُ بما فُصِّل من بدائعِ صنعِ الله تعالى وسوابغ آلائِه الموجبةِ للإقبال عليها والإيمانِ بها إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا معرضين على وجه التكذيبِ والاستهزاء وإمَّا ما يعمُّها وغيرها من الآياتُ التكوينيةُ الشاملةُ للمعجزات وغيرِها من تعاجيبِ المصنوعاتِ التي منْ جُملتها الآياتُ الثَّلاثُ المعدودة آنِفاً فالمرادُ بإتيانها ما يعمُّ نزول الوحيِ وظهور تلك الأمورِ لهم والمعنى ما يظهر لهم آيةٌ منَ الآياتِ التي منْ جُمْلتها ما ذكِرَ منَ شئونه الشَّاهدةِ بوحدانيَّتِه تعالى وتفرُّدهِ بالألُوهَّيةِ إلاَّ كانُوا عنها مُعرضين تاركين للنظر الصحيحِ فيها المؤدِّي إلى الإيمان به تعالى وإيثارُه على أنْ يُقال إلاَّ أعرضُوا عنها كما وقع مثلُه في قوله تعالى وأن يروا آية يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ الدلالة على استمرارهم على الإعراضِ حسَبَ استمرارِ إتيانِ الآياتِ وعن متعلقةٌ بمعرضين قُدِّمت عليه مراعاةً للفواصل والجملةُ في حيز النصبِ على أنَّها حالٌ من مفعولِ تأتي أو من فاعلِه المتخصِّصِ بالوصف لاشتمالِها على ضمير كلَ منهُما والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ الأحوالِ أي ما تأتيُهم من آيةٍ من آيات ربِّهم في حالٍ من أحوالِهم إلا حالَ إعراضِهم عنها أو ما تأتيهم آيةٌ منها في حالٍ من أحوالِها إلا حالَ إعراضِهم عنها

47

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ من ما رِزَقَكُمُ الله} أي أعطاكُم بطريق التَّفضلِ والإنعام من أنواع الأموالِ عبَّر عنها بذلكَ تحقيقاً للحقِّ وترغيباً في الإنفاق على منهاج قولِه تعالى وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ وتنبيهاً على عِظَمِ جنايتهم في تركِ الامتثالِ بالأمر وكذلك من التبعيضية أي إذا قيل لهم بطريق النصيحة أنفقُوا بعض ما أعطاكم الله تعالى من فضله على المحتاجين فإنَّ ذلك مما يرد البلاء ويدفعُ المكاره {قَالَ الذين كَفَرُواْ} بالصَّانعِ عزَّ وجلَّ وهم زنادقةٌ كانُوا بمكَّةَ {للذين آمنوا} تهكُّماً بهم وبما كانُوا عليه من تعليق الأمورِ بمشيئةِ الله تعالى {أَنُطْعِمُ} حسبما تعظوننا به {مَن لَّوْ يَشَاء الله أَطْعَمَهُ}

أي على زعمِكم وعن ابن عباس رضي الله عنهما كان بمكَّةَ زنادقُة إذا أُمروا بالصَّدقةِ على المساكين قالوا لا والله أيُفقره الله ونُطعمه نحنُ وقيل قالَه مُشركو قُريشٍ حين استطعمهم فقراءُ المؤمنين من أموالهم التي زعمُوا أنَّهم جعلُوها لله تعالى مِنَ الحرث والأنعامِ يُوهمون أنَّه تعالى لما لم يشأْ إطعامَهم وهو قادرٌ عليه فنحن أحقُّ بذلك وما هو إلا لفرطِ جهالتِهم فإنَّ الله تعالى يُطعم عبادَه بأسبابٍ من جُملتها حثُّ الأغنياءِ على إطعامِ الفُقراء وتوفيقُهم لذلك {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ} حيثُ تأمروننا بما يُخالف مشيئةَ الله تعالى وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ جواباً لهم من جهتِه تعالى أو حكايةً لجواب المُؤمنين لهم

48

{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين} أي فيما تعدوننا بهِ من قيام السَّاعةِ مخُاطبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لمَا أنَّهم أيضاً كانُوا يتلون عليهم آياتِ الوعيدِ بقيامها ومعنى القُرْبِ في هذا إمَّا بطريق الاستهزاءِ وإمَّا باعتبارِ قُربِ العهدِ بالوعدِ

49

{مَا يَنظُرُونَ} جوابٌ من جهتهِ تعالى أي ما ينتظرونَ {إِلا صَيْحَةً واحدة} هي النَّفخةُ الأولى {تَأُخُذُهُمْ} مفاجأةً {وَهُمْ يَخِصّمُونَ} أي يتخاصمُون في متاجرِهم ومعاملاتِهم لا يخطر ببالهم شئ من مخايلها كقولِه تعالى فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فلا يغترُّوا بعدم ظهور علائِمها ولا يزعمُوا أنَّها لا تأتيهم وأصلُ يخصِّمون يَخْتَصِمُون فُسكِّنت التَّاءُ وأُدغمتْ في الصَّادِ ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين وقرئ بكسر الياءِ للاتباعِ وبفتح الخاءِ على إلقاءِ حركةِ التاء عليه وقرئ على الاختلاسِ وبالإسكانِ على تجويزِ الجمعِ بين السَّاكنينِ إذا كان الثَّاني مُدغَماً وإنْ لم يكُن الأوَّلُ حرف مد وقرئ يَخْصِمُون من خَصَمَه إذا جَادَله

50

{فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} في شئ من أمورِهم إنْ كانُوا فيما بين أهليهم {وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} إنْ كانُوا في خارج أبوابِهم بل تبغتهم الصَّيحةُ فيموتون حيثُما كانُوا

51

{وَنُفِخَ فِى الصور} هيَ النَّفخةُ الثَّانيةُ بينها وبين الأوُلى أربعون سنةً أي يُنفخ فيهِ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على تحقق الوقوع {فَإِذَا هُم مّنَ الاجداث} أي القبورِ جمع جَدَثٍ وقرئ بالفاءِ {إلى رَبّهِمْ} مالِكَ أمرِهم على الإطلاقِ {يَنسِلُونَ} يُسرعون بطريقِ الإجبارِ دُونَ الأختيارِ لقولِه تعالى لدينا محضرون وقرئ بضمِّ السِّينِ

52

{قَالُواْ} أي في ابتداء بعثهم من القبور {يا ويلنا} احضر فهذا أوانك وقرئ يا ويلتَنَا {مَن بَعَثَنَا من مرقدنا} وقرئ مَن أهبّنا من هبَّ من نومه إذا انتبه وقرئ من هَبّنا بمعنى أهبنا وقيل أصله

يس 53 55 هبَّ بنا فحُذف الجارُّ وأُوصل الفعلُ إلى الضَّميرِ قيل فيه ترشيحٌ ورمزٌ وإشعار بأنَّهم لاختلاطِ عقولِهم يظنُّون أنَّهم كانوا نياماً وعن مجاهدٍ أنَّ للكفَّار هجعةً يجدون فيها طعمَ النَّومِ فإذا صِيح بأهل القُبور يقولون ذلكَ وعنِ ابنِ عبَّاسٍ وأُبيِّ بنِ كعبٍ وقَتادة رحمهم الله تعالى إِنَّ الله تعالى يرفعُ عنهم العذابَ بينَ النَّفختينِ فيرقدُون فإذا بُعثوا بالنَّفخةِ الثَّانيةِ وشاهدُوا من أهوال يوم القيامةِ ما شاهدُوا دَعَوا بالويلِ وقالوا ذلك وقيل إذا عاينُوا جَهَنَّمَ وما فيها من أنواع العذابِ يصير عذابُ القبر في جنبِها مثلَ النَّومِ فيقولون ذلك وقُرىء مِن بَعْثنا ومِن هَبّنا بمن الجارَّةِ والمصدرِ والمرقدُ إمَّا مصدرٌ أي من رُقادِنا أو اسمُ مكانٍ أُريد به الجنسُ فينتظم مراقدَ الكلِّ {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون} جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ وما موصولةٌ محذوفةٌ العائدِ أو مصدريةٌ وهو جواب من قبل الملائكةِ أو المؤمنينَ عُدل به عن سَننِ سؤالِهم تذكيراً لكُفرهم وتقريعاً لهم عليه وتنبيهاً على أنَّ الذي يهُمهم هو السُّؤالُ عن نفسِ البعثِ ماذا هو دون الباعثِ كأنَّهم قالُوا بعثكم الرحمن الذي وعدكُم ذلك في كتبِه وأرسلَ إليكم الرُّسلَ فصدقُوكم فيه وليسَ الأمرُ كما تتوهمونَه حتَّى تسألُوا عن الباعثِ وقيلَ هُو مِنْ كلامِ الكافرينَ حيث يتذكرون ما سمعوه من الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فيجيبونَ به أنفسَهم أو بعضَهم بعضاً وقيل هذا صفةٌ لمرقدنا وما وعدَ الخ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ أي ما وعد الرَّحمنُ وصدقَ المرسلونَ حقٌّ

53

{إِن كَانَتْ} أي ما كانَتْ النَّفخةُ التي حكيتُ آنفاً {إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} حصلتْ من نفخ إسرافيلَ عليه السَّلامُ في الصُّور {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ} أي مجموعٌ {لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} من غيرِ لبثٍ ما طرفهَ عينٍ وفيه من تهوينِ أمرِ البعثِ والحشرِ والإيذانِ باستغائهما عن الأسبابِ ما لا يَخْفى

54

{فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ} من النُّفوسِ برةً كانتْ أو فاجرةً {شَيْئاً} من الظُّلم {وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كنتم تعملون} أي الا جزاءَ ما كنتُم تعملونَهُ في الدُّنيا على الاستمرار من الكفر والمعاصي على حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مقامه للتَّنبيه على قُوَّةِ التَّلازمِ والارتباط بينهما كأنَّهما شيءٌ واحدٌ أو إلاَّ بما كنتُم تعملونَه أي بمقابلتِه أو بسببهِ وتعميمُ الخطابِ للمؤمنين يردُّه أنَّه تعالى يُوفِّيهم أجورهم ويزيدَهم من فضلِه أضعافاً مضاعفةً وهذه حكايةٌ لما سيُقال لهم حين يَرَوْنَ العذابَ المُعدَّ لهم تحقيقاً للحقِّ وتقريعاً لهم وقوله تعالى

55

{إِنَّ أصحاب الجنة اليوم فِى شُغُلٍ فاكهون} من جُملة ما سيُقال لهم يومئذ زيادةً لحسرتِهم وندامتِهم فإنَّ الأخبارَ بحسن حالِ أعدائِهم إثرَ بيان سُوء حالِهم مَّما يزيدُهم مساءةً على مساءةٍ وفي هذه الحكايةِ مزجرةٍ لهؤلاءِ الكَفرةِ عمَّا هم عليه ومدعاةٌ إلى الاقتداء بسيرةِ المُؤمنين والشُّغُل هو الشَّأنُ الذي يصدُّ المرءَ ويشغلُه عمَّا سواهُ من شئونه لكونِه أهمَّ عنده من الكُلِّ إمَّا لإيجابهِ كمالَ المسرة

يس 56 57 والبهجةِ أو كمالِ المساءةِ والغمِّ والمرادُ ههنا هو الأولُ وما فيه من التنكير والإبهامِ للإيذان بارتفاعِه عن رتبةِ البيانِ والمراد به ما هم فيه من فنون الملاذّ التي تلهيهم عمَّا عداهَا بالكلية وإمَّا أنَّ المرادَ به افتضاضُ الابكار او السماع وضرب الاوتار او النزاور أو ضيافةُ الله تعالى أو شغلُهم عمَّا فيه أهلُ النَّارِ على الإطلاقِ أو شغلُهم عن أهاليهم في النَّارِ لا يهمهم أمرُهم ولا يُبالون بهم كيلا يُدخلَ عليهم تنغيصٌ في نعيمهم كما رَوى كلُّ واحدٍ منها عن واحدٍ من أكابرِ السَّلفِ فليس مرادُهم بذلك حصرَ شغلِهم فيما ذُكرُوه فقطُ بل بيانَ أنَّه من جملة اشغالهم وتخصيصُ كلَ منهم كلاًّ من تلكَ الأمورِ بالذكرِ محمول على اقتضاء مقامِ البيانِ إياَّه وهو مع جارِه خبرٌ لأنَّ وفاكهون خبر آخرُ لها أي أنهم مستقرُّون في شغل وأي شغلٍ في شغل عظيمِ الشَّأنِ متنعمون بنعيمٍ مقيم فائزون بملك كبيرٍ والتَّعبيرُ عن حالِهم هذه بالجملةِ الاسميةِ قبل تحققها بتنزيل المترقب المتوقَّعِ منزلة الواقع للإيذان بغايةِ سرعةِ تحقُّقها ووقوعِها ولزيادةِ مساءة المخاطَبين بذلك وقرىء في شغل بسكون الغين وفي شَغَل بفتحتين وبفتحةٍ وسكون والكل لغات وقرئ فكهون للمبالغةِ وفَكُهون بضمِّ الكاف وهي لغةٌ كنطُس وفاكهينَ وفكهِين على الحالِ من المستكنِّ في الظرف وقوله تعالَى

56

{هُمْ وأزواجهم فِى ظلال عَلَى الارائك مُتَّكِئُونَ} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ كيفيَّةِ شغلِهم وتفكّههم وتكميلهما بما يزيدهُم بهجة وسروراً من شركة أزواجِهم لهم فيمَا هُم فيهِ من الشُّغل والفكاهةِ على أنَّ هم مبتدأ وأزواجهم عطفٌ عليه ومتكئون خبر والجارَّانِ صلتانِ له قدمتا عليهِ لمراعاةِ الفواصلِ أو هو والجارانِ بما تعلّقا به من الاستقرارِ أخبارٌ مترتبة وقيل الخبر هو الظَّرفُ الأولُ والثَّاني مستأنفٌ على أنَّه متعلق بمتكئون وهو خبرٌ لمبتدإٍ محذوفٍ وقيل على أنَّه خبرٌ مقدمٌ ومتكئون مبتدأٌ مؤخر وقرئ متكين بلا همز نصباً على الحالِ من المستكنَّ في الظَّرفينِ أو أحدِهما وقيل هم تأكيدٌ للمستكن في خبر إن ومتكئون خبرٌ آخرُ لها وعلى الأرائكِ متعلَّقٌ به وكذا في ظلال أو هذا بمضمرٍ هو حالٌ من المعطوفين والظِّلالُ جمع ظلَ كشعابٍ جمع شعبٍ أو جمع ظُلَّةٍ كقِباب جمع قبة ويؤيده قراءة في ظُللٍ والأرائك جمعُ أريكةٍ وهي السَّريرُ المزين بالثيابِ والسُّتورِ قال ثعلبٌ لا تكون أريكةٌ حتى تكونَ عليها حجلةٌ وقوله تعالى

57

{لَهُمْ فِيهَا فاكهة} الخ بيانٌ لما يتمتعون به في الجنةِ من المآكلِ والمشارب ويتلذذون به من الملاذِّ الجسمانيةِ والرُّوحانيةِ بعد بيانِ ما لهُم فيها من مجالسِ الأنسِ ومحافلِ القدسِ تكميلاً لبيانِ كيفيةِ ما هُم فيه من الشغلِ والبهجةِ أي لهم فيها فاكهةٌ كثيرةٌ من كلِّ نوعٍ من الفواكِه وما في قولِه تعالى {وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} موصولةٌ أو موصوفةٌ عبَّر بها عن مدعوَ عظيمِ الشَّأنِ معيَّنٍ أو مبهمٍ إيذاناً بأنَّه الحقيقُ بالدُّعاءِ دون ما عداه ثم صرَّح به رَوْماً لزيادةِ التَّقريرِ بالتَّحقيقِ بعد التَّشويقِ كما ستعرفه أو هي باقيةٌ على عمومها قصد بها التَّعميمِ بعد تخصيصِ بعضِ الموادِّ المعتادةِ بالذكر وأيا ما كانَ فهو مبتدأ ولهم خبرُه والجملةُ معطوفةٌ على الجملةِ السَّابقةِ وعدمُ الاكتفاءِ بعطفِ ما يدَّعون على فاكهة لئلا

يس 58 59 يتوهم كونِ ما عبارةً عن توابعِ الفاكهةِ وتتماتها والمَعْنى ولهم ما يدَّعون به لأنفسِهم من مدعوَ عظيمِ الشَّأنِ أو كل ما يدَّعُون به كائناً ما كانَ منْ أسبابِ البهجةِ وموجباتِ السرُّورِ وأيا ما كان ففيه دلالة على أنَّهم في أقصى غايةِ البهجةِ والغبطةِ ويدّعون يفتعلونَ من الدُّعاءِ كما أُشير إليه مثل اشتوى واجتمَل إذا شوَى وجمل لنفسهِ وقيل بمعنى يتداعون كالارتماءِ بمعنى التَّرامي وقيل بمعنى يتمَّنون من قولِهم ادعُ على ما شئتَ بمعنى تمنَّه علي وقال الزَّجَّاجُ هو من الدُّعاءِ أي ما يدعُو به أهلُ الجنَّةِ يأتيهم فيكون الافتعالِ بمعنى الفعلِ كالاحتمالِ بمعنى الحملِ والارتحالِ بمعنى الرِّحلةِ ويعضدُه القراءةُ بالتَّخفيفِ كما ذكره الكواشيُّ وقوله تعالى

58

{سلام} على التَّقديرِ الأوَّلِ بدلٌ من ما يدَّعُون أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ وقوله تعالى {قَوْلاً} مصدرٌ مؤكدٌ لفعل هو صفة لسلامٌ وما بعده من الجارِّ متعلِّقٌ بمضمر هو صفةٌ له كأنَّه قيل ولهم سلامٌ أو ما يدَّعُون سلامٌ يُقال لهم قَولاً كائناً {مِنْ} جهةِ {رَّبّ رَّحِيمٍ} أي يُسلَّم عليهم من جهتِه تعالى بواسطة المَلَكِ أو بدونِها مبالغةً في تعظيمهم قال ابن عباس رضي الله عنهما والملائكةُ يدخلُون عليهم بالتَّحيةِ من ربِّ العالمين وأمَّا على التَّقديرِ الثَّاني فقد قيل إنَّه خبرٌ لمَا يدَّعُون ولهم لبيان الجهةِ كما يُقال لزيدٍ الشَّرفُ متوفِّرٌ على أنَّ الشَّرفَ مبتدأٌ ومتوفِّرٌ خبرُه والجارُّ والمجرورُ لبيانِ مَن له ذلك أي ما يدَّعُون سالمٌ لهم خالصٌ لا شوبَ فيهِ وقولاً حينئذٍ مصدرٌ مؤكدٌ لمضمون الجملةِ أي عدةٌ من ربَ رحيمٍ والأوجَهُ أنْ ينتصبَ على الاختصاصِ وقيل هو مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أيْ لهم سلامٌ أي تسليمٌ قَوْلاً من رَّبّ رَّحِيمٍ أو سلامةٌ من الآفاتِ فيكون قولاً مصدراً مؤكداً لمضمونِ الجملة كما سبقَ وقيل تقديرُه سلامٌ عليهم فيكون حكايةً لما سيقالُ لهم من جهتِه تعالى يومئذٍ وقيل خبرُه الفعلُ المقدَّر ناصباً لقولاً وقيل خبرُه من ربَ رحيمٍ وقرئ سلاماً بالنَّصبِ على الحاليَّةِ أي لهم مرادُهم سالماً خالصا وقرئ سلمٌ وهو بمعنى السَّلامِ في المعنيينِ

59

{وامتازوا اليوم} عطفٌ إمَّا على الجملة السَّابقةِ المسوقة لبيان أحوالِ أهل الجنَّةِ لاعلى أنَّ المقصودَ عطف فعل الأمر بخصوصه حتى يتمحل له مَشاكِلٌ يصِحُّ عطفَه عليه بل على أنَّه عطفُ قصَّةِ سوء حال هؤلاءِ وكيفيَّة عقابِهم على قصَّةِ حُسن حال أولئك ووصف ثوابِهم كما مرَّ في قوله تعالى {وَبَشّرِ الذين آمنوا} الآيةَ وكأنَّ تغييرُ السَّبكِ لتخييل كمالِ التَّباينِ بين الفريقينِ وحاليهما وإمَّا على مضمَرٍ ينساق إليه حكايةُ حال أهل الجنَّةِ كأنَّه قيلَ إثرَ بيانِ كونِهم في شغل عظيمِ الشَّأنِ وفوزهم بنعيم مقيمٍ يقصرُ عنه البيانُ فليقرُّوا بذلك عيناً وامتازُوا عنهم {أَيُّهَا المجرمون} إلى مصيرِكم وعن قَتادةَ اعتزلُوا عن كل خير وعن الضَّحَّاكِ لكلِّ كافر بيتٌ من النَّارِ يكون فيه لا يَرى ولا يُرى وأمَّا ما قيل من أنَّ المضمرَ فليمتازوا فبمعزلٍ من السَّدادِ لما أنَّ المحكيَّ عنهم ليس مصيرهم إلى ما ذكر من الحال المرضيةِ حتَّى يتسنَّى ترتيب الأمر المذكور عليه بل إنَّما هو استقرارُهم عليها بالفعل وكونُ ذلك بطريق تنزيل المترقَّبِ منزلةَ الواقع لا يُجدي نفعاً لأنَّ مناطَ الإضمار إنسياقُ الافهام إليه وانصباب

يس 60 62 نظم الكلامِ عليه فبعد ما نزلت تلك الحالة منزلَة الواقع بالفعل لما اقتضاه المقامُ من النُّكتةِ البارعة والحكمة الرَّائعةِ حسبما مرَّ بيانه وأسقط كونها مترَّقبةً عن درجة الاعتبار بالكُلِّيةِ يكون التصدي لإضمار شئ يتعلَّقُ به إخراجاً للنَّظمَ الكريم عن الجَزالة بالمرَّةِ

60

{ألم أعهد إليكم يا بني آدَم أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان} من جُملة ما يُقال لهم بطريق التَّقريعِ والإلزام والتَّبكيتِ بين الأمر بالامتياز وبين الأمر بدخول جهنَّمَ بقوله تعالى اصلوها اليوم الخ والعهد الوصَّيةُ والتَّقدُّمُ بأمر فيه خير ومنفعة والمراد ههنا ما كلَّفهم الله تعالى على ألسنةِ الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ من الأوامرِ والنواهي التي من جملتها قوله تعالى يا بني آدم لا يفتتنكم الشيطان كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الجنة الآيةَ وقوله تعالى وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وغيرهما من الآياتِ الكريمةِ الواردةِ في هَذا المعنى وقيل هو الميثاق المأخوذُ عليهم حين أُخرجوا من ظهور بني آدمَ وأُشهدوا على أنفسهم وقيل هو ما نُصب لهم من الحُجج العقليَّةِ والسمعيَّةِ الآمرةِ بعبادته تعالى الزَّاجرةِ عن عبادة غيرِه والمرادُ بعبادة الشَّيطانِ طاعتُه فيما يُوسوس به إليهم ويزيِّنه لهم عبرَّ عنها بالعبادة لزيادة التَّحذيرِ والتَّنفيرِ عنها في مقابلة عبادته عزَّ وجل وقرئ إِعهد بكسرِ الهمزة وأعهِد بكسر الهاء وأحهد الحاء مكان العين وأحد بالإدغامِ وهي لغةُ بني تميمٍ {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي ظاهرَ العداوةِ وهو تعليلٌ لوجوب الانتهاء عن المنهيِّ عنه وقيل تعليل للنَّهيِ

61

{وَأَنِ اعبدونى} عطفٌ على أنْ لا تعبدوا على أنَّ أنْ فيهما مفسِّرةٌ للعهد الذي فيه معنى القول بالنهي والأمر أو مصدريةٌ حذف عنها الجار أي ألم أعهد إليكم في ترك عبادةِ الشَّيطانِ وفي عبادتي وتقديم النَّهي على الأمر لما أنَّ حق التخلية التقدم على التحلية كما في كلمة التَّوحيدِ وليتصل به قوله تعالى {هَذَا صراط مُّسْتَقِيمٌ} فإنَّه إشارة إلى عبادته تعالى التي هي عبارةٌ عن التَّوحيدِ والإسلام وهو المشار إليه بقوله تعالى هَذَا صراط عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ والمقصود بقوله تعالى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم والتَّنكيرُ للتَّفخيمِ واللام في قوله تعالى

62

{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} جوابُ قسمٍ محذوف والجملة استئناف مَسوق لتشديد التَّوبيخِ وتأكيد التَّقريعِ ببيان أن جناياتِهم ليستْ بنقض العهدِ فقط بل به وبعدم الاتِّعاظِ بما شاهدوا من العقوبات النَّازلةِ على الأُمم الخاليةِ بسبب طاعتهم للشَّيطانِ فالخطابُ لمتأخِّريهم الذين من جُملتهم كُفَّارُ مكَّةَ خُصُّواً بزيادة التَّوبيخِ والتَّقريعِ لتضاعف جناياتهمِ والجِبِلُّ بكسرِ الجيم والباءِ وتشديدِ اللاَّم الخلق وقرئ بضمَّتينِ وتشديدٍ وبضمَّتينِ وتخفيفٍ وبضمَّةٍ وسكونٍ وبكسرتينِ وتخفيفٍ وبكسرةٍ وسكونٍ والكلُّ لغاتٌ وقرئ جِبَلاً جمعُ جِبْلةٍ كفِطَرٍ وخلق في فطرة وخلقة وقرئ جِيْلاً بالياء وهو الصِّنفُ من النَّاسِ أي وبالله لقد أضلَّ منكم خَلْقاً كثيرا أو صنفا

يس 63 66 كثيراً عن ذلك الصِّراطِ المستقيم الذي أمرتُكم بالثَّباتِ عليه فأصابهم لأجلِ ذلك ما أصابَهم من العُقوبات الهائلةِ التي ملأ الآفاقَ أخبارُها وبقي مدى الدَّهرِ آثارُها والفاءُ في قوله تعالى {أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ} للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أكنتُم تشاهدونَ آثارَ عقوباتِهم فلم تكونوا تعقلون أنَّها لضُلاَّلهِم أو فلم تكونُوا تعقلون شيئاً أصلاً حتَّى ترتدعُوا عمَّا كانُوا عليه كيلا يحيقَ بكم العقابُ وقولُه تعالَى

63

{هذه جَهَنَّمُ التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} استئنافٌ يخاطَبون به بعد تمامِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ والإلزام والتبكيت عن إشرافهم على شفير جهنَّمَ أي كنتم تُوعدونها على ألسنةِ الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بمقابلة عبادة الشَّيطانِ مثل قولِه تعالى لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ منهم أجمعين وقوله تعالى {قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا} وقولِه تعالى {قال اخرج منها مذؤوما مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} وغير ذلك مما لا يُحصى وقوله تعالى

64

{اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أمر تنكيل وإهانة كقولِه تعالى {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز} الخ أي ادخلُوها من فوق وقاسُوا فنون عذابِها اليَّومَ بكفرِكم المستمرِّ في الدُّنيا وقوله تعالى

65

{اليوم نَخْتِمُ على أفواههم} أي ختماً يمنعُها عن الكلامِ التفاتٌ إلى الغَيبة للإيذانِ بأنَّ ذكر أحوالِهم القبيحةِ استدعى أنْ يُعرَض عنهم ويَحكي أحوالَهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيماءِ إلى أنَّ ذلك من مقتضيات الختم لأنَّ الخطاب لتلقِّي الجواب وقد انقطع بالكلية وقرئ تَختم {وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يُروى أنَّهم يجحدون ويُخاصمون فيشهد عليهم جيرانُهم وأهاليهم وعشائرُهم فيحلفون ما كانُوا مشركين فحينئذٍ يُختم على أفواهِهم وتكلم أيديهم وأرجلُهم وفي الحديث يقول العبدُ يوم القيامة إنِّي لا أجيزُ عليَّ شاهداً إلا من نفسي فيُختم على فيهِ ويقال لأركانِه انطقي فتنطقُ بأعماله ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام فيقول بُعداً لكنَّ وسُحقاً فعنكنَّ كنتُ أناضلُ وقيل تكليمُ الاركان وشهادتها دلالتها على أفعالها وظهورُ آثارِ المعاصي عليها وقرئ وتتكلم أيديهم وقرئ ولتكلَّمَنا أيديهم وتشهد بلام كَيْ والنَّصبِ على معنى ولذلك نختِم على أفواهِهم وقرئ ولتكلمنا أيديهم ولتشهد بلام الأمرِ والجزمِ

66

{وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} الطَّمسُ تعفيةُ شقِّ العينِ حتَّى تعودَ ممسوحةً ومفعولُ المشيئة محذوفٌ على القاعدة المستمرَّةِ التي هي وقوعها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاء أي لو نشاء أنْ نطمسَ على أعينهم لفعلناه وإيثارُ صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضيِّ لإفادة أن عدمَ الطَّمس على أعينهم لاستمرار عدمِ المشيئة فإنَّ المضارعَ المنفيَّ الواقعَ موقعَ الماضي ليس بنص في إفادة انتفاءِ استمرارِ

يس 67 69 الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه بحسب المقام كما مرَّ في قوله تعالى وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير {فاستبقوا الصراط} أي فأرادوا أنْ يستبقُوا إلى الطَّريقِ الذي اعتادُوا سلوكَه على أنَّ انتصابه بنزع الجارِّ أو هو بتضمين الاستباقِ معنى الابتدارِ أو بالظَّرفيةِ {فأنى يُبْصِرُونَ} الطَّريقَ وجهة السلوك

67

{وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم} بتغيير صُورِهم وإبطال قواهم {على مكانتهم} أي مكانِهم إلاَّ أن المكانة أخصُّ كالمَقامةِ والمقام وقرىء على مكاناتهم أي لمسخناهم مسخاً يُجمِّدهم مكانَهم لا يقدرون أنْ يبرحُوه بإقبالٍ ولا إدبارٍ ولا رجوعٍ وذلك قوله تعالى {فَمَا استطاعوا مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ} أي ولا رجوعاً فوُضعَ موضعَه الفعلُ لمراعاةِ الفاصلةِ عن ابن عباس رضي الله عنهما قردةً وخنازيرَ وقيل حجارةً وعن قَتادةَ لأقعدناهم على أرجلِهم وأزمنَّاهم وقُرىء مِضيّا بكسر الميمِ وفتحها وليسَ مساقُ الشَّرطيتينِ لمجرد بيانِ قدرتِهِ تعالَى على ما ذُكر من عقوبة الطَّمسِ والمسخ بل لبيان أنَّهم بما هم عليه من الكفر ونقض العهد وعدم الاتِّعاظِ بما شاهدُوا من آثارِ دمارِ امثالهم احفاء بأنْ يُفعلَ بهم في الدُّنيا تلك العقوبة كما فُعل بهم في الآخرةِ عقوبةُ الختمِ وأنَّ المانع من ذلك ليس إلاَّ عدمُ تعلُّقَ المشيئة الإلهيَّةِ به كأنَّه قيل لو نشاء عقوبتَهم بما ذُكر من الطَّمسِ والمسخ جرياً على موجب جناياتهم المستدعيةِ لها لفعلناها ولكنَّا لم نشأها جرياً على سَننِ الرَّحمةِ والحكمة الدَّاعيتينِ إلى إمهالهم

68

{وَمَن نّعَمّرْهُ} أي نُطل عمره {نُنَكّسْهُ فِى الخلق} أي نقلبْه فيه ونخلقْه على عكسِ ما خلقناه أوَّلاً فلا يزال يتزايدُ ضعفُه وتتناقصُ قوَّتُه وتُنتقص بنيتُه ويتغير شكلُه وصورتُه حتَّى يعودَ إلى حالةٍ شبيهةٍ بحال الصبيِّ في ضعف الجسدِ وقلَّةِ العقلِ والخلوِّ عن الفهمِ والإدراكِ وقُرىء نَنكُسْه من الثُّلاثيِّ المجرَّدِ ونُنْكِسه من الإنكاسِ {أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} أي أيرَون ذلك فلا يعقلون اما مَنْ قدَرَ على ذلكَ يقدِرُ على ما ذُكر من الطَّمسِ والمسخِ وأنَّ عدم إيقاعِهما لعدم تعلُّقِ مستئنه تعالى بهما تعقلون بالتَّاءِ لجري الخطابِ قبلَه

69

{وَمَا علمناه الشعر} ردٌّ وإبطالٌ لما كانُوا يقولونَه في حقه صلى الله عليه وسلم من أنَّه شاعرٌ وما يقولُه شعرٌ أي ما علَّمناه الشِّعرُ بتعليمِ القُرآن على معنى أنَّ القُرآنَ ليسَ بشعرٍ فإنَّ الشِّعرَ كلامٌ متكلَّفٌ موضوعٌ ومقالٌ مزخرَفٌ مصنوعٌ منسوجٌ على منوالِ الوزن والقافيةَ مبنيٌّ على خيالاتٍ وأوهامٍ واهيةٍ فأين ذلك من التَّنزيلِ الجليلِ الخطِرِ المنزَّهِ عن مماثلةِ كلامِ البشر المشحون بفُنونِ الحِكَمِ والأحكامِ الباهرةِ الموصِّلةِ إلى سعادةِ الدُّنيا والآخرةِ ومن اين اشتبه عليهم الشئون واختلطَ بهم الظُّنون قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون {وَمَا يَنبَغِى لَهُ} وما يصحُّ له الشِّعرُ ولا يتأتَّى له لو طلبه أي جعلناه بحيث لو أراد قرضَ الشِّعِر لم يتأتَّ له كما جعلناه أميَّاً لا يهتدي للخطِّ لتكون الحجَّةُ أثبتَ والشُّبهةُ أدحضَ واما قوله صلى الله عليه وسلم أنا النبيُّ لا كذِب أنا ابن عبد

يس 70 72 المطلب وقوله صلى الله عليه وسلم هل أنتِ إلا أصبعٌ دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ فمنْ قبيلِ الاتفِّاقاتِ الواردةِ من غير قصدٍ إليها وعزمٍ على ترتيبها وقيل الضَّميرُ في له للقُرآنِ أي وما ينبغي للقُرآنِ أنْ يكونَ شِعراً {إِنْ هُوَ} أي مَا القرآن {إِلاَّ ذِكْرٌ} أي عظةٌ من الله عز وجل وإرشادٌ للثَّقلين كما قال تعالى إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين {وَقُرْآنٌ مُّبِين} أي كتابٌ سماويٌّ بيِّنٌ كونه كذلك أو فارقٍ بين الحقِّ والباطلِ يُقرأ في المحاريبِ ويُتلى في المعابدِ ويُنال بتلاوتِه والعملِ بما فيه فوزُ الدَّارينِ فكم بينَهُ وبينَ ما قالُوا

70

{لّيُنذِرَ} أي القُرآنُ أو الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤبده القراءة بالتاء وقرئ لينذر من نذر به أي علمه وليُنذرَ مبنيَّا للمفعولِ من الإنذارِ {مَن كَانَ حَيّاً} أي عاقِلاً متأمِّلاً فإنَّ الغافلَ بمنزلةِ الميِّتِ أو مؤمناً في علمِ الله تعالى فإن الحياةَ الأبديَّةَ بالإيمانِ وتخصيصُ الإنذار به لأنَّه المنتفعُ به {وَيَحِقَّ القول} أي تجبُ كَلِمَةُ العذابِ {عَلَى الكافرين} المصرِّين على الكفرِ وفي إيرادِهم بمقابلةِ مَن كان حيّاً إشعارٌ بأنَّهم لخلوِّهم عن آثارِ الحياةِ وأحكامِها التي هي المعرفةُ أمواتٌ في الحقيقةِ

71

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} الهمزةُ للإنكارِ والتعجيب والواو للعطف على جملةٍ منفيِّةٍ مقدَّرةٍ مستتبعةٍ للمعطوفِ أي ألم يتفكرَّوا أو ألم يلاحظُوا ولم يعلمُوا علماً يقينيّاً مُتاخِماً للمُعاينةِ {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم} أي لأجلِهم وانتفاعِهم {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي ممَّا تولينا إحداثَه بالذَّاتِ وذكرُ الأيدي وإسنادُ العمل إليها إستعارةٌ تفيد مبالغة في الاختصاص والتَّفردِ بالأحداث والاعتناء به {أنعاما} مفعولُ خلقنَا وتأخيره عن الجارَّينِ المتعلِّقين به مع أنَّ حقَّه التَّقدمُ عليهما لما مرَّ مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً لهُ فيتمكنُ عندَ ورودِه عليها فضلُ تمكُّنٍ لا سيما عند كونِ المقدم منبئاً عن كونِ المؤخَّر أمراً نافعاً خطيراً كما في النَّظمِ الكريم فإنَّ الجارَّ الأول المُعربَ عن كون المؤخَّرِ من منافعهم والثَّاني المفصح عن كونه من الأمورِ الخطيرةِ يزيدان النَّفسَ شوقاً إليه ورغبةً فيه ولأنَّ في تأخيره جمعاً بينه وبين أحكامِه المتفرعة عليه بقوله تعالى {فَهُمْ لَهَا مالكون} الآيات الثلاث أي فملكناها إيَّاهمُ وإيثارُ الجملة الاسميةِ على ذلك للدِّلالةِ على استقرارِ مالكِّيتِهم لها واستمرارِها والَّلامُ متعلِّقةٌ بمالكون مقوَّيةٌ لعمله أي فهُم مالِكون لها بتمليكنا إياها لهم متصرِّفون فيها بالاستقلالِ مختصُّون بالانتفاع بها لا يزاحمهم في ذلك غيرهم أو قادرون على ضبطها متمكنون من الصرف فيها بأقدارِنا وتمكيننا وتسخيرِنا إيَّاها لهم كما في قولِ مَن قال ... أصبحتُ لا أحملُ السِّلاحَ ولا ... أملكُ رأسَ البعيرِ إنْ نفرا ... والأَوَّلُ هو الأظهرُ ليكون قوله تعالى

72

{وذللناها لَهُمْ} تأسيساً لنعمةٍ على حيالِها لا تتمَّةً لما قبلها أي صيَّرناها منقادةً لهم بحيثُ لا تستعصى عليهم في شئ مَّما يُريدون بها حتَّى الذبح

يس 73 76 حسبما ينطِق به قوله تعالى {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} الخ فإنَّ الفاء فيه لتفريع أحكام التَّذليلِ عليه وتفصيلها أي فبعضٌ منها ركوبُهم أي مركوبُهم أي معظم منافعها الرُّكوبُ وعدم التَّعرضِ للحمل لكونِه من تتمَّاتِ الركوب وقرئ ركوبتُهم وهي بمعناه كالحَلوبِ والحَلوبةِ وقيل الرَّكوبةُ اسم جمع وقرئ رُكوبُهم أي ذُو رُكوبِهم {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي وبعضٌ منها يأكلون لحمه

73

{وَلَهُمْ فِيهَا} أي في الأنعامِ بكِلا قسميها {منافع} أخر غير الركوب والأكل كالجلودِ والأصوافِ والأوبارِ وغيرِها وكالحِراثةِ بالثِّيران {ومشارب} من اللَّبنِ جمع مَشربٍ وهذا مجمل ما فُصِّل في سورة النَّحلِ {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} أي أيُشاهدون هذه النِّعمَ أو أيتنعمون بها فلا يشكرونَ المنعمَ بها

74

{واتخذوا مِن دُونِ الله} أي متجاوزينَ الله تعالى الذي شاهدُوا تفرُّدَه بتلك القدرةِ الباهرةِ وتفضُّله عليهم بهاتيك النعم المتظاهرة {آلهة} من الأصنام وأشركوهَا به تعالَى في العبادةِ {لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} رجاءَ أنْ يُنصروا من جهتِهم فيما حزبَهم من الأمورِ أو يشفعُوا لهم في الآخرةِ وقولُه تعالَى

75

{لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} الخ استئنافٌ سيق لبيانُ بُطلانِ رأيِهم وخَيبةُ رجائِهم وانعكاسِ تدبيرِهم أي لا تقدرُ آلهتُهم على نصرِهم {وَهُمْ} أي المشركون {لَهُمْ} أي لآلِهتهم {جُندٌ مٌّحْضَرُونَ} يشيِّعونهم عند مساقِهم إلى النَّارِ وقيل مُعَدُّون في الدُّنيا لحفظِهم وخدمتِهم والذبِّ عنهم ولا يساعده مساقُ النَّظمِ الكريم فإنَّ الفاءَ في قولِهِ تعالى

76

{فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} لترتيبِ النهْيِ على ما قبله فلابد أنْ يكونَ عبارةً عن خسرانِهم وحرمانِهم عمَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ وانعكاسُ الأمر عليهم بترتيب الشر على مارتبوه لرجاء الخير فإن ذلك مما يُهوِّن الخطْبَ ويورث السَّلوةَ وأما كونُهم معدِّين لخدمتِهم وحفظِهم فبمعزلٍ من ذلكَ والنَّهيُ وإن كان بحسب الظاهر متوجِّهاً إلى قولهم لكنه في الحقيقة متوجِّهٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهيٌ له عليه السَّلامُ عن التأثر منه بطريقِ الكنايةِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه فإن النهي عن أسباب الشئ ومباديه المؤديةِ إليه نهيٌ عنه بالطريق البرهاني وإبطالٌ للسَّببيةِ وقد يوجِّه النهيُ إلى المسبَّب ويراد النهيُ عن السَّببِ كما في قولِه لا أرينك هَهُنا يريد به نهيَ مخاطِبَه عن الحضورِ لديهِ والمرادُ بقولهم ما ينبئ عنه ما ذكر من اتِّخاذهم الأصنامَ آلهةً فإنَّ ذلكَ مما لا يخلُو عن التَّفوه بقولِهم هؤلاءِ آلهتُنا وأنهم شركاءُ لله سبحانه في المعبوديةِ وغير ذلك مَّما يُورث الحزنَ وقرئ يُحزِنك بضمِّ الياء وكسرِ الزَّايِ من أحزنَ المنقولِ من حزِن اللازمِ وقوله تعالى {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} تعليلٌ صريحٌ للنَّهي بطريقِ الاستئنافِ بعد تعليلهِ بطريقِ الإشعارِ فإنَّ العلمَ بما ذُكر مستلزمٌ للمجازاةِ قطعاً أي إنَّا نجازيهم بجميعِ جناياتهم الخافية

يس 77 والباديةِ التي لا يعزُبُ عن علمنا شئ منها وفيه فضلُ تسليةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتقديمُ السرِّ على العلن إمَّا للمبالغةِ في بيانِ شمولِ علمِه تعالى لجميعِ المعلوماتِ كأنَّ علمَه تعالى بما يُسرونه أقدمُ منه بما يعلنونَه مع استوائِهما في الحقيقةِ فإنَّ علمَه تعالَى بمعلوماتهِ ليسَ بطريقِ حصولِ صُورِها بل وجود كل شئ في نفسِه عِلْمٌ بالنِّسبةِ إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلفُ الحالُ بين الأشياءِ البارزةِ والكامنةِ وإما لأنَّ مرتبةَ السرِّ متقدمةٌ على مرتبة العلنِ إذ ما من شئ يُعلَنُ إلا وهُو أو مباديهِ مضمرٌ في القلبِ قبل ذلك فتعلّقُ علمِهِ تعالَى بحالتِهِ الأُولى متقدمٌ على تعلقهِ بحالتهِ الثَّانية حقيقة

77

{أو لم يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ بطلانِ إنكارِهم البعثِ بعد ما شاهدوا في أنفسِهم أوضحَ دلائلهِ وأعدلَ شواهده كما أن ما سبق مسوق لبيان بطلانِ إشراكهم بالله تعالى بعد ما عاينُوا فيما بأيديهم ما يوجب التَّوحيدَ والإسلامَ وأما ما قيل من أنه تسليةٌ ثانيةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم بتهوينِ ما يقولونَهُ بالنِّسبةِ إلى إنكارِهم الحشرَ فكَلاَّ والهمزةُ للإنكارِ والتَّعجيبِ والواوُ للعطفِ عَلى جملةٍ مقدَّرةٍ هي مستتبعة للمعطوفِ كما مرَّ في الجملة الإنكارية السابقةِ أي ألم يتفكر الإنسانُ ولم يعلم علماً يقينياً أنا خلقناهُ من نطفةٍ الخ أو هي عين الجملة السابقةِ أعيدتْ تأكيداً للنكيرِ السَّابقِ وتمهيداً لإنكارِ ما هو أحقُّ منه بالإنكارِ والتَّعجيبِ لما أنَّ المنكرَ هناك عدمُ علمهم بما يتعلق بخلق اسباب معايشهم وههنا عدم علمهم بما يتعلق بخلقِ أنفسهم ولا ريبَ في أن علمَ الإنسانِ بأحوالِ نفسهِ أهمُّ وإحاطته بها أسهلُ وأكملُ فالإنكارُ والتَّعجيبُ من الإخلالِ بذلك أدخلُ كأنَّه قيل ألم يعلمُوا خلقَه تعالى لأسبابِ معايشهم ولم يعلمُوا خلقَه تعالى لأنفسِهم أيضاً مع كونِ العلمِ بذلك في غايةِ الظُّهور ونهايةِ الأهميةِ على معنى أنَّ المنكر الأول بعيدٌ قبيحٌ والثاني أبعدُ وأقبحُ ويجوزُ أنْ تكونَ الواوُ لعطفِ الجملةِ الإنكاريَّةِ الثَّانيةِ على الأُولى على أنَّها متقدِّمة في الاعتبارِ وأنَّ تقدمَ الهمزةِ عليها لاقتضائها الصَّدارة في الكلامِ كما هو رأيُ الجمهورِ وإيرادُ الإنسانِ موردَ الضَّميرِ لأنَّ مدارَ الإنكارِ متعلِّقٌ بأحوالهِ من حيثُ هو إنسانٌ كما في قولِه تعالى أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ من قبل ولم يك شَيْئاً وقولُه تعالى {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} أي شديدُ الخُصومةِ والجدالِ بالباطلِ عطفٌ على الجملةِ المنفيَّةِ داخل في حيز الإنكار والتَّعجيبِ كأنَّه قيل أولم يَرَ أنَّا خلقناهُ من أخسِّ الأشياءِ وأمهنِها ففاجأ خصومتنا في أمرٍ يشهدُ بصحَّتهِ وتحقُّقهِ مبدأُ فطرته شهادةً بيِّنةً وإيرادُ الجملةِ الاسميةِ للدِّلالةِ على استقرارِه في الخُصومةِ واستمرارِه عليها رُوي أنَّ جماعةً من كفَّارِ قُريشٍ منهم أُبيَّ بنَ خلفٍ الجُمَحي وأبُو جهلٍ والعاصِ بنُ وائلٍ والوليدُ بنُ المغيرة تكلَّموا في ذلكَ فقال لهم أبيُّ بنُ خلفٍ ألا ترون إلى ما يقولُ محمدٌ إنَّ اللَّهَ يبعثُ الأمواتَ ثم قال واللاَّتِ والعُزَّى لأَصيرنَّ إليه ولأخصِمنَّه وأخذ عظماً بالياً فجعل يفتُّه بيدِه ويقولُ يا محمَّدُ أترى الله يُحيي هذا بعد مارم قال صلى الله عليه وسلم نعم ويبعثُك ويُدخلكَ جهنَّم فنزلتْ وقيل معنى قولَه تعالى فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ فإذا هُو بعدما كانَ ماءً مَهيناً رجلٌ مميِّزٌ منطيقٌ قادرٌ على الخصامِ مبينٌ مُعرِبٌ عمَّا في نفسِه فصيحٌ فهو حينئذ معطوف على خلقناه غيرُ داخلٍ تحت الإنكار والتَّعجيبِ بل هو من مُتمَّماتِ شواهدِ صحَّةِ البعثِ فقوله تعالى

يس

78

78 - 80 {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} معطوفٌ حينئذٍ على الجُملة المنفيَّةِ داخل في حيز الإنكار والتَّقبيحِ وأمَّا على التَّقديرِ الأوَّلِ فهو عطفٌ على الجملة الفُجائيَّةِ والمعنى ففاجأ خصومتنا وضربَ لنا مَثَلاً أي أوردَ في شأنِنا قصَّةً عجيبةً في نفس الأمرِ هي في الغرابةِ والبُعدِ عن العقولِ كالمَثَلِ وهي إنكارُ إحيائنا العظامَ أو قصَّةً عجيبةً في زعمه واستبعدَها وعدَّها من قبيلِ المَثَلِ وأنكرَها أشدَّ الإنكارِ وهي إحياؤُنا إيَّاها وجعلَ لنا مَثَلاً ونظيراً من الخلقِ وقاسَ قُدرتنا على قُدرتهِم ونفى الكلَّ على العمومِ وقوله تعالى {وَنَسِىَ خَلْقَهُ} أي خلقَنا إيَّاهُ على الوجهِ المذكورِ الدَّالِّ على بُطلانِ ما ضربه إمَّا عطفٌ على ضربَ داخلٌ في حيِّزِ الإنكار والتعجيب أو حالٌ من فاعلِه بإضمار قد أو بدونه وقولُه تعالى {قَالَ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ ضربهِ المثلَ كأنَّه قيل أيَّ مَثَلٍ ضربَ أو ماذا قال فقيل قال {من يحيي العظام} منكِراً له أشدَّ النَّكيرِ مؤكِّداً له بقوله تعالى {وَهِىَ رَمِيمٌ} أي باليةٌ أشدَّ البلى بعيدةٌ من الحياةِ غاية البُعدِ فالمَثَلُ على الأوَّلِ هو إنكارُ إحيائهِ تعالى للعظامِ فإنَّه أمرٌ عجيبٌ في نفسِ الأمرِ حقيقٌ لغرابتهِ وبُعدهِ من العقولِ بأنْ يُعدَّ مثلاً ضرورةَ جزمِ العقول ببطلانِ الإنكارِ ووقوعِ المنكرِ لكونهِ كالإنشاءِ بل أهونُ منْهُ في قياسِ العقلِ وعلى الثَّاني هو إحياؤُه تعالى لها فإنَّه أمرٌ عجيبٌ في زعمهِ قد استبعدَهُ وعدَّه من قبيلِ المثل وأنكرَهُ أشدَّ الإنكارِ مع أنَّه في نفس الأمر أقرب شئ من الوقوعِ لما سبقَ من كونه مثلَ الإنشاءِ أو أهونَ منه وأما على الثَّالثِ فلا فرقَ بين أنْ يكون المَثَلُ هو الإنكارَ أو المنكرَ وعدمُ تأنيثِ الرَّميمِ مع وقوعهِ خبراً للمؤنَّثِ لأنَّه اسمٌ لما بَلِيَ من العظامِ غير صفة كالرُّفاتِ وقد تمسَّك بظاهرِ الآيةِ الكريمةِ من أثبتَ للعظمِ حياةً وبنى عليه الحكم بنجاسةِ عظمِ الميتةِ وأما أصحابُنا فلا يقولونَ بحياته كالشَّعرِ ويقولون المرادُ بإحياءِ العظامِ ردُّها إلى ما كانتْ عليهِ من الغضاضةِ والرُّطوبةِ في بدنٍ حيَ حسَّاسٍ

79

{قُلْ} تبكيتاً له بتذكيرِ ما نسبه من فطرته الدالَّةِ على حقيقةِ الحال وإرشاده إلى طريقةِ الاستشهادِ بها {يُحْيِيهَا الذى أنشأها أول مرة} فإنَّ قدرتَهُ كما هي لاستحالةِ التَّغير فيها والمادَّةُ على حالِها {وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} مبالغٌ في العلمِ بتفاصيلِ كيفيَّاتِ الخلقِ والإيجادِ إنشاءً وإعادةً محيطٌ بجميعِ الأجزاءِ المتفتتة المتبدِّدةِ لكلِّ شخصٍ من الأشخاصِ أصولها وفروعها وأوضاعِ بعضها من بعضٍ من الاتِّصالِ والانفصالِ والاجتماعِ والافتراقِ فيعيدُ كلاًّ من ذلك على النَّمطِ السَّابقِ مع القُوى التي كانتْ قبلُ والجملةُ إما اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لمضمونِ الجوابِ أو معطوفةٌ على الصِّلةِ والعدولُ إلى الجُملةِ الاسميَّةِ للتَّنبيهِ على أن علمُه تعالَى بما ذُكر أمرٌ مستمرٌّ ليسَ كإنشائهِ للمنشآتِ وقولُه تعالى

80

{الذى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الاخضر نَاراً} بدلٌ من الموصولِ الأولِ وعدمُ الاكتفاءِ بعطف صلتهِ على صلته

يس 81 83 للتَّأكيدِ ولتفاوتهما في كيفيَّةِ الدِّلالةِ أي خلقَ لأجلكم ومنفعتِكم منه ناراً على أنَّ الجعلَ إبداعيٌّ والجارَّانِ متعلِّقانِ به قُدِّما على مفعوله الصريح مع تأخيرهما عنه رتبةً لما مرَّ من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخَّرِ ووصفُ الشَّجرِ بالأخضرِ نظراً إلى اللَّفظِ وقد قُرىء الخضراءِ نظراً إلى المَعْنى وهو المَرخُ والعفارُ يقطعُ الرَّجلُ منهما عُصيَّتينِ مثل السِّواكينِ وهما خَضْراوانِ يقطرُ منهما الماءُ فيسحقُ المرخَ وهو ذكرٌ على العفارِ وهو أُنثى فتنقدحُ النَّارُ بإذنِ الله تعالى وذلك قوله تعالى {فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ} فمن قدرَ على إحداثِ النَّارِ من الشَّجرِ الأخضرِ مع ما فيه من المائيَّةِ المُضادَّةِ لها بكيفيَّتهِ كان أقدرَ على إعادةِ الغضاضةِ إلى ما كان غضًّا فطرأ عليه اليبوسةُ والبلى وقولِه تعالى

81

{أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السماوات والارض} الخ استئنافٌ مَسوقٌ من جهته عزَّ وجلَّ لتحقيق مضمون الجوابِ الذي امر صلى الله عليه وسلم بأنْ يُخاطبهم بذلك ويُلزمهم الحجَّة والهمزةُ للإنكارِ والنَّفيِ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أليسَ الذى أنشأها أول مرة وليس الذي جعلَ لهم مّنَ الشجر الاخضر نَاراً وليسَ الذى خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ مع كِبر جِرمِهما وعظم شأنهما {بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} في الصِّغرِ والقَمَاءةِ بالنسبةِ إليهما فإنَّ بديهةَ العقلِ قاضيةٌ بأن مَن قدَر على خلقهما فهو على خَلْقِ الأناسيِّ أقدرُ كما قال تعالى {لخلق السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} وقُرىء يقدِرُ وقوله تعالى {بلى} جوابٌ من جهتهِ تعالى وتصريحٌ بما أفادَه الاستفهامُ الإنكارِيُّ من تقريرِ ما بعد النَّفيِ وإيذانٌ بتعيُّنِ الجوابِ نطقُوا به أو تلعثمُوا فيه مخافة الإلزامِ وقولُه تعالى {وَهُوَ الخلاق العليم} عطفٌ على ما يفيدُه الإيجابُ أي بَلَى هو قادرٌ على ذلكَ وهو المبالغُ في الخلقِ والعلم كَيْفاً وكمًّا

82

{إِنَّمَا أَمْرُهُ} أي شأنُه {إِذَا أَرَادَ شَيْئاً} من الأشياءِ {أَن يَقُولَ لَهُ كُن} أي أنْ يعلِّقَ به قدرته {فَيَكُونُ} فيحدُثُ من غير توقفٍ على شيءٍ آخرَ أصلاً وهذا تمثيل لقدرته تعالى فيما أرادَه بأمرِ الآمرِ المُطاعِ المأمورِ المطيعِ في سرعةِ حصولِ المأمورِ به من غيرِ توقفٍ على شيء مَا وقُرىء فيكونَ بالنَّصب عطفاً على يقولَ

83

{فسبحان الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء} تنزيهٌ له عزَّ وعلا عمَّا وصفُوه تعالى به وتعجيبٌ ممَّا قالوا في شأنهِ تعالى وقد مر تحقيق معنى سبحانَ والفاءُ للإشارةِ إلى أنَّ ما فُصِّل من شئونه تعال موجبةٌ لتنزُّهه وتنزيههِ أكملَ إيجابٍ كما أنَّ وصفَه تعالى بالمالكيةِ الكلِّيةِ المُطلقة للإشعارِ بأنَّها مقتضيةٌ لذلك أتمَّ اقتضاءٍ والملكوتُ مبالغةٌ في المُلكِ كالرَّحموتِ والرَّهبوتِ وقُرىء ملكةُ كلِّ شيءٍ ومملكةُ كلِّ شيءٍ ومُلكُ كلِّ شيءٍ {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لا إلى غيرِه وقُرىء تَرجِعون بفتح التاء من الرُّجوعِ وفيهِ من الوعدِ والوعيد مالا يَخْفى عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُما كنتُ لا أعلمُ ما رُوي في فصائل يس

الصافات 1 3 وقر اءتها كيف خُصَّتْ بذلك فإذا أنه لهذه الآيةِ قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ لكلِّ شيءٍ قَلباً وإن قلب القرآن يس مَن قَرأها يريدُ بها وجهُ الله تعالى غفرَ اللَّهُ له وأُعطيَ منَ الأجرِ كأنَّما قرأ القُرآنَ اثنين وعشرينَ مرَّةً وأيَّما مسلمٍ قُرىء عنده إذَا نزل به مَلَكُ الموتِ سورةُ يس نزلَ بكلِّ حرفٍ منها عشرةُ أملاكٍ يقومون بين يديهِ صفوفاً يصلُّون عليهِ ويستغفرونَ له ويشهدونَ غسلَهُ ويتبعونَ جنازتَهُ ويصلُّون عليهِ ويشهدون دفنَهُ وأيَّما مسلمٍ قرأ يس في سكراتِ الموتِ لم يقبضْ مَلَكُ الموتِ رُوحَه حتَّى يجيئه رَضوانُ خازنُ الجنَّةِ بشربةٍ من شراب الجنَّةِ فيشربها وهو عَلى فراشِه فيقبضُ مَلَكُ الموتِ رُوحَه وهو ريَّانُ ويمكثُ في قبرهِ وهو ريَّانُ ولا يحتاجُ إلى حوضٍ من حياض الأنبياءِ حتَّى يدخلَ الجنَّة وهو ريَّانُ وقال صلى الله عليه وسلم إنَّ في القُرآنِ سورةً تشفعُ لقارئِها وتستغفرُ لمستمِعها ألا وهي سورة يس سورة الصافات مكية وآياتها مائة واثنتان وثمانون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

الصافات

{والصافات صَفَّا} إقسامٌ من اللَّهِ عزَّ وجلَّ بطوائِفَ الملائكةِ الفاعلاتِ للصُّفوفِ على أنَّ المرادَ إيقاعُ نفسِ الفعلِ منْ غيرِ قصدٍ إلى المفعولِ أو الصَّافَّاتُ أنفسَها أي النَّاظمات لها في سلك الصُّفوفِ بقيامها في مقاماتِها المعلومةِ حسبما ينطِق به قوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ وعلى هذينِ المعنيينِ مدارُ قوله تعالى وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون وقيل الصَّافاتُ أقدامها في الصَّلاةِ وقيل أجنحتها في الهواءِ

2

{فالزاجرات زَجْراً} أي الفاعلاتِ للزَّجرِ او الزاجرت لما نيطَ بها زَجرُه من الأجرام العلوية والسفلية وغيرِها على وجهٍ يليقُ بالمزجورِ ومن جُملة ذلك زجر العباد بالمعاصي وزجرُ الشَّياطينِ عن الوسوسةِ والإغواءِ وعن استراقِ السَّمعِ كما سيأتي وصفًّا وزَجْراً مصدرانِ مؤكِّدانِ لما قبلهما أي صفًّا بديعاً وزَجْراً بليغاً وأمَّا ذِكراً في قولهِ تعالى

3

{فالتاليات ذِكْراً} فمفعولُ التَّالياتِ أي التَّالياتِ ذكراً عظيمَ الشَّأنِ من آياتِ الله تعالى وكتبهِ المنزَّلةِ على الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وغيرِها من التَّسبيحِ والتَّقديسِ والتَّحميدِ والتَّمجيدِ وقيل هو أيضاً مصدرٌ مؤكِّدٌ لما قبله فإنَّ التِّلاوةَ من بابِ الذِّكرِ ثم إنَّ هذه الصِّفاتِ إنْ أُجريتْ على الكلِّ فعطفُها بالفاءِ للدِّلالةِ على ترتُّبها في الفضلِ إمَّا بكونِ الفضلِ للصَّفِ ثم للزجر ثم

الصافات 4 6 للتِّلاوةِ أو على العكسِ وإن أُجريت كلُّ واحدة منهنَّ على طوائفَ معيَّنةٍ فهو الدلالة على ترتُّبِ الموصوفاتِ في مراتب الفضل بمعنى أنَّ طوائفَ الصَّافَّاتِ ذواتُ فضل والزَّاجراتُ أفضلُ والتَّالياتُ أبهرُ فضلاً أو على العكس وقيل المرادُ بالمذكوراتِ نفوسُ العلماءِ العمَّالِ الصَّافَّاتُ أنفسَها في صفوف الجماعاتِ وأقدامها في الصَّلواتِ الزَّاجراتُ بالمواعظ والنَّصائحِ التَّالياتُ آياتِ الله تعالى الدَّارساتُ شرائعه وأحكامَه وقيل طوائفُ الغُزاة الصَّافَّات أنفسَهم في مواطنِ الحروبِ كأنَّهم بنيانٌ مرصوصٌ أو طوائفُ قُوَّادِهم الصَّافَّاتُ لهم فيها الزَّاجراتُ الخيلَ للجهادِ سوقاً والعدوَّ في المعارك طَرْداً التَّالياتُ آياتِ اللَّهِ تعالى وذكره وتسبيحَه في تضاعيفِ ذلك والكلامُ في العطفِ ودلالتهِ على ترتُّبِ الصِّفاتِ في الفضلِ أو ترتُّب موصوفاتِها فيه كالذي سلفَ وأمَّا الدِّلالةُ على التَّرتُّبِ في الوجودِ كما في قوله يالهف زبانة للحرث الصابح فالغانمِ فالآيبِ فغيرُ ظاهرةٍ في شئ من الطَّوائفِ المذكورة فإنَّه لو سُلِّم تقدُّمُ الصَّفِ على الزَّجرِ في الملائكةِ والغزاةِ فتأخُّرُ التِّلاوةِ عن الزَّجرِ غيرُ ظاهرٍ وقيل الصَّافَّاتُ الطَّيرُ من قوله تعالى والطير صافات والزَّاجراتُ كلُّ ما يزجرُ عن المعاصِي والتّاليات كُّل مَن يتلُو كتابَ اللَّهِ تعالى وقيل الزَّاجراتُ القوارعُ القُرآنيةُ وقرئ بإدغامِ التَّاءِ في الصَّادِ والزاي والذَّالِ

4

{إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ} جوابٌ القسم والجملةُ تحقيقٌ للحقِّ الذي هو التَّوحيدُ بما هو المألوفُ في كلامِهم من التَّأكيدِ القسميِّ وتمهيدٌ لما يعقُبه من البُرهانِ النَّاطقِ به أعني قوله تعالى

5

{رب السماوات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المشارق} فإنَّ وجودَها وانتظامَها على هذا النمط البديعِ من أوضحِ دلائلِ وجودِ الصَّانعِ وعلمهِ وقُدرتهِ وأعدلُ شواهدِ وحدتهِ كما مرَّ في قوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} وربُّ خبرٌ ثانٍ لأن أو خبر مبتدأ محذوفٍ أي مالكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا من الموجوداتِ ومربِّيها ومبلِّغَها إلى كمالاتِها والمرادُ بالمشارقِ مشارقُ الشَّمسِ وإعادةُ الربِّ فيها لغايةِ ظهورِ آثارِ الرُّبوبيَّةِ فيها وتجدُّدِها كلَّ يومٍ فإنها ثلثمائة وستُّون مشرقاً تشرقُ كلَّ يومٍ من مشرقٍ منها وبحسبها تختلفُ المغاربُ وتغربُ كلَّ يوم في مغربٍ منها وأما قولُه تعالى {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} فهُما مشرقا الصَّيفِ والشِّتاءِ ومغرباهُما

6

{إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا} أي القُربى منكم {بِزِينَةٍ} عجيبة بديعة {الكواكب} بالجرِّ بدلٌ من زينةٍ على أنَّ المرادَ بها الاسمُ أي ما يزن به لا المصدرُ فإنَّ الكواكبَ بأنفسها وأوضاع بعضِها من بعضٍ زينةٌ وأيُّ زينة وقرئ بالإضافة على أنَّها بيانيَّةٌ لما أنَّ الزِّينةَ مبهمة صادقة على كلِّ ما يُزان به فتقع الكواكب بياناً لها ويجوزُ أنْ يُراد بزينةِ الكواكبِ ما زُيِّنت هي به وهو ضوؤها ورُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما بزينةِ الكواكبِ بضوءِ الكواكبِ هذا وإمَّا على تقديرِ كون الزِّينةِ مصدراً فالمعنى على

الصافات 7 10 تقدير إضافتها إلى الفاعل بأنْ زانتِ الكواكبُ إيَّاها وأصله بزينة الكواكب وعلى تقدير إضافتها إلى المفعولِ بأنْ زانَ اللَّهُ الكواكبَ وحسَّنها وأصله بزينة الكواكب والمرادُ هو التَّزيينُ في رأي العينِ فإنَّ جميع الكواكب من الثَّوابتِ والسَّياراتِ تبدو للنَّاظرينَ كأنَّها جواهرُ مُتلالئةٌ في سطح سماء الدُّنيا بصورٍ بديعةٍ وأشكال رائعة ولا يقدحُ في ذلك ارتكازُ الثَّوابتِ في الفلك الثَّامنِ وما عدا القمر في الستة المتوسطة إنْ ثبتَ ذلك

7

{وَحِفْظاً} منصوبٌ إمَّا بعطفه على زينةٍ باعتبارِ المَعْنى كأنَّه قيلَ إنَّا خلقنا الكواكبَ زينةً للسَّماءِ وحِفظاً {من كل شيطان مارد} أي خارجٍ عن الطَّاعةِ برميِ الشُّهبِ وإمَّا بإضمار فعلهِ وإمَّا بتقدير فعلٍ مؤخَّر معلَّلٍ به كأنَّه قيل وحِفظاً من كلِّ شيطانٍ ماردٍ زيَّناها بالكواكبِ كقوله تعالَى {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين} وقوله تعالى

8

{لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الاعلى} كلامٌ مبتدأٌ مسوقٌ لبيان حالهم بعد بيانِ حفظ السماء عنهم مع التَّنبيهِ على كيفيةِ الحفظِ وما يعتريهم في أثناء ذلك من العذابِ ولا سبيلَ إلى جعلهِ صفةً لكلِّ شيطانٍ ولا جواباً عن سؤال مقدَّرٍ لعدمِ استقامةِ المعنى ولا علَّةً للحفظِ على أن يكونَ الأصلُ لئلاَّ يسمعُوا فحُذفتِ اللاَّمُ كما حُذفتْ من قولك جئتُك أنْ تكرمني فبقيَ أنْ لا يسمعُوا ثم بحذف أنْ ويُهدرُ عملُها كما في قول من قالَ أَلاَ أيُّهذا الزَّاجِريْ أحضر الوَغَى لما أنَّ كلَّ واحدٍ من ذينكَ الحذفينِ غيرُ منكرٍ بانفرادِه فأمَّا اجتماعُهما فمنْ أنكرِ المنكرات التي يجبُ تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ الجليلِ عن أمثالها وأصل يسمعون يتسمعون والملأالأ الأعلى الملائكةُ وعن ابن عباس رضي الله عنهما هم الكَتَبةُ وعنه أشرافُ الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام أي لا يتطلَّبون السَّماعَ والإصغاء إليهم وقرئ يسمعُون بالتَّخفيفِ {وَيَقْذِفُونَ} يُرمَون {مِن كُلّ جَانِبٍ} من جميع جوانبِ السَّماءِ إذا قصدوا الصُّعودَ إليها

9

{دُحُوراً} علَّةً للقذفِ أي للدحور أو حالٌ بمعنى مدحورينَ أو مصدرٌ مؤكِّد له لأنَّهما من وادٍ واحدٍ وقرئ دَحُوراً بفتح الدَّالِ أي قَذْفاً دَحُوراً مبالغاً في الطَّردِ وقد جُوِّز أنْ يكونَ مصدراً كالقَبُولِ والولُوعِ {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} أي وَلَهُمْ فِى الآخرةِ غيرُ ما في الدُّنيا من عذاب الرَّجمِ بالشُّهبِ عذابٌ شديد دائمٌ غيرُ منقطعٍ كقوله تعالَى {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير}

10

{إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} استثناءٌ من واوِ يسمَّعون ومَن بدلٌ منه والخطفُ الاختلاسُ والمرادُ اختلاسُ كلامِ الملائكةِ مسارقة كما يُعرب عنه تعريفُ الخَطفةِ وقُرىء بكسرِ الخاءِ والطَّاءِ المشدَّدةِ وبفتحِ الخاء وكسرِ الطَّاءِ

الصافات 11 16 وتشديدها وأصلُهما اختطفَ {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ} أي تبعَه ولحقَه وقرىء فانبعه والشِّهابُ ما يُرى منقضاً من السَّماءِ {ثَاقِبٌ} مضىءٌ في الغايةِ كأنَّه يثقبُ الجوَّ بضوئهِ يُرجم به الشَّياطينُ إذا صعدُوا لاستراقِ السَّمعِ فيقتلهم أو يحرقُهم أو يخبلُهم قالُوا وإنَّما يعودُ من يَسلم منهم حيًّا طمعاً في السَّلامةِ ونيلِ المُرادِ كراكبِ السَّفينةِ

11

{فاستفتهم} فاستخبر مُشركي مكَّة {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً} أي أقوى خِلقةً وأمتنُ بنيةً أو أصعبُ خَلْقاً وأشقُّ إيجاد {أَم مَّنْ خَلَقْنَا} من الملائكةِ والسَّماءِ والأرضِ وما بينهما والمشارقُ والكواكبُ والشُّهبُ الثَّواقبُ ومن لتغليبِ العقلاءِ على غيرِهم ويدلُّ عليه إطلاقُه ومجيئُه بعد ذلك لا سيَّما قراءةُ مَن قرأ أمْ مَن عددنا وقولُه تعالى {إِنَّا خلقناهم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ} فإنَّه الفارقُ بينهم وبينها لا بينهم وبين مِن قَبْلِهِم من الأممِ كعادٍ وثمود ولأنَّ المرادَ إثباتُ المعادِ وردُّ استحالتهم والأمرُ فيه بالإضافةِ إليهم وإلى مَن قبلهم سواء وقرئ لازمٍ ولاتبٍ

12

{بَلْ عَجِبْتَ} أي من قدرةَ الله تعالى على هذه الخلائقِ العظيمة وإنكارِهم للبعث {ويسخرون} من تعجيبك وتقريرك للبعث وقرئ بضمِّ التَّاءِ على معنى أنَّه بلغ كمالُ قدرتي وكثرةُ مخلوقاتي إليَّ حيث عجبتُ منها وهؤلاءِ لجهلهم يسخرونَ منها أو عجبتُ من أنْ ينكرُوا البعثَ ممَّن هذه أفاعيلُه ويسخرُوا ممَّن يجوزُه والعجبُ من اللَّهِ تعالى إمَّا على الفرضِ والتَّخييلِ أو على معنى الاستعظامِ اللاَّزمِ له فإنَّه رَوعةٌ تعتري الإنسانَ عند استعظام الشئ وقيل إنَّه مقدَّرٌ بالقولِ أي قُل يا محمدُ بل عجبتُ

13

{وَإِذَا ذُكّرُواْ} أي ودأبُهم المستمرُّ أنَّهم إذا وُعظوا بشئ من المواعظِ {لاَ يَذْكُرُونَ} لا يتَّعظون وإذَا ذُكر لهم ما يدلُّ على صحَّةِ البعثِ لا ينتفعُون به لغايةِ بلادتهم وقصورِ فكرهم

14

{وإذا رأوا آية} أي معجزةً تدلُّ على صدقِ القائلِ به {يَسْتَسْخِرُونَ} يُبالغون في السُّخريةِ ويقُولون إنَّه سحرٌ أو يستدعي بعضُهم من بعضٍ أنْ يسخرَ منها

15

{وَقَالُواْ إِنَّ هَذَا} أي ما يَرونه من الآياتِ الباهرةِ {إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ظاهر سحريته

16

{أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما} أي كانَ بعضُ أجزائِنا تُراباً وبعضُها عظاماً وتقديمُ التُّرابِ لأنَّه منقلبٌ من الأجزاءِ الباديةِ والعاملُ فِي إذَا ما دلَّ عليه مبعوثونَ في قوله تعالى {أئنا لمبعوثون} أي نبعث لانفسه لأن دونه خطوبا

الصافات 17 22 لو تفرَّدَ واحدٌ منها لكفى في المنعِ وتقديمُ الظَّرفِ لتقويةِ الإنكارِ للبعثِ بتوجيههِ إلى حالةٍ منافيةٍ له غايةَ المُنافاة وكذا تكرير الهمزة في اثنا للمبالغةِ والتَّشديدِ في ذلك وكذا تحليةُ الجملةِ بأنْ واللامِ لتأكيد الانكار لالانكار التاكيد كما يوهمه ظاهر النَّظمِ الكريمِ فإنَّ تقديمَ الهمزةِ لاقتضائِها الصدارةَ كما في مثلِ قولِه تعالى {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} على رأي الجمهورِ فإن المعنى عندهم تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التعقيبِ كما هو المشهور وقُرىء بطرحِ الهمزةِ الأُولى وبطرحِ الثَّانيةِ فَقَطْ

17

{أو آباؤنا الاولون} رفعٌ على الابتداءِ وخبرُه محذوفٌ عند سيبويهِ أي وآباؤنا الأوَّلُون أيضاً مبعثون وقبل عطفٌ على محلِّ إنَّ واسمِها وقيل على الضَّميرِ في مبعوثُون للفصلِ بهمزةِ الإنكارِ الجاريةِ مجرى حرفِ النَّفيِ في قوله تعالى مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وأيًّا ما كانَ فمرادُهم زيادةُ الاستبعادِ بناءً على أنَّهم أقدمُ فبعثهم أبعدُ على زعمهم وقُرىء أو آباؤُنا

18

{قُلْ} تبكيتاً لهم {نِعْمَ} والخطابُ في قولِه تعالَى {وَأَنتُمْ داخرون} لهم ولآبائِهم بطريقِ التَّغليبِ والجملةُ حالٌ من فاعلِ ما دلَّ عليه نعم أي كلُّكم مبعوثون والحالُ أنَّكم صاغرونَ أذلاء وقرئ نَعِم بكسرِ العينِ وهي لغةٌ فيه

19

{فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة} هي إمَّا ضميرٌ مبهمٌ يفسِّرهُ خبرُه أو ضميرُ البعثةِ والجملةُ جوابُ شرطٍ مضمرٍ أو تعليلٌ لنهيَ مقدَّرٍ أي إذا كانَ كذلك فإنَّما هي الخ أو لا تستصعبُوه فإنَّما هي الخ والزَّجرةُ الصَّيحةُ من زجرَ الرَّاعي غنمه إذا صاحَ عليها وهي النَّفخةُ الثَّانيةُ {فَإِذَا هُم} قائمونَ من مراقدهم أحياءً {يَنظَرُونَ} يُبصرون كما كانُوا أو ينتظرون ما يفعل بهم

20

{وَقَالُواْ} أي المبعوثونَ وصيغةُ الماضي الدِلالة على التحقق والتقرّرِ {يا ويلنا} أي هلا كنا احضر فهذا أو ان حضورِك وقولُه تعالى {هذا يَوْمُ الدين} تعليلٌ لدعائهم الويلِ بطريق الاستئنافِ أي اليوم الذي نُجازى فيه بأعمالنا وإنَّما علموا ذلك لأنَّهم كانوا يسمعون في الدُّنيا أنَّهم يُبعثون ويُحاسبون ويُجزَون بأعمالهم فلمَّا شاهدوا البعثَ أيقنُوا بما بعدَه أيضاً وقولُه تعالى

21

{هذا يَوْمُ الفصل الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} كلامُ الملائكةِ جواباً لهم بطريقِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ وقيل هُو أيضاً من كلامِ بعضِهم لبعضٍ والفصلُ القضاءُ أو الفرقُ بين فِرقِ الهُدى والضَّلالِ وقولُه تعالى

22

{احشروا الذين ظَلَمُواْ} خطابٌ من الله عز وجل للملائكة

الصافات 23 28 أو من بعضِهم لبعضٍ بحشر الظَّلمةِ من مقامهم إلى الموقفِ وقيل من الموقفِ إلى الجحيمِ {وأزواجهم} أي أشباهَهم ونظراءَهم من العصاة عابد الصم مع عبدته وعابد الكواكب مع عَبَدتهِ كقوله تعالى وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثلاثة وقيل قرناءَهم من الشَّياطينِ وقيل نساءهم اللاتى عل دينهم {وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ}

23

{من دُونِ الله} مِن الأصنامِ ونحوِها زيادةً في تحسيرهم وتخجيلهم قيل هو عامٌ مخصوصٌ بقوله تعالى إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى الآيةَ الكريمةَ وأنت خبيرٌ بأنَّ الموصولَ عبارةٌ عن المشركين خاصَّةً جئ به لتعليل الحكمِ بما في حيِّزِ صلتهِ فلا عمومَ ولا تخصيصَ {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ الجحيم} أي عرِّفُوهم طريقها ووجِّهوهم إليها وفيه تهكُّمٌ بِهم

24

{وَقِفُوهُمْ} احبِسُوهم في الموقف كأنَّ الملائكة سارعُوا ألى مَا أُمروا بهِ من حشرِهم إلى الجحيم فأُمروا بذلك وعُلِّل بقوله تعالى {إنهم مسؤولون} إيذانا من أولِ الأمرِ بأنْ ذلك ليس للعفو عنهم ولا ليستريحُوا بتأخيرِ العذابِ في الجملة بل ليُسألوا لكن لا عن عقائدهم وأعمالهم كما قيل فإنَّ ذلك قد وقع قبل الأمرِ بهم إلى الجحيمِ بل عمَّا ينطقُ به قوله تعالى

25

{مَا لَكُمْ لاَ تناصرون} بطريق التَّوبيخِ والتَّقريعِ والتَّهكُّمِ أي لا ينصرُ بعضُكم بعضاً كما كنتُم تزعمون في الدُّنيا وتأخيرُ هذا السُّؤالِ إلى ذلك الوقتِ لأنَّه وقتُ تنجُّزِ العذابِ وشدَّةِ الحاجةِ إلى النُّصرةِ وحالة انقطاعِ الرَّجاءِ عنها بالكُلِّية فالتَّوبيخُ والتَّقريعُ حينئذٍ اشد وقعا وتأثيرا وقرئ لا تَتَناصرون ولا تنَّاصرُون بالإدغامِ

26

{بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ} مُنقادون خاضعُون لظهورِ عجزهم وانسدادِ بابِ الحِيلِ عليهم أو أسلم بعضُهم بعضاً وخذله عن عجزٍ فكلُّهم مستسلم غيرُ منتصرٍ

27

{وَأَقْبَلَ} حينئذٍ {بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} هم الأتباعُ والرؤساء أو الكفرةُ والقُرناء {يَتَسَاءلُونَ} يسألُ بعضُهم بعضاً سؤالَ توبيخٍ بطريقِ الخصومةِ والجدالِ

28

{قَالُواْ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ تساؤلهم كأنَّه قيل كيف تساءلوا فقيلَ قالوا أي الأتباعُ للرُّؤساء أو الكلُّ للقرناءِ {إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا} في الدُّنيا {عَنِ اليمين} عن أقوى الوجوهِ وأمتنِها أو عن الدِّينِ أو عن الخيرِ كأنَّكم تنفعوننا نفعَ السائح فتبعناكم فهلكنا مستعارٌ من يمينِ الإنسانِ الذي هو أشرفُ الجانبينِ وأقواهما وأنفعُهما ولذلك سُمِّي يميناً ويُتيمَّن بالسائح أو عن القوَّة والقَسْر فتقسروننا على الغَيِّ وهو الأوفقُ للجوابِ أو عن الحلفِ حيثُ كانُوا يحلفون انهم على الحق

الصافات

29

29 - 38 {قَالُواْ} استئنافٌ كما سبق أي قالَ الرُّؤساء أو القُرناء {بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي لم نمنعكُم من الإيمانِ بل لم تُؤمنوا باختيارِكم وأعرضتُم عنه مع تمكُّنِكم منه وآثرتُم الكفرَ عليه

30

{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سلطان} من قهرٍ وتسلُّطٍ نسلبكم به اختيارَكم {بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طاغين} مُختارين للطُّغيانِ مُصرِّين عليه

31

{فَحَقَّ عَلَيْنَا} أي لزمنا وثبتَ علينا {قَوْلُ رَبّنَا} وهو قوله تعالى لاملان جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ {إِنَّا لَذَائِقُونَ} أي العذابَ الذي وردَ به الوعيدُ

32

{فأغويناكم} فدَعوناكم إلى الغيِّ دعوة غير ملجئة فاستجببتم لنا باختيارِكم واستحبابِكم الغيَّ على الرُّشدِ {إِنَّا كُنَّا غاوين} فلا عتبَ علينا في تعرُّضِنا لإغوائِكم بتلك المرتبةِ من الدَّعوةِ لتكونُوا أمثالنا في الغوايةِ

33

{فَإِنَّهُمْ} أي الأتباعُ والمتبُوعينَ {يَوْمَئِذٍ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ} حسبما كانُوا مشتركينَ في الغواية

34

{إِنَّا كَذَلِكَ} أي مثلَ ذلك الفعلِ البديعِ الذي تقتضيهِ الحكمةُ التَّشريعيَّةُ {نَفْعَلُ بالمجرمين} المتناهينَ في الإجرامِ وهم المُشركون كما يُعرب عنه التَّعليلُ بقولهِ تعالى

35

{إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ} بطريقِ الدَّعوةِ والتَّلقينِ {لا إله إلا الله يَسْتَكْبِرُونَ} عن القبولِ

36

{ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} {بَلْ جَاء بالحق وَصَدَّقَ المرسلين} ردٌّ عليهم وتكذيبٌ لهم ببيانِ أنَّ ما جاء به من التَّوحيدِ هو الحقُّ الذي قام به البُرهان وأجمعَ عليه كافَّةُ الرسلُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فأينَ الشِّعرُ والجنونُ من ساحتهِ الرَّفيعةِ

38

{إِنَّكُمْ} بما فعلتُم من الاشراك وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم والاستكبار {لذائقوا العذاب الأليم}

الصافات 39 43 والالتفاتُ لإظهارِ كمالِ الغضبِ عليهم وقُرىء بنصبِ العذابِ على تقديرِ النُّون كقولهِ ولا ذاكرُ اللَّهَ إلا قليلاً وقُرىء لذائقونَ العذابَ على الأصلِ

39

{وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كنتم تعملون} أي إلا جزاءَ ما كنتُم تعملونه من السَّيئاتِ أو إلاَّ بما كنتُم تعملونَه منها

40

{إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} استثناءٌ منقطعٌ من ضمير ذائقو وما بينهما اعتراضٌ جئ به مسارعة إلى تحقيق الحقِّ ببيان أنَّ ذوقهم العذاب ليس إلاَّ من جهتِهِم لا من جهة غيرهم أصلاً وجعله استثناء من ضمير تُجزون على معنى أنَّ الكفرة لا يُجزون إلا بقدر أعمالهم دون عباد الله المُخلصين فإنَّهم يجزون أضعافاً مضاعفة مما لا وجهَ لَهُ أصلاً لا سيَّما جعله استثناء متَّصلاً بتعميم الخطاب في تُجزون لجميع المكلَّفين فإنَّه ليس في حيِّزِ الاحتمال فالمعنى إنَّكم لذائقون العذاب الأليم لكنْ عباد الله المُخلصين الموحِّدين ليسُوا كذلك وقولُه تعالى

41

{أولئك} إشارةٌ إليهم للإيذان بأنَّهم ممتازون بما اتَّصفوا به من الإخلاص في عبادة الله تعالى عمَّن عداهم امتيازاً بالغاً منتظمون بسببه في سِلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإشعار بعلوِّ طبقتِهم وبُعدِ منزلَتهِم في الفضلِ وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {لَهُمْ} إمَّا خبرٌ له وقوله تعالى {رزق} مرتفع عل الفاعلية بما فيه من الاستقرارِ أو مبتدأٌ ولهم خبرٌ مقدّمٌ والجملةُ خبرُ لأولئك والجملةُ الكُبرى استئناف مبيِّنٌ لما أفاده الاستثناء إجمالاً بياناً تفصيليًّا وقيل هي خبر للاستثناء المنقطع على أنَّه متأوَّلٌ بالمبتدأ وقوله تعالى {مَّعْلُومٌ} أي معلومُ الخصائصِ من حُسن المنظر ولذَّةِ الطَّعمِ وطيب الرَّائحةِ ونحوها من نعوت الكمال وقيل معلوم الوقتِ كقوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً وقوله تعالى

42

{فواكه} إمَّا بدل من رزقٌ أوْ خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ أي ذلك الرزقُ فواكهُ وتخصيصُها بالذِّكر لأنَّ أرزاق أهل الجنَّة كلَّها فواكه أي ما يُؤكل لمجرد التلذذ دون الاقتياتِ لأنَّهم مستغنون عن القوت لكون خِلقتِهم مُحكمةً محفوظة من التَّحلُّلِ المُحوجِ إلى البدل وقيل لأنَّ الفواكه من أتباع سائرِ الأطعمةِ فذكرُها مُغنٍ عن ذكرِها {وَهُم مُّكْرَمُونَ} عند الله عز وجل لا يلحقُهم هوانٌ وذلك أعظم المثوباتِ وأليقها بأُولي الهممِ وقيل مكرمون في نيله حيثُ يصلُ إليهم بغير تعبٍ وسؤالٍ كما هو شأنُ أرزاقِ الدُّنيا وقرئ مكرَّمون بالتَّشديدِ

43

{فِي جنات النعيم} أي في جناتٍ ليسَ فيها إلاَّ النَّعيمُ وهو ظرف أو حالٌ من المستكنِّ في مكرمون أو خبرٌ ثانٍ لأولئك

الصافات 44 50 وقوله تعالى

44

{على سُرُرٍ} محتمل للحاليَّةِ والخبريَّةِ فقولُه تعالى {متقابلين} حالٌ من المستكنِّ فيهِ أو في مُكرمون وقوله تعالى

45

{يُطَافُ عَلَيْهِمْ} إمَّا استئنافٌ مبني على سؤال نشأ من حكاية تكامن مجالسِ أُنسهم أو حال من الضَّميرِ في متقابلين أو في أحد الجارَّينِ وقد جُوِّز كونُه صفةً لمكرمون {بِكَأْسٍ} بإناء فيه خمر أو بخمرٍ فإنَّ الكأس تطلق على نفس الخمرِ كما في قول مَن قال وَكَأْسٍ شَرِبْتُ على لذَّة وأخرى تَدَاويتُ منها بها {مّن مَّعِينٍ} متعلِّقٌ بمضمرٍ هو صفة لكأس أي كائنةٌ من شرابٍ مَعينٍ أو من نهرٍ مَعينٍ وهو الجاري على وجه الأرضِ الظَّاهرُ للعُيونِ أو الخارجُ من العُيونِ من عان الماءُ إذا نبعَ وصف به الخمرُ وهو للماءِ لأنَّها تجري في الجنَّةِ في أنهارٍ كما يجري الماءُ قال تعالى وأنهارٍ من خمرٍ

46

{بَيْضَاء لَذَّةٍ للشاربين} صفتانِ أيضاً لكأسٍ ووصفها بلذَّةٍ إمَّا للمُبالغةِ كأنَّها نفسُ اللَّذةِ أو لأنَّها تأنيثُ اللَّذِّ بمعنى اللَّذيذِ ووزنه فعل قال ... ولذَ كطعمِ الصر خدى تركتُه ... بأرضِ العِدا مِنْ خيفة الحدثان ... يريد به النَّومَ

47

{لاَ فِيهَا غَوْلٌ} أي غائلةٌ كما في خمور الدُّنيا من غالَه إذا أفسدَه وأهلكه ومنه الغُول {وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} يسكَرُون من نزف الشَّاربُ فهو نَزِيفٌ ومنزوفٌ إذا ذهب عقلُه ويقال للمطعونِ نزف فمات إذا خرج دمُه كلُّه أفرد هذا بالنَّفي مع اندراجه فيما قبله من نفي الغَول عنها لما أنَّه من معظم مفاسد الخمرِ كأنَّه جنس برأسهِ والمعنى لا فيها نوعٌ من أنواع الفسادِ من مغصٍ أو صُداعٍ أو خُمارٍ أو عَربدةٍ أو لغوٍ أو تأثيمٍ ولا هم يسكرون وقرئ يُنزفون بكسر الزَّاي من أنزفَ الشَّاربُ إذا نفدَ عقلُه أو شرابُه وقرئ ينزفون بضمِّ الزَّاي من نَزَف يَنزُف بضمِّ الزَّاي فيهما

48

{وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف} قصرن أبصارَهنَّ على أزواجهنَّ لا يمددن طَرفاً إلى غيرهم {عِينٌ} نجُلُ العُيونِ جمع عَيْناءَ والنَّجَلُ سعةُ العينِ

49

{كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} شُبِّهن ببيض النَّعامِ المصونِ من الغبارِ ونحوه في الصَّفاءِ والبياض المخلوطِ بأدنى صُفرةٍ فإن ذلك أحسنُ ألوانِ الأبدانِ

50

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} معطوف على يُطاف أي يشربون فيتحادثُون على الشَّراب كما هو عادة الشرب قال ... وما

الصافات 51 56 بَقِيَتْ مِن اللَّذاتِ إلا ... أحاديثُ الكرامِ على المُدامِ ... فيقبل بعضُهم على بعضٍ يَتَسَاءلُونَ عن الفضائلِ والمعارفِ وعمَّا جرى لهم وعليهم في الدُّنيا فالتَّعبيرُ عنه بصيغة الماضي للتَّأكيدِ والدِّلالةِ على تحقُّقِ الوقوع حتماً

51

{قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ} في تضاعيف محاوراتهم {إِنّى كَانَ لِى} في الدُّنيا {قَرِينٌ} مصاحب

52

{يِقُولُ} لي على طريقة التَّوبيخِ بما كنت عليه من الإيمان والتَّصديقِ بالبعث {أئنك لَمِنَ المصدقين} أي بالبعث وقرئ بتشديدِ الصَّادِ من التَّصدُّقِ والأوَّلُ هو الأوفقُ لقولهِ تعالى

53

{أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما أئنا لَمَدِينُونَ} أي لمبعوثون ومجزيُّون من الدِّينِ بمعنى الجزاء أو لمسوسُون يقال دانَه أي ساسَه ومنه الحديثُ العاقلُ من دانَ نفسَه وقيل كان رجلٌ تصدَّقَ بماله لوجه الله تعالى فاحتاج فاستجدَى بعضَ إخوانهِ فقال أين مالكُ قال تصدَّقتُ به ليعوضني الله تعالى في الآخرةِ خيراً منه فقال أئنَّك لمن المُصدِّقين بيوم الدِّينِ أو من المتصدِّقين لطلب الثَّوابِ والله لا أُعطيك شيئاً فيكون التَّعرُّضُ لذكر موتهم وكونِهم تُراباً وعظاماً حينئذٍ لتأكيدِ إنكار الجزاءِ المبني على إنكارِ البعث

54

{قَالَ} أي ذلك القائلُ بعد ما حكى لجلسائه مقالة قرينهِ في الدُّنيا {هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ} أي إلى أهل النَّارِ لأريكم ذلك القرينَ يريد بذلك بيانَ صدقهِ فيما حكاه وقيل القائلُ هو اللَّهُ تعالى أو بعضُ الملائكة يقول لهم هل تُحبُّون أنْ تطَّلعوا على أهل النَّارِ لأريكم ذلك القرينَ فتعلموا أين منزلتُكم من منزلتهم قيل إنَّ في الجنَّة كُوى ينظر منها أهلُها إلى أهل النَّارِ

55

{فاطلع} أي عليهم {فرآه} أي قربنه {فِى سَوَاء الجحيم} أي في وسطها وقرئ فأطَّلِعَ على لفظ المضارع المنصوب وقرئ مُطَّلعون فأطَّلع وفأطْلُعَ بالتَّخفيف على لفظ الماضي والمضارعِ المنصوبِ يقال طلعَ علينا فلان واطلع واطلع بمعنى واحد والمعنى هل أنتُم مطلعون الى القرن فأطَّلع أنا أيضاً أو عرض عليهم الاطِّلاعَ فقبلوا ما عرضَه فاطَّلع هو بعد ذلك وإن جُعل الاطِّلاعُ متعدِّياً فالمعنى أنَّه لما شرط في إطِّلاعه إطِّلاعهم كما هو ديدن الجُلساءِ فكأنَّهم مُطْلِعُوه وقيل الخطاب على هذا للملائكةِ وقُرىء مطلعون بكسر النون اراد مطلعونَ إيَّاي فوضع المتَّصلَ موضع المنفصل كقولهم هم الفاعلونَ الخيرَ والآمرونه اوشبه اسمُ الفاعل بالمضارع لما بينهما من التَّآخِي

56

{قَالَ} أي القائلُ مخاطباً لقرينهِ {تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} أي لتُهلكني بالإغواءِ وقرىء

الصافات 57 62 لتُغوينِ والتَّاءُ فيه معنى التَّعجُّبِ وإنْ هي المخففةُ من أنَّ وضميرُ الشأنِ الذي هو اسمها محذوف واللاَّمُ فارقةٌ أي تاللَّهِ ان الشأن كدت لنردين

57

{وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبّى} بالهدايةِ والعصمة {لَكُنتُ مِنَ المحضرين} أي من الذين أُحضروا العذابَ كما أُحضِرْته أنتَ وأضرابُك وقوله تعالى

58

{أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ} رجوع إلى محاورةِ جلسائه بعد إتمامِ الكلام مع قرينه تبجُّحاً وابتهاجاً بما أتاحَ الله عزَّ وجلَّ لهم من الفضلِ العظيمِ والنَّعيمِ المقيمِ والهمزة للتَّقريرِ وفيها معنى التَّعجُّبِ والفاء للعطف على مقدَّرٍ يقتضيه نظمُ الكلام أي أنحنُ مخلَّدون منعَّمون فما نحنُ بميِّتين أي بمن شأنه الموت وقُرىء بمائتينَ

59

{إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاولى} التي كانت في الدُّنيا وهي متناولةٌ لما في القبر بعد الإحياء للسُّؤالِ قاله تصديقاً لقوله تعالى لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى وقيل إنَّ أهلَ الجنَّةِ أوَّلَ ما دخلُوا الجنَّة لا يعلمون أنَّهم لا يموتون فإذا جِيء بالموت على صُورة كبشٍ أملحَ فذُبح ونُودي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت يعلمونه فيقولون ذلك تحدُّثاً بنعمة الله تعالى واغنباطا بها {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} كالكُفَّار فإنَّ النَّجاةَ من العذاب أيضاً نعمة جليلة مستوجبة للتَّحدثِ بها

60

{إِنَّ هَذَا} أي الأمرُ العظيم الذي نحن فيه {لَهُوَ الفوز العظيم} وقيل هو من قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ تقريراً لقولهم وتصديقاً له وقرىء لهو الرِّزقُ العظيم وهو ما رُزقوه من السَّعادةِ العظمى

61

{لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون} أي لنيل هذا المرامِ الجليلِ يجب أنْ يعمل العاملون لا للحظوظِ الدُّنيويَّةِ السَّريعةِ الانصرام المشُوبةِ بفنون الآلام وهذا أيضاً يحتملُ أن يكونَ من كلام ربِّ العزَّةِ

62

{أذلك خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} أصل النُّزلِ الفضل والرِّيعُ فاستُعير للحاصل من الشَّيءِ فانتصابُه على التَّمييزِ أي أذلك الرِّزقُ المعلومُ الذي حاصلُه اللَّذةُ والسُّرورُ خيرٌ نزلاً أم شجرةُ الزَّقُومِ التي حاصلها الألم والغمُّ ويقال النُّزل لما يقامُ ويهيَّأُ من الطَّعامِ الحاضر للنَّازلِ فانتصابُه على الحاليَّةِ والمعنى أنَّ الرِّزقَ المعلوم نزلُ أهل الجنَّةِ وأهلُ النَّارِ نُزلهم شجرةُ الزَّقُّوم فأيُّهما خيرٌ في كونه نزلاً والزَّقُّومُ اسم شجرةٍ صغيرةِ الورقِ دَفرةٍ مُرَّةٍ كريهةِ الرَّائحةِ تكون في تِهامة سمِّيتْ به الشجرة الموصوفة

الصافات

63

63 - 69 {إِنَّا جعلناها فِتْنَةً للظالمين} محنةً وعذاباً لهم في الآخرة وابتلاء في الدُّنيا فإنَّهم لمَّا سمعوا أنَّها في النَّار قالوا كيف يمكن ذلك والنَّارُ تحرق الشَّجَر ولم يعلموا أن من قدر على خلق حيوانٍ يعيش في النَّارِ ويتلذذ بها افدر على خلق الشَّجرِ في النار وحفظه من الاحراق

64

{إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الجحيم} منبتُها في قعر جهنَّم وأغصانها ترتفعُ الى دركانها وقُرىء نابتةٌ في أصل الجحيم

65

{طَلْعُهَا} أي حملُها الذي يخرج منها مستعار من طلع النَّخلةِ لمشاركته له في الشكل والطلوع من الشَّجرِ قالوا أوَّلُ التَّمرِ طَلعٌ ثم خِلالٌ ثم بلح ثم بسر ثم رُطَبٌ ثم تمرٌ {كأنه رؤوس الشياطين} في تناهي القُبح والهول وهو تشبيه بالمخيل كتشبيه الفائق في الحُسنِ بالمَلَك وقيل الشَّياطينُ الحيَّاتُ الهائلةُ القبيحةُ المنظر لها أعرافٌ وقيل إنَّ شجراً يقال له الأستنُ خشناً مُنتناً مُرًّا منكر الصُّورةِ يسمى ثمره رءوس الشَّياطينِ

66

{فَإِنَّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا} أي من الشَّجرةِ أو من طلعِها فالتَّأنيثُ مكتسب من المضافِ إليه {فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} لغلبة الجوعِ أو للقسرِ على أكلِها وإنْ كرهوها ليكونَ ذلك باباً من العذابِ

67

{ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا} على الشَّجرةِ التي ملأوا منها بطونهم بعد ما شبِعُوا منها وغلبهم العطشُ وطال استسقاؤهم كما يُنبىء عنه كلمةُ ثُمَّ ويجوز أنْ تكونَ لما في شرابهم من مزيدِ الكراهة والبشاعةِ {لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} لشراباً من غسَّاقٍ أو صديدٍ مشُوباً بماءٍ حميمٍ يُقطِّع أمعاءهم وقُرىء بالضَّمِّ وهو اسم لما يُشاب به والأوَّلُ مصدر سُمِّي به

68

{ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ} أي مصيرَهم وقد قُرىء كذلك {لإِلَى الجحيم} لإلى دَرَكاتِها أو إلى نفسها فإنَّ الزَّقُّومَ والحميمَ نزلٌ يقدَّمُ إليهم قبل دخولها وقيل الحميمُ خارجٌ عنها لقوله تعالَى هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون يَطُوفُونَ بينها وبين حميم آن يذهب بهم عن مقارِّهم ومنازلهم في الجحيمِ إلى شجرة الزَّقُّومِ فيأكلون منها الى ان يمتثلوا ثم يُسقون من الحميم ثم يُردُّون إلى الجحيم ويُؤيِّده أنَّه قُرىء ثمَّ إنَّ منقلبَهم

69

{إنهم ألفوا آباءهم ضَالّينَ} تعليل لاستحقاقِهم ما ذُكر من فنونِ العذاب بتقليد الآباء في الدِّينِ من غير أن يكون لهم ولا لآبائِهم شيءٌ يتمسَّكُ به أصلاً أي وجدوهم ضالِّين في نفس

الصافات 70 76 الأمر ليس لهم ما يصلُح شبهةً فضلاً عن صلاحيةِ الدَّليلِ

70

{فهم على آثارهم يُهْرَعُونَ} من غير أنْ يتدبروا أنَّهم على الحقِّ أولاً مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمُّلٍ والإهراعُ الإسراع الشَّديدُ كأنَّهم يُزعجون ويحثُّون حثًّا على الإسراع على آثارِهم وقيل هو إسراعٌ فيه شبه رعدةٍ

71

{وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ} أي قبلَ قومِك قريش {أَكْثَرُ الاولين} من الأمم السَّالفةِ وهو جواب قسم محذوفٍ وكذَا قولُه تعالى

72

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ} أي أنبياءَ أولي عددٍ كثيرٍ وذوي شأنٍ خطيرٍ بيَّنوا لهم بُطلانَ ما هم عليه وأنذرُوهم عاقبته الوَخِيمَةِ وتكريرُ القَسَمِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمون كلَ من الجملتين

73

{فانظر كيف كان عاقبة المنذرين} من الهول والفظاعةِ لمَّا لم يلتفتُوا إلى الإنذار ولم يرفعُوا له رأساً والخطابُ إمَّا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يتمكَّنُ من مشاهدة آثارِهم وحيث كان المعنى أنَّهم اهلكوا هلاكا فظيعاً استُثني منهم المُخلصون بقوله تعالى

74

{إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} أي الذين أخلصَهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان والعملِ بموجب الإنذارِ وقُرىء المخلِصين بكسر اللاَّم أي الذين أخلصُوا دينَهم لله تعالى

75

{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} نوعُ تفصيلٍ لَما أُجمل فيما قبل ببيان أحوال بعض المرسلين وحسنِ عاقبتهِم متضمِّنٍ لبيان سوء عاقبة بعض المُنذرين حسبما أُشير إليه بقوله تعالى فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين كقوم نوح آل فرعونَ وقوم لوطٍ وقوم إلياسَ ولبيان حُسن عاقبةِ بعضهم الذين أخلصُهم الله تعالى ووفَّقهم للإيمان كما أشار إليه الاستثناء كقوم يونسَ عليه السَّلامُ ووجه تقديم قصَّةِ نوحٍ على سائر القصص غنيٌّ عن البيان واللامُ جوابُ قسمٍ محذوفٍ وكذا ما في قوله تعالى {فَلَنِعْمَ المجيبون} أي وباللَّهِ لقد دعانا نوحٌ حين يئسَ من ايمان قومه بعد ما دعاهُم إليه أحقاباً ودُهُوراً فلم يزدهم دعاؤُه إلا فراراً ونُفوراً فأجبناه أحسنَ الاجابة فو الله لنعم المُجيبون نحن فحُذف ما حُذف ثقةً بدلالة ما ذُكر عليه والجمع دليلُ العظمةِ والكبرياءِ

76

{ونجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} أي من الغَرقِ وقيل من أذيةِ قومه

الصافات

77

77 - 83 {وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين} فحسب حيثُ أهلكنا الكفرة بموجب دعائه رب لاتذر عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً وقد رُوي أنَّه ماتَ كلُّ من كانَ معه في السَّفينةِ غير أبنائه وأزواجهم أو هم الذين بقوا مُتناسلين إلى يوم القيامة قال قتادة النَّاسُ كلُّهم من ذُرِّيةِ نوحٍ عليه السَّلامُ وكان له ثلاثةُ أولادٍ سامٌ وحام ويافث فسام أبو العربِ وفارسَ والرُّومِ وحامٌ أبُو السودانِ من المشرق إلى المغربِ ويافثٌ أبو التُّركِ ويأجوجَ ومأجوجَ

78

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين} من الأمم

79

{سلام على نُوحٍ} أي هذا الكلامُ بعينه وهو واردٌ على الحكاية كقولك قرأتُ سورة أنزلناها والمعنى يُسلِّمون عليه تسليماً ويدعُون له على الدَّوام أمَّةً بعد أمَّةٍ وقيل ثمة قولٌ مقدَّرٌ أي فقلنا وقيل ضُمِّن تركنا معنى قلنا وقوله تعالى {فِى العالمين} متعلِّقٌ بالجارِّ والمجرورِ ومعناهُ الدُّعاء بثباتِ هذه التَّحيةِ واستمرارِها أبداً في العالمين من الملائكة والثَّقلينِ جميعاً وقوله تعالى

80

{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} تعليلٌ لما فُعل به عليه الصلاة والسلام من التَّكرمةِ السَّنيةِ من إجابةِ دُعائهِ أحسنَ إجابةٍ وإبقاء ذُرِّيتهِ وتَبقيةِ ذكره الجميلِ وتسليم العالمين عليه إلى آخرِ الدَّهرِ بكونه من زُمرة المعروفين بالإحسان الرَّاسخينَ فيه وأنَّ ذلك من قبيل مُجازاة الإحسانِ بالإحسانِ وَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما ذُكر من الكراماتِ السَّنيةِ التي وقعتْ جزاءً له عليه الصلاة والسلام وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمُشار إليه للإيذان بعلو رتبتِه وبُعدِ منزلتِه في الفضل والشَّرفِ والكافُ متعلِّقةٌ بما بعدها أي مثلَ ذلك الجزاءِ الكامل نجزِي الكاملينَ في الاحسان لاجزاء أدنى منه وقوله تعالى

81

{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} تعليل لكونهِ من المحسنين بخلوصِ عبوديته وكمال إيمانه وفيه من الدلالة على جلالة قدرهما مالا يخفى

82

{ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاخرين} أي المغايرين لنوحٍ وأهله وهُم كفار وقومه أجمعين

83

{وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ} أي ممَّن شايعه في أصول الدِّينِ {لإبراهيم} وإنِ اختلفتْ فروعُ شرائعهما ويجوزُ أن يكون بين شريعتيهما اتِّفاقٌ كلي او اكثرى وعن ابن عباس رضي الله عنهما من أهل دينهِ وعلى سنَّتهِ أو ممَّن شايعه على التَّصلُّبِ في دينِ الله ومصابرةِ المكذِّبين وما

الصافات 84 90 كان بينهما إلا نبيَّانِ هود وصالح عليهم السلام وكان بين نوح وإبراهيمَ ألفانِ وستمائةٍ وأربعون سنةً

84

{إِذْ جَاء رَبَّهُ} منصوب باذكُر أو متعلقٌ بما في الشِّيعةِ من معنى المُشايعةِ {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي من آفات القلوب أو من العلائقِ الشَّاغلةِ عن التَّبتلِ إلى الله عزَّ وجلَّ ومعنى المجيء به ربَّه إخلاصُه له كأنَّه جاء به متحفاً إيَّاهُ بطريق التَّمثيلِ

85

{إذ قال لابيه وقومه مَاذَا تَعْبُدُونَ} بدلٌ من الأولى أو ظرفٌ لجاء أو لسليمٍ أي أيَّ شيءٍ تعبدُونه

86

{أئفكا آلهة دُونَ الله تُرِيدُونَ} أي أتريدون آلهةً من دونِ الله إفكاً أي للإفكِ فقدَّم المفعولَ على الفعل للعنايةِ ثمَّ المفعولَ له على المفعولِ به لأنَّ الأهمَّ مكافحتُهم بأنَّهم على إفكٍ وباطل في شركهم ويجوزُ أن يكونَ إفكاً مفعولاً به بمعنى أتريدون إفكاً ثم يفسَّر الإفكُ بقوله آلهةً من دونِ الله دلالةً على أنَّها إفكٌ في نفسها للمبالغةِ أو يراد بها عبادتُها بحذفِ المضافِ ويجوزُ أنْ يكون حالاً بمعنى آفكينَ

87

{فَمَا ظنُّكم بِرَبّ العالمين} أي بمن هو حقيقٌ بالعبادة لكونه ربًّا للعالمين حتَّى تركتُم عبادته خاصَّةً وأشركتُم به أخسَّ مخلوقاته أو فما ظنُّكم به أي شيء هو من الأشياء حتى جعلتُم الأصنام له اندادا او فماظنكم به ماذا يفعل بكم وكيف يعاقبكم بعد ما فعلتم ما فعلتُم من الإشراكِ به

88

{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النجوم} قيل كانت له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حُمَّى لها نوبةٌ معيَّنةٌ في بعض ساعات اللَّيلِ فنظر ليعرفَ هل هي تلك السَّاعةُ فإذا هي قد حضرتْ

89

{فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ} وكان صادقاً في ذلك فجعلَه عُذراً في تخلُّفهِ عن عيدهم وقيل أرادَ إنِّي سقيمُ القلبِ لكفرِكم وقيل نظر في علمِها أو في كتبها أو في أحكامها ولا منعَ من ذلك حيثُ كان قصدُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إيهامَهم حين أرادُوا أنْ يخرجُوا به عليه الصلاة والسلام الى معيدهم ليتركُوه فإنَّ القومَ كانوا نجَّامين فأوهمهم أنَّه قد استدل بأمارة في النُّجوم على أنَّه سقيمٌ أي مشارف للسقمِ وهو الطَّاعُونُ وكان أغلبَ الأسقامِ عليهم وكانوا يخافون العدوى ليتفرَّقوا عنه فهربُوا منه الى معبدهم وتركوه في بيت الأصنامِ وذلك قوله تعالى

90

{فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أي هاربين مخافة العدوى

الصافات

91

91 - 96 {فراغ إلى آلهتهم} أي ذهب إليها في خيفة وأصله الميلُ بحيلةٍ {فَقَالَ} للأصنام استهزاءً {أَلا تَأْكُلُونَ} أي من الطَّعامِ الذي كانوا يصنعونَه عندها لتبرِّكَ عليه

92

{مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ} أي بجوابي

93

{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ} فمالَ مستعلياً عليهم وقوله تعالى {ضَرْباً باليمين} مصدر مؤكِّدٌ لراغَ عليهم فإنَّه بمعنى ضربَهم أو لفعلٍ مضمرٍ هُو حالٌ من فاعلِه أي فراغ عليهم يضربُهم ضرباً أو هو الحالُ منه على أنه مصدرٌ بمعنى الفاعلِ أي فراغَ عليهم ضارباً باليمين أي ضرباً شديداً قويًّا وذلك لأنَّ اليمينَ أقوى الجارحتينِ وأشدُّهما وقوَّةُ الآلةِ تقتضي قُوَّة الفعلِ وشدَّته وقيل بالقُوَّةِ والمتانةِ كما في قوله ... إذَا مَا رايةٌ رُفعتْ لمجده ... تَلقَّاها عُرابةُ باليمينِ ... أي بالقُوَّة وعلى ذلك مدارُ تسميةِ الحلفِ باليمينِ لأنَّه يُقوِّي الكلامَ ويؤكِّدُه وقيل بسبب الحلفِ وهو قولُه تعالى وتالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم

94

{فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ} أي المأمورون بإحضاره عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ما رجعوا من عيدهم إلى بيت الأصنام فوجدُوها مكسورةً فسألوا عن الفاعلِ فظنُّوا أنه عليه الصلاةُ والسلام فعلَه فقيل فأتُوا به {يَزِفُّونَ} حالٌ من واوِ أقبلُوا أي يُسرعون من زَفيفِ النَّعامِ وقُرىء يَزِفُون من أزفَ إذا دخلَ في الزَّفيف أو من أزفّه أي حملَه على الزَّفيفِ أي يزف بعضُهم بعضاً ويُزَفُّون على البناء للمفعولِ أي يُحملون على الزَّفيف ويَزِفون من وزَف يزِف إذا أسرع ويُزَفُّون من زفّاه إذا حداه كأنَّ بعضَهم يزفُو بعضاً لتسارعهم إليه عليه الصلاة والسلام

95

{قَالَ} أي بعدما أتَوا به عليه الصلاة والسلام وجرى بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم من المحاوراتِ ما نطقَ به قولُه تعالى قالوا اانت فعلت هذا بآلهتنا يا ابراهيم إلى قوله تعالى لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} ما تنحتونَه من الأصنام وقولِه تعالى

96

{والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} حالٌ من فاعل تعبدون مؤكِّدةٌ للإنكار والتَّوبيخِ أي والحالُ أنَّه تعالى خلقكم وخلقَ ما تعملونَهُ فإنَّ جواهرَ أصنامِهم ومادتها بخلقه تعالى وشكلها وإن كان بفعلهم لكنَّه بإقداره تعالى إيَّاهم عليه وخلقه ما يتوقَّفُ عليه فعلُهم من الدَّواعي والعدد والأسباب وما تعملون إمَّا عبارةٌ عن الأصنامِ فوضعه موضعَ ضميرِ ما تنحِتون للإيذان بأنَّ مخلوقيَّتها لله عزَّ وجلَّ ليس من حيثُ نحتُهم لها فقط بل من حَيثُ سائرُ أعمالهم أيضاً من التَّصويرِ والتَّحليةِ والتَّزيينِ ونحوها وإمَّا على عمومهِ فينتظم الاصنام انتظاما

الصافات 97 102 أوليًّا مع ما فيه من تحقيقِ الحقِّ ببيانِ أنَّ جميعَ ما يعملونَهُ كائناً ما كان مخلوقٌ له سبحانه وقيل ما مصدريةٌ أي عملَكم على أنَّه بمعنى المفعولِ وقيل بمعناه فإنَّ فعلَهم إذا كان بخلقِ اللَّهِ تعالى كان مفعولهم المتوقِّفُ على فعلهم أولى بذلك

97

{قَالُواْ ابنوا لَهُ بنيانا فَأَلْقُوهُ فِى الجحيم} أي في النَّارِ الشَّديدةِ الاتِّقادِ من الجحمةِ وهي شدَّةُ التأجح واللاَّم عوضٌ من المضاف إليه أي جحيم ذلك البنيانِ وقد ذكر كيفية بنائهم له في سورة الأنبياء

98

{فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً} فإنَّه عليه الصلاة والسلام لما قهرهم بالحجَّةِ وألقمهم الحجرَ قصدُوا ما قصدُوا لئلاَّ يظهرَ للعامَّةِ عجزُهم {فجعلناهم الاسفلين} الأذلِّين بإبطال كيدِهم وجعله برهاناً نيِّراً على علو شأنِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بجعلِ النار عليه بردا وسلاما

99

{وَقَالَ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى} أي مهاجرٌ إلى حيثُ أمرني ربِّي كما قال إنِّي مهاجرٌ إلى ربِّي وهو الشَّامُ أو إلى حيث أتجرَّدُ فيه لعبادته تعالى {سَيَهْدِينِ} أي إلى ما فيه صلاحٌ ديني أو إلى مقصدي وبت القول بذلك لسبقِ الوعدِ أو لفرط توكِّله وللبناء على عادته تعالى معه ولم يكُن كذلك حالُ موسى عليه السلام حيث قال عسى ربى أن يَهْدِيَنِى سَوَاء السبيل ولذلك أتى بصيغة التَّوقُّعِ

100

{رَبّ هَبْ لِى مِن الصالحين} أي بعضَ الصَّالحينَ يعينني على الدَّعوةِ والطَّاعةِ ويؤنسني في الغُربةِ يعني الولد لأن لفظَ الهبة على الإطلاقِ خاصٌّ به وإن كان قد وردَ مقيَّداً بالأخوةِ في قوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رحمتنا أخاه هرون نَبِيّاً ولقوله تعالى

101

{فبشرناه بغلام حَلِيمٍ} فإنَّه صريحٌ في أن المبشربه عينُ ما استوهبه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ولقد جمع فيه بشاراتٌ ثلاثٌ بشارةُ انه غلام وأنه يبلع او ان الحُلُم وأنَّه يكونُ حَليماً وأيُّ حِلْمٍ يُعادل حلمَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين عرض عليه يا أبت أبوه الذبح فقال يأبت افعل مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إن شاء الله من الصابرين وقيل ما نعتَ اللَّهُ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بأقلَّ ممَّا نعتهم بالحِلْمِ لعزَّةِ وجودهِ غيرَ إبراهيمَ وابنه فإنَّه تعالى نعتهما به وحالهما المحكيَّةُ بعد أعدلُ بينةٍ بذلك والفاء في قوله تعالى

102

{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعى} فصيحةٌ معربة عن مقدَّرٍ قد حُذف تعويلاً على شهادةِ الحال وإيذاناً بعدمِ الحاجة إلى التصريح

الصافات 103 به لاستحالةِ التَّخلُّفِ والتَّأخُّرِ بعد البشارة كما مرَّ في قوله تعالى فلما رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وفي قوله تعالى فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه أي فوهبناه له فنشأ فلمَّا بلغَ رتبة ان يسعى معى في أشغالهِ وحوائجهِ ومعه متعلق بمحذوف ينبئ عنه السَّعيُ لا بنفسِه لأنَّ صلة المصدرِ لا تتقدَّمُه ولا يبلغ لأنَّ بلوغَهما لم يكن معاً كأنَّه لما ذُكر السَّعيُ قيل مع مَن فقيل مَعَه وتخصيصُه لأنَّ الأبَ أكملُ في الرِّفقِ والاستصلاحِ فلا يستسعيه قبل أوانهِ أو لأنَّه استوهبه لذلك وكان له يومئذٍ ثلاثَ عشرة سنةً {قَالَ} أيْ إبراهيمُ عليهِ السلام {يا بني إِنّى أرى فِى المنام أَنّى أَذْبَحُكَ} أي أرى هذه الصُّورة بعينها أو ما هذه عبارتُه وتأويلُه وقيل إنه رأى ليلةَ التَّرويةِ كأنَّ قائلاً يقول له إنَّ الله يأمُرك بذبحِ ابنِك هذا فلمَّا أصبحَ رَوَّى في ذلك من الصَّباحِ إلى الرَّواحِ أمنَ اللَّهِ هذا الحُلُم أم من الشَّيطانِ فمن ثمة سُمِّي يوم التَّرويةِ فلمَّا أمسى رأى مثلَ ذلك فعرفَ أنَّه من اللَّهِ تعالى فمن ثمَّة سمِّي يومَ عرفة ثم رأى مثله في اللَّيلةِ الثَّالثةِ فهمَّ بنحرهِ فسمِّي اليوم يومَ النَّحرِ وقيل إنَّ الملائكةَ حين بشَّرته بغلامٍ حليمٍ قال إذن هو ذبيح الله فلمَّا وُلد وبلغ حدَّ السَّعيِ معه قيل له أوفِ بنذرك والأظهرُ الأشهرُ أنَّ المخاطَب إسماعيلُ عليه السَّلامُ إذ هُو الذي وُهب إثرَ المُهاجرةِ ولأنَّ البشارة بإسحق بعده معطوفٌ على البشارةِ بهذا الغلام ولقوله صلى الله عليه وسلم أنا ابنُ الذَّبيحين فأحدُهما جدُّه إسماعيلُ عليه السَّلامُ والآخرُ أبُوه عبدُ اللَّهِ فإنَّ عبد المطَّلبِ نذر أنْ يذبحَ ولداً أنْ سهَّل الله تعالى له حفرَ بئرِ زمزمٍ أو بلغ بنُوه عشرةً فلمَّا حصل ذلك وخرجَ السَّهمُ على عبدِ اللَّهِ فداهُ بمائةٍ من الإبلِ ولذلك سُنَّت الدِّيةُ مائةً ولأنَّ ذلك كان بمكَّة وكان قَرْنا الكبشِ معلَّقين بالكعبةِ حتَّى احترقا في أيَّامِ ابن الزُّبيرِ ولم يكن إسحق ثمة ولان بشارة إسحق كانت مقرونةً بولادةِ يعقوبَ منه فلا يُناسبه الأمرُ بذبحهِ مُراهِقاً وما رُوي أنه عليه الصلاةُ والسلام سئل عن النَّسب أشرفُ فقال يوسفُ صدِّيقُ اللَّهِ ابنُ يعقوبَ اسرائيل الله ابن اسحق ذبيحِ اللَّهِ ابنِ إبراهيمَ خليلِ اللَّهِ فالصَّحيحُ أنَّه عليه الصلاةُ والسلام قال يوسفُ بنُ يعقوبَ بنِ اسحق بن ابراهيم الزوائد من الرَّاوي وما رُوي من أنَّ يعقوبَ كتب إلى يوسفَ مثلَ ذلك لم يثبت وقرئ إنِّيَ بفتح الياءِ فيهما {فانظر مَاذَا ترى} من الرَّأيِ وإنَّما شاوره فيه وهو أمرٌ محتومٌ ليعلمَ ما عنده فيما نَزلَ من بلاءِ اللَّهِ تعالى فيُثبِّت قدمَه إنْ جَزِعَ ويأمن عليه إنْ سلَّم وليُوطِّنَ نفسَه عليه فيُهون ويكتسبُ المثوبة عليه بالانقيادِ له قبل نزول وقرى ماذا تُري بضمِّ التَّاءِ وكسرِ الرَّاءِ وبفتحِها مبنياً للمفعول {قال يا أبت افعل مَا تُؤمَرُ} أي تُؤمر بهِ فحذف الجارُّ أوَّلاً على القاعدةِ المُطَّردةِ ثم حُذف العائدُ إلى الموصولِ بعد انقلابه منصوباً بإيصاله إلى الفعلِ أو حُذفا دفعةً أو افعل أمرك على إضافة المصدر إلى المفعولِ وتسمية المأمورِ به امرا وقرئ ما تؤمر به وصيغة المضارعِ للدِّلالةِ على أنَّ الأمرَ متعلِّقٌ به متوجِّهٌ إليه مستمرٌّ إلى حينِ الامتثالِ به {سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله مِنَ الصابرين} على الذَّبحِ أو على قضاء الله تعالى

103

{فَلَمَّا أَسْلَمَا} أي استسلما لأمرِ الله تعالى وانقادا وخَضَعا له يقال سَلَّم لأمرِ الله وأسلَم واستسلَم بمعنى واحد وقد قرئ بهنَّ جميعاً وأصلُها من قولك سلم هذا الفلان إذا خلُص له ومعناه سَلِمَ من أنْ يُنازع فيهِ وقولهم سلَّم لأمرِ الله وأسلمَ له منقولانِ منه ومعناهما أخلصَ نفسَه الله

الصافات 104 109 وجعلها سالمةً له وكذلك معنى استسلَم استخلصَ نفسَه له تعالى وعن قتادة رضى الله عنه في أسلما أسلَمَ إبراهيمُ ابنَه وإسماعيلُ نفَسه {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} صرعَه على شقِّه فوقع جبينُه على الأرض وهو أحدُ جانبَيْ الجبهةِ وقيل كبَّه على وجههِ بإشارتهِ كيلا يرى منه ما يُورِث رقَّةً تحولُ بينه وبين أمرِ الله تعالى وكان ذلك عند الصَّخرةِ من مِنَى وقيل في الموضعِ المُشرف على مسجدِ مِنَى وقيل في المنحرِ الذي يُنحر اليوم فيه

104

{وناديناه أن يا إبراهيم} {قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا} بالعزم على الإتيانِ بالمأمور به ترتيب مقدماتهِ وقد رُوي أنَّه أمرَّ السِّكِّينَ بقوَّتهِ على حلقهِ مراراً فلم يقطعْ ثم وضع السِّكِّينَ على قفاه فانقلبَ السِّكِّينُ فعند ذلك وقع النداء جواب لمَّا محذوفٌ إيذاناً بعدم وفاء التَّعبيرِ بتفاصيله كأنَّه قيل كانَ ما كانَ مما لا يحيطُ به نطاقُ البيانِ من استبشارهما وشكرِهما لله تعالَى عَلى ما أنعمَ به عليهما من دفعِ البلاء بعد حلولهِ والتَّوفيقِ لما لم يُوفَّقْ أحدٌ لمثله وإظهارِ فضلهما بذلك على العالمين مع إحراز الثَّوابِ العظيمِ إلى غيرِ ذلك {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} تعليلٌ لتفريجِ تلك الكُربةِ عنهما بإحسانهما واحتجَّ به من جوَّز النَّسخَ قبل وقوع المأمور به فإنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان مأموراً بالذَّبحِ لقوله تعالى افعل مَا تُؤمَرُ ولم يحصلْ

106

{إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين} الابتلاء البين الذي يتميَّز فيه المخلِصُ عن غيره أو المحنةُ البيِّنةُ الصُّعوبةِ إذ لا شئ أصعبُ منها

107

{وفديناه بِذِبْحٍ} بِما يُذبح بدله فيتمُّ به الفعل {عظِيمٌ} أي عظيمِ الجثَّة سمينٍ أو عظيم القدر لأنَّه يَفدي به اللَّهُ نبيًّا ابنِ نبيَ من نسله سيِّدُ المُرسلينَ قيل كان ذلك كبشاً من الجنَّةِ عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه الكبشُ الذي قرَّبه هابيلُ فتُقبِّل منه وكان يَرْعى في الجنَّةِ حتَّى فُدي به إسماعيلُ عليه السَّلامُ وقيل فُدي بوعلٍ أُهبط عليه من ثَبير ورُوي أنه هربَ من إبراهيمَ عليه السَّلامُ عند الجمرةِ فرماه بسبع حصياتٍ حتَّى أخذه فبقي سنَّةً في الرَّميِ ورُوي أنَّه رَمَى الشَّيطان حين تعرَّض له بالوسوسةِ عند ذبحِ ولده ورُوي أنَّه لمَّا ذبحه قال جبريلُ عليه السَّلامُ اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ فقال الذَّبيحُ لا إله إلا الله والله أكبر فقالَ إبراهيمُ اللَّهُ أكبرُ ولِلَّهِ الحمدُ فبقي سُنَّةً والفادي في الحقيقة هو إبراهيمُ وإنَّما قيل وفدينَاهُ لأنَّه تعالى هو المُعطي له والآمرُ به على التَّجوزِ في الفداءِ أو الإسنادِ

108

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين سلام على إبراهيم} قد سلف بيانُه في خاتمةِ قصة نوح عليه السلام

الصافات

110

110 - 116 {كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين} ذلك إشارةٌ إلى إبقاءِ ذكره الجميل فيما بين الأممِ لا إلى ما أُشير إليه فيما سبق فلا تكرارَ وعدم تصديرِ الجملةِ بإنا للاكتفاءِ بما مرَّ آنِفاً

111

{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} الراسخين في الإيمان على وجهة الإيقان والاطمئنان

112

{وبشرناه بإسحاق نَبِيّاً مّنَ الصالحين} أي مقضيًّا بنبُّوتهِ مقدَّراً كونه من الصَّالحينَ وبهذا الاعتبار وقَعا حالينِ ولا حاجةَ إلى وجود المبشَّر به وقت البشارةِ فإنَّ وجود ذي الحالِ ليس بشرطٍ وإنَّما الشَّرطُ مقارنةُ تعلُّق الفعل به لاعتبارِ معنى الحالِ فلا حاجةٍ إلى تقديرِ مضافٍ يجعل عاملاً فيهما مثل وبشرناه بوجود إسحاقَ نبيًّا من الصَّالحين ومع ذلكَ لا يصيرُ نظيرَ قوله تعالى فادخلوها خالدين فإنَّ الدَّاخلين كانوا مقدِّرين خلودهم وقت الدُّخولِ وإسحاقُ عليهِ السَّلامُ لم يكُنْ مقدِّراً نبُّوة نفسه وصلاحَها حين ما يُوجد ومن فسَّر الغلامَ بإسحاقَ جعل المقصودَ من البشارةِ نبوتِه عليه الصلاةُ والسلامُ وفي ذكر الصَّلاحِ بعد تعظيمٍ لشأنهِ وإيماءً إلى أنَّه الغايةُ لها لتضمُّنِها معنى الكمالِ والتَّكميلِ بالفعلِ على الإطلاقِ

113

{وباركنا عَلَيْهِ} على إبراهيمَ في أولادِه {وعلى إسحاق} بأنْ أخرجنا من صلبهِ أنبياءَ بني إسرائيلَ وغيرَهم كأيُّوبَ وشُعيبَ عليهم السَّلامُ أو أفضْنا عليهما بركاتِ الدين والدنيا وقرئ وبرَّكنا {وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} في عملهِ أو لنفسِه بالإيمانِ والطَّاعةِ {وظالم لّنَفْسِهِ} بالكفر والمَعَاصي {مُّبِينٌ} ظاهرٌ ظلمُه وفيه تنبيهٌ على أنَّ النَّسبَ لا تأثيرَ له في الهدايةِ والضَّلالِ وأنَّ الظُّلمَ في أعقابهما لا يعود عليهما بتقيصه ولاعيب

114

{وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وهارون} أي أنعمنا عليهما بالنبوَّة وغيرِها من النِّعم الدِّينيةِ والدُّنيويةِ

115

{ونجيناهما وَقَوْمَهُمَا} وهم بنُو إسرائيلَ {مِنَ الكرب العظيم} هو مَلَكةُ آل فرعونَ وتسلطهم عليهم بألوان الغَشَمِ والعذاب كما في قوله تعالى وَإِذْ أنجيناكم مّنْ آل فِرْعَونَ وقيل هو الغَرَقُ وهو بعيد لأنَّه لم يكن عليهم كَرباً ومشقةً

116

{ونصرناهم} أي إيَّاهما وقومَهما على عدوِّهم {فَكَانُواْ} بسبب ذلك {هُمُ الغالبين} عليهم غلبةً لا غايةَ وراءها بعد أنْ كان قومُهما في أسرِهم وقَسْرِهم مقهورين تحت أيديهم العادية يسومُونهم

الصافات 117 125 سوء العذاب وهذه التَّنجيةُ وإن كانتْ بحسب الوجودِ مقارنةً لما ذُكر من النَّصرِ والغَلَبة لكنَّها لما كانتْ بحسب المفهومِ عبارة عن التَّخليصِ من المكروهِ بدئ بها ثمَّ بالنَّصر الذي يتحقَّقُ مدلُوله بمحضِ تنجيةِ المنصورِ من عدوِّه من غير تغليبهِ عليه ثم بالغلبةِ لتوفيةِ مقام الامتنانِ حقَّه بإظهار أنَّ كلَّ مرتبةٍ من هذه المراتبِ الثَّلاثِ نعمةٌ جليلةٌ على حيالِهَا

117

{وآتيناهما} بعد ذلك {الكتاب المستبين} أي البليغَ في البيان والتَّفصيلِ وهو التَّوراةُ

118

{وهديناهما} بذلك {الصراط المستقيمَ} الموصِلَ إلى الحقِّ والصَّوابِ بما فيه من تفاصيلِ الشَّرائعِ وتفاريعِ الأحكامِ

119

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الأخرين} {سلام على موسى وهارون} أي أبقينا فيما بين الأممِ الآخرين هذا الذِّكرَ الجميلَ والثَّناءَ الجزيلَ

121

{إِنَّا كَذَلِكَ} الجزاءِ الكاملِ {نَجْزِى المحسنين} الذين هُما من جملتهم لاجزاء قاصراً عنه

122

{إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} سبق بيانُه

123

{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين} هو إلياسُ بنُ ياسينَ من سبط هرون أخي مُوسى عليهم السلام بُعث بعده وقيل إدريسُ لأنه قرئ مكانه إدريس وإدراس وقرئ إيليس وقرئ إلياسَ بحذفِ الهمزة

124

{إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ} أي عذابَ الله تعالى

125

{أَتَدْعُونَ بَعْلاً} أتعبدونَه وتطلبون الخيرَ منه وهو اسمُ صنمٍ كان لأهل بكَّ من الشَّأمِ وهو البلد المعروفُ اليوم ببَعْلَبَكَّ قيل كان من ذهبٍ طوله عشرون ذراعاً وله أربعةُ أوجهٍ فتُنوا به وعظَّموه حتى أخدمُوه أربعمائة سادنٍ وجعلوهم أنبياءَ فكان الشَّيطانُ يدخل جوفَه ويتكلَّم بشريعة الضَّلالةِ والسَّدنةُ يحفظونَها ويُعلِّمونها النَّاسَ وقيل البَعْلُ الرَّبُّ بلغة اليمنِ أي أتعبدون بعضَ البُعولِ {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين}

أي وتتركون عبادته وقد أُشير إلى المقتضى للإنكارِ المعنيِّ بالهمزة ثم صرَّح به بقوله تعالى

126

{الله ربكم ورب آبائكم الاولين} بالنَّصبِ على البدليةِ من أحسن الخالقين وقرئ بالرَّفعِ على الابتداءِ والتَّعرُّضُ لذكرِ ربوبيَّتهِ تعالى لآبائهم لتأكيدِ إنكارِ تركهِم عبادته تعالى والإشعارِ ببُطلان آراءِ آبائهم أيضاً

127

{فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ} بسبب تكذيبهم ذلك {لَمُحْضَرُونَ} أي العذابَ والإطلاقُ للاكتفاء بالقرائنِ على أنَّ الإحضارَ المطلقَ مخصوص بالشَّرِّ عُرفاً

128

{إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} استثناء من ضمير مُحضرون

129

{وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين سلام على إِل يَاسِين} هو لغة في الياسَ كسيناءَ في سينينَ وقيل هو جمعٌ له أُريد به هو وأتباعُه كالمهلَّبين والخُبَيبين وفيه أنَّ العَلَم إذا جُمع يجبُ تعريفُه كالمثالين وقرئ بإضافة آلِ إلى ياسينَ لأنَّهما في المصحفِ مفصولانِ فيكونُ ياسينَ أبا إلياس

131

{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} مرَّ تفسيرُه

133

{وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين إِذْ نجيناه} أي اذكُر وقتَ تنجيتِنا إيَّاه {وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الغابرين} أي الباقين في العذابِ أو الماضين الهالكين {ثُمَّ دَمَّرْنَا الاخرين} فإنَّ في ذلك شواهدَ على جليةِ أمرِه وكونِه من جملة المرسلين

الصافات 137 145

137

{وَإِنَّكُمْ} يا أهلَ مكَّة {لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ} على منازلهم في متاجرِكم إلى الشَّأمِ وتشاهدون آثارَ هلاكهم فإنَّ سدومَ في طريق الشَّأمِ {مُّصْبِحِينَ} داخلينَ في الصَّباحِ

138

و {بالليل} أي ومساء أونهارا أو ليلا ولعلَّها وقعت بقرب منزلٍ يمرُّ بها المرتحلُ عنه صباحاً والقاصدُ له مساءً {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتَّى تعتبرُوا به وتخافوا أنْ يُصيبكم مثلُ ما أصابهم

139

{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين} وقرئ بكسر النُّونِ

140

{إِذْ أَبَقَ} أي هربَ وأصله الهربُ من السَّيدِ لكن لمَّا كان هربُه من قومه بغير إذن ربِّه حسُن إطلاقُه عليه {إِلَى الفلك المشحون} أي المملوءِ

141

{فساهم} فقارعَ أهلَه {فَكَانَ مِنَ المدحضين} فصار من المغلوبينَ بالقُرعةِ وأصله المزلق عن مقام الظفر رُوي أنه عليه الصلاةُ والسلام لمَّا وعدَ قومَه بالعذابِ خرجَ من بينهم قبل أنْ يأمرَه الله تعالى به فركبَ السَّفينةَ فوقفتْ فقالوا فيها عبدٌ آبقٌ فاقترعُوا فخرجت القُرعةُ عليه فقال أنا الآبقُ ورَمَى بنفسه في الماءِ

142

{فالتقمه الحوت} فابتعله من اللُّقمةِ {وَهُوَ مُلِيمٌ} داخلٌ في المَلامةِ أو آتٍ بما يُلام عليه أو مليم نفسه وقرئ مَليم بالفتح مبنيًّا من لِيم كمَشيب في مشُوب

143

{فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} الذَّاكرينَ الله كثيراً بالتَّسبيحِ مدَّة عمره أو في بطنِ الحوتِ وَهُوَ قوله لاَ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين وقيل من المصلِّين فإنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان كثيرَ الصَّلاةِ في الرَّخاءِ

144

{لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} حيًّا وقيل ميِّتاً وفيه حثٌّ على إكثارِ الذِّكرِ وتعظيمٌ لشأنهِ ومن أقبل عليه في السَّراءِ أُخذ بيدِه عند الضَّرَّاء

145

{فنبذناه بالعراء} بأن حملنا الحوتَ على لفظه بالمكان الخالي عمَّا يُغطِّيه من شجرٍ أو نبتٍ رُوي

الصافات 146 149 أنَّ الحوتَ سار مع السفينة رافعا رأسا يتنفسُّ فيه يونسُ عليه السلام ويسبِّحُ ولم يفارقْهم حتى انتهو إلى البرِّ فلفظَه سالماً لم يتغير منه شئ فأسلمُوا ورُوي أنَّ الحوتَ قذفَه بساحل قريةٍ من المَوصلِ واختُلف في مقدارِ لبثه فقيل أربعون يوماً وقيل عشرون وقيل سبعةٌ وقيل ثلاثةٌ وقيل لم يلبثْ إلا قليلاً ثم أُخرج من بطنهِ بعيد الوقتِ الذي التُقمَ فيه رَوى عطاءٌ أنَّه حين ابتعله أوحى اللَّهُ تعالى إلى الحوتِ إنِّي جعلتُ بطنك له سجناً ولم أجعله لك طعاماً {وَهُوَ سَقِيمٌ} ممَّا ناله قيل صار بدنُه كبدنِ الطِّفلِ حين يُولد

146

{وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ} أي فوقه مظلَّة عليه {شَجَرَةً مّن يَقْطِينٍ} وهو كل ما ينبسطُ على الأرضِ ولا يقوم على ساقٍ كشجر البطِّيخ والقِثَّاءِ والحنظلِ وهو يَفْعيلٌ من قَطَن بالمكانِ إذا أقام به والأكثرون على أنَّه الدُّبَّاءُ غطَّته بأوراقِها عن الذُّبابِ فإنَّه لا يقعُ عليه ويدلُّ عليه أنَّه قيلَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم إنَّك تحبُّ القرعَ قال أجلْ هي شجرةُ أخي يونس وقيل هي التِّينُ وقيل المَوزُ تغطَّى بورقهِ واستظلَّ بأغصانهِ وأفطر على ثماره وقيل كان يستظلُّ بالشَّجرةِ وكانت وعلةٌ تختلفُ إليه فيشربُ من لبنها

147

{وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ} هم قومُه الذين هرب منهم وهم أهل نَيْنَوى والمرادُ به إرسالُه السَّابقُ أَخبر أولاً بأنَّه من المرسلين على الاطلاقِ ثم أخبرَ بأنَّه قد أُرسل إلى أمةٍ جمَّةٍ وكأنَّ توسيطَ تذكير وقت هربِه إلى الفُلكِ وما بعده بينهما لتذكير سببهِ وهو ما جَرَى بينَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبين قومِه من إنذاره إيَّاهم عذابَ الله تعالى وتعيينِه لوقت حلوله وتعلُّلِهم وتعليقِهم لإيمانِهم بظهور أماراتِه كما مرَّ تفصيلُه في سُورة يونسَ ليعلم أنَّ إيمانَهم الذي سيحكى بعد لم يكُن عقيبَ الإرسالِ كما هو المتبادَرُ من ترتيبِ الإيمانِ عليه بالفاء بل بعد اللَّتيا والَّتي وقيل هو إرسالٌ آخرُ إليهم وقيل إلى غيرِهم وليس بظاهرٍ {أَوْ يَزِيدُونَ} أي في مَرأى النَّاظرِ فإنَّه إذا نظر إليهم قال إنَّهم مائةِ ألفٍ أو يزيدونَ والمراد هو الوصف بالكثرة وقرئ بالواو

148

{فآمنوا} أي بعد ما شاهدُوا علائمَ حلول العذابِ إيماناً خالصا {فمتعناهم} أي بالحياة الدُّنيا {إلى حِينٍ} قدَّره الله سبحانه لهم قيل ولعل عدمَ ختمِ هذه القصَّةِ وقصَّةِ لوطٍ بما خُتم به سائرُ القصصِ للتَّفرقةِ بينهما وبين أربابِ الشَّرائعِ وأُولي العزمِ من الرُّسلِ أو اكتفاء بالتسليم بالشامل لكلِّ الرُّسلِ المذكورينَ في آخرِ السُّورةِ

149

{فاستفتهم} أمرِ الله عزَّ وجلَّ في صدرِ السُّورة الكريمةِ رسوله صلى الله عليه وسلم بتبكيتِ قُريشٍ وإبطالِ مذهبِهم في إنكارِ البعثِ بطريقِ الاستفتاءِ وساقَ البراهينَ القاطعةَ النَّاطقة بتحقُّقةِ لا محالة وبيَّن وقوعَه وما سيلقَونه عند ذلكَ من فُنون العذابِ واستثنى منهم عبادَه المُخلَصين وفصَّل ما لهم من النَّعيمِ المقيمِ ثم ذكر أنَّه قد ضلَّ من قبلهم أكثرُ الأوَّلينَ

الصافات 150 153 وأنَّه تعالى أرسلَ إليهم منذرين عل وجهِ الإجمالِ ثم أوردَ قصص كلِّ واحدٍ منهم على وجهِ التَّفصيلِ مبيِّناً في كل قصَّةِ منها أنَّهم من عبادِه تعالى واصفاً لهم تارةً بالإخلاصِ وأُخرى بالإيمانِ ثم أمره صلى الله عليه وسلم ههنا بتبكيتِهم بطريقِ الاستفتاءِ عن وجهِ أمرٍ منكرٍ خارج عن العقول بالكلِّيةِ وهي القسمةُ الباطلةُ اللازمةُ لما كانُوا عليه من الاعتقاد الزَّائغِ حيثُ كانُوا يقولون كبعض أجناس العربِ جُهينةَ وبني سلمةَ وخُزاعةَ وبني مَليحٍ الملائكةُ بناتُ الله والفاءُ لترتيبِ الأمرِ على ما سبق من كون أولئك الرُّسلِ الذين هم أعلامُ الخَلْقِ عليهم الصلاة والسلام عبادَه تعالى فإنَّ ذلك ممَّا يؤكِّدُ التَّبكيتَ ويُظهر بُطلانَ مذهبهم الفاسد ثم تبكيتُهم بما يتضمَّنُه كفرهم المذكورُ من الاستهانة بالملائكة بجعلهم إناثاً ثم أبطل أصلَ كفرهم المنطوي على هذينِ الكفرينِ وهو نسبةُ الولدِ إليه سبحانَه وتعالى عن ذلكَ علوَّاً كبيراً ولم ينظمه في سلكِ التَّبكيتِ لمشاركتهم النَّصارى في ذلك أي فاستخبرْهم {أَلِرَبّكَ البنات} اللاتي هن أوضعُ الجنسينِ {وَلَهُمُ البنون} الذين هم أرفعُهما فإنَّ ذلك ممَّا لا يقولُ به من له أدنى شئ من العقلِ وقوله تعالى

150

{أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إناثا} إضرابٌ وانتقالٌ من التبكيتِ بالاستفتاءِ السَّابقِ إلى التَّبكيتِ بهذا كما أُشير إليه أي بل أخلقنا الملائكةَ الذين هم من أشرفِ الخلائقِ وأبعدِهم من صفات الأجسامِ ورذائل الطَّبائعِ إناثاً والأُنوثةُ من أخسِّ صفاتِ الحيوانِ وقوله تعالى {وَهُمْ شاهدون} استهزاء بهم وتجهيل لهم كقولِه تعالى أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ وقوله تعالى مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والارض والا خلق أَنفُسِهِمْ فإنَّ أمثالَ هذه الامور لا تعلم بالمشاهدةِ إذ لا سبيلَ إلى معرفتِها بطريقِ العقلِ وانتفاء النَّقلِ ممَّا لا ريَب فيه فلا بُدَّ أنْ يكون القائل بأنوثتهم شاهداً عند خلقِهم والجملةُ إما حالٌ من فاعل خلقنا أي بل أخلقناهُم إناثاً والحالُ أنهم حاضرون حينئذٍ أو عطفٌ على خلقنا أي بل أهم شاهدون وقوله تعالى

151

{أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ ليقولون ولد الله} استثناف من جهته غيرُ داخلٍ تحت الأمر بالاستفتاء مسبوق لإبطالِ أصل مذهبِهم الفاسدِ ببيان أنَّ مبناهُ ليس إلاَّ الإفكُ الصَّريحُ والافتراء القبيحُ من غير أنْ يكونَ لهم دليلٌ أو شبهة قطعاً {وَإِنَّهُمْ لكاذبون} في قولِهم ذلك كَذِباً بيِّناً لا ريبَ فيه وقرئ ولدُ الله على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الملائكةُ ولدُه تعالَى عن ذلكَ عُلوَّاً كبيراً فإنَّ الولدَ فعل بمعنى مفعولٍ يستوي فيه الواحدُ والجمعُ والمذكَّرُ والمؤنَّثُ

153

{أَصْطَفَى البنات على البنين} إثباتٌ لإفكِهم وتقريرٌ لكذبِهم فيما قالوا ببيان استلزامه لأمر بيِّن الاستحالة هو اصطفاؤه تعالى البنات على النبين والاصطفاء أخذ صفوة الشئ لنفسه وقرئ بكسرِ الهمزةِ على حذفِ حرف الاستفهام

الصافات 154 158 ثقةً بدلالةِ القَرَائنِ عليهِ وجعله بدلاً من ولدَ الله ضعيفٌ وتقديرُ القولِ أي لكاذبونَ في قولِهم اصطفَى الخ تعسُّفٌ بعيدٌ

154

{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} بهذا الحكم الذي يَقضي ببطلانِه بديهةُ العقلِ

155

{أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} بحذفِ إحدى التاءين من تتذكرون وقرئ تذكُرون من ذَكَر والفاءُ للعطفِ على مقدَّرٍ أي ألا تلاحِظون ذلك فلا تتذكَّرون بطلانَهُ فإنَّه مركوزٌ في عقلِ كلِّ ذكيَ وغبيَ

156

{أَمْ لَكُمْ سلطان مُّبِينٌ} إضرابٌ وانتقالٌ من توبيخِهم وتبكيتِهم بما ذُكر إلي تبكيتِهم بتكليفِهم ما لا يدخُل تحتَ الوجودِ أصلاً أي بل ألكُم حجَّةٌ واضحةٌ نزلتْ عليكم من السَّماءِ بأنَّ الملائكةَ بناتُه تعالى ضرورةَ أنَّ الحكمَ بذلك لا بُدَّ له من سندٍ حسيَ أو عقلي وحيثُ انتفى كلاهُما فلا بُدَّ من سندٍ نقليَ

157

{فَأْتُواْ بكتابكم} النَّاطقِ بصَّحةِ دَعْواكم {إِن كُنتُمْ صادقين} فيها وفي هذه الآياتِ من الإنباءِ عن السُّخطِ العظيمِ والإنكارِ الفظيعِ لأقاويلهم والاستبعادِ الشَّديدِ لأباطيلِهم وتسفيِه أحلامِهم وتركيكِ عقولِهم وأفهامِهم مع استهزاءٍ بهم وتعجيبٍ من جهلِهم مَا لا يَخْفى عَلَى مَنْ تأمَّل فيها وقولُه تعالَى

158

{وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} التفاتٌ إلى الغَيبةِ للإيذانِ بانقطاعِهم عن الجوابِ وسقوطِهم عن درجةِ الخطابِ واقتضاءِ حالِهم أنْ يعرضَ عنهم وتُحكى جناياتُهم لآخرينَ والمرادُ بالجِنَّةِ الملائكةُ قالوا الجنسُ واحدً ولكنْ من خبث من الجن ومردوكان شرَّاً كله فهو شيطانٌ ومن طهر منهم ونسكَ وكان خيراً كله فهو مَلَكٌ وإنَّما عبَّر عنهم بذلك الاسمِ وَضْعاً منهم وتَقصيراً بهم مع عِظَمِ شأنِهم فيما بينَ الخلقِ أنْ يبلغُوا منزلةَ المناسبة التي أضافُوها إليهم فجعلهم هذا عبارةً عن قولَهم الملائكةُ بناتُ الله وإنَّما أُعيد ذكُره تمهيداً لما يعقُبه منْ قولِه تعالى {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي وبالله لقد علمتْ الجِنَّةُ التي عظَّموها بأنْ جعلُوا بينها وبينه تعالى نَسَباً وهم الملائكةُ أنَّ الكفرةَ لمحضرونَ النَّار معذَّبُون بها لكذبِهم وافترائِهم في قولِهم ذلك والمرادُ به المبالغةُ في التَّكذيبِ ببيانِ أنَّ الذين يدَّعي هؤلاء لهم تلك النِّسبةَ ويعلمون أنَّهم أعلمُ منهم بحقيقةِ الحالِ يكذبونهم في ذلك ويحكمُون بأنَّهم معذَّبون لأجلِه حُكماً مؤكَّداً وقيل إنَّ قوماً من الزَّنادقةِ يقولون الله تعالى وإبليسُ أخوانِ فالله هو الخيِّرُ الكريم وإبليس هوالشرير اللَّئيمُ وهو المرادُ بقوله تعالى وجعلوا بينه وبين الجنة نَسَباً قال الإمامُ الرَّازيُّ وهذا القولُ عندي أقربُ الأقاويلِ وهو مذهبُ المجوس القائلين بيزدان واهر من ويعبرون عنهما بالنور والظلمة وقال مجاهدٌ قالتْ قُريشٌ

الصافات 159 164 الملائكةُ بناتُ الله فقال ابو بكرٍ الصدِّيقِ رضيَ الله عنه فمنْ أمهاتهم تبكيتاً لهمُ فقالوا سَرَواتُ الجنِّ وقيل معنى جعلُوا بينه وبين الجِنَّةِ نَسَباً جعلُوا بينهما مناسبةً حيثُ أشركُوا به تعالى الجن في استحقاق العبادةِ فعلى هذه الأقاويلِ يجوزُ أنْ يكونَ الضَّميرُ في إنَّهم لمحضرون للجنَّة فالمَعنى لقد علمتِ الشَّياطينُ أنَّ الله تعالى يحضرهم النَّارَ ويُعذبهم بها ولو كانُوا مناسبينَ له تعالى أو شركاء في استحقاق العبادةِ لمَّا عذَّبهم والوجهُ هو الأوَّلُ فإنَّ قوله

159

{سبحان الله عما يصفون} حكايةٌ لتنزيهِ الملائكةِ إيَّاهُ تعالى عمَّا وَصَفه المشركونَ به بعد تكذيبِهم لهم في ذلكَ بتقديرِ قولٍ معطوفٍ على علمتْ وقولُه تعالى

160

{إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين} شهادةٌ منهم ببراءةِ المخلصينَ مِن أنْ يَصفُوه تعالَى بذلكَ متضمِّنة لتبرئِهم مِنْهُ بحكمِ اندراجِهم في زُمرة المُخلصين على أبلغِ وجهٍ وآكدِه على أنَّه استثناءٌ منقطعٌ من واوِ يصفُون كأنه قيل ولقد علمنت الملائكةُ أنَّ المشركينَ لمعذبون لقولهم ذلك وقالوا سبحان الله عمَّا يصفونَه به لكنْ عبادُ الله الذين من جملتهم برءاء من ذلكَ الوصفِ وقوله تعالى

161

{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ} {مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بفاتنين} تعليلٌ وتحقيقٌ لبراءةِ المخلصين ممَّا ذُكر ببيانِ عجزِهم عن إغوائِهم وإضلالِهم والالتفاتُ إلى الخطابِ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِ الكلامِ وما تعبدون عبارةٌ عن الشِّياطينِ الذين اغووهم وفي إيذانٌ بتبرئهم عنهم وعن عبادتِهم كقولِهم بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجنَّ وما نافيةٌ وأنتُم خطابٌ لهم ولمعبوديهم تغليباً وعلى متعلقة بفاتنينَ يقال فتنَ فلانٌ على فلانٍ امرأتَه أي أفسدَها عليه والمعنى فإنَّكم ومعبوديكم أيُّها المشركونَ لستُم بفاتنينَ عليه تعالى بإفسادِ عبادِه وإضلالِهم

163

{إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} منهم أي داخلُها لعلمه تعالى بأنَّه يصيرُ على الكفر بسوء اختيارِه ويصيرُ من أهل النَّارِ لا محالةَ وأما المخلصونَ منهم فأنتُم بمعزلٍ من إفسادِهم وإضلالِهم فهم لا جرم برءاء مُن أنْ يُفتتنوا بكم ويسلكُوا مسلككم في وصفِه تعالى بما وصفتُموه به وقرئ صالُ بضمِّ الَّلامِ على أنَّه جمعٌ محمول على معَنْى من قد سقط واوه لالتقاءِ السَّاكنينِ وقولُه تعالى

164

{وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} تبيينٌ لجلية أمرِهم وتَعيينٌ لحيِّزهم في موقفِ العُبودية بعد ما ذُكر من تكذيبِ الكَفَرةِ فيما قالُوا وتنزيه الله تعالى عن ذلك

الصافات 165 172 وتبرئةُ المخلصين عنه وإظهارٌ لقصور شأنهم وقمائتهم أي ومامنا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ في العبادةِ والانتهاء إلى إمرِ الله تعَالى مقصورٌ عليه لا يتجاوزُه ولا يستطيع ان يزيل عنه خُضوعاً لعظمتِه وخُشوعاً لهيبتِه وتواضُعاً لجلالِه كما رُوي فمنهم راكعٌ لا يقيُم صُلبَه وساجدٌ لا يرفعُ رأسَه قال ابن عباس رضي الله عنهما ما في السَّمواتِ موضعُ شبرٍ إلاَّ وعليه ملكٌ يصلِّي أو يسبِّح ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم قال أَطَّتِ السَّمَاءُ وحُقَّ لها أنْ تئطَّ والذي نفسي بيدِه ما فيها موضعُ أربعِ أصابعَ إلاَّ وفيه مَلَكٌ واضعٌ جبهَته ساجدٌ لله تعالى وقال السُّدِّيَّ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ في القُربةِ والمشاهدِة

165

{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصافون} في مواقفِ الطَّاعةِ ومواطن الخِدمة

166

{وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون} المقدِّسون لله سبحانه عن كل ما لا يليقُ بجنابِ كبريائِه وتحليةُ كلامِهم بفُنونِ التَّأكيدِ لإبراز أن صدورَه عنهم بكمالِ الرَّغبةِ والنَّشاطِ هذا هو الذي تقتضيهِ جزالةُ التنزيلِ وقد ذُكر في تفسير الآياتِ الكريمةِ وإعرابِها وجوهٌ أُخرُ فتأمَّلْ والله المُوفِّق

167

{وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ} أنْ هيَ المخففةُ منَ الثقيلة وضميرُ الشأنِ محذوفٌ والَّلامُ هي الفارقةُ أي إنَّ الشَّأنَ كانتْ قُريشٌ تقولُ

168

{لو أن عندنا ذكرا مّنَ الاولين} أي كتاباً من كُتب الأوَّلينَ من التَّوارةِ والإنجيلِ

169

{لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين} أي لأخلصنا العبادةَ لله تعالى ولَما خالفنا كما خالفُوا وهذا كقولِهم لئنْ جاءنا نذير لنكونَّن أهدى من إِحدى الأممِ والفاءُ في قولِه تعالى

170

{فَكَفَرُواْ بِهِ} فصيحةٌ كما في قوله تعالى فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق أي فجاءَهُم ذكرٌ وأيُّ ذكرٍ سيِّدُ الأذكارِ وكتابٌ مُهيمنٌ على سائرِ الكُتبِ والأسفارِ فكفرُوا به {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي عاقبةَ كُفرِهم وغائلتَه

171

{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين} استئنافٌ مقَّررٌ للوعيدِ وتصديرُه بالقسمِ لغايةِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِه أي وبالله لقد سبقَ وعدُنا لهم بالنصرة والغلبا هو قولُه تعالى

172

{إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا}

وهم أتباعُ المُرسلين {لَهُمُ الغالبون} على أعدائِهم في الدُّنيا والآخرةِ ولا يقدحُ في ذلك انهزامُهم في بعضِ المشاهدِ فإنَّ قاعدةَ أمرِهم وأساسَه الظَّفرُ والنُّصرةُ وإنْ وقعَ في تضاعيفِ ذلكَ شَوبٌ من الابتلاءِ والمحنةِ والحكمُ للغالبِ وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن لم ينصروا في الدُّنيا نُصرِوا في الآخرة وقرئ على عبدنا بتضمين سبقت معنى حقت وتسميتُها كلمةً مع أنَّها كلماتٌ لانتظامِها في معنى واحد وقرئ كلماتُنا

174

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} فأَعرضْ عنهم واصبرْ {حتى حِينٍ} إلى مُدَّةٍ يسيرةٍ وهي مُدَّةُ الكفِّ عن القتالِ وقيل يومَ بدرٍ وقيلَ يومَ الفتح

175

{وأبصرهم} عل أسوأِ حالٍ وأفظعِ نكالٍ حلَّ بهم من القتلِ والأسرِ والمرادُ بالأمرِ بأبصارِهم الإيذانُ بغايةِ قُربِه كأنَّه بين يديِه {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} ما يقع حينئد من الأمورِ وسوفَ للوعيدِ دُون التَّبعيدِ

176

{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} رُوي أنَّه لمَّا نزلَ فسوف يُبصرون قالُوا متَى هذا فنزلَ

177

{فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} أي فإذا نزلَ العذابُ الموعودُ بفنائِهم كأنَّه جيشٌ قد هجمَهم فأناخَ بفنائِهم بغتةً فشنَّ عليهم الغارةَ وقطعَ دابرَهم بالمرَّةِ وقيل المرادُ نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وقرئ نزلَ بساحتهم على إسنادِه الى الجار والمجرور وقرئ نُزّل مبنَّياً للمفعولِ من التَّنزيلِ أي نُزّلَ العذابُ {فَسَاء صَبَاحُ المنذرين} فبئسَ صباحُ المنذَرين صباحُهم واللاَّمُ للجنسِ والصَّباحُ مستعارٌ من صباحِ الجيشِ المبيِّتِ لوقت نزول العذابِ ولمَّا كثُرتْ منهم الغارة في الصَّباح سمَّوها صباحاً وإن وقعت ليلاً رُوي أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لمَّا أتى خيبرَ وكانُوا خارجينَ إلى مزارعِهم ومعهم المَسَاحي قالُوا محمدٌ والخميسُ ورجعهم الى حصنهم فقال صلى الله عليه وسلم الله أكبرُ خربتْ خيبرُ إنا إذَا نزلنا بساحةِ قومٍ فساءَ صباحُ المنذَرينِ

178

{وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ} {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إثرَ تسليةٍ وتأكيدٍ لوقوعِ الميعادِ غبَّ تأكيدِ مع ما في إطلاقِ الفعلينِ عن المفعول من الإيذانِ بأنَّ ما يبصره صلى الله عليه وسلم حينئذٍ من فنونِ المسارِ وما يُبصرونه من أنواعِ المضارِّ لا يحيطُ به الوصفُ والبيانُ وقيلَ أُريد بالأوَّلِ عذابُ الدُّنيا وبالثَّاني عذاب الآخرة

الصافات 180 182

180

{سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} تنزيهٌ لله سبحانه عن كل ما يصفُه المشركونَ به ممَّا لا يليقُ بجنابِ كبريائِه وجبروتِه ممَّا ذُكر في السورة الكريمة ومالم يُذكر من الأمورِ التي من جُملتِها تركُ إنجازِ الموعودِ على موجبِ كلمتِه السَّابقةِ لا سيَّما في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يُنْبىء عنه التعرُّضُ لعنوان الربويية المُعربةِ عن التَّربيةِ والتَّكميلِ والمالكيةِ الكُلِّيةِ مع الإضافةِ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم أوَّلاً وإلى العزَّةِ ثانياً كأنَّه قيلَ سبحانَ من هو مر بيك ومكمِّلكَ ومالكُ العزَّةِ والغَلَبةِ على الإطلاقِ عمَّا يصفُه المشركونَ به من الإشياءِ التي منها تركُ نصرتِكَ عليهم كما يدلُّ عليه استعجالُهم بالعذابِ وقولُه تعالى

181

{وسلام على المرسلين} تشريفٌ لهم عليهم السَّلامُ بعد تنزيهِه تعالى عمَّا ذُكر وتنويهٌ بشأنِهم وإيذانٌ بأنَّهم سالمون عن كلِّ المكارِه فائزونَ بجميعِ المآربِ وقولُه تعالى

182

{والحمد للَّهِ رَبّ العالمين} إشارةٌ إلى وصفِه عزَّ وجلَّ بصفاتِه الكريمةِ الثُّبوتيةِ بعد التَّنبيهِ على اتِّصافِه تعالى بجميعِ صفاته السَّلبيةِ وإيذانٌ باستتباعِها للأفعالِ الجميلةِ التي من جُملتها إفاضتُه عليهم من فُنُونِ الكراماتِ السنيةِ والكمالاتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ وإسباغه عليهم وعلى مَن تبعِهم صُنوف النَّعماءِ الظَّاهرةِ والباطنةِ المُوجبةِ لحمده تعالى وإشعارٌ بأن ما وعده صلى الله عليه وسلم من النُّصرةِ والغَلَبة قد تحقَّقتْ والمرادُ تنبيه المؤمنينَ على كيفيَّةِ تسبيحِه تعالى وتحميدِه والتَّسليم على رُسلِه الذين هم وسايط بينهم وبينَهُ عزَّ وعَلاَ في فيضانِ الكَمالاتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ عليهم ولعلَّ توسيطَ التَّسليمِ على المُرسلينَ بين تسبيحهِ تعالى وتحميدِه لختمِ السُّورةِ الكريمةِ بحمدِه تعالى مع ما فيه من الإشعارِ بأنَّ توفيقَهُ تعالى للتَّسليمُ عليهم من جُملةِ المُوجبةِ للحمدِ عن عليَ رضيَ الله عنه من أحبَّ أنْ يُكتالَ بالمكيالِ الأَوْفى من الأجرِ يومَ القيامةِ فليكُن آخرُ كلامِه إذا قامَ من مجلسهِ سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عمَّا يصفُون وسلامٌ على المُرسلينَ والحمدُ للَّهِ رَبّ العالمين عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ الصآفات أُعطِيَ من الأجر عشرَ حَسَناتٍ بعددِ كلِّ جنيَ وشيطان وتباعدت منه مَرَدةُ الشَّياطينِ وبرىءَ مِنَ الشِّركِ وشَهد له حافظاهُ يومَ القيامةِ أنَّه كانَ مُؤمناً بالمُرسلين

سورة ص 1 2 مكية وآياتها ثمان وثمانون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

ص

{ص} بالسُّكون على الوقفِ وقُرىء بالكسرِ والفتحِ لالتقاءِ السَّاكنينِ ويجوزُ أنْ يكونَ الفتحُ بإضمارِ حرفِ القسمِ في موضعِ الجرِّ كقولِهم الله لافعلين بالجرِّ وأنْ يكونَ ذلكَ نصباً بإضمارِ اذكُرْ أو اقر الا فتحاً كما مرَّ في فاتحةِ سورةِ البقرةِ وامتناعُ الصرَّفِ للتَّعريفِ والتَّانيثِ لأنَّها عَلَمٌ للسُّورةِ وقد صرَفها منَ قرأ صادٌ بالتَّنوينِ على أنَّه اسمُ الكتابِ أو التَّنزيل وقيل هو في قراءةِ الكسر أمرٌ من المصاداةِ وهي المعارضةُ والمقابلةُ ومنها الصَّدى الذي ينعكسُ من الأجسامِ الصَّلبةِ بمقابلة الصَّوتِ ومعناهُ عارضِ القُرآن بعملِك فاعملْ بأوامرِه وانتِه عن نواهيهِ وتخلَّقْ بأخلاقِه ثمَّ إنْ جُعل إسماً للحرفِ مسرُوداً على منهاجِ التَّحدي أو الرَّمزِ إلى كلامٍ مثل صدقَ الله أو صدقَ محمدٌ كما نقل عن أكابرِ السَّلفِ أو اسماً للسُّورة خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ أو نصباً على إضمارِ اذكُر أو اقرأْ أو أمراً من المصاداة قالوا وفي قوله تعالى {والقرآن ذِى الذكر} للقسمِ وإنْ جعلَ مُقسَماً بهِ فهي للعطفِ عليهِ فإنْ أُريد بالقرآن كله فالمغايرة بينَهما حقيقةٌ وإنْ أُريد عينُ السُّورةِ فهي اعتبارَّيةٌ كما في قولِك مررتُ بالرجل الكريم وبالنسبة المُباركةِ وأيا ما كان ففي التَّكريرِ مزيدُ تأكيدٍ لمضمونِ الجملةِ المُقسَمِ عليها والذِّكرُ الشَّرفُ والنَّباهةُ كما في قوله تعالى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ أو الذِّكرى والموعظة أو ذكرُ ما يُحتاج إليه في أمر الدِّينِ من الشَّرائعِ والأحكام وغيرِها من أقاصيص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخبار الأمم الدَّارجةِ والوعد والوعيد وجواب القسم على الوجه الأول والرَّابعِ والخامس محذوف هو ما ينبىء عنه التَّحدِّي والأمرُ والإقسامُ به من كون المُتحدَّى به معجزاً وكونِ المأمورِ به واجباً وكونِ المقسَم به حقيقاً بالإعظامِ أي أُقسم بالقرآنِ أو بصادٍ وبه إنَّه لمعجز أو لواجب العمل به أو لحقيقٌ بالإعظامِ وأمَّا على الوجهينِ الباقيينِ فهو الكلامُ المرموزُ إليه ونفسُ الجملةِ المذكورةِ قبل القسم فإنَّ التَّسميةَ تنويه بشأن المُسمَّى وتنبيه على عظم خَطَرِه أي إنَّه لصادقٌ والقرآن ذي الذِّكرِ أو هذه السُّورة عظيمةُ الشَّأنِ والقرآنِ الخ على طريقة قولهم هذا حاتمٌ والله ولمَّا كأنَّ كلَّ واحدٍ من هذه الأجوبة مُنبئاً عن انتفاء الرِّيبِ عن مضمونه بالكلية انباء بينا كان قوله تعالى

2

{بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} إضراباً عن ذلك كأنَّه قيل لا ريبَ فيه قطعاً وليس عدمُ إذعان الكَفَرةِ له لشائبةِ ريبٍ ما فيه بل هم في استكبارٍ وحميَّةٍ شديدةٍ وشقاقٍ بعيدٍ لله تعالى ولرسولِه ولذلك لا يذعنون له

ص 3 5 وقيل الجواب ما دلَّ عليه الجملةُ الإضرابيَّةُ أي ما كفَر به مَن كفَر لخللٍ وجدَهُ فيه بل الذَّينَ كفروا الخ وقُرىء في غِرَّةٍ أي في غَفْلةٍ عمَّا يجب عليهم التَّنبهُ له من مبادى الإيمان ودواعيِه

3

{كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ} وعيدٌ لهم على كُفرهم واستكبارِهم ببيان ما أصاب مَن قبلهم من المُستكبرينَ وكم مفعولُ أهلكنا ومِن قرنٍ تمييزٌ والمعنى وقرناً كثيراً أهلكنا من القُرون الخاليةِ {فَنَادَوْاْ} عند نزول بأسناو حلول نقمتِنا استغاثةً وتوبةً لينجُوا من ذلك وقوله تعالى {وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} حالٌ من ضمير نادوا اي نادَوا واستغاثوا طلباً للنَّجاةِ والحالُ أنْ ليسَ الحينُ حينَ مناصٍ أي فوتٍ ونجاةٍ من ناصَه أي فاتَه لا من ناصَ بمعنى تأخَّر ولا هيَ المشبَّهةُ بليسَ زيدتْ عليها تاءُ التَّانيثِ للتَّأكيدِ كما زِيدتْ على رُبَّ وثُمَّ وخُصَّتْ بنفي الأحيانِ ولم يبرزْ إلا أحدُ معمُوليها والأكثرُ حذفُ اسمِها وقيلَ هي النَّافيةُ للجنسِ زيدتْ عليها التَّاءُ وخصَّتْ بنفيِ الأحيانِ وحينَ مناصٍ منصوبٌ على أنَّه اسمُها أي ولا حين مناص لهم او بفعل مضمر أي ولا ارى حينَ مناصٍ وقُرىء بالرَّفعِ فهو على الأوَّلِ اسمُها والخبر محذف واي وليسَ حينُ مناصٍ حاصلاً لهم وعلى الثَّانِي مبتدأُ محذوفُ الخبرِ أيْ ولا حينُ مناصٍ كائنٌ لهم وقُرىء بالكسرِ كما في قوله طلبُوا صلحَنا ولاتَ او ان فأجبنا أنْ لاتَ حينِ بقاءِ إمَّا لأنَّ لاتَ تجرُّ الأحيانَ كما أنَّ لولا تجرُّ الضَّمائرَ في نحوِ قوله لولاكَ هذا العام لم أحج أو لأنَّ أوانٍ شُبِّه بإذْ في قوله ... نهيتُكَ عن طِلابِكَ أمَّ عمرو ... بعافيةٍ وأنتَ إذٍ صحيحُ ... في أنَّه زمانٌ قُطع منه المضافُ إليه وعُوِّض التنوين لأن أصله أو أن صُلحٍ ثم حُمل عليه حينِ مناصٍ تنزيلاً لقطعِ المضافِ إليه من مناصٍ إذْ أصلُه حينَ مناصِهم منزلَة قطعِه من حينٍ لما بينَ المضافينِ من الإتِّحادِ ثمَّ بنُي الحينُ لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ وقرئ لاتِ بالكسرِ كجَيْرِ ويقفُ الكوفيُّون عليها بالهاءِ كالأسماءِ والبصريُّون بالتاءِ كالأفعالِ وما قيل منْ أنَّ التَّاءَ مزيدةٌ على حينٍ لاتِّصالِها به في الإمامِ مما لا وجهَ لَهُ فإنَّ خطَّ المصحفِ خارجٌ عن القياس

4

{وعجبوا أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ} حكايةٌ لأباطيلِهم المتفرعةِ عَلى ما حُكي من استكبارِهم وشقاقِهم أي عجبُوا من أنْ جاءهم رسولٌ من جنسِهم بل أدونُ منهم في الرِّياسةِ الدُّنيويَّةِ والمالِ على معنى أنَّهم عدُّواً ذلك أمراً عجيباً خارجاً عن احتمالِ الوقوعِ وأنكرُوه أشدَّ الإنكارِ لا أنَّهم اعتقدُوا وقوعَه وتعجَّبوا منه {وَقَالَ الكافرون} وُضعَ فيه الظَّاهرُ موضعَ الضَّميرِ غضباً عليهم وإيذاناً بأنَّه لا يتجاسرُ على مثل ما يقولونَه إلا المتوغِّلون في الكُفر والفسوق {هذا ساحر} فيما يُظهره من الخوارقِ {كَذَّابٌ} فيما يُسنده إلى الله تعالى من الإرسالِ والإنزالِ

5

{أجعل الالهة إلها واحدا} بأنْ نفى الأُلوهيَّةَ عنهم وقَصرَها على واحدٍ {إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ} بليغٌ في العَجَبِ وذلك لأنَّه خلافُ ما ألِفُوا عليهِ آباءَهم الذينَ أجمعُوا على ألوهيتهم

ص 6 7 وواظبُوا على عبادتِهم كابراً عن كابر فإن هذا مدارَ كلِّ ما يأتُون وما يذرُون من أمورٍ دينِهم هو التَّقليدُ والاعتيادُ فيعدُّون ما يخالفُ ما اعتادُوه عجيباً بل مُحالاً وأماً جعلُ مدارِ تعجبِهم عدمَ وفاءِ علمِ الواحدِ وقدرتِه بالأشياءِ الكثيرةِ فلا وجَه له لما أنَّهم لا يدَّعُون أنَّ لآلهتِهم علماً وقدرةً ومدخلاً في حدوث شئ من الأشياءِ حتَّى يلزمَ من نفي ألوهيَّتهم بقاءُ الآثار بلا مؤثر وقرئ عجَّاب بالتَّشديدِ وهو أبلغُ ككُرامٍ وكَرَّامِ رُوي أنَّه لما أسلم عمرُ رضي الله عنه شقَّ ذلك على قُريشٍ فاجتمعَ خمسةٌ وعشرونَ من صناديدِهم فأتَوا أبَا طالبٍ فقالُوا أنتَ شيخُنا وكبيرُنا وقد علمتَ ما فعلَ هؤلاءِ السُّفهاءُ وقد جئناكَ لتقضِي بينَنا وبينَ ابنِ أخيكَ فاستحضرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وقال يا ابنَ أخِي هؤلاءِ قومُك يسألونَك السُّؤالَ فلا تملْ كلَّ الميلِ على قومك فقال صلى الله عليه وسلم ماذا تسألوننى قالوا رفضنا وارفُض ذكَر آلهتِنا وندعكَ وإلهك فقال صلى الله عليه وسلم أرأيتُم إنْ أعطيتُكم ما سألتُم أمعطيَّ أنتُم كلمةً واحدةً تملكونَ بها العربَ وتدينُ لكم بها العجمُ قالُوا نعم وعشراً فقال قولُوا لا إلَه إلاَّ الله فقامُوا وقالُوا ذلكَ

6

{وانطلق الملأ مِنْهُمْ} أي وانطلقَ الأشرافُ من قريشٍ عن مجلسِ أبي طالبٍ بعد ما بكَّتهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالجوابِ العتيدِ وشاهدُوا تصلُّبَه صلى الله عليه وسلم في الدِّينِ وعزيمتَه على أنْ يُظهره على الدِّينِ كلِّه ويئسُوا ممَّا كانُوا يرجونَه بتوسطِ أبي طالبٍ من المصالحةِ على الوجِه المذكورِ {أَنِ امشوا} أي قائلين بعضِهم لبعضٍ على وجهِ النَّصيحةِ امشُوا {وَاْصْبِرُواْ على آلهتكم} أي واثبتُوا على عبادتِها متحمِّلين لما تسمعُونه في حقِّها من القدحِ وأنْ هي المفسِّرةُ لأنَّ الانطلاقَ عن مجلسِ التقاولِ لا يخلُو عن القولِ وقيل المرادُ بالانطلاقِ الاندفاعُ في القولِ وامشُوا من مشتِ المرأةُ إذا كثرتْ ولادتُها ومنه الماشيةُ للتفاؤلِ أي اجتمعوا وكثروا وقرئ امشُوا بغير أنْ على إضمار القول وقرئ يمشُون أنِ اصبرُوا {إِنَّ هذا لَشَىْء يُرَادُ} تعليلٌ للأمرِ بالصَّبرِ أو لوجوبِ الامتثالِ بهِ أي هذا الذي شاهدناهُ من محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم من أمرِ التَّوحيدِ ونفي آلهتنا وإبطال امرها لشئ يُراد أي من جهتِه صلى الله عليه وسلم إمضاؤُه وتنفيذُه لا محالةَ من غير صارفٍ يلويهِ ولا عاطفٍ يثنيه لاقول يقال من طرفِ اللِّسان أو أمر يُرجى فيه المسامحةُ بشفاعةٍ أو امتنانٍ فاقطعُوا أطماعَكم عن استنزالِه من رأيهِ بوساطة أبي طالب وشفاعته وحسبكم أن لا تمنعوا من عبادةِ آلهتكم بالكلية فاصبروا عليها وتحمَّلوا ما تسمعونَه في حقِّها من القدحِ وسُوءِ القالةِ وقيل إنَّ هذا الأمر لشئ يريده الله تعالى ويحكم بإمضائِه وما أرادَ الله كونَه فلا مردَّ له ولا ينفعِ فيه إلاَّ الصَّبرُ وقيل إن هذا الأمر لشئ من نوائب الدَّهرِ يُراد بنا فلا انفكاكَ لنا منه وقيل إنَّ دينَكم لشئ يُراد أي يُطلب ليؤخذَ منكم وتُغلبوا عليه وقيل إنَّ هذا الذي يدَّعيهِ من التَّوحيدِ أو يقصدُه من الرِّياسةِ والتَّرفعِ على العرب والعجم لشئ يُتمنَّى ويرُيده كلُّ أحدٍ فتأمَّل في هذه الأقاويلِ واخترْ منها ما يساعدُه النظم الجليلُ

7

{مَّا سَمِعْنَا بهذا} الذي يقولُه {فِى الملة الاخرة} أي الملَّةِ النَّصرانيةِ التي هي آخرُ الملل فإنَّهم مُثلِّثةٌ أو في الملَّةِ التي

ص 8 11 أدركنا عليها آباءَنا ويجوزُ أن يكون الجارُّ والمجرور حالاً من هذا أي ما سمعنا بهذا مِنْ أَهْلِ الكتابِ وَلاَ الكُهَّانِ كائناً في الملَّة المترقبة ولقد كذبُوا في ذلك أقبح كذبٍ فإنَّ حديثَ البعثةِ والتَّوحيدِ كان أشهرَ الأمورِ قبل الظُّهور {إِنَّ هَذَا} أي ما هذا {إِلاَّ اختلاق} أي كذبٌ اختلَقه

8

{أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر} أي القرآن {مّن بَيْنِنَا} ونحن رؤسا النَّاسِ وأشرافُهم كقولهم لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرآنُ على رَجُلٍ مّنَ القريتينِ عظيم ومرداهم إنكارُ كونه ذكراً منزَّلاً من عندِ الله عزَّ وجلَّ كقولهم لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وأمثالُ هذه المقالاتِ الباطلة دليل على أنَّ مناطَ تكذيبهم ليس إلاَّ الحسدُ وقِصرُ النَّظرِ على الحُطام الدنيويِّ {بْل هُمْ فَى شَكّ مّن ذِكْرِى} أي من القرآنِ أو الوحي لميلهم إلى التَّقليدِ وإعراضِهم عن النَّظرِ في الأدِلَّةِ المؤدِّية إلى العلمِ بحقِّيتِه وليس في عقيدتِهم ما يبتُّون به فهم مذبذبون بين الأوهامِ ينسبونه تارةً إلى السِّحرِ وأخرى إلى الاختلاقِ {بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ} أي بل لم يذوقُوا بعد عذابي فإذا ذاقُوه تبيَّن لهم حقيقةُ الحال وفي لمَّا دلالةٌ على أنَّ ذوقَهم على شرف الوقوع والمعنى أنهم لا يصدّقون به حتى يمسَّهم العذاب وقيل لم يذوقوا عذابَى الموعودَ في القرآنِ ولذلك شكُّواً فيه

9

{أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبّكَ العزيز الوهاب} بل أعندهم خزائنُ رحمتِه تعالى يتصرَّفون فيها حسبما يشاءون حتَّى يُصيبوا بها من شاءوا ويُصرفُوها عمَّن شاءوا ويتحكَّموا فيها بمقتضي آرائِهم فيتخيَّروا للنُّبوةِ بعضَ صناديدهم والمعنى أنَّ النُّبوةَ عطيةٌ من الله عز وجل يتفضَّلُ بها على مَن يَشَاء مِنْ عباده المصطَفينَ لا مانع له فإنَّه العزيز أي الغالب الذي لا يُغالب الوهَّابُ الذي له أنْ يهبَ كلَّ ما يشاءُ لكلِّ مَن يشاءُ وفي إضافةِ اسم الرب المنبئ عن التَّربيةِ والتبليغِ إلى الكمال الى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه واللُّطفِ به ما لا يخفى وقوله تعالى

10

{أم لهم ملك السماوات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا} ترشيحٌ لما سبق أي بل ألهُم ملكُ هذه العوالمِ العُلويةِ والسُّفليةِ حتَّى يتكلَّموا في الأمورِ الرَّبانيةِ ويتحكَّموا في التَّدابيرِ الإلهيةِ التي يستأثرُ بها ربُّ العزَّةِ والكبرياءِ وقولُه تعالى {فَلْيَرْتَقُواْ فِى الاسباب} جوابُ شرطٍ محذوفٍ أيْ إنْ كان لهم ما ذُكر من الملك فليصعدُوا في المعارجِ والمناهج التي يتوصَّلُ بها إلى العرشِ حتَّى يستووا عليه ويدبِّروا أمر العالم ويُنزلوا الوحَي إلى مَن يختارون ويستصوبوُن وفيه من التَّهكُّمِ بهم ما لا غايةَ وراءَه والسَّببُ في الأصل هو الوصلةُ وقيل المرادُ بالأسبابِ السَّمواتُ لأنَّها أسبابُ الحوادثِ السُّفليةِ وقيل أبوابُها

11

{جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الاحزاب} أي هم جندٌ ما من الكُفَّارِ المتحزبين عل الرُّسلِ مهزومٌ مكسورٌ عمَّا قريب فلا تُبالِ بما يقولون ولا تكترثْ بما يهذُون ومَا مزيدةٌ للتَّقليلِ والتحقير

ص 12 14 نحو قولِك أكلتُ شيئاً ما وقيل للتَّعظيمِ على الهُزءِ وهنالك إشارةٌ إلى حيثُ وضعُوا فيه أنفسَهم من الانتدابِ لمثل ذلك القولِ العظيمِ وقولُه تعالَى

12

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الاوتاد} الخ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله ببيانِ أحوالِ العُتاةِ الطُّغاةِ الذين هؤلاءِ جند ما من جنودهم ممَّا فعلوا من التَّكذيبِ وفعل بهم من العقابِ وذُو الأوتادِ معناه ذُو المُلك الثَّابتَ أصلُه من ثبات البيت المطنَّبِ بأوتاد فاستُعير لثبات الملكِ ورسوخِ السَّلطنةِ واستقامةِ الأمرِ قال الأسودُ بن يَعْفُر ... وَلَقَد غَنُوا فيها بأَنْعمِ عِيْشة ... فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابتِ الأَوْتَادِ ... أو ذُو الجموع الكثيرة سموا بذلك لأنَّ بعضَهم يشدُّ بعضاً كالوتدِ يشدُّ البناءَ وقيل نصبَ أربعَ سوار وكان يمدُّ يَدَيْ المعذَّبِ ورجليه إليهما ويضربُ عليها أوتاداً ويتركُه حتَّى يموتَ وقيل كان يمدُّه بين أربعةِ أوتادٍ في الأرض ويرسلُ عليه العقاب والحيَّاتِ وقيل كانت له أوتادٌ وحبالٌ يلعب بها بين يديِه

13

{وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وأصحاب الأيكة} أصحابُ الغَيضةِ من قومِ شُعيبِ عليه السَّلامُ وقوله تعالى {أُوْلَئِكَ الاحزاب} إمَّا بدلٌ من الطَّوائفِ المذكورة كما أنَّ ذلك الكتابُ بدلٌ من ألم على أحدِ الوجوه وفيه فضلُ تأكيدٍ وتنبيهٌ على أنَّهم الذين جُعل الجندُ المهزومُ منهم وقولُه تعالى

14

{إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل} استئنافٌ جيء به تقريراً لتكذيبِهم وبياناً لكيفَّيتِه وتمهيداً لما يعقُبه أي ما كلُّ أحدٍ من آحادِ أولئكَ الأحزابِ أو الأحزابِ أو ما كلُّ حزب منهم كذَّبَ الرُّسلَ لأنَّ تكذيبَ واحد منهم تكذيبٌ لهم جميعاً لاتِّفاقِ الكلِّ على الحقِّ وقيل ما كلُّ حزبٍ إلاَّ كذَّب رسولَه على نهجِ مقابلةِ الجمعِ بالجمعِ وأيَّاً ما كان فالاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ العلل في خبر المبتدأ أي ما كلُّ أحدٍ منهم محكوماً عليه بحكم إلا محكومٌ عليه بأنه كذَّب الرُّسلَ وقيل ما كلُّ واحدٍ منهم مُخبَراً عنه بخبرٍ إلا مخَبرٌ عنه بأنَّه كذَّب الرُّسلَ وفي إسناد التَّكذيبِ إلى الطَّوائفِ المذكُورةِ على وجهِ الإبهامِ أوَّلاً والإيذانِ بأنَّ كُلاَّ منهم حزبٌ على حيالِه تحزَّب على رسولِه ثانياً وتبيينِ كيفيةِ تكذيبِهم بالجملةِ الاستثنائيةِ ثالثاً فنونٌ من المبالغة مسجَّلةٌ عليهم باستحقاقِ أشدِّ العذابِ وأفظعِه ولذلك رُتّب عليه قولُه تعالى {فَحَقَّ عِقَابِ} أي ثبتَ ووقعَ على كلَ منُهم عقابي الذي كانتْ تُوجبه جناياتُهم من أصنافِ العقوباتِ المفصَّلةِ في مواقَعِها وإما بالمبتدا وقولُه تعالى إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل خبرُه بحذفِ العائدِ أي إنْ كلٌّ منهم الخ والجملةُ استئنافٌ مقرِّرٌ لما قبله مؤكِّدٌ لمضمونِه مع ما فيه من بيانِ كيفيةِ تكذيبهم والتَّنبيهِ على أنَّهم الذين جُعل الجندُ المهزومُ منهم كما ذُكر وقيل هو مبتدأٌ وخبرٌ والمَعنْى أنَّ الأحزابَ الذين جُعل الجندُ المهزومُ منهم هُم هُم وأنَّهم الذينُ وجد منهم التَّكذيبُ فتدَّبرْ وأمَّا ما قيل من أنه خبرٌ والمبتدأُ قوله تعالى وَعَادٌ الخ أو قوله وقوم لوط الخ فما يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن امثاله

ص 15 17

15

{وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآء} شروعٌ في بيان عقابِ كُفَّارِ مكَّة إثر بيانِ عقابِ أضرابِهم من الأحزابِ الذين أُخبر فيما سبقَ بأنَّهم جندٌ حقيرٌ منهم مهزومٌ عن قريبٍ فإنَّ ذلكَ ممَّا يوجبُ انتظارَ السَّامعِ وترقبه إلي بيانه قطعاً وفي الإشارةِ إليهم بهؤلاء تحقيرٌ لشأنِهم وتهوينٌ لأمرِهم وأمَّا جعلُه إشارةً إلى الأحزابِ باعتبارِ حضورِهم بحسبِ الذِّكرِ أو حضورِهم في علم الله عز وجل فليس في حيِّزِ الاحتمالِ أصلاً كيف لا والانتظار سواءٌ كان حقيقةً أو استهزاء إنما يُتصور في حقِّ من لم يترتب على أعمالِه نتائَجُها بعْد وبعدَ ما بيّن عقابُ الأحزابِ واستئصالُهم بالمرَّةِ لم يبقَ ممَّا أُريد بيانُه من عقوباتهم أمرٌ منتظرٌ وإنَّما الذين في مرصدِ الأنتظارِ كفَّارُ مكَّةَ حيث ارتكبُوا من عظائمِ الجرائم وكبائرِ الجرائرِ الموجبة لأشدِّ العقوباتِ مثلَ ما ارتكب الأحزابُ أو أشدَّ منه ولمَّا يلاقوا بعد شيئاً من غوائلِها أي وما ينتظُر هؤلاءِ الكَفَرةُ الذين هم أمثالُ أولئك الطَّوائفِ المهلكة في الكُفرِ والتَّكذيبِ {إِلاَّ صَيْحَةً واحدة} هي النَّفخةُ الثَّانيةُ لا بمعني أنَّ عقابهم نفسُها بما فيها من الشِّدَّةِ والهَوْلِ فإنَّها داهيةٌ يعمُّ هولُها جميعَ الأُممِ برَّهاً وفاجرِها بل بمعنى أنَّه ليس بينهم وبين حلولِ ما أعدلهم من العقاب الفظيعِ إلاَّ هي حيثُ أُخِّرت عقوبتُهم إلى الآخرةِ لما أنَّ تعذبهم بالاسئصال حسبما يستحقونه والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرِهم خارجٌ عن السُّنَّةِ الإلهيَّةِ المبنيّةِ على الحِكَم الباهرةِ كما نطقَ به قوله تعالى وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وأمَّا ما قيل مِن أنَّها النَّفخةُ الأَولى فممَّا لا وجهَ له أصلاً لما أنَّه لا يشاهد هو لها ولا يُصعقُ بَها إلاَّ مَنْ كانَ حيَّاً عندَ وقوعِها وليس عقابُهم الموعودُ واقعاً عقيبها ولا العذابُ المطلق مؤخر إليها بل يحلُّ بهم من حينِ موتِهم {مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} أي من توقُّفٍ مقدار فَوَاقٍ وهو ما بين الحَلْبتينِ وقرئ بضمِّ الفاءِ وهُما لغتانِ وقولُه تعالى

16

{وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} حكاية لما قالُوه عند سماعِهم بتأخير عقابهم إلى الآخرةِ أيْ قالُوا بطريق الاستهزاءِ والسُّخريةِ عجِّل لنا قطَّناً من العذابِ الذي تُوعدنا به ولا تؤخره إلى يومِ الحسابِ الذي مبدؤه الصَّيحةُ المذكورةُ والقطُّ القطة من الشَّيءِ من قطَّه إذا قطَعه ويقالُ لصحيفةِ الجائزةِ قطٌّ لأنَّها قطعةٌ من القرطاسِ وقد فسِّر بها أي عجِّل لنا صحيفةَ أعمالِنا لننظرَ فيها وقيل ذكرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعدَ الله تعالى المؤمنينَ الجنَّة فَقالُوا على سبيلِ الهُزءِ به عجِّلْ لنا نصيبنَا منها وتصديرُ دُعائِهم بالنِّداءِ المذكورِ للإمعانِ في الاستهزاءِ كأنَّهم يدعُون ذلك بكمالِ الرَّغبةِ والابتهالِ

17

{اصبر على مَا يَقُولُونَ} من أمثالِ هذه المقالاتِ الباطلةِ {واذكر} لهم {عَبْدَنَا داود} أي قصَّته تهويلاً لأمرِ المعصيةِ في أعينهم وتنبيهاً لهم على كمالِ قبحِ ما اجترءوا عليه من المَعاصي فإنَّه صلى الله عليه وسلم مع علوِّ شأنِه واختصاصِه بعظائمِ النِّعمِ والكراماتِ لمَّا ألمَّ بصغيرةٍ نزلَ عن منزلتِه ووبَّخْته الملائكةُ بالتَّمثيلِ والتَّعريضِ حتَّى تفطَّنَ فاستغفرَ ربَّه وأنابَ ووُجد منه ما يُحكى من بكائِه الدَّائبِ وغمِّه الواصبِ وندمِه الدَّائمِ فما الظنُّ بهؤلاءِ الكفرة الأذلين

ص 18 20 من كلِّ ذليلٍ المرتكبينَ لأكبرِ الكبائرِ المصرِّين على أعظمِ المَعَاصي أو تذكَّر قصَّته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وصُنْ نفسَك أنْ تزلَّ فيما كُلِّفت من مصابرتِهم وتحمُّلِ أذيَّتهم كيلا يلقاكَ ما لقيه من المعاتبةِ {ذَا الايد} أي ذَا الُقوَّة يقال فلانٌ أيدٌ وذُو أيدٍ وآدٌ بمعنى وأياد كل شئ ما يُتقوَّى بهِ {إِنَّهُ أَوَّابٌ} رجَّاعٌ إلى مرضاةِ الله تعالى وهو تعليلٌ لكونِه ذَا الأيدِ ودليلٌ على أن المرادَ به القَّوةُ في الدِّينِ فإنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان يصومُ يوماً ويفطرُ يوماً ويقوم نصفَ اللَّيلِ

18

{إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ} استئناف مسوق لتعليلِ قوَّتِه في الدِّينِ وأو ابيته إلى مرضاتِه تعالى ومع متعلقة بالتَّسخيرِ وإيثارُها على اللامِ لما أُشير إليه في سورةِ الأنبياءِ من أنَّ تسخيرَ الجبال له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يكن بطريقِ تفويضِ التَّصرُّفِ الكلِّي فيها إليهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كتسخيرِ الرِّيحِ وغيرِها لسليمانَ عليه السَّلامُ بل بطريق التبعية له عليه الصلاَّةُ والسَّلامُ والاقتداء به في عبادة الله تعالى وقيل متعلقة بما بعدَها وهو أقربُ بالنسبةِ إلى ما في سورة الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ {يُسَبّحْنَ} أي يُقدسن الله عزَّ وجلَّ بصوتٍ يتمثلُ له أو بخلقِ الله تعالَى فيها الكلامَ أو بلسانِ الحالِ وقيل يسرن معه من السباحة وهو حال من الجبال وضع موضعَ مُسبِّحات للدِّلالةِ على تجدُّدِ التَّسبيحِ حالاً بعد حال واستئناف مبينٌ لكيفَّيةِ التَّسخيرِ {بالعشى والإشراق} أي ووقت الإشراقِ وهو حين تشرقُ أي تضئ ويصفُو شعاعُها وهو وقت الضُّحى وأما شروقُها فطلُوعها يقال شرقتِ الشَّمسُ ولمَّا تشرق وعن ام هانئ رضيَ الله عنهَا أنه عليه الصلاةُ والسلام صلَّى صلاة الضحى وقالَ هذه صلاة الإشراقُ وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما ما عرفتُ صلاةَ الضُّحى إلاَّ بهذِه الآيةِ

19

{والطير} عطف على الجبال {مَحْشُورَةً} حالٌ من الطَّيرَ والعاملُ سخَّرنا أي وسخَّرنا الطَّيرَ حالَ كونِها محشورةٌ عن ابن عباس رضي الله عنهما كانَ إذا سبَّح جاوبْتُه الجبالُ بالتَّسبيحِ واجتمعتْ إليه الطَّيرُ فسبَّحتْ وذلك حشرُها وقرئ والطَّيرَ محشُورةً بالرَّفعِ على الابتداءِ والخبريةِ {كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ} استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما قبله مصرِّح بما فُهم منه إجمالاً من تسبيحِ الطَّيرِ أي كلَّ واحدٍ من الجبالِ والطَّيرِ لأجلِ تسبيحِه رجَّاعٌ إلى التَّسبيحِ ووضعُ الأوَّابِ موضعَ المسبِّحِ إمَّا لأنَّها كانتْ ترجِّع التَّسبيحَ والمرجِّعُ رجَّاعٌ لأنَّه يَرْجِعُ إلى فعله رجوعاً بعد رجوعٍ وإمَّا لأنَّ الأوَّابَ هو التَّوابُ الكثيرُ الرجوعِ إلى الله تعالى ومن دأبه إكثارُ الذِّكرِ وإدامُة التَّسبيحِ والتَّقديسِ وقيل الضَّميرُ لله عزَّ وجلَّ أي كلٌّ من داودَ والجبالِ والطَّيرِ لله أوابٌ أي مسبِّحٌ مرجِّعٌ للتَّسبيحِ

20

{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} قوَّيناهُ بالهَيبةِ والنصرة وكثرة الجنود وقرئ بالتَّشديدِ للمبالغة قيل كان يبيتُ حول محرابِه أربعون ألفَ مستلئمٍ وقيل ادَّعى رجلٌ على آخرَ بقرةً وعجزَ عن إقامةِ البيِّنةِ فأَوْحَى الله تعالى إليه في المنامِ أنِ اقتل المدَّعى عليهِ فتأخَّر فأُعيد الوحيُ في اليقظةِ فأعلَمه الرَّجلُ فقال إنَّ الله تعالى لم يأخذني

ص 21 22 بهذا الذَّنبِ ولكنْ بأنِّي قتلتُ أبا هَذا غيلةً فقال النَّاسُ إنْ أذنبَ أحدٌ ذنباً أظهرَهُ الله تعالى عليه فقتلَه فهابُوه وعظمتْ هيبتُه في القلوبِ {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} النُّبوةَ وكمالَ العلمِ وإتقانَ العملِ وقيل الزَّبورَ وعلمَ الشَّرائعِ وقيل كلُّ كلامٍ وافقَ الحقَّ فهو حكمةٌ {وَفَصْلَ الخطاب} أي فصل الخصام بتمييزِ الحقِّ عن الباطل أو الكلامَ المُلخَّصَ الذي ينبه المخاطَب على المرامِ من غير التباس لما قد رُوعي فيه مظانُّ الفصل والوصل والعطفِ والاستئنافِ والإظهارِ والإضمارِ والحذفِ والتَّكرارِ وإنَّما سُمِّي به أمَّا بعدُ لأنَّه يفصل المقصودَ عمَّا سبق تمهيداً له كالحمدِ والصَّلاةِ وقيل هو الخطابُ الفصلُ الذي ليس فيه إيجاز مخل ولا إطنابٌ مُملٌّ كما جاء في نعت كلام النُّبوةِ فَصْلٌ لا نَزْر ولا هَذْر

21

{وهل أتاك نبأ الخصم} استفهامٌ معناه التَّعجيبُ والتَّشويقُ إلى استماع ما في حيِّزهِ لإيذانه بأنَّه من الأنباء البديعةِ التي حقُّها أنْ تشيعَ فيما بين كل حاضرٍ وباد والخَصمُ في الأصل مصدرٌ ولذلكَ يُطلق عَلى الواحدِ وما فوقه كالضَّيفِ ومعنى خصمانِ فريقانِ {إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} إذ تصعدوا سورَه ونزلُوا إليه والسُّورُ الحائطُ المرتفعُ ونظيرُه تسنَّمه إذا علا سنامَهُ وتذرَّاهُ إذا علا ذِرْوَتُه وإذْ متعلِّقةٌ بمحذوفٍ أي نبأ تحاكم الخصم إذْ تسوَّروا أو بالنبأ على أنَّ المرادَ به الواقع في عهد داودَ عليه السلام وان اسناده الإتيان إليه على حذفِ مضافٍ أيْ قصَّةً نبأ الخصم أو بالخصم لما فيه من معنى الخُصومةِ لا بأتى لأنَّ إتيانَه الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن حينئذٍ وقوله تعالى

22

{إذ دخلوا على داود} بدلٌ ممَّا قبله أو ظرف لتسوَّروا {فَفَزِعَ مِنْهُمْ} رُوي أنَّه تعالى بعثَ إليه مَلكين في صورة إنسانينِ قيل هما جبريلُ وميكائيلُ عليهما السَّلامُ فطلبا أنْ يدخلا عليه فوجداهُ في يوم عبادته فمنعهُما الحَرَسُ فتسوَّروا عليه المحراب بمن معهُما من الملائكةِ فلم يشعرْ إلاَّ وهُما بين يديه جالسانِ ففزِع منهم لأنَّهم نزلُوا عليه من فوق على خلافِ العادةِ والحَرَسُ حوله في غير يوم الحُكومةِ والقضاء قال ابن عباس رضي الله عنهما أن داود عليه السلام جزَّأ زمانَه أربعةَ أجزاءٍ يوماً للعبادة ويوماً للقضاء ويوماً للاشتغال بخاصَّةِ نفسه ويوماً للوعظ والتَّذكيرِ {قَالُواْ} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ فزعِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كأنَّه قيلَ فماذا قالتْ الملائكةُ عند مشاهدتِهم لفزعِه فقيل قالوا إزالةً لفزعِه {لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ} أي نحنُ فوجانِ متخاصمانِ على تسمية مصاحب الخصم خَصْماً {بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ} هو على الفرض وقصد التعرض فلا كذبَ فيه {فاحكم بَيْنَنَا بالحق وَلاَ تُشْطِطْ} أي لا تجُر في الحُكومةِ وقرىء ولا تشطُطْ أي لا تبعُد عن الحق وقرىء ولا تشاطِطْ وكلُّها من معنى الشَّططِ وهو مجاوزةُ الحدِّ وتخطِّي الحقِّ {واهدنا إلى سَوَاء الصراط} إلى وسطِ طريقِ الحقِّ بزجر الباغي عمَّا سلكه من طريق الجَوْرِ وإرشاده إلى منهاج العدل

ص

23

23 - 24 {إِنَّ هَذَا أَخِى} استئنافٌ لبيان ما فيه الخُصومة أي أخي في الدِّينِ أو في الصُّحبةِ والتَّعرُّضُ لذلك تمهيدٌ لبيان كمال قبحِ ما فعل به صاحبُه {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِى نَعْجَةٌ واحدة} هي الأُنْثى من الضَّأْنِ وقد يُكنى بها عن المرأةِ والكنايةُ والتَّعريضُ أبلغُ في المقصودِ وقُرىء تَسعٌ وتَسعونَ بفتحِ التَّاءِ ونعِجة بكسر النُّونِ وقُرىء وليْ نعجةٌ بسكونِ الياءِ {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} أي ملِّكنْيِها وحقيقتُه اجعلِني أكفُلُها كما أكفلُ ما تحتَ يدي وقيل اجعلْها كِفْلي أي نَصيبي {وَعَزَّنِى فِى الخطاب} أي غلبنِي في مخاطبتِه إيَّاي محاجَّةً بأنْ جاء بحجاجٍ لم أقدرْ على ردِّه او في مغالبته اياى في الخِطبةِ يقال خَطَبتُ المرأةَ وخَطبها هو فخاطبني خِطاباً أي غالبني في الخِطبة فغلبنِي حيثُ زُوِّجها دُوني وقُرىء وعازَّني أي غالبني وعَزَنِي بتخفيف الزَّاي طالبا للخفَّةِ وهو تخفيفٌ غريبٌ كأنَّه قيسَ على ظِلْتُ ومِسْتُ

24

{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ قصد به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المبالغةَ في إنكار فعل صاحبه وتهجِينَ طمعِه في نعجةِ من ليس له غيرُها مع أنَّ له قطيعاً منها ولعلَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قال ذلك بعد اعترافِ صاحبهِ بما ادَّعاه عليه أو بناهُ على تقدير صدقِ المدَّعِي والسُّؤالُ مصدرٌ مضافٍ إلى مفعولِه وتعديتُه إلى مفعولٍ آخرَ بإلى لتضمُّنه معنى الإضافةِ والضمِّ {وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ الخلطاء} أي الشُّركاءِ الذين خلطُوا أموالَهم {لَيَبْغِى} ليتعدَّى وقُرىء بفتح الياء على تقدير النُّون الخفيفةِ وحذفها وبحذف الياءِ اكتفاءً بالكسرةِ {بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ} غير مراعٍ لحقِّ الصُّحبةِ والشِّركةِ {إلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} منهم فإنَّهم يتحامَون عن البغي والعُدوانِ {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} أي وهم قليلٌ وما مزيدةٌ للإبهام والتَّعجبِ من قلَّتِهم والجملةُ اعتراضٌ {وظن داود أَنَّمَا فتناه} الظنُّ مستعارٌ للعلمِ الاستدلاليِّ لما بينهما من المشابهةِ الظَّاهرةِ أي عَلِمَ بما جرى في مجلس الحُكومةِ وقيل لما قضى بينهما ما نظرَ أحدُهما إلى صاحبِه فضحكَ ثم صعدَا إلى السَّماءِ حيال وجهِه فعلم عليه الصلاة والسلام أنه تعالى ابتلاهُ وليس المعنى على تخصيص الفتنةِ به عليه الصلاة والسلام دون غيرِه بتوجيِه القَصْر المستفادِ من كلمة إنما إلى المفعول بالقياس إلى مفعولٍ آخرَ كما هو الاستعمالُ الشائعُ الواردُ على توجيِه القصرِ إلى متعلِّقات الفعلِ وقيوده باعتبار النَّفي فيه والإثباتِ فيها كما في مثلِ قولِك إنَّما ضربتُ زيداً وإنَّما ضربته تأديباً بل على تخصيص حالِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بالفتنةِ بتوجيه القصرِ إلى نفسِ الفعلِ بالقياس إلى ما يُغايره من الأفعالِ لكن لا باعتبار النَّفي والإثباتِ معاً في خُصوصية الفعل فإنَّه غيرُ ممكنٍ قطعاً بل باعتبار النَّفي فيما فيه من معنى مُطلقِ الفعلِ واعتبار الإثبات فيما يقارنه من المعنى المخصُوص فإنَّ كلَّ فعلٍ من الأفعال المخصُوصة ينحلُّ

عند التَّحقيقِ إلى معنى مطلقٍ هو مدلولُ لفظِ الفعلِ وإلى معنى مخصُوص يُقارنه ويقيِّده وهو أثرُه في الحقيقةِ فإنَّ معنى نَصَر مثلاً فعَلَ النصْرَ يُرشدك إلى ذلك قولُهم معنى فلانٌ يُعطي ويَمنعُ يفعلُ الإعطاءَ والمنعَ فموردُ القصرِ في الحقيقةِ ما يتعلَّق بالفعلِ باعتبار النَّفي فيه والإثبات فيما يتعلَّق به فالمعنى وعلَم داودُ عليه السَّلامُ أنَّما فعلنا به الفتنة لاغير قيل ابتليناه بامراة او ريا وقيل امتحناهُ بتلك الحكومةِ هل يتنبه بها لما قُصد منها وإيثارُ طريقِ التمثيل لأنَّه أبلغُ في التَّوبيخِ فإنَّ التَّأملَ فيه إذا أدَّاه إلى الشُّعورِ بما هو الغرضُ كانَ أوقعَ في نفسِه وأعظمَ تأثيراً في قلبهِ وأدعى إلى التَّنبه للخطأ مع ما فيه من مراعاةِ حُرمتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بتركِ المُجاهرة والإشعار بأنَّه أمرٌ يُستحى من التَّصريحِ به وتصويره التَّحاكُم لإلجائِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى التَّصريحِ بنسبة نفسِه إلى الظُّلم وتنبيهه عليه الصلاة والسلام على ان اوربا بصددِ الخصامِ {فاستغفر رَبَّهُ} إثرَ ما علمَ أنَّ ما صدرَ عنه ذنبٌ {وَخَرَّ رَاكِعاً} أي ساجداً على تسمية السجودِ ركوعاً لأنَّه مبدؤُه أو خرَّ للسُّجودِ راكعاً أي مُصلِّياً كأنَّه أحرم بركعتي الاستغفارِ {وَأَنَابَ} أي رجع إلى الله تعالى بالتَّوبةِ وأصلُ القصَّة أنَّ داودَ عليه السَّلامُ رأى امرأةَ رجلٍ يقال له أُوريَّا فمال قلبُه إليها فسأله أنْ يطلقها فاستحي أنْ يردَّه ففعلَ فتزوَّجها وهي أمُ سليمانَ عليه السَّلامُ وكان ذلك جَائزاً في شريعتِه مُعتاداً فيما بين أمَّتهِ غيرَ مخلَ بالمروءة حيثُ كان يسأل بعضُهم بعضاً أنْ ينزلَ له عن امرأتِه فيتزوَّجها إذا أعجبته وقد كان الأنصارُ في صدر الإسلامِ يُواسون المهاجرين بمثلِ ذلك من غيرِ نكيرٍ خلا أنه عليه الصلاةُ والسلام لعظم منزلتِه وارتفاع مرتبتِه وعلوِّ شأنه نُبِّه بالتَّمثيل على أنَّه لم يكنْ ينبغي له أنْ يتَعَاطى ما يتعاطاه آحادُ أمَّتهِ ويسألَ رجلاً ليس له إلاَّ امرأةٌ واحدة أنْ ينزلَ عنها فيتزوَّجها مع كثرة نسائه بل كان يجبُ عليه أنْ يغالبَ هواهُ ويقهرَ نفسَه ويصبرَ على ما امتُحن به وقيل لم يكن أوريَّا تزوَّجها بل كان خطَبها ثمَّ خطبها داودُ عليه السلام فآثره عليه السَّلام أهلها فكان ذنبُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إن خطب على حطبة أخيه المسلمِ هذا وأمَّا ما يُذكر من أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلامُ دخلَ ذاتَ يومٍ محرابَه وأغلق بابَه وجعل يُصلِّي ويقرأُ الزَّبورَ فبينما هو كذلك إذْ جاءَه الشَّيطانُ في صورةِ حمامةٍ من ذهبٍ فمدَّ يده ليأخذَها لابنٍ صغيرٍ له فطارتْ فامتدَّ إليها فطارتْ فوقعت في كُوَّةٍ فتبعها فأبصر امرأةً جميلةً قد نقضت شعرها فغطَّى بدنها وهي امرأةُ أُوريَّا وهو من غُزاة البلقاءِ فكتب إلى أيُّوبَ بن صُوريا وهو صاحبُ بعثِ البلقاءِ أنِ أبعثْ أُوريَّا وقدِّمُه على التَّابوتِ وكان من يتقدَّم على التَّابوتِ لا يحلُّ له أنْ يرجعَ حتَّى يفتحَ الله علي يديِه أو يُستشهدَ ففتح الله تعالَى على يدِه وسلَم فأمرَ بردِّه مرةً أُخرى وثالثةً حتَّى قُتل وأتاه خبرُ قتلِه فلم يحزنْ كما كان يحزنُ على الشهداء وتزوَّج امرأتَه فإفكٌ مبتَدعٌ مكروهٌ ومكرٌ مخترعٌ بئسما مكروه تمجُّه الأسماعُ وتنفرُ عنه الطِّباعُ ويلٌ لمن ابتدعَه وأشاعَه وتبَّاً لَمن اخترعه وأذاعَه ولذلك قال علي رضي الله عنه مَن حدَّثَ بحديثِ داودَ عليه السَّلامُ على ما يرويهِ القُصَّاصُ جلدتُه مائةً وستِّين وذلك حدُّ الفريةِ على الأنبياءِ صلواتُ الله تعالَى وسلامُه عليهم هذا وقد قيلَ إنَّ قوماً قصُدوا أنْ يقتلُوه عليه الصَّلاة والسَّلام فتسوّروا المحرابَ ودخلوا عليه فوجدُوا عنده أقواماً فتصنَّعوا بهذا التَّحاكمِ فعلم عليه الصلاة والسلام غرضَهم فهمَّ بأنْ ينتقمَ منهمِ فظنَّ أنَّ ذلك ابتلاءٌ له من الله عزَّ وجلَّ فاستغفرَ ربَّه ممَّا همَّ به وأنابَ

ص

25

25 - 27 {فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك} أي ما استغفرَ منه ورُوي أنه عليه الصلاةُ والسلام بقي ساجداً أربعينَ يوماً وليلةً لا يرفعُ رأسَه الا الصلاة مكتوبةٍ أو لما لا بُدَّ منه ولا يرقأُ دمعُه حتَّى نبتَ منه العشبُ إلى رأسه ولم يشرب ماء إلا ثلثاه دمعٌ وجهد نفسَه راغباً إلى الله تعالَى في العفوِ عنه حتَّى كادَ يهلك واشتغل بذلك عن المُلكِ حتَّى وثبَ ابنٌ له يقال له إيشا على ملكِه ودعا إلى نفسِه فاجتمع إليه أهلُ الزَّيغِ من بني إسرائيلَ فلمَّا غُفر له حاربَه فهزمَه {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى} لقرابة وكرامة بعد المغفرة {وَحُسْنُ مآب} حسنَ مرجعٍ في الجنَّةِ

26

{يا داود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِى الارض} إمَّا حكاية لمَّا خُوطب به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مبينة لزُلفاه عنده عزَّ وجلَّ وإمَّا مقولُ قولٍ مقدَّرٍ هو معطوف على غفرنا أو حالٌ من فاعلِه أي وقُلنا له أو قائلين له يا داودُ الخ أي استخلفناك على المُلك فيها والحكمِ فيما بينَ أهِلها أو جعلناك خليفةً ممَّن كان قبلك من الأنبياء القائمينَ بالحقِّ وفيه دليلٌ بيِّنٌ على أنَّ حالهَ عليهِ الصَّلاة والسَّلام بعد التَّوبةِ كما كانت قبلها لم تتغيَّرْ قَط {فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} بحكم الله تعالى فإنَّ الخلافةَ بكلا معنييه مقتضيةٌ له حتماً {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى} أي هوى النفس في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا {فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} بالنصب على أنه جواب النَّهي وقيل هو مجزومٌ بالعطفِ على النَّهيِ مفتوحٌ لالتقاء السَّاكنينِ أي فيكون الهوى أو اتِّباعُه سبباً لضلالِك عن دلائله التي نصها على الحقِّ تكويناً وتَشريعاً وقوله تعالى {إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله} تعليلٌ لما قبله ببيانِ غائلتِه وإظهار سبيلِ الله في موقع الإضمار لزيادة التَّقريرِ والإيذانِ بكمال شناعةِ الضَّلالِ عنه {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} جملة من خبرٍ ومبتدأٍ وقعتْ خبراً لأنَّ أوْ الظرف خبر لأنَّ وعذابٌ مرتفع على الفاعلية بمَا فيهِ من مَعْنى الاستقرارِ {بِمَا نَسُواْ} بسبب نسيانِهم وقوله تعالى {يَوْمِ الحساب} إما مفعولٌ لنسُوا فيكون تعليلاً صريحاً لثبوت العذابِ الشَّديدِ لهم بنسيان يوم الحسابِ بعد الإشعارِ بعلِّيةِ ما يستتبُعه ويستلزمه أعني الضَّلالَ عن سبيل الله تعالى فإنَّه مستلزمٌ لنسيانِ يوم الحساب بالمرَّةِ بل هذا فردٌ من أفرادِه أو ظرفٌ لقولِهِ تَعَالى لَهُمْ أي لهُم عذابٌ شديدٌ يومَ القيامةِ بسببِ نسيانِهم الذي هو عبارةٌ عن ضلالِهم ومن ضرورته أن يكون مفعولُه سبيلِ الله فيكون التَّعليلُ المصرح به حينئذٍ عينَ التَّعليلِ المشعر به بالذَّاتِ غيره بالعُنوان ومَن لم يتنبيه لهذا السرِّ السريِّ قال بسبب نسيانِهم وهو ضلالُهم عن السَّبيلِ فإنَّ تذكَّره يقتضي ملازمةَ الحقِّ ومخالفةَ الهَوَى فتدبَّر

27

{وما خلقنا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا} كلامٌ مستأنفٌ مقررٌ لما قبله

ص 28 29 من أمرِ البعثِ والحسابِ والجزاء أي وما خلقناهُما وَمَا بَيْنَهُمَا من المخلوقاتِ على هذا النِّظامِ البديعِ الذي تحارُ في فهمِه العقولُ خلقاً باطلاً أي خالياً عن الغايةِ الجليلةِ والحكمةِ الباهرةِ بل منطوياً على الحقِّ المُبين والحِكم البالغةِ حيثُ خلقنا من بينِ ما خلقنا نُفوساً أودعناها العقلَ والتَّمييزَ بين الحقِّ والباطلِ والنَّافعِ والضَّارِّ ومكنَّاها من التَّصرفاتِ العلميةِ والعمليةِ في استجلابِ منافعِها واستدفاعِ مضارِّها ونصبنا للحق دلائل آفافية وأنفسيةً ومنحناها القُدرةَ على الاستشهادِ بها ثم لم نقتصرْ على ذلك المقدارِ من الألطافِ بل أرسلنا إليها رُسلاً وأنزلنا عليها كتابا بيّنّا فيها كلَّ دقيقٍ وجليلٍ وأزحنا عللَها بالكلِّية وعرضناها بالتكليف للمنافع العظيمةِ وأعددنا لها عاقبةً وجزاءً على حسب أعمالِها {ذلك} إشارةٌ إلى ما نُفي من خلقِ ما ذُكر باطلاً {ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} أي مظنونهم فإنَّ جحودَهم بأمرِ البعثِ والجزاءِ الذي عليه يدورُ فلَكُ تكوينِ العالمِ قولٌ منهم ببطلانِ خلقِ ما ذُكر وخلوِّه عن الحكمةِ سبحانَهُ وتعالَى عمَّا يقولونَ علوّاً كبيراً {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} مبتدأٌ وخبرٌ والفاءُ لإفادةِ ترتُّبِ ثبوتِ الويلِ لهُم عَلى ظنِّهم الباطلِ كما أنَّ وُضع الموصولُ موضعَ ضميرِهم للاشعار بما في حيز الصلة بعلية كفرهم له ولا تنافى بينهما لأنَّ ظنَّهم من باب كُفرِهم ومِنْ في قولِه تعالَى {من النار} تعليليةٌ كما في قوله تعالى فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ونظائرِه مفيدة لعليَّةِ النَّار لثبوتِ الويلِ لهم صَريحاً بعد الإشعارِ بعليةِ ما يُؤدِّي إليها من ظنِّهم وكفرِهم أي فويلٌ لهم بسببِ النَّارِ المترتِّبةِ على ظنِّهم وكفرِهم

28

{أم نجعل الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كالمفسدين فِى الارض} أمْ منقطعةٌ وما فيَها من بلْ للإضرابِ الانتقاليِّ عن تقرير أمر البعثِ والحسابِ والجزاء بما مرَّ من نفيِ خلقِ العالم خالياً عن الحكمِ والمصالحِ إلى تقريرِه وتحقيقِه بما في الهمزةِ من إنكار التَّسويةِ بين الفريقينِ ونفيها على أبلغِ وجهٍ وآكدِه أي بل أنجعلُ المؤمنينَ المُصلحينَ كالكَفَرةِ المُفسدين في أقطارِ الأرضِ كما يقتضيه عدمُ البعثَ وما يترتَّبُ عليهِ من الجزاءِ لاستواء الفريقين في التَّمتع بالحياةِ الدُّنيا بل الكَفَرةُ أوفرُ حظَّاً منها من المؤمنينَ لكن ذلك الجعلُ محالٌ فتعيَّن البعثُ والجزاءُ حتماً لرفع الأوَّلينَ إلى أعلى عِلِّييِّنَ وردِّ الآخرينَ إلى أسفلِ سافلينَ وقوله تعالى {أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} إضرابٌ وانتقالٌ عن إثبات ما ذُكر بلزوم المحالِ الذي هو التَّسويةُ بين الفريقينِ المذكُورينِ على الإطلاقِ إلى إثباتِه بلزومِ ما هو أظهرُ منه استحالةً وهو التَّسويةُ بين أتقياءِ المؤمنينَ وأشقياءِ الكَفَرةِ وحملُ الفُجَّار على فَجَرةِ المُؤمنين ممَّا لا يساعدُه المقامُ ويجوزُ أنْ يرادَ بهذينِ الفريقينِ عينُ الأوَّلينِ ويكون التَّكريرُ باعتبارِ وصفينِ آخرينِ هما أدخلُ في إنكار التَّسوية من الوصفينِ الأوَّلين وقيل قال كفَّارُ قُريشٍ للمؤمنين إنَّا نُعطَى في الآخرةِ من الخيرِ ما تُعطَون فنزلتْ

29

{كِتَابٌ} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ هو عبارةٌ عن القُرآن أو السُّورةِ وقولُه تعالى {أنزلناه إِلَيْكَ} صفته

ص 30 32 وقوله تعالى {مُّبَارَكٌ} خبرٌ ثانٍ للمبتدأ أو صفةٌ لكتابٌ عند مَن يُجوِّز تأخيرَ الوصفِ الصَّريحِ عن غيرِ الصَّريحِ وقُرىء مباركاً على أنَّه حالٌ من مفعولِ أنزلنا ومعنى المبارك الكثيرُ المنافعِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ وقولُه تعالى {ليدبروا آياته} متعلِّقٌ بأنزلناه أي أنزلنَاهُ ليتفكَّروا في آياتِه التي من جُملتها هذهِ الآياتُ المعربةُ عن أسرارِ التَّكوينِ والتَّشريعِ فيعرفُوا ما يدبر ظاهرها من المعانِي الفائقةِ والتَّأويلاتِ اللائقةِ وقرىء ليتدَّبروا على الاصلى ولتدبَّروا على الخطابِ أي أنتَ وعلماءُ أمَّتك بحذفِ احدى التاءين {وليتذكر أولوا الالباب} أي وليتَّعظ به ذوو العقول السليمة او ليستحضروا ماهو كالمركوزِ في عقولِهم من فرطِ تمكُّنهم من معرفتِه لما نُصبِ عليه من الدَّلائلِ فإنَّ الكتبَ الإلهيةَ مبيِّنةٌ لما لا يُعرف إلا بالشَّرعِ ومرشدةٌ إلى مالا سبيلَ للعقلِ إليه

30

{ووهبنا لداود سليمان نِعْمَ العبد} وقُرىء نعم العبدُ أي سليمانُ كما ينبىءُ عنه تأخيرُه عن داودَ مع كونِه مفعولاً صريحاً لوهبنا ولأنَّ قوله تعالى {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أيْ رجّاع إلى الله تعالى بالتَّوبة أو إلى التَّسبيح مرجع له تعليلٌ للمدح وهو من حاله لما أنَّ الضَّميرَ المجرورَ في قوله تعالى

31

{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} راجع إليه عليه الصلاة والسلام قطعاً وإذْ منصوبٌ باذكُر أي اذكُر ما صدرَ عنه إذْ عُرضَ عليه {بالعشى} هو من الظُّهرِ إلى آخرِ النَّهارِ {الصافنات} فإنَّه يشهدُ بأنَّه أوَّاب وقيل ظرف لأواب وقيل لنعِم وتأخيرُ الصَّافنات عن الظَّرفينِ لما مرَّ مرارا من التَّشويقِ إلى المؤخَّرِ والصَّافنُ من الخيلِ الذي يقومُ على طَرَفِ سُنبكِ يدٍ أو رجلٍ وهو من الصِّفاتِ المحمودةِ في الخيلِ لا يكادُ ينفق إلا في العِراب الخُلَّصِ وقيل هو الذي يجمعُ يديهِ ويسوِّيهما وأمَّا الذي يقفُ على سنبكهِ فهو المنخيم {الجياد} جمعُ جوادٍ وجودٍ وهو الذي يُسرع في جريِه وقيل الذي يجودُ عند الرَّكضِ وقيل وُصفتْ بالصُّفون والجَودةِ لبيان جمعها بين الوصفينِ المحمودينِ واقفةً وجاريةً أي إذا وقفتْ كانتْ ساكنةً مطمئنة في مواقفها وإذا جرتْ كانت سِراعاً خِفافاً في جَريها وقيل هو جمعُ جيِّد رُوي أنَّه عليه الصلاةُ والسلام غَزَا أهلَ دمشقَ ونصيبين وأصابَ ألفَ فرسٍ وقيل أصابها أبُوه من العمالقةِ فورثها منه وقيل خرجتْ من البحرِ لها أجنحةٌ فقعد يوماً بعدما صلَّى الظُّهر على كرسيِّه فاستعرضَها فلم تزلْ تُعرض عليه حتَّى غربتِ الشَّمسُ وغفلَ عن العصرِ أو عن وِردٍ كان له من الذِّكرِ وقتئذٍ وتهيَّبُوه فلم يعلموه فاغتمَّ لما فاتَه فاستردَّها فعقَرها تقرباً لله تعالى وبقي مائةٌ فما في أيدي النَّاسِ من الجياد فمن نسلها وقيل لمَّا عقرَها أبدلَه الله خيراً منها وهي الرِّيحُ تجري بأمره

32

{فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عن ذكر ربى} قالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عند غروب الشَّمسِ اعترافاً بما صدرَ عنْهُ منَ الاشتغالِ بها عن الصَّلاةِ وندماً عليه وتمهيداً لما يعقُبه منْ الأمر بردِّها وعقرِها والتَّعقيب باعتبار أواخرِ العرض المستمرِّ دون ابتدائِه

ص 33 34 والتَّأكيدُ للدِّلالةِ على أنَّ اعترافَه وندمَهُ عن صميم القلبِ لا لتحقيقِ مضمونِ الخبر وأصلُ أحببتُ أنْ يعدَّى بعلى لانه بمعنى آثرت لكن لما أُنيب مُنابَ أنبتُ عُدِّي تعديتَه وحبَّ الخير مفعوله كأنه قبل أنبتُ حبَّ الخيرِ عن ذكر ربِّي ووضعتُه موضعه وخير المالُ الكثيرُ والمراد به الخيلُ التي شغلته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ويحتمل أنَّه سمَّاها خيراً لتعلُّق الخيرِ بها قال صلى الله عليه وسلم الخيرُ معقودٌ بنواصِي الخيلِ إلى يوم القيامة وقرىء أنِّي {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} متعلِّق بقوله أحببتُ باعتبار استمرار المحبَّةِ ودوامِها حسب استمرارِ العرضِ أي أنبتُ حب الخير عن ذكر ربِّي واستمرَّ ذلك حتَّى توارتْ أي غربتْ الشَّمسُ تشبيهاً لغروبِها في مغربِها بتوارى المخبأةِ بحجابها وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها وقيل الضمير للصافنات أي حتى توارتْ بحجابِ اللَّيلِ أي بظلامِه

33

{رُدُّوهَا عَلَىَّ} من تمام مقالةِ سليمانَ عليه السَّلامُ ومرمى غرضِه من تقديم ما قدَّمه ومَن لَم يَتَنَبَّه لَه مع ظهورِه توهَّم أنَّه متَّصل بمضمرٍ هو جوابٌ لمضمرٍ آخرَ كأنَّ سائلاً قال فماذا قال سليمانُ عليه السَّلامُ فقيل قال ردها فتأمل والفاء في قوله تعالى {فَطَفِقَ مَسْحاً} فصيحةٌ مفصحةٌ عن جملةٍ قد حُذفتْ ثقة بدلالهِ الحالِ عليها وإيذاناً بغاية سرعةِ الامتثالِ بالأمرِ أي فردُّوها عليه فأخذ يمسحُ السَّيفَ مسحاً {بالسوق والاعناق} أي بسوقِها وأعناقِها يقطعها من قولِهم مسحَ عِلاوتَه أي ضرب عنفه وقيل جعل يمسحُ بيدهِ أعناقَها وسوقَها حُبَّاً لها وإعجاباً بها وليس بذاكَ وقُرىء بالسُّؤُقِ على همز الواوِ لضمَّتها كما في أدؤُر وقرىء بالسُّؤوقِ تنزيلاً لضمَّةِ السِّينِ منزلة ضمَّه الواوِ وقُرىء بالسَّاق اكتفاءً بالواحدِ عن الجمعِ لأمنِ الالباسِ

34

{وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} أظهرُ ما قيل في فتنتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما رُوي مرفُوعاً أنَّه قال لأطوفنَّ الليلةَ على سبعينَ امرأة تأتِي كل واحدة بفارس بجاهد في سبيلِ الله تعالى ولم يقُل إنْ شاءَ الله تعالى فطافَ عليهنَّ فلم تحمل إلا امرأةٌ واحدةٌ جاءتْ بشقِّ رجلٍ والذي نفسِي بيدِه لو قالَ إنْ شاء الله لجاهدُوا في سبيلِ الله فُرساناً أجمعون وقيل وُلد له ابنٌ فاجتمعتِ الشَّياطينُ على قتلِه فعلم ذلكَ فكانَ يغذُوه في السَّحابِ فَما شعرَ به إلى أنْ أُلقي عَلَى كرسيِّه ميتاً فتنبَّه لخطئِه حيثُ لَم يتوكَّل على الله عزَّ وعَلاَ وقيل إنَّه غَزَا صيدونَ من الجزائرِ فقتلَ ملكَها وأصابَ بنْتاً له تسمَّى جرادةَ من أحسنِ النَّاسِ فاصطفَاها لنفسِه واسلمت حبها وكان لا يرقأُ دمعُها جَزَعاً على أبيها فأمرَ الشَّياطينَ فمثَّلوا لها صورتَه وكانت تغدُو إليها وتروحُ مع ولائدها يسجدون لها كعادتهنَّ في مُلكِه فأخبرهَ آصفُ بذلك فكسرَ الصُّورةَ وعاقَب المرأةَ ثم خرج وحدَهُ إلى فَلاَة وفُرش له الرَّمادُ فجلس عليه تائباً إلى الله تعالى باكياً متضرِّعاً وكانتْ له أمُّ ولدٍ يُقال لها أمينةُ إذا دخلَ للطَّهارةِ أو لإصابةِ امرأةٍ يعطيها خاتمه وكان ملكُه فيه فأعطاها يوماً فتمثَّل لها بصورتِه شيطانٌ اسمه صخر وأخذ الخاتمَ فتختَّم به وجلس على كُرسِّيه فاجتمعَ عليه الخلقُ ونفَّذ حكمَه في كلِّ شيءٍ إلاَّ في نسائِه وغيَّر سليمان

ص 35 38 عن هيئتِه فأتى أمينةَ لطلبِ الخاتمِ فأنكرتْهُ وطردتْهُ فعرفَ أنَّ الخطيئةَ قد أدركتْهُ فكان يدورُ على البيوتِ يتكفَّفُ وإذا قال أنَا سليمانُ حثَوا عليه التُّرابَ وسبُّوه ثم عمد إلى السَّماكين ينقلُ لهم السَّمك فيعطونَه كلَّ يومٍ سمكتينِ فمكثَ على ذلك أربعينَ صباحاً عددَ ما عُبد الوثنُ في بيتِه فأنكر آصفُ وعظماءُ بني إسرائيلَ حكمَ الشَّيطانِ ثم طارَ اللعينُ وقذفَ الخاتمَ في البحرِ فابتلعتْهُ سمكةٌ فوقعتْ في يدِ سليمانَ فبقرَ بطنَها فإذَا هُو بالخاتمِ فتختَّم به وخرَّ ساجداً وعادَ إليه ملكه وجاب صخرةً لصخرٍ فجعلَه فيها وسدَّ عليه بأُخرى ثم أوثَقهما بالحديدِ والرَّصاص وقذفه في البحرِ وعلى هذا فالجسدُ عبارةٌ عن صخرٍ سمِّي به وهو جسمٌ لا رُوحَ فيه لأنَّه تمثَّل بما لم يكن كذلكَ والخطيئةُ تغافلُه عليه الصلاة والسلام عن حالِ أهلِه لأنَّ اتِّخاذَ التَّماثيلِ لم يكُن محظُوراً حينئذٍ وسجودُ الصُّورةِ بغير علمٍ منه لا يضرُّه

35

{قَالَ} بدل من أنابَ وتفسير له {رَبّ اغفر لِى} أي ما صدرَ عنِّي من الزَّلَّةِ {وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى} لا يتسهل له ولا يكونُ ليكونَ معجزةً لي مناسبةً لحالي فإنه عليه الصلاة والسلام لمَّا نشأَ في بيتِ الملكِ والنُّبوة وورثهما معاً استدعى من ربِّه معجزةً جامعة لحكمهما اولا ينبغي لأحدٍ أنْ يسلَبه منِّي بعد هذه السَّلبةِ اولا يصحُّ لأحدٍ من بعدي لعظمته كقولك لفلان ماليس لأحدٍ من الفضلِ والمالِ على إرادة وصف الملكِ بالعظمةِ لا أنْ لا يعطى أحد مثله فيكون منافسة وقيل كان مُلكاً عظيماً فخاف أنْ يُعطى مثلَه أحدٌ فلا يحافظُ على حدودِ الله تعالى وتقديمُ الاستغفارِ على الاستيهابِ لمزيد اهتمامِه بأمر الدِّينِ جرياً على سُنن الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ والصَّالحين وكون ذلك أدخلَ في الإجابةِ وقُرىء ليَ بفتحِ الياءِ {إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} تعليلٌ للدُّعاءِ بالمغفرةِ والهبةِ معاً لا بالأخيرة فقط فإنَّ المغفرةَ أيضاً من احكام وصف الوهابية قطعا

36

{فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح} أي فذللناها لطاعتِه إجابةً لدعوتِه فعاد أمرُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى ما كان عليهِ قبل الفتنةِ وقُرىء الرِّياح {تَجْرِى بِأَمْرِهِ} بيانٌ لتسخيرِها له {رُخَاء} أي لينةً من الرَّخاوةِ طيبة لا تزعزعُ وقيل طيعةً لا تمتنع عليه كالمأمورِ المنقادِ {حَيْثُ أصاب} أي حيث قصدو اراد حَكَى الأصمعيُّ عن العربِ أصابَ الصَّوابَ فأخطأَ الجوابَ

37

{والشياطين} عطفٌ على الرِّيح {كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ} بدلٌ من الشياطين

38

{وآخرين مُقَرَّنِينَ فِى الاصفاد} عطفٌ على كلَّ بنَّاءٍ داخلٌ في حُكمِ البدلِ كأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فصَّل الشَّياطينَ إلى عَمَلةٍ استعملهم في الأعمالِ الشَّاقةِ من البناء والغَوص ونحو ذلك وإلى مَرَدةٍ قُرن بعضَهم مع بعضٍ في السَّلاسلِ لكفِّهم عن الشرِّ والفسادِ ولعلَّ أجسامهم شفَّافةٌ فلا تُرى صلبةً فيمكن تقييدُها ويقدرون على

ص 39 41 الأعمال الصَّعبة وقد جُوِّز أن يكون الإقرانُ في الأصفادِ عبارة عن كفِّهم عن الشُّرورِ بطريق التَّمثيلِ والصَّفدُ القَيدُ وسُمِّي به العطاءُ لأنَّه يرتبط بالمنعمِ عليه وفرَّقوا بين فعليهما فقالُوا صفَده قيَّده وأصفدَهُ أعطاهُ على عكسِ وَعَد وأوعده وقوله تعالى

39

{هذا} الخ إمَّا حكايةٌ لما خوطب به سليمان عليه السَّلامُ مبيِّنةٌ لعظمِ شأنِ ما أُوتي من الملكِ وأنَّه مفوَّضٌ إليه تفويضاً كلِّياً وإما مقولٌ مقدر هو معطوف على سخَّرنا أو حالٌ من فاعلهِ كما مرَّ في خاتمةِ قصَّةِ داودَ عليه السَّلامُ أي وقُلنا له أو قائلين له هذا الأمرُ الذي أعطيناكَه من المُلكِ العظيمِ والبسطةِ والتَّسلطِ على ما لَم يُسلَّطُ عليه غيرُك {عَطَاؤُنَا} الخاصُّ بك {فامنن أَوْ أَمْسِكْ} فأعطِ مَن شئتَ وامنْع مَن شئتَ {بِغَيْرِ حِسَابٍ} حال من المستكن في الأمرِ أي غير محاسب على شئ منِّه وإمساكهِ لتفويضِ التَّصرف فيه إليك على الإطلاقِ أو منْ العطاءِ أي هذا عطاؤنا مُلتبساً بغير حسابٍ لغاية كثرتِه أو صلةٌ له وما بينهما اعتراضٌ على التَّقديرينِ وقيل الإشارةُ إلى تسخير الشَّياطينِ والمرادُ بالمنِّ والإمساكِ الإطلاقُ والتَّقييدُ

40

{وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى} في الآخرةِ مع ما له من المُلك العظيمِ في الدنيا {وحسن مآب} هو الجنَّةُ قيل فُتن سليمانُ عليه السَّلامُ بعد ما ملكَ عشرين سنةً وملك بعد الفتنةِ عشرينَ سنة وذكر الفقيهُ أبوُ حنيفةَ أحمدُ بنُ داودَ الدِّيْنَوَريُّ في تاريخه أنَّ سليمانَ عليه السَّلامُ ورثَ ملكَ أبيهِ في عصرِ كيخسرو بن سياوش وسارَ من الشَّامِ إلى العراقِ فبلغ خبره كيخسر فهربَ إلى خُراسانَ فلم يلبثْ حتَّى هلكَ ثمَّ سارَ سُليمانُ عليه السَّلامُ إلى مروٍ ثمَّ إلى بلادِ التُّركِ فوغل فيها ثم جازَ بلادَ الصِّين ثم عطفَ إلى أنْ وافى بلادَ فارسٍ فنزلها أيّاماً ثم عاد إلى الشَّامِ ثمَّ أمرَ ببناءِ بيتِ المقدسِ فلَّما فرغَ منه سار إلى تهامةَ ثم إلى صنعاءَ وكان من حديثِه مع صاحبتِها ما ذكر الله تعالى وغَزا بلادَ المغربِ الأندلسِ وطنجةَ وغيرَهما والله تعالى أعلمُ

41

{واذكر عَبْدَنَا أَيُّوبَ} عطفٌ على اذكُر عبدنا داودَ وعدمُ تصديرِ قصَّةِ سليمانَ بهذا العُنوان لكمالِ الاتِّصالِ بينه وبينَ داودَ عليهما السَّلامُ وأيُّوبُ هو ابنُ عِيصَ بنِ إسحاقَ عليهِ السَّلامُ {إِذْ نادى رَبَّهُ} بدلُ اشتمالٍ من عبدَنا وأيُّوبَ عطفُ بيانٍ له {إِنّى} بأني {مَسَّنِىَ الشيطان} بفتح ياء مسنى وقرئ بإسكانِها وإسقاطِها {بِنُصْبٍ} أي تعب وقرئ بفتحِ النُّونِ وبفتحتينِ وبضمَّتينِ للتثقيلِ {وَعَذَابٍ} أي ألمٍ ووصبٍ يريدُ مرضَه وما كان يُقاسيه من فنونِ الشَّدائدِ وهو المرادُ بالضُّرِّ في قوله إنيِّ مسنى الضُّرُّ وهو حكايةٌ لكلامِه الذي ناداهُ به بعبارتِه وإلاَّ لقيلَ أنَّه مسَّه الخ والإسنادُ إلى الشَّيطان إمَّا لأنَّه تعالَى مسَّه بذلك لما فعل بوسوستِه كما قيل إنَّه أُعجب بكثرةِ مالِه أو استغاثه مظلومٌ فلم يغثه أو كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزُه أو لامتحان صبره فيكون اعترافاً بالذَّنبِ أو

ص 42 44 مراعاةً للأدبِ أو لأنَّه وسوس إلى أتباعِه حتَّى رفضُوه وأخرجُوه من ديارِهم أو لأنَّ المرادَ بالنَّصَبِ ما كان يُوسوس به إليه في مرضِه من تعظيم ما نزل به من البلاءِ والقُنوطِ من الرَّحمةِ ويغريه على الكراهةِ والجَزَعِ فالتجأَ إلى الله تعالَى في أنْ يكفيه ذلك بكشفِ البلاءِ أو بالتوفيقِ لدفعِه وردِّه بالصَّبرِ الجميلِ وليس هذا تمامَ دعائِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بل من جُملتِه قولُه وانت ارحم الراحمين فاكتفى ههنا عن ذكرِه بما في سُورةِ الأنبياءِ كما تركَ هناك ذكرَ الشَّيطانِ ثقةً بما ذكرههنا وقوله تعالى

42

{اركض بِرِجْلِكَ} الخ إمَّا حكايةٌ لما قيل له أو مقولٌ لقولٍ مقدرٍ معطوفٍ على نادى أي فقلنا له اركض برجلك أي اضربْ بها الأرضَ وكذا قوله تعالى {هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} فإنَّه أيضاً إمَّا حكايةٌ لما قيل له بعدَ امتثالِه بالامر ونبوع الماءِ أو مقولٌ لقولٍ مقدرٍ معطوفٍ على مقدَّر ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنه قيل فضربَها فنبعتْ عينٌ فقلنا له هذا مغتسلٌ تغتسلُ به وتشربُ منه فيبرأُ ظاهرُك وباطُنك وقيل نبعتْ عينانِ حارَّةٌ للاغتسالِ وباردةٌ للشُّربِ ويأباهُ ظاهرُ النظمِ الكريمُ وقوله تعالى

43

{وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ} معطوفٌ على مقدَّرَ مترتبٍ على مقدَّرٍ آخرَ يقتضيه القولُ المقدَّرُ آنفاً كأنَّه قيل فاغتسل وشرب فكشفنا بذلكَ مابه من ضركما في سورة الأنبياء ووهبنا له أهلَه إمَّا بإحيائِهم بعد هلاكِهم وهو المرويُّ عن الحسنِ أو بجمعِهم بعد تفرُّقِهم كما قيل {وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ} عطفٌ على أهلَه فكان له من الأولادِ ضِعفُ ما كان له قبل {رَحْمَةً مّنَّا} أي لرحمةٍ عظيمةٍ عليه من قبلنا {وذكرى لأُوْلِى الالباب} ولتذكيرهم بذلك ليصبروا عل الشَّدائدِ كما صبرَ ويلجأوا إلى الله عزَّ وجلَّ فيما يحيقُ بهم كما لجأ ليفعلَ بهم ما فعلَ به من حُسن العاقبةِ

44

{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} معطوفٌ على اركُض أو على وهبنَا بتقديرِ قُلنا أي وقُلنا خذْ بيدِك الخ والأوَّلُ أقربُ لفظاً وهذا أنسبُ معنى فإنَّ الحاجةَ إلى هذا الأمرِ لا تمسُّ إلا بعد الصَّحةِ فإنَّ امرأتَه رحمةَ بنتَ افرايمَ بنِ يوسفَ وقيل ليَا بنتُ يعقوبَ وقيل ماصرُ بنتُ ميْشا بن يُوسفَ عليه السَّلامُ ذهبتْ لحاجةٍ فأبطأتُ فحلفَ إنْ برئ ليضربنَّها مائةً ضربة فأمرَه الله تعالى بأخذِ الضِّغثِ والضِّغثُ الحزمةُ الصَّغيرةُ من الحشيشِ ونحوِه وعن ابن عباس رضي الله عنهما قبضةٌ من الشَّجرِ وقال {فاضرب بّهِ} أي بذلك الضِّغثِ {وَلاَ تَحْنَثْ} في يمينك فإنَّ البرَّ يتحققُ به ولقد شرعَ الله سبحانه هذه الرُّخصةَ رحمةً عليه وعليها الحسن خدمتِها إيَّاهُ ورضاهُ عنها وهي باقيةٌ ويجب أنْ يصيبَ المضروبَ كلُّ واحدٍ من المائةِ إما بأطرافِها قائمة أوبأعراضها مبسوطةً على هيئةِ الضَّربِ {إِنَّا وجدناه صَابِراً} فيما أصابَه في النَّفسِ والأهلِ والمالِ وليسَ في شكواهُ إلى الله تعالى إخلالٌ بذلك فإنَّه لا يُسمَّى جزَعاً كتمنِّي العافيةِ وطلب الشِّفاءِ على أنَّه قال ذلك خيفةَ الفتنةِ في الدِّينِ حيث كانُ الشَّيطانُ يوسوس الى قومه

ص 45 48 بأنَّه لو كانَ نبيَّاً لما ابُتلي بمثلِ ما ابُتلي به وإرادة القوَّة على الطَّاعةِ فقد بلغ أمرُه إلى أنْ لم يبقَ منه إلاَّ القلبُ واللِّسانُ ويُروى أنَّه عليه السلام قال في مناجاتِه إلهي قد علمتَ أنَّه لم يُخالفْ لساني قلبيَ ولم يتبع قلبي بصريَ ولم يهبني ما ملكتْ يميني ولم آكلْ إلا ومعي يتيم ولم أبتْ شبعانَ ولا كاسياً ومعي جائعٌ أو عريانُ فكشفَ الله تعالى عنه {نِعْمَ العبد} أي أيُّوبُ {إِنَّهُ أَوَّابٌ} تعليلٌ لمدحِه أيْ رجّاع إلى الله تعالى

45

{واذكر عِبَادَنَا إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ} عطفُ بيانٍ لعبادَنا وقرئ عبدَنا إمَّا على أنَّ إبراهيمَ وحدَهُ لمزيد شرفهِ عطفُ بيانٍ وقيل بدلٌ وقيل نُصبَ بإضمارِ أَعْنِي والباقيانِ عطفٌ على عَبدنا وإمَّا على أنَّ عبدَنا اسمُ جنسٍ وضعَ موضعَ الجمع {أُوْلِى الايدى والابصار} أُولي القوَّةِ في الطَّاعةِ والبصيرةِ في الدِّينِ أو أولي الأعمالِ الجليلةِ والعلومِ الشَّريفةِ فعبَّر بالأيدِي عن الأعمالِ لأنَّ أكثرَها تُباشر بها وبالأبصارِ عن المعارفِ لأنَّها أقوى مباديها وفيه تعريضٌ بالجَهَلةِ البطَّالينَ أنَّهم كالزمنى والعُماةِ وتوبيخٌ على تركِهم المجاهدةِ والتَّأمُّلِ مع تمكنهم منهما وقرئ أُولي الأيدِ بطرحِ الياءِ والاكتفاء بالكسر وقرئ أُولي الأيادِي على جمعِ الجمعِ

46

{إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ} تعليلٌ لما وُصفوا به من شرفِ العُبودَّيةِ وعلوِّ الرُّتبةِ في العلم والعمل أي جعلناهم خالصينَ لنا بخصلةٍ خالصةٍ عظيمةَ الشَّأنِ كما ينبئ عنه التَّنكيرُ التَّفخيميُّ وقولُه تعالى {ذِكْرَى الدار} بيانٌ للخالصةِ بعد إبهامِها للتَّفخيم أي تذكرٍ للدَّارِ الآخرةِ دائماً فإنَّ خُلوصَهم في الطَّاعةِ بسببِ تذكُّرِهم لها وذلكَ لأنَّ مطمحَ أنظارِهم ومطرح أفكارِهم في كلِّ ما يأتونَ وما يذرون جوارُ الله عزَّ وجلَّ والفوزُ بلقائهِ ولا يتسنَّى ذلك إلاَّ في الآخرةِ وقيل أخلصناهُم بتوفيقِهم لها واللُّطفِ بهم في اختيارِها ويعضد الأولَ قراءةُ من قرأ بخالصتِهم وإطلاق الدَّارِ للإشعارِ بأنَّها الدَّارُ في الحقيقةِ وإنَّما الدُّنيا مَعْبرٌ وقرئ بإضافةِ خالصةٍ إلى ذِكرى أي بما خلُص من ذِكرى الدَّارِ عَلى مَعْنى أنهُم لا يشوبون ذكراهابهم آخرَ أصلاً أو تذكيرهم الآخرةَ وترغيبُهم فيها وتزهيدُهم في الدُّنيا كما هو شأنُ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيلَ ذِكرى الدَّارِ الثَّناءُ الجميلُ في الدُّنيا ولسانُ الصِّدقِ الذي ليس لغيرِهم

47

{وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الاخيار} لمن المُختارين من أمثالِهم المصطَفَين عليهم في الخيرِ والأخيار جمعُ خَيْرٍ كشرَ وأشرارٍ وقيل جمعُ خَيِّرٍ أو خَيْرٍ مُخفَّفٍ منْهُ كأمواتٍ في جمعِ مَيِّتٍ ومَيْتٍ

48

{واذكر إسماعيل} فُصلَ ذكرُه عن ذكر أبيه وأخيه للإشعارِ بعراقتِه في الصَّبرِ الذي هُو المقصودُ بالتَّذكيرِ {واليسع} هو ابن خطوب بنِ العجوزِ استخلفَه الياسُ على بني إسرائيلَ ثم استنبئ واللامُ فيه حرفُ تعريفٍ دخلَ على يسع كما في قول من

ص 49 53 قال رأيتُ الوليدَ بنَ اليزيد مباركا وقرئ واليسع كأنه أصله لَيْسع فَيْعل من اللَّسعِ دخلَ عليه حرفُ التَّعريفِ وقيل هو على القراءتينِ عَلَم أعجميٌّ دخل عليه اللامُ وقيل هو يُوشع {وَذَا الكفل} هو ابنُ عمِّ يسع أو بشر بن أيوب واختُلف في نبوَّتِه ولقبهِ فقيل فرَّ إليه مائةُ نبيَ من بني إسرائيلَ من القتل فآواهُم وكَفَلهم وقيل كُفل بعملِ رجلٍ صالحٍ كان يُصلِّي كلَّ يومٍ مائةَ صلاة {وَكُلٌّ} أي وكلهم {من الأخيار} المشهور بن بالخبرية

49

{هَذَا} إشارةٌ إلى ما تقدَّمَ من الآياتِ النَّاطقةِ بمحاسِنهم {ذُكرٌ} أي شَرفٌ لهم وذكرٌ جميلٌ يُذكرون به أبداً أو نوعٌ من الذِّكرِ الذي هو القرآنُ وبابٌ منه مشتملٌ على أنباءِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما هذا ذكرُ مَن مضى من الأنبياءِ وقولُه تعالى {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} شروع في بيان أجرِهم الجزيل في الآجلِ بعد بيان ذكرِهم الجميلِ في العاجلِ وهو بابٌ آخرُ من أبواب التَّنزيلِ والمرادُ بالمتَّقينَ إمَّا الجنسُ وهم داخلونَ في الحكم دُخولاً أوليَّاً وإما نفسُ المذكورين عبَّر عنهم بذلك مَدْحاً لهم بالتَّقوى التي هي الغايةُ القاصيةُ من الكمالِ

50

{جنات عَدْنٍ} عطفُ بيانٍ لحسنَ مآبٍ عندَ من يجوز تخالفهما تعريفها وتنكيراً فإنَّ عَدْناً مَعْرِفةٌ لقولِه تعالى جنات عَدْنٍ التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ أو بدلٌ منه أو نصب على المدحِ وقولُه تعالى {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابواب} حالٌ من جنَّاتِ عَدْنٍ والعاملُ فيها ما في للمتَّقين من معنى الفعلِ والأبوابُ مرتفعةٌ باسمِ المفعولِ والرَّابطُ بين الحالِ وصاحبِها إمَّا ضميرٌ مقدَّرٌ كما هو رأيُ البصريِّينَ أي الأبوابُ منها أو الألفُ واللاَّمُ القائمةُ مقامَه كما هو رأيُ الكوفيِّينَ إذِ الأصلُ أبوابُها وقُرئتا مرفوعتينِ على الابتداء والخبر أو على أنَّهما خبرانِ لمحذوفٍ أي هي جنَّاتُ عدنٍ هي مفتّحةٌ

51

{مُّتَّكِئِينَ فِيهَا} حالٌ من ضميرِ لَهمُ والعاملُ فيها مفتَّحة وقولُه تعالى {يَدْعُونَ فِيهَا بفاكهة كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} استئناف لبيان حالهم فيها وقيل هو أيضاً حالٌ مَّما ذُكر أو من ضمير متَّكئين والاقتصارُ على دعاءِ الفاكهةِ للإيذانِ بأنَّ مطاعَمهم لمحضِ التَّفكهِ والتَّلذذِ دُون التَّغذِّي فإنَّه لتحصيل بدلِ المتحلِّلِ ولا تحلَّلِ ثَمة

52

{وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف} أي على أزواجهنَّ لا ينظُرن إلى غيرِهم {أَتْرَابٌ} لداتٌ لهم فإنَّ التَّحابَّ بين الأقرانِ أرسخُ أو بعضهن لبعضٍ لا عجوزَ فيهنَّ ولا صبيَّةَ واشتقاقُه من التُّراب فإنَّه يمسُّهم في وقتٍ واحدٍ

53

{هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب} أي لأجلِه فإنَّ الحسابَ علَّةٌ للوصولِ إلى الجزاء وقرئ بالياءِ ليوافقَ ما قبلَه

ص 54 59 والالتفاتُ أليقُ بمقامِ الامتنانِ والتَّكريمِ

54

{إِنَّ هَذَا} أي ما ذكر من ألوان النِّعم والكَرَاماتِ {لَرِزْقُنَا} أعطيناكموه {مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} انقطاعٍ أبداً

55

{هذا} أي الأمرُ هذا أو هذا كما ذُكر أو هذا ذِكر وقوله تعالى {وَإِنَّ للطاغين لَشَرَّ مَآبٍ} شروع في بيان أضَّدادِ الفريق السَّابقِ

56

{جَهَنَّمَ} إعرابُه كما سلف {يَصْلَوْنَهَا} أي يدخلُونها حالٌ من جهنَّمَ {فَبِئْسَ المهاد} وهو المهدُ والمفرشُ مستعار من فراشِ النَّائمِ والمخصوص بالذمِّ محذوف وهو جهنَّم لقوله تعالى لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ

57

{هذا فَلْيَذُوقُوهُ} أي ليذوقُوا هذا فليذوقُوه كقوله تعالى وإياى فارهبون أو العذابُ هذا فليذوقوه أو هذا مبتدأٌ خبرُه {حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} وما بينهما اعتراضٌ وهو على الأولين خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي هو حميم والغسَّاقُ ما يغسِق من صديدِ أهلِ النَّارِ من غسَقتِ العينُ إذا سال دمعُها وقيل الحميمُ يحرقُ بحرِّه والغسَّاقُ يحرقُ ببردِه وقيل لو قَطرت منه قطرةٌ في المشرقِ لنتَّنتْ أهلَ المغربِ ولو قَطرت قطرةٌ في المغرب لنتنت أهلَ المشرقِ وقيل الغسَّاقُ عذابٌ لا يعلمه إلاَّ الله تعالى وقُرىء بتخفيفِ السين

58

{وآخر مِن شَكْلِهِ} أي ومذوقٌ آخرُ أو عذابٌ آخرُ من مثل هذا المذوقِ أو العذابِ في الشِّدَّةِ والفظاعةِ وقُرىء وأُخَرُ أي ومذوقاتٌ أخَرُ أو أنواع عذابٍ أُخر وتوحيدُ ضميرِ شكله بتأويلِ ما ذُكر أو الشَّرابُ الشَّاملُ للحميمِ والغسَّاقِ أو هو راجعٌ إلى الغسَّاقِ {أزواج} أي أجناس وهو خبر لآخر لانه يجوز أن يكون ضروباً أو صفةٌ له أو للثلاثة أو مرتفعٌ بالجار والخبرُ محذوفٌ مثلُ لهم

59

{هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} حكاية ما يقال من جهة الخَزَنةِ لرُؤساء الطَّاغينَ إذا دخلوا النَّارَ واقتحمها معهم فوجٌ كانوا يتبعونهم في الكُفرِ والضَّلالةِ والاقتحامُ الدُّخولُ في الشَّيء بشدَّةٍ قال الرَّاغبُ الاقتحامُ توسُّطُ شدَّةٍ مخيفةٍ وقولُه تعالى {لاَ مَرْحَباً بِهِمْ} من اتمام كلام الخزنة بطريق الدُّعاءِ على الفوجِ أو صفةٌ للفوجِ أو حالٌ منه أي مقولٌ أو مقولاً في حقِّهم لا مرحباً بهم أي لا اتوا مرحبا اولا رحُبتْ بهم الدَّار مرحباً {إنهم صالوا النار} تعليل من جهةِ الخَزَنةِ لاستحقاقهم الدُّعاءِ عليهم أو وصفهم بما ذُكر وقيل لا مرحباً بهم إلى هنا كلامُ الرُّؤساءِ في حقَ أتباعِهم عند خطاب الخَزَنة لهم باقتحام الفوجِ معهم تضجُّراً من مقارنتهم

ص 60 63 وتنفُّرا من مصاحبتِهم وقيل كلُّ ذلك كلامْ الرُّؤساءِ بعضهم مع بعض في حقِّ الأتباعِ

60

{قَالُواْ} أي الأتباعُ عند سماعِهم ما قيل في حقِّهم ووجه خطابهم للرُّؤساءِ في قولهم {بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ} الخ على الوجهينِ الأخيرينِ ظاهرٌ وأمَّا على الوجهِ الأولِ فلعلَّهم إنَّما خاطبُوهم مع أنَّ الظَّاهرَ أنْ يقولُوا بطريقِ الاعتذارِ إلى الخَزَنةِ بل هُم لا مرحباً بهم الخ قَصْداً منهم إلى إظهارِ صدقِهم بالمُخاطبةِ مع الرُّؤساءِ والتَّحاكمِ إلى الخَزَنةِ طمعاً في قضائِهم بتخفيفِ عذابِهم أو تضعيفِ عذابِ خُصَمائهم أي بل أنتم أحقُّ بما قيلَ لنا أو قلتُم وقولُه تعالى {أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} تعليلٌ لأحقِّيتهم بذلك أي أنتمُ قدَّمتم العذابَ أو الصِّلِيَّ لنا وأوقعتُمونا فيه بتقديمِ ما يُؤدِّي إليه من العقائد الزائفة والأعمالِ السَّيئةِ وتزيينها في أَعُيننا وإغرائِنا عليها لا انا باشرنَاها من تلقاءِ أنفسنا {فَبِئْسَ القرار} أي فبئسَ المقرُّ جهنَّم قصدُوا بذمِّها تغليظَ جنايةِ الرُّؤساءِ عليهم

61

{وقالوا} أي الأتباعُ أيضاً وتوسيطُه بين كلاميهم لما بينهُما من التَّباينِ البيِّنِ ذاتاً وخِطِاباً أي قالُوا مُعرضين عن خصومتِهم متضرِّعين إلى الله تعالى {رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِى النار} كقولِهم رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فآتهم عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ النار أي عذاباً مُضاعفاً أي ذا ضعفٍ وذلك بأنْ يزيدَ عليه مثلَه ويكون ضعفين كقوله ربنا آتهم ضعفين من العذاب او قيل المرادُ بالضِّعفِ الحيَّاتُ والأَفَاعي

62

{وَقَالُواْ} أي الطَّاغُون {مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مّنَ الاشرار} يعنون فقراءَ المُسلمينَ الذين كانُوا يسترذلونَهم ويسخرُون منهم

63

{أتخذناهم سِخْرِيّاً} بهمزةِ استفهامٍ سقطت لاجعلها همزةُ الوصل والجملةُ استئنافٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ قالُوه إنكاراً على أنفسِهم وتأنيباً لها في الاستسخارِ منهم {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الابصار} متَّصلٌ باتَّخذناهم على أنَّ أم متَّصلة والمعنى أيَّ الأمرينِ فعلنَا بهم الاستسخارُ منهم أم الازدراءُ بهم وتحقيرُهم وإنَّ أبصارَنا كانت تزيغُ عنهم وتقتحمُهم على معنى إنكارِ كلِّ واحدٍ من الفعلينِ على أنفسهم توبيخاً لها أو على أنَّها منقطعةٌ والمعنى أتخذناهم سخرياً بل أزاغتْ عنهم أبصارُنا كقولك أزيدٌ عندك أم عندَك عمروٌ على معنى توبيخِ أنفسِهم على الاستسخارِ ثمَّ الإضرابُ والانتقالُ منه إلى التَّوبيخِ على الازدراءِ والتَّحقيرِ وقُرىء اتَّخذناهم بغير همزةٍ على أنه صفةٌ أخرى لرجالاً فقوله تعالى أمْ زاغت متصل بقوله مالنا لانرى والمعنى مالنا لانراهم في النار أليسوا فيها فلذلك لا نراهم أم زاغتْ عنهم أبصارُنا وهم فيها وقد جُوِّز أن تكون الهمزةُ مقدَّرةٌ على هذه القراءةِ وقُرىء سُخريا بضمِّ السين

ص

64

70 - 71 {إِنَّ ذلك} أي الذي حكى من احوالهم {الحق} لا بد من وقوعه البتةَ وقوله تعالى {تَخَاصُمُ أَهْلِ النار} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ بيانٌ لذلك وفي الإبهامِ أوَّلاً والتَّبيينِ ثانياً مزيدُ تقريرٍ له وقيل بدلٌ من محلِّ ذلك وقيل بدلٌ من حقٌّ أو عطفُ بيانٍ له وقُرىء بالنَّصبِ على أنَّه بدلٌ من ذلكَ وما قيل من أنَّه صفةٌ له فقد قيل عليه إنَّ اسمَ الإشارةِ لا يُوصف إلا بالمعرَّفِ باللامِ يقال بهذا الرَّجلَ ولا يقال بهذا غلامِ الرَّجلِ

65

{قُلْ} أمرٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يقولَ للمشركينَ {إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ} من جهتهِ تعالى أنذرُكم عذابَه {وَمَا مِنْ إله} في الوجودِ {إِلاَّ الله الواحد} الذي لا يقبل الشِّركِةَ والكثرةَ أصلاً {القهار} لكلِّ شيءٍ سواه

66

{رب السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} منْ المخلوقاتِ فكيف يُتوهّم أن يكونَ له شريكٌ منها {العزيز} الذي لا يُغلب في أمرٍ من أمورِه {الغفار} المبالغ في المغفرة يغفرُ ما يشاء لمَن يشاء وفي هذه النُّعوت من تقرير التَّوحيدِ والوعد للموحِّدين والوعيد للمشركين مالا يخفى وتثنيةُ ما يُشعر بالوعيد من وصفَيْ القهرِ والعزَّةِ وتقديمهما على وصفِ المغفرةِ لتوفية مقامَ الإنذارِ حقَّه

67

{قُلْ} تكريرُ الأمر للإيذانِ بأنَّ المقولَ أمرٌ جليلٌ له شأن خطير لابد من الاعتناء به أمراً وائتماراً {هُوَ} أي ما أنبأتُكم به من أنِّي منذر من جهته تعالى وانه تعالى واحد لاشريك له وأنه متَّصفٌ بما ذكر من الصفات الجليلة والأظهرُ أنَّه القرآنُ وما ذُكر داخلٌ فيه دُخولاً أوليّاً كما يشهد به آخر السُّورةِ الكريمة وهو قولُ ابن عبَّاسٍ ومُجاهدٍ وقَتَادةَ {نَبَأٌ عَظِيمٌ} واردٌ من جهتِه تعالى وقوله تعالى

68

{أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} استئنافٌ ناعٍ عليهم سوءَ صنيعهم به ببيان أنَّهم لا يقدِّرون قدرَه الجليلَ حيث يُعرضون عنه مع عظمته وكونه موجبا للافبال الكلي عليه وتلقِّيه بحسن القَبول وقيل صفةٌ أُخرى لنبأٌ وقولُه تعالى

69

{مَا كَانَ لِىَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الاعلى} الخ استئنافٌ مسوقٌ لتحقيقِ أنَّه نبأ عظيم واردٌ من جهته تعالى بذكر نبأٍ من أنبائهِ على التَّفصيل من غير سابقةِ معرفةٍ به ولا مباشرةِ سببٍ من أسبابِها المعتادةِ فإنَّ ذلك حجَّةٌ بينةٌ دالَّةٌ على أن ذلك بطريق الوحيِ من عند الله تعالى وان سائر انبائه أيضاً كذلك والملأُ الأعلى هم الملائكةُ وآدمُ عليهم السَّلامُ وإبليسُ عليه اللَّعنةُ وقوله تعالى {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} متعلِّق بمحذوفٍ يقتضيه المقام إذِ المراد نفيُ علمِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بحالهم

ص 70 71 لا بذوانهم والتَّقديرُ ما كان لي فيما سبق علم ما بوجه من الوجوه بحالِ الملأ الأعلى وقتَ اختصامِهم وتقديرُ الكلامِ كما اختاره الجمهورُ تحجيرٌ للواسعِ فإنَّ علمه عليه الصَّلاةُ والسلام غير مقصور على ما جرى بينهم من الأقوالِ فقط بل عامٌّ لها وللأفعال أيضاً من سجودِ الملائكة واستكبارِ إبليسَ وكفره حسبما ينطلق به الوحيُ فلا بُدَّ من اعتبارِ العمومِ في نفيِه أيضاً لا محالةَ وقولُه تعالَى

70

{إِن يوحى إِلَىَّ إِلاَّ أنما أنا نذير مبين} اعتراض وسط بين إجمال اختصامِهم وتفصِيله تقريراً لثُبوتِ علمه عليه الصلاة والسلام وتعييناً لسببه إلاَّ أنَّ بيانَ انتفائِه فيما سبق لمَّا كانَ منبئاً عن ثبوتِه الآن ومن البيِّن عدمُ ملابستِه عليه الصَّلاةُ والسلام بشئ من مباديه المعهودةِ تعين أنَّه ليس إلا بطريقِ الوحي حتما فجعل ذلك أمراً مسلَّم الثُّبوتِ غنيّاً عن الإخبارِ به قَصْداً وجعل مصبَّ الفائدةِ والمقصودَ إخبارَ ما هو داعٍ إلى الوحيِ ومصحِّحٌ له تحقيقَا لقوله تعالى إِنَّمَا أَنَاْ مُنذِرٌ في ضمن تحقيقِ علمهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بقصَّة الملأ الأعلى فالقائمُ مقامَ الفاعلِ ليُوحى إمَّا ضميرٌ عائدٌ إلى الحال المقدر أو ما يعمُّه وغيرَه فالمعنى ما يُوحى إلى حالِ الملأ الأعلى أو ما يوحى إلي ما يُوحى من الأمورِ الغيبيَّةِ التي من جُملِتها حالُهم إلاَّ لأنما أنا نذيرٌ مبين من جهته تعالى فإنَّ كونَه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كذلك من دَوَاعي الوحي إليه ومن موجباتِه حتماً وأمَّا أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ هو الجارُّ والمجرورُ أو هو أنما أنا نذير مبين بلا تقدير الجارِّ وأنَّ المعنى ما يُوحَى إليَّ إلاَّ للإنذارِ أو ما يوحى إلي إلا أنْ أنذر وأبلغَ ولا أفرِّط في ذلك كما قيل فمع ما فيه من الاضطرارِ إلى التَّكلُّفِ في توجيه قصرِ الوحي على كونِه للإنذارِ في الأوَّلِ وقصره على الأنذارِ في الثَّاني فلا يساعدُه سِباقُ النظم الكريم وسياقه كيف لا والاعتراضُ حينئذٍ يكون أجنبيّاً ممَّا توسَّط بينهما من إجمالِ الاختصامِ وتفصيلِه فتأمَّلُ والله المرشدُ وقرئ إِنَّما بالكسرِ على الحكايةِ وقولُه تعالَى

71

{إِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة} شروعٌ في تفصيل ما أجمل من الاختصامِ الذي هو ما جرى بينهم من التَّقاولِ وحيث كان تكليمُه تعالى إيَّاهم بواسطةِ المَلكِ صحَّ إسنادُ الاختصامِ إلى الملائكةِ وإذْ بدلٌ مِن إذِ الأولى وليس من ضرورة البدليَّةِ دخولُها على نفس الاختصامِ بل يكفي اشتمالُ ما في حيِّزها عليه فإنَّ القصَّة ناطقةٌ بذلك تفصيلاً والتَّعرُّضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسَّلام لتشريفِه والإيذانِ بأنَّ وحيَ هذا النبأ إليه تربيةٌ وتأييدٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والكافُ واردٌ باعتبارِ حالِ الآمرِ لكونِه أدلَّ على كونِه وحياً منزَّلاً من عنده تعالى كما في قوله تعالى قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ الخ دون حالِ المأمورِ وإلا لقيل ربِّي لأنَّه داخلٍ في حيِّز الأمرِ {إِنّى خالق} أي فيما سيأتي وفيه ما ليسَ في صيغة المضارعِ من الدِّلالةِ على أنَّه تعالى فاعل له اُلبتةَ منْ غيرِ صارفٍ يلويهِ ولا عاطفٍ يثنيهِ {بَشَرًا} قيل أي جسماً كثيفاً يلاقى ويُباشر وقيل خَلْقاً بادي البشرةِ بلا صوفٍ ولا شعرٍ ولعل ما جرى عند وقوع المحكيِّ ليس هذا الاسم الذي لم يُخلق مسمَّاهُ حينئذٍ فضلاً عن تسميتِه به بل عبارةٌ كاشفةٌ عن حالِه وإنما عبر عنه بهذا الاسمِ عند الحكايةِ {مِن طِينٍ} لم يتعرض

ص 72 75 لأوصافِه من التَّغيرِ والاسودادِ والمسنونيَّةِ اكتفاءً بما ذُكر في مواقعَ أُخرَ

72

{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أي صوَّرته بالصُّورةِ الإنسانيَّةِ والخِلقةِ البشريَّةِ أو سوَّيتُ أجزاءَ بدنِه بتعديل طائعه {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} النَّفخُ إجراءُ الرِّيح إلى تجويفِ جسمٍ صالحٍ لإمساكِها والامتلاءِ بها وليس ثَّمةَ نفخٌ ولا منفوخٌ وإنَّما هو تمثيل لافاضة مابه الحياةُ بالفعل على المادَّةِ القابلة لها أي فإذا كمَّلتُ استعدادَه وأفضت عليه ما يحيا به من الرُّوحِ التي هي من أمري {فَقَعُواْ لَهُ} أمرٌ من وقعَ وفيه دليلٌ على أنَّ المأمور به ليس مجرَّدَ الانحناءِ كما قيل أي اسقُطوا له {سَاجِدِينَ} تحَّيةً له وتكريماً

73

{فسجد الملائكة} أي فخلفه فسوَّاه فنفخ فيه الرُّوحَ فسجد له الملائكةُ {كُلُّهُمْ} بحيث لم يبقَ منهم أحدٌ إلاَّ سجدَ {أَجْمَعُونَ} أي بطريقِ المعيةِ بحيثُ لم يتأخَّر في ذلك أحدٌ منهم عن أحدٍ ولا اختصاص لإفادة هذا المعنى بالحالية بل يفيد التَّأكيدُ أيضاً وقيل أُكِّد بتأكيدين مبالغة في التعمم هذا وأمَّا أنَّ سجودَهم هذا هل ترتَّبَ عَلى ما حُكي من الأمر التعلبقي كما تقتضيهِ هذه الآيةُ الكريمةُ والتي في سُورة الحجرِ فإنَّ ظاهرَهُما يستدعِي ترتُّبه عليه من غيرِ أنْ يتوسَّط بينهما شيءٌ غير ما يفصحُ عنهُ الفاءُ الفصيحةٌ من الخلق والتسويةِ ونفخِ الرُّوحِ أو على الأمرِ التَّنجيزيِّ كما يقتضيه ما في سُورة البقرةِ وما في سُورةِ الأعرافِ وما في سُورة بني إسرائيلَ وما في سُورةِ الكهفِ وما في سُورة طه من الآياتِ الكريمةِ فقد مرَّ تحقيقُه بتوفيقِ الله عزَّ وجلَّ في سُورةِ البقرةِ وسُورة الأعرافِ

74

{إِلاَّ إِبْلِيسَ} استثناءٌ متَّصل لما أنه كانَ جنِّياً مفرَداً مغموراً بألوفٍ من الملائكةِ موصُوفاً بصفاتِهم فغلبُوا عليه ثمَّ استُثنِيَ استثناءَ واحدٍ منُهم أو لأنَّ الملائكةِ جنساً يتوالدُون وهو منُهم أو منقطعٌ وقولُه تعالى {استكبر} على الأوَّلِ استئنافٌ مبينٌ لكيفيَّةِ تركِ السّجودِ المفهومِ من الاستثناءِ فإنَّ تركَه يحتملُ أن يكونَ للتَّامُّل والتروِّي وبه يتحقق أنَّه للإباءِ والاستكبارِ وعلى الثَّاني يجوزُ اتِّصالُه بما قبله أي لكنْ إبليسُ استكبرَ {وَكَانَ مِنَ الكافرين} أي وصارَ منهم بمخالفتِه للأمرِ واستكبارِه عن الطَّاعةِ أو كان منهم في علمِ الله تعالى عزَّ وجلَّ

75

{قَالَ يا إِبْلِيسَ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} أَي خلقتُه بالذَّاتِ من غير توسُّطِ أبٍ وأمَ والتَّثنيةُ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بخلقِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ المستدعِي لإجلالِه وإعظامِه قَصْداً إلى تأكيدِ الإنكارِ وتشديدِ التَّوبيخِ {أَسْتَكْبَرْتَ} بهمزة الإنكارِ وطرحِ همزةِ الوصلِ أي أتكبَّرتَ من غيرِ استحقاقٍ {أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} المستحقِّين للتَّفوقِ وقيل أستكبرتَ الآنَ أم لم تزلْ منذ كنتَ من المستكبرينَ وقُرىء بحذفِ همزةِ الاستفهامِ ثقةً بدلالةِ أمْ عليها

ص 76 80 وقولُه تعالى

76

{قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} أدِّعاءٌ منه لشيءٍ مستلزم لمنعهِ من السُّجودِ على زعمِه وإشعارٌ بأنَّه لا يليقُ أنْ يسجدَ الفاضلُ للمفضولِ كما يُعرب عنه قولُه لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِّن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وقولُه تعالَى {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} تعليلٌ لما ادَّعاهُ من فضله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ولقد أخطأ اللعينُ حيث خَصّ الفضلَ بما من جهةِ المادةِ والعنصُر وزلَّ عنه ما من جهة الفاعل كَمَا أنبأ عَنْهُ قولِهِ تعالى لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ وما من جهة الصُّورة كما نبه عليه قوله تعالى وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى وما من جهة الغايةِ وهو ملاكُ الأمرِ ولذلك أُمر الملائكةُ بسجودِه عليهم السَّلامُ حين ظهرَ لهم أنَّه أعلمُ منهم بما يدور عليه أمرُ الخلافةِ في الأرضِ وأنَّ له خواصَّ ليست لغيرِه

77

{قَالَ فاخرج مِنْهَا} الفاءُ لترتيب الأمرِ على ما ظهر من اللَّعينِ من المخالفةِ للأمرِ الجليلِ وتعليلِها بالأباطيلِ أي فاخرجْ من الجنَّةِ أو من زُمرةِ الملائكةِ وهو المرادُ بالأمرِ بالهبوطِ لا الهبوطِ من السَّماءِ كما قيل فإنَّ وسوستَه لآدمَ عليه السلام بعد هذا الطَّردِ وقد بُيِّن كيفيةِ وسوستِه في سُورة البقرةِ وقيل اخرجْ من الخلقةِ التي كنتَ فيها وانسلخْ منها فإنَّه كان يفتخرُ بخلقتِه فغيَّر الله خلقتَه فاسودَّ بعد ما كان أبيضَ وقَبُح بعد ما كان حَسَناً وأظلمَ بعد ما كان نورانياً وقوله تعالى {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} تعليلٌ للأمرِ بالخروجِ أي مطرودٌ من كلِّ خيرٍ وكرامةٍ فإنَّ مَن يُطرَدْ يُرجَمْ بالحجارةِ أو شيطان يُرجم بالشُّهبِ

78

{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى} أي إبعادي عن الرَّحمةِ وتقييدها بالإضافةِ مع إطلاقِها في قوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة لما أنَّ لعنةَ اللاعنين من الملائكةِ والثَّقلينِ أيضاً من جهتِه تعالى وأنَّهم يدعُون عليه بلعنةِ الله تعالى وإبعادِه من الرَّحمةِ {إلى يَوْمِ الدين} أي يومَ الجزاء والعقوبةِ وفيه إيذانٌ بأنَّ اللَّعنةَ مع كمال فظاعتِها ليستْ جزاءً لجنايته بل هي أُنموذجٌ لما سيلقاه مستمرّاً إلى ذلك اليومِ لكنْ لاَ على أنَّها تنقطعُ يومئذٍ كما يُوهمه ظاهرُ التَّوقيتِ بل على أنَّه سيلقى يومئذٍ من ألوان العذابِ وأفانينِ العقابِ ما ينسى عنده اللَّعنَة وتصير كالزَّائلِ ألا يُرى إلى قوله تعالي فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين وقوله تعالى وَيَلْعَنُ بَعْضُهُم بَعْضاً

79

{قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى} أي أمهلنِي وأخِّرني والفاءُ متعلِّقة بمحذوفٍ ينسحبُ عليه الكلام أي اذا جعلتني رَجيماً فأمهلني ولا تُمِتْني {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي آدمُ وذريتُه للجزاءِ بعد فنائِهم وأرادَ بذلك أنْ يجدَ فُسحةً لإغوائِهم ويأخذَ منهم ثأرَه وينجوَ من الموتِ بالكلِّية إذ لا موتَ بعد يومِ البعثِ

80

{قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين} ورودُ الجوابِ بالجملةِ الاسميَّةِ مع التَّعرُّضِ لشمولِ ما سأله لآخرين على وجهٍ يشعر

ص 81 85 بكونِ السائلِ تبعاً لهم في ذلك دليلٌ واضحٌ على أنَّه إخبارٌ بالإنظارِ المقدَّر لهم أزلاً لا إنشاءٌ لإنظارٍ خاصَ به قد وقعَ إجابةً لدعائِه وأنَّ استنظارَه كان طَلَباً لتأخيرِ الموتِ إذ بهِ يتحقّقُ كونُه منهم لا لتأخيرِ العُقوبةِ كما قيل فإنَّ ذلكَ معلومٌ من إضافةِ اليَّومِ إلى الدِّينِ أي إنَّك من جُملةِ الذينَ أخِّرتْ آجالُهم أزلاً حسبما تقتضيِه حكمةُ التَّكوينِ

81

{إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} الذي قدَّره الله وعيَّنه لفناءِ الخلائقِ وهو وقتُ النَّفخةِ الأولى لا إلى وقتِ البعثِ الذي هو المسئول فالفاءُ ليستْ لربطِ نفسِ الأنظارِ بالاستنظارِ بل لربطِ الإخبارِ المذكورِ به كما في قول من قال فإن تَرحمْ فأنتَ لذاكَ أهلُ فإنَّه لا إمكان لجعل الفاءِ فيه لربطِ ماله تعالى من الأهليَّةِ القديمةِ للرحمة بوقوع الرحمةِ الحادثةِ بل هي لربط الإخبارِ بتلك الأهليةِ للرَّحمةِ بوقوعِها هذا وقد تُرك التَّوقيتُ في سورةِ الأعرافِ كما تُرك النِّداءُ والفاءُ في الاستنظار والإنظار تعويلاً على ما ذُكر ههنا وفي سُورة الحجرِ وإنْ خطَر ببالك أنَّ كلَّ وجهٍ من وجوهِ النَّظمِ الكريمِ لا بُدَّ أنْ يكون له مقامٌ بقتضيه مغايرٌ لمقامِ غيرِه وأنَّ ما حُكي من اللَّعينِ إنَّما صدرَ عنه مرَّةً وكذا جوابُه لم يقعْ إلاَّ دفعةً فمقام الاستنظارِ والإنظارِ إنِ اقتضَى أحدَ الوجوهِ المحكيَّةِ فذلك الوجهُ هو المطابقُ لمقتَضى الحالِ والبالغُ إلى رُتبةِ البلاغةِ ودرجةِ الإعجازِ وأمَّا ما عداهُ من الوجوهِ فهُو بمعزلٍ من بلوغِ طبقةِ البلاغةِ فضلاً عن العُروجِ إلى معارجِ الإعجازِ فقد سلفَ تحقيقُه في سورةِ الأعرافِ بفضلِ الله تعالى وتوفيقِه

82

{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ} الباءُ للقسمِ والفاءُ لترتيبِ مضمونِ الجملةِ على الإنظارِ ولا يُنافيه قولُه تعالى فبما أغويتني وقوله رب بما أغويتى فإنَّ إغواءَه تعالى إيَّاهُ أثرٌ من آثارِ قُدرتِه تعالى وعزَّتِه وحكمٌ من أحكامِ قهرِه وسلطنتِه فمآلُ الإقسامِ بهما واحدٌ ولعلَّ اللعينَ أقسمَ بهما جميعاً فحكى تارةً قسَمَه بأحدِهما وأُخرى بالآخرِ أي فأُقسم بعزَّتِك {لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} أي ذريةَ آدمَ بتزيينِ المَعَاصي لهم

83

{إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} وهم الذين أخلصَهم الله تعالى لطاعتِه وعصمَهم من الغواية وقرئ المخلِصين على صيغةِ الفاعلِ أي الذينَ أخلصُوا قلوبَهم وأعمالَهم لله تعالى

84

{قَالَ} أي الله عزَّ وجلَّ {فالحق والحق أَقُولُ} برفع الأوَّلِ على أنَّه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أو خبرٌ محذوفُ المبتدأِ ونصبِ الثَّاني على أنَّه مفعولٌ لما بعدَهُ قُدِّم عليه للقصرِ أي لا أقولُ إلاَّ الحقَّ والفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها أي فالحقُّ قَسَمي

85

{لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ} على أنَّ الحقَّ إمَّا اسمُه تعالى

ص 86 88 أو نقيضُ الباطلِ عظّمه الله تعالى بإقسامِه به أو فأنا الحقُّ أو فقولِي الحقُّ وقوله تعالى لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ الخ حينئذٍ جوابٌ لقسمٍ محذوفٍ أي والله لأملأنَّ الخ وقوله تعالى والحق أَقُولُ على كلِّ تقديرٍ اعتراضٌ مقرِّرٌ على الوجهينِ الأوَّلينِ لمضمونِ الجملةِ القَسَميَّةِ وعلى الوجِه الثَّالثِ لمضمونِ الجملةِ المتقدِّمةِ أعني فقولي الحقُّ وقُرئا منصوبينِ على أنَّ الأوَّلَ مقسمٌ به كقولِك الله لأفعلنَّ وجوابُه لأملأنَّ وما بينهما اعتراضٌ وقُرئا مجرورينِ على أن الأول مقسم به قد أُضمرَ حرفُ قسمِه كقولِك الله لأفعلنَّ والحقَّ أقولَ على حكايةِ لفظِ المقسمِ به على تقديرِ كونِه نقيضَ الباطلِ ومعناه التاكيد والتشديد وقرئ بجرِّ الأَولِ على إضمارِ حرفِ القسمِ ونصبِ الثَّانِي عل المفعوليَّةِ {مِنكَ} أي من جنسِك من الشَّياطينِ {وَمِمَّن تبعك} في الغواية والإضلال {منهم} ومن ذريةِ آدمَ {أَجْمَعِينَ} تأكيدٌ للكافِ وما عُطف عليه أي لأملأنَّها من المتبوعينَ والأتباعِ أجمعينَ كقولِه تعالى لمن اتبعك منهم لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ وهذا القولُ هو المرادُ بقوله تعالى ولكن حَقَّ القول مِنْى لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ وحيثُ كان مناطُ الحكمِ ههُنا اتِّباعُ الشَّيطانِ اتَّضحَ أنَّ مدارَ عدمِ المشيئةِ في قولِه تعالى وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا اتباعُ الكَفَرةِ للشَّيطانِ بُسوءِ اختيارِهم لا تحقُّقُ القولِ فليس في ذلك شائبةُ الجبرِ فتدبَّر

86

{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على القُرآنِ أو على تبليغِ ما يُوحى إليَّ {مِنْ أَجْرٍ} دنيويَ {وَمَا أَنَا مِنَ المتكلفين} أي المتصنعين مما ليسُوا من أهلِه حتَّى أنتحلَ النبوة وأتقوَّلَ القُرآنَ

87

{إِنْ هُوَ} أي مَا هُو {إِلاَّ ذِكْرٌ} من الله عزَّ وجلَّ {للعالمين} أي للثَّقلينِ كافَّةً

88

{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ} أي ما أنبأ بهِ من الوعدِ والوعيدِ وغيرِهما أو صحَّةَ خبرهِ وأنَّه الحقُّ والصِّدقُ {بَعْدَ حِينِ} بعد الموتِ أو يوم القيامة أوعند ظهور الإسلام وفسوه وقيل من بقى علمَ ذلك أذا ظهرَ أمرُه وعلاَ ومَن ماتَ علمَهُ بعدَ الموتِ وفيه من التهديد ما لا يَخْفى عنِ رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سورةَ ص كانَ له بوزنِ كلِّ جبلٍ سخَّره الله لداودَ عشرَ حسناتٍ وعُصم أنْ يُصرَّ على ذنبٍ صغيرٍ أو كبيرٍ وقال أبُو أمامةَ عصمَه الله تُعالى مِنْ كلِّ ذنبٍ صغيرٍ أو كبيرٍ والله أعلمُ

سورة الزمر 1 3 سورة الزمر مكية إلا قوله قل يا عبادي الآية وآياتها خمس وسبعون آية {بِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم}

الزمر

{تَنزِيلُ الكتاب} خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ هو اسمُ إشارةٍ أُشير به إلى السُّورةِ تنزيلاً لها منزلةَ الحاضر المُشارِ إليه لكونها على شرف الذِّكرِ والحضورِ كما مرَّ مراراً وقد قيل هو ضميرٌ عائد إلى الذكرُ في قوله تعالى إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين وقولُه تعالى {مِنَ الله العزيز الحكيم} صلة للتَّنزيلِ أو خبرٌ ثانٍ أو حالٌ من التَّنزيلِ عاملُها معنى الإشارة أو من الكتابِ الذي هو مفعولٌ معنى عاملُها المضاف وقيل هو خبرٌ لتنزيلُ الكتابِ والوجهُ الأَوَّلُ أو في بمقتضى المقامِ الذي هو بيانُ أنَّ السُّورةَ أو القُرآنَ تنزيلُ الكتابِ مِنَ الله تعالى لا بيانُ أنَّ تنزيلَ الكتابِ منه تعالى لا من غيرِه كما يفيده الوجهُ الأخير وقرئ تنزيلَ الكتابِ بالنَّصبِ على إضمار فعلِ نحو اقرأْ أو الزم والتعرض لو صفى العزَّةِ والحكمة للإيذانِ بظهور أثريهما في الكتاب بحريان أحكامِه ونفاذ أوامره ونواهيه من غير مُدافعٍ ولا ممانع وبابتناءِ جميع ما فيه على أساس الحِكَمِ الباهرةِ وقولُه تعالى

2

{إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق} شروعٌ في بيانِ شأنِ المنزَّلِ إليه وما يجبُ عليه إثرَ بيانِ شأن المنَّزلِ وكونِه من عند الله تعالى والمرادُ بالكتاب هو القُرآنُ وإظهاره على تقدير كونِه هو المرادَ بالأَوَّلِ أيضاً لتعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنِه والباء إمَّا متعلِّقةٌ بالإنزال أي بسبب الحقِّ وإثباته وإظهارِه أو بداعية الحقِّ واقتضائه للإنزالِ وإمَّا بمحذوفٍ هو حالٌ من نون العظمةِ أو من الكتاب أي أنزلناهُ إليك محقِّين في ذلك أو أنزلناه مُلتبِساً بالحقِّ والصواب أي كلُّ ما فيه حقٌّ لا ريبَ فيه موجبٌ للعمل به حَتْماً والفاءُ في قوله تعالى {فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} لترتيب الأمر بالعبادة على إنزالِ الكتاب إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالحقِّ أي فاعبْدُه تعالى ممُحِّضاً له الدِّينَ من شوائب الشِّركِ والرِّياءِ حسبما بُيِّن في تضاعيفِ ما أنزل إليك وقرئ برفع الدِّينِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه الظَّرفُ المقدَّمُ عليه لتأكيد الاختصاصِ المُستفاد من اللاَّمِ والجملةُ استئنافٌ وقع تعليلاً للأمر بإخلاصِ العبادةِ وقوله تعالى

3

{أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص}

الزمر 4 استئناف مقرر لما قبله من الأمرِ بإخلاص الدِّينِ له تعالى ووجوبِ الامتثالِ به وعلى القراءةِ الأخيرةِ مؤكِّدٌ لاختصاصِ الدِّينِ به تعالى أي أَلاَ هو الذي يجبُ أنْ يُخصَّ بإخلاصِ الطَّاعةِ له لأنَّه المُتفرِّدُ بصفاتِ الأُلوهيَّةِ التي من جملها الاطِّلاعُ على السَّرائرِ والضَّمائرِ وقولُه تعالى {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} تحقيقٌ لحقِّيةِ ما ذُكر من إخلاص الدِّينِ الذي هو عبارةٌ عن التَّوحيدِ ببيان بُطلان الشِّركِ الذي هو عبارةٌ عن ترك إخلاصِه والموصولُ عبارةٌ عن المُشركين ومحله الرفع على الابتداء خبره مما سيأتي من الجُملةِ المُصدَّرةِ بأنْ والأولياءُ عن الملائكةِ وعيسى عليهم السَّلامُ والأصنامِ وقولُه تعالى {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إلى الله زُلْفَى} حالٌ بتقدير القَول من واو اتخذوا مبينة لكيفيَّةِ إشراكِهم وعدمِ خُلوصِ دينهم والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ العلل وزُلْفى مصدرٌ مؤكِّدٌ على غير لفظِ المصدرِ ملاقٍ له في المعنى أي والذينَ لم يُخلصوا العبادةَ لله تعالى بل شابُوها بعبادةِ غيره قائلين ما نعبدهم لشئ من الأشياءِ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله تعالى تقريباً {إن الله يحكم بينهم} أي وبين خصمائِهم الذين هم المُخلِصون للدِّين وقد حُذفَ لدلالةِ الحالِ عليهِ كما في قولِهِ تعالى لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ من رُّسُلِهِ على أحدِ الوجهينِ أي بين أحدٍ منهم وبين غيرِه وعليه قول النَّابغةِ ... فمَا كانَ بين لخير لو جاءَ سالما ... أبُو حَجَرٍ إلا ليالٍ قلائلُ ... أي بين الخيرِ وبينِي وقيل ضمير بينَهم للفريقينِ جميعاً {فِيمَا هم فيه يختلفون} من الدِّين الذي اختلفُوا فيه بالتَّوحيد والإشراكِ وادَّعى كلُّ فريقٍ منهم صحَّةَ ما انتحله وحكمُه تعالى في ذلك إدخالُ الموحِّدينَ الجنَّةَ والمشركين النَّارَ فالضَّميرُ للفريقينِ هَذَا هُو الذي يستدعيه مساقُ النَّظمِ الكريم وأمَّا تجويزُ أنْ يكونَ الموصول عبارةً عن المعبودينَ على حذف العائد إليه وإضمارِ المشركينَ من غير ذكر تعويلاً على دلالة المساقِ عليهم ويكون التَّقديرُ والذين اتَّخذهم المشركون أولياءَ قائلين مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إلى الله إنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي بين العَبَدةِ والمعبودينَ فيما هم فيه يختلفُون حيثُ يرجُو العَبَدةُ شفاعتهم وهم يلعنونهم فبعد الإغضاءِ عمَّا فيه من التَّعسُّفاتِ بمعزل من السَّدادِ كيف لا وليس فيما ذُكر من طلب الشَّفاعةِ واللَّعنِ مادَّةٌ يختلفُ فيها الفريقانِ اختلافاً مُحوِجاً إلى الحكمِ والفصلِ وإنَّما ذاك ما بين فريقَيْ الموحِّدينَ والمشركينَ في الدُّنيا من الاختلاف في الدِّينِ الباقي إلى يوم القيامة وقرئ قالُوا ما نعبدُهم فهو بدل من الصلة لا خبرٌ للموصول كما قيل إذ ليس في الإخبار بذلك مزيد مزية وقرئ ما نعبدكم إلاَّ لتُقرِّبونا حكايةً لما خاطبُوا به آلهتهم وقرئ نعبدُهم إتباعاً للباء {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى} أي لا يُوفِّقُ للاهتداءِ إلى الحقِّ الذي هو طريقُ النَّجاةِ عن المكروهِ والفوزُ بالمطلوبِ {مَنْ هُوَ كاذب كَفَّارٌ} أي راسخٌ في الكذبِ مبالغٌ في الكُفرِ كما يُعربُ عنه قراءةُ كذَّاب وكَذُوب فإنَّهما فاقدانِ للبصيرةِ غيرُ قابلينِ للاهتداءِ لتغييرهما الفطرةَ الأصليَّةَ بالتَّمرُّنِ في الضَّلالةِ والتَّمادِي في الغِيِّ والجملةُ تعليلٌ لما ذُكر من حكمه تعالى

4

{لو أراد الله أن يَتَّخِذَ وَلَداً} الخ استئنافٌ مَسوقٌ لتحقيقِ الحقِّ وإبطالِ القولِ بأنَّ الملائكةَ بناتُ الله عيسى ابنُه تعالى عن ذلكَ عُلَّواً كبيراً ببيانِ استحالةِ اتخاذ الولد في حقه تعالى على الإطلاقِ ليندرجَ فيه استحالة

الزمر 5 ما قبل اندراجا أوليا أي لو أراد الله أنْ يتَّخذَ وَلَداً {لاصطفى} أي لاتَّخذَ {مِمَّا يَخْلُقُ} أي من جملة ما يخلقُه أو من جنس ما يخلقه {مَا يَشَاء} أنْ يتَّخذَه إذْ لا موجودَ سواهُ إلاَّ وهو مخلوقٌ له تعالى لامتناعِ تعدُّدِ الواجبِ ووجوبِ استنادِ جميعِ ما عداهُ إليه ومن البيِّنِ أنَّ اتِّخاذَ الولد منوطٌ بالمماثلة بين المتَّخِذِ والمتَّخَذِ وأنَّ المخلوقَ لا يُماثل خالقَه حتَّى يمكن اتِّخاذُه ولداً فما فرضناه اتِّخاذَ ولدٍ لم يكُن اتِّخاذَ ولدٍ بل اصطفاءُ عبدٍ وإليه أُشير حيث وُضع الاصطفاءُ موضع الاتِّخاذِ الذي تقتضيهِ الشَّرطَّيةُ تنبيهاً على استحالةِ مُقدمها لاستلزم فرض وقوعِه بل فرضِ إراد وقوعِه انتفاءه أي لو أراد الله تعالى أنْ يتَّخذَ ولداً لفعل شيئاً ليس هو من اتِّخاذِ الولد في شئ أصلاً بل إنَّما هو اصطفاءُ عبدٍ ولا ريب في أنَّ ما يستلزم فرضُ وقوَعه انتفاءَه فهو ممتنعٌ قطعاً فكأنَّه قيل لو أراد الله أن يتَّخذَ ولداً لامتنع ولم يصح لكن لاعلى أنَّ الامتناعَ منوطٌ بتحقُّقِ الإرادة بل على أنَّه مُتحقِّقٌ عند عدمِها بطريقِ الأَولوَّيةِ على منوال لو لم يخَفِ الله لم يعصِه وقوله تعالى {سبحانه} تقريرٌ لما ذُكر من استحالة اتخاذ الولد في حقِّه تعالى وتأكيدٌ له ببيانِ تنزُّهه تعالى عنه أي تنزّه بالذَّاتِ عن ذلك تنزهه الخاصّ به على أن السبحان مصدر من سبَح إذا بعُد أو أسبِّحه تسبيحاً لائقاً به على أنَّه عَلَم للتَّسبيح مقولٌ على ألسنة العباد أو سبِّحوه تسبيحاً حقيقاً بشأنِه وقولُه تعالى {هُوَ الله الواحد القهار} استئنافٌ مبيِّنٌ لتنزُّههِ تعالى بحسبِ الصِّفاتِ إثرَ بيانِ تنزُّههِ تعالى عنه بحسب الذَّاتِ فإنَّ صفةَ الأُلوهيَّةِ المستتبعة لسائر صفاتِ الكمال النَّافيةِ لسماتِ النُّقصانِ والوحدة الذَّاتية الموجبة لامتناعِ المُماثلة والمشاركة بينه تعالى وبين غيرِه على الإطلاقِ ممَّا يقضِي بتنزُّهه تعالى عمَّا قالوا قضاءً مُتقناً وكذا وصف القهَّاريَّةِ لما أنَّ اتخاذَ الولدِ شأنُ مَن يكون تحتَ ملكوتِ الغيرِ عُرضةً للفناءِ ليقومَ ولدُه مقامَه عند فنائِه ومَن هو مستحيلُ الفناءِ قهَّارٌ لكلِّ الكائناتِ كيفَ يُتصوُرُ أنْ يتَّخذَ من الأشياءِ الفانيةِ ما يقومُ مقامَه وقولُه تعالى

5

{خلق السماوات والارض بالحق} تفصيلٌ لبعض أفعاله تعالى الدالة على تفرُّدِه بما ذُكر من الصِّفاتِ الجليلة أي خلقهما وَمَا بَيْنَهُمَا من الموجودات ملتبِسة بالحقِّ والصَّوابِ مشتملة عل الحِكَم والمصالح وقولُه تعالى {يكور الليل عَلَى النهار وَيُكَوّرُ النهار على الليل} بيانٌ لكيفيَّةِ تصرُّفةِ تعالى فيهما بعد بيان خلقِهما فإنَّ حدوثَ اللَّيلِ والنَّهارِ في الأرض منوطٌ بتحريك السَّمواتِ أي يغشى كلُّ واحدٍ منُهما الآخَرَ كأنَّه يلفه عليه لفَّ اللباسِ على اللاَّبسِ أو يُغيبه به كما يُغيَّبُ الملفوفُ باللفامة أو يجعله كارَّاً عليه كُروراً متتابعاً تتابع أكوارِ العمامةِ وصيغةُ المضارع للدِّلالةِ على التَّجدُّدِ {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} جعلهما منقادينِ لأمرِه تعالى وقولُه تعالى {كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى} بيانٌ لكيفيَّةِ تسخيرِهما أي كلٌّ منهما يجري لمُنتهى دورتِه أو منقطعِ حركتِه وقد مرَّ تفصيلُه غيرَ مرَّةٍ {إِلاَّ هُوَ العزيز} الغالبُ القادر على كل شئ من الأشياء التي من جُملتها عقابُ العُصاةِ {الغفار} المبالغُ في المغفرةِ ولذلك لا يُعاجل بالعقوبةِ وسلب ما في هذه الصَّنائعِ البديعة من آثارِ الرَّحمةِ وتصدير

الزمر 6 الجملة بحرفِ التَّنبيهِ لإظهار كمالِ الاعتناءِ بمضمونِها

6

{خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} بيانٌ لبعضٍ آخرَ من أفعاله الدالة على ما ذُكر وتركُ عطفِه على خلقِ السَّمواتِ للإيذانِ باستقلالِه في الدِّلالةِ ولتعلُّقِه بالعالم السفلى والبداءة بخلق الإنسانِ لعراقتِه في الدِّلالةِ لما فيه من تعاجيبِ آثارِ القُدرةِ وأسرارِ الحكمةِ وأصالتِه في المعرفةِ فإنَّ الإنسانَ بحالِ نفسِه أعرفُ والمرادُ بالنَّفسِ نفسُ آدمَ عليه السَّلامُ وقولُه {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} عطفٌ على محذوفٍ هو صفةٌ لنفس أي منْ نفسٍ خلقَها ثمَّ جعل منها زَوْجَها أو على معنى واحدةٍ أي من نفسٍ وحدت ثم جعل منها زوجها فشَفَعها أو على خلقكم لتفاوتِ ما بينهما في الدِّلالةِ فإنَّهما وإن كانتا آيتينِ دالتَّينِ على ما ذُكر لكن الأُولى لاستمرارِها صارتْ معتادةً وأما الثَّانيةُ فحيثُ لم تكن معتادةً خارجةً عن قياسِ الأولى كما يُشعر به التعبيرُ عنها بالجعلِ دون الخلقِ كانت أدخلُ في كونِها آيةً وأجلبَ للتَّعجُّبِ من السَّامعِ فعطفت على الأولى بثمَّ دلالةً على مباينتِها لها فضلاً ومزية وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادةِ كونِها آيةً فهو من التَّراخي في الحالِ والمنزلةِ وقيل أخرج ذريَّةَ آدمَ من ظهرهِ كالذَّرِّ ثم خلقَ منه حواء ففيهِ ثلاثُ آياتٍ مترتِّبة خلقُ آدم عليه السلام بلا أبٍ وأمَ وخلقُ حوَّاءَ من قُصيراه ثم تشعيبُ الخلقِ الفائتِ للحصرِ منهما وقوله تعالى {وَأَنزَلَ لَكُمْ} بيانٌ لبعضٍ آخرَ من أفعاله الدالة على ما ذُكر أي قضى أو قسَم لكم فإنَّ قضاياهُ وقسمه تُوصف بالنُّزولِ من السَّماءِ حيثُ تُكتب في اللوحِ المحفوظِ أو أحدثَ لكم بأسبابٍ نازلةٍ من السَّماءِ كالأمطارِ وأشعَّةِ الكواكبِ {مّنَ الانعام ثمانية أزواج} ذكراً وأُنثى هي الإبلُ والبقرُ والضَّأنُ والمعَزِ وقيل خلقَها في الجنَّةِ ثمَّ أنزلها وتقديمُ الظَّرفينِ على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أُخِّر فإنَّ كونِ الإنزالِ لمنافعِهم وكونَه من الجهةِ العاليةِ من الأمورِ المهمة المشوفة إلى ما أُنزل لا محالةَ وقولُه تعالَى {يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أمهاتكم} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ كيفيَّةِ خلقِهم وأطواره المختلفةِ الدَّالَّةِ على القُدرةِ الباهرةِ وصيغة المضارعِ الدلالة على التَّدرجِ والتَّجدُّدِ وقولُه تعالى {خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ} مصدرٌ مؤكد أي يخلقكُم فيها خلقاً كائناً من بعدِ خلقٍ أي خلقاً مدرجاً حيواناً سَوياً من بعد عظام مكسوَّةٍ لحماً من بعد عظامٍ عارية من بعد مضع مخلَّقةٍ من بعد مضغ غير مخلَّقةٍ من بعد علقةٍ من بعد نُطفةٍ {فِى ظلمات ثلاث} متعلِّق بيخلقُكم وهي ظُلمة البطن وظُلمة الرَّحمِ وظُلمة المشيمةِ أو ظُلمة الصُّلبِ والبطنِ والرَّحِمِ {ذلكم} إشارة إليه تعالى باعتبارِ أفعالِه المذكورةِ وما فيه من مَعْنى البُعد للإيذانِ ببُعد منزلتِه تعالى في العظمةِ والكبرياءِ ومحله الرفع على الابتداء أي ذلكم العظيمُ الشأنِ الذي عددت أفعاله {الله} وقوله تعالى {رَبُّكُمْ} خبرا آخر أي مرببكم فيما ذُكر من الأطوارِ وفيما بعدَها ومالككم المستحقُّ لتخصيصِ العبادةِ به {لَهُ الملك} على الإطلاقِ في الدُّنيا والآخرةِ ليس لغيره شركةٌ في ذلك بوجهٍ

الزمر 7 8 من الوجوهِ والجملةُ خبرٌ آخرُ وكذا قولُه تعالى {لاَ إله إِلاَّ هو} والفاء في قوله تعالى {فأنى تُصْرَفُونَ} لترتيبِ ما بعدَها على ما ذُكر من شئونه تعالى أي فكيفَ تُصرَفون عن عبادتِه تعالى مع وفورِ موجباتِها ودواعيها وانتفاءِ الصَّارفِ عنها بالكُلِّيةِ إلى عبادةِ غيرِه من غير داعٍ إليها مع كثرة الصَّوارفِ عنها

7

{إِن تَكْفُرُواْ} به تعالى بعد مشاهدةِ ما ذُكر من فنونِ نعمائِه ومعرفةِ شئونه العظيمةِ الموجبةِ للإيمانِ والشُّكرِ {فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ} أي فاعلمُوا أنَّه تعالى غنيٌّ عن إيمانِكم وشكركم غيرُ متأثِّرٍ من انتفائهما {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر} أي عدمُ رضاه بكفر عباده لأجل منفعتِهم ودفعِ مضرَّتِهم رحمةً عليهم لا لتضرُّرهِ تعالى به {وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ} أي يرض الشُّكرَ لأجلكم ومنفعتكم لأنَّه سببٌ لفوزكم بسعادة الدَّارينِ لا لانتفاعه تعالى به وإنَّما قيل لعباده لا لكُم لتعميم الحكمِ وتعليله بكونهم عبادَه تعالى وقرئ بإسكانِ الهاءِ {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} بيانٌ لعدم سرايةِ كفر الكافر إلى غيرِه أصلاً أي لا تحملُ نفسٌ حاملة للوزر حملَ نفسٍ أخرى {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ} بالبعث بعد الموت {فَيُنَبّئُكُمْ} عند ذلك {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي كنتُم تعملونَه في الدُّنيا من أعمال الكفر والإيمانِ أي يُجازيكم بذلك ثواباً وعقاباً {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي بمضمرات القلوبِ فكيف بالأعمال الظاهرة وهو تعليل للتنبئة

8

{وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ} من مرضٍ وغيره {دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} راجعاً إليه ممَّا كان يدعُوه في حالة الرخاء لعلمه بأنَّه بمعزلٍ من القُدرة على كشف ضُرِّه وهذا وصف للجنس بحالِ بعضِ أفرادِه كقوله تعالى إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ} أي أعطاهُ نعمةً عظيمةً من جنابه تعالى من التَّخولِ وهو التَّعهدُ أي جعله خائلَ مالٍ من قولهم فلانٌ خائلُ مال إذا كان مُتعهِّداً له حسنَ القيامِ به أو من الخَولِ وهو الافتخارُ أي جعله يخُولُ أي يختالُ ويفتخرُ {نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ} أي نسيَ الضُّرَّ الذي كان يدعُو الله تعالى فيما سبق إلى كشفِه {مِن قَبْلُ} أي من قبل التَّخويلِ أو نسي ربَّه الذي كان يدعُوه ويتضرَّعُ إليه إمَّا بناء على أنَّ ما بمعنى مِنْ كما في قوله تعالى وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى وقولُه تعالَى وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ وإمَّا إيذاناً بأنَّ نسيانَهُ بلغ إلى حيثُ لا يعرف مدَّعوه ما هو فضلاً عن أنْ يعرفه من هو كما مر في قوله تعالى عَمَّا أَرْضَعَتْ {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً} شركاءَ في العبادة {لِيُضِلَّ} النَّاس بذلك {عَن سَبِيلِهِ} الذي هو التَّوحيدُ وقرئ ليَضلَّ بفتح الياء أي يزدادَ ضلالاً أو يثبتَ عليه وإلا فأصلُ الضَّلالِ غيرُ متأخِّرٍ عن الجعل المذكور واللامُ لامُ العاقبة كما في قوله تعالى

الزمر 9 فالتقطَه آلُ فرعونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً خلا أنَّ هذا أقربُ إلى الحقيقةِ لأنَّ الجاعلَ ههنا قاصدٌ بجعله المذكورِ حقيقةَ الإضلالِ والضَّلالِ وإنْ لم يعرف لجهله أنَّهما إضلالٌ وضلالٌ وأمَّا آلُ فرعونَ فهم غيرُ قاصدين بالتقاطِهم العداوةَ أصلاً {قُلْ} تهديداً لذلك الضَّالَّ المُضلَّ وبياناً لحالِه ومآلِه {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} أي تمتُّعاً قليلاً أو زمَاناً قليلاً {إِنَّكَ من أصحاب النار} أي من ملازميها والمعذَّبين فيها على الدَّوامِ وهو تعليلٌ لقلَّة التَّمتعِ وفيه من الإقناط من النَّجاةِ ما لا يخفى كأنَّه قيل إذ قد أبيتَ قبولَ ما أُمرت به من الإيمان والطَّاعةِ فمن حقَّك أنْ تُؤمرَ بتركه لتذوقَ عقوبتَه

9

{أم من هو قانت آناء الليل} الخ من تمامِ الكلامِ المأمورِ به وأم إما متصلة قد حذف معاد لها ثقةً بدلالة مساقِ الكلام عليه كأنَّه قيل له تأكيداً للتَّهديد وتهكُّماً به أأنت أحسنُ حالاً ومآلاٍ ام من هو قائمٌ بمواجب الطَّاعاتِ ودائم على أداءَ وظائف العبادات في ساعاتِ اللَّيل حالتَيْ السَّراءِ والضَّراءِ لا عند مساس الضُّرِّ فقط كدأبك حالَ كونِه {ساجدا وَقَائِماً} أي جامعاً بين الوصفينِ المحمودينِ وتقديمُ السُّجودِ على القيام لكونه أدخلَ في معنى العبادة وقرئ كلاهُما بالرَّفعِ على أنه خبرُ بعد خبرٍ {يَحْذَرُ الاخرة} حالٌ أُخرى على التَّرادفِ أو التَّداخلِ أو استئنافٌ وقعَ جَواباً عما نشأ من حكاية حاله من القنوتِ والسُّجود والقيامِ كأنه قيل ما باله يفعل ذلك فقيلَ يحذرُ عذاب الاخرة {ويرجو رَّحْمَةِ رَبّهِ} فينجُو بذلك مما يحذرُه ويفوزُ بما يرجوه كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية المنبئةِ عن التبليغِ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرِ الرَّاجي لا أنَّه يحذرُ ضرَّ الدُّنيا ويرجُو خيرَها فقط وإما منقطعةٌ وما فيها من الإضرابِ للانتقالِ من التَّهديدِ إلى التبكيت بتكليف الجواب الملجئ إلى الاعترافِ بما بينهما من التَّباينِ البيِّن كأنَّه قيل بل ام من هو قانتٌ الخ أفضل ام من هو كافرٌ مثلك كما هو المعنى على قراءة التَّخفيفِ {قُلْ} بياناً للحقِّ وتنبيهاً على شرفِ العلمِ والعمل {هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ} حقائقَ الأحوالِ فيعملون بموجبِ علمهم كالقانتِ المذكورِ {والذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي ما ذُكر أو شيئاً فيعملون بمقتضى جهلِهم وضلالِهم كدأبك والاستفهامُ للتَّنبيه على أنَّ كون الأَوَّلينَ في أعلى معارج الخيرِ وكون الآخرينَ في أقصى مدارج الشَّرِّ منَ الظُّهورِ بحيثُ لا يكاد يخفى على أحدٍ من منصفِ ومكابرٍ وقيل هو واردٌ على سبيل التشيه أي كما لا يستوي العالمونَ والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصُون وقوله تعالى {إنما يتذكر أولوا الالباب} كلامٌ مستقلٌّ غيرُ داخلٍ في الكلامِ المأمور به واردٌ من جهته تعالى بعد الأمر بما ذُكر من القوارعِ الزَّاجرةِ عن الكُفر والمعاصِي لبيانِ عدمِ تأثيرِها في قلوبِ الكفرةِ لاختلال عقولهم كما في قول من قال ... عوجوا فحيوا لنعمى دمنة الدار ... ماذا تحيون من نوى وَأَحْجَارِ ... أي إنما يتَّعظُ بهذه البيانات الواضحة أصحابُ العقولِ الخالصةِ عن شوائب الخللِ وهؤلاءِ بمعزلٍ من ذلك وقرئ إنما يذكر بالإدغام

الزمر

10

10 - 12 {قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا رَبَّكُمْ} أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتذكير المُؤمنين وحملِهم على التَّقوى والطَّاعة إثرَ تخصيص التذكرِ بأولي الألباب إيذاناً بأنَّهم هم كما سيصرِّح به أي قُل لهم قولي هذا بعينه وفيه تشريفٌ لهم بإضافتهم إلي ضمير الجلالةِ ومزيدُ اعتناءٍ بشأن المأمور به فإنَّ نقلَ عينِ أمرِ الله أدخلُ في إيجابِ الإمتثالِ به وقولُه تعالى {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} تعليلٌ للأمر أو لوجوبِ الامتثال به وإيراد الإحسان في حيِّز الصِّلةِ دون التَّقوى للإيذانِ بأنَّه من باب الإحسانِ وأنَّهما مُتلازمانِ وكذا الصَّبرُ كما مرَّ في قوله تعالى إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ وفي قوله تعالى إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين وقوله تعالى {فِى هذه الدنيا} متعلِّقٌ بأحسنُوا أي عملوا الأعمالَ الحسنةَ في هذه الدُّنيا على وجه الإخلاصِ وهو الذي عبّر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حينَ سُئل عن الإحسانِ بقوله صلى الله عليه وسلم أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّه يراكَ {حَسَنَةٌ} أي حسنة عظيمةٌ لا يُكتَنه كُنهُها وهي الجنَّةُ وقيل هو متعلِّقٌ بحسنة على أنَّه بيان لمكانها أوْ حالٌ منْ ضميرِها في الظَّرفِ فالمرادُ بها حينئذٍ الصِّحَّةُ والعافيةُ {وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ} فمن تعسَّر عليه التَّوفرُ على التَّقوى والإحسانِ في وطنِه فليهاجر إلى حيثُ يتمكَّن فيه من ذلك كما هو سُنَّة الأنبياءِ والصَّالحينَ فإنه لا عُذرَ له في التَّفريطِ أصلاً وقوله تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون} الخ ترغيب في التَّقوى المأمور بها وإيثارُ الصَّابرين على المتَّقين للإيذانِ بأنَّهم حائزونَ لفضيلة الصَّبر كحيازتهم لفضيلةِ الإحسانِ لما أشير إليه من استلزام التَّقوى لهما مع ما فيه من زيادة حثَ على المصابرةِ والمجاهدةِ في تحمُّل مشاقَّ المهاجرة ومتاعبها أي إنَّما يوفَّى الذين صبرُوا على دينِهم وحافظُوا على حدودِه ولم يُفرِّطُوا في مُراعاةِ حقوقه لما اعتراهم في ذلك من فُنونِ الآلامِ والبَلاَيا التي من جُملتها مهاجرةُ الأهلِ ومفارقةُ الأوطانِ {أَجْرَهُمْ} بمقابلة ما كابدُوا من الصَّبرِ {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بحيث لا يُحصى ولا يُحصر عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما لا يَهتدِي إليه حسابُ الحُسَّاب ولا يُعرف وفي الحديثِ أنَّه تنصبُ الموازينُ يوم القيامة لأهلِ الصَّلاة والصَّدقة والحَجِّ فيُؤتَون بها أجورَهم ولا تنُصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجرُ صَّباً حتَّى يتمنَّى أهلُ العافيةِ في الدُّنيا أنَّ أجسادَهم تُقرضُ بالمقاريضِ مَّما يذهبُ به أهلُ البلاءِ من الفضلِ

11

{قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين} أي من كلِّ ما ينافيهِ من الشِّركِ والرِّياءِ وغير ذلك أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيانِ ما أُمر به نفسه من الإخلاصِ في عبادة الله الذي هو عبارةٌ عمَّا أُمر به المؤمنون من التَّقوى مبالغةً في حثِّهم على الإتيان بما كُلِّفوه وتمهيداً لما يعقُبه مَّما خُوطب به المشركونَ

12

{وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين} أي وأُمرت بذلك لأجلِ أنْ أكونَ مقدَّمهم

الزمر 13 16 في الدُّنيا والآخرةِ لأنَّ إحرازَ قَصَب السَّبقِ في الدِّين بالإخلاصِ فيه والعطفُ لمغايرة الثاني الاول بتقيده بالعلَّةِ والإشعارِ بأنَّ العبادةَ المذكورةَ كما تقتضِي الأمرَ بها لذاتِها تقتضيهِ لما يلزمُها من السَّبقِ في الدِّينِ ويجوزُ أنْ تُجعلَ اللاَّمُ مزيدةً كما في أردتُ لأنْ أقومَ بدليلِ قوله تعالى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أسلم فالمعنى وأُمرت أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أسلمَ من أهلِ زمانيِ أو مِن قومي أو أكون أولَ من دَعا غيرَهُ إلى ما دعا إليه نفسَه

13

{قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ ربي} يترك الإخلاصِ والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هو يومُ القيامةِ وصفَ بالعظمةِ لعظمةِ ما فيهِ من الدَّواهي والأهوالِ

14

{قل الله أعبد} لاغيره لا استقلالاً ولا اشتراكاً {مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى} من كل شوب امر صلى الله عليه وسلم أوَّلاً ببيان كونِه مأموراً بعبادة الله تعالى واخلاص الدِّينِ له ثمَّ بالإخبارِ بخوفِه من العذابِ على تقديرِ العصيانِ ثمَّ بالإخبارِ بامتثاله بالأمرِ على أبلغِ وجِه وآكدِه إظهاراً لتصلُّبه في الدِّينِ وحسماً لأطماعِهم الفارغةِ وتمهيداً لتهديدِهم بقوله تعالى

15

{فاعبدوا مَا شِئْتُمْ} أنْ تعبدُوه {مِن دُونِهِ} تعالى وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم مالا يخفي كأنَّهم لمَّا لم ينتهُوا عما نُهوا عنه أُمروا به كي يحل بهم العقابُ {قُلْ إِنَّ الخاسرين} أي الكاملينَ في الخُسران الذي هو عبارةٌ عن إضاعةِ ما يُهمه واتلاف مالا بدَّ منه {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} باختيارِهم الكفرَ لهما أي أضاعُوهما وأتلفوهُما {يَوْمُ القيامة} حين يدخُلون النَّارِ حيث عرَّضوهما للعذابِ السَّرمديِّ وأوقعُوهما في هَلَكةٍ لا هلكةَ وراءها وقيل خسِروا أهليهم لأنَّهم إنْ كانُوا من أهلِ النَّار فقد خسروهم كما خسِروا انفسهم وإن كانُوا من أهلِ الجنَّةَ فقد ذهبُوا عنهم ذهاباً لا إيابَ بعدَهُ وفيه ان المحذور ذهاب مالو آبَ لانتفع به الخاسرُ وذلك غيرُ متصوَّرٍ في الشِّقِّ الأخيرِ وقيل خسِروهم لانهم لم يدخلوا مدخل الذين لهم في اهل الجنَّةِ وخَسِروا أهليهم الذين كانِوا يتمتَّعون بهم لو آمنُوا وأيَّا ما كان فليسَ المرادُ مجرد تعريفِ الكاملينَ في الخُسران بما نذكر بل بيانَ أنَّهم هم إما نجعل الموصولِ عبارةً عنهم أو عمَّا هم مُندرجون فيه اندراجاً أوليَّاً وما في قوله تعالى {أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين} من استئنافِ الجملةِ وتصديرِها بحرفِ التَّنبيه والإشارةِ بذلك إلى بُعد منزلةِ المشارِ إليه في الشَّرِّ وتوسيطُ ضمير الفصل وتعريفُ الخسرانِ ووصفُه بالمبينِ من الدِّلالةِ عَلى كمالِ هو له وفظاعتِه وأنَّه لا خُسران وراءه مالا يَخفْى وقوله تعالى

16

{لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار}

الخ نوع بيانٍ لخسرانِهم بعد تهويله بطريق الابهام على أنَّ لهم خبرٌ لظُللٌ ومن فوقِهم متعلِّقٌ بمحذوفٍ قيل هو حالٌ من ظُللٌ والأظهرُ أنَّه حالٌ من الضمير في الظَّرفِ المُقدَّمِ ومن النَّارِ صفةٌ لظللٌ أي لهم كائنةٌ من فوقهم ظللٌ كثيرةٌ متراكبةٌ بعضُها فوق بعضِ كائنةٌ من النَّارِ {وَمِن تَحْتِهِمْ} أيضاً {ظُلَلٌ} أي أطباقٌ كثيرةٌ بعضُها تحتَ بعضٍ ظللٌ لآخرينَ بل لهم ايضا عند ترديهم في دركانها {ذلك} العذابُ الفظيعُ هو الذي {يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ} ويُحذِّرهم إيَّاه بآياتِ الوعيدِ ليجتنبُوا ما يُوقعهم فيه {يا عباد فاتقون} ولا تتعرَّضُوا لَما يُوجبُ سَخَطي وهذه عظةٌ من الله تعالى بالغةٌ منطويةٌ على غايةِ اللُّطفِ والمرحمةِ وقُرىء يا عبادِي

17

{والذين اجتنبوا الطاغوت} أي البالغ اقصى غاية الطُّغيانِ فَعَلوتٌ منه بتقديم اللاَّمِ على العينِ بُني للمبالغةِ في المصدرِ كالرَّحموتِ والعظَمُوتِ ثم وُصف به للمبالغةِ في النَّعتِ والمرادُ به هو الشَّيطانُ {أَن يعبدوها} بدل اشتمال منه فإنَّ عبادةَ غيرِ الله تعالى عبادةٌ للشَّيطانِ إذِ هُو الآمرُ بها والمُزيِّنُ لها {وَأَنَابُواْ إِلَى الله} وأقبلُوا إليه مُعرضين عما سواه إقبالاً كلِّياً {لَهُمُ البشرى} بالثَّوابِ على ألسنةِ الرُّسلِ أو الملائكةِ عند حضورِ الموتِ وحين يُحشرون وبعد ذلك {فَبَشّرْ عِبَادِ}

18

{الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} هم الموصُوفون بالاجتنابِ والإنابةِ بأعيانهم لكنْ وُضع موضِعَ ضميرِهم الظاهِرِ تشريفاً لهم بالإضافةِ ودلالةً على أنَّ مدارَ اتصِّافِهم بالوصفينِ الجليلينِ كونُهم نُقَّاداً في الدَّينِ يميِّزون الحقَّ من الباطلَ ويؤُثرون الأفضلَ فالأفضلَ {أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتصافِهم بما ذُكِرَ من النَّعوتِ الجليلةِ وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتهم وبُعد منزلتِهم في الفضلِ ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ خبرُه ما بعده من الموصولِ أي اولئك المنعوتون بالمحاسن الجميلة {الذين هداهم الله} للذين الحق {وأولئك هم أولوا الالباب} أي هم أصحابُ العقول السليمة عن معارضة الوهمِ ومنازعةِ الهَوَى المستحقُّون للهدايةِ لا غيرهم وفيه دلالةٌ على أنَّ الهدايةَ تحصلُ بفعل الله تعالى وقبول النَّفسِ لها

19

{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن في النار} بيان الاحوال أضَّدادِ المذكورينَ على طريقة الإجمالِ وتسجيلٌ عليهم بحرمانِ الهداية وهم عَبَدةُ الطَّاغوتَ ومتَّبعُو خطواتها كما يُلوحُ به التَّعبيرُ عنهم بمن حق عليه كلمة العذاب فإنَّ المرادَ بها قولُه تعالى لإبليسَ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ منهم أجمعين وقوله تعالى لمن تبعك منهم لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ وأصلُ الكلامِ أمن حقَّ عليه كلمةُ العذاب فأنتَ تنقذه على أنَّها شرطيةٌ دخل عليها الهمزةُ لإنكارِ مضمونها ثم الفاءُ لعطفها على جملةٍ مستتبعة لها مقدَّرة بعد الهمزةِ ليتعلَّق الإنكارُ والنَّفيُ بمضمونيهما

الزمر 20 21 معاً أي أأنتَ مالكُ أمرِ النَّاسِ فمن حقَّ عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه ثم كُررتْ الهمزةُ في الجزاءِ لتأكيدِ الإنكارِ وتذكيرِه لمَّا طال الكلامُ ثم وضِع موضعَ الضَّميرِ مَن في النَّارِ لمزيد تشديدِ الإنكارِ والاستبعاد والتَّنبيه عَلى أنَّ المحكومَ عليهِ بالعذابِ بمنزلة الواقعِ في النار وان اجتهاده صلى الله عليه وسلم فى دُعائهم إلى الإيمانِ سعيٌ في إنقاذِهم من النَّارِ ويجوزُ أن يكونَ الجزاءُ محذوفاً وقوله تعالى أفأنتَ الخ جملة مستقلَّةٌ مسوقة لتقريرِ مضمون الجملة السَّابقةِ وتعيين ما حُذف منها وتشديدِ الإنكارِ بتنزيل من استحقَّ العذابَ منزلةَ من دخل النَّارَ وتصوير الاجتهاد في دُعائه إلى الإيمان بصورةِ الإنقاذِ من النَّارِ كأنَّه قيل أوَّلاً أفمن حقَّ عليه العذابُ فأنتَ تخلِّصه منه ثم شُدِّد النَّكيرُ فقيل أفأنتَ تنقذ من فى النار وفيه تلويحٌ بأنَّه تعالى هو الذي يقدر على الانقاذ لا غيرُه وحيثُ كان المرادُ بمن في النَّارِ الذين قيل في حقِّهم لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ من النار ومن تحتهم ظُلَلٌ استدركَ منهم بقوله تعالى

20

{لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} وهم الذين خُوطبوا بقوله تعالى ياعباد فاتقون ووُصفوا بما عُدِّد من الصِّفاتِ الفاضلةِ وهم المخاطَبون أيضاً فيما سبق بقوله تعالى يَا عِبَادِى الذين آمنوا اتقوا رَبَّكُمْ الآيةَ وبينَّ أنَّ لهم درجاتٍ عاليةً في جنَّاتِ النَّعيمِ بمقابلة ما للكفرةِ من دَرَكاتٍ سافلةٍ في الجحيم أي لهم علالي بعضُها فوقَ بعضٍ {مَّبْنِيَّةٌ} بناءَ المنازلِ المبنية المؤسَّسةِ على الأرضِ في الرَّصانةِ والإحكام {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} من تحت تلك الغرفِ {الانهار} من غيرِ تفاوتٍ بين العُلوِّ والسُّفلِ {وَعَدَ الله} مصدرٌ مؤكدٌ لقولِه تعالى لهم غُرف الخ فإنه وعدٌ وأيُّ وعدٍ {لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد} لاستحالتِه عليه سبحانه

21

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزل من السماء ماء} استئنافٌ وارد إمَّا لتمثيلِ الحياة الدنيا في سرعة الزَّوالِ وقُرب الاضمحلالِ بما ذُكِرَ من أحوالِ الزَّرعِ ترغيباً عن زخارِفها وزينتها وتحذيراً من الاغترارِ بزَهرتِها كما في نظائرِ قولِه تعالى إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا الآيةَ أو للاستشهاد على تحقُّقِ الموعودِ من الأنهارِ الجاريةِ من تحت الغُرفِ بما يُشاهد من إنزالِ الماءِ من السَّماءِ وما يترتبُ عليهِ من آثارِ قدرتهِ تعالى وأحكامِ حكمتِه ورحمتِه والمرادُ بالماءِ المطر وقيل كلُّ ماءٍ في الأرضِ فهو من السماء ينزل منها إلى الصَّخرةِ ثم يقسمُه الله تعالى بين البقاعِ {فَسَلَكَهُ} فأدخلَه ونظمه {يَنَابِيعَ فِى الارض} أي عُيوناً ومجاريَ كالعروقِ في الأجسادِ وقيل مياهاً نابعةً فيها فإنَّ الينبوعَ يطلقُ على المنبعِ والنَّابعِ فنصبها على الحالِ وعلى الأوَّلِ بنزعِ الجارِّ أي في ينابيعَ {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} أصنافُه من بُرَ وشعيرٍ وغيرهِما أو كيفانه من الألوانِ والطُّعومِ وغيرِهما وكلمة ثُم للتَّراخي في الرُّتبةِ أو الزَّمانِ وصيغةُ المضارع لاستحضار

الزمر 22 الصُّورةِ {ثُمَّ يَهِيجُ} أي يتمُّ جفافُه ويشرف على أنْ يثورَ من منابتِه {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} من بعد خُضرتِه ونُضرتِه وقُرىء مُصفارَّا {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حطاما} فُتاتاً مُتكسِّرةً كأن لم يغنَ بالأمسِ ولكون هذه الحالةِ من الآثارِ القوَّيةِ عُلِّقت بجعلِ الله تعالى كالإخراجِ {إِنَّ فِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذُكر تفصيلاً وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِه في الغَرابةِ والدِّلالةِ على ما قُصد بيانُه {لِذِكْرِى} لتذكيراً عظيماً {لاِوْلِى الالباب} لأصحابِ العقولِ الخالصةِ عن شوائبِ الخللِ وتنبيهاً لهم على حقيقةِ الحالِ يتذكَّرون بذلك أنَّ حالَ الحياةِ الدنيا في سرعة التقضى والانصرامِ كما يشاهدونَهُ من حال الحُطامِ كلَّ عامٍ فلا يغترُّون ببهجتِها ولا يُفتتنون بفتنتها أو يجزمون بأن مَن قدَر على إنزالِ الماءِ من السَّماءِ وإجرائِه في ينابيع الأرضِ قادرٌ على إجراءِ الأنهارِ من تحتِ الغُرفِ هذا وأمَّا مَا قيلَ إنَّ في ذلك لتذكيراً وتنبيهاً على أنَّه لا بُدَّ من صانعٍ حكيمٍ وأنه كائنٌ عن تقديرٍ وتدبيرٍ لا عن تعطيلٍ وإهمالٍ فبمعزلٍ من تفسيرِ الآيةِ الكريمةِ وإنَّما يليقُ ذلك بما لو ذُكرَ ما ذُكر من الآثارِ الجليلة والأفعالِ الجميلةِ من غيرِ إسنادٍ لها إلى مؤثِّرٍ ما فحيثُ ذُكرتْ مسندةً إلى الله عزَّ وجلَّ تعيَّن أنْ يكونَ متعلَّقُ التذكير والتنبيه شئونه تعالى أوشئون آثارِه حسبما بُيِّن لا وجودُه تعالى وقولُه تعالى

22

{أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام} الخ استئنافٌ جارٍ مجرى التعليل لما قبله من تخصيصِ الذِّكرى بأولي الألبابِ وشرحُ الصَّدرِ للإسلامِ عبارةٌ عن تكميلِ الاستعدادِ له فإنه محلٌّ للقلبِ الذي هو منبعٌ للرُّوحِ التي تتعلَّقُ بها النَّفسُ القابلةُ للإسلامِ فانشراحُه مستدعٍ لاتِّساعِ القلبِ واستضاءتِه بنوره فإنه روي انه صلى الله عليه وسلم قال إذا دخلَ النُّور القلبَ انشرحَ وانفسحَ فقيل فما علامةُ ذلك قال صلى الله عليه وسلم الإنابةُ إلى دارِ الخُلودِ والتَّجافي عن دارِ الغُرور والتَّأهُّبُ للموتِ قبل نزولِه والكلامُ في الهمزةِ والفاءِ كالذي مرَّ في قوله تعالى أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب وخبرُ مَن محذوفٌ لدلالةِ ما بعدَهُ عليه والتَّقديرُ أكلُّ النَّاسِ سواءٌ فَمْن شَرحَ الله صدرَهُ أي خلقَهُ متَّسعَ الصَّدرِ مُستعدَّاً للإسلامِ فبقي على الفطرةِ الأصليةِ ولم يتغير بالعوارض المكتسبة الفادحة فيها {فَهُوَ} بموجبِ ذلك مستقرٌّ {على نُورٍ} عظيم {مّن رَّبّهِ} وهو اللُّطفُ الإلهيُّ الفائضُ عليه عند مشاهدةِ الآياتِ التَّكوينيةِ والتَّنزيليةِ والتَّوفيقُ للاهتداءِ بها إلى الحقِّ كمَنْ قسا قلبُه وحَرِجَ صدره بسببِ تبديلِ فطرة الله بسوء اختباره واستولى عليه ظلمات الغي والضِّلالةِ فأعرضَ عن تلك الآياتِ بالكُلِّيةِ حتَّى لا يتذكَّر بها ولا يغتنمُها {فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله} أي من أجلِ ذكرهِ الذي حقُّه أنْ تنشرحَ له الصُّدورُ وتطمئنَّ به القلوبُ أي إذا ذُكر الله تعالى عندهم أو آياتُه اشمأزُّوا من أجلِه وازدادتْ قلوبُهم قساوةً كقولِه تعالى فزادْتُهم رجساً وقُرىء عَن ذكرِ الله أي عن قبولِه {أولئك} البعداء الموصوفون بما ذُكر من قساوةِ القلوب {فِى ضلال} بُعدٍ عن الحقِّ {مُّبِينٌ} ظاهر كونه ضلالاً لكلِّ أحدٍ قيلَ نزلتِ الآيةُ في حمزةَ وعلي رضي الله عنهما وأبي لهبٍ وولدِه وقيل في عمار بن

الزمر 23 ياسر رضي الله عنه وأبي جهلٍ وذويه

23

{الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} هو القرآنُ الكريمُ رُوي أنَّ أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ملُّوا ملَّةً فقالُوا له صلى الله عليه وسلم حدثا حَديثاً وعن ابن مسعُودٍ وابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهم قالُوا لو حدَّثتنا فنزلتْ والمَعنى أنَّ فيه مندوحةً عن سائرِ الأحاديثِ وفي إيقاعِ الاسمِ الجليلِ مبتدأٌ وبناءِ نزَّل عليهِ من تفخيمِ أحسنِ الحديثِ ورفعِ محلَّه والاستشهادِ على حُسنِه وتأكيدِ استنادِه إليه تعالى وأنَّه من عندَه لا يمكنُ صدورُه عن غيرِه والتَّنبيهُ على أنَّه وحيٌ معجز مالا يخفى {كتابا} بدلٌ من أحسنَ الحديثِ أو حالٌ منه سواء اكتسبَ من المضاف اليه تعريفا اولا فإنَّ مساغَ مجيء الحالِ من النكرة المضافة اتفاقيٌّ ووقوعُه حالاً مع كونه اسما لاصفة إمَّا لاتَّصافِه بقولِه تعالى {متشابها} أو لكونِه في قوَّة مكتوباً ومعنى كونِه مُتشابهاً تشابُه معانيهِ في الصِّحَّةِ والأحكامِ والابتناءِ على الحق والصدق واستتباع منافعِ الخلقِ في المعادِ والمعاشِ وتناسب ألفاظِه في الفصاحةِ وتجاوبِ نظمِه في الإعجازِ {مَّثَانِيَ} صفةٌ أخرى لكتابا أو حال أُخرى منه وهو جمعُ مثنى بمعنى مردد ومكرَّرٍ لمَا ثُنِّي من قصصهِ وأنبائِه وأحكامِه وأوامرهِ ونواهيهِ ووعدِه ووعيدِه ومواعظِه وقيل لأنَّه يُثنَّى في التَّلاوةِ وقيل هو جمعُ مَثنى مَفْعل من التَّثنيةِ بمعنى التَّكريرِ والإعادةِ كما في قوله تعالى فارجع البَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي كرةً بعدَ كرَّةٍ ووقوعُه صفةً لكتاباً باعتبار تفاصيلهِ كما يُقال القرآن سورٌ وآياتٌ ويجوزُ أنْ ينتصبَ على التَّمييزِ من مُتشابهاً كما يُقال رأيتُ رجلاً حسناً شمائلَ أي شمائلُه والمعنى متشابهةٌ مثانية {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} قيل صفةٌ لكتاباً أو حالٌ منهُ لتخصُّصه بالصِّفةِ والأظهر أنَّه استئنافٌ مسوق لبيانِ آثارِه الظَّاهرةِ في سامعيهِ بعد بيانِ أوصافهِ في نفسِه ولتقريرِ كونِه أحسنَ الحديثِ والاقشعرارُ التَّقبضُ يقال اقشعرَّ الجلدُ إذا تقبَّضَ تقبُّضاً شَديداً وتركيبُه من القَشع وهو الأديمُ اليابسُ قد ضُمَّ إليه الرَّاءُ ليكونَ رُباعيَّا ودَالاًّ على معنى زائد يُقال اقشعرَّ جلدُه وقفَ شعرُه إذا عرضَ له خوفٌ شديدٌ من منكرٍ هائلٍ دهمه بغتة والمرادُ إمَّا بيانُ إفراطِ خشيتِهم بطريقِ التَّمثيلِ والتَّصويرِ أو بيانُ حصولِ تلك الحالةِ وعرُوضِها لهم بطريقِ التَّحقيقِ والمعني أنَّهم إذا سمعُوا القُرآنَ وقوارعَ آياتِ وعيده أصابتُهم هيبةٌ وخشيةٌ تقشعرُّ منها جلودُهم وإذا ذُكِّروا رحمةَ الله تعالى تبدَّلتْ خشيتُهم رجاءً ورهبتُهم رغبةً وذلكَ قولُه تعالى {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله} أيْ ساكنةً مطمئنَّةً إلى ذكر رحمتِه تعالى وإنَّما لم يصرَّحْ بها إيذاناً بأنَّها أولُ ما يخطر بالبال عند ذكره تعالى {ذلك} أي الكتابُ الذي شُرحَ أحوالُه {هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآء} أن يهديَه بصرف مقدورِه إلى الاهتداءِ بتأمُّلِه فيما في تضاعيفه من شواهدِ الحقِّية ودلائلِ كونِه من عند الله تعالى {وَمَن يُضْلِلِ الله} أي يخلقُ فيه الضَّلالةَ بصرفِ قُدرته إلى مباديها وإعراضِه عمَّا يُرشده إلى الحقَّ بالكُلِّية وعدم تأثُّرِه بوعيدِه ووعده اصلا او

الزمر 24 29 ومن يخذلْ {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يُخلِّصه من ورطةِ الضَّلالِ وقيل ذَلِكَ الذي ذُكرَ من الخشيةِ والرَّجاءِ إثر هُداه تعالى يهدي بذلكَ الأثرِ مَن يشاءُ من عبادةِ ومَن يضلل أي من لم يُؤثِّر فيه لطفُه لقسوةِ قلبهِ وإصرارِه على فجوره فماله من هادٍ من مؤثِّرٍ فيه بشيءٍ قَطْ

24

{أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ} الخ استئنافٌ جارٍ مجرى التَّعليلِ لما قبلَه من تباينِ حالَيْ المُهتدي والضَّالَّ والكلامُ في الهمزةِ والفاءِ وحذفِ الخبرِ كالذي مرَّ في نظيريهِ والتَّقديرُ أكلُّ النَّاسِ سواءٌ فمَن شأنُه أنَّه بقى نفسَه بوجههِ الذي هو أشرفُ أعضائِه {سُوء العذاب} أي العذابَ السَّيءِ الشَّديدَ {يَوْمُ القيامة} لكون يدهِ التي بها كان يتَّقي المكارَه والمخاوفَ مغلولةً إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه مكروه ولا يحتاج إلى الاتّقاء بوجهٍ من الوجوهِ وقيل نزلتْ في أبي جهلٍ {وَقِيلَ للظالمين} عطف على يتقي ويقالُ لهم من جهةِ خَزَنةِ النَّارِ وصيغةُ الماضِي الدِلالة على التَّحقُّقِ والتقرّرِ وقيلَ هُو حالٌ من ضميرِ يتَّقي بإضمارِ قَدْ ووضع المُظهر في مقام المضمرِ للتَّسجيلِ عليهم بالظُّلم والإشعار بعلَّةِ الأمرِ في قوله تعالى {ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي وبالَ ما كنتُم تكسبونَه في الدُّنيا على الدَّوامِ من الكفرِ والمعاصي

25

{كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما أصابَ بعضَ الكفرةِ من العذابِ الدنيويِّ إثرَ بيانِ ما يُصيب الكلَّ من العذابِ الأخرويِّ أي كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم من الأممِ السَّالفةِ {فأتاهم العذاب} المقدَّرُ لكلَّ أمَّةٍ منهم {مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} من الجهةِ التي لا يحتسبونَ ولا يخطرُ ببالِهم إتيانُ الشَّرِّ منها

26

{فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى} أي الذُّلَّ والصَّغارَ {فِى الحياة الدنيا} كالمسخِ والخسفِ والقتلِ والسى والإجلاءِ ونحوِ ذلك من فنون النَّكالِ {وَلَعَذَابُ الأخرة} المعدِّ لهم {أَكْبَرَ} لشدَّتِه وسرمدينه {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أي لو كانَ من شأنِهم أنْ يعلمُوا شيئاً لعلمُوا ذلكَ واعتبرُوا به

27

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرآن مِن كُلّ مَثَلٍ} يحتاجُ إليه النَّاظرُ في أمورِ دينِه {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} كي بتذكروا به ويتعظوا

28

{قرآنا عَرَبِيّاً} حالٌ مؤكَّدةٌ من هذا على أنَّ مدارَ التَّأكيدِ هو الوصفُ كقولِك جاءني زيدٌ رَجُلاً صالِحاً أو مدحٌ له {غَيْرَ ذِى عِوَجٍ} لا اختلافَ فيه بوجهٍ من الوجوهِ فهُو أبلغُ من المستقيمِ وأخصُّ بالمعانِي وقيل المرادُ بالعوجِ الشَّكُّ {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} علَّة أُخرى مترتِّبةٌ على الأولى

29

{ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فيه شركاء متشاكسون}

الزمر 30 31 لمثلٍ من الأمثالِ القُرآنيةِ بعد بيانِ أنَّ الحكمةَ في ضربِها هو التَّذكُّر والاتِّعاظُ بها وتحصيلُ التَّقوى والمرادُ بضربِ المثل هَهُنا تطبيقُ حالةٍ عجيبةٍ بأُخرى مثلِها وجعلِها مثلَها كما مر في سورة يس ومثلاً مفعولٌ ثانٍ لضربَ ورجلاً مفعولُه الأوَّلُ أُخِّر عن الثَّانِي للتَّشويقِ إليه وليتَّصلَ به ما هُو من تتمتِه التي هي العُمدةُ في التَّمثيلِ وفيه ليسَ بصلةٍ لشركاءِ كما قيل بل هُو خبرٌ له وبيانُ أنَّه في الأصلِ كذلكَ مَّما لا حاجةَ إليهِ والجملةُ في حيز النصبِ على أنه وصفٌ لرجلاً أو الوصفُ هو الجارُّ والمجرورُ وشركاء مرتفعٌ به على الفاعليةِ لاعتمادِه على الموصوفِ فالمعنى جعلَ الله تعالى مثلاً للمشركِ حسبَما يقودُ إليهِ مذهبُه من ادَّعاءِ كلَ معبوديه عبوديتَه عبداً يتشاركُ فيه جماعة يتجاذبونه ويتعاورُونه في مهمَّاتهم المتباينةِ في تحيُّرِه وتوزُّعِ قلبه {وَرَجُلاً} أي وجعل للموحِّد مثلاً رجلا {سلما} أي خالصاً {لِرَجُلٍ} فردٍ ليس لغيره عليه سبيل اصلا وقرىء سلما بفتح السين وكسرِها مع سكون الَّلامِ والكُلُّ مصادرٌ من سَلِم له كذا أي خلص نعت بها مبالغةً أو حُذف منها ذُو وقِرىء سالماً وسالم أي وهناك رجلٌ سالم وتخصيصُ الرَّجُلِ لأنَّه أفطن لما يجري عليه من الضُّرِّ والنَّفعِ {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} إنكارٌ واستبعاد لاستوائِهما ونفيٌ له على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وإيذانٌ بأنَّ ذلك من الجلاء والظُّهور بحيثُ لا يقدرُ أحدٌ أنْ يتفوَّه باستوائِهما أو يتلعثم في الحُكم بتباينهما ضرورةَ أنَّ أحدهما في أعلى عِلِّيِّينَ والآخرُ في أسفلِ سافلينَ وهو السِّرُّ في إبهام الفاضلِ والمفضولِ وانتصاب مثلاً على التَّمييزِ أي هل يستوي حالاهُما وصفتاهُما والاقتصارُ في التَّمييزِ على الواحد لبيان الجنسِ وقُرىء مَثَلين كقوله تعالى اكثر اموالا واولادا باختلاف النَّوعِ أو لأنَّ المرادَ هل يستويانِ في الوصفين على أنَّ الضَّميرَ للمثلينِ لأنَّ التَّقديرَ مَثَلُ رجلٍ فيه الخ ومَثَلُ رجلٍ الخ وقولُه تعالى {الحمد للَّهِ} تقريرٌ لما قبلَهُ من نفيِ الاستواءِ بطريقِ الاعتراضِ وتنبيهٌ للموحِّدين على ان مالهم من المزَّيةِ بتوفيقِ الله تعالى وأنَّها نعمةٌ جليلةٌ موجبة عليهم ان يداموا على حمدِه وعبادتِه أو على أنَّ بيانه تعالى بضرب المثل أن لهم المثل الأعلى وللمشركين مثل السَّوء صنعٌ جميلٌ ولطفٌ تامٌّ منه عزَّ وجلَّ مستوجبٌ لحمدِه وعبادتِه وقولُه تعالى {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} إضرابٌ وانتقالٌ منِ بيانِ عدمِ الاستواءِ على الوجهِ المذكورِ إلى بيانِ ان اكثر الناس هم المشركون لا يعلمون ذلك مع كمالِ ظُهورِه فيبقون في ورطةِ الشِّركِ والضَّلالِ وقولُه تعالَى

30

{إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} تمهيدٌ لما يعقُبه من الاختصامِ يوم القيامةِ وقُرىء مائتٌ ومائتونَ وقيل كانُوا يتربصون برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم موتَه أي إنَّكم جميعاً بصددِ الموتِ

31

{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ} أي مالكِ أمورِكم {تَخْتَصِمُونَ} فتحتجُّ أنتَ عليهم بأنَّك بلَّغتهم مَّا أُرسلتَ بِهِ من الأحكام والمواعظ التي من جُملتها ما في تضاعيف هذه الآياتِ واجتهدتَ في الدَّعوةِ إلى الحقَّ حقَّ الاجتهادِ وهم قد لجُّوا في المُكابرة والعناد وقيل المرادُ به الاختصامُ العامُّ الجاري في الدُّنيا بين الأنامِ والأولُ هو الأظهرُ الأنسبُ بقوله

الزمر 32 35 تعالى

32

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ علَى الله} فإنَّه إلى آخرهِ مسوقٌ لبيانِ حال كلَ من طرفَيْ الاختصامِ الجاري في شأن الكفرِ والإيمانِ لا غيرُ أي أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ مَنِ افترى على الله سبحانه وتعالى بأنْ أضافَ إليه الشَّريكَ والولد {وَكَذَّبَ بالصدق} أي بالأمرِ الذي هو عينُ الحقِّ ونفسُ الصِّدقِ وهو ما جاءَ بهِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم {إِذْ جَاءهُ} أي في أوَّلِ مجيئهِ من غير تدبُّرٍ فيه ولا تأمُّلٍ {أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين} أي لهؤلاءِ الذين افترَوا على الله سبحانه وسارعُوا إلى التَّكذيبِ بالصَّدقِ من أوَّلِ الأمرِ والجمعُ باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضَّمائرِ السَّابقةِ باعتبار لفظها أو لجنسِ الكَفَرةِ وهم داخلون في الحكم دخولا أوَّليَّاً

33

{والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} الموصولُ عبارةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن تبعه كما أنَّ المرادَ في قولِه تعالى وَلَقَدْ آتينا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ هو عليه الصلاة والسلام وقومه وقيل عن الجنس المتناول المرسل والمؤمنين بهم ويؤيِّدُه قراءةُ ابنِ مسعود رضي الله عنه والذين جَاءُوا بالصَّدقِ وصدَّقُوا به وقيل هو صفة لموصوفٍ محذوف هو الفَوجُ او الفريق {أولئك} الموصوفون بما ذكر من المجيء بالصَّدقِ والتصديق به {هُمُ المتقون} المنعوتُون بالتَّقوى التي هي أجلُّ الرَّغائبِ وقُرىء وصدَق به بالتَّخفيفِ أي صدَقَ بهِ النّاسَ فأدَّاه إليهم كما نزل عليه من غيرِ تغيير وقيل وصارَ صادقاً به أي بسببهِ لأنَّ ما جاء به من القرآنُ معجزةٌ دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وقُرىء صُدِّق به على البناء للمفعول

34

{لهم ما يشاؤون عِندَ رَبّهِمْ} بيانٌ لما لَهُمْ فِى الآخرة من حسنِ المآبِ بعد بيانِ مالهم في الدنيا من محاسنِ الأعمالِ أي لهم كلُّ ما يشاءون من جلبِ المنافعِ ودفعِ المضارِّ في الآخرةِ لا في الجنَّةِ فقط لِما أن بعضَ ما يشاءونه من تكفير السَّيئاتِ والأمن من الفَزَع الأكبرِ وسائرِ أهوال القيامةِ إنَّما يقع قبل دخولِ الجنَّةِ {ذَلِكَ} الذي ذُكر من حصول كل ما يشاءونه {جَزَاء المحسنين} أي الذينَ أحسنُوا أعمالَهم وقد مرَّ تفسيرُ الإحسان غيرَ مرَّةٍ وقوله تعالى

35

{لِيُكَفّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذى عَمِلُواْ} الخ متعلِّقٌ بقوله تعالى لهم ما يشاءون لكن لا باعتبارِ منطوقِه ضرورةَ أنَّ التَّفكيرَ المذكور لا يُتصوَّرُ كونُه غايةً لثبوت ما يشاءون لهم في الآخرةِ كيف لا وهو بعضُ ما سيثبُتُ لهم فيها بل باعتبارِ فحواه فإنَّه حيثُ لم يكن إخباراً بما ثبت لهم فيما مَضَى بل بما سيثبت لهم فيما سيأتِي كان في معنى الوعدِ به كما مرَّ في قوله تعالى وَعَدَ الله فإنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لما قبلَهُ من قولِه تعالى لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ فإنَّه في معنى وَعَدَهم الله غُرفاً فانتصبَ به وعدُ الله كأنه قيل

الزمر 36 37 وَعَدَهم الله جميعَ ما يشاءونه من زوالِ المضارِّ وحصول المسارِّ ليكفِّرَ عنهم بموجب ذلك الوعدِ أسوأَ الذي عملوا دفعاً لمضارِّهم {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إعطاء لمنافِعهم وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بمضمون الكلامِ وإضافةُ الا الأسوأِ والأحسنِ إلى ما بعدهما ليستْ من قبيل إضافةِ المفضَّلِ إلى المفضَّل عليه بل من إضافةِ الشَّيءِ إلى بعضِه للقصد إلى التَّحقيقِ والتَّوضيحِ من غير اعتبارِ تفضيلِه عليه وإنَّما المُعتبر فيهما مطلقُ الفضلِ والزَّيادةِ لا على المضاف إليه المعيِّنِ بخصوصه كما في قولهم الناقص والاشج اعد لانني مَرْوانَ خلا أنَّ الزِّيادة المعتبرةَ فيهما ليست بطريقِ الحقيقةِ بل هي في الأوَّلِ بالنَّظرِ إلى ما يليقُ بحالِهم من استعظامِ سيِّئاتِهم وإن قلَّتْ واستصغارِ حسناتِهم وإنْ جلَّتْ والثَّاني بالنَّظرِ إلى لُطفِ أكرمِ الأكرمينَ من استكثارِ الحسنةِ اليسيرةِ ومقابلتها بالمثُوباتِ الكثيرةِ وحمل الزيادة على الحقيقةِ وإن أمكنَ في الأوَّلِ بناءً على أنَّ تخصيصَ الأسوأِ بالذَّكرِ لبيان تكفيرِ ما دُونَه بطريقِ الأولويَّةِ ضرورةَ استلزامِ تكفيرِ الأسوأ لتكفير السَّيِّءِ لكن لمَّا لم يكُن ذلك في الأحسنِ كان الأحسنُ نظمَهما في سلكٍ واحدٍ من الاعتبار والجمعُ بين صيغتَيْ الماضِي والمستقبلِ في صلةِ الموصولِ الثَّاني دون الأوَّلِ للإيذانِ باستمرارهم على الأعمالِ الصَّالحةِ بخلاف السَّيئةِ

36

{أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} إنكارٌ ونفيٌ لعدم كفايته تعالى على أبلغِ وجهٍ وآكدِه كأن الكفاية من التَّحقُّقِ والظُّهورِ بحيثُ لا يقدِرُ أحدٌ على أن يتفوَّه بعدمِها أو يتلعثم في الجوابِ بوجودِها والمرادُ بالعبدِ إمَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أو الجنسُ المنتظمُ له عليه السلام انتظاما أوليا ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ عبادَهُ وفُسِّر بالأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وكذا قراءةُ من قرأ بكافي عبادِه على الاضافة ويكافىء عباده صيغة المُغالبةِ إمَّا من الكِفايةِ لإفادة المبالغة فيها وإمَّا من المُكافأةِ بمعنى المُجازاة وهذه تسليةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم عمَّا قالت له قُريشٌ إنَّا نخاف أنْ تخبلَك آلهتُنا ويصيبَك مضرَّتُها لعيبكِ إيَّاها وفي روايةٍ قالُوا لتكُفَنَّ عن شتمِ آلهتِنا أو ليصيبنَّكَ منهم خَبَلٌ أو جنونٌ كما قال قومُ هودٍ إنْ نقولُ إلا اعتراك بعض آلهتا بسوءٍ وذلك قوله تعالى {وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ} أي الأوثانِ التي اتَّخذوها آلهةٌ مِن دُونِهِ تعالى والجملةُ استئنافٌ وقيل حالٌ {وَمَن يُضْلِلِ الله} حتَّى غفل عن كفايتِه تعالى وعصمته له صلى الله عليه وسلم وخوفه بما لاينفع ولايضر أصلاً {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديه إلى خيرٍ ما

37

{وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِنْ مُّضِلّ} يصرفُه عن مقصدِه أو يُصيبه بسوءٍ يخلُّ بسلوكِه إذ لا رادَّ لفعلِه ولا معارضَ لإرادتِه كما ينطقُ به قولُه تعالى {أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ} غالبٍ لا يُغالبُ منيعٍ لا يُمانعُ ولا يُنازعُ {ذِى انتقام} ينتقمُ من أعدائِه لأوليائِه وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ لتحقيقِ مضمونِ الكلام وتربية المهابة

الزمر

38

38 - 42 {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} لوضوحِ الدَّليلِ وسنوح السَّبيلِ {قُلْ} تبكيتاً لهُم {أَفَرَايْتُم مَّا تدعون من دون الله إن أرادنى الله بضر هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ} أي بعد ما تحقَّقتُم أنَّ خالق العالم العلويَّ والسُّفليِّ هو الله عزَّ وجلَّ فأخبروني أن آلهتَكم إن أرادنى الله بضر هل يكشفنَ عنِّي ذلك الضُّرِّ {أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ} أي أو أرادني بنفعٍ {هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ} فيمنعنها عنى وقرئ كاشفاتٌ ضرَّه وممسكاتٌ رحمتَه بالتَّنوينِ فيهما ونصبِ ضُرِّه ورحمته وتعليق إرادة الضُّرَّ والرَّحمةِ بنفسه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للردِّ في نحورِهم حيث كانُوا خوّفوه معرَّةَ الأوثانِ ولما فيه من الإيذانِ بإمحاضٍ النَّصيحةِ {قُلْ حَسْبِىَ الله} أي في جميعِ أموري من إصابةِ الخير ودفعِ الشَّرِّ رُوي انه صلى الله عليه وسلم لمَّا سألهم سكتُوا فنزلَ ذلك {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون} لا على غير أصلاً لعلمهم بأنَّ كلَّ ما سواه تحت ملكوتِه تعالى

39

{قل يا قوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} على حالتِكم التي أنتمُ عليها من العداوة التي تمكَّنتُم فيها فإنَّ المكانة تُستعار من العَين للمعنى كما تُستعار هُنا وحَيثُ للزَّمانِ مع كونهما للمكان وقرئ على مكاناتِكم {إِنّى عامل} أي على مكانتِي فحذف للاختصار والمبالغةِ في الوعيدِ والاشعارِ بأنَّ حالَه لا تزال تزداد قوَّةً بنصر الله عزَّ وجلَّ وتأييدِه ولذلك توعَّدهم بكونه منصُوراً عليهم في الدَّارينِ بقوله تعالى {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}

40

{مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} فإنَّ خِزي أعدائِه دليلُ غلبتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقد عذَّبهم الله تعالى وأخزاهم يومَ بدرٍ {وَيَحِلُّ عليه عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي دائمٌ هو عذابُ النَّارِ

41

{أنا أنزلنا عليك الكتاب لِلنَّاسِ} لأجلِهم فإنَّه مناطُ مصالحِهم في المعاشِ والمعادِ {بالحق} حالٌ من فاعلِ أنزلَنا أو من مفعولِه {فَمَنُ اهتدى} بأنْ عملَ بما فيه {فَلِنَفْسِهِ} أي إنَّما نفعَ به نَفسه {وَمَن ضَلَّ} بأنْ لم يعمل بموجبِه {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} لما أنَّ وبالَ ضلاله مقصورٌ عليها {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} لتُجبرَهم على الهدى وما وظيفتك إلاَّ البلاغُ وقد بلَّغت أيَّ بلاغٍ

42

{الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} أي يقبضِها من الابدان

الزمر 43 45 بأنْ يقطع تعلُّقها عنها وتصرُّفها فيها إمَّا ظاهراً وباطناً كما عند الموتِ أو ظاهراً فقط كما عند النَّومِ {فَيُمْسِكُ التى قضى عَلَيْهَا الموت} ولا يردها الى البدن وقرئ قُضِيَ على البناءِ للمفعولِ ورفعِ الموتَ {وَيُرْسِلُ الاخرى} أي النَّائمةَ إلى بدنها عند التَّيقظِ {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو الوقت المضروب لموتِه وهو غاية لجنس الإرسال الواقعِ بعد الإمساكِ لا لفردٍ منه فإنَّ ذلك مَّما لا امتدادَ فيه ولا كميَّة وما روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ في ابنِ آدمَ نَفساً وروحا بينهما مثل شعاع الشَّمسِ فالنفسُ هي التي بها العقل والتميير والرُّوحُ هي التي بها النَّفَسُ والتَّحركُ فتتوفيان عند الموتِ وتُتوفى النَّفسُ وحدَها عند النَّوم قريبٌ مَّما ذُكر {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذكر من التَّوفِّي على الوجهينِ والإمساكِ في أحدِهما والإرسالِ في الآخرِ {لاَيَاتٍ} عجيبةً دالَّةً عَلى كمالِ قدرتِه تعالى وحكمته وشمول رحمتِه {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في كيفَّيةِ تعلُّقِها بالإبدان وتوفِّيها عنها تارة بالكُلَّيةِ كما عند الموت وإمساكها باقيةً لا تفنى بفنائِها وما يعتريها من السَّعادةِ والشَّقاوةِ وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النَّومِ وإرسالها حيناً بعد حينٍ إلى انقضاءِ آجالِها

43

{أَمِ اتخذوا} أي بل أتَّخذ قُريشٌ {مِن دُونِ الله} مِن دُون إذنِه تعالى {شُفَعَاء} تشفعُ لهم عنده تعالى {قُلْ أَوَلَوْ كانوا لا يملكون شيئا وَلاَ يَعْقِلُونَ} الهمزةُ لإنكار الواقعِ واستقباحِه والتَّوبيخِ عليه أي قل أتَّتخذونهم شفعاءَ ولو كانُوا لا يملكون شيئاً من الأشياء ولا يعقلونَه فضلاً عن أنْ يملكوا الشَّفاعةَ عندَ الله تعالَى أو هي لإنكارِ الوقوع ونفيه على أنَّ المرادَ بيانُ أن ما فعلوا ليس من اتخاذ الشفعاء في شئ لأنَّه فرعُ كونِ الأوثان شفعاءَ وذلك أظهرُ المحالاتِ فالمقدَّر حينئذٍ غيرُ ما قُدِّر أوَّلاً وعلى أي تقدير كان فالوا للعطفِ على شرطيةٍ قد حذفت لدلالة المذكورةِ عليها أي أيشفعون لو كانُوا يملكون شيئاً ولو كانُوا لا يملكون الخ وجوابُ لو محذوفٌ لدلالةِ المذكور عليه وقد مرَّ تحقيقُه مراراً

44

{قُلْ} بعد تبكيتِهم وتجهيلِهم بما ذُكر تحقيقاً للحقِّ {لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً} أي هو مالُكها لا يستطيعُ أحدٌ شفاعةً ما إلاَّ أن يكونَ المشفوعُ له مرتضى والشفيعع مأذوناً له وكلاهما مفقودٌ ههنا وقولُه تعالى {لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} تقريرٌ له وتأكيدٌ أي له ملكُهما وما فيهما من المخلوقاتِ لا يملك أحدٌ أنْ يتكلَّم في أمرٍ من أمورِه بدونِ إذنِه ورضاه {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يومَ القيامةِ لا إلى أحدٍ سواهُ لا استقلالاً ولا اشتراكاً فيفعل يومئذ ما يريدُ

45

{وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ} دون آلهتِهم {اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} أي انقبضتْ ونَفَرتْ كما في قولِه تعالى وَإِذَا ذكر رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ ولوا على أدبارهم نفورا {وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ} فُرادى أو مع ذكرِ الله تعالى {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} لفرطِ افتتانهم بها ونسيانِهم حقَّ الله تعالى ولقد بُولغ في بيان حالَيهم القبيحتينِ حيثُ

الزمر 46 49 بيّن الغايةُ فيهما فإنَّ الاستبشار هو أن يمتلئ القلبَ سُروراً حتَّى ينبسطَ له بَشَرةُ الوجهِ والاشمئزازُ أن يمتلئ غيظاً وغمَّا ينقبضُ منه أديمُ الوجهِ والعاملُ في إذا الأولى اشمأزَّت وفي الثَّانيةِ ما هو العاملُ في إذَا المفاجأةِ تقديرُه وقتَ ذكرِ الذين من دُونه فاجأوا وقتَ الاستبشارِ

46

{قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة} أي التجئ إليه تعالى بالدُّعاءِ لما تحيَّرتَ في أمر الدَّعوةِ وضجرت من شدةِ شكيمتِهم في المُكابرة والعناد فإنَّه القادرُ على الأشياء بجُملتها والعالمُ بالأحوال بُرمَّتِها {أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي حُكماً يُسلِّمه كلُّ مكابرٍ معاند ويخضعُ له كلُّ عاتٍ مارد وهو العذابُ الدنيويُّ أو الأخرويُّ وقولُه تعالى

47

{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَّا فِى الارض جَمِيعاً} إلخ كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيان آثارِ الحُكمِ الذي استدعاه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وغايةِ شدَّتِه وفظاعتِه أي لو أنَّ لهم جميعَ ما في الدُّنيا من الأموال والذَّخائرِ {وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوء العذاب يَوْمَ القيامة} أي لجعلُوا كلَّ ذلك فديةً لأنفسِهم من العذاب الشَّديدِ وهيهاتَ ولاتَ حينَ مناصٍ وهذا كما ترى وعيدٌ شديد وإقناط لهم من الخلاصِ

48

{وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} أي ظهرَ لهم من فُنون العقوباتِ ما لم يكن في حسابهم وهذه غاية من الوعيد لا غاية وراءها ونظيره في الوعد قولُه تعالى فَلاَ تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرة أعين {وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} سيئات أعمالِهم أو كسبِهم حين تُعرض عليهم صحائفهم {وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون} أي أحاطَ بهم جزاؤُه

49

{فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا} إخبارٌ عن الجنسِ بما يفعله غالبُ أفرادِه والفاءُ لترتيب ما بعدها من المناقضةِ والتَّعكيسُ على ما مرَّ من حالتيهم القبيحتينِ وما بينهما اعتراضٌ مؤكِّدٌ للإنكار عليهم أي أنَّهم يشمئزُّون عن ذكرِ الله تعالى وحدَهْ ويستبشرون بذكرِ الآلهةِ فإذا مسَّهم ضُرٌّ دَعَوا مَن اشمأزُّوا عن ذكره دون مَن استبشرُوا بذكرِه {ثُمَّ إِذَا خولناه نِعْمَةً مّنَّا} أعطيناهُ إياها تفصلا فإنَّ التَّخويل مختصٌ به لا يُطلق على ما أُعطي جزاءً {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ} أي على علم منِّي بوجوهِ كسبه أو أبى فأعطاه لما لي من الاستحفاق أو على علمٍ من الله تعالى بي وباستحقاقي والهاءُ لِمَا أنْ جُعلتْ موصولةً وإلاَّ فلِنعمةً والتَّذكيرُ لما أن المراد شئ نعمة {بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ} أي محنةٌ وابتلاءٌ له أيشكرُ

الزمر 50 53 أم يكفرُ وهو ردٌّ لما قاله وتغييرُ السَّبكِ للمبالغة فيهِ والإيذانِ بأنَّ ذلك ليس من باب الإيتاء المنبئ عن الكرامةِ وإنَّما هو أمر مباين له بالكُلِّيةِ وتأنيثُ الضَّميرِ باعتبار لفظ النِّعمةِ أو باعتبار الخبر وقرئ بالتَّذكيرِ {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن الأمر كذلك وفيه دلالة على أن المراد بالإنسانِ هو الجنسُ

50

{قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ} الهاء لقوله إنَّما أُوتيته على علمٍ لأنَّها كلمة أو جملة وقرئ بالتَّذكيرِ والموصول عبارةٌ عن قارونَ وقومِه حيثُ قال إنما أوتيته على علم عندي وهم راضُون به {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من متاعِ الدُّنيا ويجمعون منه

51

{فأصابهم سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} جزاءُ سيِّئاتِ أعمالِهم أو أجزبة ما كسبُوا وتسميتها سيِّئاتٍ لأنَّها في مقابلة سيِّئاتِهم وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا {والذين ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلاَء} المشركين ومِن للبيان أو للتَّبعيضِ أي أفرطوا في الظُّلم والعُتوِّ {سَيُصِيبُهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ} من الكُفر والمعاصي كا أصاب أولئك والسِّينُ للتَّأكيدِ وقد أصابهم أيَّ إصابةٍ حيثُ قحطوا سبعَ سنين وقُتل صناديدُهم يومَ بدرٍ {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي فائنين

52

{أولم يَعْلَمُواْ} أي أقالُوا ذلك ولم يعلمُوا أو أَغفلُوا ولم يعلمُوا {أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء} أنْ يبسطَه له {وَيَقْدِرُ} لمن يشاء أن يقدرَه له من غيرِ أن يكون لأحدٍ مدخلٌ ما في ذلك حيثُ حبسَ عنهم الرِّزقَ سبعاً ثم بسطَه لهم سبعاً {إِنَّ فِى ذَلِكَ} الذي ذكر {لاَيَاتٍ} دالَّةً على أنَّ الحوادثَ كافَّةً من الله عزَّ وجلَّ {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إذ هم المستدلُّون بها على مدلولاتها

53

{قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} أي أفرطُوا في الجنايةِ عليها بالإسرافِ في المعَاصي وإضافةُ العبادِ تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن الكريم {لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} أي لا تيأسُوا من مغفرته أولاً ولا تفضُّلِه ثانياً {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} عفواً لمن يشاءُ ولو بعد حينٍ بتعذيب في الجملة وبغيره حسبما يشاء وتقييده بالتَّوبةِ خلاف الظَّاهرِ كيف لا وقوله تعالى إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ظاهرٌ في الإطلاقِ فيما عدا الشِّركَ وممَّا يدلُّ عليه التَّعليلُ بقوله تعالى {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} على المبالغة وإفادةِ الحصرِ والوعد بالرَّحمةِ بعد المغفرة وتقديمُ ما يستدعي عمومَ المغفرة في عبادي من الدِّلالةِ على الذِّلَّةِ والاختصاص المقتضيينِ للتَّرحم وتخصيصُ ضررِ الإسرافِ بأنفسهم والنَّهيُ عن القُنوطِ مطلقاً عن الرَّحمةِ فضلاً عن المغفرة وإطلاقِها وتعليلهُ بأنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضعَ

الزمر 54 59 الضَّميرِ لدلالتهِ على أنَّه المستغنِي والمنعمُ على الإطلاقِ والتأكيد بالجميعِ وما رُوي من أسبابِ النُّزولِ الدَّالَّةِ على ورود الآيةِ فيمن تابَ لا يقتضِي اختصاصَ الحكم بهم ووجوبُ حملِ المطلقِ على المقيِّد في كلامِ واحدٍ مثل أكرمِ الفضلاء أكرمِ الكاملينَ غيرُ مسلَّمٍ فكيف فيما هو بمنزلةِ كلامٍ واحدٍ ولا يخلُّ بذلك الأمرُ بالتَّوبةِ والإخلاصِ في قوله تعالى

54

{وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تنصرون} اذ ليسَ المدَّعَى أنَّ الآيةَ تدلُّ على حصولِ المغفرةِ لكل أحدٍ من غير توبةٍ وسبقِ تعذيبٍ لتُغنيَ عن الأمرِ بهما وتُنافي الوعيدَ بالعذابِ

55

{واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ} أي القرآنَ أو المأمورَ به دون المنهيِّ عنه أو العزائمَ دون الرُّخصِ أو النَّاسخَ دون المنسوخِ ولعلَّه ما هو أنجى وأسلم كالإنابةِ والمواظبةِ على الطَّاعةِ {من قبل أن يأتيكم العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} بمجيئِه لتتداركوا وتتأهَّبوا له

56

{أَن تَقُولَ نَفْسٌ} أي كراهةَ أنْ تقولَ والتَّنكيرُ للَّتكثيرِ كما في قولِه تعالى عملت نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ فإنَّه مسلكٌ ربَّما يسلك عند إرادة التكثيرِ والتَّعميمِ وقد مرَّ تحقيقُه في مطلع سورة الحجر {يا حسرتى} بالألفِ بدلاً من ياءِ الإضافةِ وقُرىء يا حسرتَاه بهاء السَّكتِ وقفاً وقُرىء ياحسرتاي بالجمعِ بين العوضينِ وقُرىء ياحسرتي على الأصلِ أي احضُرِي فهذا او ان حُضورِك {على مَا فَرَّطَتُ} أي على تفريطي وتقصيرِي {فِى جَنبِ الله} أي جانبه وفي حقَّه وطاعتِه وعليهِ قولُ مَن قالَ ... أَمَا تتَّقينَ الله في جنبِ وامق ... لَه كَبدٌ حَرَّى وَعَينٌ ترقرقُ ... وهو كنايةٌ فيها مبالغة وقيل في ذاتِ الله على تقديرِ مضافٍ كالطَّاعة وقيل في قُربِه من قوله تعالى والصاحب بالجنب وقُرىء في ذكرِ الله {وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين} أي المُستهزئين بدينِ الله تعالى وأهلِه ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحالِ أي فرَّطتُ وأنا ساخرٌ

57

{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى} بالإرشاد إلى الحقِّ {لَكُنتُ مِنَ المتقين} الشِّركَ والمعاصيَ

58

{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لو أن لي كَرَّةٌ} رجعةً إلى الدُّنيا {فَأَكُونَ مِنَ المحسنين} في العقيدةِ والعملِ وأو للدِّلالةِ على أنَّها لا تخلُو عن هذه الأقوالِ تحسُّراً وتحيُّراً وتعلُّلاً بما لا طائل تحته وقولُه تعالى

59

{بلى قد جاءتك آياتي فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين} ردُّ من الله تعالى عليه لما تضمَّنه قولُه لو أنَّ الله هداني من معنى النفي

الزمر 60 63 وفضله عنه لما أنَّ تقديمَه يفرقُ القرائنَ وتأخيرُ المردودِ يخلُّ بالتَّرتيب الوجوديِّ لأنَّه يتحسَّرُ بالتَّفريطِ ثم يتعلَّلُ بفقدِ الهدايةِ ثم يتمنَّى الرَّجعةَ وهو لا يمنعُ تأثيرَ قُدرةِ الله تعالى في فعلِ العبدِ ولا ما فيه من إسنادِ الفعلِ إليه كما عرفتَ وتذكيرُ الخطابِ باعتبار المَعنْى وقُرىء بالتَّأنيثِ

60

{وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله} بأنْ وصفُوه بما لا يليقُ بشأنِه كاتِّخاذ الولدِ {وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} بما ينالهم من الشِّدَّةِ أو بما يتخيَّلُ عليها من ظُلمة الجهل والجملةُ حالٌ قد اكتفُي فيها بالضَّميرِ عن الواوِ على أنَّ الرُّؤيةَ بصريةٌ أو مفعولٌ ثانٍ لها على أنَّها عِرفانيةٌ {أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى} أي مقامٌ {لّلْمُتَكَبّرِينَ} عن الإيمانِ والطَّاعةِ وهو تقريرٌ لما قبلَهُ من رُؤيتهم كذلك

61

{وَيُنَجّى الله الذين اتقوا} الشِّركَ والمعاصيَ أي من جهنَّم وقُرىء يُنْجِي من الإنجاء {بِمَفَازَتِهِمْ} مصدرٌ ميميٌّ إما من فاز بالمطلوب أي ظفر به والباءُ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من الموصول مفيدةٌ لمقارنة تنجيتهم من العذاب لنيلِ الثَّواب أي ينجَّيهم الله تعالى من مَثْوى المتكبِّرينَ ملتبسين بفوزِهم بمطلوبِهم الذي هو الجنَّةُ وقوله تعالى {لاَ يَمَسُّهُمُ السوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} إمَّا حالٌ أخرى منَ الموصولِ أو مِنْ ضميرِ مفازتِهم مفيدةٌ لكون نجاتِهم أو فوزِهم بالجنة غيرَ مسبوقةٍ بمساس العذاب والحزن وإمَّا من فازَ منه أي نجا منه والباء للملابسة وقوله تعالى لاَ يَمَسُّهُمُ إلى آخرِه تفسيرٌ وبيانٌ لمفازتِهم أي ينجَّيهم الله تعالى ملتبسين بنجاتِهم الخاصَّةِ بهم أي بنفي السُّوءِ والحُزنِ عنهم أو للسَّببيةِ إما على حذفِ المضافِ أي ينجيِّهم بسبب مفازتهم التي هي تقواهم كما يُشعِرُ به إيرادُه في حيِّزِ الصلةِ وإمَّا على إطلاقِ المفازةِ على سببها الذي هو التَّقوى وليس المرادُ نفيَ دوام المساسِ والحزن بل دوامَ نفيهما كما مرَّ مراراً

62

{الله خالق كُلّ شَىْء} من خيرٍ وشرَ وإيمان وكفر لكن لا بالجَبْرِ بل بمباشرة الكاسب لأسبابِها {وَهُوَ على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ} يتولَّى التَّصرُّفَ فيه كيفما يشاء

63

{له مقاليد السماوات والأرض} لا يملك أمرَها ولا يتمكَّن من التَّصرُّفَ فيها غيرُه وهو عبارة عن قُدرته تعالى وحفظِه لها وفيها مزيدُ دلالةٍ على الاستقلالِ والاستبداد لأنَّ الخزائن لا يدخُلها ولا يتصرَّفُ فيها إلا من بيده مفاتيحها وهو جميع مِقْليدٍ أو مِقلادٍ من قلدته اذا الزمته وقبل جمعُ إقليدٍ معرَّبُ كَلِيدٍ على الشُّذوذِ كالمذاكيرِ وعن عثمانُ رضيَ الله عنْهُ أنَّه سأل النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم عن المقاليد فقال صلى الله عليه وسلم تفسيرُها لا إلَه إلاَّ الله والله أكبرُ وسبحانَ الله وبحمدِه وأستغفرُ الله ولا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ بالله العليَّ العظيمِ هو الأوَّلُ والآخرُ والظَّاهرُ والباطن بيده الخير يحي ويُميتُ وَهُوَ على كُلّ شَىْء قديرٌ والمعنى على هذا أنَّ لله هذه الكلمات يُوحد بها ويُمجّد وهي مفاتيحُ خيرِ السَّمواتِ والأرضِ من تكلَّم بها اصابه {والذين كفروا بآيات الله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} متَّصلٌ بما قبله والمعنى أنَّ الله تعالى خالقٌ لجميع الاشياء

الزمر 64 67 ومتصرِّفٌ فيها كيفما يشاءُ بالاحياء والامانة بيده مقاليدُ العالم العلويِّ والسفلي والذين كفرُوا بآياته التكوينيةِ المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ والتَّنزيليةِ التي من جملتها هاتيك الآيات النَّاطقةُ بذلك هم الخاسرون خسرانا لاخسار وراءه هذا وقيل هو متَّصلٌ بقوله تعالى وينجِّي الله وما بينهما اعتراض فتدَّبر

64

{قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون} أي أبعدَ مشاهدةِ هذه الآياتِ غيرَ الله أعبدُ وتأمروني اعتراضٌ للدِّلالةِ على أنَّهم أمرُوه به عَقيب ذلكَ وقالُوا استلمْ بعضَ آلهتِنا نؤمنُ بإلِهك لفرطِ غباوتِهم ويجوزُ أن ينتصبَ غيرُ بما يدلُّ عليه تأمروني أعبدُ لأنَّه بمعنى تعبِّدونني وتقولون أعبد على أنَّ أصلَه تأمرونني أنْ أعبدَ فحُذف أنْ ورُفعَ ما بعدَها كما في قولِه ... أَلاَ أيُهذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوغى ... وأنْ أشهدَ اللذاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلدِي ... ويؤيِّدهُ قراءةُ أعبدَ بالنَّصبِ وقُرىء تأمرونني بإظهارِ النُّونينِ على الأصلِ وبحذفِ الثَّانيةِ

65

{وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ} أي من الرُّسلِ عليهم السَّلامُ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} كلامٌ واردٌ على طريقةِ الفرضِ لتهييجِ الرُّسلِ وإقناط الكفرةِ والإيذانِ بغايةِ شناعةِ الإشراكِ وقُبحهِ وكونِه بحيثُ ينهى عنه من لا يكادُ يمكن أنْ يباشرَه فكيف بمن عداهُ وإفرادُ الخطاب باعتبار كلِّ واحدٍ واللامُ الأولى موطئةٌ للقسمِ والأخريانِ للجوابِ وإطلاق الاحباطِ يحتملُ أنْ يكون من خصائصِهم عند الاشراك لأنَّ الإشراكَ منهم أشدُّ وأقبحُ وأن يكون مقيداً بالموتِ كما صُرِّح به في قوله تعالى من يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم وعطفُ الخسران عليه من عطفَ المسبَّب على السَّببِ

66

{بَلِ الله فاعبد} ردٌّ لما أمروه به ولولا دلالةُ التَّقديمِ على القصرِ لم يكن كذلك {وَكُنْ مّنَ الشاكرين} إنعامه عليك وفيه إشارة إلى ما يُوجب الاختصاصَ ويقتضيهِ

67

{وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} ما قدرُوا عظمتَه تعالى في أنفسهم حقَّ عظمتِه حيثُ جعلُوا له شريكاً ووصفُوه بما لا يليق بشئونه الجليلةِ وقُرىء بالتَّشديدِ {والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ} تنبيهٌ على غاية عظمتِه وكمالِ قدرته وحفارة الأفعال العظامِ التي تتحيَّر فيها الأوهامِ بالنسبةِ إلى قُدرتِه تعالى ودلالةٌ على أنَّ تخريبَ العالم أهونُ شيءٍ عليه على طريقةِ التمثيل والنخييل من غير اعتبارِ القبضةِ واليمينِ حقيقةً ولا مجازاً كقولِهم شابتْ لُمَّةُ اللَّيلِ والقبضة المرة من القبض اطلقت بمعنى القبضة وهي المقدار

الزمر 68 71 المقبوضُ بالكفِّ تسميةً بالمصدرِ أو بتقديرِ ذات قبضةٍ وقُرىء بالنَّصبِ على الظَّرفِ تشبيهاً للموقَّتِ بالمُبهمِ وتأكيدُ الأرضِ بالجميع لأنَّ المرادَ بها الأرَضَون السَّبعُ أو جميعُ أبعاضِها الباديةِ والغائرة وقُرىء مطوياتٍ على أنَّها حالٌ والسَّمواتُ معطوفةٌ على الأرضُ منظومةٌ في حُكمِها {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ما أبعدَ وما أعلى مَنْ هذه قدرتُه وعظمتُه عن إشراكِهم أو عمَّا يُشركونه من الشُّركاءِ

68

{وَنُفِخَ فِى الصور} هيَ النَّفخةُ الأولى {فَصَعِقَ مَن في السماوات وَمَن فِى الأرض} أي خروا امواتا ومغشيا عليهم {إِلاَّ مَن شَاء الله} قيل هم جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ فإنَّهم لا يموتُون بعد وقيل حَمَلةُ العرشِ {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى} نفخةٌ أخرى هي النَّفخةُ الثَّانيةُ وأُخرى يحتملُ النَّصبَ والرَّفعَ {فَإِذَا هُمْ قيام} قائمون من قبورهم أو متوقفون وقُرىء بالنَّصبِ على أنَّ الخبرَ {يُنظَرُونَ} وهو حالٌ من ضميرِه والمعنى يُقلِّبون أبصارَهم في الجوانبِ كالمبهوتينَ أو ينتظرون ما يفعل بهم

69

{وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبّهَا} بما أقام فيها من العدلِ استُعير له النُّورُ لأنَّه يزيِّنُ البقاعَ ويُظهر الحقوقَ كما يسمَّى الظُّلم ظُلمةً وفي الحديثِ الظُّلم ظلماتٌ يومَ القيامةِ ولذلك أضيف الأسمُ الجليلُ إلى ضميرِ الأرضُ أو بنور خلقه فيها بلا توسُّطِ أجسامٍ مضيئةٍ ولذلك أُضيف إلى الاسمِ الجليلِ {وَوُضِعَ الكتاب} الحسابُ والجزاءُ من وضع المحاسبِ كتابَ المحاسبةِ بين يديه أو صحائفُ الأعمال في أيدي العمَّالِ واكتفى باسم الجنسِ عن الجمعِ وقيل اللَّوحُ المحفوظُ يقابل به الصَّحائفُ {وَجِىء بالنبيين والشهداء} للأممِ وعليهم من الملائكةِ والمؤمنينَ وقيل المُستشَهدون {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} بين العباد {بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بنقصِ ثوابٍ أو زيادةِ عقابٍ على ما جرى به الوعدُ

70

{وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} أي جزاءَه {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} فلا يفوتُه شيءٌ من أفعالِهم وقولُه تعالى

71

{وَسِيقَ الذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ زُمَراً} الخ تفصيلٌ للتوفية وبيان لكيفيتها أي سِيقُوا إليها بالعُنفِ والإهانةِ أفواجاً متفرقةً بعضُها في إثرِ بعضٍ مترتِّبةً حسب ترتُّبِ طبقاتهم في الضَّلالةِ والشِّرارةِ والزُّمَر جمعُ زُمْرةٍ واشتقاقها من الزَّمرِ وهو

الزمر 72 75 الصَّوتُ إذِ الجماعةُ لا تخلُو عنه {حتى إِذَا جاؤوها فُتِحَتْ أبوابها} ليدخلُوها وحتَّى هي التي تُحكى بعدها الجملةُ وقرىء بالتَّشديدِ {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} تقريعاً وتوبيخاً {ألم يأتكم رسل منكم} من جنسِكم وقُرىء نُذُر منكم {يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا} أيْ وقتِكم هذا وهو وقتُ دخولِهم النَّارَ وفيه دليلٌ على أنَّه لا تكليفَ قبل الشِّرعِ من حيثُ أنَّهم علَّلوا توبيخَهم بإتيان الرُّسلِ وتبليغَ الكُتبِ {قَالُواْ بلى} قد أنونا وأندرونا {ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين} حيثُ قال الله تعالى لإبليسَ لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ وقد كنَّا ممن اتبعه وكذَّبنا الرُّسلَ وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله من شئ إن أنتم إلا تكذبون

72

{قِيلَ ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا} أي مقدَّراً خلودُكم فيها وإبهامُ القائلِ لتهويلِ المَقُولِ {فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} اللامُ للجنسِ والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ ثقةً بذكرِه آنِفا أي فبئسَ مثواهُم جهنَّمُ ولا يقدُح ما فيه من الإشعار بأن كونَ مثواهُم جهنَّمَ لتكبُّرِهم عن الحقِّ في أنَّ دخولَهم النَّارَ لسبق كلمةِ العذابِ عليهم فإنَّها إنَّما حُقَّتْ عليهم بناءَّ على تكبُّرِهم وكُفرِهم وقد مرَّ تحقيقُه في سُورة الم السَّجدةِ

73

{وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة} مساقَ إعزازٍ وتشريفٍ للإسراعِ بهم إلى دار الكرامةِ وقيل سِيق مراكبُهم إذْ لا يُذهبُ بهم إلا راكبينَ {زُمَراً} متفاوتينَ حسب تفاوتٍ مراتبِهم في الفضلِ وعلوِّ الطَّبقةِ {حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها} وقرئ بالتَّشديدِ وجوابُ إذا محذوفٌ للإيذانِ بأن لهم حينئذٍ من فُنون الكراماتِ ما لا يَحدِقُ به نطاقُ العباراتِ كأنَّه قيل حتَّى إذا جاءوها وقد فُتحِتْ أبوابُها {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ} من جميعِ المكارِه والآلام {طِبْتُمْ} طهرتم من دَنَس المعاصي أو طبتُم نَفْساً بما أُتيح لكُم من النَّعيمِ {فادخلوها خالدين} كان ما كان مَّما يقصر عنه البيانُ

74

{وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ} بالبعث والثَّوابِ {وَأَوْرَثَنَا الأرض} يريدونَ المكانَ الذي استقرُّوا فيه على الاستعارةِ وإيراثُها تمليكُها مخلَّفة عليهم من أعمالِهم أو تمكينُهم من التَّصرُّفِ فيها تمكينَ الوارثِ فيما يَرثُه {نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نشاء} أي نتبوأ كلُّ واحدٍ مَّنا في أي مكانٍ أرادُه من جنَّتهِ الواسعة على أنَّ فيها مقاماتٍ معنويةً لا يتمانع واردوها {فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} الجنَّةُ

75

{وَتَرَى الملائكة حَافّينَ} مْحدقين {مِنْ حَوْلِ العرش} أي حوله

سورة غافر سورة غافر 1 3 ومِن مزيدةٌ أو لابتداءِ الحفوفِ {يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} أي ينزهونَه تعالى عَّما لا يليق به متلبسين بحمدِه والجملة حالٌ ثانيةٌ أو مقيَّدةٌ للأُولى والمعنى ذاكرين له تعالى بوصفى جلالِه وإكرامِه تلذُّذاً به وفيه إشعارٌ بأنَّ أقصى درجاتِ العلِّيينَ وأعلى لذائذِهم هو الاستغراق في شئونه عزَّ وجلَّ {وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق} أي بين الخلقِ بإدخال بعضِهم النَّارَ وبعضهم الجَّنةَ أو بين الملائكةِ بإقامتِهم في منازلِهم على حسبِ تفاضُلِهم {وَقِيلَ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} أي على ما قَضَي بيننا بالحق وأنزل كلامنا منزلتَه التي هي حقُّه والقائلون هم المؤمنون ممَّن قُضىَ بينهم أو الملائكةُ وطى ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سُورة الزُّمَر لم يقطعِ الله تعالى رجاءَهُ يومَ القيامةِ وأعطاهُ ثوابَ الخائفينَ وعن عائشةَ رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كانَ يقرأُ كلَّ ليلةٍ بنى إسرائيل والزمر سورة غافر مكية وآياتها خمس وثمانون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

غافر

{حم} بتفخيمِ الألفِ وتسكينِ الميم وقرئ بإِمالةِ الألفِ وبإخراجِها بينَ بينَ وبفتحِ الميمِ لالتقاءِ الساكنينِ أو نصبِها بإضمارِ اقرأْ وَنَحوِهِ ومنعُ الصرفِ للتعريف وكونِها على زنةِ قابيلَ وهابيلَ وبقيةُ الكلامِ فيهِ وفي قولِه تعالى

2

{تَنزِيلُ الكتاب} كالذي سَلَفَ في آلم السجدةِ وقولُه تعالى {مِنَ الله العزيز العليم} كما في مَطْلعِ سُورةِ الزُّمَرِ في الوجوه كُلِّها ووجْهُ التعرضِ لنعتَي العزةِ والعلم ما ذُكرَ هناك

3

{غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب ذِى الطول} إِمَّا صفاتٌ أُخَرُ لتحقيق ما فيها منَ الترغيبِ والترهيبِ والحثِّ على ما هو المقصودُ والإضافةُ فيها حقيقيةٌ على أنَّه لمْ يُرَدْ بها زمانٌ مخصوصٌ وأريدَ بشديدِ العقابِ مشدِّدُه أو الشديدُ عقابُهُ بحذف اللامِ للازدواجِ وأمنِ الالتباسِ أوْ إبدالٍ وجعلُهُ وحْدَه بدلاً كما فعَلُه الزجَّاجُ مشوشٌ للنظمِ وتوسيطُ الواو بينَ الأوليَّنِ لإفادةِ الجمعِ بينَ محوِ الذنوبِ وقبول التوبةِ أو تغايرِ الوصفينِ إذْ رُبَّما يتوهمُ الاتحادُ أو تغايرُ موقعِ الفعلينِ لأنَّ الغفرَ هو السترُ معَ بقاءِ الذنبِ وذلكَ لمن لَمْ يتُبْ فإنَّ التائبَ منَ الذنبِ كمنْ لا ذنبَ لَهُ والتوبُ مصدرٌ كالتوبةِ وقيل هُوَ جَمعُها والطَّولُ الفضلُ بترك العقابِ المستَحقِ وفي توحيد صفةِ العذابِ مغمورةً بصفاتِ الرحمة دليل سبقها

غافر 4 6 ورجحا بها {لا إله إلا هو} فيجبُ الإقبالُ الكُلِّي عَلى طاعتِهِ في أوامرِهِ ونواهيهِ {إِلَيْهِ المصير} فحسبُ لا إلى غيرِهِ لا استقلالاً ولا اشتراكاً فيجزى كلاًّ من المطيعِ والعاصِي

4

{ما يجادل في آيات الله} أي بالطعنِ فيَها واستعمالِ المقدماتِ الباطلةِ لإدحاضِ الحقِّ كقولِه تَعَالى وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق {إِلاَّ الذين كَفَرُواْ} بَها وأمَّا الذينَ آمنُوا فلا يخطرُ ببالهم شائبةُ شبهةٍ منها فضلاً عن الطعنِ فيها وأما الجدالُ فيها لحلِّ مشكلاتها وكشفِ معضلاتها واستنباطِ حقائقِها الكلية وتوضيحٍ مناهجِ الحقِّ في مضايقِ الأفهامِ ومزالقِ الأقدامِ وإبطالِ شبهِ أهلِ الزيغِ والضلالِ فمنْ أعظمِ الطاعاتِ ولذلكَ قال صلى الله عليه وسلم إنَّ جدالاً في القرآنِ كفرٌ بالتنكيرِ للفرقِ بينَ جدالٍ وجدالٍ والفاءُ فِي قولِهِ تَعَالَى {فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البلاد} لترتيبِ النَّهي أوْ وجوبِ الانتهاءِ على ما قبلَها من التسجيلِ عليهمْ بالكُفرِ الذي لا شئ أمقت منْهُ عندَ الله تعالىَ وَلاَ أجلبُ لخُسرانِ الدُّنيا وَالآخرةِ فإنَّ منْ تحقق ذلك لا يكاد يَغترُّ بمَا لهُم من حظوظ الدنيا وزخارفها فإنَّهم مأخوذونَ عَمَّا قليلٍ أخْذَ مِن قَبْلِهِم منَ الأممِ حسبَما ينطِق بِه قولُه تَعَالَى

5

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والاحزاب مِن بَعْدِهِمْ} أي الذينَ تحزبُوا على الرسلِ وناصبوهم بعدَ قومِ نوحٍ مثلُ عادٍ وثمودَ وأضرابِهم {وَهَمَّتْ كلَّ أمةٍ} مِنْ تلكَ الأممِ العاتيةِ {بِرَسُولِهِمْ} وقرئ برسولِها {لِيَأْخُذُوهُ} ليتمكنُوا منْهُ فيصيبوا بهِ مَا أرادُوا منِ تعذيبٍ أو قتلٍ منَ الأخذِ بمَعْنى الأَسْرِ {وجادلوا بالباطل} الذي لاَ أصلَ وَلاَ حقيقةَ لهُ أصلاً {لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} الذي لا محيد عنه كما فعل هؤلاء {فَأَخَذَتْهُمُ} بسببِ ذلك أخذَ عَزيزٍ مُقتدرٍ {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} الذي عاقبتُهمْ بهِ فإنَّ آثارَ دمارِهم عبرةٌ للناظرينَ ولآخذنَّ هؤلاءِ أيْضاً لاتحادِهم فِي الطريقةِ واشتراكِهم في الجريرة كما ينبئ عنْهُ قولُه تعالَى

6

{وكذلك حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ} أَيْ كَما وجبَ وثبتَ حكمُه تَعَالى وقضاؤُهُ بالتعذيبِ عَلى أولئكَ الأممِ المكذبةِ المُتحزبةِ عَلى رُسلِهم المجادلةِ بالباطلِ لإدحاضِ الحقِّ بهِ وجبَ أَيْضاً {عَلَى الذين كَفَرُواْ} أيْ كفرُوا بكَ وتحزبُوا عليكَ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ كما ينبئ عنْهُ إضافةُ اسمِ الربِّ إلى ضميره صلى الله عليه وسلم فإنَّ ذلكَ للإشعارِ بأنَّ وجوبَ كلمةِ العذابِ عليهمْ مِنْ أحكامِ تربيتِهِ التي من جملتها نصرته صلى الله عليه وسلم وتعذيبُ أعدائِهِ وذلكَ إنَّما يتحققُ بكونِ الموصولِ عبارةً عن كفارِ قومِهِ لاَ عنِ الأممِ المهلكةِ وَقولُه تعالَى {أَنَّهُمْ أصحاب النار} فِي حَيِّزِ النصبِ بحذفِ لام التعليلِ أيْ لأنهُمْ مستحقَّو أشدِّ العُقوباتِ وأفظعِها التي هيَ عذابُ النارِ وَملازمُوهَا أبداً لكونهمْ كُفَّاراً معاندينَ متحزبينَ عَلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم كدأبِ مِن قَبْلِهِم منَ الأممِ المهلكةِ فهُم لسائرِ فنونِ العقوباتِ أشدُّ استحقاقاً وأحقُّ استيجاباً وقيلَ هو في محلِ الرفعِ على أنَّه بدل من كلمة ربك والمعنى مثل ذلك

غافر 7 الوجوب وجب على الكفرةِ المهلكةِ كونُهم من أصحابِ النارِ أي كما وجبَ إهلاكُهم في الدُّنيا بعذابِ الاستئصال كذلك وجب تعذيبهم بعذابِ النَّارِ في الآخرةِ وَمحلُّ الكافِ عَلى التقديرينِ النصب على أنه نعت لمصدرٍ محذوفٍ

7

{الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ} وَهُم أعلى طبقاتِ الملائكةِ عليهم السلامُ وأولُهم وجُوداً وحملهم إيَّاهُ وحفيفُهم حولَهُ مجازٌ عن حفظِهم وتدبيرِهم له وكنايةٌ عن زُلفاهُم منْ ذِي العرشِ جَلَّ جَلالُه ومكانتِهم عِنْدُه ومحل الموصول الرفع عل الابتداءِ خبرُه {يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ ربهم} والجملة استئنافٌ مَسوقٌ لتسليةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ببيانِ أنَّ أشرافَ الملائكةِ عليهمُ السلامُ مثابروِنَ عَلَى ولايةِ مَنْ معهُ منَ المُؤمنينَ ونُصْرتِهم واستدعاءِ مَا يُسعِدُهم في الدارينِ أيْ ينزهونهُ تعالى عن كُلِّ ما لا يليقُ بشأنه الجليلِ ملتبسينَ بحمدِهِ عَلى نعمائِه التي لاَ تتناهَى {ويؤمنون به} إيمانا حقيقا بحالِهم والتصريحُ بهِ مع الغنِىَ عن ذِكْرِهِ رَأْساً لإظهارِ فضيلةِ الإيمانِ وإبرازِ شرفِ أهلِه والإشعارِ بعلةِ دُعَائهم للمؤمنينَ حسبما ينطِق بهِ قولُه تَعالى {وَيَسْتَغْفِرُونَ للذين آمنوا} فَإِنَّ المشاركةَ في الإيمانِ أقْوَى المناسباتِ وأتمُّها وأدعى الدَّواعِي إِلى النصحِ والشفقةِ وفي نظمِ استغفارهم لهم في سلكِ وظائِفهم المفروضةِ عليهم منْ تسبيحهم وتحميدِهم وإيمانهم إيذانٌ بكمالِ اعتنائِهم بهِ وإِشعارٌ بوقوعِهِ عندَ الله تعالى فِي مَوقعِ القَبولِ رُوي أنَّ حملةَ العرشِ أرجلُهم في الأَرْضِ السفلى ورءوسهم قدْ خرقتِ العرشَ وهم خشوعٌ لا يرفعونَ طَرفهم وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لا تتفكروا في عِظَمِ ربكم ولكنْ تفكروا فيمَا خلقَ الله من الملائكةِ فإنَّ خلقاً من الملائكةِ يقالُ لهُ إسرافيلُ زاويةٌ منْ زَوَايا العرشِ عَلى كاهلِهِ وقدماهُ في الأرضِ السُّفْلى وَقَدُ مرقَ رأسُهُ منْ سبعِ سمواتٍ وإنَّه ليتضاءلُ منْ عظمةِ الله حتَّى يصيرَ كأنُه الوصعُ وَفِي الحديثِ إِنَّ الله أمرَ جميعَ الملائكةِ أَنْ يغدُوا ويروحُوا بالسلامِ عَلى حملةِ العرشِ تفضيلاً لهم عَلى سائِرهم وقيل خلقَ الله تعالى العرشَ من جوهرةٍ خضراءَ وبينَ القائمتينِ من قوائمِهِ خفقان الطيرِ المسرع ثمانين ألف عامٍ وقيل حولَ العرشِ سبعونَ ألفَ صفٍ منَ الملائكةِ يطوفونَ به مهللينَ مكبرينَ ومن ورائهم سبعونَ ألفَ صفٍ قيامٌ قد وضعُوا أيديَهُم عَلى عواتقِهم رافعينَ أصواتَهُم بالتهليلِ والتكبيرِ ومنْ ورائِهم مائةُ ألفِ صفٍ قدْ وضعُوا أيمانَهُم عَلى الشمائلِ ما منهمْ أحدٌ إلا وهو يسبحُ بما لا يسبحُ بهِ الآخرُ {رَبَّنَا} عَلى إرادةِ القولِ أيْ يقولونَ ربَّنا عَلى أنَّه إمّا بيانٌ لاستغفارِهم أوْ حالٌ {وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً} أيْ وَسِعتْ رحمتُكَ وعلمُكَ فأزيلَ عنْ أصلِه للإغراقِ في وصفهِ تعالَى بالرحمةِ والعلمِ والمبالغةِ في عمومهمَا وتقديمُ الرحمةِ لأنَّها المقصودةُ بالذات ههنا والفاء في قوله تعالى {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سبيلك} أي للذين علمت منهم التوبةَ واتباعَ سبيلِ الحقِّ لترتيبِ الدعاءِ عَلَى ما قبلها مِنْ سعةِ الرحمةِ والعلمِ {وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} وَاحفظْهُم عنْهُ وهُوَ تصريحٌ بعدَ إِشعارٍ للتأكيدِ

غافر

8

8 - 10 {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ} عطفٌ عَلى قِهِمْ وتوسيطُ النداءِ بينَهما للمبالغة في الجؤارِ {جنات عَدْنٍ التى وَعَدْتَّهُمْ} أيْ وعَدَتهم إياها وقرئ جَنَّةَ عَدْنٍ {وَمَنْ صَلَحَ من آبائهم وأزواجهم وَذُرّيَّاتِهِمْ} أيْ صلاحاً مصحَّحاً لدخولِ الجنةِ في الجملةِ وإنْ كانَ دونَ صلاحِ أصولِهم وهُوَ عطفٌ على الضميرِ الأولِ أيْ وأدخلها معهم هؤلاء ليتم سرورهم ويتصاعف ابتهاجُهم أوْ عَلى الثانِي لكنْ لا بناءً عَلى الوعدِ العام للكلِّ كما قيلَ إذْ لا يقي حينئذ للعطف وجه بل بناء على الوعد الخاصِّ بهمْ بقولِه تعالَى أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ بأنْ يكونُوا أعلى درجةً منْ ذريتِهم قالَ سعيدُ بنُ جُبيرٍ يدخلُ المؤمنُ الجنةَ فيقولُ أينَ أبي أينَ ولدي أينَ زَوْجي فيقالُ إِنَّهم لمْ يعملُوا مثلَ عملكَ فيقولُ إني كنتُ أعملُ لي ولهُم فيقالُ أَدخلوهم الجنةَ وسبقُ الوعدِ بالإدخالِ والإلحاقِ لاَ يستدعي حصولَ الموعودِ بلا توسطِ شفاعةٍ واستغفارٍ وعليهِ مَبْنى قولِ منْ قالَ فائدةُ الاستغفارِ زيادةُ الكرامةِ والثوابِ والأولُ هو الأَولى لأنَّ الدعاءَ بالإدخالِ فيه صريحٌ وفي الثاني ضمنى وقرئ صَلُح بالضَّمِ وذرّيتِهمُ بالإفرادِ {إِنَّكَ أَنتَ العزيز} أي الغالبُ الذَّي لاَ يمتنعُ عليه مَقْدورٌ {الحكيم} أي الذي لا يفعلُ إلا ما تقتضيهِ الحكمةُ الباهرةُ من الأمور التي من جُمْلتها إنجازُ الوعدِ فالجملةُ تعليلٌ لما قَبْلها

9

{وَقِهِمُ السيئات} أي العقوباتِ لأَنَّ جزاءَ السيئةِ سيئةٌ مثلُهَا أو جزاءَ السيئاتِ عَلَى حذْفِ المُضافِ وَهُوَ تعميمٌ بعدَ تخصيصٍ أوْ مخصوصٌ بالأتْباعِ أو المعاصي في الدُّنيا فمعنى قولِه تعالَى {وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} ومن تقه المعاصي في الدنيا فقد رحمته فِي الآخرةِ كأنَّهم طلَبوا لهُمْ السببَ بعدَ مَا سألُوا المُسبَّبَ {وَذَلِكَ} إشارةٌ إلى الرحمةِ المفهومةِ من رَحْمتَه أوْ إليَها وإِلى الوقايةِ وَمَا فيه من معنى البُعد لما مر مرارا من الإشعارِ ببُعْدِ درجةِ المُشارِ إليهِ {هُوَ الفوز العظيم} الذِي لاَ مطمعَ وَرَاءَهُ لطامعٍ

10

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} شروعٌ في بيانِ أحوالِ الكفرة بعد دخول النَّارَ بعدَ ما بينَ فيما سبقَ أنهُمْ أصحابُ النارِ {يُنَادَوْنَ} أيْ مِنْ مكانٍ بعيدٍ وهُمْ في النارِ وقَدْ مقتُوا أنفسَهُم الأمَّارةَ بالسُّوءِ التي وقعُوا فيمَا وقعُوا باتباعِ هَوَاهَا أوْ مقَتَ بعضُهم بعضاً من الأحبابِ كقولِه تَعَالَى يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أيْ أبغضوهَا أشدَّ البغضِ وَأنكروهَا أبلغَ الإنكارِ وَأظهرُوا ذلكَ على رءوس الأشهادِ فيقالُ لهم عندَ ذلكَ {لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} أيْ لمقتُ الله أنفسَكُم الأمَّارةَ بالسوءِ أوُ مقتُه إِيَّاكم في الدُّنيا {إِذْ تَدْعُونَ} منْ جهةِ الأنبياءِ {إِلَى الإيمان} فتأبَوْنَ قَبولَهُ {فَتَكْفُرُونَ} اتّباعاً لأنفسكمْ الأمَّارةِ ومسارعةً إِلى هَوَاها أوِ اقتداءً بِأَخِلاَّئِكُم المضلينَ واستحباباً لآرائِهم أكبر من مقتكم أنفسكم الأمارة أوْ مِنْ مقتِ بعضِكم بعضا

غافر 11 12 اليوم فإذا ظرفٌ للمقتِ الأولِ وإنْ توسطَ بينَهما الخبرُ لما فِي الظروفِ من الاتساعِ وقيل لمصدرٍ آخرَ مقدرٍ أيْ مقتُه إيَّاكم إذْ تدعونَ وقيلَ مفعولٌ لأذكرُوا والأولُ هو الوجْه وقيلَ كلا المقتينِ في الآخرةِ وإذْ تدعَونَ تعليلٌ لَما بينَ الظرفِ والسببِ منْ علاقةِ اللزومِ والمعنى لمقتُ الله إِيَّاكم الآنَ أكبرُ منْ مقتكم أنفسَكم لمَّا كنتمُ تُدعَونَ إِلى الإيمانِ فتكفرونَ وتخصيصُ هَذَا الوجهِ بصورةِ كونِ المرادِ بأنفسِهم أضرابَهُم مما لاَ دَاعيَ إليهِ

11

{قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} صفتانِ لمصدرَيْ الفعلينِ المذكورينِ أيْ إماتتينِ وإحياءتينِ أوْ موتتينِ وحياتينِ عَلى أنَّهما مصدرانِ لهما أيضا بحذف الزوائد ولفعلين يدلُّ عليهما المذكوران فإنَّ الإماتة والإحياء ينبثان عن الموتِ والحياةِ حَتْماً كأنَّه قيلَ أمتنَا فمُتنَا موتتينِ اثنتينِ وأحييتَنا فحِييَنا حياتينِ اثنتينِ على طريقةِ قولِ مَنْ قالَ ... وعضّةُ دهرٍ يا ابنَ مروانَ لم تَدَع ... مِنَ المالِ إلا مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ ... أيْ لَم تدعَ فلمْ يبْقَ إلا مسحتٌ الخ قيل أرادوا بالامانة الأُولى خلْقَهُم أمواتاً وبالثانيةِ إماتتَهُم عندَ انقضاءِ آجالِهم على أنَّ الإماتةَ جعلُ الشئ عادمَ الحياةِ أعمُّ منْ أنْ يكونَ بإنشائِه كذلكَ كما في قولِهم سُبحان مَنْ صغر البعوضَ وكبَّر الفيلَ أو بجعلهِ كذلكَ بعدَ الحياةِ وبالإحياءينِ الإحياءَ الأولَ وإحياءَ البعثِ وقيل أرادُوا بالإماتةِ الأُولى ما بعدَ حياةِ الدُّنيا وبالثانيةِ ما بعدَ حياةِ القبرِ وبالإحياءينِ ما في القبرِ وما عند البعت وهو الأنسبُ بحالِهم وأما حديثُ لزومِ الزيادةِ على النصِّ ضرورةَ تحققِ حياةِ الدُّنيا فمدفوعٌ لكنْ لا بما قيلَ من عدم اعتدادهم بها لزوالها وانقضائهاوانقطاع آثارِها وأحكامِها بل بأنَّ مقصودَهُم إحداثُ الاعترافِ بما كانوا ينكرونه في الدنيا كما ينطِقُ به قولُهم {فاعترفنا بِذُنُوبِنَا} والتزامُ العملِ بموجب ذلك الاعترافِ ليتوسلُوا بذلكَ إلى ما علقوا به أطماعَهم الفارغةَ من الرجْعِ إلى الدُّنيا كما قد صرَّحوا بهِ حيثُ قالوا فارجعنا نَعْمَلْ صالحا إِنَّا مُوقِنُونَ وَهُو الذي أرادُوه بقولِهم {فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ} معَ نوعِ استبعادٍ لهُ واستشعارِ يأسٍ منْهُ لاَ أنَّهم قالوه بطريقِ القنوطِ البحتِ كما قيلِ ولا ريبَ في أنَّ الذي كانَ يُنكرونَهُ ويُفرِّعون عليهِ فنونَ الكفرِ والمعاصِي ليسَ إلا الإحياءَ بعدَ الموتِ وأمَّا الإحياءُ الأولُ فلم يكونُوا يُنكرونَه لينظِمُوه في سلكِ ما اعترفُوا بهِ وزعمُوا أنَّ الاعترافَ يُجديهُم نفعاً وإنما ذكرُوا الموتَةَ الأُولى معَ كونِهم معترفينَ بَها في الدُّنيا لتوقف حياةِ القبرِ عليهَا وكَذا حالُ الموتةِ في القبرِ فإنَّ مقصدَهُم الأصليَّ هوَ الاعترافُ بالإحياءينِ وإنَّما ذكرُوا الإماتتينِ لترتيبهِما عليهِما ذكراً حسبَ ترتيبهما عليهِما وجُوداً وتنكيرُ سبيلٍ للإبهامِ أيْ منْ سبيلٍ مَا كيفَما كانَ وقولُه تعاَلى

12

{ذلكم} الخ جوابٌ لَهُم باستحالةِ حصولِ مَا يرجُونه ببيانِ ما يوجبُها مِن أعمالِهم السيئةِ أيْ ذلكم الذي أنتمُ فيهِ منَ العذابِ مُطلقاٍ لا مقيداً بالخلودِ كَما قيلَ {بِأَنَّهُ} أيْ بسببِ أنَّ الشأنَ {إِذَا دُعِىَ الله} فِي الدُّنيا أيْ عُبدَ {وَحْدَهُ} أيْ مُنْفَرِداً {كَفَرْتُمْ} أيْ بتوحيدِهِ {وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ}

أيْ بالإشراكِ به وتسارعوا فيه وفي إيرادِ إذَا وصيغةِ الماضِي في الشرطيةِ الأُولى وإنْ وصيغةِ المضارعِ في الثانية مالا يَخفْى من الدلالةِ على كمالِ سوءِ حالِهم وحيثُ كان حالُكم كذلكَ {فالحكم للَّهِ} الذي لاَ يحكُم إلا بالحقِّ ولاَ يقضِي إلا بما تقتضيه الحكمةُ {العلى الكبير} الذي ليسَ كمثلِه شيءٌ في ذاتِه ولا في صفاتِه ولا في أفعالِه يفعلُ مَا يشاءُ ويحكُم ما يريدُ لا معقِّبَ لحكمهِ وقد حكمَ بأنَّه لا مغفرةَ للمشركِ ولا نهايةَ لعقوبتِه كَما لا نهايةَ لشناعتِه فلا سبيل لكُم إلى الخروجِ أَبداً

13

{هو الذي يريكم آياته} الدالة على شئونه العظيمةِ الموجبةِ لتفرده بالألوهيةِ لتستدلوا بها على ذلك وتعملوا بموجبِهَا فتوحِّدوه تعالَى وتخُصُّوه بالعبادةِ {وَيُنَزّلُ} بالتشديدِ وقُرىءَ بالتخفيفِ منَ الإنزالِ {لَكُم مّنَ السماء رِزْقاً} أيْ سببَ رزقٍ وهو المطرُ وإفرادُه بالذكرِ مع كونِه من جملةِ الآياتِ الدالةَ عَلى كمالِ قدرتِه تعالى لنفرده بعنوانِ كونِه من آثارِ رحمتِه وجلائلِ نعمتِه الموجبةِ للشكرِ وصيغةُ المضارعِ في الفعلين الدلالة على تجددِ الإراءةِ والتنزيلِ واستمرارِهِما وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعول لما مر غيرَ مرةٍ {وَمَا يَتَذَكَّرُ} بتلكَ الآياتِ الباهرةِ ولا يَعملُ بمقتضَاهَا {إِلاَّ مَن يُنِيبُ} إلى الله تَعَالى ويتفكرُ فيما أودَعهُ في تضاعيفِ مصنوعاتِهِ من شواهدِ قدرتِه الكاملةِ ونعمتِه الشاملةِ الموجبةِ لتخصيصِ العبادةِ بهِ تَعالَى ومن ليسَ كذلكَ فهُو بمعزلٍ منَ التذكرِ والاتعاظِ

14

{فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أيْ إِذا كانَ الأمر كما ذكر من اختصاصِ التذكرِ بمنْ ينيبُ فاعبدُوه أيُّها المؤمنونَ مخلصينَ له دينَكُم بموجبَ إنابتِكم إليهِ تعالَى وإيمانِكم به {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} ذلكَ وغاظَهُم إخلاصُكم

15

{رَفِيعُ الدرجات} نحوُ بديعِ السمواتِ عَلى أنه صفةٌ مشبّهةٌ أضيفتْ إلى فاعِلها بعدَ النقلِ إلى فعُل بالضمِّ كما هُوَ المشهورُ وتفسيرُه بالرافعِ ليكونَ منْ إضافِه اسمِ الفاعلِ إلى المفعولِ بعيدٌ في الاستعمالِ أيْ رفيعُ درجاتِ ملائكتِه أي معارجِهم ومصاعدِهم إلى العرشِ {ذُو العرش} أيْ مالكُه وهُمَا خبرانِ آخرانِ لقولِه تعالى هوَ أخبرَ عنْهُ بهما إيذاناً بعلوِّ شأنِه تَعَالى وعظمِ سُلطانِه الموجبَيْنِ لتخصيصِ العبادةِ بهِ وإخلاصِ الدينِ لهُ إمَّا بطريقِ الاستشهادِ بهمَا عليهَما فإنَّ ارتفاعَ معارجَ ملائكتِه إلى العرشِ وكونَ العرشِ العظيمِ المحيطِ بأكنافِ العالمِ العلويِّ والسفليِّ تحتَ ملكوتِه وقبضةِ قدرتِه مما يقضِي بكونِ علوِّ شأنِه وعظمِ سلطانه في لا غايةَ وراءها وإما بجعلَهما عبارةً عنهما بطريقِ المجازِ المتفرعِ على الكنايةِ كالاستواءِ على العرشِ وتمهيداً لما يعقُبهما من قولِه تعالى {يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ} فإنَّه خبرٌ آخرُ لمَا ذكرَ منبىءٌ عن إنزالِ الرزقِ الرُّوحانِيِّ الذي هُو الوحيُ بعدَ بيانِ إنزالِ الرزقِ الجُسمانيِّ الذي هُو المطرُ أي ينزلُ الوحيَ الجاريَ من القلوبِ منزلةَ الروحِ منَ الأجسادِ وقوله

غافر 16 17 تعالَى مِنْ أَمْرِهِ بيانٌ للروحِ الذي أريدَ بهِ الوحيُ فإنَّه أمرٌ بالخيرِ أو حال منه أي حالَ كونِه ناشئاً ومبتدأً منْ أمرِهِ أو صفةٌ له على رأي من يجوِّز حذفَ الموصول مع بعضِ صلتِه أي الروحَ الكائنَ منْ أمرهِ أو متعلق بباقي ومِنْ للسببيةِ كالباءِ مثلُ ما في قوله تعالى مّمَّا خطيئاتهم أي يُلقِي الوحيَ بسببِ أمرهِ {على مَن يَشَاء مِنْ عباده} وهوَ الذي اصطفاهُ لرسالتِه وتبليغِ أحكامِه إليهمْ {لّيُنذِرَ} أي الله تعالَى أو الملقى عليه أو الروح وقرىء لتنذر على أن الفاعل هو الرسول صلى الله عليه وسلم أو الرُّوحُ لأنَّها قد تؤنث {يَوْمَ التلاق} إما ظرفٌ للمفعولِ الثانِي أي لينذر الناس العذاب يوم التلاقِ وهو يومُ القيامةِ لأنَّه يتلاقَى فيهِ الأرواحُ والأجسامُ وأهلُ السمواتِ والأرضِ أو هو المفعول الثاني اتساعاً أوْ أصالةً فإنَّه منْ شدةِ هولِه وفظاعتِه حقيقٌ بالإنذارِ أصالةً وقُرىَء ليُنْذرَ عَلَى البناءِ للمفعولِ ورفعِ اليومِ

16

{يَوْمَ هُم بارزون} بدلٌ منُ يومِ التلاقِ أيْ خارجونَ من قبورِهم أو ظاهرونَ لا يستُرهُم شيءٌ من جبلِ أو أَكَمةٍ أوْ بناءٍ لكونِ الأرضِ يومئذٍ قاعاً صفصفاً ولاَ عليهمُ ثيابٌ إنما هُم عراةٌ مكشوفونَ كما جاءَ فِي الحديثِ يحشرونَ عُراةً حُفاه غُرْلا وقيلَ ظاهرةٌ نفوسُهم لا تحجبُهم غواشِي الأبدانِ أوْ أعمالُهم وسرائرُهم {لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَىْء} استئنافٌ لبيانِ بروزِهم وتقريرٌ له وإزاحةٌ لما كان يتوهمُّه المتوهمونَ في الدُّنيا من الاستنار توهماً باطلاً أو خبرٌ ثانٍ وقيلَ حالٌ منْ ضميرِ بارزونَ أيْ لا يخفى عليه شيءٌ مَا منْ أعيانِهم واعمالهم واحوالهم الجلية والخفيةِ السابقةِ واللاحقةِ {لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الواحد القهار} حكايةٌ لمَا يقعُ حينئذٍ منَ السؤال والجوابِ بتقديرِ قولٍ معطوفٌ على ما قبله من الجملة المنفيةِ المستأنفةَ أو مستأنفٌ يقعُ جوابا عنْ سؤالٍ نشأَ منْ حكايةِ بروزِهم وظهورِ أحوالِهم كأنَّه قيلَ فماذَا يكونُ حينئذٍ فقيلَ يقالُ الخ أيْ يُنادِي مناد لمن الملك اليوم فيجيبُهُ أهلُ المحشرِ لله الواحدِ القهارِ وقيلَ المجيبُ هُوَ السائلُ بعينِه لما رُوي أنَّه يجمعُ الله الخلائقَ يومَ القيامةِ في صعيدٍ واحدٍ في أرضٍ بيضاءَ كأنَّها سبيكةُ فضةٍ لم يعصَ الله فيَها قطُّ فأولُ ما يتكلُم بهِ أنْ ينادِيَ منادٍ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الواحدِ القهارِ وقيلَ حكايةً لما ينطِق بهِ لسانُ الحالِ من تقطعِ أسبابِ للتصرفات المجازيةِ واختصاصِ جميعِ الأفاعيلِ بقبضةِ القدرةِ الإلهيةِ

17

{اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} إلخ إمَّا منْ تتمةِ الجوابِ لبيانِ حكمِ اختصاصِ المُلك بهِ تعالَى ونتيجتِه التي هيَ الحكُم السويُّ والقضاءُ الحقُّ أوْ حكايةً لِمَا سيقولُه تعالى يومئذٍ عقيبَ السؤالِ والجوابِ أيْ تُجزى كُلُّ نَفْسٍ منَ النفوسِ البرة الفاجرة بِمَا كَسَبَتْ منْ خَيرٍ أوْ شرَ {لاَ ظُلْمَ اليوم} بنقصِ ثوابٍ أوْ زيادةِ عذابٍ {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} أيْ سريعٌ حسابُه تماماً إذْ لا يشغلُه تعالَى شأنٌ عنْ شأنٍ فيحاسبُ الخلائقَ قاطبةً في أقربِ زمانٍ كما نُقلَ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنه تعالَى إذَا أخذَ في حسابِهم لم يقِلْ أهلُ الجنةِ إلاَّ فيهَا ولا أهلُ النارِ إلا فيهَا فيكون تغليلا لقولِه تعالَى اليومَ تُجزى الخ فإنَّ كونَ ذلكَ اليومِ بعينِه يومَ التلاقِي ويوم البروز ربما يوهم استبعادَ وقوعِ الكُلِّ

غافر 18 21 فيهِ أو سريعٌ مَجيئاً فيكونُ تعليلاً للإنذارِ

18

{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة} أي القيامةِ سميتْ بَها لأُزوفِهَا وهُو القربُ غيرَ أنَّ فيهِ إشعاراً بضيقِ الوقتِ وقيلَ الخطةُ الآزفةُ وهي مشارفةُ أهلِ النارِ دخولَها وقيل وقتَ حضورِ الموتِ كَما في قولِه تعالى فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وقولِه كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقى وقولُه تعالَى {إِذِ القلوب لَدَى الحناجر} بدلٌ منْ يومَ الآزفةِ فإنَّها ترتفعُ من أماكِنها فتلتصقُ بحلوقِهم فلا تعودُ فيتروّحوا ولاتخرج فيستريحوا بالموتِ {كاظمين} عَلى الغَمِّ حالٌ منْ أصحابِ القلوبِ عَلى المَعْنى إِذِ الأصلُ قلوُبُهم أوْ مِنْ ضميرِهَا في الظرفِ وجمعُ السلامة باعتبار أنَّ الكظَم منْ أحوالِ العُقلاءِ كقولِه تعالَى فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين أوْ منْ مفعولِ أنذرْهم عَلى أنَّها حالٌ مقدرةٌ أيْ أنذرهُم مقدراً كظمَهُم أوْ مشارفينَ الكظمَ {مَا للظالمين مِنْ حَمِيمٍ} أَيْ قريبٍ مشفقٍ {وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} أيْ لاَ شفيعَ مُشفَّعٌ على مَعْنى نفِي الشفاعةِ والطاعةِ معاً على طريقةِ قوله على لا حب لا يهتدى بمناره والضمائرُ إنْ عادتْ إلى الكُفارِ وهو الظاهرُ فوضعُ الظالمينَ موضعَ ضميرِهم للتسجيلِ عليهم بالظلمِ وتعليلِ الحكمِ بهِ

19

{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين} النظرةَ الخائنةَ كالنظرةِ الثانيةِ إلى غيرِ المَحْرمِ واستراقِ النظرِ إليهِ أو خيانةَ الأعينِ على أنها مصدرٌ كالعافيةِ {وَمَا تُخْفِى الصدور} من الضمائرِ والأسرارِ والجملةُ خبرٌ آخرُ مثلُ يُلقي الروحَ للدِّلالةِ على أنَّه ما مِنْ خفيَ إلا وهُو متعلقُ العلمِ والجزاءِ

20

{والله يَقْضِى بالحق} لأنَّه المالكُ الحاكُم على الإطلاقِ فلا يقضِي بشيءٍ إلا وهُو حقٌّ وعدلٌ {والذين يَدْعُونَ} يعبدونَهم {مِن دُونِهِ} تعالَى {لاَ يَقْضُونَ بِشَىْء} تهكمٌ بهم لأنَّ الجمادَ لا يُقالُ في حقِّه يقضي اولا يَقْضِي وقُرىء تَدْعُون عَلى الخطابِ التفاتاً أو على إضمارِ قُلْ {إِنَّ الله هُوَ السميع البصير} تقريرٌ لعلمِه تعالَى بخائنةِ الأعينِ وقضائِه بالحقِّ ووعيدٌ لهمُ على ما يقولون ويفعلون وتعريضٌ بحالِ ما يدْعونَ من دونِه

21

{أولم يَسِيرُواْ فِى الارض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي مآلُ حالِ مِن قَبْلِهِم من الأُممِ المكذبةِ لرُسلِهم كعادٍ وثمودَ وأضرابِهم {كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} قدرةً وتمكناً من التصرفاتِ وإنَّما جيءَ بضميرِ الفصلِ معَ أنَّ حقَّه التوسطُ بينَ معرفتين لمضاهاة افعل من للمعرفةِ في امتناعِ دخولِ اللامِ عليهِ وقُرِىءَ أشدَّ منكم بالكاف {وآثارا فِى الأرض} مثلُ القلاعِ الحصينة والمدائن المنينة وقيلَ المَعْنى وأكثرَ آثاراً كقولِه متقلداً سيفاً ورُمحاً {فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ} أخذاً وبيلاً {وَمَا كَانَ لَهُمْ مّنَ الله مِن وَاقٍ}

أي منْ واقٍ يقيهم عذابَ الله

22

{ذلك} أي ما ذكر من الأخذِ {بِأَنَّهُمْ} بسببِ أنَّهم {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي بالمعجزاتِ أو بالأحكامِ الظاهرةِ {فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِىٌّ} متمكنٌ مما يريد غابة التمكنِ {شَدِيدُ العقاب} لا يُؤبَهُ عندَ عقابِه بعقابٍ

23

{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} وهي معجزاتُه {وسلطان مُّبِينٍ} أي وحجَّةٍ قاهرةٍ وهيَ إما عينُ الآياتِ والعطفُ لتغايرِ العنوانينِ وإما بعضُ مشاهيرِها كالعَصا أفردتْ بالذكرِ مع اندراجِها تحتَ الآياتِ لأن فيها إفرادَ جبريلَ وميكالَ به مع دخولهما في الملائكةِ عليهم السَّلامُ

24

{إلى فِرْعَوْنَ وهامان وَقَارُونَ فَقَالُواْ ساحر كَذَّابٌ} أي فيما أظهرَهُ من المعجزاتِ وفيمَا ادَّعاهُ من رسالةِ ربِّ العالمينَ

25

{فَلَمَّا جَاءهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا} وهو ما ظهرَ على يدِه من المعجزاتِ القاهرةِ {قَالُواْ اقتلوا أَبْنَاء الذين آمنوا مَعَهُ واستحيوا نِسَاءهُمْ} كما قالَ فرعونُ سنقتلُ أبناءَهُم ونستحي نساءَهُم أي أعيدُوا عليهم ما كنتُم تفعلونَهُ أولاً وكانَ فرعونُ قد كفَّ عن قتلِ الوِلْدانِ فلما بعث صلى الله عليه وسلم وأحسَّ بأنَّه قد وقعَ ما وقعَ أعادَهُ عليهم غيظاً وَحنَقاً وزعماً منْهُ أنَّه يصدُّهم بذلكَ عن مظاهرتِه ظَّناً منهُم أنَّه المولودُ الذي حكَم المنجّمونَ والكهنةُ بذهابِ ملكِهم على يدِه {وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِى ضلال} أي في ضَياعٍ وبُطلانٍ لا يُغني عنهُم شيئاً وينفذ عليهم لا محالةَ القدرُ المقدورُ والقضاءُ المحتومُ واللامُ إمَّا للعهدِ والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لذمِّهم بالكفرِ والإشعارِ بعلةِ الحكمِ أو للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً والجملةُ اعتراضٌ جيءَ به في تضاعيفِ ما حكي عنهم من الأباطيلِ للمسارعةِ إلى بيانِ بطلانِ ما أظهروه من الإبراقِ والإرعادِ واضمِحْلالِه بالمرةِ

26

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ موسى} كانَ مَلؤُه إذَا هَمَّ بقتلِه عليه الصَّلاةُ والسلام وكفوه بقولِهم ليسَ هَذا بالذي تخافُه فإنَّه أقلُّ من ذلك وأضعفُ وما هُو إلا بعضُ السحرةِ وبقولِهم إذا قتلتَهُ أدخلتَ على النَّاسِ شُبهةً واعتقدُوا أنَّكَ عجَزتَ عن معارضتِه بالحجَّةِ وعَدلتَ إلى المقارعةِ بالسيفِ والظاهرُ من دهاءِ اللعينِ ونَكارتِه أنَّه كانَ قد استيقنَ أنَّه نبيٌّ وأنَّ ما جاءَ بهِ آياتٌ باهرةٌ وما هُو بسحرٍ ولكنْ كانَ يخافُ إنْ همَّ بقتلِه أنْ يُعاجلَ بالهلاكِ وكانَ قولُه هذا تمويهاً على قومِه وإيهاماً أنَّهم هم الكافُّونَ له عن قتله

غافر 27 28 ولولاهُم لقتلَه وما كانَ الذي يكفُّه إلا ما في نفسِه من الفزعِ الهائل وقولُه {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} تجلدٌ منه وإظهارٌ لعدمِ المُبالاةِ بدعائِه ولكنَّه أخوفُ ما يخافُه {إِنّى أَخَافُ} إنْ لم أقتْلهُ {أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ} أنْ يغيرَ ما أنتم عليه من الدين الذي هو عبارة عن عبادتِه وعبادةِ الأصنامِ لتقربَهم إليه {أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الأرض الفساد} ما يُفسدُ دُنياكُم من التحاربِ والتهارجِ إنْ لم يقدرُ على تبديلِ دينِكم بالكلِّيةِ وقُرِىءَ بالواوِ الجامعةِ وقُرىءَ بفتحِ الياءِ والهاءِ ورفع الفساد وقرىء بظهر بتشديدِ الظَّاءِ والهاءِ من تظَاهرَ أي تتابعَ وتعاونَ

27

{وَقَالَ مُوسَى} أي لقومِه حينَ سمعَ بمَا تقوَّلَهُ اللعينُ من حديثِ قتلِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ {إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب} صدَّرَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كلامَهُ بإنَّ تأكيداً له وإظهاراً لمزيدِ الاعتناءِ بمضمونِه وفرطِ الرغبةِ فيهِ وخصَّ اسمَ الربِّ المنبىءِ عنِ الحفظِ والتربيةِ لأنَّهما الذي يستدعيِه وأضافَهُ إليهِ وإليهم حثَّاً لهم على موافقتِه في العياذِ بهِ تعالى والتوكلَ عليه فإنَّ في تظاهرِ النفوسِ تأثيراً قوياً في استجلابِ الإجابةِ ولم يسمِّ فرعونَ بل ذكرَهُ بوصفٍ يعمُّه وغيرَهُ منَ الجبابرةِ لتعميمِ الاستعاذةِ والإشعارِ بعلةِ القساوةِ والجرأةِ على الله تعالَى وقُرىء عدت بالإدغامِ

28

{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ آل فِرْعَوْنَ} قيلَ كانَ قبطياً ابْنَ عمَ لفرعونَ آمنَ بموسى سِرَّاً وقيلَ كانَ إسرائيلياً أو غَريباً مُوحداً {يَكْتُمُ إيمانه} أيْ مِنْ فرعونَ وملئِه {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً} أتقصِدونَ قتلَهُ {أَن يَقُولَ} لأنْ يقولَ أو كراهةَ أنْ يقولَ {رَبّىَ الله} أيْ وحدَهُ من غيرِ رويةٍ وتأملٍ في أمرِه {وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات} والحالُ أنَّه قد جاءكُم بالمعجزاتِ الظاهرةِ التي شاهدتمُوها وعهدتمُوها {مّن رَّبّكُمْ} أضافَهُ إليهم بعدَ ذكرِ البيناتِ احتجاجاً عليهم واستنزالاً لَهمُ عن رُتبةِ المكابرةِ ثم أخذَهُم بالاحتجاجِ من بابِ الاحتياطِ فقالَ {وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} لا يتخطَّاهُ وبالُ كذبِه فيُحتاجَ في دفعه إلى قتلِه {وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ} أيْ إنْ لَم يُصبكم كلُّه فلاَ أقلَّ من اصابة بعضه لاسيما إنْ تعرضتُم له بسوءٍ وهَذا كلامٌ صادرٌ عن غايةِ الإنصافِ وعدمِ التعصبِ ولذلكَ قدَّمَ من شِقَّيْ الترديدِ كونَهُ كاذباً أو يُصبْكُم ما يعدُكُم من عذابِ الدُّنيا وهو بعضُ ما يعدُهم كأنَّه خوَّفُهم بما أظهرُ احتمالاً عندَهُم وتفسيرُ البعضِ بالكُلِّ مستدَلاً بقولِ لَبيدٍ ... ترَّاكُ أمكنةٍ إذَا لَمْ أَرْضَها ... أو يرتبطْ بعضَ النفوسِ حِمامُها ... مردودٌ لمَا أنَّ مرادَهُ بالبعضِ نَفْسُه {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} احتجاجٌ آخرُ ذُو وجهينِ أحدُهما أنَّه لوْ كانَ مُسرفاً كذاباً لما هداهُ الله تعالَى إلى البيناتِ ولمَا أيَّدهُ بتلكَ المعجزاتِ وثانيهما إنْ كان كذلك خذلَه الله وأهلكَهُ فَلا حاجةَ لكُم إلى قتلِه ولعلَّه أراهُم المعنى الثَّانِي وهُو عاكفٌ على المَعْنى الأول لتلينَ شكيمتُهم وقد عَرَّضَ به لفرعونَ بأنه

غافر 29 33 مسرفٌ كذَّابٌ لا يهديِه الله سبيلَ الصوابِ ومنهاجَ النجاة

29

{يا قوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين} غالبينَ عالينَ عَلى بني إسرائيلَ {فِى الأرض} أي أرضِ مصرَ لا يُقاومكُم أحدٌ في هذا الوقتِ {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله} من أخذِه وعذابِه {إِن جَاءنَا} أي فَلاَ تُفسدُوا أمرَكُم ولا تتعرضُوا لبأس الله بقتله فإن جاءَنا لم يمنعنا منه أحدٌ وإنَّما نسبَ ما يسرُّهم من المُلكِ والظهورِ في الأرضِ إليهم خَاصَّة ونظمَ نفسَهُ في سلكِهم فيما يسوؤُهم من مجىء بأسِ الله تعالى تطييباً لقلوبهم وايذانا بأنه مناصح لهم ساعٍ في تحصيلِ ما يُجديهم ودفعِ ما يُرديهم سعيَهُ في حقِّ نفسه ليتأثروا بنصحِه {قَالَ فِرْعَوْنُ} بعد ما سَمِع نُصحَهُ {مَا أُرِيكُمْ} أيْ ما أُشيرُ عليكُم {إِلاَّ مَا أرى} وأستصوبُهُ مِنْ قتلِه {وَمَا أَهْدِيكُمْ} بهذَا الرَّأي {إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد} أي الصوابِ اولا أُعلِّمُكم إلاَّ ما أعلمُ ولا أُسرُّ عنكُم خلافَ ما أُظهرُهُ ولقدْ كذبَ حيثُ كانَ مستشعراً للخوفِ الشديدِ ولكنَّه كان يتجلدُ ولولاهُ لما استشارَ أحداً أبداً وقُرِىءَ بتشديدِ الشِّينِ للمبالغةِ من رشُد كعلاّم أو من رشَد كعبّاد لامن أرشد كجبار من أجبر لأنه مقصورٌ على السماع أو للنسبة إلى الرُّشْد كعوّاج وبتَّات غيرَ منظور فيه إلى فَعْل

30

{وقال الذي آمن} مخاطبا لقومه {يا قوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} في تكذيبه والتعرض له بالسوءِ {مّثْلَ يَوْمِ الأحزاب} مثلَ أيامِ الأممِ الماضيةِ يعني وقائِعَهُم وجمعُ الأحزابِ مع التفسيرِ أغنى عَن جمعِ اليومِ

31

{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} أيْ مثلَ جزاءِ ما كانوا عليهِ من الكفرِ وإيذاءِ الرُّسلِ {والذين مِن بَعْدِهِمْ} كقومِ لوطٍ {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ} فَلا يُعاقبُهم بغيرِ ذنبٍ ولا يُخلّي الظالَم منُهم بغيرِ انتقامِ وهُو أبلغُ من قولِه تعالى وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ لما أنَّ المنفيّ فيهِ إرادةُ ظلمٍ مَا ينتفي الظلم بطريق الاولوية

32

{ويا قوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد} خوَّفهم بالعذابِ الأُخروي بعدَ تخويفِهم بالعذابِ الدنيويِّ ويومُ التنادِ يومُ القيامةِ لأنَّه يُنادِي فيهِ بعضُهم للاستغاثةِ أو يتصايحونَ بالويلِ والثبورِ أو يتنادَى أصحابُ الجنةِ وأصحابُ النارِ حسبَما حُكِيَ في سورةِ الأعرافِ وقُرِىءَ بتشديدِ الدَّالِ وهُو أنْ ينِدَّ بعضُهم من بعضٍ كقولِه تعالى يَوْمَ يَفِرُّ المرء من أخيه وعنِ الضحَّاكِ إذا سمعُوا زفير النار هَرَباً فلا يأتونَ قُطراً من الأقطارِ إلاَّ وجدُوا ملائكةً صفوفاً فبينَا هُم بموج بعضهم في بعضِ إذْ سمعُوا مُنادياً أقِبلوا إلى الحسابِ

33

{يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} بدلٌ من يومَ التنادِ أي منصرفينَ عن الموقفِ إلى النارِ أو فارينَ منها حسبما نقل آنفا

غافر 34 37 {مَا لَكُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} يعصمُكم من عذابِه والجملةُ حالٌ أُخْرَى من ضميرِ تُولُّون {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديه إلى طريقِ النجاةِ

34

{وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ} هو يوسفُ بنِ يعقوبَ عليهما السَّلامُ على أنَّ فرعونَهُ فرعونُ موسى أو على نسبةِ أحوالِ الآباءِ إلى الأولادِ وقيلَ سِبْطُه يوسفُ بنُ إبراهيمَ بنِ يوسفَ الصدِّيقِ {مِن قَبْلُ} من قبلِ موُسى {بالبينات} بالمعجزاتِ الواضحةِ {فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكّ مّمَّا جَاءكُمْ بِهِ} من الدينِ {حتى إِذَا هَلَكَ} بالموتِ {قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} ضمَّاً إلى تكذيبِ رسالتِه تكذيبَ رسالةِ مَنْ بعدَهُ أو جزماً بأنْ لا يُبعثَ بعدَهُ رسولٌ معَ الشكِّ في رسالتِه وقُرِىءَ ألنْ يبعثَ الله على أنَّ بعضَهُم يقررُ بعضاً بنفي البعثِ {كذلك} مثل ذلكَ الإضلالِ الفظيعِ {يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} في عصيانِه {مُّرْتَابٌ} في دينِه شاكٌّ فيما تشهدُ به البيناتُ لغلبةِ الوهمِ والانهماكِ في التقليدِ

35

{الذين يجادلون في آيات الله} بدلٌ من الموصولِ الأولِ أو بيانٌ له أو صفةٌ باعتبارٍ معناهُ كأنَّه قيلَ كلُّ مسرفٍ مرتابٍ أو المسرفينَ المرتابينَ {بغير سلطان} متعلق يجادلون أي بغيرِ حُجَّةٍ صالحةٍ للتمسكِ بها في الجُملةِ {آتاهم} صفةُ سلطانِ {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين آمنوا} فيه ضربٌ من التعجبِ والاستعظامِ وفي كبُر ضميرٌ يعودُ إلى مَنْ وتذكيرُه باعتبارِ اللفظِ وقيلَ إلى الجدالِ المستفادِ من يُجادلونَ {كذلك} أي مثلَ ذلك الطبع الفظيع {يطبع الله على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ} فيصدرُ عنه أمثالُ ما ذكر من الإسراف والارتيابِ والمجادلةِ بالباطلِ وقُرِىءَ بتنوينِ قلبِ ووصفُه بالتكبرِ والتجبر لانه منعهما

36

{وقال فرعون يا هامان ابن لِى صَرْحاً} أي بناءً مكشُوفاً عالياً من صرح الشيء اذ ظهرَ {لَّعَلّى أَبْلُغُ الأسباب} أي الطرق

37

{أسباب السماوات} بيانٌ لها وفي إبهامِها ثمَّ إيضاحِها تفخيمٌ لشأنِها وتشويقٌ للسامعِ إلى معرفتِها {فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى} بالنصبِ على جوابِ الترجِّي وقرىء بالرفع عطفا على أبلغُ ولعلَّه أرادَ أنْ يبنيَ له رَصَداً في موضعٍ عالٍ ليرصُدَ منْهُ أحوالَ الكواكبِ التي هي أسبابٌ سماويةٌ تدلُّ على إرسالِ الله تعالَى إيَّاهُ أو أنْ يَرَى فسادَ قوله عليه الصلاة والسلام بأنَّ إخبارَهُ من إلِه السماءِ يتوقفُ على اطِّلاعِه عليهِ ووصولِه إليهِ وذلكَ لا يتأتَّى إلا بالصُّعودِ إلى السماءِ وهُو ممَّا

غافر 38 42 لا يقْوَى عليهِ الإنسانُ وما ذاكَ إلا لجهلِه بالله سبحانَهُ وكيفيِة استنبائِه {وَإِنّى لاَظُنُّهُ كاذبا} فيَما يدعيه من الرسالة أيْ ومثلَ ذلكَ التزيينِ البليغِ المُفْرطِ {زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوء عَمَلِهِ} فانهمكَ فيهِ انهماكاً لا يرْعَوِي عنه بحال {وَصُدَّ عَنِ السبيل} أي سبيلِ الرشادِ والفاعلُ في الحقيقةِ هُو الله تعالَى ويؤيدُه قراءة زبن بالفتح وبالتوسط لشيطان وقُرِىءُ وصَدَّ على أنَّ فرعونَ صدَّ الناسَ عنِ الهُدى بأمثالِ هذهِ التمويهاتِ والشبهاتِ ويُؤيدُه قولُه تعالى {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ} أي خسَارٍ وهلاكِ أو على أنَّه من صَدَّ صُدوداً أي أعرضَ وقُرِىءَ بكسرِ الصَّادِ على نقلِ حركةِ الدَّالِ إليهِ وقُرِىءَ وصَدٌّ على أنَّه عطفٌ على سوءُ عملِه وقُرِىءَ وصَدُّوا أيْ هُو وقومُهُ

38

{وقال الذي آمن} أي مؤمنُ آلِ فرعونَ وقيلَ مُوسَى عليهِ السَّلامُ {يا قوم اتبعون} فيما دَللْتكُم عليهِ {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد} أيْ سبيلاً يصلُ سالكُه إلى المقصودِ وفيه تعريضٌ بأنَّ ما يسلُكُه فرعونُ وقومُه سبيل الغي والضلال

39

{يا قوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا متاع} أي تمتعٌ يسيرٌ لسرعةِ زوالِها أجملَ لَهمُ أولاً ثمَّ فسرَ فافتتحَ بذمِّ الدُّنيا وتصغيرِ شأنِها لأنَّ الإخلادَ إليها رأسُ كلِّ شرَ ومنه تتشعبُ فنونُ ما يُؤدِّي إلى سخطِ الله تعالَى ثمَّ ثنَّى بتعظيمِ الآخرةِ فقالَ {وَإِنَّ الأخرة هِىَ دَارُ القرار} لخلودِها ودوامِ ما فيها

40

{مِنْ عَمَلٍ} في الدُّنيا {سَيّئَةً فَلاَ يجزى} في الآخرةِ {إِلاَّ مِثْلَهَا} عدلاً من الله سبحانَهُ وفيه دليلٌ على أنَّ الجناياتِ تُغْرمُ بأمثالِها {وَمَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ} الذينَ عملِوا ذلَك {يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أيْ بغيرِ تقديرٍ وموازنةٍ بالعملِ بَلْ أضعافاً مُضاعفةً فضلاً من الله عزَّ وجلَّ ورحمةً وجعلُ العملِ عمدةً والإيمانِ حالاً للإيذانِ بأنَّه لا عبرةَ بالعملِ بدونِه وأنَّ ثوابَهُ اعلى من ذلك

41

{ويا قوم مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وَتَدْعُونَنِى إِلَى النار} كرر نداءهم ايفاظا لهم عن سنة الغفلة واعتناء بالمنادى له ومبالغة في توبيخهم على ما يقالون به نصحَهُ ومدارُ التعجبِ الذي يلوح الاستفهامُ دعوتُهم إيَّاهُ إلى النارِ ودعوته إياهم إلى النجاة كأنه قيل أخبروني كيف هذه الحال أدعوكم إلى الخير وتدعونني إلى الشرِّ وقد جعلَه بعضهم من قبيل مالي اراك حزيناً وقولُه تعالَى

42

{تَدْعُونَنِى لاَكْفُرَ بالله} بدلٌ أو بيانٌ فيه تعليلٌ والدعاءُ كالهدايةِ في التعديةِ بإلى واللامِ {وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ علم} بشركتِه له تعالى في المعبوديةِ وقيل بربوبيتِه {عِلْمٍ} والمرادُ نفيُ المعلومِ والإشعارُ بأنَّ الألوهيةَ لا بُدَّ لها من بُرهانٍ موجبٍ

غافر 43 46 العلم بَها {وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار} الجامعِ لجميعِ صفاتِ الألوهيةِ من كمالِ القُدرةِ والغَلبةِ وما يتوقفُ عليهِ من العلمِ والإرادةِ والتمكنِ من المجازاةِ والقدرةِ على التعذيبِ والغفرانِ

43

{لاَ جَرَمَ} لا ردَّ لما دعَوهُ إليهِ وجرمَ فعلٌ ماضٍ بمعَنْى حَقَّ وفاعله قوله تعالى {أنما تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدنيا وَلاَ فِى الأخرة} أيْ حق ووجب عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها أصلاً أو عدم دعوة مستجابة دعوةٍ لهَا وقيلَ جرمَ بمعنى كسبَ وفاعلُه مستكنٌّ فيهِ أي كسبَ ذلكَ الدعاءُ إليهِ بطلانَ دعوتِه بمعنى ما حصلَ من ذلكَ إلا ظهورُ بطلانِ دعوتِه وقيل جرمَ فعلٌ من الجَرْمِ وهو القطعُ كما أن بُدّاً من لا بد فُعْلٌ من التبديد أي التفريق والمعنى لا قطع لبطلان ألوهية الأصنام أي لا ينقطع في وقت ما فينقلب حقا ويؤيده قولهم لاجرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء وفُعْلٌ وفَعَلٌ أخوان كرُشْد ورَشَد {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى الله} أي بالموتِ عطفٌ على أنَّ ما تدعونِني داخلٌ في حُكمِه وكَذا قولُه تعالَى {وَأَنَّ المسرفين} أي في الضلالِ والطغيانِ كالإشراكِ وسفكِ الدِّماءِ {هُمْ أصحاب النار} أيْ مُلازمُوهَا

44

{فستذكرون} وقرىء فستذكرون أي فسيذكِّرُ بعضُكم بعضاً عند معاينةِ العذابِ {مَا أقول لكم} من النصائح {وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى الله} قالَه لما أنَّهم كانُوا توعَّدُوه {إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد} فيحرُسُ مَنْ يلوذُ به من المكارِه

45

{فَوقَاهُ الله سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} شدائدَ مكرِهم وما همّوا به من إلحاقِ أنواعِ العذابِ بمن خالفَهم قيل نجامع مُوسى عليهِ السَّلامُ {وَحَاقَ بآل فِرْعَوْنَ} أي بفرعونَ وقومِه وعدمُ التصريحِ بهِ للاستغناءِ بذكرِهم عنْ ذكرِه ضرورةَ أنَّه أولى منُهم بذلكَ وقيل بطَلَبةِ المؤمنِ منْ قومِه لما أنَّه فرَّ إلى جبلٍ فاتبعَهُ طائفةٌ ليأخذوه فوجدوه يصلي والوحوش صفوفٌ حولَهُ فرجعُوا رُعْباً فقتلَهُم {سُوء العذاب} الغرقُ والقتلُ والنَّارُ

46

{النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيانِ كيفيةِ سوءِ العذابِ أو النَّارُ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ كأنَّ قَائِلاً قالَ ما سوءُ العذابِ فقيلَ هُو النَّارُ ويُعرضونَ استئنافٌ للبيانِ أو بدلٌ من سوءِ العذابِ ويُعرضون حالٌ منَها أو من الآلِ ولا يشترطُ في الحَيْقِ أنْ يكونَ الحائقُ ذلكَ السوءَ بعينِه حَتَّى يردَ أنَّ آلَ فرعونَ لم يهمُّوا بتعذيبِه بالنَّارِ ليكونَ ابتلاؤهم بها من قبيلِ رجوعِ ما هَمُّوا بهِ عليهم بلْ يكِفي في ذلكَ أنْ يكونَ مما يطلقُ عليهِ اسمُ السوءِ وقُرِئتْ منصوبةً على الاختصاصِ أو بإضمار فعلٍ يفسرُه يُعرَضونَ مثلُ يُصْلَون فإنَّ عرضَهُم على النَّارِ بإحراقِهم بَها منْ قولِهم عُرضَ الأُسَارى على السيفِ إذا قُتِلُوا بهِ وذلكَ لأرواحِهم

غافر 47 50 كما رَوَىَ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه إن أرواحَهم في أجوافٍ طيرٍ سُودٍ تُعرضُ على النَّارِ بُكرةً وعشياً إلى يومِ القيامةِ وذكرُ الوقتينِ إمَّا للتخصيصِ وإمَّا فيما بينهُمَا فالله تعالَى أعلمُ بحالِهم واما للتأييد هذا ما دامتِ الدُّنيا {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} يقالُ للملائكة {أدخلوا آلَ فرعونَ أشدَّ العذابِ} أي عذابَ جهنَم فإنَّه أشدُّ ممَّا كانُوا فيه أو أشدّ عذابِ جهنَم فإنَّ عذابَها ألوانٌ بعضُها أشدُّ من بعضٍ وقُرىءَ ادخُلُوا من الدخولِ أي يُقالُ لهم ادخُلُوا يا آلَ فرعونَ أشدَّ العذابِ

47

{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النار} أي واذكُر لقومِكَ وقتَ تخاصُمِهم فيَها {فَيَقُولُ الضعفاء} منهم {لِلَّذِينَ استكبروا} وهُم رؤساؤُهم {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تبعا} اتباعا كحدم في جمعِ خَادِمٍ أو ذَوِي تبعٍ أي أتْباعٍ على إضمار المضافِ أو تَبَعاً على الوصفِ بالمصدرِ مبالغةً {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ النار} بالدفعِ أو بالحملِ ونصيباً منصوبٌ بمضمرٍ يدلُّ عليه مغنونَ أي دافعونَ عنَّا نصيباً الخ أو بمغنونَ على تضمينِه مَعْنى الحملِ أي مغنونَ عنَّا حاملينَ نصيباً الخ أو نصبٌ على المصدريةِ كشيئاً في قولِه تعالَى لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئًا فإنَّه في موقعِ غَناءٍ فكذلكَ نصيباً

48

{قَالَ الذين استكبروا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} أي نحنُ وانتم فكيف نغني عنكُم ولو قَدرنا لأغنيَنا عن أنفسِنا وقُرِىءَ كُلاًّ على التأكيدِ لاسمِ إنَّ بمعنى كلنا وتنويه عوضٌ عن المضافِ إليهِ ولا مساغَ لجعلِه حالاً من المستكن في الظرف فإنَّه لا يعملُ في الحالِ المتقدمةِ كما يعملُ في الظرفِ المتقدمِ فإنَّك تقولُ كلَّ يومٍ لكَ ثوبٌ ولاَ تقولُ جديداً لك ثوبٌ {إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد} وقضى قضاء متقنا لامرد لهُ ولا معقّبَ لحُكمهِ

49

{وَقَالَ الذين فِى النار} من الضعفاءِ والمستكبرينَ جميعاً لمَّا ضاقتْ حيلُهم وعيّتُ بهم عِللُهم {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} أي للقُوَّامِ بتعذيبِ أهلِ النَّارِ ووضعُ جهنمَ موضعَ الضميرِ للتهويلِ والتفظيعِ أو لبيانِ محلِّهم فيَها بأنْ تكونَ جهنمُ أبعدَ دركاتِ النار وفيها اعني الكفرةِ وأطغاهُم أو لكونِ الملائكةِ الموكلينَ بعذابِ أهلِها أقدرَ على الشفاعةِ لمزيدِ قُربهم منَ الله تعالى {ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفّفْ عَنَّا يَوْماً} أي مقدارَ يومٍ أو في يومٍ ما منَ الأيامِ على أنه ظرفٌ لا معيارُ شيئاً {مّنَ العذاب} واقتصارهُم في الاستدعاءِ على ما ذُكرَ من تخفيفِ قدرٍ يسيرٍ من العذابِ في مقدارِ قصيرٍ من الزمانِ دونَ رفعِه رأساً أو تخفيفِ قدرٍ كثيرٍ منْهُ في زمانٍ مديدٍ لأنَّ ذلكَ عندهُم مما ليسَ في حيزِ الإمكانِ ولا يكادُ يدخلُ تحتَ أَمانيِّهم

50

{قالوا} أي الخزنة {أولم تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بالبينات}

أيْ ألم تُنبهوا على هَذا ولم تكُ تأتيكُم رسلُكم في الدُّنيا على الاستمرارِ بالحججِ الواضحةِ الدالةِ على سُوءِ مغبةٍ ما كنتُم عليهِ من الكُفرِ والمَعَاصِي كَما في قولِه تعالى أَلَمْ يأْتِكُم رُسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا أرادُوا بذلكَ إلزامَهُم وتوبيخَهُم على إضاعةِ أوقاتِ الدُّعاءِ وتعطيلِ أسبابِ الإجابةِ {قَالُواْ بلى} أي أتَونا بها فكذَّبناهُم كما نطقَ به قولُه تعالَى بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ والفاء في قوله تعالى {قَالُواْ فادعوا} فصحيةٌ كما في قول من قال فَقَدْ جِئْنَا خُراسانا أيْ إذا كان الأمرُ كذلك فادعُوا أنتُم فإنَّ الدعاءَ لمن يفعلُ ذلكَ مما يستحيلُ صدورُه عنَّا وتعليلُ امتناعِهم عنِ الدعاءِ بعدمِ الإذنِ فيه معَ عرائِه عن بيانِ أنَّ سبَبهُ من قبلِهم كَما تُفصحُ عنه الفاءُ رُبَّما يُوهُم أنَّ الإذنَ في حيزِ الإمكانِ وأنَّهم لو أُذنَ لهم فيهِ لفعلُوا ولم يريدُوا بأمرِهم بالدعاءِ إطماعَهُم في الإجابةِ بل إقناطَهم منَها وإظهارَ خيبتهم حسبما صرحوا في قولِهم {وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال} أي ضياعٍ وبُطلانٍ وقولُه تعالَى

51

{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمنوا} إلخ كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ من جهته تعالى لبيان ان ما صاب الكفرةَ من العذابِ المحِكيِّ من فروعِ حكمٍ كليَ تقتضيِه الحكمةُ وهو أنَّ شأنَنا المستمرَّ أنَّا ننصرُ رسلنَا وأتباعَهُم {فِى الحياة الدنيا} بالحجَّةِ والظفرِ والانتقامِ لهم من الكفرةِ بالاستئصالِ والقتلِ والسَّبي وغيرِ ذلكَ من العقوباتِ ولا يقدحُ في ذلكَ ما قدْ يتفقُ لهم من صورةِ الغلبةِ امتحاناً إذِ العبرةُ إنَّما هيَ بالعواقبِ وغالبِ الأمر {وَيَوْمَ يَقُومُ الاشهاد} أي يومَ القيامةِ عبرَ عنْهُ بذلكَ للإشعارِ بكيفيةِ النُصرةِ وأنَّها تكونُ عندَ جميعِ الأولينَ والآخِرينَ بشهادةِ الأشهادِ للرسلِ بالتبليغِ وعلى الكفرةِ بالتكذيبِ

52

{يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ} بدلٌ من الأولِ وعدمُ نفعِ المعذرةِ لأنَّها باطلةٌ وقُرِىءَ لا تنفعُ بالتاءِ {وَلَهُمُ اللعنة} أيْ البُعدُ عن الرحمةِ {وَلَهُمْ سُوء الدار} أي جهنُم

53

{ولقد آتينا مُوسَى الهدى} ما يُهتدَى بهِ من المعجزاتِ والصحفِ والشرائع {وأورثنا بني إسرائيل الكتاب} وتركنَا عليهم من بعدِه التوراةَ

54

{هُدًى وذكرى} هدايةً وتذكرةً أو هادياً ومذكراً {لاّوْلِى الألباب} لذوِي العقولِ السليمةِ العاملينَ بما في تضاعيفِه

55

{فاصبر} على ما نالكَ من أذيةِ المشركينَ {إِنَّ وَعْدَ الله} أيْ وعدَه الذي ينطقُ بهِ قولُه تعالَى وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون أو وعدَهُ الخاصَّ بكَ أو جميعَ مواعيدِه التي من جُمْلتِها ذلكَ {حَقّ} لا يحتملُ الإخلافَ أصلاً واستشهدْ بحالِ مُوسى وفرعون

غافر 56 58 {واستغفر لِذَنبِكَ} تداركاً لما فرَطَ منكَ من تركِ الأَولى في بعضِ الأحايينِ فإنَّه تعالَى كافيكَ في نُصرةِ دينكَ وإظهارِه على الدِّينِ كُلِّه {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بالعشى والإبكار} أيْ ودُمْ على التسبيحِ ملتبساً بحمدِه تعالَى وقيلَ صَلِّ لهذينِ الوقتينِ إذْ كانَ الواجبُ بمكةَ ركعتينِ بُكرةً وركعتينِ عشياً وقيلَ صلِّ شُكراً لرِّبكَ بالعشيِّ والإبكارَ وقيلَ هُمَا صلاةُ العصرِ وصلاةُ الفجرِ

56

{إِنَّ الذين يجادلون فِى آيات الله} ويجحدونَ بها {بِغَيْرِ سلطان أتاهم} في ذلكَ من جهتِه تعالَى وتقييدُ المجادلةِ بذلكَ مع استحالةِ إتيانِه للإيذانِ بأنَّ التكلَم في أمِر الدِّينِ لا بُدِّ من استنادِه إلى سلطان مبينٍ البتةَ وهذا عامٌ لكلِّ مجادلٍ مُبطلٍ وإنْ نزلَ في مُشركِي مكَة وقوله تعالى {إن فى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ} خبرٌ لإنَّ أيْ ما فِي قلوبِهم إلا تكبرٌ عن الحقِّ وتعظّمٌ عن التفكرِ والتعلمِ أو إلاَّ إرادةُ الرياسةِ والتقدمِ على الإطلاقِ أو إلا إرادةُ أنْ تكونَ النبوةُ لهم دونَك حسداً وبغياً حسبَما قالُوا لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرآنُ على رَجُلٍ مّنَ القريتين عظيم وقالو لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سبقونَا إليهِ ولذلكَ يُجادلون فيها لا أنَّ فيها موقع جدال ما وان لهمُ شيئاً يتوهم أنْ يَصلُحَ مداراً لمُجادلتِهم في الجُملةِ وقولُه تعالى {مَّا هُم ببالغيه} صفةٌ لكِبرٌ قال مجاهدٌ ما هُم ببالغي مقتضَى ذلكَ الكِبرِ وهُو ما أرادُوه من الرياسةِ أو النبوةِ وقيلَ المجادلونَ هم اليهودُ وكانُوا يقولونَ لستَ صاحبنَا المذكورَ في التوراةِ بلْ هُو المسيحُ بنُ داودَ يريدونَ الدجَّالَ يخرُج في آخرِ الزمانِ ويبلغُ سلطانُه البَرَّ والبحرَ وتسيرُ معه الأنهارُ وهُو آيةٌ من آياتِ الله تعالى فيرجعُ إلينا المُلكُ فسمَّى الله تعالَى تمنَّيَهم ذلكَ كبْراً ونَفَى أنْ يبلُغوا مُتمنَّاهُم {فاستعذ بالله} أي فالتجىءْ إليهِ من كيدِ مَنْ يحسدُكَ ويبغِي عليكَ وفيهِ رمزٌ إلى أنَّه من هَمَزاتِ الشياطينِ {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} لأقوالِكم وأفعالِكم وقولُه تعالى

57

{لخلق السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} تحقيقٌ للحقِّ وتبيينٌ لأشهرِ ما يُجادلونَ فيهِ من أمرِ البعثِ على منهاج قوله تعالى أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} لقصُورِهم في النظرِ والتأملِ لفرطِ غفلتِهم واتباعِهم لأهوائِهم

58

{وما يستوى الاعمى والبصير} أي الغافلُ والمستبصرُ {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وَلاَ المسيء} أي والمحسن والسيء فلا بد أن تكون لهم حالٌ أُخرى يظهرُ فيها ما بينَ الفريقينِ من التفاوتِ وهيَ فيما بعدَ البعثِ وزيادةُ لا في المسيءِ لتأكيدِ النفي لطولِ الكلامِ بالصلةِ ولأنَّ المقصودَ نفي مساواتِه للمحسنِ فيَما له من الفضلِ والكرامةِ والعاطفُ الثاني عطفُ الموصولِ بما عُطفَ عليهِ على الأعمى والبصيرُ لتغايرِ الوصفينِ في المقصودِ أو الدلالةِ بالصراحةِ والتمثيلِ {قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ} على الخطابِ بطريق الالتفات

غافر 59 64 أي تذكراً قليلاً تتذكرون وقُرِىءَ على الغَيبةِ والضميرُ للناسِ أو الكفَّارِ

59

{إِنَّ الساعة لاَتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا} أي في مجيئِها لوضوحِ شواهدِها وإجماعِ الرسلِ على الوعدِ بوقوعِها {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} لا يُصدقونَ بها لقصورِ أنظارِهم على ظواهرِ ما يُحسُّون به

60

{وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى} أي اعبدونِي {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي انبكم لقولِه تعالى {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين} أيْ صاغرينَ أذلاّء وإنْ فُسِّرِ الدعاءُ بالسؤالِ كانَ الأمرُ الصارفُ عنه منزّلاً منزلةَ الاستكبارِ عن العبادةِ للمبالغةِ أو المرادُ بالعبادةِ الدعاءُ فإنَّه من أفضلِ أبوابِها وقُرِىءَ سيُدخلُونَ على صيغةِ المبنيِّ للمفعولِ من الإدخالِ

61

{الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الليلَ لتسكنوا فيه} بأن خلقه بارداً مُظلماً ليُؤدِّيَ إلى ضعف الحركات وهُدءِ الحواسِّ لتستريحُوا فيهِ وتقدم الجار والمجرور على المفعول قد مر سره مرارا {والنهار مُبْصِراً} أي مُبصَراً فيهِ أو بهِ {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ} عظيمٍ لا يُوازيِه ولا يدانيِه فضلٌ {عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} لجهلِهم بالمُنعمِ وإغفالِهم مواضعَ النعمِ وتكريرُ النَّاسِ لتخصيصِ الكفرانِ بهم

62

{ذلكم} المتفردُ بالأفعالِ المقتضيةِ للألوهيةِ والربوبيةِ {الله رَبُّكُمْ خالق كُلّ شَىْء لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} أخبارٌ مترادفةٌ تخصصُ اللاحقةُ منها السابقةَ وتُقررها وقُرِىءَ خالقَ بالنصبِ على الاختصاصِ فيكونُ لا إله إلا هو استئناف بما هُو كالنتيجة للأوصاف المذكورةِ {فأنى تُؤْفَكُونَ} فكيفَ ومن أيِّ وجهٍ تُصرفونَ عن عبادتِه خاصَّةً إلى عبادةِ غيرِه

63

{كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بآيات الله يَجْحَدُونَ} أي مثلَ ذلكَ الإفكِ العجيبِ الذي لا وجَه لهُ ولا مصححَ أصلاً يؤفكُ كلُّ من جحدَ بآياتِه تعالَى أيَّ آية كانتْ لا إفكاً آخرَ له وجهٌ ومصحِّحٌ في الجملة

64

{الله الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً والسماء بِنَاء} بيانٌ لفضلِه تعالى المتعلقِ بالمكانِ بعد بيانِ فضلِه المتعلقِ بالزمانِ وقولُه تعالَى {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} بيانٌ لفضلِه المتعلقِ بأنفسِهم والفاءُ في فأحسن تفسيرية

غافر 65 68 فإنَّ الإحسانَ عينُ التصويرِ أي صوَّركُم أحسنَ تصويرٍ حيث خلقكم منتصب القامةِ باديَ البَشَرةِ متناسبَ الاعضاء والتخططات متهيئاً لمزاولةِ الصنائعِ واكتسابِ الكمالاتِ {وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات} أي اللذائذِ {ذلكم} الذي بغت بما ذُكِرَ من النعوتِ الجليلة {الله ربكم} خبر ان لذلكُم {فَتَبَارَكَ الله} أي تعالَى بذاتِه {رَبّ العالمين} أي مالكُهم ومربيِهم والكلُّ تحتَ ملكوتِه مفتقرٌ إليه في ذاتِه ووجودِه وسائرِ أحوالِه جميعاً بحيثُ لو انقطعَ فيضُه عَنه آناً لانعدمَ بالكليةِ

65

{هُوَ الحى} المتفردُ بالحياةِ الذاتية الحقيقية {لا إله إلا هو} إذْ لاَ موجودَ يدانيهِ في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ {فادعوه} فاعبدُوه خاصَّةً لاختصاصِ ما يُوجبه به تعالَى {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي الطاعةَ من الشركِ الجليِّ والخفيِّ {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} أيْ قائلينَ ذلكَ عن ابن عباس رضي الله عنُهمَا مَنْ قالَ لاَ إله إلا الله فليقُلْ علَى أثرِها الحُمد للَّهِ رَبّ العالمينَ

66

{قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَمَّا جَاءنِى البينات مِن رَّبّى} من الحججِ والآياتِ أو من الآياتِ لكونِها مؤيدةً لأدلةِ العقلِ منبهةً عليها فإنَّ الآياتِ التنزيليةَ مفسراتٌ للآياتِ التكوينيةِ الآفاقيةِ والأنفُسية {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبّ العالمين} أيْ بأنْ أنقادَ لهُ وأخلصَ له دِيني

67

{هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ} أيْ في ضمنِ خلقِ آدمَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ منه حسبَما مرَّ تحقيقُه مراراً {ثُمَّ مِن نطفة} أي ثم خلقكم خلقا تفصيليا من نطفة أي منيَ {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي أطفالاً والإفراد لإرادة الجنسِ أو لإرادةِ كلِّ واحدٍ من أفرادِه {ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ} علةٌ ليخرجَكم معطوفةٌ على علةٍ أخرى له مناسبة لها كأنه قيلَ ثم يُخرجَكُم طِفْلاً لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والعقلِ وكَذا الكلامُ في قولِه تعالى {ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً} ويجوزُ عطفُه عَلى لتبلغُوا وقُرِىءَ شيخاً كقولِه تعالَى طِفْلاً {وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ} أي من قبلِ الشيخوخةِ بعد بلوغ الأشد أو قبله أيضاً {وَلِتَبْلُغُواْ} متعلقٌ بفعلٍ مقدرٍ بعدَهُ أي ولتبلغُوا {أَجَلاً مُّسَمًّى} هُو وقتُ الموتِ أو يومَ القيامةِ بفعل ذلكَ {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ولكي تعقلُوا ما في ذلكَ من فنونِ الحِكَمِ والعِبر

68

{هو الذي يحيي} الأمواتَ {وَيُمِيتُ} الأحياءَ أو الذي يفعل الاحياء والامانة {فَإِذَا قضى أَمْرًا} أي أرادَ أمراً من الأمورِ {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} من غيرِ توقفٍ على شيءٍ من الأشياءِ أصلاً وهذا تمثيلٌ لتأثيرِ قدرته في المقدوراتِ عند تعلقِ إرادتِه بها وتصويرٌ لسرعةِ

غافر 69 73 ترتبِ المكوناتِ على تكوينِه من غير أن يكون هناكَ أمرٌ ومأمورٌ والفاءُ الأُولَى للدِلالةِ على أنَّ ما بعدَها من نتائج ما قبلها من اختصاصِ الاحياء والامانة به سبحانَه

69

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يجادلون في آيات الله أنى يُصْرَفُونَ} تعجيبٌ من أحوالِهم الشنيعةِ وآرائِهم الركيكةِ وتمهيدٌ لما يعقُبه من بيانِ تكذيبِهم بكلِّ القُرآنِ وبسائرِ الكتبِ والشرائعِ وترتيبُ الوعيدِ على ذلكَ كما أن ما سبقَ من قولِه تعالى إِن الذين يجادلون في آيات الله الخ بيان لابتناء جدالِهم على مَبْنى فاسدٍ لا يكادُ يدخُل تحتَ الوجودِ هُو الأمنيَّةُ الفارغةُ فلا تكريَر فيهِ أي انظُرْ إلى هؤلاءِ المكابرينَ المُجادلينَ في آياتِه تعالَى الواضحةِ الموجبةِ للإيمانِ بها الزاجرةِ عن الجدالِ فيها كيفَ يُصرفونَ عنها معَ تعاضدِ الدَّواعِي إلى الإقبالِ عليها وانتفاءِ الصوارفِ عنها بالكُلِّيةِ وقولُه تعالَى

70

{الذين كَذَّبُواْ بالكتاب} أيْ بكُلِّ القُرآنِ أو بجنسِ الكُتبِ السماويةِ فإنَّ تكذيبَهُ تكذيبٌ لهَا في محلِّ الجرِّ على أنَّه بدلٌ من الموصولِ الأولِ أو في حيزِ النصبِ أو الرفعِ على الذمِّ وإنما وُصلَ الموصولُ الثَّانِي بالتكذيبِ دُونَ المُجادلةِ لأنَّ المعتادَ وقوعَ المُجادلةِ في بعض الموادِ لا في الكُلِّ وصيغة الماضي الدلالة على التحقق كما أن صيغةِ المضارعِ في الصلةِ الأُولى للدلالةِ على تجددِ المجادلةِ وتكررِها {وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} من سائرِ الكتبِ أو مطلقِ الوَحي والشرائعِ {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} كُنْهَ ما فعلُوا من الجدالِ والتكذيبِ عند مشاهدتِهم لعقوباتِه

71

{إِذِ الأغلال فِى أعناقهم} ظرفٌ ليعلمونَ إِذ المَعْنى على الاستقبالِ ولفظُ الماضِي لتيقته {والسلاسل} عطفٌ على الأغلالِ والجارُّ في نيةِ التأخيرِ وقيل مبتدأ حُذف خبرُه لدلالةِ خبر الأول عليه وقيل قوله تعالى {يُسْحَبُونَ} بحذفِ العائدِ أي يُسحبونَ بَها وهُو على الأولَينِ حال من المستكن في الظرفِ وقيل استئنافٌ وقعَ جوابا عن سؤالٍ نشأَ من حكايةِ حالهم كأنَّه قيلَ فماذَا يكونُ حالُهم بعدَ ذلكَ فقيلَ يُسحبونَ

72

{فِى الحميم} وقُرِىءَ والسلاسلَ يَسحبون بالنَّصبِ وَفتحِ الياءِ عَلَى تقديمِ المفعولِ وعطفِ الفعليةِ على الاسميةِ والسَّلاسلِ بالجرِّ حملاً على المَعْنى لأنَّ قولَه تعالى الأغلال فِى أعناقهم في مَعْنى أعناقُهم في الأغلالِ أو إضماراً للباءِ ويدلُّ عليه القراءةُ بهِ {ثُمَّ فِى النار يُسْجَرُونَ} أي يُحرقونَ مِنْ سجرَ التنورَ إذا ملأَهُ بالوقودِ ومنُه السَّجيرُ للصديقِ كأنَّه سُجِّر بالحبِّ أي مُلىءَ والمرادُ بيانُ أنَّهم يُعذبونَ بأنواعِ العذابِ ويُنقلونَ من بابِ إلى بابٍ

73

{ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تشركون}

غافر

74

74 - 78 {مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} أي يقالُ لَهمُ ويقولونَ وصيغةُ المَاضِي للدلالةِ على التحقق ومَعْنى ضلُّوا عنَّا غابُوا عنَّا وذلكَ قبلَ أنْ يقرن بهم آلهتهم اوضاعوا عنَّا فلم نجدْ ما كُنَّا نتوقعُ منُهم {بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً} أي بَلْ تبينَ لنَا أنَّا لم نكُنْ نعبدُ شيئاً بعبادتِهم لما ظهرَ لنا اليومَ أنَّهم لم يكونُوا شيئاً يعتدُّ بهِ كقولِك حسبتُه شيئا فلم يكُنْ {كذلك} أي مثلَ ذلكَ الضلالِ الفظيعِ {يضل الله الكافرين} حيت لا يهتدونَ إلى شيءٍ ينفُعهم في الآخرةِ أو كما ضلَّ عنُهم آلهتُهم يُضلّهم عن آلهتِهم حتَّى لو تطالبُوا لم يتصادفُوا

75

{ذلكم} الإضلالُ {بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الأرض} أي تبطَرون وتتكبرون {بِغَيْرِ الحق} وهُو الشركُ والطغيانُ {وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ} تتوسعونَ في البطر والأشَر والالتفاتُ للمبالغة في التوبيخِ

76

{ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ} أي أبوابَها السبعةَ المقسومةَ لكُم {خالدين فِيهَا} مقدراً خلودُكم فيها {فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} أي عن الحقِّ جهنمُ والتعبيرُ عن مدخلِهم بالمَثْوى لكونِ دخولِهم بطريقِ الخلودِ

77

{فاصبر} إلى أنْ يُلاقُوا ما أعد لهم من العذابِ {إِنَّ وَعْدَ الله} بتعذيبِهم {حَقّ} كائنٌ لا محالَة {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} أي فإنْ نُرِكَ ومَا مزيدةٌ لتأكيدِ الشرطيةِ ولذلكَ لحقتِ النونُ الفعلَ ولا تلحقُه مع إنْ وحدَها {بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ} وهو القتلُ والأسرُ {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبلَ ذلكَ {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} يومَ القيامةِ فنجازِيهم بأعمالِهم وهُو جوابُ نتوفينكَ وجوابُ نرينك محذوفٌ مثلُ فذاكَ ويجوزُ ان يكون جوابا لها بَمعْنى إنْ نُعذبهم في حياتِك أو لم نُعذبْهم فإنَّا نعذبهم في الآخرةِ أشدَّ العذابِ وأفظَعه كما ينبىءُ عنْهُ الاقتصارُ على ذكِر الرجوعِ في هذا المعرضِ

78

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} إذْ قيلَ عددُ الأنبياءِ عليهم السَّلام مائةٌ وأربعةٌ وعشرونَ ألفاً والمذكورُ قصصُهم أفرادٌ معدودةٌ وقيلَ أربعةُ آلافً من بني اسرائيل واربعة آلالف من سائرٍ النَّاسِ {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} أي وما صحَّ وما استقامَ لرسولٍ منهم {أن يأتي بآية إِلاَّ بِإِذْنِ الله} فإنَّ المعجزاتِ على تشعب فنونِها عطايَا من الله تعالَى قسمها بينُهم حسبَما اقتضتْهُ مشيئته المبنية على الحكم البالغةِ كسائرِ القَسْمِ ليسَ لهم اختار في إيثارِ بعضِها والاستبدادِ بإتيان المقترح منها

غافر 79 82 {فَإِذَا جَاء أَمْرُ الله} بالعذابِ في الدُّنيا والآخرةِ {قُضِىَ بالحق} بإنجاءِ المُحقِّ وإثابتِه وإهلاكِ المُبطلِ وتعذيبِه {وَخَسِرَ هُنَالِكَ} أي وقتَ مجيءِ أمرِ الله اسمُ مكانٍ استعيرَ للزمانِ {المبطلون} أي المتمسكونَ بالباطلِ على الإطلاقِ فيدخلُ فيهم المعاندونَ المقترحونَ دخولاً أولياً

79

{الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الأنعام} قيلَ هيَ الإبلُ خَاصَّةً أي خلقَها لأجلِكُم ومصلحتِكم وقولُه تعالى {لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} تفصيلٌ لما دلَّ عليهِ اللامُ إجمالاً ومِنْ لابتداءِ الغايةِ ومعناهَا ابتداءٌ الركوبِ والأكلِ منَها أي تعلقهُما بَها وقيل للتبعيضِ أي لتركبُوا بعضَها وتأكلُوا بعضَها لا على أَنَّ كلاَّ من الركوبِ والأكلِ مختصٌّ ببعضٍ معينٍ منها بحيثُ لا يجوزُ تعلقُه بما تعلقَ به الآخرُ بل على أن كلَّ بعضٍ منَها صالحٌ لكلَ منهما وتغييرُ النظمِ الكريمِ في الجُملةِ الثانيةِ لمُراعاةِ الفواصلِ معَ الإشعارِ بأصالِة الركوبِ

80

{وَلَكُمْ فيِهَا منافع} أُخرُ غيرُ الركوبِ والأكلِ كألبانِها وأوبارِها وجلودِها {وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ} بحملِ أثقالِكم من بلدٍ إلى بلدٍ {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ} لعلَّ المرادَ به حملُ النساءِ والولدانِ عليها بالهودجِ وهو السرُّ في فصلِه عن الركوبِ والجمعُ بينها وبين الفلك في الحملِ لِمَا بينَهمَا من المناسبةِ التامَّةِ حتى سُميتْ سفائنَ البرِّ وقيلَ هي الأزواجُ الثمانيةُ فمعنى الركوبِ والأكلِ منها تعلقُهمَا بالكلِّ لكن لا على أن كلا منهما يجوز تعلقه بكل منها ولا على أن كلا منهما مختصٌّ ببعضٍ معينٍ منها بحيثُ لا يجوزُ تعلقُه بما تعلقَ به الآخرُ بل على أنَّ بعضَها يتعلق به الاكل فقط كالغنم وبعضها يتعلقُ به كلاهُما كالإبلِ والبقرِ والمنافعُ تعمُّ الكلَّ وبلوغُ الحاجةِ عليها يعمُّ البقر

81

{ويريكم آياته} دلائلَه الدالةَ على كمالِ قدرتِه ووفورِ رحمتِه {فَأَىَّ آيات الله} أي فأيَّ آيةٍ من تلكَ الآياتِ الباهرةِ {تُنكِرُونَ} فإنَّ كلاً منها منَ الظهورِ بحيثُ لا يكادُ يجترىءُ على إنكارِها من له عقلٌ في الجملةِ وهو ناصبٌ لأيَّ وإضافةُ الآياتِ إلى الاسمِ الجليلِ لتربيةِ المهابةِ وتهويلِ إنكارِها وتذكير أيْ هُو الشائعُ المستفيضُ والتأنيثُ قليلٌ لأنَّ التفرقةَ بين المذكِر والمؤنثِ في الأسماءِ غيرُ الصفاتِ نحوُ حمارٌ وحمارةٌ غريبٌ وهيَ في أيَ أغربُ لإبهامِه

82

{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ} أي أقعدُوا فلم يَسِيرُواْ {فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِم} من الأمم المهلكة وقوله تعالى {كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً} الخ استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ مبادِي أحوالِهم وعواقِبها {وآثارا فِى الأرض} باقيةً بعدَهُم من الأبنيةِ والقصورِ والمصانعِ وقيل هي آثارُ أقدامِهم في الأرضِ لعظمِ أجرامِهم {فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}

مَا الأُولى نافيةٌ أو استفهاميةٌ منصوبةٌ بأَغْنَى والثانيةُ موصولةٌ أو مصدريةٌ مرفوعةٌ أي لم يغن عنهم أو أيَّ شيءٍ أغنَى عنهُم مكسوبُهم أو كسبُهم

83

{فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} بالمعجزاتِ أو بالآياتِ الواضحةِ {فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ العلم} أي أظهرُوا الفرحَ بذلك وهو مالهم من العقائدِ الزائغةِ والشُّبهِ الداحضة وتسميتُها علماً للتهكمِ بهم أو علُم الطبائعِ والتنجيمِ والصنائعِ ونحوِ ذلك أو هو علمُ الأنبياءِ الذي أظهرَهُ رسلُهم على أنَّ مَعْنى فرحِهم بهِ ضحِكُهم منْهُ واستهزاؤُهم بهِ ويؤيدُه قولُه تعالى {وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون} وقيلَ الفرحَ أيضاً للرسلِ فإنَّهم لمَّا شاهدُوا تماديَ جهلِهم وسوءَ عاقبتِهم فِرحُوا بمَا أُوتوا منَ العلمِ المُؤدِّي إلى حُسنِ العاقبةِ وشكرُوا الله عليهِ وحاقَ بالكافرينَ جزاءُ جهلِهم واستهزائِهم

84

{فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} شدةَ عذابِنا ومنْهُ قولُه تعالى بعذاب بئيس {قالوا آمنا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} يعنونَ الأصنامَ

85

{فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} أي عندَ رؤيةِ عذابِنا لامتناعِ قَبولِه حينئذٍ ولذلكَ قيلَ فلم يك بمعنى لَم يصحَّ ولم يستقمْ والفاء الاولى بيان عاقبةِ كثرتِهم وشدةِ قوتِهم وما كانُوا يكسبونَ بذلكَ زعما منهم ان يُغنِي عنُهم فلم يترتبْ عليهِ إلا عدمُ الإغناءِ فبهذا الاعتبارِ جرى مَجرى النتيجةِ وإنْ كانَ عكسَ الغرضِ ونقيضَ المطلوبِ كَما في قولك وعظتُه فلم يتعظْ والثانيةُ تفسيرٌ وتفصيلٌ لما أُبهمَ وأُجملَ من عدمِ الإغناءِ وقد كثُر في الكلامِ مثلُ هذه الفاء ومبناها على التفسيرَ بعدَ الإبهامِ والتفصيلِ بعد الإجمالِ والثالثةُ لمجردِ التعقيبِ وجعلِ ما بعدَها تابعاً لما قبلَها واقعاً عقيبه لأنَّ مضمونَ قولِه تعالَى فلمَّا جاءتْهُم الخ هُو أنَّهم كفُروا فصارَ مجموعُ الكلامِ بمنزلةِ أنْ يقالَ فكفرُوا ثمَّ لما رَأَوا بأسَنا آمنُوا والرابعةُ للعطفِ على آمنُوا كأنَّه قيلَ فآمنُوا فلم ينفعْهُم لأنَّ النافعَ هُو الإيمانُ الاختياريُّ {سُنَّةَ الله التى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ} أي سَنَّ الله تعالَى ذلكَ سُنَّةً ماضيةً في العباد وهو من المصادر المؤكدةِ {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون} أي وقتَ رؤيتِهم البأسَ على أنه اسم مكان قد استُعيرَ للزمانِ كما سلفَ آنِفاً عن رسولِ الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ المؤمنِ لم يبقَ روحُ نبيَ ولا صدِّيقٍ ولا شهيدٍ ولا مؤمنٍ إلا صلَّى عليه واستغفر له

سورة فصلت آية (1 5) } 5 سورة فصلت مكية وآياتها أربع وخمسون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

فصلت

{حم} إنْ جُعلَ إسماً للسورةِ فهو إما خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ وهو الأظهرُ لما مر سرِّه مِراراً أو مبتدأٌ خبره

2

{تنزل} وهو عَلى الأولِ خبرٌ وخبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ إن جُعلَ مسروداً على نمطِ التعديدِ وقولُه تعالى {مّنَ الرحمن الرحيم} متعلقٌ به مؤكِّدٌ لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أو خبرٌ آخرُ أو تنزيلٌ مبتدأٌ لتخصُّصِه بالصفةِ خبرُه

3

{كتاب} وهو على الوجوده الأُوَل بدلٌ منْهُ أو خبرٌ آخرُ أو خبرٌ لمحذوفٍ ونسبةُ التنزيلِ إلى الرحمن الرحيمِ للإيذانِ بأنه مدارٌ للمصالحِ الدينيةِ والدنيويةِ واقعٌ بمقتضى الرحمةِ الربانيةِ حسبما ينبيء عنه قوله تعالى {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رحمة للعالمين} {فصلت آياته} ميرت بحسبِ النظمِ والمَعنْى وجُعلتْ تفاصيل في اساليب مختلة ومعانٍ متغايرةٍ من أحكامٍ وقصصٍ ومواعظَ وأمثالٍ ووعدٍ ووعيد وفرىء فُصِلَتْ أي فَرَقتْ بينَ الحقِّ والباطلِ أو فُصلَ بعضُها من بعضٍ باختلافِ الأساليب والمعان من قولكَ فصَل من البلد فصولاً {قرآنا عَرَبِيّاً} نصبَ على المدحِ أو الحاليةِ من كتابٌ لتخصصه بالصفة أو من آياته {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي معانيَهُ لكونِه على لسانِهم وقيلَ لأهل العلم والنظر لأنهم المنتفعونَ به واللامُ متعلة بمحذوفٍ هو صفةٌ أُخْرى لقرآناً أي كائناً لقومٍ الخ أو بتنزيلٌ على أنَّ منَ الرحمن الرحيمِ ليستْ بصفة له أو بفصِّلَتْ

4

{بَشِيراً وَنَذِيراً} صفتانِ أُخريانِ لقرآنا أي بشير الأهل الطاعة ونذيراً لأهل المعصية أو حالانِ منْ كتابٌ أو من آياتِه وقُرِئَا بالرفع على الوصفية لكتابٌ أو الخبريةِ لمحذوف {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} عنْ تدبره مع كونه على لغتهم {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} سماعَ تفكرٍ وتأمل حتى يفهموا اجلالة قدرِه فيؤمنُوا به

5

{وقالوا}

فصلت آية (6 8) أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندَ دعوتِه إيَّاهم إلى الإيمان والعملِ بما في القرآن {قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ} أي أغطية {مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى آذاننا وقر} أي صمم الثقل وقرىء بالكسر وفرىء بفتحِ القافِ {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} غليظ بمنعنا عن التواصلِ ومنْ للدلالةِ على أن الحجابَ مبتدأٌ من الجانبينِ بحيثُ استوعبَ ما بينهما من المسافةِ المتوسطةِ ولم يبقَ ثمةَ فراغٌ أصلاً وهذه تمثيلاتٌ لنُبوِّ قلوبِهم عنْ إدراك الحق وقبله ومج أسماعههم له كأن بهاصمما وامتناع مواصلتِهم وموافقتِهم للرسولِ صلى الله عليه وسلم {فاعمل} أي على دينكَ وقيلَ في إبطال أمرنا {إِنَّنَا عاملون} أي على دينِنا وقيل في إبطال أمرِك والأولُ هو الأظهرُ فإن قولَه تعالى

6

{قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بشرٌ مثلُكم يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ} تلقينٌ للجوابِ عنه أي لستُ منْ جنس مغايرٍ لكم حتى يكونَ بيني وبينكم حجابٌ وتباينٌ مصححٌ لتباين الأعمالِ والأديان كما ينبىءُ عنه قولُكم فاعملْ إننَا عاملون بل إنما مثلُكم مأمورٌ بما أُمرتم به حيثُ أُخبرْنا جميعاً بالتوحيد بخظاب جامع بين وبينكم فإن الخطابَ في إلهكم محكى منتظم للكل لا أنه خطابٌ منه عليه الصلاة والسلام كما في مثلُكم وقيلَ المعنى لستُ مَلَكاً ولا جِنياً لا يمكنكم التقلى منه ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقولُ والأسماعُ وإنما أدعوكُم إلى التوحيدِ والاستقامةِ في العملِ وقد تدلُّ عليهما دلائلُ العقلِ وشواهدُ النقلِ وقيلَ المَعْنى إني لستُ بملَكٍ وإنما أنا بشرٌ مثلُكم وقد أُوحي إليّ دونَكُم فصحَّتْ بالوحي إليَّ ون بشرٌ نبوتِي وإذا صحَّت نبوتِي وجبَ عليكم اتباعِي فتأمل والفاء في قوله تعالى {فاستقيموا إِلَيْهِ} لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها من إحياء الوحدانيةِ فإن ذلك موجبٌ لاستقامتِهم إليه تعالى بالتوحيدِ والإخلاصِ في الأعمالِ {واستغفروه} مما كنتم عليهِ من سُوءِ العقيدةِ والعملِ وقولُه تعالى {وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ} ترهيبٌ وتنفيرٌ لهم عن الشركِ إثَر ترغيبِهم في التوحيدِ ووصفهم بقولِه تعالى

7

{الذين لا يؤتون الزكاة} لزيادة التحذيرِ والتخويفِ عن منع الزكاةِ حيثُ جُعلَ من أوصافِ المشركينَ وقُرنَ بالكفر بالآخرة حيث قيل {وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون} وهو عطفٌ على لا يُؤتون داخلٌ في حيزِ الصلةِ واختلافُهما بالفعلية والاسميةِ لما أنَّ عدمَ إيتائِها متجددٌ والكفرُ أمرٌ مستمرٌ ونُقلَ عن ابن عباس رضي الله عنهُما أنه فسرَ لا يُؤتون الزكاةَ بقوله لا يقولون لا إله إلا الله فإنها زكاةُ الأنفسِ والمعنى لا يظهرون أنفسَهُم من الشرك بالتوحيد وهو مأخوذٌ من قولِه تعالى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} وقال الضحاكُ ومقاتلٌ لا ينفقون في الطاعات ولا يتصدقُون وقال مجاهدٌ لا يزكون أعمالَهُم

8

{إن الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أي

فصلت آية (9 10) لا يُمنُّ به عليهم من المَنِّ وأصله الثقلُ أولا يُقطع من مننتُ الحبلَ قطعتُه وقيل نزلتْ في المَرضى والهَرمى إذا عجزُوا عن الطاعة كُتب لهم الأجرُ كأصحِّ ما كانوا يعلمونه

9

{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ} إنكارٌ وتشنيعٌ لكفرهم وإنَّ واللامُ إنا لتأكيد الإنكارِ وتقديمُ الهمزةِ لاقتضائها الصدارةَ لا لإنكارِ التأكيدِ وإما للإشعارِ بأن كفرَهُم من البعد بحيثُ ينكرُ العقلاءُ وقوعَهُ فيحتاجُ إلى التأكيد وإنما علق كفرُهم بالموصول حيثُ قيل {بالذى خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ} لتفخيم شأنِه تعالى واستعظامِ كفرِهم به أي بالعظيمِ الشأنِ الذي قدَّرَ وجودَها أي حكَم بأنها ستوجدُ في مقدار يومينِ أو في نوبتينِ على أن ما يُوجدُ في كل نوبة بأسرعِ ما يكونُ وإلا فاليومُ الحقيقيُّ إنما يتحققُ بعدَ وجودِها وتسويةِ السمواتِ وإبداعِ نيرّاتِها وترتيبِ حركاتِها {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً} عطفٌ على تكفرُونَ داخلٌ في حكم الإنكارِ والتوبيخِ وجمعُ الأندادِ باعتبار ما هو الواقعُ لا بأن يكونَ مدارُ الإنكارِ هو التعددُ أي وتجلعون له أنداداً والحالُ أنه لا يمكنُ أن يكونَ له ندٌّ واحدٌ {ذلك} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلةِ وما فيهِ منْ معنى البعد مع قرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان ببُعدِ منزلِته في العظمة وإفرادُ الكافِ لما مرَّ مرار من أنَّ المرادَ ليس تعيينَ المخاطبينَ وهو مبتدأٌ خبرُه ما بعده أي ذَلِكَ العظيمُ الشأنِ الذي فعلَ ما ذُكرَ {رَبّ العالمين} أي خالقُ جميعِ الموجوداتِ ومربيها دونَ الأرضِ خاصَّة فكيفَ يتُصورُ أن يكونَ أخسُّ مخلوقاتِه نِداً له وقولُه تعالَى

10

{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ} عطفٌ على خلقَ داخلٌ في حكمِ الصلةِ والجعلُ إبداعيٌّ وحديثُ لزومِ الفصلِ بينهما بجملتين خارجيتين عن حيزِ الصلةِ مدفوعٌ بأن الأُولى متحدةٌ بقولِه تعالى تكفرونَ فهو بمنزلةِ الإعادةِ له والثانيةُ اعتراضيةٌ مقررةٌ لمضمون الكلامِ بمنزلة التأكيدِ فالفصلُ بهما كلاَ فصلٍ على أن فيه فائدةَ التنبيِه على أن مجر المعطوفِ عليه كافٍ في تحقق ربوبيتِه للعالمينَ واستحالةِ أنْ يجعلَ له ندٌّ فكيفَ إذا انضمَّ إليه المعطوفاتُ وقيلَ هو عطفٌ على مقدرٍ أي خلقَها وجعلَ الخ وقيلَ هو كلام مستأنف وأيا ما كان فالمرادُ تقديرُ الجعلِ لا الجعلُ بالفعل وقوله تعلى {مّن فَوْقِهَا} متعلقٌ بجعلَ أو بمضمرٍ هو صفةٌ لرواسِي أي كائنةً من فوقها مرتفعةً عليها لتكونَ منافعها معرضة لأهللها ويظهرَ للنظّارِ ما فيَها من مراصد الاعتيار ومطارحِ الأفكارِ {وبارك فِيهَا} أي قدرَ أن يكثرَ خيرُها بأن يخلقَ أنواعَ الحيواناتِ التي من جُملتها الإنسانُ وأصنافُ النباتِ التي منها معايشُهم {وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها} أي حكَم بالفعلِ بأن يوجدَ فيما سيأتي لأهلها من الأنواع المختلفةِ أقواتُها المناسبةُ لها على مقدار معينٍ تقتضيه الحكمةُ وقُرِىءَ وقَسَّم فيَها أقواتَها

فصلت آية (11 12) {فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} متعلقٌ بحصول الأمورِ المذكورةِ لا بتقديرها أي قدرَ حصولَها في يومينِ وإنما قيلَ فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي تتمةِ أربعةٍ تصريحاً بالفذلكةِ {سَوَآء} مصدرٌ مؤكدٌ لمضمرٍ هو صفى لأيامٍ أي استوتْ سواءً أيَّ استواءً كما ينبىءُ عنْهُ القراءةُ بالجرِّ وقيلَ هُو حالٌ من الضمير في أقواتها أو في فيَها وقُرِىءَ بالرفع أي هى سواء {للسائلين} منتعلق بمحذوف تقديرُه هذا الحصرُ للسائيلن عن مدةِ خلقِ الأرضِ وما فيها أو بقدَّرَ أي قدَّرَ فيها أقواتَها لأجل السائلينَ أي الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين وقوله تعالى

11

{ثُمَّ استوى إِلَى السماء} شروعٌ في بيانِ كيفيةِ التكوين إثر بيان كفية التقدير ولعل تحصيص البيانِ بما يتعلقُ بالأرض وأهلِها لما أن بيان اعتنائِه تعالى بأمر المخاطبين وترتيبِ مبادِي معايشِهم قبلَ خلقِهم مما يحملُهم على الإيمان ويزجرهم عن الكفر والظغيان أي ثم قصدَ نحوهَا قصداً سوياً لا يلوِي على غيرِه {وَهِىَ دُخَانٌ} أي أمرٌ ظلمانيٌّ عبرَ به عن مادتها أو عن الأجزاء المتصغرةِ التي ركبتْ هي منها أو دخانٌ مرتفعٌ من الماءِ كما سيأتي وإنما خصَّ الاستواءَ بالسماءِ مع أن الخطابَ المترتبَ عليه متوجهٌ إليهما معاً حسبما ينطِق به قولُه تعالى {فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ} اكتفاءً بذكر تقديرها وتقدير ما فيها كأنه قيل فقال لها وللأرض التي قدر ووجودها وودود ما فيها {ائتيا} أي كُونا واحدُثا على وجه معينٍ وفي وقت مقدرٍ لكل منكُما وهو عبارةٌ عن تعلق إرادته تعلى بوجودهما تعلقاً فعلياً بطريق التمثيلِ بعد تقديرِ أمرِهما من غير أن يكون هناك أمرٌ ومأمورٌ كما في قوله تعالى كُنْ وقولُه تعالى {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} تمثيلٌ لتحتم تأثيرِ قدرته تعلى فيهما واستحالةِ امتناعِهما من ذلكَ لا إثباتُ الطوعِ والكرهِ لهما وهما مصدرانِ وقعا موقعَ الحالِ أي طائعتينِ أو كارهتينِ وقولُه تعلى {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} أي منقادينِ تمثيلٌ لكمال تأثرهما بالذات عن القدرة الربانة وحصولِهما كما أُمرتا بهِ وتصوير لكون وجوهما كما هما عليه جارياً على مُقتضى الحكمةِ البالغةِ فإن الطوعَ منبىءٌ عن ذلكَ والكُرهَ موهمٌ لخلافهِ وإنما قيلَ طائعينَ باعتبارِ كونِهما في معرض الخطابِ والجوابِ كقوله تعالى ساجدين وقوله تعلى

12

{فقضاهن سبع سماوات} تفسيرٌ وتفصيلٌ لتكوين السماءِ المجملِ المعبرِ عنه بالأمر وجوابِه لا أنه فعلٌ مترتب على تكونيها أي خلقهنَّ خلقاً إبداعياً وأتقنَ أمرَهنَّ حسبما تقتضيهِ الحكمة والضميرُ إما للسماء على المَعْنى أو مبهمٌ وسبعَ سمواتٍ حالٌ على الأول تميز على الثانِي {فِى يَوْمَيْنِ} في وقتٍ مقدرٍ بيومينِ وقد بينَ مقدارُ زمانِ خلقِ الأرضِ وخلقِ ما فيها عند بيانِ تقديرهما فكانَ خلقُ الكلِّ في ستة أيامٍ حسبما نصَّ عليهِ في مواقعَ من التنزيلِ {وأوحى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا} عطفٌ على قضاهُنَّ أي خلقَ في كلَ منَها ما في الملائكة

والنيّراتِ وغيرِ ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى كما قاله قَتَادةُ والسدِّيُ فالوحي عبارةٌ عن التكوينِ كالأمر مقيدٌ بما قُيِّد به المعطوفُ عليه من الوقت أو أوحى إلى أهل كلَ منَها أوامره وكلَّفهم ما يليقُ بهم من التكاليف فهو بمعناهُ ومطلق عن القيد وأياما كان فعلى ما قُررَ من التفصيل لادلة في الآيةِ الكريمةِ على الترتيب بين إيجادِ الأرضِ وإيجادِ السماءِ وإنما الترتيبُ بين التقديرِ والإيجادِ وإما على تقديرِ كونِ الخلقِ وما عُطف عليهِ من الأفعالِ الثلاثةِ على معانيها الظاهرة فهيَ وما في سورةِ البقرةِ من قولِه تعالى هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات تدلان على خلقِ الأرضِ وما فيها على خلق السماءِ وما فيها وعليه إطباقُ أكثرِ أهلِ التفسيرِ وقد رُويَ أن العرشَ العظيمَ كانَ قبلَ خلقِ السمواتِ والأرضِ على الماء ثم إنه تعلى أحدثَ في الماء اضطراباً فأزبدَ فارتفعَ منه دخانٌ فأما الزبدُ فبقيَ على وجه الماءِ فخلقَ فيه اليُبوسةَ فجعلَه أرضاً واحدةً ثم فتقَها فجعلَها أرَضينَ وأما الدخانُ فارتفعَ وعلاَ فخلقَ منه السمواتِ ورُويَ أنَّه تعالَى خلقَ جِرْمَ الأرضِ يومَ الأحدِ ويومَ الأثنين الاثنينِ ودحاهَا وخلقَ ما فيها يومَ الثلاثاءِ ويومَ الأربعاءِ وخلقَ السمواتِ وما فيهن يومَ الخميسِ ويومَ الجمعةِ وخلقَ آدمَ عليه السلامُ في آخرِ ساعةٍ منه وهيَ الساعةُ التي تقومُ فيها القيامةُ وقيل إن خلقَ جرمِ الأرضِ مقدم على خلق المسوات لكنْ دحوُها وخلقُ ما فيها مؤخرٌ عنه لقولِه تعالى والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها ولما اروى عن الحَسَنِ رحَمهُ الله تعالَى أنه خلقَ الأرضَ في موضعِ بيتِ المقدس كهيئة القهر عليه دخانٌ ملتزقٌ بهَا ثمَّ أصعدَ الدخانَ وخلقَ منهُ السمواتِ وأمسكَ الفِهْرَ في موضعِها وبسَط منها الأرضَ وذلكَ قولُه تعالى كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما الآيةَ وليسَ المرادُ بنظمها مع السماءِ في سلكِ الآمرِ بالإتيانِ إنشاءَها وإحداثَها بل إنشاء دحوها وجلعها على وجهٍ خاصَ يليقُ بها من شكلٍ معينٍ ووصفٍ مخصوصٍ كأنه قيلَ ائتيَا على ما ينبغي أنْ تأتيَا عليه ائتِي يا أرض مدحورة قراراً ومِهاداً لأهلكِ وائتِي يا سماء مقبية سقفاً لهم ومعنى الإتيانِ الحصولُ على ذلك الوجهِ كما تنبىء عنه قراءةُ آتِيا وآتينَا منَ المُواتاةِ وهي الموافقةُ وأنتَ خبيرٌ بأنَّ المذكورَ قبلَ الأمرِ بالإتيان ليسَ مجرد خلق جزم الأرضِ حتى يتأتَّى ما ذكرَ بل خلقِ ما فيَها أيضاً من الأمور المتأخرةِ عن دحوِها قطعاً فالأ ظهر أن يُسلكَ مسلكَ الأولينَ ويُحملَ الأمرُ بالإتيانِ على تكوينهما متوافقين على الوجهِ المذكورِ وليسَ من ضرورتِه أن يكونَ دحوُهَا مترتباً على ذلك التكوينِ وإنما اللازمُ ترتبُ حصولِ التوافقِ عليه ولا ريبَ في أن تكوينَ السماءِ على الوجه اللائقِ بها كافٍ في حصولِه ولا يقدحُ في ذلك تكوينُ الأرضِ على الوجه المذكورِ قبل ذلك وأن يُجعلَ الأرضُ في قولِه تعالَى والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها منصوباً بمضمرٍ قد حذف على لا شرطية التفسيرِ ويجعلَ ذلكَ إشارةً إلى ذكِر ما ذُكرَ من بناءِ السماءِ ورفعِ سَمِكها وتسويتِها وغيرَها لا إلى أنفسِها وتحملَ البعديةُ إما على أنه قاصرٌ عن الأولِ في الدلالةِ على القدرة القاهرةِ كما قيلَ وإمَّا على أنه أدخلُ في الإلزامِ لما أنَّ المنافعَ المنوطةَ بما في الأرض أكثرُ وتعلقَ مصالحِ الناسِ بذلكَ أظهروا إحاطتهم بتفاصيلِها أكملُ وليسَ ما رُويَ عن الحسن

فصلت آية (13 14) رضى الله عنه نصاً في تأخرِ دحوِ الأرضِ عن خلقِ السماءِ فإن بسطَ الأرضِ معطوفٌ على إصعادِ الدخانِ وخلقِ السماءِ بالواوِ فلا دلالةَ في ذلكَ على الترتيب قطعاً وقد نقلَ الإمامُ الواحديُّ عن مقاتلٍ أن خلقَ السماءِ مقدمٌ على إيجادِ الأرضِ فضلاً عن دحوها عن دَحْوهِا فلا بدَّ من حمل الأمرِ بإتيانهِما حينئذٍ أيضاً على ما ذكرَ من التوافقِ والمواتاةِ ولا يقدحُ في ذلك تقدمُ خلقِ السماء على خلقِ الأرضِ كما لم يقدحْ فيهِ تقدمُ خلقِ الأرضِ على خلقِ السماءِ هذا كلُّه على تقدير كونِ كلمةِ ثمَّ للتراخِيِّ الزمانيِّ وأما عَلى تقديرِ كونِها للتراخِي الرتبِي كما جنحَ إليهِ الأكثرونَ فلا دلالةَ في الآيةِ الكريمةِ على الترتيب كما في الوجهِ الأولِ وعلى ذلك بُنيَ الكلامُ في تفسيرِ قولِه تعالى {هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض} جَمِيعاً الآيةَ وإنما لم يُحملْ الخلقُ هناكَ على معنى التقديرِ كما حمل عليه هنا لتوفية مقام الامتنان حقه {وَزَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح} من الكواكب فإنها كلَّها تُرى متلألئةً عليها كأنَّها فيها والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبرازِ مزيدِ العنايةِ بالأمرِ وقولُه تعالى {وَحِفْظاً} مصدرٌ مؤكدٌ لفعلٍ معطوفٍ على زيَّنا أيْ وحفظناهَا من الآفاتِ أو من المُسترِقة حِفظاً وقيل مفعولٌ لهُ على المَعنْى كأنَّه قيلَ وخلقنَا المصابيحَ زينةً وحِفْظاً {ذلك} الذي ذُكِرَ بتفاصيلِه {تَقْدِيرُ العزيز العليم} المبالغ في القدرةِ والعلم

13

{فَإِنْ أَعْرَضُواْ} متصلٌ بقولِه تعالَى قُلْ أَئِنَّكُمْ الخ أي فإنْ أعرضُوا عن التدبرِ فيما ذُكِرَ من عظائمِ الأمورِ الداعيةِ إلى الإيمانِ أو عن الإيمانِ بعد هذا البيانِ {فَقُلْ} لهم {أنذرتكم} أي أنذرتكم وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على تحققق الإنذار المنبىء عن تحقق المنذَرِ به {صاعقة} أي عذاباً هائلاً شديدَ الوقع كأنه صاعقةٌ {مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ} وقُرِىءَ صعقةً مثلَ صعقةِ عادٍ وثمودٍ وهيَ المرةُ منَ الصعْقِ أو الصعق يقال صعقة الصاعقةُ صعْقاً فصَعِقَ صعْقاً وهو من باب فعلته فَفَعِلَ

14

{إِذْ جَاءتْهُمُ الرسل} حَالٌ منْ صَاعقةِ عادٍ ولا سَدادَ لجعلِه ظرفاً لأنذرتكُم أو صفةً لصاعقةً لفسادِ المَعنْى وأما جعلُه صفةً لصاعقةِ عادٍ أي الكائنةِ إذْ جاءتهُم ففيهِ حذفُ الموصول مع بعض صلته {مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} متعلقٌ بجاءتْهم أي من جميعِ جوانبِهم واجتهدُوا بهم من كلِّ جهةٍ أو من جهةِ الزمانِ الماضِي بالإنذارِ عما جَرى فيهِ على الكفارِ ومن جهةِ المستقبل بالتحذيرِ عما سيَحيقُ بهم من عذابَ الدُّنيا وعذابَ الآخرةِ وقيلَ المَعْنى جاءتْهم الرسلُ المتقدمونَ وَالمتأخرونَ على تنزيلِ مجيءِ كلامِهم ودعوتِهم إلى الحقِّ منزلةَ مجيءِ أنفسِهم فإنَّ هُوداً وصَالحاً كانا داعيينِ لهُم إلى الإيمانِ بهما وبجميع الرسلِ ممن جاءَ من بينِ أيديِهم أي من قبلِهم وممن يجيءُ مّنْ خَلْفِهِمْ أي مَنْ بعدِهم فكأنَّ الرسلَ قد جاءُوهم وخاطبوهم بقوله تعالى {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} أي بأنْ لا تعبدوا على أنَّ أنْ مصدريةٌ أو أي لا تعبدُوا على أنَّها مفسرةٌ {قَالُواْ لَوْ شَاء ربنا}

فصلت آية (15 16) إرسالَ الرسلِ لا إنزالَ الملائكة قيل فإنه عن إفادة ما أرداوه منْ نفي رسالةِ البشرِ وقد مرَّ فيما سلفَ {لاَنزَلَ ملائكة} أي لأرسلَهُم لكنْ لما كانَ إرسالُهم بطريق الإنزال قبل لأنزلَ {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} أي على زعمِكم وفيه ضربُ تهكّمٍ بهم {كافرون} للما أنَّكم بَشَرٌ مّثْلُنَا من غيرِ فضلٍ لكُم علينا رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ قالَ في ملأٍ من قُريشٍ قد التبسَ علينا أمرُ محمدٍ فلو التمستُم لنا رجل عالماً بالشعرِ والكهانةِ والسحرِ فكلَّمه ثم أتانَا ببيانٍ من أمرِه فقالَ عتبةُ بنُ ربيعةَ والله لقد سمعتُ الشعرَ والكهانةَ والسحرَ فكلمه ثم أتانا بيان من أمرِه فقالَ عتبةُ بنُ ربيعةَ والله لقد سمعتُ الشعرَ والكهانةَ والسحرَ علمت من وعلمتُ من ذلكَ علماً وما يَخْفي عليَّ فأَتاهُ فقالَ أنتَ يا محمدُ خيرا أَمْ هاشمٌ أنتَ خيرٌ أمْ عبدُ المطلبِ أنت خيرٌ أم عبدُ اللَّهِ فبم تشتمُ آلهتَنا وتضللنَا فإنْ كنتَ تريدُ الرياسةَ عقدنَا لكَ اللواءَ فكنتَ رئيساً وإن تكُ بكَ الباءةُ زوجناكَ عشرَ نسوةٍ تختارهُنَّ أيَّ بناتِ قريشٍ شئتَ وإنا كانَ بكَ المالُ جمعنَا لكَ ما تستغِني ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ساكتٌ فلما فرغَ عتبةُ قال صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم {حم} الى قوله تعلى مثل صاعغقة عَادٍ وَثَمُودَ فأمسكَ عتبةُ على فيه صلى الله عليه وسلم وناشدَهُ بالرحمَ ورجعَ إلى أهلِه ولم يخرجْ إلى قريشٍ فلما احتبسَ عنْهُم قالوا ما نرى عبتة إلا قدْ صبأَ فانطلقُوا إليه وقالوا يا عبت ما حبسك عَنَّا إلا أنكَ قد صبأتَ فغضبَ ثم قال والله لقد كلَّمتُه فأجابني بشيءٍ والله ما هو بشعرٍ ولا كهانةٍ ولا سحرٍ ولما بلغَ صاعقةَ عادٍ وثمودَ أمسكتُ بفيِه وناشدتُه بالرحم أنْ يكفَّ وقد علمتُم أن محمداً إذا قالَ شيئاً لم يكذبْ فخفتُ أن ينزلَ بكُم العذابُ

15

{فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِى الأرض} شروعٌ في حكايةِ ما يخص بكلا واحدةٍ من الطائفتينِ من الجنايةِ والعذابِ إثرَ حكايةِ ما يعمُّ الكلَّ من الكفرِ المطلقِ أي فتعظمُوا فيَها على أهلِها أو استعلَوا فيَها واستولَوا على أهلِها {بِغَيْرِ الحق} أي بغير استحقاق للتعظم والولايةِ {وَقَالُواْ} مدلين بشدَّتِهم وقوَّتِهم {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} حيثُ كانُوا ذوي أجسامٍ طوالٍ وخَلْقٍ عظيمٍ وقد بلغَ من قوتهم أنَّ الرجلَ كان ينزعُ الصخرة من جبل فيقتلعها بيده {أولم يَرَوْاْ} أي أغفَلُوا أو ألم ينظروا ولم يعلموا علماً جلياً شبيهاً بالمشاهدةِ والعيانِ {أَنَّ الله الذى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أي قدرةً فإنه تعالَى قادرٌ بالذاتِ مقتدرً على مالا يتناهى قوى على مالا يقدر عليه غير مفيضٌ للقُوى والقُدرِ على كُلِّ قوي وقادرِ وإنما أُورد في حيز الصلةِ خلقَهم دونَ خلقِ السمواتِ والأرضِ لادِّعائِهم الشدةَ في القوةِ وفيه ضربٌ من التهكم بهم {وكانوا بآياتنا} المنزلةِ على الرُّسلِ {يَجْحَدُونَ} أي ينكرونَها وهم يعرفونَ حقيقتَها وهو عطفٌ على فاستكبرُوا كقولِه تعالَى وقالُوا وما بينَهمَا اعتراضٌ للردِّ على كلمتِهم الشنعاءِ

16

{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} أي باردةً تهلكُ وتحرقُ بشدة

فصلت آية (17 20) بردِها من الصِرِّ وهو البردُ الذي يصِرُّ أي يجمعُ ويقبضُ أو عاصفةً في هبوبِها من الصريرِ {فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} جمعُ نحِسةٍ من نحِس نَحْساً نقبض سَعِدَ سَعْداً وقُرِىءَ بالسكونِ على التخفيفِ أو على أنه نعتٌ على فَعْلٍ أووصف بمصدرٍ مبالغةً قيلَ كُنَّ آخرَ شوالٍ منَ الأربعاءِ إلى الأربعاءِ وما عذبَ قومٌ إلا في يومِ الأربعاءِ {لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا} وقُرِىءَ لتُذيقَهمُ على إسنادِ الإذاقةِ إلى الريحِ أو إلى الأيامِ وأُضيفَ العذابُ إِلى الخزْي الذي هُو الذُّلُّ ولاستكانة على أنه وصفٌ له كما يعرب عنه قوله تعالى {وَلَعَذَابُ الأخرة أخزى} وهُو في الحقيقةِ وَصفٌ للمعذَّبِ وَقد وُصف به العذابُ للمبالغةِ {وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوهِ

17

{وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم} فدللناهُم على الحقِّ بنصبِ الآياتِ التكوينيةِ وإرسالِ الرسلِ وإنزالِ الآياتِ التشريعيةِ وأزحنَا عللَهمُ بالكليةِ وقد مرَّ تحقيقُ مَعنى الهُدى في تفسيرِ قولِه تعالى هُدًى لّلْمُتَّقِينَ وقُرِىءَ ثمودَ بالنصبِ بفعلِ يفسِّره ما بعدَهُ ومنوناً في الحالينِ وبضمِّ الثاءِ {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} أي اختارُوا الضلالةَ على الهدايةِ {فَأَخَذَتْهُمْ صاعقة العذاب الهون} داهيةُ العذابِ وقارعةُ العذابِ والهُون الهَوانُ وصفَ به العذابُ مبالغةً أو أُبدلَ منْهُ {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} منَ اختيارِ الضلالةِ

18

{ونجينا الذين آمنوا وَكَانُواْ يتَّقُونَ} منْ تلكَ الصاعقةِ

19

{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء الله} شروعٌ في بيانِ عقوباتِهم الآجلةِ إثرَ بيانِ عقوباتِهم العاجلةِ والتعبيرُ عنهم بأعداءِ الله تعالى لذمِّهم والإيذانِ بعلةِ ما يحيقُ بهم منِ ألوانِ العذابِ وقيلَ المردا بهم الكفارُ من الأولينَ والآخرينَ ويردُّه ما سيأتِي من قولِه تعالى فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس وقُرىءَ يَحْشُر على بناءِ الفاعلِ ونصبِ أعداءُ الله وبنونِ العظمةِ وضمِّ الشينِ وكسرِهَا {إِلَى النار} أيْ إلى موقفِ الحسابِ إذْ هناك تتحقق الشاهادة الآتية لا بعدم تمامِ السؤالِ والجوابِ وسَوقهم إلى النَّارِ والتعبير عنه بالنَّارِ إما للإيذانِ بأنَّها عاقبة حشرهم على شرفِ دخولِها وإما لأنَّ حسابَهُم يكونُ على شفيرِها ويومَ إمَّا منصوبٌ باذكُرْ أو ظرفٌ لمضمرٍ مؤخر قد حذف ايهما لقصورِ العبارةِ عن تفصيلِه كما مر في قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل وقيل ظرفٌ لما يدل عليه قوله تعالى {فهم يوزعون} أي يحبس أولهم على آخِرِهم ليتلاحقُوا وهو عبارةٌ عنْ كثرتِهم وقبل يسلقون ويُدفعون إلى النَّارِ وقولُه تعالَى

20

{حتى إذا ما جاؤوها}

أي جميعاً غايةٌ ليُحْشَرُ أو ليوزعونَ أي حتَّى إذا حضروها وما ميزيدة لتأكيدِ اتصالِ الشهادةِ بالحضورِ {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فى الدنيا من فنون الكفرِ والمعاصِي بأنْ يُنطقَها الله تعالى أو يظهرَ عليها آثار ما اقترفوه بهَا وعن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهما أنَّ المرادَ بشهادةِ الجلودِ شهادةُ الفروجِ وهو الأنسبُ بتخصيصِ السؤالِ بَها في قولِه تعالى

21

{وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} فإن ما تشهدُ به من الزنا أعظمُ جنايةً وقبحاً وأجلبُ للخِزي والعقوبةِ مما يشهدُ به السمع والأبصا من الجناياتِ المكتسبةِ بتوسُّطِهما وقيل المراد بالجلود الجوراح أي سألُوها سؤالَ توبيخٍ لما رُوي أنَّهم قالُوا لها فعنكُنَّ كنا نناضِلُ وفي روايةٍ بُعداً لكُنَّ وسحاق عنكنَّ كنتُ أجادلُ وصيغةُ جمعِ العقلاءِ في خطابِ الجلود وفي قوله تعلى {قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذى أَنطَقَ كلَّ شَىْء} لوقوعِها في موقعِ السؤالِ والجوابِ المختصَّينِ بالعقلاءِ أي أنطقنَا الله الذي أنطق وأقدرنا على بيانِ الواقعِ فشهدنا عليكم بما علمتم بواسطتنا من القبائح وما كتمناهَا وقيلَ ما نطقنَا باختيارِنا بلْ أنطقنَا الله الذى أنطق كلَّ شىء وليسَ بذاكَ لما فيهِ من إيهامِ الاضطرارِ في الإخبارِ وقيلَ سألُوها سؤالَ تعجب فالمنى حينئذٍ ليس نطقُنا بعجبٍ من قُدرةِ الله الذي أنطقَ كلَّ حَي {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فإن من قدَر على خلقِكم وإنشائِكم أولاً وعلى إعادتِكم ورجْعِكم إلى جزائِه ثانياً لا يُتعجبُ من إنطاقِه لجوارِحِكم ولعل صيغةَ المضارعِ مع أنَّ هذه لمحاورة بعدَ البعثِ والرجعِ لَمَّا أنَّ المرادَ بالرجعِ ليسَ مجردَ الردِّ إلى الحياةِ بالبعث بل ما يعُمّه وما يترتبُ عليهِ من العذاب الخالد المترتب عندَ التخاطبِ على تغليبِ المتوقعِ على الواقعِ على أنَّ فيه مراعاةَ الفواصلِ وقولُه تعالى

22

{وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ} حكايةٌ لما سيقالُ لهُمْ يومئذٍ من جهته تعالى بطريقِ التوبيخ والتقريح تقريراً لجوابِ الجلودِ أي ما كنتم تسترون في الدُّنيا عند مباشرتِكم الفواحشَ مخافةَ أن تشهدَ عليكُم جوارِحُكُم بذلكَ كما كنتم تسترون من الناسِ مخافةَ الافتضاحِ عندهم بلْ كنتُم جاحدينَ بالبعثِ والجزاءِ رأساً {ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ} من القبائحِ المخفيةِ فلا يُظهرها في الآخرةِ ولذلكَ اجرتأتم على ما فعلتُم وفيهِ إيذانٌ بأنَّ شهادةَ الجوارحِ بإعلامِه تعالَى حينئذٍ لا بانها عالمةً بما شهدتْ به عند صدورِه عنهم عنِ ابنِ مسعُودٍ رضيَ الله عنه كنتُ مستتراً بأستارِ الكعبةِ فدخلَ ثلاثةُ نفرٍ ثقفيانِ وقرشيٌّ أو قرشيانِ وثقفيٌّ فقال أحدُهم أترونَ أنَّ الله يسمعُ ما نقولُ قال الآخرُ يسمعُ إنْ جهَرنا ولا يسمعُ أن

فصلت آية (23 26) أخفينَا فذكرتُ ذلكَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فأنزلَ الله تعالَى وَمَا كنتم تسترون الآيةَ فالحكمُ المحكيُّ حينئذٍ يكونُ خاصَّاً بمن كانَ على ذلكَ الاعتقادِ من الكَفَرةِ ولعلَّ الأنسبَ أنْ يرادَ بالظنِّ مَعْنى مجازيٌّ يعمُّ معناهُ الحقيقيَّ ومَا يَجري مَجراه من الأعمالِ المنبئةِ عنْهُ كما في قولِه تعالى {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} ليعمَّ ما حُكي من الحالِ جميَع أصنافِ الكَفَرةِ فتدبرْ

23

{وذلكم} إشارة إلى ماذكر منْ ظنِّهم وما فيهِ من معنى البُعد للإيذان بغايةِ بُعدِ منزلتِه في الشرِّ والسوءِ وهُو مبتدأ وقوله تعلى {ظَنُّكُمُ الذى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ} خبرانِ لهُ ويجوزُ أن يكونَ ظنُّكُم بدلاً وأرداكم حبرا {فَأَصْبَحْتُم} بسببِ ذلكَ الظنِّ السوءِ الذي أهلككُم {مّنَ الخاسرين} إذ صار مامنحو لنيلِ سَعادةِ الدارينِ سبباً لشقاءِ النشأتينِ

24

{فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ} أي محلُّ ثُواءٍ وإقامةٍ أبديةٍ لهم بحيثُ لا براح للهم منهَا والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذان باقتضأ حالهم أن يعرض عنهم ويحي سوءُ حالِهم لغيرِهم أو للإشعر بإبعادِهم عن حيزِ الخطابِ وإلقائِهم في غايةِ دركاتِ النارِ {وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ} أي يسألُوا العُتْبَى وهُو الرجوعُ إلى ما يحبونَهُ جزعاً مما هُم فيِه {فَمَا هُم مّنَ المعتبين} المجابينَ إليَها ونظيرُه قولُه تعالى سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صبرنا مالنا مِن مَّحِيصٍ وقُرىءَ وإنْ يستعينوا فما هم من المعتبين أيْ إنْ يسألُوا أن يُرضوا ربَّهم فما هُم فاعلونَ لفواتِ المُكنةِ

25

{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ} أيْ قدّرنا وقرنا للكفرة في الدُّنيا {قُرَنَاء} جمعُ قرينٍ أي أخداناً من الشياطينِ يستولُون عليهم استيلاءَ القيضِ على البيضِ وهو القشرُ وقيل أصلُ القيضِ البدل ومنه المقايضة البدلُ ومنه المقايضةُ للمعاوضةِ {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أيديهم} من امور الدينا واتباعِ الشهواتِ {وَمَا خَلْفَهُمْ} من أمورِ الآخرةِ حيثُ أرَوهم أنْ لا بعثَ ولا حسابَ ولا مكروَه قطُّ {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أيْ ثبتَ وتقررَ عليهم كلمةُ العذابِ وتحققَ موجبُها ومصداقُها وهو قولُه تعالَى لإبليسَ فالحق والحق أقل لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجميعن وقوله تعالى لمن اتبعك منهم لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ كما مر مرار {فِى أُمَمٍ} حالٌ منَ الضميرِ المجرورِ أي كائنين في جملةِ أممٍ وقيلَ فِي بمعْنى مَعَ وهَذا كما ترى صريحٌ في أنَّ المرادَ بأعداءِ الله تعالى فيما سبقَ المعهودونَ من عادٍ وثمودَ لا الكفارُ من الأولينَ والآخرينَ كما قيلَ {قَدْ خَلَتْ} صفةٌ لأممٍ أي مضتْ {مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس} على الكُفر والعصيانِ كذأب هؤلاءِ {إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين} تعليل لاستحقاقهم العذاب والضير للأولينَ والآخرينَ

26

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} من رؤساء المشركين لأعقابهم أو قال

فصلت آية (27 30) بعضُهم لبعضٍ {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن} أي لا تُنصتوا له {والغوا فيه} وعارضوه بالخرافا من الرجزِ والشعرِ والتصديةِ والمُكاءِ أو ارفعُوا أصواتَكم بَها لتشوشُوه على القارىءِ وقريء بضم الغين والمعاني واحدٌ يُقالُ لَغَى يَلْغَى كلقى يلقي ولغا يلغوا إذا هَذَى {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} أي تعلبونه على قراءتِه

27

{فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ} أي فوالله لنذيقنَّ هؤلاءِ القائلينَ واللاغينَ أو جميعَ الكفارِ وهم داخلونَ فيهم دخولاً أولياء {عَذَاباً شَدِيداً} لا يُقادرُ قَدرُهُ {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أيْ جزاءَ سيئاتِ أعمالِهم التي هيَ في أنفسِها أسوأُ وقيلَ إنه لا يجازيهم بمحاسنِ أعمالِهم كإغاثةِ الملهوفينَ وصلةِ الأرحام وقرىء الأضيافِ لأنَّها مُحبطةٌ بالكفرِ وعن ابن عباس رضي الله عنهما عَذاباً شَديداً يومَ بدرٍ وأسوأُ الذي كانُوا يعملونَ في الآخرةِ

28

{ذلك} مبتدأ وقولُه تعالَى {جَزَاء أَعْدَاء الله} خبرُهُ أي ما ذكر من الجزاء جزاء معدلا لأعدائه وقولُه تعالَى {النار} عطفُ بيانٍ للجزاءِ أو ذلكَ خبر مبتدأ محذوف أي الأمرُ ذلكَ على أنه عبارةٌ عن مضمونِ الجملةِ لاعن الجزاءِ وما بعدَهُ جملةٌ مستقلة مبينة لما قبلها وقوله تعالى {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ} جملةٌ مستقلةٌ مقررةٌ لما قبلَها أو النارُ مبتدأٌ هيَ خبرُهُ أي هيَ بعينِها دارُ إقامتِهم على أن في للتجريد وهُو أنْ يُنتزَعَ من أمرٍ ذي صفةٍ أمرٌ آخر مثله مبالغة لكامله فيهَا كما يقالُ في البيضةِ عشرونَ مناً حديدٌ وقيل وهي على مَعناها والمرادُ أنَّ لهم في النارِ المشتملةِ على الدركاتِ داراً مخصوصةً هم فيها خالدونَ {جَزَاء بما كانوا بآياتنا يَجْحَدُونَ} منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ أي يُجزون جزاءً أو بالمصدرِ السابقِ فإن المصدرَ ينتصبُ بمثلِه كما في قولِه تعالى فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا والباءُ الأُولى متعلقةٌ بجزاءً والثانيةُ بيجحدونَ قدمتْ عليهِ لمراعاةِ الفواصل أي بسبب ماكانوا يجحدونَ بآياتِنا الحقَّةِ أو يلغَون فيها وذِكْرُ الجحودِ لكونِه سبباً للغوِ

29

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} وهُم متقلَّبونَ فيما ذُكِرَ من العذاب {ربنا أرنا الذين أضلانا مِنَ الجن والإنس} يعنونَ فريقَي شياطينِ النوعينِ المقيضَينِ لهم الحاملينَ لهم على الكفرِ والمعاصِي بالتسويلِ والتزين وقيلَ هما إبليسُ وقابيلُ فإنَّهما سنَّا الكفرَ والقتلَ بغير حق وقُرِىءَ أَرْنَا تخفيفاً كفَخْذٍ في فَخِذٍ وقيلَ معناهُ أعطِناهُما وقُرىءَ باختلاسِ كسرةِ الراءِ {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} أي ندسهما انتقاماً منهُمَا وقيلَ نجعلْهُما في الدركِ الأسفلِ {لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين} أي ذلاً ومهانة أو مكاناً

30

{إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله}

شروعٌ في بيانِ حُسنِ أحوالِ المؤمنينَ في الدُّنيا والآخرةِ بعد بيانُ سوءِ حالِ الكفرةِ فيهَما أيُ قالوا اعترافاً بربوبيتِه تعالَى وإقراراً بوحدانيتِه {ثُمَّ استقاموا} أي ثبتُوا على الإقرارِ ومقتضياتِه على أن ثمَّ للتراخِي في الزمان أو في الرتبةِ فإنَّ الاستقامةَ لها الشأنُ كلُّه وما رُويَ عن الخلفاءِ الراشدينَ رضي الله تعالى عنْهُم فِي معناهَا من الثباتِ على الإيمانِ وإخلاصِ العملِ وأداءِ الفرائضِ بيانٌ لجزئياتِها {تَتَنَزَّلُ عليهم الملائكة} من جهتِه تعالَى يُمدونُهم فيما يَعِنُّ لهَمُ منَ الأمور الدينية والدونيوية بما يشرح صدورَهُم ويدفعُ عنهم الخوفَ والحزنَ بطريقِ الإلهامِ كما أن الكفرةَ يُغويهم ما قُيضَ لهم من قرناءِ السوءِ بتزيينِ القبائحِ وقيلَ تتنزلُ عندَ الموتِ بالبُشرى وقيلَ إذَا قامُوا من قبورِهم وقيلَ البُشرى في مواطنَ ثلاثةٍ عندَ الموتِ وفي القبرِ وعند البعثِ والأظهر هو العمومُ والإطلاقُ كما ستعرفُه {أَلاَّ تَخَافُواْ} ما تُقْدمونَ عليه فإنه الخوف غم يلحف لتووقع المكروِه {وَلاَ تَحْزَنُواْ} على ما خلّفتُم فإنه غمٌّ يحلق لوقوعِه من فواتِ نافعٍ أو حصول ضلار وقيلَ المرادُ نهيُهم عن الغمومِ على الاطلاقِ والمَعنْى أن الله تعالى كتبَ لكُم الأمنَ من كلِّ غمَ فلنْ تذقوه أباد وأنْ إمَّا مفسرةٌ أو مخففةٌ من الثقيلةِ والأصلُ بأنها لا تخافُوا والهاءُ ضميرُ الشأنِ وقُرِىءَ لا تخافُوا أيْ يقولونَ لا تخافُوا على أنه حال من الملائكة أو اشتئناف {وَأَبْشِرُواْ} أي سُرُّوا {بالجنة التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} في الدُّنيا على ألسنةِ الرُّسلِ هَذا منْ بشاراتِهم في أحدِ المواطنِ الثلاثةِ وقولُه تعالى

31

{نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الحياة الدنيا} الخ من بشاراتِهم في الدُّنيا أي أعوانُكم في أمورِكم نُلهمكُم الحقَّ ونرشدكم الى مافيه خيرُكُم وصلاحُكُم ولعلَّ ذلكَ عبارةٌ عما يخطرُ ببال المؤمنينَ المستمرينَ على الطاعات من أن ذلك بتوفيق الله تعالى وتأيده لهم بواسطة الملائكةِ عليهم السلام {وَفِى الأخرة} نمدكُم بالشفاعة ونتلقاكُم بالكرامةِ حينَ يقع بين الكفرة وقرانائهم ما يقعُ من التعادِي والخصامِ {وَلَكُمْ فِيهَا} أي في الآخرة {مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} من فنون الطيباتِ {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} ما تمنون افتعالٌ منَ الدُّعاء بمعنى الطلبِ أي تدَّعون لأنفسِكم وهو أعمُّ من الأول ولكُم في الموضعينِ خبرٌ ومَا مبتدأٌ وفيها حالٌ من ضميره في الخبر وعدمُ الاكتفاءِ بعطفِ ما تدَّعُون عَلى ما تشتهِي للإشباعِ في البشارة والإيذانِ باستقلالِ كلِّ منهما

32

{نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} حالٌ مما تدَّعون مفيدةٌ لكون ما يتمنَّونَهُ بالنسبة الى ما عطون من عظائم الأجورِ كالنزل للضيفِ

33

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى الله} أي إلى توحيده تعالى وطاعته عن ابن عباس رضي الله عنهما هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الى الإسلام

فصلت (34 37) وعنْهُ أنهم أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقيلَ نزلتْ في المؤذّنين والحقُّ أنَّ حُكمَها عامٌّ لكلِّ من جمعَ ما فيها من الخصال الحميدةِ وإنْ نزلتْ فيمَنْ ذُكِرَ {وَعَمِلَ صالحا} فيما بينَهُ وبينَ رِّبه {وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ المسلمين} ابتهاجاً بأنه منهُم أو اتخاذاً للإسلامِ دينا ونِحلةً من قولِهم هذا قولُ فلانٍ أي مذهبُه لا أنَّه تكلَّم بذلكَ وقُرِىءَ إنِّي بنونٍ واحدةٍ

34

{وَلاَ تَسْتَوِى الحسنة وَلاَ السيئة} جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لبيان محاسنِ الأعمالِ الجاريةِ بين العبادِ إثرَ بيانِ محاسنِ الأعمالِ الجاريةِ بين العبدِ وبين الربِّ عزَّ وجل ترغيباً لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم في الصبرِ على أذية المشركين ومقابلة إسائتهم بالإحسان أي لا تستوي الخَصلةُ الحسنة والسيئةُ في الآثار والأحكام ولا الثانيةُ مزيدة التأكيد النَّفي وقولُه تعالَى {ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ} الخ استئنافٌ مبيِّن لحسن عاقبةِ الحسنةِ أي ادفعْ السيئةَ حيثُ اعترضتْكَ من بعضِ أعاديكَ بالتي هيَ أحسنُ ما يمكنُ دفعُها به من الحسناتِ كَالإحسان إلى مَنْ أساءَ فإنه أحسنُ منَ العفوِ وإخراجُه مُخرجَ الجوابِ عنْ سؤالِ منْ قالَ كيفَ أصنعُ للمبالغةِ ولذلكَ وضعَ أحسنُ موضعَ الحسنةِ وقولُه تعالى {فَإِذَا الذى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} بيانٌ لنتيجة الدفعِ المأمورِ بهِ أيْ فإذَا فعلتَ ذلكَ صارَ عدوُّك المُشاقُّ مثلَ الوليِّ الشفيقِ

35

{وَمَا يُلَقَّاهَا} أيُ ما يلقى هذهِ الخَصلةَ والسجيةَ التي هي مقابلُة الإساءةِ بالإحسانِ {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} أي شأنهم الصبر الصبرُ {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ} من الخيرِ وكمالِ النفسِ وقيلَ الحظُّ العظيم الجنةُ وقيلَ هو الثواب وقيل نزلتْ في أبي سفيانَ بنِ حربٍ وكانَ مؤذيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصارَ ولياً مصافياً

36

{وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ} مِنَ الشيطان {نَزْغٌ} النزغُ والنسغُ بَمعْنى وهو شبه النخْسِ شُبِّه بهِ وسوسةُ الشيطانِ لأنَّها بعثٌ على الشرِّ وجُعلَ نازغا على طريقة جد حده أو أريدَ وإمَّا ينزغنَّكَ نازغٌ وصفاً للشيطانِ بالمصدرِ أيْ وإن صرفكَ الشيطانُ عمَّا وُصَّيتَ به من الدفعِ بالتي هي أحسنُ {فاستعذ بالله} من شرِّه ولا قطعه {إِنَّهُ هُوَ السميع} باستعاذتِك {العليم} بنيتكَ أو بصلاحِكَ وفي جَعْلِ تركِ الدفعِ بالأحسن من آثار نزعات الشيطانِ مزيدُ تحذيرٍ وتنفيرٍ عنه

37

{ومن آياته} الدالة على شئونه العظيمة {الليل والنهار والشمس والقمر}

كلٌّ منَها مخلوقٌ منْ مخلوقاتِه مسخرٌ لأمرِه {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ} لأنهما من جملةِ مخلوقاتِه المسخرةِ لأوامرِه مثلَكُم {واسجدوا لِلَّهِ الذى خَلَقَهُنَّ} الضميرُ للأربعةِ لأنَّ حُكَم جماعة مالا يعقلُ حكمُ الأنثى أو الإناثِ أو لأنها عبارةٌ عن الآياتِ وتعليقُ الفعلِ بالكل مع كفايةِ بيانِ مخلوقيةِ الشمسِ والقمرِ للإيذان بكمال سقوطِهما عن رتبة المسجوديةِ بنظمهما في المخلوقية في سلك الأعراضِ التي لا قيامَ لها بذاتها وهو السرُّ في نظمَ الكلِّ في سلك آياتِه تعالى {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فإن السجودَ أقصى مراتبِ العبادةِ فلا بُدَّ من تخصيصِه به سبحانَهُ وهو موضع للجسود عند الشافعيِّ رحمَهُ الله وعندنا آخر الآية لأنه الأخرى تمامُ المعْنى

38

{فَإِنِ استكبروا} عن الامتثالِ {فالذين عِندَ رَبّكَ} من الملائكة {يُسَبّحُونَ لَهُ بالليل والنهار} أي دائماً {وَهُمْ لا يسأمون} لا يفترُون ولا يَملّون وقُرِىءَ لا يِسْأمُون بكسرِ الياء

39

{ومن آياته أَنَّكَ تَرَى الأرض خاشعة} يابسةً متطامنةً مستعارٌ من الخشوع بمعنى التذليل {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء} أي المطرَ {اهتزت وَرَبَتْ} أي تحركتْ بالنبات وانتفختْ لأنَّ النبتَ إِذَا دَنا أنْ يظهرَ ارتفعتْ له الأرضُ وانتفختْ ثم تصدعتْ عن النباتِ وقيلَ تزخرفتْ بالنباتِ وقُرىءَ رَبَأَتْ أي ارتفعتْ {إِنَّ الذى أحياها} بما ذُكِرَ بعدَ موتِها {لمحيي الموتى} بالبعث {أَنَّهُ على كُلّ شَىْء قدير} من الأشياء التي من جُملتها الإحياءُ {قَدِيرٌ} مبالِغٌ في القُدرة

40

{إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ} يميلونَ عن الاستقامةِ وقُرِىءَ يُلحدون {في آياتنا} بالطعن فيها وتحرفيها بحملها على المحامل البطالة {لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} فنجازيَهم يإلحادهم وقوله تعالى {أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة} تنبيةٌ على كيفيةِ الجزاءِ {اعملوا ما شئتم} من الأعمال المؤديةِ إلى ما ذُكِرَ من الإلقاءِ في النارِ والإتيانِ آمناً وفيه تهديد شديد {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكُم بحسبِ أعمالِكم وقولُه تعالَى

41

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا جَاءهُمْ} بدلٌ من قولِه تعالَى إِنْ الذين يحلدون الخ وخبرُ إنَّ هُو الخبرُ السابقُ وقيلَ مستأنفٌ وخبرها محذوف وقال السكائي سدَّ مسدّه الخبرُ السابقُ والذكرُ القرآنُ وقولُه تعالى {وَإِنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ} أي كثيرُ المنافعِ عديمُ النظيرِ أو منيعٌ لاَ تتأتَّى معارضتُه جملةُ حاليةٌ مفيدةٌ لغايةِ

فصلت آية (42 44) شناعةِ الكُفرِ بهِ وقولُه تعالى

42

{لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا منْ خلفه} أي لا يتظرق إليه الباطلُ من جهةٍ من الجهاتِ صفةٌ أُخرى لكتابٌ وقولُه تعالَى {تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أو صفةٌ أخرى لكتاب مفيدة لقحامته الإضافيةِ كما أن الصفتينِ السابقتان مفيدتان لقحامته الذاتيةِ وقولُه تعالَى لا يأتيه الخ اعتراضٌ عندَ من لا يجوزُ تقديمَ غير الصريحِ من الصفاتِ على الصريح كلُّ ذلكَ لتأكيد بطلانِ الكفرِ بالقرآنِ وقوله تعالى

43

{مَّا يُقَالُ لَكَ} الخ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عَّما يصيبُه من أذيةِ الكفار أي ما يُقالُ في شأنك وشأنِ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن القُرآن من جهةِ كفارِ قومِك {إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} أي إلا مثل ما قد قيلَ في حقِّهم مما لا خيرَ فيه {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ} لأنبيائِه {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} لأعدائِهم وقد نصرَ مَنْ قبلك من الرسل وانتقمَ من أعدائِهم وسيفعلُ مثلَ ذلكَ بكَ وبأعدائِك أيضا

44

{ولو جعلناه قرآنا أعْجَمِيّاً} جوابٌ لقولِهم هَلاَّ أُنزلَ القرآنُ بلغةِ العجمِ والضميرُ للذكرِ {لَّقَالُواْ لَوْلاَ فصلت آياته} أي بينتْ بلسانٍ نفقهُه وقوله تعالى {أأعجمي وعربي} إنكار مقرر للتخصيص والأعجميُّ يُقالُ لكلامٍ لا يفهم وللكمتكلم بهِ والياءُ للمبالغةِ في الوصفِ كأحمريَ والمَعْنى أكلامٌ أعجميٌّ ورسولٌ أو مرسلٌ إليه عربيٌّ على أن الإفرادَ مَعَ كونِ المرسلِ إليهمْ أمةً جمةً لما أنَّ المرادَ بيانُ التنافِي والتنافُرِ بينَ الكلامِ وبينَ المُخاطَبِ بهِ لا بيانُ كونِ المخاطبِ واحداً أو جمعاً وقُرِىءَ أعَجميٌّ أيْ أكلامٌ منسوبٌ إلى أمةِ العجمِ وقُرِىَء أعجميٌّ علَى الإِخبارِ بأنَّ القرآنَ أعجميٌّ والمتكلمُ والمخاطَبُ عربيٌّ ويجوزُ أن يرادَ هَلاَّ فصِّلتْ آياتُه فجعلَ بعضُها أعجمياً لإفهامِ العجمِ وبعضُها عربياً لإفهامِ العربِ وأيَاً ما كانَ فالمقصودُ بيانُ أنَّ آياتِ الله تعالَى على أي وجهٍ جاءتُهم وجدُوا فيها متعنتاً يتعللونَ به {قل هو للذين آمنوا هدى} يهيدهم إلى الحقِّ {وَشِفَاء} لِمَا فِى الصدور من شبة {والذين لاَ يُؤْمِنُونَ} مبتدأٌّ خبره {في آذانِهم وَقْرٌ} على أن التقدير هُو أي القرآنُ في آذانِهم وَقْرٌ على أنَّ وقرٌ خبرٌ للضميرالمقدر وفي آذانِهم متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من وقرٌ وهُو أوفقُ لقولِه تعالى {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} وقيلَ خبرُ الموصولِ في آذانِهم ووَقْرٌ فاعلُ الظرفِ وقيلَ وقرٌ مبتدأٌ والظرفُ خبرُه والجملةُ خبرٌ للموصولِ وقيلَ التقديرُ والذينَ لا يؤمنونَ في آذانِهم منْهُ وقرٌ ومن جوَّزَ العطفَ على عاملينِ عطفَ الموصولَ على الموصولِ الأولِ أي هُو للأولينَ هُدى وشفاءٌ وللآخرينَ وقرٌ في آذانِهم {أولئك} إشارةٌ إلى

47 45 الموصولِ الثانِي باعتبارِ اتصافِه بما في حيز صلته وملاحظة ما أُثبتَ لهُ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلِته في الشرِّ معَ ما فيه من كمالِ المناسبةِ للنداءِ من بعيدٍ أي أولئكَ البُعداءُ الموصوفونَ بما ذكرَ من التصامِّ عن الحقِّ الذي يسمعُونَهُ والتعامِي عن الآياتِ الظاهرةِ التي يشاهدونَها {يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} تمثيلٌ لهم في عدمِ قبولِهم واستماعِهم له بمنْ ينادى من مسافةٍ نائيةٍ لا يكادُ يَسمعُ من مثلِها الأصواتِ

45

{ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ أن الاختلافَ في شأنِ الكتبِ عادةٌ قديمةٌ للأممٍ غيرُ مختصَ بقومكَ على منهاجِ قولِه تعالى مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ أيْ وبالله لقد آتيناه التوارة فاختُلفَ فيها فمن مصدقٍ لها ومكذبٍ وهكذا حالُ قومكَ في شأنِ ما آتيناكَ من القرآنِ فمن مؤمنٍ به وكافرٍ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ في حقِّ أمتكَ المكذبةِ وهي العِدَةُ بتأخيرِ عذابِهم وفصلُ ما بينهم وبينَ اللمؤمنين من الخصومةِ إلى يومِ القيامةِ بنحو قوله تعالى بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ وقولِه تعالى ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى {لقضي بينهم} باستئصال المذبين كما فعلَ بمكذِبي الأممِ السالفة {وأنهم} أي الكفار قومِكَ {لَفِى شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ} أي من القرآنِ وَجَعْلُ الضميرِ الأولِ لليهودِ والثانِي للتوراةِ مما لا وجهَ لَهُ

46

{مَّنْ عَمِلَ صالحا} بأنْ آمنَ بالكتبِ وعملَ بموجِبها {فَلِنَفْسِهِ} أي فلنفسِه يعملُه أو فنفعُه لنفسه لا لغيره {مَّنْ عَمِلَ صالحا} بأنْ آمنَ بالكتبِ وعملَ بموجِبها فَلِنَفْسِهِ أي فلنفسِه يعملُه أو منفعة لنفسه لا لغيرِه {وَمَنْ أساء فعليها} ضرر لا على غيرِه {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} اعتراضٌ تذييلي مقرر لمضمون ما قبلَهُ مبنيٌّ على تنزيلِ تركِ إثابةِ المحسنِ بعملِه أو إثابةِ الغيرِ بعملِه وتنزيلِ التعذيبِ بغير إساءةٍ أو بإساءةِ غيرِه منزلةَ الظلمِ الذي يستحيلُ صدروه عنه سبحانَهُ وتعالَى وقد مرَّ ما في المقامِ من التحقيقِ والتفصيلِ في سورةِ آل عمرانَ وسورةِ الأنفالِ

47

{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة} أي إذا سئلَ عنها يقال الله يعلم أولا يعلمُها إلا الله تعالَى {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثمرات مّنْ أَكْمَامِهَا} أي من أوعيتِها جمعُ كِمٍ بالكسرِ وهُو وعاءُ الثمرةِ كَجُفِّ الطلعةِ وقُرِىءَ من ثمرةٍ على إرادةِ الجنسِ والجمعُ لاختلافِ الأنواعَ وقد قُرِىءَ بجمعِ الضميرِ أيضاً ومَا نافيةٌ ومِنْ الأُولى مزيدةٌ للاستغراقِ واحتمالُ أَنْ تكَونَ ما موصولةً معطوفة على الساعةِ ومِنْ مبينةً بعيدٌ {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ} أي حَملَها وقولُه تعالى {إِلاَّ بِعِلْمِهِ} استثناء مفرغ من أعم الأحوالِ أيْ وما يحدثُ شيء

فصلت آية (48 50) من خروج ثمرة ولاحمل حاملٍ ولا وضعِ واضعٍ ملابساً بشيءٍ من الأشياءِ إلا ملابساً بعلمهِ المحيطِ {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِى} أي بزعمِكم كما نصَّ عليهِ في قوله تعالى نَادُواْ شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ وفيهِ تهكمٌ بهِم وتقريعٌ لَهُم ويومَ منصوبٌ باذكُرْ أو ظرف لمضمر مؤخر قد تُرك إيذاناً بقصورِ البيانِ عنْه كما مرَّ في قوله تعالى {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} قَالُواْ آذناك أي أخبرناكَ {مَا مِنَّا من شهيد} من أحد يشهد لهم بالشركة إذا تبرأنَا منهم لَمَّا عاينَّا الحالَ وما منا أحدٌ إلا وهو موحدٌ لكَ أو مامنا من أحدٍ يشاهدُهم لأنهم ضلُّوا عنهُم حينئذٍ وقيلَ هو قولُ الشركاءِ أي ما منا من شهيد يشهد لهم بأنَّهم كانُوا محقِّينَ وقولُهم آذناكَ إما لأنَّ هذا التوبيخَ مسبوقٌ بتوبيخٍ آخر مجاب بهذا الجوابِ أو لأنَّ معناهُ أنك علمتَ من قلوبِنا وعقائدِنا الآنَ أنا لا نشهدُ تلكَ الشهادةَ الباطلةَ لأنَّه إذا علمَهُ من نفوسِهم فكأنَّهم أعلمُوه أو لأنَّ معناهُ الإنشاءُ لا الإخبارُ بإيذانٍ قد كانَ قبلَ ذلكَ

48

{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ} أي يعبدونَ {مِن قَبْلُ} أي غابُوا عنُهم أو ظهر عدمُ نفعِهم فكانَ حضورُهم كغَيبتهم {وَظَنُّواْ} أي أيقنُوا {مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ} مهربٍ والظنُّ معلقٌّ عنْه بحرفِ النفي

49

{لا يسأم الانسان} أي لا يملُّ ولا يفترُ {مِن دُعَاء الخير} من طلبِ السعةِ في النعمةِ وأسبابِ المعيشةِ وقُرِىءَ من دعاءٍ بالخيرِ {وَإِن مَّسَّهُ الشر} أي العسر والضيقة {فيؤوس قَنُوطٌ} فيه مبالغةٌ من جهة البناءِ ومن جهةِ التكريرِ ومن جهةِ أن القنوطُ عبارةٌ عن يأسٍ مفرطٍ يظهرُ أثرُه في الشخصِ فيتضاءلُ وينكسرُ أي مبالغٌ في قطعِ الرجاءِ من فضل الله تعالى ورحمتِه وهذا وصفٌ للجنسِ بوصفِ غالبِ أفرادِه لما أنَّ اليأسَ من رحمتِه تعالى لا يتأتَّى إلا من الكافرِ وسيصرحُ به

50

{وَلَئِنْ أذقناه رَحْمَةً مّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ} بتفريجِها عنْهُ {لَيَقُولَنَّ هذا لِى} أي حَقِّي أستحقُّه لم لِي من الفضلِ والعملِ أولى لا لغَيري فَلاَ يزولَ عنِّي أبداً {وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} أي تقومُ فيما سيأتي {وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى} على تقديرها قيامِها {إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى} أي للحالةَ الحُسنى من الكرامةِ وذلك لاعتقادِه أن ما أصابه ما نعم الدنيا لاستحقاقه له وأنَّ نعمَ الآخرةِ كذلكَ {فَلَنُنَبّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ} أي لنعلمنَّهم حقيقة أعمالِهم حينَ أظهرناهَا بصورةِ الحقيقة وقد مرَّ تحقيقُه في سورةِ الأعرافِ عند قوله تعالى {والوزن يَوْمَئِذٍ الحق} وفي قولِه تعالَى {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} من سورةِ يونس {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} لا يُقادرُ قَدُرُه ولا يبلغ كنهه

فصلت آية (51 53)

51

{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ} أي عنِ الشكرِ {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أي ذهبَ بنفسه وتباعد بكليته تكبرا وتعظما والجانبُ مجازٌ عن النفسِ كما في قوله تعالى فِى جَنبِ الله ويجوزُ أن يرادَ بهِ عِطْفُه ويكونَ عبارةً عن الانحرافِ والازورارِ كما قالُوا ثَنَى عِطْفَةُ وتولَّى بركنِه {وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} أي كثيرٍ مستعارٌ م مما لَه عَرْضٌ متسعٌ للإشعارِ بكثرتِه واستمرارِه وهو أبلغُ من الطويلُ إذ الطول أطولُ الامتدادينِ فإذا كان عرضُه كذلكَ فما ظنُّك بطولِه ولعلَّ هذا شأنُ بعضٍ غيرِ البعضِ الذي حُكِيَ عنه اليأسُ والقنوطُ أو شأنُ الكلِّ في بعضِ الأوقاتِ

52

{قل أرأيتم} أي أخبرونِي {إِن كَانَ} أي القرآنُ {مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} مع تعاضد موجبات الإيمان بِهِ {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي من أضلُّ منكُم فوضع الموصول موضع الضمير شرحاً لحالهِم وتعليلاً لمزيدِ ضلالهم

53

{سنريهم آياتنا} الدالة على حقيقتِه وكونِه من عند الله {فِى الأفاق} هو ما أخبرهم به النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من الحوادثِ الآتيةِ وآثارِ النوازل الماضية ما يسر الله تعالى وله ولخلفائِه من الفتوحِ والظهورِ على آفاقِ الدنيا والاستيلاءِ على بلادِ المشارقِ والمغاربِ على وجةٍ خارقٍ للعادةِ {وَفِى أَنفُسِهِمْ} هو ما ظهرَ فيما بينَ أهلِ مكةَ وما حلَّ بهم قال ابن عباس رضي الله عنهما في الآفاق أي منازلِ الأممِ الخاليةِ وآثارِهم وفي أنفسِهم يومُ بدرٍ وقال مجاهدٌ والحسنُ والسُدِّيُّ في الآفاقِ ما يفتحُ الله من القُرَى عليهِ عليه الصلاةُ والسلامُ والمسلمينَ وفي أنفسِهم فتحُ مكةَ وقيلَ في الآفاقِ أي في أقطار السمواتِ والأرضِ من الشمسِ والقمرِ والنجومِ وما يترتبت عليها من الليلِ والنهارِ والأضواءِ والظلالِ والظلماتِ ومن النباتِ والأشجارِ والأنهارِ وفي أنفسهم من لطيفِ الصنعة وبديعِ الحكمةِ في تكوينِ الأجنةِ في ظلماتِ الأرحامِ وحدوثِ الأعضاءِ العجيبةِ والتركيباتِ الغريبةِ كقولِه تعالى {وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} واعتذرَ بأنَّ معنَى السينِ مع أنَّ إراءةَ تلك الآياتِ قد حصلتْ قبلَ ذلكَ أنه تعالَى سيطلعُهم على تلك الآياتِ زماناً فزماناٍ ويزيدُهم وقوفاً على حقائِقِها يوماً فيوماً {حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ} بذلكَ {أَنَّهُ الحق} أي القرآنُ أو الإسلامُ والتوحيدُ {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ} استئنافٌ واردٌ لتوبيخهِم عَلى تررد في شأنِ القرآنِ وعنادِهم المُحوجِ إلى إراءةِ الآياتِ وعدمِ اكتفائِهم بإخبارِه تعالَى والهمزة للإنكارِ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ أيْ ألَمْ يغنِ ولم يكفِ ربُّكَ والباءُ مزيدةٌ للتأكيد ولاَ تكادُ تزاد إلا معَ كَفَى وقولُه تعالى {أَنَّهُ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ} بدلٌ منهُ أيْ ألم يغنهم عن إراء الآياتِ الموعودةِ المبينةِ لحقيةِ القُرانِ ولم يكفهم في ذلكَ أنه تعالَى شهيدٌ على جميع الأشياء وقد أخبرَ بأنَّه منْ عندِه وقيلَ معناهُ أنَّ هَذا الموعودَ من إظهارِ آياتِ الله في الآفاقِ وفي أنفسِهم سيرونَهُ

ويشاهدونَهُ فيتبينونَ عند ذلكَ أنَّ القرآنَ تنزيلُ عالمِ الغيبِ الذي هُو عَلى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ أي مطّلعٌ يستوِي عندَهُ غيبُه وشهادتُه فيكفيهم ذلك دليلاً على أنه حقٌّ وأنَّه منْ عندِه ولو لم يكن كذلك ما قُوِيَ هذه القوةَ ولما نُصرَ حاملُوه هذهِ النُصرةَ فتأملُ وأما ما قيلَ من أن المعنى أو لم يكفكَ أنِه تعالَى على كُلِّ شيءٍ شهيدٌ محققٌ له فيحقق أمرك بإظار الآياتِ الموعودةِ كما حققَ سائرَ الأشياءِ الموعودةِ فمع إشعارِه بما لا يليقُ بجلالةِ منصبِه عليه السلامُ من الترددِ فيما ذكر من تحقيق الموعودِ يرده قولُه تعالى

54

{أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَاء رَبّهِمْ} أي في شكَ عظيمٍ منْ ذلكَ بالبعثِ والجزاءِ فإنه صريحٌ في أن عدمَ الكفاية ة معتبر بالنسبة إلهم وقُرِىءَ مُريةٍ بالضمِّ وهُو لُغةٌ فيها {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء مُّحِيطُ} عالمٌ بجميع الأشياء جملها وتفاضيلها وظواهرها بواطنها فلا تحفى عليها خافيةٌ منهم وهو مجازيهُمْ على كُفرِهم ومريتِهم ولا محالةَ عن رسولِ الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة السجدة أعطاهُ الله تعالَى بكُلِّ حرفٍ عشرَ حسناتٍ والله أعلمُ

الشورى } { {بسم الله الرحمن الرحيم}

الشورى

{حم عسق} اسمانِ للسورةِ ولذلكَ فصِلَ بينهما وعُدَّا آيتينِ وقيلَ اسمٌ واحدٌ والفصلُ ليناسبَ سائرَ الحواميمِ وقُرىءَ حم سق فعلى الأولِ هُما خبرانِ لمبتدأٍ محذوفٍ وقيلَ حم مبتدأٌ وعسق خبرُهُ وعَلى الثَّانِي الكلُّ خبرٌ واحدٌ وقولُه تعالَى

3

{كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم} كلامٌ مستأنفٌ واردٌ لتحقيق أنَّ مضمونَ السورةِ موافقٌ لما في تضاعف سائرِ الكتبِ المنزَّلةِ على الرسلِ المتقدمةِ في الدعوةِ الى التوحيد الإرشاد الى الحق أو إيحاءَهَا مثلُ إيحائِها بعدَ تنويهِها بذكرِ اسمِها والتنبيه على فخامةِ شأنها والكافُ في حيز النصبِ على أنَّه مفعولٌ ليُوحِي عَلى الأولِ وعلى أنه نعتٌ لمصدرٍ مؤكدٍ لهُ على الثَّانِي وذلك على الأول إشارةٌ إلى ما فيها وعلى الثَّانِي إلى إيحائِها وما فيه من معنى العبد للإيذان بعلوِّ رُتبةِ المُشار إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الفضل أي مثل ما في هذه السورةِ من المعاني أو حى إليكَ في سائر السورِ وإلى مَنْ قبلك من الرسلِ في كتبِهم على أنَّ مناطَ المماثلةِ ما أُشيرَ إليهِ من الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق وما فيه صلاحُ العبادِ في المعاش والمعادِ أو مثلَ إيحائِها أُوحيَ إليكَ عند إيحاءِ سائرِ السورِ وإلى سائرِ الرسلِ عند إيحاءِ كتبِهم إليهم لا إيحاءً مغايراً له كما في قوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ الآيةَ على أنَّ مدارَ المْثليةِ كونُه بواسطةِ الملكِ وصيغةُ المضارعِ على حكايةِ الحالِ الماضيةِ للإيذان باستمرارِ الوحي وأنَّ إيحاءَ مثلِه عادتُه وفي جعلِ مضمونِ السورةِ أو إيحائها مشبهاً به من تفخيمِها مالا يخفى وكذا في وصفِه تعالَى بوصفي العزةَ والحكمةِ وتأخيرُ الفاعلِ لمراعاةِ الفواصلِ مع ما فيه من التشويق وقُرِىءَ يُوحَى على البناءِ للمفعولِ على أنَّ كذلكَ مبتدأ يوحى خبره المسندُ إلى ضميرِه أو مصدر ويحى مسندٌ إلى إليكَ والله مرتفعٌ بما دلَّ عليهِ يوحى كأنه قبل مَنْ يُوحِي فقيلَ الله والعزيزُ الحكيمُ صفتان لهُ أو مبتدأٌ كما في قراءةِ نُوحِي والعزيزُ وما بعدَهُ خبرانِ له أو العزيز الحكيمُ صفتانِ له

4 7 وقوله تعالى

4

{له ما في السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العلى العظيم} خبرانِ له وعلى الوجوهِ السابقةِ استئنافٌ مقرر لعزته وحكمته

5

{تكاد السماوات} وقُرِىَء بالياءِ {يَتَفَطَّرْنَ} يتشقّقنَ من عظمةِ الله تعالىَ وقيلَ من دعاءِ الولدِ له كما في سُورةِ مريمَ وقُرِىءَ يَنْفَطرنَ والأولُ أبلغُ لأنَّه مطاوعُ فطَّر وهذا مطاوع فطر وفرىء تتفطرن بالتاءِ لتأكيدِ التأنيثِ وهو نَادرٌ {مِن فَوْقِهِنَّ} أي يبتدأُ التفطرُ من جهتهنَّ الفوقانيةِ وتخصيصُها على الأولِ لما أنَّ أعظمَ الآياتِ وأدلَّها على العظمةِ والجلالِ من تلكَ الجهةِ وعلى الثان للدلالةِ على التفطرِ من تحتهنَّ بالطريقِ الأَولى لأنَّ تلكَ الكلمةَ الشنعاءَ الواقعةَ في الأرضِ حيثُ أثرتْ من جهة الفرق فلأنْ تؤثرَ في جهةِ التحتِ أَوْلى وقيلَ الضميرُ للأرضِ فإنَّها في مَعنْى الأرضينَ {والملائكة يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} ينزهونَهُ تعالى عمَّا يليقُ به ملتبسينَ بحمدِه {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأرض} بالسَّعي فيما يستدعِي مغفرتَهُم من الشفاعةِ والإلهامِ وترتيبِ الأسبابِ المقربةِ إلى الطاعةِ واستدعاءِ تأخيرِ العقوبةِ طمعاً في إيمانِ الكافرِ وتوبةِ الفاسقِ وهذا يعمُّ المؤمنَ والكافرَ بلْ لو فُسِّر الاستغفارُ بالسَّعي فيما يدفعُ الخللَ المتوقعَ عمَّ الحيوانَ بل الجماد وحيث خص بالمؤمنينَ كَما في قولِه تعالى ويستغفرون للذين آمنوا فالمرادُ به الشفاعةُ {أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم} إذْ ما منْ مخلوق ولَهُ حظٌ عظيمٌ من رحمتِه تعالَى والآيةُ عَلى الأولِ زيادةُ تقرير لعظمتِه تعالَى وعلى الثَّاني بيانٌ لكمالِ تقدُّسهِ عمَّا نُسبَ إليه وأن ترك معالجتهم بالعقابِ على تلك الكلمةِ الشنعاءِ بسببِ استغفارِ الملائكةِ وفرطِ غفرانِه ورحمتِه ففيها رمزٌ إلى أنَّه تعالَى يقبلُ استغفارَهُم ويزيدُهُم على ما طلبُوه من المغفرةِ رحمةً

6

{والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} شركاءَ وأنداداً {الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} رقيبٌ على أحوالِهم وأعمالِهم فيجازيَهمُ بها {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} بموكّلٍ بهم أو بموكولٍ إليه أمرُهم وإنما وظيفتُكَ الإنذارُ

7

{وكذلك أَوْحينا إليكَ قرآناً عربياً} ذلك إشارة إلى مصدر أَوْحَينا ومحلُّ الكافِ النصبُ على المصدريةِ وقرآنا عربياً مفعولا لأوحينَا أي ومثلَ ذلكَ الإيحاءِ البديعِ البيِّنِ المفُهم أَوْحينا إليكَ قرآناً عربياً لا لَبْسَ فيه عليكَ ولا على قومكَ وقيلَ إشارةٌ إلى مَعْنى الآيةِ المتقدمةِ من أنَّه تعالى هُو الحفيظُ عليهم وإنما أنتَ نذيرٌ فحسب فالكافُ مفعول به لاوحينا قرآنا عربياً حالٌ من المفعولِ

8 بِه أيْ أوحيناهُ إليكَ وهو قرآنٌ عربيٌّ بيِّنٌ {لّتُنذِرَ أُمَّ القرى} أيْ أهلَها وهيَ مكةُ {وَمَنْ حولها} من االعرب {وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع} أي يومَ القيامةِ لأنه يُجمعُ فيه الخلائق قال تعلى يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع وقيلَ تُجمعُ فيه الأرواحُ والأشباحُ وقيلَ الأعمالُ والعُمالُ والإنذارُ يتعدَّى إلى مفعولينِ وقد يستعملُ ثانيهما بالباءِ وقد حذف ههنا ثانِي مفعولَيْ الأولِ وأولُ مفعولي الثان اللتهويل وإيهامِ التعميمِ وقُرِىءَ لينذرَ بالياءِ على أنَّ فاعلَهُ ضميرُ القرآنِ {لاَ رَيْبَ فيه} اعرتاض مقررٌ لما قبلَهُ {فَرِيقٌ فى الجنة وفريق فى السعير} أي بعدَ جمعِهم في الموقفِ فإنَّهم يُجمعونَ فيه أولاً ثمَّ يفرقونَ بعد الحسابِ والتقديرُ منهمُ فريقٌ والضميرُ للمجموعينَ لدلالةِ الجمعِ عليهِ وقِرِئَا منصوبينِ على الحاليةِ منهُم أيْ وتنذرَ يومَ جمعِهم متفرقين أي مشارفينَ للتفرقَ أو متفرقين في ادرى الثوابِ والعقابِ

8

{ولو شاء الله لجعلهم} أي في لدنيا {أمة واحدة} قيل مهتدينَ أو ضَالِّينَ وهو تفصيلٌ لما أجملَهُ ابن عباس رضي الله عنهما في قولِه على دينٍ واحدٍ فمعنى قولِه تعالى {ولكن يدخل من يشاء فِى رَحْمَتِهِ} أنه تعالَى يُدخلُ في رحمتِه مَن يشاءُ أنْ يدخلَهُ فيها ويدخلُ في عذابِه مَن يشاءُ أنْ يدخلَهُ فيهِ ولا ريب في أن مشيئَته تعالَى لكلَ من الإدخالينِ تابعةً لاستحقاقِ كلَ من الفريقين لدخلول مُدخلِه ومن ضرورةِ اختلافِ الرحمةِ والعذابِ اختلافْ حالِ الداخلينَ فيهما قطعاً فلم يشأْ جعلَ الكلِّ أمةً واحدةً بلْ جعلَهُم فريقينِ وإنَّما قيلَ {والظالمون مَا لَهُمْ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} للإيذانِ بأنَّ الإدخالَ في العذابِ من جهِه الداخلين بموجب سوء اختيارهم لا من جهتِه تعالَى كما في الإدخال في الرحمة لا لِما قيلَ من المبالغةِ في الوعيدِ وقيلَ مؤمنين كلَّهم وهو ما قالَه مقاتلٌ على دينِ الإسلامُ كما في قوله تعالى ولو شآء الله لجمهم عَلَى الهدى وقوله تعالَى {وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} والمَعنْى ولو شاء لله مشيئةَ قُدرةٍ لقسرَهُم على الإيمانِ ولكنَّه شاءَ مشيئةَ حكمةٍ وكلَّفَهم وبنى أمرَهُم على مَا يختارُون ليدخلَ المؤمنينَ في رحمتِه وهم المُرادونَ بقولِه تعالى يُدْخِلُ مَن يَشَاء وتركَ الظالمينَ بغيرِ وَليَ ولا نصيرٍ وأنت خبيرٌ بأنَّ فرضَ جعلِ الكلِّ مؤمنينَ يأباهُ تصديرُ الاستدراكِ بإدخالِ بعضِهم في رحمته إذِ الكلُّ حينئذٍ داخلونَ فيَها فكانَ المناسب حينئ تصديَرُه بإخراجِ بعضِهم مِنْ بينِهم وإدخالِهم في عذابِه فالذي يقتضيهِ سياقُ النظمِ الكريمِ وسبقاه أنْ يرادَ الاتحادُ في الكُفرِ كما في قولِه تعالى كَانَ الناس أُمَّةً واحدة فبعث الله النبين الآيةَ على أحدِ الوجهينِ بأنْ يُرادَ بهم الذين هم في فترة إدريسَ أو في فترةِ نوحٍ عليهما السلامُ فالمَعْنى ولو شاءُ الله لجعلَهُم أُمَّةً واحدةً متّفقةً على الكُفرِ بأنْ لا يرسلَ إليهم رسولاً لينذرَهُم ما ذُكِرَ من يوم الجع وما فيهِ من ألوانِ الأهوالِ فيبقُوا على ما هم عيه من الكُفرِ ولكنْ يدخلُ من يشاء فى رحمته أي شأنُه ذلكَ فيرسلُ إلى الكلِّ مَن ينذرُهم ما ذُكِرِ فيتأثرُ بعضُهم بالإنذارِ فيصرفونَ اختيارَهُم إلى الحقِّ فيوفقُهم الله للإيمانِ والطاعةِ ويُدخلِهُم في رحمتِه ولا يتأثرُ به الآخرونَ ويتمادَوْنَ في غيِّهم وهم الظالمونَ فيبقَونَ في الدُّنيا

} 1 9 على ما هم عليه من الكُفرِ ويصيرونَ في الآخرة إلى السعير من غير وَليَ يَلي أمرَهُم ولا نصيرٍ يخلصُهم من العذابِ

9

{أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أولياء} جملةٌ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلَها من انتفاءِ أنْ يكونَ للظالمينَ ولي أو نصيرٌ وأمْ منقطعةٌ وما فيها من بَلْ للانتقالِ من بيانِ ما قبلَها إلى بيانِ ما بعدَها والهمزةُ لإنكارِ الوقوعِ ونفيِه على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه لا لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه كما قيل إذا المراد بيان أن ما فعلوا ليس من اتخاذ الأولياءِ في شيءٍ لأنَّ ذلكَ فرعُ كونِ الأصنامِ أولياءَ وهو أظهرُ الممتنِعاتِ أيْ بلْ أتخذُوا متجاوزينَ الله أولياءَ من الأصنامِ وغيرِها هيهاتَ وقولُه تعالَى {فالله هُوَ الولى} جوابُ شرطٍ محذوفٍ كإنَّه قيلَ بعدَ إبطالِ ولايةِ ما اتخذُوه أولياءَ إنْ أرادُوا ولياً في الحقيقةِ فالله هُو الولى لاولى سواه {وهو يحيي الموتى} أيْ ومن شأنِه ذلكَ {وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} فهُو الحقيقُ بأنْ يتخذَ ولياً فليخصُّوه بالاتخاذِ دونَ من لا يقدرُ على شيءٍ

10

{وما اختلفتم فيه من شَىْء} حكايةٌ لقولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنينَ أيْ وما خالفَكُم الكفارُ فيهِ منْ أمورِ الدِّينِ فاختلفتُم أنتمُ وهُم {محكمة} راجعٌ {إِلَى الله} وهو إثابةُ المحقِّينَ وعقابُ المُبطلينَ {ذلكم} الحاكمُ العظيمُ الشأنِ {الله رَبّى} مالِكِي عَلَيْهِ توكلت في مجامع أمروى خاصَّة لاَ على غيرِه {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أرجعُ في كلِّ ما يَعنُّ لي من معضلات الأموة ر لا إلى أحدٍ سواهُ وحيثُ كانَ التوكُّل أمراً واحداً مستمراً والإنابةُ متعددة متجددة حسب تجّدُدِ موادّهِا أو ثر في الأولِ صيغةُ الماضِي وفي الثَّانِي صيغةُ المضارعِ وقيلَ وما اختلفتُم فيه وتنزعتم في شيءٍ من الخصوماتِ فتحاكمُوا فيهِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولا تُؤثروا على حكومتِه حكومةَ غيرِه وقيلَ وما اختلفتُم فيه من تأويلِ آية واشتبَه عليكُم فارجِعوا في بيانه إلى المحكمِ من كتابِ الله والظَّاهرِ من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيلَ وما وقعَ بينكُم الخلافُ فيهِ من العلومِ التي لا تتعلق تكليفكم ولا طريق لكُم إلى علمِه فقولُوا الله أعلمُ كمعرفةِ الرُّوحِ ولا مساغَ لحملِ هذا على الاجتهادِ لعدمِ جوازِه بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم

11

{فاطر السماوات والأرض} خبرٌ آخرُ لذلكُم أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أو مبتدأ خبرُهُ {جَعَلَ لَكُمُ} وقُرِىءَ بالجرِّ على أنَّه بدلٌ منَ الضميرِ أو وصفٌ للاسمِ الجليلِ في قولِه تعالَى إلى {الله} وما بينهما اعترضا بينَ الصفةِ والموصوفِ {مّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنسِكم {أزواجا} نساءً وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعولِ الصريحِ قد مر سره غيره مرةٍ {وَمِنَ الأنعام} أي وجعلَ للأنعامِ من جنْسِها {أزواجا} أو خلقَ لكُم من الأنعامِ أصنافاً أو ذكوراً وإناثاً {يَذْرَؤُكُمْ} يكثّركم من الذرْءِ وهو البثُّ وفي معناهُ الذَّرو والذَّرُّ {فِيهِ} أي

} 3 1 { فيما ذُكِرَ من التدبيرِ فإنَّ جعلَ الناسِ والأنعامِ أزواجاً يكونُ بينَهم توالدٌ كالمنبعِ للبثِّ والتكثيرِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء} أي ليسَ مثله في شأن من الشئون التي من جملتها هذا التدبيرُ البديعُ والمراد من مثله ذاتُه كَما في قولِهم مثلُكَ لا يفعلُ كَذا على قصدِ المبالغةِ في نفيه عنه فإذا إذا نُفيَ عمَّن يناسبُه كانَ نفيُه عْنهُ أَوُلى ثم سلكت هذهِ الطريقةُ في شأنِ مَنْ لا مثلَ لهُ وقيلَ مثلُه صفتُه أيْ ليسَ كصفتِه صفةٌ {وَهُوَ السميع البصير} المبالغُ في العلمِ بكلِّ ما يسمعُ ويبصر

12

{له مقاليد السماوات والأرض} أيْ خَزَائنُهُما {يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء ويقدر} يوسعُ ويضيقُ حسبما تقتضيهِ مشيئتُه المؤسسةُ على الحِكَمِ البالغةِ {إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} مبالغٌ في الأحاطةِ به فيفعلُ كلَّ ما يَفعلُ على ما ينبغِي أنُ يُفعلَ عليه والجملةُ تعليلٌ لما قبلَها وتمهيدٌ لما بعدَها من قولِه تعالى

13

{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى} وإيذانٌ بأنَّ ما شرعَ لهم صادرٌ عن كمالِ العلمِ والحكمةِ كما أن بيانَ نسبتهِ إلى المذكورين عليهم الصلاة والسلام تنبيهٌ على كونِه ديناً قديماً أجمعَ عليه الرسلُ والخطابُ لأمَّتهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أيْ شرعَ لكُم من الدين ما وصى به نوحاً ومَنْ بعدَه من أربابِ الشرائعِ وأولي العزائمِ من مشاهيرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وأمرَهُم به أمراً مؤكداً على أنَّ تخصيصَهُم بالذكرِ لما ذُكِرَ من علوِّ شأنِهم ولا ستمالة قلوبِ الكفرةِ إليه لاتفاقِ الكلَّ على نبوةِ بعضِهم وتفردِ اليهودِ في شأنِ مُوسى عليه السَّلامُ وتفردِ النَّصارى في حقِّ عيسى عليه السلام وإلا فَما منْ نبيَ إلا وهُو مأمور بما أمره به وهو عبارةٌ عنِ التوحيدِ ودينِ الإسلامِ وما يختلف باخلافت الأممِ وتبدلِ الأعصارِ من أصولِ الشرائعِ والأحكامِ كما ينبىءُ عنه التوصيةُ فإنها معربةٌ عن تأكيد الأمرِ والاعتناء بشأن المأمور به والمراد بإيحائه إليه عله الصَّلاةُ والسَّلامُ إمَّا مَا ذُكر في صدرِ السورةِ الكريمةِ وفي قولِه تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا} الآيةَ أو ما يعمُّهما وغيرَهُما مما وقعَ في سائر المواقعِ التي من جملتها قوله تعالَى ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا وقولُه تعالَى قُلْ إنما أنا بشرٌ مثلُكم يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ وغيرُ ذلكَ والتعبيرُ عن ذلكَ عند نسبتِه إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالذي لزيادة تفخيمِ شأنِه من تلك الحيثيةِ وإيثارُ الإيحاءِ على ما قبله وما بعده من التوصيةِ لمراعاة ما وقعَ في الآيات المذكورةِ ولِما في الإيحاءِ من التصريحِ برسالته عليه الصلاة والسلام القامعِ لإنكار الكفرةِ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإظهار كمالِ الاعتناءِ بإيحائِه وهو السرُّ في تقديمِه على ما بَعدُه مع تقدِّمهِ عليهِ زماناً وتقديمُ

} 4 توصيةِ نوحٍ عليهِ السَّلامُ للمسارعة إلى بيان كون المشروعِ لهم ديناً قديماً وتوجيه الخطابِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلام بطريق التلوين للتشريف والتنبيهِ على أنَّه تعالَى شرعَهُ لهم على لسانِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ {أَنْ أَقِيمُواْ الدين} أي دينَ الإسلامِ الذي هو توحيدُ الله تعالى وطاعتُه والإيمان بكتبه ورسله وبيوم الجزاءِ وسائرِ ما يكونُ الرجلُ بهِ مُؤمناً والمرادُ بإقامتِه تعديلُ أركانِه وحفظُه منْ أنْ يقعَ فيه زيف أو المواظبةُ عليه والتشمّرُ له ومحلُّ أنْ أقيمُوا إما النصبُ على أنه بدلٌ منْ مفعول شرع والمعطوفين عليها أو الرفعُ عَلى أنَّه جواب عن سؤال نشأ منْ إبهامِ المشروعِ كأنَّه قيلَ وما ذاكَ فقيلَ هو إقامةُ الدينِ وقيلَ بدلٌ من ضمير به وليسَ بذاكَ لما أنَّه معَ إفضائه إلى خروجه عن حيز الإيحاءِ إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم مستلزمٌ لكون الخطابِ في قولِه تعالَى {وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فيه} للأنبياء المذكروين عليهمْ الصَّلاةُ والسَّلامُ وتوجيه النَّهي إلى أممهم تمحّلٌ ظاهرٌ مع أنَّ الأظهرُ أنَّه متوجهٌ إلى أمته صلى الله عليه وسلم وأنَّهم المتفرقونَ كما ستحيطُ به خبرا اي لا تتفرقُوا في الدينِ الذي هُو عبارةَ عمَّا ذُكر من الأصولِ دونَ الفروعِ المختلفةِ حسبَ اختلافِ الأممِ باختلافِ الأعصارِ كما ينطقُ بهِ قولُه تعالَى {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شرعة ومنهاجا} وقولُه تعالَى {كَبُرَ عَلَى المشركين} شروعٌ في بيانِ أحوالِ بعضِ مَنْ شرعَ لهم ما شرع من الدينِ القويمِ أي عظُم وشق علهيم {ما تدعوهم إليه} من التوحيدِ ورفضِ عبادةِ الأصنامِ واستبعدُوه حيثُ قالُوا {أَجَعَلَ الألهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ} وقولُه تعالَى {الله يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء} استئنافٌ واردٌ لتحقيق الحقِّ وفيه إشعارٌ بأنَّ منهُم من يجيبُ إلى الدعوة أي الله يجتلبُ إلى ما تدعُوهم إليهِ مَنْ يشاءُ أنْ يجتبَيُه إليهِ وهُو من صَرفَ اختيارَهُ إلى ما دُعِيَ إليه كما ينبىءُ عنه قولُه تعالى {وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} أي يُقبلُ إليه حيثُ يمدُّه بالتوفيق والألطافِ وقولُه تعالَى

14

{وَمَا تَفَرَّقُواْ} شروعٌ في بيان أحوالِ أهلِ الكتابِ عقيبَ الإشارةِ الإجماليةِ إلى أحوالِ أهلِ الشركِ قال ابن عباس رضي الله عنُهمَا هُم اليهودُ والنَّصارى لقولِه تعالَى وَمَا تَفَرَّقَ الذين أوتو الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة أيْ وما تفرقُوا في الدينِ الذي دُعوا إليهِ ولم يُؤمنوا كما آمنَ بعضُهم {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} بحقِّيتِه بما شاهُدوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآنِ من دلائلِ الحقِّيةِ حسبما وجدُوه في كتابِهم أو العلم بمبعثه صلى الله عليه وسلم وهو استثناءٌ مفرَّغٌ من أعمِّ الأحوالِ أو منْ أعمِّ الأوقاتِ أيْ وما تفرقُوا في حالٍ من الأحوالِ أو في وقتٍ من الأوقاتِ إلا حالَ مجىء العلم أو إلا وقت مجيءَ العلمِ {بَغْياً بَيْنَهُمْ} وحميةً وطلباً للرياسة لا لأنَّ لهم في ذلكَ شبهةٌ {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} وهي العِدَةُ بتأخير العقوبةِ {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو يومُ القيامةِ {لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} لأوقعَ القضاءَ بينَهم باستئصالِهم لاستيجاب جناياتِهم لذلك قطعاً وقولُه تعالَى {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ}

الخ بيانٌ لكيفية كفر المشركينَ بالقرآنِ إثرَ بيانِ كيفيةِ كفرِ أهلِ الكتابِ وقُرِىءَ وَرِثُوا ووُرِّثُوا أيْ وإنَّ المشركينَ الذينَ أُورثوا القرآنَ من بعدِ ما أُورثَ أهلُ الكتابِ كتابَهم {لَفِى شَكّ مّنْهُ} من القرآن {مُرِيبٍ} موقعٌ في القلق أو في الريبةِ ولذلكَ لا يُؤمنونَ به لا لمحض البغِي والمكابرةِ بعد ما علموا لحقيته كدأب أهلِ الكتابينِ هذا وأمَّا مَا قيلَ من أنَّ ضميرَ تفرقُوا لأمم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنَّ المرادَ تفرقُ كلِّ أمةٍ بعدَ نبيِّها مع علمِهم بأنَّ الفرقةَ ضلالٌ وفسادٌ وأمرٌ متوعدٌ عليهِ على ألسنة الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ فيردّه قولُه تعالَى وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ وكذا ما قيل من أن الناس كانوا أمةً واحدةً مؤمنينَ بعد ما أهلكَ الله تعالَى أهل الأرضَ بالطوفان فلما ماتَ الآباءُ اختلفَ الأبناءُ فيما بينُهم وذلك حين بعث الله تعالى النبيين مبشرين ومنذرين وجاءهُم العلمُ وإنما اختلفوة اللبفى بينَهم فإنَّ مشاهيرَ الأممِ المذكور قد أصابُهم عذابُ الاستئصالِ من غير إنظارٍ وإمهالٍ على أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيان أحوالِ هذه الأمةِ وإنما ذُكِرَ من ذكر من الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ لتحقيق أنَّ ما شرع لهؤلاء دين قديم أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيداً لوجوب إقامتِه وتشديداً للزجرِ عن التفرق والاختلافِ فيه فالتعرضُ لبيان تفرقِ أممِهم عنه ربَّما يُوهم الإخلالَ بذلكَ المرامِ

15

{فَلِذَلِكَ} أي فلأجل ما ذُكِرَ من التفرق والشكِّ المريبِ أو فلأجلِ أنَّه شرع لهم الدين القومم القديم الحقيق بأنْ يتنافسَ فيهِ المتنافسونَ {فادع} أي الناسَ كافةً إلى إقامةِ ذلك الدين والعمل بموجبِه فإنَّ كلاً من تفرقِهم وكونِهم في شكَ مريب ومن شرع ذلك الدين لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم سببٌ للدعوةِ إليهِ والأمرِ بَها وليسَ المشارُ إليهِ ما ذُكرَ من التوصية والأمرِ بالإقامة والنَّهي عن التفرقِ حتى يُتوهمُ شائبةُ التكرارِ وقيلَ المشارُ إليهِ نفسُ الدينِ المشروعِ واللامُ بمَعْنى إِلى كَما في قولِه تعالى بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا أي فإلى ذلكَ الدينِ فادعُ {واستقم} عليه وعلى الدعوة إليه {كَمَا أُمِرْتَ} وأُوحيَ إليكَ {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} الباطلةَ {وقل آمنت بِمَا أَنزَلَ الله مِن كتاب} أيَّ كتابٍ كان من الكتبِ المنزلةِ لا كالذينَ آمنُوا ببعضٍ منها وكفرُوا ببعضٍ وفيه تحقيقٌ للحقِّ وبيانٌ لاتفاق الكتبِ في الأوصل وتأليفٌ لقلوب أهلِ الكتابينِ وتعريضٌ بهم وقد مرَّ بيانُ كيفيةِ الإيمانِ بها في خاتمةِ سورةِ البقرةِ {وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ} في تبليغ الشرائعِ والأحكام وفصل القضايا عند المحاكمة والخصام وقيل معناه لا سوى بيني وبينكُم ولا آمرَكم بما لاأعمله ولا اخالفكم إلى ماأنهاكم عْنهُ ولا أفرقَ بين أكابرِكم وأصاغرِكم واللام إمَّا على حقيقتها والمأمورُ به محذوفٌ أيْ أمِرتْ بذلكَ لأعدلَ أو زائدةٌ أيْ أمرتُ أنْ أعدلَ والباءُ محذوفةٌ {الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي خالقُنا جميعاً ومتولِّي أمورنا {لَنَا أعمالنا} لا يتخطانَا جزاؤُها ثواباً كانَ

} 8 16 أو عقاباً {وَلَكُمْ أعمالكم} لا تجاوزكم آثارها لنستفيد بحسناتكم ونتضرر بسيآتكم {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} لا مُحاجَّةَ ولا خصومةَ لأنَّ الحقَّ قد ظهرَ ولم يبقَ للمحاجَّةِ حاجةٌ ولا للمخالفة محل سوى المكابرةِ {الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا} يومَ القيامةِ {وَإِلَيْهِ المصير} فيظهرُ هناكَ حالُنا وحالُكم وهذا كما تَرَى محاجزةٌ في مواقف المجاوبةِ لا متارَكةٌ في مواطن المحاربةِ حتى يُصارَ إلى النسخ بآيةِ القتالِ

16

{والذين يُحَاجُّونَ فِى الله} أي في دينِه {مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ} من بعدما استجاء له الناسُ ودخلُوا فيهِ والتعبيرُ عن ذلكَ بالاستجابةِ باعتبار دعوتِهم إليهِ أو من بعد ما استجاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وأيَّده بنصره أو من بعدما استجابَ له أهلُ الكتابِ بأن أقروا بنبوته صلى الله عليه سولم واستفتحُوا به قبلَ مبعثِه صلى الله عليه سلم وذلكَ أنَّ اليهودَ والنَّصارى كانوا يقولونَ للمؤمنين كتابُنَا قبلَ كتابِكم ونبيُنا قبلَ نبيِّكُم ونحنُ خير منكُم وأولى بالحقِّ {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ} زالَّةٌ زائلةٌ باطلة بل لا جاحة لهم أصلاً وإنما عبِّر عن أباطيلهم بالحجة مجاراةً معهم على زعمهم الباطلِ {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} عظيمٌ لمكابرتِهم الحقَّ بعدَ ظهورِه {وَلَهُمْ عذاب شَدِيدٍ} لا يقادَر قَدرُهُ

17

{الله الذى أَنزَلَ الكتابَ} أي جنسَ الكتابِ {بالحق} ملتبساً به في أحكامه وأخبارِه أو بما يحقُّ إنزالُه من العقائدِ والأحكامِ {والميزان} والشرعِ الذي يُوزنُ به الحقوقُ ويسوى بينَ الناسِ أو نفسُ العدلِ بأنْ أنزلَ الأمرَ بهِ أو آلةُ الوزنِ {وَمَا يدريك} أيُّ شيءٍ يجعلكَ عالماً {لَعَلَّ الساعة} التي يخبرُ بمجيئها الكتابُ الناطقُ بالحقِّ {قَرِيبٌ} أيْ شيءٌ قريبٌ او قريب مجيئها وقتل القريبُ بمعنى ذاتِ قربٍ أو الساعةُ بمعنى البعثِ والمَعْنى أنَّها على جناحِ الإتيانِ فاتبعِ الكتابَ واعملْ بهِ وواظبْ على العدل قبل أنْ يفاجئكَ اليومُ الذي يوزنُ فيه الأعمالُ ويوفي جزاؤها

18

{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا} استعجالَ إنكارٍ واستهزاءٍ كانُوا يقولونَ متى هيَ ليتها قامتْ حَتَّى يظهرَ لنا الحقُّ أهُو الذي نحنُ عليهِ أم الذي عليهِ محمدٌ وأصحابُه {والذين آمنوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} خائفونَ منَها معَ اعتناءٍ بها لتوقعِ الثوابِ {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق} أي الكائنُ لا محالةَ {أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ في الساعة} يحادلون فيها منَ المرية أو من مَرَيتُ الناقةَ إذا مسحت صرعها بشدة للحليب ألأن كلاً من المتجادلينِ يستخرجُ ما عند صاحبهِ بكلامٍ فيه شدَّةٌ {لَفِى ضلال بَعِيدٍ} عن الحقِّ فإن البعثَ أشبه الغائباتِ بالمحسوسات فمن لم يهتدِ إلى تجويزه فهو عن

} 2 19 الاهتداءالى ما وراءَهُ أبعدُ وأبعدُ

19

{الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} أي برٌّ بليغُ البِرِّ بهم يُفيض عليهم من فنون ألطافه مالا بكاد ينالُه أيدي الأفكارِ والظنونِ {يَرْزُقُ مَن يَشَاء} أنْ يرزقه كيفما يشاءُ فيخصُّ كلاً من عباده بنوعٍ من البرِّ على ما تقضتيه مشيئته المنبية على الحِكم البالغةِ {وَهُوَ القوى} الباهرُ القدرةِ الغالبُ على كلِّ شيءٍ {العزيز} المنيعُ الذي لا يغلبُ

20

{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة} الحري في الأصل إلقاءُ البَذْرِ في الأرض يُطلقُ على الزرع الحاصل منه ويستعملُ في ثمرات الأعمالِ ونتائجها بطريق الاستعارةِ المبنيَّةِ على تشبيِهها بالغلال الحاصلةِ من البذور المتضمن لتنبيه الاعمال أي مَن كَانَ يُرِيدُ بأعماله ثوابَ الآخرةِ {نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ} نضاعفْ له ثوابَهُ بالواحدِ عشرةً إلى سبعمائةٍ فما فوقها {وَمَن كَانَ يُرِيدُ} بأعماله {حَرْثَ الدنيا} وهو متاعُها وطيباتُها {نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي شيئاً منها حسبما قسمنَا لهُ لا ما يريدُه ويبتغيه {وَمَا لَهُ فِى الأخرة مِن نَّصِيبٍ} إذْ كانتْ همتُه مقصورةً على الدُّنيا وقد مرَّ تفصيلُه في سورة الإسراء

21

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء} أي بلْ ألهُم شركاءُ من الشياطينِ والهمزةُ للتقرير والتقريعِ {شَرَعُواْ لَهُمْ} بالتسويل {مّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله} كالشرك وإنكارِ البعثِ والعملِ للدُّنيا وقيلَ شركاؤُهم أوثانُهم وإضافتُها إليهم لأنَّهم الذينَ جعلُوها شركاءَ لله تعالى واستاذ الشرعِ إليها لأنَّها سببُ ضلالتِهم وافتتانِهم كقوله تعالى إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا أو تمثايل مَنْ سنَّ الضلالَة لهُم {وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل} أي القضاءِ السابقِ بتأخيرِ الجزاءِ أو العدةُ بأنَّ الفصلَ يكونُ يومَ القيامةِ {لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ} أي بين الكافرينَ والمؤمنينَ أو بينَ المشركينَ وشركائِهم {وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقُرِىءَ بالفتحِ عطفاً على كلمة الفصلِ أي ولولا كلمةُ الفصلِ وتقدير عذاب الظالمن في الآخرةِ لقُضيَ بينهم في الدُّنيا فإنَّ العذابَ الأليمَ غالبٌ في عذابِ الآخرةِ

22

{تَرَى الظالمين} يومَ القيامةِ والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن يصلُح له للقصدِ إلى أنَّ سوءَ حالِهم غيرُ مختص برؤية راؤ دونَ راءٍ {مُشْفِقِينَ} خائفينَ {مما كسبوا} من السيآت {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أيْ ووبالُه لاحقٌ بهم لا محالةَ أشفقُوا أو لم يشفقوا أو الجملة حالٌ من ضمير مشفقينَ أو اعتراضص {والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات فِى روضات الجنات}

مستقرونَ في أطيب بقاعِها وأنزهها {لهم ما يشاؤون عِندَ رَبّهِمْ} أي ما يشتهونَهُ من فنون المستلذاتِ حاصلٌ لهم عندَ ربِّهم ظرفٌ للاستقرارِ العاملِ في لهم وقيلَ ظرفٌ ليشاءون {ذلك} إشارة إلى ما ذُكِرَ من حال المؤمنين وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلةِ المشارِ إليه {هُوَ الفضل الكبير} الذي لا يُقادَرُ قدرُهُ ولا يبلغ غايته

23

{ذلك} الفضلُ الكبيرُ هو {الذى يُبَشّرُ الله عِبَادَهُ} أي يبشرُهم به فحذفَ الجارُّ ثمَّ العائدَ إلى الموصول كما في قوله تعالى أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً أو ذلكَ التبشيرُ الذي يبشرُه الله تعالى عباده {الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وقريء يببشر منْ أبشرَ {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} رُويَ أنَّه اجتمعَ المشركونَ في مجمعٍ لهم فقالَ بعضُهم لبعضٍ أترونَ أنَّ محمداً يسألُ على ما يتعاطاهُ أجراً فنزلتْ أيْ لا أطلبُ منكُم على ما أنا عليهِ من التبليغ والبشارة {أَجْراً} نفعاً {إِلاَّ المودة في القربى} أي إلاأن تودوني لقرابتي أو تودُّوا أهل قرابتي وقيل الاستثناء منقطع والمعنى لا أسألُكم أجراً قَطُّ ولكنْ أسألُكم الموَّدةَ وفي القُربي حالٌ منَها أيْ إلا المودَّةَ ثابتةً في القُربى متمكنةً في أهلِها أو في حقَ القرابةِ والقُرْبى مصدرٌ كالزُّلْفى بمَعْنى القَرَابةِ رُويَ أنَّها لما نزلتْ قيلَ يا رسولَ الله مَنْ قرابتُكَ هؤلاءِ الذينَ وجبتْ علينا مودَّتُهم قالَ عليٌّ وفاطمةُ وابناهُمَا وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم حُرِّمتْ الجنةُ على مَنْ ظلمَ أهلَ بيتِي وآذانِي في عترتي ومن ااصطنع صنيعةَّ إلى أحدٍ من ولدِ عبدِ المطلبِ ولمْ يجازِهْ فأَنَا أجازيهِ عليها غدا إذا لَقِيَنِي يومَ القيامةِ وقيلَ القُرْبَى التقربُ إلى الله أي إلاأن تودُّوا الله ورسولَهُ في تقربكم إليهِ بالطاعةِ والعملِ الصالحِ وقُرِىءَ إلا مودَّةً في القُربَى {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} أي يكتسبْ أيَّ حسنة كانت فتناول مودَّةَ ذِي القُرْبى تناولاً أولياً وعن السُدِّيِّ أنَّها المرادةُ وقيلَ نزلتْ في الصدِّيقِ رضيَ الله عنه ومودَّتهُ فيهم {نَّزِدْ لَهُ فِيهَا} أيْ في الحسنة {حَسَنًا} بمضاعفةِ الثوابِ وقُرِىءَ يَزِدْ أيْ يزدِ الله وقُرِىءَ حُسْنَى {أَنَّ الله غَفُورٌ} لمن أذنبَ {شَكُورٍ} لمن أطاع بتوفيه الثواب والتفضلِ عليهِ بالزيادةِ

24

{أَمْ يَقُولُونَ} بلْ أيقولونَ {افترى} محمدٌ {عَلَى الله كَذِبًا} بدعوى النبوةِ وتلاوةِ القُرآنِ على أنَّ الهمزةَ للإنكار التوبيحي كأنه قيل أيتما لكون أنْ ينسُبُوا مثلَه عليهِ السَّلامُ وهُوَ هُوَ إلى الافتراء لا سيَّما الافتراءُ على الله الذي هُو أعظم القرى وأفحشُها وقولُه تعالَى {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} استشهادٌ على بُطلان ما قالُوا ببيان أنَّه عليه السَّلامُ لو افتَرى على الله تعالَى لمنعَهُ من ذلك قطعاً وتحقيقُه أنَّ دعوى كونِ القرآنِ افتراءً عليه تعالَى قولٌ منهم بأنَّه تعالَى لا يشاءُ صدورَهُ عنِ النبِّي صلَّى الله عليه وسلم بلْ يشاءُ عدمَ صدورِه

} 6 25 عْنهُ ومن ضرورتِه منعُه عنْهُ قطعاً فكأنَّه قيلَ لو كانَ افتراءً عليه تعالَى لشاءَ عدمَ صدورِه عنكَ وإنْ يشأْ ذلكَ يختُم على قلبكَ بحيثُ لم يخطُرْ ببالك معنىً منْ معانيه ولم تنطقْ بحرفٍ من حروفِه وحيثُ لم يكُنِ الأمرُ كذلكَ بلْ تواترَ الوحي حيناً فحيناً تبين أنَّه من عندِ الله تعالَى هَذا وقيل المعنى إن شاء الله يجعلْكَ من المختوم على قلوبهم فإنه لا يجترىء على الافتراءِ عليه تعالى إلا مَنْ كانَ كذلكَ ومؤدَّاهُ استبعاد الافتراءِ منْ مثله عليه السَّلامُ وأنَّه في البُعد مثلُ الشرك بالله والدخولِ في جملةِ المختومِ على قلوبِهم وعن قَتَادةَ يختمْ على قلبِكَ يُنْسكَ القُرآنَ ويقطعْ عنكَ الوحى يعنى لو افتَرى عَلَى الله الكذبَ لفعل به ذلك وهذا مَعْنى ما قيلَ لو كذب على الله لأنساهُ القرآنَ وقيلَ يختمْ على قلبِكَ يربطْ عليهِ بالصبرِ حتَّى لا يشقَّ عليك أذاهُم {وَيَمْحُ الله الباطل وَيُحِقُّ الحق بكلماته} استئنافٌ مقررٌ لنفي الافتراء غيرُ معطوفٍ عَلَى يختمُ كما ينبىءُ عنه إظهارُ الاسمِ الجليلِ وسقوطُ الواوِ كما في بعض المصاحفِ لاتّباعِ اللفظِ كما في قولِه تعالى وَيَدْعُ الإنسان بالشر أيُ ومن عادته تعالى أنه يمحُو الباطلَ ويثبتُ الحقَّ بوحيه أو بقضائه كقوله تعالى {بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ} فلو كان افتراءً كما زعمُوا لمحقه ودفعه أو عِدةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم بأنَّه تعالَى يمحُو الباطلَ الذي هم عليهِ من البَهتِ والتكذيبِ ويثبتُ الحق الذي هو عليهِ بالقرآنِ أو بقضائِه الذي لا مردَّ له بنصرته عليهم {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} فيُجرِي عليها أحكامَها اللائقةَ بها من المحوِ والإثباتِ

25

{وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} التوبةُ هي الرجوعُ عنِ المعاصِي بالندمِ عليها والعزمُ على أنْ لا يعاودها أبداً ورَوَى جابرٌ رضيَ الله عْنهُ أنَّ أعرابياً دخلَ مسجدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالَ اللهمَّ إنِّي أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ وكبَّرَ فلما فرغَ من صلاتِه قالَ له عليٌّ رضيَ الله عُنهُ يا هَذا إنَّ سرعةَ اللسانِ بالاستغفارِ توبةُ الكذَّابينَ وتوبتُكَ هذهِ تحتاجُ إلى التوبةِ فقالَ يا أميرَ المؤمنينَ وما التوبةُ قالَ اسمٌ يقع على ستةِ معانٍ على الماضِي من الذنوبِ الندامة ولتصنيع الفرائضِ الإعادةُ وردُّ المظالمِ وإذابةُ النفسِ في الطاعةِ كما ربَّيتها في المعصيةِ وإذاقتها مرارةَ الطاعةِ كما أذقتَها حلاوةَ المعصيةِ والبكاءُ بدلُ كل ضحك ضحكته {ويعفو عَنِ السيئات} صغيرها وكبيرِها لمنْ يشاءُ {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} كائناً ما كانَ منْ خير وشر فجيازي ويتجاوزُ حسبما تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحكم والمصالح وقُرِىءَ ما تفعلونَ بالتاءِ

26

{ويستجيب الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي يستجيبُ الله لهم فحُذف اللامُ كما في قولِه تعالى وَإِذَا كَالُوهُمْ أي كالُوا لَهُم والمرادُ إجابةُ دعوتِهم والإثابةُ على طاعتهم فإنبا كدعاءٍ وطلبٍ لِما يترتبُ عليها ومنه قوله صلى الله عليه وسلم أفضلُ الدُّعاءِ الحمدُ لله او يستجيبون الله بالطاعةِ إذا دَعَاهُم إليَها دَعَاهُم إليَها وعنُ إبراهيِمَ بن أدهم قيلَ لَهُ ما بالُنَا ندعُو فلا

} 9 27 نجابُ قالَ لأنَّه دعاكُم ولم تجيبُوه ثمَّ قرأَ {والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام} {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} على ما سألوا واستحقوا بموجب الوعد {والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} بدلَ مَا للمؤمنينَ من الثوابِ والفضلِ المزيدِ

27

{وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الارض} لتكبَّرُوا وأفسدُوا فيَها بَطَراً أو لعَلاَ بعضُهم على بعض با لاستيلاء والاستعلاء كمَا عليهِ الجِبلَّةُ البشريةُ وأصلُ البَغِي طلب تجاوز الاقتصادِ فيَما يُتحرَّى من حيثُ الكميَّةُ أو الكيفيَّةُ {ولكن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ} أي بتقديرٍ {مَا يَشَاء} أنْ ينزلَهُ مما تقتضيه مشيئتُه {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بصير} محيط بخفايا أموارهم وحلاياها فيقدرُ لكلِّ واحدٍ منهُم في كلِّ وقتٍ من أوقاتِهم ما يليقُ بشأنِهم فيفقرُ ويُغِني ويمنعُ ويُعطِي ويَقْبِض ويبسُط حسبما تقتضيهِ الحكمةُ الربَّانيةُ ولو أغناهُم جميعاً لبغَوا ولو أفقرهُم لهلكُوا ورُويَ أنَّ أهلَ الصُّفَّةِ تمنَّوا الغِنَى فنزلتْ وقيل نزلتْ في العرب كانُوا إذا أخصبوا تحاربُوا وإذا أجدبوا انتجعوا

28

{وَهُوَ الذى يُنَزّلُ الغيث} أي المطرَ الذي يغيثُهم من الجدب ولذلك خُصَّ باالنافع منه وقرىء يُنْزِل من الانزال {مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} يئسوا منه وتقييدُ تنزيله بذلك مع تحقققه بدونه أيضاً لتذكر كمالِ النعمةِ وقُرِىءَ بكسر النون {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} أيْ بركاتِ الغيثِ ومنافعَهُ في كلِّ شيءٍ من السهلِ والجبلِ والنباتِ والحيوانِ أو رحمتَهُ الواسعةَ المنتظمةَ لَما ذُكر انتظاماً أولياً {وَهُوَ الولى} الذي يتولَّى عبادَهُ بالإحسان ونشرِ الرحمة {الحميد} المستحقُ للحمدِ على ذلك لا غيره

29

{ومن آياته خلق السماوات والأرض} على ما هُما من تعاجيب الصنائع فإنَّها بذاتها وصفاتِها تدلُّ على شئونه العظيمةِ {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا} عطفٌ على السموات أو الخلق {مِن دَابَّةٍ} من حَيَ على إطلاقِ اسمِ المُسبَّبِ على السببِ أو ممَّا يدبُّ على الأرضِ فإنَّ ما يختصُّ بأحد الشيئين المتجاورين يصحُّ نسبتُه إليهما كَما في قولِه تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ وإنما يخرجُ من المِلحِ وقد جُوِّز أنْ يكونَ للملائكة عليهم السَّلامُ مشيٌ مع الطيرانِ فيوصفُوا بالدبيب وأن يخلقَ الله في السماءِ حيواناً يمشُونَ فيها مشيَ الأنَاسيِّ على الأض كما ينبىء عنه قوله تعالى ويخلق ما لاتعلمون وقد رُويَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال فوقَ السماءِ السابعةِ بحر بين أسفله وأعلاهُ كَما بينَ السماءِ والأرضِ ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين رُكَبهن وأظلافهنَّ كما بينَ السماءِ والأرضِ ثم فوقَ ذلكَ العرشُ العظيمُ {وَهُوَ على جَمْعِهِمْ} أي حشرِهم بعدَ البعثِ للمحاسبةِ وقولُه تعالى {إِذَا يَشَاء} متعلقٌ بما قبلَهُ لا بقوله تعالَى

} 5 30 {قَدِيرٌ} فإنَّ المقيدَ بالمشيئةِ جمعه تعالى لاقدرته وإذَا عندَ كونِها بمَعْنى الوقتِ كَما تدخلُ الماضِي تدخلُ المضارعَ

30

{وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ} أيُّ مصيبةٍ كانتْ {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي فهيَ معاصيكُم التي اكتسبتمُوها والفاءُ لأن ما شرطة أو متضمنةٌ لمَعْنى الشرطِ وقُرِىءَ بدونِها اكتفاءً بما في الباء من مَعْنى السببية {ويعفو عَن كَثِيرٍ} من الذنوبِ فلا يعاقبُ عليها والآيةُ مخصوصةٌ بالمجرمينَ فإنَّ ما أصابَ غيرَهُم لأسبابٍ أُخرى منها تعريضُه للثوابِ بالصبرِ عليها

31

{وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الأرض} فائتينَ ما قُضِيَ عليكُم من المصائبِ وإن هربتُم من أقطارِها كلَّ مهربٍ {وَمَا لَكُم من دُونِ الله مِن وَلِيّ} يحميكُم منَها {وَلاَ نَصِيرٍ} يدفعها ويدفعها عنكم

32

{ومن آياته الجوار} السفنُ الجاريةُ {فِى البحرِ} وقُرِىءَ الجَوَارِي {كالأعلام} أي كالجبالِ على الإطلاقِ لا التي عليها النارُ للاهتداءِ خاصَّة

33

{إن يشأ يسكن الريح} التى يجريها وقُرُىءَ الرياحَ {فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ} فيبقينَ ثوابتَ عل ظهرِ البحرِ أي غيرَ جارياتٍ لا غيرَ متحركاتٍ أصلاً {إِنَّ فِى ذَلِكَ} الذي ذُكِرَ من السفنِ اللاتِي يجرينَ تارةً ويركُدنَ أُخْرى على حسب مشيئتِه تعالَى {لاَيَاتٍ} عظيمةً في أنفسها كثيرةً في العددِ دالةً على ما ذُكِرَ من شئونه تعالَى {لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} لكل مكن حبسَ نفسَهُ عن التوجِه إلى ما لا ينبغِي ووكَّلَ همَّتَهُ بالنظرِ في آياتِ الله تعالَى والتفكرِ في آلائِه أو لكلِّ مؤمنٍ كاملٍ فإنَّ الإيمانَ نفصه صبرٌ ونصفُهُ شكرٌ

34

{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} عطفٌ على يُسكنْ والمعنى إن يشأ يسكن الريح 0 فيركدنَ أو يرسلْهَا فيغرقنَ بعصفِها وإيقاعُ الإيباقِ عليهنَّ مع أنَّه حالُ أهلهنَّ للمبالغةِ والتهويلِ وإجراءُ حُكمِه على العفوِ في قولِه تعالَى {وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} لِما أنَّ المَعْنى أو يُرسلْها فيوبقْ ناساً ويُنجِ آخرينَ بطريق العفوِ عنهُم وقرءى ويعفوا على الاستئناف

35

{وَيَعْلَمَ الذين يجادلون فِى آياتنا} عطفٌ على علة مقدرةٍ مثلُ لينتقمَ منهم وليعلم الخ كما في قولِه تعالى ولنجعله آية لّلْنَّاسِ وقوله وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ونظائِرِهِما وقُرِىءَ بالرفعِ على الاستئنافِ وبالجزمِ عطفاً على يعفُ فيكونُ المَعْنى وإنْ يشأْ يجمعْ بينَ إهلاكِ قومٍ وإنجاءِ قومٍ وتحذيرِ قومٍ {مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ} أي منْ مهربٍ من العذابِ والجملةُ معلقٌ عنها الفعلُ

40 36

36

{فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شَىْء} مما ترغبونَ وتتنافسونَ فيهِ {فمتاع الحياة الدنيا} أي فهُو متاعُها تتمتعونَ به مدةَ حياتِكم {وَمَا عِندَ الله} من ثواب الآخرةِ {خَيْرٌ} ذاتاً لخلوصِ نفعِه {وأبقى} زماناً حيثُ لا يزولُ ولا يَفْنى {لِلَّذِينَ آمنوا وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} لا على غيرِه أصلاً والموصولُ الأولُ لما كانَ مُتضمناً لمَعْنى الشرطِ منْ حيثُ أنَّ إيتاءَ مَا أُوتُوا سببٌ للتمتعِ بها في الحياة الدُّنيا دخلتْ جوابَها الفاءُ بخلافِ الثانِي وعَنْ علي رضي الله عنه أنَّه تصدقَ أبُو بكرٍ رضيَ الله عنْهُ بمالِه فلامَهُ جمعٌ من المسلمينَ فنزلتْ وقولُه تعالَى

37

{والذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم} أي الكبائر من هذا الجنس {والفواحش وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} معَ ما بعدَهُ عطفٌ على الذينَ آمنُوا أو مدحٌ بالنصبِ أو الرفعِ وبناءُ يغفرونَ على الضميرِ خبراً لهُ للدلالةِ على أنَّهم الأَخِصَّاءُ بالمغفرةِ حالَ الغضبِ لعزةِ منالِها وقُرِىءَ كبيرَ الإثمِ وعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما كبيرُ الإثمِ الشركُ

38

{والذين استجابوا لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصلاة} نزلَ في الأنصارِ دعاهم رسول الله صلى الله لعه سوم اى الإمان فاستجابُوا له {وَأَمْرُهُمْ} شورى بَيْنَهُمْ أي ذُو شُورى لا ينفردونَ برأيٍ حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليها وكانُوا قبلَ الهجرةِ وبعدَهَا إذا حزبَهُم أمرٌ اجتمعُوا وتشاورُوا {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} أيْ فِي سبيلِ الخيرِ وَلعلَّ فصلَهُ عن قرينِه بذكرِ المشاورةِ لوقوعِها عند اجتماعِهم للصلواتِ

39

{والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى هُمْ يَنتَصِرُونَ} أي ينتقمونَ ممَّنْ بَغَى عليهِم على ما جعلَهُ الله تعالَى لهُم كراهةً التذللِ وهو وصفٌ لهم بالشجاعةِ بعدَ وصفِهم بسائرِ مُهمَّاتِ الفضائلِ وهَذَا لا ينافِي وصفَهُم بالغُفرانِ فإنَّ كلاًّ منهما فضيلةٌ محمودةٌ في موقعِ نفسهِ ورذيلةٌ مذمومةٌ في موقعِ صاحبهِ فإنَّ الحِلْمَ عن العاجر وعوراءِ الكرامِ محمودٌ وعن المتغلب ولغواء اللثام مذمومٌ فإنَّه إغراءٌ على البَغِي وعليهِ قولُ مَنْ قالَ ... إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الكَرِيْمَ مَلَكْتَه ... وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمرَّدَاً ... فَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِعِ السَّيفِ بالعُلا ... مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَى ... وقولُه تعالَى

40

{وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} بيانٌ لوجهِ كونِ الانتصارِ من الخصالِ الحميدةِ مع كونِه في نفسِه إساءةً إلى الغيرِ بالإشارةِ إلى أنَّ البادىءَ هُو الذي فعلَهُ لنفسهِ فإنَّ الأفعالَ مستتبعة لأجزئتها حتما إن خيرا فخيرا وإنْ شراً فشرٌّ وفيه تنبيهٌ على حُرْمةِ التعدِّي وإطلاقُ السيئةِ على الثانيةِ

45 4 { لأنَّها تسوءُ مَنْ نزلتْ بهِ {فَمَنْ عَفَا} عنِ المسيءِ إليهِ {وَأَصْلَحَ} بينَهُ وبينَ مَنْ يعاديهِ بالعفوِ والإغضاءِ كَما في قولِه تعالى فَإِذَا الذى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حيم {فَأَجْرُهُ عَلَى الله} عِدَةٌ مُبهمةٌ منبئةٌ عن عظمِ شأنِ الموعودِ وخُروجِه عن الحدِّ المعهودِ {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين} البادئينَ بالسيئةِ والمعتدين في الانتقامِ

41

{وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي بعدَ ما ظُلِمَ وقَدْ قُرِىءَ بهِ {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ باعتبارِ المَعْنى كَما أنَّ الضميرينِ لها بعتبار اللفظِ {مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ} بالمُعَاتبةِ أو المُعَاقبةِ

42

{إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس} يبتدئونَهُم بالإضرارِ أوْ يعتدونَ في الانتقامِ {وَيَبْغُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الحق} أيْ يتكبرونَ فيَها تجبُّراً وفساداً {أولئك} الموصوفونَ بما ذُكِرَ من الظُّلمِ والبغيِ بغيرِ الحقِّ {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بسببِ ظُلمهم وبغيِهم

43

{وَلَمَن صَبَرَ} على الأذَى {وَغَفَرَ} لِمَنْ ظلمَهُ وَلم ينتصرْ وفوَّضَ أمرَهْ إلى الله تعالى {إن فِى ذَلِكَ} الذي ذُكِرَ مِنَ الصبرِ والمغفرةِ {لَمِنْ عَزْمِ الأمور} أيْ إنَّ ذلكَ مِنْهُ فحذفَ ثقةً بغايةِ ظهورِه كَما في قولِهم السمنُ مَنَوانِ بدرهمٍ وهَذا في الموادِّ التي لا يُؤدِّي العفوُ إلى الشرِّ كَما أُشيرَ إليهِ

44

{وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ} من ناصرٍ يتولاَّهُ من بعدِ خِذلانه تعالى إيَّاهُ {وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} أيْ حينَ يرنه وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التحقق يعقلون {هَلْ إلى مَرَدّ} أيْ إلى رجعةٍ إلى الدُّنيا {مّن سَبِيلٍ} حَتَّى نُؤمنَ ونعملَ صالحاً

45

{وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} أيْ على النار المدلول علهيا بالعذابِ والخطابُ في الموضعينِ لكلِّ مَنْ يتأتَّى منْهُ الرؤيةُ {خاشعين مِنَ الذل} متذلليين مُتضائلينَ مِمَّا دهاهُم {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ} أي يبتدىءُ نظرُهم إلى النَّارِ من تحريكٍ لأجفانِهم ضعيفٍ كالمصبورِ ينظرُ إلى السيفِ {وقال الذين آمنوا إِنَّ الخاسرين} أي المتصفينَ بحقيقةِ الخُسرانِ {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} بالتعريضِ للعذابِ الخالدِ {يَوْمُ القيامة} إِمَّا ظرفٌ لخسِرُوا فالقولُ في

49 47 الدنيال أوْ لقالَ فالقولُ يومَ القيامةِ أي يقولونَ حينَ يَرَونهم على تلك الحالِ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على تحققهِ وقولُه تعالى {إَّلا أَن الظالمين فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ} إمَّا من تمامِ كلامِهم أو تصديقٌ منَ الله تعالى لَهُم

46

{وَمَا كَانَ لَهُمْ من أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم} برفعِ العذابِ عنُهم {مِن دُونِ الله} حسبما كانِوا يرجُون ذلكَ في الدُّنيا {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا له من سَبِيلٍ} يُؤدِّي سلوكُه إلى النجاةِ

47

{استجيبوا لِرَبّكُمْ} إذا دعاكُم إلى الإيمانِ على لسانِ نبيِّهِ {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله} أيْ لا يردُّه الله بعدَ ما حَكَم بهِ على أنَّ مِنْ صلةُ مردَّ أو مِنْ قَبْلِ أَن يأتيَ منَ الله يومٌ لا يُمكنُ رَدُّه {مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ} أي مفرَ تلتجئونَ إليهِ {وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ} أى إنكاره لَما اقترفتمُوه لأنَّه مدونٌ في صحائف أعمالهكم وتشهد عليكم جوار حكم

48

{فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} تلوينٌ للكلامِ وصرفٌ له عن خطابِ الناسِ بعدَ أمرِهم بالاستجابةِ وتوجيهٌ لهُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أي فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدوعهم إليه فما أرسلناك رقيباً ومحاسباً عليهم {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغُ} وقد فعلتَ {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} أي نعمةً منَ الصحةِ والغنَى والأمنِ {فَرِحَ بِهَا} أُريد بالإنسانِ الجنس لقولِه تعالَى {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} أي بلاءٌ من مرضٍ وفقرٍ وخوفٍ {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ} بليغُ الكفرِ ينسى النعمةَ رأساً ويذكرُ البليةَ ويستعظمُها ولا يتأملُ سبَبَها بلْ يزعُم أنها أصابتْهُ بغيرِ استحقاقٍ لها وإسنادُ هذه الخصلةِ إلى الجنسِ مع كونِها من خواصِّ المجرمينَ لغلبتِهم فيما بينَ الأفرادِ وتصديرُ الشرطيةِ الأولى بإذَا معَ إسنادِ الإذاقةِ إلى نونِ العظمةِ للتنبيهِ على أنَّ إيصالَ النعمةِ محققُ الوجودِ كثيرُ الوقوعِ وأنَّه مُقْتضى الذاتِ كما أنَّ تصديرَ الثانيةِ بإِنْ وإسنادَ الإصابةِ إلى السيئةِ وتعليلَها بأعمالِهم للإيذانِ بنُدرةِ وقوعِها وأنَّها بمعزلٍ عن الانتظامِ في سلكِ الإرداة بالذاتِ ووضعُ الظاهرِ موضعَ الضميرِ للتسجيلِ على أن هذا الجنسَ موسومٌ بكفرانِ النعم

49

{لله ملك السماوات والأرض} فمن قضيَّتِه أنْ يملكَ التصرفَ فيهما وفي كلِّ ما فيهما كيفما يشاءُ ومن جُمْلتِه أن يقسمَ النعمةَ والبليةَ حسبما يريدُه {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} مما تَعلمُه وَممَّا لاَ تعلمُه {يَهَبُ لِمَن يَشَاء إناثا} من الأولادِ {وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذكور}

51 50 منهُم منْ غيرِ أنْ يكونَ في ذلكَ مدخلٌ لأحد

50

{أَوْ يُزَوّجُهُمْ} أي يقرن بين الصنفينِ فيهبهما جميعاً {ذُكْرَاناً وإناثا} قالُوا مَعْنى يُزوِّجَهُم أنْ تَلِدَ غُلاماً ثم جَارِيةً أو جارية ثمَّ غُلاماً أو تلدُ ذكر وأُنْثى توأمينِ {وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً} والمَعْنى يجعلُ أحوالَ العبادِ في حقِّ الأولادِ مختلفةً على ما تقتضيِه المشيئةُ فيهن فيهبُ لبعضٍ إمَّا صنفاً واحداً من ذَكَرٍ أَوْ أنثى وإمَّا صنفينِ ويُعقمُ آخرَين ولعلَّ تقديمَ الأناثِ لأنَّها أكثر لتكثير النسل أو لان مساقَ الآيةِ للدلالةِ على أنَّ الواقعَ ما تتعلقُ به مشيئته تعالى لا ما تتعلقُ به مشيئة الإنسانِ والإناثُ كذلكَ أو لأنَّ الكلامَ في البلاءِ والعربُ تعدُّهنَّ أعظمَ البَلاَيا أو لتطييبِ قلوبِ آبائِهنَّ أو للمحافظةِ على الفواصلِ ولذلكَ عرَّفَ الذكورَ أو لجبرِ التأخيرِ وتغييرُ العاطفِ في الثالث لان قسيمُ المشتركِ بينَ القسمينِ ولا حاجة إليه في الرابع لإفصاحه بأنه قسيم المشترك بين القسام المتقدمةِ وقيلَ المرادُ بيانُ أحوالِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ حيثُ وهبَ لشعيبَ ولوطٍ إناثاً ولإبراهيمَ ذكوراً وللنبيِّ صلى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاً وجعلَ يحيى وعيسى عقيمينِ {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} مبالغٌ في العلمِ والقدرةِ فيفعلُ ما فيهِ حكمة مصلحة

51

{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} أيْ وما صَحَّ لفردٍ من أفراد البشرِ {أَن يُكَلّمَهُ الله} بوجةٍ منِ الوجوهِ {إِلا وَحْياً} أيْ إلاَّ بأنْ يُوحيَ إليهِ ويلهمَهُ ويقذفَ في قلبهِ كما أَوْحى إلى أمِّ مُوسى وإلى إبراهيمَ عليهما السَّلامُ في ذَبْحِ ولدهِ وقَدْ رُويَ عن مجاهدٍ أَوْحَى الله الزبورَ إلى داودَ عليهِ السَّلامُ في صدرِه أو بأنْ يُسمعَهُ كلامَهْ الذي يخلُقه في بعضِ الأجرامِ من غيرِ أنْ يبصر السامع مَنْ يكلمُه وهُو المرادُ بقولِه تعالى {أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ} فإنه تمثيلٌ له بحالِ الملكِ المحتجبِ الذي يكلِّمُ بعضَ خواصِّهِ من وراءِ الحجاب يُسمعُ صوتَهُ ولا يَرَى شخصَهُ وذلكَ كما كلَّم مُوسى وكما يكلِّمُ الملائكةَ عليهم السَّلامُ أو بأنْ يكلمَهُ بواسطةِ المَلَكِ وذلكَ قولُه تعالى {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً} أي مَلَكاً {فَيُوحِىَ} ذلكَ الرسولُ إلى المرسلِ إليهِ الذي هو الرسولُ البشَريُّ {بِإِذْنِهِ} أي بأمرِه تعالَى وتيسيرِه {مَا يَشَاء} أنْ يوحيَهُ إليهِ وهَذا هو الذي يَجْري بينَهُ تعالَى وبينَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ في عامَّةِ الأوقاتِ من الكلامِ وقيلَ قولُه تعالى وحياً وقولُه تعالى أو يرسلَ مصدرانِ واقعانِ موقع الحال قوله تعالى أَوْ مِن وراء حجابٍ ظرفٌ واقعٌ موقعَها والتقديرُ وما صَحَّ أن يكلمَ إلا مُوحياً أو مُسمعاً من وراءِ حجابٍ أو مُرسلاً وقُرِىءَ أو يرسلُ بالرفعِ على إضمار مبتدأٍ ورُويَ أنَّ اليهودَ قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ألا تكلمَ الله وتنظرَ إليهِ إنْ كنتَ نبياً كما كلمت مُوسى ونظرَ إليهِ فإنَّا لن نؤمنَ حتَّى تفعلَ ذلكَ فقالَ عليهِ السَّلامُ لم ينظر موسى عليه السلام إِلَى الله تَعَالَى فنزلتْ وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها من زَعَمَ أنَّ محمداً رأى ربَّه فقدْ أعظمَ على الله الفريةَ ثم قالتْ رضيَ الله عْنُها

53 5 { أو لم تسمعُوا ربَّكُم يقولُ فتلتْ هَذِهِ الآيةَ {إِنَّهُ عَلِىٌّ} متعالٍ عن صفاتِ المخلوقينَ لا يتأتَّى جَرَيانُ المفاوضةِ بينَهُ تعالى وبينَهم إلا بأحدِ الوجوهِ المذكورةِ {حَكِيمٌ} يُجْري أفعالَهُ على سُنَنِ الحكمةِ فيكلمُ تارةً بواسطةٍ وأُخرى بدونِها إمَّا إلهاماً وإما خطاباً

52

{وكذلك} أيْ ومثلَ ذلكَ الإيحاءِ البديعِ {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا} هو القرآنُ الذي هو للقلوب بمنزلةِ الروحِ للأبدانِ حيثُ يُحيَيها حياةً أبديةً وقيلَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ ومَعْنى إيحائِه إليهِ عليهما السَّلامُ إرسالُه إليهِ بالوحي {مَا كُنتَ تَدْرِى} قبلَ الوَحي {مَا الكتاب} أيْ أيُّ شيءٍ هُو {وَلاَ الإيمان} أيْ الإيمانُ بتفاصيلِ ما في تضاعبف الكتابِ من الأمورِ التي لا تهتدِي إليهَا العقولُ لا الإيمانُ بما يستقلُّ به العقل والنظر عليه فإنَّ درايتَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ له مما لا ريبَ فيهِ قطعاً {ولكن جعلناه} أي الرُّوحَ الذي أوحيناهُ إليكَ {نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء} هدايتَهُ {مّنْ عِبَادِنَا} وهُو الذي يصرف اختيارَهُ نحو الاهتداءِ بهِ وقولُه تعالَى {وَإِنَّكَ لَتَهْدِى} تقريرٌ لهدايتهِ تعالى وبيانٌ لكيفيتِها ومفعولُ لتهدِي محذوفٌ ثقةً بغايةِ الظهورِ أى وأنك لتهدِي بذلكَ النورِ من نشاءُ هدايَتهُ {إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ} هو الإسلامُ وسائرُ الشرائعِ والأحكامِ وقُرِىءَ لتُهدَى أي لَيَهديكَ الله وقُرِىءَ لتدعوا

53

{صراط الله} بدلٌ من الأولِ وإضافتُه إلى الاسمِ الجليلِ ثمَّ وصفُه بقولِه تعالَى {الذى لَهُ مَا في السماوات وَمَا فِي الأرض} لتفخيمِ شأنِه وتقريرِ استقامتِه وتأكيدِ وجوبِ سلوكِه فإنَّ كونَ جميع ما فيها من الموجوداتِ له تعالى خَلْقاً ومِلْكاً وتصرُّفاً مما يوجبُ ذلكَ أتمَّ إيجابٍ {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} أى أمرو ما فيهما قاطبةً لا إلى غيرِه ففيهِ من الوعدِ للمهتدينَ إلى الصراطِ المستقيمِ والوعيدِ للضالينَ عنه ملا يخفى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قرأَ سورةَ حم عسق كانَ ممَّن تُصلِّي عليهِ الملائكةُ ويستغفرونَ ويسترحمونَ لهُ

الزخرف 4 { {بسم الله الرحمن الرحيم}

الزخرف

{حم} الكلامُ فيهِ كالذي مر في فاتحة سورة يس خَلاَ أنَّ الظاهرَ على تقديرِ اسميتِه كونُه اسماً للقُرآنِ لا للسورةِ كما قيل فإن ذلك مُخِلٌّ بجزالة النظمِ الكريم

2

{والكتاب} بالجرِّ على أنه مُقسمٌ بهِ إمَّا ابتداءً أو عطفاً عَلى حم على تقدير كونه مجرورا بإضمارِ باءِ القسمِ على أنَّ مدارَ العطفِ المغايرةُ في العنوان ومناط تكريم القسمِ المبالغةُ في تأكيدِ مضمونِ الجملةِ القَسَميةِ {المبين} أي البيِّنِ لمن أُنزلَ عليهم لكونِه بلغتِهم وعَلى أساليبِهم أو المبينِ لطريقِ الهُدى من طريقِ الضلالةِ الموضح لكل ما يُحتاج إليهِ في أبوابِ الديانةِ

3

{إنا جعلناه قرآنا عَرَبِيّاً} جوابٌ للقسمِ لكنْ لا على أنَّ مرجعَ التأكيدِ جعلُه كذلكَ كما قيلَ بلْ ما هُو غايتُه التي يُعربُ عنها قولُه تعالى {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} فإنَّها المحتاجةُ إلى التحقيقِ والتأكيدِ لكونِها منبئةً عن الاعتناءِ بأمرِهم وإتمام النعمةِ عليهم وإزاحةِ أعذارِهم أي جعنا ذلكَ الكتابِ قُرآناً عربياً لكي تفهمُوه وتحيطُوا بما فيهِ من النظمِ الرائقِ والمعنى الفائق وتقفوا على ما يتضمنه من الشواهدِ الناطقةِ بخروجِه عن طوقِ البشرِ وتعرفُوا حقَّ النعمةِ في ذلك وتنقطعَ أعذارُكم بالكليةِ

4

{وَإِنَّهُ فِى أُمّ الكتاب} أي في اللوحِ المحفوظِ فإنَّه أصلُ الكتبِ السماويةِ وقُرِىءَ إِمِّ الكتابِ بالكسرِ {لَدَيْنَا} أي عندنَا {لَّعَلّى} رفيعٌ القدرِ بينَ الكتبِ شريفٌ {حَكِيمٌ} ذُو حكمةٍ بالغةٍ أو محكمٌ وهُما خبرانِ لإنَّ وما بينهُمَا بيانٌ لمحلِّ الحكمِ كأنَّه قيلَ بعدَ بيانِ اتصافِه بما ذُكِرَ منَ الوصفينِ الجليلينِ هذا في أمِّ الكتابِ ولدينَا والجملةُ إمَّا عطف على الجمل المقسمِ عليها داخلةٌ في حُكمها ففي الإقسامِ بالقرآنِ على علوِّ قدرِه عندَهُ تعالَى براعةٌ بديعةٌ وإيذانٌ بأنَّه من عُلِّو الشأنِ بحيثُ لا يحتاجُ في بيان الى لاستشهاد عليهِ بالإقسامِ بغيرهِ بل هُو بذاتِه كافٍ في الشهادةِ على ذلكَ من حيثُ الإقسامُ بهِ كَما أنَّه كافٍ فيها من حيثُ إعجازُه ورمزٌ إلى أنَّه لا يخطرُ بالبالِ عند ذكره شيىء آخر أولى منه بالإقسامِ به وإمَّا مستأنفةٌ مقررةٌ لعلوِّ شأنِه الذي أنبأَ عنه الإقسامُ به على منهاجِ الاعتراضِ في قوله تعلى وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عظيم

5 10 وبعد ما بيَّنَ علوَّ شأنِ القرآنِ العظيمِ وحققَ أنَّ إنزالَهُ على لغتِهم ليعقلوه ويؤمنوا به ويعملوا بموجبِه عقَّبَ ذلكَ بإنكارِ أنْ يكونَ الأمرُ بخلافهِ فقيلَ

5

{أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر} أي ونُبعدُه عنكم مجازٌ من قولِهم ضربُ الغرائبِ عن الحوضِ وفيه إشعارٌ باقتضاءِ الحمكة توجُّهَ الذكر إليهم وملازمتَه لهم كأنَّه يتهافتُ عليهم والفاء للعطف على محذوفٍ يقتضيهِ المقامُ أي أنهملكُم فننحِّى الذكرَ عنكُم {صَفْحاً} أي إعراضاً عنكم على أنَّه مفعولٌ له للمذكورِ أو مصدرٌ مؤكدٌ لما دَلَّ هو عليهِ فإن التنحيةَ منبئةُ عن الصفحِ والإعراضِ قطعاً كأنَّه قيلَ أفنصفحُ عنكُم صفحاً أو بمَعْنى الجانبِ فينتصب على الطرفية أي أفننحيهِ عنكُم جانباً {أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ} أي لأنْ كنتُم منهمكينَ في الإسرافِ مصرِّينَ عليهِ عَلى مَعْنى إنَّ حالَكُم وإنِ اقتَضَى تخليتَكُم وشأنَكُم حتَّى تموتُوا على الكفرِ والضلالةِ وتبقوا في العذابِ الخالدِ لكنا لسعةِ رحمتِنا لا تفعل ذلكَ بلْ نهديكُم إلى الحقِّ بإرسالِ الرسولِ الأمينِ واتزال الكتاب المحبين وقرىء إن بالكسرِ على أنَّ الجملةَ شطريه مخرِجةٌ للمحققِ مُخرجَ المشكوكِ لاستجالهالهم والجزاءُ محذوفٌ ثقةً بدلالةِ ما قبلَهُ عليه وقولُه تعالَى

6

{وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ فِى الأولين} {وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نَّبِىّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤون} تقريرٌ لما قبلَه ببيانِ أنَّ إسرافَ الأممِ السالفةِ لم يمنعْهُ تعالى من إرسالِ الأنبياءِ إليهم وتسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزاءِ قومِه به وقوله تعالى

8

{فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً} أي من هؤلاء القوم المسرفينَ عِدَةٌ له عليهِ الصلااة والسَّلامُ ووعيدٌ لهم بمثلِ ما جَرَى على الأولينَ ووصفُهم بأشدِّيَّة البطشِ لإثباتِ حكمِهم لهؤلاءِ بطريقِ الأولويةِ {ومضى مَثَلُ الأولين} أي سلَف في القُرآنِ غيرَ مرةٍ ذكرُ قِصَّتِهم التي حقُّها أن تسيرَ مسيرَ المثلِ

9

{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} أي ليُسنِدُنَّ خلقَها إلى مَنْ هذا شأنُه في الحقيقةِ وفي نفسِ الأمرِ لا أنَّهم يُعبِّرونَ عنه بهذا العُنوانِ وسلوكُ هذه الطريقةِ للإشعارِ بأنَّ اتصافَهُ تعالى بَما سُردَ من جلائلِ الصفاتِ والأفعالِ وبما يستلزمُه ذلكَ من البعثِ والجزاءِ أمرٌ بينٌ لا ريب فيه وأن الحجةَ قائمةٌ عليهم شاؤُا أو أبَوا وقد جُوِّزَ أن يكونَ ذلك عينَ عبارتهم قوله تعالى

10

{الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} استئنافٌ من جهتِه تعالى أي بسَطَها لكُم تستقرُّونَ فيها {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} تسلكونَها في أسفارِكم {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}

أي لكيْ تهتدُوا بسلوكِها إلى مقاصدِكم أو بالتفكُّر فيها بالتوحيد الذي هو المقصد الأصلي

11

{والذى نَّزَّلَ مِنَ السماء مَاء بِقَدَرٍ} بمقدارٍ تقتضيه مشيئتُه المبنيةُ على الحكم والمصالحِ {فَأَنشَرْنَا بِهِ} أي أحيينَا بذلكَ الماءِ {بَلْدَةً مَّيْتاً} خالياً عن النماءِ والنباتِ بالكُلِّيةِ وقُرِىءَ مَيِّتَا بالتشديدِ وتذكيرُه لأنَّ البلدةَ في مَعْنى البلدِ والمكانِ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإظهارِ كمالِ العنايةِ بأمرِ الإحياءِ والإشعارِ بعِظَمِ خطرِه {كذلك} أي مثلَ ذلك الإحياءِ الذي هو في الحقيقةِ إخراجُ النباتِ منَ الأرضِ {تُخْرَجُونَ} أي تُبعثونَ من قبورِكم أحياءً وفي التعبيرِ عنْ إخراجِ النباتِ بالإنشارِ الذي هُو إحياءُ الموتى وعن إحيائها بالإخراجِ تفخيمٌ لشأنِ الإنباتِ وتهوينٌ لأمر البعث لتقويمِ سننِ الاستدلالِ وتوضيحِ منهاجِ القياسِ

12

{والذى خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا} أي أصنافَ المخلوقاتِ وعن ابن عباس رضي الله عنهُمَا الأزواجُ الضروبُ والأنواعُ كالحُلو والحامضِ والأبيضِ والأسودِ والذكور والأُنْثى وقيلَ كلُّ ما سوى الله تعالى فو زوجٌ كالفوقِ والتحتِ واليمينِ واليسار إلى غيرِ ذلكَ {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} أي ما تركبونَهُ تغليباً للأنعامِ على الفلكِ فإن الركوبَ متعدٍ بنفسهِ واستعمالُه في الفُلكِ ونحوِها بكلمةِ فِي الرمز الى مكانتها وكونِ حركتِها غيرَ إراديةٍ كما مر في سورة هودٍ عندَ قولِه تعالَى وقال اركبوا فِيهَا

13

{لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} أي لتستعلُوا على ظهورِ ما تركبونَهُ من الفُلكِ والأنعامِ والجمعُ باعتبارِ المَعْنى {ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ} أي تذكرُوها بقلوبِكم معترفينَ بها مستعظمينَ لها ثم تحمَدوا عليها بألسنتِكم {وَتَقُولُواْ سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا} مُتعجِّبينَ من ذلكَ كمَا يُروي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه كانَ إذا وضعَ رجلَهُ في الركابِ قال بسم الله فإذَا استوَى على الدابةِ قال الحمدُ لله على كلِّ حالٍ سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هَذا إلى قولِه تعالى لمنقلبونَ وكبَّر ثلاثاً وهللَّ ثلاثاً {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي مُطيقينَ من أقرنَ الشيءَ إذا أطاقَهُ وأصلُه وجدُه قرينتَه لأن الصعْبَ لا يكونُ قرينةً للضعيفِ وقُرِىءَ بالتشديدِ والمَعْنى واحدٌ وهذا من تمامِ ذكر معمته تعالى إذ بدونِ اعترافِ المنعمِ عليه بالعجزِ عن تحصيلِ النعمةِ لا يعرفُ قدرَها ولا حق المنعمِ بها

14

{وَإِنَّا إلى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ} أي راجعونَ وفيهِ إيذانٌ بأنَّ حقَّ الراكبِ أنْ يتأملَ فيما يُلابسُه من المسيرِ ويتذكَر منه المسافرةَ العُظْمى التي هيَ الانقلابُ إلى الله تعالى فيبنِى أمورَهُ في مسيرِه ذلكَ على تلكَ الملاحظةِ ولا بخطر ببالِه في شيءٍ

} 8 15 مما يأتى ويتذر أمراً ينافيها ومن ضرورتِه أن يكون ركوبُه لأمرٍ مشروعٍ

15

{وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} متصلٌ بقولِه تعالى ولئِن سألتَهُم الخ أيْ وقد جعلُوا له سبحانَهُ بألسنتهم واعتقادهم بعد ذلك الاعترافِ من عبادِه ولداً وإنَّما عبَّر عنهُ بالجُزءِ لمزيدِ استحالتهِ في حقِّ الواحدِ الحقِّ من جميعِ الجهاتِ وقُرِىءَ جُزُؤا بضمَّتينِ {إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} ظاهرُ الكُفرانِ مبالغٌ فيهِ ولذلك يقولونَ ما يقولونَ سبحان الله عما يصفون

16

{أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} أَمْ منقطعةٌ وما فيَها من معنى بل للانتقالِ من بيانِ بطلانِ جَعْلِهم لهُ تعالى ولداً على الإطلاقِ إلى بيانِ بُطلانِ جعلِهم ذلكَ الولدَ من أخسَّ صنفيهِ والهمزةُ للإنكار والتوبيخ والتعجب من شأنِهم وقولُه تعالى {وأصفاكم بالبنين} غما عطفٌ على اتخذَ داخلٌ في حُكْمِ الإنكارِ والتعجيبِ الخلافِ المشهورِ والالتفاتُ إلى خطابِهم لتأكيدِ الإلزامِ وتشديدِ التوبيخ أى بل انخذ من خلقه أخس أو حالٌ من فاعلِه بإضمار قد أو بدونه على الصنفين وختار لكم أفضلَهُما على مَعْنى هَبُوا أنكم اجترأتُم على إضافةِ اتخاذِ جنسِ الولدِ إليه سُبحانَهُ مع ظهورِ استحالتِه وامتناعِه أما كانَ لكم شيءٌ من العقلِ ونُبذٌ من الحياءِ حتى اجترأتُم على التفوهِ بالعظيمةِ الخارقةِ للعقولِ من ادعاءِ أنَّه تعالى آثركُم على نفسِه بخيرِ الصنفينِ وأعلاهُما وتركَ له شرَّهُما وأدناهُما وتنكير بنات وتعريف البنن لتربيةِ ما اعتُبر فيهما من الحقارةِ والفخامةِ

17

{وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً} الخ استئنافٌ مقررٌ لِمَا قبله وقيلَ حالٌ على مَعنْى أنهم نسبوا إإليه ما ذكرو ومن حالِهم أنَّ أحدَهُم إذَا بُشِّرَ بهِ اغتمَّ والالتفاتُ للإيذانِ باقتضاءِ ذكرِ قبائحِهم أنْ يُعرضَ عنهم وتُحكَى لغيرِهم تعجيباً منها أيْ إذَا أخبرَ أحدُهم بولادةِ ما جعلَه مثلاً له سُبحانَه إذِ الولدُ لابد أنْ يجانسَ الوالدَ ويماثلَهُ {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} أي صارَ أسودَ في الغايةِ مِن سُوء مَا بُشّرَ به {وَهُوَ كَظِيمٌ} مملوءٌ من الكربِ والكآبةِ والجملةُ حالٌ وقُرِىءَ مُسودُّ ومُسوادٌّ على أنَّ في ظَلَّ ضميرُ المبشِّرِ ووجهُهُ مسودٌّ جملةٌ وقعتْ خبراً لهُ

18

{أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى الحلية} تكرير للإنكار تثنية للتوبيخِ ومَنْ منصوبةٌ بمضمرِ معطوفٍ على جعلُوا أي أو جعلُوا مَنْ شأنُهُ أنْ يُربَّى في الزينةِ وهو عاجر عن أن يتولى لأمره بنفسهِ فالهمزةُ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه وقد جُوِّزَ انتصابُها بمضمرٍ معطوفٍ على اتخذَ فالهمزةُ حينئذٍ لإنكارِ الوقوعِ واستبعادِه وإقحامُها بين المعطوفينِ لتذكيرِ ما في أمِ منقطعة من الإنكارِ وتأكيدهِ والعطفُ للتغاير العنوان أيْ أوَ اتخذَ من هذهِ الصفةِ الذميمةِ صفتَهُ {وَهُوَ} مع ما ذُكِرَ من القصورِ {فِى الخصام} أي الجدالِ الذي لا يكادُ يخلُو عنه الإنسانُ في العادةِ {غَيْرُ مُبِينٍ} غيرُ قادرٍ على تقريرِ دعواهُ وإقامةِ حُجَّتِه لنقصانِ عقلِه وضعفِ رأيه وإضافةُ غيرُ لا تمنعُ عملَ ما بعدَهُ في الجارِّ المتقدمِ لأنَّه بمعْنى النَّفي وقُرِىءَ

} 2 19 ينُشأُ ويُنَاشَأُ من الإفعالِ والمفاعلةِ والكلُّ بمَعْنى واحدٍ ونظيرُه غَلاهُ وأغلاهُ وغالاهُ

19

{وجعلوا الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا} بيان لتضمين كفرِهم المذكورِ لكفرٍ آخرَ وتقريعٌ لهم بذلكَ وهو جعلُهم أكملَ العبادِ وأكرمَهم على الله عزَّ وجلَّ أنقصَهُم رأياً وأخسَّهُم صِنفاً وقُرِىءَ عبيدُ الرحمنِ وقُرِىءَ عند الرحمن على تمثيل زلفاهم وقرىء أُنُثاً وهُو جمعُ الجمعِ {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ} أي أحضرُوا خلقَ الله تعالى إيَّاهم فشاهدُوهم إناثاً حتى يحكموا بأنوثتِهم فإنَّ ذلكَ مما يُعلم بالمشاهدةِ وهو تجهيلٌ لهُم وتهكُّمٌ بهم وقُرِىءَ أَأَشهِدُوا بهمزتينِ مفتوحةٍ ومضمومه وآأشهدوا بألف بينهما {سَتُكْتَبُ شهادتهم} هذه في ديوان أعمالهم {ويسألون} عنها يومٍ القيامةِ وقُرِىءَ سيكتب وسنكتب بالياء اوالنون وقُريَء شهاداتُهم وهيَ قولُهم إن لله جزاء وإن له بناتٍ وأنها الملائكة وقرىء يسألون من المسألة للمبالغةِ

20

{وَقَالُواْ لَوْ شَاء الرحمن مَا عبدناهم} بيانٌ لفنٍ آخرَ من كُفرِهم أيْ لو شاءَ عدمَ عبادتِنا للملائكةِ مشيئَةَ ارتضاءٍ ما عبدناهُم أرادُوا بذلكَ بيانَ أنَّ ما فعلُوه حقٌّ مرضيٌّ عندَهُ تعالى وأنَّهم إنَّما يفعلُونه بمشيئتهِ تعالى إياه منهُم مع اعترافِهم بقبحهِ حتى ينتهضَ ذمُّهم به دليلاً للمعتزلةِ ومَبْنى كلامِهم الباطلِ على مقدمتينِ إحداهُما أنَّ عبادتَهُم لهم بمشيئتهِ تعالى والثانيةُ أنَّ ذلكَ مستلزمٌ لكونِها مرضيةً عندَهُ تعالَى ولقد أخطأُوا في الثانيةِ حيث جهلُوا أن المشيئةَ عبارةٌ عن ارجيح بعضِ الممكناتِ على بعضٍ كائناً ما كانَ منْ غير اعتبار الرضا أو السخط في شيءٍ من الطرفينِ ولذلكَ جُهِّلُوا بقولِه تعالى {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ} أي بما أرادُوا بقولِهم ذلكَ من كونِ ما فعلُوه بمشيئته الارتضاءِ لا بمطلقِ المشيئةِ فإنَّ ذلكَ محققٌ ينطقُ بهِ ما لا يُحصَى من الآياتِ الكريمةِ {مِنْ عِلْمٍ} يستندُ إلى سندٍ مَا {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} يمتحلون تمحلون باطلاً وقد جُوِّزَ أنْ يشر بذلكَ إلى أصلِ الدعوى كأنَّه لما أظهرَ وجوه فسادِها وحكى شُبهَهم المزيفةَ نَفَى أن يكونَ لهم بها علمٌ مِن طريقِ العقلِ ثم أضربَ عنه إلى إبطالِ أن يكونَ لهم سندٌ من جهةِ النقل فقيل

21

{أم آتيناهم كتابا مِن قَبْلِهِ} من قبلِ القُرآنِ أو من قبلِ ادعائِهم ينطقُ بصحةِ ما يدَّعُونَهُ {فَهُم بِهِ} بذلكَ الكتابِ {مُسْتَمْسِكُونَ} وعليهِ معوّلونَ

22

{بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا آباءنا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثارهم مُّهْتَدُونَ} أي لم يأتُوا بحجة عقلية أو نقليةٍ بل اعترفُوا بأن لا سندَ لهم سوى تقليدِ آبائِهم الجهلةِ مثلِهمْ والأمةُ الدينُ والطريقةُ التي تأم أي تُقصدُ كالرُّحلةِ لما يُرحلُ إليهِ وقُرِىءَ إمةٍ بالكسرِ وهي الحالةُ التي يكونُ عليها الآمُّ أي القاصدُ وقولُه تعالى على آثارهم مهتدون خبران والظرفُ صلةٌ لمهتدونَ

} 7 2 {

23

{وكذلك} أي والأمرُ كما ذُكِرَ منْ عجزِهم عن الحجةِ وتشبّثهم بذيلِ التقليدِ وقولُه تعالَى {مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثارهم مُّقْتَدُونَ} استئنافٌ مبينٌ لذلكَ دال على التقليدَ فيما بينُهم ضلالٌ قديمٌ ليسَ لأسلافِهم أيضاً سندٌ غيرُه وتخصيصُ المُترفينَ بتلكَ المقالةِ للإيذانِ بأن التنعمَ وحبّ البطالةِ هو الذي صَرَفهُم عن النظرِ إلى التقليدِ

24

{قَالَ} حكايةٌ لِمَا جَرى بينَ المنذرينَ وبينَ أُممهم عندَ تعللهم بتقليدِ آبائِهم أي قالَ كلُّ نذيرٍ منِ أولئكَ المنذرينَ لأممِهم {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ} أي أتقتدونَ بآبائِكم ولو جئتُكم {بأهدى} بدينٍ أَهدْى {مِمَّا وَجَدتُّمْ عليه آباءكم} من الضلالةِ التي ليستْ من الهدايةِ في شيءٍ وإنما عبر عنها بذلكَ مجاراةً معهم على مسلكِ الإنصاف وقرىء قل على أنَّه حكايةُ أمرٍ ماضٍ أُوحيَ حينئذٍ إلى كلِّ نذيرٍ لا على انه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم كما قيل لقولِه تعالى {قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون} فإنَّه حكايةٌ عن الأمم قطعا أى قال كلُّ أمةٍ لنذيرِها إنَّا بما أرسلت به الاخ وقد أجملَ عندَ الحكايةِ للإيجاز كما مر في قوله تعالى يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات وجعلُه حكايةً عن قومِه عليه الصَّلاةُ والسلامُ بحمل صيفة الجمعِ على تغليبِه على سائرِ المنذرينَ عليهم السَّلامُ وتوجيُه كفرِهم إلى مَا أرسلَ به الكُلُّ من التوحيدِ لإجماعِهم عليهِ كما في نظائرِ قولِه تعالى كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين تمحُّلٌ بعيدٌ يردُّه بالكلِّيةِ قولُه تعالى

25

{فانتقمنا مِنْهُمْ} أي بالاستئصالِ {فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين} من الأمم المذورين فلا تكترثْ بتكذيبِ قومِكَ

26

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمَ} أي واذكُرْ لهم وقتَ قولِه عليه الصلاة والسلام {لأبيه وَقَوْمِهِ} المُكبِّينَ على التقليدِ كيفَ تبرأَ ممَّا هم فيهِ بقولِه {إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ} وتمسكَ بالبرهانِ ليسلكُوا مسلكَهُ في الاستدلالِ أو ليقلدوه إن لم يكُن لهم بدٌّ من التلقيد فإنه أشرفُ آبائِهم وبَراءٌ مصدرٌ نُعتَ به مبالغة ولذلك يتسوى فيه الواحد والمتعدد والمذكور والمؤنثُ وقُرِىءَ بَرِيءٌ وبُرَاءٌ بضمِّ الباءِ ككريمٍ وكرامٍ وما إما مصدريةٌ أو موصولةٌ حذف عائدها الى إننِي بريءٌ من عبادتِكم أو معبودِكم

27

{إِلاَّ الذى فَطَرَنِى} استثناءٌ منقطعٌ أو متصلٌ على أنَّ مَا تعمُّ أولي العلم وغيرهم وأنَّهم كانُوا يعبدونَ الله والأصنامَ أو صفةٌ على أن مَا موصوفةٌ أي إنني براءٌ من آلهةٍ تعبدونَها غيرَ الذي فَطَرني {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} أي سيثبتنِي على الهدايةِ أو سيهدينِ إلى ما وراءَ الذي

} 1 28 هَدَاني إليهِ إلى الآنَ والأوجهُ أنَّ السينَ للتأكيدِ دون التسويق وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرارِ

28

{وَجَعَلَهَا} أي جعلَ إبراهيمُ كلمةَ التوحيدِ التي ما تكلمَ به عبارةٌ عنْهَا {كَلِمَةً باقية فِى عَقِبِهِ} أي في ذريتِه حيثُ وصَّاهُم بها كما نطقَ به قولُه تعالى ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ الآيةَ فلا يزالُ فيهم مَن يوحدُ الله تعالى ويدعُو إلى توحيدِه وقُرِىءَ كِلْمةً وفي عقْبهِ على التخفيفِ {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} علةٌ للجعل أى جعلها باقية في عقله رجاءَ أنْ يرجعَ إليها من أشرك منهم بدعاء الموحدِ

29

{بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَء} إضرابٌ عن محذوفٍ ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنَّه قيلَ جعلَها كَلِمَةً باقية فِى عَقِبِهِ بأنْ وصَّى بها بنيهِ رجاءَ أنْ يرجعَ إليها من أشرك منهم بدعاء الموحدِ فلم يحصلُ ما رجاهُ بل متعتُ منهم هؤلاء المعاصرين للرسول صلى الله عليه سولم من أهل مكة {وآباءهم} بالمدِّ في العمرِ والنعمةِ فاغترُّوا بالمهلةِ وانهمكُوا في الشهواتِ وشُغلوا بها عنْ كلمةِ التوحيدِ {حتى جَاءهُمُ} أي هؤلاءِ {الحق} أي اقرآن {وَرَسُولٌ} أيُّ رسولٍ {مُّبِينٌ} ظاهر الرسالة واضحها بامعجزات الباهرة أو مبين لتوحيد بآيات البيناتِ والحججِ وقُرِىءَ متَّعنَا ومتَّعتَ بالخطابِ على إنَّه تعالى اعترضَ به على ذاته في قوله تعلى وَجَعَلَهَا كَلِمَةً باقية الخ مبالغة فى تعبيرهم فإن التمتيع بزيادةِ النعمِ يوجبُ عليهم أنْ يجعلُوه سبباً لزيادةِ الشكرِ والثباتِ على التوحيدِ والإيمانِ فجعلَه سبباً لزيادةِ الكفر أن أقصى مراتب الكفر والضلالة

30

{وَلَمَّا جَاءهُمُ الحق} لينبههَمُ عمَّا هُم فيهِ من الغفلةِ ويرشدَهُم إلى التوحيدِ ازدادُوا كفراً وعَتَوا وضمُّوا إلى كفرِهم السابقِ معاندةَ الحق ولاستهانة بهِ حيثُ {قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافرون} فسمَّوا القرآنَ سِحْراً وكفُروا به واسحقروا الرسول صلى الله عليه وسلم

31

{وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآنُ على رَجُلٍ مّنَ القريتينِ} أي من إِحْدَى القريتينِ مكةَ والطائفِ على نهجِ قولِه تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ {عظِيمٌ} أي بالجاهِ والمالِ كالوليدِ بنِ المغيرةَ المخزوميِّ وعروةَ بنِ مسعودٍ الثقفيِّ وقيلَ حبيبُ بنُ عُمرَ بنِ عمر الثقفي وعن مجاهد عيبة بنُ ربيعةَ وكنانةُ بنُ عبد ياليل ولم تفوهوا بهذه العظيمةِ حَسَداً على نزولِه الى رسول صلى الله عليه وسلم دونَ مَنْ ذُكر من عظمائِهم مع اعترافِهم بقرآنيتِه بل استدلالاً على عدمِها بمَعْنى أنَّه لو كانَ قرآنا لنزلَ إلى أحدِ هؤلاءِ بناءً على ما زعمُوا من أنَّ الرسالةَ منصبٌ جليلٌ لا يليقُ بهِ إلا مَنْ له جلالةٌ من حيثُ المالُ والجاهُ ولم يدرُوا أنَّها رتبةٌ روحانيةٌ لا يترقَّى إليَها إلا هممُ الخواصِّ المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتحلين بالفضائلِ الأنسيةِ وأما المتزخرفونَ باالزخارف الدنيوية المستمتعون بالحظوظ الدنية فهُم من استحقاقِ تلكَ الرتبةِ بألفِ منزلٍ

} 5 3 { وقولُه تعالى

32

{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ} إنكارٌ فيهِ تجهيلٌ لهم وتعجيبٌ من تحكمِهم والمرادُ بالرحمةِ النبوةُ {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ} أي أسبابَ معيشتِهم {فِى الحياة الدنيا} قسمة تقتضيَها مشيئتُنا المبنيةُ على الحِكم والمصالحِ ولم نفوضْ أمرَها إليهم علماً منا بعجزِهم عن تدبيرِها بالكُلِّيةِ {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ} في الرزقِ وسائرِ مبادِي المعاشِ {درجات} متفاوتة بحسبِ القُربِ والبُعدِ حسبَما تقتضيِه الحكمةُ فمنْ ضعيفٍ وقويَ وفقيرٍ وغنيَ وخادمٍ ومخدومٍ وحاكمٍ ومحكومٍ {لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} ليُصرِّفَ بعضُهم بعضاً في مصالحِهم ويستخدمُوهم في مهنهم ويتسخرُوهم في أشغالِهم حتَّى يتعايشُوا ويترافدُوا ويصلُوا إلى مرافقِهم لا لكمالٍ في المُوسعِ ولا لنقصٍ في المقتر ولو فرضنا ذلك الى تدبيرهم لضاعوا وهلكوا فإذا كانوا في تدبيرِ خُويِّصةِ أمرِهم وما يُصلِحُهم من متاعِ الدُّنيا الدنيئة وهو في طرف الثمام على هذه الحالةِ فما ظنُّهم بأنفسِهم في تدبيرِ أمرِ الدِّينِ وهو أبعدُ من مناطِ العَيُّوقِ ومنْ أينَ لهُم البحثُ عن أمرِ النبوةِ والتخيرُ لها مَنْ يصلُح لَها ويقومُ بامرها {ورحمة رَبّكَ} أي النبوةُ وما يتبعُها من سعادةِ الدارينِ {خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} من حُطام الدُّنيا الدنيئةِ الفانيةِ وقولِه تعالَى

33

{وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة} استئنافٌ مبينٌ لحقارةِ متاعِ الدُّنيا ودناءةِ قدرهِ عندَ الله عزَّ وجلَّ والمَعْنى أنَّ حقارةَ شأنِه بحيثُ لولا أنْ لا يرغبَ النَّاسُ لحبِّهم الدُّنيا في الكفرِ إذا رأَوا أهلَهُ في سَعةٍ وتنعمٍ فيجتمعُوا عليه لأعطيناهُ بحذافيرِه من هو شرُّ الخلائقِ وأدناهُم منزلةً وذلكَ قولُه تعالى {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ} أي متخَذةً منها ولبيوتِهم بدلُ اشتمالٍ منْ لِمَنْ وجمعُ الضميرِ باعتبارِ معنى من كما أن إِفرادَ المستكنِّ في يكفرُ باعتبارِ لفظِها والسُّقُفُ جمعُ سَقْفٍ كرُهُنٍ جمعُ رَهْنٍ وعن الفراء جمعُ سقيفةٍ كسفنٍ وسَفينةٍ وقُرِىءَ سُقْفَاً بسكونِ القافِ تخفيفا وسقف اكتافء بجمعِ البيوتِ وسَقَفاً كأنَّه لغةٌ في سقفٍ وسقوفاً {وَمَعَارِجَ} أي جعلَنا لهم معرج من فضةٍ أي مصاعدَ جمعُ معَرْجٍ وقُرِىءَ معاريَجِ جمع معراجٍ {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} أي يعلُون السطوحَ والعلاليَ

34

{وَلِبُيُوتِهِمْ} أي وجعلنَا لبيوتِهم {أبوابا وَسُرُراً} من فضةٍ {عَلَيْهَا} أي على السررِ {يتكؤون} ولعل تكريرَ ذكرِ بيوتهم لزيادةِ التقريرِ

35

{وَزُخْرُفاً} أي زينةً عطفٌ على سُقُفاً أو ذهباً عطف على 2 محل من فضةٍ {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَّتَاعَ الحياة الدنيا} أيْ وما

} 9 36 كُلُّ ما ذُكِرَ من البيوت الموصوفه المفصَّلةِ إلا شيءٌ يُتمتّع به فِي الحياة الدنيا وَفِي معناهُ ما قُرِىءَ ومَا كلُّ ذلكَ إلا متاعُ الحياةِ الدُّنيا وقُرِىءَ بتخفيفِ مَا عَلى أنَّ أنْ هيَ المخففةُ واللامُ هيَ الفارِقةُ وقُرِىءَ بكسرِ اللامِ على أنَّها لامُ العلةِ ومَا موصولةٌ قد حُذف عائدُها أي للذي هُو متاعُ الخ كما في قولِه تعالى تَمَامًا عَلَى الذى أَحْسَنَ {والأخرة} بما فيَها من فنونِ النعمِ التي يقصُر عنها البيانُ {عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ} أيْ عنِ الكفرِ والمعاصِي وبهذا تبينَ أنَّ العظيمَ هو العظيمُ في الآخرةِ لا في الدُّنيا

36

{وَمَن يَعْشُ} أيْ يتعامَ {عَن ذِكْرِ الرحمن} وهو القرآنُ وإضافتُه إلى اسمِ الرَّحمنِ للإيذانِ بنزولِه رحمةً للعالمينَ وقُرِىءَ يعشَ بالفتحِ أي يعمَ يقالُ عَشَى يعْشَى إذا كانَ في بصرِه آفةٌ وعشَا يعشُو إذا تَعشَّى بلا آفةٍ كعَرَج وعَرُج وقُرِىءَ يعشُو على من موصولة غير مضمنةٍ مَعْنى الشرطِ والمَعْنى ومَنْ يُعرضْ عنه لفرطِ اشتغالِه بزهرةِ الحياة الدُّنيا وانهماكه في حظوطها الفانيةِ والشهواتِ {نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} لا يفارقُه ولا يزالُ يوسوسُه ويُغويهِ وقُرِىءِ يُقيضْ بالياءِ على إسناده إلى ضميرِ الرحمنِ ومَنْ رفعَ يعشُو فحقُّه أنْ يرفعَ يقيضْ

37

{وَإِنَّهُمْ} أي الشياطينَ الذين قُيضَ كلُّ واحدٍ منهم لكلِّ واحدٍ مِمَّن يعشُو {لَيَصُدُّونَهُمْ} أي قرناءَهُم فمدارُ جمع الضميرين اعتار معنى مَنْ كما أن مدارَ إفرادِ الضمائرِ السابقةِ اعتبارُ لفظِها {عَنِ السبيل} المستبينِ الذي يدعُو إليه القرآنُ {وَيَحْسَبُونَ} أي العاشُونَ {أَنَّهُمْ} أي الشياطينَ {مُّهْتَدُونَ} أي إلى السبيلِ المستقيمِ وإلا لما اتبعوهُم أو يحسبونَ أنَّ أنفسَهُم مهتدونَ لأنَّ اعتقادَ كونِ الشياطينِ مهتدينَ مستلزمٌ لاعتقادِ كونِهم كذلكَ لاتحادِ مسلكِهما والجملةُ حالٌ من مفعولِ يصدونَ بتقديرِ المبتدأِ أو من فاعلِه أو منهُمَا لاشتمالِها على ضميريِهما أيْ وأنَّهم ليصدونُهم عن الطريقِ الحقِّ وهم يحسبونَ أنَّهم مهتدون إليهِ وصيغةُ المضارعِ في الأفعالِ الأربعةِ للدلالةِ على الاستمرار التجديدية لقوله تعالى

38

{حتى إِذَا جَاءنَا} فإنَّ حتَّى وإنْ كانتْ ابتدائيةً داخلةً على الجملةِ الشرطيةِ لكنَّها تقتضِي حتْمَاً أن تكونَ غايةً لأمرٍ ممتدَ كما مر مرار وإفرادُ الضميرِ في جاءَ وما بعَدُه لما أنَّ المرادَ حكايةُ مقالة كلِّ واحد واحد من العاشين لقرينه لتهويل الأمر وتفضيع الحال والمعنى يستمر العاشون على ما ذكر من مقارنة الشياطين والصدر والحُسبانِ الباطلِ حتَّى إذا جاءَنا كلُّ واحدٍ منهُم مع قرينهِ يومَ القيامةِ {قَالَ} مُخاطباً له {يَا لَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ} في الدُّنيا {بُعْدَ المشرقين} أي بعدَ المشرقِ والمغربِ أي تباعُدَ كلَ منهما عن الآخرِ فغلَّبَ المشرقَ وثنَّى وأُضيفَ البُعد إليهما {فَبِئْسَ القرين} أيْ أنتَ وقولُه تعالى

39

{وَلَن يَنفَعَكُمُ} الخ حكايةٌ لما سيقالُ لهم حينئذٍ من جهةِ الله عزَّ وجل توبيخا وتقريعاً أي لنْ ينفعَكُم {اليوم} أي يومَ القيامةِ

45 40 تمنّيكُم لمباعدتِهم {إِذ ظَّلَمْتُمْ} أي لأجلِ ظلمِكم أنفسَكم في الدُّنيا باتِّباعِكم إيَّاهُم في الكُفرِ والمَعَاصِي وقيلَ إذْ ظلمتُم بدلٌ منَ اليومَ أي إذْ تبينَ عندكُم وعندَ النَّاسِ جميعاً أَنكُم ظلمتُم أنفسَكُم في الدُّنيا وعليهِ قولُ منْ قالَ إذَا مَا انتسبنَا لم تلدني لئيمة أي تبينَ أنِّي لم تلدنِي لئيمةٌ بلْ كريمةٌ وقولُه تعالَى {أَنَّكُمْ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ} تعليلٌ لنفِي النفعِ أي لأنَّ حقكُم أنْ تشتركُوا أنتُم وقرناؤُكم في العذابِ كما كنتُم مشتركينَ في سببه في الدُّنيا ويجوزُ أنْ يُسندَ الفعلُ إليهِ لكن لا بمعنى لنْ ينفعَكم اشتراكُكم في العذابِ كما ينفعُ الواقعين في شدائدِ الدُّنيا اشتراكُهم فيها لتعاونِهم في تحملِ أعبائِها وتقسّمِهم لعنائِها لأنَّ لكل منهم مالا تبلغُه طاقتُه كما قيلَ لأنَّ الانتفاعَ بذلكَ الوجهِ ليسَ مما يخطرُ ببالِهم حتى يردَّ عليهم بنفيهِ بل بمَعْنى لن يحصل لكم التشفي يكون قرنائِكم معذبينَ مثلَكم حيثُ كنتُم تدعونَ عليهم بقولِكم ربنا آتهم ضعفين من العذاب ولعنهم لعنا كبيرا وقولكم فآتهم عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ النار ونظائرِهما لتتشفَوا بذلكَ كانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يبالغُ في المجاهدةِ في دعاءِ قومهِ وهُم لا يزيدونَ إلا غياً وتعامياً عما يشاهدونه في شواهدِ النبوةِ وتصامَّاً عما يسمعونَهُ من بيناتِ القُرآنِ فنزلَ

40

{أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِى العمى} وهو إنكارُ تعجيبٍ مِنْ أنْ يكونَ هو الذي يقدر على هدايتِهم وهم قد تمرَّنُوا في الكفر واستغرقوا في الضلالة بحيثُ صارَ ما بهم من العَشَى عمىً مقروناً بالصممِ {وَمَن كَانَ فِى ضلال مُّبِينٍ} عطفٌ على العمى باعتبا تغايرِ الوصفينِ ومدارُ الإنكارِ هو التمكنُ والاستقرارُ في اضلال المفرطِ بحيثُ لا ارعواءَ له منه لا توهُم القصورِ من قِبل الهادِي ففيهِ رمزٌ إلى أنَّه لا يقدرُ على ذلكَ إلا الله تعالَى وحدَهُ بالقسرِ والإلجاءِ

41

{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} أي فإنْ قبضناكَ قبلَ أنْ نُبصِّرك عذابَهم ونشفيَ بذلكَ صدركَ وصدورَ المؤمنينَ {فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ} لا محالةَ في الدينا والآخرةِ فَما مزيدةٌ للتأكيدِ بمنزلةِ لام القسمِ في أنَّها لا تفارقُ النونَ المؤكدة

42

{أو نرينك} الاذى {الذى وعدناهم} أيْ أو أردنا أنْ نُريكَ العذابَ الذي وعدناهُم {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ} بحيثُ لا مناصَ لهُم من تحتِ ملَكتِنا وقهرِنا ولقد أراهُ عليه السَّلامُ ذلكَ يومَ بدرٍ

43

{فاستمسك بالذى أُوحِىَ إِلَيْكَ} من الآياتِ والشرائعِ سواءٌ عجَّلنا لكَ الموعودَ أو أخرنَاهُ إلى يومِ الآخرةِ وقُرِىءَ أَوْحَى على البناءِ للفاعلِ وهو الله عز وجلَّ {إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ} تعليلٌ للاستمساكِ أو للأمرِ بهِ

44

{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ} لشرفٌ عظيمٌ {لك ولقومك وسوف تسألون} يومَ القيامةِ عنْهُ وعنْ قيامكم بحقوقه

45

{واسأل مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا}

أي واسألْ أممَهم وعلماءَ دينِهم كقولِه تعالى فَاسْأَلِ الذين يقرؤن الكتاب مِن قَبْلِكَ وفائدةُ هَذا المجازِ التنبيهُ على ان المسؤل عنه عينُ ما نَطقَتْ به ألسنةُ الرسلِ لا ما يقولُه أممُهم وعلماؤُهم من تلقاءِ أنفسِهم قالَ الفَرَّاءُ هُم إنما يخبرونَهُ عن كتاب الرسل فإذا اسألهم فكأنَّه سأَل الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ {أَجَعَلْنَا مِن دون الرحمن آلهة يُعْبَدونَ} أي هلَ حكمنَا بعبادةِ الأوثانِ وهل جاءتْ في ملةٍ من مللِهم والمرادُ به الاستشهادُ بإجماعِ الأنبياءِ على التوحيدِ والتنبيهُ على أنَّه ليسَ بِبدْعٍ ايبتدعه حتى يكذّبَ ويُعادَى

46

{ولقد أرسلنا موسى بآياتنا} ملتبس بها {إلى فرعون وملئه فَقَالَ إِنِى رَسُولُ رَبِّ العالمين} أريدَ باقتصاصِه تسليةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم والاستشهادُ بدعوةِ مُوسى عليهِ السَّلامُ إلى التوحيدِ إثرَ ما أُشيرَ إلى إجماعِ جميع الرسل عليهم السلام عليه

47

{فلما جاءهم بآياتنا إِذَا هُم مِنْهَا يَضْحَكُونَ} أي فاجَؤا وقتَ ضحكِهم منها أى استهزؤا بها أو ما رأَوها ولم يتأملُوا فيَها

48

{وما نريهم من آية} من الآياتِ {إِلاَّ هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} إلا وهيَ بالغةٌ أَقصَى مراتبِ الإعجازِ بحيثُ يحسبُ كلُّ منْ ينظرُ إليها أنها أكبرُ من كلِّ ما يقاسُ بها من الآياتِ والمرادُ وصفُ الكلِّ بغايةِ الكِبَرِ من غيرِ ملاحظةِ قصورٍ في شيءٍ منَها أو إلاَّ وهي مختصَّةٌ بضربٍ من الإعجازِ مفضلةٌ بذلكَ الاعتبارِ على غيرِها {وأخذناهم بالعذاب} كالسنينَ والطوفانِ والجرادِ وغيرِها {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لكيْ يرجعُوا عمَّا هُم عليهِ من الكفرِ

49

{وقالوا يا أيها الساحر} نادَوُه بذلكَ في مثل تلك الحال لغايةِ عُتوِّهم ونهايةِ حماقتِهم وقيلَ كانُوا يقولونَ للعالم الماهرِ ساحرٌ لاستعظامِهم علمَ السحرِ وقُرِىءَ أيهُ الساحرُ بضمِّ الهاءِ {ادع لَنَا ربك} ليكشسف عنَّا العذابَ {بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} بعهدِه عندكَ من النبوة أو من استجابةِ دعوتِكَ أو من كشفِ العذابِ عمَّن اهتدَى أو بما عَهِدَ عندكَ فوفيتَ به منَ الإيمانِ والطاعةِ {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي لمؤمنونَ على تقديرِ كشفِ العذابِ عنَّا بدعوتِك كقولِهم لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ

50

{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب} بدعوتِه {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} فاجؤا وقتَ نكثِ عهدِهم بالاهتداءِ وقد مر تفصيله في الأعرافِ

51

{ونادى فِرْعَوْنُ} بنفسِه

56 5 { أو بمناديِه {فِى قَوْمِهِ} في مجمعِهم وفيما بينَهم بعد أنْ كشفَ العذابَ عنْهم مخافةَ أنْ يُؤمنوا {قَالَ يا قوم أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار} أنها النيلِ ومعظمُها أربعةُ أنهرٍ الملكُ ونهرُ طولونَ ونهرُ دمياطٍ ونهرُ تنيسَ {تَجْرِى مِن تَحْتِى} أي منْ تحتِ قَصرِي أو أمرِي وقيلَ من تحتِ سريرِي لارتفاعِه وقيلَ بين يديَّ في جناني وبساتيني الواو إما عطفة لهذهِ الأنهارِ على مُلكِ مصرَ فتجري حالٌ منها أو للحالِ فهذهِ مبتدأٌ والأنهارُ صفتُها وتجري خبرٌ للمتبدأ {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} ذلكَ يريدُ به استعظامَ مُلكِه

52

{أَمْ أَنَا خَيْرٌ} معَ هذه المملكةِ والبسطةِ {مّنْ هذا الذى هُوَ مَهِينٌ} ضعيف حقير من المهابة وهي القلةُ {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} أي الكلامَ قالَه افتراءً عليهِ عليه السَّلامُ وتنقيصه عليهِ السَّلامُ في أعينِ النَّاسِ باعتبارِ ما كانَ في لسانِه عليهِ السَّلامُ من نوعِ رتةٍ وقد كانتْ ذهبتْ عنْهُ لقولِه تعالى قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ وأمْ إمَّا منقطعةٌ والهمزةُ للتقريرِ كأنَّه قالَ إثرَ ما عدَّدَ أسبابَ فضلِه ومبادِي خيريتِه أثبتَ عندكُم واستقرَّ لديكُم أنِّي أنَا خيرٌ وهذه حالِي منْ هَذا الخ وإمَّا متصلةٌ فالمَعْنى أفلاَ تْبصرونَ أمْ تبصرونَ خلا أنه وضعَ قولُه أَنَا خَيْرٌ موضعَ تبصرونَ لأنَّهم إذا قالُوا له أنت خير فهم عندَهُ بُصَراءُ وهذا من بابِ تنزيلِ السبب منزلة المسبب ويجوز أن يجعل من تنزيل المسبَّب منزلة السبب فإن إبصارِهم لما ذُكرَ من أسبابِ فضله سببٌ على زعمِه لحُكمِهم بخيريتهِ

53

{فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ} أي فهلاَّ أُلقي إليهِ مقاليدُ الملكِ إنْ كانَ صادقاً لما أنَّهم كانُوا إذَا سوَّدُوا رجلا سوره وطوَّقُوه بطوقٍ من ذهبٍ وأَسُوِرةٌ جمعُ سوارِ وقُرِىءَ أساور جمعُ أسوارٍ بمعنى السِّوارِ على تعويضِ التاءِ من ياءِ أساويرَ وقد قُرِىءَ كذلكَ وقُرِىءَ ألقى عليه أسورةً وأساورَ على البناءِ للفاعلِ وهو الله تعالَى {أَوْ جَاء مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ} مقرونينَ يعينونَهُ أو يصدقونَهُ من قرنتُه به فاقترنَ أو متقارنينَ من اقتران بمعنى تقارنَ

54

{فاستخف قومه} فاستقرهم وطلبَ منهُم الخفةَ في مطاوعتِه أو فاستخفَّ أحلامَهُم {فَأَطَاعُوهُ} فيما أمرَهُم به {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين} فذلك سارعُوا إلى طاعةِ ذلكَ الفاسق الغوى

55

{فلما آسفونا} أي أغضبونا أشدَّ الغضبِ منقولٌ منْ أَسِفَ إذا أشتد اغضبه {انتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} في اليمِّ

56

{فجعلناهم سَلَفاً} قدوةً لمن بعدَهُم من الكُفَّارِ يسلكونَ مسلكَهُم في استيجابِ مثلُ ما حلَّ بهم من العذابِ وهُو إما مصدرٌ نُعتَ بهِ أو جمعُ سالفٍ كخَدَمٍ جمعُ خادمٍ وقُرِىءَ بضمِّ السينِ واللامِ على أنَّه جمعُ سليفٍ أي فريقٍ قد سلفَ كرُغُفٍ أو سَالِفٍ كصُبُرٍ أو سَلَفٍ كأسدٍ وقُرِىءَ سُلَفاً بإبدالِ ضمةِ اللامِ

58 57 فتحةً أو على أنَّه جمعُ سُلْفةٍ أي ثُلَّةٍ قد سلفتْ {وَمَثَلاً لّلأَخِرِينَ} الى أي عظةً لهم أو قصةً عجيبةً تسيرُ مسيرَ الأمثالِ لَهُم فيقالُ مثلُكم مثلُ قومِ فرعونَ

57

{وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً} أي ضربَهُ ابنُ الزِّبَعْرَى حينَ جادلَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في قولِه تعالى إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حطب جَهَنَّمَ حيثُ قالَ أهذَا لنا ولآلهتنا أو جميع الأممِ فقالَ عليهِ الصَّلاةُ والسلام هو لكم ولآهلتكم ولجميع الأمم فقال ألا للعين خصمتك ورب الكعبة أليسَ النَّصارى يعبُدونَ المسيحَ واليهودَ عزيراً وبنوُ مُلَيحٍ الملائكةَ فإنْ كانَ هؤلاءِ في النَّارِ فقد رضينا أن نكونَ نحنُ وآلهتُنا معهُم ففرِحَ به قومُه وضحِكُوا وارتفعتْ أصواتُهم وذلكَ قولُه تعالى {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ} أي من ذلك المثلِ {يَصِدُّونَ} أي يرتفعُ لهم جلية وضجيج فرحا وجدلا وقرى يَصُدُّونَ أيْ من أجلِ ذلكَ المثلِ يُعرضُونَ عنِ الحقِّ أي يثبُتونَ على ما كانُوا عليهِ من الأعتراض أو يزدادونَ فيهِ وقيلَ هو أيضاً من الصديدِ وهما لغتنا فيه نحوُ يَعْكُفُ ويَعْكِفُ وهو الأنسبُ بمَعْنى المفاجأةِ

58

{وقالوا أَألِهْتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} حكايةٌ لطرفٍ من المثلِ المضروبِ قالُوه تمهيداً لما بَنَوا عليهِ من الباطلِ المموه بما يغتربه السُّفهاءُ أي ظاهرٌ أنَّ عيسَى خيرٌ من آلهتِنا فحيثُ كانَ هُو في النَّارِ فلا بأسَ بكونِنا مع آلهتِنا فيَها واعلمُ أنَّ ما نُقلَ عنهم من الفرحِ ورفعِ الأصواتِ لم يكُن لما قيلَ من أنه عليه الصلاة والسَّلامُ سكتَ عندَ ذلكَ إلى أنْ نزلَ قولُه تعالى إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى الآيةَ فإنَّ ذلكَ معَ إيهامِه لما يجبُ تنزيه ساحتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عنْهُ من شائبة الإفحان من أولِ الأمرِ خلافُ الواقعِ كيفَ لاَ وقد رُويَ أن قولَ ابنِ الزبعري خصمتك ورب الكعبة صدرَ عنْهُ من أولِ الأمرِ عند سماعِ الآيةِ الكريمة فرد عليه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بقولِه عليهِ السَّلامُ مَا أجهلك بغلة قومك أما فهمت أن حالم لا يعقلُ وإنَّما لم يخصَّ عليهِ السَّلامُ هذا الحكمَ بآلهتِهم حينَ سألَ الفاجر عن المخصوص والعموم عملا من اختصاص كله مَا بغيرِ العُقلاءِ لأنَّ إخراجَ بعضِ المعبودينَ عنْهُ عند الحاجة موهمٌ للرخصةِ في عبادتِه في الجملةِ فعمَّمَهُ عليه السَّلامُ للكلِّ لكنْ لا بطريقِ عبارةِ النصِّ بل بطريقِ الدلالة بجامعِ الاشتراكِ في المعبودية من دونِ الله تعالَى ثمَّ بينَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه بل هم عبدو الشياطين التي أمرتهم بذلك أن الملائكةَ والمسيحَ بمعزلٍ من أنْ يكونُوا معبوديهم كما نطق به قوله تعالى سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يعبدون لجن الآية وقد مر تحقيقُ المقامِ عند قولِه تعالى {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} الآيةَ بلْ إنَّما كانَ ما أظهرُوه من الأحوالِ المنكرةِ لمحضِ وقاحتِهم وتهالُكِهم على المكابرةِ والعنادِ كما ينطقُ به قولُه تعالى {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ} أي ماضربوا لك وذلك المثلَ إلا لأجلِ الجدالِ والخصامِ لا لطلبِ الحقِّ حتَّى يذعنُوا له عندَ ظهورِه ببيانكَ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} أي لُدٌّ شدادُ الخصومةِ مجبولونَ على المحك واللجاج وقيلا لمَّا سمعُوا قولَه تعالى إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدم خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ قالُوا نحنُ أهدَى من النَّصارى لأنَّهم عبدُوا آدمياً ونحنُ نعبدُ الملائكةَ فنزلتْ فقولُهم أَألِهْتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ حينئذ

61 59 تفضيل لآلهتِهم عَلَى عيسَى عليهِ السَّلامُ لأنَّ المرادَ بهم الملائكةُ ومَعْنى ما ضربُوه الخ ما قالُوا هذا القولَ إلا للجدلِ وقيلَ لمانزلت إِنَّ مَثَلَ عيسى الآيةَ قالُوا ما يريدُ محمدٌ بهذَا إلا أنْ نعبدَهُ وأنه يستأهلُ أنْ يعبدَ وإنْ كانَ بشراً كما عبدتِ النَّصارى المسيحَ وهو بشرٌ ومَعْنى يَصِدُّونَ يَضجُّونَ ويضجرونَ والضميرُ في أمْ هُو لمحمدٍ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وغرضُهم بالموازنةِ بينَهُ عليه السلام وبين آلهتمهم الاستهزاءُ به وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ مرادُهم التنصلَ عمَّا أُنكرَ عليهم من قولَهم الملائكةُ بناتُ الله تعالَى ومن عبادتِهم لهم كأنَّهم قالُوا ما قُلنا بدعاً من القولِ ولا فعلنا منكر آمن الفعلِ فإنَّ النَّصارَى جعلُوا المسيحَ ابنَ الله وعبدُوه فنحنُ أشفُّ منُهم قولاً وفعلاً حيثُ نسبنَا إليهِ الملائكةَ وهُم نسبُوا إليهِ الأنَاسِيّ فقولُه تعالى

59

{إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} أي بالنبوةِ {وجعلناه مثلا لبني إسرائيل} أي أمراً عجيباً حقيقاً بأن يسيرَ ذكرُه كالأمثالِ السائرةِ على الوجهِ الأولِ استئنافٌ مسوقٌ لتنزيههِ عليهِ السَّلامُ عن أنْ يُنسبَ إليه ما نُسبَ إلى الأصنامِ بطريقِ الرمزِ كما نطقَ به صريحاً قولُه تعالى إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى الآيةَ وفيه تنبيهٌ على بُطلانِ رأي من رفعَهُ عن رُتبةِ العبوديةِ وتعريضٌ بفسادِ رأي مَنْ يَرَى رأيَهم في شأنِ الملائكةِ وعلى الثاني والرابح لبيانِ أنَّه قياسُ باطلٍ بباطلٍ أو بأبطلَ على زعمِهم وما عيسَى إلا عبدٌ كسائر العبيدِ قُصَارى أمرِه أنَّه ممن أنعمَنا عليهم بالنبوةِ وخصصنَاهُ ببعضِ الخواصِّ البديعةِ بأنْ خلقناهُ بوجهٍ بديعٍ وقد خلقَنا آدمَ بوجهٍ أبدعَ منْهُ فأينَ هُو من رُتبةِ الربوبيةِ ومن أينَ يتوهمُ صحةُ مذهبِ عبدتِه حتَّى يفتخرَ عبدةُ الملائكةِ بكونِهم أهْدَى منهُم أو يعتذرُوا بأنَّ حالَهم أشفُّ أو أخفُّ من حالِهم وأمَّا على الوجهِ الثَّالثِ فهو لردِّهم وتكذيبِهم في افترائِهم على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم ببيانِ أنَّ عيسَى في الحقيقةِ وفيما أُوحيَ إلى الرسولِ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ ليسَ إلاَّ أنُّه عبدٌ منعمٌ عليهِ كما ذُكِرَ فكيف يرصى عليه السلام معبوديته أو كيفَ يُتوهُم الرضَا بمعبوديةِ نفسهِ وقولُه تعالَى

60

{وَلَوْ نَشَاء} الخ لتحقيقِ أنَّ مثلَ عيسَى عليهِ السلامُ ليسَ ببدعٍ من قدرةِ الله وأنَّه تعالَى قادرٌ على أبدعَ منْ ذلكَ وأبرعَ مع التنبيهِ على سقوطِ الملائكةِ أيضاً من درجةِ المعبوديةِ أي قدرتُنا بحيثُ لو نشاءُ {لَّجَعَلْنَا} أي لخلقَنا بطريقِ التوالدِ {مّنكُمْ} وأنتمُ رجالٌ ليسَ من شأنِكم الولادةُ {ملائكة} كما خلقناهُم بطريقِ الإبداعِ {فِى الأرض} 6 مستقرينَ فيها كما جعلناهُم مستقرينَ في السماءِ {يَخْلُفُونَ} أي يخلُفونكُم مثلَ أولادِكم فيمَا تأتونَ وما تذرونَ ويُباشرونَ الأفاعيلَ المنوطةَ بمباشرتِكم مع أنَّ شأنَهُم التسبيحُ والتقديسُ في السماءِ فمَنْ شأنُهم بهذه المثابةِ بالنسبةِ إلى القدرةِ الربانيةِ كيفَ يُتوهمُ استحقاقُهم للمعبوديةِ أو انتسابُهم إليهِ تعالى عن ذلك علوا

61

{وَأَنَّهُ} وإنَّ عيسَى {لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ} أي إنَّه بنزولِه شرطٌ من أشراطِها وتسميتُه عِلماً لحصولِه به

66 6 { أو بحدوثِه بغيرِ أبٍ أو بإحياته المَوْتى دليلٌ على صحةِ البعثِ الذي هو معظمُ ما ينكرهُ الكفرةُ من الأمورِ الواقعة في الساعةِ وقُرِىءَ لَعَلمٌ أي علامةٌ وقُرِىءَ للعِلْم وقُرِىءَ لذِكرٌ على تسميةِ ما يُذكرُ بهِ ذكراً كتسميةَ ما يُعلمُ بهِ علماً وفي الحديثِ إنَّ عيسَى عليهِ السَّلامُ ينزلُ على ثنيةٍ بالأرضِ المقدسةِ يقالُ لها أفيف وعليه نصرتان وبيدِه حَرْبةٌ وبها يقتلُ الدجال فأتى بيتَ المقدسِ والنَّاسُ في صلاةِ الصُّبحِ فيتأخرُ الإمامُ فيُقدِّمُهُ عيسَى عليهِ السَّلامُ ويُصلِّي خلفَهُ على شريعةِ محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلَّم ثم يقتلُ الخنازيرَ ويكسرُ الصليبَ ويُخرِّبُ البِيعَ والكنائسَ ويقتلُ النَّصارَى إلا منْ آمنَ به وقيلَ الضميرُ للقُرآنِ لِما أنَّ فيهِ الإعلامَ بالسَّاعةِ {فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا} فلا تشكُنَّ في وقوعِها {واتبعون} أيْ واتبعُوا هُدايَ أو شَرْعي أو رَسُولى وقيلَ هُو قولُ الرسولِ مأموراً من جهتِه تعالَى {هذا} أي الذي أدعُوكم إليهِ أو القُرآنُ على أنَّ الضميرَ في إنَّه لهُ {صراط مُّسْتَقِيمٍ} موصلٍ إلى الحقِّ

62

{وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان} عن اتِّباعِي {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} بيِّنُ العداوةِ حيثُ أخرجَ أباكُم من الجنةِ وعرَّضكُم للبليةِ

63

{وَلَمَّا جَاء عيسى بالبينات} أي بالمعجزاتِ أو بآياتِ الإنجيلِ أو بالشرائعِ الواضحاتِ {قَالَ} لبني إسرائيلَ {قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة} أى الإنجيل أو الشريعة {وَلأبَيّنَ لَكُم} عكف علَى مقدرٍ ينبىءُ عنْهُ المجيء بالحكمة كأنه قيل قد جئتُكم بالحكمة لأعلِّمَكُم إيَّاها ولأبين لكم {بَعْضَ الذى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} وهُو ما يتعلقُ بأمورِ الدِّينِ وأما ما يتعلقُ بأمورِ الدُّنيا فليسَ بيانُه من وظائفِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ كما قال عليه السلام أنتمُ أعلمُ بأمورِ دُنياكُم {فاتقوا الله} في مُخَالفتِي {وَأَطِيعُونِ} فيما أبلِّغُه عنْهُ تعالى

64

{إِنَّ الله هُوَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} بيانٌ لما أمرَهُم بالطاعةِ فيهِ وهُو اعتقادُ التَّوحيدِ والتَّعبدُ بالشرائعِ {هذا} أي التوحيدُ والتَّعبدُ باللشرائع {صراط مُّسْتَقِيمٍ} لا يضِلُّ سالِكُه وهُو إمَّا من تتمة كلامِه عليه السَّلامُ أو استئنافٌ من جهتِه تعالى مقررٌ لمقالةِ عيسَى عليه السَّلامُ

65

{فاختلف الأحزاب} الفِرقُ المتحزبةُ {مِن بَيْنِهِمْ} أي مِن بينِ مَنْ بُعثَ إليهم من اليهود والنصرى {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ ظَلَمُواْ} من المختلفينَ {مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} هو يومُ القيامةِ

66

{هَلْ يَنظُرُونَ} أيْ ما ينتظرُ النَّاسُ {إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ} أي إلا إتيانَ الساعةِ {بَغْتَةً} أيْ فجأةً لكنْ لا عندَ كونِهم مترقبينَ لها بل غافلينَ عنها مشتغلينَ بأمورِ الدُّنيا منكرينَ لها وذلكَ قولُه تعالى {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}

67 7 {

67

{الأخلاء} المتحابُّون في الدُّنيا على الإطلاقِ أو في الأمورِ الدُّنيويةِ {يَوْمَئِذٍ} يومَ إذْ تأتيهُم الساعةُ {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} لانقطاعِ ما بينهم عن علائق الخلة والتحاب لهور كونِها أسباباً للعذابِ {إِلاَّ المتقين} فإنَّ خُلَّتَهم في الدُّنيا لمَّا كانتْ في الله تبقَى على حالِها بل تزدادُ بمشاهدةِ كلَ منهُم آثارَ خُلَّتِهم من الثوابِ ورفعِ الدَّرجاتِ والاستثناءُ على الأولِ متصلٌ وعلى الثاني منقطع

68

{يا عبادِ لا خوفٌ عليكم اليوم ولا أنتم تَحْزَنُونَ} حكايةٌ لما يُنادَى به المتقون المتاحبون في الله يومئذٍ تشريفاً لهم وتطيبا لقلوبهم

69

{الذين آمنوا بآياتنا} صفةٌ للمُنادَى أو نُصب على المدحِ {وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ} أي مُخلصينَ وجوهَهُم لنَا جاعلينَ أنفسَهُم سالمةً لطاعتِنا وهو حالٌ من واوِ آمنُوا عن مقاتلٍ إذَا بعثَ الله النَّاسَ فزعَ كلُّ أحدٍ فُينادِي منادٍ يا عبداى فيرفع الخلائق رؤسهم على الرجاءِ ثم يتبعُها الذينَ آمنُوا الآيةَ فينكِّسُ أهل الأديان الباطلة رؤسهم

70

{ادخلوا الجنة أَنتُمْ وأزواجكم} نسؤكم المؤمناتُ {تُحْبَرُونَ} تُسرُّون سروراً يظهرُ حَبارُه أي أثرُه على وجوهِكم أو تُزينونَ من الحَبَرةِ وهو حُسن الهيئةِ أو تُكرمونَ إكراماً بليغاً والحَبْرةُ المبالغةُ فيما وصفَ بجميلٍ

71

{يُطَافُ عَلَيْهِمْ} بعدَ دخولِهم الجنَّةَ حسبَما أُمرِوا بهِ {بصحاف مّن ذَهَبٍ وأكواب} كذلك والصِّحافُ جمعُ صَحْفةٍ قيلَ هيَ كالقصعَةِ وقيلَ أعظمُ القِصَاعِ الجفنةُ ثم القصعة ثم المكيلةُ والأكوابُ جمعُ كوبٍ وهو كوزٌ لا عُروةَ لَهُ {وَفِيهَا} أي في الجَّنةِ {مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس} من فُنونِ الملاذِّ وقُرِىءَ ما تَشْتَهي {وَتَلَذُّ الأعين} أي تستلذُّه وتقرُّ بمشاهدتِه وقُرِىءَ وتلذُّهُ {وَأَنتُمْ فِيهَا خالدون} إتمامٌ للنعمةِ وإكمالٌ للسرورِ فإنَّ كلَّ نعيمٍ له زوالٌ بالآخرةِ مقارن لخوفِه لا محالةَ والالتفاتُ للتشريفِ

72

{وَتِلْكَ الجنة} مبتدأٌ وخبرٌ {التى أُورِثْتُمُوهَا} وقُرِىءَ وُرِّثتمُوهَا {بما كنتم تعلمون} في الدنيا من الأعمال الصالحةِ شبَّه جزاءَ العملِ بالميراثِ لأنَّه يخلُفه العامل عليه وقيلَ تلكَ الجنةُ مبتدأٌ وصفةٌ والموصولُ مع صلتِه خبرُه وقيلَ هو صفةُ الجنةُ كالوجهِ الأولِ والخبر بما كنتم تعلمون فتتعلقُ الباءُ بمحذوفٍ لا بأورثتموها كما ففبي الأولَينِ

73

{لَكُمْ فِيهَا فاكهة كَثِيرَةٌ} بحسبِ الأنواعِ والأصنافِ

79 74 لا بحسب الأفردا فقطْ {مّنْهَا تَأْكُلُونَ} أي بعضَها تأكلونَ في كلِّ نوبةٍ وأمَّا الباقِي فَعَلى الأشجارِ على الدوامِ لا ترى فيها شجرةً خلتْ عن ثمرِهَا لحظةً فهي مزينةٌ بالثمارِ أبداً مُوقَرةٌ بها وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لا ينزع رجل في الحنة من ثمرِها إلا نبتَ مثلاَها مكانَها

74

{إن المجرمين} أى الرسخون في الإجرامِ وهم الكفارُ حسبما بنيىء عنْهُ إيرادُهم في مقابلةِ المؤمنينَ بالآياتِ {فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خالدون} خبرُ إنَّ أو خالدونَ هُو الخبرُ وفي متعلقةٌ بهِ

75

{لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} أي لا يخففُ العذابُ عنُهم من قولِهم فَتَرتْ عنْهُ الحُمَّى إذا سكنِتْ قليلاً والتركيبُ للضعفِ {وَهُمْ فِيهِ} أي في العذابِ وقُرِىءَ فيَها أي في النَّارِ {مُّبْلِسُونَ} آيسونَ منَ النَّجاةِ

76

{وَمَا ظلمناهم} بذلكَ {ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} لتعريضِهم أنفسَهُم للعذابِ الخالدِ

77

{وَنَادَوْاْ} خازنَ النَّارِ {يا مالك} وقُرِىءَ يا مَالِ على التَّرخيمِ بالضمِّ والكسرِ ولعلَّه رمزٌ إلى ضعفِهم وعجزِهِم عن تأديةِ اللفظِ بتمامِه {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي لِيُمتنا حتَّى نستريحَ من قضَى عليه إذا أماتَهُ والمعنى سَلْ ربَّك أنْ يقضي علينا وهَذا لا يُنافِي ما ذُكرَ من إبلاسِهم لأنَّه جؤارٌ وتمنَ للموتِ لفرطِ الشدَّةِ {قَالَ إِنَّكُمْ ماكثون} أيْ فِي العذابِ أبداً لا خلاصَ لكُم منْهُ بموتٍ ولا بغيرِه عن ابنِ عباس رضي الله عنهُمَا أنَّه لا يُجيبُهم إلا بعدَ ألفِ سنةٍ وقيلَ بعد مائةٍ وقيلَ بعدَ أربعينَ سنةً

78

{لَقَدْ جئناكم بالحق} في الدنيا بإرسال الرسل واتزال الكتبِ وهو خِطَابُ توبيخٍ وتقريعٍ من جهةِ الله تعالَى مقررٌ لجوابِ مالكٍ ومبينٌ لسببِ مكثِهم وقيلَ في قالَ ضميرُ الله تعالَى {ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ} أي حقَ كانَ {كارهون} لا يقبلونَهُ وينفرونَ عنْهُ أما الحقُّ المعهودُ الذي هو التوحيدُ أو القرآنُ فكلُّهم كارهونَ له مشمئزّونَ منْهُ

79

{أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً} كلامٌ مبتدأٌ ناعٍ على المشركينَ ما فعلوا من الكد برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وأم منطقة وما فيها من معنى بلْ للانتقالِ من توبيخِ أهلِ النَّارِ إلى حكايةِ جنايةِ هؤلاءِ والهمزةُ للإنكارِ فإنْ أُريدَ بالإبرامِ الإحكامُ حقيقةً فهيَ لإنكارِ الوقوعِ واستبعادِه وإنْ أُريدَ الإحكامُ صورةً فهيَ لإنكارِ الواقعِ واستقباحِه أيْ أأبرمَ مشركُو مكَة أمراً من كيدِهم ومكرهم برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} كيدنَا حقيقةً لاهم أو فإنَّا مبرمونَ كيدنَا بهم حقيقة كام ابرموا أكيدهم صورةً كقولِه تعالى أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون وكانُوا يتناجَون في أنديتِهم ويتشاورُون في أمورِه

84 80 عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ

80

{أَمْ يَحْسَبُونَ} أي بلْ أيحسبونَ {أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ} وهو ما حدَّثُوا به أنفسَهُم أو غيرَهُم في مكان خال {نجواهم} أي ما تكلمُوا به فيما بينهم بطريقِ التَّناجِي {بل} نحن نسمعُهما ونطَّلِعُ عليهما {وَرُسُلُنَا} الذينَ يحفظونَ عليهم أعمالَهم ويلازمونَهم أينَما كانُوا {لَدَيْهِمْ} عندَهُم {يَكْتُبُونَ} أي يكتبونهما أو يكتبونَ كلَّ ما صدرَ عنهُم من الأفعال والأقوال التي من جملتها ما ذكر من سرهم ونجوهم والجملة إما عطف على ما يترجمُ عنْهُ بَلَى أو حال أى نسمعها والحالُ أنَّ رسلَنا يكتبونَ

81

{قُلْ} أي للكَفرةِ تحقيقاً للحقِّ وتنبيهاً لهم على أنَّ مخالفتَكَ لهم بعدمِ عبداتك لما يعبدونَهُ من الملائكةِ عليهمِ السَّلامُ ليستْ لبغضِكَ وعداوتك لهم أو لمبعوديهم بلْ إنَّما هُو لجزمِكَ باتسحالة ما نسبُوا إليهم وبنَوا عليها عبادتَهُم من كونِهم بناتِ الله تعالى {إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فأنا أول العابدين} أيْ لَهُ وذلكَ لأنه عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بشؤنه تعالى وبما تجوز عليهِ وبما لا يجوزُ وأولاهُم بمراعاةِ حقوقِه ومن مواجبِ تعظيمِ الوالدِ تعظيمُ ولدِه وفيهِ من الدلالةِ على انتفاءِ كونِهم كذلكَ على أبلغِ الوجوهِ وأقوَاها وعلى كونِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على قوةِ يقينٍ وثباتِ قدمٍ في بابِ التَّوحيدِ ما لا يخفى مع ما فيه من استنزالِ الكفرةِ عن رُتبةِ المكابرةِ حسبمَا يُعربُ عنْهُ إيرادُ إِنْ مكانَ لَوْ المنبئةِ عن امتناعِ مقدمِ الشرطيةِ وقيلَ إِن كَانَ للرحمنِ وَلَدٌ في زعمِكم فأنَا أولُ العابدينَ الموحدينَ لله تعالَى وقيلَ فأَنا أولُ الآنفينَ أي المستنكفينَ منْهُ أو منْ أنْ يكونَ له ولدٌ منْ عَبِدَ يَعْبَدُ إذَا اشتدَّ أَنَفُه وقيلَ إنْ نافيةٌ أي ما كَانَ للرحمنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أولُ من قالَ بذلكَ وقُرِىءَ وُلْدٌ

82

{سبحان رب السماوات والأرض رَبّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ} أي يصفونَهُ بهِ من أن يكون له ولدٌ وفي إضافةِ اسمِ الربِّ إلى أعظمِ الأجرامِ وأقواها تنبيهٌ على أنَّها وما فياه من المخلوقاتِ حيثُ كانتْ تحتَ ملكوتِه وربوبيتِه كيفَ يتوهمُ أنْ يكونَ شيءٌ منها جزا منْهُ سبحانَهُ وفي تكريرِ اسم الربِّ تفخيمٌ لشأنِ العرشِ

83

{فَذَرْهُمْ} حيثُ لم يُذعنُوا للحقِّ بعد ما سمعُوا هذا البرهانَ الجليَّ {يَخُوضُواْ} في أباطيلِهم {وَيَلْعَبُواْ} في دُنياهُم فإنَّ ما هُم فيهِ من الأفعالِ والأقوالِ ليستْ إلا من بابِ الجهلِ واللعبِ والجزمُ في الفعلِ لجوابِ الأمرِ {حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى يُوعَدُونَ} من يومِ القيامةِ فإنَّهم يومئذٍ يعلمونَ ما فعلُوا وما يُفعلُ بهم

84

{وَهُوَ الذى فِى السماء إله وَفِى الأرض إله} الظرفانِ متعلقانِ بالمَعْنى الوصفيِّ الذى يتنبىء عنْهُ الاسمُ الجليلُ من مَعْنى المعبوديةِ بالحقِّ بناءً على اختصاصهِ

89 85 بالمعبودِ بالحقِّ كما مرَّ في تفسيرِ البسملةِ كأنَّه قيال وهُو الذي مستحقٌّ لأنْ يعبدَ فيهمَا وقد مرَّ تحقيقُه في سورةِ الأنعامِ وقُرىءَ وَهُوَ الذي فِى السماءِ الله وفي الأرضِ الله والراجعُ إلى الموصولِ مبتدأٌ قد حذفَ لطولِ الصلةِ بمتعلقِ الخبرِ والعطفِ عليهِ ولا مساغَ لكونِ الجارِّ خبراً مقدماً وإلهٌ مبتدأٌ مؤخرٌ للزومِ عراءِ الجُملةِ حينئذٍ عن العائدِ نعم يجوز أن يكون صلةً للموصولِ وإلهٌ خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ على أنَّ الجملةَ بيانٌ للصلةِ وأنَّ كونَهُ في السماءِ على سبيلِ الإلهيةِ لا على سبيلِ الاستقرارِ وفيهِ نفيُ الآلهةِ السماويةِ والأرضيةِ وتخصيصٌ لاستحقاقِ الإلهيةِ به تعالَى وقولُه تعالَى {وَهُوَ الحكيم العليم} كالدليلِ على ما قبلَهُ

85

{وَتَبَارَكَ الذى لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} إمَّا على الدوامِ كالهواءِ أو في بعضِ الأوقاتِ كالطيرِ {وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة} أي العلمُ بالساعةِ التي فيها تقومُ القيامةُ {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للجزاءِ والالتفاتُ للتهديدِ وقُرِىءَ على الغيبة وقرىء تحشرون بالتاء

86

{وَلاَ يَمْلِكُ الذين يَدْعُونَ} أي يدعُونهم وقُرِىءَ بالتَّاءِ مخففاً ومشدداً {مِن دُونِهِ الشفاعة} كما يزعمُونَ {إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق} الذي هُو التوحيدُ {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} بما يشهدونَ بهِ عن بصيرةٍ وإيقانٍ وإخلاصٍ وجمعُ الضميرِ باعتبارِ مَعْنى مَنْ كمَا أنَّ الإفرادَ أولاً باعتبارِ لفظِها والاستثناءُ إمَّا متصلٌ والموصولُ عامٌّ لكلِّ ما يُعبد من دونِ الله أو مُنفصلٌ على أنَّه خاصٌّ بالأصنامِ

87

{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ} أى سألت العابدين والمبعودين {لَيَقُولُنَّ الله} لتعذرِ الإنكارِ لغايةِ بطلانِه {فأنى يُؤْفَكُونَ} فكيفَ يُصرفونَ عن عبادتِه إلى عبادةِ غيرِه مع اعترافِهم بكونِ الكلِّ مخلوقاً له تعالى

88

{وَقِيلِهِ} بالجرِّ إمَّا على أنَّه عطفٌ على الساعةِ أيْ عندَهُ علمُ الساعةِ وعلم قولِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ {يَا رَبّ} الخ فإنَّ القولَ والقيلَ والقالَ كلَّها مصادرُ أو عَلى ان الواو للقسم قوله تعالَى {إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ} جوابُه وفي الإقسامِ بهِ من رفعِ شأنِه عليه الصلاةُ والسلام وتفخيمِ دُعائِه والتجائِه إليهِ تعالَى ما لا يَخْفى وقُرِىءَ بالنصب بالعطفِ على سرَّهم أو على محلَّ الساعة أو ضمير أو بإضمارِ فعلهِ أو بتقدير فهل القسمِ وقُرِىءَ بالرفعِ على الابتداءِ والخبر ما بعده وقد جوز عطفه على علمُ الساعةِ

89

{فاصفح عَنْهُمْ} فأعرضْ عن دعوتِهم واقنَطْ عن إيمانِهم {وَقُلْ سلام} أيْ أمري تسلمٌ منكم ومتاركةٌ {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} حالَهم البتةَ وإنْ تأخرَ ذلكَ وهو وعيدٌ من الله تعالى لهُم وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقُرِىءَ تعلمونَ على أنَّه داخل

الدخان 4 { {بسم الله الرحمن الرحيم}

الدخان

{حم} {والكتاب المبين} الكلامُ فيهِ كالذي سلفَ في السورةِ السابقةِ

3

{إِنَّا أنزلناه} أي الكتابَ المبينَ الذي هُو القُرآنُ {فِى لَيْلَةٍ مباركة} هيَ ليلةُ القدرِ وقيلَ ليلةُ البراءةِ ابتدىءَ فيها إنزالُه أو أنزل فيها جُملةً إلى السماءِ الدُّنيا من اللوحِ وأملاهُ جبريلَ عليهِ السَّلامُ على السَفَرة ثُمَّ كانَ ينزله على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم نُجوماً في ثلاثٍ وعشرينَ سنةً كما مرَّ في سورة الفاتحةِ ووصفُها بالبركةِ لَما أنَّ نزولَ القُرآنِ مستتبعٌ للمنافعِ الدينيةِ والدنيويةِ بأجمعِها أو لِما فيها من تنزلِ الملائكةِ والرحمةِ وإجابةِ الدعوة وقسم النعمة وفصل الأفضية وفضيلةِ العبادةِ وإعطاءِ تمامِ الشفاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيلَ يزيدُ في هذهِ الليلةِ ماءُ زمزمَ زيادةً ظاهرةً {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} استئناف مبين لما يقضى الإنزالَ كأنَّه قيلَ إنَّا أنزلناهُ لأن من شأنِنا الإنذارَ والتحذيرَ من العقابِ وقيلَ جوابٌ للقسمِ وقولُه تعالى إنَّا أنزلناهُ الخ اعتراضٌ وقيلَ جوابٌ ثانٍ بغيرِ عاطفٍ

4

{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} استئنافٌ كما قبلَهُ فإنَّ كونَها مفْرَقَ الأمورِ المحكمةِ أو الملتبسةِ بالحكمةِ الموافقةِ لها يستدعِي أنْ ينزلَ فيها القرآنُ الذي هُو من عظائِمها وقيلَ صفةٌ أُخرى لليلةِ وما بينهما اعرتاض وهذا يدلُّ على أنَّها ليلةُ القدرِ ومَعْنى يُفرقُ أنه يكتبُ ويفصلُ كلُّ أمرٍ حكيمٍ من أرزاقِ العباد وآجالهعم وجمع أمورِهم من هذِه الليلةِ إلى الأُخرى من السنةِ القابلةِ وقيلَ يبدأُ في استنساخِ ذلك من اللوحِ في ليلةِ البراءةِ ويقعُ الفراغُ في ليلةِ القدرِ فتدفعُ نسخةُ الأرزاقِ إلى ميكائيلَ ونسخةُ الحروبِ إلى جبريلَ وكذا الزلازلُ والخسفُ والصواعقُ ونسخةُ الأعمالِ إلى إسماعيلَ صاحبِ سماءِ الدُّنيا وهُو مَلكٌ عظيمٌ ونسخةُ المصائبِ إلى مَلكِ الموتِ عليهم السَّلامُ وقُرِىءَ يُفرَّقُ بالتشديدِ وقُرِىءَ يَفرُقُ على البناءِ للفاعلِ أي يفرقُ الله تعالى

9 5 كل أمر حكيم وقرىء نَفْرُقُ بنونِ العظمةِ

5

{أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا} نصبَ على الاختصاصِ أيْ أعنِي بهذا الأمرِ أمراً حاصلاً من عندِنا على مُقتضَى حكمتنا وهو بيان لفخامة الإصافية بعد بيان فخامته الذاتة ويجوزُ كونُه حالاً من كل أمر لتخصيصه بالوصفِ أو من ضميرِه في حكيمٍ وقد جُوِّز أن يراد به نقابل النهي ويجعلَ مصدراً مؤكداً ليُفرَقُ لاتحادِ الأمرِ والفرقانِ في المَعْنى أو لفعلِه المضمرِ لما أنَّ الفرقَ به او حالا منا أحدِ ضميرَيْ أنزلناهُ أي آمرينَ أو مأموراً بهِ {إنا كنا منذرين} بدلٌ من إنَّا كُنَّا منذرينَ وقيلَ جوابٌ ثالثٌ وقيل مستأنف وقولُه تعالى

6

{رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} غايةٌ للإرسالِ متأخرةٌ عنه على أن المرادَ بها الرحمن الواصلة الى العابد باعث متقدمٌ عليه على أنَّ المراد مبدوها أي إنَّا أنزلَنا القُرآنَ لأنَّ من عادتِنا إرسالَ الرسلِ بالكتبِ إلى العبادِ لأجلِ إفاضةِ رحمتِنا عليهم أو لاقتضاءِ رحمتِنا السابقةِ إرسالَهم ووضعُ الربِّ موضعَ الضمير الإيذان بأنَّ ذلكَ من أحكامِ الربوبية مقتضياتها وإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسَّلامُ لتشريفهِ أو تعليلٌ ليُفرقُ أو لقولِه تعالى أمراً على أنَّ قولَه تعالى رحمةً مفعولٌ للإرسالِ كما في قوله تعالى وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ أي يفرقُ فيها كلُّ أمرٍ أو تصدرُ الأوارم من عندِنا لأنَّ من عادتِنا إرسالَ رحمتِنا ولا ريبَ في أنَّ كلاً من قسمةِ الأرزاقِ وغيرِها والأوامرِ الصادرةِ منه تعالَى من بابِ الرحمةِ فإن الغاية لتكليف العبادة تعريضُهم للمنافعِ وقُرِىءَ رحمةٌ بالرفعِ أي تلكَ رحمةٌ وقولُه تعالى {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} تحقيقٌ لربوبيتِه تعالى وأنَّها لا تحِقّ إلا لمَنْ هذهِ نعوتُه

7

{رب السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} بدلٌ من أو بيانٌ أو نعتٌ وقرىء بالرفع على أنه خبرٌ آخرُ أو استئنافٌ على إضمارِ مبتدأٍ {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} أي إنْ كنتُم من أهلِ الإيقانِ في العلومِ أو إنْ كنتُم موقنينَ في إقرارِكم بأنَّه تعالَى ربُّ السمواتِ والأرضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إذَا سئلتُم مَنْ خلَقها فقلتُم الله علمتُم أنَّ الأمرَ كمَا قُلنا أو إنْ كنتُم مريدينَ اليقينَ فاعلمُوا ذلكَ

8

{لا إله إلا هو} جملةٌ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلَها وقيلَ خبرٌ لقولِه ربِّ السمواتِ الخ وما بينهما اعتراضٌ {يُحْيىِ وَيُمِيتُ} مستأنفةٌ كما قبلَها وكَذا قولُه تعالى {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائكم الأولين} بإضمارِ مبتدأٍ أو بدلٌ من ربِّ السمواتِ على قراءةِ الرفعِ أو بيانٌ أو نعتٌ له وقيلَ فاعلٌ ليميتُ وفي يُحيي ضميرٌ راجعٌ إلى ربِّ السمواتِ وقُرِىءَ بالجرِّ بدلاً من ربِّ السمواتِ عَلى قراءةِ الجرِّ

9

{بْل هُمْ فَى شَكّ} مما ذكر من شئونه تعالَى غيرُ موقنينَ في إقرارِهم {يَلْعَبُونَ} لا يقولونَ ما يقولونَ عن جِدَ وإذعانٍ بلْ مخلوطاً بهُزْؤٍ ولعب

} 4 10 والفاء في قوله تعالى

10

{فارتقب} لترتيبِ الارتقابِ أو الأمرِ به على ما قبلَها فإنَّ كونَهُم في شكَ مما يُوجِبُ ذلكَ حَتْماً أي فانتظرُ لَهُم {يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} أي يومَ شدَّةٍ ومَجَاعةٍ فإنَّ الجائعَ يَرَى بينَهُ وبينَ السماءِ كهيئةِ الدُّخانِ إما لضعفِ بصرهِ أو لأنَّ في عامِ القحطِ يُظلمُ الهواءُ لقلةِ الأمطارِ وكثرةِ الغُبارِ أو لأنَّ العربَ تُسمِّي الشرَّ الغالبَ دُخاناً وذلكَ أنَّ قريشا لما استعصت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعَا عليهم فقالَ اللهمَّ اشدُدْ وطأتكَ على مُضر واجعلْها عليهم سنينَ كسِني يوسُفَ فأخذتْهُم سَنةٌ حتى أكلُوا الجيفَ والعظامَ والعِلْهِزَ وكانَ الرجلُ يَرَى بينَ السماءِ والأرضِ الدُّخانَ وكان يحدث الرجل يسمع كلامَهُ ولا يراهُ من الدخانِ وذلكَ قولُه تعالى

11

{يَغْشَى الناس} أي يحيطُ بهم {هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي قائلينَ ذلكَ فمشَى إليه عليه الصلاة والسلام أبُو سفيانَ ونَفَرٌ معَهُ وناشدُوه الله تعالَى والرحمَ وواعدُوه إنْ دعَا لهم وكشفَ عنُهم أنْ يُؤمنوا وذلكَ قولُه تعالى

12

{ربنا اكشف عنا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ} وهَذا قولُ ابن عباسٍ وابن مسعود رضيَ الله عنُهم وبه أخذَ مجاهدٌ ومقاتلٌ وهو اختيارُ الفَرَّاءِ والزَّجَّاجِ وقيلَ هو داخان يأتِي من السماءِ قبلَ يومِ القيامةِ فيدخلُ في أسماعِ الكفرةِ حتَّى يكونَ رأس الواحد كالرأس الحنيد ويعترِي المؤمنَ منه كهيئةِ الزكامِ وتكونُ الأرضُ كُّلها كبيت أو قد فيه ليس خصاصٌ وعن رسولِ الله صلى الله عليه سولم أولُ الآياتِ الدُّخانُ ونزولُ عيسى ابنِ مريمَ ونارٌ تخرجُ من قعرِ عدنِ أبْينَ تسوقُ النَّاسَ إلى المحشرِ قالَ حذيفةُ يا رسولَ الله وما الدُّخانُ فتَلا الآيةَ وقالَ يملأُ ما بينَ المشرقِ والمغربِ يمكثُ أربعينَ يوماً وليلةً أمَّا المؤمنُ فيصيبُه كهيئةِ الزكمةِ وأما الكافرُ فهو كالسكرانِ يخرجُ من مَنْخِريهِ وأذنيهِ ودبُرهِ والأولُ هُو الذي يستدعيِه مساقُ النظمِ الكريمِ قطعاً فإنَّ قولَه تعالى

13

{أنى لَهُمُ الذكرى} إلخ ردٌّ لكلامِهم واستدعائِهم الكشفَ وتكذيبٌ لهم في الوعدِ بالإيمانِ المنبىءِ عن التذكرِ والاتعاظِ بما اعتراهُم من الداهيةِ أي كيفَ يتذكرونَ أو من أين يتذكرون بذلك ويفُون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذابِ عنهم {وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ} أيْ والحالُ أنَّهم شاهُدوا منْ دَوَاعي التذكرِ وموجباتِ الاتعاظِ ما هو أعظمُ منِهُ في إيجابِها حيثُ جاءَهُم رسولٌ عظيمٌ الشأنِ وبين لهم مناهجَ الحقِّ بإظهار آياتٍ ظاهرةٍ ومعجزاتٍ قاهرةٍ تخِرُّ لها صُمُّ الجبال

14

{ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ} عن ذلك الرسول وهو هو ريثما شاهدوا منه ما شاهدوا من العاظئم الموجبةِ للإقبال عليه ولم يقتنعوا بالتولى

الدخان آية (15 19) {وَقَالُواْ} في حقِّهِ {مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} أي قالوا تارة يعلمُه غلامٌ أعجميٌّ لبعض ثقيفٍ وأُخرى مجنونٌ أو يقولُ بعضهم كذَا وآخرونَ كَذا فَهلْ يتوقعُ من قوم هذه صفاتُهم أنْ يتأثرُوا بالعظة والتذكير وما مثلُهم إلا كمثلِ الكلبِ إذَا جاعَ ضَغَا وإذا شبع طغا وقوله تعالى

15

{إنا كاشفو العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} جوابٌ من جهتهِ تعالى عن قولِهم رَّبنا اكشفْ عنا العذاب إنا مؤمنون بطريق الالتفات لمزيد التوبيخ والتهديد وما بينهما اعتراضٌ أيْ إنا نكشفُ العذابَ المعهود عنكم كشفنا قليلاً أو زماناً قليلاً إنكم تعودون إثرَ ذلك إلى ما كنتُم عليه من العُتوِّ والإصرارِ على الكفر وتنسَون هذه الحالَة وصيغةُ الفاعلِ في الفعلينِ للدِلالة على تحقُّقهما لا محالةَ ولقد وقعَ كلاهُما حيث كشف الله تعالى بدعاءِ النبيِّ صبى الله عليه وسلم فمَا لبِثُوا أنْ عادُوا إلى ما كانُوا عليه من العتق والعِنادِ ومَن فسر الدخانٍ بما هُو من الأشراطِ قال إذَا جاء الدخانُ تضوّرَ المعذبونَ به من الكفارِ والمنافقينِ وغوَّثُوا وقالُوا ربنا اكشف عنا العذاب إنَّا مؤمنونَ فيكشفه الله تعالَى عنهُم بعدَ أربعينَ وريثما يكشفُه عنهم يرتدونَ ولا يتمهلونَ

16

{يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى} يومِ القيامةِ وقيل يومُ بدرٍ وهو ظرفٌ لما دلَّ عليه قولُه تعالى {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} لا لمنتقمون لأن إنَّ مانعةٌ من ذلكَ أي يومئذٍ ننتقمُ إنَّا منتقمون وقيلَ هو بدلٌ منْ يومَ تأتِي الخ وقُرىءَ نُبطش أي نحملُ الملائكةَ على أن يبطشُوا بهم البطشةَ الكُبرى وهو التناولُ بعنفٍ وصَولةٍ أو نجعل البطشةَ الكُبرى باطشةً بهم وقُرِىءَ نبطُش بضمِّ الطاءِ وهي لغةٌ

17

{ولقد فتنَّا قبلهم قومَ فرعونَ} أي امتحناهُم بإرسالِ موسى عليه السلام أوقعناهُم في الفتنةِ بالإمهالِ وتوسيعِ الرزقِ عليهم وقُرِىءَ بالتشديدِ للمبالغة أو لكثرة القوم {وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} على الله تعالى أو على المؤمنين وفي نفسه لأن الله تعالى لم يبعثْ نبياً إلا منْ سَراةِ قومِه وكرامِهم

18

{أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ الله} أيْ بأنْ أدُّوا إليَّ بني إسرائيلَ وأرسلُوهم معي أو بأنْ أَدُّوا إلي عبادَ الله حقَّه من الإيمانِ وقبولِ الدَّعوةِ وقيلَ أنْ مفسرةٌ لأنَّ مجيءَ الرسولِ لا يكونُ إلا برسالةٍ ودعوةٍ وقيل مخفَّفةٌ من الثَّقيلة أيْ جاءَهُم بأن الشام أدُّوا إلى إلخ وقولُه تعالى {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} تعليلٌ للأمر أو لوجوب المأمورِ به أيْ رسولٌ غيرُ ظَنِينٍ قد ائتمننى الله تعالى على وحيه وصدَّقنِي بالمعجزاتِ القاهرةِ

19

{وأن لا تعلوا على الله} أي لا تتكبرُوا عليه تعالى بالاستهانة بوحيهِ وبرسوله وأنْ كالتي سلفتْ وقوله تعالى {إني آتيكم} أي من جهته تعالى

} 8 20 {بسلطان مُّبِينٌ} تعليلٌ للنَّهي أيْ آتيكُم بحجةٍ واضحةٍ لا سبيلَ إلى إنكارها وآتيكم على صيغةِ الفاعلِ أو المضارعِ وفي إيراد الأداءِ معَ الأمين والسلطانِ مع العُلاَ منَ الجزالةِ مالا يَخْفى

20

{وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ} أي التجأتُ إليهِ وتوكلتُ عليهِ {أَن تَرْجُمُونِ} من أنْ ترجمُونِي أيْ تُؤذونِي ضرباً أو شتماً أو أنْ تقتلوني قيلَ لمَّا قالَ وأنْ لا تعلُوا على الله توعّدوه بالقتلِ وقُرِىءَ بإدغامِ الذالِ في التَّاءِ

21

{وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فاعتزلون} أي وإنْ كابرتُم مقتضَى العقلِ ولم تُؤمنوا لى فخلوني كفافا لا عليَّ ولا ليَ ولا تتعرضوا بشرَ ولا أذَى فليس ذلك جزاء يدعُوكم إلى ما فيهِ فلاحُكم وحملُه على مَعْنى فاقطعوا أسباب الوصلى عن فلا موالا بيني وبينه وبين من وبينمن لا يُؤمنُ يأباهُ المقامُ

22

{فدعا ربه} بعد ما تمُّوا على تكذيبهِ عليه السَّلامُ {إِنَّ هَؤُلآء} أي بأن هؤلاء {قوم مجرمين} وهو تعريضٌ بالدُّعاءِ عليهم بذكر ما استوجبون ولذلك سُمِّيَ دعاءً وقُرِىءَ بالكسرِ على إضمارِ القولِ قيل كانَ دعاؤُه اللَّهم عجِّلْ لهُم ما يستحقونَهُ بإجرامِهم وقيلَ هُو قولُه رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين

23

{فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً} بإضمارِ القولِ إِمَّا بعدَ الفاءِ أيْ فقالَ ربُّه أسرِ بعبادِي وإما قبلَها كأنَّه قيلَ إنْ كانَ الأمرُ كَما تقولُ فأسرِ بعبادِي أيْ ببني إسرائل فقد دب الله تعالى أنْ تتقدمُوا وقُرِىءَ بوصلِ الهمزةِ منْ سَرَى {إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} أي يتبعكُم فرعونُ وجنودُه بعد ما علمُوا بخروجِكم

24

{واترك البحر رَهْواً} مفتوحاً ذا فجوةٍ واسعةٍ أو ساكناً على هيئته بعدَ ما جاوزْتَه ولا تضربْهُ بعصاكَ لينطبقَ ولا تغيِّرْهُ عن حالِه ليدخلَه القبطُ {إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} وقرىءَ أنَّهم بالفتحِ أيْ لأَنَّهم

25

{كَمْ تَرَكُواْ} أي كثيراً تركوا بمصرَ {مّن جنات وَعُيُونٍ} {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} محافلَ مزيّنة ومنازلَ محسَّنةٍ

27

{وَنَعْمَةٍ} أي تنعمٍ {كَانُواْ فِيهَا فاكهين} متنعمينَ وقُرِىءَ فكِهينَ

28

{كذلك} الكافُ في حيِّز النصب وذلكَ إشارةٌ إلى مصدرِ يدل عليه تركوا أي مثل ذلك السلبِ سلبناهُم

} 5 29 إياها {وأورثناها قوما آخرين} وقيلَ مثلَ ذلكَ الإخراجِ أخرجناهُم منها وقيلَ في حيزِ الرفعِ على الخبريةِ أيِ الأمرُ كذلكَ فحينئذٍ يكونُ أورثناهَا معطوفاً على تركُوا وعلى الأولَينِ على الفعلِ المقدرِ

29

{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض} مجازٌ عن عدمِ الاكتراث بهلاكهم ولاعتداد بوجودِهم فيهِ تهكمٌ بهِم ويجالهم المنافيةِ لحالِ من يعظمُ فقدُه فيقالُ له بكتْ السماءُ والأرضُ ومنْهُ ما ورى إنَّ المؤمنَ ليبكي عليه مُصَّلاهُ ومحلُّ عبادتِه ومصاعدُ عملِه ومهابطُ رزقِه وآثارُه في الأرضِ وقيلَ تقديرُه أهلُ السماءِ والأرضِ {وَمَا كَانُواْ} لمَّا جاءَ وقتُ هلاكِهم {مُّنظَرِينَ} ممهلينَ إلى وقتٍ أخرَ أو إلى الآخرةِ بلْ عُجِّلَ لهم في الدُّنيا

30

{ولقد نجينا بني إسرائيل} بأنْ فعلنا بفرعونَ وقومِه ما فعلنا {مِنَ العذاب المهين} من استعبادِ فرعونَ إيَّاهم وقتلِ أبنائِهم واستحياءِ نسائِهم على الخسفِ والضيمِ

31

{مِن فِرْعَوْنَ} بدلٌ من العذابِ إمَّا على جعلِه نفسَ العذابِ لإفراطِه فيهِ وإمَّا على حذفِ المضافِ أي عذابِ فرعونَ أو حالٌ من المهينِ أي كائناً منْ فرعونَ وقُرِىءَ مَنْ فرعونُ على مَعْنى هل تعرفونَهُ من هُو في عُتوِّه وتفَرْعُنِهِ وفي أيهام أمره أولا وتبينه بقولِه تعالَى {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين} ثانياً من الإفصاحِ عن كُنِه أمرِه في الشرِّ والفسادِ مالا مزيدَ عليهِ وقولُه تعالَى منَ المُسرفينَ إمَّا خبرٌ ثانٍ لكانَ أي كان متكبراً مسرفاً أو حالٌ من الضميرِ في عالياً أيُ كانَ رفيعَ الطبقةِ من بينِ المسرفينَ فائقاً لهُم بليغاً في الإسرافِ

32

{وَلَقَدِ اخترناهم} أي بنِي إسرائيلا {على عِلْمٍ} أي عالمينَ عالمينَ بأنَّهم أحِقَّاءُ بالاختيارِ أو عالمن بانهم يزيغون في الأوقاتِ ويكثرُ منُهم الفرطاتُ {عَلَى العالمين} جميعاً لكثرةِ الأنبياءِ فيهم أو على عالمي زمانهم

33

{وآتيناهم مِنَ الأيات} كفلْقِ البحرِ وتظليلِ الغمامِ وإنزالِ المنِّ والسَّلْوى وغيرِها من عظائمِ الآياتِ التي لم يُعهدْ مثلُها في غيرِهم {مَا فيه بلاء مُّبِينٌ} نعمةٌ جليةٌ أو اختبارٌ ظاهرٌ لننظرَ كيفَ يعملونَ

34

{إِنَّ هَؤُلآء} يَعْني كفارَ قريشٍ لأنَّ الكلامَ فيهم وقصةُ فرعونَ وقومِه مَسوقةٌ للدلالةِ على تماثِلهم في الإصرارِ عَلَى الضِّلالةِ والتحذيرِ عن حلولِ مثلُ ما حلَّ بهم {لَيَقُولُونَ}

35

{إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى} أي ما العاقبةُ ونهايةُ الأمرِ إلا الموتةُ الأوى المزيلُة للحياةِ الدُّنيويةِ ولا قصد إلى إثباتِ موتةٍ أُخْرى كمَا في قولِك حجَّ زيد

40 36 الحجَّةَ الأُولى وماتَ وقيلَ لمَّا قيلَ لهم إنكُم تموتونَ موتةً تعقبُها حياةٌ كما تقدمتم موتة كذلك قالوا ماهي إلا موتتنا الأولى أي ما الموتةُ التي تعقُبها حياةٌ إِلاَّ الموتةُ الأُولى وقيل المَعْنى ليست الموتةُ إلا هذهِ الموتة دونَ الموتةِ التي تعقبُ حياةَ القبرِ كَما تزعمونَ {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} بمبعوثينَ

36

{فأتوا بآبائنا} حطاب لمن وعَدَهُم بالنُّشورِ من الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنينَ {إِن كُنتُمْ صادقين} فيمَا تعِدونه مِنْ قيامِ السَّاعةِ وبعثِ الموتَى ليظهر أنَّه حقٌّ وقيلَ كانُوا يطلبونَ إليهم أنْ يدعُوا الله تعالى فينشُرَ لهم قصى ابن كلابٍ ليشاورُوه وكانَ كبيرَهُم ومفزَعَهُم في المهمَّاتِ والملمَّاتِ

37

{أَهُمْ خَيْرٌ} ردٌّ لقولِهم وتهديدٌ لَهُم أيْ أهُم خيرٌ في القوةِ والمنعةِ اللتينِ يُدفعُ بهما أسبابُ الهلاكِ {أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} هو تبعٌ الحميريُّ الذي سارَ بالجيوشِ وحيَّر الحِيرةَ وبنى سمرقدند وقيل هدمَها وكان مؤمناً وقومُه كافرينَ ولذلكَ ذمَّهم الله تعالَى دونَهُ وكان يكتبُ في عنوانِ كتابِه بسمِ الله الذي ملكَ بحراً وبحراً أي بحاراً كثيرة وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لا نسبوا تُبعاً فإنَّه كانَ قد أسلمَ وعنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ما أدْرِي أكانَ تبعٌ نبياً أو غيرَ نبيَ وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه كانَ نبياً وقيلَ لملوكِ اليمنِ التبابعةِ لأنَّهم يُتبعونَ كما يقالُ لهم الأقيالُ لأنَّهم يتقيَّلونَ {والذين مِن قَبْلِهِمْ} عطفٌ على قومُ تبع والمراد بهم عادو وثمودُ وأضرابُهم من كلِّ جبار عنبيد أولي بأسٍ شديدٍ والاستفهامُ لتقريرِ أنَّ أولئكَ أقوى مِنْ هؤلاءِ وقولُه تعالَى {أهلكناهم} استئنافٌ لبيانِ عاقبةِ أمرِهم وقولُه تعالَى {إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} تعليلٌ لإهلاكِهم ليَعلمَ أنَّ أولئكَ حيثُ أهُلكُوا بسببِ إجرامِهم معَ ما كانُوا في غاية القوةِ والشدةِ فلأنْ يَهلكَ هؤلاءِ وهم شركاءُ لهم في الإجرامِ أضعفُ منهم في الشدة والقوة وأولى

38

{وما خلقنا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي ما بينَ الجنسينِ وقُرِىءَ وما بينهت {لاَعِبِينَ} لاهينَ من غيرِ أنْ يكونَ في خلقِهما غرضٌ صحيحٌ وغايةٌ حميدةٌ

39

{مَا خلقناهما} وَمَا بَيْنَهُمَا {إِلاَّ بالحق} استثناءٌ مفرغٌ من أعم الأموال أو أعمِّ الأسبابِ أي ما خلقناهُمَا ملتبساً بشيءٍ من الأشياءِ إلا ملتبساً بالحقِّ أو ما خلقناهُمَا بسببٍ من الأسبابِ إلا بسببِ الحقِّ الذي هُو الإيمانُ والطَّاعةُ والبعثُ والجزاءُ {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أنَّ الأمرَ كذلكَ فينكرون البعث والجزاءُ {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أنَّ الأمرَ كذلكَ فينكرون البعثَ والجزاءَ

40

{إِنَّ يَوْمَ الفصل} أي فصلِ الحقِّ عن الباطلِ وتمييزِ المحقِّ من المبطلِ أو فصلِ الرجلِ عن أقاربِه وأحبَّائِه {ميقاتهم} وقتَ موعدهم أجمعين وقُرىءَ بالنصبِ على أنَّه اسمُ إنَّ ويوم الفصلِ خبرُها أي أنَّ ميعادَ حسابهم وجزاءهم في يومِ الفصلِ

50 4 {

41

{يَوْمَ لاَ يُغْنِى} بدلٌ من يوم الفصل أو صفةٌ لميقاتُهم أو ظرفٌ لما دلَّ عليه الفصل لالنفسه {مَوْلَى} مِنْ قرابةٍ أو غيرِها {عَن مَّوْلًى} أيُّ مَوْلَى كانَ {شَيْئاً} أيْ شيئاً من الإغناءِ {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} الضميرُ لمولَى الأول باعتبارِ المَعْنى لأنَّه عامٌّ

42

{إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله} بالعفوِ عنْهُ وقبولِ الشفاعةِ في حقِّه ومحلُّه الرفعُ على البدلِ من الواوِ أو النصب على لاستثناء {إِنَّهُ هُوَ العزيز} الذي لا يُنصرُ من أرادَ تعذيبَهُ {الرحيم} لمنْ أرادَ أنْ يرحَمهُ

43

{إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم} وقُرِىءَ بكسرِ الشينِ وقد مرَّ مَعْنى الزقومِ في سورةِ الصَّافاتِ

44

{طَعَامُ الأثيم} أي الكثيرِ الآثامِ والمرادُ به الكافرُ لدلالةِ ما قبلَهُ وما بعدَه عليهِ

45

{كالمهل} وهو ما يُمهلُ في النَّارِ حتَّى يذوبَ وقيلَ هو دُرْدِيُّ الزَّيتِ {يَغْلِى فِى البطون} وقُرِىءَ بالتاءِ على إسنادِ الفعلِ إلى الشَّجرةِ

46

{كَغَلْىِ الحميم} غلياناً كغليهِ

47

{خُذُوهُ} عَلى إرادةِ القولِ والخطابُ للزبانيةِ {فاعتلوه} أي جُرُّوه والعَتلُ الأخذُ بمجامعِ الشيءِ وجرُّه بقهرٍ وعنفٍ وقُرِىءَ بضمِّ التاءِ وهي لغةٌ فيهِ {إلى سَوَاء الجحيم} أي وسطِه

48

{ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم} كانَ الأصلُ يصبُّ من فوقِ رؤسهم الحميمُ فقيلَ يصبُّ من فوق رؤسهم عذابٌ هو الحميمُ للمبالغةِ ثم أضيفَ العذابُ إلى الحميمِ للتخفيفِ وزيدَ من للدلالةِ على أنَّ المصبوبَ بعضُ هذا النوعِ

49

{ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} أى وقولوا ذلك استهزاء به وتقريع له على ما كانَ يزعمُه رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما بينَ جبليَها أعزُّ ولا أكرمُ منِّي فوالله ما تستطيعُ أنتَ ولا ربك أن تفعلابي شيئاً وقُرىءَ بالفتحِ أي لأنَّك أو عذابُ أنَّك

50

{إِنَّ هَذَا} أي العذابَ {مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} تشكون وتمارن فيهِ والجمعُ باعتبارِ المعنى لأنَّ

59 5 { المرادَ جنسُ الأثيمِ

51

{إِنَّ المتقين} أيْ عنِ الكفرِ والمعاصِي {فِى مَقَامٍ} في موضعَ قيامٍ والمرادُ المكانُ على الإطلاقِ فإنَّه من الخاصِّ الذي شاعَ استعمالُه في مَعْنى العمومِ وقُرِىءَ بضم المم وهو مَوضعُ إقامة {أَمِينٌ} بأمن صاحبُه الآفاتِ والانتقالَ عنْهُ وهو منَ الأمنِ الذي هُو ضدُّ الخيانةِ وصفَ به المكانُ بطريقِ الاستعارةِ كأنَّ المكانَ المخيفَ يخونُ صاحبَهُ لما يَلْقى فيهِ من المكارِه

52

{فِى جنات وَعُيُونٍ} بدلٌ من مقامٍ جيءَ بهِ دِلالةً على نزاهتِه واشتمالِه على طيباتِ المآكلِ والمشاربِ

53

{يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} إما خبرٌ ثانٍ أو حالٌ من الضمير في الجارِّ أو استئنافٌ والسندسُ مارق من الحرير والاستبراق ما غلُظَ منْهُ معرَّبٌ {متقابلين} في المجالسِ ليستأنسَ بعضُهم ببعضٍ

54

{كذلك} أي الأمرُ كذلكَ أو كذلكَ أثبناهُم {وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ} على الوصفِ وقُرِىَء بالإضافةِ أي قرنّاهم بهنَّ والحورُ جمعُ الحوراءِ وهي البيضاءُ والعينُ جمعُ العيناءِ وهي العظيمةُ العينينِ واختلاف في أنهنَّ نساءُ الدُّنيا أو غيرُها

55

{يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فاكهة} أي يطلبونَ ويأمرونَ بإحضارِ ما يشتهونَهُ من الفواكهِ لا يتخصصُ شيءٌ منها بمكان ولا زمان {آمنين} من كلِّ ما يسوؤهم

56

{لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} بل يستمرُّونَ على الحياةِ أبداً ولاستتثناء منقطعٌ أو متصلٌ على أنَّ المرادَ بيانُ استحالةِ ذوقِ الموتِ فيها على الإطلاقِ كأنَّه قيلَ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إلا إذا أمكن ذوقُ الموتةِ الأوى حينئذٍ {ووقاهم عَذَابَ الجحيم} وقُرِىءَ مشدداً للمبالغةِ في الوقايةِ

57

{فَضْلاً مّن رَّبّكَ} أي أُعطوا ذلكَ كلُّه عطاءً وتفضيلا منه تعالَى وقُرِىءَ بالرفعِ أي ذلكَ فضلٌ {ذلك هُوَ الفوز العظيم} الذِي لا فوزَ ورِاءَهُ إذ هُو خلاصٌ عن جميعِ المكاره ونيل لكل المطالب وقولُه تعالى

58

{فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فذلكةٌ للسورةِ الكريمةِ أى إنَّما أنزلنَا الكتابَ المبينَ بلغُتكَ كيَ يفهمُه قومُك ويتذكروا ويعلموا بموجب وإذا لم يفعلُوا ذلكَ

59

{فارتقب}

1 - 2 3 4 الجاثية فانتظرْ ما يحِلُّ بهم {إنهم مرتقبون} ما يحب بكَ رُويَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ حم الدخان ليلةَ الجمعةِ أصبحَ مغفوراً له سورة الجاثية مكية وهي سبع وثلاثون آية بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم

الجاثية

{حم} الكلامُ فيه كما مرَّ في فاتحةِ سورةِ المؤمنِ فإنْ جُعلَ اسماً للسورةِ فمحلُّه الرفعُ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي هذا مُسمَّى بحم والإشارةُ إلى السورةِ قبل جريانِ ذكرِها قد وقفتَ على سرِّه مراراً وإنْ جُعلَ مسروداً على نمطِ التَعديدِ فلا حظَّ له من الإعرابِ وقولُه تعالى

2

{تَنزِيلُ الكتاب} على الأولِ خبرٌ بعدَ خبرٍ على أنَّه مصدرٌ أُطلق على المفعولِ مبالغة وعلى الثَّاني خبرٌ لمبتدأٍ مضمرٍ يلوحُ وه ما قبلَهُ أي المؤلَّفُ من جنسِ ما ذُكر تنزيلُ الكتابِ وقيلَ هو خبرٌ لحم أي المُسمَّى به تنزيلُ الخ وقد مرَّ مراراً أنَّ الذي يُجعلُ عُنواناً للموضوعِ حقُه أنْ يكونَ قبلَ ذلكَ معلومَ الانتساب إليه وإذا لا عهدَ بالتسميةِ بعدُ فحقُّها الإخبارُ بَها وأما جعلُه خبراً له بتقديرِ يعتد بها تمحلٍ وقولُه تعالى {مِنَ الله العزيز الحكيم} كما مرَّ في صدرِ سورةِ الزمرُ على التفصيلِ وقيلَ حم مقسمٌ به وتنزيلُ الكتابِ صفتُه وجوابُ القسمِ قوله تعالى

3

{إن في السماوات والأرض لأَيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} وهو على الوجوهِ المتقدمةِ كلامٌ مستأنف مسوقٌ للتنبيهِ على الآياتِ التكوينيةِ الآفاقيةِ والأنفسيةِ ومحلُّ الآياتِ إمَّا نفسُ السمواتِ والأرضِ فإنَّهما منطويتانِ من فنونِ الآياتِ على ما يقصرُ عنه البيانُ وإما خلقُهما كما في قولِه تعالى إِنَّ فِى خَلْقِ السموات والأرض وهو الأوفقُ بقولِه تعالى

4

{وَفِى خَلْقِكُمْ} أي من نطفةٍ ثم من علقةٍ متقلبةٍ في أطوارٍ مختلفةٍ إلى تمامِ الخلقِ {وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ} عطفٌ على المضافِ دونَ المضافِ إليه أي وفيمَا ينشرُه ويفرقه من دابة {آيات} بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه الظرف المقدم والجمل معطوفةٌ على ما قبلها كم الجملةِ المصدرةِ بإنَّ وقيلَ آياتٌ عطفٌ على ما قبلَها من آياتٍ باعتبارِ المحلِّ عندَ من يُجوِّزُه وقرئ

5 - 6 7 8 الجاثية آية التوحيد وقرئ آيات بالنصب عطفاً على ما قبلها من اسم إن والخبر كأنه قيل وإن في خلقكم وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آياتٍ {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي من شأنِهم أنْ يُوقنوا بالأشياءِ على ما هيَ عليه

5

{واختلاف الليل والنهار} بالجرِّ على إضمارِ الجارِّ المذكورِ في الآيتينِ قبله وقد قرئ بذكرِه والمرادُ باختلافِهما إمَّا تعاقبهما طولاً وقِصَراً {وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء} عطفٌ على اختلافِ {مِن رّزْقِ} أي من مطرٍ وهو سببُ للرزقِ عُبرَ عنهُ بذلكَ تنبيهاً على كونِه آيةً من جِهتَيْ القُدرةِ والرحمةِ {فَأحْيَا بِهِ الأرض} بأنْ أخرجَ منها أصنافَ الزروعِ والثمراتِ والنباتِ {بَعْدَ مَوْتِهَا} وعرائها عن آثارِ الحياة وانتفاء قوةِ التنميةِ عنها وخُلوِّ أشجارِها عن الثمارِ {وَتَصْرِيفِ الرياح} من جهة أُخرى ومن حالٍ إلى حال وقرئ بتوحيدِ الريحِ وتأخيرُه عن إنزالِ المطرِ مع تقدمِه عليهِ في الوجودِ إمَّا للإيذانِ بأنه آيةٌ مستقلةٌ حيثُ لو رُوعيَ الترتيبُ الوجوديُّ لربَّما توهِّم أنَّ مجموعَ تصريفِ الرياحِ وإنزالِ المطرِ آيةٌ واحدةٌ وإمَّا لأنَّ كونَ التصريفِ آيةً ليس لمجرد كونه مبدألإنشاء المطرِ بل لهُ ولسائرِ المنافعِ التي من جُملتها سَوْقُ السفنِ في البحارِ {آيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه ما تقدمَ من الجارِّ والمجرورِ والجملةُ معطوفةٌ على ما قبلها وقرئ بالنصبِ على الاختصاصِ وقيلَ على أنَّها اسمُ أنَّ والمجرورُ المتقدمُ خبرُها بطريقِ العطفِ على معمولَيْ عاملينِ مختلفينِ هُمَا أنَّ وفي أقيمتِ الواوُ مُقامَهُما فعملتِ الجرَّ في اختلافِ والنصبَ في آياتٍ وتنكيرُ آياتٍ في المواقعِ الثلاثةِ للتفخيمِ كماً وكيفاً واختلافُ الفواصلِ لاختلافِ مراتبِ الآياتِ في الدقةِ والجلاءِ

6

{تِلْكَ آيات الله} مبتدأٌ وخبرٌ وقولُه تعالَى {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} حالٌ عاملُها معنى الإشارةِ وقيلَ هو الخبرُ وآياتُ الله بدلٌ أو عطفُ بيانٍ {بالحق} حالٌ من فاعلِ نتلُو ومن مفعولِه أي نتلُوها مُحِقينَ أو ملتبسةً بالحقِّ {فَبِأَىّ حَدِيثٍ} من الأحاديثِ {بَعْدَ الله وآياته} أي بعد آياتِ الله وتقديمُ الاسمِ الجليلِ لتعظيمِها كان في قولِهم أعجبنِي زيدٌ وكرمُه أو بعدَ حديثِ الله الذي هُو القرآنُ حسبما نطق به قوله تعالى نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث وهو المراد بآياته ومناطُ العطفِ التغايرُ العُنوانِي {يؤمنون} بصيغة الغيبة وقرئ بالتار

7

{وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ} كذابٍ {أثيم} كثر الآثام

8

{يسمع آيات الله} صفةٌ أخرى لأفَّاكٍ وقيل استئناف وقيلَ حالٌ من الضميرِ في أثيمٍ {تتلى عَلَيْهِ} حالٌ من آياتِ الله ولا مساغَ لجعلِه مفعولاً ثانياً ليسمعُ لأنَّ شرطَهُ أنْ يكونَ ما بعَدهُ مما لا يسمع

9 - 10 11 الجاثية كقوله سمعتُ زيداً يقرأُ {ثُمَّ يُصِرُّ} أي يقيمُ على كُفره وأصلُه من إصرارِ الحمارِ على العانة {مُسْتَكْبِراً} عن الإيمانِ بما سمعهُ من آياتِ الله تعالى والإذعان لما تنطق مُزدرياً لها مُعجَباً بما عندَهُ من الأباطيلِ وقيلَ نزلتْ في النَّضْر بنِ الحرث وكان يشترِي من أحاديثِ الأعاجمِ ويشغلُ بها النَّاسَ عن استماعِ القُرآنِ لكنَّها وردتْ بعبارةٍ عامةٍ ناعية عليهِ وعلى كلِّ من يسيرُ سيرتَهُ ما هم فيه من الشرِّ والفسادِ وكلمةُ ثمَّ لاستبعادِ الإصرارِ والاستكبارِ بعد سماعِ الآياتُ التي حقُّها أنْ تُذعنَ لها القلوبُ وتخضعَ لها الرقاب كما في قوله مَنْ قالَ يَرَى غَمَراتِ المَوْتِ ثُمَّ يزورُهَا {كَأَن لم يسمعها} أي كائن لم يسمعْهَا فخُفف وحُذف ضميرُ الشأنِ والجملةُ حالٌ من يُصرُّ أي يصرُّ شبيهاً بغيرِ السامعِ {فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} على إصرارِه واستكبارِه

9

{وإذا علم من آياتنا شَيْئاً} أي إذا بلغَهُ من آياتِنا شيءٌ وعلم أنَّه من آياتِنا لا أنه علمه هُو عليهِ فإنَّه بمعزلٍ من ذلك العلمِ وقيلَ إذا علم منها شيئاً يمكنُ أنْ يتشبثَ به المعاندُ ويجدَ له محملاً فاسداً يتوصلُ به إلى الطعنِ والغميزةِ {اتخذها} أي الآياتِ كلها {هزوا} أي مهزوئا بها لاما سمَعهُ فقطْ وقيلَ الضميرُ للشيءِ والتأنيثُ لأنَّه في معنى الآيات {أولئك} إشارةٌ إلى كلِّ أفاكٍ من حيثُ الاتِّصافُ بما ذُكر من القبائح والجمعُ باعتبارِ الشمولِ للكلِّ كما في قوله تعالى كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ كما أنَّ الإفرادَ فيما سبقَ من الضمائرِ باعتبارِ كلِّ واحدٍ واحدٍ {لَهُمْ} بسببِ جناياتِهم المذكورةِ {عَذَابٌ مُّهِينٌ} وصفٌ العذابِ بالإهانةِ توفيةً لحقِّ استكبارِهم واستهزائِهم بآياتِ الله سبحانه وتعالى

10

{مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} أي من قُدامِهم لأنهم متوجهونَ إلى ما أعد لهم أو من خلفِهم لأنهم معرضونَ عن ذلكَ مقبلونَ على الدُّنيا فإن الوراءَ اسمٌ للجهةِ التي يُواريها الشخصُ من خلفٍ وقُدامٍ {وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم} ولا يدفعُ {مَّا كَسَبُواْ} من الأموالِ والأولادِ {شَيْئاً} من عذابِ الله تعالى أو شيئاً من الإغناءِ {وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء} أي الأصنامَ وتوسيطُ حرفِ النفي بينِ المعطوفينِ مع أنَّ عدمَ إغناءِ الأصنامِ أظهرُ وأجلى من عدمِ إغناءِ الأموالِ والأولادِ قطعاً مبنيٌّ على زعمِهم الفاسدِ حيثُ كانُوا يطعمون في شفاعتِهم وفيه تهكمٌ {وَلَهُمْ} فيما وراءَهُم من جهنمَ {عَذَابٌ عظِيمٌ} لا يقادَرُ قَدرُه

11

{هذا} أي القرآنُ {هُدًى} في غايةِ الكمالِ من الهدايةِ كأنَّه نفسُها {والذين كَفَرُواْ} أي بالقرآنِ وإنما وضع موضع ضميره قوله تعالى {بآيات رَبّهِمْ} لزيادةِ تشنيعِ كفرِهم به وتفظيعِ حالِهم {لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ} أي من أشدِّ العذابِ {أَلِيمٌ} بالرَّفعِ صفة عذاب وقرئ بالجر على أنه صفةٌ رجزٍ وتنوينُ عذابٌ في المواقعِ الثلاثةِ للتفخيمِ ورفعُه إما على الابتداء وإما على الفاعلية

12 - 13 14 الجاثية

12

{الله الذى سَخَّرَ لَكُمُ البحر} بأنْ جعلَه أملسَ السطحِ يطفُو عليهِ ما يتخللُ كالأخشابٍ ولا يمنعُ الغوص والخرقَ لمَيَعانه {لِتَجْرِىَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ} وأنتم راكبوها {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} بالتجارةِ والغوصِ والصيدِ وغيرِها {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ولكيْ تشكرُوا النعَم المترتبةَ على ذلكَ

13

{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السماوات وما في الارض} من الموجوداتِ بأنْ جعلَها مداراً لمنافعِكم {جَمِيعاً} إما حالٌ مِنْ ما في السمواتِ والأرضِ أو توكيدٌ له {مِنْهُ} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لجميعاً أو حالٌ مِنْ مَا أيْ جميعاً كائناً منْهُ تعالَى أو سخَّر لكُم هذهِ الأشياءَ كائنةً منه مخلوقةً له تعالى أو خبرٌ لمحذوفٍ أيْ هي جميعاً منه تعالى وقرئ منه عَلى المفعولِ لَهُ ومنه على أنه فاعلُ سخَّر على الإسنادِ المجازيِّ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي ذلكَ منْهُ {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيما ذكر من الأمور العظائم {لأَيَاتٍ} عظيمةَ الشأنِ كثيرةَ العددِ {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في بدائع صنعِ الله تعالى فإنَّهم يقفونَ بذلكَ على جلائلِ نعمهِ تعالى ودقائِقها ويوفقونَ لشكرِها

14

{قل للذين آمنوا} حُذفَ المقولُ لدلالةِ {يَغْفِرُواْ} عليهِ فإنَّه جوابٌ للأمرِ باعتبارِ تعلقهِ به لا باعتبارِ نفسِه فقطْ أي قُلْ لهم اغفِروا يغفروا {لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} أي يعفُوا ويصفحوا عنِ الذينَ لا يتوقعونَ وقائعَهُ تعالى بأعدائِه من قولِهم أيامُ العربِ لوقائِعها وقيلَ لا يأملون الأوقاتَ التي وقَّتها الله تعالى لثوابِ المؤمنينَ ووعدهم الفوزَ فيها قيلَ نزلتْ قبلَ آيةِ القتالِ ثمَّ نُسختْ بها وقيلَ نزلتْ في عمر رضي الله عنه حينَ شتمَهُ غفاريٌّ فهَّم أنْ يبطشَ بهِ وقيلَ حينَ قالَ ابنُ أُبيِّ ما قالَ وذلكَ أنَّهم نزلُوا في غزوةِ بني المصطلِقِ على بئرٍ يقالُ لها المريسيع فأرسلَ ابنُ أُبيَ غلامَهُ يستَقي فأبطأَ عليهِ فلمَّا أتاهُ قالَ له ما حسبك قال غلامُ عمرَ قعدَ على طرفِ البئرِ فما تركَ أحداً يستَقي حتى ملأ قرب النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقُرَبَ أبي بكرٍ فقالَ ابنُ أُبيَ ما مثلُنا ومثلُ هؤلاءِ إلا كَما قيلَ سمِّنْ كلْبكَ يأكلْكَ فبلغَ ذلكَ عمرَ رضيَ الله عنه فاشتملَ سيفَهُ يريدُ التوجَه إليهِ فأنزلَها الله تعالَى {لِيَجْزِىَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} تعليلٌ للأمرِ بالمغفرةِ والمرادُ بالقومِ المؤمنونَ والتنكيرِ لمدحِهم والثناءِ عليهم أي أُمروا بذلكَ ليجزيَ يومَ القيامةِ قوماً أيَّما قومٍ قوماً مخصوصينَ بما كسبوا في الدُّنيا من الأعمالِ الحسنةِ التي من جُملتها الصبرُ على أذيةِ الكفارِ والإغضاءُ عنهم بكظمِ الغيظِ واحتمالِ المكروهِ ما يقصُر عنه البيانُ من الثوابِ العظيمِ هذا وقد جوِّز أن يراد بالقومِ الكفرةُ وبما كانُوا يكسبونَ سيئاتُهم التي من جُملتها ما حُكِيَ من الكلمةِ الخبيثةِ والتنكيرُ للتحقيرِ وفيهِ أنَّ مطلقَ الجزاءِ لا يصلحُ تعليلاً للأمرِ بالمغفرةِ لتحققِه على تقديريْ المغفرةِ وعدمِها فلا بُدَّ من تخصيصِه بالكلِّ بأنْ لا يتحققَ بعضٌ منه في الدُّنيا أو بما يصدرُ عنه تعالى بالذاتِ وفي ذلكَ من التكلفِ مالا

15 - 16 17 18 19 20 الجاثية يخفِى وأنْ يرادَ كلا الفريقين وهو من أكثرُ تكلفاً وأشدُّ تمحلاً وقرئ ليُجْزَى قومٌ وليُجْزَى قوماً أي ليُجزَى الجزاءُ قوماً وقرئ لنَجْزِي بنونِ العظمةِ

15

{مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} لا يكادُ يسري عملٌ إلى غيرِ عاملِه {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ} مالكِ أمورِكم {تُرْجَعُونَ} فيجازيكُم على أعمالِكم خيراً كانَ أو شراً

16

{ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب} أي التوراةَ {والحكم} أي الحكمة النظرية والعلمية والفقهَ في الدِّينِ أو فصلَ الخصومات بينَ النَّاسِ إذْ كانَ الملكُ فيهم {والنبوة} حيثُ كثُرَ فيهم الأنبياء مالم يكثرْ في غيرِهم {وَرَزَقْنَاهُمْ من الطيبات} مما أخل الله تعالى من اللذائذِ كالمنِّ والسلوى {وفضلناهم عَلَى العالمين} حيث آتيناهم مالم يؤت من عَداهُم من فلقِ البحر وإضلال الغمام ونظائرها وقيلَ على عالَمِي زمانِهم

17

{وآتيناهم بينات مّنَ الأمر} دلائلَ ظاهرةً في أمرِ الدينِ ومعجزاتٍ قاهرةً وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهما هو العلمُ بمبعثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وما بين لهُم من أمرِه وأنَّه يُهاجرُ من تِهامةَ إلى يثربَ ويكونُ أنصارُه أهلَ يثربَ {فَمَا اختلفوا} في ذلك الأمرِ {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} بحقيقتِه وحقِّيتهِ فجعلُوا ما يوجبُ زوالَ الخلافِ مُوجباً لرسوخهِ {بَغْياً بَيْنَهُمْ} أي عداوةً وحسداً لا شكاً فيه {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} بالمُؤاخذةِ والجَزَاءِ {فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} من أَمْرِ الدِّينِ

18

{ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ} أي سنةٍ وطريقةٍ عظيمةِ الشَّأْنِ {مِنَ الأمر} أي أمرِ الدينِ {فاتبعها} بإجراءِ أحكامِها في نفسِك وفي غيرِك من غيرِ إخلالٍ بشيءٍ منَها {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي آراءَ الجهلةِ واعتقاداتِهم الزائغةَ التابعةَ للشهواتِ وهم رؤساءُ قريشٍ كانُوا يقولونَ له عليه الصلاة والسلام ارجعْ إلى دينِ آبائِك

19

{إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً} مما أرادَ بكَ إن اتبعتَهُم {وَإِنَّ الظالمين بعضَهم أولياءُ بَعْضٍ} لا يوُاليهم ولا يتبع أهواءهم إلأا من كان ظالما مثلها {والله وَلِىُّ المتقين} الذين أنت قدوتهم قدم على ما أنت عليه من توليه خاصة الأعراض عمَّا سواهُ بالكُلِّيةِ

20

{هذا} أي القرآنُ أو اتباعُ الشريعةِ {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ}

21 - 22 الجاثية فإنَّ ما فيهِ من معالمِ الدينِ وشعائرِ الشرائعِ بمنزلةِ البصائرِ في القلوبِ {وهدى} منْ ورطةِ الضلالةِ {وَرَحْمَةً} عظيمةٌ {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} منْ شأنِهم الإيقانُ بالأمورِ

21

{أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات} استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ تباينِ حالَيْ المسيئينَ والمحسنين إثر بيان تباينِ حالَيْ الظالمينَ والمتقينَ وأمْ منقطعةٌ وما فيها من معنى بل للانتقال من البيانِ الأولِ إلى الثَّانِي والهمزةُ لإنكارِ الحُسبانِ لكنْ لا بطريقِ إنكارِ الوقوعِ ونفيهِ كَما في قولِه تعالَى أَمْ نَجْعَلُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كالمفسدين فِى الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار بل بطريقِ إنكارِ الواقعِ واستقباحِه والتَّوبيخِ عليه والاجتراحُ الاكتسابُ {أَن نَّجْعَلَهُمْ} أي نُصيَّرهُم في الحُكمِ والاعتبارِ وهُم على ما هم عليه من مساوئ الأحوال {كالذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات} وهُم فيمَا هُم فيهِ من محاسنِ الأعمالِ ونعاملُهُم معاملتهم في الكرامة ورفع الدرجة {سَوَاء محياهم ومماتهم} أيْ محيَا الفريقينِ جميعاً ومماتُهم حال من الضمير في الظرفِ والموصولِ معاً لاشتمالِه على ضميريِهما على أنَّ السواء بمعنى المستوى محياهُم ومماتُهم كلاَّ لا يستوونَ في شيءٍ منهُمَا فإنَّ هؤلاءِ في عزِّ الإيمانِ والطاعةِ وشرفِهما في المَحيا وفي رحمةِ الله تعالَى ورضوانِه في المماتِ وأولئك في ذلك الكفر والمعاصي وهو أنهما في المَحيا وفي لعنةِ الله والعذابِ الخالدِ في المماتِ شتانَ بينهما وقد قيلَ المراد إنكارُ أنْ يستووا في المماتِ كما استَووا في الحياةِ لأن المسيئينَ والمحسنينَ مستوٍ محياهُم في الرزقِ والصحةِ وإنما يفترقون في الممات وقرئ محياهم ومماتَهم بالنصبِ على أنَّهما ظرفانِ كمقْدَمِ الحاجِّ وسواء حاله على حالِه أي حالَ كونِهم مستوينَ في محياهُم ومماتِهم وقد ذُكرَ في الآية الكريمة وجوه من الإعرابِ والذي يليقُ بجزالة التنزيل هو الأول فتدبر وقرئ سواءٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ ومحياهُم مبتدأٌ فقيلَ الجملةُ بدل من الكافِ وقيل حالٌ وأيَّا ما كان فنسبة حسبات التساوي إليهم في ضظم الإنكارِ التوبيخيِّ مع أنَّهم بمعزلٍ منه جازمونَ بفضلِهم عليه إنكارٌ لحسبانِ الجزمِ بالفضلِ وتوبيخٌ عليهِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} أي ساءَ حكمُهم هَذا أو بئسَ شيئاحكموا به ذلكَ

22

{وخلق الله السماوات والأرض بالحق} استئنافٌ مقررٌ لما سبقَ من الحكمِ فإنَّ خلقَ الله تعالى لَهُما وَلِما فيهما بالحقِّ المُقتضِي للعدلِ يستدعِي لا محالة تفضيل المُحْسنِ على المُسيءِ في المَحْيا والمَمَاتِ وانتصارَ المظلومِ من الظالمِ وإذَا لم يطّردْ ذلك في المَحيا فهُو بعد المماتِ حَتْماً {ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} عطفٌ عَلى بالحقِّ لأنَّ فيهِ مَعْنى التعليلِ إذْ معناهُ خلَقَها مقرونةً بالحكمة والصواب دون البعث والباطلِ فحاصلُه خلقَها لأجلِ ذلكَ ولتُجزَى الخ أو على علة

23 - 24 25 الجاثية محذوفةٍ مثلُ ليدلَّ بَها على قدرتِه أو ليعدل ولتُجزى {وَهُمْ} أي النفوسُ المدلولُ عليها بكلِّ نفسٍ {لاَ يُظْلَمُونَ} بنقصِ ثوابٍ أو بزيادةِ عقابٍ وتسميةُ ذلكَ ظُلماً معَ أنَّه ليسَ كذلكَ على ما عرف قاعدةِ أهلِ السُنَّةِ لبيانِ غايةِ تنزهِ ساحةِ لُطفهِ تعالى عما ذكر بتنزيله منزلةَ الظلمِ الذي يستحيلُ صدورُه عنْهُ تعالَى

23

{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} تعجب من حالِ مَنْ تركَ متابعةَ الهُدى إلى مُطاوعةِ الهَوَى فكأنَّه عبدُه أيْ أنظرتَ فرأيتَهُ فإنَّ ذلكَ مِمَّا يُقْضَى منه العجَبَ وقرئ آلهةً هواهُ لأنَّ أحدَهُم كانَ يستحسنُ حجراً فيعبدُه فإذا رَأى أحسنَ منه رفضَهُ إليهِ فكأنَّه اتخذَ آلهةً شتَّى {وَأَضَلَّهُ الله} وخذلَه {على عِلْمٍ} أي عالماً بضلالِه وتبديلِه لفطرةِ الله تعالى التي فَطَرَ النَّاسَ عليها {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} بحيثُ لا يتأثرُ بالمواعظِ ولا يتفكرُ في الآياتِ والنذرِ {وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة} مانعةً عن الاستبصار والاعتبار وقرئ بفتح الغين وضمها وقرئ غشوةً {فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله} أي من بعدِ إضلالِه تعالى إيَّاهُ بموجبِ تعاميهِ عنِ الهُدى وتماديهِ في الغيِّ {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أَلاَ تلاحظونَ فلا تذكرون وقرئ تتذكرونَ على الأصلِ

24

{وَقَالُواْ} بيانٌ لأحكامِ ضلالِهم المحكيِّ أي قالُوا من غايةِ غيِّهم وضلالِهم {مَا هِىَ} أيْ ما الحَيَاةُ {إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا} التي نحنُ فيَها {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي يصيبنا الموتُ والحياةُ فيها وليسَ وراءَ ذلكَ حياةٌ وقيلَ نكونُ نطفاً وما قبلَها وما بعدَها ونحيا بعدَ ذلكَ أو نموتُ بأنفسِنا ونحيَا ببقاءِ أولادِنا أو يموتُ بعضُنا ويحيا بعضُنا وقد جُوِّزَ أنْ يريدُوا به التناسخَ فإنَّه عقيدةُ أكثرِ عبدةِ الأوثان وقرئ نَحْيَا {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر} إلا مرورُ الزمانِ وهُو في الأصلِ مدةُ بقاءِ العالمِ من دَهَرهُ أي غلبه وقرئ إلا دهرٌ يمرُّ وكانُوا يزعمونَ أن المؤثرَ في هلاكِ الأنفسِ هُو مرورُ الأيامِ والليالِي وينكرونَ ملكَ الموتِ وقبضَه للأرواحِ بأمرِ الله تعالى ويضيفونَ الحوادثَ إلى الدهرِ والزمانِ ومنْهُ قوله صلى الله عليه وسلم لا تسبُّوا الدهرَ فإنَّ الله هو الدهرُ أي فإنَّ الله هُو الآتِي بالحوادثِ لا الدهرُ {وَمَا لَهُم بِذَلِكَ} أي بما ذُكر من اقتصارِ الحياةِ على ما في الدُّنيا واستنادِ الحياةِ والموتِ إلى الدهرِ {مِنْ عِلْمٍ} مَا مستندٍ إلى عقلٍ أو نقلٍ {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} ما هُم إلا قوم صارى أمرِهم الظنُّ والتقليدُ من غيرِ أنْ يكونَ لهم شيءٌ يصحُّ أنْ يتمسكَ به في الجملةِ هذا معتقدُهم الفاسدُ في أنفسِهم

25

{وإذا تتلى عليهم آياتنا} النَّاطقةُ بالحقِّ الذي من جُمْلَته البعثُ {بَيّنَاتٍ} واضحاتِ الدِلالة على ما نطقت بهِ أو مبيناتٍ له {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ} بالنصبِ

27 - 28 29 الجاثية على أنه خبرُ كان أيْ مَا كانَ متمسكاً لهم شيءٌ من الأشياءِ {إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتوا بآبائنا إِن كُنتُمْ صادقين} في أنَّا نبعثُ بعدَ الموتِ أي هذا القولُ الباطلُ الذي يستحيلُ أنْ يكونَ من قبيل الحجة وتسمية حجةً إمَّا لسوقِهم إيَّاهُ مساقَ الحُجَّةِ على سبيلِ التهكمِ بهم أو لأنَّه من قبيلِ تحيةٌ بينِهم ضربٌ وجيعُ وقرئ برفعِ حجَّتَهم على أنَّها اسمُ كانَ فالمَعْنى ما كانَ حجَّتُهم شيئاً من الأشياءِ إلا هَذا القولَ الباطلَ

26

{قُلِ الله يُحْيِيكُمْ} ابتداءً {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عندَ انقضاءِ آجالِكم لا كما تزعمونَ من أنَّكم تحيَونَ وتموتونَ بحُكمِ الدهرِ {ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ} بعدَ الموتِ {إلى يَوْمِ القيامة} للجزاءِ {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي في جمعِكم فإن من قدَر على البدءِ قدرَ على الإِعادةِ والحكمةُ اقتضتْ الجمعَ للجزاءِ لا محالةَ والوعدُ المصدقُ بالآيات الدال على وقَوعِها حتماً والإتيانُ بآبائِهم حيثُ كانَ مُزاحماً للحكمةِ التشريعيةِ امتنعَ إيقاعُه {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} استدراكٌ من قولِه تعالَى لاَ رَيْبَ فِيهِ وهُو إمَّا من تمامِ الكلامِ المأمورِ بهِ أو كلامٌ مسوقٌ من جهتِه تعالى تحقيقا للحق وتنبيها على أنَّ ارتيابَهُم لجهلِهم وقُصُورِهم في النظرِ والتفكرِ لا لأنَّ فيه شائبةَ رَيْبٍ مَا

27

{ولله ملك السماوات والأرض} بيانٌ لاختصاصِ المُلكِ المطلقِ والتَّصرفِ الكليِّ فيهمَا وفيمَا بينهُمَا بالله عزَّ وجلَّ إثرَ بيانِ تصرفِه تعالَى في النَّاسِ بالإحياءِ والإماتةِ والبعثِ والجمعِ للمُجازاةِ {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون} العاملُ في يوم يخسرو يومئذ بدلٌ منه

28

{وترى كُلّ أمَّةٍ} منَ الأممِ المجموعةِ {جَاثِيَةً} باركةً على الركب مستوفزة وقرئ جاذيةً أي جالسةً على أطرافِ الأصابعِ والجَذْوُ أشدُّ استيفازاً منَ الجُثُوّ وعنِ ابن عباس رضي الله عنهما جاثية مجتمعةً وقيلَ جماعاتٍ من الجثو وهيَ الجماعةُ {كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كتابها} إلى صحيفة أعمالها وقرئ كُلَّ بالنَّصبِ على أنَّه بدلٌ من الأولِ وَتُدْعَى صفةٌ أو حالٌ أو مفعولٌ ثانٍ {اليوم تُجْزَوْنَ ما كنتم تعملون} أي يقالُ لهم ذلكَ وقوله تعالى

29

{هذا كتابنا} الخ من تمامِ ما يُقالُ حينئذٍ وحيثُ كانَ كتابُ كلِّ أمةٍ مكتوباً بأمرِ الله تعالى أصيف إلى نونِ العظمةِ تفخيماً لشأنِه وتهويلاً لأمرِه فهذَا متبدأ وكتابنا خيره وقولُه تعالى يَنطِقُ عَلَيْكُم أيْ يشهد عليكُم بالحق من غيرِ زيادةٍ ولا نقصٍ خبرٌ آخرُ أو حالٌ وبالحقِّ حالٌ من فاعلِ ينطقُ وقولُه تعالَى إنَّا كُنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ الخ تعليلٌ لنطقهِ عليهم بأعمالِهم من غير إخلالٍ بشيء منها أي إنَّا كُنَّا فيما قبلُ نستكتبُ الملائكةَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدُنيا منَ الأعمالِ حسنةً كانتْ أو سيئة

الجاثية 30 35 وقولُه تعالى

30

{فَأَمَّا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ} أي في جنتِه تفصيلٌ لما يُفعلُ بالأممِ بعد بيانِ ما خُوطِبوا بهِ من الكلامِ المُنطوي على الوعدِ والوعيدِ ذلك أي الذي ذُكرَ من الإدخالِ في رحمتِه تعالى هُوَ الفوز المبين الظاهرُ كونُه فوزاً لا فوزَ وراءَهُ

31

(وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ أَفَلَمْ تكُن آياتِي تُتلى عليكمُ) أي يقال لهم بطريقِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ ألم يكن تأتيكم رُسلي فلم تكُن آياتِي تُتلى عليكم فحذف المعطوفُ عليه ثقةً بدلالةِ القرينة عليهِ فاستكبرتم عن الإيمانِ بها وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ أي قوماً عادتُهم الإجرامُ

32

(وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ الله) أي ما وعدَهُ من الأمنرو الآتيةِ أو وعدُه بذلكَ حَقّ أي واقعٌ لا محالة أو مطابق الواقع والساعة التي هيَ أشهرُ ما وعدَهُ لاَّ رَيْبَ فِيهَا أي في وقوعِها وقُرِىءَ والساعةَ بالنصبِ عطفاً على اسمِ إنَّ وقراءةُ الرفعِ للعطفِ على محلِّ إن وواسمها قلتم لغية عُتوِّكُم مَّا نَدْرِى مَا الساعة أيْ أيُّ شيءٍ هي استغراباً لَها إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً أيْ ما نفعل إلا نظنُّ ظناً وقيلَ ما نظلن إلا ظناً ضعيفاً ويردُّه قولُه تعالى وَمَا نَحْنُ بمستقنين أي لا مكانه فإنَّ مقابلَ الاستيقانِ مطلقُ الظنِّ لا الضعيفُ منه ولعل هلاؤلاء غيرُ القائلينَ ما هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنيا

33

(وَبَدَا لَهُمْ) أي ظهرَ لهم حينئذذ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ على ما هيَ عليهِ من الصُّورةِ المُنكرةِ الهائلةِ وعاينوا وخامةَ عاقبتِها أو جزاءَها فإن جزاء السيئة وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ من الجزاءِ والعقابِ

34

(وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ) نترككُم في العذابِ تركَ المنسيِّ كَمَا نَسِيتُمْ في الدُّنيا لقاء يموكم هذا أيْ كَما تركتُم عِدتَهُ ولم تُبالُوا بهِ وإذا فة اللقاء إلى ياليوم إافة المصدرِ إلى ظرفِه وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مّن ناصرين أيما أي مَا لأحدٍ منكُم نَاصِرٌ وَاحِدٌ يخلصكُم منَها

35

(ذلكم) العذاب يأتكم بسبب أنكم {اتخذتم آيات الله هزوا} مهزوا

الجاثية 36 37 بَها ولم ترفعوا لها رأساً وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا فحسبتُم أنْ لا حياةَ سواها قاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا أيْ من النَّارِ وقُرِىءَ يَخرجُون من الخُروجِ والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذانِ بإسقاطِهم عن رتبة الخطاب استهانة بهبهم أو بنقلِهم من مقامِ الخطابِ إلى غيابةِ النارِ ولا هم يُسْتَعْتَبُونَ أي يُطلبُ منهم أنْ يُعتبوا ربَّهم أيْ يرضون لفواتِ أوانِه

36

(فَلِلَّهِ الحمد) خاصَّة رَبّ السموات وَرَبّ الأرض رَبّ العالمين فقلا يستحق الحمد أحمد سواهُ وتكريرُ الربِّ للتأكيدِ والإيذانِ بأنَّ ربوبيتَهُ تعالى لكن منَها بطريقِ الأصالةِ وقُرِىءَ برفعِ الثلاثةِ على المدحِ بإضمارِ هُو

37

{وله الكبرياء في السماوات والأرض} لظهورِ آثارِها وأحكامِها فيهما وإظاهرهما في موقعِ الإضمارِ لتفخيمِ شأنِ الكبرياءِ وَهُوَ العزيز الذي لا يُغلبُ الحكيم في كلِّ ما قضَى وقدر فأحمدوه وكبره وأطيعون عنِ النبيِّ صلَّى الله عيهل وسلم منْ قرأَ حم الجاثيةُ سترَ الله تعالى عورتَهُ وسكن روعته يوما الحساب

سورة الأحقاف } 4 سورة الأحقاف مكية وآيها خمس وثلاثون {بسم الله الرحمن الرحيم}

الأحقاف

{حم} {تنزيلُ الكتابِ مِنَ الله العزيز الحكيم} الكلامُ فيه كالذي مر في مطلعِ السورةِ السابقةِ

3

{ما خلقنا السماوات والأرض} بما فيهما من حيثُ الجزئيةُ منهما ومن حيثُ الاستقرارُ فيهما {وَمَا بَيْنَهُمَا} من المخلوقاتِ {إِلاَّ بالحق} استثناءٌ مفرغٌ من أعمِّ المفاعيلِ أي إلاَّ خلقاً مُلتبساً بالحقِّ الذي تقتضيهِ الحكمةُ التكوينيةُ والتشريعيةُ أو من أعم الأحوال من فاعلِ خلقنا أو مفعولِه أي ما خلقنَاها في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ ملابستِنا بالحقِّ أو حالَ ملابستِها به وفيه من الدَلالة على وجودِ الصَّانعِ تعالى وصفاتِ كمالِه وابتناءِ أفعالِه على حِكمٍ بالغةٍ وانتهائِها إلى غاياتٍ جليلةٍ ما لا يَخْفِى {وَأَجَلٌ مُّسَمًّى} عطفٌ على الحقِّ بتقديرِ مضافٍ أي وبتقديرِ أجلٍ مُسمَّى ينتهي إليهِ أمرُ الكلِّ وهو يومُ القيامةِ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسمواتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحدِ الْقَهَّارِ وقيل هو آحر مُدةِ البقاءِ المقدرِ لكلِّ واحدٍ ويأباهُ قولُه تعالى {والذين كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ معرضون} فإن ما أنذرواوه يومُ القيامةِ وما فيهِ من الطَّامةِ التَّامةِ والأهوالِ العامةِ لا آخرُ أعمارِهم وقد جُوِّزَ كونُ ما مصدريةً والجملةُ حاليةٌ أي ما خلقنا الخلقَ إلا بالحقِّ وتقديرِ الأجلِ الذي يجاوزون عندَهْ والحالُ أنَّهم غيرُ مؤمنينَ به معرضونَ عنه وعن الاستعدادِ له

4

{قُلْ} توبيخاً لهم وتبكيتاً {أرأيتم} أخبروني وقرئ أرأيتَكُم {مَا تَدَّعُونَ} ما تَعْبُدُونَ {مِن دُونِ الله} منَ الأصنامِ {أَرُونِىَ} تأكيدٌ لأرأيتُم {مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} بيانُ للإبهامِ في ماذَا {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ} أي شرْكةٌ معَ الله تعالى {في السماوات} أي في خلقِها أو مُلكِها وتدبيرِها حتَّى يُتوهم أن يكونَ لهم شائبةُ استحقاق للمعبودية فإن مالا مدخلَ له في وجودِ

5 7 شئ من الأشياءِ بوجهٍ من الوجوهِ فهُو بمعزلٍ منْ ذلكَ الاستحقاقِ بالمرَّةِ وإِنْ كانَ منَ الأحياءِ العُقلاءِ فَما ظنُّكم بالجمادِ وقولُه تعالَى {ائتونى بكتاب} الخ تبكيتٌ لهم بتعجيزِهم عن الاتيان بسند نقاى بعد تبكيتِهم بالتعجيزِ عن الإتيانِ بسندٍ عقليَ أي ائتونِي بكتابٍ إلهيَ كائنٍ {مّن قَبْلِ هذا} الكتابِ أي القُرآنِ الناطقِ بالتَّوحيدِ وإبطالِ الشركِ دالٍ على صحةِ دينِكم {أَوْ أثارة من علم} أو بقيت من علمٍ بقيتْ عليكُم من علومِ الأولينَ شاهدةٍ باستحقاِقهم للعبادِة {إِن كُنتُمْ صادقين} في دَعْواكُم فإنَّها لا تكادُ تَصحُّ ما لم يقُم عليها برهانٌ عقليٌّ أو سلطانٌ نقليٌّ وحيثُ لَم يقُمْ عليها شئ منهُمَا وقد قامتْ على خلافِها أدلةُ العقلِ والنقلِ تبين بطلانها وقرئ إِثَارَةٍ بكسرِ الهمزةِ أي مناظرة فإنهعا تُثيرُ المعانيَ وأثَرةٍ أيْ شئ أوثرتم به وخصخصتم منْ علمٍ مطويَ من غيرِكم وإثرة بالحركات الثلاث مع سكون الثاء إما المكسورةُ فبمعنى الأثَرةِ وأمَّا المفتوحةُ فهي المرةُ من أثرَ الحديثَ أي رَواه وأمَّا المضمومةُ فاسمُ ما يؤثر الخطبة التي هي اسمُ ما يُخطبُ بهِ

5

{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ الله مِن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ} إنكارٌ ونفيٌ لأنْ يكونَ أحدٌ يُساوي المُشركينَ في الضَّلالِ وإنْ كانَ سبكُ التَّركيبِ لنفي الأضلِ منهم من غيرِ تعرضٍ لنفي المُساوِي كما مر غيرَ مرة أي هُم أضلُّ من كلِّ ضالَ حيثُ تركُوا عبادةَ خالقِهم السميعِ القادرِ المجيبِ الخبير إلى عبادةِ مصنُوعِهم العارِي عن السمعِ والقدرةِ والاستجابةِ {إلى يَوْمِ القيامة} غايةٌ لنفي الاستجابةِ {وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ} الضميرُ الأول لمفعول ويدعو الثانى لفاعلِه والجمعُ فيهما باعتبارِ معنى مَنْ كما أن الإفرادَ فيما سبقَ باعتبارِ لفظِها {غافلون} لكونِهم جماداتٍ وضمائرُ العقلاءِ لإجرائِهم إيَّاها مُجرى العُقلاءِ ووصفِها بما ذُكر منْ تركِ الاستجابةِ والغفلةِ مع ظهورِ حالِها للتهكم بَها وبعبدَتها كقولِه تعالى إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ الآيةَ

6

{وَإِذَا حُشِرَ الناس} عند قيامِ القيامةِ {كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كافرين} أي مُكذبينَ بلسانِ الحالِ أو المقالِ علَى ما يروى أنه تعالى يحى الأصنامَ فتتبرأُ عن عبادتِهم وقد جُوِّز أن يراد بهم كلُّ ما يُعبدُ من دُونِ الله مِن الملائكة والجن والإنس وغيرِهم ويبنَى إرجاعُ الضمائرِ وإسنادُ العداوةِ والكفرِ إليهم على التغليبِ ويرادُ بذلكَ تبرؤُهم عنهُم وعنْ عبادتِهم وقيلَ ضميرُ كانُوا للعبدةِ وذلكَ قولُهم والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ

7

{وإذا تتلى عليهم آياتنا بَيّنَاتٍ} واضحاتٍ أو مبيناتٍ {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ} أي لأجلِه وفي شأنِه وهو عبارةٌ عن الآياتِ المتلوةِ وضعَ موضعَ ضميرِها تنصيصاً على حقِّيتِها ووجوبِ الإيمانِ بَها كما وضعَ الموصولِ موضِعَ ضميرِ المتلوِّ عليهم تسجيلاً عليهم بكمالَ الكفرِ والضلالةِ {لَمَّا جَاءهُمْ} أي في أول ما جَاءهُمْ من غيرِ تدبرٍ وتأملٍ {هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي ظاهرٌ كونُه

8 9 أَمْ

8

{يَقُولُونَ افتراه} إضرابٌ وانتقالٌ من حكايةِ شناعتِهم السابقةِ إلى حكايةِ ما هو أشنعُ منها وما في أمْ من الهمزةِ للإنكارِ التوبيخيِّ المتضمنِ للتعجيبِ أي بل أيقولونَ افترى القُرآنَ {قُلْ إِنِ افتريته} على الفرضِ {فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى من الله شيئا} إذلا ريبَ في أنَّه تعالَى يُعاجلني حينئذٍ بالعقوبةِ فكيفَ أجترئ على أنْ أفتريَ عليهِ تعالى كذباً فأُعرّضَ نفسيَ للعقوبةِ التي لا مناصَ عنها {هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} أي تندفعونَ فيهِ من القدحِ في وَحي الله والطعنِ في آياتِه وتسميتِه سحراً تارةً وفريةً أُخرى {كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} حيثُ يشهدُ لي بالصدقِ والبلاغِ وعليكم بالكذبِ والجحودِ وهو وعيد بجزاء إفاضتِهم وقولُه تعالى {وَهُوَ الغفور الرحيم} وعدٌ بالغُفرانِ والرحمةِ لمن تابَ وآمنَ وإشعارٌ بحلمِ الله تعالى عنْهم مع عظمِ جرائمِهم

9

{قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل} البدعُ بمعنى البديعِ كالخِلِّ بمعنى الخليلِ وهو ما لا مثلَ له وقرئ بفتحِ الدالِ على أنه صفةٌ كقِيَمٍ وزِيَمٍ أو جمع مقدر مضاف أيْ ذَا بِدَعٍ وقد جُوِّزَ ذلكَ في القراءةِ الأُولى أيضاً على أنَّه مصدرٌ كانُوا يقترحونَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ آياتٍ عجيبةً ويسألونَهُ عن المُغيباتِ عِناداً ومُكابرةً فأُمَر عليهِ السَّلامُ بأنْ يقولَ لهم ما كنتُ بديعاً من الرسلِ قادراً على ما لم يقدروا حَتَّى آتيَكُم بكلِّ ما تقترحونَهُ وأخبركم بكلِّ ما تسلون عنْهُ من الغيُوبِ فإنَّ مَنْ قبلي من الرسلُ عليهم الصلاة والسلام والسَّلامُ ما كانُوا يأتونَ إلا بما آتاهُم الله تعالى من الآياتِ ولا يُخبرونَهم إلا بَما أُوحيَ إليهم {وَمَا أَدْرِى مَا يفعل بى ولا بكم} أى أى شئ يُصيبنَا فيما يُستقبل من الزمانِ من أفعالهِ تعالى وماذا يُقدَّرُ لنا من القضاياه وعن الحسنِ رضيَ الله عنْهُ ما أَدري ما يصيرُ إليه أَمري وأمرُكم في الدُّنيا وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما ما يفعل بى ولا بكُم في الآخرةِ وقال هيَ منسوخةٌ بقولِه تعالى لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وقيل يجوزُ أن يكونَ المنفيُّ هي الدرايةَ المفصَّلةَ والأظهرُ الأوفقُ لما ذُكِرَ من سببِ النزولِ أنَّ مَا عبارةٌ عمَّا ليسَ علمُه منْ وظائفِ النبوةِ من الحوادثِ والواقعاتِ الدنيويةِ دونَ ما سيقعُ في الآخرةِ فإنَّ العلمَ بذلكَ من وظائفِ النبوةِ وقد وردَ به الوحيُ الناطق بتفاصيلِ ما يُفعلُ بالجانبينِ هذا وقد رُويَ عن الكلبيِّ أنَّ أصحابَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قالُوا له عليه السَّلامُ وقد ضجِروا من أذيةِ المشركينَ حتَّى متى نكونُ على هَذا فقالَ ما أدرى ما يفعل بى ولا بكُم أأُتْركُ بمكةَ أم أُومرُ بالخروجِ إلى أرضٍ ذاتِ نخيلٍ وشجرٍ قد رُفعتْ لي ورأيتُها يعني في منامِه وجُوِّزِ أَنْ تكَونَ مَا موصولةً والاستفهاميةُ أقضى لحقِّ مقامِ التبرؤِ عن الدرايةِ وتكريرُ لا لتذكيرِ النفيِّ المنسحبِ إليه وتأكيده

} 0 وقرئ ما يُفعلُ على إسنادِ الفعلِ إلى ضميرِه تعالى {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحِى إِلَىَّ} أيْ ما أفعلُ إلا اتباعَ ما يُوحَى إليَّ على مَعْنى قصرِ أفعالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على اتباعِ الوَحي لاقصر اتباعه على الوجى كما هو المتسارعُ إلى الأفهامِ وقد مرَّ تحقيقُه في سورة الأنعام وقرئ يُوحِي على البناءِ للفاعلِ وهو جوابٌ عن اقتراحِهم الأخبارَ عمَّا لم يُوحَ إليه عليه السلام من الغيوبِ وقيلَ عن استعجالِ المسلمينَ أنْ يتخلصُوا عن أذيةِ المشركينَ والأوَّلُ هو الأوفقُ لقولهِ تعالى {وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ} أُنذركم عقاب الله تعالى حسبمَا يُوحى إليَّ {مُّبِينٌ} بينُ الإنذارِ بالمعجزاتِ الباهرةِ

10

{قل أرأيتم إِن كَانَ} أي ما يُوحَى إليَّ من القرآنِ {مِنْ عِندِ الله} لاَ سحراً ولا مُفترى كما تزعمونَ وقولُه تعالى {وَكَفَرْتُمْ بِهِ} حالٌ بإضمارِ قَدْ من الضميرِ في الخبرِ وُسّطتْ بين أجزاءِ الشرطِ مسارعةً إلى التسجيلِ عليهم بالكفرِ أو عطفٌ على كانَ كمَا في قولِه تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كان مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ لكنْ لا على أنَّ نظمَهُ في سلك الشرط المتردد بينَ الوقوعِ وعدمِه عندهُم باعتبارِ حالِه في نفسهِ بل باعتبارِ حالِ المعطوفِ عليه عندَهُم فإنَّ كفرَهُم به أمرٌ محققٌ عندهم أيضاً وإنَّما ترددُهم في أنَّ ذلكَ كفرٌ بَما من عند الله تعالى أم لا وكذا الحالُ في قولِه تعالى {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بني إسرائيل} وما بعدَهُ من الفعلينِ فإنَّ الكُلَّ أمورٌ محققةٌ عندَهُم وإنَّما ترددُهم في أنَّها شهادةٌ وإيمانٌ بما من عند الله تعالى واستكبار عنه أولاً والمعنى أخبروني إن كان ذلك في الحقيقة من عند الله وكفرتُم به وشهدَ شاهدٌ عظيمُ الشأنِ منْ بني اسرائيل الواقفين على شؤن الله تعالى وأسرارِ الوحي بما أُوتُوا من التوراةِ {على مِثْلِهِ} أي مثلِ القرآنِ من المَعَاني المنطويةِ في التوراةِ المطابقةِ لما في القرآنِ من التوحيدِ والوعدِ والوعيدِ وغيرِ ذلكَ فإنَّها عينُ ما فيه في الحقيقةِ كما يعربُ عنه قولُه تعالَى وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأولين وقولُه تعالى إِنْ هذا لَفِى الصحف الأولى والمثليةُ باعتبارِ تأديتِها بعباراتٍ أُخرَ أو على مثلُ ما ذُكرَ من كونه من عند الله تعالى والمثليةُ لما ذُكِرَ وقيل المثلُ صلةٌ والفاء في قوله تعالى {فآمن} للدلالةِ على أنَّه سارعَ إلى الإيمانِ بالقُرآنِ لما علمَ أنَّه من جنسِ الوحي الناطقِ بالحقِّ وهو عبدُ اللَّه بنُ سَلاَم لمَّا سمعَ بمقدمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ أتاهُ فنظرَ إلى وجههِ الكريمِ فعلمَ أنَّه ليسَ بوجهِ كذَّابٍ وتأملَهُ فتحققَ أنَّه النبيُّ المنتظرُ فقالَ له إنَّي سائلكَ عن ثلاثٍ لا يعلمُهنَّ إلا نبيٌّ ما أولُ أشراطِ الساعةِ وما أولُ طعام أكله أهلُ الجنةِ والولدُ ينزعُ إلى أبيهِ أو إلى أمَّةِ فقالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أمَّا أولُ أشراطِ الساعةِ فنارٌ تحشرُهم منَ المشرقِ إلى المغربِ وأمَّا طعامِ أهلِ الجنَّةِ فزيادةُ كبدِ حوتٍ وأما الولُد فإنْ سبقَ ماءُ الرجلِ نزعَهُ وإنْ سبقَ ماءُ المرأةِ نزعتْهُ فقال أشهدُ أنَّكَ رسولُ الله حَقَّا فقامَ ثمَّ قالَ يا رسولَ الله إنَّ اليهودَ قومُ بُهتٌ فإن علمُوا بإسلامِي قبلَ أنْ تسألَهم عنِّي بهتونِي عندكَ فجاءتِ اليهود فقالَ لهم النبيُّ عليه الصلاةَ والسلام أي رجلٍ عبدُ اللَّهِ فيكم فقالُوا خيرُنا

} 1 1 { وابنُ خيرِنا وسيدُنا وابنُ سيدِنا وأعلمُنَا وابنُ أعلمِنا قال أرأيتُم إنْ أسلمَ عبدُ اللَّهِ قالُوا أعاذَهُ الله من ذلك فحرج إليهم عبدُ اللَّهِ فقالَ أشهدُ أَن لاَّ إلَه إِلاَّ الله وأشهدُ أنَّ محمداً رسولُ الله فقالُوا شرُّنا وابنُ شرِّنا وانتقصُوه قالَ هذَا ما كنتُ أخافُ يا رسولُ الله وأحذرُ قالَ سعدَ بنَ أبي وقاصٍ رضيَ الله عنْهُ ما سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ لأحدٍ يمشِي على الأرضِ إنَّه من أهلِ الجنَّةِ إلا لعبدِ اللَّه ابن سَلامٍ وفيهِ نزلَ وَشَهِدَ شَاهِدٌ الآيةَ وقيلَ الشاهدُ مُوسى عليه السَّلامُ وشهادتُه بما في التَّوراة من بعثةِ النبيِّ عليهما الصَّلاةُ السلام وبهِ قال الشعبيُّ وقالَ مسروقٌ والله ما نزلتْ في عبدُ اللَّه بنُ سَلاَم فإنَّ آلَ حم نزلتْ بمكةَ وإنَّما أسلمَ عبدُ الله بالمدينةِ وأجابَ الكلبيُّ بأنَّ الآيةَ مدنية وإنْ كانتْ السورةُ مكيةً {واستكبرتم} عطفٌ على شهدَ شاهدٌ وجوابُ الشرطِ محذوفٌ والمعنى أخبروني إن كان من عند الله تعالى وشهدَ على ذلكَ أعلمُ بني إسرائيلَ فآمنَ به من غيرِ تلعثمٍ واستكبرتُم عن الإيمانِ به بعد هذه المرتبةِ مَنْ أضلُّ منكم بقرينة قوله تعالة قال أرأيتم إن كان مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ وقولِه تعالى {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} فإنَّ عدم الهداية مما ينبئ عن الضَّلالِ قطعاً ووصفُهم بالظلمِ للإشعارِ بعلَّةِ الحُكم فإنَّ تركَهُ تعالَى لهدايتِهم لظلمِهم

11

{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} حكايةٌ لبعضٍ آخَرَ من أقاويلِهم الباطلةِ في حقِّ القُرآنِ العظيمِ والمؤمنينَ بهِ أي قالَ كُفَّارُ مكةَ {لِلَّذِينَ آمنوا} أي لإجلِهم {لَّوْ كَانَ} أي ما جاءَ به عليه الصلاة والسلام من القرآنِ والدينِ {خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} فإنَّ معاليَ الأمورِ لا ينالُها أَيْدِي الأراذلِ وهُم سُقَّاطُ عامَّتُهم فقراءُ ومَوالٍ ورعاةٌ قالُوه زعماً منهم أنَّ الرياسةَ الدينيةَ مما يُنالُ بأسبابٍ دنيويةٍ كَما قالُوا لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرآنُ على رَجُلٍ مّنَ القريتينِ عظيمٍ وزلَّ عنْهم أنَّها منوطةٌ بكمالاتٍ نفسانيةٍ وملكاتٍ رُوحانيةٍ مبناها الإعراض عن زخازف الدُّنيا الدنيةِ والإقبالُ على الآخرةِ بالكليةِ وأنَّ من فاز بها فقد حازها بحذافيرها ومن حرمها فماله منها من خَلاقٍ وقيلَ قالَه بنُو عامرٍ وغطفانُ وأسدٌ وأشجعُ لما أسلمَ جهينةُ ومزينةُ وأسلمُ وغفارُ وقيلَ قالتْهُ اليهودُ حين أسلمَ عبدُ اللَّه بنُ سَلاَم وأصحابِه ويأباهُ أنَّ السورة مكيى ولا بُدَّ حينئذٍ من الالتجاءِ إلى ادعاءِ أنَّ الآيةَ نزلتْ بالمدينةِ {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ} ظرفٌ لمحذوفٍ يدلَّ عليهِ ما قبلَهُ ويترتبُ عليهِ ما بعدَهُ أيْ وإذ لم يهتدُوا بالقُرآنِ قالُوا ما قالُوا {فَسَيَقُولُونَ} غيرَ مكتفينَ بنغى خيريّتهِ {هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ} كما قالُوا أساطيرُ الأوَّلينَ وقيلَ المحذوفُ ظهرَ عنادُهم وليسَ بذاكَ

12

{وَمِن قَبْلِهِ} أي منْ قبلِ القُرآنِ وهو خبرٌ لقولِه تعالى {كِتَابُ موسى} قيلَ والجملةُ حاليةٌ أو مستأنَفةٌ وأيَّا

} 1 15 ما كانَ فهو لردِّ قولِهم هذا إفكٌ قديمٌ وإبطالِه فإنَّ كونَهُ مُصدقاً لكتابِ مُوسى مقرر لحقِّيتهِ قطعاً {إَمَامًا وَرَحْمَةً} حالانِ من كتابِ مُوسى أي إماماً يُقتدَى به في دينِ الله تعالى وشرائعِه كما يُقتدى بالإمامِ ورحمةً من الله تعالى لمن آمنَ به وعملَ بموجبهِ {وهذا} الذي يقولونَ في حقِّه ما يقولونَ {كِتَابٌ} عظيمٌ الشأنِ {مُّصَدّقُ} أي لكتابِ مُوسى الذي هو إمامٌ ورحمةٌ أو لِما من بين يديهِ من جميعِ الكتبِ الإلهيةِ وقد قرئ كذلكَ {لّسَاناً عَرَبِيّاً} حالٌ من ضميرِ الكتابِ في مصدقٌ أو من نفسِه لتخصصهِ بالصفةِ وعاملُها معنى الإشارةِ وعلى الأولِ مصدقٌ وقيلَ مفعولٌ لمصدقٌ أي يصدقُ ذا لسانٍ عربيَ {لّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ} متعلقٌ بمصدقٌ وفيه ضميرُ الكتابِ أو الله أو الرسول عليه الصلاة والسَّلامُ ويؤيدُ الأخيرَ القراءةُ بتاءِ الخطابِ {وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ} في حيزِ النصبِ عطفاً على محل لينذرَ وقيل في محلِ الرفعِ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ أي وبشرى وقيل على أنَّه عطفٌ على مصدقٌ

13

{إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} أي جمعُوا بينَ التوحيدِ الذي هُو خلاصةُ العلمِ والاستقامةِ في أمورِ الدينِ التي هيَ مُنتهى العملِ وثُمَّ للدلالة على تراخي رتبةِ العملِ وتوقفِ الاعتدادِ به على التوحيدِ {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} من لُحوق مكروهٍ {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} من فواتِ محبوبٍ والفاءُ لتضمنِ الاسمِ معنى الشرطِ والمرادُ بيانُ دوامِ نفي الحزنِ لا بيانُ نفي دوامِ الحزنِ كما يُوهمه كونُ الخبرِ مضارعاً وقد مرَّ بيانُه مراراً

14

{أولئك} الموصوفون بما ذكر من الوصفينِ الجليلينِ {أصحاب الجنة خالدين فِيهَا} حالٌ من المستكنِّ في أصحابُ وقولُه تعالَى {جَزَاء} منصوبٌ إمَّا بعاملٍ مقدرٍ أي يُجزَون جزاءً أو بمَعْنى ما تقدمَ فإنَّ قولَه تعالى أولئكَ أصحابُ الجنَّةِ في معنى جازيناهُم {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الحسناتِ العلميةِ والعمليةِ

15

{وَوَصَّيْنَا الإنسان} بأنْ يُحسنَ {بوالديه إحسانا} وقرئ حُسْناً أي بأنْ يفعلَ بهمَا حُسْناً أي فعلاً ذَا حُسنٍ أو كأنَّه في ذاتِه نفسُ الحسنِ لفرطِ حُسنهِ وقُرِىءَ بضمِّ السينِ أيضاً وبفتحِهما أيْ بأن يفعل بهما فعل حَسَناً أو وصينَاهْ إيصاءً حسناً {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أي ذاتَ كُرهٍ أو حملاً ذَا كره وهو المشقة وقرئ بالفتحِ وهُما لغُتانِ كالفَقْرِ والفُقْرِ وقيلَ المضمومُ اسمٌ والمفتوحُ مصدرٌ {وَحَمْلُهُ وفصاله} أيْ مدةُ حملِه وفصالِه وهو الفطام وقرئ ة فصله والفصل والفصالُ كالفطمِ والفِطامِ بناءً ومَعْنى والمرادُ

} 6 17 بهِ الرَّضاعُ التامُّ المُنتهِي بهِ كمَا أرادَ بالأمدِ المدة من ال كُلُّ حَيَ مُستكمِلٌ مُدَّةَ العمرِ ومُودٍ إذَا انتهى أمدُهْ {ثَلاَثُونَ شَهْراً} تمضي عليَها بمعاناةِ المشاقِّ ومقاساةِ الشدائدِ لأجلِه وهذا دليلٌ على أن أقلَّ مدةِ الحملِ ستةُ أشهرٍ لما أنه حُطَّ عنْهُ للفصالِ حولانِ لقولهِ تعالى حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة يبقي للحملِ ذلكَ قيلَ ولعل تعيينَ أقلِ مدةِ الحملِ وأكثرِ مدةِ الرَّضاعِ لانضباطِهما وتحققِ ارتباطِ النسبِ والرضاعِ بهما {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي اكتهل واستحكمَ قوتُه وعقلُه {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} قيلَ لم يبعثْ نبيٌّ قبلَ أربعينَ وقرئ حتَّى إذَا استَوى وبلغَ أشدَّهُ {قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى} أي ألهمنِي وأصلُه أَوْلعِني من أوزعتُه بكذَا {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ} أي نعمةَ الدِّينِ أو ما يعمُّها وغيرَها {وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه} التنكيرُ للتفخيمِ والتكثيرِ {وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى} أيْ واجعلِ الصلاحَ سارياً في ذُريتِي راسخاً فيهم كَما في قولِه يجرحُ في عَراقيبِها نَصْلي قالَ ابنُ عبَّاسٍ أجابَ الله تعالَى دعاءَ أبي بكرٍ رضيَ الله عنُهم فأعتقَ تسعةً من المؤمنينَ منهم بلال وعامر بنُ فُهيرةَ ولم يُردْ شيئاً من الخيرِ إلاَّ أعانَهُ الله تعالى عليهِ ودَعَا أيضاً فقالَ وأصلحْ لي في ذُريتِي فأجابَهُ الله عزَّ وجلَّ فلم يكن له ولدا إلا آمنُوا جميعاً فاجتمعَ له إسلامُ أبويهِ وأولادِه جميعاً فأدركَ أبُوه أبُو قحافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنُه عبدُ الرحمنِ بنُ أبي بكرٍ وابنُ عبدِ الرَّحمنِ أبُو عتيقٍ كلُّهم أدركُوا النبيَّ عليهِ الصلاةَ والسَّلامُ ولم يكُنْ ذلكَ لأحدٍ من الصَّحابةِ رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعينَ {إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ} عمَّا لا ترضاهُ أو عمَّا يشغلُني عن ذكرِك {وَإِنّى مِنَ المسلمين} الذينَ أخلصُوا لكَ أنفسَهُم

16

{أولئك} إشارةٌ إلى الإنسانِ والجمعُ لأنَّ المرادَ به الجنسُ المتصفُ بالوصفِ المَحكِيِّ عنْهُ وما فيهِ من معنى البُعدِ للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعد منزلتِه أي أولئكَ المنعوتونَ بما ذُكِرَ من النعوتِ الجليلةِ {الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ} من الطاعاتِ فإنَّ المباحَ حسنٌ ولا يثابُ عليهِ {وَنَتَجَاوَزُ عَن سيئاتهم} وقرئ الفعلانِ بالياءِ على إسنادِهما إلى الله تعالى وعلى بنائِهما للمفعولِ ورفعِ أحسنَ على أنَّه قائمٌ مقامَ الفاعلِ وكذا الجارُّ والمجرور {فِى أصحاب الجنة} أي كائنينَ في عدادِهم منتظمينَ في سلكِهم {وَعْدَ الصدق} مصدرٌ مؤكدٌ لما أنَّ قوله تعالى يتقبل ونتجاوزُ وعدٌ من الله تعالى لهُم بالتقبلِ والتجاوزِ {الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ} عَلَى ألسنةِ الرُّسلِ

17

{والذى قَالَ لوالديه} عندَ دعوتِهما لهُ إلى الإيمانِ {أُفّ لَّكُمَا} هو صوتٌ يصدرُ عنِ المرءِ عندَ تضجرخ واللامُ لبيانِ المؤفَّفِ له كما في هَيْتَ لك وقرئ أُفِّ بالفتحِ والكسرِ بغيرِ تنوينٍ وبالحركاتِ الثلاثِ معَ التنوينِ والموصولُ عبارةٌ عن الجنسِ القائلِ ذلكَ القولَ ولذلكَ أُخبرَ عنه بالمجموعِ كما سبقَ قيلَ هُو

} 8 20 في الكافرِ العاقِّ لوالديهِ المكذبِ بالبعثِ وعن قَتَادةَ هُو نعتُ عبدِ سوءٍ عاقِّ لوالديهِ فاجرٍ لربِّه وما رُوي من أنَّها نزلت في عبدلرحمن بن أبي بكرٍ رضيَ الله عنهُمَا قبلَ إسلامِه يردُّه ما سيأتِي من قولِه تعالى أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول الآيةَ فإنه كان من أفاصل المسلمينَ وسَرواتِهم وقد كذَّبتِ الصدِّيقةُ رضيَ الله عنَها مَنْ قالَ ذلكَ {أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ} أُبعثَ من القبر بعد الموت وقرئ أَخْرُجَ من الخُروجِ {وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى} ولم يُبعثْ منهم أحدٌ {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ الله} يسألانِه أنْ يغيثَهُ ويوفقَهُ للإيمانِ {وَيْلَكَ} أي قائلينَ له ويلكَ وهو في الأصلِ دعاءٌ عليه بالثبورِ أُريدَ به الحثَّ والتحريضَ على الإيمانِ لا حقيقةَ الهلاكِ {آمن إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أى البعث أضافا إليهِ تعالى تحقيقاً للحقِّ وتنبيهاً على حطئه في إسنادِ الوعدِ إليهما وقرئ إِنَّ وَعْدَ الله أي آمِنْ بأنَّ وعدَ الله حقٌّ {فَيَقُولُ} مكذباً لهُما {مَا هذا} الذي تسميانِه وعدَ الله {إِلاَّ أساطير الأولين} أباطيلُهم التي سَطرُوها في الكتبِ من غيرِ أنْ يكونَ لها حقيقةٌ

18

{أولئك} القائلون هذه المقالاتِ {الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} وهو قولُه تعالَى لإبليسَ لاملان جهنم منك وممن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ كما ينبئ عنه قولُه تعالى {فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس} وقدْ مرَّ تفسيرُه في سورةِ الم السجدةُ {إِنَّهُمْ} جميعاً {كَانُواْ خاسرين} قد ضيَّعُوا فطرتَهُم الأصليةَ الجاريةَ مجرى رؤس أموالِهم باتِّباعِهم الشيطانَ والجملةُ تعليلٌ للحُكمِ بطريقِ الاستئنافِ التحقيقيِّ

19

{وَلِكُلّ} من الفريقينِ المذكورينِ {درجات مّمَّا عَمِلُواْ} مراتبُ من أجزيةِ ما عملوا من الخير والشرِّ والدرجاتُ غالبةٌ في مراتبِ المَثوبة وإيرادها بطريقِ التغليبِ {وَلِيُوَفّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} أي أجزيةَ أعمالِهم وقرئ بنونِ العظمةِ {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بنقصِ ثوابِ الأولينَ عقابِ الآخرينَ والجملةُ إمَّا حالٌ مؤكدةٌ للتوفية أو استئنافٌ مقررٌ لها واللامُ متعلقةٌ بمحذوفٍ مُؤخرٍ كأنَّه قيل ليوفيهم أعمالَهُم ولا يظلمَهُم حقوقَهم فعلَ ما فعلَ من تقديرِ الأجزيةِ على مقاديرِ أعمالهم فجعل الثواب والعقابَ دركاتٍ

20

{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} أي يُعذَّبُونَ بَها منْ قولِهم عُرضَ الأسُارَى على السيفِ أي قُتلوا وقيل يُعرض النارُ عليهم بطريقِ القلبِ مبالغةً {أَذْهَبْتُمْ طيباتكم} أي يقالُ لهم ذلكَ وهو الناصبُ للظرف وقرئ أأْذهبتُم بهمزتينِ وبألفٍ بينَهمَا على الاستفهامِ التوبيخيِّ أي أصبتم أو أخذتم ما كُتب لكُم من حُظوظِ الدُّنيا ولذائِذها {فِى حياتكم الدنيا واستمتعتم بِهَا} فلم يبقَ لَكُم بعد ذلك شئ منَها {فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون}

أى الهوان وقد قرئ كذلكَ {بِمَا كُنتُمْ} في الدُّنيا {تَسْتَكْبِرُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الحق} بغيرِ استحقاقٍ لذلكَ {وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ} أي تخرجونَ عن طاعةِ الله عزَّ وجلَّ أي بسببِ استكبارِكم وفسقِكم المستمرين وقرئ تَفْسِقونَ بكسرِ السِّينِ

21

{واذكر} أيْ لكُفَّارِ مكةَ {أَخَا عَادٍ} أيْ هوداً عليهِ السلامُ {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ} بدلُ اشتمالٍ منْهُ أي وقتَ إنذارِه إِيَّاهُم {بالاحقاف} جمعُ حِقْفٍ وهُو مل مستطيلٌ مرتفعٌ فيهِ انحناءٌ من احقوقف الشئ إذا اعوجَّ وكانتْ عادٌ أصحابَ عَمدٍ يسكنونَ بين رمالٍ مشرفةٍ على البحرِ بأرض يقال لها الشجر من بلادِ اليمنِ وقيلَ بينَ عُمَانَ ومَهَرَةَ {وَقَدْ خَلَتِ النذر} أي الرُّسلُ جمعُ نذيرٍ بمعنى المنذرِ {مِن بَيْنَ يَدَيْهِ} أي من قبلهِ {وَمِنْ خَلْفِهِ} أي منْ بعدهِ والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله مؤكدٌ لوجوبِ العملِ بموجبِ الإنذارِ وُسِّط بينَ أنذرَ قومَهُ وبينَ قولِه {أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} مسارعةً إلى ما ذُكِرَ من التقريرِ والتأكيدِ وإيذاناً باشتراكِهم في العبارةِ المحكيةِ والمَعْنى واذكُرْ لقومِكَ إنذارَ هودٍ قومَهُ عاقبةَ الشركِ والعذاب العظيم وقد أنذر مَنْ تقدمَهُ من الرسلِ ومن تأخرَ عنْهُ قومَهُم مثلَ ذلكَ فاذكُرهم وأَما جعلُها حالاً من فاعلِ أنذرَ على مَعْنى أنَّه عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ أنذرَهُم وقالَ لَهُم لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وقد أعلمهم أنَّ الرسلَ الذين بُعثوا قبلَه والذينَ سيُبعثونَ بعدَهُ كلَّهم منذرونَ نحوَ إنذارِه فمعَ ما فيهِ من تكلفِ تقديرِ الإعلامِ لا بُدَّ في نسبةِ الخلوِّ إلى مَن بعدَهُ من الرسلِ من تنزيلِ الآتِي منزلةَ الخالِي

22

{قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا} أيْ تصرفنا {عن آلهتنا} عبادتهم {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} منَ العذابِ العظيمِ {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في وعدِك بنزولهِ بنَا

23

{قَالَ إِنَّمَا العلم} أي بوقتِ نزولِه أو العلمُ بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جُمْلتِها ذلكَ {عَندَ الله} وحدَهُ لا علمَ لي بوقتِ نزولِه ولا مدخلَ لي في إتيانِه وحلولِه وإنَّما علمُه عندَ الله تعالَى فيأتيكُم بهِ في وقتهِ المقدَّرِ لهُ {وَأُبَلّغُكُمْ مَّا أُرسلتَ بِهِ} من مواجبِ الرسالةِ التي من جُملتِها بيانُ نزولِ العذابِ إنْ لم تنتُهوا عن الشركِ من غيرِ وقوفٍ على وقت نزوله وقرئ أُبْلِغُكُم من الإبلاغِ {ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} حيثُ تقترحُون عليَّ ما ليسَ من وظائفِ الرسلِ من الإتيانِ بالعذابِ وتعيينِ وقتهِ والفاء في قوله تعالى

24

{فلما رأوه} فصيحة

} 5 26 والضميرُ إما مُبهمٌ يوضحه قوله تعالى {عارضا} إما تمييز أو حالا أو راجعٌ إلى ما استعجلُوه بقولِهم فائتنا بما تَعدُنا أي فأتاهُم فلمَّا رأَوهُ سحاباً يعرضُ في أفق السماءِ {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} أى متوجِّه أوديتِهم والإضافةُ فيه لفظيةٌ كما في قولِه تعالى {قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} ولذلكَ وَقَعا وصفينِ للنكرةِ {بَلْ هُوَ} أي قال هود وقد قرئ كذلك وقرئ قُلْ وهُو ردٌّ عليهم أي ليس الأمرُ كذلك بلْ هُو {مَا استعجلتم بِهِ} من العذابِ {رِيحٌ} بدل من ما أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ {فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} صفةٌ لريحٌ وكذا قولُه تعالى

25

{تُدَمّرُ} أي تهلكُ {كُلّ شَىْء} من نفوسهم وأموالهم {بأمر ربها} وقرئ يدمر كل شئ من دمَّر دماراً إذا هلكَ فالعائدُ إلى الموصوفِ محذوفٌ أو هو الهاءُ في ربِّها ويجوزُ أنْ يكون استئنافاً وأرادا لبيانِ أنَّ لكلَّ ممكنٍ فناءً مقضياً منوطاً بأمرِ بارئهِ وتكونُ الهاءُ لكلِّ شئ لكونِه بمعنى الأشياءِ وفي ذكرِ الأمرِ والربِّ والإضافةِ إلى الريحِ من الدِلالة على عظمةِ شأنِه عزَّ وجلَّ ما لا يَخْفى والفاءُ في قوله تعالى {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مساكنهم} فصيحةٌ أي فجاءتْهُم الريحُ فدمرتْهُم فأصبحُوا بحيثُ لا يرى إلا مساكنهم وقرئ تَرَى بالتاءِ ونصبِ مساكنُهم خطابا لكل أحد يتأنى منه الرؤيةُ تنبيهاً على أنَّ حالَهُم بحيثُ لو حضرَ كلُّ أحدٍ بلادَهُم لا يَرَى فيها إلا مساكنَهُم {كذلك} أي مثلَ ذلكَ الجزاء الفظيعِ {نَجْزِي القوم المجرمين} وقد مرَّ تفصيلُ القصةِ في سورةِ الأعرافِ وقد رُويَ أنَّ الريحَ كانتْ تحملُ الفُسطاطَ والظَّعينةَ فترفعُها في الجوِّ حتى تُرى كأنَّها جرادةٌ قيلَ أولُ من أبصرَ العذابَ امرأةٌ منُهم قالتْ رأيتُ ريحاً فيها كشهبِ النَّارِ ورُويَ أنَّ أولَ ما عرفُوا به أنَّه عذابٌ ما رأوا ما كانَ في الصحراءِ من رحالِهم ومواشيهم تطيرُ بها الريحُ بينَ السماءِ والأرضِ فدخلُوا بيوتَهم وغلَّقوا أبوابَهم فقلعتِ الريحُ الأبوابَ وصرعَتْهم فأمالَ الله تعالى الأحقافَ فكانُوا تحتَها سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيامٍ لهم أنينٌ ثم كشفتِ الريحُ عنهُم فاحتملتهم فطرحتْهُم في البحرِ ورُوِيَ أنَّ هُوداً عليهِ السَّلامُ لمَّا أحسَّ بالريحِ خطَّ على نفسِه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين نبع وعن ابن عباس رضي الله عنهُمَا اعتزلَ هودٌ ومن معَهُ في حظيرةِ ما يصيبُهم من الريحِ إلا ما يلينُ على الجُلودِ وتلذه الأنفسُ وإنَّها لتمرُّ من عادٍ بالظعنِ بين بينَ السماءِ والأرضِ وتدمغُهم بالحجارةِ

26

{وَلَقَدْ مكناهم} أي قررنَا عاداً أو أقدرنَاهُم وما في قولِه تعالى {فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ} موصولةٌ أو موصوفةٌ وأنْ نافيةٌ أيْ في الذِي أو فى شئ ما مكنَّاكُم فيهِ من السَّعةِ والبسطةِ وطولِ الأعمار وسائرِ مبادِيِ التصرفاتِ كَما في قوله تعالى {ألم يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مكناهم فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ} وممَّا يُحسِّنُ

} 7 28 موقعَ إنْ هَهُنا التَّفَصِّي عن تكرار لفظةِ مَا وهُو الدَّاعِي إلى قلبِ ألِفها هاءً في مَهْمَا وجعلُها شرطيةً أو زائدةً مِمَّا لاَ يليقُ بالمقامِ {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأبصارا وَأَفْئِدَةً} ليستعملُوهَا فيمَا خُلقتْ لهُ ويعرفُوا بكل منها ما بيطت بهِ معرفتُه من فنونِ النعمِ ويستدلُّوا بها على شؤن منعهما عزَّ وجلَّ ويداومُوا على شُكرِه {فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ} حيثُ لم يستعملُوه في استماعِ الوَحي ومواعظِ الرسلِ {وَلاَ أبصارهم} حيثُ لم يجتلُوا بها الآياتِ التكوينيةِ المنصوبةِ في صحائفِ العلم {وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ} حيثُ لم يستعملُوها في معرفةِ الله تعالَى {مِن شَىْء} أي شيئاً من الإغناءِ ومِنْ مزيدةٌ للتأكيدِ وقولُه تعالى {إذ كانوا يجحدون بآيات الله} متعلقٌ بما أَغْنَى وهو ظرفٌ جَرَى مجرى التعليلِ من حيثُ أنَّ الحكمَ مرتبٌ على ما أضيفَ إليهِ فإنَّ قولَكَ أكرمتُه إذ أكرمنِي في قوةِ قولِك أكرمته لإكرامه أذا أكرمتَهُ وقتَ إكرامِه فإنَّما أكرمْتَه فيه لوجودِ إكرامه فيه كذا الحالُ في حيثُ {وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون} من العذابِ الذي كانُوا يستعجلونَهُ بطريقِ الاستهزاءِ ويقولونَ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كنتَ من الصادقينَ

27

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ} يا أهلَ مكةَ {مّنَ القرى} كحِجْرِ ثمودٍ وقُرى قومِ لوطٍ {وَصَرَّفْنَا الأيات} كررنَاها لَهُم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} لكيْ يرجعُوا عمَّا هُم فيه من الكفر والمعاصي

28

{فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قربانا آلهة} القُربانُ ما يُتقرَّب بهِ إلى الله تعالَى وأحدُ مفعولَيْ اتخذُوا ضميرُ الموصولِ المحذوفِ والثانِي آلهةً وقرباناً حالٌ والتقديرُ فهلاَّ نصرهُم وخلَّصُهم من العذابِ الذين اتخذُوهم آلهةً حالَ كونِها متقرَّباً بَها إلى الله تعالَى حيثُ كانُوا يقولونَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إلى الله زلفى هَؤُلاء شفعاؤُنا عِندَ الله وفيه تهكمٌ بهم ولا مساغَ لجعلِ قرباناً مفعولاً ثانياً آلهة بدلاً منه لفسادِ المَعْنى فإنَّ البدلَ وإنْ كانَ هو المقصودَ لكنَّه لا بُدَّ في غيرِ بدلِ الغلطِ من صحةِ المَعْنى فإنَّ البدلَ وإنْ كانَ هو المقصود فلا بُدَّ في غيرِ بدلِ الغلطِ من صحةِ المَعْنى بدونِه ولا ريبَ في أنَّ قولَنا اتخذوهُم من دونِ الله قُرباناً أي متقربا به ما لا صِحةَ لهُ قطعاً لأنَّه تعالَى متقرَّبٌ إليهِ لا متقرَّبٌ بهِ فلا يصحُّ أنَّهم اتخذُوهم قرباناً متجاوزينَ الله في ذلك وقرئ قُرُباناً بضمِّ الراءِ {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} أي غابُوا عنْهم وفيه تهكمٌ آخرُ بهم كأنَّ عدمَ نصرِهم لغيبتهم أوضاعوا عنُهم أي ظهرَ ضياعُهم عنهم بالكُليَّةِ وقيل امتنعَ نصرُهم امتناعَ نصرِ الغائبِ عن المنصورِ {وَذَلِكَ} أي ضياعُ آلهتِهم عنُهم وامتناعُ نصرِهم {إِفْكِهِمْ} أيْ أثرُ إفكِهم الذي هُو اتِّخاذُهم إيَّاهَا آلهةً ونتيجةُ شركِهم وقرئ أفَكُهم وكلاهُما مصدرٌ كالحِذْرِ والحذر وقرئ أَفَكَهُم على صيغةِ الماضِي فذلكَ إشارةٌ حينئذٍ إلى الاتخاذِ أيْ وذلكَ الاتخاذُ الذى هو ثمرتُه وعاقبتُه صرفَهُم عن الحق وقرئ أَفَّكَهُم بالتشديدِ للمبالغةِ وآفَكَهُم من الأفعالِ أي جعلهم آفكين وقرئ آفِكُهُم على صيغةِ اسمِ الفاعلِ مضافاً إلى ضميرِهم أى قولهم الإفكِ كما يقالُ قولٌ كاذبٌ {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} عطفٌ على

} 9 30 إفكُهم أي وأثرُ افترائِهم على الله أو أثرُ ما كانُوا يفترونه عليه تعالى وقرئ وذلك إفكٌ مما كانوا يفترون أي بعض مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ من الإفكِ

29

{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن} أمَلْناهم إليكَ وأفبلنا بهم نحوك وقرئ صرَّفَنا بالتشديدِ للتكثيرِ لأنَّهم جماعةٌ وهُو السرُّ في جمعِ الضَّمير في قولِه تعالى {يستمعون القرآن} وما بعدَهُ وهو حالٌ مقدرةٌ من نفراً لتخصصِه بالصفةِ أو صفةٌ أُخرى لَه أي واذكُر لقومِكَ وقتَ صَرَفنا إليكَ نفراً كائناً من الجنِّ مقدَّراً استماعَهم القُرانَ {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} أي القرآنَ عند تلاوتهِ أو الرسولَ عند تلاوتِه له على الالتفاتِ والأولُ هو الأظهرُ {قَالُواْ} أي قالَ بعضُهم لبعضٍ {أَنصِتُواْ} أى استكنوا لنسمعهُ {فَلَمَّا قُضِىَ} أُتمَّ وفرغ عن تلاوته وقرئ على البناءِ للفاعلِ وهو ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام وهذا يؤيد ضميرِ حضروه إليهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامِ {وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} مقدِّرينَ إنذارَهُم عند رجوعهم إليهم وروى أنَّ الجِنَّ كانتْ تسترق السمعَ فلما حُرستِ السماءُ ورُجموا بالشهبِ قَالُواْ مَا هَذا إِلاَّ لنبأٍ حدثَ فنهضَ سبعةُ نفرٍ أو ستةُ نفرٍ من أشرافِ جنِّ نصيبينَ أو نِينَوى منُهم زوبعةُ فضربُوا حتى بلغو تِهامةَ ثم اندفعُوا إلى وادِي نخلةَ فوافَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو قائمٌ في جوفِ الليلِ يُصلِّي أو في صلاةِ الفجرِ فاستمعُوا لقراءتِه وذلكَ عند منصرفِه من الطائفِ وعن سعيدِ بنِ جُبيرٍ ما قرأَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الجِنِّ ولا رآهُم وإنما كان يتلوا في صلاتِه فمرُّوا به فوقفُوا مستمعينَ وهو لا يشعرُ بهم فأنبأهُ الله تعالَى باستماعِهم وقيلَ بلْ أمرَهُ الله تعالى أنْ ينذرَ الجنَّ ويقرأَ عليهمِ فصرفَ إليه نَفَراً منهم جمعَهُم له فقالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إنِّي أُمرتُ أنْ أقرأَ على الجنِّ اليلة فمن يتبعُني قالَها ثلاثاً فأطرقُوا إلا عبدَ اللَّهِ بنَ مسعودٍ رضيَ الله عنْهُ قالَ فانطلقنَا حتَّى إذَا كُنَّا بأعلى مكةَ في شِعب الجحونِ خطَّ لي خطَّاً فقالَ لا تخرجْ منه حتَّى أعودَ إليكَ ثم افتتحَ القرآنَ وسمعتُ لغطاً شديداً حتَّى خفتُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وغشيْتُه أسودةٌ كثيرة حالتْ بيني وبينَهُ حتى ما أسمعُ صوتَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ثم انقطعُوا كقطعِ السحابِ فقالَ لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هلْ رأيتَ شيئاً قلتُ نعم رجالاً سُوداً مستشعرِي ثيابٍ بيضٍ فقالَ أولئكَ جنُّ نَصيبينَ وكانُوا اثني عشرَ ألفاً والسورةُ التي قراها عليهم افرأ باسمِ ربِّك

30

{قَالُواْ} أي عندَ رجوعِهم إلى قومهم {يا قومنا إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} قيلَ قالُوه لأنَّهم كانُوا على اليهوديةِ وعنِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أن الجنَّ لم تكُن سمعت بأمرِ عِيْسَى عليه السَّلامُ {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أرادُوا به التوراةَ {يَهْدِى إِلَى الحق} من العقائدِ الصحيحةِ {وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} مُوصلٍ إليهِ وهُو الشَّرائعُ والأعمال الصالحة

} 1 3 {

31

{يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به} أراردوا به ما سمعُوه من الكتابِ وصفُوه بالدَّعوةِ إلى الله تعالى بعدما وصفُوه بالهدايةِ إلى الحقِّ والصراطِ المستقيمِ لتلازمِهما دَعَوهم إلى ذلكَ بعدَ بيانِ حقِّيتِه واستقامتِه ترغيباً لهم في الإجابةِ ثم أكَّدُوه بقولِهم {يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذنوبكم} أي بعض ذنوبكم وهو ما كانَ في خالصِ حقِّ الله تعالى فإنَّ حقوقَ العبادِ لا تُغفرُ بالإيمانِ {وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} معدَ للكفرةِ واختُلفَ في أنَّ لهم أجرا غير هذا أولا والأظهرُ أنَّهم في حُكمِ بن آدمَ ثواباً وعقاباً وقولُه تعالى

32

{وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأرض} إيجابٌ للإجابةِ بطريقِ الترهيبِ إثرَ إيجابِها بطريقِ الترغيبِ وتحقيقٌ لكونهم منذرينَ وإظهار دعى الله من غيرِ اكتفاءٍ بأحدِ الضميرينِ للمبالغةِ في الإيجابِ بزيادةِ التقريرِ وتربيةِ المهابةِ وإدخالِ الرَّوعةِ وتقييدُ الإعجازِ بكونِه في الأرضِ لتوسيعِ الدائرةِ أي فليسَ بمعجزٍ له تعالى بالهربِ وإن هربَ كلَّ مهربٍ من أقطارِها أو دخلَ في أعماقِها وقولُه تعالى {وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} بيانٌ لاستحالةِ نجاتِه بواسطةِ الغيرِ إثرَ بيانِ استحالةِ نجاتِه بنفسهِ وجمعُ الأولياءِ باعتبارِ مَعْنى مَنْ فيكون من بابا مقابلةِ الجمع بالجمعِ لانقسامِ الآحادِ إلى الآحادِ كما منا أن الجمع في ق تعالى {أولئك} بذلكَ الاعتبارِ أى أولئك الموصوفون بعدم إجابةِ داعِي الله {فِى ضلال مُّبِينٍ} أي ظاهرٌ كونُه ضلالاً بحيثُ لا يخفى على أحد أعرضُوا عن إجابةِ مَنْ هَذا شأنُه

33

{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} الهمزةُ للإنكارِ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يستدعيهِ المقامُ والرؤيةُ قلبيةٌ أيْ ألم يتفكَّروا ولم يعلمُوا علماً جازماً مُتاخِماً للمشاهدةِ والعيانِ {أَنَّ الله الذى خلق السماوات والأرض} ابتداءً من غيرِ مثال بجتذيه ولا قانون بنتحيه {وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ} أي لم يتعبْ ولم ينصَبْ بذلك أصلاً أو لم يعجزْ عنهُ يقالُ عييتُ بالأمرِ إذا لم يُعرفْ وجَههُ وقولُه تعالى {بِقَادِرٍ} في حيزِ الرفعِ لأنَّه خبرُ أنَّ كما ينبىءُ عنْهُ القراءةُ بغيرِ باءٍ ووجُه دخولِها في القراءةِ الأُولى اشتمالُ النفيِّ الواردِ في صدرِ الآيةِ على أنَّ وَمَا في حيزِها كأنَّه قيلَ أو ليسَ الله بقادجر {على أَن يُحْيِىَ الموتى} ولذلكَ أجيبَ عنه بقولِه تعالى {بلى أَنَّهُ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} تقريراً للقدرةِ على وجهٍ عامَ يكونُ كالبرهانِ على المقصودِ

} 4 35

34

{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} ظرفٌ عاملُه قولٌ مضمرٌ مقولُه {أَلَيْسَ هذا بالحق} على أنَّ الإشارةَ إلى ما يشاهدونَهُ حينئذٍ من حيثُ هو من غير أن يخطر بالبالِ لفظٌ يدلُّ عليهِ فضلا عن تذكيره وتأنيثه إذ هُو اللائق بتهويلهِ وتفخيمِه وقد مرَّ في سورةِ الأحزابِ وقيل هيَ إلى العذابِ وفيه تهكمٌ بهم وتوبيخٌ لهم على استهزائِهم بوعدِ الله ووعيدِه وقولِهم وما نحنُ بمعذبينَ {قالوا بلى وربنا} أكد جوابَهُم بالقسمِ كأنَّهم يطمعونَ في الخلاصِ بالاعترافِ بحقِّيتها كما في الدُّنيا وأنَّى لهُم ذلكَ {قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} بها في الدُّنيا ومَعْنى الأمرِ الإهانةُ بهم والتوبيخُ لهم والفاءُ في قولِه تعالى

35

{فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} جوابُ شرطٍ محذوفٍ أيْ إذا كان عاقبةُ أمرِ الكفرةِ ما ذُكِرَ فاصبرْ على ما يصيبكَ من جهتِهم كما صبر أولوا الثباتِ والحزمِ من الرسلِ فإنكَ من جُمْلتِهم بل من علْيتِهم ومِنْ للتبيينِ والمرادُ بأُولي العزمِ أصحابُ الشرائعِ الذينَ اجتهدُوا في تأسيسِها وتقريرِها وصبرُوا على تحملِ مشاقِّها ومعاداةِ الطاعنينَ فيَها ومشاهيرُهُم نُّوحٍ وإبراهيمُ وموسى وَعِيسَى عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيلَ هم الصابرونَ على بلاءِ الله كنوحٍ صبرَ على أذيةِ قومِه كانُوا يضربونَهُ حتى يُغشَى عليهِ وإبراهيمُ صبرَ على النَّارِ وعلى ذبحِ ولدِه والذبيحُ على الذبحِ ويعقوبُ على فقدِ الولدِ والبصرِ ويوسفُ على الجُبِّ والسجنِ وأيوبُ على الضُرِّ ومُوسى قال له قومُه إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ وداودُ بكى على خطيئتِه أربعينَ سنةً وعيْسَى لم يضع لبنةً على لبنةٍ صلواتُ الله تعالَى عليهم أجمعينَ {وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} أي لكُفَّارِ مكةَ بالعذابِ فإنَّه على شرفِ النزولِ بهم {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من العذابِ {لَّمْ يَلْبَثُواْ} في الدُّنيا {إِلاَّ سَاعَةً} يسيرةً {مّن نَّهَارٍ} لما يشاهدونَ من شدةِ العذابِ وطولِ مدتهِ وقولُه تعالى {بَلاَغٌ} خبرٌ مبتدأٍ محذوفٍ أي هَذا الذي وُعظتم بهِ كفايةٌ في الموعظةِ أو تبليغٌ من الرسول ويؤيده أنه قرئ بلغ وقرئ بلاغاً أي بلغُوا بلاغاً {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون} أي الخارجونَ عن الاتعاظ به أو عن الطاعة وقرئ بفتحِ الياءِ وكسرِ اللامِ وبفتحِهما منْ هَلِكَ وهَلَكَ وبنون العظمة من الإهلاكِ ونصبِ القومِ ووصفه عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الأحقافِ كُتبَ له عشرَ حسناتٍ بعدد كلِّ رملة فى الدنيا

سورة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم بسم الله الرحمن الرحيم } { سورة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وتسمى سورة القتال وهى مدنية وقيل مكية وآياتها ثمان وثلاثون {بسم الله الرحمن الرحيم}

محمد

{الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي أعرضُوا عن الإسلامِ وسلوكِ طريقةِ منْ صَدَّ صُدوداً أو منعُوا النَّاسَ عن ذلكَ مِنْ صدَّهُ صَدَّاً كالمُطعمينَ يومَ بدرٍ وقيلَ هُم اثنا عشرَ رجُلاً من أهلِ الشركِ كانُوا يصدُّونَ الناسَ عن الإسلامِ ويأمرونَهُم بالكفرِ وقيلَ أهلُ الكتابِ الذينَ كفرُوا وصدُّوا مَنْ أرادَ منْهم ومن غيرِهم أنْ يدخلَ في الإسلامِ وقيلَ هو عامٌّ في كلِّ مَن كفرَ وصدَّ {أَضَلَّ أعمالهم} أي أبطلَها وأحبطَها وجعلَها ضائعةً لا أثرَ لَها أصلاً لكنْ لا بمعنى أنَّه أبطلَها وأحبطَها وجعلَها ضائعةً لا أثرَ لَها أصلاً لكنْ لا بمعنى أنَّه أبطلَها وأحبطَها بعد أنْ لم تكُنْ كذلك بلْ بمَعْنى أنَّه حكَم ببطلانِها وضياعِها فإنَّ ما كانُوا يعملونَ من أعمالِ البرِّ كصلةِ الأرحامِ وقِرَى الأضيافِ وفكِّ الأُسارَى وغيرِها من المكارمِ ليسَ لها أثرٌ منْ أصلِها لعدمِ مقارنتِها للإيمانِ أو أبطلَ ما عملوا من الكيدِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن سبيلِه بنصرِ رسوله وإظهارِ دينِه على الدِّينِ كلِّه وهُو الأوفقُ لما سيأتى قولِه تعالى فَتَعْساً لَّهُمْ وأضل أعمالهم وقوله فَإِذَا لَقِيتُمُ الخ

2

{والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات} قيلَ هم ناس من قريش وقبل من الأنصارِ وقيلَ هُم مؤمنوا أهلِ الكتابِ وقيلَ عامٌّ للكل {وآمنوا بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ} خُصَّ بالذكرِ الإيمانُ بذلكَ مع اندارجه فيما قبلَهُ تنويهاً بشأنِه وتنبيهاً على سُموِّ مكانِه منْ بينِ سائرِ ما يجبُ الإيمانُ بهِ وأنه الأصلُ في الكُلِّ ولذلكَ أُكِّدَ بقولِه تعالى {وَهُوَ الحق مِن رَّبّهِمْ} بطريقِ حصرِ الحقِّيةِ فيهِ وقيلَ حقِّيتُه بكونِه ناسخاً غيرَ منسوخٍ فالحقُّ على هذا مقابلُ الزائلِ وعلى الأولِ مقابلُ الباطلِ وأيَّاً ما كانَ فقولُه تعالى من رَبَّهُمْ حالٌ من ضميرِ الحق وقرئ نزَّلَ على البناءِ للفاعلِ وأَنزلَ على البناءينِ ونَزَلَ بالتخفيفِ {كَفَّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم} أي سترَهَا بالإيمانِ والعملِ الصالحِ {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي حال في الدِّينِ والدُّنيا بالتأييدِ والتوفيقِ

3

{ذلك} إشارة إلى ما مرَّ من إضلالِ الأعمالِ وتكفيرِ السيئاتِ وإصلاحِ البالِ وهو مبتدأٌ

4 خبرُهُ قولُه تعالى {بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق مِن رَّبِّهِمْ} أيْ ذلكَ كائنٌ بسببِ أن الأولين ابتعوا الشيطانَ كما قالَهُ مجاهدٌ ففعلوا ما فعلوا من الكفرِ والصدِّ فبيانُ سببيةِ اتباعِه للإضلالِ المذكورِ متضمنٌ لبيانِ سببيتِهما له لكونِه أصلاً مُستتبعاً لهما قطعاً وبسببِ أنَّ الآخرينَ اتبعُوا الحق الذي لا محيد عنه كائناً من ربِّهم ففعلوا ما فعلوا من الإيمانِ به وبكتابِه ومن الأعمالِ الصالحة فبيانُ سببيةِ اتِّباعِه لما ذُكرَ من التكفيرِ والإصلاحِ بعدَ الإشعارِ بسببيةِ الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ له متضمنٌ لبيانِ سببيتِهما له لكونِه مبدأً ومنشأً لهما حتماً فلا تدافُعَ بينَ الإشعارِ والتصريحِ في شئ من الموضعينِ ويجوزُ أن يحمل الباطل ما يُقابلُ الحقَّ وهو الزائلُ الذاهبُ الذي لا أصلَ له أصلاً فالتَّصريحُ بسببيةِ اتباعهِ لإضلالِ أعمالِهم وإبطالِها لبيانِ أنَّ إبطالَها لبطلانِ مبناها وزوالِه وأما حملُه على ما لا يُنتفعُ به فليسَ كَما ينبغِي لِما أنَّ الكفرَ والصدَّ أفحشُ منه فلا وجَه للتصريحِ بسببيتِه لما ذُكر من إضلالِ أعمالِهم بطريقِ القصرِ بعدَ الإشعارِ بسببيتِهما له فتدبر ويجوزُ أنْ يرادَ بالباطلِ نفسُ الكفرِ والصدِّ وبالحقِّ نفسُ الإيمانِ والأعمالِ الصالحةِ فيكونُ التنصيصُ على سببيتِهما لما ذُكَرَ من الإضلالِ ومن التفكير والإصلاحِ تصريحاً بالسببيةِ المُشعرِ بَها في المَوقعينِ {كذلك} أي مثلَ ذلكَ الضربِ البديعِ {يَضْرِبُ الله} أيْ يبينُ {لِلنَّاسِ أمثالهم} أي أحوالَ الفريقينِ وأوصافَهما الجاريةَ في الغرابةِ مَجْرى الأمثالِ وهي اتباعُ الأولينِ الباطلَ وخيبتُهم وخُسرانُهم واتباعُ الآخرينَ الحقَّ وفوزُهم وفلاحُهم والفاءُ في قولِه تعالى

4

{فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ} لترتيبِ مَا في حيزِها من الأمرِ على ما قبلها فإنَّ ضلالَ أعمالِ الكفرةِ وخيبتَهم وصلاحَ أحوالِ المؤمنينَ وفلاحَهم ممَّا يُوجبُ أنْ يرتّب على كلَ من الجانبينِ ما يليقُ من الأحكامِ أيْ فإذَا كان الأمر كما ذكر فإذَا لقيتُموهم في المُحاربةِ {فَضَرْبَ الرقاب} أصلُه فاضربُوا الرقابَ ضرباً فحُذفَ الفعلُ وقُدِّمَ المصدرُ وأُنيبَ مُنابَهُ مضلفا إلى المفعولِ وفيِه اختصارٌ وتأكيدٌ بليغٌ والتعبيرُ به عن القتلِ تصويرٌ له بأشنعِ صورةٍ وتهويلٌ لأمرِه وإرشاده للغزاةِ إلى أيسرَ ما يكونُ منْهُ {حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} أي أكثرتُم قتلَهم وأغلظتموه من الشئ الثخينِ وهو الغليظُ أو أثقلتمُوهم بالقتلِ والجراحِ حتَّى أذهبتُم عنهُم النهوضَ {فَشُدُّواْ الوثاق} فأْسِرُوهم واحفظُوهم والوَثاقُ اسمٌ لما يُوثقُ بهِ وكذا الوثاقُ بالكسرِ وقَدْ قرئ بذلكَ {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} أيْ فإمَّا تمنونَ منًّا بعد ذلكَ أو تفْدونَ فداءً والمَعْنى التخييرُ بين القتلِ والاسترقاقِ والمنِّ والفداءِ وهذا ثابتٌ عند الشافعيِّ رحمَهُ الله تَعَالَى وعندنَا منسوخٌ قالُوا نزلَ ذلكَ يومَ بدرٍ ثُمَّ نُسخَ والحكمُ إما القتلُ أو الاسترقاقُ وعن مجاهدٍ ليسَ اليومَ منٌّ ولا فداءٌ إنما هُو الإسلامُ أو ضرب العنق وقرئ فداً كعَصَا {حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} أوزارُ الحربِ آلاتُها وأثقالُها التي

5 9 لا تقومُ إلا بَها من السلاحِ والكُراعِ وأُسندَ وضعُها إليها وهو لأهلِها إسناداً مجازياً وحتَّى غايةٌ عندَ الشافعيِّ لأحدِ الأمورِ الأربعةِ أو للمجموعِ والمَعْنى أنَّهم لا يزالونَ على ذلكَ أبداً إلى أنْ لا يكونَ مع المشركينَ حربا بأن لا تبقى لهم شوكةٌ وقيلَ بأنْ ينزلَ عيسى عليه السلامُ وأما عندَ أبي حنيفةَ رحمَهُ الله تعالى فإنْ حُملَ الحربُ على حربِ بدرٍ فهي غايةٌ للمنِّ والفداءِ والمعنى يمنى عليهم ويُفادون حتى تضعَ حربُ بدرٍ أوزارَها وإنْ حُملتْ على الجنسِ فهي غايةٌ للضربِ والشدِّ والمَعْنى أنهم يُقتلون ويؤسرون حتَّى يضع جنسُ الحربِ أوزارَها بأنْ لا يبقى للمشركين شوكةٌ وقيلَ أوزارُها آثامُها أي حتَّى يتركَ المشركونَ شركَهم ومعاصيَهم بأنْ أسلمُوا {ذلك} أي الأمرُ ذلك أو فعلوا ذلك {وَلَوْ يَشَاء الله لانتصر منهم} لا تنقم منهم ببعض أسبابا الهلكةِ والاستئصالِ {ولكن} لم يشأ لذلك {لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} فأمرَكم بالقتالِ وبلاكُم بالكافرينَ لتجاهدُوهم فتستوجيبوا الثوابَ العظيمَ بموجبِ الوعدِ والكافروين بكم ليعالجهم على أيديكُم ببعضِ عذابِهم كيْ يرتدعَ بعضُهم عن الكفرِ {والذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله} أي استُشهدوا وقرئ قاتلُوا أي جاهدُوا وقَتلُوا وقُتِلوا {فَلَن يُضِلَّ أعمالهم} أى فلن يضيعها وقرى يضل أعماله على البناءِ للمفعولِ ويضِلَّ أعمالَهم من ضلَّ وعنْ قَتَادةَ أنَّها نزلتْ في يومِ أحدٍ

5

{سَيَهْدِيهِمْ} في الدُّنيا إلى أرشدِ الأمورِ وفي الآخرةِ إلى الثوابِ أو سُيْثبِّتَ هدايتَهم {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ}

6

{وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} في الدُّنيا بذكرِ أوصافِها بحيثُ اشتاقُوا إليها أو بيَّنها لهم بحيثُ يعلم كلُّ أحدٍ منزلَه ويهتدي إليهِ كأنه كان ساكنَهُ منذُ خُلقَ وعن مقاتل أنَّ الملكَ الموكلَ بعملهِ في الدُّنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شئ أعطاهُ الله تعالى أو طيَّبها لهم من العَرْفِ وهو طيبُ الرائحةِ أو حدَّدها لهم وأفرزَها من عَرفُ الدَّارِ فجنةُ كلَ منهم محددةٌ مفرزةٌ والجملةُ إمَّا مستأنفةٌ أو حالٌ بإضمار قد أو بدونه

7

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ الله} أي دينَه ورسوله {يَنصُرْكُمُ} على أعدائِكم ويفتحْ لكُم {وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ} في مواطنِ الحربِ ومواقفِها أو على مَحَجةِ الإسلامِ

8

{والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} التعسُ الهلاكُ والعِثارُ والسقوطُ والشرُّ والبعدُ والانحطاطُ ورجلٌ تاعسٌ وتَعِسٌ وانتصابُه بفعلِه الواجبِ حذفُه سماعاً أي فقالَ تعساً لهم أو فقضى تعساً لهم وقولُه تعالى {وَأَضَلَّ أعمالهم} عطفٌ عليهِ داخلٍ معه في حيزِ الخبريةِ للموصولِ

9

{ذلك} أي ما ذكر من التعسِ وإضلالِ الأعمالِ {بِأَنَّهُمْ} بسببِ أنَّهم {كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ الله} من القرآنِ

} 0 1 { لما فيهِ من التوحيدِ وسائرِ الأحكامِ المخالفةِ لما ألِفُوه واشتهتْهُ أنفسُهم الأمارةُ بالسُّوءِ {فَأَحْبَطَ} لأجلِ ذلكَ {أعمالهم} التي لو كانُوا عملُوها مع الإيمان لأُثيبُوا عليَها

10

{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض} أي أقعدُوا في أماكنِهم فلم يسيرُوا فيها {فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِم} من الأممِ المكذبةِ فإنَّ آثارَ ديارِهم تنبئ عن أخبارِهم وقولُه تعالى {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ} استئنافٌ مبني على سؤال نشأ من الكلامِ كأنَّه قيلَ كيف كانت عاقبتُهم فقيلَ استأصلَ الله تعالىَ عليهم ما اختصَّ بهم من أنفسِهم وأهليِهم وأموالِهم يقالُ دمَّره أهلكَه ودمَّر عليهِ أهلكَ عليهِ ما يختصُّ بهِ {وللكافرين} أي ولهؤلاءِ الكافرينَ السائرينَ بسيرتِهم {أمثالها} أمثالُ عواقبِهم أو عقوباتِهم لكنْ لا على أنَّ لهؤلاءِ أمثالَ مالأولئك وأضعافَهُ بلْ مثلَه وإنما جُمعَ باعتبارِ مماثلتِه لعواقبَ متعددةٍ حسبَ تعددِ الأممِ المُعذبةِ وقيلَ يجوزُ أن يكونَ عذابُهم أشدَّ من عذابِ الأولينَ وقد قُتلوا وأُسروا بأيدِي من كانُوا يستخفّونهم ويستضعفونهم والقتلُ بيد المثلِ أشدُّ ألماً من الهلاكِ بسببٍ عامٍ وقيلَ المرادُ بالكافرينَ المتقدمونَ بطريقِ وضْعِ الظاهِرِ موضعَ الضَّميرِ كأنَّه قيلَ دمَّر الله عليهم في الدُّنيا وَلَهُمْ في الآخرةِ أمثالُها

11

{ذلك} إشارةٌ إلى ثبوتِ أمثالِ عقوبةِ الأممِ السَّالفةِ لهؤلاءِ {بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمنوا} أي ناصرُهم على أعدائِهم وقرئ وليُّ الذينَ {وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} فيدفعُ عنُهم ما حلَّ بهم من العقوبةِ والعذابِ ولا يُخالفُ هَذا قولَه تعالى ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله مولاهم الحق فإنَّ المَوْلَى هُناكَ بمعنى المالِك

12

{إِنَّ الله يُدْخِلُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} بيانٌ لحكمِ ولايتِه تعالى لَهُم وثمرتِها الأُخرويةِ {والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ} أيْ ينتفعونَ في الدُّنيا بمتاعِها {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام} غافلينَ عنْ عواقِبهم {والنار مَثْوًى لَّهُمْ} أي منزلُ ثُواءٍ وإقامةٍ والجملةُ إمَّا حالٌ مقدرةٌ منْ واوِ يأكُلونَ أو استئنافٌ

13

{وَكَأَيّن} كلمةٌ مركبةٌ من الكافِ وأَيْ بمَعنى كَمِ الخبريةِ ومحلُّها الرفعُ بالابتداءِ وقولُه تعالى {مِن قَرْيَةٍ} تمييزٌ لها وقولُه تعالى {هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ} صفةٌ لقريةٍ كما أنَّ قولَه تعالى {التى أَخْرَجَتْكَ} صفةٌ لقريتكَ وقد حُذفَ عنهُمَا المضافُ وأُجريَ أحكامُه عليهمَا كما يُفصحُ عنه الخبر الذى قولُه تعالى {أهلكناهم} أي وكم منْ أهلِ قريةٍ هُم أشدُّ

} 4 15 قوةً من أهلِ قريتكَ الذين كانُوا سبباً لخروجِكَ من بينِهم ووصفُ القريةِ الأولى بشدةِ القُوَّةِ للإيذانِ بأولويةِ الثانيةِ منها بالإهلاكِ لضعفِ قوَّتِها كما أنَّ وصفَ الثانيةِ بإخراجهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للإيذانِ بأولويتِها به لقوةِ جنايتِها وعلى طريقتِه قولُ النابغةِ ... كُلَيبٌ لعَمْرِي كانَ أكثَر ناصرا ... وَأيسَر جُرماً منكَ ضُرِّجَ بالدَّمِ ... وقولُه تعالى {فَلاَ ناصر لَهُمْ} بيانٌ لعدمِ خلاصِهم من العذابِ بواسطةِ الأعوانِ والأنصارِ إثرَ بيانِ عدمِ خلاصِهم منْهُ بأنفسِهم والفاءُ لترتيبِ ذكرِ ما بالغيرِ على ذكرِ ما بالذاتِ وهو حكايةُ حالٍ ماضيةٍ

14

{أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} تقريرٌ لتباينِ حَالَيْ فَريَقيْ المؤمنينَ والكافرينَ وكون الاوليين في أعلى علّيينَ والآخرينَ في أسفلِ سافلينَ وبيانٌ لعلةِ ما لكلَ منهُمَا من الحالِ والهمزةُ للإنكارِ والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقد قرئ بدونها ومَنْ عبارةٌ عن المؤمنينَ المتمسكينَ بأدلةِ الدِّينِ وجعلُها عبارةً عن النبيِّ عليه الصلاةَ والسلام أو عنْهُ وعنِ المؤمنينَ لا يساعدُه النظمُ الكريمُ على أنَّ الموازنةَ بينه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبينَهم مما يأباهُ منصبُه الجليلُ والتقديرُ أليسَ الأمرُ كما ذُكِرَ فمنْ كانَ مستقراً على حجةٍ ظاهرةٍ وبرهانٍ نيّرٍ من مالكِ أمرِه ومربّيهِ وهو القرآنُ الكريمُ وسائرُ المعجزاتِ والحججِ العقليةِ {كَمَن زُين لَهُ سوءُ عَمَلِهِ} من الشركِ وسائرِ المعاصيِ مع كونِه في نفسِه أقبحَ القبائحِ {واتبعوا} بسببِ ذلكَ التزيينِ {أَهْوَاءهُمْ} الزائغةَ وانهمكُوا في فنونِ الضلالاتِ من غير أن يكون لهم شبهةٌ توهمُ صحةَ ما تم عليهِ فضلاً عن حجةٍ تدلُّ عليهِ وجمعُ الضميرينِ الأخيرينِ باعتبارِ مَعْنى مَنْ كما أنَّ إفرادَ الأولَينِ باعتبارِ لفظِها

15

{مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون} استئنافٌ مَسُوقٌ لشرحِ مَحَاسنِ الجنَّةِ الموعودةِ آنِفاً للمؤمنينَ وبيانِ كيفيةِ أنهارِها التي أُشيرَ إلى جريانِها من تحتِها وعُبِّرَ عنهُم بالمتقينَ إيذاناً بأنَّ الإيمانَ والعملَ الصالَح من بابِ التقوى الذي هُو عبارةٌ عن فعلِ الواجباتِ بأسرِها وتركِ السيئاتِ عن آخرِها ومَثَلُها وصفُها العجيبُ الشأنِ وهُو مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ فقدَّرهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيلٍ مثلُ الجنةِ ما تسمعونَ وقولُه تعالى {فِيهَا أَنْهَارٌ} إلخ مفسرٌ لَهُ وقدَّرهُ سيبويهِ فيما يُتلَى عليكُم مَثَلُ الجنةِ والأولُ هو الأنسبُ لصدرِ النظمِ الكريمِ وقيلَ المَثَلُ زائدةٌ كزيادةِ الاسمِ في قولِ مَنْ قال إلى الحولِ ثم اسمُ السَّلامِ عليكما ... والجنةُ مبتدأٌ خبرُهُ فيها أنهارٌ إلخ {مّن مَّاء غَيْرِ آسن} غيرِ متغيرِ الطعمِ والرَّائحةِ وقرئ غيرِ أَسِنٍ {وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} بأنْ صارَ قارِصاً وَلاَ خَازِراً كألبانِ الدُّنيا {وأنهار من خمر لذة للشاربين} لذيذةٍ ليسَ فيها كراهةُ طعمٍ وريحٍ ولا غائلةُ سُكرٍ ولا خُمارٌ وإنما هيَ تلذذٌ محضٌ ولذةٍ إمَّا تأنيثُ لذَ بمعنى لذيذٍ أو مصدرٌ نُعت

} 6 18 به مبالغة وقرئ لذةٌ بالرفعِ على أنَّها صفةُ أنهارٌ وبالنصبِ على العلَّةِ أي لأجلِ لذةِ الشاربينَ {وأنهار مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} لا يُخالطُه الشمعُ وفضلاتُ النحلِ وغيرُها وفي هذا تمثيلٌ لما يَجْري مَجرى الأشربةِ في الجنةِ بأنواعِ ما يُستطابُ منها ويُستلذُّ في الدُّنيا بالتخليةِ عمَّا يُنغصها ويُنقصها والتحليةِ بما يُوجبُ غزارتُها ودوامَها {وَلَهُمْ فِيهَا} مع ما ذُكَر من فنونِ الأنهارِ {مِن كُلّ الثمرات} أيْ صنفٌ من كلِّ الثمراتِ {وَمَغْفِرَةٌ} أي ولهم مغفرةٌ عظيمةٌ لا يُقادرُ قَدرُها وقولُه تعالى {مّن رَّبّهِمُ} متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لمغفرةٌ مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنةٌ من ربِّهم وقولُه تعالى {كمن هو خالد فى النار} خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ أمَّنْ هو خالدٌ في هذه الجنةِ حسبما جريَ به الوعدُ كمن هو خالد فى النار كما نطق به قوله تعالى والنَّارُ مَثْوىً لَهُم وقيل هو خبرٌ لَمثَلُ الجنةِ على أنَّ في الكلامِ حذفاً تقديرُهُ أمثلُ الجنةِ كمثلِ جزاءِ من هو خالد فى النار أو أمثلُ أهلِ الجنةِ كمثلِ من هو خالدٌ في النارِ فعُرّيَ عن حرفِ الإنكارِ وحُذفَ ما حذفَ تصويراً لمكابرةِ مَن يُسوي بين المتمسكِ بالبينةِ وبين التابعِ للهوى بمكابرةِ من سوَّى بين الجنةِ الموصوفةِ بما فُصل من الصفاتِ الجليلةِ وبين النارِ {وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً} مكانَ تلك الأشربةِ {فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} من فرْطِ الحرارةِ قيل إذادنا منهم شوى وجوههم وانمارت فروة رؤسهم فإذا شربوُه قطَّع أمعاءَهم

16

{وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} هم المنافقونَ وإفرادُ الضميرِ باعتبارِ لفظِ مَنْ كما أنَّ جمعَهُ فيما سيأتي باعتبارِ معناها كانُوا يحضُرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعونَ كلامَهُ ولا يَعُونَهُ ولا يُراعونَهُ حقَّ رعايتِه تهاوناً منهُم {حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم} من الصحابةِ رضيَ الله عنُهم {ماذا قال آنفا} أي ما الذي قالَ الساعةَ على طريقةِ الاستهزاءِ وإن كان بصورةِ الاستعلامِ وآنِفاً من قولِهم أنْفُ الشئ لما تقدمَ منه مستعارٌ من الجارحةِ ومنه استأنفَ الشئ وائتنفَ وهو ظرفٌ بمعنى وقتاً مؤتنفاً أو حالٌ من الضمير في قالَ وقرئ أنفا {أولئك} اوصفون بما ذُكِرَ {الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} لعدمِ توجههم نحوَ الخيرِ أصلاً {واتبعوا أَهْوَاءهُمْ} الباطلةَ فلذلك فعلُوا ما فعلُوا مما لا خيرَ فيهِ

17

{والذين اهتدوا} إلى طريقِ الحقِّ {زَادَهُمْ} أي الله تعالَى {هُدًى} بالتوفيقِ والإلهامِ {وآتاهم تقواهم} أعانهُم على تقواهُم أو أعطاهُم جزاءَها أو بيّنَ لهم ما يتقونَ

18

{فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة} أي القيامةَ وقولُه تعالى {أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي تُباغتُهم بغتةً وهي المفاجأةُ بدلُ اشتمالٍ من

} 9 20 الساعةَ والمعنى أنَّهم لا يتذكرونَ بذكرِ أهوالِ الأممِ الخاليةِ ولا بالأخبارِ بإتيانِ السَّاعةِ وما فيها مِنْ عظائم الاهول وما ينتظرونَ للتذكرِ إلا إتيانِ نفسِ الساعةِ بغتةً وقرئ بَغَتةً بفتحِ الغينِ وقولُه تعالى {فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا} تعليلٌ لمفاجأتِها لا لإتيانِها مُطلقاً على معنى أنَّه لم يبقَ من الأمورِ الموجبةِ للتذكِر أمرٌ مترقبٌ ينتظرونَهُ سوى إتيانِ نفسِ الساعةِ إذْ قد جاءَ أشراطُها فلم يرفعُوا لها رأساً ولم يعدّوها من مبادى إتيانِها فيكون إتيانُها بطريقِ المفاجأةِ لا محالةَ والأشراطُ جمعُ شَرَطٍ بالتحريكِ وهي العلامةُ والمرادُ بها مبعثُه صلى الله عليه وسلم وانشقاقُ القمرِ ونحوُهما وقولُه تعالى {فأنى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} حكمٌ بخطِئهم وفسادِ رأيهم في تأخيرِ التذكرِ إلى إتيانِها ببيانِ استحالى نفعِ التذكرِ حينئذٍ كقولِه تعالى يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى أي وكيفَ لهم ذكراهُم إذا جاءتْهُم على أن أنَّى خبرٌ مقدمٌ وذكراهُم مبتدأٌ وإذا جاءتْهُم اعتراضٌ وسطٌ بينهما رمزاً إلى غايةِ سرعةِ مجيئِها وإطلاقُ المجىءِ عن قيدِ البغتِه لما أن مدارَ استحالةِ نفعِ التذكرِ كونُه عند مجيئِه مطلقاً لا مقيداً بقيدِ البغتة وقرئ إن تاتيهم على أنَّه شرطٌ مستأنفٌ جزاؤُه فأنَّى لهم إلخ والمعنى إنْ تأتِهم الساعةُ بغتةً لأنه قد ظهرَ أماراتُها فكيفَ لهم تذكرُهم واتعاظُهم إذا جاءتْهُم

19

{فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ الله} أي إذا علمتَ أنَّ مدارَ السعادةِ هو التوحيدُ والطاعةُ ومناطَ الشقاوةِ هو الإشراكُ والعصيانُ فاثبت على ما أنت عليه من العلمِ بالوحدانيةِ والعملِ بموجبِه {واستغفر لِذَنبِكَ} وهو الذي رُبَّما يصدرُ عنه عليه الصلاة والسلام من تركِ الأَوْلى عُبِّر عنه بالذنبِ نظراً إلى منصبِه الجليلِ كيفَ لا وحسناتُ الأبرارِ سيئاتُ المقربينَ وإرشادٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى التواضعِ وهضمِ النفسِ واستقصارِ العملِ {وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} أي لذنوبِهم بالدعاءِ لهم وترغيبِهم فيما يستدعي غفرانَهم وفي إعادةِ صلةِ الاستغفارِ تنبيهٌ على اختلاف متعلّقَيه جنساً وفي حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليهِ مُقامَهُ إشعارٌ بعراقتِهم في الذنبِ وفرطِ افتقارِهم إلى الاستغفارِ {والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ} في الدُّنيا فإنَّها مراحلُ لا بُدَّ من قطعِها لا محالةَ {وَمَثْوَاكُمْ} في العقبى فإنها مواطن إقامتِكم فلا يأمرُكم إلا بما هو خيرٌ لكم فيهما فبادِرُوا إلى الامتثالِ بما أمركُم به فإنه المهمُّ لكم في المقامينِ وقيل يعلمُ جميعَ أحوالِكم فلا يخفى عليه شئ منها

20

{ويقول الذين آمنوا} حرصاً منُهم على الجهادِ {لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ} أي هلا نزلت سورة تؤمر فيها بالجهادِ {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال} بطريقِ الأمرِ به أي سورةٌ مبينةٌ لا تشابَه ولا احتمالَ فيها لوجهٍ آخرَ سوى وجوبِ القتالِ عن قَتَادَة كُلُّ سورةٍ فيها ذكرُ القتالِ فهيَ محكمةٌ لم تنسخْ وقرئ فإذا نزلتْ

} 1 2 { سورةٌ وقُرِىءَ وذَكَرَ على إسنادِ الفعلِ إلى ضميرِه تعالى ونصبِ القتالِ {رَأَيْتَ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي ضعفٌ في الدينِ وقيل نفاقٌ وهو الأظهرُ الأوفقُ لسياقِ النظمِ الكريمِ {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} أي تثخص أبصارُهم جُبناً وهلعاً كدأب منْ أصابتْهُ غشيةُ الموتِ {فأولى لَهُمْ} أي فويلٌ لَهُمْ أي فويلٌ لهم وهو أفعلُ من الوَلي وهو القُربُ وقيلَ مِنْ آل ومعناه الدعاء بأن يليهم الكروه أو يؤولَ إليهِ أمرُهم وقيل هو مُشتقٌ من الويلِ وأصله أَوْيَل نُقلتْ العينُ إلى مَا بعدِ اللامِ فوزنُه أَفْلَعَ

21

{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} كلامٌ مستأنف أى أمرهم الخ أو طاعةٌ وقولٌ معروفٌ خيرٌ لهم أو حكايةٌ لقولِهم ويؤيدُه قراءةُ أُبي يقولونَ طاعةٌ وقولٌ معروفٌ أي أمرُنا ذلكَ {فَإِذَا عَزَمَ الأمر} أَسندَ العزمَ وهو الجِدُّ إلى الأمرِ وهو لأصحابِه مجازاً كما في قوله تعالى إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الامور وعاملُ الظرفِ محذوفٌ أي خالَفُوا وتخلَّفُوا وقيلَ ناقضُوا وقيل كرِهُوا وقيلَ هُو قولُه تعالى {فَلَوْ صَدَقُواْ الله} على طريقةِ قولِك إذا حضرني طعامٌ فلوجئتني لأطمعتك أي فلو صدقُوه تعالى فيما قالُوا من الكلامِ المبنىء عن الحرصِ على الجهادِ بالجري على موجبهِ {لَكَانَ} أي الصدقُ {خَيْراً لَّهُمْ} وفيه دلالةٌ على اشتراكِ الكلِّ فيما حُكيَ عنهم من قولِه تعالى لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ وقيل فلو صدقُوه في الإيمانِ وواطأتْ قلوبُهم في ذلك ألسنتَهُم وأيا ما كان فالمرادُ بهم الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وهم المخاطبون بقولِه تعالى

22

{فَهَلْ عَسَيْتُمْ} الخ بطريقِ الالتفاتِ لتأكيدِ التوبيخِ وتشديدِ التقريعِ أي هل يُتوقعُ منكم {إِن تَوَلَّيْتُمْ} أمورَ الناسِ وتأمَّرتُم عليهم {أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرض وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ} تناحراً على المُلك وتهالُكاً على الدُّنيا فإن من شاهدَ أحوالَكم الدالَّةَ على الضعفِ في الدِّينِ والحرصِ على الدُّنيا حينَ أُمرتُم بالجهادِ الذي هو عبارةٌ عن إحرازِ كلِّ خيرٍ وصلاحٍ ودفعِ كلِّ شرَ وفسادٍ وأنتم مأمورون شأنُكم الطاعةُ والقولُ المعروفُ يتوقعُ منكم إذا أطلقتْ أعِنّتُكم وصرتُم آمرين ما ذكر من الإفسادِ وقطعِ الأرحامِ وقيل إن أعرضتُم عن الإسلامِ أنْ ترجعوا إلى ما كنتُم عليه في الجاهليةِ من الإفسادِ في الأرضِ بالتغاورِ والتناهبِ وقطعِ الأرحامِ بمقاتلةِ بعضِ الأقاربِ بعضاً ووأدِ البناتِ وفيه أن الواقعَ في جيز الشرطِ في مثلِ هذا المقامِ لابد أن تكون محذوريتُه باعتبارِ ما يستتبعُه من المفاسدِ لا با عتبار ذاتُه ولا ريبَ في أنَّ الإعراضَ عن الإسلامِ رأسُ كلِّ شرَ وفسادٍ فحقُّه أنْ يجعلَ عمدةً في التوبيخِ لا وسيلةً للتوريخ بما دونَهُ من المفاسدِ وقُرِىءَ وُلِّيتُم على البناءِ للمعفول أي جُعلتْم ولاةً وقُرِىءَ تُولِّيتُم أي تولاَّكُم ولاةُ جورٍ خرجتُم معهُم وساعدتمُوهم في الإفسادِ وقطيعةِ الرحمِ وقُرِىءَ وتَقطَّعُوا من التقطُّعِ بحذفِ إحدى التاءينِ فانتصابُ أرحامَكم حينئذٍ على نزعِ الجارِّ أي في أرحامِكم وقُرِىءَ وتَقْطَعُوا منَ القطعِ وإلحاقُ الضميرِ بعسَى لغةِ أهلِ الحجازِ وأمَّا بنُو

} 6 2 { تميمٍ فيقولونَ عسى أنْ تفعلَ وعسى أنْ تفعلُوا

23

{أولئك} إشارةٌ إلى المخاطبينَ بطريقِ الالتفاتِ إيذاناً بأنَّ ذكرَ هَنَاتِهم أوجبَ إسقاطَهُم عن رتبة الخطاب وحكايةِ أحواهم الفظية لغيرِهم وهُو مبتدأٌ خبرُه {الذين لَعَنَهُمُ الله} أيْ أبعدهُم من رحمتِه {فَأَصَمَّهُمْ} عن استماعِ الحقِّ لتصامِّهم عنْهُ بسوءِ اختيارِهم {وأعمى أبصارهم} لتعامِيهم عمَّا يُشاهدونه من الآياتِ المنصوبةِ في الأنفسِ والآفاق

24

{أفلا يتدبرون القرآن} أيْ أَلاَ يلاحظونَهُ ولاَ يتصفحونَهُ وما فيهِ من المواعظِ والزواجرِ حتَّى لا يقعُوا فيَما وقعُوا فيهِ من الموبقاتِ {أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} فلا يكادُ يصلُ إليها ذكرٌ أصلاً وأمْ منقطعةٌ وما فيها من معنى بل للانتقال من التوبيخِ بعدمِ التدبرِ إلى التوبيخِ بكونِ قلوبهم مقفلةً لا تقبلُ التدبرَ والتفكرَ والهمزةُ للتقريرِ وتنكيرُ القلوبِ إمَّا لتهويلِ حالِها وتفظيع شأنها بإيهام أمرِها في القساوةِ والجهالةِ كأنَّه قيلَ على قلوبٍ منكَرةٍ لا يعرفُ حالُها ولا يُقادرُ قدرُها في القساوةِ وإما لأنَّ المرادَ بها قلوبُ بعضٍ منْهم وهم المنافقونَ وإضافةُ الأقفالِ إليها للدلالةِ على أنَّها أقفالٌ مخصوصةٌ بها مناسبةٌ لها غيرُ مجانسةٍ لسائرِ الأقفالِ المعهودةِ وقُرِىءَ أقفالُها وأقفالها الذين

25

{إِنَّ الذين ارتدوا على أدبارهم} أي رجعُوا إلى ما كانُوا عليه من الكفر وهم المنافقون وُصفوا فيما سلفَ بمرضِ القلوبِ وغيرهِ من قبائحِ الأفعالِ والأحوالِ فإنَّهم قد كفروا به عليه الصلاة والسَّلامُ {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى} بالدلائلِ الظاهرةِ والمعجزاتِ القاهرةِ وقيل هم اليهودُ وقيل أهلُ الكتابينِ جميعاً كفرُوا به عليه الصلاة والسلام بعد ما وجدُوا نعتَهُ في كتابهم وعرفوا أنه المنعوت بذلكَ وقولُه تعالى {الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ} جملةٌ من مبتدإٍ وخبر وقعت خبر لإنَّ أي سهَّلَ لهم ركوبَ العظائمِ من السَّوَل وهو الاسترخاءِ وقيلَ من السول المخفف من السؤال لا ستمرار القلبِ فمعنى سوَّلَ له أمراً حينئذٍ أوقعه في أمنيته فإن السُّؤل الأمنية وقرىء سُوِّل مبنياً للمفعولِ على حذفِ المضافِ أي كيد الشطيان {وأملي لهم} وعد لهم في الأمانِيِّ والآمالِ وقيلَ أمهلهُم الله تعالى ولم يُعاجلْهم بالعقوبةِ وقُرِىءَ وأملى لم على صيغةِ المتكلمِ فالمعنى أن الشيطانُ يُغويهم وأنا أُنْظِرُهم قالو او للحالِ أو للاستئنافِ وقُرِىءَ أُمْلِىَ لهُم على البناءِ للمفعولِ أي أُمْهِلُوا ومُدَّ في عمرِهم

26

{ذلك} إشارة إلى ما ذُكِرَ من ارتدادِهم لا إلى الإملاءِ كما نُقلَ عن الواحديِّ ولا إلى التسويلِ كما قيل لأنَّ شيئاً منهما ليس مُسبباً عن القولِ الآتي وهو مبتدأ خبره قوله تعالى {بِأَنَّهُمْ} أي بسببِ أنَّهم {قَالُواْ} يعني المنافقينَ المذكورينَ لا لليهود الكافرينَ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ما وجدُوا نعتَهُ في التوارةِ كما قيل

} 9 27 فإن كفرَهم به ليسَ بسببِ هذا القولِ ولو فُرض صدورُه عنهم سواءٌ كان المقولُ لهم المنافقينَ أو المشركينَ على رأي القائلِ بل من حينِ بعثتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله} أي لليهودِ الكارهينَ لنزولِ القرآنِ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مع عملهم بأنَّه من عندِ الله تعالى حسداً وطمعاً في نزولِه عليهم لا للمشركينَ كما قيلَ فإنَّ قولَه تعالى {سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأمر} عبارةٌ قطعاً عما حُكيَ عنُهم بقولِه تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لاننصرنكم وهم بنُو قريظةَ والنَّضيرِ الذين كانوا يوالونَهم ويوادُّونَهُم وأرادُوا بالبعضِ الذي أشارُوا إلى عدمِ إطاعتهم فيه إظهارَ كُفرِهم وإعلان أمرِهم بالفعلِ قبل قتالِهم وإخراجِهم من ديارِهم فإنَّهم كانوا يأبَون ذلك قبل مساسِ الحاجةِ الضروريةِ الداعيةِ إليه لِما كان لهم في إظهارِ الإيمانِ من المنافعِ الدنيويةِ وإنما كانوا يقولون لهم ما يقولون سِرَّاً كما يعرب عنه قوله تعالى {والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أى إخفاءهم لما يقولنه لليهودِ وقُرِىءَ أَسْرَارَهُم أي جميعَ أسرارِهم التي مِنْ جُملتها قولُهم هذا والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله متضمنٌ للإفشاءِ في الدنيا والتعذيبِ في الآخرة والفاء في قوله تعالى

27

{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة} لترتيب ما بعدها على ما قبلَها وكيفَ منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ هو العاملُ في الظروف كأنَّه قيلَ يفعلون في حياتِهم ما يفعلون من الحيلِ فكيفَ يفعلونَ إذا توفَّتُهم الملائكةُ وقيلَ مرفوعٌ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي فكيفَ حالُهم أو حيلهم إذا توفَّتُهم الخ وقُرِىءَ توفَّاهُم على أنَّه إما ماضٍ أو مضارعٌ قد حُذفَ إحدى تاءيهِ {يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدبارهم} حالٌ من فاعلِ توفَّتهم أو من مفعولِه وهو تصويرٌ لتوفّيهم على أهوال الوجوهِ وأفظعها وعن ابن عباس رضي الله عنهما لا يُتوفَّى أحدٌ على معصيةٍ إلا يضربُ الملائكةُ وجهَهُ ودبُره

28

{ذلك} التَّوفِّي الهائلُ {بِأَنَّهُمْ} أي بسببِ أنَّهم {اتبعوا مَا أَسْخَطَ الله} من الكفرِ والمعاصِي {وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ} أي ما يرضاهُ من الإيمانِ والطاعةِ حيث كفُروا بعد الإيمانِ وخرجُوا عن الطاعةِ بما صنعُوا من المعاملةِ مع اليهودِ {فَأَحْبَطَ} لأجلِ ذلكَ {أعمالهم} التي عملوها حالَ إيمانِهم من الطاعاتِ أو بعد ذلك من أعمال البِرّ التي لو عملُوها حالَ الإيمانِ لا نتفعُوا بها

29

{أَمْ حَسِبَ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} هم المنافقون الذين فُصِّلتْ أحوالُهم الشنيعةُ وُصفُوا بوصفِهم السابقِ لكونِه مدار لِما نُعِيَ عليهم بقولِه تعالى {أَن لَّن يُخْرِجَ الله أضغانهم} فأمْ منقطعةٌ وإنْ مخففةٌ من أن وضمير الشأن الذي هو اسمُها محذوفٌ ولنْ بما في حيزها خبرها والأضعان جمع ضعن وهو الحقذ أي بل أحسبَ الذين في قلوبهم حقدا وعداوةٌ للمؤمنين أنه لنْ يخرجَ الله أحقادَهم

} 3 30 ولن يبرزها لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنينَ فتبقى أمورُهم مستورةً والمعنى أنَّ ذلك مما لا يكادُ يدخلُ تحتَ الاحتمال

30

{ولو نشاء} إرامتهم {لأريناكهم} لعرّفناكَهُم بدلائلَ تعرفُهم بأعيانِهم معرفةً متاخمةٌ للرؤيةِ والالتفات الى نون العغظمة لإبراز العناية بالإارءة {فَلَعَرَفْتَهُم بسيماهم} بعلامتهم التي نسِمهُم بها وعن أنسٌ رضيَ الله عنه ما خَفِيَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بعد هذهِ الآيةِ شىءٌ من المنافقين كان يعرفُهم بسيماهم ولقد كنا في بعضِ الغزواتِ وفيها تسعةٌ من المنافين يشكُوهم الناسُ فناموا ذاتَ ليلةٍ وأصبحوا وعلى كلِّ واحدٍ منهم مكتوبٌ هذا منافقٌ واللامُ لامُ الجوابِ كُررتْ في المعطوفِ للتأكيدِ والفاءُ لترتيبِ المعرفةِ على الإراءةِ وأمَّا ما في قولِه تعالى {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القول} فلجوابِ قسمٍ محذوفٍ ولحنُ القولِ نحوُه وأسلوبُه أو إمالتُه إلى جهةِ تعريضٍ وتوريةٍ ومنه قيلَ للمُخطىءِ لاحنٌ لعدلِه بالكلامِ عن سمتِ الصوابِ {والله يَعْلَمُ أعمالكم} فيجازيكُم بحسب قصدِكم وهذا وعدٌ للمؤمنين وإيذانٌ بأنَّ حالَهم بخلافِ حالِ المنافقينَ

31

{وَلَنَبْلُوَنَّكُم} بالأمرِ بالجهادِ ونحوهِ من التكاليفِ الشاقةِ {حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} على مشاقِّ الجهادِ علماً فعلياً يتعلقُ به الجزاءَ {وَنَبْلُوَ أخباركم} ما يخبرُ به عن أعمالِكم فيظهرُ حسنُها وقبيحُها وقُرِىءَ ويبلوَ بالياء وقُرِىءَ نبلُوْ بسكونِ الواو على ونحن نبلو

32

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ} الناس {عن سبيل الله وَشَاقُّواْ الرسول} وعادَوه {مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى} بما شاهدُوا نعتَه عليه الصلاة والسلام في التوراة وبما ظهر على يديهِ من المعجزاتِ ونزلَ عليه من الآياتِ وهم قريظةُ والنضيرُ أو المطعمونَ يومَ بدرٍ {لَن يَضُرُّواْ الله} بكُفرِهم وصدِّهم {شَيْئاً} من الأشياءِ أو شيئا من الضرر أو لن يضرُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بمشاقَّتِه شيئاً وقد حُذفَ المضافُ لتعظيمِه وتفظيعِ مشاقَّته {وَسَيُحْبِطُ أعمالهم} أي مكايدَهُم التي نصبُوها في إبطالِ دينِه تعالى ومُشاقَّةِ رسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فلا يصلونَ بَها إلى ما كانُوا يبغونَ من الغوائلِ ولا تُثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم

33

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم} بما أبطلَ به هؤلاءِ أعمالَهم من الكفرِ والنفاقِ والعُجبِ والرياءِ والمنِّ والأَذَى ونحوِها وليسَ فيه دليلٌ على إحباطِ الطاعاتِ بالكبائرِ

} 8 34

34

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} حكمٌ يعمُّ كلَّ مَن ماتَ على الكُفر وإنْ صحَّ نزولُه في أصحابِ القَليبِ

35

{فَلاَ تَهِنُواْ} أي لا تضعُفوا {وَتَدْعُواْ إِلَى السلم} أي ولا تدْعوا الكفارَ إلى الصلحِ خَوَراً فإنَّ ذلك إعطاءُ الدنيَّةِ ويجوزُ أنْ يكونَ منصُوباً بإضمارِ أنْ على جوابِ النَّهي وقُرِىءَ ولا تدَّعُوا من أدعى القوم تَدَاعَوا نحوُ ارتَموا الصيدَ وترامواه ومنه تراءَوا الهلالَ فإنَّ صيغةَ التَّفاعلِ قد يُرادُ بها صدورُ الفعلِ عن المتعددِ من غير اعتبار وقوعِه عليه ومنه قولُه تعالى عَمَّ يَتَسَاءلُونَ على أحدِ الوجهينِ والفاءُ لترتيبِ النهْيِ على ما سبقَ من الأمرِ بالطَّاعةِ وقولُه تعالى {وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ} جملةٌ حاليةٌ مقررةٌ لمعنى النَّهي مؤكدةٌ لوجوبِ الانتهاءِ وكذا قولُه تعالى {والله مَعَكُمْ} فإنَّ كونَهمُ الأعلينَ وكونَهُ عزَّ وجلَّ ناصرَهُم من أَقْوى موجباتِ الاجتنابِ عمَّا يُوهم الذلَّ والضراعةَ وكذا نوفيته تعالى لأجور الأعمال حسبما يُعرب عنه قوله تعالى {وَلَن يَتِرَكُمْ أعمالكم} أيْ ولن يضيَّعها من وتَرتَ الرجلَ إذا قتلتَ له قتيلاً من ولدٍ أو أخٍ أو حميمٍ فأفردَتُه عنه من الوترِ الذي هُو الفردُ وعُبِّرَ عن تركِ الإثابةِ في مقابلةِ الأعمالِ بالوترِ الذي هو إضاعةُ شيءٍ معتدَ به من الأنفس والأموال مع أن الأعمالَ غيرُ موجبة للثواب على قاعدة أهل السنة إبراز لغايةِ اللطفِ بتصويرِ الثوابِ بصورةِ الحقِّ المستحقِّ وتنزيلِ تركِ الإثابةِ منزلةَ إضاعةِ أعظمِ الحقوقِ وإتلافِها وقد مر في قوله تعالى فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ

36

{إنما الحياة الدنيا لعب ولهو} لاثبات لها ولا اعتدادَ بها {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} أي ثوابَ إيمانِكم وتقواكم من الباقياتِ الصالحاتِ التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ {ولا يسألكم أموالكم} بحيثُ يخلُّ أداؤُها بمعاشِكم وإنما اقتصرَ على نَزْرٍ يسيرٍ منَها هُو ربعُ العُشرِ تُؤدونَها إلى فقرائكم

37

{إن يسألكموها} أي أموالَكم {فَيُحْفِكُمْ} أي يُجهدْكُم بطلبِ الكلِّ فإن الإحفاءَ والإلحافَ المبالغةُ وبلوغُ الغايةِ يقالُ أحفَى شاربَهُ إذا أشتأصله {تَبْخَلُواْ} فلا تُعطُوا {وَيُخْرِجْ أضغانكم} أي أحقادَكُم وضميرُ يُخرج لله تعالى ويعضدُه القِراءةُ بنونِ العظمةِ أو للبخل لأنه سبب الأضعان وقُرِىءَ يَخرجُ من الخروجِ بالياء والتاء مسند الى الأضعان

38

{ها أَنتُمْ هؤلاء} أي أنتُم أيها المخاطبون

الفتح { {بسم الله الرحمن الرحيم}

الفتح

{أَنَا فتحنا لَكَ} فتحُ البلدِ عبارةٌ عن الظَّفرِ به عُنوةً أو صُلحاً بحِراب أو بدونِه فإنَّه ما لم يُظفرْ به منغلقٌ مأخوذٌ من فتحِ بابِ الدارِ وإسنادُه إلى نونِ العظمةِ لاستنادِ أفعالِ العبادِ إليه تعالى خلقاً وإيجاداً والمرادُ به فتحُ مكةَ شرَّفها الله وهو المرويُّ عن أنسٌ رضيَ الله عنه بُشّر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عند انصرافه من الحديبيةِ والتعبيرُ عنه بصيغةِ الماضِي على سَنَنِ سائِر الأخبارِ الربانية لللإيذان بتحققهِ لا محالةَ تأكيداً للتبشيرِ كَما أنَّ تصديرَ الكلامِ بحرفِ التحقيقِ لذلكَ وفيه من الفخامةِ المنبئةِ عن عظمةِ شأنِ المخِبرِ جلَّ جلالُه وعزَّ سلطانِه ما لا يخفى وقيل هو ما أتيحَ له عليه الصلاة والسلام في تلك السنةِ من فتحِ خيبرَ وهو المرويُّ عن مجاهدٍ وقيل هو صلحُ الحديبيةِ فإنَّه وإن لم يكُن فيه حِرابٌ شديدٌ بل ترامٍ بين الفريقينِ بسهامٍ وحجارةٍ لكن لما كان الظهورُ للمسلمين حيثُ سألهم المشركون الصُّلحَ كان فتحاً بلا ريبَ ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما رَمَوا المشركين حتى أدخلُوهم ديارهم وعن الكلى ظهرُواً عليهم حتى سألُوا الصُّلحَ وقد رُويَ أنه عليه الصلاةُ والسلامُ حين

4 { بلغه أنَّ رجلاً قال ما هذابفتح لقد صُدِدْنا عن البيت وصُدّ هدْيُنا قال بل هو أعظمُ الفتوحِ وقد رضي المشركون أنْ يدفعوكم بالراحِ ويسألوكم القَضيّةَ ويرغبُوا إليكم في الأمانِ وقد رأوا منكم ما يكرهون وعن الشعبيِّ نزلتْ بالحديبيةِ وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوةِ ما لم يُصِبْ في غزوةٍ حيثُ أصاب أن بويعَ بَيعةَ الرضوانِ وغُفرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخرَ وبلغ الهديُ محِلَّه وأُطعِموا نخلَ خيبرَ وظهرتِ الرُّوم على فارسَ ففرحَ به المسلمون وكان في فتح الحديبيةِ آيةٌ عظييمة هي أنه نُزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرةٌ فتمضمضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم مجَّه فيها فدرَّتْ بالماءِ حتى شربَ جميعُ من كان معه وشِبعَ وقيل فجاش الماءُ حتى امتلأتْ ولم ينفدْ ماؤها بعدُ وقيل هو جميعُ ما فتحَ له عليه الصلاةُ والسلامُ من الفتوحِ وقيل هو ما فتح الله له عليه الصلاةُ والسلامُ من الإسلامِ والنبوةِ والدعوةِ بالحجةِ والسيفِ ولا فتحَ أبينُ منه وأعظمُ وهو رأسُ الفتوحِ كافةً إذ لا فتحَ من فتوحِ الإسلامِ إلا وهو شعبة من شعبةٌ وفرعٌ من فروعِه وقيل الفتحُ بمعنى القضاءِ ومنه انفتاحة للحكومةِ والمعنى قضينا لك على أهلِ مكةَ أنْ تدخلَها من قابلٍ وهو المروى عن قتادة رضى الله عنه وأيَّا ما كانَ فحذفُ المفعولِ للقصدِ إلى نفسِ الفعلِ والإيذانِ بأن مناطَ التبشيرِ نفسُ الفتحِ الصادرِ عنه سبحانَهُ لا خصوصيةُ المفتوحِ {فَتْحاً مُّبِيناً} بيناً ظاهرَ الأمرِ مكشوفَ الحالِ أو فارقاً بين الحقِّ والباطلِ وقولُه تعالى

2

{لّيَغْفِرَ لَكَ الله} غايةٌ للفتحِ منْ حيثُ إنَّه مترتبٌ على سعيهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في إعلاءِ كلمةِ الله تعالى بمكابدةِ مشاقِّ الحروبِ واقتحامِ مواردِ الخطوبِ والالتفاتُ إلى اسم الذاتِ المستتبعِ لجميعِ الصفاتِ للإشعار بأنَّ كلَّ واحدٍ ممَّا انتظم في سلك الغايةِ من أفعالِه تعالى صادرٌ عنه تعالى من حيثيةٍ غيرِ حيثيةِ الآخرِ مترتبةٍ على صفةٍ من صفاته تعلى {مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} أي جميعَ ما فرَطَ منكَ من تركِ الأَوْلى وتسميتُه ذنباً بالنظرِ إلى منصبه الجليلِ {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بإعلاءِ الدِّين وضمِّ الملكِ إلى النبوةِ وغيرهما مما أفاضَه عليه من النِّعم الدِّينيةِ والدُّنيويةِ {وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً} في تبليغِ الرسالةِ وإقامةِ مراسمِ الرياسةِ وأصلُ الاستقامةِ وإن كانتْ حاصلةً قبلَ الفتحِ لكنْ حصلَ بعد ذلكَ من اتِّضاحِ سبلِ الحق واستقامة مناهجه مالم يكُنْ حاصلاً قبلُ

3

{وَيَنصُرَكَ الله} إظهارُ الاسمِ الجليلِ لكونِه خاتمةَ الغاياتِ ولإظهارِ كمالِ العنايةِ بشأنِ النصرِ كما يعربُ عنه تأكيدُه بقولِه تعالى {نَصْراً عَزِيزاً} أي نصراً فيه عزة ومنعة أو قوياً منيعاً على وصفِ المصدرِ بوصفِ صاحبِه مجازاً للمبالغةِ أو عزيزاً صاحبُه

4

{هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة}

6 5 بيانٌ لما أفاضَ عليهم من مبادىء الفتحِ من الثباتِ والطُّمأنينةِ أي أنزلَها {فِى قُلُوبِ المؤمنين} بسبب الصلحِ والأمنِ إظهاراً لفضلِه تعالى عليهم بتيسيرِ الأمنِ بعد الخوفِ {لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم} أي يقيناً مُنضماً إلى يقينِهم أو أنزل فيها السكونَ إلى ما جاءَ به عليه والصلاة والسلامُ من الشرائعِ ليزدادُوا إيماناً بها مقروناً مع إيمانِهم بالوحدانيةِ واليومِ الآخرِ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ أولَ ما أتاهُم به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم التوحيدُ ثم الصلاةُ والزكاةُ ثم الحجُّ والجهادُ فازدادُوا إيماناً معَ إيمانِهم أو أنزلَ فيها الوقارَ والعظمةَ لله تعالى ولرسولِه ليزدادوا باعتقادِ ذلك إيماناً إلى إيمانهم {ولله جنود السماوات والأرض} يدبرُ أمَرها كيفما يريدُ يسلطُ بعضَها على بعضٍ تارةً ويوقعُ بينهما السلمَ أخرى حسبَما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكم والمصاح {وَكَانَ الله عَلِيماً} مُبالغاً في العلمِ بجميعِ الأمورِ {حَكِيماً} في تقديرِه وتدبيرِه وقولُه تعالى

5

{لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا} متعلقٌ بما يدلُّ عليهِ ما ذُكر من كونِ جنودِ السمواتِ والأرضِ لهُ تعالى من مَعْنى التصرفِ والتدبيرِ أي دبرَ ما دبرَ من تسليطِ المؤمنينَ ليعرفُوا نعمةَ الله في ذلكَ ويشكرُوها فيدخلَهم الجنةَ {وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم} أي يُغطيها ولا يُظهرها وتقديمُ الإدخالِ في الذكرِ على التكفيرِ مع أن الترتيبَ في الوجودِ على العكسِ للمسارعةِ إلى بيانِ ما هو المطلبُ الأَعْلى {وَكَانَ ذلك} أي ما ذُكِرَ من الإدخالِ والتكفيرِ {عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً} لا يُقادرُ قدره لأنَّه مُنتهى ما يمتدُّ إليه أعناقُ الهممِ من جلبِ نفعٍ ودفعِ ضُرَ وعندَ الله حالٌ منْ فَوزاً لأنَّه صفتُه في الأصلِ فلمَّا قدمَ عليهِ صارَ حالاً أي كائناً عَندَ الله أي في علمِه تعالى وقضائِه والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله

6

{وَيُعَذّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} عطفٌ على يُدخل وفي تقديمِ المنافقينَ على المشركين مالا يَخفْى من الدلالةِ على أنَّهم أحقُّ منُهم بالعذابِ {الظانين بالله ظَنَّ السوء} أي ظنَّ الأمرِ السوءِ وهو أنْ لا ينصرَ رسولَه والمؤمنين {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء} أي ما يظنونَهُ ويتربصونَهُ بالمؤمنينَ فهو حائقٌ بهم ودائرٌ عليهم وقُرِىءَ دائرةُ السُّوء بالضمِّ وهُمَا لُغتانِ من ساءَ كالكُره والكَره خلا أنَّ المفتوحَ غلبَ في أنْ يضافَ إليهِ ما يُرادُ ذمُّه من كلِّ شيءٍ وأما المضمومُ فجارٍ مَجْرى الشرِّ {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} عطفٌ على ما استحقُّوه في الآخرةِ على ما استوجبُوه في الدينا والواوُ في الأخيرينِ مع أنَّ حقَّهما الفاءُ المفيدةُ لسببيةِ ما قبلَها لما بعدَها للإيذانِ باستقلالِ كلَ منهُما في الوعيدِ وأصالتِه من غيرِ اعتبارِ استتباعِ بعضِها لبعضٍ {وَسَاءتْ مَصِيراً} أي جهنمُ

} 1 7

7

{ولله جنود السماوات والأرض وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} إعادةٌ لما سبقَ قالُوا فائدتُها التنبيهُ على أنَّ لله تعالى جنودَ الرحمةِ وجنودَ العذابِ وأنَّ المرادَ ههنا جنودُ العذابِ كما يُنْبىء عنه التعرُّضُ لوصفِ العزةِ

8

{إِنَّا أرسلناك شَاهِداً} أيْ على أُمتكَ لقولِه تعالى وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا {وَمُبَشّراً} على الطاعةِ {وَنَذِيرًا} على المعصيةِ

9

{لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} الخطابَ للنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسلام ولأُمَّتهِ {وَتُعَزّرُوهُ} وتقوُّوه بتقويةِ دينِه ورسولِه {وَتُوَقّرُوهُ} وتُعظِّمُوه {وَتُسَبّحُوهُ} وتنزهوه أو تصلّوا له من السُّبحة {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} غدوة وعشياً عن ابن عباس رضي الله عنهُمَا صلاةُ الفجرِ وصلاةُ الظهرِ وصلاةُ العصرِ وقُرىءَ الأفعالُ الأربعةُ بالياءِ التحتانيةِ وقُرِىءَ وتُعزِرُوه بضمِّ التاءِ وتخفيفِ الزَّاي المكسورةِ وقُرِىءَ بفتحِ التَّاءِ وضمِّ الزَّاي وكسرِها وتُعززوه بزاءينِ وتُوقِروه منْ أوقَرهُ بمعنى وَقَّره

10

{إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ} أيْ على قتالِ قُريشٍ تحتَ الشجرةِ وقولُه تعالى {إِنَّمَا يبايعون الله} خبران يعني أنَّ مبايعتَكَ هي مبايعةُ الله عزَّ وجلَّ لأنَّ المقصودَ توثيقُ العهدِ بمراعاةِ أوامِره ونواهِيه وقولُه تعالى {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} حال أو استئناف مؤكدله على طريقةِ التخييلِ والمَعْنى أنَّ عقدَ الميثاقِ مَعِ الرسولِ كعقدِه مع الله تعالى من غيرِ تفاوتٍ بينَهما كقولِه تعالى مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وقُرِىءَ إنَّما يُبايعونَ الله أي لأجلِه ولوجهِه {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} أي فمنَ نقضَ عهدَهُ فإنَّما يعودُ ضررُ نكثِه على نفسِه وقُرِىءَ بكسرِ الكافِ {وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد عَلَيْهِ الله} بضمِّ الهاءِ فإنَّه أبقَى بعد حذفِ الواوِ توسلاً بذلك الى تفخيم لامن الجلالةِ وقُرىءَ بكسرِها أيْ ومَنْ وفَّى بعهدِه {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} هُو الجنةُ وقُرِىءَ بما عَهد وقُرِىءَ فسنؤتيِه بنونِ العظمةِ

11

{سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب} هم أعرابُ غِفارِ ومُزينةَ وجُهينةَ وأشجعَ وأسلمَ والدِّيلِ تخلفُوا عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حينَ استنفرَ من

} { حولَ المدينةِ من الأعرابِ وأهلِ البوادِي ليخرجُوا معه عند إرادتِه المسيرَ إلى مكةَ عامَ الحديبيةِ معُتمراً حذراً من قريشٍ أنْ يتعرضُوا له بحربٍ أو يصدُّوه عن البيتِ وأحرمَ عليه الصلاةُ والسلامُ وساقَ معه الهديَ ليعلم أنَّه لا يريدُ الحربَ وتثاقلُوا عن الخروجِ وقالُوا نذهبُ إلى قومٍ قد غزَوه في عقرِ دارِه بالمدينةِ وقتلوا أصحابه فنقاتلهم فأَوْحَى الله تعالى إليه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بأنَّهم سيعتلونَ ويقولونَ {شَغَلَتْنَا أموالنا وَأَهْلُونَا} ولم يكُن لنا مَنْ يخلفنَا فيهم ويقومُ بمصالحِهم ويحميهمِ من الضياعِ وقُرِىءَ شَغَّلتنَا بالتشديدِ للتكثيرِ {فاستغفر لَنَا} الله تعالى ليغفرَ لنَا تخلفنَا عنْكَ حيثُ لم يكن ذلكَ باختيارٍ بلْ عنِ اضطرارٍ {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ} بدلٌ من سيقولُ أو استئنافٌ لتكذيبِهم في الاعتذارِ والاستغفارِ {قُلْ} رَدَّاً لهم عندَ اعتذارِهم إليكَ بأباطيلِهم {فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئاً} أي فَمنْ يقدر لأجلكم من مشيئته الله تعالى وقضائِه على شيءٍ من النفعِ {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً} أيْ مَا يُضرُّكم من هلاكِ الأهلِ والمالِ وضياعِهما حتَّى تتخلفُوا عنِ الخروجِ لحفظِهما ودفعِ الضررِ عنهُما وقُرىءَ ضُراً بالضمِّ {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً} أيْ ومَنْ يَقْدِرُ على شَىْء من الضررِ إنْ أرادَ بكُم ما يُنفعكُم من حفظِ أموالِكم وأهليكِم فأيُّ حاجةٍ إلى التخلفِ لأجلِ القيامِ بحفظِهما وهذا تحقيقٌ للحقِّ ورَدٌّ لهم بموجبِ ظاهرِ مقالتِهم الكاذبةِ وتعميمُ الضرِّ والنفعِ لما يُتوقع على تقديرِ الخروجِ من القتلِ والهزيمةِ والظفرِ والغنيمةِ يردُّه قوله تعلى {بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} فإنه إضرابٌ عمَّا قالُوا وبيانٌ لكذبِه بعدَ بيانِ فسادِه عَلى تقديرِ صدقهِ أي ليسَ الأمرُ كَما تقولونَ بلْ كانَ الله خبيراً بجميعِ ما تَعْمَلُونَ منَ الأعمالِ التي من جُملتها تخلفُكم وما هُو من مباديِه وقولُه تعالى

12

{بَلْ ظَنَنْتُمْ} الخ بدلٌ من كان الخ مفسرٌ لما فيه من الإبهامِ أي بل ظننتُم {أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} بأن يستأصلَهم المشركون بالمرةِ فخشِيتم إنْ كنتُم معهم أن يصيبكم مااصابهم فلأجلِ ذلك تخلفتُم لا لما ذكرتُم من المعاذير الباطلةِ والأهلونَ جمعُ أهلٍ وقد يُجمع على أهلاتٍ كأرضات على تقديره تاءِ التأنيثِ وأمَّا الأهالي فاسمُ جمعٍ كالليالي وقُرِىءَ إلى أهلِهم {وَزُيّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ} وقبِلتموه واشتغلتُم بشأنِ أنفسِكم غيرَ مُبالينَ بهم وقُرىءَ زَيَّنَ على البناءِ للفاعلِ بإسنادِه إلى الله سبحانَهُ أو إلى الشيطانِ {وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء} المرادُ به إما الظنُّ الأولُ والتكريرُ لتشديدِ التوبيخِ والتسجيلِ عليه بالسوءِ أو ما يعمُّه وغيرَهُ من الظنونِ الفاسدةِ التي من جُمْلتها الظنُّ بعدمِ صحةِ رسالتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فإنَّ الجازمَ بصحتِها لا يحوم حول فكره ما ذُكِرَ من الاستئصال {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} أي هالكينَ عند الله مستوجبينَ لسخطِه وعقابِه على أنه جمعُ بائرٍ كعائذٍ وعوذٍ أو فاسدينَ في أنفسِكم وقلوبِكم ونياتكم لاخير فيكُم وقيلَ البُور من بار كالهلك من ملك بناء ومعنى لذلك وصفَ به الواحدُ والجمعُ المذكر والمؤنثُ

} 5 1 {

13

{وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ} كلامٌ مبتدأٌ من جهتِه تعالى غيرُ داخلٍ في الكلامِ الملقنِ مقررٌ لبوارهم ومبينٌ لكيفيتِه أي ومَنْ لم يؤمنْ بهما كدأبِ هؤلاءِ المخلفينَ {فَإِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سَعِيراً} أي لَهم وإنما وُضع موضعَ الضميرِ الكافرونَ إيذاناً بأنَّ منْ لم يجمعْ بينَ الإيمانِ بالله وبرسولِه فهو كافرٌ وأنه مستوجبٌ للسعيرِ بكفرِه وتنكيرُ سعيراً للتهويلِ أو لأنَّها نارٌ مخصوصةٌ

14

{ولله ملك السماوات والأرض} وما فيهما يتصرف في الكلِّ كيفَ يشاءُ {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أنْ يغفرَ له {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} أنْ يعذَبهُ من غيرِ دخلٍ لأحدٍ في شيءٍ منهُمَا وجُوداً وعدماً وفيه حسمٌ لأطماعِهم الفارغةِ في استغفارِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لهم {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} مُبالغاً في المغفرةِ والرحمةِ لمن يشاءُ ولا يشاءُ إلا لمن تقتضِي الحكمةُ مغفرتَهُ ممن يؤمنُ به وبرسولِه وأما من عداهُ من الكافرينَ فهمُ بمعزلٍ من ذلك قطعاً

15

{سَيَقُولُ المخلفون} أي المذكورونَ وقوله تعالى {إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} ظرفٌ لما قبله لا شرطٌ لما بعدَهُ أي سيقولونَ عند انطلاقِكم إلى مغانمِ خيبرَ لتحوزُوها حسبما وعدكُم إيَّاها وخصَّكم بها عوضاً مما فاتكُم من غنائمِ مكةَ {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} إلى خيبرَ ونشهدْ معكم قتالَ أهلها {يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كلام الله} بأنْ يشاركُوا في الغنائمِ التي خصَّها بأهلِ الحديبيةِ فإنه عليه الصلاةُ والسلامُ رجعَ من الحديبيةِ في ذي الحجةِ من سنة ستَ وأقام بالمدينةِ بقيتها وأوائلَ المحرمِ من سنة سبعٍ ثم غزا خيبرَ بمن شهدَ الحديبيةَ ففتحَها وغنم أموالاً كثيرةً فخصَّها بهم حسبما أمره الله عزَّ وجلَّ وقُرىء كلمَ الله وهو جمع كلمة وأياما كانَ فالمرادُ ما ذُكِرَ من وعدِه تعالى غنائمَ خيبرَ لأهلِ الحديبيةِ خاصَّة لا قولُه تعالى لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا فإنَّ ذلكَ في غزوةِ تبوكَ {قُلْ} إقناطاً لهم {لَّن تَتَّبِعُونَا} أي لا تتبعونا فإنه نفي مَعْنى النهي للمبالغةِ {كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ} أي عندَ الانصرافِ من الحديبيةِ {فَسَيَقُولُونَ} للمؤمنين عند سماعِ هَذا النهي {بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي ليسَ ذلكَ النهيُ حكمَ الله بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنائمِ وقرىء تحسدوننا بكسر السين وقوله تعالى {بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ} أي لا يفهون {إِلاَّ قَلِيلاً} إلا فهماً قليلا وهم فطنتهم لأمرور الدينا ردٌّ لقولِهم الباطلِ ووصفٌ لهم بما هُو أعظمُ من الحسدِ وأَطمُّ من الجهلِ

} 8 16 المفرطِ وسوءِ الفهمِ في أمورِ الدينِ

16

{قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب} كررَ ذكرَهُم بهذا العنوانِ مبالغةً في ذمِّهم {سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} هم بنُو حنيفةَ قومُ مسيلِمَةَ الكذابِ أو غيرُهم ممن ارتدُّوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المشركونَ لقولِه تعالى {تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} أي يكونُ أحدُ الأمرينِ إما المقاتلةُ أبداً أو الإسلامُ لا غيرُ كما يُفصحُ عنه قراءةُ أو يسلمُوا وأمامن عداهُم فينتهي قتالَهم بالجزيةِ كما ينتهِي بالإسلامِ وفيه دليلٌ على إمامةِ أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ إذ لم تتفقْ هذه الدعوةُ لغيرِه إلا إذا صحَّ أنهم ثقيف وهوازن فإنَّ ذلك كان في عهدِ النبوةِ فيخصَّ دوامُ نفي الاتباعِ بَما في غزوةِ خيبرَ كما قالَهُ محيى السنةِ وقيلَ هم فارسُ والرومُ ومعنى يُسلمون ينقادونَ فإنَّ الرومَ نَصَارى وفارسَ مجوسٌ يُقبل منهم الجزيةُ {فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً} هو الغنيمةُ في الدنيا والجنةُ في الآخرةِ {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ} عن الدعوةِ {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ} في الحديبيةِ {يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} لتضاعفِ جُرمكم

17

{لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} أي في التخلفِ عنِ الغزوِ لِما بِهمْ من العذر والعاهة فإن التكلف يدورُ على الاستطاعةِ وفى نفي الحرجِ عن كلِّ من الطوائفِ المعدودةِ مزيدُ اعتناءٍ بأمرِهم وتوسيعٌ لدائرةِ الرُّخصةِ {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} فيما ذُكِرَ من الأوامر النواهى {يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} وقُرِىءَ نُدْخِلْهُ بنون العظمة {وَمَن يَتَوَلَّ} أي عن الطاعةِ {يُعَذّبْهُ} وقرىء بالنونِ {عذابا أليما} لا يقدر قدرُهُ

18

{لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين} هم الذينَ ذُكِرَ شأنُ مبايعتِهم وبهذهِ الآيةِ سُميتْ بَيعةَ الرضوانِ وقولُه تعالى {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} منصوب برضى وضيغة المضارعِ لاستحضارِ صورتِها وتحتَ الشجرِة متعلقٌ به أو بمحذوف هو حال من مفعولِه رُويَ أنَّه عليه الصلاةُ والسَّلامُ لما نزلَ الحديبية بعثَ خراشَ بنَ أمية الخزاعى رسولا االى أهلِ مكةَ فهمُّوا بهِ فمنَعُه الأحابيشُ فرجعَ فبعثَ عثمانَ بنَ عفانَ رضيَ الله عنه فأخبرَهُم أنَّه عليه الصلاةُ والسلام لم يأتِ لحربٍ وإنما جاء زائراً لهذا البيتِ مَعظماً لحرمتِه فوقّرُوه وقالُوا إنْ شئتَ أنْ تطوفَ بالبيتِ فافعلْ فقالَ ما كنتُ لأطوفَ قبلَ أنْ يطوفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتبسَ عندهُم فأُرْجِفَ بأنَّهم قتلُوه فقالَ عليه الصلاةُ والسلامُ لا نبرحُ حتى نناجزَ القومَ ودعا الناسَ إلى البيعةِ فبايعُوه تحتَ الشجرةِ وكانتْ

} 9 2 { سَمُرةً وقيلَ سِدرةً على أن يقاتِلُوا قريشاً ولا يفرُّوا ورُويَ على الموتِ دونَهُ وأنْ لا يفرُّوا فقالَ لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنتمُ اليومَ خيرُ أهلِ الأرضِ وكانُوا ألفاً وخمسَمائةٍ وخمسةً وعشرينَ وقيلَ ألفاً وأربعمائةِ وقيلَ ألفاً وثلثَمائةِ وقولُه تعالى {فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ} عطفٌ على يُبايعونك لما عرفتَ من أنَّه بمعنى بايعوك لاعلى رضيَ فإن رضاهُ تعالى عنهم مترتبٌ على علمِه تعالى بِمَا فِي قُلُوبِهِم من الصدقِ والإخلاصِ عند مبايعتهم له صلى الله عليه وسلم وقولُه تعالَى {فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ} عطفٌ على رضيَ أي فأنزلَ عليهم الطُّمأنينةَ والأمنَ وسكونَ النفسِ بالربطِ على قلوبِهم وقيلَ بالصلحِ {وأثابهم فَتْحاً قَرِيباً} هو فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية كما مرَّ تفصيلُه وقُرِىءَ وآتاهُم

19

{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} أي مغانمَ خيبرَ والالتفاتُ إلى الخطابِ على قراءةِ الأعمشِ وطلحةَ ونافعٍ لتشريفِهم في مقامِ الامتنانِ {وَكَانَ الله عَزِيزاً} غالباً {حَكِيماً} مراعياً لمقتضَى الحكمةِ في أحكامِه وقضاياهُ

20

{وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً} هي ما يُفيؤُه على المؤمنينَ إلى يومِ القيامةِ {تَأْخُذُونَهَا} في أوقاتِها المقدرةِ لكلِّ واحدةٍ منها {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} أي غنائمَ خيبرَ {وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ} أي أيدِي أهلِ خيبرَ وحلفائِهم من بني أسدٍ وغطفانَ حيثُ جاءُوا لنُصرتِهم فقذفَ الله في قلوبِهم الرعبَ فنكصُوا وقيلَ أيدِيَ أهلِ مكةَ بالصلحِ {ولتكون آية لّلْمُؤْمِنِينَ} أمارةً يعرِفونَ بها صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدِه إيَّاهُم عندَ رجوعِه من الحديبيةِ ما ذُكِرَ من المغانمِ وفتحِ مكةَ ودخولِ المسجدِ الحرامِ واللامُ متعلقةٌ إمَّا بمحذوفٍ مؤخرٍ أي ولتكونَ آيةً لهم فعلَ ما فعلَ من التعجيلِ والكفِّ أو بَما تعلَّق به علةٌ أخرى محذوفةٌ من أحدِ الفعلينِ أي فعجل لكم هذه أو كفَّ أيديَ الناسِ لتغتنمُوها ولتكونَ الخ فالواوُ على الأولِ اعتراضيةٌ وعلى الثانية عاطفةٌ {وَيَهْدِيَكُمْ} بتلك الآيةِ {صراطا مُّسْتَقِيماً} هو الثقةُ بفضلِ الله تعالى والتوكل عليه في كل ما تأتون وما تذرون

21

{وأخرى} عطف على هذه أي فعجل لكم هذه المغانمَ ومغانمَ أُخرى {لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} وهي مغانمُ هوازنَ في غزوةِ حُنينٍ ووصفُها بعدمِ القدرةِ عليها لما كانَ فيها من الجولةِ قبل ذلكَ لزيادةِ ترغيبِهم فيها وقولُه تعالى {قَدْ أحاط الله بها} صفةٌ أُخرى لأُخرى مفيدةٌ لسهولةِ تأتِّيها بالنسبةِ إلى قُدرتِه تعالى بعد بيانِ صعوبةِ منالها بالنظرِ إلى قدرتهم أى قد قدَر الله عليها واستولَى وأظهركُم عليها وقيل حفظَها لكُم ومنعها من غيرِكم هذا وقد قيلَ إنَّ أُخرى منصوبٌ بمضمرٍ يُفسرِه قد أحاط الله بها أي وقضى الله أُخرى ولا ريب في أن الإخبارَ بقضاءِ الله إيَّاها بعد اندراجِها في جُملةِ المغانمِ الموعودةِ بقولِه تعالى وعدكم مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ليس فيه مزيدُ فائدةٍ وإنما الفائدةُ

} 2 25 في بيانِ تعجيلِها {وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء قَدِيراً} لأن قدرتَهُ تعالى ذاتية لا تختص بشئ دون شئ

22

{وَلَوْ قاتلكم الذين كَفَرُواْ} أي أهلُ مكةَ ولم يُصالِحوكُم وقيلَ حلفاءُ خيبرَ {لَوَلَّوُاْ الأدبار} مُنهزمينَ {ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً} يحرسُهم {وَلاَ نَصِيراً} ينصرُهم

23

{سُنَّةَ الله التى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ} أي سنَّ الله غلبةَ أنبيائِه سنةً قديمةً فيمَنْ مَضَى منَ الأممِ {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} أي تغييراً

24

{وَهُوَ الذى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ} أى أيدى سفار مكةَ {عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} أي في داخلِها {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} وذلكَ أنَّ عكرمةَ بنَ أبي جهلٍ خرج فى خمسمائة إلى الحديبيةِ فبعثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بنَ الوليدِ على جندٍ فهزَمَهُم حتى أدخلَهُم حيطانَ مكةَ ثم عادَ وقيلَ كانَ يومَ الفتحِ وبه استشهدَ أبو حنيفةَ على أنَّ مكةَ فتحتْ عنوةً لا صُلحاً {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ} من مقاتَلتهم وهزمِهم أولاً والكفِّ عنهم ثانياً لتعظيمِ بيتِه الحرام وقرئ بالياءِ {بَصِيراً} فيجازيكُم بذلكَ أو يجازِيهم

25

{هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدى} بالنصبِ عطفاً على الضميرِ المنصوب فى صدوركم وقرئ بالجرِّ عطفاً على المسجدِ بحذفِ المضافِ أي ونحرِ الهدى وبالرفع على وصُدَّ الهَدْيُ وقولُه تعالَى {مَعْكُوفاً} حالٌ من الهَدْي أي محبوساً وقولُه تعالَى {أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} بدلُ اشتمالٍ من الهَدْي أو منصوبٌ بنزعِ الخافضِ أي محبوساً من أنْ يبلغَ مكانَهُ الذي يحلُّ فيهِ نحرُه وبه استدلَّ أبُو حنيفة رحمه الله تعالى على أنَّ المُحَصَر مَحِلُّ هديهِ الحرمُ قالُوا بعضُ الحديبيةِ منَ الحرمِ ورَويَ أن خيامه صلى الله عليه وسلم كانت في الحلِّ ومصلاَّهُ في الحرمِ وهناكَ نحرتْ هداياه صلى الله عليه وسلم والمرادُ صدُّها عن محلَّها المعهودِ الذي هُو مِنىً {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} لم تعرفُوهم بأعيانِهم لاختلاطِهم وهو صفةٌ لرجالٌ ونساءٌ وقولُه تعالى {أن تطؤوهم} أي تُوقعوا بهم وتُهلِكوهُم بدلُ اشتمالٍ منهُم أو من الضميرِ المنصوبِ في تعلمُوهم {فَتُصِيبَكمْ مِنْهُمْ} أي من جهتِهم {مَّعَرَّةٌ} أي مشقةٌ ومكروهٌ كوجوبِ الديةِ أو الكفارةِ بقتلِهم والتأسفِ عليهم وتعييرِ الكفارِ وسوءِ قالتِهم والإثمِ بالتقصيرِ في البحثِ عنهم وهي مَفْعَلةٌ من عَرَّهْ إذا عَرَاهُ ودَهَاهُ ما يكرهُهُ {بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلقٌ بأنْ تطؤهم أي غيرَ عالمينَ بهم وجوابُ لَولا

} 6 محذوفٌ لدلالةِ الكلامِ عليهِ والمَعْنى لولا كراهةُ أن تُهلكُوا ناساً مؤمنينَ بين الكافرين غير عالمينَ بهم فيصيبَكُم بذلكَ مكروه لما كف أيدييكم عنْهم وقوله تعالى {لّيُدْخِلَ الله فِى رَحْمَتِهِ} متعلقٌ بما يدلُّ عليهِ الجوابُ المحذوفُ كأنَّه قيل عَقِيبَهُ لكن كفَّها عنهُم ليُدخلَ بذلك الكفِّ المؤدِّي إلى الفتحِ بلا محذورٍ في رحمتِه الواسعةِ بقسميَها {مَن يَشَآء} وهم المؤمنونَ فإنَّهم كانوا خارجين من الرحمةِ الدنيويةِ التي منْ جُمْلتِها الأمنُ مستضعفينَ تحت أيدِي الكفرةِ وأما الرحمةُ الأخرويةُ فهم وإن كانُوا غيرَ محرومينَ منها بالمرةِ لكنهم كانُوا قاصرينَ في إقامةِ مراسمِ العبادةِ كما ينبغي فتوفيقُهم لإقامتِها على الوجهِ الأتمِّ إدخالٌ لهم في الرحمةِ الأخرويةِ وقد جوز أن يكون من يشاءُ عبارةً عمنْ رغبَ في الإسلامِ من المشركينَ ويأباهُ قولُه تعالَى {لَوْ تَزَيَّلُواْ} الخ فإن فرض التزيل وترتيبَ التعذيبِ عليه يقتضي تحقق الباينة بين الفريقينِ بالإيمانِ والكفرِ قبلَ التزيلِ حتماً أي لو تفرقُوا وتميَّز بعضُهم من بعضٍ وقُرىءَ لو تزايلُوا {لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} بقتلِ مقاتلتهم وسبى ذرايهم والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلَها

26

{إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ} منصوبٌ باذكُرْ على المفعوليةِ أو بعذابنا على الظرفيةِ وقيلَ بمضمرٍ هو أحسنَ الله إليكم وأياً ما كان فوضعُ الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة وتعليلِ الحكمِ بهِ والجعلُ إمَّا بمعنى الإلقاءِ فقولُه تعالى {فِى قُلُوبِهِمْ الحمية} أي الأنفةَ والتكبرَ متعلقٌ بهِ أو بمعنى التصييرِ فهوُ متعلِّق بمحذوفٍ هو مفعولٌ ثانٍ له أي جعلُوها ثابتةً راسخةً في قلوبِهم {حَمِيَّةَ الجاهلية} بدلٌ من الحميةَ أي حميةٍ الملَّةِ الجاهليةِ أو الحميةَ الناشئةَ من الجاهليةِ وقولُه تعالَى {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} على الأولِ عطفٌ على جعلَ والمرادُ تذكيرُ حسنِ صنيع الرسول صلى الله عله وسلم والمؤمنينَ بتوفيقِ الله تعالَى وسوءِ صنيعِ الكفرةِ وعلى الثَّانِي على ما يدلُّ عليهِ الجملةُ الامتناعيةُ كأنَّه قيلَ لم يتزيّلوا فلمْ نعذبْ فأنزلَ إلخ وعلى الثالثِ على المضمرِ تفسيرٌ له والسكينةُ الثباتُ والوقارُ يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلَ الحديبية بعثَ قريشٌ سهيلَ بْنَ عمروٍ القُرشيَّ وحُويطبَ بنَ عبدِ العزى ومكرز ابن حفص بن الأحنف عل أنْ يعرضُوا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ يرجعَ من عامهِ ذلكَ عَلى أنْ تخليَ له قريشٌ مكةَ من العامِ القابلِ ثلاثةَ أيامٍ ففعلَ ذلكَ وكتبُوا بينهم كتاباً فقالَ عليه الصلاةُ والسلام لعلي رضي الله عنْهُ اكتبْ بسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ فقالُوا ما نعرفُ ما هَذَا اكتبْ باسمِك اللَّهم ثم قالَ اكتب هذا ما صالح عليه رسولُ الله أهلَ مكةَ فقالُوا لو كُنَّا نعلمُ أنَّك رسولُ الله ما صددناكَ عن البيتِ وما قاتلناكَ اكتُبْ هَذا ما صالحَ عليه محمدُ بن عبدِ اللَّهِ أهلَ مكة فقال صلى الله عليه وسلم اكتُبْ ما يُريدونَ فهمَّ المؤمنونَ أن يأْبَوا ذلكَ ويبطشُوا بهم فأنزلَ الله السكينةَ عليهم فتوقَّروا وحَلِمُوا {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} أي كلمةَ الشهادةِ أو بسْم الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ أو محمد رسول الله وقيل كلمةُ التَّقوى هي الوفاءُ بالعهدِ والثباتُ عليهِ وإضافتُها إلى التَّقوى لأنَّها سببُ التَّقوى وأساسُها أو كلمةُ أهلِها {وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا}

متصفينَ بمزيدِ استحقاقٍ لَها على أن صيغة التفضيل للزيادة مُطلقاً وقيلَ أحقُّ بَها منَ الكُفارِ {وَأَهْلُهَا} أي المستأهلَ لها {وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيماً} فيعلم حقَّ كلِّ شيءٍ فيسوقه إلى مستحقِّهِ

27

{لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا} رَأَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قبلَ خروجِه إلى الحُديبيةِ كأنَّه وأصحابَهُ قد دخلُوا مكةَ آمنينَ وقد حلقُوا رؤسهم وقصَّروا فقصَّ الرؤيا على أصحابهِ ففرحوا واستبشرُوا وحسبُوا أنَّهم داخلُوها في عامِهم فلمَّا تأخرَ ذلكَ قال عبدُ اللَّه بنُ أبي وعبدُ اللَّهِ بن نُفيلٍ ورفاعة بن الحرث والله ما حلقنَا ولا قصَّرنَا ولا رأينا المسجد الحرامَ فنزلتْ أي صدَقه صلى الله عليه وسلم في رُؤياهُ كَما في قولِهم صَدَقني سِنُّ بَكْرِهِ وتحقيقُه أراهُ الرؤيا الصادقةَ وقوله تعالى {بالحق} إما صفةٌ لمصدرٍ مؤكدٍ محذوفٍ أي صدقاً ملتبساً بالحقِّ أى بالغرض الصحيح والحمكة البالغة اليت هيَ التمييزُ بين الراسخِ في الإيمانِ والمتزلزلِ فيه أو حالٌ من الرُّؤيا أي ملتبسةً بالحقِّ ليستْ من قبيلِ أضغاثِ الأحلامِ وقد جوز أن يكون قسماً بالحقِّ الذي هُو من أسماءِ الله تعالى أو بنقيضِ الباطلِ وقولُه تعالَى {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام} جوابُه وهو عَلى الأولينِ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ والله لتدخلنَّ إلخ وقولُه تعالَى {إِنَّ شَاء الله} تعليقٌ للعِدَة بالمشيئةِ لتعليمِ العباد أو للإشعارِ بأنَّ بعضَهُم لا يدخلونَهُ لموتٍ أو غَيبةٍ أو غيرِ ذلكَ أو هيَ حكايةٌ لما قالَهُ ملكُ الرُّؤيا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أول لما قالَه عليه الصَّلاةُ والسلام لأصحابه {آمنين} حالٌ من فاعلِ لتدخُلنَّ والشرطُ معترضٌ وكذا قولُه تعالى {محلقين رؤوسكم وَمُقَصّرِينَ} أي مُحلِّقاً بعضُكم ومُقصِّراً آخرونَ وقيلَ مُحلِّقينَ حالٌ منْ ضميرِ آمنينَ فتكون متداخلةً {لاَ تخافون} حالٌ مؤكدةٌ من فاعلِ لتدخلن أو آمنن أو محلِّقينَ أو مقصِّرينَ أو استئنافٌ أيْ لا تخافونَ بعدَ ذلكَ {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ} عطفٌ على صدقَ والمرادُ بعلمِه تعالى العلم الفعلى المتعلق بأمرٍ حادثٍ بعد المعطوفِ عليه أي فعلمَ عَقيبَ ما أراهُ الرؤيا الصادقةَ مالم تعلمُوا منَ الحكمةِ الداعيةِ إلى تقديمِ ما يشهدُ بالصدقِ علماً فعلياً {فَجَعَلَ} لأجلِه {مِن دُونِ ذَلِكَ} أي من دونِ تحققِ مصداق ما رآه من دخولِ المسجدِ الحرامِ إلخ {فَتْحاً قَرِيباً} وهُو فتحُ خيبرَ والمرادُ بجعلِه وعدُه وإنجازُه من غير تسويفٍ ليستدل به على صدقِ الرُّؤيا حسبمَا قالَ ولتكونَ آيةً للمؤمنينَ وأمَّا جعلُ ما في قولِه تعالى ما لم تعلمُوا عبارةً عن الحكمةِ في تأخيرِ فتحِ مكةَ إلى العامِ القابلِ كما جنحَ إليه الجمهورُ فتأباه الفاءُ فإن علمَه تعالَى بذلكَ متقدمٌ على إراءةِ الرؤيا قطعاً

28

{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} أي ملتبساً به أو بسببهِ ولأجلِه {وَدِينِ الحق} وبدينِ الإسلامِ {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} ليعليه على جنسِ الدينِ بجميعِ أفرادِه التي هي الأديانُ المختلفةُ بنسخِ ما كان حقاً من بعضِ

} 9 الأحكامِ المتبدلةِ بتبدلِ الأعصارِ وإظهارِ بُطلانِ ما كانَ باطلاً أو بتسليطِ المسلمينَ على أهلِ سائرِ الأديانِ إذْ مَا من أهلِ دينٍ إلا وقَد قهرهُم المسلمونَ وفيه فضل تأكيد لما وعد من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على أنه سبحانه سيفتحُ لهم من البلادِ ويتيحُ لهم من الغلبةِ على الأقاليمِ ما يستقلُّون إليه فتحَ مكةَ {وكفى بالله شَهِيداً} على أنَّ ما وعده كائنٌ لا محالةَ أو على نبوتِه عليه الصلاةُ والسلامُ بإظهارِ المعجزاتِ

29

{مُحَمَّدٌ} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وقولُه تعالى {رَسُولِ الله} بدلٌ أو بيانٌ أو نعتٌ أيْ ذلكَ الرسولُ المرسلُ بالهُدَى ودينِ الحقِّ محمد رسول الله وقيل محمدٌ مبتدأ رسولُ الله خبرُهُ والجملةُ مبينةٌ للمشهودِ بهِ وقولُه تعالَى {والذين مَعَهُ} مبتدأٌ خبرُهُ {أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} وأشداءُ جمعُ شديدٍ ورحماءُ جمع رحيمٍ والمعنى أنَّهم يُظهرونَ لمن خالفَ دينَهُم الشدةَ والصَّلابةَ ولمن وافقَهُم في الدِّينِ الرحمةَ والرأفةَ كقولِه تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين وقُرىءَ أشداءَ ورحماءَ بالنَّصبِ على المدحِ أو على الحالِ من المستكنِّ في معه لوقوعِه صلةً فالخبرُ حينئذٍ قولُه تعالى {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} أي تشاهدُهم حالَ كونِهم راكعينَ ساجدينَ لمواظبتِهم على الصَّلواتِ وهُو عَلى الأولِ خبرٌ آخرُ أو استئنافٌ وقولُه تعالَى {يَبْتَغُونَ فَضْلاً من الله وَرِضْوَاناً} أي ثواباً ورضاً إما خبرٌ آخرُ أو حالٌ من ضميرِ تراهُم أو من المستترِ في ركعا سجدا أو استئنافا مبني على سؤال نشأ من بيانِ مواظبتِهم على الركوعِ والسجودِ كأنَّه قيلَ ماذا يريدون بذلكَ فقيلَ يبتغُون فضلاً من الله إلخ {سيماهم} أى سمتهم وقرىء سيمياؤهم بالياءِ بعد الميمِ والمدِّ وهما لغتانِ وفيها لغةٌ ثالثةٌ هي السيماءُ بالمدِّ وهو مبتدأ خبره {فى وُجُوهِهِمْ} أيْ في جِبَاهِهم وقوله تعالى {مّنْ أَثَرِ السجود} حالٌ من المستكنِّ في الجارِّ أي من التأثيرِ الذي يُؤثره كثرةُ السجودِ وما رُوي عن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من قولُه عليهِ الصَّلاةُ والسلام لا تعبدوا صورَكم أي لا تَسِمُوها إنَّما هُو فيما إذا اعتمدَ بجبهته على الأرضِ ليحدثَ فيها تلكَ السمةَ وذلك محضُ رياءٍ ونفاقٍ والكلامُ فيما حدثَ في جبهةِ السَّجَّادِ الذي لا يسجدُ إلا خالصاً لوجهِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ كان الإمامُ زينُ العابدينَ وعليٌّ بن عبد الله بن العباس رضى عنهُمَا يقالُ لهما ذُو الثفناتِ لما أحدثتْ كثرةُ سجودِهما في مواقعهِ منهما أشباهَ ثفناتِ البعيرِ قالَ قائلُهم دِيارُ عَليَ والحُسينِ وجَعْفر وَحمزةَ والسَّجَّادِ ذِي الثَّفِنَاتِ وقيلَ صفرةُ الوجهِ من خشيةُ الله تعالى وقيلَ نَدى الطَّهورِ وترابُ الأرضِ وقيل استنارةُ وجوهِهم من طولِ ما صلَّوا بالليلِ قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من كثرُتْ صلاتُه بالليلِ حسُن وجهُه بالنهارِ وقُرِىءَ من آثارِ السجودِ ومن إِثْرِ السجودِ بكسرِ الهمزةِ {ذلك} إشارةٌ إلى ما ذكر

الحجرات { من نعوتِهم الجليلةِ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذانِ بعلوِّ شأنِه وبُعدِ منزلتِه في الفضل وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى {مّثْلُهُمْ} أي وصفُهم العجيبُ الشأنِ الجارِي في الغرابةِ مَجْرى الأمثالِ وقولُه تعالَى {فِي التوراة} حالٌ من مثلُهم والعاملُ مَعْنى الإشارةِ وقولُه تعالى {وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجيل} عطفٌ على مثلُهم الأولِ كأنَّه قيلَ ذلكَ مثلُهم في التوراةِ والإنجيلِ وتكريرُ مثلُهم لتأكيدِ غرابتهِ وزيادةِ تقريرِها وقولُه تعالى {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} الخ تمثيلٌ مستأنفٌ أي هُم كزرعٍ أخرجَ فراخَهُ وقيل هو تفسيرٌ لذلك على أنه إشارةٌ مبهمةٌ وقيل خبر لقوله تعالى ومثلُهم في الإنجيلِ على أنَّ الكلامَ قد تمَّ عند قولِه تعالى مثلُهم في التوراةِ وقرىء شَطَأه بفتحات وقرىء شَطَاه بفتح الطاء وتخفيف الهمزة وشَطَاءَهُ بالمدِّ وشَطَه بحذفِ الهمزةِ ونقل حركتِها إلى ما قبلَها وشطوه بقلبها واو {فَازَرَهُ} فقوَّاهُ مِن المؤازرةِ بمعنى المعاونةِ أو من الإيزارِ وهي الإعانةُ وقُرِىءَ فأزَرَه بالتخفيف وأَزَّرهُ بالتشديدِ أي شدَّ أزْرَهُ وقولُه تعالى {فاستغلظ} فصارَ غليظاً بعد ما كانَ دقيقاً {فاستوى على سُوقِهِ} فاستقامَ على قَصَبهِ جمع ساقٍ وقُرِىءَ سُؤقهِ بالهمزةِ {يُعْجِبُ الزراع} بقوته وكثافته وغلطة وحسنِ منظرِه وهو مثلٌ ضربَهُ الله عزَّ وجلَّ لأصحابه عليه الصلاة والصلام قلُّوا في بدءِ الإسلامِ ثم كثروا واستحكمُوا فترقَّى أمرُهم يوماً فيوماً بحيثُ أعجبَ الناسَ وَقيلَ مكتوبٌ في الإنجيلِ سيخرُجُ قومٌ ينبُتون نباتَ الزرعِ يَأْمُرُونَ بالمعروفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكرِ وقولُه تعالى {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} علةٌ لما يعربُ عنه الكلام من تشبههم بالزرعِ في زكائِه واستحكامِه أو لما بعده من قولِه تعالى {وَعَدَ الله الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} فإنَّ الكفارَ إذا سمعُوا بما أُعدَّ للمؤمنينَ في الآخرةِ مع ما لهُم في الدُّنيا من العزةِ غاظَهُم ذلكَ أشدَّ غيظٍ ومنُهم للبيانِ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سُورةَ الفتحِ فكأنَّما كانَ ممَّن شهدَ معَ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة سورة الحجرات مدنية وآياتها ثمانى عشرة {بسم الله الرحمن الرحيم}

الحجرات

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} تصديرُ الخطابِ بالنداءِ لتنبيهِ المخاطبينَ عَلى أنَّ مَا في حيزهِ أمرٌ خطيرٌ يستدعِي مزيدَ اعتنائِهم بشأنِه وفرط اهتمامهم بتقليه ومراعاته ووصفه بالإيمانِ لتنشيطِهمْ والإيذانِ بأنَّه داعٍ إلى المحافظةِ عليهِ ووازعٌ عن الإخلالِ بهِ {لاَ تُقَدّمُواْ} أيْ لا تفعلُوا التقديمَ عَلى أنَّ تركَ المفعولِ للقصدِ إلى نفسِ الفعلِ منْ غيرِ اعتبارِ تعلقِه بأمرٍ منَ الأمورِ عَلى طريقةِ قولُهم

{ فلانٌ يُعطِي ويمنعُ أيْ يفعلُ الإعطاءَ والمنعَ أو لا تقدّمُوا أمراً منَ الأمورِ عَلى أنَّ حذفَ المفعولِ للقصدِ إلى تعميمهِ والأول أو فى بحقِّ المقامِ لإفادتِه النهيَ عنِ التلبسِ بنفسِ الفعلِ الموجبِ لانتفائِه بالكليةِ المستلزِمِ لانتفاءِ تعلقهِ بمفعولِه بالطريقِ البرهانيِّ وقدْ جُوِّز أنْ يكونَ التقديمُ بمعَنى التقدمِ ومنْهُ مقدمةُ الجيشِ للجماعةِ المتقدمةِ ويَعضده قراءةُ مَن قرأَ لا تَقدّمُوا بحذفِ إحْدَى التاءينِ منْ تتقدمُوا وقرئ لا تقدموا منَ القدومِ وقولُه تعالى {بَيْنَ يَدَىْ الله وَرَسُولِهِ} مستعارٌ ممَّا بينَ الجهتينِ المسامتتينِ ليدي الإنسانِ تهجيناً لِما نُهوا عنْهُ والمَعْنى لا تقطعُوا أمراً قبلَ أنْ يحكُمَا بهِ وقيلَ المرادُ بين يدي رسولُ الله وذكرُ الله تَعَالى لتعظيمهِ والإيذانِ بجلالةِ محلِّه عنده عز وجل وقيل نزلَ فيما جَرى بينَ أبي بكرِ وعمرَ رَضِيَ الله عنهمَا لَدَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم في تَأْميرِ الأَقْرعِ بنِ حَابِسٍ أَوِ القعقاعِ بنِ مَعْبدٍ {واتقوا الله} في كلِّ ما تأتُون وما تذرُون مِن الأقوالِ والأفعالِ التي من جملتها ما نحنُ فيهِ {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لأقوالِكم {عَلِيمٌ} بأفعالِكم فمِنْ حَقِّه أنْ يُتقَّى ويراقب

2

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى} شروعٌ في النَّهي عنِ التجاوزِ في كيفيةِ القولِ عندَ النبيِّ عليه الصلاةَ والسلام بعد النَّهي عنِ التجاوزِ في نفسِ القولِ والفعلِ وَإعادةُ النداءِ معَ قُربِ العَهْدِ بهِ للمبالغةِ في الإيقاظِ والتنبيهِ والإشعارِ باستقلالِ كُلَ مِنَ الكلامينِ باستدعاءِ الاعتناءِ بشأنِه أَيْ لاَ تبلُغوا بأصواتِكم وراءَ حدَ يبلُغه عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ بصوتِه وقرئ لا ترفعُوا بأصواتِكم عَلى أنَّ الباءَ زائدةٌ {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول} إذَا كلمتُموه {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} أيْ جهراً كَائناً كالجهرِ الجَارِي فيمَا بينكُم بلْ اجعلُوا صوتَكُم أخفضَ منْ صوته عليه الصلاة والسلام وتعهّدُوا في مخاطبتِه اللينَ القريبَ منَ الهمسِ كَما هُو الدأبُ عندَ مخاطبةِ المَهيبِ المُعظمِ وحَافظُوا عَلى مُراعاةِ أُبَّهةِ النبوةِ وجَلالةِ مقدارِها وَقيلَ مَعنْى لاَ لاَ تجهرُوا لهُ بالقولِ كجهرِ بعضِكُم لبعضٍ لا تقولُوا لهُ يَا محمدُ يَا أحمدُ وخَاطِبُوه بالنبوةِ قال ابن عباس رضي الله عنُهمَا لمَّا نزلتْ هذهِ الآيةُ قالَ أبوُ بكر يا رسول الله والله لاَ أكلمكَ إلاَّ السِّرارَ أَوْ أخَا السرارحتى ألقى الله تعالَى وعن عمر رضيَ الله عنه أنَّه كانَ يكلمُه عليهِ الصلاةُ والسلامُ كأخِي السِّرارِ لا يسمعُهُ حَتَّى يستفهمَهُ وكانَ أبُو بكرٍ رضيَ الله عنْهُ إذَا قدمَ على رسُولِ الله صَلَّى الله عليهِ وسلَم الوفودُ أرسلَ إليهمْ منْ يعلمهُمْ كيفَ يسلّمونَ ويأمرُهُم بالسكينةِ والوقارِ عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقولُه تعالَى {أَن تَحْبَطَ أعمالكم} إِمَّا علةٌ للنَّهي أيْ لا تجهرُوا خشيةَ أنْ تحبطَ أوْ كراهةَ أنْ تحبطَ كَما فِي قولِه تعالَى يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ أوْ للمنهى أَيْ لا تجهرُوا لأجلِ الحبوطِ فإنَّ الجهرَ حيثُ كانَ بصددِ الأداءِ إلى الحبوطِ فكأنَّهُ فعلَ لأجلِه عَلى طريقةِ التمثيلِ كقولِه تعالى لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً أو حزنا وليسَ المرادُ بما نُهيَ عنْهُ منْ الرَّفعِ والجَهْرِ ما يقارنُه الاستخفافُ والاستهانةُ فإنَّ ذلكَ كفرٌ بلْ مَا يتُوهم أنْ يؤديَ الى مما يجرِي بينَهمْ في أثناءِ المحاورةِ منَ الرَّفعِ والجهرِ حسَبما يُعرب عنْهُ قولُه تعالَى كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ

4 3 لِبَعْضٍ خَلاَ أنَّ رفعَ الصوتِ فوقَ صوتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لمَّا كانَ منكراً محضاً لَمْ يُقيدْ بشيءٍ ولا ما يقعُ منهما في حربِ أو مجادلةِ معاندٍ أو إرهابِ عدوَ أو نحوِ ذلكَ وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما نزلت في ثابتُ بنُ قَيْسِ بنِ شَمَّاسٍ وكانَ في أُذنِه وَقْرٌ وكانَ جَهْوريَّ الصوتِ ورُبَّما كانَ يكلمُ رسولَ الله صلى الله عل وسلم فيتأذَى بصوتِه وعنْ أنسٌ رضيَ الله عنه أنه لمَّا نزلتْ الآيةُ فُقِدَ ثابتٌ وتفقدَهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ فأخبرَ بشأنِهِ فدعاهُ فسألَهُ فقالَ يَا رسولَ الله لقدْ أنزلتْ إليكَ هذهِ الآيةُ وإِنِّي رجلٌ جهيرُ الصوتِ فأخافُ أنْ يكونَ عَمَلِي قدْ حَبِطَ فقالَ لَهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لستَ هناكَ إنكَ تعيشُ بخيرٍ وتموتُ بخيرٍ وإنكَ منْ أهلِ الجنةِ وأماما يروى عن الحسن من أنَّها نزلتْ في بعضِ المنافقينَ الذينَ كانُوا يرفعونَ أصواتَهُم فوقَ صوتِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ فقدْ قيلَ محملُه أنَّ نهيهَمُ مندرجٌ تحتَ نهَي المؤمنينَ بدلالةِ النصِّ {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} حالٌ منْ فاعِل تحبطُ أيْ وَالحالُ أنكُم لاَ تشعرونَ بحبوطِها وفيهِ مزيدُ تحذيرٍ مما نُهوا عنْهُ وقوله تعالى

3

{إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله} الخ ترغيبٌ في الانتهاءِ عمَّا نُهوا عنْهُ بعدَ الترهيبِ عنِ الإخلالِ بهِ أيْ يخفضونها مراعة للأدبِ أوْ خشيةً منْ مخالفةِ النَّهي {أولئك} إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه لما مر مرار منْ تفخيمِ شأنِه وهُوَ مبتدأٌ خبرُه {الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} أيْ جرّبَها للتَّقوى ومرَّنَها عليهَا أو عَرفَها كائنةً للتَّقوى خالصةً لهَا فإِنَّ الامتحانَ سببُ المعرفةِ واللامُ صلةٌ لمحذوف أو للفعل باعتبار الأصلِ أوْ ضربَ قلوبَهُم بضروبِ المحنِ والتكاليفِ الشاقَّةِ لأجلِ التَّقوى فإنَّها لا تظهرُ إلا بالاصطبارِ عليَها أو أخلصَها للتَّقوى من امتحنَ الذهبَ إذَا أذابَهُ وميز إبر يزه منْ خبثِهِ وعنْ عمرَ رضيَ الله عنْهُ أذهبَ عَنْها الشهواتِ {لَهُمْ} في الآخرةِ {مَغْفِرَةٍ} عظيمةٌ لذنوبِهم {وَأَجْرٌ عظِيمٌ} لا يُقادرُ قَدرُه والجملةُ إمَّا خبرٌ آخر لأن كالمجملة المصدرةِ باسمِ الإشارةِ أو استئنافٌ لبيانِ جزائِهم إحماداً لحالِهم وتعريضاً بسوءِ حالِ منْ ليسَ مثلَهُم

4

{إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات} أيْ منْ خارجِها منْ خلفِها أوْ قُدَّامِها وَمِنِ ابتدائيةٌ دالةٌ عَلى أنَّ المناداةَ نشأتْ منْ جهةِ الوراءِ وأنَّ المُنَادَى داخلُ الحُجرةِ لوجوبِ اختلافِ المبدأِ والمُنتهى بحسبِ الجهة بخلافِ ما لَوْ قيلَ ينادونَكَ وراءَ الحجراتِ وَقُرىءَ الحُجَرْاتِ بفتحِ الجيمِ وبسكونِها وثلاثتُها جمعُ حُجْرةٍ وهَي القطعةٌ منَ الأرضِ المحجورةِ بالحائطِ ولذلكَ يقالُ لحظيرةِ الإبلِ حُجْرةً وهيَ فُعْلةٌ منَ الحَجْر بمَعْنى مفعول كالغُرفةِ والقُبضةِ والمرادُ بَها حجراتُ أمهاتِ المؤمنينَ ومناداتُهم منْ ورائِها إمَّا بأنَّهم أتوهَا حجرةً حجرةً فنادَوهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ منْ ورائِها أَوْ بأنَّهم تفرقُوا عَلى الحجراتِ متطلبينَ له عليه الصلاة والسلام فنادوه

5 7 بعضٌ منْ وراءِ هذهِ وبعضٌ منْ وراءِ تلكَ فأسندَ فعلَ الأبعاضِ إِلى الكُلَّ وقدْ جُوِّز أنْ يكُونوا قدْ نادَوُه منْ وراءِ الحجرةِ التِّي كانَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فيها ولكنها جمعت إجلال له عليه الصلاة والسلام وقيلَ إنَّ الذَّي ناداهُ عيينةَ بنَ حصنٍ الفزاريَّ والأقرعُ بْنُ حابسٍ وَفَدا على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم في سبعينَ رجُلاً منْ بنِي تميمٍ وقتَ الظهيرةِ وهُوَ راقدٌ فقالاَ يا محمدُ اخرجْ إلينَا وإنَّما أسندَ النداءَ إلى الكُلِّ لأنَّهم رضُوا بذلكَ أوْ أمروا به لأَنَّه وجدَ فيَما بينَهمْ {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} إذْ لَوْ كانَ لهُم عقلٌ لمَا تجاسرُوا عَلى هذهِ المرتبةِ منْ سُوءِ الأدبِ

5

{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} أيْ وَلَوْ تحققَ صبرُهُم وانتظارُهُم حتَّى تخرجَ إليهمْ فإنَّ أَنَّ وَإِنْ دلت بَما في حيزهَا عَلى المصدرِ لكِنَّها تفيدُ بنفسِها التحققَ والثبوتَ الفرق البينِ بينَ قولِك بَلَغني قيامُك وبلغني أنَّك قائمٌ وحَتَّى تفيدُ أنَّ الصبرَ ينبغِي أنْ يكونَ مُغياً بخروجِهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فإنَّها مختصةٌ بمَا هُوَ غاية للشئ في نفسِه ولذلكَ تقولُ أكلتُ السمكةَ حتَّى رَأْسَهَا وَلا تقولُ حتَّى نصفَها أو ثلثَها بخلافِ إِلى فإنَّها عامَّةٌ وفي إليهمْ إشعارٌ بأنَّه لوْ خرجَ لاَ لأجلِهم ينبغِي أَنْ يصبرُوا حَتَّى يفاتحهَم بالكلامِ أوْ يتوجَّهَ إليهِم {لَكَانَ} أي الصبرُ المذكورُ {خَيْراً لَّهُمْ} منِ الاستعجالِ لِما فيهِ منْ رعايةِ حُسنِ الأدبِ وتعظيمِ الرسولِ الموجبَينِ للثناء والثواب والإسعاف بالمسؤل إذْ رُوي أنَّهم وفدُوا شافعينَ في أُسارَى بنِي العَنْبرِ فأطلقَ النصفَ وفادَى النصفَ {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بليغُ المغفرةِ والرحمةِ واسعُهما فلنْ يضيقَ ساحتُهما عنْ هؤلاءِ إنْ تابُوا وَأصلحُوا

6

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ} أيْ فتعرفُوا وتفحصُوا روي أنه عليه الصلاةُ والسلام بعث الوليد ابن عُقبةَ أخَا عثمانُ رضيَ الله عنْهُ لأُمهِ مُصدِّقاً إلى بَني المُصطلِق وكانَ بيَنهُ وبينَهمْ إِحْنَةٌ فلمَّا سمعُوا بهِ استقبلُوه فحسبَ أنَّهم مقاتلُوه فرجعَ وقالَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدِ ارتدُوا ومنعُوا الزكاةَ فَهمَّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بقتالِهم فنزلتْ وقيلَ بعثَ إليهم خالدَ بنَ الوليدَ فوجدهُم منادينَ بالصلاةِ متهجدينَ فسلمُوا إليهِ الصدقاتِ فرجعَ وفي ترتيبِ الأمرِ بالتبينِ عَلى فسقِ المُخبرِ إشارةٌ إلى قبولِ خبرِ الواحدِ العدلِ في بعضِ الموادِّ وقرئ فتثبتُوا أيْ توقفُوا إلى أنْ يتبينَ لكُم الحالُ {أن تصيبوا} حذارا أنْ تصيبُوا {قَوْمَا بِجَهَالَةٍ} ملتبسينَ بجهالةِ حالِهم {فَتُصْبِحُواْ} بعدَ ظهورِ براءتِهم عَمَّا أُسندَ إليهمْ {على مَا فَعَلْتُمْ} في حَقِّهم {نادمين} مغتمينَ غماً لازماً متمنينَ أنَّه لم يقعْ فإنَّ تركيبَ هذهِ الأَحْرُفِ الثلاثةِ يدورُ معَ الدوامِ

7

{واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله}

أنَّ بِما في حيِّزها سادٌّ مسدَّ مفعولَي اعلمُوا باعتبارِ ما بعدَهُ منْ قولِه تعالى {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ من الأمر لَعَنِتُّمْ} فإنَّهُ حالٌ منْ أحدِ الضميرينِ في فيكُم والمَعنْى أنَّ فيكُم رسولَ الله كائناً عَلى حالةٍ يجبُ عليكُم تغييرُهَا أوْ كائنينَ على حالةٍ الخ وهي أنكُم تريدونَ أنْ يتبعَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ رأيَكُم في كثيرٍ منَ الحوادثِ ولَوْ فعلَ ذلكَ لوقعتُم في الجهدِ والهلاكِ وفيه إيذانٌ بأنَّ بعضَهُم زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاعَ ببني المصطلقِ تصديقاً لقول الوليد أنه عليه الصلاةُ والسلام لم يطع رأيهم وأما صيغةُ المضارعِ فقدْ قيلَ إنَّها للدلالةِ عَلى أنَّ امتناعَ عَنَتِهم لامتناعِ استمرارِ طاعتَه عليهِ الصلاةُ والسلامُ لهُم لأنَّ عنتهَمُ إنما يلزمُ منَ استمرارِ الطاعةِ فيما يَعِنُّ لهَمُ منَ الأمورِ إذْ فيهِ اختلالُ أمرِ الإبالةِ وانقلابُ الرئيس مرؤسا لا منْ إطاعتِه في بعضِ ما يرونَهُ نادراً بلْ فيها استمالتُهم بلا معرةٍ وقيل إنَّها للدلالةِ على أن امتناع عنتهم لاستمرارِ امتناعِ طاعتَه عليهِ الصلاةُ والسلامُ لهُم في ذلكَ فإنَّ المضارعَ المنفيَّ قَدْ يدلُّ على استمرارَ النَّفي بحسبِ المقامِ كما في نظائرِ قولِه تعالَى وَلاَ هُمْ يحزنزن والتحقيقُ أنَّ الاستمرارَ الذي تفيدُه صيغةُ المضارعِ يعتبرُ تارةً بالنسبةِ إلى ما يتعلقُ بالفعلِ منَ الأمورِ الزمانيةِ المتجددةِ وذلكَ بأنْ يعتبرَ الاستمرارُ في نفسِ الفعلِ على الإبهامِ ثم يعتبر تعليق ما يتعلقُ به بياناً لما فيهِ الاستمرارُ وأُخرى بالنسبةِ إلى ما يتعلقُ به من نفسِ الزمانِ المتجددِ وذلكَ إذا اعتبر تعلقُه بما يتعلقُ به أولاً ثم اعتبرَ استمرارُه فيتعينُ أن يكونَ ذلك بحسبِ الزمانِ فإنْ أُريدَ باستمرارِ الطَّاعةِ استمرارُها وتجددُها بحسبِ تجددِ مواقعِها الكثيرةِ التى يفصح عنها قولُه تعالَى فِى كَثِيرٍ مّنَ الأمرِ فالحقُّ هو الأولُ ضرورةَ أنَّ مدارَ امتناعِ العنَتِ هو امتناعُ ذلك الاستمرارِ سواءٌ كان ذلكَ الامتناعُ بعدمِ وقوعِ الطاعةِ في أمرٍ ما من تلكَ الأمورِ الكثيرةِ أصلاً أو بعدمِ وقوعِها كلِّها مع وقوعِها في بعضٍ يسيرٍ منها حتَّى لو لم يمتنعْ ذلكَ الاستمرارُ بأحدِ الوجهينِ المذكورينِ بل وقعتْ الطاعةُ فيما ذُكِرَ من كثيرٍ من الأمرِ في وقتٍ من الأوقاتِ وقعَ العنتُ قطعاً وإنْ أُريدَ به استمرارُ الطَّاعةِ الواقعةِ في الكلِّ وتجدّدُها بحسبِ تجددِ الزمانِ واستمرارِه فالحقُّ هو الثانِي فإنَّ مناطَ امتناعِ العنتِ حينئذٍ ليسَ امتناعَ استمرارِ الطاعةِ المذكورةِ ضرورةَ أنَّه موجبٌ لوقوعِ العنتِ بل هُو الاستمرارُ الزمانيُّ لامتناع تلك الطاعةِ الواقعةِ في تلكَ الأمورِ الكثيرةِ بأحدِ الوجهينِ المذكورينِ حتَّى لو لم يستمرَّ امتناعُها بأنْ وقعتْ تلك الطاعةُ في وقتٍ من الأوقاتِ وقعَ العنتُ حتماً واعلمْ أنَّ الأحقَّ بالاختيارِ والأَولى بالاعتبارِ هو الوجهُ الأولُ لأنَّه أوفقُ بالقياسِ المُقتضِي لاعتبارِ الامتناعِ وارداً على الاستمرارِ حسبَ ورودِ كلمةِ لو المفيدةِ للأولِ على صيغةِ المضارعِ المفيدةِ للثانِي على أن اعتبار الاستمرار ارودا على النَّفي على خلافِ القياسِ بمعونةِ المقامِ إنَّما يصارُ إليهِ إذا تعذرَ الجريانُ على موجبِ القياسِ أو لم يكنْ فيه مزيدُ مزيةٍ كما في مثل قوله تعالى ولا هم يَحْزَنُونَ حيثُ حملَ على استمرارِ نفي الحزنِ عنُهم إذ ليس فى نفى استمرارِ الحزنِ مزيدُ فائدةِ وأمًّا إذَا انتظمَ الكلامُ مع مراعاةِ موجبِ القياسِ حقَّ الانتظامِ فالعدولُ عنه تمحلٌ لا يخَفْى وقولُه تعالى {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان} الخ تجريدٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى بعضِهم بطريقِ الاستدراكِ بياناً لبراءتِهم عنْ أوصافِ الأولينَ وإحماداً لأفعالِهم أيْ ولكنَّهُ تعالَى جعلَ الإيمانَ

8 10 محبوبا لديكم {وزينه في قلوبكم} حتى رسخ خبه فيها ولذلك أتيتم بما يليقُ بهِ من الأقوال والأفعال {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} ولذلك اجتنبتم عما يليق بها مما لا خير فيه من آثارها وأحكامها ولما كان فى التحبيب والتكريه معنى إنهاء المحبة والكراهة وإيصالها إليهم استعملا بكلمة إلى وقيل هو استدراك ببيان عذر الأولين كأنه قيل لم يكن ما صدر عنكم فى حق بنى المصطلق من خلل فى عقيدتكم بل من فرط حبكم للإيمان وكراهتكم للكفر والفسوق والعصيان والأولُ هو الأظهرُ لقوله تعالى {أولئك هم الراشدون} أى السالكون إلى الطريق السَّويِّ الموصِّلِ إلى الحقِّ والالتفات إلى الغيبة كالذى في قوله تعالى وَمَا آتيتم مّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هم المضعفون

8

{فَضْلاً مّنَ الله وَنِعْمَةً} أيْ وَإنعاماً تعليلٌ لحببَ أو كرَّه وما بينَهمَا اعتراضٌ وقيلَ نصبُهمَا بفعلٍ مضمرٍ أيْ جَرى ذلكَ فضلاً وقيلَ يبتغونَ فضلاً {والله عَلِيمٌ} مبالِغٌ في العلمِ فيعلمُ أحوالَ المؤمنينَ وما بينَهم من التفاضلِ {حكيم} يفعل كل مل يفعلُ بموجبِ الحكمةِ

9

{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} أي تقاتلُوا والجمعُ باعتبارِ المَعْنى {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} بالنُّصحِ والدعاءِ إلى حُكمِ الله تعالى {فَإِن بَغَتْ} أي تعدتْ {إِحْدَاهُمَا على الأخرى} وَلَمْ تتأثرْ بالنصيحةِ {فقاتلوا التى تَبْغِى حتى تَفِىء} أيْ ترجعَ {إلى أَمْرِ الله} إِلى حُكمهِ أوْ إلى مَا أُمر بهِ {فَإِن فَاءتْ} إليهِ وأقلعتْ عن القتالِ حذاراً من قتالِكم {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل} بفصلِ ما بينَهما على حُكمِ الله تَعالى ولا تكتفُوا بمجردِ متاركتهِما عسى أن يكونُ بينَهما قتالٌ في وقتٍ آخرَ وتقييدُ الإصلاحِ بالعدلِ لأنَّه مظِنةُ الحيفِ لوقوعِه بعدَ المقاتلةِ وقدْ أكَّد ذلكَ حيثُ قيلَ {وَأَقْسِطُواْ} أيْ واعدلُوا في كل ما تأتون وما تذرونَ {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} فيجازيهُم أحسنَ الجزاءِ والآيةُ نزلتْ في قتالٍ حدثَ بينَ الأوسِ والخزرجِ في عهدِه عليهِ الصلاةُ والسلام بالعسف والنعالِ وفيهَا دلالةً على أنَّ الباغيَ لا يخرجُ بالبغِي عنِ الإيمانِ وأنَّه إذَا أمسكَ عنِ الحربِ تُركَ لأنَّه فيءٌ إلى إمرِ الله تعَالى وأنه يجبُ معاونةُ منْ بُغيَ عليهِ بعدَ تقديمِ النُّصحِ والسعْيِ في المصالحةِ

10

{إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} استئنافٌ مقرر لما قبله من الأمرِ بالإصلاحِ أيْ أنهم منتسبونَ إلى أصلٍ واحدٍ هُوَ الإيمانُ الموجبُ للحياةِ الأبديةِ والفاءُ في قولهِ تعالَى {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} للإيذان بأن الآخرة الدينيةَ موجبةٌ للإصلاح ووضعُ المُظهرِ مقامَ المضمرِ مُضافاً إلى المأمورينَ للمبالغةِ في تأكيدِ وجوبِ الإصلاحِ والتحضيضِ عليهِ وتخصيصُ

} { الاثنينِ بالذكرِ لإثباتِ وجوبِ الإصلاحِ فيَما فوقَ ذلكَ بالطريق الأولويةِ لتضاعفِ الفتنةِ والفسادِ فيهِ وقيلَ المرادُ بالأخوينِ الأوس والخزرج وقرئ بينَ إخوتِكم وإخوانِكم {واتقوا الله} في كلِّ ما تأتون وما تذرون ومن الأمور التي من جملتها ما أُمرتم بهِ منَ الإصلاحِ {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} راجينَ أنْ ترحمُوا عَلى تقواكم

11

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ} أيْ منكُم {مِن قَوْمٍ} آخرينَ أيضاً منكُم وقولُه تعالى {عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ} تعليلٌ للنَّهِي أو لموجبِه أيْ عَسى أنْ يكونَ المسخورُ منْهم خيراً عندَ الله تَعَالى منَ الساخرينَ والقومُ مختصٌّ بالرجالِ لأنُهم القُوّامُ على النساءِ وهو فى اللأصل إمَّا جمعُ قائمٍ كصَوْمٍ وزَوْرٍ في جمعِ صائمٍ وزائرٍ أو مصدرٌ نُعت بهِ فشاعَ في الجمعِ وأما تعميمُه للفريقينِ في مثلِ قومِ عادٍ وقومِ فرعونَ فإمَّا للتغليبِ أو لأنهنَّ توابعُ واختيارُ الجمع لغلبةِ وقوعِ السخريةِ في المجمع والتنكيرُ إمَّا للتعميمِ أو للقصدِ إلى نَهْي بعضِهم عنْ سُخريةِ بعضٍ لما أنَّها مما يجرِي بينَ بعضٍ وبعضٍ {وَلاَ نِسَاء} أيْ ولا تسخرْ نساءٌ من المؤمناتِ {مّن نّسَاء} منهنَّ {عسى أَن يَكُنَّ} أيْ المسخورُ منهُنَّ {خَيْراً مّنْهُنَّ} أيْ منَ الساخراتِ فإنَّ مناطَ الخيريةِ في الفريقينِ ليسَ ما يظهرُ للناسِ من الصورِ والأشكالِ ولا الأوضاعِ والأطوارِ التي عليَها يدورُ أمرُ السخريةِ غالباً بلْ إنما هُوَ الأمورُ الكامنةُ في القلوبِ فلا يجترئ أحدٌ على استحقارِ أحدٍ فلعلَّهُ أجمعُ منْهُ لما نيطَ بهِ الخيريةُ عندَ الله تعالَى فيظلَم نفسَهُ بتحقيرِ منْ وقَّره الله تعالَى والاستهانةِ بَمنْ عظَّمُه الله تعالى وقرئ عَسَوا أنْ يكونُوا وعَسَينَ أنْ يكنَّ فعسَى حينئذٍ هي ذاتُ الخبرِ كما في قولِه تعالَى فَهَلْ عَسَيْتُمْ وَأمَّا على الأولِ فهى التى لا خبر لها {وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ} أيْ ولا يعبْ بعضُكم بعضاً فإنَّ المؤمنينَ كنفسٍ واحدةٍ أو لا تفعلُوا ما تُلمَزونَ بهِ فإنَّ منْ فعلَ ما يستحقُّ بهِ اللمزَ فقدْ لمزَ نفسَهُ واللمزُ الطعنُ باللسانِ وقرئ بضمِّ الميمِ {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب} أيْ ولا يدْعُ بعضُكم بعضاً بلقبِ السوءِ فإن النبز مخنص بهِ عُرْفاً {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} أي بئسَ الذكرُ المرتفعُ للمؤمنينَ أنْ يُذكرُوا بالفسقِ بعد دخولِهم الإيمانَ أو اشتهارِهم بهِ فإنَّ الاسمَ هَهُنا بمَعنى الذكرِ منْ قولِهم طارَ اسمُه في الناسِ بالكرم أو باللؤمِ والمرادُ بهِ إمَّا تهجينُ نسبةِ الكفرِ والفسوقِ إلى المؤمنينَ خصوصاً إذْ رُوي أنَّ الآيةَ نزلتْ في صفيةَ بنتِ حُيَيِّ أتتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالتْ إنَّ النساءَ يقُلنَ لي يَا يهوديةُ بنت يهوديينِ فقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ هَلاَّ قلتِ إنَّ أبى هرون وعَمِّي مُوسى وزَوْجي محمدٌ عليهمْ السلامُ أوِ الدلالةُ عَلى أنَّ التنابزَ فسقٌ والجمعُ بينَهُ وبينَ الإيمانِ قبيحٌ {وَمَن لَّمْ يَتُبْ} عَمَّا نُهي عَنْهُ {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} بوضعِ العصيانِ موضعَ الطاعةِ وتعريضِ

} { النفس للعذاب

12

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مّنَ الظن} أيْ كُونوا على جانبٍ منْهُ وإبهامُ الكثيرِ لإيجابِ الاحتياطِ والتأملِ في كُلِّ ظَنٍ ظُنَّ حَتَّى يعلَم أنَّه من أيِّ قبيلٍ فإنَّ منَ الظنِّ ما يجبُ اتباعُه كالظنِّ فيَما لا قاطعَ فيهِ من العملياتِ وحسنِ الظنِّ بالله تعَالَى ومنْهُ ما يحرمُ كالظنِّ في الإلهياتِ والنبواتِ وحيثُ يخالفُه قاطعٌ وظنِّ السوءِ بالمؤمنينَ ومنْهُ ما يباحُ كالظنِّ في الأمورِ المعاشيةِ {إِنَّ بَعْضَ الظن أَثُمَّ} تعليلٌ للأمرِ بالاجتنابِ أوْ لموجبهِ بطريقِ الاستئنافِ التحقيقيِّ والإثمُ الذنبُ الذي يستحقُّ العقوبةَ عليهِ وهمزتُه منقلبةُ منَ الواوِ كأنَّه يثمُ الأعمالَ أي يكسرها {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} أي ولا تبحثوا عن عورات المسلمين تفعّل من الجسِّ لما فيهِ منْ مَعْنى الطلبِ كما أن التلمسَ بمَعنى التطلبِ لما في اللمسِ من الطلبِ وقد جاءَ بمعنى الطلبِ في قولِه تعالَى وَأَنَا لَمَسْنَا السماء وقرئ بالحاءِ من الحَسِّ الذي هُوَ أثرُ الجَسِّ وغايتُه ولتقاربهمِا يقالُ للمشاعرِ الحواسُّ بالحاء والجيم وفي الحديث لا تتبعُوا عوراتِ المسلمينَ فإنَّ منْ تتبعَ عوراتِ المسلمينَ تتبعَ الله عورتَهُ حَتَّى يفضَحهُ ولو في جوفِ بيتِه {وَلاَ يَغْتَب بَعْضِكُمْ بَعْضاً} أي لا يذكرْ بعضُكم بعضاً بالسوءِ في غِيبتِه وسُئلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن الغِيْبَةِ فقالَ أنْ تذكَر أخاكَ بما يكَرهُ فإنْ كانَ فيهِ فقدِ اغتبتَهُ وإنْ لمْ يكُنْ فيهِ فقدْ بهّتهُ وعنِ ابن عباس رضي الله عَنْهما الغِيبةُ إدامُ كلابِ الناسِ {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} تمثيلٌ وتصويرٌ لما يصدرُ عنِ المغتابِ منْ حيثُ صدورُهُ عنْهُ ومنْ حيثُ تعلقُه بصاحبِه عَلى أفحشِ وجهٍ وأشنعِه طبعاً وعقلاً وشرعاً معَ مبالغاتٍ من فُنونٍ شَتَّى الاستفهامُ التقريري وإسنادُ الفعلِ إلى أحدٍ إيذاناً بأنَّ أحداً من الأحدينَ لا يفعلُ ذلكَ وتعليقُ المحبةِ بَما هُوَ في غايةِ الكراهةِ وتمثيلُ الاغتيابِ بأكلِ لحمِ الإنسانِ وجعلُ المأكولِ أخاً للآكلِ وميتاً وإخراجُ تماثِلها مُخرجَ أمرٍ بينٍ غنيَ عنِ الإخبار به وقرئ ميتاً بالتشديدِ وانتصابُه عَلى الحاليةِ من اللحمِ وقيلَ من الأخِ والفاءُ في قولِه تعالَى {فَكَرِهْتُمُوهُ} لترتيبِ ما بعدها على ما قبلَها من التمثيلِ كأنَّه قيلَ وحيثُ كانَ الأمرُ كما ذكرَ فقد كرهتمُوه وقرى كُرِّهتمُوه أي جُبلتُمْ عَلى كراهتِهِ {واتقوا الله} بتركِ ما أمرتمْ باجتنابهِ والندمِ عَلى مَا صَدرَ عنكُم من قبلُ {إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} مبالغٌ في قبولِ التَّوبةِ وإفاضةِ الرحمةِ حيثُ يجعلُ التائبَ كمنْ لَمْ يذنبْ ولا يخصُّ ذلكَ بتائبٍ دونَ تائبٍ بَلْ يعمُّ الجميعَ وإنْ كثرتْ ذنوبُهم رُوي أنَّ رجلينِ منَ الصحابةِ رضيَ الله عنُهم بعثَا سلمانَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغِي لهما إدَاماً وكانَ أسامةُ على طعامِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ فقالَ ما عندى شئ فاخبرهما سلمانُ فقالاَ لو بعثنا سليمان إلى بئرٍ سميحةٍ لغارَ ماؤُها فلمَّا رَاحا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالَ لهُما مَا لي أَرَى خُضرةَ اللحمِ في أفواهِكُمَا فقالاَ ما تناولنَا لحماً فقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ إنكُما قدِ اغتبتُمَا

} 3 14 فنزلت

13

{يا أيها الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى} من آدمَ وحواءَ أوْ خلقنَا كُلَّ واحدٍ منكُم من أبٍ وأم فالكل سواءٌ في ذلكَ فلا وَجْهَ للتفاخرِ بالنسبِ وقَدْ جُوِّزَ أنْ يكونَ تأكيداً للنَّهي السابقِ بتقريرِ الأخوةِ المانعةِ منَ الاغتيابِ {وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ} الشَّعبُ الجمعُ العظيمُ المنتسبونَ إلى أصلٍ واحد وهو بجمع القبائلَ والقبيلةُ تجمعُ العمائرَ والعَمارةُ تجمعُ البطونَ والبطنُ بجمع الأفخاذَ والفَخِذُ يجمعُ الفصائلَ فخُزَيمةُ شعبٌ وكنانةُ قبيلةٌ وقريشٌ عمارةٌ وقُصَي بطنٌ وهاشمٌ فخذٌ والعباسُ فصيلةٌ وقيلَ الشعوبُ بطونُ العجمِ والقبائلُ بطونُ العربِ {لتعارفوا} ليعرفُ بعضُكم بعضاً بحسب الأنسابِ فلاً يعتزَى أحدٌ إلى غيرِ آبائِه لا لتتفاخرُوا بالآباءِ والقبائلِ وتَدَّعُوا التفاوتَ والتفاضلَ في الأنسابِ وقرئ لتتعارفوا عَلى الأصلِ ولَتّعارفُوا بالإدغامِ ولتعرِفُوا {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} تعليلٌ للنَّهِي عنِ التفاخر بالأنسابِ المستفادِ من الكلامِ بطريقِ الاستئنافِ التحقيقيِّ كأنَّه قيلَ إنَّ الأكرمَ عندَهُ تعالَى هُو الأتقَى فإنْ فاخرتُم ففاخِروا بالتقوى وقرئ بأَنَّ المفتوحةِ عَلى حذفِ لامِ التعليلِ كأنَّه قيلَ لم لا تتفاخروا بالأنسابِ فقيلَ لأَنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكُم لا أنسبُكم فإنَّ مدارَ كمالِ النفوس وتفاوت الأشخاص هُو التَّقوى فمَنْ رامَ نيلَ الدرجاتِ العُلاَ فعليهِ بالتقوى قال عليه الصلاة والسلام مَنْ سَرَّهُ أنْ يكونَ أكرمَ النَّاسِ فليتقِ الله وقال عليه الصلاة والسلام يَا أيُّها الناسُ إنمَّا الناسُ رجلانِ مؤمنٌ تقيٌ كريم على الله تعالى وفاجرٌ شقيٌّ هينٌ على الله تعَالَى وعنِ ابنِ عباس رضي اللله عنهما كرمُ الدُّنيا الغِنى وكرمُ الآخرةِ التَّقوى {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بكُم وبأعمالِكم {خَبِيرٌ} ببواطنِ أحوالِكم

14

{قالت الأعراب آمنا} نزلتْ في نفرٍ من بَني أَسَدٍ قَدمُوا المدينةَ في سنةِ جَدْبٍ فأظهرُوا الشهادتينَ وكانُوا يقولونَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أتيناكَ بالأثقالِ والعيالِ ولمْ نقاتِلْكَ كما قاتلكَ بنُو فلانٍ يريدونَ الصدقةَ ويمنونَ عليه عليه الصلاة والسلام ما فعلُوا {قُلْ} رَدَّاً لهُمْ {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} إذِ الإيمانُ هُوَ التصديقُ المقارنُ للثقةِ وطمأنينةِ القلبِ ولم يحصُلْ لكُم ذلكَ وإلا لِمَا مننتُمْ عليَّ ما ذكرتم كما ينبئ عَنْه آخرُ السورةِ {ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} فإنَّ الإسلامَ انقيادٌ ودخولٌ في السلمِ وإظهارُ الشهادةِ وتركُ المحاربةِ مشعرٌ بهِ وإيثارُ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ عَلى أنْ يقالَ لاَ تقولُوا آمنَّا ولكنْ قولُوا أسلمنَا أو لم تُؤمنِوا ولكن أسلمتُم للاحترازِ منِ النَّهي عنِ التلفظِ بالإيمانِ وللتفادِي عنْ إخراجِ قولِهم مُخرجَ التسليمِ والاعتدادِ بهِ معَ كونِه تقولاً محضاً {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ} حالٌ من ضميرِ قولُوا أيْ ولكِنْ قولُوا أسلمنَا حالَ عدمِ مواطأةِ قلوبِكم لألسنتِكم ومَا في لمَّا مِنْ مَعنْى التوقعِ مشعرٌ بأنَّ هؤلاءِ قَد آمنُوا فيمَا بعدُ {وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ}

} 5 18 بالإخلاصِ وتركِ النفاقِ {لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أعمالكم} لا ينُقصْكُم {شَيْئاً} من أجورِها مِنْ لاتَ يليتُ لَيْتاً إذَا نقصَ وقُرِىءَ لا يأْلتِكُم من الأَلْتِ وهيَ لغةُ غَطَفانَ أو شيئاً منَ النقصِ {أَنَّ الله غَفُورٌ} لِمَا فرطَ منَ المطيعين {رحيم} بالتفضل عليهمْ

15

{إنما المؤمنون الذين آمنُوا بالله ورسولِه ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ} لَمْ يشكُّوا منِ ارتابَ مطاوعُ رَاَبهُ إذَا أوقعَهُ في الشِكِّ مع التهمةِ وفيهِ إشارةٌ إِلى أنَّ فيهمْ ما يوجبُ نَفي الإيمانِ عنهُمْ وثُمَّ للإشعارِ بأَنَّ اشتراطَ عدمِ الارتيابِ في اعتبارِ الإيمانِ ليسَ في حالِ إنشائِه فقطْ بلْ وفيما يُستقبلُ فهيَ كمَا في قولِه تعالَى ثم استقامُوا {وجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله} في طاعتِه عَلى تكثرِ فنونِها من العباداتِ البدنيةِ المحضِة والماليةِ الصرفةِ والمشتملة عليها معاً كالحجِّ والجهادِ {أولئك} الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الحميلة {هُمُ الصادقون} أي الذينَ صدقُوا في دَعْوى الإيمانِ لا غيرُهم رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ الآية جاؤا وحلفُوا أنهم مؤمنونَ صادقونَ فنزلَ لتكذيبِهم قولُه تعالَى

16

{قُلْ أَتُعَلّمُونَ الله بِدِينِكُمْ} أيْ أتخبرونَهُ بذلكَ بقولِكم آمنَّا والتعبيرُ عَنْهُ بالتعليمِ لغايةِ تشنيعِهم {والله يَعْلَمُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض} حالٌ منْ مفعولِ تعلمونَ مؤكدةٌ لتشنيعِهم وقولُه تعالَى {والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} تذييلٌ مقررٌ لمَا قبلَهُ أيْ مبالِغٌ في العلمِ بجميعِ الأشياءِ التي من جملتها ما أخفَوهُ من الكفرِ عندَ إظهارِهم الإيمانَ وفيهِ مزيدُ تجهيلٍ وتوبيخٍ لهم

17

{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ} أيْ يعدّونَ إسلامَهم منَّةً عليكَ وهيَ النعمةُ التِّي لا يطلبُ مُوليها ثواباً ممنْ أنعمَ بَها عليهِ من المَنِّ بمَعنى القطعِ لأَنَّ المقصودَ بها قطعُ حاجتِه وقيلَ النعمةُ الثقيلةُ من المَنِّ {قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم} أيْ لا تعدُوا إسلامَكُم منَّةً عليَّ أوْ لاَ تمنُّوا عليَّ بإسلامِكم فنصبَ بنزعِ الخافضِ {بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للايمان} عَلى ما زعمتُم مَعَ أنَّ الهدايةَ لا تستلزمُ الاهتداءَ وقُرىءَ إِنْ هداكُم وَإِذْ هداكُم {إِن كُنتُمْ صادقين} في ادعاءِ الإيمانِ وجوابُه محذوفٌ يدلُّ عليهِ ما قبله اأى فللهِ المنةُ عليكُمْ وفي سياقِ النظمِ الكريمِ منَ اللطف مالا يَخْفى فإنَّهمُ لمَّا سمَّوا ما صدرَ عنُهم إيماناً ومنُّوا بهِ فنُفَي كونُهُ إيماناً وسُمِّي إسلاماً قيلَ يمنونَ عليكَ بمَا هُو في الحقيقةِ إسلامٌ وليس بجدير بالمن بل لوصح ادعاؤُهم للإيمانِ فلله المنةُ عليهِمْ بالهدايةِ إليهِ لاَ لهُمْ

18

{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض} أيْ ما غابَ فيهمَا {والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} في سرِّكم وعلانيتِكم فكيف يخفى عليه

سورة ق الآية (1 3) ما في ضمائرِكم وقُرىءَ بالياء عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الحجراتِ أعطيَ من الأجرِ بعددِ مَن أطاعَ الله وعصاه ق 3 { بسم الله الرحمن الرحيم

ق

{ق والقرآن المجيد} أيْ ذي المجدِ والشرفِ عَلى سائرِ الكتبِ أوْ لأنَّه كلامُ المجيدِ أوْ لأنَّ منْ علَم معانَيهُ وعمِلَ بما فيهِ مَجُدَ عندَ الله تَعَالَى وعندَ الناسِ والكلامُ فيهِ كالذَّي فُصِّلَ في مطلعِ سورة ص قوله تعالَى

2

{بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ} أيْ لأَنْ جاءَهُم منذرٌ منْ جنسِهم لا من حنس المَلَكِ أوْ مِنْ جِلدتِهم إضرابٌ عَمَّا يُنْبىءُ عنْهُ جوابُ القسمِ المحذوفِ كأنَّه قيلَ والقرآنِ المجيدِ أنزلناهُ إليكَ لتنذرَ بهِ الناسَ حسَبما وردَ في صدرِ سورةِ الأعرافِ كأنُه قيلَ بعدَ ذلكَ لم يؤمنُوا بهِ بلْ جعلُوا كلاً منَ المنذِر والمنذَرِ بهِ عُرضةً للنكيرِ والتعجيبِ معَ كونِهما أوفقَ شيءٍ لقضيةِ العقولِ وأَقرَبهُ إلى التلقِي بالقبولِ وقيلَ التقديرُ والقرآنِ المجيدِ إنكَ لمنذرٌ ثمَّ قيلَ بعدَهُ إنَّهم شكُّوا فيهِ ثمَّ أُضربَ عنْهُ وقيلَ بلْ عجبُوا أيْ لم يكتفُوا بالشكِّ والردِّ بلْ جزمُوا بالخلافِ حتَّى جعلُوا ذلكَ منَ الأمورِ العجيبةِ وقيلَ هُوَ إضرابٌ عَمَّا يُفهم منْ وصفِ القرآنِ بالمجيدِ كأنَّه قيلَ ليسَ سببُ امتناعِهم من الإيمانِ بالقرآنِ أنَّه لا مجدَ لهُ ولكنْ لجهلِهم {فَقَالَ الكافرون هذا شَىْء عجيب} تفسير لتعجيبهم وبيانٌ لكونِه مقارناً لغايةِ الإنكارِ مع زيادةِ تفصيلٍ لمحلِّ التعجبِّ وهذا إشارةٌ إلى كونِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ منذِراً بالقرآنِ وإضمارُهم أولا للإشعار بتعينهم بما أسندَ إليهمِ وإظهارِهم ثانيا للتسجيل علهيم بالكفرِ بموجبِه أوْ عطفٌ لتعجبهم من البعثةِ على إِنَّ هَذَا إشارةٌ إلى مُبْهمٌ يفسِّره ما بعدَهُ من الجملةِ الإنكاريةِ ووضعُ المظهرِ موضعَ المضمرِ إما لسبقِ اتصافِهم بَما يوجبُ كفرَهُم وإمَّا للإيذانِ بأنَّ تعجُّبُهم منَ البعثِ لدلالتِه على استقصارِهم لقدرةِ الله سبحانَهُ عنْهُ معَ معاينتِهم لقدرتِه تعالَى على مَا هُو أشقُّ منْهُ في قياسِ العقلِ من مصنوعاتِه البديعةِ أشنعُ من الأولِ وأعرقُ في كونه كفرا

3

{أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} تقريرٌ للتعجيب وتأكيدٌ للإنكارِ

4 8 والعامل في مضمرٌ غنيٌّ عنِ البيانِ لغايةِ شهرتِه معَ دلالةِ ما بعدَهُ عليهِ أيْ أحينَ نموتُ ونصيرُ تراباً نرجعُ كما ينطقُ به النذيرُ والمنذُر بهِ معَ كمالِ التباينِ بينَنا وبينَ الحياة جينئذ وَقُرىءَ إِذَا متنَا عَلى لفظِ الخبرِ أوْ على حذفِ أداةِ الإنكارِ {ذلك} إشارةٌ إلى محلِّ النزاعِ {رَجْعُ بَعِيدٌ} أيْ عنِ الأوهامِ أو العادةِ أو الإمكانِ وقيلَ الرجعُ بمعْنَى المرجوعِ الذي هُوَ الجوابُ فناصبُ الظرفِ حينئذٍ ما ينبىءُ عنه المنذرُ من البعثِ

4

{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض منهم} زد لاستبعادِهم وإزاحةٌ له فإنَّ منْ عمَّ علمُهُ ولطُفَ حَتَّى انتَهى إلى حيثُ علمَ ما تنقصُ الأرضُ من أجسادِ الموتَى وتأكلُ من لحومِهم وعظامِهم كيفَ يستبعدُ رجعُهُ إيَّاهمُ أحياءً كما كانُوا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم كُلُّ ابن آدمٍ يبلَى إلا عجبَ الذنبِ وقيلَ ما تنقص الأرض منهم ما يموتُ فيدفنُ في الأرضِ منهم {وَعِندَنَا كتاب حَفِيظٌ} حافظٌ لتفاصيلِ الأشياءِ كُلِّها أو محفوظٌ من التغيرِ والمرادُ إما تمثيلُ علمِه تعالَى بكلياتِ الأشياءِ وجزئياتِها بعلم مَنْ عندَه كتابٌ محيطٌ يتلقى منْهُ كُلَّ شيءٍ أو تأكيدٌ لعلمِه تعالَى بها بثبوتِها في اللوح المحفوظ عندَهُ

5

{بَلْ كَذَّبُواْ بالحق} إضرابٌ وانتقالٌ منِ بيانِ شناعتِهم السابقةِ إلى بيانِ ما هُو أشنعُ منْهُ وأفظعُ وهو تكذيبُهم للنبوةِ الثابتةِ بالمعجزاتِ الباهرةِ {لَمَّا جَاءهُمْ} مِنْ غيرِ تأملٍ وتفكرٍ وقُرِىءَ لِمَا جاءهُم بالكسرِ على أنَّ اللامَ للتوقيتِ أيْ وقتَ مجيئهِ إياهُم وقيلَ الحقُّ القرآنُ أو الإخبارُ بالبعثِ {فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ} أيْ مضطربٌ لا قرارا لهُ منْ مَرَجَ الخاتمُ في أصبعِه حيثُ يقولونَ تارةً إنَّه شاعرٌ وتارةً ساحرٌ وأخرَى كاهنٌ

6

{أَفَلَمْ يَنظُرُواْ} أيْ أغفلُوا أو أعمُوا فلمْ ينظرُوا {إِلَى السماء فَوْقَهُمْ} بحيثُ يشاهدونَها كلَّ وقتٍ {كَيْفَ بنيناها} أيْ رفعناهَا بغيرِ عمدٍ {وزيناها} بمَا فيهَا منَ الكواكبِ المرتبةِ على نظامٍ بديعٍ {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} منْ فتوقٍ لملاستِها وسلامتِها من كُلِّ عيبٍ وخللٍ ولعل تأخيرَ هَذا لمراعاةِ الفواصلِ

7

{والأرض مددناها} أي بسطناهَا {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي} جبالاً ثوابتَ مِنْ رسَا الشيءُ إذَا ثبتَ والتعبيرُ عنْهَا بهذَا الوصفِ للإيذانِ بأن إلقاءَها بإرساءِ الأرضِ بهَا {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ} منْ كُلِّ صنفٍ {بَهِيجٍ} حسنٍ

8

{تَبْصِرَةً وذكرى} علتانِ للأفعالِ المذكروة مَعْنى وإنِ انتصبتَا بالفعلِ الأخيرِ أو لفعلٍ مقدرٍ بطريقِ الاستئنافِ أيْ فعلنَا ما فعلنَا تبصيراً وتذكيراً {لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} أيْ راجع إلى ربه متفكر في بدائعِ صنائعِه

} 3 9 وقولُه تعالَى

9

{وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاء مباركا} أيْ كثيرَ المنافعِ شروعٌ في بيانِ كيفيةِ إنبات ما ذكرَ منْ كُلِّ زوجٍ بهيجٍ وهو عطفٌ على أنبتنا وما بينهمَا على الوجهِ الأخيرِ اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَهُ ومنبهٌ على ما بعدَهُ {فَأَنبَتْنَا بِهِ} أيْ بذلكَ الماءِ {جنات} كثيرةً أيْ أشجاراً ذواتِ ثمارٍ {وَحَبَّ الحصيد} أي حبَّ الزرعِ الذي شأنُه أنْ يُحصدَ من البُرِّ والشعيرِ وأمثالِهما وتخصيصُ إنباتِ حبِّه بالذكرِ لأنُه المقصودُ بالذاتِ

10

{والنخل} عطفٌ على جناتٍ وتخصيصُها بالذِّكرِ مع اندراجها في الجناتِ لبيانِ فضلِها على سائرِ الأشجارِ وتوسيطُ الحبِّ بينهما لتأكيدِ استقلالِها وامتيازِها عنِ البقيةِ معَ ما فيها منْ مُراعاةِ الفواصلِ {باسقات} أيْ طوالاً أو حواملَ منْ أبسقتِ الشاةُ إذَا حملتْ فيكونُ منْ بابِ أفعلَ فهو فاعلٌ وقرىءَ باصقاتٍ لأجلِ القافِ {لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} أيْ منضودٌ بعضُه فوقَ بعضٍ والمرادُ تراكُم الطلعِ أو كثرةُ ما فيهِ منَ الثمرِ والجملةُ حالٌ من النخلِ كباسقاتٍ بطريقِ الترادفِ أوْ مِنْ ضميرِهَا في باسقاتٍ عَلى التداخلِ أو الحالُ هو الجارُّ والمجرورُ وطلعٌ مرتفعٌ به على الفاعليةِ وقولُه تعالىَ

11

{رّزْقاً لّلْعِبَادِ} أيْ لنرزقَهُم علةٌ لقولِه تعالَى فأنبتنا وفي تعليلهِ بذلكَ بعدَ تعليلِ أنبتنَا الأولِ بالتبصرةِ والتذكيرِ تنبيهٌ على أنَّ الواجبَ على العبدِ أنْ يكونَ انتفاعُهُ بذلكَ من حيث التذكر والاستبصارأهم وأقدمَ من تمتعِه بهِ منْ حيثُ الرزقُ وقيلَ رزقاً مصدرٌ منْ مَعْنى أنبتنَا لأنَّ الإنباتَ رزقٌ {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} أيْ بذلكَ الماءِ {بَلْدَةً مَّيْتاً} أرضاً جدبةً لا نماءَ فيَها أصلا بأن جلعناها بحيث ربت وأنبتت أنواعَ النباتِ والأزهارِ فصارتْ تهتز بها بعدما كانتْ جامدةً هامدةً وتذكيرُ ميتاً لأنَّ البلدةَ بمعنى البلدِ والمكانِ {كذلك الخروج} جملةٌ قدمَ فيهَا الخبرُ للقصدِ إلى القصرِ وذلكَ إشارو إلى الحياةِ المستفادةِ من الأحياءِ وما فيهِ من معنى البعد للإشعار ببعد رتبتِها أيْ مثلَ تلكَ الحياةِ البديعةِ حياتُكم بالبعثِ منَ القبورِ لا شيءَ مخالفٌ لَها وفي التعبيرِ عنْ إخراجِ النباتِ منَ الأرضِ بالإحياءِ وعنْ حياةِ المَوْتى بالخروجِ تفخيمٌ لشأنِ الإنباتِ وتهوينٌ لأمرِ البعثِ وتحقيقٌ للمماثلةِ بينَ إخراجِ النباتِ وإحياءِ المَوْتى لتوضيحِ منهاجِ القياسِ وتقريبهِ إلى أفهامِ الناسِ وقولُه تعالَى

12

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} إلخ استئنافٌ واردٌ لتقريرِ حقية البعث ببيان كافَّةُ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ عليَها وتعذيبِ مُنكريْها {وأصحاب الرس} قيلَ هُم ممَّن بُعثَ إليهم شعيبٌ عليهِ السلامُ وقيلَ وقيلَ كما مرَّ في سورةِ الفُرقانِ على التفصيلِ {وَثَمُودُ}

13

{وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ} أي هُوَ وقومُه ليلائمَ ما قبلَهُ وما بعدَهُ

} 4 17 {وإخوان لُوطٍ} قيلَ كانُوا من أصهارِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ

14

{وأصحاب الأيكة} هم ممَّن بُعثَ إليهم شعيبٌ عليهِ السلامُ غيرَ أهلِ مدينَ {وَقَوْمُ تُّبَّعٍ} سبق شرحُ حالِهم في سُورةِ الدُّخانِ {كُلٌّ كَذَّبَ الرسل} أي فيمَا أرسلُوا بهِ منَ الشرائعِ التي منْ جُملتها البعثُ الذي أجمعُوا عليه قاطبةً أيْ كُلُّ قومٍ منَ الأقوامِ المذكورينَ كذبوا رسولَهُم أو كذَّبَ جميعُهم جميعَ الرُّسلِ بالمَعْنى المذكورِ وإفرادُ الضميرِ باعتبارِ لفظِ الكُلِّ أوْ كُلُّ واحدٍ منهم كذب جمع الرسلِ لاتفاقهم عَلى الدعوةِ إلى التوحيدِ والإنذارِ بالبعثِ والحشرِ فتكذيبُ واحدٍ منهمْ تكذيبٌ للكلِّ وهَذا على تقدير رسالةِ تبَّعٍ ظاهرٌ وأما على تقديرِ عدمِها وهُو الأظهرُ فمعنى تكذيبِ قومِه الرسلَ تكذيبُهم بمنْ قبلِهم من الرسلِ المجمعينِ على التوحيدِ والبعثِ وإلى ذلكَ كانَ يدعُوهم تُبَّعٌ {فَحَقَّ وَعِيدِ} أي فوجبَ وحَلَّ عليهمْ وعيدِي وهي كلمةُ العذابِ وفيه تسليةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديدٌ لهمْ

15

{أَفَعَيِينَا بالخلق الأول} استئنافٌ مقررٌ لصحةِ البعثِ الذي حكيتْ أحوالُ المنكرينَ لَهُ من الأممِ المهلكةِ والعيُّ بالأمرِ العجزُ عَنْهُ يقالُ عى بالأمر وعى بهِ إذا لم يهتدِ لوجهِ عملِه والهمزةُ للإنكارِ والفاء للعطف على مقدر ينبىءُ عنْهُ العيُّ من القصدِ والمباشرةِ كأنَّه قيلَ أقصدنَا الخلقَ الأولَ فعَجزنا عنْهُ حتَّى يُتوهَم عجزُنَا عنِ الإعادةِ {بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} عطفٌ على مقدرٍ يدلُّ عليه ما قبله كأنَّه قيلَ همْ غيرُ منكرين لقدرتنا على خلق الأولِ بلْ هُمْ في خلطٍ وشبهةٍ في خلقٍ مستأنفٍ لما فيهِ من مخالفةِ العادةِ وتنكيرُ خلقٍ لتفخيمِ شأنِه والإشعارِ بخروجِه عنْ حدودِ العاداتِ والإيذانِ بأنَّه حقيقٌ بأنْ يبحثَ عنْهُ ويُهتمَّ بمعرفتِه

16

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} أيْ ما تحدثُه بهِ نفسه وهو يخطرُ بالبالِ والوسوسةُ الصوتُ الخفيُّ ومنْهُ وسواسُ الحُليِّ والضميرُ لِمَا أنْ جُعلتْ موصولةً والباءِ كما في صوّت بكذا أو للإنسانِ وإن جُعِلَتْ مصدريةً والباءُ للتعديةِ {وَنَحْنُ أقربُ إِلَيْهِ مِنْ حبل الوريد} أعلمُ بحالِه ممنْ كانَ أقربُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريدِ عبرَ عنْ قُربِ العلمِ بقُربِ الذاتِ تجوزاً لأنَّهُ موجبٌ لَهُ وحبلُ الوريدِ مثلٌ في فرطِ القربِ والحبلُ العِرْقُ وإضافتُه بيانيةٌ والوريدانِ عرقانِ مكتنفانِ بصفحتيْ العنقِ في مقدِّمِها متصلان بالورتين يردانِ من الرأسِ إليهِ وقيلَ سميَ وريداً لأنَّ الروحَ تَرِدُهُ

17

{إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان} منصوبٌ بَما فِي أقربُ منْ مَعْنى الفعلِ والمَعْنى أنَّه لطيفٌ يتوصلُ علمُهُ إِلى ما لا شيءَ أخفَى منهُ وهُوَ أقربُ منَ الإنسانِ منْ كُلِّ قريبٍ حينَ يتلقَّى ويتلقنُ الحفيظانِ مَا يتلفظُ بهِ وفيهِ إيذانٌ بأنَّه تعالَى غنيٌّ عن استحفاظها لإحاطةِ علمِهِ بما يخَفْىَ عليهمَا وإنما ذلكَ لما كتبتها وحفظِهمَا لأعمالِ العبدِ وعرضِ صحائفِهما يومَ يقومُ الأشهادُ وعلمِ العبدِ بذلكَ مع علمِه

} 8 19 بإحاطتِه تعالَى بتفاصيلِ أحوالِه خبراً من زيادةِ لطفٍ لهُ في الكفِّ عنِ السيئاتِ والرغبةِ في الحسناتِ وعنه عليه الصلاة والسلام إنَّ مقعدَ ملكيكَ عَلى ثنيتيك ولسانك قلبهما وريقُكَ مدادُهما وأنتَ تجرِي فيَما لا يعنيكَ لاَ تستحيْ منَ الله وَلاَ منْهُمَا وقَدْ جُوِّزَ أنْ يكونَ تلَقي الملكينِ بياناً للقربِ عَلى معَنْى إنَّا أقربُ إليهِ مطلعونَ عَلى أعمالِه لأنَّ حفظتَنا وكتبتنَا موكلونَ بهِ {عَنِ اليمين وعن الشمال قعيد} أي عنِ اليمينِ قعيدٌ وعنِ الشمالِ قعيدٌ أيْ مقاعدُ كالجليسِ بمعَنْى المجالسِ لفظاً ومَعْنى فحُذف الأولُ لدِلالة الثاني عليهِ كَما في قولِ مَن قالَ ... رمَانِي بأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ ووالدِي ... بَريئاً ومِنْ أجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي ... وقيلَ يطلقُ الفعيلِ على الواحد والمتعددكما في قولِه تعالى والملائكة بَعْدَ ذلك ظَهِيرٌ

18

{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ} مَا يرمي بهِ منْ فيه منْ خيرٍ أوْ شر وقرئ ما يُلْفظُ عَلى البناءِ للمفعولِ {إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ} ملَكٌ يرقبُ قولَه ويكتُبه فإنْ كانَ خَيراً فهو صاحبُ اليمينِ بعينِه وَإِلاَّ فهُوَ صاحبُ الشمالِ ووجْهُ تغييرِ العنوانِ غنيٌّ عنِ البيانِ والإفرادُ معَ وقوفِهما معاً عَلَى ما صَدَرَ عنْهُ لمَا أنَّ كلاً منهُمَا رقيبٌ لما فوضَ إليهِ لا لما فوضَ إلى صاحبه كما ينبأ عنْهُ قولُه تعالَى {عَتِيدٌ} أيْ معدٌّ مهيأٌ لكتابةِ ما أُمر بهِ من الخيرِ أو الشرِّ ومنْ لم ينتبه لَه توهمَ أنَّ معناهُ رقيبانِ عتيدانِ وتخصيصُ القولِ بالذكرِ لإثباتِ الحكمِ في الفعل بدلالة النص واختلاف فيمَا يكتبانِه فقيلَ يكتبانِ كل شئ حَتَّى أنينَهُ في مرضِه وقيلَ إنما يكتبانِ ما فيه من أجرٌ أو وزرٌ وهو الأظهر كما ينبئ عنه قوله صلى الله عليه وسلم كاتبُ الحسناتِ عَلى يمينِ الرجلِ وكاتبُ السيئاتِ على يسارِه وكاتبُ الحسناتِ أميرٌ عَلى كاتبِ السيئاتِ فإذا عملَ حسنةً كتبَها ملكُ اليمينِ عشراً وإذا عملَ سيئةً قالَ صاحبُ اليمينِ لصاحبِ الشمالِ دَعْهُ سبعَ ساعاتٍ لعلَّه يسبحُ أو يستغفرُ

19

{وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ} بعدما ذُكرَ استبعادُهُم للبعثِ والجزاءِ وأزيحَ ذلكَ بتحقيقِ قدرتِه تعالَى وعلمِه وبيَّنَ أنَّ جميعَ أعمالِهم محفوظةٌ مكتوبةً عليهمْ أتبعَ ذلك ببيانِ ما يلاقونَهُ لا محالةَ منَ الموتِ والبعثِ وما يتفرَّع عليهِ منَ الأحوالِ وَالأهوالِ وقد عبرَ عنْ وقوعِ كُلَ منَها بصيغةِ الماضى إيذانا بتحقيقها وغايةِ اقترابِها وسكرةُ الموتِ شدتُهُ الذاهبةُ بالعقلِ والباءُ إمَّا للتعديةِ كَما في قولكَ جاءَ الرسولُ بالخبرِ والمعنى أحضره سكرةُ الموتِ حقيقة الأمرِ الذى نطقتْ بهِ كتبُ الله ورسلُه أوْ حقيقةَ الأمرِ وجليةَ الحالِ منْ سعادةِ الميتِ وشقاوتِه وقيلَ الحقُّ الذى لابد أنْ يكونَ لا محالةَ منَ الموتِ أوِ الجزاءِ فإنَّ الإنسانَ خُلِقَ لَهُ وإما للملابسةِ كالتي في قولِه تَعالَى تَنبُتُ بالدهن أيْ ملتبسةً بِالحقِّ أيْ بحقيقةِ الأمرِ أو بالحكمةِ والغاية الجميلة وقرئ سكرةُ الحقِّ بالموتِ وَالمَعْنى أنَّها السكرةُ التي كُتبتْ عَلَى الإنْسَانِ بموجبِ الحِكْمةِ وأنَّها لشدتِها توجبُ زُهُوقَ الروحِ أوْ تستعقبُه وقيلَ الباءُ بمعَنْى مَعَ وقيلَ سكرةُ الحقِّ سكرةُ الله تَعالىَ عَلى أنَّ الإضافةَ للتهويلِ

} 4 20 وقُرِىءَ سَكَراتُ الموتِ {ذلك} أي الموتُ {مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} أيْ تميلُ وتنفِرُ عَنْهُ والخطابُ للإنسانِ فإنَّ النفرةَ عنْهُ شاملةٌ لكُلِّ فردٍ منْ أفرادِهِ طَبْعاً

20

{وَنُفِخَ فِى الصور} هيَ النفخةُ الثانيةُ {ذلك} أيْ وقتُ ذلكَ النفخِ عَلَى حذفِ المضافِ {يَوْمَ الوعيد} أيْ يومُ إنجازِ الوعيدِ الواقعِ في الدُّنيا أيْ يومُ وقوعِ الوعيدِ على أنَّه عبارةٌ عن العذابِ الموعودِ وقيلَ ذلكَ إشارةٌ إِلى الزمانِ المفهومِ منْ نُفِخَ فإنَّ الفعلَ كَما يدلُّ عَلى الحدثِ يدلُّ عَلى الزمانِ وتخصيصُ الوعيد بالذكرِ معَ أنَّه يومُ الوعدِ أيضاً لتهويلِه ولذلكَ بدىءَ ببيانِ حالِ الكفرةِ

21

{وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ} منَ النفوسِ البرةِ والفاجرةِ {مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} وإنِ اختلفتْ كيفيةُ السَّوقِ والشهادةِ حسبَ اختلافِ النفوسِ عملاً أيْ مَعها ملكانِ أحدُهما يسوقُها إلى المحشرِ والآخرُ يشهدُ بعملِها أو ملكٌ جامعٌ بينَ الوصفينِ كأنَّه قيلَ معَها ملكٌ يسوقُها ويشهدُ علَيها وقيلَ السائقُ كاتبُ السيئاتِ والشهيدُ كاتبُ الحسناتِ وقيلَ السائقُ نفسُه أو قرينُه والشهيدُ جوارحُه أوْ أعمالُه ومحلُّ مَعَها النصبُ عَلى الحاليِّةِ منْ كُلُّ لإضافتِه إلى ما هُوَ في حُكمِ المعرفةِ كأنَّه قيلَ كُلُّ النفوسِ أو الجرُّ عَلى أنَّه وصفٌ لنفسٌ أو الرفعُ عَلى أنَّه وصفٌ لكلّ وقولُه تعالَى

22

{لقد كنت فى غفلة مّنْ هذا} محكيٌّ بإضمارِ قولٍ هُو إمّا صفةٌ أُخرى لنفسٍ أو حالٌ أخرَى منْها أو استئنافٌ مبنيُّ على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل فماذا يفعلُ بها فقيلَ يقالُ لقدِ كنتَ في غفلةٍ إلخ وخطابُ الكُلِّ بذلكَ لما أنَّه ما منْ أحدٍ إلا ولَهُ غفلة ما من الآخرةِ وقيلَ الخطابُ للكافرِ وقُرِىءَ كُنْتِ بكسرِ التاءِ على اعتبارِ تأنيثِ النفسِ والتذكيرُ عَلى القراءةِ المشهورةِ بتأويلِ الشخصِ كما في قول جَبَلةَ بنِ حُريث ... يا نفسُ إِنكَ باللذاتِ مسرورا ... فاذكر فهل ينفعك اليومَ تذكيرُ ... {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ} الغطاء الحجابُ المُغطِّي لأمورِ المعادِ وهو الغفلةُ والإنهماكُ في المحسوساتِ والألْفُ بها وقصرُ النظرِ عَلَيها {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} نافذٌ لزوالِ المانعِ للإبصارِ وَقُرِىءَ بكسر الكاف ف المواللضع الثلاثةِ

23

{وَقَالَ قَرِينُهُ} أي الشيطانُ المُقيَّضُ لهُ مشيراً إليهِ {هذا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ} أيْ هَذا مَا عِنْدي وَفي ملكتِي عتيدٌ لجهنَم قدْ هيأتُه لهَا بإغوائِي وإضلالِي وَقيلَ قالَ المَلكُ الموكلُ بهِ مشيراً إِلى مَا معهُ منْ كتابِ عملهِ هذا مكتوبٌ عندِي عتيدٌ مهيأٌ للعرض وما إن جعلت موصوفة فعتيد صفتها وإن جعلت موصولة فهي بدل مِنْهَا أو خبر بعد خبر أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ

24

{أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ} خطابٌ منَ الله تعالَى للسائقِ والشهيدِ أو للملكينِ منْ خَزَنةِ النارِ

} 9 25 أو لواحدٍ عَلى تنزيلِ تثنية الفاعل تثنيةِ الفعلِ وتكريرِه كقولِ مَنْ قالَ ... فإنْ تزجُرانِي يَا ابْنَ عفانَ أنزجِر ... وإنْ تدعانِي أحمِ عرضاً ممنَّعاً ... أوْ عَلى أنَّ الأف بدلٌ منْ نونِ التأكيدِ على إجراءِ الوصل مْجرى الوقفِ ويؤيدُه أنه قُرِىءَ ألقين بالنون الخفية {عَنِيدٍ} معاندُ للحقِّ

25

{مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ} كثيرُ المنعِ للمالِ عنْ حقوقِه المفروضةِ وقيلَ المرادُ بالخيرِ الإسلامُ فإنَّ الآيةَ نزلتْ في الوليدِ بْنِ المغيرةِ لما منعَ بَنِي أخيهِ منهُ {مُعْتَدٍ} ظالمٌ متخطَ للحقِّ {مُرِيبٍ} شاكٌّ في الله وفي دينِه

26

{الذى جَعَلَ مَعَ الله إلها آخر} مبتدأٌ متضمِّنٌ لمْعنى الشرطِ خبرُهُ {فألقياه فِى العذاب الشديد} أو بدلٌ منْ كُلِّ كفار وقولُه تعالَى فألقياه تكريرٌ للتوكيدِ أو مفعولٌ لمضمرٍ يفسرُهُ فألقياهُ

27

{قَالَ قرِينُهُ} أيِ الشيطانُ المقيضُ لَهُ وإنما استؤنفَ استئنافَ الجملِ الواقعةِ في حكايةِ المقاولةِ لما أنه جوابٌ لمحذوفٍ دلَّ عليهِ قولُه تعالَى {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} فإنُه منبىءٌ عن سابقةِ كلامٍ اعتذرَ بهِ الكافرُ كأنَّه قالَ هُو أطغانِي فأجابَ قرينُهُ بتكذيبهِ وإسنادُ الطغيانِ إليهِ بخلافِ الجملةِ الأُولى فإنَّها واجبةُ العطفِ عَلَى ما قبلَها دلالةٌ على أَنَّ الجمعَ بين مفهوميها في الحصولِ أعنِي مجيءَ كُلَّ نفسٍ معَ الملكينِ وقولَ قرينهِ {وَلَكِن كَانَ} هُو بالذاتِ {فِى ضلال بَعِيدٍ} من الحقِّ فأعنتُه عليهِ بالإغواءِ والدعوةِ إليهِ من غير فسر وإلجاءٍ كما فِي قولِه تعالَى وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى

28

{قال} استئناف مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الله تعالَى فقيلَ قالَ {لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ} أيْ في موقفِ الحسابِ والجزاءِ إذْ لا فائدةَ في ذلكَ {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد} عَلى الطغيانِ في دارِ الكسبِ في كُتبي وعَلى ألسنةِ رسلِي فلا تطعموا في الخلاصِ عَنْهُ بما أنتُم فيهِ من التعللِ بالمعاذيرِ الباطلةِ والجملةُ حالٌ فيَها تعليلٌ للنَّهِي عَلى مَعْنى لا تختصمُوا وقَدْ صحَّ عندكُم أنِّي قدمتُ إليكمْ بالوعيدِ حيثُ قلتُ لإبليس لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجميعن فاتبعوه معرضينَ عن الحقِّ فلاَ وجْهَ للاختصامِ في هَذا الوقتِ والباءُ مزيدةٌ أوْ معدية عَلى أنَّ قدَّمَ بمَعْنى تقدَّمَ وقَدْ جوِّز أنْ يكونَ قدمتُ واقعاً عَلى قولِه تعالَى

29

{مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ} الخ ويكون الوعيد متعلقاً بمحذوفٍ هو حالٌ منَ المفعولِ أوِ الفاعلِ أيْ وقَدْ قدمتُ إليكمْ هَذا القولَ ملتبساً بالوعيدِ مقترناً بهِ أو قدمتُه إليكُم مُوعداً لكُم بهِ فَلا تطمعُوا أنْ أبدلَ وعيدِي والعفوُ عنْ بعضِ المذنبينَ لأسبابٍ داعيةٍ إليهِ ليسَ بتبديلٍ فإنَّ دلائل العفوِ تدلُّ عَلى تخصيصِ الوعيدِ وقولُه تعالَى {وَمَا أَنَاْ بظلام للعبيد} وارد لتحقيقِ الحقِّ عَلى الوجهِ

} 2 30 الكلى وتبين أنَّ عدمَ تبديلِ القولِ وتحقيقَ موجبِ الوعيدِ ليسَ منْ جهتِه تعالَى منْ غيرِ استحقاقٍ لهُ منهُمْ بَلْ إنما ذلكَ بما صدرَ عنْهم منَ الجناياتِ الموجبةِ لهُ حسبمَا أشيرَ إليهِ آنِفاً أيُ وَمَا أنَا بمعذبٍ للعبيدِ بغيرِ ذنب ليس يبظلم على ما تقرر من قاعدةِ أهلِ السُنَّةِ فضلاً عن كونِه ظلماً مُفرطاً لبيانِ كمالِ نزاهتِه تعالَى عنْ ذلكَ بتصويرِه بصورةِ ما يستحيلُ صدورُه عنْهُ سبحانَهُ منَ الظلمِ وصيغةُ المبالغةِ لتأكيدِ هَذا المَعْنى بإبرازِ ما ذُكر من التعذيبِ بغيرِ ذنبٍ في معرضِ المبالغةِ في الظلمِ وقيل هي لرعاية جميعه العبيدِ من قولِهم فلانٌ ظالمٌ لعبدهِ وظلاَّم لعبيدِه على اها مبالغة كما لا كيف

30

{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلات وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} سؤالٌ وجوابٌ جيءَ بهمَا عَلى منهاجِ التمثيلِ والتخييل لتهويل أمرها ولمعنى أنَّها معَ اتِّساعِها وتباعدِ أقطارِها تطرحُ فيَها منَ الجِنَّةِ والنَّاسِ فوجاً بعدَ فوجٍ حَتَّى تمتلىء أو أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها بعد محل فارغ أو انها لغيظها عى العصاة تطلب زيادتَهُم وقُرِىءَ يقولُ بالياءِ والمزيدُ إمَّا مصدرٌ كالمحيدِ والمجيدِ أو مفعولٌ كالمبيعِ ويوم ما منصوبٌ باذكُرْ أوْ أنذِرْ أو ظرف لنفخ فتكون ذلكَ حينئذٍ إشارةٌ إليهِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى تقرير مضافٍ أو لمقدرٍ مؤخرٍ اى يكون من الأحو والأهوالِ ما يقصرُ عنْهُ المقالُ

31

{وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ} شروعٌ في بيانِ حالِ المؤمنينَ بعدَ النفخِ ومجيءِ النفوسِ إِلى موقفِ الحسابِ وقدْ مر سر تقديم حالِ الكفرةِ عليهِ وهو عطفٌ عَلى نُفِخَ أيْ قربتْ للمتقينَ عنِ الكفرِ والماعصى بحيثُ يُشاهدونها من الموقفِ ويقفُون عَلى ما فَيها من فنُون المحاسنِ فيبتهجُون بأنَّهم محشورونَ إليَها فائزونَ بَها وقولُه تعالَى {غَيْرَ بَعِيدٍ} تأكيدٌ للإزلافِ أيْ مكاناً غيرَ بعيدٍ بحيثُ يشاهدُونَها أوْ حالُ كونِها غيرَ بعيدٍ أيْ شيئاً غيرَ بعيدٍ ويجوزُ أنْ يكونَ التَّذكيرُ لكونِه على زنةِ المصدرِ الذي يستوِي في الوصفِ بهِ المذكرُ والمؤنثُ أوْ لتأويلِ الجنةِ بالبستانِ

32

{هذا مَا تُوعَدُونَ} إشارةٌ إِلى الجَنَّةِ والتذكيرُ لَمَا أنَّ المشارَ إليهِ هُوَ المسمَّى منْ غيرِ أنْ يخطُر بالبالِ لفظٌ يدلُّ عليه فضلا عن تذكيرِه وتأنيثِه فإنَّهما منْ أحكامِ اللفظِ العربيِّ كَما مرَّ في قوله تعالى فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةًً قَالَ هذا رَبّى وقولُه تعالَى وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ لتذكيرِ الخبرِ وقيلَ هُو إشارةٌ إلى ثواب وقيلَ إلى مصدرِ أزلفتْ وقُرِىءَ يُوعَدُونَ والجملةُ إمَّا اعتراضٌ بينَ البدلِ والمبدلِ مِنْهُ وإمَّا مقدرٌ بقولٍ هُوَ حالٌ منَ المتقينَ أو منَ الجنَّةِ والعاملُ أزلفتْ أيْ مقولاً لهُمْ أو مقولاً في حَقِّها هَذا ما توعدونَ {لِكُلّ أَوَّابٌ} أيْ رجَّاع إلى الله تعالَى بدلٌ منْ المتقينَ بإعادةِ الجارِّ {حَفِيظٌ} حافظ لتوبته من النقص وقيلَ هُوَ الذَّي يحفظُ ذنوبَهُ حتَّى يرجعَ عنْهَا ويستغفرَ مِنْها وقيلَ هُو الحافظُ لأوامرِ الله تعالَى وقيلَ لِمَا استودَعَهُ الله تعالَى مِنْ حقوقِها

} 6 3 {

33

{مَّنْ خَشِىَ الرحمن بالغيب وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ} بدلٌ بعدَ بدلٍ أو بدلٌ منْ موصوفِ أوابٍ ولا يجوزُ أنْ يكونَ فِي حُكْمِهِ لأنَّ مَنْ لا يوصفُ بهِ ولا يوصفُ إلاَّ بالَّذي أو مبتدأٌ خبرُهُ

34

{ادخلوها} بتأويلِ يقالُ لَهُمْ ادخلوها والجمع باعبتار معنى من قوله تعالى بالغيبِ متعلقٌ بمحذوفٍ هو حال من فاعل خشيَ أو مفعولِه أو صفةٌ لمصدرِه أي خشيةً ملتبسةً بالغيبِ حيثُ خشِيَ عقابة وهو غائبٌ عنِ الأعينِ لا يراهُ أحدٌ والتعرضُ لعنوانِ الرحمانيةِ للإشارةِ بأنَّهمْ معَ خشيتِهم عقابَهُ راجونَ رحمتَهُ أوْ بأنَّ علمَهُم بسعةِ رحمته تعالى لايصدهم عنْ خشيتِه تعالَى وأنَّهم عاملونَ بموجبِ قولُه تعالَى نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الأليم ووصفُ القلبِ بالإنابة لما أن العبرة برجوعه إلى الله تعالى {بِسَلامٍ} متعلق بمحذوف هو حال من فاعل ادخلوهَا أيْ ملتبسينَ بسلامةٍ منَ العذابِ وزوالِ النعمِ أو بسلامٍ من جهةِ الله تعالَى وملائكتِه {ذلك} إشارةٌ إلى الزمانِ الممتدِّ الذي وقعَ فِي بعضٍ منْهُ ما ذُكِرَ منَ الأمورِ {يَوْمُ الخلود} إذْ لا انتهاءَ لهُ أبداً

35

{لهم ما يشاؤون} منْ فنونِ المَطَالبِ كائناً ما كانَ {فِيهَا} متعلقٌ بيشاؤن وقيلَ بمحذوفٍ هُوَ حالٌ منَ الموصولِ أو مِنْ عائدِه المحذوفِ منْ صلتِه {ولدينا مزيد} هو مالا يخطُرُ ببالِهم ولا يندرجُ تحتَ مشيئتِهم مِنْ معالِي الكراماتِ التي لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطر على قلب بشر وقيل إن السحاب تمرُّ بأهلِ الجنةِ فتمطرُهم الحُورَ فتقولُ نحنُ المزيدُ الذي قالَ تعالَى ولدينَا مزيدٌ

36

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} أي قبلَ قومِك {مّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً} أي قوةً كعادٍ وَأَضْرابِها {فَنَقَّبُواْ فِى البلاد} أيْ خرقُوا فيَها ودوخُوا وتصرفُوا في أقطارِها أو جالُوا في أكنافِ الأرضِ كُلَّ مجالٍ حذارَ الموتِ وأصلُ التنقيبِ والنقبِ التنقيرُ عنِ الأمرِ والبحثُ والطلبُ والفاءُ للدِلالة على أنَّ شدةَ بطشِهم أقدرتْهُمْ عَلى التنقيبِ قيلَ هيَ عاطفةٌ في المَعَنى كأنَّه قيلَ اشتدَّ بطشُهم فنقبُوا الخ وَقُرِىءَ بالتخفيفِ {هَلْ مِن مَّحِيصٍ} أيْ هَلْ لهُمْ منْ مُخَلِّصٍ مَنْ أمرِ الله تعالَى والجملةُ إمَّا عَلى إضمارِ قولٍ هُو حالٌ منْ واوِ نقَّبُوا أيْ فنقَّبُوا فِي البلادِ قائلينَ هَلْ منْ محيصٍ أوْ عَلى إجراءِ التنقيبِ لِما فيهِ منْ مَعْنى التتبعِ والتفتيشِ مُجَرى القولِ أوْ هُوَ كلامٌ مستأنفٌ واردٌ لنفي أنْ يكونَ لَهُم محيصٌ وقيلَ ضميرُ نقَّبُوا لإهلِ مكةَ أيْ سارُوا في مسايرِهم وأسفارِهم في بلادِ القرونِ فَهلْ رَأَوا لهُمْ محيصاً حَتَّى يُؤمِّلُوا مثَلُه لأنفسِهم ويعضدُهُ القراءةُ عَلى صيغةِ الأمِرَ وقُرِىءَ فنقِّبُوا بكسرِ القافِ من النقَبِ وهُوَ أنْ ينتقبَ خفُّ البعيرِ أيْ أَكْثروا السيرَ حَتَّى نقِبتْ أقدامُهم أو أخفافُ إبلِهم

} 7 4 {

37

{إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي فيمَا ذُكر من قصَّتهم وقيلَ فيَما ذكرَ في السورةِ {لِذِكْرِى} لتذكرةً وعِظةً {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أيْ قلبٌ سليمٌ يدركُ به كُنْهَ ما يشاهدُه منِ الأمورِ ويتفكرُ فيَها كما ينبغِي فإنَّ مَنْ كانَ له ذلكَ يعلمُ أنَّ مدارَ دمارِهم هُو الكفرُ فيرتدعُ عَنْهُ بمجردِ مشاهدةِ الآثارِ من غيرِ تذكيرٍ {أَوْ أَلْقَى السمع} أيْ إلى مَا يُتلى عليهِ منَ الوحيِ النَّاطقِ بما جرَى عليهمْ فإنَّ منْ فعلَهُ يقفْ عَلى جلية الأمر فيزجر عَمَّا يؤدَّي إليهِ منَ الكفرِ فكلمةُ أَوْ لمنعِ الخلوِّ دونَ الجمعِ فإنَّ إلقاءَ السمعِ لا يُجدِي بدونِ سلامةِ القلبِ كَما يلوحُ بهِ قولُه تعالَى {وَهُوَ شَهِيدٌ} أيْ حاضرٌ بفطنتهِ لأنَّ منْ لاَ يَحْضُرُ ذهنُهُ فكأنَّه غائبٌ وتجريدُ القلبِ عما ذكرَ من الصفاتِ للإيذانِ بأنَّ منْ عُرِّيَ قلبُه عَنْهَا كمَنْ لاَ قلبَ لَهُ أصلا

38

{ولقد خلقنا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} منْ أصنافِ المخلوقاتِ {فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا} بذلكَ معَ كونِه ممَّا لا يَفِي بهِ القُوَى وَالقُدَرُ {مِن لُّغُوبٍ} مِنْ إعياءٍ مَا ولاَ تعبٍ في الجملةِ وهَذَا ردٌّ علَى جَهَلةِ اليهودِ في زعمِهم أنه تعالى بدأخلق العالمِ يومَ الأحدِ وفرَغَ منْهُ يومَ الجمعةِ واستراحَ يومَ السبتِ واستلقَى على العرشِ سبحانَهُ وتعالَى عمَّا يقولونَ عُلوَّا كبيراً

39

{فاصبر على مَا يَقُولُونَ} أيْ ما يقولُه المشركونَ في شأنِ البعثِ منَ الأباطيلِ المبنيةِ عَلى الإنكارِ والاستبعادِ فإنَّ مَنْ فعلَ هذهِ الأفاعيلَ بلا فتورٍ قادرٌ عَلى بعثِهم والانتقامِ منهُمْ أوْ ما يقولُه اليهودَ منْ مقالاتِ الكفرِ والتشبيهِ {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} أيْ نَزِّهَهُ تعالَى عنِ العجزِ عَمَّا يمكُن وَعَنْ وقوعِ الخُلفِ في أخبارِه التي مِن جُملتِها الإخبارُ بوقوعِ البعثِ وعنْ وصفهِ تعالَى بما يوجبُ التشبيَه حَامداً له تعالَى عَلى ما أنعمَ به عليكَ من إصابةِ الحقِّ وغيرِهَا {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب} هُمَا وقتُ الفجرِ والعصرِ وفضيلتُهما مشهورةٌ

40

{ومن الليل فَسَبّحْهُ} وسَبِّحْهُ بعضَ الليلِ {وأدبار السجود} وأعقابّ الصلواتِ جمع دبر وقرئ بالكسرِ مِنْ أدبرتِ الصلاةُ إذَا انقضتْ وتمتْ ومعناهُ وقتُ انقضاءِ السجودِ وقيلَ المرادُ بالتسبيحِ الصلواتُ فالمَرادُ بما قبلَ الطلوعِ صلاةُ الفجرِ وبما قبلَ الغروبِ الظهرُ والعصرُ وبمَا مِنَ الليلِ العشاءانِ والتهجدُ ومَا يصلَّى بأدبار السجودِ النوافلُ بعدَ المكتوباتِ

41

{واستمع} أيْ لما يُوحَى إليكَ من أحوالِ القيامةِ وفيهِ تهويلٌ وتفظيعٌ للمخَبرِ به {يوم يناد المناد} أيْ إسرافيلُ أوْ جبريلُ عليهَما السلامُ فيقولُ أيتَها العظامُ الباليةُ واللحومُ المتمزقةُ والشعورُ المتفرقةُ إنَّ الله يأمركُنَّ أنْ تجتمعنَ لفصلِ القضاءِ وقيلَ إسرافيلُ ينفخُ وجبريل ينادى بالحشر {مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} بحيث يصلُ

42 45 نداؤُه إِلى الكُلِّ عَلى سواءٍ وقيلَ من صخرةِ بيتِ المقدسِ وقيلَ من تحتِ أقدامِهم وقيلَ من منابتِ شعورِهم يُسمَعُ منْ كُلِّ شعرةٍ ولعلَّ ذلكَ في الإعادةِ مثلُ كُنْ في البدءِ

42

{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة} بدلٌ منْ يومَ يُنادِي الخ وهي النفخةُ الثانيةُ {بالحق} متعلقٌ بالصيحةِ والعاملُ في الظرفِ ما يدلُّ عليهِ قولُه تعالَى {ذَلِكَ يَوْمُ الخروج} أيْ يوم يسمعونَ الصيحةَ ملتبسةً بالحقِّ الذَّي هو البعث يحرجون منَ القبورِ

43

{إنا نحن نحيي وَنُمِيتُ} في الدُّنيا منْ غيرِ أنْ يشاركَنَا في ذلكَ أحدٌ {وَإِلَيْنَا المصير} للجزاءِ في الآخرةِ لا إلى غيرنا لا استقلا ولا اشتراكاً

44

{يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ} بحذف إحدى التاءين من تتشقق وقرئ بتشديدِ الشينِ وتُشقَّقُ عَلى البناءِ للمفعولِ من التفعيلِ وَتنشقُ {سِرَاعاً} مسرعينَ {ذَلِكَ حَشْرٌ} بعث وجمعٌ وسوقٌ {عَلَيْنَا يَسِيرٌ} أيْ هينٌ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لتخصيصِ اليُسْرِ بهِ تعالَى

45

{نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} مِنْ نفْي البعثِ وتكذيبِ الآياتِ الناطقةِ بهِ وغيرِ ذلكَ مما لا خيرَ فيهِ {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} بمتسلطٍ تقسرهُم علَى الإيمانِ أو تفعلُ بهمُ ما تريدُ وإنما أنتَ مذكر {فذكر بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} وأما مَنْ عداهُم فنحنُ نفعلُ بهم ما توحيه أقوالُهم وتستدعيهِ أعمالُهم من ألوانِ العقابِ وفنونِ العذابِ عن النبي عليه الصلاةَ والسلام من قرأ سورة ق هَوَّنَ الله عليهِ ثأرات الموت وسكراته

} 6 {بسم الله الرحمن الرحيم}

الذاريات

{والذاريات ذروا} أى الرياح االتى تذرو التراب وغيرها وقرئ بإدغام التاءِ في الذال

2

{فالحاملات وِقْراً} أيِ السحبِ الحاملةِ للمطرِ أو الرياحِ الحاملة للسحاب وقرئ وَقْرا عَلى تسميةِ المحمولِ بالمصدرِ

3

{فالجاريات يُسْراً} أيِ السفنُ الجاريةُ فِى البحرِ أو الرياحِ الجاريةِ في مهابِّها أوِ السحبِ الجاريةِ في الجوِّ بسوقِ الرياحِ أوِ الكواكبِ الجاريةِ فِي مجارِيها ومنازِلِها ويُسْراً صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أيْ جرياً ذَا يُسْرٍ

4

{فالمقسمات أَمْراً} أي الملائكةِ الَّتيِ تقسّمُ الأمورَ منَ الأمطارِ والأرزاقِ وغيرِها أو السحبِ التَّي يقسمُ الله تعالَى بَها أرزاقَ العبادِ وقد جُوِّز أن يراد بالكُلِّ الرياحُ تنزيلاً لاختلافِ العنوانِ منزلةِ اختلافِ الذاتِ فإنها كما تذر وما تذرُوه تثيرُ السحابَ وتحملُه وتجْري في الجوِّ جرياً سهلاً وتقسمُ الأمطارَ بتصريفِ السحابِ في الأقطارِ فإنْ حُملت الأمورُ المقسمُ بها على ذواتٍ مختلفةٍ فالفاءُ لترتيبِ الإقسامِ باعتبارِ ما بينها من التفاوت في الدِلالة على كمال القدرةِ وإلاَّ فهيَ لترتيبِ ما صدرَ عن الريحِ مِنَ الأفاعيل فإنها تذر الأبخرةَ إلى الجوِّ حتَّى تنعقدَ سحاباً فتجريَ بهِ باسطةً لهُ إلى ما أمرتْ بهِ فتقسمُ المطرَ وقوله تعالى

5

{إنما تُوعَدُونَ لصادق} {وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ} جوابٌ للقسمِ وفي تحصيص الأمورِ المذكورةِ بالإقسامِ بَها رمزٌ إلى شهادتِها بتحققِ مضمون الجملة المقسم عليها منْ حيثُ إنَّها أمورٌ بديعةٌ مخالفةٌ لمقتضَى الطبيعةِ فمَنْ قدرَ عَلَيها فهُو قادرٌ عَلى البعثِ الموعودِ وما موصولةٌ أو مصدريةٌ ووصفُ الوعدِ بالصدقِ كوصفِ العيشةِ بالرِّضَا وَالدِّينُ الجزاءُ ووقوعُه حصولُه

7 1 {

7

{والسماء ذَاتِ الحبك} قال ابنُ عبَّاسٍ وقتادةُ وعكرمةُ ذاتُ الخَلْقِ المُستوِي وقالَ سعيدُ بنُ جُبَيرٍ ذاتُ الزينةِ وقالَ مجاهدٌ هيَ المتقنةُ البنيانِ وقالَ مقاتلٌ والكلبيُّ والضَّحاكُ ذاتُ الطرائقِ والمرادُ إمَّا الطرائقُ المحسوسةُ التَّي هيَ مسيرُ الكواكبِ أوِ المعقولةُ التَّي يسلُكُها النظارُ أوِ النجومُ فإنَّ لهَا طرائقَ وعنِ الحسنِ حَبْكُها نُجُومُها حيثُ تزينُها كما تزينُ المُوشَّى طرائقُ الوَشْي وهيَ إمَّا جمعُ حِبَاكٍ أو حَبِيكةٍ كَمِثَالٍ ومثل وطريقة وطرق وقرئ الحبك بوزنِ السِّلْكِ والحَبَكِ كالجَبَلِ والحَبْكِ كالبَرقِ والحِبَكِ كالنِّعَمِ والحِبِكِ كالإِبِلِ

8

{إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ} أيْ متخالفٍ متناقضِ وهُوَ قولُهم في حقِّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تارةً شاعرٌ وأخْرى ساحرٌ وأخرى مجنونٌ وفي شأنِ القرآنِ الكريمِ تارةً شعرٌ وأُخْرى سحرٌ وأُخْرى أساطيرُ وفي هَذا الجواب تأييد ليكون الحبكِ عبارةً عنْ الاستواءِ كما يلوح به ما نُقلَ عنِ الضَّحاكِ منْ أنَّ قولَ الكفرةِ لا يكونُ مستوياً إنَّما هُو متناقضٌ مختلفٌ وقيلَ النكتةُ في هذا القسمِ تشبيهُ أقوالِهم في اختلافِها وتنافِي أغراضِها بطرائقِ السمواتِ في تباعدِها واختلافِ غاياتِها وليسَ بذاكَ

9

{يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أيْ يُصرفُ عنِ القرآنِ أو الرسول عليه الصلاة والسلام من صرف إذلا صرفَ أفظعُ منْهُ وأشدُّ وقيلَ يَصرفُ عَنْهُ منْ صُرفَ في علمِ الله تعالَى وقضائِه ويجوزُ أنْ يكونَ الضميرُ للقولِ المختلفِ عَلى مَعْنى يصدرُ إفكُ منْ أفكَ عنْ ذلكَ القولِ وقُرِىءَ مَنْ أفكَ عن ذلك القول وقرئ مَنْ أفكَ أيْ مَنْ أفكَ الناسَ وهُم قريشٌ حيثُ كانُوا يصدونَ الناسَ عنِ الإيمانِ

10

{قُتِلَ الخراصون} دعاءٌ عليهمْ كقولِه تعالَى قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ وأصلُه الدعاءُ بالقتلِ والهلاكِ ثمَّ جَرى مجرى لعن والخرَّاصُونَ الكذَّابُونَ المقدرونَ ما لا صِحةَ لهُ وهُم أصحابُ القولِ المختلفِ كأنَّه قيلَ قُتِلَ هؤلاءِ الخرَّاصُونَ وقرئ قَتَل الخَرَّاصينَ أيْ قتلَ الله

11

{الذين هُمْ فِى غَمْرَةٍ} منَ الجهلِ والضَّلالِ {ساهون} غافلونَ عَمِّا أُمروا بهِ

12

{يسألون أَيَّانَ يَوْمُ الدين} أيْ مَتَى وقوعُ يومِ الجزاءِ لكنْ لا بطريقِ الاستعلامِ حقيقةً بلْ بطريقِ الاستعجالِ استهزاء وقرئ إِيَّانَ بكسرِ الهمزةِ

13

{يوم هم على النار يُفْتَنُونَ} جوابٌ للسؤالِ أيْ يقعُ يوم هُم عَلى النارِ يحرقونَ

} 4 20 ويعذبونَ ويجوزُ أنْ يكونَ يومَ خبراً لمبتدإٍ محذوفٍ أيْ هُوَ يومَ هم الخ والفتح لأضافة إلى غيرِ متمكنٍ ويؤيدُه أنَّه قُرِىءَ بالرفعِ

14

{ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} أيْ مقولاً لهمُ هَذا القولُ وَقولُه تعالَى {هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ داخلةٌ تحتَ القولِ المضمرِ أيْ هذَا ما كنتُم تستعجلونَ بهِ بطريقِ الاستهزاءِ ويجوزُ أنْ يكونَ هَذا بدلاً منْ فتنتِكم بتأويل العذابِ والذي صفتُه

15

{إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ} لا يُبلُغ كُنهُها ولا يقادر قدرها

16

{آخذين ما آتاهم رَبُّهُمْ} أي قابلينَ لما أعطاهُم راضينَ بهِ عَلَى مَعْنى أنَّ كُلَّ ما آتاهُم حسنٌ مَرضيٌّ يُتلقى بحسنِ القبولِ {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ} في الدُّنيا {مُحْسِنِينَ} أيْ لأعمالِهم الصالحةِ آتينَ بَها عَلى ما ينبغي فلذلكَ نالُوا ما نالُوا منَ الفوزِ العظيمِ ومَعْنى الإحسانِ بالإجمالِ ما أشارَ إليهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّه يراكَ وقَدْ فُسِّر بقولِه تعالَى

17

{كانُوا قليلاً منَ الليلِ مَا يَهْجَعُونَ} أيْ كانُوا يهجعونَ في طائفةٍ قليلةٍ منَ الليلِ على أنَّ قليلاً ظرفٌ أوْ كانُوا يهجعونَ هجوعاً قليلاً على أنَّه صفةٌ للمصدرِ ومَا مزيدةٌ في الوجهين ويجوز أن تكون مصدرية أو موصولة مرتفعة بقليلاً على الفاعلية أيْ كانُوا قليلاً منَ الليلِ هجوعُهم أوْ ما يهعجون فيه وفيه للمبالغات في تقليل نومهم واسرتاحتهم ذكرُ القليلِ والليلِ الذي هُوَ وقتَ الراحةِ والهجوعِ الذي هُو الغرارُ منَ النومِ وزيادةُ مَا ولا مساغَ لجعلِ ما نافيةً عَلى مَعْنى أنَّهم لا يهجعونَ منَ الليلِ قليلاً بل يُحْيونَهُ كُلَّه لَما أنَّ مَا النافيةَ لا يعمل ما بعدها فيما قَبْلَها

18

{وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أيْ هُم مع قلةِ هجوعِهم وكثرةِ تهجدِهمْ يداومونَ على الاستغفارِ في الأسحارِ كأنَّهم أسلفُوا ليلَهُم باقترافِ الجرائمِ وفي بناءِ الفعلِ على الضميرِ إشعارٌ بأنَّهُم الأحقاءُ بأنْ يوصفُوا بالاستغفارِ كأنَّهم المختصونَ بهِ لاستدامتِهم لهُ وإظنابهم فيهِ

19

{وَفِى أموالهم حَقٌّ} أيْ نصيبٌ وافرٌ يستوجبونَهُ على أنفسهم تقرُّباً إلى الله تعالى وإشفاقا على الناس {لَّلسَّائِلِ والمحروم} للمستجدِي والمتعففِ الذَّي يحسبُهُ النَّاسُ غنياً فحيرم الصادقة

20

{وفي الأرض آيات لّلْمُوقِنِينَ} أيْ دلائلُ واضحةٌ على شؤنه تعالى على التفاصيل منْ حيثُ إنَّها مدحوةٌ

} 5 2 { كالبساطِ الممهدِ وفَيها مسالكُ وفجاجٌ للمتقلبينَ في أقطارِها والسالكينِ في مناكِبها وفَيها سهل وجبل وبر وبحر وقطعٌ متجاوراتٌ وعيونٌ متفجرةٌ ومعادنُ مفتنةٌ وأنها تلقحُ بألوانِ النباتِ وأنواعِ الأشجارِ وأصنافِ الثمارِ المختلفةِ الألوانِ والطعومِ والروائحِ وفَيها دوابُّ مُنبثةٌ قد رتبَ كلُّها ودبر لمنافع ساكنها ومصالحِهم فِي صحتِهم واعتلالِهم

21

{وَفِى أَنفُسِكُمْ} أي وفي أنفسكم آياتٌ إذ ليسَ في العالمِ شيءٌ إلاَّ وفِى الأنفسِ له نظيرٌ يدلُّ دَلالَتُه على ما انفرد بهِ من الهيئاتِ النَّافعةِ والمناظرِ البهيةِ والتركيباتِ العجيبةِ والتمكنِ من الأفعالِ البديعةِ واستنباطِ الصنائعِ المختلفةِ واستجماعِ الكمالاتِ المتنوعةِ {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} أي ألا تنظُرون فلا تبصرونَ بعينِ البصيرةِ

22

{وَفِى السماء رِزْقُكُمْ} أيْ أسبابُ رزقُكِم أو تقديرُه وقيل المراد بالسماء السحاب وبالرزقِ المطرُ فإنَّه سببُ الأقواتِ {وَمَا تُوعَدُونَ} منَ الثوابِ لأَنَّ الجنةَ في االسماء السابعةِ أو لأنَّ الأعمالَ وثوابَها مكتوبةٌ مقدرةٌ في السماءِ وقيلَ إنَّهُ مبتدأ خبرُه قولُه تعالَى

23

{فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ} عَلى أنَّ الضميرَ لَما وأمَّا عَلى الأولِ فأماله وإمّا لَما ذكرَ منْ أمر الآياتِ والرزقِ عَلى أنَّه مستعارٌ لاسمِ الإشارةِ {مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} أيْ كَما أنَّه لا شكَّ لكُم فِي أنكُم تنطقونَ ينبغِي أنْ لا تشكُّوا في حقِّيتهِ ونصبُه عَلى الحاليةِ من المستكنِ في لحقٌّ أو عَلَى أنَّه وصفٌ لمصدر محذوفٍ أيْ إنَّه لحقٌّ حقاً مثلَ نطقكِم وقيلَ إنَّه مبني على الفتح لإضافته إلى غيرِ متمكنٍ وهُوَ مَا إنْ كانتْ عبارةً عنْ شيءٍ وأن بما في حيزها إن جُعلت زائدة ومحلُّه الرفعُ على أنَّه صفةٌ لحقٌّ ويؤيده القراءة بأتاك

24

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم} تفخيمٌ لشأنِ الحديثِ وتنبيهٌ على أنَّه ليسَ ممَّا علِمهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بغيرِ طريقِ الوحي والضيفُ في الأصلِ مصدرُ ضافهُ ولذلكَ يُطلق عَلى الواحدِ والجماعةِ كالزَّورِ والصَّوْم وكانُوا اثني عشرَ ملَكاً وقيلَ تسعةً عاشرُهم جبريلُ وقيلَ ثلاثة جبريل وميكائيل وملكٌ آخرُ معهمَا عليهمْ السَّلامُ وتسميتُهم ضيفاً لأنَّهم كانُوا في صورةِ الضَّيفِ حيثُ أضافَهُم إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ أو لأنهمُ كانوا في حسبانه كذلكَ {المكرمين} أي المكرمينَ عندَ الله تعالَى أو عندَ إبراهيمَ حيثُ خدمَهُم بنفسه وبزوجته

25

{إذ دخلوا عليه} طرف للحديثِ أو لما في الضيفِ منْ مَعْنى الفعلِ أو المكرمينَ إنْ فسَّر بإكرامِ إبراهيمَ {فَقَالُواْ سَلامًا} أي نسلم عليكَ سلاماً {قَالَ} أيْ إبراهيمُ {سلام} أيْ عليكُم سلامٌ عُدِلَ بهِ إلى الرفعِ بالابتداءِ للقصدِ إلى الثباتِ والدوامِ حتى تكون تحتيه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ

} 1 26 أحسنَ منْ تحيتهم وقُرئَا مرفوعينَ وقرىءَ سِلْمٌ وقرىء منصوباً والمعنى واحدٌ {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} أنكرهُمْ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ للسلامِ الذَّي هو عَلمٌ للإسلامِ أو لأنَّهم ليسُوا ممنْ عهدَهُم منَ النَّاسِ أو لأنَّ أوضاعَهُم وأشكالَهمُ خلافُ ما عليه النَّاسُ ولعلَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّما قالَهُ في نفسِه من غير أن يشعرَهُم بذلكَ لا أنَّه خاطبُهم بهِ جَهْراً أو سألُهم أنْ يعرِّفوُه أنفسَهُم كَما قيلَ وإلاَّ لكشفُوا أحوالَهُم عندَ ذلكَ وَلَمْ يتصدَّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لمقدماتِ الضيافةِ

26

{فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ} أيْ ذهبَ إليهمْ عَلى خُفيةٍ منْ ضيفِه فإنَّ منْ أدبِ المضيفِ أنْ يبادَرهُ بالقِرى ويبادرَ بهِ حذاراً مِنْ أن يكفَهُ ويعذَرهُ أو يصيرَ مُنتْظراً والفاءُ في قولِه تعالَى {فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ} فصيحةٌ مفصحةٌ عن جُمَلٍ قد حُذفتْ ثقة بدلالهِ الحالِ عليها وإيذاناً بكمالِ سرعةِ المجىءِ بالطعامِ كما في قولِه تعالى فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق أيْ فذبحَ عجلاً فحنذَهُ فجاءَ بهِ

27

{فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} بأنْ وضعَهُ لديهم حسَبما هُو المعتادُ {فقال أَلاَ تَأْكُلُونَ} إِنْكاراً لعدمِ تعرضِهم للأكلِ

28

{فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ} أضمرَ في نفسِه {خِيفَةً} لتوهمِ أنَّهم جاؤا للشرِّ وقيلَ وقعَ في قلبه أنهم ملائكة جاؤال للعذابِ {قَالُواْ لاَ تَخَفْ} قيلَ مسحَ جبريلُ عليهِ السلامُ العجلَ بجناحِه فقامَ يندرج حتَّى لحقَ بأُمِّهِ فعرفَهُم وأمِنَ منهُم {وَبَشَّرُوهُ} وفي سورةِ الصافاتِ وبشرناهُ أيْ بواسطتِهم {بغلام} هو إسحاقُ عليه السلام {عليم} عنه بلوغِه واستوائِه

29

{فَأَقْبَلَتِ امرأته} سارةُ لمَّا سمعتْ بشارتَهمُ إلي بيتِها وكانتْ في زاويةٍ تنظرُ إليهمْ {فِى صَرَّةٍ} في صيحةٍ من الصريرِ ومحلُّه النصبُ عَلى الحاليّةِ أو المفعوليةِ إنْ جُعلَ أقبلتْ بمَعْنى أخذتْ كما يقالُ أقبلَ يشتُمنِي {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} أيْ لطمتْهُ منَ الحياءِ لما أنَّها وجدتْ حرارةَ دمِ الطمثِ وقيلَ ضربتْ بأطرافِ أصابعِها جبينَها كما يفعلُه المتعجب {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} أيْ أنَا عجوزٌ عاقرٌ فكيفَ ألدُ

30

{قَالُواْ كَذَلِكِ} مثلَ ذلكَ القولِ الكريمِ {قَالَ رَبُّكِ} وَإنَّما نحنُ معبرونَ نخبركِ بهِ عنْهُ تعالَى لاَ أنَّا نقولُه منْ تلِقاءِ أنفسِنا {إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم} فيكونُ قولُه حقاً وفعلُه متقناً لا محالةَ رُوي أنَّ جبريلَ عليهِ السَّلامُ قالَ لهَا انْظُري إلى سقفِ بيتك فنظرتْ فذا جذوعُه مورقةٌ مثمرةٌ ولَمْ تكُنْ هذهِ المفاوضةُ معَ سارةَ فقطْ بلْ معَ إبراهيَم عليهِ السَّلامُ أَيْضاً حسبَما شُرح في سورةِ الحجر وإنما يُذكِرْ هَهُنا اكتفاءً بما ذكر هناك كما أنه لم يُذكر هناك سارة اكتفاءً بما ذُكر ههنا وفي سُورة هودٍ

31

(قَالَ)

} 2 39 أيْ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ لَمَّا عِلَم أنَّهم ملائكةٌ أُرسلوا لأمرٍ {فَمَا خَطْبُكُمْ} أى ما شأنُكم الخطيرُ الذَّي لأَجْلِه أُرسلتم سَوى البشارةِ {أَيُّهَا المرسلون}

32

{قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} يعنون قومَ لوطٍ

33

{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ} أيْ بعدَ ما قلبنَا قُرَاهُمْ وجعلنَا عاليَها سافلَها حسبَما فُصّل في سائرِ السورِ الكريمةِ {حِجَارَةً مّن طِينٍ} أيْ طينٍ متحجرٍ هُوَ السجيلُ

34

{مُّسَوَّمَةً} مُرسلةً منْ أسمتُ الماشيةَ أيْ أرسلتُها أو معلمة من المسومة وهيَ العلامةُ وقدْ مَرَّ تفصيله في سورة هود {عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} المجاوزينَ الحدَّ في الفُجورِ وقولُه تعالَى

35

{فَأَخْرَجْنَا} الخ حكايةٌ منْ جهتِه تعالَى لِمَا جَرى عَلى قومِ لُوطٍ عليهِ السَّلامُ بطريقِ الإجْمَالِ بعدَ حكايةِ ما جَرَى بينَ الملائكةِ وبينَ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ من الكلامِ والفاءُ فصيحة مفصحةٌ عن جُمَلٍ قدْ حُذفتْ ثقةً بذكرِها في مواضعَ أُخَرَ كأنَّه قيلَ فباشرُوا مَا أُمروا بهِ فأخرجنَا بقولِنا فأسرِ بأهلِكَ الخ {مَن كَانَ فِيهَا} أيْ في قُرى قومِ لُوطٍ وإضمارُهَا بغيرِ ذكرٍ لشهرتِها {مِنَ المؤمنين} ممنْ أمنَ بلوطٍ

36

{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ} أيْ غيرَ أهْلِ بيتٍ {مِنَ المسلمين} قيلَ هم قوم لوطٌ وابنتاهُ وقيلَ كانَ لوطٌ وأهلُ بيتِه الذينَ نجَوا ثلاثةَ عشرَ

37

{وَتَرَكْنَا فِيهَا} أيْ في القرية {آية} أيْ علامةً دالةً على ما أصابهُم من العذابِ قيلَ هيَ تلكَ الأحجارُ أوْ صخرٌ منضودٌ فيهَا أَوْ ماءٌ منتنٌ {لّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم} أيْ مِنْ شأنِهم أنْ يخافُوه لسلامةِ فطرتِهم ورقةِ قلوبِهم دونَ مَنْ عَداهُم منْ ذَوي القلوبِ القاسيةِ فإنَّهم لا يعتدونَ بَها وَلاَ يعدونها آيةً

38

{وَفِى موسى} عطفٌ عَلى قولِه تعالَى وفي الأرضِ أو عَلى قولِه تعالَى وتركنَا فيهَا آيةً عَلى مَعْنى وجعلنَا في مُوسى آيةً كقولِ منْ قالَ علفتها تبنا وماءا باردا {إذ أرسلنا} قيلَ هُو منصوبٌ بآيةً وَقيلَ بمحذوفٍ أيْ كائنةً وقتَ إرسالِنا وقيلَ بترَكْنا {إلى فِرْعَوْنَ بسلطان مُّبِينٍ} هُو ما ظهرَ عَلى يديهِ منْ المعجزاتِ الباهرةِ

39

{فتولى بِرُكْنِهِ} أيْ فأعرضَ عنِ الإيمانِ بهِ وازورّ كقولِه تعالَى وَنَأَى بِجَانِبِهِ

47 40 وقيلَ فتولَّى بما يتقوَّى بهِ منْ مُلْكِه وَعساكِره فإنَّ الركنَ اسمٌ لمَا يركنُ إليهِ الشيءُ وَقُرىءَ برُكُنِهِ بضمِّ الكافِ {وَقَالَ ساحر} أيْ هُو ساحرٌ {أَوْ مَجْنُونٌ} كأنَّه نسبَ ما ظهر على يديهِ عليه الصَّلاةُ والسلام من الخوارقِ العجيبةِ إلى الجنِّ وترددَ في أنَّه حصل باختيارِه وسعيهِ أو بغيرِهما

40

{فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِى اليم} وفيه امن الدلالةِ عَلى غايةِ عظمِ شأنِ القدرةِ الربانيةِ ونهايةِ قمأة فرعون وقومه {وَهُوَ مُلِيمٌ} أيْ آتٍ بما يُلام عليه منَ الكفرِ والطغيانِ والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في فأخذنَاهُ

41

{وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} وصفتْ بالعُقم لأنها أهلكتهم وقطعتْ دابرَهم أوْ لأنَّها لم تتضمنْ خيراً ما منْ إنشاءِ مطرٍ أو إلقاحِ شجرٍ وهي النكباءُ أو الدبُورُ أو الجنوبُ

42

{مَا تَذَرُ مِن شَىْء أَتَتْ عَلَيْهِ} أيْ جرتْ عليهِ {إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم} هو كل مارم وَبليَ وتفتت منْ عظمٍ أو نباتٍ أو غيرِ ذلكَ

43

{وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ} وهُو قولُه تعالَى تمتعُوا في دارِكم ثلاثةَ أَيَّامٍ قيلَ قالَ لهُم صالحٌ عليهِ السَّلامُ تصبحُ وجوهُكم غداً مصفرةً وبعدَ غدٍ مُحمرَّةً واليومَ الثالثَ مُسودةً ثمَّ يصبحكُم العذابُ

44

{فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ} أي فاستكبرُوا عن الامتثالِ بهِ {فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة} قيلَ لما رأوا العلاماتِ الي بيَّنها صالحٌ عليهِ السَّلامُ منَ اصفرارِ وجوهِهم واحمرارِها واسودادِها عمدُوا إلى قتلِه عليهِ السَّلامُ فنجاهُ الله تعالَى إلى أرضِ فلسطينَ ولمَّا كانَ ضحوةُ اليومِ الرابعِ تحنطُوا وتكفنُوا بالأنطاعِ فأتتهُم الصيحةُ فهلكُوا وقرىءَ الصَّعقةُ وهيَ المرةُ منَ الصعْقِ {وَهُمْ يَنظُرُونَ} إليهَا ويعاينونَها

45

{فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ} كقولِه تعالَى فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين {وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ} بغيرِهم كَما لم يمتنعُوا بأنفسِهم

46

{وَقَوْمَ نُوحٍ} أيْ وأهلكنَا قومَ نوحٍ فإنَّ ما قبلَهُ يدلُّ عليه أَوْ وَاذكُرْ ويجوزُ أنْ يكونَ معطوفاً على محل عادٍ ويؤيدُه القراءةُ بالجرِّ وقيلَ هو معطوفٌ على مفعولِ فأخذنَاهُ {مِن قَبْلُ} أيْ منْ قبلِ هؤلاءِ المُهلَكين {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين} خارجينَ عنِ الحدودِ فيمَا كانُوا فيهِ منَ الكفرِ وَالمعاصِي

47

{والسماء بنيناها بِأَيْدٍ} أيْ بقوةٍ {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}

52 84 لقادرونَ منَ الوسعِ بمَعْنى الطاقةِ والموسعُ القادرُ عَلى الإنفاقِ أوْ لموسعونَ السماءَ أو ما بينَها وَبينَ الأرضِ أو الرزقِ

48

{والأرض فرشناها} مهدناهَا وبسطناهَا ليستقروا علَيها {فَنِعْمَ الماهدون} أيْ نحنُ

49

{وَمِن كُلّ شَىْء} أيْ من الأجناس {زَوْجَيْنِ} أيْ نوعينِ ذكراً وأنثى متقابلينَ السماءَ والأرضَ والليلَ والنهار والشمش والقمرَ والبرَّ والبحرَ ونحوَ ذلكَ {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي فعلنَا ذلكَ كُلَّه كي تتذكُروا فتعرفُوا أنَّه خالقُ الكُلِّ ورازقُه وأنَّه المستحقُّ للعبادةِ وأنَّه قادرٌ عَلى إعادةِ الجميعِ فتعملُوا بمقتضاهُ وقولُه تعالَى

50

{فَفِرُّواْ إِلَى الله} مقدرٌ لقولٍ خُوطبَ بهِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم بطريقِ التلوينِ والفاءُ إما لترتيب الأمرِ على ما حكي من أثار غضبِه الموجبةِ للفرارِ منْهَا ومنْ أحكامِ رحمتِه المستدعيةِ للفرار إليَها كأنَّه قيلَ قُلْ لَهُم إذَا كانَ الأمرُ كذلكَ فاهربُوا إلى الله الذى هذه شؤنه بالإيمانِ والطاعةِ كيْ تنجوا من عقابهِ وتفوزُوا بثوابِه وَإِمَّا للعطفِ عَلى جملةٍ مقدَّرةٍ مترتبةٍ عَلى قولِه تعالَى لعلَّكُم تذكرونَ كأنَّه قيلَ قُلْ لَهُم فتذكُروا ففرُّوا إلى الله الخ وقوله تعالى {إني لكم مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} تعليلٌ للأمرِ بالفرارِ إليهِ تعالَى أو لوجوبِ الامتثالِ بهِ فإنَّ كونَهُ عليهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ مُنذِراً منُهُ تعالَى موجبٌ عليهِ عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ أنْ يأمرَهُم بالفرارِ إليهِ وعليهمْ أنْ يمتثلُوا بهِ أي إنِّي لكُم منَ جهتِه تعالَى منذرٌ بين كونه منذرا أو مظهرٌ لما يجبُ إظهارُهُ منَ العذابِ المنذَرِ بهِ وفي أمرِه تعالَى للرسول صلى الله عليه وسلم بأنْ يأمرَهُم بالهربِ إليهِ تعالَى منْ عقابِه وتعليلِه بأنه عليه الصلاة والسلام ينذرُهم منْ جهتِه تعالَى لا منْ تلقاءِ نفسِه وعدٌ كريمٌ بنجاتِهم من المهروبِ وفوزِهم بالمطلوبِ وقولُه تعالَى

51

{وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخر} نهيٌ موجبٌ للفرارِ منْ سببِ العقابِ بعدَ الأمرِ بالفرارِ منْ نفسِه كمَا يُشعر بهِ قولُه تعالى إِنّى لَكُمْ مِنْهُ أيْ منَ الجعلِ المنهيِّ عنْهُ {نَذِيرٌ مُّبِينٌ} فإنَّ تعلقَ كلمةِ منْ بالإنذارِ معَ كونِ صلتِه الباءَ بتضمينِه معنى الإفر يقالُ فَرَّ منْهُ أيْ هربَ وأفرَّه غيرُهُ كأنَّه قيلَ وفِرُّوا منْ أنْ تجعلُوا معَهُ تعالَى اعتقاداً أَو قولاً إلهاً آخر وفيهِ تأكيدٌ لما قبلَهُ منَ الأمرِ بالفرارِ من العقابِ إليهِ تعالَى لكنْ لا بطريقِ التكريرِ كمَا قيل بل بالنهى ععن سببه وإيجاب الفرار

52

{كذلك} أي الأمرُ مثلُ ما ذكرَ منْ تكذيبِهم الرسولَ وتسميتِهم لَهُ ساحِراً أو مَجْنُوناً وقولُه تعالَى {مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ} الخ تفسيرٌ لهُ أيْ ما أتَاهُم {مِن رَّسُولٍ} مِنْ رسلِ الله {إِلاَّ قَالُواْ} في حَقَّه {ساحر أَوْ مَجْنُونٌ} ولا سبيلَ إِلى انتصابِ الكافِ بأَتَى لامتناعِ عملِ مَا بعدَ

56 5 { مَا النافيةِ فيمَا قبلَها

53

{أَتَوَاصَوْاْ بِهِ} إِنْكارٌ وتعجيبٌ منْ حالِهم وإجماعِهم عَلى تلكَ الكلمةِ الشنيعةِ التي لاَ تكادُ تخطرُ ببالِ أحدٍ من العقلاءِ فضلاً عن التفوهِ بهَا أيْ أوصى بهذَا القولِ بعضُهم بعضاً حتَّى اتفقُوا عليهِ وقولُه تعالَى {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغون} إضرابٌ عنْ كونِ مدار تفاقهم عَلى الشرِّ تواصيهم بذلكَ وإثباتٌ لكونِه أمراً أقبحَ منَ التَّواصِي وأشنعَ منْهُ منَ الطغيانِ الشاملِ للكُلِّ الدالِّ عَلى أنَّ صدورَ تلكَ الكلمةِ الشنيعةِ عنْ كُلِّ واحدٍ منْهُم بمقتضَى جبلَّتِه الخبيثةِ لا بموجبِ وصيةِ منْ قبلِهم بذلكَ من غير أن يكون ذلكَ مُقْتضى طباعِهم

54

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} فأعرضْ عنْ جدالِهم فقدْ كررتَ عليهِم الدعوةَ فأبَوا إلا الإباءَ {فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ} عَلى التولِّي بعدَ مَا بذلتَ المجهود وجاوزت في الإبلاغِ كُلَّ حدَ معهودٍ

55

{وَذَكَرَ} أي أفعلْ التذكيرَ والموعظةَ ولاَ تدعُهما بالمرةِ أو فذكرهُم وَقدْ حُذِفَ الضَّميرُ لظهورِ الأَمْرِ {فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} أي الذينَ قدرَ الله تعالَى إيمانَهُم أوِ الذينَ آمنُوا بالفعل فإنها تزيدهم بصيرة وقوةً في اليقينِ

56

{وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} استئنافٌ مؤكدٌ للأمرِ مقررٌ لمضمونِ تعليلهِ فإنَّ كونَ خَلقِهم مُغياً بعبادتِه تعالَى ممَّا يدعُوه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى تذكيرِهم ويوجبُ عليهمْ التذكرَ والاتعاظَ ولعلَّ تقديمَ خلقِ الجَنِّ في الذكرِ لتقدمهِ على خَلْق الإنسِ في الوجودِ ومَعْنى خلقِهم لعبادتِه تعالَى خلقُهم مستعدينَ لَها ومتمكنينَ منْها أتمَّ استعدادٍ وأكملَ تمكنٍ معَ كونِها مطلُوبةً مِنهُمْ بتنزيلِ ترتبِ الغايةِ عَلى مَا هيَ ثمرةٌ لَهُ منزلةَ ترتبِ الغرضِ عَلى ما هُو غرضٌ لَهُ فإنَّ استتباعَ أفعالِه تعالَى لغاياتٍ جليلةٍ ممَّا لاَ نزاعَ فيهِ قطعاً كيفَ لاَ وهيَ رحمةٌ منْهُ تعالَى وتفضلٌّ عَلى عبادِه وإنَّما الذي لا يليق بجنابه عَزَّ وجَلَّ تعليلُها بالغرضِ بمَعْنى الباعثِ عَلى الفِعْل بحيثُ لولاَهُ لم يفعلْهُ لإفضائِه إلى استكمالِه بفعلِه وهُوَ الكاملُ بالفعلِ منْ كُلِّ وجهٍ وأمَّا بمَعْنى نهايةٍ كماليةٍ يُفْضِي إليهَا فعلُ الفاعلِ الحقَّ فغيرُ منفى من أفعالِه تعالَى بل كُلُّها جارية على المنهاجِ وعَلى هَذا الاعتبارِ يدورُ وصفُه تعالَى بالحكمةِ ويكفى في تحقق مَعْنى التعليلِ عَلى ما يقولُه الفقهاءُ ويتعارفُه أهلُ اللغة هَذا المقدارُ وبِه يتحققُ مدلولُ اللامِ وأما إرادةُ الفاعلِ لَها فليستْ من مقتضياتِ اللامِ حَتَّى يلزمَ منْ عدمِ صدورِ العبادةِ عنِ البعضِ تخلفُ المرادِ عن الإرادةِ فإنْ تعوقَ البعضِ عنِ الوصولِ إلى الغايةِ معَ تعاضدِ المبادئ وتآخذِ المقدماتِ الموصلةِ إليهَا لا يمنعُ كونَها غايةً كما في قوله تعالى كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مّنَ الظلمات إِلَى النور ونظائِره وقيلَ المَعْنى إلا ليؤمُروا بعبادِتي كما في قوله تعالى وما أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا وقيلَ المرادُ سعداءُ الجنسينِ كما أنَّ المرادَ

60 57 بقولِه تعالَى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس أشقياؤُهما ويَعضده قراءةُ مَن قرأَ وَمَا خَلَقْتُ الجنَّ والإنسَ منَ المؤمنينَ وقال مجاهد واختارَهُ البغويُّ معناه إلا ليعرفوه ومداره قوله صلى الله عليه وسلم فيما يحيكه عنْ رَبِّ العزةِ كُنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أنْ أُعْرَفَ فخلقتُ الخلقَ لأعرفَ ولعلَّ السرُّ في التعبيرِ عنِ المعرفةِ بالعبادةِ عَلى طريقِ إطلاقِ اسمِ السببِ عَلى المسببِ التنبيهُ عَلى أنَّ المعتبرَ هيَ المعرفةُ الحاصلة بعبادته تعالى ما يحصلُ بغيرِها كمعرفةِ الفلاسفةِ

57

{مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} بيانٌ لكَونِ شأنِه تعالَى معَ عبادةِ متُعالياً عنْ أنْ يكونَ كشأنِ السَّادِة معَ عبيدِهم حيثُ يملكونَهُم ليستعينُوا بهمْ في تحصيلِ معايشهِم وتهيئةِ أرزاقِهم أيْ ما أريدُ أنْ أصرفَهُم في تحصيلِ رزْقي ولا رِزْقهم بلْ أتفضلُ عليهمْ برزقِهم وبَما يصلحُهم ويعيِّشَهم منْ عندِي فليشتغلُوا بمَا خُلِقوا لَهُ منْ عِبادِتي

58

{إِنَّ الله هُوَ الرزاق} الذي يرزقُ كلَّ ما يفتقر الى الرزق وفه تلويحٌ بأنَّه غنيٌّ عنْهُ وقُرِىءَ إنِّي أنَا الرزَّاقُ {ذُو القُوَّةِ المتينِ} بالرفعِ عَلى أنَّه نعتٌ للرزاقِ أوْ لذُو أَوْ خبرٌ بعد خبر أو خبر لمضمرٍ وقُرِىءَ بالجرِّ عَلى أنَّه وصفٌ للقوةِ على تأويلِ الاقتدارِ أوِ الأيدِ

59

{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} أيْ ظلُموا أنفسَهم بتعريضِها للعذابِ الخالدِ بتكذيبِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أوْ وضعُوا مكانَ التصديقِ تكذيباً وَهُم أهلُ مكةَ {ذَنُوباً} أيْ نصيباً وافراً منَ العَذَابِ {مّثْلَ ذَنُوبِ أصحابهم} مثلَ أنصباءِ نُظَرائِهم منَ الأممِ المحكيةِ وهُو مأخوذٌ من مقاسمةِ السُّقاةِ الماء بالذنوب وهو الدلوالعظيم المملوءُ {فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} أيْ لا يطلُبوا منِّي أنْ أُعجِّلَ في المجىءِ بهِ يقالُ استعجَلهُ أيْ حثَّهُ عَلى العَجَلةِ وأمره بها ويقالُ استعجلَهُ أيْ طلبَ وقوعَهُ بالعجلةِ ومنْهُ قولِه تعالى أتى أَمْرُ الله فلا تستعلجوه وهُو جوابٌ لقولِهم مَتَى هذا الوعد إِن كنتم صادقينَ

60

{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} وضعَ الموصولُ موضعَ ضميرِهم تسجيلاً عليهم بما في حيز الصلةِ منَ الكُفر وإشعاراً بعلةِ الحكمِ والفاءُ لترتيبِ ثبوتِ الويلِ لهُم عَلى أنَّ لَهُم عذاباً عظيماً كَما أنَّ الفاءَ الأُولى لترتيبِ النَّهي عنْ الاستعجالِ عَلى ذلكَ ومِنْ في قولِه تعالَى {مِن يَوْمِهِمُ الذى يُوعَدُونَ} للتعليلِ أيْ يوعدونَهُ منْ يومَ بدرٍ وقيلَ يومَ القيامةِ وهُو الأنسبُ بَما في صدرِ السورةِ الكريمةِ الآتيةِ والأولُ هُو الأوفقُ لما قبلَهُ منْ حيثُ إنَّهما منَ العذاب الدنيوي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ والذارياتِ أعطاهُ الله تعالَى عشرَ حسناتٍ بعدد كلِّ ريح سهبت وجرت في الدنيا

الطور 8 { {بسم الله الرحمن الرحيم}

الطور

{والطور} الطُّورُ بالسُّريانية الجبلُ والمراد به طور سنين وهُو جبلٌ بمدينَ سمعَ فيه موسى عليه السلام كلامَ الله تعالَى

2

{وكتاب مُّسْطُورٍ} مكتوبٍ على وَجْهِ الانتظامِ فإنَّ السطرَ ترتيبُ الحروفِ المكتوبةِ والمرادُ بن القرآنُ أوْ ألواحُ مُوسى عليهِ السَّلامُ وهُو الأنسبُ بالطُّورِ أو مَا يكتبُ في اللوحِ أو ما يكتبُهُ الحفظةُ

3

{فِى رَقّ مَّنْشُورٍ} الرقُّ الجلدُ الذي يكتبُ فيه استعيرَ لما يكتبُ فيهِ الكتابُ منَ الصحيفةِ وتنكيرُهُمَا للتفخيمِ أوْ للإشعارِ بأنَّهما ليسَا مما يتعارفُه النَّاسُ

4

{والبيت المعمور} أي الكعبةِ وعمارتُها بالحُجَّاجِ والعُمَّارِ والمجاورينَ أو الضراحُ وهوَ في السماءِ الرابعةِ وعُمرانُه كثرةُ غاشيتِه منَ الملائكةِ

5

{والسقف المرفوع} أي السماءِ ولاَ يَخفْى حسنُ موقعِ العُنوانِ المذكورِ

6

{والبحر المسجور} أي المملوءِ وهُو البحرُ المحيطُ أو الموقدُ منْ قولِه تعالَى وَإِذَا البحار سُجّرَتْ فالمرادُ بهِ الجنسُ رُوي أنَّ الله تعالَى يجعلُ البحارَ يومَ القيامةِ نَاراً يسجرُ بَها نارَ جهنمَ

7

{إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ} أَيْ لنازلٌ حَتْماً جَوابٌ للقسمِ وقولُه تعالَى

8

{مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ} إمَّا خبرٌ ثانٍ لأنَّ أَوْ صفةٌ لواقع وَمِنْ دافعٍ إمَّا مبتدأُ للظرفِ أوْ مرتفعٌ بهِ عَلى الفاعليةِ ومنْ مزيدةٌ للتأكيدِ وتخصيصُ هذهِ الأمورِ بالإقسامِ بها لما انها أمر عظِامٌ تنبىءُ عنْ عظمِ قُدرةِ الله تعالى وكمال علمهِ وحكمتِه الدالَّةِ عَلى إحاطتِه تعالَى بتفاصيلِ

} 6 9 أعمالِ العبادِ وضبطِها الشاهدةِ بصدقِ أخبارِه التي مِن جُملتِها الجملةُ المقسمُ عَليها وقولُه تعالَى

9

{يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْراً} ظرفٌ لواقعٌ مبينٌ لكيفيةِ الوقوعِ منبىءٌ عنْ كمالِ هولِه وفظاعتِه والمَوْرُ الاضطرابُ والتردد ف المجيءِ والذهابِ وقيلَ هُو تحركٌ في تموجٍ قيلَ تدورُ السماءُ كما تدورُ الرَّحَا وتتكّفأُ بأهلِها تكفؤَ السفينةِ وقيلَ تختلفُ أجزاؤُها

10

{وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً} أيْ تزولُ عن وَجْه الأرضِ فتصيرُ هباءً وتأكيدُ الفعلينِ بمصدريهما للإيذان بغرابتهما وخرجوهما عنِ الحدودِ المعهودةِ أيْ موراً عجيباً وسيراً بديعاً لا يُدركُ كُنْهُهما

11

{فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} أيْ إذَا وقعَ ذلكَ أوْ إِذا كانَ الأمرُ كَما ذكرَ فويلٌ يومَ إذْ يقعُ ذلكَ لَهُم

12

{الذين هُمْ فِى خَوْضٍ} أي اندفاعِ عجيبٍ في الأباطيلِ والأكاذيبِ {يَلْعَبُونَ} يلهوُن

13

{يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} أيْ يدفعونَ إليَها دفعاً عنيفاً شديداً بأَنْ تغلَّ أيديهمْ إلى أعناقِهم وتجمعَ نواصيهِم إلى اقدامهم فيدفعون الى النار وقرئ يُدْعَوْنَ منَ الدُّعاءِ فيكونُ دعَّا حالاً بمَعْنى مدعوعينَ ويومَ إمَّا بدلٌ منْ يومَ تمورُ أَوْ ظرفٌ لقولٍ مقدرٍ قبلَ قولِه تعالَى

14

{هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ} أيْ يُقالُ لَهُم ذلكَ ومَعنْى التكذيبِ بَها تكذيبُهم بالوحِي الناطقِ بَها وقولُه تعالَى

15

{أَفَسِحْرٌ هذا} توبيخٌ وتقريعٌ لَهُم حيثُ كانُوا يسمُّونَهُ سِحْراً كأنَّه قيلَ كُنتم تقولونَ للقرآنِ الناطقِ بهذا سحرٌ فهَذا أَيْضاً سحرٌ وتقديمُ الخبرِ لأنَّه محطُّ الإنكارِ ومدارُ التوبيخِ {أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} أيْ أَمْ أنتُم عُمْيٌ عنِ المُخبَر عَنْه كما كُنتم عمياً عن الخبرِ أو أمْ سُدَّتْ أبصارُكم كما سدت في الدنا على زعمكِم حيثُ كُنْتم تقولونَ إنَّما سكّرتْ أبصارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ

16

{اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ} أي ادْخلُوهَا وقاسُوا شدائدَهَا فافعلُوا ما شئِتُم منَ الصَّبرِ وعدمِه {سَوَاء عَلَيْكُمْ} أي الأمرانِ في عدمِ النفعِ لاَ بدفعِ العذابِ ولا بتخفيفهِ وقولُه تعالَى {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تعليلٌ للاستواءِ فإنَّ الجزاءَ حيثُ كانَ واجبَ الوقوعِ

} 1 17 حتماً كان الصبرُ وعدمُه سواءً في عَدمِ النَّفعِ

17

{إِنَّ المتقين فِى جنات وَنَعِيمٍ} أيْ فِي آية جناتٍ وأيِّ نعيمٍ عَلى أنَّ التنوينَ للتفخيمِ أوْ في جناتٍ ونعيمٍ مخصوصةٍ بالمتقينَ عَلى أنَّه للتنويعِ

18

{فاكهين} ناعمينَ متلذذينَ {بِمَا آتاهم ربهم} وقرئ فكهينَ وفاكهونَ على أنَّه الخبرُ والظرفُ لغوٌ متعلقٌ بالخبرِ أوْ خبرٌ آخرُ {ووقاهم رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم} عطفٌ عَلى آتاهُم عَلى أنَّ مَا مصدريةٌ أوْ عَلى خبرِ إنَّ أوْ حالٌ بإضمارِ قَدْ إمَّا من المستكنِّ في الخبر أو في الحال وإمَّا من فاعلِ أَتي أوْ منْ مفعولِه أو منهُما وإظهارُ الربِّ في موقعِ الإضمارِ مضافاً إلى ضميرِهم للتشريفِ والتعليلِ

19

{كُلُواْ واشربوا} أيْ يقالُ لَهُم كُلوا واشربُوا أكلاً وشرابا {هَنِيئَاً} أوْ طعاماً وشراباً هنيئاً وهُو الذَّي لا تنغيص فيهِ {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بسببِه أو بمقابلتِه وقيلَ الباءُ زائدةٌ ومَا فاعلُ هنيئاً أيْ هَناكُم مَا كنتُم تعملونَ أي جزاؤُه

20

{مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} مصطّفةٍ {وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ} وقرىء بحرو عينٍ على إضافةِ الموصُوفِ إلى صفتِه بالتأويلِ المشهورِ وقُرِىءَ بعينٍ عينٍ والباءُ معَ أن التزويجَ مما يتعدى إلى مفعولينِ لما فيهِ من مَعْنى الوصلِ والإلصاقِ أو للسببيةِ إذْ المعنى صير ناهم أزواجاً بسببِهن فإنَّ الزوجيةَ لا تتحققُ بدونِ انضمامِهن إليهمْ وقولُه تعالَى

21

{والذين آمنوا} إلخ كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيانِ حالِ طائفةٍ من أهلِ الجنةِ إثرَ بيانِ حالِ الكُلِّ وهُم الذينَ شاركتْهم ذريتُهم في الإيمانِ وهو مبتدأ خبره ألحقناهم وقولُه تعالَى {واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم} عطفٌ على آمنُوا وقيل اعتراضٌ وقولُه تعالَى {بإيمان} متعلقٌ بالاتّباعِ أيْ اتبعتْهم ذريتُهم بإيمانٍ في الجُملةِ قاصر عن ربته إيمانِ الآباءِ واعتبارُ هذا القيدِ للإيذانِ بثبوتِ الحكمِ في الإيمانِ الكامل أصالةً لا إلحاقاً وقُرِىءَ ذرياتُهم للمبالغةِ في الكثرةِ وذِرياتهم بكسرِ الذالِ وقُرِىءَ وأتبعناهُم ذرياتِهم أي جعلناهُم تابعينَ لهم في الإيمانِ وقُرِىءَ أتبعْتُهم {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ} أيْ في الدرجةِ كَما روي أنه عليه الصلاة والسَّلامُ قالَ إنَّه تعالَى يرفعُ ذريةَ المؤمنِ في درجتهِ وإنْ كانُوا دونَهُ لتقرَّ بهم عينُه ثم تلاَ هذهِ الآيةَ {وَمَا ألتناهم} وما نقصنَا الآباءَ بهذَا الإلحاقِ {مّنْ عَمَلِهِم} منْ ثوابِ عملهم {مِن شَىْء} بأنْ أعطينَا بعضَ مثوباتهم أباءهم فتنقصَ مثوبتُهم وتنحطَّ درجتُهم وإنما رفعناهُم إلى منزلتِهم بمحضِ التفضلِ والإحسانِ وقُرِىءَ

} 5 2 { ألِتْنَاهُم بكسرِ اللامِ من ألِتَ يألَتُ كعِلم يعلمَ والأولُ كضرَبَ يضرِبُ ولِتناهُم منْ لاَت يليتُ وآلتناهُم من آلَتَ يُؤُلِتُ ووَلَتْناهُم منْ وَلَتْ يَلِتُ والكلُّ بمَعْنى واحدٍ هَذا وقدْ قيلَ الموصولُ معطوفٌ على حُورٍ والمَعْنى قرنَّاهُم بالحورِ وبالذينَ آمنُوا أيْ بالرفقاءِ والجلساءِ منُهم فيتمتعونَ تارةً بملاعبة الحور وأخرى بؤاسنة الإخوانِ المؤمنينَ وقولُه تعالَى واتبعتُهم عطفٌ على زوجناهُم وقوله تعالى بإيمان متعلق بما بعدَهُ أي بسببِ إيمانٍ عظيمٍ رفيعِ المحلِّ وهو إيمان الآباء ألحلقنا بدرجاتِهم ذريَّتهم وإنْ كانُوا لا يستأهلونَها تفضلاً عليهم وعلى آبائِهم ليتِمَّ سرورُهم ويكملَ نعيمُهم أو بسببِ إيمانٍ دانِي المنزلةِ وهو إيمانُ الذريةِ كأنه قيلَ بشيءٍ من الإيمانِ لا يؤهلُهم لدرجةِ الآباءِ ألحقناهُم بهم {كل امرئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} قيلَ هو فعيلٌ بمَعْنى مفعولٍ والمَعْنى كلُّ امرىءٍ مرهونٌ عندَ الله تعالى بالعملِ الصالحِ فإنْ عمِلَه فكَّه وإلا أهلكه وقيلَ بمعنى الفاعلِ والمَعْنى كلُّ امرىءِ بما كسبَ راهنٌ أيْ دائمٌ ثابتٌ وهَذا أنسبُ بالمقامِ فإن الدوامَ يقتضِي عدمَ المفارقةِ بينَ المرءِ وعمله ومن ضرورتِه أنْ لا ينقصَ من ثوابِ الآباءِ شيءٌ فالجملةُ تعليلٌ لما قَبْلها

22

{وأمددناهم بفاكهة وَلَحْمٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ} وزدناهُم عَلى ما كان لهم من مبادىء التنعمِ وقتاً فوقتاً ما يشتهونَ من فنونِ النعماءِ وألوانِ الآلاءِ

23

{يتنازعون فِيهَا} أي يتعاطَون فيها هُم وجلساؤُهم بكمالِ رغبةٍ واشتياقٍ كما ينبىءُ عنه التعبيرُ عن ذلكَ بالتنازع {كَأْساً} أي خمراً تسميةً لَها باسمِ محلِّها {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا} أيْ في شُربها حيثُ لا يتكلمونَ في أثناءِ الشربِ بلغوِ الحديثِ وسقَطِ الكلامِ {وَلاَ تَأْثِيمٌ} ولا يفعلونَ ما يؤثمُ به فاعلُه أي ينسبُ إلى الإثمِ لو فعَلُه في دارِ التلكيف كما هو ديدنُ المنادمينَ في الدُّنيا وإنما يتكلمونَ بالحِكمِ وأحاسنِ الكلامِ ويفعلونَ ما يفعلُه الكرامُ وقرىءَ لا لغو فيها ولا تأثيمَ بالفتح

24

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} أي بالكأسِ {غِلْمَانٌ لَّهُمْ} أي مماليكُ مخصوصونَ بهم وقيلَ هم أولادُهم الذين سبقوهُم {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} مصونٌ في الصَّدفِ من بياضِهم وصفائِهم أو مخزونٌ لأنه لا يخزنُ إلا الثمينُ الغالِي القيمةِ قيلَ لقَتَادة هذا الخادمُ فكيفَ المخدومُ فقالَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيدِه إنَّ فضلَ المخدومِ على الخادمِ كفضل القمرِ ليلة البدرِ على سائرِ الكواكبِ وعنه عليه الصلاة والسلام إن أدنى أهل الجنة منزلة منْ يُنادي الخادمَ من خدامِه فيجيبُهُ ألفٌ ببابِه لبيكَ لبيكَ

25

{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ} أيْ يسألُ كلُّ بعضٍ منهم بعضاً آخرَ عنْ أحوالِه وأعمالِه فيكونُ كل بعض سائلا ومسؤلا لا أنه يسألُ بعضٌ معينٌ منهم بعضاً آخرَ معينا

} 3 26

26

{قالوا} اى المسؤلون وهم كلُّ واحدٍ منهم في الحقيقةِ {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ} أي في الدُّنيا {فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أرقاءَ القلوبِ خائفينَ من عصيانِ الله تعالى معتنين بطاعتِه أو وجلين من العاقبةِ

27

{فَمَنَّ الله عَلَيْنَا} بالرحمةِ أو التوفيقِ للحقِّ {ووقانا عَذَابَ السموم} عذابَ النارِ النافذةِ في المسامِّ نفوذَ السمومِ وقُرىءَ ووقَّانا بالتشديدِ

28

{إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ} أيْ نعبدُه أو نسألُه الوقايةَ {إِنَّهُ هُوَ البر} المحسنُ {الرحيم} الكثيرُ الرحمةِ الذي إذا عُبدَ أثابَ وإذا سُئلَ أجابَ وقُرِىءَ أنَّه بالفتحِ بمَعْنى لأَنَّه

29

{فَذَكّرْ} فاثبُت على ما أنتَ عليهِ من التذكيرِ من التذكير بما أُنزلَ إليك من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ ولا تكترثْ بما يقولونَ مما لا خيرَ فيه من الأباطيل {فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ} بحمدِه وإنعامِه بصدقِ النبوةِ ورجاحةِ العقلِ {بكاهن وَلاَ مَجْنُونٍ} كما يقولونَ قاتلهم الله أنَّي يُؤفكون

30

{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نتربّصُ بِهِ رَيْبَ المَنون} وهو ما يقلقُ النفوسَ ويشخصُ بَها من حوادثِ الدهرِ وقيلَ المنونُ الموتُ وهو في الأصل فعول من منه إذا قطَعُه لأنَّ الموتَ قطوعٌ أي بلَ أيقولونَ ننتظرُ به نوائبَ الدهرِ

31

{قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ المتربصين} أتربصُ هلاككُم كما تتربصونَ هلاكيَ وفيه عِدةٌ كريمةٌ بإهلاكِهم

32

{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم} أي عقولُهم {بهذا} أي بهذا التناقضِ في المقالِ فإن الكاهن يكون ذا فظنة ودقةٍ نظرِ في الأمورِ والمجنون المغطى عقلُه مختلٌّ فكرُهُ والشاعرَ ذُو كلامٍ موزونٍ متسقٍ مخيلٍ فكيفَ يجتمعُ أوصافُ هؤلاءِ في واحدٍ وأمرُ الأحلام بذلك مجازعن أدائِها إليهِ {أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} مجاوزونَ الحدودَ في المكابرةِ والعنادِ لا يحرمون الرشدِ والسَّدادِ ولذلك يقولونَ ما يقولونَ من الأكاذيبِ الخارجةِ عن دائرةِ العقولِ والظنون وقرئ بَلْ هُمْ

33

{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} أي اختلقَهُ من تلقاءِ نفسِه {بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ} فلكفرهم وعنادِهم يرمونَ بهذه الأباطيل التي لا يخفى على أحدٍ بطلانُها كيف لا وما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا واحدٌ من العربِ فكيف أتى بما عجزَ عنه كافةٌ الأممِ من العربِ والعجمِ

40 34

34

{فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ} مثلِ القرآنِ في النعوتِ التي استقلَّ بها من حيثُ النظمُ ومن حيثُ المَعْنى {إِن كَانُواْ صادقين} فيما زعمُوا فإنَّ صدقَهم في ذلكَ يستدعي قدرتَهم على الإتيانِ بمثله بقضيةِ مشاركتِهم له عليه الصلاة والسلام في البشريةِ والعربيةِ مع ما بهم من طولِ الممارسةِ للخُطب والأشعارِ وكثرةِ المزاولةِ لأساليبِ النظمِ والنثرِ والمبالغةِ في حفظِ الوقائعِ والأيامِ ولا ريبَ في إن القدرةَ على الشيءِ من وموجبات الإتيانِ به ودواعِي الأمرِ بذلكَ

35

{أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء} أي أمْ أُحدِثُوا وقُدِّروا هذا التقديرَ البديعَ من غيرِ محدِثٍ ومقدّرٍ وقيل أم خُلقوا من أجل لاشيء من عبادو وجزاءٍ {أَمْ هُمُ الخالقون} لأنفسِهم فلذلك لا يعبدون الله سبحانَهُ

36

{أم خلقوا السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ} أي إذا سئلوا منْ خلقكم وخلق السمواتِ والأرضَ قالوا الله وهم غيرُ موقنينَ بما قالُوا وإلا لما أعرضُوا عن عبادتِه

37

{أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ} أي خزائنُ رزقِه ورحمتِه حتى يرزُقوا النبوةَ من شاؤا ويمسكوها عمن شاؤا أو عندَهم خزائنُ علمِه وحكمتِه حتى يختارُوا لها من اقتضتِ الحكمةُ اختيارَهُ {أم هم المصيطرون} أي الغالبونَ على الأمورِ يدبرونها كيفما شاؤا حتى يدبروا أمرَ الربوبيةِ ويبنوا الأمورَ على إرادتِهم ومشيئتِهم وقُرِىءَ المصيطرونَ بالصادِ لمكانِ الطاءِ

38

{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} منصوبٌ إلى السماءِ {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} صاعدينَ إلى كلامِ الملائكةِ وما يوحَى إليهم من علمِ الغيبِ حتى يعلمُوا ما هو كائنٌ من الأمورِ التي يتقوّلونَ فيها رجماً بالغيبِ ويعلِّقون بها أطماعَهم الفارغةَ {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بسلطان مُّبِينٍ} بحجةٍ واضحةٍ تصدّق استماعَه

39

{أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون} تسفيهٌ لهم وتركيكٌ لعقولِهم وإيذانٌ بأنَّ من هذا رأيُه لا يكادُ يعدُّ من العقلاءِ فضلاً عن الترقِّي إلى عالمِ الملكوتِ والتطلعِ على الأسرارِ الغيبيةِ والالتفاتُ إلى الخطابِ لتشديدِ ما في أمِ المنقطعةِ من الإنكارِ والتوبيخِ

40

{أم تسألهم أَجْراً} رجوعٌ إلى خطابِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وإعراضٌ عنْهُم أي بلْ أتسألُهم أجراً على تبليغِ الرسالةِ {فَهُمُ} لذلكَ {مّن مَّغْرَمٍ} من الالتزام غرامةٍ فادحةٍ {مُّثْقَلُونَ} محمّلونَ الثقلَ فلذلكَ لا يتبعونكَ

47 4 {

41

{أَمْ عِندَهُمُ الغيب} أي اللوحُ المحفوظُ المُثبَتُ فيه الغيوبُ {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ما فيه حتَّى يتكلمُوا في ذلكَ بنفىٍ أو إثباتٍ

42

{أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً} هو كيدهم برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم في دارِ الندوةِ {فالذين كَفَرُواْ} هم المذكورونَ ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهم للتسجيلِ عليهم بما في حيز الصلةِ من الكفرِ وتعليلِ الحكمِ به أو جميعُ الكفرةِ وهم داخلونَ فيهم دُخولاً أولياً {هُمُ المكيدون} أي هُم الذينَ يحيقُ بهم كيدُهم أو يعودُ عليهم وبالُه لا مَنْ أرادُوا أنْ يكيدُوه وهو ما أصابَهم يومَ بدرٍ أو هُم المغلوبونَ في الكيدِ من كايدتُه فكِدتُه

43

{أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله} يعينُهم ويحرسُهم من عذابِه {سبحان الله عمَّا يُشركون} أيْ عنْ إشراكِهم أو عن شركِة ما يُشركونَهُ

44

{وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً} قطعةً {مّنَ السماء ساقطا} لتعذيبِهم {يَقُولُواْ} من فرطِ طغيانِهم وعنادِهم {سحاب مَّرْكُومٌ} أي هُم في الطغيانِ بحيثُ لو أسقطناهُ عليهم حسبَما قالُوا أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا لقالُوا هذا سحابٌ تراكمَ بعضُه على بعضٍ يُمطرنا ولم يُصدِّقُوا أنه كِسَفٌ ساقطا للعذابِ

45

{فَذَرْهُمْ حتى يلاقوا} وقُرِىءَ حتى يلقَوا {يَوْمَهُمُ الذى فِيهِ يُصْعَقُونَ} على البناءِ للمفعولِ من صعقتْهُ الصَّاعقةُ أو من أصعقتْهُ وقُرِىءَ يَصعقُون بفتحِ الياءِ والعينِ وهو يومُ يصيبُهم الصعقةُ بالقتلِ يومَ بدرٍ لا النفخةُ الأولى كما قيلَ إذْ لا يُصعقُ بَها إلاَّ مَنْ كانَ حياً حينئذٍ ولأنَّ قولَه تعالى

46

{يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} أيْ شيئاً من الإغناءِ بدلٌ من يومَهم ولا يَخفْى أنَّ التعرضَ لبيانِ عدمِ نفعِ كيدِهم يستدعِي استعمالَهم له طمعاً في الانتفاعِ به وليسى ذلكَ إلا ما دبرُوه في امره صلى الله عليه وسلم من الكيدِ الذي من جُملتِه مناصَبتُهم يومَ بدرٍ وأما النفخةُ الأولى فليستْ ممَّا يجري في مدافعتِه الكيدُ والحيلُ وقيل هو يومُ موتِهم وفيهِ ما فيهِ مع ما تأباهُ الإضافةُ المنبئةُ عن اختصاصِه بهم {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} من جهةِ الغيرِ في دفعِ العذابِ عنُهم

47

{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي لهُم ووضعُ الموصولِ موضعَ الضميرِ لما ذُكرَ من قبلُ أي وإنَّ لهؤلاءِ الظلمةِ {عَذَاباً} آخرَ {دُونِ ذَلِكَ} دُونَ ما لاقوه من القتلِ أي قبلَهُ وهو القحطُ الذي أصابَهُم سبعُ سنينَ أو وراءَهُ كما في قولِه ... تُريك القَذى منْ دُونِها

49 48 وهو دونها ... وهو عذابُ القبرِ وما بعَدُه من فنونِ عذابِ الآخرةِ وقُرىءَ دون ذلك قريبا {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أن الأمر كما ذكر وفيه إشارة إلى أن فيهم مَنْ يعلمُ ذلكَ وإنما يصرُّ على الكُفرِ عنادا أولا يعلمونَ شيئاً أصلاً

48

{واصبر لحكم ربك} بإمامهم إلى يومِهم الموعودِ وإبقائِك فيمَا بينَهم معَ مقاساةِ الأحزانِ ومعاناةِ الهمومِ {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي في حفظنِا وحمايتِنا بحيثُ نراقبُكَ ونكلؤكَ وجمعُ العينِ لجمعِ الضميرِ والإيذانِ بغايةِ الاعتناءِ بالحفظِ {وَسَبّحْ} أيْ نزِّهه تعالَى عمَّا لا يليقُ به ملتبساً {بِحَمْدِ رَبّكَ} على نعمائِه الفائتةِ للحصرِ {حِينَ تَقُومُ} من أي مكانٍ قُمتَ قالَ سعيدُ بنُ جُبيرٍ وعطاءٌ أيْ قُلْ حينَ تقومُ من مجلسِكَ سبحانَكَ اللَّهم وبحمدِك وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا معناهُ صلِّ لله حينَ تقومُ من منامِك وقالَ الضحَّاكُ والربيعُ إذَا قُمتَ إلى الصَّلاةِ فقُلْ سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمُك وتعالَى جدُّك ولا إلَه غيرُكَ وقولُه تعالَى

49

{ومن الليل فَسَبّحْهُ} إفرادٌ لبعضِ الليلِ بالتسبيحِ لما أنَّ العبادةَ فيه أشقُّ على النفسِ وأبعدُ عن الرياءِ كما يلوحُ به تقديمُه على الفعلِ {وإدبار النجوم} أي وقتَ إدبارِها من آخرِ الليلِ أي غيبتِها بضوءِ الصباح وقيل التسبيحُ من الليلِ صلاةُ العشاءينِ وإدبارُ النجومِ صلاةُ الفجرِ وقُرِىءَ وأدبار النجومِ بالفتحِ أي في أعقابها إذا غربتْ أو خفيتْ عنِ النبيِّ عليهِ الصلاةَ والسلام من قرأ سورة الطور كان حقَّا على الله تعالَى أنْ يُؤمِّنهُ من عذابِه وأنْ يُنعّمهُ في جنته

النجم 2 { بسم الله الرحمن الرحيم

النجم

{والنجم إِذَا هوى} المرادُ بالنجم إما الثرية فإنَّه اسمٌ غالبٌ لَهُ أو جنسُ النجومِ وبهَوِيّه غروبُه وقيلَ طلوعُه يقالُ هَوَى هَوِيا بوزن قبول إذا غربَ وهُوِيّا بوزنِ دخول إذا علا وصعِد وأما النجمُ من نجومِ القُرآنِ فهَوِيَّهُ نزولُه والعاملُ في إذَا فعلُ القسمِ بذلك فإنَّه بمعنى مطلقِ الوقتِ منسلخٌ من مَعْنى الاستقبالِ كَما في قولِك آتيكَ إذا حمر البُسْرُ وفي الإقسامِ بذلكَ على نزاهتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عن شائبِه الضلال والغَوايةِ من البراعةِ البديعةِ وحسن الموقع مالا غايةَ وراءَهُ أما على الأولينِ فلأنَّ النجمَ شأنُه أنُ يهتدِيَ بهِ السَّارِي إلى مسالكِ الدُّنيا كأنَّه قبل والنجمِ الذي يَهتدِي به السابلةُ إلى سواءِ السبيلِ

2

{مَا ضَلَّ صاحبكم} أيْ ما عدَلَ عن طريقِ الحقِّ الذي هُو مسلكُ الآخرةِ {وَمَا غوى} أيْ وما اعتقدَ باطلاً قطُّ أيْ هُو في غايةِ الهُدى والرُّشدِ وليسَ مما تتوهمونَهُ من الضلالِ والغوَايةِ في شىءٍ أَصلاً وأما على الثالثِ فلأنَّه تنويهٌ بشأنِ القُرآنِ كما أشيرَ إليه في مطلعِ سورةِ يس وسورةِ الزخرفِ وتنبيهٌ على مناطِ اهتدائِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ومدارِ رشادِه كأنَّه قيلَ والقرآنِ الذي هُو عَلَمٌ في الهدايةِ إلى مناهجِ الدِّينِ ومسالكِ الحقِّ ما ضلَّ عنَها محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام وما غَوى والخطابُ لقريشٍ وإيرادُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بعنوان صاحبيته لهم وللإيذان بوقوفِهم على تفاصيلِ أحوالِه الشريفةِ وإحاطتِهم خُبراً ببراءتِه عليه الصلاة والسلام مما نفى عنه بالكلية واتصافه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بغايةِ الهُدَى والرشادِ فإنَّ طولَ صُحبتهِم له عليهِ الصَّلاةُ والسلام ومشاهدتهم لمحاسن شؤنه العظيمةِ مقتضيةٌ لذلكَ حتْمَاً وتقييدُ القسمِ بوقت الهَوِيِّ على الوجهِ الأخيرِ ظاهرٌ وأمَّا على الأولينِ فلأنَّ النجمَ لا يهتدِي به السَّارِي عندَ كونِه في وسطِ السماءِ ولا يعلمُ المشرق من المغرب والا الشمالِ من الجنوبِ وإنما يهتدِي بهِ عندَ هبوطِه أو صعودِه معَ ما فيهِ من كمالِ المناسبةِ لما سيُحكى من تدلِّي جبريلَ من الأفقِ الأَعْلى ودنوِّه منْهُ عليهما السَّلامُ هذا هو اللائقُ بشأنِ التنزيلِ الجليلِ وأما حملُ هويه على انتثارِه يومَ القيامةِ أو على انقضا النجمِ الذي يرجمُ بهِ أو حملُ النجمِ على النباتِ وحملُ هويهِ على سقوطِه على الأرضِ أو

9 { على ظهورِه منها فمما لا يناسبُ المقامَ

3

{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} أي وما يصدرُ نطقُه بالقرآنِ عن هَوَاهُ ورأيهِ أصلاً فإنَّ المرادَ استمرارُ نفي النطقِ عن الهوى لا نَفيُ استمرارِ النطقِ عنه كما مر مرار

4

{إِنْ هُوَ} أي مَا الذي ينطقُ به من القرآنِ {إِلاَّ وَحْىٌ} من الله تعالى وقوله تعالى {يُوحَى} صفةٌ مؤكدةٌ لوحي رافعةٌ لاحتمالِ المجازِ مفيدةٌ للاستمرارِ التجدديِّ

5

{عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} أي مَلَكٌ شديدٌ قُواهُ وهو جبريلَ عليهِ السَّلامُ فإنَّه الواسطةُ في إبداءِ الخوارقِ وناهيكَ دليلاً على شدةِ قوتِه أنه قلعَ قُرَى قومِ لوطٍ من الماءِ الأسودِ الذي هو تحتَ الثَّرى وحملَها على جناحِه ورفعَها إلى السماءِ ثم قلبَها وصاحَ بثمودَ صيحةً فأصبحُوا جاثمينَ وكانَ هبوطُه على الأنبياءِ وصعودُه في أسرعَ منْ رجعةِ الطرفِ

6

{ذُو مِرَّةٍ} أي حصافةٍ في عقلِه ورأيِه ومتانةِ في دينِه {فاستوى} عطفٌ على علَّمه بطريقِ التفسير فإنَّه إلى قولِه تعالى ما أَوْحَى بيانٌ لكيفيةِ التعليمِ أي فاستقامَ على صورته التى خلقه الله تعالى عليها دون الصورة التي كانَ يتمثلُ بها كلما هبطَ بالوحَيْ وذلكَ أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أحبَّ أنْ يراهُ في صورتِه التي جُبلَ عليها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراءَ فطلعَ له جبريلُ عليهِ السَّلامُ من المشرقِ فسدَّ الأرضَ من المغربِ وملأَ الأفقَ فخرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل على السَّلامُ في صورةِ الآدميينَ فضمَّهُ إلى نفسِه وجعلَ يمسحُ الغُبارَ عن وجههِ قيلَ ما رآهُ أحدٌ من الأنبياءِ في صورتِه غيرُ النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ ولاسلام فإنه رآه مرتينِ مرةً في الأرضِ ومرةً في السماءِ وقيلَ استوَى بقوتِه على ما جُعلَ له من الأمرِ وقولُه تعالَى

7

{وهو بالأفق الأعلى} أى أفقِ الشمسِ حالٌ منْ فاعلٍ استوى

8

{ثُمَّ دَنَا} أي أرادَ الدنوَّ من النبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ {فتدلى} أي استرسلَ من الأفقِ الأَعْلى مع تعلقٍ بهِ فدنَا من النبيِّ يقالُ تدلّت الثمرةُ ودلَّى رجليهِ من السريرِ وأدلَى دلْوَهُ والدَّوالي الثمرُ المعلقُ

9

{فَكَانَ} أي مقدارُ امتدادِ ما بينَهما {قَابَ قَوْسَيْنِ} أي مقدارَهُما فإنَّ القابَ والقيب والقادر والقِيْدَ والقِيْسَ

} 4 10 المقدارُ وقيلَ فكانَ جبريلَ عليهِ السَّلامُ كَما في قولكَ هو مِنِّي معقدُ الإزارِ {أَوْ أدنى} أيْ عَلى تقديرِكم كَما في قوله تعالى أويزيدون والمرادُ تمثيلُ ملَكةِ الاتصالِ وتحقق استماعِه لما أُوحيَ إليه بنفِي البُعدِ المُلبسِ

10

{فأوحى} أي جبريلَ عليهِ السَّلامُ {إلى عَبْدِهِ} عبدِ الله تعالَى وإضمارُه قبلَ الذكرِ لغايةِ ظُهورِه كَما في قوله تعالى ما ترك على ظرهها {مَا أوحى} أيْ من الأمورِ العظيمةِ التي لا تَفِي بها العبارةُ أو فأَوْحَى الله تعالى حينئذٍ بواسطةِ جبريلَ ما أَوْحى قيلَ أَوْحى إليهِ أنَّ الجنةَ محرمةٌ على الأنبياءِ حتى تدخلَها وعلى الأممِ حتى تدخلَها أمتكَ

11

{مَا كَذَبَ الفؤاد} أي فؤادُ محمَّدٍ عليهِ الصَّلاة والسَّلام {مَا رأى} أي ما أراه ببصرِه من صورةِ جبريلَ عليهما السَّلامُ أي ما قال فؤداه لما رآهُ لم أعرفْكَ ولو قال ذلك لكنا كاذباً لأنه عرفَهُ بقلبِه كما رآهُ ببصرِه وقُرىءَ ما كذَّب أي صدَّقَهُ ولم يشك أن جبريلُ بصورتِه

12

{أفتمارونه على مَا يرى} أي أتكذبونَهُ فتجادلونه على ما يراهُ مُعاينةً أو أبعدَ ما ذُكر من أحوالِه المنافيةِ للمماراةِ تمارونَهُ من المراءِ وهو الملاحاةُ والمجادلةُ واشتقاقُه من مَرَى الناقةَ كأنَّ كلاًّ من المتجادلينَ يمرِي ما عندَ صاحبه وقرىء أتفمرونه أي أفتغلبونَهُ في المراءِ منْ ماريتُه فمريته ولِما فيهِ من مَعْنى الغلبةِ عُدِّيَ بعَلَى كما يقالُ غلبتُه عَلى كَذَا وقيلَ أفتمرونَهُ أفتجحدونَهُ من مَراهُ حقَّهُ إذَا جحدَهُ

13

{ولقد رآه نَزْلَةً أخرى} أي وبالله لقَدْ رأى جبريلَ في صورتِه مرةً أُخرى من النزولِ نصبت النزلُةَ نصبَ الظرفِ الذي هو مرةٌ لأن الفَعْلةَ اسمٌ للمرةِ من الفعلِ فكانتْ في حكمها وقيل تقديره ولقدرآه نازلاً نزلةً أُخْرى فنصبُها على المصدرِ

14

{عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} هي شجرةُ نبْقٍ في السماءِ السابعةِ عن يمينِ العرشِ ثمرُها كقِلال هَجَرَ وورقُها كآذانِ الفيولِ تنبعُ من أصلِها الأنهارُ التي ذكرَهَا الله تعالَى في كتابِه يسير الراكب في ظلها سبعين عما لا يقطعُها والمُنْتهى موضعُ الانتهاءِ أو الانتهاءُ كأنَّها في مُنْتَهى الجنةِ وقيلَ إليها يَنْتهي علمُ الخلائقِ وأعمالهم ولايعلم أحدٌ ما وراءَها وقيلَ ينتهِي إليها أرواحُ الشهداءِ وقيلَ ينتهي إليها ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتِها قيل إضافةُ السدرةِ إلى المُنْتهى إما إضافةُ الشيءِ إلى مكانِه كقولك شجر البستان وإضافة المحلِّ إلى الحالِّ كقولك كتابُ الفقهِ والتقديرُ سدرةٌ عندَها مُنتهى علومِ الخلائقِ أو إضافةُ المِلكَ إلى المالك على حذفِ الجارِّ والمجرورِ أي سدرةُ المُنْتَهى إليهِ هو الله عزَّ وجلَّ قالَ تعالَى إلى ربِّكَ المُنْتهى

} 0 15

15

{عِندَهَا جَنَّةُ المأوى} أي الجنةُ التي يأوِي إليها المتقون أو أوراح الشهداءِ والجملةُ حاليةٌ وقيلَ الأحسنُ أن يكونَ الحالُ هُو الظرفَ وجنةُ المَأْوى مرتفعٌ به على الفاعليةِ وقولُه تعالى

16

{إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} ظرفُ زمانٍ لرآهُ لا لِما بعَدُه من الجملةِ المنفيةِ كما قيلَ فإنَّ مَا النافيةَ لا يعمل بعدَها فيما قبلَها والغشيانُ بمعنى التغطية والسترِ ومنه الغَوَاشِي أو بمَعْنى الإتيانِ يقالُ فلانٌ يشغاني كل حين أى يأتين والأولُ هو الأليقُ بالمقامِ وفي إبهامِ ما يغشَى من التفخيم مالا يخفى وتأخيرُه عن المفعولِ للتشويقِ إليهِ أي ولقد رآهُ عندَ السدرةِ وقتَ ما غشِيَها مما لا يكتنههه الوصفُ ولا يَفي به البيانُ كيفاً ولا كمَّاً وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ استحضاراً لصورتِها البديعةِ وللإيذانِ باستمرار الغشيانِ بطريقِ التجددِ وقيلَ يغشاهَا الجمُّ الغفيرُ من الملائكةِ يعبدونَ الله تعالَى عندَها وقيلَ يزورُونها متبرّكينَ بها كما يزورُ الناسُ الكعبةَ وقيلَ يغشاهَا سبحاتُ أنوارِ الله عزَّ وجلَّ حين يتجلَّى لها كما يتلجى للجبل لكنها أقوى من الجبلِ وأثبتَ حيثُ لم يُصبْها ما أصابَهُ من الدكِّ وقيلَ يغشاهَا فَراشٌ أو جرادٌ من ذهبٍ وهو قولُ ابن عبَّاسٍ وابن مسعود والضخاك وروى عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنَّه قالَ رأيتُ السدرةَ يغشاها فَراشٌ من ذهبٍ ورأيت على كل ورقة ملكا قائما يسبح الله تعالَى وعنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يغشاهَا رفرف من طيرٍ خُضرٍ

17

{مَا زَاغَ البصر} أي ما مالَ بصرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عما رآهُ {وَمَا طغى} وما تجاوزُه مع ما شاهده هناكَ من الأمورِ العجيبةِ المذهلة مالا يُحصَى بل أثبتَهُ إثباتاً صحيحا متيقنا أوما عدلَ عن رؤيةِ العجائبِ التي أمر ابرؤيتها ومُكنَ منَها وما جاوزَها

18

{لقد رأى من آيات رَبّهِ الكبرى} أيْ والله لقدْ رَأَى الآياتِ التي هي كُبراهَا وعُظماهَا حين عُرج به إلى السماءِ فأرى عجائب الملك والملكوت مالا يُحيط به نِطاقُ العبارةِ ويجوزُ أنْ تكونَ الكُبرى صفةً للآياتِ والمفعولُ محذوفٌ أي شيئاً عظيماً من آياتِ ربِّه وأن تكونَ من مزيدة

19

{أفرأيتم اللات والعزى} {ومناة الثالثة الأخرى} هي أصنامٌ كانتْ لهم فاللاتُ كانتْ لثقيفٍ بالطائفِ وقيلَ لقريشٍ بنخلةَ وهيَ فعَلة من لَوَى لأنَّهم كانُوا يلوُون علَيها ويطوفُونَ بها وقُرِىءَ بتشديدِ التاءِ على أنَّه اسمُ فاعل اشتر به رجلٌ كانَ يلتُّ السمنَ بالزيتِ ويطعمُه

} 2 2 { الحاجَّ وقيلَ كان يلتُّ السويقَ بالطائفِ ويطعمُه الحاجَّ فلمَّا ماتَ عكفُوا على قبرِه يعبدونَهُ وقيلَ كانَ يجلسُ على حجرٍ فلما ماتَ سُمِّيَ الحجرُ باسمِه وعُبدَ منْ دونِ الله وقيلَ كانَ الحجرُ على صورتِه والعُزَّى تأنيثُ الأعزِّ كانت لغطفان رهى سَمُرةً كانُوا يعبدونَها فبعثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بنَ الوليدِ فقطعَها فخرجتْ منَها شيطانةٌ ناشرةً شعرَها واضعةً يدَها على رأسِها وهي تُولْوِلُ فجعلَ خالدٌ يضربُها بالسيفِ حتى قتلَها فأخبرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ تلكَ العُزَّى ولنْ تعبد أباد ومناةُ صخرةٌ لهُذَيلٍ وخُزاعةَ وقيلَ لثقيفٍ وكأنَّها سميتْ مناةَ لأنَّ دماءَ النسائِكَ تُمْنَى عندَها أي تُراقُ وقُرىءَ ومناءة وهي مفعلة من النواء كأنَّهم كانُوا يستمطرونَ عندَها الأنواء تبركا بها والأخرى صفةُ ذمَ لهَا وهي المتأخرةُ الوضيعةُ المقدارِ وقدْ جوزأن تكونَ الأوليةَ والتقدمَ عندهم للاتِ والعُزَّى ثمَّ أنَّهم كانُوا معَ ما ذُكِرَ من عبادتِهم لها يقولونَ إنَّ الملائكةَ وتلكَ الأصنامَ بناتُ الله تعالَى الله عن ذلكَ عُلواً كبيراً فقيل لهم توبيخا وتبكيتاأفرأيتم الخ والهمزةُ للإنكارِ والفاءُ لتوجيهه إلى ترتيب الرؤيةِ على ما ذكر من شؤن الله تعالى المنافيةِ لها غايةَ المُنافاةِ وهي قلبيةٌ ومفعولُها الثَّانِي محذوفٌ لدلالةِ الحال عليه فالمعنى عقيب ما سمعتُم من آثارِ كمالِ عظمةِ الله عزَّ وجلَّ في مُلكِه وملكوتِه وجلالِه وجبروتِه وإِحكامِ قدرتِه ونفاذِ أمرِه في الملأ الأَعْلى وما تحتَ الثَّرى ومابينهما رأيتُم هذهِ الأصنامَ مع غايةِ حقارتِها وقماءتِها بناتٍ له تعالَى وقيلَ المعَنْى أفراءيتم هذه الأصنام مع حقراتها وذلَّتِها شركاءَ الله تعالَى معَ ما تقدمَ من عظمته وقيل أخبرون عن آلهتِكم هلْ لهَا شئ من القدرة والعظمة الت وُصفَ بها ربُّ العزةِ في الآي السابقةِ وقيلَ المَعْنى أظننتُم أنَّ هذه الأصنامَ التي تعبدونها تنفعُكم وقيل أظننتُم أنَّها تشفعُ لكُم في الآخرةِ وقيل أفرأيتُم إلى هذهِ الأصنامِ إنْ عبدتُموها لا تنفعْكُم وإنْ تركتُموَها لا تضرَّكم والأولُ هو الحقُّ كما يشهدُ به قولُه تعالَى

21

{أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الانثى} شهادةٌ بينةً فإنَّه توبيخٌ مبنيٌّ على التوبيخِ الأولِ وحيثُ كانَ مدارُه تفضيلَ جانب أنفسهم على حنابة تعالى بنسبتِهم إليه تعالى الإناثَ مع اختيارِهم لأنفسِهم الذكورَ وجبَ أن يكون مناطُ الأولِ نفسَ تلك النسبةِ حتَّى يتسنَّى بناءُ التوبيخ الثان وعليه ظاهر أنْ ليسَ في شيءٍ من التقديراتِ المذكورةِ من تلكَ النسبةِ عينٌ ولا أثرٌ وأما ما قيلَ من أنَّ هذه الجملةَ مفعول ثاني للرؤيةِ وخلوُّها عن العائدِ إلى المفعولِ الأولِ لما أنَّ الأصلَ أخبرونِي أن اللاتَ والعُزَّى ومناةَ ألكُم الذكرُ وله هُنَّ أي تلك الأصنام فوضع موضع الأُنثى لمراعاةِ الفواصلِ وتحقيقِ مناطِ التوبيخِ فمعَ ما فهي من التمحلاتِ التي ينبغي تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن أمثالها يقتضِي اقتصارَ التوبيخِ على ترجيحِ جانبِهم الحقير على جنابِ الله العزيز الجليلِ من غيرِ تعرضٍ للتوبيخِ على نسبةُ الولِد إليه سبحانَه

22

{تِلْكَ} إشارةٌ إلى القسمةِ المنفهمةِ من الجملةِ الاستفهاميةِ {إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} أي جائرةً حيثُ جعلتُم له تعالى ما تستنكرون

} 5 2 { منه وهي فُعْلَى من الضيزِ وهُو الجورُ لكنَّه كُسرَ فاؤُه لتسلمَ الياءُ كما فُعلَ في بِيْضٍ فإنَّ فِعْلى بالكسرِ لم يأتِ في الوصفِ وقُرِىءَ ضئزى بالهزة من ضأَزَهُ إذا ظلمَهُ على أنه مصدر نعت به وقُرِىءَ ضَيزى إمَّا على أنَّه مصدرٌ وصف به كدعوى أو على أنه صفةٌ كسَكْرى وعطشى

23

{إِنْ هِىَ} الضميرُ للأصنامِ أيْ ما الأصنامُ باعتبار الأولوهية التي يدَّعُونها {إِلاَّ أَسْمَاء} محضةٌ ليسَ تحتَها مما تنبىءُ هي عنْهُ من معنى الأولوهية شيءٌ ما أصلاً وقوله تعالى {سَمَّيْتُمُوهَا} صفة لأسماء وضميرها لها لا للأصنام والمعَنْى جعلتمُوها أسماءً لا جعلتُم لها أسماءً فإنَّ التسميةَ نسبةً بين الاسمِ والمُسمَّى فإذا قيستْ إلى الإسمِ فمعناهَا جعلُه إسماً للمسمَّى وإن قيستْ إلى المسمَّى فمعناهَا جعلُه مسمَّى للإسمِ وإنما اختيرَ ههنا المعَنْى الأولُ من غيرِ تعرضٍ للمسمَّى لتحقيق أن تلكَ الأصنامَ التي يسمُّونها آلهةً أسماءً مجردةٌ ليسَ لها مسمياتٌ قطعاً كما في قوله تعالى مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا الآيةَ لا أنَّ هناكَ مسمياتٍ لكنَّها لا تستحقُ التسميةَ وقيلَ هي للأسماءِ الثلاثةِ المذكورةِ حيثُ كانُوا يطلقونَها على تلك الأصنامِ لاعتقادِهم أنَّها تستحقُّ العكوفَ على عبادتِها والإعزازَ والتقربَ إليها بالقرابينِ وأنتَ خبيرٌ بأنَّه لو سُلِّم دلالةُ الأسماءِ المذكورةِ على ثبوت تلك المعانِي الخاصَّةِ للأصنامِ فليسَ في سلبِها عنها مزيدُ فائدةٍ بل إنَّما هي في سلبِ الألوهيةِ عنها كما هو زعمُهم المشهورُ في حقِّ جميعِ الأصنامِ على وجهٍ برهانيَ فإنَّ انتفاءَ الموصوفِ يقتضِي انتفاءَ الوصفِ بطريقِ الأولويةِ أيْ ما هيَ إلا أسماءٌ خالية عن المسميات وضعتموها {أنتم ولا آباؤكم} بمقتضَى أهوائِكم الباطلةِ {مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان} برهانٍ تتعلقونَ به {إِن يَتَّبِعُونَ} التفاتٌ إلى الغيبة للإذيان بأنَّ تعدادَ قبائحِهم اقتضَى الإعراضِ عنهم وحكايةِ جناياتِهم لغيرِهم أي ما يتبعونَ فيما ذُكرَ من التسميةِ والعملِ بموجِبها {إِلاَّ الظن} إلا توهَم أَن ما هُم عليهِ حقٌّ توهماً باطلاً {وَمَا تَهْوَى الأنفس} أي تشتهيِه أنفسُهم الأمارةُ بالسُّوءِ {وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الهدى} قيلَ هي حالٌ من فاعلِ يتبعونَ أو اعتراضٌ وأياً ما كان ففيهِ تأكيدٌ لبطلانِ اتباعِ الظنِّ وهو النفسُ وزيادةُ تقبيحٍ لحالِهم فإنَّ اتباعهما من أيِّ شخصٍ كان قبيحٌ وممن هداهُ الله تعالى بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم وإنزالِ الكتابِ أقبحُ

24

{أَمْ للإنسان مَا تمنى} أمْ منقطعةٌ وما فيَها من بَلْ للانتقالِ من بيانِ أنَّ ما هُم عليه مستندٍ إلا إلى توهمِهم وهى أنفسِهم إلى بيانِ أنَّ ذلكَ ممَّا لا يُجدي نفعاً أصلاً والهمزةُ للإنكارِ والنَّفي أي ليسَ للإنسانِ كلُّ ما يتمنَّاهُ وتشتهيِه نفُسه من الأمورِ التي من جُمْلتِها أطماعُهم الفارغةُ في شفاعةِ الآلهةِ ونظائرِها التي لا تكادُ تدخلُ تحتَ الوجودِ

25

{فَلِلَّهِ الأخرة والأولى} تعليلٌ لانتفاءِ أنْ يكونَ للإنسانِ ما يتمنَّاهُ حتماً فإنَّ اختصاصَ

} 9 26 أمور الآخرة والأولى جميع بهِ تعالى مقتضٍ لانتفاءِ أن يكونَ له أمرٌ من الأمور وقولُه تعالى

26

{وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السماوات لاَ تُغْنِى شفاعتهم شَيْئاً} إقناطٌ لهم عمَّا علَّقوا به أطماعَهم من شفاعةِ الملائكةِ لهم موجبٌ لإقناطِهم من شفاعةِ الأصنامِ بطريقِ الأولويةِ وكم خبريةٌ مفيدةٌ للتكثيرِ محلُّها الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ هي الجملةُ المنفيةُ وجمعُ الضميرِ في شفاعتِهم مع إفرادِ المَلكِ باعتبارِ المَعْنى أي وكثيرٌ من الملائكةِ لا تُغني شفاعتُهم عند الله تعالى شيئاً من الإغناءِ في وقتٍ من الأوقاتِ {إلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله} لهمُ في الشفاعةِ {لِمَن يَشَاء} إنْ يشفعوا له {ويرضى} ويراهُ أهلاً للشفاعةِ من أهلِ التوحيدِ والإيمانِ وأمَّا مَنْ عداهُم من أهلِ الكفرِ والطغيانِ فهمُ من إذنِ الله تعالى بمعزل ومن الشفاعة ألف منزلٍ فإذا كانَ حالُ الملائكةِ في بابِ الشفاعةِ كما ذُكِرَ فما ظنُّهم بحالِ الأصنامِ

27

{إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} وبما فيها من العقابِ على ما يتعاطَونه من الكفرِ والمَعَاصي {لَيُسَمُّونَ الملائكة} المنزهينَ عن سماتِ النقصان على الإطلاق يسمون كلَّ واحدٍ منهم {تَسْمِيَةَ الأنثى} فإن قولَهم الملائكةُ بناتُ الله قولُ منهُم بأنَّ كلاً منهم بنتُه سبحانَهُ وهي التسميةُ بالأُنثى وفي تعليقِها بعدمِ الإيمانِ بالآخرةِ إشعارٌ بأنَّها في الشناعةِ والفظاعةِ واستتباعِ العقوبةِ في الآخرةِ بحيثُ لا يجترىءُ عليها إلا من يؤمنُ بَها رأساً وقولُه تعالى

28

{وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} حالٌ من فاعِل يسمون أى يسمونه والحالُ أنَّه لا علمَ لهم بما يقولونَ أصلاً وقُرىءَ بَها أي بالملائكةِ أو بالتسميةِ {إِن يَتَّبِعُونَ} في ذلكَ {إِلاَّ الظنَّ} الفاسدَ {وَإِنَّ الظن} أي جنسَ الظنِّ كما يلوحُ به الإظهارُ في موقعِ الإضمارِ {لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا} من الإغناءِ فإن الحقَّ الذي هو عبارةٌ عن حقيقةِ الشيءِ لا يُدرك إلا بالعلمِ والظنُّ لا اعتدادَ به في شأنِ المعارفِ الحقيقيةِ وإنما يعتدُّ به في العملياتِ وما يؤدِّي إليها

29

{فأعرض عن من تولى عَن ذِكْرِنَا} أي عنْهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوسل به إلى وصفُهم بما في حيزِ صلتِه من الأوصافِ القبيحةِ وتعليلِ الحكمِ بهَا أيْ فأعرضْ عمَّن أعرضَ عن ذكرِنا المفيدِ للعلمِ اليقينيِّ وهو القُرآنُ المُنطوي عَلى علومِ الأولينَ والآخرينَ المذكرِ لأمورِ الآخرةِ أو عن ذكرِنا كما ينبغِي فإنَّ ذلكَ مستتبعٌ لذكرِ الآخرةَ وما فيها من الأمور المرغوبِ فيها والمرهوبِ عنَها {وَلَمْ يُرد إِلاَّ الحياةَ الدنيا} راضياً بها قاصراً نظرَهُ عليها والمرادُ النهيُ عن دعوتِه والاعتناءُ بشأنِه قال من أعرضَ عمَّا ذُكرَ وانهمكَ في الدُّنيا بحيثُ كانتْ هي مُنتهَى همتِه وقُصارَى سعيِه

} 1 30 لا تزيدُه الدعوةُ إلى خلافِها إلا عناداً وإصراراً على الباطلِ

30

{ذلك} أي ما أدَّاهم إلى ما هم فيه من التولِّي وقصْرِ الإرادةِ على الحياةِ الدُّنيا {مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم} لا يكادونَ يجاوزونَهُ إلى غيرهِ حتَّى تُجديهم الدعوةُ والإرشادُ وجمعُ الضميرِ في مبلغُهم باعتبارِ مَعْنى مَنْ كما أن إفراده فيما سبق باعتبارِ لفظِها والمرادُ بالعلمِ مطلقُ الإدراكِ المنتظمِ للظنِّ الفاسدِ والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَها من قصرِ الإرادةِ على الحياةِ الدُّنيا وقولُه تعالَى {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أعلم بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى} تعليلٌ للأمرِ بالإعراضِ وتكريرُ قولِه تعالى هو أعلمُ لزيادةِ التَّقريرِ والإيذانِ بكمالِ تباينِ المعلومَينِ والمرادُ بمَنْ ضَلَّ منْ أصرَّ عليهِ ولم يرجعُ إلى الهُدَى أصلاً وبمَنْ اهتدَى من مَنْ شأنُه الاهتداءُ في الجملةِ أي هو المبالغُ في العلمِ بمن لا يرعوِي عنِ الضلالِ أبداً وبمن يقبلُ الاهتداءَ في الجملةِ لا غيرُه فلا تُتعبْ نفسَك في دعوتِهم فإنه من القبيلِ الأولِ وفي تعليلِ الأمرِ بإعراضِه عليهِ السلامُ عن الاعتناءِ بأمرِهم باقتصارِ العلمِ بأحوالِ الفريقينِ عليهِ تعالَى رمزٌ إلى أنَّه تعالَى يعاملُهم بموجبِ علمِه بهم فيجزى كلاً منْهم بما يليقُ بهِ من الجزاءِ ففيهِ وعيدٌ ووعدٌ ضِمناً كما سيأتي صَريحاً

31

{ولله ما في السماوات وَمَا فِي الأرض} أي خلقا وملكا لالغيره أصلا لا استقلال ولا اشتراكاً وقوله تعالى {لِيَجْزِىَ} الخ متعلقٌ بما دلَّ عليهِ أعلمُ الخ وما بينهما اعتراض مقرر لما قبلَهُ فإنَّ كونَ الكلِّ مخلوقاً له تعالى ممَّا يقررُ علمَهُ تعالَى بأحوالِهم أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ كأنَّه قيلَ فيعلمُ ضلالَ من ضلَّ واهتداءَ من اهتدَى ويحفظُهما ليجزيَ {الذين أساؤوا بِمَا عَمِلُواْ} أي بعقابِ ما عملُوا من الضلالِ الذي عبَّر عنْهُ بالإساءةِ بياناً لحالهِ أو بسببِ ما عملوا {وَيِجْزِى الذين أَحْسَنُواْ} أي اهتدوا {بالحسنى} أي بالمثوبةِ الحْسْنَى التي هي الجنةُ أو بسببِ أعمالِهم الحُسْنَى وقيلَ متعلقٌ بما دل عليه قوله تعالى وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فى الأرض كأنَّه قيلَ خلقَ ما فيهمَا ليجزيَ الخ وقيلَ متعلقٌ بضلَّ واهتدَى على أن اللامَ للعاقبةِ أي هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ ليؤول أمره إلى أن يجزيَهُ الله تعالى بعملِه وبمنِ اهتدَى ليؤولَ أمرُهُ إلى أنْ يجزيَهُ بالحُسْنَى وفيه من البعد مالا يَخْفى وتكريرُ الفعلِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بأمرِ الجزاءِ والتنبيهِ على تباينِ الجزاءينِ

} 4 3 {

32

{الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم} بدل من الموصول الثان وصيغةُ الاستقبال في صلتِه للدلالةِ على تجددِ الاجتناب أو استمراره أو بيانٌ أو نعتٌ أو منصوبٌ على المدحِ وكبائرُ الإثمِ ما يكبرُ عقابُه من الذنوبِ وهو ما رتبَ عليه الوعيدُ بخصوصِه وقُرِىءَ كبيرَ الإثمِ على إرادةِ الجنسِ أو الشركِ {والفواحش} وما فُحش من الكبائِر خُصُوصاً {إِلاَّ اللمم} أي إلا ما قلَّ وصغُرَ فإنَّه مغفورٌ ممَّن يجتنبُ الكبائرَ قيلَ هي النظرةُ والغمزةُ والقبلةُ وقيلَ هي الخطرةُ من الذنبِ وقيلَ كلُّ ذنبٍ لم يذكرِ الله عليهِ حدَّاً ولا عذاباً وقيلَ عادةُ النفسِ الحينِ بعد الحين والاستثناءُ منقطعٌ {إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة} حيث يغفرُ الصغائرَ باجتنابِ الكبائرِ فالجملةُ تعليلٌ لاستثناءِ اللممِ وتنبيهٌ على أنَّ إخراجَهُ عن حُكمِ المؤاخذةِ به ليسَ لخلوهِ عن الذنبِ في نفسِه بل لسَعةِ المغفرةِ الربانَّيةِ وقيلَ المَعْنى له أن يغفرَ لمن يشاءُ من المؤمنينَ ما يشاءُ من الذنوبِ صغيرِها وكبيرها لعل تعقيب وعد المسييئين ووعدِ المحسنينَ بذلكَ حينئذٍ لئلاَّ ييأسَ صاحبُ الكبيرةِ من رحمتِه تعالى ولا يتوهَم وجوبَ العقابِ عليه تعالى {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} أى بأحولكم يعلمُها {إِذْ أَنشَأَكُمْ} في ضمنِ إنشاءِ أبيكم آدمَ عليهِ السَّلامُ {مّنَ الأرض} إنشاءً إجمالياً حسبَما مرَّ تقريرُه مراراً {وَإِذْ أَنتُمْ أجنة} أى وقت كونِكم أجنةً {فِى بُطُونِ أمهاتكم} على أطوار مخلتفة مترتبة لا يخفى عليها حالٌ من أحوالِكم وعملٌ من أعمالِكم التي منْ جُملتِها اللممُ الذي لولا المغفرةُ الواسعةُ لأصابكُم وبالُه فالجملةُ استئنافٌ مقرِّر لما قبلَها والفاءُ في قولِه تعالى {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} لترتيبِ النَّهي عن تزكيةِ النفسِ على ما سبقَ منْ أنَّ عدمَ المؤاخذةِ باللممِ ليسَ لعدمِ كونِه من قبيلِ الذنوبِ بلْ لمحضِ مغفرتِه تعالى مع علمه بصدروه عنكُم أي إذَا كانَ الأمرُ كذلكَ فلا تُثنوا عليها بالطهارةِ عن المعاصِي بالكليةِ أو بما يستلزمُها من زكاءِ العملِ ونماءِ الخير بلِ اشكرُوا الله تعالى على فضلهِ ومغفرتِه {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} المعاصيَ جميعاً وهو استئنافٌ مقررٌ للنَّهي ومشعرٌ بأنَّ فيهم منْ يتقيها بأسرِها وقيلَ كانَ ناسٌ يعملونَ أعمالاً حسنةً ثم يقولونَ صلاتُنا وصيامُنا وحجُّنا فنزلتْ وهَذا إذا كانَ بطريقِ الإعجابِ أو الرياءِ فأمَّا من اعتقدان ما عملَهُ من الأعمالِ الصالحةِ من الله تعالى وبتوفيقِه وتأييدهِ ولم يقصدْ بهِ التمدحَ لم يكنْ من المزكينَ أنفسَهُم فإن المسرةَ بالطاعةِ طاعةٌ وذكرَهَا شكرٌ

33

{أَفَرَأَيْتَ الذى تولى} أي عنِ اتباعِ الحقِّ والثباتِ عليهِ

34

{وأعطى قَلِيلاً} أي شيئاً قليلاً أو إعطاءً قليلاً {وأكدى} أي قطعَ العطاءَ

} 9 35 من قولِهم أكدَى الحافرُ إذا بلغَ الكُديةَ أي الصَّلابةَ كالصَّخرةِ فلا يمكنه أنْ يحفرَ قالُوا نزلتْ في الوليد ابن المغيرةَ كانَ يتبعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيَّره بعضُ المشركينَ وقالَ له تركتَ دينَ الأشياخِ وضلَّلتَهم فقالَ أخشَى عذابَ الله فضمن أنْ يتحملَ عنه العذابَ إن أعطاهُ بعضَ مالِه فارتدَّ وأعطاهُ بعضَ المشروطِ وبخلَ بالباقِي وقيلَ نزلتْ في العاصِ بنِ وائلٍ السَّهميِّ لما كان يوافق النبي عليه الصلاةَ والسلام في بعضِ الأمورِ وقيلَ في أبي جهلٍ كان ربما يوافق الرسول عليه الصلاة والسلام في بعضِ الأمورِ وكان يقولُ والله ما يأمرُنا محمدٌ إلا بمكارمِ الأخلاقِ وذلكَ قولُه تعالى وأعطى قَلِيلاً وأكدى والأولُ هو الأشهرُ المناسبُ لما بعدَه من قوله تعالى

35

{أعنده عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى} الخ أي أعندَهُ علمٌ بالأمورِ الغيبيَّةِ التي منْ جُملِتها تحمّلُ صاحبِه عنه يومَ القيامةِ

36

{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ موسى} {وإبراهيم الذى وفى} أيْ وفَّر وأتمَّ ما ابتُلي به من الكلماتِ أو أُمرَ به أو بالغَ في الوفاءِ بما عاهدَ الله وتخصيصه بذلك لاحتماله مالم يحتملْهُ غيرُه كالصبرِ على نار نمروذ حتى إذا إنه أتاهُ جبريلُ عليهِ السَّلامُ حينَ يُلقى في النَّارِ فقالَ ألكَ حاجةٌ فقالَ أمَّا إليكَ فَلاَ وعلى ذبحِ الولدِ ويُروَى أنَّه كانَ يمشِي كلَّ يومٍ فرسخاً يرتادُ ضيفاً فإنْ وافقَهُ أكرمَهُ وإلا نَوَى الصومَ وتقديمُ مُوسى لما أنَّ صحفَهُ التي هي التوارة أشهرُ عندَهُم وأكثرُ

38

{أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} أي أنهُ لا تحملُ نفسٌ من شأنِها الحملُ حِملَ نفسٍ أُخْرَى عَلى أنَّ أنْ هيَ المخففةُ منَ الثقيلةِ وضميرُ الشأنِ الذي هو اسمُها محذوفٌ والجملةُ المنفيةُ خبرُها ومحلُّ الجملةُ الجرُّ على أنَّها بدلٌ ممَّا في صحفِ مُوسى أو الرفعِ على أنَّها خبرٌ مبتدإٍ محذوفٍ كأنَّهُ قيلَ ما في صحفِهما فقيلَ هو أنْ لا تزرُ الخ والمَعْنى أنَّه لا يُؤاخذُ أحدٌ بذنبِ غيرِه ليتخلصَ الثَّانِي عن عقابةِ ولا يقدحُ في ذلك قولُه عليه الصلاة والسلام من سَنَّ سُنَّةً سيئةً فعليهِ وزرُهَا ووزرُ مَنْ عمِلَ بها إلى يومِ القيامةِ فإنَّ ذلكَ وزرُ الإضلالِ الذي هُو وزرُهُ وقولُه تعالَى

39

{وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} بيانٌ لعدمِ انتفاعِ الإنسانِ بعملِ غيرِه من حيثُ جلبُ النفعِ إليهِ إثرَ بيانِ عدمِ انتفاعِه بهِ منْ حيثُ دفعُ الضررِ عنْهُ وأما شفاعةُ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ واستغفارُ الملائكةِ عليهم السَّلامُ ودعاءُ الأحياءِ للأمواتِ وصدقتُهم عنُهم وغيرُ ذلكَ ممَّا لا يكادُ يُحصَى من الأمورِ النافعةِ للإنسانِ مع أنَّها ليستْ من عملِه قطعاً فحيثُ كان مناطُ منفعةِ كلِّ منهَا عمله الذي هو الإيمانُ والصَّلاحُ ولم يكن لشيءٍ منها نفعٌ مَا بدونِه جُعل النافعُ نفسَ عملِه وإنْ

50 40 كان بانضمامِ عملِ غيرِه إليهِ وأنْ مخففةٌ كأختِها معطوفةٌ عليهَا وكَذا قولُه تعالَى

40

{وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} أي يُعرضُ عليهِ ويكشفُ له يومَ القيامةِ في صحيفتِه وميزانِه من أريتُه الشيءَ

41

{ثُمَّ يُجْزَاهُ} أي يُجزى الإنسانُ سعيَهُ يقالُ جزاهُ الله بعملِه وجَزَاهُ على عمله وجزاه عملِه بحذفِ الجارِّ وإيصالِ الفعلِ ويجوزُ أن يُجعلَ الضميرُ للجزاءِ ثم يُفسَّرَ بقولِه تعالى {الجزاء الأوفى} أو يبدلُ هو عنْهُ كما في قولِه تعالى وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ

42

{وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى} أي انتهاءَ الخلقِ ورجوعَهم إليهِ تعالى لا إلى غيرِه استقلالا ولا اشتراكا وقرىء بكسران على الابتداءِ

43

{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} أي هو خلقَ قُوتَي الضحكِ والبكاءِ

44

{وأنه هو أمات وأحيا} لا يقدرُ على الإماتةِ والإحياءِ غيرُه فإنَّ أثرَ القاتلِ نقضُ البنيةِ وتفريقُ الاتصالِ وإنما يحصلُ الموتُ عندَهُ بفعلِ الله تعالَى على العادةِ

45

{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى} تدفقُ في الرحمِ أو تخلقُ أو يقدرُ منها الولد من مى بمعنى قَدر

47

{وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى} أَى الإحياءَ بعد الموتِ وفاءً بوعدِه وقُرىءَ النشاءةَ بالمدِّ وهي أيضاً مصدرُ نشأَهُ

48

{وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى} وأعطَى القُنيةَ وهي ما يُتأثلُ من الأموالِ وأفردَها بالذكرِ لأنَّها أشرفُ الأموالِ أو أَرْضى وتحقيقُه جعلُ الرِّضا له قنيةً

49

{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى} أي ربُّ معبودِهم وهي العَبورُ وهي أشدُّ ضياءً من الغِميصاءِ وكانتْ خزاعةُ تعبدُها سنَّ لهم ذلكَ أبو كبشةَ رجلٌ من أشرافِهم وكانتْ قرِيشٌ تقولُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبو كبشةَ تشبيهاً له عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ به لمخالفتِه إيَّاهم في دينِهم

50

{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى}

هي قومُ هودٍ عليه السلام وعاد الأخرى إرم وقيلَ الأُولى القدماءُ لأنَّهم أُوْلى الأممِ هلاكاً بعدَ قوم نوح وقرىء عاد الاولى بحذف الهمزةِ ونقل ضمتها إلى اللام وعادَ لُّولى بإدغام التنوين في اللام وطرح همزة أولى وثقل حركتها إلى لام التعريف

51

{وَثَمُودُ} عطفٌ عَلى عاداً لأنَّ ما بعدَهُ لا يعملُ فيهِ وقُرِىءَ وثموداً بالتنيون {فَمَا أبقى} أي أحداً من الفريقينِ

52

{وَقَوْمَ نُوحٍ} عطفٌ عليهِ أَيْضاً {مِن قَبْلُ} أي من قبلِ إهلاكِ عادٍ وثمودَ {إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أظلم وأطغى} من الفريقين حيثُ كانُوا يؤذونَهُ وينفّرون الناسَ عنْهُ وكانُوا يحذرونَ صبيانَهُم أن يسمعُوا منه وكانوا يضربونَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حتَّى لا يكونُ به حَراكٌ وما أثر فيهم دُعاؤُه قريباً من ألفِ سنةٍ

53

{والمؤتفكة} هي قُرَى قومِ لوطٍ ائتفكتْ بأهلِها أي انقلبتْ بِهم {أهوى} أي أسقطَها إلى الأرضِ بعد أنْ رفعَها على جناحِ جبريلَ عليه السَّلامُ إِلَىَّ السماءِ

54

{فغشاها مَا غشى} من فنونِ العذابِ وفيه منَ التهويل والتفظيع مالا غاية وراءه

55

{فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تتمارى} تتشكك والخطاب للرسول عليه الصلاة والسَّلامُ على طريقةِ قولِه تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ أولكل أحدٍ وإسنادُ فعلِ التَّمارِي إلى الواحدِ باعتبارِ تعددِه بحسبِ تعددِ متعلقِه فإنَّ صيغةَ التفاعلِ وإن كانتْ موضوعة لإفادة صدور الفعل عن المتعدد ووقوعه عليه بحيث يكونُ كلٌّ منْ ذلك فاعلا ومفعولا معا لكنها قد تجرد عن المعنى الثاني فيراد بها المَعْنى الأولَ فقط كما في يتداعونهم أي يدعونهم وقد تُجرّد عنهم أيضاً فيُكتفى بتعدد الفعل بتعدد متعلّقه كما فيما نحن فيه فإن المِراء متعددٌ بتعدد الآلاء فتدبر وتسمية الأمور المعدودة آلاءَ مع أن بعضها نِقمٌ لِما أنها أيضاً نعم من حيث إنها نصرى للأنبياءِ والمؤمنين وانتقام لهم وفيها عظاتَ وعِبر للمعتبرين

56

{هذا نَذِيرٌ مّنَ النذر الأولى} هَذا إمَّا إشارةٌ إلى القُرآنِ والنذيرُ مصدرٌ أو إِلى الرسولِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ والنذيرُ بمَعْنى المُنذرِ وأياً ما كانَ فالتنوينُ للتفخيمِ ومِنْ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو نعتٌ لنذيرٌ مقررٌ له ومتضمنٌ للوعيدِ أي هَذا القرآنُ الذي تشاهدونَهُ نذيرٌ من قبيلِ الإنذاراتِ المتقدمةِ التي سمعتُم عاقبتَها أو هذا الرسولُ منذرٌ من جنسِ المنذرينَ الأولينَ والأُولى على تأويلِ الجماعةِ لمراعاةِ الفواصلِ وقد علمتُم أحوالَ قومِهم المنذرين وفي

62 57 تعقيبهِ بقولِه تعالى

57

{أَزِفَتِ الأزفة} إشعارٌ بأنَّ تعذيبَهُم مؤخرٌ إلى يَوْمِ القيامةِ أي دنتِ الساعةُ الموصوفةُ بالدنوِّ في نحوِ قولِه تعالى اقتربت الساعة

58

{لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ} أي ليسَ لها نفسٌ قادرةٌ على كشفِها عندَ وقوعِها إلا الله تعالَى لكنَّه لا يكشفُهَا أو ليسَ لها الآنَ نفسٌ كاشفةٌ بتأخيرِها إلا الله تعالَى فإنَّه المؤخِّرُ لَها أو ليسَ لها كاشفةٌ لوقتِها إلا الله تعالى كقوله تعالى لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ أو ليسَ لها من غيرِ الله تعالى كشفٌ على أنَّ كاشفةٌ مصدرٌ كالعافيةِ

59

{أَفَمِنْ هذا الحديث} أي القرآنِ {تَعْجَبُونَ} إنكاراً

60

{وَتَضْحَكُونَ} استهزاءً مع كونِه أبعدُ شيءٍ من ذلكَ {وَلاَ تَبْكُونَ} حُزناً على ما فرَّطُّتم في شأنِه وخوفاً من أنْ يَحيقَ بكُم ما حاقَ بالأممِ المذكورةِ

61

{وَأَنتُمْ سامدون} أي لاهونَ أو مستكبرونَ من سَمد البعيرُ إذا رفعَ رأسَهُ أو مغنونَ لتشغَلوا النَّاسَ عن استماعِه من السمودِ بمَعْنى الغناءِ على لغةِ حِميرَ أو خاشعونَ جامدونَ من السمودِ بمَعْنى الجمودِ والخشوعِ كما في قولِ مَنْ قالَ ... رَمَى الحِدْثانُ نِسْوةَ آلِ سَعْد بمقْدَارٍ سمدن له سجودا ... فرد شعروهن السود بيضا ورد وجوههن البيضَ سُوداً ... والجملةُ حالٌ مِنْ فاعلِ لا تبكونَ خَلاَ أنَّ مضمونَها على الوجه الأخير قيد للمنفى والإنكارُ واردٌ على نَفي البكاءِ والسمودِ معاً وعلى الوجوهِ الأُولِ قيدٌ للنفي والإنكارُ متوجهٌ إلى نفي البكاءِ ووجودِ السمودِ والأولُ أوفَى بحقِّ المقامِ فتدبرْ والفاء في قوله تعالى

62

{فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا} لترتيبِ الأمرِ أو موجبِه على ما تقررَ من بُطلانِ مقابلةِ القرآنِ بالإنكارِ والاستهزاءِ ووجوبِ تلقيهِ بالإيمانِ مع كمالِ الخضوعِ والخشوعِ أي وإذَا كانَ الأمرُ كذلِكَ فاسجدُوا لله الذي أنزلَهُ واعبدوا عن النبي عليه الصلاةَ والسلام من قرأ سورة النجم أعطاه الله تعالى عشر حسنات بعدد من صدق بمحمدٍ وجحدَ به بمكةَ شرفها الله تعالى

القمر 3 { بسم الله الرحمن الرحيم

القمر

{اقتربت الساعة وانشق القمر} وروى أنَّ الكُفَّارَ سألُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم آيةً فانشقَّ القمرُ قالَ ابن عباس رضي الله عنهُمَا انفلقَ فلقتينِ فلقةٌ ذهبتْ وفلقةٌ بقيتْ وقالَ ابنُ مسعودٍ رأيتُ حِراءَ بين فلتقى القمرِ وعنْ عثمانَ بنِ عطاءٍ عنْ أبيهِ أنَّ معناهُ سينشقُّ يومَ القيامةِ ويردُّه قولُه تعالى

2

{وإن يروا آية يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} فإنَّه ناطقٌ بأنَّه قدْ وقع وأنهم قد شاهدوه بعدَ مُشاهدةِ نظائرِه وقُرِىءَ وقد انشق القمر اقتربتِ الساعةُ وقدُ حصلَ منْ آياتِ اقترابِها أنَّ القَمرَ قدِ انشقَّ ومَعْنى الاستمرارِ الاطرادُ أو الاستحكامُ أيْ وإِنْ يَرَوا آيةً من آياتِ الله يُعرضُوا عنِ التأملِ فيها ليقفُوا على حقِّيتها وعلوِّ طبقتِها ويقولُوا سحرٌ مطردٌ دائمٌ يأت به محمدٌ عَلى مرِّ الزمانِ لا يكادُ يختلفُ بحالٍ كسائرِ أنواعِ السحرِ أو قويٌّ مستحكمٌ لا يمكنُ إزالتُه وقيلَ مستمرٌ ذاهبٌ يزولُ ولا يَبْقى تمنيةً لأنفسِهم وتعليلاً وهو الأنسبُ بغلوِّهِم في العِنادِ والمكابرة ويؤيده ما سيأت لردِّه وقُرِىءَ وإنْ يُرَوا على البناءِ للمفعولِ من الإراءةِ

3

{وكذبوا} أى بالنبي صلى الله عليه وسلم وما عاينوه مما أظهر الله تعالَى على يدِه من المعجزاتِ {واتبعوا أَهْوَاءهُمْ} التي زيَّنها الشيطانُ لهم أو كذَّبُوا الآيةَ التي هيَ انشقاقُ القمرِ واتَّبعُوا أهواءَهُم وقالُوا سحرَ القمرَ أو سحرَ أَعْيُننا والقمرُ بحاله وصنيعة الماضِي للدلالةِ على التحققِ وقولُه تعالى {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} استئنافٌ مسوقٌ لإقناطِهم عما علقوا به أما نيهم الفارغةَ من عدمِ استقرارِ أمره عليه الصلاة والسلام حسبمَا قالُوا سحرٌ مستمرٌّ ببيانِ ثباتِه ورسوخِه أي وكلُّ أمرٍ من الأمورِ مستقرٌّ أي مُنتهٍ إلى غايةٍ يستقرُّ عليَها لا محالةَ ومن جُملتِها أمرُ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فسيصير الى غاية يتيبين عندَهَا حقِّيتُه وعلُّو شأنِه وإبهامُ المستقَرِّ عليهِ للتَّنبيهِ على كمالِ ظُهور الحالِ وعدمِ الحاجةِ إلى التَّصريحِ بهِ وقيلَ المَعْنى كلُّ أمرٍ من أمرِهم وأمرِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مستقرٌّ أي سيثبتُ ويستقرُّ على حالةِ خذلانٍ أو نصرةٍ في الدُّنيا وشقاوةٍ أو سعادةٍ في الآخرةِ وقُرىء بالفتحِ على أنَّه مصدرٌ أو اسمُ مكانٍ أو اسمُ زمانٍ أي ذُو استقرارٍ أو ذُو موضعَ استقرارٍ أو ذُو زمانِ استقرارٍ

9 4 وبالكسرِ والجرِّ عَلى أنَّه صفة أمرَ وكلُّ عطفٌ على الساعةِ أيْ اقتربتِ الساعةُ وكلُّ أمرٍ مستقرٌّ

4

{وَلَقَدْ جَاءهُمْ} أي في القُرانِ وقولُه تعالَى {مّنَ الأنباء} أي أنباءِ القرونِ الخاليةِ أو أنباءِ الآخرةِ متعلق بمحذوف هو حال مما بعدَهُ أيْ وبالله لقد جاءهُم كائناً من الأنباء {ما فيه مزدجر} أي ازدجارٌ من تعذيبٍ أو وعيدٍ أو موضعُ ازدجار على ان تجريديةٌ والمَعْنى أنَّه في نفسِه موضعُ ازدجارٍ وتاءُ الافتعالِ تقلبُ دالاً مع الدالِ والذالِ والزَّاي للتناسبِ وقُرِىءَ مُزَّجَرٌ بقلبِها زاء وإدغامِها

5

{حِكْمَةٌ بالغة} غايتَها لا خللَ فَيها وهي بدلٌ مَا أو خبرٌ لمحذوفٍ وقُرِىءَ بالنصبِ حالاً منَها فإنَّها موصولةٌ أو موصوفةٌ تخصصتْ بصفتِها فساغَ نصبُ الحال عنها {فما تغن النذر} نفيٌ للإغناءِ أو إنكارٌ لهُ والفاءُ لترتيبِ عدمِ الإغناءِ على مجيءِ الحكمةِ البالغةِ مع كونِه مظنَّة للإغناءِ وصيغةُ المُضارعِ للدلالةِ على تجددِ عدمِ الإغناءِ واستمرارِه حسبَ تجددِ مجيءِ الزواجرِ واستمرارِه وما على الوجهِ الثانِي منصوبةٌ أي فأيُّ إغناء تُغني النذر وهوجمع نذيرٍ بمعنى المنذرِ أو مصدرٌ بمَعْنى الإنذارِ

6

{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} لعلمكَ بأنَّ الإنذارَ لا يُؤثرُ فيهم البتة {يوم يدع الداع} منصوبٌ بيخرُجونَ أو باذكُرْ والدَّاعِي إسرافيلُ عليهِ السَّلامُ ويجوزُ أنْ يكونَ الدعاءُ فيهِ كالأمرِ في قولِه تعالى كُنْ فَيَكُونُ وإسقاطا لياء للاكتفاءِ بالكسرِ تخفيفاً {إلى شَىْء نُّكُرٍ} أي منكرٍ فظيعٍ تنكرُه النفوسُ لعدمِ العهدِ بمثلِه وهو هَولُ القيامةِ وقُرِىءَ نُكْرٍ بالتخفيفِ ونكر بمَعْنى أنكر

7

{خُشَّعاً أبصارهم} حالٌ من فاعلِ {يُخْرِجُونَ} والتقديمُ لأنَّ العاملَ متصرفٌ أي يخرجونَ {مّنَ الأجداث} أذلةً أبصارُهم من شدةِ الهولِ وقُرِىءَ خاشعاً والإفرادُ والتذكيرُ لأنَّ فاعلَه ظاهرٌ غيرُ حقيقيِّ التأنيثِ وقُرِىءَ خاشعةً على الأصلِ وقُرِىءَ خُشَّعٌ أبصارُهم عَلَى الابتداءِ والخبرِ على أنَّ الجملةَ حالٌ {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} في الكثرةِ والتموج والتفرق في الأقطارِ

8

{مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع} مسرعينَ مادِّي أعناقِهُم إليهِ أو ناظرينَ إليهِ {يَقُولُ الكافرون} استئنافٌ وقع جوابا عما نشأَ من وصفِ اليومِ والأهوال وأهلِه بسوءِ الحالِ كأنَّه قيلَ فماذا يكونُ حينئذٍ فقيلَ يقولُ الكافرونَ {هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} أي صعبٌ شديدٌ وفي إسنادِ القولِ المذكورِ إلى الكفارِ تلويحٌ بأنَّ المؤمنينَ ليسُوا في تلكَ المرتبةِ من الشدةِ

9

{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} شروعٌ

} 4 10 في تعدادِ بعضِ ما ذكر من الأنباء الموجبةِ للازدجارِ ونوعُ تفصيلٍ لها وبيانٌ لعدمِ تأثرِهم بها تقريراً لفحْوَى قولِه تعالى فَمَا تُغْنِى النذر أي فعلَ التكذيبَ قبلَ تكذيب قومك قوم نوح وقولُه تعالَى {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} تفسيرا لذلكَ التكذيبِ المبهمِ كما في قوله تعالى وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبّ الخ وفيه مزيدة تقريرٍ وتحقيقٍ للتكذيبِ وقيلَ معناهُ كذَّبوه تكذيباً إثرَ تكذيبٍ كلَما خَلاَ منهم قرنٌ مكذبٌ جاءَ عقيبَه قرنٌ آخر مكذبٌ مثلُه وقيلَ كذبتْ قومُ نوحٍ الرسلَ فكذبُوا عبدنَا لأنَّه من جُملتِهم وفي ذِكرِه عليه الصلاة والسلام بعنوان العبوديةِ مع الإضافةِ إلى نونِ العظمةِ تفخيمٌ له عليه الصلاة السلام ورفعٌ لمحلِّه وزيادةُ تشنيعٍ لمكذبيهِ {وَقَالُواْ مَجْنُونٌ} أي لم يقتصرُوا على مجردِ التكذيبِ بل نسبُوه إلى الجنونِ {وازدجر} عطفٌ على قالُوا أي وزُجِرَ عن التبليغِ بأنواعِ الأذيةِ وقيلَ هو من جُملةِ ما قالُوه أي هُو مجنونٌ وقد ازدجرتْهُ الجِنُّ وتخبطتهُ

10

{فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى} أي بأَنِّي وقُرِىءَ بالكسرِ على إرادةِ القولِ {مَغْلُوبٌ} أي من جهة قومي مالى قدرةٌ على الانتقامِ منْهم {فانتصر} أي فانتقِمْ لِي منُهم وذلكَ بعد تقررِ يأسِه منُهم بعد اللَّتيا والتي فقد رُويَ أنَّ الواحدَ منْهم كان يلقاهُ فيخنقُه حتَّى يخِرَّ مغشياً عليهِ ويقولَ اللهمَّ اغفرُ لقومِي فإنَّهم لا يعلمونَ

11

{فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ} منصبَ وهُو تمثيلٌ لكثرةِ الأمطارِ وشدةِ انصبابِها وقُرِىءَ ففتَّحنا بالتشديدِ لكثرةِ الأبوابِ

12

{وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} أي جعلنَا الأرض كُلَّها كأنَّها عيون متفجرة وأصله بالتشديد وفجرنَا عيونَ الأرضِ فغُيرَ قضاءً لحقِّ المقامِ {فَالْتَقَى الماء} أي ماءُ السماءِ وماءُ الأرضِ والإفرادُ لتحقيقِ أنَّ التقاءَ الماءينِ لم يكُنْ بطريقِ المجاورةِ والتقاربِ بلْ بطريقِ الاختلاطِ والاتحادِ وقُرِىءَ المَاءانِ لاختلافِ النوعينِ والماوان بقلب الهمزة واو {على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أي كائناً على حالٍ قد قدَّرَها الله تعالَى من غيرِ تفاوتٍ أو على حالٍ قدرتْ وسويتْ وهو أن قدر ماأنزل على قدرِ ما أُخرجَ أو على أمرٍ قدرَهُ الله تعالَى وهو هلاكُ قومِ نوحٍ بالطُّوفانِ

13

{وَحَمَلْنَاهُ} أي نوحاً عليهِ السَّلام {على ذَاتِ ألواح} أي أخشابٍ عريضةٍ {وَدُسُرٍ} ومساميرَ جمعُ دِسارٍ من الدَّسرِ وهو الدفعُ وهي صفةٌ للسفينةِ أقيمتْ مقامَها من حيثُ إنَّها كالشرح لها تؤدِّي مُؤدَّاها

14

{تجري بأعيننا} بمر أى منَّا أي محفوظةً بحفظِنا

} 9 15 {جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ} أي فعلنَا ذلكَ جزاءَ لنوحٍ عليهِ السَّلامُ لأنَّه كانَ نعمةً كفرُوها فإنَّ كلَّ نبيَ نعمةٍ من الله تعالَى على أمتهِ ورحمة وأى نعمة وأى رحمة وقد جوز أن يكون على حذفِ الجارِّ وإيصالِ الفعلِ إلى الضميرِ واستتارُه في الفعلِ بعد انقلابِه مرفوعاً وقُرِىءَ لَمنْ كَفَرَ أي للكافرينَ

15

{وَلَقَدْ تركناها} أي السفينةَ أو الفعلة {آية} يعتبرُ بَها من يقفُ على خَبرِها وقالَ قَتَادةُ أبقاهَا الله تعالَى بأرضِ الجزيرة وقيلَ على الجُودِّي دَهْراً طويلاً حتى نظرَ إليها أوائلُ هذه الأمةِ {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} أي معتبرٍ بتلكَ الآيةِ الحقيقةِ بالاعتبارِ وقُرِىءَ مُذْتكرٍ على الأصلِ ومُذَّكرٍ بقلبِ التاءِ ذالاً والإدغام فيَها

16

{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} استفهام تعظيم وعجيب أى كانا على كفية هائلةٍ لا يحيطُ بَها الوصفُ والنذرُ جمعُ نذيرٍ بمَعْنى الإنذارِ

17

{ولقد يسرنا القرآن} الخ جملةٌ قسميةٌ وردتْ في أواخرِ القصصِ الأربعِ تقريراً لمضمونِ ما سبقَ من قولِه تعالى وَلَقَدْ جَاءهُمْ مّنَ الأنباء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بالغة فَمَا تُغْنِى النذر وتنبيهاً على أنَّ كلَّ قصةٍ منها مستقلة بإجاب الإدكارِ كافيةٌ في الازدجارِ ومع ذلكَ لم تقعْ واحدةٌ في حيزِ الاعتبارِ أى وبالله ولقد سهَّلَنا القرآنَ لقومِكَ بأنْ أنزلناهُ على لغتِهم وشحنَّاهُ بأنواعِ المواعظِ والعبرِ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيدِ والوعدِ {لِلذّكْرِ} أي للتذكرِ والاتعاظِ {فهل من مدكر} إنكارا ونفيٌ للمتعظِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه حيثُ يدلُّ على أنَّه لا يقدرُ أحد يجيبَ المستفهَم بنَعَمْ وحَملُ تيسيرِه على تسهيلِ حفظِه بجزالةِ نظمِه وعذوبِة ألفاظِه وعباراتِه مما لا يساعدُه المقامُ

18

{كَذَّبَتْ عَادٌ} أي هوداً عليهِ السَّلامُ ولم يتعرضْ ليكفية تكذيبِهم له رَوْماً للاختصارِ ومُسارعةً إلى بيانِ ما فيه الازدجارُ من العذابِ وقولُه تعالَى {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} لتوجيهِ قلوبِ السامعينَ نحوَ الاصغاءِ إلى ما يُلقى إليهم قبلَ ذكرِه لا لتهويلِه وتعظيمِه وتعجيبِهم من حالةِ بعدَ بيانه كما قلبه وما بعدَهُ كأنَّه قيلَ كذبتْ عادٌ فهل سمعتُم أو فاسمعُوا كيفَ كانَ عذابِي وإنذاراتِي لهم وقولُه تعالَى

19

{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} استئنافٌ ببيانِ ما أُجملَ أولاً أيْ أرسلنَا عليهم ريحا باردة أوشديدة الصوتِ {فِى يَوْمِ نَحْسٍ} شؤمٍ {مُّسْتَمِرٌّ} أي شؤمُه أو مستمرٌّ عليهم إلى أنْ أهلكهُم أو شاملٌ لجميعِهم كبيرِهم وصغيرِهم أو مشتد مرارته وكانَ يومَ الأربعاءِ آخرَ الشهرِ

} 6 20

20

{تَنزِعُ الناس} تقلعُهم رُويَ أنَّهم دخلُوا الشعابَ والحفرَ وتمسَّكَ بعضُهم ببعضٍ فنزعتُهم الريحُ وصرعتُهم مَوْتى {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} أي منقلعٍ عن مغارسِه قيل شُبهوا بأعجازِ النخلِ وهيَ أصولُها بلا فروعٍ لأنَّ الريح كانت تقلع رؤسهم فتُبقِي أجساداً وجثثاً بلا رؤس وتذكير صفى النخل للنظرِ إلى اللفظِ كما أنَّ تأنيثَها في قولِه تعالى أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ للنظرِ إِلى المَعْنى وقولُه تعالَى

21

{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} تهويلٌ لهما وتعجيبٌ من أمرِهما بعد بيانِهما فليسَ فيه شائبةُ تكرارٍ وما قيلَ من أنَّ الأولَ لِما حاقَ بهم في الدُّنيا والثانِي لما يحيقُ بهم في الآخرةِ يردُّه ترتيبُ الثَّانِي على العذابِ الدنيوي

22

{ولقد يسرنا القرآن لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} الكلامُ فيه كالذي مر فيما سبقَ

23

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر} أي الإنذاراتِ والمواعظِ التي سمعُوها من صالحٍ أو بالرسلِ عليهم السَّلامُ فإنَّ تكذيبَ أحدهم تكذيب لكل لاتفاقِهم على أصولِ الشرائعِ

24

{فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا} أي كائناً من جنسِنا وانتصابُه بفعلِ يفسِّره ما بعدَهُ {واحدا} أى منفردا لاتبع له أو واحداً من آحادِهم لا من أشرافِهم وهو صفةٌ أُخرى لبشراً وتأخيرُه عن الصفةِ المؤولةِ للتنبيهِ على أنَّ كلاً من الجنسيةِ والوحدةِ مما يمنعُ الاتباعَ ولو قُدِّمَ عليَها لفاتتِ هذه النكتةُ وقُرِىءَ أبشرٌ منَّا واحدٌ من على الابتداءِ وقولُه تعالَى {نَّتَّبِعُهُ} خبرُهُ والأولُ أوجهُ للاستفهامِ {إِنَّا إِذاً} أي على تقديرِ اتباعِنا له وهو منفردٌ ونحن أُمَّةٌ جَمَّةٌ {لَفِى ضلال} عن الصوابِ {وَسُعُرٍ} أي جنونٍ فإنَّ ذلكَ بمعزلٍ من مُقتَضى العقلِ وقيلَ كان يقولُ لهم إن لم تتبعونِي كنتُم فِى ضلالٍ عن الحقِّ وسعرٍ أي نيرانٍ جمعُ سعيرٍ فعكسُوا عليهِ عليهِ السَّلامُ لغايةِ عتوهِم فقالُوا إنِ اتبعناكَ كُنَّا إذن كَما تقولُ

25

{أؤلقي الذّكْرُ} أي الكتابُ والوحيُ {عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} وفينَا من هو أحقُّ منه بذلكَ {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} أي ليسَ الأمرُ كذلكَ بل هو كَذا وكَذا حملَهُ بطرُه على الترفعِ علينا بما ادَّعاهُ وقولُه تعالَى

26

{سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر} حكايةٌ لما قالَهُ تعالَى لصالحٍ عليهِ السَّلامُ وعداله ووعيد لقومِه والسينُ لتقريبِ مضمونِ الجملةِ وتأكيدِه والمرادُ

} 5 27 بالغدِ وقتُ نزولِ العذابِ أي سيعلمونَ البتةَ عن قريبٍ من الكذابُ الأشرُ الذي حملَهُ أشرُه وبطرُه على الترفعِ أصالحٌ هو أم مَنْ كذبَهُ وقُرِىءَ ستعلمونَ على الالتفاتِ لتشديدِ التوبيخِ أو على حكايةِ ما أجابَهُم به صالحٌ وقُرِىءَ الأشر كقولِهم حذر في حذر وقُرِىءَ الأشرُّ أي الأبلغُ في الشرارةِ وهو أصلٌ مرفوضٌ كالأخيرِ وقيل المراد بالغد ويأباهُ قولُه تعالَى

27

{إنا مرسلو الناقة} الخ فإنَّه استئنافٌ مسوق لبيان مبادىء الموعودِ حتْماً أي مخرجُوها من الهضبةِ حسبمَا سألُوا {فِتْنَةً لَّهُمْ} أي امتحاناً {فارتقبهم} أي فانتظرْهُم وتبصرْ ما يصنعونَ {واصطبر} على أذيتِهم

28

{وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} مقسومٌ لها يومٌ ولهم يومٌ وبينهُم لتغليبِ العُقَلاءِ {كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ} يحضرُه صاحبُه في نوبتِه

29

{فَنَادَوْاْ صاحبهم} هو قُدارُ بن سلف أُحيمرُ ثمودَ {فتعاطى فَعَقَرَ} فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له فأحدث العقرَ بالناقةِ وقيل فتعاطَى الناقةَ فعقرَها أو فتعاطَى السيفَ فقتلَها والتَّعاطِي تناولُ الشيءِ بتكلفٍ

30

{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ} الكلامُ فيه كالذي مر في صدرِ قصةِ عادٍ

31

{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحدة} هي صيحةُ جبريلَ عليهِ السَّلامُ {فَكَانُواْ} أي فصارُوا {كَهَشِيمِ المحتظر} أي كالشجرِ اليابسِ الذي يتخذُه من يعملُ الحظيرةَ لأجلِها أو كالحشيشِ اليابسِ الذي يجمعُه صاحبُ الحظيرةِ لماشيتِه في الشتاءِ وقُرِىءَ بفتحِ الظاءِ أي كهشيمِ الحظيرةِ أو الشجرة المتخذِ لَها

32

{ولقد يسرنا القرآن لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}

33

{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر} {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حاصبا} أي ريحاً تحصبُهم أي ترميهم بالحصباءِ {إِلاَّ الَ لُوطٍ نجيناهم بِسَحَرٍ} في سحرٍ وهو آخرُ الليلِ وقيلَ هو السدسُ الأخيرُ منْهُ أي ملتبسينَ بسحرٍ

35

{نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا}

أي إنعاماً منَّا وهو علةٌ لنجينا {كذلك} أي مثلَ ذلك الجزاءِ العجيبِ {نَجْزِى مَن شَكَرَ} نعمتنَا بالإيمانِ والطاعةِ

36

{وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ} لوطٌ عليهِ السَّلامُ {بَطْشَتَنَا} أي أَخذتَنَا الشديدةَ بالعذابِ {فَتَمَارَوْاْ} فكذَّبوا {بالنذر} متشاكينَ

37

{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ} قصدُوا الفجورَ بهم {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} فمسحنَاها وسوَّيناها كسائرِ الوجه روى أنه لَمَّا دخلُوا دارَهُ عنوةً صفقَهُم جبريلُ عليهِ السَّلامُ صفقةً فتركهُم يترددونَ لا يهتدونَ إلى البابِ حتَّى أخرجُهم لوطٌ عليه السَّلامُ {فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ} أي فقلُنَا لهُم ذُوقوا على ألسنةِ الملائكةِ أو ظاهرُ الحالِ والمرادُ به الطمسُ فإنَّه من جملةِ ما أُنذرُوه من العذابِ

38

{وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً} وقُرِىءَ بكرةَ غيرَ مصروفةٍ على أنَّ المرادَ بها أولُ نهار مخصوصة {عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ} لا يفارقُهم حتى يسلموا إلى النارِ وفي وصفِه بالاستقرار إيماءٌ إلى أنَّ ما قبلَهُ من عذابِ الطمسِ ينتهِي إليهِ

39

{فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ} حكايةً لما قيل حينئذٍ من جهتِه تعالى تشديداً للعذابِ

40

{ولقد يسرنا القرآن لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} مرَّ ما فيه من الكلام

41

{ولقد جاء آل فِرْعَوْنَ النذر} صُدِّرتْ قصتُهم بالتوكيدِ القسمِي لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بشأنِها لغايةِ عظمِ ما فيَها من الآياتِ وكثرتِها وهولِ ما لاقَوه منَ العذابِ وقوة إيجابِها للاتعاظِ والاكتفاءُ بذكرِ آلِ فرعونَ للعلمِ بأنَّ نفسَه أَوْلى بذلكَ أي وبالله لقد جاءهُم الإنذاراتُ وقولُه تعالى

42

{كذبوا بآياتنا} استئناف مبني على سؤال نشأَ من حكايةِ مجيءِ النذرِ كأنَّه قيلَ فمَاذا فعلُوا حينئذٍ فقيلَ كذَّبُوا بجميع آياتنا وهي الآيت التسعُ {فأخذناهم أَخْذَ عِزِيزٍ} لا يُغالبُ {مُّقْتَدِرٍ} لا يُعجزه شيءٌ

43

{أكفاركم} يا معشرَ العربِ {خَيْرٌ} قوةً وشدةً وعُدّةً وعدةً أو مكانةً {مّنْ أُوْلَئِكُمْ} الكفارِ المعدودينَ والمَعُنى أنه أصابَهُم مَا أصابَهُم مع ظهورِ خيريتِهم منكُم فيما ذُكِرَ

49 44 من الأمورِ فهلْ تطمعونَ أنْ لا يصيبَكُم مثلُ ذلكَ وأنتُم شرٌّ منهم مكاناً وأسوأُ حالاً وقولُه تعالَى {أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِى الزبر} إضرابٌ وانتقالٌ من التبكيتِ بوجهٍ آخرَ أيْ بلْ ألكم براءةٌ وأمنٌ من تبعاتِ ما تَعْمَلُونَ من الكُفر والمعاصِي وغوائلِهما في الكتب السماوية تصرونَ على ما أنتُم عليهِ وقولُه تعالى

44

{أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} إضرابٌ من التبكيتِ والالتفاتُ للإيذانِ باقتضاءِ حالِهم للإعراضِ عنهُم وإسقاطِهم عن رتبةِ الخطابِ وحكايةِ قبائِحهم لغيرِهم أي بلْ أيقولونَ واثقينَ بشوكتِهم نحنُ أولُو حزمٍ ورأيٍ أمرُنا مجتمعٌ لانرام ولا نُضامُ أو منتصرٌ من الأعداءِ لا نُغلبُ أو متناصر ينصر بعضُنا بعضاً والإفرادُ باعتبارِ لفظِ الجميعِ وقولُه تعالَى

45

{سَيُهْزَمُ الجمع} ردٌّ وإبطالٌ لذلكَ والسينُ للتأكيدِ أي يُهزم جمعُهم البتةَ {وَيُوَلُّونَ الدبر} أي الأدبارَ وقد قُرِىءَ كذلكَ والتوحيدُ لإرادةِ الجنسِ أو إرادةِ أن كلّ واحدٍ منهم يولِّي دبرَه وقد كان كذلكَ يومَ بدرٍ قال سعيدُ بنُ المسيِّب سمعتُ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنُهُ يقولُ لما نزلتْ سَيُهْزَمُ الجمعُ وَيُوَلُّونَ الدبرَ كنتَ لا أدرِي أيَّ جمعٍ يُهزمُ فلمَّا كانَ يومَ بدرٍ رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يلبَسُ الدرعَ ويقولُ سَيُهْزَمُ الجمعُ وَيُوَلُّونَ الدبرَ فعرفتُ تأويلَها وقُرِىءَ سَيهزمُ الجمعَ أي الله عزَّ وعَلاَ

46

{بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ} أي ليسَ هَذا تمامَ عقوبتِهم بلِ الساعةُ موعدُ أصلِ عذابِهم وهَذا من طلائعِه {والساعة أدهى وَأَمَرُّ} أي في أقصى غايةٍ من الفظاعةِ والمرارةِ والداهيةُ الأمرُ الفظيعُ الذي لا يُهتدَى إلى الخلاصِ عنْهُ وإظهارُ الساعةِ في موقعِ إضمارِها لتربيةِ تهويلها

47

{إِنَّ المجرمين} من الأولينَ والآخرينَ {فِى ضلال وَسُعُرٍ} أي في هلاكٍ ونيرانٍ مسعرةٍ وقيلَ فِى ضلال عن الحقِّ في الدُّنيا ونيرانٍ في الآخرةِ وقولُه تعالَى

48

{يَوْمَ يُسْحَبُونَ} الخ منصوبٌ إمَّا بما يُفهم من قولِه تعالَى في ضلالٍ أي كائنونَ في ضلالٍ وسعرٍ يومَ يجرونَ {فِى النار على وُجُوهِهِمْ} وإما يقول مقدر بعده أي يوم يسحبون يقال لهم {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} أي قاسُوا حرَّها وألمَها وسقرُ علمُ جهنَّم ولذلكَ لم يُصرفْ منْ سقرتْهُ النارُ وصقرتْهُ إذا لوَّحتْهُ والقولُ المقدرُ على الوجهِ الأولِ حالٌ من ضميرِ يسحبونَ

49

{إِنَّا كُلّ شَىْء} من الأشياءِ {خلقناه بِقَدَرٍ} أي ملتبساً بقدرٍ معينٍ اقتضْتُه الحكمةِ التي عليَها يدورُ

55 50 أمرُ التكوينِ أو مقدراً مكتوباً في اللوحِ قبلَ وقوعِه وكلَّ شيءٍ منصوبٌ بفعلِ يفسِّره ما بعدَهُ وقرىء بالرفع على أنه مبتدأٌ وخلقناهُ خبرُهُ

50

{وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة} أي كلمةٌ واحدةٌ سريعةُ التكوينِ وهُو قولُه تعالَى كُنْ أو إلا فعلةٌ واحدةٌ هو الإيجادُ بلا معالجةٍ {كَلَمْحٍ بالبصر} في اليُسرِ والسرعةِ وقيلَ معناهُ قولُه تعالَى وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر

51

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أشياعكم} أي أشباهَكُم في الكفرِ من الأممِ وقيل أتباعَكُم {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} يتعظُ بذلكَ

52

{وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ} من الكفرِ والمعاصِي مكتوبٌ على التفصيلِ {فِى الزبر} أي في ديوانِ الحفظةِ

53

{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} من الأعمالِ {مُّسْتَطَرٌ} مسطورٌ في اللوحِ المحفوظِ بتفاصيلِه ولما كانَ بيانُ سوءِ حالِ الكفرةِ بقولِه تعالى إِنَّ المجرمين مِمَّا يستدعِي بيانَ حُسنِ حال المؤمنن ليتكافأَ الترهيبُ والترغيبُ بيّن ما لَهُم من حسنِ الحالِ بطريقِ الإجمالِ فقيلَ

54

{إن المتقين} أي من الكُفر والمَعاصي {فِي جنات} عظيمةِ الشأنِ {وَنَهَرٍ} أي أنهارٍ كذلكَ والإفرادُ للاكتفاءِ باسمِ الجنسِ مراعاةً للفواصلِ وقُرِىءَ نُهْرٍ جمعُ نَهَرٍ كأُسْدٍ وأَسدٍ

55

{فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} في مكانٍ مرضيَ وقُرِىءَ في مقاعدِ صدقٍ {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} أي مقربينَ عند مليكٍ لا يُقادَرُ قدرُ ملكِه وسلطانِه فلا شيءَ إلاَّ وهو تحتَ ملكوتِه سُبحانه ما أعظمَ شأنَهُ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ القمرِ في كلِّ غِبَ بعثَهُ الله تعالى يومَ القيامةِ ووجهُه مثلُ القمر ليلة بدر

الرحمن 5 { بسم الله الرحمن الرحيم لما عد في السورةِ السابقةِ ما نزلَ بالأممِ السالفةِ من ضروبِ نقمِ الله عزَّ وجلَّ وبيّن عَقيبَ كلِّ ضربٍ منَها أنَّ القرآنَ قدْ يُسِّرِ لحملِ النَّاسِ عَلى التذكرِ والاتعاظِ ونَعَى عليهم إعراضَهُم عن ذلكَ عدَّدَ في هذه السورةِ الكريمةِ ما أفاضَ على كافَّةِ الأنامِ من فنونِ نعمه الدينية والدنيوية والأنفسية ولآفاقية وأنكرَ عليهم إِثْرَ كلِّ فنٍ منها إخلالَهُم بمواجبِ شُكرِها وبُدىءَ بتعليمِ القُرآنِ فقيل

الرحمن

{الرحمن} {علم القرآن} لأنه أعظم النعم شأنان وأرفعُها مكاناً كيفَ لا وهُو مدارٌ للسعادةِ الدينيةِ والدنيويةِ عيارٌ على سائرِ الكتبِ السماويةِ ما منْ مرصدٍ يرنُو إليه أحداقُ الأممِ إلا وهُو منشؤُه ومناطُه ولا مقصدٍ يمتدُّ إليه أعناقُ الهممِ إلا وهُو منهجُه وصراطُه وإسنادُ تعليمِه إلى اسمِ الرَّحمنِ للإيذانِ بأنه من آثا الرحمةِ الواسعةِ وأحكامِها وقد اقتُصرَ على ذكرِه تنبيهاً على أصالتِه وجلالةِ قدرِه ثمَّ قيلَ

3

{خَلَقَ الإنسان} {عَلَّمَهُ البيان} تعييناً للمعلَّم وتبييناً لكيفيةِ التعليمِ والمرادُ بخلقِ الإنسانِ إنشاؤُه على ما هُو عليه منَ القُوى الظاهرةِ والباطنةِ والبيانُ هو التعبيرُ عمَّا في الضميرِ وليسَ المرادُ بتعليمِه مجردَ تمكينِ الإنسانِ من بيانِ نفسِه بل منْهُ ومنْ فهمِ بيانِ غيرِه أيضاً إذْ هُو الذي يدورُ عليه تعليمُ القُرآنِ والجملُ الثلاثُ أخبارٌ مترادفةٌ للرَّحمنُ وإخلاءُ الأخيرتينِ عن العاطفِ لورودِها على منهاجِ التعديدِ

5

{الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ} أي يجريانِ بحسابٍ مقدرٍ في بروجِهما ومنازلِهما بحيثُ ينتظمُ بذلكَ أمورُ الكائناتِ السفلية وتختلفُ الفصولُ والأوقاتُ وتُعلمُ السنون الحساب

9 6

6

{والنجم} أي النباتُ الذي ينجُم أي يطلُع من الأرضِ ولا ساقَ لهُ {والشجر} أي الذي له ساقٌ {يَسْجُدَانِ} أي ينقادانِ له تعالَى فيمَا يريدُ بهما طبعاً انقيادَ الساجدينَ من المكلفينَ طوعاً والجملتانِ خبرانِ آخرانِ للرَّحمنُ جُردتاً عن الرابطِ اللفظيِّ تعويلاً على كمالِ قوةِ الارتباطِ المعنوى إذ لا يتوهمُ ذهابُ الوهمِ إلى كونِ حالِ الشمسِ والقمرِ بتسخيرِ غيرِه تعالى ولا إلى كونِ سجودِ النجمِ والشجرِ لما سواهُ تعالى كأنَّه قيلَ الشمس والقمر بحسبان والنجمُ والشجرُ يسجدانِ لهُ وإخلاءُ الجملةِ الأُولى عن العاطفِ لما ذُكِرَ من قبلُ وتوسيطُ العاطفِ بينَها وبينَ الثانيةِ لتناسبِهما من حيثُ التقابلُ لما أنَّ الشمسَ والقمرَ علويانِ والنجمَ والشجرَ سفليانِ ومن حيثُ إنَّ كلاًّ من حالِ العلويينِ وحالِ السفليينِ من بابِ الانقيادِ لأمرِ الله عزَّ وجلَّ

7

{والسماء رَفَعَهَا} أي خلقَها مرفوعةً محلاً ورتبةً حيثُ جعلَها منشأَ أحكامِه وقضاياهُ ومتنزَّلَ أوامرِه ومَحَلَّ ملائكتِه وفيهِ من التَّنبيهِ على كبرياءِ شأنِه وعظمِ ملكِه وسلطانه مالا يَخْفى وقُرِىءَ بالرفعِ على الابتداءِ {وَوَضَعَ الميزان} أيْ شرعَ العدلَ وأمرَ بهِ بأنْ وفَّرَ كلَّ مستحقَ ما استحقَّهُ ووفَّى كلَّ ذِي حقَ حقَّه حتى انتظمَ به أمرُ العالمِ واستقامَ كَما قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بالعدلِ قامتِ السمواتُ والأرضُ قيلَ فَعلى هذا الميزانُ القرآنُ وهو قُولُ الحسينِ بنِ الفضلِ كما في قوله تعالى وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان وقيلَ هو ما يُعرفُ به مقاديرُ الأشياءِ من ميزانٍ ومكيالٍ ونحوِهما وهو قولُ الحسنِ وقتادةَ والضَّحاكِ فالمعنى خلقه موضوعا مخوضا على الأرضِ حيثُ علقَ به أحكامَ عبادهِ وقضايَاهُم ومَا تعّبدهُم بهِ من التسويةِ والتعديلِ في أخذِهم وإعطائِهم

8

{أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الميزان} أيْ لئلا تطغَوا فيهِ على أنَّ أنْ ناصبةٌ ولا نافيةٌ ولامَ العلةِ مقدرةٌ متعلقةٌ بقولِه تعالى ووضع الميزان أو أى لا تطغَوا على أنَّها مفسرةٌ لما في الشرعِ من مَعْنى القولِ ولا ناهيةٌ أي لا تعتدُوا ولا تتجاوزُوا الإنصافَ وقُرِىءَ لا تطغَوا على إرادةِ القولِ

9

{وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} قوِّموا وزنَكُم بالعدلِ وقيلَ أقيمُوا لسانَ الميزانِ بالقسطِ والعدلِ وقيلَ الإقامةُ باليدِ والقسطُ بالقلبِ {وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} أي لا تُنقصُوه أمرَ أولاً بالتسويةِ ثمَّ نهَى عن الطغيانِ الذي هو اعتداءٌ وزيادةٌ ثمَّ عن الخسران الى هو تطفيفٌ ونقصانٌ وكررَ لفظَ الميزانِ تشديداً للتوصية به وتأكيداً للأمرِ باستعمالِه والحثِ عليهِ وقُرِىءَ ولا تَخسُروا بفتحِ التاء وضم السين وكسرها يقال خسر الميزان يخسر ويخسره وبفتح السينِ أيضاً على أنَّ الأصلَ ولا تخسَروا

} 3 10 في الميزانِ فَحُذِفَ الجارُّ وأوصلَ الفعلُ

10

{والأرض وَضَعَهَا} أي خفضَها مدحوَّةً على الماءِ {لِلأَنَامِ} أي الخلقِ قيلَ المرادُ به كلُّ ذِي رُوحٍ وقيلَ كلُّ ما على ظهرِ الأرضِ مِن دابَّةٍ وقيلَ الثقلان وقوله تعالى

11

{فِيهَا فاكهة} الخ استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير ما أفادته الجملة السابقةُ من كونِ الأرضِ موضوعةً لمنافعِ الأنامِ وتفصيلِ المنافعِ العائدةِ إلى البشرِ وقيلَ حالٌ مقدرةٌ من الأرضِ فالأحسنُ حينئذٍ أن يكون الحال هو الجارَّ والمجرورَ وفاكهةٌ رفعَ على الفاعليةِ أي فيها ضروبٌ كثيرةٌ مما يُتفكَّه بهِ {والنخل ذَاتُ الأكمام} هي أوعيةُ الثمرِ جَمعُ كِمَ أو كلُّ ما يُكَمّ أي يُغطَّى من ليفٍ وسعفٍ وكُفُرَّى فإنَّه مما ينتفعُ به كالمكمومِ من ثمرهِ وجُمَّارهِ وجذوعِه

12

{والحب} هو ما يُتغذَّى بهِ كالحنطةِ والشعيرِ {ذُو العصف} هو ورقُ الزرعِ وقيل التبنُ {والريحان} قيلَ هو الرزقُ أريدَ به اللبُّ أي فيها ما يتلذذ به من الفواكه والجامع بين التلذذ والتغذي وهو ثمر النخل وما يُتغذَّى بهِ وهو الحبُّ الذي له عصفٌ هو علفُ الأنعامِ وريحانٌ هو مطِعُم الناسِ وقُرِىءَ والحبَّ ذا العصفِ والريحانَ أي خلقَ الحبَّ والريحانَ أو أخص ويجوز ان يرادو ذا الريحانِ فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليهِ مُقامَهُ والريحانُ إما فعيلان من روح فقلبت الواو ياءً وأُدغمَ ثمَّ خففَ أو فعلانٌ قلبتْ واوُه ياءً للتخفيفِ أو للفرقِ بينَهُ وبين الرَّوحانِ وهو ماله روحٌ قاله القرطبيُّ

13

{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} الخطابُ للثقلينِ المدلولِ عليهما بقولِه تعالى للأنامِ وسينطقُ به قولُه تعالى أيُّها الثقلانِ والفاءُ لترتيبِ الإنكارِ والتوبيخِ على ما فُصِّل من فنون النَعماء وصنوفِ الآلاءِ الموجبةِ للإيمان والشكر والتعرّضُ لعنوانِ الربوبيةِ المُنْبئة عن المالكيةِ الكلِّيةِ والتربيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم لتأكيدِ النكيرِ وتشديدِ التوبيخِ ومعنى تكذيبِهم بآلائِه تعالى كفرهم بها إما بإنكارِ كونِه نعمةً في نفسهِ كتعليمِ القرآنِ ومايستند إليهِ من النعمِ الدينيةِ وإما بإنكارِ كونِه من الله تعالى مع الاعترافِ بكونِه نعمةً في نفسِه كالنعمِ الدنيويةِ الواصلةِ إليهم بإسنادِه إلى غيرِه تعالَى استقلال أو اشتراكاً صريحاً أو دلالة فإن إشراكهم لألهتم به تعالَى في العبادةِ من دواعِي إشراكِهم لها به تعالى فيما يُوجبها والتعبيرُ عن كفرِهم المذكورِ بالتكذيبِ لما أنَّ دلالةَ الآلاءِ المذكورةِ على وجوبِ الإيمانِ والشكرِ شهادةٌ منها بذلك فكفرُهم بها تكذيبٌ بَها لا محالةَ أي فإذا كان الأمر كما فُصِّلَ فبأيِّ فردٍ من أفراد آلاء ما لككما ومربِّيكُما بتلكَ الآلاءِ تكذبانِ مع أنَّ كلاً منها ناطقٌ بالحقِّ شاهدٌ بالصدقِ

} 2 14

14

{خَلَقَ الإنسان مِن صلصال كالفخار} تمهيدٌ للتوبيخِ على إخلالِهم بمواجبِ شكرِ النعمةِ المتعلقة بذاتي كلِّ واحدٍ من الثقلينِ والصلصالُ الطينُ اليابسُ الذي له صلصال والفخَّارُ الخزفُ وقد خلقَ الله تعالى آدمَ عليهِ السلامُ من ترابٍ جعلَهُ طيناً ثم حمأً مسنوناً ثم صلصال فلا تنافيَ بين الآيةِ الناطقةِ بأحدِها وبينَ ما نطقَ بأحدِ الآخرينِ

15

{وَخَلَقَ الجان} أي الجِنَّ أو أبَا الجِنِّ {مِن مَّارِجٍ} من لهبٍ صافٍ {مّن نَّارٍ} بيانٌ لمارجٍ فإنَّه في الأصلِ للمضطربِ من مرج إذا اضرطب

16

{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مما أفاضَ عليكُما في تضاعيفِ خلقِكما من سوابغِ النعمِ

17

{رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} بالرفعِ على خبريَّة مبتدأٍ محذوفٍ أي الذي فعلَ ما ذُكرَ من الأفاعيلِ البديعةِ ربُّ مشرقي الصيفِ والشتاءِ ومغربيهما ومن قضيتِه أن يكونَ ربَّ ما بينهما منَ الموجوداتِ قاطبةً وقيلَ على الابتداءِ والخبرُ قولُه تعالى مرجَ الخ وقُرِىءَ بالجرِّ على أنَّه بدل من ربكما

18

{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} ممَّا في ذلكَ من فوائدَ لا تُحصى من اعتدالِ الهواءِ واختلافِ الفصولِ وحدوثِ ما يناسبُ كلَّ فصلٍ في وقتِه إلى غيرِ ذلكَ

19

{مَرَجَ البحرين} أي أرسلَهُما منْ مرجتُ الدابَّةَ إذا أرسلتُها والمَعْنى أرسلَ البحرَ المِلْحَ والبحرَ العذبَ {يَلْتَقِيَانِ} أي يتجاورانِ ويتماسُّ سطوحُهما لافصل بينَهما في مرأى العينِ وقيلَ أرسلَ بحرَيْ فارسَ والرومِ يلتقيانِ في المحيطِ لأنهما خليجان يتشعبنا منه

20

{بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} أي حاجزٌ من قدرة الله عز وجَلَّ أو منَ الأرضِ {لاَّ يَبْغِيَانِ} أي لا يبغي أحدهام على الآخرِ بالممازجةِ وإبطالِ الخاصِّيةِ أو لا يتجاوزانِ حدَّيهُما بإغراقِ ما بينهُما

21

{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} وليسَ منهُما شيءٌ يقبلُ التكذيبَ

22

{يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ}

} 9 2 { الُّلؤْلُؤُ الدرُّ وَالمَرْجَانُ الخرزُ الأحمرُ المشهورُ وقيلَ اللؤلؤُ كبارُ الدرِّ والمرجانُ صغارُه فنسبةُ خروجِهما حينئذٍ إلى البحرينِ معَ أنَّهما إنما يخرجانِ من المِلْحِ على ما قالُوا لما قيلَ أنَّهما لا يخرجانِ إلا من ملقتى الملح والعذب أو لأنهام لما التقيا وصارا كالشيء الواحد ساغ أن يقال يخرجان من البحرِ مع أنهما لا يخرجانِ من جمع البحرِ ولكنْ من بعضِه وهو الأظهرُ وقُرِىءَ يُخرَجُ مبنياً للمفعولِ من الإخراجِ ومبنياً للفاعلِ بنصبِ اللؤلؤُ والمرجانُ وبنونِ العظمةِ

23

{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} {وَلَهُ الجوار} أي السفنُ جمعُ جاريةٍ وقرِىءَ برفعِ الراءِ وبحذفِ الياءِ كقولِ مَن قال لها ثَنَايَا أَرْبعٌ حسان وَأَرْبعٌ فكُلُّها ثَمَانُ {المنشآت} المرفوعاتُ الشُّرُعِ أو المصنوعاتُ وقُرِىءَ بكسرِ الشينِ أيْ الرافعاتُ الشرُعَ أو اللاتِي ينشئنَ الأمواجَ بجريهنَّ {فِى البحر كالأعلام} كالجبالِ الشاهقةِ جمعُ عَلَمِ وهو الجبلُ الطويلُ

25

{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} من خلقِ موادِّ السفنِ والإرشادِ إلى أخذها وكيفية تركيبها وجرائها في البحرِ بأسبابٍ لا يقدرُ على خلقِها وجمعِها وترتيبِها غيره سبحانَهُ

26

{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} أي على الأرضِ من الحيواناتِ أو المركبات ومن التغليب أو من الثقلينِ {فَانٍ} هالكٌ لا محالةَ

27

{ويبقى وَجْهُ رَبّكَ} أي ذاتُه عزَّ وجلَّ {ذُو الجلال والإكرام} أي ذُو الاستغناءِ المطبقِ والفضلِ التامِ وقيلَ الذي عندَهُ الجلالُ والإكرامُ للمخلصينَ من عبادِه وهذهِ من عظائمِ صفاتِه تعالى ولقد قال صلى الله عليه وسلم ألظُّوا بياذَا الجلالِ والإكرامِ وعنه عليه الصلاة والسلام أنه برجلٍ وهُو يُصلِّي ويقولُ يا ذا الجلالِ والإكرامِ فقال استُجيبَ لكَ وقُرِىءَ ذِي الجلالِ والإكرام على أنه صفةُ ربِّك وأياً ما كانَ ففي وصفهِ تعالَى بذلكَ بعدَ ذكرِ فناءِ الخلق وبقائه تعالى إيذان يفيضُ عليهم بعد فنائِهم أيضاً آثارَ لطفِه وكرمِه حسبما ينبيء عنه قوله تعالى

28

{فبأي آلاء ربكما تكذبان} فإن إحياؤهم بالحياةِ الأبديةِ وإثابتَهم بالنعيمِ المقيمِ أجلُّ النعماءِ وأعظمُ الآلاءِ

29

{يسأله من في السماوات والأرض} قاطبةً ما يحتاجونَ

} 3 30 إليه في ذواتِهم ووجوداتِهم حدوثا وبقاء سائر أحوالِهم سؤالاً مستمراً بلسانِ المقالِ أو بلسانِ الحالِ فإنَّهم كافةً من حيثُ حقائقُهم الممكنةُ بمعزلٍ من استحقاقِ الوجودِ وما يتفرَّع عليه من الكمالاتِ بالمرةِ بحيثُ لو انقطعَ ما بينَهم وبين العنايةِ الإلهية من العلاقةِ لم يشَمُّوا رائحةَ الوجودِ أصلاً فهم في كلِّ آنٍ مستمرونَ على الاستدعاءِ والسؤالِ وقد مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} من سورةِ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ {كُلَّ يَوْمٍ} أي كلَّ وقتٍ من الأوقاتِ {هُوَ في شأن} من الشؤن التي من جُمْلتها إعطاءُ ما سألُوا فإنَّه تعالى لا يزالُ ينشىءُ أشخاصاً ويغني آخرينَ ويأتِي بأحوالٍ ويذهبُ بأحوالٍ حسبَما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكم البالغة وفي الحديثِ من شأنِه أنْ يغفرَ ذنباً ويفرّجَ كرباً ويرفعَ قوماً ويضعَ آخرينَ قيل وفيه ردٌّ على اليهودِ حيثُ يقولونَ إنَّ الله لا يقضِي يومَ السبتِ شيئاً

30

{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مع مشاهدتِكم لما ذُكِرَ من إحسانِه

31

{سَنَفْرُغُ لَكُمْ} أي سنتجردُ لحسابِكم وجزائِكم وذلكَ يومَ القيامة عند انتهاء شؤن الخلقِ المشارِ إليَها بقولِه تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ فلا يَبْقى حينئذٍ إلا شأنٌ واحدٌ هو الجزاءُ فعبرَ عنْهُ بالفراغِ لهم بطريقِ التمثيلِ وقيلَ هو مستعارٌ من قولِ المتهدِّدِ لصاحبهِ سأفرُغُ لكَ أي سأتجردُ للإيقاعِ بكَ من كلِّ ما يشغلنِي عنْهُ والمرادُ التوفرُ على النِّكايةِ فيهِ والانتقامِ منْهُ وقُرىءَ سَيفرُغُ مبنياً للفاعل وللمفعول قرىء سَنفرُغُ إليكُم أي سنقصدُ إليكُم {أَيُّهَا الثقلان} هما الإنسُ والجنُّ سُمِّيا بذلكَ لثقلِهما على الأرضِ أو لرزانةِ آرائِهما أو لأنَّهما مثقلان بالتكليف

32

{فبأي آلاء رَبّكُمَا} التي من جُمْلتِها التنبيهُ على ما سيلقَوْنه يومَ القيامةِ للتحذيرِ عمَّا يُؤدِّي إلى سوءِ الحسابِ {تكذبان} بأقوالكما وأعمالكما

33

{يَا مَعْشَرَ الجن والإنس} هما الثقلانِ خوطِبا باسمِ جنسِهما لزيادةِ التقريرِ ولأنَّ الجنَّ مشهورونَ بالقدرةِ على الأفاعيلِ الشاقةِ فخُوطبوا بما ينبىءُ عن ذلكَ لبيان أن قدرتَهُم لا تَفِي بما كُلِّفُوه {إِنِ استطعتم} إنْ قدرتُم عَلى {أَن تَنفُذُواْ مِنْ أقطار السماوات والأرض} أي أن تهربُوا من قضائِي وتخرجُوا من ملكوتِي ومن أقطارِ سمواتِي وأرضِي {فانفذوا} منها وخلِّصُوا أنفسَكُم من عقابِي {لاَ تنفذون} لا تقدرون على النفوذِ {إِلاَّ بسلطان} أي بقوةٍ وقهرٍ وأنتُم من ذلكَ بمعزلٍ بعيدٍ رُويَ أن الملائكةَ تنزلُ فتحيطُ بالخلائق فإذا رآهم الجن والإنسن هربُوا فلا يأتونَ وجهاً

40 34 إلا وجدُوا الملائكةَ أحاطتْ به

34

{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} أي من التنبيهِ والتحذيرِ والمساهلةِ والعفوِ مع كمالِ القدرةِ على القوبة

35

{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} قيلَ هو اللهبُ الخالصُ وقيلَ المختلطُ بالدخانِ وقيل اللهبُ الأحمر وقيل اللهبُ الأخضرُ المنقطعُ من النارِ وقيل هو الدخانُ الخارجُ من اللهبِ وقيلَ هو النارُ والدخانُ جميعاً وقُرِىءَ شِواظٌ بكسرِ الشينِ {مّن نَّارٍ} متعلقٌ بيرسلُ أو بمضمرٍ هو صفة للشواط أي كائنٌ من نارٍ والتنوينُ للتفخيمِ {وَنُحَاسٌ} أي دُخانٌ وقيلَ صُفرٌ مذابٌ يصب على رؤسهم وقُرِىءَ بكسرِ النُّونِ وقُرىء بالجرِّ عطفاً على نارٍ وقُرِىءَ نُرسلُ بنونِ العظمةِ ونصبِ شُواظاً ونحاساً وقُرِىءَ نُحُس جمعُ نِحاسِ مثلُ لِحافِ ولُحُفِ وقُرِىءَ ونَحُسُّ أي نقتلُ بالعذابِ {فَلاَ تَنتَصِرَانِ} أي لا تمتنعانِ

36

{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} فإنَّ بيانَ عاقبةِ ما هُم عليهِ من الكفرِ والمَعَاصِي لطفٌ وأيُّ لُطفٍ ونعمةٌ وأيُّ نعمةٍ

37

{فَإِذَا انشقت السماء} أي انصدعتْ يومَ القيامةِ {فَكَانَتْ وردة} كوردة حمراء وقرئ وردةٌ بالرفعِ على أنَّ كانَ تامةٌ أيَّ حصلتْ سماءٌ وردةٌ فيكونُ من بابِ التجريدِ كقولِ منْ قالَ ... وَلَئِنْ بَقيْتُ لأَرْحَلَّنَّ بغزوة تَحوِي الغنائمَ أَوْ يموتَ كريمُ ... {كالدهان} خبرٌ ثانٍ لكانَتْ أو نعتٌ لوردةً أو حالٌ من اسمِ كانتْ أي كدُهنِ الزيتِ وهو إمَّا جمعُ دُهنٍ أو اسمٌ لَما يُدهنُ بهِ كالحِزامِ والأدامِ وقيلَ هو الأديمُ الأحمرُ وجوابُ إذَا محذوفٌ أي يكون من الأحوال والأهوال مالا يحيطُ بهِ دائرةُ المقالِ

38

{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} مع عظمِ شأنِها

39

{فيومئذ} أي يوم إذ تنشقُ السماءُ حسبَما ذُكِرَ {لا يُسألُ عن ذنبهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} لأنَّهم يُعرفونَ بسيماهُم وذلكَ أولَ ما يخرجونَ من القبورِ ويحشرونَ إلى الموقفِ ذَوْداً ذَوداً على اختلافِ مراتبِهم وأما قولُه تعالى فَوَرَبّكَ لنسألنهم أجميعن ونحُوه ففي موقفِ المناقشةِ والحسابِ وضميرُ ذنبِه للإنسِ لتقدمِه رتبةً وإفرادُه لما أنَّ المرادَ فردٌ من الإنسِ كأنَّه قيلَ لا يسأل ذنبهِ إنسيٌّ ولا جنيٌّ

40

{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} معَ كثرةِ منافعِها فإنَّ الإخبارَ بما ذُكِرَ ممَّا يزجرُكُم عن

46 4 { الشرِّ المؤدِّي إليهِ وأما ما قيلَ ممَّا أنعمَ الله على عبادِه المؤمنينَ في هذا اليومِ فلا تعلق له بالمقام وقوله تعالَى

41

{يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم} استئنافٌ يَجْرِي مَجْرى التعليلِ لعدمِ السؤالِ قيلَ يُعرفونَ بسوادِ الوجوهِ وزرقةِ العُيونِ وقيلَ بما يعلُوهم منِ الكآبةِ والحُزنِ {فَيُؤْخَذُ بالنواصى والأقدام} الجارُّ والمجرورُ هُو القائمُ مقامَ الفاعلِ يُقَالُ أخذَهُ إِذَا كانَ المأخوذُ مقصوداً بالأخذِ ومنه قولُه تعالى خُذُواْ حِذْرَكُمْ ونحُوه وأخذَ بهِ إذَا كانَ المأخوذُ شيئاً من ملابساتِ المقصودِ بالأخذِ ومنه قولُه تعالى لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى وقولُ المستغيثِ خُذْ بيدِي أخذَ الله بيدِك أيْ يُجمعُ بين نواصِيهم وأقدامِهم في سلسلةٍ من وراءِ ظُهورِهم وقيلَ تسحبُهم الملائكةُ تارةً تأخذُ بالنَّواصِي وتارةً تأخذُ بالأقدامِ

42

{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى

43

{هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون} على إرادةِ القولِ أي يقال لهم ذلكَ بطريقِ التوبيخِ على أن الجملة إما استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال ناشئ من حكايةِ الأخذِ بالنَّواصِي والأقدامِ كأنَّه قيلَ فماذا يفعلُ بهِم عندَ ذلكَ فقيلَ يقالُ إلخ أو حالٌ من أصحابِ النواصِي والأقدامِ لأنَّ الألفَ واللامَ عوضٌ عن المضافِ إليهِ وما بينَهما اعتراضٌ

44

{يطوفون} أي بينَ النَّارِ يُحرقُون بها {وبين حميم آن} ماءٍ بالغٍ من الحرارةِ أقصَاها يُصبُّ عليهم أو يُسقون منْهُ وقيلَ إذَا استغاثُوا من النارِ أغيثُوا بالحميم

45

{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} وقد أُشيرَ إلى سرِّ كونِ بيانِ أمثالِ هذه الأمورِ من قبيلِ الآلاءِ مِرَاراً

46

{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ} شروعٌ في تعدادِ الآلاءِ الفائضةِ عليهم في الآخرةِ بعدَ تعدادِ ما وصلَ إليهم في الدُّنيا من الآلاءِ الدينيةِ والدنيويةِ واعلمْ أنَّ ما عُدِّدَ فيمَا بينَ هذه الأيةِ وبين خاتمة السورة الكريمة من فنونِ الكراماتِ كَما أنَّ أنفسَها آلاءٌ جليلةٌ واصلةٌ إليهمْ في الآخرةِ كذلكَ حكاياتُها الواصلةُ إليهم في الدُّنيا آلاءٌ عظيمةٌ لكونِها داعيةً لهم إلى السَّعِي في تحصيلِ ما يُؤدِّي إلى نيلِها منَ الإيمانِ والطَّاعةِ وأنَّ ما فُصِّلَ من فاتحةِ السورةِ الكريمةِ إلى قولِه تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ من النِّعم الدِّينيةِ والدُّنيويةِ الأنفسية والآفاقيةِ آلاءٌ جليلةٌ واصلةٌ إليهم في الدُّنيا وكذلكَ حكاياتُها منْ حيثُ إيجابُها للشكرِ والمثابرةِ على

47 5 { ما يُؤدِّي إلى استدامتِها وأمَّا مَا عُدِّدَ فيمَا بين قوله تعالى سنفرغ لكُم وبين هذهِ الآيةِ من الأحوالِ الهائلةِ التي ستقعُ في الآخرةِ فليستْ هيَ من قبيلِ الآلاءِ وإنَّما الآلاءُ حكاياتُها الموجبةُ للانزجار عما يؤدى على الإبتلاءِ بَها من الكفرِ والمعاصِي كَما أُشيرَ إليهِ في تضاعيفِ تعدادِها ومقامُه تعالَى موقفُه الذي يقفُ فيه العبادُ للحسابِ يومَ يقوم الناس لرب العالمين أو قيامُه تعالَى على أحوالِه من قامَ عليهِ إذا راقبَهُ أو مقامُ الخائفِ عندَ ربِّه للحسابِ بأحدِ المعنيينَ وإضافتُه إلى الربِّ للتفخيمِ والتهويلِ أو مقحمٌ للتعظيمِ {جَنَّتَانِ} جنةٌ للخائفِ الإنسيِّ وجنةُ للخائفِ الجنيِّ فإنَّ الخطابَ للفريقينِ فالمَعْنى لكلِّ خائفينِ منكُما أو لكُلِّ واحدٍ جنةٌ لعقيدتِه وأُخرى لعملهِ أو جنةٌ لفعلِ الطاعاتِ وأُخرى لتركِ المعاصِي أو جنةٌ يثابُ بَها وأُخرى يتفضلُ بها عليهِ أو روحانيةٌ وجسمانية وكذاا ما جَاء مَثْنى بعدُ

47

{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى

48

{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} صفةٌ لجنَّتانِ وما بينهُمَا اعتراضٌ وُسّطَ بينهُمَا تنبيهاً على أنَّ تكذيبَ كلَ من الموصوفِ والصفةِ موجبٌ للإنكارِ والتوبيخِ والأفنانُ إمَّا جمعُ فَنَ أيْ ذَوَاتا أنواعٍ من الأشجارِ والثمارِ أو جمعُ فَنَنٍ أي ذَوَاتا أغصانٍ متشعّبةٍ من فروعِ الشجرِ وتخصيصُها بالذكرِ لأنها التي تورقُ وتثمرُ وتمد الظلَّ

49

{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} وليسَ فيها شئ يقبلُ التكذيبَ

50

{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} صفةٌ أخرى لجنتانِ أي في كلِّ واحدةٍ عينٌ تجري كيفَ يشاءُ صاحبُها في الأعالي والأسافلِ وقيلَ تجريانِ من جبلٍ من مسكٍ وعن ابنِ عبَّاسٍ والحسنِ تجريانِ بالماءِ الزلالِ إحداهُما التسنيمُ والأُخرى السلسبيلُ وقيلَ إحداهُما من ماءٍ غيرِ آسنٍ والأُخرى من خمر لذة للشاربين قالَ أبو بكرِ الورَّاقُ فيهما عينانِ تجريانِ لمن كانتْ عيناهُ في الدُّنيا تجريانِ من مخافةِ الله عز وجل

51

{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى {فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} أي صنفانِ معروفٌ وغريبٌ أو رطبٌ ويابسٌ صفةٌ أُخرى لجنَّتانِ وتوسيطُ الاعتراضِ بينَ الصفاتِ لمَا مر آنفا {فبأي آلاء ربكما تكذبان}

وقوله تعالى

54

{مُتَّكِئِينَ} حالٌ من الخائفينَ لأنَّ منْ خافَ في مَعْنى الجمعِ أو نُصب على المدحِ {عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} من ديباجٍ ثخينٍ وحيثُ كانتْ بطائنُها كذلكَ فما ظنُّكَ بظهائرِها وقيل ظهائرُها من سندسٍ وقيل من نورٍ {وَجَنَى الجنتين دَانٍ} أيْ مَا يُجتنَى من أشجارِها من الثمارِ قريبٌ ينالُه القائمُ والقاعدُ والمضطجعُ قالَ ابن عباس رضي الله عنُهمَا تدنُو الشجرةُ حتى تجتنيها وليُّ الله إنْ شاءَ قائماً وإنْ شاءَ قاعداً وإن شاء مضطجعا وقرئ بكسر الجيم

55

{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى {فِيهِنَّ} أيْ في الجنانِ المدلولِ عليه بقولِه تعالَى جَنَّتَانِ لِما عرفتَ أنَّهما لكلِّ خائفينِ منَ الثقلينِ أوْ لكلِّ خائفٍ حسبَ تعددِ عملِه وقد اعتُبرَ الجمعيةُ في قولِه تعالَى متكئينَ وقيلَ فيهما من الأماكنِ والقصورِ وقيلَ في هذِه الآلاءِ المعدودة من الجنتين والفاكهةِ والفرشِ {قاصرات الطرف} نساءٌ يقصُرنَ أبصارَهنَّ على أزواجهنَّ لا ينظرنَ إلى غيرِهم {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ} أي لم يَمسَّ الإنسياتِ أحدٌ من الإنسِ ولا الجنياتِ أحدٌ من الجنِّ قبلَ أزواجِهنَّ المدلولَ عليهُم بقاصراتُ الطرفِ وقيلَ بقولِه تعالى متكئينَ وفيه دليلٌ على أن الجن يطمثون وقرئ يَطْمُثْهنَّ بضمِّ الميمِ والجملةُ صفةٌ لقاصراتُ الطرفِ لأنَّ إضافتَها لفظيةٌ أو حالٌ منَها لتخصصِها بالإضافةِ

57

{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} إمَّا صفةٌ لقاصراتُ الطرفِ أو حالٌ منَها كالتي قبلَها أي مشبهاتٌ بالياقوتِ في حُمرةِ الوجنةِ والمرجانِ أي صغارِ الدرِّ في بياضِ البشر وصفائِها فإنَّ صغارَ الدرِّ أنصعُ بياضاً من كبارِه قيل إنَّ الحوراءَ تلبَسُ سبعينَ حُلَّة فيُرى مخُّ ساقِها منْ ورائِها كما يُرى الشرابُ الأحمرُ في الزجاجة البيضاء

59

{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى {هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان} استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ ما فُصِّلُ قبلَهُ أي ما جزاءُ الإحسانِ في العملِ إلا الإحسانُ في الثواب

61 70

61

{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} مبتدأٌ وَخبرٌ أيْ ومنْ دونِ تينكَ الجنَّتينِ الموعودتينِ للخائفينِ المقربينِ جنتانِ أخريان لمن دونهن من أصحابِ اليمينِ

63

{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى {مُدْهَامَّتَانِ} صِفةٌ لجنَّتانِ وسِّط بينهُمَا الاعتراضُ لما ذُكِرَ من التَّنبيه على أنَّ تكذيبَ كلَ من الموصوفِ والصفةِ حقيقٌ بالإنكارِ والتوبيخِ أيْ خضراوانِ تضربانِ إلى السوادِ من شدةِ الخُضرةِ وفيه إشعارٌ بأنَّ الغالبَ على هاتينِ الجنتينِ النباتُ والرياحينُ المنبسطةُ على وجهِ الأرض وعلى الأولين الأشجار والفواكه

65

{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} أيْ فوَّارتانِ بالماءِ والنضح أكثرُ من النضح بالحاءِ المهملةِ وهُو الرَّشُّ

67

{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} {فِيهِمَا فاكهة وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} عُطفَ الأخيرانِ على الفاكهةِ عَطفَ جبريلَ وميكالَ على الملائكةِ بياناً لفضلِهما فإنَّ ثمرةَ النخل فاكهةٌ وغذاءٌ والرمانُ فاكهةٌ ودواءٌ وعنْ هَذا قالَ أبو حنيفة رحمه الله مَنْ حلفَ لا يأكلُ فاكهةً فأكلَ رمَّاناً أو رُطباً لم يحنثْ

69

{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى {فِيهِنَّ خيرات} صفةٌ أُخرى لجنتانِ كالجُملةِ التي قبلَها والكلامُ في جميعِ الضميرِ كالَّذي مرَّ فيمَا مرَّ وخيراتٌ مخففةٌ من خَيِّراتٍ لأنَّ خَيْراً الذي بَمعْنى أخيرَ لا يجمعُ وقد قرئ على الأصلِ {حِسَانٌ} أي حسانُ الخَلْقِ والخُلُقِ

78 7 {

71

{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى {حُورٌ} بدلٌ من خيراتٌ {مقصورات فِى الخيام} قُصرنَ في خُدورِهنَّ يقالُ امرأةٌ قصيرةٌ وقَصورةٌ أيْ مُخدَّرةٌ أو مَقْصُوراتُ الطرفِ عَلَى أَزْواجِهنَّ وقيلَ إنَّ الخيمةَ من خيامِهنَّ درَّةٌ مجوَّفةٌ

73

{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ} كالذي مرَّ في نظيرِه من جميعِ الوجوه

75

{فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} {مُتَّكِئِينَ} نُصبَ على الاختصاصِ {على رَفْرَفٍ خضر} الرفرف إمَّا اسمُ جنسٍ أو اسمُ جمعٍ وَاحِدُهُ رفرفةٌ قيل هو ماتدلى من الأسرّةِ من أَعَالِي الثيابِ وقيلَ هو ضربٌ منَ البُسطِ أو البُسطُ وقيلَ الوسائدُ وقيل النمارقُ وقيل كلُّ ثوبٍ عريضٍ رفرف وقيل لأطرافِ البسطِ وفضولِ الفُسطاطِ رفارفُ ورفرفُ السحابِ هيدبُهُ {وَعَبْقَرِىّ حِسَانٍ} العبقريُّ منسوبٌ إلى عبقرٍ تزعمُ العربُ أنَّه اسمُ بلدِ الجِنِّ فينسبونَ إليهِ كلَّ شيءٍ عجيبٍ والمرادُ به الجنسُ ولذلكَ وصفَ بالجمعِ حَمْلاً على المَعْنى كَما في رفرفٍ على أحدِ الوجهينِ وقُرىء عَلَى رَفَارِفَ خُضُر بضمَّتينِ وعَبَاقريَ كمدائِني نسبة إلى عباقرَ في اسمِ البلد

77

{فبأي آلاء ربكما تكذبان} وقوله تعالى {تبارك اسم رَبّكَ} تنزيهٌ وتقديسٌ له تعالَى فيه تقريرٌ لما ذُكِرَ في السورةِ الكريمةِ من آلائِه الفائضةِ على الأنامِ أي تعالَى اسُمه الجليلُ الذي من جُمْلتِه ما صُدِّرتْ به السورةُ من اسم الرحمن المنبىءِ عن إفاضتِه الآلاءَ المُفصَّلةَ وارتفعَ عمَّا لاَ يليقُ بشأنِه من الأمور التي من جملتها جحودُ نعمائِه وتكذيبُها وإذا كان حال اسمه بملامسة دلالتِه عليهِ فما ظنُّك بذاتِه الأقدسِ الأَعْلى وقيل الاسمُ بمَعْنى الصفةِ وقيلَ مقحمٌ كما في قولِ من قال ... إلى الحولِ ثم اسمُ السلام عليكما ... {ذِى الجلال والإكرام} وصفَ به الربُّ تكميلاً لما ذُكِرَ من التنزيهِ والتقريرِ وقُرِىءَ ذُو الجلال على أنَّه نعتٌ للاسمِ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من قرأ سروة الرحمن أدَّى شكرَ ما أنعم الله عليه

الواقعة 5 { {بسم الله الرحمن الرحيم}

الواقعة

{إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} أيْ إذَا قامتِ القيامةُ وذلكَ عندَ النفخةِ الثانيةِ والتعبيرُ عنها بالواقعةِ للإيذانِ بتحققِ وقعها لا محالةَ كأنَّها واقعةٌ في نفسِها معَ قطعِ النظرِ عن الوقوعِ الواقعِ في حيزِ الشرطِ كأنَّه قيلَ كانتِ الكائنةُ وحدثتِ الحادثةُ وانتصابُ إذَا بمضمرٍ ينبىءُ عن الهولِ والفظاعةِ كأنَّه قيلَ إذَا وقعتِ الواقعةُ يكونُ من الأهوالِ مالا يفي به المقالُ وقيلَ بالنَّفي المفهومِ من قولِه تعالى

2

{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أيْ لا يكونُ عندَ وقوعِها نفسٌ تكذبُ على الله تعالى أوتكذب في نفيها كما تكذبُ اليومَ واللامُ كهيَ في قولِه تعالى ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى وهذهِ الجملةُ على الوجهِ الأولِ اعتراضٌ مقررٌ لمضمونِ الشرطِ على أنَّ الكاذبةَ مصدرٌ كالعافيةِ أي ليسَ لأجلِ وقعتِها وفي حقِّها كذبٌ أصْلاً بلْ كلُّ ما وردَ في شأنِها من الأخبارِ حقٌّ صادقٌ لا ريبَ فيهِ وقوله تعالى

3

{خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هيَ خافضةٌ لأقوامٍ رافعةٌ لآخرينَ وهو تقريرٌ لعظمتِها وتهويلٌ لأمرِها فإنَّ الوقائعَ العظامِ شأنُها كذلكَ أو بيانٌ لمَا يكون يؤمئذ من حطِّ الأشقياءِ إلى الدركاتِ ورفعِ السعداءِ إلى الدرجاتِ ومن زلزلةِ الأشياءِ وإزالةِ الأجرامِ عن مقارِّها بنثرِ الكواكبِ وإسقاطِ السماءِ كسفاً وتسييرِ الجبالِ في الجوِّ كالسحابِ وتقديمُ الخفضِ على الرفعِ للتشديدِ في التهويل وقُرِىءَ خافضةً رافعةً بالنصب على الحا من الواقعةِ وقولُه تعالَى

4

{إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً} أيْ زلزلتْ زلزالاً شديداً بحيثُ ينهدمُ ما فوقَها من بناءٍ وجبلٍ متعلقٌ بخافضةٌ رافعةٌ أي تخفضُ وترفعُ وقتَ رجِّ الأرضِ إذْ عندَ ذلكَ ينخفضُ ما هُو مرتفعٌ ويرتفعُ ما هو منخفضٌ أو بدلٌ منْ إذَا وقعتِ

5

{وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً} أيْ فتت حتَّى صارتْ

} 0 6 مثلَ السويقِ الملتوتِ من بس السويق إذالته أو سِيقتْ وسيرتْ من أماكنِها من بسَّ الغنَم إذَا ساقَها كقولِه تعالَى وسُيرتِ الجبالُ وقُرِىءَ رُجتْ وبُستْ أيْ ارتجتْ وذهبتْ

6

{فَكَانَتْ} أي فصارتْ بسببِ ذلك {هَبَاء} غباراً {مُّنبَثّاً} منتشراً

7

{وَكُنتُمْ} إما خطابٌ للأمةِ الحاضرةِ والأممِ السالفةِ تغليباً أو للحاضرة {أزواجا} أي أصنافاً {ثلاثة} فكلُّ صنفٍ يكونُ مع صنفٍ آخرَ في الوجودِ أو في الذكرِ فهو زوجٌ وقولُه تعالى

8

{فأصحاب الميمنة مَا أصحاب الميمنة} وأصحاب المشامة ما أصحاب المشأمة تقسيمٌ وتنويعٌ للأزواجِ الثلاثةِ معَ الإشارةِ الإجماليةِ إلى احوالهم ققبل تفصيلِها فقولُه تعالَى فأصحابُ الميمنة مبتدأ وقوله مااصحاب الميمنةِ خبرُه على أنَّ ما الاستفهاميةَ مبتدأٌ ثانٍ ما بعده خبرُهُ والجملةُ خبرُ الأولِ والأصلُ ما هُم أيْ أيُّ شيءٍ هم في حالِهم وصفتِهم فإنَّ ما وإنْ شاعتْ في طلبِ مفهومِ الاسمِ والحقيقةِ لكنَّها قد يُطلب بَها الصفةُ والحالُ تقولُ ما زيد فيقال عالم أو طبيبٌ فوضْعُ الظاهرِ موضعَ الضميرِ لكونِه أدخلَ في التفخيمِ وكذا الكلامُ في وقوله تعالى وأصحاب المشامة ما أصحاب المشامة والمرادُ تعجيبُ السامعِ من شأنِ الفريقينِ في الفخامةِ والفظاعةِ كأنَّه قيلَ فأصحابُ الميمنةِ في غاية حسنِ الحالِ وأصحابُ المشأمةِ في نهاية سوءِ الحالِ وتكلمُوا في الفريقينِ فقيلَ أصحابُ الميمنةِ أصحابُ المنزلةِ السنيةِ وأصحابُ المشأمةِ أصحابُ المنزلةِ الدنيةِ أخذاً من تيمُّنهم بالميامنِ وتشاؤمِهم بالشمائلِ وقيلَ الذينَ يُؤتَون صحائفهم بأيمانِهم والذينَ يُؤتونها بشمائِلهم وقيلَ الذينَ يُؤخذُ بِهم ذاتَ اليمينِ إلى الجنَّةِ والذينَ يؤخذُ بهم ذاتَ الشمالِ إلى النارِ وقيلَ أصحابُ اليمين وأصحابُ الشؤمِ فإن السعداءَ ميامين على انفسهم بطاعتهم والأشقياءُ مشائيمُ عليها بمعاصِيهم وقولُه تعالَى

10

{والسابقون السابقون} هُو القِسمُ الثالثُ من الأزواجِ الثلاثةِ ولعلَّ تأخيرَ ذكرِهم مع كونِهم أسبقَ الاقسامِ وأقدمَهم في الفضلِ ليقترنَ ذكرُهم ببيانِ محاسنِ أحوالِهم على أن يرادهم بعنوانِ السبقِ مُطلقاً معربٌ عن إحرازِهم لقصبِ السبقِ من جميعِ الوجوهِ وتكلمُوا فيهم أيضاً فقيلَ هم الذينَ سبقُوا إلى الإيمانِ والطاعةِ عند ظهورِ الحقِّ من غير تلعثمٍ وتوانٍ وقيلَ الذينَ سبقوا في حيازةِ الفضائلِ والكمالاتِ وقيلَ هُم الذينَ صلَّوا إلى القبلتينِ كما قالَ تعالى والسابقون الأولين مِنَ المهاجرينَ والأنصارِ وقيلَ هم السابقون الى صلوات الخمسِ وقيل المسارعونَ في الخيراتِ وأيَّاً ما كانَ فالجملةُ مبتدأٌ وخبرٌ

} 1 14 والمَعْنى والسابقونَ هم الذينَ اشتهرتْ أحوالُهم وعرفتْ محاسنُهم كقولِ أبي النَّجم ... أنَا أبُو النَّجم وشِعْرِي شِعْرِي ... وفيه تفخيمِ شأنِهم والإيذانِ بشيوعِ فضلِهم واستغنائِهم عن الوصفِ بالجميل مالا يَخْفى وقيلَ والسابقونَ إلى طاعةِ الله تعالى السابقونَ إلى رحمتِه أو السابقونَ إلى الخير والسابقون إلى الجنةِ وقولُه تعالى

11

{أولئك} إشارةٌ إلى السابقينَ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلتِهم في الفضلِ ومحلُّه الرفع على الابتداء خبرُه ما بعدَهُ أَيْ أولئكَ الموصُوفون بذلكَ النعتِ الجليلِ {المقربون} أي الذينَ قُرّبتْ إلى العرشِ العظيمِ درجاتُهم وأعليتْ مراتبهُم ورُقِّيتْ إلى حظائرِ القدسِ نفوسُهم الزكيةُ هذا أظهرُ ما ذُكِرَ في إعرابِ هذه الجملِ وأشهرُه والذي تقتضيِه جزالةُ التنزيلِ أنَّ قولَه تعالَى فأصحاب الميمنة خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وكذَا قولُه تعالى وأصحاب المشأمة وقولُه تعالَى والسابقون فإن المترقَّبَ عند بيانِ انقسامِ الناسِ إلى الأقسامِ الثلاثةِ بيانُ أنفَسِ الأقسامِ الثلاثةِ وأمَّا أوصافُها وأحوالُها فحقُّها أن تبين بعد ذ ذلكَ بإسنادِها إليها والتقديرُ فأحدُها أصحابُ الميمنةِ والآخرُ أصحابُ المشأمةِ والثالثُ السابقونَ خَلاَ أنَّه لما أُخرَ بيان أحوال القسمين الأولين عُقّبَ كلٌّ منهُما بجملةٍ معترضةٍ بين القسمينِ منبئةٍ عن تَرَامي أحوالِهما في الخيرِ والشرِّ إنباءً إجمالياً مشعراً بأنَّ لأحوالِ كلَ منهُمَا تفصيلاً مترقباً لكنْ لا على أنَّ مَا الاستفهاميةَ مبتدأٌ وما بعدها خبرٌ على ما رآهُ سيبويهِ في أمثالِه بلْ على أنَّها خبرٌ لما بعدها فإن مناط الإفادة بيانُ أنَّ أصحابَ الميمنةِ أمرٌ بديعٌ كما يفيدهُ كونُ ما خبر إلا بيانُ أنَّ أمراً بديعاً أصحابُ الميمنةِ كما يفيدُه كونُها مبتدأً وكذا الحالُ فى أصحابُ المشأمة وأما القسمُ الأخيرُ فحيثُ قُرنَ بيانُ محاسنِ أحوالِه بذكِره لم يُحتجْ فيهِ إلى تقديمِ إلا نموذج فقولُه تعالى السابقونَ مبتدأٌ والإظهارُ في مقامِ الإضمارِ للتفخيمِ وأولئكَ مبتدأٌ ثانٍ أو بدلٌ من الأولِ وما بعدَهُ خبرٌ له أو الثانى والجملةُ خبرٌ للأولِ وقولُه تعالى

12

{فِي جنات النعيم} متعلقٌ بالمقربونَ أو بمضمرٍ هو حالٌ من ضميرِه أي كائنين في جنَّاتِ النعيمِ وقيلَ خبرٌ ثانٍ لاسمِ الإشارةِ وفيه أنَّ الإخبارَ بكونِهم مقربين ليس فيه مزيدُ مزيةٍ وقرئ في جنةِ النعيمِ وقولُه تعالى

13

{ثُلَّةٌ مّنَ الأولين} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هُم أمةٌ جمةٌ من الأولينَ وهم الأممُ السالفةُ من لدنِ آدم إلى نبيِّنا عليه الصلاة والسلام وعلى بينهُمَا منَ الأنبياءِ العظامِ

14

{وَقَلِيلٌ مّنَ الأخرين} أي من هذه الأمةِ ولا يخالُفه قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّ أمتِي يكثرونَ

} 5 2 { سائرالأمم فإنَّ أكثريةَ سابقي الأممِ السالفةِ من سابقي هذه الأمة لا تمنعُ أكثريةَ تابعي هؤلاءِ من تابَعي أولئكَ ولا يردُّه قولُه تعالى في أصحابِ اليمينِ ثلة من الأولين وثلة من الآخرينَ لأنَّ كثرةَ كلَ من الفريقينِ في أنفسِهما لا تُنافِي أكثريةَ أحدِهما من الآخرِ وسيأتِي أن الثلين من هذهِ الأمةِ وقد رُويَ مرفوعاً أن الأولينَ والآخرينَ ههنا أيضاً متقدمُو هذه الأمةِ ومتأخرُوهم واشتقاقُ الثلةِ من الثِّل وهو الكسرُ

15

{على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} حالٌ أُخرى من المقربينَ أو من ضميرِهم في الحالِ الأُولى وقيلَ خبرٌ آخرُ للضميرِ والموضونةُ المنسوجةُ بالذهبِ مشبكةٌ بالدرِّ والياقوتِ أو المتواصلةُ من الوضنِ وهو النسجُ

16

{مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا متقابلين} حالانِ من الضميرِ المستكنِّ فيما تعلقَ بهِ على سررٍ أي مستقرينَ على سررٍ متكئينَ عليها متقابلينَ لا ينظرُ بعضُهم من أقفاءِ بعضٍ وهو وصفٌ لهم بحسنِ العشرةِ وتهذيبِ الأخلاقِ والآدابِ

17

{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} حالٌ أُخرى أو استئنافٌ أي يدورُ حولَهُم للخدمةِ {ولدان مُّخَلَّدُونَ} أي مبقونَ أبداً على شكل الولدان وطرواتهم لا يتحولونَ عنها وقيلَ مقرطونَ والخُلد القِرطُ قيلَ هم أولادُ أهلِ الدُّنيا لم يكُن لهم حسناتٌ فيثابُوا عليها ولا سيئاتٌ فيعاقبُوا عليها رُوي ذلكَ عن عليَ رضيَ الله عنه وعنِ الحسنِ رحمَهُ الله وفي الحديثِ أولادُ الكفارِ خدامُ أهلِ الجنةِ

18

{بِأَكْوَابٍ} بآنيةٍ لا عُرَى لها ولا خَراطيمُ {وَأَبَارِيقَ} أي آنيةٌ ذاتُ عُرى وخَراطيمَ {وَكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ} أي خمرٍ جاريةٍ من العُيونِ قيلَ إنما أفردَ الكأسَ لأنها لا تسمَّى كأساً إلا إذا كانتْ مملوءةً

19

{لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أيْ بسببها وحقيقتُه لا يصدرُ صداعهم عنها وقرئ لا يصدعون أي لا يتصدَّعُون ولا يتفرقونَ كقولِه تعالى يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ وقرىءَ لا يصدعون أي لا يفرقُ بعضُهم بعضاً {وَلاَ يُنزِفُونَ} أي لا يسكرُون من أنزفَ الشَّاربُ إذا نفدَ عقلُه أو شرابُه

20

{وفاكهة مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ} أي يختارونه ويأخذون خبره وأفضله

21

{وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ} أي يتمنونَ وقُرىءَ ولحومِ طيرٍ

} 2 29

22

{وَحُورٌ عِينٌ} بالرفعِ عطفٌ على ولدان أو مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أي وفيها أولهم حور وقرئ بالجر عطفاً على جنات النعيمِ كأنَّه قيلَ هم في جناتٍ وفاكهةٍ ولحمٍ ومصاحبة حورٍ أو على أكوابٍ لأنَّ معنى يطوفُ عليهم ولدانٌ مخلدونَ بأكوابٍ يُنعَّمونَ بأكوابٍ وبالنصبِ أي ويُؤتونَ حُوراً

23

{كأمثال اللؤلؤ المكنون} صفة لحور أو حال

24

{جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} مفعول له أي يفعل بهم ذلك جزاءً بأعمالِهم أو مصدرٌ مؤكدٌ أي يُجزونَ جزاءً

25

{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} أي باطلاً {وَلاَ تَأْثِيماً} أيْ ولا نسبةً إلى الإثمِ أيْ لا لغوَ فيهَا ولا تأثيمَ ولا سماعَ كقولِه وَلاَ ترَى الضبَّ بها ينجحِرُ ...

26

{إِلاَّ قِيلاً} أي قولاً {سلاما سلاما} بدلٌ من قيلاً كقوله تعالَى لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سلاما أو صفتُه أو مفعولُه بمَعْنى لا يسمعونَ فيها إلا أنْ يقولُوا سلاماً سلاماً والمَعْنى أنهم يُفشونَ السلامَ فيسلمونَ سلاماً بعدَ سلامٍ أو لا يسمعُ كلٌّ من المسلِّمِ والمسلم عليه الإسلام الآخرِ بدءاً أو رداً وقرئ سلامٌ سلامٌ على الحكايةِ وقولُه تعالَى

27

{وأصحاب اليمين} شروعٌ في تفصيل ما أُجملَ عند تقسيم من شؤنهم الفاضلة إثر تفصيل شؤن السابقينَ وهو مبتدأُ وقولُه تعالى {مَا أصحاب اليمين} جملةٌ استفهاميةٌ مسوقةٌ لتفخيمِهم والتعجيبِ من حالِهم وقد عرفت كيفية يكها محلُّها إما الرفعُ على أنَّها خبرٌ للمبتدأِ أو معترضةٌ لا محلَّ لها والخبرُ قولُه تعالى

28

{فِى سِدْرٍ مَّخْضُودٍ} وهو عَلى الأولِ خبرٌ ثانٍ للمبتدأِ أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ استئنافٌ لبيانِ ما أُبهم في قولِه تعالى مَا أصحاب اليمين من علو الشأن هم في سدرٍ غيرِ ذي شوكٍ لا كسِدْر الدُّنيا وهو شجرُ النبقِ كأنَّه خُضِّدَ شوكُه أي قطعَ وقيل مخضودٌ أي مثنيٌّ أغصانُه لكثرةِ حملِه من خضَدَ الغصنُ إذا ثناهُ وهو رطبٌ

29

{وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} قد نُضّد حملُه من أسفلِه إلى أعلاهُ ليستْ له ساقٌ بارزةُ وهو شجرُ

} 0 37 الموز وأم غيلانَ وله أنوارٌ كثيرةٌ منتظمةٌ طيبةُ الرائحةِ وعن السُّدِّيِّ شجرٌ يُشبهُ طلحَ الدُّنيا ولكنْ له ثمرٌ أَحْلى من العسلِ وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه أنه قرأَ وطلعٍ وما شأنُ الطلحِ وقرأَ قولَه تعالى لها طلعٌ نضيدٌ فقيل أو نحو لها قال آيْ القرآنِ لا تُهاجُ ولا تحولُ وعن ابنِ عباسٍ نحوُه

30

{وَظِلّ مَّمْدُودٍ} ممتدَ منبسطٍ لا يتقلص ولا يتعاون كظلِّ ما بينَ طُلوعِ الفجرِ وطلوعِ الشمسِ

31

{وَمَاء مَّسْكُوبٍ} يُسكبُ لهُم أينما شاؤا وكيفَما أرادُوا بلا تعبٍ أو مصبوبٍ سائلٍ يجري على الأرضِ في غير أخدودٍ كأنَّه مثّلِ حالَ السابقينَ بأقصى ما يتصورُ لأهل المدن وقال أصحابِ اليمينِ بأكملِ ما يتصور لأهل البوادى إيذان بالتعاون بينَ الحالينِ

32

{وفاكهة كَثِيرَةٍ} بحسبِ الأنواعِ والأجناسِ

33

{لاَّ مَقْطُوعَةٍ} في وقتٍ من الأوقاتِ كفواكهِ الدُّنيا {ولا ممنوعة} من مُتناولِيها بوجهٍ من الوجوهِ لا يُحظر عليها كما يُحظر على بساتينِ الدُّنيا وقرئ فاكهةٌ كثيرةٌ بالرَّفعِ عَلى وهُناكَ فاكهةٌ الخ كقولِه تعالى وحورٌ عينٌ

34

{وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ} أي رفيعةِ القدرِ أو منضدةٍ مرتفعةٍ أو مرفوعةٍ على الأسرّة وقيل الفرشُ النساءُ حيثُ يُكْنَى بالفراشِ عن المرأةِ وارتفاعُها كونُهنَّ على الأرائكِ قالَ تعالَى هُمْ وأزواجهم فِى ظلال عَلَى الأرائك مُتَّكِئُونَ ويدلُّ عليهِ قولُه تعالى

35

{إِنَّا أنشأناهن إِنشَاء} وعلى التفسيرِ الأولِ أضمر لهنُ لدلالةِ ذكرِ الفُرشِ التي هي المضاجعُ عليهن دلالةً بينةً والمعنى ابتدأنَا خلقهنَّ ابتداءً جديداً أو أبدعناهنَّ من غير ولاإبداء أو إعادةً وفي الحديثِ هُنَّ اللواتِي قُبضن في دارِ الدنيا عجائزَ شُمطاً رُمْصاً جعلهنَّ الله تعالَى بعدَ الكبرِ أتراباً على ميلادٍ واحدٍ في الاستواءِ كلما أتاهنَّ أزواجُهنَّ وجدوهنَّ أبكارا وقوله تعالى

36

{فجعلناهن أبكارا} وقوله تعالى {عُرُباً}

45 38 جمعُ عروبٍ وهي المتحببةُ إلى زوجِها الحسنةُ التبعلِ وقُرِىءَ عُرْباً بسكونِ الراءِ {أَتْرَاباً} مستوياتٍ في السنِّ بناتِ ثلاثٍ وثلاثين سنةً وكذا أزواجُهنَّ واللامُ في قولِه تعالى

38

{لأصحاب اليمين} متعلقةٌ بأنشأنَا أو جعلنَا أو بأتراباً كقولِك هَذا تِربٌ لهَذا أي مساو له السنِّ وقيل بمحذوفٍ هو صفة لأبكار أي كائناتٍ لأصحابِ اليمينِ أو خبر متبدأ محذوفٍ أي هُنَّ لأصحابِ اليمينِ وقيل خبرٌ لقولهِ تعالى

39

{ثلة من الأولين} {وثلة مّنَ الأخرين} وهو بعيد بل هو خبرُ مبتدإٍ محذوف ختمت به قصة أصحاب اليمين أي هم أمة من الأولين وأمة من الآخرين وقد مرّ الكلام فيهما وعن أبي العالية ومجاهد وعطاء والضحاك ثلةٌ من الأولينَ أي من سابقي هذه الأمة وثلةٌ من الآخرينَ من هذه الأمةِ في آخرِ الزمانِ وعن سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عباس رضيَ الله عنهُمَا في هذه الآيةِ قال قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم هم جَميعاً منْ أمَّتِي

41

{وأصحاب الشمال} شروعٌ في تفصيلِ أحوالِهم التي أُشير عند التنويعِ إلى هولِها وفظاعتِها بعدَ تفصيلِ حسنِ حالِ أصحابِ اليمينِ والكلامُ في قوله تعالى {ما أصحاب الشمال} عينُ ما فُصِّلَ في نظيرِه وكذا في قولِه تعالى

42

{فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} والسَّمومُ حرُّ نارٍ ينفذُ في المسام والحميم الماء المُتناهِي في الحرارةِ

43

{وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ} منْ دُخانٍ أسودَ بهيمٍ

44

{لا بارد} كسائر الظلام {وَلاَ كَرِيمٍ} فيه خير ما في الجملة سُمِّيَ ذلكَ ظلاً ثم نُفى عنه وصفاهُ البردُ والكرمُ عبر به عن دفع أذى الحر لتحقيقِ أنه ليس بظلَ وقرىءَ لا باردٌ ولا كريمٌ بالرفعِ أي لا هُو باردٌ ولا كريمٌ وقولُه تعالى

45

{إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} تعليلٌ لابتلائِهم بما ذُكِرَ من العذابِ أي إنَّهم كانُوا قبلَ ما ذُكر من سُوءِ العذابِ في الدُّنيا منعّمينَ بأنواعِ النعمِ من المآكلِ والمشاربِ والمساكنِ الطيبةِ والمقاماتِ الكريمةِ منهمكينَ في الشهواتِ فلا جرمَ عُذبُوا

51 46 بنقائضِها

46

{وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} أي الذنبِ العظيمِ الذي هو الشركُ ومنه قولُهم بلغَ الغلامُ الحنثَ أى الحلم ووقت المؤاخذةِ بالذنبِ

47

{وَكَانُواْ يِقُولُونَ} لغايةِ عُتوِّهم وعنادهم {أئذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما} أي كانَ بعضُ أجزائِنا من اللحمِ والجلدِ تراباً وبعضُها عظاماً نخرةً وتقديمُ التُّراب لعراقتِه في الاستبعادِ وانقلابِه من الأجزاءِ البادية وإذا متمحضة للظرفية والعاملُ فيها ما دل عليه قوله تعالى {أئنا لمبعوثون} لانفسه لأن مَا بعد أنَّ واللامِ والهمزةِ لا يعملُ فيما قبلَها وهو نُبعثُ وهو المرجِعُ للإنكارِ وتقييدُه بالوقتِ المذكورِ ليس لتخصيصِ إنكارِه به فإنَّهم منكرِون للإحياءِ بعدَ الموتِ وإنْ كانَ البدنُ على حالِه بل لتقويةِ الإنكارِ للبعثِ بتوجيهه إليه في حالةٍ منافيةٍ له بالكليةِ وتكريرُ الهمزةِ لتأكيدِ النكيرِ وتحليةُ الجملةِ بأنَّ لتأكيدِ الإنكارِ لا لإنكارِ التأكيدِ كما عسى يُتوَّهم من ظاهرُ النظمِ فإنَّ تقديمَ الهمزةِ لاقتضائِها الصدارةَ كما في مثل قوله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ على رأي الجمهورِ فإن المعنى عندهم تعقيبُ الإنكارِ لا إنكارُ التعقيبِ كما هو المشهورُ وليس مدارُ إنكارِهم كونَهم ثابتينَ في المبعوثية بالفعل في حال كونِهم تراباً وعظاما بل كولهم بعَرَضية ذلك واستعدادِهم له ومرجعُه إلى إنكارِ البعثِ بعد تلك الحالةِ وفيه من الدِلالة على غلوهم في الكفر وتماديهم في الضلال مالا مزيدَ عليه وتكريرُ الهمزةِ في قولِه تعالى

48

{أو آباؤنا الأولون} لتأكيد النكيرِ والواوُ للعطفِ على المستكنِّ في لمبعوثون وحسن ذلك الفضل بالهمزة يعنون أنَّ بعثَ آبائهم الأولينَ أبعدُ من الوقوعِ وقُرىء أو آباؤُنا

49

{قل} ردا الإنكارهم وتحققا للحقِّ {إِنَّ الأولين والأخرين} من الأممِ الذين منْ جُملتهم أنتُم وآباؤكم وفي تقديم الأولينَ مبالغةٌ في الردِّ حيث كان إنكارُهم لبعث آبائِهم أشدَّ من إنكارِهم لبعثهم مع مراعاةِ الترتيب الوجودى

50

/ لمجموعة / بعد البعث وقرىء لمجموعون {إلى ميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} إلى ما وُقتت به الدُّنيا من يومٍ معلومٍ والإضافةُ بمعنى منْ كخاتم فضةٍ

51

{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون} عطفٌ على أن الأولين داخلٌ تحت القولِ وثم للتراخِي زماناً أو رتبةً {المكذبون} أي بالبعث والخطابُ لأهلِ مكةَ وأضرابِهم

57 5 {

52

{لاَكِلُونَ} بعد البعثِ والجمعِ ودخولِ جهنَم {مِن شَجَرٍ مّن زَقُّومٍ} من الأُولى لابتداء الغايةِ والثانيةُ لبيان الشجرِ وتفسيرِه أي مبتدئون الأكلَ من شجرٍ هو زقومٌ وقيل من الثانيةُ متعلقةٌ بمضمرٍ هو وصفٌ لشجرٍ أي كائنٍ من زقومٍ

53

{فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون} أي بطونكُم من شدةِ الجوع

54

{فشاربون عَلَيْهِ} عَقيبَ ذلك بلا ريثٍ {مِنَ الحميم} أي الماءُ الحارُّ في الغايةِ وتأنيثُ ضميرِ الشجرِ أولاً وتذكيرُه ثانياً باعتبارِ المعنى واللفظِ وقُرىءَ من شجرةٍ فضمير عليه حينئذٍ للزقومِ وقيل للأكلِ وقولُه تعالى

55

{فشاربون شُرْبَ الهيم} كالتفسيرِ لما قبله على طريقة قولِه تعالى فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا أي لا يكونُ شربُكم شرباً معتاداً بل يكونُ مثلَ شربِ الهيمِ وهي الإبلُ التي بها الهيامُ وهو داء يصيبها فتشربُ ولا تروى جمعُ أهيمَ وهيماءَ وقيلَ الهِيمُ الرمالُ على أنه جمعُ الهَيَام بفتحِ الهاءِ وهو الرمل الي لا يتماسكُ جُمعَ على فُعُلٍ كسحابٍ وسُحُبٍ ثم خفف وفُعل به ما فُعل بجمعِ أبيضَ والمعنى أنه يسلطُ عليهم من الجوعِ والتهابِ النارِ في أحشائِهم ما يَضطرّهم إلى أكلِ الزقوم الذي هو كالمهلِ فإذا ملؤا منه بطونَهم وهو في غايةِ الحرارةِ والمرارِة سلط عليهم من العطشِ ما يضطرهم إلى شربِ الحميمِ الذى يقطع أمعاءهم فيشربون شربَ الهيمِ وقرىء شَربَ الهيمِ بالفتحِ وهو أيضاً مصدر وقرىءَ بالكسرِ على أنهُ اسمُ المشروبِ

56

{هذا} الذي ذكر من أنواعِ العذابِ {نُزُلُهُمْ يَوْمِ الدين} أي يومَ الجزاءِ فإذا كان ذلك نزلَهُم وهو ما يُعدّ للنازلِ مما حضر فما ظنُّك بما لهم بعد ما استقرَّ لهم القرارُ واطمأنتْ بهم الدارُ في النارِ وفيه من التَّهكُّمِ بهم مالا يخف وقرء نُزْلهم بسكونِ الزاي تخفيفاً والجملةُ مسوقةٌ من جهته تعالى بطريقِ الفذلكةِ مقررةٌ لمضمون الكلام الملقن غيرُ داخلةٍ تحتَ القولِ وقوله تعالى

57

{نحن خلقناكم فلولا تصدقون} تلوينٌ للخطاب وتوجيهٌ له إلى الكفرةِ بطريقِ الإلزامِ والتبكيتِ والفاءُ لترتيبِ التحضيضِ على ما قبلها أي فهلَّا تصدقونَ بالخلقِ فإن مالا يحققه العلم ولا يساعده بل ينبىءُ عن خلافه ليس من التصديق في شيءٍ وقيل بالبعث استدلالا عليه بالإنشاء فإن من قدرَ عليه قدرَ على الإعادةِ حتماً والأولُ هو الوجهُ كما ستحيطُ به خبراً

65 58

58

{أفرأيتم مَّا تُمْنُونَ} أي تقذفونَ في الأرحامِ من النطفِ وقُرىءَ بفتحِ التَّاءِ من مَنَى النطفةَ بمعنى أمنَاها

59

{أأنتم تَخْلُقُونَهُ} أي تقدرونَهُ وتصورونَهُ بشراً سوياً {أَم نَحْنُ الخالقون} له من غيرِ دخلِ شيءٍ فيه وأم قيل منقطعةٌ لأن ما بعدها جملةٌ فالمعنى بل أنحنُ الخالقونَ على أنَّ الاستفهامَ للتقريرِ وقيل متصلة ومجىءُ الخالقونَ بعد نحن بطريقِ التأكيد لا بطريقِ الخبريةِ أصالةً

60

{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} أي قسمنَاهُ عليكم ووقتنا موتَ كلِّ أحدٍ بوقتٍ معينٍ حسبما تقتضيهِ مشيئتُنا المبنيةُ على الحِكَمِ الباالغة وقرىء قدرنا مخففة {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي إنا قادرونَ

61

{على أَن نُّبَدّلَ أمثالكم} لا يغلبنا أحدٌ على أن نُذهبكم ونأتَي مكانَكم أشباهكم من الخلق {وننشئكم في ما لاَ تَعْلَمُونَ} من الخلقِ والأطورا ولاتعهدون بمثلها قال الحسن رحمه الله أي نجعلكم قردةً وخنازيرَ وقيل المَعْنى وننشئكم في البعثِ على غيرِ صوركم في الدنيا فَمْن هذا شأنُه كيف يعجزُ عن إعادتِكم وقيلَ المعنى وما يسبقنا أحدٌ فيهرب من الموت أو يغير وقته وعلى أن نبدل إلخ إما حالٌ من فاعل قدرنا أو علةٌ للتقديرِ وعلى بمعنى اللام وما بينهما اعتراضٌ

62

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى} هي خلقُهم من نطفةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ من مضغةٍ وقيل هي فطرةُ آدمَ عليه السلامُ من الترابِ {فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} فهلا تتذكرون أنَّ من قدرَ عليها قدر على النشأةِ الأُخرى حتماً فإنه أقلُّ صنعاً لحصولِ الموادِّ وتخصص الأجزاءِ وسبقِ المثالِ وفيه دليلٌ على صحَّة القياسِ وقرىء فَلْولاَ تذكُرُون من الثلاثى وفي الخبرِ عجباً كلَّ العجبِ للمكذبِ بالنشأةِ الْاخرةِ وهو يرى النشأةَ الأولى وعجباً للمصدق بالنشأة الآخرةِ وهو يسعى لدار الغرور

63

{أفرأيتم مَّا تَحْرُثُونَ} أي تبذرونَ حبَّه وتعملونَ في أرضِه

64

{أأنتم تَزْرَعُونَهُ} تنبتونَهُ وتردونه نباتاً يرف {أم نحن الزارعون} أيى المنبتونَ لا أنتمُ والكلامُ في أم كما مر آنفاً

65

{لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حطاما} هشيماً متكسراً متفتتاً بعد ما أنبتناهُ وصارَ بحيثُ طمعتم في حيازة غلالِه

72 66 {فَظَلْتُمْ} بسبب ذلك {تَفَكَّهُونَ} تتعجبونَ من سوءِ حالِه إثر ما شاهدتُموه على أحسنِ ما يكون من الحال أو تنذمون على ما تعبتُم فيه وأنفقتُم عليه أو على ما اقترفتُم لأجله من المعاصِي فتتحدثون فيه والتفكّه التنقلُ بصنوفِ الفاكهةِ وقد استعير للتنقلِ بالحديثِ وقُرِىءَ تفكنون أى تتندمون وقرىء وفظلتم بالكسرِ وفظللِتُم على الأصل

66

{إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي لملزَمون غرامةَ ما أنفقنا أو مهلكونَ بهلاكِ رزقِنا من الغَرام وهو الهلاكُ وقُرِىءَ أننا على الاستفهامِ والجملةُ على القراءتينِ مقدرة بقول هو في حيز النصبِ على الحاليةِ من فاعلِ تفكهون أي قائلين أو تقولون إنا لمغرمون

67

{بل نحن محرومون} حرمنا رزقنا أو محافرون محدودن لاحظ لنا ولا بختَ لا مجدودن

68

{أفرأيتم الماء الذى تَشْرَبُونَ} عذباً فراتاً وتخصيصُ هذا الوصفِ بالذكرِ مع كثرة منافعهِ لأن الشربَ أهم المقاصدِ المنوطة به

69

{أأنتم أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن} أي من السحابِ واحدُه مُزْنَةٌ وقيل هو السحابُ الأبيضُ وماؤه أعذبُ {أَمْ نَحْنُ المنزلون} له بقدرتنا

70

{لَوْ نَشَاء جعلناه أُجَاجاً} مِلْحاً زُعاقاً لا يمكن شربُه وحذفُ اللامِ ههنا مع إثباتِها في الشرطيةِ الأولى للتعويلِ على علم السامعِ أو الفرقِ بين المطعومِ والمشروبِ في الأهميةِ وصعوبة الفقدِ والشرطيتانِ مستأنفتان مسوقتانِ لبيانِ أن عصمتَهُ تعالى للزرع والماءِ عما يُخلُّ بالتمتعِ بهما نعمةٌ أخرة بعد نعمةِ الإنباتِ والإنزالِ مستوجبةٌ للشكرِ فقوله تعالى {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} تحضيضٌ على شكر الكل

71

{أفرأيتم النار التى تُورُونَ} أي تقدحونها وتستخرجونَها من الزنادِ

72

{أأنتم أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} التي منها الزنادُ وهي المَرخُ والعَفارُ {أَمْ نَحْنُ المنشئون} لها بقدرتنا والتعبيرُ عن خلقِها بالإنشاءِ المنبىءِ عن بديعِ الصنع المعرب عن كمالِ القُدرةِ والحكمةِ لما فيه من الغرابةِ الفارقةِ بينها وبين سائرِ الشجر التي لا تخلُو عن النارِ حتى قيل في كل شجرٍ نارٌ واستَمجد المرخَ والعَفار كما أنَّ التعبيرَ عن نفخِ الروحِ بالإنشاءِ في قوله تعالى ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقَاً آخَر لذلك

77 7 { وقوله تعالى

73

{نَحْنُ جعلناها تَذْكِرَةً} استئنافٌ مبينٌ لمنافعِها أي جعلناها تذكيراً لنارِ جهنَم حيثُ علقنا بها أسبابَ المعاشِ لينظروا إليها ويذكروا ما أُعدوا به من نارِ جهنَم أو تذكرةً وأنموذجاً من نارِ جهنَم لما رُوي عن النبي عليه الصلاة والسلام ناركم هذه التي يوقِدها بنُو آدمَ جزء من سبعين جزءا من حرِّ جهنَم وقيل تبصرة فى امر البعث فإنه ليسَ بأبدعَ من إخراج النار من الشئ الرطبِ {ومتاعا} ومنفعةً {لّلْمُقْوِينَ} للذين ينزلونَ القَواءَ وهي القفر وتخصيصُهم بذلك لأنهم أحوجُ إليها فإن المقيمينَ أو النازلينَ بقرب منهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداحِ بالزنادِ وقد جُوِّز أن يراد بالمقوين الذين خلتْ بطونُهم ومزاودُهم من الطعامِ وهو بعيدٌ لعدم انحصارِ ما يهمهم ويسدُّ خللَهم فيما لا يؤكلُ إلا بالطبخِ وتأخيرُ هذه المنفعةِ للتنبيهِ على أن الأهم هو النفعُ الأخروي والفاءُ في قوله تعالى

74

{فسبح باسم ربك العظيم} لترتيب ما بعده على ما عُدِّد من بدائعِ صنعهِ تعالَى وروائعِ نعمِه الموجبةِ لتسبيحهِ تعالى إما تنزيهاً له تعالى عما يقوله الجاحدون بوحدانيته الكافرون بنعمتِه مع عظمِها وكثرتِها أو تعجباً من أمرِهم في غمطِ تلك النعمِ الباهرةِ مع جلالةِ قدرِها وظهورِ أمرِها أو شكراً على تلك النعمِ السابقة أي فأحدِثْ التسبيحَ بذكرِ اسمِه تعالى أو بذكرِه فإن إطلاقَ الإسم للشئ ذكرٌ له والعظيمُ صفةٌ للاسمِ أو الربِّ

75

{فلا أقسم} أي فأقسم ولا مزيدةٌ للتأكيد كما في قوله تعالى لئلا يَعْلَمَ أو فَلأنا أقسمُ فحذف المبتدأ وأشبع فتحةَ لام الابتداء ويَعضده قراءةُ مَن قرأَ فلا أقسم أو فلا راد لكلامٍ يخالفُ المقسمَ عليه وأما ما قيل من المعنى فلا أقسم إذ الأمر أوضحَ من أنْ يحتاجَ إلى قسمٍ فيأباه تعيينُ المقسَمِ به وتفخيمُ شأنِ القسمِ به {بمواقع النجوم} أي بمساقطِها وهي مغاربُها وتخصيصُها بالقسم لما في غروبها من زوالِ أثرِها والدلالةِ على وجودِ مؤثرٍ دائمٍ لا يتغيرُ أو لأن ذلكَ وقتُ قيامِ المتهجدينَ والمبتهلينَ إليه تعالى وأوانُ نزولِ الرحمةِ والرضوانِ عليهم أو بمنازلها ومجاريها فإنَّ له تعالَى في ذلك من الدليل عاى عظمِ قُدرتِه وكمالِ حكمتِه مالا يحيطُ به البيانُ وقيل النجومُ نجومُ القرآنِ ومواقعُها أوقاتُ نزولِها وقوله تعالى

76

{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} اعتراضٌ في اعتراضٍ قُصدَ به المبالغةُ في تحقيق مضمون الجملة القسمية وتأكيدِه حيث اعترضَ بقوله وإنه لقسمٌ بين القسمِ وجوابِه الذي هُو قولُه تعالى

77

{إنه لقرآن كَرِيمٌ}

83 78 أي كثيرُ النفعِ لاشتمالِه على أصولِ العلومِ المهمةِ في صلاحِ المعاشِ والمعادِ أو حسنٌ مرضيٌّ أو كريمٌ عند الله تعالى وبقوله تعالى لوتعلمون بينَ الموصوفِ وصفتِه وجوابُ لو إما متروكٌ أريدَ به نفيُ علمِهم أو محذوفٌ ثقةٍ بظهورِه أي لعظمتوه أو لعملتُم بموجبهِ

78

{فِى كتاب مَّكْنُونٍ} أي مصونٍ من غيرِ المقربين من الملائكةِ لا يطلعُ عليه مَنْ سواهم وهو اللوحُ

79

{لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} إمَّا صفةٌ أخرى لكتاب فالمرادُ بالمطهرين الملائكةُ المنزهون عن الكدوراتِ الجُسمانيةِ وأوضارِ الأوزارِ أو للقرآنِ فالمرادُ بهم المطهرون من الأحداثِ فيكون نفياً بمعنى النهي أى لا ينغبي أن يسمه إلا من كان على طهارةٍ من الناسِ على طريقةِ قولِه عليه الصلاةُ والسلامُ المسلمُ أخُو المسلمِ لا يظلمُه ولا يُسلُمه أي لا ينبغي له أن يظلمُه وقيلَ لا يطلبه إلا المطهرون من الكفرِ وقرئ المُتطهرونَ والمُطَّهرونَ بالإدغامِ والمُطْهرون من أطْهره بمعنى طَهّره والمطَّهروَن أي أنفسهَم أو غيرَهم بالاستغفارِ أو غيرِه

80

{تنزيلٌ مّن ربِّ العالمينَ} صفةٌ أخرى للقرآن وهو مصدرٌ نعت به حتى جرى مجرى اسمِه وقُرىء تنزيلاً

81

{أفبهذا الحديث} الذي ذكرتُ نعوتُه الجليلةُ الموجبةُ لإعظامِه وإجلالِه وهو القرآنُ الكريمُ {أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} أي متهاونونَ به كمن يُدْهِنُ في الأمرِ أي يُلينُ جانبه ولا يتصلبُ فيه تهاوناً به

82

{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} أي شكرَ رزقكم {أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} أي تضعونَ التكذيبَ موضعَ الشكرِ وقرىء وتجعلون شُكركم أنَّكم تكذبونَ أي تجعلون شكركم لنعمةِ القرآن أنكم تكذبونَ به وقيل الرزقُ المطرُ والمعنى وتجعلونَ شكرَ ما يرزقكم الله تعالى من الغيثِ أنكم تكذبونَ بكونِه من الله تعالى حيثُ تنسُبونه إلى الأنواءِ والأولُ هو الأوفقُ لسباق النظمِ الكريمِ وسياقِه فإنَّ قولَه عزَّ وجلَّ

83

{فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} إلخ تبكيتٌ مبنيٌّ على تكذيبِهم بالقرآنِ فيما نطقَ به قولُه تعالى نحنُ خلقناكُم إلى هُنا من القوارعِ الدالةِ على كونِهم تحتَ ملكوتِه تعالى من حيثُ ذواتُهم ومن حيث طعامُهم وشرابُهم وسائرُ أسبابِ معايشِهم كما ستقفُ عليه ولولا للتحضيضِ لإظهارِ عجزِهم وإذَا ظرفيةٌ أي فهلاَّ إذَا بلغتْ النفسُ أي الروح وقيل

90 84 نفس الحلقومِ وتداعتْ إلى الخروجِ

84

{وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ} أيها الحاضرونَ حولَ صاحبِها {تَنظُرُونَ} إلى ما هو من الغمراتِ

85

{ونحن أقرب إليه} علماوقدرة وتصرفاً {مّنكُمْ} حيثُ لا تعرفون من حالِه إلا ما تشاهدونَهُ من آثارِ الشدةِ من غيرِ أن تقفوا على كُنهِها وكيفيتِها وأسبابِها ولا أنْ تقدرُوا على دفع أدنى شيءٍ منها ونحنُ المتولونَ لتفاصيل أحوالِه بعلمنا وقدرتنا أو بملائكة الموتِ {ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ} لا تدركونَ ذلكَ لجلهكم بشؤننا وقولُه تعالى

86

{فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أي غيرَ مربوبينَ من دانَ السلطانُ رعيتَهُ إذا ساسَهم واستعبدَهم ناظرً إلى قولِه تعالى نحن خلقناكُم فلولا تصدقونَ فإن التحضيضَ يستدعي عدمَ المحضض عليه حتماً وقوله تعالى

87

{تَرْجِعُونَهَا} أي النفسُ إلى مقرِّها هو العاملُ في إذَا والمحضض عليه بلولا الأُولى والثانيةُ مكررةٌ للتأكيد وهي مع مافي حيزها دليلُ جوابِ الشرطِ والمعنى إنْ كنتُم غير مربوبينَ كما ينبىءُ عنه عدمُ تصديقِكم بخلقنا إياكم فهلا ترجعونَ النفسَ إلى مقرِّها عند بلوغِها الحلقومَ {إِن كُنتُمْ صادقين} في اعتقادكم فإن عدمَ تصديقِهم بخالقيتِه تعالى لهم عبارةٌ عن تصديقِهم بعدمِ خالقيتِه تعالى بموجب مذهبِهم وقوله تعالى

88

{فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين} إلخ شروعٌ في بيان حالِ المُتوفي بعد المماتِ إثرَ بيانِ حالِه عند الوفاةِ أي فأما إن كانَ الذي بُيّن حالُه من السابقينَ من الأزواج الثلاثةِ عبر عنهم بأجلِّ أوصافِهم

89

{فَرَوْحٌ} أي فله استراحةٌ وقرىء فرُوحٌ بضمِّ الراء وفسِّر بالرحمة لأنها سببٌ لحياة المرحومِ وبالحياة الدائمةِ {وريحان} وزرق {وجنة نَعِيمٍ} أي ذاتُ تنعمٍ

90

{وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أصحاب اليمين} عبر عنهم بالعنوان السابق إذ لم يذكر لهم فيا سبقَ وصفٌ واحدٌ ينبىءُ عن شأنِهم سواهُ كما ذكرَ للفريقينِ الآخرينِ

96 9 { وقوله تعالى

91

{فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين} إخبارٌ من جهته تعالى بتسليمِ بعضهم على بعض كما يفصح عنده اللامُ لا حكايةُ إنشاءِ سلامِ بعضِهم على بعض وإلا لقيل عليك والالتفاتُ إلى خطاب كل وحد منهم للتشريفِ

92

{وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضالين} وهم أصحابُ الشمال عبر عنهم بذلكَ حسبما وصفوا به عند بيانِ أحوالِهم بقوله تعالى ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالون المكذبون ذماً لهم بذلك وإشعارا بسبب ماابتلوا به من العذابِ

93

{فَنُزُلٌ} أي فله نزلٌ كائنٌ {مِنْ حَمِيمٍ} يُشرب بعد أكل الزقومِ كما فُصل فيما قبلُ

94

{وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} أي إدخالٌ في النارِ وقيل إقامةٌ فيها ومقاساةٌ لألوان عذابها وقيل ذلك ما يجده في القبر من سَمومِ النارِ ودخانِها

95

{إِنَّ هَذَا} أي الذي ذكر في السورة الكريمة {لَهُوَ حَقُّ اليقين} أي حق الخبر اليقينِ وقيل الحقُّ الثابتُ من اليقين والفاء في قوله تعالى

96

{فسبح باسم ربك العظيم} لترتيبِ التسبيحِ أو الأمرِ به على ما قبلها فإن حقيةَ ما فُصّل في تضاعيفِ السورةِ الكريمةِ ممَّا يوجبُ تنزيهَه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليلِ من الأمورِ التي من جُملتِها الإشراكُ به والتكذيبُ بآياتِه الناطقةِ بالحقِّ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سُورةَ الواقعةِ في كلِّ ليلةٍ لم تُصبْهُ فاقةٌ ابدا

الحديد 3 { {بسم الله الرحمن الرحيم}

الحديد

{سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السماوات والأرض} التَّسبيحُ تنزيهُ الله تعَالى اعتِقاداً وقَولاً وعملاً عما لا يليق بجنابه مِنْ سبَح في الأرضِ والماء إذا ذهبَ وأبعدَ فيهمَا وحيثُ أُسندَ هَهُنا إلى غيرِ العُقلاءِ أيضاً فإنَّ ما في السمواتِ والأرضِ يعمُّ جميعَ ما فيهمَا سواءً كانَ مستقراً فيهما أو جُزءاً منهَما كما مرَّ في آيةِ الكرسيِّ أُريدَ به مَعْنى عامٌّ مجازيٌّ شاملٌ لما نطقَ به لسانُ المقالِ كتسبيح الملائكة والمؤمنين من الثقلين ولسان الحال كتسبيحِ غيرِهم فإنَّ كلَّ فردٍ من أفرادِ الموجوداتِ يدلُّ بإمكانِه وحدوثِه على الصانعِ القديمِ الواجبِ الوجودِ المُتَّصفِ بالكمالِ المُنزهِ عن النُّقصانِ وهُو المرادُ بقولِه تعالى وَإِن مّن شَىْء إلايسبح بِحَمْدَهِ وهُو متعدَ بنفسِه كما في قوله تعالى وسبحوه واللام إمامزيده للتأكيدِ كما في نصحتُ لَهُ وشكرتُ لَهُ أو للتعليلِ أي فَعَل التسبيحَ لأجلِ الله تعالَى وخَالِصاً لوجهِه ومجيئُه في بعض الفواتحِ ماضياً وفي البعضِ مضارعاً للإيذانِ بتحقّقِه في جميعِ الأوقاتِ وفيهِ تنبيهٌ على أنَّ حقَّ مَنْ شأنُه التسبيحُ الاختياريُّ أنْ يُسبِّحهُ تعالَى في جميعِ أوقاتِه كما عليهِ الملأُ الأَعلى حيثُ يُسَبّحُونَ الليلَ والنهارَ لاَ يفترُونَ {وَهُوَ العزيز} القادرُ الغالبُ الذي لاَ يُمانعُه ولا يُنازِعُه شيءٌ {الحكيم} الذي لا يفعلُ إلا ما تقتضيهِ الحِكمةُ والمصلحةُ والجملةُ اعتراضٌ تذييلي مقرر لمضمون ما قبلَهُ مشعرٌ بعلة الحكمِ وكَذا قولُه تعالَى

2

{لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} أي التصرُّفِ الكليِّ فيهَما وفيمَا فيهما مِنَ الموجوداتِ من حيثُ الإيجادُ والإعدامُ وسائرُ التصرفاتِ مما نعلمه ومالا نعلمه وقوله تعالى {يُحْيِي وَيُمِيتُ} استئنافٌ مبينٌ لبعضِ أحكامِ المُلكِ والتصرفِ وجعلُه حالاً من ضميرٍ لهُ ليسَ كَما ينبغِي {وَهُوَ على كُلّ شَىْء} منَ الأشياء التي من جملتها ما ذكِرَ منَ الإحياءِ والإماتِه {قَدِيرٌ} مبالِغٌ في القُدرة

3

{هُوَ الأول} السابقُ على سائرِ الموجُوداتِ لِما أنَّه مُبدئها ومُبدعُها {والأخر} الباقي بعدَ فنائِها حقيقةً أوْ نظر إلى ذاتها مع قطعِ النظرِ عن مُبقيها فإن جميعَ الموجوداتِ المُمكنةِ إذا قُطعَ النظرُ عن علتِها فهيَ فانيةٌ {والظاهر} وجُوداً لكثرة

7 4 دلائلِه الواضحةِ {والباطن} حقيقةً فلا تحومُ حولَهُ العقولُ والواوُ الأُولى والأخيرةُ للجمعِ بينَ الوصفينِ المُكتنفينِ بهمَا والوُسطى للجمعِ بين المجموعينَ فهو متصفٌ باستمرارِ الوجودِ في جميعِ الأوقاتِ والظهورِ والخفاءِ {وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} لاَ يعزُب عنْ علمِه شيءٌ منَ الظَّاهرِ وَالخفيِّ

4

{هو الذي خلق السماوات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} بيانٌ لبعضِ أحكامِ ملكِهما وقد مرَّ تفسيرُه مِراراً {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} مرَّ بيانُه في سورةِ سبأ {وهو معكم أين ما كُنتُمْ} تمثيلٌ لإحاطة علمِه تعالى بهم وتصويرٌ لعدمِ خروجِهم عنه أينما دارُوا وقولُه تعالى {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} عبارةٌ عن إحاطتِه بأعمالِهم فتأخيرُه عن الخلقِ لما أنَّ المرادَ به ما يدور علبه الجزاءُ من العلم التابعِ للمعلوم لا لما قيلَ من أنه دليلٌ علَيه وقولُه تعالى

5

{لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} تكريرٌ للتأكيدِ وتمهيدٌ لقولِه تعالى {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} أي إليهِ وحده لا إلى غيرِه استقلالاً أو اشتراكاً ترجعُ جميعُ الأمورِ على البناءِ للمفعولِ من رجَعَ رَجْعاً وقرىء على البناء للفاعل منْ رجعَ رُجُوعاً

6

{يولج الليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار في الليل} مرَّ تفسيرُه مراراً وقولُه تعالى {وَهُوَ عَلِيمٌ} أيْ مبالغٌ في العلمِ {بِذَاتِ الصدور} أي بمكنوناتِها اللازمةِ لها بيانٌ لإحاطةِ علمِه تعالَى بمَا يُضمرونَهُ من نيَّاتِهم بعدَ بيانِ إحاطتِه بأعمالهم التي يظهرونها

7

{آمنوا بالله وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي جعلكم خلفاءَ في التصرفِ فيهِ من غيرِ أنْ تملكوه حقيقةً عبر عمَّا بأيديهم من الأموالِ والأرزاقِ بذلكَ تحقيقاً للحقِّ وترغيباً لهم في الإنفاقِ فإنَّ من علم أنها لله عزَّ وجلَّ وإنَّما هُو بمنزلةِ الوكيلِ يَصرِفها إلى ما عيّنه الله تعالى من المصارفِ هانَ عليه الإنفاق أو جلعكم خلفاء ممَّن قبلكَم فيما كَانَ بأيديهم بتوريثِه إيَّاكُم فاعتبرُوا بحالِهم حيثُ انتقلَ منهم إليكُم وسينتقلُ منكُم إلى مَنْ بعدكُم فلا تبخلوا به {فالذين آمنوا مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ} حسبمَا أُمروا به {لَهُمْ} بسببِ ذلكَ {أَجْرٌ كَبِيرٌ} وفيِه من المبالغات مالا يَخفْى حيثُ

} 0 8 جعل الجملة الأسمية وأُعيدَ ذكرُ الإيمانِ والإنفاقِ وكُررَ الإسنادُ وفُخم الأجرُ بالتنكير ووصفَ بالكبيرِ وقولُه عزَّ وجلَّ

8

{وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله} استئنافٌ مسوقٌ لتوبيخِهم على ترك الإيمانِ حسبَما أمروا به بإنكارِ أنْ يكون لهم في ذلك عذرٌ ما في الجملةِ على أنَّ لا تؤمنونَ حال من الضمير في لكُم والعاملُ ما فيه من مَعْنى الاستقرارِ أيْ أيُّ شيءٍ حصلَ لكُم غيرَ مؤمنينَ على توجيه الإنكارِ والنَّفي إلى السببِ فقط مع تحقق المسببِ لا إلى السببِ والمسبَّب جميعاً كَما في قوله تعالى وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى فإنَّ همزةَ الاستفهامِ كَما تكونُ تارةً لإنكارِ الواقعِ كَما في أتضرِبُ أباكَ وأخرى لإنكار الوقوعِ كما في أأضربُ أبي كذلكَ ما الاستهامية قد تكونُ لإنكارِ سببِ الواقعِ ونفْيِه فقطْ كما فيما نحنُ فيهِ وفي قوله تعالى مالكم لاترجون لِلَّهِ وَقَاراً فيكونُ مضمونُ الجملةِ الحاليةِ محُققاً فإنَّ كلاً من عدمِ الإيمانِ وعدمِ الرَّجاءِ أمرٌ محققٌ قد أنكر ونفي سببه وقد تكونُ لإنكارِ سببَ الوقوعِ ونفيَه فيسريانِ إلى المسببِ أيضاً كَما في قوله تعالى وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ إلى آخرهِ فيكونُ مضمونُ الجملةِ الحاليةِ مفروضا قعا فإنَّ عدمَ العبادةِ أمرٌ مفروضٌ حتماً قد أنكرَ ونُفيَ سببُه فانتفَى نفسُه أيضاً وقوله تعالى {والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ} حالٌ من ضميرِ لا تُؤمنون مفيدةٌ لتوبيخِهم على الكُفرِ معَ تحققِ ما يُوجبُ عدمَهُ بعدَ توبيخِهم عليهِ مع عدمِ ما يُوجبه أيْ وأيُّ عذرٍ في تركِ الإيمانِ والرسولُ يدعُوكم إليهِ وينبهكم عليهِ وقولُه تعالى {وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم} حالٌ من مفعولِ يدعُوكم أيْ وقد أخذَ الله تعالَى ميثاقَكُم بالإيمانِ من قبلُ وذلك بنصب الأدلةِ والتمكينِ من النظرِ وقُرىءَ وقَدْ أُخذَ مبنياً للمفعولِ برفعِ ميثاقكُم {إِن كُنتُم مؤمنين} الموجب ما فإنَّ هذَا موجبٌ لا موجبَ وراءَهُ

9

{هُوَ الذى يُنَزّلُ على عَبْدِهِ} حسبَما يعنُّ لكُم من المصالح {آيات بَيّنَاتٍ} واضحاتٍ {لِيُخْرِجَكُمْ} أي الله تعالَى أو العبدُ بها {مّنَ الظلمات إِلَى النور} من ظلمات الكفرِ إلى نور الإيمانِ {وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} حيثُ يهديكُم إلى سعادةِ الدراين بإرسالِ الرسولِ وتنزيلِ الآياتِ بعد نصبِ الحُججِ العقليةِ وقولُه تعالَى

10

{وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله} توبيخٌ لهم على تركِ

} { الإنفاقِ المأمورِ به بعدَ توبيخِهم على ترك الإيمانِ بإنكار أن يكون لهم في ذلكَ أيضاً عذرٌ من الأعذارِ وحذفُ المفعولِ لظهورِ أنَّه الذي بُيِّنَ حالُه فيما سبقَ وتعيينُ المُنفَقِ فيهِ لتشديدِ التوبيخِ أى وايى شيءٍ لكُم في أنْ لا تنفقُوا فيمَا هُو قربةٌ إلى الله تعالَى ما هو في الحقيقةِ وإنَّما أنتُم خلفاؤُه في صرفِه إلى ما عيَّنهُ من المصارفِ وقوله تعالى {ولله ميراث السماوات والأرض} حالٌ من فاعلِ لا تنفقوا ومفعلوه مؤكدةٌ للتوبيخِ فإنَّ تركَ الإنفاقِ بغير سببٍ قبيحٌ منكرٌ ومع تحقق ما يوجبُ الإنفاقَ أشدُّ في القبحِ وأدخلُ في الإنكارِ فإنَّ بيانَ بقاءِ جميعَ ما في السَّمواتِ والأرض من الأموالِ بالآخرةِ لله عزَّ وجلَّ من غيرِ أنْ يبقَى من أصحابِها أحدٌ أقوى في إيجابِ الإنفاقِ عليهم من بيان أنَّها لله تعالى في الحقيقةِ وهم خُلفاؤه في التصرف فيها كأنَّه قيلَ وما لكُم في ترك إنفاقِها في سبيلِ الله والحالُ أنَّه لا يبقَى لكُم منها شيءٌ بل يبقى كلُّها لله تعالَى وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لزيادة التقريرِ وتربية المهابةِ وقولُه تعالى {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل} بيانٌ لتفاوت درجاتِ المنفقينِ حسبَ تفاوتِ أحوالِهم في الإنفاقِ بعدَ بيانِ أنَّ لهم أجراً كبيراً على الإطلاقِ حثَّاً لهم على تحرِّي الأفضلِ وعطفُ القتالِ على الإنفاقِ للإيذانِ بأنَّه من أهمِّ موادِّ الإنفاقِ مع كونِه في نفسِه من أفضلِ العباداتِ وأنه لا يخلُو من الإنفاقِ أصلاً وقسيمُ مَنْ أنفقَ محذوفٌ لظهورِه ودلالةِ ما بعدَهُ عليهِ وقُرىءَ قبلَ الفتحِ بغير مِنْ والفتحُ فتحُ مكَة {أولئك} إشارةٌ إلى مَن أنفقَ والجمعُ بالنظرِ إلى مَعْنى مَنْ كَما أنَّ إفرادَ الضميرَيْن السابقينِ بالنظرِ إلى لفظِها وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشارِ إليهِ للإشعارِ ببُعدِ منزلتِهم وعلوِّ طبقتِهم في الفضلِ ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ أي أولئكَ المنعوتونَ بذينكَ النعتينِ الجميلينِ {أَعْظَمُ دَرَجَةً} وأرفعُ منزلةً {مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا} لأنَّهم إنما فعلُوا ما فعلُوا من الإنفاق والقتالِ قبل عزةِ الإسلامِ وقوةِ أهلِه عند كمالِ الحاجةِ إلى النصرة بالنفسِ والمالِ وهم السّابقونَ الأوَّلُون من المهاجرينَ والأنصار الذينَ قالَ فيهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم لو أنفقَ أحدُكم مثلَ أحدٍ ذهباً ما بلغَ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَهُ وهؤلاءِ فعلُوا ما فعلُوا بعد ظهورِ الدينِ ودخولِ الناس فيه أوفواجا وقلةِ الحاجةِ إلى الإنفاقِ والقتالِ {وَكُلاًّ} أي وكلَّ واحدٍ من الفريقينِ {وَعَدَ الله الحسنى} أي المثوبةَ الحُسنى وهي الجنةُ لا الأولينَ فقطْ وقُرِىءَ وكلٌّ بالرَّفعِ على الابتداءِ أي وكلٌّ وعدَهُ الله تعالَى {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} بظواهرِه وبواطنهِ فيجازيكُم بحسبِه وقيلَ نزلتِ الآيةُ في أبي بكر رضي الله تعالَى عنه فإنَّه أولُ مَنْ آمنَ وأولُ من أنفقَ في سبيلِ الله وخاصمَ الكفَّارَ حتى ضُربَ ضرباً أشرفَ به على الهلاكِ وقولُه تعالَى

11

{مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} ندبٌ بليغٌ من الله تعالى إلى الإنفاق في سبيلِه بعد الأمرِ به والتوبيخِ على تركِه وبيانِ درجاتِ المنفقينَ أي مَنْ ذَا الذي ينفقَ مالَه في سبيلِه تعالَى رجاءَ أنْ يعوضَهُ فإنَّه كمنْ يُقرضُه وحُسنُ الإنفاقِ بالإخلاصِ فيه وتحرِّي أكرمِ المالِ وأفضلِ الجهاتِ {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} بالنصب على جوابِ الاستفهامِ باعتبارِ المَعْنى كأنَّه قيلَ أيقرضُ الله أحدٌ فيضاعفَهُ له أي فيعطيهِ أجرَهُ أضعافاً {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي

} 3 1 { وذلكَ الأجرُ المضمومُ إليهِ الأضعافُ كريمٌ في نفسِه حقيقٌ بأنْ يتنافسَ فيه المتنافسونَ وإنْ لم يُضاعفْ فكيفَ وقد ضُوعفَ أضعافاً كثيرة وقُرِىءَ بالرفعِ عطفاً على يقرضُ أو حملاً على تقديرِ مبتدأٍ أيْ فهو يضاعفه وقرئ يُضعفَهُ بالرفعِ والنصبِ

12

{يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات} ظرفٌ لقولِه تعالَى وله أجرٌ كريمٌ أو لقوله تعالى فيضاعفَهُ أو منصوبٌ بإضمارٍ اذكُرْ تفخيماً لذلك اليومِ وقولُه تعالى {يسعى نُورُهُم} حالٌ من مفعولِ تَرَى قيلَ نورَهم الضياءُ الذي يُرَى {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم} وقيلَ هو هُداهُم وبأيمانِهم كتبَهم أي يسعَى إيمانُهم وعملهم الصالُح بينَ ايديهم وف أيمانِهم كتبُ أعمالِهم وقيلَ هو القرآنُ وعنِ ابنِ مسعو د رضى الله عنْهُ يُؤتَون نورَهُم على قدرِ أعمالهم فمنهُم مَنْ يُؤتى نوره كالنخلة ومنهم مَن يُؤتَى كالرجل القائمِ وأدناهُم نوراً مَنْ نورُه على إبهامِ رجلهِ ينطفىءُ تارةً ويلمعُ أُخرَى قالَ الحسنُ يستضيئونَ به على الصراطِ وقال مقاتلٌ يكونُ لهم دليلاً إلى الجنَّةِ {بُشْرَاكُمُ اليوم جنات} مقدرٌ بقولٍ هو حالٌ أو استئنافٌ أيْ يقالُ لهم بُشراكُم أي ما تبشرونَ بهِ جنَّاتٌ أو بُشراكم دخول الجنة {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ذلك} أي ما ذُكرَ من النُّورِ والبُشرى بالجناتِ المخلدةِ {هُوَ الفوز العظيم} الذِي لا غايةَ وراءَهُ وقرىءَ ذلكَ الفوز العظيمُ

13

{يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات} بدلٌ مِن يومَ تَرَى {للذين آمنوا انظرونا} أي انتظرونَا يقولونَ ذلكَ لما أنَّ المؤمنينَ يُسرَع بِهم إلى الجنَّةِ كالبرقِ الخاطفِ على ركابٍ تزفُّ بهم وهؤلاءِ مشاةٌ أو انظروا إلينَا فإنَّهم إذا نظروا إليهم استقبولهم بوجوهِهم فيستضيئونَ بالنُّورِ الذي بينَ أيديِهم وقُرِىءَ أَنِظرُونا من النَّظِرةِ وهي الإمهالُ جعلَ اتئادَهم في المُضيِّ إلى أنْ يلحقُوا بهم إنظاراً لهم {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي نستضىءْ منه وأصلُه اتخاذُ القبسِ {قِيلَ} طَرداً لهم وتهكماً بهِم من جهة المؤمنينَ أو من جهة الملائكةِ {ارجعوا وَرَاءكُمْ} أي إلى الموقف {فالتمسوا نُوراً} فإنَّه من ثمَّ يُقتبسُ أو إلى الدُّنيا فالتمسُوا النورَ بتحصيل مباديِه من الإيمان والأعمالِ الصالحةِ أو ارجعوا خائبينَ خاسئينَ فالتمسُوا نوراً آخرَ وقد علمُوا أنْ لا نورَ وراءَهُم وإنما قالُوه تخييباً لهم أَوْ أرادُوا بالنورِ ما وراءَهُم من الظُّلمةِ الكثيفةِ تهكماً بهم {فَضُرِبَ بَيْنَهُم} بينَ الفريقينِ {بِسُورٍ} أي حائطٍ والباءُ زائدةٌ {لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ} أي باطنُ السُّورِ أو البابِ وهو الجانبُ الذي يلي الجنَّةَ {فِيهِ الرحمة وظاهره} وهو الطرفُ الذي يَلي النَّارَ {مِن قَبْلِهِ} من جهتِه {العذاب} وقُرِىءَ فضَرَبَ على البناءِ للفاعلِ

} 6 14

14

{ينادونهم} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا يفعلونَ بعد ضربِ السُّورِ ومشاهدةِ العذابِ فقيلَ يُنادونَهم {أَلَمْ نَكُن} في الدُّنيا {مَّعَكُمْ} يريدونَ به موافقتَهم لهُم في الظَّاهرِ {قَالُواْ بلى} كنتُم معنَا بحسبِ الظاهرِ {ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} محنتموها بالنفاق وأهكلتموها {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالمؤمنينَ الدوائرَ {وارتبتم} في أمرِ الدِّينِ {وَغرَّتْكُمُ الأمانى} الفارغةُ التي من جُمْلتها الطمعُ في انتكاس أمرِ الإسلامِ {حتى جَاء أَمْرُ الله} أي الموتُ {وَغَرَّكُم بالله} الكريمِ {الغرور} أي غرَّكُم الشيطانُ بأنَّ الله عفوٌّ كريمٌ لا يُعذبكم وقُرِىءَ الغُرورُ بالضمِّ

15

{فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فدية} فداء وقرئ تُؤخذُ بالتاءِ {وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} أي ظاهراً وباطنا {مأواكم النار} لا تبرحُونَها أبداً {هِىَ مولاكم} أي أَوْلَى بكُم وحقيقتُه مكانُكُم الذي يُقالُ فيهِ هو أَوْلى بكُم كما يقالُ هو مِئْنةُ الكرمِ أي مكانٌ لقولِ القائلِ إنَّه لكريمٌ أو مكانُكم عن قريبٍ من الولي وهو القرب أو ناصركُم على طريقةِ قولِه ... تحيةُ بينِهم ضربٌ وجيع ... أو متوليكم تتولاكم كَما توليتُم موجباتِها {وَبِئْسَ المصير} أي النَّارُ

16

{ألم يأن للذين آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} استئنافٌ ناعٍ عليهم تثاقلَهُم في أمورِ الدِّينِ ورخاوةِ عقدِهم فيها واستبطاءٌ لا نتدابهم لما نُدبوا إليهِ بالترغيبِ والترهيبِ ورُويَ أنَّ المؤمنينَ كانُوا مُجْدبين بمكةَ فلمَّا هاجرُوا أصابُوا الرزقَ والنعمةَ وفترُوا عمَّا كانُوا عليهِ فنزلتْ وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه ما كانَ بينَ إسلامِنا وبينَ أنْ عُوتبنا بهذهِ الآيةِ إلا أربعُ سنينَ وعنِ ابن عباس رضي الله عنُهمَا أنَّ الله استبطأَ قلوبَ المؤمنينَ فعاتَبهُم على رأسِ ثلاثَ عشرةَ سنةً من نزولِ القُرآنِ أيْ ألم نجىء وقتُ أنْ تخشعَ قلوبُهم لذكرِه تعالَى وتطمئنَ به ويسارعُوا إلى طاعتِه بالامتثال بأوامره والانتهاءِ عمَّا نُهوا عنهُ منْ غير توانٍ ولا فتورٍ منْ أنى الأمرُ إذَا جاءَ أناهُ أي وقته وقُرِىءَ ألم يئِنْ من آنَ يئينُ بمعنى أنَى وقُرِىءَ ألمَّا بان وفيه دلالة على أن المنفى {وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} أي القرآنِ وهو عطفٌ على ذكرِ الله فإنْ كان هو المرادبه أيضا فالعطف لتغاير العنواين فإنَّه ذكرٌ وموعظةٌ كما أنَّه حقٌّ نازلٌ منَ السماءِ وإلاَّ فالعطفُ كما في قولِه تعالى إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ زَادَتْهُمْ إيمانا ومَعْنى الخشوعِ له الانقيادُ التامُّ لأوامره ونواهيِه والعكوفُ على العملِ بما فيهِ من الأحكامِ التي من جُملتها ما سبَقَ وما لَحِق من الإنفاق في

} 9 17 سبيل الله تعالى وقرئ نزل من التنزيلِ مبنياً للمفعول ومبنياً للفاعلِ وأنزلَ {وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ} عطفٌ على تخشعَ وقُرىء بالتاءِ على الالتفاتِ للاعتناءِ بالتحذيرِ وقيلَ هو نهيٌ عن مماثلةِ أهلِ الكتابِ في قسوةِ القلوبِ بعد أنْ وبخوا وذلك أنَّ بني إسرائيلَ كانَ الحقُّ يحولُ بينَهُم وبينَ شهواتِهم وإذَا سمعُوا التوراةَ والإنجيل خشعوالله ورقَّتْ قلوبُهم {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد} أي الأجلُ وقُرِىءَ الأمدُّ بتشديدِ الدالِ أي الوقتُ الأطولُ وغلبهم الجفاءُ وزالتْ عنْهم الروعةُ التي كانتْ تأتيهُم من الكتابينِ {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} فَهِىَ كالحجارةِ أَوْ أَشَدُّ قسوةً {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون} أي خارجونَ عن حدودِ دينهم رافضونَ لما في كتابِهم بالكُلِّيةِ

17

{اعلموا أن الله يحيي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} تمثيلٌ لإحياءِ القلوبِ القاسيةِ بالذكرِ والتلاوةِ بإحياءِ الأرضِ الميتةِ بالغيثِ للترغيبِ في الخشوعِ والتحذيرِ عن القساوةِ {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ} التي من جُمْلتِها هذهِ الآياتُ {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} كي تعقلُوا ما فيهَا وتعملُوا بموجبِها فتفوزُوا بسعادةِ الدارينِ

18

{إِنَّ المصدقين والمصدقات} أي المتصدقين والمتصدقات وقدر قُرِىءَ كذلكَ وقُرِىءَ بتخفيفِ الصادِ من التصديقِ أي الذينَ صدقُوا الله ورسولَه {وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً} قيلَ هُو عطفٌ على مافي المصدقينَ من مَعْنى الفعلِ فإنه حُكمِ الذين اصدَّقُوا أو صَدَقُوا عَلى القراءتينِ وعُقبَ بأنَّ فيهِ فصلاً بين أجزاءِ الصلةِ بأجنبيَ وهو المُصدِّقاتِ وأُجيبَ بأنَّ المَعْنى أنَّ الناسَ الذينَ تصدَّقُوا وتصدقن وأقرصوا فهو عطفٌ على الصلةِ من حيثُ المَعْنى من غيرِ فصلٍ وقيلَ إنَّ المُصدِّقاتِ ليسَ بعطفٍ على المُصدِّقينِ بل هُو منصوبٌ على الاختصاصِ كأنه قيلَ إنَّ المصدقينَ على العموم تغليباً وأخصُّ المصدقاتِ من بينهُم كما تقولُ إنَّ الذينَ آمنُوا ولا سيَّما العلماء منهُم وعملُوا الصالحاتِ لهم كَذا لكنْ لا على أنَّ مدارَ التخصيصِ مزيدُ استحقاقِهنَّ لمضاعفةِ الأجرِ كما في المثال المذكورِ بل زيادةُ احتياجهنَّ إلى التصدقِ الداعيةُ إلى الاعتناءِ بحثهنَّ على التصدقِ لما روي أنه عليه الصلاة والسَّلامُ قالَ يا معشرَ النِّساءِ تصدَّقن فإنِّي أرُيتُكنَّ أكثرَ أهلِ النَّارِ وقيلَ هو صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ معطوفٍ على المصدقينَ كأنَّه قيل والذين أقرضوا القرص الحسنُ عبارةٌ عنِ التصدقِ من الطيبِ عن طيبةِ النفسِ وخلوصِ النيةِ على المستحقِّ للصدقةِ {يُضَاعَفُ لَهُمُ} على البناءِ للمفعول مُسنداً إلى ما بعدَهُ من الجارِّ والمجرورِ وقيلَ إلى مصدرِ مَا في حيزِ الصِّلةِ على حذفِ مضافٍ أيْ ثوابُ التصدقِ وقُرِىءَ على البناء للفاعل أي يُضاعِفُ الله تعالَى وقُرِىءَ يُضعَّفُ بتشديدِ العينِ وفتحِها {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} مرَّ ما فيه من الكلام

19

{والذين آمنوا بالله ورسوله}

} 0 كافةً وقد مرَّ بيانُ كيفيةِ الإيمانِ بهم في خاتمةِ سورةِ البقرةِ {أولئك} إشارةٌ إلى الموصولِ الذي هُو مبتدأٌ وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه قد مر سره مرارا وهو مبتدأٌ ثانٍ وقولُه تعالَى {هُمْ} مبتدأ ثالث خبره {الصديقون والشهداء} وهُو معَ خبرِه خبرٌ للثانِي وهو مع خبره خبر للأول أو هم ضمير الفصل وما بعده خبر لأولئك والجملة خبر للموصولِ أي أُولئكَ {عِندَ رَبّهِمْ} بمنزلة الصديقينَ والشهداءِ المشهورينَ بعلوِّ الرُّتبةِ ورفعةِ المحلِّ وهُم الذينَ سبقُوا إلى التصديقِ واستُشْهِدوا في سبيلِ الله تعالى أو هم المبالغونَ في الصدقِ حيثُ آمنُوا وصدَّقُوا جميعَ أخبارهِ تعالَى ورسلِه والقائمونَ بالشهادةِ لله تعالى بالوحدانيةِ ولهم بالإيمانِ أو على الأممِ يومَ القيامةِ وقولُه تعالى {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} بيانٌ لثمراتِ ما وُصفوا بهِ من نعوتِ الكمالِ على أنَّه جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ محلُّها الرفعُ على أنَّه خبرٌ ثانً للموصولِ أو الخبرُ هو الجارُّ وما بعدَهُ مرتفعٌ بهِ على الفاعليةِ والضميرُ الأولُ على الوجهِ الأولِ للموصولِ والأخيرانِ للصديقينَ والشهداءُ أيْ مثلُ أجرِهم ونورِهم المعروفينِ بغايةِ الكمالِ وعزةِ المنالِ وقد حذفَ أداةَ التشبيةِ تنبيهاً على قوةِ المماثلةِ وبلوغِها حدَّ الإتحادِ كما فعلَ ذلكَ حيثُ قيل هم الصديقونَ والشهداءُ وليستِ المماثلةُ بين ما للفريقِ الأولِ من الأجرِ والنورِ وبين تمام ما للأول من الأصل والأضعاف وبين ما للأخيرين من الأصل بدون الأضعافِ وأمَّا على الوجهِ الثاني فمرجعُ الكلّ واحدٌ والمَعْنى لهمُ الأجرُ والنورُ الموعودان لَهُم أجرُهم الخ {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أُولَئِكَ} الموصوفون بتلك الصفةِ القبيحةِ {أصحاب الجحيم} بحيثُ لا يفارقونَها أبداً

20

{اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الأموال والأولاد} بعدما بُيِّنَ حالُ الفريقينِ في الآخرةِ شُرحَ حالُ الحياةِ الدُّنيا التي اطمأنَّ بها الفريقُ الثَّاني وأُشيرَ إلى أنَّها من محقرات الأمورِ التي لا يركنُ إليها العقلاءُ فضلاً عن الاطمئنانِ بَها وأنَّها مع ذلكَ سريعةُ الزَّوالِ وشيكةُ الاضمحلالِ حيثُ قيلَ {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار} أي الحُرَّاثَ {نَبَاتُهُ} 6 أي النباتُ الحاصلُ بهِ {ثُمَّ يَهِيجُ} أي يجفُّ بعدَ خضرتِه ونضارتِه {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} بعدَ ما رأيتَهُ ناضراً مُونِقاً وقُرىءَ مُصفارَّاً وإنما لم يقلْ فيصفرُّ إيذاناً بأنَّ اصفرارَهُ مقارنٌ لجفافِه وإنما المترتبُ عليه رؤيتُه كذلكَ {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} هشيماً مُتكسراً ومحلُّ الكافِ قيلَ النصبُ على الحاليةِ من الضميرِ في لعبٌ لأنَّه في معنى الوصف وقيل الرفع على أنه خبرٌ بعدَ خبر للحياة الدنيا بتقدير المضاف أي مثل الحياةِ الدُّنيا كمثلِ الخ وبعدَ ما بُيِّنِ حقارةُ أمرِ الدُّنيا تزهيداً فيها وتنفيراً عن العكوفِ عليها أُشيرَ إلى فخامة شأنِ الآخرةِ وعظمِ ما فيها من اللذاتِ والآلامِ ترغيباً في تحصيلِ نعيمِها المقيمِ وتحذيراً

} 3 2 { من عذابها الأليم وقد ذكرُ العذابِ فقيلَ {وَفِى الأخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ} لأنَّه من نتائجِ الانهماكِ فيما فصل من أحوال الحياة الدُّنيا {وَمَغْفِرَةٌ} عظيمة {مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ} عظِيمٌ لا يُقادرُ قَدرُه {وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور} أي لمن اطمأنَّ بها ولم يجعلْها ذريعةً إلى الآخرةِ عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ الدُّنيا متاعُ الغرورِ إنْ ألهتكَ عن طلب الآخرةِ فأمَّا إذَا دعتكَ إلى طلبِ رضوانِ الله تعالَى فنعمَ المتاعُ ونعمَ الوسيلةُ

21

{سَابِقُواْ} أي سارِعُوا مسارعةَ المسابقينَ لأقرانِهم في المضمار {إلى مَغْفِرَةٍ} عظيمةٍ كائنةٍ {مّن رَّبّكُمْ} أي إلى موجباتِها من الأعمال الصَّالحةِ {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض} أي كعرضِهما جميعاً وإذا كانَ عرضُها كذلكَ فماظنك بطولِها وقيلَ المرادُ بالعرضِ البسطةُ وتقديمُ المغفرةِ على الجنة لتقدم التخليةِ على التحليةِ {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} فيه دليلٌ على أنَّ الجنةَ مخلوقةٌ بالفعلِ وأنَّ الإيمانَ وحدَهُ كافٍ في استحقاقها {ذلك} الذي وعدَ من المغفرةِ والجنةِ {فَضَّلَ الله} عطاؤُه {يُؤْتِيهُ} تفضلاً وإحساناً {مَن يَشَآء} إيتاءَهُ إيَّاهُ من غيرِ إيجابِ {والله ذُو الفضل العظيم} ولذلكَ يُؤتى مَن يشاءُ مثلَ ذلكَ الفضلِ الذي لا غايةَ وراءَه

22

{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ في الأرض} كجدب ووعاهة في الزروع والثمارِ {وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ} كمرضٍ وآفةٍ {إِلاَّ فِى كتاب} أى إلا متكوبة مثبتةً في علمِ الله تعالى أو في اللَّوحِ {مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} أي نخلقَ الأنفسَ أو المصائبَ أو الأرضَ {إِنَّ ذلك} أي إثباتَها في كتابٍ {عَلَى الله يَسِيرٌ} لاستغنائِه فيهِ عن العُدَّةِ والمدة

23

{لكي لا تَأْسَوْاْ} أي أخبرناكُم بذلكَ لئلاَّ تحزنُوا {على مَا فَاتَكُمْ} من نعمِ الدُّنيا {ولا تفرحوا بما آتاكم} أي أعطاكُم الله تعالَى منها فإنَّ من علمَ أنَّ الكلَّ مقدرٌ يفوتُ ما قُدِّرَ فواتُه ويأتي ما قُدِّرَ إتيانُه لا محالةَ لا يعظُم جزعُه على ما فاتَ ولا فرحُه بما هُو آتٍ وقُرِىءَ بما أَتاكُم من الإتيانِ وفي القراءةِ الأُولى إشعارٌ بأنَّ فواتَ النعمِ يلحقُها إذا خُلِّيتْ وطباعَها وأمَّا حصولُها وبقاؤُها فلا بُدَّ لهما من سببٍ يُوجدها ويُبقيها وقُرِىءَ بما أُوتيتُم والمرادُ بهِ نفيُ الأَسَى المانعِ عن التسليم لأمر الله تعالى والفرحِ الموجب للبطر ولاختيال ولذلكَ عقبَ بقولِه تعالى {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فإنَّ من فرحَ بالحظوظ الدنيويةِ وعظُمتْ في نفسه اختالَ وافتخَر بها لا محالةَ وفي تخصيص التذييلِ بالنَّهي عن الفرح المذكورِ إيذانٌ بأنَّه أقبحُ من الأَسَى

} 6 24

24

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} بدلٌ من كلِّ مختالٍ فإنَّ المختالَ بالمالِ يضنُّ به غالباً ويأمرُ غيرَهُ به أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ يدلُّ عليه قوله تعالى {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد} فإنَّ معناهُ ومَنْ يُعرضُ عن الإنفاقِ فإنَّ الله عني عنْهُ وعنْ إنفاقه محمودٌ في ذاتِه لا يضرُّه الإعراضُ عن شكرهِ بالتقربِ إليهِ بشيءٍ من نعمهِ وفيه تهديدٌ وإشعارٌ بأنَّ الأمر بالإنفاق لمصلحة المُنفقِ وقُرِىءَ فإنَّ الله الغنيُّ

25

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} أي الملائكةَ إلى الأنبياءِ أو الأنبياءَ إلى الأممِ وهُو الأظهرُ {بالبينات} أي الحججِ والمعجزاتِ {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب} أي جنسَ الكتابِ الشاملِ للكُلِّ {والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط} أي بالعدلِ رُوي أنَّ جبريلَ عليه اللسلام نزل الميزان فدفعَهُ إلى نوحٍ عليهِ السَّلامُ وقالَ مُرْ قومَكَ يزنُوا بهِ وقيلَ أُريدَ به العدلُ ليقامَ بهِ السياسةُ ويدفعَ به العُدوانُ {وَأَنزْلْنَا الحديد} قيلَ نزلَ آدم عليه السلام من الجنَّةِ ومعَهُ خمسةُ أشياءَ منْ حديدٍ السندانُ والكلبتانِ والميقعةُ والمطرقةُ والإبرةُ ورُويَ ومعَهُ المرُّ والمِسحاتُ وعنِ الحسنِ وأنزلنَا الحديدَ خلقنَاهُ كقولِه تعالَى وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعامِ وذلكَ أنَّ أوامرَهُ تعالَى وقضايَاهُ وأحكامَهُ تنزل من السماءِ وقولُه تعالى {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} لأن آلات الحرب إنَّما تتخذُ منْهُ {ومنافع لِلنَّاسِ} إذْ مَا من صنعةٍ إلاَّ والحديدُ أو ما يُعملُ بالحديدِ آلتُها والجملةُ حالٌ من الحديدِ وقولُه تعالَى {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ} عطفٌ على محذوفٌ يدلُّ عليه ما قبلَهُ فإنَّه حالٌ متضمنةٌ للتعليلِ كأنَّه قيلَ ليستعملُوه وليعلمَ الله علماً يتعلقُ به الجزاءُ من ينصره ورسوله باستعمالِ السيوفِ والرماحِ وسائِر الأسلحةِ في مجاهدةِ أعدائِه أومتعلق بمحذوفٍ مؤخرٍ والواوُ اعتراضيةٌ أي وليعلمَ الله مَنْ ينصرُه ورسلَهُ أنزلَه وقيلَ عطف على قوله تعالى ليقومَ النَّاسُ بالقسطِ وقولُه تعالى {بالغيب} حالٌ من فاعلِ ينصرُ أو مفعولِه أي غائباً عنْهم أو غائبينَ عنه وقولُه تعالى {إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ} اعتراضٌ تذييليٌّ جىءَ به تحقيقاً للحقِّ وتنبيهاً على أنَّ تكليفَهُم الجهادَ وتعريضَهُم للقتالِ ليسَ لحاجتِه في إعلاءِ كلمتِه وإظهارِ دينِه إلى نصرتِهم بلْ إنَّما هُو لينتفعُوا بهِ ويصلُوا بامتثال الأمر فيه إلى الثوابِ وإلاَّ فهُو غنيٌّ بقردته وعزتِه عنهُم في كلِّ ما يُريده

26

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وإبراهيم} نوعُ تفصيلٍ لَما أُجمل في قولِه

} 7 تعالَى لقد أرسلنَا رسلنَا إلخ وتكريرُ القسمِ لإظهار مزيدِ الاعتناءِ بالأمر أيْ وبالله لَقْد أرسلناهُمَا {وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب} بأن استنبأناهُم وأوحينَا إليهم الكتبَ وقيلَ المرادُ بالكتابِ الخطُّ بالقلمِ {فَمِنْهُمْ} أي من الذرية أو من المرسل إليهم المدلولِ عليهم بذكر الإرسالِ والمرسلينَ {مُّهْتَدٍ} إلى الحقِّ {وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون} خارجونَ عن الطريق المستقيمِ والعدولُ عن سنن المقابلةِ للمبالغةِ في الذمِّ والإيذانِ بغلبةِ الضُّلالِ وكثرتِهم

27

{ثم قفينا على آثارهم بِرُسُلِنَا} أي ثُمَّ أرسلنَا بعدَهُم رسلنَا {وَقَفَّيْنَا بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ} أي أرسلنَا رسولاً بعد رسولٍ حتَّى انتهى إلى عيسَى ابنِ مريمَ عليه السَّلامُ والضميرُ لنوحٍ وإبراهيمَ ومَنْ أُرسِلا إليهم أو من عاصرهم من الرُّسلِ لا للذريةِ فإنَّ الرسلَ المُقفَّى بهم من الذرية {وآتيناه الإنجيل} وقرئ بفتحِ الهمزةِ فإنَّه أعجميٌّ لا يلزم فه مراعاةُ أبنيةِ العربِ {وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الذين اتبعوه رأفة} وقرئ رآفةً على فَعَالةٍ {وَرَحْمَةً} أي وفَّقناهُم للتراحمِ والتعاطفِ بينهُم ونحوه في شأن أصحابِ النبيِّ عليهِ الصلاةَ والسَّلامُ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ {وَرَهْبَانِيَّةً} منصوب أما يعفل مضمر يفسره والظاهر أيْ وابتدعُوا رهبانيةً {ابتدعوها} وإمَّا بالعطفِ على ما قبلهَا وابتدعُوها صفةٌ لها أى وجلعنا في قلوبهم رأفة روحمة ورهبانيةً مبتدعة من عندهم أى ووفقناهم للتراحم بينهُم ولابتداعِ الرهبانيةِ واستحداثها وهي المبالغةُ في العبادةِ بالرياضةِ والانقطاع عن النَّاسِ ومعناهَا الفعلةُ المنسوبةُ إلى الرَّهبانِ وهو الخائفُ فَعْلانُ من رَهبَ كخشيانَ من خَشِي وقُرِىءَ بضمِّ الراءِ كأنَّها نسبةٌ إلى الرُّهبانِ وهو جمعُ راهبٍ كراكبٍ ورُكبان وسببُ ابتداعِهم إيَّاها أنَّ الجبابرةَ ظهروُا على المؤمنينَ بعدَ رفعِ عيسَى عليهِ السَّلامُ فقاتلُوهم ثلاث مرات فقاتلوا حتَّى لم يبقَ منُهم إلا قليلٌ فخافُوا أنْ يُفتتنُوا في دينِهم فاختارُوا الرَّهبانيةَ في قُللِ الجبالِ فارِّينَ بدينِهم مُخلصينَ أنفسَهُم للعبادةِ وقولُه تعالَى {مَا كتبناها عَلَيْهِمْ} جملةٌ مستأنفةٌ وقيلَ صفةٌ أُخْرى لرهبانيةٍ والنفيُ على الوجهِ الأولِ متوجِةً إلى أصلِ الفعلِ وقوله تعالى {إلا ابتغاء رضوان الله} استثناءٌ منقطعٌ أي مافرضناها نحنُ عليهم رأساً ولكنُهم رأسا ابتدعُوها ابتغاءَ رضوانِ الله فذمَّهم حينئذٍ بقولِه تعالى {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} من حيثُ أنَّ النذرَ عهدٌ مع الله لا يحلُّ نكثُه لا سيَّما إذَا قُصدَ به رضاهُ تعالَى وعلى الوجهِ الثانِي متوجهٌ إلى قيدِه لا إلى نفسه ولاسثتناء متصلٌ من أعمِّ العللِ أي ما كتبنَاها عليهم بأن وفقناهم لا بتداعها لشيءٍ من الأشياءِ إلا ليبتغُوا بها رضوانَ الله ويستحقُّوا بها الثوابَ ومن ضرورةِ ذلكَ أن يحافظُوا عليَها ويراعُوها حقَّ رعايتها فما رَعَاها كلُّهم بلْ بعضهم {فآتينا الذين آمنوا مِنْهُمْ} إيماناً صحيحاً وهو الإيمان برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم بعدَ رعايةِ رهبانيتِهم لا مجردَ رعايتِها فإنَّها بعدَ البعثةِ لغوٌ مَحضٌ

} 9 28 وكفرٌ بَحْتٌ وأنَّى لها استتباعُ الأجرِ {أَجْرَهُمْ} أي ما يخُصُّ بهم من الأجرِ {وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون} خارجونَ عن حدِّ الاتباعِ وحملُ الفريقينِ على منِ مضَى من المراعينَ لحقوقِ الرهبانية قبل النسخ والمخلين إذْ ذاكَ بالتثليثِ والقولِ بالاتحادِ وقصدِ السمعةِ من غيرِ تعرضٍ لإيمانِهم برسولِ الله صلى الله عليه وسلم وكفرِهم به ممَّا لا يُساعدُه المقامُ

28

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} أي بالرسلِ المتقدمةِ {اتقوا الله} فيما نهاكُم عنْهُ {وآمنوا بِرَسُولِهِ} أي بمحمَّدٍ عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ وفي إطلاقهِ إيذانٌ بأنَّه عَلَمٌ فَردٌ في الرسالةِ لا يذهبُ الوهمُ إلى غيرِه {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} نصيبينِ {مّن رَّحْمَتِهِ} لإيمانِكم بالرسولِ وبمَنْ قبلَهُ من الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ لكنْ لا على مَعْنى أنَّ شريعتَهُم باقيةٌ بعد البعثةِ بلْ على أنَّها كانتْ حقَّة قبلَ النسخِ {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} يومَ القيامةِ حسبما نطق به قوله تعالى يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ما أسلفتُم من الكُفر والمَعَاصِي {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي مبالِغٌ في المغفرةِ والرحمةِ وقولُه تعالَى

29

{لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} متعلقٌ بمضمونِ الجملةِ الطلبيةِ المتضمنةِ لمَعْنى الشرطِ إذِ التقديرُ إنْ تتقُوا الله وتُؤمنوا برسوله يُؤتكم كَذَا وكَذَا لئلاَّ يعلمَ الذينَ لم يُسلموا مّنْ أَهْلِ الكتابِ أي ليعلمُوا ولا مزيدةٌ كما ينبىءُ عنه قراءةُ ليلعم ولكي يعلمَ ولأن يعلمَ بإدغامِ النونِ في الياءِ وأنْ في قولِه تعالَى {إِلاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْء مِن فَضْلِ الله} مخففةٌ من الثقيلة واسمُها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ والجملةُ في حيز النصبِ على أنَّها مفعولُ يعلمَ أيْ ليعلمُوا أنَّه لا ينالونَ شيئاً مما ذُكِرَ من فضله من الكفلين والنورِ والمغفرةِ ولا يتمكنون من نيله حيثُ لم يأتُوا بشرطه الذي هُو الإيمانُ برسوله وقولُه تعالَى {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله} عطفٌ على أنْ لا يقدرونَ وقولُه تعالَى {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} خبرٌ ثانٍ لأَنَّ وقيلَ هُو الخبرُ والجارُّ حالٌ لازمةٌ وقولُه تعالى {والله ذُو الفضل العظيم} اعتراض تذييلى لمضمون ما قبلَهُ وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ الأمرُ بالتقوى والإيمانِ لغير أهلِ الكتابِ فالمَعْنى اتقُوا الله واثبتُوا على إيمانكم برسول الله صلى الله عليه وسلم يُؤتكُم ما وعدَ مَنْ آمنَ مِنْ أهلِ الكتابِ من الكفلينِ في قولِه تعالَى أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ ولا ينقصكُم من مثلِ أجرِهم لأنَّكُم مثلُهم في الإيمانينِ لا تفرقون بَيْنَ أَحَدٍ من رُّسُلِهِ ورُويَ أنَّ مُؤمني أهلِ الكتابِ افتخرُوا على سائرِ المؤمنينَ بأنَّهم يُؤتون أجرَهُم مرتين وادَّعوا الفضل عليهم فنزلت وقرىء لِيَلاَ بقلب الهمزة ياء لا نفتاحها بعد كسرةٍ وقُرِىءَ بسكونِ الياءِ وفتحِ اللامِ كاسمِ المرأةِ وبكسرِ اللامِ مع سكونِ الياءِ وقُرِىءَ أنْ لا يقدرُوا هَذا وقد قيل لاَ غيرُ مزيدةٍ وضميرُ لا يقدرونَ للنبيِّ عليه

المجادلة { الصَّلاةُ والسَّلامُ وأصحابِه والمَعْنى لئلا يعتقدَ أهلُ الكتابِ أنَّه لا يقدرُ النبيُّ عليه الصلاةَ والسَّلامُ والمؤمنونَ به على شيءٍ مِن فَضْلِ الله الذي هو عبارةٌ عمَّا أُوتُوه من سعادةِ الدارينِ على أنَّ عدمَ علمِهم بعدمِ قُدرتِهم على ذلكَ كنايةٌ عن علمهِم بقدرتِهم عليه فيكونُ قولُه تعالَى وَأَنَّ الفضلَ بيدِ الله إلخ عطفاً على أنْ لا يعلمَ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الحديدِ كُتبَ من الذينَ آمنُوا بالله ورسلِه {بسم الله الرحمن الرحيم}

المجادلة

{قَدْ سَمِعَ الله} بإظهارِ الدالِ وَقُرىءَ بإدغامِهَا في السِّينِ {قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا} أيْ تراجعكَ الكلامَ في شأنِهِ وفيمَا صدرَ عنْهُ في حَقِّهَا من الظهارِ وَقُرىءَ تُحاوركَ وَتُحاولكَ أَيْ تسائلكَ {وَتَشْتَكِى إِلَى الله} عطفٌ عَلَى تجادلكَ أيْ تتضرعُ إليهِ تعالى وقيل حال أى من فاعله تجادلكَ وَهيَ مُتضرعةٌ إليهِ تَعَالَى وَهِيَ خَوْلَة بنتُ ثَعْلبةَ بنِ مالكِ بنِ خرامة الخزرجيةُ ظاهرَ عنْهَا زوجُهَا أَوْسُ بْنُ الصامتِ أخُو عُبَادةَ ثُمَّ ندِمَ عَلَى مَا قالَ فقالَ لَها مَا أظنكَ إِلاَّ قَدْ حرمتِ عليَّ فشقَّ عَلَيْهَا ذلكَ فاستفتتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ حرُمتِ عليهِ فقالتْ يا رسولَ الله ما ذكَرَ طَلاقاً فقالَ حرمتِ عليهِ وَفي روايةٍ مَا أُراكِ إلا قدْ حرمتِ عليه في المرارِ كُلِّها فقالت أشكوا إِلى الله فَاقتِي وَوَجْدِي وجعلتْ تراجعُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وَكُلَّما قالَ عليه الصلاةُ والسلامُ حرمتِ عليهِ هتفتْ وشكتْ إِلَى الله تَعَالَى فنزلتْ وَفي كلمةِ قَدْ إِشعارٌ بأنَّ الرسولَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ والمجادلةَ كانَا يتوقعانِ أنْ يُنزلَ الله تعالَى حكَم الحادثةِ ويفرجَ عَنْهَا كَرْبَهَا كَمَا يلوحُ بهِ مَا رُوي أنَّه عليه الصلاة والسلام قال لها عند استفتهائها مَا عندِي في أمركِ شيءٌ وَأَنَّها كانتْ ترفعُ رأْسَهَا إِلى السماءِ وتقولُ أشكُو إليكَ فأنزلْ عَلى لسانِ نبيكَ ومَعنْى سَمْعِهِ تَعَالَى لقولِهَا إجابةُ دُعائِها لاَ مجردَ علمِهِ تَعَالى بذلكَ كما هُوَ المَعْنِيُّ بقولِهِ تَعَالَى {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما} أيْ يعلُم تراجعَكُمَا الكلامَ وَصيغةُ المضارعِ للدلالةِ على استمرار السمعِ حسَبُ استمرارِ التحاورِ وتجددِهِ وَفي نَظْمِها في سلك الخطابِ تغليباً تشريفٌ لَهَا منْ جهيتين والجملة استئناف مَجْرَى التعليلِ لِمَا قبلَهُ فإنَّ إلحافَهَا في المسألةِ ومبالغَتَها في التضرعِ إِلى الله تَعَالَى ومدافعتَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيَّاها بجوابٍ منبىءٍ عنِ التوقفِ وترقبِ الوحى وعلمه تعالى بحالها منْ دَواعي الإجابةِ وَقيلَ

} { هيَ حالٌ وهُوَ بعيدٌ وَقَولُهُ عزَّ وَجَلَّ {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} تعليلٌ لِمَا قبلَهُ بطريقِ التحقيقِ أي مبالِغٌ في العلم بالمسموعات والمبصَراتِ وَمنْ قضيتِهِ أنْ يسمعَ تحاورَهُمَا ويَرَى ما يقارنُهُ منَ الهيئاتِ الي منْ جُملِتَها رفعُ رأسِهَا إلى السماءِ وسائرُ آثارِ التضرعِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في الموقعينِ لتربيةِ المهابةِ وتعليلِ الحُكم بوصفِ الألوهيةِ وتأكد استقلالِ الجملتينِ وَقَوْلُه تَعَالَى

2

{الذين يظاهرون مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ} شروعٌ في بيانِ شأنِ الظهارِ في نفسِهِ وحكمِه المترتبُ عليه شَرْعاً بطريقِ الاستئنافِ والظهارُ أنْ يقولَ الرجلُ لامرأتِهِ أنتِ عليَّ كظهرِ أمِّي مشتقٌ منَ الظهرِ وَقدْ مرَّ تفصيلُهُ في الأحزابِ وألحقَ بهِ الفقهاءُ تشبيهَهَا بجزءٍ مُحرمٍ وَفي منكُمْ مزيدُ توبيخٍ للعربِ وتهجينٌ لعادتهمْ فيه فإن كانَ منْ أيمانِ أهلِ جاهليتهِمْ خَاصَّة دونَ سائرِ الأمم وقرىء يظاهرون ويظْهرونَ وقولُه تَعَالَى {مَّا هُنَّ أمهاتهم} خبرٌ للموصولِ أَيْ ما نساؤُهُم أمهاتُهُم عَلَى الحقيقةِ فهُوَ كذبٌ بحتٌ وَقَرىءَ أمهاتُهم بالرفعِ عَلى لُغةِ تميمٍ وبأمهاتِهم {إِنْ أمهاتهم} أيْ مَا هُنَّ {إِلاَّ اللائى وَلَدْنَهُمْ} فَلاَ تشبَّهُ بهنَّ فِي الحُرمةِ إِلا منْ ألحقَهَا الشرعُ بهنَّ منَ المرضعاتِ وأزواجِ النبيَّ عليهِ الصلاةَ والسلامُ فدخلنَ بذلكَ في حُكمِ الأمهاتِ وَأمَّا الزوجاتُ فأبعدُ شيءٍ منَ الأُمومةِ {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ} بقولِهم ذلكَ {مُنكَراً مّنَ القول} عَلى أنَّ مناطَ التأكيدِ ليسَ صدورَ القولِ عنْهمْ فإنَّه أمرٌ محققٌ بلْ كونَهُ منكراً أيْ عندَ الشرعِ وعند العقلِ والطبعِ أيضاً كما يشعرُ بهِ تنكيره ونظيرُهِ قَولُهُ تعالَى إنكُمْ لتقولونَ قولاً عظيماً {وَزُوراً} أيْ محرفاً عنِ الحَقِّ {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أيْ مبالغٌ في العفو والمغفرةِ فيغفرُ لمَا سلفَ منْهُ عَلَى الإطلاقِ أَوْ بالمتابِ عنْهُ وقولُه تَعَالَى

3

{والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثم يعودون لما قالوا} تفصيلٌ لحكمِ الظهارِ بعدَ بيانِ كونِهِ أمراً منكراً بطريقِ التشريعِ الكليِّ المنتظمِ لحكمِ الحادثةِ انتظاماً أولياً أيْ والذينَ يقولونَ ذلكَ القولَ المنكرَ ثمَّ يعودونَ لما قالُوا أَيْ إِلى ما قالوا بالتدراك والتلافِي لاَ بالتقريرِ والتكريرِ كما في قوله تعالى أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً فإِنَّ اللامَ وإِلى تتعاقبان كَثيراً كَما في قولِهِ تَعَالى هَدَانَا لهذا وقولِهِ تعالى بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا وقوله تعالى وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} اى فتدراكه أو فعليهِ أوْ فالواجبُ إعتاقُ رقبةٍ أيَّ رقبةٍ كانتْ وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله تَعَالَى يشترطُ الإيمانُ والفاء للسببية ومنه فوائدِها الدلالةُ على تكررِ وجوبِ التحريرِ بتكررِ الظهارِ وَقيلَ ما قالُوا عبارةٌ عَمَّا حرَّمُوهُ عَلى أنفسِهمْ بلفظِ الظهارِ تنزيلاً للقولِ منزلةَ المقُولِ فيهِ كَما ذُكر في قوله تعالى وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ أَي المقولُ فيهِ منَ المالِ والولدِ فالمَعْنَى ثُمَّ يريدونَ العودَ للاستمتاعِ فتحريرُ

5 4 رقبةٍ {مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} أيْ مِنْ قبلِ أنْ يستمتعَ كلٌ منَ المُظاهِرِ وَالمُظاهَرِ منْهَا بالآخرِ جماعاً وَلَمساً ونظراً إلى الفرج شهوة وإنْ وقعَ شيءٌ من ذلكَ قبلَ التكفيرِ يجبُ عليهِ أنْ يستغفرَ ولا يعودَ حتَّى يكفرَ وإنْ أعتقَ بعضَ الرقبةِ ثمَّ مسَّ عليهِ أنْ يستأنفَ عندَ أبي حنيفةَ رحمَهُ الله تَعَالَى {ذلكم} إشارةٌ إِلى الحكمِ المذكورِ وَهُوَ مبتدأٌ خبرُهُ {تُوعَظُونَ بِهِ} أى ترجرون بهِ عنِ ارتكابِ المنكرِ المذكورِ فإنَّ الغراماتِ مزاجرٌ عنْ تعاطِي الجناياتِ والمرادُ بذكرِهِ بيانُ أنَّ المقصودَ منْ شرعِ هَذَا الحكمِ ليس تعويضكم للثوابِ بمباشرتكُمْ لتحريرِ الرقبةِ الذي هو علم في استباع الثوابِ العظيمِ بلْ هُوَ ردعُكم وزجرُكم عنَ مباشرةِ ما يوجبُهُ {والله بِمَا تَعْمَلُونَ} من الأعمالِ الي من جملتها التكفير ومايوجبه من جنايةِ الظهارُ {خَبِيرٌ} أى عالم يظواهرها وبواطِنَها ومجازيكُم بهَا فحافظُوا على حدود ما شرعَ لكُمْ وَلاَ تُخِلّوا بشيءٍ منْهَا

4

{فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أيْ الرقبةَ {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} أيْ فعليهِ صيامُ شهرينِ {مُتَتَابِعَيْنِ من قبل أن يتماسا} ليلا أو نهارا عمادا أَوْ خطأً {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} أيْ الصيامَ لسببٍ منَ الأسبابِ {فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً} لكُلِّ مسكينٍ نصفُ صاعٍ منْ بُرِّ أَوْ صاعٌ منْ غيرِهِ ويجبُ تقديمُهُ عَلَى المسيسِ لكن لا يستأنفُ إنْ مسَّ في خلالِ الإطعامِ {ذلك} إشارةٌ إلى ما مرَّ من البيان والتعليمِ للأحكامِ والتنبيُهُ عليهَا وما فيه من معنى البعد قد مرَّ سردُه مراراً وملحه إمَّا الرفعُ عَلَى الابتداءِ أو النصبُ بمضمرٍ معللٌ بَما بعدَهُ أيْ ذلكَ واقعٌ أو فعلُنَا ذلكَ {لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} وتعملُوا بشرائعِهِ التي شرعَهَا لكُم وترفضُوا ما كنتُم عليه في جاهليتِكُم {وَتِلْكَ} إشارةٌ إِلى الأحكامُ المذكورةِ وما فيه من معنى البعد لتعظيمِها كما مَرَّ غيرَ مرةٍ {حُدُودَ الله} التِي لا يجوزُ تعدِّيهَا {وللكافرين} أي الذينَ لا يعملونَ بَها {عَذَابٌ أَلِيمٌ} عبرَ عنْهُ بذلكَ للتغليظِ عَلَى طريقةِ قولِهِ تَعَالَى وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين

5

{إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ} أيْ يعادونَهُمَا ويشاقونهُمَا فإنَّ كلاًّ منَ المتعاديينِ كَما أنَّه يكونُ في عُدوةٍ وشقَ غيرِ عُدوةِ الآخرِ وشقِّهِ كذلكَ يكونُ في حدَ غيرِ حَدِّ الآخرِ غيرَ أنَّ لورودِ المحادّةِ في أثناءِ ذكرِ حدودِ الله دونَ المعاداةِ والمشاقةِ من حسنِ الموقعِ مالا غايةَ وراءَهُ {كُبِتُواْ} أيْ أخزُوا وَقيلَ خُذِلُوا وقيلَ أذلُّوا وقيل أهلكُوا وقيلَ لُعنُوا وقيلَ غِيظُوا وهُوَ ما وقعَ يومَ الخندقِ قالُوا معَنْى كُبتوا سيكبتونَ على طريقة قوله تعالى أتى أَمْرُ الله وقيلَ أصلُ الكبتِ الكبُّ {كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِم} منْ كُفَّارِ الأممِ الماضيةِ المعادينَ للرسلِ عليهمْ

7 7 الصلاةُ والسلامُ {وَقَدْ أَنزَلْنَا آيات بينات} حالٌ منْ واوِ كُبتوا أيْ كُبتوا لمحادّتِهم والحال أن قدْ أنزلنا آياتٍ واضحاتٍ فيمنَ حادَّ الله ورسولَهُ ممنْ قبلَهُم من الأَممِ وفيمَا فعلْنَا بهمْ وقيلَ آياتٌ تدلُّ عَلى صدقِ وصِحّةِ ما جَاء بهِ {وللكافرين} أيْ بتلكَ الآياتِ أو بكلِّ ما يجبُ الإيمانُ بهِ فيدخلُ فيهِ تلكَ الآياتُ دُخولاً أولياً {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذهبُ بعزِّهم وَكِبْرِهم

6

{يوم يبعثهم الله} منصور بمَا تعلقَ بهِ اللامُ منَ الاستقرارِ أوْ بمهينٍ أو بإضمارِ أذكُرْ تعظيماً لليومِ وتهويلاً لَهُ {جَمِيعاً} أيْ كُلُّهم بحيثُ لاَ يَبْقَى منهُمْ أحدٌ غيرُ مبعوث أو مجتعين في حالةٍ واحدةٍ {فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ} منَ القبائحِ ببيانِ صُدورِها عنهُمْ أوْ بتصويرِهَا في تلكَ النشأةِ بما يليقُ بَها منَ الصورِ الهائلةِ عَلى رؤوسِ الإشهادِ تخجيلاً لهُم وتشهيراً بحالِهم وتشديداً لعذابهم وَقولُه تعالَى {أحصاه الله} استئنافٌ وقع جوابا عما نشأ مما قبيله منَ السؤالِ إمَّا عنْ كيفيةِ التنبئةِ أو عنْ سببِهَا كأنَّه قيلَ كيفَ ينبئُهمْ بأعمالِهم وهيَ أعراضٌ متقضيةٌ متلاشيةٌ فقيلَ أحصاهُ الله عدداً لمْ يفُتْهُ منْهُ شيءٌ فقولُه تعالَى {وَنَسُوهُ} حينئذٍ حالٌ من مفعولِ أَحْصَى بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور أو قيل لم ينبئهم بذلك فقيل أحصاه الله ونسوهُ فينبئهمْ بهِ ليعرفُوا أنَّ مَا عاينُوه من العذابِ إنما حاقَ بهم لأجله وفيه مزيدُ توبيخٍ وتنديمٍ لهُم غيرِ التخجيلِ والتشهير {والله على كُلّ شَيْء شَهِيدٌ} لا يغيبُ عنهُ أمرٌ منِ الأمورِ قطُّ والجملةُ اعتراضُ تذييليُّ مقررٌ لإحصائِهِ تعَالَى وَقولُه تَعَالَى

7

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يعلم ما في السماوات وَمَا فِي الأرض} استشهادٌ على شمولِ شهادتِهِ تَعَالَى كما في قوله تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم فِى رِبّهِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالى أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ أي ألمْ تعلم علماً يقينا متاخماً للمشاهدةِ بأنَّه تَعَالى يعلمُ مَا فِيهمَا مِنَ الموجوداتِ سواءٌ كانَ ذلكَ بالاستقرارِ فيهمَا أو بالجزئيةِ منهُمَا وَقَوْلُه تعالى {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة} الخ استئنافٌ مقررٌ لِمَا قَبْلَهُ من سعةِ علمِهِ تَعَالى وَمُبينٌ لكيفيتهِ ويكونُ منْ كانَ التامةِ وقُرىءَ تكونُ بالتاءِ اعتباراً لتأنيثِ النَّجوى وإنْ كانَ غَيْرَ حقيقيَ أيْ ما يقعُ من تناجي ثلاثةِ نفرٍ أي منْ مسارتهم على أنَّ نَجْوى مضافةٌ إلى ثلاثةٍ أوْ عَلَى أَنَّها موصوفةٌ بِها إمَّا بتقديرِ مضافٍ أيْ منْ أهلِ نجوى ثلاثة أو بجلعهم نجوى في أنفسهم {إِلاَّ هُوَ} أي الله عزَّ وجلَّ {رابعُهم} أيْ جاعلُهم أربعةً منْ حيثُ إنَّه تعالَى يشاركهُمْ فِي الإطلاع عليها وهو استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوالِ {وَلاَ خَمْسَةٍ} ولا نجوَى خمسةٍ {إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} وتخصيصُ العدَدينِ بالذكرِ إما الخصوص الواقعةِ فإنَّ الآيةَ نزلتْ في تناجي المنافقينَ وإمَّا لِبناءِ الكلامِ عَلى أغلبِ عاداتِ المتناجينَ وقدُ عممَ الحكمَ بعدَ

8 10 ذلكَ فقيلَ {وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ} أيْ ممَّا ذُكرَ كالواحدِ والاثنينِ {وَلاَ أَكْثَرَ} كالستةِ وما فوقَها {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} يعلمُ ما يجرى بينهم وقرئ ولاَ أكثرُ بالرَّفعِ عطفاً عَلى محلِّ منْ نَجْوى أو محلِ ولا أدْنَى بأنْ جُعِلَ لاَ لنفي الجنس {أَيْنَ مَا كَانُواْ} من الأماكنِ ولو كانُوا تحتَ الأرضِ فإنَّ علمَهُ تعالىَ بالأشياءِ ليسَ لقربٍ مكانيَ حتَّى يتفاوت باختلافِ الأمكنةِ قُرباً وبُعداً {ثُمَّ ينبئهم} وقرئ يُنْبِئَهُمْ بالتَّخفيفِ {بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة} تفضيحاً لَهُمْ وَإِظهاراً لما يوجبُ عذابَهُم {أَنَّ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ} لأنَّ نسبةَ ذاتِهِ المقتضيةِ للعلمِ إلى الكُلِّ سواءٌ

8

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} نزلتْ في اليهودِ والمنافقين كانوا يتناجَونَ فيما بينهُمْ وبتغامزون بأعيانهم إذَا رأَوْا المؤمنينَ فنهاهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ عادُوا لمثلِ فعلِهمْ والخطاب للرسول عليه الصلاة والسَّلامُ والهمزةُ للتعجيبِ منْ حالهِمْ وصيغةُ المضارعِ للدلالةِ عَلَى تكررِ عَودِهمْ وتجددِهِ واستحضارِ صورتِهِ العجيبةِ وقولِهِ تَعَالى {ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول} عطفٌ عليهِ داخلٌ في حُكمهِ أيْ بِمَا هُوَ إثمٌ في نفسِهِ وعدوان للمؤمنين وتواصى بمعصيةِ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بعنوانِ الرسالةِ بينَ الخطابينِ المتوجهينِ إليهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لزيادةِ تشنيعِهِم واستعظام معصيتهم وقرئ وينتجونَ بالإثمِ والعِدْوَانِ بكسر العَين ومعصياتِ الرسولِ {وَإِذَا جاؤوك حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله} فيقولونَ السامُ عليك أو أنعِمْ صَباحاً والله سبحانَهُ يقولُ وسلام على المرسلين {وَيَقُولُونَ فِى أَنفُسِهِمْ} أيْ فِيمَا بينهُمْ {لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} أيْ هلاَّ يعذبُنَا الله بذلكَ لوْ كانَ محمدٌ نبياً {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} عذاباً {يَصْلَوْنَهَا} يدخلونَها {فَبِئْسَ المصير} أى جهنم

9

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} فِي أنديتِكُمْ وَفِي خلواتِكم {فَلاَ تتناجوا بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول} كما يفعله المنافقون وقرئ فلا تنتجُوا وَفلا تناجَوا بحذفِ إحدَى التاءين {وتناجوا بالبر والتقوى} أيْ بما يتضمنُ خيرَ المؤمنين والاتقاءَ عن معصيةِ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ {واتقوا الله الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وحْدَهُ إلى غيره استقلال أوِ اشتراكاً فيجازيكُم بكُلِّ ما تأتونَ وما تذرونَ

10

{إِنَّمَا النجوى}

} 2 1 { المعهودةُ التِي هِيَ التناجِي بالإثم والعداون {مِنَ الشيطان} لاَ مِنْ غَيْرِهِ فإنَّه المزينُ لَها واالحامل عَليهَا وقولِهِ تَعَالى {لِيَحْزُنَ الذين آمنوا} خبرٌ آخرُ أيْ إنَّما هِيَ ليحزنَ المؤمنينَ بتوهمهمْ أنَّها فِي نكبةٍ أصابتهُمْ {وَلَيْسَ بِضَارّهِمْ} أي الشيطانُ أو التناجِي بضارِّ المؤمنينَ {شَيْئاً} من الأشياءِ أو شيئاً منَ الضررِ {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أيْ بمشيئتِه {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} ولا يبالُوا بنجواهُم فإنَّه تعالى يعصمُهم منْ شرِّهِ

11

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ} أيْ توسعُوا وليفسحْ بعضُكُمْ عنْ بعضِ ولا تتضامُّوا منْ قولِهم أفسحْ عَنِّي أى تنح وقرئ تفاسحُوا وقولِهِ تَعَالى {فِى المجالس} متعلقٌ بقيلَ وقُرِىءَ في المجلسِ عَلى أنَّ المرادَ بِهِ الجنسُ وقيلَ مجلسُ الرسولِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وكانُوا يتضامُّون تنافساً في القُربِ منهُ عليهِ الصلاة والسلام وحرصا على استماعِ كلامِهِ وقيلَ هو المجلسُ منْ مجالسِ القتال وهي مراكز الغُزاةِ كقولِهِ تَعَالى مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ قيلَ كانَ الرجلُ يأتي الصفَّ ويقولُ تفسحُوا فيأبَونَ لِحرصِهم عَلى الشهادةِ وقُرِىءَ فِي المجلَسِ بفتح اللامِ فَهُو متعلقٌ بتفسحُوا قطعاً أيْ توسعُوا فِي جلوسِكم ولا تتضايقُوا فيه {فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ} أي في كلِّ ما تريدونَ التفسحَ فيهِ منَ المكانِ والرزقِ والصدرِ والقَبرِ وغيرِهَا {وَإِذَا قِيلَ انشزوا} أي انهضُوا للتوسعةِ عَلى المقبلينَ أوْ لِمَا أمرتمْ بِهِ منْ صلاةٍ أو جهادٍ أو غَيرِهِمَا منْ أعمالِ الخيرِ {فَانشُزُواْ} فانهضُوا ولا تتثبطُوا ولا تفرطُوا وقرىءَ بكسرِ الشينِ {يَرْفَعِ الله الذين آمنوا مِنكُمْ} بالنصرِ وحسنِ الذكرِ في الدُّنيا والإيواءِ إلى غُرفِ الجنانِ في الآخرةِ {والذين أُوتُواْ العلم} منهُمْ خصوصاً {درجات} عالية بما جمعُوا منْ أثرتي العلمِ والعملِ فإنَّ العلمَ معَ علوِّ رتبتِه يقتضِي العملُ المقرونُ بهِ مزيدَ رفعةٍ لا يدركُ شأوَهُ العملُ العارِيُّ عَنْهُ وإنْ كانَ في غايةِ الصلاحِ ولذلكَ يقتدي بالعالمِ في أفعالِه ولا يقتدَى بغيرِهِ وفي الحديثِ فضلُ العالمِ عَلى العابِدِ كفضلِ القمرِ ليلة البدرِ على سائر الكواكب {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تهديد لمن لم يتمثل بالأمرِ وقُرِىءَ يعملونَ بالياءِ التحتانية

12

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا ناجيتم الرسول} في بعض شؤنكم المهمةِ الداعية إلى مناجاتِهِ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ {فَقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صَدَقَةً} أيْ فتصدقُوا قبلَها مستعارٌ ممنْ لهُ يدانِ وفي هذا الأمرِ تعظيمُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وإنفاعُ الفقراءِ والزجرُ عنِ الإفراطِ في السؤالِ والتمييزُ بينَ المخلصِ والمنافقِ

} 3 14 ومحبِّ الآخرةِ ومحبِّ الدُّنيا واختلفَ في أنَّه للندبِ أو للوجوبِ لكنهُ نُسِخَ بقوله تعالى أأشفقتم وهُوَ وإنْ كَان متصلاً بِهِ تلاوةً لكنَّه متراخٍ عَنْهُ نزولاً وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه إن فِي كتابِ الله أيةً ما عَمِلَ بِهَا أحدٌ غَيْرِي كانَ لي دينارٌ فصرفتُه فكنتُ إذَا ناجيتُه عليهِ الصلاةُ والسلامُ تصدقتُ بدرهم وهُوَ على القولِ بالوجوبِ محمولٌ على أنَّه لم ينفق للأغنياء مناجاةٌ في مدةِ بقائِه إذْ رُوي أنَّه لمْ يَبقَ إلاَّ عشراً وقيل إلاَّ ساعةً {ذلك} أي التصدق {خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} أيْ لأنفسكم منَ الريبةِ وحبِّ المَالِ وهذا يشعرُ بالندبِ لكنَّ قولِهُ تَعَالى {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} منبئ عنِ الوجوبِ لأنَّه ترخيصٌ إن لَمْ يجدْ فِي المناجَاةِ بلا تصدق

13

{أأشفقتم أَن تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىْ نجواكم صدقات} أيْ أخفتمْ الفقرَ منْ تقديمِ الصدقاتِ أو أخفتمْ التقديمَ لما يعدكُم الشيطانُ عليهِ منَ الفقر وجمع الصدقات لجمعِ المخاطبينَ {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} ما أمرتمْ بهِ وشَقَّ عَليكُمْ ذلكَ {وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} بأنْ رخصَ لكُم أنْ لا تفعلُوه وفيه إشعارٌ بأنَّ إشفاقَهُم ذنبٌ تجاوزَ الله عنْهُ لما رأى منهم من الانفعالِ مَا قامَ مقَام توبتهِم وإذْ عَلى بابِهَا مِنَ المُضيِّ وقيلَ بِمَعْنى إذا كما في قوله تَعَالى إِذِ الأغلال فِى أعناقهم وقيلَ بمعنى إنْ {وَأَقِيمُواْ الصلاة وآتَوْا الزَّكَاةَ} أيْ فإذْ فرطتُم فِيمَا أُمِرتُمْ بهِ منْ تقديمِ الصدقاتِ فتداركُوه بالمثابرةِ عَلى إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} في سائرِ الأوامرِ فإنَّ القيامَ بِها كالجابرِ لما وقعَ في ذلكَ من التفريطِ {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ظاهراً وباطناً

14

{أَلَمْ تَرَ} تعجيب منْ حالِ المنافقينَ الذين كانُوا يتخذونَ اليهودَ أولياءَ ويناصحونَهُم وينقلونَ إليهم أسرارَ المؤمنينَ أيْ ألمْ تنظرُ {إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ} أيْ والوْا {قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} وَهُمْ اليهودُ كَمَا أنبأ عَنْهُ قولِهِ تَعَالى مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ {مَّا هُم مّنكُمْ وَلاَ منهم} لأنهم منافقون مذبذين بينَ ذلكَ والجملةُ مستأنفةٌ أو حالٌ من فاعل تولُوا {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب} أي يقولونَ والله إنَّا لمسلمونَ وهو عطفٌ عَلى تولَّوا داخلٌ في حُكمِ التعجيبِ وصيغةُ المضارعِ للدلالةِ على تكرر الحلفِ وتجددِّهِ حسبَ تكررِ ما يقتضيهِ وقولِهِ تَعَالى {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} حالٌ منْ فاعِلِ يحلفونَ مفيدةٌ لكمال شناعةِ ما فعلُوا فإنَّ الحلفَ عَلى ما لم يُعلمُ أنَّه كذبٌ في غايةِ القُبحِ وفيهِ دلالةٌ على أنَّ الكذبَ يعمُّ ما يعلمُ المخبرُ عدمَ مطابقتهِ للواقعِ وما لا يعلمُه رُوي أنَّه عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ كانَ في حجرةٍ من حجراتِه فقال يدخلُ عليكُم الآن رجلٌ قلبُه قلبُ جبارٍ وينظرُ بعينِ شيطانٍ فدخلَ عبدُ اللَّهِ بن نَبْتَل المنافقُ وكان أزرقَ فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم علامَ تشتمني أنتَ وأصحابُك فحلفَ بالله ما فعلَ فقال عليه الصلاة والسلام فعلتَ

} 5 18 فانطلق فجاءَ بأصحابُه فحلفُوا بالله ما سبُّوه فنزلتْ

15

{أَعَدَّ الله لَهُمْ} بسببِ ذلكَ {عَذَاباً شَدِيداً} نوعاً من العذابِ متفاقماً {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فيما مَضَى منَ الزمانِ المتطاولِ فتمرنُوا على سوءِ العمل وضرُوْا به وأصرُّوا عليه

16

{اتخذوا أيمانهم} الفاجرةَ التي يحلفونَ بِهَا عندَ الحاجَةِ وقرئ بكسرِ الهمزةِ أيْ إيمانُهُم الذي أظهروه لأهل الإسلامِ {جَنَّةُ} وقايةً وسترةً دونَ دمائِهم وأموالِهم فالاتخاذُ على هذهِ القراءةِ عبارةٌ عن التسترِ بما أظهروه بالفعلِ وأمَّا عَلى القراءةِ الأُولى فهو عبارةٌ عن إعدادِهم لأيمانِهم الكاذبةِ وتهيئتِهم لَها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصُوا من المؤاخذةِ لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقةِ بوقوعِ الجنايةِ والخيانةِ واتخاذ الجنة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة وعن سببها أيضا كما يعربُ عنْهُ الفاءُ في قولِهِ تَعَالى {فَصَدُّواْ} أي الناس {عن سبيل الله} في خلالِ أمنهِم بتثبيطِ من لقوْا عنِ الدخولِ في الإسلامِ وتضعيفِ أمرِ المسلمينَ عندهُمْ {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} وعيدٌ ثانٍ بوصفٍ آخرَ لعذابِهم وقيلَ الأولُ عذاب القبر أو عذابُ الآخرةِ

17

{لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله} أي من عذابه تعالى {شَيْئاً} منَ الإغناءِ رُوي أنَّ رجلاً منهم قالَ لنُنصَرَنَّ يومَ القيامَةِ بأنفسنا وأموالِنا وأولادِنا {أولئك} الموصوفونَ بما ذكر من الصفات القبيحةِ {أصحاب النار} أيْ مُلازمُوهَا ومقارنُوهَا {هُمْ فِيهَا خالدون} لا يخرجُون منها أبداً

18

{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً} قيلَ هو ظرفٌ لقولِهِ تَعَالى لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ {فَيَحْلِفُونَ لَهُ} أيْ لله تعالى يومئذٍ على أنهُمْ مسلمونَ {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} فِي الدُّنيا {وَيَحْسَبُونَ} في الآخرةِ {أَنَّهُمْ} بتلكَ الأيمانِ الفاجرةِ {على شَىْء} من جلبِ منفعةٍ أو دفعِ مضرةٍ كما كانُوا عليهِ في الدُّنيا حيثُ كانوا يدفعونَ بِهَا عنْ أرواحِهم وأموالِهم ويستجرونَ بها فوائدَ دنيويةً {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} المبالغون في الكذبِ إلى غايةٍ لا مطمَحَ وراءَها حيثُ تجاسرُوا عَلى الكذبِ بينَ يَدي علاَّمِ الغيوبِ وزعمُوا أنَّ أيمانَهُم الفاجرةَ تروجُ الكذبَ لديهِ كَمَا تروجُهُ عن الغافلينَ

19

19 - 22 {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان} أي استولى عليهمْ منْ حُذتُ الإبلَ إذَا استوليتُ علَيها وجمعتها وهوَ مما جاء على الأصلِ كاستصوبَ واستنوقَ أي ملَكهُم {فأنساهم ذِكْرَ الله} بحيثُ لم يذكرُوه بقلوبِهم ولا بألسنتِهم {أولئك} الموصوفون بما ذكر من القبائح حزب الشيطان وجنوده وأتباعُهُ {إِلا أَنْ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخاسرون} أي الموصوفونَ بالخُسرانِ الذي لا غايةَ وراءَه حيثُ فوتُوا على أنفسهِم النعيمَ المقيمَ وأخذوا بدله من العذابَ الأليمَ وفي تصدير الجملةُ بحرفي التنبيهِ والتحقيقِ وإظهارِ المضافينِ معاً في موقعِ الإضمارِ بأحدِ الوجهينِ وتوسيطِ ضميرِ الفصلِ منْ فنونِ التأكيد ما لا يَخْفَى

20

{إِنَّ الذين يُحَادُّونَ الله وَرَسُولَهُ} استئنافٌ مَسوقٌ لتعليلِ ما قبلَهُ من خسرانِ حزب الشيطان عبد عنهُمْ بالموصولِ للتنبيهِ بما في حيز الصلةِ على أنَّ مُوادةَ مَنْ حَادَّ الله ورسولَهُ محادّةٌ لَهُمَا والإشعارِ بعلةِ الحُكمِ {أولئك} بما فعلُوا منَ التولِي والموادةِ {فِى الأذلين} أيْ في جُملةِ منْ هُو أذلُّ خلقِ الله منَ الأولينَ والآخرينَ لأنَّ ذلةَ أحدِ المتخاصمينَ على مقدارِ عزةِ الآخرِ وحيثُ كانتْ عزةُ الله عزَّ وجلَّ غير متناهيةٍ كانتُ ذلةُ من يحاده كذلك

21

{كتب الله} استئنافٌ واردٌ لتعليلِ كونِهمْ في الأذلينَ أيْ قضى وثبت في اللوحِ وحيثُ جَرَى ذلكَ مَجرى القسمِ أجيبَ بما يجابُ به فقيلَ {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} أيْ بالحجةِ والسيفِ وما يجري مجراهُ أو بأحدِهِمَا ونظيرُهُ قولُه تعالَى وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لهم الغالبون وقرئ ورسليَ بفتح الياء {إِنَّ الله قَوِىٌّ} عَلَى نصرِ أنبيائِهِ {عَزِيزٌ} لا يُغلب عليهِ في مرادِهِ

22

{لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الأخر} الخطابَ للنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسلام أوْ لكُلِّ أحدٍ وتجدُ إمَّا متعدٍ إلى اثنينِ فقولِهِ تَعَالى {يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ} مفعولُه الثاني أوْ إلى واحدٍ فهو حالٌ من مفعولِه لتخصصهُ بالصفةِ وقيلَ صفةٌ أُخرى لَهُ أيْ قوماً جامعينَ بينَ الإيمانِ بالله واليومِ الآخرِ وبينَ موادةِ أعداءِ الله ورسولِه والمرادُ

سورة الحشر { ينفى الوجدان لنفى الموادةِ عَلى مَعْنَى أنَّه لا ينبغي أنْ يتحققَ ذلكَ وحقُّه أن يمتنعَ ولا يوجدَ بحالٍ وإنْ جدَّ في طلبهِ كلُّ أحدٍ {وَلَوْ كَانُواْ} أيْ من حاد الله ورسوله والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما قبله باعتبار لفظها {آباءهم} آباءُ الموادِّينَ {أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إخوانهم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} فإنَّ قضيةَ الإيمانِ بالله تعالى أَنْ يهجرَ الجميعَ بالمرةِ والكلامُ في لَوْ قَدْ مرَّ على التفصيل مراراً {أولئك} إشارةٌ إلى الذينَ لا يوادونهم وإنْ كانُوا أقربَ النَّاسِ إليهم وأمسَّ رحماً وما فيه من معَنى البعدِ لرفعةِ درجتهم في الفضلِ وهُوَ مبتدأ خبرُهُ {كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان} أي أثبتَهُ فيها وفيه قطعا ولا شئ من أعمالِ الجوارحِ يثبتُ فيهِ {وَأَيَّدَهُمْ} أيْ قوَّاهُم {بِرُوحٍ مّنْهُ} أيْ مِنْ عندِ الله تعالىَ وهُوَ نورُ القلبِ أوِ القرآنُ أو النصرُ على العدوِّ وقيل الضمير للإيمان الحياة القلوبِ بهِ فمنْ تجريديةٌ وقولُهُ تعالَى {وَيُدْخِلُهُمُ} الخ بيانٌ لآثارِ رحمتهِ الأخرويةِ إثرَ بيانِ ألطافهِ الدنيويةِ أيْ ويدخلهُم في الآخرةِ {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا} أبدَ الآبدينَ وقولُه تَعَالى {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} استئنافٌ جارٍ مَجْرَى التَّعليلِ لما أفاضَ عليهمْ مِنْ آثارِ رحمتِهِ العاجلةِ والآجلةِ وقولُه تَعَالى {وَرَضُواْ عَنْهُ} بيانٌ لابتهاجِهم بما أوتُوه عاجلاً وآجلاً وقولُه تَعَالَى {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله} تشريفٌ لهُمْ ببيانِ اختصاصِهم بهِ عزَّ وجلَّ وقوله تعالى {إَّلا أَن حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} بيان لاختصاصهم بالفوزِ بسعادةِ الدارينِ والفوزِ بسعادةِ النشأتينِ والكلامُ في تحليةِ الجملةِ بفنونِ التأكيدِ كَمَا مَرَّ فِي مثلِها عن النبي عليه الصلاةَ والسلام من قرأ سورة المجادلةِ كتبَ منْ حزبِ الله يوم القيامة سورة الحشر {بسم الله الرحمن الرحيم}

الحشر

{سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} مرَّ ما فيه من الكلامِ في صدرِ سورةِ الحديدِ وقد كُرِرَ الموصولُ ههنا لزيادةِ التَّقريرِ والتَّنبيهِ على استقلالِ كلَ من الفريقين بالتسبيحِ روي أنه عليه الصلاةُ والسلام لما قدم المدينة صالحَ بني النضير وهُم رهطٌ من اليهودِ من ذريةِ هرون عليه السلام نزلوا المدينةَ في فتن بني إسرائيلَ انتظاراً لبعثِه النبي عليه الصلاةَ والسلام وعاهدَهُم أنْ لا يكونُوا لهُ ولا عليهِ فلما ظهرَ عليه الصلاةُ والسلامُ يومَ بدرٍ قالُوا هو النبيُّ الذي

{ نعته في التوارة لا تردُّ له رايةٌ فلما كان يومُ أحُد ما كان ارتابُوا ونكثُوا فخرجَ كعبُ بن الأشرفِ في أربعين راكبا الى مكة فحالفوا قريشا الى الكعبةِ على قتالِه عليه الصلاة والسلام سقط فأمر عليه الصلاة والسلام محمدَ بنَ مَسْلَمَةَ الأنصاريَّ فقتلَ كعباً غِيلةً وكان أخاهُ من الرضاعَةِ ثم صبحهم بالكتاب فقال لهم اخرُجوا من المدينة فاستهملوه عليه الصلاة والسلام عشرة أيامٍ ليتجهزُوا للخروجِ فدسَّ عبد الله بن أبي المنافقُ وأصحابُه إليهم لا تخرجوا من الحصنِ فإن قاتلوكم فنحنُ معكم لا نخذلُكم ولئن خرجتُم لنخرجَنَّ معكم فدربوا على الأزقَّةِ وحصَّنُوها فحاصرَهُم النبيّ عليهِ الصلاةَ والسَّلامُ إحدى وعشرينَ ليلةً فلما قذفَ الله في قلوبهم الرعبَ وأيسُوا من نصرِ المنافقين طلبُوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاءَ على أن يَحمِلَ كلُّ ثلاثةِ أبياتٍ على بعير ما شاؤوا من متاعِهم فجلوا إلى الشأم إلى أريحا وأذرعاتٍ إلا أهلَ بيتينِ منهم آلُ أبي الحقيقِ وآلُ حُيي بنِ أخطبَ فإنَّهم لحقُوا بخيبرَ ولحقتْ طائفةٌ منهم بالحيرةِ فأنزلَ الله تعالى سبح لله مافي السموات إلى قولِه والله على كُلّ شَيْء قدير وقولُه تعالى

2

{هُوَ الذى أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن ديارهم} بيانٌ لبعضِ آثارِ عزته تعالى وأحكامِ حكمتِه إثرَ وصفِه تعالى بالعزةِ القاهرةِ والحكمةِ الباهرةِ على الإطلاقِ والضميرُ راجعٌ إليه تعلى بذلك العنوانِ إما بناءً على كمالِ ظهورِ اتصافه تعالى بهما مع مساعدةٍ تامةٍ من المقامِ أو على جعلِه مُستعاراً لاسمِ الإشارةِ كما في قوله تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وأبصاركم وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ أي بذلك وعليهِ قول رؤبة بنِ العجاجِ ... كأَنَّهُ فِي الجلدِ تَوْليعُ البَهَقْ ... كما هُو المشهورُ كأنه قيلَ ذلك المنعوتُ بالعزةِ والحكمةِ الذي أخرجَ الخ ففيهِ إشعارٌ بأن في الإخراجِ حكمةً باهرةً وقوله تعالَى {لأَوَّلِ الحشر} أيْ في أولِ حشرِهم إلى الشام وكانوا من سبطٍ لم يصبهم جلاءٌ قط وهم أولُ من أخرجَ من جزيرةِ العربِ إلى الشامِ أو هذا أولُ حشرِهم وآخرُ حشرِهم إجلاء عمر رضي الله عنه أيَّاهم من خيبرَ إلى الشام وقيل آخر حشرهم حشرُ يومِ القيامةِ لأنَّ المحشرَ يكونُ بالشامِ {مَا ظَنَنتُمْ} أيها المسلمون {أَن يَخْرُجُواْ} من ديارِهم بهذا الذلِّ والهوانِ لشدةِ بأسهِم وقوةِ منعتِهم {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ الله} أيْ ظنواً أنَّ حصونهم تمنعهم أو ما نعتهم من بأس الله تعالى وتغييرُ النظم بتقديم الخبر وإسنادُ الجملةِ إلى ضميرِهم للدلالةِ على كمالِ وثوقِهم بحصانةِ حصونِهم واعتقادهم في أنفسهم أنهم في غرة ومنعةٍ لا يُبَالى معها بأحدٍ يتعرضُ لهم أو يطمعُ في مُعازّتهم ويجوزُ أن يكون ما نعتهم خبراً لأنَّ وحصونُهم مرتفعاً على الفاعليةِ {فاتاهم الله} أي أمرُ الله تعالى وقدرُه المقدورُ لهم {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} ولم يخطرْ ببالِهم وهو قتلُ رئيسهم كعبِ بنِ الأشرفِ فإنه

5 { مما أضعفَ قوتَهُم وفلَّ شوكتَهم وسلب قلوبَهم الأمنَ والطمأنينة وقيل الضميرُ في أتاهُم ولم يحتسبوا للمؤمنينَ أى فأتاهم نصرُ الله وقُرِىءَ فتاهم أي فآتاهُم الله العذابَ أو النصرَ {وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب} أيْ أثبتَ فيها الخوفَ الذي يرعبُها أي يملؤُها {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} ليسدُّوا بما نقضُوا منها من الخشبِ والحجارةِ أفواهَ الأزقةِ ولئلا يبقى بعد جلائهم مساكنُ للمسلمينَ ولينقلُوا معهم بعضَ آلاتِها المرغوبِ فيها مما يقبلُ النقلَ {وَأَيْدِى المؤمنين} حيثُ كانوا يخربونَها إزالةً لمتحصَّنِهم ومتمنعهم وتوسعا لمجالِ القتالِ ونكايةً لهمْ وإسناد هذا إليهم لما أنهمُ السببُ فيه فكأنَّهم كلَّفوهم إيَّاه وأمرُوهم به قيلَ الجملةُ حالٌ أو تفسيرٌ للرعبِ وقُرِىءَ يخَرِّبُونَ بالتشديدِ للتكثيرِ وقيلَ الإخرابُ التعطيلُ أو تركُ الشيءِ خراباً والتخريبُ النقض والهدم {فاعتبروا يا أولي الأبصار} فاتعظُوا بمَا جَرى عليهمْ من الأمورِ الهائلةِ على وجهٍ لا يكادُ يهتدِي إليه الأفكارُ واتَّقوا مباشرةَ ما أدَّاهُم إليه منَ الكفرِ والمعاصي أو انْتَقَلُوا من حالِ الفريقينِ إلى حالِ أنفسِكم فلا تُعوِّلوا على تعاضُدِ الأسبابِ بل توكَّلُوا على الله عزَّ وجلَّ وقدِ استدلَّ به على حجيةِ القياسِ كما فُصِّل في موقِعِه

3

{وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء} أي الخروجَ عن أوطانِهِم على ذلك الوجهِ الفظيعِ {لَعَذَّبَهُمْ فِى الدنيا} بالقتلِ والسَّبي كما فعلَ ببني قريظة {وَلَهُمْ فِى الأخرة عَذَابٌ النار} استئنافٌ غيرُ متعلقٍ بجوابِ لولا جيءَ به لبيانِ أنَّهُم إنْ نجَوا من عذابِ الدُّنيا بكتابةِ الجلاءِ لانجاه لهم منْ عذابِ الآخرةِ

4

{ذلك} أي ما حاقَ بهم وما سيحيقُ {بِأَنَّهُمْ} بسببِ أنهم {شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} وفعلُوا ما فعلُوا مما حُكي عنهُم من القبائحِ {وَمَن يُشَاقّ الله} وقُرِىءَ يشاققِ الله كما في الأنفالِ والاقتصارُ على ذكرِ مشاقَّتِهِ تعالى لتضمُّنِها لمشاقَّتِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وليوافقَ قولِه تعالى {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} وهو إمَّا نفسُ الجزاءِ قد حُذف منه العائدُ إلى مَنْ عندِ منْ يلتزمُهُ أي شديدُ العقابِ له أو تعليلٌ للجزاءِ المحذوفِ أي يعاقبْه الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب وأياما كانَ فالشرطيةُ تكملةٌ لما قبلها وتقريرٌ لمضمونِهِ وتحقيقٌ للسببيةِ بالطريقِ البرهانيِّ كأنه قيلَ ذلك الذي حاقَ بهم من العقابِ العاجلِ والآجلِ بسببِ مشاقّتِهم لله تعالى ورسولِهِ وكلُّ من يشاقَّ الله كائناً مَنْ كان فلهُ بسببِ ذلكَ عقابٌ شديدٌ فإذنْ لهم عقابٌ شديدٌ

5

{مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ} أيْ أيُّ شيءٍ قطعتُمْ من نخلة وهى فعلى من اللَّوْنِ وياؤُهَا مقلوبةٌ من واوٍ لكسرةِ مَا قَبْلها كَدِيمةٍ وتجمعُ على ألوانٍ وقيلَ من اللينِ وتجمعُ على لِينٍ وهيَ النخلةُ الكريمةُ {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} الضميرُ لِمَا وتأنيثُهُ لتفسيرِهِ باللينةِ كما في قولِهِ تعالى مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ يمسك لَهَا {قَائِمَةً على أُصُولِهَا} كما كانتْ منْ غيرِ أنْ تتعرضُوا لها بشيءٍ مَا وقُرِىءَ عَلى أُصُلِهَا

7 6 إما على الاكتفاءِ من الواوِ بالضمِّ أو على أنَّه جمعُ كرُهُنٍ وقُرِىءَ قائماً على أصُولِهِ ذهاباً إلى لفظِ مَا {فَبِإِذْنِ الله} فذاكَ أي قطعُهَا وتركُهَا بأمرِ الله تعالى {وَلِيُخْزِىَ الفاسقين} أي وليذلَّ اليهودَ ويغيظَهُمْ أَذِنَ في قطعِهَا وتركِهَا لأنهُم إذا رأَوا المؤمنينَ يتحكمونَ في أموالِهِمْ كيفَ أحبُّوا ويتصرفونَ فيها حسبما شاؤا من القطعِ والتركِ يزدادونَ غيظاً ويتضاعفونَ حسرةً واستُدلَّ بهِ على جوازِ هدمِ ديارَ الكفرةِ وقطعِ أشجارِهم وإحراقِ زروعِهِم زيادةً لغيظِهِم وتخصيصُ اللينةِ بالقطعِ إنْ كانت من الألوانِ لاستبقاءِ العجوةِ والبَرْنيةِ اللتينِ هما كرامُ النخيلِ وإن كانتْ هي الكرامَ ليكونَ غيظُهُم أشدَّ وقولُهُ تعالى

6

{وما أفاء الله على رَسُولِهِ} شروعٌ في بيانِ حالِ ما أُخِذَ من أموالم بعدَ بيانِ ما حلَّ بأنفسِهِم من العذابِ العاجلِ والآجلِ وما فُعلَ بديارِهِم ونخيلِهِم من التخريبِ والقطعِ أي ما أعادَهُ إليهِ من ما لهم وفيه إشعارٌ بأنه كان حقيقا بأن يكونَ له عليهِ الصلاةُ والسلامُ وإنما وقعَ في أيديهِم بغير حقَ فرجعه الله تعالى إلى مستحقِّهِ لأنه تعالى خلقَ الناسَ لعبادَتِهِ وخَلقَ ما خَلقَ ليتوسَّلوا به إلى طاعتِهِ فهو جديرٌ بأنْ يكونَ للمطيعينَ {مّنْهُمْ} أي منْ بني النَّضيرِ {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} أي فما أجريتُم على تحصيلِهِ وتغنُّمِهِ من الوجيفِ وهو سرعةُ السيرِ {مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ} هي ما يركبُ من الإبلِ خاصَّة كما أن الراكبَ عندهم راكبُهَا لا غيرُ وأما راكبُ الفرسِ فإنما يسمُّونه فارساً ولا واحدَ لها من لفظِهَا وإنما الواحدةُ منها راحلةٌ والمعنى ما قطعتُم لها شُقةً بعيدةً ولا لقيتُم مشقةً شديدةً ولا قتالاً شديداً وذلك لأنه كانتْ قُراهم على ميلينِ من المدينةِ فمشَوا إليها مشياً وما كان فيهم راكبٌ إلا النبيُّ عليهِ الصلاةَ والسلام فافتحها صُلحاً من غيرِ أن يجري بينهم مسابقة كأنَّهُ قيلَ وما أفاءَ الله على رسولِهِ منهم فما حصلتُموه بكدِّ اليمينِ وعرقِ الجبينِ {ولكن الله يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَاء} أي سُنَّتهُ تعالَى جاريةٌ على أنْ يسلطَهُم على مَن يَشَاء مِنْ أعدائِهِم تسليطاً خاصَّاً وقد سلَّط النبيَّ عليهِ الصلاةَ والسلامُ على هؤلاءِ تسليطاً غيرَ مُعتادٍ من غيرِ أنْ تقتحموا مضايقَ الخُطُوبِ وتُقَاسُوا شدائِدَ الحروبِ فلا حقَّ لكِم في أموالِهِم {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيفعلُ ما يشاءُ كما يشاءُ تارةً على الوجوهِ المعهودةِ وأُخْرى على غيرِهَا وقوله تعالى

7

{مَّا أَفَاء الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى} بيانٌ لمصارفِ الفيءِ بعدَ بيان إفاءته عليه الصلاة والسلام من غيرِ أن يكونَ للمقاتلةِ فيه حقٌّ وإعادةُ عينِ العبارةِ الأُولى لزيادةِ التقريرِ ووضعُ أهلِ القُرى موضعَ ضميرهم للإشعار بشمول

9 8 مالعقاراتهم {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} اختُلفَ في قسمةِ الفيءِ فقيلَ يُسدَّسُ لظاهرِ الآيةِ ويصرفُ سهمُ الله إلى الكعبةِ وسائرِ المساجدِ وقيلَ يُخَمَّسُ لأن ذكرَ الله للتعظيمِ ويصرفُ الآنَ سهمُ الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الإمامِ على قولٍ وإلى العساكرِ والثغورِ على قولٍ وإلى مصالحِ المسلمينَ على قول وقيل يُخَمَّسُ خمسةً كالغنيمةِ فإنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان يُقسِّمُ الخمسَ كذلكَ ويصرفُ الأخماسَ الأربعةَ كما يشاءُ والآنَ على الخلافِ المذكورِ {كَىْ لاَ يَكُونَ} أي الفيءُ الذي حقُّه أن يكونَ للفقراءِ يعيشونَ به {دُولَةً} بضمِّ الدالِ وقُرِىءَ بفتحِهَا وهيَ ما يدولُ الإنسان أيْ يدورُ من الغِنى والجِدِّ والغلبةِ وقيلِ الدَّولة بالفتح من المِلكِ بكسرِهَا أو بالضَمِّ في المالِ وبالفتحِ في النصرةِ أي كيلا يكونَ جِدَّاً {بَيْنَ الأغنياء مِنكُمْ} يتكاثرونَ به أو كيلاَ يكونَ دولةً جاهليةً بينكُمْ فإنَّ الرؤساءَ منهُم كانُوا يستأثرونَ بالغنيمةِ ويقولونَ مَنْ عَزَّ بَزَّ وقيلَ الدُّولةُ بالضمِّ ما يُتداولُ كالغُرفةِ اسمُ مَا يُغترفُ فالمَعنى كيلا يكونَ الفيْءُ شيئا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعارونه فلا يصيب الفقراء والداولة بالفتحِ بمعنى التداولِ فالمعنَى كيلا يكونَ ذَا تداولٍ بينَهُم أو كيلا يكونَ إمساكُهُ تداولاً بينَهُم لا يخرجونَهُ إلى الفقراءِ وقُرِىءَ دولةٌ بالرفعِ على أنَّ كانَ تامةٌ أيْ كيلاَ يقعَ دولةٌ على ما فُصِّل منَ المعانِي {وَمَا آتاكم الرسول} أي ما أعطاكُمُوه من الفيءِ أو منَ الأمرِ {فَخُذُوهُ} فإنه حقُّكم أو فتمسكُوا به فإنه واجبٌ عليكم {وَمَا نهاكم عَنْهُ} عن أخذِهِ أو عنْ تعاطيهِ {فانتهوا} عنْهُ {واتقوا الله} في مخالفَتِهِ عليه الصلاة والسلام {أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} فيعاقبُ مَنْ يخالفُ أمرَهُ ونهيَهُ

8

{لِلْفُقَرَاء المهاجرين} بدلٌ من الذى القُربى وما عُطفَ عليهِ فإنَّ الرسولَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لا يسمَّى فقيراً ومن أعطى أغنياء ذوِي القُربى خصَّ الإِبدالَ بما بعدَهُ وأما تخصيصُ اعتبارِ الفقرِ بفيءِ بني النضيرِ فتعسفٌ ظاهرٌ {الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن ديارهم وأموالهم} حيثُ اضطرهُم كفارُ مكةَ وأحوجوهم الى االخروج وكانُوا مائةَ رجلٍ فخرجُوا منها {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله ورضوانا} اى طالبين منه تعالى رزقا فى الدنيا ومرضاة في الآخرة وصفوا أولا بما يدل على استحقاقهم للفىء من الإخراج من الديار والأموالِ وقُيِّدَ ذلكَ ثانياً بما يوجبُ تفخيمَ شأنِهِم ويؤكدُهُ {وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ} عطفٌ على يبتغونَ فهيَ حالٌ مقدرةٌ أي ناوينَ لنصرةِ الله تعالى ورسولِه أو مقارِنةٌ فإنَّ خروجَهُم من بين الكفارِ مراغمينَ لهم مهاجرينَ إلى المدينةِ نصرةٌ وأيُّ نصرةٍ {أولئكَ} الموصوفونَ بما فُصل من الصفاتِ الحميدةِ {هُمُ الصادقون} الراسخونَ في الصدقِ حيثُ ظهرَ ذلكَ بما فعلُوا ظهوراً بيناً

9

{والذين تبوؤوا الدار والإيمان} كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ

} 0 لمدحِ الأنصارِ بخصالٍ حميدةٍ من جُملَتِها محبَّتُهُم للمهاجرينَ ورضاهم باختصاص الفئ بهم أحسنَ رِضا وأكملَهُ ومعنى تبوئِهِم الدارَ أنهم اتخذوا المدينةَ والإيمانَ مَبَاءةً وتمكَّنوا فيهما أشدَّ تمكنٍ على تنزيلِ الحالِ منزلةَ المكانِ وقيلَ ضُمِّنَ التبوؤُ ومعنى اللزوم وقيل تبوؤا الدارَ وأخلَصُوا الإيمانَ كقولِ من قال ... علفتها تبنا وماءا بارِداً ... وقيلَ المَعْنَى تبوؤُا دارَ الهجرةِ ودارَ الإيمانِ فحذف المضاف إليهِ منَ الأولِ وعَوِّضَ منه اللامُ وقيلَ سَمَّى المدينةَ بالإيمانِ لكونِهَا مظهَرَهُ ومنشأَهُ {مِن قَبْلِهِمْ} أيْ من قبلِ هجرةِ المهاجرينَ على المعانِي الأُوَلِ ومن قبلِ تبوؤِ المهاجرينَ على الأخيرينِ ويجوزُ أن يُجعلَ اتخاذُ الإيمانِ مباءةً ولزومُهُ وإخلاصُهُ على المعَانِي الأَوَلِ عبارةً عن إقامةِ كافَّةِ حُقوقِهِ التي من جُمْلَتِهَا إظهارُ عامَّةِ شعائرِه وأحكامِهِ ولا ريبَ في تقدمِ الأنصارِ في ذلك على المهاجرينَ لظهورِ عجزِهِم عن إظهارِ بعضِهَا لا عَنْ إخلاصِهِ قلباً واعتقاداً إذْ لا يُتصور تقدُّمهم عليهِمْ في ذلكَ {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} خبرٌ للموصولِ أي يحبونَهُم من حيثُ مهاجَرَتُهُم إليهم لمحبتِهِم الإيمانَ {وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ} أي في نفوسِهِم {حَاجَةً} أي شيئاً محتاجاً إليه يقالُ خُذْ منْهُ حاجتَكَ أي ما تحتاجُ إليهِ وقيلَ إثر حاجةٍ كالطلبِ والحرازة والحسدِ والغيظِ {مّمَّا أُوتُواْ} أى مما أوتى المهاجرون من الفئ وغيرَهِ {وَيُؤْثِرُونَ} أي يقدمونَ المهاجرينَ {عَلَى أَنفُسِهِمْ} في كل شئ من أسبابِ المعاشِ حتى إنَّ من كانَ عندهُ امرأتانِ كان ينزلُ عن إحداهُمَا ويزوجها واحداً منهُم {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أيْ حاجةٌ وخَلَّةٌ وأصلُهَا خَصَاصُ البيتِ وهي فُرجَهُ والجملةُ في حيزِ الحالِ وقدْ عرفتَ وجهَهُ مراراً وكان النبيُّ عليهِ الصلاةَ والسلامُ قسَّم أموالَ بني النضيرِ على المهاجرين ولم يُعطِ الأنصارَ إلا ثلاثةً نفرٍ محتاجينَ أبا دُجَانَةَ سماكَ بنَ خَرَشَةَ وسهلَ بن حنيف والحرث بنَ الصِّمَّةِ وقالَ لهم إنْ شئتُمْ قسمتُم للمهاجرينَ من أموالِكُم وديارِكُم وشاركتُمُوهُم في هذه الغنيمةِ وإن شئتُم كانتْ لكُم ديارُكُم وأموالُكُم ولم يُقسم لكم شئ من الغنيمة فقالت الأنصارُ بلْ نقسمُ لهم من أموالِنَا وديارِنَا ونؤثرهُم بالغنيمةِ ولا نشاركهُم فيهَا فنزلتْ وهذا صريحٌ في أنَّ قولَهُ تعالَى والذينَ تبوؤُا الخ مستأنفٌ غيرُ معطوفٍ على الفقراءِ أو المهاجرينَ نعم يجوزُ عطفُه على أولئكَ فإنَّ ذلكَ إنما يستدْعِي شركةَ الأنصارِ للمهاجرينَ في الصدقِ دونَ الفيءِ فيكونُ قولُهُ تعالى يحبونَ وما عُطفَ عليهِ استئنافاً مقرراً لصدقِهِم أو حالاً من ضميرِ تبوؤُا {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} الشُّح بالضمِّ والكسرِ وقدْ قرئ بهِ أيضاً اللؤمُ وإضافتُهُ إلى النفسِ لأنَّه غريزةٌ فيها مقتضيةٌ للحرصِ على المنعِ الذي هو البخلُ أي ومن يُوقَ بتوفيقِ الله تعالى شُحَّها حتى يخالفَهَا فيما يغلبُ عليها من حُبِّ المالِ وبغضِ الإنفاقِ {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ باعتبارِ معناها العامِّ المنتظمِ للمذكورينَ انتظاماً أولياً {هم المفلحون} الفائزون بكل مطلوب الناجون عن كل مكروهٍ والجملةُ اعتراضٌ واردٌ لمدحِ الأنصارِ والثناءِ عليهم وقرئ يوق بالتشديد

10

{والذين جاؤوا مِن بَعْدِهِمْ} هم الذينَ

} 1 1 { هاجرُوا بعد ما قَوِيَ الإسلامُ أو التابعونَ بإحسانٍ وهم المؤمنونَ بعد الفريقينِ إلى يومِ القيامةِ ولذلك قيلَ إن الآيةَ قد استوعبتْ جميعَ المؤمنينَ وأياً ما كان فالموصولُ مبتدأٌ وخبره {يَقُولُونَ} الخ والجملةُ مسوقةٌ لمدحِهِم بمحبَّتِهِم لمنْ تقدَمَهُم من المؤمنينَ ومراعاتِهِم لحقوقِ الأخوةِ في الدينِ والسبقِ بالإيمانِ كما أنَّ ما عُطفتْ عليه من الجملةِ السابقةِ لمدحِ الأنصارِ أيْ يدعونَ لهم {رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا} أيْ في الدينِ الذي هُو أعزُّ وأشرفُ عندهُم من النسبِ {الذين سَبَقُونَا بالإيمان} وصفُوهُم بذلكَ اعترافاً بفضلِهِم {وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ} وقرئ غِمْراً وهُمَا الحقدُ {لِلَّذِينَ آمنوا} على الإطلاقِ {رَبَّنَا إِنَّكَ رؤوف رحيم} أي مبالغ في الرأفةِ والرحمةِ فحقيقٌ بأنْ تجيبَ دُعاءَنَا

11

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا} حكايةٌ لِمَا جَرى بينَ الكفرةِ والمنافقينَ من الأقوالِ الكاذبةِ والأحوالِ الفاسدةِ وتعجيبٌ منها بعد حكايةِ محاسنِ أحوالِ المؤمنينَ وأقوالِهِم على اختلافِ طبقاتِهِمْ والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن له حظٌّ من الخطاب وقولِهِ تعالى {يَقُولُونَ} الخ استئنافٌ لبيانِ المتعجَّبِ منهُ وصيغة المضارع للدلالة على استمرارا قولِهِم أو لاستحضارِ صورتِهِ واللام في قوله تعالى {لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} للتبليغِ والمرادُ بأخوَّتِهِم إما توافُقُهُم في الكفرِ أو صداقَتُهُم وموالاتُهُمْ واللام في قوله تعالى {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} أي من دياركم قسرا موطئةٌ للقسمِ وقولُه تعالى {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} جوابُ القسمِ أيْ والله لئِنْ أُخْرجتُم لنخرجنَّ معكم البتةَ ونذهبنَّ في صُحْبَتكم أينما ذهبتُم {وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ} أيْ في شأنِكُمْ {أَحَدًا} يمنعنا منَ الخروجِ معكُم {أَبَدًا} وإنْ طالَ الزمانُ وقيلَ لا نطيعُ في قتالِكُم أو خذلانِكُم وليسَ بذاكَ لأن تقديرَ القتالِ مترقبٌ بعد ولأن وعدَهُم لهم على ذلك التقديرِ ليسَ مجردَ عدمِ طاعتِهِم لمن يدعُوهُم إلى قتالهِم بل نصرتَهُم عليهِ كما ينطقُ به قولُهُ تعالى {وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} أي لنعاونَنَّكُم على عدوِّكم على أن دعوتَهُم إلى خذلانِ اليهودِ مما لا يمكنُ صدورُه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمينَ حتى يدَّعوا عدمَ طاعتِهِم فيها ضرورةَ أنَّها لو كانَتْ لكانَتْ عند استعدادِهِم لنصرتِهِم وإظهارِ كفرِهِم ولا ريب في أن ما يفعله عليه الصلاةُ والسلامُ عند ذلكَ قتلَهُم لا دعوَتَهُم إلى تركِ نصرتِهِم وأما الخروجُ معهم فليسَ بهذه المرتبةِ من إظهارِ الكفرِ لجوازِ أن يدَّعوا أن خروجَهُم معهم لما بينَهُم من الصداقةِ الدنيويةِ لا للموافقةِ في الدينِ {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبون} في مواعيدِهِم المؤكدةِ بالأيمانِ الفاجرةِ وقولُهُ تعالى

12

{لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ} الخ تكذيبٌ لهم في كلِّ واحدٍ

} 5 1 { من أقوالِهِم على التفصيلِ بعدَ تكذيبِهِم في الكُلِّ على الإجمالِ {وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ} وكانَ الأمرُ كذلك فإنَّ ابْنَ أُبيّ وأصحابَهُ أرسلُوا إلى بَنِي النضيرِ ذلكَ سراً ثم أخلفُوهُم وفيه حجةٌ بينةٌ لصحةِ النبوة وإعجازِ القرآنِ {وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ} على الفرضِ والتقديرِ {لَيُوَلُّنَّ الأدبار} فراراً {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} أي المنافقونَ بعد ذلكَ أي يهلكهم الله ولا ينفهم نفاقُهُم لظهورِ كفرِهِم أو ليَهْزُمَنَّ اليهودُ ثم لا ينفعهم نصرة المنافين بعد ذلك

13

{لاَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً} أي أشدُّ مرهوبيةً على أنها مصدرٌ من المبنيِّ للمفعولِ {فِى صُدُورِهِمْ مّنَ الله} أي رهبتُهُم منكُم في السرِّ أشدُّ مما يظهرونَهُ لكم من رهبةِ الله فإنهم كانُوا يدَّعونَ عندَهُم رهبةً عظيمةً من الله تعالى {ذلك} أي ما ذُكِرَ من كونِ رهبتِهِم منكُم أشدَّ من رهبةِ الله {بِأَنَّهُمْ} بسببِ أنَّهُم {قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} أيْ شيئاً حتى يعلمُوا عظمةَ الله تعالى فيخشَوه حقَّ خشيتِهِ

14

{لاَ يقاتلونكم} أي اليهودَ والمنافقونَ بمعنى لا يقدرونَ على قتالِكُم {جَمِيعاً} أي مجتمعينَ متفقينَ في موطنٍ من المواطنِ {إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ} بالدروبِ والخنادقِ {أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ} دونَ أنْ يصحرُوا لكُم ويبارزُوكم لفرطِ رهبتِهِم وقُرِىءَ جُدْرٍ بالتخفيفِ وقُرِىءَ جِدَارٍ وبإمالةِ فتحةِ الدالِ وجَدْرِ وجدر وهما الجدارُ {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} استئنافٌ سيقَ لبيانِ أن ما ذُكر من رهبتم ليسَ لضعفِهِم وجبنِهِم في أنفسِهِم فإنَّ بأسَهُم بالنسبة إلى أقرانِهِم شديدٌ وإنما ضعفُهُم وجبنُهُم بالنسبةِ إليكُم بما قذفَ الله تعالَى في قلوبَهُم من الرعبِ {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً} مجتمعينَ متفقينَ {وَقُلُوبُهُمْ شتى} متفرقةٌ لا أُلفةَ بينها {ذلك} أي ما ذكر منْ تشتتِ قلوبِهِم بسببِ أنَّهُم {قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} أي لا يعقلونَ شيئاً حتَّى يعرفُوا الحقَّ ويتبعُوه وتطمئنَ به قلوبُهُم وتتحدَ كلمتُهُم ويرمُوا عن قوسٍ واحدةٍ فيقعونَ في تيهِ الضلال وتتشتت قلوبِهِم حسبَ تشتتِ طرقِهِ وتفرقِ فنونِهِ وأمَّا ما قيل من أن المعنى لا يعقلونَ أنَّ تشتتَ القلوبِ مما يُوهِنُ قُواهُم فبمعزلٍ منَ السدادِ وقولُهُ تعالَى

15

{كمثل الذين من قبلهم} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ تقديرُه مثلُهم أيْ مثلُ المذكورينَ من اليهودِ والمنافقينَ كمثلِ أهلِ بدرٍ أو بني قَينُقَاع على ما قيلَ أنهم أُخرِجُوا قبلَ بني النضيرِ {قَرِيبًا} في زمانٍ قريب وانتصابه بمثل ذا التقديرُ كوقوعِ مثلِ الخ {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي سوءَ عاقبةِ كُفرِهِم في الدنيا {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} لا يُقادرُ قَدْرُهُ والمَعْنَى أنَّ حالَ هؤلاءِ كحالِ أولئكَ في الدُّنيا والآخرةِ لكنْ لا على أنَّ حالَ كُلِّهم كحالِهِم بلْ حالُ بعضِهِم الذينَ هم اليهودُ كذلكَ وأما حالُ المنافقينَ فهيَ ما نطقَ به

} 6 19 قولُه تعالى

16

{كَمَثَلِ الشيطان} فإنَّه خبرٌ ثانٍ للمبتدأ المقدرِ مبينٌ لحالِهِم متضمنٌ لحالٍ أُخْرَى لليهود وهى اغترارهم بمقابلة المنافقينَ أولاً وخيبتُهُم آخِراً وقد أُجْمِلَ في النظمِ الكريمِ حيثُ أُسنِدَ كلٌّ من الخبرينِ إلى المقدرِ المضافِ إلى ضميرِ الفريقينِ منْ غير تعيينِ ما أُسْنِدَ إليهِ بخصوصِهِ ثقةً بأنَّ السامعَ يردُّ كلاً من المثلينِ إلى ما يماثلُهُ كأنَّهُ قيلَ مثلُ اليهودِ في حلولِ العذابِ بهم كمثلِ الذينَ منْ قبلِهِم الخ ومثلُ المنافقينَ في إغرائِهِم إيَّاهُم على القتالِ حسبما نُقِلَ عنهُم كمثلِ الشيطانِ {إِذْ قَالَ للإنسان اكفر} أيْ أغراهُ على الكفرِ إغراءِ الآمرِ الأمور على المأمورِ بهِ {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّى بَرِىء منك} وقرئ أنا برئ منكَ إنْ أريدَ بالإنسانِ الجنسُ فهذَا التبرؤُ منَ الشيطانِ يكونُ يومَ القيامةِ كما ينبئ عنْهُ قولُه تعالى {إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين} وإنْ أُرِيدَ بهِ أبو جهلٍ فقولُهُ تعالى اكفر عبارةٌ عنْ قولِ إبليسِ يومَ بدرٍ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ وتبرؤه قوله يومئذ إنى برئ مّنْكُمْ إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخَافُ الله الآيةَ

17

{فَكَانَ عاقبتهما} بالنَّصبِ على أنَّه خبرُ كانَ واسمُهَا {أنهما في النار} وقرئ بالعكسِ وقد مرَّ أنه أوضح {خالدين فيها} وقرئ خالدانِ فيها عَلى أنه خبرُ أنَّ وفي النارِ لغوٌ {وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين} أي الخلودُ في النارِ جزاءُ الظالمينَ على الإطلاقِ دون هؤلاء خاصة

18

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اتقوا الله} أي في كل ما تأتون وما تذرونَ {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أيْ أيُّ شئ قدمَتْ من الأعمالِ ليومِ القيامةِ عبرَ عنْهُ بذلكَ لدنوِّهِ أو لأن الدنيا كيوم والآخرة غَدُهُ وتنكيرُهُ لتفخيمِه وتهويلِه كأنه قيلَ لغدٍ لا يُعرفُ كنهُهُ لغايةِ عظمِه وأما تنكيرُ نفسٍ فلاستقلالِ الأنفسِ النواظرِ فيما قدَّمن لذلكَ اليومَ الهائلِ كأنه قيلَ ولتنظُر نفسٌ واحدةٌ ذلكَ {واتقوا الله} تكريرٌ للتأكيدِ أو الأولُ في أداءِ الواجباتِ كما يُشعرُ به ما بعدَهُ من الأمر بالعمل وهذا تركِ المحارمِ كما يُؤذنُ بهِ الوعيدُ بقولِهِ تعالَى {أَنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي من المعاصِي

19

{وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله} أي نَسُوا حقوقَهُ تعالَى وما قدرُوه حقَّ قدرِهِ ولم يراعُوا مواجبَ أوامرِهِ ونواهِيه حقَّ رعايتِهَا {فأنساهم} بسببِ ذلكَ {أَنفُسِهِمْ} أي جعلَهُم ناسينَ لها حتَّى لم يسمعُوا ما ينفعُها ولم يفعَلُوا ما يخلِّصُهَا أو أراهُم يومَ القيامةِ من الأهوالِ ما أنساهُم أنفسَهُم {أُولَئِكَ}

} 3 20 هُمُ {الفاسقون} الكاملونَ في الفسوقِ

20

{لاَ يَسْتَوِى أصحاب النار} الذينَ نسُوا الله تعالَى فاستحقُّوا الخلودَ في النارِ {وأصحاب الجنة} الذينَ اتَقوا الله فاستحقُّوا الخلودَ في الجنة ولعلَّ تقديمَ أصحابِ النارِ في الذكرِ للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ المقصور الذي ينبىءُ عنه عدمُ الاستواءِ من جهتِهِم لا من جهةِ مقابلِيهِم فإن مفهومَ عدمِ الاستواءِ بين الشيئينِ المتفاوتينِ زيادةً ونقصاناً وإن جازَ اعتبارُهُ بحسبِ زيادةُ الزائدِ لكنْ المتبادرُ اعتبارُهُ بحسبِ نقصانِ الناقصِ وعليهِ قولُه تعالى هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير أَمْ هل يستوى الظلمات والنور إلى غيرِ ذلك منَ المواقعِ وأما قولُهُ تعالى هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ فلعلَّ تقديمَ الفاضلِ فيهِ لأنَّ صلتَه ملكةٌ لصلةِ المفضولِ والاعدامُ مسبوقةٌ بملكاتِهَا وَلاَ دلالةَ في الآيةِ الكريمةِ على أنَّ المسلمَ لا يقتص بالكافرون وأنَّ الكفارَ لا يملكونَ أموالَ المسلمينَ بالقهرِ لأنَّ المرادَ عدمُ الاستواءِ في الأخرويةِ كما ينبىءُ عنه التعبيرُ عن الفريقينِ بصاحبيةِ النار وصاحبتيه الجنَّةِ وكذا قولُهُ تعالى {أصحاب الجنة هُمُ الفائزون} فإنه استئناف مبين لكيفية عدمِ الاستواءِ بينَ الفريقينِ أي هُم الفَائزون بكلِّ مطلوب الناجون عن كل مكروهٍ

21

{لو أنزلنا هذا القرآن} العظيمَ الشأنِ المنطويَ على فنونِ القوارعِ {على جَبَلٍ} من الجبالِ {لَّرَأَيْتَهُ} مع كونِهِ عَلماً في القسوةِ وعدمِ التأثرِ مما يصادِمُهُ {خاشعا مُّتَصَدّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله} أي متشققاً منها وقُرِىءَ مُصَدَّعاً بالإدغامِ وهذا تمثيلٌ وتخييلٌ لعلوِّ شأنِ القرآنِ وقوةِ تأثيرِ ما فيهِ من المواعظِ كما ينطق به قوله تعالى {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أُريدَ به توبيخَ الإنسانِ على قسوةِ قلبهِ وعدم تخشعِهِ عندَ تلاوتِهِ وقلةِ تدبرِهِ فيه

22

{هُوَ الله الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ} وَحْدَهُ {عالم الغيب والشهادة} أي ما غابَ عن الحسِّ من الجواهر القدسية وأحالها وما حضرَ لهُ من الأجرام وأعراضاها وتقديمُ الغيبِ على الشهادةِ لتقدمِهِ في الوجودِ وتعلقِ العلمِ القديمِ به أو المعدُوم والموجودُ أو السرُّ والعلانيةُ {هُوَ الرحمن الرحيم}

23

{هُوَ الله الذى لاَ إله إِلاَّ هُوَ} كُرِّرَ لإبرازِ الاعتناءِ بأمرِ التوحيدِ {الملك القدوس} البليغُ في النزاهةِ عما يوجبُ نُقْصاناً وقُرِىءَ بالفتحِ وهي

} 4 لغةٌ فيهِ {السلام} ذُو السلامةِ من كلِّ نقصٍ وآفةٍ مصدرٌ وصفَ بهِ للمبالغةِ {المؤمن} واهبُ الأمنِ وقُرِىءَ بالفتحِ بمَعْنَى المُؤْمَنُ بهِ على حذفِ الجارِّ {المهيمن} الرقيبُ الحافظُ لكلِّ شيءٍ مُفَيْعِلٌ منْ الأمن بقلبِ همزتِهِ هاءً {العزيز} الغالبُ {الجبار} الذي جبرَ خلقَهُ على ما أرادَ أو جبرَ أحوالَهُم أي أَصْلَحَها {المتكبر} الذي تكبرَ عن كلِّ ما يوجبُ حاجةً أو نُقصاناً أو البليغُ الكبرياءِ والعظمةِ {سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} تنزيهٌ له تعالَى عمَّا يُشركونه به تعالى أو عن إشراكِهِم به تعالى إثرَ تعدادِ صفاتِهِ التي لا يمكِنُ أنْ يشارِكَهُ تعالَى في شيءٍ منها شيءٌ ما أصلاً

24

{هُوَ الله الخالق} المقدرُ للأشياءِ على مُقتضى حكمتِهِ {البارئ} الموجدُ لها بريئاً منَ التفاوتِ وقيلَ المميزُ بعضَهَا من بعضٍ بالأشكالِ المختلفةِ {المصور} الموجد لصورها وكيفيتها كما أرادَ {لَهُ الأسماء الحسنى} لدلاتها على المعانِي الحسنةِ {يُسَبّحُ له ما في السماوات والأرض} ينطقُ بتنزههِ تعالَى عن جميع النقائض تنزهاً ظاهراً {وَهُوَ العزيز الحكيم} الجامعُ للكمالاتِ كافةً فإنها معَ تكثرِهَا وتشعبها راجعةٌ إلى الكمالِ في القدرةِ والعلمِ عن النبيِّ عليه الصلاةَ والسلام من قرأَ سورةَ الحشرِ غفرَ الله لهُ ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر

{بسم الله الرحمن الرحيم}

الممتحنة

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} نزلتْ في حاطبِ ابنِ أبي بَلْتَعةَ وذلكَ أنَّه لمَّا تجهزَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لغزو الفتحِ كتبَ إلى أهلِ مكةٍ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يريدُكُم فخُذُوا حذْرَكُم وأرسلَهُ مع سارةَ مولاةِ بني المطلبِ فنزلَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ بالخبرِ فبعثَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً وطلحةَ والزبيرَ والمقدادَ وأبا مرثدٍ وقالَ انطلقُوا حتى تأتُوا روضةَ خاخٍ فإنَّ بها ظعينةً معها كتب حاطبٍ إلى أهلِ مكةَ فخذُوه منهَا وخلُّوها فإنْ أبتْ فاضربُوا عنقَهَا فأدركُوهَا ثمةَ فجحدتْ فسلَّ عليٌّ سيفَهُ فأخرجْتَهُ من عقاصِهَا فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً وقال ما حملكَ على هَذا فقالَ يا رسولَ الله ما كفرتُ منذ أسلمتُ ولا غششتكَ منذُ نصحتكَ ولكني كنتُ أمرأ ملصَقاً في قريشٍ وليسَ لي فيهم مَنْ يحمي أَهْلِي فأردتُ أن آخذَ عندهُم يداً وقد علمتُ أن كتابي لن يغنة عنهُم شيئاً فصدَّقَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقبلَ عذرَهُ {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} أى توصلون إليم على أن الباء زائدة كما في قوله تعالى وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة أو تلقونَ إليهم أخبارَ النبيِّ عليهِ الصلاةَ والسلامُ بسببِ المودَّةِ التي بينكُم وبينَهُم والجملةُ إما حالٌ من فاعل لا تتخِذُوا أو صفةٌ لأولياءَ وإبرازُ الضميرِ في الصفاتِ الجاريةِ على غيرِ مَنْ هيَ لهُ إنما يُشترطُ في الإسمِ دونَ الفعلِ أو استئنافٌ {وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الحق} حالٌ من فاعلِ تلقونَ وقيل من فعل لا تتخذُوا وقُرِىءَ لِمَا جاءَكُم أي كفرُوا لأجلِ ما جاءكُم بمعنى جعلِ ما هو سببُ الإيمانِ سبباً للكفرِ {يُخْرِجُونَ الرسول وإياكم} أي منْ مكةَ وهو إما حالٌ من فاعلِ كفرُوا أو استئنافٌ مبينٌ لكفرِهِم وصيغةُ المضارعِ لاستحضارِ الصُّورَةِ وقولِهِ تعالى {أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبّكُمْ} تعليل للإخراج فيه تغليل المخاطبِ على الغائبِ والتفاتٌ منَ التكلمِ إلى الغَيبة للإشعارِ بما يوجبُ الإيمانَ من الأُلوهيةِ والرُّبوبيةِ

{إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وابتغاء مَرْضَاتِى} متعلقٌ بلا تتخذُوا كأنَّه قيلَ لا تتولَّوا أعدائِي إن كُنتُم أوليائِي وقولُهُ تعالى {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة} استئنافٌ واردٌ على نهجِ العتابِ والتوبيخِ أي تُسرونَ إليهِم المودَّةَ أو الأخبارَ بسببِ المودَّةِ {وَأَنَاْ أَعْلَمُ} أيْ والحالُ أنِّي أعلمُ منكُم {بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ} ومُطْلعٌ رسولِي عَلى ما تسرونَ فأيُّ طائلٍ لكم في الإسرارِ وقيلَ أعلمُ مضارعٌ والباءُ مزيدةٌ وما موصلة أو مصدريةٌ وتقديمُ الإخفاءِ على الإعلانِ قد مرَّ وجهُه في قولِهِ تعالى يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ {وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ} أي الاتخاذَ {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل} فقد أخطأَ طريق الحقَّ والصوابَ

2

{إِن يَثْقَفُوكُمْ} أيْ إنْ يظفر وا بكُم {يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء} أي يُظهروا ما في قلوبِهِم منَ العداوةِ ويرتبُوا علَيها أحكامَهَا {وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء} بمَا يسُوؤكم من القتلِ والأسرِ والشتمِ {وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ} أي تمنَّوا ارتدادكُم وصيغةُ الماضى للإيذان بتحقيق ودادتِهِم قبل أن يثقفُوهُم أيضاً

3

{لن تنفعكم أرحامكم} قرباتكم {وَلاَ أولادكم} الذين توالونَ المشركينَ لأجلِهِم وتتقربُونَ إليهِم محاماةً عليهِم {يَوْمُ القيامة} بجلبِ نفعٍ أو دفعِ ضرَ {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} استئنافٌ لبيانَ عدمِ نفعِ الأرحامِ والأولادِ يومئذٍ أي يفرق الله بينكم بما اعتراكُم من الهولِ الموجبِ لفرارِ كلِّ منكُم من الآخرِ حسبما نطق به قوله تعالى يَوْمَ يَفِرُّ المرء من أخيه الآية فمالكم ترفضونَ حقَّ الله تعالى لمراعاةِ حقِّ منْ هَذا شأنُهُ وقُرِىءَ يُفْصَل ويفصَّل مبينا للمفعول ويفصل يفصل مبينا للفاعلِ وهُو الله تعالَى ونفصِل ونفصِّل بالنون {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكُم بهِ

4

{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أيْ خصلةٌ حميدةٌ حقيقةٌ بأنْ يُؤتَسَى ويُقْتَدى بهَا وقولُهُ تعالَى {فِى إبراهيم والذين مَعَهُ} أي منْ أصحابِهِ المؤمنينَ صفةٌ ثانيةٌ لأسوةٌ أو خبرٌ لكانَ ولكُم للبيانِ أو حالٌ من المستكنِّ في حسنةٌ أو صلةٌ لها لا لأسوةٌ عندَ من لا يجوزُ العملَ بعدَ الوصفِ {إِذْ قَالُواْ}

5 ظرفٌ لخبرِ كَان {لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بَرَاء مّنكُمْ} جمعُ برئ كظريف وظرفاء وقرئ بِراءٌ كظِرافٍ وبُراءٍ كرُخالٍ وبَرَاءٌ على الوصفِ بالمصدرِ مبالغةً {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} من الأصنام {كَفَرْنَا بِكُمْ} أي بدينِكُم أو بمعبودِكُم أو بِكُم وبهِ فلا نعتدُّ بشأنِكُم وبآلِهَتِكُم {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء أَبَداً} أيْ هَذا دأبُنَا معكُم لا نتركُهُ {حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ} وتتركُوا ما أنتُمْ عليهِ من الشركِ فتنقلبُ العداوةُ حينئذٍ ولايةً والبغضاءُ محبةً {إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} استثناءٌ من قولِهِ تعالى أسوةٌ حسنةٌ فإنَّ استغفارِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لأبيهِ الكافرِ وإنْ كانَ جائزاً عقلاً وشرعاً لوقوعِهِ قبل تبينِ أنَّهُ من أصحابِ الجحيمِ كما نطقَ به النصُّ لكنَّهُ ليسَ ممَّا ينبغِي أنْ يُؤتسى بهِ أصلاً إذ المرادُ بهِ ما يجبُ الائتساءُ بهِ حتماً لورودِ الوعيدِ على الإعراضِ عنه بما سيأتي من قولِه تعالى وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد فاستثناؤهُ من الأسوةِ إنما يفيدُ عدمَ وجوبِ استدعاءِ الإيمانِ والمغفرةِ للكافرِ المرجوِّ إيمانُهُ وذلكَ مما لا يرتابُ فيه عاقلٌ وأما عدم وأما عدمُ جوازِهِ فلا دِلالةَ للاستثناءِ عليهِ قطعاً هذا وأما تعليلُ عدمِ كونِ استغفارِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لأبيهِ الكافرِ مما ينبغي أنْ يُؤتَسى بهِ بأنَّه كانَ قبل النَّهيِ أو لموعِدة وعَدَهَا إياهُ فبمعزلٍ منَ السَّداد بالكلية لابتنائه على تناول النَّهي لاستغفارِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ له وإنبائِهِ عن كونِهِ مُؤْتَسَى به لو لم يُنْهَ عنه وكلاهما بين البلان لما أنَّ موردَ النَّهي هو الاستغفارُ للكافر بعد تبين أمرِهِ وقد عرفتَ أن استغفارِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لأبيهِ كان قبلَ ذلكَ قطعاً وأنَّ ما يُؤْتَسَى به ما يجبُ الائتساءُ بهِ لا ما يجوزُ فعلُهُ في الجملة وتجويزُ أن يكونَ استغفارِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ له بعدَ النَّهيِ كما هو المفهومُ من ظاهر قوله أو لموعِدة وعدها إياه مما لا مساغَ له وتوجيهُ الاستثناءِ إلى العِدَة بالاستغفارِ لا إلى نفسِ الاستغفار بقوله اغفر لاِبِى الآيةَ لأنها كانَتْ هي الحاملةَ لهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامَ على الاستغفارِ وتخصيصُ هذهِ العِدَة بالذكر دون ما وقع في سورة مريمَ من قوله تعالى سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي لورودها على طريق التوكيدِ القسَميّ وأما جعلُ الاستغفارِ دائراً عليها وترتيبُ التبرُّؤ على تبين الأمرِ فقد مر تحقيقه في سورة التوبةِ وقولِهِ تعالى {وَمَا أملِك لَكَ مِنَ الله مِن شَىْء} من تمامِ القولِ المُستثنى محلُّه النصبُ على أنه حال من فاعل لأستغفرنَّ لكَ أي أستغفرُ لكَ وليسَ في طاقتِي إلا الاستغفارُ فموردُ الاستثناءِ نفسُ الاستغفارِ لا قيدُهُ الذي هُو في نفسه من خصال الخيرِ لكونِه إظهاراً للعجزِ وتفويضاً للأمرِ إلى الله تعالَى وقولُهُ تعالَى {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير} الخ من تمام ما نُقلَ عن إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ ومنْ معَهُ منَ الأسوةِ الحسنةِ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ لقصرِ التوكلِ والإنابةِ والمصيرِ على الله تعالَى قالُوهُ بعدَ المُجَاهَرَةِ وقشرِ العَصَا التجاءً إلى الله تعالَى في جميعِ أمورِهِم لا سيما في مدافعةِ الكفرةِ وكفايةِ شرورِهِم كما ينطق به قوله تعالَى

5

{رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} بأنْ تسلطَهُم علَيْنَا فيفتنونَا بعذابٍ لا نطيقُهُ {واغفر لَنَا} ما فرط منا من العذاب {رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ العزيز} الغَالِبُ الذي لاَ يَذِلُّ

من التجأَ إليهِ ولاَ يخيبُ رجاءُ مَنْ توكَّلَ عليهِ {الحكيم} الذي لاَ يفعلُ إلا ما فيهِ حكمةٌ بالغةٌ وتكريرُ النداءِ للمبالغةِ في التضرعِ والجؤارِ هَذا وأما جعلُ الآيتينِ تلقيناً للمؤمنينَ من جهتِهِ تعالَى وأَمراً لهم بأنْ يتوكلُوا عليهِ وينيبُوا إليهِ ويستعيذُوا بهِ من فتنةِ الكفرةِ ويستغفُرُوا مما فرطَ منهم تكملةً لما وصَّاهُم بهِ من قطعِ العلائقِ بينهُمْ وبينَ الكفرةِ فلا يساعدُهُ النظمُ الكريمُ

6

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} أي في إبراهيمَ ومن مَعَهُ {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} تكريرٌ للمبالغةِ في الحثِّ على الائتساءِ به عليهِ الصلاةُ والسلامُ ولذلكَ صُدرَ بالقسمِ وقولُهُ تعالى {لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الأخر} بدلٌ من لكُم فائدَتُهُ الإيذانُ بأنَّ مَن يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخرِ لا يتركُ الاقتداءَ بهم وأنَّ تركَهُ منْ مخايل عدمِ الإيمان بهما كما ينبئ عنه قولُهُ تعالَى {وَمِنَ يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد} فإنَّهُ مما يوعَدُ بأمثالِهِ الكفرةُ

7

{عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم} أي منْ أقاربكم المشركين {مودة} بأن يوافقكم في الدين وعدهم الله تعالى بذلكَ لِما رأى منهم من التصلبِ في الدينِ والتشددِ لله في معاداةِ آبائِهِم وأبنائِهِم وسائِرِ أقربائِهِم ومقاطعَتِهِم إيَّاهُم بالكليةِ تطيبا لقلوبِهِم ولقد أنجزَ وعدَهُ الكريمَ حينَ أتاحَ لهم الفتحَ فأسلمَ قومُهُمْ فتمَّ بينَهُم من التحابِّ والتَّصافِي ما تمَّ {والله قَدِيرٌ} أي مبالغٌ في القُدرةِ فيقدرُ على تقليبِ القلوبِ وتغييرِ الأحوالِ وتسهيلِ أسبابِ المودَّةِ {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيغفرُ لمن أسلمَ منَ المشركينَ ويرحمُهُم وقيلَ غفورٌ لما فرطَ منكُم في موالاتِهِم مِن قبلُ ولِمَا بقِيَ في قلوبِكُم من ميلِ الرحمِ

8

{لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم} أي لا ينهاكُم عن البرِّ بهؤلاءِ فإنَّ قولَهُ تعالى {أَن تَبَرُّوهُمْ} بدلٌ من الموصولِ {وَتُقْسِطُواْ إليهم} أى تفضوا إليهم بالقسطِ أي العدلِ {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} أي العادلينَ رُويَ أنَّ قُتيلةَ بنتَ عبدِ العُزَّى قدمتْ مشركةً على بنتِهَا أسماءُ بنتِ أبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ بهدايَا فلم تقبلْها ولم تأذنْ لَها بالدخولِ فنزلتْ فأمرَها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ تُدخلَها وتقبلَ منْهَا وتُكرمَها وتُحسنَ إليها وقيلَ المرادُ بهم خزاعةُ وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلُوه ولا يعينوا عليهِ

9

{إِنَّمَا ينهاكم الله عَنِ الذين قاتلوكم فِى الدين وَأَخْرَجُوكُم مّن دياركم} وهم عتاةُ أهلِ مكةَ

} 0 {وظاهروا على إخراجكم} وهم سائرُ أهلِها {أَن تَوَلَّوْهُمْ} بدل اشتمال من الوصول أي إنما ينهاكُم عن تتولهم {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} لوضعهم الولايةَ في موضعِ العداوةِ أو هم الظالمونَ لأنفسِهِم بتعريضِها للعذابِ

10

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ} بيانٌ لحكمِ من يُظهرُ الإيمانَ بعدَ بيانِ حُكم فريقي الكافرينِ {إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات مهاجرات} من بينِ الكفار {فامتحنوهن} فاختبروهم بما يغلبُ على ظَنِّكم موافقة قلوبهنَّ للسانِهنَّ في الإيمانِ يُروى أنَّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يقولُ للتي يمتحنُهَا بالله الذي لا إلَه إِلاَّ هُو ما خرجتِ من بغضِ زوجٍ بالله ما خرجتِ رغبةً عن أرضٍ إلى أرضٍ بالله ما خرجتِ التماسَ دُنيا بالله ما خرجتِ إلا حباً لله ورسولِه {الله أَعْلَمُ بإيمانهن} لأنَّه المطلعُ على ما في قلوبهنَّ والجملةُ اعتراضٌ {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ} بعدَ الامتحانِ {مؤمنات} علماً يمكنكم تحصيلُه وتبلغُه طاقتُكم بعد اللتيا واللتى من الاستدلال بالعلائمِ والدلائلِ والاستشهادِ بالأماراتِ والمخايلِ وهو الظنُّ الغالبُ وتسميتُه علماً للإيذانِ بأنه جارٍ مجرى العلمِ في وجوبِ العملِ به {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} أي إلى أزواجِهِنَّ الكفرةِ لقولهِ تعالى {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فإنَّه تعليلٌ للنهي عن رجعهنَّ إليهمِ والتكريرُ إما لتأكيدِ الحرمةِ أو لأنَّ الأولَ لبيانِ زوالِ النكاحِ الأولِ والثانيَ لبيانِ امتناعِ النِّكاحِ الجديدِ {وَأَتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ} أي وأعطُوا أزواجهنَّ مثلَ ما دفعُوا إليهنَّ من المهورِ وذلكَ أنَّ صلحَ الحديبيةِ كانَ على أنَّ من جاءنا منكم ورددناه فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة والنَّبيُّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بالحديبية فأقبل زوجها مسافرٌ المخزوميُّ وقيلَ صيفيُّ بنُ الراهبِ فقال يا محمدُ ارددْ عليَّ امرأتِي فإنكَ قد شرطتَ أن تردَّ علينا من أتاكَ منا فنزلتْ لبيانِ أن الشرطَ إنما كانَ في الرجالِ دُونَ النساءِ فاستحلفَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فحلفتْ فأَعطى زوجَها ما أنفقَ وتزوجَها عمرُ رضيَ الله عنهُ {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن تَنكِحُوهُنَّ} فإنَّ إسلامَهُنَّ حالَ بينهنَّ وبينَ أزواجهن الكفار {إذا آتيتموهن أُجُورَهُنَّ} شُرطَ إيتاءُ المهرِ في نكاحهنَّ إيذاناً بأنَّ ما أُعطَى أزواجُهُنَّ لا يقومُ مقامَ المَهْرِ {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} جمعُ عصمةٍ وهي ما يُعتصم به من عقدٍ وسببٍ أيْ لا يكُنْ بينكُم وبين المشركات ولا عُلقةٌ زوجيةٌ قال ابن عباس رضي الله عنهُمَا من كانتْ له امرأة كافرة بمكة ة فلا يعتدنَّ بها من نسائِهِ لأنَّ اختلافَ الدارينِ قطعَ عصمتَها منْهُ وعنِ النخعى رحمه الله هيَ المسلمةُ تلحقُ بدارِ الحربِ فتكفُرُ وعن مجاهدٍ أمرهُم بطلاقِ الباقياتِ مع الكفار ومفارقتهن وقرىء ولاتمسكوا بالتشديد ولا تَمسّكوا بحذف إحدى

} 2 1 { التاءين من تتمسكوا {واسألوا مَّآ أَنفَقْتُمْ} من مهورِ نسائكم للاحقات بالكفار {وليسألوا مَآ أَنفَقُواْ} من مهورِ أزوزاجهم المهاجراتِ {ذلكم} الذي ذُكِرَ {حُكْمُ الله} وقولُه تعالَى {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} كلامٌ مستأنفٌ أو حالٌ من حكمِ الله على حذفِ الضميرِ أي يحكمُه الله أو جعل لكم حاكماً على المبالغةِ {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يشرعُ ما تقتضيهِ الحكمةُ البالغةُ رُوي أنَّه لمَّا نزلتْ الآية أدَّى المؤمنونَ ما أُمروا بهِ من مهورِ المهاجراتِ إلى أزواجهنَّ المشركينَ وأبى المشركونَ أنْ يؤدُوا شيئاً من مهورِ الكوافرِ إلى أزواجِهنَّ المسلمينَ فنزلَ قولُه تعالى

11

{وَإِن فَاتَكُمْ} أي سبقكُم وانفلتَ منكُم {شَىْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار} أي أحدٌ من أزواجِكم وقد قُرِىءَ كذلكَ وإيقاعُ شيءٌ موقعَهُ للتحقيرِ والإشباعِ في التعميمِ أو شيءٌ من مهورِ أزواجِكم {فعاقبتم} أي فجاءتُ عقبتُكم أي نوبتُكم من أداءِ المهرِ شبه ما حَكَم بهِ على المسلمينَ والكافرينَ من أداءِ هؤلاء مهورِ نساءِ أولئكَ تارةً وأداءِ أولئكَ مهورَ نساءِ هؤلاء أخرى بأمر يتعاقون فيه كما يتعاقبون في الركوبِ وغيرِه {فَاتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ} من مهرِ المهاجرةِ التي تزوجتُموها ولا تؤتوهُ زوجَها الكافرَ وقيلَ معناهُ إنْ فاتكم فأصبتُم من الكفارِ عُقْبى هيَ الغنيمةُ فآتُوا بدلَ الفائتِ من الغنيمةِ وقُرىءَ فأعقبتُم وفعقَّبْتُم بالتشديدِ وفعقِبْتُم بالتخفيفِ وفتحِ القافِ وبكسرِهَا قيلَ جميع من لحق بالمشكرين من نساءِ المؤمنينَ المهاجرينَ ستُّ نسوةٍ أمُّ الحكمِ بنتُ أبي سفيانَ وفاطمةُ بنتُ أميةٍ وبَرْوعُ بنتُ عُقْبةٍ وعبدةُ بنتُ عبدِ العُزَّى وهندُ بنتُ أبي جهل كثلوم بنتُ جرولٍ {واتقوا الله الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} فإن الإيمانَ بهِ تعالى يقتضِي التَّقوى منهُ تعالَى

12

{يا أيها النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ} أي مبايعاتٍ لكَ أيْ قاصداتٍ للمبايعةِ نزلتْ يومَ الفتحِ فإنَّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ لما فرغَ من بَيعةِ الرجالِ شرعَ في بيعة النساءِ {على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً} أي شيئا من الأشياءِ أو شيئا من الإشراكِ {وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن} أُريدَ به وأدُ البناتِ وقُرِىءَ ولا يُقَتِّلْنَ بالتشديدِ {وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} كانتِ المرأةُ تلتقطُ المولودَ فتقولُ لزوجِها هُو ولدي منكَ كُنِيَ عنْهُ بالبهتانِ المُفترى بينَ يديها ورجلَيها لأنَّ بطنَها الذي تحملُهُ فيهِ بينَ يديها وَمَخرجُه بينَ رِجْلَيْها {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ} أي فيما تأمرهنَّ بهِ من معروفٍ وتنهاهنَّ عنْهُ من منكرٍ والتقييدُ بالمعروفِ مع أنَّ الرسولَ صلى الله عله وسلم لا يأمرُ إلا بهِ للتنبيه على أنَّه لا يجوزُ طاعةُ مخلوقٍ في معصيةِ الخالق

} { وتخصيص الأمر المعدودةِ بالذكرِ في حَقِّهنَّ لكثرةِ وقوعِها فيمَا بينهنَّ معَ اختصاصِ بعضها بهنَّ {فَبَايِعْهُنَّ} أي على ما ذُكر وما لم يُذكر لوضوحِ أمرِهِ وظهورِ أصالتِهِ في المبايعةِ من الصلاةِ والزكاةِ وسائرِ أركانَ الدِّينِ وشعائرِ الإسلامِ وتقييد مبايعتهنَّ بِما ذُكِرَ من مجيئهنَّ لحثن على المسارعةِ إليها مع كمالِ الرغبةِ فيهَا من غيرِ دعوةٍ لهنَّ إليها {واستغفر لَهُنَّ الله} زيادةٍ على ما في ضمنِ المبايعةِ فإنها عبارةٌ عن ضمانِ الثوابِ من قبلِهِ عليهِ الصَّلاة والسَّلام بمقابلةِ الوفاءِ بالأمورِ المذكورةِ من قبلهنَّ {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي مبالِغٌ في المغفرةِ والرحمةِ فيغفرُ لهنَّ ويرحمهنَّ إذا وفَّينَ بما بايعنَ عليهِ واختلفَ في كيفيةِ مبايعتِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لهن يومئذٍ فَرُوِيَ أنه عليه الصلاةُ والسلام لما فرغَ من بَيعةِ الرجالِ جلسَ على الصَّفا ومعه عمرُ رضيَ الله عنْهُ أسفلَ منْهُ فجعلَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ يشترطُ عليهن البيعةَ وعمرُ يصافحهنَّ ورُوِيَ أنَّه كلفَ امرأةٍ وقفتْ على الصَّفا فبايعتهنَّ وقيلَ دَعا بقدحٍ من ماءٍ فغمسَ فيهِ يدَهُ ثم غمسنَ أيديهنَّ ورُوي أنَّه عليه الصلاةُ والسلام بايعهنَّ وبين يديهِ وأيديهِنَّ ثوبٌ قطريٌّ والأظهرُ الأشهرُ ما قالتْ عائشةَ رضيَ الله عنها والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساءِ قطُّ إلا بما أمرَ الله تعالَى وما مستْ كفُّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كفَّ امرأةٍ قَط وكانَ يقولُ إذا أخذَ عليهنَّ قَدْ بايعتكنَّ كلاماً وكانَ المؤمناتُ إذَا هاجرنَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن يقولُ الله عزَّ وجلَّ يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات إلى آخرِ الآيةِ فإذا أقررنَ بذلكَ من قولِهِنَّ قالَ لهنَّ انطلقنَ فقد بايعتكن

13

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ} هُم عامةُ الكفرةِ وقيلَ اليهودُ لما رُوي أنَّها نزلتْ في بعض فقراء المسملين كانُوا يواصلونَ اليهودَ ليصيبُوا من ثمارِهِم {قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الأخرة} لكفرِهِم بهَا أو لعلهم بأنَّه لا خلاقَ لهُمْ فيهَا لعنادِهِم الرسولَ المنعوتَ في التوراة المجيد بالآياتِ {كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أصحاب القبور} أيْ كَما يئسَ منها الذينَ ماتُوا منهُم لأنَّهم وقفُوا على حقيقةِ الحالِ وشاهدُوا حرمانَهُم من نعيمِهَا المقيمِ وابتلاءَهُم بعذابِهَا الأليمِ والمرادُ وصفهُم بكمالِ اليأسِ منهَا وقيلَ المَعْنَى كما يئسُوا من موتاهُم أنْ يُبعثوا ويرجعُوا إلى الدُّنيا أحياءً والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ للإشعار بعلة بأسهم عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الممتحنةِ كانَ لهُ المؤمنونَ والمؤمناتُ شفعاءَ يومَ القيامة

} { {بسم الله الرحمن الرحيم}

الصف

{سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} الكلامُ فيه كالذي مر في نظيره

2

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} رُوِيَ أنَّ المسلمينَ قالُوا لو علمنَا أحبَّ الأعمال إلى الله تعالى لبذلنَا فيه أموالَنا وأنفسَنا فلما نزلَ الجهادُ كرهوهُ فنزلت وما قيل من أن النازل قوله تعالى إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ صَفّاً بيّن الاختلال وروي أنهم قالوا يا رسولَ الله لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله تعالى لسارعنا إليه فنزلت هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة إلى قوله تعالى وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ فولَّوا يومَ أحدٍ وفيه التزامُ أنَّ ترتيبَ الآياتِ الكريمةِ ليسَ على ترتيبِ النزولِ وقيل لما أخبرَ الله تعالى بثوابِ شهداءِ بدرٍ قالتِ الصحابةُ اللَّهم أشهدْ لئِن لقِينا قتالاً لنُفْرغَن فيهِ وُسعنا ففرّوا يومَ أحدٍ فنزلتْ وقيلَ إنَّها نزلتْ فيمن يمتدح كاذباً حيثُ كانَ الرجلُ يقولُ قتلتُ ولم يقتُلْ ولم يَطعنْ وهكذا وقيلَ كانَ رجلٌ قد آذَى المسلمينَ يومَ بدرٍ ونكى فيهم فقتله صهيب وانثحل قتلَهُ آخرُ فنزلتْ في المنتحِلِ وَقِيلَ نزلتْ في المنافقينَ ونداؤُهم بالإيمانِ تهكمٌ وبإيمانهم وليس بذلك كما ستعرفُهُ ولمَ مركبةٌ من اللامِ الجارةِ وما الاستفهاميةِ قد حذفتْ ألفُها تخفيفا لكثرة استعمالها معاً كما في عَمَّ وفيما نظائرهما معنَاها لأيِّ شيءٍ تقولونَ نفعل مالا تفعلونَ من الخيرِ والمعروفِ على أنَّ مدارَ التعبيرِ والتوبيخِ في الحقيقةِ عدمُ فعلِهم وإنَّما وجها إلى قولِهِم تنبيهاً على تضاعفِ معصيتِهِم ببيانِ أنَّ المنكرَ ترك وليس تركَ الخيرِ الموعودِ فقط بلِ الوعدَ بهِ أيضاً وقد كانُوا يحسبونَهُ معروفاً ولو قيلَ لمَ لا تفعلوا ما تقولونَ لفُهم منهُ أنَّ المنكرَ هُو تركُ الموعودِ

3

{كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} بيانٌ لغايةِ قُبحِ ما فعلوهُ وفرطِ سماجتِه وكبُرَ من بابِ نِعْمَ وبِئْسَ فيه ضميرٌ مبهمٌ مفسرٌ بالنكرةِ بعدهُ وأنْ تقولُوا هو المخصوصُ بالذمِّ وقيل قُصدَ فيهِ التعجبُ من غيرِ لفظِهِ وأُسْندَ إلى أنْ تقولُوا ونصبُ مقتاً على تفسيرِهِ دلالةٌ على أن قولهم مالا يفعلونَ مقتٌ خالصٌ لا شوبَ فيهِ كبُرَ عندَ من يحقرُ دونَهُ كلُّ عظيمٍ

5 4 وقوله تعالى

4

{إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ صَفّاً} بيانٌ لِما هو مرضيٌّ عنده تعالى بعد بيانِ ما هو ممقوتٌ عندهُ وهذا صريحٌ في أنَّ ما قالُوه عبارةٌ عن الوعدِ بالقتالِ لا عما تقوله المتمدح أو انتحلَهُ المنتحِلُ أو أعاده المنافقُ وأنَّ مناطَ التعبيرِ والتوبيخِ هو إخلافُهم لا وعدُهم كما أشيرَ إليهِ وقُرِىءَ يقاتَلُونَ بفتح التاء ويقاتلون وصفا مصدرٌ وقعَ موقعَ الفاعلِ أو المفعول نصبه على الحاليةِ من فاعلِ يقاتلونَ أي صافِّينَ أنفسَهُم أو مصفوفِينَ وقولُه تعالى {كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ} حالٌ من المستكن في حال الأُولى أي مشبهينَ في تراصِّهِم من غيرِ فُرجةٍ وخللٍ ببنيانٍ رُصَّ بعضُهُ إلى بعضٍ ورُصفَ حتى صار شيئاً واحداً وقولُه تعالى

5

{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} كلامٌ مستأنفٌ مقرِّرٌ لما قبله من شناعة تركِ القتالِ وإذْ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطبَ به النبي عليه الصلاة والسلام بطريقِ التلوينِ أيْ واذكُر لهؤلاءِ المعرضينَ عن القتالِ وقتَ قولِ مُوسى لبني إسرائيلَ حينَ ندبَهُم إلى قتال الجبابرة بقوله يا قوم ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم فتنقلبلوا خاسربن فلم يمتثلُوا بأمرِهِ وعَصوه أشدَّ عصيانٍ حيثُ قالُوا يا موسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخلون إلى قولِهِ تعالى فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إنا ههنا قاعدون وأصرُّوا على ذلكَ وآذُوه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كلُّ الآذية {يا قوم لِمَ تُؤْذُونَنِى} أي بالمخالفةِ والعصيانِ فيما أمرتكُم بهِ وقولُه تعالَى {وَقَد تَّعْلَمُونَ إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} جملةٌ حاليةٌ مؤكدةٌ لإنكارِ الإيذاءِ ونفيِ سببِهِ وقدْ لتحقيقِ العلمِ وصيغةُ المضارعِ للدلالةِ على استمرارِهِ أي والحالُ أنَّكم تعلمونَ علماً قطعياً مستمراً بمشاهدةِ ما ظهر بيديَّ من المعجزاتِ القاهرةِ التي معظمُها إهلاكُ عدوِّكُم وإنجاؤُكم من ملكتِهِ إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ لأرشدَكم إلى خيرِ الدُّنيا والآخرةِ ومن قضيةِ علمكم بذلكَ أن تبالغُوا في تعاظيمى وتسارعُوا إلى طاعتِي {فَلَمَّا زَاغُواْ} أي أصرُّوا على الزيغِ عن الحقُّ الذي جاءَ به موسَى عليهِ السلامُ واستمرُّوا عليهِ {أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} أيْ صرفَها عن قبولِ الحقِّ والميلِ إلى الصوابِ لصرفِ اختيارِهِم نحو الغيِّ والضلالِ وقولُهُ تعالى {والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} اعتراضٌ تذييليُّ مقرر لمضمون ما قبله من الإزاغةِ ومؤذنٌ بعلتِهِ أيْ لا يهدِي القومَ الخارجينَ عن الطاعةِ ومنهاجِ الحقِّ المُصرِّين على الغَوايةِ هدايةً موصلةً إلى ما يوصل إليها فإنها شاملةٌ للكُلِّ والمرادُ بهم إما المذكرورن خاصَّة والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لذمِّهم بالفسقِ وتعليلِ عدم الهدية بهِ أو جنسِ الفاسقينَ وهم داخلون ف حُكمه دخولاً أولياً وأيّاً ما كانَ فوصفُهم بالفسقِ ناظرٌ إلى ما في قولِهِ تعالى فافرق بَيْنَنَا وبين القوم الفاسقين هذا هُو الذي تقتضيهِ جزالةُ النظمِ

8 6 الكريمِ ويرتضيهِ الذوقُ السليمُ وأما ما قيلَ بصددِ بيانِ أسبابِ الأذيةِ من أنهم كانُوا يؤذونَهُ عليهِ الصلاة اولسلام بانواع الأذى من انقاصه وعيبِهِ في نفسِهِ وجحودِ آياتِهِ وعصيانِهِ فيما تعودُ إليهِم منافعُهُ وعبادتِهِم البقرَ وطلبِهِم رؤيةَ الله جهرةً والتكذيبِ الذي هو تضييعُ حقِّ الله وحقِّه فممَّا لا تعلُّقَ له بالمقامِ وقوله تعالى

6

{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ} إمَّا معطوفٌ على إذ الأُولى معمولٌ لعاملِهَا وإما معمولٌ لمضمرٍ معطوفٍ على عاملها {يا بني إسرائيل} ناداهُم بذلكَ استمالةً لقلوبِهِم إلى تصديقه في قولِهِ {إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة} فإنَّ تصديقَهُ عيه الصلاةُ والسلامُ إيِّاها من أَقْوى الدَّواعي إلى تصديقِهِم إيَّاه وقولُهُ تعالَى {وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى} معطوف على مصدقا داع الى تصدقيه عليهِ الصلاةُ والسلامُ مثلَه من حيثُ إن البشارةَ به واقعة في التوراة والعاملُ فيهما ما في الرسولِ من مَعْنَى الإرسالِ لا الجارُّ فإنَّه صلةٌ للرسولِ والصلاتُ بمعزلٍ من تضمنِ معنى الفعلِ وعليهِ يدورُ العملُ أي أرسلتُ إليكم حالَ كونِي مصدقاً لما تقدمنى من التوراة ومبشراً بمنْ يأتي من بعدِي من رسولٍ {اسمه أحمد} أى محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم يريدُ أنَّ دينيَ التصديقُ بكتبِ الله وأنبيائِهِ جميعاً ممن تقدمَ وتأخَّر وقُرِىءَ منْ بعديَ بفتحِ الياءِ {فَلَمَّا جَاءهُم بالبينات} أي بالمعجزاتِ الظاهرةِ {قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ} مشيرينَ إلى ما جاءَ به أو إليه عليه الصلاة والسلام وتسميتُه سحراً للمبالغةِ ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ هَذا ساحرٌ

7

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام} أيْ أيُّ الناسِ أشدُّ ظُلماً ممن يُدعى إلى الإسلامِ الذى ويولصله إلى سعادةِ الدارينِ فيضعَ موضعَ الإجابةِ الافتراءَ على الله عزَّ وجلَّ بقولِهِ لكلامِهِ الذي هو دعاءُ عبادِهِ إلى الحقِّ هذا سحرٌ أيْ هُو أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ وإنْ لم يتعرضْ ظاهرُ الكلامِ لنفيِ المُساوي وقد مرَّ بيانُهُ غيرَ مرةٍ وقُرِىءَ يُدّعى يقال دَعَاهُ وادَّعاهُ مثلُ لمسَهُ والتمسَهُ {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} أي لا يرشدهُم إلى ما فيهِ فلاحُهم لعدمِ توجههم إليهِ

8

{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله} أي يريدونَ أنْ يطفئُوا دينَهُ أو كتابَهُ أو حجتَهُ النيرةَ واللامُ مزيدةٌ لما فيها من معنى الإرادةِ تأكيداً لها كما زيدَتْ لِما فيها من مَعْنَى الإضافةِ تأكيداً لها في لا أبالك أو يريدون لافتراء ليطفئُوا نورَ الله {بأفواههم} بطعهم فيه مثلتْ حالهُم بحالِ من ينفخُ في نورِ الشمسِ بفيةِ ليطفئَهُ {والله مُتِمُّ نُورِهِ} أي مبلِغُهُ إلى غايتِه بنشرِه في الآفاقِ وإعلائِهِ وقُرِىءَ متمٌّ نورَهُ بلا إضافة {وَلَوْ كره الكافرون} اإرغاما

} 3 9 لهم والجملةُ في حيزِ الحالِ على ما بُينَ مراراً

9

{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} بالقرآن أو بالمعجزة {ودين الحق} والملة الحنيفة {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ} ليُعلِيَه على جميعِ الأديانِ المخالفةِ لهُ ولقد أنجزَ اللَّهُ عزَّ وجل وعلاَ وعدَهُ حيثُ جعلَهُ بحيثُ لم يبقَ دينٌ من الأديانِ إلا وهُو مغلوبٌ مقهورٌ بدينِ الإسلامِ {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} ذلكَ وقُرِىءَ هُو الذي أرسلَ نبيه

10

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وقُرِىءَ تنجِّيكُم بالتشديدِ وقولُهُ تعالَى

11

{تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ} استئنافٌ وقعَ جواباً عما نشأ مما قبله كأنَّهم قالوا كيفَ نعملُ أو ماذَا نصنعُ فقيلَ تؤمنونَ بالله الخ وهو خبرٌ في مَعْنى الأمرِ جىء للإيذان بوجوب الامتثال فكان فقد وقعَ فأخبرَ بوقوعِهِ ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ آمنوا بالله وَرَسُولِهِ وجاهدوا وقُرِىءَ تُؤمِنُوا وتُجاهِدُوا على إضمارِ لامِ الأمرِ {ذلكم} إشارةٌ إلى ما ذكر من الإيمانِ والجهادِ بقسميه وما فيه من معنى البُعد لما مر غيرَ مرة {خَيْرٌ لَّكُمْ} على الإطلاقِ أو من أموالكم أو أنفسكم {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إنْ كنتُم من أهلِ العلمِ فإنَّ الجهلةَ لا يعتدُّ بأفعالِهِم أو إنْ كنتُم تعلمونَ أنَّه خيرٌ لكم كان خيرا لكُم حينئذٍ لأنكُم إذَا علمتم ذلك واعتفدتموه أحببتُم الإيمانَ والجهادَ فوقَ مال تحبونَ أنفسَكُم وأموالَكُم فتُخلِصونَ وتفلحُونَ

12

{يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} جوابٌ للأمرِ المدلولِ عليه بلفظ الخبرِ أو لشرطٍ أو استفهامٍ دلَّ عليهِ الكلامُ تقديرُهُ أنْ تؤمنُوا وتُجاهِدوا أو هَلْ تقبلُونَ أن أدلكُم يغفرْ لكُمْ وجعلُه جواباً لهَلْ أدلكُم بعيدٌ لأنَّ مجردَ الدلالةِ لا يوجبُ المغفرةَ {وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار ومساكن طَيّبَةً فِى جنات عَدْنٍ ذَلِكَ} أي ما ذكرَ من المغفرةِ وإدخالِ الجناتِ الموصوفةِ بما ذكرَ من الأوصاف الجليل {الفوز العظيم} الذِي لاَ فوزَ وراءَهُ

13

{وأخرى} ولكُم إلى هذه النعمِ العظيمةِ نعمةٌ أُخرى عاجلة {تحبونها} وترغبون فيه وفيهِ تعريضٌ بأنهم يؤثرونَ العاجلَ على الآجلِ وقيلَ أُخرى منصوبةٌ بإضمارِ يعطكُمْ أو تحبونَ أو مبتدأٌ خبرُهُ {نَصْرٌ مّن الله} وهو عَلى الأولِ بدلٌ أو بيانٌ وعلى تقديرِ النصبِ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} أي عاجلٌ عطفٌ على

} 4 نصرٌ على الوجوهِ المذكورةِ وقُرِىءَ نصراً وفتحاً قريباً على الاختصاصِ أو على المصدرِ أيْ تُنصرونَ نصراً ويُفتحُ لكم فَتْحاً أو عَلى البدليةِ من أُخرى على تقدير نصبِهَا أي يعطكُم نعمةً أُخرى نصراً وفتحاً {وَبَشّرِ المؤمنين} عطفٌ على محذوفٍ مثل قُل يأيها الذين وبشر أو على تؤمنونَ فإنَّه في معنى آمِنُوا كأنَّه قيلَ آمِنُوا وجاهِدُوا أيُّها المؤمنونَ وبشرْهُم يأيها الرسولُ بما وعدتَهُم على ذلك عاجلا وآجلا

14

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ كُونُواْ أنصار الله} وقُرِىءَ أنصار الله بلاَ إضافةٍ لأن المَعْنَى كونُوا بعضَ أنصارِ الله وقُرِىءَ كونُوا أنتُم أنصارَ الله {كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أنصارى إِلَى الله} أي مَنْ جُندي متوجهاً إلى الله كما يقتضه قولُهُ تعالى {قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله} والإضافةُ الأُولى إضافةُ أحدِ المتشاركينِ إلى الآخرِ لما بينهُما من الاختصاصِ والثانيةُ إضافةُ الفاعلِ إلى المفعولِ والتشبيهُ باعتبارِ المَعْنَى أي كُونُواْ أنصارَ الله كَمَا كانَ الحواريونَ أنصارَهُ حينَ قال لهُم عيسى مَن أنصارِي إلى الله أو قُل لَهُم كونُوا كما قالَ عيسى للحواريينَ والحواريونَ أصفياؤُه وهم أولُ من آمنَ به وكانوا اثنيْ عشَرَ رجلاً {فآمنت طائفة من بني إسرائيل} أى بعيسى وطاعوه فيما أمرهم من نصرة الدين {وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} أُخرى به وقاتلوهم {فأيدنا الذين آمنوا على عَدُوِّهِمْ} أي قوَّيناهُم بالحجة أو بالسيفِ وذلكَ بعد رفع عيسى عليه السلامُ {فَأَصْبَحُواْ ظاهرين} غالبينَ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الصفِّ كانَ عيسى مصلياً عليهِ مستغفراً له مادام في الدُّنيا وهُو يومَ القيامة رفيقه

{بسم الله الرحمن الرحيم}

الجمعة

{يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الأرض} تسبيحاً مُستمِرَّاً {الملك القدوس العزيز الحكيم} وَقَدْ قُرِىءَ الصفاتُ الأربعُ بالرَّفعِ عَلَى المدحِ

2

{هُوَ الذى بَعَثَ فِى الأميين} أيْ في العربِ لأنَّ أكثرَهُمْ لا يكتبونَ ولا يقرءون قيلَ بدئتْ الكتابةُ بالطَّائفِ أخذُوها منْ أهلِ الحيرةِ وهُمْ من أهلِ الأنبارِ {رَسُولاً مّنْهُمْ} أيْ كائناً منْ جُملتِهِم أمياً مثلَهُم {يتلو عليهم آياته} مَعَ كونِهِ أمياً مثلَهُم لَم يُعهدْ منْهُ قراءةٌ ولا تعلمٌ {وَيُزَكّيهِمْ} صفةٌ أُخرى لرسولاً معطوفةٌ عَلَى يتلو أيْ يحملُهُم عَلى ما يصيرُونَ به أزكياءَ مِن خبائثِ العقائدِ والأعمالِ {وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة} صفةٌ أُخْرَى لرسولاً مترتبةٌ في الوجودِ عَلَى التِّلاوةِ وإنَّما وَسَّطَ بينَهُما التزكيةَ التي هيَ عبارةٌ عنْ تكميلِ النفسِ بحسبِ قوتِهَا العمليةِ وتهذيبِهَا المتفرغ وعلى تكميلِهَا بحسبِ القوةِ النظريةِ الحاصلِ بالتعليمِ المترتبِ على التلاوةِ للإيذانِ بأنَّ كلاً منَ الأمورِ المترتبةِ نعمةٌ جليلةٌ على حيالِهَا مستوجبةٌ للشكرِ فَلَو رُوعيَ ترتيبُ الوجودِ لتبادَر إلى الفهمِ كونُ الكلِّ نعمةً واحدةً كما مر في سورة البقرةِ وهُوَ السرُّ في التعبيرِ عن القرآنِ تارةً بالآياتِ وَأُخْرَى بالكتابِ والحِكمة رمزاً إلى أنَّه باعتبارِ كلِّ عنوانٍ نعمةٌ عَلى حِدةٍ ولا يقدحُ فيهِ شمولُ الحكمةِ لِمَا في تضاعيفِ الأحاديثِ النبويةِ منَ الأحكامِ والشرائعِ {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ لَفِى ضلال مُّبِينٍ} منَ الشركِ وخبث الجاهليةِ وهو بيانٌ لشدةِ افتقارِهِم إلى مَنْ يرشدهُم وإزاحةٌ لمَا عَسَى يُتوهَّم منْ تعلُّمِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ منَ الغيرِ وإنْ هي المخففة واللام في الفارقة

3

{وآخرين مِنْهُمْ} عطفٌ على الأميينَ أوْ عَلى المنصوبِ في يعلِّمُهُم ويعلِّمُ آخرينَ منهُم أيْ من الأميينَ وهُم الذينَ جَاءُوا بعدَ الصحابةِ إلى يومِ الدِّينِ فإنَّ دعوتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وتعليمه يعمم الجميعَ {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} صفةٌ لآخرينَ أيْ لمْ يلحقُوا بهمْ بعدُ وسيلحقونَ {وَهُوَ العزيز الحكيم} المبالغُ في العزةِ والحكمةِ ولذلكَ مكَّنَ رجلاً أمياً منْ ذلكَ الأمرِ

7 4 العظيمِ واصطفاهُ منْ بينِ كافةِ البشرِ

4

{ذلك} الذي امتازَ بهِ منْ بينِ سائرِ الأفرادِ {فَضَّلَ الله} وأحسانُهُ {يُؤْتِيهِ من يشاء} تفضيلا وعطيةً {والله ذُو الفضل العظيم} الذي يُستحقَرُ دُونَهُ نعيمُ الدُّنيا ونعيمُ الآخرةِ

5

{مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة} أي عُلِّمُوهَا وكُلِّفُوا العملَ بهَا {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} أيْ لَمْ يعملُوا بِمَا في تضاعِيفِها منَ الآياتِ التي منْ جُملتِها الآياتُ الناطقةُ بنبوةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} أيْ كتباً منَ العلمِ يتعبُ بحملِهَا ولا ينتفعُ بهَا ويحملُ إمَّا حالٌ والعاملُ فيهَا مَعْنَى المَثلِ أو صفةٌ للحمارِ إذْ ليسَ المرادُ بهِ معيناً فهُو في حكمِ النكرةِ كما في قول من قالَ ... وَلَقَدْ أمرُّ عَلى اللئيمِ يَسُبُّنِي ... {بِئْسَ مَثَلُ القومِ الذينَ كَذَّبُواْ بآياتِ الله} أيْ بئسَ مثلاً مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بآياتِ الله عَلى أنَّ التمييزَ محذوفٌ والفاعلَ المُفسَّرَ بهِ مستترٌ ومثلُ القومِ هُو المخصوصُ بالذمِّ والموصولُ صفةٌ للقومِ أو بئسَ مثلُ القومِ مثلُ الذينَ كذَّبوا إلخ على أنَّ مثلُ القومِ فاعلُ بئسَ والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ وهم اليهودُ الذينَ كذَّبُوا بمَا في التوارة من الآياتِ الشاهدةِ بصحةِ نبوة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} الواضعينَ للتكذيبِ في موضعِ التصديقِ أو الظالمينَ لأنفسِهم بتعريضِها للعذابِ الخالدِ

6

{قُل يا أيُّها الذينَ هَادُواْ} أَيْ تهودُوا {إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ الناس} كانُوا يقولونَ نحنُ أبناءُ الله وأحباؤُه ويَدَّعُونَ أنَّ الدارَ الآخرةَ لهُمْ عندَ الله خالصةً ويقولونَ لنْ يدخلَ الجنةَ إلاَّ منْ كانَ هُوداً فأُمِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأنْ يقولَ لهُم إظهاراً لكذبِهِمْ إنْ زعمتُم ذلكَ {فَتَمَنَّوُاْ الموت} أيْ فتمنَّوا منَ الله أنْ يميتَكُم وينقُلَكُم منْ دارِ البليةِ إلى دارِ الكرامةِ {إِن كُنتُمْ صادقين} جوابُه محذوفٌ لدِلالة ما قبله عليه إِن كُنتُمْ صادقين في زَعْمِكُم واثقينَ بأنَّه حقٌّ فَتَمَنَّوُاْ الموتَ فإنَّ مَنْ أيقنَ بأنَّهُ مِنْ أهلِ الجنةِ أحبَّ أنْ يتخلصَ إلَيها منْ هذهِ الدارِ التي هيَ قرارةُ الأكدارِ

7

{وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً} إخبارٌ بما سيكون منهم والبناء في قولِهِ تعالى {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} متعلقةٌ بما يدلُّ عليهِ النفيُ أيْ يأبونَ التمنِّي بسببِ ما عمِلوا من الكفرَ والمعاصيَ الموجبةَ لدخولِ النارِ ولما كانتِ اليدُ من بينِ جوارحِ الإنسانِ مناطَ عامَّةِ أفاعيله عبَّرَ بها تارةً عن النفسِ وأُخرى عنِ القدرةِ {والله عَلِيمٌ بالظالمين} أيْ بهِم وإيثارُ الإظهارِ على الإظهار

} 0 8 لذمِّهم والتسجيلِ عليهِم بأنَّهم ظالمونَ في كلِّ ما يأتُون وما يذرونَ من الأمور التي من جملتها ادعاءُ ما هُمْ عنْهُ بمعزلٍ والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها مقررةٌ لمضمونِهِ أيْ عليمٌ بهِم وبِمَا صدَرَ عَنْهُم من فنونِ الظلمِ والمعَاصِي المفضيةِ إلى أفانينِ العذابِ وبِمَا سيكونُ منهُم منَ الاحترازِ عَمَّا يؤدِّي إلى ذلكَ فوقعَ الأمرُ كما ذكرَ فلم يتمنَّ منهُم موتَهُ أحدٌ كَما يعرب عنه قوله تعالى

8

{قُلْ إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ} فإنَّ ذلكَ إنَّما يقالُ لهُم بعدَ ظهورِ فرارِهِم منَ التمنِّي وقد قال عليه الصلاة والسلام لو تمنوا لما توا منْ ساعتِهِم وهذهِ إحدَى المعجزاتِ أيْ إنَّ الموتَ الذي تفرونَ منهُ ولا تجسَرونَ عَلى أنْ تتمنَّوهُ مخافةَ أنْ تُؤخذُوا بوبالِ كفرِكُم {فَإِنَّهُ ملاقيكم} اُلبتةَ من غير صارفٍ يلويه ولا عاطف يثنيه والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبارِ الوصفِ وقُرِىءَ بدونِهَا وقُرِىءَ تفرونَ منْهُ مُلاقِيكُم {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة} الذي لا تَخفى عليهِ خافيةٌ {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} منَ الكُفر والمعاصِي بأنْ يجازيَكُم بها

9

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة} أيْ فُعِلَ النداءُ لهَا أيْ أُذِّنَ لَهَا {مِن يَوْمِ الجمعة} بيانٌ لإذَا وتفسيرٌ لهَا وقيلَ من بمَعْنَى في كَما في قولِه تعالَى أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أيْ في الأرضِ وإنَّما سمِّي جمعةً لاجتماع الناس منه للصلاةِ وقيلَ أولُ مَنْ سمَّاها جمعةً كعبُ بنُ لُؤَي وكانتِ العربُ تسميهِ العَرُوبَةَ وقيلَ إنَّ الأنصارَ قالو قبلَ الهجرةِ لليهودِ يومٌ يجتمعونَ فيهِ بكُلِّ سبعةِ أيامٍ وللنَّصارَى مثلُ ذلكَ فهلمُّوا نجعلْ لَنَا يوماً نجتمعُ فيهِ فنذكرُ الله فيهِ ونُصلِّي فقالُوا يومُ السبتِ لليهودِ ويومُ الأحدِ للنَّصارَى فاجعلُوه يومَ العَروبَةِ فاجتمعُوا إلى سعدِ بنِ زُرارةَ فصلَّى بهمْ ركعتَينِ وذكر هم فسمَّوه يومَ الجمعةِ لاجتماعِهِم فيهِ فأنزلَ الله آيةَ الجمعةِ فهيَ أولُ جمعةِ كانتْ في الإسلامِ وأما أولُ جمعةً جَمَّعها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فهُو أنَّه لما قدمَ مُهَاجِراً نزلَ قُبَاءَ على بني عمرو بنِ عَوْف وأقامَ بها يومُ الإثنينِ والثلاثاءِ والأربعاءِ والخميسِ وأسَّس مسجدَهُم ثم خرجَ يومَ الجمعةِ عامداً المدينةَ فأدركتْهُ صلاةُ الجمعةِ في بني سالمِ بنِ عوفٍ في بطن وادلهم فحطب وصلَّى الجمعةَ {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} أيْ امشُوا واقْصِدُوا إلى الخطبةِ والصلاةِ {وَذَرُواْ البيع} واتركُوا المعاملةَ {ذلكم} أي السعيُ إلى ذكرِ الله وتركُ البيعِ {خَيْرٌ لَّكُمْ} منْ مباشرتِهِ فإنَّ نفعَ الآخرةِ أجلُّ وأبقَى {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي الخبر والشر الحقيقيين أوْ إِنْ كنتم أهلَ العلمِ

10

{فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة}

} { أي أُدِّيتْ وفُرغَ منهَا {فانتشروا فِى الأرض} لإقامةِ مصالِحِكم {وابتغوا مِن فَضْلِ الله} أي الربحَ فالأمرُ للإطلاقِ بعدَ الحظرِ وعنِ ابنِ عباس رضي الله عنهما لَمْ يؤمُروا بطلبِ شيءٍ من الدُّنيا إنَّما هو عيادةُ المرضَى وحضورُ الجنائزِ وزيارةُ أخٍ في الله وعنِ الحسنِ وسعيدِ بنِ المسيِّبِ طلبُ العلمِ وقيلَ صلاةُ التطوعِ {واذكروا الله كَثِيراً} ذِكراً كَثيراً أو زماناً كثيراً ولا تخصوا ذكرَهُ تعالَى بالصلاةِ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} كي تفوزُوا بخيرِ الدارينِ

11

{وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} رُوي أنَّ أهلَ المدينةِ أصابَهُم جوعٌ وغلاءٌ شديدٌ فقدمَ دِحْيةُ بنُ خَلِيفةَ بتجارةٍ منْ زَيْتِ الشامِ والنَّبيُّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يخطبُ يومَ الجمعةِ فقامُوا إليهِ خشيةَ أنْ يُسْبقُوا إليهِ فما بقيَ معَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلا ثمانيةٌ وقيلَ أحدَ عشرَ وقيلَ اثنا عشرَ وقيلَ أربعونُ فقال عليه الصلاة والسلام والَّذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ لَوْ خرجُوا جميعاً لأضرمَ الله عليهِم الواديَ ناراً وكانُوا إذَا أقبلتْ العيرُ استقبلُوها بالطبلِ والتصفيقِ وهُو المرادُ باللهوِ وتخصيصُ التجارةِ برجع الضمير لأنه المقصودة أو لأن الإنقضاض للتجارةِ معَ الحاجةِ إليهَا والانتفاعِ بهَا إذا كانَ مذموماً فمَا ظنُّكَ بالانفضاضِ الى اللهو وهو المذمون في نفسهِ وقيلَ تقديرُهُ إذَا رأَوا تجارةً انفضُّوا إليها أو لهوا انفضُّوا إليهِ فحذفَ الثانيَ لدلالةِ الأولِ عليهِ وقُرىءَ إليهِمَا {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} أيْ عَلى المنبرِ {قُلْ مَا عِندَ الله} منَ الثوابِ {خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة} فإنَّ ذلكَ نفعٌ محققٌ مخلَّدٌ بخلافِ ما فيهِمَا منَ النَّفعِ المتوهَّمِ {والله خير الرازقين} فإليهِ اسعَوا ومنْهُ اطلبُوا الرزق عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سُورةَ الجُمعةِ أُعطِيَ منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعددِ مَنْ أتَى الجمعةَ ومَنْ لَم يأتِهَا في أمصارِ المسلمين

} المنافقون { {بسم الله الرحمن الرحيم}

المنافقون

{إِذَا جَاءكَ المنافقون} أي حضرُوا مجلسكَ {قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله} مؤكدينَ كلامَهُم بأنَّ واللامُ للإيذانِ بأن شهادتهم هذه صاردة عن صميمِ قلوبِهِم وخلوصِ اعتقادِهِم ووفورِ رغبتِهِم ونشاطِهِم وقولُهُ تعالى {والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} اعتراضٌ مقررٌ لمنطوقِ كلامِهِم وُسِّطَ بينه وبينَ قولِهِ تعالى {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون} تحقيقا وتعييناً لِما نيطَ به التكذيبُ من أنَّهُم قالُوه عن اعتقادٍ كما أُشيرِ إليهِ وإماطةً من أولِ الأمرِ لما عسى يتوهمُ من توجه التكذيبِ إلى منطوقِ كلامِهِم أيْ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لكاذبُونَ فيما ضمَّنُوا مقالتَهُم من أنَّها صادرةٌ عن اعتقادٍ وطمأنينة قلب وا لإظهار في موقعِ الإضمارِ لذمِّهم والإشعارِ بعلةِ الحُكمِ

2

{اتخذوا أيمانهم} الفاجرةَ التي من جملتها ما حكي عنْهُم {جَنَّةُ} أيْ وقايةً عمَّا يتوجَّهُ إليهِمْ منَ مؤاخذة بالقتلِ والسبي أو غيرِ ذلكَ واتخاذُها جنةً عبارةٌ عن إعدادِهِم وتهيئتِهِم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بهَا ويتخلصُوا عنِ المؤاخذةِ لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية واتخاذ الجنة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة وعن سببها أيضا كما يُفصح عنهُ الفاءُ في قولِهِ تعالى {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي فصدوا منْ أرادَ الدخولَ في الإسلامِ بأنَّه عليهِ الصلاةُ والسلامُ ليسَ برسولٍ ومن أرادَ الإنفاقَ في سبيلِ الله بالنَّهيِ عنهُ كما سيُحْكَى عنهُم ولا ريبَ في أنَّ هذا الصدَّ منهم متقدمٌ على حلفِهِم بالفعلِ وقُرِىءَ إيمانَهُم أي ما ظهوره على ألسنتِهِم فاتخاذُهُ جنةً عبارةٌ عنِ استعمالهِ بالفعلِ فإنه وقايةٌ دونَ دمائهِم وأموالِهِم فمَعْنَى قولِهِ تعالى فصدُّوا حينئذٍ فاستمرُّوا على ما كانوا عليه من الصدِّ والإعراضِ عن سبيلِهِ تعالَى {إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من النفاقِ والصدِّ وفي ساءَ مَعْنَى التعجبِ وتعظيمُ أمرِهِم عندَ السامعين

3

{ذلك} ذلك إشارة إلى ما تقدمَ من القولِ

5 4 النَّاعِي عليهِمْ إنَّهم أسوأُ الناسِ أعمالاً أو إلى ما وصف حالِهِم في النفاقِ والكذبِ والاستتارِ بالإيمانِ الصوريِّ وما فيه من معنى البعد مع قُربِ العهدِ المشارِ إليه لما مرَّ مرارا من الإشعارِ ببُعدِ منزلتِه في الشرِّ {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {آمنوا} أي نطقُوا بكلمة الشهادةِ كسائرِ منْ يدخُل في الإسلامِ {ثُمَّ كَفَرُواْ} أي ظهرَ كفرُهُم بما شُوهدَ منهم من شَواهدِ الكُفْرِ ودلائِلِه أو نطقُوا بالإيمانِ عندَ المؤمنينَ ثم نطقُوا بالكفرِ عند شياطينهم {فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ} حتى تمرنُوا على الكفرِ واطمأنُّوا بهِ وقرىء على البناء للفاعل وقُرِىءَ فطبعَ الله {فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} حقيقةَ الإيمانِ ولا يعرفون حقيقته أصلاً

4

{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم} لضخامتها ويروقكَ منظرُهُم لصباحةِ وجوهِهِم {وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} لفصاحتهِم وذلاقةِ ألسنتِهِم وحلاوةِ كلامِهِم وكان ابنُ أُبيَ جسيماً فصيحاً يحضرُ مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفرٍ منْ أمثالِهِ وهُم رؤساءُ المدينةِ وكانَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ومنْ معه يعجبون بها كلهم ويسمعونَ إلى كلامِهم وقيلَ الخطابُ لكلِّ أحدٍ ممن يصلُح للخطابِ ويؤيدُه قراءةُ يُسمعْ على البناءِ للمفعولِ وقولُه تعالَى {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ} في حيزِ الرفعِ على أنه خبر مبتدأ محذوفٍ أو كلامٌ مستأنفٌ لا محلَّ له شُبهوا في جلوسِهِم في مجالِس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستندينَ فيها بخشبٍ منصوبةٍ مُسندةٍ إلى الحائطِ في كونِهِم أشباحاً خاليةً عن العلمِ والخيرِ وقُرِىءَ خُشْبٌ على أنه جمعُ خشبةٍ كبُدْنٍ جمعُ بَدَنةٍ وقيل هو جمعُ خشباءَ وهيَ الخشبةُ التي دُعِرَ جوفُها أي فسدَ شُبهوا بها في نفاقِهِم وفسادِ بواطِنِهم وقُرِىءَ خَشَبٌ كمَدَرةٍ ومدَرٍ {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي واقعةً عليهم ضارةً لهم لجبنِهِم واستقرارِ الرعبِ في قلوبِهِم وقيلَ كانُوا على وجلٍ من أنْ يُنزلَ الله فيهم ما يهتكُ أستارَهُم ويبيحُ دماءَهُم وأموالَهُم {هُمُ العدو} أي هُم الكاملونَ في العداوةِ والراسخونَ فيها فإنَّ أعْدَى الأعادِي العدوُّ المُكاشرُ الذي يُكاشِرُكَ وتحتَ ضُلوعِهِ الداءُ الدَّوِيُ والجملةُ مستأنفةٌ وجعلُها مفعولاً ثانياً للحسبانِ ممَّا لا يساعده النظمُ الكريم أصلاً فإنَّ الفاءَ في قولِهِ تعالَى {فاحذرهم} لترتيبِ الأمرِ بالحذرِ على كونِهِم أعْدَى الأعداءِ {قاتلهم الله} دعاءٌ عليهمْ وطلبٌ من ذاتِهِ تعالَى أنْ يلعنَهُم ويُخزيَهم أو تعليمٌ للمؤمنينَ أن يدعُوا عليهِم بذلكَ وقوله تعلى {أنى يُؤْفَكُونَ} تعجيبٌ من حالِهِم أي كيفَ يُصرفون عن الحقِّ إلى ما هم عليه من الكفر الضلال

5

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} عندَ ظهورِ جنايتِهِم بطريقِ النصيحةِ {تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُؤُوسَهُمْ} أي عطفُوها استكباراً {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} يُعرضونَ عن القائلِ أو عن الاستغفارِ {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ}

8 6 عن ذلكَ

6

{سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} كما إذا جاءوكَ معتذرينَ من جناياتهم وقُرِىءَ استغفرتَ بحذفِ حرفِ الاستفام ثقةً بدلالةٍ أمْ عليهِ وقُرِىءَ آستغفرتَ بإشباعِ همزةِ الاستفهامِ لا بقلبِ همزةِ الوصلِ ألفاً {أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} كما إذا أصرُّوا عَلى قبائِحهم واستكبرُوا عن الاعتذارِ والاستغفارِ {لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ} أبداً لإصرارِهِم على الفسقِ ورسوخِهِم في الكفرِ {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين} الكاملينَ في الفسقِ الخارجينَ عن دائرةِ الاستصلاحِ المنهمكينَ في الكفرِ والنفاقِ والمرادُ إما هُم بأعيانِهِم والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لبيانِ غُلوهم في الفسقِ أو الجنسُ وهم داخلونَ في زمرتهم دخولاأوليا وقولُه تعالَى

7

{هُمُ الذين يَقُولُونَ} أيْ للأنصارِ {لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله} صلى الله عليه وسلم {حتى يَنفَضُّواْ} يعنونَ فقراءَ المهاجرينَ استئنافٌ جارٍ مَجْرَى التَّعليلِ لفسقِهِم أو لعدمِ مغفرتِهِ تعالَى لَهُم وقُرِىءَ حتى يَنْفِضُوا من أنفضَ القومُ إذا فنيتْ أزوادُهُم وحقيقتُه حانَ لهم أن ينفضوا مزادوهم وقولُه تعالى {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السماوات والأرض} ردُّ وإبطالٌ لما زعمُوا من أن عدمَ إنفاقهِم يؤدي إلى انفضاضِ الفقراء من حوله صلى الله عليه وسلم ببيان ان خزائن الأرزان بيدِ الله تعالَى خاصَّة يعطة منْ يشاءُ ويمنعُ من يشاءُ {ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ} ذلكَ لجهلِهم بالله تعالى وبشئونه ولذلكَ يقولونَ مِنْ مقالاتِ الكفرِ ما يقولونَ

8

{يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} رُوِيَ أن جَهْجَاهَ بنَ سعيدٍ أَجيرَ عمرَ رضيَ الله عنهُ نازعَ سِناناً الجُهْنَيَّ حليفَ ابنِ أبيى واقتتلا فصرخ جهجاه ياللمهاجرين وسنان بالأنصار فاعان جهجاها جعال من فقراءِ المهاجرينَ ولطمَ سنان فاشتكى الى اين أُبيَ فقالَ للأنصارِ لا تُنفقُوا الخ والله لئِن رجدعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الذل عَنَى بالأعزِّ نفسَهُ وبالأذلِّ جانبَ المؤمنينَ وإسنادُ القولِ المذكورِ إلى المنافقينِ لرضاهُم بهِ فرُدّ عليهِم ذلكَ بقولِه تعالَى {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أي ولله الغالبة والقوةُ ولمنْ أعزَّهُ من رسولِهِ والمؤمنينَ لا لغيرِهِم {ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ} من فرطِ جهلِهِم وغرورِهِم فيهذُونَ ما يهذُون رُوِيَ أنَّ عبدَ اللَّه بنِ أُبيَ لما أرادَ أن يدخلَ المدينةَ اعترضَهُ ابنُهُ عبدَ اللَّه بنَ عبدِ اللَّه بنِ أُبيّ وكان مخلصاً وقالَ لئِن لم تُقِرَّ لله ولرسولِه بالعزِّ لأضربهم عنقَكَ فلمَّا

} 1 9 رَأى منه الجِدَّ قال أشهدُ أنَّ العزةَ لله ولرسولِه وللمؤمنينَ فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لابنهِ جزاكَ الله عن رسولِهِ وعن المؤمنينَ خيراً

9

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أموالكم وَلاَ أولادكم عَن ذكرِ الله} أي لا يشغَلْكُم الاهتمامُ بتدبيرِ أمورِهَا والاعتناءُ بمصالحِهَا والتمتعُ بها عن الاشتغالِ بذكرِهِ عزَّ وجلَّ من الصلاة وسائر العبادات المذكورة للمعبودِ والمرادُ نهيهُم عنِ التَّلهّي بهَا وتوجيهُ النهيِ إليهَا للمبالغةِ كما في قولِهِ تعالَى وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ الخ {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي التَّلهي بالدُّنيا منَ الدينِ {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} أي الكاملونَ في الخسرانِ حيثُ باعُوا العظيم الباقي بالحقير الفانئ

10

{وأنفقوا من ما رزقناكم} أي بعضَ ما أعطينَاكُم تفضلاً منْ غيرِ أنْ يكونَ حصولُهُ من جهتِكُم ادخاراً للآخرةِ {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت} بأنْ يشاهدَ دلائلَهُ ويعاينَ أماراتِهِ ومخايلَهُ وتقديمُ المفعولِ على الفاعلِ لما مرَّ مراراً من الاهتمامِ بما قدم والتشويق إلى ما أُخِّر {فَيَقُولُ} عند تيقنِه بحلولِهِ {رَبّ لَوْلا أخرتني} اأمهلتني {إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} أي أمدٍ قصيرٍ {فَأَصَّدَّقَ} بالنصبِ على جوابِ التمنِي وقُرِىءَ فأتصدقَ {وَأَكُن مّنَ الصالحين} بالجزمِ عطفاً على محلِّ فأصدقَ كأنه قيلَ إنْ أخرتنِي أصدقْ وأكنْ وقُرِىءَ وأكونَ بالنصبِ عطفاً على لظفه وقُرِىءَ وأكونُ بالرفعِ أي وأنَا أكونَ عِدة منه بالصلاحِ

11

{وَلَن يُؤَخّرَ الله نَفْساً} أي ولَنْ يُمهلَهَا {إِذَا جَاء أَجَلُهَا} أي آخرُ عُمرِهَا أو انتهى إنْ أُريدَ بالأجلِ الزمانُ الممتدُ من أولِ العمرِ إلى آخرِهِ {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فمجاز لكم عليهِ إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشرٌّ فسارَعُوا في الخيراتِ واستعدُّوا لما هُو آتٍ وقُرِىءَ يعملُونَ بالياءِ التحتانيةِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ قَرأ سورةَ المنافقينَ برى من النفاق

التغابن 4 { {بسم الله الرحمن الرحيم}

التغابن

{يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الأرض} أي ينزهُهُ سبحانَهُ جميعِ ما فيهما من المخلوقاتِ عمَّا لا يليقُ بجنابِ كبريائِه تنزيهاً مُستمراً {لَهُ الملك وَلَهُ الحمد} لا لغيرِه وإذ هو المُبدىءُ لكلِّ شيءٍ وهو القائمُ به والمهيمنُ عليهِ وهو المُولِي لأصولِ النعمِ وفروعِها وأما ملكُ غيرِهِ فاسترعاءٌ من جنابِهِ وحمد غيره اعتداد بأنَّ نعمةَ الله جرتْ على يدِه {وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} لأن نسبةَ ذاتِهِ المقتضيةَ للقدرةِ إلى الكلِّ سواءٌ

2

{هُوَ الذى خَلَقَكُمْ} خلقاً بديعا حاويا لجميع مبادىء الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ ومع ذلكَ {فَمِنكُمْ كَافِرٌ} أي فبعضُكم أو فبعضٌ منكُم مختارٌ للكفرِ كاسبٌ له على خلافِ ما تستدعيهِ خلقتُه {وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} مختارٌ للإيمانِ كاسبٌ له حسبما تقتضيهِ خلقتُه وكان الواجبُ عليكم جميعاً أن تكونُوا مختارينَ للإيمانِ شاكرينَ لنعمةِ الخلقِ والإيجادِ وما يتفرَّع عليها من سائرِ النعمِ فما فعلتُم ذلكَ مع تمامِ تمكنِكُم منهُ بل تشعبتُم شعباً وتفرقتُم فرقاً وتقديمُ الكفرِ لأنه الأغلب فيما بينَهُم والأنسبُ بمقامِ التوبيخِ وحملُه على مَعْنَى فمنكم كافر مقدرة كفرُه موجهٌ إليهِ ما يحملُه عليهِ ومنكُم مؤمنٌ مقدرٌ إيمانُهُ موفقٌ لما يدعُوه إليهِ مما لا يلائمُ المقامَ {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكُم بذلكَ فاختارُوا منه ما يجديكُم من الإيمانِ والطاعةِ وإياكُم وما يُرديكم من الكفرِ والعصيان

3

{خلق السماوات والأرض بالحق} بالحكمةِ البالغةِ المتضمنة للمصالح الدينينة الدنيوية {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} حيثُ براكم في أحسن تصوير وأودعَ فيكُم من القُوى والمشاعرِ الظاهرةِ والباطنةِ ما نيط بها عن الكمالاتِ البارزةِ والكامنةِ وزينكُم بصفوةِ صفاتِ مصنُوعاتِهِ وخصَّكُم بخلاصةِ خصائصِ مُبدِعَاتِهِ وجعلَكُم أنموذجَ جميعَ مخلوقاتِهِ في هَذه النشأة {وَإِلَيْهِ المصير} في النشأة الأخرة لا الى غيره استلالا أو اشتراكاً فأحسِنُوا سرائركُم باستعمالِ تلكَ القُوى والمشاعرِ فيا خُلقنَ لَهُ

4

{يعلم ما فِى السماوات والأرض} من الأمورِ الكليةِ والجزئيةِ والأحوالِ الجليةِ والخفيةِ

7 5 {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تعلنون} أى ما تسرونه فيما بينَكُم وما تظهرونَهُ من الأمورِ والتصريحُ بهِ مع اندراجه فيما قبله لأنَّه الذي يدورُ عليهِ الجزاءُ ففيهِ تأكيدٌ للوعدِ والوعيدِ وتشديدٌ لهما وقولُه تعالَى {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبلَهُ من شمولِ علمِهِ تعالَى لسرِّهم وعلنِهِم أي هو محيطٌ بجميعِ المضمرات المستكنةِ في صدورِ الناسِ بحيثُ لا تفارقُها أصلاً فكيف يخفى عليه ما يُسرونَهُ وما يُعلنونَهُ وإظهارُ الجلالةِ للإشعارِ بعلةِ الحكمِ وتأكيدا استقلالِ الجملةِ قيلَ وتقديمُ تقريرِ القدرةِ على تقريرِ العلمِ لأنَّ دلالةَ المخلوقاتِ على قدرتِهِ بالذاتِ وعلى علمه بما فيه من الإتقانِ والاختصاصِ ببعضِ الأنحاءِ

5

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ} أيها الكفرةُ {نبأ الذين كفروا مِن قَبْلُ} كقومِ نوحٍ ومَنْ بعدهم من الأممِ المصرةِ على الكفرِ {فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} عطفٌ على كفرُوا والوبالُ الثقلُ والشدةُ المترتبةُ على أمرٍ من الأمورِ وأمرُهُم كفرُهُم عبرَ عنْهُ بذلكَ للإيذانِ بأنه أمرٌ هائلٌ وجنايةٌ عظيمةٌ أي ألم يأتكم خبرُ الذينَ كفرُوا مِن قَبْلُ فذاقُوا من غيرِ مهلةٍ ما يستتبعُه كفرهم في الدنيا {وَلَهُمْ} في الآخرةِ {عَذَابٌ أَلِيمٌ} لا يُقادرُ قدرُهُ

6

{ذلك} أي ما ذكر من العذابِ الذي ذاقُوه في الدُّنيا وما سيذوقونَهُ في الآخرةِ {بِأَنَّهُ} بسببِ أن الشأنَ {كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات} أي بالمعجزاتِ الظاهرةِ {فَقَالُواْ} عطفٌ على كانتْ {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} أي قالَ كلُّ قومٍ من المذكورينَ في حقِّ رسولِهِم الذي أتاهُم بالمعجزاتِ منكرينَ لكونِ الرسولِ من جنسِ البشرِ متعجبينَ من ذلكَ أبشرٌ يهدينَا كما قالتْ ثمودُ أَبَشَراً مّنَّا واحدا نَّتَّبِعُهُ وقد أُجملَ في الحكايةِ فأُسنِدَ القولُ إلى جميعِ الأقوامِ وأُريدَ بالبشرِ الجنسُ فوصفَ بالجمعِ كما أُجملَ الخطابُ والأمرُ في قوله تعالى يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا {فَكَفَرُواْ} أي بالرسلِ {وَتَوَلَّواْ} عن التدبرِ فيما أتَوا بهِ من البيناتِ وعن الإيمانِ بهم {واستغنى الله} أي أظهرَ استغناءَهُ عن إيمانِهِم وطاعَتِهِم حيثُ أهلكهُم وقطعَ دابرَهُم ولولا غناهُ تعالَى عنهُما لما فعلَ ذلكَ {والله غَنِىٌّ} عنِ العالمينَ فضلاً عن إيمانِهِم وطاعَتِهِم {حَمِيدٌ} يحمدُه كلُّ مخلوقٍ بلسانِ الحالِ أو مستحقٌ للحمدِ بذاتِهِ وإنْ لم يحمَدهُ حامدٌ

7

{زَعَمَ الذين كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ} الزعمُ ادعاءُ العلمِ يتعدَّى إلى مفعولينِ وقد قام مقامَهُما أن المخففةُ معَ مَا في حيزِهَا والمرادُ بالموصولِ كفارُ مكةَ أي زعمُوا أنَّ الشأنَ لن يبعثُوا بعد موتهم أباد {قُلْ} رداً عليهِم وإبطالاً لزعمِهِم بإثباتِ ما نَفوه {بلى} أى تبعثون قوله {وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} أي لتُحاسبُنَّ ولتُجزَوُنَّ بأعمالِكُم جملةٌ

} 1 8 مستقلةٌ داخلةٌ تحتَ الأمرِ واردةٌ لتأكيدِ ما أفادَهُ كلمةُ بَلَى من إثباتِ البعث وبيان تحقق أمرٍ آخرَ متفرعٍ عليهِ منوط ففيه تأكيد لتحقق البعثِ بوجهينِ {وَذَلِكَ} أي ما ذُكِرَ من البعثِ والجزاءِ {عَلَى الله يَسِيرٌ} لتحققِ القدرةِ التامةِ وقبولِ المادة والفاء في قوله تعالى

8

{فآمنوا} فصيحةٌ مفصحةٌ عن شرطٍ قد حذف ثقة ظهورِهِ أي إذا كانَ الأمرُ كذلكَ فآمنُوا {بالله ورسوله} محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم {والنور الذى أَنزَلْنَا} وهُو القرآنُ فإنَّه بإعجازِهِ بيِّنٌ بنفسِهِ مبيِّنٌ لغيرِهِ كما أنَّ النورَ كذلكَ والالتفاتُ إلى نونِ العظمةِ لإبرازِ كمالِ العنايةِ بأمرِ الإنزالِ {والله بِمَا تَعْمَلُونَ} من الامتثالِ بالأمرِ وعدمِهِ {خَبِيرٌ} فمجاز لكم عليهِ والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرر لما قبله من الأمرِ موجبٌ للامتثالِ به بالوعدِ والوعيدِ والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابة وتأكيدا استقلالِ الجُملةِ

9

{يوم يجمعكم} ظرف لتنبؤون وقيلَ لخبير لما فيهِ من مَعْنَى الوعيدِ كأنَّه قيلَ والله مجازيكُم ومعاقبكُم يومَ يجمعُكُم أو مفعولٌ لا ذكر وقُرِىءَ نَجْمعكُم بنونِ العظمةِ {لِيَوْمِ الجمع} ليومٍ يُجمعُ فيهِ الأولونَ والآخرونَ أي لأجلِ ما فيهِ من الحسابِ والجزاءِ {ذَلِكَ يَوْمُ التغابن} أي يومُ غَبْنِ بعضِ الناسِ بعضاً بنزولِ السعداءِ منازلَ الأشقياءِ لو كانوا سعداءَ وبالعكسِ وفي الحديثِ ما منْ عبدٍ يدخلُ الجنةَ إلا أُري مقعدَهُ من النارِ لو أساء ليزداد شُكراً وما من عبدٍ يدخلُ النارَ إلا أري مقعده من الجنةِ لو أحسنَ ليزدادَ حسرةً وتخصيصُ التغابنِ بذلكَ اليوم للإيذان بأن التغبن في الحقيقةِ هو الذي يقعُ فيهِ لا ما يقعُ في أمورِ الدُّنيا {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا} أي عملاً صالحاً {يَكْفُرْ} أي الله عزَّ وجلَّ وقُرىءَ بنونِ العظمةِ {عَنْهُ سيئاته} يومَ القيامةِ {وَيُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً} وقرىء ندخله بنون {ذلك} أى أي ما ذكر من تكفيرِ السيئاتِ وإدخالِ الجناتِ {الفوز العظيم} الذِي لاَ فوز وراءه لا نطوائه على النجاةِ من أعظمِ الهلكاتِ والظفرِ بأجلِّ الطلباتِ

10

{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أُوْلَئِكَ أصحاب النار خالدين فِيهَا وَبِئْسَ المصير} أي النارُ كأنَّ هاتينِ الآيتينِ الكريميتين بيانٌ لكيفيةِ التغابنِ

11

{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ} فمن المصائبِ الدنيويةِ {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي تقديره وإرادتِهِ كأنَّها بذاتِهَا متوجهةٌ إلى الإنسانِ متوقفةٌ على إذنِهِ تعالى {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} عند إصابتِهَا للثباتِ والاسترجاعِ وقيل يهدِ قلبَهُ حتَّى يعلمَ

} 4 1 { أنَّ ما أصابَهُ لم يكن لخطئه وما أخطأهُ لم يكُن ليصيبَهُ وقيلَ يهدِ قلبَهُ أي يلطفُ بهِ ويشرحُهُ لازديادا الطاعةِ والخيرِ وقُرِىءَ يُهْدَ قلبُهُ على البناءِ للمفعولِ ورفعِ قلبَهُ وقُرِىءَ بنصبِه على نهجِ سفِه نفسَهُ وقرىء يهدأ قلبه بالهمزةِ أي يسكُن {والله بِكُلّ شَيْء} من الأشياء التي من جُملتِهَا القلوبُ وأحوالِهَا {عَلِيمٌ} فيعلمُ إيمانَ المؤمنِ ويهدي قلبَهُ إلى ما ذُكِرَ

12

{وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} كرَّر الأمرَ للتأكيدِ والإيذانِ بالفرقِ بينَ الطاعتين في الكيفيةِ وتوضيحِ موردِ التولِّي في قولِه تعالَى {فَإِنَّ تَوَلَّيْتُمْ} أي عن إطاعةِ الرسولِ وقولُهُ تعالَى {فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين} تعليلٌ للجوابِ المحذوفِ أي فلا بأسَ عليهِ إذْ ما عليهِ إلا التبليغُ المبينُ وقد فعلَ ذلكَ بما لا مزيدَ عليهِ وإظهارُ الرسولِ مضافاً إلى نونِ العظمةِ في مقامِ إضمارِهِ لتشريفِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ والإشعارُ بمدارِ الحكمِ الذي هوَ كونُ وظيفتُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ محضَ البلاغِ ولزيادةِ تشنيعِ التولِّي عنْهُ

13

{الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ أي هو المستحقُّ للمعبوديةِ لا غيرُهُ وفي إضمارِ خبرِ لا مِثلَ في الوجودِ أو يصِح أن يوجد خلاف للنحاة معروفٌ {وَعَلَى الله} أي عليهِ تعالى خاصَّة دُونَ غيرِه لا استقلالاً ولا اشتراكاً {فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} وإظهارُ الجلالةِ في موقعِ الإضمارِ للإشعارِ بعلةِ التوكلِ والأمرِ به فإن الأولهية مقتضيةٌ للتبتلِ إليهِ تعالى بالكليةِ وقطعِ التعلقِ عما سراه بالمرة

14

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ} يشغلونَكُم عن طاعةِ الله تعالَى أو يخاصمونَكُم في أمورِ الدينِ أو الدُّنيا {فاحذروهم} الضميرُ للعدوِّ فإنَّه يطلقُ على الجمعِ نحو قولِهِ تعالَى فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى أو للأزواجِ والأولادِ جميعاً فالمأمورُ بهِ على الأولِ الحذرُ عن الكلِّ وعلى الثاني إما الحذرُ عن البعضِ لأنَّ منهم من ليسَ بعدوَ وإما الحذرُ عن مجموعِ الفريقينِ لاشتمالِهِم على العدوِّ {وَأَن تَعْفُواْ} عن ذنوبِهِم القابلةِ للعفوِ بأن تكونَ متعلقةً بأمورِ الدُّنيا أو بأمورِ الدينِ لكن مقارنةٌ للتوبةِ {وَتَصْفَحُواْ} بتركِ التثريبِ والتعييرِ {وَتَغْفِرُواْ} بإخفائِهَا وتمهيدِ عُذرِهَا {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يعاملكم ويتفضلُ عليكُم وقيلَ إنَّ ناساً من المؤمنينَ أرادُوا الهجرةَ عن مكَة فثبطهُم أزواجهم وأولادهم وقالوا تنطلقوا وتضيعونَنَا فرقُّوا لهُم ووقفُوا فلما هاجَرُوا بعد ذلكَ ورأو المهاجرينَ الأولينَ قد فقهُوا في الدينِ أرادُوا أن يعاقبُوا أزواجَهُم وأولادَهُم فزُينَ لهم العفوُ وقيلَ قالُوا لهُم أينَ تذهبونَ وتدعُونَ بلدكُم وعشيرتَكُم وأموالَكُم فغضبُوا عليهِم وقالُوا لئِن جمعنَا الله في دارِ الهجرةِ لم نُصِبكم بخيرٍ فلما هاجروا ومنعوهم الخير فحَثُّوا على أنْ يعفُوا عنهُم ويردُّوا إليهِمْ البرَّ والصلةَ

} 8 15

15

{أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ} بلاء ومحنة يوقوعونكم في الإثمِ من حيثُ لا تحتسبون {والله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لمن آثَرَ محبةَ الله تعالَى وطاعَتَهُ على محبةِ الأموالِ والأولادِ والسعيِ في تدبيرِ مصالحِهِم

16

{فاتقوا الله مَا استطعتم} أي ابذلُوا في تقواهُ جهدَكُم وطاقَتَكُم {واسمعوا} مواعظَهُ {وَأَطِيعُواْ} أوامرَهُ {وَأَنْفِقُواْ} مما رزقكُم في الوجوهِ التي أمركُم بالإنفاقِ فيها خالصاً لوجهِهِ {خَيْراً لأَنفُسِكُمْ} أي ائتُوا خيراً لأنفسِكُم وافعلُوا ما هو خيرٌ لها وأنفعُ وهو تأكيدٌ للحثِّ على امثتال هذهِ الأوامرِ وبيانٌ لكونِ الأمورِ المذكورةِ خيراً لأنفسِهِم ويجوزُ أن يكونَ صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي إنفاقاً خيراً أو خبراً لكان مقدرا جوابا الأوامر أي يَكُنْ خيراً لأنفسِكُم {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} الفائزونَ بكلِ مرامٍ

17

{إن تقرضوا الله} يصرف أموالكم إلى الماصرف التي عينها {قَرْضًا حَسَنًا} مقروناً بالإخلاصِ وطيبِ النفسِ {يضاعفه لَكُمْ} بالواحدِ عشرةً إلى سبعمائةٍ وأكثرَ وقُرِىءَ يُضعّفهُ لكُم {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ببركةِ الإنفاقِ ما فرَط منكُم من بعضِ الذنوبِ {والله شَكُورٌ} يَعطى الجزيلَ بمقابلةِ النزرِ القليلِ {حَلِيمٌ} لا يعاجلُ بالعقوبةِ مع كثرةِ ذنوبِكُم

18

{عالم الغيب والشهادة} لا يَخفى عليهِ خافيةٌ {العزيز الحكيم} المبالغُ في القدرةِ والحكمة عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ التغابنِ دُفِعَ عنهُ موت الفجأة

الطلاق { {بسم الله الرحمن الرحيم}

الطلاق

{يا أيها النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} تخصيصُ النداءِ بهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ مع عُمومِ الخطابِ لأمتِهِ أيضاً لتشريفه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وإظهارِ جلالةِ منصبِهِ وتحقيقِ أنَّه المخاطبُ حقيقةً ودخولِهِم في الخطابِ بطريقِ استتباعِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ إيَّاهُم وتغليبِهِ عليهِم لاَ لأنَّ نداءَهُ كندائهم فإذ ذلكَ الاعتبارَ لو كانَ في حيزِ الرعايةِ لكانَ الخطابُ هو الأحقَّ بهِ لشمولِ حُكمهِ للكلِّ قطعاً والمَعْنَى إذا أردتُم تطليقهنَّ وعزمتُم عليهِ كما في قولِهِ تعالَى إِذَا قُمتُم إِلَى الصلاة {فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي مستقبلاتٍ لها كقولكَ أتيته ليلة خلتْ من شهرِ كَذَا فإن المرأةَ إذا طُلقَتْ في طُهرٍ يعقبُهُ القُرْءُ الأولُ من أقرائِهَا فقد طُلقَتْ مستقبلةً لعدتِهَا والمرادُ أن يطلقن فيطهر لم يقعْ فيهِ جماعٌ ثم يُخلَّينَ حتى تنقضيَ عدتها وهَذا أحسنُ الطلاقِ وأدخلُهُ في السنةِ {وَأَحْصُواْ العدة} واضبِطُوها وأكملوها ثلاثةَ أقراءٍ كواملَ {واتقوا الله رَبَّكُمْ} في تطويل العدة عليهم والإضرارِ بهنَّ وفي وصفِهِ تعالى بربويته لهم تأكيدٌ للأمر ومبالغةٌ في إيجابِ الاتقاءِ {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} من مساكنِهِنَّ عندَ الفراقِ إلى أنْ تنقضيَ عِدتُهُنَّ وإضافتُهَا إليهنَّ وهيَ لأزواجهنَّ لتأكيدِ النَّهيِ ببيانِ كمالِ استحقاقهِنَّ لسُكنَاهَا كأنها أملاكهُنَّ {وَلاَ يَخْرُجْنَ} ولو بإذنٍ منكُم فإنَّ الإذنَ بالخروجِ في حُكمِ الإخراجِ وقيلَ المَعْنَى لا يخرجنَّ باستبدادٍ منهنَّ أما إذَا اتفقَا على الخروجِ جازَ إذِ الحقُّ لا يعدوهُمَا {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} استثناءٌ من الأولِ قيلَ هيَ الزنا فيخرجنَ لإقامة الحدِّ عليهنَّ وقيلَ إلا أنْ يبذُونَ على الأزواجِ فيحلُّ حينئذٍ إخراجهُنَّ ويؤيدُهُ قراءةُ إلا أنْ يُفْحِشْن عليكُم أو من الثانِي للمبالغةِ في النَّهيِ عن الخروجِ ببيانِ أنَّ خروجَهَا فاحشةٌ {تِلْكَ} إشارة إلى ما ذكر من الأحكامِ وما في إسمِ الإشارةِ من مَعْنَى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان بعلو درجتها وبعدمنزلتها {حُدُودَ الله} التي عيَّنَهَا لعباده {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} أي حدودَهُ المذكورةَ بأن أخل بشيءٍ منها على أنَّ الإظهارَ في حيزِ الإضمارِ لتهويلِ أمرِ التعدِّي والإشعارِ بعلةِ الحكمِ في قولِهِ تعالَى {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} اى اضربها وتفسيرُ الظلمِ بتعريضِهَا للعقابِ يأباهُ

} { قولُهُ تعالَى {لا تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} فإنه استئنافٌ مَسوقٌ لتعليلِ مضمونِ الشرطيةِ وقد قالُوا إن الأمرَ الذي يحدثُهُ الله تعالى أنْ يقلبَ قلبَهُ عمَّا فعلَهُ بالتعدِّي إلى خلافِهِ فلا بد أن يكون الظلمُ عبارةً عن ضررٍ دنيويَ يلحقُهُ بسببِ تعدِّيهِ ولا يُمكنُ تدارُكُهُ أو عنْ مُطلقِ الضررِ الشاملِ للدنيويِّ والأُخرويِّ ويخُصُّ التعليلُ بالدنيويِّ لكونِ احترازِ الناسِ منهُ أشدَّ واهتمامِهِمْ بدفْعِهِ أوقى وقولُهُ تعالَى لا تَدْرِى خطابٌ للمتعدِّي بطريقِ الالتفاتِ لمزيدِ الاهتمامِ بالزجرِ عن التعدِّي لا للنبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ كما توهِّمَ فالمَعْنَى وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فقدْ أضرَّ بنفسِهِ فإنك لا نردي أيُّها المتعدِّي عاقبَة الأمرِ لعلَّ الله يحدثُ في قلبكَ بعدَ ذلكَ الذي فعلتَ من التعدِّي أمراً يقتضِي خلافَ ما فعلتَهُ فيبدَّل ببغضِهَا محبةً وبالإعراضِ عنعا إقبالاً إليها ويتسنَّى تَلاَفيهِ رجعةً أو استئنافَ نكاحٍ

2

{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} شارفنَ آخرَ عدتِهِنَّ {فَأَمْسِكُوهُنَّ} فراجعوهنَّ {بِمَعْرُوفٍ} بحسنِ معاشرةٍ وإنفاقٍ لائقٍ {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} بإيفاء الحق واتقاء الضرار بأنْ يراجعَهَا ثم يُطلقهَا تطويلاً للعدةِ {وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ} عند الرجعةِ والفرقة قطعا للتنازع وهذ أمرُ ندبٍ كما في قولِهِ تعالَى وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ ويُروَى عن الشافعي أنه للوجوبِ في الرَّجعَةِ {وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ} أيُّها الشهودُ عندَ الحاجةِ خالصاً لوجهه تعالى {ذلكم} إشارةٌ إلى الحثِّ على الإشهادِ والإقامةِ أو على جميعِ ما في الآيةِ {يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الأخر} إذْ هو المنتفعُ بهِ والمقصودُ تذكيرُهُ وقولُهُ تعالَى {وَمَن يَتَّقِ الله} الخ جملةٌ اعتراضيةٌ مؤكدةٌ لما سبقَ منْ وجوبِ مراعاةِ حدودِ الله تعالى بالوعدِ على الاتقاءِ عن تعدِّيها كَما أن ما تقدمَ من قولِهِ تعالَى وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ مؤكدٌ لهُ بالوعيدِ على تعدِّيها فالمعنَى ومنْ يتقَ الله فطلقَ للسنةِ ولم يُضارَّ المعتدةَ ولم يُخرجها من مسكنِهَا واحتاطَ في الإشهادِ وغيرِهِ من الأمورِ {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} مما عَسَى يقعُ في شأنِ الأزواجِ من الغُمومِ والوقوعِ في المضايقِ ويفرجْ عنه ما يعتريهِ من الكُروبِ

3

{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يحتسبُ} أي من وجهٍ لا يخطرُ ببالِهِ ولا يحتسبُهُ ويجوزُ أن يكونَ كلاماً جيءَ بهِ على نهجِ الاستطرادِ عند ذكرِ قولِهِ تعالى ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله إلى آخرِهِ فالمَعْنَى ومن يتق الله في كلِّ ما يأتي وما يدر يجعلْ لهُ مخرجاً ومخلصاً من غمومِ الدُّنيا والآخرةِ فيندرجُ فيهِ ما نحنُ فيهِ اندراجاً أولياً عن النبي عله الصلاة والسلام أنه قرأها فقالَ مخرجاً من شبهاتِ الدُّنيا ومن غمراتِ الموتِ ومن شدائدِ

5 4 يومِ القيامةِ وقالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إِنّى لأعلمُ أخذَ الناسُ بها لكفتْهُم ومن يتقِ الله فما زال يقرؤها ويعيدُهَا ورُوِيَ أن عوف بن الأشجعيَّ أسرَ المشركونَ ابنَهُ سالماً فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال أسرَ ابنِي وشكَا إليهِ الفاقةَ فقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ اتقِ الله وأكثِرْ قولَ لا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ بالله العليِّ العظيمِ ففعلَ فبينَا في بيتِهِ إذ قرعَ ابنُهُ البابَ ومعهُ مائةٌ من الإبلِ غفلَ عنها العدو فاستقها فنزلتْ {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ} أيْ كافيهِ في جميعِ أمورِهِ {إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ} بالإضافةِ أي منفذُ أمرِهِ وقُرِىءَ بتنوينِ بالغُ ونصبِ أمره أى يريدُهُ لا يفوتُهُ مرادٌ ولا يعجزه مطلوب وقرئ برفعِ أمرِهِ على أنَّه مبتدأٌ وبالغٌ خبرٌ مقدّمٌ والجملةُ خبرُ إنَّ أو بالغٌ خبر إنَّ وأمرُهُ مرتفعٌ به على الفاعليةِ أي نافذ أمرُهُ وقُرِىءَ بالغاً أمرَهُ على أنَّه حال وخبرإن قولُهُ تعالَى {قَدْ جَعَلَ الله لِكُلّ شَىْء قَدْراً} أى تقدير وتوقيتا أو مقدار وهُو بيانٌ لوجوبِ التوكلِ عليهِ تعالَى وتفويضِ الأمرِ إليهِ لأنَّه إذا علمَ أنَّ كلَّ شيءٍ من الرزقِ وغيرِه لا يكونُ إلا بتقديرِه تعالَى لا يبقى إلا التسليمُ للقدرِ والتوكلُ على الله تعالى

4

{واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ} لِكبرهنَّ وقد قدروه بستين سنة ويخمس وخمسينَ {إِنِ ارتبتم} أي شككتُم وجهِلْتُم كيفَ عدّتُهُن {فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ واللائى لَمْ يَحِضْنَ} بعدُ لصغرِهِنَّ أي فعدَّتهنَّ أيضاً كذلكَ فحذفَ ثقةً بدِلالة ما قبلَهُ عليهِ {وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ} أي مُنْتهى عدتِّهِنَّ {أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} سواءً كُنَّ مطلقاتٍ أو مُتوفيًّ عنهُنَّ أزواجُهُنَّ وقد نُسخَ بهِ عمومُ قولِه تعالَى والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أشهر وعشرا لتراخى نزلوله عن ذلكَ لما هُو المشهورُ من قولِ ابنِ مسعود رضي الله عنه من شاءَ باهلتُه أنَّ سورةَ النساءِ القُصْرى نزلتْ بعدَ التي في سورةِ البقرةِ وقد صحَّ أن سبيعة بنت الحرث الأسلميةَ ولدتْ بعدَ وفاةِ زوجِهَا بليالٍ فذكرتْ ذلكَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لَهَا قدْ حللتِ فتزوَّجِي {ومن يتق الله} في شأنِ أحكامِهِ ومراعاةِ حقوقِهَا {يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يسرا} أى يسهل عله أمرَهُ ويوفِّقْهُ للخيرِ

5

{ذلك} إشارة إلى ما ذكر من الأحكام وما فيه من معنى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان ببعد منزلِته في الفضلِ وإفرادُ الكافِ معَ أن الخطابَ للجمعِ كما يفصح عن قولُه تعالى {أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} لِما أنها لمجردِ الفَرْق بين الحاضرِ والمنقضي لا لتعين خصوصية المخاطبين وقدمر في قولِه تعالَى ذلك بوعظ به كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله من سورةِ البقرةِ {وَمَن يَتَّقِ الله} بالمحافظةِ على أحكامِهِ {يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته} فإنَّ الحسناتِ يُذهبنَ السيئاتِ {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} بالمضاعفةِ

9 6 وقولُه تعالى

6

{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله من الحثِّ عَلى التَّقوى كأنَّه قيلَ كيفَ نعملُ بالتَّقوى في شأنِ المعتداتِ فقيلَ أسكنوهنَّ مسكناً من حيثُ سكنتُم أي بعضَ مكانٍ سكناكم وقولُه تعالَى {مّن وُجْدِكُمْ} أي من وُسعِكم أي مما تطيقونَهُ عطفُ بيانٍ لقولِهِ من حيثُ سكنتُم وتفسيرٌ لهُ {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ} أيْ في السكنى {لتضيقوا عليهن} وتلتجئوهن إلى الخروجِ {وَإِن كُنَّ} أي المطلقاتُ {أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فيخرُجنَ من العدةِ أما المُتوفَّى عنهنَّ أزواجُهنَّ فلا نفقةَ لهُنَّ {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} بعدَ ذلكَ {فآتوهن أُجُورَهُنَّ} على الإرضاعِ {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أي تشاورُوا وحقيقتُه ليأمرْ بعضُكم بعضاً بجميلٍ في الإرضاعِ والأجرِ ولا يكون من الأب مماسكة ولا من الأمِّ مُعاسرةٌ {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ} أي تضايقتُم {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} أي فستوجَدُ ولا تُعوزُ مرضعةٌ أُخرى وفيه معاتبةٌ للأمِّ على المعاسرةِ

7

{لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رزقه فلينفق مما آتاه الله} وإنْ قلَّ أي لينفقْ كُلُّ واحدٍ من الموسرِ والمعسرِ ما يبلغُه وسعُه {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إلا ما آتاها} جَلَّ أو قَلَّ فإنَّه تعالَى لا يكلفُ نفساً إلا وُسعَها وفيهِ تطييبٌ لقلبِ المُعسرِ وترغيبٌ لهُ في بذل مجهود وقد أُكِّدَ ذلكَ بالوعدِ حيثُ قيلَ {سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} أي عاجلاً أو آجلاً

8

{وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ} أي كثيرٌ من أهلِ قريةٍ {عَتَتْ} أي أعرضتْ {عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ} بالعُتوِّ والتمردِ والعنادِ {فحاسبناها حِسَاباً شديدا} بالاستقصاء والتنقير والمناقشةِ في كلِّ نقيرٍ وقِطْميرٍ {وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً} أي مُنكراً عظيماً وقُرِىءَ نكراً والمرادُ حسابُ الآخرةِ وعذابُها والتعبيرُ عنهما بلفظِ الماضى للدلالة على تحقيقها كما في قوله تعالى وَنَادَى أصحاب الجنة

9

{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً} هائلاً لا خُسَر وراءَهُ

} 1 10

10

{أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} تكريرٌ للوعيدِ وبيانٌ لكونه متقبا كأنَّه قيلَ أعدَّ الله لهم هَذا العذابَ {فاتقوا الله يا أولي الألباب} ويجوزُ أن يرادَ بالحسابِ استقصاءُ ذنوبهِم وإثباتُها في صحائفِ الحفظةِ وبالعذابِ ما أصابَهُم عاجلاً وقد جُوِّزَ أن يكونَ عتتْ وما عُطفَ عليهِ صفةً عليهِ صفةً للقريةِ وأعدَّ الله لهم جواباً لقولِه تعالَى كأى {الذين آمنوا} منصوبٌ بإضمارِ أعنِي بياناً للمُنادَى أو عطفُ بيانٍ لهُ أو نعتٌ وفي إبدالهِ منهُ ضعفٌ لتعذرِ حلولِهِ محلَّه {قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً} هُو جبريلُ عليهِ السَّلامُ سمِّيَ بهِ لكثرةِ ذكرِهِ أو لنزولِه بالذِكر الذي هُو القرآنُ كما ينبىءُ عنْهُ إبدالُ قولِه تعالَى

11

{رَسُولاً} منْهُ أو لأنَّه مذكورٌ في السمواتِ وفي الأممِ أو أُريدَ بالذكرِ الشرفُ كما في قولِه تعالَى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ كأنَّه في نفسِه شرفٌ إما لأنه شرفٌ للمنزلِ عليهِ وإما لأنَّه ذو مجدٌ وشرفٌ عند الله تعالَى كقولِه تعالَى عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ أو هُو النبيُّ عليهِ الصلاةَ والسلامُ وعليهِ الأكثرُ عبرَ عنهُ بالذكرِ لمواظبتِهِ على تلاوةِ القرآنِ أو تبليغِهِ والتذكيرِ بهِ وعبرَ عن إرسالِهِ بالإنزالِ بطريقِ الترشيحِ أو لأنه مسببٌ عن إنزالِ الوَحيِ إليهِ وأُبدلَ منهُ رسولاً للبيانِ أو هو القرآنُ ورسولاً منصوبٌ بمقدرٍ مثلُ أرسلَ أوْ بذكرَا على إعمالِ المصدرِ المنونِ أو بدلٌ منْهُ على أنَّه بمعنى الرسالةِ وقولُه تعالى {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيات الله مبينات} نعتٌ لرسولاً وآيات الله القرآن وبينات حالٌ منها أي حالَ كونِهَا مبيناتٍ لكُم ما تحتاجونَ إليهِ من الأحكامِ وقُرِىءَ مبيَّناتٍ أي بينَها الله تعالَى لقولِه تعالَى قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الأيات واللام في قوله تعالى {ليخرج الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} متعلقة بيتلوا أو بأنزلَ وفاعلُ يخرجَ على الأولِ ضميرُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام أو ضميرُ الجلالةِ والموصولِ عبارةٌ عنِ المؤمنينَ بعد إنزالهِ أي ليحصلَ لهم الرسولُ أو الله عزَّ وعلاَ ما هُم عليهِ الآنَ من الإيمان والعملِ الصالحِ أو ليخرجَ من علِمَ أو قدَّرَ أنَّه سيؤمنُ {مّنَ الظلمات إِلَى النور} من الضلالةِ إلى الهُدَى {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا} حسبما بُيِّن في تضاعيفِ ما أُنزلَ من الآياتِ المبيناتِ {يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} وقُرِىءَ نُدْخِلْهُ بالنون وقولُه تعالَى {خالدين فِيهَا أَبَداً} حالٌ من مفعولِ يُدخلْهُ والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضمائرِ الثلاثةِ باعتبارِ لفظِها وقولُه تعالَى {قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً} حالٌ أُخرى منْهُ أو من الضميرِ في خالدينَ بطريقِ التداخلِ وإفرادُ ضميرِ لهُ قد مرَّ وجهُه وفيهِ مَعْنَى التعجبِ والتعظيمِ لما رزقَهُ الله المؤمنينَ من الثوابِ

} {

12

{الله الذى خَلَقَ سَبْعَ سماوات} مبتدأٌ وخبرٌ {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} أي خلقَ من الأرضِ مثلَهُنَّ في العددِ وقُرِىءَ مثلهُن بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ ومِنَ الأرضِ خبرُهُ واختلفَ في كيفيةِ طبقات الأرض قالوا الجمهور على أنها سبع أراضين طباقاً بعضُها فوقَ بعضٍ بين كلِّ أرضٍ وأرضٍ مسافةٌ كما بينَ السماءِ والأرضِ وفي كلِّ أرضٍ سكانٌ من خلقِ الله تعالَى وقالَ الضحاكُ مطبقةٌ بعضها فوق من غيرِ فتوقٍ بخلافِ السمواتِ قال القرطبيُّ والأولُ أصحُّ لأنَّ الأخبارَ دالةٌ عليهِ كما رَوَى البخاريُّ وغيرُه مِنْ أنَّ كعباً حلفَ بالذي فلقَ البحرَ لمُوسى أنَّ صُهيباً حَدَّثهُ أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لم يرَ قريةً يريدُ دخولَها إلا قالَ حينَ يراهَا اللَّهم ربِّ السمواتِ السبعِ وما أظللنَ وربَّ الأرضينَ السبعِ وما أقللنَ ورب الشيطاطين وما أضللنَ وربَّ الرياحِ وما أذرينَ نسألُكَ خيرَ هذه القريةِ وخيرَ أهلِهَا ونعوذ بكَ من شرِّها وشرِّ أهلها وشرِّ مَنْ فيهَا وعن ابن عباس رضي الله عنهُما أنَّ نافعَ بنَ الأزرق سأله عن تحتَ الأرضينَ خلقٌ قالَ نعمْ قالَ فما الخلقُ قال إما ملائكةٌ أو جنٌّ قال الماورديُّ وعَلى هَذا تختصُّ دعوةُ الإسلامِ بأهلِ الأرضِ العُليا دونَ مَنْ عداهُم وإنْ كانَ فيهنَّ منْ يعقلُ منْ خلقٍ وفي مشاهدتِهِم السماءَ واستمدادِهِم الضوءَ منهَا قولانِ أحدُهما أنهم يشاهدونَ السماءَ مِن كُلّ جَانِبٍ من أرضِهِم ويستمدونَ الضياءَ منهَا والثاني أنهم لا يشاهدونَ السماءِ وأنَّ الله تعالَى خلقَ لهم ضياءً يشاهدُونَهُ وحَكَى الكلبيُّ عن أبي صالحٍ عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُما أنها سبعُ أرضينَ متفرقةٌ بالبحارِ وتُظِلُّ الجميعَ السماءُ {يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ} أي يَجْرِي أمرُه وقضاؤُه بينهنَّ وينفذُ ملكُهُ فيهنَّ وعن قَتَادَةَ في كلِّ سماءٍ وفي كلِّ أرضٍ خلقٌ من خلقِه وأمرٌ من أمرِه وقضاءٌ من قضائِه وقيلَ هو مَا يُدبرُ فيهنَّ من عجائبِ تدبيرِه وقُرِىءَ ينزلُ الأمرُ {لّتَعْلَمُواْ أَنَّ الله على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} متعلقٌ بخلقَ أو بيتنزلُ أو بمضمرٍ يعمُّهمَا أيْ فعلَ ذلكَ لتعلَمُوا أن من قدر على ما ذُكرَ قادرٌ على كلِّ شيءٍ {وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شيءٍ عِلْمَا} لاستحالةِ صدورِ الأفاعيلِ المذكورةِ ممن ليسَ كذلكَ ويجوزُ أن يكونَ العاملُ في اللامِ بيانَ ما ذُكر من الخلقِ وتنزّلِ الأمرِ أيْ أَوْحى ذلكَ وبيَّنهُ لتعلمُوا بما ذكرَ من الأمورِ التي تشاهدونَها والتي تتلقَّونها من الوحي من عجائبِ المصنوعاتِ أنه لا يخرجُ عن قدرتِهِ وعلمِهِ شيءٌ ما أصلاً وقُرِىءَ ليعلمُوا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم منْ قرأَ سورةَ الطلاقِ ماتَ على سنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم

التحريم 3 { {بسم الله الرحمن الرحيم}

التحريم

{يا أيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ} رُوي أنَّ النبيَّ عليه الصلاة والسلامُ خَلا بماريةَ في يوم عائشة وعلمن بذلكَ حفصةُ فقالَ لها اكتُمِي عليَّ فقدْ حرمتُ ماريةَ على نفسِي وأُبشركِ أن أبا بكرٍ وعمرَ يملكان بعدى أمرأمتى فأخبرتْ بهِ عائشةَ وكانَتا متصادقتين وقيلَ خَلا بها في يومِ حفصةَ فأرضاهَا بذلكَ واستكتَمَها فلم تكتُمْ فطلَّقَها واعتزلَ نساءَهُ فنزلَ جبريل عله السلامُ فقالَ راجعْها فإنَّها صوَّامةٌ قوامةٌ وإنها لمنْ نسائِكَ في الجَنَّةِ ورُوي أنَّه عليه الصلاةُ والسلام شربَ عسلاً في بيتِ زينبَ بنت جحشٍ فتواطأتْ عائشةُ وحفصةُ فقالتَا نشمُّ منكَ ريحَ المغافيرِ وكانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهُ التفلَ فحرَّم العسلَ فنزلتْ فمعناهُ لمَ تحرمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ منْ ملكِ اليمينِ أو منَ العسلِ {تَبْتَغِى مَرْضَاتِ أزواجك} إما تفسيرٌ لتحرِّمُ أو حالٌ من فاعلِه أو استئناف ببيان مادعاه إليه مؤذن بعد صلاحيتك لذلكَ {والله غَفُورٌ} مبالِغٌ في الغفرانِ قد غفرَ لكَ هذهِ الزلةَ {رَّحِيمٌ} قد رحمَكَ ولم يؤاخِذْكَ بهِ وإنما عاتبكَ محاماةً على عصمتِك

2

{قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم} أي شرعَ لكُم تحليلَهَا وهو حَلُّ ما عقدَهُ بالكفارةِ أو بالاستثناءِ متصلاً حتَّى لا يحنثَ والأولُ هو المرادُ ههنا {والله مولاكم} سيدكُم ومتولِّي أُمورِكُم {وَهُوَ العليم} بما يصلحكم فبشرعه لكُم {الحكيم} المتقنُ في أفعالِهِ وأحكامِهِ فلا يأمرُكُم ولا ينهاكُمْ إلا حسبما تقتضيه الحِكمةُ ة

3

{وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه} وهي حفصةُ {حَدِيثاً} أي حديثَ تحريمِ ماريةَ أو العسلِ أو أمرِ الخلافةِ {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أي أخبرتْ حفصةُ عائشةَ بالحديثِ وأفشته إليهَا وقُرِىءَ أنبأتْ بهِ {وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ} أي أطلعَ الله تعالَى النبيَّ عليهِ الصلاةَ والسلامُ على إفشاءِ حفصةَ {عَرَّفَ} أي النبيُّ عليهِ الصلاةَ والسلامُ حفصةَ {بَعْضَهُ} بعضَ الحديثِ الذي أفشَتْهُ قيلَ هو حديثُ الإمامة ورُوي أنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ قالَ لها ألم أقل لكِ اكتَمِي عليَّ قالت والذي بعثكَ بالحقِّ ما ملكت

5 4 ننفسى فرحاً بالكرامةِ التي خصَّ الله تعالَى بهَا أباهَا {وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ} أي عن تعريفِ بعضٍ تكرماً قيلَ هو حديثُ ماريةَ {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} أي أخبرَ النبيُّ عليهِ الصلاةَ والسلامُ حفصةَ بما عرفَهُ من الحديثِ {قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا} أي إفشاءَهَا للحديثِ {قَالَ نَبَّأَنِىَ العليم الخبير} الذي لا تَخفى عليهِ خافيةٌ

4

{إِن تَتُوبَا إِلَى الله} خطابٌ لحفصةَ وعائشةَ على الالتفاتِ للمبالغةِ في العتابِ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} الفاءُ للتعليل كما في قوله اعبُدْ ربَّكَ فالعبادةُ حقٌّ أي فقدْ وُجدَ منكُما ما يوجبُ التوبةَ من ميلِ قلوبِكما عمَّا يجبُ عليكُما من مُخالصةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وحبِّ ما يحبُه وكراهةِ ما يكرهُهُ وقُرِىءَ فقدْ زَاغَت {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} بإسقاطِ إحْدَى التاءينِ وقُرِىءَ عَلى الأصلِ وبتشديدِ الظَّاءِ وتَظهرا أي تتعاونَا عليهِ بما يسوؤه من الإفراطِ في الغير وإفشاءِ سرِّه {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه وَجِبْرِيلُ وصالح الْمُؤْمِنِينَ} أي فلَنْ يَعدَمَ مَن يظاهرُهُ فإنَّ الله هو ناصره وجبريل رئيسُ الكُروبيينَ قرينُه ومَن صلحَ منَ المؤمنينَ أتباعُه وأعوانُه قال ابنُ عباسٍ رضي تعالى عنهُما أرادَ بصالحِ المؤمنينَ أبا بكرٍ وعمرَ رضيَ الله عنهُما وقد رُويَ ذلكَ مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاةَ والسلام وبهِ قالَ عكرمةُ ومقاتلٌ وهو اللائق بتوسطه بين جبريلَ والملائكةِ عليهِم السلامُ فإنَّه جمعٌ بينَ الظهيرِ المعنويِّ والظهيرِ الصُّوريِّ كيف لا وإن جبرل ظهيرٌ لهُ عليهما السلامُ يؤيده بالتأييدات الاهية وهما وزيراهُ وظهيراهُ في تدبيرِ أمورِ الرسالةِ وتمشيةِ أحكامِهَا الظاهرةِ ولأنَّ بيانَ مظاهرتِهِما لهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ أشدُّ تأثيراً في قلوبِ بنتيهمَا وتوهيناً لأمرِهِما فكانَ حقيقاً بالتقديمِ بخلافِ ما إذا أُريدَ بهِ جنسُ الصالحينَ كما هوَ المشهور {والملائكة} مع تكاثرِ عددِهِم وامتلاءِ السمواتِ من جموعِهِم {بَعْدَ ذَلِكَ} قيلَ أي بعدَ نُصرةِ الله عزَّ وجلَّ وناموسِهِ الأعظمِ وصالحِ المؤمنينَ {ظَهِيرٍ} أي فوجٌ مظاهرٌ لهُ كأنَّهم يدٌ واحدةٌ على منْ يُعاديهِ فماذَا يفيدُ تظاهرُ امرأتينِ على مَن هؤلاءِ ظُهراؤُه وما ينبىء عنه قوله تعالى بعدَ ذلكَ من فضلِ نُصرتِهِم على نُصرةِ غيرِهِم مِنْ حيثُ إنَّ نصرةَ الكلِّ نصرةِ الله تعالَى وإنَّ نصرتَهُ تعالى بهم وبمظاهرتِهِم أفضلُ من سائرِ وجوهِ نُصرتِهِ هذا ما قالُوه ولعلَّ الأنسبَ أنْ يجعل ذلك إشارة إلى مظاهرةِ صالحِ المؤمنينَ خاصَّة ويكونَ بيانُ بعديةِ مظاهرةِ الملائكةِ تداركاً لما يُوهمه الترتيبُ الذكريُّ من أفضليةِ المقدمِ فكأنه قيلَ بعد ذكرِ مظاهرةِ صالحِ المؤمنينَ وسائرُ الملائكةِ بعدَ ذلكَ ظهيرٌ له عليهِ الصلاةُ والسلامُ إيذاناً بعلوِّ رتبةِ مظاهرتهم وبعد منزلتها وجبرا لفصلِها عن مظاهرةِ جبريلَ عليهِ السلامُ

5

{عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ} أي يعطيَهُ عليهِ السلامُ بدلكُنَّ

8 6 {أزواجا خَيْراً مّنكُنَّ} على التغليبِ أو تعميمِ الخطابِ وليس فيه ما يدل على أنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ لم يُطلقْ حفصةَ وإنَّ في النساءُ خيراً منهنَّ فإنَّ تعليقَ طلاقِ الكلِّ لا يُنافي تطليقَ واحدة وما علق بما لم يقعْ لا يجبُ وقوعُه وقُرِىءَ أنْ يبدِّله بالتشديد {مسلمات مؤمنات} مُقِراتٍ مخلصاتٍ أو منقاداتٍ مصدقاتٍ {قانتات} مصلياتٍ أو مواظباتٍ على الطاعةِ {تائبات} من الذنوبِ {عابدات} متعبداتٍ أو متذللات لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم {سائحات} صائماتٍ سمي الصائمُ سائحاً لأنه يسيحُ في النهارِ بلا زادٍ أو مهاجراتٍ وقُرِىءَ سيحاتٍ {ثيبات وَأَبْكَاراً} وُسِّطَ بينَهُما العاطفَ لتنافيهما

6

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ} بتركِ المعاصِي وفعلِ الطاعاتِ {وَأَهْلِيكُمْ} بأنْ تأخذوهم بما تأخذونَ به أنفسكم وقرىء أهلكوا عطفا على واوقوا فيكونَ أنفسَكُم عبارةً عن أنفسِ الكلِّ على تغليبِ المخاطبينَ أي قُوا أنتُم وأهلُوكم أنفسكُم {نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة} أي ناراً تتقدُ بهمَا اتقادَ غيرِها بالحطبِ وأمرَ المؤمنينَ باتقاءِ هذه النارِ المعدةِ للكافرينَ كما نصَّ عليهِ في سورةِ البقرةِ للمبالغةِ في التحذيرِ {عَلَيْهَا ملائكة} أي تَلي أمرَها وتعذيبَ أهلِهَا وهم الزبانيةُ {غِلاَظٌ شِدَادٌ} غلاظُ الأقوالِ شدادُ الأفعالِ أو غلاظُ الخُلقِ شدادُ الخلق وأقوياء على الأفعالِ الشديدةِ {لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ} أي أمرَهُ على أنَّهُ بدلُ اشتمالٍ من الله أو فيما أمرَهُم بهِ على نزع الخافض أي لا يمتنعُون من قبولِ الأمرِ ويلتزمونَهُ {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي ويؤدونَ ما يؤمرون به غيرِ تثاقلٍ ولا توانٍ وقوله تعالى

7

{يا أيها الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم} مقولٌ لقولٍ قد حُذف ثقةٍ بدلالةِ الحالِ عليهِ أي يُقالُ لهِم ذلكَ عند إدخالِ الملائكةِ إياهم النارَ حسبما أُمروا بهِ {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدُنيا من الكفرِ والمعاصِي بعدَ ما نُهيتُم عنهُما أشدَّ النَّهي وأُمرتم بالإيمانِ والطاعةِ فلا عذرَ لكُم قطعاً

8

{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ تُوبُواْ إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} أي بالغةً في النصحِ وُصفتْ التوبةُ بذلكَ على الإسنادِ المجازِي وهو وَصفْ التائبينَ وهو أنْ ينصحُوا بالتوبةِ أنفسَهُم فيأتُوا بها على طريقتِهَا وذلكَ أن يتوبُوا عن القبائحِ لقبحاها نادمينَ عليها مغتمينَ أشدَّ الاغتمامِ لارتكابِهَا عازمينَ على أنَّهم لا يعودونَ في قبيحٍ من القبائحِ موطِّنينَ أنفسَهُم على ذلكَ بحيثُ لا يَلويهم عنه صارفٌ أصلاً

} 0 9 عن عليَ رضيَ الله عنهُ أنَّ التوبةَ يجمعها ستةُ أشياءٍ على الماضِي من الذنوبِ الندامةُ وللفرائضِ الإعادةُ وردُّ المظالمِ واستحلالُ الخصومِ وأن تعزمَ على أنْ لا تعودَ وأن تذيبَ نفسكَ في طاعةِ الله تعالى كما ربَّيتها في المعصيةِ وأن تذيقَها مرارةَ الطاعةِ كما أذقتَها حلاوةَ المعصيةِ وعن شهر بن حوشب أنْ لا يعودَ ولو حُزِّ بالسيفِ وأُحرقَ بالنَّارِ وقيلَ نصوحَاً من نصاحةِ الثوب أى توبة توفو خروقَكَ في دينكَ وترمُّ خللك وقيل خالصةٌ من قولِهم عسلٌ ناصحٌ إذا خلصَ من الشمعِ ويجوزُ أنْ يرادَ توبةً تنصحُ الناسُ أي تدعُوهم إلى مثلِها لظهورِ أثرِها في صاحبِها واستعمالِه الجدَّ والعزيمةَ في العملِ بمقتضياتِهَا وقُرِىءَ توباً نصوحاً وقُرِىءَ نُصوحاً وهو مصدرُ نصحَ فإنَّ النُّصحَ والنُّصوحَ كالشكرِ والشُكورِ أي ذات النصح أو تنصحُ نصوحاً أو توبُوا لنصحِ أنفسِكُم على أنَّه مفعولٌ له {عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سيئاتكم وَيُدْخِلَكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} ورودُ صيغةِ الإطماعِ للجَريِ على سَنَنِ الكبرياءِ والإشعارِ بأنَّهُ تَفضُلٌ والتوبةُ غيرُ موجبةٍ له وأن العبدَ ينبغِي أن يكونَ بين خوفٍ ورجاء وإن بالغ في إقامةِ وظائفِ العبادةِ {يَوْمٌ لاَّ يخزِى الله النبى} ظرف ليدخلكم {والذين آمنوا مَعَهُ} عطفٌ على النبيِّ وفيهِ تعريضٌ بمن أخزاهُم الله تعالَى من أهلِ الكفرِ والفسوقِ واستحمادٌ إلى المؤمنين على انه عصمَهُم من مثلِ حالِهِم وقيلَ هو مبتدأٌ خبرُه قولُهُ تعالَى {نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم} أيْ عل الصراطِ وهو على الأولِ استئناف أو حال وكذا قولُه تعالَى {يَقُولُونَ} الخ وعلى الثاني خبرٌ آخرُ للموصولِ أي يقولونَ إذا طُفىءَ نورُ المنافقينَ {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَا إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ} وقيلَ يدعونَ تقرباً إلى الله مع تمام نورهم وقيل تفاوت أنوارُهُم بحسبِ أعمالِهِم فيسألونَ إتمامَهُ تفضُّلاً وقيلَ السابقونَ إلى الجنةِ يمرونَ مثلَ البرقِ على الصراطِ وبعضُهم كالريحِ وبعضُهُم حَبْواً وزحفاً وأولئكَ الذينَ يقولونَ ربنا اتمم لنا نورنا

9

{يا أيها النبى جاهد الكفار} بالسيفِ {والمنافقين} بالحجَّةِ {واغلظ عَلَيْهِمْ} واستعملِ الخشونةَ على الفريقينِ فيما تجاهدهُما من القتالِ والمحاجَّة {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} سيرونَ فيها عذاباً غليظاً {وَبِئْسَ المصير} أي جهنمُ أو مصيرُهُم

10

{ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} ضربُ المثلِ في أمثالِ هذهِ المواقعِ عبارةٌ عن إيرادِ حالةٍ غريبةٍ ليعرفَ بها حالةٌ أُخرى مشاكلة في الغرابةِ أي جعلَ الله مثلاً لحالِ هؤلاءِ الكفرةِ حالاً ومآلاً على أنَّ مثلاً مفعولٌ ثانٍ لضربَ واللامُ متعلقةٌ بهِ وقوله تعالى {امرأة نوح وامرأة لُوطٍ} أي حالَهُما مفعولُه الأوَّلَ أُخِّر عنْهُ ليتَّصل بهِ ما هو شرحٌ وتفصيلٌ لحالِهِما ويتضحُ بذلكَ حالُ هؤلاءِ فقولِهِ تعالَى {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صالحين} بيانٌ لحالِهِما الداعية لها إلى الخيرِ والصلاحِ أي كافتاخ عصمةِ نبيينِ عظيمي الشأنِ متمكني // ن من تحصيلِ خيري الدُّنيا والآخرةِ وحيازةَ سعادتيهِما وقولُه تعالَى {فَخَانَتَاهُمَا}

} 2 1 { بيانٌ لما صدرَ عنهُما من الجنايةِ العظيمةِ مع تحقيق ما ينفيها من صحبةِ النبيِّ أي خانتاهُما بالكفرِ والنفاقِ وهذا تصويرٌ لحالهِما المحاكيةِ لحالِ هؤلاءِ الكفرةِ في خيانتِهِم لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالكفرِ والعصيانِ مع تمكنهِم التامِّ من الإيمانِ والطاعةِ وقوله تعالى {فلم يغنيا} الخ بيانٌ لما أدَّى إليه خيانتُهُما أي فلم يُغنِ النبيانِ {عَنْهُمَا} بحقِّ الزواجِ {مِنَ الله} أي من عذابه تعالى {شَيْئاً} أي شيئا من الإغناء {وقيل} لهما عند موتهم أو يومَ القيامةِ {ادخلا النار مَعَ الداخلين} أي مع سائرِ الداخلينَ من الكفرةِ الذينَ لا وصلةَ بينهُم وبينَ الأنبياءِ عليهِم السَّلامُ

11

{وَضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ آمنوا امرأة فِرْعَوْنَ} أي جعلَ حالها مثلاً لحالِ المؤمنينَ في أنَّ وصلةَ الكفرةِ لا تضرُّهم حيثُ كانتْ في الدُّنيا تحت أعدى أعداءِ الله وهيَ في أعلى غرفِ الجنةِ وقولِهِ تعالَى {إِذْ قَالَتِ} ظرفٌ لمحذوفٍ أشيرَ إليهِ أي ضربَ الله مثلاً للمؤمنينَ حالَها إذْ قالتْ {رَبّ ابن لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الجنة} قريباً من رحمتكَ أو في أَعلَى درجاتِ المقربينَ رُوِيَ أنها لما قالتْ ذلكَ أريتْ بيتَها في الجنة ردة وانتُزِعَ رُوحُها {وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} أي مِنْ نفسِه الخبيثةِ وعملِه السيِء {وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين} من القبطِ التابعينَ لهُ في الظلمِ

12

{وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ} عطفٌ على امرأةِ فرعونٍ تسليةً للأراملِ أي وَضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ آمنُوا حالَها ومَا أوتيتْ من كرامةِ الدُّنيا والآخرةِ والاصطفاء على نساء العاملين مع كونِ قومِها كُفاراً {التى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ} وقُرِىءَ فيها أي مريمٌ {مِن رُّوحِنَا} من رُوحٍ خلقناهُ بلا توسطٍ أصلاً {وَصَدَّقَتْ بكلمات رَبَّهَا} بصحفِهِ المنزلةِ أو بما أَوْحى إلى أنبيائِه {وَكُتُبِهِ} بجميعِ كتبِه المنزلةِ وقُرِىءَ بكلمةِ الله وكتابِه أي بعيسَى وبالكتابِ المنزلِ عليهِ وهو الإنجيلُ {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} أي من عدادِ المواظبينَ على الطاعةِ والتذكيرُ للتغليبِ والإشعارِ بأنَّ طاعتها لم تقصُرْ عنْ طاعاتِ الرجالِ حتى عُدَّت مِنْ جُملَتهم أو مِنْ نَسلِهِم لأنَّها من أعقابِ هارونَ أخِي مُوسى عليهما السلامُ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم كَمُلَ من الرجالِ كثيرٌ ولم يكملْ من النساءِ إلا أربعٌ آسيةُ بنتُ مُزاحمٍ ومريمُ بنتُ عمرانَ وخديجةُ بنتُ خويلدٍ وفاطمةُ بنتُ محمدٍ صلواتُ الله عليهِ وفضلُ عائشةَ على النساءِ كفضلِ الثريدِ على سائرِ الطعامِ وعن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ التحريمِ آتاه الله توبة نصوحا

67 سورة الملك (1 2) (سورة الملك مكية وتسمى الواقية والمنجية لأنها تقي وتنجي قارئها من عذاب القبر وآياتها ثلاثون) (بسم الله الرحمن الرحيم)

الملك

(تَبَارَكَ الذى بِيَدِهِ الملك) البركة والنماء والزِّيادةُ حسيَّةً كانتْ أو عقليةً وكثرةُ الخيرِ ودوامُه أيضاً ونسبتُها إلى الله عزَّ وجلَّ على المَعْنى الأوَّل وهُو الأليقُ بالمقامِ باعتبارِ تعاليهِ عمَّا سواهُ في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ وصيغةُ التفاعلِ للمبالغةِ في ذلك فان مالا يتصورُ نسبتُهُ إليهِ تعالَى من الصِّيغ كالتَّكبر ونحوِه إنَّما تنسبُ إليه سبحانَهُ باعتبارِ غاياتِهَا وعلى الثَّاني باعتبارِ كثرةِ ما يفيضُ منهُ على مخلوقاتِهِ من فنونِ الخيراتِ والصِّيغةُ حينئذٍ يجوزُ أنْ تكونَ لإفادةِ نماءِ تلكَ الخيراتِ وازديادِها شيئاً فشيئاً وآناً فآناً بحسبِ حدوثِها أو حدوثِ متعلَّقاتِها ولاستقلالِها بالدِّلالة على غايةِ الكمالِ وإنبائِها عن نهايةِ التَّعظيمِ لم يجُز استعمالُها في حقِّ غيرِه سبحانَهُ ولا استعمالُ غيرِها من الصيغِ في حقِّه تباركَ وتعالَى وإسنادُها إلى الموصولِ للاستشهادِ بما في حيزِ الصَّلةِ على تحققِ مضمونِهَا واليدُ مجازٌ عن القدرةِ التامَّةِ والاستيلاءِ الكاملِ أي تعالَى وتعاظَم بالذاتِ عن كلِّ ما سواهُ ذاتاً وصفةً وفعلاً الذي بقبضةِ قُدرتِهِ التَّصرفُ الكليُّ في كلِّ الأمورِ {وَهُوَ على كُلّ شَىْء} منَ الأشياءِ {قَدِيرٌ} مبالِغٌ في القُدرة عليهِ يتصرفُ فيهِ حسبما تقتضيه مشيئته المببنية على الحكمِ البالغةِ والجملةُ معطوفةٌ على الصِّلةِ مقررةٌ لمضمونِهَا مفيدةٌ لجريانِ أحكامِ مُلكِهِ تعالَى في جَلائلِ الأُمورِ ودقائِقها وقولُه تعالَى

2

{الذى خَلَقَ الموت والحياة} شروعٌ في تفصيلِ بعضٍ أحكامِ المُلكِ وآثارِ القُدرةِ وبيانِ ابتنائِهِما على قوانينِ الحِكَمِ والمَصالحِ واستتباعِهِما لغاياتٍ جليلةٍ والموصولُ بدلٌ من الموصولِ الأولِ داخلٌ معهُ في حُكمِ الشهادةِ بتعاليهِ تعالَى والموتُ عندَ أصحابِنَا صفةٌ وجُوديةٌ مضادةٌ للحياةِ وأمَّا ما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهُمَا منْ أنَّهُ تعالَى خلقَ الموتُ في صُورةِ كبشٍ أملحَ لا يمرُّ بشيءٍ ولا يجدُ رائحتَهَا شيء الا حي وخلقَ الحياةَ في صورةِ فرسٍ بَلقاءَ لا تمرُّ بشيءٍ ولا يجدُ رائحتَهَا شيء إلا حي فكلامٌ واردٌ على منهاجِ التمثيلِ والتصويرِ وقيلَ هو عدمُ الحياةِ فمعنَى خلقِه حينئذٍ تقديرُهُ أو إزالةُ الحياةِ وأيَّاً ما كانَ فالأقربُ أنَّ المرادَ بهِ الموتُ الطارىءُ وبالحياةِ ما قبلَهُ وما بعدَهُ لظهورِ مداريتِهِما لما ينطقُ بهِ قولُه تعالَى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فإن استدعاءَ ملاحظتهما لاحسان العمل مما لا ريبَ فيه معَ أنَّ نفسَ العملِ لا يتحققُ بدونِ الحياةِ الدنيويةِ وتقديمُ الموتِ لكونِهِ

67 سورة الملك (3) أدعى إلى إحسانِ العملِ واللامُ متعلقةٌ بخلقَ أي خلقَ موتَكُم وحياتَكُم على أنَّ الألفَ واللامَ عوضٌ عن المضافِ إليهِ ليعاملَكُم معاملةَ مَنْ يختبرُكم أيكُم احسن عملا فيجازيكم على مراتبَ متفاوتةٍ حسبَ تفاوتِ طبقاتِ علومِكُم وأعمالِكُم فإنَّ العملَ غيرُ مختصَ بعملِ الجوارحِ ولذلكَ فسَّره عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه أيُكم أحسنُ عقلاً وأورَعُ عن محارمِ الله وأسرعُ في طاعةِ الله فإنَّ لكلٍ من القلبِ والقالَب عملاً خاصَّاً به فكَما أنَّ الأولِ أشرفَ من الثَّانِي كذلكَ الحالُ في عملِه كيفَ لاَ ولا عملَ بدونِ معرفةِ الله عزَّ وجلَّ الواجبةِ على العبادِ آثرَ ذي أثيرٍ وإنما طريقُها النظريُّ التفكرُ في بدائعِ صُنْعِ الله تعالَى والتدبرُ في آياتِه المنصوبةِ في الأنفس والآفاق وقد وقَد رُوي عنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسلام أنه قال لا تُفضِّلوني على يونسَ بنِ مَتَّى فإنَّهُ كانَ يُرفع لهُ كلَّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرض قالُوا وإنَّما كانَ ذلكَ التفكّرَ في أمرِ الله عزَّ وجلَّ الذي هُو عملُ القلبِ ضرورةَ أنَّ أحداً لا يقدرُ على أنْ يعملَ بجوارحِهِ كلَّ يومٍ مثلُ عملِ أهلِ الأرضِ وتعليقُ فعلِ البَلْوَى أي تعقيبُه بحرفِ الاستفهامِ لا التعليقُ المشهورُ الذي يقتضِي عدمَ إيرادِ المفعولِ أصلاً مع اختصاصِهِ بأفعالِ القلوبِ لما فيهِ من مَعْنَى العلمِ باعتبارِ عاقبتِه كالنظرِ ونظائرِه ولذلك أُجرَي مَجْرَاه بطريقِ التمثيلِ وقيلَ بطريقِ الاستعارةِ التبعيةِ وإيرادُ صيغةِ التَّفضيل معَ أنَّ الابتلاء شاملٌ لهم باعتبارِ أعمالهِم المنقسمةِ إلى الحسنِ والأحسنِ فقطْ للإيذانِ بأنَّ المرادَ بالذاتِ والمقصدِ الأصليَّ من الابتلاءِ هو ظهورُ كمالِ إحسانِ المحسنينَ مع تحققِ أصلِ الإيمانِ والطاعةِ في الباقينَ أيضاً لكمالِ تعاضدِ الموجباتِ له وأما الاعارض عن ذلكَ فبمعزلٍ من الاندراجِ تحتَ الوقوعِ فضلاً عن الانتظامِ في سلكِ الغاية للأفعال الاليهة وإنَّما هُو عملٌ يصدُر عن عاملِهِ بسوءِ اختيارِه من غيرِ مصحِّحٍ لهُ ولا تقريبٍ وفيهِ من الترغيبِ في الترقِّي إلى معارجِ العلومِ ومدارجِ الطاعاتِ والزجرِ عن مباشرةِ نقائِضِها ما لا يخفى {وهو العزيز} الغالب الذي لا يفوتُهُ من أساءَ العملَ {الغفور} لمن تابَ منهُم

3

{الذي خلق سبع سماوات} قيلَ هو نعتٌ للعزيزُ الغفورُ أو بيانٌ أو بدلٌ والأوجهُ أنه نُصِب أو رُفع على المدحِ متعلق بالموصولين السابقينِ مَعْنَى وإنْ كانَ منقطعاً عنهُما إعراباً كما مرَّ تفصيلُه في قولِهِ تعالى الذين يؤمنون بالغيب من سورةِ البقرةِ منتظَمٌ معهما في سلكِ الشهادةِ بتعاليه اليه سبحانَهُ ومع الموصولِ الثَّاني في كونِه مداراً للبلوى كما نطق به قوله تعالَى وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وقولُه تعالَى {طِبَاقاً} صفةٌ لسبعَ سمواتٍ أي مطابقةً على أنَّه مصدرُ طابقتَ النعلَ إذا خصفتَها وُصفَ بهِ المفعولُ أو مصدره مؤكدٌ لمحذوفٍ هو صفتُها أي طُوبقتْ طباقاً وقولُه تعالَى {مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت} صفةٌ أُخرى لسبعَ سمواتٍ وضع فيها خلقُ الرحمنِ موضوع الضميرِ للتعظيمِ والإشعارِ بعلةِ الحكمِ وبأنَّه تعالى خلقَها بقدرتِهِ القاهرةِ رحمةً وتفضلاً وبأنَّ في إبداعِها نعماً

سورة الملك (4 7) جليلةً أو استئنافٌ والخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلحُ للخطابِ ومنْ لتأكيدِ النَّفي أي ما تَرى فيه شيئا من تفاوتٍ أي اختلافٍ وعدم تناسُبٍ من الفَوتِ فإنَّ كلاً من المتفاوتينَ يفوتُ منهُ بعضُ ما في الآخرِ وقُرِىءَ من تفوتٍ ومعناهُمَا واحدٌ وقولُه تعالَى {فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} متعلقٌ به على معنى التسبيب حيثُ أخبرَ أولاً بأنه لا تفاوتَ في خلقهنَّ ثم قيلَ فارجعِ البصرَ حتَّى يتضحَ لك ذلكَ بالمعاينةِ ولا يبقى عندكَ شبهةٌ ما والفطورُ الشقوقُ والصدوعُ جمعُ فِطْرٍ وهو الشقُّ يقالُ فطرَهُ فانفطَرَ

4

{ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي رجعتينِ أُخرَيينِ في ارتيادِ الخللِ والمرادُ بالتثنيةِ التكريرُ والتكثيرُ كما في لبَّيكَ وسَعديكَ أي رجعةً بعدَ رجعةٍ وإنْ كثُرتْ {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا} أي بعيداً محروماً من إصابةِ ما التمسَهُ من العيبِ والخللِ كأنَّه يُطردُ عن ذلكَ طرداً بالصَّغارِ والقَماءةِ {وَهُوَ حَسِيرٌ} أي كليلٌ لطولِ المعاودةِ وكثرةِ المُراجعةِ وقولُه تعالَى

5

{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا} بيانٌ لكونِ خلقِ السمواتِ في غايةِ الحسنِ والبهاءِ إثرَ بيانِ خُلوِهَا عن شائبةِ القصورِ وتصديرُ الجملةِ بالقسمِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بمضمونِهَا أي وبالله لقد زيَّنا أقربَ السمواتِ إلى الأرضِ {بمصابيح} أي بكواكبَ مضيئةً بالليلِ إضاءةَ السرجِ من السياراتِ والثوابتِ تتراءى كأن كُلَّها مركوزةٌ فيها مع أنَّ بعضَها في سائرِ السمواتِ وما ذاكَ إلا لأنَّ كلَّ واحدةٍ منها مخلوقةٌ على نمطٍ رائقٍ تحارُ في فهمِهِ الأفكارُ وطرازٍ فائقٍ تهيمُ في دركِهِ الأنظارُ {وجعلناها رُجُوماً للشياطين} وجعلنَا لها فائدةً أُخرى هي رجمُ أعدائِكُم بانقضاضِ الشهبِ المقتبسةِ من نارِ الكواكبِ وقيلَ معناهُ وجعلنَاهَا ظنوناً ورجوماً بالغيبِ لشياطينِ الإنسِ وهم المنجمونَ ولا يساعدهُ المقامُ والرجومُ جمع رَجْمٍ بالفتحِ وهو ما يُرجمُ بهِ {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ} في الآخرةِ {عَذَابِ السعير} بعد الاحتراقِ في الدُّنيا بالشهبِ

6

{وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ} منَ الشياطينِ وغيرِهِم {عَذَابَ جَهَنَّمَ} وقرئ بالنصبِ على أنَّه عطفٌ على عذابِ السعيرِ وللذينَ على لهم {وَبِئْسَ المصير} أي جهنمُ

7

{إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا} أي لجهنَم وهو متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من قولِهِ تعالَى {شَهِيقًا} لأنه في الأصلِ صفتُه فلما قُدمتْ صارتْ حالاً أي سمعُوا كائناً لَها شهيقاً أي صوتاً كصوتِ الحميرِ وهو حسيسُها المنكرُ الفظيعُ قالوا الشهيقُ في الصدرِ والزفيرُ في الحلقِ {وَهِىَ تَفُورُ} أي والحالُ أنها تغلِي بهم غليانَ المِرْجِلِ بما فيهِ وجعلُ الشهيقِ لأهلِهَا منهُم وممن طُرحَ فيها قبلَهُم كما في قولِهِ تعالَى لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ يرده قوله تعالى

67 سورة اتلملك (8 10)

8

{تَكَادُ تَمَيَّزُ} أي تتميزُ وتتفرقُ {مِنَ الغيظ} أي منْ شدةِ الغضبِ عليهِم فإنَّه صريحٌ في أنَّهُ من آثارِ الغضبِ عليهِم كما في قوله تعالى سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً فأينَ هُو من شهيقِهِم الناشىءِ من شدةِ ما يقاسونَهُ من العذابِ الأليمِ والجملةُ إما حالٌ من فاعلِ تفورُ أو خبرٌ آخرُ وقولُه تعالَى {كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ حالِ أهلِها بعد بيانِ حالِ نفسِها وقيلَ حالٌ من ضميرِها أي كلما أُلقَى فيها جماعةٌ من الكفرةِ {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} بطريقِ التوبيخِ والتقريعِ ليزدادُوا عذاباً فوقَ عذابٍ وحسرةً على حسرةٍ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} يتلُو عليكُم آياتِ ربِّكُم وينذركُم لقاءَ يومِكُم هذا كما وقعَ في سورةِ الزمرِ ويعربُ عنه جوابهُم أيضاً

9

{قَالُواْ} اعترافاً بأنه تعالَى قد أزاحَ عللَهُم بالكليةِ {بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ} جامعينَ بينَ حرفِ الجوابِ ونفسِ الجملةِ المجابِ بها مبالغةً في الاعترافِ بمجىءِ النذيرِ وتحسراً على ما فاتَهُم من السعادةِ في تصديقِهِم وتمهيداً لبيانِ ما وقعَ منهُم من التفريطِ تندماً واغتماماً على ذلكَ أيْ قالَ كلُّ فوجٍ من تلكَ الأفواجِ قد جاءنا نذير اي واحدة حقيقةً أو حكماً كأنبياءِ بني اسرائيل فانهم حكمِ نذيرٍ واحدٍ فأنذرنا وتَلا علينا ما نزَّل الله تعالى عليه من آياتِهِ {فَكَذَّبْنَا} ذلكَ النذيرَ في كونِهِ نذيراً من جهتِهِ تعالَى {وَقُلْنَا} في حقِّ ما تلاهُ من الآياتِ إفراطاً في التكذيبِ وتمادياً في النكيرِ {ما نزل الله} أحدٍ {مِن شَىْء} من الأشياءِ فضلاً عن تنزيلِ الآياتِ عليكُم {إِنْ أَنتُمْ} أي ما أنتُم في ادعاء أنَّه تعالَى نزَّل عليكُم آياتٍ تُنذرونَنا بِمَا فيها {إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ} بَعِيدٍ عن الحقِّ والصوابِ وجمعُ ضميرِ الخطابِ مع أنَّ مخاطِبَ كلِّ فوجٍ نذيرُهُ لتغليبِهِ على أمثاله مبالغةً في التكذيبِ وتمادياً في التضليلِ كما ينبىءُ عنهُ تعميمُ المُنزِّلِ مع تركِ ذكرِ المُنزَّلِ عليهِ فإنَّه مُلوِّحٌ بعمومِهِ حتماً وأما إقامةُ تكذيبِ الواحدِ مُقامَ تكذيبِ الكلِّ فأمرٌ تحقيقيٌّ يصارُ إليهِ لتهويلِ ما ارتكبُوه من الجنايات لامساغ لاعتبارِهِ من جهتِهِم ولا لإدراجِهِ تحت عبارَتِهِم كيفَ لا وهو منوطٌ بملاحظةِ اجماع النذر على مالا يختلفُ من الشرائعِ والأحكامِ باختلافِ العصورِ والأعوامِ وأين هُم من ذلك وقد حال الجريضُ دونَ القريضِ هَذا إذا جَعلَ ما ذُكِرَ حكايةً عن كلِّ واحدٍ من الأفواجِ وأما إذا جُعلَ حكايةً عن الكلِّ فالنذيرُ إمَّا بمَعْنَى الجمعِ لأنَّه فعيلٌ أو مصدرٌ مقدرٌ بمضافٍ عامَ أي أهلُ نذيرٍ أو منعوتٌ بهِ فيتفقُ كلا طَرَفَي الخطابِ في الجمعيةِ ومن اعتبرَ الجمعيةَ بأحدِ الوجوهِ الثلاثةِ على التقديرِ الأولِ ولم يخصَّ اعتبارَهَا بالتقديرِ الأخيرِ فقد اشتَبَه عليه الشئون واختلطَ بهِ الظنونُ وقد جُوِّزَ أنْ يكونَ الخطابُ من كلامِ الخزنةِ للكفارِ على إرادةِ القولِ على أنَّ مرادَهُم بالضَّلالِ ما كانُوا عليهِ في الدُّنيا أو هلاكهُم أو عقابُ ضلالِهِم تسميةً لهُ باسمِ سببِهِ وأن يكونَ من كلامِ الرسلِ للكفرةِ وقد حكموه للخزانة فتأمل وكن على الحق المبينِ

10

{وَقَالُواْ} أيضاً معترفينَ بأنَّهم لم يكونوا

سورة الملك (11 14) ممَّن يسمعُ أو يعقلُ {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} كلاماً {أَوْ نَعْقِلُ} شيئاً {مَا كُنَّا فِى أصحاب السعير} أي في عدادِهِم ومن أتباعِهِم وهم الشياطينُ لقولِهِ تعالَى وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير كأنَّ الخزنةَ قالُوا لهم في تضاعيفِ التوبيخِ ألم تسمعُوا آياتِ ربِّكُم ولم تعقِلُوا معانِيهَا حتَّى لا تُكذبُوا بها فأجابُوا بذلكَ

11

{فاعترفوا بِذَنبِهِمْ} الذي هو كُفرهم وتكذيبُهُم بآياتِ الله ورسله {فَسُحْقًا} بسكونِ الحاءِ وقُرِىءَ بضمِّها مصدرٌ مؤكدٌ إمَّا لفعلٍ متعدَ من المزيدِ بحذفِ الزوائدِ كَما في قعدكَ الله أي فأسحقَهُم الله أي أبعدهم من رحمتِهِ سُحْقَاً أي إسْحَاقاً أو لفعلٍ مترتبٍ على ذلكَ الفعلِ أي فأسحقَهُم الله فسَحقُوا أي بُعدوا سُحقاً أي بُعْداً كما في قول من قال او عضة دهريا ابنَ مروانَ لم تَدَع مِنَ المالِ إلا مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ أيْ لَم تدعَ فلمْ يبْقَ إلا مسحتٌ الخ وعلى هذينِ الوجهينِ قولُه تعالَى وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا واللامُ في قولِهِ تعالَى {لاصحاب السعير} للبيانِ كما في هَيْتَ لكَ ونحوِهِ والمرادُ بهم الشياطينُ والداخلونَ في عدادِهِم بطريقِ التغليبِ

12

{إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} أي يخافونَ عذابَهُ غائبا عنهم أو غائبين عنْهُ أو عن أعينِ النَّاسِ أو بما خَفِيَ منهُم وهو قلوبُهُم {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} عظيمةٌ لذنوبهم {وأجر كبيرٌ} لا يُقادرُ قدرُه

13

{وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ} بيانٌ لتساوِي السرِّ والجهرِ بالنسبةِ إلى علمِهِ تعالى كما في قوله سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في المشركينَ كانُوا ينالُونَ من النبي عليه الصلاةَ والسلام فيُوحَى إليهِ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ فقال بعضُهُم لبعضٍ اسروا قولمكم كيلاَ يسمعَ ربُّ محمدٍ فقيلَ لهُم أسِرُّوا ذلكَ أو اجهروا بهِ فإنَّ الله يعلمهُ وتقديمُ السرِّ على الجهرِ للإيذانِ بافتضاحِهِم ووقوعِ ما يحذَرونه من أولِ الأمرِ والمبالغةِ في بيانِ شمولِ علمِه المحيطِ لجميعِ المعلوماتِ كأنَّ علمِه تعالَى بما يُسرّونه أقدرُ منهُ بما يجهرونَ بهِ مع كونِهِما في الحقيقةِ على السويةِ فإنَّ علمَه تعالَى بمعلوماتهِ ليسَ بطريقِ حصولِ صُورِها بل وجودُ كلِّ شيءٍ في نفسِه عِلْمٌ بالنِّسبةِ إليهِ تعالَى أو لأنَّ مرتبةَ السرِّ متقدمةٌ على مرتبةِ الجهرِ إذْ مَا من شيءٍ يُجهرُ بهِ إلا وهُو أو مباديهِ مُضْمرٌ في القلبِ يتعلقُ بهِ الإسرارُ غالباً فتعلُقُ علمِه تعالَى بحالتِهِ الأُولى متقدمٌ على تعلقهِ بحالتِهِ الثانيةِ وقولُهُ تعالَى {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليلٌ لما قبلَه وتقريرٌ لهُ وفي صيغةِ الفعيلِ وتحليةِ الصدورِ بلامِ الاستغراقِ ووصفِ الضمائرِ بصاحبِيتِها من الجزالة ما لا غاية وراءه كأنَّهُ قيلَ إنه مبالغٌ في الإحاطةِ بمضمراتِ جميعِ الناسِ وأسرارِهم الخفيةِ المستكنّةِ في صدورِهِمْ بحيثُ لا تكادُ تفارقُها أصلاً فكيفَ يَخْفى عليهِ ما تُسرُّونَهُ وتجهرونَ بهِ ويجوزُ أنْ يُرادَ بذاتِ الصُّدورِ القلوبُ التي في الصدرِ والمعنى أنه عليمٌ بالقلوبِ وأحوالِها فلا يَخْفَى عليهِ سرٌّ من أسرارِهَا وقولُهُ تعالَى

14

{أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}

67 سورة الملك (15 18) إنكارٌ ونفيٌ لعدمِ إحاطةِ علمِهِ تعالَى بالمُضمرِ والمُظهرِ أي ألا يعلمُ السرَّ والجهرَ من أوجدَ بموجبِ حكمتِهِ جميعَ الأشياءِ التي هُمَا من جُملَتِهَا وقولُهُ تعالَى {وَهُوَ اللطيف الخبير} حالٌ من فاعلِ يعلمُ مؤكدةٌ للإنكارِ والنَّفيِ أي ألا يعلمُ ذلكَ والحالُ أنَّه المتوصلُ علمُهُ إلى ما ظهرَ من خلقِهِ وما بطنَ ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ خَلَقَ منصوباً والمَعْنَى ألا يعلمُ الله مَنْ خلقَهُ والحالُ أنَّهُ بهذِهِ المثابةِ من شمولِ العلمِ ولا مساغَ لإخلاءِ العلم عن المفعولِ بإجرائِهِ مَجْرَى يُعْطِي ويمنعُ على مَعْنَى ألا يكونَ عالِماً مَنْ خلقَ لأنَّ الخلقَ لا يتأتَّى بدونِ العلمِ لخلوِّ الحالِ حينئذٍ من الإفادةِ لأنَّ نظمَ الكلامِ حينئذ ألا يكونُ عالماً وهو مبالغٌ في العلمِ

15

{هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً} لينةً يسهلُ عليكُم السلوكُ فيها وتقديمُ لكُم على مفعُولَي الجعلِ مع أن حقه التأخرُ عنهُما للاهتمامِ بِما قُدمَ والتشويق إلى ما أخر فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر لا سيَّما عند كونِ المقدمِ ممَّا يدلُّ على كونِ المؤخرِ من منافعِ المخاطبينَ تبقَى النفسُ مترقبةً لورودِهِ فيتمكنُ لديها عندَ ذكرِهِ فضلُ تمكنٍ والفاءُ في قولِه تعالَى {فامشوا فِى مَنَاكِبِهَا} لترتيبِ الأمرِ على الجعلِ المذكورِ أي فاسلكُوا في جوانِبِهَا أو جِبَالِهَا وهو مَثَلٌ لفرطِ التذليلِ فإن منكبَ البعيرِ أرقُّ أعضائِهِ وأنباها عن أنْ يطأَهُ الراكبُ بقدمِهِ فإذا جُعل الأرضُ في الذُّلِّ بحيثُ يتأتَّى المشيُ في مناكبِهَا لم يبقَ منها شيءٌ لم يتذللْ {وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ} والتمسُوا من نعمِ الله تعالَى {وَإِلَيْهِ النشور} أي المرجعُ بعدَ البعثِ لا إلى غيرِه فبالِغُوا في شكرِ نعمِهِ وآلائِهِ

16

{أأمنتُم مَنْ في السَّماءِ} أي الملائكةَ الموكلينَ بتدبيرِ هذا العالمِ أو الله سبحانَهُ على تأويلِ من في السماءِ أمرُهُ وقضاؤهُ أو على زعمِ العربِ حيثُ كانُوا يزعمونَ أنَّه تعالَى في السماءِ أي أأمنتُم منْ تزعمُونَ أنَّهُ في السماءِ وهُو متعالٍ عن المكانِ {أَن يَخْسِفَ بكم الأرض} بعدما جعلها لكم ذلولا تشمون في مناكبِهَا وتأكلونَ من رزقه لكفر إنكم تلك النعمة أي يقبلها ملتبسة بكم فيغييكم فيهَا كما فعلَ بقارونَ وهو بدل اشتمال من مَنْ وقيلَ هو عَلى حذفِ الجارِّ أيْ مِنْ أنْ يخسفَ {فَإِذَا هِىَ تَمُورُ} أي تضطربُ ذهاباً ومجيئاً على خلافِ ما كانَتْ عليهِ من الذُّلِّ والاطمئنانِ

17

{أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السماء} إضرابٌ عن التهديدِ بما ذكر وانتقال التهديدِ بوجهٍ آخرَ أيْ بلْ أأمنتُم مَنْ في السَّماءِ {أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصبا} أي حجارةً من السماءِ كما أرسلَها على قومِ لوطٍ وأصحابِ الفيلِ وقيلَ ريحاً فيها حجارةٌ وحصباءُ كأنَّها تقلعُ الحصباءَ لشدَّتِهَا وقوتِهَا وقيلَ هي سحابٌ فيها حجارةٌ {فَسَتَعْلَمُونَ} عن قريبٍ البتةَ {كَيْفَ نَذِيرِ} أي إنذارِي عندَ مُشاهدتِكُم للمنذَرِ بهِ ولكنْ لا ينفعكُم العلمُ حينئذٍ وقُرِىءَ فسيعلمُونَ بالياءِ

18

{وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي من قبل كفارِ مكةَ من كفارِ الأممِ السَّالفةِ كقومِ نوحٍ وعادٍ وأضرابِهم والالتفاتُ إلى الغيبة لابراز

67 سورة الملك (19 21) الإعراضِ عنهُم {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكارِي عليهِم بإنزالِ العذابِ أي كانَ على غايةِ الهولِ والفظاعةِ وهذا هو موردُ التأكيدِ القسَمِي لا تكذيبُهُم فقطْ وفيهِ من المبالغةِ في تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديد التهديد لقومه مالا يَخْفَى

19

{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ} أغفَلوا ولم ينظُروا {إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صافات} باسطاتٍ أجنحتهنَّ في الجوِّ عند طيرانِهَا فإنهنَّ إذا بسطنَهَا صفَفنَ قوادِمها صفاً {وَيَقْبِضْنَ} ويضمُمنها إذا ضربنَ بها جنوبهنَّ حيناً فحيناً للاستظهارِ بهِ على التحركِ وهو السرُّ في إيثارِ يقبضنَ الدالِّ على تجددِ القبضِ تارةً بعد تارةٍ على قابضاتٍ {مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الجوِّ عند الصفِّ والقبضِ على خلافِ مقتضى الطبعِ {إِلاَّ الرحمن} الواسعُ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ بأنْ برأهُنَّ على أشكال وخصاصئص وهيأهُنَّ للجريِ في الهواءِ والجملةُ مستأنفةٌ أو حالٌ من الضميرِ في يقبضنَ {إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ} يعلمُ كيفيةَ إبداعِ المبدعاتِ وتدبيرِ المصنوعاتِ وقولِه تعالَى

20

{أم مّنْ هذا الذى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرحمن} تبكيتٌ لهم بنفي أنْ يكونَ لهم ناصرٌ غيرُ الله تعالَى كما يلوحُ به التعرضُ لعنوانِ الرحمانيةِ ويعضُدهُ قولُه تعالَى مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن أو ناصرٌ من عذابِهِ تعالَى كما هو الأنسبُ بما سيأتي من قولِه تعالَى إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ كقولِهِ تعالَى أَمْ لَهُمْ الِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا في المعنيينِ معاً خَلا أنَّ الاستفهامِ هُناكَ متوجهٌ إلى نفسِ المانعِ وتحققهِ وههُنا إلى تعيينِ الناصرِ لتبكيتِهِم بإظهارِ عجزِهِم عن تعيينِهِ وأم منقطعةٌ مقدرةٌ ببل المفيدةِ للانتقالِ من توبيخِهِم على تركِ التأملِ فيما يشاهدونَهُ من أحوالِ الطيرِ المنبئةِ عن تعاجيبِ آثارِ قدرةِ الله عزَّ وجلَّ إلى التبكيتِ بما ذُكِرَ والالتفاتُ للتشديدِ في ذلكَ ولا سبيلَ إلى تقديرِ الهمزةِ معَها لأنَّ ما بعدَهَا مَنْ الاستفهاميةُ وهي مبتدأٌ وهذا خبرُهُ والموصولُ مع صلتِهِ صفتُهُ كما في قوله تعالى مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ وإيثارُ هذا لتحقيرِ المشارِ إليهِ وينصرُكُم صفةٌ لجندٌ باعتبارِ لفظِهِ ومن دونِ الرحمنِ على الوجهِ الأولِ إما حالٌ من فاعلِ ينصركُم أو نعتٌ لمصدرِهِ وعلى الثاني متعلقٌ بينصركم كما في قولِهِ تعالَى مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله فالمَعْنَى بلْ مَنْ هذا الحقيرُ الذي هُو في زعمِكُم جندٌ لكم ينصرُكُم نصراً كائناً من دونِ نصرِهِ تعالَى أو ينصرُكُم من عذابٍ كائنٍ من عندِ الله عزَّ وجلَّ وتوهمُ أنَّ أمَّ معادلة لقوله تعالى او لم يَرَوْاْ الخ معَ القولِ بأنَّ مَنِ استفهاميةٌ مما لا تقريبَ له أصلاً وقولُه تعالَى {إِنِ الكافرون إِلاَّ فِى غُرُورٍ} اعتراضٌ مقررٌ لما قبلَهُ ناعِ عليهِم ما هُم فيهِ من غايةِ الضلالِ أي ما هُم في زعمِهِم أنَّهم محفوظونَ من النوائبِ بحفظِ آلهتِهِم لا بحفظِهِ تعالَى فقطْ أو أنَّ آلهتَهُم تحفظهُم من بأسِ الله إلا في غرورٍ عظيمٍ وضلالٍ فاحشٍ من جهةِ الشيطانِ ليسَ لهُم في ذلكَ شيءٌ يعتدُّ بهِ في الجملةِ والالتفاتُ إلى الغَيبة للإيذانِ باقتضاءِ حالِهِم للإعراضِ عنهُم وبيانِ قبائِحِهِم لغيرِهِم والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لذمِّهِم بالكُفرِ وتعليلِ غرورِهِم بهِ والكلامُ في قوله تعالى

21

{أم من هذا الذى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أمسك}

اي الله عزل وجلَّ {رِزْقَهُ} بإمساكِ المطرِ وسائرِ مباديهِ كالذي مرَّ تفصيلُه خَلا أنَّ قولَه تعالَى {بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ} منبىءٌ عن مقدَّرٍ يستدعيهِ المقامُ كأنَّه قيلَ إثرَ تمامِ التبكيتِ والتعجيزِ لم يتأثَّروا بذلكَ ولم يُذعنُوا للحقِّ بل لجُّوا وتمادَوا في عتوَ أي عنادٍ واستكبارٍ وطغيانٍ ونفورٍ أيْ شرادٍ عن الحقِّ وقولُه تعالَى

22

{أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى} الخ مثلٌ ضُرِبَ للمشركِ والموحدِ توضيحاً لحالهما وتحقيقا لشأن مذهبهما والفاءُ لترتيبِ ذلكَ على ما ظهرَ من سوءِ حالِهِم وخرورِهِم في مهاوِي الغرورِ وركوبِهِم متنَ عشواءِ العتوِّ والنفورِ وعدمِ اهتدائِهِم في مسلكِ المُحاجَّةِ إلى جهةٍ يتوهمُ فيها رشدٌ في الجملةِ فإنَّ تقدمَ الهمزةِ عليها صورةً إنَّما هُو لاقتضائِهَا الصدارةَ وأما بحسبِ المعنى فالأمرُ بالعكسِ كَمَا هو المشهورُ حتَّى لو كانَ مكانُ الهمزةِ هلْ لقيلَ فهَلْ مَنْ يمشِي مُكباً الخ والمُكِبُّ الساقطُ على وجهِهِ يقالُ أكبَّ خرَّ على وجهِهِ وحقيقته صار ذاكب ودخلَ في الكبِّ كأقشعَ الغمام اي صار ذاقشع والمَعْنَى أفمنْ يمشِي وهو يعثرُ في كلِّ ساعةٍ ويخرُّ على وجهِهِ في كلِّ خُطوةٍ لتوعرِ طريقِه واختلالِ قُواه أهدَى إلى المقصد الذي يؤمه {أم من يَمْشِى سَوِيّاً} أي قائماً سالماً من الخبطِ والعثارِ {على صراط مُّسْتَقِيمٍ} مستوِي الأجزاءِ لا عِوَجَ فيهِ ولا انحرافَ قيلَ خبرٌ من الثانيةِ محذوفٌ لدلالةِ خبرِ الأُولَى عليهِ ولا حاجةَ إلى ذلكَ فإنَّ الثَّانيةَ معطوفةٌ على الأُولى عطف المفرد على المفردِ كقولِكَ أزيدٌ أفضلُ أم عمروٌ وقيل أُريدَ بالمكبِّ الأَعْمَى وبالسويِّ البصيرُ وقيلَ من يمشِي مُكباً هو الذي يُحشرُ على وجهِهِ إلى النَّارِ ومَنْ يمشِي سوياً الذي يُحشرُ على قدميهِ إلى الجنَّةِ

23

{قُلْ هُوَ الذى أَنشَأَكُمْ} إنشاءً بديعاً {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع} لتسمعُوا آياتِ الله وتمتثلُوا بما فيهَا من الأوامرِ والنواهِي وتتعظُوا بمواعظِهَا {والأبصار} لتنظرُوا بها إلى الآياتِ التكوينيةِ الشاهدةِ بشؤون الله عزَّ وجلَ {والأفئدة} لتتفكَّروا بهَا فيمَا تسمعونَهُ وتشاهدونَهُ من الآياتِ التنزيليةِ والتكوينيةِ وترتقُوا في معارجِ الإيمانِ والطاعةِ {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي باستعمالِهَا فيما خُلقتْ لأجله من الأمورِ المذكورةِ وقليلاً نعتٌ لمحذوفٍ وما مزيدةٌ لتأكيدِ القِلة أيُ شكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تشكرونَ وقيلَ القِلةُ عبارةٌ عن العدمِ

24

{قُلْ هُوَ الذى ذَرَأَكُمْ فِى الأرض} أي خلقكُم وكثركُم فيهَا لا غيرُهُ {وإليه تحشرون} للجزاء لا إلى غيرِهِ اشتراكاً أو استقلالاً فابنُوا أمورَكُم على ذلكَ

25

{وَيَقُولُونَ} من فَرْط عتوِّهم وعِنادِهم {متى هذا الوعد} أيِ الحشرُ الموعودُ كما ينبىء عنه قوله تعالى وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {إِن كُنتُمْ صادقين} يخاطبونَ بهِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث كانوا

6 سورة الملك (26 29) مشاركينَ لهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في الوعدِ وتلاوةِ الآياتِ المتضمنةِ له وجوابُ الشرطِ محذوفٌ أي إنْ كنتُم صادقينَ فيما تخبرونَهُ من مجىءِ الساعةِ والحشرِ فبيِّنُوا وقتَهُ

26

{قُلْ إِنَّمَا العلم} أي العلمُ بوقتِهِ {عَندَ الله} عزَّ وجلَّ لا يطلعُ عليهِ غيرُهُ كقولِهِ تعالَى قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى {وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أنذركُم وقوعَ الموعودِ لا محالةَ وأما العلمُ بوقتِ وقوعِهِ فليسَ من وظائفِ الإنذارِ والفاءُ في قوله تعالى

27

{فَلَمَّا رَأَوْهُ} فصيحةٌ معربةٌ عن تقديرِ جملتينِ وترتيبِ الشرطيةِ عليهِمَا كأنَّه قيلَ وقد أتاهُم الموعودُ فرأَوهُ فلما رأوه الى آخر كما مرَّ تحقيقُهُ في قوله تعالى فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه إلاَّ أنَّ المقدرَ هُناكَ أمرٌ واقعٌ مرتبٌ على ما قبلَهُ بالفاءِ وهَهُنَا أمرٌ منزلٌ منزلةَ الواقعِ واردٌ على طريقةِ الاستئنافِ وقولُهُ تعالَى {زُلْفَةً} حالٌ من مفعولِ رَأَوْا إمَّا بتقديرِ المضافِ أيْ ذَا زُلفةٍ وقربٍ أو على أنَّه مصدرٌ بمَعْنَى الفاعلِ أي مُزدَلِفاً أو على أنَّه مصدرٌ نُعت بهِ مبالغةً أو ظرفٌ أيْ رَأَوهُ في مكانٍ ذِي زُلفةٍ {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} بأنْ غشيتها الكآبة ورهفها القَترُ والذلةُ ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِهِم لذمِّهِم بالكُفرِ وتعليلِ المساءةِ بهِ {وَقِيلَ} توبيخاً لهم وتشديداً لعذابِهِم {وقيل هذا الذى كنتم به تَدَّعُونَ} أي تطلبُونَهُ في الدُّنيا وتستعجلونَهُ إنكاراً واستهزاءً على أنَّه تفتعلونَ من الدعاءِ وقيلَ هو من الدَّعْوَى أي تدَّعُونَ أنْ لا بعثَ ولا حشرَ وقُرِىءَ تَدْعُون هَذا وقَدْ رُويَ عن مجاهدٍ أن الموعودَ عذابُ يومِ بدرٍ وهو بعيد

28

{قل أرأيتم} أي أخبروني {إِنْ أَهْلَكَنِىَ الله} أي أماتَنِي والتعبيرُ عنه بالإهلاكِ لما كانُوا يدعون عليه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنينَ بالهلاكِ {وَمَن مَّعِى} مِنَ المؤمنينَ {أَوْ رَحِمَنَا} بتأخيرِ آجالِنَا فنحنُ في جوارِ رحمَتِهِ متربصونَ لإحدَى الحُسنيينِ {فَمَن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي لا ينجِّيكُم منهُ أحدٌ مِتنا أو بَقِينا ووضعُ الكافرينَ موضعَ ضميرِهم للتسجيلِ عليهِم بالكفرِ وتعليلِ نَفي الإنجاءِ بهِ

29

{قُلْ هُوَ الرحمن} أي الذي أدعُوكم إلى عبادَتِهِ مولى النعم كلها {آمنا بِهِ} وحدَهُ لَمَّا علمنَا أنَّ كلَّ ما سواهُ إما نعمةٌ أو مُنعَمٌ عليهِ {وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} لا على غيرِه أصلاً لعلِمنا بأنَّ ما عداهُ كائناً ما كانَ بمعزلٍ من النفعِ والضُّرِّ {فَسَتَعْلَمُونَ} عن قريبٍ البتةَ {مَنْ هُوَ فِى ضلال مُّبِينٍ} منَّا ومنكُم وقُرِىءَ فسيعلمُونَ بالياءِ التحتانية

30

{قل أرأيتم} أي أخبرونِي {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} أي غائراً في الأرضِ بالكليةِ وقيلَ بحيثُ لا تنالُهُ الدِّلاءُ وهو مصدر

68 سور القلم (1 2) وُصِفَ بِهِ {فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ} جارٍ أو ظاهرٍ سهلِ المأخذِ عن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ المُلكِ فكأنَّهُ أحيَا ليلةَ القدر سورة القلم مكية الا من آية 17 الى آية 33 ومن آية 48 الى آية 50 فمدنية وآياتها اثنتان وخمسون {بسم الله الرحمن الرحيم

القلم

! (ن) بالسُّكون على الوقفِ وقُرىء بالكسرِ وبالفتحِ لالتقاءِ السَّاكنينِ ويجوزُ أنْ يكونَ الفتحُ بإضمارِ حرفِ القسمِ في موضعِ الجرِّ كقولِهم الله لأفعلنَّ بالجرِّ وأنْ يكونَ ذلك نصباً أذكُرْ لا فتحاً كما سبقَ في فاتحةِ سُورةِ البقرةِ وامتناعُ الصرَّفِ للتَّعريفِ والتَّانيثِ على أنَّهُ علمٌ للسورةِ ثمَّ إنْ جُعل إسماً للحرفِ مسروداً على نمطِ التعديدِ للتحدِّي بأحدِ الطريقينِ المذكورينِ في موقِعِه أو إسماً للسورةِ منصوباً على الوجهِ المذكورِ أو مرفوعاً على أنه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ فالواوُ في قولِه تعالَى {والقلم} للقسمِ وإنْ جعلَ مُقسَماً بهِ فهي للعطفِ عليهِ وأيَّاً ما كانَ فإنْ أُريدَ بهِ قلمُ اللوحِ والكرامِ الكاتبينَ فاستحقاقُهُ للإعظامِ بالإقسامِ بهِ ظاهرٌ وإنْ أُريدَ بهِ الجنسُ فاستحقاقُ ما في أيدي النَّاسِ لذلكَ لكثرةِ منافعِهِ ولو لم يكُنْ له مزيةٌ سوى كونِهِ آلةً لتحريرِ كتبِ الله عزَّ قائلاً لكَفَى بهِ فضلاً موجباً لتعظيمِهِ وقُرِىءَ بإدغامِ النونِ في الواوِ {وَمَا يَسْطُرُونَ} الضميرُ لأصحابِ القلمِ المدلول عليهم بذكره وقيل للقلم على أن المرادَ به أصحابه كأنه قيل وأصحاب القلم ومسطوراتِهِم على أنَّ ما موصولةٌ او وسطرهم على أنَّها مصدريةٌ وقيلَ للقلمِ نفسِهِ بإسنادِ الفعلِ إلى الآلةِ وإجرائِهِ مَجْرَى العقلاءِ لإقامتِهِ مقامَهُم وقيلَ المرادُ بالقلمِ ما خُطَّ اللوحِ خاصَّةً والجمعُ للتعظيمِ وقولُهُ تعالَى

2

{مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ} جوابُ القسمِ والباءُ متعلقةٌ بمضمرٍ هو حالٌ من الضميرِ في خبرِهَا والعاملُ فيها مَعْنَى النَّفي كأنَّه قيلَ أنتَ بريءٌ من الجنونِ ملتبساً بنعمةِ الله التي هيَ النبوةُ والرياسةُ العامةُ والتعرضُ لوصفِ الربوبيةِ المنبئةِ عن التبليغِ إلى معارجِ الكمالِ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه صلى الله عليه وسلم والإيذانِ بأنَّه تعالَى يُتمُّ نعمتَهُ عليهِ ويبلغُه من العلوِّ إلى غايةٍ لا غايةَ وراءَهَا والمرادُ تنزيهُهُ صلى الله عليه وسلم عما كانوا ينسبونه صلى الله عليه وسلم إليهِ من الجنونِ حَسَداً وعداوةً ومكابرةً مع جزمِهِم بأنه صلى الله عليه وسلم في غايةُ الغاياتِ القاصيةِ ونهايةُ

68 سورة القلم (3 8) النهاياتِ النائيةِ من حَصانةِ العقلِ ورَزَانَةِ الرأيِ

3

{وَإِنَّ لَكَ} بمقابلةِ مقاساتِكَ ألوانَ الشدائدِ منْ جهتِهِم وتحملِك لأعباءِ الرسالةِ {لأَجْرًا} لثواباً عظيماً لا يُقادَرُ قَدرُهُ {غَيْرُ مَمْنُونٍ} معَ عظمِهِ كقولِهِ تعالَى عَطَاء غير مجذوذ او غير ممنونٍ عليكَ من جهةِ الناسِ فإنَّهُ عطاؤُه تعالى بلاَ توسطٍ

4

{وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} لا يُدرِكُ شأوَهُ أحدٌ منَ الخلقِ ولذلكَ تحتملُ من جهتهم مالا يكادُ يحتملُهُ البشرُ وسُئلتْ عائشةَ رضيَ الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالتْ كان خُلُقه القُرآنَ ألستَ تقرأُ القُرآنَ قَدْ افلح المؤمنون والجملتان معطوفتنا على جوابِ القسمِ

5

{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} قالَ ابنُ عباس رضي الله عنهما فستعلمُ ويعلمونَ يومَ القيامةِ حينَ يتبينَ الحقُّ من الباطلِ وقيل فستبصرُ ويبصرونَ في الدُّنيا بظهورِ عاقبةِ أمرِكُم بغلبةِ الإسلامِ واستيلائِكَ عليهِم بالقتلِ والنهبِ وصيرورتِكَ مهيباً مُعظماً في قلوبِ العالمينَ وكونِهِم أذلةً صاغرينَ قالَ مقاتلٌ هَذا وعيدٌ بعذابِ يومِ بدرٍ

6

{بِأَيّكُمُ المفتون} أي أيكم الذي فُتنَ بالجنونِ والباءُ مزيدةٌ أو بأيكم الجنونُ على أنَّ المفتونَ مصدرٌ كالمعقولِ والمجلودِ أو بأيِّ الفريقينِ منكُم المجنونُ أبفريقِ المؤمنينَ أم بفريقِ الكافرينَ أي في أيِّهما يوجدُ من يستحقُّ هَذا الإسمَ وهو تعريضٌ بأبي جهلِ بن هشام والوليد ابن المغيرة واضربهما كقولِهِ تعالَى سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر وقولُه تعالَى

7

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} تعليلٌ لما ينبىءُ عنهُ ما قبلَهُ من ظهورِ جنونِهِم بحيثُ لا يَخْفى على أحد وتأكيدا لما فيهِ من الوعدِ والوعيدِ أي هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عن سبيله تعالَى المؤدِّي إلى سعادةِ الدارينِ وهامَ في تيهِ الضلالِ متوجهاً إلى ما يفيضه إلى الشقاوةِ الأبديةِ وهذا هُو المجنونُ الذي لا يفرقُ بين النفعِ والضررِ بل يحسبُ الضررَ نفعاً فيؤثرهُ والنفعَ ضرراً فيهجُرهُ {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} إلى سبيلِهِ الفائزينَ بكلِّ مطلوبٍ الناجين عن كل محذوروهم العقلاءُ المراجيحُ فيجزِي كلاً من الفريقينِ حسبَما يستحقُّهُ من العقابِ والثوابِ وإعادةُ هو أعلمُ لزيادةِ التقريرِ والفاء في قوله تعالى

8

{فَلاَ تُطِعِ المكذبين} لترتيبِ النهْيِ على ما يُنبىء عنهُ ما قبلَه من اهتدائه صلى الله عليه وسلم وضلالِهِم أو على جميعِ ما فُصّل من أوَّلِ السورة وهذا

68 سورة القلم (9 13) تهييجٌ وإلهابٌ للتصميمِ على معاصاتِهِم أيْ دُمْ على ما أنت عليه من عدمِ طاعتِهِم وتصلَّبْ في ذَلك أو نهيٌ عن مداهنَتِهِم ومداراتِهِم بإظهارِ خلافِ ما في ضميرِه صلى الله عليه وسلم استجلاباً لقلوبِهِم لا عن طاعتهم كما ينبىء عنه قوله تعالَى

9

{وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ} فإنَّه تعليلٌ للنهي أو الانتهاءِ وإنما عبَّر عنها بالطاعةِ للمبالغةِ في الزجرِ والتنفيرِ أيْ أَحبُوا لو تلاينُهُم وتسامحُهُم في بعضِ الأمورِ {فَيُدْهِنُونَ} أي فهُم يُدهِنُونَ حينئذٍ أو فهُم الآنَ يُدْهِنُونَ طمعاً في إدهانِكَ وقيل هو معطوفٌ على تُدهنُ داخلٌ في حيزِ لَوْ والمَعْنَى ودُّوا لو يُدهنُونَ عقيبَ إدهانِكَ ويأباهُ ما سيأتِي من بدئِهِم بالادهان على إدهانَهُم أمرٌ محققٌ لا يناسبُ إدخالَهُ تحت التمنِّي وأيَّاً ما كانَ فالمعتبرُ في جانبِهِم حقيقةُ الإدهانِ الذي هُو إظهارُ الملاينةِ وإضمارُ خلافِهَا وأمَّا في جانبه صلى الله عليه وسلم فالمعتبرُ بالنسبةِ إلى ودادتِهِم هو إظهارُ الملاينةِ فَقَطْ وأمَّا إضمارُ خلافِهَا فليسَ في حيزِ الاعتبارِ بلْ هُم في غايةِ الكراهةِ له وانما اعتباره بالنسبة اليه صلى الله عليه وسلم وفي بعضِ المصاحفِ فيُدهنُوا على أنَّه جواب التمني المفهوم من ودُّوا أو أن ما بعده حكاية لودادتهم وقيل على أنَّه عطفٌ على تُدهنُ بناءً على أنَّ لَوْ بمنزلةِ أَن الناصبةِ فلا يكونُ لها جوابٌ وينْسبكُ منها ومما بعدها مصدرٌ يقع مفعولا لو دوا كأنَّه قيلَ ودُّوا أنْ تُدهنَ فيدهنوا وقيلَ لَوْ على حقيقتها وجوابُها محذوف وكذا مفعولُ ودُّوا أي ودُّوا إدهانَكَ لو تُدهنُ فيدهنون لسرُّوا بذلكَ

10

{وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ} كثيرِ الحِلفِ في الحقِّ والباطِلِ تقديمُ هذا الوصفِ على سائرِ الأوصافِ الزاجرةِ عن الطاعةِ لكونِهِ أدخلَ في الزجرِ {مُّهِينٌ} حقيرِ الرَّأي والتدبيرِ

11

{هَمَّازٍ} عيابٍ طعَّانٍ {مَّشَّاء بِنَمِيمٍ} مضربٍ نقالٍ للحديثِ من قومٍ إلى قومٍ على وجهِ السِّعايةِ والإفسادِ بينهُم فإنَّ النميمِ والنميمةَ السِّعايةُ

12

{مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ} أي بخيلٍ أو مناعٍ للناسِ من الخيرِ الذي هُو الإيمانُ والطاعةُ والإنفاقُ {مُعْتَدٍ} متجاوزٍ في الظلمِ {أَثِيمٍ} كثيرِ الآثامِ

13

{عُتُلٍ} جافٍ غليظٍ من عتلَهُ إذَا قادَهُ بعنفٍ وغلظةٍ {بَعْدَ ذَلِكَ} بعدَ ما عُدّ من مثالبهِ {زَنِيمٍ} دَعيَ مأخوذٌ من الزَّنمَةِ وهي الهَنةُ من جلد الماعزة تُقطعُ فتخلَّى متدليةً في حَلقِهَا وفي قولِه تعالَى بعد ذلكَ دلالةٌ على أنَّ دعوتَهُ أشدُّ معايبِهِ وأقبحُ قبائِحِه قيلَ هُو الوليدُ بنُ المغيرةِ فإنَّهُ كانَ دَعِيَّاً في قريشٍ وليسَ من سِنْخِهِم ادعاهُ المغيرةُ بعد ثمانِي عشرةَ من مولِدِه وقيلَ هو الأخنسُ بنُ شُريقٍ أصلُه من ثقيفٍ وعدادُه في زهرة

68 سورة القلم (14 19)

14

{أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} متعلقٌ بقولِه تعالَى لا تُطِعْ أي لا تُطِعْ من هَذِه مثالبُه لأن كان متمو لا مستظهراً بالبنينَ وقولُه تعالَى

15

{إذا تتلى عليه آياتنا قَالَ أساطير الأولين} استئنافٌ جارٍ مَجْرَى التَّعليلِ للنَّهي وقيلَ متعلقٌ بما دلَّ عليهِ الجملةُ الشرطيةُ من معنى الجحود ذو التكذيب لا بجوابِ الشرطِ لأنَّ ما بعدَ الشَّرطِ لا يعملُ فيما قبله كأنه قيلَ لكونِه مُستظهراً بالمالِ والبنينَ كذَّبَ بآياتِنَا وفيهِ انه بدل أنَّ مدارَ تكذيبِهِ كونُه ذا مالٍ وبنينَ من غيرِ أنْ يكونَ لسائرِ قبائِحِه دخلٌ في ذلكَ وقُرِىءَ أَأَنْ كانَ على مَعْنَى ألأنْ كانَ ذَا مالٍ كذَّبَ بهَا أو أتطيعُه لأن كانَ ذا مالٍ وقُرِىءَ إِنْ كانَ بالكسرِ والشرطُ للمخاطبِ أي لا تُطعْ كلَّ حلاَّفٍ شارطاً يسارَهُ لأنَّ إطاعةَ الكافرِ لغناهُ بمنزلةِ اشتراطِ غناهُ في الطاعةِ

16

{سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم} بالكَيِّ على أكرمِ مواضعِه لغايةِ إهانتِه وإذلالِه قيلَ أصابَ أنفَ الوليدِ جراحةٌ يومَ بدرٍ فبقيتْ علامتُهَا وقيلَ معناهُ سنعلِّمُه يومَ القيامةِ بعلامةٍ مشوِّهةٍ يُعلم بها عن سائرِ الكفرةِ

17

{إِنَّا بلوناهم} أي أهلَ مكةَ بالقحطِ بدعوةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم {كَمَا بَلَوْنَآ أصحاب الجنة} وهم قومٌ من أهلِ الصلاةِ كانتْ لأبيهِم هذِه الجنَّةُ دونَ صنعاءَ بفرسخينِ فكانَ يأخذُ منها قوتَ سنةٍ ويتصدقُ بالباقي وكانَ يُنادِي الفقراءَ وقتَ الصِّرامِ ويتركُ لهم ما أخطأهُ المنجلُ وما في أسفلِ الأكداسِ وما أخطأهُ القطافُ من العنبِ وما بقيَ على البساطِ الذي يُبسطُ تحتَ النخلةِ إذَا صُرمتْ فكانَ يجتمعُ لهم شيءٌ كثيرٌ فلمَّا ماتَ أبُوهُم قال بنُوه إنْ فعلنَا ما كانَ يفعلُ أبُونا ضاقَ علينا الأمرُ فحلفُوا فيمَا بينهُم وذلكَ قولُه تعالى {إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} ليقطَعُنَّها داخلينَ في الصباحِ

18

{وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} أي لا يقولونَ إنْ شاءَ الله وتسميتُه استثناءٌ مع أنَّه شرطٌ من حيثُ أنَّ مؤدَّاهُ مُؤدَّى الاستثناءِ فإن قولَكَ لأخرُجنَّ إنْ شاءَ الله ولا أخرجُ إلا أنْ يشاءُ الله بمَعْنَى واحد او ولا يستثنُونَ حِصَّةَ المساكينِ كما كانَ يفعلُهُ أبُوهُم والجملةُ مستأنفةٌ

19

{فَطَافَ عَلَيْهَا} أي على الجنَّةِ {طَآئِفٌ} بلاءٌ طائفٌ وقُرِىءَ طيفٌ {مِن رَبّكَ} مبتدأ من جهته تعالى {وَهُمْ نَآئِمُونَ} غافلونَ عمَّا جرت به المقادير

68 سورة القلم (20 26)

20

{فَأَصْبَحَتْ كالصريم} كالبستانِ الذي صُرمتْ ثمارُه بحيثُ لم يبقَ منها شيءٌ فعيلٌ بمَعْنَى مفعولٍ وقيلَ كالليلِ أي احترقتْ فاسودَّتْ وقيلَ كالنَّهارِ أي يبستْ وابيضتْ سُمِّيا بذلكَ لأنَّ كلاً منهُما ينصرمُ عن صاحبِهِ وقيلَ الصَّريمُ الرمالُ

21

{فَتَنَادَوْاْ} أي نادَى بعضُهُم بعضاً {مُّصْبِحِينَ} داخلينَ في الصَّباحِ

22

{أَنِ اغدوا} أي اغدُوا على أنَّ أنْ مفسرةٌ أو بأنِ اغدُوا على أنَّها مصدريةٌ أي اخرجُوا غُدوةً {على حَرْثِكُمْ} بستانِكُم وضَيعتِكُم وتعديةُ الغدوِّ بعَلَى لتضمينِه مَعْنَى الإقبالِ أو الاستيلاءِ {إِن كُنتُمْ صارمين} قاصدينَ للصَّرمِ

23

{فانطلقوا وَهُمْ يتخافتون} أي يتشاورُون فيما بينَهُم بطريقِ المُخافتةِ وخَفيَ وخَفتَ وخَفَدَ ثلاثتُهَا في مَعْنَى الكتمِ ومنْهُ الخُفْدودُ للخُفَّاشِ

24

{أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا} أي الجنةَ {اليوم عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ} أن مفسرة لما في التخافتِ من مَعْنَى القولِ وقُرِىءَ بطرحِهَا على إضمارِ القولِ والمرادُ بنهيِ المسكينِ عن الدخولِ المبالغةُ في النَّهيِ عن تمكينِه من الدخولِ كقولِهم لا أرينَّك هَهُنا

25

{وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قادرين} أي على نكدٍ لا غير من جاردت السَّنةُ إذَا لم يكُنْ فيها مطرٌ وحاردتِ الإبلُ إذا منعتْ دَرَّهَا والمَعْنَى أنَّهم أرادُوا أنْ يتنكدُوا على المساكينِ ويحرمُوهُم وهم قادرونَ على نفعِهِم فغَدوا بحالٍ لا يقدرونَ فيها إلا على النكدِ والحرمانِ وذلكَ أنَّهُم طلبُوا حرمانَ المساكينِ فتعجلُوا الحرمانَ والمسكنَةَ أوْ وغَدَوا على مُحاردةِ جَنَّتِهِم وذهابِ خيرِهَا قادرينَ بدلَ كونِهِم قادرينَ على إصابةِ خيرِهَا ومنافِعِهَا أي غَدَوا حاصلينَ على النكدِ والحرمانِ مكانَ كونِهِم قادرينَ على الانتفاعِ وقيلَ الحردِ الحردِ وقدْ قُرِىءَ بذلكَ أي لم يقدرُوا إلا على حنقِ بعضِهِم لبعضٍ لقولِه تعالَى يتلاومون وقيل الحرْدُ القصدُ والسرعةُ أي غَدَوا قاصدينَ إلى جنتهِم بسرعةٍ قادرينَ عند أنفسِهِم على صِرامِهَا وقيلَ هو علمٌ للجنةِ

26

{فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُواْ} في بديهةِ رؤيتِهِم {إِنَّا لَضَالُّونَ} أي طريقَ جنتِنَا وما هي بها

68 سورة القلم (27 32)

27

{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} قالُوه بعد ما تأملوا ووقفوا على حقيقةِ الأمرِ مُضربينَ عن قولِهِم الأولِ أي لسنا ضالينَ بل نحنُ محرمون حُرِمنَا خيرَهَا بجنايتِنَا على أنفسِنَا

28

{قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أي رأياً أو سِناً {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ} لولا تذكرون الله تعالى وتنوبون إليهِ من خُبثِ نيتِكُم وقد كانَ قالَ لهم حينَ عزمُوا على ذلكَ اذكرُوا الله وتوبُوا إليهِ عن هذهِ العزيمةِ الخبيثةِ من فورِكُم وسارِعُوا إلى حسمِ شرِّها قبلَ حُلولِ النقمةِ فعَصُوه فعيَّرهُم كمَا ينبىء عنه قوله تعالى

29

{قَالُواْ سبحان رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظالمين} وقيلَ المرادُ بالتسبيحِ الاستثناءُ لاشتراكهِما في التعظيمِ أو لأنَّه تنزيهٌ لهُ تعالَى عن أنْ يجري في ملكه مالا يشاؤُه

30

{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يتلاومون} أي يلومُ بعضُهم بعضاً فإنَّ منهُم مَن أشارَ بذلكَ ومنهُم من استصوبَهُ ومنهُم من سكتَ راضياً بهِ ومنهُم من انكره

31

{قالوا يا ويلنا إِنَّا كُنَّا طاغين} متجاوزينَ حدودَ الله

32

{عسى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا} وقُرِىءَ بالتشديدِ أي يُعطينا بدلاً منها ببركةِ التوبةِ والاعترافِ بالخطيئةِ {خَيْراً مّنْهَا إنا إلى ربنا راغبون} راجعون العفوَ طالبونَ الخيرَ وإلى لانتهاء الرغبة او لتضمنها مَعْنَى الرجوعِ عن مُجَاهدٍ تابوا فأُبدِلُوا خَيراً منهَا ورُويَ أنَّهم تعاقَدُوا وقالُوا إنْ أبدلنَا الله خيراً منها لنصنعنَّ كما صنعَ أبُونا فدَعَوا الله تعالَى وتضرعُوا إليهِ فأبدَلهُم الله تعالَى من ليلتِهِم ما هو خيرٌ منها قالُوا إنَّ الله تعالَى أمرَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ أنْ يقتلعَ تلكَ الجنةَ المحترقةَ فيجعلَهَا بِزُغَرَ من أرضِ الشامِ ويأخذَ من الشامِ جنةً فيجعلَهَا مكانَهَا وقالَ ابن مسعود رضي الله تعالَى عنهُ إنَّ القومَ لمَّا أخلصُوا وعرفَ الله منهُم الصدقَ أبدلَهُم جنةً يقالُ لها الحيوانُ فيها عنبٌ يحملُ البغلُ منهُ عُنقوداً وقالَ أبُو خالدٍ اليمانيُّ دخلتُ تلكَ الجنَّةَ فرأيتُ كلَّ عنقودٍ منهَا كالرجلِ الأسودِ القائمِ وسُئِلَ قَتَادَةُ عن أصحابِ الجنَّةِ أهُم مِنْ أهلِ الجنَّةِ أم مِنْ أهلِ النارِ فقالَ لقد كلفتني تعباً وعنِ الحسنِ رحمَهُ الله تعالَى قولُ أصحابِ الجنةِ إنا إلى ربنا راغبون لا أدرِي إيماناً كانَ ذلكَ منهُم أو على حدِّ ما يكونُ من المشركينَ إذا أصابتْهُم الشدةُ فتوقفَ في أمرِهِم والأكثرونَ على أنَّهُم تابُوا وأخلصُوا حكاه القشيري

68 سورة القلم (33 39)

33

{كَذَلِكَ العذاب} جملةٌ منْ مبتا وخبرٍ مُقدمٍ لإفادةِ القصرِ والألفُ واللامُ للعهدِ أي مثلُ الذي بلونَا بهِ أهلَ مكةَ وأصحابَ الجنةِ عذابُ الدنيَا {وَلَعَذَابُ الأخرة أَكْبَرُ} أعظمُ وأشدُّ {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} أنَّه أكبرُ لاحترَزُوا عمَّا يؤدِّيهِم إليهِ

34

{إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ} أي منَ الكفرِ والمَعَاصِي {عِندَ رَبّهِمْ} أي في الآخرةِ أو في جوارِ القُدسِ {جنات النعيم} جناتٍ ليسَ فيها إلاَّ التنعمُ الخالصُ عن شائبةِ ما يُنغّصهُ من الكدوراتِ وخوفِ الزوالِ كما عليهِ نعيمُ الدُّنيا وقولُه تعالَى

35

{أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين} تقريرٌ لما قبلَهُ من فوزِ المُتقينَ بجنَّاتٍ النعيمِ وردٌّ لما يقولَهُ الكفرةُ عند سماعِهِم بحديثِ الآخرةِ وما وعدَ الله المسلمينَ فيهَا فإنهم كانُوا يقولونَ إنْ صحَّ أنا نُبعثُ كما يزعمُ محمدٌ ومَنْ معَهُ لم يكُنْ حالُنَا وحالُهُم إلا مثلَ ما هيَ في الدّنيا وإلا لم يزيدُوا علينَا ولم يفضلونَا وأقصى أمرِهِم أنْ يساوونَا والهمزةُ للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أنحيفُ في الحكمِ فنجعلَ المسلمينَ كالكافرينَ ثم قيلَ لهُم بطريقِ الالتفاتِ لتأكيدِ الردِّ وتشديدِه

36

{مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} تعجبيا من حُكمِهِم واستبعاداً له وإيذاناً بأنَّه لا يصدرُ عن عاقلٍ

37

{أَمْ لَكُمْ كتاب} نازلٌ من السماءِ {فِيهِ تَدْرُسُونَ} أي تقرؤن

38

{إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} أي ما تتخيرونَهُ وتشتهونَهُ وأصلُهُ أنَّ لكُم بالفتحِ لأنَّهُ مدروسٌ فلمَّا جِيءَ باللامِ كُسرتْ ويجوزُ أنْ يكونَ حكايةً للمدروسِ كما هُو كقولِهِ تعالَى وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين سلامٌ على نُوحٍ فِى العالمين وتخيرُ الشيءِ واختيارُهُ أخذُ خيرِهِ

39

{أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا} أي عهودٌ مؤكدةٌ بالأيمانِ {بالغة} متناهيةٌ في التوكيدِ وقُرِئتْ بالنصبِ على الحالِ والعاملُ فيها أحدُ الظرفينِ {إلى يَوْمِ القيامة} متعلقٌ بالمقدرِ في لكم أي ثابتةٌ لكُم إلى يومِ القيامةِ لا نخرجُ عن عُهدتِهَا حتى نحكمكم يومئذٍ ونعطيكُم ما تحكمونَ أو ببالغةٍ أي أيمانٌ تبلغُ ذلكَ اليومَ وتنتهِي إليهِ وافرةً لم تبطُلْ منها يمينٌ {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} جوابُ القسمِ لأنَّ معنَى أمْ لكُم علينَا ايمان

68 سورة القلم (40 44) أمْ أقسمنَا لكُم

40

{سَلْهُمْ} تلوينٌ للخطابِ وتوجيهٌ لهُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بإسقاطهم عن رتبة الخطاب أي سلهُم مُبكتاً لهُمْ {أَيُّهُم بذلك} الحكمِ الخارجِ عن العقولِ {زَعِيمٌ} أي قائمٌ يتصدَّى لتصحيحِه

41

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء} يشاركونهم في هَذا القولِ ويذهبونَ مذهبَهُم {فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُواْ صادقين} في دعواهُم إذْ لا أقلَّ من التقليدِ وقد نبَّه في هذِه الآياتِ الكريمةِ على أنْ ليسَ لهُم شيءٌ يُتوهمُ أنْ يتشبثُوا بهِ حتَّى التقليدُ الذي لا يُفلِحُ من تشبثَ بذيلِه وقيلَ المَعْنَى أمْ لهُم شركاءُ يجعلونَهُم مثلَ المسلمينَ في الآخرةِ

42

{يوم يكشف عن ساق} أي يومَ يشتدُّ الأمرُ ويصعبُ الخطبُ وكشفُ الساقِ مَثَلٌ في ذلكَ وأصلُهُ تشميرُ المُخدَّراتِ عن سُوقهِنَّ في الهربِ قالَ حاتمٌ أخُو الحربِ إنْ عضَّتْ بهِ الحربُ عَضَّها وإنْ شمَّرتْ عنْ ساقِهَا الحربُ شَمَّرا وقيلَ ساقُ الشيءِ أصلُهُ الذي بهِ قوامُه كساقِ الشجرِ وساقِ الإنسانِ أي يوم يكشف عن أصلِ الأمرِ فتظهرُ حقائقُ الأمورِ وأصولُهَا بحيثُ تصيرُ عياناً وتنكيرُهُ للتهويلِ أو التعظيمِ وقُرِىءَ تَكْشِفُ بالتاءِ على البناءِ للفاعلِ والمفعولِ والفعلُ للساعةِ أو الحالِ وقرىء نكشف بالنون ويكشف بالتاءِ المضمومةِ وكسرِ الشِّينِ من أكشفَ الأمرُ أي دخلَ في الكشفِ وناصبُ الظرفِ فليأتُوا أو مضمرٍ مقدمٍ أي اذْكُر يومَ الخ أو مؤخرٍ أي يوم مشكف عن ساقٍ الخ يكونُ من الأهوالِ وعظائمِ الأحوالِ مالا يبلغُه الوصفُ {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود} توبيخاً وتعنيفاً على تركهِم إيَّاهُ في الدُّنيا وتحسيراً لهُم على تفريطِهِم في ذلكَ {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} لزوال القدرة عليه وفي دلالةٌ على أنَّهُم يقصدونَ السجودَ فلا يتأتَّى منهُم عن ذلكَ عنِ ابنِ مسعودٍ رضيَ الله عنْهُ تعقمُ أصلا بهم أي تُردُّ عظاماً بلا مفاصل لا تنثني عندَ الرَّفعِ والخفضِ وفي الحديثِ وتبقَى أصلابُهُم طَبقاً واحِداً أي فَقارةٌ واحدةٌ

43

{خاشعة أبصارهم} حالٌ من مرفوعِ يُدعونَ على أنَّ أبصارَهُم مرتفعٌ بهِ على الفاعليةِ ونسبةُ الخشوعِ إلى الأبصارِ لظهورِ أثرِهِ فيهَا {تَرْهَقُهُمْ} تلحقُهُم وتغشاهُم {ذِلَّةٌ} شديدةٌ {وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود} في الدُّنيا والاظهار في موضوع الإضمارِ لزيادة التقريرِ أو لأنَّ المرادَ بهِ الصلاةُ أو ما فيها من السجودِ والدعوةُ دعوةُ التكليفِ {وَهُمْ سالمون} متمكنُونَ منْهُ أقوَى تمكنٍ أي فلا يُجيبونَ إليهِ ويأبَونَهُ وإنَّما تُرك ذكرُه ثقةً بظهورِهِ

44

{فذرنى ومن يكذب بهذا الحديث} أي كِلْهُ إليَّ فإِنِّي أكفيكَ أمرَهُ أيْ حسبك في الايقاع

68 سورة القلم (45 50) به والا نتقام منهُ أنْ تَكِلَ امرَهُ إليَّ وتُخلِّي بينِي وبينَهُ فإنِّي عالمٌ بمَا يستحقُّه من العذابِ ومطيقٌ لهُ والفاءُ لترتيبِ الأمرِ على ما قبلَهَا من أحوالِهِم المحكيةِ أيْ وإذَا كانِ حالُهم في الآخرةِ كذلكَ فذرنى ومن يكذب بهذا القرآنِ وتوكلْ عليَّ في الانتقامِ منْهُ وقولُه تعالَى {سَنَسْتَدْرِجُهُم} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ كيفيةِ التعذيبِ المُستفادِ من الأمرِ السابقِ إجمالاً والضميرُ لمَنْ والجمعُ باعتبارِ معناهَا كما أن الإفراد في يكذِّبُ باعتبارِ لفظِهَا أي سنستنزِلُهُم إلى العذابِ درجةً فدرجةً بالإحسانِ وإدامةِ الصحةِ وازديادِ النعمةِ {مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} أنه استدراجٌ وهو الإنعامُ عليهِم بلْ يزعمونَ أنه إيثارٌ لهُم وتفضيل على المؤمينين مع أنَّهُ سببٌ لهلاكِهِم

45

{وَأُمْلِى لَهُمْ} وأُمْهِلُهُم ليزدادُوا إِثماً وهم يزعمونَ أنَّ ذلكَ لإرادةِ الخيرِ بهِم {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} لا يُوقفُ عليهِ ولا يُدفعُ بشيءٍ وتسميةُ ذلكَ كيداً لكونِهِ في صورةِ الكيدِ

46

{أم تسألهم} على الإبلاغِ والإرشادِ {أَجْراً} دنيوياً {فَهُمُ} لأجلِ ذلكَ {مّن مَّغْرَمٍ} أي غرامةٍ ماليةٍ {مُّثْقَلُونَ} مكلفونَ حملاً ثقيلاً فيُعرضونَ عنْكَ

47

{أَمْ عِندَهُمُ الغيب} أي اللوحُ أو المغيباتُ {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} منْهُ ما يحكمُون ويستغنُونَ بهِ عن علمِكَ

48

{فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ} وهو إمهالُهُم وتأخيرُ نصرتِكَ عليهِم {وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت} أي يونسُ عليهِ السَّلامُ {إِذ نادى} في بطنِ الحوتِ {وَهُوَ مَكْظُومٌ} مملوءٌ غيظاً والجملةُ حالٌ من ضميرِ نادَى وعليها يدورُ النهي لا على النداءِ فإنه أمرٌ مستحسنٌ ولذلكَ لم يُذكرِ المُنادَى وإذْ منصوبٌ بمضافٍ محذوفٍ أي لا يكُن حالُك كحالِه وقتَ ندائِهِ أي لا يُوجدُ منكَ ما وُجدَ منْهُ من المضجر والمُغاضبةِ فتبتلى ببلائِهِ

49

{لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ} وقُرِىءَ رحمةٌ وهُو توفيقُهُ للتوبةِ وقبولُهَا منْهُ وحسُنَ تذكيرُ الفعلِ للفصلِ بالضميرِ وقُرِىءَ تداركتْهُ وتَداركُهُ أي تتداركهُ على حكايةِ الحالِ الماضيةِ بمَعْنَى لولا أنْ كانَ يقالُ تتداركه {لَنُبِذَ بالعراء} بالأرضِ الخاليةِ من الأشجارِ {وَهُوَ مَذْمُومٌ} مُليمٌ مطرودٌ من الرحمةِ والكرامةِ وهو حالٌ من مرفوعِ نُبذَ عليهَا يعتمدُ جوابُ لولا لأنَّها هي المنتفية لا النبذُ بالعراءِ كما مرَّ في الحالِ الأُولى والجملة الشرطية استئناف وارد لبيانِ كونِ المنهيِّ عنْهُ أمراً محذوراً مستتبعاً للغائلةِ وقولُهُ تعالَى

50

{فاجتباه رَبُّهُ} عطفٌ على مقدرٍ أي فتداركتْهُ نعمةٌ من ربِّه فاجتباهُ بأنْ ردَّ إليهِ الوحيَ وأرسلَهُ الى

68 سورة القلم (51 52) مائةِ ألفٍ أو يزيدونَ وقيل استنبأَهُ إنْ صحَّ أنَّه لم يكُنْ نبياً قبلَ هذهِ الواقعةِ {فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين} من الكاملينَ في الصلاحِ بأنْ عصمَهُ منْ أنْ يفعلَ فعلاً يكونُ تركُهُ أَوْلَى رُوِيَ أنَّها نزلتْ بأُحُدٍ حينَ هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ على المنهزمينَ من المؤمنينَ وقيلَ حينَ أرادَ أنْ يدعوَ على ثقيفٍ

51

{وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم} وقُرِىءَ ليَزلقونَكَ بفتحِ الياءِ من زَلَقه بمعنى أَزْلَقه ويُزهقونَكَ وإنْ هيَ المخففةُ واللامُ دليلُهَا والمَعْنَى أنَّهم من شدَّةِ عداوتِهِم لكَ ينظرونَ إليكَ شَزْراً بحيثُ يكادونَ يُزلّونَ قدمكَ فيرمونكَ من قولِهِم نظر الى نظرا يكاد يصر عني أي لو أمكنَهُ بنظرِهِ الصرعُ لفعلَهُ أو أنَّهُم يكادونَ يُصيبونَكَ بالعينِ إذ قَد رُوي أنَّهُ كانَ في بني أسدٍ عيَّانونَ فأرادَ بعضُهُم أن يعينَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلتْ وفي الحديثِ إنَّ العينَ لتُدخِلُ الرجلَ القبرَ والجملَ القدرَ ولعله من خصائصِ بعضِ النفوسِ وعن الحسنِ دواءُ الإصابةِ بالعينِ أنْ تقرأَ هَذِه الآية {لَمَّا سَمِعُواْ الذكر} أي وقتَ سماعِهِم بالقرآنِ على أنَّ لمَّا ظرفيةٌ منصوبةٌ بيُزلقونَكَ وذلكَ لاشتدادِ بُغضِهِم وحسدِهِم عندَ سماعِهِ {وَيَقُولُونَ} لغايةِ حيرتِهِم في أمرِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ونهايةِ جهلِهِم بمَا في تضاعيفِ القرآنِ من تعاجيبِ الحِكَمِ وبدائعِ العلومِ المحجوبةِ عن العقولِ المُنغمسةِ بأحكامِ الطبائعِ ولتنفيرِ النَّاسِ عنْهُ {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} وحيثُ كانُ مدارُ حُكمِهِم الباطلِ ما سمعُوه منه عليه الصلاة والسلام رد ذلك يبيان عُلوِّ شأنةِ وسطوعِ بُرهانِهِ فقيلِ

52

{وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ} على أنَّه حالٌ من فاعل يقولون مفيدة لغايةِ بُطلانِ قولِهِم وتعجيبِ السامعينَ من جرأتِهِم على تفوهِ تلكَ العظيمةِ أي يقولونَ ذلكَ والحالُ أنَّه ذكرٌ للعالمينَ أي تذكيرٌ وبيانٌ لجميعِ ما يحتاجونَ إليهِ من أمورِ دينِهِم فأينَ مَنْ أنزلَ عليهِ ذلكَ وهو مُطلعٌ على أسرارِهِ طُرَّاً ومحيطٌ بجميعِ حقائِقِه خُبراً ممَّا قالُوا وقيلَ معناهُ شرفٌ وفضلٌ لقولِهِ تعالَى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وقيلَ الضَّميرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكونُه مذكِراً وشرفاً للعالمينَ لا ريبَ فيهِ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سُورةَ القلمِ أعطاهُ الله ثوابَ الذينَ حسَّن الله اخلاقهم

69 سورة الحاقة (1 4) سورة الحافة مكية وآياتها اثنتان وخمسون آية {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

الحاقة

{الحاقة} أي السَّاعةُ أو الحالةُ الثابتةُ الوقوعِ الواجبةُ المجىءِ لا محالةَ أو التي يحقُّ فيها الأمورُ الحقةُ من الحسابِ والثوابِ والعقابِ أو التي تُحقُّ فيها الأمورُ أي تُعرفُ على الحقيقةِ من حقَّهُ يحقه اذا عرف حقيقة جعل الفعل لها ومجازا وهو لِما فيها منَ الأمورِ أو لمَنْ فيها من أُولِي العلمِ وأيَّا ما كانَ فحذفُ الموصوفِ للإيذانَ بكمالِ ظهورِ اتصافهِ بهذِهِ الصفةِ وجريانِهَا مجرى الإسمِ وارتفاعُها على الابتداءِ خبرُها

2

{ما الحاقة} الى أنَّ مَا مبتدأٌ ثانٍ والحاقَّةُ خبرُهُ والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأولِ والأصلُ ما هيَ أيْ أيُّ شيءٍ هي في حالِهَا وصفَتِهَا فإنَّ مَا قدْ يُطلب بها الصفةُ والحالُ فوضعُ الظاهرِ موضعَ المضمرِ تأكيداً لهولها هذا ما ذكرُوهُ في إعرابِ هذه الجملةِ ونظائرِهَا وقد سبقَ في سورةِ الواقعةِ أنَّ مُقتضَى التحقيقِ أنْ تكونَ ما الاستفهاميةُ خبراً لما بعدَهَا فإنَّ مناطَ الإفادةِ بيانُ أنَّ الحاقةَ أمرٌ بديعٌ وخَطْبٌ فظيعٌ كما يفيدُهُ كونُ مَا خبراً لا بيانُ أنَّ أمراً بديعاً الحاقةُ كما يفيدُهُ كونُها مبتدأً وكونُ الحاقَّةِ خبراً وقوله تعالى

3

{وَمَا أَدْرَاكَ} أي وأيُّ شيءٍ أعلمكَ {مَا الحاقة} تأكيد لهولها وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرة علوم المخلوقاتِ على مَعْنَى أنَّ عظمَ شأنِهَا ومَدَى هولِهَا وشدَّتِهَا بحيثُ لا تكادُ تبلغُهُ درايةُ أحدٍ ولا وهمُهُ وكيفَما قدرتَ حالَهَا فهيَ أعظمُ من ذلكَ وأعظمُ فلا يتسنَّى الإعلامُ وما في حيز الرفع على الابتداءِ وأدراكَ خبرُهُ ولا مساغَ هَهُنَا للعكسِ ومَا الحاقَّةُ جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ على الوجهِ الذي عرفَتَهُ محلُّها النصبُ على إسقاطِ الخافضِ لأنَّ أدرى يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله تعالى ولا أدراكم بِهِ فلمَّا وقعتْ جملةُ الاستفهامِ معلّقةً لهُ كانَتْ في موضعِ المفعولِ الثانِي والجملةُ الكبيرةُ معطوفةٌ على ما قبلها من الجملة الواقعةِ خبراً لقولِهِ تعالَى الحاقة مؤكدةٌ لهولِها كما مرَّ

4

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة} أيْ بالحالةِ التي تقرعُ النَّاسَ بفنونِ الأفزاعِ والأهوالِ والسماءَ بالانشقاقِ والانفطارِ والأرضَ والجبال بالدك

69 سورة الحافة (5 9) والنسفِ والنجومَ بالطمسِ والانكدارِ ووضعُهَا موضعَ ضميرِ الحَاقَّةِ للدلالةِ على مَعْنَى القرعِ فيها تشديدا لهلولها والجملةُ استئنافٌ مسوقٌ لإعلامِ بعضِ أحوالِ الحَاقَّةِ لهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إثرَ تقريرِ أنَّه ما أدراهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بها أحدٌ كما في قولِهِ تعالى وما أدراك ما هية نَارٌ حَامِيَةٌ ونظائرُهُ خَلا أنَّ المبيِّنَ هناكَ نفسُ المسؤل عنْهَا وهَهُنَا حالٌ منْ أحوالِهَا كَما في قولِهِ تعالى وما أدراك ما لَيْلَةُ القدر لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ فكمَا أنَّ المبيَّنَ هناكَ ليسَ نفسَ ليلةِ القدرِ بل فضلَها وشرفَها كذلكَ المبيَّنُ ههنا هولُ الحاقةِ وعظمُ شأنِهَا وكونُها بحيثُ يحقُّ إهلاكُ منْ يكذبُ بها كأنَّه قيلَ وما أدراكَ ما الحاقةُ كذبتْ بها ثمودُ وعادٌ فأُهلِكُوا

5

{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} أي بالواقعةِ المجاوزةِ للحدِّ وهيَ الصِّيحةُ أو الرَّاجفةُ

6

{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} أي شديدةِ الصَّوتِ لها صرصرةٌ أو شديدةُ البردِ تحرقُ ببردِهَا {عَاتِيَةٍ} شديدةِ العصفِ كأنَّها عتتْ على خُزَّانِهَا فلم يتمكنُوا من ضبطِهَا أو على عادٍ فلم يقدرُوا على ردِّها وقولُهُ تعالَى

7

{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} الخ استئنافٌ جيء به بيانا لكيفية إهلاكِهِم بالريحِ أي سلَّطها الله عليهِم بقدرتِه القاهرةِ {سبع ليال وثمانية أيام حُسُوماً} أي متتابعاتٍ جمعُ حاسمٍ كشهودٍ جمعُ شاهدٍ من حسمتُ الدابةُ إذا تابعتُ بين كيِّها أو نحساتٌ حسمتْ كلَّ خيرٍ واستأصلتهُ أو قاطعاتٌ قطعتْ دابرَهُم ويجوزُ أنْ يكونَ مصدراً منتصباً على العلةِ بمعنى قطعاً أو عَلى المصدرِ لفعلِهِ المقدرِ حالاً أي تحسمُهُم حُسوماً ويؤيدُه القراءةُ بالفتحِ وهيَ كانتْ أيامَ العجوزِ من صبيحةِ أربعاءَ إلى غروبِ الأربعاءِ الآخرِ وإنَّما سُمِّيتْ عجُوزاً لأنَّ عجُوزاً من عادٍ توارتْ في سِرْبٍ فانتزعتْهَا الريحُ في اليومِ الثامنِ فأهلكَتْهَا وقيلَ هي أيامُ العجزِ وهيَ آخرُ الشتاءِ وأسماؤُها الصِنُّ والصِّنَّبرُ والوبرُ والآمرُ والمؤتمرُ والمعللُ ومطفىءُ الجَمْرِ وقيلَ ومُكفىءُ الظعنِ {فَتَرَى القوم} إنْ كنتَ حاضراً حينئذٍ {فِيهَا} في مهابِّها أو في تلكَ الليالِي والأيامِ {صرعى} مَوْتَى جمعُ صريعٍ {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} أي أصولُ نخلٍ {خَاوِيَةٍ} متآكلةِ الأجوافِ

8

{فَهَلْ ترى لَهُم مّن بَاقِيَةٍ} أي بقيةٍ أو نفسٍ باقيةٍ أو بقاءٍ على أنَّها مصدرٌ كالكاذبةِ والطاغيةِ

9

{وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ} أيْ ومَنْ تقدَّمهُ وقُرِىءَ ومن قبله أي ومن عندَهُ من أتباعِهِ ويؤيدُهُ أنَّه قُرِىءَ ومَنْ مَعَهُ {والمؤتفكات} أي قرى قومٍ لوطٍ أي أهلُهَا {بِالْخَاطِئَةِ} بالخطإِ أو بالفعلةِ أو الأفعالِ ذاتِ الخطإِ التي من جُمْلتِهَا تكذيبُ

69 سورة الحاقة (10 15) البعثِ والقيامةِ

10

{فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبّهِمْ} أي فعَصَى كلُّ أُمَّةٍ رسولَهَا حينَ نَهَوهُم عمَّا كانُوا يتعاطونَهُ من القبائحِ {فَأَخَذَهُمْ} أي الله عزل وجَلَّ {أَخْذَةً رَّابِيَةً} أي زائدةً في الشدةِ كما زادتْ قبائحُهُم في القبحِ من ربا الشيء اذ زاد

11

{إنا لما طغى الماء} بسببِ إصرارِ قومِ نوحٍ على فنونِ الكفرِ والماصي ومبالغتِهِم في تكذيبِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فيما أوحَى إليهِ من الأحكامِ التي من جُملتها أحوالُ القيامةِ {حملناكم} أي في أصلابِ أبائِكُم {فِى الجارية} في سفينةِ نوحٍ عليهِ السَّلامُ والمرادُ بحملِهِم فيها رفعُهُم فوقَ الماءِ إلى انقضاءِ أيامِ الطُّوفانِ لا مجردُ رفعِهِم إلى السفينةِ كما يُعربُ عنهُ كلمةُ في فإنَّها ليستْ بصلةٍ للحملِ بلْ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من مفعولِهِ أي رفعناكُم فوقَ الماءِ وحفظناكُم حالَ كونِكُم في السفينةِ الجاريةِ بأمرِنَا وحفظِنَا وفيه تنبيهٌ على أنَّ مدارَ نجاتِهِم محضُ عصمتِهِ تعالى إنَّما السفينةُ سببٌ صُوريٌّ

12

{لِنَجْعَلَهَا} أي لنجعلَ الفعلةَ التي هي عبارةٌ عن إنجاءِ المؤمنينَ وإغراقِ الكافرينَ {لَكُمْ تَذْكِرَةً} عبرةً ودلالةً على كمالِ قُدرة الصَّانعِ وحكمتِهِ وقوةِ قهرِهِ وسعةِ رحمَتِهِ {وَتَعِيَهَا} أي تحفظُهَا والوعيُ أنْ تحفظَ الشيءَ في نفسِكَ والإيعاءُ أن تحفظَهُ في غيرِ نفسِكَ من وعاءٍ وقُرِىء تَعْيها بسكونِ العينِ تشبيهاً له بكتفٍ {أُذُنٌ واعية} أي أذنٌ من شأنِهَا أنْ تحفظَ ما يجبُ حفظُهُ بتذكرِهِ وإشاعَتِهِ والتفكرِ فيهِ ولا تضيعُهُ بتركِ العملِ بهِ والتنكيرُ للدلالةِ على قلَّتِهَا وأنَّ مَن هَذا شأنُه مَع قلتِهِ يتسببُ لنجاةِ الجمِّ الغفيرِ وإدامةِ نسلِهِم وقُرِىءَ أُذْنٌ بالتخفيفِ

13

{فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور نَفْخَةٌ واحدة} شروعٌ في بيان نفس الحاقة وكيفة وقوعِهَا إثرَ بيانِ عظمِ شأنِهَا بإهلاكِ مكذبيها وإنَّما اسند الفعلِ إلى المصدرِ لتقييدِه وحسُنَ تذكيرُهُ للفصلِ وقُرِىءَ نفخةً واحدةً بالنصبِ على إسنادِ الفعلِ إلى الجارِّ والمجرورِ والمرادُ بها النفخةُ الأُولى التي عندَهَا خرابُ العالمِ

14

{وَحُمِلَتِ الأرض والجبال} أي قلعت ورُفعتْ من أماكنِهَا بمجردِ القدرة الالهية او بتوسط الزلزلةِ أو الريحِ العاصفةِ {فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة} أيْ فضُربتْ الجملتانِ إثرَ رفعِهِمَا بعضِهَا ببعضٍ ضربةً واحدةً حتى تندقَّ وترجعَ كثيباً مهيلاً وهباءً منبثاً وقيل فبُسطتا بسطةً واحدةً فصارتَا قاعا صفصفا لا ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً من قولِهِم اندكَّ السنامُ إذا تفرشَ وبعيرٌ أدكُّ وناقةٌ دكاءُ ومنهُ الدكانُ

15

{فَيَوْمَئِذٍ} فحينئذٍ {وَقَعَتِ الواقعة}

أي قامتِ القيامةُ

16

{وانشقت السماء} لنزولِ الملائكةِ {فَهِىَ} أي السماءُ {يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} ضعيفة مسترخية بعد ما كانَتْ محكمةً

17

{والملك} أي الخلقُ المعروفُ بالملكِ {على أَرْجَائِهَا} أي جوانِبِهَا جمعُ رَجَا بالقصرِ أي تنشقُّ السماءُ التي هيَ مساكنُهُم فيلجأونَ إلى أكنافِهَا وحافاتِهَا {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ} فوقَ الملائكةِ الذين هم الأرجاءِ أو فوقَ الثمانيةِ {يَوْمَئِذٍ ثمانية} من الملائكةِ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم هُم اليومَ أربعةٌ فإذا كانَ يومُ القيامةِ أيدهُم الله تعالَى بأربعةٍ آخرينَ فيكونونَ ثمانيةً ورُوِيَ ثمانيةُ أملاكٍ أرجلهُم في تخومِ الأرضِ السابعةِ والعرشُ فوقَ رؤسهم وهم مُطرقونَ مسبحونَ وقيل بعضُهُم على صورةِ الإنسانِ وبعضهم على صورة الأسد وبعضُهُم على صورةِ الثورِ وبعضُهُم على صورةِ النسرِ ورُويَ ثمانيةُ أملاكٍ في خَلقْ الأوعالِ ما بينَ أظلافِهَا إلى رُكبِهَا مسيرةُ سبعينَ عاماً وعن شَهْرِ بنِ حَوشبٍ أربعةٌ منهُم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لكَ الحمدُ على عفوِكَ بعد قدرَتِكَ وأربعة يقولونَ سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمدُ على حلمِك بعد علمِك وعنِ الحسنِ الله أعلمُ أثمانيةٌ أم ثمانيةُ آلافٍ وعن الضحَّاكِ ثمانيةُ صفوفٍ لا يعلمُ عددَهم إلا الله تعالَى ويجوزُ أنْ يكونَ الثمانيةُ من الروحِ أو من خلقٍ آخرَ وقيلَ هو تمثيلٌ لعظمتِهِ تعالَى بما يشاهدُ من أحوالِ السلاطينِ يومَ خروجِهِم على الناسِ للقضاءِ العامِ لكونِهَا أَقْصَى ما يتصورُ من العظمةِ والجلالِ والا فشؤنه سبحانَهُ أجلُّ من كلَّ ما يحيطُ بهِ فَلَكُ العبارةِ والإشارةِ

18

{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} أي تُسألونَ وتُحاسبونَ عبِّر عنهُ بذلكَ تشبيهاً لهُ بعرضِ السلطانِ العسكرَ لتعرّفِ أحوالِهِم رُوِيَ أنَّ في يومِ القيامةِ ثلاثَ عرضاتٍ فأما عرضتانِ فاعتذارٌ واحتجاجٌ وتوبيخٌ وأما الثالثةُ ففيها تنشرُ الكتبُ فيأخذُ الفائزُ كتابَهُ بيمينِهِ والهالكُ بشمالِهِ وهذا وإنْ كانَ بعدَ النفخةِ الثانيةِ لكنْ لما كانَ اليومُ إسماً لزمانٍ متسعٍ يقعُ فيهِ النفختانِ والصعقةُ والنشورُ والحسابُ وإدخالُ أهلِ الجنةَ وأهلُ النَّارِ النارَ صحَّ جعلُهُ ظرفاً للكُلِّ {لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} حالٌ من مرفوعِ تُعرضونَ أي تُعرضونَ غيرَ خافٍ عليهِ تعالَى سرٌّ من أسرارِكُم قبلَ ذلكَ أيضاً وإنَّما العرض لافشاء الحال والمبالغ في العدلِ أو غيرِ خافٍ يومئذٍ على الناسِ كقولِهِ تعالَى يَوْمَ تبلى السرائر وقُرِىءَ يَخْفى بالياءِ التحتانيةِ

19

{فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ} تفصيلٌ لأحكامِ العرضِ {فَيَقُولُ} تبجّحاً وابتهاجاً {هَاؤُمُ اقرؤوا كتابيه} هَا اسمٌ لخُذْ وفيهِ ثلاثُ لُغاتٍ أجودُهُنَّ هاءِ يا رجلُ وهاءِ يا أمرأة وهاؤما يا رجلانِ أو امرأتانِ وهاؤُونَ يا رجالُ وهاؤُنَّ يا نسوةُ ومفعولُهُ محذوفٌ وكتابيه مفعول اقرؤا لأنه اقرب العالمين ولأنه

69 سورة الحاقة (20 27) لو كانَ مفعولَ هاؤُمُ لقيلَ اقرؤُه إذِ الأَوْلَى إضمارُهُ حيثُ أمكنَ والهاءُ فيهِ وفي حسابَيه ومالَيه وسلطانَيه للسكتَ تُثبتُ في الوقفِ وتسقطُ في الوصلِ واستُحبَّ إثباتُهَا لثباتِهَا في الإمامِ

20

{إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ} أي علمتُ ولعلَّ التعبيرَ عنْهُ بالظنِّ للإشعارِ بأنَّهُ لا يقدحُ في الاعتقادِ ما يهجسُ في النفسِ من الخطراتِ التي لا ينفكُّ عنها العلومُ النظريةُ غالباً

21

{فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} ذاتِ رِضَا على النسبةِ بالصيغةِ كما يقالُ دارعٌ في النسبةِ بالحرفِ أو جُعلَ الفعلُ لها مجازاً وهو لصاحِبِهَا وذلكَ لكونِهَا صافيةً عن الشوائبِ دائمةً مقرونةً بالتعظيمِ

22

{فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} مرتفعةِ المكانِ لأنَّها في السماءِ أو الدرجاتِ أو الأبنيةِ والأشجارِ

23

{قُطُوفُهَا} جمعُ قِطْفٍ وهُو ما يُجتَنَى بسرعةٍ والقَطْفُ بالفتحِ مصدرٌ {دَانِيَةٌ} يتناولُهَا القاعدُ

24

{كُلُواْ واشربوا} بإضمارِ القولِ والجمعُ باعتبارِ المَعْنَى {هَنِيئَاً} أكلا وشربا هنيئا أو هنئتُم هنيئاً {بِمَا أَسْلَفْتُمْ} بماقبلة ما قدمتهم من الأعمالِ الصالحةِ {فِى الأيام الخالية} أي الماضيةِ في الدُّنيا وعن مجاهدٍ أيامُ الصيامِ ورُوِيَ يقولُ الله تعالى يأوليائي طالما نظرتُ إليكُم في الدُّنيا وقد قلصتْ شفاهُكُم عن الأشربةِ وغارتْ أعينُكُم وخَمُصتْ بطونُكُم فكونُوا اليومَ في نعيمِكُم وكُلُوا واشربُوا الآيةَ

25

{وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بشماله} وأرى ما فيهِ من قبائحِ الأعمال {فيقول يا ليتني لَمْ أُوتَ كتابيه}

26

{وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} لما شاهدَ من سُوءِ العاقبة

27

{يا ليتها} يا ليتَ الموتةَ التي مِتُّها {كَانَتِ القاضية} أي القاطعةَ لأمرِي ولم أُبعثْ بعدَها ولم ألقَ ما أَلقَى فضميرُ ليتِهَا للموتةِ ويجوزُ أن يكونَ لِمَا شاهدَهُ من الحالةِ أي يا ليتَ هذه الحالةَ كانتِ الموتةَ التي قضتْ عليَّ لما أنَّهُ وجدَها أمرَّ من الموتَ فتمنَّاهُ عندَها وقد جُوِّزَ أن يكونَ للحياةِ الدُّنيا أيْ

69 سورة الحاقة (20 27) يا ليتَ الحياةَ الدُّنيا كانتِ الموتةَ ولم أُخلقْ حياً

28

{مَا أغنى عَنّى مَالِيَهْ} مالي من المالِ والأتباعِ على أنَّ ما نافيةٌ والمفعولُ محذوفٌ أو استفهاميةٌ للإنكارِ أيْ أيُّ شيءٍ أغْنَى عنِّي مَا كَانَ لِىَ مِنْ اليسارِ

29

{هَلَكَ عَنّى سلطانيه} أي مُلكِي وتسلُّطِي على الناسِ او حجتي الى كنتُ أحتجُّ بها في الدُّنيا أو تسلطي على القُوَى والآلاتِ فعجزتُ عن استعمالِهَا في العِبَاداتِ

30

{خُذُوهُ} حكايةٌ لما يقولُهُ الله تعالَى يومئذٍ لخزنةِ النارِ {فَغُلُّوهُ} أي شُدوه بالأغلالِ

31

{ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ} أي لا تُصلُّوه إلا الجحيمَ وهي النارُ العظيمةُ ليكونَ الجزاءُ على وفقِ المعصيةِ حيثُ كانَ يتعاظمُ على الناسِ

32

{ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا} أي طولُهَا {سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ} فأدخلُوه فيها بأنْ تلفّوهَا على جسدِهِ فهو فيما بينَهَا مرهقٌ لا يستطع حرا كاما وتقديمُ السلسلةِ كتقديمِ الجحيمِ للدلالةِ على الاختصاصِ والاهتمامِ بذكرِ ألوانِ ما يعذبُ ألوانِ ما يعذبُ بهِ وثمَّ لتفاوتِ ما بينَ الغُلِّ والتصليةِ وما بينهُمَا وبينَ السلكِ في السلسلةِ في الشدَّةِ

33

{إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم} تعليلٌ بطريقِ الاستئنافِ التحقيقيِّ ووصفُه تعالَى بالعِظَمِ للإيذانِ بأنَّه المُستحقُّ للعظمةِ فحسبُ فمَنْ نسبَها إلى نفسِهِ استحقَّ أعظمَ العُقوباتِ

34

{وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} ولا يحثُّ على بذلِ طعامِهِ أوْ عَلَى إطعامِهِ فضلاً أنْ يبذلَ ما مِن مالِهِ وقيلَ ذُكِرَ الحضُّ للتنبيهِ على أنَّ تاركَ الحضِّ بهذهِ المنزلةِ فما ظنُّكَ بتاركِ الفعلِ وفيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤخذة قالُوا تخصيصُ الأمرينِ بالذكرِ لما أنَّ أقبحَ العقائدِ الكفرُ وأشنعَ الرذائلِ البخلُ وَقَسوةُ القلبِ

35

{فليس له اليوم ها هنا حميم} اي قريب يحيمه ويدفعُ عنْهُ ويحزَنُ عليهِ لأنَّ أولياءَهُ يتحامونَهُ ويُفرُّونَ منْهُ

36

{وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} أي من غُسالةِ اهل النار

69 سورة الحاقة (37 44) وصديدِهِم فِعلين من الغُسْلِ

37

{لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون} أصحابُ الخَطَايَا منْ خَطِىءَ الرِجلُ إذَا تعمَّدَ الذنبَ لا من الخطإِ المقابلِ للصوابِ دونَ المقابلِ للعمدِ عن ابن عباس رضي الله عنهُمَا أنَّهم المشركونَ وقُرِىءَ الخَاطِيُونَ بإبدالِ الهمزةِ ياءً وقُرِىءَ بطرحِهَا وقدْ جُوِّز أن يراد بهم الذينَ يتخطَّونَ الحقَّ إلى الباطلِ ويتعدّونَ حدودَ الله

38

{فلا أقسم} أي فأقسم على أنَّ لاَ مزيدةٌ للتأكيدِ وأمَّا حملُه على مَعْنَى نفيِ الإقسامِ لظهورِ الأمرِ واستغنائِهِ عن التحقيقِ فيردُّه تعيينُ المقسمِ بهِ بقولِهِ تعالَى {بِمَا تُبْصِرُونَ}

39

{وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} كما مرَّ في سورةِ الواقعةِ أي أقسمُ بالمُشاهداتِ والمغيباتِ وقيلَ بالدُّنيا والآخرةِ وقيلَ بالأجسام والأرواح والانسن والجِنِّ والخلقِ والخالقِ والنعمِ الظاهرةِ والباطنةِ والأولُ منتظمٌ للكلِّ

40

{أَنَّهُ} أيِ القرآنَ {لَقَوْلُ رَسُولٍ} يبلغُهُ عن الله تعالَى فإنَّ الرسولَ لا يقولُ عن نفسِهِ {كَرِيمٌ} على الله تعالَى وهو النبيُّ أو جبريلُ عليهما السَّلامُ

41

{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} كما تزعمونَ تارةً {قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ} إيماناً قليلاً تؤمنونَ

42

{وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ} كما تدَّعُونَ ذلكَ تارةً أُخرى {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} أي تذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تتذكرونَ على أنَّ القِلَّةَ بمَعْنَى النَّفي أيْ لا تُؤمنونَ ولا تتذكرونَ أصْلاً قيلَ ذُكِرَ الإيمانُ معَ نَفي الشاعريةِ والتذكرُ مع نَفي الكاهنيةِ لما أنَّ عدمَ مشابهةِ القُرآنِ الشعرَ أمرٌ بينٌ لا يُنكرهُ إلا معاندٌ بخلافِ مباينتِهِ للكهانةِ فإنَّها تتوقفُ على تذكرِ أحوالِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ومعانِي القُرآنِ المنافيةِ لطريقةِ الكَهَنَةِ ومعانِي أقوالِهِم وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ أيضاً مما لا يتوقفُ على تأملٍ قطعاً وقُرِىءَ بالياءِ فيهما

43

{تنزيلٌ مّن ربِّ العالمينَ} نزلَّهُ على لسانِ جبريلَ عليهِ السَّلامُ

44

{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاقاويل} سُمِّي الافتراءُ تقوُّلاً لأنَّه قولٌ متكلفٌ والأقوالُ المُفتراةُ أقاويلُ تحقيراً لها كأنَّها جمعُ أُفْعُولةٍ من القول كالأضاحيك

45

{لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين} أي بيمينِهِ

46

{ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} أي نياطَ قلبِهِ بضربِ عنقِهِ وهو تصويرٌ لإهلاكِهِ بأفظعِ ما يفعلُهُ الملوكُ بمن يغضبونَ عليهِ وهو أن يأخذ القتَّالُ بيمينه ويكفَحُه بالسيفِ ويضربَ عُنقَهُ وقيلَ اليمينُ بمعنى القوةِ قال قائلُهُم إذَا مَا رايةٌ رُفعتْ لِمَجْد تَلقَّاها عُرابةُ باليمينِ

47

{فَمَا مِنكُم} أيُّها الناسُ {مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ} عن القتلِ أو المقتولِ {حاجزين} دافعينَ وصفٌ لأحدٍ فإنَّهُ عامٌّ

48

{وَإِنَّهُ} أي وإنَّ القُرآنَ {لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتَّقِينَ} لأنهم المنتفعونَ بهِ

49

{وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مكذبين} فنجازيهم على تكذبيهم

50

{وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الكافرين} عند مشاهدتهم لثوابِ المؤمنينَ

51

{وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين} الذي لا يحومُ حولَهُ ريبٌ مَا

52

{فسبح باسم ربك العظيم} أي فسبحْ بذكرِ اسمهِ العظيمِ تنزيهاً لهُ عن الرِّضا بالتقولِ عليهِ وشكراً على ما أُوحِيَ إليكَ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الحَاقَّةِ حاسبَهُ الله حسابا يسيرا

70 سورة المعارج (1 4) سورة المعارج مكية وآياتها اربع وأربعون {بسم الله الرحمن الرحيم}

المعارج

{سَأَلَ سَائِلٌ} أي دَعَا داعٍ {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} أي استدعاهُ وطلبَهُ وهُو النَّضرُ بن الحرث حيثُ قالَ إنكاراً واستهزاءً إِن كَانَ هَذا هُوَ الحقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وقيلَ أبُو جهلٍ حيثُ قالَ أسقطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مّنَ السماءِ وقيلَ هو الحرث بنِ النعمانِ الفهريُّ وذلكَ أنَّه لما بلغَهُ قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عليَ رضيَ الله عنهُ من كنتُ مولاهُ فعليٌّ مولاهُ قالَ اللهمَّ إنْ كانَ ما يقولُ محمدٌ حقاً فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماءِ فما لبثَ حَتَّى رماهُ الله تعالَى بحجرٍ فوقعَ على دماغه مخرج من أسفلِهِ فهلكَ من ساعتِهِ وقيلَ هُو الرسولُ صلى الله عليه وسلم استعجلَ عذابَهُمْ وقُرِىءَ سَأَلَ وهو إمَّا من السؤالِ على لُغةِ قُريشٍ فالمَعْنَى ما مرَّ أو من السَّيلانِ ويؤيدُهُ أنَّهُ قُرِىءَ سالَ سيلٌ أي اندفعَ وادٍ بعذابٍ واقعٍ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على تحققِ وقوعِهِ إمَّا في الدُّنيا وهو عذابُ يومِ بدرٍ فإنَّ النضرَ قُتِلَ يومئذٍ صَبْراً وقد مرَّ حالُ الفهريِّ وإمَّا في الآخرةِ فهو عذابُ النارِ والله أعلمُ

2

{للكافرين} صفةٌ أُخرى لعذابٍ أي كائنٍ للكافرينَ أو صلةٌ لواقعٍ أو متعلقٌ بسألَ أي دَعَا للكافرينَ بعذابٍ واقعٍ وقولُهُ تعالَى {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} صفةٌ أُخرى لعذابٍ أو حالٌ منهُ لتخصُّصه بالصفةِ أو بالعملِ أو من الضميرِ في الكافرين على تقديرِ كونِه صفةً لعذابٍ أو استئنافٌ

3

{مِنَ الله} متعلقٌ بواقعٍ أو بدافعٌ أي ليسَ له دافعٌ من جهتِهِ تعالَى {ذِي المعارج} ذِي المصاعدِ التي يصعدُ فيها الملائكةُ بالأوامرِ والنَّواهِي أو هي عبارةٌ عن السمواتِ المترتبةِ بعضِهَا فوقَ بعضٍ

4

{تَعْرُجُ الملائكة والروح} أي جبريلُ عليهِ السَّلامُ أفردَ بالذكرِ لتميزِهِ وفضلِهِ وقيلَ الروحُ خلقٌ هم حفظة على الملائكةِ كما أنَّ الملائكةَ حفظةٌ على الناسِ {إِلَيْهِ} إلى عرشِهِ تعالَى وإلى حيثُ تهبطُ منهُ أوامرُهُ تعالَى وقيلَ هو من قبيلِ قولِ إبراهيمَ

70 سورة المعارج (5 8) عليهِ السَّلامُ إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى أي إلى حيثُ أمرنِي بهِ {فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} مما يعدُّه الناسُ وهو بيانٌ لغايةِ ارتفاعِ تلكَ المعارجِ وبُعدِ مَداها على منهاجِ التمثيلِ والتخييلِ والمَعْنَى أنَّها من الارتفاعِ بحيثُ لو قُدِّرَ قطعُها في زمانٍ لكانَ ذلكَ الزمانُ مقدارَ خمسينَ ألفَ سنةٍ من سِني الدُّنيا وقيلَ معناهُ تعرُجُ الملائكةُ والروحُ إلى عرشِهِ تعالَى فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ كمقدارِ خمسينَ ألفَ سنةٍ أي يقطعونَ في يومٍ ما يقطعُهُ الإنسانُ في خمسينَ ألفَ سنةٍ لو فُرضَ ذلكَ وقيلَ في يومٍ متعلقٌ بواقعٍ وقيل بسال على تقديرِ كونِه من السَّيلانِ فالمرادُ به يومُ القيامةِ واستطالتُهُ إمَّا لأنَّه كذلكَ في الحقيقةِ أو لشدتِهِ على الكفارِ أوْ لكثرةِ ما فيهِ من الحالاتِ والمحاسباتِ وأيَّاً ما كانَ فذلكَ في حقِّ الكافرِ وأمَّا في حقِّ المؤمنِ فلاَ لِمَا رَوَى أبو سعيدٍ الخدريُّ رضيَ الله عنهُ أنَّه قيلَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ما أطولَ هذا اليومَ فقال عليه الصلاة والسلام والذي نفسِي بيدِهِ أنَّهُ ليخِفُّ على المؤمنِ حتى إنَّهُ يكونُ أخفَّ من صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلِّيها في الدُّنيا وقولُه تعالَى

5

{فاصبر صَبْراً جَمِيلاً} متعلقٌ بسألَ لأنَّ السؤالَ كانَ عن استهزاءٍ وتعنتٍ وتكذيبٍ بالوحيِ وذلكَ ممَّا يُضجره عليه الصلاة والسلام أو كانَ عن تضجرٍ واستبطاءٍ للنصرِ أو بسألَ سائلٌ أو سالَ سيلٌ فمعناهُ جاءَ العذابُ لقُربِ وقوعِهِ فقد شارفتَ الانتقامَ

6

{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ} أيِ العذابَ الواقعَ أو يومَ القيامةِ على تقديرِ تعلقِ في يومٍ بواقعٍ {بَعِيداً} أي يستبعدونَهُ بطريقِ الإحالةِ فلذلكَ يسألونَ بهِ

7

{وَنَرَاهُ قَرِيباً} هيناً في قُدرتِنَا غيرَ بعيدٍ علينا ولا متعذرٍ على أنَّ البُعدَ والقُربَ معتبرانِ بالنسبةِ إلى الإمكانِ والجملةُ تعليلٌ للأمرِ بالصبرِ وقولُه تعالَى

8

{يوم تكون السماء كالمهل} متعلقٌ بقريباً أيْ يمكنُ ولا يعتذر في ذلكَ اليومِ أو بمضمرٍ دلَّ عليهِ واقعٍ أو بمضمرٍ مؤخرٍ أي يوم تكون السماء كالمهل الخ يكونُ من الأحوالُ والأهوالُ ما لا يُوصفُ أو بدلٌ منْ في يومٍ على تقديرِ تعلقِهِ بواقعٍ هذا ما قالُوا ولعلَّ الأقربَ أنَّ قولَهُ تعالَى سأل سائلٌ حكايةٌ لسؤالِهِم المعهودِ على طريقةِ قوله تعالى يسألونك عَنِ الساعة وقولِهِ تعالَى وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد ونحوهِما إذْ هُو المعهودُ بالوقوعِ على الكافرينَ لا ما دَعَا بهِ النضرُ او ابو جهل الفهريُّ فالسؤالُ بمعناهُ والباءُ بمَعْنَى عنْ كَما في قولِهِ تعالَى فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً وقولُه تعالَى لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ الخ استئنافٌ مسوف لبيان وقوع المسؤل عنهُ لا محالةَ وقولُه تعالَى فاصبر صَبْراً جَمِيلاً مترتبٌ عليهِ وقولُه تعالَى إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً تعليلٌ للأمرِ بالصبرِ كما ذُكِرَ وقولُهُ تعالَى يَوْمَ تَكُونُ الخ متعلقٌ بليسَ له دافعٌ أو بما يدلُّ هو عليهِ أي يقعُ يومَ تكونُ السماء

70 سورة المعارج (9 15) كالمهلِ وهو ما أُذيبَ على مَهَلٍ من الفلزاتِ وقيلَ دُرْدِيُّ الزيتِ

9

{وَتَكُونُ الجبال كالعهن} كالصوفِ المصبوغِ ألواناً لاختلافِ ألوانِ الجبالِ منها جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها وَغَرَابِيبُ سُودٌ فإذا بُسَّتْ وطيّرتْ في الجوِّ أشبهتِ العهنَ المنفوشَ إذَا طيرته الريحُ

10

{ولا يسأل حَمِيمٌ حَمِيماً} أي لا يسألُ قريبٌ قريباً عن أحوالِهِ ولا يُكلمه لابتلاءِ كلَ منهُم بما يشغلُهُ عن ذلكَ وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ أيْ لا يُطلبُ منْ حميمٍ حميمٌ أولا يسألُ منْهُ حالةٌ

11

{يُبَصَّرُونَهُمْ} أي يُبصِرُ الأحماءُ الأحماءَ فلا يخفَونَ عليهم وما يمنعُهُم من التساؤلِ إلا تشاغلُهُم بحالِ أنفسِهِم وقيلَ ما يُغني عنهُ من مشاهدةِ الحالِ كبياضِ الوجهِ وسوادِهِ والأولُ أدخلُ في التَّهويلِ وجمعَ الضميرينِ لعمومِ الحميمِ وقُرِىءَ يُبْصِرُونَهُمْ والجملةُ استئنافٌ {يَوَدُّ المجرم} أي يتمنَّى الكافرُ وقيلَ كلُّ مذنبٍ وقولُهُ تعالَى {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} أي العذابَ الذي ابتلُوا بهِ يومئذٍ {بِبَنِيهِ}

12

{وصاحبته وَأَخِيهِ} حكايةٌ لودادتِهم ولوُ في مَعْنَى التمنِّي وقيلَ هي بمنزلةِ أَن الناصبةِ فلا يكونُ لها جوابٌ وينْسبكُ منها ومما بعدها مصدرٌ يقع مفعولا ليودُّ والتقديرُ يودُّ افتداءَهُ ببنيهِ الخ والجملةُ استئنافٌ لبيانِ أنَّ اشتغالَ كلِّ مجرمٍ بنفسِهِ بلغَ إلى حيثُ يتمنَّى أن يفتدي بأقربِ الناسِ إليهِ وأعلقِهِم بقلبِهِ فضلاً أن يهتمَّ بحالِهِ ويسألَ عَنْهَا وقُرِىءَ يومَئذٍ بالفتحِ على البناءِ للإضافةِ إلى غيرِ متمكنٍ وبتنوينِ عذابٍ ونصبِ يومئذٍ وانتصابُهُ بعذابٍ لأنَّه في مَعْنَى تعذيبٍ

13

{وَفَصِيلَتِهِ} أي عشيرتِهِ التي فصل عنهم {التي تؤويه} اي تضمه في النسبِ أو عندَ الشدائدِ

14

{وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً} من الثقلينِ والخلائقِ ومَنْ للتغليبِ {ثُمَّ يُنجِيهِ} عطفٌ على يفتدي اي يودُّ لو يفتدِي ثم لو ينجِيهِ الافتداءُ وثمَّ لاستبعادِ الإنجاءِ يعني يتمنَّى لو كانَ هؤلاءِ جميعاً تحتَ يدِه وبذلَهُم في فداءِ نفسِهِ ثمَّ ينجيهِ ذلكَ وهيهاتَ

15

{كَلاَّ} ردعٌ للمجرمِ عن الودادةِ وتصريحٌ بامتناعِ إنجاءِ الافتداءِ وضميرُ {أَنَّهَا} إما للنارِ المدلولِ عليها بذكرِ العذاب او مبهم ترجم عند

70 سورة المعارج (16 24) الخبر الذي هو قوله تعالَى {لظى} وهي علمٌ للنارِ منقولٌ منَ اللَّظى بمَعْنَى اللهبِ

16

{نَزَّاعَةً للشوى} نُصب على الاختصاصِ أو حالٌ مؤكدةٌ والشَّوى الأطرافُ أو جمعُ شواةٍ وهي جلدةُ الرأسِ وقُرِىءَ نزاعةٌ بالرفعِ على أنه خبرُ ثاني لأنَّ أو هُو الخبرُ ولَظَى بدلٌ منَ الضميرِ أو الضميرُ للقصةِ ولَظَى مبتدأ ونزاعة خبره

17

{تدعو} اي تجذب وتحضر وقل تدعُو وتقولُ لهم إليَّ إليَّ يا كافرُ يا منافقُ وقيل تدعُو المنافقينَ والكافرينَ بلسانٍ فصيحٍ ثم تلتقطُهُم التقاطَ الحبِّ وقيلَ تدعُو تُهلكُ وقيلَ تدعُو زبانيتَهَا {مَنْ أَدْبَرَ} أي عنِ الحقِّ {وتولى} أعرضَ عن الطاعةِ

18

{وَجَمَعَ فَأَوْعَى} أي جمعَ المالَ فجعلَهُ في وعاءٍ وكنزَهُ ولم يؤدِ زكاتَهُ وحقوقَهُ وتشاغلَ بهِ عن الدينِ وزَهَى باقتنائِهِ حرصاً وتأميلاً

19

{إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} الهَلَعَ سرعةُ الجزعِ عند مسِّ المكروهِ وسرعةُ المنعِ عند مسِّ الخيرِ وقد فسَّرهُ أحسنَ تفسيرٍ قولُهُ تعالَى

20

{إِذَا مَسَّهُ الشر} أي الفقرُ والمرضُ ونحوهُما {جَزُوعاً} أي مبالغاً في الجزعِ مُكثراً منْهُ

21

{وَإِذَا مَسَّهُ الخير} أي السَّعةُ والصحةُ {مَنُوعاً} مبالغاً في المنعِ والإمساكِ والأوصافُ الثلاثةُ أحوالٌ مقدرةٌ أو محققةٌ لأنها طبائعُ جُبلَ الإنسانُ علَيها وإذَا الأولى ظرفٌ لجزوعَا والثانيةُ لمنوعَا

22

{إِلاَّ المصلين} استثناءٌ للمتصفينَ بالنعوتِ الجليلةِ الآتيةِ من المطبوعينَ على القبائحِ الماضيةِ لأنباءِ نعوتِهِم عن الاستغراقِ في طاعةِ الحقِّ والإشفاقِ على الخلقِ والإيمانِ بالجزاءِ والخوفِ من العقوبةِ وكسرِ الشهوةِ وإيثارِ الآجلِ على العاجلِ على خلافِ القبائحِ المذكورةِ الناشئةِ من الانهماكِ في حب العاجل وقصرِ النظرِ عليهِ

23

{الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} لا يشغَلهم عنها شاغلٌ

24

{والذين فِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ} أي نصيبٌ معينٌ يستوجبونه

70 سورة المعارج (25 34) على أنفسهم تقرُّباً إلى الله تعالى وإشفاقا على النَّاسِ من الزكاةِ المفروضةِ والصدقات الموظفة

25

{للسائل} الذي يسألَهُ {والمحروم} الذي لا يسألَهُ فيظُنُّ أنه غنيُّ فيحرمُ

26

{والذين يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدين} أي بأعمالِهِم حيثُ يتعبونَ أنفسَهُم في الطاعاتِ البدنيةِ والماليةِ طمعاً في المثوبةِ الأخرويةِ بحيثُ يُستدلُّ بذلكَ على تصديقِهِم بيومِ الجزاءِ

27

{والذين هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ} خائفونَ على انفسهم مع مالهم منَ الأعمالِ الفاضلةِ استقصاراً لها واستعظاماً لجنابِهِ عزَّ وجلَّ كقوله تعالَى والذين يؤتون ما آتوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون وقولِهِ تعالَى

28

{إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} اعتراضٌ مؤذنٌ بأنه لا ينبغي لأحدٍ أنْ يأمنَ عذابَهُ تعالَى وإنْ بالغَ في الطاعةِ

29

{والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون} {إِلاَّ على أزواجِهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} سلفَ تفسيرُهُ في سورةِ المؤمنينَ

31

{فَمَنِ ابتغى} أي طلبَ لنفسِهِ {وَرَاء ذلك} وراءَ ما ذُكِرَ من الأزواجِ والمملوكاتِ {فَأُوْلَئِكَ} المبتغونَ {هُمُ العادون} المتعدون لحدود الله تعالى

32

{والذين هُمْ لاماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون} لا يُخلُّونَ بشيءٍ من حقوقِهَا

33

{وَالَّذِينَ هُمْ بشهاداتهم قَائِمُونَ} أي مقيمونَ لها بالعدلِ إحياءً لحقوقِ الناسِ وتخصيصُها بالذِّكرِ مع اندراجها في الأماناتِ لإبانةِ فضلِهَا وقُرِىءَ لأمانتِهِم وبشهادَتِهِم على إرادةِ الجنسِ

34

{وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي يراعونَ شرائطَهَا

70 سورة (35 39) ويكملونَ فرائضَهَا وسنَنَهَا ومستحباتِهَا وآدابِهَا وتكريرُ ذكرِ الصَّلاةِ ووصفِهِم بهَا أولاً وآخراً باعتبارينِ للدلالةِ على فضلِهَا وإنافتِهَا على سائرِ الطاعاتِ وتكريرُ الموصولاتِ لتنزيلِ اختلافِ الصفاتِ منزلةَ اختلافِ الذواتِ كما في قول من قالَ إِلَى الملكِ القَرْمِ وابنِ الهُمام وليثِ الكتائبِ في المُزْدَحَمْ إيذاناً بأنَّ كلَّ واحدٍ من الأوصافِ المذكورةِ نعتٌ جليلٌ على حِياله له شأنٌ خطيرٌ مستتبِعٌ لأحكامِ جَمةٍ حقيقٌ بأنْ يُفردَ له موصوفٌ مستقلٌّ ولا يجعلُ شيءٌ منها تتمةً للآخرِ

35

{أولئك} إشارةٌ إلى الموصوفينَ بما ذُكر من الصِّفاتِ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشارِ إليهِم للإيذانِ بعلوِّ شأنِهِم وبُعدِ منزلَتهِم في الفضل وهو مبتدأ خبره {فِي جنات} أي مستقرونَ فى جنات لايقادر قَدرُهَا ولا يُدرَكُ كُنْهُهَا وقوله تعالَى {مُّكْرَمُونَ} خبرٌ آخرُ أو هو الخبر وفي جناتٍ متعلقٌ بهِ قُدِّم عليهِ لمراعاةِ الفواصلِ أو بمضمرٍ هو حالٌ من الضميرِ في الخبرِ أي مكرمونَ كائنينَ في جنَّاتٍ

36

{فَمَالِ الذين كَفَرُواْ قَبْلِكَ} حولَكَ {مُهْطِعِينَ} مُسرعينَ نحوكَ مادِّي أعناقِهِم إليكَ مقبلينَ بأبصارِهِم عليكَ

37

{عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ} أي فِرَقاً شتَّى جمعُ عِزَةٍ وأصلُهَا عِزْوَةٌ من العزو كأن كلَّ فرقةٍ تعتزِي إلى غيرِ من تعتزِي إليهِ الأُخرى كانَ المُشركونَ يحلّقونَ حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقا حلقا وفرقا وفرقا ويستهزؤن بكلامِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ويقولونَ إنْ دخلَ هؤلاءِ الجنَّةَ كما يقولُ محمدٌ فلندخلنَّها قبلَهُم فنزلتْ

38

{أيطمع كل امرئ مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} بلا إيمانٍ

39

{كَلاَّ} ردعٌ لهم عن ذلكَ الطمعِ الفارغِ {إِنَّا خلقناهم مّمَّا يَعْلَمُونَ} قيلَ هو تعليلٌ للردعِ والمَعْنَى إنا خلقناهُم من أجلِ ما يعلمونَ كما في قولِ الأَعْشَى أَأَزْمَعْتَ مِنْ آل ليلى ابتكاراوشطت عَلَى ذِي هَوَى أنْ تزارا وهو تكميا النفسِ بالإيمانِ والطاعةِ فمنْ لَمْ يستكملْهَا بذلكَ فهو بمعزلٍ من أنْ يُبوأ مبوأَ الكاملينَ فمن أينَ لهُم أنْ يطمعُوا في دخولِ الجنةِ وهم مكبونَ على الكفرِ والفسوقِ وإنكارِ البعثِ وقيل معناهُ إنَّا خلقناهُم مما يعلمونَ من نطفةٍ مذِرةٍ فمن أينَ يتشرفونَ ويدّعُونَ التقدمَ ويقولونَ لندخلنَّ الجنةَ قبلَهُم وقيلَ إنهم مخلوقونَ من نطفةٍ قدرة لا تناسبُ عالمَ القدسِ فمتَى لم تستكملِ الإيمانَ والطاعة ولم تتخلق بأخلاق الملكيةِ لم تستعدَّ لدخولِهَا ولا يَخْفَى ما في الكلِّ من التمحلِ والأقربُ أنَّه كلامٌ مستأنفٌ قد سبقَ تمهيداً لما بعدَهُ من بيانِ قدرتَه تعالَى على أنَّ يُهلكهم لكُفرِهِم بالبعث والجزاء

70 سورة المعارج (40 44) واستهزائه برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وبما نزلَ عليهِ منَ الوحيِ وادعائِهِم دخولَ الجنةِ بطريق السخرية وينشء بدلَهُم قوماً آخرينَ فإن قدرَتَهُ تعالَى على ما يعلمونَ من النشأةِ الأُولى حجةٌ بينةٌ على قدرتِهِ تعالَى على ذَلكَ كما يُفصح عنهُ الفاءُ الفصيحةٌ في قوله تعالى

40

{فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ المشارق والمغارب} والمَعْنَى إِذا كانَ الأمرُ كَما ذكر من إنا خلقناهم مما يعلمون فأقسمُ بربِّ المشارقِ والمغاربِ {إِنَّا لقادرون}

41

{على أَن نُّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ} أيْ نُهلكهُم بالمرةِ حسبَما تقتضيهِ جناياتُهُم ونأتي بدلَهُم بخلقٍ آخرينَ ليسُوا على صفتِهِم {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} بمغلوبينَ إنْ أرَدْنَا ذلكَ لكنْ مشيئتُنا المبنيةُ على الحِكَمِ البالغةِ اقتضتْ تأخيرَ عقوباتِهِم

42

{فَذَرْهُمْ} فخلِّهِم وشأنَهُم {يَخُوضُواْ} في باطِلِهِم الذي من جُمْلَتِهِ ما حُكِيَ عنهُم {وَيَلْعَبُواْ} في دُنياهُم {حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى يُوعَدُونَ} وهو يومُ البعثِ عند النفخةِ الثانيةِ لا يومُ النفخةِ الأُولى كما توهمَ فإنَّ قولَهُ تعالَى

43

{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث} بدلٌ منْ يومِهِم وقُرِىءَ يُخرجونَ على البناءِ للمفعولِ من الإخراجِ {سِرَاعاً} حالٌ من مرفوعِ يخرجونَ أي مسرعينَ {كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ} وهو كلُّ ما نُصِبَ فعبدَ من دونِ الله تعالَى وقُرِىءَ بسكونِ الصَّادِ وبفتحِ النونِ وسكونِ الصادِ أيضاً {يُوفِضُونَ} يُسرعونَ

44

{خاشعة أبصارهم} وصفتْ أبصارُهُم بالخشوعِ معَ أنه وصفُ الكلِّ لغايةِ ظهورِ آثارِهِ فيها {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} تغشاهُم ذِلةٌ شديدةٌ {ذلك} الذي ذُكِرَ ما سيقعُ فيهِ من الأحوالِ الهائلةِ {اليوم الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ} في الدنيا عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ سألَ سائلٌ أعطاهُ الله تعالى ثوابَ الذينَ هُم لأماناتِهِم وعهدهم راعون

71 سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (1 4) سورة نوحٍ عليه السَّلامُ مكية وآياتها ثمان وعشرون {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

نوح

{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ} أي بأنْ أنذرْهُم على أنَّ أنْ مصدريةٌ حُذِفَ منها الجارُّ وأُوصلَ إليها الفعلُ فإنَّ حذفَهُ معَ أنَّ وأنْ مطردٌ وجُعلتْ صلتِها أمراً كما في قولِهِ تعالَى وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لأنَّ مدارَ وصلِهَا بصيغِ الأفعالِ دلالتُها على المصدرِ وذلكَ لا يختلفُ بالخبريةِ والإنشائيةِ ووجوبُ كونِ الصلةِ خبريةً في الموصولِ الاسميِّ إنَّما هُو للتوصلِ إلى وصفِ المعارفِ بالجملِ الخبريةِ وليسَ الموصولُ الحرفيُّ كذلكَ وحيثُ استوى الخبرُ والإنشاءُ في الدلالةِ على المصدرِ استويا في صحةِ الوصلِ بهما فيتجردُ عند ذلكَ كلٌّ منهُمَا عن المَعْنَى الخاصِّ بصيغتِهِ فيبقَى الحدثُ المجردُ عن مَعْنَى الأمرِ والنَّهيِ والمُضيِّ والاستقبالِ كأنَّه قيلَ أرسلنَاهُ بالإنذارِ وقيلَ المَعْنَى أرسلناهُ بأنْ قُلْنَا لهُ أنذرْ أي أرسلناهُ بالأمرِ بالإنذارِ ويجوزُ أن تكونَ أنْ مفسرةً لما في الإرسالِ من معنى القولِ فلا يكونُ للجملةِ محلٌّ من الإعرابِ وعلى الأولِ محلُّها النصبُ عند سبويه والفرَّاءِ والجرُّ عند الخليلِ والكِسَائيِّ كما هُو المعروفُ وقُرِىءَ أنذرْ بغيرِ أنْ على إرادةِ القولِ {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} عاجِلٌ أو آجِلٌ لئلاَّ يبقَى لهُم عذرٌ مَا أصلاً

2

{قال} استئناف مبني على سؤالٍ نشأَ من حكايةِ إرسالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالوجهِ المذكورِ كأنَّه قيلَ ما فعلَ عليهِ الصَّلاة والسَّلام فقيلَ قالَ لهُم {يا قوم إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} منذرٌ موضحٌ لحقيقةِ الأمرِ وقولُهُ تعالَى

3

{أَنِ اعبدوا الله واتقوه وَأَطِيعُونِ} متعلقٌ بنذيرٌ على الوجهينِ المذكورينِ

4

{يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} أي بعض ذنوبكم وهو ما سلفَ في الجاهليةِ فإنَّ الإسلامَ يجبُّه {وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو الأمدُ الأقصَى الذي قدَّرَهُ الله تعالَى لهم بشرطِ الإيمانِ والطاعةِ وراءَ ما قدَّرَهُ لهُم على تقديرِ بقائِهِم على الكفرِ والعصيانِ فإنَّ وصفَ الأجلِ بالمسمَّى وتعليق تأخيرهم اليه

سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (5 9) بالإيمانِ والطاعةِ صريحٌ في أنَّ لهم أجلاً آخرَ لا يجاوزونَهُ إنْ لم يؤمنُوا وهو المرادُ بقولِهِ تعالَى {إِنَّ أَجَلَ الله} أي ما قدَّرَ لكُم على تقديرِ بقائِكُم على الكفرِ {إِذَا جَاء} وأنتُم على ما أنتُم عليهِ من الكُفرِ {لاَ يُؤَخَّرُ} فبادروا الى بالايمان والطاعةِ قبلَ مجيئِهِ حَتَّى لا يتحققَ شرطُهُ الذي هو بقاؤُكُم على الكفرِ فلا يجيءويتحقق شرطُ التأخيرِ إلى الأجلِ المسمَّى فتؤخرُوا إليهِ ويجوزُ أن يرادَ بهِ وقتُ إتيانِ العذابِ المذكورِ في قولِهِ تعالَى مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فانه أجل مؤقت له حَتْماً وحملُهُ على الأجلِ الأطولِ مما لا يساعدُهُ المقامُ كيفَ لاَ والجملةُ تعليلٌ للأمرِ بالعبادةِ المستتبعةِ للمغفرةِ والتأخيرِ إلى الأجلِ المسمَّى فلا بُدَّ أنْ يكونَ المنفيُّ عند مجيءِ الأجلِ هو التأخيرَ الموعودَ فكيفَ يتُصورُ أن يكونَ ما فُرضَ مجيئُهُ هو الأجلُ المسمَّى {لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لو كنتُم تعلمونَ شيئاً لسارعتُم إلى ما أمرتُكُم بهِ

5

{قَالَ} أي نوحٌ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مناجياً ربَّهُ وحاكياً له تعالَى وهو أعلمُ بحالِهِ ما جرَى بينَه وبينَ قومِه من القيلِ والقالِ في تلكَ المدد الطوال بعدما بذلَ في الدعوةِ غايةَ المجهودِ وجاوزَ في الإنذارِ كلَّ حدَ معهودٍ وضاقتْ عليهِ الحيلُ وعيَّتْ بهِ العللُ {رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى} إلى الإيمانِ والطَّاعةِ {لَيْلاً وَنَهَاراً} أي دائماً من غيرِ فتورٍ ولا تَوانٍ

6

{فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً} ممَّا دعوتُهُم إليهِ وإسنادُ الزيادةِ إلى الدعاءِ لسببيته كما في قوله تعالى زَادَتْهُمْ إيمانا

7

{وإني كلما دعوتهم} إلى الإيمانِ {لِتَغْفِرَ لَهُمْ} بسببهِ {جَعَلُواْ أصابعهم فِى آذانهم} أيْ سدُّوا مسامِعَهُم منِ استماعِ الدعوةِ {واستغشوا ثِيَابَهُمْ} أي بالغُوا في التغطِّي بهَا كأنَّهُم طلبُوا أنْ تغشاهُم ثيابُهُم أو تُغشِّيهم لئلا يبصروا كراهةَ النظرِ إليهِ أو لئلا يعرفَهُم فيدعُوَهُم {وَأَصَرُّواْ} أي أكبُّوا على الكفرِ والمعاصِي مستعارٌ منْ أصرَّ الحمارُ على العانةِ إذَا أصرَّ أذنيهِ وأقبلَ عليهَا {واستكبروا} عن اتِّباعي وطاعتي {استكبارا} شديداً

8

{ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جهارا} {ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} أي دعوتهم تارة بعد تارة ومرةً غبَ مرةٍ على وجوهٍ مُتخالفةٍ وأساليبَ متفاوتةٍ وثُمَّ لتفاوتِ الوجوهِ فإنَّ الجِهارَ أشدُّ من الإسرارِ والجمعُ بينَهُمَا أغلظُ من الإفرادِ أو لتراخِي بعضِهَا عن بعضٍ وجهاراً منصوبٌ بدعوتُهُم على المصدرِ لأنَّه أحدُ نَوْعَيْ الدعاءِ أو اريد بدعوتهم جاهرتهم

سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (10 14) أو هو صفةٌ لمصدرٍ أي دعوتُهُم دعاءً جهاراً أي مُجاهِراً به أو مصدرٌ في موقعِ الحالِ أي مُجاهراً

10

{فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ} بالتوبةِ عن الكفرِ والمَعَاصِي {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} للتائبينَ كأنَّهُم تعللُوا وقالُوا إنْ كُنَّا على الحقِّ فكيفَ نتركهُ وإنْ كُنَّا على الباطلِ فكيفَ يقبلنا بعدَ ما عكفنَا عليهِ دَهْراً طويلاً فأمرهم بما يمحقُ ما سلفَ منهم من المَعَاصِي ويجلبُ إليهم المنافعَ ولذلكَ وعدهُم بما هُو أوقعُ في قلوبِهِم وأحبُّ إليهِم من الفوائدِ العاجلةِ وقيل لما كذَّبُوه بعدَ تكريرِ الدعوةِ حبسَ الله تعالَى عنهم القطرَ وأعقمَ أرحامَ نسائِهم أربعينَ سنةً وقيلَ سبعينَ سنةً فوعدَهُم أنَّهم إنْ آمنُوا أنْ يرزقَهُم الله تعالَى الخِصْبَ ويدفَع عنْهُم ما كانُوا فيهِ

11

{يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً} أي كثيرَ الدرورِ والمرادُ بالسماءِ المظلةُ أو السحابُ

12

{وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جنات} بساتينَ {وَيَجْعَل لَّكُمْ} فيهَا {أَنْهَاراً} جاريةً

13

{مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} إنكارٌ لأنْ يكونَ لهُم سببٌ ما في عدمِ رجائِهِم لله تعالَى وقاراً على أنَّ الرجاءَ بمَعْنَى الاعتقادِ ولا ترجونَ حالٌ من ضميرِ المخاطبينَ والعاملُ فيهَا مَعْنَى الاستقرارِ في لكُم على أنَّ الإنكارَ متوجهٌ إلى السببِ فَقَطْ مع تحققِ مضمونِ الجملةِ الحاليةِ لا إليهِما معاً كما في قوله تعالى ومالي لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى ولله متعلِّقٌ بمُضْمَرٍ وقعَ حالاً مِنْ وقاراً ولو تأخرَ لكانَ صفةً لهُ أيْ أيُّ سببٍ حصلَ لكُم حالَ كونِكُم غيرَ معتقدينَ لله تعالَى عظمةً موجبةً لتعظيمِهِ بالإيمانِ بهِ والطاعةِ لهُ

14

{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} أي والحالُ أنكم على حالٍ منافيةٍ لما أنتُم عليهِ بالكليةِ وهيَ أنكم تعلمونَ أنَّه تعالَى خلقَكُم تاراتٍ عناصرَ ثم أغذيةً ثم أخلاطا ثم نطفا علَقاً ثم مُضَغاً ثم عظاما ولحوما ثم أنشأكم خلقاً آخرَ فإن التقصيرَ في توقير من من هذه شؤنه في القدرةِ القاهرةِ والإحسانِ التامِّ مع العلمِ بها مِمَّا لا يكادُ يصدُرُ عن العاقلِ هَذا وقد قيلَ الرجاءُ بمعنى الأملِ اي مالكم لا تُؤمِّلُونَ لهُ تعالَى توقيراً أي تعظيماً لمن عبدَهُ وأطاعَهُ ولا تكونونَ على حالٍ تُؤمِّلُونَ فيها تعظيمَ الله تعالَى إيَّاكُم في دارِ الثوابِ ولله بيان للموقر ولو تأخر لكانَ صلةً للوقارِ والأولُ هو الذي تستدعيهِ الجزالةُ التنزيليةُ فإن اللائقَ بحالِ الكفرةِ استبعادُ أنْ لا يعتقدوا وقار الله تعالَى وعظمتِهِ مع مشاهدَتِهِم لآثارِهَا وأحكامِهَا الموجبةِ للاعتقادِ حَتْماً وأمَّا عدمُ رجائِهِم لتعظيمِ الله إيَّاهُم في دارِ الثوابِ فليسَ في حيزِ الاستبعادِ والإنكارِ معَ أنَّ في جعلِ الوقارِ بمَعْنَى التوقيرِ من التعسفِ

70 سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (15 19) وفي قولِهِ ولله بيانٌ للموقر ولو تأخر لكان صلةً للوقارِ من التناقضِ مالا يَخْفى فإنَّ كونَهُ بياناً للموقِّرِ يقتضِي أنْ يكونَ التوقيرُ صادراً عنْهُ تعالَى والوقارَ وصفاً للمخاطبينَ وكونُهُ صلةً للوقارِ يوجبُ كونَ الوقارِ وصفاً لهُ تعالَى وقيل مالكم لا تخافونَ لله عظمةً وقدرةً على أخذِكُم بالعقوبةِ أيْ أيُّ عذرَ لكُم في تركِ الخوفِ منهُ تعالَى وعن سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مالكم لا تخشُونَ لله عقاباً ولا ترجون منْهُ ثَواباً وعن مجاهدٍ والضحَّاكِ ما لكُم لا تُبالونَ لله عظمةً قال قُطْربٌ هيَ لغةٌ حجازيةٌ يقولونَ لم أَرْجُ أيْ لم أبالِ وقولُه تعالَى

15

{أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سبع سماوات طِبَاقاً} أي متطابقةً بعضُها فوقَ بعضٍ

16

{وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} أي مُنوِّراً لوجهِ الأرضِ في ظُلمةِ الليلِ ونسبتُهُ إلى الكُلِّ مع أنَّهُ في السماءِ الدُّنيا لما أنَّها محاطةٌ بسائرِ السمواتِ فما فيهَا يكونُ في الكُلِّ أو لأنَّ كُلَّ واحدةٍ منهَا شفافةٌ لا تحجبُ ما وراءَها فيُرى الكلُّ كأنَّها سماءٌ واحدةٌ ومن ضرورةِ ذلكَ أن يكونَ ما في واحدةٍ منهَا كأنَّه في الكُلِّ {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} يزيلُ ظلمةَ الليلِ ويبصرُ أهلُ الدُّنيا في ضوئِهَا وجهَ الأرضِ ويشاهدونَ الآفاقَ كما يبصرُ أهلُ البيتِ في ضوءِ السراجِ ما يحتاجونَ إلى إبصارِهِ وليسَ القمرُ بهذه المثابةِ إنما هو نورٌ في الجُملةِ

17

{والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً} أي أنشأكُم منها فاستعيرَ الإنباتُ للإنشاءِ لكونِهِ أدلَّ على الحدوثِ والتكونِ من الأرضِ ونباتاً إما مصدر مؤكدٌ لأنبتكُم بحذفِ الزوائدِ ويسمَّى اسمَ مصدرٍ أو لما يترتبُ عليهِ من فعلِهِ أي أنبتكُم من الأرض فنبثم نباتاً ويجوزُ أن يكونَ الأصلُ أنبتكُم من الأرضِ إنباتاً فنبتُم نباتاً فيُحذفُ من الجملةِ الأُولى المصدرُ ومن الثانيةِ الفعلُ اكتفاءً في كلَ منهُمَا بما ذُكِرَ في الأُخْرَى كَمَا مر في قوله تعالى أم تريدون أن تسألوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى وقولِهِ تعالَى وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ

18

{ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} بالدفنِ عندَ موتِكُم {وَيُخْرِجُكُمْ} منها عند البعثِ والحشرِ {إِخْرَاجاً} محققاً لا ريبَ فيهِ

19

{والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً} تتقلبونَ عليها تقلبَكُم على بُسُطِكُم في بيوتِكُم وتوسيطُ لكُم بينَ الجعلِ ومفعوليهِ مع أنَّ حقَّهُ التأخيرُ لما مرَّ مراراً من الاهتمامِ ببيانِ كونِ المجعولِ من منافعِهم والتشويقِ إلى المؤخرِ فإنَّ النفسَ عند تأخيرِ ما حقُّه التقديمُ لا سيَّما عند كونِ المقدمِ ملوِّحاً بكونِهِ من المنافعِ تبقَى مترقبةً له فيتمكن

70 سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (20 24) عندَ ورودِه لها فضلُ تمكنٍ

20

{لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} أي طرقاً واسعةً جمعُ فجَ وهو الطريقُ الواسعُ وقيلُ هو المسلكُ بينَ الجبلينِ ومِنْ متعلقةٌ بما قبلَهَا لما فيهِ من مَعْنَى الاتخاذِ أو بمضمرٍ هو حالٌ من سبلاً أي كائنةً من الأرضِ ولو تأخر لكان صفة لهَا

21

{قَالَ نُوحٌ} أعيدَ لفظُ الحكايةِ لطولِ العهدِ بحكايةِ مناجاتِهِ لربِّهِ أي قالَ مناجياً لهُ تعالَى {رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى} أيْ تمُّوا على عصيانِي فيما أمرتُهُم بهِ مع ما بالغتُ في إرشادِهِم بالعظةِ والتذكيرِ {واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً} أيْ واستمرُّوا على اتِّباعِ رؤسائِهِم الذينَ أبطرَتْهُم أموالُهُم وغرتْهُم أولادُهُم وصارَ ذلكَ سبباً لزيادةِ خسارِهِم في الآخرةِ فصَارُوا أسوةً لهم في الخسارِ وفي وصفِهِم بذلكَ إشعارٌ بأنَّهُم إنَّما اتبعوهم لوجاهتم الحاصلةِ لهم بسببِ الأموالِ والاولاد لا لما شاهدُوا فيهم من شُبهةٍ مُصححةٍ للاتباعِ في الجملة وقرى وولده بالضمِّ والسكونِ على أنَّهُ لغةٌ كالحُزْنِ أو جمعٌ كالأُسْدِ

22

{وَمَكَرُواْ} عطفٌ على صلةِ مَنْ والجمعُ باعتبارِ مَعناهَا كما أن الإفراد في الضَّمائرِ الأُوَلِ باعتبارِ لفظِها {مَكْراً كُبَّاراً} أي كبيراً في الغايةِ وقُرِىءَ بالتخفيفِ والأولُ أبلغُ منْهُ وهُوَ أبلغُ من الكبيرِ وذلكَ احتيالُهُم في الدِّينِ وصدُّهم للناس عنه وتحريشهم لهم فى أذيةِ نوحً عليهِ السَّلامُ

23

{وقالوا لا تذرن آلهتكم} أي لا تتركُوا عبادتَهَا على الإطلاقِ إلى عبادةِ ربِّ نوحٍ {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} أي ولا تذُرنَّ عبادةَ هؤلاءِ خصُّوها بالذكرِ مع اندراجِهَا فيمَا سبقَ لأنَّها كانتْ اكبر اصنامهم وأعظمها عندهُم وقد انتقلتْ هذه الأصنامُ عنهُم إلى العربِ ودُّ لكلبٍ وسواعٌ لهمدانَ ويغوثُ لمذحجَ ويعوقُ لمرادٍ ونسرٌ لحِميْرٍ وقيلَ هي أسماء رجال صالحين كانوا بينَ آدمَ ونوحٍ وقيلَ من أولادِ آدمَ عليهِ السَّلامُ ماتُوا فقالَ إبليسُ لمن بعدَهُم لو صوَّرتُم صُورَهُم فكنتُم تنظرونَ إليهِم وتتبركُونَ بهم ففعلُوا فلمَّا ماتَ أولئكَ قالَ لمَنْ بعدَهُم إنَّهم كانُوا يعبدُونَهُم فعبدُوهُم وقيلَ كان ودٌّ على صورةِ رجلٍ وسواعٌ على صورةِ امرأةٍ ويغوثُ على صورة أسدٍ ويعوقُ على صورةِ فرسٍ ونسرٌ على صورةِ نسرٍ وقُرِىءَ وُداً بضمِّ الواوِ ويغوثاً ويعوقاً للتناسبِ ومُنِعَ صرفُهما للعجُمة والعلميةِ

24

{وَقَدْ أَضَلُّواْ} أي الرؤساءُ {كَثِيراً} خلقاً كثيراً أو الأصنامُ كقولِهِ تعالَى رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً} عطفٌ على قولِهِ تعالَى رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى على حكايةِ كلامِ نوح بعد قال

71 سورة نوحٍ عليه السَّلامُ (25 28) وبعدَ الواوِ النائبةِ عنهُ أيْ قالَ ربِّ إنَّهُم عصَوني وقالَ لا تزدِ الظالمينَ إلا ضلالاً ووضعُ الظَّاهرِ موضعَ ضميرِهم للتسجيلِ عليهِم بالظلمِ المفرطِ وتعليلِ الدعاءِ عليهِم بهِ والمطلوبُ هو الضَّلالُ في تمشيةِ مكرِهِم ومصالحِ دُنياهُم أو الضياعُ والهلاكُ كما في قولِهِ تعالَى إِنَّ المجرمين في ضلال وسعرو يؤيده ما سيأتي من دعائِهِ عليه الصَّلاةُ والسلام

25

{مّمَّا خطيئاتهم} أي من أجل خطياتهم ومَا مزيدةٌ بينَ الجارِّ والمجرورِ للتوكيدِ والتفخيمِ ومَنْ لم يَرَ زيادَتَهَا جعلَهَا نكرة وجعل خطيئائهم بدلاً منهَا وقُرِىءَ مِمَّا خطاياهم ومما خطاياتهم اي بسبب خطايئاتهم المعدودةِ وغيرِهَا من خطاياهُم {أُغْرِقُواْ} بالطوفانِ لا بسببٍ آخرَ {فَأُدْخِلُواْ نَاراً} المرادُ إمَّا عذابُ القبرِ فهو عَقيبَ الإغراقِ وإنْ كانُوا في الماءِ عنِ الضحَّاكِ أنَّهُم كانُوا يُغرقونَ من جانبٍ ويُحرقُونَ من جانبٍ أو عذابُ جهنَم والتعقيبُ لتنزيلِهِ منزلةَ المتعقبِ لإغراقِهِم لاقترابِهِ وتحقِقِه لا محالةَ وتنكيرُ النَّارِ إمَّا لتعظيمِهَا وتهويلِهَا أو لأنَّهُ تعالَى أعدَّ لهُم على حسبِ خطيئاتِهِم نوعاً من النَّارِ {فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ الله أَنصَاراً} أي لم يجدْ أحدٌ منهُم واحداً منَ الأنصارِ وفيه تعريضٌ باتِّخاذِهِم آلهةً من دونِ الله تعالَى وبأنَّها غيرُ قادرةٍ على نَصرِهِم وتهكمٌ بهِمْ

26

{وَقَالَ نُوحٌ ربِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دياراًَ} عطفٌ على نظيرِهِ السابقِ وقولُهُ تعالَى مّمَّا خطيئاتهم الخ اعتراضٌ وسطٌ بين دعائِهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ ما أصابَهُم من الإغراقِ والإحراقِ لم يُصبهُم إلا لأجلِ خطيئاتِهِم التي عدَدَهَا نوحٌ عليهِ السَّلامُ وأشارَ إلى استحقاقِهِم للإهلاكِ لأجلِها لا أنَّها حكايةٌ لنفسِ الإغراقِ والإحراقِ على طريقةِ حكايةُ ما جَرى بينَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبينُهُم من الأحوالِ والأقوالِ وإلا لأُخِّر عن حكايةِ دُعَائِهِ هَذا وديَّاراً من الأسماءِ المستعملةِ في النَّفيِ العامِّ يقالُ ما بالدارِ ديَّارٌ أو ديُّورٌ كقيَّامِ وقَيُّومِ أيْ أحدٌ وهو فَيعالٌ من الدُّورِ أو من الدَّارِ أصلُهُ دَيْوَارٌ قدْ فُعِلَ بهِ ما فُعِلَ بأصلِ سيد لأفعال وإلا لكانَ دَوَّاراً

27

{إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ} عليها كلاً أو بعضاً {يُضِلُّواْ عِبَادَكَ} عن طريقِ الحقِّ {وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} أي إلا من سيفجُر ويكفرُ فوصفَهم بما يصيرونَ إليهِ وكأنَّه اعتذارٌ ممًّا عَسَى يرِدُ عليه مِنْ أنَّ الدعاءَ بالاستئصال معَ احتمال أنْ يكونَ من أخلافِهم مَنْ يؤمنَ منكرا وإنَّما قالَهُ لاستحكام علمِه بما يكونُ منهم ومن أعقابهم بعد ما جرَّبُهم واستقرأ أحوالهم قريباً من ألف سنةٍ

28

{رَّبّ اغفر لِى ولوالدى}

ابو ملك بن متوشلخ وأمه شمخا بنت انوش كانامؤمنين وقيل هما آدم وحواء وقُرىءَ ولولديَّ يريدُ ساماً وحاماً {وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ} أي مَنزلِي وقيلَ مسجدِي وقيل سَفينتي {مُؤْمِناً} بهذا القيدِ خرجتْ امرأتُه وابنُه كنعانُ ولكنْ لم يجزمْ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بخروجِه إلا بعدَ ما قيلَ له إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ وقد مرَّ تفصيلُه في سورة هو {وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} عمَّهم بالدُّعاءَ إثرَ ما خصَّ بهِ مَنْ يتصلُ به نسباً وديناً {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} أي هلاكاً قيلَ غرقَ معُهم صبيانُهم أيضاً لكنْ لا على وجهِ العقابِ لهم بلُ لتشديد عذابِ آبائِهم وأمَّهاتِهم بإراءةِ هلاكِ أطفالِهم الذينَ كانُوا أعزَّ عليِهم من أنفسهِم قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يهلكونَ مهلكاً واحداً ويصدرونَ مصادرَ شَتَّى وعنِ الحسنِ أنَّه سُئلَ عنْ ذلكَ فقالَ علَم الله براءتَهُم فأهلكَهُم بغيرِ عذابٍ وقيل اعقم الله أرحامَ نسائِهم وأيبسَ أصلابَ آبائِهم قبلَ الطُّوفانِ بأربعينَ أو سبعينَ سنةً فلم يكُنْ معهُم صبيٌّ حينَ غرقوا عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ نوحٍ كانَ من المؤمنينَ الذينَ تُدركهم دعوةُ نوح عليه السلام سورة الجن مكية وآياتها ثمان وعشرون {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم}

الجن

{قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ} وقُرِىءَ أُحيَ إليَّ أصلُه وُحيَ وقد قُرِىءَ كذلكَ منْ وُحيَ إليهِ فقلبتْ الواوُ المضمومةُ همزةٌ كأعدَ وَأزنَ في وَعَدَ ووَزَنَ {أَنَّهُ} بالفتحِ لأنَّه فاعل أُوحي والضمير للشأن {استمع} أي القرآن كما ذكر فِي الأحقافِ وقد حُذِفَ لدلالةِ ما بعدَهُ عليه {نَفَرٌ مّنَ الجن} النفرُ ما بين الثلاثة والعشرة والجنُّ أجسام عاقلةٌ خفيةٌ يغلبُ عليهْمِ الناريةُ أو الهوائيةُ وقيلَ نوعٌ منَ الأرواحِ المجردةِ وقيلَ هيَ النفوسُ البشريةُ المفارقةُ عن أبدانِها وفيهِ دِلالةٌ عَلى أنَّه عليه الصلاةُ والسلام لم يشُعْر بهمِ وباستماعِهم ولم يقرأْ عليهمْ وإنَّما اتفقَ حضورُهم في بعض اوقات قراءته فسمعوه فأخبر الله تعالى بذلك وقد مر ما فيه من التفصيلِ في الأَحْقَافِ {فَقَالُواْ} لقومِهم عندَ رجوعِهم إليهِم {إنا سمعنا قرآنا} كتاباً مقرُوءاً {عَجَبًا} بديعاً مبايناً لكلام الناسِ في حسن النظمِ ودقة المَعْنى وهو مصدر وصف به للمبالغةِ

2

{يَهْدِى إِلَى الرشد} إلى الحق والصواب {فآمنا بِهِ} أيْ بذلكَ القرآن {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً} حسبمَا نطقَ به مَا فيهِ منْ دلائلِ التوحيدِ

72 سورة الجن (307)

3

{وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} بالفتحِ قالُوا هُوَ وما بعده من الجمل المصدرة بأنَّ فِي أحدَ عشرَ موضعاً عطفٌ عَلى محلِّ الجارِّ والمجرورِ في فآمنا به كأنَّه قيلَ فصدقناهُ وصدقنا أنَّه تعالَى جَدُّ ربنا اي ارتفع عظتمه منْ جَدَّ فلانٌ في عَينْي أيْ عظُم تمكنُّهُ او سلطانه او غناء على أنه مستعارٌ منَ الجَدِّ الذي هُوَ البَختُ والمعنى وصفه بالاستغناء عنِ الصاحبةِ والولدِ لعظمتِه او لسلطانه او لغناهُ وقُرِىءَ بالكسر وكَذا الجمل المذكور عطفاً على المحكيِّ بعدَ القولِ وهو الأظهرُ لوضوح اندراج كُلِّها تحتَ القولِ وأما اندراج الجملِ الآتيةِ تحتَ الإيمانِ والتصديقِ كما يقتضيهُ العطفُ عَلى محلِّ الجارِّ والمجرورِ ففيهِ إشكالٌ كَما ستحيطُ به خُبْراً وقولُه تعالَى {مَا اتخذ صاحبة وَلاَ وَلَداً} بيانٌ لِحُكمِ تعالِي جَدِّهِ وقُرِىءَ جَدَّاً ربُّنَا على التمييزِ وجَدُّ ربِنا بالكسرِ أيْ صدقُ ربوبيتِه وحق الهيته عنِ اتخاذِ الصاحبةِ والولدِ وذلكَ أنَهُم لَمَّا سمعُوا القرآنَ ووفقُوا للتوحيدِ والإيمانِ تنبهوا للخطأ فيما اعتقدوه كفرةُ الجنِّ من تشبيهِ الله تعالَى بخلقِه في اتخاذِ الصاحبةِ والولدِ فاستعظمُوه ونزهُوه تعالَى عَنْهُ

4

{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} أي إبليسُ أو مردةُ الجنِّ {عَلَى الله شَطَطاً} اي قولا شططٍ أيْ بعدٍ عن القصدِ ومجاوزةٍ للحدِّ أوْ هُو شططٌ في نفسِه لفرطِ بعدِهِ عن الحقِّ وهُو نسبةُ الصاحبةِ والولدِ إليهِ تعالَى وتعلقُ الإيمانِ والتصديقِ بهذَا القولِ ليسَ باعتبارِ نفسِه فإنهم كانُوا عالمِين بقولِ سفهائِهم منْ قبلُ أيضاً بلْ باعتبارِ كونِه شططاً كأنَّه قيلَ وصدقنَا أنَّ مَا كَان يقولُه سفيهُنَا في حقِّه تعالَى كانَ شططاً وأما تعلقهما بقوله تعالَى

5

{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} فغيرُ ظاهرٍ وهُو اعتذارٌ منْهُم عن تقليدِهم لسفيهِهم أيْ كُنَّا نظنُّ أنه لنْ يكذبَ على الله تعالى أحدٌ أبداً ولذلكَ اتبعنَا قولَهُ وكَذِباً مصدرٌ مؤكدٌ لتقولَ لأنَّه نوعٌ من القولِ أو وصفٌ لمصدرِه المحذوفِ أيْ قولاً كذباً أيْ مكذوباً فيهِ وقُرِىءَ لنْ تَقوَّلَ بحذفِ احدَى التاءينِ فكذبا مصدر مؤكذ لأنَّ الكذبَ هو التقولُ

6

{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن} كان الرجلُ من العربِ إذا أمسَى في وادٍ قفرٍ وخافَ على نفسِه يقولُ أعوذُ بسيدِ هَذَا الوادِي من سفهاءِ قومِه يريدُ الجنِّ وكبيرَهُم فإذا سمعُوا بذلكَ استكبرُوا وَقَالُوا سُدنا الإنسَ والجنَّ وذلكَ قولُه تعالَى {فَزَادوهُمْ} اي زاد الرجال العائذون الجِنَّ {رَهَقاً} أي تكبراً وعتواً أو فزادَ الجنُّ العائذين غيا بأن اضلوا حتى استعاذُوا بهمْ

7

{وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ}

أيِ الإنسُ {كَمَا ظَنَنتُمْ} إيُّها الجِنُّ على أنَّه كلامُ بعضِهم لبعضٍ {أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً} وقيل المَعْنى أنَّ الجنَّ ظنُّوا كما ظننتُمْ أيُّها الكفرةُ الخ فتكونُ هذهِ الآيةُ وما قبلَها منْ جملة الكلامِ المُوحَى به والأقربُ أنهُمَا كذلكَ علَى كُلِّ تقديرٍ عطفاً على أنه استمَع اذ لاَ معْنَى لادراجهما تحتَ ما ذُكر من الإيمانِ والتصديقِ وكذا قولُه تعالَى

8

{وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء} وما بعده من الجمل المصدرة بأنَّا ينبغِي أنْ تكونَ معطوفةً على ذلكَ عَلى أنَّ المُوحَى عينُ عبارةِ الجنِّ بطريقِ الحكايةِ كأنَّه قيلَ قُلْ أُوحيَ إليَّ كيت وكيت وهذهِ العباراتُ أي طلبنَا بلوغَ السماءِ أو خبرَها واللمسُ مستعارٌ من المسِّ للطلبِ كالجسِّ يقال لمسَهُ والتمسَهُ وتلمسَهُ كطلَبُه واطلَبُه وتطلَبُه {فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً} أي حُراساً اسمُ جمعٍ كخدمٍ مفردُ اللفظِ ولذلكَ قيلَ {شَدِيداً} قوياً وهُم الملائكةُ يمنعونَهُم عنها {وَشُهُباً} جمعُ شهابٍ وهيَ الشعلةُ المقتبسةُ من نارِ الكواكبِ

9

{وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ} قبلَ هَذا {مِنْهَا} من السماءِ {مقاعد لِلسَّمْعِ} خاليةً عن الحرسِ والشهبِ أو صالحةٍ للترصدِ والاستماعِ وللسمعِ متعلقٌ بنقعدَ أي لأجلِ السمعِ أو بمضمرٍ هو صفةٌ لمقاعدَ كائنةً للسمعِ {فَمَن يَسْتَمِعِ الأن} في مقعدٍ من المقاعدِ {يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} أي شهاباً راصداً لهُ ولأجلِه يصدُّه عن الاستماعِ بالرجمِ أو ذوي شهابٍ راصدينَ لهُ على أنَّه اسمٌ مفردٌ في مَعْنى الجمعِ كالحرسِ قيلَ حدثَ هذا عندَ مبعثِ النبيِّ عليه الصلاةَ والسَّلامُ والصحيحُ أنه كانَ قبلَ البعثِ أيضاً لكنَّه كثُر الرجمُ بعدَ البعثةِ وزادَ زيادةً حتَّى تنبه لها الإنسُ والجنُّ ومُنعَ الاستراقُ أصلاً فقالُوا ما هذا إلا لأمرِ أراده الله تعالى بأهلِ الأرضِ وذلك قولهم

10

{وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الأرض} بحراسةِ السماءِ {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} أي خيراً ونسبةُ الخيرِ إلى الله تعالى دونَ الشرِّ من الآداب الشريفةِ القرآنيةِ كما في قوله تعالى وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ونظائرُه

11

{وَأَنَّا مِنَّا الصالحون} أي الموصوفونَ بصلاحِ الحالِ في شأنِ أنفسِهم وفي معاملتِهم مع غيرِهم المائلونَ إلى الخيرِ والصلاحِ حسبما تقتضيهِ الفطرةُ السليمةُ لا إلى الشرِّ والفسادِ كما هو مقتضَى النفوسِ الشريرةِ {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي قومٌ دونَ ذلكَ فحذف الموصوفَ وهم المقتصدونَ في صلاحِ الحالِ على الوجهِ المذكورِ لا في الإيمانِ والتَّقوى كما توهَم فإنَّ هذا بيانٌ لحالِهم قبل استماعِ القرآن كما تعرب عنه قولِه تعالى {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} وأمَّا حالُهم بعد استماعِه فسيُحكى بقولِه تعالى وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى إلى قولِه تعالى وَأَنَّا مِنَّا المسلمون أي كُنَّا قبل هذا ذَوِي طرائقَ أي مذاهبَ أو مثلَ طرائقَ في اختلافِ الأحوال او كانت طرائقنا طرائق قدد اي متفرقة مختلفة

72 سورة الجن (12 17) جمعُ قِدَّةٍ من قدَّ كالقِطْعةِ من قَطَع

12

{وَأَنَّا ظَنَنَّا} أي علمنَا الآنَ {أَن لَّن نُّعْجِزَ الله} أي الشأنَ لنْ نعجزَ الله كائنين {في الأرض} إن أينما كُنَّا من أقطارِها {ولن نعجزه هربا} هَرَباً هاربينَ منها إلى السماءِ أو لن نعجزَهُ في الأرضِ إنْ أرادَ بنا ولن نُعجزَهُ هرباً إنْ طلبنَا

13

{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى} أي القرآنَ الذي هُو الهدى بعينه {آمنا به} من غير تلعثم وترددٍ {فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ} وبما أنزلَهُ {فَلاَ يَخَافُ} فهو لا يخافُ {بَخْساً} أي نقصاً في الجزاءِ {وَلاَ رَهَقاً} ولا أنْ ترهقَهُ ذلةٌ أو جزاءَ بخسٍ ولا رهقٍ إذَا لم يبخسْ أحداً حقَّا ولا رهق ظلم أحد فلا يخافُ جزاءَهما وفيهِ دِلالةٌ على أنَّ من حقِّ من آمنَ بالله تعالى أن يجتنبَ المظالمَ وقُرِىءَ فلا يخفْ والأولُ أدلُّ على تحقيقِ نجاةِ المؤمنِ واختصاصِها بهِ

14

{وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون} الجائرونَ عن طريقِ الذي الحق هو الإيمانُ والطَّاعةُ {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ أسلمَ والجمعُ باعتبارِ المَعْنى {تَحَرَّوْاْ} توخَّوا {رَشَدًا} عظيماً يبلغُهم إلى دار الثوابِ

15

{وَأَمَّا القاسطون} الجائرونَ عن سنن الإسلامِ {فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حطبا} توقدبهم كَما تُوقدُ بكفرةِ الإنسِ

16

{وأن لو استقاموا} أنْ مخففةٌ من الثقيلةِ والجملةُ معطوفةٌ قطعاً على أنَّه استمعَ والمَعْنى وأُوحيَ إليَّ أنَّ الشأنَ لو استقامَ الجِنُّ والإنسُ أو كلاهُما عَلَى الطريقة التي هي ملَّةُ الإسلامِ {لأسقيناهم مَّاء غَدَقاً} أيْ لو سعنا عليهم الرزقَ وتخصيصُ الماءِ الغدقِ وهو الكثيرُ بالذكر لأنَّه أصلُ المعاشِ والسَّعةِ ولعزةِ وجودِه بين العربِ وقيل لو استقامَ الجنُّ على الطريقةِ المُثْلَى أي لو ثبتَ أبُوهم الجانُّ على ما كان عليه من عبادة الله تعالى وطاعتِه ولم يتكبرْ عن السجود لآدمَ عليه السَّلامُ ولم يكفرُ وتبعه ولدُه في الإسلامِ لأنعمنا عليهم ووسَّعنا رزقَهم

17

{لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} لنختبرَهُم كيفَ يشكرونَهُ وقيل معناهُ إنَّه لو استقامَ الجنُّ على طريقتِهم القديمةِ ولم يسلموا يإستماع القرآن لو سغنا عليهم الرزق استدراجا لنوقعَهُم في الفتنةِ ونعذبهم في كُفرانِ النعمةِ {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ} عن عبادتِه أو عن موعظتِه أو وحيهِ {يَسْلُكْهُ} يُدخله {عَذَاباً صَعَداً} أي شاقَّاً صعباً يعلُو المعذبَ ويغلبُه على أنَّه مصدرٌ وُصف به مبالغة

سورة الجن (18 23)

18

{وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} عطفٌ على قولِه تعالى أنَّه استمعَ أي وأُوحيَ إليَّ أنَّ المساجدَ مختصَّةٌ بالله تعالَى وقيلَ معناهُ ولأنَّ المساجدَ لِلَّهِ {فَلاَ تَدْعُواْ} أي لا تعبدُوا فيَها مَعَ الله أَحَداً غيرَه وقيلَ المرادُ بالمساجدِ المسجدُ الحرامُ والجمعُ لأنَّ كلَّ ناحيةٍ منْهُ مسجدٌ له قبلةٌ مخصوصةٌ أو لأنَّه قبلة المساجدِ وقيلَ الأرضُ كلُّها لأنَّها جعلتْ مسجداً للنبي عليه الصلاة والسلام وقيلَ مواضعُ السجودِ على أنَّ المرادَ نهيُ السجودِ لغير الله تعالَى وقيل أعضاءُ السجودِ السبعةُ وقيلَ السجداتُ على أنَّه جمعُ المصدرِ الميميِّ

19

(وَأَنَّهُ) من جُملةِ المُوحَى أي وأُوحيَ إليَّ أنَّ الشأنَ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله أي النبيُّ عليهِ الصلاةَ والسلام وإيراده بلفظ العبدِ للإشعارِ بَما هُو المقتضى لقيامه وعبادته وللتواضع لأنَّه واقعٌ موقعَ كلامِه عن نفسِه {يَدْعُوهُ} حالٌ من فاعلِ قامَ أي يعبدُه وذلكَ قيامُه لصلاةِ الفجر بنخلة كمامر تفصيلُه في سورةِ الأحقافِ كَادُواْ أي الجنُّ {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} متراكمينَ من ازدحامِهم عليه تعجباً ممّا شاهدُوا من عبادتِه وسمعُوا من قراءتِه واقتداءِ أصحابِه بهِ قياماً وركوعاً وسجوداً لأنهم رأوا مالم يَرَوا مثلَهُ وسمعُوا بما لم يسمعُوا بنظيرِه وقيلَ معناهُ لمَّا قامَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يعبدُ الله وحدَهُ مخالفاً للمشركينَ كاد المشركون يزدحمون عليه متراكمينَ واللِّبدُ جمعُ لبدة وهي تلبَّد بعضُه على بعضٍ ومنَها لبدةُ الأسدِ وقُرِىءَ لبُدُا جمعُ لبدةٍ وهي بمعنى اللبدة ولبدا وجمع لابدٍ كساجدٍ وسُجّدٍ ولُبْداً بضمتينِ جمعُ لَبُودٍ كصبُورٍ وصُبُرٍ وعن قتادةَ تلبدتِ الإنسُ والجنُّ على هذا الأمرِ ليطفئُوه فأبَى الله ألا أنْ يظهرَهُ على مَنْ ناوأه

20

{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو} أي أعبدُ {رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ} بربِّي في العبادةِ أَحَدًا فليسَ ذلكَ ببدعٍ ولا مستنكرٍ يوجبُ التعجبَ أو الإطباقَ على عداوتِي وقُرِىءَ قالَ على أنَّه حكايةٌ لقولِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ للمتراكمينَ عليهِ والأولُ هُو الأظهرُ والأوفقُ لقولِه تعالى

21

{قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً} كأنَّه أريدَ لا أملكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ولا غياً ولا رشداً فتركَ منْ كِلا المتقابلينِ ما ذُكِرَ في الآخر

22

{قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ الله أَحَدٌ} إنْ أراداني بسوءٍ {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} ملتجأً ومعدلاً وهذا بيانٌ لعجزِه عليهِ الصَّلاةُ والسلام عن شئون نفسِه بعد بيانِ عجزِه عليه الصلاة والسلام عن شئون غيرِه وقولُه تعالى

23

{إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله} استثناء

سورة الجن (24 27) من قولِه لا أملكُ فإنَّ التبليغَ إرشادٌ ونفعٌ وما بينهما اعتراضٌ مؤكدٌ لنفي الاستطاعة أو منْ مُلتحداً أي لنْ أجدَ من دونه منجاً إلا أنْ أُبلغَ عنه ما أَرسلنِي به وقيلَ إلاَّ مركبةٌ من إنِ الشرطيةِ ولا النافيةِ ومعناهُ أنْ لاَ أبلغَ بلاغاً من الله والجوابُ محذوفٌ لدلالة ما قبلَهُ عليهِ ورسالاته عطفٌ على بلاغاً ومن الله صفته لاصلته أي لا أملكُ لكُم إلا تبليغاً كائناً منهُ تعالى ورسالاتِه التي أرسلني بها {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} في الأمرِ بالتوحيد إذ الكلامُ فيه {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} وقُرِىءَ بفتح الهمزة على فحقُّه أو فجزاؤه أنَّ له نارَ جهنَم {خالدين فِيهَا} في النار أو في جهنمَ والجمعُ باعتبار المَعْنى أَبَدًا بلا نهايةٍ وقولُه تعالى

24

{حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} غايةٌ لمحذوف يدلُّ عليه الحالُ من استضعاف الكفارِ لأنصارِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ واستقلالِهم لعدده كأنَّه قيلَ لا يزالونَ على ما هُم عليهِ حتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يوعدون من فنون العذابِ في الآخرة فَسَيَعْلَمُونَ حينئذٍ {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} وحُمل ما يُوعدونَ على ما رأوا يوم بدر يأباه قوله تعالى

25

{قُلْ إِنْ أَدْرِى} أي ما أدْرِي {أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً} فإنه ردٌّ لما قالَه المشركونَ عند سماعِهم ذلكَ متَى يكونُ ذلك الموعود إنكاراً له واستهزاءً به فقيلَ قُل إنه كائنٌ لا محالةَ وأما وقتُه فما أدْرِي متَى يكونُ

26

{عالم الغيب} بالرفعِ قيلَ هو بدلٌ من ربِّي أو بيانٍ له ويأباهُ الفاءُ في قوله تعالى {فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً} إذ يكونُ النظمُ حينئذٍ أمْ يجعلُ له عالمُ الغيبِ أمداً فلا يُظهر عليهِ أحداً وفيهِ من الإختلال مالا يَخْفى فهو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هُو عالمُ الغيبِ والجملةُ استئنافٌ مقرِّرٌ لما قبلَهُ من عدم الدرايةِ والفاءُ لترتيب عدمِ الإظهارِ على تفرده تعالى بعلم الغيبِ على الاطلاق أي فلا يُطلْعُ على غيبِه إطلاعاً كاملاً ينكشفُ به جليةُ الحالِ انكشافاً تاما موجبا لعين اليقينِ أحداً من خلقه

27

{إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} أي إلا رسولاً ارتضاهُ لإظهارِه على بعضِ غيوبهِ المتعلقةِ برسالتِه كما يُعربُ عنه بيانُ من ارتضى بالرسول تعلفا تاماً إما لكونه من مبادىءِ رسالتِه بأنْ يكونَ معجزةً دالةً على صحتها وإما لكونه من أركانِها وأحكامِها كعامَّة التكاليفِ الشرعيةِ التي أُمرَ بها المكلفونَ وكيفياتِ أعمالِهم وأجزيتِها المترتبةِ عليها في الآخرةِ وما تتوقفُ هيَ عليهِ من أحوالِ الآخرةِ التي من جُملتِها قيامُ الساعةِ والبعثُ وغيرُ ذلكَ من الأمورِ الغيبية التي بينها من وظائفِ الرسالةِ وأما مالا يتعلقُ بها على أحد الوجهينِ من الغيوبِ التي من جُمْلتِها وقتُ قيامِ الساعةِ فلا يُظهر عليهِ أحدا على أنَّ بيانَ وقتِه مخلٌّ بالحكمةِ التشريعيةِ التي عليها يدورُ فلكُ الرسالةِ وليس فيه ما يدل على نفي كراماتِ الأولياءِ

سورة الجن (28) المتعلقةِ بالكشفِ فإنَّ اختصاصَ الغايةِ القاصيةِ من مراتب الكشف بالرسل لايستلزم عدم الحصول مرتبةٍ مَا منْ تلكَ المراتبِ لغيرِهم أصلاً ولا يدَّعِي أحدٌ لأحدٍ من الأولياءِ ما في رتبةِ الرسلِ عليهم السَّلامُ من الكشفِ الكاملِ الحاصلِ بالوحي الصريحِ وقولُه تعالَى {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفِه رَصَداً} تقريرٌ وتحقيقٌ للإظهارِ المستفادِ من الاستثناءِ وبيانٌ لكيفيته أي فإنَّه يسلكُ من جميع جوانب الرسول صلى الله عليه وسلم عند إظهارِه على غيبه حرساً من الملائكةِ يحرسُونه من تعرض الشياطين لماأظهره عليهِ من الغيوبِ المتعلقةِ برسالته وقولُه تعالى

28

{لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ} متعلقٌ بيسلكُ غايةٌ لهُ من حيثُ إنَّه مترتبٌ على الإبلاغ المترتبِ عليه إذ المرادُ به العلمُ المتعلقُ بالإبلاغ الموجود بالفعلِ وأنْ مخففةٌ من النقيلة واسمها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ والجملةُ خبرُها ورسالاتِ ربِّهم عبارةٌ عن الغيبِ الذي أُريدَ إظهارُ المُرتضَى عليهِ والجمعُ باعتبار تعددِ أفرادِه وضميرُ أبلغُوا إمَّا للرصَدِ فالمَعْنى أنَّه تعالَى يسلُكهم من جميع جوانبِ المرتَضى ليعلمَ أنَّ الشأنَ قد أبلغُوه رسالاتِ ربِّهم سالمةً عن الاختطافِ والتخليط علماً مستتبعاً للجزاءِ وهُو أنْ يعلَمُه موجوداً حاصلاً بالفعل كَما في قولِه تعالى حتى نَعْلَمَ المجاهدين والغايةُ في الحقيقه هو الإبلاغُ والجهادُ وإيرادُ علمهِ تعالَى لإبراز اعتنائِه تعالى بأمرِهما والإشعار بترتيب الجزاءِ عليهما والمبالغة في الحثِّ عليهما والتحذير عن التفريط فيهما وإما لمن ارتضَى والجمعُ باعتبارِ مَعْنى من كما أن الإفراد في الضميرين السابقينِ باعتبار لفظهافالمعنى ليعلمَ أنَّه قد أبلغَ الرسلَ الموحَى إليهم رسالات ربِّهم إلى أُممهم كما هي من غير اخنطاف ولا تخليطِ بعد ما أبلغها الرصَدُ إليهم كذلكَ قولَه تعالى {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أيْ بَما عندَ الرَّصَدِ أو الرُّسلِ عليهم السَّلامُ حالٌ من فاعلِ يسلكُ بإضمارِ قَدْ أو بدونه على الخلاف المشهور جيءَ بها لتحقيقِ استغنائِه تعالى في العلمِ بالإبلاغِ عمَّا ذُكِرَ من سلكِ الرصدِ على الوجِه المذكورِ أي يسلكُهم بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفِه ليترتب عليه علمَه تعالَى بما ذُكر والحالُ أنَّه تعالَى قد أحاطَ بما لديِهم من الأحوالِ جميعاً {وأحصى كلِّ شيءٍ} ممَّا كانَ وما سيكونُ عَدَدًا أي فرداً فرداً وهُو تمييزٌ منقولٌ من المفعول به كقوله تعالى وفجرنا الارض عُيُوناً والأصلُ أحصَى عددَ كلِّ شيءٍ وقيلَ هو حالٌ أي معدوداً محصوراً أو مصدرٌ بمَعْنى إحصاءً وأيَّا ما كان ففائدتُه بيانُ أنَّ علمَهُ تعالَى بالأشياء ليس على وجهٍ كليَ إجماليَ بلْ على وجهٍ جزئيَ تفصيليَ فإنَّ الإحصاءَ قد يرادُ به الإحاطةُ الإجماليةُ كما في قولِه تعالى وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا أي لا تقدروا على حصرها إجمالا فضلا عنى النفصيل وذلك أصلَ الإحصاءِ أنَّ الحاسبَ إذا بلغ عَقداً معيناً من عُقودِ الأعدادِ كالعشرةِ والمائةِ والألفِ وضعَ حصاةً ليحفظَ بها كميةً ذلكَ العقدِ فيبنِي عَلَى ذلكَ حسابَهُ هذا وأمَّا مَا قيلَ مِنْ أنَّ قولَه تعالى وأحاط بما لديهم الخ معطوفٌ على مقدرٍ يدلُّ عليه قوله تعالى ليعلمَ كأنه قيل قد علمَ ذلكَ وأحاطَ بما لديهم الخ فبمعزلٍ من السداد عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الجنِّ كانَ لهُ بعددِ كُلِّ جِنيَ صدَّقَ بمحمدا وَكذَّبَ به عتقُ رقبةٍ

بسم الله الرحمن الرحيم

المزمل

{يا أيها المزمل} أي المتزمل بثيابِه إذَا تلفّف بهَا فأدغم التاء في الزاء وقد قرىء على الأصل وقُرِىءَ المُزَمِّلُ من زمَّلَة مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل قيل خوطب به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم تهجيناً لما كانَ عليهِ من الحالةِ حيثُ كانَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ متلففاً بقطيفة مستعد للنومِ كما يفعلهُ مَنْ لا يَهمُّهُ أمرٌ ولا يعنيهِ شأنٌ فأُمرَ بأنْ يتركَ التزملَ إلى التشمر للعبادةِ والهجودِ إلى التهجدِ وقيلَ دخلَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ على خديجةَ وقد جَئِثَ فرقاً أولَ ما أتاهُ جبريلُ عليهما السَّلامُ وبوادُره ترعدُ فقالَ زَمِّلوني زَمِّلونِي فحسبَ أنَّه عرضَ له فبينَا هو على ذلك إذْ نادَاهُ جبريلُ فقال يأيها المزمِّلُ فيكونُ تخصيصُ وصفِ التزمُّلِ بالخطابِ للملاطفةِ والتأنيس كما في قولِه عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه حينَ غاضبَ فاطمة رضي الله عنها فأتاهُ وهو نائمٌ وقد لصقَ بجنبهِ الترابُ قُمْ يا أبا تُرابٍ ملاطفةً وإشعاراً بأنَّه غيرُ عاتبٍ عليه وقيل المعنى يأيها الذي زُمِّلَ أمْراً عظيماً هُو أمرُ النبوةِ أي حملَه والزملُ الحملُ وازدملَهُ أي احتملَهُ فالتعرضُ للوصفِ حينئذٍ للإشعارِ بعلِّيتهِ للقيامِ أو للأمرِ به فإنَّ تحميلَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأعباءِ النبوةِ مما يوجبُ الاجتهادَ في العبادةِ

2

{قم الليل} أيْ قُمْ إلى الصلاِة وانتصابُ الليلِ على الظرفيةِ وقيل القيامُ مستعارٌ للصلاةِ ومَعْنى قُمْ صَلِّ وقُرِىءَ بضم الميم وفتحها {إِلاَّ قَلِيلاً} استثناءٌ من الليلِ وقولُه تعالى

3

نصفه بدل من الليل الباقي بعدَ الثُّنْيا بدلَ الكُلِّ أيْ قُمْ نصفَهُ والتعبيرُ عن النصفِ المُخرَجِ بالقليل لإظهارِ كمالِ الاعتدادِ بشأنِ الجزءِ المُقَارِنِ للقيامِ والإيذانِ بفضلِه وكونِ القيامِ فيهِ بمنزلةِ القيامِ في أكثرِه في كثرةِ الثوابِ واعتبارُ قلتهِ بالنسبةِ إلى الكلِّ مع عرائِه عن الفائدةِ خلافُ الظَّاهرِ {أَوِ انقص مِنْهُ} أي أنقُص القيامَ من النصفِ المقارنِ له في الصُّورة الأولى

سورة المزمل (4 6) قَلِيلاً أي نقصاً قليلاً أو مقداراً قليلاً بحيثُ لا ينحطُّ إلى نصف النصفِ

4

{أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} أي زدِ القيامَ على النصف المقارِنِ له فالمَعْنى تخييرُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بينَ أنْ يقومَ نصفَهُ أو أقلَّ منه أو أكثرَ وقيلَ قولُه تعالَى نصفَهُ بدلٌ من قليلاً والتخييرُ بحالهِ وليس بسديدٍ أمَّا أولاً فلأنَّ الحقيقَ بالاعتناءِ الذي ينبىءُ عنْهُ الإبدالُ هو الجزاء الباقي بعد الثُّنيا المقارِنُ للقيامِ لا الجزءُ المُخَرجُ العارِي عنه وأمَّا ثانياً فلأَنَّ نقصَ القيامِ وزيادتَهُ إنما يُعتبرانِ بالقياسِ إلى معياره الذي هو النصفُ المقارِنُ له فلو جُعلَ نصفَهُ بدلاً من قليلاً لزمَ اعتبارُ نقصِ القيامِ وزيادتِه بالقياسِ إلى ما هُو عارٍ عنه بالكُليَّةِ والاعتذارُ بتساوي النصفينِ مع كونِه تمحلاً ظاهراً اعترافٌ بأنَّ الحقَّ هو الأولُ وقيلَ نصفَهُ بدل من الليل وإلاَّ قليلاً استثناءٌ من النصف والضميرُ في منه وعليه للنصف والمعنى التخيير بين أمرين أن يقومَ أقلَّ من نصف الليلِ على البتاتِ وبينَ أنْ يختارَ أحدَ الأمرينِ وهُمَا النقصانُ من النصفِ والزيادةُ عليهِ وقيلَ الضميرانِ للأقلِّ منَ النصفِ كأنَّه قيلَ قُم أقلَّ من نصفهِ أو قُم أنقصَ من ذلكَ الأقلِّ أو أزيدَ منهُ قليلاً وقيل وقيلَ والذي يليقُ بجزالة التنزيلِ هو الأولُ والله أعلمُ بما في كتابه الجليل ورتل القرآن وفي أثناءِ ما ذُكِرَ من القيامِ أي اقرأْهُ على تُؤدةٍ وتبيين حروفٍ تَرْتِيلاً بليغاً بحيثُ يتمكنُ السامعُ من عدِّها من قولِهم ثغر رتل إذا كانَ مُفلَّجاً

5

(إنا سنلقي عليك) أي سنُوحي إليكَ وإيثارُ الإلقاءِ عليه لقوله تعالى قَوْلاً ثقيلا وهو القرى ن العظيمُ المنطوِي على تكاليفَ شاقةٍ ثقيلةٍ على المُكلفينَ لا سيَّما على الرسولِ صلى الله عليه وسلم فإنه مأمورٌ بتحملها وتحميلها للأمة والجملةُ اعتراضٌ بين الأمرِ وتعليله لتسهيل كا كلَّفه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من القيامِ وقيلَ مَعْنَى كونه ثقيلا أنه رضين لرزانة لفظهِ ومتانة معناهُ أو ثقيلٌ على المتأمل فيهِ لافتقارِه إلى مزيد تصفيةٍ للسرِّ وتجريدٍ للنظرِ أو ثقيلٌ في الميزان أو على الكفار والفجارِ أو ثقيلٌ تلقيه عن ابن عباس رضي الله عنهما كانَ إذا نزلَ عليه الوحي ثقلا عليه وتربدله جلدُه وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها رأيتُه ينزلُ عليه الوحيُ في اليومِ الشديدِ البردِ فيفصمُ عنه وإن جبينَهُ ليرفضُّ عرقاً

6

{إن ناشئة الليل} أي إنَّ النفسَ التي تنشأ من مضجعِها إلى العبادةِ أي تنهضُ من نَشَأ من مكانه إذا نهضَ أو إنَّ قيامَ الليلِ على أنَّ الناشئةَ مصدرٌ من نشَأ كالعافية أو إنَّ العبادةَ التي تنشأُ بالليلِ أي تحدثُ أو إن ساعاتِ الليلِ فإنَّها تحدثُ واحدةً بعدَ واحدةٍ أو ساعاتها الأولُ من نَشأ إذا ابتدأ {هِىَ أَشَدُّ وَطْأً} أي هي خاصَّةٌ أشدُّ ثباتَ قدمٍ أو كلفةً فلا بدَّ من الاعتناءِ بالقيامِ وقرىءَ وطاءً أي أشدُّ مواطأةً يواطىءُ قلبها لسانَها إن أريدَ بها النفسُ أو يواطىءُ فيها قلبُ القائمِ لسانَه إنْ أريد

سورة المزمل (7 13) بها القيامُ أو العبادةُ أو الساعاتُ أو أشدُّ موافقةً لما يرادُ من الخشوعِ والإخلاصِ وَأَقْوَمُ قِيلاً وأسدُّ مقالاً وأثبتُ قراءةً لحضور القلب وهدو الأصواتِ

7

{إِنَّ لَكَ فِى النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} أي تقلباً وتصرفاً في مهمَّاتِك واشتغالاً بشواغلك فلا يستطيع أن تتفرغَ للعبادةِ فعليكَ بها في الليلِ وهذا بيانٌ للداعي الخارجي إلى قيامِ الليلِ بعدَ بيانِ ما في نفسِه من الدَّاعي وقُرِىءَ سَبْخاً أي تفرق قلبٍ بالشواغلِ مستعارٌ من سبخِ الصوفِ وهو نفشُه ونشرُ أجزائِه

8

{واذكر اسم رَبّكَ} ودُمْ على ذِكرِه تعالى ليلاً ونهاراً على أيِّ وجهٍ كانَ من تسبيحٍ وتهليلٍ وتحميدٍ وصلاةً وقراءةِ قُرآنِ ودراسةِ علمٍ {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ} أيْ وانقطعْ إليهِ بمجامعِ الهمةِ واستغراقِ العزيمةِ في مراقبتِه وحيثُ لم يكن ذلك إلا بتجريدِ نفسهِ عليه الصلاة والسلام عن العوائقِ الصَّادةِ عن مراقبةِ اله تعالى وقطعِ العلائقِ عمَّا سواهُ قيلَ تَبْتِيلاً مكان تبتلاً مع ما فيهِ من رعايةِ الفواصلِ

9

{رَّبُّ المشرق والمغرب} مرفوعٌ على المدح وقيلَ على الأبتداء خبرُهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ وقُرِىءَ بالجرِّ على أنَّه بدلُ من ربِّكَ وقيلَ على إضمارِ حرفِ القسمِ جوابُه لا إله إلاَّ هُو والفاءُ في قوله تعالى {فاتخذه وَكِيلاً} لترتيب الأمرِ وموجبهِ على اختصاصِ الألوهيةِ والربوبيةِ به تعالَى

10

{واصبر على مَا يَقُولُونَ} مما لا خير فيه منَ الخُرافاتِ {واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} بأنْ تجانبَهم وتداريَهم ولا تكافئَهم وتكلَ أمورَهُم إلى ربِّهم كما يعربُ عنه قولُه تَعالَى

11

{وَذَرْنِى والمكذبين} أي دعني وإيَّاهم وكلْ أمرَهُم إليَّ فإنِّي أكفيكَهُمْ {أُوْلِى النعمة} أربابِ التنعمِ وهم صناديدُ قريش {ومهلهم قليلا} زمنا قليلاً

12

{إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً} جمعُ نِكْلٍ وهو القيدُ الثقيلُ والجملةُ تعليلٌ للأمرِ أيْ إنَّ لدينا أموراً مضادة لتنعمهم جحيما

13

(وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ) ينشَبُ في الحُلوقِ ولا يكادُ يُسَاغُ كالضَّريعِ والزقُّوم وَعَذَاباً أَلِيماً ونوعاً آخرَ من العذابِ مُؤلماً لا يُقادرُ قدره ولا يُدْرك كنهه كلُّ ذلك معدٌّ لهم ومرصدٌ

سورة المزمل (14 19) وقولُه تعالى

14

(يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال) أي تضطربُ وتتزلزلُ ظرفٌ للاستقرار الذي تعلقَ به لدينا وقيلَ متعلق بمضمر هو صفة لعذابنا أي عذاباً واقعاً يومَ ترجفُ {وَكَانَتِ الجبال} مع صلابتها وارتفاعها كَثِيباً رملاً مجتمعاً من كثب الشيء إذا جَمَعَهُ كأنَّه فعِيلٌ بمعنى مفعولٍ مَّهِيلاً منثوراً من هِيلَ هَيلاً إذا نُثرَ وأُسيلَ

15

{إنا أرسلنا إليكم} يأهل مكةَ {رَسُولاً شاهدا عَلَيْكُمْ} يشهدُ يومَ القيامةِ بما صدرَ عنكُم من الكفرِ والعصيانِ كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً هو مُوسى عليه السَّلامُ وعدمُ تعيينهِ لعدمِ دخلِه في التشبيهِ

16

(فعصى فِرْعَوْنُ الرسول) الذي أرسلناهُ إليهِ ومحلُّ الكافِ النصب على أنها صفةٌ لمصدر محذوفٍ أي أناأرسلنا إليكم رسولاً فعصيتموه كما يعرب عنه قوله تعالى شاهدا عليكم إرسالا كأننا كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصاه وقولُه تعالى {فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً} خاج من التشبيه جئ به للتنبيه على أنَّه سيحيقُ بهؤلاءِ ما حاقَ بأولئكَ لا محالةَ والوبيلُ الثقيلُ الغليظُ من قولِهم كلأٌ وبيلٌ أي وخيمٌ لا يستمرأُ لثقلهِ والوبيلُ العَصا الضخمةُ

17

{فكيف تتقون} أي كيق تقونَ أنفسكمُ {إِن كَفَرْتُمْ} أي بِقيتُم على الكفرِ {يوما} أي عذاب يو {يَجْعَلُ الولدان} من شدةِ هولِه وفظاعةِ ما فيهِ من الدَّواهي شِيباً شيوخاً جمعُ أشيبَ إما حقيقةً أو تمثيلاً وأصلهُ أنَّ الهمومَ والأحزانَ إذا تفاقمتْ على المرء ضعفتْ قُواه وأسرعَ فيه الشيبُ وقد جوز أن يكون ذلك وصفاً لليومِ بالطولِ وليس بذاكَ

18

{السَّمَاء مُنفَطِرٌ} أي منشقٌّ وقرئ مُتَفَطِّر أي متشققٌ والتذكيرُ لإجرائه على موصوفٍ مذكرٍ أي شئ منفطر عز عنها بذلك للتنبيه على أنَّه تبدلتْ حقيقتُها وزالَ عنها اسمها ورسمها ولم يبقَ منها إلا ما يعبر عنه بالشئ وقيلَ لتأويلِ السماءِ بالسقفِ وقيلَ هو من باب النسبِ أي ذاتُ انفطارٍ والباء في به مثلها في فطر ت العودَ بالقَدُومِ {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} الضَّميرُ لله عزَّ وجلَّ والمصدرُ مضافٌ إلى فاعله أو لليوم وهو مضافٌ إلى مفعولهِ

19

{إِنَّ هذه} إشارةٌ إلى الآيات المنطويةِ على القوارع المذكورةِ تَذْكِرَةٌ موعظةٌ {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سبيلا} بالتقريب إليه بالإيمان والطاعة فإنها المنهاج

سورة المزمل آية (20) الموصلُ إلى مرضاتِه

20

{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ الليل} أي أقلَّ منهما استعير له الأدنى لما أنَّ المسافةَ بين الشيئينِ إذا دنت قل ما بينهما من الأحيازِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالنصب وعطفا على أدْنَى وقُرئا بالجرِّ عطفاً على ثُلثي الليلِ {وَطَائِفَةٌ مّنَ الذين مَعَكَ} أي يقوم معكَ طائفةٌ من أصحابكَ {والله يقدر الليل والنهار} وحده لايقدر على تقديرهما أحدٌ أصلاً فإنَّ تقديم الاسمِ الجليلِ مبتدأٌ وبناءِ يقدرُ عليهِ موجبٌ للاختصاصِ قطعاً كما يعرب عنه قوله تعالى {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} أي علمَ أنَّ الشأنَ لن تقدروا على تقدير الأوقاتِ ولن تستطيعوا ضبطَ الساعاتِ أبداً فَتَابَ عَلَيْكُمْ بالترخيص في ترك القيام المقدر ورفعِ التبعةِ عنكُم في تركة فاقرؤا ما تيسر من القرآن فصلوا ما تيسرَ لكُم من صلاة الليلِ عبرَ عن الصلاة بالقراءة كا عبَّر عنها بسائر أركانِها فيل كان التجهد واجباً على التخيير المذكورِ فعسُرَ عليهم القيامُ به فنُسخَ به ثم نُسخَ هذا بالصلوات الخمسِ وقيلَ هي قراءة القُرآنِ بعينها قالُوا مَنْ قَرأَ مائةَ آيةٍ من القرآنِ في ليلةٍ لم يحاجَّهُ وقيلَ من قرأ مائة آية كتب من القانتين ة وقيلَ خمسينَ آية {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى} استئنافٌ مبينٌ لحكمةٍ أخرى داعيةٍ إلى الترخيصِ والتخفيفِ {وآخرون يَضْرِبُونَ فِى الأرض} يسافرونَ فيها للتجارةِ {يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله} وهو الربحُ وقد عُمِّمَ ابتغاءَ الفضلِ لتحصيل العلم وآخرون يَضْرِبُونَ فِى الأرض يسافرونَ فيها للتجارةِ (يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وهو الربحُ قد عُمِّمَ ابتغاءَ الفضلِ لتحصيل العلم وآخرون يقاتلون فِى سَبِيلِ الله وإذا كان الأمر كما ذُكِرَ وتعاضدت الدواعي إلى الترخيص فاقرؤا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ من غيرَ تحملِ المشاقِّ {وَأَقِيمُواْ الصلاة} أى المفروضة {وآتوا الزكاة} الواجبة وقيل هي هى زكاة الفطر إذا لم يكن بمكةَ زكاةٌ ومن فسرهَا بالزكاةِ المفروضةِ جعَلَ آخرَ السورةِ مدنياً {وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً} أُريدَ به الإنفاقاتُ في سبل الخيراتِ أو أداءِ الزكاةِ على أحسنِ الوجوهِ وأنفعها للفقراءِ وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خير أي خَيْرٍ كانَ ممَّا ذُكر ومَا لم يُذكرْ {تَجِدُوهُ عند الله هو خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} منَ الذي نؤخرونه إلى الوصيةِ عند الموتِ وخيراً ثاني مفعولَيْ تجدُوا وهو تأكيدا أو فصلٌ وإنْ لم يقعْ بينَ معرفتينِ فإن أفعلَ من في حُكمِ المعرفةِ ولذلكَ يمتنعُ من حرف التعريف وقرئ هو خيرٌ على الابتداءِ والخبرِ واستغفروا الله في كافة أحوالِكم فإنَّ الإنسانَ قلما يخلو من التفريط {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم ومن قَرأ سورةَ المزملِ دفعَ الله عنه العُسرَ في الدنيا والآخرة

سورة المدثر آية (1 4) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم

المدثر

{يا أيها المدثر} أي المتدثر وهو لابسُ الدثارِ وهُوَ مَا يُلبسُ فوقَ الشِّعارِ الَّذي يلي الجسدَ قيلَ هيَ أولُ سورةٍ نزلتْ رُويَ عنْ جابرٌ رضيَ الله عْنهُ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنَّه قالَ كُنت عَلى جبلِ حراءٍ فنوديتُ يا محمدُ إنَّكَ رسولُ الله فنظرتُ عنْ يميني وَيسارِي فلمْ أرَ شيئاً فنظرتُ فوقِي فإذَا بهِ قاعدٌ عَلَى عرشٍ بينَ السماءِ والأرضِ يعنيَ المَلكَ الَّذي ناداهُ فرعبتُ ورجعتُ إلى خديجة فقلت دثروني دثرونِي فنزلَ جبريلُ وقال يا أيها المدثر وعن الزهري أنَّ أولَ ما نزلَ سورةُ اقرأْ إلى قوله تعالى مَا لَمْ يَعْلَمْ فحزنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وجعلَ يعلو شواهقَ الجبالِ فأتاهُ جبريلُ عليهِ السَّلامُ وقالَ إنكَ نبيُّ الله فرجِعَ إلى خديجةَ فقالَ دثرونِي وصُبُّوا عليَّ ماءً بارداً فنزلَ جبريلُ فقالَ يأيها المدثر وثيل سمعَ منْ قريشٍ ما كرهَهُ فاغتمَّ فتغطّى بثوبِه متفكراً كَمَا يفعلُ المغمومُ فأمر أن لايدع إنذارهم وأن سمعوه وآذوه وقيلَ كانَ نائماً متدثراً وقيلَ المرادُ المتدثرُ بلباسِ النبوةِ والمعارفِ الإلهيةِ وقرئ المُدَثَّرُ علَى صيغةِ اسمِ المفعولِ منْ دَثَرَهُ أي الَّذي دثرَ هذا الأمرَ العظيمَ وعصبَ به وفي حرف أبي المنذر يأيها المتدثرُ عَلى الأصْلِ

2

(قُمِ) أي من مضجعكَ أوْ قُمْ قيامَ عَزْمٍ وَتصميمٍ فَأَنذِرْ أي افعلِ الإنذارَ وَأَحْدِثْهُ وقيلَ أنذرْ قومَكَ كقولِه تعالَى وَأَنذِرْ عشيرتك الأقربيتن أو جميعَ النَّاسِ حسبَمَا ينبىء عنه قوله تعالى وما أرسلناك الإكافة لّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً

3

{وَرَبَّكَ فَكَبّرْ} واختصَّ ربَّك بالتكبيرِ وهو وَصْفُهُ تعالى بالكبرياءِ اعتقاداً وقولاً ويُروى أنه لما نزل قالَ رسولُ الله الله أكبرُ فكبرتْ خديجةُ وفرحتُ وأيقت أنَّه الوحيُ وقدْ يحملُ على تكبيرِ الصَّلاةِ والفاءُ لمعنى الشرطِ كأنَّه قيلَ ما كان أيْ أيُّ شئ حدث فلا تدعُ تكبيرَهُ أوْ للدلالةِ عَلى أنَّ المقصودَ لأولى من الأمرِ بالقيامِ أنْ يكبرَ رَبَّه وينزهَهُ منَ الشركِ فإنَّ أولَ ما يجبُ معرفةُ الصانعِ جلَّ جلالُه ثم تنزيهِه عَمَّا لا يليقُ بجنابهِ

4

{وثيابك فطهر}

سورة المدثر (5 10) ! مما ليس فإنه واجب الصلاة الأولى وأولى وأحبُّ في غيرِها وذلكَ بصيانتها وحفظها عن النجاساتِ وغسلِها بعد تلطخِها وبتقصيرها أيضاً فإنَّ طولَها يؤدي إلى جرِّ الذيولِ على القاذوراتِ وهُوَ أولُ ما أُمر بهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ منْ رفضِ العاداتِ المذمومةِ وقيلَ هُو أمر بتطيهر النفسِ مما يستقذرُ منَ الأفعالِ ويُستهجنُ منَ الأحوالِ يقالُ فلانُ طاهرُ الذيلِ والأردانِ إذا وصفُوه بالنقاءِ من المعايبِ ومدانسِ الأخلاقَ

5

{والرجز فاهجر} أي واهجُر العذابَ بالثباتِ على هَجْرِ يُؤدي إليه من المآثمِ وقُرِىءَ بكسرِ الراءِ وهُمَا لُغتانِ كالذُّكرِ والذِّكرِ

6

{وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} ولا تُعطِ مُستكثراً أي رائياً لِمَا تعطيهِ كثيراً أو طالباً للكثيرِ على أنَّه أنهى عنْ الاستغزارِ وهُوَ أنْ يهبَ شيئاً وهو يطمعُ أنْ يتعوضَ منَ الموهوبِ لَهُ أكثرَ ممَّا أعطاهُ وهُو جائزٌ ومنْهُ الحديثُ المستغرر يثابُ من هبتِه فالنهيُ إمَّا للتحريمِ وهو خاصٌّ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم لأنَّ الله تعالى اختارَ له أشرفَ الأخلاقِ وأحسنَ الآدابِ أو للتنزيهِ للكُلِّ وقرئ تستكثرْ بالسكونِ اعتباراً بحالِ الوقفِ أوْ إبدالاً منْ تمنن كأنَّه قيلَ ولا تمنُنْ ولا تستكثرْ على أنَّه منَ المَنِّ الَّذي في قولِه تعالى منَّا ولا أذى لأن منْ يمنَّ بِمَا يُعطي يستكثره ويعتد بِه وقُرِىءَ بالنصبِ بإضمارِ أنْ معَ إبقاءِ عملِها كقولِ منْ قالَ أَلاَ أيُّهذا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوَغَى وقدْ قُرِىءَ بإثباتِها ويجوزُ في قراءةِ الرفعِ أنْ يحذفَ أنْ ويبطلَ عملُها كَمَا يُروى أحضرُ الوَغَى بالرفعِ

7

(وَلِرَبّكَ) أي لوجههِ تعالى او لأمره فاصبر فاستعمل الصبرَ وقيلَ على أذيةِ المشركينَ وقيلَ عَلى أداءِ الفرائضِ

8

(فَإِذَا نُقِرَ فِى الناقور) أي نفخَ في الصُّورِ وهو فاعل من النقر بمعنى التصويت وأصله القرع الذي هو سببُ الصَّوتِ والفاءُ للسببيةِ كأنَّه قيلَ اصبرْ عَلَى أذاهُم فبينَ أيديهِم يومٌ هائلٌ يلقونَ فيه عاقبة أذاهُم وتلقَى عاقبةَ صبرِك عليهِ والعاملُ فِي إذَا ما دل عليه قوله تعالى

9

(فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) عَلَى الكافرينَ وذلكَ إشارةٌ إلى وقتِ النقرِ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان ببعد منزلتِه في الهولِ والفظاعةِ ومحلُه الرفعُ عَلى الابتداءِ ويومئذٍ

74 سورة المدثر (11 15) بدلٌ منْهُ مبنيٌّ عَلى الفتحِ لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ والخبرُ يومٌ عسيرٌ وقيلَ يومئذٍ ظرفٌ للخبرِ اذ التقدير وذلك الوقت وقوعِ يومٍ عسيرٍ وَعَلَى متعلقةٌ بعسيرٌ وقيلَ بمحذوفٍ هو صفةٌ لعسيرٌ أوْ حالٌ من المستكنِّ فيهِ وقولُه تعالى غَيْرُ يَسِيرٍ تأكيدٌ لعُسرِهِ عليهمْ مشعرٌ ييسره على المؤمنينَ واختلفَ في أنَّ المرادَ بِه يومُ النفخةِ الأولى أو الثانيةِ والحقُّ أنَّها الثانيةُ إذْ هيَ التي يختصُّ عسرُها بالكافرينَ وأما النفخةُ الأُولى فحكمُها الذي هو الإصعاقُ يعمُّ البرَّ والفاجرَ عَلى أنَّها مختصةٌ بمنَ كانَ حيَّا عندَ وقوعِها وقد جاءَ في الأخبار أنَّ في الصورِ ثقباً بعددِ الأرواحِ كلِّها وأنَّها تجمعُ في تلكَ الثقوبِ في النفخةِ الثانيةِ فتخرجُ عندَ النفخِ منْ كُلِّ ثقبةٍ روحٌ إلى الجسدِ الِّذي نزعت مِنْهُ فيعودُ الجسدُ حياً بإذنِ الله تعالَى

11

ذرني ومن خلفت وَحِيداً حَالٌ إمَّا منَ الياءِ أيْ ذرني وَحديِ معَهُ فَإنِّي أكفيكَهُ في الانتقامِ منْهُ أو منَ التاء اي خلفته وَحْدِي لَمْ يُشركني فِي خلقِه أحدٌ أو منَ العائدِ المحذوفِ أيْ وَمَنْ خلقتُه وحيداً فريداً لا مالَ لَهُ وَلاَ ولدٌ وقيل نزلت في الوليد بنِ المغيرةِ المخزومي وكانَ يلقب في قومه بالوحيد فهو تهكمٌ به وبلقبِه وصرفٌ لهُ عنْ الغرضِ الذي يؤمونَهُ من مدحِه إلى 12 جهةِ ذمهِ بكونهِ وحيداً من المَالِ والولدِ أو وحيداً من أبيهِ لأنَّه كانَ زنيماً كما مَرَّ أوْ وَحيداً في الشَّرارةِ

12

وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً مبسوطاً كثيراً أو ممداً بالنماءِ من مَدَّ النهرٌ ومدَّهُ نهرٌ آخرُ قيلَ كانَ لَهُ الضرعُ والزرعُ والتجارةُ وعنِ ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما هو ما كانَ لَه بينَ مكةَ والطائفِ من صنوفِ الأموالِ وقيلَ كانَ لَهُ بالطائفِ بستانٌ لا ينقطعُ ثمارُهُ صيفاً وشتاءً وقالَ ابن عباسٍ ومجاهدٍ وسعيدِ بنِ جُبير كانَ لَهُ الف دينار وقال فتادة ستةُ آلافِ دينار وقال 3 سفيان الثوري أربعة آلاف دينار وقال الثوريُّ أيضاً ألف ألف دينار

13

وَبَنِينَ شُهُوداً حضوراً معَهُ بمكةَ يتمتعُ بمشاهدتِهم لا يفارقونَهُ للتصرف في عملٍ أو تجارةٍ لكونِهم مكفيينَ لوفورِ نعمِهم وكثرةِ خدمِهم أو حضوراً فِي الأنديةِ والمحافل لوجاهتِهم واعتبارِهم قيلَ كانَ له عشرةُ بنينَ وقيلَ ثلاثةَ عشرَ وقيلَ سبعةٌ كلُّهم رجالٌ الوليدُ بن الوليد وخالدٌ وعمارةٌ وهشامٌ والعاصُ والقيسُ وعبدُ شمسٍ أسلَم منهْم ثلاثةٌ خالدٌ 14 وهشامٌ وعمارةُ

14

وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً وبسطتُ لهُ الرياسةَ والجاهَ العريضُ حَتَّى لقبَ 15 ريحانةَ قريشٍ

15

ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ عَلى ما أوتيهِ وهو استبعادٌ واستنكارٌ لطمِعه وحرصِه إما لأنهُ لا مزيدَ

74 سورة المدثر (16 19) عَلى ما أُوتيَ سعة وكثرةً أو لأنَّه منافٍ لما هُوَ عليهِ منْ كُفرانِ النعمِ ومعاندةِ المنعمِ وقيلَ إنَّه كانَ يقول إن كان محمدٌ صادقاً فما خلقت الجنة الالى

16

كَلاَّ ردعٌ وزجرٌ لَهُ عنْ طمعه الفارغِ وقطعٌ لرجائه الخائبِ وقولُه تعالَى إِنَّهُ كان لأياتنا عَنِيداً تعليلٌ 16 لذلكَ على وَجْه الاستئنافِ التحقيقيِّ فإنَّ معاندةَ آياتِ المنعمِ معَ وضوحِها وكفران نعمته مع سبوغها مما يوجبُ حرمانَهُ بالكليةِ وإنما أوتَي ما أوتَي استدراجا قيلَ ما زالَ بعدَ نزولِ هذهِ الآيةِ في نقصانٍ منْ مالِه حتَّى هلكَ

17

سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً سأغشيهِ بدلَ 17 ما يطمُعه منَ الزيادةِ أو الجنةِ عقبةً شاقةً المصعدِ وهو مثلٌ لما يَلْقى منَ العذابِ الصعبِ الذَّي لا يطاقُ وعنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يكلفُ أنْ يصعدَ عقبةً في النارِ كلمَا وضعَ يَدهُ عليَها ذابتْ فإذَا رفعَها عادتْ وإذَا وضعَ رجَلُه ذابتْ فإذَا رفعَها عادتْ وعنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الصَّعودُ جبلٌ منْ نار يصعد فيها سبعين خريفا ثمَّ يهوِي فيهِ كذلكَ أبداً

18

إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ تعليلٌ للوعيدِ واستحقاقِه لَهُ أو بيانٌ لعناده لآياته تعالَى 18 أيْ فكرَّ ماذَا يقولُ في شأنِ القرآنِ وقدرَ فِي نفسِه ما يقولُه

19

فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تعجيبٌ 19 منْ تقديرِه وإصابتِه فيهِ الغرضَ الذي كانَ ينتحيهِ قريشٌ قاتلَهم الله أو ثناءٌ عليهِ بطريقِ الاستهزاءِ به أو حكايةٌ لما كررُوه من قولِهم قتلَ كيفَ قدرَ تهكماً بِهم وبإعجابِهم بتقديره واستعظامهم لقوله ومعنى قولِهم قتلَهُ الله ما أشجَعهُ أو أخزاهُ الله ما أشعرَهُ الإشعارُ بأنَّه قد بلغَ منَ الشجاعةِ والشعرِ مبلغاً حقيقياً بأنْ يدعَو عليهِ حاسدُهُ بذلكَ رُويَ أنَّ الوليدَ قالَ لبني مخزومٍ والله لقد سمعتُ من محمدٍ آنِفاً كلاماً ما هُو منْ كلامِ الإنسِ ولا منْ كلامِ الجنِّ إنَّ لَهُ لحلاوةً وإنَّ عليهِ لطلاوةً وإنَّ أعلاهُ لمثمرٌ وإنَّ أسفلَهُ لمغدِقٌ وإنَّه يعلو وما يُعلى فقالتْ قريشٌ صبأَ والله الوليدُ والله لتصبأنَّ قريشٌ كُلُّهم فقالَ ابْنُ أخيهِ أبوُ جهلٍ أنَا أكفيكمُوهُ فقعَد عندَهُ حزيناً وكلَّمهُ بما أحماهُ فقامَ فأتاهم فقال تزعمونَ أنَّ محمداً مجنونٌ فهل رأيتمُوه يخنقُ وتقولونَ إنه كاهنٌ فَهلْ رأيتمُوه يتكهنُ وتزعمونَ أنه شاعرٌ فهل رأيتمُوه يتعاطَى شِعراً قطُّ وتزعمونَ أنه كذابٌ فَهَلْ جربتُم عليهِ شيئاً من الكذبِ فقالُوا في كُلِّ ذلكَ اللهمَّ لاَ ثمَّ قالُوا فَما هُو ففكَّر فقالَ مَا هُو إلا ساحرٌ أما رأيتمُوه يفرقُ بينَ الرجلِ وأهلِه وولدِه ومواليهِ وما الذي يقولُه إلا سحرٌ يأثرُهُ عنْ أهلِ بابلَ فارتجَّ النادِي فرحاً وتفرقُوا معجبينَ بقوله متعجبين منه

74 سورة المدثر (20 29) 20

20

ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تكريرٌ للمبالغةِ وثمَّ للدَّلالة على أنَّ الثانيةَ أبلغُ منَ الأُولى 22 21 وفيمَا بعدُ عَلى أصلِها منْ التراخِي الزمانيِّ

21

ثُمَّ نَظَرَ أي في القرآنِ مرةً بعدَ مرةٍ

22

ثُمَّ عَبَسَ قطَّبَ وجهَهُ لما لم يجد فيها مطعناً ولمْ يدرِ ماذَا يقولُ وقيلَ نظرَ في وجوهِ النَّاسِ ثم قطَّبَ وجهَهُ وقيلَ نظرَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قطَّبَ في وجهِهِ 23 وَبَسَرَ اتباعٌ لعبسَ

23

ثُمَّ أَدْبَرَ عنِ الحقِّ أوْ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم 24 واستكبر عن اتباعِه

24

فَقَالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ أيْ يُروى ويُتعلمُ والفاءُ للدِلالة على أن هذه الكلمة لمَّا خطرتْ بباله تفوه بها من غير تلعثمٍ وتلبثٍ وقولُه تعالى 25

25

إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ البشر تأكيدٌ لما قبلَهُ ولذلكَ أُخليَ عنِ العاطفِ

26

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ بدلٌ منْ سأُرهقُه صَعُوداً

27

وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ أيْ أيُّ شيءٍ أعلمكَ ما سقرُ على أنَّ مَا الأوُلى مبتدأٌ وأدراكَ خبرُه ومَا الثانيةُ خبرٌ لأنها المفيدةُ لِما قُصد إفادتُه منَ التهويل والتفظيعِ وسقرُ مبتدأٌ أيْ أيُّ شيءٍ هيَ في وصفِها لما مر مرارا من أَنَّ مَا قَدْ يطلبُ بَها الوصفُ وإنْ كانَ الغالبُ أنْ يطلبَ بَها الاسمُ والحقيقةُ وقولُه تعالَى

28

لاَ تُبقي وَلاَ تَذَرُ بيانٌ لوصفِها وحالِها وإنجازٌ للوعد الضمني الذي يلوح به وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ وقيل حال من سقر وليس بذاك أيْ لا تُبقي شيئاً يلقي فها إلا أهلكتْهُ وإذا هلكَ لم تذَرْهُ هالكاً حتَّى يعادَ أوْ لا تُبقي على شيءٍ ولا تدعَهُ منَ الهلاكِ بلْ كلُّ ما يطرحُ فيَها هالكٌ لا محالة

29

لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ مُغيِّرةٌ لأَعَالي الجلد مسودة

74 سورة المدثر (30 31) لَها قيلَ تلفحُ الجلدَ لفحةً فتدَعُه أشدَّ سواداً منَ الليلِ وقيلَ تلوحُ للناسِ كقولِه تعالى ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين وقُرِىءَ لواحةً بالنصبِ على الاختصاصِ للتهويلِ

30

عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ أيْ مَلَكاً أو صِنْفاً أو صفاً أو نقيباً من الملائكةِ يلونَ أمرَهَا ويتسلطونَ على أهلِها وقُرِىءَ بسكونِ عين عشر حذارا من توالِي الحركاتِ فيما هو في حكم اسمٍ واحدٍ وقرىء تسعةُ أَعْشُرٍ جمعُ عشيرٍ مثلُ يمينٍ وأَيْمُنٍ

31

وَمَا جَعَلْنَا أصحاب النار أيْ المدبرينَ لأمرِها القائمينَ بتعذيبِ أهلِها إِلاَّ ملائكة ليخالفُوا جنسَ المعذبينَ فلا يَرِقّوا لهُم ولاَ يستروحُوا اليهم لأنهم أَقْوى الخلقِ وأقومُهُم بحقِّ الله عزَّ وجلَّ وبالغضبِ له تعالى وأشدُّهم بأساً عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم لأحدِهم مثلُ قوةِ الثقلينِ يسوقُ أحدُهم الأمةَ وعلى رقبتِه جبلٌ فيرمِي بهم في النارِ ويرمِي بالجبلِ عليهم ورُوي أنَّه لمَّا نزلَ عليها تسعةَ عشرَ قال أبُو جهلٍ لقريشٍ أيعجزُ كلُّ عشرةٍ منكم أنْ يبطشُوا برجلٍ منُهم فقالَ أبُو الاشدِّ بنُ أسيدِ بْنِ كِلْدةَ الجُمَحيُّ وكان شديدَ البطشِ أنا أكفيكُم سبعةَ عشرَ فاكفونِي أنتُم اثنينِ فنزلتْ أيْ ما جعلناهُم رجالاً منْ جنسِكم وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ أي ما جعلنا عددَهُم إلا العددَ الذي تسببَ لافتنانهم وهو التسعةَ عشرَ فعبرَ بالأثرِ عن المؤثر تنبيهاً على التلازم بينهما وليس المرادُ مجردَ جعلِ عددِهم ذلكَ العددَ المعينَ في نفسِ الأمرِ بلْ جعلَه في القرآنِ أيضاً كذلكَ وهو الحكمُ بأنَّ عليها تسعةَ عشرَ إذْ بذلكَ يتحققُ افتتانُهم باستقلالِهم له واستبعادِهم لتولي هذا العددِ القليلِ لتعذيبِ أكثر الثقلينِ واستهزائِهم بهِ حسبما ذكرَ وعليهِ يدورُ ما سيأتِي من استيقان أهلِ الكتابِ وازديادِ المؤمنينَ إيماناً قالُوا المخصصُ لهذَا العددِ أنَّ اختلافَ النفوسِ البشريةِ في النظرِ والعملِ بسببِ القُوى الحيوانيةِ الاثنتي عشرةَ والطبيعيةِ السبعِ أو أن جهنَم سبعُ دركاتَ ستٌ منها لأصنافِ الكفرةِ كلُّ صنفٍ يعذبُ بتركِ الاعتقادِ والاقرارِ والعملِ أنواعاً من العذابِ يناسبُها وعلى كلِّ نوعٍ ملكٌ أو صنفٌ أوْ صفٌّ يتولاهُ وواحدةٌ لعُصاةِ الأمةِ يعذبونَ فيها بتركِ العملِ نوعاً يناسبُه ويتولاّه واحدٌ أو أنَّ الساعاتِ أربعٌ وعشرونَ خمسةٌ منها مصروفةٌ للصلواتِ الخمسِ فيبقى تسعةَ عشرَ قد تصرفُ إلى ما يؤاخذُ به بأنواعِ العذابِ يتولاَّها الزبانيةُ لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب متعلقٌ بالجعل على المَعْنى المذكورِ أيْ ليكتسبُوا اليقينَ بنبوتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وصدقِ القرآنِ لما شاهدُوا ما فيه موافقاً لما في كتابِهم وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إيمانا أيْ يزدادُ إيمانُهم كيفيةً بما رأَوا من تسليم اهل الكتاب

74 سورة المدثر (32 35) وتصديقِهم أنه كذلكَ أو كميةً بانضمامِ إيمانِهم بذلكَ إلى إيمانِهم بسائرِ ما أنزلَ وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون تأكيدٌ لما قبله من الاستقيان وإزديادِ الإيمانِ ونفيٌ لما قد يعترِي المستيقنَ من شبهةٍ ما وإنما لم يُنظمِ المؤمنونَ في سلكِ أهلِ الكتابِ في نفي الارتيابِ حيث لم يقل ولا يرتابوا للتنبيه على تباين النفيين حالاً فإن انتفاء الارتياب من أهل الكتابِ مقارنٌ لما ينافيهِ من الجحود ومن المؤمنينَ مقارنٌ لما يقتضيه من الإيمان وكم بينهما والتعبيرُ عنهم باسم الفاعلِ بعد ذكرِهم بالموصول والصلةِ الفعليةِ المنبئةِ عن الحدوث للإيذان بثباتهم على الإيمان بعدَ ازديادِه ورسوخِهم في ذلك وَلِيَقُولَ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ شكٌّ أو نفاقٌ فيكون اخبترا بَما سيكونُ في المدينةِ بعد الهجرةِ والكافرون المُصرّون على التكذيبِ مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً أيْ أيُّ شيءٍ أرادَ بهذَا العددِ المستغربِ استغرابَ المثلِ وقيلَ لما استبعدُوه حسبُوا أنه مثلٌ مضروِبٌ وإفرادُ قولِهم هذا بالتعليلِ مع كونِه من باب فتنتِهم للإشعارِ باستقلالِه في الشناعةِ كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَاء ذلكَ إشارةٌ إلى ما قبلَهُ من مَعْنى الإضلالِ والهدايةِ ومحلُّ الكافِ في الأصلِ النصبُ على أنَّها صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ وأصلُ التقديرِ يضلُّ الله منْ يشاءُ وَيَهْدِى مَن يَشَاء إضلالاً وهدايةً كائنينِ مثلُ ما ذكر من الإضلالِ والهدايةِ فحذفَ المصدرُ وأقيمَ وصفُه مقامَه ثم قُدّم على الفعلِ لإفادةِ القصِر فصارَ النظمُ مثلُ ذلكَ الإضلالِ وتلك الهدايةِ يضل الله مَن يَشَاء إضلالَه لصرفِ اختيارِه إلى جانبِ الضلالِ عندَ مشاهدتِه لآيات إلى جانبِ الهُدى لا إضلالاً وهدايةً أدنى منهما وما يلعم جُنُودَ رَبّكَ أيْ جموعَ خلقهِ التي من جُمْلتِها الملائكةُ المذكورونَ إِلاَّ هُوَ إذْ لاَ سبيلَ لأحدٍ إلى حصر الممكناتِ والوقوفِ على حقائِقها وصفاتِها ولوْ إجمالاً فضلاً عن الاطلاع على تفاصيل أحوالِها من كمٍ وكيفٍ ونسبةٍ وَمَا هِىَ أي سقرُ أو عدة خزنتها او الآيات الناطقةُ بأحوالِها إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ إلا تذكرةً لهم

32

كَلاَّ ردعٌ لمن أنكرهَا أو إنكارٌ ونفيٌ لأن يكونَ لهم تذكرٌ والقمر

33

والليل اذ ادبر وقرىء اذا دَبَر بمعنى أدبرَ كقَبِلَ بمَعْنى أَقْبَلَ ومنْهُ قولِهم صاروا كأمس الدار وقيل هُو من دَبِرَ الليلُ النهارَ إذَا خلفَهُ

34

والصبح إِذَا أَسْفَرَ أي أضاءَ وانكشفَ

35

إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر جوابٌ للقسمِ أوْ تعليلٌ لكَلاَّ والقسمُ معترضٌ للتوكيدِ والكُبرَ جمعُ الكُبْرى جعلتْ ألفُ التأنيثِ كتائِها فكَما جُمعتْ فُعْلَة على فُعَلٍ جُمعتْ فُعْلَى عَليها ونظيرُها القواصعُ في جمع القاصعاء

74 سورة المدثر (36 41) كأنها جمعُ قاصعةٍ أي لإِحْدى البَلايا أو لإِحْدَى الدَّواهِي الكُبرَ على مَعْنى أنَّ البلايا الكبرَ أو الدواهِيَ الكبرَ كثيرةٌ وهذهِ واحدة في العظم لا نظيرة لَها

36

نذيرا للبشر تمييز أي لإحدى الكبرِ إنذاراً أو حالٌ مما دلتْ عليهِ الجملةُ أي كبرتْ منذرةً وقُرِىءَ نذيرٌ بالرفعِ على أنه خبرُ بعدَ خبرِ لأنَّ أو لمبتدإٍ محذوفٍ

37

لمَنْ شاءَ منكُم أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ بدلٌ من للبشر أي نذيراً لمن شاءَ منكم أن يسبقَ إلى الخير فيهديَه الله تعالى أو لم يشأْ ذلكَ فيضلَّه وقيلَ لمن شاء خبرٌ وأنْ يتقدمَ أو يتأخرَ مبتدأٌ فيكونُ في معنى قوله تعالى فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن ومنْ شاءَ فليكفرُ

38

كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ مرهونةٌ عندَ الله تعالى بكسبِها والرهينةُ اسمٌ بَمعْنى الرهنِ كالشتيمةِ بمعنى الشتمِ لا صفةٌ وإلا لقيلَ رهينٌ لأن فعيلاً بمعنى مفعولٍ لا يدخلُه التاءُ

39

إِلاَّ أصحاب اليمين فإنهم فاكُّون رقابَهم بما أحسنُوا من أعمالِهم كما يفكُّ الراهنُ رهنَهُ بأداءِ الدينِ وقيلَ هم الملائكةُ وقيل الأطفالُ وقيل هم الذين سبقتْ لهم من الله تعالى الحُسنى وقيلَ الذين كانُوا عن يمينِ آدمٍ عليه السلامُ يومَ الميثاقِ وقيل الذين يُعطون كتُبَهم بأيمانِهم

40

فِى جنات لا يُكتنه كُنُهَها ولا يُدرك وصفُها وهو خبر لمتبدأ محذوفٍ والجملةُ استئنافٌ وقعَ جوابا عن سؤال نشأ مما قبَلُه من استثناء أصحابِ اليمين كأنه قيلَ ما بالُهم فقيلَ هم في جناتٍ وقيل حالٌ من أصحاب اليمين وقيل من ضميرهم في قوله تعالى يَتَسَاءلُونَ وقيل ظرفٌ للتساؤلِ وليس المرادُ بتساؤلهم أنْ يسألَ بعضُهم بعضاً على أنْ يكون كلُّ واحد منهم سائلا ومسؤلا معاً بلْ صدورُ السؤالِ عنْهم مجرداً عن وقوعه عليهم فإن صيغةَ التفاعلِ وإن وضعتْ في الأصل للدلالةِ على صدورِ الفعلِ عن المتعدد ووقوعه عليه معاً بحيثُ يصير كلُّ واحدٍ من ذلك فاعلا ومفعولاً معاً كما في قولك تراءى القوم أي رأى كلُّ واحد منهم الآخَرَ لكنها قد تجردُ عن المَعْنى الثانِي ويقصد بها الدلالةُ على الأولِ فقط فيذكرُ للفعلِ حينئذٍ مفعولُ كما في قولِك تراءوا الهلالَ فمعنى يتساءلونَ

41

عَنِ المجرمين يسألونُهم عن أحوالهم وقد حذف المسؤل لكونه عين المسؤل عنه

74 سورة المدثر (42 50) وقولُه تعالى

42

مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ مقدرٌ بقولٍ هو حال من فاعل يتساءلونَ أيْ يسألونَهم قائلينَ أيُّ شيءٍ أدخلكُم فيَها فتأملْ ودعْ عنكَ ما تكلفَ فيهِ المتكلفونَ

43

قَالُواْ أي المجرمونَ مجيبينَ للسائلينَ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين للصلواتِ الواجبةِ

44

وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين على معنى استمرار نفي الإطعامِ لا على نفي استمرارِ الإطعامِ كما مرَّ مِراراً وفيه دلالةٌ على أنَّ الكفارَ مخاطبونَ بالفروع في حق المؤاخذة

45

وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخائضين أي نشرعُ في الباطل مع الشارعينَ فيه

46

وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدين أي بيوم الجزاءِ أضافُوه إلى الجزاء مع أن فيه من الدواهِي والأهوال مالا غايةَ لهُ لأنه أدهاهَا وأهولُها وأنهم ملابُسوه وقد مضتْ بقيةُ الدواهِي وتأخيرُ جناياتهم هذهِ معَ كونِها أعظمَ منَ الكُلِّ لتفخيمِها كأنهم قالُوا وكنا بعد ذلكَ كلِّه مكذبينَ بيومِ الدينِ ولبيانِ كونِ تكذيبِهم به مقارناً لسائرِ جناياتِهم المعدودةِ مستمراً إلى آخرِ عمرِهم حسبَما نطقَ به قولُهم

47

حتى أتانا اليقين أي الموتُ ومقدماتُه

48

فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعة الشافعين لو شفعُوا لهم جميعاً والفاء في قوله تعالى

49

فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ لترتيبِ إنكارِ إعراضِهم عنِ القرآنِ بغير سببٍ على ما قبلها من موجباتِ الإقبالِ عليهِ والاتعاظِ به من سوءِ حالِ المكذبينَ ومعرضينَ حالٌ من الضميرِ في الجارِّ الواقعِ خبراً لمَا الاستفهاميةِ وعنْ متعلقةٌ بهِ أيْ فإذَا كانَ حالُ المكذبينَ به على ما ذكرَ فأيُّ شيءٍ حصلَ لهم معرضينَ عن القرآنِ مع تعاضدِ موجباتِ الإقبالِ عليهِ وتآخذِ الدواعِي إلى الإيمانِ بهِ وقولُه تعالَى

50

كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ حالٌ من المستكنِّ في معرضينَ

74 سورة المدثر (51 56) بطريقِ التداخلِ أي مشبهينَ بحمرٍ نافرةٍ

51

فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ أيْ من أسدٍ فَعْوَلَة من القسر وهو القهروالغلبة وقيل هي جماعةُ الرماةِ الذين يتصيدونَها شُبهواً في إعراضِهم عن القرآنِ واستماعِ ما فيه من المواعظ وشرادِهم عنه بحمُرٍ جدَّت في نفارِها مما أفزعَها وفيهِ من ذمِهم وتهجينِ حالهم مالا يَخْفى وقولُه تعالى

52

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً عطفٌ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقام كأنه قبل لا يكتفونَ بتلك التذكرة ولا يرضَون بها بلْ يريدُ كل واحدٍ منهم أنْ يُؤتى قراطيسَ تنشرُ وتقرأُ وذلكَ أنهم قالُوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنْ نتبعكَ حتى تأتِي كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها من ربِّ العالمينَ إلى فلانِ بنِ فلانٍ نؤمُر فيها باتباعكَ كما قالُوا لن نؤمنَ لرقيكَ حتى تنزلَ علينَا كتاباً نقرؤْه وقرىءَ صُحْفاً مُنْشرةً بسكونِ الحاءِ والنونِ

53

كَلاَّ ردعٌ لهم عن تلكَ الجراءة بَل لاَّ يَخَافُونَ الأخرة فلذلكَ يُعرضون عن التذكرة لا لامتناع إيتاءِ الصحفِ

54

كَلاَّ ردعٌ عنْ إعراضِهم انه اي القرى تَذْكِرَةٌ وأيُّ تذكرةٍ

55

فَمَن شَاء أن يذكرَهُ ذكره وحاز بسببه سعادةَ الدارينِ

56

وَمَا يَذْكُرُونَ بمجرد مشيئتِهم للذكر كما هو المفعوم من ظاهرِ قولِه تعالى فمَنْ شاءَ ذكرَهُ إذْ لا تأثيرَ لمشيئةِ العبدِ وإرادتِه في أفعالِه وقولُه تعالى إَّلا أَن يَشَاء الله استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أيْ وما يذكرونَ بعلةٍ من العلل أو في حالٍ من الأحوالِ إلا بأنْ يشاءَ الله أو حالَ أنْ يشاءَ الله ذلكَ وهو تصريحٌ بأن أفعالَ العبادِ بمشيئةِ الله عزل وجَلَّ وقُرِىءَ تذكرونَ على الخطاب التفاتاً وقرىءَ بهمَا مشدداً هُوَ أَهْلُ التقوى أي حقيقٌ بأنْ يُتقى عقابُه ويؤمنَ به ويطاعَ وَأَهْلُ المغفرة حقيقٌ بأنْ يغفرَ لمنْ آمنَ بهِ وأطاعه عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ المدثرِ أعطاهُ الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد صلى الله عليه وسلم وكذب به بمكة

75 سورة القيامة (1 3) سورة القيامة مكية وآياتها أربعون بسم الله الرحمن الرحيم

القيامة

لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة إدخالُ لاَ النافيةِ عَلى فعلِ القسمِ شائعٌ وفائدتُها توكيدٌ القسمِ قالُوا إنَّها صلةٌ مِثلُها في قولِه تعالى لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتابِ وقيلَ هيَ للنفِي لكنْ لا لنفي نفسِ الأقسام بل النفي ما ينبىءُ هُو عنْهُ منْ إعظامِ المقسمِ بهِ وتفخيمِه كأنَّ مَعْنى لا أقسم بكذا لاأعظمه بإقسامِي بهِ حَقَّ إعظامِه فإنَّه حقيقٌ بأكثرَ منْ ذلكَ وأكثرَ وأما مَا قيل من أن المعنى نفي الإقسام لوضوحِ الأمرِ فقدْ عرفتَ مَا فيهِ فِي قَوْلِه تَعَالَى فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم وقيلَ إنَّ لاَ نفيٌ وردَ لكلامٍ معهودٍ قبلَ القسمِ كأنَّهم أنكرُوا البعثَ فقيلَ لاَ أيْ ليسَ الأمرُ كذلكَ ثمَّ قيلَ أقسمُ بيومِ القيامةِ كقولِك لا والله إنَّ البعثَ حقٌّ وأيا ما كانَ ففِي الإقسامِ على تحققِ البعثِ بيوم القيامةِ من الجزالة ما لا مزيدَ عليهِ وقَدْ مرَّ تفصيلُه في سورةِ يس وسورةِ الزخرفِ

2

ولا أقسم بالنفس اللومة أَيْ بالنَّفسِ المتقيةِ التي تلومُ النفوسَ يومئذٍ عَلى تقصيرهنَّ فِي التَّقوى ففيهِ طَرفٌ منَ البَراعةِ التي في القسمِ السَّابقِ أوْ بالنفس التي تلومُ نفسَها وإنِ اجتهدتْ في الطاعاتِ أو بالنفسِ المطمئنةِ اللائمةِ للنفسِ الأمارةِ وقيلَ بالجنسِ لَما رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قالَ ليسَ منْ نفسٍ برة ولا فاجر إلا وتلومُ نفسَها يومَ القيامةِ إنْ عملتْ خيراً قالتْ كيفَ لَمْ أزددْ وإنْ عملتْ شَراً قالتْ ليتني كنتُ قصرتُ ولا يَخفْى ضعفُه فإنَّ هذَا القدرِ منَ اللومِ لا يكونُ مداراً للإعظامِ بالإقسامِ وإنْ صدرَ عنْ النفسِ المؤمنةِ المسيئةِ فكيفَ منَ الكافرةِ المندرجةِ تحتَ الجنسِ وقيلَ بنفس آدمَ عليهِ السَّلامُ فإنَّها لا تزالُ تتلومُ عَلى فعلِها الذَّي خرجتْ بهِ منَ الجنةِ وَجَوابُ القسمِ ما دلَّ عليهِ قولُه تعالَى

3

أَيَحْسَبُ الإنسان أَن لَنْ نَّجْمَعَ عِظَامَهُ وهُو ليبعثن والمرادُ بالإنسان الجنسُ والهمزةُ والإنكار الواقعِ واستقباحِه وأنْ مخففةٌ منَ الثقيلةِ وضميرُ الشأنِ الذي هو اسمُها محذوفٌ أيْ أيحسبُ أنَّ الشأنَ لنْ نجمعَ عظامَهُ فإنَّ ذلكَ حسبانٌ بَاطِلٌ فإنَّا نجمعها بعدَ تشتتها ورجُوعِها رَميماً

سورة القيامة (4 5) ورفاتا مختلطا يالتراب وبعدَ مَا سفتَها الرِّياحُ وطيرته في أقطارِ الأرضِ وألقتها في البحارِ وقيلَ إنَّ عديَّ بنَ أبِي ربيعةَ ختَنَ الأخنسِ بن شُريق وهُمَا اللذانِ كانَ النبيُّ عليسه الصَّلاةُ والسَّلامُ يقولُ فيهَما اللَّهم اكفِني جاريْ السوءِ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمدُ حدثنى عنْ يومِ القيامةِ مَتَى يكونُ وكيفَ أمرُهُ فأخبرَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ لو عاينتُ ذلكَ اليومَ لَمْ أصدقكَ أوَ يجمع الله هذهِ العظامَ

4

بلى أيْ نجمعُهَا حالَ كونِنَا قادرين على أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ أيْ نجمعُ سُلامَياتِه ونضمُّ بعضَها إلى بعض كما كانت مع صغرِها ولطافتِها فكيفَ بكبارِ العظامِ أو عَلى أنْ نسويَ أصابَعُه التي هيَ أطرافُه وآخرُ مَا يتمُّ بهِ خلقُه وُقرِىءَ قادرونَ

5

بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ عطفٌ عَلى أيحسبُ إمَّا على أنَّه استفهامٌ مثلُه أضربَ عنِ التوبيخِ بذلكَ إلى التوبيخِ بَهذا أوْ عَلى أنَّه إيجابٌ انتقلَ إليهِ عنْ الاستفهامِ أيْ بلْ يريدُ ليدومَ على فجورِه فيمَا بين يديهِ منَ الأوقاتِ وما يستقبلُه منَ الزمانِ لاَ يرعوى عنه

6

يسأل أَيَّانَ يَوْمُ القيامة أيْ متى يكونُ استبعاداً أو استهزاءً

7

فَإِذَا بَرِقَ البصر أيْ تحيرَ فزعاً من برقَ الرجلُ إذَا نظرَ إلى البرقِ فدُهشَ بصرُه وقُرِىءَ بفتحِ الراءِ وهيَ لغةٌ أو منَ البريقِ بمَعْنى لمعَ منْ شدةِ شخوصِه وقرىء بلق أي انفتحَ وانفرجَ

8

وَخَسَفَ القمر أيْ ذهبَ ضوؤه وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ

9

وَجُمِعَ الشمس والقمر بأنْ يطلعهما الله تعالَى من المغربِ وقيلَ جُمِعا في ذهابِ الضوءِ وقيلَ يجمعانِ أسودينِ مكورينِ كأنَّهما ثورانِ عقيرانِ في النَّارِ وتذكيرُ الفعلِ لتقدمهِ وتغليبِ المعطوفِ

10

يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أيْ يومَ إذْ تقعُ هذهِ الأمورُ أَيْنَ المفر أي الفرارُ يأساً منُهُ وقُرِىءَ بالكسرِ أيْ موضعِ الفرارِ وقد جوز أن يكون هُو أيضاً مصدراً كالمرجعِ

سورة القيامة (11 16)

11

كَلاَّ رَدعٌ من طلبِ المفرو تمنيه لاَ وَزَرَ لاَ ملجأ مستعارٌ منْ الجبلِ وقيلَ كُلُّ ما التجأتَ إليهِ وتخلصتَ بهِ فَهُو وزَرُك

12

إلى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر أيْ إليهِ وحْدَهُ استقرارُ العبادِ أو إلى حُكمِه استقرارُ أمرهم أَوْ إِلى مشيئتِه موضعُ قرارِهم يُدخلُ مَنْ يشاءُ الجنةَ ومَنْ يشاءُ النَّارَ

13

يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ أيْ يُخبرُ كلُّ امرىءٍ براً كان فاجراً عندَ وزنِ الأعمالِ بِمَا قَدَّمَ أيْ عملَ منْ عملٍ خيراً كانَ أو شراً فيثابُ بالأولِ ويعاقبُ بالثاني وَأَخَّرَ أيْ لَمْ يعملْ خيراً كانَ أو شراً فيعاقبُ بالأولِ ويثابُ بالثانِي أو بما قدمَ منْ حسنةٍ أوْ سيئةٍ وبما أخَّر منْ سنة حسنة أو سيئة فعملَ بَها بعدَهُ أو بما قدمَ منْ مالٍ تصدقَ بهِ في حياتِه وبما أخر فخلقه أو وقفَهُ أو أوْصَى بهِ أو بأولِ عملِه وآخرِه

14

بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بصيرة أي حجة وبينة على نفسِه شاهدةٌ بما صدرَ عنْهُ منَ الأعمالِ السيئةِ كما يعربُ عنْهُ كلمةُ على وما سيأتِي منَ الجملةِ الحاليةِ وصفتْ بالبصارة ومجانا كما وصفتْ الآياتُ بالأبصار في قوله تعالى فَلَمَّا جاءتهم آياتنا مُبْصِرَةً أوْ عينٌ بصيرةٌ أوِ التاءُ للمبالغةِ ومَعْنى بَلْ الترقِي أيْ ينبأُ الإنسانُ بأعمالِه بلُ هُو يومئذٍ عالمٌ بتفاصيلِ أحوالِه شاهدٌ على نفسِه لأنَّ جوارحَهُ تنطقُ بذلكَ وقولُه تعالَى

15

وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ أيُ ولَو جاءَ بكُلِّ معذرةٍ يمكنُ أنْ يعتذرَ بَها عن نفسِه حالٌ من المستكنِ في بصيرةٍ أو منْ مرفوعٍ ينبأُ أيْ هُو بصيرةٌ علَى نفسِه تشهدُ عليهِ جوارحُه وتُقبلُ شهادتُها ولو اعتذرَ بكُلِّ معذرةٍ أو ينبأُ بأعمالِه ولِو اعتذرَ الخ والمعاذيرُ اسمُ جمعٍ للمعذرةِ كالمناكيرِ اسمُ جمعٍ للمنكرِ وقيلَ هو جمعُ معذارٍ وهُو السترُ أيْ ولوْ أرْخى ستورَهُ كانَ رسولُ الله صلى عليه وسلم إذَا لقِّن الوحيَ نازعَ جبريلَ عليهِ السَّلامُ القراءةَ ولَم يُصبرْ إلى أنْ يتمَّها مسارعةً إلى الحفظِ وخوفاً منْ أنْ ينفلتَ فأمر عليه الصلاة والسلام بأن يستنصتَ لَهُ ملقياً إليهِ قلَبُه وسمَعُه حَتَّى يُقضى إليهِ الوحيُ ثمَّ يُقضى إليهِ الوحيُ ثمَّ يقفّيهِ بالدراسةِ إلى أنْ يرسخ فيه فقيل

16

لاَ تُحَرّكْ بِهِ أيْ بالقرآنِ لِسَانَكَ عندَ إلقاءِ الوَحْى لِتَعْجَلَ بِهِ أي لتأخذَهُ على عجلة مخافة أن ينفلت منك

سورة القيامة (17 23)

17

إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ في صدرِك بحيثُ لا يذهبُ عليكَ شيءٌ مِنْ معانيهِ وقرآنه أي إثباتَ قراءتِه في لسانِكَ

18

فَإِذَا قرأناه أي أتمَمنا قراءتَهُ عليكَ بلسانِ جبرِيلَ عليهِ السَّلامُ وإسنادُ القراءةِ إلى نونِ العظمةِ للمبالغةِ في إيجابِ التأنِّي فاتبع قرآنه فكُن مقفّياً لَهُ ولا تراسلُه

19

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ أي بيانَ ما أشكلَ عليكَ من معانيهِ وأحكامِه

20

كلا ردع له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عن عادةِ العجلةِ وترغيبٌ لهُ في الأناةِ وأكَّد ذلكَ بقولِه تعالَى بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة

21

وَتَذَرُونَ الأخرة على تعميمِ الخطابِ للكُلِّ أيْ بَلْ أنتُم يا بنِي آدمٍ لما خلقتُم مِنْ عجلٍ وجبلتُم عليهِ تعجلونَ في كُلِّ شيءٍ ولذلكَ تحبونَ العاجلةَ وتذرونَ الآخرةَ وقيلَ كلا ردع للإنسان عن الاغترارِ بالعاجلِ فيكونُ جمعُ الضميرِ في الفعلينِ باعتبارِ مَعْنى الجنسِ ويؤيدُه قراءةُ الفعلينِ على صيغةِ الغيبةِ

22

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ أيْ وجوهٌ كثيرةٌ وهيَ وجوهُ المؤمنينَ المخلصينَ يومَ إذْ تقومُ القيامةُ بهيةٌ متهللةٌ يشاهدُ عليهَا نضرةُ النعيمِ علَى أنَّ وجوهٌ مبتدأٌ وناضرةٌ خبرُهُ ويومئذٍ منصوبٌ بناضرةٌ وناظرةٌ في قولِه تعالَى

23

إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ خبرٌ ثانٍ للمبتدإِ أو نعتٌ لناضرةٌ وإلى ربِّها متعلقٌ بناظرةٌ وصحةُ وقوعِ النكرةِ مبتدأً لأنَّ المقامَ مقامُ تفصيلٍ لاَ على أنَّ ناضرةٌ صفةٌ لوجوهٌ والخبرُ ناظرةٌ كمَا قيلَ لما هُو المشهورُ مِنْ أنَّ حق الصفة أن تكون معلومةَ الانتسابِ إلى الموصوف عندَ السامعِ وحيثُ لمْ يكُنْ ثبوتُ النضرةِ للوجوهِ كذلكَ فحقُّه أنْ يخبَر بهِ ومَعْنى كونِها ناظرةً إلى ربِّها أنَّها تراهُ تعالَى مستغرقةً في مطالعةِ جمالِه بحيثُ تغفلُ عَمَّا سواه وتشاهد تعالَى بلا كيفٍ ولا على جهةٍ وليسَ هذا في جميعِ الأحوالِ حَتَّى ينافيَهُ نظرُهَا إلى غيرِه وقيل منتظره وإنعامه ورُدَّ بأنَّ الانتظارَ لا يسندُ إلى الوجْهِ وتفسيرُه بالجملةِ خلافُ الظاهرِ وأنَّ المستعملَ بمعناهُ لا يُعدَّى بالي

سورة القيامة (24 33)

24

وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ شديدةُ العبوسِ وهيَ وجوهُ الكفرةِ

25

تَظُنُّ يتوقعُ أربابُها أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ داهيةٌ عظيمةٌ تقصمُ فقارَ الظهرِ

26

كَلاَّ ردعٌ عنْ إيثارِ العاجلةِ عَلى الآخرةِ أيْ ارتدعُوا عنْ ذلكَ وتنبهُوا لما بينَ أيديكُم منَ الموتِ الذي ينقطعُ عندَهُ ما بينكُم وبينَ العاجلةِ منَ العلاقةِ إِذَا بَلَغَتِ التراقى أيْ بلغتْ النفسُ أعاليَ الصَّدرِ وهيَ العظامُ المكتنفة لثغرة النحر عنْ يمينٍ وشمالٍ

27

وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ أيْ قالَ مَن حضرَ صاحبَها مِنْ يرقيهِ وينجيهِ مما هُو فيهِ مِنَ الرقيةِ وقيلَ هُو مِنْ كلامِ ملائكةِ الموتِ أيكُم يَرقَى بروحِه ملائكةُ الرحمةِ أو ملائكةُ العذابِ مِنَ الرُّقِيِّ

28

وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق وأيقنَ المحتضرُ أنَّ ما نزلَ به الفراق مِنَ الدنيا ونعيمِها

29

والتفت الساق بالساق والتفتْ ساقُه بساقِه والتوتْ عليهَا عندَ حلولِ الموتِ وقيلَ هُما شدةُ فراقِ الدُّنيا وشدةُ إقبالِ الآخرةِ وقيلَ هما ساقاهُ حينَ تلفانِ في أكفانِه

30

إلى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ المساق أيْ إلى الله وإلى حكمِه يساقُ لا إلى غيرِه

31

فَلاَ صَدَّقَ ما يجبُ تصديقه من الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآنِ الذي نزلَ عليهِ أو فلاَ صدقَ مالَه ولا زكَّاهُ وَلاَ صلى ما فُرضِ عليهِ والضميرُ فيهمَا للإنسانِ المذكورِ في قوله تعالى أيحسب الإنسان وفيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حَقِّ المؤاخذةِ كما مَرَّ

32

{ولكن كَذَّبَ} مَا ذُكرَ منَ الرسولِ والقرآنِ {وتولى} عنِ الطاعةِ

33

ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى يتبخترُ افتخاراً بذلكَ من المط فإن المبتختر يمد خطاهُ فيكونُ أصلُه يتمطط

سورة القيامة (34 40) أو منَ المَطَا وهو الظهر فإنه يلويه

34

أولى لَكَ فأولى أيْ ويل لك وأصله أو أَوْلاَكَ الله ما تكرهُه واللامُ مزيدةٌ كمَا في رَدِفَ لَكُم أوْ أَوْلى لكَ الهلاكُ وقيلَ هُو أفعلُ منَ الويلِ بعدَ القلبِ كأدْنى من دُون أو فَعْلى من آلَ يؤولُ بمَعنى عقباكَ النارُ

35

ثُمَّ أولى لَكَ فأولى أيْ يتكررُ عليهِ ذلكَ مرةً بعدَ أُخْرَى

36

أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى أيْ يخلى مُهملاً فلاَ يكلَّفُ ولا يُجزى وقيلَ أنْ يتركَ في قبرِه ولا يبعثَ وقولُه تعالَى

37

أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يمنى الخ استئنافٌ واردٌ لإبطالِ الحسبانِ المذكورِ فإن مداره لما كان استبعادُهم للإعادةِ استدلَّ على تحققِها ببدءِ الخلقِ

38

ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً أيْ بقدرةِ الله تعالَى لقولِه تعالَى ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً {فَخَلَقَ} أي فقدرَ بأنْ جعلَها مضغةً مخلقةً {فسوى} فعدَّلَ وكمَّل نشأتَهُ

39

{فَجَعَلَ مِنْهُ} منَ الإنسانِ الزوجين أيِ الصنفينِ الذكر والأنثى بدل من الزوجينِ

40

أَلَيْسَ ذَلِكَ العظيمُ الشأنِ الذي أنشأَ هَذا الإنشاءَ البديعَ بِقَادِرٍ على أَن يحيى الموتى وهُو أهونُ من البدءِ في قياسِ العقلِ رُوي أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كانَ إذَا قرأَها قالَ سبحانك بلى وعنه صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ القيامةِ شهدتُ لَهُ أنَا وجبريلُ يومَ القيامةِ أنَّه كانَ مؤمنا بيوم القيامة

سورة الإنسان (1 2) بسم الله الرحمن الرحيم

الإنسان

هَلْ أتى استفهامُ تقريرٍ وتقريبٍ فإنَّ هَلْ بمَعْنى قَدْ والأصلُ أَهَلْ أَتَى عَلَى الإنسان قبلَ زمانٍ قريب حين الدهر أي طائفةٌ محدودةٌ كائنةٌ من الزمنِ الممتدِّ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً بلْ كانَ شيئاً منسياً غيرَ مذكورٍ بالإنسانية أصلاً كالعنصرِ والنطفةِ وغيرَ ذلكَ والجملةُ المنفيةُ حالٌ من الإنسان أي غيرَ مذكورٍ أو صفةٌ أُخرى لحينٌ على حذف العائدِ إلى الموصوف أي لمْ يكُن فيه شيئاً مذكُوراً والمرادُ بالإنسان الجنسُ فالإظهارُ في قوله تعالى

2

إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ لزيادة التقريرِ أو آدمَ عليه السَّلامُ وهو المرويُّ عن ابن عباسٍ وقتادة والثوريِّ وعكرمةَ والشعبيِّ قالَ ابنُ عباسٍ في روايةِ أبي صالحٍ عنْهُ مرتْ به أربعونَ سنةً قبلَ أنْ يُنفخَ فيه الروح وهو مُلقى بين مكةَ والطائفِ وفي روايةِ الضحاكِ عنه أنَّه خُلقَ من طينٍ فأقامَ أربعينَ سنةً ثمَّ من حمإٍ مسنون فأقامَ أربعينَ سنةً ثمَّ من صلصالٍ فأقامَ أربعينَ سنةً فتمَّ خلقُه بعدَ مائة وعشرين سنةً فتمَّ خلقُه بعدَ مائةٍ وعشرينَ سنةً ثمَّ نُفخ فيهِ الروحُ وحكَى الماوَرْدِيُّ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن الحين المذكور ههنا هو الزمنُ الطويلُ الممتدُّ الذي لايعرف مقدارُه فيكونُ الأولُ إشارةً إلى خلقَه عليه الصَّلاة والسَّلام وهذا بياناً لخلقِ بنية أمشاج أخلاط حمع مشجٍ أو مشيجٍ منْ مشجت الشيء إذا خلقته وصف النطفةَ بهِ لما أنَّ المرادَ بها مجموعُ الماءينِ ولكلَ منهُمَا أوصافٌ مختلفةٌ من اللون والرقةِ والغِلَظِ وخواصُّ متباينةٌ فإنَّ ماءَ الرجلِ أبيضُ غليظٌ فيه قوَّةُ العقدِ وماءَ المرأةِ أصفرُ رقيقٌ فيهِ قوةُ الانعقادِ يُخلقُ منهُمَا الولد فما كان م من عصبٍ وعظمٍ وقوةٍ فَمِنْ ماءِ الرُّجُلِ وما كانَ منْ لحمٍ ودمٍ وشعرٍ فَمِنْ ماءِ المرأةِ قالَ القرطبيُّ وقد رُويَ هذا مرفوعاً وقيلَ مفردٌ كأعشارٍ وأكياشٍ وقيلَ أمشاجٌ ألوانٌ وأطوارٌ فإنَّ النطفةَ تصيرُ علقةً ثمَّ مضغةً إلى تمام الخِلقةِ وقولُه تعالَى نَّبْتَلِيهِ حالٌ منْ فاعلِ خلقنَا أيْ مريدينَ ابتلاءه بالتكليف فيما سيأتى أو ناقلينَ له من حالٍ إلى حال على طريقة الاستعارةِ كما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهُمَا نصرّفه في بطنِ أمه نطفةً ثمَّ علقةً إلى آخرِهِ فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً ليتمكنَ من استماعِ الآياتِ التنزيليةِ ومشاهدةِ الآياتِ التكوينية

سورة الأنسان (3 6) فهو كالمسبب عن الابتداء فلذلكَ عُطِفَ على الخلقِ المقيدِ به بالفاءِ ورُتِّبَ عليه قوله تعالى

3

إنا اهديناه السبيل بإنزالِ الآياتِ ونصبِ الدلائل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً حالانِ من مفعولِ هدينَا أي مكّناهُ وأقدرناهُ على سلوكِ الطريقِ الموصلِ إلى البُغيةِ في حالتيهِ جميعاً وإمَّا للتفصيلِ أو التقسيمِ أيْ هديناهُ إلى ما يوصلُ إليها في حاليهِ جميعاً أو مقسوماً إليهما بعضُهم شاكرٌ بالاهتداءِ والأخذِ فيهِ وبعضُهم كفورٌ بالإعراضِ عنْهُ وقيلَ من السبيلِ أي عرفناهُ السبيلَ إما سبيلاً شاكراً أو كفوراً على وصفِ السبيلِ بوصف سالكه مجازا وقرئ أَمَّا بالفتحِ على حذفِ الجواب أى أم اشاكرا فتوفيقنا وأَمَّا كفوراً فبسوءِ اختيارِه لا بمجرد وإجبارنا من غيرِ اختيارٍ منْ قِبَلِه وإيرادُ الكفورِ لمراعاة الفواصلِ والإشعارِ بأنَّ الإنسانَ قلَّما يخلُو من كفرانٍ مَا وإنَّما المؤاخذُ عليه الكفرُ المفرطُ

4

إِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين من أفراد الإنسان الذي هديناهُ السبيل سلاسل بهَا يُقادُون وأغلالا بها يُقيَّدونَ وَسَعِيراً بهَا يُحرقُون وتقديمُ وعيدِهم معَ تأخرهم للجمع بينهُمَا في الذكر كما في قوله تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ الآيةَ ولأنَّ الإنذارَ أهمُّ وأنفعُ وتصديرُ الكلامِ وختمُه بذكرِ المؤمنينَ أحسنُ على أنَّ في وصفِهم تفصيلاً ربَّما يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطراف النظم الكريم وقرئ سلاسلاً للتناسب

5

إِنَّ الأبرار شروعٌ في بيانِ حُسنِ حالِ الشاكرينَ إثرَ بيانِ سوءِ حالِ الكافرين وإيراداهم بعنوانِ البِرِّ للإشعارِ بمَا استحقُّوا بهِ ما نالُوه من الكرامةِ السنيةِ والأبرارُ جمعُ بَرَ أو بارَ كربَ وأربابٍ وشاهدٍ وأشهادٍ قيلَ هُو من يبرُّ خالقه أي يطيعه وقيل من يمتثلُ بأمرِه تعالى وقيلَ من يؤدِّي حقَّ الله تعالى ويوفِّي بالنذرِ وعنِ الحسنِ البرُّ منْ لايؤذى الذرَّ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ هي الزجاجةُ إذا كانتْ فيها خمرٌ وتُطلقُ على نفسِ الخمرِ أيضاً فمِنْ على الأولِ ابتدائيةٌ وعلى الثاني تبيعضية أو بيانيةٌ كَانَ مِزَاجُهَا أي ما تمزجُ به كافورا اى ماء وهو اسمُ عينٍ في الجنَّةِ ماؤُها في بياضِ الكافورِ ورائحتِه وبردِه والجملةُ صفةُ كأسٍ وقولُه تعالَى

6

عَيْناً بدلٌ من كافُوراً وعنْ قتادةَ تمزجُ لهم بالكافورِ وتختمُ لهم بالمسكِ وقيل تخلق لهم رائحةُ الكافورِ وبياضُه وبردُه فكأنَّها مُزجتْ بالكافورِ فعيناً على هذينِ القولينِ بدلٌ منْ محلِّ منْ كأسٍ على تقديرِ مضافٍ أي يشربونَ خمراً خمرَ عينٍ أو نُصب على الاختصاص وقولُه تعالى يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله صفةُ عيناً أي يشربونَ بها الخمرَ لكونِها ممزوجةً بهَا وقيل ضُمِّن يشربُ مَعْنى يلتذُّ وقيل الياء بمَعْنى مِنْ وقيلَ زائدةٌ ويعضدُه قراءةُ ابنِ أبِي عبلة يشربها

سورة الإنسان آية (7 11) عباد الله وقيل الضميرُ للكأسِ والمَعْنى يشربونَ العينَ بتلكَ الكأسِ يُفَجّرُونَهَا تَفْجِيراً أي يُجرونها حيثما شاؤا من منازلهم اجراء سهلالا يمتنعُ عليهم بَلْ يَجْري جريا بقوة واندفاع والجملةُ صفةٌ أُخرى لعيناً وقولُه تعالى

7

يُوفُونَ بالنذر استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما لأجلِه رُزقُوا ما ذُكِرَ من النعيمِ مشتملٌ على نوع تفصيلٍ لما ينبئ عنه اسمُ الأبرارِ إجمالاً كأنَّه قيلَ ماذَا يفعلونَ حتَّى ينالُوا تلكَ الرتبةَ العاليةَ فقيلَ يُوفون بما أَوجبُوه على أنفسِهم فكيفَ بما أوجبَهُ الله تعالَى عليهم ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ عذابُه مُسْتَطِيراً فاشياً مُنتشراً في الأقطارِ غايةَ الانتشارِ من استطارَ الحريقُ والفجرُ وهُو أبلغُ من طارَ بمنزلة استنفرَ منْ نفرَ

8

وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ اى كأثنين على حُبِّ الطَّعامِ والحاجةِ إليهِ كما في قولِه تعالَى لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ أو على حُبِّ الإطعامِ بأنْ يكونَ ذلكَ بطيبِ النفسِ أو كائنينَ على حُبِّ الله تعالَى أو إطعاماً كائناً على حُبِّه تعالَى وهُو الأنسبُ لما سيأتِي من قولِه تعالَى لوجهِ الله مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً أيَّ أسيرٍ فإنَّه كانَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يُؤتَى بالأسيرِ فيدفعُه إلى بعضِ المسلمينَ فيقولُ أَحْسِنْ إليهِ أو أسيراً مؤمناً فيدخلُ فيه المملوكُ والمسجونُ وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغريمَ أسيراً فقال غَريمُكَ أسيرُكَ فأحسِنْ إلى أسيرِكَ

9

إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله على إرادة قول وهو في موقع الحالِ من فاعلِ يطعمونَ أي قائلينَ ذلكَ بلسانِ الحالِ أو بلسانِ المقالِ إزاحةً لتوهمِ المنِّ المبطلِ للصدقةِ وتوقعِ المكافأةِ المنقصةِ للأجرِ وعن الصديقةِ رضيَ الله تعالَى عنها أنَّها كانتْ تبعثُ بالصدقةِ إلى أهلِ بيتٍ ثم تسألُ الرسولَ ما قالُوا فإذَا ذكرَ دعاءَهُم دعتْ لَهُم بمثلِه ليبقَى ثوابُ الصدقةِ لها خالصاً عندج الله تعالَى لاَ نُرِيدُ منكم جزاءا ولا شكورا أي شكرا وهو تقريرٌ وتأكيدٌ لما قبلَهُ

10

إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْماً أي عذابَ يومٍ عَبُوساً يعبسُ فيه الوجُوه أو يُشبه الأسدَ العَبُوسَ في الشِّدةِ والضَّراوةِ قَمْطَرِيراً شديدَ العُبوسِ فلذلكَ نفعلُ بكُم ما نفعلُ رجاءَ أنْ يقينَا ربُّنا بذلكَ شره وقيل وهو تعليلٌ لعدم إرادةِ الجزاءِ والشكورِ أي إنَّا نخافُ عقابَ الله تعالى إنْ أردناهُمَا

11

فوقاهم الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم بسبب خوفِهم وتحفظِهم عنه ولقاهم نَضْرَةً وَسُرُوراً أي أعطاهُم بدلَ عبوسِ الفُجَّارِ وحُزنِهم نضرةً في الوجوه وسُروراً في القلوبِ

سورة الإنسان آية (12 14)

12

وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ بصبرِهم على مشاقِّ الطاعاتِ ومهاجرةِ هَوَى النفسِ في اجتنابِ المُحرَّماتِ وإيثارِ الأموالِ جَنَّةُ بستاناً يأكلُون منه ما شاؤا وَحَرِيراً يلبسونَهُ ويتزينونَ به وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ الحسنَ والحسين رضي الله عنهُمَا مَرِضا فعادهُما النبيُّ صلى الله عليه وسلم في ناسٍ معَهُ فقالُوا لعلي رضي الله عنه لو نذرت على ولدكَ فنذرَ عليٌّ وفاطمةُ رضي الله تعالى عنهما وفضةُ جاريةٌ لهما إنْ برئَا مما بهمَا أنْ يصومُوا ثلاثةَ أيامٍ فشُفيا وما معهُم شيءٌ فاستقرضَ علي رضي الله عنه من شمعون الخيبرى ثلاث أصوعٍ من شعيرٍ فطحنتْ فاطمةُ رضيَ الله تعالى عنها صاعاً واختبزتْ خمسةَ أقراصٍ على عددِهم فوضعُوها بين أيديهِم ليُفطِرُوا فوقفَ عليهم سائلٌ فقالَ السَّلامُ عليكم أهلَ بيتِ محمدٍ مسكينٌ من مساكين المسلمينَ أطعمُوني أطعمكُم الله تعالَى من موائدِ الجنةِ فآثرُوه وباتوا لم يذقوا إلا الماءَ وأصبحُوا صياماً فلمَّا أمسَوا ووضعُوا الطعامَ بينَ أيديهِم وقفَ عليهم يتيمٌ فآثرُوه ثم وقفَ عليهم في الثالثةِ أسيرٌ ففعلُوا مثلَ ذلكَ فلما أصبحُوا أخذ عليٌّ بيدِ الحسن والحسين رضي الله عنهُم فأقبلُوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهُم وهُم يرتعشونَ كالفراخِ من شدةِ الجُوع قال عليه الصلاة والسلام ما أشد ما يسؤوني ما أَرَى بكُم وقامَ فانطلقَ معهُم فَرَأى فاطمةَ في محرابِها قد التصقَ ظهرُها ببطنِها وغارتْ عيناهَا فساءَهُ ذلكَ فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ وقالَ خُذْها يا محمدُ هنَّأك الله تعالى في أهلِ بيتكَ فأَقْرأَهُ السورةَ

13

مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك حالٌ مِنْ هُمْ فِي جَزَاهُمْ والعاملُ فيها جَزَى وقيلَ صفةٌ لجنةً من غيرِ إبرازِ الضميرِ والأرائكُ هي السُّررُ في الحجالِ وقوله تعالى لايرون فيها شمسا ولا زمهريرا إمَّا حالٌ ثانيةٌ من الضمير أو المستكنِّ في متكئينَ والمَعْنى أنَّه يمرُّ عليهم هواء معتدل لاحار محمٌّ ولا باردٌ مؤذٍ وقيلَ الزمهريرُ القمرُ في لغة طيئ والمعنى أن هواءها مضى بذاتِه لا يحتاجُ إلى شمسٍ ولا قمرٍ

14

وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظلالها عطفٌ على ما قبلَها حالٌ مثلُها أو صفةٌ لمحذوفٍ معطوفٍ على جنة واى جنة أخرى دانيةً عليهم ظلالُها على أنَّهم وُعدوا جنتينِ كما في قوله تعالى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جنتان وقرئ دانيةٌ بالرفعِ على أنه خبرُ لظلاها والجملة في حين الحالِ والمعنى لا يَرَون فيها شمسا ولا زمهريرا أو والحالُ أنَّ ظلالَها دانيةٌ قالُوا معناهُ أنَّ ظلالَ أشجارِ الجنةِ قريبةٌ من الأبرارِ مظلةٌ عليهم زيادةً في نعيمِهم على مَعْنى أنه لوكان هناكَ شمسٌ مؤذيةٌ لكانتْ أشجارها مظلة عليهم أنَّه لا شمسَ ثمةَ ولا قمرَ وَذُلّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً أي سُخرتْ ثمارُها لمتناولها وسُهلَ أخذُها من الذُّلِّ وهو ضدُّ الصعوبةِ والجملةُ حالٌ من دانيةً أي تدنُو ظلالُها عليهم مُذلَّلة لهم قطوفُها أو معطوفةٌ على دانيةً عليهم ظلالُها ومذللةً قطوفُها وعلى تقديرِ رفعِ دانية فهي جملة ى فعليةٌ معطوفةٌ على جُملةٍ أسمية

سورة الإنسان آية (15 21)

15

ويطاف عليهم بآنية مّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ الكوبُ الكوز العظيم لا أُذنَ له ولاَ عروة كانت قواريرا

16

قوارير مِن فِضَّةٍ أي تكونتْ جامعةً بين صفاءِ الزجاجةِ وشغيفها ولينِ الفِضَّةِ وبياضِها والجملةُ صفة الأكواب وقرئ بتنوينِ قواريرَ الثانِي أيضاً وقرئا بغير تنوين وقرئ الثَّانِي بالرَّفعِ على هيَ قواريرُ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً صفةٌ لقواريرَ ومعنى تقديرِهم لها أنَّهم قدَّروها في أنفسِهم وأرادُوا أنْ تكونَ على مقاديرَ وأشكالٍ معينةٍ موافقةً لشهواتهم فجاءتْ حسبمَا قدَّرُوها أو قدَّرُوها بأعمالِهم الصالحةِ فجاءتْ على حسبِها وقيلَ الضميرُ للطائفينَ بهَا المدلولِ عليهم بقولِه تعالى وَيُطَافُ عليهم فالمعنى قدروا اشرابها على قدر اشتهائهم وقرئ قُدِّرُوها على البناءِ للمفعولِ أي جُعلوا قادرينَ لها كما شاؤا من قَدَر منقولاً من قدرت الشئ

17

وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً أي ما يشبِهُ الزنجبيلَ في الطعمِ وكان الشرابُ الممزوجُ به أطيبَ ما تستطيبُه العربُ وألذَّ ما تستلذُّ به

18

عَيْناً بدلٌ من زنجبيلاً وقيلَ تمزجُ كأسُهم بالزنجبيلِ بعينِه أو يخلقُ الله تعالى طعم فيها فعيناً حينئذٍ بدلٌ من كأساً كأنَّه قيلَ ويُسقَون فيها كأساً كأسَ عين أو نُصب على الاختصاص فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً لسلاسة انحدارِها في الحَلْقِ وسهولةِ مساغِها يقالُ شرابٌ سلسلٌ وسلسالٌ وسلسبيلٌ ولذلكَ حُكمَ بزيادةِ الباءِ والمرادُ بيانُ أنَّها في طعم الزنجبيلِ وليسَ فيها لذعةٌ بل نقيضُ اللذعِ هو السلاسةُ

19

وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ أى دائمون على ماهم عليه من الطراوةِ والبهاءِ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً لحُسنِهم وصفاءِ ألوانِهم وإشراق وجوههم وانبثالثهم في مجالسهم ومنازلِهم وانعكاسِ أشعةِ بعضِهم إلى بعضٍ

20

وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ ليسَ له مفعولٌ ملفوظٌ ولا مقدرٌ ولا منويٌّ بل معناهُ أنَّ بصرَكَ أينمَا وقعَ في الجنةِ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً أي هنيئاً واسعاً وفي الحديثِ أدنى أهل الجنة منزلة ينظُر في مُلكِه مسيرةَ ألف عام يرى وأقصاه كمِا يَرى أدناهُ وقيلَ لا زوال وقيلَ إذَا أرادُوا شيئاً كانَ وقيلَ يُسلمُ عليهم الملائكةُ ويستأذنونَ عليهم

21

عاليهم ثياب

سورة الإنسان آية (22 25) سُندُسٍ خُضْرٌ قيلَ عاليَهُم ظرفٌ على أنَّه خبرٌ مقدمٌ وثيابُ مبتدأٌ مؤخرٌ والجملةُ صفةٌ أُخرى لولدانٌ كأنَّه قيلَ يطوفُ عليهم ولدانٌ فوقَهُم ثيابُ الخ وقيلَ حالٌ منْ ضميرِ عليهم أوحسبتهم أي يطوفُ عليهم ولدانٌ عالياً للمطوف عليهم ثيابٌ الخ أو حسبتَهُم لؤلؤاً منثوراً عالياً لهم ثيابُ الخ وقرئ عاليهم بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه ثيابُ أي ما يعلوهم من لباسِهم ثيابُ سندسٍ وقرئ خضرٍ بالجرِّ حملاً على سندسٍ بالمَعْنى لكونِه اسمَ جنسٍ {وَإِسْتَبْرَقٍ} بالرفعِ عطفاً على ثيابُ وقُرِىءَ برفعِ الأولِ وجرِّ الثانِي وقُرىءَ بالعكسِ وقُرِىءَ بجرِّهِما وقُرىءَ واستبرق يوصل الهمزةِ والفتحِ على أنه استفعلَ من البريقِ جُعل عَلَماً لهذا النوعِ من الثيابِ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ عطفٌ على يطوفُ عليهم ولا يُنافيه قولُه تعالى أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ لإمكانِ الجمعِ والمعاقبةِ والتبعيضِ فإنَّ حُلِيَّ أهلِ الجنةِ يختلفُ حسبَ اختلافِ أعمالِهم فلعلَّه تعالَى يفيضُ عليهم جزاءً لما عملُوه بأيديهم حلياً وأنواراً تتفاوتُ تفاوتَ الذهبِ والفضةِ أو حالٌ من ضميرِ عاليَهم بإضمارِ قَدْ وعلى هَذا يجوزُ أنْ يكونَ هذا للخدمِ وذاكَ للمخدومينَ وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً هو نوعٌ آخرُ يفوقُ النوعينِ السالفينِ كما يرشدُ إليهِ إسنادُ سقيهِ إلى ربِّ العالمينَ ووصفُه بالطَّهوريةِ فإنَّه يطهرُ شاربَهُ عن دَنَسِ الميلِ إلى الملاذِّ الحسيةِ والركونِ إلى ما سِوى الحقِّ فيتجردُ لمطالعةِ جمالِه ملتذاً بلقائِه باقياً ببقائِه وهي الغايةُ القاصيةُ من منازلِ الصدِّيقينَ ولذلكَ خُتمَ بها مقالةُ ثوابِ الأبرارِ

22

إِنَّ هَذَا على إضمارِ القولِ أي يقال لهم أن هذا الذى كر من فنون الكراماتِ كَانَ لَكُمْ جَزَاء بمقابلة أعمالِكم الحسنةِ وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً مرضياً مقبُولاً مُقابَلاً بالثوابِ

23

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنزِيلاً أيْ مُفرقاً مُنجَّماً لحكم بالغة مقتضية له لا غيرُنَا كما يعربُ عنه تكريرُ الضميرِ معَ إنَّ

24

فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ بتأخير نصرك على الكفَّارِ فإنَّ له عاقبةً حميدةً وَلاَ تطع منهم آثما أَوْ كَفُوراً أي كلَّ واحدٍ من مرتكبِ الإثمِ الدَّاعِي لكَ إليهِ ومن الغالِي في الكُفر الدَّاعِي إليهِ وأو للدلالة على أنَّهما سيَّانِ في استحقاق العصيانِ والاستقلالِ به والتقسيمُ باعتبار ما يدعُونَهُ إليه فإنَّ ترتبَ النَّهي على الوصفين مشعرٌ بعلَّيتِهما له فلا بد أن يكون النهيُ عن الإطاعةِ في الإثمِ والكفرِ فيما ليسَ بإثمٍ ولا كُفرٍ وقيلَ الآثمُ عُتبةُ فإنَّه كانَ ركابا للمأثم متعاطيات لأنواعِ الفسوقِ والكفورِ والوليدُ فإنه كان غاليا في الكُفر شديدَ الشكيمةِ في العُتوِّ

25

واذكر اسم رك بُكْرَةً وَأَصِيلاً وداومْ على ذكره في جميعِ الأوقاتِ اودم على صلاة الفجرِ والظهرِ والعصرِ فإنَّ الأصيلَ ينتظمُهما

سورة الإنسان (26 31)

26

ومن الليل فاسجد لَهُ وبعضَ الليلَ فصلِّ له ولعلَّه صلاةُ المغربِ والعشاءِ وتقديمُ الظرفِ لما في صلاةِ الليلِ من مزيد كلفةٍ وخلوصٍ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً وتهجدْ له قِطَعاً من الليلِ طويلاً

27

إِنَّ هَؤُلآء الكفرةَ يُحِبُّونَ العالجة وينهمكنون في لذاتِها الفانيةِ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ أي أمامَهم لا يستعدونَ أو ينبذون وراءَ ظُهورهم يَوْماً ثَقِيلاً لا يعبأونَ به ووصفُه بالثقل لتشبيه شدتِه وهولِه بثقل شيءٍ فادحٍ باهظٍ لحامله بطريقِ الاستعارةِ وهو كالتعليل لما أُمِرَ به ونُهيَ عنه

28

نَّحْنُ خلقناهم لا غيرُنا وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ أي أحكمنَا ربطَ مفاصلِهم بالأعصابِ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أمثالهم بعدَ إهلاكِهم تَبْدِيلاً بديعاً لا ريب فيهِ هو البعثُ كما ينبىء عنه كلمةُ إذَا أو بدَّلنا غيرَهُم ممن يطيعُ كقولِه تعالى يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ واذ للدلالةِ على تحققِ القُدرةِ وقوةِ الداعيةِ

29

إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ إشارةٌ إلى السورةِ أو الآياتِ القريبةِ فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً أي فمن شاء أن يتخذ إليهِ تعالى سبيلاً أي وسيلةً توصلُه إلى ثوابِه اتخذَهُ أي تقربَ إليهِ بالعمل بمَا في تضاعيفِها وقولُه تعالى

30

وما تشاؤن إلا أن يشاء الله تحقيقٌ للحقِّ ببيان أنَّ مجردَ مشيئتِهم غيرُ كافيةٍ في اتخاذ السبيلِ كما هو المفهومُ من ظاهر الشرطية اي وما تشاؤن اتخاذَ السبيلِ ولا تقدرونَ على تحصيله في وقتٍ من الأوقاتِ إلا وقتَ مشيئتِه تعالى تحصيلَه لكُم إذ لا دخلَ لمشيئة العبدِ إلا في الكسبِ وإنَّما التأثيرُ والخلقُ لمشيئة الله عزَّ وجلَّ وقُرىء يشاؤن بالياءِ وقُرىءَ إلاَّ ما يشاءُ الله وقولُه تعالَى إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً بيانٌ لكون مشيئتِه تعالى مبنيةً على أساس العلمِ والحكمةِ والمَعْنى أنَّه تعالَى مبالِغٌ في العلمِ والحكمةِ فيعلمُ ما يستأهلُه كلُّ أحدٍ فلا يشاءُ لهم إلا ما يستدعيهِ علمُه وتقتضيِه حكمتُه وقولُه تعالى

31

يدخل من يشاء فى رَحْمَتِهِ بيانٌ لأحكام مشيئتِه المترتبةِ على علمه وحكمتِه أي يُدخلُ في رحمتِه مَن يشاءُ أنْ يدخلَهُ فيها وهُو الذي يصرِفُ مشيئتَهُ نحوَ اتخاذِ السبيلِ إليهِ تعالى حيثُ يوفقُه لَما يَؤدِّي إلى دخول الجنةِ من الإيمانِ والطاعةِ والظالمين وهم الذينَ صَرفوا مشيئَتُهم إلى خلافِ ما ذُكِرَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً أي متناهياً في الإيلامِ قالَ الزجاجُ نصبَ الظالمينَ لأنَّ ما قبلَهُ منصوبٌ أي يُدخلُ من يشاءُ في رحمته ويعذبُ الظالمينَ ويكونُ أعدَّ لَهُم تفسيراً لهَذا المضمرِ وقُرِىءَ بالرفع على

77 سورة المرسلات (1 6) الابتداء عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ هَل أَتَى كانَ جزاؤُه على الله تعالَى جنة وحريرا سورة المرسلات مكية الا آية 48 فمدنية وآياتها خمسون بسم الله الرحمن الرحيم

المرسلات

والمرسلات عرفا فالعصفات عَصْفاً والناشرات نَشْراً فالفارقات فَرْقاً فالملقيات ذِكْراً إقسامٌ من اللَّهِ عزَّ وجل بطوائفَ من الملائكةِ أرسلهنَّ بأوامرِه فعصَفنَ في مُضيّهنَّ عصفَ الرياحِ مسارعةً في الامتثالِ بالأمرِ وبطوائفَ أُخرى نشرْن أجنحتَهنَّ في الجوِّ عندَ انحطاطِهنَّ بالوَحي أو نشرن الشرائعَ في الأقطارِ أو نشرن النفوسَ المَوْتى بالكفر والجهل بما او حين ففرقن بينَ الحقِّ والباطل فألقين ذكرا الا الأنبياءِ

6

عُذْراً للمحقِّينَ أَوْ نُذْراً للمبطلينَ ولعلَّ تقديمَ نشرِ الشرائعِ ونشرِ النفوسِ والفَرقِ على الالقاء للإيذان بكونها غايةً للإلقاء حقيقةً بالاعتناء بَها أو للإشعارِ بأنَّ كُلاً من الأوصافِ المذكورةِ مُستقلٌّ بالدلالةِ على استحقاق الطوائفِ الموصوفةِ بها التفخيم والاجلال بالاقسام بهن ولوجىء بها على ترتيب الوقوعِ لربَّما فُهمَ أنَّ مجموعَ الإلقاءِ والنشرِ والفرقِ هو الموجبُ لما ذكِرَ من الاستحقاقِ أو إقسامٌ برياحِ عذابٍ أرسلهنَّ فعصفنَ وبرياحِ رحمةٍ نشرنَ السحابَ في الجوِّ ففرقنَ بينَهُ كقولِه تعالى وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أو بسحائبَ نشرنَ المواتَ ففرقنَ كلَّ صنفٍ منها عن سائرِ الأصنافِ بالشكلِ واللونِ وسائرِ الخواصَّ أو فرقنَ بينَ من يشكرُ الله تعالَى وبينَ من يكفرُ بهِ فألقينَ ذكراً أما عُذراً للمعتذرينَ إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم عن مشاهدتهم

77 سورة المرسلات (7 14) لآثار رحمتِه تعالى في الغيث ويشكرونها واما انذارا للذين يكفرونَها وينسبونها إلى الأنواءِ وإسنادُ إلقاءِ الذكرِ إليهنَّ لكونِهن سبباً في حصوله إذَا شكرت النعمة فيهن أو كفرت أو إقسامٌ بآياتِ القُرآنِ المرسلةِ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعصفنَ سائرَ الكتبِ بالنسخِ ونشرنَ آثارَ الهُدى من مشارق الأرضِ ومغاربِها وفرقنَ بين الحق والباطل فألقين ذكرَ الحقِّ في أكناف العالمينَ والعُرفُ إمَّا نقيضُ النُّكرِ وانتصابُه على العلةِ أي أرسلنَا للإحسانِ والمعروفِ فإنَّ إرسالَ ملائكةِ العذابِ معروفٌ للأنبياءِ عليهم السَّلامُ والمؤمنينَ أو بمَعْنى المتابعةِ من عُرفِ الفرسِ وانتصابُه على الحاليَّةِ والعُذرُ والنُّذرُ مصدرانِ من عَذَرَ إذا مَحَا الإساءةَ ومن أنذَرَ إِذَا خَوَّفَ وانتصابُهما على البدليةِ من ذِكراً أو عَلى العِليِّةِ وقُرِئَا بالتثقيلِ

7

إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ جوابٌ للقسمِ أيْ إنَّ الذي تُوعدونَهُ من مجيءِ القيامةِ كائنٌ لا محالةَ

8

فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ مُحيتْ ومُحقتْ أو ذُهبَ بنورِها

9

وَإِذَا السماء فُرِجَتْ صُدعتْ وفُتحتْ فكانتْ أبواباً

10

وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ جُعلتْ كالحبِّ الذي يُنسفُ بالمنسفِ ونحوهُ وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً وقيل أُخذتْ منْ مقارِّها بسرعةٍ من انتسفتَ الشيءَ إذا اختطفتَهُ وقُرِىءَ طُمِّستْ وفُرِّجتْ ونُسِّفتْ مشددةً

11

وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ أي عُيِّنَ لهُم الوقتُ الذي يحضرونَ فيه للشهادةِ على اممهم وذلك عند مجيئه وحضورهِ إذْ لا يتعينُ لهم قبله أو بلغُوا الميقاتَ الذي كانُوا ينتظرونَهُ وقُرِىءَ وُقِّتتْ على الأصلِ وبالتخفيفِ فيهما

12

لايّ يَوْمٍ أُجّلَتْ مقدرٌ بقولٍ هُو جوابٌ لإذا في قولِه تعالى وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ أو حالٌ من مرفوعِ أقتت أي يقالُ لأيِّ يومٍ أُخرت الأمورُ المتعلقةُ بالرسل والمرادُ تعظيمُ ذلكَ اليومِ والتعجيبُ من هولِه وقولُه تعالَى

13

لِيَوْمِ الفصل بيانٌ ليومِ التأجيل وهو الذي يُفصلُ فيهِ بينَ الخلائقِ

14

وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل مَا مبتدأٌ أدراكَ خبرُهُ أيْ أيُّ شيءٍ جعلَكَ دارياً ما هُو فوضع موضع الضمير

77 سورة المرسلات (15 23) يومَ الفصلِ لزيادةِ تفظيعٍ وتهويلٍ على أنَّ مَا خبرٌ ويومُ الفصلِ مبتدأٌ لاَ بالعكسِ كما اختارَهُ سيبويِه لأنَّ محطَّ الفائدةِ بيانٌ كونِ يومِ الفصلِ أمراً بديعاً هائلاً لا يُقادرُ قَدُرُه ولا يُكتنُه كُنْههُ كَما يفيدُه خبريةُ مالا بيانُ كونِ أمرٍ بديعٍ من الأمورِ يومَ الفصلِ كما يُفيده عكْسُه

15

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ أيْ في ذلكَ اليومِ الهائلِ وويلٌ في الأصلِ مصدرٌ منصوبٌ سادٌّ مسدَّ فعلِه لكنْ عُدلَ بهِ إلى الرفعِ للدلالةِ على ثباتِ الهلاكِ ودوامِه للمدعوِّ عليهِ ويومئذٍ ظرفُه أو صفتُه

16

أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين كقومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ لتكذيبِهم بهِ وقُرِىءَ نَهلكَ بفتحِ النونِ من هلَكَه بمعنى أهلَكَه

17

ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الأخرين بالرفعِ على ثمَّ نحنُ نتبعُهم الآخرينَ من نظرائِهم السالكينَ لمسلكِهم في الكفرِ والتكذيبِ وهُو وعيدٌ لكفارِ مكةَ وقُرِىءَ ثمَّ سنُتبعُهم وقُرِىءَ نُتبعْهُم بالجزمِ عطفاً على نُهلك فيكونُ المرادُ بالآخرينَ المتأخرينَ هلاكاً من المذكورينَ كقومِ لوطٍ وشعيبٍ ومُوسى عليهم السَّلامُ

18

كذلك مثلَ ذلكَ الفعلِ الفظيعِ نَفْعَلُ بالمجرمين أي سنَّتُنا جاريةٌ على ذلكَ

19

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أيْ يومُ إذْ أهلكناهُم لّلْمُكَذّبِينَ بآياتِ الله تعالَى وأنبيائِه وليسَ فيه تكريرٌ لما أنَّ الويل الأول لعذاب اللآخرة وَهَذا لعذابِ الدُّنيا

20

أَلَمْ نَخْلُقكُّم أي ألم نُقدرْكُم مّن مَّاء مَّهِينٍ أي من نُطفةٍ قذرةٍ مهينةٍ

21

فجعلناه فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ هو الرحمُ

22

إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ إلى مقدارٍ معلومٍ من الوقتِ قدَّرهُ الله تعالَى للولادةِ تسعةَ أشهرٍ أو أقلَّ منها أو أكثرَ

23

فَقَدَرْنَا أي فقدرناهُ وقد قُرِىءَ مُشدداً أو فقدرنا على ذلك على أن المراد بالقدر ما يقارنُ وجودَ المقدورِ بالفعل فَنِعْمَ القادرون أي نحنُ

77 سورة المرسلات (24 30)

24

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ بقدرتِنا على ذلك أو على الإعادةِ

25

أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً الكِفاتُ اسمُ مَا يكْفِتُ اي يضم ويجمع مع كفتَ الشيءَ إذا ضمَّه وجمعَهُ كالضِّمامِ والجِماعِ لما يضمُّ ويجمعُ أي ألم نجعلْها كِفاتاً تكفتُ

26

أَحْيَاء كثيرةً على ظهرها وأمواتا غيرَ محصورةٍ في بطنِها وقيلَ هُو مصدرٌ نُعِتَ به للمبالغةِ وقيلَ جمعُ كافتٍ كصائمٍ وصيامٍ أو كِفت وهو الوعاءُ أجرى على الأرض باعتبار بقاعها وقيل تنكيرُ أحياءً وأمواتاً لأنَّ أحياءَ الإنسِ وأمواتَهم بعضُ الأحياءِ والأمواتِ وقيلَ انتصابُهما على الحاليةِ من محذوفٍ أي كفاتاً تكفتكُم أحياءٌ وأمواتاً

27

وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ أي جبالاً ثوابتَ شامخات طوالاً شواهقَ ووصفُ جمعِ المذكِر بجمعِ المؤنثِ في غيرِ العقلاءِ مُطَّردٌ كداجنٍ ودواجنٍ وأشهرٌ معلوماتٌ وتنكيرُها للتفخيمِ أو للاشعار بأن فيها مالم يُعرفْ وأسقيناكم مَّاء فُرَاتاً بأنْ خلقنَا فيها أنهاراً ومنابعَ

28

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ بأمثالِ هذه النعمِ العظيمةِ

29

انطلقوا أي يقالُ لهم يومئذ للتوبيخ والتقريع انطلقُوا إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ في الدُّنيا من العذابِ

30

انطلقوا خُصوصاً إلى ظِلّ أي ظِل دُخانِ جهنَّمَ كقولِه تعالَى وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ وقُرِىءَ انطَلقُوا على لفظ الماضي اخبار بعدَ الأمرِ عن عملِهم بموجبه لاضطرارِهم إليه طوعاً أو كرهاً ذِى ثلاث شُعَبٍ يتشعبُ لعِظمه ثلاثَ شُعبٍ كَما هُو شأنُ الدُّخانِ العظيمِ تراهُ يتفرقُ ذوائبَ وقيلَ يخرجُ لسانٌ من النار فيحيطُ بالكفارِ كالسُّرادقِ ويتشعبُ من دُخَانِها ثلاثُ شعبٍ فتظلهُم حتى يُفرغَ من حسابِهم والمؤمنونَ في ظلَ العرشِ قيلَ خُصوصيةُ الثلاثِ إما لأنَّ حجابَ النفسِ عن أنوارِ القدسِ الحسُّ والخيالُ والوهمُ أو لأنَّ المؤدِّي إلى هذا العذاب هو القوةُ الوهميةُ الشيطانيةُ الحَّالةُ في الدماغِ والقوةُ الغضبيةُ السبعيةُ التي عن يمينِ القلبِ والقوةُ الشهويةُ البهيميةُ التي عن يسارِه ولذلكَ قيلَ تقفُ شعبةٌ فوقَ الكافرِ وشعبةٌ عن يمينِه وشعبة عن يساره

77 سورة الملاسلات (31 38)

31

لاَّ ظَلِيلٍ تهكمٌ بهم اورد لما أوهمَه لفظُ الظلِّ وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللهب أي غيرُ مغنٍ لهم من حرِّ اللهبِ شيئاً

32

إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كالقصر أي كلُّ شررةٍ كالقصرِ من القصورِ في عِظَمِها وقيلَ هو الغليظُ من الشجر الواحدةُ قصرةٌ نحو جَمْرٍ وجمرةٍ وقُرِىءَ كالقَصَرِ بفتحتينِ وهي أعناقُ الإبلِ أو أعناقُ النخلِ نحو شجرةٍ وشجرٍ وقُرِىءَ كالقُصُر بمعنى القصور كرهن ورهُن وقرىء كالقصر جمع قصرة

33

كَأَنَّهُ جمالة قيلَ هو جمعُ جملٍ والتاءُ لتأنيثِ الجمعِ يقالُ جملٌ وجمالٌ وجمالةٌ وقيلَ اسمُ جمعٍ كالحجارة صفر فان الشرارة لما فيهِ من الناريةِ يكون اصفر وقيل أسود لأن سوادَ الإبلِ يضربُ إلى الصفرةِ والأولُ تشبيهٌ في العظمِ وهذا في اللونِ والكثرةِ والتتابعِ والاختلاطِ والحركةِ وقُرِىءَ جمالاتٌ جمعُ جَمالةٍ وقد قُرىءَ بها وهي الحبلُ العظيمُ من حبل السفنِ وقلوسِ الجسورِ والتشبيهُ في امتدادِه والتفافهِ

34

ويل يومئذ لممكذبين

35

هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ اشارة الى دخولِهم النارَ أيْ هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ فيه بشىءٍ لما أنَّ السؤالَ والجوابَ والحسابَ قدْ انقضتْ قبلَ ذلكَ ويومُ القيامةِ طويلٌ له مواطنُ ومواقيتُ ينطقونَ في وقتٍ دُونَ وقت فعبر عن كل وقت بيوم اولا ينطقونَ بشيءٍ ينفعُهم فإن ذلكَ كلاَ نطقٍ وقُرِىءَ بنصبِ اليومِ أيْ هَذا الذي فُصِّلَ واقعٌ يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ

36

وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ عطفٌ على يُؤذنُ مُنتظمٌ في سلكِ النفي أيْ لا يكونُ لهم إذنٌ واعتذارٌ متعقبٌ له من غيرِ أن يجعل الاعتذار مسبباً عن الإذن كما لو نصب

37

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ هذا يَوْمُ الفصلُ بين الحقِّ والباطلِ والمحقِّ والمبطلِ جمعناكم خطابٌ لأمة محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام والأولين من الأممِ وهذا تقريرٌ وبيانٌ للفصل

77 سورة المرسلات (39 48)

39

فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ فإن جميعَ من كنتُم تقلدونهم وتقتدونَ بهم حاضرونَ وهذا تقريعٌ لهم على كيدِهم للمؤمنينَ في الدُّنيا وإظهارٌ لعجزِهم

40

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ حيثُ ظهرَ أنْ لا حيلةَ لهم في الخلاصِ من العذابِ

41

إِنَّ المتقين من الكفرِ والتكذيبِ فِى ظلال وَعُيُونٍ

42

وفواكه مِمَّا يَشْتَهُونَ أي مستقرونَ في فنونِ الترفِه وأنواعِ التنعمِ

43

كلوا واشربوا هنيئا بما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مقدرٌ بقولٍ هو حالٌ من ضميرِ المتقينَ في الخبر أي مقولاً لهم كلُوا واشربُوا هنيئاً بما كنتُم تعملونَهُ في الدنيا من الأعمال الصالحةِ

44

إِنَّا كَذَلِكَ الجزاءِ العظيمِ نَجْزِى المحسنين أيْ في عقائدِهم وأعمالِهم لا جزاءً أَدْنَى منْهُ

45

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ حيثُ نالَ أعداؤُهم هذا الثوابَ الجزيلَ وهُم بقُوا في العذاب المخلَّدِ الوبيلِ

46

كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ مقدرٌ بقولٍ هو حالٌ من المكذبينَ أي الويلُ ثابتٌ لهم مقولاً لهم ذلكَ تذكيراً لهم بحالِهم في الدُّنيا وبما جنَوا على أنفسِهم من إيثارِ المتاعِ الفانِي عن قريبٍ على النعيمِ الخالدِ وعلل ذلك بإجرامِهم دلالةً على أنَّ كلَّ مجرمٍ مآلهُ هَذا وقيل هو كلامٌ مستأنفٌ خُوطبَ به المكذبونَ في الدُّنيا بعدَ بيان مآلِ حالهم وقررَ ذلكَ بقولِه تعالى

47

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ لزيادة التوبيخِ والتقريعِ

48

وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا أي أطيعُوا الله واخشعُوا وتواضعُوا له بقبولِ وحيهِ واتباعِ دينهِ وارفضُوا هذا الاستكبارَ والنخوةَ لاَ يَرْكَعُونَ لا يخشعُون ولا يقبلُون ذلكَ ويصرونَ على ما هم

77 سورة المرسلات (49 50) عليهِ من الاستكبارِ وقيلَ إذَا أُمروا بالصَّلاةِ أو بالركوع لا يفعلونَ إذْ رُويَ أنه نزلَ حينَ أُمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيفاً بالصَّلاةِ فقالُوا لا نجي فإنَّها مسبَّةً علينا فقالَ عليه الصلاة والسلام لا خيرَ في دينٍ ليس فيه ركوعٌ ولا سجودٌ وقيلَ هُو يومَ القيامةِ حينَ يُدعونَ إلى السجودِ فَلا يستطيعونَ

49

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ وفيه دلالة على أنه الكفار مخاطبون بالفروع في حقِّ المؤاخذةِ

50

فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي بعدَ القرآنِ الناطقِ بأحاديثَ الدارينِ وأخبارِ النشأتينِ على نمطٍ بديعٍ مُعجزٍ مؤسسٍ على حججٍ قاطعةٍ وبراهينَ ساطعةٍ يُؤْمِنُونَ إذَا لم يؤمنوا به وقرىء تؤمنون على الخطابِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ المرسلات كتبَ لَهُ أنَّه ليسَ من المشركين

78 سورة النبأ (1 2) سورة النبأ مكية وآياتها اربعون بسم الله الرحمن الرحيم

النبأ

عَمَّ أصله عَمَّا فحذفَ منه الألفُ إمَّا فرقاً بينَ ما الاستفهاميةِ وغيرِها أو قصداً للخفةِ لكثرةِ استعمالِها وقد قُرِىءَ على الأصلِ وما فيهَا منَ الابهام للايذان بفخامة شأن المسؤل عنْهُ وهولِهِ وخروجِه عنْ حدودِ الأجناسِ المعهودةِ أيْ عنْ أيِّ شيءٍ عظيمٍ الشأنِ يَتَسَاءلُونَ أيْ أهلُ مكةَ وكانُوا يتساءلونَ عن البعثِ فيما بينهم ويخوضونَ فيه إنكاراً واستهزاءً لكنْ لا على طريقةِ التساؤلِ عن حقيقتِه ومسمَّاهُ بلْ عن وقوعِه الذي هو حالٌ من أحوالِه ووصفٌ من أوصافِه فإنَّ مَا وإنْ وضعتْ لطلبِ حقائقِ الأشياءِ ومسمياتِ أسمائِها كما في قولك ما الملَكُ وما الروحُ لكنَّها قد يُطلب بها الصفةُ والحالُ تقولُ ما زيدٌ فيقال عالمٌ أو طبيبٌ وقيل كانُوا يسألونَ عنه الرسولَ صلى الله عليه وسلم والمؤمنينَ استهزاءً كقولِهم يتداعونهم اي يدعونهم وتحقيقُه أنَّ صيغةَ التفاعلِ في الأفعالِ المتعديةِ موضوعة لإفادة صدور الفعل عن المتعدد ووقوعه عليه بحيث يصير كل واحدٍ من ذلك فاعلا ومفعولا معاً لكنَّه يرفعُ بإسنادِ الفعلِ إليه ترجيحاً لجانبِ فاعليتِه ويحالُ بمفعوليتِه على دلالةِ العقلِ كما في قولك تراءى القوم أي رأى كلُّ واحد منهم الآخَرَ وقد تجردَ عن المعنى الثاني فيراد بها مجردُ صدورِ الفعلِ عن المتعددِ عارياً عن اعتبارِ وقوعِه عليهِ فيُذْكر للفعلِ حينئذٍ مفعولٌ متعدد كمَا في المثالِ المذكورِ أو واحد كما في قولِك تراءوا الهلالَ وقد يحذفُ لظهورهِ كما فيما نحن فيه فالمَعْنى عن أيِّ شيءٍ يسألُ هؤلاءِ القومُ الرسولَ صلى الله عليه وسلم والمؤمنينَ وربَّما تجردَ عن صدور الفعل عن المتعدد أيضاً فيرادُ بها تعددُه باعتبارِ تعددِ متعلَّقِه مع وحدةِ الفاعلِ كما في قولِه تعالَى فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تتمارى وقولُه تعالى

2

عَنِ النبإ العظيم بيانٌ لشأن المسؤل عنه اثر تفخيمه بابهام أمرِه وتوجيِه أذهانِ السامعينَ نحوَه وتنزيلِهم منزلَه المستفهمينَ فان ايراده على طريقةِ الاستفهامِ من علاَّمِ الغيوبِ للتنبيهِ على أنَّه لانقطاعِ قرينِه وانعدامِ نظيرِه خارجٌ عن دائرةِ علومِ الخلقِ خليقٌ بأنْ يُعتنى بمعرفتِه ويُسألَ عنْهُ كأنَّه قيلَ عنْ أيِّ شيءٍ يتساءلُون هلْ أُخبرِكُم بِه ثمَّ قيلَ بطريقِ الجوابِ عن النبأِ العظيمِ على منهاجِ قولِه تعالى لّمَنِ الملك اليوم

78 سورة النبأ (3 4) لِلَّهِ الواحد القهار فعنْ متعلقةٌ بما يدلُّ عليهِ المذكورُ من مضمرٍ حقُّه أنْ يقدرَ بعدَها مسارعةً إلى البيانِ ومراعاةً لترتيبِ السؤالِ هذا هو الحقيقُ بالجزالةِ التنزيليةِ وقد قيلَ هي متعلقةٌ بالمذكورِ وعمَّ متعلقٌ بمضمرٍ مفسرٍ بهِ وأيَّد ذلكَ بأنَّه قُرىء عَمَّه والأظهرُ أنَّه مبنيٌّ على إجراءِ الوصل مْجرى الوقفِ وقيل عن الأُولى للتعليل كأنَّه قيلَ لمَ يتساءلون عن النبأ العظيم وقيل قبل عن الثانية استفهام مضمر كأنه قيل عم يتساءلون أعن النبأ العظيم والنبأُ الخبرُ الذي له شأنٌ وخطرٌ وقد وصفَ بقولِه تعالى

3

الذى هم فيه مختلفون بعد وصفِه بالعظيم تأكيداً لخطره إثرَ تأكيدٍ وإشعاراً بمدار التساؤلِ عنه وفيهِ متعلقٌ بمختلفونَ قدم عليه اهتماماً به ورعايةً للفواصلِ وجعلُ الصلةِ جملةً اسميةً للدلالةِ على الثباتِ أي هُم راسخونَ في الاختلافِ فيهِ فمِن جازمٍ باستحالته يقولُ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وشاكَ يقول ما ندري ما الساعة إن نظن إلاَّ ظنا وما نحن بمستقينين وقيلَ منهُم من ينكرُ المعادَينِ معاً كهؤلاءِ ومنهُم مَنْ ينكرُ المعادَ الجسمانيَّ فقطَّ كجمهور النَّصارى وقد حُملَ الاختلافُ على الاختلافِ في كيفيةِ الإنكارِ فمنْهُم مَنْ ينكرُه لإنكارِه الصانعَ المختارَ ومنهُم مَنْ يُنكرهُ بناء على استحالة اعادة المعدومِ بعينه وحملُه على الاختلاف بالنَّفي والإثباتِ بناءً على تعميم التساؤلِ لفريَقيْ المسلمينَ والكافرينَ على أنَّ سؤالَ الأولينَ ليزدادُوا خشيةً واستعداداً وسؤالَ الآخرينَ ليزدادُوا كُفراً وعناداً يردُّه قولُه تعالى

4

كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ الخ فإنَّه صريحٌ في أنَّ المرادَ اختلافُ الجاهلينَ بهِ المنكرينَ له إذْ عليه يدورُ الردعُ والوعيدُ لا على خلاف المؤمنينَ لهم وتخصيصُهما بالكفرة بناءً على تخصيص ضميرِ سيعلمونَ بهم مع عموم الضميرينِ السابقينِ للكلِّ ممَّا ينبغِي تنزيهُ التنزيلِ عن أمثالِه هَذا ما أدَّى إليه جليلُ النظرِ والذي يقتضيِه التحقيقُ ويستدعيهِ النظرُ الدقيقُ أنْ يحملَ اختلافُهم على مخالفتِهم للنبيِّ عليه الصلاة والسلام بأن يُعتبرَ في الاختلافِ محضُ صدور الفعل عن المتعدد حسبَما ذُكرَ في التساؤلِ فإنَّ الافتعالَ والتفاعلَ صيغتانِ مُتآخيتانِ كالاستباقِ والتسابقِ والانتضالِ والتناضلِ إلى غيرِ ذلكَ يجري في كل منهما ما يَجْري في الأُخرى لا على مخالفةِ بعضهِم لبعضٍ من الجانبينِ لأنَّ الكُلَّ وإنِ استحقَ الردعَ والوعيدَ لكنَّ استحقاقَ كلِّ جانبٍ لهُما ليسَ لمخالفتِه للجانب الآخر اذ لاحقية في شيء منها حتَّى يستحقَّ مَن يخالفُه المؤاخذة بل لمخالفته له عليه الصلاة والسلام فكَلاَّ ردعٌ لهم عن التساؤلِ والاختلافِ بالمعنيينِ المذكورينِ وسيعلمونَ وعيدٌ لهم بطريقِ الاستئنافِ وتعليلٌ للردعِ والسينُ للتقريبِ والتأكيدِ وليسَ مفعولُه ما يني عنه المقامُ من وقوعِ ما يتساءلونَ عنه ووقوعِ ما يختلفونَ فيهِ كما في قولِه تعالى وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ إلى قولِه تعالى لِيُبَيّنَ لَهُمُ الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ الآيةَ فإنَّ ذلكَ عارٍ عن صريحِ الوعيدِ بلْ هُو عبارةٌ عمَّا يلاقونَهُ من فنونِ الدَّواهِي والعقوباتِ والتعبيرُ عن لقائِها بالعلمِ

78 سورة النبأ (5 10) لوقوعِه في معرضِ التساؤلِ والاختلافِ والمَعْنى ليرتدعُوا عمَّا هُم عليهِ فإنَّهم سيعلمونَ عمَّا قليل حقيقةَ الحالِ إذا حلَّ بهم العذابُ والنكالُ وقولُه تعالى

5

ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ تكريرٌ للردعِ والوعيدُ للمبالغةِ في التأكيدِ والتشديدِ وثمَّ للدَّلالة على أنَّ الوعيدَ الثَّاني أبلغُ وأشدُّ وقيلَ الأولُ عند النزعِ والثانِي في القيامةِ وقيلَ الأولُ للبعثِ والثاني للجزاءِ وقُرِىءَ ستعلمونَ بالتاءِ على نهجِ الالتفاتِ الى الخطاب المواقف لما بعده من الخطاباتِ تشديداً للردعِ والوعيدِ لا على تقديرِ قُل لهم كما تُوُهم فإنَّ فيهِ من الإخلالِ بجَزَالةِ النظمِ الكريم مالا يَخْفى وقولُه تعالَى

6

أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مهادا والجبال أَوْتَاداً الخ استئنافٌ مسوق لتحقيق النبأ المستاءل عنُهُ بتعدادِ بعضِ الشواهدِ الناطقة بحقيقه إثرَ ما نبَّه عليها بما ذُكرَ من الردع والوعيدِ ومنْ ههُنا اتضحَ أنَّ المتساءَلَ عنه هو البعثُ لا القرآنُ أو نبوةُ النبيِّ عليهِ الصلاةَ والسَّلامُ كما قيلَ والهمزةُ للتقريرِ والالتفاتُ إلى الخطابِ على القراءةِ المشهورةِ للمبالغة في الإلزام والتبكيتِ والمِهادُ البساطُ والفراشُ وقُرِىءَ مَهْداً على تشبيهها بمهدِ الصبيِّ وهو ما يُمهدُ له فينوم عليه تسمية للممهود بالمصدرِ وجعَلُ الجبالِ أوتاداً لها إرساؤُها بها كما يُرسي البيتُ بالأوتادِ

8

وخلقناكم عطف على المضارعِ المنفيِّ بلمْ داخلٌ في حُكمِه فإنَّه في قوةِ أمَا جعلَنا الخ أو على ما يقتضيهِ الإنكارُ التقريريُّ فإنَّه في قوَّةِ أنْ يقالَ قد جعلَنا الخ أزواجا اصنافا ذكرا وأنثى ليسكنَ كلٌّ من الصنفينِ إلى الآخرِ وينتظمَ أمرُ المعاشرةِ والمعاشِ ويتسنَّى التناسلُ

9

وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً أي موتاً لأنَّه أحدُ التوفيينِ لَما بينهُمَا من المشاركةِ التَّامةِ في انقطاعِ أحكامِ الحياةِ وعليهِ قولُه تعالى وَهُوَ الذى يتوفاكم بالليل وقولُه تعالى الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا وقيلَ قطعاً عنِ الإحساسِ والحركةِ لإراحةِ القُوى الحيوانيةِ وازاحة كلاهما والأولُ هو اللائقُ بالمقامِ كما ستعرفه

10

وجعلنا الليل الذي فيهِ يقعُ النومُ غالباً لِبَاساً يسترُكم بظلامِه كما يسترُكم اللباسُ ولعلَّ المرادَ به ما يستر به عندَ النومِ من اللحافِ ونحوِه فإنَّ شبهَ الليلِ به أكملُ واعتبارَهُ في تحقيقِ المقصدِ أدخلُ فهو جعلَ الليلَ محلاً للنومِ الذي جْعلَ موتاً كما جعلَ النَّهارَ محلاً لليقظة

78 سورة النبأ (11 14) المعبرِ عنها بالحياةِ في قولِه تعالى

11

وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً أي وقتَ حياةٍ تُبعثونَ فيهِ من نومكم الذي هُو أخوُ الموتِ كَما في قوله تعالى وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً والنوم سُبَاتاً وَجَعَلَ النهار نُشُوراً وجعلُ كونِ الليلِ لباساً عبارةٌ عن تره عن العيونِ لمنْ أرادَ هرباً منْ عدوَ أو بياتاً له أو نحوِ ذلكَ ممَّا لا مناسبةَ له بالمقامِ وكذا جعلُ النهارِ وقتَ التقلبِ في تحصيلِ المعايشِ والحوايجِ

12

وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً أي سبعَ سمواتٍ قويةِ الخلقِ محكمةِ البناءِ لا يُؤثر فيها مرُّ الدهورِ وكرُّ العصورِ والتعبيرُ عن خلقها بالبناء مبنيٌّ على تنزيلِها منزلةَ القبابِ المضروبةِ على الخلقِ وتقديمُ الظرفِ على المفعولِ ليسَ لمراعاةِ الفواصلِ فقطْ بلْ للتشويقِ إليهِ فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً له فإذا وردَ عليها تمكّنَ عندَها فضلُ تمكنٍ

13

وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً هذا الجعلُ بمعنى الإنشاءُ والإبداعِ كالخلقِ خَلا أنه مختصٌّ بالإنشاءِ التكوينيِّ وفيه مَعنى التقديرِ والتسويةِ وهذا عامٌّ له كَما في الآيةِ الكريمةِ وللتشريعيِّ أيضاً كَما في قوله تعالى مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ الخ وقولِه تعالى لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا وأياما كانَ ففيهِ إنباءٌ عن ملابسةِ مفعولِه بشيءٍ آخرَ بأنْ يكونَ فيهِ أولَهُ أوْ مِنْهُ أو نحوُ ذلكَ ملابسةٌ مصحِّحةٌ لأنْ يتوسَّطَ بينهُمَا شيءٌ من الظروفِ لغواً كانَ أو مستقراً لكنْ لا على أنْ يكونَ عُمدةً في الكلامِ بل قيداً فيهِ كما في قوله تعالى وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وقولُه تعالَى وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وقولِه تعالى واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً الآيةَ فإن كلَّ واحدٍ من هذهِ الظروفِ إمَّا متعلقٌ بنفسِ الجعلِ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من مفعولِه تقدمتْ عليه لكونِه نكرةً ايا ما كانَ فهو قيدٌ في الكلامِ حتَّى إذا اقتضَى الحالُ وقوعَه عمدةً فيه يكون الجمل متعدياً إلى اثنينِ هُو ثانيهما كما في قولِه تعالى يَجْعَلُونَ أصابعهم فِى آذانهم ورُبَّما يَشتبِهُ الأمرُ فيُظن أنَّه عمدةٌ فيهِ وهو في الحقيقة قيدٌ بأحدِ الوجهينِ كما سلفَ في قولِه تعالى إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً والوهَّاجُ الوقَّادُ المتلألىءُ من وهجتِ النارُ إذا أضاءتْ أو البالغُ في الحرارةِ من الوهجِ والمرادُ به الشمسُ والتعبيرُ عنها بالسراجِ من روادفِ التعبيرِ عن خلقِ السمواتِ بالبناءِ

14

وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات هي السحائبُ إذا أَعْصرتْ أي شَارفتْ أنْ تعصُرَها الرياحُ فتمطرَ كما في أحصدَ الزرعُ إذا حانَ له أنْ يُحصدَ ومنه أعصرتِ الجاريةُ إذا دنتْ أنْ تحيضَ أو الرياحُ التي حانَ لها أن تعصُرَ السحابَ وقُرِىءَ بالمعصرات ووجهُ ذلكَ أنَّ الإنزالَ حيثُ كانَ من المعصراتِ سواء أريدَ بها السحائبَ أو الرياحَ فقد كانَ بها كما يقالُ أعطاهُ من يدِه وبيدِه وقد فسرتِ المعصراتُ بالرياحِ ذواتِ الأعاصيرِ ووجههُ أنَّ الرياحَ هي التي

78 سورة النبأ (15 17) تنشيء السحاب وتدر أخلافَه فصلحتْ أنْ تجعلَ مبتدأً للإنزالِ مَآءً ثَجَّاجاً أي مُنصبَّاً بكثرةٍ يقالُ ثجَّ الماءُ أي سالَ بكثرةٍ وثجَّه أيْ أسالَه ومنه قولُه عليهِ الصَّلاةُ والسلام افضل الحَجِّ العَجُّ والثَّجُّ أي رفعُ الصوتِ بالتلبيةِ وصبُّ دماء الهدي وقرىء ثجاجا بالحاءِ بعدَ الجيمِ قالُوا مثاجحُ الماءِ مصابُّه

15

لِّنُخْرِجَ بِهِ بذلك الماءِ حَبّاً يقتاتُ كالحنطةِ والشعيرِ ونحوهِما وَنَبَاتاً يعتلفُ كالتبنِ والحشيشِ وتقديمُ الحبِّ مع تأخرهِ عن النباتِ في الإخراجِ لأصالتِه وشرفِه لأنَّ غالبَهُ غذاءُ الإنسانِ

16

وجنات الجنَّةُ في الأصلِ هي المرةُ من مصدرِ جَنَّه إذا سترَهُ تُطلق على المخل والشجرِ المتكاثفِ المُظللِ بالتفافِ أغصانِه قالَ زُهيرِ بنِ أبي سُلْمى ... كأنَّ عيني في غَربي مقتلة ... منَ النواضِحِ تَسقِي جنَّةً سُحُقاً ... وعَلَى الأرضِ ذاتُ الشجرِ قال الفَرَّاءُ الجنةُ ما فيهِ النخيلُ والفِردوسُ ما فيه الكَرْم والأولُ هو المرادُ وقولُه تعالَى أَلْفَافاً أي ملتفةً تداخلَ بعضُها في بعضٍ قالُوا لا واحدَ له كالأوزاعِ والأخيافِ وقيلَ الواحدُ لِفٌّ كَكِنَ وأكنانٍ أو لفيفٌ كشريفٍ وأشرافٍ وقيلَ هو جمعُ اف جمع لفَّاءَ كخضر وخضراءَ وقيلَ جمعُ ملتفةٍ بحذفِ الزوائدِ واعلم أنَّ فيما ذكر من أفعالَه عزَّ وجلَّ دلالةٌ على صحة البعثِ وحقِّيتِه من وجوه ثلاثةٍ الأولُ باعتبار قدرتِه تعالَى فإنَّ مَن قدَر على إنشاءِ هذهِ الأفعالِ البديعةِ من غيرِ مثالِ يَحتذيه ولا قانونٍ ينتحيهِ كانَ على الإعادةِ أقدرَ وأقوى الثَّانِي باعتبار علمِه وحكمتِه فإنَّ من أبدعَ هذه المصنوعاتِ على نمطِ رائع مستتبعٍ لغاياتِ جليلةٍ ومنافعَ جميلةٍ عائدة الى الخلق يتسحيل ان ينفيها بالكلية ولا يجعلَ لها عاقبةً باقيةً والثالثُ باعتبار نفسِ الفعلِ فإنَّ اليقظةَ بعد النومِ أنموذجٍ للبعث بعد الموتِ يشاهدونَها كلَّ يومٍ وكَذا إخراجُ الحبِّ والنباتِ من الأرض الميتةِ يعاينوه كلَّ حينٍ كأنَّه قيلَ ألم نفعلْ هذهِ الأفعالَ الآفاقيةَ والأنفسيةَ الدالةَ بفنون الدلالاتِ على حقية البعثِ الموجبةِ للإيمان به فما لكُم تخوضونَ فيه إنكاراً وتتساءلونَ عنه استهزاءً وقولُه تعالَى

17

إِنَّ يَوْمَ الفصل كَانَ ميقاتا شروعٌ في بيان سرِّ تأخيرِ ما يتساءلونَ عنه ويستعجلونَ به قائلينَ متى هذا الوعد إِن كنتُم صادقينَ ونوعُ تفصيلٍ لكيفيةِ وقوعَه وما سيلقَونه عند ذلكَ من فُنون العذابِ حسبما جَرى به الوعيدُ إجمالاً أي إنَّ يومَ فصلِ الله عزَّ وجلَّ بينَ الخلائقِ كان في علمِه وتقديرِه ميقاتاً وميعاداً لبعثِ الأولينَ والآخرينَ وما يترتبُ عليهِ من الجزاءِ ثواباً وعقاباً لا يكادُ يتخطاهُ بالتقدمِ والتأخرِ وقيل حداً توقتُ به الدُّنيا وتنتهي عندَهُ أو حدا للخلائق ينتهون فيهِ ولا ريبَ في أنَّهما بمعزلٍ من التقريب الذي أشيرَ إليه على أنَّ الدنيا تنتهي عند النفخةِ الاولى

78 سورة النبأ (18 19) وقوله تعالى

18

يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصور أي نفخةً ثانيةً بدلٌ من يومِ الفصلِ أو عطفُ بيانٍ له مفيد لزيادةِ تفخيمِه وتهويلِه ولا ضيرَ في تأخرِ الفصلِ عن النفخِ فإنَّه زمانٌ ممتدٌّ يقعُ في مبدئه النفخةُ وفي بقيته الفصلُ ومباديه وآثارُه والصُّور هُو القَرْنُ الذي ينفخُ فيه إسرافيلُ عليه السَّلامُ عنْ أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ لمَّا فرغَ الله تعالى مِن خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ خلقَ الصُّور فأعطاهُ إسرافيلَ فهُو واضُعه على فيهِ شاخصٌ بصرُه إلى العرش متى يؤمر بهِ فينفخُ فيه نفخةً لا يبقى عندَها في الحياةِ غيرُ مَن شاءَ الله تعالى وذلكَ قولُه تعالى وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فى السموات ومن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله ثم يُؤمر بأُخرى فينفخُ نفخَّة لا يبقَى معها ميتٌ إلا بُعث وقامَ وذلكَ قولُه تعالى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ والفاء في قوله تعالى فَتَأْتُونَ فصيحةٌ تفصحُ عن جملةٍ قد حُذفتْ ثقةً بدلالهِ الحالِ عليها وإيذانا بغاية سرعةِ الإتيانِ كمَا في قوله تعالى فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق أي فتبعثونَ من قبورِكم فتأتونَ إلى الموقفِ عَقيبَ ذلكَ من غير لبثٍ أصلا افواجا اي أمماً كلُّ أمةٍ معَ إمامِها كما في قولِه تعالى يوم ندعو كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم أو زمراً وجماعاتٍ مختلفةَ الأحوالِ متباينةَ الأوضاعِ حسبَ اختلافِ أعمالِهم وتباينِها عن معاذٍ رضيَ الله عنه أنَّه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم يا معاذُ سألتَ عن أمرٍ عظيمٍ من الأمورِ ثم أرسلَ عينيهِ وقالَ تحشرُ عشرةُ أصنافٍ من أمَّتي بعضُهم على صورةِ القردةِ وبعضُهم على صورةِ الخنازيرِ وبعضُهم منكسونَ أرجلُهم فوقَ وجوهِهم يُسحبونَ عليها وبعضُهم عميٌ وبعضُهم صمٌّ بكم وبعضهم يمضغون ألسنتَهُم فهيَ مدلاَّةٌ على صدورِهم يسيلُ القيحُ من أفواههم يتقذرهُم أهلُ الجمعِ وبعضُهم مقطعةٌ أيديهم وأرجلُهم وبعضُهم مصلَّبونَ على جذوعٍ من نارٍ وبعضُهم أشدّ نتناً من الجيف وبعضُهم يلبسونَ جباباً سابغةً من قطرانٍ لازقةً بجلودِهم فأمَّا الذينَ على صورةِ القردةِ فالقتَّاتُ من الناسِ وأمَّا الذين على صورة الخنازير فأهلُ السحتِ وأمَّا المنكسونَ على وجوهِهم فأكلةُ الرِّبا وأما العميُ فالذينَ يجورونَ في الحكمِ وأمَّا الصمُّ البكم فالمعجبونَ بأعمالِهم وأمَّا الذينَ يمضغُون ألسنتَهُم فالعلماءُ الذينَ خالفتْ أقوالُهم أعمالَهم وأما الذينَ قُطعتْ أيديهم وأرجلُهم فهم الذين يؤذونَ جيرانَهم وأما المصلبونَ على جذوعٍ من نارٍ فالسعاةُ بالناسِ إلى السلطانِ وأمَّا الذينَ هم أشدُّ نتناً من الجيفِ فالذينَ يتبعون الشهواتِ واللذاتِ ومنعُوا حقَّ الله تعالى في أموالِهم وأما الذينَ يلبسونَ الجبابَ فأهلُ الكبرِ والفخرِ والخُيلاَءِ

19

وَفُتِحَتِ السماء عطفٌ على ينفخُ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التحققِ وقُرِىءَ فُتِّحتْ بالتشديدِ وهو الأنسبُ بقولِه تعالى فَكَانَتْ أبوابا أي كثرت ابوابها المفتح لنزولِ الملائِكةِ نزولاً غيرَ مُعتادٍ حتى صارتْ كأنَّها ليستْ إلاَّ أبواباً مفتحةً

78 سورة النبأ (20 22) كقوله تعالى وفجرنا الارض عُيُوناً كأنَّ كلها عيونٌ متفجرةٌ وهو المرادُ بقولِه تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام وهو الغَمامُ الذي ذُكر في قوله تعالى هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله أي أمرُه وبأسه فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمامِ والملائكةِ وقيلَ الأبوابُ الطرقُ والمسالكُ أي تكشط فينتفح مكانُها وتصيرُ طرقاً لا يسدُّها شيءٌ

20

وسُيرتِ الجبالُ أي في الجوِّ على هيآتها بعد قلعِها من مقارِّها كما يعرب عنه قوله تعالى وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب أي تَرَاها رأيَ العينِ ساكنةً في أماكِنها والحالُ أنَّها تمرُّ مرَّ السحابِ الذي يسيرُه الرِّياح سيراً حثيثاً وذلكَ أنَّ الأجرامَ العظامَ إذا تحركتْ نحواً من الأنحاءِ لا تكادُ يتبينُ حركتُها وإنْ كانتْ في غايةِ السرعةِ لا سيمَّا من بعيدٍ وعليهِ قولُ مَنْ قالَ بأرعنَ مثلِ الطَّوْدِ تحسَب أنَّهم وقوفٌ لحاجٍ والرِّكابُ تُهَمْلِجُ وقد أُدمج في هذا التشبيهِ تشبيهُ حالِ الجبالِ بحالِ السَّحابِ في تخلخل الأجزاءِ وانتفاشِها كما ينطق به قوله تعالى وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش يبدلُ الله تعالى الأرضَ ويغيرُ هيأتَها ويسيرُ الجبالُ على تلكَ الهيئةِ الهائلةِ عند حشرِ الخلائقِ بعد النفخةِ الثانيةِ ليشاهدُوها ثم يفرقها في الهواء وذلك قولُه تعالى فَكَانَتْ سَرَاباً أي فصارتْ بعدَ تسييرِها مثلَ السرابِ كقولِه تعالى وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هباء منبثا أي غُباراً مُنتشراً وهيَ وان اندكت ونصدعت عند النَّفخةِ الأولى لكنْ تسييرُها وتسويِةُ الأرضِ إنَّما يكونانِ بعد النَّفخةِ الثانيةِ كما نطق به قوله تعالى ويسألونك عن الجبال فقل ينفسها رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صفصفا لا ترى فيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى وقولُه تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسموات وبرزوا الله الواحد الْقَهَّارِ فإنَّ اتّباعَ الدَّاعِي الذي هُو إسرافيلُ عليهِ السَّلام وبروزُ الخلقِ لله تعالى لا يكونُ إلا بعدَ النَّفخةِ الثَّانيةِ

21

إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً شروعٌ في تفصيل أحكامِ الفصلِ الذي أضيفَ إليه اليوم اثر بيان هو له ووجهُ تقديمِ بيانِ حالِ الكفارِ غنيٌّ عن البيان والمرصادُ اسمٌ للمكان الذي يُرصد فيه كالمضمارِ الذي هُو اسمٌ للمكان الذي يُضمَّر فيه الخيلُ والمنهاجُ اسمٌ للمكانِ الذي ينهجُ فيهِ أيْ أنَّها كانتْ في حُكمِ الله تعالى وقضائِه موضعَ رصدٍ يرصدُ فيه خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها

22

للطاغين متعلق بمضمر هو إمَّا نعتٌ لمرصاداً أي كائناً للطاغينَ وقولُه تعالَى مآبا بدلٌ منه أيْ مرجعاً يرجعونَ إليهِ لا محالةَ وإمَّا حالٌ مِنْ مآبا قُدِّمت عليهِ لكونِه نكرةٌ ولو تأخرتْ لكانتْ صفةً له وقد جُوِّزَ أنْ يتعلقَ بنفسِ مآبا على أنَّها مرصادٌ للفريقينِ مآبٌ للكافرينِ خاصَّة ولا يَخْفى بُعدُه فإنَّ المتبادرَ من كونِها مرصاداً لطائفةٍ كونُهم معذبينَ بَها وقد قيلَ إنَّها مرصادٌ لأهل الجنةِ يرصدُهم الملائكةُ الذين يستقبلونَهم عندَها لأنَّ مجازَهم عليها وهي مآب للطاغين

78 سورة النبأ (23 29) وقيل المرصاد صيغة مبالغة من الرصد والمعنى أنها مجدة في ترصد الكفار لئلاَّ يشذَّ منُهم أحدٌ وقرىء أنَّ بالفتحِ على تعليلِ قيامِ الساعةِ بأنَّها مرصادٌ للطاغينَ

23

لابثين فِيهَا حالٌ مقدرةٌ من المستكنِّ في للطاغينَ وقُرىءَ لبثينَ وقوله تعالى أَحْقَاباً ظرفٌ للبثِهم أي دُهُوراً متتابعةً كلما مضَى حقبٌ تبعَهُ حقبٌ آخرُ إلى غيرِ نهايةٍ فإن الحقبَ لا يكادُ يستعملُ إلا حيثُ يرادُ تتابعُ الأزمنةِ وتواليها فليسَ فيه ما يدلُّ على تَنَاهِي تلكَ الأحقابِ ولو أُريدَ بالحقب ثمانونَ سنةً أو سبعونَ ألفَ سنةٍ وقولُه تعالى

24

لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً ولا شرابا إلا حميم وَغَسَّاقاً جملةٌ مبتدأه أخبرَ عنهم بأنهم لا يذوقون فيها شيئاً ما من بردَ ورَوْحٍ ينفسُ عنُهم حر النار ولا شرابٍ يُسكِّنُ من عطشِهم ولكنْ يذوقونَ فيها حميماً وغسَّاقاً وقيلَ البردُ النومُ وقرىء غساقا بالتخفيف وكلاهُما ما يسيلُ من صديدِهم

26

جَزَاء أي جُوزوا بذلكَ جزاءً وفاقا ذَا وفاقٍ لأعمالِهم أو نفسُ الوفاقِ مبالغةٌ أو وافقَها وِفاقاً وقُرِىءَ وَفَاقاً على أنَّه فَعالٌ من وَفَقُه كذا أي لاقَهُ

27

إنهم كانوا الا يَرْجُونَ حِسَاباً تعليلٌ لاستحقاقِهم الجزاءَ المذكورَ أي كانُوا لا يخافونَ أنْ يُحاسبُوا بأعمالهم

28

وكذبوا يآياتنا الناطقةِ بذلكَ كِذَّاباً أي تكذيباً مُفرطاً ولذلكَ كانُوا مصرينَ على الكفرِ وفنونِ المَعَاصِي وفِعَّالٌ من بابِ فَعَّلَ شائعٌ فيما بينَ الفصحاء وقرىء بالتخفيف وهو مصدرُ كذبَ قالَ فَصدَقتُها وَكذَبتُها والمرءُ ينفعُهُ كِذَابُه وانتصابُه إمَّا بفعلِه المدلولِ عليهِ بكذبوا أي وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذاباً وإما بنفس كذبوا لتضمينه معنى كذَّبوا فإنَّ كلَّ مَنْ يكذبُ بالحقِّ فهو كاذبٌ وقُرِىءَ كُذَّاباً وهو جَمعُ كاذبَ فانتصابُه على الحاليةِ أي كذَّبُوا بآياتِنا كاذبينَ وقد يكونُ الكذَّابُ بمعنى الواحدِ البليغِ في الكذبِ فيجعلُ صفةً لمصدرِ كذبوا أي تكذيبا كذابا مُفرطاً كذبُه

29

وَكُلَّ شىْء من الأشياءِ التي منْ جُملتِها أعمالُهم وانتصابُه بمضمرٍ يفسرُه أحصيناه أي حفظناهُ وضبطناهُ وقُرِىءَ

79 سورة النبأ (30 36) بالرفعِ على الابتداءِ كتابا مصدرٌ مؤكدٌ لأحصيناهُ لما أنَّ الإحصاءَ والكتبةَ من وادٍ واحدٍ أو لفعلِه المقدرِ أو حالٌ بمعنى مكتوباً في اللوحِ أو في صحفِ الحفظةِ والجملةُ اعتراضٌ وقولُه تعالى

30

فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً مسببٌ عن كفرِهم بالحسابِ وتكذيبِهم بالآياتِ وفي الالتفاتِ المنبىءِ عن التشديدِ في التهديدِ وإيرادِ لَنْ المفيدةِ لكونِ تركِ الزيادةِ من قبيل مالا يدخلُ تحتَ الصحةِ من الدلالةِ على تبالُغِ الغضبِ مالا يخفى وقد روى النبي عليه الصلاةَ والسلام أنَّ هذهِ الآيةِ أشدُّ ما في القرآنِ على أهلِ النَّارِ

31

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً شروعٌ في بيانِ محاسنِ أحوالِ المُؤمنين إثرَ بيانِ سوءِ أحوالِ الكفرةِ أي إنَّ للذينَ يتقونَ الكفرَ وسائرَ قبائحِ أعمالِ الكفرةِ فوزاً وظفراً بمباغيهم أو موضعَ فوزٍ وقيلَ نجاةً ممَّا فيه أولئكَ أو موضعَ نجاةٍ وقولُه تعالى

32

حَدَائِقَ وأعنابا أيْ بساتينَ فيها أنواعٌ الأشجارِ المثمرةِ وكروماً بدلٌ منْ مفازاً

33

وَكَوَاعِبَ أي نساءٌ فلكتْ ثُديهنَّ وهُنَّ النَّواهدُ أَتْرَاباً أي لداتٍ

34

وَكَأْساً دِهَاقاً أي مُترعةً يقال أدهقَ الحوضَ أي ملأه

35

لايسمعون فِيهَا أي في الجنةِ وقيل في الكأسِ لَغْواً ولا كذابا أي لا ينطقونَ بلغوٍ ولا يكذب بعضاً وقُرِىءَ كِذاباً بالتخفيفِ أي لا يكذبُه أو لا يكاذبُه

36

جَزَاء مّن رَّبّكَ مصدرٌ مؤكدٌ منصوبٌ بمعنى أنَّ للمتقينَ مفازاً فإنه في قوَّةِ أنْ يقالَ جازَى المتقينَ بمفازٍ جزاءً كائناً من ربِّك والتعرّضُ لعنوانِ الربوبيةِ المُنْبئة عن التبليغِ إلى الكمالِ شيئاً فشيئاً مع الإضافة إلى ضميره عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مزيدُ تشريف له صلى الله عليه وسلم عطاء أي تفيضلا وإحساناً منه تعالَى إذْ لا يجبُ عليهِ شيءٌ وهو بدلٌ من جزاءً حساب صفةٌ لعطاءً بمعنى كافياً على مصدرٌ أقيمَ مقامَ الوصفِ أو بُولغَ فيه من أحسبهُ الشيءُ إذا كفاهُ حتَّى قال حَسْبي وقيلَ على حسبِ أعمالِهم وقُرىءَ حِسَّاباً بالتشديدِ على أنَّه بمعنى المتحسب كالدراك بمعنى المدرك

79 سورة النبأ (37 38)

37

رب السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بدلٌ من ربِّك وقولُه تعالَى الرحمن صفةٌ له وقيلَ صفةٌ للأولِ وأيا ما كان ففي ذكرِ ربوبيتِه تعالى للكلِّ ورحمتِه الواسعةِ إشعارٌ بمدارِ الجزاءِ المذكورِ وقوله تعالى لايملكون مِنْهُ خِطَاباً استئنافٌ مقررٌ لما أفادَهُ الربوبيةُ العامةُ من غايةِ العظمةِ والكبرياءِ وإستقلاله تعالى بما ذُكر من الجزاءِ والعطاءِ من غير أن يكون لأحدٍ قدرةٌ عليهِ وقُرِىءَ برفعِهما فقيلَ على أنَّهما خبرانِ لمبتدأٍ مضمرٍ وقيلَ الثَّانِي نعتٌ للأولِ وقيلَ الأَولُ مبتدأٌ والثاني خبرُهُ ولا يملكونَ خبرٌ آخرُ أو هو الخبرُ والرحمنُ صفةٌ للأولِ وقيلَ لا يملكونَ حالٌ لازمةٌ وقيلَ الأولُ مبتدأٌ والرحمنُ مبتدأٌ ثان ولايملكون خبرُه والجملةُ خبرٌ للأولِ وحصلَ الربطَ بتكريرِ المبتدأِ بمعناهُ على رأي مَنْ يقولُ بهِ والأوجهُ أنْ يكونَ كلاهُما مرفوعاً على المدحِ أو يكونَ الثانِي نعتاً للأولِ ولا يملكونَ استئنافاً على حالِه ففيهِ ما ذُكر من الإشعارِ بمدار الجزاء والعطاءِ كما في البدليةِ لما أنَّ المرفوعَ أو المنصوبَ مدحاً تابعٌ لما قبله معنى إن كان مَنقطعاً عنه إعراباً كما فُصِّل في قولِه تعالى الذين يؤمنون بالغيب من سورةِ البقرةِ وقُرىء بجرِّ الأَولِ على البدليةِ ورفعِ الثانِي على الابتداءِ والخبرُ ما بعدَهُ أو على أنَّه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ وما بعدَهُ استئنافٌ أو خبرٌ ثانٍ أو حالٌ وضميرُ لا يملكونَ لأهلِ السمواتِ والأرضِ أي لا يملكون أنْ يخاطبُوه تعالَى من تلقاءِ أنفسِهم كما ينبىءُ عنه لفظُ الملكِ خطاباً مَا في شيءٍ مَا والمرادُ نفيُ قدرتِهم على أنْ يخاطبُوه تعالَى بشيءٍ من نقص العذابِ أو زيادةِ الثوابِ من غيرِ إذنِه على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وقيلَ ليسَ في أيديهم ممَّا يخاطب الله به يأمر به في أمرِ الثوابِ والعقابُ خطابٌ واحدٌ يتصرفونَ فيه تصرفَ الملاَّكِ فيزيدونَ فيهِ أو ينقصونَ منْهُ

38

يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً قيلَ الروحُ خلقٌ أعظمُ من الملائكةِ وأشرفُ منهم وأقربُ من ربِّ العالمين وقيل هم مَلكٌ ما خلقِ الله عزَّ وجلَّ بعدَ العرشِ خلقاً أعظمَ منْهُ عنِ ابن عباس رضي الله عنهُمَا أنَّه إذا كانَ يومُ القيامةِ قامَ هو وحدَهُ صَفّاً والملائكةُ كلُّهم صفاً وعنْهُ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ الروحُ جندٌ من جنودِ الله تعالى ليسوا ملائكة لهم رؤس وأيدٍ وأرجلٌ يأكلونَ الطعامَ ثُمَّ قرأَ يومَ يقومُ الروحُ الآيةَ وهذَا قولُ أبي صالحٍ ومجاهدٍ قالُوا ما ينزلُ من السماءِ ملكٌ إلا ومعه واحدٌ منُهم نقلَهُ البغويُّ وقيل هم أشرافُ الملائكةُ وقيلَ هم حفظة على الملائكة وقيلَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ وصفَّا حالٌ أي مصطفينَ قيلَ هما صفَّانِ الروحُ صفٌّ واحدٌ أو متعددٌ والملائكةُ صفٌّ وقيلَ صفوفٌ وهو الأفق لقولِه تعالى والملك صَفّاً صَفّاً وقيلَ يقومُ الكُلُّ صفّاً وَاحِداً ويومَ ظرفٌ لقولِه تعالى لاَّ يَتَكَلَّمُونَ وقوله تعالى إِلاَّ مِن أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً بدلٌ من ضميرِ لا يتكلمونَ العائدِ إلى أهلِ السمواتِ والأرضِ الذينَ من جُملتهم الروحُ والملائكةُ وذكرُ قيامِهم واصطفافِهم لتحقيق عظمةِ سلطانِه وكبرياءِ ربوبيتِه وتهويلِ يومِ البعثِ الذي عليهِ مدارُ الكلامِ من

79 سورة النبأ (39 40) مطلعِ السُّورةِ الكريمةِ إلى مقطعِها والجملةُ استئنافٌ مقررٌ لمضمونِ قولِه تعالى لا يملكون الخ ومؤكد له على مَعْنى أنَّ أهلَ السمواتِ والأرضِ إذَا لم يقدرُوا يومئذٍ على أنْ يتكلمُوا بشيءٍ من جنسِ الكلامِ إلاَّ مَنْ أذنَ الله تعالى له منُهم في التلكم وقال ذلكَ المأذونُ له قولاً صواباً أي حقّاً فكيفَ يملكون خطابَ ربِّ العزةِ مع كونه أخصَّ من مطلق الكلامُ وأعزَّ منه مراماً لا على مَعْنى أنَّ الروحَ والملائكةَ مع كونِهم أفضلَ الخلائقِ وأقربَهم من الله تعالى إذَا لم يقدرُوا أنْ يتكلمُوا بما هُو صوابٌ من الشفاعة لمن ارتضَى إلا بإذنه فكيف يكلمه غيرُهم كما قيلَ فإنَّه مؤسَّسٌ على قاعدة الاعتزالِ فمن سلكَهُ مع تجويزه أنْ يكونَ يومَ ظرفاً للايملكونَ فقد اشتبَه عليهِ الشؤن واختلطَ به الظنونُ وقيلَ إلا من أذنَ الخ منصوبٌ على أصلِ الاستثناءِ والمَعْنى لا يتكلمونَ إلا في حقِّ شخصٍ أَذِنَ لَهُ الرحمنُ وَقَالَ ذلكَ الشخصُ صواباً أي حقَّاً هُو التوحيدُ وإظهارُ الرحمنِ في موضعِ الإضمارِ للإيذانِ بأنَّ مناطَ الإذنِ هو الرحمةُ البالغةُ لا أنَّ أحداً يستحقُّه عليهِ سبحانَه وتعالَى

39

ذلك إشارةٌ إلى يوم قيامِهم على الوجه المذكورِ وما فيه من معنى البعد مع قرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذان بعلو درجتِه وبُعد منزلتِه في الهولِ والفخامةِ ومحلُّه الرفعُ على الابتداءِ خبرُه ما بعدَهُ أي ذلكَ اليومُ العظيمُ الذي يقومُ فيه روح والملائكةُ مصطفينَ غيرَ قادرينَ هُم وغيرُهم على التكلمِ من الهيبةِ والجلالِ اليوم الحق أي الثابتُ المتحققُ لا محالة من غير صارفٍ يلويهِ ولا عاطفٍ يثنيهِ والفاءُ في قولِه تعالى فَمَن شَاء اتخذ إلى ربه مآبا فصيحة تصفح عن شرطٍ محذوفٍ ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ لوقوعِها شرطاً وكونِ مفعولِها مضمونَ الجزاءِ وانتفاءِ الغرابةِ في تعلقِه بها حسبَ القاعدةِ المستمرةِ وإلى ربِّه متعلقٌ بمآباً قدم عليه اهتماما به ورعايةً للفواصلِ كأنَّه قيلَ وإذا كان الأمر كما ذُكرَ منْ تحققِ اليومِ المذكورِ لا محالةَ فمن شاءَ أن يتخذَ مرجعاً إلى ثوابِ ربِّه الذي ذُكِرَ شأنُه العظيمُ فعلَ ذلكَ بالإيمانِ والطاعةِ وقالَ قَتَادةُ مآباً أي سبيلاً وتعلق الجارية لما فيه من معنى الإفضاءِ والإيصالِ كما مرَّ في قوله تعالى مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً

40

إِنَّا أنذرناكم أيْ بمَا ذُكرَ في السورةِ من الآيات الناطقةِ بالبعث وبمَا بعدَهُ من الدَّواهي أو بها بسائر القوارعِ الواردةِ في القرآن عَذَاباً قَرِيباً هو عذابُ الآخرة وقربه لتحقيق إتيانِه حَتْماً ولأنَّه قريبٌ بالنسبة إليه تعالى وإنْ رَأَوْه بعيداً وسيرونَهُ قريباً لقولِه تعالى كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها وعن قَتَادَةَ هو عقوبةُ الدُّنيا لأنَّه أقربُ العذابينِ وعن مقاتلٍ هو قتلُ قريشٍ يوم بدر وقوله تعالى يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ فإنَّه إما بدلٌ من عذاباً أو ظرفٌ لمضمرٍ هو صفةٌ له أي عذاباً كائناً يومَ ينظرُ المرءُ أي يشاهد

79 سورة النازعات (1 5) ما قدمَهُ من خيرٍ أو شرَ على أنَّ مَا موصولةٌ منصوبةٌ بينظرُ والعائدُ محذوفٌ أو ينظرُ أيَّ شيءٍ قدمتْ يداهُ على أنَّها استفهاميةٌ منصوبةٌ بقدمتْ وقيلَ المرءُ عبارةٌ عن الكافر وما في قوله تعالى وَيَقُولُ الكافر يا ليتني كُنتُ ترابا ظاهرٌ وُضع موضعَ الضميرِ لزيادةِ الذمِّ قيلَ معنى تمنيهِ ليتني كنتُ تراباً في الدُّنيا فلم أخلق ولم ولم أُكلَّف أو ليتني كنتُ تُراباً في هذا اليومِ فلم أُبعثْ وقيلَ يحشرُ الله تعالى الحيوانَ فيقتصُّ للجمَّاءِ من القرناءِ ثم يردُّه تراباً فيودُّ الكافرُ حالَه وقيلَ الكافرُ إبليسُ يَرَى آدمَ وولدَهُ وثوابَهُم فيتمنَّى أنْ يكونَ الشيءَ الذي احتقرَهُ حينَ قالَ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ من طينٍ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ عَمَّ يتساءلونَ سقاهُ الله تعالى بردَ الشرابِ يومَ القيامةِ والحمدُ لله وحده سورة النازعات مكية آياتها ست وأربعون {بسم الله الرحمن الرحيم}

النازعات

{والنازعات غَرْقاً} {والناشطات نَشْطاً} {والسابحات سَبْحاً فالسابقات سَبْقاً} {فالمدبرات أَمْراً} إقسامٌ من اللَّهِ عزَّ وجل بطوائف الملائكةِ الذينَ ينزِعونَ الأرواحَ من الأجساد على الإطلاقِ كما قاله ابن عباس رضيَ الله عنهُمَا ومجاهدٌ أو أرواحَ الكفرةِ كما قالَهُ عليٌّ رضيَ الله عنْهُ وابنُ مسعودٍ وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ ومسروقٌ وينشِطونَها أي يُخرجونَها من الأجسادِ من نشَطَ الدلوَ من البئرِ إذا أخرجَها ويسبحونَ في إخراجِها سبحَ الغواصِ الذي يُخرجُ من البحرِ ما يخرجُ فيسبقونَ بأرواحِ الكفرةِ إلى النارِ وبأرواحِ المؤمنينَ إلى الجنةِ فيدبرونَ أمرَ عقابِها وثوابِها بأنْ يهيؤها لإدراك ما أعدلها منَ الآلامِ واللَّذاتِ والعطفُ مع اتحاد الكل بتزيلي التغايرِ الذاتيِّ كما في قوله

79 سورة النازعات (6 7) إلى الملكِ القَرمِ وابنِ الهُمام وليثِ الكتائبِ في المُزدَحمْ [للإشعارِ بأنَّ كلَّ واحدٍ من الأوصافِ المعدودةِ من معظماتِ الأمورِ حقيقٌ بأن يكونَ على حيالِه مناطاً لاستحقاقِ موصوفِه للإجلالِ والإعظامِ بالإقسامِ بهِ من غيرِ انضمامِ الأوصافِ الأُخرِ إليهِ والفاءُ في الأخيرينِ للدلالةِ على ترتبِهما على ما قبلهما بغير مهملة كما في قوله] يا لهف زبابة الصائح فالغانمِ فالآئبِ [وغَرْقاً مصدرٌ مؤكِّدٌ بحذف الزَّوائد أيْ إغراقاً في النزع حيثُ تنزعُها منْ أقاصِي الأجسادِ قال ابن مسعود رضي الله عنه تنزعُ روحَ الكافرِ من جسدِه من تحتِ كلِّ شعرةٍ ومن تحتِ الأظافيرِ وأصولِ القدمينِ ثم تُغرقها في جسدِه ثم تنزعُها حتَّى إذَا كادتْ تخرجُ تردها في جسدِه فهذا عملُها بالكفار وقيلَ يَرى الكافرُ نفسَهُ في وقت النزعِ كأنها تغرقُ وانتصابُ نَشْطاً وسَبْحاً وسَبْقاً أيضاً على المصدريةِ وأما أمراً فمفعول للمدبرات وتنكيره وللتهويل والتفخيمِ ويجوزُ أنْ يُرادَ بالسابحاتِ وما بعدَهَا طوائفُ من الملائكةِ يسبحونَ في مُضيهم أي يُسرعونَ فيهِ فيسبقونَ ألى مَا أُمروا بهِ من الأمورِ الدنيويةِ والأخرويةِ والمُقسمُ عليهِ محذوفٌ تَعْويلاً على إشارةِ ما قبلَهُ من المقسمِ بهِ إليهِ ودلالةِ ما بعدَهُ من أحوالِ القيامةِ عليهِ وهو لتبعثنَّ فإنَّ الإقسامَ بمَنْ يتولَّى نزعَ الأرواحِ ويقومُ بتدبيرِ أُمورِها يلوحُ بكونِ المقسمِ عليهِ من قبيلِ تلكَ الأمورِ لا محالةَ وفيهِ مِنَ الجزالةِ مالا يَخْفى وقَدْ جُوِّزَ أنْ يكونَ إقساماً بالنجومِ التي تنزعُ من المشرقِ إلى المغربِ غرقاً في النزعِ بأن تقطعَ الفَلكَ حتَّى تنحطَّ في أقْصَى الغربِ وتنشطَ من برجٍ إلى برجٍ أي تخرجُ من نشطِ الثورِ إذَا خرجَ من بلدٍ إلى بلدٍ وتسبحُ في الفلكِ فيسبقُ بعضُها بعضاً فتدبرُ أمراً نيطَ بهَا كاختلاف الفصولِ وتقدير والأزمنة وتبينِ مواقيتِ العباداتِ وحيثُ كانتْ حركاتُها من المشرق إلى المغربِ قسريةً وحركاتُها من برجٍ إلى برجٍ ملائمةً عُبِّرَ عنِ الأُولى بالنزع وعن الثاني بالنشطِ أو بأنفسِ الغُزاةِ أو أيديهِم التي تنزعُ القِسِيَّ بإغراقِ السهامِ وينشطونَ بالسهمِ للرميِ ويسبحونَ في البرِّ والبحرِ فيسبقونَ إلى حربِ العدوِّ فيدبرونَ أمرَها أو بخيلِهم التي تنزعُ في أعنَّتِها نزعاً تغرقُ فيه الأعنةَ لطول أعناقِها لأنها عِرابٌ وتخرجُ منْ دارِ الإسلامِ إلى دارِ الحربِ وتسبحُ في جَريها لتسبق إلى الغابة فتدبرُ أمرَ الظفرِ والغلبةِ وإسنادُ التدبيرِ إليها لأنَّها من أسبابِه هذا والذي يليقُ بشأنِ التنزيلِ هُو الأول قوله تعالى

6

يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة منصوبٌ بالجوابِ المُضمرِ والمرادُ بالراجفةِ الواقعةُ التي ترجفُ عندَهَا الأجرامُ الساكنةُ أي تتحركُ حركة شديدة وتتنزلزل زلزلزلة عظيمةً كالأرضِ والجبالِ وهيَ النفخة الأولى وقيل الرجفة الأرضُ والجبالُ لقولِه تعالى يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال وقولُه تعالَى

7

تَتْبَعُهَا الرادفة أي الواقعةُ التي تُردِفُ الأُولى وهيَ النفخةِ الثانيةِ تابعةً لها لا قبلَ ذلكَ فإنَّه عبارةٌ عن الزمانِ الممتدِّ الذي يقعُ فيهِ النفختانِ وبينهما أربعونَ سنةً واعتبارُ امتدادِه معَ أنَّ البعثَ لا يكون إلا عند النفخةِ الثانيةِ لتهويل اليومِ ببيان كونه موقعا

79 سورة النازعات (8 10) لداهيتينِ عظيمتينِ لا يَبْقى عندَ وقوعِ الأُولى حيٌّ إلا ماتَ ولا عندَ وقوع الثانية إلا بُعثَ وقامَ ووجْهُ إضافتِه إلى الأُولى ظَاهِرٌ وقيلَ يومَ ترجفُ منصوبٌ باذكُرْ فتكونُ الجملةُ استئنافاً مقرراً لمضمون الجوابِ المُضْمرِ كأنَّه قيلَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم اذكُر لهم يومَ النفختينِ فإنه وقتُ بعثِهم وقيلَ هو منصوبٌ بما دلَّ عليه قولُه تعالَى

8

{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} أي يومَ ترجفُ وجفتِ القلوبُ قيلَ قلوبٌ مبتدأٌ ويومئذٍ متعلقٌ بواجفةٌ وهيَ صفةٌ لقلوبٌ مُسوِّغةٌ لوقوعِه مبتدأً وقوله تعالى

9

{أبصارها} أي أبصار أصحاب {خاشعة} جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ وقعتْ خبراً لقلوبٌ وقَدْ مرَّ أنَّ حقَّ الصفة أن تكون معلومةَ الانتسابِ إلى الموصوف عند السامعِ حتَّى قالُوا إن الصفاتِ قبلَ العلمِ بها أخبارٌ والأخبارُ بعدَ العلمِ بها صفاتٌ فحيثُ كانَ ثبوتُ الوجيفِ للقلوبِ وثبوتُ الخشوعِ لأبصارِ أصحابِها سواءً في المعرفةِ والجهالةِ كانَ جعلُ الأولِ عُنواناً للموضوعِ مسلمَ الثبوتِ مفروغاً عنْهُ وجعل الثاني مخبرا به مقصودَ الإفادةِ تحكماً بحتاً على أنَّ الوجيفَ الذي هُو عبارةٌ عنْ شدةِ اضطرابِ القلبِ وقلقِه من الخوفِ والوجلِ أشدُّ من خشوعِ البصرِ وأهولُ فجعلُ أهونَ الشرَّيْن عُمدةً وأشدِّهما فضلةً مما لا عهدَ له في الكلامِ وأيضاً فتخصيصُ الخشوعِ بقلوبٍ موصوفةٍ بصفةٍ معينةٍ غيرُ مشعرةٍ بالعمومِ والشمولِ تهوينٌ للخطب في موقع التهويلِ فالوجْهُ أنْ يُقالَ تنكيرُ قلوبٌ يقومُ مقامَ الوصفِ المختصِّ سواء على حمل التنويعِ كما قيلَ وإنْ لم يذكر النوع المقابل فإنَّ المَعْنى منسحبٌ عليهِ أو على التكثيرِ كما في شرٌّ أَهَرَّ ذَا نابٍ فإنَّ التفخيمَ كما يكونُ بالكيفيةِ يكونُ بالكميةِ أيضاً كأنَّه قيلَ قلوبٌ كثيرةٌ يومَ إذْ يقعُ النفختانِ واجفةٌ أيْ شديدةُ الاضطرابِ قال ابن عباس رضي الله عنهُما خائفةٌ وَجِلةٌ وقال السدى رائلة عنْ أماكنِها كما في قولِه تعالى إِذِ القلوب لَدَى الحناجر وقولُه تعالى

10

يقولون أننا لمردودن فِى الحافرة حكايةٌ لما يقولُه المنكرونَ للبعث المكذبونَ بالآيات الناطقةِ به إثرَ بيان وقوعِه بطريق التوكيدِ القَسَمي وذكر مقدماتِه الهائلةِ وما يعرضُ عندَ وقوعِها للقلوب والأبصارِ أي يقولونَ إذا قيلَ لهم إنكُم تبعثونَ منكرينَ له متعجبينَ منهُ أئنا لمردودونَ بعدَ موتِنا في الحافرة أي في الحالة الأُولى يعنونَ الحياةَ من قولهم رجعَ فلانٌ في حافرته أي في طريقتِه التي جاءَ فيها فحفرَها أي أثَّر فيها بمشيه وتسميتُها حافرةً مع أنها محفورةٌ كقولِه تعالَى فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ أي منسوبةٌ إلى الحفرِ والرِّضا أو كقولِهم نهارُه صائمٌ على تشبيهِ القابلِ بالفاعلِ وقُرِىءَ في الحُفْرةِ وهي بمعنى المحفورة

79 سورة النازعات (11 15) وقوله تعالى

11

ائذا كُنَّا عظاما نَّخِرَةً تأكيدٌ لإنكار الردِّ ونفيِه بنسبتِه إلى حالةٍ منافيةٍ له والعاملُ في إذَا مضمرٌ يدلُّ عليهِ مردودونَ أي أَئِذا كُنَّا عظاماً باليةً نُردُّ ونبعثُ مع كونِها أبعدَ شيءٍ من الحياةِ وقُرِىءَ إذَا كُنَّا على الخبرِ أو إسقاطِ حرفِ الإنكارِ وناخرةٌ منْ نَخَر العظمُ فهو نَخِرٌ ونَاخِرٌ وهُو البَالِي الأَجْوفُ الذي يمرُّ به الريحُ فيُسمعُ له نخيرٌ

12

قالوا حكاية لكفر آخرهم متفرعٍ على كُفْرِهم السابقِ ولعلَّ توسيطَ قالُوا بينهُمَا للإيذانِ بأنَّ صدورَ هذا الكفرِ عنهُم ليسَ بطريقِ الاطرادِ والاستمرارِ مثلَ كفرِهم السابقِ المستمرِّ صدورُه عنهُم في كافةِ أوقاتِهم حسبَما ينبىءُ عنْهُ حكايتُه بصيغةِ المضارعِ أيْ قالُوا بطريق الاستهزاءِ مشيرينَ إلى ما أنكرُوه من الردة في الحافرةِ مشعرينَ بغايةِ بُعدِها من الوقوعِ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسرة أي ذاتُ خسرانٍ أو خاسرةٌ أصحابُها أيْ إنْ صحَّتْ فنحنُ اذن خاسرون لتكذبينا بهَا وقولُه تعالَى

13

فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة تعليلٌ لمقدَّرٍ يقتضيهِ إنكارُهم لإحياءِ العظامِ النخرةِ التي عبرُوا عنهَا بالكرَّةِ فإنَّ مدارَهُ لما كانَ استصعابُهم إيَّاها ردَّ عليهم ذلكَ فقيلَ لا تستصعبُوهَا فإنَّما هيَ صيحةٌ واحدةٌ أي حاصلةٌ بصيحةٍ واحدةٍ وهي النفخةُ الثانيةُ عبِّر عنهَا بها تنبيها على كمال اتصالِها بها كأنَّها عينُها وقيلَ هيَ راجعٌ الى الرادفة فقوله تعلى

14

فَإِذَا هُم بالساهرة حينئذٍ بيانٌ لترتب الكرّةِ على الزجرة مفاجأة اي فاذا هُم أحياءٌ على وجه الأرضِ بعدَ ما كانُوا أمواتاً في جَوفِها وعلى الأول بيانٌ لحضورِهم الموقفَ عقيبَ الكرةِ التي عبرَ عنها بالزجرةِ والساهرةُ الأرضُ البيضاءُ المستويةُ سُميتْ بذلكَ لأنَّ السرابَ يَجْري فيهَا من قولِهم عينٌ ساهرةٌ جاريةُ الماءِ وفي ضِدِّهَا نائمةٌ وقيلَ لأنَّ سالِكَها لا ينامُ خوفَ الهلكةِ وقيل اسمٌ لجهنمَ وقالَ الراغبُ هي وجهُ الأرضِ وقيلَ هيَ أرضُ القيامةِ ورَوَى الضحَّاكُ عنِ ابنِ عباس رضي الله عنهما أنَّ الساهرةَ أرضٌ من فضةٍ لم يعصَ الله تعالَى عليهَا قطْ خلقَها حينئذٍ وقيلَ هيَ أرضٌ يجددها الله عزَّ وجلَّ يومَ القيامةِ وقيلَ هيَ اسمُ الأرضِ السابعةِ يأتِي بها الله تعالَى فيحاسبُ الخلائقَ عليها وذلك حين تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض وقال الثوريُّ الساهرةُ أرضُ الشامِ وقال وهبُ بنُ منبهٍ جبلُ بيتِ المقدسِ وقيل الساهرةُ بمَعْنى الصحراء على شفيرِ جهنمَ وقولُه تعالى

15

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى كلامٌ مستأنفٌ واردٌ لتسلية رسولة الله صلى الله عليه وسلم من تكذيبِ قومِه بأنَّه يصبهم مثل ما أصاب

79 سورة النازعات (16 20) من كانَ أَقْوى منهُم وأعظمَ ومَعْنى هلْ أتاكَ إنِ اعتُبرَ هذا أولَ ما أتاهُ عليه الصلاةُ والسلامُ من حديثِه عليه السلامُ ترغيبٌ له عليه الصلاةُ والسلامُ في استماعِ حديثِه كأنَّه قيلَ هل أتاكَ حديثُه أنَا أُخبرَك بهِ وإنِ اعتُبرَ إتيانُه قبل هذا وهُو المتبادرُ من الإيجازِ في الاقتصاصِ حملَهُ عليه الصلاة والسلام على أنْ يقرَّ بأمرٍ يعرفُه قبلَ ذلكَ كأنَّه قيلَ أليس قد أتاكَ حديثُه وقولُه تعالَى

16

إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس ظرفٌ للحديثِ لا للإتيانِ لاختلافِ وَقْتَيهِما طُوًى بضمِّ الطاءِ غيرُ منونٍ وقُرِىءَ منوناً وقُرِىءَ بالكسرِ منوناً وغيرَ منونٍ فمَنْ نونَّهُ أوَّلهُ بالمكانِ دونَ البقعة وقيل هو كشنى مصدرٌ لنَادَى أو المقدسِ أيْ ناداهُ ندائينِ أو المقدسِ مرةً بعدَ أُخْرى

17

اذهب إلى فِرْعَوْنَ على إرادةِ القولِ وقيلَ هو تفسيرٌ للنداءِ أي ناداهُ إذهبْ وقيلَ هُو على حذفِ أَنِ المفسرةِ ويدلُّ عليه قراءةُ عبدِ اللَّهِ أنِ اذهبْ لأنَّ في النداءِ مَعْنى القولِ إِنَّهُ طغى تعليلٌ للأمرِ أو لوجوبِ الامتثالِ بهِ

18

فقل بعدما أتيتَهُ هَل لَّكَ رغبةٌ وتوجهٌ إلى أَن تزكى بحذف إحدى التاءين من تتزكَّى أيْ تتطهرُ من دنسِ الكُفرِ والطغيانِ وقُرِىءَ تزَّكَّى بالتشديدِ

19

وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ وأُرشدكَ إلى معرفتِه عزَّ وجلَّ فتعرِفَهُ فتخشى إذِ الخشيةُ لا تكونُ إلا بعدَ معرفتِه تعالَى قالَ عزَّ وجلَّ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء وجَعلُ الخشيةِ غايةً للهدايةِ لأنَّها مِلاكُ الأمرِ مَنْ خشَى الله تعالى أتَى منْهُ كلَّ خيرٍ ومَنْ أَمِنَ اجتر على كلِّ شرَ أُمرَ عليه الصلاة والسلام بأن يخاطبَهُ بالاستفهامِ الذي معناهُ العرضُ ليستدعيَهُ بالتلطفِ في القولِ ويستنزلَهُ بالمُداراةِ من عُتوِّهِ وهذا ضربُ تفصيلٍ لقولِه تعالى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى والفاءُ في قولِه تعالَى

20

فَأَرَاهُ الأية الكبرى فصيحةٌ تُفصحُ عن جملٍ قد طُويتْ تعويلاً على تفصيلِها في السورِ الأُخرى فإنه عليه الصلاة والسلام ما أراه اياها عيب هذا الأمرِ بل بعدَ ما جَرى بينَهُ وبين الله تعالَى ما جَرى من الاستدعاءِ والإجابةِ وغيرِهما من المراجعاتِ وبعد ما جَرَى بينَهُ وبينَ فرعونٍ ما جَرَى من المحاوراتِ الى أن قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بآية فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين والإراءةُ إما بمَعْنى التبصيرِ أو التعريفِ فإن اللعينَ حينَ أبصرَها عرفَها وادعاءُ سحريتها إنَّما كانَ إراءةً منهُ وإظهاراً للتجلدِ ونسبتُهَا إليه عليه الصلاة والسلام بالنظرِ إلى الظاهرِ كما أنَّ نسبتَها إلى نونِ العظمةِ في قولِه تعالى وَلَقَدْ أريناه آياتنا بالنظر

79 سورة النازعات (21 25) إلى الحقيقةِ والمرادُ بالآية الكُبْرى قلبُ العصَا حيةً وهو قولُ ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا فإنَّها كانتِ المقدمةَ والأصلَ والأُخْرَى كالتبع لها أوهما جَميعاً وهو قَولُ مجاهدٍ فإنَّهما كالآيةِ الواحدةِ وقدْ عبرَ عنهُمَا بصيغةِ الجمعِ حيثُ قالَ اذهب أَنتَ وأخوك بآياتي باعتبر ما في تضاعيفهما من بدائع الأمورِ التي كلٌّ منهَا آيةٌ بينةٌ لقومٍ يعقلون كما في سورة طه ولا مساغَ لحملها على مجموع معجزاتِه فإن ما عدا هاتين الآيتين من الآيات التسعِ إنما ظهرتْ على يدِه عليه الصلاةُ والسلامُ بعدَ مَا غلبَ السحرةَ على مهلٍ في نحوٍ من عشرينَ سنةً كما مرَّ في سورةِ الأعرافِ ولا ريب في أن هذا مطلعُ القصةِ وأمرُ السحرةِ مترقبٌ بعدُ

21

فَكَذَّبَ بمُوسَى عليهِ السلامُ وسمي معجزاته سِحْراً وعصى الله عزَّ وجلَّ بالتمردِ بعدَ ما علَم صحةَ الأمرِ ووجوبَ الطاعةِ أشدَّ عصيانٍ وأقبحَهُ حيثُ اجترأَ على إنكارِ وجودِ ربِّ العالمينَ رَأْساً وكان اللعينُ وقومُه مأمورينَ بعبادتِه عزَّ وجلَّ وتركِ العظيمةِ التي كانَ يدَّعِيها الطاغيةُ ويقبلُها منهُ فئتُه الباغيةُ لا بإرسالِ بني إسرائيلَ من الأسرِ والقَسْرِ فقطْ

22

ثُمَّ أَدْبَرَ أي تولَّى عن الطاعةِ أو انصرفَ عنِ المجلسِ يسعى أي يجتهدُ في معارضةِ الآيةِ أو أُريدَ ثم أقبلَ أي أنشأَ يسعَى فوضَع موضعَهُ أدبرَ تحاشياً عن وصفِه بالإقبالِ وقيلَ أدبرَ هارباً من الثعبانِ فإنَّه روي أنَّه عليه الصلاةُ والسلامُ لَمَّا ألقَى العَصَا انقلبتْ ثُعباناً أشعَرَ فاغراً فاهُ بين لَحْيَيهِ ثمانونَ ذراعاً وَضع لَحيَه الأسفلَ عَلى الأرضِ والأَعْلى على سُورِ القصرِ فتوجَّهَ نحوَ فرعونَ فهربَ وأحدثَ وانهزم الناس مردحمون فماتَ منهُم خمسةٌ وعشرونَ ألفاً من قومِه وقيلَ إنها حينَ انقلبتْ حيةً ارتفعتْ في السماءِ قدرَ ميلٍ ثمَّ انحطتْ مُقبلةً نحوَ فرعونٍ وجعلتْ تقولُ يا مُوسَى مُرْني بما شئتَ ويقولُ فرعونُ أنشدكَ بالذي أرسلكَ إلا أخذتَه فأخذَهُ فعادَ عصا ويأباهُ أنَّ ذلكَ كانَ قبلَ الإصرار على التكذيبِ والعصيانِ والتصدِّي للمعارضة كما يعربُ عنه قولُه تعالَى

23

فَحَشَرَ أي فجمعَ السحرةَ لقولِه فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى المدائن حاشرين وقوله تعالى فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي ما يُكادُ به من السحرة وآلاتِهم وقيلَ جنودُه ويجوزُ أنْ يرادَ جميعُ الناسِ فنادى في المجمع بنفسه أو بواسطة المُنادِي

24

فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى قيلَ قامَ فيهم خطيباً فقال تلكَ العظيمةَ

25

فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الأخرة والأولى النكالُ بمَعْنى التنكيلِ كالسلامِ بمعنى التسليمِ وهو التعذيبُ الذي ينكلُ منْ

79 سورة النازعات (26 29) رآهُ أو سمعَهُ ويمنعُه من تعاطِي ما يُفضِي اله ومحلُّه النصبُ على أنَّه مصدرٌ مُؤكدٌ كوعدَ الله وصبغةَ الله كأنَّه قيلَ نكَّلَ الله به نكالَ الآخرةِ والأُولى وهو الإحراقُ في الآخرة والإغراقُ في الدُّنيا وقيلَ مصدرٌ لأخذَ أي أخذَهُ الله أخذَ نكالِ الآخرةِ الخ وقيلَ مفعولٌ له أي أخذَهُ لأجل نكالِ الخ وقيلَ نُصب على نزعِ الخافضِ أي أخذَهُ بنكال الآخرةِ والأولى واضافته الى الداين باعتبار وقوعِ نفسِ الأخذِ فيهمَا لا باعتبارِ أنَّ ما فيه من معنى المنعِ يكونُ فيهمَا فإن ذلكَ لا يتصورُ في الآخرةِ بل في الدُّنيا فإن العقوبةَ الأخرويةَ تنكلُ من سمعَها وتمنعُه من تعاطِي ما يُؤدي إليها لا محالةَ وقيلَ المرادُ بالآخرةِ والأُولى قولُه أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى وقولُه مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى قيل كان بينَ الكلمتينِ أربعونَ سنةً فالإضافةُ إضافةُ المسبِّبِ إلى السببِ

26

إِنَّ فِى ذَلِكَ أي فيمَا ذُكِرَ من قصة فرعونَ وما فَعَل وما فُعلِ به لَعِبْرَةً عظيمةً لّمَن يخشى أي لمَنْ مِنْ شأنِه أنْ يخشَى وهو مَنْ مِنْ شأنِه المعرفة وقوله تعالى

27

أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً خطابٌ لأهل مكةَ المنكرين للبعث بناءً على صعوبتِه في زَعْمِهم بطريقِ التوبيخِ والتبكيتِ بعدَ ما بيّنَ كمالُ سهولتِه بالنسبةِ إلى قُدرةِ الله تعالى بقولِه تعالى فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة أي أخلقُكُم بعد موتِكم أشدُّ أي أشقُّ وأصعبُ في تقديرِكم أَمِ السماء أي أمْ خلقُ السماءِ على عِظَمِها وانطوائِها على تعاجيبِ البدائعِ التي تحارُ العقولُ عن ملاحظةِ أدناهَا كقولِه تعالى لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس وقولِه تعالى أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وقولِه تعالى بناها الخ بيانٌ وتفصيلٌ لكيفيةِ خلقِها المستفادِ من قولِه أمِ السماءُ وفي عدمِ ذكرِ الفاعلِ فيه وفيما عُطف عليهِ من الأفعالِ من التنبيهِ على تعينِه وتفخيمِ شأنِه عزَّ وجلَّ ما لا يخفى وقوله تعالى

28

رَفَعَ سَمْكَهَا بيانٌ للبناء أي جعلَ مقدارَ ارتفاعِها من الأرضِ وذهابِها إلى سمتِ العلوِّ مديداً رفيعاً مسيرةً خمسمائةِ عامٍ فَسَوَّاهَا فعلدها مستويةً ملساءَ ليسَ فيها تفاوتٌ ولا فطورٌ أو فتممَها بما عَلم أنها تتمُّ بهِ من الكواكبِ والتداويرِ وغيرِها مما لا يعلمُه إلا الخلاَّقُ العليمُ من قولِهم سَوَّى أمرَ فلان إذا صلحه

29

{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} أي جعلَه مظلماً يقال غطشَ الليلُ وأغطشَهُ الله تعالَى كما يقالُ ظلَم وأظلَمَهُ وقد مَرَّ هذا في قولِه تعالى وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ ويقال أيضاً أغطشَ الليلُ كما يقالُ أظلمَ {وَأَخْرَجَ ضحاها} أي أبرزَ نهارَهَا عبرَ عنْهُ بالضُّحىَ لأنه أشرفُ أوقاتهِ وأطيبُها فكانَ أحقَّ بالذكرِ في مقامِ الامتنانِ وهو السرُّ في تأخير ذكره عن ذكرِ الليلِ وفي التعبيرِ عن إحداثهِ بالاخراجِ فإنَّ إضافة النورِ بعد الظلمةِ أتمُّ في الإنعام

79 سورة النازعات (30 32) وأكملُ في الإحسانِ وإضافةُ الليلِ والضُّحى إلى السماء لدوران حدوثهما على حركتهما ويجوز أن تكون إضافة الضحى إليها بواسطةِ الشمسِ أي أبرزَ ضوءَ شمسِها والتعبيرُ عنه بالضُّحى لأنَّه وقت قيام سلطانها وكما إشراقِها

30

والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها أي بسطَها ومهَّدها لسكْنى أهلِها وتقلبِهم في أقطارِها وانتصابُ الأرضَ بمضمرٍ يفسرُه دحاهَا

31

{أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا} بأنْ فجرَ منها عيوناً وأجْرَى أنهاراً ومرعاها أي رعيَها وهو في الأصلِ موضعُ الرَّعِي وقيلَ هو مصدرٌ ميمي بمعنى مفعول وتجريدُ الجملةِ عن العاطفِ إما لأنَّها بيانٌ وتفسيرٌ لدحاهَا وتكملةٌ له فإنَّ السكْنى لا تتأتَّى بمجرد البسطِ والتمهيدِ بلْ لا بدَّ من تسوية أمرِ المعاشِ من المأكلِ والمشربِ حتماً وإما لأنها حالٌ من فاعلِه بإضمارِ قدْ عندَ الجمهورِ أو بدونِه عن الكوفيينَ والأخفشِ كما في قولِه تعالى أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ

32

والجبال منصوبٌ بمضمرٍ يفسرُهُ أرساها أي أثبتَها وأثبتَ بها الأرضَ أن تميدَ بأهلِها وهذا تحقيقٌ للحقِّ وتنبيهٌ على أنَّ الرسوَّ المنسوبَ إليهَا في مواضعَ كثيرةٍ من التنزيلِ بالتعبيرِ عنها بالرَّوَاسِي ليسَ من مقتضياتِ ذواتِها بلْ هو بإرسائِه عزَّ وجلَّ ولولاهُ لما ثبتتْ في أنفسِها فضلاً عنْ إثباتِها للأرضِ وقُرِىءَ والأرضُ والجبالُ بالرفعِ على الابتداءِ ولعلَّ تقديمَ إخراجِ الماءِ والمَرْعى ذكراً مع تقدمِ الإرساءِ عليهِ وجُوداً وشدةِ تعلقِه بالدَّحْوِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بأمرِ المأكلِ والمشربِ معَ ما فيهِ من دفعِ توهمِ رجوعِ ضميرَيْ الماءِ والمَرْعَى إلى الجبالِ وهذا كما ترى يدل يظاهره على تأخرِ دحوِ الأرضِ عن خلقِ السماءِ وما فيهَا كمَا يُروى عن الحسنِ مِنْ أنَّه تعالَى خَلَقَ الأرضَ فِى موضعِ بيتِ المقدسِ كهيئةِ الفِهْرِ عليه دخانٌ ملتزقٌ بها ثمَّ أصعدَ الدخانَ وخلقَ منهُ السمواتِ وأمسكَ الفِهْرَ في موضعِها وبسَط منها الأرضَ وذلكَ قولُه تعالى كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما الآيةَ وقد مرَّ في سورةِ حم السجدةِ أنَّ قولَه تعالَى قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ إلى قولِه تعالى ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ الآيةَ إنْ حُملَ ما فيهِ من الخلقِ وما عُطف عليهِ من الأفعالِ الثلاثةِ على معانيها الظاهرةِ لا على تقديرِها فهُو وما في سورةِ البقرةِ من قولِه تعالى هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الارض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات يدلانِ على تقدم خلقِ الأرضِ وما فيها على خلق السماءِ وما فيها وعليه إطباقُ أكثرِ أهلِ التفسيرِ وقد رُويَ أنَّ العرشَ كانَ قبلَ خلقِ السمواتِ والأرضِ على الماء ثم إنه تعالَى أحدثَ في الماء اضطراباً فأزبدَ فارتفعَ منه دخانٌ فأما الزبدُ فبقيَ على وجه الماءِ فخلق منه اليُبوسةَ فجعلَه أرضاً واحدةً ثم فتقَها فجعلَها أرَضينَ وأما الدخانُ فارتفعَ وعلاَ فخلقَ منه السمواتِ ورُويَ أنَّه تعالَى خلقَ جِرْمَ الأرضِ يومَ الأحدِ ويومَ

79 سورة النازعات (33 35) الاثنينِ ودحاهَا وخلقَ ما فيها يومَ الثلاثاءِ ويومَ الأربعاءِ وخلقَ السمواتِ وما فيهن يومَ الخميسِ ويومَ الجمعةِ وخلقَ آدمَ عليه السلامُ في آخرِ ساعةٍ منه وهيَ الساعةُ التي تقومُ فيها القيامةُ فالأقربُ كما قيل تأمويل هذه الآيةِ بأن يُجعلَ ذلكَ إشارةً إلى ذكِر ما ذُكِرَ من بناءِ السماءِ ورفعِ سَمِكها وتسويتِها وغيرَها لا إلى أنفسِها ويحمل بعدية في الذكرِ كما هُو المعهودُ في ألسنة العربِ والعجمِ لا في الوجود لما عرفتَ من أنَّ انتصابَ الأرضِ بمضمرٍ مقدمٍ قد حُذِفَ على شريطةِ التفسيرِ لا بما ذُكِرَ بعدَهُ ليفيدَ القصرَ وتتعينَ البعديةُ في الوجودِ وفائدةُ تأخيرِه في الذكرِ إما التنبيهُ على أنَّه قاصرٌ في الدلالةِ على القدرة القاهرةِ بالنسبةِ إلى أحوالِ السماءِ وإما الإشعارُ بأنَّه أدخلُ في الإلزامِ لما أنَّ المنافعَ المنوطةَ بما في الأرض أكثرُ وتعلقَ مصالحِ الناسِ بذلكَ أظهرُ وإحاطتَهم بتفاصيلِ أحوالِه أكملُ وليسَ ما رُويَ عن الحسنِ نصاً في تأخرِ دحوِ الأرضِ عن خلق السماءِ فإن بسطَ الأرضِ معطوفٌ على إصعادِ الدخانِ وخلقِ السماء بالواو هي بمعزلٍ من الدلالةِ على الترتيبِ هذا على تقديرِ حملِ ما ذكرَ في آياتِ سورةِ السجدةِ من الخلقِ وما عُطف عليهِ من الأفعالِ الثلاثةِ على معانيها الظاهرةِ وأما إذا حُملتْ على تقديرِها فلا دلالةَ فيها إلا على تقدمِ تقدير الأرضِ وما فيهَا على إيجاد السماءِ كما لا دلالةَ على الترتيب أصلاً إذا حُملتْ كلمةُ ثُمَّ فيها وفيمَا في سورةِ البقرةِ على التراخِي في الرتبةِ وقد سلفَ تفصيلُ الكلامِ في السورةِ المذكورةِ وقوله تعالى

33

متاعا لَّكُمْ ولأنعامكم إمَّا مفعول له أي فعل ذلكَ تمتيعاً لكُم ولأنعامِكم لأنَّ فائدةَ ما ذُكرَ من البسط والتميهد وإخراجِ الماءِ والمَرْعى واصلةٌ إليهم وإلى أنعامِهم فإن المراد المرعى ما يعمُّ ما يأكلُه الإنسانُ وغيرُه بناءً على استعارةِ الرَّعي لتناولِ المأكولِ على الإطلاقِ كاستعارةِ المرسنِ للأنفِ وقيلَ مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعلِه المضمرِ أي متَّعكُم بذلكَ متاعاً أو مصدرٌ من غير لفظه فإن قولَه تعالَى أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها في معنى متَّع بذلكَ وقوله تعالى

34

فإذا جاءت الطامة الكبرى أي الداهيةُ العُظمى التي تطمُّ على سائرِ الطاماتِ أي تعلُوها وتغلبُها وهي القيامةُ أو النفخةُ الثانيةُ وقيلَ هي الساعةُ التي يساق الخَلائقُ إلى محشرِهم وقيلَ التي يساق أهلُ الجنةِ إلى الجنةِ وأهلُ النارِ إلى النارِ شروعٌ في بيان أحوالِ معادِهم إثرَ بيانِ أحوالِ معاشِهم بقولِه تعالى متاعا لَّكُمْ الخ والفاءُ للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلَها عما قليل كما يبنى منه لفظُ المتاعِ

35

يوم يتذكر الإنسان ما سعى قيلَ هو بدلٌ من إذَا جاءتْ والأظهرُ أنه منصوبٌ بأَعْنِي كما قيلَ تفسيراً للطامةِ الكُبرى فإن الإبدالَ منها بالظرف المحضِ مما يُوهن تعلقَها بالجوابِ ويجوزُ أن يكونَ بدلاً من الطامةِ الكُبرى مفتوحاً لإضافتِه إلى الفعلِ على رأي الكوفيينَ أي يتذكر فيه كل

79 سورة النازعات (36 41) أحدٍ ما عملَهُ من خيرٍ أو شرَ بأنْ يشاهدَهُ مدوناً في صحيفةِ أعمالِه وقد كانَ نسيَهُ من فرطِ الغفلةِ وطولِ الأمدِ كقولِه تعالى أحصاه الله وَنَسُوهُ ويجوزُ أنْ تكونَ ما مصدريةً

36

وَبُرّزَتِ الجحيم عطفٌ على جاءتْ أي أظهرتْ إظهاراً بيناً لا يَخْفى على أحدٍ لِمَن يرى كائناً من كانَ يُروى أنه يكشف عنها فتتلظى فيرها كلُّ ذي بصرٍ وقرىء وبُرِزَتْ بالتخفيفِ ولمن رَأَى ولمن ترى على فيهِ ضميرَ الجحيمِ كما في قوله تعالى إذا رأتهم من مكان بعيد وعلى أنه خطابٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم أي لم تراهُ من الكفارِ وقولُه تعالى

37

فَأَمَّا مَن طغى الخ جوابُ فإذَا جاءتْ على طريقةِ قولِه تعالَى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى الآيةَ وقيلَ هُو تفصيلٌ للجوابِ المحذوفِ تقديرُه انقسمِ الراؤونَ قسمين فأما فأمَّا من الخ والذي تستدعيهِ فخامةُ التنزيلِ ويقتضيه مقامُ التهويلِ أنَّ الجوابَ المحذوفَ كانَ من عظائمِ الشؤن ما لَم تُشاهِدْهُ العيونُ كما مر في قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل أي فأما من عَتا وتمردَ عن الطاعةِ وجاوزَ الحدَّ في العصيانِ

38

آثر الحياة الدنيا الفانيةَ التي هي على جناحِ الفواتِ فانهمكَ فيما متعَ به فيهَا ولم يستعدَّ للحياةِ الأخرويةِ الأبديةِ بالإيمانِ والطاعةِ

39

فَإِنَّ الجحيم التي ذُكِرَ شأنُها هِىَ المأوى أي هيَ مأواهُ واللامُ سادَّةٌ مسدَّ الإضافةِ للعلمِ بأن صاحبَ المَأْوى هو الطاغِي كما في قولِكَ غُضَّ الطَّرْفَ ودخولُ اللامِ في المَأوى والطرفِ للتعريفِ لأنهما معروفانِ وهيَ إما ضميرُ فصلٍ أو مبتدأٌ قيلَ نزلتِ الآيةُ في النضرِ وأبيه الحرث المشهورينِ بالغُلوِّ في الكُفرِ والطغيانِ

40

وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ أيْ مقامَهُ بين يَدَيْ مالكِ أمرِه يومَ الطامةِ الكُبرَى يومَ يتذكرُ الإنسانُ ما سعَى وَنَهَى النفس عَنِ الهوى عن الميلِ إليهِ بحكمِ الجبلةِ البشريةِ ولم يعتدَّ بمتاعِ الحياةِ الدُّنيا وزهرتِها ولم يغترَّ بزخارفِها وزينتِها علماً منه بوخامة عاقبتِها

41

فَإِنَّ الجنة هِىَ المأوى لهُ لا غيرُهَا وقيلَ نزلت الآياتان في أبِي عزيزِ بنِ عميرٍ ومصعب بنِ عميرٍ وقد قتلَ مصعبٌ أخاهُ أبا عزيزٍ يومَ أحدٍ ووقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استُشهدَ رضيَ الله عنْهُ هذا وقد قيلَ جوابُ إذَا مَا يدلُّ عليهِ قولُه تعالَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الخ أيْ فإذَا جاءتِ الطامةُ الكُبْرى يتذكرُ الإنسانُ ما سَعَى على طريقة

79 سورة النازعات (42 45) قولِه تعالَى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ وقوله تعالى عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ فيكونُ قولُه تعالَى وَبُرّزَتِ الجحيم عطفاً عليهِ وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التحققِ أو حالاً من الإنسانِ بإضمارِ قدْ أو بدونِه على اختلافِ الرأيينِ ولمنْ يَرَى مغنٍ عن العائدِ وقولُه تعالى فَأَمَّا مَن طغى الخ تفصيلاً لحالَيْ الإنسانِ الذي يتذكرُ ما سَعَى وتقسيماً لهُ بحسبِ أعمالِه إلى القسمينِ المذكورين

42

يسألونك عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها مَتَى إرساؤُها أي إقامتُها يردون متى يقيمُها الله تعالَى ويثبتها ويكونها وقيل أيام مُنتهاهَا ومُستقرهَا كما أنَّ مَرسى السفينةِ حيثُ تنتهي إليهِ وتستقرُّ فيهِ وقولُه تعالى

43

فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إنكارٌ وردٌّ لسؤالِ المشركينَ عنْهَا أيْ في أيِّ شيءٍ أنت من تذكرَ لهُم وقتَها وتعلمهم بهِ حَتَّى يسألُونكَ بيانَها كقوله تعالى يسألونك كأنك خفي عَنْهَا أي ما أنتَ من ذكرها لهُم وتبيينِ وقتِها في شيءٍ لأنَّ ذلكَ فرعُ علمكَ به وأنَّى لكَ ذلكَ وهو مما استأثرَ بعلمه علامُ الغيوبِ ومن قال بصدد التعليل فإنَّ ذكرها لا زيدهم إلا غياً فقد نَأَى عن الحقِّ وقيلَ فيمَ إنكارٌ لسؤالهم وما بعدَهُ من الاستئنافِ تعليلٌ للإنكار وبيانٌ لبطلان السؤالِ أيْ فيمَ هذا السؤالُ ثمَّ ابتُدِىءَ فقيلَ أنتَ من ذكراه أي إرسالُك وأنتَ خاتمُ الأنبياءِ المبعوثُ في نسيم الساعةِ علامةٌ من علاماتِها ودليلٌ يدُلُّهم على العلمِ بوقُوعِها عن قريبٍ فحسبُهم هذه المرتبةُ من العلمِ فمَعْنى قولِه تعالى

44

إلى رَبّكَ منتهاها على هذا الوجهِ إليهِ تعالَى يرجع متهى علمِها أيْ علمُها بكُنهِها وتفاصيل أمرها ووقت وقوعِها لا إلى أحدٍ غيرِه وإنما وظيفتُهم أنْ يعلموا باقترابها ومشارفتا وقدْ حصلَ لهم ذلكَ بمبعثكَ فما مَعْنى سؤالِهم عنها بعدَ ذلك وأمَّا على الوجهِ الأولِ فمعناهُ إليهِ تعالَى انتهاءُ علمِها ليسَ لأحدٍ منه شيءٌ ما كائناً من كانَ فلأيِّ شيءٍ يسألونَكَ عنها وقولُه تعالى

45

إنما أنت منذر من يخشاها على الوجه الأولِ تقريرٌ لما قبلَهُ من قوله تعالى فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا وتحقيقٌ لما هُو المرادُ منه وبيانٌ لوظيفتِه عليه الصلاةُ والسلامُ في ذلكَ الشأنِ فإنَّ إنكارَ كونهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ في شيءٍ من ذِكراهَا مما يُوهمُ بظاهرِه أنْ ليسَ له عليهِ الصلاةُ والسلامُ أنْ يذكرَها بوجهٍ من الوجوهِ فأُزيحَ ذلكَ ببيانِ أنَّ المنفَى عنه عليه الصلاة والسلام ذكرُهَا لهم بتعيينِ وقتِها حسبَما كانُوا يسألونَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عنهَا فالمَعْنى إنما أنت منذر من يخشاهَا وظيفتُكَ الامتثالُ بما أمرت به من بيانِ اقترابِها وتفصيلِ ما فيها من فنُون الأهوالِ كما تحيطُ به خبراً لا تعيينِ وقتِها الذي لم يُفوضْ إليكَ فما لهم يسألونَكَ عمَّا ليسَ من وظائِفكَ بيانُه وعلى

79 سورة النازعات (46) الوجهِ الثانِي هو تقريرٌ لقولِه تعالى أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ببيانِ أنَّ إرسالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو خاتمُ الأنبياءِ عليهم السلامُ منذرٌ بمجيءِ الساعةِ كما ينطقُ به قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعثتُ أنَا والساعة كهاتي إنْ كادتْ لتسبقُني وقُرِىءَ منذرٌ بالتنوينِ وهو الأصلُ والإضافةُ تخفيفٌ صالحٌ للحالِ والاستقبالِ فإذا أُريدَ الماضِي تعينتِ الإضافةُ وتخصيصُ الإنذارِ بمن يخشَى مع عمومِ الدعوةِ لأنَّه المنتفعُ بهِ وقولُه تعالى

46

كأنهم يوم يرونها لم يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها إما تقريرٌ وتأكيدٌ لما ينبىءُ عنه الإنذارُ من سرعة مجيءِ المُنذَر بهِ لا سيَّما على الوجهِ الثَّانِي أيْ كأنَّهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار بها إلا عشيةَ يومٍ واحدٍ أو ضحاهُ فلما تُركَ اليومُ أضيفَ ضُحاه إلى عشيتِه وإمَّا ردٌّ لمَا أدمجُوه في سؤالِهم فإنَّهم كانُوا يسألونَ عنها بطريق الاستبطاءِ مستعجلينَ بها وإنْ كانَ على نهجِ الاستهزاءِ بهَا وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين فالمَعْنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعدَ الوعيدِ تحقيقاً للإنذارِ وردًّا لاستبطائِهم والجملةُ على الأولِ حالٌ من الموصولِ فإنَّه على تقديرَيْ الإضافةِ وعدمِها مفعولٌ لمنذرُ كما أنَّ قولَه تعالى كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار حالٌ من ضميرِ المفعولِ في يحشرُهم أي يحشرهم مشبيهن بمن لم يلبثْ في الدُّنيا إلا ساعةً خلا أن الشبهَ هناكَ في الأحوالِ الظاهرةِ من الزيِّ والهيئةِ وفيمَا نحنُ فيه في الاعتقاد كأنَّه قيلَ تنذرُهم مشبهينَ يومَ يَرَونها في الاعتقادِ بمن لم يلبثْ بعد الإنذارِ بها إلا تلك المدةَ اليسيرةَ وعلى الثانِي مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة النازعات كانَ ممن حبسَهُ الله عزَّ وجلَّ في القبرِ والقيامةِ حتى يدخلَ الجنةَ قدرَ صلاةٍ مكتوبةٍ والله أعلم

80 سورة عبس (1 3) سورة عبس مكية وآياتها اثنان وأربعون بسم الله الرحمن الرحيم

عبس

عَبَسَ وتولى أَن جَاءهُ الأعمى رُويَ أنَّ ابنَ أمِّ مكتومٍ واسمُه عبدُ اللَّه بنُ شُريحِ بنِ مالكِ بنِ أبي ربيعةَ الفهريُّ وأمُّ مكتومٍ اسمُ أم أبيهِ أتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعندَهُ صناديدُ قريشٍ عتبةُ وشيبةُ ابنا ربيعةَ وأبُو جهل بنُ هشامٍ والعباسُ بنُ عبدِ المطلبِ وأميةُ بنُ خلفٍ والوليدُ بنُ المغيرةِ يدعُوهم إلى الإسلامِ رجاءَ أنْ يسلمَ بإسلامِهم غيرُهم فقالَ له يا رسولَ الله أقرئْنِي وعلمنِي مما علمكَ الله تعالَى وكررَ ذلكَ وهو لا يعلمُ تشاغلَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ بالقوم فكرِه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس اعرض عنه فنزلتْ فكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يكرمُه ويقولُ إذا رآه مرحباً بمن عاتبَني فيه ربِّي ويقولُ لهُ هل لكَ من حاجةٍ واستخلفَهُ على المدينة مرتينِ وقرىء عبَّس بالتشديدِ للمبالغةِ وأنْ جاءَهُ علةٌ لتولَّى أو عَبَس على اختلافِ الرأيينِ أيْ لأَنْ جاءَهُ الأعمى والتعرضُ لعنوانِ عماهُ إمَّا لتمهيدِ عُذرِه في الإقدامِ على قطعِ كلامِه عليه الصَّلاة والسَّلام بالقومِ والإيذانِ باستحقاقه بالرفق والرأفة وما لزيادةِ الإنكارِ كأنَّه قيلَ تولَّى لكونِه أَعْمى كما أنَّ الالتفاتَ في قولِه تعالى

3

وَمَا يُدْرِيكَ لذلكَ فإنَّ المشافهةَ أدخلُ في تشديدِ العتابِ أيْ وأيُّ شيءٍ يجعلُكَ دارياً بحالِه حتى تُعرضَ عنْهُ وقولُه تعالى لَعَلَّهُ يزكى استئنافٌ واردٌ لبيانِ ما يلوحُ به ما قبلَه فإنه معَ إشعارِه بأنَّ له شأناً منافياً للإعراضِ عنه خارجاً عن درايةِ الغيرِ وادرائِه مؤذنٌ بأنه تعالَى يُدريه ذلكَ أي لعلَّه يتطهرُ بما يقتبسُ منكَ من أوضارِ الأوزارِ بالكليةِ وكلمةُ لعلَّ مع تحققِ التزكِّي واردةٌ على سَننِ الكِبْرِياء أو على اعتبارِ مَعْنى الترجِّي بالنسبةِ إليه عليه الصلاةُ والسلامُ للتنبيه على أن الإعراضَ عنه عند كونِه مرجوَّ التزكِّي مما لا يجوزُ فكيفَ إذا كان مقطوعاً بالتزكِّي كما في قولِك لعلَّك ستندمُ على ما فعلتَ وفيه إشارةٌ إلى أنَّ من تصدَّى لتزكيتهم من الكفرة لا يُرجى منهم التزكِّي والتذكر أصلا

80 سورة عبس (4 11) وقولُه تعالى

4

(أَوْ يَذَّكَّرُ عطفٌ على يزكَّى داخلٌ معه في حكم الترجِّي وقولُه تعالَى فَتَنفَعَهُ الذكرى بالنصب على جواب لعلَّ وقرىء بالرفع عطفا على يذكَّرُ أي أو يتذكرُ فتنفعُه موعظتُك إنْ لم يبلغْ درجةَ التزكِّي التامِّ وقيلَ الضميرُ في لعلَّه للكافر فالمَعْنى أنك طمعتَ في أنْ يتزكَّى أو يذكرَ فتقربُه الذكرَى إلى قبولِ الحقِّ ولذلكَ توليتَ عن الأَعْمى وما يُدريكَ أن ذلكَ مرجُّوُ الوقوعِ

5

أَمَّا مَنِ استغنى أي عن الإيمان وعما عندك من العلومِ والمعارفِ التي ينطوي عليها القرآنُ

6

فَأَنتَ لَهُ تصدى أي تتصدَّى وتتعرضُ بالإقبالِ عليهِ والاهتمامِ بإرشادِه واستصلاحِه وفيه مزيدُ تنفيرٍ له عليه الصلاةُ والسلامُ عن مصاحبتِهم فإن الإقبالَ على المُدبرِ ليسَ من شيمِ الكبارِ وقُرِىءَ تصَّدَّى بإدغامِ التَّاءِ في الصَّادِ وقُرِىءَ تُصدى بضمِّ التاءِ أيْ تُعرضُ ومعناهُ يدعوكَ إلى التصدِّي له داعٍ من الحرص والتهالكُ على إسلامِه

7

وما عليك ان لا يزكى وليسَ عليكَ بأسٌ في أن لا يتزكى بالإسلام حتَّى تهتمَّ بأمره وتعرضَ عمَّن أسلمَ والجملةُ حالٌ من ضمير تصدى وقيل ما استفهامية للإنكار أيْ أيُّ شيء عليك في أن لا يتزكى ومآله النفيُ أيضاً

8

وَأَمَّا مَن جَاءكَ يسعى أيْ حالَ كونِه مسرعاً طالباً لما عندكَ من أحكام الرشدِ وخصالِ الخيرِ

9

وَهُوَ يخشى أي الله تعالَى وقيلَ يخشَى أذيةَ الكفارِ في إتيانِك وقيلَ يخشى الكبوةَ إذ لم يكن معهُ قائدٌ والجملةُ حال من فاعل يعسى كما أنه حالٌ من فاعل جاءك

10

فَأَنتَ عَنْهُ تلهى تتشاغلُ يقالُ لَهَى عنه والتهِى وتَلهَّى وقُرِىءَ تتلهى وتلهى أي يُلهيك شأنُ الصناديدِ في تقديم ضميرِه عليه الصلاةُ والسلام على الفعلين تبيه على أنَّ مناطَ الإنكارِ خصوصيتُه عليه الصلاةُ والسلامُ أي مثلُك خصوصاً لا ينبغِي أن يتصدَّى للمستغنِي ويتلهَّى الفقيرَ الطالبَ للخيرِ وتقديمُ لَه وعنْهُ للتعريض باهتمامه عليه الصلاةُ والسلامُ بمضمونهما رُويَ أنه عليه الصلاةُ والسلامُ ما عبسَ بعذ ذلكَ في وجهِ فقيرٍ قط ولا تصدَّى لغنى

11

كلا

80 سورة عبس (12 15) ردع له عليه الصلاة والسلامُ عمَّا عُوتبَ عليهِ من التصدِّي لمن استغنَى عمادعاه إليهِ من الإيمانِ والطاعةِ وما يوجبهُما من القرآنِ الكريمِ مبالغاً في الاهتمامِ بأمره متهالكا على إسلامِه معرضاً بسببِ ذلكَ عن إرشادِ من يسترشدُه وقولُه تعالى إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ أي موعظةٌ يجبُ أن يتعظَ بها ويعملَ بموجبِها تعليلٌ للردعِ عما ذُكِرَ ببيانِ علوِّ رتبةِ القرآنِ العظيمِ الذي استغنى عنه من تصدَّى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لهُ وتحقيقُ أن شأنه أن يكونُ موعظةً حقيقةً بالاتعاظِ بها فمن رغبَ فيها اتَّعظَ بها كما نطقَ به قولُه تعالى

12

فَمَن شَاء ذَكَرَهُ أي حفظَهُ واتَّعظَ بهِ ومن رغبَ عنهَا كما فعلَ المستغنيُّ فلا حاجةَ إلى الاهتمامِ بأمرِه فالضميرانِ للقرآنِ تأنيث الأولُ لتأنيثِ خبرِه وقيلَ الأولُ للسورةِ أو للآياتِ السابقةِ والثانِي للتذكرةِ والتذكيرِ لأنها في مَعْنى الذكرِ والوعظ وليس بذاك فإن السورةَ والآياتِ وإن كانتْ متصفةً بما سيأتِي من الصفاتِ الشريفةِ لكنها ليستْ مما أُلقي على من استغنى عنه واستحقَ بسببِ ذلكَ ما سيأتِي من الدعاءِ عليهِ والتعجبِ من كفرِه المفرطِ لنزولِها بعد الحادثةِ وأما من جوَّز رجوعَهما إلى العتابِ المذكورِ فقد أخطأَ وأساءَ الأدبَ وخبطَ خبطاً يقضي منه العجبُ فتأمَّل وكُن على الحقِّ المبينِ وقولُه وتعالى

13

فَى صُحُفٍ متعلقٌ بمضمرٍ هُو صفةٌ لتذكرةٌ وما بينهما اعتراضٌ جيءَ به للترغيبِ فيها والحثِّ على حفظِها أي كائنةٌ في صحفٍ منتسخةٍ من اللوحِ أو خبرٌ ثانٍ لأنَّ مُّكَرَّمَةٍ عندَ الله عزَّ وجلَّ

14

مَّرْفُوعَةٍ أي في السماءِ السابعةِ أو مرفوعةِ المقدارِ والذكرِ مُّطَهَّرَةٍ منزهةٍ عن مساسِ أيدِي الشياطينِ

15

بِأَيْدِى سَفَرَةٍ أي كتبةٍ من الملائكةِ ينتسخونَ الكتبَ من اللوحِ على أنه جمعُ سافرٍ من السفرِ وهو الكتبِ وقيل بأيدِي رسلٍ من الملائكةِ يسفرونَ بالوحْي بينَهُ تعالَى وبين الأنبياءِ على أنه جمعُ سفيرٍ من السفارةِ وحملُهم على الأنبياءِ عليهم السلامُ بعيدٌ فإن وظيفتَهم التلقِّي من الوَحْي لا الكتبُ منه وإرشادُ الأمةِ بالأمرِ والنَّهي وتعليمُ الشرائعِ والأحكامِ لا مجردُ السفارةِ إليهم وكذَا حملُهم على القراءِ لقراءتِهم الأسفارَ أو على أصحابِه عليه الصلاةُ والسلامُ وقد قالُوا هذه اللفظةُ مختصةٌ بالملائكةِ لا تكادُ تطلقُ على غيرِهم وإن جازَ الإطلاقُ بحسبِ اللغةِ والباءُ متعلقةٌ بمطهرةٍ قال القَفَّالُ لما لم يمسَّها إلا الملائكةُ المطهرونَ أضيفَ التطهيرُ إليها لطهارة من يمسُّها وقال القرطبيُّ إن المرادَ بما في قوله تعالى لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون هؤلاء السفرةُ الكرامُ البررة

سورة عبس (16 23)

16

كِرَامٍ عند الله عزَّ وجلَّ أو متعطفينَ على المؤمنين يكلمونهم ويستغفرونَ لهم بَرَرَةٍ أتقياءَ وقيل مطيعينَ لله تعالى من قولهم فلانٌ يبرُّ خالقه أي يطيعه وقيل صادقينَ من برَّ في يمينه

17

قُتِلَ الإنسان دعاءٌ عليه بأشنعِ الدعواتِ وقوله تعالى مَا أَكْفَرَهُ تعجبٌ من إفراطه في الكفران وبيانٌ لاستحقاقِه للدعاءِ عليه والمرادُ به إمَّا من استغنَى عن القُرآن الكريمِ الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة للإقبال عليه والإيمان به وإما الجنسُ باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده لا باعتبار جميعِ أفرادِه وفيه مع قصرِ متنه وتقاربِ قُطريه من الإنباءِ عن سخطٍ عظيمٍ ومذمةٍ بالغة مالا غايةَ وراءَهُ وقولُه تعالَى

18

مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ شروعٌ في بيانِ إفراطِه في الكفرانِ بتفصيلِ ما أفاضَ عليه من مبدأ فطرتِه إلى مُنْتهَى عمرِه من فُنونِ النعمِ الموجبةِ بالشكرِ والطاعةِ مع إخلالِه بذلكَ وفي الاستفهامِ عن مبدأ خلقِه ثم بيانِه بقولِه تعالى

19

مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ تحقيرٌ له أيِّ شيءٍ حَقيرٍ مهينٍ خلقه من نطفة قدرة خلقَهُ فَقَدَّرَهُ فهيَّأهُ لما يصلحُ لهُ ويليقُ به من الأعضاءِ والأشكالِ أو فقدَّرَهُ أطْواراً إلى أنْ تمَّ خلقُه وقولُه تعالَى

20

ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ منصوبٌ بمُضمرٍ يفسرُهُ الظاهرُ أيْ ثم سهَّلَ مخرجَهُ من البطن بأن فتح فتحَ فمَ الرحمِ وألهمَهُ أنْ ينتكسَ أو يسرَ له سبيلَ الخيرِ والشرِّ ومكنه من السلوك وتعريفُ السبيلِ باللامِ دونَ الإضافةِ للإشعارِ بعمومِه

21

ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ أي جعلَهُ ذَا قبرٍ يُوارَى فيه تكرمةً لهُ ولم يدعْهُ مطروحاً على وجهِ الأرض جرزا للسباعِ والطير كسائرِ الحيوانِ يقالُ قبرَ الميتَ إذَا دفنَهُ وأقبرَهُ إذا أمرَ بدفنِه أو مكنَ منْهُ وعَدُّ الإماتةِ من النعمِ لأنَّها وصلةٌ في الجُملةِ إلى الحياةِ الأبديةِ والنعيمِ المقيمِ

22

ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ أي إذا شاء أنشره وأنشر على القاعدةُ المستمرةُ في حذفِ مفعولِ المشيئةِ وفي تعليقِ الإنشارِ بمشيئتِه تعالى إيان بأنَّ وقتَهُ غيرُ متعينٍ بلْ هُو تابعٌ لهَا وقُرِىءَ نَشَرهُ

23

كلا ردع للإنسان

سورة (24 27) عمَّا هو عليه وقولُه تعالى لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ بيانٌ لسبب الرَّدعِ أي لم يقضِ بعدُ من لدُنْ آدمَ عليهِ السَّلامُ إلى هذه الغايةِ مع طولِ المَدَى وامتدادِه ما أمرَهُ الله تعالَى بأسرِه إذْ لا يخلُو أحد عن تقصير ما كذا قالُوا وهكَذا نُقلَ عن مجاهدٍ وقَتَادَةَ ولا ريبَ في أنَّ مساقَ الآياتِ الكريمةِ لبيان غاية عظم جنايةِ الإنسانِ وتحقيقِ كُفرانِه المفرطِ المستوجب للسخطِ العظيمِ وظاهرٌ أنَّ ذلكَ لا يتحققُ بهذا القدرِ من نوع تقصير لايخلو عنْهُ أحدٌ من أفرادِه كيفَ لا وقَدْ قالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ شيَّبتني سورةُ هودٍ لمَا فيهَا من قولِه تعالى فاستقمْ كَما أُمرتَ فالوجُه أنْ يحملَ عدمُ القضاءِ على عمومِ النفي لا على نفي العمومِ إمَّا عَلى أنَّ المحكومَ عليهِ هُو المستغني أو هو الجنسُ لكنْ لا عَلى الإطلاقِ بَلْ على أنَّ مصداقَ الحكمِ بعدمِ القضاءِ بعضُ أفرادِه وقد أُسندَ إلى الكُلِّ كَما في قولِه تعالى إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ للإشباعِ في اللومِ بحكمِ المجانسةِ على طريقةِ قولِهم بنُو فلان قتلُوا فلاناً والقاتلُ واحدٌ منهم وإمَّا على أنَّ مصداقَهُ الكلُّ من حيثُ هو كلٌّ بطريقِ رفعِ الإيجابِ الكليِّ دونَ السلبِ الكليِّ فالمَعْنى لَمَّا يقضِ جميعُ أفرادِه ما أمرَهُ بل أخلَّ به بعضُها بالكفرِ والعصيانِ مع أنْ مُقتضَى ما فُصل من فنون النعماءِ الشاملةِ للكلِّ أنْ لا يتخلفُ عنه أحدٌ أصلاً هذا وقد قيلَ كلاَّ بمَعْنى حقاً فيتعلقُ بما بعدَهُ أي حقَّاً لم يعملْ بِما أمرَهُ به

24

فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ شروعٌ في تعدادِ النعمِ المتعلقةِ ببقائِه بعد تفصيلِ النعمِ المتعلقةِ بحدوثِه أي فلينظرْ إلى طعامِه الذي عليه يدورُ أمرُ معاشهِ كيفَ دبرنَاهُ وقولُه تعالى

25

أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً أي الغيثَ بدلُ اشتمالٍ من طعامِه لأنَّ الماءَ سببٌ لحدوثِ الطعامِ فهُو مشتَملٌ عليهِ وقُرِىءَ إنَّا على الاستئنافِ وقُرِىءَ أنى بالإمالةِ أي كيفَ صببَنا إلى آخرِه أي صببنَاهُ صبا عجبا

26

ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض أي بالنباتِ شَقّاً بديعاً لائقاً بما يشقُّها من النباتِ صِغَراً وكِبرَاً وشكلاً وهيئةً وحملُ شقِّها على ما بالكرابِ بجعلِ إسنادِه إلى نونِ العظمةِ من قبيلِ إسنادِ الفعلِ إلى سببِه يأباهُ كلمةُ ثمَّ والفاءُ في قولِه تعالى

27

فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً فإنَّ الشقَّ بالمَعْنى المذكور لا ترتبَ بينَهُ وبين الأمطارِ أصلاً ولا بينَهُ وبينَ إنبات الحب بلا فإنَّ المرادَ بالنبات ما نبتَ من الأرضِ إلى أن يتكامل النمو وينقعد الحبُّ فإنَّ انشقاقَ الأرضِ بالنباتِ لا يزالُ يتزايدُ ويتسعُ إلى تلكَ المرتبةِ على أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيانِ النعمِ الفائضةِ من جنابهِ تعالى على وجهٍ بديعٍ خارجٍ عن العادات المعهودة كما ينبىءُ عنه تأكيدُ الفعلينِ بالمصدرينِ فتوسيطُ فعلِ المنعمِ عليهِ في حصولِ تلك النعمِ مخلٌّ بالمرامِ

سورة عبس (28 34) وقوله تعالى

28

وَعِنَباً عطفٌ على حباً وليسَ من لوازم العطفِ أنْ يُقيدَ المعطوفُ بجميع ما قُيِّد به المعطوفُ عليه فلا ضيرَ في خُلوِّ إنباتِ العنبِ عن شقِّ الأرضِ وَقَضْباً أي رطبة سُميتْ بمصدرِ قضَبهُ أي قطَعهُ مبالغةً كأنَّها لتكرر قطعِها وتكثرِه نفسُ القطعِ

29

وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً الكلامُ فيهما وفي أمثلهما كما في العنبِ

30

وَحَدَائِقَ غُلْباً أي عظاماً وصفَ به الحدائقُ لتكاثفها وكثرةِ أشجارِها أو لأنَّها ذات أشجارِها أو لأنَّها ذاتُ أشجارٍ غلاظٍ مستعارٌ من وصفِ الرقابِ

31

وفاكهة وَأَبّاً أي مَرْعى من أبَّه إذَا أمَّه أي قصَدُه لأنَّه يُؤمُ ويُنتجعُ أو منْ أبَّ لكذا إذا تهيأ لأنه متهيء للرَّعِي أو فاكهةً يابسةً تؤبُ للشتاءِ وعن الصدِّيقِ رضيَ الله عنه أنه سُئلَ عن الأبِّ فقالَ أيُّ سماءٍ تُظلِني وأيُّ أرضٍ تُقِلَني إذَا قلتُ في كتاب الله مالا علَم لى بهِ وعن عمر رضيَ الله عنه أنَّه قرأَ هذه الآيةَ فقالَ كلُّ هذا قد عرفَنا فَما الأبُّ ثم رفض عصاً كانتْ بيدِه وقالَ هَذا لعَمْرُ الله التكلفُ وما عليكَ يا ابنَ أُمِّ عمرَ أنْ لا تدريَ ما الأبُّ ثم قالَ اتبعُوا ما تبينَ لكُم من هذا الكتابِ ومالا فدعُوه

32

متاعا لَّكُمْ ولأنعامكم إمَّا مفعول له أي فعل ذلكَ تمتيعاً لكُم ولمواشيكُم فإنَّ بعضَ النعمِ المعدودةِ طعامٌ لهم وبعضَها علفٌ لدوابِّهم والالتفاتُ لتكميل الامتنانِ وإمَّا مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعله المضمرِ بحذف الزوائدة أي متعكم بذلك متاعا أو لفعلٍ مترتبٍ عليهِ أي متعكم بذلك فتمتعتُم متاعاً أي تمتعا كما مر غيره مرةٍ أو مصدرٌ من غير لفظهِ فإنَّ ما ذُكر من الأفعالِ الثلاثةِ في مَعْنى التمتيعِ

33

فَإِذَا جَاءتِ الصاخة شروعٌ في بيان أحوالِ معادهم إثرَ بيانِ مبدأِ خلقِهم ومعاشِهم والفاءُ للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها من فُنون النعمِ عن قريب كما يشعرُ لفظُ المتاعِ بسرعة زَوَالِها وقربِ اضمحلالِها والصاخةُ هي الداهيةُ العظيمةُ التي يصخُّ لها الخلائقُ أي يصيخونَ لها من صخَّ لحديثِه إذا أصاخَ له واستمتع وصفتْ بها النفخةُ الثانيةُ لأنَّ الناسَ يصيخُونَ لها وقيل هي الصيحةُ التي تصخُّ الآذانَ أي تصمَّها لشدةِ وقعِها وقيلَ هي مأخوذةٌ من صخَّهُ بالحجرِ أي صكَّهُ وقولُه تعالى

34

يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ

سورة عبس (35 41) أَخِيهِ

35

وأمِّه وَأَبِيهِ وصاحبتِه وبنيه وإما منصوبٌ بأعِني تفسيراً للصاخَّة أو بدلٌ منها مبنيٌّ على الفتحِ بالإضافةِ إلى الفعل على رأي الكوفيين وقيلَ بدلٌ من إذَا جاءتْ كما مرَّ في قوله تعالى يوم يتذكر الخ أي يعرضُ عنُهم ولا يصاحبُهم ولا يسألُ عن حالِهم كما في الدُّنيا لاشتغالِه بحالِ نفسِه وأمَّا تعليلُ ذلكَ بعلمِه بأنهم لايغنون عنه شيئاً أو بالحذرِ من مطالبتِهم بالتبعاتِ فيأباهُ قولُه تعالى

37

لِكُلّ امرىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ فإنَّه استئنافٌ واردٌ لبيانِ سببِ الفرارِ أي لكُلِّ واحدٍ من المذكورينَ شغلٌ شاغلٌ وخطبٌ هائلٌ يكفيِه في الاهتمامِ به وأما الفرار حذار من مطالبتِهم أو بُغضاً لهُم كَما يُروَى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهُمَا أنَّه يفرُّ قابيلُ من أخيِه هابيلَ ويفر النبي صلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم منْ أُمِّه ويفرُّ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ من أبيهِ ونوحٌ عليهِ السَّلامُ من ابنِه ولوطٌ عليهِ السَّلامُ من امرأتِه فليسَ من قبيلِ هذا الفرارِ وكَذا مَا يُروَى أنَّ الرجلَ يفرُّ من أصحابِه وأقربائِه لئلاَّ يَروَه على ما هُو عليهِ من سُوءِ الحالِ وقُرِىءَ يَعْنِيه بالياءِ المفتوحةِ والعينِ المُهملةِ أي يُهمَّهُ من عناهُ الأمرُ إذا أهمَّه أي أوقعَهُ في الهمِّ ومنْهُ منْ حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه مالا يعنيه لامن عناهُ إذا قصدَهُ كما قيلَ وقولُه تعالى

38

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ بيانٌ لما أمرِ المذكورينَ وانقسامِهم إلى السعداءِ والأشقياءِ بعد ذكرِ وقوعِهم في داهيةٍ دهياءَ فوجوهٌ مبتدأٌ وإنْ كانتْ نكرةً لكونِها في حيزِ التنويعِ ومسفرةٌ خبرُهُ ويومئذٍ متعلقٌ به أي مضيئةٌ متهللةٌ منْ أسفرَ الصبحُ إذَا أضاءَ وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما أنَّ ذلكَ من قيامِ الليلِ وفي الحديثِ مَنْ كثر صلاته باليل حسُن وجهُه بالنهارِ وعنِ الضحَّاكِ منْ آثارِ الوضوءِ وقيلَ من طولِ ما اغبرّتْ في سبيلِ الله

39

ضاحكة مُّسْتَبْشِرَةٌ بما تشاهدُ من النعيم المقيمِ والبهجةِ الدائمةِ

40

وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ أي غبارٌ وكدورةٌ

41

تَرْهَقُهَا أي تعلُوها وتغشاهَا قترة أي سوادو ظلمة

سورة عبس (42) وسورة التكوير (1 3)

42

أولئك إشارةٌ إلى أصحاب تلك الوجوهِ وما فيهِ من معنى البعد للإيذان ببُعد درجتِهم في سُوءِ الحالِ أي أولئكَ الموصوفونَ بسوادِ الوجوهِ وغيره هُمُ الكفرة الفجرة الجامعونَ بين الكفرِ والفجورِ فلذلكَ جمعَ الله تعالى إلى سواد وجوهِهم الغبرةَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ عبسَ جاءَ يومَ القيامةِ وجهه ضاحك مستبشر سورة التكوير مكية وآياتها تسع وعشرون {بِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم}

التكوير

{إِذَا الشمس كُوّرَتْ} أي لُفَّتْ من كَوَّرتَ العمامةَ إذا لففتَها على أَنَّ المرادَ بذلكَ إمَّا رفعُها وإزالتُها منْ مقرِّها فإنَّ الثوبَ إذا أُريدَ رفعُهُ يُلفُّ لفاً ويُطْوى ونحُوه قولُه تعَالَى يَوْمَ نَطْوِى السماء وأما لف صوئها المنبسطِ في الآفاقِ المُنتشرِ في الأقطارِ على أنَّه عبارةٌ عنْ إزالتها والذهابِ بها بحكمِ استلزامِ زوالِ اللازم لنزوال الملزومِ أو ألقيتْ عن فلكها كَما وُصفتِ النجومُ بالانكدارِ من طعنَهُ فكوَّرَهُ إذا ألقاهُ عَلى الأرضِ وعن أبي صالحِ كُورتْ نُكِّستْ وعن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا تكويرُهُا إدخالُها في العرشِ ومدارُ التركيبِ على الإدارةِ والجمعِ وارتفاعُ الشمسِ على أنَّه فاعلٌ لفعلٍ مضمرٍ يُفسِّرُه المذكورُ وعندَ البعضِ عَلى الابتداءِ

2

{وَإِذَا النجوم انكدرت} أي انقضَّتْ وَقيلَ تناثرتْ وَتساقطتْ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لا يَبْقَى يومئذٍ نجمٌ إلا سقطَ في الأرضِ وعنْهُ رضيَ الله عنْهُ أنَّ النُّجومَ قناديلُ معلقةٌ بينَ السماءِ والأرضِ بسلاسلَ منْ نورٍ بأيدي ملائكةٍ من نورٍ فإذَا ماتَ من فى السموات ومن في الأرضِ تساقطتْ من أيديهم وقيلَ انكدارُها انطماسُ نُورِها ويُروَى أنَّ الشمسَ والنجومَ تُطرحُ في جهنَم ليراهَا مَنْ عبدَها كما قالَ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ

3

{وَإِذَا الجبال سُيّرَتْ} أيْ عنْ أماكنِها بالرجفة الحاصلةِ لافي الجوِّ فإنَّ ذلكَ بعدَ النفخة الثانية

سورة التكوير (4 9)

4

وَإِذَا العشار جمعُ عُشَراءَ وهيَ الناقةُ التي أتى على حملِها عشرةُ أشهرٍ وهو اسمُها إلى أنْ تضعَ لتمامِ السنةِ وهي أنفسُ ما يكونُ عندَ أهلِها وأعزُّها عليهمْ عُطّلَتْ تُرِكتْ مهملةً لاشتغالِ أهلِها بأنفسِهم وقيلَ العشارُ السحائبُ فإنَّ العربَ تُشبهها بالحامل ومنهُ قولُه تعالىَ فالحاملات وِقْراً وتعطيلُها عدمُ إمطارِها وقُرِىءَ عُطِلَتْ بالتخفيفِ

5

وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ أي جُمعتْ من كلِّ جانبٍ وقيلَ بُعثتْ للقصاصِ قالَ قتادةُ يُحشرُ كلُّ شيءٍ حتَّى الذبابُ للقصاصِ فإذَا قُضِيَ بينَها رُدَّتْ تُراباً فلا يَبقْى منها إلا مافيه سرورٌ لبني آدمَ وإعجابٌ بصورته كالطاوس ونحوِه وقُرِىءَ حُشِّرَتْ بالتشديدِ

6

وَإِذَا البحار سُجّرَتْ أي أحميت أو ملئت يتفجير بعضِها إلى بعضٍ حتَّى تعودَ بحراً واحداً مِنْ سجرَ التنورَ إذا ملأَهُ بالحطبِ ليحميَهُ وقيلَ مُلئتْ نيرانا تضطرم لتعذيب أهلِ النارِ وعن الحسنِ يذهبُ ماؤُها حتَّى لا يبقى فيها قطرةٌ وقرىء سجرت بالتخفيف

7

إذا النفوس زُوّجَتْ أي قُرِنتْ بأجسادها أو قُرِنتْ كلُّ نفسٍ بشكلِها أو بكتابِها أو بعملِها أو نفوسُ المؤمنينَ بالحُورِ ونفوسُ الكافرينَ بالشياطين

8

وإذا الموؤدة أي المدفونة حيةً وكانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق أو لحوقِ العارِ بهم من أجلهنَّ قيلَ كان رجل منهُم إذَا وُلِدتْ له بنتٌ ألبسها جُبَّةً من صُوفٍ أو شَعَرٍ حَتَّى إذَا بلغتْ ستَّ سنينَ ذهبَ بها إلى الصحراءِ وقد حفرَ لها حُفرةً فيُلقيها فيهَا ويُهيلُ عليها الترابَ وقيلَ كانتِ الحاملُ إذا قربت حفرتْ حُفرةً فتمخضتْ على رأسِ الحُفرةِ فإذا ولدتْ بنتاً رمتْ بهَا وإنْ ولدتْ ابناً حبستْهُ سُئِلَتْ

9

بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ توجيهُ السؤالِ إليهَا لتسليتِها وإظهارِ كمالِ الغيظِ والسَّخطِ لوائدها وإسقاطِه عن درجةِ الخطابِ والمبالغةِ في تبكيتِه كما في قوله تعالى أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين وقُرىءَ سَأَلتْ أي خاصمتْ أو سألتِ الله تعالَى أو قاتِلَها وإنما قيلَ قُتلتْ لما أنَّ الكلامَ إخبارٌ عنها لا حكايةٌ لما خُوطبتْ بهِ حينَ سُئلتْ ليقالَ قُتِلْتِ على الخطابِ ولا حكايةٌ لكلامِها حينَ سَألتْ ليقالَ قُتِلْتُ على الحكايةِ عن نفِسها وقد قرىء كذلك بالتشديد أيضاً وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه سُئِلَ عن أطفالِ المشركينَ فقال لا يعذبون

سورة التكوير (10 14) واحتجَّ بهذهِ الآيةِ

10

وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ أيْ صحفُ الأعمالِ فإنَّها تُطوى عندَ الموتِ وتنشرُ عند الحساب عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنَّه قالَ يُحشرُ النَّاسُ عُراةً حُفاةً فقالتْ أمُّ سلمةَ فكيفَ بالنساءِ فقالَ شُغلَ الناسُ يا أُمَّ سلمةَ قالتْ وما شغلَهُم قالَ نشرُ الصحفِ فيها مثاقيلُ الذرِّ ومثاقيلُ الخردلِ وقيلَ نُشرتْ أي فُرِّقتْ بينَ أصحابِها وعن مَرْثَدِ بنِ وَدَاعةَ إذَا كانَ يومُ القيامةِ تطايرتِ الصحفُ من تحتِ العرشِ فتقعُ صحيفةُ المؤمنِ في يدِه في جنةٍ عاليةٍ وتقعُ صحيفةُ الكافرِ في يده في سَمومٍ وحميمٍ أي مكتوبٌ فيها ذلكَ وهيَ صُحفٌ غيرُ صحفِ الأعمالِ

11

وَإِذَا السماء كُشِطَتْ قُطعتْ وأُزيلتْ كما يُكشطُ الإهابُ عن الذبيحةِ والغطاءُ عن الشيء المستور به وقرئ قُشطتْ واعتقابُ الكافِ والقافِ غيرُ عزيز كالكافُور والقافُورِ

12

وَإِذَا الجحيم سُعّرَتْ أي أوقدت إتقادا شديداً قيلَ سَعَّرهَا غضبُ الله عزوجل وخطايا بنى آدم وقرئ سُعِرَتْ بالتَّخفيفِ

13

وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ أي قُرَّبتْ من المتقينَ كقولِه تعالى وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ قيلَ هذهِ اثنتا عشرةَ خصلةً ستٌّ منها في الدُّنيا أي فيمَا بينَ النفختينِ وهُنَّ من أول السورةِ إلى قوله تعالى وَإِذَا البحار سُجّرَتْ على أنَّ المرادَ بحشرِ الوحوشِ جمعُها من كل ناحية لأبعثها للقصاصِ وستٌّ في الآخرةِ أي بعدَ النفخةِ الثانيةِ وقوله تعالى

14

عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ جوابُ إذَا على أنَّ المرادَ بها زمانٌ واحدٌ ممتدٌّ يسعَ ما في سباقها وسباقِ ما عُطفَ عليها من الخصالِ مبدؤُه النفخةُ الأُولى ومنتهاهُ فصلُ القضاءِ بينَ الخلائقِ لكنْ لا بمعْنى أنها تعلمُ ما تعلُم في كلُّ جزءٍ من أجزاءِ ذلكَ الوقتِ المديدِ أو عند وقوعِ داهيةٍ من تلكَ الدواهِي بلْ عند نشرِ الصحفِ إلا أنَّه لما كانَ بعضُ تلك الدَّواهِي من مباديهِ وبعضُها من روادفِه نُسبَ علمُها بذلكَ إلى زمان وقع كُلِّها تهويلاً للخطب وتفظيعاً للحال والمرادُ بمَا أَحضرتْ أعمالها من الخير والبشر وبحضورِها إما حضورُ صحائِفها كما يعربُ عنه نشرُها وإما حضورُ أنفسِها على ما قالُوا من أنَّ الأعمالَ الظاهرةَ في هذه النشأة بصورة عرضيةٍ تبرُز في النشأة الآخرة بصور جوهريةٍ مناسبةٍ له في الحسنِ والقُبحِ على كبفيات مخصومة وهيآت مُعينةٍ حتى إنَّ الذنوبَ والمعاصيَ تتجسم هناك وتتصورُ بصورةِ النَّارِ وعَلى ذلكَ حُمل قولُه تعالى وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين وقوله تعالى إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وكذا قولُه

سورة التكوير آية (15) عليه الصلاة والسلام في حقِّ مَنْ يشربُ من آنيةِ الذهبِ والفضةِ إنما يُجرجِر في بطنِه نارَ جهنمَ ولا بُعدَ في ذلكَ ألا يُرى أن العلمَ يَظهر في عالمِ المثالِ على صورة البن كما لايخفى على مَنْ له خِبرةٌ بأحوالِ الحضَراتِ الخمس وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنةٍ وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع النفوسِ أو لبعضِ منها للإيذانِ بأن ثبوتَهُ لجميعِ أفرادِها قاطبةً من الظهورِ والوضوحِ بحيثُ لا يكادُ يحومُ حولَهُ شائبةُ اشتباهٍ قطعاً يعرفُه كلُّ أحدٍ ولوجئ بعابرة تدلُّ على خلافِه وللرمزِ إى أنَّ تلكَ النفوسَ العالمةَ بما ذُكِرَ مع توفرِ أفرادِها وتكثرِ أعدادِها مما يُستقل بالنسبةِ إلى جناب الكبرياءِ الذي أشير إلى بعض بدائع شؤنه المنبئةِ عن عظمِ سُلطانِه واما قيلَ منْ أنَّ هذَا من قبيلِ عكسِ كلامِهم الذي يقصِدون به الإفراطَ فيما يُعكسُ عنْهُ وتمثيله بقولِه تعالى رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ وبقول منْ قالَ قَدْ أتركَ القِرْنَ مُصفرّاً أناملُهُ وبقولِ من قالَ حينَ سُئلَ عن عددِ فرسانِه رُبَّ فارسٍ عندِي وعندُه المقانبُ قاصداً بذلكَ التماديَ في تكثير فُرسانِه وإظهارَ براءتِه من التزيد وأنَّه ممَّن يقللُ كثيرَ مَا عندَهُ فضلاً أنْ يتزيدَ فمن لوائحِ النظرِ الجليلِ إلا أنَّ الكلامَ المعكوسَ عنْهُ فيما ذُكِرَ من الأمثلةِ مما يقبلُ الإفراطَ والتماديَ فيه فإنَّه في الأولِ كثيراً ما يودُّ وفي الثانِي كثيراً ما أتركُ وفي الثالث كثيرٌ من الفرسانِ وكلُّ واحدٍ من ذلكَ قابلٌ للإفراطِ والمبالغةِ فيهِ لعدمِ انحصارِ مراتبِ الكثرةِ وقدْ قُصدَ بعكسِه ما ذكر من التمادي في التكثير حسبما فضل أما قيما نحن فيه فالكلام الذي عكس عنه علمت كلُّ نفسٍ ما أحضرتْ كما صرَّحَ به القائلُ وليسَ فيه إمكانُ التكثيرِ حتَّى يُقصدَ بعكسِه المبالغةُ والتَّمادِي فيهِ وإنما الذي يمكنُ فيه من المبالغةِ ما ذكرناهُ فتأملْ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ للإشعارِ بأنَّه إذا علمتْ حينئذٍ نفسٌ من النفوسِ ما أحضرتْ وجبَ على كلِّ نفسٍ إصلاحُ عملِها مخافةَ أنْ تكونَ هيَ تلكَ التي علمتْ ما أحضرتْ فكيفَ وكلُّ نفسٍ تعلمُه على طريقةِ قولِك لمن تنصحُه لعلكَ ستندمُ على ما فعلتَ ورُبَّما ندِم الإنسان على مافعل فإنك لا تقصدُ بذلكَ لاتقصد بذلكَ أنَّ ندمَهُ مرجوُّ الوجود لامتيقن بهِ أو نادرُ الوقوعِ بلْ تريدُ أنَّ العاقلَ يجبُ عليهِ أنْ يجتنبَ أمراً يُرجى فيهِ الندمُ أو قلَّماً يقعُ فيهِ فكيفَ بهِ إذَا كانَ قطعى الوجود كثير الوجود

15

فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس أي الكواكبِ الرواجع مِنْ خَنَسَ إذا تأخر وهي ماعدا النيرينَ منَ الدَّرارِي الخمسةِ وهيَ بهرامُ وزُحَلُ وعُطَارِدُ والزُّهْرَةُ والمُشتَرى وُصفتْ بقولِه تعالى

سورة التكوير (16 22)

16

الجوار الكنس لأنها تَجْري مع الشمسِ والقمرِ وترجعُ حتى تخفي تحتَ ضوءِ الشمسِ فخنُوسها رجوعُها وكنوسُها اختفاؤُها تحتَ ضوئها من كنس الوحشى إذا دخلَ كُناسَهُ وهو البيتُ الذي يتخذهُ من أغصانِ الشجرِ وقيل هي جميعُ الكواكبِ تخنِسُ بالنهار فتغيبُ عنِ العُيونِ وتكنسُ بالليل أي تطلعُ في أماكنِها كالوحشِ في كُنُسِها

17

والليل إِذَا عَسْعَسَ أي أدبرَ ظلامُه أو أقبلَ فإِنَّه منَ الأضَّدادِ وكذلكَ سعسعَ قالَ الفراءُ أجمعَ المفسرونَ على أنَّ معنى عسعسَ أدبر عليه قولُ العَجَّاجِ] حَتَّى إِذَا الصبح لها تَنفَّسَا وَانجَابَ عنَها ليلُها وعَسْعَسَا وقيلَ هيَ لغةُ قريشٍ خاصَّة وقيلَ مَعْنى إقبالِ ظلامِه أوفقُ لقولِه تعالى

18

والصبح إِذَا تَنَفَّسَ لأنَّه أولُ النهارِ وقيل إدبارُه أقربُ من تنفسِ الصبحِ ومعناهُ أنَّ الصبحَ إذَا أقبلَ يقبلُ بإقبالِه رَوحٌ ونسيمٌ فجعلَ ذلكَ نفساً لَهُ مجازاً فقيلَ تنفَّسَ الصبحُ

19

أَنَّهُ أي القرآنَ الكريمَ الناطق بما ذكر من الدواهي الهائلة لقوله رسول كريم وهو جبريلُ عليهِ السَّلامُ قالَه من جهةِ الله عزَّ وجلَّ

20

ذِى قُوَّةٍ شديدةٍ كقولِه تعالَى شَدِيدُ القوى وقيلَ المرادُ القوةُ في أداءِ طاعةِ الله تعالَى وتركِ الإخلالِ بَها من أولِ الخلقِ إلى آخرِ زمانِ التكليفِ عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ ذِي مكانةٍ رفيعةٍ عندَ الله تعالى عنديةَ إكراما وتشريف لاعندية مكانٍ

21

مطاع فيما بينَ ملائكتِه المقربينَ يصدرُون عن أمرِه ويرجعونَ إلى رأيه ثَمَّ أَمِينٍ على الوَحْي وثمَّ ظرفٌ لما قبَلهُ وقيلَ لما بعدَهُ وقرىء ثُمَّ تعظيماً لوصفِ الأمانِةَ وتفضيلاً لها على سائرِ الأَوْصَافِ

22

وَمَا صاحبكم هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بِمَجْنُونٍ كما تبهتُه الكفرةُ والتعرضُ لعنوانِ المصاحبةِ للتلويحِ بإحاطتِهم بتفاصيلِ أحوالِه عليه الصلاة والسلام خبرا علمهم بنزاهتِه عليه السَّلامُ عمَّا نسبُوه إليهِ بالكليةِ وقد استُدلَّ بهِ على فضلِ جبريلَ عليِه عليهما السَّلامُ للتباين البينِ بين وصفيهما وهو ضعيفٌ إذِ المقصودُ ردُّ قولِ الكفرةِ في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسلام إنما يعلمه بشرٌ أفترى عَلَى الله كَذِباً أم بهِ جِنَّة لا تعدادُ فضائلها والموازنة

81 سورة التكوير (23 29)

23

ولقد رآه أي وبالله لقد رأى رسولُ الله جبريلُ عليهما الصلاة والسلام بلأفق المبين بمطلعِ الشمسِ الأَعْلى

24

وَمَا هُوَ أي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الغيب على ما يخبرُه من الوَحْي إليهِ وغيرِه من الغيوبِ بِضَنِينٍ أي ببخيل بالوَحْي ولا يُقصِّرُ في التبليغ والتعليمِ وقُرِىءَ بظنينٍ أي بمتهمٍ من الظنة وهي التهمةُ

25

وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شيطان رَّجِيمٍ أي قولِ بعضِ المُسترقةِ للسمعِ وهو نفيٌ لقولِهم إنَّه كهانةٌ وسحرٌ

26

فَأيْنَ تَذْهَبُونَ استضلالٌ لهم فيما يسلكونَهُ في أمرِ القرآنِ والفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها من ظهورِ أنَّه وحيٌ مبين وليس مما يقولونه في شيءٍ كما تقولُ لمن تركَ الجادَّةَ بعدَ ظهورِها هذا الطريقُ الواضحُ فأينَ تذهبُ

27

إِنْ هُوَ مَا هُو إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين موعظة وتذكيرٌ لهم وقولُه تعالَى

28

لِمَن شَاء مِنكُمْ بدلٌ من العالمينَ بإعادةِ الجارِّ وقولُه تعالَى أَن يَسْتَقِيمَ مفعولُ شاءَ أيْ لمَنْ شاء منكم الإستقامة يتحرى الحقِّ وملازمةِ الصوابِ وإبدالُه منَ العالمينَ لأنَّهم المنتفعونَ بالتذكير

29

وما تشاؤن أي الاستقامةَ مشيئةَ مستتبعةَ لها في وقتٍ من الأوقاتِ إلا أن يشاء الله أي إلا وقتَ أنْ يشاءَ الله تعالَى تلكَ المشيئةَ أي المستتبِعة للاستقامةِ فإن مشيئتكم لا تستبعها بدون مشيئةِ الله تعالى لها رَبّ العالمين مالكُ الخلقِ ومربيهم أجمعينَ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ التكويرِ أعاذَهُ الله أنْ يفضحَهُ حينَ تُنشرُ صحيفته

82 سورة الإنفطار (1 5) بسم الله الرحمن الرحيم

الانفطار

إِذَا السماء انفطرت أي انشقتْ لنزول الملائكةِ كقولِه تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً وقولُه تعالى وَفُتِحَتِ السماء فَكَانَتْ أبوابا والكلامُ في ارتفاع السماءِ كما مرَّ في ارتفاعِ الشمسِ

2

وَإِذَا الكواكب انتثرت أي تساقطتْ متفرقةً

3

وَإِذَا البحار فُجّرَتْ فُتحَ بعضُها إلى بعضٍ فاختلطَ العذبُ بالأُجاجِ وزالَ ما بينهما من البرزخ الحاجزِ وصارتِ البحارُ بَحْراً واحِداً ورُويَ أن الأرضَ تنشفُ الماءَ بعد امتلاءِ البحارِ فتصيرُ مستويةً وهو مَعْنى التسجيرِ عند الحسنِ رضيَ الله عنه وقيلَ إنَّ مياه البحارِ الآنَ راكدةٌ مجتمعةٌ فإذَا فجرتْ تفرقتْ وذهبت وقرئ فُجِرَتْ بالتخفيفِ مبنياً للمفعولِ وَمبنياً للفاعلِ أيضاً بمْعَنى بغتْ من الفجورِ نظراً إلى قولِه تعالى لاَ يَبْغِيَانِ

4

وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ أي قلب وأُخرجَ موتاهَا ونظيرُه بَحْثر لفظاً ومَعْنى وهُما مركبانِ من البعثِ والبحثِ مع راءٍ ضُمَّتْ إليهمَا وقولُه تعالى

5

عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ جوابُ إذا لكنْ لاَ على أنَّها تعلمُه عندَ البعثِ بل عند نشرِ الصحفِ لما عرفتَ من أنَّ المرادَ بها زمانٌ واحدٌ مبدؤُه النفخةُ الأُولى ومنتهاهُ الفصلُ بينَ الخلائق لا أزمنة متعددة حسب تعددِ كلمةِ إذَا وإنما كُررتْ لتهويلِ ما في حيزهَا من الدَّواهِي والكلام في كالذي مرَّ تفصيلُه في نظيره ومَعْنى ما قَدَّم وأخَّر ما أسلفَ من عملِ خيرٍ أو شرَ وأخَّر من سنة حسنة أو سيئةٍ يُعملُ بها بعدَهُ قالَه ابنِ عباسٍ وابنِ مسعودٍ وعن ابن عباسٍ أيضاً ما قدمَ منْ معصيةٍ وأخَّر من طاعةٍ وهو قولُ قتادةٍ وقيلَ ما قدمَ من أمواله لنفسه وماأخر لوثته وقيلَ ما قدمَ من فرض وأخَّر من فرض وقيل أو عملِه وآخرُهُ ومعنى علمِها التفصيليُّ حسبما ذُكِرَ فيَما مر مرارا

6

يا أيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم أيْ أيُّ شيءٍ خدعكَ وجرَّأك على عصيانِه وقد علمتَ ما بينَ يديكَ من الدواهِي التامَّةِ والعراقيلِ الطَّامة وما سيكونُ حينئذٍ من مُشاهدةِ أعمالِك كُلِّها والتعرضُ لعنوانِ كرمِه تعالَى للإيذانِ بأنَّه ليسَ مما يصلُح أن يكونَ مدارا لاغتراره يغويهِ الشيطانُ ويقولُ له افعلْ ما شئتْ فإنَّ ربكَ كريمٌ قد تفضلَ عليكَ في الدُّنيا وسيفعلُ مثَلُه في الآخرةِ فإنَّه قياسٌ عقيمٌ وتمنيةٌ باطلةٌ بل هُو ممَّا يوجبّ المبالغةَ في الإقبالِ على الإيمانِ والطاعةِ والاجتنابِ عن الكفرِ والعصيانِ كأنَّه قيلَ ما حملكَ على عصيانِ ربِّكَ الموصوفِ بالصفاتِ الزاجرةِ عنهُ الداعيةِ إلى خلافِه وقولُه تعالى

7

الذى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ صفة ثانية مقررة للربويية مبيَّنة للكرم منبهةٌ على أن من مَنْ قدَرَ على ذلكَ بدَءاً قدرَ عليه إعادةً والتسويةُ جعلُ الأعضاءِ سليمةً سويةً مُعدةً لمنافعها وعدلها عدلَ بعضِها ببعضٍ بحيثُ اعتدلتْ وَلَم تتفاوتْ أو صَرْفُها عن خِلْقةٍ غيرِ ملائمةٍ لها وقُرِىءَ فعدّلكَ بالتشديد أى صيرك متعدلا متناسبَ الخلقِ من غير تفاوتٍ فيه

8

في اي صُورَةٍ مَّا شاء ركبك أى وركبك في أي صورة شاءها من الصور المختلفةِ ومَا مزيدةٌ وشاءَ صفةٌ لصورةٍ أي ركبك في أي صورةٍ شاءَها واختارَها لكَ من الصورِ العجيبةِ الحسنةِ كقولِه تعالَى لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فى أحسن تقويم وإنما لَمْ يعطفْ الجملةِ على ما قبلَها لأنها بيانٌ لعدلكَ

9

كَلاَّ ردعٌ عن الاغترارِ بكرمِ الله تعالَى وجعلِه ذريعةً إلى الكفرِ والمعاصِي مع كونِه موجباً للشكرِ والطاعةِ وقولُه تعالى بَلْ تُكَذّبُونَ بالدين إضرابٌ عن جملة مقدر ينساقُ إليها الكلامُ كأَّنه قيلَ بعد الردعِ بطريق الاعتراضِ وأنتم لا ترتدعونَ عن ذلكَ بل تجترئونَ على أعظمِ من ذلكَ حيثُ تكذبونَ بالجزاءِ والبعثِ رأساً أو بدينِ الإسلامِ الذي هُما من جملةِ أحكامِه فلا تصدقونَ سؤالاً ولا جواباً ولا ثواباً ولا عقاب وقيلَ كأنَّه قيل إنَّكم لا تستقيمونَ على ما توجيه نِعَمِي عليكُم وإرشادِي لكُم بل تكذبونَ الخ وقال القفالُ ليسَ الأمرُ كَما تقولونَ من أنَّه لا بعثَ ولا نشورَ ثم قيلَ أنتُم لا تتبينونَ بهذا البيانِ بل تكذبونَ بيومِ الدينِ وقولُه تعالى

10

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين حالٌ من فاعلِ تكذبونَ مفيدةٌ لبطلان تكذبيهم وتحققِ ما يكذبونَ بهِ أي تكذبونَ بالجزاءِ والحالُ أنَّ عليكُم من قبلِنا لحافظين لأعمالكم

82 سورة الانفطار (11 18)

11

كراما لدنيا كاتبين لها

12

يعملون مَا تَفْعَلُونَ من الأفعالِ قليلاً وكثيراً ويضبطونَهُ نَقيراً وقِطْميراً لتجازوا بذلكَ وفي تعظيمِ الكاتبينِ بالثناءِ عليهم تفخيمٌ لأمرِ الجزاءِ وأنه عند الله عز وجل من جلائلِ الأمورِ حيثُ يستعملُ فيه هؤلاءِ الكرامَ وقولُه تعالَى

13

إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ استئنافٌ مسوق لبيان نتيجةِ الحفظِ والكتابِ من الثوابِ والعقابِ وفي تنكيرِ النعيمِ والجحيمِ من التفخيمِ والتهويلِ ما لايخفى وقولُه تعالَى

15

يَصْلَوْنَهَا إما صفةٌ لجحيمٍ أو استئنافٌ مبنيُّ على سؤالٍ نشأَ منْ تهويلِها كأنَّه قيلَ ما حالُهم فيها فقيلَ يُقاسونَ حرَّهَا يَوْمِ الدين يومَ الجزاءِ الذي كانُوا يكذِّبون بهِ

16

وما هم عنهابغائبين طرفةَ عينٍ فإن المرادَ دوام نفى الغيبة لانفى دوامِ الغيبة لما مرَّ مِراراً من أنَّ الجملةَ الاسميةَ المنفيةَ قد يُرادُ بها استمرارَ النَّفِي لا نفيَ الاستمرارِ باعتبارِ ما تفيدُه من الدوامِ والثباتِ بعد النَّفِي لا قبلَهُ وقيل معناهُ وما كانُوا غائبينَ عنها قبل ذلكَ بالكليةِ بل كانُوا يجدونَ سمومَها في قبورِهم حسبما قال النبي صلى عليه وسلم القبرُ روضةٌ من رياض الجنةِ أو حُفرةٌ من حُفَرِ النيرانِ وقولُه تعالَى

17

وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين ثم أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين تفخيمٌ لشأن يومِ الدينِ الذي يكذبونَ به إثرَ تفخيمٍ وتهويلٌ لأمرِه بعدَ تهويلٍ ببيانِ أنَّه خارجٌ عن دائرة دراية الخلق على أى صورة تصوره فهو فوقَها وكيفما تخيلوه فهو أطمُّ من ذلكَ وأعظمُ أيْ وأيُّ شيءٍ جعلكَ دارياً ما يومُ الدينِ على أنَّ ما الا ستفهامية خبر ليوم الدين إلا بالعكسُ كما هُو رأيُ سيبويهِ لما مرَّ منْ أنَّ مدارَ الافادةِ هُو الخبرُ لا المبتدأُ ولا ريبَ في أنَّ مناطَ إفادةِ الهولِ والفخامةِ هُنا هو مَا لا يومَ الدينِ أيْ أيُّ شيءٍ عجيبٍ هو في الهولِ والفظاعةِ لما مرَّ غيرَ مرةٍ أن كلمةَ مَا قد يطلب بها الوصف وإن كانتْ موضوعةً

لطلبِ الحقيقةِ وشرحِ الاسمِ يقالُ ما زيدٌ فيقالُ في الجوابِ كاتبٌ أو طبيبٌ وفي إظهارِ يومُ الدينِ في موقعِ الاضمارِ تأكيدٌ لهولِه وفخامتِه وقولُه تعالَى

19

يوم لا تملك نفس لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ بيانٌ إجماليٌّ لشأن يومِ الدينِ إثرَ إبهامِه وبيانِ خروجِه عنْ علومِ الخلقِ بطريقِ إنجازِ الوعدِ فإن لفى إدرائِهم مشعرٌ بالوعد الكريمِ بالإدراءِ قالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا كلُّ ما في القرآنِ من قولِه تعالَى مَا أدراكَ فقدْ أدراهُ وكلُّ ما فيهِ من قولِه وما يدريكَ فقد طُويَ عنْهُ ويومَ مرفوعٌ على أنَّه خبر مبتدأ محذوف وحركته الفتحِ لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ كأنَّه قيلَ هُو يومَ لا يملكُ فيه نفس من النفوس لنفس من النفوسِ شيئاً من الأشياءِ الخ أو منصوبٌ بإصمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيمِ أمرِ يومِ الدينِ وتشويقِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى معرفتِه اذكُر يومَ لا تملكُ نفسٌ الخ فإنه يُدريكَ ما هُو وقيلَ بإضمارِ يُدانونَ وليسَ بذاكَ فإنه عارٍ عن إفادةِ ما يفيدُه ما قبلَهُ كما أنَّ إبدالهُ من يومِ الدينِ على قراءةِ الرفعِ كذلكَ بل الحقُّ حينئذٍ الرفعُ على أنه خير لمبتدأٍ محذوفٍ عنْ رسولِ الله صلى الله اعليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الا نفطار كتبَ الله تعالَى له بعددِ كلِّ قطرةٍ من السماءِ وبعددِ كلِّ قبرٍ حسنةً والله تعالَى أعلمُ

83 سورة المطففين (1 2) بسم الله الرحمن الرحيم

المطففين

ويل للمطففين قبل الويلُ شدةُ الشرِّ وقيلَ العذابُ الأليمُ وقيلَ هو وادٍ في جهنمَ يهوي فيه الكافرُ أربعينَ خريفاً قبل أنْ يبلُغ قَعْرَه وقيلَ وقيلَ وأياً ما كانَ فهو مبتدأٌ وإنْ كان نكرةً لوقوعِه في موقعِ الدُّعاءِ والتطفيفُ البخسُ في الكيل والوزنِ لأنَّ ما يُبخسُ شيءٌ طفيفٌ حقيرٌ ورويَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قدَم المدينةَ وكانَ أهلُها من أخبثِ الناسِ كيلاً فنزلتْ فأحسنُوا الكيلَ وقيلَ قدمَها عليهِ الصلاةُ والسلامُ وبها رجلٌ يعرفُ بأبي جهينةَ ومعه صاعانِ يكيلُ بأحدهما وكتال بالآخرِ وقيلَ كانْ أهلُ المدينةِ تجاراً يطففونَ وكانتْ بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة فنزلت فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقرأَها عليهمُ وقالَ خمسٍ بخمس ما نقض قوم العهد الإسلط الله عليهم عدوَّهم وما حكمُوا بغيرِ ما أنزلَ الله إلا فشَا فيهم الفقرُ وما ظهرتْ فيهم الموتُ ولا طففُوا الكيلَ الإمنعوا النبات وأخذوا بالسنينَ ولا منعُوا الزكاةَ إلا حُبِس عنهم القطرُ وقولُه تعالَى

2

الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ إلخ صفةٌ كاشفةٌ للمطففينَ شارحةٌ لكيفية تطفيفهم الذين استحقُّوا بهِ الذمَّ والدعاءَ بالويل أي إذَا اكتالُوا منَ النَّاسِ مكيلَهم بحكمِ الشراءِ ونحوِهِ يأخذونَهُ وافياً وافراً وتبديلُ كلمةِ عَلَى بمِنَ لتضمينِ الاكتيالِ مَعْنى الاستيلاءِ أو للإشارةِ إلى أنَّه اكتيال مضربهم لكنْ لاَ علَى اعتبارِ الضررِ في حيزِ الشرطِ الذي يتضمنُه كلمةُ إذَا لإخلالِه بالمَعْنى بلْ في نفسِ الأمرِ بموجبِ الجوابِ فإن المراد بلاستيفاء ليسَ أخذَ الحقِّ وافياً من غيرِ نقصٍ بل مجردُ الأخذِ الوافِي الوافِر حسبما أرادُوا بأيِّ وجهٍ تيسرَ من وجوهِ الحيلِ وكانُوا يفعلونَهُ بكبسِ المكيلِ وتحريك المكيال واحتيال في ملئهِ وأما ما قيلَ من أنَّ ذلكَ للدلالةِ على أنَّ اكتيالَهُم لمَا لَهُم على النَّاسِ فمعَ اقتضائِه لعدمِ شمولِ الحكمِ لاكتيالِهم قبلَ أنْ يكونَ لهم على الناسِ شئ بطريقِ الشراءِ ونحوِه معَ أنَّه الشائعْ فيما بينَهم يقتضِي أنْ يكونَ معنى الاستيفاءِ أخذُ ما لهم عليهم وافياً من غيرِ نقصٍ إذْ هُو المتبادَرُ منه عند الإطلاقِ في معرضِ الحقِّ فلا يكونُ مداراً لذمِّهم والدعاءِ عليهم وحملِ ما لهم عليهم على مَعْنى ما سيكونُ

83 سورة (3 6) لهم عليهم مع كونِه بعيداً جداً مما لا يُجدي نفعاً فإنَّ اعتبارَ كونِ المكيلِ لهم حالاً كان أو مآلا لا يستدعِي كونَ الاستيفاءِ بالمعنى المذكورِ حَتْماً وهكذا حالُ ما نُقلَ عنِ الفرَّاءِ من أنَّ مِنْ وعَلَى تعتقبانِ في هذا الموضعِ لأنَّه حقٌّ عليهِ فإذَا قال اكتلت عليك فأنه قال أخذتُ ما عليكَ وإذا قالَ اكتلتُ منكَ فكقولِه استوفيتُ منكَ فتأملْ وقد جُوِّز أن تكون على متعلقةً بيستوفونَ ويكون تقديمُها على الفعلِ لإفادة الخصوصيةِ أي يستوفونَ على النَّاسِ خاصَّة فأما أنفسُهم فيستوفونَ لها وأنتَ خبيرٌ بأن القَصْر بتقديم الجار والمجرور انما يكونُ فيما يمكنُ تعلقُ الفعلِ بغير المجرورِ أيضاً حسبَ تعلقِه به فيقصد بالتقديمِ قصرُه عليه بطريقِ القلبِ أو الإفرادِ أو التعيينِ حسبما يقتضيهِ المقامُ ولا ريب في أن الاستيفاءَ الذي هو عبارةٌ عن الأخذ الوافي مما لا يُتصوّر أن يكونَ على أنفسهم حَتَّى يقصد بتقديم الجارِّ والمجرورِ قصرُه على النَّاسِ على أنَّ الحديثَ واقعٌ في الفعلِ لا فيما وقعَ عليهِ فتدبرْ والضميرُ البارزُ في قولِه تعالى

3

واذا كالوهم أو وزونوهم للناس أي اذا كالُوا لهم أو وزنُوا لهم للبيعِ ونحوِه يُخْسِرُونَ أي ينقصونَ يقالُ خسِر الميزانَ وأخسرَهُ فحذفَ الجارَّ وأوصلَ الفعلَ كما في قولِه وَلَقَدْ جَنَيتُكَ أَكْمُؤاً وعَسَاقِلاً أي جنيتُ لكَ وجعلُ البارزِ تأكيداً للمستكنِّ مما لا يليقُ بجزالةِ التنزيلِ ولعلَّ ذكرَ الكيلِ والوزنِ في صورةِ الإخسارِ والاقتصار على الاكتيالِ في صورةِ الاستيفاءِ لما أنهم لم يكونوا متمكنينَ من الاحتيالِ عند الاتزانِ تمكنهم منه عند الكيلِ والوزنِ وعدمُ التعرضِ للمكيلِ والموزونِ في الصورتينِ لأن مساقَ الكلام لبيان سواء معالمتم في الأخذِ والإعطاءِ لا في خصوصيةِ المأخوذِ والمُعطَى وقولُه تعالى

4

أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ استئنافٌ واردٌ لتهويلِ ما ارتكبُوه من التطفيفِ والتعجيبِ من اجترائِهم عليهِ وأولئكَ إشارةٌ إلى المطففينَ ووضعه موضع ضميرهم للإشعارِ بمناطِ الحُكمِ الذي هُو وصفُهم فإنَّ الإشارةَ إلى الشيءِ متعرضةٌ له من حيثُ اتِّصافُه بوصفِه وأما الضميرُ فلا يتعرضُ لوصفِه وللإيذانِ بأنَّهم ممتازونَ بذلكَ الوصفِ القبيحِ عن سائرِ النَّاسِ أكملَ امتيازٍ نازلون منزلة الأمور المشارِ إليها إشارةً حسيةً وما فيه من معنى البعدِ للإشعارِ ببُعد درجتِهم في الشَّرارةِ والفسادِ أي ألا يظنُّ أولئكَ الموصوفونَ بذلكَ الوصفِ الشنيعِ الهائلِ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ

5

لِيَوْمٍ عَظِيمٍ لا يُقادَرُ قدرُ عِظَمِه وعِظَمِ ما فيهِ ومحاسبونَ فيهِ على مقدارِ الذرةِ والخردلةِ فإنَّ من يظنُّ ذلكَ وإن كان ظناً ضعيفاً متاخماً للشكِّ والوهمِ لا يكادُ يتجاسرُ على أمثالِ هاتيكَ القبائحِ فكيفَ بمن تيقنُه وقولُه تعالَى

6

يوم يقوم الناس لرب العالمين

83 سورة المطففين (7 13) أي لحُكمِه وقضائِه منصوبٌ بإضمارِ أعنِي وقيلَ بمبعوثونَ أو مرفوعُ المحلِّ خبراً لمبتدأٍ مضمرٍ أو مجرورٌ بدلاً من يومٍ عظيمٍ مبني على الفتح لإضافته إلى الفعلِ وإنْ كانَ مضارعا كما هو رأيُ الكوفيِّينَ ويؤيد الأخيرينِ القَراءةُ بالرفعِ وبالجَرِّ وفي هَذا الإنكارِ والتعجيبِ وإيرادِ الظنِّ ووصفِ اليومِ بالعِظمِ وقيامِ الناسِ فيه كافَّة لله تعالَى خاضعينَ ووصفِه تعالَى بربوبيَّةِ العالمين من البيانِ البليغِ لعظمِ الذنبِ وتفاقمِ الإثمِ فِي التطفيف وأمثاله مالا يَخْفى

7

كلا ردع عمَّا كانوا عليهِ من التطفيفِ والغفلةِ عن البعثِ والحسابِ وقوله تعالى إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سِجّينٍ الخ تعليل للردع أو وجوب الارتداعِ بطريقِ التحقيقِ وسجينٌ علمٌ لكتابٍ جامعٍ هو ديوانُ الشرِّ دْوّنَ فيه أعمالُ الشياطينِ وأعمالُ الكفرةِ والفسقةِ من الثقلينِ منقولٌ من وصف كخاتم وأصلُه فِعِّيلٌ من السجنِ وهو الحبسُ والتضييقُ لأنَّه سببُ الحبسِ والتضييقِ في جهنَمَ أو لأنَّه مطروحٌ كما قيلَ تحتَ الأرضِ السابعةِ في مكانٍ مُظلمٍ وحش وهو مسكنُ إبليسَ وذريتِه فالمَعْنى أنَّ كتابَ الفجَّارِ الذينَ من جُمْلتِهم المطففونَ أي ما يكتبُ من أعمالِهم أو كتابةَ أعمالِهم لفي ذلكَ الكتابِ المُدونِ فيه قبائحُ أعمالِ المذكورينَ وقوله تعالى

8

وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ تهويلٌ لأمرِه أي هُو بحيثُ لا يبلغه درايةُ أحدٍ وقولُه تعالى

9

كتاب مَّرْقُومٌ أي مسطورٌ بينُ الكتابةِ أو معلَّمٌ يعلُم مَنْ رآهُ أنه لا خيرَ فيه وقيلَ هو اسمُ المكانِ والتقديرُ ما كتابُ السجينِ أو محلُّ كتابٍ مرقومٍ وقولُه تعالى

10

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ متصلٌ بقولِه تعالى يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين وما بينهما اعتراض بقوله تعالى

11

الذين يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدين إما مجرورٌ على أنه صفةٌ ذامةٌ للمكذبينَ أو بدلٌ منه أو مرفوعٌ أو منصوبٌ على الذمِّ

12

وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أي متجاوزِ عن حدودِ النَّظرِ والاعتبارِ غالٍ في التقليدِ حتَّى استقصرَ قُدرةَ الله تعالى وعلمَهُ عنِ الإعادةِ مع مشاهدتِه للبدءِ أَثِيمٍ أي منهمكٍ في الشهواتِ المخدجةِ الفانيةِ بحيثُ شغلتْهُ عمَّا وراءَها منَ اللذاتِ التامةِ الباقيةِ وحملتْه على إنكارِها

13

اذا تتلى عليه

83 سورة المطففين (14 18) آياتنا الناطقةُ بذلكَ قَالَ من فرطِ جهلهِ وإعراضِه عن الحق الذي لا محيد عنْهُ أساطير الأولين أي هي حكاياتُ الأولينَ قال الكلبيُّ المرادُ بالمُعتدي الأثيمِ هو الوليد بن المغيرة وقيل النضر بن الحرث وقيلَ عامٌّ لكلِّ مَن اتصفَ بالأوصافِ المذكورةِ وقُرِىءَ إذَا يُتلى بتذكيرِ الفعلِ وقُرِىءَ أَإِذَا تُتلى على الاستفهامِ الإنكاريِّ

14

كَلاَّ ردعٌ للمعتدي الأثيمِ عن ذلكَ القولِ الباطلِ وتكذيبٌ له فيهِ وقولُه تعالَى بَلْ رَانَ على قلبوهم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ بيانٌ لما أدَّى بهم إلى التفوهِ بتلكَ العظيمةِ أي ليسَ في آياتِنا ما يصحُّ أنْ يقالَ في شأنِها مثلُ هذه المقالاتِ الباطلةِ بلْ رَكِبَ على قلوبِهم وغلبَ عليها ما كانوا يكسبونها من الكفرِ والمعاصِي حتى صارتْ كالصدأِ في المرآةِ فحالَ ذاكَ بينُهم وبينَ معرفةِ الحقِّ كما قال صلى الله عليه وسلم إنَّ العبدَ كلما أذنبَ ذنباً حصلَ في قلبِه نكتة سوداء حتى يسودَّ قلبُه ولذلكَ قالُوا ما قالُوا والرينُ الصدأُ يقالُ رانَ عليهِ الذنبُ وغانَ عليهِ ريناً وغيناً ويُقالُ رانَ فيه النومُ أي رسخَ فيهِ وقُرِىءَ بإدغامِ اللامِ في الراءِ

15

كَلاَّ ردعٌ وزجرٌ عن الكسبِ الرائنِ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ فَلا يكادونَ يَرَونَهُ بخلافِ المؤمنينَ وقيلَ هو تمثيلٌ لإهانتِهم بإهانةِ من يُحجبُ عن الدخولِ على الملوكِ وعن ابنِ عبَّاسٍ وقَتَادةَ وابنِ أبي مليكةَ محجوبونَ عن رحمتِه وعن ابنِ كيسانَ عن كرامتِه

16

ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم أي داخلوا النارِ وثمَّ لتراخِي الرتبةِ فإنَّ صلْيَ الجحيمِ أشدُّ من الإهانةِ والحرمانِ من الرحمةِ والكرامةِ

17

ثُمَّ يُقَالُ لهُم توبيخاً وتقريعاً من جهةِ الزبانيةِ هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ فذوقُوا عذابَهُ

18

كلا ردع عما كانوا عليه بعد ردع زجر اثررجر وقوله تعالى إن كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ محلِ كتابِ الأبرارِ بعدَهُ بيانُ سوءِ حالِ الفُجَّارِ مُتصلاً ببيانِ سُوءِ حالِ كتابِهم وفيه تأكيد للردع ووجوب الاتداع وكتابُهم ما كُتبَ من أعمالِهم وعليونَ علمٌ لديوانِ الخيرِ الذي دُوِّنَ فيه كل ما أعملته الملائكةُ وصلحاءُ الثقلينِ منقولٌ من جمعٍ على فعيلٍ من العُلوِّ سُمِّيَ بذلكَ إمَّا لأنَّه سببُ الارتفاعِ إلى أعالِي الدرجاتِ في الجنةِ وإمَّا لأنَّهُ مرفوعٌ في السماءِ السابعةِ حيثُ يسكنُ الكروبيونَ تكريماً له وتعظيماً والكلامُ في قولِه تعالى

83 سورة المطففين (19 26)

19

وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ كتاب مَّرْقُومٌ كما مرَّ في نظيرِه وقولُه تعالَى

21

يَشْهَدُهُ المقربون صفةٌ أُخرى لكتابَ أي يحضرونَهُ ويحفظونَهُ أو يشهدونَ بما فيه يومَ القيامةِ

22

إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ شروعٌ في بيانِ محاسنِ أحوالِهم إثرَ بيانِ حالِ كتابهم على طريقة مامر في شأن الفجَّارِ

23

على الأرائك أي على الأسرةِ في الحجالِ ولا يكادُ تطلقُ الأريكةُ على السرير عندهم كونِه في الحَجَلةِ يُنظَرُونَ أي الا ما شاؤا مدَّ أعينِهم إليه من رغائب مناظرِ الجنةِ وإلى ما أولاهُم الله تعالى من النعمةِ والكرامةِ وإلى أعدائهم يعذبونَ في النارِ وما تحجبُ الحجالُ أبصارَهُم عن الإدراك

24

{تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} أي بهجةَ التنعمِ وماءَهُ ورونَقُه والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممن له حظ منَ الخطابِ للإيذانِ بأنَّ مالهم النعيم أي بهجةَ التنعمِ وماءَهُ ورونَقُه والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممن له حظ منَ الخطابِ للإيذانِ بأنَّ مالهم من آثارِ النعمةِ وأحكامِ البهجةِ بحيثُ لا يختصُّ برؤيته راءٍ دُونَ راءٍ

25

{يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ} شرابٍ خالص لاغش فيهِ مَّخْتُومٍ

26

{ختامه مِسْكٌ} أي مختومٌ أوانيه وأكوابُه بالمسكِ مكانَ الطينِ ولعلَّه تمثيلٌ لكمالِ نفاستِه وقيل ختامُه مسكٌ أي مقطعُه رائحةُ مسكٍ وقُرِىءَ خَاتَمهُ بفتحِ التاء وكسرِها أي ما يُختم به ويُقطع {وَفِى ذَلِكَ} إشارةٌ إلى الرحيقِ وهو الأنسبُ لما بعدَهُ أو إلى ما ذُكر من أحوالِهم وما فيهِ من مَعْنى البُعدِ إما للإشعارِ بعلوِّ مرتبتِه وبُعد منزلتِه أو لكونِه في الجنةِ أي في ذلكَ خاصَّةً دونَ غيرِه فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون أي فليرغبْ الراغبونَ بالمبادرة إلى طاعةِ الله تعالى وقيلَ فليعملِ العاملونَ كقولِه تعالى لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون وقيل فليستبقِ المستبقونَ وأصلُ التنافسِ التغالبُ في الشيء النفيس النفس وأصلُه من النفس لعزتها قال الواحديُّ نفستُ الشيءَ أنفسُه نفاسةً والتنافسُ تفاعلٌ منه كأنَّ كلَّ واحدٍ من الشخصينِ يريدُ أنْ يستأثرَ به وقال البغويُّ وأصله من الشيء النفس الذي يحرص

9 - 83 سورة المطففين (27 33) عليه نفوس الناس ويزيده كلُّ أحدٍ لنفسِه وينفسُ به على غيرِه أي يضنّ بهِ

27

وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عطفٌ على ختامُه صفةٌ أخرى لرحيقٍ مثله وما بينَهما اعتراضٌ مقررٌ لنفاستِه أي ما يمزج به على الرحيق من ما تسنيمٍ على أنَّ مِن بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ أو من نفِسه على أنَّها ابتدائيةٌ والتسنيمُ علمٌ لعينٍ بعينِها سميتُ به إمَّا لأنَّها أرفعُ شرابٍ في الجنة واما لأنها تأتيم من فوقِ رُويَ أنَّها تجري في الهواء متسئمة فتصب في أوانيهم

28

عَيْناً نصبَ على الاختصاصِ وجوازُ أنْ يكونَ حالاً من تسنيمٍ مع كونِه جامدا لاتصافه وقولُه تعالى يَشْرَبُ بِهَا المقربون فإنَّهم يشربونها صِرفاً وتمزجُ لسائر أهلِ الجنةِ فالباءُ مزيدةٌ أو بمَعْنى من قولِه تعالَى

29

إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ الخ حكايةٌ لبعضِ قبائحِ مُشركي قريشٍ جيءَ بها تمهيداً لذكرِ بعضِ أحوالِ الأبرارِ في الجنةِ كَانُواْ في الدنيا من الذينَ آمنوا يضحكونَ أي يستهزئونَ بفقرائهم كعمارٍ وصهيبٍ وخبَّابٍ وبلالٍ وغيرِهم من فقراءِ المؤمنينَ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ إمَّا للقصرِ إشعاراً بغايةِ شناعةِ ما فعلُوا أي كانُوا من الذينَ آمنوا يضحكونَ مع ظهور عدمِ استحقاقِهم لذلكَ على منهاج قوله تعالى أَفِى الله شَكٌّ أو لمراعاةِ الفواصلِ

30

وَإِذَا مَرُّواْ أي فقراءُ المؤمنين بِهِمُ أي بالمشركينَ وهم في أنديتِهم وهو الأظهر وان جازَ العكسُ أيضاً يَتَغَامَزُونَ أي يغمزُ بعضهم بعضاً ويشيرونَ بأعينِهم

31

وَإِذَا انقلبوا من مجالسهِم إلى أَهْلِهِمْ انقلبوا فَكِهِينَ ملتذينَ بذكرِهم بالسوءِ والسخريةِ منهم وفيه إشارةٌ إلى أنَّهم كانُوا لا يفعلونَ ذلكَ بمرأى من المارينَ بهم ويكتفونَ حينئذٍ بالتغامزِ وقُرِىءَ فاكهينَ قيلَ هُمَا بمَعْنَى وقيلَ فكهينَ أشرينَ وقيلَ فرحينَ وفاكهينَ متفكهينَ وقيلَ ناعمينَ وقيلَ مازحينَ

32

وَإِذَا رَأَوْهُمْ أينما كانُوا قالوا إن هؤلاء لضالون أي نسبُوا المسلمينَ ممن رأوهم ومن غيرهم إلى الضلال بطريق التأكيد

33

وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ على المسلمينَ حافظين حالٌ من واو

سورة المطففين (34 36) قالوا أي قالو ذلك والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى موكلينَ بهم يحفظونَ عليهم أحوالَهم ويهيمنونَ على أعمالِهم ويشهدونَ برشدِهم وضلالِهم وهذا تهكمٌ بهم وإشعارٌ بأنَّ ما اجترؤا عليه من القولِ من وظائفِ من أرسلَ من جهته تعالى ووقد جُوِّزَ أن يكونَ ذلك من جملةِ قولِ المجرمينَ كأنَّهم قالُوا إنَّ هؤلاءِ لضالونَ وما أُرسلوا علينا حافظينَ إنكاراً لصدِّهم عن الشركِ ودعائِهم إلى الإسلامِ وإنما قيلَ عليهم نقلاً له بالمعنى كما في قولك حلفَ ليفعلنَّ لا بالعبارةِ كما في قولِك حلف لأفعلنَّ

34

فاليوم الذين آمنوا أي المعهودون من الفقراءِ مّنَ الكفار أي من المعهودينَ وهو الأظهر وان أمكن التنعيم من الجانبينِ يَضْحَكُونَ حين يرونهم أذلاء مغلولينَ قد غِشيهم فنونُ الهوانِ والصَّغارِ بعد العزةِ والكبرِ ورهقهم ألوانُ العذابِ بعد التنعمِ والترفهِ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ للقصرِ تحقيقاً للمقابلةِ أي فاليومَ هم من الكفارِ يضحكونَ لا الكفارُ منهم كما كانُوا يفعلونَ في الدُّنيا وقولُه تعالى

35

عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ حالٌ من فاعلِ يضحكونَ أي يضحكون منهم ناظرين اليه وإلى ما هُم فيه من سوءِ الحالِ وقيلَ يفتح للكفارِ بابٌ إلى الجنةِ فيقالُ لهم اخرجُوا اليها فاذا وصولا إليها أُغلقَ دُونهم يفعلُ بهم ذلكَ مراراً ويضحكُ المؤمنونَ مِنْهُمْ ويأباهُ قولُه تعالى

36

هَلْ ثُوّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ فإنه صريحٌ في أنَّ ضحكَ المؤمنين منهم جزاءٌ لضحكِهم منهم في الدُّنيا فلا بدَّ من المجانسةِ والمشاكلةِ حتماً والتثويبُ والإثابةُ المجازاةُ وقُرِىءَ بإدغامِ اللامِ في الثاءِ وعنه صلى الله عليه وسلم منْ قرأَ سورةَ المطففينَ سقاهُ الله تعالى يومَ القيامةِ من الرحيقِ المختومِ

84 سورة الانشقاق (1 5) سورة الانشقاق مكية وآيها خمس وعشرون بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم

الانشقاق

إِذَا السماء انشقت أي بالغمامِ كما في قولِه تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه تنشقُ من المجرةِ

2

وأذنب لِرَبّهَا أي واستمعتْ أي انقادات وأذعنتْ لتأثيرِ قُدرتِهِ تعالى حين تعلقتْ إرادتهُ بانشقاقِها انقيادَ المأمورِ المطواعِ إذا وردَ عليه أمرُ الآمرِ المُطاعِ والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافة إليها للإشعارِ بعلةِ الحُكْمِ وهذه الجملةُ ونَظيرتُها الآتيةُ بمنزلة قولِه تعالى أَتَيْنَا طَائِعِينَ في الإنباء عن كونِ ما نُسبَ إلى السماءِ والأرضِ من الانشقاق المد وغيرِهما جارياً على مُقتضى الحكمةِ كما أُشيرَ إليهِ فيما سلفَ وَحُقَّتْ أي جُعلت حقيقةً بالاستماع والانقيادِ لكنْ لا بعدَ أنْ لم تكن كذلك بل في نفسها وحدذاتها من قولهم هو محقوقٌ بكَذا وحقيقٌ به والمَعْنى انقادتْ لربِّها وهيَ حقيقةٌ بذلكَ لكنْ لا على أنَّ المرادَ خصوصيةُ ذاتها من بين سائرِ المقدوراتِ بل خصوصية القدرة القاهرةِ الربانيةِ التي يتأتى لها كلُّ مقدورٍ ولا يتخلفُ عنها أمرٌ من الأمورِ فحقُّ الجملةِ أن تكونَ اعتراضاً مقرراً لما قبلَها لا معطوفةً عليهِ

3

وَإِذَا الأرض مُدَّتْ أي بُسطتْ بإزالة جبالِها وآكامِها من مقارِّها وتسويتِها بحيثُ صارتُ قاعاً صفصفاً لا ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً أو زيدتْ سعَةً وبسطةً منْ مدَّهُ بمعنى أمدَّه أي زادَهُ

4

وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا أي رمتْ ما في جوفِها من الموتَى والكنوزِ كقولِه تعالى وَأَخْرَجَتِ الارض أَثْقَالَهَا وخلتْ عمَّا فيها غايةَ الخلوِّ حتَّى لم يبقَ فيها شيءٌ منه كأنَّها تكلفتْ في ذلكَ أقصَى جُهدِها

5

وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا في الإلقاءِ والتخلِّي وَحُقَّتْ أيْ وهيَ حقيقةٌ بذلكَ أي شأنُها ذلكَ بالنسبةِ إلى القدرةِ

84 سورة الانشقاق (6 13) الربانيةِ وتكريرُ كلمةِ إذا ما اتحادِ الأفعالِ المنسوبةِ إلى السماءِ والأرضِ وقُوعاً في الوقتِ الممتدِّ الذي هُو مدلولُها قد مرَّ سِرُّه فيمَا مَرَّ

6

يأَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبّكَ كَدْحاً أي جاهدٌ ومجدٌّ إلى الموت وما بعدَهُ من الأحوالِ التي مُثِّلتْ باللقاءِ مبالغٌ في ذلكَ فإنَّ الكدحَ جهدُ النفسِ في العملِ والكدُّ فيهِ بحيثُ يؤثرُ فيها من كدح جله إذا خدَشَةُ فملاقيه أي فملاقٍ لهُ عقيبَ ذلكَ لا محالة من غير صارف يلويك عنه قوله تعالى

7

فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً الخ قيلَ جوابُ إذا كما في قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم منى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وقولُه تعالى يأيها الإنسان الخ اعتراضٌ وقيلَ هو محذوفٌ للتهويل والإيماءِ إلى قصورِ العبارةِ عن بيانِه أوْ للتعويلِ على مامر في سورةِ التكويرِ والانفطارِ عليهِ وقيلَ هو ما دل عليه قوله تعالى يأيها الانسان الخ تقديره لا قي الإنسانُ كَدحَهُ وقيلَ هو قولهُ تعالى فملاقيهِ وما قبله اعتراضٌ وقيلَ هو يأيها الإنسانُ الخ بإضمارِ القولِ يسير سهلاً لا مناقشةَ فيه ولا اعتراضَ وعن الصديقةِ رضي الله عنها هُو أن يُعرّفَ ذنوبَهُ ثم يُتجاوزَ عَنْهُ

9

وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي عشيرتِه المؤمنينَ أو فريقَ المؤمنينَ مُبتهجاً بحالِه قائلا هاؤم اقرؤا كتابيه وقيلَ إلى أهلهِ في الجنةِ من الحورِ والغلمانِ

10

وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه وَرَاء ظَهْرِهِ أي يُؤتاهُ بشمالِه من وراءِ ظهرِه قيلَ تُغلُّ يمناهُ إلى عنقِه ويجعلُ شمالُه وراءَ ظهرِه فيؤتى كتابَهُ بشمالِه وقيلَ تخلعُ يدُه اليُسْرَى من وراءِ ظهرِه

11

فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً أي يتمنَّى الثبورَ وهو الهلاكُ ويدعوه يا ثبوراه تعالى فإنه أوانُكَ وأنَّى له ذلكَ

12

ويصلى سَعِيراً أي يدخلُها وقُرِىءَ يُصلّى كقوله تعالى وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ وقرىءَ ويصلى كما في قوله تعالى ونصليه جهنم

13

إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ فيما بينَ أهلِه وعشيرتِه في الدنيا مسرورا

84 سورة الانشقاق (14 20) مترفاً بَطِراً مستبشراً كديدنِ الفجارِ الذينَ لا يهمهم ولا يخطر ببالهم أمورُ الآخرةِ ولا يتفكرونَ في العواقبِ ولم يكُنْ حَزيناً متفكراً في حالهِ ومآلهِ كسنةِ الصلحاءِ والمتقينَ والجملةُ استئنافٌ لبيانِ علةِ ما قَبلها وقولُه تعالى

14

إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ تعليلٌ لسرورِه في الدنيا أي ظن أنْ لَنْ يرجِعُ إلى الله تعالى تكذبيا للمعادِ وإنْ مخففةٌ مِنْ أنَّ سادّةٌ معَ ما في حيزِها مسدَّ مفعولَيْ الظنِّ أو أحدَهُما عَلى الخِلافِ المعروفِ

15

بلى إيجابٌ لما بعدَ لَنْ وقولُه تعالى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً تحقيقٌ وتعليلٌ لهُ أيْ بَلَى ليحورَنَّ البتةَ إنَّ ربَّهُ الذي خلقَهُ كانَ به وبأعمالِه الموجبةِ للجزاءِ بصيراً بحيثُ لا يَخْفى منها خافيةٌ فلا بُدَّ منْ رجعهِ وحسابِه وجزائِه عليها حَتماً وقيلَ نزلتْ الآيتانِ في أبي سَلَمةَ بنِ عبْدِ الأشد وأخيه الأسودِ

16

فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق هي الحمرةُ التي تُشاهدُ في أفقِ المغربِ بعد الغروبِ أو البياضُ الذي يليها سُميَ بهِ لرقتِه ومنْهُ الشفقةُ التي هي عبارةٌ عن رقة القلب

17

والليل وَمَا وَسَقَ وما جمعَ وضمَّ يقالُ وسقَهُ فاتَّسقَ واستوسقَ أي جمعهُ فاجتمعَ وما عبارةٌ عمَّا يجتمعُ بالليلِ ويأوِي إلى مكانهِ من الدوابِّ وغيرِها

18

والقمر إِذَا اتسق أي اجتمعَ وتمَّ بدراً ليلة اربع عشر

19

لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ أي لتُلاقُنَّ حالاً بعدَ حالٍ كُلُّ واحدةٍ منهَا مطابقةٌ لأختها في الشدةِ والفظاعةِ وقيلَ الطبقُ جمع طبقةٍ وهي المرتبةُ وهو اأوفق للركوبِ المنبىءُ عن الاعتلاءِ والمَعْنَى لتركَبُنَّ أحوالاً بعدَ أحوالٍ هي طبقاتٌ في الشدةِ بعضُها أرفعُ من بعضٍ وهي الموتُ وما بعدَه من مواطنِ القيامةِ ودواهيها وقُرِىءَ لتَرْكَبَنَّ بالإفرادِ على خطابِ الإنسانِ باعتبارِ اللفظِ لا باعتبارِ شمولهِ لأفرادِه كالقراءةِ الأولى وقُرِىءَ بكسر الباء على خطابِ النفسِ وليَرْكَبَنَّ بالياءِ أي ليركَبَنَّ الإنسانُ ومحلُّ عن طبقٍ النصبِ على أنَّه صفةٌ لطبقاً أي طبقاً مجاوزاً لطبقٍ أو حال من الضمير في لتركبنَّ طبقاً مجاوزينَ أو مجاورا أو مجاوزةً على حسبِ القراءةِ والفاءُ في قولِه تعالى

20

فما لهم لايؤمنون لترتيب ما بعَدَها منَ الإنكار والتعجيبِ على ما قبلها من أحوالِ القيامةِ وأهوالِها الموجبة

84 سورة الانشقاق (21 25) للإيمانِ والسجودِ أيْ إذا كانَ حالُهم يومَ القيامةِ كما ذُكِرَ فأيُّ شيءٍ لهم حالَ كونِهم غيرَ مؤمنينَ أي أيُّ شيءٍ يمنعُهم من الإيمانِ معَ تعاضدِ موجباتِه وقولُه تعالى

21

واذا قرىء عليهم القرآن لاَ يَسْجُدُونَ جملةٌ شرطيةٌ محلُّها النصبُ عَلى الحاليةِ نسقاً على ما قَبلَها أيْ فأيُّ مانعٍ لهم حالُ عدمِ سجودِهم وخضوعِهم واستكانتهم عندَ قراءةِ القُرآنِ وقيلَ قرأ النبيُّ عليه الصلاةَ والسَّلامُ ذاتَ يومٍ واسجدْ واقتربْ فسجدَ هُو ومَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفرْ فنزلتْ وبه احتجَّ أبو حنيفة رحمه الله تعالَى عَلى وجوبِ السجدةِ وعن ابن عباس رضي الله عنهما ليسَ في المفصلِ سجدةٌ وعن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّه سجَدَ فيها وقالَ والله ما سجدتُ إلا بعدَ أن رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يسجدُ فيها وعن أنسٌ رضيَ الله عَنْهُ صليتُ خلفَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ رضيَ الله عنهم فسجدُوا وعن الحسنِ هي غيرُ واجبةٍ

22

بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذّبُونَ بالقُرآنِ النَّاطقِ بما ذُكر من أحوال القيامة وأهوال مع تحققِ موجباتِ تصديقهِ ولذلكَ لا يخضعونَ عندَ تلاوتِه

23

والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ بما يضمرونَ في قلوبِهم ويجمعونَ في صدورِهم من الكفرِ والحسدِ والبغي والبغضاءِ أو بما يجمعونَ في صحفهم من أعمال السواء ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذابِ علماً فعلياً

24

فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ لأنَّ علمَهُ تعالَى بذلكَ على الوجه المذكورِ موجبٌ لتعذيبهم حتما

25

الا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ استثناءٌ منقطعٌ إنْ جُعل الموصولُ عبارةً عن المؤمنينَ كافَّة ومتصلٌ إنْ أريدَ به منْ امنَ منهمُ بعدَ ذلكَ وقولُه تعالى لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غيرُ مقطوعٍ أو ممنونٍ به عليم استئنافٌ مقررٌ لما أفادَهُ الاستثناءُ من انتفاءِ العذابِ عنهم ومبينٌ لكيفيتهِ ومقارنتِه للثوابِ العظيمِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الانشقاق أعاذَهُ الله تعالَى أنْ يعطيَهُ كتابَهُ وراءَ ظهرِه

85 سورة البروج (1 4) بسم الله الرحمن الرحيم

البروج

{والسماء ذَاتِ البروج} هيَ البروجُ الاثنَا عشرَ شبهتْ بالقصورِ لأنَّها تنزلُها السياراتُ ويكونُ فيِها الثوابتُ أو منازلُ القمرِ أو عظامُ الكواكبِ سميتْ بروجاً لظهورِها أو أبوابِ السماءِ فإنَّ النوازلَ تخرجُ منها وأصلُ التركيبِ للظهورِ

2

{واليوم الموعود} أي يومُ القيامةِ

3

{وشاهد وَمَشْهُودٍ} أيْ ومَنْ يشهدُ في ذلكَ اليومِ من الخلائقِ وما يحضرُ فيه من العجائب وتنكرهما للإبهامِ في الوصفِ أي وشاهدٍ ومشهودٍ لا يُكتنهُ وصفُهُمَا أو للمبالغةِ في الكثرةِ وقيلَ الشاهدُ محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم والمشهودُ يومُ القيامةِ وقيلَ عيسَى عليهِ السلامُ وأمتهُ لقولِه تعالى وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً الخ وقيلَ أمةُ محمدٍ وسائرُ الأممِ وقيلَ يومُ الترويةِ ويومُ عرفةٍ وقيلَ يومُ عرفةَ ويومُ الجمعةِ وقيلَ الحجرُ الأسودُ والحجيجُ وقيلَ الأيامُ والليالي وبنُو آدمَ وعن الحسنِ مَا منْ يومٍ إلا ويُنادي إني يومٌ جديدٌ وإنِّي عَلى ما يعملُ فيَّ شهيدٌ فاغتنمني فَلَوْ غَابَتْ شَمْسِي لَمْ تُدركِني إلى يومِ القيامةِ وقيلَ الحفظةُ وبنُو آدمَ وقيلَ الأنبياءُ ومحمدُ عليهم الصلاةُ والسلام

4

{قُتِلَ أصحاب الأخدود} قيلَ هوَ جوابُ القسمِ عَلَى حذفِ اللامِ منهُ للطولِ والأصلُ لقتلَ كَمَا في قولِ مَنْ قالَ حَلَفتُ لَها بالله حِلْفَةَ فَاجِر لَنَامُوا فَمَا إنْ مِنْ حَدِيثٍ وَلاَ صَالِ وقيلَ تقديرُهُ لَقدْ قتلَ وأياً ما كانَ فالجملةُ خبريةٌ والأظهرُ أنَّها دعائيةٌ دالةٌ على الجواب كأنه قيلَ أقسمُ بهذهِ الأشياءِ أنهمْ أيْ كفارَ مكةَ ملعونونَ كما لعنَ أصحابُ الأخدودِ لَمَّا أنَّ السورةَ وردتْ لتثبيتِ المؤمنينِ عَلى ما هم عليه من الإيمان وصبرهم عليه من الإيمانِ وتصبيرِهم على أذية الكفرةِ وتذكيرهم بما جرى عَلى مَنْ تقدَّمهم من التعذيبِ على الإيمانِ وصبرُهُم عَلى ذلكَ حتى يأتسوا بِهمْ ويصبُروا على ما كانُوا يلقونَ من قومِهم ويعلُموا أنَّ هؤلاءِ عندَ الله عزَّ وجلَّ

بمنزلةِ أولئكِ المُعذِّبينِ ملعونونَ مثلُهم أحقاءُ بأنْ يقالَ فيهمْ ما قَدْ قيلَ فيهم وقرئ قُتِّلَ بالتشديدِ والأخدودُ الخَدُّ في الأرضِ وهو الشقُّ ونحوهما بناء ومعنى الخق والأخقوق وروى عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه كانَ لبعضِ الملوكِ ساحرٌ فلما كبرَ ضَمَّ إليه غلام ليعلِّمهُ السحرَ وكانَ في طريقِ الغلامِ راهبٌ فسمعَ منْهُ فرأى في طريقهِ ذاتَ يومٍ دابةً قدْ حبستِ النَّاسَ قيلَ كانتِ الدابةُ أسداً فأخذَ حَجَراً فقالَ اللهمّ إنْ كانَ الراهبُ أحبَّ إليكَ منَ الساحر فاقتلها فقتلها فكانَ الغلامُ بعدَ ذلكَ يبرئ الأكمه والأبرصَ ويَشفيَ من الأدواء وعمى جليس للملك فأبره فأبصرَهُ الملكُ فسألهُ منْ رد عليك فقالَ ربِّي فغضبَ فعذَّبه فدلَّ علَى الغلامِ فعذَّبه فدلَّ على الراهبِ فلم يرجعِ الراهبُ عن دينِه فقدَّ بالمنشارِ وأبى الغلامُ فذهبَ بهِ إلى جبلٍ ليطرحَ من ذروته فدعا فرجفَ بالقومِ فطاحُوا ونجَا فذهبَ به إلى قُرْقُورٍ فلججُوا بِه ليغرقُوه فدعا فانكفأتْ بهم السفينةُ فغرقُوا ونجا وقال للملكِ لستَ بقاتِلي حَتَّى تجمعَ النَّاسَ في صعيدٍ وتصلبني عَلى جذْعٍ وتأخذَ سهما من كناتى وتقولَ باسمِ الله ربِّ الغُلامِ ثمَّ ترميني بهِ فرماهُ فوقعَ في صُدغِه فوضَعَ يَدَهُ عليهِ وماتَ فقالَ النَّاسُ آمنَّا بربِّ الغلام فقيل للملك نزلَ بكَ ما كنتَ تحذرُ فأمرَ بأخاديدَ في أفواهِ السككِ وأوقدتْ فيها النيرانُ فمنْ لَمْ يرجعْ منهمْ طرحَهُ فيها حتَّى جاءت امرأةٌ معها صبيٌّ فتقاسمت فقالَ الصبيُّ يا أماهُ اصبري فإنَّكِ على الحق فاقتحمتْ وقيلَ قال لها قعى ولا تنافقى ماهي غلا غمبضة فصبرتْ قيلَ أُخرجَ الغلامُ منْ قبرهِ في خلافةِ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنهُ وأصبعُهُ على صُدْغِه كَما وضعها حينَ قتلَ وعَنْ عليَ رضيَ الله عنهُ أنَّ بعضَ ملوكِ المجوسِ وقعَ عَلىَ أختهِ وهو سكرانُ فلما صحا ندمَ وطلبَ المخرجَ فقالتْ لَهُ المخرجُ أن تخطبَ بالنَّاسِ فتقولَ إنَّ الله قدْ أحلَّ نكاحَ الأخواتِ ثمَّ تخطبُهم بعدَ ذلكَ أنَّ الله قد حرَمَهُ فخطبَ فلم يقبلُوا مِنْهُ فقالتْ لَهُ ابسطْ فيهمْ السوطَ ففعلَ فلم يقبلوا فقالتْ لَهُ ابسطْ فيهمْ السيفَ ففعلَ فلم يقبلُوا فأمرَ بالأخاديدِ وإيقادِ النارِ وطرحَ منْ أَبَى فيها فهم الذين أراد الله تعالى بقولِه قُتِلَ أصحاب الأخدود وقيلَ وقعَ إلى نجران رجل مما كانَ على دينِ عيسى عليه السلامُ فدعاهُم فأجابوُه فسارَ إليهم ذُو نواسٍ اليهوديُّ بجنودٍ من حِمْيرٍ فخيرهُمْ بينَ النارِ واليهوديةِ فأبو فأحرقَ منهمْ اثني عشرَ ألفاً في الأخاديدِ وقيلَ سبعينَ ألفاً وذكرَ أنَّ طولَ الأخدودِ أربعونَ ذراعاً وعرضَهُ اثنا عشرَ ذِراعاً

5

النار بد اشتمال من الخدود ذَاتِ الوقود وصفٌ لها بغاية العطظم وارتفاعِ اللهبِ وكثرةِ ما يوجبُهُ منَ الحطبِ وأبدانِ الناس وقرئ الوقودُ بالضمِّ وقولُه تعالى

6

إذ هم عليها تعود ظرفٌ لقتلَ أي لعنُوا حينَ أحدقُوا بالنَّارِ قاعدينَ حولَها في مكانٍ مشرفٍ علَيها من حافاتِ الأخدودِ كما في قولِه وَبَاتَ عَلَى النَّارِ النَّدَى وَالمُحَلَّقُ

85 سورة البروج (7 11)

7

وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ أيْ يشهدُ بعضُهم لبعضٍ عندَ الملكِ بأنَّ أحداً لمْ يقصرْ فيما أُمِرَ بهِ أوْ أنهم شهودٌ يشهدونَ بما فعلُوا بالمؤمنينَ يومَ القيامةِ يومَ تشهدُ عليهم أَلْسِنَتُهُمْ وأيديهُمْ وقيلَ عَلَى بمعنَى معَ والمعْنَى وهُم معَ مَا يفعلونَ بالمؤمنينَ منَ العذابِ حضورٌ لاَ يرقُّونَ لهم لغايةِ قسوةِ قُلُوبِهمْ هَذَا هُو الذي يستدعيه النظمُ الكريمُ وتنطقُ بِه الرواياتُ المشهورةُ وَقْد رُويَ أنَّ الجبابرةَ لما ألقوا المؤمنينَ في النَّارِ وهم قعودٌ حولَها علقت بهمْ النَّارُ فأحرقتُهمْ ونجَّى الله عزَّ وجلَّ المؤمنينَ منها سالمينَ وإلى هَذَا القولِ ذهَبَ الربيعُ بنُ أنسٍ والواحديُّ وعلى ذَلكَ حَمَلا قولَهُ تعالى ولهم عذابُ الحريقِ

8

وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ أيْ ما أنكرُوا منهم وما عابُوا إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد استئناف مفصحٌ عن براءتِهم عَمَّا يعاب وينكرُ بالكليةِ على منهاجِ قولهِ ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ ضيوفَهُم تُلامُ بنسيانِ الأحبَّةِ والوطن ووَصفُهُ تعالَى بكونِه عزيزاً غالباً يُخشى عقابُه وحميداً منعماً يُرجَى ثوابُه وتأكيدُ ذلكَ بقولِه تعالَى

9

الذى لَهُ مُلْكُ السموات والأرض للإشعارِ بمناطِ إيمانهِم وقولُه تعالى والله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ وعدٌ لهم ووعيدٌ شديدٌ لمعذبيهمْ فإنَّ علمِه تعالى بجميعِ الأشياءِ التي من جُملتِها أعمالُ الفريقينِ يستدعي توفيرَ جزاءِ كُلِّ منهمَا حَتْماً

10

إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات أي محنوهُم في دينهم ليرجعُوا عَنْهُ والمرادُ بهمْ إمَّا أصحابُ الأخدودِ خاصة وبالمفتونين المطرحون في الأخدودِ وإما الذينَ بلوهم في ذلكَ بالأذيةِ والتعذيبِ على الإطلاقِ وهم داخلونَ في جملتِهم دخولاً أولياً ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ أي عن كفرِهم وفتنتهم فإنَّ ما ذُكر من الفتنةِ في الدينِ لا يتصورُ من غيرِ الكافرِ قطعا وقولُه تعالَى فَلَهُمْ عَذَابُ جهنم حملة وقت خبراً لأنَّ أوْ الخبر لَهُم وعذابٌ مرتفعٌ بهِ على الفاعليةِ وهو الأحسنُ والفاءُ لتضمُّنِ المبتدأِ معنى الشرطِ ولا ضيرَ في نسخِه بأنَّ وإنْ خالفَ الأخفشُ والمَعنى لهُم في الآخرة عذاب جهنَم بسببِ كفرِهم وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق وهي نارٌ أُخرى عظيمةٌ بسببِ فتنتِهم للمؤمنين

11

ان الذين آمنوا وعملوا

85 سورة البروج (12 16) الصالحات على الإطلاقِ منَ المفتونينَ وغيرِهم لَهُمْ بسببِ ما ذكر من الإيمان والعملِ الصالحِ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار إن أريد بالجنات الأشجار لجريان الأنهارِ من تحتها ظاهرٌ وإنْ أُريد بها الأرضُ المشتعلة عليها فالتحية باعتبارِ جزئِها الظاهرِ فإن أشجارَها ساترةٌ لساحتِها كما يعربُ عنْهُ اسمُ الجنةِ وقد مرَّ بيانُه مراراً ذلك إشارةٌ إمَّا إلى الجناتِ الموصوفةِ والتذكيرُ لتأويلِها بما ذكرَ للإشعارِ بأنَّ مدارَ الحكمِ عنوانُهَا الذي يتنافس فيها المتنافسون فإنَّ اسمَ الإشارةِ متعرضٌ لذاتِ المشارِ إليهِ منْ حيثُ اتصافُهُ بأوصافِه المذكورةِ لا لذاتِه فقطْ كما هو الشأن الضميرِ فإذا أشيرَ إلى الجناتِ منْ حيثُ ذكرُهَا فقد اعتبر منها عنوانُها المذكورُ حتماً وإما إلى ما يُفيده قولُه تعالَى لهم جناتٌ الخ من حيازتِهم لَها فإنَّ حصولها لهم مستلزم لحايزتهم لها قَطْعاً وأيَّا ما كان فما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتِه وبُعدِ منزلتِه في الفضلِ والشرفِ ومحله الرفعُ على الابتداءِ خبرُه ما بعدُه أي ذلكَ المذكورُ العظيمُ الشأنِ الفوز الكبير الذي تصغر عندَهُ الدُّنيا وَمَا فِيْهَا من فنون الرغائب بحذافيرها والفوزُ النجاةُ منَ الشرِّ والظفر بالخير فعالى الأولِ هو مصدرٌ أُطلق على المفعولِ مبالغة وعلى الثانِي مصدرٌ عَلَى حالِه

12

إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ استئنافٌ خُوطب بهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إيذاناً بأنَّ لكفارِ قومِهِ نصيباً موفُوراً منْ مضمونِه كما يُنْبىء عنه التعرُّضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلامُ والبطشُ الأخذُ بعُنْفٍ وحيثُ وصفَ بالشدةِ فقدْ تضاعفَ وتفاقمَ وهو بطشُه بالجبابرةِ والظلمةَ وَأخذُه إيَّاهُم بالعذابِ والانتقامِ كقولِه تعالَى وكذلك أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِىَ ظالمة إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ

13

إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ أيْ هُو يُبدْىءُ الخلقِ وهو يعيده من غيرِ دخلٍ لأحدٍ في شيءٍ منْهُمَا ففيهِ مزيد تقرير لشدته بطشِه أوُ هُو يبدىءُ البطشَ بالكفرةِ في الدُّنيا وَيعيدُه فِي الآخرةِ

14

وَهُوَ الغفور لمن تاب وآمنَ الودود المحبُّ لمَنْ أطاعَ

15

ذُو العرش خالقُه وقيلَ المرادُ بالعرشِ الملكُ أيْ ذُو السلطنةِ القاهرةِ وقُرِىءَ ذِي العَرشِ عَلى أنَّهُ صفةُ ربِّك المجيد العظيمُ في ذاتِه وصفاتِه فإنَّهُ واجبُ الوجودِ تامُّ القُدرةِ كاملُ الحكمةِ وقُرِىءَ بالجرِّ على أنَّه صفةٌ لربِّكَ أَوْ للعرشِ ومجدُه علوّه وعظمتُه

16

فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ بحيثُ لا يتخلفُ عنْ إرادتِه مرادٌ من أفعالِه تعالَى وأفعالِ غيرِه وهو خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ

85 سورة البروج (17 22) وقوله تعالى

17

هل أتاك حَدِيثُ الجنود استئنافٌ مقررٌ لشدةِ بطشِه تعالَى بالظلمةِ العصاة والكفرة والعتاة وكونُه فعالاً لما يريدُ متضمنٌ لتسليتِه عليه الصلاةُ والسلامُ بالإشعارِ بأنهُ سيصيبُ قومَهُ ما أصابَ الجنودَ

18

فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بدلٌ منَ الجنودِ لأنَّ المرادَ بفرعونَ هُوَ وقومُه والمرادُ بحديثِهم ما صدرَ عنهُم من التمادِي في الكفرِ والضلالِ وما حلَّ بهمْ منَ العذابِ والنكالِ وَالمَعْنى قدْ أتاك حديثهم وعرفت ما فعلوا وما فُعل بهمْ فذكِّر قومكَ بشؤونِ الله تعالَى وأنذرهم ان يصبهم مثل ما أصاب أمثالهم وقوله تعالى

19

بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ إضراب عن مماثلتِهم لهُم وبيانٌ لكونِهم أشدَّ منُهم في الكفرِ والطغيانِ كأنَّه قيلَ ليسُوا مثلُهم في ذلك بل هم أشدُّ منهمُ في استحقاقِ العذابِ واستيجابِ العقابِ فإنَّهم مستقرونَ فِي تكذيبٍ شديدٍ للقرآنِ الكريمِ أو قيلَ ليستْ جنايتُهم مجردَ عدمِ التذكر والاتعاظ بما سمعُوا منْ حديثِهم بلْ هُم معَ ذلكَ في تكذيب شديدٍ للقُرآنِ الناطقِ بذلكَ لكنْ لا أنَّهم يكذبونَ بوقوعِ الحادثةِ بلْ بكونِ ما نطقَ بهِ قرآناً منْ عندِ الله تعالى معَ وضوحِ أمرِه وظهور حاله بالبيانات الباهرةِ

20

والله مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ تمثيلٌ لعدمِ نجاتِهم منْ بأسِ الله تعالَى بعدمِ فوتِ المحاطِ المحيطَ وقولُه تعالى

21

بل هو قرآن مَّجِيدٌ ردٌّ لكفرهم وإبطالٌ لتكذيبهم وتحقيقٌ للحقِّ أيْ ليسَ الأمرُ كَما قالُوا بلْ هُو كتابٌ شريف عالِي الطبقةِ فَيما بينَ الكتبِ الإلهيةِ في النظمِ والمَعْنى وقُرِىءَ قرآنُ مجيدٍ بالإضافةِ أيْ قرآنُ ربَ مجيدٍ

22

فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ أيْ منَ التحريفِ ووصولِ الشياطين إليهِ وقُرِىءَ محفوظٌ بالرَّفعِ عَلى أنَّه صفةُ قرآنٍ وقُرِىءَ في لوحٍ وَهُوَ الهَوَاءُ أي ما فوقَ السماءِ السابعةِ الذي فيهِ اللوح عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ البروجِ أعطاهُ الله تعالَى بعددِ كلِّ جمعةٍ وعرفةٍ تكونُ في الدُّنيا عشر حسنات

86 سورة الطارق (1 4) سورة الطارق مكية وآيها سبع عشرة بسم الله الرحمن الرحيم

الطارق

والسماء والطارق الطارقُ في الأصلِ اسمُ فاعلٍ منْ طرق طرقا وطرقا إذَا جاءَ ليلاً قالَ المَاوِرْدِيُّ وأصلُ الطرقِ الدقُّ ومنه سميتِ المطرقةُ وإنما سميَ قاصدُ الليلِ طارقاً لاحتياجِه إلى طرقِ البابِ غالباً ثم اتُّسعَ في كلِّ ما ظهرَ بالليلِ كائناً ما كانَ ثم أشبعَ في التوسعِ حتى اطلق على الصور الخالية الباديةِ بالليلِ قال طرقَ الخيالُ ولا كليلةِ مدلج سدكاً بأرجلنَا ولم يتبرجِ والمرادُ ههنا الكوكبُ البادِي بالليلِ أما عَلى أنَّه اسمُ جنسٍ أو كوكبٌ معهودٌ وقيلَ الطارقُ النجمُ الذي يقالُ له كوكبُ الصبحِ وقولُه تعالى

2

وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطارق تنويهٌ بشأنِه إثرَ تفخيمِه بالإقسامِ به وتنبيهٌ على أنَّ رفعةَ قدرِه بحيثُ لا ينالُها إدراكُ الخلقِ فلا بُدَّ من تلقِّيها من الخلاَّقِ العليمِ فما الأُولى مبتدأٌ وأدراكَ خبرٌ والثانيةُ خبرٌ والطارقُ مبتدأٌ حسبما بينَ في نظائرِه أي وأي شيء أعلمك ما الطارقُ وقولُه تعالى

3

النجم الثاقب خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ استئنافٌ وقعَ جواباً عن استفهامٍ نشأَ مما قبله كأنه قيل ما هو فقيلَ النجمُ المضيءُ في الغايةِ كأنَّه يثقبُ الظلامُ أو الأفلاكُ بضوئِه وينفذُ فيَها والمرادُ بهِ إما الجنسُ فإنَّ لكلِّ كوكبٍ ضوءاً ثاقباً لا محالةَ وإما كوكبٌ معهودٌ قيلَ هو زُحَلُ وقيلَ هو الثُّريَّا وقيلَ هو الجَديُ وقيل النجمُ الثاقبُ نجمٌ في السماءِ السابعةِ لا يسكُنها غيرُه فإذا أخذتِ النجومُ أمكنتَها من السماءِ هبط فكانَ معها ثم يرجعُ إلى مكانِه من السماءِ السابعةِ وهو زُحل فهو طارقٌ حينَ ينزلُ وحينَ يصعدُ وفي إيرادِه عندَ الإقسامِ به بوصفٍ مشتركٍ بينه وبين غيرِه ثم الإشارةِ إلى أنَّ ذلكَ الوصفَ غير كنِه أمرِه وأن ذلكَ مما لا تبلغه أفكارُ الخلائقِ ثم تفسيرِه بالنجمِ الثاقبِ من تفخيمِ شأنه وإجلال محله ما لا يخفى وقوله تعالى

4

{إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} جوابٌ للقسمِ وما بينهما اعتراضٌ جيءَ به لما

ذكرمن تأكيد فخامة المقسمبه المستتبعِ لتأكيدِ مضمونِ الجملةِ المقسمِ عليها وإنْ نافيةٌ ولما بمعنى إلا أي ما كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا حافظٌ مهيمنٌ رقيبٌ وهو الله عزَّ وجلَّ كما في قوله تعالى وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء رَّقِيباً وقيلَ هو من يحفظُ عملَها ويُحصي تعالى {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين كِرَاماً} الآيةَ وقولُه تعالى {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} وقولُه تعالى {لَهُ معقبات مّن بينِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفِه يَحْفَظُونَهُ} وقُرِىءَ لَمَا مخففةٌ على أنَّ إنْ مخففةٌ من الثقيلةِ واسمُها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ والَّلامُ هي الفارقةُ وما مزيدةٌ أي أنَّ الشأنَ كلُّ نفسٍ لعليها حافظٌ والفاء في قوله تعالى

5

فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ للتنبيهِ على أنَّ مَا بُينَ مِنْ أن كلَّ نفسٍ عليها حافظٌ يُحصي عليها كلَّ ما يصدرُ عنها من قولٍ وفعلٍ مستوجبٌ على الإنسانِ أنْ يتفكرَ في مبدأِ فطرتِه حق التفكر حتى يتضح له أن من قدر على إنشائه من موادّ لم تشمّ رائحة الحياة قط فهو قادرٌ على إعادتِه بل أقدرُ على قياسِ العقلِ فيعملَ ليومِ الإعادةِ والجزاءِ ما ينفعُه يومئذٍ ويجديهِ ولا يملى على حافظِه ما يرد به وقولُه تعالى

6

خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ استئنافٌ وقع جوابا عن استفهامٍ مقدرٍ كأنه قيلَ ممَّ خلقَ فقيلَ خلقَ من ماءٍ ذِي دفقٍ وهو صبٌّ فيه دفعٌ وسيلانٌ بسرعةٍ والمرادُ بهِ الممتزجُ من الماءينِ في الرحمِ كما ينبىءُ عنه قولُه تعالى

7

يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب أي صلبِ الرجلِ وترائبِ المرأةِ وهي عظامُ صدرِها قالوا إن النطفةَ تتولدُ من فضلِ الهضمِ الرابعِ وتنفصلُ عن جميعِ الأعضاءِ حتى تستعدَّ لأنْ يتولدَ منها مثلُ تلك الأعضاءِ ومقرُّها عروقٌ ملتفٌ بعضُها بالبعضِ عند البيضتينِ فالدماغُ أعظمُ الأعضاءِ معونةً في توليدِها ولذلك تشبهُه ويورثُ الإفراطُ في الجماعِ الضعفَ فيهِ وله خليفه هي النخاعُ وهو في الصلبِ وشعبٌ كثيرةٌ نازلة إلى الترائبِ وهما أقربُ إلى أوعيةِ المنيِّ فلذلك خُصَّا بالذكرِ وقُرِىءَ الصَّلَبِ بفتحتينِ والصُّلُبِ بضمتينِ وفيه لغةٌ رابعةٌ هي صالبُ

8

أَنَّهُ الضميرُ للخالقِ تعالَى فإنَّ قولَه خُلِقَ يدلُّ عليهِ أيْ أنَّ ذلكَ الذي خلقَهُ إبتداءً مما ذكرَ على رَجْعِهِ أي على إعادتِه بعد موتِه لَقَادِرٌ لبينُ القدرة

9

يَوْمَ تبلى السرائر أي يُتعرفُ ويُتصفحُ ما أُسرَّ في القلوبِ من العقائدِ والنياتِ وغيرها وما أُخفي من الأعمالِ ويُميزُ بين ما طابَ منها وما خبث وهو

86 سورة الطارق (10 14) ظرفٌ لرجعِه

10

فَمَا لَهُ أي للإنسانِ مِن قُوَّةٍ في نفسِه يمتنعُ بها وَلاَ نَاصِرٍ ينتصرُ به

11

والسماء ذَاتِ الرجع أي المطرِ سميَ رَجْعاً لَما أن العربَ كانوا يزعمونَ أن السحابَ يحملُ الماءَ من يحار الأرضِ ثم يرجعُه إلى الأرضِ أو أرادُوا بذلكَ التفاؤلَ ليرجعَ ولذلك سمَّوه أوباً أو لأنَّ الله تعالى يرجعه

12

والأرض ذَاتِ الصدع هو ما تتصدعُ عنه الأرضُ من النباتِ أو مصدرٌ من المبنيِّ للمفعولِ وهو تشققُها بالنباتِ لا بالعيونِ كما قيلَ فإن وصفَ السماءِ والأرضِ عند الإقسامِ بهما على حقية القرآنِ الناطقِ بالبعثِ بما ذُكِرَ منَ الوصفينِ للإيماءِ إلى أنَّهما في أنفسِهما من شواهدِه وهو السرُّ في التعبيرِ بالصدعِ عنه وعن المطرِ بالرجعِ وذلك في تشققِ الأرضِ بالنباتِ المحاكِي للنشورِ حسبما ذكرَ في مواقعَ من التنزيلِ لا في تشققِها بالعيونِ

13

أَنَّهُ أي القُرآنَ الذي من جُملته ما تُلي من الآياتِ الناطقةِ بمبدأِ حال الإنسانِ ومعادِه لَقَوْلٌ فَصْلٌ أي فاصلٌ بين الحقِّ والباطلِ مبالغٌ في ذلك كأنه نفسُ الفصلِ

14

وَمَا هوَ بالهزل ليس في شيءٍ منه شائبةُ هزلٍ بل كله جدٌّ محضٌ لا هوادةَ فيه فمن حقِّه أن يهتديَ به الغواةُ وتخضعَ له رقابُ العتاةِ

15

أَنَّهُمْ أي أهلَ مكةَ يَكِيدُونَ في إبطالِ أمرِه وإطفاءِ نورِه كَيْداً حسبما نفى به قدرتُهم

16

وَأَكِيدُ كَيْداً أي أقابلهُم بكيدٍ متينٍ لا يمكنُ ردُّه حيثُ أستدرجُهم من حيثُ لا يعلمونَ

17

فَمَهّلِ الكافرين أي لا تشتغلْ بالانتقامِ منهم ولا تدع عليهم بالهلاك اولا تستعجلْ بهِ والفاءُ لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها فإنَّ الإخبارَ بتوليهِ تعالى لكيدهم بالذاتِ مما يوجبُ إمهالَهم وتركَ التصدِّي لمكايدتِهم قطعاً وقولُه تعالى أَمْهِلْهُمْ بدلٌ من مَهِّل وقولُه تعالى رُوَيْداً إما مصدر مؤكد لمعنى العاملِ أو نعتٌ لمصدره المحذوف اي أمهلهم إمهالاً رُويداً أي قريباً كما قاله ابن عباس رضيَ الله عنْهُما أو قليلا

87 سورة الأعلى (1 3) كما قاله قَتادةُ قال أبو عبيدةَ هُو في الأصلِ تصغيرُ رُود بالضمِّ وأنشدَ كأنَّها ثَمِلٌ تَمشي عَلى رُودِ أي على مهل وقيل تصغيرا رواد مصدرا رود بالترخيمِ وله في الاستعمالِ وجهانِ آخرانِ كونُه اسمَ فعل نحو رويدا زيد وكونُه حالاً نحو سارَ القومُ رويداً أَي متمهلينَ وفي إيرادِ البدلِ بصيغةٍ لا تحتملُ التكثيرَ وتقييدُه برويداً على أحدِ الوجهينِ المذكورينِ من تسليةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتسكين قلبه مالا يخفى وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأَ سورةَ الطارقِ أعطاه الله تعالى بعدد كلِّ نجمَ في السماءِ عشرَ حسناتٍ والله أعلمُ سورة الأعلى مكية وآيها تسع عشرة بسم الله الرحمن الرحيم

الأعلى

سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى أي نزه اسَمُه عزَّ وجلَّ عن الإلحادِ فيه بالتأويلاتِ الزائغةِ وعن إطلاقِه على غيرِه بوجهٍ يُشعرُ بتشاركِهما فيهِ وعن ذكرِه لاَ عَلى وجهِ الإعظامِ والإجلالِ والأعلى إمَّا صفةُ للربِّ وهو الأظهرُ أو للاسمِ وقُرِىءَ سُبحانَ ربِّيَ الأَعْلَى وفي الحديثِ لما نزلتْ {فسبح باسمِ ربِّكَ العظيمِ} قال عليه الصَّلاةُ والسلام اجلعوها في ركوعِكم فلمَّا نزلَ {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى} قالَ اجعلُوها في سُجودِكم وكانُوا يقولونَ في الركوعِ اللهمَّ لكَ ركعتُ وفي السجودِ اللَّهم لكَ سجدتُ

2

الذى خَلَقَ فسوى صفةٌ أُخرى للربِّ على الوجهِ الأولِ ومنصوبٌ على المدحِ على الثَّانِي لئلا يلزمَ الفصلُ بين الموصوفِ والصفةِ بصفةِ غيرِه أيْ خلقَ كلَّ شيءٍ فسوَّى خلقَهُ بأنْ جعلَ له ما به يتأتى كما له ويتسنَّى معاشُه وقولُه تعالَى

3

والذى قَدَّرَ إمَّا صفةٌ أُخْرى للربِّ كالموصول الأولِ أو معطوفٌ عليهِ وكذا حالُ ما بعدَهُ قدَّرَ أجناسَ الأشياءِ وأنواعِها وأفرادَها ومقاديرَها وصفاتِها وأفعالَها وآجالَها فهدى أيْ فوجَّه كلَّ واحدٍ منَها إلى ما يصدرُ عنْهُ وينبغِي لهُ طبعاً أو اختياراً ويسرهُ لما خُلقَ له بخلقِ الميولِ والإلهاماتِ ونصبُ الدلائلِ وإنزالِ الآياتِ ولو تتبعتَ احوال النباتات والحيوانات

87 سورة الأعلى (4 7) لرأيت كلَ منَها ما تحارُ فيه العقولُ يُروى أنَّ الأفعَى إذَا بلغتْ ألفَ سنةٍ عميتْ وقدْ ألهمَها الله تعالَى أنْ تمسحَ عينَها بورقِ الرازيانجِ الغضِّ يُردُّ إليها بصرُها فربَّما كانتْ عندَ عُروضِ العَمَى لها في بريةٍ بينَها وبين الريفِ مسافةٌ طويلةٌ فتطويها حتى تهجمَ في بعضِ البساتينِ على شجرة الرازيانجِ لا تُخطئها فتحكَّ عينَها بورَقِها وترجعَ باصرةً بإذنِ الله عزَّ وجلَّ ويُروى أنَّ التمساحَ لا يكونُ له دُبرٌ وإنَّما يخرجُ فضلاتِ ما يأكلُه من فمِه حيثُ قيَّضَ الله له طائراً قُدِّر غذاؤُه من ذلكَ فإذَا رآهُ التمساحُ يفتحُ فمَهَ فيدخُلُه الطائرُ فيأكلُ ما فيهِ وقد خلقَ الله تعالى له من فوقِ منقارِه ومن تحتِه قرنينِ لئلا يطبقَ عليه التمساحُ فمَهُ هَذا وأمَّا فنونُ هداياتِه سبحانَهُ وتعالَى للإنسانِ من حيثُ الجسميةُ ومن حيثُ الحيوانيةُ لا سيِّما من حيثُ الإنسانيةُ فممَّا لا يحيطُ به فَلَكُ العبارةِ والتحريرُ ولا يعلمُه إلا العليمُ الخبر

4

والذى أَخْرَجَ المرعى أيْ أنبتَ ما يرعاهُ الدوابُّ غضّاً طرياً يرفُ

5

فَجَعَلَهُ بعدَ ذلكَ غُثَاء أحوى أي دَريناً أسودَ وقيلَ أحْوَى حالٌ من المَرْعى أي أخرجَهُ أَحْوَى من شدة الخضرةِ والريِّ فجعلَه غُثاءً بعدَ ذلكَ وقولُه تعالى

6

سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى بيانٌ لهداية الله تعالَى الخاصَّةِ برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم إثرَ بيانِ هدايتِه تعالى العامَّةِ لكافَّةِ مخلوقاتِه وهي هدايته عليه الصلاة والسلام لتلقِّي الوَحْي وحفظِ القرآنِ الذي هو هُدى للعالمينَ وتوفيقُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لهدايةِ الناسِ أجمعينَ والسين إمَّا للتأكيدِ وإمَّا لأنَّ المرادَ إقراءُ ما أَوْحى الله إليهِ حينئذٍ وما سيُوحى إليهِ بعدَ ذلكَ فهو وعد كريم باستمرار الوَحْي في ضمنِ الوعدِ بالإقراءِ أي سنُقرئكَ ما نُوحِي إليكَ الآنَ وفيما بعدُ على لسانِ جبريلَ عليهِ السَّلامُ أو سنجعلكَ قارئاً بإلهامِ القراءةِ فلا تنْسى أصلاً من قوةِ الحفظِ والإتقانِ مع أنَّكَ أميٌّ لا تدرِي ما الكتابُ وما القراءةُ ليكونَ ذلك آيةً أُخْرى لكَ معَ ما في تضاعيفِ ما تقرؤه من الآياتِ البيناتِ من حيثُ الإعجازُ ومن حيثُ الإخبارُ بالمغيباتِ وقيلَ فلا تنْسى نهيٌ والألفُ لمراعاة الفاصلةِ كما في قولِه تعالى {فأضلُّونَا السبيلاَ} وقولُه تعالى

7

إلا ما شاء الله استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم المفاعيلِ أيْ لا تَنْسى ممَّا تقرؤُه شيئاً من الأشياءِ إلا ما شاءَ الله أنْ تنساهُ أبداً بأنْ نُسخَ تلاوتُه والالتفاتُ إلى الإسم الجليل لتربية المهابةِ والإيذانِ بدورانِ المشيئةِ على عُنوانِ الأُلوهيةِ المستتبعةِ لسائرِ الصفاتِ وقيل المرادُ به النسيانُ في الجملةِ على القلةِ والندرةِ كما روي أنه عليه الصلاة والسَّلامُ أسقطَ آيةً في قراءته في الصلاة فحسب أبيُّ أنها نُسختْ فسألَه فقال عليه الصلاة

87 سورة الأعلى (8 10) والسَّلامُ نسيتُها وقيلَ نَفيُ النسيانِ رأساً فإنَّ القَّلةَ قد تُستعملُ في النَّفي فالمراد بالنسيان حينئذ النسيان بالكليةِ إذُ هو المنفيُّ رأساً لا ما قَدْ ينسى ثم يذكر إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى تعليلٌ لمَا قبلَهُ أيْ يعلم ما ظهرَ وما بطنَ من الأمور التي من جُملتِها ما أُوحيَ إليكَ فيُنْسِي ما يشاءُ إنساءَهُ ويُبقي محفوظاً ما يشاءُ إبقاءَهُ لما نيطَ بكلَ منهُما من مصالحِ دينِكم

8

وَنُيَسّرُكَ لليسرى عطفٌ على نُقرئكَ كما يُنْبىءُ عنه الالتفاتُ إلى الحكايةِ وما بينهما اعتراضٌ واردُ لما ذُكرَ من التعليلِ وتعليقٌ التيسيرِ به عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ مع أنَّ الشائعَ تعليقُه بالأمورِ المسخرةِ للفاعلِ كما في قوله تعالى {وَيَسّرْ لِى أَمْرِى} للإيذانِ بقوةِ تمكينِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من اليُسرى والتصرفِ فيها بحيثُ صارَ ذلكَ ملكةً راسخةً له كأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جُبلَ عليها كما في قولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ اعملُوا فكُلٌّ ميسرٌ لِمَا خُلقَ له أي نوفقكَ توفيقاً مستمراً للطريقةِ اليُسرى في كُلّ بَابٍ من أبوابِ الدينِ علماً وتعليماً واهتداءً وهدايةً فيندرجُ فيه تيسيرُ طريقِ تلقِّي الوَحْي والإحاطةِ بما فيه منْ أحكامِ الشريعةِ السمحةِ والنواميسِ الإلهيةِ مما يتعلقُ بتكميل نفسِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ وتكميلِ غيرِه كَما تُفصحُ عنه الفاءُ في قوله تعالى

9

فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى أي فذكرِ الناسَ حسبما يَسَّرناكَ لهُ بما يُوحى إليكَ واهدِهِم إلى ما في تضاعيفه من الأحكام الشرعيةِ كما كنتَ تفعلُه لا بعدَ ما استتبَ لك الأمرُ كما قيلَ وتقييد التذكير بنفع الذكرَى لما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم طالمَا كانَ يذكرهُم ويستفرغُ فيه غايةَ المجهودِ ويتجاوزُ في الجِد كلَّ حدَ معهودٍ حرصاً على إيمانِهم وما كانَ يزيدُ ذلكَ بعضُهم إلا كُفراً وعناداً فأمر عليه الصلاة والسلام بأنْ يخصَّ التذكيرَ بموادِّ النفعِ في الجملةِ بأنْ يكونَ مَنْ يذكرُهُ كلاً أو بعضاً مِمَّنْ يُرجى منه التذكرُ ولا يتعبُ نفسَه في تذكيرِ مَن لا يورثُهُ التذكيرُ إلا عتواً ونفوراً من المطبوعِ على قلوبِهم كما في قوله تعالى {فذكر بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} وقولِه تعالى {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} وقيلَ هُو ذمٌّ للمذكرينَ وإخبارٌ عن حالِهم واستبعادٌ لتأثيرِ التذكيرِ فيهم وتسجيلٌ عليهمْ بالطبعِ على قلوبِهم كقولكَ للواعظ عظِ المكَّاسينَ إنْ سمعُوا منك قصداً إلى أنَّه مما لا يكونُ والأولُ أنسبُ لقوله تعالى

10

سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى أي سيتذكرُ بتذكيرِكَ مَنْ مِنْ شأنُه أنْ يخشَى الله تعالى حقَّ خشيتِه أو مَنْ يخشَى الله تعالَى في الجملةِ فيزدادُ ذلكَ بالتذكيرِ فيتفكرُ في أمرِ مَا تذكرَ به فيقفُ على حقيتِه فيؤمنُ بهِ وقيلَ إنْ بمَعْنى إذْ كما في قوله تعالى {وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي إذْ كنتُم وقيلَ هيَ بمَعْنى مَا أيُ فذكْر ما نفعتِ الذكرَى فإنَّها لا تخلُو

87 سورة الأعلى (11 17) عن نفعٍ بكلِّ حالٍ وقيلَ هناكَ محذوفٌ والتقديرُ إنْ نفعتِ الذكرَى وإنْ لم تنفعْ كقولِه تعالى {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} قالَهُ الفَّراءُ والنَّحاسُ والجُرجُانيُّ والزهراويُّ

11

وَيَتَجَنَّبُهَا أي الذكرَى الأشقى من الكفرة لتوغله في عداوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقيل نزلت في الوليد بنِ المغيرةِ وعتبةَ بنِ أبي ربيعةَ

12

الذى يَصْلَى النار الكبرى أي الطبقةَ السُّفلَى من طبقاتِ النارِ وقيلَ الكُبرى نارُ جهنمَ والصُّغْرى نارُ الدُّنيا لقولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ نارُكُم هذهِ جزءٌ من سبعين جزءا من نارِ جهنَم

13

ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا حتى يستريحَ وَلاَ يحيى حياةً تنفعُه وثمَّ للتراخِي في مراتبِ الشدةِ لأن الترددَ بين الموتَ والحياةِ أفظعُ من الصَّلْي

14

قَدْ أَفْلَحَ أي نجَا من المكروهِ وظفرَ بما يرجُوه مَن تزكى أيْ تطهرَ من الكفرِ والمعاصِي بتذكرِه واتعاظِه بالذكرَى أو تكثر من التَّقوى والخشيةِ مْنَ الزكاءِ وهو النماءُ وقيل تطهر للصلاة وقيلَ تزكَّى تفعَّل من الزكاةِ وكلمةُ قَدْ لَما أنَّ عندَ الإخبارِ بسوءِ حالِ المتجنبِ عنِ الذكرَى في الآخرةِ يتوقعُ السامعُ الأخبارَ بحسنِ حالِ المتذكرِ فيَها وينتظرُه

15

وَذَكَرَ اسم رَبّهِ بقلبِه ولسانِه فصلى أقامَ الصلواتِ الخمس كقوله تعالى {وأقم الصلاة لذكري} أو كبرَ تكبيرةَ الافتتاحِ فصلَّى وقيلَ تزكَّى أي تصدقَ صدقة الفطرِ وذكر اسمَ ربِّه أي كبَّرهُ يومَ العيدِ فصلَّى أيْ صلاتَهُ

16

بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا إضرابٌ عن مقدَّرٍ ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنَّه قيلَ إثرَ بيانِ ما يؤدِّي الى الفلاح لا تفلعون ذلكَ بلْ تؤثرونَ اللذاتِ العاجلةَ الفانيةَ فتسعَونَ لتحصيلِها والخطابُ إمَّا للكفرةِ فالمرادُ بإيثارِ الحياةِ الدُّنيا هُو الرِّضا والاطمئنانُ بهَا والإعراضُ عن الآخرةِ بالكليةِ كما في قوله تعالى {إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بالحياة الدنيا واطمأنوا بِهَا} الآيةَ أو للكُلِّ فالمرادُ بإيثارها ما هُو أعمُّ ممَّا ذُكرَ وما لا يخلُو عنْهُ الإنسانُ غالباً من ترجيح جانبِ الدُّنيا على الآخرة في السعي وترتيب المبادىء والالتفاتُ على الأولِ لتشديدِ التوبيخِ وعلى الثَّانِي كذلكَ في حقِّ الكفرةِ وتشديدِ العتابِ في حقِّ المسلمينَ وقُرِىءَ يُؤثرونَ بالياءِ وقولُه تعالى

17

والآخرة

87 سورة الأعلى (18 19) خَيْرٌ وأبقى حالٌ من فاعلِ تؤثرونَ مؤكدةٌ للتوبيخِ والعتابِ أي تُؤثرونَها على الآخرةِ والحالُ أنَّ الآخرةَ خيرٌ في نفسِها لمَا أنَّ نعيمَها مع كونِه في غايةِ ما يكونُ من اللذةِ خالصٌ عن شائبةِ الغائلةِ أبديٌّ لا انصرامَ لَه وعدمُ التعرضِ لبيانِ تكدرِ نعيمِ الدُّنيا بالمنغصاتِ وانقطاعِه عمَّا قليلٍ لغايةِ ظهورِه

18

إِنَّ هَذَا إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من قولِه تعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} وقيلَ إلى ما في السورةِ جميعاً لَفِى الصحف الأولى أي ثابتٌ فيها معناهُ

19

صُحُفِ إبراهيم وموسى بدلٌ من الصحفِ الأُولى وفي إبهامِها ووصفِها بالقدمِ ثم بيانِها وتفسيرِها من تفخيمِ شأنها مالا يَخْفى رُويَ أن جميعَ ما أنزلَ الله عزَّ وجلَّ من كتابٍ مائةٌ وأربعةُ كتبٍ أنزلَ على آدمَ عليهِ السَّلامُ عشرَ صحفٍ وعلى شيثٍ خمسينَ صحيفةً وعلى إدريسَ ثلاثينَ صحيفةً وعلى إبراهيمَ عشرَ صحائفَ عليهم السَّلامُ والتوراةَ والإنجيلُ والزبورُ والفرقانَ عن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الأعلى أعطاه الله تعالى عشرَ حسناتٍ بعددِ كلِّ حرفٍ أنزلَهُ الله تعالَى على إبراهيمَ ومُوسى ومحمدٍ عليهم السلام

88 سورة الغاشية (1 4) سورة الغاشية مكية وآيها ست وعشرون بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم

الغاشية

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية قيلَ هِلْ بمَعْنى قَدْ كما في قوله تعالى {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} الآيةَ قالَ قُطْربٌ أيْ قد جاءكَ يا محمدُ حديثُ الغاشيةِ وليسَ بذاكَ بلْ هو استفهامٌ أُريدَ به التعجيبُ ممَّا في حيزِه والتشويقُ إلى استماعِه والإشعارُ بأنَّه من الأحاديثِ البديعةِ التي حقُّها أنْ يتناقلها الرواة ويتنافس في تلقيها الوعاةُ مِنْ كلِّ حاضِرٍ وبادٍ والغاشيةُ الداهيةُ الشديدةُ التي تغشَى الناسَ بشدائدِها وتكتنفُهم بأهوالِها وهيَ القيامةُ من قولِه تعالى {يَوْمَ يغشاهم العذاب} الخ وقيلَ هيَ النارُ من قولِه تعالى {وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} وقولِه تعالى {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} والأولُ هو الحقُّ فإنَّ ما سيُروى من حديثِها ليسَ مختصاً بالنَّارِ وأهلِها بلْ ناطقٌ بأحوال أهلِ الجنةِ أيضاً وقولُه تعالى

2

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشعة إلى قولِه تعالى مَبْثُوثَةٌ استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ من الاستفهام التشويقيِّ كأنَّه قيلَ من جهتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما أتانِي حديثُها فما هو فقيلَ وجوهٌ يومئذٍ أيْ يومَ إذْ غشيتْ ذليلةٌ قالَ ابن عباس رضي الله عنهُمَا لم يكنْ أتاهُ عليه الصَّلاة والسَّلامُ حديثُها فأخبرَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عنهَا فقالَ وجوهٌ الخ فوجوهٌ مبتدأٌ ولا بأسَ بتنكيرِها لأنَّها في موقعِ التنويعِ وخاشعةٌ خبرُهُ وقولُه تعالى

3

عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ خبرانِ آخرانِ لوجوهٌ إذِ المرادُ بهَا أصحابُها أي تعملُ أعمالاً شاقةً تتعبُ فيها وهيَ جرُّ السلاسلِ والأغلالِ والخوضُ في النَّارِ خوضَ الإبلِ في الوحلِ والصعودُ والهبوطُ في تلالِ النارِ ووهادِها وقيلَ عملتْ في الدُّنيا أعمالَ السوءِ والتذتْ بها فهيَ يومئذٍ في نصبٍ منها وقيلَ عملتْ ونصبتْ في أعمالِ لا تُجدي عليهَا في الآخرةِ وقولُه تعالَى

4

تصلى أي تدخلُ نَاراً حَامِيَةً أي متناهيةً في الحرِّ خبرٌ آخرُ لوجوهٌ وقيلَ هو الخبرُ وما قبلَهُ صفاتٌ لوجوهٌ وقد مر غير مرة أن الصفةَ حقُّها أن تكونَ معلومة

88 سورة الغاشية (5 8) الانتساب إلى الموصوف عند السامعِ قبلَ جعلِها صفةً له ولا ريبَ في أنَّ صليَ النارِ وما قبلَهُ من الخشوعِ والعملِ والنَّصَبِ أمورٌ متساويةٌ في الانتسابِ إلى الوجوهِ معرفةً وجهالةً فجعلُ بعضِها عُنواناً للموضوعِ قيداً مفروغاً عنه غيرَ مقصودِ الإفادةِ وبعضِها مناطاً للإفادةِ تحكُّمٌ بحتٌ ويجوز أن يكون هذا وما بعدَهُ من الجملتينِ استئنافاً مبيناً لتفاصيلِ أحوالِها

5

تسقى من عين آنية أي متناهية في الحر كما في قوله تعالى {وبين حميم آن}

6

لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ بيانٌ لطعامِهم إثرَ بيانِ شرابِهم والضريعُ ييس الشبرقِ وهو شوكٌ ترعاهُ الإبلُ ما دامَ رطباً وإذا يبسَ تحامتْهُ وهو سمٌّ قاتلٌ وقيلَ هي شجرةٌ ناريةٌ تشبهُ الضريعَ وقال ابنُ كيسانٍ هو طعام يضرعون عندَهُ ويذلُّونَ ويتضرعونَ إلى الله تعالى طلباً للخلاصِ منه فسمِّيَ بذلكَ وهذا طعامٌ لبعضِ أهلِ النارِ والزقومُ والغسلينُ لآخرينِ

7

لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ أي ليسَ من شأنِه الإسمانُ والإشباعُ كما هو شأنُ طعامِ الدُّنيا وإنما هُو شيءٌ يضطرونَ إلى أكلِه من غيرِ أنْ يكونَ له دفعٌ لضرورتِهم لكنْ لا على أنَّ لهم استعداداً للشبعِ والسمنِ إلا أنَّه لا يفيدُهم شيئاً منهمَا بلْ على أنَّه لا استعدادَ من جهتِهم ولا إفادةَ من جهةِ طعامِهم وتحقيقُ ذلكَ أنَّ جوعَهُم وعطشَهُم ليسا من قبيلِ ما هُو المعهودُ منهما في هذه النشأةِ من حالةٍ عارضةٍ للإنسانِ عندَ استدعاءِ الطبيعةِ لبدلِ ما يتحللُ من البدنِ مشوقةً له إلى المطعومِ والمشروبِ بحيث يلتذ بهما عندَ الأكلِ والشربِ ويستغنِي بهمَا عن غيرِهما عندَ استقرارِهما في المعدةِ ويستفيدُ منهما قوةً وسمناً عند انهضامِهما بلْ جوعُهم عبارةٌ عن اضطرامِ النارِ في أحشائِهم إلى إدخالِ شيءٍ كثيفٍ يملؤُها ويُخرجُ ما فيها من اللهبِ وأما أن يكونَ لهم شوقٌ إلى مطعومٍ ما أو التذاذٌ به عندَ الأكلِ واستغناءٌ به عن الغير أو استفادةُ قوةٍ فهيهاتَ وكذا عطشُهم عبارةٌ عن اضطرارهم عند أكلِ الضريعِ والتهابِه في بطونِهم إلى شيءٍ مائعٍ باردٍ يطفئُه من غيرِ أنْ يكونَ لهم التذاذٌ بشربه أو استفادةُ قوةٍ به في الجملة وهو المعنيُّ بما رُويَ أنه تعالَى يسلطُ عليهم الجوعَ بحيثُ يَضطرهُم إلى أكلِ الضريعِ فإذا أكلُوه يسلطُ عليهم العطشَ فيضطرهُم إلى شرب الحميمِ فيشوِي وجوهَهُم ويقطعُ أمعاءَهُم وتنكيرُ الجوعَ للتحقيرِ أيْ لا يُغني من جوعٍ ما وتأخيرُ نَفي الإغناءِ منْهُ لمراعاةِ الفواصلِ والتوسلِ به إلى التصريحِ بنفي كلا الأمرينِ إذ لو قُدمَ لما احتيجَ إلى ذكر نفي الإسمانِ ضرورة استلزامِ نفي الإغناءِ عن الجوعِ إيَّاه بخلاف العكسِ ولذلك كررَ لاَ لتأكيدِ النَّفي وقولُه تعالَى

8

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ شروعٌ في روايةِ حديثِ أهلِ الجنةِ وتقديمُ حكايةِ حالِ أهلِ النارِ لأنَّه أدخلُ

88 سورة الغاشية (9 17) في تهويلِ الغاشيةِ وتفخيمِ حديثِها ولأنَّ حكايةَ حسنِ حالِ أهلِ الجنةِ بعدَ حكايةِ سُوءِ حالِ أهلِ النارِ مما يزيدُ المحكيَّ حُسناً وبهجةً والكلامُ في إعرابِ الجملةِ كالذي مرَّ في نظيرتِها وإنما لم تُعطفْ عليها إيذاناً بكمالِ تباينِ مضمونَيهِما ومعنى ناعمةٌ ذاتُ بهجةٍ وحسنٍ كقولِه تعالى {تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم} أو متنعمةٌ

9

لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ أي لعملها الذي عملتْهُ في الدُّنيا حيثُ شاهدتْ ثمرتَهُ

10

فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ مرتفعةِ المحلِّ أو عليةِ المقدارِ

11

لاَ تُسْمِعُ أي أنتَ أو الوجوهُ فِيهَا لاغية لغواً أو كلمةً ذاتَ لغوٍ أو نفساً تلغُو فإنَّ كلامَ أهلِ الجنةِ كلَّه أذكارٌ وحكمٌ وقُرِىءَ لا تُسمعُ على البناءِ للمفعول بالياءِ والتاءِ ورفعِ لاغيةً

12

فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ أيْ عيونٌ كثيرةٌ تجرِي مياهُها كقولِه تعالَى عَلِمَتْ نَفْسٌ

13

فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ رفيعةُ السمكِ أو المقدارِ

14

وَأَكْوابٍ جمعُ كوبٍ وهو إناءٌ لا عُروةَ لهُ مَّوْضُوعَةٌ أي بينَ أيديهِم

15

وَنَمَارِقُ وسائدُ جمعُ نمرقة بالفتحِ والضمِّ مَصْفُوفَةٌ بعضُها إلى بعضٍ

16

وَزَرَابِيُّ أي بسطٌ فاخرةٌ جمعُ زُرْبيَّةٌ مَبْثُوثَةٌ أيْ مبسوطةٌ

17

أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ استئنافٌ مَسوقٌ لتقريرِ ما فصلَ من حديثِ الغاشيةِ وما هو مبنيٌّ عليهِ من البعثِ الذى هم فيه مختلفون بالاستشهادِ عليهِ بما لا يستطيعونَ إنكارَهُ والهمزةُ للإنكارِ والتوبيخِ والفاءُ للعطفِ على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ وكلمة كيف منصوبة بما يعدها كما في قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله معلقةٌ لفعلِ النظرِ والجملةُ في حيِّز الجرِّ على أنَّها بدلُ اشتمالٍ من الإبلِ أي أينكرونَ ما ذُكِرَ من البعثِ وأحكامِه ويستبعدونَ وقوعَهُ من قدرةِ الله عزَّ وجلَّ فلا ينظرونَ إلى الإبلِ التي هي نصب أعينهم يتسعملونها كلَّ حينٍ إلى أنَّها كيف

88 سورة الغاشية (18 23) خُلقتْ خلقاً بديعاً معدولاً بهِ عن سُننِ خلقةِ سائرِ أنواعِ الحيواناتِ في عظمِ جثتِها وشدةِ قوتِها وعجيبِ هيأتِها اللائقةِ بتأتِّي ما يصدرُ عنها من ألأفاعيل الشاقة كالنوء بالأوقار الثقيلةِ وجرِّ الأثقالِ الفادحةِ إلى الأقطارِ النازحةِ وفي صبرها على الجو والعطشِ حتى إن أظماءَها لتبلغُ العشرَ فصاعداً واكتفائِها باليسيرِ ورعيها لكلِّ ما يتيسرَ من شوكٍ وشجرٍ وغير ذلك مما لا يكاد يزعاه سائرُ البهائمِ وفي انقيادِها مع ذلكَ للإنسانِ في الحركةِ والسكونِ والبروكِ والنهوضِ حيثُ يستعملُها في ذلكَ كيفما يشاءُ ويقتادُها بقطارِها كلُّ صغيرٍ وكبيرٍ

18

وَإِلَى السماء التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار كَيْفَ رُفِعَتْ رفعاً سحيق المدى بلا عمادٍ ولا مساكٍ بحيث لا يناله الفهم والادراك

19

وَإِلَى الجبال التي ينزلون في أقطارها وينتفعون بمياهها وأشجارها كَيْفَ نُصِبَتْ نصباً رصيناً فهيَ راسخةٌ لا تميلُ ولا تميدُ

20

وَإِلَى الأرض التي يضربونَ فيها ويتقلبونَ عليها كَيْفَ سُطِحَتْ سطحاً بتوطئةٍ وتمهيدٍ وتسويةٍ وتوطيدٍ حسبما يقتضيهِ صلاحُ أمورِ ما عليها من الخلائقِ وقُرِىءَ سُطِّحتْ مُشدداً وقُرِئتْ الأفعالُ الأربعةُ على بناء الفاعل للمتلكم وحذف الراجعِ المنصوبِ والمعنى أفلا ينظرونَ نظرَ التدبرِ والاعتبارِ إلى كيفيةِ خلقِ هذه المخلوقاتِ الشاهدةِ بحقيةِ البعثِ والنشورِ ليرجعُوا عمَّا هُم عليهِ من الإنكارِ والنفورِ ويسمعُوا إنذاركَ ويستعدُّوا للقائِه بالإيمانِ والطاعةِ والفاءُ في قولِه تعالى

21

فَذَكّرْ لترتيبِ الأمرِ بالتذكيرِ على ما ينبىءُ عنه الإنكارُ السابقُ من عدمِ النظرِ أي فاقتصرْ على التذكيرِ ولا تلحَّ عليهم ولا يُهمنَّكَ أنَّهم لا ينظرونَ ولا يتذكرونَ وقولُه تعالى إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ تعليلٌ للأمرِ وقولُه تعالَى

22

لست عليهم بمصيطر تقريرٌ لهُ وتحقيقٌ لمَعْنى الإنذارِ أي لستَ بمتسلطٍ عليهم تجبرُهم على ما تريد كقوله تعالى وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ وقُرِىءَ بالسينِ على الأصلِ وبالاشمام وقُرِىءَ بفتحِ الطاءِ قيلَ هي لغة بني تمتم فإنَّ سيطرَ عندهم متعدَ ومنه قولُهم تسيطرُ وقولُه تعالَى

23

إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ من تولَّى منهم فإنَّ لله تعالَى الولايةَ والقهرَ

88 سورة الغاشية (24 26)

24

فَيْعَذّبُهُ الله العذاب الأكبر الذي هُو عذابُ جهنمَ وقيلَ استثناءٌ مُتَّصلٌ من قولِه تعالَى فَذَكّرْ أي فذكرْ إلاَّ من انقطعَ طمعُكَ من إيمانِه وتولَّى فاستحقَّ العذابَ الأكبرَ وما بينهما اعتراضٌ ويعضدُ الأولَ أنه قُرِىءَ أَلاَ على التنبيهِ وقولُه تعالى

25

إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ تعليلٌ لتعذبيه تعالَى بالعذابِ الأكبرِ أيْ إنَّ إلينا رجوعَهُم بالموتِ والبعثِ لا إلى أحدٍ سوانا لا استقلالاً ولا اشتراكاً وجمعُ الضَّميرُ فيه وفيما بعدَه باعتبارِ مَعْنى مَنْ كما أن إفراده فيما سبق باعتبارِ لفظِها وقُرِىءَ إيَّابَهُم على أنَّه فِيْعَالٌ مصدرُ فَيْعَلٍ من الإيابِ أو فِعَّالٌ من أَوَبَ كفِسَّارٍ من فَسَرَ ثمَّ قيلَ إِيْوَاباً كدِيُوَانٍ في دِوَّانٍ ثُمَّ قُلبتْ الواوُ ياءً فأدغمتِ الياءُ الأُولى في الثانيةِ

26

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ في المحشرِ لا على غيرِنا وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ لا في الزمانِ فإن الترتبَ الزمانيَّ بين إيابِهم وحسابِهم لا بينَ كونِ إيابِهم إليهِ تعالَى وحسابِهم عليهِ تعالى فإنَّهما أمرانِ مستمرانِ وفي تصديرِ الجملتينِ بأنَّ وتقديمُ خبرِها وعطفُ الثانيةِ على الأُولى بكلمةِ ثُمَّ المفيدةِ لبعدِ منزلةِ الحسابِ في الشدةِ من الإنباءِ عن غايةِ السخطِ الموجبِ لتشديدِ العذابِ مالا يخفى عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الغاشيةِ يحاسبُه الله تعالى حساباً يسيراً

89 سورة الفجر (1 5) سورة الفجر مكية وآيها ثلاثون بسم الله الرحمن الرحيم

الفجر

والفجر أقسمَ سبحانَهُ بالفجرِ كما أقسمَ بالصبحِ حيثُ قال والصبح إِذَا تَنَفَّسَ وقيلَ المرادُ به صلاتُه

2

وَلَيالٍ عَشْرٍ هن عشرُ ذِي الحجةِ ولذلكَ فُسِّرَ الفجرُ بفجرِ عرفةَ أو النحرِ أو العشرُ الأواخرُ من رمضانَ وتنكيرُها للتفخيمِ وقُرِىءَ وَليالٍ عشرٍ بالإضافةِ على أنَّ المرادَ بالعشرِ الأيامُ

3

والشفع والوتر أي الأشياءِ كلِّها شفعِها ووترِها أو شفعِ هذه الليالِي ووترِها وقد رُويَ أن النبيَّ عليه الصلاةُ والسلامُ فسرهُمَا بيومِ النحرِ ويومِ عرفةٍ ولقد كثُرتْ فيهما الأقوالُ والله تعالَى أعلمُ بحقيقةِ الحالِ وقُرِىءَ بكسرِ الواوِ وهما لغتانِ كالحَبْرِ والحِبْرِ وقيلَ الوَترُ بالفتحِ في العددِ وبالكسرِ في الذَحل وقُرِىءَ والوَتِرِ بفتحِ الواوِ وكسر التاء

4

والليل إِذَا يَسْرِ أيْ يَمْضِي كقوله تعالى {والليل إذ أدبر} {والليل إِذَا عَسْعَسَ} والتقييدُ لما فيهِ من وضوحِ الدِلالة على كمالِ القدرةِ ووفورِ النعمةِ أو يُسرِيَ فيهِ من قولِهم صَلَّى المقامُ أي صُلِّيَ فيهِ وحَذْفُ الياءِ اكتفاءً بالكسرِ وقُرِىءَ بإثباتِها على الإطلاقِ وبحذفِها في الوقفِ خاصَّة وقُرِىءَ يسرٍ بالتنوينِ كما قُرِىءَ والفجرٍ والوترٍ وهو التنوينُ الذي يقعُ بدلاً من حرفِ الإطلاقِ

5

هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ الخ تحقيقٌ وتقريرٌ لفخامةِ شأنِ المُقْسَمِ بهَا وكونِها أموراً جليلةً حقيقةً بالإعظامِ والإجلالِ عندَ أربابِ العقولِ وتنبيهٌ على أنَّ الإقسامَ بها أمرٌ معتدٌّ به خليقٌ بأنّ يُؤكدَ بهِ الأخبارُ على طريقةِ قولِه تعالى وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ وذلكَ إشارةٌ إمَّا إلى الأمورِ المقسمِ

89 سورة الفجر (6 7) بهَا والتذكيرُ بتأويلِ ما ذُكِرَ كما مَرَّ تحقيقُه أو إلى الإقسامِ بهَا وأيَّا ما كان فما فيه من معنى البعد للإيذان بعلوِّ رُتبةِ المُشار إليهِ وبُعْدِ منزلتِه في الشرفِ والفضلِ أيْ هِلْ فيما ذُكِرَ من الأشياءِ قسمٌ أيْ مقسمٌ بهِ لّذِى حِجْرٍ يراهُ حقيقاً بأنْ يقسمَ بهِ إجلالاً وتعظيماً والمرادُ تحقيقُ أنَّ الكلَّ كذلكَ وإنما أوثرتْ هذه الطريقةُ هَضْماً للخلقِ وإيذاناً بظهورِ الأمرِ أو هَلْ في إقسامِي بتلكَ الأشياءِ إقسامٌ لذي حجرٍ مقبولٌ عندَهُ يعتدُّ بهِ ويفعلُ مثلَهُ ويؤكدُ بهِ المقسمَ عليهِ والحِجْرُ العقلُ لأنه يحجُرُ صاحبَهُ أي يمنعُهُ من التهافتِ فيمَا لا ينبغِي كما سُميَ عقلاً ونُهيةً لأنَّه يعقلُ ويَنْهَى وحصاةً أيضاً من الإحصاءِ وهو الضبطُ قال الفراءُ يقالُ إنَّه لذُو حجرٍ إذَا كانَ قاهِراً لنفسِه ضابطاً لهَا والمقسمُ عليهِ محذوفٌ وهُو ليُعذَّبَنَّ كما ينبىء عنه قوله تعالَى

6

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ الخ فإنَّه استشهادٌ بعلمِه عليهِ الصَّلاة والسَّلام بمَا يدلُّ عليهِ من تعذيبِ عَادٍ وأضرابِهم المشاركينَ لقومِه عليه الصلاةُ والسلامُ في الطغيانِ والفسادِ على طريقة قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذى حَاجَّ إبراهيم فِى رِبّهِ} الآيةَ وقولُه تعالَى {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ} كأنَّه قيلَ ألم تعلم علما يقينيا كيفَ عذبَ ربُّكَ عاداً ونظائرَهُم فيعذبُ هؤلاءِ أيضاً لاشتراكِهم فيما يوجبُه من الكفرِ والمعاصِي والمرادُ بعادٍ أولادُ عادٍ بنِ عوصَ بن إرم بن سام بنِ نوحٍ عليه السلام قومُ هودٍ عليه السلامُ سُمُّوا باسمِ أبيهِم كما سُمِّيَ بنُو هاشمٍ هاشماً وقد قيلَ لأوائلِهم عادٌ الأُولى ولأواخرِهم عادٌ الآخرةُ قال عمادُ الدينِ بنُ كثيرٍ كلُّ ما وردَ في القرآنِ خبرُ عادٍ الأُولى إلا مَا في سورةِ الأحقافِ وقولُه تعالى

7

إِرَمَ عطفُ بيانٍ لعادٍ للإيذانِ بأنَّهم عادٌ الأُولى بتقديرِ مضافٍ أيْ سبطُ إرمٍ أو أهلُ إرمٍ على ما قبل من أنَّ إرمَ اسمُ بلدتِهم أو أرضِهم التي كانُوا فيهَا ويؤيدُه القراءةُ بالإضافةِ وأياً ما كانَ فامتناعُ صرفِها للتعريفِ والتأنيثِ وقُرِىءَ إِرْمَ بإسكانِ الراءِ تخفيفاً كما قُرِىءَ بِوَرْقِكُم ذَاتِ العماد صفةٌ لإرمَ أيْ ذاتُ القدودِ الطوالِ على تشبيهِ قاماتِهم بالأعمدةِ ومنه قولُهم رجلٌ عمدٌ وعمدان إذا كان طويلاً أو ذاتُ الخيامِ والأعمدةِ حيثُ كانُوا بدويينَ أهلَ عُمُدٍ أو ذاتُ البناءِ الرفيعِ أو ذاتُ الأساطينِ على أنَّ إرمَ اسمُ بلدتهم وقرىء إرم ذات العمادِ بإضافةِ إرمٍ إلى ذاتِ العمادِ والإرم العلمُ أي بعادٍ أهلِ إعلامِ ذاتِ العمادِ على أنها اسم بلدتهم وقرىء إرم ذاتَ العمادِ أي جعلَها الله تعالَى رَميماً بدلٌ من فعلَ ربُّك وقيل هي جملةٌ دعائيةٌ اعترضتْ بين الموصوفِ والصفةِ ورُويَ أنه كانَ لعادٍ ابنانِ شديدٌ وشدادٌ فملَكا وقَهَرا ثم ماتَ شديدٌ وخلصَ الأمرُ لشدادٍ فملَك الدنيا ودانتْ له ملوكُها فسمعَ بذكرِ الجنةِ فقال أبنِي مثلَها فبنَى إرمَ في بعضِ صَحارِي عدنٍ في ثلثمائة سنةٍ وهيَ مدينةٌ عظيمةٌ قصورُها من الذهبِ والفضةِ وأساطينُها من الزبرجدِ والياقوتِ وفيها أصنافُ الأشجارِ والأنهارِ المطردةِ ولمَّا تمَّ بناؤُها سار اليها أهل مملكتِه فلما كانَ منها على مسيرة يومٍ وليلةٍ بعثَ الله تعالى عليهم صيحةً من السَّماءِ فهلكُوا وعن عبدِ اللَّهِ بنِ قلابة

89 سورة الفجر (8 13) أنه خرجَ في طلبِ إبلٍ له فوقعَ عليهَا فحملَ ما قدرَ عليهِ ممَّا ثمةَ وبلغَ خبرُه معاويةَ فاستحضرَهُ فقصَّ عليهِ فبعثَ إلى كعبٍ فسألَه فقالَ هيَ إرمُ ذاتُ العماد وسيد خلها رجلٌ من المسلمينَ في زمانِك أحمرُ أشقرُ قصيرٌ على حاجبِه خالٌ وعلى عقبِه خالٌ يخرجُ في طلبِ إبلٍ لَهُ ثم التفتَ إلى ابن قلابةٍ فقال هذا والله ذلكَ الرجلُ

8

التى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى البلاد صفةٌ أُخرى لإرمَ أيْ لم يُخلقْ مثلُهم في عِظَم الأجرامِ والقوةِ حيثُ كانَ طولُ الرجلِ منهم أربعمائةِ ذراعٍ وكانَ يأتِي الصخرةَ العظيمةَ فيحملُها ويُلقيها على الحي فيهلكُهم أو لم يُخلقْ مثلُ مدينةِ شدادٍ في جميعِ بلادِ الدُّنيا وقُرِىءَ لَم يخلُقْ على إسنادِه إلى الله تعالَى

9

وَثَمُودُ عطفٌ على عادٍ وهي قبيلةٌ مشهورةٌ سُمِّيتْ باسمِ جدِّهم ثمودَ أَخِي جَديسٍ وهما ابنَا عامرِ بن إرم بن سام بنِ نوحٍ عليه السلام وكانُوا عرباً من العاربةِ يسكنونَ الحجرَ بين الحجازِ وتبوكَ وكانُوا يعبدونَ الأصنامَ كعادٍ الذين جَابُواْ الصخر بالواد أي قطعُوا صخرَ الجبالِ فاتخذُوا فيها بُيوتاً نحتوهَا من الصخرِ كقولِه تعالى {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً} قيلَ هُم أول من نحتَ الجبالَ والصخورَ والرخامَ وقد بَنَوا ألفاً وسبعمائةِ مدينةٍ كلها من الحجارةِ

10

وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد وصفَ بذلكَ لكثرة جنودِه وخيامِهم التي يضربُونَها في منازلِهم أو لتعذيبه بالأوتادِ

11

الذين طَغَوْاْ فِى البلاد إما مجرورٌ على أنه صفةٌ للمذكورينَ أو منصوبٌ أو مرفوعٌ على الذمِّ أي طَغَى كلُّ طائفةٍ منهُم في بلادِهم وكذا الكلامُ في قوله تعالى

12

فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد أي بالكفرِ وسائرِ المعاصِي

13

فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ أي أنزلَ إنزالاً شديداً على كلِّ طائفةٍ من أولئكَ الطوائفِ عقيبَ ما فعلتْهُ من الطغيانِ والفسادِ سَوْطَ عَذَابٍ أيُّ عذابٌ شَدِيدٍ لا يُدركُ غايتُهُ وهو عبارةٌ عمَّا حلَّ بكُلَ منهُم من فنونِ العذابِ التي شُرِحتْ في سائرِ السورِ الكريمةِ وتسميتُه سوطاً للإشارةِ إلى أنَّ ذلكَ بالنسبةِ إلى ما أَعدَّ لَهُم في الآخرةِ بمنزلةِ السوطِ عندَ السيفِ والتعبيرُ عن إنزالِه بالصبِّ للإيذانِ بكثرتِه واستمرارِه وتتابعِه فإنه عبارةٌ عن إراقةِ شيءٍ مائعٍ أو جارٍ مجراهُ في السيلانِ كالرملِ والحبوبِ وإفراغِه بشدةٍ وكثرةٍ واستمرارٍ ونسبته إلى السوطِ مع أنه ليسَ من ذلكَ القبيل باعتبر تشبيهِه في نزولِه المتتابعِ المتداركِ على المضروبِ بقطراتِ الشيءِ المصبوبِ وقيلَ السوطُ

89 سورة الفجر (14 17) خلطُ الشيءِ بعضَه ببعضٍ فالمَعْنى ما خُلِطَ لهم من أنواعِ العذابِ وقد فسر بالنصيب وبالشدةِ أيضاً لأن السوطَ يطلقُ على كلَ منهُما لغةً فلا حاجةَ حينئذٍ في تشبيهِه بالمصبوبِ إلى اعتبارِ تكررِ تعلقِه بالمعذبِ كما في المَعْنى الأولِ فإن كلَّ واحدٍ من هذه المعاني مما يقبلُ الاستمرارَ في نفسه وقولُه تعالَى

14

إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد تعليلٌ لما قبلَهُ وإيذانٌ بأن كفارَ قومِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ سيصيبُهم مثلُ ما أصابَ المذكورينَ من العذابِ كما يُنْبىء عنه التعرُّضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلامُ وقيلَ هو جوابُ القسمِ وما بينهما اعتراضٌ والمرصادُ المكانُ الذي يَترقبُ فيه الرصدُ مِفْعَالٌ منْ رصدَهُ كالميقاتِ من وقتَهُ وهذا تمثيلٌ لإرصادِه تعالى بالعُصاةِ وأنَّهم لا يفوتونَهُ وقولُه تعالى

15

فَأَمَّا الإنسان الخ متصلٌ بما قبلَهُ كأنَّه قيلَ إنه تعالَى بصددِ مراقبةِ أحوالِ عبادِه ومجازاتِهم بأعمالِهم خيراً وشراً فأما الإنسانُ فلاَ يهمُّهُ ذلكَ وإنما مطمحُ أنظارِه ومرصدُ أفكارِه الدُّنيا ولذائذِها إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ أي عاملَهُ معاملةَ من يبتليهِ بالغِنَى واليسارِ والفاءُ في قولِه تعالى فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ تفسيريةٌ فإنَّ الإكرامَ والتنعيمَ من الابتلاءِ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ أي فضلنِي بما أعطانِي من المال والجاهِ حسَبما كنتُ أستحقهُ ولا يخطُر بباله أنه فضلٌ تفضلَ به عليهِ ليبلوَهُ أيشكرُ أم يكفرُ وهوُ خبرٌ للمبتدأ الذي هُوَ الإنسانُ والفاءُ لما في أمَّا منْ مَعْنى الشرطِ والظرفُ المتوسطُ على نيةِ التأخيرِ كأنَّه قيلَ فأمَّا الإنسانُ فيقولُ ربِي أكرمنِ وقتَ ابتلائِه بالإنعامِ وإنما تقديمُه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ الإكرامَ والتنعيمَ بطريق الابتلاءِ ليتضحَ اختلالُ قولِه المحكيِّ

16

وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه أيْ وأما هُو إذا ما ابتلاهُ ربُّه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ حسبما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكم البالغةِ فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ ولا يخطر ببالِه أنَّ ذلكَ ليبلوهُ أيصبرُ أم يجزعُ مع أنه ليسَ من الإهانةِ في شيءٍ بل التقتيرُ قد يُؤدِّي إلى كرامةِ الدارينِ والتوسعةُ قد تُفْضِي إلى خسرانِهما وقُرِىءَ فقدَّرَ بالتشديدِ وقرىء أكرمني وأهانني بإثبات الياء وأكرمنْ وأهاننْ بسكون النون في الوقف

17

كلا ردع للإنسان عن مقالتِه المحكيةِ وتكذيبٌ له فيهَا في كلتَا الحالتينِ قال ابن عباس رضي الله عنهُمَا المَعْنى لم أبتله بالغنى (سقط 156) عليَّ ولم أبتلِه بالفقرِ لهوانِه عليَّ بلْ ذلكَ لمحضِ القضاءِ والقدرِ وحملُ الردعِ والتكذيبِ إلى قولِه الأخيرِ بعيدٌ وقولُه تعالَى بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم انتقالٌ من بيانِ سوءِ أقوالِه إلى بيانِ سوءِ أفعالِه والالتفاتُ إلى الخطابِ للإيذانِ باقتضاءِ ملاحظةِ جنايته السابقةِ لمشافهتِه بالتوبيخِ تشديداً للتقريعِ وتأكيداً للتشنيعِ والجمعُ باعتبار

89 سورة الفجر (18 23) مَعْنى الإنسانِ إذِ المرادُ هو الجنسُ أي بَلْ لكم أحوالٌ أشدُّ شَراً مما ذُكِرَ وأدلُّ عَلى تهالُكِكم على المالِ حيثُ يُكْرمكم الله تعالَى بكثرةِ المالِ فلاَ تُؤدونَ ما يلزمكُم فيهِ من إكرامِ اليتيمِ بالمبرةِ به وقُرِىءَ لا يكرمونَ

18

وَلاَ تَحَاضُّونَ بحذفِ إحْدَى التاءينِ من تَتَحاضُّون أيْ لاَ يحضُّ بعضُكم بعضاً على طَعَامِ المسكين أي على إطعامِه وقُرِىءَ تحاضونَ من المحاضةِ وقُرِىءَ يَحُضُّونَ بالياءِ والتاءِ

19

وَتَأْكُلُونَ التراث أي الميراثَ وأصله وارث أَكْلاً لَّمّاً أيْ ذَا لمٍ أي جمعٍ بينَ الحلالِ والحرامِ فإنهم كانُوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون انصباءهم او يأكلون ما جمعَهُ المورثُ من حلالٍ وحرامٍ عالمينَ بذلكَ

20

وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً كثيراً معَ حِرص وشرَه وقرىء يحبون بالياءِ

21

كَلاَّ ردعٌ لهم عن ذلكَ وقولُه تعالَى إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً الخ استئناف جىء به بطريق الوعيدِ تعليلاً للردعِ أيْ إذَا دكتِ الأرضُ دكاً متتابعاً حتى انكسرَ وذهبَ كلُّ ما عَلى وجهِها من جبالٍ وأبنيةٍ وقصورٍ حينَ زُلزلتْ وصَارتْ هباءً مُنبثاً وقيلَ الدكُّ حطُّ المرتفعِ بالبسطِ والتسويةِ فالمَعْنى إذا سُويتْ تسويةً بعدَ تسويةٍ ولم يبقَ على وجهها شيءٌ حَتَّى صارتُ كالصخرةِ الملساءِ وأياً مَا كانَ فهو عبارةٌ عما عرضَ لها عند النفخةِ الثانيةِ

22

وَجَاء رَبُّكَ أي ظهرتْ آياتُ قُدرتِه وآثارُ قهرهِ مثلَ ذلكَ بما يظهرُ عندَ حضورِ السلطانِ من أحكامِ هيبتِه وسياستِه وقيلَ جاءَ أمرُهُ تعالَى وقضاؤُه على حذفِ المضافِ للتهويلِ والملك صَفّاً صَفّاً أي مُصطفينَ أو ذَوِي صفوفٍ فإنه ينزلُ يومئذٍ ملائكةُ كلِّ سماءٍ فيصطفونَ صفاً بعدَ صفٍ بحسب منازلِهم ومراتبِهم مُحدقينَ بالجِنِّ والإنسِ

23

وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ كقولِه تعالَى وَبُرّزَتِ الجحيم قال ابنُ مسعودٍ ومقاتلٌ تُقادُ جهنمُ بسبعينَ ألفَ زمامٍ كل زمام سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يَجرونَها حتى تُنصبَ عن يسارِ العرشِ لها تغيظٌ وزفيرٌ وقد رَواهُ مسلمٌ في صحيحِه عن ابنِ مسعودٍ مَرْفُوعاً يَوْمَئِذٍ بدلٌ مِنْ إذَا دكتْ والعاملُ فيهمَا قولُه تعالى يَتَذَكَّرُ الإنسان أي يتذكرُ ما فرَّطَ فيهِ بتفاصيلِه بمشاهدةِ آثارِه وأحكامِه أو بمعاينةِ عينِه على أنَّ الأعمالَ تتجسمُ في النشأةِ الآخرةِ فيبرز كلٌّ من الحسناتِ والسيئاتِ بما يناسبُها من الصورِ الحسنة

89 سورة الفجر (24 27) والقبيحةِ أَوْ يتعظُ وقولُه تعالى وأنى لَهُ الذكرى اعتراضٌ جِىءَ بهِ لتحقيقِ أنه ليسَ يتذكرُ حقيقةً لعرائِه عن الجَدوى بعدمِ وقوعِه فى أوانه وأنَّى خبرٌ مقدمٌ والذكْرَى مبتدأٌ وله متعلقٌ بما تعلَّق بهِ الخبرُ أيْ ومنْ أينَ يكونُ له الذكْرَى وقد فاتَ أوانُها وقيلَ هناكَ مضافٌ محذوفٌ أيْ وأنَّى له منفعةُ الذكْرَى والاستدلالُ به عَلى عدم وجوبِ قبولِ التوبةِ في دارِ التكليفِ مما لا وجهَ لَهُ على أن تذكّره ليسَ من التوبةِ في شيءٍ فإنَّه عالمٌ بأنَّها إنما تكونُ في الدُّنيا كما يُعربُ عنْهُ قوله تعالى

24

يقول يا ليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى وهو بدلٌ اشتمالٍ من يتذكرُ أو استئنافٌ وقع جوابا عن سؤالٍ نشأَ منْهُ كأنَّه قيلَ ماذَا يقولُ عندَ تذكرِه فقيلَ يقولُ يا ليتني عملتْ لأجل حياتِي هذِه أو وقتَ حياتِي في الدُّنيا أعمالاً صالحةً أنتفعُ بَها اليومَ وليس في هذا التمنِي شائبةُ دَلالةٌ على استقلالِ العبدِ بفعله وإنما الذي يدلُّ عليهِ ذلكَ اعتقادُ كونِه متمكناً من تقديمِ الأعمالِ الصالحةِ وأما أنَّ ذلكَ بمحضٍ قدرتِه أو بخلقِ الله تعالَى عندَ صرفِ قدرتِه الكاسبةِ إليهِ فكَلاَّ وأما ما قيل من أن المحجورَ قد يتمنَّى إن كانَ ممكناً منْهُ فربما يوهُم أنَّ منْ صرفَ قدرتَهُ إلى أحدِ طَرفي الفعلِ يعتقدُ أنه محجورٌ من الطرفِ الآخرِ وليس كذلكَ بل كلُّ أحدٍ جازمٌ بأنَّه لو صرف قدرتَهُ إلى أي طرفٍ كانَ من أفعالِه الاختياريةِ لحصلَ وعلى هذا يدورُ فلكُ التكليفِ وإلزامُ الحجةِ

25

فيومئذ أي يومَ إذ يكونُ ما ذكر من الأحوالِ والأقوالِ لاَّ يُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ

26

وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ الهاءُ لله تعالَى أيْ لا يتولَّى عذابَ الله تعالَى ووثاقَهُ أحدٌ سواهُ إذِ الأمرُ كلُّه لهُ أو الانسان أي لا يعذب أحد من الزبانيةِ مثلَ ما يعذبونَهُ وقُرِىءَ الفعلانِ على البناءِ للمفعولِ والضميرُ للإنسان أيضاً وقيل المراد به أُبيّ بن خلف أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يُوثقُ بالسلاسلِ والأغلالِ مثلَ وثاقِه لتناهيهِ في الكفرِ والعنادِ وقيلَ لا يحملُ عذابَ الإنسانِ احد كقولِه تعالى {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} وقولُه تعالى

27

يا أيتها النفس المطمئنة حكايةٌ لأحوالِ مَنِ اطمأنَّ بذكرِ الله عزَّ وجلَّ وطاعتِه إثرَ حكايةِ أحوالِ مَنِ اطمأنَّ بالدُّنيَا وصفتْ بالاطمئنانِ لأنَّها تترقَى في معارجِ الأسبابِ والمسبباتِ إلى المبدأِ المؤثرِ بالذاتِ فتستقرُ دونَ معرفتِه وتَستْغني بهِ في وجودِها وسائرِ شؤونِها عن غيرِه بالكليةِ وقيلَ هي النفسُ المطمئنةُ إلى الحقِّ الواصلةُ إلى ثَلَجِ اليقينِ بحيثُ لا يُخالجها شكٌّ مَا وقيلَ هي الآمنةُ التي لا يستفزُهَا خوفٌ ولا حزنٌ ويؤيدُه أنَّه قُرِىءَ يا أيتها النفسُ الآمنةُ المطمئنة أي يقول

89 سورة الفجر (28 30) الله تعالَى ذلكَ بالذاتِ كما كلَّم مُوسى عليه السلامُ أو على لسان المَلَكِ عندَ تمامِ حسابِ الناسِ وهو الأظهرُ وقيلَ عندَ البعثِ وقيلَ عند الموتِ

28

ارجعى إلى رَبّكِ أي إلى موعدِه أو إلى أمرِه رَّاضِيَةٍ بما أوتيتِ من النعيم المقيمِ مَّرْضِيَّةً عند الله عز وجل

29

فادخلى فِى عِبَادِى في زمرةِ عبادِي الصالحينَ المختصينَ بي

30

وادخلى جَنَّتِى معهُم أو انتظمِي في سلكِ المقربينَ واستضييء بأنوارهم فإنَّ الجواهرَ القدسيةَ كالمَرَايا المتقابلة وقيل المرادُ بالنفسِ الروحُ والمَعنْى فادخُلى اجساد عبادي التي فارقت عنْهَا وادخُلِي دارَ ثوابِي وهَذا يؤيدُ كونَ الخطابِ عندَ البعثِ وقُرِىءَ فادخلي في عَبْدِي وقُرِىءَ في جسدِ عَبْدي وقيلَ نزلتْ في حزة بنِ عبد المطلبِ وقيل في حُبيبِ بنِ عديَ رضيَ الله عنهُمَا والظاهرُ العموم عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة الفجرِ في الليالِي العشرِ غُفرَ لَهُ ومنْ قرأهَا في سائرِ الأيامِ كانتْ له نوراً يومَ القيامةِ

90 سورة البلد (1 3) سورة البلد مكية وآيها عشرون بسم الله الرحمن الرحيم

البلد

لا أقسم بهذا البلد أقسمَ سبحانَهُ بالبلدِ الحرامِ وبَما عُطف عليهِ عَلى أنَّ الإنسانَ خُلقَ ممنوَّاً بمقاساةِ الشدائدِ ومعاناةِ المشاقِّ واعترضَ بينَ القسمِ وجوابِه بقولِه تعالَى

2

وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد إمَّا لتشريفهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بجعلِ حلولِه بهِ مناطاً لإعظامِه بالإقسامِ بهِ او للتنبيه منْ أولِ الأمرِ عَلى تحققِ مضمونِ الجوابِ بذكرِ بعضِ موادِّ المكابدةِ على نهجِ براعةِ الاستهلالِ وبيانِ أنه عليه الصلاةُ والسلام معَ جلالةِ قدرةِ وعظمِ حُرمتِه قد استحلُّوه في هَذا البلدِ الحرامِ وتعرضُوا لَهُ بما لاَ خيرَ فيهِ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ عن شُرَحْبيلَ يحرمونَ أن يقتلُوا بَها صيداً ويعضدُوا بَها شجرةً ويستحلُّونَ إخراجَكَ وقتلكَ أو لتسليتِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بالوعدِ بفتحِه عَلى مَعْنى وأنتَ حلٌّ بهِ في المستقبلِ كما في قوله تعالى {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} تصنعُ فيهِ ما تريدُ من القتلِ والأسرِ وقد كانَ كذلكَ حيثُ أحلَّ له عليه الصلاة والسلام مكةَ وفتحَها عليهِ وما فتحتْ عَلى أحدٍ قَبْله ولاَ أحلتْ لهُ فأحلَّ عليه الصَّلاة والسَّلام فيها ما شاءَ وحرَّم ما شاءَ قتلَ ابْنَ خطلٍ وهو متعلِّقٌ بأستارِ الكعبةِ ومقيسَ بْنَ ضبابةَ وغيرَهُما وحرَّمَ دارَ أبي سفيانَ ثمَّ قالَ إنَّ الله حرَّمَ مكةَ يَوْمَ خَلَقَ السمواتِ والأرضَ فهَى حرامٌ إلى أنْ تقومَ الساعةُ لم تحلَّ لأحدٍ قَبْلي ولنْ تحلَّ لأحدٍ بعدي ولم تحلَّ لي إِلاَّ سَاعَةً من نَّهَارٍ فَلا يُعضدُ شجرُهَا ولا يُختلى خَلاها ولا ينفرُ صيدُهَا ولا تحلُّ لُقطتُها إلا لمنشدٍ فقالَ العباسُ يا رسولَ الله إلا الإِذْخِرَ فإنَّه لقيونِنا وقبورِنا وبيوتِنا فقال عليه الصلاة والسلام إلاَّ الإذخرَ

3

وَوَالِدٍ عطفٌ على هَذا البلدِ والمرادُ بهِ إبراهيمُ وبقولِه تعالَى وَمَا وَلَدَ إسماعيلُ والنبيُّ صلواتُ الله عليهمْ أجمعينَ حسبَما ينبىءُ عنْهُ المعطوفُ عليهِ فإنُه حرمُ إبراهيمَ ومنشأُ إسماعيلَ ومسقطُ رأسِ رسولِ الله عليهمُ الصلاةُ والسلامُ والتعبيرُ عنهمَا بَما دُونَ مَنْ للتفخيمِ والتعظيمِ كتنكيرِ والدٍ وإيرادُهم بعنوانِ الولادِ ترشيحٌ لمضمون الجواب ايماء إلى أنَّه متحققٌ في حالتي الوالدية والولدية

90 سورة البلد (4 11) وقيلَ آدمُ عليهِ السلامُ ونسلُه وهُو أنسبُ لمضمونِ الجوابِ من حيثُ شمولُه للكُلِّ إلا أنَّ التفخيمَ المستفادَ من كلمةِ مَا لا بُدَّ فيهِ من اعتبارِ التغليبِ وقيلَ وكُلُّ والدٍ وولدهُ

4

لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ أي تعبٌ ومشقةٌ فإنَّه لا يزالُ يُقاسِي فنونَ الشدائدِ منْ وقتِ نفخ الروح الى نَزْعِها وما وراءَهُ يقالُ كبد الرجل كبدا إذَا وجعتْ كبدُه وأصلُه كبدَهُ إذَا أصابَ كبدَهُ ثم اتْسعَ فيهِ حَتَّى استمع في كُلِّ نصبٍ ومشقةٍ ومنهُ اشتقتْ المكابدةُ كما قيلَ كبتَهُ بمعنى أهلَكُه وهو تسليةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم مما كانَ يكابدُه من كفارِ قريشٍ والضميرُ في قولِه تعالَى

5

أَيَحْسَبُ لبعضِهم الذي كانَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يكابدُ منهم ما يكابد كالوليدِ بنِ المغيرةِ وأضرابِه وقيلَ هُوَ أبُو الأشدِّ بن كلدة الجمحي وكان شديدَ القوةِ مغتراً بقوتِه وكان يبسطُ له الأديمُ العكاظيُّ فيقومُ عليهِ ويقولُ منْ أزالَني عنْهُ فلَهُ كذا فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً ولا تزلُّ قدماهُ أيْ أيظنُّ هَذا القويُّ الماردُ المتضعفُ للمؤمنينَ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ إنْ مخففةٌ منْ أنَّ واسمها الذي هو ضميرُ الشأنِ محذوفٌ أيْ أيحسبُ أنَّه لنْ يقدرَ عَلى الانتقامِ منهُ أحدٌ

6

يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً يريدُ كثرةَ ما أنفقَهُ فيَما كانَ أهلُ الجاهليةِ يسمونَها مكارمَ ويدعونَها معاليَ ومفاخرَ

7

أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ حينَ كانَ ينفقُ وأنه تعالَى لا يسألُه عنْهُ ولا يجازيِه عليهِ

8

أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ يبصرُ بهمَا

9

وَلِسَاناً يترجمُ بهِ عنْ ضمائره وشفتين يستربهما فاهُ ويستعينُ بهَما على النطقِ والأكلِ والشربِ وغيرِها

10

وهديناه النجدين أيْ طَريقي الخيرِ والشرِّ أو الثديينِ وأصلُ النجدِ المكانُ المرتفعُ

11

فَلاَ اقتحم العقبة أيْ فَلمْ يشكرْ تلكَ النعمَ الجليلةَ بالأعمالِ الصالحةِ وعبرَ عنها

90 سورة البلد (12 20) بالعقبةِ التي هيَ الطريقُ في الجبل لصعوبة سلوكِها وقوله تعالى

12

وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة أيْ أيُّ شيءٍ أعلمكَ ما اقتحامُ العقبةِ لزيادةِ تقريرِها وكونِها عندَ الله تعالَى بمكانةٍ رفيعةٍ

13

فَكُّ رَقَبَةٍ أيْ هُو إعتاقُ رقبةٍ

14

أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ أيْ مجاعةٌ

15

يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أيْ قَرابةٌ

16

أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ أي افتقارٌ وحيثُ كانَ المرادُ باقتحامِ العقبةِ هذهِ الأمورَ حسُنَ دخولُ لاَ عَلى الماضِي فإنَّها لا تكادُ تقعُ إلا مكررةً إذِ المَعْنى فلا فكَّ رقبةً ولا أطعَم يتيماً أو مسكيناً والمسغبةُ والمقربةُ والمتربةُ مفعلاتٌ من سغِبَ إذا جاعَ وقرُبَ منْ النسبِ وترِبَ إذا افتقرَ وقُرِىءَ فكَّ رقبةٍ أوْ أطعمَ على الإبدالِ من اقتحمَ

17

ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمنوا عطفٌ عَلى المنفيِّ بَلا وثم للدلالة على تراخي رتبةِ الإيمانِ ورفعةِ محلِّه لاشتراط جميعِ الأعمالِ الصالحةِ بهِ وَتَوَاصَوْاْ بالصبر عطفٌ على آمنُوا أيْ أوصَى بعضُهم بعضاً بالصبر على طاعة الله وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة بالرحمةِ عَلى عبادهِ أو بموجباتِ رحمتِه من الخيراتِ

18

أولئك إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز صلتِه وما فيهِ من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذانِ ببُعد درجتِهم في الشرفِ والفضلِ أيْ أولئكَ الموصوفونَ بالنعوتِ الجليلةِ المذكورةِ أصحاب الميمنة أي اليمينُ أو اليمنُ

19

والذين كفروا بآياتنا بما نصبنَاهُ دليلاً على الحقِّ من كتابٍ وحجة أو بالقرآنِ هُمْ أصحاب المشأمة أي الشمالِ أو الشؤمِ

20

عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ مطبقةٌ من آصدتُ البابَ إذا

91 سورة الشمس (1 6) أطبقتهُ وأغلقتَهُ وقُرىءَ مُوصدةٌ بغيرِ همزةٍ منْ أوصدتُهُ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة البلدِ أعطاهُ الله تعالَى الأمانَ من غضبِه يومَ القيامة سورة الشمس مكية وآيها خمس عشرة بسم الله الرحمن الرحيم

الشمس

والشمس وضحاها أي ضوئِها إذَا أشرقتْ وقام سلطانُها وقيل الضَّحوةُ ارتفاعُ النهارِ والضُّحى فوقَ ذلكَ والضحاءُ بالفتحِ والمدِّ إذا امتدَّ النهارُ وكادَ ينتصفُ

2

والقمر إِذَا تلاها بأنْ طلعَ بعد غروبِها وقيل إذا تلا طلوعُه طلوعَها وقيلَ إذا تلاهَا في الاستدارةِ وكمال النُّورِ

3

والنهار إِذَا جلاها أي جَلَّى الشمسَ فإنها تتجلَّى عند انبساطِ النهارِ فكأنه جلاَّها مع أنَّها التي تبسطُه أو جلَّى الظلمةَ أو الدُّنيا أو الأرضَ وإن لم يجْرِ لها ذكر للعلم بها

4

والليل إِذَا يغشاها أي الشمسَ فيغطي ضوؤها أو الآفاقَ أو الأرضَ وحيثُ كانت الواواتُ العاطفةُ نوائبَ للواو الأُولى القسميةِ القائمةِ مقامَ الفعلِ والباءُ سادَّةً مسدَّهما معاً في قولكَ أقسمُ بالله حققْن أن يعمَلن عملَ الفعلِ والجارّ جميعاً كما تقول ضرب زيد عَمراً وبكرٌ وخالدا

5

والسماء وَمَا بناها أيْ ومَنْ بنَاها وإيثارُ مَا على مَنْ لإرادةِ الوصفيةِ تفخيماً كأنَّه قيلَ والقادرِ العظيمِ الشأنِ الذي بناهَا وجعلَها مصدريةً مخلٌّ بالنظمِ الكريمِ وكذا الكلامُ في قولِه تعالَى

6

والأرض وَمَا طحاها أي بسطَها من كلِّ جانبٍ كدحاها

91 سورة الشمس (7 13)

7

وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا أي أنشأَها وأبدعَها مستعدةً لكمالاتِها والتنكيرُ للتفخيمِ على أنَّ المرادَ نفسُ آدمَ عليه السَّلامُ أو للتكثيرِ وهو الأنسبُ للجوابِ

8

فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا أي افهمها اياهما وعرفها حالهما من الحُسْنِ والقُبحِ وما يؤدي إليه كلٌّ منهُمَا ومكَّنها من اختيارِ أيِّهما شاءتْ وتقديمُ الفجورِ لمراعاةِ الفواصلِ

9

قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها أيْ فازَ بكلِّ مطلوبٍ ونجَا من كلِّ مكروهٍ مَنْ أنماهَا وأعلاها بالتقوى وهو جوابُ القسمِ وحذفُ اللامِ لطولِ الكلامِ وتكريرُ قَدْ في قولِه تعالَى

10

وَقَدْ خَابَ مَن دساها لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بتحقيقِ مضمونِه والإيذانِ بتعلقِ القسمِ بهِ أيضاً أصالةً أيْ خسرَ مَنْ نقصَها وأخفَاها بالفجورِ وأصلُ دَسَّى دَسَّسَ كتقضَّى وتَقْضَّضَ وقيلَ هو كلامٌ تابعٌ لقولِه تعالى {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} بطريقِ الاستطرادِ وإنما الجوابُ ما حذفَ تعويلاً على دلالة قولِه تعالى

11

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا عليه كأنه قيل ليدمد من الله تعالَى على كفارِ مكةَ لتكذيبِهم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كما دمدمَ على ثمودَ لتكذيبِهم صالحاً عليهِ السلامُ وهو على الأولِ استئنافٌ واردٌ لتقريرِ مضمونِ قولِه تعالى {وَقَدْ خَابَ من دساها} والطَّغوى بالفتحِ الطُّغيانُ والباءُ للسببيةِ أيْ فعلتِ التكذيبَ بسببِ طُغيانِها كما تقولُ ظلمنِي بجراءتِه على الله تعالى أو صلةٌ للتكذيبِ أيْ كذَّبتْ بمَا او عدت بهِ منَ العذابِ ذي الطَّغوى كقولِه تعالَى {فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} وقُرِىءَ بطُغواهَا بضم الطاء وهو أيضاً مصدرٌ كالرُّجعى

12

إِذِ انبعث أشقاها منصوبٌ بكذبتْ أو بالطَّغوى أيْ حينَ قامَ أَشْقى ثمودٍ وهو قدار بن سلف أو هُو ومَنْ تصدَّى معه لعقرِ الناقةِ من الأشقياء فان أفعل التفصيل إذا أضيفَ يصلُح للواحدِ والمتعددِ والمذكرِ والمؤنثِ وفضلُ شقاوتِهم على مَنْ عداهُم لمباشرتِهم العقَر معَ اشتراكِ الكل في الرضابه

13

فَقَالَ لَهُمُ أي لثمودَ رَسُولِ الله أي صالحٌ عليه السلامُ عبرَ عنه بعنوانِ الرسالةِ إيذاناً بوجوبِ طاعتِه وبياناً لغايةِ عُتوهم وتمادِيهم في الطغيانِ وهو السرُّ في إضافةِ الناقةِ إلى الله تعالَى في قولِه تعالى نَاقَةُ الله

91 سورة الشمس (14 15) أي ذرُوا ناقةَ الله وسقياها ولا تذودُوها عنها في نوبتها

14

فَكَذَّبُوهُ أي في وعيدِه بقولِه تعالَى {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقد جوز أن يكون ضميرُ لهُم للأشقينِ ولا يلائمهُ ذكرُ سقياهَا فَعَقَرُوهَا أي الأشقى والجمعُ على تقديرِ وحدتِه لرِّضا الكلِّ بفعلِه وقال قَتَادةُ بلغنا أنَّه لم يعقرْها حتى تابعَه صغيرُهم وكبيرُهم وذكرُهم وأنثاهُم وقال الفرَّاءُ عقرَها اثنانِ والعربُ تقولُ هذانِ أفضلُ الناسِ فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ فأطبقَ عليهم العذابَ وهو من تكريرِ قولِهم ناقة مدمدمة إذا ألبسَها الشحمُ بِذَنبِهِمْ بسببِ ذنبِهم المحكيِّ والتصريحُ بذلكَ مع دِلالة الفاءِ عليهِ للإنذارِ بعاقبةِ الذنبِ ليعتبرَ به كلُّ مذنبٍ فَسَوَّاهَا أي الدمدمةَ بينهُم لم يفلتْ منهُم أحدٌ من صغيرٍ وكبيرٍ أو فسوَّى ثمودَ بالأرضِ أو سوَّاها في الهلاكِ

15

وَلاَ يَخَافُ عقباها أي عاقبتَها وتبعتَها كما يخافُ سائرُ المعاقبينَ من الملوكِ فيبقِي بعضَ الإبقاءِ وذلك أنَّه تعالَى لا يفعلُ فعلاً إلاَّ بحقَ وكلُّ من فعلَ بحق فانه لا يخافُ عاقبةَ فعلِه وإنْ كانَ من شأنِه الخوفُ والواوُ للحالِ أو للاستئنافِ وقُرِىءَ فَلاَ يخافُ وقرىء لم يخفْ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ الشمسِ فكأنما تصدقَ بكلِّ شيءٍ طلعتْ عليهِ الشمسُ والقمرُ

92 سورة الليل (1 8) سورة الليل مكية وآيها احدى وعشرون بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم

الليل

والليل إِذَا يغشى أي حينَ يغشَى الشمسَ كقولِه تعالَى {والليل إِذَا يغشاها} أو النهارَ أو كلَّ ما يواريِه بظلامِه

2

والنهار إِذَا تجلى ظهرَ بزوالِ ظلمةِ الليل أو تبينَ وتكشفَ بطلوعِ الشمسِ

3

وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى أي والقادرِ العظيمِ القدرةِ الذي خلقَ صنفيَّ الذكرِ والأنثى من كل ماله توالدٌ وقيلَ هُما آدمُ وحواءُ وقُرىءَ والذكرِ والأُنثْى وقُرَىءَ وَالذي خلقَ الذكرَ والأُنْثى وقيلَ مَا مصدريةٌ

4

إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى جوابُ القسمِ وشَتَّى جمع شتيتٍ أي أنَّ مساعيَكُم لأشتاتٍ مختلفةٍ وقولُه تعالى

5

فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى الخ تفصيلٌ لتلك المساعِي المشتتةِ وتبيينٌ لأحكامِها أي فأمَّا من أعطَى حقوقَ مالِه واتقى محارمَ الله تعالى التي نهىَ عنها وصدَّق بالخصلةِ الحُسْنى وهي الإيمانُ أو بالكلمةِ الحُسْنى وهي كلمةُ التوحيدِ أو بالملةِ الحُسْنى وهي ملةُ الإسلامُ أو بالمثوبةِ الحُسْنى وهي الجنةُ

7

فَسَنُيَسّرُهُ لليسرى فسنهيئُه للخصلةِ التي تؤدِي إلى يُسرٍ وراحةٍ كدخولِ الجنةِ ومباديِه من يسرَ الفرسَ للركوبِ إذا أسرجَها وألجمَها

8

وَأَمَّا مَن بَخِلَ أي بمالِه فلم يبذلْه في سبيل الخير

92 سورة الليل (9 16) واستغنى أي زهدَ فيما عنده تعالَى كأنَّه مستغنٍ عنْهُ فلم يتَّقِهِ أو استغنى بشهواتِ الدُّنيا عن نعيمِ الآخرةِ

9

وَكَذَّبَ بالحسنى أي ما ذكرَ من المعانِي المتلازمِة

10

فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى أي للخصلةِ المؤديةِ إلى العسرِ والشدةِ كدخولِ النارِ ومقدماتِه لاختيارِه لَها ولعلَّ تصديرَ القسمينِ بالإعطاءِ والبخلِ مع أنَّ كلاً منهما أدْنى رتبةً مما بعدهُما في استتباعِ التيسير لليسرى والتيسير للعسرى للإيذانِ بأنَّ كلاً منهما أصل فيما ذكر لاتتمة لما بعدهُما من التصديقِ والتَّقوى والتكذيبِ والاستغناءِ وتفسيرُ الأولِ بإعطاءِ الطاعةِ والثاني بالبخل بما امر به مع كونِه خلافَ الظاهرِ يأباهُ قولُه تعالَى

11

وَمَا يُغْنِى عَنْهُ أيْ ولا يُغنِي أو أيُّ شيءٍ يُغني عنْهُ مَالَهُ الذي يبخلُ به إِذَا تردى أي هلكَ تفعَّلَ من الرَّدَى الذي هو الهلاكُ أو تردَّى في الحفرةِ إذا قُبرَ أو تردَّى في قعرِ جهنمَ

12

إِنَّ عَلَيْنَا للهدى استئنافٌ مقررٌ لمَا قبلَهُ أيْ إنَّ علينا بموجبِ قضائِنا المبنيِّ على الحِكَم البالغةِ حيث خلقنَا الخلقَ للعبادةِ أن نبينَ لهم طريقَ الهُدى وما يؤدِّي إليهِ من طريقِ الضلالِ وما يؤدِّي إليه وقد فعلنَا ذلكَ بما لا مزيدَ عليهِ حيثُ بيَّنا حالَ من سلكَ كلا الطريقينِ ترغيبا وترهيبا ومن ههنا تبينَ أنَّ الهدايةَ هي الدِلالة على ما يوصِل إلى البغيةِ لا الدلالةُ الموصلةُ إليها قطعاً

13

وَإِنَّ لَنَا لَلأَخِرَةَ والأولى أي التصرف الكلي فيهما كيفما نشاءُ فنفعلُ فيهما ما نشاءُ من الأفعالِ التي من جملتها ما وعدنَا من التيسيرِ لليُسرى والتيسيرِ للعُسرى وقيلَ إن لنا كلَّ ما في الدُّنيا والآخرةِ فلا يضرنا تركُكُم الاهتداءَ بهدانَا

14

فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى بحذفِ إحْدى التاءينِ من تتلظَّى أي تتلهبُ وقِرِىءَ على الأصلِ

15

لا يصلاها صليا لازما إِلاَّ الأشقى إلا الكافرُ فإنَّ الفاسقَ لا يصلاهَا صلياً لازماً وقد صرَّحَ به قولُه تعالى

16

الذى كَذَّبَ وتولى أي كذَّبَ بالحقِّ وأعرضَ عن الطاعة

92 سورة الليل (17 21)

17

وَسَيُجَنَّبُهَا أي سَيُبعدُ عنْها إلا تقى المبالغُ في اتقاءِ الكفرِ والمعاصِي فلا يحومُ حولَها فضلاً عن دخولِها أو صليِها الأبديِّ وأما من دُونَهُ ممن يتقي الكفرَ دُونَ المعاصِي فلا يُبعد عنْها هذا التبعيدَ وذلكَ لا يستلزمُ صليها بالمَعْنى المذكورِ فلا يقدحُ في الحصرِ السابقِ

18

الذى يُؤْتِى مَالَهُ يُعْطيه ويصرفُهُ في وجوهِ البرِّ والحسناتِ وقولُه تعالى يتزكى إما بدلٌ من يُؤتِي داخلٌ في حكمِ الصلةِ لا محلَّ لهُ أو في حيزِ النصبِ على أنه حالٌ من ضميرِ يُؤتِي أي يطلبُ أن يكونَ عند الله تعالى زاكيا ناميا لا يريدون بهِ رياءً ولا سمعةً

19

وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى استئنافٌ مقررٌ لكونِ إيتائِه للتزكِّي خالصاً لوجهِ الله تعالى أي ليسَ لأحدٍ عنده نعمةٌ من شأنِها أنْ تُجزى وتكافأَ فيقصدَ بإيتاءِ ما يُؤتى مجازاتِها وقولُه تعالى

20

إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى استثناءٌ منقطعٌ من نعمةٍ وقُرِىءَ بالرفعِ على البدلِ من محلِّ نعمةٍ فإنَّه الرفعُ إما على الفاعليةِ أو على الابتداءِ ومِنْ مزيدةٌ ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً لهُ لأنَّ المَعْنى لا يُؤتِي مالَه إلا ابتغاء وجه ربه لا لمكافأةِ نعمةٍ والآياتُ نزلتْ في حقِّ أبِي بكرٍ الصدِّيقِ رضيَ الله عنه حينَ اشترَى بلالاً في جماعةٍ كان يؤذيهم المشركونَ فأعتقُهم ولذلكَ قالُوا المراد بالأشقى او جهلٍ أو أميةُ بنُ خلفٍ وقد رَوَى عطاءٌ والضحاكُ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنه عذَّبَ المشركونَ بلالاً وبلالٌ يقولُ أَحَدٌ أَحَدٌ فمرَّ به النبي عليه الصلاةَ والسلامُ فقالَ أَحَدٌ يعني الله تعالَى ينجيكَ ثم قال لأبي بكرٍ رضيَ الله عنْهُ إنَّ بلالاً يعذبُ في الله فعرفَ مرادَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ فانصرفَ إلى منزلِه فأخذ رطلاً من ذهبٍ ومَضَى به إلى أميةَ بنِ خلفٍ فقالَ له أتبيعُنِي بلالاً قالَ نعَم فاشتراهُ فأعتقَهُ فقالَ المشركونَ ما أعتقَهُ أبُو بكرٍ إلا ليدٍ كانتْ له عندَهُ فنزلتْ وقولُه تعالَى

21

وَلَسَوْفَ يرضى جوابُ قَسَمٍ مضمرٍ أيْ وبالله لسوفَ يَرْضَى وهو وعدٌ كريمٌ بنيلِ جميعَ ما يبتغيهِ على أكملِ الوجوهِ وأجملِها إذْ بهِ يتحققُ الرِّضَا وقُرِىءَ يُرْضَى مبنياً للمفعولِ من الإرضاءِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الليل أعطاه الله تعالى حَتَّى يَرْضَى وعافاهُ من العُسرِ ويسر له اليسر

93 - سورة الضحى (1 4) سورة الضحى مكية وآيها احدى عشرة بسم الله الرحمن الرحيم

الضحى

والضحى هُوَ وقتُ ارتفاعِ الشمسِ وصدرُ النهارِ قالُوا تخصيصُهُ بالإقسامِ بهِ لأنَّها الساعةُ التي كلَّم فيهَا مُوسَى عليهِ السلامُ وألقَى فيهَا السحرةُ سُجدّاً لقولِه تعالَى {وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى} وقيلَ أريدَ بهِ النهارُ كمَا في قولِه تعالَى {أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى} في مقابلةِ بياتاً

2

والليل أيْ جِنْسِ الليلِ إِذَا سجى أيْ سكنَ أهلُه أو ركدَ ظلامُه من سَجَا البحرُ سَجْواً إذَا سكنَتْ أمواجُهُ وَنُقِلَ عن قتادةَ ومقاتلٍ وجعفرٍ الصَّادقِ أنَّ المرادَ بالضُّحَى هُوَ الضُّحى الذي كلَّمَ الله تعالَى فيهِ مُوسَى عليهِ السلامُ وبالليلِ ليلةُ المعراجِ وقولُه تعالَى

3

مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ جوابُ القسمِ أيْ ما قطعكَ قطعَ المودعِ وقُرِىءَ بالتخفيفِ أيْ ما ترككَ وَمَا قلى أيْ ومَا أبغضكَ وحَذفُ المفعولِ إما للاستغناءِ عنْهُ بذكرِهِ من قبلُ أو للقصدِ إلى نفي صدورِ الفعلِ عنْهُ تعالَى بالكليةِ مع أنَّ فيهِ مراعاةً للفواصلِ رُوي أنَّ الوحيَ تأخرَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أياماً لتركِه الاستثناءَ كما مَرَّ في سُورةِ الكهفِ أو لزجرِهِ سائلاً ملحاً فقالَ المشركونَ إنَّ محمداً ودعَهُ ربُّهُ وقلاَهُ فنزلتْ رَدًّا عليهم وتَبْشيراً لهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بالكرامةِ الحاصلةِ والمترقبةِ كما يُشعِرُ به إيرادُ اسمِ الربِّ المنبىءِ عنِ التَّربيةِ والتبليغِ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلامُ وحيثُ تضمنَ ما سبقَ من نفي التوديعِ والقِلَى أنَّه تعالى يواصلُه بالوَحْي والكرامةِ في الدُّنيا بشرهُ عليهِ الصلاةُ والسلامُ بأنَّ مَا سيؤتيه في الآخرةِ أجلُّ وأعظمُ من ذلكَ فقيلَ

4

وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى لما أنَّها باقيةٌ صافيةٌ عنِ الشوائبِ على الإطلاقِ وهذه فانيةٌ مشوبةٌ بالمضارِّ وما أُوتي عليهِ الصَّلاة والسَّلام من شرفِ النبوةِ وإنْ كانَ مما لا يعادلُه شرفٌ ولاَ يدانيه فضل

93 سورة الضحى (5 7) لكنَّهُ لا يخلُو في الدُّنيا من بعضِ العوارضِ الفادحةِ في تمشيةِ الأحكامِ معَ أنَّه عندَمَا أعدَّ له عليه الصلاة والسلام في الآخرةِ من السبقِ والتقدمِ على كافةِ الأنبياءِ والرسلِ يومَ الجمعِ يَوْمَ يقوم الناس لرب العالمين وكونُ أمتِه شهداءَ على سائرِ الأممِ ورفعُ درجاتِ المؤمنينَ وإعلاءُ مراتبِهم بشفاعتِه وغيرُ ذلكَ من الكراماتِ السَّنيةِ التي لا تحيطُ بهَا العبارةُ بمنزلةِ بعضِ المبادىء بالنسبةِ إلى المَطَالبِ وقيلَ المرادُ بالآخرةِ عاقبةُ أمرِه عليه الصلاة والسلام أي لنهايةُ أمركَ خيرٌ من بدايتِه لا تزالُ تتزايدُ قوةً وتتصاعدُ رفعةً وقولُه تعالَى

5

وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى عِدَةٌ كريمةٌ شاملةٌ لمَا أعطاهُ الله تعالَى في الدُّنيا من كمالِ النفسِ وعلومِ الأولينَ والآخرينَ وظهورِ الأمرِ وإعلاءِ الدينِ بالفتوحِ الواقعةِ في عصرِه عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ وفي أيامِ خلفائِه الراشدينَ وغيرِهم من الملوكِ الإسلاميةِ وفشُوِّ الدعوةِ والإسلامِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها ولما ادخرَ لهُ من الكراماتِ التي لا يعلمُها إلا الله تعالَى وقدْ أنبأ ابنَ عباسٍ رضيَ الله عنهُما عن شَمَّةٍ منهَا حيثُ قالَ له عليه الصلاة والسلام في الجنة الف قصرمن لؤلؤٍ أبيضَ ترابُه المسكُ واللامُ للابتداءِ دخلتِ الخبرَ لتأكيدِ مضمونِ الجُملةِ والمبتدأُ محذوفٌ تقديرُهُ ولأنتَ سوفَ يُعطيكَ الخ لا للقسمِ لأنَّها لا تدخلُ على المضارعِ إلاَّ معَ النونِ المؤكدةِ وجمعُها معَ سوفَ للدلالةِ على أنَّ الإعطاءَ كائنٌ لا محالةَ وإنْ تراخَى لحكمةٍ وقيلَ هيَ للقسمِ وقاعدةُ التلازمِ بينَها وبينَ نونِ التأكيدِ قد استثنى النجاة منهَا صورتينِ إحداهُمَا أنْ يفصلَ بينَها وبينَ الفعلِ بحرفِ التنفيسِ كهذه الآية وكقولِه والله لسأعطيكَ والثانيةُ أن يُفصلَ بينهما بمعمولِ الفعلِ كقولِه تعالَى {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} وقال أبُو عليَ الفارسيُّ ليستْ هذه اللامُ هيَ التي في قولِكَ إنَّ زيداً لقائمٌ بلْ هيَ التي في قولِكَ لأقومَنَّ ونابتْ سوفَ عن إحدَى نونِي التأكيدِ فكأنَّه قيلَ وليعطينكَ وكذلكَ اللامُ في قولِه تعالَى وَلَلأَخِرَةُ الخ وقولُه تعالَى

6

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فاوى تعديدٌ لمَا أفاضَ عليه عليه الصلاة والسلام من أول أمرِه إلى ذلكَ الوقتِ من فنونِ النعماءِ العظامِ ليستشهدَ بالحاضر الموجودِ على المترقبِ الموعودِ فيطمئنَّ قلبُه وينشرحَ صدرُهُ والهمزةُ لإنكارِ النفي وتقريرِ المنفي على أبلغ وَجْهٍ كأنَّه قيلَ قد وجدكَ الخ والوجودُ بمعنى العلمِ ويتيماً مفعولُه الثَّانِي وقيلَ بمعنى المصادقةِ ويتيماً حال من مفعولِه رُويَ أنَّ أباهُ ماتَ وهُوَ جنينٌ قد أتتْ عليهِ ستةُ أشهرٍ وماتتْ أمُّهُ وهوَ ابنُ ثمانِ سنينَ فكفلَهُ عَمُّه أبُو طالبٍ وعطّفه الله عليه فأحسنَ تربيتَهُ وذلكَ إيواؤُهُ وقُرِىءَ فَأَوَى وهُوَ إمَّا من أواهُ بمعنى آواهُ أو من أوَى لَهُ إذَا رَحِمَهُ وقولُه تعالَى

7

وَوَجَدَكَ ضَالاًّ عطفٌ على ما يقتضيهِ الإنكارُ السابقُ كمَا أُشير إليهِ أو على المضارعِ المنفيِّ بلمْ داخلٌ في حُكمِه كأنَّهُ قيلَ أمَا وجدكَ يتيماً فآوى ووجدكَ غافلاً عنِ الشرائعِ التي لا تهتدِي

سورة الضحى آية 8 11 إليهَا العقولُ كمَا في قوله تعالى {كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب} وقيلَ ضلَّ في صباهُ في بعضِ شعابِ مكةَ فردَّه أبُو جهلٍ إلى عبدِ المطلبِ وقيلَ ضَلَّ مرةً أُخرَى وطلبُوه فلم يجدُوه فطافَ عبدُ المطلبِ بالكعبةِ سبعاً وتضرعَ إلى الله تعالَى فسمعُوا منادياً ينادِي من السماءِ يا معشرالناس لا تضجُّوا فإنَّ لمحمدٍ ربًّا لا يخذلُهُ ولا يضيعُهُ وإنَّ محمداً بوادِي تهامةَ عندَ شجرِ السَّمُرِ فسارَ عبدُ المطلبِ وورقةُ بنُ نوفلٍ فإذَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم قائمٌ تحتَ شجرةٍ يلعبُ بالأغصانِ والأوراقِ وقيلَ أضلتهُ مرضعتُه حليمةُ عندَ بابِ مكةَ حينَ فطمتْهُ وجاءتْ بهِ لتردُه على عبدِ المطلبِ وقيلَ ضَلَّ في طريقِ الشامِ حينَ خرجَ بهِ أبُو طالبٍ يُروى أنَّ إبليسَ أخذَ بزمامِ ناقتِه في ليلةٍ ظلماء فعدلَ بهِ عن الطريقِ فجاءَ جبريلُ عليهِ السلامُ فنفخ إبليس نفخةً وقع منهَا إلى أرضِ الهندِ ورَدَّهُ إلى القافلةِ {فهدى} فهداكَ إلى مناهجِ الشرائعِ المنطويةِ في تضاعيفِ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الكتابِ المبينِ وعلمكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ أو أزالَ ضلالكَ عن جدكَ أو عمكَ

8

{وَوَجَدَكَ عَائِلاً} أيْ فقيراً وقُرِىءَ عَيُلاً وقُرِىءَ عديماً {فأغنى} فأغناكَ بمالِ خديجةَ أو بمالٍ حصلَ لكَ من ربحِ التجارةِ أو بمال أفاءَ عليكَ من الغنائمِ قال عليه الصلاة والسلام جُعِلَ رِزْقِي تحتَ ظلِّ رُمْحِي وقيلَ قنعكَ وأَغْنى قلبكَ

9

{فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} فلا تغلبْهُ على مالِه وقالَ مجاهدٌ لا تَحْتقرْ وقُرىءَ فلاَ تَكْهَرْ أيْ فلا تعبسْ في وجهِه

10

{وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ} فلا تزجُرْ وَلاَ تُغلظْ لهُ القولَ بلْ رُدَّهُ ردًّا جميلاً قالَ أبراهيمُ بن أدهم نعم القول السؤّالُ يحملونَ زادنَا إلى الآخرةِ وقالَ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ السائلُ يريدُ الآخرةَ يجيءُ إلى بابِ أحدِكُم فيقولُ أتبعثونَ إلى أهليكُم بشيءٍ وقيل المراد بالسائل ههنا الذي يسألُ عنِ الدينِ

11

{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ} بشكرِهَا وإشاعتِها وإظهارِ آثارِها وأحكامِها أريدَ بهَا ما أفاضَهُ الله تعالَى عليهِ الصلاةُ والسلامُ من فنونِ النِّعمِ التي من جُملتِها النعمُ المعدودةُ الموجودةُ منهَا والموعودةُ والمَعْنى أنكَ كنتَ يتيماً وضالاًّ وعائلاً فآواكَ الله تعالَى وهداكَ وأغناكَ فمهمَا يكُنْ من شيءٍ فلا تنسَ حقوقَ نعمةِ الله تعالَى عليكَ في هذه الثلاثِ واقتدِ بالله تعالَى وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ الله إليكَ فتعطفَ على اليتيمِ فآوِه وترحمْ على السائلِ وتفقدهُ بمعروفكَ ولا تزجرهُ عن بابكَ وحدثْ بنعمةِ الله كُلِّها وحيثُ كانَ معظمُها نعمةَ النبوةِ فقدِ اندرجَ تحتَ الأمرِ هدايته عليه الصلاة والسلام للضلالِ وتعليمُه للشرائعِ والأحكامِ حسبمَا هداهُ الله عزَّ وجلَّ وعلمَهُ من الكتابِ والحكمة عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة الضحى جعلَهُ الله تعالَى فيمنْ يرضَى لمحمدٍ أنْ يشفعَ لهُ وعشرُ حسناتٍ يكتبُهَا الله لَهُ بعددِ كُلِّ يتيم وسائل

سورة الشرح مكية وهي ثمان آيات بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم

الشرح

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} لما كانَ الصدرُ محلاًّ لأحوالِ النفسِ ومخزناً لسرائرِها من العلومِ والإدراكاتِ والملكاتِ والإراداتِ وغيرِها عبرَ بشرحِه عن توسيعِ دائرةِ تصرفاتِها بتأييدِها بالقوةِ القدسيةِ وتحليتِها بالكمالاتِ الأُنسيةِ أيْ ألمْ نفسحْهُ حَتَّى حَوَى عَالَمِيْ الغيبِ والشَّهادةِ وجمعَ بينَ مَلكَتِيْ الاستفادةِ والإفادةِ فمَا صدَّكَ الملابسةُ بالعلائقِ الجسمانيةِ عنِ اقتباسِ أنوارِ الملكاتِ الروحانيةِ وَمَا عاقكَ التعلقُ بمصالحِ الخلقِ عن الاستغراقِ في شؤونِ الحقِّ وقيلَ أريدَ بهِ ما رُويَ أنَّ جبريلَ أتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في صباهُ أو يومَ الميثاقِ فاستخرجَ قلبَهُ فغسلَهُ ثمَّ ملأهُ إيماناً وعلماً ولعلَّه تمثيلٌ لما ذُكِرَ أو أُنْمُوذَجٌ جُسمانيٌّ ممَّا سيظهرُ لهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ من الكمالِ الرُّوحانيِّ والتعبيرُ عن ثبوتِ الشَّرحِ بالاستفهامِ الإنكاريِّ عنِ انتفائِه للإيذانِ بأنَّ ثبوتَهُ منَ الظهورِ بحيثُ لا يقدرُ أحدٌ على أنْ يجيبَ عنْهُ بغيرِ بَلَى وزيادةُ الجارِّ والمجرورِ معَ توسيطِه بينَ الفعلِ ومفعولِه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ الشَّرحَ من منافِعِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ ومصالحِه مسارعةً إلى إدخالِ المسرةِ في قلبِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وتشويقاً لهُ إلى ما يعقبُهُ ليتمكَّنَ عندَهُ وقتَ ورودِه فضلَ تمكِّنٍ وقوله تعالى

2

{وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} عطفٌ على ما أشيرَ إليهِ من مدلولِ الجملةِ السابقةِ كأنه قدْ شرحنَا صدرَكَ ووضعنَا الخ وعنكَ متعلقٌ بوضعنَا وتقديمُهُ على المفعولِ الصريحِ مع أن حقه التأخرُ عنْهُ لما مرَّ آنِفاً منَ القصدِ إلى تعجيلِ المسرَّةِ والتِّشويقِ إلى المؤخَّرِ ولِما أنَّ في وصفِه نوعَ طُولٍ فتأخيرُ الجارِّ والمجرور عنْهُ لما مرَّ آنِفاً منَ القصدِ إلى تعجيلِ أيْ حططنَا عنكَ عِبأكَ الثقيلَ

3

{الذى أَنقَضَ ظَهْرَكَ} أيْ حملَهُ على النقيضِ وَهُوَ صوت الانتقاض والانفكاكَ كمَا يُسْمَعُ منَ الرَّحلِ المُتداعِي إلى الانتقاضِ من ثقلِ الحملِ مُثّل بهِ حالُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ممَّا كانَ يثقلُ عليه ويغمه من فرطاته قبلَ النبوةِ أو من عدمِ إحاطتِه بتفاصيلِ الأحكامِ والشرائعِ أو من تهالُكِهِ على إسلام المعاندين

94 سورة الشرح آية (4 8) من قومِه وتلهفِهِ ووضعِهِ عند مغفرتَهُ وتعليمِ الشرائعِ وتمهيدِ عُذرِهِ بعدَ أنْ بلَّغَ وبالغَ وقُرِىءَ وَحططنَا وَحللنَا مكانَ وضعنَا وقُرِىءَ وحللنَا عنكَ وِقْرَك

4

{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} بعنوان النبوةِ وأحكامِها أيَّ رفعٍ حيثُ قرنَ اسمُهُ باسمِ الله تعالَى في كلمةِ الشهادةِ والأذانِ والإقامةِ وجُعلَ طاعتُه طاعتَه تعالَى وصلَّى عليهِ هُو وملائكتُه وأمرَ المؤمنينَ بالصَّلاةِ عليهِ وسُمِّيَ رسولَ الله ونبيَّ الله والكلامُ في العطفِ وزيادةِ لكَ كالذي سلفَ وقولُه تعالَى

5

{فإن مع العسر يسرا} تقرير لما قبله ووعده كريمٌ بتيسيرِ كُلِّ عسيرٍ له عليه الصلاة والسلام وللمؤمنينَ كأنَّه قيلَ خوَّلناكَ ما خوَّلناكَ من جلائلِ النعمِ فكُنْ على ثقةٍ بفضلِ الله تعالَى ولطفِه فإن مع العسر يسرا كثيرا وفي كلمته معَ إشعارٌ بغايةِ سرعةِ مجيءِ اليسرِ كأنَّه مقارنٌ للعسرِ

6

{إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} تكريرٌ للتأكيدِ أو عدةٌ مستأنفةٌ بأنَّ العسرَ مشفوعٌ بيسرٍ آخرَ كثوابِ الآخرةِ كقولك إن للصائم فرحتان للصائم فرحةً أيَّ فرحة عندَ الإفطارِ وفرحةً عندَ لقاءِ الربِّ وعليهِ قولُه صلى الله عليه وسلم لَنْ يغلبَ عسرٌ يسرينِ فإنَّ المُعرَّفَ إذَا أعيدَ يكونُ الثاني عينَ الأولِ سواءً كانَ معهوداً أو جنساً وأما المنكرُ فيحتملُ أنْ يرادَ بالثانِي فردٌ مغايرٌ لمَا أريدَ بالأولِ

7

{فَإِذَا فَرَغْتَ} أيْ منَ التبليغِ وقيلَ من الغزوِ {فانصب} فاجتهدْ في العبادةِ واتعبْ شكراً لما أوليناكَ من النعمِ السالفةِ ووعدناكَ من الآلاءِ الآنفةِ وقيلَ فإذَا فرغتَ من صلاتِك فاجتهدْ في الدُّعاءِ وقيلَ إذَا فرغتَ من دنياكَ فانصبْ في صلاتِكَ

8

{وإلى رَبّكَ} وَحْدَهُ {فارغب} بالسؤالِ ولاَ تسألْ غيرَهُ فإنَّه القادرُ على إسعافِكَ لا غيرُهُ وقُرِىءَ فرَغِّبْ أي فرَغِّبِ النَّاسَ إلى طلبِ ما عندَهُ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ ألمْ نشرحْ فكأنَّما جاءَنِي وأنَا مغتمٌّ ففرجَ عَنِّي

سورة التين مكية وقيل مدنية وآيها ثمان بسم الله الرحمن الرحيم

التين

{والتين والزيتون} هما هذا التين وهذا الزيتون خصهماالله سبحانَهُ من بينِ الثمارِ بالإقسامِ بهما لاختصاصِهما بخواصَّ جليلةٍ فإنَّ التينَ فاكهةٌ طيبةٌ لا فُضلَ لهُ غذاء لطيفٌ سريعُ الهضمِ ودواءٌ كثيرُ النفعِ يلينُ الطبعَ ويحللُ البلغمَ ويطهرُ الكليتينِ ويزيلُ ما في المثانةِ من الرملِ ويسمن البدنَ ويفتحُ سددَ الكبدِ والطِّحالِ ورَوَى أبو ذرَ رضيَ الله عنْهُ أنَّه أهدَى للنبي صلى الله عليه وسلم سلٌّ من تينٍ فأكلَ منْهُ وقالَ لأصحابِه كُلوا فلَو قلتُ إن فاكهةً نزلتْ من الجنةِ لقلتُ هذا لأنَّ فاكهةَ الجنَّةِ بلا عجمَ فكلُوهَا فإنَّها تقطعُ البواسيرَ وتنفعُ منَ النِقرسِ وعَنْ عليِّ بنِ مُوسى الرِّضَا التينُ يزيلُ نكهةَ الفمِ ويطولُ الشعرَ وهُوَ أمانٌ منَ الفالجِ وأما الزيتونُ فهو فاكهةٌ وإدامٌ ودواءٌ ولو لم يكنْ له سِوى اختصاصِه بدهنِ كثيرِ المنافعِ معَ حصولِه في بقاعٍ لا دهنيةَ فيهَا لكَفى به فضلاً وشجرتُه هيَ الشجرةُ المباركةُ المشهودُ لهَا في التنزيلِ ومرَّ معاذُ بنُ جبلٍ رضيَ الله عنْهُ بشجرةِ الزيتونِ فأخذَ منهَا قضيا واستاكَ بهِ وقالَ سمعتُ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم يقولُ نعمَ السواكُ الزيتونُ من الشجرةِ المباركةِ يطيبُ الفمَ ويذهبُ بالحفرةِ وسمعتُه يقولُ هوَ سواكِي وسواكُ الأنبياءِ قبلِي وقيلَ هما جبلانِ من الأرضِ المقدسةِ يقال لهما بالسريانية طور تينا وطور زيتا لأنهمَا منبِتا التينِ والزيتونِ وقيل التين جبل ما بينَ حلوانَ وهمدانَ والزيتونُ جبالُ الشامِ لأنهمَا منابتَهما كأنه قيلَ ومنابتِ التينِ والزيتونِ وَقالَ قَتَادةُ التينُ الجبلُ الذي عليهِ دمشقُ والزيتونُ الجبلُ الذي عليهِ بيتُ المقدسِ وقال عكرمةُ وَابنُ زيدِ التينُ دمشقُ والزيتونُ بيتُ المقدسِ وهو اختيارالطبري وقالَ محمدُ بنُ كعبٍ التينُ مسجدُ أصحابِ الكهفِ والزيتونُ مسجدُ إِيْليَا وعن ابن عباس رضي الله عنهماالتين مسجدُ نوحٍ عليهِ السلامُ الذي بناهُ على الجُودِيِّ والزيتونُ مسجدُ بيتِ المقدسِ وقالَ الضحَّاكُ التينُ المسجدُ الحرامُ والزيتونُ المسجدُ الأَقْصى والصحيحُ هُوَ الأولُ قالَ ابن عباس رضي الله عنهُمَا هو تينُكُم الذي تأكلونَ وزيتونُكم الذي تعصِرونَ منْهُ الزيتَ وبه قالَ مجاهدٌ وعكرمةُ وإبراهيمُ النخعيُّ وعطاءٌ وجابرٌ وزيدٌ ومقاتلٌ والكلبيُّ

2

{وَطُورِ سِينِينَ}

هو الجبلُ الذي ناجَى عليهِ موسى ربَّهُ وسينينَ وسيناءُ علمانِ للموضعِ الذي هُوَ فيهِ ولذلكَ أضيفَ إليهمَا وسينونَ كبيرونَ في جوازِ الإعرابِ بالواوِ والياءِ والإقرارِ على الياءِ وتحريكِ النونِ بالحركاتِ الإعرابيةِ

3

{وهذا البلد الأمين} أيْ الآمنِ من أمنَ الرجلُ أمانةً فهُو أمينٌ وهُوَ مكةَ شرَّفها الله تعَالَى وأمانتُها أنَّها تحفظُ من دخلَها كما يحفظُ الأمينُ ما يؤتمنُ عليهِ ويجوزُ أنْ يكونَ فعيلاً بمَعْنى مفعولٍ من أمنَهُ لأنَّه مأمونُ الغَوَائلِ كما وصفَ بالآمنِ في قولِه تعالَى {حَرَماً آمنا} بمَعْنى ذِي أمنٍ ووجْهُ الإقسامِ بهاتيكَ البقاع المباركةِ المشحونةِ ببركاتِ الدُّنيا والدِّينِ غنيٌّ عن الشَّرحِ والتبيينِ

4

{لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} أيْ جنسُ الإنسانِ {فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أيْ كائناً في أحسنُ ما يكونُ من التقويمِ والتعديلِ صورةً ومَعْنى حيثُ برأه الله تعالَى مستويَ القامةِ متناسبَ الأعضاءِ متصفاً بالحياةِ والعلمِ والقدرةِ والإرادةِ والتكلمِ والسمعِ والبصرِ وغيرِ ذلكَ منَ الصفاتِ التي هيَ مِنْ أنموذجاتٍ منَ الصفاتِ السبحانيةِ وآثارٌ لهَا وقدْ عبرَ بعضُ العلماءِ عنْ ذلكَ بقولِه خلقَ آدمَ علَى صورتِه وفي روايةٍ على صورةِ الرحمن وبَنَى عليهِ تحقيقَ مَعْنى قولِه مَنْ عرفَ نفسَهُ فقدْ عرفَ رَبَّه وقالَ إنَّ النفسَ الإنسانيةَ مجردةٌ ليستْ حالّةً في البدنِ ولا خارجةً عنْهُ متعلقةً بهِ تعلقَ التدبيرِ والتصرفِ تستعملُه كيفمَا شاءتْ فإذَا أرادتْ فعلاً من الأفاعيلِ الجُسمانيةِ تلقيهِ إلى مَا في القلبِ منَ الروحِ الحيوانيِّ الذي هُوَ أعدلُ الأرواحِ وأصفاهَا وأقربُها منْهَا وأقواهَا مناسبةً إلى عالمِ المجرداتِ إلقاءً روحانياً وهو يلقيهِ بواسطةِ ما في الشرايينِ منَ الأرواحِ إلى الدماغِ الذي هُو منبتُ الأعصابِ التي فيهَا القُوَى المحركةُ للإنسانِ فعندَ ذلكَ يحركُ منَ الأعضاءِ ما يليقُ بذلكَ الفعلِ من مباديهِ البعيدةِ والقريبةِ فيصدرُ عنْهُ ذلكَ بهذه الطريقةِ فمَنْ عرفَ نفسَهُ على هذه الكيفيةِ من صفاتِها وأفعالِها تسنَّى لهُ أن يترقى إلى معرفةِ ربِّ العزةِ عَزَّ سلطانُهُ ويطلعُ على أنَّه سبحانَهُ منزهٌ عنْ كونِه داخلاً في العالمِ أو خارجاً عنْهُ يفعلُ فيهِ ما يشاء ويحكُم ما يريدُ بواسطةِ ما رتبَهُ فيهِ منَ الملائكةِ الذينَ يستدلُّ على شؤونِهم بما ذكرَ من الأرواحِ والقُوى المرتبةِ في العالمِ الإنسانيِّ الذي هُوَ نسخةٌ للعالمِ الأكبر وأنموذح مِنْهُ وقوله تعالى

5

{ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين} أيْ جعلنَاهُ من أهلِ النَّارِ الذينَ هُم أقبحُ من كُلِّ قبيحٍ وأسفلُ من كُلِّ سافلٍ لعدمِ جريانِه على موجبِ ما خلقناهُ عليهِ منَ الصفاتِ التي لو عملَ بمقتضاهَا لكانَ في أعْلَى عليينَ وقيلَ رددناهُ إلى أَرْذَلِ العمرِ وهُو الهرمُ بعدَ الشبابِ والضعفُ بعدَ القوةِ كقولِه تعالَى {وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِى الخلق} وأياً ما كانَ فأسفلُ سافلينَ إمَّا حالٌ منَ المفعولِ أيْ رددناهُ حالَ كونِه أسفلَ سافلينَ أو صفةٌ لمكانٍ محذوفٍ أيْ رددناهُ مكاناً أسفلَ سافلينَ والأولُ أظهر وقرىء

95 سورة التين آية (6 8) أسفلَ السافلينَ وقولُه تعالَى

6

{إلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} على الأولِ استثناءٌ متصلٌ منْ ضميرِ رددناه فإنَّه فِي معْنَى الجمعِ وعلى الثاني منقطعٌ أيْ لكنْ الذينَ كانُوا صالحينَ منْ الهَرْمَى {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} غيرُ منقطعٍ عَلى طاعتِهم وصبرِهم على بلاء الله تعالَى بالشيخوخةِ والهرمِ وعَلى مقاساةِ المشاقِّ والقيامِ بالعبادةِ على تخاذلِ نهوضِهم أو غيرِ ممنونٍ بهِ عليهمْ وهذِه الجملةُ على الأولِ مقررةٌ لمَا يفيدهُ الاستثناءُ منْ خروجِ المؤمنين عن حكم الرد ومبينة لكيفيةِ حالِهم والخطابُ في قولِه تعالَى

7

{فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين} للرسول صلى الله عليه وسلم أيْ فأيُّ شيءٍ يكذبكَ دلالةً أو نطقاً بالجزاءِ بعدَ ظهورِ هذهِ الدلائلِ الناطقةِ بهِ وقيلَ ما بمعنَى مَنْ وقيلَ الخطابُ للإنسانِ على طريقِ الالتفاتِ لتشديدِ التوبيخِ والتبكيتِ أيْ فَما يجعلكَ كاذباً بسببِ الدينِ وأنكارِه بعدَ هذهِ الدلائلِ والمَعنى أنَّ خلقَ الإنسانِ منْ نطفةٍ وتقويمَهُ بشراً سوياً وتحويلِه منْ حالٍ إلى حالٍ كمالاً ونُقصاناً من أوضحِ الدلائلِ على قُدرةِ الله عزَّ وجلَّ على البعثِ والجزاءِ فأيُّ شيءٍ يضطركَ بعدَ هَذَا الدليلِ القاطعِ إلى أنْ تكونَ كاذباً بسببِ تكذيبهِ أيُّها الإنسانُ

8

{أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} أي أليسَ الذي فعلَ ما ذُكرَ بأحكمِ الحاكمينَ صنعاً وتدبيراً حتَّى يتوهَم عدمُ الإعادةِ والجزاءِ وحيثُ استحالَ عدمُ كونهِ أحكَمَ الحاكمينَ تعينَ الإعادةُ والجزاءُ فالجملةُ تقريرٌ لما قبلَها وقيلَ الحكمُ بمعْنَى القضاءِ فهي وعيدٌ للكفارِ وأنَّه يحكمُ عليهم بما يستحقونَهُ منَ العذابِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه كانَ إذَا قَرأها يقولُ بَلَى وأنَا عَلى ذلكَ منَ الشاهدينَ وعنْهُ صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة التين أعطاهُ الله تعالى الخصلتينِ العافيةَ واليقينَ ما دامَ في دار الدُّنيا وإذا ماتَ أعطاهُ الله تعالى من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة

سورة العلق سورة العلق مكية وأيها تسع عشرة بسم الله الرحمن الرحيم

العلق

{اقرأ} أيْ مَا يوحَى إليكَ فإنَّ الأمرَ بالقراءةِ يقتَضي المقروءَ قطعاً وحيثُ لَمْ يُعينَ وجبَ أنْ يكونَ ذلكَ ما يتصلُ بالأمرِ حتماً سواءً كانتِ السورةُ أولَ ما نزلَ أولا والأقربُ أنَّ هَذا إلى قولِه تعالى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} أولُ ما نزلَ عليه عليه الصلاة والسلام كما ينطقُ بهِ حديثُ الزهر المشهورُ وقولِه تعالى {باسم رَبّكَ} متعلقٌ بمضمرٍ هُو حالٌ من ضميرالفاعل أي اقرأْ ملتبساً باسمهِ تعالى أيْ مُبتدئاً بِه لتتحقق مقارنته لجميع أجزاءِ المقروءِ والتعرّضُ لعنوانِ الربوبيةِ المُنْبئة عن التَّربيةِ والتبليغِ إلى الكمالِ اللائقِ شيْئاً فشيئا مع الإضافة إلى ضميرِه عليهِ السَّلامُ للإشعارِ بتبليغِه عليِه السَّلامُ إلى الغايةِ القاصيةِ منَ الكمالاتِ البشريةِ بإنزالِ الوَحي المتواتِرِ ووصفُ الربَّ بقولِه تعالَى {الذى خَلَقَ} لتذكيرِ أولِ النعماءِ الفائضةِ عليهِ عليه الصلاة والسلام منه تعالى والتنبيهِ على أنَّ منْ قدرَ عَلى خلقِ الإنسانِ على ما هو عليه من الحياةَ وما يتبعُها منَ الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ منْ مادةٍ لم تشمَّ رائحةَ الحياةِ فضلاً عن سائرِ الكمالاتِ قادرٌ على تعليمِ القراءةِ للحيِّ العالمِ المتكلمِ أي الذي أنشأَ الخلقَ واستأثرَ بِه أوْ خلَقَ كُلّ شَىْء وقولُه تعالى

2

{خَلَقَ الإنسان} عَلى الأولِ تخصيص لخلق اإلإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقاتِ لاستقلالِه ببدائعِ الصنعِ والتدبيرِ وَعَلى الثاني إفرادٌ للإنسانِ منْ بينِ سائرِ المخلوقاتِ بالبيانِ وتفخيمٌ لشأنِه إذْ هُو أشرفُهم وإليهِ التنزيلُ وهُو المأمورُ بالقراءةِ ويجوزُ أنْ يرادَ بالفعلِ الأولِ أيضاً خلقُ الإنسانِ ويقصدُ بتجريدِه عن المفعولِ الإبهامِ ثمَّ التفسيرِ رَوْماً لتفخيمِ فطرتِه وقولُه تعالى {مِنْ عَلَقٍ} أيْ دمٍ جامدٍ لبيانِ كمالِ قُدرتِه تعالى بإظهارِ مَا بينَ حالتِه الأولى والآخرةِ من التباينِ البينِ وإيرادُه بلفظِ الجمعِ بناءً على أنَّ الإنسانَ في مَعْنى الجمعِ لمراعاةِ الفواصلِ ولعلَّه هو السرُّ في تخصيصِه بالذكرِ منْ بينِ سائرِ أطوارِ الفطرة الإنسانيةِ معَ كونِ النطفةِ والترابِ أدلَّ منْهُ عَلَى كمالِ القُدرةِ لكونِهما أبعدَ منْهُ بالنسبةِ إلى الإنسانيةِ ولَمَّا كانَ خلقُ الإنسان أول النعمُ الفائضةِ عليه عليهِ الصلاة والسلام منه تعالى

96 سورة العلق آية (3 7) وأقدم الدلائلِ الدالةِ على وجودِه عزَّ وجلَّ وكمالِ قُدرتِه وعلمِه وحكمتِه وصفَ ذاتَه تَعالى بذلكَ أولاً ليستشهدَ عليه السلامُ بهِ على تمكينهِ تعالى لَه منَ القراءةِ ثم كررَ الأمرَ بقولِه تعالى

3

{اقرأ} أي افعلْ ما أُمرت بِه تأكيداً للإيجابِ وتمهيداً لما يعقُبه منْ قولِه تعالى {وَرَبُّكَ الاكرم} الخ فأنَّه كلامٌ مستأنفٌ واردٌ لإزاحةِ ما بينَهُ عليه السَّلامُ منَ العُذرِ بقولِه عليهِ السَّلامُ مَا أنَا بقارىءٍ يريدُ أنَّ القراءةَ شأنُ منْ يكتبُ ويقرأُ وأنَا أُميٌّ فقيلَ لَهُ وربُّكَ الذي أمركَ بالقراءةِ مبتدئاً باسمِه هو الأكرمُ

4

{الذى عَلَّمَ بالقلم} أي علمَ ما علمَ بواسطةِ القلم لا غيره فكما علَّم القارىءَ بواسطةِ الكتابةِ والقلمِ يعلمكَ بدونِهما وقولُه تعالَى

5

{عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} بدلُ اشتمالٍ منْ عَلَّمَ بالقلمِ أي علَّمه بهِ وبدونِه منَ الأمورِ الكليةِ والجزئيةِ والجليةِ والخفيةِ مالم يخطرُ ببالِه وفي حذفِ المفعولِ أولاً وإيرادِه بعنوانِ عدمِ المعلوميةِ ثانياً من الدلالةِ عَلى كمالِ قُدرتِه تعالى وكمالِ كَرَمِه والإشعارِ بأنَّه تعالى يعلمُه من العلوم ما لا تحيطُ بِه العقولُ ما لا يخفى

6

{كَلاَّ} ردعٌ لمن كفرَ بنعمةِ الله تعالى بطغيانِه وإن لم يسبقْ ذكرُهُ للمبالغةِ في الزجرِ وقولُه تعالَى {إِنَّ الإنسان ليطغى} أيْ ليجاوزُ الحدَّ ويستكبرُ عَلى ربِّه بيانٌ للمردوعِ والمردوعِ عَنْهُ قيلَ هَذَا إلى آخرِ السورةِ نزلَ في أبي جهلٍ بعدَ الزمان وهو الظاهرُ وقولُه تعالَى

7

{أن رآه استغنى} مفعولٌ لَهُ أي يطغى لأنْ رَأى نفسَهُ مستغنياً عَلى أنَّ استغنى مفعولٌ ثانٍ لرأى لأنه بمَعْنى علمَ ولذلكَ ساغَ كونُ فاعلِه ومفعولِه ضميريْ واحدٍ كَمَا في علمتني وإن جَوَّزَهُ بعضُهم فِي الرؤيةِ البصريةِ أيضاً وجعلَ من ذلك قول عائشةَ رضيَ الله عنها لقد رأيتُنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وما لَنا طعامٌ إلاَّ الأسودانِ وتعليلُ طُغيانِه برؤيتهِ لا بنفسِ الاستغناءِ كمَا ينبىء عنه قوله تعالى {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الارض} للإيذانِ بأنَّ مَدَارَ طُغيانهِ زعمه الفاسد رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتزعمُ أنَّ منِ استغنى طغَى فاجعلُ لنَا جبالَ مكةَ فضةً وذهباً لعلنَا نأخذُ منْهَا فنطغَى فندعَ ديننَا ونتبعَ دينكَ فنزلَ عليهِ جبريلُ عليهِ السَّلامُ فقالَ إن شئْتَ فعلنَا ذلكَ ثُمَّ إنْ لَمْ يُؤمنوا فعلْنا بهمْ مَا فعلنَا بأصحابِ المائدةِ فكفَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدُّعاءِ إبقاءً عليهمْ وقوله تعالى

96 سورة العلق آية (8 14)

8

{إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى} تهديدٌ للطاغي وتحذيرٌ لَهُ من عاقبةِ الطغيانِ والالتفاتُ للتشديدِ في التهديدِ والرُّجعى مصدرٌ بمعنَى الرُّجوعِ كالبشرى وتقديمُ الجار والمجرور عليه لقصره عليهِ أيْ إنَّ إلى مالكِ أمركِ رجوعَ الكُلِّ بالموتِ والبعثِ لا إلى غيره استقلالا ولااشتراكا فسترى حينئذٍ عاقبةَ طُغيانِكَ وقوله تعالى

9

{أرأيتَ الَّذي يَنْهى عبْداً إِذَا صلى} تقبيحٌ وتشنيعٌ لحالهِ وتعجيبٌ منهَا وإيذانٌ بأنَّها منَ الشناعةِ والغرابةِ بحيثُ يجبُ أنْ يَراهَا كلُّ منْ يتأتى منْهُ الرؤيةُ ويقضي منهَا العجبَ رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ قالَ في ملأٍ من طُغاةِ قريشٍ لئِنْ رأيتُ محمداً يُصلي لأطأنَّ عنقَهُ فرآهُ عليهِ السَّلامُ في الصَّلاةِ فجاءَهُ ثُمَّ نكصَ على عقبيه فقالوا مالك قال إن بيني وبينهُ لخندقاً منْ نارٍ وهولاً وأجنحةً فنزلتْ ولفظُ العبدِ وتنكيرُه لتفخيمِه عليهِ السَّلامُ واستعظامِ النَّهي وتأكيدِ التعجبِ منْهُ والرؤيةُ هَهُنا بصريةٌ وأمَّا ما في قولِه تعالى

11

{أرأيت إن كان على الهدى أَوْ أَمَرَ بالتقوى} ومَا في قوله تعالى

13

{أرأيت إِن كَذَّبَ وتولى} فقلبيةٌ معناهُ أخبرني فإنَّ الرؤيةَ لما كانت سبباً للإخبارِ عنِ المَرئي أجرى الاستفهامُ عنْهَا مجرى الاستخبارِ عنْ متعلَّقها والخطابُ لكلِّ منْ صلُحَ للخطابِ ونظمُ الأمرِ والتكذيبِ والتولِّي في سلكِ الشرط المتردد بين الوقوع وعدمه ليس ليسَ باعتبارِ نفسَ الأفعالِ المذكورةِ منْ حيثُ صدورُها عن الفاعلِ فإنَّ ذلكَ ليسَ في حيزِ الترددِ أصلاً بلْ باعتبارِ أوصافها التي هِيَ كونُها أمراً بالتقوى وتكذيباً وتولياً كَمَا في قوله تعالى {قل أرأيتم إن كان مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} كَمَا مرَّ والمفعولُ الأولُ لأرأيتَ محذوفٌ وهو ضميرٌ يعودُ إلى الموصولِ أو اسمُ إشارةِ يُشارُ بهِ إليهِ ومفعولُه الثاني سدَّ مسدَّهُ الجملةُ الشرطيةُ بجوابها المحذوفِ فإنَّ المفعولَ الثاني لأرأيتَ لا يكونُ إلا جملةً استفهاميةً أو قسميةً والمعَنى أخبرني ذلك الناهي إن كان على الهدى فيمَا ينهي عَنْهُ منْ عبادةِ الله تعالى أوْ آمراً بالتَّقوى فيمَا يأمرُ بهِ من عبادةِ الأوثانِ كما يعتقدُه أوْ مكذباً للحق معرضا عن الصوب كما نقول نحن

14

{ألم يعلم بأن الله يرى} أيْ يطلعُ على أحواله فيجازيه

96 سورة العلق آية (15 18) بِهَا حتَّى اجترأ على ما فعلَ وإنَّما أفردَ التكذيبَ والتولِّي بشرطيةٍ مستقلةٍ مقرونةٍ بالجوابِ مصدرةٍ باستخبارٍ مستأنفِ ولم ينظمَا في سلكِ الشرطِ الأولِ بعطفهما على كانَ للإيذانِ باستقلالهما بالوقوعِ في نفسِ الأمرِ واستتباعِ الوعيدِ الذي ينطقُ بهِ الجوابُ وأما القسمُ الأولُ فأمرٌ مستحيلٌ قد ذكر في حيزالشرط لتوسيعِ الدائرةِ وهو السرُّ في تجريدِ الشرطيةِ الأولى عنِ الجوابِ والإحالةِ بهِ على جوابِ الثانيةِ هَذا وقد قيلَ أرأيتَ الأولُ بمعنى أخبرني مفعولُه الأولُ الموصولُ ومفعولُه الثاني الشرطيةُ الأولى بجوابها المحذوفِ لدلالةِ جوابِ الشرطيةِ الثانيةِ عليه وأرأيتَ في الموضعينِ تكريرٌ للتأكيدِ ومعناهُ أخبرني عمَّنْ ينهى بعضَ عبادِ الله عن صلاته إنْ كانَ ذلكَ النَّاهي علَى طريقةٍ سديدةِ فيما ينهى عنْ عبادةِ الله تعالى أوْ كانَ آمراً بالمعروفِ والتَّقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقده وكذلكَ إنْ كانَ على التكذيبِ للحقِّ والتولِّي عنِ الدينِ الصحيح كما نقولُ نحن {ألم يعلم بأن الله يرى} ويطلعُ على أحوالِه منْ هُداهُ وضلالهِ فيجازيَهُ عَلى حسبِ ذلكَ فتأملْ وقيلَ المَعْنى أرأيتَ الَّذي يَنْهى عبْداً يُصلي والمُنهيُّ عنِ الهُدى آمرٌ بالتقوى والناهي مكذب متول فما أعجبَ من ذَا وقيلَ الخطابُ الثاني للكافرِ فإنَّه تعالَى كالحاكمِ الذي حضَرهُ الخصمانِ يخاطبُ هذا مرةً والآخرَ أُخرى وكأنَّه قالَ يا كافرُ أخبرني إنْ كانَ صلاتُه هُدى ودُعاؤُه إلى الله تعالى أمراً بالتَّقوى أتنهاهُ وقيلَ هُو أُميةُ بنُ خلفٍ كانَ ينْهى سلمانَ عنِ الصَّلاةِ

15

{كَلاَّ} ردعٌ للناهي اللعينِ وخسوءٌ لَهُ واللامُ في قولِه تعالَى {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ} موطئةٌ للقسمِ أي والله لئِن لَمْ ينتِه عَمَّا هُو عليهِ ولمْ ينزجرْ {لَنَسْفَعاً بالناصية} لنأخذنَّ بناصيتهِ ولنسحبنّهُ بِهَا إلى النَّارِ والسفعُ القبضُ على الشيءِ وجذبُه بعنفٍ وشدةٍ وقُرِىءَ لنسفعنَّ بالنونِ المشددةِ وقُرِىءَ لأسفعنَّ وكتبتهُ في المصحفِ بالألفِ عَلى حكمِ الوقفِ والاكتفاءُ بلامِ العهدِ عنِ الإضافةِ لظهورِ أنَّ المرادَ ناصيةُ المذكورِ

16

{نَاصِيَةٍ كاذبة خَاطِئَةٍ} بدلٌ منَ الناصيةِ وإنَّما جازَ إبدالُها منَ المعرفةِ وهي نكرةٌ لوصفِها وقُرئَتْ بالرفعِ على هِيَ ناصيةٌ وبالنصبِ وكلاهُما على الذمِّ والشتمِ ووصفُها بالكذبِ والخطإِ على الإسنادِ المجازيِّ وهُمَا لصاحبها وفيه من الجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب المخطىء

17

{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أيْ أهلَ ناديهِ ليعينوهُ وهُو المجلسُ الَّذي ينتدي فيه القومُ أي يجتمعونَ رُوِيَ أنَّ أَبا جهلٍ مرَّ برسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم وهُو يُصلي فقالَ ألم أنهكَ فأغلظَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ أتهددني وأنا أكثرُ أهلِ الوادي نادياً فنزلتْ

18

{سَنَدْعُ الزبانية} ليجروه إلى النار والزبانية

96 سورة العلق آية (19) الشرطُ الواحدُ زبْنيةٌ كعفريةٍ من الزِّبنِ وهُوَ الدَّفعْ وقيلَ زَبَنِي وكأنَّه نسبَ إلى الزبنِ ثُمَّ غير كأمْسى وأصلُها زَبَاني فقيلَ زبانيةٌ بتعويضِ التاءِ عن الياءِ والمرادُ ملائكةُ العذابِ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم لَوْ دَعا ناديه لأخذتْهُ الزبانيةُ عياناً

19

{كَلاَّ} ردعٌ بعدَ ردعٍ وزجرٌ إثرَ زجرٍ {لاَ تُطِعْهُ} أيْ دُم عَلى ما أنت عليه من معاصاتِه {واسجد} وواظبْ عَلى سجودِكَ وصلاتك غيرَ مكترثٍ بِه {واقترب} وتقربْ بذلك إلى ربِّكَ وفي الحديثِ أقربُ ما يكونُ العبدُ إلى ربِّه إذَا سجدَ عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ العلقِ أُعطيَ منَ الأجرِ كأنَّما قرأالمفصل كله

سسورة القدر سورة مكية مختلف فيها وآيها خمس بسم الله الرحمن الرحيم

القدر

{إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر} تنويهٌ بشأنِ القرآنِ الكريمِ وإجلالٌ لمحلِه بإضمارِهِ المُؤذنِ بغايةِ نباهتِهِ المغنيةِ عن التصريحِ بهِ كأنهُ حاضرٌ فِي جميعِ الأذهانِ وبإسنادِ إنزالِه إلى نونِ العظمة المنبئ عنْ كمالِ العنايةِ بهِ وتفخيمُ وقتِ إنزالِه بقولِه تعالى

2

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر} لما فيهِ منَ الدلالةِ عَلى أنَّ علوِّ قدرِها خارجٌ عنْ دائرةِ درايةِ الخَلْقِ لا يدريَها وَلاَ يدريَها إلاَّ علاَّمُ الغيوبِ كمَا يُشعر بهِ قولُه تعالَى

3

{لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} فإنهُ بيانٌ إجماليٌّ لشأنها إثرَ تشويقهِ عليهِ السلامُ إلى درايتها فإنَّ ذلكَ معربٌ عنِ الوعدِ بإدرائها وقدْ مرَّ بيانُ كيفيةِ إعرابِ الجملتينِ وفي إظهارِ ليلةِ القدرِ في الموضعينِ منْ تأكيدِ التفخيم مالا يخفى والمرادُ بإنزالِه فيها إمَّا إنزالُ كُلِّه إلى السماءِ الدُّنيا كَما رُوي أنَّه أُنزل جملةً واحدةً في ليلةِ القدرِ من اللوحِ المحفوظِ إلى السماءِ الدُّنيا وأملاهُ جبريلَ عليهِ السَّلامُ على السَفَرة ثُمَّ كانَ ينزلهُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم نُجوماً في ثلاثٍ وعشرينَ سنةً وإمَّا ابتداءُ إنزالِه فيها كما نُقلَ عن الشَّعبيِّ وقيلَ المَعْنى أنزلناهُ في شأنِ ليلةِ القدرِ وفضلِها كَما في قولِ عمر رضي الله عنه خشيتُ أن ينزلَ فيَّ قرآن وقولِ عائشةَ رضيَ الله عنها لأنَا أحقرُ في نفسي منْ أن ينزلَ فيَّ قرآن فالأنسبُ أن يجعلَ الضميرُ حينئذٍ للسورةِ التي هيَ جزءٌ من القرآنِ لا للكُلِّ واختلفوا في وقتها فأكثرهم على أنها في شهرِ رمضانَ في العشرِ الأواخرِ في أوتارِها وأكثرُ الأقوالِ أنها السابعةُ منها ولعلَّ السرِّ في إخفائها تعريضُ منْ يريدُها للثوابِ الكثير بإحياءِ الليالي الكثيرةِ رجاءً لموافقتها وتسميتُها بذلكَ إمَّا لتقدير الأمورِ وقضائها فيها لقولِه تعالى فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أو لخطرها وشرفها على سائرِ الليالي وتخصيصُ الألفِ بالذكرِ إمَّا للتكثيرِ أوْ لمَا روي أنه صلى الله عليه وسلم ذكرَ رجلاً من بني إسرائيلَ لبسَ السلاحَ في سبيلِ الله ألفَ شهرٍ فعجبَ المؤمنونَ منه وتقاصرتْ إليهم أعمالهم فأعطوا ليلةً هيَ خير منْ مدةِ ذلكَ الغازي وقيلَ إنَّ رجل فيما مَضَى مَا كانَ يقالُ لَهُ عابدٌ حَتَّى يعبدَ الله تعالى ألفَ شهر فأعطوا

97 سورة القدر آية (4 5) ليلةً إنْ أحيوْها كانُوا أحقَّ بأن يُسمَّوا عابدينَ من أولئكَ العبادِ وقيلَ أري النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أعمارَ الأممِ كافةً فاستقصرَ أعمار أمنه فخافَ أنْ لا يبلغوا من العملِ مثلَ ما بلغَ غيرهم في طولِ العمرِ فأعطاهُ الله ليلةَ القدرِ وجعلها خيراً منْ ألفِ شهرٍ لسائرِ الأممِ وقيلَ كانَ ملكُ سليمانَ خمسمائةَ شهرٍ وملكُ ذي القرنينِ خمسمائةَ شهرٍ فجعلَ الله تعالَى العملَ في هذهِ الليلةِ لمنْ أدركها خيراً منْ مُلكِهِمَا وقولُه تعالَى

4

{تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} استئنافٌ مبينٌ لمناطِ فضلِها على تلكَ المدةِ المتطاولةِ وقد سبقَ في سورةِ النبأ ما قيلَ في شَأنِ الروحِ عَلى التفصيلِ وقيلَ هم خلقٌ منَ الملائكةِ لا يراهُم الملائكةُ إلا تلكَ الليلةَ أيْ تتنزل الملائكةُ والروحُ في تلكَ الليلةِ منْ كُلِّ سماءٍ إلى الأرضِ أوْ إلى السماءِ الدُّنيا {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} متعلقٌ بتنزلُ أوْ بمحذوفٍ هُو حالٌ من فاعلِه أيْ ملتبسينَ بِإِذْنِ رَبّهِمْ أيْ بأمرِه {مّن كُلّ أَمْرٍ} أي من أجلِ كُلِّ أمرٍ قضاهُ الله عزَّ وجلَّ لتلكَ السنةِ إلى قابلِ كقولِه تعالَى فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حكيم وقرئ من كل امرئ أي من أجل كل إنسانٍ قيلَ لا يلقونَ فيها مؤمنا ولا مؤمنةً إلا سلمُوا عليهِ

5

{سلام هِىَ} أيْ مَا هيَ إلا سلامةٌ أيْ لا يقدرُ الله تعالى فيها إلا السلامةَ والخيرَ وأمَّا في غيرِها فيقضي سلامةً وبلاءً أوْ ما هيَ إلا سلامٌ لكثرةِ ما يسلمونَ فيها على المؤمنينَ {حتى مَطْلَعِ الفجر} أيْ وقت طلوعه وقرئ بالكسرِ على أنهُ مصدرٌ كالمرجعِ أو اسمُ زمانٍ على غيرِ قياسٍ كالمشرِقِ وحتَّى متعلقةٌ بتنزلُ على أنها غايةٌ لحكمِ التنزلِ أي لمكثِهمْ في محلِ تنزلِهم أو لنفسِ تنزلهم بأنْ لا ينقطعَ تنزلُهم فوجاً بعدَ فوجٍ إلى طلوعِ الفجرِ وقيلَ متعلقةٌ بسلامٍ بناءً على أنَّ الفصلَ بين المصدرِ ومعمولِه بالمبتدأ مغتفرٌ في الجارِّ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم من قرأسورة القدرِ أعطي من الأجرِ كَمَنْ صامَ رمضانَ وأَحْيَا ليلة القدر

سورة البينة مدنية مختلف فيها وآيها ثمان بسم الله الرحمن الرحيم

البينة

{لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مّنْ أَهْلِ الكتاب} أي اليهودُ والنَّصارَى وإيرادُهم بذلكَ العنوانِ للإشعارِ بعلةِ ما نُسبَ إليهمْ من الوعدِ باتباعِ الحقِّ فإنَّ مناطَ ذلكَ وجدانُهم لَهُ في كتابِهم وَإِيرادُ الصلةِ فعلاً لما أنَّ كُفرهم حادثٌ بعدَ أنبيائِهم {والمشركين} أيْ عبدة الأصنام وقرئ وَالمشركونَ عطفاً على الموصولِ {مُنفَكّينَ} أي عمَّا كانُوا عليهِ من الوعدِ باتباعِ الحقِّ والإيمانِ بالرسولِ المبعوثِ في آخرِ الزمانِ والعزمِ على إنجازِه وهَذَا الوعدُ من أهلِ الكتابِ مما لا ريبَ فيه حَتَّى إنَّهم كانُوا يستفتحونَ ويقولونَ اللهمَّ افتحْ علينَا وانصرنا بالنبيِّ المبعوثِ في آخرِ الزمانِ ويقولونَ لأعدائِهم منَ المشركينَ قد أظلَّ زمانُ نبيَ يخرجُ بتصديقِ ما قلنَا فنقتلُكُم مَعَهُ قتلَ عادٍ وإرمَ وأما منَ المشركينَ فلعلَّهُ قدْ وقعَ من متأخريهمْ بعدَ مَا شَاعَ ذلكَ من أهلِ الكتابِ واعتقدوا صحتَهُ بَمَا شاهدُوا من نصرتهم على أسلافم كما يشهدُ به أنهم كانوا يسألونهم عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم هلْ هُوَ المذكورُ في كتابِهم وكانوا يغرونَهُم بتغييرِ نعوتِه عليهِ السَّلامُ وانفكاكُ الشيء عن الشيءِ أنْ يزايَلَهُ بعدَ التحامِه كالعظمِ إذا انفكَّ من مفصلِه وفيهِ إشارةٌ إلى كمالِ وكادةِ وعدِهم أيْ لم يكُونوا مفارقينَ للوعدِ المذكورِ بلْ كانُوا مجمعينَ عليهِ عازمينَ على إنجازِه {حتى تَأْتِيَهُمُ البينة} التي كانُوا قد جعلوا إتيانها ميقاتاً لاجتماعِ الكلمةِ والاتفاقِ عَلى الحقِّ فجعلوه ميقاتاً للانفكاكِ والافتراقِ وإخلافِ الوعدِ والتعبيرُ عن إتيانِها بصيغةِ المضارعِ باعتبارِ حالِ المحكيِّ لا باعتبارِ حالِ الحكايةِ كما في قولِه تعالَى {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} أي تلتْ وقولُه تعالى

2

{رَّسُولٍ} بدلٌ منَ البينةِ عبرَ عنه عليهِ السَّلامُ بالبينة للإيدان بغاية ظهورِ أمرِهِ وكونِه ذلكَ الموعودَ في الكتابينِ وقولُه تعالى {مِنَ الله} متعلق بمضمر هو صفة لرسولٍ مؤكِّدٌ لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي رسولٌ وأيُّ رسولٍ كائنٌ منْهُ تعالى وقولُه تعالى {يَتْلُو} صفةٌ أخرى له أو حالٌ من الضمير في متعلق الجارِّ {صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} أيْ منزهةً عنِ الباطلِ لا يأتيه الباطلُ من بينِ يديهِ ولا من خلفه أو من أنْ يمسَّهُ غيرُ المطهرينَ ونسبةُ تلاوتِها إليه عليه

سورة البينة آية (3 5) السلامُ منْ حيثُ إنَّ تلاوةَ مَا فيها بمنزلةِ تلاوتِها وقولُه تعالى

3

{فِيهَا كُتُبٌ قَيّمَةٌ} صفةٌ لصحفاً أوْ حالٌ منْ ضميرها في مطهرةٍ ويجوزُ أنْ يكونَ الصفةُ أو الحالُ الجارَّ والمجرورَ فَقَطْ وكتبٌ مرتفعاً بِه على الفاعليَّةِ ومَعْنى قيمةٌ مستقيمةٌ ناطقةٌ بالحقِّ والصوابِ وقولُه تعالَى

4

{وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} إلخ كلامٌ مسوقٌ لغايةِ تشنيعِ أهلِ الكتابِ خاصَّةٌ وتغليظِ جناياتِهم ببيانِ أنَّ ما نسبَ إليهمْ من الانفكاكِ لم يكُنْ لاشتباهٍ مَا في الأمرِ بلْ كانَ بعدَ وضوحِ الحقِّ وتبينِ الحالِ وانقطاعِ الأعذار بالكليةِ وهُوَ السرُّ في وصفِهم بإيتاءِ الكتابِ المنبئ عن كمالِ تمكنِهم منْ مطالعتِه والإحاطةِ بَما فِي تضاعيفِه من الأحكامِ والأخبارِ التي مِنْ جُملتِها نعوتُ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بعدَ ذكِرَهم فيما سبقَ بما هُوَ جارٍ مَجْرَى اسمِ الجنسِ للطائفتينِ ولَمَّا كانَ هؤلاءِ وَالمشركونَ باعتبارِ اتفاقِهم عَلَى الرأي المذكورِ في حكمِ فريقٍ واحدٍ عبرَ عَمَّا صدرَ عنهمْ عقيبَ الاتفاقِ عندِ الإخبارِ بوقوعِه بالانفكاكِ وعندَ بيانِ كيفية وقوعه بالتفرق اعتبارا لاستقلال كل من فريقي أهل الكتاب وإيذاناً بأن انفكاكهم عن الرأي المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأي أخر بل بطريق الاختلاف القديم وقولُه تعالى {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} استثناءٌ مفرغٌ منْ أعمِّ الأوقاتِ أيْ وما تفرقُوا في وقتٍ منَ الأوقاتِ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الحجةُ الواضحةُ الدالَّةُ على أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هو الموعودُ في كتابِهم دلالةً جليةً لا ريبَ فيَها كقولِه تعالى {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم وقولُه تعالى

5

{وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله} جملةُ حاليةٌ مفيدةٌ لغايةِ قبحِ ما فعلُوا أيْ والحالُ أنَّهم ما أُمروا في كتابِهم إلا لأجلِ أنْ يعبدُوا الله وقيلَ اللامُ بمَعْنى أنْ أي إلا بأنْ يعبدُوا الله ويعضدُه قراءةُ إلا أنْ يعبدُوا الله {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي جاعلينَ دينَهُم خَالِصاً له تعالَى أو جاعلينَ أنفسَهُم خالِصةً لَهُ تعالَى في الدِّينِ {حُنَفَاء} مائلينَ عن جميعِ العقائدِ الزائغةِ إلى الإسلامِ {ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة} إنْ أُريدَ بهما ما في شريعتِهم من الصَّلاةِ والزَّكاةِ فالأمرُ ظاهرٌ وإنْ أُريدَ ما في شريعتِنا فمَعْنى أمرِهم بهما في الكتابينِ أنَّ أمرَهُم باتباعِ شريعتِنا أمرٌ لهم بجميعِ أحكامِها التي هُمَا من جُملتها {وَذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من عبادةِ الله تعالى وبالإخلاص وإقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ وما فيه من معنى البُعدِ للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعد منزلتِه {دِينُ القيمة} أي دينُ الملةِ القيمةِ وقرئ الدينُ القيمةُ على تأويلِ الدينِ بالملةِ هذا وقد قيلَ قولُه تعالى {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} إلى

98 سورة البينة آية (6 7) قولِه {كتبٌ قيمةٌ} حكايةٌ لما كانُوا يقولونَهُ قبلَ مبعثِه عليهِ السَّلامُ من أنَّهم لا ينفكونَ عنْ دينِهم إلى مَبْعثِه ويعدون أنْ ينفكُّوا عنه حينئذٍ ويتفقوا على الحقِّ وقولُه تعالَى {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أوتوا الكتاب} الخ بيان لإخلافِهم الوعدَ وتعكيسِهم الأمرَ بجعلِهم ما هُو سببٌ لانفكاكِهم عن دينِهم الباطلِ حسبَما وعدُوه سبباً لثباتِهم عليهِ وعدمِ انفكاكِهم عنه ومثلُ ذلكَ بأنْ يقولَ الفقيرُ الفاسقُ لمن يعظهُ لا أنفكُّ عمَّا أنَا فيه حتَّى أستغني فيستغني فيزدادُ فسقاً فيقولَ له واعظُه لم تكنْ منفكَّاً عن الفسقِ حتى توسرَ وما عكفتَ على الفسقِ إلا بعدَ اليسارِ وأنت خبيرٌ بأنَّ هَذا إنَّما يتسنّى بعد اللَّتيا والتي على تقدير أن يرادَ بالتفرقِ تفرقُهم عن الحقِّ بأنْ يقال التفرقُ عن الحقِّ مستلزمٌ للثباتِ على الباطلِ فكأنَّه قيلَ وما أجمعُوا على دينِهم إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينةُ وأما على تقديرِ أنْ يرادَ به تفرقُهم فرقاً فمنُهم من آمنَ ومنُهم من أنكرَ ومنُهم من عرفَ وعاندَ كَمَا جوَّزه القائلُ فلا فتأملْ

6

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِى نَارِ جَهَنَّمَ} بيانٌ لحالِ الفريقينِ في الآخرةِ بعد بيانِ حالِهم في الدُّنيا وذَكَرَ المشركينَ لئلاَّ يتوهَم اختصاصُ الحكمِ بأهلِ الكتابِ حسبَ اختصاصِ مشاهدةِ شواهدِ النبوةِ في الكتابِ بهم ومَعْنى كونِهم فيها أنَّهم يصيرون إليها يومَ القيامةِ وإيرادُ الجملةِ الاسميةِ للإيذان بتحقق مضمونِها لا محالةَ أو أنَّهم فيها الآنَ إما على تنزيل ملابستِهم لما يوجبُها منزلَة ملابستِهم لها وإما عَلى أنَّ ما هُم فيه من الكفر والمعاصي عينُ النارِ إلا أنَّها ظهرتْ في هذهِ النشأةِ بصور عَرَضيةٍ وستخلعُها في النشأة الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقة كما مر في قوله تعالى {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} في سورة الأعرافِ {خالدين فِيهَا} حالٌ من المستكنِّ في الخبرِ واشتراكُ الفريقينِ في دخولِ دارِ العذابِ بطريقِ الخُلودِ لا يُنافِي تفاوتَ عذابِهم في الكيفيةِ فإنَّ جهنَم دركاتٌ وعذابَها ألوانٌ {أولئك} إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتصافِهم بما هُم فيه من القبائحِ المذكورة وما فيه من مَعْنى البُعدِ للإشعارِ بغايةِ بُعدِ منزلتِهم في الشرِّ أي أولئكَ البعداءُ المذكورونَ {هُمْ شَرُّ البرية} شرُّ الخليقةِ أي أعمالاً وهو الموافقُ لما سيأتِي في حقِّ المؤمنينَ فيكونُ في حيزِ التعليلِ لخلودِهم في النارِ أو شرُّهم مقاماً ومصيراً فيكونَ تأكيداً لفظاعةِ حالهم وقرئ بالهمزة على الأصل

7

{إن الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بيانٌ لمحاسن أحوالِ المُؤمنين إثرَ بيانُ سوءِ حالِ الكفرةِ جرياً على السنةِ القرآنيةِ من شفعِ الترهيبِ بالترغيبِ {أولئك} المنعوتونَ بَما هُو في القاصيةِ من الشرفِ والفضيلةِ من الإيمان والطاعة {هُمْ خير البرية} وقرئ خيارُ البريةِ وهو جمعُ خيِّر نحوٌ جيدٌ وجيادٌ

98 سورة البينة آية (8)

8

{جَزَآؤُهُمْ} بمقابلةِ ما لهُم من الإيمانِ والطاعةِ {عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} إن أُريد بالجنَّاتِ الأشجارُ الملتفةُ الأغصانِ كمَا هو الظاهرُ فجريانُ الأنهارِ من تحتها ظاهرٌ وإنْ أُريد بها مجموعُ الأرضِ ومَا عليها فهُو باعتبارِ الجزءِ الظاهرِ وأيا ما كان فالمرادُ جريانُها بغيرِ أخدودٍ {خالدين فيها أبدا} متنعمين بفنونِ النعمِ الجُسمانيةِ والروحانيةِ وفي تقديمِ مدحِهم بخيرية وذكرِ الجزاءِ المؤذنِ بكونِ ما مُنحوهُ في مقابلةِ ما وُصفوا بهِ وبيان كونُه من عندِه تعالَى والتعّرضُ لعنوان الربوبيةِ المنبئة عن التَّربيةِ والتبليغِ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرِهم وجمعِ الجنَّاتِ وتقييدِها بالإضافةِ وبما يزيدُها نعيماً وتأكيد الخلودِ بالأبودِ من الدلالةِ على غايةِ حُسنِ حالِهم مالا يَخْفى {رَّضِىَ الله عَنْهُمْ} استئنافٌ مبينٌ لما يتفضلُ عليهم زيادةً على ما ذُكرَ من أجزيةِ أعمالِهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} حيثُ بلغُوا من المطالبِ قاصيتَها وملكُوا من المآربِ ناصيتَها وأُتيحَ لهم مالا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلبِ بشرٍ {ذلك} أيْ ما ذكرمن الجزاءِ والرضوانِ {لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} فإنَّ الخشيةَ التي هيَ من خصائصِ العلماءِ بشؤون الله عز وجل مناطٌ لجميعِ الكمالاتِ العلميةِ والعمليةِ المستتبعةِ للسعادةِ الدينيةِ والدنيويةِ والتعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيةِ المُعربةِ عن المالكيةِ والتربيةِ للإشعارِ بعلَّةِ الخشيةِ والتحذيرِ من الاغترارِ بالتربيةِ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ البينة لم يكن كانَ يومَ القيامةِ مع خيرِ البريةِ مساءً ومَقيلاً

سورة الزلزلة مدنية مختلف فيها وآيها ثمان بسم الله الرحمن الرحيم

الزلزلة

{إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض} أَيْ حُرِّكتْ تحريكاً عنيفاً مُتكرراً متداركا أي الزلزالُ المخصوصُ بَها على مقتضى المشيئةِ المبنيةِ على الحِكَم البالغة وهُو الزلزالُ الشديدُ الذي لا غايةَ وراءَه أو زلزالُها العجيبُ الذي لا يُقَادرُ قدرُهُ أو زلزالُها الداخلُ في حيزِ الإمكانِ وقرئ بفتح بفتح الزاء وهو اسمٌ وليسَ في الأبنيةِ فعلالٌ بالفتحِ إلا في المضاعف وقولهم ناقة خَزْعَالٌ نادرٌ وقَدْ قيلَ الزلزالُ بالفتحِ أيضاً مصدرٌ كالوَسواسِ والجرَجارِ والقَلقالِ وذلكَ عندَ النفخةِ الثانيةِ لقولِه عزَّ وجلَّ

2

{وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} أي ما في جوفها من الأمواتِ والدفائنِ جمعُ ثَقَلٍ وهُو متاعُ البيتِ وإظهارُ الأرضِ في موقعِ الإضمارِ لزيادةِ التقريرِ أوْ للإيماءِ إلى تُبَدَّلُ الأرضِ غَيْرَ الأرضِ أو لأنَّ إخراجَ الأثقالِ حالُ بعضِ أجزائِها

3

{وَقَالَ الإنسان} أيْ كُلُّ فردٍ من أفرادِه لما يَدهمُهْم منَ الطامَّةِ التامَّةِ ويبهرهُم مِنَ الدَّاهيةِ العامَّةِ {مَا لَهَا} زُلزلتْ هذهِ المرتبةَ الشديدةَ منَ الزلزالِ وأخرجتْ ما فيَها منَ الأثقالِ استعظاماً لما شاهدُوه منَ الأمرِ الهائلِ وقد سيرتِ الجبالُ في الجَوِّ وصيرتْ هباءً وقيلَ هُو قول الكافر إذا لمْ يكُنْ مؤمناً بالبعثِ والأظهرُ هُو الأولُ عَلى أنَّ المؤمنَ يقولُه بطريقِ الاستعظامُ والكافرُ بطريق التعجبِ

4

{يومئذ} بدل من إذا وقولُه تعالَى {تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا} عَامِلٌ فيهمَا ويجوزُ أن يكونَ إذَا منتصباً بمضمرٍ أيْ يومُ إذْ زلزلتْ الأرضُ تحدثُ الخلقَ أخبارِها إمَّا بلسانِ الحالِ حيثُ تدلُّ دلالةً ظاهرةً على ما لأجلِه زلزالُها وإخراجُ أثقالِها وإما بلسانِ المقالِ حيثُ يُنطقها الله تعالَى فتخبرُ بما عُمِلَ عليَها منْ خيرٍ وشرَ ورُوِيَ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنها تشهدُ على كُلِّ أحدٍ بما عَمِلَ عَلى

99 سورة الزلزلة آية (5 8) ظهرها وقرئ تنبي أخبارها وقرئ منَ الإنباءِ

5

{بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} أي تحدثُ أخبارَهَا بسببِ إيحاءِ ربِّكَ لَها وَأمْرِهِ إيَّاهَا بالتَّحديثِ عَلَى أَحَدِ الوجهينِ وَيَجُوزُ أَنْ يكُونَ بَدَلاً مِنْ أَخْبَارِهَا كَأنَّه قيلَ تحدثُ بأخبارِهَا بأَنَّ ربَّكَ أوحى لأَنَّ التحديثَ يستعمل بالباء وبدونها وأَوْحَى لَها بمعنى أَوْحَى إليَها

6

{يومئذ} أي يوم إذ يقعُ ما ذُكِرَ {يَصْدُرُ الناس} من قبورِهم إلى موقفِ الحسابِ {أَشْتَاتاً} متفرقينَ بحسبِ طبقاتِهم بيضِ الوجوهِ آمنينَ وسودِ الوجوهِ فزعينَ كما مر في قوله تعالَى {فتأتونَ أفواجاٍ} وقيلَ يصدرُون عن الموقفِ أشتاتاً ذات اليمين إلى الجنة وذاتَ الشمالِ إلى النارِ {لّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ} أي أجزيةَ أعمالِهم خيراً كانَ أَوْ شراً وقرئ ليَروا بالفتحِ وقولُه تعالَى

7

{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} تفصيل ليروا وقرئ يُرَه والذرةُ النملةُ الصغيرةُ وَقيلَ ما يُرى في شعاعِ الشَّمسِ منَ الهباءِ وَأياً مَا كان فمَعنى رؤية ما يعادلُها منْ خيرٍ وشرَ إما مشاهدةُ جزائِه فَمَنِ الأُولى مختصةٌ بالسُّعداءِ والثانيةُ بالأشقياءِ كيفَ لا وحسناتُ الكافرِ محبطةٌ بالكفرِ وسيئاتُ المؤمنِ المجتنبِ عن الكبائرِ معفوةٌ وما قيلَ مِنْ أن حسنةَ الكافرِ تؤثرُ في نقصِ العقابِ يردُّه قولُه تعالَى {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} وأما مشاهدةُ نفسِه من غيرِ أنْ يعتبرَ مَعَهُ الجزاءُ ولاَ عدمُه بلْ يفوضُ كلٌّ منَهما إلى سائرِ الدلائلِ الناطقةِ بعفوِ صغائرِ المؤمنِ المجتنبِ عنِ الكبائرِ وإثابتِه بجميعِ حسناتِه وبحبوطِ حسناتِ الكافرِ ومعاقبتِه بجميعِ معاصيهِ فالمَعْنى ما رُوي عن ابنِ عباس رضي الله عنهما ليس منْ مؤمنٍ وَلاَ كافرٍ عملَ خيراً أو شراً إلا أراهُ الله تعالَى إيَّاهُ أما المؤمنُ فيغفرُ له سيئاتِه ويثيبُه بحسناتِه وأما الكافِرُ فيردُّ حسناتِه تحسراً ويعاقبُه بسيئاتِه عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الزلزلة أربعَ مراتٍ كانَ كمَنْ قرأَ القرآنَ كُلَّه والله أعلم

سورة العاديات مكية مختلف فيها وآيها إحدى عشرة بسم الله الرحمن الرحيم

العاديات

{والعاديات} أقسمَ سبحانَهُ بخيلِ الغُزاةِ التي تعدُو نحوَ العدوِّ وقولُه تعالَى {ضَبْحاً} مصدر منصور إما بفعلِه المحذوفِ الواقعِ حالاً منَها أي تضبحُ ضبحا وهو صوت أنفسها عندَ عدوها أوْ بالعادياتِ فإن العدوَ مستلزمٌ للضبحِ كأنَّه قيلَ والضابحاتِ أو حالٌ على أنَّه مصدرٌ بمعنى الفاعلِ أيْ ضابحاتٌ

2

{فالموريات قَدْحاً} الإيراءُ إخراجُ النَّارِ والقدحُ الصَّكُّ يقالَ قدح فأورى أي تُورِى النارَ منْ حوافرِها وانتصابُ قَدحاً كانتصابِ ضبحاً على الوجوهِ الثلاثةِ

3

{فالمغيرات} أسند الإغارةَ التي هيَ مباغتةُ العدوِّ للنهبِ أو للقتلِ أو للأسرِ إليَها وهيَ حالُ أهلِها إيذانا بأنَّها العمدةُ في إغارتِهم {صُبْحاً} أي في وقتِ الصبحِ وهو المعتادُ في الغاراتِ يعدونَ ليلاً لئلا يشعرُ بهمْ العدوّ ويهجمونَ عليهم صباحاً ليَرَوا مَا يأتونَ ومَا يذرونَ وَقَولُه تعالَى

4

{فَأَثَرْنَ بِهِ} عطفٌ على الفعلِ الذي دلَّ عَلَيهِ اسمُ الفاعلِ إذِ المَعْنى واللاتِي عدونَ فأورينَ فأغرنَ فأثرنَ بهِ أيْ فهيجنَ بذلكَ الوقتِ {نَقْعاً} أيْ غُباراً وتخصيصُ إثارتِه بالصُّبحِ لأنَّه لا يثورُ أو لا يظهرُ ثورانُه بالليلِ وبهذا ظهرَ أنَّ الإيراءَ الذي لا يظهرُ في النهارِ واقعٌ في الليلِ ولله درُّ شأنِ التنزيلِ وَقيلَ النقعُ الصياحُ والجَلَبةُ وقُرِىءَ فأثَّرنَ بالتشديدِ بمَعْنى فأظهرنَ بهِ غُباراً لأنَّ التأثيرَ فيهِ مَعْنى الإظْهارِ

5

{فَوَسَطْنَ بِهِ} أي توسطنَ بذلك الوقتِ أو توسطنَ ملتبساتٍ بالنقعِ {جَمْعاً} من جموعِ الأعداءِ والفاءاتُ للدلالةِ عَلَى ترتبِ ما بعدَ كُلَ مِنْها عَلى ما قبلَها كَما في قولِه ... يَا لهفَ زيّابةَ للحارثِ الله ... صابح فالغَانمِ فالآيبِ ... فإنَّ توسطَ الجمعِ مترتبٌ عَلى الإثارةِ المترتبة

} 00 سورة العاديات آية (6 11) على الإيراءِ المترتبِ على العدوِ وقولُه تعالَى

6

{إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ} أَيْ لكفورٌ مِنْ كندَ النعمةَ كنوداً جوابُ القسمِ والمرادُ بالإنسانِ بعضُ أفرادِه رُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بعثَ إلى أناسٍ منْ بنِي كنانةَ سريةً واستعملَ عليَها المنذرَ بنَ عمروٍ الأنصاريو كان أحدَ النقباءِ فأبطأ عليهِ الصلاةُ والسلامُ خبرُهَا شهراً فقالَ المنافقونَ إنُهم قُتلوا فنزلتْ السورةُ إخباراً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بسلامتِها وبشارةً لهُ بإغارتِها على القومِ ونعياً على المُرجفينَ في حقِّهم مَا هُم فيهِ من الكنودِ وفي تخصيصِ خيلِ الغُزاةِ بالإقسامِ بَها منَ البراعةِ ما لا مزيدَ عليه كأنه قيلَ وخيلِ الغُزاةِ التي فعلتْ كيتَ وكيتَ وقد أرجفَ هؤلاءِ في حقِّ أربابِها ما أرجفُوا أنهم مبالغونَ في الكفرانِ

7

{وَإِنَّهُ على ذَلِكَ} أيْ وإنَّ الإنسانَ على كنودِه {لَشَهِيدٌ} يشهدُ عَلى نفسِه بالكنودِ لظهورِ أثرِه عليهِ

8

{وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير} أي المالِ كمَا في قولِه تعالَى إنْ تركَ خيراً {لَشَدِيدٌ} أيْ قويٌ مطيقٌ مجدٌّ في طلبِه وتحصيلِه متهالكٌ عليهِ يقالُ هُوَ شديدٌ لهذا الأمرِ وقويٌّ لَهُ إذا كانَ مطيقاً لَهُ ضَابطاً وقيلَ الشديدُ البخيلُ أيْ إنَّه لأجلِ حُبِّ المالِ وثقلِ إنفاقِه عليهِ لبخيلٌ ممسكٌ ولعَلَّ وصفَهُ بهذا الوصفِ القبيحِ بعدَ وصفِه بالكنودِ للإيماءِ إلى أنَّ من جملةِ الأمورِ الداعيةِ للمنافقينَ إلى النفاقِ حبَّ المالِ لأنَّهم بما يظهرونَ من الإيمانِ يعصمونَ أموالَهُم ويحوزونَ من الغنائمِ نصيباً

9

وقولُه تعالَى {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى القبور} الخ تهديدٌ ووعيدٌ والهمزةُ للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيفعلُ ما يفعلُ من القبائحِ أو أَلا يلاحظُ فلا يعلمُ حالَهُ إذا بعثَ منْ فِي القبورِ من المَوْتى وإيرادُ ما لكونِهم إذْ ذاكَ بمعزل من رتبة العقلاء بُحْثرَ وبُحِثَ وبَحْثَر وبَحَثَ على بنائهم للفاعلِ

10

{وَحُصّلَ} أَيْ جمعَ محصلاً أوْ ميز خيرُه من شرِّهِ وقرىء وحَصَّلَ مبنياً للفاعلِ وحَصَلَ مخففاً {مَا فِى الصدور} منَ الأسرارِ الخفيةِ التي منْ جُملتِها ما يخفيه المنافقونَ من الكفرِ والمعاصِي فضلاً عن الأعمالِ الجليةِ

11

{إِنَّ رَبَّهُم} أي المبعوثينَ كَنَّى عنْهُم بعدَ الإحياءِ الثاني بضمير العقلاء بعدما عبرَ عنهُمْ قبلَ ذلكَ بَما بناءً على تفاوتِهم في الحالينِ كما فعلَ نظيرَهُ بعد الإحياءِ الأولِ

} 00 سورة العاديات آية (11) حيثُ التفتَ إلى الخطابِ في قوله تعالَى {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والابصار} الأيةَ بعدَ قولِه ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ إيذاناً بصلاحيتِهم للخطابِ بعد نفخِ الروحِ وبعدمِها قبلَه كما أُشيرَ إليهِ هناكَ {بهم} بذاوتهم وصفاتِهم وأحوالِهم بتفاصيلِها {يَوْمَئِذٍ} يومَ إذْ يكونُ ما ذكرَ من بعثِ ما في القبورِ وتحصيلِ مَا فِي الصدورِ {لَّخَبِيرٌ} أيْ عالمٌ بظواهرِ ما عملُوا وبواطنِه علماً موجباً للجزاءِ متصلاً بهِ كما يُنبىء عنْهُ تقييدُه بذلكَ اليومِ وإلاَّ فمطلقُ علمِه سبحانَهُ محيطٌ بَما كانَ وما سيكونُ وقولُه تعالَى بِهم ويومئذَ متعلقانِ بخبيرٍ قدمَا عليه لمراعاة الفواصلِ واللامُ غيرُ مانعةٍ من ذلكَ وقرأ ابنُ السَّماكِ إنَّ ربهم بهم يومئذ لخبير عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة العاديات أُعطِيَ من الأجر عشرَ حسناتٍ بعددِ منْ باتَ بمزدلفة وشهد جمعا سورة القارعة مكية وآيها إحدى عشرة الآيات 1 3 بسم الله الرحمن الرحيم

القارعة

{القارعة} القرعُ هو الضربُ بشدةٍ واعتمادٍ بحيثُ يحصلُ منهُ صوتٌ شديدٌ وَهيَ القيامةُ التي مبدؤُهَا النفخةُ الأُولى ومُنتهاهَا فصلُ القضاءِ بينَ الخلائقِ كما مرَّ في سورةِ التكويرِ سميتْ بَها لأنَّها تقرعُ القلوبَ والأسماعَ بفنونِ الأفزاعِ والأهوالِ وتُخْرِجُ جميعَ الأجرامِ العلويةِ والسفليةِ منْ حالٍ إلى حالٍ السماءَ بالانشقاقِ والانفطارِ والشمسَ والنجومَ بالتكويرِ والانكدارِ والانتشارِ والأرضَ بالزلزالِ والتبديلِ والجبالَ بالدكِّ والنسفِ وهيَ مبتدأ خبره قوله تعالى

2

{مَا القارعة} على أنَّ ما الاستفهامية خبر والقارعة مبتدأٌ لا بالعكسِ لَما مر غير مرة أن محطَّ الفائدةِ هُوَ الخبرُ لا المبتدأُ ولا ريبَ في أنَّ مدارَ إفادةِ الهول والفخامة هاهنا هو كلمة مالا القارعة أَيُّ شيءٍ عجيبٍ هيَ في الفخامةِ والفظاعةِ وقد وضْعِ الظاهِرِ موضعَ الضَّميرِ تأكيداً للتهويل

3

وقوله تعالى {وما أدراك مَا القارعة} تأكيد لهولِها وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرةِ علومِ الخلقِ على معنى أن عظم شأنها بحيث لا تكاد

} 01 سورة القارعة آية (4 6) الآيات من 4 6 تنالُه درايةُ أحدٍ حَتَّى يدريكَ بَها وَمَا فِى حيزِ الرفعِ على الابتداءِ وأدراكَ هو الخبرُ وَلا سبيل إلى العكس هاهنا ومَا القارعةُ جملةٌ كما مَرَّ محلّها النصبُ على نزعِ الخافضِ لأنَّ أَدْرى يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله تعالَى وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فلما وقعتْ الجملةُ الاستفهاميةُ معلقة له كانت في مَوْقعِ المفعولِ الثانِي له والجملةُ الكبيرةُ معطوفةٌ على ما قبلها من الجملة الواقعةِ خبراً للمبتدأِ الأولِ أي وأي شيء أعلمك مَا شأنُ القارعةِ ولما كانَ هذَا منبئاً عن الوعدِ الكريمِ بإعلامِها أنجزَ ذلكَ بقولِه تعالَى

4

{يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث} عَلى أنَّ يومَ مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف وحركته الفتح لإضافتِه إلى الفعلِ وإنْ كان مضارعا كما هو رأيُ الكوفيِّينَ أيْ هيَ يومٌ يكونُ الناسُ فيهِ كالفراشِ المبثوثِ في الكثرةِ والانتشارِ والضعفِ والذلةِ والاضطرابِ والتطايرِ إلى الداعِي كتطايرِ الفَراشِ إلى النارِ أو منصوبٌ بإضمار اذكُرْ كأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعةِ وتشويقِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى معرفتِها اذكُرْ يوم يكون الناس الخ فإنَّه يدريكَ ما هيَ هَذا وقد قيلَ إنه ظرفٌ ناصبُه مضمرٌ يدلُّ عليهِ القارعةُ أيْ تقرعُ يوم يكون الناس الخ وقيلَ تقديرُه ستأتيكُم القارعةُ يومَ يكونُ الخ

5

{وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش} أي كالصوفِ الملونِ بالألوانِ المختلفةِ المندوفِ في تفرقِ أجزائِها وتطايرِها في الجوِّ حسبما نطق به قوله تعالى {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب} وكِلا الأمرينِ من آثارِ القارعةِ بعد النَّفخةِ الثَّانيةِ عندَ حشرِ الخلقِ يُبدِّلُ الله عزَّ وجلَّ الأرض من غيرَ الأرضِ ويغيرُ هيئاتِها ويُسيِّر الجبالَ عن مقارِّهَا على ما ذكر من الهيئات الهائلةِ ليُشاهدَها أهلُ المحشرِ وهيَ وإنِ اندكتْ وتصدعتْ عندَ النَّفخةِ الأُولى لكنْ تسييرُها وتسويِةُ الأرضِ إنَّما يكونانِ بعد النَّفخةِ الثانيةِ كما ينطقُ به قوله تعالى {ويسألونك عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صفصفا لا ترى فيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعى} وقولُه تعالى {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ} فإنَّ اتّباعَ الدَّاعِي الذي هُو إسرافيلُ عليهِ السَّلام وبروزُ الخلقِ لله سبحانَهُ لا يكونُ إلا بعدَ البعثِ قطعاً وقد مرَّ تمامُ الكلامِ في سورةِ النمل

6

وقوله تعالى {فأما من ثَقُلَتْ موازينه} الخ بيانٌ إجماليٌّ لتحزبِ الناسِ إلى حزبينِ وتنبيهٌ على كيفيةِ الأحوالِ الخاصَّةِ بكلِّ منهُمَا إثرَ بيان الأحوالِ الشاملةِ للكُلِّ والموازينُ إمَّا جمعُ الموزونِ وهُوَ العملُ الذي لَهُ وزنٌ وخطرٌ عندَ الله كما قالَهُ الفَرَّاءُ أو جمعُ ميزانِ قالَ ابن عباس رضي الله عنهَما إنُّه ميزانٌ له لسانٌ وكِفتانِ لا يوزنُ فيهِ إلا الأعمالُ قالوا توضعُ فيه صحائفُ الأعمالِ فينظرُ إليهِ الخلائقُ إظهاراً

} 01 سورة القارعة آية (7 11) القارعة الآيات 7 0 11 للمعدلةِ وقطعاً للمعذرةِ وقيل الوزنُ عبارةٌ عن القضاءِ السويِّ والحُكمُ العادلُ وبهِ قال مجاهدٌ والأعمشُ والضحاكُ واختارَهُ كثيرٌ من المتأخرينَ قالوا إنَّ الميزانَ لا يتوصلُ بهِ إلا إِلى معرفةِ مقاديرِ الأجسامِ فكيفَ يمكنُ أن يعرفَ به مقاديرُ الأعمالِ التي هيَ أعراضُ منقضيةٌ وقيلَ إن الأعم الالظاهرة في هذِه النشأةِ بصورةٍ عرضيةٍ تبرُز في النشأة الآخرة بصورة جوهريةٍ مناسبةٍ لها في الحُسْنِ والقُبحِ وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه يُؤتى بالأعمال الصالحة على صورٍ حسنةٍ وبالأعمال السيئة على صورٍ قبيحةٍ فتوضعُ في الميزانِ أيْ فمَنْ ترجحتْ مقاديرُ حسناتِه

7

{فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} أي ذاتُ رِضا أو مرضيةٍ

8

{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ موازينه} بأن لم يكن له حسنة يعتد بها أو ترجحت سيئاته على حسناته

9

{فَأُمُّهُ} أيْ فمأواهُ {هَاوِيَةٌ} هيَ من أسماءِ النارِ سميت بها لغايةِ عُمْقِها وبعدِ مَهْواها رُوىَ أنَّ أهلَ النارِ تهوِي فيها سبعينَ خريفاً وقيلَ إنها اسمٌ للبابِ الأسفلِ مِنْهَا وعبرَ عنِ المأْوى باللامِ لأَنَّ أهلَها يأوونَ إليَها كما يأوِي الولدُ إلى أمِه وعنْ قتادة وعكرمة والكلبي أنَّ المعنى فأُمُّ رأسِه هاويةٌ في قعرِ جهنَم لأنَّه يطرحُ فيهَا منكوساً والأوَّلُ هو الأوفقُ لقولهِ تعالى

10

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} {نَارٌ حَامِيَةٌ} فإنه تقريرٌ لهَا بعدَ إبهامِها والإشعارِ بخروجِها عنِ الحدودِ المعهودةِ للتفخيمِ والتهويلِ وهيَ ضميرُ الهاويةِ والهاءُ للسكتِ وإذَا وصلَ القارىءُ حذفَها وقيلَ حقُّه أنْ لا يُدرجَ لئلا يسقطَها الإدراجُ لأنها ثابتةٌ في المصحفِ وقد أجيز إثباتُها مع الوصلِ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة القارِعةَ ثَقَّلَ الله تعالَى بها ميزانه يوم القيامة

} 02 سورة التكاثر مكية مختلف فيها وآيها ثمان بسم الله الرحمن الرحيم

التكاثر

{ألهاكم التكاثر} أَىْ شغلكُم التغالبُ في الكثرةِ وَالتفاخرُ بَها رُوِىَ أنَّ بَنِي عبدِ مَنَافٍ وبَنِي سَهْمٍ تَفَاخرُوا وَتعادُّوا وَتكاثرُوا بالسَّادةِ والأشرافِ في الإسلامِ فقالَ كلٌّ منَ الفريقينِ نحنُ أكثرُ منكُم سيداً وأعزُّ عزيزاً وَأعظمُ نفراً فكثرَهُمْ بنُو عبدِ مَنَافٍ فَقَالَ بنُو سَهْمٍ إِنْ البغَي أفنانَا في الجَاهليةِ فعادُّونَا بِالأَحياءِ وَالأَمْواتِ فكثَرهُمْ بنُو سَهْمٍ وَالمَعنى أنكُم تكاثرتُمْ بالأَحياءِ

2

{حتى زُرْتُمُ المقابر} أيْ حَتَّى إذَا استوعبتُمْ عددهُم صرتم إلى التفاخم والتكاثرِ بالأمواتِ فعبرَ عنْ بلوغِهم ذكرَ المَوتى بزيارةِ القبورِ تهكُماً بِهمْ وقيلَ كَانُوا يزورونَ المقابَر فيقولونَ هَذَا قبرُ فُلانٍ وهَذا قبرُ فُلانٍ يفتخرونَ بذلكَ وقيلَ المَعْنى ألهاكُم التكاثُر بالأموالِ وَالأولادِ إلى أَنْ متمْ وقبرتمْ مضيعينَ أعمارَكُم في طلبِ الدُّنيا معرضينَ عَمَّا يهمكُم من السعي لأُخرَاكُم فتكونُ زيارةُ القبورِ عبارةً عنِ الموتِ وقُرِىءَ أألهاكُم عَلى الاستفهامِ التقريريِّ

3

{كَلاَّ} رَدْعٌ وتنبيهٌ عَلَى أنّ العاقلَ ينبغي أنْ لا يكونَ معظمُ هَمِّه مقصُوراً عَلى الدُّنيا فإنَّ عاقبةَ ذلكَ وخَيمةٌ {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} سوءَ مغبةِ مَا أنتُم عليهِ إذَا عاينتُمْ عاقبَتهُ

4

{ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تكريرٌ للتأكيدِ وثمَّ للدَّلالة عَلَى أنَّ الثَّانِي أبلغُ منَ الأولِ أوِ الأولُ عندَ الموتِ أو في القبرِ والثَّانِي عندَ النشورِ

5

{كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين} أَيْ لَوْ تعلمونَ ما بينَ أيديكُم علَم الأمرِ اليقينِ أيْ كعلمكِم ما تستيقنونَهُ لفعلتُم ما لاَ يُوصفُ ولاَ يكتنهُ فحذفَ الجوابَ للتهويلِ وقولُه تعالَى

6

{لترون الجحيم} جواب

} 02 سورة التكاثر آية (7 8) قسمٍ مضمرٍ أُكِّدَ بهِ لَهُ الوعيدُ وشددَ بهِ التهديدُ وأوضحَ بِهِ مَا أُنذروُه بعدَ إبهامِهِ تفخيماً

7

{ثم لترونها} المشاهدةُ والمعاينةُ {عَيْنَ اليقين} أَيِ الرؤيةُ التي هيَ النفس اليقينِ فإنَّ علمَ المشاهدةِ أَقْصى مراتبِ اليقينِ

8

{ثم لتسألن يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم} أيْ عنِ النعيمِ الذي ألهاكُم الالتذاذ عنِ الدينِ وتكاليفِه فإنَّ الخطابَ مخصوصٌ بمنْ عكفَ همتَهُ عَلى استيفاءِ اللذاتِ وَلَمْ يعشْ إلاَّ ليأكلَ الطيبَ ويلبسَ اللينَ ويقطعَ أوقاتَهُ باللهوِ والطَّرَبِ لاَ يعبأُ بالعلمِ وَالعملِ ولا يحملُ نفسَهُ مشاقهما فأمَّا منْ تمتعَ بنعمةِ الله تعالَى وتقوَّى بَها عَلى طاعتِهِ وكانَ ناهضاً بالشكرِ فهُوَ منْ ذلكَ بمعزلٍ بعيدٍ وَقيلَ الآيةُ مخصوصةٌ بالكفار عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ التكاثرِ لَمْ يحاسبْه الله تعالَى بالنعيمِ الذي أنعمَ بهِ عليهِ في دارِ الدُّنيا وأُعطيَ منَ الأجرِ كأنَّما قرأَ ألفَ آية

} 03 سورة العصر مكية وآيها ثلاث بسم الله الرحمن الرحيم

العصر

{والعصر} أقسمَ سبحانَهُ بصلاةِ العصرِ لفضلِها الباهرِ أوْ بالعَشي الذَّيِ هُوَ ما بينَ الزوالِ والغروبِ كما أقسمَ بالضُّحى أو بعصرِ النبوةِ لظهورِ فضلِه عَلى سائرِ الأعصارِ أو بالدهرِ لانطوائِه عَلى تعاجيبِ الأمورِ القارةِ والمارةِ

2

{إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} أيْ خُسرانٌ في متاجرِهم ومساعيهم وصرفِ أعمارِهم في مباغيِهم والتعريفُ للجنسِ والتنكيرُ للتعظيم

3

{إلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فإنهمُ في تجارةٍ لنْ تبورَ حيثُ باعُوا الفانيَ الخسيسَ واشترَوا الباقيَ النفيسَ واستبدلُوا الباقياتِ الصالحات بالغاديات الرائحاتِ فيا لهَا منْ صفقةٍ ما أربَحها وَهَذا بيانٌ لتكميلِهم لأنفسِهم وقولُه تعالَى {وَتَوَاصَوْاْ بالحق} الخ بيانُ لتكميلِهم لغيرِهم أيْ وَصَّى بعضُهم بعضاً بالأمرِ الثَّابتِ الذي لا سبيلَ إلى إنكارِه ولا زوالَ في الدارينِ لمحاسنِ آثارِه وهُو الخيرُ كُلُّه منَ الإيمانِ بالله عزَّ وجَلَّ واتباعِ كتبهِ ورسلِه في كُلِّ عقدٍ وعملٍ {وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} أيْ عنِ المعاصِي التي تشتاقُ إليها النفسُ بحكمِ الجِبلّةِ البشريةِ وعَلى الطاعاتِ التي يشقُّ عليَها أداؤُها أوْ عَلى ما يبلُو الله عزَّ وجلَّ بهِ عبادَهُ وتخصيص هَذا التواصِي بالذِّكرِ مع اندراجِه تحتَ التواصِي بالحقِّ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بهِ أو لأنَّ الأولَ عبارةٌ عن رتبةِ العبادةِ التي هيَ فعلُ ما يرضَى بهِ الله تعالَى والثانِي عن رتبةِ العبوديةِ التي هي الرِّضا بما فعلَ الله تعالَى فإنَّ المرادَ بالصبرِ ليسَ مجردَ حبسِ النفسِ عما تتشوقُ إليهِ من فعلٍ وتركٍ بلْ هُو تلقي ما وردَ منْه تعالَى بالجميلِ والرِّضا بهِ ظاهراً وباطناً عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ العصر غفرَ الله تَعَالَى لَهُ وكانَ ممنْ تواصَى بالحقِّ وتواصى بالصبر

} 04 سورة الهمزة مكية وآيها تسع بسم الله الرحمن الرحيم

الهمزة

{وَيْلٌ} مبتدأٌ خبرُهُ {لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} وساغَ الابتداءُ بِه معَ كونِه نكرةً لأنهُ دعاءٌ عليهم بالهلكةِ أو بشدةِ الشرِّ والهَمْزُ الكسرُ كالهزمِ واللمزِ الطعنُ كاللهزِ شَاعا في الكسرِ مِنْ أعراضِ النَّاسِ والطعن فيهمْ وبناء فُعَلةٍ للدِلالة عَلى أنَّ ذلكَ منْهُ عَادةٌ مُستمرةٌ قَد ضَرَى بَها وكذلكَ اللُّعَنةُ والضُّحَكَةُ وقُرِىءَ لكُلِّ هُمْزةٍ لُمْزةٍ بسكونِ الميمِ وهُوَ المسخرةُ الذي يأتي بالأضاحيكِ فيضحكُ منْهُ ويُستهزأُ بهِ وقيلَ نزلتْ في الأخنسِ بنِ شُرَيقٍ فإنَّهُ كانَ ضارياً بالغِيْبةِ والوقيعةِ وقيلَ في أميةَ بنِ خَلَفٍ وقيلَ في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغضه مِنْ جنابِه الرفيعِ واختصاصُ السببِ لا يستْدِعي خصوصَ الوعيدِ بهمِ بلْ كلُّ منْ اتصفَ بوصفهِم القبيحْ فلَهُ ذنوبٌ منْهُ مثلُ ذنوبِهم

2

{الذى جَمَعَ مَالاً} بدلٌ منْ كُلِّ أوْ منصوبٌ أو مرفوعٌ على الذمِّ وقرىء جمع بالتشديد للتكثير وتنكير ما لا للتفخيمِ والتكثيرِ الموافقُ لقولِه تعالَى {وَعَدَّدَهُ} وقيلَ مَعْنى عَدَّدَهُ جعلَهُ عدةً لنوائبِ الدَّهرِ وَقُرِىءَ وَعَدَدَهُ أيْ جمعَ المالَ وضبطَ عَدَدَهُ أوْ جمعَ مالَهُ وعددَهُ الذينَ ينصرونَهُ منْ قولِك فلانٌ ذُو عُددٍ وَعَددٍ إذَا كانَ لَهُ عددٌ وافرٌ منَ الأنصارِ والأعوانِ وقيلَ هُو فعلٌ ماضٍ بفكِّ الإدغامِ

3

{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} أيْ يعملُ عملَ منْ يظنُّ أنَّ مالَهُ يبقيهِ حياً والإظهارُ في موقعِ الإضمارِ لزيادةِ التقريرِ وقيلَ طَوَّلَ المالُ أَمَلَه وَمَنَّاهُ الأَمَانيِّ البعيدةَ حَتَّى أصبحَ لفرطِ غفلتِه وطولِ أملِه يحسبُ أنَّ المالَ تركَهُ خَالداً في الدُّنيا لا يموتُ وقيلَ هُو تَعريضٌ بالعملِ الصالحِ والزهدِ في الدُّنيا وأنَّه هُوَ الذي أخلدَ صاحبَهُ في الحياةِ الأبديةِ والنعيمِ المقيمِ فأمَّا المال فليس بخالد ولا بمُخَلِّدٍ ورُوِيَ أنَّ الأخنسَ كانَ لهُ أربعةُ آلافِ دينارٍ وقيلَ عشرةُ آلافٍ والجملةُ مستأنفةٌ أو حالٌ منْ فاعلِ جَمَع

4

{كَلاَّ} ردعٌ لهُ عنْ

} 04 سورة الهمزة آية (95) ذلكَ الحْسبانِ الباطلِ وَقولُه تعالَى {لَيُنبَذَنَّ} جوابُ قسمٍ مقدرٍ وَالجملةُ استئنافٌ مبينٌ لعلةِ الردعِ أيْ والله ليطرحنَّ بسببِ تعاطيِه للأفعالِ المذكورةِ {فِى الحطمة} أيْ في النارِ التي شأنُها أنْ تحطمَ وتكسرَ كُلَّ مَا يُلْقَى فيهَا كَما أنَّ شأنَهُ كسرُ أعراضِ النَّاسِ وجمعُ المالِ وَقولُه تعالى

5

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحطمة} لتهويلِ أمرِهَا ببيانِ أنَّها ليستْ منِ الأمورِ التي تنالهَا عقولُ الخلقِ

6

وقولُه تعالَى {نَارُ الله} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ والجملةُ بيانٌ لشأنِ المسؤولِ عَنْها أيْ هيَ نارُ الله {الموقدة} بأمرِ الله عزَّ سلطانُهُ وفي إضافتها إليهِ سُبحانَهُ ووصفُهَا بالإيقادِ منْ تهويلِ أمرِهَا مَا لاَ مزيدَ عليهِ

7

{التى تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة} أيْ تعلُو أوساطَ القلوبِ وتغشاهَا وتخصيصُها بالذكرِ لما أنَّ الفؤادَ ألطفُ ما في الجسدِ وأشدُّة تألماً بأدْنى أَذى يمسُّهُ أوْ لأَنَّه محلُ العقائدِ الزائغةِ والنياتِ الخبيثةِ ومنشأُ الأعمالِ السيئةِ

8

{إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} أي مطبقة من أوصدت الباب وأصدته أي أطبقته

9

{فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} إِمَّا حالٌ منَ الضميرِ المجرورِ في عليهمْ أيْ كائنينَ في عمدٍ ممددةٍ أيْ موثقينَ فيهَا مثلُ المقاطرِ التي تُقطرُ فيهَا اللصوصُ أوْ خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ أيْ هُمْ في عمدٍ أو صفةٌ لمؤصدةٍ قالَه أبُو البقاءِ أيْ كائنةٌ في عمد ممددة بأنْ تؤصدَ عليهمْ الأبوابُ وتمددَ على الأبوابِ العمدُ استيثاقاً في استيثاقٍ اللهمَّ أجرنَا منها يا خيرَ مستجارٍ وَقُرِىءَ عُمُدٌ بضمتينِ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الهمزةِ أعطاهُ الله تعالى عشر حسنات بعدد منِ استهزأَ بمحمدٍ وأصحابِهِ

} 05 سورة الفيل مكية وآيها خمس بسم الله الرحمن الرحيم

الفيل

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأصحاب الفيل} الخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزةُ لتقريرِ رؤيتِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بإنكارِ عَدَمِها وكيفَ معلقةٌ لفعلِ الرؤيةِ منصوبةٌ بما بعدَهَا والرؤيةُ عِلْميةٌ أيْ ألمْ تعلْم علماً رصيناً متاخماً للمشاهدةِ والعَيَانِ باستماعِ الأخبارِ المتواترةِ ومعاينةِ الآثارِ الظَّاهرةِ وَتعليقُ الرؤيةِ بكيفيةِ فعلِه عَزَّ وَجَلَّ لاَ بنفسِه بأَنْ يقالَ ألْم ترَ ما فعلَ ربُّكَ الخ لتهويلِ الحادثةِ والإيذانِ بوقوعِها عَلَى كيفيةٍ هائلةٍ وهيئةٍ عجيبةٍ دالةٍ عَلَى عظمِ قُدرةِ الله تعالَى وكمالِ علمِه وحكمتِه وعزةِ بيتِه وشرفِ رسوله صلى الله عليه وسلم فإنَّ ذلكَ منَ الإرهاصاتِ لما رُوي أنَّ القصةَ وقعتْ في السنةِ التي ولد فيها النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وتفصيلُها أنَّ أبرهةَ بْنَ الصبَّاحِ الأشرمَ ملكَ اليمنِ مِنْ قبلِ أصحمةَ النجاشيِّ بنَى بصنعاءَ كنيسةً وسَمَّاها القُلَّيْسَ وأرادَ أنْ يصرفَ إليها الحاجَّ فخرجَ رجلٌ منْ كِنانةَ فقعدَ فيهَا ليلاً فأغضَبهُ ذلكَ وقيلَ أججتْ رفقةٌ منَ العربِ ناراً فحملتها الريحْ فأحرقتَها فحلف ليهد الكعبةَ فخرجَ معَ جيشِه ومعه فيلٌ له اسُمه محمودٌ وكانَ قوياً عظيماً وإثنا عشرَ فيلاً غيرهُ وقيلَ ثمانيةٌ وقيل ألفٌ وقيلَ كانَ معه وَحْدَهُ فلما بلغَ المُغمَّسَ خرجَ إليه عبدُ المطلبِ وعرضَ عليه ثلثَ أموالِ تهامةَ ليرجعَ فأبىَ وعبَّأَ جيشَهُ وقدَّمَ الفيلُ فكانَ كلمَا وجهوه إلى الحرمِ بركَ ولم يبرحْ وإذا وجهوه إلى اليمنِ أو إلى غيرِه من الجهاتِ هرولَ فأرسلَ الله تعالَى طيراً سُوداً وقيلَ خُضراً وقيل بيضَاً مع كُلِّ طائرٍ حجرٌ في منقارِه وحجرانِ في رجليهِ أكبرُ من العدسةِ وأصغرُ من الحِمُصَةِ فكان الحجر يلقى عَلى رأسِ الرجلِ فيخرجُ من دُبُرهِ وعلى كُلِّ حجرٍ اسمُ منْ يقعُ عليهِ ففروا فهلكُوا في كلِّ طريقٍ ومنهلٍ ورويَ أنَّ أبرهةَ تساقطتْ أناملُه وآرابُه وما ماتَ حتى انصدر صدْرُهُ عن قلبهِ وانفلتَ وزيرُهُ أبو يكسومَ وطائرٌ يُحلِّقُ فوقَهُ حتى بلغَ النجاشيِّ فقصَّ عليهِ القصةَ فلما أتمَّها وقعَ عليهِ الحجرُ فخرَّ ميتاً بينَ يديِه وقيلَ إنَّ أبرهةَ أخذَ لعبدِ المطلبِ مائتي بعيرٍ فخرجَ إليهِ في شأنِها فلما رآه أبرهةُ عظُمَ في عينِه وكانَ رجُلاً وَسيماً جَسيماً وقيلَ هذا سَيِّدُ قُريشٍ وصاحبُ عِيرِ مكةَ الذي يطعمُ الناسَ في السهلِ والوحوشَ في رؤوسِ الجبالِ فنزلَ أبرهةُ عن سريرهِ وجلسَ عَلَى بساطِه وقيل أجلَسه مَعَهُ على سريرِه ثم قالَ لترجمانِه قُلْ لَهُ ما حاجتُكَ فلما ذكرَ حاجتَهُ قالَ سقطتَ مِنْ عَينِي حيثُ جئتُ لأهدمَ البيتَ الذي هُوَ دينُكَ ودينُ

آبائِك وعصمتُكم وشرفُكم في قديمِ الدهرِ لا تكلمِني فيهِ ألهاكَ عنْهُ ذَودٌ أخذتُ لكَ فقالَ عبدُ المطلبِ أنا ربُّ الإبلِ وإن للبيت رباً يحميِه ثم رجعَ وأتىَ بابَ الكعبةِ فأخذَ بحلقتِه ومعهَ نفرٌ من قريشٍ يدعونَ الله عَزَّ وجَلَّ فالتفتَ وهو يدعُو فإذا هو بطيرٍ منْ نحوِ اليمنِ فقالَ والله إنها لطيرٌ غريبةٌ مَا هيَ نجديةٌ ولا تهاميةٌ فأرسلَ حلقةَ البابِ ثمَّ انطلقَ معَ أصحابِه ينتظرونَ ماذَا يفعلُ أبرهةُ فأرسلَ الله تعالَى عليهُم الطيرَ فكانَ ما كانَ وقيلَ كانَ أَبْرهةُ جَدَّ النجاشيِّ الذي كانَ في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعنْ عائشةَ رضيَ الله عَنْهَا قالتْ رأيتُ قائدَ الفيلِ وسائسَه أعميينِ مُقعدينِ يستطعمان وقُرِىءَ أَلم تَرْ بسكونِ الراءِ للجدِّ في إظهارِ أثرِ الجازمِ وقولُه تعالَى

2

{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ} الخ بَيَانٌ إِجْمَاليٌ لمَا فعلَه الله تَعَالى بهمْ وَالهْمزةُ للتقريرِ كَما سبقَ ولذلكَ عطفٌ عَلَى الجملةِ الاستفهاميةِ ما بعدَهَا كأنَّه قيلَ قدْ جعلَ كيدَهُم في تعطيلِ الكعبةِ وتخريبِها في تضييعٍ وإبطالٍ بأنْ دمَّرهُم أشنعَ تدميرٍ

3

{وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} أَيْ طوائفَ وجماعاتٍ جمعُ أبالةٍ وهيَ الحزمةُ الكبيرةُ شُبهتْ بَها الجماعةُ من الطيرِ في تضامِّها وقيلَ أبابيلَ مثلُ عبابيدَ وشماطيطَ لا واحدَ لهَا

4

{ترميهم بحجارة} صفة لطير وقُرِىءَ يَرْميهِمْ بالتذكيرِ لأنَّ الطير اسم جمع تأنيثه باعتبارِ المَعْنَى {مّن سِجّيلٍ} من طينٍ مُتحجرٍ مُعَرَّبُ سَنْك كِلْ وقيلَ كأنهُ عَلمٌ للديوانِ الذي كتبَ فيهِ عذابُ الكفارِ كما أنَّ سجيناً علمٌ للديوانِ الذي يكتبُ فيه أعمالُهم كأنَّه قيلَ بحجارةٍ من جملةِ العذابِ المكتوبِ المدونِ وَاشتقاقُه منَ الإسجالِ وهُوَ الإرسالُ

5

{فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} كورقِ زرع فيهِ الأكالُ وهُوَ أنْ يأكلُه الدودُ أوْ أكلَ حبُّه فبقَي صِفراً منْهُ أوْ كتبنٍ أكلتْهُ الدوابُّ وَرَاثتْهُ أشيرَ إليهِ بأولِّ أحواله عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الفيلِ أعفاهُ الله تعالَى أيامُ حياتِهِ منَ الخسفِ والمسخِ وَالله أعلمُ

} 06 سورة قريش مكية وآيها أربع بسم الله الرحمن الرحيم

قريش

{لإيلاف قُرَيْشٍ} متعلقٌ بقولِه تعالَى فليعبدُوا والفاءُ لما في الكلامِ منْ مَعْنى الشَّرطِ إذِ المعَنْى أنَّ نِعمَ الله تعالَى عليهمْ غيرُ محصورةٍ فإنْ لَمْ يعبدُوه لسائرِ نعمهِ فليعبدُوه لهذِه النعمةِ الجليلةِ وقيلَ بمضمر تقديرُهُ فعلنَا مَا فعلنَا منْ إهلاكِ أصحابِ الفيلِ لإيلافِ الخ وقيلَ تقديرُهُ أعْجَبُوا لإيلافِ الخ وقيلَ بمَا قَبْلَهُ منْ قولِه تعالَى {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} ويؤيدُهُ أنهُمَا في مُصْحفِ أبي سورة واحدة فلا فصلٍ وَالمَعْنى أهلكَ مَنْ قصدَهُم منَ الحبشةِ ليتسامعَ الناس فيتهيبُوا لَهُمْ زيادةَ تهيبٍ ويحترمون فضلَ احترامٍ حَتَّى ينتظَم لهُمْ الأمنُ في رحلتيِهمْ فَلاَ يجترىءُ عليهمْ أحدٌ وكانتْ لقريشٍ رحلتانِ يرحلونَ في الشتاءِ إلى اليمنِ وفي الصيفِ إِلى الشامِ فيتمارون ويتجرونَ وكانُوا في رحلتيِهمْ آمنينَ لأنَّهُم أهلُ حرمِ الله تعالَى وولاةُ بيتِه العزيزِ فَلاَ يُتَعرضُ لهُمْ والنَّاسُ بينَ مُتخطَّفٍ ومنهوبٍ وَالإيلافُ منْ قولِكَ آلفتْ المكانَ إيلافاً إذا أَلفْتَهُ وقُرِىءَ لإلافِ قُريشٍ أيْ لمؤالفتِهمْ وقيلَ يقالُ ألفتُهُ إلفاً وإلافاً وَقُرِىءَ لإلفِ قريشٍ وقريشٌ ولدُ النَّضْرِ بنِ كنَانَةَ سُمُّوا بتصغيرِ القِرشِ وهُوَ دابةٌ عظيمةٌ في البحرِ تعبثُ بالسفنِ وَلاَ تُطَاقُ إِلاَّ بالنارِ والتصغيرُ للتعظيمِ وقيلَ منَ القَرْشِ وهُوَ الكسبُ لأنهمْ كانُوا كسَّابينَ بتجاراتِهمْ وضربِهمْ في البلادِ وقولُه تعالَى

2

{إيلافهم رِحْلَةَ الشتاء والصيف} بدلٌ منَ الأولِ ورحلةَ مفعولٌ لإيلافِهم وإفرادُهَا معَ أنَّ المرادَ رِحْلَتي الشتاءِ والصيفِ لأمنِ الإلباسِ وَفي إطلاقِ الإيلافِ عنِ المفعولِ أولاً وإبدالُ هَذا منْهُ فتخيم لأمرِهِ وتذكيرُ لعظيمِ النعمةِ فيهِ وَقُرِىءَ ليألفَ قريشٌ إلَفهُمْ رحلةَ الشتاءِ والصيفِ وقُرِىءَ رُحلةَ بالضمِّ وهيَ الجهةُ التي يُرحلُ إليَها

3

{فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت} {الذى أَطْعَمَهُم} بسببِ تينكِ الرحلتينِ اللتينِ تمكُنوا فيهَما بواسطةِ كونِهم منْ جيرانِهِ

} 06 سورة قريش آية (4) {مِن جُوعٍ} شديدٍ كانُوا فيهِ قَبْلَهُما وقيلَ أريدَ بهِ القحطُ الذي أكلُوا الجيف والعظام {وآمنهم مِّنْ خَوْفٍ} عظِيمٌ لاَ يُقادرُ قَدرُه وهُوَ خوفُ أصحابِ الفيلِ أوْ خوفُ التخطف في بلدهم ومسايرهم وقيلَ خوفُ الجُذَامِ فلاَ يصيبُهمْ في بلدِهِم عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ قريشٍ أعطاهُ الله تَعالَى عشر حسنات بعدد من طَافَ بالكعبةِ واعتكفَ بَها } 07 سورة الماعون مكية مختلف فيها وآيها سبع بسم الله الرحمن الرحيم

الماعون

{أرأيت الذى يُكَذّبُ بالدين} استفهامٌ أريدَ بهِ تشويقُ السامعِ إلى معرفةِ مَنْ سيقَ لَهُ الكلاَمُ والتعجيبُ منْهُ والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيلَ لكُلِّ عاقلٍ والرؤيةُ بمَعْنى المَعْرفةِ وقُرِىءَ أرأيتَكَ بزيادةِ حَرْفِ الخطابِ والفاءُ في قولِه تعالَى

2

{فَذَلِكَ الذى يَدُعُّ اليتيم} جوابُ شرطٍ محذوفٍ على أن ذلك مبتدأو الموصول خبرُهُ والمَعْنى هَلْ عرفتَ الذي يكذبُ بالجزاءِ أو بالإسلامِ إنْ لَمْ تعرفْهُ أو إنْ أردتَ أنْ تعرفَهُ فهُوَ الذي يدفعُ اليتيمَ دفعاً عنيفاً ويزجرُهُ زَجْراً قَبيحاً ووضعُ اسمِ الإشارةِ المتعرِّضِ لوصفِ المشارِ إليهِ موضعَ الضميرِ للإشعارِ بعلةِ الحُكم والتنبيهِ بمَا فيه من معنى البعد على بُعدِ منزلتِه في الشرِّ والفسادِ قيلَ هُوَ أبُو جهلٍ كانَ وصياً ليتيمٍ فأتاهُ عُرياناً يسألُهُ من مالِ نفسِه فدفعَهُ دفعاً شنيعاً وقيلَ أبُو سفيانَ نحرَ جزوراً فسألَهُ يتيمٌ لحماً فقرعَهُ بعصاهُ وقيلَ هُوَ الوليدُ بنُ المُغِيرَةِ وقيلَ هُوَ العَاصُ بنُ وائلٍ السَّهْمِيُّ وقيلَ هُوَ رجُلٌ بخيلٌ مِنَ المنافقينَ وقيلَ الموصولُ على عمومِهِ وقُرِىءَ يَدَعُ اليتيمَ أيْ يتركُه ويجفُوهُ

3

{وَلاَ يَحُضُّ} أيْ أهلَهُ وغيرَهُم مِنَ الموسرينَ {على طَعَامِ المسكين} وإذَا كانَ حالُ من تركَ حَثَّ غيرَه على ما ذُكرَ فمَا ظنُّك بحالِ مَن ترك معَ القُدرةِ عليهِ والفاءُ في قولِه تعالَى

4

{فَوَيْلٌ} الخ إما لربطِ مَا بعدَهَا بشرطٍ محذوفٍ كأنَّه قيلَ إذَا كانَ ما ذُكر من

} 07 سورة الماعون آية (5 7) عدم المبالاة باليتيم والمسكين مِنْ دَلاَئلِ التكذيبِ بالدِّينِ وموجباتِ الذمِّ والتوبيخِ فويلٌ {لّلْمُصَلّينَ}

5

{الذين هُمْ عَن صلاتهم سَاهُونَ} غافلونَ غيرُ مبالينَ بها

6

{الذين هم يراؤون} أيْ يرونَ النَّاسَ أعمالَهُم ليروهُمْ الثناءَ عَلَيهَا

7

{وَيَمْنَعُونَ الماعون} أي الزكاةَ مَا يُتعَاورُ عادةً فإنَّ عدم المبالاة باليتيم والمسكين حيثُ كانَ كمَا ذُكِرَ فعدمُ المبالاةِ بالصلاةِ التي هي عمادُ الدينِ والرياءُ الذي هُوَ شعبةٌ منَ الكفرِ ومنعُ الزكاةِ التي هيَ قنطرةُ الإسلامِ وسوءُ المعاملةِ مَعَ الخلقِ أحقُّ بذلكَ وإمَّا لترتيبِ الدعاءِ عليهم بالويلِ على ما ذكرَ من قبائحِهم ووضعُ المصلينَ موضعَ ضميرِهم ليتوسلَ بذلكَ إلى بيانِ أنَّ لهُم قبائحَ أُخَرَ غيرَ ما ذكرَ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الدينِ غُفرَ لَهُ إنْ كان للزكاة مؤديا

} 08 سورة الكوثر مكية وآيها ثلاث بسم الله الرحمن الرحيم

الكوثر

{إِنَّا أعطيناك} وقُرِىءَ أَنْطَينَاكَ {الكوثر} أيِ الخيرُ المفرطُ الكثيرُ من شرفِ النبوةِ الجامعةِ لخيريِّ الدارينِ والرياسةِ العامةِ المستتبعةِ لسعادةِ الدُّنيا والدين فوعلٌ منَ الكثرةِ وقيلَ هُوَ نهرٌ في الجَّنةِ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه قرأهَا فقالَ أتدرونَ ما الكوثَرُ إنَّه نهرٌ في الجنةِ وَعَدنيهِ ربِّي فيهِ خيرٌ كثيرٌ ورُويَ في صفتِهِ أنَّه أَحْلَى من العسلِ وأشدُّ بياضاً من اللبنِ وأبردُ من الثلجِ وألينُ من الزبدِ حافتاهُ الزبرجدُ وأوانيهِ من فضةٍ عددَ نجومِ السماءِ ورُوي لا يظمأُ من شربَ منْهُ أبداً أولُ وارديهِ فقراءُ المهاجرينَ الدَّنِسُو الثيابِ الشُّعْثُ الرؤوسِ الذينَ لا يزوجونَ المنعمّاتِ ولا تفتحُ لهم أبوابُ السُّدَدِ يموتُ أحدُهم وحاجتُهُ تتلجلجُ في صدرِه لو أقسمَ على الله لأبرَّهُ وعنِ ابن عباس رضي الله عنهُما أنه فسرَ الكوثرَ بالخيرِ الكثيرِ فقالَ لَه سعيدُ بنُ جُبيرٍ فإنَّ ناساً يقولونَ هُوَ نهرٌ في الجنةِ فقالَ هُو منَ الخيرِ الكثيرِ وقيلَ هو حوضٌ فيهَا وقيلَ هو وأولاده وأتباعُه أو علماءُ أمتِه أو القرآنُ الحاوِي لخيرِ الدُّنيا والدينِ

2

والفاء في قوله تعالى {فَصَلّ لِرَبّكَ} لترتيبِ ما بعدها على ما قبلها فإنَّ إعطاءَهُ تعالَى إيَّاهُ عليهِ السلامُ ما ذكرَ من العطيةِ التي لم يُعطِهَا ولنْ يعطيهَا أحداً منَ العالمينَ مستوجبٌ للمأمورِ بهِ أيَّ استيجابٍ أي فدُمْ على الصلاةِ لربكَ الذي أفاضَ عليكَ هذه النعمةِ الجليلةِ التي لاَ يضاهيها نعمة خالصا لوجهِه خلافَ الساهينَ عنهَا المرائينَ فيهَا أداءً لحقوقِ شكرِهَا فإنَّ الصلاةَ جامعةٌ لجميعِ أقسامِ الشكرِ {وانحر} البدنَ التي هيَ خيارُ أموالِ العربِ باسمِه تعالَى وتصدقْ على المحاويجِ خلافاً لمن يدعهُمْ ويمنعُ عنهُم الماعونَ وعن عطيةَ هيَ صلاةُ الفجرِ بجمعٍ والنحُرُ بمنًى وقيلَ صلاةُ العيدِ والتضحيةُ وقيلَ هيَ جنسُ الصلاةِ والنحرُ وضعُ اليمينِ على الشمالِ وقيلَ هُوَ أنْ يرفعَ يديهِ في التكبيرِ إلى نحرِه هُوَ المروي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهمَا استقبلِ القبلةَ بنحركَ وهُو قولُ الفَرَّاءِ والكَلْبي وأبي الأَحْوَص

3

{إِنَّ شَانِئَكَ} أيْ مبغضكَ كائناً منْ كانَ {هُوَ الأبتر} الذي لاَ عقِبَ له

} 08 سورة الكوثر آية (3) حيثُ لا يبقَى منهُ نسلٌ ولا حُسنُ ذكرٍ وأمَّا أنتَ فتبقَى ذريتُكَ وحسنُ صيتكَ وآثارُ فضلكَ إلى يوم القيامة لك في الآخرةِ ما لا يندرجُ تحتَ البيانِ وقيلَ نزلتْ في العاصِ بنِ وائلٍ وأياً ما كانَ فلا ريب وفي عمومِ الحكمِ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ الكوثرِ سقاهُ الله تُعالى مِنْ كلِّ نهرٍ في الجنةِ ويكتبُ لهُ عشرَ حسناتٍ بعددِ كلِّ قُربانٍ قربَهُ العبادُ في يومِ النحرِ } 09 سورة الكافرون مكية وآيها ست بسم الله الرحمن الرحيم

الكافرون

{قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون} هم كفرةٌ مخصوصونَ قدْ علَم الله تعالَى أنَّه لا يتأتَّى منهمْ الإيمانُ أبداً رُوِيَ أنَّ رهصا مِنْ عُتاةِ قريشٍ قالُوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هلمَّ فاتبعْ دينَنَا ونتبعُ دينك تعبد آلهتنا ونعبدُ إلهك سنةً فقالَ معاذَ الله أنْ أشركَ بالله غيرَهُ فقالُوا فاستلمْ بعضَ آلهتِنَا نصدقكَ ونعبدَ إلهك فنزلتْ فغدَا إلى المسجدِ الحرامِ وفيهِ الملأُ من قريشٍ فقامَ على رؤوسِهم فقرأَهَا عليهم فأيِسوا

2

{لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أيْ فيمَا يُستقبلُ لأَنَّ لاَ لاَ تدخلُ غالباً إلا على مضارع في الاستقبالِ كما أنَّ مَا لاَ تدخلُ إلاَّ على مضارعٍ في مَعْنى الحالِ والمَعْنى لا أفعلُ في المستقبلِ ما تطلبونَهُ مِنِّي من عبادةِ آلهتكم

3

{وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} أيْ ولا أنتُم فاعلونَ فيهِ ما أطلبُ منكُم من عبادةِ إلهي

4

{وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أيْ وما كنتُ قطُّ عابداً فيمَا سلفَ ما عبدتُم فيه أيْ لم يُعْهدْ مِنِّي عبادةُ صنمٍ في الجاهليةِ فكيفَ تُرْجَى مِنِّي في الإسلامِ

5

{وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} أيْ وما عبدتُم في وقتٍ من الأوقاتِ مَا أنا على عبادتِهِ وقيلَ هاتانِ الجملتانِ لنفي العبادةِ حالاً كما أنَّ الأولين لنفيها استقبالاً وإنَّما لم يقُلْ ما عبدتُ

} 09 سورة الكافرون آية (5) ليوافق ما عبدتمم لأنَّهم كانُوا موسومينَ قبلَ البعثةِ بعبادةِ الأصنامِ وهُوَ عليهِ السلامُ لم يكُنْ حينئذٍ موسوماً بعبادةِ الله تعَالَى وإيثارُ مَا في أعبدُ على مَنْ لأنَّ المرادَ هُوَ الوصفُ كأنَّه قيلَ مَا أعبدُ مِنَ المعبودِ العظيمِ الشأنِ الذي لا يُقادَرُ قدرُ عظمتِهِ وقيلَ إنَّ مَا مصدريةٌ أي لا أعبد عبادتَكُم ولا تعبدونَ عبادَتِي وقيلَ الأوليانِ بمَعْنى الذي والأخريانِ مصدريتانِ وقيلَ قولُه تعالَى {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} تأكيدٌ لقولِه تعَالَى {لاَ أَعْبُدُ مَا تعبدون} وقوله تعالى {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} ثانياً تأكيدٌ لمثلِه المذكورِ أولاً وقولُه تعالَى

6

{لَكُمْ دِينَكُمْ} تقريرٌ لقولِه تعَالَى لاَ أَعْبُدُ مَا تعبدون وقوله تعالى ولا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ كما أن قوله تعالى {وَلِىَ دِينِ} تقريرٌ لقولِه تعالَى {وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} والمَعْنى أنَّ دينَكُم الذي هُوَ الإشراكُ مقصورٌ على الحصولِ لكُم لا يتجاوزه إلى الحصول لِي أيضاً كما تطمعونَ فيهِ فلاَ تعلقُوا بهِ أمانيَّكُم الفارغةَ فإنَّ ذلكَ المُحالاتِ وأنَّ دينيَ الذي هُوَ التوحيدُ مقصورٌ على الحصولِ لي لا يتجاوزُه إلى الحصولِ لكُم أيضاً لأنَّكم علقتمُوه بالمحالِ الذي هُوَ عبادتِي لآلهتِكم أو استلامِي إيَّاها ولأنَّ ما وعدتمُوه عينُ الإشراكِ وحيثُ كانَ مَبْنى قولِهم تعبدُ آلهتَنَا سنةً ونعبدُ إلهك سنةً على شركةِ الفريقينِ في كلتا العبادتينِ كان القصرُ المستفادُ من تقديمِ المسندِ قصرُ إفرادٍ حتماً ويجوز أن يكون هذا تقريراً لقولِه تعالَى {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أيْ ولِي دِيني لا دينُكم كمَا هُوَ في قولِه تعَالَى {وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُم} وقيلَ المَعْنى إنِّي نبيٌّ مبعوثٌ إليكُم لأدعوَكُم إلى الحقِّ والنجاةِ فإذَا لم تقبلُوا مِنِّي ولَمْ تتبعونِي فدعونِي كَفافاً ولا تدعونِي إلى الشركِ فتأملْ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ من سورةَ الكافرونَ فكأنَّما قرأَ ربعَ القرآنِ وتباعدتْ عنْهُ مَرَدةُ الشَّياطينِ وبرىءَ مِنَ الشركِ وتعافَى مِنَ الفزعِ الأكبر

} 07 سورة النصر مدنية وآيها ثلاث بسم الله الرحمن الرحيم

النصر

{إِذَا جَاء نَصْرُ الله} أيْ إعانتُهُ تعالَى وإظهارُهُ إياكَ على عدوكَ {والفتح} أيْ فتحُ مكةَ وقيلَ جنسُ نصرِ الله تعالَى ومطلقُ الفتحِ فإنَّ فتحَ مكةَ لمَّا كانَ مِفْتاحَ الفتوحِ ومناطَهَا كمَا أنَّ نفسَها أمُّ القُرَى وإمامُها جُعلَ مجيئُهُ بمنزلةِ مجيءِ سائرِ الفتوحِ وعلقَ بهِ أمرَهُ عليهِ السلامُ بالتسبيحِ والحمدِ والتعبيرُ عنْ حصولِ النصرِ والفتحِ بالمجيءِ للإيذانِ بأنهُمَا متوجهانِ نحوَهُ عليهِ السلامُ وأنهُمَا على جناحِ الوصولِ إليهِ عليهِ السلامُ عن قريبٍ رُوي أنها نزلتْ قبلَ الفتحِ وعليهِ الأكثرُ وقيلَ في أيامِ التشريقِ بمِنًى في حجةِ الوداع فلكمة إذَا حينئذٍ باعتبارِ أنَّ بعضَ مَا في حيزِهَا أَعْنِي رؤيةَ دخولِ الناسِ الخ غيرُ منقضٍ بعدُ وكانَ فتحُ مكةَ لعشرٍ مضينَ من شهرِ رمضانَ سنةَ ثمانٍ ومعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عشرةُ آلافٍ منَ المهاجرينَ والأنصارِ وطوائفِ العربِ وأقامَ بهَا خمس عشرَةَ ليلةً وحينَ دخلَها وقفَ على بابِ الكعبةِ ثمَّ قالَ لا إلهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شريكَ لَهُ صدقَ وعدَهُ ونصرَ عبدَهُ وهزمَ الأحزابَ وحدَهُ ثمَّ قالَ يا أهلَ مكةَ ما ترونَ أني فاعلٌ بكُم قالُوا خيراً أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ قالَ اذهبُوا فأنتُمْ الطلقاءُ فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدْ كانَ الله تعالَى أمكنَهُ من رقابِهم عنوةً وكانُوا له فياءً ولذلكَ سميَ أهلُ مكةَ الطلقاءَ ثمَّ بايعُوه على الإسلام ثمَّ خرجَ إلى هوازنَ

2

{وَرَأَيْتَ الناس} أيْ أبصرتهُمْ أو علمتهُمْ {يَدْخُلُونَ فِى دِينِ الله} أيْ ملةَ الإسلامِ التي لا دينَ يضافُ إليهِ تعالَى غيرُهَا والجملةُ على الأولِ حالٌ من الناسِ وعلى الثاني مفعولٌ ثانٍ لرأيتَ وقولُه تعالَى {أَفْوَاجاً} حالٌ من فاعلِ يدخلونَ أيْ يدخلونَ فيهِ جماعاتٍ كثيفةً كأهلِ مكةَ والطائفِ واليمنِ وهوازنَ وسائرِ قبائلِ العربِ وكانُوا قبلَ ذلكَ يدخلونَ فيهِ واحِداً واحِداً واثنينِ اثنينِ روي أنه عليه السلام لما فتحَ مكةَ أقبلتِ العربُ بعضُها على بعضٍ فقالوا إذَا ظفِرَ بأهلِ الحرمِ فلنْ يقاومَهُ أحدٌ وقدْ كانَ الله تعالَى أجارَهُم من أصحابِ الفيلِ ومن كُلِّ من أرادهُم فكانُوا يدخلونَ في دينِ الإسلامِ أفواجاً من غيرِ قتالٍ وقرىءَ فتحُ الله والنصر

} 07 سورة النصر آية (3) وقرىء يدخلون على لبناء للمفعول الآية 3

3

{فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} فقُلْ سبحانَ الله حامداً لهُ أو فتعجبَ لتيسيرِ الله تعالَى ما لَمْ يخطُرْ ببالِ أحدٍ من أنْ يغلبَ أحدٌ على أهْلِ حرمِهِ المحترمِ واحمدْهُ على جميلِ صُنعِه هذا على الروايةِ الأُولى ظاهرٌ وأمَّا على الثانيةِ فلعلَّهُ عليهِ السلامُ أُمر بأنْ يداومَ على ذلكَ استعظاماً لنعمِه لاِ بإحداثِ التعجبِ لما ذُكرَ فإنَّهُ إنما يناسبُ حالةَ الفتحِ أو فاذكُرْهُ مسبحاً حامداً زيادةً في عبادتِهِ والثناءِ عليهِ لزيادةِ إنعامِه عليكَ أو فصلِّ لهُ حامداً على نعمِه رُويَ أنَّه لما فتحَ بابَ الكعبةِ صلَّى صلاة الضحى ثمانِ ركعاتٍ أو فنزههُ عما يقولُه الظلمةُ حامداً لهُ على أنْ صدقَ وعدَهُ أو فاثنِ على الله تعالَى بصفاتِ الجلالِ حَامِداً له على صفاتِ الإكرامِ {واستغفره} هَضْماً لنفسكَ واستقصاراً لعملكَ واستعظاماً لحقوقِ الله تعالَى واستدراكاً لما فرَطَ منكَ من تركِ الأولَى عن عائشةَ رضيَ الله عنهَا أنه كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يكثرُ قبلَ موتِه أنْ يقولَ سُبْحانكَ اللهمَّ وبحمدكَ استغفركَ وأتوبُ إليكَ وعنهُ عليهِ السلامُ إنِّي لأستغفرُ في اليومِ والليلةِ مائةَ مرةٍ ورُويَ أنَّه لمَّا قرأها النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم على أصحابِه استبشرُوا وبكَى العباسُ فقالَ عليهِ السلامُ ما يبكيكَ يا عمُّ فقالَ نعيتْ إليكَ نفسُكَ قالَ عليهِ السلامُ إنَّها لكمَا تقولُ فلَمْ يُرَ عليهِ السلامُ بعدَ ذلكَ ضاحكاً مستبشراً وقيلَ إنَّ ابنَ عباسٍ هُو الذي قالَ ذلكَ فقالَ عليهِ السَّلامُ لقدْ أُوتي هذا الغلام علما كثيرا ولعل ذلكَ للدلالةِ على تمامِ أمرِ الدعوةِ وتكاملِ أمرِ الدينِ كقولِه تعالَى {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ورُوي أنَّها لمَّا نزلتْ خطبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ إنَّ عبداً خيرهُ الله تعالَى بينَ الدُّنيا وبينَ لقائِه فاختارَ لقاءَ الله تعَالَى فعلَم أبُو بكرٍ رضيَ الله عنه فقالَ فديناكَ بأنفسِنا وآبائِنا وأولادِنا وعنْهُ عليهِ السلامُ أنهُ دعَا فاطمةَ رضيَ الله عنْهَا فقالَ يا بنتاهُ إنَّه نعيتْ إليَّ نفسِي فبكتْ فقالَ لا تبكِي فإنكِ أولُ أَهْلي لحوقاً بِي وعنِ ابنِ مسعود رضي الله عنه أنَّ هذه السورةَ تُسمَّى سورةَ التوديعِ وقيلَ هو أمرٌ بالاستغفارِ لأمتِه {إِنَّهُ كان توابا} منذُ خلقَ المكلفينَ أيْ مبالغاً في قَبول توبتِهم فليكُنْ كُلُّ تائبٍ مستغفرٍ متوقعاً للقبولِ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ النصرِ أعطي من الأجر كمن شهدَ معَ محمدٍ يومَ فتح مكة

} 11 سورة المسد مكية وآيها خمس بسم الله الرحمن الرحيم

المسد

{تُبْتُ} أيْ هلكَتْ {يَدَا أَبِى لَهَبٍ} هُو عبدُ العُزَّى بنُ عبدِ المطلبِ وإيثارُ التبابِ على الهلاكِ وإسنادُه إلى يديهِ لما روى لما نزلَ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقربين رَقَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصَّفَا وجمعَ أقاربَهُ فأنذرهُم فقالَ أبُو لهبٍ تباً لكَ ألِهذَا دعوتَنَا وأخذَ حجراً ليرميهِ عليهِ السلامُ بهِ {وَتَبَّ} أيْ وهلكَ كُلُّه وقيلَ المرادُ بالأولِ هلاكُ جملتِه كقولِه تعالَى {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} ومَعْنى وتَبَّ وكانَ ذلكَ وحصلَ كقولِ من قالَ جَزَانِي جَزَاهُ الله شَرَّ جزائِه جزاءَ الكلابِ العاوياتِ وَقَدْ فَعَلْ ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ وقَدْ تَبَّ وقيلَ الأولُ إخبارٌ عن هلاكِ عملِه لأنَّ الأعمالَ تزاولُ غالباً بالأيدِي والثاني إخبار عن هلاك نفسه وقيل كلاهما دعاء عليه بالهلاك وقيل الأول دعاء والثاني إخبار وذِكرُ كنيتِه للتعريضِ بكونِه جُهنمياً ولاشتهارِه بهَا ولكراهةِ ذكرِ اسمِه القبيحِ وقُرِىءَ أَبُو لهبٍ كما قيلَ عليُّ بنُ أبُو طالبٍ وقرىءَ أبي لَهْبٍ بسكون الهاء

2

{مَا أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} أيْ لَمْ يُغنِ عنْهُ حينَ حَلَّ بهِ التبابُ على أنَّ ما نافيةٌ أو أيَّ شيءٍ أغنَى عنْهُ على أنَّها استفهاميةٌ في مَعْنى الإنكارِ منصوبةٌ بمَا بعدَها أصلُ مالِه وما كسبَهُ مِنَ الأرباحِ والنتائجِ والمنافعِ والوجاهةِ والأتباعِ أو مالُه الموروثُ من أبيهِ والذي كسبَهُ بنفسِه أو عملُه الخبيثُ الذي هُو كيدُه في عداوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أو عملُه الذي ظَنَّ أنَّه منْهُ على شيءٍ كقولِه تعَالَى {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} وعَنِ ابن عباس رضي الله عنهُمَا ما كسبَ ولدُهُ ورُويَ أنه كانَ يقولُ إنْ كانَ ما يقولُ ابنُ أخِي حقاً فأنَا أفتدِي منْهُ نفسِي بمالِي وولدِي فأستخلصُ منهُ وقد خابَ مرجاهُ وما حصلَ ما تمناهُ فافترسَ ولدَهُ عتبةَ أسدٌ في طريقِ الشامِ بينَ العيرِ المكتنفةِ بهِ وقدْ كانَ عليهِ السلامُ دعَا عليهِ وقالَ اللهمَّ سلِّطْ عليهِ كلباً من كلابكَ وهلك نفسه بالعدسةِ بعدَ وقعةِ بدرٍ لسبعِ ليالٍ فاجتنبَهُ أهلُهُ مخافةَ العدوَى وكانتْ قريشٌ تتقيهَا كالطاعونِ فبقَي ثلاثاً حتى أنتنَ ثم استأجرُوا بعضَ السودانِ فاحتملُوه ودفنُوه فكان

} 11 سورة المد آية (3 5) الأمرُ كما أخبرَ بهِ القرآن الآيات 3 5

3

{سيصلى} بفتحِ الياءِ وقُرِىءَ بضمِّها وفتحِ اللامِ بالتخفيفِ والتشديدِ والسينُ لتأكيدِ الوعيدِ وتشديدِه أيْ سيدخلُ لا محالةَ بعدَ هذا العذابِ العاجلِ في الآخرةِ {نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} أيْ ناراً عظيمةً ذاتَ اشتعالٍ وتوقدٍ وهيَ نارُ جهنمَ وليسَ هذا نصاً في أنَّه لا يؤمنُ أبداً حَتَّى يلزم من تكليفه الإيمان بالقرآن أن يكون مكلفاً بأنُ يؤمنَ بأنَّهُ لاَ يؤمنُ أبداً فيكونَ مأموراً بالجمعِ بينَ النقيضينِ كما هُوَ المشهورُ فإنَّ صِلي النارِ غيرُ مختصَ بالكفارِ فيجوزُ أنْ يفهمَ أبْو لهبٍ من هذا أنَّ دخولَهُ النارَ لفسقِه ومعاصيهِ لا لكفرِهِ فلا اضطرارَ إلى الجوابِ المشهورِ من أنَّ ما كلفَهُ هُوَ الإيمانُ بجميعِ ما جاء به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم إجمالاً لا الإيمانَ بتفاصيلِ ما نطقَ بهِ القرآنُ حتَّى يلزمَ أنْ يكلفَ الإيمانَ بعدمِ إيمانِه المستمرِ

4

{وامرأته} عطفٌ على المستكنِّ في سيصلَى لمكانِ الفصلِ بالمفعولِ وهيَ أمُّ جميلٍ بنت حرب أخب أبي سفيانَ وكانتْ تحملُ حزمةً من الشوكِ والحَسَكِ والسعدانِ فتنثرَها بالليلِ في طريق النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يطؤُه كمَا يطأُ الحريرَ وقيلَ كانتْ تمشِي بالنميمةِ ويقالُ لمنْ يمشِي بالنمائمِ ويفسدُ بينَ الناسِ يحملُ الحطبَ بينهُمْ أيْ يوقدُ بينهُم النارَ {حَمَّالَةَ الحطب} بالنصبِ على الشتمِ والذمِّ وقيلَ على الحاليةِ بناءً على أنَّ الإضافةَ غيرُ حقيقيةٍ إذِ المرادُ أنَّها تحملُ يومَ القيامةِ حزمةً من حطبِ جهنمَ كالزقومِ والضريعِ وعن قتادةَ أنَّها معَ كثرةِ مالِها كانتْ تحملُ الحطبَ على ظهرِهَا لشدةِ بُخْلها فعيرتْ بالبخلِ فالنصبُ حينئذٍ على الشتمِ حتما وقرئ بالرفع على أنه خبرُ وأمرأته مبتدأ وقرئ حمالةٌ للحطبِ بالتنوينِ نصباً ورفعا وقرئ مُريَّتُهُ بالتصغيرِ للتحقيرِ

5

{فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مَّسَدٍ} جملةٌ من خبرٍ مقدمٍ ومبتدأ مؤخرٍ والجملةُ حاليةٌ وقيلَ الظرفُ خبرٌ لامرأتِه وحبلٌ مرتفعٌ بهِ على الفاعليةِ وقيلَ هُو حالٌ من امرأتِه على تقديرِ عطفِها على ضميرِ سيصلَى وحبلٌ فاعلٌ كما ذُكرَ والمسدُ ما يُفتلُ من الحبالِ فتلاً شديداً من ليفِ المقلِ وقيلَ من أيِّ ليفٍ كانَ وقيلَ من لُحاءِ شجرٍ باليمنِ وقَدْ يكونُ من جلودِ الإبلِ وأوبارِها والمَعْنى في عنقِها حبلٌ ممَّا مسد من الحبل وأنها تحملُ تلكَ الحزمةَ من الشوكِ وتربطُها في جيدِها كما يفعلُ الحطابونَ تخسيساً بحالِها وتصويراً لهَا بصورةِ بعضِ الحطاباتِ من المواهنِ لتمتعضَ من ذلكَ ويتمعضَ بعلُها وهُما في بيتِ العزِّ والشرفِ قالَ مُرةُ الهَمْدانيُّ كانتْ أمُّ جميلٍ تأتِي كُلَّ يومٍ بإبالةٍ من حَسَكٍ فتطرحُها على طريقِ المسلمينَ فبينَا هي ذاتَ ليلةٍ حاملةٌ حزمةً أعيتْ فقعدتْ على حجرٍ لتستريحَ فجذبَها الملكُ من خلفِها فاختنقتْ بحبلِها عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورة المسد ثبت رجوتُ أنْ لا يجمعَ الله بينَهُ وبينَ أبي لهبٍ في دارٍ واحدةٍ

} 12 سورة الإخلاص مكية مختلف فيها وآيها أربع بسم الله الرحمن الرحيم

الإخلاص

{قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} الضميرُ للشأنِ ومدارُ وضعِهِ موضعه معَ عدمِ سبْق ذكرِه الإيذانُ بأنَّه منَ الشهرةِ والنباهةِ بحيثُ يستحضرُهُ كلُّ أحدٍ وإليهِ يشيرُ كُلُّ مشيرٍ وإليهِ يعودُ كلُّ ضميرٍ كما ينبىءُ عَنْهُ اسمُهُ الذي أصلُهُ القصدُ أطلق على المفعول مبالغة ومحله الرفع على الابتداء خبرُهُ الجملةُ بعدَهُ ولا حاجةَ إلى الربطِ لأَنَّها عينُ الشأنِ الذي عبرَ عَنْهُ بالضميرِ والسرُّ في تصديرِ الجملةِ بهِ التنبيهُ منْ أولِ الأمرِ عَلى فخامةِ مضمونِهَا وجلالةِ حيزِهَا مع ما فيه من زيادةِ تحقيقٍ وتقريرٍ فإنَّ الضميرَ لا يفهم منه من أولِ الأمرِ إلا شأنٌ مبهمٌ لهُ خطرٌ جليلٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما أمامَهُ مما يفسرُهُ ويزيلُ إبهامَهُ فيتمكنُ عندَ ورودِه لَهُ فضلُ تمكنٍ وهمزةُ أحدٍ مُبدلةٌ منْ الواوِ وأصلُهُ وَحَدٌ لاَ كهمزةِ ما يلازمُ النفيَ ويرادُ بهِ العمومَ كمَا في قوله تعالى {فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين} ومَا في قولِهِ عليهِ السلامُ ما أُحِلَّتِ الغنائمُ لأحدٍ سودِ الرؤوسِ غيركم فإن أصليةٌ وقالَ مكيٌّ أصلُ أحدٍ واحدٌ فأبدلتْ الواوُ همزةً فاجتمعَ ألفانِ لأنَّ الهمزةَ تشبهُ الألفَ فحذفتْ إحداهُمَا تخفيفاً وقالَ ثعلبٌ إن أحد إلا يُبنى عليهِ العددُ ابتداءً فلا يقالُ أحدٌ واثنانِ كَما يقالُ واحدٌ واثنانِ ولا يقالُ رجلٌ أحدٌ كما يقالُ رجلٌ واحدٌ ولذلكَ اختصَّ بهِ تعالَى أو هو كما سئِلَ عَنْهُ أيِ الذي سألتُم عنْهُ هُو الله إذ رُوِيَ أنَّ قريشاً قالُوا صِفْ لَنَا ربكَ الذي تدعونَا إليهِ وانسُبْهُ فنزلتْ فالضميرُ مبتدأٌ والله خبرُهُ وأحدٌ بدلٌ منْهُ أو خبرٌ ثانٍ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وقُرِىءَ هُوَ الله أحدٌ بغيرِ قُلْ وقرئ الله أحدٌ بغيرِ قُلْ هو وقرئ قُلْ هُوَ الواحدُ وقولُهُ تعالَى

2

{الله الصمد} مبتدأٌ وخبر والصمدُ فَعَلٌ بمَعْنَى مفعولٍ من صمد إليهِ إذَا قَصَدَهُ أيْ هُوَ السيدُ المصمودُ إليهِ في الحوائجِ المُسْتغنى بذاتِهِ وَكُلَّ ما عداهُ محتاجٌ إليهِ في جميعِ جهاتِهِ وقيلَ الصمدُ الدائمُ الباقِي الذي لَمْ يزلْ وَلاَ يزالُ وقيلَ الذي يفعلُ ما يشاء ويحكُم ما يريدُ وتعريفُهُ لعلمِهِم بصمديتِهِ بخلافِ أحديَتِهِ وتكريرُ الإسمِ الجليلِ للإشعارِ بأنَّ منْ لم يتصفْ بذلكَ فهوَ بمعزلٍ منَ استحقاقِ الألوهيةِ وتعريةُ الجملةِ عنِ العاطفِ لأنَّها كالنتيجةِ للأولى بيَّنَ أولا ألوهيته عن

} 12 سورة الإخلاص آية (3 4) وجلَّ المستتبعةَ لكافةِ نعوتِ الكمالِ ثمَّ أحديتَهُ الموجبةَ تنزهَّهُ عنْ شائبةِ التعددِ والتركيبِ بوجهٍ منَ الوجوهِ وتوهمِ المشاركةِ في الحقيقةِ وخواصِّهَا ثُمَّ صمديتَهُ المقتضيةَ لاستغنائِهِ الذاتِيِّ عَمَّا سواهُ وافتقارِ جميعِ المخلوقاتِ إليهِ في وجودِهَا وبقائِهَا وسائرِ أحوالِهَا تحقيقاً للحقِّ وإرشاداً لهم إلى سننه الواضحِ ثُمَّ صرحَ ببعضِ أحكامٍ جزئيةٍ مندرجةٍ تحتَ الأحكامِ السابقةِ فقيلَ

3

{لَمْ يَلِدْ} تنصيصاً على إبطالِ زعمِ المفترينَ في حقِّ الملائكةِ والمسيحِ ولذلكَ وردَ النفيُ على صيغةِ الماضِي أيْ لَمْ يصدُرْ عنْهُ ولدٌ لأنَّهُ لا يجانسُهُ شيءٌ ليمكنَ أنْ يكونَ لهُ من جنسِهِ صاحبة فيتوالدا كما نطق به قوله تعالى {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة} ولا يفتقرُ إلى ما يعينُهُ أو يخلفُهُ لاستحالةِ الحاجةِ والفناءِ عليهِ سبحانَهُ {وَلَمْ يُولَدْ} أيْ لمْ يصدر عن شيءٌ لاستحالةِ نسبةِ العدمِ إليه سابقاً ولاحقاً والتصريحُ بهِ مع كونهم معترفين بمضمونِهِ لتقريرِ ما قبلَهُ وتحقيقه بالإشارةِ إلى أنَّهما متلازمانِ إذِ المعهودُ أنَّ ما يلد يولد ومالا فَلاَ ومنْ قضيةِ الاعترافِ بأنه لم يولد الاعترافِ بأنَّهُ لا يلدُ فهو قريبٌ منْ عطفِ لا يستقدمون على ما يستأخرونَ كمَا مرَّ تحقيقُهُ

4

{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} أيْ لم يكافئهُ أحدٌ ولَمْ يماثلهُ ولَمْ يشاكلهُ من صاحبةٍ وَغيرِهَا وله صلة لكفؤا قدمتْ عليهِ معَ أنَّ حَقَّهَا التأخرُ عَنْهُ للاهتمامِ بِهَا لأنَّ المقصودَ نفيُ المكافأةِ عنْ ذاتِهِ تعالَى وقد جُوِّزَ أنْ يكون خبراً لا صلةَ ويكونَ كُفؤاً حالاً من أحدٍ وليسَ بذاكَ وأما تأخيرُ اسمِ كانَ فلمراعاةِ الفواصلِ ووجهُ الوصلِ بينَ هذهِ الجملِ غنيٌّ عن البيانِ وقرئ بضمِّ الكافِ والفاءِ معَ تسهيلِ الهمزةِ وبضمِّ الكافِ وَكسرِهَا معَ سُكُونِ الفاءِ هَذا ولانطواءِ السورةِ الكريمةِ معَ تقاربِ قُطْريها عَلى أشتاتِ المعارفِ الإلهيةِ والردِّ عَلى منْ ألحَدَ فيهَا وردَ في الحديثِ النبويِّ أنها تدل ثلثَ القرآنِ فإنَّ مقاصدَهُ منحصرةٌ في بيانِ العقائدِ والأحكامِ والقصصِ ومَنْ عَدَلَها بكله اعتبرَ المقصودَ بالذاتِ منْهُ روى عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال أسست السمزات السبعُ والأرضونَ السبعُ عَلى قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ أي ما خالقت إلا لتكونَ دلائلَ عَلَى توحيدِ الله تعالَى ومعرفةِ صفاتِهِ التي نطقتْ بها هذِه السورةُ وعنهُ عليهِ السَّلامُ أنه سمعَ رجلاً يقرأُ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ فقالَ وجبتْ فقيلَ وما وجبتْ يا رسولَ الله قالَ وجبتْ لَهُ الجنةُ

} 13 سورة الفلق مكية مختلف فيها وآيها خمس بسم الله الرحمن الرحيم

الفلق

{قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الفلق} الفَلَقُ الصُّبْحُ كالفرقِ لأنَّه يفلق عنه الليل ويفرق فَعَلٌ بمعنى مفعولٍ فإنَّ كلَّ واحدٍ منَ المفلوقِ والمفلوقِ عنْهُ مفعولٌ وقيلَ هُوَ ما انفلقَ منْ عمودِهِ وقيلَ هُو كُلَّ ما يفلُقُهُ الله تعالَى كالأض عنِ النباتِ والجبالِ عنِ العيونِ والسحابِ عنِ الأمطارِ والحبِّ والنَّوى عما يخرجُ منهُمَا وغيرُ ذلكَ وفِي تعليقِ العياذِ باسمِ الرَّبِّ المضافِ إلى الفلقِ المنبىءِ عنِ النورِ عَقيبَ الظلمةِ والسَّعةِ بعدَ الضيقِ والفتقِ بعدَ الرتقِ عدةٌ كريمةٌ بإعادة العائذِ مِمَّا يعوذُ منْهُ وإنجائِهِ منْهُ وتقويةٌ لرجائِهِ بتذكيرِ بعضِ نظائِرِهِ ومزيدُ ترغيبٍ لَهُ في الجدِّ والاعتناءِ بقرعِ بابِ الالتجاءِ إليهِ تعالَى وأمَّا الإشعارُ بأنَّ منْ قدرَ أنْ يزيلَ ظلمةَ الليلِ منْ هذَا العالمِ قدرَ أنْ يزيلَ عنِ العائذِ ما يخافُهُ كما قيلَ فَلاَ إذ لا ريب العائذ في قدرتِهِ تَعَالَى عَلى ذلكَ حتى يحتاجَ إلى التنبيهِ عليهَا

2

{مِن شَرّ مَا خَلَقَ} أَيْ مِنْ شَرِّ ما خلقه من الثقلين وغيرِهم كائناً ما كانَ منْ ذواتِ الطبائعِ والاختيارِ وهَذَا كَمَا تَرَى شَاملٌ لجميعِ الشرورِ فمَنْ توهَم أنَّ الاستعاذة هاهنا من المضارِّ البدنيةِ وأنَّها تعم الإنسان وغيره بما بصددِ الاستعاذةِ ثُمَّ جعلَ عُمومَهَا مَداراً لإضافةِ الربِّ إلى الفلقِ فقدْ نَأَى عنِ الحَقِّ بمراحلَ وإضافةُ الشرِّ إليهِ لاختصاصِهِ بعالمِ الخلقِ المؤسسِ على امتزاجِ الموادِّ المتباينةِ وتفاعلِ كيفياتِهَا المتضادةِ المستتبعةِ للكونِ والفسادِ وأما عالمُ الأمرِ فهُوَ خيرٌ محضٌ منزهٌ عنْ شوائبِ الشرِّ بالمرةِ

3

وقولُهُ تعالَى {وَمِن شَرّ غَاسِقٍ} تخصيصٌ لبعضِ الشرورِ بالذكرِ معَ اندراجِهِ فيما قبلَهُ لزيادةِ مساسِ الحاجةِ إلى الاستعاذةِ منْهُ لكثرةِ وقوعِهِ ولأنَّ تعيينَ المستعاذِ منْهُ أدلّ على الاعتناءِ بالاستعاذةِ وأدعَى إلى الإعاذةِ أيْ وَمِنْ شرِّ ليلٍ مُعتكرٍ ظَلامُهُ مِنْ قوله تعالى {إلى غسق الليل} وأصل الغسق سيلانُ دمعِهَا وإضافةُ الشرِّ إلى اللليل لملابستِهِ لَهُ بحدوثِهِ فيهِ وتفكيره لعدمِ شمولِ الشرِّ لجميعِ أفرادِهِ ولا لكُلِّ أجزائِهِ وتقييدُهُ بقولِهِ تعالَى {إِذَا وقب}

} 13 سورة الفلق آية (4 5) أيْ دخلَ ظلامُهُ في كُلِّ شيءٍ لأَنَّ حدوثَهُ فيهِ أكثرُ والتحرزَ منْهُ أصعبُ وأعسرُ ولذلكَ قيلَ الليلُ أَخْفَى للويلِ وقيلَ الغاسقُ هُوَ القمرُ إذَا امتلأَ ووقوبُهُ دخولُهُ في الخسوفِ واسودادُهُ لمَا رُوِيَ عن عائشةَ رضيَ الله عنْهَا أنَّها قالتْ أخذَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأشارَ إلى القمرِ فقالَ تعوذِي بالله تَعَالَى من شر هذا الغاسقُ إذَا وقبَ وقيلَ التعبيرُ عنِ القمرِ بالغاسقِ لأنَّ جُرْمَهُ مظلمٌ وإنما يستنيرُ بضوءِ الشمسِ ووقوبُهُ المحاقُ في آخرِ الشهرِ والمنجمونَ يعدونَهُ نحساً ولذلكَ لا يشتغلُ السحرةُ بالسحرِ المورث للتمريضِ إلاَّ في ذلكَ الوقتِ قيلَ وهُو المناسبُ لسببِ النزولِ وقيلَ الغاسقُ الثُّريا ووقوبُهَا سقوطُها لأنَّها إذَا سقطتْ كثرتِ الأمراضُ والطواعينُ وقيلَ هُو كلُّ شرَ يعترِي الإنسانَ ووقوبُهُ هجومُهُ

4

{وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد} أيْ وَمِنْ شَرِّ النفوسِ أو النساءِ السواحرِ اللاتي يعقد عُقَداً في خيوطٍ ويَنْفُثنَ عليهَا والنفثُ النفخُ معَ ريقٍ وقيلَ بدونِ ريقٍ وقُرِىءَ النافثاتُ كما قُرِىءَ النفثاتُ بغيرِ ألفٍ وتعريفُهَا إمَّا للعهدِ أوْ للإيذانِ بشمولِ الشرِّ لجميعِ أفرادِهِنَّ وتمحضهنَّ فيهِ وتخصيصُهُ بالذكرِ لما رَوَى ابْنُ عبَّاسٍ وعائشةُ رَضِيَ الله عنهُم أنَّهُ كانَ غلامٌ من اليهود يخدم النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وكانَ عندَهُ أسنانٌ منْ مشطه صلى الله عليه وسلم فأعطاها لليهود فسحرُوهُ عليهِ السلامُ فيهَا وتولاَّهُ لبَيْدُ بنُ الأَعصمِ اليهوديُّ وبناتُهُ وهُنَّ النافثاتُ في العقدِ فدفَنَها في بئرِ أريسٍ فمرضَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ بالمعوذتينِ وأخبرَهُ بموضعِ السحرِ وبمَنْ سحرَهُ وبمَ سحرَهُ فأرسل صلى الله عليه وسلم علياً كرمَ الله وجْهَهُ والزبيرَ وعمَّاراً رضيَ الله عنْهُما فنزحُوا ماءَ البئرِ فكأنَّهُ نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ ثمَّ رفعوا راعوثة البئرِ وهيَ الصخرةُ التي توضعُ في أسفلِ البئرِ فأخرجُوا منْ تحتِهَا الأسنانَ ومعَها وترٌ قدْ عُقِدَ فيهِ إحدَى عشرةَ عقدةً مغرزة بالإبرة فجاؤوا بها إلى النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فجعلَ يقرأُ المعوذتينِ عليهَا فكانَ كلَّما قرأَ آيةً انحلت عقدة ووجد صلى الله عليه وسلم خفةً حتَّى انحلتْ العقدةُ الأخيرة عنه تمام السورتين فقام صلى الله عليه وسلم كأنَّما أُنْشِط مِنْ عِقال فقالُوا يا رسولَ الله أفلا نقتلُ الخبيثَ فقالَ صلى الله عليه وسلم أمَّا أنَا فقَد عافانِي الله عزَّ وجلَّ وأكرَهُ أنْ أثيرَ عَلى الناسِ شَراً قالتْ عائشةَ رضيَ الله عنهَا ما غضبَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم غضباً ينتقمُ لنفسِهِ قطُّ إلاَّ أنْ يكونَ شيئاً هُو لله تَعَالَى فيغضبُ لله وينتقمُ وقيلَ المرادُ بالنفثِ في العُقَدِ إبطالُ عزائم الرجال بالحيل ومستعار مِنْ تليينِ العقدةِ بنفثِ الريق ليسهلَ حلُّها

5

{وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} أيْ إذَا أظهَرَ ما في نفسِه من الحسدِ وعملَ بمقتضاهُ بترتيبِ مقدماتِ الشرِّ ومبادىءِ الأضرارِ بالمحسودِ قولاً أو فعلاً والتقييدُ بذلكَ لما أنَّ ضررَ الحسدِ قبلَهُ إنما يحيق بالحسد لا غيره عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ المعوذتينِ فكأنَّما قرأَ الكتبَ التي أنزلَهَا الله تعالَى

} 14 سورة الناس مكية مختلف فيها وآياتها ست بسم الله الرحمن الرحيم

الناس

{قل أعوذ} وقرىء فى السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتها إِلى اللام {برب الناس} أَى مالك أُمورهم ومربيهم بإِفاضة ما يصلحهم ودفع ما يضرهم وقوله تعالى

2

{ملك الناس} عطف بيان جىء به لبيان أَن تربيته تعالى إِياهم ليست بطريق تربية سائرا لملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والتصرف الكلى والسلطان القاهر

3

وكذا قوله تعالى {إله الناس} فإِنه لبيان أن ملكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم والقيام بتدبير أمورهم وسياستهم والتولى لترتيب مبادىء حفظهم وحمايتهم كما هو قصارى أمر الملوك بل هو بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلى فيهم إحياء وإماتة وإيجاداً وإعداماً وتخصيص الإِضافة بالناس مع انتظام جميع العالمين فى سلك ربوبيته تعالى وملكوتيته وألوهيته للإرشاد إلى منهج الاستعاذة المرضية عنده تعالى الحقيقة بالإِعاذة فإِن توسل العائذ بربه وانتسابه إليه تعالى بالمربوبية والمملوكية والعبودية فى ضمن جنس هو فرد من أفراده من دواعى مزيد الرحمة والرأفة وأمره تعالى بذلك من دلائل الوعد الكريم بالإعاذة لا محالة ولأن المستعاذ منه شر الشيطان المعروف بعداوتهم ففى التنصيص على انتظامهم فى سلك عبوديته تعالى وملكوته رمز إلى إنجائهم من ملكة الشيطان وتسلطه عليهم حسبما ينطِق به قوله تعالى {إِن عبادى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} فمن جعل مدار تخصيص الإضافة مجرد كون الاستعاذة من المضار المختصة بالنفوس البشرية فقد قصر فى توفية المقام حقه وأما جعل المستعاذ منه فيما سبق المضار البدنية فقد عرفت حاله وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة

4

{من شر الوسواس} هو اسم بمعنى الوسوسة وهى الصوت الخفى كالزلزال بمعنى

} 14 سورة الناس آية (5 6) الزلزلة وأما المصدر فبالكسر والمراد به الشيطان سمى بفعله مبالغة كأنه نفس الوسوسة {الخناس} الذى عادته أن يخنس أى يتأخر إذا ذكر الإنسان ربه

5

{الذى يوسوس فى صدور الناس} إذا غفلوا عن ذكره تعالى ومحلُّ الموصولِ إما الجرُّ على الوصف وإما الرفع أو النصبُ على الذم

6

{من الجنة والناس} بيان للذى يوسوس على أنه ضربان جنى وإنسى كما قال عز وجل شياطين الإنس والجن أو متعلق بيوسوس أي يوسوس في صدرهم من جهة الجن ومن جهة الإنس وقد جوز أن يكون بياناً للناس على أنه يطلق على الجن أيضاً حسب إطلاق النفر والرجال عليهم ولا تعويل عليه وأقرب منه أن يراد بالناس الناسى ويجعل سقوط الياء كسقوطها في قوله تعالى {يَوْمَ يدع الداع} ثم يبين بالجنة والناس فإن كلَّ فردٍ من أفراد الفريقين مبتلى بنسيان حق الله تعالى إلا من تداركه شوافع عصمته وتناوله واسع رحمته عصمنا الله تعالى من الغفلة عن ذكره ووفقنا لأداء حقوق شكره تم بحمد الله وعونه هذا التفسير الجليل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

خاتمة المؤلف قال العبد الذليل متضرعا إلى ربه الجليل اللهم يا ولي العصمة والإرشاد وهادي الغواة إلى سنن الرشاد بارىء البرية مالك الرقاب عليك توكلي وإليك متاب أنت المغيث لكل حائر ملهوف والمجير من كل هائل مخوف ألوذ بحرمك المأمون من غوائل ريب المنون وألتجئ إلى حرزك الحريز وآوى إلى ركنك العزيز وأسألك من خزائن برك المخزون في مكامن سر المكنون خير ما جرى به قلم التكوين من أمور الدنيا والدين وأعوذ بك من فنون الفتن والشرور لا سيما الاطمئنان بدار الغرور والاغترار بنعيمها وزهرتها والافتتان بزخارفها وزينتها فأعذني بحمايتك وأعني بعنايتك وأفض على من شوارق الأنوار الربانية وبوارق الآثار السبحانية ما يخلصني من العوائق الظلمانية ويجردني من العلائق الجسمانية وهذب نفسي الأبية من دنس الطبائع والأخلاق ونور قلبي القاسي بلوامع الإشراق ليستعد للعبور على سرائر الأنس ويتهيأ للحضور في حظائر القدس وثبتني على مناهج الحق والهدى وأرشدني إلى مسالك البر والتقى واجعل أعز مرامي ابتغاء رضاك وأشرف أيامي يوم لقاك يوم يقوم الناس لرب العالمين فريقا فريقا واحشرني مع الذين أنعمت عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا

§1/1