تفسير آيات الأحكام للسايس

محمد علي السايس

تفسير آيات الأحكام

[المقدمة] بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي أظهر شعائر الشرع وأحكامه، فتناولت جوانب الحياة كافة، فجاءت مفصّلة لكلّ شيء وتبيانا، فأرسل رسلا وأنبياء مبيّنين وكاشفين للشريعة الربانية، فصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأخلفهم بعلماء في النهج متبعين، يسلكون فيما لم يؤثر عنهم مسلك الاجتهاد، فخصّ أولئك المستنبطين بالتوفيق، فكانت الحوادث والنوازل معهم موضع البحث والتدقيق فأصبحت متشعبة. أمّا بعد : فإنّ علم التفسير هو الكنز الدفين، وملجأ لكل طالب معرفة في تبيان أحكام الشريعة، وقول فصل في المتنازع فيه، وكاشف حق، ومبيّن حكم، ومظهر للّفظ رونقه وللحكم معناه. وإنّ فن التفسير هو محض توفيق، وصاحبه ذو ذوق رفيع، إذ أنّه كلما خاض فيه ازداد معرفة وإحاطة به، وأخرج منه لطائفه، فلا يمكن لأحد أن يتناول جوانبه كافة. ولذا فإنّ المتتبع لفن التفسير يجد بعدا في منهجية المفسرين أو طابعا مختلفا ما بين الواحد والآخر. ثم إنّ كتب التفسير تبلورت تحت عناوين صنّفت في مناهج عدّة: منها ما هو متصف بالمأثور، ومنه باللغة وآخر بالأحكام، وآخر بالبلاغة وآخر بالتنزيل ... أي أنّه لم يحو مفسّر فنون التفسير جملة، فاتّصف المفسّر بهذا المنهج الذي سلكه أو بالمحتوى الذي ارتسم عنده، ولذلك نجد علم التفسير أنواع: أولا: التفسير بالمأثور فهو مما لا دخل للاستنباط العقلي فيه أو الاجتهاد، ولا يمكن اعتبار التفسير بالمأثور إلا إذا استند على مصادر هي: تفسير القرآن بالقرآن، القرآن بالسنة، القرآن بمأثور الصحابي، أو التابعي، ومن أشهر المفسرين في هذا النهج: ابن جرير الطبري، وأبو الليث السمرقندي، والثعلبي، والنيسابوري، والبغوي، وابن كثير، والسيوطي. ثانيا: التفسير بالرأي، فهو الذي يبنى على أسس النظر والاستدلال العقلي والاستنباط ومن أشهر هؤلاء في هذا النهج: الفخر الرازي، والبيضاوي، والنسفي، والخازن، والجلالان وأبو السعود والألوسي.

ثالثا: التفسير الصوفي فهو الذي ينسب لأرباب الكشف والحقيقة والمشاهدة، ومن أشهر هؤلاء في هذا النهج: التستري صاحب كتاب تفسير القرآن العظيم، والسلمي صاحب كتاب حقائق التفسير، والشيرازي صاحب كتاب عرائس البيان في حقائق القرآن، وابن عربي. رابعا: التفسير الكلامي فهو الذي يتناول موضوعات علم الكلام في الإلهيات والنبوات ومن أشهر هؤلاء في هذا النهج: القاضي عبد الجبار صاحب كتاب تنزيه القرآن عن المطاعن، والشريف المرتضى صاحب كتاب أمالي الشريف المرتضى، والزمخشري صاحب الكشاف. خامسا: التفسير الفقهي وهو تفسير شبه متأخر لأنّه يحمل وجهة نظر المذاهب فعلى سبيل المثال: من الحنفية: ألف أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص كتابه أحكام القرآن. ومن الشافعية: ما جمعه عن الإمام الشافعي أبو بكر البيهقي وأبو الحسن الطبري المعروف بالكياالهراس (504 هـ) وكتابه أحكام القرآن. ومن المالكية: ألف أبو بكر بن العربي كتابه أحكام القرآن وكذلك الإمام القرطبي صاحب كتاب الجامع لأحكام القرآن. والكتاب الذي بين أيدينا «كتاب آيات الأحكام للسايس» يعتبر من المراجع المهمة في كتب الأحكام إذ حوى جلّ آيات الأحكام فتناول المؤلف من خلال الآية استعراض الأحكام فيها- هذا باختصار-. وأمّا بالتفصيل لقد اعتمد منهجية التفسير كافة، فنجده: - أولا: يسلك المعنى بالمأثور ويعتمد بالدرجة الأولى- وحيد عصره- ابن جرير الطبري صاحب كتاب (جامع البيان في تفسير القرآن) والذي يعتبر من أقوم التفاسير وأشهرها، وكذلك يعتمد على تفسير الإمام السيوطي صاحب كتاب الدر المنثور في التفسير بالمأثور. - ثانيا: يسلك المعنى بالرأي ويعتمد في ذلك على الفخر الرازي صاحب كتاب مفاتيح الغيب، وكذلك على الزمخشري، والذي يغلب عند الأخير المنحى اللغوي والعقدي، وأيضا الإمام أبو السعود صاحب كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، إضافة إلى الألوسي صاحب كتاب روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. - ثالثا: من ناحية الأحكام فنجده يعتمد على كتاب الإمام القرطبي وعلى الإمام الجصاص إضافة إلى ابن العربي.

وعملنا في الكتاب

- رابعا: من الناحية الفقهية المذهبية فإنه يسرد آراء المذاهب ويصرح في كثير من الأحيان بالمراجع التي اعتمدها. - خامسا: من الناحية العقدية فقد يتطرق للأمر إن وجد حاجة تترتب على هذا الخلاف. وأخيرا من الناحية اللغوية فكثيرا ما يعنى بهذا الأمر ويستشهد لما يقوله من كلام العرب. وإضافة إلى أوجه القراءة. فكان كتابا شافيا في حكمه، وعونا لأهل العلم بتنوع الآراء مع الاستدلال، يرجع إليه في موضع الحاجة. وعملنا في الكتاب لقد حوى الكتاب كثيرا من الآيات والأحاديث والأقوال من آراء المفسرين والفقهاء واللغويين وأوجه القراءة وسرد الحوادث وذكر الأعلام. فتناولت فيه تخريج الآيات والأحاديث بالتفصيل، ثمّ تناولت تخريج جلّ الأقوال من المفسّرين والفقهاء وخاصة مذهب الحنفية. ثم تناولت الحوادث بإثبات المراجع لها. وكذلك قمت بتراجم الأعلام من فقهاء ومؤلفين وشعراء وأدباء. ثم إني أرجو الله أن أكون موفقا بعملي هذا، كما أتوجه بالشكر الجزيل إلى كل من قدّم لي عونا في هذا العمل المتواضع، كما أتوجه بالشكر إلى دار النشر على هذا العمل البناء في خدمة الشريعة في نشر العلم وتقديم العون لطلبة العلم في مواصلة المسير في ركاب المعرفة والثقافة. والحمد لله في الأول والآخر فإنّه خير مسؤول ومأمول. وكتبه ناجي سويدان

معنى الاستعاذة أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم أعوذ: أستجير. الشيطان: المتمرّد من الإنس والجنّ والدواب، بدليل قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ... [الأنعام: 112] وقول «1» عمر رضي الله عنه وقد ركب برذونا «2» فتبختر به: «لقد حملتموني على شيطان، والله لقد أنكرت نفسي» . وإنما أطلق الشيطان على المتمرّد لأنه مأخوذ من شطن، وهي بمعنى بعد، يقال: شطنت داري عن دارك أي بعدت، قال الشاعر «3» : نأت بسعاد عنك نوى شطون ... فبانت والفؤاد بها رهين أي وجهة بعيدة. والمتمرّد قد بعدت أخلاقه عن الخير، ونأى عن جنسه فناسب إطلاق الشيطان عليه. الرجيم: فعيل بمعنى مرجوم. ككحيل بمعنى مكحول، ورهين بمعنى مرهون، وهو من الرجم بمعنى الرمي، سواء أكان بقول أم حصى، والشيطان مرجوم إذ هو مرمي باللعن والسب. المعنى: أستجير بالله من الشيطان الملعون المذموم أن يغويني ويضلّني.

_ (1) انظر تاريخ الإسلام للذهبي بيروت، دار الكتاب العربي، 1987 (2/ 269) (عهد الخلفاء الراشدين) بلفظ: «ما كنت أظن الناس يركبون الشيطان، هاتوا جملي» . (2) البرذون: دابة خاصة من الخيل، الغليظ الأعضاء الجافي الخلقة وهو من الخيل غير العربية انظر تاج العروس للزبيدي (18/ 54) . (3) الأعشى انظر المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي (1/ 59) .

معنى الاستعاذة

سوره الفاتحة بسم الله الرّحمن الرّحيم القول في البسملة أجمع العلماء على أن البسملة بعض آية [30] من سورة النمل، ثم اختلف القراء والعلماء فيها أهي آية من أول الفاتحة ومن أول كل سورة. أم لا؟ وسنذكر أقوال المختلفين، ومأخذ كل فريق. كتب المصحف الإمام، وكتبت فيه البسملة في أول الفاتحة، وفي أول كل سورة عدا سورة براءة، وكتبت كذلك في مصاحف الأمصار المنقولة عنه، وتواتر كتبها في أوائل السور، مع العلم بأنهم كانوا لا يكتبون في المصحف ما ليس من القرآن، وكانوا يتشددون في ذلك، حتى إنهم منعوا من كتابة التعشير ومن أسماء السور ومن الإعجام، وما وجد من ذلك أخيرا فقد كتب بغير خط المصحف وبمداد غير المداد، حفظا للقرآن أن يتسرّب إليه ما ليس منه. روى عبد الحميد بن جعفر، عن نوح بن أبي بلال، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يقول: «الحمد لله رب العالمين سبع آيات إحداهن بسم الله الرحمن الرحيم» وحديث أبي هريرة روي مرفوعا وموقوفا، وفيه اضطراب في السند، وفي رفعه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» . وأخرج ابن خزيمة في «صحيحه» عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وغيرها آية . وفي إسناده عمر بن هارون البلخي، وفيه ضعف «2» . روى الترمذي وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يفتتح الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم . قال الترمذي: وليس إسناده بذلك «3» . وأخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه أنه سئل عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:

_ (1) رواه البيهقي في السنن الكبرى، بيروت دار الكتب العلمية 1994 (2/ 67) . (2) انظر نصب الراية تخريج أحاديث الهداية للزيلعي، ط 1، بيروت، دار الكتب العلمية 1996. كتاب الصلاة باب المواقيت (1/ 427) تخريجا مفصلا للحديث. (3) رواه أبو داود في السنن (1/ 297) ، كتاب الصلاة، 25- باب من لم ير الجهر حديث رقم (783) ، والترمذي في الجامع الصحيح (2/ 14) حديث رقم (245) .

«كانت قراءته مدا، ثم قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) يمدّ بسم الله، ويمدّ الرحمن، ويمدّ الرحيم» «1» . وكان ذلك يوجب أن يقول الأئمة الآخرون بمثل ما قال الشافعي، لأن ذلك هو الطريق الذي علمت به قرآنية ما بين دفتي المصحف، وأن هذه الآية من هذه السورة، وتلك من تلك. ولكن عرض لمالك رحمه الله رأي: أن أهل المدينة لا يقرؤون البسملة في صلاتهم في مسجد المدينة، وجرى العمل على ذلك في الصلاة من أيامه صلّى الله عليه وسلّم إلى أيام الإمام مالك رضي الله عنه، مع قيام الدليل عنده على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، فلو كانت آية من الفاتحة لوجبت قراءتها معها في الصلاة. وقوّى ذلك عنده عدة أحاديث يفهم منها أنها ليست آية من الفاتحة ولا من أوائل السور، وإليك بعض هذه الأحاديث: جاء في «صحيح مسلم» عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين «2» . وفي «الصحيحين» عن أنس قال: صليت خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين. ورواه مسلم بلفظ: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها «3» . ومن الدليل على أنها ليست آية من الفاتحة حديث سفيان بن عيينة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوّض إليّ عبدي فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 136) ، 66- كتاب فضائل القرآن، 29- باب مد القراءة حديث رقم (5046) . (2) رواه مسلم في الصحيح (1/ 357) ، 4- كتاب الصلاة، 46- باب ما يجمع صفة الصلاة حديث رقم (240/ 498) . (3) رواه البخاري في الصحيح (1/ 203) ، 10- كتاب الأذان، 89- باب ما يقول بعد التكبير حديث رقم (743) ، ومسلم في الصحيح (1/ 299) ، 4- كتاب الصلاة، 13- باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة حديث رقم (52/ 000) .

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) . قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» «1» . هكذا فهم مالك رضي الله عنه من هذه الأحاديث أنّ البسملة ليست آية من الفاتحة، واحتمل عنده أن يكون كتبها في أوائل السور امتثالا للأمر بطلبها والبدء بها في أوائل الأمور، وهي وإن تواتر كتبها في أوائل السور فلم يتواتر كونها قرآنا فيها. وأما الحنفية: فقد رأوا أن كتبها في المصحف يدل على أنها قرآن، ولكن لا يدل على أنها بعض السورة، والأحاديث التي تدل على عدم قراءتها جهرا في الصلاة مع الفاتحة تدل على أنها ليست منها، فحكموا بأنها آية من القرآن تامة في غير سورة النمل [30] أنزلت للفصل بين السور، وإلى هذا يشير الحديث الذي أخرجه أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لا يعرف فصل السورة حتى أنزل عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) وأخرجه الحاكم في «المستدرك» «2» . وهذا المذهب قريب، لأن كتبها في المصحف، وتواتر ذلك دون نكير من أحد مع العلم بأنهم كان يجرّدون المصحف من كل ما ليس قرآنا، يدل على أنها قرآن. والأحاديث التي تبيّن أنها ما كانت تقرأ مع الفاتحة في الصلاة جهرا تدل على أنها ليست من الفاتحة، وكذلك ما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من قوله: «سورة من القرآن، هي ثلاثون آية شفعت لقارئها وهي: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» «3» ، وقد أجمع القرّاء والعدّادون على أنها ثلاثون آية عدا البسملة، وكذلك سورة الكوثر اتفقوا على أنها ثلاث آيات ليست البسملة منها «4» . وذلك يدل على أن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) ليست إحدى آيات هاتين السورتين، ولا فارق بين سورة وأخرى، فلا تكون آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور. ويؤكد أنها ليست من أوائل السور أن القرآن نزل على مناهج العرب في الكلام، والعرب كانت ترى التفنن في البلاغة، لا سيما في افتتاحاتها، فلا يظن بالقرآن أن يأتي بآية بعينها، ويجعلها أوّل كل سورة. وقول المالكية: لم يتواتر كونها قرآنا، فليست بقرآن، غير ظاهر، لأنه ليس

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 296) ، 4- كتاب الصلاة، 11- باب وجوب قراءة الفاتحة حديث رقم (38/ 395) . (2) انظر كتاب المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري في كتاب الصلاة، باب من جهر بها حديث رقم (788) . (3) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 151) ، كتاب الفضائل، باب ما جاء في فضل سورة تبارك حديث رقم (2891) . (4) لكن هذا خلاف ما رواه مسلم في الصحيح (1/ 300) ، 4- كتاب الصلاة، 14- باب حجة من قال البسملة آية من أول كل سورة حديث رقم (53/ 400) .

بلازم أن يقال في كل آية هي قرآن ويتواتر ذلك، بل قرائن الأحوال تكفي في مثل ذلك، فإذا استدعى النبي صلّى الله عليه وسلّم كاتب الوحي، وطلب منه أن يكتب في المصحف كذا، وأن يضع كذا في موضع كذا، كان ذلك دليلا على أن ما أمر بكتبه قرآن، وإن لم يصرح بأنه من القرآن، وهل البسملة إلّا كذلك «اجعلوها في أول كل سورة» . واختلفوا في حكم قراءة البسملة في الصلاة، فذهب مالك رحمه الله إلى منع قراءتها في الصلاة المكتوبة، جهرا كانت أو سرّا، لا في استفتاح أم القرآن، ولا في غيرها من السور. وأجاز قراءتها في النافلة وقال أبو حنيفة «1» رضي الله عنه: يقرؤها سرّا مع أم القرآن في كل ركعة، وروي عنه أنه يقرؤها في الأولى فقط وقال الشافعي وأحمد: يقرؤها وجوبا، في الجهر جهرا، وفي السر سرّا. وسبب الخلاف ما قدمناه في بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) أهي آية من أول الفاتحة ومن أول كل سورة أم لا؟ وشيء آخر وهو اختلاف الآثار في هذا الباب، فمن ذهب إلى أنها آية من الفاتحة، ومن كل سورة كالشافعي أوجب قراءتها مع الفاتحة، ومن ذهب إلى أنها ليست آية من الفاتحة، واعتمد الأحاديث الدالّة على عدم قراءتها في الصلاة منع من قراءتها كالإمام مالك. ومن رأى أنها ليست من فاتحة الكتاب، ولكنه صحت عنده الأحاديث التي تدل على قراءتها سرّا طلب قراءتها سرّا كأبي حنيفة رحمه الله. فأما الآثار التي تدل على إسقاط البسملة: فمنها حديث ابن مغفل قال: سمعني أبي وأنا أقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) فقال: يا بني! إياك والحدث، فإني صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر، فلم أسمع رجلا منهم يقرؤها . قال أبو عمر ابن عبد البرّ: ابن مغفل هذا رجل مجهول «2» . ومنها ما رواه مالك من حديث أنس أنه قال: قمت وراء أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكلهم كان لا يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) إذا افتتح الصلاة «3» . وفي بعض الروايات: أنه قام خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان لا يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) . قال أبو عمر: إن أهل الحديث قالوا في حديث أنس هذا: إن النقل فيه مضطرب اضطرابا لا تقوم به حجة، وذلك أنه مرّة روي عنه مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومرّة لم يرفع. ومرّة ذكر عثمان ومرة لم يذكر، ومنهم من يقول: فكانوا يقرؤون بِسْمِ اللَّهِ ... ومنهم من يقول فكانوا لا يقرؤون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) ، ومنهم من يرويه بلفظ: فكانوا لا يجهرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) .

_ (1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني، ط 1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1990 (1- 2/ 52) . [.....] (2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (2/ 12) ، من باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم حديث رقم (244) . (3) رواه الإمام مالك في الموطأ صفحة (45) ، باب العمل في القراءة حديث رقم (175) .

شرح المفردات

وأما الأحاديث المعارضة لهذا منها: حديث نعيم بن عبد الله المجمر قال: صليت خلف أبي هريرة فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) قبل أم القرآن، وقبل السورة، وكبّر في الخفض، والرفع. وقال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» . ومنها حديث ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم «2» . ومنها حديث أم سلمة أنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) «3» . شرح المفردات الاسم: هو اللفظ الموضوع على الجوهر والعرض، وهو مشتق من السمو، وهو الرفعة، لأن التسمية تنويه بالمسمّى، فهو محذوف اللام: ك: (يد، ودم) وأصله (سمو) بدليل تصغيره على (سميّ) وجمعه على (أسماء) ومجيء فعله (سميت) . الله: علم على واجب الوجود، وأصله الإله، حذفت الهمزة، وأدغم أحد المثلين في الآخر كقول القائل: وترمينني بالطرف أي أنت مذنب ... وتقلينني لكنّ إيّاك لا أقلي الأصل (لكن أنا) حذفت الهمزة، وأدغم أحد المثلين في الآخر، وهو مأخوذ من أله يأله إلهة أي عبد. وقال الخليل «4» : إنه اسم جامد لا اشتقاق له، وقال بعضهم: إنه معرّب عن السريانية أصله فيها (إلاها) بالألف، عرّب بحذف الألف، وتعويض اللام. الرحمن: فعلان من رحم، وهو الذي وسعت رحمته كل شيء، كغضبان للممتلىء غضبا. الرحيم: فعيل منه. وفي (الرحمن) من المبالغة ما ليس في (الرحيم) ، لأن زيادة المبنى تدلّ على زيادة المعنى، وفي (الرحمن) زيادتان، وفي (الرحيم) زيادة واحدة. وقد وقال بعضهم: (الرحمن) : المنعم بجلائل النعم، و (الرحيم) المنعم بدقائقها. وقال بعضهم: (الرحمن) : المنعم بنعم عامة تشمل المؤمنين والكافرين، و (الرحيم) : المنعم بنعم خاصة بالمؤمنين، وهذا قول في اللغة بلا دليل، وكأن الذي حملهم على

_ (1) انظر تفصيله في نصب الراية للزيلعي، كتاب الصلاة، باب صفة الصلاة (1/ 400) . (2) سبق تخريجه صفحة 14. (3) سبق تخريجه صفحة 14. (4) هو الخليل بن أحمد الفراهيدي: من أئمة اللغة والأدب، واضع علم العروض وسيبويه تلميذه وناقل علمه توفي (170 هـ) في البصرة. انظر الأعلام للزركلي ط 7، بيروت، دار العلم للملايين، 1986 (2/ 314) .

هذا تلك القاعدة: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. ولكن الزيادة تدل على زيادة الوصف مطلقا، فصفة الرحمن تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه سواء أكان جليلا أم دقيقا، وليس المعنى أن أفراد الإحسان التي يدل عليها لفظ (الرحمن) أكثر من أفراد الإحسان التي يدل عليها لفظ (الرحيم) ، وقال بعضهم: إنهما مترادفان. وقد فرّق ابن القيم «1» بينهما بفرق حسن، فذكر أن الرحمن دالّ على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دالّ على تعلقها بالمرحوم، وكأنّ الأول الوصف والثاني الفعل، لذلك ورد وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 43] بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] لم يجئ مطلقا رحمن بهم- أه والرحمن وصف خاصّ بالله لا يطلق على غيره بخلاف رحيم. والجار في بِسْمِ متعلق بمحذوف يقدّر هاهنا (أقرأ) . فإن قيل: إن المتعلق هنا كون خاص وهو لا يحذف. قيل: إنه يجوز حذفه لدليل، وهو هنا حالي، إذ حينما يقرأ البسملة، ويأخذ بعد ذلك في القراءة يعلم المتعلّق، وإنه (أقرأ) . وكذا المسافر إذا حلّ أو ارتحل فقال (بسم الله) علم المتعلّق، وهو (أحل) أو (أرتحل) وكذا كل فاعل فعل يقول: (بسم الله) يضمر ما جعل التسمية مبدأ له، ويعلم السامع ذلك من دلالة الحال. والمعنى: ومعنى أقرأ بِسْمِ اللَّهِ أقرأ مستعينا باسم الله، وهنا محل بحث، وهو أنه إذا كان الأمر على ما وصفنا، فكان ينبغي أن يقال: (بالله) لا (باسم الله) ، لأن الاستعانة إنما هي بالله لا باسمه. وقد اختلف الناس في الخروج من هذا، فذهب بعضهم إلى أن لفظ (اسم) مقحم كقول الشاعر «2» : إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر أي: ثم السلام عليكما. وذهب آخرون إلى أن الاسم عين المسمّى. وذهب ابن جرير الطبري «3» إلى أن اسم في بِسْمِ اللَّهِ المراد به الحدث، أي بذكر الله أقرأ، وقد عمل وإن كان ليس جاريا على حروف فعله كقوله: أكفرا بعد ردّ الموت عنّي ... وبعد عطائك المائة الرتاعا «4» وقال المتأخرون: الباء للمصاحبة، والغرض مصاحبة اسم الله في القراءة تبركا،

_ (1) محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي، تلميذ ابن تيمية وهو الذي هذّب كتبه ونشر علمه، وسجن معه، انظر الدر الكامنة لابن حجر (3/ 243) ترجمة (3700) . (2) هو لبيد بن ربيعة انظر المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي (1/ 62) . (3) محمد بن جرير الطبري نسبة إلى طبرستان توفي في بغداد (310 هـ) ، انظر شذرات الذهب لابن عماد الحنبلي، بيروت دار الفكر 1994 (2/ 260) . (4) الرّتاع: الرعي في الخصب، انظر لسان العرب لابن منظور، ط 1، بيروت دار صادر، 1955 (8/ 113) .

شرح المفردات

وقال أبو بكر الجصاص «1» : إن المتعلق يحتمل أن يكون خبرا، وأن يكون أمرا، فإذا كان خبرا كان معناه: أبدأ باسم الله، وإذا كان أمرا كان معناه: ابدؤوا باسم الله. قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) شرح المفردات الحمد: الثناء باللسان على الجميل من نعمة وغيرها، فيقال: حمدت الرجل على إنعامه، وحمدته على شجاعته، وهو كالمدح في ذلك، وأما الشكر فعلى النعمة خاصّة، ويكون بالقلب واللسان والجوارح، قال الشاعر: أفادتكم النّعماء منّي ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجّبا ربّ: يطلق في اللغة على معان: منها السيد المطاع، ومنها المصلح للشيء، ومنها المالك للشيء، يقال: رب الضيعة، ورب المال، قال صفوان لأبي سفيان: لأن يربّني رجل من قريش، أحبّ إليّ من أن يربني رجل من هوازن. العالمين: جمع عالم، والعالم جمع لا واحد له من لفظه، كالرهط، وهو اسم لأصناف الأمم، فكل صنف منها عالم، وأهل كل قرن منها عالم ذلك القرن، والأنس عالم، وكل أهل زمان فهم عالم ذلك الزمان، والجن عالم، وكذا سائر أجناس الخلق، كلّ جنس منها عالم زمانه. لذلك جمع فقيل: عالمون، ليشمل أصناف الأمم في كل زمان. وقيل: هو اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين. وقيل: كل ما علم به الخلق من الأجسام والأعراض. الدين: الجزاء، ومنه قولهم: كما تدين تدان، وقول الشاعر «2» : ولم يبق سوى العدوا ... ن دنّاهم كما دانوا وقرئ: مالك «3» وملك «4» . وإضافته إلى (يوم) على التوسع، كقوله: يا سارق الليلة أهل الدار.

_ (1) أحمد بن علي أبو بكر الرازي الإمام الكبير المعروف بالجصاص من أهل الري توفي سنة (370 هـ) انظر شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن عماد الحنبلي دار الفكر، بيروت (3/ 71) . (2) هو شهل بن شيبان الحنفي (الفند الزماني) انظر المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي (1/ 71) . (3) قراءة عاصم ويعقوب والكسائي. (4) قراءة السبعة الباقيين. [.....]

المعنى: مالك الأمر في يوم الدين. معنى الآيات: الثناء والشكر لله- دون ما يعبد من دونه- بما أنعم على عباده من الخلق والرزق وسلامة الجوارح، وهدايتهم إلى سعادة الدنيا والآخرة. ويجوز أن يراد من الرب أيّ معنى من معانيه الثلاثة المتقدمة. فهو السيد الذي لا يبلغ سؤدده أحد، والمصلح أمر خلقه بما أودع في هذا العالم من نظام يرجع كلّه بالمصلحة على عالم الحيوان والنبات. فمن شمس لولاها ما وجدت حياة ولا موت، ومن مياه بها حياة الحيوان والنبات، ومن أعضاء للغداء الذي به قوام الفرد، وأخرى للتناسل الذي به قوام النوع، وأخرى للسمع والأبصار، ومعنى ملك يوم الدين (4) أن لله الملك خالصا يوم الدين دون هؤلاء الملوك الجبابرة الذين كانوا ينازعونه العزة والجبروت في الدنيا، كما قال تعالى: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) [غافر: 16] . وأما تأويل قراءة ملك يوم الدين (4) فكما قال ابن عباس: لا يملك أحد في ذلك اليوم معه حكما كملكهم في الدنيا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ: 38] وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً [طه: 108] . وقد يخطر سؤال عند قراءة الفاتحة، وهو: أحمد الله نفسه؟ وأثنى عليها؟ وعلّمنا ذلك؟ أم ذلك من قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم أو جبريل؟ فإن كان الأول، فما معنى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) والله معبود لا عابد؟ فإن كان الثاني فقد بطل أن تكون الفاتحة كلام الله، والجواب: أن الفاتحة من كلام الله، وهي على معنى قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ ... وقولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ.... فإن قيل: وأين قوله قولوا؟ قيل: إن العرب من شأنها إذا عرف السامع مكان الكلمة حذفها. واكتفت بدلالة ما ظهر من منطقها على ما حذف، كقوله: وأعلم أنني سأكون رمسا ... إذا سار النواعج «1» لا يسير فقال السائلون: لمن حفرتم؟ ... فقال المخبرون لهم: وزير أي الميت وزير، فأسقط الميت إذ قد أتى الكلام بما يدل عليه. وإنما قال: الحمد لله دون أحمد الله أو حمدا لله، لأنه لو قال ذلك لدل على حمد التالي لله، مع أن الغرض أن جميع المحامد والشكر الكامل لله، وهذا هو ما يؤديه الحمد لله. وقال صاحب «الكشاف» «2» : عدل بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء، مع

_ (1) الخفاف من الإبل، انظر لسان العرب لابن منظور (2/ 380) . (2) محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، ولد بزمخشر توفي سنة (538 هـ) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (20/ 115) ترجمة (91) .

أن الأصل النصب، للدلالة على ثبات المعنى واستقراره. ومنه قوله تعالى: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [هود: 69] رفع السلام الثاني للدلالة على أن إبراهيم حياهم بتحية أحسن من تحيتهم، لأن الرفع دالّ على ثبات السلام لهم دون تجدده وحدوثه. قال الله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) نعبد: نذلّ ونخشع ونستكين، لأن العبودية معناها الذلّة، ومنها قولهم: طريق معبّد، أي: مذلل وطئته الأقدام، وذللته السابلة. وقولهم: بعير معبّد، أي مذلل بالركوب في الحوائج، وسمّي العبد عبدا لذلته لمولاه. وقال صاحب «الكشاف» : العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل، ومنه ثوب ذو عبدة، إذا كان في غاية الصفاقة وقوة النسج. ولذلك لم يستعمل إلا في الخضوع لله تعالى، لأنه مولى أعظم النعم، فكان حقيقا بأقصى غاية الخضوع. نستعين: نطلب المعونة، وقدم المفعول فيها ليفيد الحصر. المعنى: لك اللهم نذل ونخضع لا لسواك، وإياك ربنا نستعين على طاعتك وعبادتك، وفي أمورنا كلها، لا أحدا سواك، إذ كان من يكفر بك يستعين بسواك، وقد جرى في أول السورة على الغيبة، ثم عدل إلى الخطاب، وهو نوع من الالتفات ليكون أدعى إلى نشاط السامع، لأنّ نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب يوقظ النشاط، ويحرك الهمة للاستماع. قال الله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) اهدنا: وفقنا، وهو يتعدى بإلى وباللام، كقوله تعالى: اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل: 121] وقوله: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف: 43] وقد يحذف الحرف كقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ ... على حد قوله: أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... ربّ العباد إليه الوجه والعمل السراط: الجادة، من سرط الشيء إذا ابتلعه، لأنه يسرط السابلة إذا سلكوه، كما سمّي لقما لأنه يلتقمهم، وقد تقلب سينها صادا لأجل الطاء، وقد تشمّ الصاد صوت الزاي، وقرئ بهن جميعا. والعرب تستعير الصراط لكل قول أو عمل وصف باستقامة أو اعوجاج، والمراد به هنا طريق الحق وهو ملة الإسلام. والضال: الحائد عن قصد السبيل، والسالك غير المنهج القويم. والمراد بالمغضوب عليهم والضالين: كل حائد عن صراط الإسلام. وقيل: المراد بالمغضوب

حكم قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة

عليهم: اليهود، لقوله تعالى في وصفهم قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ [المائدة: 60] والمراد بالضالين: النصارى، لقوله تعالى في وصفهم: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) [المائدة: 77] . آمين: اسم صوت سمي به الفعل الذي هو استجب، وفيه لغتان: القصر والمد في الألف، كقوله «1» : ويرحم الله عبدا قال آمينا، وقوله «2» : أمين فزاد الله ما بيننا بعدا المعنى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) أي اهدنا إلى دينك الحق الذي لا يقبل من العباد غيره، صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بطاعتك وعبادتك: من ملائكتك، وأنبيائك، والصديقين، والشهداء الذين هم لا مغضوب عليهم، ولا هم ضالون. ومعنى طلب الهداية إلى الدين الحق والداعي مهتد إليه طلب زيادة الهدى أو الثبات وغَيْرِ الْمَغْضُوبِ إما أن تكون صفة للذين، وإما أن تكون بدلا منها، وإنما جاز كونها صفة مع أنها نكرة والموصوف معرفة لأن الذين أنعمت عليهم لا توقيت فيه كقوله: ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني. ولأنّ المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم، فليس في غَيْرِ في هذا الموضوع الإبهام الذي أبى أن تتعرف بالإضافة، ودخلت لَا في قوله: وَلَا الضَّالِّينَ لما في غَيْرِ من معنى النفي، كأنه قيل: لا المغضوب عليهم ولا الضالين. ويدل على أن غَيْرِ في معنى لَا أنه يجوز أن تقول أنا زيدا غير ضارب، مع امتناع أنا زيدا مثل ضارب، وإنما جاز الأول، لأنه بمنزلة أنا زيدا لا ضارب. حكم قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة اختلف العلماء في قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة فذهب بعضهم إلى وجوبها، وذهب بعضهم إلى عدم وجوبها، بل الواجب مطلق قراءة. وممن قال بذلك أبو حنيفة، وقد حدّ أصحابه ما يجب قراءته فقالوا: الواجب ثلاث آيات قصار أو آية طويلة. والقائلون بوجوب قراءة الفاتحة في الصلاة اختلفوا فمنهم من قال بوجوبها في كل ركعة، وقيل بوجوبها في أكثر الصلاة. وممن قال بالأول الإمام الشافعي والإمام مالك في أشهر الروايات عنه، وقد روي عنه أنه «إن قرأها في ركعتين من الرباعية أجزأته» . وذهب الحسن البصري إلى أنها تجزئ في ركعة واحدة من الصلاة. وسبب

_ (1) صدر البيت: يا رب لا تسلبني حبها أبدا. والقائل هو قيس بن الملوح المشهور بمجنون ليلى. (2) جبير بن الأضبط، انظر المحرر الوجيز (1/ 80) .

الخلاف تعارض الآثار بعضها مع بعض، ومعارضة ظاهر الكتاب لبعضها. أما الآثار التي تدل على وجوب قراءتها: فحديث عبادة بن الصامت، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» «1» ، وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ الكتاب فهي خداج «2» - ثلاثا- غير تمام» «3» . أما ما يدلّ على عدم وجوبها، بل على قراءة ما تيسّر من القرآن فحديث أبي هريرة أن رجلا دخل المسجد فصلّى، ثم جاء فسلّم على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فردّ عليه السّلام وقال: «ارجع فصلّ، فإنّك لم تصلّ» فصلى، ثم جاء، فأمره بالرجوع إلى فعل ذلك، ثلاث مرات، فقال: والذي بعثك بالحقّ ما أحسن غيره، فقال عليه الصلاة والسلام: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبع الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تستوي قائما، ثم افعل ذلك في صلاتك كلّها» «4» . وأما الكتاب فقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: 20] فهذا يدل على أنّ الواجب أن يقرأ أيّ شيء تيسّر من القرآن، فهو يعارض حديث عبادة، ويعضد حديث أبي هريرة الأخير، لأن الآية في القراءة في الصلاة بدليل قوله: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ إلى قوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] ولم يختلف الأئمة في أنّ ذلك في شأن الصلاة في الليل، وقد اعتمد المالكية والشافعية حديث عبادة: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وحملوا النفي على نفي الحقيقة، وكأنّهم رأوا الآية من المبهم والحديث من المعيّن، والمبهم يحمل على المعيّن. أما الحنفية فرأوا أن الآية تفيد التخيير، وليست من باب المطلق، فإنّ معنى (ما تيسر) أيّ شيء تيسر، فالآية دلت على التخيير، فإذا جاء بعد ذلك معين يكون ناسخا ولا نسخ هنا. قالوا: وقد جاء حديث أبي هريرة في تعليم الرجل صلاته معضّدا لما ذهبنا إليه.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 294) ، 4- كتاب الصلاة، 11- باب وجوب قراءة الفاتحة حديث رقم (34/ 394) . (2) الخداج أي النقصان، انظر لسان العرب لابن منظور (2/ 248) . (3) رواه مسلم في الصحيح (1/ 296) ، 4- كتاب الصلاة، 11- باب وجوب قراءة الفاتحة حديث رقم (38/ 395) . (4) رواه البخاري في الصحيح (1/ 207) ، 10- كتاب الأذان، 95- باب وجوب القراءة للإمام حديث رقم (757) .

الأحكام التي تؤخذ من الفاتحة

أما حديث عبادة بن الصامت فقد حملوه على نفي الكمال، كقوله: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» «1» . وأما حديث: «فهي خداج» فقالوا فيه: هو يدلّ لنا، لأن الخداج: الناقصة، وهذا يدل على جوازها مع النقصان، لأنّها لو لم تكن جائزة لما أطلق عليها اسم النقصان، لأنّ إثباتها ناقصة ينفي بطلانها، إذ لا يجوز الوصف بالنقصان لما لم يثبت منه شيء. أما سبب اختلاف من أوجب قراءتها في الكل أو في البعض فما في الضمير في قوله: «لا صلاة لمن لم يقرأ فيها» من احتمال عوده على كل أجزاء الصلاة أو بعضها. الأحكام التي تؤخذ من الفاتحة قد أسلفنا أن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) على تأويل قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) بدليل قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ فإنه على تأويل قولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ حتما، فعلمنا أن الأمر وهو (قولوا) مضمر في ابتداء السورة أيضا، وذلك يقضي أن الله أمرنا بفعل الحمد، وعلمنا كيف نحمده، وكيف نثني عليه، وكيف ندعوه. ومما يؤخذ منها من آداب الدعاء أنه ينبغي أن يبدأ بحمد الله والثناء عليه، ليكون ذلك أدعى إلى الإجابة، إذ إن الله قدّم حمده والثناء عليه بقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ إلى مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) على الدعاء وهو قوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) ا. هـ.

_ (1) رواه الدارقطني في سننه (1/ 321) وهو ضعيف.

من سورة البقرة

من سورة البقرة قال الله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) السِّحْرَ: في اللغة: كل ما لطف مأخذه، وخفي سببه، ومنه سحره: خدعه، والسحر الرئة. (الفتنة) : الاختبار والابتلاء، ومنه قولهم: فتنت الذهب في النار إذا امتحنته لتعرف جودته من رداءته. (والخلاق) : النصيب. شَرَوْا: باعوا، قال الشاعر: وشريت بردا ليتني ... من بعد برد كنت هامه قبل الخوض في تفسير الآية نذكر نبذة عن السحر: أله حقيقة أم لا؟ فنقول: اختلف الناس في السحر، فذهب جمهور العلماء إلى أن للسحر حقيقة، وأنه تقتدر به النفوس البشرية على التأثير في عالم العناصر، إما بغير معين، أو بمعين من الأمور السماوية، ويرون أنّ النفوس الساحرة على ثلاث مراتب: أولها: المؤثرة بالهمة فقط من غير آلة ولا معين. وثانيتها: بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر، أو خواصّ الأعداد. وثالثها: تأثير القوى المتخيلة، فيعمد صاحب هذه المرتبة إلى القوة المتخيلة، فيلقي فيها أنواعا من الخيالات والصور، ثم ينزلها إلى الحس من الرائين بقوة نفسه المؤثرة، فينظر الراؤون كأنها في الخارج، وليس هناك شيء من ذلك، ويقولون: إن هذه المراتب تنال بالرياضة، ورياضة السحر بالتوجه إلى الأفلاك والكواكب والعوالم العلوية والشياطين بأنواع التعظيم والعبادة، فهي لذلك وجهة وسجود لغير الله، والوجهة لغير الله كفر، فلهذا كان السحر كفرا، ويرون أن الساحر يقدر على الأفعال

الغريبة فيطير في الهواء، ويركب المكانس وغيرها يذهب بها إلى أماكن بعيدة، ويصوّر المرء بغير صورته. ويرى المعتزلة وبعض أهل السنة أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو خداع وتمويه وتخيّل، وإلى هذا ذهب أبو جعفر الاستراباذي «1» من الشافعية، وأبو بكر الرازي من الحنفية، وابن حزم الظاهري «2» وطائفة. ويرون أنّ السحر بهذا المعنى ضروب. فمن ضروبه كثير من التخيّلات التي مظهرها على خلاف حقائقها، كما يفعله بعض المشعوذين، من أنه يريك أنه ذبح عصفورا، ثم يريكه وقد طار بعد ذبحه وإبانة رأسه، وذلك لخفة حركته، والمذبوح غير الذي طار، لأنه يكون معه اثنان قد خبأ أحدهما- وهو المذبوح- وأظهر الآخر. وكان سحر سحرة فرعون من هذا النوع. فقد قيل إن عصيهم كانت عصيا مجوفة، قد ملئت زئبقا وكذلك الحبال كانت من أدم محشوة زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسرابا وملؤوها نارا. فلما طرحت عليها وحمي الزئبق حركها، لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، وقد أخبر الله عن ذلك بقوله: فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه: 66] . وضرب آخر، وهو ما يدعونه من حديث الجن والشياطين، وطاعتهم لهم بالرقى والعزائم ويتوصلون إلى ما يريدون من ذلك بتقدمة أمور، ومواطأة قوم، قد أعدوهم لذلك. وعلى ذلك كان يجري أمر الكهان من العرب في الجاهلية، وكثير ممن يدّعون السحر يوكّلون أناسا بالاطلاع على أسرار الناس، حتى إذا جاء أصحابها أخبروهم بها، فيعتقدون فيهم أن الشياطين تخبرهم بالمغيبات. ويقال: إنّ مخاريق الحلاج كانت كلها بالمواطأة، فكان يواطئ أقواما يضعون له خبزا ولحما، وفاكهة في مواضع بعينها، ثم يمشي مع أصحابه في البرية، ثم يأمر بحفر هذه المواضع، فيخرج ما خبّأ من الخبز واللحم والفاكهة، فيعدونها من الكرامات. وضرب آخر من السحر: هو السعي بالنميمة والوشاية والإفساد من وجوه خفيّة لطيفة، كما حكي أنّ رجلا تزوّج امرأة على أخرى. فعظم ذلك على الأولى، فاستعانت برجل، فتوصل إلى أن قال للثانية: إن أردت أن تنغرس محبتك في قلب

_ (1) أحمد بن محمد من أصحاب ابن السريج وكبار الفقهاء والمدرسين، انظر تهذيب الأسماء واللغات للنووي (2/ 237) . (2) علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن صالح، الفارسي الأصل ثم الأندلسي القرطبي، انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (18/ 184) ترجمة (99) .

الزوج فخذي موسى، فاقطعي ثلاث شعرات من لحيته مما يقارب الحلق، وألقى في روع الزوج أنّ هذه المرأة ستختانه بالقتل، فلما قرّبت الموسى منه لم يشك أن الأمر على ما قال الرجل من أنها قصدت قتله، فقام إليها وقتلها، وكان ذلك تفريقا بين المرء وزوجه. فأنت ترى أنهم يرجعون السحر: إما إلى تمويه وخفة في اليد، وإما إلى مواطأة وإما إلى سعي ونميمة. ولا يرون الساحر يقدر على شيء مما يثبته له الآخرون من التأثير في الأجسام الأخرى، دون مماسّة. ومن قطع المسافات البعيدة في الزمن الوجيز. وقد قال أبو بكر الرازي: وحكمة كافية تبيّن لك أن هذا كله مخاريق وحيل لا حقيقة لما يدّعون لها. إنّ للساحر والمعزّم لو قدرا على ما يدّعيانه من النفع والضر من الوجوه التي يدّعون، وأمكنهما الطيران والعلم بالغيوب، وأخبار البلدان النائية، والخبيئات والسرقة والإضرار بالناس من غير الوجوه التي ذكرنا، لقدروا إلى إزالة الممالك، واستخراج الكنوز، والغلبة على البلدان بقتل الملوك، بحيث لا يبدؤوهم بمكروه. ولا ستغنوا عن الطلب لما في أيدي الناس. فإذا لم يكن كذلك، وكان المدّعون لذلك أسوأ الناس حالا، وأظهرهم فقرا وإملاقا، علمت أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك. ورؤساء الحشو والجهّال من العامة من أسرع الناس إلى تصديق السحرة والمعزّمين، وأشدهم نكيرا على من جحدها، ويروون في ذلك أخبارا مفتعلة متخرّصة يعتقدون صحتها. كالحديث الذي يروونه أن امرأة أتت عائشة فقالت: إني ساحرة فهل لي من توبة؟ فقالت: وما سحرك؟ قالت: سرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ببابل لطلب علم السحر. فقالا لي: يا أمة الله! لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا. فأبيت. فقالا لي: اذهبي فبولي على ذلك الرماد، فذهبت لأبول عليه، ففكرت في نفسي فقلت: لا فعلت، وجئت إليهما وقلت: قد فعلت. فقالا: ما رأيت؟ قلت لم أر شيئا، فقالا: ما فعلت، اذهبي فبولي عليه، فذهبت وفعلت، فرأيت كأنّ فارسا قد خرج من فرجي مقنّعا بالحديد حتى صعد إلى السماء، فجئتهما فأخبرتهما فقالا: ذلك إيمانك قد خرج عنك، وقد أحسنت السحر. فقالت: وما هو؟ فقالا: لا تريدين شيئا فتصورينه في وهمك إلا كان، فصورت في نفسي حبا من حنطة، فإذا إنا بالحب، فقلت له: انزرع، فانزرع. فخرج من ساعته سنبلا. فقلت له: انطحن وانخبز، إلى آخر الأمر، حتى صار خبزا، وإني كنت لا أصوّر في نفسي شيئا إلا كان، فقالت لها عائشة: ليست لك توبة. ويروي القصّاص والمحدثون الجهال مثل هذا للعامة فتصدقه، وتستعيده، وتسأله أن يحدثها بحديث ساحرة ابن هبيرة. فيقول لها: إن ابن هبيرة أخذ ساحرة فأقرّت له بالسحر، فدعا الفقهاء، فسألهم عن حكمها. فقالوا: القتل، فقال ابن

هبيرة: لست أقتلها إلا تغريقا. قال: فأخذ رحى البزار، فشدّها في رجلها، وقذفها في الفرات، فقامت فوق الماء مع الحجر، فجعلت تنحدر مع الماء، فخافوا أن تفوتهم، فقال ابن هبيرة: من يمسكها، وله كذا وكذا؟ فرغب رجل من السحرة كان حاضرا فيما بذله. فقال: أعطوني قدح زجاج فيه ماء، فجاؤوه به، فعقد على القدح، ومضى إلى الحجر، فشق الحجر بالقدح، فتقطّع الحجر قطعة قطعة، فغرقت الساحرة فيصدقونه. ومن صدق هذا فليس يعرف النبوة، ولا يأمن أن تكون معجزات الأنبياء عليهم السلام من هذا النوع: وأنهم كانوا سحرة. وقال الله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه: 69] وقد أجازوا من سحر الساحر ما هو أعظم من هذا وأفظع. وذلك أنهم زعموا أن النبي عليه الصلاة والسلام سحر، وأن السّحر عمل فيه حتى قال: «إنه يخيل إلي أني أقول الشيء وأفعله، ولم أقله ولم أفعله» وأن امرأة يهودية سحرته في جفّ «1» طلعة نخل ذكر ومشط ومشاقة «2» ، حتى أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أنها سحرته في جف طلعة، وهو تحت راعونة البئر «3» ، فاستخرج، وزال عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك العارض «4» . وقد قال الله تعالى مكذّبا للكفار فيما ادعوه من ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال جل من قائل: وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً [الفرقان: 8] . ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعّبا بالحشوية الطغام. واستجرارا لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام، والقدح فيها. وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة، وأن جميعه من نوع واحد. والعجب ممن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم، وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى [طه: 69] فصدّق هؤلاء من كذّبه الله، وأخبر ببطلان دعواه وانتحاله. وجائز أن تكون المرأة اليهودية بجهلها ظنا منها بأن ذلك يعمل في الأجساد قصدت به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فأطلع الله نبيّه على موضع سحرها، وأظهر جهلها. فيما ارتكبت وظنت. ليكون ذلك من دلائل نبوته، لا أنّ ذلك ضرّه وخلّط عليه أمره. ولم يقل كل الرواة: إنه اختلط عليه أمره، وإنما هذا اللفظ زيد في الحديث ولا أصل له. والفرق بين معجزات الأنبياء عليهم السلام وبين ما ذكرنا من وجوه التخييلات،

_ (1) الجفّ: الغشاء الذي يكون على الطلع، انظر لسان العرب لابن منظور (9/ 28) . (2) المشاقة: هي المشاطة، انظر لسان العرب لابن منظور (10/ 345) . (3) راعونة هو حجر يوضع على رأس البئر يقوم عليه المستقي. [.....] (4) رواه البخاري في الصحيح (7/ 38) ، 76- كتاب الطب، 49- باب هل يستخرج السحر حديث رقم (5765) ومسلم في الصحيح (4/ 1719) ، 39- كتاب السلام، 17- باب السحر حديث رقم (43/ 2189) .

أن معجزات الأنبياء عليهم السلام هي على حقائقها، وبواطنها كظواهرها، وكلّما تأملتها ازددت بصيرة في صحتها. ولو جهد الخلق كلّهم على مضاهاتها ومقابلتها بأمثالها، ظهر عجزهم عنها. ومخاريق السحرة وتخييلاتهم إنما هي ضرب من الحيلة والتلطف لإظهار أمور لا حقيقة لها، وما يظهر منها على غير حقيقتها، يعرف ذلك بالتأمل والبحث، ومن شاء أن يتعلم ذلك بلغ فيه مبلغ غيره، ويأتي بمثل ما أظهره سواه «1» ا. هـ. ولنرجع إلى تفسير الآية: وَاتَّبَعُوا أي اليهود، قيل: الذين كانوا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: الذين في زمن سليمان عليه السلام، وقيل: أعم، لأنّ متبعي السحر من اليهود لم يزالوا من عهد سليمان إلى أن بعث الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم. فأخبر الله عن اليهود أنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ أي تقرأ وتخبر عن ملك سليمان، قيل: على عهده، وقيل تكذب عليه، لأن الخبر إذا كان كذبا قيل: تلا عليه، وإن كان صادقا قيل: تلا عنه. وكان كذبهم عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أنهم كانوا يزعمون أنّ سليمان كان ساحرا، وأنه ما سخّرت له الجن إلا بسحره. قال محمد بن إسحاق: قال بعض أحبار اليهود: ألا تعجبون من محمد يزعم أن سليمان كان نبيا؟ والله ما كان إلا ساحرا! فأنزل الله تعالى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ. والمراد بالشياطين شياطين الإنس والجن، وقد برأ الله سليمان مما قذفوه به من السحر. فقال: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا بنسبة السحر إلى سليمان على وجه الكذب وجحدهم نبوته، ثم وصف الشياطين بقوله: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ على وجه الإضرار، وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ. قيل: هو عطف على ما تتلو الشياطين، أي اتبعوا هذا وذاك. وقد علم من هذا أن السحر أنزل على الملكين ببابل، وقد أنزله الله عليهما ليعرّفاه الناس، فيتحرّزوا من ضرره، لأن تعريف الشر حسن، ومعه يصحّ الاحتراز. وقد كان أهل بابل قوما صابئين، يعبدون الكواكب، ويسمّونها آلهة، ويعتقدون أن حوادث العالم كلها من أفعالها، وكانت علومهم الحيل والنيرنجيات وأحكام النجوم، وكانت لهم رقىّ بالنبطية،

_ (1) أحكام القرآن للجصاص (1/ 49- 50) .

فيها تعظيم الكواكب، ويزعمون أنهم بهذه الرقى يفعلون ما يشاؤون في غيرهم من غير مماسّة ولا ملامسة، وكانت السحرة تحتال بحيل تموّه على العامة إلى اعتقاد صحته، ومعتقد ذلك يكفر من وجوه: أحدها: التصديق بوجوب تعظيم الكواكب وتسميتها آلهة. ثانيها: الاعتقاد بأن الكواكب تقدر على الضرر والنفع. ثالثها: أن السحرة تزعم أنها تقدر على معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فبعث الله ملكين يبيّنان للناس حقيقة ما يدّعون بطلانه، ويكشفان لهم عن وجوه الحيل التي يخدعون بها الناس، وينهيانهم عن العمل بها، يقولان إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فكانا يعلّمانهم للتحرّز لا للعمل، وما في ذلك بأس، قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: فلان لا يعرف الشر، قال: أجدر أن يقع فيه، وقد قيل: عرفت الشرّ لا للشرّ ... لكن لتوقّيه ومن لا يعرف الش ... رّ من النّاس يقع فيه ثم قال: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وهذا ذم لمن يتعلم ليضرّ به، لا ليتوقى به، والتفريق بين المرء وزوجه بالسعاية والنميمة والوجوه الخفية التي من جنس ما ذكر في الحكاية المتقدمة. وقد روي عن الحسن «1» أنه كان يقرأ: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بكسر اللام، ويقول: كانا علجين أقلفين، يأمران بالسحر ويتمسكان به، وقيل: إن (ما) للجحد والمعنى: ولم ينزل على الملكين ببابل. وقيل: إنّ «ما أنزل» عطف على ملك سليمان، والمعنى: واتّبعوا ما تكذب به الشياطين على ملك سليمان، وما أنزل على الملكين، فكما كذبوا على ملك سليمان كذبوا أيضا على ما أنزل على الملكين، لا أنهما أنزلا ليعلّمان الناس السحر، ويكون قوله: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما أي من السحر والكفر، لأن قوله: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يتضمن الكفر، فيرجع إليهما. قوله: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) [الأعلى: 10، 11] أي الذكرى. وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ. معناه أن الملكين لا يعلمان ذلك أحدا، ومع ذلك لا يقتصران على ألا يعلماه حتى يبالغا في نهيه، فيقولان: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ وكل هذا للفرار من أنّ الله أنزل على الملكين السحر مع ذمه السحر والساحر، وقد علمت أنه أنزل عليهما ليعلم الناس حيل السحرة وخدعهم.

_ (1) الحسن بن يسار البصري، سيد التابعين، ولد في المدينة كان إماما توفي سنة (110 هـ) انظر الأعلام للزركلي (2/ 226) .

وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ الإذن هنا: العلم دون الأمر، وقيل: المراد بالإذن التخلية، قال الحسن: من شاء الله منعه، فلا يضره السحر، ومن شاء خلّى بينه وبينه فضرّه. وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ لأنهم يقصدون به الشرّ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ أي لقد علم هؤلاء اليهود أنّ من استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله ما له في الآخرة من نصيب. وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي باعوها. ولعل قائلا يقول: إنّ الله أثبت لهم العلم مؤكدا بقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ثم نفاه عنهم بقوله: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. والجواب: أنّ المراد لو كانوا يعملون بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا به كأنّهم غير عالمين. وقيل: إن العلم علمان: علمّ يقيني متسلط على النفس فلا تعلم إلا بمقتضاه، وعلم ليست له هذه السلطة على النفس، فتتصرف النفس على خلافه، والمنفي عنهم هو الأول، والمثبت لهم هو الثاني، فلا منافاة. وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) المثوبة: مصدر من قول القائل: أثبتك إثابة، وثوابا ومثوبة. وأصل ذلك ثاب الشيء بمعنى رجع. ثم يقال: أثبته إليك أي رجّعته ورددته، وكان معنى إثابة الرجل على الهدية وغيرها أن يرجع إليه منها بدلا، وأن يردّ عليه منها عوضا، ثم جعل كل معوّض غيره من عمله، أو هديته. أو يد سلفت منه إليه، مثيبا له: ومنه ثواب الله عباده على أعمالهم، بمعنى إعطائه إياهم العوض والجزاء حتى يرجع إليهم بدل عملهم الذي عملوه. المعنى: ولو أنهم آمنوا بمحمد والقرآن، واتقوا ربهم فخافوا عقابه فأطاعوه بأداء فرائضه، وتجنبوا معاصيه، لكان جزاء الله إياهم، وثوابه لهم على إيمانه به وتقواهم خيرا لهم من السحر ومما اكتسبوا. ويقال في نفي العلم عنهم هنا كما قيل هناك. وقد أجاز الزمخشري «1» أن تكون (لو) للتمني على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم واختيارهم له. كأنه قيل: وليتهم آمنوا. ثم ابتدئ: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ. وقال بعضهم: إن قوله تعالى لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ ليس هو الجواب، وإنما هو دالّ على الجواب، والجواب محذوف تقديره: لأثيبوا.

_ (1) انظر تفسير الكشاف للزمخشري (1/ 174) .

ما يؤخذ من الآية من الأحكام

وقد ذكر أهل الأخبار ونقلة المفسرين أخبارا في تفسير هذه الآية مؤداها أن هاروت وماروت أنزلا ليحكما بين الناس، وركبت فيهما الشهوة، فزنيا، وشربا الخمر، وكفرا، فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فعلّقا ببابل يعلمان الناس السحر. وهذه الأخبار لم يرد منها شيء صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما هي من كتب اليهود ومن افترائهم، فكما افتروا على سليمان، كذلك افتروا على الملكين. وهذه الأخبار قد انطوت على عدم عصمة الملائكة، وجلة العلماء على عصمتهم لقوله تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] وقوله: وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) [الأنبياء: 19، 20] وغير ذلك من الآيات، ومما يدل على عدم صحة هذه الأخبار أن أصحابها يزعمون أن هاروت وماروت قد اختارا عذاب الدنيا فعلّقا ببابل، وأن امرأة في زمن السيدة عائشة رضي الله عنها قد ذهبت إليهما، وتعلمت منهما السحر، وجاءت تستفتي هل لها توبة؟ وبابل بلدة قديمة كانت في سواد الكوفة، وقيل: الكوفة على قول المفسرين، أو هي بلدة في الجانب الشرقي من نهر الفرات، بعيدة عنه على قول علماء التاريخ. وهذه الجهات ليست من الأماكن المجهولة التي لم تطرق، بل هي أماكن معروفة قد طرقها الناس في القديم والحديث، ولم يعثر أحد على هذين الملكين هناك. وقد رأيت أن ما جاء في الآية من ذكرهما لا يلزم أن يحمل على ما جاء في هذه الأخبار، بل يصح أن يحمل على ما حملنا وحمله جملة من المفسرين عليه. ما يؤخذ من الآية من الأحكام يؤخذ من الآية أنّ عمل السحر كفر. لقوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أي: من السحر، وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ أي بعمل السحر وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا أي به وبتعليمه وهاروت وماروت يقولان: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ. وهذا كله يدل على أنّ السحر كفر، وهو قول مالك وأبي حنيفة. وذهب الشافعيّ إلى أن السحر معصية: إن قتل بها قتل. وإن أضرّ بها أدّب على قدر الضرر. والحق الأول لما تدل عليه الآية، ولأن السحر كلام يعظّم به غير الله تعالى، وتنسب إليه المقادير والكائنات. واعلم أنه إذا جعل السحر ضربا واحدا، وكان كله تعظيما لغير الله، وكان فيه إسناد الحوادث للكواكب، جاز إطلاق القول بكفر الساحر، وهو قول الجمهور. أما إذا كان السحر ضروبا، ومن ضروبه السعي بالنميمة والإفساد بالحيل- كما

هو قول الرازي والمعتزلة- فلا يصح القول بإطلاق الكفر على الساحر، لأنّ من يستعمل من ضروبه السعي بالنميمة لا يكفر بذلك. وقد فطنوا لذلك فلم يكفّروا من السحرة إلا من يعظّم الكواكب، ويسند الحوادث إليها، أو يزعم أنه يقدر على الخوارق للعادة، فيكفر لأنه يدعي أنه يقدر على مثل ما يكون للأنبياء من معجزات، وفي ذلك طعن في معجزاتهم. وسدّ لباب دلالة المعجزة على نبوتهم. أما من يستعمل في ضروبه الإفساد بالنميمة، أو خفّة اليد، دون ادعاء ما ذكر، فلا يكون بذلك كافرا. والآية محمولة على سحر أهل بابل، وهو كان تعظيما للكواكب كما تقدم. وإذا كان السحر كفرا. كان المسلم إذا عمل السحر مرتدا بذلك، فيحكم عليه بالقتل، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من بدّل دينه فاقتلوه» «1» على هذا اتفق علماء الأمصار، ما عدا الشافعي ومن تبعه. وقد استدلّ الأولون بما روي عن ابن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا ابن الأصبهاني قال: حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن سمرة بن جندب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «حدّ الساحر ضربه بالسيف» «2» وقد روي هذا عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين منهم: عمر، وعثمان، وعلي ، والروايات في ذلك كثيرة عن السلف الصالح. ومالك رحمه الله راعى ذلك الأصل، وهو أنه يقتل لكفره، فإن كان مجاهرا به قتل. وماله فيء. وإن كان يخفيه أجراه مجرى الزنديق، فلم يقبل توبته، كما لم يقبل توبة الزنديق، ولم يقتل ساحر أهل الذمة، لأنه غير مستحق للقتل بكفره، لأننا قد أقررناه عليه، فلا يقتل إلا أن يضر بالمسلمين، فيكون ذلك عنده نقضا للعهد، فيقتل كما يقتل الحربي. وأما أبو حنيفة رحمه الله فلم يراع ذلك الأصل دائما، فحكم على الساحر بالقتل سواء أكان مسلما أم ذميا، فلو كان قتل الساحر لكفره، لما قتل الذمي الساحر لأنه كافر أصلا، وقد أقررناه على كفره. وقد علّل أصحابه لذلك فقالوا: الساحر جمع إلى كفره السعي في الأرض بالفساد، فأشبه المحارب، فلذلك قتل الساحر سواء أكان ذميا أم مسلما، فلم يفرق بين الساحر من أهل الذمة والمسلمين، كما لا يختلف حكم المحارب من أهل الذمة

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (4/ 27) ، 56- كتاب الجهاد، 149- باب لا يعذب بعذاب الله حديث رقم (3017) . (2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (4/ 49) ، في كتاب الحدود، باب ما جاء في قتل الساحر حديث رقم (1460) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 106 إلى 108]

والإسلام فيما يستحقونه من حكم القتل، ولذلك لم تقتل المرأة الساحرة، لأن المرأة من المحاربين عندهم لا تقتل حدا. وإنما تقتل قودا. وقد ذكروا وجها آخر في قتل الذمي الساحر، مع أننا أقررناه على كفره وهو: أن الكفر الذي صار إليه بسحره لم نقره عليه، ولم نعطه الذمة عليه، إنما أقررناه على كفره الظاهر، ألا ترى أنه لو سألنا إقراره على السحر في نظير الجزية لم نجبه إليه. ولا يظنّ ظانّ أن أبا حنيفة إنما يقتل الساحر لحرابته لا لكفره، لأنه لو كان كذلك لأجراه مجرى المحارب قاطع الطريق عنده، فلم يقتله إلا إذا قتل. قال الله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) ما نَنْسَخْ (ما) شرطية، و (ننسخ) فعل الشرط. ونَأْتِ بِخَيْرٍ هو الجزاء. والنسخ يطلق في اللغة بإطلاقين: يطلق تارة، ويراد منه الإبطال والإزالة، ومنه نسخت الشمس الظلّ، أزالته، ونسخت الريح آثار القوم أعدمتها. وقال تعالى: إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ [الحج: 52] أي يزيله ويبطله. ويقال تارة ويراد منه النقل والتحويل، ومنه نسخت الكتاب، أي نقلته من كتاب آخر، ومنه تناسخ الأرواح، وتناسخ القرون قرنا بعد قرن، وتناسخ المواريث. ومنه قوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) [الجاثية: 29] وفي «صحيح مسلم» «1» لم تكن نبوة قط إلا تناسخت. فأنت ترى أنه قد ورد النسخ بالمعنيين جميعا فقال الجمهور: إنه حقيقة في الأول مجاز في الثاني، وقال القفّال بالعكس، وزعم قوم الاشتراك، قال العضد «2» في «شرحه لابن الحاجب» : ولا يتعلق بهذا النزاع غرض علمي. وأما النسخ في اصطلاح الفقهاء والأصوليين فقد ذكروا له تعريفات كثيرة، نختار منها الآن ما اختاره ابن الحاجب «3» ، وندع التحقيق فيه إلى موضعه في الأصول فنقول:

_ (1) نسبه القرطبي في تفسيره، الجامع لأحكام القرآن، ط 2، بيروت، دار الفكر، إلى صحيح مسلم (2/ 62) . (2) عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار، متكلم أصولي توفي (757 هـ) انظر طبقات الشافعية للسبكي (6/ 108) . والأعلام للزركلي (3/ 295) . (3) عثمان بن عمر بن أبي بكر، فقيه أصولي، توفي سنة (646 هـ) انظر وفيات الأعيان (3/ 248) . والأعلام للزركلي (4/ 211) .

النسخ: هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. فقولنا: (رفع الحكم الشرعي) يخرج المباح بحكم الأصل، فإنّ رفعه بدليل شرعي ليس بنسخ، وقولنا: (بدليل شرعي) يخرج رفعه بالموت، والنوم، والغفلة، والجنون، فإنّ الرفع فيها من طريق العقل، وإن جاء الشرع موافقا له في مثل: «رفع القلم عن ثلاث» «1» . وقولنا: (متأخر) يخرج نحو صلّ عند كل زوال إلى آخر الشهر، ونحو ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] وقد لا يحتاج إلى مثل هذا، لأنّ الحكم لم يثبت إلا بآخر الكلام، فلا يقال: إنه رفع. والنسخ جائز عقلا بإجماع أهل الشرائع طرا، ولم يخالف في ذلك إلا اليهود، ثم هو واقع بإجماع المسلمين، لم يخالف فيه إلا أبو مسلم الأصفهاني «2» . أما الجواز فأمر مفروغ منه، لأنّا نقطع به، لأنه لو وقع لم يترتب على فرض وقوعه محال، ولا معنى للجواز إلا هذا، ذلك بفرض أنّا لم نعتبر المصالح في التشريع، أما لو راعينا أنّ التشريع قائم على أساس المصالح، فالمصالح تختلف باختلاف الأوقات، فما يكون صالحا في وقت قد لا يكون صالحا في كل الأوقات، كشرب دواء في وقت دون وقت، فلا بد في أن تكون المصلحة في وقت تقتضي شرع حكم، ثم رفعه بعد ذلك الوقت، والأمثلة في ذلك كثيرة ومشاهدة. وأما الوقوع فقد حصل النسخ في الشرائع السابقة، وفي نفس شريعة اليهود، فإنه جاء في التوراة: أن آدم عليه السلام أمر بتزويج بناته من بنيه، وقد حرّم ذلك باتفاق. وأما الرد على الأصفهاني، فقد أجمعت الأمة على أنّ شريعتنا ناسخة لما يخالفها من الأحكام التي كانت في الشرائع السابقة، وقد وقع النسخ في نفس شريعتنا، فقد كانت القبلة في الصلاة أولا إلى بيت المقدس، ثم تحولت إلى الكعبة، وكانت الوصية للوالدين والأقربين واجبة، وقد نسخت بآيات المواريث، وبالحديث «لا وصيّة لوارث» «3» وعدة المتوفى عنها زوجها كانت مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [البقرة: 240] . ثم نسخت بآية: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234] . وإذا ثبت أن النسخ جائز وواقع فلنرجع إلى تفسير الآية. مِنْ آيَةٍ: تخصيص لما في اسم الشرط من العموم، آية مفرد وقع موقع الجمع، والمعنى: أي شيء من الآيات ننسخ، وهي في الأصل الدليل والعلامة، وشاع استعمالها في طائفة من القرآن معلومة

_ (1) رواه أبو داود في السنن (4/ 130) في كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق حديث رقم (4398) . (2) محمد بن بحر توفي سنة 322 هـ. من أهل أصفهان معتزلي كان عالما بالتفسير، انظر الأعلام للزركلي (6/ 50) . (3) رواه الترمذي في السنن (4/ 337) في كتاب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث حديث رقم (2120) .

البدء والنهاية، وقد شاع استعمالها في القرآن بالمعنى العام، وهو كثير. وجوّزوا أن تكون (من) زائدة (وآية) حالا، قال أبو حيان «1» : وهو فاسد، لأنّ الحال لا يجر بمن «2» . أو ننسها: ننس فعل مضارع من أنسى، وهو: إما من النسيان ضد الذكر والمعنى: أو ننسها أي نجعلك تنساها، وإما بمعنى الترك، فالمعنى: نأمر بتركها، يقال: أنسيته الشيء، أمرته بتركه، ونسيته تركته. وقد أنكر بعضهم أن تحمل الآية على النسيان ضد الذكر، لأن هذا لم يكن للنبي صلّى الله عليه وسلّم. ولا نسي قرآنا، وكيف هذا وقد تكفل الله جلّت قدرته بأن يقرئه فلا ينسى؟ سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) [الأعلى: 6] . ومن حملها عليه قال: إنه ينساها بعد نسخ لفظها، وإبعادها من القرآن من طريق الوحي إن شاء الله ذلك. وقد قال ابن عطية «3» : والصحيح في هذا أن نسيان النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أراد الله أن ينساه جائز، وأما النسيان الذي هو آفة البشر فالنبي معصوم منه قبل التبليغ وبعده، حتى يحفظه بعض الصحابة، ومن هذا ما روي أنه أسقط آية في الصلاة، فلما فرغ منها قال: «أفي القوم أبي» ؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: «فلم لم تذكّرني» قال: خشيت أنها رفعت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لم ترفع، ولكني نسيتها» «4» اه كلام ابن عطية. قرأ ابن عامر «5» : ما نَنْسَخْ بضم النون وكسر السين. والباقون بفتحها، وتفسير الآية على قراءة ابن عامر يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون نسخ وأنسخ بمعنى واحد. الثاني: أن يكون أنسخ بمعنى جعله ذا نسخ، كما في قول الحجاج أقبروا الرجل، بهمزة القطع. أي اجعلوه ذا قبر، ومنه قوله تعالى: ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) [عبس: 21] أي جعله ذا قبر.

_ (1) محمد بن يوسف بن علي، مفسّر نحوي، توفي سنة (745 هـ) . من كبار العلماء بالعربية والتفسير والحديث انظر الأعلام للزركلي (7/ 152) . (2) انظر تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (1/ 343) . [.....] (3) عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن الغرناطي مفسّر توفي سنة (542 هـ) انظر قضاة الأندلس ص (109) . والأعلام للزركلي (3/ 282) . (4) رواه أحمد في المسند (3/ 407) . (5) عبد الله بن عامر بن يزيد اليحصبي أحد القراء السبعة، وإمام أهل الشام توفي (118 هـ) انظر الأعلام للزركلي (4/ 95) .

أقسام النسخ

وقرأ ابن كثير «1» وأبو عمرو «2» : ننسأها بفتح النون والهمزة، وهو مجزوم بالشرط، وهو من النسء بمعنى التأخير، ومنه قوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: 37] ومنه بيع النسيئة أي بيع الأجل، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه النسء في الأجل، والزّيادة في الرّزق فليصل رحمه» «3» . وقال الفخر الرازي: وقد جاء النسيان بمعنى الترك في قوله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] أي فترك، وقال تعالى: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [الجاثية: 34] وقال تعالى: قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) [طه: 126] . نَأْتِ بِخَيْرٍ: جواب الشرط، والخبرية قد تكون بأن يكون البدل أخفّ في التكليف، وقد تكون برعاية المصلحة مع المشقة وكثرة الثواب «أفضل الأعمال أحمزها» «4» أي أشقها، وقد تكون الخيرية بإسقاط التكليف لا إلى بدل، على رأي من أجازه. أَوْ مِثْلِها: في الحكم، والحكمة في مجيء البدل مثلا رعاية المصلحة بحسب الوقت، وذلك كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة، ومثال النسخ إلى أثقل نسخ حبس الزناة في البيوت «5» إلى الجلد والرجم «6» ، ونسخ وجوب صوم يوم عاشوراء بوجوب صيام شهر رمضان، وفرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت في الحضر وأقرت في السفر «7» ، عند بعضهم. وأما النسخ إلى أخف فكنسخ عدة المتوفى عنها زوجها من حول إلى أربعة أشهر وعشر على رأي الجمهور. أقسام النسخ النسخ يكون بنسخ التلاوة مع بقاء الحكم كما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه

_ (1) عبد الله بن كثير الداري، إمام المكيين في القراءة توفي سنة (120 هـ) انظر الأعلام للزركلي (4/ 115) . (2) زبان بن عمار أبو عمرو بن العلاء مقرئ أهل البصرة توفي سنة (154 هـ) في الكوفة انظر الأعلام للزركلي (3/ 41) . (3) رواه البخاري في الصحيح (7/ 96) ، 78- كتاب الأدب، 12- باب من بسط له في الرزق حديث رقم (5986) . (4) انظر كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، للعجلوني بيروت، دار الكتب العلمية (1/ 141) حديث رقم (459) . حيث قال: قال ابن القيم: لا أصل له، وقال القاري معناه صحيح لما في الصحيحين عن عائشة: الأجر على قدر التعب. (5) كما في الآية (15) من سورة النساء. (6) كما في الآية (2) من سورة النور. (7) رواه البخاري في الصحيح (2/ 45) ، 18- كتاب تقصير الصلاة، 5- باب يقصر، إذا خرج حديث رقم (1090) ومسلم في الصحيح (1/ 478) ، 6- كتاب صلاة المسافرين، 1- باب صلاة المسافرين حديث رقم (1/ 685) .

قال: «كان فيما نزل من القرآن الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما» «1» وقد نسخت التلاوة وبقي الحكم. وقد يكون النسخ للحكم مع بقاء التلاوة، وهو كثير. كآية الوصية، وآية العدة وتقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وقد يكون النسخ للحكم والتلاوة معا، كما روي عن عائشة رضي الله عنها «كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرّمن ثم نسخ بخمس رضعات معلومات يحرّمن» «2» والجزء الأول منسوخ الحكم والتلاوة، والجزء الثاني وهو الخمس منسوخ التلاوة باقي الحكم عند الشافعية. ثم إنّ الخلاف في أنّ القرآن ينسخ بغير بالقرآن، والخبر المتواتر بغير المتواتر أو لا؟ فقد منع الشافعي رضي الله عنه نسخ القرآن بغير القرآن مستدلا بهذه الآية نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها ودلالتها من وجوه: الأول: أنه قال (نأت) وأسند الإتيان إلى نفسه، وهو لا يكون إلا إذا كان الناسخ قرآنا. الثاني: أنه قال: (بخير) ولا يكون الناسخ خيرا إلا إذا كان قرآنا. والثالث: أنه قال: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ويدخل في ذلك النسخ، بل إنما سيقت الآية له، فالنسخ لا بد أن يكون لله. والرابع: وهو أقوى أدلته قوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ إلى آخر الآية [النحل: 101] حيث أسند التبديل إلى نفسه وجعله في الآيات. وهو استدلال غير واضح، فإنّه لا معنى لأن يكون لفظ الآية خيرا من لفظ آية أخرى، إنما الخيرية تكون بين الأحكام، فيكون الحكم الناسخ خيرا من الحكم المنسوخ بحسب ما علم الله من اشتماله على مصالح العباد بحسب أوقاتها وملابساتها، وإذا كان الأمر كذلك فالمدار على أن يكون الحكم الناسخ خيرا، أيّا كان الناسخ قرآنا أو سنة، والكل من عند الله، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) [النجم: 3] . على أنه قد وقع نسخ القرآن في آية الوصية بحديث «لا وصية لوارث» ، وتمام البحث مستوفى في علم الأصول. بقي أن يقال: إن تعريف النسخ الذي ذكرتموه لا يتناول نسخ التلاوة فنقول: إن التعبد بالتلاوة حكم من الأحكام.

_ (1) رواه مالك في الموطأ (2/ 168) . (2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1075) ، 17- كتاب الرضاع، 6- باب التحريم بخمس حديث رقم (24/ 1452) .

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 106] الاستفهام قيل: للتقرير، وقيل: للإنكار، والمخاطب هو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وخطابه خطاب لأمته، وقيل: لكل من بلغه هذا الخطاب على حد «بشّر المشائين إلى المساجد» «1» . وقيل الخطاب لمن أنكر النسخ، والمراد الاستشهاد بعلم المخاطب بما ذكر على قدرته تعالى على النسخ، والإتيان بما هو خير أو مماثل، لأنّ ذلك من جملة الأشياء الداخلة تحت قدرته تعالى، فمن علم أن الله صاحب القدرة التامة والسلطان الشامل. على قدرته على ذلك قطعا. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [البقرة: 107] أي قد علمت أيّها المخاطب أن الله تعالى له السلطان القاهر، والاستيلاء الباهر، المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي، إيجادا، وإعداما، وأمرا، ونهيا، حسبما تقتضيه مشيئته، لا معارض لأمره، ولا معقب لحكمه، فمن هذا شأنه كيف يخرج عن قدرته شيء من الأشياء؟ والكلام على هذا النحو بمثابة الدليل لما قبله في إفادة البيان، ولذلك ترك العطف. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة: 107] عطف على الجملة الواقعة خبرا، وفيه إشارة إلى دخول الأمة في الخطاب بقوله: أَلَمْ تَعْلَمْ. و (من) الأولى ابتدائية، والثانية زائدة. والولي: المالك، والنصير: المعين. والفرق بينهما أن المالك قد لا يقدر على النصر، وقد يقدر ولا يفعل. والمعين قد لا يكون مالكا، بل قد يكون أجنبيا، فجمع بينهما لذلك. والمراد من الآية الاستشهاد على تعلق إرادة الله بما ذكر من الإتيان بما هو خير من المنسوخ أو بمثله. فإنّ مجرّد قدرته تعالى على ذلك لا يستدعي حصوله. وإنما الذي يستدعيه مع ذلك كونه وليا نصيرا. فمن علم أنه وليّه ونصيره، وأنه لا وليّ له ولا نصير سواه، يعلم قطعا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير، فيفوّض أمره، ولا يخطر بباله ريبة في أمر النسخ وغيره أصلا. أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) [البقرة: 108] زعم بعضهم أنّ (أم) هنا متصلة. وقطع بعضهم بأنها منقطعة بناء على دخول الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الخطاب السابق، وعدم دخوله في هذا الخطاب، وذلك مخلّ بالاتصال، وذهب بعضهم إلى أنها لمجرد الاستفهام. والمراد عليه: أتريدون إلخ.

_ (1) رواه أبو داود في السنن (1/ 222) ، كتاب الصلاة، باب ما جاء في المشي إلى الصلاة حديث رقم (561) ، والترمذي في الجامع الصحيح (1/ 433) في كتاب الصلاة، باب ما جاء في فضل العشاء حديث رقم (221) .

وعلى التقديرين الأولين المراد توصية المسلمين بالثقة بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، وترك الاقتراح بعد رد ظن المشركين واليهود في النسخ، فكأنه قيل: لا تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن كاليهود في ترك الثقة بالآيات البينات، واقتراح غيرها، فتضلّوا، وتكفروا بعد الإيمان، وفي هذه التوصية كمال المبالغة والبلاغة، حتى كأنّهم بصدد الإرادة، فنهوا عنها، فضلا عن السؤال. هذا وقد ذكر بعض المفسرين «1» أنّ الصحابة اقترحوا على الرسول أشياء بعينها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138] والذي نفسي بيده لتركبنّ سنن من قبلكم ... » الحديث «2» . زعم بعضهم أن الخطاب فيها لليهود، وأن الآية نزلت فيهم حين سألوا أن ينزّل عليهم كتاب من السماء جملة كما نزلت التوراة على موسى جملة، ويكون الفعل المضارع مرادا منه الماضي. واختاره الإمام الرازي. قال: إنه الأصح. لأن السورة من أول قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة: 40] حكاية عن اليهود، ومحاجّة معهم، ولأنّ المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يكون متبدلا به الكفر بالإيمان. وذهب قوم إلى أنها نزلت في أهل مكة، حين سألوا المصطفى أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن يوسّع لهم أرض مكة، وأن يفجّر الأنهار خلالها تفجيرا، ولا مانع من جعل الكل أسبابا. وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ جملة مستقلة مشتملة على حكم كليّ أخرجت مخرج النهي جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله: أَمْ تُرِيدُونَ. و (سواء) بمعنى وسط أو مستو، والإضافة من إضافة الصفة للموصوف، والباء داخلة على العوض المتروك، نظيرها في قوله تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة: 61] . وحاصل الآية: أن من يترك الثقة بالآيات البينات المنزلة بحسب المصالح، التي من جملتها الآيات الناسخات، التي ما جاءت إلا لمحض الخير، واقتراح غيرها، فقد حاد من حيث لا يدري عن الطريق المستقيم، الموصل إلى معالم الحق والهدى. هذا وقد زعم بعضهم أن (آية) في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ لا يراد منها

_ (1) انظر تفسير ابن جرير الطبري المسمى جامع البيان في تفسير القرآن (6/ 139) ، وتفسير ابن كثير المسمى تفسير القرآن العظيم (2/ 243) . [.....] (2) رواه البخاري في الصحيح، 96- كتاب الاعتصام، 10- باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (7319) .

[سورة البقرة (2) : آية 144]

الآية القرآنية، بل المراد المعجزات الدّالّة على صدق الرسل، حيث يبدّل الله معجزة الرسول السابق بالمعجزة التي يأتي بها الرسول الذي بعده، وإنما لجأ إلى ذلك فرارا من تفسير الإنساء ونحوه، وتمشيا كما يزعم مع قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن علم ما ذكروه في أسباب النزول من أن الآية جاءت للتمهيد في تحويل القبلة، ونسخ التوجه إليها بالتوجه إلى الكعبة: علم أنه لا داعي إلى ما زعمه. قال الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) اختلف العلماء في نزول هذه الآية، فقال قوم: هي متقدمة في النزول على قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [البقرة: 142] وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه، ويؤيده ما رواه البخاري «1» عن البراء بن عازب قال: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب أن يتوجه نحو الكعبة فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ. فقال السفهاء من الناس، وهم اليهود: ما ولّاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فقال تعالى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. وذهب الزمخشري «2» وغيره إلى أنّ هذه الآية متأخرة في النزول والتلاوة عن قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ ... ويكون قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مستقبلا أريد به الإخبار بمغيّب يكون من اليهود عند نزول الأمر باستقبال الكعبة، ليكون ذلك معجزا بما فيه من الإخبار بالغيب، ولتتوطن النفس على ما يرد من الأعداء، وتستعد له، فيكون أقل تأثيرا منه عند المفاجأة، وليكون الجواب حاضرا للرد عليهم عند ذلك، وهو قوله تعالى: قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ أي كثيرا ما نرى تردّد وجهك في جهة السماء متشوّقا للوحي، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقع في قلبه، ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة، لما أن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا محمد ويتّبع قبلتنا، ولأنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وأدعى إلى إيمان العرب. والظاهر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يسأل ذلك، بل كان ينتظره فقط، إذ لو وقع السؤال لكان الظاهر ذكره، وفي ذلك: دلالة على كمال أدبه عليه الصلاة والسلام، وقال

_ (1) سيأتي تخريجه لا حقا. (2) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 98) .

قتادة «1» والسدي وغيرهما: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله أن يحوّله إلى الكعبة، وعلى هذا يكون السؤال واقعا، وإنما لم يذكر، لأنّ تقلّب الوجه نحو السماء وهي قبلة الدعاء يشير إليه. ولعل ذلك بعد حصول الإذن له بالدّعاء، لما أن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئا من غير أن يأذن لهم فيه. وقد ورد في بعض الآثار أنه صلّى الله عليه وسلّم استأذن جبريل في أن يدعو الله، فأخبره جبريل أن الله قد أذن له، على أنه لا مانع من السؤال ابتداء لمصلحة ألهمها، ومنفعة دينية فهمها، ولا يتوقف ذلك على الاستئذان والإذان. وليس في الآية ما يدل صريحا على أنه سأل أو لم يسأل، وقد أخرج البخاري ومسلم في «صحيحيهما» «2» عن البراء بن عازب قال: صلينا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم أظهر الله علمه برغبة نبيه عليه الصلاة والسلام، فنزلت الآية قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ وقد يفهم من هذا أن السؤال لم يقع. قال الزمخشري «3» : إنّ (قد) هنا بمعنى (ربما) وهي للتكثير، وقال أبو حيان «4» : بل التكثير مستفاد من لفظ التقلّب، لأنه مطاوع التقليب، ومن نظر مرة أو ردد بصره مرتين أو ثلاثا لا يقال: إنه قلب، فلا يقال قلّب إلا حيث الترديد كثير. و (نرى) هنا بمعنى الماضي، وقد ذكر بعض النحاة أن (قد) تقلب المضارع ماضيا، ومنه ما هنا، ومنه قوله: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ [النور: 64] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ [الحجر: 97] قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ [الأحزاب: 18] والمعنى قد رأينا إلخ. فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً أي لنمكنّنك من استقبالها، من قولك: وليته كذا إذا جعلته واليا له، والفاء لسببية ما قبلها في الذي بعدها. تَرْضاها تحبها، وتميل إليها لأغراض صحيحة أضمرتها في نفسك تريد بها أن يجتمع الناس على قبلة واحدة، فتتحد قلوبهم، ويكون من وراء ذلك خير عظيم. فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الفاء لتفريع الأمر على الوعد السابق، والمعنى: فاصرف وجهك شطر المسجد الحرام، وإنما فسّرنا التولية هنا بمعنى الصرف، لأنّها بالمعنى السابق تكون متعدية إلى مفعولين، وهي هنا معدّاة إلى واحد.

_ (1) قتادة بن دعامة بن قتادة أبو الخطاب، السدوسي البصري، عالم بالحديث والتفسير توفي سنة (118 هـ) مات بواسط في الطاعون، انظر الأعلام للزركلي (5/ 189) . (2) رواه البخاري في الصحيح (1/ 18) ، 2- كتاب الإيمان، 31- باب الصلاة حديث رقم (40) ، ومسلم في الصحيح (1/ 374) ، 5- كتاب المساجد، 2- باب تحويل القبلة حديث رقم (11/ 525) . (3) انظر الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في محاسن التأويل للزمخشري (1/ 201) . (4) في تفسيره البحر المحيط (1/ 427) .

الأحكام

وشَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نحوه وقبله وتلقاؤه، وفي ذكر المسجد الحرام الذي هو محيط الكعبة دون الكعبة مع أنها القبلة لا المسجد على ما جاء مصرّحا به في الأحاديث إشارة إلى أنه يكفي للبعيد محاذاة جهة القبلة، قاله الألوسي. وذكر غيره أن محاذاة الجهة مفهومة من قوله شطر المسجد، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ هذا تصريح بعموم الحكم المستفاد من فَوَلِّ وَجْهَكَ. والفائدة من ذكره- مع أن خطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم خطاب لأمته- الاهتمام بشأن قبلة الكعبة، ودفع توهّم أنّ الكعبة قبلة المدينة وحدها، لأنّ الأمر بالصرف كان فيها، فربما فهم أن قبلة بيت المقدس لا تزال باقية. فدفعا لهذا الإيهام كان التصريح بعموم الحكم في عموم الأمكنة: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ. وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة: 144] إن اليهود والنصارى بما أنزل إليهم في التوراة والإنجيل في شأن النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، والبشارة به، وأنه سيصلي إلى القبلتين: بيت المقدس، وقبلة أبيه إبراهيم الذي أمر أن يتّبع ملّته، ليجزمون أن تحويل القبلة بترك التوجه إلى بيت المقدس والتوجه إلى الكعبة حق لا مرية فيه، وأن ذلك أمر ربهم، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ اعتراض بين الكلامين جيء به لوعد الفريقين ووعيدهم، وقرأ ابن عامر والكسائي «1» تعلمون بالتاء، فهو وعد للمؤمنين. الأحكام لا خلاف بين المسلمين أنّ استقبال القبلة لا بد منه في صحة الصلاة إلا ما جاء في الخوف والفزع، وفي صلاة النافلة على الدابة أو السفينة، فإن القبلة في الحال الأولى جهة أمنه، وفي الثانية قبلته حيث توجهت به دابته أو سفينته. إنما الكلام في القبلة ما هي، أهي عين الكعبة: أم هي جهة الكعبة؟ بالأول قالت الشافعية. وبالثاني قال الحنفية، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الكعبة قبلة من في المسجد، والمسجد قبلة من خارجه في مكة، ومكة قبلة سائر الأقطار، ونسبه الفخر الرازي وأبو حيان إلى المالكية، وقبل الكلام على مأخذ كلّ مذهب نحبّ أن نقول: إن المسجد الحرام قد أطلق تارة وأريد منه الكعبة فقط، وتارة أريد به المسجد وحوله معه، وقد يراد به مكة كلها. وقد يراد مكة مع الحرم حولها بكماله. وقد جاءت نصوص الشرع بهذه الإطلاقات الأربعة. فمن الأول: قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.

_ (1) علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي أبو الحسن، أحد القراء السبعة، ينتسب إلى مدرسة الكوفة بالنحو، توفي سنة (189) انظر الأعلام للزركلي (4/ 283) .

ومن الثاني: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» «1» وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ... » «2» إلخ. وأما الثالث: وهو مكة فقال المفسرون هو المراد في قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء: 1] وكان الإسراء من دور مكة، وقول الله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: 196] . والإطلاق الرابع: دليله قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة: 28] ، والشطر أيضا يطلق بإطلاقين: يطلق ويراد منه النصف وقد قاله الجبّائي والقاضي: أنه المراد هنا، لأن المراد الكعبة، والكعبة وسط المسجد. وقد فرّعوا عليه أن من كان خارج المسجد، وصلّى إلى جانب المسجد ولم يكن في منتصفه، فقد صلّى إلى غير الكعبة، فتكون صلاته باطلة لعدم الاستقبال. كذا نقل الفخر الرازي عنهما. ومستندهما في الذي رأيا أنه لو كان المراد من الشطر الجانب لم يكن لذكر الشطر فائدة، ولقيل فول وجهك المسجد الحرام، وقد قيل في رد هذا: إن الفائدة موجودة، وهي أنه لو قال: فولّ وجهك المسجد الحرام لزم تكليف ما لا يطاق، لأنّ من في أقصى المشرق أو المغرب لا يمكن أن يولّي وجهه المسجد، بخلاف ما إذا ذكر الشطر وأريد منه: الجانب. بعد هذا نرجع إلى بيان الخلاف في القبلة: قلنا إنّ المالكية يرون أن القبلة للمسامت هي الكعبة، ولغير المسامت الجهة، ويشهد لهم ما حكي في كتاب «شرح السنة» «3» عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب» . وقال غيرهم: القبلة هي الكعبة، والدليل عليه ما ورد في «الصحيحين» «4» : عن

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1013) ، 15- كتاب الحج، 94- باب فضل الصلاة بمسجد مكة والمدينة حديث رقم (509/ 1395) . (2) رواه البخاري في الصحيح (2/ 71) ، 20- كتاب فضل الصلاة، 1- باب فضل الصلاة في مسجد مكة حديث رقم (1189) ، ومسلم في الصحيح (2/ 1014) ، 15- كتاب الحج، 95- باب لا تشد الرحال حديث رقم (511/ 1397) . (3) انظر: شرح السنة للبغوي محمد الحسين بن مسعود (- 516 هـ) ط 1، بيروت، دار الكتب العلمية 1992، (2/ 101) . (4) رواه البخاري في الصحيح (1/ 119) ، 8- كتاب الصلاة، 30- باب قوله تعالى: (واتخذوا) حديث رقم (398) ، ومسلم في الصحيح كتاب الحج حديث رقم (395) .

ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة بن زيد قال: «لما دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم البيت دعا في نواحيه كلّها ولم يصلّ حتى خرج منه، فلما خرج صلّى ركعتين في قبل الكعبة، وقال: هذه القبلة» . قال القفال: وقد وردت الأخبار الكثيرة في صرف القبلة إلى الكعبة، ففي خبر البراء بن عازب «ثم صرف إلى الكعبة؟ وكان يحبّ أن يتوجه إلى الكعبة» «1» وفي خبر ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حوّل إلى الكعبة» «2» وفي خبر ثمامة: «جاء منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنادى: إنّ القبلة حوّلت إلى الكعبة» «3» ، لا يتحصّل إلا إذا أصاب عينها، فالمشاهد لا بدّ له من إصابة العين، والغائب لا بد له من قصد الإصابة مع التوجه إلى الجهة. والفريق الثاني: الحنفية «4» والمالكية على ما هو منصوص عليه في كتبهم، يرون أن القبلة للمكي المشاهد إصابة العين، ولغير المشاهد الجهة فحسب. حجة الشافعي رضي الله عنه القرآن والسنة والقياس: أما القرآن: فظاهر الآية التي نحن بصددها. وذلك أن المراد من شطر المسجد الحرام جانبه. وجانب الشيء هو الذي يكون محاذيا له وواقعا في سمته. وأما الحديث فما ورد من حديث أسامة «أنه ركع ركعتين في قبل الكعبة، وقال: هذه القبلة» وهي جملة حاضرة للقبلة في الكعبة. وأما القياس: فهو أنّ مبالغة النبي صلّى الله عليه وسلّم في تعظيم الكعبة بلغت مبلغا عظيما، والصلاة من أعظم شعائر الدين، وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة يوجب مزيد الشرف، فوجب أن يكون مشروعا، وأيضا: كون الكعبة قبلة أمر معلوم، وكون غيرها قبلة أمر مشكوك، ورعاية الاحتياط في الصلاة أمر واجب. فوجب توقيف صحّة الصلاة على استقبال عين الكعبة. وأما الحنفية والمالكية، فقد احتجوا بأمور: الأول ظاهر هذه الآية، فإنّ من استقبل الجانب الذي فيه المسجد الحرام، فقد ولّى وجهه شطر المسجد الحرام، سواء أصاب عين الكعبة أم لا، وهذا هو المأمور به، فوجب أن يخرج من العهدة.

_ (1) سبق تخريجه. (2) و (3) الحديث رواه البخاري- في غير هذا اللفظ- في الصحيح (5/ 178) ، 65- كتاب تفسير القرآن، 18- باب (20519) (من حيث خرجت) حديث رقم (4493، 4494) ، ومسلم في الصحيح (1/ 375) ، 5- كتاب المساجد، 2- باب تحويل القبلة حديث رقم (13/ 526) . [.....] (4) انظر الهداية شرح بداية المبتدي، للمرغيناني ط 1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1990 (1/ 48) .

الثاني ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» «1» . الثالث فعل الصحابة. وهو من وجهين: أحدهما: أن أهل مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح مستقبلين لبيت المقدس مستدبرين للكعبة، لأنّ المدينة بينهما، فقيل لهم: ألا إنّ القبلة قد حوّلت إلى الكعبة، فاستداروا في الصلاة من غير طلب دليل على القبلة، ولم ينكر النبي عليه الصلاة والسلام عملهم «2» . وسمي مسجدهم بذي القبلتين، ولا يعقل أن العين تستقبل عين الكعبة إلا بعد الوقوف على أدلة هندسية يطول النظر فيها، ولم يتعلّموها، ولا يمكن أن يدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وظلمة الليل. والوجه الثاني: أنّ الناس من عهد النبي عليه السلام بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام، ولم يحضروا مهندسا عند تسوية المحراب، ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة. الدليل الرابع من أدلة الحنفية القياس: هو أن محاذاة عين الكعبة لو كانت واجبة ولا سبيل إليها إلا بمعرفة الطرق الهندسية لوجب أن يكون تعلم الدلائل الهندسية واجبا، لأنه لا يتم الواجب إلا به، وما لا يتمّ الواجب إلا به واجب، ولكنّ تعلّم الدلائل الهندسية غير واجب، فعلمنا أنّ استقبال عين الكعبة غير واجب، هذا مجمل أدلة الأئمة رضوان الله عليهم، وأنت ترى أنه ربما كان لفظ الآية، وكون (الشطر) بمعنى الجهة شاهدين يرجّحان أدلة الحنفية والمالكية. وكأنّ الشافعية أحسوا صعوبة التوجه إلى عين الكعبة خصوصا من غير المشاهد. فقالوا: فرض المشاهد إصابة العين حسّا، وفرض غير المشاهد إصابته قصدا. وبعد أن نراهم يصرحون بذلك يكاد الخلاف عديم الفائدة، فإنّ الكل يعتقد أن التوجه إلى القبلة أيا كانت فيه شعور بقصد الكعبة. هذا وقد انبنى على هذا الخلاف خلاف آخر في حكم الصلاة فوق الكعبة، فمشى الحنفية على مذهبهم من أن القبلة الجهة، من قرار الأرض إلى عنان السماء، فأجازوا الصلاة فوقها مع الكراهية، لما في الاستعلاء عليها من سوء الأدب، ومنع غيرهم من صحة الصلاة فوقها، لأن المستعلي عليها لا يستقبلها، إنما يستقبل شيئا غيرها، وبقية الفروع تعرف في الفقه، فلا نطيل بذكرها، غير

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (2/ 171- 173) في كتاب الصلاة، باب ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة، حديث رقم (342، 343، 244) . (2) سبق تخريجه.

[سورة البقرة (2) : الآيات 158 إلى 160]

أن هناك فرعا واحدا نذكره لما له من العلاقة بتفسير الآية: فهم بعضهم من قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أن هذا يمتنع معه أن يوجه المصلّي نظره إلى موضع سجوده قائما، وإلى قدميه راكعا، وإلى أرنبة أنفه ساجدا، وإلى حجره جالسا، لأن هذا فيه توجّه إلى غير شطر المسجد الحرام، وأنت ترى أنه فهم عجيب، فإن الحنفية مثلا لم يقولوا هذا إلا بعد تحقق الاستقبال والتوجه شطر المسجد الحرام. وإنما قالوا ذلك منعا للمصلّي أن يتشاغل في الصلاة بغيرها إذا لم يحصر بصره في هذه الجهات التي عينوها لنظره. قال الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) الصفا: جمع صفاة، وهي الصخرة الملساء، وقد يأتي واحدا ويجمع على صفىّ قال الراجز: كأن متنيه من النّقي ... مواقع الطّير على الصّفي المروة: الحصاة الصغيرة، وتجمع على مرو قال الشاعر «1» : حتّى كأنّي للحوادث مروة ... بصفا المشقّر كلّ يوم تقرع وقد عنى الله تعالى بالصفا والمروة هنا الجبلين المسلمين بهذين الاسمين اللذين هما بمكة. شعائر: جمع شعيرة: من الإشعار وهو الإعلام، أي هما من معالم الله التي جعلها للنّاس معلما ومشعرا يعبدونه عندهما. الحج: القصد، وقيل هو: كثرة التردد، وقيل للحاج حاج: لأنه يأتي البيت قبل الذهاب إلى عرفة، ثم يعود إليه لطواف يوم النحر بعد الوقوف بعرفة. ثم ينصرف إلى منى، ثم يعود إليه لطواف الصدر، ففيه كثرة التردد. الاعتمار الزيارة. الجناح: في اللغة عبارة عن الميل كيفما كان، ولكنه خصّ بالميل إلى الإثم. المعنى: إن الصفا والمروة أي هذين الجبلين من معالم الله التي جعلها معلما ومشعرا يعبده عباده عندهما بالدعاء، أو الذكر، أو السعي والطواف. فمن حج البيت الحرام أو اعتمره فلا إثم عليه أن يطوّف بهما.

_ (1) هو أبو ذؤيب الهذلي انظر المحرر الوجيز (1/ 229) .

الأحكام

ومن تطوّع بالحج والعمرة بعد أداء حجته الواجبة. فإنّ الله شاكر له على تطوّعه، مجاز به. عليم بقصده وإرادته. وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية: 1- أخرج ابن جرير «1» عن الشعبي «2» أن وثنا كان في الجاهلية على الصفا يسمى إساف، ووثنا على المروة يسمّى نائلة، وكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوثنين، فلما جاء الإسلام وكسّرت الأوثان. قال المسلمون: إن الصفا المروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين، وليس الطواف بهما من الشعائر قال: فأنزل الله أنهما من الشعائر. 2- وروى ابن شهاب عن عروة قلت لعائشة رضي الله عنها: أرأيت قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فو الله ما على أحد جناح أن لا يطّوف بهما. قالت عائشة رضي الله عنها: بئسما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما تأولتها لكان: فلا جناح عليه إلا يطوف بهما، إنما كان هذا من الأنصار قبل أن يسلموا، يهلّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهلّ لمناة، يتحرج أنّ يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فقالوا: يا رسول الله إنا كنّا نتحرج أن نطوّف بالصفا والمروة. فأنزل الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ ... ثمّ سنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بينهما قال ابن شهاب: فذكرت ذلك لأبي بكر ابن عبد الرحمن، فقال: إنّه العلم، أي ما سمعت به «3» . الأحكام اختلف العلماء في حكم السعي بين الصفا والمروة على أقوال: 1- فقيل: إنه ركن، وبه قال الشافعي وأحمد، وهو مشهور مذهب مالك، فمن لم يسع كان عليه حج قابل. 2- وقيل: ليس بركن، بل هو سنة. وبه قال أبو حنيفة، وهو قول في مذهب مالك، قال في «العتبية» «4» يجزئ تاركه الدم. 3- وقيل هو تطوع، ولا شيء على تاركه. احتجّ من جعله ركنا بما روي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يسعى ويقول: «اسعوا فإنّ الله كتب

_ (1) ابن جرير الطبري، جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (2/ 28) . (2) عامر بن شراحيل الحميري من كبار التابعين توفي سنة (103) في الكوفة انظر الأعلام للزركلي (3/ 251) . (3) رواه البخاري في الصحيح كتاب الحج باب وجوب الصفا والمروة حديث رقم (1643) . (4) مؤلف في فقه المالكية لمحمد بن أحمد العتيبي.

عليكم السعي» رواه الشافعي عن عبيد الله بن المزمل «1» . واحتج من لم يره ركنا: بظاهر الآية، فقد رفعت الإثم عمّن تطوّف بهما، ووصف ذلك بالتطوع. فقال: وَمَنْ تَطَوَّعَ يعني بالتطوع بينهما، وبما روي من حديث الشعبيّ عن عروة بن مضرّس الطائي قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمزدلفة، فقلت يا رسول الله جئت من جبل طيء، ما تركت جبلا إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «من صلّى معنا هذه الصلاة، ووقف معنا هذا الموقف، وقد أدرك عرفة قبل- ليلا أو نهارا- فقد تمّ حجه، وقضى تفثه» «2» ، قالوا: فهذا يدل على أن السعي ليس بركن من وجهين: أحدهما: إخباره بتمام حجته، وليس فيها السعي. الثاني: أنه لو كان من أركانه لبيّنه للسائل، لعلمه بجهله الحكم، فإن قيل: مقتضى ذلك ألا يكون الطواف بالبيت فرضا، فإنّه لم يذكره أيضا. قيل: ظاهر اللفظ يقتضي ذلك، وإنما أثبتناه بدليل آخر. والظاهر أن الآية لا تشهد لأحد المختلفين، لأننا علمنا السبب في أنها عرضت لرفع الجناح على من تطوّف بهما، وهو أنهم كانوا يتحرجون من السعي بينهما، لأنه كان عليهما في الجاهلية صنمان. وقالوا: كان يطاف بهما من أجل الوثنين. فبيّن الله أنه يطاف بهما من أجل الله، وأنهما من شعائره، فلا يتحرجون من السعي بينهما، وقوله: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً كما يحتمل ومن تطوع بالتطوّف بهما، يحتمل: ومن تطوع بالزيادة على الفرض من التطوّف بهما، أو من الحج، فلم يبق من مستند في هذه المسألة إلا السنّة، وقد روي في ذلك آثار مختلفة، فيرجع إلى الترجيح بين هذه الآثار، بالسند والدلالة. قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) نزلت هذه الآية الكريمة في أهل الكتاب حين سئلوا من بعض الصحابة عمّا جاء في كتبهم في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معاذا سأل اليهود عمّا في «التوراة» من ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم فكتموه إياه. فأنزل الله هذه الآية.

_ (1) رواه أحمد في المسند (6/ 422) . (2) رواه أبو داود في السنن (2/ 147) ، كتاب المناسك، باب من يدرك عرفة، حديث رقم (1950) ، والترمذي في الجامع الصحيح (3/ 238) ، في كتاب الحج، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام حديث رقم (891) .

والكتمان: ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهاره، لأنّه ما لم يكن كذلك لا يعدّ كتمانا. ولما كان ما أنزله الله من البينات والهدى ما أنزل إلا لخير الأمم، وهدايتهم إلى الطريق المستقيم. وهم لن يصل إليهم الخير، ولن يهتدوا إذا كتم عنهم ما أنزل، وهم من أجل ذلك أحوج ما يكونون إلى إظهاره وتعليمه، شدّد الله النكير على الكاتمين، لما ينشأ عن هذا الكتمان من الضرر الجسيم، وتعطيل الكتب السماوية أن تؤتي الثمرة المرجوّة منها. والمراد في قوله تعالى: ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى كل ما أنزله الله على الأنبياء من الكتب والوحي، ومن الدلائل التي تهتدي بها العقول في ظلمات الحيرة. والآية عامة في كل كاتم ومكتوم يحتاج الناس إلى معرفته في أمر معاشهم ومعادهم. ولا عبرة بخصوص السبب الذي نزلت فيه. أما قوله: مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ فقد قيل: المراد بالكتاب «التوراة» و «الإنجيل» ، والمكتوم ما جاء فيهما من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم والأحكام. وقيل: أراد بالمنزل الأول ما في كتب المتقدمين. والثاني القرآن. واللعن في اللغة: الإبعاد مطلقا. ويطلق على الذم. وفي الشرع: الإبعاد من الثواب. و (اللعنون) قد بينوا في آية أخرى هي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) [البقرة: 161] وقد قيل المراد باللاعنين: دوابّ الأرض وهوامها، فإنّها تقول: منعنا القطر من بني آدم، وقيل غير ذلك. وأنت قد رأيت أن اللعن قد جاء مرتبا على الكتمان، فلا مانع من أن يراد باللاعنين كل من يلحقه أثر الكتمان، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) . التوبة: عبارة عن الندم على فعل القبيح، لا لغرض سوى أنه قبيح، والإصلاح: ضد الإفساد، والتبيين: الإظهار. عني القرآن الكريم عناية خاصة بتشديد النكير على من يكتم العلم. فهذه الآية دالّة دلالة صريحة على أن الكتمان جرم عظيم: يستحقّ مرتكبه اللعن والإبعاد من رحمة الله، وذمّ الناس إياه، ومقتهم وغضبهم، وذكر في آية أخرى قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران: 187] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة: 174] وقال في الحث على بيان العلم وإن لم يذكر الوعيد: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا

[سورة البقرة (2) : آية 173]

فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة: 122] وقد ورد في السنة ما لا يقلّ عن هذا روى شعبة عن قتادة في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قال: فهذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم علما فليعلّمه، وإياكم وكتمان العلم. فإنّه هلكة، وروى حجاج عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كتم علمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار» «1» . وقد أشرنا آنفا إلى ما في الكتمان من تعطيل وظيفة الرّسالة، وإلحاق الضرر بالناس، ومن أجل ذلك كان الوزر كبيرا. والآية صريحة في أنّ الكتمان إفساد، وأنه لا يكفي من فاعله الندم على ما فعل من الكتمان، بل لا بد من الإصلاح والتبيين، وقد ذكروا أن الآية تدل على عدم جواز أخذ الأجر على التعليم، لأنها تدل على لزوم إظهار العلم، وترك كتمانه، ولن يستحق إنسان أجرا على عمل يلزمه أداؤه، وقد جاء هذا الحكم مصرّحا به في آية: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا [البقرة: 174] . فثبت بذلك بطلان أخذ الأجر على تعليم القرآن وعلوم الدين، غير أن المتأخرين لما رأوا تهاون الناس، وعدم اكتراثهم لأمر التعليم الديني، وانصرافهم إلى الاشتغال بمتاع الحياة الدنيا، ورأوا أن ذلك يصرف الناس عن أن يعنوا بتعلم القرآن والعلوم الدينية فينعدم حفظة القرآن، وتضيع العلوم، وليس في الناس مع كثرة مشاغل الحياة ما يلجئهم إلى الانقطاع لهذه المهام أباحوا أخذ الأجور، بل حتمه بعضهم، وما هذه الحبوس «2» والأرصاد التي حبسها الخيّرون إلا لتحقيق صيانة القرآن والعلوم الدينية، وسبيل لتنفيذ ما وعد الله به من حفظ القرآن في قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [الحجر: 9] . قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أصل الإهلال: رفع الصوت والجهر به. ومن ذلك قيل للملبي في حجة أو عمرة مهلّ لرفع صوته بالتلبية، ويقال: استهلّ الصبي، إذا صاح

_ (1) رواه أبو داود في السنن (3/ 318) ، كتاب العلم، باب كراهية منع العلم حديث رقم (3658) ، والترمذي في الجامع الصحيح (5/ 29) في كتاب العلم باب ما جاء في كتمان العلم حديث رقم (2649) . (2) أي الوقف.

عند ولادته، وكان العرب إذا أرادوا ذبح ما قربوه لأصنامهم سمّوا باسم أصنامهم، وجهروا بذلك، وجرى ذلك من أمرهم، حتى قيل لكل ذابح مهلّ. سمّى أو لم يسمّ، جهر أو لم يجهر. فمعنى وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ما ذبح لغير الله. اضْطُرَّ افتعل، من الضرورة: أي حلت به الضرورة إلى أكل ما حرم. المعنى: يا أيها الذين صدّقوا بالله: أطعموا من حلال الرزق الذي أحللناه لكم، فطاب بذلك التحليل، وكنتم حرمتموه على أنفسكم، ولم أحرمه عليكم: من البحائر، والسوائب، وما إليها، وأثنوا على الله من أجل النعم التي رزقكموها، وأحلّها لكم إن كنتم منقادين له، ومطيعين إياه. إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ. لم يحرّم عليكم إلا الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير الله، وما ذكر عليه اسم غير الله، فمن حلّت به ضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرّمات، لا باغيا ولا عاديا، أي غير باغ بأكله ما حرّم عليه، ولا عاد في أكله، بألا تكون له مندوحة بوجود ما أحلّه الله، فلا تبعة عليه في الأكل، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لكم ما كان منكم في الجاهلية من تحريم ما لم يحرمه الله. وقد ورد التحريم في هذه الآية مسندا إلى أعيان الميتة والدم إلخ. وقد اختلف في مثله: أيكون مجملا أم لا؟ فذهب الكرخي «1» إلى أنه يكون مجملا، وحجته فيه أنّ الأعيان ليست من فعل العبد، والتحريم لا يتعلّق إلا بما هو من فعله، فلا بدّ أن تقدّر فعلا، وليس بعض الأفعال أولى من بعض بالتقدير، فلذلك يكون مجملا. وذهب غيره من العلماء إلى أنه لا يكون مجملا، لأنّ العرف يعيّن الفعل المراد فيما ورد من ذلك، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنّ الفعل المراد هنا هو الانتفاع، فيفيد حرمة جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل. ولذلك تجد كثيرا من العلماء يستدلّ بهذه الآية على حرمة وجوه من الانتفاع بها. والذي ينساق إليه الذهن أن الفعل المراد هنا هو الأكل، فالمعنى إنما حرّم عليكم أكل الميتة. بدليل أن الكلام فيه، ففي سابقه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وفي لاحقه فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ ويدعم هذا ما ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خبر شاة ميمونة «إنما حرم من الميتة أكلها» «2» فإذا وردت أحاديث تدلّ على حرمة وجوه أخرى من الانتفاع بالميتة كانت الحرمة مأخوذة من تلك الأحاديث لا من هذه الآية.

_ (1) عبيد الله بن الحسين بن دلّال، شيخ الحنفية ومفتي العراق أصيب في الفالج. توفي سنة (340) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (12/ 88) ترجمة (3085) (2) رواه مسلم في الصحيح (1/ 276) ، 3- كتاب الحيض، 27- باب طهارة جلود الميتة حديث رقم (100/ 363) . [.....]

الأحكام

والآية تفيد الحصر، فظاهرها إثبات التحريم لما ذكر من الحيوان، ونفيه عما عداه ويؤكد ذلك ما جاء في آية الأنعام قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً [الأنعام: 145] ، وهذا الظاهر تعارضه أحاديث كثيرة وردت في تحريم السباع، والطير، والحمر الإنسية، والبغال. فقد ورد عن أبي ثعلبة الخشنيّ أنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أكل كلّ ذي ناب من السّباع» رواه البخاري ومسلم «1» . وروى مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أكل كلّ ذي ناب من السّباع، وكلّ ذي مخلب من الطّير حرام» ذكره أبو داود «2» . وروي عن جابر أنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهليّة، وأذن في لحوم الخيل» «3» . الأحكام ولما كان هذا التعارض بين ظاهر الآية وهذه الآثار اختلف الفقهاء اختلافا كثيرا فروي عن مالك أنه يكره لحوم السباع. والشافعي، وأبو حنيفة وأحمد يحرّمونها. وروي ذلك عن مالك أيضا، وجوز قوم أكل سباع الطير، وحرّمها آخرون. وذهب الجمهور إلى تحريم الحمر الإنسية، وروي ذلك عن مالك، وروي عنه أيضا أنه يكرهها، وحرّم الجمهور البغال، وكرهها قوم، وهو مروي عنه. وذهب أبو حنيفة ومالك إلى تحريم الخيل، وذهب الشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد: إلى إباحتها، فالذي يذهب إلى حل شيء مما ذكر يستند إلى الآية، ويذهب إلى عمومها، ويحمل الحديث على نهي الكراهة، أو يبطله لمكان معارضته للآية. والذي يذهب إلى تحريم شيء مما ذكر يستند إلى الحديث الوارد في التحريم، وينسخ به الآية، أو يرى أنه لا معارضة، ويرى أن الحصر في هذه الآية وآية الأنعام إضافي، بالإضافة إلى ما كانوا يعتقدون حرمته من البحائر. والسوائب، وما إليها. وكان مقتضى النظر أن من يذهب إلى أن الحصر في الآية حقيقي- ولم يشأ أن

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 286) ، 72- كتاب الذبائح، 29- باب أكل كل ذي ناب حديث رقم (5530) ومسلم في الصحيح (3/ 1533) ، 34- كتاب الصيد، 3- باب تحريم أكل كل ذي ناب حديث رقم (12/ 1932) . (2) هذا الحديث رواه مسلم في الصحيح (3/ 1534) ، 34- كتاب الصيد، 3- باب تحريم أكل كل ذي ناب حديث رقم (16/ 1934) . (3) رواه البخاري في الصحيح (6/ 285) ، 72- كتاب الذبائح، 28- باب لحوم الحمر الإنسية حديث رقم (5524) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1541) ، 34- كتاب الصيد، 6- باب في أكل لحوم الخيل حديث رقم (36/ 1941) .

ينسخها بحديث- أن يعمل ذلك في كل حديث يخالف هذه الآية، ويذهب إلى إباحة كل حيوان لم ترد بتحريمه، ولكنّا رأينا من يتمسك بالآية ويردّ بها حديثا يأخذ بحديث آخر، مع أن الآية تعارضه أيضا. ولعل المالكية أقرب إلى مقتضى النظر، لأنه روي عنهم كراهة كثير مما ذكر تحريمه في هذه الأحاديث، وقد تضمنت الآية تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل به لغير الله: فأما الميتة: فهي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير قتل، أو مقتولا بغير ذكاة. وكان العرب في الجاهلية يستبيحونها. فلما حرّمها الله جادلوا في ذلك فحاجّهم الله كما يرى في سورة الأنعام. وقد وردت أحاديث كثيرة تفيد تخصيص الميتة: روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أحلّت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان السمك والجراد، والدمان الكبد والطحال» . ذكره الدارقطني. وورد في «الصحيحين» «1» عن جابر بن عبد الله، أنه خرج مع أبي عبيدة بن الجراح يتلقى عيرا لقريش قال: وزودنا جرابا من تمر. فانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه. فإذا هي دابة تدعى العنبر، قال أبو عبيدة ميتة. ثم قال: بل نحن رسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد اضطررتم، فكلوا. قال فأقمنا عليه شهرا حتى سمنا. وذكر الحديث. قال: فلما قدمنا المدينة. أتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرنا ذلك له. فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء. فتطعموننا؟» قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه. فأكله. وروى مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في شأن البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» «2» . فذهب الشافعية والحنفية إلى تخصيص الميتة في الآية بالحديث الأوّل، وأحلّوا السمك والجراد الميّتين بغير ذكاة. إلا أن الحنفية حرّموا الطافي من السمك. وأحلوا ما جزر عنه البحر، لورود حديث يخصّص هذا الحديث المتقدم وهو: عن جابر بن

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 277) ، 72- كتاب الذبائح، 12- باب قول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ حديث رقم (5494) ومسلم في الصحيح (3/ 1535) ، 34- كتاب الصيد، 4- باب إباحة ميتات البحر حديث رقم (17/ 1935) . (2) رواه أبو داود في السنن (1/ 45) ، كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر حديث رقم (83) ، والترمذي في الجامع الصحيح (1/ 100) في كتاب الطهارة باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور حديث رقم (69) .

عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه، وطفا، فلا تأكلوه» «1» . أما المالكية فقد رأوا أن حديث «أحلت لنا ميتتان» ضعيف، ومهما اختلفوا في جواز تخصيص القرآن بالسنة فقد اتفقوا على أنه لا يجوز تخصيصه بحديث ضعيف، ورأوا أن الحديث الثاني والثالث صحيحان، فخصّصوا بهما الكتاب، وأحلوا بهما السمك، وبقي الجراد الميت على تحريم الميتة، لأنه لم يصح فيه شيء عندهم. ومن لا يجيز تخصيص القرآن بالسنة يرى أن الذي خصص ميتة السمك قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ [المائدة: 96] فأما صيده فهو ما أخذ بعلاج، وأما طعامه فهو ما وجد طافيا أو جزر عنه البحر. وقد ذهب أبو حنيفة إلى تحريم الجنين الذي ذبحت أمّه وخرج ميتا استنادا إلى أنّه ميتة، وحرمت الآية الميتة، وقد خالفه في ذلك صاحباه والشافعيّ وأحمد، وذهبوا إلى حله، لأنه مذكى بذكاة أمه. وذهب مالك إلى أنه إن تمّ خلقه ونبت شعره، أكل، وإلا لم يؤكل. والحجة لهم ما ورد من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» وهو يفيد أن ذكاة أمه تنسحب عليه. وقد قال من ينتصر لأبي حنيفة: إنّ الحديث كما يحتمل ما ذهبتم إليه، يحتمل معنى آخر، هو: أن ذكاته كذكاة أمه، فيكون على حدّ قوله: فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... ولكنّ عظم السّاق منك دقيق وإذا احتمل ذلك فلا يخصّص الآية. ويبعد هذا أنّ الحديث ورد في سياق سؤال، فقد ورد عن أبي سعيد، أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الجنين يخرج ميتا، فقال: «إن شئتم فكلوه، إنّ ذكاته ذكاة أمّه» «2» . وقد اختلف في الانتفاع بدهن الميتة في غير الأكل، كطلاء السفن ودبغ الجلود، فذهب الجمهور إلى تحريمه، واستدلوا بالآية، لأنهم يرون أن الفعل المقدر هو الانتفاع بأكل أو غيره، وبما روي عن جابر، قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة، أتاه أصحاب الصليب- وهو الودك الذي يستخرج من العظم- الذين يجمعون الأوداك، فقالوا: يا رسول الله، إنّا نجمع

_ (1) رواه أبو داود في السنن (3/ 370) ، كتاب الأطعمة، باب في الطافي من السمك حديث رقم (3815) . (2) رواه أبو داود في السنن (3/ 18) ، في كتاب الأضاحي، باب ما جاء في ذكاة الجنين حديث رقم (2827) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 60) ، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في ذكاة الجنين حديث رقم (1476) .

هذه الأوداك، وهي من الميتة، وعكرها إنما هي للأدم والسفن؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قاتل الله اليهود، حرّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها» فنهاهم عن ذلك «1» ، وهذا يفيد أن تحريم الله إياها على الإطلاق يفيد تحريم بيعها. وقد ذهب عطاء إلى أنه يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن، ولعل حجته أن الآية إنما هي في تحريم الأكل، بدليل سابقها، وأن حديث شاة ميمونة «2» يعارض حديث جابر، فوجب أن يرجح، لأنه موافق لظاهر التنزيل. وأما الدم فقد ورد هنا مطلقا، وورد في سورة الأنعام [145] مقيّدا بالمسفوح وحمل العلماء المطلق على المقيد، ولم يحرّموا منه إلا ما كان مسفوحا، وورد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لولا أن الله قال: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً لتتبّع الناس ما في العروق. وقد ذهب الحنفية والشافعية إلى تخصيص الدم المحرم بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «وأحلت لنا ميتتان ودمان» وذكر الكبد والطحال. والحق ما ذهب إليه مالك من أنه لا تخصيص لأن الكبد والطحال ليسا لحما ولا دما بالعيان والعرف. وأما الخنزير فقد ذهب بعض الظاهرية إلى أن المحرم لحمه، لا شحمه، لأنّ الله قال: وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وقال الجمهور: إنّ شحمه حرام أيضا، وهو الصحيح، لأن اللحم يشمل الشحم. فأما ما أهلّ به لغير الله. فقد نقل ابن جرير أن أهل التأويل اختلفوا فيه. فمنهم من قال: ما ذبح لغير الله. ونقله عن قتادة ومجاهد «3» وابن عباس، ومنهم من قال: ما ذكر عليه غير اسم الله، ونقله عن الربيع «4» وابن زيد «5» . وفيه خلاف آخر وهو: أهذا يشمل ذبائح النصارى التي ذكروا عليها اسم المسيح فتكون محرمة، أم لا يشملها فلا تكون محرمة، بل هو خاص بما ذكر عليه اسم الأصنام؟ بالأول قال أبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، والشافعي، ومالك، ونقل عنه الكراهة.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (3/ 54) ، 34- كتاب البيوع، 103- باب لا يذاب شحم الميتة حديث رقم (2224) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1207) ، 22- كتاب المساقاة، 13- باب تحريم بيع الخمر والميتة حديث رقم (71/ 1581) . (2) سبق تخريجه. (3) مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي المقرئ المفسّر أخذ التفسير عن ابن عباس توفي (104 هـ) انظر الأعلام للزركلي (5/ 278) . (4) الربيع بن أنس بن زياد المروزي انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (6/ 379) ترجمة (910) . (5) عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي القرشي توفي (63 هـ) ، انظر الأعلام للزركلي (3/ 307) .

وبالثاني قال عطاء «1» ، ومكحول «2» ، والحسن والشعبي، وسعيد بن المسيّب، وأشهب «3» من المالكية. وسبب اختلافهم: أنه وردت هذه الآية، ووردت الآية وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة: 5] وكلاهما يصح أن تخصّص الأخرى، فيصح أن يكون المعنى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ما لم يذكر اسم غير الله عليه، بدليل: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ويصحّ أن يقال: وما أهل به لغير الله إلا ما كان من أهل الكتاب. بدليل قوله: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ. فمن ذهب إلى الأول حرّم ذبيحة الكتابي إذا ذكر عليها اسم المسيح، ومن ذهب إلى الثاني أجازها، ويمكن أن يرجّح الثاني بأن الآية نزلت في تحريم ما كان تذبحه العرب لأوثانها، وتكون في معنى قوله: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة: 3] . فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. الباغي في اللغة: الطالب لخير أو لشر، وخص هنا بطالب الشر. العادي: المجاوز ما يجوز إلى ما لا يجوز، وقد اختلف بالمراد بالباغي والعادي هنا: فذهب مجاهد وابن جبير «4» إلى أن الباغي هنا: الخارج على الإمام، المفارق للجماعة. والعادي: قاطع السبيل. وقال قتادة والحسن وعكرمة «5» : إنّ الباغي: آكل الميتة فوق الحاجة، والعادي: آكلها مع وجود غيرها. فعلى القول الأول: لا يجوز للخارج على الإمام ولا لقاطع السبيل إن اضطرا أن يأكلا من الميتة. ولكن يعترض على ذلك بأن بغي الباغي وعدوانه لا يبيحان له قتل نفسه بترك أكل المحرم عند الاضطرار. وقد اختلفوا في المضطر، أيأكل من الميتة حتى يشبع. أم يأكل على قدر سد الرمق؟ ذهب مالك إلى الأول، لأن الضرورة ترفع التحريم فتعود الميتة مباحة. ومقدار الضرورة من حالة عدم القوت إلى حالة وجوده. وهو حينئذ لا يحمل قوله تعالى:

_ (1) ابن أسلم بن صفوان بن أبي رباح تابعي، ولد في اليمن وتوفي في مكة، انظر الأعلام للزركلي (4/ 235) . (2) ابن أبي مسلم، أبو عبد الله، من حفاظ الحديث وتوفي بدمشق، انظر الأعلام للزركلي (7/ 284) . [.....] (3) أشهب بن عبد العزيز القيسي العامري المصري، المالكي فقيه الديار المصرية، انظر الأعلام للزركلي (1/ 333) . (4) سعيد بن جبير الكوفي قتله الحجاج سنة (95 هـ) . تابعي وهو حبشي الأصل، انظر الأعلام للزركلي (3/ 93) . (5) ابن عبد الله البربري المدني مولى ابن عباس تابعي كان من أعلم الناس بالتفسير والمغازي، انظر الأعلام للزركلي (4/ 244) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 178 إلى 203]

غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ على أن المراد غير باغ في الأكل، ولا متعد حد الضرورة، بل يحمله على البغي والعدوان على الإمام. وذهب غيره إلى الثاني، لأنّ الإباحة ضرورة، فتقدر بقدر الضرورة. والحكمة في تحريم ما ذكر في الآية: أما الميتة فلا ستقذارها، ولما فيها من ضرر، لأنها إمّا أن تكون قد ماتت لمرض قد أفسد تركيبها. وجعلها لا تصلح للبقاء. وإما لسبب طارئ. فأما الأولى: فقد خبث لحمها. وتلوث بجراثيم المرض، فيخاف من عدواها ونقل مرضها إلى آكليها. وأما الثانية: فلأنّ الموت الفجائي يقتضي بقاء المواد الضارّة في جسمها. وأمّا الدم المسفوح، فلقذارته وضرره أيضا. وأما لحم الخنزير، فلأن غذاءه من القاذورات والنجاسات، فيقذر لذلك ولأن فيه ضررا، فقد استكشف الأطباء أنّ لحم الخنزير يحمل جراثيم شديدة الفتك، ويظهر أيضا أن المتغذي من لحم الخنزير قد يكتسب من طباع ما يأكله، والخنزير فيه كثير من الطباع الخبيثة. وأما ما أهل به لغير الله فتحريمه لحكمة مرجعها إلى صيانة الدين والتوحيد. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) كُتِبَ عَلَيْكُمُ فرض عليكم، كقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: 183] ومنه الصلوات المكتوبات، وقول الشاعر «1» : كتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جرّ الذّيول الْقِصاصُ: أن يفعل به مثل ما فعل. من قولهم: اقتص أثر فلان إذا فعل مثل فعله. قال الله تعالى: فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً [الكهف: 64] . الْقَتْلى: جمع قتيل، كالصرعى جمع صريع. وإنما يكون (فعلى) جمعا (لفعيل) إذا كان وصفا دالا على الزمانة. العفو: يطلق في اللغة على معان المناسب منها هنا اثنان: العطاء والإسقاط، فمن الأول: جاد بالمال عفوا صفوا: أي مبذولا ... ومن الثاني: وَاعْفُ عَنَّا [البقرة: 286]

_ (1) الشاعر هو عمر بن أبي ربيعة.

و «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق» واختلفوا في سبب نزول هذه الآية. فروي عن قتادة أنه كان في أهل الجاهلية بغي وطاعة الشيطان، فكان الحي إذا كان فيهم عدة ومنعة، فقتل عبد قوم آخرين عبدا لهم قالوا: لا نقتل به إلا حرّا، اعتزازا بأنفسهم على غيرهم، وإن قتلت لهم امرأة، قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا، فأنزل الله هذه الآية. يخبره أن العبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي. ثم أنزل الله تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة: 45] وروي مثل ذلك عن الشعبي وجماعة من التابعين. وروي عن السدي أنه قال في هذه الآية: اقتتل أهل ملتين من العرب أحدهما مسلم، والآخر معاهد في بعض ما يكون بين العرب من الأمر، فأصلح بينهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقد كانوا قتلوا الأحرار والعبيد والنساء، على أن يؤدي الحر دية الحر، والعبد دية العبد، والأنثى دية الأنثى. فقاصهم بعضهم من بعض. ويكون معنى الآية على الأول: يا أيها الذين آمنوا فرض عليكم أن تقتصوا للقتيل من قاتله، ولا يبغينّ بعضكم على بعض. فإذا قتل الحرّ الحرّ فاقتلوه فقط، وإذا قتل العبد العبد فاقتلوه به. وإذا قتلت الأنثى الأنثى فاقتلوها بها: مثلا بمثل. ودعوا الظلم الذي كان بينكم، فلا تقتلوا بالحر أحرارا، ولا بالعبد حرا، ولا بالأنثى رجلا. فمن ترك له شيء من القصاص إلى الدية. فليحسن الطالب في الطلب: من غير إرهاق ولا تعنيف، وليحسن المؤدي الأداء من غير مطل ولا تسويف، ذلك الذي شرعته من العفو إلى الدية تخفيف من ربكم ورحمة. وقد كان محرّما على اليهود أخذ الدية، ولم يكن لأولياء المقتول إلا القصاص، فمن تجاوز بعد أخذ الدية وقتل القاتل، فله عذاب أليم، أو فمن تجاوز ما شرعته، وعاد إلى أمر الجاهلية فله عذاب أليم. فإن قيل: إن صدر الآية يوجب القصاص، وعجزها يجيز العفو عنه إلى الدية. فكيف يجمع بينهما؟ قيل: إن صدر الآية أوجب القصاص والمماثلة إذا أريد قتل القاتل، ومنع العدوان والظلم. فلا منافاة بين صدرها وعجزها. وقد اختلف العلماء في نظم الآية وما يفهم منها. وبناء على ذلك اختلفوا فيما يؤخذ منها من الأحكام، فمن ذلك اختلافهم: أيقتل الحر بالعبد أم لا؟ أو يقتل المسلم بالذمي أم لا؟ فذهبت الحنفية إلى الأول، والمالكية والشافعية والحنابلة إلى الثاني، ونحن سنشير هنا إلى الأساس الذي بني عليه الخلاف. الأساس الذي بني عليه الخلاف هو: أصدر الآية كلام مكتف بنفسه؟ أم هو غير

مكتف بنفسه، بل محتاج إلى العجز؟ ولا يتم الكلام إلى عند قوله: وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى ذهب الحنفية إلى الأول، والآخرون إلى الثاني. قال الحنفية: إنّ الله أوجب قتل القاتل بصدر الآية. وهذا يعم كلّ قاتل: سواء كان حرا قتل عبدا أم غيره. وسواء كان مسلما قتل ذميا أم غيره. وأما قوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ فإنما هو بيان لما تقدّم ذكره على وجه التأكيد، وذكر الحال التي خرج عليها الكلام، وهي ما كان يفعله بعض القبائل، من أنهم يأبون أن يقتلوا في عبدهم إلا حرا، وفي امرأتهم إلا رجلا. على ما جاء في حديث الشعبي. فأبطل ما كان من الظلم، وأكّد فرض القصاص على القاتل دون غيره، وإذا كان ذلك كذلك فليس في الآية دلالة على أنه لا يقتل الحر بالعبد، كما أنها لم تدل باتفاق على أنه لا يقتل الرجل بالمرأة، وكما أنها تدل على أنه لا يقتل العبد بالحر، ولا المرأة بالرجل باتفاق أيضا، فمناط الاستدلال عندهم: أن صدر الآية عامّ، وذكر الحر بالحر وما بعده ليس تقييدا، بل هو إبطال لما كانوا يفعلونه من الظلم. وقالوا: في معنى الآية قوله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [الإسراء: 33] فانتظم جميع المقتولين ظلما، عبيدا كانوا أو أحرارا، مسلمين أو ذميين، وجعل لوليهم سلطانا، وهو القود. وقوله: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: 45] وهو عموم في إيجاب القصاص في سائر المقتولين، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، ولم نجد ناسخا. وقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] وقوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126] . وقد جاءت السنة أيضا بما يفيد هذا العموم في العبيد، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم» «1» فقال: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» ولم يفرّق بين عبد وحرّ في ذلك. فإن قيل: إن قوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ [البقرة: 178] يفيد أن الآية في المسلمين، قالوا: إنّ هذا حكم، وهذا حكم، وخصوص الثاني لا يفيد خصوص الأول. قال الله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] وهذا عموم في المطلّقة ثلاثا وما دونها، ثم عطف قوله تعالى: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة: 231] وقوله: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً [البقرة: 228] .

_ (1) رواه أبو داود في السنن (4/ 179) ، كتاب الديات، باب إيقاد المسلم بالكافر حديث رقم (4530) ، والنسائي في السنن (7- 8/ 392) حديث رقم (4759) .

وهذا خاصّ في المطلقة دون الثلاث، فخصوص هذا لم يبطل عموم اللفظ في الأول. وقالت المالكية والشافعية: إن الكلام لا يتم عند قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى وإنما ينقضي عند قوله: وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فالله قد أوجب المساواة، ثم بيّن المساواة المعتبرة، فبيّن أن الحرّ يساويه الحرّ، والعبد يساويه العبد، والأنثى تساويها الأنثى، وقد كان التقسيم يوجب ألا يقتل الرجل بالمرأة، ولكن جاء الإجماع على أنّ الرجل يقتل بالمرأة. فمناط الاستدلال عندهم أن الله أوجب المساواة والمماثلة في القتل، ثم جاء بالأصناف ليبين المساواة المعتبرة، فكأنه كتب أن يقتل القاتل إذا كان مساويا للمقتول في الحرية. وإذا كان الحر لا يقتل بالعبد، فالمسلم لا يقتل بالذمي، لأن نقص العبد برقّه الذي هو من آثار الكفر، فلا يقتل به المسلم، ويدل له صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده» «1» . قالوا: وقد كان ظاهر الآية يفيد ألّا يقتل العبد بالحر، ولكنا نظرنا إلى المعنى، فرأينا أن العبد يقتل بالعبد، فأولى أن يقتل بالحر، وإذن فالآية قد جاءت لتبيّن من هم أقل في المساواة، فلا يقتل بهم من هو أعلى منهم، فلا ينافي ذلك أن يقتل الأنقص بالأزيد، ويعضّد هذا ما ذهب إليه أبو حنيفة من أنه لا مساواة بين طرف الحر وطرف العبد، ولا يجري القصاص بينهما في الأطراف، فكذلك لا يجب أن يجري في الأنفس. والعقل يميل إلى تأييد قول أبي حنيفة في هذه المسألة، لأنّ هذا التنويع والتقسيم الذي جعله الشافعية والمالكية بمثابة بيان المساواة المعتبرة قد أخرجوا منه طردا وعكسا الأنثى بالرجل، فذهبوا إلى أن الرجل يقتل بالأنثى، والأنثى تقتل بالرجل، وذهبوا إلى أن الحر لا يقتل بالعبد، ولكنهم أجازوا قتل العبد بالحر، فهذا كلّه يضعف مسلكهم في الآية. أما مسلك أبي حنيفة فيها فليس فيه هذا الضعف، وحينئذ يكون العبد مساويا للحر، ويكون المسلم مساويا للذمي في الحرمة، محقون الدم على التأييد، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام. ويعضّد هذا أنّ مال الذمي قد ساوى مال المسلم في الحرمة، فإن سرقه مسلم قطع فيه، فإذا كان لماله حرمة مال المسلم فوجب أن يكون لدمه حرمة دم المسلم، إذ حرمة ماله إنما هي تبع لحرمة دمه، ويعضّد ما ذهب إليه أبو حنيفة من شرع قتل

_ (1) رواه ابن ماجه في السنن (2/ 888) ، كتاب الديات، باب لا يقتل مسلم بكافر حديث رقم (2660) .

المسلم بالذمي ما رواه الطحاوي عن محمد بن المنكدر، أن النبي عليه الصلاة والسلام أقاد مسلما بذمي، وقال: «أنا أحق من وفّى بذمته» «1» وقد روي عن عمر وعلي قتل المسلم بالذمي ، وقال علي: إنّا أعطيناهم الذي أعطيناهم لتكون دماؤهم كدمائنا، ودياتهم كدياتنا. وأما حديث: «لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده» «2» فله ضروب من التأويل أحسنها: أن رجلا من خزاعة قتل رجلا من هذيل بذحل «3» الجاهلية. فقال عليه الصلاة والسلام: «ألا إنّ كلّ دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدميّ هاتين، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده» يعني بالكافر الذي قتل في الجاهلية، فيكون ذلك تفسيرا لقوله: «كلّ دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين» ويكون قوله: «ولا ذو عهد في عهده» في معنى قوله: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ [التوبة: 4] وقد ذكر علماء الأصول تأويلات يمنعنا خوف الإطالة من ذكرها. وآيات القصاص عامّة في كل قاتل قتل عمدا، ولكن وردت أحاديث تفيد تخصيصها، فمن ترجّحت عنده واشتهرت، خصص بها الآية. فمن ذلك ما روي عن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يقتل والد بولده» . وفي رواية عنه أيضا «لا يقاد الأب بابنه» «4» ، وقد حكم بذلك عمر أمام جمع من الصحابة من غير نكير، فكان في منزلة الخبر المستفيض، فجاز أن يخصّص الآية، وقد أخذ به أبو حنيفة والشافعي. وروي عن مالك أنه إذا ظهر منه قصد القتل كأن أضجعه وذبحه قتل به، وإن رماه بسلاح أدبا، أو خنقه لم يقتل به. وقد اختلف العلماء: أتقتل الجماعة بالواحد إذا اشتركوا في قتله أم لا؟ فذهب أكثر فقهاء الأمصار: مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد والثوري وأبو ثور «5» وغيرهم إلى أنه تقتل الجماعة بالواحد قلّت الجماعة، أو كثرت.

_ (1) رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار ط 2، بيروت، دار الكتب العلمية 1987 (3/ 195) . (2) سبق تخريجه. (3) الذحل: الثأر، العداوة والحقد، انظر لسان العرب لابن منظور (11/ 256) . (4) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (4/ 12) ، كتاب الديات، باب ما جاء في الرجل يقتل ابنه حديث رقم (1400، 1401) . (5) إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي، الفقيه صاحب الإمام الشافعي توفي (240 هـ) انظر الأعلام للزركلي (1/ 37) .

وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم جميعا «1» . وقال داود «2» وأهل الظاهر: لا تقتل الجماعة بالواحد، واستند إلى ظاهر الآية، لأنها شرطت المساواة والمماثلة، ولا مساواة بين واحد والجماعة. وإلى قوله: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: 45] . وجمهور الفقهاء نظروا إلى المعنى: وهو أنّ الشارع شرع القصاص لحفظ الأنفس، وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ولو علم الناس أن الجماعة لا تقتل بالواحد لتمالأ الأعداء على قتل عدوهم، وبلغوا مرادهم من قتله، ونجوا من القود بالاجتماع. والآية لا تدل على أن الجماعة لا تقتل بالواحد، لأنها جاءت في منع حميّة الجاهلية التي كانت تدعو القبيلة إلى أن تقتل بقتيلها من قتل ومن لم يقتل افتخارا، بل قد يؤخذ من الآية ما يدل للجمهور، لأن المراد بالقصاص قتل من قتل كائنا من كان، واحدا، أو جماعة. وقد ذهب مالك والشافعي إلى أنّ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ يقتضي المماثلة في كيفية القتل، فيقتص من القاتل على الصفة التي قتل بها. فمن قتل تغريقا، قتل تغريقا، ومن رضخ رأس إنسان بحجر فقتله، قتل برضخ رأسه بالحجر. واحتجوا بحديث أنس «أنّ يهوديا رضخ رأس امرأة بحجر، فرضخ النبيّ رأسه بحجر» «3» . وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن المطلوب بالقصاص إتلاف نفس بنفس، والآية لا تقضي أكثر من ذلك. فعلى أيّ وجه قتله لم يقتل إلا بالسيف. واستدلوا بحديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا قود إلا بالسّيف» «4» وقالوا: قد ورد عن عمران بن حصين وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نهى عن المثلة» «5» وقتله بما قتل به قد يؤدي إلى المثلة، وقد ورد عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله كتب الإحسان على كلّ شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة» «6» فأوجب عموم لفظه

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (8/ 53) ، 88- كتاب الديات، 21- باب إذا أصاب قوم من رجل حديث رقم (6896) . (2) داود بن علي بن خلف الأصبهاني أبو سليمان الملقب بالظاهري توفي (270 هـ) انظر الأعلام للزركلي (2/ 333) . (3) رواه البخاري في الصحيح (6/ 215) ، 68- كتاب الطلاق، 24- باب الإشارة في الطلاق حديث رقم (5295) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1299) ، 28- كتاب القسامة، 3- باب ثبوت القصاص في القتل حديث رقم (15/ 1672) . [.....] (4) رواه ابن ماجه في السنن (2/ 889) ، كتاب الديات، باب لا قود إلا بالسيف حديث رقم (2667) . (5) رواه البخاري في الصحيح (6/ 284) ، 72- كتاب الصيد، باب ما يكره من المثلة حديث رقم (5516) . (6) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1548) ، 34- كتاب الصيد، 11- باب الأمر بإحسان الذبح حديث رقم (57/ 1955) .

على من له قتل على جان، ورغب في القصاص أن يقتله بأحسن وجوه القتل. وقالوا: إذا ثبت حديث أنس، كان منسوخا بالنهي عن المثلة، وحكي عن القاسم بن معن أنه حضر مع شريك بن عبد الله «1» عند بعض السلاطين، فقال: ما تقول فيمن رمى رجلا بسهم فقتله؟ قال: يرمى فيقتل، قال: فإن لم يمت بالرمية الأولى؟ قال: يرمى ثانية. قال: أفتتّخذونه غرضا وقد نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يتّخذ شيء من الحيوان غرضا «2» ؟ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ. قد ذكرنا أن المناسب من معاني العفو هنا: الإسقاط، أو العطاء. فذهب الشافعي إلى أن المراد هنا الإسقاط، والمعنى: فأيّ قاتل ترك له من أخيه شيء من القصاص فاتبعه أيها القاتل، وأدّ إليه بإحسان، وبناء على ذلك يكون موجب القتل العمد عنده أحد أمرين: إمّا القصاص، وإما العفو إلى الدية، فأيهما اختار الولي أجبر الجاني عليه. وهو رواية أشهب عن مالك. وروي عن ابن عباس: العفو أن تقبل الدية في العمد. ونحوه عن قتادة، ومجاهد وعطاء، والسدي. وذهب غيرهم إلى أن العفو العطاء، أي فمن أعطي له من أخيه شيء من المال فليتبعه بالمعروف، وليؤد إليه الجاني، وحينئذ لا يكون في الآية ما يدل على إلزام القاتل بالدية إذا رضيها الولي. وبناء على ذلك ذهبوا إلى أن موجب القتل العمد القصاص فقط. فإذا عفا الولي إلى الدية، ولم يقبل الجاني لم يجبر، وإلى ذلك ذهب أبو حنيفة وهو رواية القاسم عن مالك. ويدل للمذهب الأول ما روي من أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إمّا أن يفدى وإما أن يقتل» «3» . قال الله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) بعد أن بيّن الله شرع القصاص ذكر الحكمة فيه، فقال: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ

_ (1) ابن الحارث النخعي فقيه، القاضي الكوفي أدرك زمن عمر بن عبد العزيز توفي سنة (177 هـ) في الكوفة، انظر الأعلام للزركلي (3/ 163) . (2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1549) ، 34- كتاب الصيد، 12- باب النهي عن صبر البهائم حديث رقم (58/ 1957) ، ورواه الترمذي في الجامع الصحيح (4/ 60) ، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في كراهية أكل المصبور حديث رقم (1475) . (3) رواه البخاري في الصحيح (8/ 49) ، 88- كتاب الديات، 8- باب من قتل له قتيل حديث رقم (6880) ومسلم في الصحيح (2/ 988) ، 15- كتاب الحج، 82- باب تحريم مكة وصيدها حديث رقم (447/ 1355) .

أي ولكم يا أولي العقول فيما شرعت لكم من القصاص حياة وبقاء، لعلكم تتقون القصاص، فتنتهوا عن القتل. وإنما كان في شرع القصاص حياة، لأنّ الناس إذا علموا أن من قتل يقتل كفّ بعضهم عن بعض. فإذا همّ أحد بقتل أخيه أوجس خيفة من القصاص، فكفّ عن القتل، فكان في ذلك حياة له وحياة لمن أراد قتله وحياة لغيرهما من الناس، فربما وقعت الفتنة بالقتل، فيقتل فيها خلق كثير، وشرع القصاص حاجز لذلك كله، وهذا على أنّ المراد بالقصاص شرع القصاص ويمكن أن يراد منه القصاص نفسه، ويكون المعنى أن في القصاص نفسه حياة، لأنّ القاتل إذا اقتصّ منه كان عبرة لغيره، فيرتدع من يهمّون بالقتل، فلا يقتلون ولا يقتلون، فكان القصاص سببا للحياة، وهناك وجه آخر ذكره السدي فقال: ولكم في القصاص حياة أي بقاء، لا يقتل إلا القاتل بجنايته. وقد نقل الله بهذه الآية العقوبات من معنى إلى معنى سام جليل: فقد كانت العقوبات انتقاما في الأزمنة السالفة، ينتقم بها المجتمع من المجرمين، فجعل الله الغرض منها الاستصلاح وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ولم يقل انتقام، ولقد رقت قلوب قوم من رجال التشريع الوضعي!! فاستفظعوا قتل القاتل، ورحموه من القتل!! ولقد كان المقتول ظلما أولى برحمتهم وعطفهم، وإذا رحموا القاتل فمن يرحم المجتمع الذي يكثر فيه المجرمون الفسّاد، ولعمرنا إنهم نظروا نظرة ضيقة، ولو نظروا نظرة عامة شاملة لكانت رحمتهم هذه هي التي تدعوهم إلى القصاص والقسوة فيه، فإنّ من يرحم الناس يسعى لتقليل الشر عنهم، وكف عادية المعتدين. فقسا ليزدجروا، ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم ولقد عبّرت العرب عن هذا المعنى بعبارات مختلفة، منها قولهم: قتل البعض إحياء للجميع، وقولهم: أكثروا القتل ليقلّ القتل، وأجود ما قالوه في ذلك قولهم: القتل أنفى للقتل. والنظم الكريم وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ قد فاق تلك بمراحل، ويدل على ذلك أمور: 1- أنها أخص. 2- أن قولهم: القتل أنفى للقتل ظاهره أن القتل سبب في نفي القتل، وهو محال، بخلاف الآية، فإنّها جعلت القصاص، وهو نوع من القتل، فيه نوع من الحياة، بدليل التنكير، ولا إحالة في أن يكون نوع من القتل سببا لنوع من الحياة. 3- أن القتل ظلما قتل، وليس نافيا للقتل، بل هو أدعى للقتل، فيكون ذلك مبطلا لظاهر عموم قولهم. وثمّ وجوه أخرى لم نشأ الإطالة بها.

قال الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) كُتِبَ عَلَيْكُمْ فرض عليكم. الخير: ضد الشر، والمراد به هنا: المال، وقد ورد في القرآن كثيرا بمعنى المال، قال تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ [البقرة: 272] وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) [العاديات: 8] إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24] . الوصية: القول المبين لما يستأنف عمله. وهي هنا مخصوصة بما بعد الموت وهي كذلك في العرف. المعروف: ضد المنكر، وليس المراد بقوله: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ وقت حضور الموت ومعاينته، لأنّ هذا الوقت لا يعي فيه المرء ما يقول، بل المراد علامات الموت وأماراته، وذلك كالمرض المخوف. وقد اختلف في ذلك المال الذي كتبت فيه الوصية. فقيل: هو الكثير، وقيل: أيّ مال قليلا كان أو كثيرا. والأولون اختلفوا، فقيل: هو الكثير غير محدود. وبعضهم حدّده. واختلفوا في التحديد، فعن ابن عباس: إذا ترك سبعمائة درهم، فلا يوصي، فإن بلغ ثمانمائة درهم أوصى. وعن قتادة: ألف درهم، وعن عائشة: أن رجلا قال لها: إني أريد أن أوصي. قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة. قالت: قال الله إِنْ تَرَكَ خَيْراً وإنّ هذا الشيء يسير، فاتركه لعيالك، فهو أفضل، والظاهر قول من قال: إن المراد المال مطلقا، قليلا، كان أو كثيرا. لأن اسم الخير يقع على قليل المال وكثيره، ولم يخصّ الله منه شيئا دون شيء. وهذه الآية قد دلّت على وجوب الوصية، واختلف العلماء فيها: أهي منسوخة أم محكمة لم تنسخ؟ وجمهور العلماء على أنها منسوخة. قال الشافعي رضي الله عنه ما معناه: إن الله تعالى أنزل آية الوصية، وأنزل آية المواريث، فاحتمل أن تكون الوصية باقية مع الميراث، واحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصايا. وقد طلب العلماء ما يرجّح أحد الاحتمالين، فوجدوه في سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد روى عنه أصحاب المغازي أنه قال عام الفتح: «لا وصيّة لوارث» «1» وهو وإن كان خبر آحاد إلا أن العلماء تلقته بالقبول، وأجمعت العامة على القول به.

_ (1) سبق تخريجه.

ثم إن القائلين بالنسخ اختلفوا: فذهب طاوس «1» وقوم معه: إلى أن الوصية للوالدين والأقربين الوارثين نسخت، وبقيت للقرابة غير الوارثين، فمن أوصى لغير قرابة لم تجز، وذهب غيرهم إلى أنها منسوخة في حقّ من يرث، وحق من لا يرث. وحجة الأولين: أن الوصية لمن يرث ومن لا يرث من الأقربين كانت واجبة بالآية، فنسخت منها الوصية للوارثين، وبقيت للأقربين غير الوارثين على الوجوب. ويؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام: «ما حقّ امرئ مسلم له مال أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» «2» . وحجة الآخرين ما رواه الشافعي عن عمران بن الحصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حكم في ستة مملوكين كانوا لرجل لا مال له غيرهم فأعتقهم عند الموت، فجزأهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرقّ أربعة «3» فلو كانت الوصية واجبة للأقربين وإذا جعلت في غيرهم بطلت لما أجازها صلّى الله عليه وسلّم في العبدين، لأن عتقهما وصية لهما، وهما غير قريبين، وقد ذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أنّ آية الوصية محكمة غير منسوخة، نقل ذلك عنه الفخر الرازي، وقرر مذهبه بوجوه: أولا: أنّ هذه الآية ليست مخالفة لآية المواريث، بل هي مقررة لها، والمعنى: كتب ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين في قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11] إذا كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين، والأقربين بتوفير ما أوصى الله به لهم عليهم. ثانيا: أنه لا منافاة بين ثبوت الوصية للأقرباء وثبوت الميراث، فالوصية عطية من حضره الموت، والميراث عطية من الله تعالى، فالوارث جمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين. ثالثا: لو قدّر حصول المنافاة بين آية الميراث وآية الوصية لكان يمكن جعل آية الميراث مخصّصة لآية الوصية لأن هذه الآية تفهم بعمومها أن الوصية واجبة لكلّ قريب، وآية المواريث أخرجت القريب الوارث، فبقيت آية الوصية مرادا بها القريب الذي لا يرث، إمّا لمانع من الإرث ككفر ورق، وإما لأنه محجوب بأقرب منه، وإما لأنه من ذوي الأرحام.

_ (1) طاوس بن كيسان الخولاني اليماني من أئمة التابعين توفي سنة (106 هـ) أصله من الفرس، انظر الأعلام للزركلي (3/ 224) . (2) رواه البخاري في الصحيح (3/ 245) ، 55- كتاب الوصايا، 1- باب الوصايا حديث رقم (2738) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1249) ، 25- كتاب الوصية حديث رقم (1/ 1627) . (3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1288) ، 27- كتاب الإيمان حديث رقم (56/ 1668) .

وابن جرير الطبري ذهب في «تفسيره» «1» إلى هذا القول فقال في تفسير الآية: فرض عليكم أيها المؤمنون الوصيّة إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً والخير: المال لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الذين لا يرثون بِالْمَعْرُوفِ وهو الذي أذن الله فيه وأجازه في الوصية، ما لم يجاوز الثلث، ولم يتعمّد الموصي ظلم ورثته حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ يعني بذلك فرض عليكم هذا وأوجبه وجعله حقا واجبا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به. فإن قال قائل: أو فرض على الرجل ذي المال أن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثون؟ قيل: نعم. وقد نقل مثل ذلك عن جماعة من العلماء منهم: الضحّاك «2» فقد كان يقول: من مات ولم يوص لذي قرابته فقد ختم عمله بمعصية، ومنهم مسروق «3» فقد حضر رجلا فأوصى بأشياء لا تنبغي، فقال له مسروق: إن الله قسم بينكم فأحسن القسم، وإنه من يرغب برأيه عن رأي الله يضلّه، أوص لذي قرابتك ممن لا يرثك، ثم دع المال على ما قسمه الله عليه. وقد ذهب القائلون بأنها منسوخة إلى أنها تندب، وتكون في ثلث ماله، ومعنى قوله: بِالْمَعْرُوفِ بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط، وقد بيّنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله لمن أراد أن يوصي: «الثلث والثلث كثير» «4» وقد روي عنه عليه صلوات الله أنه قال: «إنّ الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في أعمالكم» . قال الله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) لما أوجب الله تعالى الوصية وجعلها حقا على المتقين، توعّد من غيّرها وبدّلها فقال: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي فمن غيّر ما أوصى به الموصي بعد ما سمع الوصية فليس على الموصي إثم، بل الإثم على مبدّل الوصية، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي سميع للوصية، عليم بما أوصيتم به، فلا تخفى عليه خافية من التغيير الواقع فيها، وعلى ذلك يكون المنهي عن التغيير هو: الشاهد، فلا يكتم شهادة ولا يغيّرها، والوصي فلا يغير الوصية، ولا يحوّر فيها. والورثة فلا يمنعون من أوصي لهم من حقّهم. وقيل: إنه هو الوصي، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا يوصون للأباعد،

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (2/ 68) . (2) ابن مزاحم البلخي الخراساني، توفي (105 هـ) مفسر، كان يؤدب الأطفال انظر الأعلام للزركلي (3/ 215) . (3) ابن الأجدع بن مالك الهمداني توفي (63 هـ) تابعي، شهد حروب الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، انظر الأعلام للزركلي (7/ 215) . (4) رواه البخاري في الصحيح (2/ 102) ، 23- كتاب الجنائز، 34- باب رثاء النبي صلّى الله عليه وسلّم سعد بن خولة حديث رقم (1295) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1250) ، 25- كتاب الوصية، 1- باب الوصية بالثلث حديث رقم (5/ 1628) . [.....]

ويتركون ذوي القربى في ضنك وشدة، فنهاهم الله عن ذلك، وجعل الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف، ثم أوعد الموصين الذين يخالفون ما أمر به. ويجعلونها في غير المواضع التي أمرهم بها، أو يوصون بغير معروف، كأن يعطوا الأغنياء من أقاربهم، ويتركوا الفقراء، وعلى هذا يكون الضمير في قوله: فَمَنْ بَدَّلَهُ راجعا إلى الحكم الذي علم من الآية السابقة. أما على القول الأول فالضمير راجع إلى الوصية. وإنما أتى به مذكّرا والوصية مؤنثة نظرا إلى المعنى، فإنها بمعنى الإيصاء، كقوله: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ [البقرة: 275] أي وعظ، وقد دلت الآية على أن المرء لا يؤخذ بجريرة غيره. فالميت لا يؤخذ ببكاء أهله إلا أن يكون له دخل في البكاء، كأن يكون أوصى به. ولذلك لا يعذّب الميت إذا أوصى ورثته بقضاء دينه، فقصّروا في القضاء، وهي في معنى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت: 46] لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: 286] . هذا وقد طعن قوم في أحكام الوصية والميراث في الشريعة الإسلامية. وقالوا: إنها لا تلين لرغبات المالكين، وقد تكون هذه الرغبات محترمة أما أنها لا تلين لرغبات المالكين فلأن الميراث قد فرضت فروضه، وعيّنت أنصباؤه، وليس لأحد أن يغيّر فيها، وقد منعت الوصية للوارث، فليس لأحد أن يوصي لوارثه. وأما أن رغبة المالكين قد تكون محترمة فلأنه ربما أراد أن يوصي لوارث فيزيد نصيبه، لأنه يراه أبرّ به من غيره، أو لأنه أحوج، قالوا: والشريعة الإسلامية قد خالفت ما عند الأمم الأخرى من احترام رغبات المالكين. وقد تذرّعت أمة إسلامية بذلك فتركت أحكام الشريعة في الميراث والوصايا، واستبدلت بها القانون السويسري. ونحن نرى أنه لا موجب لهذه الغارة على أحكام الشريعة، فقد نقلنا ما رواه الفخر الرازي من رأي أبي مسلم الأصفهاني في الوصية، وقد علمنا منه أن رأيه أن الوصية للوارث باقية لم تنسخ، ولا منافاة بينها وبين الميراث. فالميراث عطية من الله، والوصية عطية من المالك للوارث، فإذا كانت هذه الأمة قد اضطرت لاحترام إرادة المالكين، ولم تبال بما يصحبها من جور غالبا. ففي الشريعة الإسلامية متسع لهذا. فلنا الأخذ برأي أبي مسلم الأصفهاني في الوصية وهو يجيز الوصية للوارث، ويحترم رغبة المالكين. فمن شاء أن يوصي لابن بار، أو وارث أشد حاجة: فله ذلك عنده. وما دام في الشريعة غنى، فليس لهم أن يستبدلوا بها قانونا آخر. وإن الأخذ بقول من أقوالها مهما كان ضعيفا خير من الخروج عنها جملة.

قال الله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) الجنف: الميل في الأمور، وأصله العدول عن الاستواء. والفرق بين الجنف والإثم هنا: أن الجنف الخطأ في الوصية من حيث لا يعلم، والإثم الجور عن عمد. وقد اختلف في تأويل الآية. فقال بعضهم: إن معنى خافَ هنا علم، ولما توعّد الله من غيّر الوصية بيّن أن هذا الوعيد لمن غيّرها جورا. أما من علم من الموصي الجور فلا إثم عليه في تغييرها إلى عدل وصلح، فبيّن الفرق بين التبديلين. فأوجب الإثم في الأول. ونفاه عن الثاني. وقال بعضهم: إن خافَ هنا على معناها، والمراد: أن من حضر الموصي وهو يوصي فخاف منه الخطأ في وصيته، أو تعمّد الجور فيها فلا حرج عليه أن يصلح بين الموصي وبين ورثته: بأن يأمره بالعدل في وصيته. فلا يتعمد إضرار الورثة. ولا يحرم مستحقا، ويعطي غير مستحق: يفعل ذلك مشورة وإصلاحا، والضمير في قوله: بَيْنَهُمْ يعود على الموصى لهم، وهم وإن كانوا لم يذكروا، إلا أنهم علموا من قوله: مُوصٍ لأنّه يستلزم موصى لهم. فإن قيل: هذا المصلح قد أتى بطاعة بإصلاحه يستحق عليها الثواب الجزيل. وكان المنتظر أن يقال: فله أجر. فكيف قيل: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وقيل: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ؟ فالجواب: أنه لما كان تبديلا، وقد أثّم الله المبدّلين، أراد أن يبين مخالفته للأول برفع الإثم عنه، لأنه ردّ الوصية إلى العدل. وأما قوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فإنه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، كأنه قال: أنا الغفور الرحيم لمن أذنب وعصى فلأن أوصل الرحمة والمغفرة لهذا المصلح أولى. أو يقال: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لهذا الوصي الذي أوصى بما فيه جنف أو إثم إذا أصلحت وصيته. وهذه الآية تدل على جواز الصلح بين المتنازعين. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) . الصِّيامُ: مصدر صام. كالقيام مصدر قام، وهو في اللغة: الإمساك عن الشيء، والترك له، ومنه قيل للصمت: صوم، لأنه إمساك عن الكلام، قال تعالى في

قصة مريم إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم: 26] ومنه قولهم: صامت الريح، إذا ركدت وسكنت، وصامت الفرس، إذا أمسكت عن العلف، قال النابغة: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللّجما وفي الشرع: هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، بنيّة من أهله من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قيل: إن وجه الشبه هو وجوب الصوم، وقيل: مقداره، وقيل: كيفيته. من الكف عن الأكل والشرب، وقد ذكر القائلون بالأخيرين روايات تؤيد ما ذهبوا إليه، منها أنه كان المفروض على اليهود والنصارى صوم شهر رمضان هذا، الذي كلّف الله المسلمين بصومه، وزعموا أن اليهود تركت هذا الشهر إلى صوم يوم زعموا أنه الذي غرق فيه فرعون. أما النصارى فقد صادفوا في رمضان حرّا شديدا، فحولوه إلى وقت لا يكون حرّا، ثم قالوا عند التحويل: نزيد فيه عشرا، ثم اشتكى ملكهم فزادوا سبعا، ثم اشتكى الملك الذي بعده فقال: ما بال هذه الثلاثة فتمّ لهم صوم خمسين يوما، وهناك روايات غير هذه، كلّها تفتقر إلى الإثبات وعلم حقيقة ما كتب على الذين من قبلنا، وما دام التشبيه لا يحتاج لأكثر من وجه من وجوه المماثلة، ونحن نقطع بأن من كان قبلنا قد أوجب الله عليهم الصيام، فما حاجتنا بالجري وراء أخبار تحتاج في إثباتها إلى عناء وجهد قد لا تصل بعدهما إلى ما يثبت المدعى؟ نحن لا ننكر هذه الأخبار، أو ما اشتملت عليه، بل نقول: إنها تفتقر إلى الإثبات، وفهم الآية غير متوقّف عليها، إذ يكفي في فهم الآية أن يكون الله قد كتب صوما ما على الذين من قبلنا، وتلك حقيقة يسلّم بها جميع أهل الأديان، وهم يتعبدون بها إلى اليوم، والمطّلعون على التاريخ القديم يقولون: إن التاريخ يدل على أنه لم تخل شريعة من الشرائع من فرض الصوم، وإنما اختلف الصوم في الأمم السابقة في ماهيته، وكيفيته، ومقداره، وما دام الله لم يبين لنا ماهية الصوم عند الذين من قبلنا وكيفيته ومقداره فما حاجتنا إلى البحث وراءه، ولو علم الله في بيانه خيرا لبينه؟ قال الزجاج «1» : إن كَما هنا في موضع نصب على المصدر، والمعنى: فرض عليكم الصيام كفرضه على الذين من قبلكم. وقال أبو علي «2» : هو صفة

_ (1) إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق عالم بالنحو واللغة ولد ومات في بغداد، انظر الأعلام للزركلي (1/ 40) . (2) الحسن بن أحمد الفارسي، أحد الأئمة في علم العربية توفي في بغداد سنة (377 هـ) انظر الأعلام للزركلي (2/ 179) .

لمصدر محذوف، أي كتابته مثل كتابته على الذين من قبلكم. وقيل: غير هذا. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ذكروا في معناها في هذا الموضع وجوها: أحدها: أن الصوم يورث التقوى، لأنه يكسر الشهوة، ويقمع الهوى، ويردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهوّن لذات الدنيا. الثاني: أن المعنى: ينبغي لكم بالصوم أن يقوى رجاؤكم في التقوى. الثالث: أن المعنى: لعلكم تتقون الله بصومكم وترككم للشهوات، وأنت ترى أن المعاني متقاربة. أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ منصوب على الظرفية، وقيل: غير هذا، وقد اختلف العلماء في هذه الأيام: أهي رمضان أم غيره؟ قيل: إنها غير رمضان، وأنه كان قد وجب صوم قبل رمضان، ثم نسخ بآية: شَهْرُ رَمَضانَ إلى قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185] وهو مذهب معاذ. وقتادة. وعطاء. ومرويّ عن ابن عباس، ثم اختلف هؤلاء، فقال عطاء: هي ثلاثة أيام من كل شهر، وقال قتادة: بل هي ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عاشوراء. ثم إن هؤلاء اختلفوا أيضا. فقال بعضهم: إن هذا الصوم كان تطوعا، وقال بعضهم: بل واجبا، واتفقوا على أن هذا الصوم- على الخلاف في أنه تطوع أو فرض. وعلى الخلاف في مقداره- منسوخ بصوم رمضان، واستدلوا على صحة ما ذهبوا إليه بوجوه: الأول: ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنّ صوم رمضان نسخ كلّ صوم» فدل هذا على أن صوما كان قبل رمضان ونسخ به. الثاني: أن الله تعالى ذكر حكم المريض والمسافر هنا وذكره في آية فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فلو لم تكن الآية الأولى منسوخة بالثانية لكان تكرارا ينزّه عنه القرآن. الثالث: أنّ قوله تعالى هنا: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ يدلّ على أن هذا الصوم واجب على التخيير، إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وأعطى الفدية. وصوم رمضان واجب على التعيين. فواجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان. ذلك مبلغ ما قالوا في التدليل لمذهبهم. وذهب أكثر المحققين إلى أن المراد بهذه الأيام المعدودات شهر رمضان، وهو مذهب ابن عباس، والحسن، وأبي مسلم، وحاصله: أنّ الله سبحانه بيّن أولا أنه فرض علينا صوما كالذي فرضه على الذين من قبلنا، فاحتمل هذا أن يكون يوما، أو يومين، أو غير ذلك، فبيّنه بعض البيان بقوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وكان ذلك أيضا

محتملا لأن يكون فوق ثلاثة أيام إلى أكثر من شهر، فبينه الله تعالى بقوله: شَهْرُ رَمَضانَ إلخ. وإذا كان ذلك يمكننا في فهم الآية فلا وجه لحملها على غيره، وإثبات النسخ فيه، وهو فوق ذلك خارج عن مدلول اللفظ. أما ما تمسكتم به من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صوم رمضان نسخ كلّ صوم» فلم لا يجوز أن يراد: كلّ صوم كان في الشرائع السابقة؟ ومعروف أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، فليكن هو الناسخ. ولئن سلّم أن المراد كلّ صوم كان عندنا فأين انحصار أدلة الوجوب في هذه الآية؟ ولم لا يجوز أن يكون صوما قد ثبت بأدلة غير هذه؟ وأما قولكم: لو كان عين شهر رمضان لكان قوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ ... إلخ مكرّرا. فلنا أن نقول: إن صوم رمضان ثبت في أول الأمر مخيّرا فيه المكلّف بين الصيام، وبين الفدية دون القضاء، فلما كان كذلك، ورخص للمسافر في الفطر، كان من الجائز أن يظنّ أن عليه الفدية دون القضاء، ويجوز أنه لا فدية عليه ولا قضاء لمكان العذر الذي يفارق به المقيم. ولما لم يكن ذلك بعيدا، بيّن الله تعالى أن إفطار المريض والمسافر في الحكم خلاف التخيير في حق المقيم، فإنه يجب عليهما القضاء في عدة من أيام أخر، فلما نسخ الله ذلك عن المقيم الصحيح وألزمه بالصوم حتما، كان جائزا أن يظن أن انتقال الحكم من واسع إلى ضيق ربما يعم الكلّ فيساوي المريض والمسافر الصحيح المقيم. أو على الأقل يبقى حكم المريض والمسافر مجهولا: فكانت هناك حاجة إلى البيان، فجيء به لدفع هذه الحاجة، وحيث قد ذهبنا إلى القول بأن صوم رمضان كان في البدء مخيّرا، فلم تعد بنا حاجة إلى الاعتذار عن حجتهم الثالثة. وأنت ترى أن الآية على القولين قد دخلها النسخ: أما الأول فظاهر، وأما الثاني، فلأنّه يقضي بأن صوم رمضان ثبت في البدء مخيّرا، ثم نسخ بالتعيين، ولعل الحكمة في شرعه هكذا سنة التدرج في التشريع. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ المراد منه والله أعلم أن فرض الصيام في الأيام المعدودات إنما يلزم الأصحاء المقيمين. فأما من كان مريضا أو مسافرا فله تأخير الصوم عن هذه الأيام إلى أيام أخر. وقد دلّت الآية على عظيم فضل الله، وسعة رحمته بعباده، فقد بيّن الله سبحانه في أول الآية أن شريعة الصيام فيكم لم تكن بدعا من الشرع، بل لكم فيها أسوة، فقد كانت مكتوبة على من قبلكم من الأمم، ثم بيّن فيها ثانيا: وجه الحكمة في إيجاب الصوم، وهو أنه سبب قوي في حصول التقوى، وثالثا: أنه لم يكلفنا بما يشق، بل

كلفنا أياما معدودات، وهي وإن قلّت فجزاؤها جزيل، ثم بيّن جل شأنه أنه خصّ هذه الأيام بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لمزيد الشرف ثم بين أن هذا التكليف خاصّ بمن قدر عليه، حيث أباح تأخيره لمن يشق عليه من المرضى والمسافرين إلى وقت يقدرون عليه فيه. وقد اختلفوا في المرض المبيح للفطر على ثلاثة أقوال: ذهب الحسن وابن سيرين «1» إلى أنّ المدار على تحقق وصف المرض، فأيّ مرض وأيّ سفر بالغين ما بلغا يترخّص بهما المسافر والمريض في الفطر في رمضان، وقد روي أنّ جماعة دخلوا على ابن سيرين فوجدوه يأكل، فاعتل بوجع إصبعه. وذهب الأصم إلى أنّ المراد المريض والمسافر اللذان لا يقدران على الصوم مع المرض والسفر إلا بجهد ومشقة. وذهب أكثر الفقهاء إلى أن المرض المبيح للفطر هو الذي يؤدي إلى ضرر في النفس، أو زيادة في العلة، وهذا هو الذي يتقبله العقل بقبول حسن، فإن الحكمة التي من أجلها رخّص للمريض هي إرادة اليسر، ولا يراد اليسر إلا حيث يظنّ العسر، وإن من الأمراض ما يكون شفاؤه بالصوم، فكيف يباح الفطر لمن كان مرضه كذلك، ولم يكلفنا الله سبحانه إلا على حسب ما يكون في غالب الظن، فيكفي أن يظهر أن الصوم يكون سببا للمرض، أو يزيد في العلة، أما الإطلاق فيه أو التضييق فأمر يتنافى مع إرادة اليسر بالمكلفين. وكذلك اختلفوا في السفر المبيح للفطر. فقال داود الظاهري: الرخصة حاصلة في كل سفر، ولو كان فرسخا، وحجته أن الحكم علّق في الآية بكونه مسافرا، وهو مؤذن بعلية ما اشتق منه، فحيث تحقّق السفر تحقق الحكم وهو الرخصة، وقال: كل ما في الباب أنكم تروون خبرا آحاديا، وتخصيص عموم الكتاب بخبر الآحاد غير جائز. وقال الأوزاعي: «2» السفر المبيح للفطر مسافة يوم، وذلك لأن أقل من هذا قد يتفق للمقيم، وكأنه يعتبر في المسافر عدم التمكن من الرجوع إلى أهله في اليوم. وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن السفر المبيح مقدّر بأربعة برد، كلّ بريد أربعة فراسخ، كل فرسخ مقدّر بثلاثة أميال بميل هاشم جد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو الذي قدر أميال

_ (1) محمد بن سيرين البصري الأنصاري بالولاء، اشتهر بتعبير الرؤيا ينسب له كتاب تعبير الرؤيا، انظر الأعلام للزركلي (6/ 154) . (2) عبد الرحمن بن عمرو، إمام الشام ولد في بعلبك، سكن بيروت وتوفي بها، انظر الأعلام للزركلي (3/ 320) .

البادية، كل ميل اثنا عشر ألف قدم، كل قدم ثلث خطوة، وهو مذهب مالك، وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا يتحقق سفر يبيح الترخيص حتى يكون قدر ثلاث مراحل، قدرها أربعة وعشرون فرسخا، وهي مقدرة في كتب الحنفية بمسير ثلاثة أيام سيرا وسطا، وهو سير الإبل والأقدام في البر، وسير السفن الشراعية في البحر، ويكتفون بسير معظم اليوم، واحتج الشافعي بما رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من ثلاث برد من مكة إلى عسفان «1» . وقد قال أهل اللغة: إن كل بريد أربعة فراسخ، فتكون ستة عشر فرسخا، وهو الذي قلنا. واحتج أبو حنيفة: بأن قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ يوجب الصوم، ولكنا تركناه في الثلاثة الأيام للإجماع على الرخصة فيها. أما فيما دونها فمختلف فيه، فوجب الصوم احتياطا. واحتجوا أيضا بقوله عليه الصلاة والسلام: «يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» «2» . ولا يكون كذلك حتى تكون مدة السفر ثلاثة أيام، لأن الشارع جعل علّة الامتداد إلى الثلاثة السفر، والرخص لا تعلم إلا من الشرع. وأما ما رويتم عن ابن عباس فلعله مذهبه واجتهاده، ولا نترك حديث رسول الله إلى مذهب أحد واجتهاده. وأيضا ورد عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم اعتبار الثلاثة الأيام سفرا، ومن ذلك حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وأنه نهى أن تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم» «3» . نعم قد روي عن أبي سعيد «4» ، وأبي هريرة «5» أخبار في هذا المعنى، تفيد من منعها السفر يومين، ولكنّهما روي عنهما أيضا النهي عن سفرها ثلاثة أيام، ويوما. فلما كان هذا الاضطراب وللاحتياط في إسقاط الفرائض عوّلنا على حديث ابن عمر، لأنه متفق عليه، وروايات غيره مضطربة فتركناها، فتبين أن الثلاثة قد تعلّق بها حكم شرعي، وغيرها لم يعلّق به، فوجب تقديرها في إباحة الفطر.

_ (1) قال عنه الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح، انظر تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لابن حجر العسقلاني ط 1، بيروت دار الكتب العلمية 1998 (2/ 117) . (2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين حديث رقم (95) . (3) رواه مسلم في الصحيح (2/ 975) ، 15- كتاب الحج، 74- باب سفر المرأة حديث رقم (413/ 1338) . (4) رواه مسلم في الصحيح (2/ 976) ، 15- كتاب الحج، 74- باب سفر المرأة حديث رقم (416/ 000) . (5) رواه مسلم في الصحيح (2/ 977) ، 15- كتاب الحج، 74- باب سفر المرأة حديث رقم (419/ 1339) .

ثم إنّ العلماء قد اختلفوا في المسافر والمريض: ماذا يلزمهما في رمضان؟ ذهب جماعة من علماء الصحابة رضوان الله عليهم: إلى أن الواجب عليهما الفطر وصيام عدة من أيام أخر، وهو قول ابن عباس، وابن عمر، حتى روي عنه: أن المسافر إذا صام في السفر قضى في الحضر. وذهب أكثر الفقهاء إلى أن الإفطار رخصة، فإن شاء صام وإن شاء أفطر، وحجّة الأولين ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس من البرّ الصّيام في السّفر» «1» ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «الصّائم في السّفر كالمفطر في الحضر» . وأما الجمهور فقد قالوا: إن في الآية إضمارا تقديره: فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر، فعليه عدّة من أيام أخر، وهو نظير قوله تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ.. [البقرة: 60] وقوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ إلى قوله: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة: 196] التقدير في الأوّل (فضرب) فانفجرت، والثاني (فحلق) ففدية. وأيضا فقد روى أبو داود في «سننه» عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أفأصوم في السفر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «صم إن شئت، وأفطر إن شئت» «2» . وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالخبر المستفيض «3» أنه صام في السفر رواه ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وأبو الدرداء، وسلمة بن المحنّف. وأما ما روي من قوله: «ليس من البرّ الصّيام في السّفر» فإنّه كلام خرج على حال مخصوصة، وذلك ما رواه شعبة من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه رأى رجلا يظلّل عليه والزّحام عليه شديد، فقال: «ليس من البر الصيام في السفر» «4» . فمن سمع وذكر الحديث ذكره مع سببه، وبعضهم اقتصر على ذكر الحديث.

_ (1) سيأتي تخريجه. (2) رواه البخاري في الصحيح (2/ 291) ، 30- كتاب الصوم، 33- باب الصوم في السفر حديث رقم (1943) ، ومسلم في الصحيح (2/ 790) ، 13- كتاب الصيام، 17- باب التخيير في الصوم حديث رقم (107/ 1121) وأبو داود في السنن كتاب الصوم، باب الصوم حديث رقم (2402) . (3) انظر ما رواه مسلم في الصحيح (2/ 784- 787) ، 13- كتاب الصيام، 15- باب جواز الصوم والفطر حديث رقم (88/ 1113) و (90/ 1114) و (93/ 1116) و (98/ 1118) . (4) رواه البخاري في الصحيح (2/ 292) ، 30- كتاب الصوم، 36- باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (1946) ، ومسلم في الصحيح (2/ 786) ، 13- كتاب الصيام، 15- باب جواز الصوم والفطر حديث رقم (92/ 1115) .

وقد ذكر أبو سعيد الخدري في حديثه أنهم صاموا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح في رمضان، ثم إنه قال لهم: «إنّكم قد دنوتم من عدوّكم، والفطر أقوى لكم فأفطروا» «1» فكانت عزيمة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال أبو سعيد: ثم لقد رأيتني أصوم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل ذلك وبعد ذلك، وأما حديث: «الصّائم في السّفر كالمفطر في الحضر» فحديث مقطوع لا يثبت عند كثير من الناس. والحنفية بعد ذلك يرون الصوم أفضل من الفطر. ويقول المالكية كذلك لمن قوي عليه. فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ: أي من كان منكم مريضا أو مسافرا فأفطر فعليه صيام أيام أخر بعد ما أفطر، وهذا تأويل الجمهور، فكان المريض والمسافر عندهم واجبه الأصليّ الصوم، ويرخّص له في الفطر، فإذا أفطر فليقض أياما مكان الأيام التي أفطر فيها. وأما غير الجمهور فتأويل الآية عندهم: فمن كان مريضا أو مسافرا فليفطر، والواجب عليه ابتداء صوم أيام أخر، وصيامه في رمضان لا يعتدّ به. وأنت بعد الذي بينا من أدلة الطرفين إذا رجعت إلى النظم الكريم وجدت أنّ النظم قد شمل الخطاب فيه جميع المؤمنين كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ثم لمّا كان بعض الناس قد يكون له من العذر ما يقتضي التخفيف بيّن الله حال المعذورين بقوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وقال: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ على ما يأتي بيانه بعد، ثم قال: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ. فهل تجد بعد هذا مسوّغا لأن تفهم من الآية أنّ الفطر واجب على من لا يضره الصوم من أصحاب الرّخص؟ ثم انظر إلى قوله تعالى في الآية التي بعد هذه: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] فإنّك لا بدّ فاهم منها أن الواجب الأصليّ على الناس جميعا في رمضان هو الصوم، وأن التأخر عنه ترخيص. فهل إذا التزم العبد أن يقوم بما هو أشق عليه ولا يضرّه تحصيلا للثواب الكثير فنقول له: إن هذا لا يجزيك؟ ما نظن. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ظاهر العبارة يفيد أنّ القادر على الصوم له أن يترك الصوم إلى الفدية ولا يلزمه القضاء. وقد تقدّم القول بأنّ بعض العلماء يرى أن هذه الآية من أولها منسوخة لهذا ولغيره، وبعضهم يرى أنه لا نسخ إلا في هذا الجزء، ويرى أن صوم رمضان كان قد شرع ابتداء على التخيير، ثم نسخ بقوله:

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 789، 13- كتاب الصيام، 16- باب أجر المفطر في السفر حديث رقم (102/ 1120/ 1. [.....]

فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وهذا كله على قراءة يُطِيقُونَهُ مضارع من الإطاقة. وسنعود إليها بعد الكلام على القراءات الأخرى. فقد قرئ يُطِيقُونَهُ بتشديد الياء بعد الطاء. وقرئ يطوقونه بالواو بدل الياء، ومعناه: يجشّمونه، أي: يتحمّلونه بمشقة، وقالوا: المراد بهم الشيخ والشيخة الفانيان يفطران ويفديان ولا يقضيان. والآية على هاتين القراءتين لا نسخ فيها أصلا فالناس ثلاثة أحوال: 1- الأصحاء المقيمون، ويلزمهم الصوم عينا في رمضان. 2- والمرضى والمسافرون، ولهم الفطر إن أرادوا، وعليهم إن أفطروا أيام أخر. 3- وقوم لا يقدرون على الصوم، وفيه ضرر، فهؤلاء يفدون. ولنرجع إلى القراءة الأولى يُطِيقُونَهُ: لما كان الظاهر منها ما ذكرنا. قال بعض المفسرين: إن الآية على إضمار حرف النفي، وتقديره- والله أعلم- وعلى الذين لا يطيقونه فدية، وتكون الآية حينئذ في معنى القراءتين الأخريين. ويرى بعضهم أن هذا في شأن المرضى والمسافرين فهم قسمان: القسم الأول لا يقدر على الصيام، وهذا يجب عليه الفطر والقضاء في أيام يقدر على الصوم فيها. والقسم الثاني يقدر على الصوم، فهؤلاء يرخّص لهم في الفطر لمكان السفر والمرض، وعليهم الفدية. وقال بعضهم: إنّها نزلت في حق الشيخ الفاني، وتقريره من وجهين: أحدهما: أن الوسع فوق الطاقة، فالوسع اسم للقدرة على الشيء مع السهولة، يقال: في وسع فلان أن يفعل كذا وفلان يسعه أن يفعل كذا إذا كان يقدر عليه مع السهولة. أمّا الطاقة فهي اسم للقدرة على الشيء مع الشدة والمشقة، يقال: فلان يطيق كذا، أي أنه آخر ما في طوقه وقدرته، فمعنى وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ الذين يقدرون عليه مع الشدة والمشقة، وعلى هذا فلا نسخ في الآية، وحكمها باق، قاله الفخر الرازي. الوجه الثاني: حمل هذه القراءة على القراءة الشاذّة، وهو قريب من الأوّل، وأصحاب هذا الرأي قد اختلفوا، فقال جماعة منهم السدي: إنّها في الشيخ الهرم، أي الذي لا يرجى أن يأتي عليه في عمره أيام يقدر فيها على الصوم ويطعم لكل يوم مسكينا. وقال آخرون: إنّها تتناول الشيخ الهرم والحامل والمرضع، سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما، فقال: أيّ مرض أشدّ من الحمل؟ تفطر وتقضي. ثم إنهم أجمعوا على أنّ الواجب على الشيخ الهرم الفدية، أما الحامل والمرضع

فقال الشافعي رضي الله عنه: عليهما الفدية مع القضاء. وقال أبو حنيفة: ليس عليهما إلا القضاء. وحجة الشافعية أنهما داخلان في منطوق الآية وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ لأنهما لا يطيقان فتجب عليهما الفدية. وأبو حنيفة جعلهما في حكم المريض، انظر إلى قول الحسن البصري: أي مرض أشدّ من الحمل؟ يفطران ويقضيان، ثم قال أبو حنيفة: فرق بينهما وبين الشيخ الفاني، لأنه لا يمكن إيجاب القضاء عليه، لأنه إنما سقط عنه الصوم إلى الفدية لشيخوخته وزمانته، فلن يأتي عليه يوم يكون أقدر على الصوم من أيام رمضان التي أفطر فيها. أما الحامل والمرضع فهما من أصحاب الأعذار الطارئة المنتظرة الزوال، فإن زال عذرهما فعليهما عدة من أيام أخر، وإن لم يزل كانا كالمريض الذي لم تزل علته، على أنهما لا يمكن إيجاب الفدية عليهما مع إيجاب القضاء، لأنّه يكون جمعا بين البدل والمبدل، وهو غير جائز، لأن الفدية بدل الصوم. طَعامُ مِسْكِينٍ هو نصف صاع من برّ «1» ، أو صاع «2» من غيره عند أبي حنيفة، وليس عليه عنده غير ذلك، قال الثوري «3» : يطعم، ولم يذكر مقدارا. وروى المزني «4» عن إمامه الشافعي أن الفدية مدّ، وقال ربيعة «5» ومالك: لا أرى عليه الإطعام، وإن فعل فحسن. فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ اختلف في تأويله، قال بعضهم: معناه من تطوّع بالزيادة على مسكين واحد فهو خير له، وقال بعضهم: من تطوّع بالزيادة في مقدار الفدية على المسكين الذي أعطاه وقال الزهري «6» : من تطوّع بالصيام مع الفدية فهو خير له. وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 184] قيل: إنّه خطاب مع الذين

_ (1) البر: القمح. (2) الصاع: أربعة أمداد. (3) سفيان بن سعيد بن مسروق من مضر، أمير المؤمنين في الحديث، انظر الأعلام للزركلي (3/ 104) . (4) إسماعيل بن يحيى تلميذ الشافعي، وأحد المصنفين في مذهبه من أهل مصر، انظر الأعلام للزركلي (1/ 329) . (5) ربيعة بن فروخ المعروف بربيعة الرأي، فقيه من المدينة كان بصيرا بالرأي، انظر الأعلام للزركلي (3/ 17) . (6) محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري أول من دوّن الحديث تابعي من أهل المدينة، انظر الأعلام للزركلي (7/ 97) .

يطيقونه ولا يصومونه، أي يتحملونه بمشقة، فهو خير لهم من الفدية. وقيل: إنه خطاب مع ذوي الأعذار من المرضى والمسافرين والشيوخ الفانين. قال الفخر الرازي: هو أولى لعموم اللفظ. وقيل: آخر الآية معطوف على أوّلها، ويكون المعنى: كتب عليكم الصيام.. وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ما في الصيام من الحكم الإلهية، التي شرع من أجلها الصيام، وهي تعويد النفس الصبر والجوع، وعدم اتباع الهوى والشهوة والبرّ بالضعفاء ومواساة المحتاجين. قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) الشهر: مأخوذ من الشهرة، يقال: شهر الشيء يشهر شهرة وشهرا، إذا ظهر، وسمي الشهر شهرا لشهرة أمره، وذلك أن الناس بسبب حاجتهم إلى التوقيت في العبادات والمعاملات يحتاجون إلى معرفته. وسمي الهلال شهرا لشهرته وبيانه. بل قال بعضهم: إنما سمّي الشهر شهرا باسم الهلال. رَمَضانَ هو المدة من الزمان بين شعبان وشوال، وقد قيل في سبب تسميته بذلك أقوال كثيرة، منها أنه مأخوذ من الرمض، وهو حر الحجارة من شدة حر الشمس. وكانوا: يصومون فيه. فكان يكون قاسيا عليهم كقسوة أشعة الشمس المنعكسة عن الحجر الأبيض، وأقرب الأقوال ما قيل: إنهم لما نقلوا الأسماء عن اللغات القديمة سمّوها بحسب ما يقع لها من المناسبات التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر رمض الحر. شَهْرُ رَمَضانَ خبر لمبتدأ محذوف بدل عن الأيام المعدودة في قوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وقيل: بل هو مبتدأ محذوف الخبر، كأنه قيل: شهر رمضان المكتوب عليكم صومه. وقيل غير هذا. الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ: بيان لمزية اختصاصه بالصوم فيه من بين الشهور، ومعنى أنزل القرآن فيه، وقد أنزل القرآن في غيره أيضا: أنه ابتدأ إنزاله في رمضان، والحوادث الجسام تؤرّخ وتنسب إلى أوّل أوقاتها. وقيل: إنه نزل إلى سماء الدنيا جملة واحدة في رمضان لحكمة يعلمها الله، ثم

نزّل بعد ذلك منجّما. ولا منافاة بين إنزاله في رمضان، وإنزاله في ليلة القدر والليلة المباركة. لأنّ ليلة القدر والليلة المباركة كانتا في رمضان، وقيل: معنى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أنزل في شأنه القرآن. والْقُرْآنُ اسم لكلام الله المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد اختلف في اشتقاقه، فقيل: إنه مشتق من القراءة: بل قد جاء بمعناها، كما في قوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء: 78] . وقيل: من القران، لأنّ آياته قد قرن بعضها ببعض. وقيل من القرء بمعنى الجمع. وقيل غير ذلك. هُدىً لِلنَّاسِ: هاديا لهم بما اشتمل عليه من الحكم والمواعظ التي هي شفاء ورحمة، وهو منصوب على الحال، أي: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هاديا للناس إلى طريق الخير، ومبينا وكاشفا عن وجه الحق، بما اشتمل عليه من الآيات الواضحات، وفارقا بين الحق والباطل وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ. قد يقال: ما الحكمة في إيراد وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ بعد قوله: هُدىً لِلنَّاسِ؟ وجوابه: أنه تعالى ذكر أولا أنه هدى للناس، ثم هذا الهدى نوعان: تارة يكون الهدى بينا واضحا تنساق إليه العقول انسياقا. وتارة لا يدركه إلا خواصّ الناس. ولا شك أن الأول أكثر فائدة، فكان ذكره بعد الأول للميزة الخاصة بعد الميزة العامة. وهو على هذا في منتهى البلاغة. وقيل في الجواب: إن المراد بالهدى الأول أصول الدين. والثاني فروعه. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ قال بعضهم: إن الفاء هنا زائدة، لأنها إما للعطف وإما للجزاء وهما لا يصلحان هنا، فكانت زائدة كزيادتها في قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة: 8] وقال الفخر الرازي: ويمكن أن يقال: إن الفاء هنا ليست زائدة، بل هي للجزاء، فإنه تعالى لما بيّن كون رمضان مختصّا بالشرف العظيم، وهو إنزال القرآن فيه، وهو شرف لا يشاركه فيه سائر الشهور، فهو لذلك يناسبه أن يختص بهذه العبادة، ولذلك تقدّم وصفه بخاصة إنزال القرآن فيه، كأنه قيل: وإذا كان رمضان مختصا بهذه الفضيلة فخصّوه أنتم بهذه العبادة. شَهِدَ: حضر، والشهود الحضور. ثم هنا قولان: أحدهما: أنّ مفعول شهد محذوف، لأن المعنى: فمن شهد البلد في الشهر بمعنى أنه لم يكن مسافرا. ويكون الشهر منصوبا على الظرفية.

والقول الثاني: أن مفعول شهد هو الشهر، والتقدير: فمن شهد الشهر وشاهده بعقله وبمعرفته فليصمه، وهو كما يقال شهدت عصر فلان وأدركته، وهو تفسير لا غبار عليه بعد أن تعرف أن خطابات الله جميعا تتوجّه إلى المكلفين، فلا عبرة بما قيل: إنه كالأول فيه مخالفة للظاهر لاحتياجه للتخصيص، إذ يقال: للصبي المجنون إنه أدرك الشهر، نعم هم مدركون، ولكنّهم لا يدخلون تحت قوله: مِنْكُمُ إذ إنّ كون كل خطابات الشارع متوجهة إلى من يأتي تكليفهم قد فرغ منه، فمثله مثل وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة: 43، 83، 110] على أنه على فرض دخول هؤلاء، فالآية تكون مخصوصة على هذا الوجه. وعلى الوجه الأول فيها تقدير محذوف. وقد تقرر في الأصول أنه إذا تعارض التخصيص والإضمار، تعيّن المصير إلى التخصيص، وبدهي أن القول الأول يلزمه أن الآية لا توجب الصوم إلا على المقيم، فلا يكون صوم المسافر مسقطا للواجب، بل يكون الواجب في حقه الفطر، وهذا كلام قد نسب إلى الإمام علي- كرم الله وجهه- القول به. والجمهور يرون الآية عامة في المكلفين، وهي تشمل المسافر والمقيم، غير أن المسافر يترخّص بالفطر كالمريض، وعليهما عدة من أيام أخر. هذا وظاهر الآية يفيد أن الصيام إنما يجب بشهود جميع الشهر، وذلك غير متأتّ، إذ إنّ شهود جميع الشهر لا يتأتّى إلا بعد انقضائه، وبعد انقضائه لا يتأتى لأحد أن يصوم ما مضى، فمن هنا قالوا: إنه يتعين أن يكون المعنى فمن شهد بعض الشهر فليصمه، غير أنهم اختلفوا، فقال بعضهم: المراد بالبعض أوّل الشهر. وهو منسوب للإمام علي، وعلى ما تقدم على مذهبه يلزم أن يكون الحكم في حق من كان مسافرا أوّل الشهر أنه لا يجب عليه صيام الشهر، بل يجب عليه الفطر. ويرى الجمهور أن أيّ بعض يكفي في وجوب الصوم، غير أنهم اختلفوا، فالحنفية يرون أن صوم جميع الشهر يجب بشهود أيّ جزء منه، ويرى الشافعية أن شهود أي جزء موجب لصوم ذلك الجزء على الراجح من مذهبهم. بعد هذا نقول: إنّ الأئمة رضوان الله عليهم قد اختلفوا فيمن جنّ في رمضان، ولا بد أن نعرض لهذا الخلاف فنقول: اتفقوا على أنّ من جنّ كلّ رمضان لا يجب عليه الصوم في الحال، لعدم إمكان توجّه الخطاب إليه حالا، واختلفوا فيه إذا أفاق بعد رمضان، قال المالكية وجماعة: إنه يقضي ما مضى ولو جنّ سنين. وقال غيرهم: إنه لا قضاء عليه لما مضى، كالصبي إذا بلغ، والكافر إذا أسلم.

وأما من كان مجنونا في رمضان، وأفاق بعضا منه، فالشافعية على أصحّ الأقوال عندهم أنه يصوم ما شهد فقط، ولا قضاء عليه لغيره، ومن أفاق في أثناء النهار اختلف في تكليفه بالقضاء عندهم. وترى الحنفية أن شهود أي جزء من الشهر موجب صيامه كلّه. وقد قالوا: إنّ الآية تشهد لهم، لأنّك قد علمت أنّ إجراءها على ظاهرها محال، فلا بدّ من تقديره البعض، فيكون المعنى عندهم فمن شهد بعض الشهر فليصمه جميعه. فإن قيل لهم: لماذا قدّرتم البعض في الأول، ولم تقدروه في الثاني؟ قالوا: إنا لجأنا للإضمار للضرورة، والضرورة تقدّر بقدرها، وقد اندفعت بإضمار في الأول، مع بقاء الثاني على حاله. ولكن لقائل أن يقول لهم: إن الضمير في قوله تعالى: فَلْيَصُمْهُ راجع إلى ما قبله، فإن كان ما قبله مراد منه الجميع، كان هو مرادا منه الجميع، وإن كان البعض كان مرادا منه البعض، أما إن أريد بالمرجع شيئا وبالضمير غيره فهو غير ظاهر. وقد أورد على الحنفية ما يأتي: معقول أنه إذا أفاق أثناء الشهر أن نوجب عليه ما بقي في الشهر بعد ذلك، لكن غير معقول أن نوجب عليه صوم ما مضى، لأنّ شهود الجزء لا يتأتّى أن يكون سببا لصوم ما قبله، وإلا كنا قد كلفناه الصوم قبل وقته. وقد أجابوا عن هذا بأنّا نوجب عليه قضاء الأيام الماضية لا صومها هي، وجائز إلزامه القضاء مع امتناع خطابه وقت الأداء، كالمغمى عليه والناسي والنائم. وقد اختلف العلماء أيضا في الصبي يبلغ والكافر يسلم في بعض رمضان، فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، ومالك بن أنس في «الموطأ» وعبد الله بن حسن «1» ، والليث «2» ، والشافعي: إنهما يصومان ما بقي، وليس عليهما قضاء ما مضى ولا اليوم الذي حصل فيه البلوغ والإسلام. وقال ابن وهب «3» عن مالك: أحبّ إليّ أن يقضياه. وقال الأوزاعي في الغلام يبلغ في النصف من رمضان: إنه يقضي ما مضى، فإنه كان يطيق الصوم.

_ (1) أبو محمد المدني الهاشمي تابعي، من أهل المدينة، انظر الأعلام للزركلي (4/ 78) . (2) الليث بن سعد أبو الحارث، فقيه مصر توفي (175 هـ) أصله من خراسان، انظر الأعلام للزركلي (5/ 248) . (3) عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري القرشي توفي (196 هـ) في مصر انظر، الأعلام للزركلي (4/ 144) .

وقد علمت أن شرط التكليف بالصوم البلوغ والعقل والإسلام، والصبي والكافر لم يكونا مكلفين قبل البلوغ والإسلام. فلا معنى لإلزامهما به على أن الكافر إذا أسلم فهو معفى من التكاليف الماضية، قال الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] . ولعلك تقول: كيف يكون شهود الشهر؟ فنقول: إن شهوده يكون برؤية هلاله، أو بالعلم أنه قد رئي، ولا عبرة بالحساب وعلم النجوم عند الحنفية. واعتمد بعضهم الحساب، وقد روي في ذلك أحاديث كثيرة، بعضها يؤيد هذا، وبعضها يؤيد هذا: فقد روي عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الشهر تسع وعشرون، ولا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له» «1» وكان ابن عمر إذا كان تسعا وعشرين نظر إليه، فإن رؤي فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون منظره سحاب أصبح مفطرا، وإن لم ير وحال دون رؤيته سحاب أو قترة أصبح صائما، قال: وكان ابن عمر يفطر مع الناس، ولا يأخذ بهذا الحساب. فأنت ترى أنه قد اعتمد الرؤية، ولم يعتمد تقديره. وهذا هو الموافق لظاهر قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] . وقد اختلفوا في معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإن غمّ عليكم فاقدروا» فقال بعضهم: اعتبار منازل القمر فإن كان في موقع القمر- ولو لم يحل دونه سحاب وقتر لرئي- ولم ير، يحكم له بحكم الرؤية. وقال آخرون: فاقدروا له «فعدوا شعبان ثلاثين يوما» وقد جاءت أحاديث بالصيغة الأخيرة «2» . ولو أوردناها لطال بنا القول، وموضعها علم الفقه، وكما يرجع إليه في هذا يرجع إليه في اعتبار اختلاف المطالع وعدمه في إلزام جميع المسلمين الصوم. وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. قد تقدم شرح هذه الآية، غير أنهم قالوا: إن في الآية ما يدل على أنّ قضاء رمضان لا يجب فيه التتابع، وذلك لأن (عدة) جاء منكّرا غير معيّن، وذلك يقتضي جوازه مفرّقا، وأيضا فقد قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ والتيسير لا يكون بإلزامه أن يصوم كله دفعة. أيضا قال تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ فدل

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 759) ، 13- كتاب الصيام، 2- باب وجوب صوم رمضان حديث رقم (3/ 1080) . (2) رواه البخاري في الصحيح (2/ 280) ، 11- باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا رأيتم الهلال حديث رقم (1907) .

على أن المراد في القضاء هو صوم العدة، ولو غير متتابعة، ولو كان التتابع مشروطا لبينه كما بينه في الكفارة. يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. بيّن الله تعالى فيما تقدم أنّ شرع الصيام لنا هو شرعة في الأمم، وأنا لم نكن بدعا فيه، وهو مع ذلك في زمن قليل أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ هي شهر رمضان، ومع ذلك فقد رخّص فيه لأولي الأعذار ومن لا يقدرون على صومه إلى عدة من أيام أخر، وإلى الفدية. وفي هذه الآية يبيّن الله تعالى أنه فعل ذلك تيسيرا وتسهيلا علينا في التكاليف، فهو لم يكلفنا ما فيه إعنات لنا ومشقة علينا، فهل يجب في مقابلة ذلك إلا الشكر؟ وأصل اليسر في اللغة السهولة. معناه السهولة ومنه يقال للغني والسعة اليسار، لأنه يسهل به صعب من الأمور. والعسر ما يقابله. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ: علّة لمحذوف، وللعلماء في هذا المحذوف وجهان: الأول: ما ذهب إليه الفرّاء «1» من أن التقدير: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فعل جملة ما ذكر، وهو الأمر بصوم العدة، وتعليم كيفية القضاء، والرخصة بإباحة الفطر. وذلك أن الله لما ذكر هذه الأمور الثلاثة ذكر عقبها ثلاثة ألفاظ، فقوله: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ علّة للأمر بمراعاة العدة، وقوله: وَلِتُكَبِّرُوا علّة تعليم كيفية القضاء، وقوله: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علة الترخيص والتسهيل. والحذف في هذا نظير الحذف في قوله: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) [الأنعام: 75] أي أريناه ليكون. وأنت ترى أن الفرّاء على هذا يقدّر المحذوف متأخرا، ويجعل العلل مرتبة على سبيل اللف. والوجه الثاني: ما ذهب إليه الزجاج من أن التقدير: أن الذي تقدم ذكره من تكليف المقيم الصحيح، والرخصة للمريض، والمسافر، إنما هو لإكمال العدة، لأنه مع الطاقة يسهل عليه إكمال العدة، ومع الرخصة في المرض والسفر يسهل إكمال العدة بالقضاء، فلا يكون عسرا، فبيّن الله تعالى أنه كلّف الكل على وجه لا يكون إكمال العدة عسيرا، بل يكون سهلا يسيرا. وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ قيل: إن المراد منه التكبير ليلة الفطر. قال ابن عباس: حقّ على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا. وروي عن الزهري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه كان يكبّر يوم الفطر إذا خرج إلى

_ (1) يحيى بن زياد، عالم الكوفة بالنحو واللغة والأدب توفي (207 هـ) ، انظر الوفيات (6/ 176) .

المصلّى، وإذا قضى الصلاة قطع التكبير» «1» وقد روي ذلك عن كثير من الصحابة. وقد اختلف فقهاء الأمصار في التكبير يوم الفطر في الطريق إلى المصلّى، فروى المعلى «2» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال: يكبّر الذي يذهب إلى العيد يوم الأضحى. ويجهر بالتكبير. ولا يكبّر يوم الفطر، وقال أبو يوسف يكبّر يومي عيد الأضحى والفطر. وليس فيه شيء مؤقت لقوله تعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ. وقال الحسن بن زياد «3» عن أبي حنيفة: إن التكبير في العيدين ليس بواجب في الطريق، ولا في المصلّى، وإنما التكبير الواجب في صلاة العيد. وذكر الطحاوي «4» أن ابن أبي عمران «5» كان يحكي عن أصحاب أبي حنيفة جميعا أن السنة عندهم في يوم الفطر أن يكبّروا في الطريق إلى المصلّى، حتى يأتوه، ولم نكن نعرف ما حكاه المعلى عنهم. وقال مالك والأوزاعي: يكبّر في خروجه إلى المصلّى في العيدين جميعا. وقال الشافعي: أحبّ إظهار التكبير ليلة الفطر وليلة النحر. وتكبير الله هو تعظيمه. والصيغة المأثورة فيه معروفة. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على ما شرعت من الأحكام. وسهّلت لكم في أدائها. قال الله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) قد ذكروا في سبب هذه الآية وجوها: منها أنّ أعرابيا جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أقريب ربنا فنناجيه، أو بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. ومنها ما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان في غزوة، وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتهليل والدعاء، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا» «6» .

_ (1) قال الحافظ: مرسل، انظر تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير لابن حجر (2/ 190) . (2) معلى بن منصور الرازي، أبي منصب القضاء أيام المأمون، توفي (211 هـ) انظر الأعلام للزركلي (7/ 271) . [.....] (3) اللؤلؤي قاض وفقيه، من أصحاب أبي حنيفة توفي (204 هـ) انظر الأعلام للزركلي (2/ 191) . (4) أحمد بن محمد بن سلام الأزدي، فقيه حنفي، مصري توفي (321 هـ) توفي في القاهرة، انظر الأعلام للزركلي (1/ 206) . (5) أحمد بن أبي عمران بن سلامة أبو عبد الله، أصله من الشام، انظر الأعلام للزركلي (1/ 189) . (6) رواه البخاري في الصحيح (4/ 19) ، 56- كتاب الجهاد، 31- باب ما يكره رفع الصوت حديث

ومنها ما روي عن قتادة أن الصحابة قالوا: كيف ندعو ربنا يا نبي الله؟ فأنزل الله هذه الآية «1» . ومنها ما روي أنه لما نزلت آية كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ فهموا منها تحريم الأكل بعد النوم، ثم إنهم أكلوا وندموا وتابوا وسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل يقبل الله تعالى توبتنا؟ فنزلت. وليس المراد بالقريب هنا قرب المكان. بل المراد القرب بالعلم، وما تقتضيه إجابة الدعاء. هذا وقد قال بعضهم: إنّ الدعاء لا فائدة فيه، وذلك أن الأمر الذي يصدر بشأنه الدعاء. إمّا أن يكون في علم الله واقعا أولا. فإن كان الأول فهو لا بد واقع، وإن كان الثاني فهو غير واقع لا محالة!! والجمهور من العقلاء على أن الدعاء أهم مقامات العبودية، والأدلة النقلية على ذلك كثيرة. منها هذه الآية التي معنا. ومنها قوله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] ولولا أنّ الدعاء فضله عظيم ما طلبه الله منا، بل إنّ الله تعالى بيّن في آية أخرى أنه إذا لم يسأل غضب، فقال: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) [الأنعام: 43] . ومنها ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «الدعاء مخّ العبادة» «2» . وعن النعمان بن بشير أنه عليه الصلاة والسلام قال: «الدعاء هو العبادة» «3» وقرأ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] . وأما ما قالوا: من أنه إن كان الأمر معلوم الوقوع فهو واقع إلخ: فنقول، إنما يكون ذلك لو علمت كيفية قضائه. أما وهما مغيّبان عنا، والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد بين الرجاء والخوف. ولولا ذلك لما كان له فائدة، بل لما صحّ.

_ رقم (2992) ، ومسلم في الصحيح (4/ 2076) ، 48- كتاب الذكر، 13- باب استحباب خفض الصوت حديث رقم (44/ 2704) . (1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (2/ 93) ، (2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 425) ، كتاب الدعوات، باب ما جاء في فضل الدعاء حديث رقم (3371) . (3) رواه أبو داود في السنن (1/ 549) في كتاب الصلاة، باب الدعاء حديث رقم (1479) ، والترمذي في الجامع الصحيح (5/ 426) ، كتاب الدعوات باب ما جاء في فضل الدعاء حديث رقم (3372) .

ثم إنّ الدعاء يقتضي أن يكون الداعي عارفا بربه تمام المعرفة، وأنه القادر على كل شيء، والقاهر فوق عباده. وهل العبادة إلا المعرفة؟ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي معناه فليطلبوا إجابتي لهم بأن يجيبوا ما دعوتهم إليه من العبادة أجبهم إلى ما يطلبون، والاستجابة هنا: عبارة عن الاستسلام والانقياد. والإيمان: الإذعان القلبي، ولما كان العبد لا يصل إلى نور الإيمان وقوّته إلا بتقديم الطاعة؟ قدّم الله الأمر بالاستجابة اهتماما بشأنها. لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ يهتدون في أمر دينهم ودنياهم. ومعنى الآية: أنهم إذا استجابوا لي وآمنوا فقد اهتدوا، لأن الرشيد من كان كذلك. قال الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) الرَّفَثُ أصله قول الفحش: أنشد الزجاج: وربّ أسراب حجيج كظّم ... عن اللّغا ورفث التّكلّم ويقال: رفث في كلامه، وأرفث: إذا تكلم بالقبيح. قال الله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197] . ثم نقل منه إلى ما كان منه بحضرة النساء مما ينم عن معنى الإفضاء، ثم جعل كناية عن معنى الجماع، وما يتعلق به. هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ: شبه كلّا من الزوجين باللباس. لأنّ كلا منهما يستر الآخر، فكان منه بمثابة اللباس. تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ يقال خانه يخونه خونا وخيانة إذا لم يف له، والسيف إذا نبا عن الضربة فقد خان، وخانه الدهر إذا تغير حاله إلى شرّ. وخان الرجل الرجل إذا غدر به، أو لم يؤد إليه أمانته، وخائن العهد ناقضه، كما في قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً.. [الأنفال: 58] قال صاحب «الكشاف» : والاختيان اسم من الخيانة، كالاكتساب اسم بمعنى الكسب، وفيه زيادة وشدة. ذهب جمهور المفسرين إلى أنه في أول شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم كان الصوم عبارة عن الإمساك عن المفطرات نهارا، لا يقرب شيئا منها بعد النوم ولا بعد صلاة العشاء

الآخرة فإذا فعل شيئا منها بعد النوم أو بعد صلاة العشاء فقد ارتكب محرّما. ونسخ الله هذا الحكم بهذه الآية. وقال أبو مسلم الأصفهاني: ما كانت هذه الحرمة في شرعنا، بل كانت في شرع النصارى، والله تعالى نسخ بهذه الآية ما كان في شرع النصارى. وقد استدل الجمهور لمذهبهم بوجوه: منها: التمسك بالتشبيه في قوله تعالى: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. ومنها قوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ فإنه يقتضي سابق الحرمة. ومنها قوله: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ وقوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ فإنّ الأكل بعد النوم، وكذا الوقاع، لو لم يكن محرّما ما كان هناك معنى لتخوينهم أنفسهم، ولا لتوبة الله عليهم، ولا لعفوه، ثم إن قوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ يقتضي أنّ المباشرة كانت محظورة، وأبيحت بقوله: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ. وقد ردّ أبو مسلم هذه الحجج بما نجمله فيما يأتي: سبق أنه قال: إن هذه الحرمة كانت في شرع النصارى، وقد فهم الصحابة بقاء الحكم، فكانوا يمتنعون من الأكل والوقاع بعد النوم وبعد الصلاة الأخيرة، فبيّن الله بهذه الآية أنه قد خفف عن هذه الأمة وعفا عنها، فلم يوجب عليها ما أوجبه على الأمم السابقة، وأذن لها في تناول ما كان محظورا في الأمم السابقة. وأنت تعلم أن ذلك يتوقف إلى حد كبير على ثبوت أن يكون ذلك كان شريعة للنصارى، وهو ما لم يثبت بعد، ثم هو مع ذلك مخالف لظاهر قوله: تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ وإن كان هو يتأوّلها بتنقيص شهواتها، بدليل إضافتها إلى النفس، وهو يقول: لو كان ذلك محرّما لكان خيانة للشرع لا للنفس، ولكن، أليست مخالفة أحكام الشرع خيانة للنفس، لأنّها تستوجب بها العذاب في الدنيا والآخرة. ثم إنّ ظاهر قوله: فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ مهما تأوله بالتخفيف، فإنه ظاهر في أنه لا يقال: خففت عن فلان إلا ما كان ثقيلا عليه. نعم إنّ له أن يقول: إنّ من شأن هذا التكليف أن يكون ثقيلا علينا لو شرع، فإسقاطه عنا تخفيف. ولكن نقول: هو احتمال، ولكن المتبادر خلافه، ونحن نقول بظاهر الآية لا بنصها. ثم إنّ الأسباب التي ذكرت في نزول الآية تعاضد الذي ذهب إليه الجمهور: منها ما روي أنّ رجلا- وفي اسمه خلاف- من الأنصار جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم عشية، وقد أجهده الصوم، فسأله الرسول عن سبب ضعفه فقال: يا رسول الله-

عملت في النخل نهاري أجمع، حتى أمسيت، فأتيت أهلي لتطعمني شيئا فأبطأت، فنمت، فأيقظوني وقد حرّم الأكل، فقام عمر فقال: يا رسول الله أعتذر إليك من مثله، رجعت إلى أهلي بعد ما صليت العشاء الآخرة فأتيت امرأتي، فقال عليه الصلاة والسلام: «لم تكن جديرا يا عمر» وقام رجال فاعترفوا بالذي صنعوا. فنزل قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ «1» أي الإفضاء إليهن. ولَيْلَةَ نصب على الظرفية. عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ أي علم الله أنكم كنتم تسرّون بالمعصية في الجماع بعد العتمة، والأكل بعد النوم، وترتكبون المحرم من ذلك، ومن فعل ذلك فقد خان نفسه، وخان الله ورسوله. وأنت ترى أن فهم الآية على هذا الوجه يفيد أنّ الجماع والأكل قد وقعا ولو من بعضهم، ويؤيده ما رويناه في سبب النزول. وقد روى عطاء عن ابن عباس أنه كان إذا صلّى العتمة ورقد حرم عليه الطعام والشراب، والجماع، وروى مثله الضحاك وابن أبي ليلى «2» . فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ أمر بفعل ما كان محظورا وقد قالوا: إنّ الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، والإباحة ظاهرة هنا، لأنه لا معنى لإيجاب المباشرة، المباشرة هنا المراد منها الجماع، وهي مشتقة من ملاصقة البشرة البشرة، ومنه ما ورد من نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أن «يباشر الرجل الرجل، والمرأة المرأة» «3» وهو من أجل ذلك حقّه أن يتناول المباشرة غير الفاحشة، لكن سياق الآية وما يأتي بعد هذا قرينة على أنّ المراد هنا الجماع أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ والمراد منه الجماع، فكان الكلام فيه، وسنتكلم عليه عند قوله: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ. وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، قيل: هو الولد، وقيل: ليلة القدر، وقيل: الرخصة. قال أبو بكر الرازي «4» : فلما كان الكلّ محتملا فالأولى أن ينتظم اللفظ الكلّ، ويكون الكل مرادا حيث لا مانع، ويكون اللفظ منتظما لطلب ليلة القدر في رمضان، ولفعل الرخصة، وللولد، فإذا فعل العبد واحدا منها أو الكل قاصدا الثواب كان مأجورا على ما يقصده من ذلك.

_ (1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (2/ 91) . (2) انظر تفسير الطبري المسمى جامع البيان (2/ 95- 98) . (3) رواه أحمد في المسند (1/ 304) . (4) انظر أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (1/ 228) .

وَكُلُوا وَاشْرَبُوا: إطلاق من حظر، كما في قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10] وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: 2] حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ المراد منه: حتى يستبين النهار من الليل، وذلك يكون بظهور الفجر الصادق، وقد روي أنّ رجالا منهم أخذوا اللفظ على ظاهره، وحملوه على حقيقة الخيط الأبيض والخيط الأسود، وتبيّن أحدهما من الآخر. قال: كما روي عن عدي بن حاتم، لما نزلت: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ أخذت عقالا أبيض وعقالا أسود فوضعتهما تحت وسادتي، فنظرته فلما أتبين، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فضحك، وقال: «إنّ وسادك لعريض، إنما هو اللّيل والنّهار» «1» . وقال عثمان: إنما هو الليل وبياض النهار. وقد استبعد الفخر الرازي هذه الرواية على رجل مثل عدي بن حاتم، فإنه يبعد على أي رجل أن يفهم من هذا اللفظ أنّ المراد الخيط الأسود حقيقة مع قوله: مِنَ الْفَجْرِ خصوصا، وقد كان هذا التعبير مألوفا عند العرب، وكان ذلك عندهم اسما لسواد الليل وبياض النهار في الجاهلية قبل الإسلام. قال أبو دؤاد الإيادي: ولمّا أضاءت لنا ظلمة ... ولاح من الصّبح خيط أنارا ووجه تشبيه الليل والنهار بالخيطين أن الصبح أول ما يستبين، وتنجاب ظلمة الليل، يبدو الصبح رفيعا كالخيط. وبمقدار ما يظهر من خيط الصبح ينجاب خيط من الليل الأسود. وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يفيد تحديد مدة الصيام: من الفجر إلى غروب الشمس، كالذي روي عن عبد الله بن سوادة القشيري عن أبيه قال: سمعت سمرة بن جندب يخطب وهو يقول: قال رسول الله: «لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، ولا بياض الأفق الذي هكذا، حتى يستطير» «2» . وبهذا يتبين بطلان ما زعمه الأعمش من أن للصائم أن يأكل ويجامع بعد الفجر، وقبل طلوع الشمس، وهو غريب جدا. يزعم في توجيهه أنه لما كان الليل بغروب

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (5/ 183) ، 65- كتاب تفسير القرآن، 28- باب قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حديث رقم (4509) ومسلم في الصحيح (2/ 766) ، 13- كتاب الصيام 8- باب بيان أن الدخول في الصوم حديث رقم (33/ 1090) . (2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 769) ، 13- كتاب الصيام، 8- باب بيان أن الدخول في الصوم حديث رقم (41/ 1094) وأبو داود في السنن (2/ 290) ، كتاب الصوم باب وقت السحور حديث رقم (2346) . [.....]

القرص يكون النهار بطلوع القرص، ويزعم أن المراد من الخيط الأبيض النهار، ومن الخيط الأسود الليل. ولا ندري ما الحكمة إذا من اختيار لفظ الخيط، وهل النهار عند طلوع الشمس يقال: إن بياضه كالخيط الأبيض! إن هذا لعجيب حقا؟ وأعجب منه زعم من زعم أنّ المراد من الخيط الأبيض طلوع الفجر حقيقة، ولكنه يرى أنه لا يحل الفطر إلا بعد وجود عتمة الليل وظلمته وظهور النجوم، لأنه فهم من قوله: أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أن المراد الظلمة، وكأنّه لا يرى أن ما بين غروب الشمس ومجيء الظلمة من الليل. والحمد لله، انقرضت هذه المذاهب، وانعقد الإجماع على عدم العمل بها، فإنّه على فرض أن الآية تحتمل ما زعموا، فقد جاء في بيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعمله وعمل أصحابه ما فصل به الليل عن النهار، واستبان به وضح الصبح من ظلمة الليل. هذا وقد اختلف أهل العلم في حكم الشاكّ في الفجر، فذكر أبو يوسف في «الإملاء» أن أبا حنيفة قال: إن يدع الرجل السحور إذا شك في الفجر أحب إليّ، فإن تسحر فصومه تام وهو قولهم جميعا في «الأصل» وقال: إذا أكل فلا قضاء عليه. وحكى محمد بن سماعة «1» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: إن أكل وهو شاك قضى يوما مكانه، وقال أبو يوسف: ليس عليه في الشكّ قضاء. وقال الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: إنّه إن كان في موضع يستبين به الفجر، ويرى مطلعه من حيث يطلع، وليس هناك علّة، فليأكل ما لم يستبن له الفجر، وهو قول الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، وإن كان في موضع لا يرى فيه الفجر، أو كانت ليلة مقمرة، وهو شاك، فلا يأكل، وإن أكل فقد أساء، وإن كان أكبر رأيه أنه أكل والفجر طالع قضى، وإلّا لم يقض: وهذا قول زفر وأبي يوسف. قال أبو بكر الرازي «2» : وبه نأخذ، وقال: ينبغي أن تكون رواية «الأصل» ورواية «الإملاء» في كراهيتهم الأكل مع الشك محمولتين على ما رواه الحسن بن زياد، لأنّه فسّر ما أجملوه، ولأنها موافقة لظاهر الكتاب. وقد روي عن ابن عباس أنه بعث رجلين لينظرا له طلوع الفجر، فقال أحدهما: طلع، وقال الآخر: لم يطلع، فقال: اختلفتما وأكل، وكذلك روي عن ابن عمر. والأصل في ذلك أنّ الآية جعلت حلّ الأكل ملغيّا بالتبيّن، وهو حصول العلم الحقيقي، ومعلوم أنّ ذلك إنما يكون عند عدم وجود المانع من حصوله، وذلك إذا كان في مكان يستطيع معه التبيّن، أما إذا كان في ليلة مقمرة، أو غيم أو في موضع

_ (1) أحد تلاميذ أبي يوسف ومحمد، كتب النوادر عن محمد توفي (233 هـ) انظر الأعلام للزركلي (6/ 153) . (2) انظر أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (1/ 230) .

لا يستطيع معه تحصيل العلم الحقيقي فهو مأمور بالاحتياط للصوم، فالواجب عليه الإمساك استبراء لدينه. روى الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير- ولا أسمع أحدا بعده- يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّ الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من النّاس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» «1» . وقال: أكره أن يأكل وهو شاكّ، وإن أكل فعليه القضاء، وقال الشافعي: إن أكل شاكّا في الفجر فلا شيء عليه. هذا والآية تدلّ على جواز الإصباح جنبا في الصوم، وأن الجنابة لا تنافي الصوم، لأنّها تفيد حلّ الأكل والشرب حتى الفجر، والجماع كذلك، فلو لزمه غسل من الجنابة قبل الفجر لما كان هناك حل إلى طلوع الفجر، وقد أمره الله بإتمامه صومه إلى الليل، فلو لم يكن الصوم صحيحا لما أمره بإتمامه، وقد أجمعوا على أن الغاية هنا لإسقاط ما بعدها، وهي كذلك في قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وقد دخلت الغاية في حكم ما قبلها في بعض النصوص، كقوله: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: 43] وفي قوله: إِلَى الْمَرافِقِ وقوله: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] والمعوّل عليه في إثبات دخولها أو خروجها الدليل والقرينة. ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ مرتبط بما قبله في قوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ والمعنى والله أعلم: افعلوا كل هذه الأشياء من المباشرة والأكل والشرب إلى الفجر، فإذا جاء الفجر فأمسكوا، وأتموا هذا الإمساك إلى الليل. وقد أخذ الحنفية من هذه الآية لزوم ما شرع فيه من صوم التطوع، ووجه دلالتها عليه عندهم: أن لفظ الصيام عامّ يتناول كلّ صوم، فكل صوم شرع فيه لزمه إتمامه، لأنّ الله سبحانه أمر بإتمام الصوم إلى الليل، والأمر للوجوب، فإن لم يتمه لزمه قضاؤه. وهكذا سبيل جميع النفل عندهم من الصّلاة والحجّ والصّيام يجب بالشّروع فيه، وعليه إعادته مطلقا، سواء كان معذورا أو غير معذور، وفصّل المالكية فقالوا: إن أبطله فعليه القضاء، وإن كان طرأ عليه ما يفسده فلا قضاء عليه.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (1/ 22) ، 2- كتاب الإيمان، 40- باب فضل من استبرأ لدينه حديث رقم (52) ومسلم في الصحيح (3/ 1219) ، 22- كتاب المساقاة، 20- باب أخذ الحلال حديث رقم (107/ 1599) .

وقال الشافعية والحنابلة: إن أفسد ما دخل فيه من تطوّع فلا قضاء عليه إلا في حجّ النفل عند الحنابلة، فيجب إتمامه. وقد استدل الحنفية بغير هذه الآية، فقالوا: قال الله تعالى: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ [محمد: 33] والنفل الذي شرع فيه عمل من الأعمال، فوجب عليه عدم إبطاله، فإذا بطل أو أبطله فقد ترك واجبا، ولا تبرأ ذمّته إلا بإعادته، وورد في السنة ما يؤيده، وهو ما روى عبيد الله بن عمر، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين، فأهدي إلينا طعام، فأفطرنا، فسألت حفصة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «اقضيا يوما مكانه» «1» . واستدلّ الشافعية ومن معهم بقوله تعالى: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة: 91] وبقوله عليه الصلاة السلام: «الصّائم المتطوّع أمير نفسه» «2» ، والمسألة خلافية كما ترى، والذي يهمّنا هو: هل في هذه الآية دلالة لأحد من المختلفين أو لا؟ يرى الحنفية أنّ لفظ الصيام يتناول كلّ صوم شرع فيه، وقد أمر بإتمامه، وبإبطاله فات الواجب، ولا يجبر إلا بالإعادة، وكون الآية وردت في صوم الفرض لا يغيّر من عموم اللفظ شيئا. والذي يظهر أن الآية ليست بصدد بيان وجوب إتمام ما شرع فيه فرضا أو نفلا، بل بصدد تحديد الزمن الذي يحلّ فيه تناول المفطرات، والذي لا يحلّ، فقالت في الأول: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ إلى قوله: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ وقالت في الثاني: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أي أنه بعد الفجر لا يحلّ لكم أن تتناولوا شيئا مما أحلّ لكم تناوله ليلا. ولا تعرّض فيها لنفل شرع فيه ثم فسد، ولا لفرض شرع فيه ثم فسد، بل لذلك حكم آخر يستفاد من دليل مستقل. وقد فهم الحنفية من هذه الآية أيضا أن تبييت النية غير لازم، ووجهه عندهم أن لفظ (ثم) يفيد التراخي، والإجماع قائم على وجوب الإمساك من الفجر، ووجوب الإمساك من الفجر مدلول عليه بذكر الغاية إلى الْفَجْرِ، فإنّ معناه أن ما كان حلالا قبله يحرم بمجيئه، وذلك بالإمساك من الفجر، فإذا أمسكنا فعلينا الإتمام، والإتمام إنما يكون بقصد، فكأنّ النية التي هي القصد لم تطلب إلا بعد تحقّق الصيام، فكان ذلك دليلا على أنّ النية تكون بعد الصيام، فلا يلزم تبييتها، وهو المطلوب.

_ (1) رواه أبو داود في السنن (2/ 328) في كتاب الصوم باب من رأى عليه القضاء حديث رقم (2457) . (2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 109) في الصوم، باب ما جاء في إفطار الصائم حديث رقم (732) .

وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنّ الآية تدلّ على التبييت، وذلك أن معنى أَتِمُّوا الصِّيامَ صيّروه تاما من الفجر، وهو لا يكون تاما من الفجر إلا بالنية، وهذا هو الظاهر، لأنّ إتمام الشيء لا يكون إلا لشيء قد شرع فيه، وهو هنا الصوم، وقد علمت أن الصوم لا يكون صوما إلا بالنية، تمييزا للعادة من العبادة، إذ قد يمسك الإنسان عن الأكل حمية، ثم لا يكون صوما، لأنه لم ينو، فإن كان هناك دليل غير الآية فهو الذي يدل على عدم تبييت النية. وقد عرض المفسرون هنا لأحكام الصائم إذا نسي وأكل ماذا يكون؟ أيلزمه الإتمام، أم له الإفطار إلخ، أو يلزمه القضاء، أم لا؟ وترى أن كل ذلك يجب أن يبحث عنه في غير هذه الآية. وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. الاعتكاف في اللغة: اللبث. قال تعالى: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ [الأنبياء: 52] وقال الشاعر: فباتت بنات الليل حولي عكّفا ... عكوف البواكي بينهنّ صريع ثم زيد عليه في الشرع قيود: منها: العكوف في المسجد، ومنها: ترك الجماع، ومنها: نية التقرب إلى الله تعالى، فأما العكوف في المسجد فهو في حق الرجال فقط، وأما النساء فيعكفن في مصلّى البيت دفعا للفتنة، والمسجدية مستفادة من قوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ قاله أبو بكر الرازي «1» : وقد وقع الاختلاف في المسجد الذي يكون فيه الاعتكاف: فقد روى إبراهيم النخعي «2» أن حذيفة قال: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم. وروي عن علي رضي الله عنه: أنه لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام، ومسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال جماعة منهم عبد الله بن مسعود، وعائشة، وإبراهيم، وسعيد بن جبير. وأبو جعفر «3» . وعروة بن الزبير: لا اعتكاف إلّا في مسجد جماعة. فأنت ترى السلف قد أجمعوا على أنّ الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد على ما بينهم من الاختلاف في تعيين المسجد الذي يصحّ فيه الاعتكاف.

_ (1) انظر أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (1/ 245) . (2) إبراهيم بن يزيد بن قيس أبو عمران النخعي الفقيه الكوفي توفي (96 هـ) مختفيا من الحجاج، انظر الأعلام للزركلي (1/ 80) . (3) هو محمد الباقر رضي الله عنه.

ولم يختلف فقهاء الأمصار في جواز الاعتكاف في المساجد التي تقام فيها الصلوات، وظاهر الآية التي معنا عدم التفرقة بين المساجد، إذ قال: وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ففهم منها أن الاعتكاف يكون في المساجد، وتعيين أحدها يحتاج إلى الدليل، وكذا تخصيصه بمسجد الجماعة يحتاج إلى الدليل. وغاية ما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد» «1» أنه يدلّ على تفضيل هذه الثلاثة عما عداها، أو عدم شدّ الرحال إلا إليها، وهل الاعتكاف لا يكون إلا بشدّ الرحال؟ وقد تقدّم القول بأنّ العكوف في المسجد إنما هو في حق الرجال. وقد اختلف الفقهاء في معتكف النساء فذهب الحنفية وجماعة إلى أنه يكون في مسجد بيتها كما تقدم، وقال الشافعي: المسافر، والعبد، والمرأة يعتكفون حيث شاؤوا. والمدار في إثبات هذا أو غيره على السنة. وقد اختلف الفقهاء أيضا في المدة التي تلزم في الاعتكاف: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، والشافعي: له أن يعتكف يوما أو ما يشاء. وقد اختلفت الرواية عن الحنفية فيمن دخل ونوى الاعتكاف. هل يكون معتكفا أولا؟ في رواية: يكون معتكفا، وله أن يخرج متى شاء بعد أن يكون صائما في مقدار لبثه، وفي الرواية الأخرى: عليه أن يتمّه يوما، هكذا نقله أبو بكر الرازي «2» . والمعروف عندهم في المتون والكتب أن الاعتكاف ثلاثة أقسام: مندوب، وهو: يتحقق بمجرد النية. وسنة، وهو: في العشر الأواخر من رمضان. وواجب: ولا بد فيه من الصوم وهو: المنذور. وقال مالك في رواية عنه: «لا اعتكاف في أقل من عشرة أيام، وعنه يوم وليلة» ، قال أبو بكر الرازي: تقييد مدة الاعتكاف لا يصحّ إلا بتوقيف، أو اتفاق، وهما معدومان هنا، وقد اختلف السلف في أنه هل يلزم فيه الصوم أم لا؟ فروى عطاء عن ابن عباس وعائشة قالوا: المعتكف عليه الصوم. وقال سعيد بن المسيّب عن عائشة: من سنة المعتكف الصوم. وعن عليّ قال: لا اعتكاف إلا بصوم. وقال آخرون: يصحّ بغير صوم، روي عن علي ، وعبد الله، وقتادة.

_ (1) سبق تخريجه. (2) انظر أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (1/ 245) .

هذا وقد اتفق العلماء على أنّ المراد من المباشرة في قوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ الجماع، وتدخل الدواعي في الإباحة من طريق الأولوية. وكذا اتفقوا هنا على أن المعتكف ممنوع من الجماع ما دام معتكفا. واختلفوا في أن الدواعي لها حكم الجماع بالنسبة للمعتكف، فتكون حراما عليه، وتفسد الاعتكاف، أو ليس لها هذا الحكم؟ قال الشافعية ومن معهم بالأول، وذهب الحنفية إلى الثاني. وقال الشافعية: إنّ الآية تشهد لنا، وذلك أن المباشرة حقيقة في وضع البشرة على البشرة، فيعمّ كل ما يتحقق فيه هذا المعنى، ولا يخرج عنه شيء إلا بدليل، وقد قام الدليل في قوله: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ من سبب النزول ومن قوله: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ولم يقم الدليل هنا، فوجب أن يبقى اللفظ على عمومه، ومن هنا نقل ابن القاسم «1» عن مالك أنه إن قبّل امرأته فسد اعتكافه، وقال المزني عن الشافعي: إن باشر فسد اعتكافه. وأما الحنفية فرأوا أن الآية الأولى قد أريد منها المباشرة بالجماع اتفاقا، والثانية ذكرت المباشرة أيضا، فيحتمل أن يكون المراد بها غير ما أريد بالأولى، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعمّ، فكان مجملا، وقد جاء عمل الصحابة مؤيدا لفهم معنى الجماع فحسب. نقل ذلك عن ابن عباس وغيره. وقد روي عن الزهري، عن عروة، أن عائشة «كانت ترجّل رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو معتكف» فكانت لا محالة تمسّ بدنه، فدلّ ذلك على أن المباشرة المجردة عن الشهوة لا تفسد الاعتكاف، ومن هنا أخذ الحنفية أنه إن باشر بغير جماع لا يفسد اعتكافه إلا إذا أنزل، وإن فعل بشهوة ولم ينزل فقد أساء «2» . وهم يرون أيضا أنّ المباشرة الخالية عن الجماع لا تمنع من الصوم، فكذا لا تمنع الاعتكاف، هذا وقد ذكر المفسرون هنا أحكاما تتعلّق بالاعتكاف لا نرى لها تعلقا بالآية، فلم نشأ ذكرها. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. حدّ الشيء: مقطعه ومنتهاه. وحدّ الدار: ما يمنع غيرها من الدخول فيها. وحدود الله: محدوداته ومقدّراته التي قدّرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة.

_ (1) عبد الرحمن بن القاسم بن خالد المصري، صحب الإمام مالك، وصنّف المدونة توفي (191 هـ) في مصر، انظر الأعلام للزركلي (3/ 323) . (2) انظر كتاب أحكام القرآن للجصاص (1/ 247) .

وقد استشكل قوله بعد ذلك: فَلا تَقْرَبُوها، لأن الأشياء التي ترجع إليها الإشارة في قوله: تِلْكَ بعضها مباح، وبعضها محظور، فكيف جمعها في قوله: فَلا تَقْرَبُوها؟ قيل في الجواب: المراد: لا تتعرّضوا لها بالتغيير، وقيل في الجواب: إنّ من كان في طاعة الله وعمل بشرائعه فهو متصرّف في حيّز الحق، فنهي عن أن يتعدّاه، لأنّ من تعدّاه وقع في حيز الضلال، ثم بولغ في ذلك. فنهي أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيز الحق وحيز الضلال، لئلا يداني الباطل فيقع فيه، فطلب منه أن يكون بعيدا عن الطرف، فهو على حد قوله عليه الصلاة والسلام: «إنّ لكلّ ملك حمى، وإنّ حمى الله محارمه، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» «1» . كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي مثل هذا البيان الشافي يبيّن الله آياته ويوضحها ليتقي الناس الوقوع في خلافها، أو ليتقوا الله فيعملوا على حسب البيان الذي جاءهم. قال الله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) . الباطل: الزائل الذاهب، والمراد منه غير وجه الحق. المعنى: لا يأكل بعضكم أموال بعض بغير وجه مشروع. وأكل المال بالباطل ينتظم وجهين: أحدهما: أخذه على وجه الظلم والسرقة والغصب، وما جرى مجراه. والآخر: أخذه من جهة محظورة كالقمار وأجر الغناء، وسائر الوجوه التي حرّمها الشارع. وقد انتظمت الآية تحريم كلّ هذه الوجوه، وهي كلّها داخلة تحت قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ. وقد كرّر الله هذا النهي في مواضع من القرآن، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النساء: 29] ، وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النساء: 10] إلخ. وليس المراد النهي عن خصوص الأكل، لأنّ غير الأكل من التصرفات كالأكل في هذا، ولكن لمّا كان المقصود الأعظم من المال هو الأكل ووقع التعارف فيمن ينفق ماله أنه أكله، فمن ثمّ عبّر الله عنه بالأكل.

_ (1) سبق تخريجه.

وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ، الإدلاء مأخوذ من أدلى الدلو إذا أرسلها في البئر للاستسقاء. قال الله تعالى: فَأَدْلى دَلْوَهُ [يوسف: 19] ثمّ جعل كلّ إلقاء قول أو فعل إدلاء. ومنه قيل للمحتج أدلى بحجته، كأنّه أرسلها ليحصل على مطلوبه، كمن ألقى دلوه في البئر. والذي هنا من هذا المعنى، كأنه قيل: ولا تلقوا بالأموال إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون. وهو يشمل وجهين: تقديم الأموال رشوة للحكام، ليقضوا لهم بأكل أموال الناس بالإثم، ورفع القضايا للحاكم ارتكانا على الحجة الداحضة، وذرابة اللسان، وشهادة الزور، وما شاكل ذلك من وجوه الباطل، وكل ذلك محرم بالآية الكريمة. فإنها تقضي بتحريم كل ما يرفع إلى الحاكم فيحكم به في الظاهر ليحلها، مع علم المحكوم له أنه غير مستحق له. وفي المعنى الثاني- وهو رفع الأموال للحاكم ليقضي فيها ارتكانا على الحجة الداحضة- جاء في الحديث الذي روي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاء رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد درست» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما أقضي بينكما برأيي فيما لم ينزل عليّ فيه، فمن قضيت له بحجة أراها فاقتطع بها قطعة ظلما، فإنما يقتطع قطعة من النار..» «1» وجاء في معنى هذا الحديث الآخر «إنّما أنا بشر، وإنّكم تختصمون إليّ، ولعلّ أحدكم يكون ألحن بحجّته..» «2» الحديث. وقد اتفقت الأئمة على هذا الحكم فيمن ادّعى حقا في يد رجل وأقام بيّنة فقضي له بها، حيث قالوا: إنه لا يجوز له أخذه، وإنّ حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه. واختلفوا في حكم الحاكم بعقد أو فسخ عقد، بشهادة شهود إذا علم المحكوم له أنهم شهود زور. فقال أبو حنيفة: إذا حكم الحاكم ببينة بعقد، أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ، فهو نافذ، ويكون كعقد عقداه ابتداء بينهما، وإن كان الشهود شهود زور. وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعي، وغيرهم: ينفذ الحكم ظاهرا، ولا ينفذ باطنا، على معنى أنّ حكم الحاكم يمضي ظاهرا، ولا يسع من يعلم بطلانه أن يعمل به، وقال أبو يوسف: إذا قضى الحاكم بفرقة على هذا الوجه بين الزوجين لم يحل

_ (1) رواه أبو داود في السنن (3/ 292) ، كتاب الأقضية، باب في قضاء القاضي حديث رقم (3583) . [.....] (2) رواه البخاري في الصحيح (3/ 216) ، 52- كتاب الشهادات، 27- باب من أقام البينة حديث رقم (2680) ومسلم في الصحيح (3/ 1337) ، 30- كتاب الأقضية، 3- باب الحكم بالظاهر حديث رقم (4/ 1713) ،

للمرأة أن تتزوج، لأنها تعلم أنها لا تزال في عصمة الزوج، ولا يقربها الزوج احتراما لسلطة القضاء الظاهرة «1» . وقد قضى علي كرم الله وجهه بما يوافق رأي أبي حنيفة، حيث جاءه رجل ادعى زواجا على امرأة وهي تنكر، وجاء بشاهدين، فقالت: إني لم أتزوجه، فقال لها زوّجك الشاهدان ، وكذلك قصة لعان هلال بن أميّة مع امرأته، وقضى النبي صلّى الله عليه وسلّم بالفرقة بينهما، وكان ذلك بعد أن قال: «إن جاء الولد على صفة كذا فهو لهلال، وإن جاءت به على صفة كذا، فهو لشريك بن سمحاء» فجاءت به على الصفة المكروهة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن» «2» . واستيفاء الكلام على أدلة الطرفين وترجيح الراجح منها يطلب في موضع غير هذا. والآية صريحة في أنّ الإثم على من أكل وهو يعلم أنه ظالم في الأكل، وأما غيره فلا إثم عليه. قال الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) الهلال هو هذا الكوكب المخصوص المضيء ليلا، وإنما يسمّى هلالا لظهوره بعد خفائه، ومنه الإهلال بالحج لظهور الصوت بالتلبية، وقيل: بل إنما سمي هلالا، لأنّ الإهلال رفع الصوت، والناس عند ظهور الهلال يرفعون أصواتهم بذكره عند رؤيته. وقد اختلف أهل اللغة في الوقت الذي يسمّى فيه هلالا، فمنهم من قال: يسمّى هلالا لليلتين من الشهر، ومنهم من قال: لثلاث، ثم يسمّى قمرا، ومنهم من قال: يسمّى هلالا حتى يبهر ضوؤه سواد الليل، وذلك في الليلة السابعة. روي في سبب نزول هذه الآية، أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم- وكانا من الأنصار- قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، لا يكون على حالة واحدة كالشمس، فنزلت هذه الآية «3» . ويروى أيضا عن معاذ أن اليهود سألت عن الأهلة.

_ (1) انظر كتاب أحكام القرآن للجصاص (1/ 253) . (2) رواه البخاري في الصحيح (6/ 5) ، 65- كتاب تفسير القرآن، 2- باب (ويدرأ عنها العذاب) حديث رقم (4747) . (3) قال السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (1/ 203) : رواه ابن عساكر بسند ضعيف.

ولم يذكر في الآية تحديد المسئول عنه في الأهلة. أهو حقائقها، أم أحوالها؟ لكن الجواب ووروده بقوله: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ مشعر بأن السؤال كان عن الحكمة في تغيّرها، وقد جاء الخبر بأن السؤال كان عن هذا، فالخبر و «القرآن» متطابقان، وعلى هذا فلا مفارقة بين السؤال والجواب. مَواقِيتُ جمع ميقات بمعنى الوقت. كالميعاد بمعنى الوعد، وقال بعضهم: الميقات منتهى الوقت، قال الله تعالى: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف: 142] . والهلال ميقات الشهر. ومواضع الإحرام مواقيت، لأنها التي ينتهي عندها الحلّ. وقد قال أبو بكر الرازي: إنّ هذه الآية تدل على جواز الإحرام بالحج في جميع شهور السنة، لأنّ الأهلة لفظ عامّ. وقد بيّن الله أنها مواقيت للحج، وهو استدلال غير ظاهر. لأننا قد بينّا أنّ المعنى أن الحكمة في تغيّر الأهلة بالزيادة والنقص أن يؤقت الناس بها في معاملاتهم وعباداتهم وحجهم، وليس الكلام في بيان ما يكون في الشهر من العبادات وغيرها «1» . وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قيل: كان الناس من الأنصار إذا أهلّوا بالعمرة التزموا ألا يحول بينهم وبين السماء شيء، ويتحرّون في ذلك. حتى إن من أهلّ بالعمرة وبدت له حاجة في بيته لا يدخل إلى البيت من الباب خشية أن يحول السقف بين السماء وبينه. فنزلت هذه الآية «2» . وقيل غير ذلك. وقيل: إنه مثل ضربه الله تعالى لهم بأن يأتوا البر من وجهه الذي أمر الله به، وليس هناك ما يمنع من إرادة الكل، فتكون الآية دالّة على أن إتيان البيوت من ظهورها ليس قربة إلى الله تعالى ولا هو من شرعه ولا ندب إليه، ويكون مع ذلك مثلا أرشدنا به إلى أن نأتي الأمور من مأتاها الذي أمرنا الله تعالى وَلكِنَّ الْبِرَّ برّ من اتقى محارم الله وَاتَّقُوا اللَّهَ بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه رجاء أن يكون في ذلك فلاح. قال الله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

_ (1) انظر كتاب أحكام القرآن لأبي بكر الرازي (1/ 254) . (2) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (2/ 109) .

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وردت هذه الآيات في الإذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرام إذا فوجئوا بالقتال بغيا وعدوانا، فهي متصلة بما قبلها، لأنّ الآية السابقة بيّنت أنّ الأهلة مواقيت للنّاس والحج، والحج في أشهر هلالية مخصوصة، كان القتال فيها محرّما في الجاهلية. ولم تختلف الأمة في أنّ القتال لم يكن مشروعا قبل الهجرة، بل كان محظورا بقوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) [فصلت: 34، 35] وقوله: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [المائدة: 13] وقوله: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] وقوله: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) [المائدة: 92] وقوله: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ [النساء: 77] وقوله: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) [الغاشية: 22] وقوله: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45] وقوله: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية: 14] . فلما تحولوا للمدينة نسخ هذا كله بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29] . وقد اختلف السلف في أول آية نزلت في الإذن بالقتال. فروي عن الربيع بن أنس وغيره أن أول آية نزلت في قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وروي عن جماعة من الصحابة: منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنّ أول آية نزلت في القتال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج: 39، 40] . وقد أخرج الواحدي «1» من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما صدّ عن البيت، ثم صالحه المشركون، على أن يرجع عامه ثم يأتي القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء فلما كان العام المقبل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل الله هذه الآية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ الآية.

_ (1) أسباب النزول للإمام أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري صفحة (49) .

المعنى: يا أيها المؤمنون الذين يخافون أن يمنعهم مشركو مكة عن زيارة بيت الله والاعتمار فيه نكثا منهم للعهد، ويكرهون أن يدافعوا عن أنفسهم في الحرم وفي الشهر الحرام: اعلموا أنني قد أذنت لكم في القتال، وأنتم إذ تقاتلونهم فإنما تفعلون ذلك في سبيل الله للتمكّن من عبادته، وفوق ذلك فإنما تفعلون هذا مع من نكثوا عهد الصلح، فقاتلوا في هذه السبيل الشريفة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا بالقتال فتبدؤوهم، ولا في القتال فتقتلوا من لم يقاتل كالنساء والصبيان والشيوخ والمرضى الذين لا يستطيعون قتالا، أو من ألقى إليكم السلم وكفّ عن حربكم. وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ. الثقف: الأخذ والإدراك والظفر، يقال: ثقفه: أخذه أو وجده أو ظفر به، أو أدركه. والمعنى: اقتلوا هؤلاء الذين يقاتلونكم في أي مكان تمكّنتم منهم، ولا يصدنّكم عنهم أنهم في أرض الحرم. وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أجلوهم عن مكة كما أجلوكم عنها، فقد كان المشركون يتربّصون بالمؤمنين الدوائر، حتى اضطرّ هؤلاء أن يخرجوا فرارا بأنفسهم ودينهم، ومع ذلك منعوهم من دخول مكة للعبادة. فماذا على المؤمنين الذين أوذوا في سبيل الله وأخرجوا من ديارهم إذا قابلوا العدوان بمثله؟ وهل يعيب أحد الدفاع عن النفس؟ كلا. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: 251] . وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ الفتنة في الأصل مصدر فتن الصائغ الذهب والفضة إذا أذابهما في النار ليستخرج منهما الزغل، ثم استعملت الفتنة في كل اختبار، وهذا مبالغة في التحريض على المقاتلة، أي أنّ ما تفعلونه معهم من القتل في الحرم أقلّ مما يتصفون به من الفتنة. ثم قيل: إن الفتنة هنا الكفر، وقيل: المراد بها ما كان يقع من المشركين من صنوف الإيذاء والإعنات، التي جعلت المؤمنين يفرّون بدينهم، ولولا ذلك لما أمكنهم البقاء على الدين مع الإقامة على الاضطهاد والعسف، وتقرير الآية التي معنا على هذا الوجه مطابق لقوله تعالى في آيات الحج أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج: 39، 40] . ومن فسّر الفتنة بالشرك ادّعى أن قوله: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ الآية ناسخ لما تقرّر في الآية الأولى من قتال المقاتلين فقط. ثم احتاج بعد هذا إلى أن يقول: وهذه الآية أيضا منسوخة بقوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وهكذا ادعوا في هذه الآية نسخا متتاليا.

ولما كنا نرى أنه لا حاجة بنا في فهم هذه الآيات إلى القول بالنسخ، ولمّا لم يكن يعرف أن هذه الآيات مقترنة في النزول، أو مفصولة عن بعضها، وكنا نرى أنها جميعها إلى قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ملتئمة مع ما ذكرنا في سبب النزول، وكان القول بالنسخ على هذا الوجه قد يؤدي إلى القول بالنسخ قبل التمكن، وهو غير جائز عند البعض، كان من رأينا أنّ الأولى الذهاب إلى القول بعدم النسخ. على أنه إذا كان الداعي إلى القول بالنسخ هو عموم شرع القتال بالنظر للمشركين فنحن نجده في قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 36] وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة: 123] وقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29] فليس هناك ما يدعو إلى تفكيك آيات هي متصلة ببعضها تمام الاتصال بغير موجب. على أن الفخر الرازي يرى أن آية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ مع تسليم أنها في وجوب قتال المقاتلين فقط لا يلزم أن تكون منسوخة بقوله: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ بفرض عموم هذه، لأنّ غاية ما يلزم أن يكون قوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ دالا على قتال المقاتلين فحسب، من غير تعرّض لقتال غيرهم، وقوله: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ يفيد تعميم الحكم بعد التخصيص، وذكر العامّ بعد الخاصّ يثبت زيادة حكم على حكم الخاصّ من غير أن ينسخه. وأما قوله: وَلا تَعْتَدُوا فهذا يحتمل أن يكون معناه: ولا تبدءوا في الحرم، أو لا تعتدوا بقتال من وادعوكم، وألقوا إليكم السلم، وكان بينكم وبينهم عهد. إلى أن قال: وتحقيق القول: إنه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على المقاتلة، وفي هذه الآية وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ زاد في التكليف، فأمر بالجهاد معهم، سواء أقاتلوا أو لم يقاتلوا، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام. وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) . روي عن مقاتل أنّ آية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ منسوخة بقوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ثم تلك منسوخة أيضا بقوله: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ. وقال الفخر الرازي: وهو ضعيف، أما أن قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ منسوخ فقد تقدم إبطاله. وأما قوله: إن هذه الآية منسوخة بقوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فهو تخصيص لا نسخ. وأما قوله: إنّ قوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ

عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ منسوخ بقوله: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ فهو خطأ أيضا، لأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكم باق لم ينسخ، فثبت أن قوله ضعيف، قال: ولأنه يبعد من الحكيم أن يجمع بين آيات متتاليات تكون كل واحدة منهما ناسخة للأخرى. وقد تمسّك الحنفية بهذه الآية في عدم قتل الكافر اللاجئ للحرم ما دام لم يقاتل في الحرم. ويحتجّ بعمومها فيمن قتل ثم لجأ إلى الحرم في أنه لا يقتل، لأن الآية لم تفرّق بين من قتل ومن لم يقتل في حظر قتل الجميع، فلزم بمضمون الآية ألا نقتل من وجدناه في الحرم، سواء كان قاتلا أو غير قاتل، إلا إذا قتل في الحرم، فإنه يقتل بقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: 97] وقوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً والمسألة مبسوطة في كتب الفقه. كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ أي ما قدمناه من قتل الكافرين المقاتلين على ما وصفنا، وبشروطه التي ذكرنا. فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) أي فإن كفوا عن قتالكم، ورجعوا عن الكفر، فإنّ الله يغفر لهم ما تقدّم منهم ويرحمهم، كما في قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] . وقد ذهب ابن عباس إلى أن معنى الآية: فإن انتهوا عن القتال. وذهب الحسن إلى أن المعنى: فإن انتهوا عن الشرك، لأنه لا غفران لهم إلا إذا انتهوا عن الشرك إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. قال الله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) أي اقصدوا بقتالهم أن تزول الفتنة والكفر وأنواع الإيذاء والضرر التي تلحق المسلمين بوجودهم في مكة، وقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يبقينّ في جزيرة العرب دينان» «1» . والحكمة في هذا تشير إليها الآية الكريمة حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ولو أنّ المسلمين ساروا على مقتضى هذه الحكمة في قواعد ملكهم التي أنشئوها في غير

_ (1) وبمعناه رواه البخاري (5/ 159، 64- كتاب المغازي، 84- باب مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (4431) ومسلم في الصحيح (3/ 1257) ، 25- كتاب الوصية، 5- باب ترك الوصية حديث رقم (20/ 1637) .

جزيرة العرب لكان الحال غير ما ترى اليوم، فإنّ المنع من أن يبقى في جزيرة العرب دينان إنما كان اجتثاثا لبذور الفتن، وأشد الفتن خطرا ما يكون في قواعد الملك. أما قوله: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فالمعنى: أن يكون الله هو المعبود وحده، وكأنّ المعنى: وقاتلوهم حتى يزول الكفر، ويثبت الإسلام، ونظيره قوله تعالى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح: 16] . فَإِنِ انْتَهَوْا عما أوجب قتالهم فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ يحتمل أن يكون المعنى: فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون عن الكفر، فإنّهم بإصرارهم على الكفر ظالمون لأنفسهم إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] . ولما كان القتل هنا جزاء العدوان صحّ إطلاق اسم العدوان عليه، كما قال: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ. ويحتمل أن يكون المعنى: أنهم إن انتهوا، واعتديتم عليهم بعد ذلك: كنتم ظالمين، فنسلط عليكم من يعتدي عليكم، ويكون المعنى طلب الكف عنهم بعد انتهائهم. قال الله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) . روي عن ابن عباس، والربيع بن أنس ومجاهد وقتادة والضحّاك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج عام الحديبية للعمرة، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة، فصدّه أهل مكة عن ذلك، ثم صالحوه على أن ينصرف، ويعود في العام القابل، حتى يتركوا له مكة ثلاثة أيام، فرجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العام القابل: وهو في ذي القعدة سنة سبع، ودخل مكة واعتمر، فأنزل الله هذه الآية «1» . والمعنى: أنهم صدّوك في العام الفائت في هذا الشهر. فمنّ الله عليكم بالدخول إليها في هذا الشهر من هذا العام، فهذا الشهر بذاك الشهر. وروي عن الحسن أن الكفار سمعوا أن الله تعالى نهى الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يقاتل في الأشهر الحرم، فأرادوا مقاتلته، لظنهم أنه يمتنع عن المقاتلة في هذه الأشهر الحرم، وذلك قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ فأنزل الله هذه الآية لبيان الحكم في هذه الواقعة، فقال: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ «2» أي من استحل دمكم في الشهر الحرام فاستحلوا دمه فيه.

_ (1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (2/ 114) . (2) انظر ما ذكره الجصاص في كتابه أحكام القرآن (1/ 261) ، والقرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (2/ 333) .

وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ إن جرينا على ما روي عن ابن عباس يكون المراد بالحرمات: الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام، والمعنى: أنهم لما أضاعوا هذه الحرمات في سنة ست، فقد عوّضكم الله عنها في سنة سبع. وإن جرينا على ما روي عن الحسن فيكون المعنى: إن أقدموا على مقاتلتكم ولم يراعوا حرمة الأشهر الحرم فقاتلوهم. فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ أي: فمن اعتدى عليكم فقابلوه باعتداء مثله وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالمعونة والنصر. قال الله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) . لما كان الكلام في القتال: وهو كما يحتاج إلى الأنفس يحتاج إلى الأموال- وربما كان من عنده مال لا يقدر على النزال، وقد يكون الشجاع لا مال له- أمر الله الأغنياء أن ينفقوا في سبيل الله على الفقراء الذين لا يجدون ما يحملون أنفسهم عليه في القتال. ويروى أنه لما نزل قوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ قال رجل من الحاضرين: والله يا رسول الله ما لنا زاد، وليس أحد يطعمنا. فأمر عليه الصلاة والسلام أن ينفقوا في سبيل الله، وأن يتصدّقوا، ولا يكفوا أيديهم عن الصدقة ولو بشق تمرة تحمل في سبيل الله. فنزلت الآية على وفق ما قال رسول الله. والإنفاق: هو صرف المال في وجوه المصالح، ولذلك لا يقال للمضيّع إنه منفق، وإذا قيّد بكونه في سبيل الله فالمراد به في طريق الدين، لأن السبيل هي الطريق، وسبيل الله دينه. فاللفظ يتناول كل القربات. من جهاد وحج وغير ذلك، إلا أنّ الأقرب حمل الآية على الانفاق في الجهاد، لأن الكلام فيه. وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ قيل: الباء في قوله: بِأَيْدِيكُمْ زائدة، ويكون المعنى: لا تلقوا أيديكم، وهو كقول القائل: أخذت القلم، وأخذت بالقلم، بمعنى واحد، وقيل: المراد بالأيدي الأنفس، والمعنى: لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، وقد جاء استعمال اليد في النفس في قوله: ما قَدَّمَتْ يَداهُ [الكهف: 57] فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] وقال آخرون: إنّ في الكلام حذفا، والتقدير: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، والتهلكة: الهلاك، يقال: هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة.

وقال بعضهم: ولا أعلم مصدرا جاء في لغة العرب على تفعلة بضم العين إلا هذا، قال أبو علي: حكاه سيبويه «1» في التّبصرة وقال صاحب الكشاف «2» : ويجوز أن يكون أصله التّهلكة بكسر اللام، كالتجربة، والتبصرة، فأبدلت الكسرة ضمة، كما جاء الجوار في الجوار. ويعجبنا قول الفخر الرازي في هذا المقام: إني لأتعجب لهؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع، وذلك أنهم لو وجدوا من الشعر مجهولا يشهد لما أرادوا طاروا به فرحا، واتخذوه حجة قوية، أفلا يكون ورود هذا اللفظ في كلام الله المشهود له بأنه في أعلى درجات البلاغة- أولى بأن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها؟ وقد اختلف المفسرون في المراد بالتهلكة هنا- فمنهم من قال: التهلكة ألا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم، فيستولي عليهم عدوّهم، ويهلكهم وهناك وجه آخر: وهو أن الله لما أمرهم بالإنفاق، وكان الرجل ربما استنفد ماله في مرضاة الله، وهذا قد يؤدي إلى هلاكه قال: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أي لا تجهزوا على المال بالنفقة، بل أبقوا بعضه، وأنفقوا بعضه، وهو حينئذ في معنى قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) [الفرقان: 67] وقوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) [الإسراء: 29] . وقيل بل هي نهي عن الإخلال بما يتطلبه الجهاد، فيتعرضوا للهلاك الذي هو عذاب، وقيل غير هذا، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ أي وأحسنوا في الانفاق بأن تجعلوه وسطا لا إسراف فيه ولا تقتير. قال الله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ اختلف العلماء في إتمام الحج والعمرة ما هو؟ فقيل: أداؤهما، والإتيان بهما من غير أن يفعل في أثنائهما شيئا من المحظورات، وقد يجيء الإتمام بمعنى أصل الفعل، كما في قوله تعالى:

_ (1) عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي، عالم النحو، صنف كتابا سماه الكتاب، أخذ عن الخليل، انظر الأعلام للزركلي (5/ 81) . (2) انظر تفسير: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للزمخشري (1/ 238) .

وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ أي فعلها، وكما في قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أي أدوه، وقد علمت ما فيه سابقا. وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تخرج لهما لا لغيرهما، وقيل: إتمامهما فعل كل واحد منهما منفردا، من غير تمتع ولا قران، قال ابن حبيب «1» : وقيل إتمامهما أن لا يستحل فيهما ما لا ينبغي. وقيل: إتمامهما أن يحرم لهما من دويرة أهله. وقيل: أن ينفق في سفرهما الحلال الطيب. وقد ذكر في أسباب النزول روايات كثيرة يرجع إليها هذا الخلاف، ويأخذ منها المختلفون ما يؤيّد مذهبهم، لا نريد الإطالة بذكرها، وقد اتفق العلماء على فرضية الحج، واختلفوا في العمرة، وذلك أن كثيرا من الآيات، بل كل الآيات التي طلب فيها الحجّ جاء ذكره فيها مجرّدا عن ذكر العمرة وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ [الحج: 27] . والأحاديث الصحيحة التي بيّنت قواعد الإسلام لم يرد فيها ذكر العمرة، نعم جاء ذكر العمرة مع الحج عند بيان الكيفيات، كقوله: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وقوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ إلى قوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. فقال بعض العلماء: إنّ ذلك يقتضي أن لا يكونا سواء في الحكم، فالعمرة سنّة والحجّ فريضة. وذهب جماعة إلى أنّ العمرة واجبة كالحجّ وبه أخذ الشافعيّ وأحمد وابن الجهم من المالكية، وهو مذهب علي، وابن عمر وابن عباس، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وغيرهم. وقال مالك، والنخعي، وأبو حنيفة: (وروي عنه الوجوب) إن: العمرة سنة، وهو مذهب ابن مسعود وجابر بن عبد الله، ولنذكر طرفا من جملة ما استدل به الفريقان: استدل الأولون: بما روي في الصّحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لأصحابه «من كان معه هدي فليهلّ بحجّ وعمرة» «2» .

_ (1) عبد الملك بن حبيب بن سليمان أبو مروان القرطبي، صاحب كتاب الواضحة في الفقه، عالم الأندلس وفقيهها، زار مصر كان عالما بالتاريخ توفي بقرطبة، انظر الأعلام للزركلي (4/ 157) . (2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 870) ، 15- كتاب الحج، 17، باب بيان وجوه الإحرام حديث رقم (111/ 1211) . [.....]

وفي الصّحيح أيضا قال صلّى الله عليه وسلّم: «دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة» «1» . وأخرج الدّارقطني والحاكم من حديث زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الحجّ والعمرة فريضتان لا يضرّك بأيهما بدأت» «2» . واستدلّ الآخرون: بما أخرجه الشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أبي صالح الحنفي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحج جهاد والعمرة تطوّع» وأخرج ابن ماجه مثله «3» ، وأخرج الترمذي وصحّحه، عن جابر أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن العمرة، أواجبة هي؟ قال: «لا. وأن تعتمروا خير لكم» «4» ، وأجاب هؤلاء عن الأحاديث التي صرّح فيها بلفظ الفريضة بأن ذلك بعد الشروع فيها، وهي حينئذ واجبة بلا خلاف، وهذا وإن كان فيه بعد، لكنه يجب المصير إليه جمعا بين الأدلة، قاله الشوكاني. وقال: وعلى هذا يحمل سائر ما فيه دلالة على وجوبها، كالذي أخرجه الشافعي في «الأم» : أنّ العمرة هي الحج الأصغر. كذلك يجب حمل الأحاديث التي قرن فيها الحج والعمرة على أنهما من أفضل الأعمال، وأنهما كفارة لما بينهما «5» ، وأنهما يهدمان ما قبلهما ونحو ذلك اه. وأما الآية التي معنا فالتعبير بالإتمام مشعر بأنهما كان قد شرع فيهما، وقد علمت سابقا أنّ آيات القتال كانت في صلح الحديبية، وأنهم كانوا شرعوا في العمرة وصدّوا عنها، ولذلك تسمّى العمرة التي وقعت في سنة سبع عمرة القضاء، فالتعبير بالإتمام ظاهر النكتة، لا يحتاج إلى الحمل على أصل الفعل. فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. الحصر: الحبس، قال أبو عبيدة «6» والكسائي، والخليل: يقال أحصر بالمرض، وحصر بالعدو، وفي «المجمل» لابن فارس «7» بالعكس، يقال: أحصر بالعدو وحصر

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 886) ، 15- كتاب الحج، 19- باب حجة النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (147/ 2118) . (2) سننه، ط 1، بيروت دار المعرفة 1986 (2/ 284) . (3) رواه ابن ماجه في السنن (2/ 995) ، كتاب المناسك، باب العمرة حديث رقم (2989) . (4) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 270) في كتاب الحج باب ما جاء في العمرة حديث رقم (931) . (5) رواه البخاري في الصحيح (2/ 240) ، 26- كتاب العمرة، 1- باب العمرة حديث رقم (1773) . (6) معمر بن مثنى أبو عبيدة البصري النحوي، له مصنفات بلغت المائتين توفي سنة (209 هـ) انظر الأعلام للزركلي (7/ 272) . (7) أحمد بن فارس القزويني اللغوي توفي (395 هـ) في الري، انظر الأعلام للزركلي (1/ 193) .

بالمرض، ورجّح الأول ابن العربي «1» وقال: رأي أكثر أهل اللغة «2» ، وقال الزجّاج: إنّه كذلك عند جميع أهل اللغة. وقال الفرّاء: هما بمعنى واحد في المرض والعدو، ووافقه على ذلك أبو عمرو الشيباني «3» . وبسبب هذا الاختلاف بين أهل اللغة اختلف أئمة الفقه، فذهب الحنفية إلى أنّ المحصر من يصير ممنوعا من دخول مكة بعد الإحرام بمرض، أو عدوّ، أو غيره، وذهب الشافعية إلى أن الإحصار معناه: المنع بالعدو. وقال الفخر الرازي: وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة فقهية، وهي أنهم اتفقوا على أنّ حكم الإحصار في الحصر بالعدو ثابت، وهل يثبت بالمرض وسائر الموانع أو لا؟ قال أبو حنيفة: يثبت، وقال الشافعي: لا يثبت، وحجة أبي حنيفة ظاهرة على مذهب أهل اللغة، وذلك لأن أهل اللغة رجلان: أحدهم: الذي قال: الإحصار مختصّ بالمرض. فتكون الآية نصّا فيه. والثاني: الذي قال: إنّ الإحصار اسم لمطلق الحبس، سواء كان حاصلا بسبب المرض، أو بسبب العدو. وحجة أبي حنيفة على هذا ظاهرة أيضا، لأنّ الله تعالى علّق الحكم على مسمّى الإحصار، وهو عام، فتناول الكل. نعم إنّ هناك قولا ثالثا، وهو أن الإحصار في الحصر بالعدو. قال الفخر: وهو باطل باتفاق أهل اللغة، وبتقدير ثبوته. فنحن نقيس المرض على العدو بجامع الحرج، وهو قياس جلي، وقد استدل الشافعية لمذهبهم بوجوه منها أنّ رأينا وإن كان يخالف روايات أهل اللغة إلا أنه مرويّ عن ابن عباس، وابن عمر، وهما أولى، لأنّهما من أهل اللغة. وأدرى بتفسير «القرآن» . على أنا نقول: إنّ الحصر عبارة عن المنع، ولا يقال: إنّ الإنسان ممنوع عن كذا إلا إذا كان متمكّنا منه قادرا عليه، وذلك في العدو، لا في المرض، وأيضا أُحْصِرْتُمْ معناها: منعتم، والمنع لا بدّ له من مانع، ولا يسند الفعل إلى المرض عقلا، لأنّه مرض لا يبقى زمانين، فكيف يقال: إنه مانع؟ وأنت ترى أنهم في هذا يستعملون القياس في اللغة. وقالوا أيضا إن الله تعالى قال في الآية: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ

_ (1) هو محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي توفي (543 هـ) في فاس، من حفاظ الحديث، انظر الأعلام للزركلي (6/ 230) . (2) انظر أحكام القرآن لابن العربي ط 2، بيروت، دار الفكر، 1967 (1/ 119- 124) . (3) إسحاق بن مرار الشيباني بالولاء النحوي اللغوي سكن بغداد وتوفي فيها سنة (206 هـ) ، انظر الأعلام للزركلي (1/ 296) .

ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدو، لا في المرض، وقد أورد عليه أننا نمنع أن يكون الأمن قاصرا على الأمن من العدو، ولئن سلّم: فخصوص بعض أفراد العام بحكم ذكر في آخر الآية لا يذهب بعموم أولها في حكم غير هذا الخاص. اسْتَيْسَرَ تيسر، كاستعظم تعظم، واستكبر تكبر. الْهَدْيِ جمع هدية كما تقول: تمر وتمرة، وفي الهدي تشديد للياء وتخفيفها، والهدي ما يهدى إلى بيت الله عزّ وجلّ تقربا إلى الله، وقد روي عن علي، وابن عباس والحسن. وقتادة: الهدي أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس. وهو مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وابن شبرمة «1» ، غير أنه جعل البدن خاصة بالإبل، وهم جعلوها في الإبل والبقر، والخلاف في السن المجزئ يعرف في الفقه، ثم إن حقيقة الحج والعمرة معروفة في الفقه، وقد ذكر المفسّرون هنا أقسام الحج: الإفراد، والقران، والتمتع، وحقائقها أيضا معروفة في الفقه. وقد اختلف العلماء في أيها أفضل؟ فقال الشافعي: أفضلها الإفراد، ثم التمتع ثم القرآن، وعنه: إنّ التمتع أفضل من الإفراد، وهو مروي عن مالك رضي الله عنه. إن التمتع جاء ذكره في القران. ولم يجئ القران. وللشافعي قوله عليه الصلاة السلام: «القرآن رخصة» «2» ولأنّ في الإفراد زيادة التلبية والسفر، والحلق. والحنفية احتجوا بما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «يا آل محمد! أهلّوا بحجّ وعمرة معا» «3» والذي يعنينا هو: هل في الآية ما يؤيّد واحدا من هذه المذاهب؟ ترى أن الآية ليس فيها ما يصلح حجة لواحد من الآراء. فليس فيها إلا الأمر بالإتمام، وهو لا يقتضي شيئا منها، فالمدار في إثبات المذاهب على السنة والترجيح فيها. ثم إن الإحصار كما يكون عن الحج يكون عن العمرة، لأن الله تعالى يقول: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ومعناه منعتم، وهو بإطلاقه ينصرف إلى المنع مما تقدم. والذي تقدم هو قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فيكون المنع منهما سواء. وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ قد اختلف السلف في المكان الذي يذبح فيه

_ (1) عبد الله بن شبرمة، فقيه العراق، أبو شبرمة، قاضي الكوفة وكان شاعرا توفي سنة (144 هـ) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (6/ 500) ترجمة (980) . (2) قال الزيلعي: غريب جدا انظر نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعى (3/ 115) . (3) رواه أحمد في المسند (6/ 298) .

الهدي، فقال عبد الله بن مسعود وابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين: هو الحرم، وهو مذهب الحنفية «1» والثوري. وقال مالك والشافعي: محله الموضع الذي أحصر فيه، فيذبحه ويحل، وذلك أنّ معنى قوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ لا تحلوا من إحرامكم حتى تعلموا أنّ الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم قد بلغ محله، والكلام في هذا المحل، لأنه يحتمل أن يراد منه الوقت الذي يذبح فيه، ويحتمل أن يراد منه الموضع. فذهب الشافعية وأهل المدينة إلى أن المراد منه الوقت الذي يذبح فيه، إذا جاء في موضع الإحصار، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ذبح فيه حيث أحصر في عام الحديبية. وذهب الحنفية إلى أنه الحرم، لأن المحل وإن كان يحتمل الوقت، ومنه محلّ الدّين: أي وقته، غير أن الله تعالى يقول: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فلو كان هدي الإحصار يذبح في موضع الإحصار لكان الهدي بالغا محله، وحينئذ يكون قوله حتى يبلغ الهدي محله لاغيا. وقد قال الله تعالى: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ إلى أن قال: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) [الحج: 30- 33] والظاهر أنّ ذلك في كل الهدايا بلا فرق. وكأنّ الآية بيان للإجمال في قوله: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فقد جعل الله محل الهدي البيت العتيق، فليس لأحد أن يجعله في غيره. وأيضا فقد قال الله في جزاء الصيد: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: 95] فبيّن أن الشرط في الهدي أن يكون على صفة بلوغ الكعبة، فلا يصح أن تغيّر هذه الصفة، كما لم يصح تغيير التتابع في صوم كفّارة الظهار. هذا مجمل أدلة الحنفية، وقد أجابوا عن فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في عام الحديبية فقالوا: إن الذبح في طرف الحرم من جهة الحديبية. والشافعية وأهل المدينة استدلوا بفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأيضا قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ يدلّ عليه، بل إنه لو كان الذبح في الحرم لما قال: مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أي الحرم، فيكون النبي صلّى الله عليه وسلّم قد ذبح في الحل، لا في الحرم. والحنفية يقولون: إنه يستحبّ أن يكون الذبح عند المروة بمنى، فلما منع المشركون الهدي أن يبلغ هذا المحل، كان الهدي معكوفا أن يبلغ المحل الأفضل، وإن كان الذبح واقعا في الحرم، هذا مجمل الأدلة والشبه من الفريقين. ثم إنّ العلماء لم يختلفوا في أن هدي العمرة غير مؤقّت بزمن مخصوص، بل له أن يذبح

_ (1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1/ 196) . [.....]

متى شاء، ويحل، واختلفوا في هدي الإحصار في الحج، فقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: له أن يذبحه متى شاء ويحل. وقال أبو يوسف والثوري ومحمد: لا يذبحه قبل يوم النحر. وجه الأولين أن قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ عام في كل الأوقات متى حصل الإحصار، فتخصيصه بوقت إخراج للعام عن عمومه من غير دليل، وأيضا فإن الاتفاق حاصل بين الجميع أن حكم الإحصار بالعمرة لا توقيت فيه، وهو مستفاد من قوله: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ وهذا دم إحصار وذلك دم إحصار الفرق تحكّم. على أن المعقول في دم الإحصار أن لا يتوقت بزمن غير زمن الإحصار لما قد ينشأ عن بقاء الإحرام- حتى يجيء يوم النحر- من الضرر. نعم قد يعقل أن يختص ذبح دم الإحصار بالمكان لمعنى في المكان: كسد حاجة فقراء الحرم، أو ما شاكل ذلك، ولا نجد هذا المعنى في التخصيص بالزمان بعد وجود الإحصار وعدم التمكن من الوصول إلى الحرم. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ، المراد بالمرض هنا أدنى ما يصدق عليه اسم المرض. لأنّ المرض الشديد الذي يمنع من تمام النسك يثبت به الإحصار عند الحنفية، وهذا أحد الشبه التي للشافعية أن يستدلوا بها على أن المرض لا يثبت به الإحصار، لأنّه قد بيّن حكمه، هنا، وإن كان للحنفية أن يقولوا: إنّ وجود الصوم بين هذه الأشياء التي جبر فيها دالّ على أن هذا حكم المرض اليسير الذي يقدر صاحبه على الصوم معه، وهذا لا نقول له تحلل بالهدي، بل عليه إتمام النسك، ثم إن قوله: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ مشير إليه. وفي الآية حذف تقديره: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فحلق فالواجب فدية، وكأنّ هذا استثناء من قوله: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، وعلى كل حال- فالمراد: بالمرض والأذى ما يحتاج معه إلى أن يفعل شيئا من محظورات الإحرام: كلبس المخيط، أو تغطية الرأس، أو الحلق. ولم تبين الآية مقدار الصيام، ولا مقدار الصدقة، ولا مقدار النسك. وإنّما ذلك نجده في السّنّة وكتب الفقه. وقد ذهب الجمهور إلى أن الصوم ثلاثة أيام، وهو قول جماعة السلف: إلا ما يروى عن الحسن، وعكرمة: أن الصيام عشرة أيام كصوم التمتع، والعمدة في هذا الباب حديث كعب بن عجرة، وهو ما روي عن عبد الله بن مغفّل أن كعب بن عجرة حدّثه «أنه خرج مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم محرما فقمّل رأسه ولحيته، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فدعا بحلاق فحلق رأسه» ، وقال: «هل تجد نسكا» ؟ فقال: ما أقدر عليه، فأمره أن يصوم ثلاثة أيام، أو أن يطعم ستّة مساكين، لكل مسكين صاعا «1» .

_ (1) انظر أحكام القرآن للجصاص (1/ 281) .

واختلفت الروايات عنه في الصدقة، فمرّة روي عنه الصدقة بستة صيعان كما رأيت، على ستة مساكين، ومرة بثلاثة آصع «1» ، على ستة مساكين، فاضطر الجمهور إلى الجمع بينهما، فحملوا رواية الثلاثة آصع، على طعام القمح، لأنه المعهود فيه في سائر الصدقات، وحملوا رواية الستة آصع على التمر، وأما النسك فلا خلاف أنه تجزئ فيه الشاة، وقد ورد في أخبار كعب بعضها: أنسك نسيكة، وبعضها: شاة، فهو إن شاء ذبح شاة وإن شاء ذبح بدنة. ولا خلاف أنه مخيّر بين فعل أي واحد من الثلاثة، يفعل أيها شاء. لأنّ هذا ما تقضيه (أو) من التخيير. فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. بهذه تعلّق الشافعية أيضا فيما ذهبوا إليه من الإحصار هو من العدو فحسب، وقال الحنفية: إن الأمن كما يكون من العدو يكون من غيره، ثم إنّ قوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ينتظم معنيين: أحدهما: الإحلال، والمتعة بالنساء. والآخر: جمع الحج والعمرة في أشهر الحج، ومعناه حينئذ: الارتفاق بهما، وترك إنشاء سفرين لهما. وقد كانت العرب تكره العمرة في أشهر الحج، وتعدّها من أفجر الفجور. روي عن ابن عباس أنه قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفر. ويقولون: إذا برأ الدّبر وعفى الأثر، وانسلخ صفر، حلّت العمرة لمن اعتمر «2» . فالمتعة بالحج تحتمل المعنيين: استباحة التمتع بالنساء بالإحلال، والمعنى الثاني: الارتفاق بجمعهما في أشهر الحج، بعد أن كان ذلك ممنوعا. وقد اختلف في قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ. فقال ابن مسعود وعلقمة «3» : هو عطف على قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (5/ 185) ، 65- كتاب تفسير القرآن، 32- باب فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً حديث رقم (4517) ، ومسلم في الصحيح (2/ 859) ، 15- كتاب الحج، 10- باب جواز حلق الرأس حديث رقم (80/ 1201) . (2) رواه البخاري في الصحيح (2/ 185) ، 25- كتاب الحج، 34- باب التمتع والإقران والإفراد بالحج حديث رقم (1564) . (3) علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي، أبو شبل، تابعي، كان فقيه العراق، انظر الأعلام للزركلي (4/ 248) .

والمعنى: أنّ الحاجّ إذا أحصر فحلّ من إحرامه بهدي يذبحه: فعليه قضاء عمرة وحجة، فإن هو تمتع بهما، وجمع بينهما في أشهر الحج في سفر واحد: فعليه دم آخر للتمتع. وإن اعتمر في أشهر الحج، ثم رجع إلى أهله. ثم حجّ من عامه، فلا دم عليه للتمتع. قال عبد الله بن مسعود: هديان وسفر أو سفران وهدي، يعني أن من جمع بينهما في سفر واحد بعد الإحصار فعليه هديان: هدي الإحصار، وهدي التمتع، وإن فعلهما في سفرين فليس عليه إلا هدي الإحصار. ويرى ابن عباس أنّ الآية تشمل كلّ جمع بينهما في سفر واحد. سواء أكان محصرا. أم لا. ويرى ابن مسعود أن الآية في المحصرين فقط. لمكان العطف، وإن كان الحكم واحدا فيمن جمع بينهما الإحصار، أو لغير الإحصار. وقد روي عن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم روايات ظاهرها اختلاف في إباحة التمتع، بمعنى جمع العمرة والحج في أشهر الحج: فمن روي عنه النهي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعثمان بن عفان رضي الله عنه. وروي أن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل حدّث أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحّاك بن قيس عام حج معاوية وهما يتذاكران التمتع بالعمرة إلى الحج. فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله تعالى. قال سعد: بئسما قلت يا ابن أخي! فقال الضحّاك: فإن عمر قد نهى عنه. قال سعد: صنعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصنعناها معه. وروي عن قتادة أنه قال سمعت جريّر بن كليب يقول: رأيت عثمان ينهى عن المتعة «1» . وعلي يأمر بها، فأتيت عليّا، فقلت: إن بينكما لشرّا، أنت تأمر بها، وعثمان ينهى عنها! فقال: ما بيننا إلا خير. ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين «2» . وقد روي عن عثمان وعمر- أنهما ما كانا يقصدان النهي، وإنما كانا يقصدان تفريق النسكين، من أجل أن تستمر عمارة البلد الحرام في غير أشهر الحج، وأن يدوم نفع الفقراء طول العام باختلاف الناس إلى الحرم في أشهر الحج بالحج، وفي غيرها بالعمرة.

_ (1) ذكره الجصاص في كتابه أحكام القرآن (1/ 284) . (2) المرجع نفسه (1/ 285) .

ولقد روي عن عمر رضي الله عنه اختيار المتعة على غيرها، فدلّ ذلك على أن النهي إنما كان لمعنى، خاصّ، لا لعدم الجواز. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. أي: فمن لم يجد الهدي- إما لعدم المال، أو لعدم الحيوان- صام ثلاثة أيام في الحج: وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر، وقيل: يصوم قبل يوم التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة. وقيل: ما بين أن يحرم إلى يوم عرفة. وقيل: يصومها من أول عشر ذي الحجة، وقيل: ما دام بمكة، وقيل: غير ذلك. وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ المراد بالرجوع الرجوع إلى الأهل، وقال أحمد، وإسحاق: يجزئه أن يصوم في الطريق، ولا يتضيّق عليه الوجوب إلا بالرجوع إلى الوطن، وهو مذهب الشافعي. وقال مالك: إذا رجع إلى منى فلا بأس أن يصوم. وقال الشوكاني: والأول أرجح، فقد ثبت في «الصحيح» «1» من حديث ابن عمر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعة إذا رجع إلى أهله» . وإنما قال سبحانه: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ مع أنّ كلّ أحد يعلم أنّ الثلاثة والسبعة عشرة كاملة لدفع أن يتوهم متوهم أنه مخيّر بين الثلاثة في الحج، وبين السبعة إذا رجع إلى أهله، قاله الزجّاج. وقال المبرد: إنما قال ذلك ليدلّ على انقضاء العدد، حتى لا يتوهّم بقاء شيء وراء السبعة، وقيل: هو توكيد، كما تقول كتبت بيدي، وقد جاء مثل هذا في كلام العرب، قال الشاعر «2» : ثلاث واثنتان فهنّ خمس ... وسادسة تميل إلى شمام وكذا قول الآخر: ثلاث بالغداء وذاك حسبي ... وستّ حين يدركني العشاء فذلك تسعة في اليوم ريّي ... وشرب المرء فوق الريّ داء وقوله: كامِلَةٌ توكيد آخر، لزيادة العناية بشأنها، حتى لا ينقص منها شيء.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (2/ 219) ، 25- كتاب الحج، 104- باب من ساق البدن حديث رقم (1691) ، ومسلم في الصحيح (2/ 901) ، 15- كتاب الحج، 24- باب وجوب الدم على المتمتع حديث رقم (174/ 1227) . (2) هو الفرزدق كما في زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (1/ 178) .

ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قيل: الإشارة إلى التمتع، وعلى ذلك فلا تمتع للمكيّ، وإن فعل فعليه دم جناية لا يأكل منه، وهو منقول عن الحنفية. وقيل الإشارة إلى حكم الصوم، وما إليه، وعلى هذا يكون للمكيّ تمتع، ولا يكون منه إلا الهدي، ونقل عن الشافعي. والمراد بمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام: من لم يكن ساكنا في الحرم، ومن لم يكن ساكنا في المواقيت فما دونها فيه خلاف. قال عطاء ومكحول: حاضر المسجد الحرام هم من دون المواقيت إلى مكة، وهو مذهب الحنفية غير أنهم جعلوا من في المواقيت بمنزلة من دونها. وقال ابن عباس، ومجاهد: هم أهل الحرم. وقال الحسن، وطاوس «1» ، ونافع، وعبد الرحمن الأعرج «2» : هم أهل مكة. وهو قول مالك. وقال الشافعي فيما رواه الجصاص عنه: هم من كان أهلهم دون ليلتين، وهم حينئذ أقرب إلى المواقيت، والأدلة تعرف في الفروع. وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما فرضه عليكم في هذه الأحكام. وقيل: هو أمر بعموم التقوى، وتحذير من شدة عقاب الله سبحانه أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. قال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) . الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فيه حذف تقديره: وقت الحج أشهر معلومات، أي وقت أعمال الحج. وقيل: التقدير: الحج في أشهر معلومات، قال الشوكاني: وفيه أنه كان يلزم نصب الأشهر على نزع الخافض. وقال الفراء: الْأَشْهُرُ رفع لأنّ معناه وقت الحج أشهر معلومات، وقيل: التقدير الحجّ حجّ أشهر معلومات. وقد اختلف في الأشهر المعلومات، فقال ابن مسعود، وابن عمر، وعطاء، والربيع، ومجاهد، والزهري: هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله، وبه قال مالك. وقال ابن عباس، والسدي، والشعبي، والنخعي هي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، وروي أيضا عن مالك.

_ (1) طاوس بن كيسان الخولاني، من كبار التابعين أصله من الفرس، ولد في اليمن وتوفي حاجا، انظر الأعلام للزركلي (3/ 224) . (2) تابعي واسمه عبد الرحمن بن هرمز أبو داود، حافظ قارئ، مات سنة (117 هـ) بالإسكندرية، انظر الأعلام للزركلي (3/ 340) .

وفائدة الخلاف تظهر فيمن أوقع شيئا من أعمال الحج بعد يوم النحر، فمن قال: إن ذا الحجة كله من أشهر الحج. قال: تم حجه، ولا يلزمه دم بالتأخير. ومن قال: إلى عشر ذي الحجة. قال: يلزمه دم بالتأخير. ذكره الشوكاني. وقال أبو بكر الرازي: وقال قائلون: وجائز ألا يكون ذلك اختلافا في الحقيقة، وأن يكون مراد من قال: وذو الحجة أنه بعضه، لأنّ الحج لا محالة في بعض الأشهر، لا في جميعها، لأنّه لا خلاف أنه ليس يبقى بعد أيام منى شيء من مناسك الحج. وقالوا: ويحتمل أن يكون من تأوّله على ذي الحجة كله مراده أنّها لما كانت هذه هي أشهر الحج كان الاختيار عنده ألا يؤتى بالعمرة فيها، كما روي عن عمر وغيره من استحبابهم لفعل العمرة في غير أشهر الحج كما قدّمنا. هذا وقد حكى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف قال: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، لأنّ من لم يدرك عرفة حتى طلع فجر يوم النحر فقد فات حجّه. بقي أنه كيف يقال للشهرين وبعض الثالث: إنها أشهر؟ نقول: إن اللغة لا تمنع من ذلك. وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «أيام منى ثلاثة» وهي اثنان وبعض الثالث، ويقال: حججت عام كذا، والمراد بعضه. وقال أبو بكر الرازي: ولقول من يقول: إنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة وجه آخر، وهو ينتظم القولين جميعا، وهو أنّ الآية سيقت لبيان أنّ هذه هي الأشهر التي يكون فيها الحج دون تبديل ولا تغيير، على نحو ما كان يفعله أهل الجاهلية من التغيير والتبديل. فكانوا يغيرون في أشهر الحج، فمعنى قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أن أعمال الحج تقع في هذه الأشهر، على مقتضى بيان السنة، دون ما كان يفعله أهل الجاهلية من تبديل الشهور وتأخير الحج، وتقديمه. وقد اختلف السلف في إيقاع الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، فروى مقسم عن ابن عباس أنه قال: من سنة الحج ألا يحرم بالحج قبل أشهر الحج. وروي عن جابر أنه قال: لا يحرم الرجل بالحج قبل أشهر الحج، وروي مثله عن طاوس وعطاء، ومجاهد، وغيرهم، وقال عطاء: من أحرم بالحج قبل أشهر الحج فليجعلها عمرة. وفي مقابل ذلك روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال في قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ. وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ: إن إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. وروي عن إبراهيم النخعي وأبي نعيم جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج، وهو قول الحنفية، ومالك والثوري، والليث بن سعد. وقال الحسن بن صالح بن يحيّى «1» : إذا أحرم بالحج قبل أشهر الحج

_ (1) الهمداني الثوري الكوفي أبو عبد توفي (169 هـ) كان فقيها متكلما، انظر الأعلام للزركلي (2/ 193) .

يجعلها عمرة، وإذا أدركته أشهر الحج قبل أن يجعلها عمرة مضى في الحج وأجزأه. وقال الشافعي: لا يجوز لأحد أن يهلّ بالحج قبل أشهر الحج، وهو قول أحمد والآية بظاهرها تشهد له، لأنّها قد جعلت وقت الحج هذه الأشهر المعلومات، والإحرام للعبادة عنه. فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ المعنى: فمن ألزم نفسه الحجّ بأن يحرم به. وقد اختلف الفقهاء في العمل الذي يصير به المحرم محرما، فقال الشافعي: إنه يصير محرما بمجرد النية. وقال الحنفية: لا يكون محرما حتى يلبّي. أو يسوق الهدي. وإثبات هذا أو هذا إنما يكون من السنّة، لأنّ الآية ليس فيها أزيد من أنّ من ألزم نفسه الحجّ فليترك الرفث والفسوق والجدال أما أن الإلزام يكون بماذا؟ فلم تتعرّض له الآية، فليلتمس بيانه من السنّة. فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ. الرفث: تقدّم بيانه في آية الصوم والفسوق، والفسق: مصدران بمعنى واحد، وهو الخروج عن طاعة الله إلى المعصية، وهو وإن كان قد أطلق في بعض المواضع مرادا منه نوع خاص، إلا أنه اسم عامّ يجب أن يبقى على عمومه، لا يخرج منه شيء إلا ما يخرجه الدليل. والدليل هنا غير موجود. والجدال «1» فعال من المجادلة، وأصله من الجدل الذي هو الفتل، يقال: زمام مجدول، مفتول، والجديل: الزمام، لأنه لا يكون إلا مفتولا، وسمّيت المخاصمة جدالا، لأنّ كلا من الخصمين يودّ لو يقدر على فتل صاحبه، وقد ذكر المفسّرون وجوها كثيرة في تفسير هذه الكلمات، وكلها تخرجها عن عمومها، وخيرها ما ذكره القاضي من أن المراد من الآية الحثّ والترغيب على الأخلاق الفاضلة، فهي خبر لفظا، نهي معنى، ويراد من الرفث: الجماع ومقدماته، وقول الفحش. ومن الفسوق جميع أنواع المعاصي، ومن الجدال جميع أنواع الخصام. وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ أعدوا عدتكم بسفركم لملاقاة ربّكم يوم العرض عليه، وتزوّدوا من التقوى، فإنّها خير زاد يبلغ بكم السلامة والعافية. قال الأعشى: إذا أنت لم ترحل بزاد من التّقى ... ولا قيت بعد الموت من قد تزوّدا

_ (1) الجدال: المراء والخصومة انظر، لسان العرب لابن منظور (11/ 105) .

ندمت على ألا تكون كمثله ... وأنّك لم ترصد لما كان أرصدا وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ فإنّ الجدير بأصحاب العقول أن يتسلّحوا بالتقوى من مفرّهم إلى مقرّهم. قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) لما كان الله تعالى قد منع الجدال في الحجّ، وكانت المعاملات التجارية تفضي إلى الجدال والمخاصمة، فكانت التجارة مظنّة المنع، وأيضا لما حظر لبس المخيط، والإنسان قد يكون شديد الحاجة، وكانت التجارة مظنّة الحظر، فمن أجل ذلك قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ. وقد روى عطاء أن ابن مسعود وابن الزبير كانا يقرءان (أن تبتغوا فضلا من ربّكم في مواسم الحجّ) ومن هنا قال بعض المفسرين: الفضل هنا التجارة، ونظيره قوله تعالى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل: 20] . وقد روي في سبب النزول عن ابن عباس «1» أنه قال: كان ناس من العرب يحترزون من التجارة في أيام الحج، وإذا دخل العشر بالغوا في ترك البيع والشراء بالكلية. وبالغوا في الاحتراز من الأعمال، إلى أن امتنعوا من إغاثة الملهوف، فأزال الله هذا الوهم، وبيّن أن لا جناح في التجارة. هذا هو الذي حمل جمهور المفسرين على أن يذهبوا إلى أنّ المراد التجارة في أيام الحج. وذهب أبو مسلم إلى أن المراد التجارة بعد انقضاء أعمال الحج، والتقدير عنده: فاتقون في كلّ أعمال الحج، ثم بعد ذلك لا جناح عليكم، وهو نظير قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10] . وظاهر الآية يأبى هذا، فإنه قال بعد هذه الآية: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ بالفاء، وهو يدل على أن ابتغاء الفضل سابق على ذلك، وقبل عرفات لم يتم الحجّ. ثم إنهم اتفقوا على أن التجارة المباحة هي التي لا يترتب عليها نقصان في الطاعة ولا تشغله عن أعمال الحج. وأما تلك فهي غير مباحة.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (5/ 186) ، 65- كتاب تفسير القرآن، 34- باب لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ حديث رقم (4519) .

فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ. الإفاضة: الاندفاع في السير بكثرة، منه: أفاض البعير بجرّته: ألقاها منبثة، وأفاض الأقداح في الميسر: جمعها، ثم ألقاها متفرقة. وإفاضة الماء من هذا. والإفاضة في الحديث: الاندفاع فيه بكثرة، وتصرّف في وجوهه. فمعنى قوله: فَإِذا أَفَضْتُمْ دفعتم أنفسكم بكثرة مِنْ عَرَفاتٍ جمع عرفة، هي اسم لموضع واحد، ولكنه لسعته، ووقوف الناس فيه جماعات وأفرادا، وموضع كل فرد وجماعة منه بالنسبة إليها في حجها عرفة، قيل له عرفات من أجل ذلك. واليوم التاسع من ذي الحجة يقال له: يوم عرفة، لأنه يوم الوقوف بعرفة. والوقوف بعرفة ركن، لا يدرك الحجّ إلا من أدركه، ولا نعلم خلافا بين العلماء في ذلك، إلا ما روي عن الحسن أنه قال: إنه واجب، من أدركه فقد أدّاه، ومن لا، فيكفيه الوقوف بجمع. وفي الآية دلالة على أنّ الوقوف بعرفة لا بدّ منه، لأنه قد رتّب عليه الأمر بالذكر عند المشعر الحرام، وهو واجب مشروط بالإفاضة من عرفات، والإفاضة من عرفات تستدعي الوجود في عرفات، وما لا يتمّ الواجب ألا بوجوده فهو واجب، والمشعر الحرام المراد منه: المزدلفة. والوقوف بها قيل: سنة، وقيل: واجب. وعن علقمة وقتادة أنهما قالا: إن الوقوف بها ركن. وقد اختلف في الذكر المطلوب عند المشعر الحرام، فقال بعضهم: المراد منه الجمع بين صلاة المغرب، وصلاة العشاء بمزدلفة، ولعل في قوله صلّى الله عليه وسلّم لمن سأله أن يصلّي في الطريق «الصلاة أمامك» «1» إشارة إليه. وقال بعضهم: بل المراد الذكر باللسان: من التسبيح، والتحميد، والتهليل والتلبية، وقد ورد عن ابن عباس أنه نظر إلى الناس وقال: كان الناس في هذه الليلة لا ينامون. وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أي واذكروه لهدايته إياكم، على حدّ قوله: كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ. وقد قيل: إنه كرّر الأمر بذكر الله لأنّ الأمر الأوّل ذكر لساني، والآخر قلبي، ويحتمل أنه كرّر الأمر بالذكر للحث على مواصلة الذكر، كأنه قيل: واذكروه واذكروه، أي اذكروه ذكرا بعد ذكر، ويرجع في المعنى إلى قوله تعالى:

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 934) ، 15- كتاب الحج، 47- باب الإفاضة من عرفات حديث رقم (276/ 1280) . [.....]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) [الأحزاب: 41] وقد قيل: إن المراد بالهداية: هدايتهم إلى سنة إبراهيم، وقيل: بل هي عامة. ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) الجمهور على أنّ المراد من هذه الإفاضة الإفاضة من عرفات، ويؤيدهم ما روي في أسباب النزول: من أنّ الآية أمر لقبيلة قريش، ومن دان دينها وهم الحمس، كانوا لا يتجاوزون المزدلفة، لأنّها من الحرم «1» ، وعرفة في الحل، والحرم معظّم عندهم، وقصر الوقوف على عرفة ربما أشعر بمزيتها على الحرم، فأنزل الله هذه الآية ليقفوا حيث يقف الناس، ويفيضوا من حيث يفيضون، لا يشذّون عنهم. وذهب الضّحاك إلى أن المأمور به هنا هو الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر. وقد استشكل الفخر الرازي كلا من القولين: أما الأول: فلأنّ قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ يدل بظاهره على إفاضة غير الإفاضة المذكورة في قوله: فَإِذا أَفَضْتُمْ لأنها معطوفة عليها بثمّ، هي للترتيب، ولو كانت هي للعطف، لكان ذلك عطفا للشيء على نفسه. وقد أجيب عنه بأجوبة كثيرة: منها أن ثمّ بمعنى الواو. ومنها أن ثمّ للترتيب الذكري. ومنها أن ثُمَّ أَفِيضُوا معطوف على قوله: وَاتَّقُونِ، وقد أجاز بعضهم أن تكون هذه الآية متقدمة على تلك. ولكنه مجرد احتمال. واستشكل قول الضحّاك بأن الذي ذهب إليه يتمشى إذا أريد بقوله: مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ الزمان الذي يفيضون فيه، مِنْ حَيْثُ يأبى هذا، لأنها للمكان لا للزمان. وقد أجاب عنه بأن التوقيت بالزمان كالتوقيت بالمكان، فلا يبعد استعارة اللفظ الدالّ على أحدهما للدلالة على الآخر وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قال الله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200)

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (5/ 186) ، 65- كتاب تفسير، 35- باب ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ حديث رقم (4520) ، ومسلم في الصحيح (2/ 893) ، 15- كتاب الحج، 21- باب في الوقوف حديث رقم (151/ 1219) .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) لما كانت أعمال الحج كثيرة، وهي لا تخلو عن تقصير، أمرهم بالاستغفار، وقد يكون فيه إشارة إلى ترجيح أن الإفاضة المأمور بها هي من عرفات، على نحو ما ورد في سبب النزول، فكأنّ ما وقع من الحمس يؤاخذ عليه، فلذلك طلب منهم الاستغفار. فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً. روى ابن عباس أنّ العرب كانوا عند الفراغ من حجتهم يعدّ الواحد منهم أيام آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم ويتناشدون فيها الأشعار. فلما أنعم الله عليهم بنعمة الإسلام أمرهم بأن يذكروه كذكرهم لآبائهم. وروى القفال عن ابن عمر قال: طاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على راحلته القصواء يوم الفتح، يستلم الركن بمحجنه «1» ، ثم حمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد أيها الناس! إنّ الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها! إنما النّاس رجلان: برّ تقي كريم على الله، وفاجر شقي هيّن على الله، والنّاس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب، ثم تلا: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ.. [الحجرات: 13] ثم قال: «أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» «2» . والمراد من قضاء المناسك الفراغ منها، والمناسك جمع منسك، وهو مصدر، بمعنى النسك، أي العبادة، والمعنى فإذا فرغتم من عبادتكم التي أمرتم بها في الحج فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً. اختلفوا في هذا الذكر المأمور به، فمنهم من حمله على الذكر على الذبيحة، ومنهم من حمله على الذكر الذي هو التكبير بعد الصّلاة في يوم النحر وأيام التشريق، لأنّه لم يعرف في هذه الأيام ذكر خاص إلا هذا الذكر. وقيل: بل كان القوم في الجاهلية اعتادوا ذكر مفاخرهم، وتعداد مناقبهم، وآبائهم، فأمرهم الله هذا ليحوّلهم عن هذه العادة القبيحة، وقيل غير هذا. كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً معناه: أنّ الأجدر بكم، وقد أنعم الله عليكم بشهود الحجّ أن تشتغلوا بذكر الله، لا بذكر آبائكم، يعني تتوفّروا على ذكره، كما كنتم تتوفرّون على ذكرهم، بل هذا أولى، لأن ذكركم وثناءكم على آبائكم قد يكون كذبا.

_ (1) عصا معوجة، انظر لسان العرب لابن منظور (13/ 108) . (2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 363) ، كتاب التفسير باب ومن سورة الحجرات حديث رقم (3270) .

وذهب أبو مسلم إلى أنه مثل في المداومة على ذكر الله، لأنه قد تركز في طبيعة الإنسان أن يذكر آباءه ولا ينساهم، وقوله: أَوْ أَشَدَّ معناه بل أشد. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) . لما أمر الله تعالى بالذكر ذكر عقبه ما يكون من الناس في الدعاء، ليأخذوا بأحسن الأحوال، ويتركوا غيره، فقال: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ.. الآية فقسّم الناس في الدعاء إلى قسمين: قسم يقصر دعاءه على أمور الدنيا، والاستزادة من خيراتها، ويسكت عن الآخرة، وكأنّها لا تخطر له على بال، ولا يعنيه من أمورها شيء، ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ الخلاق: النصيب. وقسم يحرص على طلب خيرى الدنيا والآخرة، وهؤلاء سيؤتيهم الله نصيبهم غير منقوص أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا. وقد قيل: إن الإشارة في قوله: أُولئِكَ راجع إلى الفريقين: يعني الذين طلبوا الدنيا فقط، والذين طلبوهما معا. وقيل: بل هو راجع للقسم الثاني فقط، والدليل عليه أن الله ذكر حكم الفريق الأول بقوله: ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. قد يقال: كيف رجع قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا إلى الفريق الثاني، مع أنه مشعر بتحقير الجزاء؟ ويجاب عنه بأنّ المراد: لهم نصيب في الدنيا والآخرة يبتدئ من كسبهم، فمن لابتداء الغاية، لا للتبعيض، والكسب يطلق على ما يناله المرء بعمله، وقد يكون نفعا، وقد يكون ضررا، وقد اختلف في المراد بالفريق المقصود بقوله: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ فقيل: هم الكفار، كانوا يقولون إذا وقفوا: اللهم ارزقنا إبلا وبقرا وغنما وعبيدا، وما كانوا يطلبون التوبة والمغفرة، فأخبر الله أن من كان من هذا القبيل فلا خلاق له في الآخرة. وقيل: هؤلاء قد يكونون مؤمنين، ولكنهم يسألون الله لدنياهم لا لأخراهم، وهو سؤال يعدّ ذنبا في هذه المواقف العظيمة، حيث يسألون فيها حطام الدنيا، ويعرضون عن سؤال النعيم الدائم في الآخرة. قيل: الحسنة في الدنيا عبارة عن: الصحة والأمن والكفاية والولد الصالح

والزوج الصالحة والنصرة على الأعداء. وأما الحسنة في الآخرة فهي: الفوز بالثواب، والخلاص من العقاب. وبالجملة، فقوله: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً كلمة جامعة لجميع مطالب الدنيا والآخرة: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ حساب الله آت لا محالة، وما دام محقق الوقوع، فهو قريب سريع. قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وقد ورد الذكر في الحج في الأيام مرتين، فمرة في سورة البقرة بلفظ المعدودات، وهي الآية التي معنا وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ ومرة في سورة الحج بلفظ معلومات في قوله: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ [الحج: 28] فذهب الشافعيّ رضي الله عنه إلى أنّ المعلومات هي العشرة الأوائل من ذي الحجة، آخرها النحر، وأما المعدودات فهي ثلاثة بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق. وقد أكد القفّال هذا بما رواه في تفسيره أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمر مناديا ينادي: «الحجّ عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحجّ. وأيام منى ثلاثة أيام، فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه» «1» وهذا يدل على أن الأيام المعدودات هي: أيام التشريق. قال الواحدي «2» : أيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهذه الأيّام الثلاثة مع يوم النحر كلّها أيام نحر، وأيام رمي الجمار هذه الأيام الأربعة، وهي مع يوم عرفة أيام التكبير عقيب الصلوات على ما سنذكره، ثم إن المراد بالذكر في هذه الأيام الذكر عند الجمرات، والذكر أدبار الصلوات، لم يخالف أحد في ذلك، إنما الخلاف في بدء هذه الصلوات وانتهائها. فقيل: إنها تبدأ من ظهر يوم النحر إلى ما بعد الصبح من آخر أيام التشريق، فتكون الصلوات التي يكبّر عقبها خمس عشرة صلاة، وهو قول ابن عباس، وابن عمر، وبه قال مالك، والشافعي في أحد قوليه. وعن الشافعي: أنه يبدأ بالتكبير من صلاة المغرب ليلة النحر، وعنه أنّه يبدأ به من صلاة الفجر يوم عرفة، ويقطع بعد صلاة العصر من يوم النحر، وهي رواية عن أبي حنيفة.

_ (1) رواه أبو داود في السنن (2/ 147) ، كتاب المناسك باب من لم يدرك عرفة حديث رقم (1949) ، والنسائي في السنن (5- 6/ 292) ، كتاب المناسك، باب فيمن لم يدرك الصبح في مزدلفة حديث رقم (3044) ، والترمذي في الجامع الصحيح (3/ 237) ، كتاب الحج باب فيمن أدرك الإمام حديث رقم (889) . (2) علي بن أحمد بن محمد أبو الحسن الواحدي النيسابوري. مفسّر عالم بالأدب توفي سنة (468 هـ) انظر الأعلام للزركلي (4/ 255) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 215 إلى 242]

وعن الشافعي أيضا: أنه يبدأ التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة، وينقطع بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق، فتكون الصلوات ثلاثا وعشرين صلاة، وهو قول أكابر الصحابة: كعلي وعمر وابن مسعود، وابن عباس ومن الفقهاء: الثوري وأبو يوسف، ومحمد وأحمد وإسحاق، والمزني، وابن سريج «1» ، وعليه عمل الناس في البلدان. وروى جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه صلّى الصّبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا فقال: «الله أكبر» ومدّ التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق. وأمّا عدد التكبيرات فيعرف في الفقه فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى. معناه: من تعجّل في الإتيان بالمطلوب في الثلاثة، بأن جعله في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخّر بأن أوقعهن في الثلاثة، بأن ترك رخصة التعجل، فلا إثم عليه. وقيل: إن المعنى فَمَنْ تَعَجَّلَ بأن نفر من منى في اليوم الثاني فلا إثم عليه، ومن تأخر عن الثلاثة بأن بقي إلى الرابع فلا إثم عليه، وقد قيل غير هذا، فارجع إليه في الفقه إن شئت. لِمَنِ اتَّقى المعنى: أنّ هذه المغفرة إنما تكون للمتقين الذين لم يلبسوا حجهم بالمظالم والمآثم، كما قال الله تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27] . وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تأكيد للأمر بالتقوى، وحمل على التشديد فيه، والحشر: اسم يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف. وذلك يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) [الانفطار: 19] . قال الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) خَيْرٍ: المراد به هنا المال. اليتيم: من فقد والده وهو صغير، فإذا بلغ زال عنه اسم اليتم. المسكين: من عجز عن كسب ما يكفيه، وسكن إلى الرضا بالقليل. ابن السبيل: المسافر، وسمّي به لملازمته إياه، كما يقال للرجل الذي أتت عليه الدهور: ابن الأيام والليالي. يقول الله تعالى: يسألك أصحابك يا محمد أي شيء ينفقونه من أموالهم في الصدقة؟ وعلى من ينفقون؟

_ (1) أحمد بن عمر بن سريج البغدادي أبو العباس من كبار فقهاء الشافعية ولد وتوفي في بغداد، انظر الأعلام للزركلي (1/ 185) .

فقل لهم: ما أنفقتم من أموالكم فاجعلوه لآبائكم، وأمهاتكم وأقربائكم واليتامى منكم، الذين مات كافلهم، والمساكين الذين عجزوا عن الكسب والمسافرين الذين انقطعت بهم السبل وما تأتوا من خير فإنّ الله به عليم، فيجازيكم عليه. وقد اختلف في هذه الآية. 1- فقيل: إنها منسوخة بآية الزكاة إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ [التوبة: 60] . 2- وقيل: إنها غير منسوخة، وهو الأولى وهي لبيان صدقة التطوع، فإنّه متى أمكن الجمع فلا نسخ. وقد بينت الآية أنّ صدقة التطوع في الوالدين والأقربين أفضل، ويدل على ذلك ما روي عن صدقة النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا معشر النّساء، تصدّقن ولو من حليّكنّ» . فقالت زينب امرأة عبد الله بن مسعود لزوجها: أراك خفيف ذات اليد فإن أجزأت عنّي فيك صرفتها إليك، فأتت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسألته فقالت: أتجزئ الصدقة على زوجي وأيتام في حجري؟ فقال لها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «نعم، ولك أجران: أجر الصدقة وأجر القرابة» «1» . وفي رواية: «زوجك وولدك أحقّ من تصدّقت عليه» «2» . وروى النّسائي وغيره أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يد المعطي العليا. أباك، وأمّك وأختك، وأخاك، وأدناك أدناك» «3» . وروى مسلم عن جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ابدأ بنفسك فتصدّق عليها» «4» . قال قيل: إنهم سألوا عن المنفق، وأجيبوا ببيان المنفق عليهم، فلم يتطابقا؟ قيل: إن ذلك على أسلوب الحكيم. فقد سألوا عن شيء، وأجابهم عما هو أهم منه، وهو بيان مواطن الإنفاق، لأنّ الإنفاق لا يحدث الخير الذي يؤدي إليه حتى يصادف موقعه. قال الشاعر: إنّ الصّنيعة لا تكون صنيعة ... حتّى يصاب بها طريق المصنع

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (2/ 155) ، 24- كتاب الزكاة، 48- باب الزكاة على الزوج حديث رقم (1466) ، ومسلم في الصحيح (2/ 694) ، 12- كتاب الزكاة 14- باب فضل النفقة حديث رقم (45/ 1000) . (2) رواه البخاري في الصحيح (2/ 154) ، 24- كتاب الزكاة، 44- باب الزكاة على الأقارب حديث رقم (2/ 146) . (3) رواه أحمد في المسند (2/ 226) . (4) رواه مسلم في الصحيح (2/ 692) ، 12- كتاب الزكاة، 13- باب الابتداء في النفقة حديث رقم (41/ 997) .

ومن نظر إلى أحوال مصر وجد الإحسان فيها فوضى، وما أحوجها إلى عمل ينتظم به الإحسان، ليقع موقعه، ويصيب أهله. قال الله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) . كتب: فرض. الكره بالضم: ما حمل الرجل نفسه عليه من غير إكراه أحد إياه عليه. والكره بالفتح: ما حمله عليه غيره، قال معاذ بن مسلم «1» الكره: المشقة، والكره: الإجبار، وقال بعضهم: الكره والكره لغتان بمعنى واحد، كالغسل والغسل، والضعف والضعف، وقيل: هو بفتح الكاف اسم، وبالضم مصدر. وهو إما على حذف مضاف. أي ذو كره، أو من باب الوصف بالمصدر مبالغة كقولها: فإنّما هي إقبال وإدبار وقيل: إن المصدر أقيم مقام اسم المفعول. المعنى: فرض عليكم أيها المسلمون قتال الكفار، وهو كره لكم، ولعلّكم تكرهون شيئا وهو خير لكم، ولعلكم تحبون شيئا وهو شرّ لكم، إذ هم يكرهون القتال وفيه الفتح والغنيمة والشهادة والقوة. ويحبون القعود، وفيه الذلّ والاستعباد، والله يعلم ما هو خير لكم مما هو شر لكم. فلا تكرهوا ما فرض عليكم من القتال. فإنّه يعلم أنه خير لكم في عاجلكم، ولا تحبوا القعود، فإنّه شر لكم، فإنّ الدنيا بنيت على التدافع، وأنتم لا تعلمون ما يعلمه الله، وقد اختلف في الذين كتب عليهم القتال في هذه الآية: 1- قال الأوزاعي: نزلت في الصحابة، فهم الذين كتب عليهم الجهاد، وبه قال عطاء. 2- وقال غيرهما: إنّ القتال قد كتب على جميع المسلمين، لكن تختلف الحال، فإن كان الإسلام ظاهرا فهو فرض على الكفاية، وإن كان العدو ظاهرا فهو فرض على الأعيان، حتّى يكشف الله ما بهم، وهذا هو الظاهر. وقد روى البخاري عن مجاشع: قال أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم أنا وأخي، فقلت: بايعني على الهجرة، فقال: «مضت الهجرة لأهلها» «2» . قلت: علام تبايعنا؟

_ (1) أبو مسلم الهرّاء النحوي أديب معمر، من أهل الكوفة، انظر الأعلام للزركلي (7/ 258) . (2) رواه البخاري في الصحيح (4/ 11) ، 56- كتاب الجهاد، 110- باب البيعة في الحرب حديث رقم (2962، 2963) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1487) ، 33- كتاب الإمارة حديث رقم (83/ 1863) .

قال: على الإسلام، والجهاد. وقد روي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيّة، وإذا استنفرتم فانفروا» «1» . قال الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) . قِتالٍ بدل من الشهر. كَبِيرٌ عظيم. وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مبتدأ وخبره أكبر عند الله. وَكُفْرٌ بِهِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ عطف عليه. وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ عطف على سبيل الله. وَالْفِتْنَةُ الشرك. يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ يرجع عنه. حَبِطَتْ بطلت، وبطلانها ذهاب ثوابها. ذكر في أسباب نزول هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث عبد الله بن جحش- وهو ابن عمته- في ثمانية من المهاجرين في رجب، مقفله من بدر الأولى، ليأتوه بأخبار قريش، ولم يأمرهم بقتال، فمضوا، حتى كانوا بنجران، فأضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه، فتخلّفا يطلبانه، ومضى القوم حتّى نزلوا نخلة، فبينما هم كذلك إذ مرت بهم عير لقريش فيهم عمرو بن الحضرمي، والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل. وأشرف لهم عكّاشة بن محصن من أصحاب عبد الله بن جحش، وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه حليقا قالوا: عمّار فليس عليكم منهم بأس، وأتمر بهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: لئن قتلتموهم لنقتلنهم في الشهر الحرام، ولئن تركتموهم ليدخلنّ في هذه الليلة الحرم، فليمتنعنّ منكم، فأجمع القوم على قتلهم، فرمى واقد بن عبد الملك التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل،

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (3/ 1488) ، 33- كتاب الإمارة، 20- باب المبايعة بعد الفتح حديث رقم (88/ 1866) .

واستاقوا العير، فقدموا بها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لهم: «ما أمرتكم بالقتال في الشّهر الحرام» فوقّف رسول الله الأسيرين والعير، فسقط في أيديهم، وظنّوا أن قد هلكوا، وقالت قريش: قد سفك محمد الدم الحرام، وأخذ المال، وأسر الرّجال، واستحلّ الشهر الحرام، فنزل قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ الآية، فأخذ النبي العير، وفدى الأسيرين «1» . وفي بعض الروايات أن قريشا لما بلغهم الخبر أرسلوا وفدا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: أيحلّ القتال في الشهر الحرام فنزلت. وقال بعض المسلمين: إن لم يكونوا أصابوا وزرا فليس لهم أجر، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا.. الآية. المعنى: يسألك يا محمد أصحابك عن القتال في الشهر الحرام، وهو رجب، قل: قتال فيه إثم كبير وصدّ قريش عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وكفرهم بالله، وإخراجكم من المسجد الحرام وأنتم أهله، كلّ أولئك أكبر إثما عند الله من قتل من قتلتم منهم وقد كانوا يفتنون المسلم عن دينه، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، وذلك أكبر عند الله من القتل، أي أنكم أيها المسلمون ترتكبون أخفّ الضررين، وأهون الشرين، وتزيلون إثما كبيرا بما هو أقلّ منه. وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا أي: هم مقيمون على الشر والمنكر، ومن يرجع منكم عن دينه، فيمت وهو كافر قبل أن يتوب، فهم الذين بطلت أعمالهم، وذهب ثوابها والأجر عليها، وهم أهل النار المخلّدون فيها، الماكثون فيها من غير أمد ولا نهاية. إنّ الّذين صدّقوا بالله، والذين هاجروا مساكنة المشركين فيها في ديارهم، وكرهوا سلطان المشركين، فتحوّلوا عنه خوفا من أن يفتنهم المشركون، وحاربوهم في دين الله، أولئك يطمعون في رحمة الله، والله ساتر ذنوب عباده، ورحيم بهم، ومن المهاجرين عبد الله بن جحش وأصحابه، فنزلت هذه لتطمينهم. وعلى الرواية الثانية- وهي أنّ وفدا من المشركين سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن القتال في الشهر الحرام- يكون المعنى: إن المشركين متناقضون، يتمسّكون بحرمة الشهر الحرام، ويفعلون ما هو أكبر من ذلك: من الصد عن سبيل الله، ومع الكفر به، والمسجد الحرام وإخراج أهله منه والفتنة التي فتنوا بها بعض المسلمين عن دينهم أكبر إثما عند الله، فهم كمن يبصر القذاة في عين أخيه، ويغفل عن الخشبة المعترضة في عينه.

_ (1) ذكره الإمام الواحدي النيسابوري في كتابه أسباب النزول صفحة (64) . [.....]

الأحكام

الأحكام دلت هذه الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام، وهل بقيت الحرمة أم نسخت؟ اختلف في ذلك المفسّرون: فذهب عطاء إلى أن هذه الآية لم تنسخ، وكان يحلف على ذلك، ولعلّ ذلك لأنّ الآية التي تأمر بالقتال عامة في الأزمنة، وهذه خاصة، والعام لا ينسخ الخاصّ. وقال سائر العلماء: إنها منسوخة. وقد اختلف في الناسخ، فقيل: هو وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 36] وقيل: هو: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29] . وإنما ذهب العلماء إلى نسخها، لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزا هوازن بحنين، وثقيفا بالطائف، وأرسل أبا عامر إلى أوطاس ليحارب من فيها من المشركين، وكان ذلك في بعض الأشهر الحرم، ولو كان القتال فيهن حراما لما فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ابن العربي: والصحيح أن هذه الآية ردّ على المشركين حين أعظموا على النبي القتال في الشهر الحرام. فقال تعالى: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ وهي الكفر في الشهر الحرام أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ فإذا فعلتم ذلك كله في الشهر الحرام تعيّن قتالكم فيه. المرتد وأخذ الشافعي من قوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أن إحباط الردة العمل مشروط بالوفاة كافرا، وذهب مالك إلى أن الردة نفسها محبطة للعمل اعتمادا على قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] . ويظهر أثر الخلاف فيمن حجّ مسلما، ثم ارتد، ثم أسلم، فقال مالك: عليه الحجّ، لأنّ ردته أحبطت حجّه، وقال الشافعي: لا حجّ عليه، لأنّ حجه قد سبق، والردة لا تحبطه إلا إذا مات على كفره. وقد رأى المالكية أنّ هذه الآية رتبت حكمين: الحبوط. الخلود في النار، ومن شرط الخلود أن يموت على كفره، ولذلك شرطه. أما آية لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ فهي في الردة فقط، وقد علّق الحبوط بمجرد الشرك، والخطاب وإن كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم فهو مراد به أمته، لاستحالة الشرك عليه. أما الشافعية فيرون أن آية لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ من باب التغليظ على النبي صلّى الله عليه وسلّم

كما غلظ على نسائه في قوله: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] . قال الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) . الخمر: مادة (خ م ر) تدل على الستر، ومنه خمار المرأة، لأنّه يستر رأسها. وقولهم للضبع: خامري أم عامر: أي استتري. وسميت الخمر خمرا لأنها تستر العقل، وهي ما أسكر من عصير العنب، أو ما أسكر من عصير العنب ومن غيره على الخلاف في ذلك. الميسر: مفعل. من يسرت الشيء إذا جزّأته، ويطلق على الجزور، لأنّه موضع التجزئة، ويقال للجازر: ياسر، ويسر. ويقال للضاربين بالقداح المتقامرين على الجزور: يأسرون، لأنّهم أيضا جازرون إذا كانوا سببا لذلك، والميسر الذي ذكره الله وحرّمه هو ضرب القداح على أجزاء الجزور قمارا، ثم قد يقال للنّرد ميسر على طريق التشبيه، لأنّه يضرب عليها بفصين، كما يضرب على الجزور بالقداح، ولأنّه قمار، كما أن الميسر قمار، قال مجاهد: كل القمار من الميسر، حتى لعب الصبيان بالخرز. الإثم: الذنب، وقد أثم بالكسر إثما. ومأثما، إذا وقع في الإثم، فهو آثم، وأثيم، وأثوم، المراد به هنا: كل ما ينقص من الدين عند من يشربها، وما فيها من إلقاء العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله. المعنى: يسألك أصحابك يا محمد عن شرب الخمر، ولعب الميسر. قل: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ أما إثم الخمر، فإنّ الجماعة تشرب فتسكر، فتؤذي الناس، وتقع العداوة والبغضاء، أما إثم الميسر، فهو أن يقامر الرجل فيمنع الحقّ، ويظلم، فتقع العداوة والبغضاء. وفيهما منافع للناس، أما منفعة الخمر، فهي الاتجار بها، وما يصلون إليه من اللذة والنشوة، وبسط يد البخيل، وتقوية قلب الجبان، كما قال حسان: ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهنا اللّقاء ومنفعة الميسر ما يصيبهم من أنصباء الجزور. وذلك أنهم كانوا يياسرون على الجزور، إذا فلج الرجل منهم صاحبه نحره، ثم اقتسموه أعشارا على عدد القداح. وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتل بعضهم بعضا، وإذا قامروا وقع بينهم الشر، كما قال تعالى:

إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) [المائدة: 91] . سبب نزول هذه الآية: اختلف العلماء في سبب نزولها، فروى الترمذي «1» أن عمر رضي الله عنه قال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت الآية التي في البقرة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ.. الآية فدعي عمر فقرئت عليه. فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت التي في النساء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: 43] فدعي عمر رضي الله عنه فقرئت عليه، ثم قال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيان شفاء. فنزلت التي في المائدة إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فدعي عمر رضي الله عنه فقرئت عليه، فقال: انتهينا انتهينا. وروى ابن جرير «2» عن زيد بن علي قال: أنزل الله عزّ وجلّ في الخمر ثلاث مرات، فأول ما أنزل قال الله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما قال: فشربها من المسلمين من شاء الله منهم على ذلك، حتى شرب رجلان، فدخلا في الصلاة، فجعلا يهجران كلاما، لا يدري عوف ما هو. فأنزل الله عزّ وجلّ فيهما: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فشربها من شربها منهم وجعلوا يتقونها عند الصلاة، حتى شربها فيما زعم أبو القموص فجعل ينوح على قتلى بدر بأبيات منها: تحيّي بالسّلامة أمّ عمرو وهل لك بعد رهطك من سلام ذريني أصطبح بكرا فإني رأيت الموت نقّب عن هشام وودّ بنو المغيرة لو فدوه بألف من رجال أو سوام قال: فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء فزعا يجر رداءه من الفزع، حتى انتهى إليه، فلما عاينه الرجل، رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا كان بيده ليضربه قال: أعوذ بالله من غضب الله ورسوله، والله لا أطعمها أبدا، فأنزل الله تحريمها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ [المائدة: 90] إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فقال عمر بن الخطاب: انتهينا، انتهينا. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن آية البقرة لا تقتضي التحريم، ولذلك شربها بعض الصحابة بعد نزولها، كما هو ظاهر الروايات.

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 236) ، كتاب التفسير حديث رقم (3049) . (2) رواه ابن جرير الطبري، جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (2/ 211) .

ما هي الخمر؟

وقال بعضهم: إنها تقتضي التحريم، لأنّ الله قال: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ: وقد حرم الله الإثم بقوله: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ [الأعراف: 33] وإنما شربها من شربها متأوّلا. ما هي الخمر؟ اختلف العلماء فيما هي الخمر، فذهب مالك والشافعي، وأحمد، وأهل الحجاز وجمهور المحدّثين إلى أنها الشراب المسكر من عصير العنب وغيره، فالشراب المسكر من عصير التمر، والشعير، والبرّ خمر. وقال العراقيون: أبو حنيفة، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى «1» ، وشريك وابن شبرمة: الخمر من الشراب المسكر من عصير العنب فقط، أما المسكر من غيره كالشراب من التمر أو الشعير فلا يسمّى خمرا، بل يسمّى نبيذا. ولمّا ذهب الحجازيون إلى أن الخمر اسم لكل ما أسكر- سواء أكان من عصير العنب أم من التمر، أم من الشعير أم من غيره- كانت هذه كلّها حراما، بالآيات التي وردت في تحريم الخمر. وكانت كلّها سواء في التحريم، قليلها وكثيرها. ولمّا ذهب الكوفيون إلى أن الخمر اسم لما اتّخذ من عصير العنب فقط- كان المحرم بالآيات ما يطلق عليه اسم الخمر، وهو المسكر من عصير العنب، أما ما اتخذ من غيرها- وهو المسمى نبيذا- فليس بداخل عندهم في تحريم الخمر، وقد بحثوا له عن حكم في السنة، فوجدوا أنّ القليل الذي لا يسكر من الأنبذة حلال، وأنّ المسكر منها هو الثالث دون الكأسين. وقد استدل الحجازيون لمذهبهم بأنّ اللغة والشرع يدلّان على أنّ المسكر من الأنبذة يسمّى خمرا، أما اللغة فلأنّ الاشتقاق اللغوي يرجّحه. وهو أنها سمّيت خمرا لمخامرتها العقل، وهذه الأنبذة تخامر العقل، وهذا ضعيف، لأن اللغة لا تثبت قياسا. وأما الشرع فقد روى مسلم عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّ مسكر خمر، وكلّ مسكر حرام» «2» .

_ (1) عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، الفقيه الحافظ، قتل في وقعة الجماجم، انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (5/ 245) ترجمة (463) . (2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1587) ، 36- كتاب الأشربة، 7- باب بيان أن كل مسكر خمر حديث رقم (73/ 2003) .

وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الخمر من هاتين الشّجرتين: النخلة والعنبة» «1» . وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ من العنب خمرا، وإنّ من العسل خمرا، ومن الزّبيب خمرا، ومن الحنطة خمرا، وأنا أنهاكم عن كلّ مسكر» «2» . فذلك جميعه يدل على أن الأنبذة تسمّى خمرا فتكون حراما، ويدل على حرمتها- قليلها وكثيرها- ما روي عن عائشة أنها قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البتع وعن نبيذ العسل فقال صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ شراب أسكر فهو حرام» «3» أخرجه البخاري ، وما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» «4» . وقد احتجّ العراقيون على أنّ الأنبذة لا تسمّى خمرا، ولا يسمّى خمرا إلا الشيء المشتدّ من ماء العنب باللغة وبالسنة أيضا. أما السنة فما روي عن أبي سعيد الخدري قال: أتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بنشوان فقال له: «أشربت خمرا؟» فقال: ما شربتها منذ حرّمها الله ورسوله. قال: «فما شربت؟» قال: الخليطين. قال: فحرّم رسول الله الخليطين «5» . فنفى الشارب اسم الخمر عن الخليطين بحضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم ينكره عليه. قالوا: ولو كان ذلك يسمّى خمرا لما أقرّه عليه، إذ كان في نفي الاسم الذي علّق به حكم نفي الحكم، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لا يقرّ أحدا على حظر مباح، أو إباحة محظور. وقد روي عن أنس بن مالك يحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الخمر بعينها حرام، والسّكر من كلّ شراب» «6» . وأما اللغة فقول أبي الأسود الدؤلي وهو حجة في اللغة: دع الخمر تشربها الغواة فإنّني ... رأيت أخاها مغنيا بمكانها

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1573) - كتاب الأشربة، 4- باب بيان أن جميع ما ينبذ حديث رقم (13/ 1985) . (2) رواه أحمد في المسند (4/ 273) ، وأبو داود في السنن (3/ 325) ، كتاب الأشربة باب الخمر حديث رقم (3676) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 262) ، كتاب الأشربة، باب في الحبوب حديث رقم (1873) . (3) رواه البخاري في الصحيح (6/ 302) ، 74- كتب الأشربة، 4- باب الخمر من العسل حديث رقم (5585) . (4) رواه أبو داود في السنن (3/ 326) ، كتاب الأشربة باب النهي عن المسكر حديث رقم (3681) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 258) ، كتاب الأشربة باب ما أسكر كثيره حديث رقم (1865) . (5) ذكره الجصاص في كتابه أحكام القرآن (1/ 324) . (6) رواه النسائي في السنن (5- 6/ 718) ، كتاب الأشربة، باب الأخبار حديث رقم (5683) .

تحريم الميسر

فإن لا تكنه أو يكنها فإنّه ... أخوها غذته أمّه بلبانها وقد ضعّفوا بعض أحاديث الحجازيين، وحملوا الأخرى على أنّ الأنبذة سمّيت خمرا فيها مجازا. قالوا: يدلّ على أنه لا يحرم من الأنبذة إلا ما أسكر ما أخرجه الطحاوي عن أبي موسى قال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا ومعاذ إلى اليمن، فقلنا: يا رسول الله، إنّ بها شرابين يصنعان من البرّ والشّعير أحدهما يقال له: المزّ، والآخر يقال له: البتع فما نشرب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «اشربا ولا تسكرا» «1» . قالوا: ويدلّ من جهة النظر لما ذكرناه من أن قليل الأنبذة ليس بحرام أنّ الله ذكر في علّة تحريم الخمر قوله: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فوجب لهذه العلة ألا يحرم من المسكرات إلا القدر المسكر، لأنه هو الذي توجد فيه هذه العلة، ولكن انعقد الإجماع على تحريم قليل الخمر وكثيرها، فوجب أن يبقى قليل الأنبذة على الإباحة. ونحن إذا تأملنا في أدلّة الفريقين ما ذكر منها وما لم يذكر ترجّح عندنا قول الحجازيين، لأنّ الصحابة لمّا سمعوا تحريم الخمر فهموا منه تحريم الأنبذة، وهم كانوا أعرف الناس بلغة العرب ومراد الشّارع. وقد ثبت ذلك من حديث أنس «2» قال: كنت ساقي القوم حين حرّمت الخمر في منزل أبي طلحة، وما كان خمرنا يومئذ إلا الفضيخ، فحين سمعوا تحريم الخمر أهرقوا الأواني وكسّروها، والفضيخ نقيع البسر. وقد اتفقوا مع الحجازيين على أنّ الله حرم من عصير العنب الكثير للسّكر، والقليل، لأنّه ذريعة إلى الكثير، فوجب أن يكون كذلك في سائر الأنبذة، حيث لا فارق. تحريم الميسر قد ذكر الله الميسر مع الخمر هنا، كما ذكره معها في آية المائدة [90] ، فما قلناه في دلالة الآية على تحريم الخمر يقال أيضا في الميسر. وقد ذكرنا أصل الميسر واشتقاقه، وأنه كان يطلق على ضرب القداح على أجزاء الجزور قمارا، ثم أطلق على النرد وكل ما فيه قمار. ونريد هنا أن نبيّن صفة الميسر عند العرب باختصار.

_ (1) انظر شرح معاني الآثار للطحاوي (4/ 220) . (2) رواه البخاري في الصحيح (5/ 225) ، 65- كتاب التفسير، 10- باب قوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ حديث رقم (4617) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1570) ، 36- كتاب الأشربة، 1- باب تحريم الخمر حديث رقم (3/ 1980) .

قد كانت للقداح التي يضربونها على الجزور عشرة، ذوات الحظوظ منها سبعة: أسماؤها: الفذّ، التّوأم، الرّقيب، الحلس، النافس، المسبل، المعلّى. والأغفال التي لا حظّ لها ثلاثة، وأسماؤها: السّفيح، المنيح، الوغد. وكانت القداح ذوات الحظوظ مختلفة الحظوظ، فكان للفذ منها نصيب، وللتوأم نصيبان، وهكذا إلى السابع المعلّى، فله سبعة أنصباء وكانت على كل قدح منها علامة تدلّ عليه وعلى حظه، فعلى الفذّ فرض، وعلى التوأم فرضان، وهكذا. والفرض: الحز. وكان الأيسار سبعة على عدد القداح، لكلّ واحد قدح، وكانوا يضعون القداح في خريطة، ويجلجلونها فيها حتى تختلط، ثم يخرج واحد من فم الخريطة، فإن كان الذي خرج الفذّ فلصاحبه نصيب واحد يأخذه، ويعتزل القوم. ثم يجيل ثانية، حتّى منتهى أقسام الجزور. فالفائزون هم من خرجت قداحهم. والغارمون من لم تخرج قداحهم، وهم يغرّمون ثمن البعير على حسب نصيب القداح، وقد حرم الله ذلك. وحرّم النرد وسائر أنواع القمار لما فيها من أكل أموال الناس بالباطل، ومن جلب العداوة والبغضاء، ومن تعويد المقامرين على الكسل. وانتظار الربح من القمار دون كدّ وعمل، ولأنّ المقامرين في قمارهم ليسوا ينتجون للأمة شيئا، فليس ربح الفائز منهم في مقابلة إخراج الموادّ الأولية، ولا صنعها، ولا نقلها، ولا توزيعها، ولا تأدية عمل من الأعمال التي تحتاج إليها الأمة وتستفيد منها، فهم حيوانات طفيلية تستفيد من دم المجموع ولا تفيده. ولسنا ندري: أكان العرب في زمن التنزيل لا يطلقون اسم الميسر إلا على ما ذكرناه من ضرب القداح على أجزاء الجزور؟ فتكون الآية في ذلك فقط، ويكون تحريم ضروب القمار بالقياس. أم كان اسم الميسر يطلق على ذلك وعلى سائر ضروب القمار؟ فيكون تحريم ضروب القمار بالآيات التي حرّمت الميسر، وأيا ما كان فقد اتفق العلماء على تحريم ضروب القمار. وقد روي عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجرا، فإنّها من الميسر» «1» . وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من لعب بالنّرد فقد عصى الله ورسوله» «2» . وذكر العلماء أنّ المخاطرة من القمار، قال ابن عباس: المخاطرة قمار، وأنّ أهل

_ (1) ذكره الجصاص في كتابه أحكام القرآن (1/ 329) . (2) رواه أبو داود في السنن (4/ 310) ، كتاب الأدب، باب في النهي عن اللعب بالنرد حديث رقم (4938) . [.....]

الجاهلية كانوا يخاطرون على المال والزوجة، وقد كان ذلك مباحا، إلى أن ورد تحريمه، وقد خاطر أبو بكر المشركين حين نزلت الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) [الروم: 1، 2] وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «زد في الخطر وأبعد في الأجل» «1» . ثم حظر ذلك، ونسخ بتحريم القمار. وقد رخّص في السبق في الدواب والنصال بشروط تطلب من كتب الفروع. وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ. الْعَفْوَ في كلام العرب: الزيادة. ومن ذلك قوله تعالى: حَتَّى عَفَوْا [الأعراف: 95] زادوا، ومنه قول الشاعر «2» : ولكنّا نعضّ السيف منّا ... بأسوق عافيات الشحم كوم أي كثيرات الشحوم، والمراد بالعفو هنا: الفضل، أي ما فضل وزاد عن الحاجة، كقولهم: خذ ما عفا لك من أخيك، أي ما فضل عن جهده. قال ابن عباس: العفو: ما فضل عن أهلك، ونقل عن قتادة وعطاء وابن زيد. المعنى: يسألك أصحابك: ماذا ينفقون؟ قل: أنفقوا ما فضل عن حاجتكم كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، بهذا البيان العجيب الذي تقدّم من أول السورة من حججه، وبيناته، وفرائضه، وحدوده، وما فيه نجاتكم من عذابه: يبين لكم في سائر كتابه: آياته، وحججه، لتتفكّروا في الدنيا والآخرة، فتعلموا زوال الأولى وحقارتها، وبقاء الثانية وجلالها. وقد ورد في معنى الآية أحاديث كثيرة: روى ابن جرير عن جابر بن عبد الله قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجل ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن، فقال يا رسول الله: خذ هذه مني صدقة، فو الله ما أصبحت أملك غيرها، فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيمن، فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قال مثل ذلك، فقال: «هاتها» مغضبا، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجه أو عقره، ثم قال: «يجيء أحدكم بماله كلّه يتصدّق به، ويجلس يتكفّف الناس إنّما الصّدقة عن ظهر غنى» «3» . وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ارضخ من الفضل، وابدأ بمن تعول، ولا تلام على كفاف» «4» . وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان أحدكم

_ (1) قال السيوطي: رواه أبو يعلى وابن عساكر انظر الدر المنثور في التفسير المأثور للسيوطي (5/ 150) . (2) لبيد بن أبي ربيعة، انظر تهذيب اللغة للأزهري (3/ 229) . (3) رواه أبو داود في السنن (1/ 51) ، كتاب الزكاة، باب الرجل يخرج ماله حديث رقم (1673) . (4) رواه مسلم (بغير هذا اللفظ) في الصحيح (2/ 718) ، 12- كتاب الزكاة، 32- باب بيان أن اليد العليا خير من السفلى حديث رقم (97/ 1036) .

الاحكام

فقيرا فليبدأ بنفسه، فإن كان له فضل فليبدأ مع نفسه بمن يعول، ثم إن وجد فضلا بعد ذلك فليتصدّق على غيره» «1» . وقد زعم أناس أن هذه الآية منسوخة، نسختها الزكاة المفروضة، وكأنّهم ظنّوا أنّ الآية تدلّ على وجوب إنفاق ما فضل عن الأهل. والظاهر ما قاله الآخرون من أنها ثابتة الحكم، وليس في الآية ما يدل على وجوب إنفاق الفضل، بل الآية نزلت جوابا لمن سألوا ماذا ينفقون، فبيّن لهم فيه ما فيه لله رضا من الصدقات، وذكر لهم أنه لا يلزمهم أن ينفقوا الجهد في الصدقة. قال الله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) العنت: المشقة. عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ [التوبة: 128] ما شق عليكم. وأعنته: أي صيّره ذا مشقة. روي في سبب نزول الآية أنّه لما نزلت إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النساء: 10] ، تحرّج النّاس عن مخالطتهم في الأموال، واعتزلوهم. فأنزل الله هذه الآية. المعنى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ «2» . يعني قصد إصلاح أموالهم خير من اعتزالهم، وإن تخالطوهم ولم تجانبوهم فهم إخوانكم في الدين، والأخ يخالط أخاه ويداخله، ولا حرج في ذلك، فكانت هذه الآية إذنا في المخالطة مع صحة القصد، لا مع قصد أن ينفع نفسه بهذه الخلطة، ويضرّ باليتيم، ولا تجعلوا مخالطتكم إياهم ذريعة إلى أكل أموالهم بغير حق، فالله يعلم من خالطهم بقصد أكل أموالهم، وإفسادها عليهم ممن خالطهم، وكان قصده إصلاح أموالهم وتثميرها، ولو شاء الله لحرّم ما أحلّه لكم من مخالطة أموالكم بأموال اليتامى، فجهدكم وشقّ عليكم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ غالب يقدر أن يشقّ على عباده ويحرجهم حَكِيمٌ ولكنه لا يكلفهم إلا ما فيه طاقتهم. الاحكام دلت هذه الآية على جواز التصرف في أموال اليتامى على وجه الإصلاح، فيجوز لولي اليتيم أن يبيع ماله، وأن يشتري له، وأن يقسم له، وأن يدفع مالا له لمن

_ (1) رواه مسلم (بغير هذا اللفظ) في الصحيح (2/ 692) ، 12- كتاب الزكاة، 13- باب الابتداء في النفقة حديث رقم (41/ 997) . (2) رواه أبو داود في السنن (3/ 36) ، كتاب الوصايا، باب المخالطة حديث رقم (2871) ، والنسائي في السنن (5- 6/ 567) ، كتاب الوصايا، باب ما للوصي حديث رقم (3671) .

يعمل فيه قراضا ومضاربة، وأن يعمل فيه الوليّ نفسه قراضا، وأن يخلط ماله بماله إذا كان ذلك صلاحا. قال أبو بكر الرازي «1» : وقوله: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ يدل على أن لولي اليتيم أن يخالط اليتيم بنفسه في الصهر والمناكحة، وأن يزوّجه بنته، أو يزوج اليتيمة بعض ولده، فيكون قد خلط اليتامى بنفسه وعياله، واختلط هو بهم. وإذا كانت الآية قد دلّت على جواز خلط مال اليتيم بماله في مقدار ما يظن أن اليتيم يأكله على ما روي عن ابن عباس: فقد دلّت على جواز المناهدة التي يفعلها الناس في الأسفار، فيخرج كلّ واحد منهم شيئا معلوما فيخلطونه ثم ينفقونه، وقد يختلف أكل الناس. وقد دل قوله: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ على أن التجارة في مال اليتيم وتزويجه ليس بواجب على الوصي، لأنّ ظاهر اللفظ يدلّ على أنّ مراده الندب والإرشاد. قال الله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) المعنى: ولا تتزوجوا أيها المؤمنون المشركات حتى يؤمن بالله وباليوم الآخر، ولأمة مؤمنة بالله ورسوله أفضل من حرّة مشركة وإن كرم أصلها، وإن أعجبتكم المشركة في الجمال والحسب والمال. ولا تزوّجوا المشركين من نسائكم المؤمنات حتى يؤمنوا بالله ورسوله، ولأن تزوجوهنّ من عبد مؤمن بالله ورسوله خير لكم من أن تزوجوهنّ من حر مشرك وإن أعجبكم في الحسب والنسب والشرف. هؤلاء الذين حرّمت عليكم مناكحتهم من الرجال المشركين والنساء المشركات يدعونكم إلى العمل بما يودّي بكم إلى النار، فلا تخالطوهم، ولا تصاهروهم، إذ المصاهرة توجب المداخلة والنصيحة، وهؤلاء لا يألونكم خبالا، والله يدعو إلى العمل الذي يوجب الجنة وستر الذنوب بإعلامه إياكم السبيل الحق، ويوضّح حججه وأدلته للناس ليتذكّروا فيميّزوا بين الخير والشر. وقد اختلف العلماء في هذه الآية، فذهب بعضهم إلى أن لفظ المشركات يعمّ كلّ مشركة، سواء أكانت وثنية أم يهودية أم نصرانية، ولم ينسخ أو يخصّ منها شيء، فيكنّ جميعا قد حرّم على المسلم زواجهنّ. وذهب بعضهم على أن المراد بالمشركات من لا كتاب لهنّ من المجوس

_ (1) أحكام القرآن للإمام الرازي (1/ 331) .

والعرب دون الكتابيات، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمشركات عامّ في جميع من ذكرن، إلا أنه نسخ بقوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: 5] . وسبب الخلاف أنّ كلّ كافر بالحقيقة مشرك، ولذلك يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كره نكاح اليهودية والنصرانية، وقال: أيّ شرك أعظم ممّن يقول: عيسى الله، أو ولد الله؟ تعالى الله عمّا يقولون علوا كبيرا. والعرف قد خصص المشرك بمن لا كتاب له من الوثنيين والمجوس. وقال الله: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وقال: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ [البينة: 1] وقد ورد في سورة المائدة وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: 5] فبعضهم حمل لفظ المشركات على عمومه، فحرّم كلّ مشركة ولو كتابية. وزعم أنّ قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ مقيّد بقيد وهو إذا آمنّ، وبعضهم حمل المشركات على عمومه وقال: آية المائدة مخصّصة، وقال بعضهم: هي ناسخة، لأنّها أخرجت الكتابيات من الحرمة. وبعضهم حمله على العرف الخاص، فقال: لا نسخ ولا تخصيص. وهذه الآية أفادت حكما، وهو حرمة نكاح الوثنيات والمجوسيات، وآية المائدة أفادت حكما آخر، وهو حلّ نكاح الكتابيات، فلم تتعارضا. وممّن روي عنه القول بحرمة الكتابيات عمر بن الخطاب. فقد أخرج ابن جرير «1» عن شهر بن حوشب. قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات كل ذات دين غير الإسلام . وقال الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة: 5] . وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب غضبا شديدا، حتى همّ بأن يسطو عليهما، فقالا: نحن نطلّق يا أمير المؤمنين، ولا تغضب، فقال: لئن حلّ طلاقهنّ لقد حلّ نكاحهنّ، ولكن أنتزعن عنكما حقرة «2» قمئة. وقد قال ابن جرير بعد ذلك: وأما القول الذي روى شهر بن حوشب عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنه من تفريقه بين طلحة وحذيفة وامرأتيهما اللتين

_ (1) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (2/ 222) . (2) ذلة، انظر لسان العرب لابن منظور (4/ 207) .

كانتا كتابيتين فقول لا معنى له، لمخالفته ما الأمة مجمعة على تحليله بكتاب الله- تعالى ذكره- وخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول بخلاف ذلك ما هو أصحّ منه إسنادا، وروى بسنده عن عمر: المسلم يتزوج المسلمة، وإنما كره عمر لطلحة وحذيفة رضي الله عنهما، نكاح اليهودية والنصرانية حذرا من أن يقتدي بهما الناس، فيزهدوا في المسلمات. أو غير ذلك من المعاني. ورحم الله عمر بن الخطاب. فقد كان ينظر إلى مصالح المسلمين، نسائهم ورجالهم، ويسوسهم بالنظر والمصلحة، وما أحوجنا إلى مثل هذه السياسة، فإنّ كثيرا من الشباب المسلمين في مصر رغبوا عن الزواج من المحصنات المسلمات إلى الزواج بالكتابيات الأجنبيات. قال الله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) المحيض: هنا الحيض، كالمعيش: أي العيش. قال رؤبة: إليك أشكو شدّة المعيش ... ومرّ أعوام نتفن ريشي أَذىً الأذى ما يؤذي به من مكروه فيه، وسمي المحيض أذى لنتنه وقذره ونجاسته، وقال السدي وقتادة: أذى قذر. سبب نزول هذه الآية: قال قتادة: إنّ أهل الجاهلية كانوا لا تساكنهم حائض في بيت، ولا تؤاكلهم في إناء، فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية ، فحرّم فرجها ما دامت حائضا، وأحلّ ما سوى ذلك أن تصبغ رأسك. وتؤاكلك، وأن تضاجعك في فراشك إذا كان عليها إزار محتجزة به دونك «1» . فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ اختلف أهل العلم فيما يجب على الرجل اعتزاله من المرأة وهي حائض على أقوال: 1- إن الذي يجب اعتزاله جميع بدن المرأة، وحجتهم في ذلك أن الله أمر باعتزال النساء، ولم يخصّص من ذلك شيئا دون شيء. 2- الذي يجب اعتزاله موضع الأذى، وذلك مخرج الدم. أخرج ابن جرير «2» عن مسروق بن الأجدع قال: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: كلّ شيء إلا فرجها، وحجتها ما ثبت في الأخبار

_ (1) رواه الطبري في تفسيره جامع البيان (2/ 224) . (2) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (2/ 226) .

أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يباشر نساءه وهنّ حيّض «1» . فعلم من ذلك أن الذي طلب اعتزاله بعض جسدها دون بعض. ولما أجمعوا على حرمة الجماع، واختلفوا في غيره، أخذوا بالمجمع عليه، وتركوا المختلف فيه. 3- إن الذي أمر باعتزاله ما بين السرة إلى الركبة، وله ما فوق ذلك ودونه. وحجتهم ما ثبت عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا أمرها النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تأتزر، ثم يباشرها «2» . وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ في هذه المسألة ثلاثة أقوال: 1- قال أبو حنيفة: يجب أن تؤتى المرأة إذا انقطع دم الحيض ولو لم تغتسل بالماء. إلا أنه إذا انقطع دمها لأكثر الحيض حلّت حينئذ، وإن انقطع دمها لأقل الحيض لم تحل حتّى يمضي وقت صلاة كامل. 2- قال مالك، والزهري، والليث، وربيعة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: لا تحل حتى ينقطع الحيض، وتغتسل بالماء غسل الجنابة. 3- يكفي في حلها أن تتوضأ للصّلاة. قاله طاوس، ومجاهد. وسبب الخلاف بين الأولين أن الله قال: حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ الأولى بالتخفيف، والثانية بالتشديد، وطهر يستعمل فيما لا كسب فيه للإنسان، وهو انقطاع دم الحيض. وأما تطهّر فيستعمل فيما يكتسبه الإنسان، وهو الاغتسال بالماء. فحمل أبو حنيفة وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ على انقطاع دم الحيض، وقوله: فَإِذا تَطَهَّرْنَ على معنى: فإذا انقطع دم الحيض، فاستعمل المشدّد بمعنى المخفف. وقالت المالكية بالعكس، إنه استعمل المخفّف بمعنى المشدّد، والمراد: ولا تقربوهن حتى يغتسلن بالماء، فإذا اغتسلن فأتوهنّ، بدليل قراءة بعضهم حَتَّى يَطْهُرْنَ بالتشديد، وبدليل قوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ أو يستعمل كل واحدة في معناها، ويؤخذ من مجموع الكلامين أنّ الله علّق الحلّ على شيئين: انقطاع الدم. والتطهر بالماء، كقوله: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء: 6]

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (1/ 90) ، 6- كتاب الحيض، 6- باب مباشرة الحائض حديث رقم (303) ، ومسلم في الصحيح (1/ 243) ، 3- كتاب الحيض، 1- باب مباشرة الحائض حديث رقم (3/ 294) . (2) رواه البخاري في الصحيح (1/ 90) ، 6- كتاب مباشرة الحائض، 6- باب مباشرة الحائض حديث رقم (302) ، ومسلم في الصحيح (1/ 242) ، 3- كتاب الحيض، 1- باب مباشرة الحائض حديث رقم (1/ 293) .

فعلّق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين: أحدهما: بلوغ النكاح. والثاني: إيناس الرشد. ورجع الحنفية ما ذهبوا إليه بأنّ استعمال المشدّد بمعنى المخفّف لا يحتاج إلى إضمار شيء. أما مذهب المالكية فيحتاج إلى إضمار (بالماء) . وقالوا على الثاني: إنّ ما ذهبتم إليه يخل بحكم الغاية، أمّا ما ذهبنا إليه فيحفظ حكم الغاية، ويقرها على أصلها، ويوافق ما يفهمه العرب من مثله، فإذا قلت: لا تعط زيدا حتى يدخل الدار، فإذا دخل الدار فأعطه درهما. كان المفهوم منه أن ما ذكر في الشرط هو المذكور في الغاية، وليس ذلك تجديد شرط زائد. فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ بالنكاح لا بالسفاح، وقيل: من حيث أحلّ لكم الإتيان لا صائمات ولا محرمات ولا معتكفات. وقيل: من حيث أمركم الله باعتزالهن، وهذا الأمر للإباحة. لا للوجوب، لأنّه بعد الحظر، وقد اختلف فيه، والحق أنه لا يقتضي الوجوب، وذهب ابن حزم إلى أنه يجب غشيانهن بعد الطهر. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. محبة الله: هي إرادته ثواب العبد. والتوبة: هي رجوع العبد عن حالة المعصية عن إتيان النساء في غير موضع الحرث، وقيل: هم الذين لا ينقضون التوبة، طهّروا أنفسهم بعدم الرّجوع إلى المعصية، والأول هو المنعطف على سابق الآية. المنتظم معها. قال الله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) حَرْثٌ: الحرث في اللغة الزرع. وهو على حذف مضاف، أي موضع حرثكم، أو الحرث بمعنى المحترث والمزدرع وإنما كانت النساء محترثا ومزدرعا، لأنّهنّ مكان نبات الولد. المعنى: نساؤكم مزدرع لكم، تثمر لكم الأولاد، فأتوا هذا المزدرع، أَنَّى شِئْتُمْ على أي وجه شئتم مقبلة، أو مدبرة مضطجعة أو قائمة أو منحرفة، بعد أن يكون المأتى في موضع الحرث. وقد روى مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أو قفه عند كل آية، وأسأله عنها، حتى انتهى إلى هذه الآية نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فقال ابن عباس: إنّ هذا الحيّ من قريش كانوا

يشرحون النساء بمكة، ويتلذذون بهنّ مقبلات ومدبرات. فلما قدموا المدينة تزوّجوا في الأنصار، فذهبوا يفعلون بهنّ كما كانوا يفعلون بالنساء بمكة، فأنكرن ذلك، وقلن: هذا شيء لم نكن نؤتى عليه: فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل في ذلك نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ إن شئت فمقبلة، وإن شئت فمدبرة، وإن شئت فباركة، وإنما يعني بذلك موضع الولد للحرث، يقول: ائت الحرث حيث شئت «1» . و (أنّى) في كلام العرب للسؤال عن الوجوه والمذاهب، يقال: أنّى لك هذا المال، أي من أيّ الوجوه والمذاهب؟ فيقال: من وجه كذا وكذا، قال الله تعالى: أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران: 37] . وقال الشاعر: أنّى ومن أين نابك الطّرب ... من حيث لا صبوة ولا ريب وقد تجرّد عن معنى الاستفهام ككيف، ويبقى لها معنى الوجوه والمذاهب، ولا يصحّ أن يفهم غير هذا، وقد وردت أحاديث تؤيّد هذا الفهم، وتبطل ما عداه، فقد ورد عن عكرمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس، وقال: كنت آتي امرأتي في دبرها، وسمعت قول الله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فظننت أنّ ذلك لي حلال؟ فقال: يا لكع وإنما قوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ قائمة وقاعدة ومقبلة ومدبرة، في أقبالهن. لا تعدو ذلك إلى غيره «2» . وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الذي يأتي المرأة في دبرها هي اللوطية الصغرى» «3» . وروى الإمام أحمد وأهل «السنن» أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أتى حائضا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمّد» «4» . وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ الخير، والصالح من الأعمال، عدّة لكم يوم الحساب

_ (1) رواه أبو داود في السنن (2/ 219) ، كتاب النكاح، باب في جامع النكاح حديث رقم (2164) . [.....] (2) قال السيوطي: رواه عبد بن حميد، انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي (1/ 263) . (3) قال السيوطي: رواه أبو داود الطيالسي وأحمد والبيهقي، انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للسيوطي (1/ 263) . (4) رواه أحمد في المسند (2/ 408) ، وأبو داود في السنن (3/ 398) ، كتاب الطب باب في الكاهن حديث رقم (3904) والترمذي في الجامع الصحيح (1/ 243) ، كتاب الطهارة باب كراهية إتيان الحائض حديث رقم (135) .

وَاتَّقُوا اللَّهَ في معاصيه أن تقربوها، وفي حدوده أن تضيّعوها، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فيجازي المحسن بإحسانه. والمسيء بإساءته وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالفوز والكرامة في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) عُرْضَةً- ع ر ض- يتصرّف على معان مرجعها إلى المنع، لأنّ كل شيء اعترض فقد منع. ويقال للحساب: عارض، لأنه منع من رؤية السماء والقمرين والكواكب. وقد يقال: هذا عرضة لك، أي: عدّة، فتبتذله في كل ما يعنّ لك. قال الشاعر: ولا تجعلوني عرضة للّوائم وكان الرجل يحلف على أن لا يفعل بعض الخير: من صلة رحم، أو إصلاح بين الناس، أو إحسان، أو عبادة. ثم يقول: أخاف الله إن حنثت في يميني، فقيل: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أي لا تجعلوا الله مجازا ومانعا لما حلفتم عليه من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، فيكون المراد بالأيمان المحلوف عليه، وسمّي يمينا لتلبّسه باليمين، ويكون أَنْ تَبَرُّوا بدلا من أيمانكم، ويكون حاصل المعنى: ولا تجعلوا الله مانعا من البر والتقوى إذا حلفتم به. بل افعلوا البر والتقوى، وكفّروا عن أيمانكم ويكون هذا في معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم لعبد الرحمن بن سمرة: «إذا حلفت على يمين، ورأيت غيرها خيرا منها، فأت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك» «1» . ومعنى الآية على المعنى الآخر (لعرضة) : ولا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم، تبتذلونه بكثرة الحلف به. ويكون أَنْ تَبَرُّوا علة للنهي، أي إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، لأنّ الحلّاف مجترئ على الله، غير معظّم له، فلا يكون برا متقيا، ولا يثق به الناس، فلا يدخلونه في وساطتهم، وإصلاح ذات بينهم، ويكون ذلك نهيا عن كثرة الحلف بالله، وابتذاله في الأيمان، قال الله تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) [القلم: 10] فذمّ كثرة الحلف. قال الله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) (اللغو) الساقط الذي لا يعتدّ به: كلاما كان أو غيره، أما وروده في الساقط من

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (7/ 275) ، 83- كتاب الإيمان، 3- باب حديث رقم (6622) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1273) ، 27- كتاب الأيمان، 3- باب ندب من حلف يمينا حديث رقم (19/ 1652) .

الكلام فكقوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [القصص: 55] وقوله: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) [الواقعة: 25] وقوله: لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) [الغاشية: 11] . وأما وروده في الساقط من غير الكلام فكقول جرير: يعدّ الناسبون بني تميم ... بيوت المجد أربعة كبارا ويخرج منهم المرئي لغوا ... كما ألغيت في الدّية الحوارا وكانوا يقولون لما لا يعتدّ به من أولاد الإبل: لغو. وقد اختلف أهل التأويل في المراد من لغو اليمين الذي ذكر الله أنه لا يؤاخذنا به وما هي المؤاخذة، على أقوال: 1- إن اللغو في اليمين: ما يجري به اللسان من غير قصد الحلف، كقول القائل: لا والله، بلى والله، وإن عدم المؤاخذة به هو عدم إيجاب الكفارة به، وهو قول: عائشة، والشعبي، وعكرمة، والشافعي، وأحمد. 2- إن لغو اليمين هو أن يحلف على شيء أنه كان فيظهر أنه لم يكن، أو شيء يعتقد أنه لم يكن فيظهر أنه كان. ومعنى عدم المؤاخذة به أنه لا يجب تكفيره، وهو قول ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والنخعي، والزهري، وأبي حنيفة، ومالك. وهؤلاء لا يوجبون الكفارة في اليمين التي يحلفها صاحبها على ظنّ فيتبين خلافه، ويوجبون الكفارة فيما يجري على اللسان من غير قصد، وأصحاب القول الأول بالعكس. 3- أنه يمين الغضب. 4- أنه اليمين على المعصية. 5- أن دعاء الإنسان على نفسه كقوله: إن لم أفعل كذا فأصاب بكذا. 6- أنه اليمين المكفرة. 7- أنه يمين الناسي. وهي كلها محتملة، ولعلّ أظهر الأقوال ما ذهب إليه الأولون، والحجة فيه: أن الله قسّم اليمين إلى قسمين: ما كسبه القلب، واللغو. وما كسب القلب: هو ما قصد إليه. وحيث جعل اللغو مقابله. فيعلم أنه هو الذي لم يقصد إليه وذلك هو ما قلناه من أنه هو ما يجري به اللسان من غير قصد إليه. المعنى: لا يؤاخذكم الله بالأيمان التي تجري على ألسنتكم من غير قصد الحلف، ولكن يؤاخذكم بما قصدتم إليه، وعقدتم القلب عليه من الأيمان وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ولذلك لم يؤاخذهم بلغو اليمين، ولو شاء لآخذهم بها.

قال الله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) يُؤْلُونَ: يقسمون، والأليّة: الحلف، يقال: آلى يولي إيلاء وأليّة، قال كثيّر: قليل الألايا حافظ ليمينه ... فإن سبقت منه الأليّة برّت وإنّما عدّيت يؤلون بمن، وهي إنما تعدّى بعلى: إما لأنه ضمّن يؤلون معنى يعتزلون، وإمّا لأنّ في الكلام حذفا، وتقديره: للّذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم، فترك ذكر يعتزلون اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه. التربص: النظر، أو التوقف. فاؤُ رجعوا، من الفيء بمعنى الرجوع من حال إلى حال، ومنه قوله تعالى: حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات: 9] وقول الشاعر: ففاءت ولم تقض الّذي أقبلت له ... ومن حاجة الإنسان ما ليس قاضيا ويقال للظّل بعد الزّوال: فيء، لأنّه رجع بعد أن تقلّص، وهاتان الآيتان في حكم الإيلاء، وهو أن يقسم الرجل على أن يعتزل امرأته، وذلك إضرار بالمرأة، لأنه يتركها معلقة، فلا هي مطلقة يجوز لها أن تجد زوجا، ولا هي ذات بعل تجد منه ما تجد النساء من بعولتهن. وقد اختلف أهل التأويل في صفة اليمين التي يكون المرء بها موليا، فقال بعضهم: لا يكون موليا إلا إذا حلف على ترك غشيانها إضرارا بها، أما إذا حلف لا على وجه الإضرار فلا يكون موليا، ونسب هذا إلى علي رضي الله عنه، وابن عباس، وابن شهاب. أخرج ابن جرير «1» عن أبي عطية أنه توفي أخوه، وترك ابنا له صغيرا، فقال أبو عطية لامرأته: أرضعيه، فقالت: إني أخشى أن تغيلهما. فحلف ألا يقربها حتى تفطمهما، ففعل حتى فطمتهما، فخرج ابن أخي أبي عطية إلى المجلس، فقالوا: لحسن ما غذّي أبو عطية ابن أخيه، قال: كلا، زعمت أم عطية أني أغيلهما، فحلفت ألا أقربها حتى تفطمهما، فقالوا له: قد حرّمت عليك امرأتك، فذكرت ذلك لعلي رضي الله عنه فقال علي: إنما أردت الخير، وإنما الإيلاء في الغضب. وقال آخرون: إنه يكون موليا سواء أحلف على ترك غشيانها إضرارا بها، أم لمصلحة. قال الشعبي: كلّ يمين منعت جماعا حتى تمضي أربعة أشهر، فهي إيلاء.

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (2/ 250) .

أخرج ابن جرير «1» عن القعقاع قال: سألت الحسن عن رجل ترضع امرأته صبيا، فحلف ألا يطأها حتى تفطم ولدها، قال: ما أرى هذا بغضب، إنما الإيلاء في الغضب. قال: وقال ابن سيرين: ما أدري ما هذا الذي يحدّثون، إنما قال الله: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ... إلى فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إذا مضت أربعة أشهر فليخطبها إن رغب فيها، فحجتهم أن الله قال: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ.. ولم يخصّص. وحجة الأولين أنّ الله جعل مدّة الإيلاء مخرجا من سوء عشرة الرجل ومضارته، فإذا لم يكن الامتناع عن مضارة، بل عن قصد الصلاح والخير، لم يكن بذلك موليا، فلا يكون هناك معنى لضرب الأجل، فتخرج من مساءته، إذ لا مساءة، وذهب قوم إلى أن يمين الإيلاء ليست مقصورة على الحلف بترك الوطء، بل تكون بالحلف على غيره أيضا، كأن يحلف ليغضبنّها، أو ليسوءنّها، أو ليحرمنّها أو ليخاصمنّها: كل ذلك إيلاء. أخرج ابن جرير «2» عن أبي ذئب العامري أن رجلا من أهله قال لامرأته: إن كلمتك سنة فأنت طالق، واستفتى القاسم وسالما فقالا: إن كلمتها قبل سنة فهي طالق، وإن لم تكلمّها فهي طالق إذا مضت أربعة أشهر، ونقل ذلك عن الشعبي أيضا. وحجة هؤلاء أن الله جعل مدة الإيلاء مخرجا للمرأة من سوء عشرة الرجل، وليست اليمين على ترك الوطء بأولى أن تكون من معاني سوء العشرة من اليمين على أن يضربها، أو لا يكلمها، لأنّ كل ذلك ضرر عليها وسوء عشرة. وظاهر هذه الأقوال كلها أن الإيلاء لا بدّ فيه من اليمين، وقالت المالكية: إذا امتنع الرجل من الوطء قصد الإضرار من غير عذر، ولم يحلف، كان حكمه حكم المولي، لأنّ الإيلاء لم يرد لعينه، وإنما أريد لمعنى سوء العشرة والضرر، وهذا حاصل إذا ضارّها دون يمين. وقد اختلف الفقهاء في الفيء الذي عناه الله بقوله: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فقال بعضهم: هو غشيان المرأة الذي امتنع عنه، لا فيئة له إلا ذلك، وإذا عرض عذر من مرض أو سفر، فلم يغش لذلك، ومضت مدة الإيلاء، بانت منه.. وقال آخرون: هو المراجعة باللسان، أو القلب في حال العذر، وفي غير حال العذر الغشيان. وقال آخرون: هو المراجعة باللسان مقام الغشيان في حالة العذر، لأنّه لا يصير مضارا بترك الشيء إلا إذا كان قادرا على الإتيان به وتركه طواعية.

_ (1) المرجع نفسه (2/ 251) . (2) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (2/ 251) .

وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) اختلف الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون في الطلاق الذي يكون عن ترك الفيء في الإيلاء، فقال بعضهم، وهو مذهب أبي حنيفة: إذا مضت الأربعة أشهر دون فيئة وقع الطلاق. وقال آخرون وهو مذهب مالك: إن مضى الأجل لا يقع به طلاق، وإنما تقفه بعد أمام الحاكم: فإما فاء وإما طلق. ومنشأ هذا الخلاف اختلافهم في تأويل الآية، فتأويلها عند الأولين لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ بترك الفيئة ... فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وتأويلها عند الآخرين لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ.. بعد انقضائها.. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) . وقد شبّه الأولون مدة الإيلاء بالعدة الرجعية، وشبهوا الإيلاء بالطلاق الرجعي، وقد نقلوا أن الإيلاء كان طلاقا في الجاهلية، فأقره الشرع طلاقا، وزاد فيه الأجل. وشبه الآخرون أجل الإيلاء بالأجل الذي يضرب في العنة، لأن اليمين على ترك الوطء ضرر حادث بالزوجة، فضرب للزوج مدة في رفعه، فإن رفعه وإلا رفعه الشرع عنها بالطلاق، كما يكون ذلك في كل ضرر يتعلّق بالوطء، كالعنة. قال الله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) ذكر الله تعالى أحكام عدة الطلاق: أولها: وجوب العدة، وإنما وجبت العدة ليستدلّ بها على براءة الرحم من الولد، فيؤمن اختلاط الأنساب، والعدة للمطلقة ثلاثة قروء. وقد أخرج من حكم الآية المطلقات اللائي طلّقن قبل الدخول، فلم يجعل عليهنّ عدّة، قال الله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب: 49] والحوامل، فجعلت عدتهنّ وضع حملهن، قال: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] . وكذلك أخرج اللاتي يئسن من المحيض لصغر أو كبر، فجعلت عدتهن ثلاثة أشهر، قال: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطلاق: 4] فصارت العدة المذكورة في الآية التي هنا للنساء غير الحوامل المدخول بهن الممكنات المحيض.

والقروء: جمع قرء، ويطلق في كلام العرب على الطهر وعلى الحيض حقيقة، فهو من الأضداد. وأصل القرء الاجتماع، وسمّي الحيض قرءا لاجتماع الدم في الرحم، وسمّي الطهر قرءا لاجتماع الدم في البدن. وقد يطلق القرء أيضا على الوقت، لمجيء الشيء المعتاد مجيئة لوقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم. يقال: أقرأت حاجة فلان عندي، أي: جاء وقت قضائها، وأقرأ النجم، إذا جاء وقت أفوله، وأقرأت الريح: إذا هبت لوقتها، قال الهذلي «1» : إذا هبّت لقارئها الرّياح أي هبت لوقتها، ولمّا كان الحيض معتادا مجيئه في وقت معلوم، سمّت العرب وقت مجيئة قرءا، ومن مجيء القرء بمعنى الحيض قوله صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة بنت أبي حبيش «دعي الصّلاة أيام أقرائك» «2» . ومن مجيئه بمعنى الطهر قول الأعشى: وفي كلّ عام أنت جاشم عزوة ... تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا مورّثة مجدا وفي الذّكر رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا وقد اختلف في المراد من القروء في الآية، فذهب مالك والشافعي وابن عمر وزيد وعائشة والفقهاء السبعة «3» ، وربيعة وأحمد إلى أنها الأطهار. وذهب علي وعمر وابن مسعود وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي: وابن أبي ليلى وابن شبرمة إلى أنّها الحيض. وفائدة الخلاف أنه إذا طلّقها في طهر خرجت عن عدتها عند الأولين بمجيء الحيضة الثالثة، لأنّها يحتسب لها الطهر الذي طلقت فيه، ولا تخرج من عدتها إلا بانقضاء الحيضة الثانية عند الآخرين، وقد روي عن عمر بن الخطاب وعلي أنهما قالا: لا تحل لزوجها الرجعة إليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة. وقد احتجوا لترجيح المذهب الأول بأمور منها: أنه أثبت التاء في العدد (ثلاثة) فدل ذلك على أن المعدود مذكّر، وهو لا يكون مذكّرا إلا إذا كان المراد الطهر، وإذا كان المراد الحيضة كان مؤنثا. ومنها قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] ومعناه: في وقت عدتهن، ولكنّ الطلاق في زمان الحيض منهيّ عنه، فوجب أن يكون زمان العدة غير زمان الحيض.

_ (1) مالك بن الحارث الهذلي، انظر زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (1/ 217) . (2) رواه النسائي في السنن (1- 2/ 131) ، كتاب الطهارة حديث رقم (211) . (3) وهم: سعيد، سليمان، أبو بكر، عبيد الله، عروة، القاسم، وخارجة.

وأجيب بأن معنى الآية: مستقبلات لعدتهن. وقد احتجوا لترجيح المذهب الثاني بأمور: منها: أننا أجمعنا على أن الاستبراء في شراء الجواري يكون بالحيضة، فكذا العدة تكون بالحيضة، لأن الغرض منها واحد. ومنها أن العدة شرعت لبراءة الرحم، والذي يدل على براءة الرحم إنّما هو الحيض لا الطهر. ومنها قوله صلّى الله عليه وسلّم: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدّتها حيضتان» «1» ومن المعلوم أنّ عدة الأمة نصف عدة الحرة، فإذا اعتبرت عدّة الأمة بالحيض، كانت عدة الحرة كذلك. والمسألة كما ترى محتملة، ولكنّ مذهب الفريق الثاني أرجح من جهة المعنى. وقد زعم بعضهم أنّ قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ خبر في معنى الأمر، لئلا يلزم الكذب في خبره تعالى إذا لم تتربص بعض المطلقات. وهذا غير لازم، لأنّ الله أخبر عن حكم الشرع، فإن وجدت امرأة لا تتربّص لم يكن ذلك حكما شرعيا. وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. قيل: المراد بما خلق الله في أرحامهن الحيض، وقيل: الحمل. وقيل: هما معا. وهذا دليل على أن المرأة مؤتمنة على ما في رحمها، يقبل قولها فيه، لأنّه لا يعلم إلا من قبلها، وإنّما حرّم الله أن يكتمن ما في أرحامهنّ، لأنّه يتعلق بذلك حق الرجعة للرّجل، وعدم اختلاط الأنساب، وإذا لم تحافظ المرأة على ذلك، فربما حرمت الرجل من حقّه في الرجعة، وربما ادّعت انقضاء العدة وهي مشغولة الرّحم بالحمل من المطلّق، ثم تزوجت، فأدّى ذلك إلى اختلاط الأنساب. ولعل قائلا يقول: إنّ ظاهر الآية أنّ الله شرط عدم حلّ الكتمان بكونهنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر، فإذا لم يكنّ كذلك، فهل يجوز لهنّ أن يكتمن؟ فنقول: إنّ هذا كقول القائل: إن كنت مؤمنا فلا تظلم، على معنى: إن كنت مؤمنا فإيماك يمنعك من الظلم. وكذلك هنا: إن الإيمان بالله واليوم الآخر ينبغي أن يمنع كتمانهنّ ما في أرحامهنّ، وهذا وعيد شديد. والآية تدل على أن من ائتمن على شيء فلا يحلّ له أن يخون فيه، وهذا مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر.

_ (1) رواه أبو داود في الجامع الصحيح (2/ 230) ، كتاب الطلاق، باب في سنة الطلاق حديث رقم (2189) ، والترمذي في الجامع الصحيح (1/ 488) ، كتاب الطلاق، باب ما جاء أن طلاق الأمة حديث رقم (1182) ، وابن ماجه في السنن (1/ 672) ، كتاب الطلاق باب في طلاق الأمة حديث رقم (2080) .

وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً. هذا هو الحكم الثاني من أحكام الطلاق، وهو ارتجاع الرجل المرأة ما دامت في عدتها. وبعولة: جمع (بعل) وهو الزوج، ويطلق على المرأة: بعلة، وهما: بعلان، وهو في الأصل بمعنى السيد المالك، يقال: من بعل هذه الناقة؟ أي من ربّها؟ المعنى: وأزواج المطلقات أحق برجعتهن في مدة التربص إن أرادوا إصلاحا، لا مضارّة المرأة، وظاهر الآية أن الله يشترط في الرجعة إرادة الإصلاح، فإذا أراد المضارّة فليس له حقّ الرجعة، والأمر كذلك، ولكن لما كانت هذه الإرادة لا اطلاع لنا عليها عاملناه بظاهر أمره، وجعل الله ثلاث التطليقات علما عليها، ولو تحققنا من ذلك لطلقنا عليه. وفيما بينه وبين نفسه لا يجوز له أن يراجع إن قصد الضرر لا الإصلاح. وحق الرجعة مقصور على المطلقة طلاقا رجعيا. واختلف العلماء فيها في مدة التربّص: أحكمها حكم الزوجة، أم ليست كذلك؟ فذهب أبو حنيفة إلى أنها حكمها حكم الزوجة، وذهب مالك إلى أنها ليست كالزوجة، وابتني على هذا الخلاف أنّ أبا حنيفة يجيز مباشرتها مدّة التربص، ومالك يمنعه قبل الرجعة. ويظهر أن منشأ الخلاف اختلاف الفهم في هذه الآية، فقد سمّاه الله بعولة، وهذا يقتضي أنهن زوجات، وقال: أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ وهذا يقتضي أنهن لسن بزوجات، إذ الردّ إنما يكون لشيء قد انفصم، فذهب الحنفية والحنابلة إلى أن الرجعية زوجة، وفائدة الطلاق نقص العدد، وأولوا قوله: أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فقالوا: إنّهن كن سائرات في طريق لو وصلن إلى نهايته لخرجن عن الزوجية، فالارتجاع ردّ لهنّ عن التمادي في ذلك الطريق. والمالكية أوّلوا قوله: وَبُعُولَتُهُنَّ فقالوا: سماهم بعولة باعتبار ما كان ومعنى أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ردهن إلى الزوجية. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ. هذه كلمة وجيزة بيّنت نظر الشارع إلى عقد الزواج، فليس الزواج في الشريعة الإسلامية عقد استرقاق وتمليك، إنما هو عقد يوجب على الزوج حقوقا للمرأة. كما يوجب على المرأة حقوقا للزوج، فما من حقّ للزوج على المرأة إلا وفي نظيره حق لها عليه، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ والمعروف ضد المنكر. ثم قال: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ والدرجة المنزلة، وأصلها من درجت الشيء أي طويته، والدرجة قارعة الطريق، لأنّها تطوي منزلا بعد منزل، والدرجة المنزلة من منازل الطريق، ومنه

الدرجة التي يرتقى فيها، وهذه الدرجة التي جعلها الله للرجال على النساء هي ما أشار إليها بقوله: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء: 34] . ونحن نعلم أن كثيرا من الزنادقة الذين يريدون أن يفتنوا النساء عن دينهن، يأتون إليهن من جهة أن الإسلام غمط حقوقهنّ، وجعلهنّ إماء عند الرجال، ولو تأمّل نساء الإسلام في هذه الآية لرأين هذه المنزلة التي رفعهنّ الله إليها، ولم ترفعهن إليها الحضارات القديمة، ولا الحضارات الحديثة، ولعلمن أنّ هؤلاء مخادعون، يبغّضونهنّ في شريعة كانت شفيقة بالمرأة، بارّة بها، أعتقتها من رق العبودية، وفكّت عنها الأغلال والقيود التي كانت ترسف فيها في القديم، وأنّ شريعة هذا نظرها إلى المرأة لجديرة بأن تحترم وتقدّس من النساء جميعا، وإنما ذكر الله هنا أنّ لهن مثل الذي عليهنّ بالمعروف، وللرّجال عليهن درجة، ليبيّن أنه شرط في الرّجعة إرادة الإصلاح، لأنّ للمرأة حقوقا مثل ما عليها، وجعل للرّجل حقّ الرجعة لأنه يزيد عليها درجة. ثم قال: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فلا يغالبه من فرّط في حقوق الزواج، وهو حكيم فيما شرع، يعلم المصلحة، ويضع الأشياء في مواضعها. قال الله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) أخرج ابن جرير الطبري «1» ، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان الرجل يطلّق ما شاء، ثم إن راجع امرأته قبل أن تنقضي عدتّها كانت امرأته، فغضب رجل من الأنصار على امرأته، فقال لها: لا أقربك ولا تحلين مني، قالت له: كيف؟ قال: أطلقك، حتى إذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. قال: فنقلت ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزل الله تعالى ذكره: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ الآية . فعلى هذا تكون الآية نزلت لبيان عدد الطلاق الذي للرجل فيه الرجعة، والعدد الذي إذا انتهى إليه فلا رجعة له عليها، وقد كان أهل الجاهلية وأهل الإسلام قبل نزول هذه الآية لا حدّ للطلاق عندهم، وكان ذلك قد يؤدي إلى الإضرار بالمرأة، فتترك لا هي بذات زوج، ولا هي خليّة تحلّ للأزواج. وقال آخرون: نزلت هذه الآية لتعريف الناس سنّة طلاقهم، وكيف يطلّقون.

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (2/ 276) .

أخرج ابن جرير «1» عن عبد الله في قوله: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ قال: يطلقها بعد ما تطهر، من قبل جماع، ثم يدعها حتى تطهر مرة أخرى، ثم يطلقها إن شاء ثم إن أراد أن يراجعها راجعها، ثم إن شاء طلقها، وإلا تركها حتى تتمّ ثلاث حيض، وتبين منه به. وعلى هذا يكون قد بيّن الله سنّة الطلاق في هذه الآية، وبين أنّ من سنته تفريق الطلاق ومنع الاجتماع، ولأنّه قال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ وهذا يقتضي أن يكون طلقتين مفرّقتين، لأنّها إن كانتا مجتمعتين، لم يكن مرتين. ويدل عليه أن الشارع قد طلب أن يسبّح المرء ويحمد ويكبر دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، ولا ينفعه إلا أن يفعل ذلك ثلاثا وثلاثين مرّة، ولا يكفيه أن يقول: سبحان الله ويتبعها بلفظ ثلاثا وثلاثين، وأنه إذا فعل ذلك يكون مسبحا مرة واحدة لا ثلاثا وثلاثين. وقد ثبت أن الآية دلت على طلب التفريق في إيقاع الطلاق، فإذا خالف المطلّق وجمع الثلاث في لفظ واحد، فقد اختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: إنه لا يقع إلّا واحدة، قال الفخر الرازي: وهو الأقيس، لأن النهي يدلّ على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة، والقول بالوقوع سعي في إدخال تلك المفسدة في الوجود، وهذا غير جائز، فوجب أن يحكم بعدم الوقوع. وقالت الأئمة الأربعة وغيرهم: تقع الثلاثة إما مع الحرمة، وإما مع الكراهة، على حسب اختلافهم في ذلك. وقد استدلّ الأولون من السنة بما رواه أحمد ومسلم «2» من حديث طاوس عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم، قالوا: وإمضاء الثلاث إبطال للرخصة الشرعية والرفق المشار إليه بقوله تعالى: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطلاق: 1] . وللأئمة أحاديث أخرى ذكرت في كتب السنة، واستقصاء الخلاف والأدلة في هذه المسألة يطلب من «نيل الأوطار» «3» «وإعلام الموقعين» «4» لابن القيم. ومنشأ الخلاف في الطلاق- ما ذكرناه وما لم نذكره- الاختلاف في أسباب النزول وفي الآية هل هي متعلقة بما قبلها، أم مستقلة عنها؟ ونحن نجمل ذلك

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (2/ 277) . (2) رواه أحمد في المسند (1/ 314) ومسلم في الصحيح كتاب الطلاق حديث رقم (1472) . [.....] (3) نيل الأوطار للإمام ابن القيم الجوزية (6/ 193- 198) . (4) إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم الجوزية (3/ 41) .

فنقول: إن الله قد عرّف الطلاق بأل، فذهب بعضهم إلى أن التعريف للعهد، أي الطلاق المشروع مرتان، فما جاء على غير هذا فليس بمشروع، وهذا مروي عن الرافضة والحجاج بن أرطاة «1» ، وعلى هذا تكون الآية مستقلة عما قبلها. وقال بعضهم: معناه أنّ الطلاق الذي فيه الرجعة مرتان، فتكون الآية مرتبطة بما قبلها، فالله لما ذكر أنّ بعولتهنّ أحقّ بردهنّ أراد أن يبيّن الطلاق الذي فيه الرجعة، وقال بعضهم: معناه الطلاق المسنون مرتان، وهذا مذهب مالك، وقال بعضهم: معناه الطلاق الجائز مرتان، وهذا مذهب أبي حنيفة. والقول الأول يناسبه في سبب النزول ما روي عن عروة، وبقية الأقوال يناسبها في سبب النزول ما روي عن عبد الله. ونحن نرى أن الطلاق هدم للأسرة، وتمزيق للمنزل، وضرره يتعدى إلى الأولاد. فإنّ الأولاد في حضن أمهاتهم يكونون موضعا للرعاية وحسن التربية. بخلاف ما إذا كانوا في حضن أجنبية عنهم، والشريعة تنظر إليه هذا النظر. ويدل على هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» «2» والشريعة أجازته مع هذا الضرر لدفع ضرر أشد، وتحصيل مصلحة أكثر. وهي التفريق بين متباغضين ليس من المصلحة الجمع بينهما، وقد أراد الشارع ألا يفرّق بالطّلاق بين متحابين من الخير أن يجتمعا، وألا يفرق به إلا بين متباغضين من الخير أن يفترقا، فجعل الطلاق المشروع مرتين متفرقتين في طهرين كما دلت على ذلك السنة، فإن شاء أمسك، وإن شاء طلّق، وأمضى الطلاق، فيكون الزوج على بينة مما يأتي وما يذر، ولن يتفرق بالطلاق بعد هذه الروية وهذه الأناة إلا متفرّقان طبعا، من الخير ألا يجتمعا. وإذا كانت حكمة الطلاق ما ذكرناه سقط قول الناقمين على الشريعة من أنها لم تحترم عقد الزوجية، وتعطه ما يجب له من الحيطة والرعاية. وليس عندنا من المراجع ما نعلم منه حقيقة مذهب الحجاج والرافضة. ونتبين أنهم يرون الذي سار في الطلاق على هذا السنن وطلق اثنتين، ثم لم يطلق الثالثة، وعاشر بإحسان قد بقيت له واحدة فقط، فإذا أراد أن يطلق لم تكن له إلا واحدة أم هم يرون أنّه قد هدم الطلاق، وإذا أراد أن يطلّق كان له الثلاث من جديد، وأنّ هذا شرع الطلاق، فلا يطلق إلا بهذه الصفة. فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ. الإمساك خلاف الإطلاق، والتسريح الإرسال، وسرّح الماشية تسريحا إذا

_ (1) ابن ثور النخعي قاضي البصرة توفي (147 هـ) في خراسان، انظر الأعلام للزركلي (2/ 168) . (2) رواه أبو داود في السنن (2/ 226) ، كتاب الطلاق باب كراهية الطلاق حديث رقم (2178) .

أرسلها إمساك بمعروف، إن وجد نفسه لا تطيق فراقها، أو رأى المصلحة في بقائها زوجة، وإما تسريح بإحسان إن أعطته تجربة هذه المرأة أنه لم يتعلّق بها قلبه، ورأى الفراق خيرا له، وتلك هي حكمة الرجعة، وجعل الطلاق مرتين، فإنّ الأشياء تعرف بأضدادها، ولا يجد المرء لذة النعمة حتى يذوق طعم النّقمة، وما دام مع صاحبه لا يدري أتشقّ عليه الفرقة أم لا؟ فجعل الطلاق مرتين، وجعل له حق الرجعة، ليعلم أتشقّ عليه فرقتها أم لا؟ ولو جعل الطلاق مرّة واحدة لا رجعة فيها لوقع الناس في بلاء عظيم. ومعنى الإمساك بمعروف أن يراجعها قصد المعاشرة الحسنة، لا قصد المضارّة، والتسريح بإحسان ألا يذكر عيوبها، وأن يحسن فراقها. وقد اختلف في المراد بالتسريح، فقيل: هو أن يتركها دون مراجعة حتى تنقضي عدتها. وقيل: هو أن يطلّقها الثالثة. وقد رجّح الأول بأنّ حمل الآية عليه يجعلها مستوفية للأقسام، لأنّ المطلّق اثنتين: إما أن يراجع، وهو الإمساك بمعروف، وإما أن يطلق الثالثة وهو قوله: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ..: وإما أن يسكت فلا يطلّق الثالثة. ولا يراجع، وهو التسريح بإحسان. ورجّح الثاني بما روي أنه لما نزل قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ قيل له صلّى الله عليه وسلّم فأين الثالثة؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: هو قوله: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ : ويكون قوله: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ إن طلقها الطلقة الثالثة المذكورة في قوله: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ. قال الله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. طلب الله عند تسريح المرأة أن يكون بإحسان، ونهى أن يأخذوا شيئا مما آتوهن من المهر أو غيره، ثم بيّن أنه لا يحل الأخذ إلا في حالة الخوف ألا يقيما حدود الله، فإذا حصل الخوف جاز للمرأة أن تفتدي، وجاز للرجل أن يأخذ، وطلاق المرأة على هذا الوجه هو المعروف عند العلماء بالخلع. ذكر ابن جرير «1» أن ابن عباس قال: إنّ أول خلع كان في الإسلام أخت عبد الله بن أبي، أنّها أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقالت: يا رسول الله! لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا. إني رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدّهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها.

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (2/ 280) .

قال زوجها: يا رسول الله! إني أعطيتها أفضل مالي حديقة، فلترد عليّ حديقتي. قال صلّى الله عليه وسلّم: «ما تقولين؟» قالت: نعم، وإن شاء زدته. قال: ففرّق بينهما . وقيل: إن هذه الآية نزلت في شأنهما. وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يجوز أخذ الفداء إلا إذا كان النشوز من قبلها. وذهب آخرون إلى أن الذي يبيح أخذ الفداء أن يكون خوف ألا يقيما حدود الله منهما جميعا، لكراهة كلّ منهما صحبة الآخر، والظاهر أنّ نشوزها كاف في جواز أخذ الفداء. فإن قيل: إنّ الله علّق ذلك على خوف ألا يقيما حدود الله. قيل: إنها إذا نشزت خيف أن يعاملها الرجل بقسوة، فلا يقيم هو أيضا حدود الله. وقد ذهب أكثر الأئمة إلى أن الخلع جائز، سواء كان في حالة الخوف أم في غير حالة الخوف، وظاهر الآية يعضّد مذهب غير الجمهور. وحجة الجمهور قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء: 4] فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصّل لنفسها طلاقا، فلأن يجوز ذلك لتملك أمر نفسها أولى. وللأولين أن يقولوا: إن هذه الآية محمولة على البذل في حال العشرة، وأما البذل للطلاق فقد منعته الآية التي نحن بصددها إلا بشرط. والآية تدلّ على أن الخلع إنما هو فيما أعطى، لا في أزيد منه، لأنّ الآية في صدد الأخذ مما أعطى الرجال النساء. ثم قال: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أي مما آتيتموهنّ، وهو مذهب الشعبي، والزهري، والحسن البصري. وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يجوز الخلع بأزيد مما أعطاها، لأنّه عقد معاوضة يوجب ألا يتقيّد بمقدار معين. ولكن يعارض هذا أنه استباحها بما أعطاها من مهر، فلو أخذ منها أزيد لكان إجحافا بها. وقد ذهب جماعة إلى أن الخلع فسخ لاطلاق، لأنّ الله قال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ ثم ذكر الخلع، ثم قال: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ فلو كان طلاقا لكان ذلك يدلّ على أن للرجل أربع تطليقات. ونحن نرى أنه لا حجة في هذا، لأنّ الله قال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ ثم بيّن أنه لا يجوز أخذ مال على الطلاق إلا في الحال التي ذكرنا، وسواء كان ذلك عند الطلقة الأولى أم الثانية أم الثالثة؟

ثم بيّن الطلقة الثالثة بقوله: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الآية، وقد استدلوا أيضا بما روى أبو داود «1» في «سننه» عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه جعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عدتها حيضة، ولو كان طلاقا لكانت عدتها كما قال الله: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ. وذهب الجمهور إلى أنّ الخلع طلاق، وحجتهم أن الخلع: إما فسخ، أو طلاق، وقد أبطلوا كونه فسخا، بأنّه لو كان فسخا لما جاز بأكثر من المهر، كالإقالة في البيع، مع أنه يجوز بالأكثر، وإذا بطل كونه فسخا، تعيّن كونه طلاقا، وقد علمت ما فيه. واستدلوا أيضا بما ورد عن ابن عباس في امرأة ثابت بن قيس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: «اقبل الحديقة، وطلّقها طلقة واحدة» أخرجه بهذا اللفظ البخاري، وأبو داود والنسائي «2» . يَخافا الخوف: الإشفاق مما يكره وقوعه، ويمكن أن يراد منه هنا- الظنّ، لأنّ الخوف حالة نفسية، وسبب حصولها ظنّ أن سيحصل مكروه، فيطلق المسبب على السبب. قال الشاعر: إذا متّ فادفني إلى جنب كرمة ... تروّي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفننّي في الفلاة فإنّني ... أخاف إذا ما متّ ألا أذوقها قال الرازي «3» : فإن قيل: لمن الخطاب في قوله: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا.. فإن كان للأزواج لم يطابقه قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وإن قلت: للأئمة والحكام، فهؤلاء لا يأخذون منهن شيئا؟ قلنا: الأمران جائزان، فيجوز أن يكون أول الآية خطابا للأزواج، وآخرها خطابا للأئمة والحكام، وذلك غير غريب في «القرآن» ويجوز أن يكون الخطاب كلّه للأئمة والحكام، لأنّهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم، فكأنّهم هم الآخذون والمؤتون. قال الله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) . يعلمون الحقائق. ويعلمون المصالح المترتبة على العمل بها.

_ (1) سنن أبي داود (2/ 245) ، كتاب الطلاق باب في الخلع حديث رقم (2229) ، والترمذي في الجامع الصحيح (3/ 491) ، كتاب الطلاق باب في الخلع حديث رقم (1185) . (2) رواه النسائي في السنن (5- 6/ 481) ، كتاب الطلاق، باب ما جاء في الخلع حديث رقم (3463) . (3) في تفسيره مفاتيح الغيب والمسمى أيضا التفسير الكبير (6/ 99) .

وقد اختلف في ذلك النكاح الذي اشترط لحل المطلقة ثلاثا، فذهب سعيد بن المسيب إلى أنه العقد، فتحل المطلقة ثلاثا للأوّل بمجرد العقد على الثاني. وذهب سائر العلماء إلى أن المراد به الوطء، واحتجوا بأن النكاح قد ورد في القرآن بالمعنيين، واحتمل أن يكون المراد هنا العقد أو الوطء، فجاءت السنة، وبينت أن المراد به الوطء وذلك ما رواه ابن جرير «1» عن عائشة، قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قالت: كنت عند رفاعة، فطلقني، فبتّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإن ما معه مثل هدبة الثّوب. فقال: «لعلّك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» «2» وقال بعضهم: إن الآية نفسها فيها دلالة على أن المراد به الوطء، وبيانه أنّ أبا الفتح عثمان بن جني قال: سألت أبا علي الفارسي عن قولهم: نكح المرأة، فقال: فرّقت العرب بالاستعمال، فإذا قالوا: نكح فلان فلانة. أرادوا أنّه عقد عليها، وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته، أرادوا به المجامعة. وهنا قد قال الله: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فالمراد منه المجامعة. وقد اختلف النّاس في نكاح المحلّل، وهو الذي يتزوّج المبتوتة بقصد أن يحلها للزوج الأول، فذهب مالك، وأحمد، والثوري، وأهل الظاهر، وغيرهم: إلى أنّ ذلك النكاح باطل، لا تحلّ به للأوّل ولا للثاني، ولا تحلّ حتى ينكحها الثاني نكاح رغبة يقصد به ما يقصد من كل نكاح من الدوام والبقاء، ودليلهم ما روي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بالتّيس المستعار؟» . قالوا: بلى يا رسول الله قال: «هو المحلّل، لعن الله المحلّل والمحلّل له» «3» . قال الترمذي «4» : والعمل على ذلك عند أهل العلم، منهم: عمر، وابنه، وعثمان رضي الله عنهم، وهو قول الفقهاء من التابعين. وروى أبو إسحاق الجوزجاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المحلّل، فقال: «لا: إلا نكاح رغبة، لا دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عزّ وجلّ ثم تذوق العسيلة» . وروى ابن المنذر وابن أبي شيبة عن عمر رضي الله عنه: لا أوتى بمحلّل ولا

_ (1) في تفسيره الجامع لأحكام القرآن، المشهور بتفسير الطبري (2/ 291) . (2) رواه البخاري في الصحيح (6/ 222) ، 68- كتاب الطلاق، 35- باب إذا طلقها ثلاثا حديث رقم (5317) ومسلم في الصحيح (2/ 1055) ، 16- كتاب النكاح، 17- باب لا تحل المطلقة حديث رقم (111/ 1433) . (3) رواه ابن ماجه في السنن (1/ 623) ، كتاب النكاح، باب المحلل حديث رقم (1936) . (4) الجامع الصحيح كتاب النكاح باب ما جاء في المحلل حديث رقم (1120) .

بمحلّل له إلا رجمتهما، فسئل ابنه عن ذلك قال: كلاهما زان، وسئل ابن عباس عمّن طلّق امرأته ثلاثا ثم ندم، فقال: هو رجل عصى الله فأندمه، وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا، فقيل له: فكيف ترى في رجل يحلّها له؟ فقال: من يخادع الله يخدعه. هذا وفي التحليل مفاسد كثيرة عقد ابن القيم في «إعلام الموقعين» «1» فصولا في بيانها. وقد طعن قوم في الشريعة الإسلامية لأنّها أجازته، وقد علمت ما قاله النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه، وعلمت رأي الصحابة والتابعين فيه. فالصواب ألا ينسب إليها حلّه. قال الله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) الأجل يطلق على المدة كلها، وعلى آخرها، يقال لعمر الإنسان أجل، وللموت الذي ينتهي به أجل. والمراد هنا: آخر عدتهن، ومعنى بلغن أجلهنّ- هنا- شارفن منتهاها، لأنّه يتجوّز في البلوغ. فيقال: بلغ البلد إذا شارفه وداناه، وإنما حملناه على المجاز، لأن الله قال: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وهي إذا انقضت عدتها فلا سبيل له عليها. فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ: إما أن يراجعها من غير طلب ضرر بالمراجعة، وإما أن يتركها حتّى تنقضي عدتها من غير إضرار بها وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا لتظلموهنّ. عن السدي قال: نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلّق امرأته، حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها، ثم طلقها، ففعل بها ذلك حتى مضت لها تسعة أشهر: مضارّة يضارها، فأنزل الله تعالى ذكره: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ «2» أي إمساك المرأة ضرارا فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ إذ عرضها لعذاب الله. وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً أي جدوا في الأخذ بها، والعمل بما فيها، وإن لم تفعلوا فقد اتخذتموها هزوا، ويقال لمن لم يجد في الأمر: إنما أنت هازل. وقال الحسن: كان الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطلّق الرجل أو يعتق فيقال: ما صنعت؟ فيقول: إنما كنت لا عبا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من طلّق لاعبا أو أعتق

_ (1) إعلام الموقعين عن رب العالمين، للإمام ابن القيم الجوزية (3/ 185) (208) (209) . (2) رواه ابن جرير وابن المنذر، انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (1/ 285) . [.....]

لاعبا فقد جاز عليه» «1» قال الحسن: وفيه نزلت وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً. وروى أبو موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «لم يقول أحدكم لامرأته: قد طلّقتك، قد راجعتك، ليس هذا بطلاق المسلمين، طلّقوا المرأة قبل عدّتها» . وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالإسلام وسائر نعمه، واذكروا ما أنزل عليكم من الْكِتابِ القرآن يَعِظُكُمْ ووَ الْحِكْمَةِ السنن التي علمكموها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يَعِظُكُمْ بِهِ أي بما أنزل عليكم وَاتَّقُوا اللَّهَ أي خافوه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيعلم ما علمتم من تعدّي حدوده، وتضييع أوامره، فيجازيكم على ما عملتم. قال الله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) فَلا تَعْضُلُوهُنَّ العضل: الحبس والتضييق، ومنه عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج، ومنه قول عمر: وقد أعضل في أهل العراق، لا يرضون عن وال ولا يرضى عنهم وال، يعني بذلك، حملوني على أمر ضيّق شديد. قال أوس «2» : وليس أخوك الدائم العهد بالّذي ... يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا ولكنّه النّائي إذا كنت آمنا ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا وبلوغ الأجل هنا على الحقيقة، قال الشافعي: دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين. وهذه الآية نهت أولياء المرأة على أن يعضلوها. أي يمنعوها حقّ الزواج إذا خطبها الكفء، وتراضت المرأة والخاطب به. نزلت في معقل بن يسار. روى ابن جرير «3» عن الحسن، عن معقل بن يسار أن أخته طلّقها زوجها، ثم أراد أن يراجعها، فمنعها معقل، فأنزل الله تعالى ذكره: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ. وفي هذه الآية دلالة على صحة قول من قال: لا نكاح إلا بولي، لأنه لو كان

_ (1) قال السيوطي: رواه الطبراني، انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (1/ 286) . (2) أوس بن حجر بن مالك التميمي أبو شريح شاعر تميم في الجاهلية، انظر الأعلام للزركلي (2/ 31) . (3) رواه البخاري في الصحيح (6/ 162) ، 37- باب من قال: لا نكاح إلا بولي حديث رقم (5130) وفي تفسير ابن جرير الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن (2/ 297) .

للمرأة أن تتزوج دون رضى وليها، ولم يكن للولي شأن لما كان معنى لنهي الأولياء عن أن يعضلوا النساء. كان مقتضى الظاهر أن يقال: (ذلكم يوعظ به) ، لأنه يخاطب الجماعة، وإنما قال: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ لكثرة جري ذلك على ألسن العرب في منطقها وكلامها، حتى صارت الكاف بمنزلة حرف من حروف الكلمة. أي ما ذكرته من نهي الأولياء عن عضل النساء عظة مني لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ من أدناس الآثام. وقيل: أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ: أفضل وأطيب، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما في ذلك من الزكاة والطّهر وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. قال الله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) لما ذكر الله الطلاق، وبيّن أن به الفراق، ولما كانت المطلّقات قد يكون لهن أولاد رضّع، وربما ضاعوا بين كراهة الأزواج وعنت المطلقات، احتاط الله للأولاد فأوصى بهم الوالدات، فجعلهنّ يرضعنهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وجعل على الآباء كسوة الوالدات ونفقتهنّ مدّة الرضاع بالمعروف لا يكلف الآباء إلا وسعهم، ونهى أن تضارّ الوالدة الوالد بسبب ولدها، وهو أن تعنته به، وتطلب منه ما ليس من النفقة والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول بعد ما ألفها الصبيّ: اطلب له ظئرا «1» ، وما إلى ذلك. ونهى أيضا أن يضارّ الوالد الوالدة بسبب ولده، وذلك أن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها، وأن يأخذه منها، وهي تريد إرضاعه، وأن يكرهها على الإرضاع. واحتاط، فجعل أقرباء الصبي يقومون مقام الوالد عند فقد الوالد في العناية بشأن الصبي. ثم بيّن أنّ الوالدين إن أرادا فطام الصبي قبل العامين عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما، بعد أن يكون ذلك نظرا لمصلحة الصبي. ثم أجاز أن يسترضعوا أولادهم المرضعات، ولما كانت حالة الفراق مع وجود الأولاد الرضّع حالة يكثر فيها النزاع والشقاق، أمر بتقوى الله، وأعلمهم أنّ الله بصير بما يعملون، فيجازيهم عليهم. وهذا كله نظر من الله للصبيّ، لأنه عاجز عن تحصيل النفع لنفسه، ودفع الضرر عنها. وهذا من تمام لطف الله ورحمته، وقد اخترنا أن تكون الوالدات مرادا بهن

_ (1) العاطفة على غير ولدها أو المرضعة غير ولدها، انظر لسان العرب لابن منظور (4/ 514) .

المطلقات، لأن الله قال: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ ولو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بالزوجية لا بالرضاع، وأيضا فهذه الآية ذكرت عقب آيات الطلاق، فهي من تتمتها. وذكر بعضهم أن المراد بالوالدات كل والدة مطلّقة أو زوجة، وقد تعلّق بعموم اللفظ، وذهب الواحديّ إلى أن المراد بهنّ الزوجات، لأنّه جعل لهنّ رزقهنّ وكسوتهنّ، ولو كنّ مطلقات لكان لهن أجرة. واختلف العلماء في قوله: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ أذلك حقّ لها أم حقّ عليها؟ والآية محتملة. وذهب مالك إلى أنه حقّ عليها إذا كانت زوجة أو إذا لم يقبل الصبي ثدي غيرها، أو إذا عدم الأب، واستثنوا من ذلك الشريفة، فلم يجعلوه حقا عليها، فكأنهنّ فهموا من الوالدات كلّ والدة زوجة أو غيرها، وجعلوه حقا عليها، واستثنوا من ذلك الشريفة بالعرف. وذهب كثير إلى أن ذلك مندوب، إلا عند الضرورة، إلا أن يقبل غيرها، بدليل قوله تعالى في آية أخرى: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى [الطلاق: 6] وإنما ندب ذلك، لأن لبن الأم أصلح للطفل، وشفقة الأم عليه أكثر. والحول: من حال الشيء يحول: إذا انقلب، فالحول من الوقت الأول إلى الثاني، وإنّما قال الله: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لئلا يتوهّم أنّه أراد حولا وبعض الثاني، فقد يقولون يومين، وهم يريدون ذلك توسّعا والمقصود من تحديد مدّة الرضاع بحولين كاملين ليس وجوب ذلك، لأنه قال: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وإنّما المقصود بيان المدة التي يرجعان إليها عند الاختلاف. وقد أخذ الشافعيّ وأحمد من ذلك أن مدّة الرضاع التي يحرّم الرضاع فيها هي حولان. فالرضاع ما لم يقع فيهما لا يحرّم. وذهب أبو حنيفة «1» إلى أن مدة الرضاع ثلاثون شهرا، وقال زفر: ثلاث سنين، وذهب المالكية إلى أن ذلك كله تحكّم، وأن الصحيح أن ما قرب من زمن الفطام عرفا لحق به، وما بعد عنه خرج عنه، من غير تقدير. فلم يعتبروا هم ولا الحنفية أنّ الآية جاءت لتحديد مدة الرضاع المحرّم. وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي على قدر حال الأب من السّعة والضيق،

_ (1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1- 2/ 243) .

كما قال تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطلاق: 7] وأخذ من ذلك وجوب نفقة الولد على الوالد، لأنّ الله أوجب نفقة المطلّقة على الوالد في زمن الرضاع لأجل الولد، وإنما وجبت لضعف الولد واحتياجه، والوالد أقرب الناس إليه. لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ يحتمل أن يكون كلا الفعلين مبنيا للفاعل، ومبنيا للمفعول، والمعنى قريب بعضه من بعض وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ المراد بالوارث وارث الأب، وعليه مثل ذلك من رزقهن وكسوتهن وترك الضرار، وفي ذلك دليل على أنّ أقارب الصبي تجب عليهم نفقته عند عدم الوالد، وهو أصل في وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، وهو مذهب أبي حنيفة. أما مالك والشافعيّ، فيريان أنّ نفقة الولد على أبيه، فإن مات، ففي مال الصبي إن كان له مال، وإلا فعلى الأم، وليسا يوجبان نفقة إلا على الوالدين، والآية ترد عليهما. إلا أن يحمل وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ على ترك الإضرار فقط، أو يريدان من الوارث الولد نفسه، وقد ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما. الفصل: الفطام، وسمي بذلك لأن الولد ينفصل عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات. التّشاور: استجماع الرأي، وقد أجاز الله أن يفطم الصبيّ قبل الحولين إن اتفقا على ذلك، وشاورا أهل المعرفة فيه، ولم يكن في ذلك ضرر بالصبي وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ. استرضع: قال الزمخشري: فعل، من أرضع. يقال أرضعت المرأة الصبيّ واسترضعتها الصبيّ. فتعديه إلى مفعولين كما تقول: أنجح الحاجة. واستنجحه الحاجة. والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم، حذف أحد المفعولين، للاستغناء عنه: كما نقول: استنجحت الحاجة، ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأول. وقد أجاز الله أن يسترضع الآباء المراضع أولادهم. وهذا عند أبي حنيفة لخوف الضيعة على الولد عند الأم، والتقصير أو الإضرار بالوالد في اشتغال الأم عن حقه بولدها، أو الإضرار بالولد في الغيل ونحوه. فإن اختلفوا- نظر للصبيّ: فإن أوجب أن يسترضع له استرضع. وقوله: إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ أي ما أردتم إيتاءه، وليس هذا شرطا لجواز الاسترضاع، وإنما هو ندب إلى الأولى، لتكون المرضع طيبة النفس راضية، فيعود ذلك على الصبي بالنفع. وبقوله: بِالْمَعْرُوفِ متعلق بسلمتم: أمروا بأن يكونوا عند

تسليم الأجرة مستبشري الوجوه، ناطقين بالقول الجميل، حتى يؤمن تفريطهنّ. قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) ذكر وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ وترك الخبر عنهم إلى الخبر عن أزواجهم، فقال: يَتَرَبَّصْنَ وقد اختلف في توجيه ذلك، فذهب ابن جرير «1» إلى أن ذلك جائز، لأنه لم يقصد الخبر عنهم، وإنما يقصد الخبر عن الواجب على المعتدّات، فصرف الخبر عن الذين ابتدأ بذكرهم إلى أزواجهن كقول الشاعر: لعلّي إن مالت بي الرّيح ميلة ... على ابن أبي زيّان أن يتندّما فقال: لعلي، ثم صرف الخبر عن نفسه إلى ابن أبي زيان فقال: أن يتندما. وقال الزمخشري: إنه حذف المضاف، والأصل: وزوجات الذين يتوفون منكم يتربصن، أو أراد يتربصن بعدهم، كقولهم: السمن منوان بدرهم. أي منه، وقال: وَعَشْراً والمراد: الأيام، ذهابا إلى الليالي، والأيام داخلة، قال الزمخشري: ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام. تقول: صمت عشرا. ولو ذكرت خرجت من كلامهم: ومن البين فيه قوله تعالى: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً [طه: 103] ثم إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً [طه: 104] بيّن الله هنا عدّة المتوفى عنها زوجها، وهي تربّص أربعة أشهر وعشر، إلا أن تكون حاملا، فعدتها وضع حملها، كما قال تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] فآية الحمل مخصّصة لهذه الآية. وقد اختلف العلماء في الذي يتربّص عنه هذه المدة، فقال بعضهم: يتربصن عن النكاح، والطيب والزينة والنقلة من المسكن الذي كن يسكنّه مع أزواجهن. أخرج ابن جرير «2» عن أم سلمة أنّ امرأة توفي عنها زوجها، واشتكت عينها، فأتت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تستفتيه في الكحل، فقال: «لقد كانت إحداكنّ تكون في الجاهلية في شرّ أحلاسها فتمكث في بيتها حولا إذا توفّي عنها زوجها، فيمرّ عليها الكلب فترميه بالبعرة، أفلا أربعة أشهر وعشرا» . وروي عن حفصة بنت عمر زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم تحدّث عن النبي قال: «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ فوق ثلاث إلا على زوج، فإنّها تحدّ عليه أربعة أشهر وعشرا» «3» .

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (2/ 316) . (2) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (2/ 317) . (3) رواه مسلم في الصحيح كتاب الطلاق حديث رقم (1490) .

قال يحيى: والإحداد عندنا ألا تتطيب، ولا تلبس ثوبا مصبوغا بورس ولا زعفران، ولا تكتحل ولا تتزيّن. وأخرج ابن جرير «1» عن الفريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري قالت، قتل زوجي وأنا في داره، فاستأذنت رسول الله في النّقلة فأذن لي، ثم ناداني بعد أن توليت، فرجعت إليه فقال: «يا فريعة حتّى يبلغ الكتاب أجله» . فحجتهم أن الله ذكر التربص، والرسول بيّن ما يتربّص عنه. وقال آخرون: إنما عدّة المتوفى عنها زوجها أن تتربص بنفسها عن الأزواج خاصة، فأما عن الطيب والزينة والنقلة من المنزل، فلم تنه عن ذلك. واحتجوا بما روي عن أسماء بنت عميس قالت: لمّا أصيب جعفر قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تسلّبي ثلاثا. ثم اصنعي ما شئت» «2» وليس في هذا الحديث حجة لهم، إذ يحتمل أن يكون أمرها بالتسلّب ثلاثا، ثم لبس ما شاءت من الثياب التي يجوز للمعتدّة لبسها، مما لم يكن زينة ولا تطيبا، لأنه قد يكون من الثياب ما ليس بزينة ولا ثياب تسلب. والحكمة في هذه العدة استبراء الرّحم من ماء الزوج المتوفّى، فمنع نكاح المعتدّة حتى تمضي مدة تتبيّن فيها: أحامل هي، فيلحق ولدها بالزّوج المتوفى؟ أو حائل، فإذا تزوّجت وولدت، ألحق الولد بالزّوج الثاني؟ ومنعت الطّيب والزينة لأنّها من دواعيه والذرائع إليه ومنعت الخروج من البيت الذي كانت تسكنه، لأن هذه الرقابة أدعى إلى الصيانة، ومنع العقد عليها، والخطبة في العدة، لأنّ ذلك ذريعة، ورخّص في التعريض فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: فإذا انقضت عدّتهنّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الأولياء فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من اختيار الأزواج، وتقدير الصداق، وقوله: بِالْمَعْرُوفِ معناه على ما أذن الله لهنّ فيه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيعلم من يعضل النساء فيجازيه. قال الله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

_ (1) في تفسيره جامع البيان (2/ 319) ، ورواه أبو داود في السنن (2/ 273) ، كتاب الطلاق باب المتوفى عنها حديث رقم (2300) ، والنسائي في السنن (5- 6/ 501) ، كتاب الطلاق، باب مقام المتوفى عنها زوجها حديث رقم (3528) ، والترمذي في الجامع الصحيح (3/ 508) ، كتاب الطلاق باب أين تعتد حديث رقم (1204) وابن ماجه في السنن (1/ 654) ، كتاب الطلاق حديث رقم (2031) . (2) رواه الطبري في تفسيره جامع البيان في تفسير القرآن (2/ 318) .

عَرَّضْتُمْ التعريض: هو القول المفهم للمقصود، وليس بنص فيه. أَكْنَنْتُمْ سترتم. سِرًّا السرّ: الوطء، قال الأعشى: ولا تقربنّ جارة إنّ سرّها ... عليك حرام فانكحن أو تأبّدا منع الله من خطبة المرأة صريحا في العدة، وأجاز التعريض بالخطبة لها أو لوليها في العدة، كأن يقول: إنك لجميلة، أو عسى أن ييسرّ الله لي امرأة صالحة، أو نحو ذلك، حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه، ولا يصرّح بالخطبة. أخرج ابن جرير «1» عن سكينة بنت حنظلة بن عبد الله بن حنظلة قالت: دخل علي أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدتي، فقال: يا ابنة حنظلة أنا من علمت قرابتي من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحق جدي عليّ، وقدمي في الإسلام، فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر! أتخطبني في عدتي، وأنت يؤخذ عنك؟ فقال: أو قد فعلت؟ إنما أخبرتك بقرابتي برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وموضعي، قد دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أمّ سلمة، وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفّي عنها، فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر لها منزلته من الله، وهو متحامل على يده حتى أثّر الحصير في يده من شدة تحامله على يده، فما كانت تلك خطبة. أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أي سترتم، وأضمرتم في أنفسكم فلم تذكروه تصريحا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ فاذكروهن، ولكن لا تواعدوهنّ سرّا، اختار ابن جرير «2» أن السر هنا هو الزنى، فالمعنى لا توعدوهنّ فاحشة، وقيل: إنّ المراد به العقد، والسرّ في الأصل يطلق على الوطء، فأطلق على العقد الذي هو سببه. إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً بالتعريض دون التصريح، أي: لا تواعدوهنّ إلا لتقولوا قولا معروفا، أي: لا تواعدوهنّ إلا بالتعريض. وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ نهى عن العزم مبالغة في النهي عن عقد النكاح، لأنه إذا نهى عن العزم على العقد، كان عن العقد أشدّ نهيا، وقيل: معناه لا تقطعوا عقد عقدة النكاح، لأنّ العزم القطع حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ أي المكتوب والمفروض من العدّة. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم على ما لا يجوز فَاحْذَرُوهُ بالكفّ

_ (1) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (2/ 322) . (2) المرجع نفسه (2/ 325) .

عن ذلك وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ فلا يعجّل العقوبة، فلا تغترّوا بإمهاله. وإذا عقد عليها في العدة، وبنى بها، فسخ النكاح، لنهي الله عنه، وتأبد تحريمها عليه، فلا يحلّ نكاحها أبدا عند مالك وأحمد والشافعي وبه قضى عمر، لأنه استحل ما لا يحلّ، فعوقب بحرمانه، كالقاتل يعاقب بحرمانه ميراث من قتله. وقال غيرهم: يفسخ النكاح، فإذا خرجت من العدة كان خاطبا من الخطاب، ولم يتأبدّ التحريم، لأنّ الأصل أنها لا تحرم، إلا أن يقوم دليل على الحرمة من كتاب أو سنة أو إجماع من الأمة، وليس في المسألة شيء من هذا، ورأي الصحابيّ ليس حجة، وهناك إنكار من عليّ على عمر في هذا القضاء، وروي أنّ عمر رجع عنه. قال الله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) المس هنا كناية عن الجماع أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً الفرض في اللغة التقدير، والمراد: أو تقدروا لها مقدارا من المهر يوجبه على نفسه. وظاهر الآية يفيد أنّ رفع الجناح مشروط بعدم المسيس، وهو مشكل عند الفقهاء، لأنّه لا جناح عليه في الطلاق بعد المسيس أيضا، ولذلك أجابوا بجملة أجوبة ليس منها التزام هذا الحكم، وأقرب هذه الأجوية أن المراد: لا تبعة عليكم من إيجاب مهر إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ، ولا شك أنّ رفع المهر عنه مشروط بعدم المسيس، وعدم فرض مهر لها. قالوا: والدليل على أن الجناح هنا تبعة المهر قوله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ فأوجب نصف المهر في مقابله، وقوله: أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً بمعنى إلا أن تفرضوا، أو حتّى تفرضوا، وقال بعضهم: إن (أو) بمعنى الواو، وبالجملة فإنّ الآية رفعت المهر عمّن طلّق قبل الدخول وقبل: تسمية المهر، وطلبت المتعة لها. وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ وأعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على أقداركم، ومنازلكم من الغنى والإقتار. والموسع: الذي له سعة. والمقتر: الضيق الحال. وقدره: مقداره الذي يطيقه، وكان ابن عباس يقول: متعة الطلاق أعلاها الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة. وقد اختلف في هذه المتعة المطلوبة للمطلّقة قبل المسيس وقبل الفرض: أواجبة

هي أم غير واجبة؟ فذهب قوم منهم أبو حنيفة «1» إلى أنها واجبة، لظاهر قوله: وَمَتِّعُوهُنَّ، وقوله: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ. وذهب مالك إلى أنها مستحبة، لأنّ الله قال: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، ولو كانت واجبة لكانت حقا على الخلق أجمعين، والظاهر القول بالوجوب لظاهر الأمر، وكأنّ الله جعل لها المتعة في مقابل ما جعل للمسمّى لها من نصف الصّداق، وأما قوله: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فليبيّن أن مقتضى الإحسان يوجب ذلك. مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ مصدر مؤكّد لمتعوهنّ، أي متعوهن تمتيعا بالمعروف بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ حقّ ذلك حقا على المحسنين. قال الله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) هذا هو القسم الثاني، لأنّ المطلقة قبل المسيس: إما أن لا يكون قد فرض لها مهر، أو يكون قد فرض. الأولى: لم يجعل الله لها شيئا من المهر، وجعل لها المتعة. والثانية: جعل لها نصف الصّداق. وقد بقيت المطلّقة بعد الدخول، وهذه فيها قسمان، لأنها: إما أن يكون قد سمّي لها مهر، أو لا يكون، وللأولى جميع المسمّى، وللثانية مهر مثلها. وقوله: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أي المطلقات أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ أي الولي، وقيل: هو الزوج ويكون المعنى على المعنى الأول إلا أن تسقط المطلقات ما وجب لهن من نصف الصداق، إن كنّ مالكات لأنفسهن، أو يسقط الولي إن لم يكنّ كذلك: وذلك الأب في ابنته البكر، أو السيد في أمته، وعلى الثاني إلا أن تعفو المطلقات، أو يعفو الزوج عن نصف الصّداق فيجعل المهر كله لها. وإلى الأوّل ذهب ابن عباس والحسن وعكرمة وطاوس وعطاء وزيد بن أسلم وربيعة وهو مذهب مالك. وإلى الثاني ذهب علي، وشريح «2» وسعيد بن المسيب وجبير بن مطعم ومجاهد والثوري. واختاره أبو حنيفة والشافعي في أصح قوليه.

_ (1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1- 2/ 222) . (2) شريح بن الحارث بن قيس الكندي، كان قاضيا في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية، كان ثقة في الحديث، مات بالكوفة سنة (78 هـ) انظر الأعلام للزركلي (3/ 161) . [.....]

وحجة القائلين بأنه الزوج أنّ الله قال: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ وليس إعطاء المرء مال غيره فضلا، فلا ينطبق على الولي. وحجة من قال: إنه الولي، أنّ الخطاب في أول الآية للأزواج، فلو أراد الزوج لقال: أن يعفو، ولا موجب لمخالفة مقتضى الظاهر. وثانيا: أن يَعْفُونَ بمعنى يسقطن، والثاني أن يَعْفُوَا الثانية بمعنى يسقط أيضا، ولا يكون كذلك إلا إذا كان الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، أما إذا كان هو الزوج فيكون بمعنى يعطي. ومذهب أبي حنيفة، وأحمد أن المهر جميعه يتقرّر بالخلوة الصحيحة، ومشهور مذهب مالك أنه لا يتقرر المهر بالخلوة، إلا إذا اقترن بها مسيس، وظاهر القرآن يعضده. ويؤخذ من تقسيم الله المطلقة إلى قسمين- مطلقة لم يفرض لها، ومطلقة فرض لها- أن نكاح التفويض جائز، وهو كل نكاح عقد من غير ذكر الصّداق، ولا خلاف فيه. ويفرض بعد ذلك الصّداق، فإن فرض بعد العقد وقبل الطلاق فهل تكون من المسمّى لها فيكون لها نصف المسمّى. أو ممن لم يسمّ لها فلا يكون لها النصف؟ ذهب مالك ألى الأول. فألحق من سمّي لها بعد العقد بمن سمّي لها في العقد. وذهب أبو حنيفة إلى الثاني نظرا إلى أنها لم يسمّ لها في العقد. وإذا مات الزوج قبل أن يفرض لها: أفيكون حكمها حكم المطلقة، فلا صداق لها؟ أم لا يكون، فيكون لها الصداق؟ ذهب مالك إلى الأول، وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى الثاني. وحجة مالك أنّه فراق في نكاح قبل الفرض، فلم يجب فيه صداق أصله الطلاق. وحجة الشافعي وأبي حنيفة ما رواه النسائي وأبو داود أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى في بروع بنت واشق وقد مات زوجها قبل أن يفرض لها بالمهر والميراث والعدة «1» . وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ قيل: المخاطبون بذلك الأزواج والزوجات جميعا، أي: وأن تعفوا- أيها الناس- بعضكم عما وجب له قبل حاجته من الصداق أقرب له إلى تقوى الله، وقيل: المخاطبون بذلك الأزواج خاصّة، فتكون الآية انتظمت عفو الزوجات، والولي، والزوج وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ولا تغفلوا أيها الناس التفضل بينكم فتتركوه وتستقصوا إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيعلم من عفا وعامل بالإحسان، ومن لم يفعل ذلك، ويحصيه. ويجازي عليه.

_ (1) رواه أبو داود في السنن (2/ 202) ، كتاب النكاح، باب فيمن تزوج حديث رقم (2114) ، والنسائي في السنن (5- 6/ 430) ، كتاب النكاح حديث رقم (3354) ، والترمذي في الجامع الصحيح (3/ 450) ، كتاب النكاح باب تزوج المرأة حديث رقم (1145) ، وابن ماجه في السنن (1/ 609) ، 450) ، كتاب النكاح باب تزوج المرأة حديث رقم (1145) ، وابن ماجه في السنن (1/ 609) ، كتاب النكاح باب الرجل يتزوج حديث رقم (1891) .

قال الله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) حافِظُوا المحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة، ومعنى المحافظة على الصلوات المواظبة عليها، وعدم تضييعها. وَالصَّلاةِ الْوُسْطى الوسطى من الوسط، وهو العدل والخيار والفضل وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أي خيارا وعدولا، فالصلاة الوسطى أي الفضلى، ويحتمل أنها وسط في العدد. لأنّها خمس صلوات، تكتنفها اثنتان من كل جهة، وقيل: إنها وسط من الوقت. روى القاسم عن مالك أنّ الصبح هي الوسطى لأن الظهر والعصر في النهار، والمغرب والعشاء في الليل، والصبح فيما بين ذلك. وقد اختلف في الصلاة الوسطى: ما هي؟ على سبعة أقوال: فما من صلاة إلا قيل إنها الوسطى، فتلك خمسة. وقيل: إنها الجمعة، وقيل: إنها غير معروفة. وقد أبهمها الله ليحافظ على الصلوات كلّها طلبا للصلاة الوسطى، وهذا هو الظاهر. وكل دليل قام على تعيينها لا يخلو من ضعف «1» . والصلاة الوسطى داخلة في الصلوات. وإنما خصّها بالذكر تنبيها على شرفها في جنسها، كما قال تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) . وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ قال ابن عباس: القنوت الطاعة، وقال ابن عمر: هو القيام، واستدل عليه بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصلاة طول القنوت» «2» قال مجاهد: إنّه السكوت. وفي «الصحيح» «3» قال زيد بن أرقم: كنا نتكلّم في الصلاة حتى نزلت هذه الآية وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت. وقيل: هو الخشوع، والصحيح ما قاله مجاهد، بدليل ما رواه زيد، ويبعد جدا أن يراد به القيام هنا لأنه لا يصحّ (وقوموا لله قائمين) . وإذا كان المراد بالقنوت السكوت هنا كانت الآية آمرة بالسكوت في الصلاة، وقد ذكرت المالكية أنّ من تكلّم في الصلاة، إما أن يكون ساهيا أو عامدا، والعامد: إما أن يتكلّم لإصلاحها، أو عبثا، وقالوا: إنّ من تكلّم ساهيا لا تبطل صلاته، لأنّ السهو لا يدخل تحت التكليف، ومن تكلّم لإصلاحها لا تبطل صلاته خلافا للشافعية والحنابلة.

_ (1) لكن ورد في الصحيح كما رواه مسلم في صحيحه (1/ 437) ، 5- كتاب المساجد، 36- باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر حديث رقم (206/ 628) . (2) رواه مسلم في الصحيح (1/ 520) ، 6- كتاب صلاة المسافرين، 22- باب أفضل الصلاة حديث رقم (164/ 756) . (3) رواه البخاري في الصحيح (5/ 191) ، 65- كتاب تفسير القرآن، 43- باب قوله: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ حديث رقم (4534) .

واستدل المالكية بقصة ذي اليدين «1» وهي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلّم من ركعتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال: «كل ذلك لم يكن» فقال: بل بعض ذلك قد كان- فقال النبي: «أصحيح ما يقول ذو اليدين» قالوا: نعم. وأما إذا تكلم عابثا فتبطل صلاته. قال الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) فَرِجالًا جمع راجل، وهو خلاف الراكب، كقائم وقيام، أو جمع رجل، يقال: رجل رجل، أي راجل. المعنى: فإن كان بكم خوف من عدوّ أو غيره فصلوا رجالا أو ركبانا فَإِذا أَمِنْتُمْ أي زال الخوف عنكم فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ من صلاة الآمن، أو فإذا أمنتم فاذكروا الله واعبدوه كما أحسن إليكم بما علّمكم من الشرائع ما لم تكونوا تعلمون. وهذه الآية دلّت بظاهرها على جواز الصلاة حال القتال، راجلا أو راكبا ولا تبطل بالقتال، ويسقط استقبال القبلة، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وذهب أبو حنيفة إلى أن الصلاة تبطل بالقتال، وظاهر الآية حجة عليه. وقد أيد ما روي في «الصحيح» «2» عن ابن عمر حال الخوف «فإن كان خوف هو أشدّ من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها. قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) قرئ برفع الوصية ونصبها، فالرّفع على أنه مرفوع بفعل محذوف تقديره: كتبت والنصب على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره. كتب، و (متاعا) نصب بالوصية، و (غير إخراج) نعت متاعا. أخرج ابن جرير «3» عن همّام بن يحيى قال: سألت قتادة عن قوله:

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (2/ 83) ، 22- كتاب السهو، 5- باب يكبر في سجدتي السهو حديث رقم (1229) ، ومسلم في الصحيح (1/ 403) ، 5- كتاب المساجد، 19- باب السهو حديث رقم (97/ 573) . (2) رواه البخاري في الصحيح (5/ 191) ، 65- كتاب التفسير، 44- باب فَإِنْ خِفْتُمْ حديث رقم (4535) . (3) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (2/ 360) .

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فقال: كانت المرأة إذا توفّي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا في مال زوجها، ما لم تخرج. ثم نسخ ذلك بعد في سورة النساء، فجعل لها فريضة معلومة: الثمن إن كان له ولد، والربع إن لم يكن له ولد، وعدتها أربعة أشهر وعشرا، فقال تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر الحول. وذهب بعضهم إلى أن هذه الآية ثابتة الحكم لم ينسخ منها شيء. روى ابن جرير «1» عن مجاهد في قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً قال: كانت هذه للمعتدة، تعتدّ عند أهل زوجها واجبا ذلك عليها، فأنزل الله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ إلى قوله: مِنْ مَعْرُوفٍ قال: جعل الله لهم تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت. وهو قول الله تعالى ذكره: غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ قال والعدة كما هي واجبة. وقد ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجب لها السكن في مال زوجها، وتعتد حيث شاءت. وذهب مالك إلى أن السكنى مدة العدة واجبة لها، لما يثبته حديث الفريعة المتقدم. فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ ما يفعلنه بأنفسهن من التزيّن للخطّاب من معروف لا ينكره الشرع وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة: 240] . وَاللَّهُ عَزِيزٌ في انتقامه ممّن خالف أمره ونهيه ال حَكِيمٌ في قضاياه التي شرعها لكم. قال الله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) ذهب سعيد بن جبير إلى أنّ هذه الآية أثبتت المتعة لكل مطلّقة، سواء أكانت مدخولا بها، أو لم تكن مدخولا بها؟ فيكون قد ذكر أولا المتعة، وأثبتها لمن طلّقت قبل المسيس، وعمّ هنا المتعة لكلّ مطلقة، وقال ابن زيد: لما نزل قوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ قال رجل: فإن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل، فأنزل الله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) «2» . فتكون هذه الآية فيمن طلّقت قبل المسيس، ولم تعط حكما زائدا. وقيل: المراد بالمتعة متعة العدة.

_ (1) المرجع نفسه (2/ 63) . (2) رواه الطبري في تفسيره جامع البيان في تفسير القرآن (2/ 364) .

[سورة البقرة (2) : الآيات 275 إلى 283]

قال الله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) كما بينت لكم ما لكم على أزواجكم، وما لأزواجكم عليكم، كذلك أبيّن لكم سائر الأحكام، لتعقلوا حدودي وفرائضي، وتعلموا ما فيه الصلاح لكم من الأحكام. إنّ بعض الأزواج يطلّقون نساءهم ظلما منهم، أو مللا وسآمة، ولا يبالون بما يصيب المرأة من ضرر بهذا الطلاق، فتذهب أزواجهنّ إلى المحاكم الشرعية بمصر، يطلبن تعويضا، فلا تحكم لهنّ به، فيلجأن إلى المحاكم الأهلية فتحكم لهنّ بالتعويض، فلو أخذ بمذهب سعيد بن جبير في إثبات المتعة لكلّ مطلقة، ويكون بقدر حال الزوج من عسر ويسر، لكان في ذلك تعويض للمرأة عمّا فاتها بالطلاق من جهة، وتقليل للطلاق من جهة أخرى. لأنّ الزوج قد يكفّ عن الطلاق إذا علم أنّ وراءه متعة يغرّمها للزوجة. قال الله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) لا يَقُومُونَ أكثر المفسرين على أن المراد: القيام يوم القيامة، وقال بعضهم: المراد القيام من القبر، والظاهر شموله للأمرين. يَتَخَبَّطُهُ التخبط الضرب على غير استواء، وتخبّطه الشيطان إذا مسه بخبل أو جنون. مِنَ الْمَسِّ المراد به الجنون، وأصل المس إلصاق اليد، ثم سمّي الجنون مسا، لأنّ الشيطان إذا مسه بيده اعتداء عليه أفقده أعظم قواه، وهو العقل. يَمْحَقُ المحق نقصان الشيء حالا بعد حال، ومنه المحاق في الهلال. الرِّبا في اللغة الزيادة، يقال: ربا الشيء يربو: أي يزيد، وفي الشريعة هو: فضل مال دون عوض، في معاوضة مال بمال. والربا قسمان: ربا النسيئة، وربا الفضل. فربا النسيئة: هو الذي كان معروفا بين العرب في الجاهلية، لا يعرفون غيره، وهو أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كلّ شهر قدرا معينا، فإذا حلّ الأجل طولب المدين برأس المال كاملا، فإن تعذّر الأداء زادوا في الحق والأجل. وربا الفضل أن يباع من الحنطة منّا بمنوين منها، أو درهما بدرهمين، أو دينارا بدينارين، أو رطلا من العسل برطلين.

وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما لا يحرّم إلا القسم الأول، وكان يجوّز ربا الفضل، اعتمادا على ما روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما الرّبا في النّسيئة» «1» ولكن لما تواتر عنده الخبر بأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الحنطة بالحنطة مثلا بمثل، يدا بيد» وذكر الأصناف الستة كما رواه عبادة بن الصامت وغيره، رجع عن قوله. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الربا في النسيئة» فمحمول على اختلاف الجنس، فإنّ النسيئة حينئذ تحرم، ويباح التفاضل، كبيع الحنطة بالشعير: تحرم فيه النسيئة، ويباح التفاضل. ولذلك وقع الاتفاق على تحريم الربا في القسمين: أما الأول: فقد ثبت تحريمه بالقرآن. وأما الثاني: فقد ثبت تحريمه بالخبر الصحيح «2» : كما روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد» واشتهرت روايته هذه حتّى كانت مسلّمة عند الجميع. ثم اختلف العلماء بعد ذلك، فقال نفاة القياس: إنّ الحرمة مقصورة على هذه الأشياء الستة. وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي وأحمد وجمهور الفقهاء: إنّ الحرمة غير مقصورة على هذه الأشياء الستة، بل تتعداها إلى غيرها، وإنّ الحرمة ثبتت في هذه الستة لعلّة، فتتعدى الحرمة إلى كل ما توجد فيه العلّة. ثم اختلفوا في هذه العلة، فقال الحنفية «3» : إنّ العلة هي اتحاد هذه الأشياء الستة في الجنس والقدر، أي الكيل والوزن، فمتى اتّحد البدلان في الجنس والقدر، حرم الربا بقسميه، كبيع الحنطة بالحنطة، وإذا عدما معا حلّ التفاضل والنسيئة: كبيع الحنطة بالدراهم إلى أجل، وإذا عدم القدر، واتحد الجنس حلّ الفضل دون النسيئة: كبيع عبد بعبدين، وإذا عدم الجنس واتحد القدر حلّ الفضل دون النسيئة أيضا: كبيع الحنطة بالشعير. وقال المالكية: إنّ العلّة هي اتحاد الجنس مع الاقتيات، أو ما يصلح به الاقتيات.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1218) ، 22- كتاب المساقاة، 18- باب بيع الطعام حديث رقم (102/ 1596) . (2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1210) ، 22- كتاب المساقاة، 15- باب العرف وبيع الذهب حديث رقم (80/ 1587) . (3) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (3- 4/ 67) .

سبب تحريم الربا

وقال الشافعية: إنّ العلة في الذهب والفضة هي اتحاد الجنس مع الثمنيّة. وفي الأشياء الأربعة الباقية اتحاد الجنس مع الطعم، والتفاصيل في أمر الربا تعلم من كتب الفقه. سبب تحريم الربا 1- إنّه يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض، وهو شنيع ممنوع، لأنّ المال شقيق الروح، فكما يحرم إزهاق الروح من غير حقّ، يحرم أخذ المال من غير حق. 2- إنّه يفضي إلى امتناع الناس عن تحمّل المشاقّ في الكسب والتجارة والصناعة، وهو يؤدي إلى انقطاع مصالح الخلق. 3- إنّه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض الحسن، ويمكّن الغني من أخذ مال الفقير الضعيف من غير مقابل، وهو لا يجوز برحمة الرحيم. ولا وجه للتمسك بما يقال: إن رأس المال لو بقي في يد صاحبه لاستفاد منه ربحا بسبب التجارة فيه، فما تركه في يد المدين لم يكن هناك بأس في أن يدفع إلى ربّ المال مالا زائدا عوضا عن انتفاعه بماله، لأنّه يمكن دفعه بأن الذي يذكرونه أمر موهوم، قد يحصل وقد لا يحصل، والمال الزائد ملك للفقير على وجه اليقين، فتفويت المتيقّن لأمر موهوم إضرار بالضعيف، وهو لا يجوز. المعنى: الذين يأخذون الربا ويقتطعونه من أموال الناس بغير حق لا يقومون من القبور يوم القيامة إلا قياما كقيام الشخص الذي يضربه الشيطان على غير اعتدال، بسبب المسّ، أي الجنون الذي أصابه، وهذا التمثيل وارد على ما يزعم العرب من أنّ الشيطان يخبط الإنسان فيصرعه، ويمسّه يختلط عقله، وذلك السوء الذي يعتريهم عند قيامهم بسبب أنهم تعاملوا بالربا، وبالغوا في استباحته حتى قالوا: إنما البيع مثل الربا، قد اعتبروا الربا أصلا في الإباحة يقاس عليه البيع: فيجوز بيع درهم بدرهمين، كما يجوز بيع ما قيمته درهم بدر همين، مع وضوح الفرق بينهما، فإنّ أحد الدرهمين في الأول ضائع حتما، والثاني منجبر بالاحتياج إلى السلعة، أو يتوقّع رواجها. وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا لما في الأول من وجوه الجابر، وفي الثاني: من الإضرار المحتّم. فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي تذكرة يذكّره فيها بحكمه تعالى فاتعظ بلا تراخ، واتبع النهي الوارد، فله ما تعامل به فيما سلف، ولا يستردّ منه، وأمر جزائه موكول إلى الله. وَمَنْ عادَ إلى استحلاله فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ماكثون أبدا.

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ بالغ الله تعالى- في هذه الآية- في الزجر عن الربا، وكان قد بالغ في الآيات السابقة في الأمر بالصدقات، وكان النّاس يرون بحسب الظاهر أن الربا يوجب زيادة الخيرات، وأنّ الصدقات توجب نقصان الخيرات، فأراد سبحانه وتعالى أن يدفع هذه الشبهة، وبيّن أنه تعالى كفيل بعكس ذلك، وأنّ الربا وإن كان زيادة في المال ظاهرا، إلا أنه نقصان في الحقيقة، وأنّ الصدقات وإن كانت نقصانا في المال إلا أنها زيادة في المعنى، فاللائق بالمسلم أن يعوّل على ما ندبه إليه الشارع، فإنّه بذلك يضمن خيري الدنيا والآخرة، وهو المشار إليه بقوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ. وإرباء الصدقات يكون في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلما يأتي: أولا: يزداد جاهه وذكره الجميل، وميل القلوب إليه، واطمئنان النفوس إليه، وفي ذلك من أسباب تيسير أموره ما يشهد به كلّ خبير. ثانيا: إنّ محبة الناس له تجرّ إلى معاونته في كثير من معاملاته. وقضاء مصالحه، فتفتح له أبواب الخيرات، وتتسع أرزاقه. ثالثا: من كان لله كان الله له. وقد روي في الحديث الشريف: «أنّ ملكا ينادي كلّ يوم: اللهم يسّر لكلّ منفق خلفا، ولممسك تلفا» «1» . وأما في الآخرة فلما ورد: «إنّ الله، يقبل الصّدقة، ويأخذها بيمينه، فيربّيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتّى إنّ اللقمة لتصير مثل أحد» «2» ولما ورد في القرآن الكريم مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: 261] . ومحق الرّبا يكون في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا فلما يأتي: أولا: لأنّ الغالب في المرابي وإن كثر ماله أن تؤول عاقبته في الفقر والدمار، كما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «الرّبا وإن كثر فإنّ عاقبته تصير إلى قلّ» . ثانيا: أن الذين تؤخذ أموالهم بسبب الربا يبغضون المرابي، ويقصدونه بالأذى عند غفلته، ويسلبون أمواله عند التمكن، وكل ذلك يؤدّي إلى المحق والدمار وإن طال الزمان.

_ (1) رواه البخاري (بغير هذا اللفظ) في الصحيح (2/ 147) ، 24- كتاب الزكاة، 27- باب قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى حديث رقم (1442) ، ومسلم في الصحيح (2/ 700) ، 12- كتاب الزكاة، 17- باب في المنفق حديث رقم (57/ 1010) . (2) رواه البخاري في الصحيح (2/ 138) ، 24- كتاب الزكاة، 8- باب الصدقة حديث رقم (1410) ، ومسلم في الصحيح (2/ 702) ، 12- كتاب الزكاة، 19- باب قبول الصدقة حديث رقم (63/ 1014) . [.....]

ثالثا: أنه يحبب إليه التعامل بالمقامرات وأنواع المعاملات الخطرة، وفي الغالب يؤول أمره إلى المحق والدمار. وأما الآخرة فلما يأتي: أولا: لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: معنى هذا المحق أنّ الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهادا ولا حجا ولا صلة رحم. ثانيا: لأنّ مال الدنيا لا يبقى عند الموت، وتبقى التبعات والعقوبات، وهذه هي الخسارة الكبرى. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أي لا يرضى عن كلّ من يصرّ على تحليل- أي ارتكاب- المحرمات أَثِيمٍ منهمك في ارتكاب المعاصي التي توجب الإثم. فالآية في المسلمين الذين يرتكبون المعاصي وهاهنا أمور: الأول: التخبط- مصدر (يتخبط) بوزن تفعّل- غير متعد، ولكنّه عداه هنا نظرا لأنّ تفعّل يأتي كثيرا بمعنى فعل، نحو تقسّم المال: أي قسمه. الثاني: قوله: مِنَ الْمَسِّ يصح تعلّقه بقوله: يَقُومُونَ، أو بقوله: يَقُومُ وهو علة لما تعلق. الثالث: هذه الآية ظاهرة في أنّ الشيطان يتخبط الإنسان ويضربه ويمسّه ويصرعه، وبذلك قال أهل السنة، وهو مبنيّ على أنه لا يوجد مانع من القول بأن الشيطان جسم كثيف. وقيل: إن الشيطان ضعيف لا قدرة له على الضرب والصرع والأعمال الشاقة، لأنه جسم لطيف كالهواء، ليس فيه صلابة ولا قوة، فيمتنع أن يكون قادرا على أن يضرب الإنسان ويصرعه، ولأن القرآن الكريم يدل على أنه ليس للشيطان قدرة على الصّرع والقتل والإيذاء، حيث يقول حكاية عن الشيطان: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: 22] فأفسد أحوالهم، وأفشى أسرارهم وأزال عقولهم، وكل ذلك باطل. وأما ما ورد في القرآن الكريم: من أنهم كانوا يعملون لسليمان بن داود عليهما السلام ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، فإنما كان بإقدار من الله على هذه الأفعال معجزة لسليمان عليه السلام. وتأوّل أصحاب هذا القول التخبط والمسّ في هذه الآية بوسوسة الشيطان المؤذية التي يحدث عندها الصرع. وإنما تحدث الوسوسة الصرع بسبب ضعف الطباع وغلبة السوداء على الإنسان، فيعتريه من الخوف والذّعر عند الوسوسة ما يصرعه، كما يصرع الجبان في

الأحكام

الموضع الخالي بسبب وسوسته، ولهذا يوجد هذا المعنى فيمن به نقص في المزاج، وخلل في الدماغ، ولا يوجد عند أهل الكمال والفضل والحزم والعقل. ويستأنس لذلك بما يظهر من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) [الأعراف: 201] فأهل التقوى والقلوب المطمئنة إذا وسوس لهم الشيطان تذكّروا أوامره ونواهيه، فتستنير قلوبهم، وتندفع عنهم الوساوس الشيطانية، ولم يكن للشيطان عليهم سلطان. وأما الضعفاء: أهل القلوب التي لم تكن مطمئنة، فيدعوهم الشيطان إلى طلب اللذات والشهوات، وللاشتغال بغير الله تعالى تارة، ويدعوهم باعث الحق والدين إلى الدين والعمل الصالح تارة أخرى فتحدث عندهم حركات مضطربة، وأفعال مختلفة، وهذا بعينه هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان. فآكل الربا لا شك أنه متهالك على حب الدنيا ولذاتها وشهواتها، فإذا مات على ذلك، وجاء يوم البعث خرج الناس من الأجداث سراعا إلا أكلة الربا، فإنهم يتخبّطون، يقومون ويسقطون، كالذي يتخبطه الشيطان من أجل المسّ. الأحكام يؤخذ من الآية ما يأتي: أولا: حرمة الرّبا الذي كان معروفا بين العرب في الجاهلية، وهو ربا النسيئة. ثانيا: حرمة ربا الفضل، كأن يبيع منّا من الحنطة بمنوين منها. ثالثا: حرمة الصلح على خمسمائة حالّة مثلا مع من عليه ألف مؤجلة، فإنّ هذا في معنى ربا الجاهلية الذي كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلا من الأجل، فأبطله الله بتحريم الربا. وفي مسألة الصلح على قرض مؤجّل صالحه ربّ المال على بعض منه معجّل، فالدائن قد انتفع بباقي الدين مقابل إسقاط الأجل، والمدين قد انتفع بفضل من المال دون عوض مالي، وجزئيات الربا كثيرة، يعلم حكمها من انطباق ضابطه عليها. قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) سنة الله في كتابه الكريم أنّه مهما ذكر وعيدا ذكر بعده وعدا، فلما بالغ هاهنا في وعيد المرابي أتبعه بهذا الوعد فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي صدّقوا بالله ورسوله، وبما جاءهم به وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ حال كونه عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من مكروه يصيبهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من أجل محبوب يفوتهم.

وإنما خصّ الصلاة والزكاة بالذكر مع اندراجهما في الصالحات، للإشعار بأنّ لهما من المنزلة في الإسلام ما ليس لغيرهما، ولذلك ورد ذكرهما في القرآن مرّات عديدة كما جاءت الآثار بفضلهما، وتفوقهما على غيرهما. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) يبين الله تعالى في الآية السابقة أن من انتهى عن الربا فله ما سلف، فربما يظنّ أنّه لا فرق بين المقبوض منه، وبين الباقي في ذمة القوم، فقال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ: أي اتخذوا وقاية من عذاب بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا أي ما كان لكم في ذمة القوم من الزيادة المحرمة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي متّصفين بالإيمان الذي الشأن فيمن اتّصف به الانقياد والاستسلام. أي إن كنتم عاملين بمقتضى إيمانكم. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتكم به من الاتقاء، وترك ما بقي من الربا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي عقاب شديد من نوع الحروب، فإنّ الإصرار على عمل الربا إن كان من شخص يقدر الإمام عليه قبض عليه وأجري عليه حكم الله: من التعزير والحبس، إلى أن تظهر منه التوبة. وإن كان له عسكر وشوكة حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية، وكما حارب أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة، ولا عجب في ذلك، فإنّ الفقهاء نصوا على أنه لو اجتمع أهل بلد على ترك الأذان أو ترك دفن الموتى: فإنه يحاربهم الإمام. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من عامل بالربا يستتاب. فإن تاب وإلا ضربت عنقه. قيل: التعبير بالحرب للتهديد والتخويف بعقابه الشديد، فإنّه قد عهد التعبير بالحرب في معنى العقاب الشديد، كما ورد «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» «1» . وقوله: فَأْذَنُوا فاعلموا وأيقنوا بحرب: من أذن يأذن. من باب (طرب) . وَإِنْ تُبْتُمْ أي: امتثلتم أمر الله تعالى فليس لكم إلا رؤوس أموالكم لا تَظْلِمُونَ المحتاجين بأخذ أموالهم من غير عوض وَلا تُظْلَمُونَ أنتم بضياع رؤوس أموالكم.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (7/ 243) ، 81- كتاب الرقاق، 38- التواضع حديث رقم (6502) .

قيل: نزلت هذه الآية في أربعة إخوة من ثقيف: مسعود، وعبد ياليل، وحبيب، وربيعة: بنو عمرو بن عمير الثقفي، كانوا يداينون بني المغيرة، فلما ظهر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أسلم الأخوة، ثم طالبوا برباهم بني المغيرة، فنزلت «1» . وإن وجد شخص ذو عسرة فعاملوه بالحسنى والرحمة، وأنظروه إلى ميسرة، أو وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ غريما لكم فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ فإنه عليه الصلاة والسلام يقول: «ولا يحلّ لكم دين رجل مسلم فيؤخّره إلا كان بكلّ يوم صدقة» «2» . فلفظ كانَ في الآية يحتمل أن تكون تامة، ويحتمل أن تكون ناقصة. والعسرة: اسم من الإعسار، وهي الحالة التي يتعسّر فيها وجود المال. والنظرة: اسم للتأخير والتأجيل. والميسرة: مصدر بمعنى اليسر وهو الغنى. وقرأ نافع بضم السين، والباقون بفتحها. وَأَنْ تَصَدَّقُوا على الغرماء المعسرين بالإبراء فهو خَيْرٌ لَكُمْ من الإنظار، وأكثر ثوابا، أو هو خَيْرٌ لَكُمْ مما تأخذونه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فضل التصدّق على الإنظار أو الأخذ. قالوا: سبب نزول هذه الآية أن الأخوة الثقفيين طالبوا بني المغيرة برؤوس أموالهم، فشكوا إليهم العسرة، وقالوا: أخرونا إلى أن تدرك الغلات، فأبوا تأخيرهم، فنزلت هذه الآية. ويؤخذ من الآية أن رب المال متى علم أنّ غريمة معسر وجب عليه إنظاره، وإذا لا حظنا أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: نعلم أن الإنظار واجب عند العسر في كل دين، لا في خصوص دين الربا. وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ لما كان الذين يعاملون بالربا من العظماء أصحاب الثروة والجلال والأنصار والأعوان: كانت الحالة داعية إلى مزيد من الزجر والوعيد، حتى يمتنعوا عن الربا وأخذ أموال الناس بالباطل. ولهذا توعّدهم الله وهدّدهم بهذه الآية أيضا فقال: وَاتَّقُوا يَوْماً أي تشتدّ فيه الأهوال، وتعظم الخطوب، حتى ورد أنه يجعل الولدان شيبا، ولهول ما يقع فيه أمر الله باتّقاء نفس اليوم، للمبالغة في التحذير عما فيه. وقال: تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ أي لتوقيع الجزاء:

_ (1) انظر تفسير الطبري المسمى جامع البيان في تفسير القرآن (3/ 71) . (2) رواه أحمد في المسند (5/ 351) .

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) [الزلزلة: 7، 8] كما قال: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي جزاء ما عملت من خير أو شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ في هذه العقوبات، لأنّها مناسبة لأسبابها الواقعة منهم. وهاهنا أمور: الأول: نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ.. آخر آية نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» ، لأنه لما حجّ نزلت يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ.. «2» [النساء: 176] ثم نزلت وهو واقف بعرفة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي.. «3» [المائدة: 3] ثم نزل: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ.. فقال جبريل عليه السلام: «يا محمد ضعها على رأس ثمانين آية ومائتي آية من البقرة» «4» . والثاني: قرأ أبو عمرو تُرْجَعُونَ بفتح التاء، والباقون بضمها، فبالفتح من رجع رجوعا، وهو لازم. وبالضم من رجعه إليه رجعا، وهو متعد، يصحّ بناؤه للمفعول. الثالث: معنى رجوعهم إلى الله أنهم يرجعون إلى ما أعدّ لهم من ثواب أو عقاب وقيل: معناه أنهم يكونون في يوم البعث بحالة لا يتصرّف فيهم ظاهرا وباطنا إلّا الله تعالى، بخلاف حالتهم في الدنيا، فإنه يتصرف بعضهم في بعض بحسب الظّاهر. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) التداين: تفاعل، مأخوذ من الدّين، وهو: التبايع بالدين.

_ (1) انظر الدر المنثور التفسير المأثور للسيوطي (1/ 369) . (2) رواه البخاري في الصحيح (5/ 220) ، 65- كتاب التفسير، 27- باب (يستفتونك) حديث رقم (4605) . (3) رواه البخاري في الصحيح (1/ 19) ، 2- كتاب الإيمان، 32- باب حسن إسلام المرء حديث رقم (45) . (4) انظر الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي، بيروت دار الفكر (1/ 61) .

وَلْيُمْلِلِ أي يملي، يقال أملّ إملالا إذا كان أملى إملاء. مناسبة هذه الآية: إنّ الآيات السابقة بيّن الله فيها حكم التعامل بالربا، وشدّد في منعه، فأراد هنا أن يبيّن حالة المداينة الواقعة في المعاوضات الجارية فيما بينهم ببيع السلع بالدين المؤجل بطريقة تحفظ الأموال، وتصونها عن الضياع. ويمكن أن يقال في المناسبة: إنّه لما بيّن فيما سبق أنّ الإنفاق في سبيل الله مطلوب، وهو يوجب نقص المال، وإن الربا محرّم، وهو يوجب نقص المال أيضا، أراد هنا أن يبيّن كيفية حفظ المال الحلال، وطريق صونه عن الضياع فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ تبايعتم وتعاملتم نسيئة بِدَيْنٍ بما يصحّ فيه الأجل، كبيع سلعة حاضرة بنقود مؤجلة، أو بسلعة أخرى مؤجلة، وكبيع سلعة مؤجلة أي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى مع معرفة الجنس والنوع والقدر بثمن حالّ، وهو السلم، أي إذا تعاملتم ببدل مؤجل فَاكْتُبُوهُ فاكتبوا ما يدلّ على هذا التعامل، مع بيان الأجل بالأيام أو الأشهر أو غيرهما، بطريقة ترفع الجهالة، لا بمثل الحصاد والدياس مما لا يرفعها، لأنّ الكتابة أوثق في ضبط الواقع، وأرفع للنزاع. ثم أراد أن يبيّن كيفية الكتابة، ويعيّن من يتولاها فقال: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ أي مأمون يكتب بِالْعَدْلِ: وهذا أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه متديّن يقظ، ليكتب بالحق، ويتحاشى الألفاظ المحتملة للمعاني الكثيرة والألفاظ المشتركة، ويوضّح المعاني، ويتجنّب خلاف الفقهاء. ثم أوصى الكاتب، ونهاه عن الإباء. فقال: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أي لا يمتنع أحد من الكتاب عن أَنْ يَكْتُبَ وثيقة الدين كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ على الطريقة التي علّمه الله في كتابة الوثائق، أي يكتب كتابة كالتي علمه الله، فالكاف صفة لموصوف محذوف. أو المعنى: ولا يأب كاتب أن ينفع النّاس بكتابته، كما نفعه الله بتعلّم الكتابة، كما في قوله تعالى: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: 77] . ثم قال: فَلْيَكْتُبْ أي تلك الكتابة المعلّمة، فهو توكيد للأمر المستفاد من قوله وَلا يَأْبَ كاتِبٌ إلخ. ويجوز أن يكون توكيدا للأمر الصريح في قوله: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ إلخ. ثم أرشد الله تعالى إلى أن الذي يملي على الكاتب هو المدين، فإنّه المكلّف بأداء مضمون الكتابة، فاللازم أن تكون الكتابة كما يراه ويعلمه، ثم أوصاه بتقوى الله، وبألا ينقص من الحق الذي عليه شيئا حيث قال: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ أي لا ينقص مِنْهُ شَيْئاً. ثم بيّن أنه فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أي ناقص العقل، مبذرا في ماله، أَوْ

ضَعِيفاً بأن يكون صبيا أو مجنونا، أو شيخا كبيرا لا تساعده قواه العقلية على ضبط الأمور أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ أي يملي بنفسه، بأن كان أخرسا، أو جاهلا أو مصابا بالعمى فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ القيم عليه، أو وكيله بِالْعَدْلِ أي من غير زيادة ولا نقص. وعبر هنا بصيغة العدل الشاملة لترك الزيادة والنقص، لأنّ المملي هنا يتصوّر منه الزيادة والنقص بمحاباة هذا أو هذا، بخلاف ما إذا كان المملي المدين، فإنّ المتصوّر منه النقص فقط. ثم أرشد الله تعالى المتداينين إلى أمر آخر مفيد في ضبط الوقائع، وحفظ الأموال فقال: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ أي اطلبوا شهيدين ليحملا الشهادة، ويحفظا الواقع. وقوله: مِنْ رِجالِكُمْ متعلق باستشهدوا، و (من) ابتدائية، أو متعلّق بمحذوف صفة لشهيدين، و (من) تبعيضية: أي من رجالكم المسلمين الأحرار، فإنّ الكلام في معاملاتهم. فَإِنْ لَمْ يَكُونا الشهيدان رَجُلَيْنِ فليشهد رجل وامرأتان، أو فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ يكفون في الشهادة. وشهادة النساء مع الرجال تجوز عند الحنفية في الأموال والطلاق والنكاح والرجعة والعتق، وكل شيء إلا الحدود والقصاص. وعند المالكية تجوز في الأموال وتوابعها خاصة، ولا تقبل في أحكام الأبدان مثل الحدود، والقصاص والنكاح والطلاق، والرجعة، والعتق. مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ. الجار الأول، متعلق بمحذوف صفة لرجل وامرأتان: أي كائنون مرضيين عندكم بعدالتهم، وهذا الوصف وإن كان في جميع الشهود، لكنه ذكره هنا للتشدد في اعتباره، لأنّ اتصاف النساء به قليل. والجار الثاني متعلق بمحذوف حال من الضمير المفعول المقدّر في ترضون، العائد إلى الموصول: أي ممن ترضونهم حال كونهم من بعض الشهداء، لعلمكم بعد التّهم، وثقتكم بهم، وإدراج النساء في الشهداء للتغليب. وتدل الآية على أن الشهادة نوعان: شهادة رجلين، وشهادة رجل وامرأتين، ولا ثالث لهما، ولهذا قال الحنفية: الشهادة قسمان فقط كما ذكرها الله في هذه الآية، ولم يذكر الشاهد واليمين فلا يجوز القضاء عندهم بالشاهد واليمين، لأنه حينئذ يكون قسما ثالثا للشهادة، مع أن الله لم يذكر لها إلا قسمين.

وقال المالكية والشافعية: يجوز القضاء بشاهد ويمين، لا باعتبار أن هذا قسم ثالث للشهادة، وإنما هو باعتبار أن القضاء باليمين وإسقاط الشاهد ترجيح لجانب المدّعي، وأما عدم ذكر ذلك في القرآن فلا يمنع مشروعيته والعمل به. يدل على ذلك أن القضاء عند الحنفية يجوز بالنكول، وهو قسم ثالث، ليس له في القرآن ذكر. والضمير في قوله: مِنْ رِجالِكُمْ يعود إلى المخاطبين المسلمين، وهو دليل على أنه لا بد من إسلام الشهود، وهو مذهب مالك والشافعي، وأحمد وأجاز الحنفية قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام رجم يهوديين بشهادة اليهود عليهما بالزنى «1» . ثم أراد تعليل اعتبار العدد في النساء فقال: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى أي إنما اعتبر التعدّد في شهادة النساء لما عسى أن تضلّ إحداهما، فتذكر إحداهما الأخرى. والعلّة في الحقيقة هي التذكير، ولكن الضلال لما كان سببا في التذكير، وكان الشأن في النساء الغفلة والنسيان، نزّل منزلة العلة، كما في قولهم: أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه، فإن العلّة هي الدفاع، ولما كان مجيء العدو سببا فيه نزّل منزلته، فهو علة حذف منها لام التعليل. ويصح أن يكون مفعولا لأجله. أي إرادة أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إلخ. ويقال في العلة الحقيقية هنا ما قيل في الوجه الأول، والضلال بمعنى النسيان. وقرأ حمزة: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى بكسر أَنْ وجعلها شرطية مع رفع فتذكر، وتَضِلَّ فعل الشرط. وقوله: فَتُذَكِّرَ مرفوع بالضمة، والجملة في محل جزم جواب الشرط. ثم أوصى الشهود، ونهاهم عن الإباء عن الشهادة، كما نهى الكاتب عن الامتناع عن الكتابة فقال: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا لأداء الشهادة، أو لتحمّلها، ورجّحوا الحمل هنا على التحمّل لأنه منهي عن كتمان الشهادة، أي بالامتناع عن الأداء بقوله: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وما زائدة ثم عاد إلى أمر الكتابة فأكّد طلبها حيث قال: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ أي لا تملّوا من كتابة الدّين، أو الحقّ مهما كثرت معاملاتكم، سواء كان الدين أو الحق صَغِيراً أَوْ كَبِيراً فلا تسأموا من كتابته إِلى أَجَلِهِ أي حال كون الدين أو الحق مستقرا في الذمة إلى أجله، أي إلى وقت حلول الأجل الذي أقرّ به المدين ذلِكُمْ الذي أمرتكم به من الكتابة، والإشهاد

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (8/ 38) ، 87- كتاب المحاربين، 24- باب أحكام أهل الذمة حديث رقم (6841) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1327) ، 29- كتاب الحدود، 6- باب رجم اليهود حديث رقم (28/ 1700) .

أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي أعدل في إصابة حكم الله تعالى، لأنّه متى كتب كان إلى اليقين أقرب، وعن الكذب أبعد، فكان أعدل عند الله. والقسط: اسم، والإقساط مصدر، يقال: أقسط يقسط إقساطا إذا عدل، فهو مقسط، ومنه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة: 42] . وأما قسط فهو بمعنى جار كما قال تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) [الجن: 15] . ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ أي أثبت لها، وأعون على إقامتها وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أي أقرب إلى ارتفاع ريبكم في جنس الدّين ونوعه وقدره وأجله. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها أي أنكم مأمورون بالكتابة إذا كان التعامل بالدين، لكن إن كانت معاملاتكم تِجارَةً حاضِرَةً بحضور البدلين، تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ أي تتعاملون بالبدلين يدا بيد فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إثم في عدل الكتابة لبعده حينئذ عن التنازع. وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ: أي إذا كان التعامل يدا بيد فلا بأس من عدم الكتابة، ولكن ينبغي الإشهاد على هذا التعامل، فإنّ اليد الظاهرة ربما لا تكون محقّة، فالإشهاد أحوط. وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ أي لا يضارر- بالكسر- كاتب ولا شهيد بترك الإجابة، أو بالتغيير والتحريف في الكتابة والشهادة، أو لا يضار- بالفتح- كاتب إلخ. أي لا يجوز للطالب أن يضارر- بالكسر- الكاتب والشهيد، بأن يقهرهما على الانحراف في الكتابة والشهادة، ويضغط عليهما للخروج عما حدّ لهما، وَإِنْ تَفْعَلُوا ما نهيتم عنه من الضرار، فَإِنَّهُ أي فعلكم هذا فُسُوقٌ بِكُمْ وخروج عن الطاعة، ملتبس بكم، أو وإن تفعلوا شيئا مما نهيتم عنه على الإطلاق فإنه فسوق إلخ. وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما حذركم منه من الضرار، أو من ارتكاب شيء مما نهاكم عنه وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ما يصلح لكم أمر الدنيا، كما يعلّمكم ما يصلح أمر الدين وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عليه حالكم الظاهر والباطن، فهو يجازيكم بذلك وكرر لفظ الجلالة في الجمل الثلاثة لتربية المهابة في نفس السامع، وللإشارة إلى استقلال كل منهما بما هو مقصود منه. وهاهنا أمور: الأول: ذهب قوم إلى أن الكتابة والشهادة على الديون المؤجّلة واجبان بقوله فَاكْتُبُوهُ، وقوله: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ، ثم نسخ الوجوب بقوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ [البقرة: 283] .

والجمهور على أن الكتابة والإشهاد مندوبان، وأنّ الأمر بهما للندب، فإنه لم ينقل عن الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار أنّهم كانوا يتشدّدون فيهما، بل كانت تقع المداينات والمبايعات بينهم من غير كتابة ولا إشهاد، ولم يقع نكير منهم، فدل ذلك على أنّ الأمر للندب، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة. وإنما ندب الله تعالى إلى الكتابة والإشهاد في الديون المؤجلة، لحفظ ما يقع بين المتعاقدين إلى حلول الأجل، لأن النسيان يقع كثيرا في المدة التي بين العقد وحلول الأجل، وكذلك قد تطرأ العوارض: من موت أو غيره، فشرع الله الكتابة والإشهاد لحفظ المال وضبط الواقع. الثاني: قال أكثر المفسرين: إن المبيعات على أربعة أوجه: أحدها: بيع العين بالعين: كبيع الكتاب الحاضر بالنقد الحاضر. والثاني: بيع الدين بالدين: كبيع أردب من القمح مثلا واجب في ذمته لزيد بإردبين من الشعير واجبين على زيد هذا للبائع الأول، وهذا البيع باطل منهيّ عنه، وكلاهما غير داخل في الآية. والثالث: هو بيع العين بالدين: كبيع كتاب حاضر بثمن مؤجّل. والرابع: بيع الدين بالعين، وهو السلم، وكلاهما داخل في الآية. الثالث: قوله تعالى: فَاكْتُبُوهُ ليس المراد أن يكتبه المتعاقدان بأيديهما. وإنما المراد توصلوا إلى كتابة ما وقع، كما يدل عليه قوله: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ. وقد اختلفوا في كتابة الكاتب، فقيل: إنها فرض كفاية، وقيل: فرض عين على الكاتب متى طلب منه، وكان في حال فراغه: وقيل: إنه ندب. والصحيح أنه أمر إرشاد، فيجوز له أن يتخلّف عن الكتابة حتى يأخذ أجره. والاستثناء في قوله: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً منقطع: كما يدل عليه التقرير المتقدم، ويجوز أن يكون متصلا إن جعل استثناء من قوله إِذا تَدايَنْتُمْ إلى قوله: فَاكْتُبُوهُ أي إلا أن تكون تجارة حاضرة، أي الأجل فيها قصير، لا بمعنى حضور البدلين. أو جعل استثناء من قوله: وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ إلخ أي إلا أن تكون تجارة حاضرة، أي الأجل فيها قصير. قال الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) . الآية المتقدمة ترشد إلى الاحتياط في المبايعات الواقعة بالديون المؤجلة بكتابتها

والإشهاد عليها، والتمكّن من ذلك في الغالب يكون في الحضر. أما في السفر فالغالب عدم التمكن من ذلك، فأرشد إلى الاحتياط في حالة السفر بالرهان، التي يستوثق بها في الحصول على المؤجل فقال: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ أي مسافرين، ولم تجدوا كاتبا يكتب الدين، فالذي يستوثق به رهان مقبوضة، وتعليق الرهان على السفر ليس لكون السفر شرطا في صحة الرهان، فإنّ التعامل بالرهان مشروع حضرا وسفرا، كما ورد أنه عليه الصلاة والسلام رهن درعه في المدينة من يهودي بثلاثين صاعا من شعير أخذه لأهله» . وإنما علّق هنا على السفر لإقامة التوثق بالرهان مقام التوثق بالكتابة في السفر الذي هو مظنّة تعسّرها. ووصف الرهن بكونه مقبوضا ظاهر في أنه ما لم يقبض لا يظهر وجه للتوثّق به، وكونه مقبوضا يستلزم كونه معينا مفرزا، ولهذا قال الحنفية: لا يجوز رهن المشاع بناء على هذا. وقال المالكية: الرهن كالبيع، وبيع المشاع جائز، فرهن المشاع جائز أيضا، وقد اختلف الأئمة في أن القبض شرط لصحة الرهن أم لتمامه، فقال الحنفية والشافعية: إنه شرط صحة، تمسّكا بقوله تعالى: فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ وبما يظهر من مشروعية الرهن للتوثق، ولا توثق إلا بالقبض. وقال المالكية والحنابلة: إنه شرط تمام، بمعنى أنّ الرهن يلزم بمجرّد العقد، ويجبر الراهن على الإقباض، ومتى قبض تمّ وكمل قياسا على سائر العقود، فإنها تلزم بمجرّد العقد. والرهان جمع رهن: بمعنى المرهون. وقرئ: فَرِهانٌ بضمتين، وهو جمع رهن أيضا. فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي إن أمن بعض الدائنين بعض المدينين فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ في رعاية حقوق الأمانة فلا يجحدها، ولا يتأخر عن دفعها. فحيث إن الدائن عوّل على أمانته، ولم يطالبه بوثيقة ولا برهان، ينبغي للمدين أن يعامله بالحسنى. وبَعْضاً مفعول لأمن، يقال: أمن فلان غيره إذا لم يخف خيانته. وعبّر بالذي أؤتمن بدل التعبير بالمدين للحث على الأداء، فإنّ التعبير عنه بهذه الصيغة مما يورطه ويدفعه إلى حسن الأداء وجميل المعاملة، وجمع بين الألوهية وصفة الربوبية في قوله: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ للمبالغة في التحذير من الخيانة التي تغضب إلهه المعبود بحق، وربّه الذي يربيه، ويلي شؤونه، ويدير مصالحه.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (3/ 303) ، 56- كتاب الجهاد، 89- باب ما قيل في درع النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (2916) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1226) ، 22- كتاب المساقاة، 24- باب الرهن حديث رقم (124/ 1603) .

فالله تعالى جعل في هذه الآيات المبايعات على ثلاثة أقسام: بيع بكتابة وشهود، وبيع برهان مقبوضة، وبيع بالأمانة، فلما أمر في الآية الأولى بالكتابة والإشهاد، أشار في الآية الثانية إلى أنه ربما يتعذّر أمر الكتابة والإشهاد في حالة السفر، فذكر نوعا آخر من الاستيثاق: وهو الرهن الذي هو أبلغ في الاحتياط من الكتابة والإشهاد، وأوصي في النوع الثالث بما يليق به ثم قال: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ بعض المفسرين يرى أن هذه الجملة كالتأكيد لقوله: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا مع ما فيها من زيادة تزعج الشاهد، وتحمله على أداء الشهادة وهي قوله: وَمَنْ يَكْتُمْها إلخ. وأسند الإثم إلى القلب، لأن الكتمان مما اقترفه، كما يسند الزنى إلى العين والأذن بمثل هذا الاعتبار. وبعض آخر من المفسرين يصحّح ارتباط هذه الجملة بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً على معنى أنه إذا أمن الدائن المدين، ولم يكتب، ولم يشهد، ولم يأخذ رهنا لحسن ظنه به، كان من الجائز أن يجحد المدين، وأن يخلف ظنّ الدائن، وكان من الجائز الذي يقع كثيرا أن يطّلع بعض الناس على هذه المعاملة. فهنا ندب الله تعالى من يطّلع على هذه المعاملة ليشهد للدائن بحقه، وحذّره من كتمان الشهادة، سواء أعرف صاحب الحق تلك الشهادة أم لم يعرف، وشدّد فيه بأن جعله آثم القلب إن كتمها، ويدل لصحة هذا المعنى ما روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «خير الشّهود من شهد قبل أن يستشهد» «1» . وآثِمٌ خبر إنّ، وقَلْبُهُ مرفوع به، ويجوز أن يكون قلبه مبتدأ، وآثِمٌ خبرا مقدما، والجملة خبر إنّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فيجازيكم به إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فاحذروا من الإقدام على هذا الكتمان، وامتثلوا ما أمركم به، والله سبحانه أعلم. وصلّى الله على محمد وآله وصحبه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، والحمد لله رب العالمين.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1344) ، 30- كتاب الأقضية، 9- باب بيان خير الشهود حديث رقم (19/ 1719) بلفظ مختلف ورواه ابن ماجه في السنن (2/ 792) ، كتاب الأحكام، باب الرجل عنده الشهادة حديث رقم (2264) .

من سورة آل عمران

من سورة آل عمران قال الله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) بعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى أنه واهب الملك، المعزّ المذلّ، القادر على جميع الأشياء في الدنيا والآخرة، حيث قال جلّ شأنه: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ [آل عمران: 26] إلى آخره نبّه المؤمنين إلى أنّه لا ينبغي لهم أن يوالوا أعداءه، أو يستظهروا بهم لقرابة أو صداقة قديمة، بل ينبغي أن تكون الرغبة فيما عند الله تعالى وعند أوليائه دون أعدائه. نزلت هذه الآية في قوم من المؤمنين كانوا يوالون رجالا من اليهود، فقال لهم رفاعة بن المنذر وابن جبير وسعد بن خيثمة: اجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم، فأبوا النصيحة «1» . وقيل نزلت في عبادة بن الصامت البدري النقيب، فقد كان له حلفاء من اليهود، فلما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب قال له عبادة: يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي، فاستظهر بهم على العدو، فأنزل الله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ. لا ناهية، فالفعل مجزوم، أو نافية فالفعل مرفوع، وتكون الجملة خبرية في معنى النهي. أَوْلِياءَ جمع ولي، وهو الناصر والمعين، فلا يركن المؤمنون إلى الكفار، ويستعينوا بهم لقرابة أو محبة مع اعتقاده بطلان دينهم، فإنّ ذلك منهيّ عنه، لأنّ الموالاة قد تجرّ إلى استحسان طريقتهم. وفي هذا المعنى نزلت آيات كثيرة لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران: 118] لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: 51] لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: 1]

_ (1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (2/ 152) .

وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] . وأما الموالاة بمعنى المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر، مع عدم الرضا عن حالهم فذلك غير منهيّ عنه، والموالاة لهم بمعنى الرضا بكفرهم ومصاحبتهم لذلك كفر، لأنّ الرضا بالكفر كفر، فلا يبقى المرء مؤمنا، مع كونه بهذه الصفة. مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ حال من الفاعل، أي متجاوزين المؤمنين إلى الكفار استقلالا أو اشتراكا. فالظرف لا مفهوم له، لأنّه لبيان الواقع، فقد ورد في قوم مخصوصين حصلت منهم الموالاة للكفار دون المؤمنين، وقيل: الظرف في حيّز الصفة لأولياء. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الاتخاذ، وإنما عبّر بالفعل للاختصار، أو لإبهام الاستهجان بذكره، وجواب الشرط فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وفي الكلام حذف مضاف، أي فَلَيْسَ مِنَ ولاية اللَّهِ فِي شَيْءٍ أو من دين الله، وتنوين شَيْءٍ للتحقير، وذلك لأنّ موالاة المتضادين لا تكاد توجد. قال الشاعر: تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنّني ... صديقك، ليس النّوك عنك بعازب إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال، والعامل فيه لا يَتَّخِذِ فلا تتخذوهم أولياء في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم. وقيل: استثناء مفرّغ من المفعول لأجله، فالمعنى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء لشيء من الأشياء إلا للتقية مِنْهُمْ من جهتهم، تُقاةً مفعول به، أي شيئا يتّقى منه، فالجار والمجرور حال من تقاة، حيث تقدّم عليها، والمعنى: إلا أن تتقوا شيئا يتّقى منه حاصلا من جهتهم، كالقتل وسلب المال مثلا أو تُقاةً بمعنى اتقاء، فتكون مفعولا مطلقا، وتُقاةً متعلقة به في مكان المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف للعلم به، وعدّي بمن، لأنه بمعنى خاف، فالمعنى إلا أن تخافوا منهم ضررا خوفا. وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ إي عقاب نفسه، وفي ذلك تهديد عظيم مشعر بتناهي الاتخاذ في القبح، حيث ربط التحذير بنفسه، لأنه لو حذف وقيل: ويحذركم الله، فإنه لا يفيد صدور العقاب من الله، بل يحتمل أن يكون منه تعالى، وأن يكون من غيره. فلمّا قال: نَفْسَهُ علم أنّه صادر منه تعالى، وذلك أعظم أنواع العقاب لكونه تعالى قادرا على ما لا نهاية له، ولا قدرة لأحد على رفعه أو منعه مما أراد. وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ المرجع، والإظهار لتربية الروعة والمهابة في النفوس، والجملة مقررة لمضمون ما قبلها.

وفي الآية دليل على أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في الغزو، وإليه ذهب بعض المالكية، وقالت الحنفية والشافعية بالجواز، وأنه يسهم لهم في الغنيمة، لكن بشرط أن تكون الاستعانة على قتال المشركين لا البغاة، وما ورد عن عائشة رضي الله عنها من رد النبي صلّى الله عليه وسلّم لرجل مشرك كان ذا جرأة ونجدة أراد أن يحارب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر وقال له: «ارجع فلن أستعين بمشرك» «1» فمنسوخ، بدليل استعانته صلّى الله عليه وسلّم بيهود قينقاع وقسمه لهم، واستعانته بصفوان بن أمية في هوازن «2» . وذكر بعضهم أنّ جواز الاستعانة مشروط بالحاجة والوثوق، أما بغيرهما فلا يجوز، وهو الراجح. وعلى ذلك يحمل خبر السيدة عائشة، وما كان من السبب الثاني للنزول، ويحصل به أيضا الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز. ومن الناس من استدلّ بالآية على أنه لا يجوز جعلهم عمّالا ولا خدما، ولا يجوز التعظيم والتوقير لهم في المجالس، والقيام عند قدومهم، فإنّ دلالته على التعظيم واضحة قوية. وفي الآية أيضا دليل على مشروعية التقيّة، وعرّفوها: بالمحافظة على النفس أو العرض أو المال من شرّ الأعداء. ولما كان العدوّ نوعين: عدوا كان الاختلاف في الدين سببا لعدوانه، والثاني ما ثبتت عداوته على الأغراض الدنيوية كالمال والمتاع والإمارة، كانت التقية قسمين: أما القسم الأول: فكل مؤمن وجد في مكان لا يقدر فيه على إظهار دينه، فهذا تجب عليه الهجرة من ذلك المكان إلى مكان يستطيع إظهار دينه، بشرط ألا يكون من الصبيان أو النساء أو العجزة، فهؤلاء قد رخّص الله تعالى لهم فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) [النساء: 97، 98] . فإن كان من المستضعفين: وكان التخويف بالقتل ونحوه ممن يظنّ منهم أنهم يفعلون ما خوّفوا به، جاز المكث والموافقة ظاهرا بقدر الضرورة، مع السعي في حيلة للخروج والفرار بدينه. والموافقة حينئذ رخصة، وإظهار ما في قلبه عزيمة، فلو مات فهو شهيد قطعا،

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1449) ، 32- كتاب الجهاد، 51- باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر حديث رقم (150/ 1817) . (2) رواه أبو داود في السنن (3/ 285) ، كتاب البيوع، باب تضمين العارية حديث رقم (3562) وأحمد في المسند (4/ 222) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 96 إلى 97]

بدليل ما يروى أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لأحدهما: أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ قال: نعم نعم نعم، ثم قال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم. فتركه. ثم دعا الثاني وقال: أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ قال: نعم، فقال له أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصمّ، قالها ثلاثا، فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أمّا هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضيلة فهنيئا له، وأمّا الآخر، فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه» «1» . والقسم الثاني: من كانت عداوته بسبب المال والإمارة، وقد اختلف العلماء في وجوب هجرة صاحبه، فقال بعضهم: تجب، لقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] وبدليل النهي عن إضاعة المال. وبدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قتل دون ماله فهو شهيد» «2» ، وقال آخرون: لا تجب، لأنّها لمصلحة دنيوية، ولا يعود من تركها نقصان في الدين، ولكنّ المنصف يرى أن الهجرة قد تجب هنا أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه، أو هتك عرضه بالإفراط. قال الله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) كان الكلام من أول السورة إلى هنا في إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، مع إثبات التوحيد، ومحاجّة أهل الكتاب في ذلك، وفي بعض ما استحدثوا في دينهم. وفي هذه الآيات وما قبلها يدفع الله شبهتين من شبههم. قالوا: إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم والنبيين من بعده فكيف تستحل ما كان محرّما عليه وعليهم كلحم الإبل؟ أما وقد استبحت ما كان محرما عليهم فما يكون لك أن تدّعي أنك مصدّق لهم، وموافق في الدين، ولا أن تقول إنك أولى الناس بإبراهيم. فرد الله هذه الشبهة بقوله: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [آل عمران: 93] وأنه لم يحرّم عليهم شيئا إلا ما كان عقوبة لهم، كما جاء في قوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] . وأما الشبهة الثانية: فهي أنهم قالوا: إن الله وعد إبراهيم أن تكون البركة في

_ (1) قال السيوطي رواه ابن أبي شيبة، انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (4/ 133) . [.....] (2) رواه مسلم في الصحيح (1/ 124) ، 1- كتاب الإيمان، 62- باب الدليل على أن من قصد، حديث رقم (226/ 141) .

نسل ولد إسحاق، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظّمون بيت المقدس، ويصلّون إليه، فلو كنت على ما كانوا عليه لعظّمت ما عظّموا، ولما تحوّلت عن بيت المقدس، وعظّمت مكانا آخر اتخذته مصلّى وقبلة، وهو الكعبة، فخالفت الجميع. فردّ عليهم بقوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) وتقريره أنّ البيت الحرام الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت للناس يعظّمونه، ويتعبدون الله فيه، بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام لأجل العبادة خاصّة، وقد قال إبراهيم: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: 37] . ثم بنى سليمان بن داود عليهما السلام بيت المقدس بعد ذلك بعدة قرون. فماذا فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم غير أن امتثل أمر ربّه، فرجع إلى قبلة أبيه إبراهيم، واتخذها مصلّى. وأوّلية البيت قيل: أولية شرف، وقيل: أولية زمان، ولا مانع من أن يكون كل منهما مرادا، فقد مرّ أن إبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا البيت المحرّم للعبادة، ثم جاء سليمان وبنى بيت المقدس، فالأولية زمانية، وهي تستلزم أولية الشرف. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنه أول بيت وضع على الأرض بالنسبة للبيوت مطلقا، فقالوا: إن الملائكة بنته قبل خلق آدم، وأن بيت المقدس بني بعده بأربعين سنة. روى البخاري ومسلم من حديث أبي ذر قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أول بيت وضع للناس؟ فقال: «المسجد الحرام، ثم بيت المقدس» فقيل: كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة» «1» . وقد يقال: إنّ هناك تعارضا بين ما ذكرنا من أنّ بناء الكعبة كان قبل بناء بيت المقدس بعدة قرون، وأن الذي بناه إبراهيم، وبين ما روي من أن الذي وضعها الملائكة قبل بيت المقدس بأربعين سنة، وقد أجيب بأنّ الوضع غير البناء، وبأنه لعل الذي كان من إبراهيم وسليمان كان إعادة، ومعلوم أن بين إبراهيم وسليمان عدة قرون فلا منافاة. لَلَّذِي بِبَكَّةَ بكة اسم لمكة كما روي عن مجاهد، وإبدال الميم باء كثير في كلامهم، وقيل: هو بطن مكة حيث الحرم. مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ بيان لحاله الحسية الحسنة، والمعنوية الشريفة، وأما الأولى فهي ما ساق الله إليه من بركات الأرض، ومن ثمار كل شيء، ومن جميع الأقطار، مع

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (4/ 164) ، 60- كتاب أحاديث الأنبياء، 40- باب قول الله تعالى: وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ حديث رقم (3425) ، ومسلم في الصحيح (1/ 370) ، 5- كتاب المساجد، حديث رقم (1/ 520) .

كونه بواد غير ذي زرع، وأما الثانية فهي جعل أفئدة الناس تهوي إليه، وتتعلّق به، ويأتون للحج والعمرة رجالا، وعلى كل ضامر من كل فج، وتولية وجوههم شطره في الصلاة، وأيّ ساعة تمرّ ليلا أو نهارا وليس فيها من يتجه إلى ذلك البيت يصلي!! فقد أجيبت دعوة إبراهيم على أتمّ وجه رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ. وقد أشير إلى هاتين الحالتين في قوله تعالى حكاية عن المشركين: وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) [القصص: 57] . فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ فيه: أي البيت دلائل وعلامات ظاهرة لا تخفى على أحد: منها مقام إبراهيم أي موضع قيامه للصلاة والعبادة، فأيّ دليل أبين من هذا على كون هذا البيت أول بيت وضع ليعبد الناس فيه ربّهم؟ وإبراهيم هو أبو الأنبياء الذين بقي في الأرض أثرهم. وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً آية ثانية على أنّ البيت الحرام حقيق بالتعظيم، فقد اتفقت قبائل العرب طرّا على احترام هذا البيت وتعظيمه بنسبته إلى الله، وقد اشتدّت مبالغة العرب في ذلك، حتى إن من كان قاتلا، واستباح حرماتهم، ولجأ إلى البيت فإنه يصير آمنا ما دام فيه. مضى على هذا عمل الجاهلية مع ما بين أهلها من اختلاف المنازع، وتباين الأهواء والمشارب، وتعدّد المعبودات، وكثرة الأضغان والأحقاد، وقد أقرّ الإسلام هذه الميزة للبيت الحرام، وأما ما كان من المسلمين يوم فتح مكة فكان لضرورة تطهيره من الشرك، ولأجل أن يعبد الله وحده، ومع ذلك فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إنها حلّت له ساعة من النهار، ولم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده «1» . على أنّ فتح مكة لم يؤثّر على أمر الحرم شيئا، لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر مناديه أن ينادي: «من دخل داره، وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» «2» . هذا وقد اتفق الفقهاء على أنّ من جنى في الحرم فهو مأخوذ بجنايته، سواء أكانت في النفس أم فيما دونها. واختلفوا فيمن جنى في غير الحرم، ثم لاذ إليه فقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن زياد إذا قتل في غير الحرم ثم دخل الحرم لم يقتصّ منه ما دام فيه،

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (2/ 260) ، 28- كتاب جزاء الصيد، 9- باب لا ينفر صيد الحرم حديث رقم (1833) . (2) انظر تفسير ابن جرير الطبري، المسمى جامع البيان (2/ 331- 332) .

ولكنه لا يجالس، ولا يعامل، ولا يؤاكل إلى أن يخرج منه، فيقتصّ منه، وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم، ثم دخل الحرم اقتصّ منه. وقال مالك والشافعي: يقتصّ منه في الحرم لذلك كله، وقد روي عن ابن عباس، وابن عمر، وعبيد الله بن عمير، وسعيد بن جبير، وطاووس، والشعبي، فيمن قتل ثم لجأ إلى الحرم أنه لا يقتل. قال ابن عباس: ولكنه لا يجالس، ولا يؤوى، ولا يبايع حتى يخرج من الحرم، فيقتل، وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه الحدّ. وروى قتادة عن الحسن أنه قال: لا يمنع الحرم من أصاب فيه أو في غيره أن يقام عليه، قال: وكان الحسن يقول: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً كان هذا في الجاهلية، لو أنّ رجلا جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرّض له حتى يخرج من الحرم. أما الإسلام فلم يزده إلا شدة، من أصاب الحد في غيره ثم لجأ إليه أقيم عليه الحد. وروى هشام عن الحسن وعطاء قالا: إذا أصاب حدا في غير الحرم، ثم لجأ إلى الحرم أخرج عن الحرم، حتى يقام عليه، وروي مثل هذا عن مجاهد، وهذا يحتمل أن يراد به أن يقاطع، فلا يجالس، ولا يعامل، حتى يضطر إلى الخروج، فيقام عليه الحد. وفيما عدا رواية الحسن فالاتفاق حاصل بين السلف من الصحابة والتابعين أن من دخله لاجئا إليه، وكان قد جنى في غيره أنه يقاطع حتّى يخرج فيقتص منه. ومثل قوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] وقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً [القصص: 57] وقوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة: 125] . قال أبو بكر الرازي «1» : ولما عبّر الله تارة بالحرم وتارة بالبيت علم أنّ حكم الحرم حكم البيت في باب الأمن ومنع قتل من لجأ إليه. ولمّا لم يختلفوا أنه لا يقتل من لجأ إلى البيت، لأنّ الله وصفه بالأمن فيه، وجب مثله في الحرم فيمن لجأ إليه. هذا وقد فسّر بعض العلماء الأمن هنا بالأمن في الآخرة من العذاب، وروى في ذلك آثارا صحيحة، ولا مانع من إرادة العموم، بأن يفسّر بالأمن في الدنيا والآخرة. وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.

_ (1) أحكام القرآن للإمام الرازي (2/ 20- 23) .

لما ذكر الله فضائل البيت أردفه بذكر إيجاب الحج، وفي قوله: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وجوه من الإعراب لا نتعرض لذكرها. والمعنى: أن الله جلت قدرته أوجب على عباده أن يحجوا إلى بيته متى تيسّر لهم الوصول إليه، ولم يمنعهم من الوصول إليه مانع، سواء أكان بدنيا أم ماليا أم بدنيا وماليا معا. فالبدني كالمرض والخوف على النفس من العدو ومن السباع، وعلى الجملة ألا يكون الطريق مأمونا. والمالي كفقد الزاد والراحلة إذا كان ممن يتعسّر عليهم الوصول إلى البيت إلا بزاد وراحلة، والذي يجمعها فاقد الزاد والراحلة، والمريض، أو الذي لا يأمن الطريق. وقد اتفق الأكثرون على أنّ الزاد والراحلة شرطان داخلان في الاستطاعة، ويؤيد شرطيتهما ما رواه جماعة من الصحابة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه فسّر استطاعة السبيل بالزاد والراحلة. فقد روى أبو إسحاق عن الحارث عن علي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من ملك زادا وراحلة تبلغه بيت الله، ولم يحجّ، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا» «1» وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. وروي عن ابن عمر قال سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوله تعالى: قال: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قال: «السبيل الزاد والراحلة» «2» . وروى عطاء عن ابن عباس قال: السبيل الزاد والراحلة، ولم يحل بينه وبينه أحد. فأنت ترى من هذه الأخبار أن الزاد والراحلة من السبيل الذي ذكره الله تعالى، ومن شرائط وجوب الحج. وقد يقول قائل: إنّ الله تعالى يقول: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وقد بيّن النبي صلّى الله عليه وسلّم السبيل أنه الزاد والراحلة، فيلزم ألا يجب الحج على من كان بينه وبين البيت مسافة يسيرة، ويمكنه الذهاب إلى البيت ماشيا. ولكنا نقول: إن الله سبحانه وتعالى لما قال: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وهو عامّ في القريب والبعيد، قد لا يتيسّر له الحج، قال: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا أي أنّ

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 176) ، كتاب الحج، باب ما جاء في التغليظ حديث رقم (812) . (2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 177) ، كتاب الحج، باب ما جاء في إيجاب الحج حديث رقم (813) وابن ماجه في السنن (2/ 967) ، كتاب المناسك، باب ما يوجب الحج حديث رقم (2896) .

الوجوب على المستطيع، واقتصار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في البيان على الزاد والراحلة إنما كان للرد على من يزعم أنه يجب الحج على الناس مطلقا، ولو كانوا في بلاد نائية، ويقدرون على المشي، بدليل أنه لم يذكر عدم المرض وأمن الطريق مثلا، مع أنهما شرطان من شروط الاستطاعة اتفاقا، فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم اقتصر على بيان بعض الحالات، والحالات الأخرى تؤخذ من عمومات أخرى، كقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] وقوله: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] . ومعلوم أنّ شرط الزاد والراحلة إنما هو لئلا يشقّ عليه، ويناله ما يضره من المشي، فإذا كان من أهل مكة، أو ما قاربها، ويمكنه الوصول إليه دون مشقة، فهذا مستطيع، ويجب عليه الحجّ. وإذا كان لا يصل إليه إلا بمشقة فهذا الذي خفّف الله عنه، ولم يلزمه الفرض حتى يكون مستطيعا إليه سبيلا: زادا وراحلة. ويرى بعض العلماء أنّ وجود المحرم للمرأة من شرائط وجوب الحجّ مستدلا بما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي رحم محرم أو زوج» «1» . وروي عن ابن عباس أنه قال: خطب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لا تسافر امرأة إلّا ومعها ذو محرم» . فقال رجل: يا رسول الله إني قد اكتتبت في غزوة كذا، قد أرادت امرأتي أن تحجّ. فقال عليه الصلاة والسلام: «احجج مع امرأتك» «2» . وهذا يدل على أن المرأة إذا أرادت الحجّ ليس لها أن تحج إلا مع زوج، أي ذي رحم محرم، من وجوه: أحدها: أن السائل فهم من قوله: لا تسافر ... إلخ ذلك، ولذلك سأله عن امرأته التي تريد الحج ماذا يفعل، وقد اكتتب في الغزو؟ ولم ينكر النبي عليه ذلك. وثانيها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: حج مع امرأتك وفي ذلك دلالة على أنه حين قال: «لا تسافر امرأة ... إلخ أراد ما يعم سفر الحج. ثالثها: أنه أمره بترك الغزو وهو فرض للحج مع امرأته، ولو جاز لها الحج بغير محرم أو زوج لما أمره بترك الغزو.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 977) ، 15- كتاب الحج، 74- باب سفر المرأة حديث رقم (423/ 1340) . (2) رواه أحمد في المسند (1/ 222) .

وفي عدم سؤال النبي صلّى الله عليه وسلّم للرجل عن حج امرأته أفرض هو أم تطوّع دليل على أنه لا فرق بين أن يكون الحج فرضا أو تطوعا. وقد ورد في السنة ما يؤخذ منه باقي شروط الاستطاعة، كاستمساك من يجد الراحلة عليها. هذا وقد اختلف في حج الفقير البعيد عن البيت الذي لا يجد الزاد والراحلة. إذا أمكنه المشي، فقال الشافعية والحنفية: لا حج عليه، وإن حج أجزأه ذلك عن حجة الإسلام. وحكي عن مالك أن عليه الحج إذا أمكنه المشي، وروي عن ابن الزبير والحسن أن الاستطاعة ما تبلّغه كائنا ما كان. وأنت ترى أن الآية بظاهرها، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الاستطاعة الزاد والراحلة» يدلان على أنّ لا حج عليه، غير أنه متى وصل إلى هناك في أشهر الحج، فكأنه صار من أهل مكة، فيكون حكمه كحكمهم، فإذا فعله أغناه ذلك عن الفرض. وقد حكى الجصاص «1» الخلاف بين الحنفية والشافعية في العبد إذا حجّ، هل يجزئه أم لا؟ قال الشافعية: يجزئه، واستدلّ الشافعيّ بقياس العبد على الفقير، فإذا قلتم: إن الفقير إذا حجّ فقد أجزأه ذلك، وهو لا يجب عليه، فكذا العبد وأيضا العبد لا تجب عليه الجمعة، وإذا فعلها أجزأته عن الظهر، فكذا إذا فعل الحجّ. واستدل الحنفية بما روى أبو إسحاق عن الحارث عن علي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله، ثمّ لم يحجّ فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا» «2» فعلم من ذلك أن شرط الحج ملك الزاد والراحلة، والعبد ليس أهلا للملك بحال، فلا يكون أهلا للخطاب بالحج بحال، فلم يجزئه حجّه، كما إذا حج الصبيّ، فإنه إذا بلغ مستكملا الشروط وجب عليه الحج. وأجابوا عن القياس على الفقير بأن الفقير أهل لأن يملك، وقد يعرض الملك له في الطريق، فهو بهذه العرضية أهل في الجملة، فإذا وصل إلى مكة وهو لا يملك، فقد سقط هذا الشرط في حقه، لأنه صار من أهل مكة. وأما العبد فالمانع من خطابه رقّه، وهو إنما يفارقه بالعتق. واستدلوا أيضا بما روي عن جابر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أن صبيا حجّ عشر حجج، لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلا» .

_ (1) أحكام القرآن للإمام أبي بكر الجصاص (2/ 26) . (2) سبق تخريجه.

هذا ملخّص كلام الجصّاص. ولكنّ المعروف في مذهب الشافعي أنّ العبد إذا حجّ لم تجزئه حجته عن حجة الإسلام إذا عتق. ولعلّ خلاف الشافعي فيمن أحرم بالحج، ثم عتق وهو واقف بعرفة، أو قبل الوقوف بها فإن حجه يجزئه عن حجة الإسلام، خلافا لأبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما. أما إذا كان العتق بعد فوات الحج، فإنه لا يجزئه، قال النووي من الشافعية: وهذا لا خلاف فيه عندنا، وبه قال العلماء كافة. ثم إنّ الحج لا يجب إلا مرة واحدة، لأنّه ليس في الآية ما يوجب التكرار، وقد روي عن ابن عباس أنّ الأقرع بن حابس سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله الحجّ في كل سنة أو مرة واحدة فقال: «بل مرّة، فمن زاد فتطوع» «1» . وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ قيل: إنّ هذا الكلام مستقلّ بنفسه، وهو وعيد عام لكلّ من كفر بالله، ولا تعلّق له بما قبله. وقيل: إنه متعلّق بما قبله، ومن القائلين بهذا من حمله على تارك الحجّ، ومنهم من حمله على من لم يعتقد وجوبه. فأما الذين حملوه على تارك الحج فقد عوّلوا على ظاهر الآية، حيث أوجب الله الحجّ، ثم أتبعه بقوله: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ففهم منه أنّ هذا الكفر هو ترك ما تقدم، واستندوا إلى ما ورد من قوله عليه الصلاة والسّلام: «من استطاع ومات ولم يحجّ فليمت إن شاء يهوديا، وإن شاء نصرانيا» . وعن سعيد بن جبير: لو مات جار لي وله ميسرة، ولم يحجّ لم أصلّ عليه. وتأويل هذه الأخبار عند الجمهور أنّ الغرض منها التنفير من ترك الحجّ، والتغليظ على المستطعين، حتى يؤدّوا الفريضة، فهو نظير قوله عليه الصلاة والسلام: «من أتى امرأة حائضا في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد» . واستدلّ الأكثرون لمذهبهم بما روي عن الضحاك في سبب النزول قال: لما نزلت آية الحجّ، جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل الملل مشركي العرب والنصارى واليهود والمجوس والصابئين وقال: «إنّ الله كتب عليكم الحجّ فحجوا البيت» فلم يقبله إلّا المسلمون، وكفرت به خمس ملل قالوا: لا نؤمن به ولا نصلي

_ (1) رواه أبو داود في السنن (2/ 68) ، كتاب المناسك، باب فرض الحج حديث رقم (1721) ، وابن ماجه في السنن (2/ 963) ، كتاب المناسك باب الخروج حديث رقم (2886) .

[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 إلى 132]

إليه ولا نستقبله فأنزل قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. قال الفخر الرازي: هذا القول هو الأقوى. قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ دعاء عليهم بدوام الغيظ وزيادته بازدياد قوة الإسلام ونصرة أهله حتى يهلكوا به إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما خفي فيها. وهو يحتمل أن يكون من تتمة المقول لهم. أي قل لهم: إن الله عليم بما هو أخفى من عض الأنامل إذا خلوتم، فيجازي به. ويحتمل أن يكون خارجا عن المقول لهم: أي قل لهم ما تقدم، ولا تتعجب من اطلاعي إياك على أسرارهم، فإني عليم بما خفي في ضمائرهم. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها المسّ هنا والإصابة بمعنى واحد والمراد بالحسنة هنا النفع الدنيوي: كالصحة، والخصب، والألفة، واجتماع الكلمة، والظفر بالأعداء. والمراد بالسيئة: المحنة كإصابة العدو من المسلمين واختلاف الكلمة فيما بينهم. وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً الكيد هو أن يحتال الإنسان ليوقع غيره في مكروه، وفسره ابن عباس هنا بالعداوة. والمعنى: أن من صبر على الطاعة واتّقى ما نهى الله عنه كان في حفظ الله، فلا يضره كيد الكائدين، ولا حيل المحتالين، وتحقيق ذلك أنّ الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق للعبادة كما قال: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) [الذاريات: 56] فمن وفّى بعهده العبودية في ذلك فالله أكرم من أن لا يفي بعهد الربوبية في حفظه من كل مكروه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3] . إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ إطلاق لفظ محيط على الله تعالى مجاز، لأن الإحاطة بالشيء من صفات الأجسام، لكنه تعالى لما كان عالما بكل الأشياء، قادرا على كل الممكنات جاز في مجاز اللغة أنّه محيط بها. والمراد أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى، وسيجازيهم عليها. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) . المراد من أكل الربا أخذه، وعبّر به لما أنّه معظم ما يقصد به، ولشيوعه في المأكولات، والأضعاف جمع ضعف، وضعف الشيء مثله معه، وضعفاه مثلاه معه. فإذا قيل: ضعف العشرة لزم أن تجعلها عشرين، لأنّ العشرين أول مراتب تضعيفها. ولو قال:

له عندي ضعف درهم لزمه درهمان، وله عندي ضعفا درهم لزمه ثلاثة دراهم. كان الرجل في الجاهلية إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، فإذا حل الأجل، ولم يكن المدين واجدا لذلك المال، قال: زد في المال وأزيدك في الأجل، فربما جعله مائتين، ثم إذا حل الأجل الثاني، فعل مثل ذلك، إلى آجال كثيرة، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها. فهذا هو المراد من قوله تعالى: أَضْعافاً مُضاعَفَةً وليست هذه الحال لتقييد المنهيّ عنه: حتى يكون أصل الربا غير منهي عنه، بل لمراعاة الواقع، وللتشنيع عليهم، بأن في هذه المعاملة ظلما صارخا، وعدوانا مبينا، واحتجّ بهذا نفاة مفهوم المخالفة، القائلون بأن المخصوص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه. وأجيب بأنّ من شرط مفهوم المخالفة ألا يكون للمذكور فائدة غير التخصيص بالحكم، ومتى ظهرت له فائدة سوى التخصيص بالحكم بطل وجه دلالته عليه، والوصف بالتضعيف قد ذكر هنا لبيان الواقع كما تقدم، فظهرت له فائدة غير التخصيص بالحكم، فانتفى شرط العمل بمفهوم المخالفة هنا لذلك. وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما نهيتم عنه، ومن جملته أكل الربا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تفلحوا، أو راجين الفلاح، فمن أكل الربا ولم يتق الله لا يرجى فلاحه، وهذا تنصيص على أن الربا من الكبائر لا من الصغائر. وَاتَّقُوا النَّارَ أي احذروها بالتحرّز عن أكل الربا المفضي إلى دخول النار، الَّتِي أُعِدَّتْ هيئت لِلْكافِرِينَ النار مخلوقة للكافرين معدّة لهم أولا وبالذات وغيرهم من عصاة المؤمنين يدخلها على وجه التبع، وفي ذلك إشارة إلى أن أكلة الربا على شفا حفرة الكافرين. روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان يقول: إن هذه الآية هي أخوف آية في القرآن، حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه. وتدل هذه الآية على أن النار مخلوقة الآن، لأنّ قوله تعالى: أُعِدَّتْ إخبار عن الماضي، فلا بد أن يكون ذلك الشيء المعدّ قد دخل في الوجود. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) لمّا ذكر الوعيد ذكر الوعد بعده على ما هو العادة المستمرّة في القرآن الكريم.

من سورة النساء

من سورة النساء قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) قوله جلّ شأنه: وَبَثَّ مِنْهُما معناه: نشر، وفرّق منهما على سبيل التناسل والتوالد. وقوله: تَسائَلُونَ بِهِ معناه: يسأل بعضكم بعضا به، مثل: أسألك بالله، وأنشدك الله، والمفاعلة على ظاهرها، أو بمعنى تسألون كثيرا. الرقيب: الحفيظ المطلع العالم. يأمر الله المكلّفين جميعا بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، مما يتعلّق بحقوقه، وحقوق عباده، ويتناول ذلك بعمومه ما سيذكر في السورة بعد من صلة الأرحام، ورعاية حال الأيتام والعدل في النكاح والميراث، إلى غير ذلك. ولقد أكّد الله الأمر بالتقوى بما يحمل المخاطبين على الامتثال، فذكر اسمه بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين، ووصف نفسه بأنه خالقهم، وأنّ مبدأ خلقهم نفس واحدة، وأنه خلق منها زوجها، ونشر من الزوجين رجالا كثيرا ونساء، كلّ ذلك بما يؤيد الأمر، ويؤكّد إيجاب الامتثال، فإنّ الاستعمال جار على أن الوصف الذي علّق به الحكم علة موجبة له، وداعية إليه، ولا شك أنّ ما ذكر يدلّ على القدرة القاهرة، والنعمة الجسيمة، والمنة العظيمة، والقدرة توجب التقوى حذرا من العقاب، والنعمة تدعو إليها طلبا للمزيد، ووفاء بالشكر الواجب. وفي الامتنان بخلقنا من نفس واحدة ما يوجب الحرص على امتثال الأوامر الآتية، فإنه جلّ شأنه ذكر عقيب الأمر بالتقوى الأمر بالإحسان إلى اليتامى والنساء والضعفاء، وكون الناس بأسرهم مخلوقين من نفس واحدة له أثر في هذا المعنى بليغ، ذلك لأنّ الأقارب لا بد أن يكون بينهم نوع مواصلة ومخالطة توجب مزيد المحبة، ألا ترى أن الإنسان يفرح بمدح أقاربه وأسلافه، ويحزن بذمهم والطعن فيهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إنما فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها، وينصبني ما أنصبها» «1»

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 656) ، كتاب المناقب، باب فضل فاطمة حديث رقم (3869) .

وإذا كان الأمر كذلك فلا جرم إن كان ذكر هذا المعنى سببا في زيادة الشفقة والحنوّ على اليتامى والنساء وذوي الأرحام. والمراد من النفس الواحدة آدم عليه السلام، والذي عليه الجماعة من الفقهاء والمحدثين أنه ليس سوى آدم واحد، وهو أبو البشر، والمراد من الزوج حوّاء، وقد خلقت من ضلع آدم عليه السلام، وأنكر أبو مسلم خلقها من الضلع، لأنه سبحانه وتعالى قادر على خلقها من التراب، فأي فائدة في خلقها من الضلع، وزعم أنّ معنى مِنْها من جنسها، على حد قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [الشورى: 11] وهو باطل، إذ لو كان الأمر كما قال. لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة، وهو خلاف النص. وهو أيضا خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، روى الشيخان: «استوصوا بالنساء خيرا، فإنهنّ خلقن من ضلع، وإنّ أعوج شيء من الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنّساء خيرا» «1» وقدرة الله على خلق حواء من تراب لا تمنع عن خلقها من غيره. فقد خلق الناس بعضهم من بعض، مع القدرة على خلقهم كآدم من تراب، ولعلّ الفائدة في خلق حواء من ضلع آدم- سوى الحكمة التي خفيت علينا- إظهار أنه سبحانه قادر على أن يخلق حيا من حي، لا على سبيل التوالد، كما أنه قادر على أن يخلق حيا من جماد كذلك، والله أعلم. ثم أكد الله الأمر بالتقوى، وكرّره بقوله جل شأنه: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ وفي تعليق الحكم بما في حيز الصلة إشارة إلى نوع آخر من موجبات الامتثال، فإنّ قول الرجل لصاحبه أسألك بالله على سبيل الاستعطاف يقتضي الاتقاء والحذر من مخالفة أوامره ونواهيه. قرأ غير حمزة من السبعة وَالْأَرْحامَ بالنصب، والمعنى على هذه القراءة، واتقوا الله تعالى واتقوا الأرحام وصلوها ولا تقطعوها، فإن قطعها مما يجب أن يتّقى. وقرأ حمزة وَالْأَرْحامَ بالجر، وخرّجت في المشهور على العطف على الضمير المجرور، والعطف على الضمير المجرور دون إعادة الجارّ أجازه جماعة من النحاة وأنشد سيبويه في ذلك: فاليوم قد بتّ تهجونا وتشتمنا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 178) ، 67- كتاب النكاح، 81- باب الوصاة بالنساء حديث رقم (5186) ، ومسلم في الصحيح (2/ 1091) ، 17- كتاب الرضاع، 18- باب الوصية بالنساء حديث رقم (65/ 1468) . [.....]

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً في موضع التعليل للأمر ووجوب الامتثال يؤخذ من هذه الآية جواز المسألة بالله تعالى، وقد روى الليث عن مجاهد عن ابن عمر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سأل بالله فأعطوه وإن شئتم فدعوه» . ويؤخذ منها أيضا تعظيم حقّ الرّحم، وتأكيد النهي عن قطعها، إذ قرن الله الأرحام باسمه سبحانه، وقال في موضع آخر: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) [محمد: 22] فقرن قطع الرحم إلى الفساد في الأرض، وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله تعالى خلق الخلق حتّى إذا فرغ منهم، قامت الرّحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أنّ أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك» «1» . وتدل الآية أيضا على تقدير التساؤل بالأرحام، لا سيما على قراءة حمزة: واعترض على ذلك ابن عطية، وزعم أن الحديث الصحيح يردّه، فقد أخرج الشيخان عنه صلّى الله عليه وسلّم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» «2» وأنت تعلم أنّ قول الرجل لصاحبه: أسألك بالرحم أن تفعل كذا، ليس الغرض منه سوى الاستعطاف والتأكيد، فهو إذا ليس بيمين، فلا يكون من متعلّق النهي الذي تضمّنه الأمر «فليحلف بالله» في شيء. قال الله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) هذا شروع في تفصيل ما تجب تقوى الله فيه، والخطاب للأوصياء، ما دام المال بأيديهم، واليتامى في حجورهم، واليتيم من الإنسان من مات أبوه، من اليتم وهو الانفراد، والاشتقاق يقتضي صحة إطلاقه على الصغار والكبار، لكنّ الشرع والعرف خصصاه بالصغار، روى علي كرم الله وجهه وجابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يتم بعد احتلام» «3» . لا خلاف بين أهل العلم في أنّ اليتيم لا يعطى ماله قبل البلوغ، لكنّ ظاهر قوله

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (7/ 96) ، 78- كتاب الأدب، 13- باب من وصل وصله الله حديث رقم (5987) ، ومسلم في الصحيح (4/ 1981) ، 45- كتاب البر، 6- باب صلة الرحم حديث رقم (16/ 2554) . (2) رواه البخاري في الصحيح (3/ 216) ، 52- كتاب الشهادات، 26- باب كيف يستحلف حديث رقم (2679) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1267) ، 27- كتاب الأيمان، 1- باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى حديث رقم (3/ 1646) . (3) رواه أبو داود في السنن (3/ 37) ، كتاب الوصايا، باب ما جاء متى ينقطع اليتم حديث رقم (2873) .

تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ يوجب إعطاءهم أموالهم قبل البلوغ، فكان ذلك مشكلا، وللعلماء فيه محملان: الأول: أن يجعل إيتاء الأموال مجازا عن تركها سالمة من غير أن يتعرّض لها بسوء، فالإيتاء مستعمل في لازم معناه، وتبقى كلمة الْيَتامى على حقيقتها، كما هو المتبادر منها شرعا وعرفا. والمحمل الثاني: أن يكون الإيتاء مستعملا في حقيقته بمعنى الإعطاء بالفعل، وتكون كلمة الْيَتامى مجازا باعتبار ما كان، وأوثر التعبير عن الكبار باليتامى لقرب العهد بالصّغر، وللإشارة إلى وجوب المسارعة والمبادرة بدفع أموالهم إليهم، حتى كأنّ اسم اليتم باق غير زائل، وهذا المعنى يسمى في الأصول بإشارة النص. ولكل من المحملين ما يؤيده: فحجة الأول: قوله تعالى بعد آيات وَابْتَلُوا الْيَتامى إلخ فإنه كالدليل على الآية الأولى في الحث على حفظ أموال اليتامى، لتدفع إليهم عند بلوغهم ورشدهم، وأنّ الآية الثانية في الحث على الدفع الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد، ولو كان الإيتاء في الآية الأولى باقيا على حقيقته لكان مؤدى الآيتين كالشيء الواحد. وحجة المحمل الثاني: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه، فخاصمه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. فنزلت وَآتُوا الْيَتامى إلخ فإن ذلك يدلّ على أن المراد بالإيتاء الإعطاء بالفعل، ولا سيما أنه قد روى الثعلبي «1» والواحدي عن مقاتل والكلبي «2» أن العمّ لما سمعها قال: أطعنا الله ورسوله، نعوذ بالله من الحوب الكبير «3» . وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ تبدّل الشيء بالشيء، واستبدله، إذا أخذ الأوّل بدل الثاني، بعد أن كان حاصلا له، أو على شرف الحصول، ويتعدّيان أبدا إلى الزائل بالباء، وإلى بدله بأنفسهما كما هنا، ومنه قوله تعالى: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ [البقرة: 108] وقوله: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة: 61] . وأما التبديل أو الإبدال فهو التغيير مطلقا، وقد يتعدّى إلى مفعول واحد، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ [البقرة: 181] وإلى مفعولين بنفسه فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان: 70]

_ (1) أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أبو إسحاق المفسر توفي (427) من أهل نيسابور له اشتغال بالتاريخ، انظر الأعلام للزركلي (1/ 212) . (2) محمد بن السائب بن بشر الكلبي توفي (146) نسابة، عالم بالتفسير، من أهل الكوفة، انظر الأعلام للزركلي (6/ 133) . (3) معالم التنزيل للبغوي المعروف بتفسير البغوي (1/ 396) .

فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ [الكهف: 81] وإلى أحد المفعولين بنفسه والثاني بالباء سواء في ذلك الزائل وبدله، وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ [سبأ: 16] . وقال طفيل الغنوي لما أسلم: وبدل طالعي نحسي بسعدي والمراد بالخبيث والطيب: الحرام والحلال، أي لا تتركوا مالكم الحلال، وتأكلوا الحرام من أموالهم، أو لا تتركوا العمل الحلال، وهو حفظ أموالهم، وتركبوا الحرام، وهو أكل أموالهم، والعمل على اختزالها، وأيا ما كان الأمر فالتعبير عن الحرام والحلال بالخبيث والطيب للتنفير من أكل أموال اليتامى، والترغيب في حفظها وإنمائها. وقد قال بعض المفسرين: المراد بالخبيث والطيب الرديء والجيّد، وإلى ذلك ذهب النخعي، والزهري، وابن المسيب، والسدي: فقد أخرج ابن جرير «1» عنه أنه قال: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها الشاة المهزولة ويقول: شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد، ويضع مكانه الزائف، ويقول: درهم بدرهم. وتخصيص هذه المعاملة بالنهي لخروجها مخرج العادة، لا لإباحة ما عداها، فلا مفهوم لعدم توفّر شرطه عند القائل به. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ والمراد من الأكل مطلق الانتفاع، وعبّر عنه بالأكل لأنه أغلب أحواله. والمعنى: ولا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم، أي لا تسوّوا بينهما، وتنفقوهما معا، وهذا حلال وذاك حرام، وورد النهي على هذا الأسلوب يدل على تقبيح فعلهم، والتشنيع عليهم، حيث كانوا يأكلون أموال اليتامى مع الغنى عنها. وإذا لا يلزم القائل بمفهوم المخالفة جواز أكل أموالهم وحدها، وظاهر النهي عدم جواز أكل شيء من أموال اليتامى، وقد خص من ذلك مقدار أجر المثل إذا كان الوصيّ فقيرا، لقوله تعالى: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء: 6] وسيأتي الكلام فيه. والضمير في قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً للأكل المفهوم من قوله جل شأنه: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ، وقيل: للتبدل، وقيل: لهما، ويكون حينئذ منزّلا منزلة اسم الإشارة، والحوب: الإثم، وفي تنوينه ووصفه بأنه كبير تهويل لأمره المنهيّ عنه، والتنصيص على أنه من كبائر الذنوب العظيمة.

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (4/ 153) .

واحتجّ الجصاص «1» بقوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ على وجوب دفع المال إلى اليتيم إذا بلغ خمسا وعشرين سنة، قال: لم يشترط في هذه الآية إيناس الرشد في دفع المال إليهم، وظاهره يقتضي وجوب دفعه إليهم بعد البلوغ، سواء آنسنا منهم الرشد، أو لم نأنس، إلا أنه قد شرطه في قوله تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء: 6] فكان ذلك مستعملا عند أبي حنيفة ما بين بلوغ الحلم وبين خمس وعشرين سنة، فإذا بلغها، ولم يأنس منه رشد، وجب دفع المال إليه، لقوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ فيستعمله بعد خمس وعشرين سنة على مقتضاه وظاهره، وفيما قبل ذلك لا يدفعه إلا مع إيناس الرشد، لاتّفاق أهل العلم على أنّ إيناس الرشد قبل بلوغ هذه السن شرط وجوب دفع المال إليه، يعني ولا إجماع على هذا الشرط بعد بلوغ هذه السن، ثم قال: وهذا وجه سائغ من قبل أنّ فيه استعمال كلّ واحدة من الآيتين على فائدتها، ومقتضى ظاهرها، ولو اعتبرنا إيناس الرشد على سائر الأحوال لكان فيه إسقاط حكم الآية الأخرى رأسا، ومعلوم أنّه متى أمكننا استعمال الآيتين على فائدتهما لم يجز الاقتصار بهما على إحداهما وإسقاط فائدة الأخرى. وأنت تعلم أنّ هذا الاستدلال متوقف على أنّ المراد بالإيتاء الإعطاء والدفع بالفعل، وأنّ المراد باليتامى اليتامى باعتبار ما كان، وهو أحد احتمالين في الآية على ما سبق، ونحن نقول: لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية الاحتمال الثاني، وهو أنّ الإيتاء مستعمل في الحفظ والصيانة، واليتامى باق على حقيقته، وحينئذ يكون في هذا التأويل إعمال كلّ من الآيتين على فائدتها، ولو سلمنا قصر الآية على الاحتمال الأول، فالتعارض بينها وبين قوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى إلخ وقوله جل شأنه: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ تعارض الخاصّ مع العام، لأنّ الآية الأولى توجب دفع المال إلى اليتامى كلهم، والآيتان بعدها تحرّمان دفع المال إليهم إذا كانوا سفهاء، ولا شكّ أنّ الخاص مقدّم على العامّ، وسيأتي الكلام في وجه اختيار هذه السن عند قوله تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء: 6] . قال الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا (3) المراد من الخوف العلم، عبّر عنه بذلك إيذانا بكون المعلوم مخوفا محذورا، والإقساط: الإنصاف والعدل، أقسط أزال القسوط: وهو الظلم والحيف، ويقال: أقسط: أي صار ذا قسط، والقسط العدل.

_ (1) أحكام القرآن للإمام أبي بكر الجصاص (2/ 49) .

كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء: 135] ما طاب: ما مالت إليه نفوسكم واستطابته. وفي قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ تأويلات منها: ما رواه البخاريّ ومسلم والنسائي والبيهقي في «سننه» وغيرهم عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله عنها، عن هذه الآية فقالت: يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليّها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصّداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهنّ «1» . وفي بعض الروايات «2» هذه الزيادة: قالت عائشة رضي الله عنها: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النساء: 127] قالت: وقوله تعالى: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ المراد منه هذه الآية: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ. والمعنى على هذه الرواية: وإن علمتم ألا تعدلوا في نكاح اليتامى اللاتي تلونهنّ، فانكحوا ما مالت إليه نفوسكم من النساء غيرهنّ. والمقصود في الحقيقة النهي عن نكاح اليتامى عند خوف عدم العدل، إلا أنه أوثر التعبير عنه بالأمر بنكاح الأجنبيات كراهة النهي الصريح عن نكاح اليتيمات، ولما فيه من مزيد اللطف في صرف المخاطبين عن نكاح اليتامى حال العلم بعدم العدل، فكأنه قيل: وإن خفتم ألا تقسطوا في نكاح اليتامى فلا تنكحوهن، ولكم في غيرهن من النساء متسع، فانكحوا ما طاب لكم. ومنها أنه لما نزلت آية وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ تحرّج الأولياء من ولايتهم، مع أنّهم كانوا لا يتحرّجون من ترك العدل في حقوق النساء، حيث إن تحت الرجل عشر منهن لا يعدل بينهن فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم، فخافوا أيضا ترك العدل بين النساء، وقلّلوا عدد المنكوحات منهن، لأنّ من تحرّج من ذنب وهو مرتكب مثله فهو غير متحرج.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (5/ 209) ، 65- كتاب تفسير القرآن، 1- باب (إن خفتم) حديث رقم (4574) ، ومسلم في الصحيح (4/ 2313) ، 54- كتاب التفسير حديث رقم (6/ 3018) . (2) انظر تخريج الحديث السابق نفسه.

وقيل: كانوا لا يتحرّجون من الزنى، وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى، فقيل: إن خفتم الحوب في حق اليتامى فخافوا الزنى فانكحوا ما طاب إلخ. والآية على تأويل عائشة تشهد لمن قال: إنّ لغير الأب والجد أن يزوّج الصغيرة أو يتزوجها، لأنها- على هذا التأويل- نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها، فيرغب في مالها وجمالها، ولا يقسط لها في الصداق. وأقرب وليّ تكون اليتيمة في حجره ويجوز له تزوجها هو ابن العم، فقد تضمّنت الآية جواز أن يتزوّج ابن العم اليتيمة التي في حجره، وإذا جاز له أن يتزوجها، فإمّا أن يلي هو النكاح بنفسه، وإمّا أن يزوجه إياها أخوها مثلا، وأيا ما كان الأمر فلغير الأب والجد أن يزوّج الصغيرة. ومن قال من الأئمة: لا يزوّج الصغيرة إلا الأب أو الجد، يحمل الآية على أحد التأويلين الآخرين، أو يحمل اليتامى على الكبار منهنّ، ويكون التعبير عنهنّ باليتامى باعتبار ما كان، لقرب عهدهن باليتم. والأمر في قوله تعالى: فَانْكِحُوا للإباحة، مثل قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة: 60] وقيل: للوجوب، أي وجوب الاقتصار على العدد المأخوذ من قوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لا وجوب أصل النكاح، وتمسك الظاهرية بهذه الآية في وجوب أصل النكاح، وهم محجوجون بقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا إلى قوله تعالى: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء: 25] فحكم تعالى بأنّ ترك النكاح في هذه الصورة خير من فعله، فدلّ ذلك على أنه ليس بمندوب فضلا عن أنه واجب. وقوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ حال من فاعل طابَ أو من مرجعه، أو بدل منه، والكلمات الثلاث من ألفاظ العدد، وتدلّ واحدة منها على المكرّر من نوعها، ف مَثْنى تدل على اثنين اثنين، وثُلاثَ تدل على ثلاثة ثلاثة، ورُباعَ تدل على أربعة أربعة. والمراد منها هنا الإذن لكل من يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور متفقين فيه ومختلفين. ولو أفردت كان المعنى تجويز الجمع بين هذه الأعداد دون التوزيع، ولو ذكرت (بأو) لذهب تجويز الاختلاف في العدد، وفي هذه الآية دلالة على جواز تعدد الزوجات إلى أربع، وعلى أنه لا يجوز التزوّج بأكثر من أربعة مجتمعات، لأنّ هذا العدد قد ذكر في مقام التوسعة على المخاطبين كما علمت، فلو كان وراء هذا العدد مباح لا قتضى المقام ذكره. وقد أجمع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع، ولا يقدح في هذا الإجماع ما ذهب إليه بعض المبتدعة من جواز التزوّج بأي عدد، فإنّ الإجماع قد

وقع، وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور هؤلاء الشّذاذ المخالفين. وتمسّك الإمام مالك بظاهر هذه الآية في مشروعية نكاح الأربع للأحرار والعبيد، فالعبيد داخلون في الخطاب بقوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ إلخ. فيجوز لهم أن ينكحوا أربعا كالأحرار، ولا يتوقف نكاحهم على الإذن، لأنهم يملكون الطلاق، فيملكون النكاح. وذهب الحنفية والشافعية إلى أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين، لما روى الليث عن الحكم قال: أجمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين، قالوا: والخطاب في قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ لا يتناول العبيد، لأنه إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها، والعبد ليس كذلك، لأنه لا يجوز نكاحه إلا بإذن مولاه، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أيّما عبد تزوّج بغير إذن مولاه فهو عاهر» «1» ، ولأن في تنفيذ نكاحه تعييبا له، فلا يملكه دون إذن المولى. وأيضا قوله تعالى بعد: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لا يمكن أن يدخل فيه العبيد، لعدم الملك، فحيث لم يدخلوا في هذا الخطاب لم يدخلوا في الخطاب الأول، لأن هذه الخطابات وردت متتالية على نسق واحد، فبعيد أن يدخل في الخطاب السابق ما لا يدخل في اللاحق. وكذلك لا يمكن دخولهم في قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء: 4] والعبد لا يأكل ما طابت عنه نفس امرأته من المهر، بل يكون لسيده فيكون الآكل السيّد لا العبد. فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا المراد بالعدل هنا العدل بين الزوجات المتعددات، كما صرّح بذلك في قوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ [النساء: 129] كأن الله تعالى لما وسّع عليهم بقوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أنبأهم أنه قد يلزم من الاتساع خوف الميل، فالواجب حينئذ أن يحترزوا بالتقليل، فيقتصروا على الواحدة، والمعنى: فإن خفتم ألا تعدلوا بين النساء المتعددات في عصمتكم، كما خفتموه في حق اليتامى، فاختاروا أو فالزموا واحدة، أو أي عدد شئتم من السراري من غير حصر، لقلّة تبعتهنّ، وخفّة مؤونتهنّ، وعدم وجوب القسم فيهنّ. وعلى هذا التأويل: يكون المراد من اختيار الإماء اختيارهن بطريق التسرّي، لا

_ (1) رواه أبو داود في السنن (2/ 190) ، كتاب النكاح حديث رقم (2078) ، والترمذي في الجامع الصحيح (3/ 419) ، كتاب النكاح حديث رقم (1111) .

بطريق النكاح، ويشهد له أن الظاهر اتحاد المخاطبين في المعطوف والمعطوف عليه في قوله تعالى: فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وعليه يكون الذي خيّر بين الحرة الواحدة والعدد من الإماء هو مالك الإماء لا غير، ولو كان التخيير واقعا بين أن يتزوج حرّة واحدة، أو يتزوج من شاء من الإماء اللاتي يملكهنّ لاقتضى ذلك ورود النكاح على ملك اليمين. وقد قالوا: لا يجوز أن يتزوّج المولى أمته، ولا المولاة عبدها، لأنّ للزوجية لوازم تنافي لوازم ملك اليمين، ألا ترى أنّ من لوازم الزوجية حقّ الإخدام على الزوج لزوجته، ومن لوازم الملك حق الاستخدام عليها لسيدها ولمن شاء، ومعلوم أن الإخدام والاستخدام لا يجتمعان- وأنه متى تنافت اللوازم تنافت الملزومات، فلا يجتمع ملك اليمين والزوجية، والآية هنا جارية في الخطاب على خلاف ما جرت عليه الآية الآتية، وهي قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: 25] فإن المأمورين بالنكاح هنا غير المخاطبين بملك اليمين. وذلك ظاهر بشهادة قوله: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ وقوله بعد: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ [النساء: 25] وسيأتي عما قريب إيضاح ذلك إن شاء الله. وقد حاول الجصاص «1» الاستدلال بقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ على جواز التزوّج بالأمة مع وجود الطول إلى الحرة، وسلك بالآية طريقا لم يرتضه جمهور المفسرين. وذلك أنه يرى أنّ قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ معطوف على كلمة النِّساءِ في قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ وبذلك يكون التخيير واقعا بين أربع حرائر وأربع إماء: بعقد النكاح، فيوجب ذلك تخييره بين تزوج الحرة والأمة، وهذا بعيد كل البعد كما ترى. ويرى أيضا عدم اتحاد المخاطبين في قوله تعالى: فَانْكِحُوا وقوله تعالى: فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قال: لما أضاف ملك اليمين إلى الجماعة كان المراد نكاح ملك يمين الغير، كقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا إلخ، وقد علمت ما فيه آنفا. ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا الإشارة إلى اختيار الواحدة والتسرّي. أَدْنى معناه أقرب. والعول في الأصل الميل المحسوس، يقال: عال الميزان عولا إذا مال، ثم نقل إلى الميل المعنوي، وهو الجور، يقال عال الحاكم إذا جار، والمراد هنا الميل المحظور المقابل للعدل، المعنى أن ما ذكر من اختيار الواحدة

_ (1) أحكام القرآن للإمام أبي بكر الجصاص (2/ 157) .

والتسرّي أقرب بالنسبة إلى ما عداهما من ألا يميلوا ميلا محظورا، فإنّ من اختار واحدة فقد انتفى عنه الميل والجور رأسا، ومن تسرّى فقد انتفى عنه خطر الجور والميل، أما من اختار عددا من الحرائر فالميل المحظور متوقّع منه لا محالة. وقد حكي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه فسر أَلَّا تَعُولُوا بألا تكثر عيالكم، وخطّأه في ذلك الجصاص تبعا للمبرّد «1» ، وزعما أنه لا يقال: عال بمعنى كثرت عياله، وإنما يقال: أعال يعيل، ولكنّ صاحب «الكشاف» «2» ، قال: نقل الكسائي عن فصحاء العرب: عال يعول إذا كثرت عياله، وممن نقله الأصمعي «3» والأزهري «4» ، وهذا التفسير نقله ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم، وهو من جلة التابعين، وقراءة طاووس ألا تعيلوا مؤيدة له، فلا وجه لتشنيع من شنّع على الإمام جاهلا باللغات والآثار اهـ. قال الله تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) المراد بالإيتاء: ما يعمّ المناولة والالتزام. و (الصّدقات) : جمع صدقة بفتح الصاد وضم الدال، وهي كالصداق بمعنى المهر. والنّحلة: العطية من غير عوض، ومن ذلك النّحلة بمعنى الديانة، لأنها عطية من الله تعالى، وكذلك النحل لما يعطي من العسل، والناحل المهزول، كأنه أعطى لحمه حالا بعد حال بلا عوض، والمنحول من الشّعر المنسوب لغير قائله، ومن فسّر النّحلة هنا بالفريضة نظر إلى أنّ هذه العطية مفروضة من الله محتومة، كما قال تعالى بعد آيات المواريث فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [النساء: 11] . ذهب ابن عباس إلى أن الخطاب في قوله تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ للأزواج، وكان الرجل يتزوّج بلا مهر، يقول: أرثك وترثينني، فتقول: نعم، فأمروا أن يسرعوا إلى إيتاء المهور، وقيل: الخطاب للأولياء: أخرج ابن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: كان الرجل إذا زوج أيّما، أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله عن ذلك ونزلت: وَآتُوا النِّساءَ الآية «5» .

_ (1) محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي، إمام العربية والأدب في بغداد توفي سنة (286) انظر الأعلام للزركلي (7/ 144) . (2) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل للإمام الزمخشري (1/ 469) . [.....] (3) عبد الملك بن قريب بن علي توفي سنة (216 هـ) في البصرة، أحد أئمة اللغة والشعر، انظر الأعلام للزركلي (4/ 162) . (4) محمد بن أحمد بن الأزهر الهروي أحد أئمة اللغة والأدب توفي (370) في خراسان، انظر الأعلام للزركلي (5/ 311) . (5) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (2/ 119) .

والضمير المجرور بمن في قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً عائد على الصّدقات، وذكر لإجرائه مجرى الإشارة، وكثيرا ما يشار بالمفرد إلى المتعدد، كأنه قيل: طبن لكم عن شيء من ذلك المذكور، وهو الصدقات، كما قال رؤبة: فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنّه في الجلد توليع البهق أراد: كأنّ ذلك، وليس المراد من قوله تعالى: فَكُلُوهُ خصوص الأكل، إنما المراد حلّ التصرف فيه، وخصّ الأكل بالذكر، لأنه معظم وجوه التصرفات المالية، وتقدّم نظيره في قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء: 2] والهنيء والمريء صفتان من هنؤ الطعام يهنؤ هناءة، فهو هنيء، ومرؤ يمرؤ مراء، فهو مريء. قيل: معناهما واحد، وهو خفة الطعام على المعدة، وانحداره عنها بلا ضرر. وقيل: الهنيء الذي يلذه الآكل، والمريء ما تحمد عاقبته، وقيل: ما ينساغ في مجراه، وهو المريء كأمير، وهو رأس المعدة اللاصق بالحلقوم، سمّي بذلك لمرور الطعام فيه أي انسياغه. دلت هذه الآية على أمور منها، أن الفروج لا تستباح إلا بصداق ملزم، سواء سمّي ذلك في العقد أو لم يسمّ. وأن الصداق ليس في مقابلة الانتفاع بالبضع، لأنّ الله تعالى جعل منافع النكاح: من قضاء الشهوة، والتوالد، مشتركة بين الزوجين، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر، فكان ذلك عطية من الله ابتداء. وأنه يجوز للزوجة أن تعطي زوجها مهرها، أو جزءا منه، سواء أكان مقبوضا معينا، أم كان في الذمة، فشمل ذلك الهبة والإبراء، وأنه ينبغي للأزواج الاحتياط فيما أعطت نساؤهم، حيث بني الشرط على طيب النفس، فقال: فَإِنْ طِبْنَ ولم يقل: فإن وهبن إعلاما بأنّ المراعى في ذلك هو تجافيها عن المعطى طيّبة به نفسها، من غير أن يكون السبب فيه شراسة خلق الزوج، أو سوء معاشرته. وأنه يحلّ للزوج أخذ ما وهب زوجته بالشرط السابق من غير أن يكون عليه تبعة في الدنيا والآخرة. واحتج الجصاص بقوله تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً على إيجاب المهر كاملا للمخلو بها خلوة صحيحة، ولو طلّقت قبل المساس، وأنت تعلم أنّ هذه الآية عامة في كل النساء بسواء المخلوّ بها وغيرها، إلّا أنّ قوله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ [البقرة: 237] يدل على أنه لا يجب للمخلوّ بها إلا نصف المهر، وهذه الآية خاصّة، ولا شك أن الخاصّ مقدم على العام، فالخلوة الصحيحة لا تقرّر المهر كلّه.

قال الله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (5) أصل السفه: الخفة والحركة. يقال تسفّهت الريح الشجر إذا أمالته، والمراد به هنا خفّة الأحلام، واضطراب الآراء، ومن معاني القيام الانتصاب على القدمين، والاعتدال، وما يعاش به، وهذا الأخير هو المناسب هنا. واختلف المفسّرون في تعيين المخاطبين بقوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ كما اختلفوا في المراد من السفهاء على أقوال أشهرها: أن المخاطبين هم أولياء اليتامى، والسفهاء هم اليتامى مطلقا، أو المبذرون بالفعل، والأموال أموالهم، لا أموال الأولياء، وعليه يكون ذكر هذه الآية الكريمة رجوعا لبيان شيء من الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى، وتفصيلا لما أجمل فيما سبق، ويكون ذكر الأحكام المتعلقة بنكاح الأجنبيات ومهورهنّ وهبتهنّ استطرادا، وإنما أضيفت الأموال إلى ضمير الأولياء المخاطبين مع أنها أموال اليتامى للمبالغة في حملهم على المحافظة عليها، بتنزيل أموال اليتامى منزلة أموال الأولياء، لما بين الولي واليتيم من الاتحاد في الجنس والنسب، ونظيره قوله تعالى: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النور: 61] وقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] فإنّ المراد لا يقتل بعضكم بعضا، إلّا أنّه عبّر عن نوعهم بأنفسهم مبالغة في الزجر عن القتل، حتى كأنّ قتلهم قتل أنفسهم، وعلى هذا القياس قوله تعالى: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً إذ عبّر عن جعل الأموال مناطا لمعاش اليتامى بجعلها مناطا لمعاش الأولياء، وإلى تفسير الآية بما ذكرنا ذهب عكرمة وابن جبير وكثير من متأخري المفسرين. وروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم أنّ الخطاب لكلّ عاقل من الناس جميعا، وأنّ المراد من السفهاء النساء والصبيان، والمقصود النهي عن إيتاء المال لمن لا رشد له من هؤلاء، وعليه تكون إضافة الأموال إلى ضمير المخاطبين على حقيقتها. وقيل: المراد من السفهاء النساء خاصة، سواء أكنّ أزواجا أم أمهات أم بنات. وقيل: إنّ السفهاء عامّ في كلّ من ليس له عقل يفي بحفظ المال وحسن التصرف فيه، ويدخل فيه الصبيّ والمجنون والمحجور عليه للتبذير. وعلى أي تأويل ترى في قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً دلالة على النهي عن تضييع المال، ووجوب حفظه وتدبيره، وحسن القيام عليه، حيث قد جعله تعالى سببا في إصلاح المعاش وانتظام الأمور، وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن.

وقال بعضهم: لأن أترك مالا يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس. وقال قيس بن سعد: اللهم ارزقني حمدا ومجدا فإنّه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال. وقيل لأبي الزناد: لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: هي إن أدنتني منها فقد صانتني عنها، وفي منثور الحكم: من استغنى فقد كرم على أهله، وكانوا يقولون: اتّجروا واكتسبوا، فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم فيه كان أول ما يأكل دينه. وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ أي اجعلوا أموالكم مكانا لرزقهم وكسوتهم بأن تتّجروا فيها حتى تكون نفقتهم من الربح لا من صلب المال، لئلا يأكله الإنفاق، وهذا ما يقتضيه جعل الأموال نفسها ظرفا للرزق والكسوة، ولو قيل (منها) لكان الإنفاق من نفس المال. وفي الآية دلالة على وجوب الحجر على المبذّرين من وجهين: أحدهما: منعهم من أموالهم: والثاني: إجازة تصرفنا عليهم في الإنفاق عليهم من أموالهم، وشراء أقواتهم وكسوتهم. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً كل ما سكنت إليه النفس لحسنه شرعا أو عقلا من قول أو عمل فهو معروف، وكل ما أنكرته النفس لقبحه شرعا أو عقلا فهو منكر، فالمراد بالقول المعروف هنا الكلام الذي تطيب به نفوسهم، كأن يقول الولي لليتيم: مالك عندي، وأنا أمين عليه، فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك. وعن مجاهد وابن جريج أنهما فسرا القول المعروف بعدة جميلة في البر والصلة، وقال القفال: إن كان صبيا فالولي يعرفه أنّ المال ماله. وهو خازن له، وأنه إذا كبر ردّ إليه ماله، وإن كان سفيها وعظه ونصحه، وحثّه على الطاعة، ونهاه عن التبذير والإسراف، وعرّفه أنّ عاقبة الإتلاف فقر واحتياج. قال الله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) الابتلاء: الاختبار. المراد ببلوغ النكاح هنا وبلوغ الحلم المذكور في قوله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ [النور: 59] الوصول إلى حد البلوغ، وهو حد التكليف، والتزام الأحكام، وذلك إما أن يكون بالاحتلام أو الحيض أو بالسن كما هو معروف في كتب الفقه.

وأصل الإيناس النظر إلى ما يؤنس به من بعد مع وضع اليد على العين، وقيل: أصله الإبصار مطلقا، وقيل: الإحساس، وعلى كل فالمراد به هنا التبيّن: أي علم الرشد بيّنا، والرشد الاهتداء إلى وجوه الخير، والمراد به هنا الاهتداء إلى حفظ الأموال فقط، أو مع صلاح الدين، وإذا متمحضة للظرفية أو شرطية وجوابها الجملة الشرطية بعدها. لمّا أمر الله بإيتاء أموالهم على الإطلاق بقوله: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ شرع في تعيين وقت تسليمهم أموالهم، وبيان شرط ذلك الدفع، فأمر الأولياء باختبار اليتامى في عقولهم وأحوالهم حتّى إذا علموا منهم بعد البلوغ أنّ لهم فهما وعقلا وقدرة في معرفة المصالح والمفاسد دفعوا إليهم أموالهم. واتفق الإمامان أبو حنيفة والشافعي على أنّ هذا الاختبار يكون قبل البلوغ وتشهد لهما الغاية، وقال الإمام مالك: إنه بعد البلوغ. وفرّع أبو حنيفة على ذلك أنّ تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة، لأنّ ذلك الاختبار إنما يحصل إذا أذن له الولي في البيع والشراء مثلا، وذلك يقتضي صحة التصرف، وقال الشافعي: الاختبار لا يقتضي الإذن في التصرف، ولا يتوقف عليه، بل يكون الاختبار دون التصرف، على حسب ما يليق بحال الصبي، فابن التاجر مثلا يختبر في البيع والشراء إلى حيث يتوقف الأمر على العقد، وحينئذ يعقد الولي إن أراد، وعلى هذا القياس. وأنت خبير بأنّه لو جاز إذن الصبي في التصرف بالفعل لجاز دفع المال إليه وهو صبي، لأنّ المعنى الذي من أجله منع عنه ماله هو بعينه يقتضي عدم صحة تصرفه. وأيضا تصرف الصبي في ماله يتوقف على دفعه إليه، ودفعه إليه موقوف على شرطين: بلوغه، ثم رشده. وظاهر قوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ أنه لا تدفع أموالهم إليهم، ولو بلغوا، ما لم يؤنس منهم الرشد، وهو مذهب الشافعي، وقول الصاحبين «1» ، وبه قال مجاهد، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عنه أنه قال: لا يدفع إلى اليتيم ماله وإن شمط، ما لم يؤنس منه رشد، ونسب هذا القول للشعبي. وقال الإمام أبو حنيفة: إذا بلغ خمسا وعشرين سنة دفع إليه ماله، وإن لم يؤنس منه

_ (1) وهما: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي، البغدادي، وهو أول من نشر مذهب أبي حنيفة، كان من حفاظ الحديث توفي سنة (182) انظر الأعلام للزركلي (8/ 193) ، ومحمد بن الحسن بن فرقد، أبو عبد الله ولد بواسط ونشأ بالكوفة، مات في الري سنة (189 هـ) انظر الأعلام للزركلي (6/ 80) .

رشد، وتقدم احتجاجه على ذلك عند الكلام على قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ. ونزيد على ما تقدّم أن الجصاص وصاحب «الكافي» قالا في الاحتجاج لمذهب الإمام: إنّ الشرط (رشد) نكرة، فإذا صار الشرط في حكم الوجود بوجه وجب جزاؤه، وأوّل أحوال البلوغ قد يقارنه السفه باعتبار أثر الصبا، وإذا امتدّ الزمان وظهرت الخبرة والتجربة لم يبق أثر الصبا، وحدث ضرب من الرشد لا محالة. وأنت تعلم أنّه إذا كان ضرب من الرشد كافيا كان الدفع حينئذ عن إيناس الرشد- وهو مذهب الشافعي والصاحبين- فلا يصحّ أن يقال: إنّ مذهب الإمام وجوب دفع المال إلى اليتيم بعد الخمس والعشرين سنة، سواء أونس منه رشد أم لا، بل يكون الخلاف بين الإمام وغيره في تعيين الرشد الذي اعتبر شرطا للدفع في الآية ماذا هو؟ وذلك أمر آخر وراء ما نقل عن الإمام في هذه المسألة: على أنه إن أريد بهذا الضرب من الرشد الرشد في مصلحة المال، فكونه لا بد أن يحصل في سن خمس وعشرين سنة في حيز المنع، وإن أريد ضرب من الرشد كيفما كان فهو يكاد يكون مصادمة للآية، لأنها كالصريحة في اشتراط الرشد في ضبط الأموال ورعايتها، ألا ترى أن الابتلاء المأمور به في أول الآية هو ابتلاؤهم فيما يتعلق بحفظ المال ورعايته، وقد قال الله تعالى بعد ذلك الأمر: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إلخ فيجب أن يكون المراد فإن آنستم منهم رشدا في رعاية مصالح المال، لا ضربا من الرشد كيفما كان، وإلا تفكك النّظم، وضاع انسجام الكلام. ومخالف الإمام يقوّي الاستدلال بالآية على مذهبه بالقياس الجلي، وذلك أن الصبيّ إنما منع منه ماله لفقدان العقل الهادي إلى حفظ المال وكيفية الانتفاع به، فإذا كان هذا المعنى قائما بالشيخ والشاب كانا في حكم الصبي، فوجب أن يمنع دفع المال إليهما ما لم يؤنس منهما الرشد. قال صاحب «روح المعاني» «1» من الحنفية: ولقوة كلام المخالف في هذه المسألة شنّع ابن حزم- ودأبه التشنيع على الأئمة- على أبي حنيفة رضي الله عنه، مع أنّ من تدبر ما ذهب إليه الإمام علم أن نظره في ذلك دقيق، لأن اليتيم إذا بلغ مبلغ الرجال، واعتبر إيمانه وكفره، وسلّم الله إليه نفسه يتصرف فيها حسب اختياره، كان منع ماله عنه أشبه شيء بالظلم، وهذا وإن اقتضى دفع المال إليه بعد البلوغ فورا، إلا أنّنا أخّرنا الدفع إلى هذه المدة للتأديب، ورجاء الرشد والكف عن السفه، وما فيه من تبذير المال وفساده. وسنّ البلوغ ثمانية عشر سنة زيد عليها سبع سنوات، لأنها مدة معتبرة شرعا في

_ (1) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للإمام الألوسي (4/ 307) .

تغيير الأحوال، إذ الطفل يميّز بعدها، ويؤمر بالصلاة كما في الحديث «1» ، وبانضمامها إلى سن البلوغ يكمل لبّه، ويبلغ أشدّه، ألا ترى أنه قد يصير جدا صحيحا في هذه السن، فإذا بلغ هذه السن، ولم يتأدب: انقطع عنه الرجاء غالبا. وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. الإسراف: مجاوزة الحدّ المباح إلى ما لم يبح. والبدار: المسارعة، والمفاعلة بمعنى أصل الفعل، أو على أنها بأن يبادر الولي أخذ مال اليتيم، واليتيم يبادر نزعه. كبر: يكبر كعلم يعلم، يستعمل في السن، وكبر يكبر كعظم يعظم في القدر والشرف. واستعف عن الشيء كف عنه، وتركه، وهو أبلغ من عف، كأنه طلب زيادة العفة. المعنى: أن الله ينهى الأولياء والأوصياء أن يأكلوا أموال اليتامى مسرفين ومبادرين كبرهم، ويرشدهم إلى أنّ من كان منهم ذا مال فليكفّ نفسه عن مال اليتيم، ولينتفع بما آتاه الله، ومن كان منهم فقيرا فليأكل من مال اليتيم بقدر حاجته الضرورية، من سد الجوعة، وستر العورة. وجملة: وَلا تَأْكُلُوها إلخ، معطوفة على جملة وَابْتَلُوا الْيَتامى ولا يصح عطفها على جواب الشرط قبلها، لفساد المعنى، لأنّ جواب الشرط وهو فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ يكون بعد البلوغ، والأكل إسرافا وبدارا أن يكبروا يكون قبل البلوغ، والنهي عن الأكل- الذي هو أساس الانتفاع، وتكثر الحاجة إليه- يدلّ على أن غيره من سائر الانتفاعات منهيّ عنه بطريق الأولى. وقد استدلّ الجصاص بقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا على أنه لا يجوز للولي إمساك مال اليتيم بعد ما يصير في حد الكبر، قال: ولولا ذلك لما كان لذكر الكبر هاهنا معنى، إذ كان الولي عليه هو المستحق لماله قبل الكبر وبعده، فهذا يدلّ على أنه إذا صار في حد الكبر استحق دفع المال إليه. وجعل أبو حنيفة حد الكبر في ذلك خمسا وعشرين سنة، لأنّ مثله يكون جدا، ومحال أن يكون جدا ولا يكون في حد الكبار. ويقول الشافعية: إنّ المراد من قوله: أَنْ يَكْبَرُوا أن يبلغوا راشدين، عملا بقوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وعبّر عن ذلك بالكبر لأنّ الغالب أنّ من بلغ حدّ الرجال كان رشيدا.

_ (1) رواه أبو داود في السنن (1/ 197) ، كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الفلاح حديث رقم (494) ، والترمذي في الجامع الصحيح (2/ 259) ، كتاب الصلاة، باب ما جاء متى يؤمر الصبي حديث رقم (407) .

وظاهر قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ يدل على الإذن للوصيّ الفقير في أن ينتفع من مال اليتيم بمقدار الحاجة، ويشهد لذلك قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً فإنّه مشعر بأنّ له أن يأكل بقدر الحاجة، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النساء: 10] ، إنه يدل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم، والأكل الذي لا يعد ظلما هو الأكل بالمعروف وما أخرجه أحمد وأبو داود والنّسائي وابن ماجه من حديث ابن عمرو أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ليس لي مال، وإني وليّ يتيم، أفآكل من ماله؟ فقال «كل من مال يتيمك غير مسرف، ولا متأثّل مالا، ومن غير أن تقي مالك بماله» «1» فإنّه يدلّ على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم، والأكل الذي لا يعدّ ظلما هو الأكل بالمعروف، وإلى هذا الظاهر ذهب عطاء وقتادة، وهو إحدى الروايات عن ابن عباس، فقد أخرج ابن المنذر والطبراني عنه أنه قال: يأكل الفقير إذا ولي مال اليتيم بقدر قيامه على ماله، ومنفعته له، ما لم يسرف أو يبذّر «2» . بقي النظر في هذا الذي يأخذه الولي من مال اليتيم، أيعدّ أجرة أم لا؟ حكى صاحب «روح المعاني» «3» أنّ مذهب الحنفية أنه ليس بأجرة، ومن ذهب إلى أنه أجرة لم يفرّق بين الغني والفقير كما هو القياس في كل عمل يقابل بأجر، لا فرق فيه بين العامل الغني والعامل الفقير، وحينئذ يكون الأمر في قوله تعالى: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ محمولا على الندب، كما هو اللائق بمحاسن العادات، ولا تزال في مجال الاجتهاد والنظر هذه الأجرة أهي مقدرة بكفاية الولي أم هي أجرة المثل؟ مقتضى القواعد الفقهية أنها تكون مقدرة بأجر المثل، سواء أكفت الولي أم لا. وذهب جماعة من العلماء إلى أنه ليس للوليّ أن ينتفع من مال اليتيم بشيء، وافترق هؤلاء في تأويل قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ إلى طائفتين: الأولى تقول: إن له أن يأخذ من مال اليتيم قرضا بقدر ما يحتاج إليه، ثم إذا أيسر قضاه، وهذا قول سعيد بن جبير، ومجاهد، وأبي العالية «4» ، وأكثر الروايات عن ابن عباس.

_ (1) أحمد في المسند (2/ 186) ، وأبو داود في السنن (3/ 36) ، كتاب الوصايا باب ما جاء في ما لولي اليتيم حديث رقم (2872) ، والنسائي في السنن (5- 6/ 567) ، كتاب الوصايا، باب ما للوصي من مال اليتيم حديث رقم (3678) وابن ماجه في السنن (2/ 907) ، كتاب الوصايا حديث رقم (2718) . (2) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (2/ 122) . (3) روح المعاني للإمام الألوسي (4/ 208) . (4) رفيع بن مهران الرياحي البصري، الإمام المقرئ، الحافظ المفسر توفي سنة (93 هـ) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (5/ 207) ترجمة (452) .

والطائفة الثانية: ذهبت إلى أن ذلك حق اليتيم، ينفق عليه من ماله بحسب حاله، وحكي ذلك عن يحيى بن سعيد، ويميل إليه كلام الجصاص، وهو كما ترى تأويل بعيد كل البعد، لا ينتظم مع قوله تعالى: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ. ومن هذه الطائفة من ادّعى نسخ هذه الآية بقوله تعالى بعدها: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً فقد أخرج أبو داود وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ نسختها إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إلخ. فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً من معاني الحسيب الكافي والمحاسب، وكلاهما محتمل هنا. يأمر الله تعالى الأولياء والأوصياء أن يشهدوا على اليتامى حين يدفعون إليهم أموالهم، بعد رعاية الشرطين السابقين: البلوغ، ثم الرشد، لأنّ ذلك الإشهاد أبعد عن التهمة، وأنفى للخصومة، وأدخل في الأمانة. واختلف العلماء في أنّ الوصي إذا ادّعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع إليه ماله هل يصدّق؟ وكذلك إذا قال: أنفقت عليه في صغره، هل هو مصدّق؟ فقال الإمامان مالك والشافعي: لا يصدق، وقال الإمام أبو حنيفة وأصحابه: يصدّق. واحتج مالك والشافعي بهذه الآية، فإنّ قوله تعالى: فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أمر، وظاهر الأمر الوجوب، وليس معنى الوجوب هنا أنه يأثم إذا لم يشهد، بل المراد أنّ الإشهاد لا بد منه في براءة ذمته ظاهرا، حتى إذا دفع المال ولم يشهد، ثم طالبه اليتيم، فالقول قول اليتيم بيمينه. وقال الحنفية: إنّ الأمر للندب، وصرفه عن الوجوب أن الوصي أمين، والأمين إذا ادّعى الردّ على من ائتمنه صدّق، وقالوا إن قوله تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً يشهد لهم في عدم لزوم البينة، فإنّ معناه أنه لا شاهد أفضل من الله تعالى فيما بينكم وبينهم، روي ذلك عن سعيد بن جبير. واختار جمهور المفسّرين أن المعنى وكفى بالله محاسبا لكم، فلا تخالفوا ما أمرتم به، ولا تتجاوزوا ما حدّ لكم. ولا يخفى موقع المحاسب هنا، وما فيه من الإشارة إلى أن الوصي سيحاسب على ما في يده من مال اليتيم، ثم يجزى على عمله الجزاء الأوفى.

قال الله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) . هذا شروع في بيان أحكام المواريث بعد بيان الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى التي آلت إليهم بالميراث. كان من عادتهم في الجاهلية ألا يورّثوا النساء ولا الصغار، يقولون: إنما يرث من يحارب ويحمي الحوزة ويجوز الغنيمة. وللرد عليهم نزلت هذه الآية، قال ابن جبير وغيره «1» . وروي أنّ أوس بن ثابت مات، وخلّف بنتين وابنا صغيرا وزوجة، فجاء ابنا عمه، فزويا ميراثه عن أولاده وزوجه، على سنتهم في الجاهلية، فقالت امرأته لهما: تزوّجا البنتين، وكانت بهما دمامة، فأبيا، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فشكت إليه، فقال: ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله، فنزلت: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الآية، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ابني العم أن لا يفرّقا من مال أوس شيئا، فإنّه قد أنزل عليّ فيه شيء، أخبرت أنّ للذكر والأنثى نصيبا، ثم نزل: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11] إلى قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ [النساء: 12] فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالميراث، فأعطى المرأة الثمن، وقسم ما بقي بين الأولاد، للذكر مثل حظ الأنثيين، ولم يعط ابني العم شيئا «2» . وفي بعض طرقه أن الميت خلّف زوجه وبنتين وابني عم، فأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الزوجة الثمن، والبنتين الثلثين، وابني العم الباقي. وللعلماء في تفسير هذه الآية أقوال: فمن الناس من أبقاها على ظاهرها، فجعل المراد من الرجال الذكور البالغين، ومن الوالدين الأب والأم بلا واسطة، ومن النساء الإناث البالغات. يكون المعنى حينئذ: للذكور البالغين نصيب مما ترك آباؤهم وأمهاتهم وأقاربهم، كإخوتهم وأخواتهم، وأعمامهم وعماتهم، وللإناث البالغات كذلك نصيب مما ترك آباؤهن إلخ. ويكون الله تعالى قد بيّن في هذه الآية أن الإرث غير مختصّ بالرجال كما هو عادتهم في الجاهلية، بل هو أمر مشترك بين الرجال والنساء، ولا مانع من الاقتصار في الآية على هذا القدر جريا على سنة الله في التشريع الإسلامي من التدرج في الأحكام، إذ كان من عادة القوم توريث الكبار من الرجال دون الصغار والنساء كما علمت، فأراد الله سبحانه أن ينقلهم عن تلك العادة قليلا على التدريج، لأنّ الانتقال من العادة شاقّ ثقيل على الطبع، فإذا كان دفعة عظم وقعه، وصعب على النفوس تلقيه بالقبول، وإذا كان على التدريج سهل أمره، وخفّ على

_ (1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (2/ 123) . (2) المرجع نفسه (2/ 122) .

النفوس تعاطيه، فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذا المجمل أولا ثم أردفه بالتفصيل. وفي اختيار هذا الأسلوب التفصيلي- مع أنه كان يكفي أن يقال: للرجال والنساء نصيب إلخ- اعتناء بشأن النساء، وإيذان بأصالتهن في استحقاق الإرث، ومبالغة في إبطال حكم الجاهلية، بإلغاء ما كانوا يعتبرونه من الأوصاف الخاصة بالرجال سببا مضموما إلى القرابة في استحقاق الميراث، فالله قد أهدر وصف الرجولة في ميراث الإنسان من والديه وأقاربه، وجعل سبب هذا التوارث القرابة فحسب، والرجال والنساء سواء في ذلك، فكما يكون للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، يكون للنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون. ومن العلماء من عمّم في الرجال والنساء، فجعل المراد من الرجال الذكور مطلقا، سواء أكانوا كبارا أم صغارا، والمراد من النساء الإناث كذلك، ويكون المراد التسوية بين الذكور والإناث في أنّ لكل منهما حقا فيما ترك الوالدان والأقربون، ومنهم من حمل الرجال على الصغار من الذكور، وحمل النساء على الصغار من الإناث كذلك، وعلل هذا الاقتصار بأن فيه اعتناء بشأن اليتامى، وردّا صريحا على طريقة الجاهلية في التوريث. وعلى كل حال فظاهر الآية يشهد للحنفية القائلين بتوريث ذوي الأرحام، لأنّ العمات والخالات وأولاد البنات من الأقربين، فوجب دخولهم تحت قوله سبحانه: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ إلخ فثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بهذه الآية، وأما المقدار فمستفاد من دلائل أخر كما هو الحال في غيرهم. وحاول الإمام الرازي «1» الردّ على الحنفية، فادعى أنّ المراد من الأقربين الوالدان والأولاد، وحينئذ لا يدخل فيهم ذوو الأرحام، وعليه يكون عطف الأقربين على الوالدين من عطف العام على الخاص، وهو تأويل ظاهر التكلف. وقوله تعالى: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بدل من (ما) الثانية، بإعادة العامل، ويقدّر مثل هذا في الجملة الأولى، والفائدة منه التنصيص على أن التوريث يكون في التركات الضئيلة، كما يكون في التركات العظيمة، وفيه أيضا دفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة، وبذلك تنقطع طماعية الكبار من الورثة في أن يختصوا بمثل السيف والخاتم والمصحف واللباس البدني. وكلمة نَصِيباً مَفْرُوضاً مصدر مؤكد بتأويله بمعنى العطاء، أو حال، وأصل الفرض الحز في الشيء، ويسمّى الحز في سية القوس فرضا، ثم توسّع فيه، فاستعمل بمعنى القطع والتقدير، وما أوجبه الله تعالى، وأولى المعاني هنا في كلمة مَفْرُوضاً أنها بمعنى مقدّرا.

_ (1) في كتابه: مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (9/ 195) .

قال الله تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (8) المراد بالقسمة: التركة بين الورثة، وأولوا القربى: من لا يرثون، لكونهم محجوبين، أو لكونهم من ذوي الأرحام. يأمر الله بإعطاء من حضر القسمة من هؤلاء ما يجبر خاطرهم، وتطيب به نفوسهم، وقد اختلف العلماء في هذه الآية، أهي محكمة أم منسوخة؟ فذهب ابن المسيّب والضحاك وابن عباس في رواية عطاء عنه إلى أنها منسوخة بآية المواريث يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إلخ. وذهب ابن عباس في رواية عكرمة عنه وجمهور المفسرين إلى أنها محكمة، ثم اختلفوا في ذلك الإعطاء، أهو واجب أم مندوب؟ فمن ذهب إلى الوجوب تمسّك بظاهر الأمر، وأوجب على الوارث الكبير وعلى ولي الصغير أن يرضخا لمن حضر القسمة شيئا من المال بقدر ما تطيب به نفسه. ومنهم من قال: على الوارث الكبير الدفع، وعلى ولي الصغير القول المعروف بأن يعتذر إليهم، ويعرّفهم أن أصحاب المال صغار لا يقدّرون ما عليهم من الحق، وإن يكبروا فسيعرفون حقهم. وذهب فقهاء الأمصار إلى أنّ هذا الإعطاء مندوب طولب به الكبار من الورثة، وحجتهم في ذلك أنه لو كان لهؤلاء حقّ معيّن لبينه الله تعالى، كما بيّن سائر الحقوق، وحيث لم يبيّن، علمنا أنه غير واجب، وأيضا لو كان واجبا لتوفّرت الدواعي على نقله، لشدة حرص الفقراء والمساكين، ولو كان ذلك لنقل إلينا على سبيل التواتر، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه ليس بواجب. والضمير المجرور في قوله تعالى: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ يرجع إلى ما ترك الوالدان والأقربون، أو إلى القسمة بمعنى المقسوم باعتبار معناها، لا باعتبار لفظها، كما في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ [يوسف: 76] . والقول المعروف مفسّر كما تقدم بالعدّة الجميلة، وبألا يتبع العطية بالمن والأذى بالقول، وبأن يعتذر لمن لا يعطيه شيئا. قال الله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (9) أخرج ابن جرير «1» عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الآية: يعني بذلك

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (4/ 183) . [.....]

الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف، يخاف عليهم العيلة والضيعة، ويخاف بعده ألا يحسن إليهم من يليهم. يقول: فإن ولي مثل ذريته ضعافا يتامى فليحسن إليهم، ولا يأكل أموالهم إسرافا وبدارا أن يكبروا، والآية على هذا أمر للأوصياء أن يخشوا ربهم، ويتقوه في اليتامى، الذين يلونهم، فيعاملونهم بمثل ما يحبون أن تعامل به ذريتهم الضعاف بعد وفاتهم، والمقصود حثّ الأولياء، وبعثهم على حفظ أموال اليتامى بتنبيههم على حال أنفسهم وذرياتهم من بعدهم ليتصوروها، ويعرفوا مكان العبرة فيها. ولا شكّ أن ذلك من أقوى البواعث والدواعي في هذا المقصود. والآية على هذا المعنى مرتبطة بما قبلها، لأنّ قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ إلخ في معنى الأمر للورثة، أي أعطوهم حقهم، وليحفظ الأوصياء ما أعطوه، ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس أيضا أنه قال في الآية: يعني الرجل يحضره الموت، فيقال: تصدّق من مالك، وأعتق، وأعط منه في سبيل الله، فنهوا أن يأمروا بذلك، يعني أنّ من حضر منكم مريضا عند الموت، فلا يأمره أن ينفق من ماله في العتق، أو في الصدقة أو في سبيل الله، ولكن يأمره أن يبيّن ماله وما عليه من مال، ويوصي من ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون، يوصي لهم بالخمس أو الربع. يقول: أليس أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف، أي صغار، لا يرضى أن يتركهم بغير مال، فيكونوا عيالا على الناس، فلا ينبغي لكم أن تأمروا بما لا ترضون به لأنفسكم ولأولادكم، ولكن قولوا الحق من ذلك، وعلى هذه الرواية تكون الآية أمرا لمن حضر المريض من العوّاد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم، أو يخشوا أولاد المريض، ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم، فلا يأمروه بما يضر ورثته. ولم تخرج الآية بهذا التأويل عن أنها واردة في حفظ مال اليتيم والتوصية به، وعلى هذا يكون أول الكلام للأوصياء، وما بعده للورثة، وهذه الآية للأجانب، أمروا ألا يتركوا المريض يضرهم، وألا يأمروه بما يضرهم، فالآية مرتبطة بما قبلها أتمّ الارتباط. وعلى كلا القولين ترى المقصود من الأمر ألا يؤذوا اليتامى، ولا يضيّعوا حقوقهم، حتّى لا يعاقبهم الله في ذريتهم من بعدهم، فيسلّط عليهم من يؤذيهم، ويضيّع حقوقهم، وفي ذلك تهديد لهم بأنهم إن فعلوه أضاع الله أولادهم، ورمز إلى أنهم إن راعوا الأمر حفظ الله ذريتهم من بعدهم. والقول السديد في قوله تعالى: وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً الصواب العدل الموافق للشرع بأن يقول الولي لليتيم ما يقول لولده من القول الجميل الهادي إلى محاسن الآداب، وسنّي الخصال، ويقول عائد المريض ما يذكّره التوبة والنطق الشهادتين وحسن الظن بالله، وما يصده عن الإسراف في الوصية وتضييع الورثة.

قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) يقال: صلي النار كرضي يصلاها، إذا قاسى حرّها، سواء بالقرب منها أو بالدخول فيها، والمراد هنا سيدخلون سعيرا. والسعير: فعيل، بمعنى مفعول، من سعّرت النار إذا أوقدتها وألهبتها. والآية مسوقة لتأكيد الأوامر والنواهي فيما سبق وتقريرها. وفي تقييد الأكل بحالة الظّلم دلالة على أن مال اليتيم قد يؤكل على وجه الاستحقاق، كالأجرة والقرض مثلا، فلا يكون ذلك ظلما، ولا الآكل ظالما. وذكر البطون مع أن الأكل لا يكون إلا فيها: إما لأنه قد شاع في استعمالهم أن يقولوا: أكل فلان في بطنه، يريدون ملء بطنه، فكأنه قيل: إنما يأكلون ملء بطونهم نارا، حتى يبشموا بها. وإما للتأكيد والمبالغة كما في قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: 167] والقول لا يكون إلا بالفم، وقوله: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] والقلوب لا تكون إلا في الصدور، وقوله: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] والطير لا يطير إلا بجناحين، فقد قالوا: إنّ الغرض من ذلك كله التأكيد والمبالغة، وفيه على كل حال تبشيع لأكل مال اليتيم في حالة الظلم، وتنفير منه. اختلف المفسرون في كلمة ناراً أهي باقية على معناها، أم مجاز بمعنى ما يفضي إلى النار؟ ذهب إلى الأول عبيد الله بن أبي جعفر، فقد روي عنه أنه قال: من أكل مال اليتيم، فإنه يؤخذ بمشفره يوم القيامة فيملأ فمه جمرا، ويقال له: كل ما أكلته في الدنيا، ثم يدخل السّعير الكبرى. وأخرج ابن جرير «1» وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: حدّثني النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ليلة أسري به، قال: «نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكّل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار، فيقذف في أفواههم حتّى يخرج من أسافلهم، ولهم خوار وصراخ، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما» . والجمهور من المفسرين على أنّ كلمة ناراً مجاز مرسل من ذكر المسبب وإرادة السبب، وحجتهم في ذلك قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً الإشارة فيه إلى أكل واحد، فكان حمله على التوسع أولى.

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (4/ 284) .

خاتمة

وظاهر الآية أنّ هذا الحكم عامّ لكل من يأكل مال اليتيم، سواء كان مؤمنا أم كافرا، لكنّ ابن جرير «1» أخرج عن زيد بن أسلم أنه قال: هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يوّرثون اليتامى، ويأكلون أموالهم، ولا يخفى أنّه إن أراد أنّ حكم الآية خاصّ بأهل الشرك فهو غير مسلم، وإن أراد أنها نزلت فيهم فلا بأس، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وفي بعض الأخبار أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس واحترزوا من مخالطة اليتامى حتى شقّ ذلك على اليتامى أنفسهم، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «2» [البقرة: 220] . وزعم بعض الجهال أن قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى إلخ منسوخ بقوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وهو قول باطل، لأنّ الآية التي معنا في النهي عن الظلم، وهذا لا يصير منسوخا بحال، بل المقصود أنّ مخالطة اليتامى، إن كانت على سبيل الظلم فهو من أعظم أبواب الإثم، كما في الآية التي معنا، وإن كانت على سبيل التربية والإحسان فهو من أعظم أبواب البرّ كما في قوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ. خاتمة علم الله أنّ اليتامى قد فقدوا بموت آبائهم من يعولهم، ويقوم بكفالتهم، وأنهم لصغرهم عاجزين عن القيام بمصالحهم، فكان من رحمته جلّ شأنه بهم، وكمال عنايته بأمرهم: أن أنزل فيهم تسع آيات تتلى متتابعات من أول سورة النساء إلى آخر الآية السابقة، قرّر فيها جميعا الأمر بحفظ مال اليتيم ورعايته، وأكّد فيها النهي عن أكل ماله، وتضييع حقه، كما أنه أنزل فيهم آيات متفرقات، كلها تدل على العناية بهم، وتحث على حفظ مالهم، وحسن القيام بشؤونهم: فمنها قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام: 152] وقوله تعالى: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ [النساء: 127] وقوله جلّ شأنه فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) [الضحى: 9] وقوله سبحانه: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة: 220] وكذلك ورد التنويه بشأن من أحسن في كفالتهم بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا وكافل اليتيم كهاتين، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى» «3» .

_ (1) المرجع نفسه (4/ 184) . (2) رواه أبو داود في السنن (3/ 36) ، كتاب الوصايا، باب المخالطة حديث رقم (2871) . (3) رواه البخاري في الصحيح (6/ 218) ، 68- كتاب الطلاق، 25- باب اللعان حديث رقم (5304) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 283) ، كتاب البر باب ما جاء في رحمة اليتيم حديث رقم (1918) .

آيات المواريث

فما أدلّ هذا على سعة رحمة الله بالضعفاء وعظيم فضله عليهم! آيات المواريث قال الله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) قد ذكرنا لك فيما تقدم بعض الروايات في أسباب نزول آيات المواريث، ونذكر لك رواية أخرى فنقول: أخرج ابن جرير «1» في سبب نزول آيات المواريث عن السدي يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أنه قال: كان أهل الجاهلية لا يورّثون الجواري ولا الصغار من الغلمان، لا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال، فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر، وترك امرأة يقال لها: أم كجّة، وترك خمس أخوات، فجاءت الورثة يأخذون ماله، فشكت أم كجّة ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ثم قال فى أم كجّة: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ. من ذلك يعلم الباحث أنّ الشريعة الإسلامية جاءت والعرب تظلم النساء، ولا تعطيهن من ميراث أزواجهن وآبائهن شيئا، بدعوى أنهنّ لا يقاتلن العدوّ، ولا يحزن الغنيمة، فقرّرت الشريعة بهذه الآية لهن حقا في الميراث، وكبر ذلك على العرب، فكانوا يودّون أن ينسخ ذلك الحكم، أو ينسى، لما أنه كان يخالف ما ألفوه، فقد روى ابن جرير «2» عن ابن عباس قال: إنه لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد، الذكر والأنثى والأبوين، كرهها الناس أو بعضهم، وقالوا: تعطى المرأة الربع والثمن، وتعطى الابنة النصف، ويعطى الغلام الصغير، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم، ولا يجوز الغنيمة، اسكتوا عن هذا الحديث لعلّ رسول الله ينساه، أو نقول له فيغيره، فقال بعضهم: يا رسول الله أنعطي الجارية نصف ما ترك أبوها، وليست تركب الفرس، ولا تقاتل القوم، ونعطي الصبيّ الميراث، وليس يغني شيئا؟ وكانوا

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (4/ 185) . (2) المرجع نفسه (4/ 185) .

ميراث الأولاد

يفعلون ذلك في الجاهلية لا يعطون الميراث إلا من قاتل، ويعطونه الأكبر فالأكبر. هذا شأن الإسلام مع المرأة أخذ بضبعيها، وأناف بها على اليفاع. ورّثها بعد أن لم تكن ترث، وجعل لها نصيبا مفروضا على كره من الرجال، ولكن نبتت نابتة في هذا الزمان يقولون: إن الإسلام بخس المرأة حقها في الميراث، وجعلها على النصف من حظ الرجل، ويريدون تسوية المرأة بالرجل في الميراث. ومن نظر وجد أنّ الشريعة عاملت المرأة بالرأفة، فهي حين أعطتها نصف حظ الرجل جعلت نفقتها ونفقة خدمها وأولادها على الرجل، وحين أعطت الرجل ضعف المرأة كلّفت الرجل بالنفقة على زوجته وأولادها، فنصيب الرجل يشركه فيه الكثير، ونصيبها لها خاصة، فأيّ برّ بالمرأة أعظم من هذا البر، وأيّ رفق بها أكثر من هذا الرفق، هذا إلى ما منحتها إياه من حق الميراث، وقد كانت محرومة هذا الحق. ميراث الأولاد يقول الله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أي يعهد إليكم في ميراث أولادكم، وهذا إجمال بيانه ما بعده لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ إلخ أي إذا مات الميت، وترك أولادا ذكورا وإناثا، فللذكر مثل حظ الأنثيين، فيكون حظّ الذّكر ضعف حظّ المرأة فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أي وإن كان المتروكات نساء فوق اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ يقول الله: فإن ترك النساء ليس معهن ذكور، فإن كن ثلاثا فأكثر فلهن الثلثان، وإن كانت واحدة، أي وإن كانت المتروكة واحدة فلها النصف. وقد ذكر الله حكم البنت إذا لم يكن معها أخ ذكر، وحكم البنات إذا انفردن أيضا، ولم يذكر الله حكم البنتين إذا انفردتا عن أخ ذكر، وقد اختلف العلماء في حكمهما، فألحقهما ابن عباس بالبنت الواحدة، وأعطاهما النصف، ووجهه أنّ الله تعالى قال: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ فجعل الثلثين للنساء إذا كن فوق اثنتين، فلا نعطيهما إذا كانتا اثنتين. وقال الجمهور: البنتان لاحقتان بالبنات، فلهما الثلثان كما لهن الثلثان، وهذا أولى لأمور: أولها: قياس البنتين على الأختين، وقد قال الله فيهما: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ، والبنات أقرب للميت من الأختين، فإذا كان للأختين الثلثان فأولى أن يكونا للبنتين. ثانيهما: أن البنت تأخذ مع أخيها الثلث، فأولى أن تأخذه مع أختها، ويكون لهما الثلثان.

ميراث الأبوين

ثالثها: أنه روي عن ابن مسعود في «الصحيح» «1» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قضى في بنت وبنت ابن وأخت: بالسدس لبنت الابن، والنصف للبنت تكملة الثلثين، فجعل لبنت الابن مع البنت الثلثين، فبالأحرى يكون للبنتين الثلثان. وقد يجوز أن يكون معنى قوله: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فإن كنّ نساء اثنتين فما فوق، كقوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الأنفال: 12] أي اضربوا الأعناق فما فوقها. وقد تحصّل أنّ الله ذكر للأولاد في الميراث ثلاث أحوال: 1- أن يترك الميت أولادا ذكورا وإناثا، فهم يرثون المال، للذكر ضعف الأنثى. 2- أن يترك الميت بنتين فما فوق، وليس معهما أخ ذكر، فلهما أو لهن الثلثان. 3- أن يترك الميت بنتا واحدة، وليس معها أخ ذكر، فلها النصف. وقد ذكرت السنّة حالة أخرى، وهي: أن يترك الميت بنتا، وبنت ابن، فللبنت النصف، ولبنت الابن السدس. وقال العلماء: إن أولاد الابن وأولادهم يقومون مقام الأولاد إذا عدموا، وإنّ الطبقة العليا تحجب الطبقة السفلى، فإن كان الولد الأعلى ذكرا سقط الأسفل، وإن كان الولد الأعلى أنثى أخذت الأنثى حقها، وبقي الباقي لولد الولد، إن كان ذكرا، وإن كان ولد الولد أنثى أعطيت العليا النصف، وأعطيت السفلى السدس، تكملة الثلثين، لأنا نقدرهما بنتين متفاوتتين في الرتبة، فاشتركتا في الثلثين بحكم البنتية، وتفاوتتا في القسمة بتفاوت الدرجة، وبهذه الحكمة جاءت السنة. وإن كان الولد الأعلى بنتين أخذتا الثلثين، فإن كان الولد الأسفل أنثى لم يكن لها شيء إلا أن يكون بإزائها أو أسفل منها ذكر، فإنّها تأخذ معه ما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين. ميراث الأبوين وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ. يقول: ولكل واحد من أبوي الميت السدس إن كان له ولد، ذكرا أو أنثى، واحدا كان أو جماعة، فإن لم يكن ولد ذكر ولا أنثى، وورثه أبواه، فلأمه الثلث. فإن كان له إخوة، فلأمه السدس، فإخوة الميت ينقصون الأمّ من الثلث إلى

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (8/ 7) ، 85- كتاب الفرائض، 8- باب ميراث ابنة ابن مع ابنة حديث رقم (6736) .

مسألة العمريتين

السدس، وإذا شرط الله في حجبها من الثلث إلى السدس الجماعة من الأخوة علم أنّ الأخ الواحد لا يحجبها عن الثلث، فلها معه الثلث. أما الأخوان فقد اختلف فيهما العلماء، أيكونان كالأخوة فهما يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، أم يكونان كالأخ الواحد فلا يحجبانها! بالأول قال جمهور الصحابة والعلماء المجتهدين، وبالثاني قال ابن عباس، وحجته أنّ الله قال: إِخْوَةٌ والجمع خلاف التثنية، فمن يحجب من الإخوة الجمع لا الاثنان. وقد أخرج ابن جرير «1» عن ابن عباس أنه دخل على عثمان رضي الله عنهم فقال: لم صار الأخوان يردّان الأم إلى السدس، وإنما قال الله: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة؟ فقال عثمان رضي الله عنه: هل أستطيع نقض أمر كان قبلي، وتوارثه الناس، ومضى في الأمصار؟ وحجة الجمهور أن الإخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمية، والأخوان جمع واحد إلى واحد، وضمّ له، وقد ورد في اللغة إطلاق الجمع على الاثنين، قال الله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: 4] وقال: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) [ص: 21] ثم قال: خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ [ص: 22] وهذا سائغ إذا قام الدليل، والدليل أنهم لما رأوا الشارع جعل الأختين كالثلاث في الميراث، والبنتين كالثلاث، جعل الأخوين كالثلاثة في الحجب، ولا فرق في الإخوة بين أن يكونوا ذكورا أو إناثا، أو ذكورا وإناثا، والذكر من الأخوة كالأنثى في هذا الباب. وقد علمنا مما تقدم أن للأم الثلث، ولا يحجبها عنه إلى السدس إلا الفرع الوارث، أو اثنان فصاعدا من الإخوة أو الأخوات. وأن للأب السدس مع الفرع الوارث، فإن كان الفرع الوارث بنتا أخذت النصف، وورث الأب بالفرض والتعصيب. مسألة العمريتين 1- ماتت امرأة وتركت زوجا وأبوين. لو ذهبنا نورّث الأم على حسب ما مضى كان لها الثلث، ومعلوم أنّ للزوج النصف، فيكون الباقي- وهو السدس- للأب، وحينئذ تأخذ الأم- وهي أنثى- ضعف الأب، وهو ذكر. وهذا لم يعهد في الفرائض، فإنه إذا اجتمع ذكر أو أنثى في طبقة كالابن والبنت، والجد والجدة والأب والأم، والأخ والأخت فإما أن يأخذ الذكر ضعف ما تأخذ الأنثى، أو يساويها، وإما أن تأخذ الأنثى ضعف الذكر، فهذا خلاف قاعدة الفرائض.

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (4/ 188) .

وقد وقعت هذه المسألة للصحابة، فقال فيها عمر وعثمان وابن مسعود وزيد بن ثابت وجمهور الصحابة: إن للأم ثلث ما بقي بعد فرض الزوج، وهو السدس، وللأب الثلث. وقد خالف فيها ابن عباس، فقال: للأم ثلث المال، وناظر فيها زيد بن ثابت، وقال: أين في كتاب الله ثلث ما بقي؟ فقال زيد: وليس في كتاب الله إعطاؤها الثلث كله مع الزوجين، وقد أشار زيد إلى جواب المسألة، وهو أنّ الله أعطاها الثلث إن لم يكن ولد، وورثه الأبوان فقط، لأنه قال: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فلو كانت تستحقّ الثلث مطلقا ولو مع وارث آخر لكان قوله: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ عديم الفائدة، فعلم أنها تستحقّ الثلث إذا لم يكن معهما وارث. بقيت حالة وهي ألا يكون ولد ولم ينفرد الأبوان بالميراث، وذلك لا يكون إلا مع الزوج والزوجة، فإما أن تعطى الثلث كاملا، وهو خلاف معهود الفرائض، وإما أن تعطى السّدس، والله لم يجعلها لها فرضا إلا في موضعين، مع الولد، ومع الأخوة، وإذا امتنع هذا وهذا، كان الباقي بعد فرض الزوجين هو المال الذي يستحقه الأبوان، ولا يشاركهما فيه مشارك، فهو بمنزلة المال كله إذا لم يكن زوج ولا زوجة، فإذا تقاسماه أثلاثا كان الواجب أن يتقاسما الباقي بعد فرض الزوجين كذلك. 2- مات رجل، وترك زوجة وأبوين، هذه ثانية العمريتين، وفيها أيضا تأخذ الأم ثلث الباقي في بعد فرض الزوجة، والكلام فيها مثل الكلام في سابقتها سواء بسواء. فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ قال الزمخشري «1» : متعلق بما تقدم من قسمة المواريث كلها، لا بما يليه وحده، كأنه قيل: قسمة هذه الأنصبة من بعد وصية يوصى بها. وقد روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الدين مقدّم على الوصية، روى ابن جرير «2» عن علي رضي الله عنه أنكم تقرءون هذه الآية مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى بالدين قبل الوصية، فليس لأحد من الورثة، ولا من الموصّى لهم حقّ في التركة إلا بعد قضاء الدين، ولو استغرق الدّين التركة فليس لأحد شيء. وهذا الدّين الذي قدّم على الوصية والميراث تقدّم عليه مؤونة تجهيز الميت، فكما أنه لا سبيل للغرماء إلى قوته وكسوته في حياته، كذلك لا سبيل لهم إلى مؤونة تجهيزه في وفاته. وإنما قدّم الدين على الوصية والميراث، لأن ذمته مرتهنة به، وأداء الدين أولى

_ (1) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 483) . (2) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (4/ 190) .

ميراث الأزواج والزوجات

من فعل الخير الذي يتقرّب به، والوصية إنما تقدّم على الميراث في بعض المال، وهو الثلث، وإنما كان كذلك لأنه لو منع من الوصية البتة لفاته باب من الخير عظيم. ولو سلّط عليه جميعه لربما أخرجه كله بالوصية، ولم يبق لورثته شيء، فجعل الله له عند موته أن يوصي بالثلث فقط، ليجمع بين خيره وخير ورثته. وإنما قدّم الله الوصية على الدين في الذكر، مع أنه مقدّم عليها، وأولى منها، ولا وصية إلّا بعد وفاء الدين، لأنّ الدين معلوم قوته، قدّم أو لم يقدّم، فأراد أن يقوّي من شأن الوصية، فقدمها في الذكر. على أن أَوْ لا تقتضي الترتيب، وأَوْ هاهنا للإباحة، كما في قولك: جالس الحسن أو ابن سيرين. والمعنى: من بعد أحدهما، ومن بعدهما إذا اجتمعا. آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً يقول الله تعالى: هؤلاء الذين أوصاكم الله فيهم، وحدّ أنصباءهم، هم آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فحد أنصباءهم ولم يكل ذلك إليكم، لأنكم لا تدرون أيّهم أقرب لكم نفعا. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ نصب المصدر المؤكد، أي فرض الله ذلك فريضة. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً يعلم بما يصلح خلقه، وهو ذو حكمة في تدبيره، وفيما قسّم من ميراث بعضكم من بعض، وفيما يقضي بينكم من الأحكام، فسلموا قسمته في المواريث، وسلّموا ما قضى به من إعطاء النساء والضعفاء- وقد كنتم تحرمونهم- لأنّه قضاء من لا تخفى عليه مواضع المصلحة. ميراث الأزواج والزوجات قال الله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ الورثة المذكورون في قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إلى قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ. أقسام ثلاثة، لأنّ الوارث إما أن يكون متصلا بالميت بواسطة، أو بغير واسطة. فالأول هو الكلالة، والثاني إما أن يكون السبب النسب أو الزوجية، فتلك أقسام ثلاثة، وأعلى هذه الأقسام وأشرفها ما كان الاتصال فيه حاصلا ابتداء من جهة النسب، وذلك هو الأولاد والوالدان، فالله تعالى قدم حكم هذا القسم لذلك، ثم عقّبه بالقسم الثاني، وهو ما كان الاتصال فيه حاصلا ابتداء من جهة الزوجية، وهذا القسم متأخر في الشرف عن القسم الأول، لأنّ القسم الأول أصلي، والثاني طارئ، ويلي ذلك القسم

ميراث الكلالة

الثالث وهو الكلالة، لأن الاتصال فيه ليس ابتداء، بل بواسطة، ولأن القسمين الأولين لا يعرض لهما السقوط بحال، بخلاف القسم الثالث، فإنه قد يعرض له السقوط بالكلية. وقد جعل الله للزّوج النصف من زوجته إن لم يكن لها ولد، وجعل له الربع منها إن كان لها ولد، سواء أكان ذلك الولد منه أم من غيره، وسواء في ذلك الذكر والأنثى، والواحد والمتعدد، والمباشر وولد الولد. وجعل ميراث الزوجة من زوجها الربع إن لم يكن للزوج ولد، وجعل لها الثمن إن كان له ولد على التعميم السابق، فإن تعددت زوجات الميت اشتركن في الربع، أو في الثمن. وهذا كله من بعد الوصية والدّين كما تقدم. ميراث الكلالة قال الله تعالى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ. اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في الكلالة. فذهب أبو بكر إلى أنّها من عدا الوالد والولد، أخرج ابن جرير «1» عن الشعبي، قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: إني رأيت في الكلالة رأيا، فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله منه بريء. إن الكلالة ما خلا الوالد والولد. وذهب عمر إلى أنها من عدا الولد، وروي أنّ عمر رجع عن ذلك بعد أن طعن، وقال: كنت أرى أن الكلالة من لا ولد له، وأنا أستحيي أن أخالف أبا بكر، الكلالة من عدا الوالد والولد. وروي عنه أيضا التوقف، وكان يقول: ثلاثة لأن يكون بيّنها الرسول صلّى الله عليه وسلّم لنا أحب إليّ من الدنيا وما فيها: الكلالة، والخلافة، والربا، ويظهر أنّ حجة عمر رضى الله عنه أن الله ذكر الكلالة في آخر السورة فقال: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [النساء: 176] والظاهر أن قوله: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ تفسير للكلالة، والراجح قول أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ويدلّ على ذلك اشتقاق الكلمة فإنّ مادة (كلّ) تدل على الضعف، يقال: كلّ الرجل يكلّ كلالا وكلالة إذا أعيا، وذهبت قوته، ثم استعاروا هذا اللفظ للقرابة، لا من جهة الولادة أي القرابة الضعيفة، وقد علمت أنّ القرابة بالولادة قوية، فلا يطلق عليها كلالة، ويدل على ذلك أنّ الله حكم بتوريث

_ (1) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (4/ 192) .

الأخوة والأخوات إذا ورث كلالة، ولا شكّ أنّ الإخوة والأخوات لا يرثون عند وجود الأب، فوجب ألا يكون الوالد من الكلالة. الكلالة ترد وصفا للميت، ويراد بها من لا يرثه والد ولا ولد، وقد ترد وصفا للوارث، ويراد بها من عدا الوالد. فمن الأوّل قول الشاعر «1» : ورثتم قناة المجد لا عن كلالة عن ابني مناف عبد شمس وهاشم ومن الثاني ما في حديث جابر قال: مرضت مرضا أشفيت منه على الموت، فأتاني النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول الله إني رجل لا يرثني إلا كلالة، وأراد به أنه ليس له والد ولا ولد «2» . والظاهر أنها في الآية وصف للميت، لأنّها حال من نائب فاعل يورث، وهو ضمير الميت، ثم إذا كانت مصدرا قدّر مضافا، أي ذا كلالة، وإن كانت صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق لم يحتج الأمر إلى مضاف. والمراد بالأخوة هنا الأخوة للأم، دون الأخوة الأشقاء، ودون الإخوة للأب، بدليل قراءة سعد بن أبي وقاص (وله أخ أو أخت من أم) «3» ويدل عليه أيضا غير هذه القراءة أن الله ذكر ميراث الإخوة مرتين هاهنا، ومرة في آخر هذه السورة، فجعل هاهنا للواحد السدس، وللأكثر الثلث شركة، وجعل في آخر السورة للأخت الواحدة النصف، وللاثنتين الثلثين، وللذكر المال، فوجب أن يكون الإخوة لأب وأم أو لأب، فتعيّن أن يكون المراد هنا الإخوة لأم، ويرجحه أنّ الفرض هنا الثلث أو السدس، وهو فرض الأم، فناسب أن يكون فرض الإخوة الذين يدلون بها، وهم الإخوة لأم. وقد تبين أنّ الإخوة لأم لهم حالتان: 1- أخ لأمّ منفرد، أو أخت لأم منفردة، وله أو لها السدس. 2- أن يتعدد الأخ لأم أو الأخت لأم وفي هذه الحالة يكونون شركاء في الثلث، يقسّم بينهما بالسوية، لأنثاهم مثل ذكرهم، لأن مطلق التشريك يدلّ عليه. ويمنع الإخوة لأمّ من الميراث الوالد والولد، لأنّ الله جعل لهما ذلك النصيب إذا كان الميت يورث كلالة، وقد ذكرنا أنّها من يرثه غير الوالد والولد. وهنا بحث لفظي، وهو أن الله تعالى قال: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ثم قال: وَلَهُ أَخٌ فكنّى عن الرجل، ولم يكنّ عن المرأة، وهذا في العطف

_ (1) الفرزدق، انظر البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (3/ 197) . (2) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (4/ 193) . (3) رواه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (5/ 78) . [.....]

بأو جائز، ويجوز في مثل هذا الكلام أن تكنّي عن المرأة أو تكنّي عنهما معا، قال الفراء «1» : إذا جاء حرفان في معنى بأو جاز إسناد التفسير إلى أيهما أريد، ويجوز إسناده إليهما أيضا، تقول: من كان له أخ أو أخت فليصله، يذهب إلى الأخ، أو فليصلها يذهب إلى الأخت ولو قلت: فليصلهما جاز أيضا. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ. يقول الله: هذه القسمة للإخوة للأم من بعد وصية يوصي بها الميت، أو دين وهو غير مضار الورثة بوصيته أو دينه، والمضارة بالوصية أن يوصي بأكثر من الثلث، أو به فأقل، قاصدا ضرار الورثة دون وجه الله، والمضارّة في الدين أن يقرّ بدين لمن ليس له عليه دين، وعن قتادة كره الله الضرار في الحياة وعند الممات ونهى عنه. وتفيد الآية أن الوصية والدين اللذين قصد بهما الضرار لا يجب تنفيذهما، لأنه شرط في إخراجهما قبل التوريث عدم المضارة. وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد، ناصبه يوصيكم، أي يوصيكم بذلك وصية، أي يعهد إليكم به عهدا وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ يقول: والله ذو علم بمصالح عباده وبمضارهم، وبمن يستحق الميراث ومن لا يستحق، وبمقدار ما يستحقه المستحق حَلِيمٌ لا يعجّل بالعقوبة على من عصاه فظلم عباده، وأعطى الميراث لأهل الجلد والقوة، وحرم الضعفاء من النساء والصغار، فهو معاقبهم، ولكنه يحلم عليهم، فلا يعاجلهم بالعقوبة، فلا يظنوا أنهم سيفلتون فلا يعاقبون. قال الله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) حدّ كل شيء ما فصل بينه وبين غيره، ومنه حدود الدار، وحدود الأرضين، لفصلها بين ما حد بها وبين غيره. فالمعنى: هذه القسمة التي قسمها لكم ربكم، والأنصباء التي جعلها لأحيائكم من أموال موتاكم فصول ما بين طاعته ومعصيته، فالكلام على حذف مضاف، أي حدود طاعته، وإنما ترك لعلمه من الكلام. ومن يطع الله ورسوله بالتزام ما حدّ من المواريث يدخله جنات تجري من تحت أشجارها وزرعها الأنهار، باقين فيها، لا يموتون ولا يفنون، ودخول الجنة الباقية هو الفوز العظيم.

_ (1) انظر كتابه في معاني القرآن (1/ 257) .

قال الله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) يقول الله: ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدود ما حدّ من المواريث يدخله نارا باقيا فيها، لا يموت ولا يفنى، وله عذاب مذل، مخز من عذبّ به، وهذا يحمل على الذين تعدّوا حدوده مكذبين بصلاحها. وهنا مسائل لا بد من ذكرها لتعلقها بآيات المواريث: 1- قال الله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إلخ، وهذا يعمّ أولاد المسلمين والكافرين، والأحرار والأرقاء، والقاتلين عمدا وغير القاتلين، وكذلك يقال فيما بعده، ولكن السنة خصصت البعض من هذا العموم، فأخرجت الكافر، فقد ورد في «الصحيح» «1» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» . وورد أيضا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يتوارث أهل ملتين» «2» ، وقد أخذ الجمهور بظاهر هذين الحديثين، فلم يورّثوا مسلما من كافر، ولا كافرا من مسلم. وذهب بعضهم إلى أنّ الكافر لا يرث المسلم ولكنّ المسلم يرث الكافر، قال الشعبي: قضى معاوية بذلك، وكتب به إلى زياد «3» ، فأرسل ذلك زياد إلى شريح القاضي وأمره به، وكان شريح قبل ذلك يقضي بعدم التوريث، فلما أمره زياد بذلك كان يقضي به، ويقول: هكذا قضى أمير المؤمنين، وحجتهم ما روي أن معاذا كان باليمن، فذكروا له أن يهوديا مات وترك أخا مسلما، فقال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الإسلام يزيد ولا ينقص، وورّثه» «4» فكأنه خصّص الحديثين الأولين بهذا الحديث الأخير، ثم خصص بهما الآية. وأنت تعلم أن حديث «الإسلام يزيد ولا ينقص» ليس نصا في إرث المسلم من الكافر، فلا يخصّص به، وكما أن الكافر لا يرث المسلم لا يحجبه، وقال ابن مسعود: يحجب، وهذا ليس بظاهر، لأنّ الشريعة جعلته في باب الإرث كالعدم، فكذلك في باب الحجب، لأنه أحد حكمي الميراث، وكما أن الكافر لم يدخل في

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (8/ 14) ، 85- كتاب الفرائض، 26- باب لا يرث المسلم الكافر حديث رقم (6764) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1233) ، 23- كتاب الفرائض حديث رقم (1/ 1614) . (2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (4/ 370) ، كتاب الفرائض، باب لا يتوارث حديث رقم (2108) ، وأبو داود في السنن (3/ 53) ، كتاب الفرائض باب هل يرث المسلم الكافر حديث رقم (2911) ، وابن ماجه في السنن (2/ 912) ، كتاب الفرائض باب ميراث أهل الإسلام حديث رقم (2731) . (3) أي زياد بن أبيه. (4) رواه أبو داود في السنن (2/ 53) ، كتاب الفرائض، باب هل يرث المسلم الكافر حديث رقم (2912) وأحمد في المسند (5/ 236) .

قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ كذلك لم يدخل في قوله: إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ. وقد رأوا أيضا أنّ الحرّ والعبد لا يتوارثان، لأن العبد لا يملك، وأن القاتل عمدا لا يرث من قتله، معاملة له بنقيض مقصوده. 2- قد يترك الميت أصحاب فروض لا تستغرق فروضهم الميراث، ومعهم عاصب، كأن يترك بنتين وعمّا، فللبنتين الثلثان، ويبقى الثلث، ولم يبيّن في آيات المواريث لمن يكون الباقي، وقد بيّنت السنة حكم ذلك. فقد ورد في «الصحيح» «1» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت فلأولى رجل ذكر» ولأجل ذلك قدم الأقرب في العصبة على الأبعد، كالأخ الشقيق يقدم على الأخ لأب، وابن الأخ الشقيق يقدم على ابن الأخ لأب، ويقدم الأخ للأب على ابن الأخ الشقيق. 3- قد يحدث أن يجتمع أصحاب فروض لا تستغرق فروضهم الميراث، وليس معهم عاصب، وقد اختلف العلماء في الباقي بعد أنصباء ذوي الفروض، فقال بعضهم: يردّ على ذوي الفروض بقدر حقوقهم. وقال بعضهم: لا يرد عليهم، بل هو لبيت مال المسلمين، وعلى القول الأول عامة الصحابة. وبالثاني قال زيد بن ثابت، وبه أخذ عروة والزهري والشافعي، لكنّ المحققين من الشافعية قالوا: إذا لم ينتظم بيت المال يردّ على ذوي الفروض بنسبة فروضهم، وإلا كان لبيت المال. والقائلون بالرد اختلفوا فيمن يردّ عليه، فالأكثرون على أنه يردّ على جميع ذوي الفروض إلا الزوجين، وهو مذهب الحنفية والشافعية. وألحق ابن عباس بالزوجين الجدة في المنع، وقال عثمان رضي الله عنه: يرد على ذوي الفروض جميعا حتى الزوجين. احتج من أبى الردّ بأن الله تعالى قدّر نصيب أصحاب الفرائض بالنص الظاهر، فلا يجوز أن يزاد عليه، لأن الزيادة تعدّ لحدود الله في الميراث، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) . وبأنّ الفاضل عن فروضهم مال لا مستحق له فيكون لبيت المال، كما إذا لم يترك وارثا أصلا، اعتبارا للبعض بالكل. واحتج القائلون بالرد بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأحزاب: 6]

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (8/ 6) ، 85- كتاب الفرائض، 5- باب ميراث الولد حديث رقم (6732) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1233) ، 23- كتاب الفرائض، 1- باب ألحقوا الفرائض بأهلها حديث رقم (2/ 1615) .

أي بعضهم أولى بميراث بعض بسبب الرحم، فهذه الآية دلّت على استحقاقهم جميع الميراث بصلة الرحم، وآية المواريث أوجبت استحقاق جزء معلوم من المال لكل واحد منهم، فوجب العمل بالآيتين، بأن يجعل لكل واحد فرضه بتلك الآية، ثم يجعل ما بقي مستحقا لهم للرحم بهذه الآية، ولهذا لا يرد على الزوجين بوصف الزوجية، لانعدام الرحم في حقهما، إذا لم يكونا من ذوي الأرحام. 4- قد يجتمع ذوو فروض مقدّرة في كتاب الله، فإذا ذهبنا نعطيهم فروضهم المقدّرة ضاقت التركة عن أنصبائهم، كزوج، وأخت شقيقة، وأم، فلو أخذت الأخت النصف، والزوج النصف، والأمّ الثلث، استغرق النصفان التركة، ولم يبق فيها ثلث، ولم تحدث مسألة كهذه في عهده صلّى الله عليه وسلّم، وإنما أول ما حدثت في عهد عمر رضي الله عنه. وقد اختلف رأيه ورأي ابن عباس، فكان رأي عمر العول، وهو أول من حكم بالعول في الإسلام، وذلك أنّه قسّم التركة على سهامهم، فأدخل النقص عليهم جميعا، تشبيها بالغرماء إذا ضاق المال عن ديونهم، فإنهم يتحاصّون بقدر ديونهم، وذهب ابن عباس إلى أنه يقدّم ما قدم الله، ويؤخّر ما أخر، وهذا الأثر الذي سنتلوه عليك يشرح لك المسألة. ذكر «شارح السراجية» «1» أن أول من حكم بالعول عمر، فإنه وقعت في عهده صورة ضاق مخرجها عن فروضها، فشاور الصحابة فيها، فأشار العباس بالعول، وقال: أعيلوا الفرائض، فتابعوه على ذلك، ولم ينكره أحد إلا ابنه بعد موته، فقيل له: هلا أنكرته زمن عمر، فقال: هبته، وكان مهيبا. وسأله رجل كيف تصنع بالفريضة العائلة؟ فقال أدخل الضرر على من هو أسوأ حالا، وهن البنات والأخوات، فإنهنّ ينقلن من فرض مقدّر إلى فرض غير مقدّر، فقال رجل: ما تغنيك فتواك شيئا، فإنّ ميراثك يقسّم بين ورثتك على غير رأيك فغضب وقال: هلا تجتمعون حتى نبتهل، فنجعل لعنة الله على الكاذبين، إنّ الذي أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في مال نصفين وثلثا. ونحن نرى أن هنا أصلين يمكن أن تقاس هذه المسألة على كل منهما: الأصل الأول: إن التركة يقدم فيها الأهم ك (التجهيز) على المهم ك (الدين) ويقدم الدين على الوصية، فكذلك هذه المسألة، وإلى هذا ذهب ابن عباس.

_ (1) علي بن محمد بن علي المعروف بالشريف الجرجاني فيلسوف من كبار العلماء بالعربية، انظر الأعلام للزركلي (5/ 7) .

الأصل الثاني: الغرماء، إذا ضاق المال عن ديونهم فإنهم يتحاصّون على قدر مالهم، فيمكن أن تشبه هذه المسألة بها، وإليه ذهب عمر والصحابة ونرى أنه أعدل. قال الله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) اللاتي: جمع التي، وهي تستعمل في جمع من يعقل، أما إذا أريد جمع ما لا يعقل من المؤنث فإنه يقال التي، فتقول: النسوة اللاتي خرجن، والأثواب التي لبست، وبعضهم يسوّي بينهما، فيقول في الجمع المؤنث لمن يعقل: التي، والأول هو المختار. والفاحشة: الفعلة القبيحة، وهي مصدر عند أهل اللغة، كالعافية، يقال: فحش الرجل يفحش فحشا وفاحشة، وأفحش إذا جاء بالقبيح من القول أو الفعل، واتفقوا على أنّ المراد بها هنا الزنى، والإتيان الفعل والمباشرة، يقال: أتى الفاحشة وأتى بها بمعنى. يقول الله: والنساء اللاتي يزنين من نسائكم، فأشهدوا على زناهنّ أربعة من رجالكم، فإن شهدوا بذلك، فاحبسوهن في البيوت حتى يتوفاهنّ ملك الموت، أو يجعل الله لهن مخرجا مما أتين به. وقد كان ذلك في أول الأمر، ثم جعل الله لهن سبيلا: الجلد والرجم. أخرج ابن جرير «1» عن ابن عباس قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ إلى قوله تعالى أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا فكانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت ثم أنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور: 2] فإن كانا محصنين رجما، فهذا سبيلهما الذي جعل الله لهما. وأخرج «2» أيضا عن عبادة بن الصامت قال: قال نبي الله صلّى الله عليه وسلّم: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب تجلد مائة وترجم بالحجارة. والبكر جلد مائة ونفي سنة» . وقد ذهبت العلماء إلى أنّ السبيل الذي جعل للثيب هو الرجم دون الجلد، لصحة الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه رجم ولم يجلد، فاستدلوا بما صح من فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم «3» على قوله: وهو خبر عبادة بن الصامت.

_ (1) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (4/ 198) . (2) المرجع نفسه (4/ 198) . (3) انظر حديث بريدة في صحيح مسلم (3/ 321) ، 29- كتاب الحدود، 5- باب من اعترف على نفسه بالزنى حديث رقم (22/ 1695) .

قال الله تعالى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) يقول الله: الرجل والمرأة اللذان يأتيان الفاحشة منكم فآذوهما بالقول، وعيّروهما، ووبخوهما على ما أتيا من الفاحشة، وإن تابا وأصلحا فاتركوا إيذاءهما، إن الله كان توابا على عباده، رحيما بهم، وقد اختلف في المراد باللذين يأتيان الفاحشة على أقوال: 1- أنهما الرجل والمرأة البكران، وهو قول السدي وابن زيد. 2- أنهما الرجلان الزانيان، وهو قول مجاهد. 3- أنهما الرجل والمرأة لا فرق بين بكر وثيب، وهو قول عطاء. والمختار أنهما الرجل والمرأة البكران، أما أنه لم يرد الرجلين فلأنه قال: واللذان، والعرب تعبّر في مثل هذا إما بالمفرد، وإما بالجمع، ولا تعبر بالتثنية إلا إذا كان الفعل لا يكون إلا من اثنين، كالزنى. وأرادت أن تبين حكم الفاعل والمفعول. وأما أنهما بكران دون الثيبين فلأن الله ذكر حكمين: أحدهما: الحبس في البيوت، والثاني: الإيذاء، ولا شك أن من حكم عليه بالأول خلاف من حكم عليه بالثاني، والشرع يخفف في البكر، ويشدد على الثيّب، ولذلك لما نسخ هذا الحكم، جعل للثيب الرجم، وللبكر الجلد، فجعلنا الحكم الشديد وهو الحبس على الثيب، والحكم الأخف وهو الإيذاء على البكر. وقد نسخ حكم هذه الآية بآية النور، فجعل حكم الزانيين البكرين جلد مائة. أخرج ابن جرير «1» عن الحسن البصري وعكرمة قالا: في قوله تعالى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما الآية نسخ ذلك بآية الجلد فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ. وأخرج أيضا «2» عن ابن عباس قوله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فأنزل الله بعد هذا: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ فإن كانا محصنين رجما في سنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد علمت من القول المختار أنّ الله ذكر في آيتي النساء حكم الزانيات الثيّبات، وحكم الزاني والزانية البكرين، ولم يذكر حكم الزاني الثيب، ولعلّه تركه لعلمه بالقياس على المرأة الثيب، هذا تفسير السلف في الآيتين.

_ (1) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (4/ 202) . (2) المرجع نفسه (4/ 202) .

ولأبي مسلم الأصفهاني تفسير آخر بناه على مذهبه من عدم نسخ شيء من القرآن، وهو أنّ المراد باللاتي يأتين الفاحشة السحاقات، وباللذين يأتيانها اللوطيان، أما حكم الزنى فبيّن في سورة النور، ويرى أنّ هذا أولى لوجوه: أولا: أنه يبقي كلّ آية على حكمها، فلا ينسخ منها شيء. وثانيا: أنّ الآية الأولى خاصة بالنساء، والثانية خاصة بالذكور، فيعلم أنه أراد فاحشة تكون من النساء في الأولى وهي السحاق، وفاحشة تكون من الذكور في الثانية وهي اللواط، ولو أراد الزنى لذكر حكم الزاني والزانية في آية واحدة، كما في سورة النور. وثالثا: أنه على هذا التفسير لا يكون في الآيتين تكرار، أما على القول الآخر فتكون الآيتان في الزنى فيفضي إلى تكرار الشيء في الموضع الواحد مرتين، وقد علمت مما تلوناه عليك من تفسير السلف أنه لا قائل بهذا القول من السلف، وأنه لا تكرار، إذا الحكم الأول في الثيب، والحكم الثاني في البكر. وقد زعم الرازي أنّ مجاهدا من السلف قد قال بهذا القول، ولعله قد ظن أن مجاهدا يريد من الرواية التي تقدمت في الرجلين اللواط، وقد نظرنا فوجدنا أنه يريد الزانيين، بدليل أنه رأى أن آية النور نسختها. قال الله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) لما ذكر الله في الآية السابقة أنّ توبة اللذين أتيا الفاحشة تفيدهما، ناسب أن يبيّن بعد شروط التوبة ووقتها فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ ... إلخ. يعني ليس قبول التوبة على الله لأحد من خلقه إلا لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ، وظاهر الآية أنّ من عمل السوء عالما به لا تقبل توبته، وهذا مخالف لما علم من الشريعة، ومن مثل قوله: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] . وإن من عمل السوء عن جهل مؤاخذ، وفي حاجة إلى التوبة، مع أنّه لم يذنب ولمكان هذا ذهب العلماء إلى تأويل الجهالة مذاهب شتى، أقربها أنّ كلّ من عصى الله سمّي جاهلا، وسمّي فعله جهالة، قال الله حكاية عن يوسف: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ [يوسف: 33] وقال: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [البقرة: 67] وقال: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: 46] . ووجه تسمية العاصي جاهلا- وإن عصى عن علم- أنه لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما عصى ربّه فلما لم يستعمل هذا العلم صار كأنّه لا علم له،

فسمي العاصي جاهلا لذلك، سواء أتى ذلك مع العلم بكونها معصية، أم مع الجهل بذلك، وإلى ذلك ذهب كثير من السلف. أخرج ابن جرير «1» عن قتادة قوله: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرأوا أنّ كل شيء عصي به فهو جهالة، عمدا كان أو غيره. وأخرج «2» أيضا عن مجاهد قال: كل من عمل بمعصية الله فذاك منه بجهل حتى يرجع عنه. وذهب الفخر الرازي إلى أنّ الجهالة على معناها، وأنّ الآية عرضت لمن يجب قبول توبته وجوب تفضل، وذلك ليس إلا لمن عمل السوء عن جهالة، أما من فعل السوء عن علم فليس يجب قبول توبته على الله، والتزم أن بعض من يعملون السوء عن جهل مذنبون كاليهودي الذي لا يعلم بطلان مذهبه. وإنما أوخذ لأنه متمكن من أن يعلم، وهذا فرق بينه وبين الناسي، قوله: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ معنى القرب فيه يعلم من مقابله، وهو قوله: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ. فكل ما كان قبل حضور الموت فهو قريب، وحضور الموت هو وصولهم إلى حالة يغلبون فيها على عقولهم، ويشتغلون بكرب الحشرجة. ومِنْ فيه للتبعيض، والمعنى: ثم يتوبون بعد وقت قريب، وسمّى ما بين وجود المعصية وبين حضور الموت زمنا قريبا ففي أي جزء من هذا أوقع توبته فهو تائب من قريب، وإلا فهو تائب من بعيد. فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وفائدة هذه بعد قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أن يبيّن أن ما أوجبه على نفسه سيفي به، فهذا وعد منه تعالى بذلك. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بضعف الإنسان أمام الشهوة والغضب حَكِيماً في قبول توبة ذلك الضعيف. قال الله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) أخبر الله أنه لا توبة للذين يعملون السيئات، حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ، وهذا المعنى قد نطقت به آيات عدة. قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر: 85] وقال حكاية عن

_ (1) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (4/ 202) . (2) المرجع نفسه (4/ 203) . [.....]

فرعون لما أدركه الغرق: آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) [يونس: 90، 91] وقال: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها (100) [المؤمنون: 99، 100] . وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ عطف على الذين يعملون السيئات، وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن المراد بهم الذين قرب موتهم، فيكون بيّن بهذا أن الإيمان لا يقبل من الكافر عند حضور الموت. والثاني: أن يكون المراد أنّ الكفار إذا ماتوا على الكفر لا تقبل توبتهم. أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً، أَعْتَدْنا: أعددنا وهيأنا، والإشارة بأولئك إلى الفريقين. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) كانت المرأة قبل الإسلام مهضومة الحقّ، يعتدى عليها بأنواع من الاعتداء، فكان ذلك من أنعم الشريعة الإسلامية على المرأة: النعمة الأولى: كان الرجل في الجاهلية إذا مات وجاء ابنه أو بعض ورثته وألقى ثوبه على امرأته: كان أحقّ بها من نفسها، فإن شاء تزوجها، ولم يدفع لها مهرا، وإن شاء زوّجها من أحبّ، وأخذ مهرها، فكانوا يرثونها كما يرثون المال، كأنّهم يظنونها ملكا لمورّثهم بما أصدقها من صداق، فأنزل الله هذه الآية ناهيا عن تلك العادة الذميمة فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً فبين بذلك أنها ليست متاعا يورث. روى ابن جرير «1» عن ابن عباس في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوّجها، وإن شاؤوا زوّجوها، وإن شاؤوا لم يزوّجوها، وهم أحقّ بها من أهلها، فنزلت هذه الآية. وأخرج «2» أيضا عن السدي قال: أما قوله: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً فإن

_ (1) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (4/ 207) . (2) المرجع نفسه (4/ 208) .

الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه، فإذا مات وترك امرأته، فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه، فهو أحقّ بها أن ينكحها بمهر صاحبه، أو ينكحها فيأخذ مهرها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها فهم أحقّ بنفسها. وعلى ذلك يكون المعنى: لا يحل لكم أن ترثوا آباءكم وأقاربكم نكاح نسائهم وهن لذلك كارهات. وأخرج ابن جرير «1» عن الزهري في قوله: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً قال: نزلت في ناس من الأنصار كانوا إذا مات الرجل منهم فأملك الناس لامرأته وليّه، فيمسكها حتى تموت فيرثها، فنزلت فيهم. على هذا يكون المعنى: لا يحل لكم إذا مات أولياؤكم أن تمسكوا نساءهم حتى يمتن فترثوهن. والظاهر الأول، لأن مآل الثاني بيان أنهم ليسوا من ورثتها، وذلك معلوم من آيات الميراث، فإنها بيّنت من ترث، بخلاف حمله على المعنى الأول، فإنه يؤدي معنى جديدا. وقرئ كرها وكرها بالفتح والضم ومعناهما واحد، وقيل: الكره بالضم المشقة وبالفتح الإكراه. النعمة الثانية من نعم الشريعة الإسلامية على النساء: كانوا إذا تزوج أحدهم امرأة وكرهها حبسها وعضلها، حتى تفتدي منه، فنهوا عن ذلك إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، فيجوز حبسها، والفاحشة قيل: هي الزنى، وقيل النشوز، والأولى أن تعم كل ذلك. وأخرج ابن جرير «2» عن ابن عباس قوله: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ يقول: لا تقهروهن لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ يعني: الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر، فيضربها لتفتدي. وقال آخرون: إنّ الذين نهوا عن العضل هم أولياء الميت الذين يرثون وقال آخرون: إنهم أولياء المرأة، وهذا ليس بظاهر، لأنّ أولياءها لم يؤتوها شيئا، والله يقول: لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن. وقوله: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ يحتمل أن يكون مجزوما على النهي، ويحتمل أن يكون معطوفا على تَرِثُوا.

_ (1) المرجع نفسه (4/ 209) . (2) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (2/ 210) .

والعضل: الحبس والتضييق، وقرئ مبيّنة بالكسر والفتح فأما الكسر فقد أسند البيان إليها على المجاز. وأما الفتح فعلى معنى أنه بينها غيرها. النعمة الثالثة: كان الرجال يسيئون عشرة النساء، فيغلظون لهنّ القول، ويضارّوهن، فقال الله تعالى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ قال الزجاج: هو النّصفة بالميت والنفقة، والإجمال في القول. ولو عمل المسلمون بهذا الأمر لسعدت الأسر وشملتها السعادة، لأنّ أسباب شقاء الأسر ترجع إلى سوء العشرة، وافتئات الرجل على المرأة في حقوقها، كأن يخادن عليها، أو يهجرها إلى الخانات والرفقة، ويغلظ لها في القول، فيفسد ما بينهما، وتسوء أخلاق أولادهما من طول النزاع وسوء الأسوة. عن ابن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا أيها الناس إنّ النساء عندكم عوان، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن حقّ، ولهن عليكم حقّ، ومن حقّكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا، ولا يعصينكم في معروف، وإذا فعلن ذلك فلهنّ رزقهنّ وكسوتهن بالمعروف» «1» . فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فلا تفارقوهن للكراهة وحدها فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً كأن يعطفكم عليهن، فيجعل منهنّ لكم زوجات رضيات، أو يرزقكم منهنّ بأولاد صالحين، فالضمير فيه يرجع إلى شَيْئاً. قال الله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) النعمة الرابعة: كان من ظلم الرجال للنساء أن الرجل إذا أراد طلاق امرأته استردّ ما دفعه من مهر، وربما توسّل إلى ذلك برميها بالفاحشة، أو تهديدها بذلك، فنهى الله عن ذلك في هاتين الآيتين، وجعله بهتانا وإثما مبينا، وأنكر عليهم أخذه، ووبّخهم على ذلك بعد أن أفضوا إليهن، وأخذن منهم ميثاقا غليظا. وقد أخذ من هذه الآية جواز الإغلاء في المهور، لأنّ الله قال: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ومنع أن يأخذوا منه شيئا، والقنطار: المال الكثير الوزن، وإن كان النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كانوا يقلّلونه. وقد روي عن عمر أنه قال- وهو على المنبر- ألا لا تغالوا في صدقات النساء،

_ (1) رواه الطبري في تفسيره جامع البيان (4/ 212) .

فإنّها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر يعطينا الله وتحرمنا أنت، أليس الله سبحانه يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً؟ فقال عمر: امرأة أصابت وأمير أخطأ «1» . وقد احتج أبوبكر الرازي «2» بهذه الآية على أنّ الخلوة الصحيحة تقرّر المهر قال: وذلك لأنّ الله تعالى منع الزوج أن يأخذ منها شيئا من المهر، وهذا المنع مطلق، ترك العمل به قبل الخلوة، فوجب أن يبقى معمولا به بعد الخلوة. قال: ولا يجوز أن يقال: إنه مخصوص بقوله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ [البقرة: 237] . وذلك أنّ الصحابة اختلفوا في تفسير المسيس فقال عمر وعلي المراد من المسيس الخلوة، وقال عبد الله: هو الجماع، وإذا صار مختلفا فيه امتنع جعله مخصّصا لعموم هذه الآية. وهذه المسألة خلافية، فقد ذهب الحنفية إلى أن المهر يتقرّر بالخلوة، وذهب الشافعية إلى أنّه يتقرّر بالجماع لا بالخلوة، ولمالك في ذلك ثلاث روايات: إحداهن: يتقرر المهر بالخلوة. وثانيتهن: لا يتقرّر المهر إلا بالوطء. وثالثتهن: يتقرر بالخلوة في بيت الإهداء، والأصح: تقرّره بالخلوة مطلقا، وقد علمت حجة القائلين بتقريره بالخلوة. وقد رأى القائلون بأنّه لا يتقرر بالخلوة أنّ هذه الآية مختصة بما بعد الجماع، بدليل قوله: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وإفضاء بعضهم إلى بعض هو الجماع، لأدلة ستذكر بعد. وأفضى: من الفضاء الذي هو السعة، يقال فضا يفضو فضوا وفضاء: إذا اتسع. قال الليث: أفضى فلان إلى فلان أي وصل إليه، وأصله أنه صار في فرجته وفضائه. وقد اختلف في المراد بإفضاء بعضهم إلى بعض، فذهب الحنفية وآخرون إلى أنه الخلوة الصحيحة. وذهب الشافعية إلى أنه كناية عن الجماع، وهو قول ابن عباس ومجاهد، وقد استدل الشافعية لمذهبهم أنّ الله ذكر هذا في معرض التعجب فقال:

_ (1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (2/ 133) . (2) في كتاب أحكام القرآن (2/ 110) .

وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة، وهو الجماع. وقد ذكر الفخر الرازي وجوها عدة أخرى وأطال فيها «1» . ونحن نرى أن هذه الآية لم تنزل في تقرر الصداق وعدمه، فنزلت فيه آية: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ [البقرة: 237] فجعل التنصيف بالطلاق قبل المسيس، فينبغي أن يعلم ما المراد بالمسيس أهو الخلوة أم الدخول وقد تقدم ذلك في سورة البقرة. أما قوله تعالى: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً فهذا إنكار وتوبيخ للأزواج على ذلك الغصب. والبهتان في اللغة: الكذب الذي يواجه الإنسان به صاحبه على جهة المكابرة. وأصله من بهت الرجل إذا تحيّر، فالبهتان كذب يحير الإنسان لعظمه، وكان مقتضى الظاهر ألا يؤتى بوصف البهتان هنا لعدم ظهور الكذب فيه، بل كان يوصف بالظلم مثلا، ولذلك اختلف العلماء في هذه اللفظة، وتقرير مناسبتها، فقال بعضهم: إنه أطلق على كل باطل يتحيّر من بطلانه بهتان. وقيل: إنه إذا طلقها وأخذ منها ما آتاها- مع أن الله لم يبح ذلك إلا في حالة إتيانها بالفاحشة- أشعر ذلك أنها قد أتت بفاحشة، فكان أخذ المال طعنا فيها من وجه، وظلما لها من وجه آخر، وقيل: المراد أنه رمى امرأته بتهمة ليتوصل إلى أخذ المهر، ووصف الإثم بأنه مبين، لأنه مبين أمر صاحبه أنه ظالم. وأما قوله: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) فهو إنكار، والميثاق الغليظ الذي أخذته قال مجاهد وقتادة وغيرهما: هو قوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا [النساء: 22] وهذا وإن كان ميثاقا من الله فإنه ينسب إليهن، لأنهن السبب. وقيل: هو كلمة النكاح، وهي قوله: نكحت، وقد ثبت عن جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اتقوا الله في النساء، فإنّكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله» «2» . وقيل: هو الصحبة والعشرة. ووصفه بالغلظة لقوته وعظمته. وقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟

_ (1) في تفسيره: مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (10/ 15) . (2) رواه البخاري في الصحيح حديث رقم (1557) ومسلم في الصحيح (2/ 889) ، كتاب الحج حديث رقم (1218) .

ما يحرم من النساء

ما يحرم من النساء قال الله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا (22) كانوا في الجاهلية يخلفون آباءهم على نسائهم، فنهاهم الله عن ذلك، وعفا لهم عما قد سلف قبل التحريم، فلا يؤاخذهم، ووصفه بأنه فاحشة، لأن امرأة الأب تشبه الأم، وبأنه مقت، والمقت بغض مقرون باستحقار، ووصف به العقد لأنّه سبب إلى المقت، وكانت العرب تسمي هذا النكاح المقت، وتسمي ولد الرجل من امرأة أبيه مقيتا. وقال: وَساءَ سَبِيلًا وهو معطوف على الخبر، بتقدير مقولا فيه، لأنه إنشاء. أخرج ابن جرير «1» عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما يحرم إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فأنزل الله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ. والاستثناء في قوله: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ استثناء منقطع، والمعنى: لكن ما قد سلف فلا تثريب عليكم فيه، كقوله: لا تلق فلانا إلا ما لقيت، أو هو استثناء متصل مما يستلزمه النهي، ويستوجبه مباشرة المنهي عنه، كأنه قيل: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء، فإنه معاقب عليه إلا ما قد سلف. وقيل: إن إِلَّا هنا بمعنى (بعد) كقوله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] أي بعد الموتة الأولى. وكانَ هنا قيل: إنها زائدة، وقيل: ليست زائدة ولكنها منسلخة عن خصوص الماضي، كقوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 96] . وقد علمت مما تقدّم أن ما هنا عبارة عن النساء، فقد وقعت على العاقل، وقيل: إنها مصدرية، والمعنى: ولا تنكحوا نكاحا مثل ما نكح آباؤكم من أنكحة الجاهلية الفاسدة. وقد اختلف العلماء فيمن زنى بها الأب أتحرم على ولده كما حرمت عليه زوجته، أم لا تحرم، فيكون الوطء الحرام غير ناشر للحرمة كالوطء الحلال، وكذلك اختلفوا في الزنى بأم الزوجة أو بنتها: أيحرّم الزوجية أم لا يحرمها، وإلى الأول ذهب أبو حنيفة والصاحبان والثوري والأوزاعي وقتادة والحسن، وإلى الثاني ذهب الشافعي والليث والزهري وربيعة.

_ (1) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (4/ 212) .

واختلفت الرواية عن مالك، ففي «الموطأ» عنه مثل قول الشافعي، وروى عنه ابن القاسم مثل أبي حنيفة، وقال سحنون «1» : أصحاب مالك يخالفون ابن القاسم فيها ويذهبون إلى ما في «الموطأ» . وسبب الخلاف الاشتراك في اسم النكاح، فهو يطلق على الوطء، وعلى العقد، فمن قال: إنّ المراد به في الآية الوطء حرّم من وطئت ولو بزنى، ومن قال: المراد به العقد لم يحرّم بالزنى. ونحن سنشرح المسألة بعض الشرح فنقول: نقل الجصاص «2» عن أبي عمر غلام ثعلب قال: الذي حصّلناه عن ثعلب عن الكوفيين والمبرّد عن البصريين أنّ النكاح في أصل اللغة هو اسم للجمع بين الشيئين، تقول العرب: أنكحنا الفرا فسنرى، هو مثل ضربوه للأمر، يتشاورون فيه، ويجتمعون عليه، ثم ينظر عماذا يصدرون فيه، معناه جمعنا بين الحمار وأتانه، وسمّى الوطء نكاحا، لأنّه جمع بين الرجل والمرأة، وأطلق على العقد نكاح، لأنّه سبب له. وليس يختلف أنه قد أطلق في القرآن ولسان العرب على الوطء مرة، وعلى العقد أخرى، فمن إطلاقه على الوطء، قوله: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور: 3] إذ لو كان العقد للزم الكذب. وقوله: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ [النساء: 6] وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ناكح اليد ملعون» وقول الأعشى: ومنكوحة غير ممهورة ... وأخرى يقال له فادها يقصد المسبية الموطوءة بغير مهر ولا عقد. وقول الآخر: ومن أيّم قد أنكحتها رماحنا ... وأخرى على عمّ وخال تلهّف ومن إطلاقه على العقد قوله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب: 49] وقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: 32] وقوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ [النساء: 3] وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «النكاح من سنّتي» «3» أي العقد، وقوله:

_ (1) عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي الملقب بسحنون قاض فقيه ولد في القيروان، انظر الأعلام للزركلي (4/ 5) . (2) في كتابه أحكام القرآن (2/ 112) . (3) رواه ابن ماجه في السنن (1/ 592) ، كتاب النكاح، باب ما جاء في فضل النكاح حديث رقم (1846) .

«أنا من نكاح ولست من سفاح» وإنما الخلاف فيما هو الراجح، أهو الوطء أم العقد؟ أن يكون المراد بالنكاح في الآية الوطء، قالوا: لأنه فيه حقيقة، وفي العقد مجاز، والحمل على الحقيقة أولى، حتى يقوم الدليل على الحمل على المجاز، وإذا كان المراد به الوطء فلا فرق بين الوطء الحلال والوطء الحرام. قالوا: ويدلّ عليه من جهة النظر أنّ الوطء آكد في إيجاب التحريم من العقد، لأنّا لم نجد وطأ مباحا إلا وهو موجب للتحريم، كالوطء بملك اليمين، ونكاح الشبهة، وقد وجدنا عقدا صحيحا لا يوجب التحريم، وهو العقد على الأم لا يوجب تحريم البنت، ولو وطئها حرمت، فعلمنا أنّ وجود الوطء، لأنّ التحريم لم يخرجه من أن يكون وطأ صحيحا. وللشافعية أن يقولوا النكاح، وإن كان مجازا في العقد: ولكنه اشتهر فيه حتى صار حقيقة، كالعقيقة، كانت اسما لشعر المولود، ثم أطلقت على الشاة التي تذبح عند حلقه مجازا، واشتهر ذلك، حتى صارت حقيقة فيها، تفهم منها عند الإطلاق. وقد عبّر الله بجانب هذه المحرمات بما يفيد الزوجية كقوله: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ. ويدلّ لهم من جهة النظر أنّ الله جعلها محرما بالمصاهرة تكريما لها، كما جعلها محرما من النسب تكريما للنسب، فكيف يجعل هذه الحرم للزنى وهو فاحشة ومقت، وإنما جعل زوجة الأب محرما، وكذلك زوجة الابن وأم الزوجة وبنتها لشدة الاختلاط بين الأصهار، فجعلن محارم، لتنقطع طماعية المرء منهن، فيقل الفساد، لأنّ الطمع داعية الفساد، وبذلك تسهل الخلطة على الأصهار، ويأمنون مغبتها، وهذا المعنى ليس موجودا في الزنى، وهذا الذي ذكرناه يفهم من كلام الشافعي في «الأم» فقد قال: فإن زنى بامرأة أبيه وابنه أو أم امرأته فقد عصى الله، ولا تحرم عليه امرأته، ولا على أبيه، ولا على ابنه امرأته، لو زنى بواحدة منهما، لأن الله عزّ وجلّ إنما حرّم بحرمة الحلال تعزيزا لحلاله، وزيادة في نعمته بما أباح منه، بأن أثبت به الحرمة التي لم تكن قبله، وأوجب بها الحقوق، والحرام خلاف الحلال. والظاهر ما ذهب إليه الشافعية والقول الراجح عند المالكية عن عدم التحريم بالزنى للعلة التي ذكرت، ويكون مقيسا على النسب، فكما أن النسب لا يثبت بالزنى، كذلك التحريم لا يثبت بالزنى. قال الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ

السبع اللاتي حرمن من النسب

وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ أي حرّم نكاحهن، وحذف لدلالة الكلام عليه، كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها، ومن تحريم الميتة تحريم أكلها، ولأنّ قوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ يدل عليه. أخرج ابن جرير «1» عن ابن عباس قال: يحرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، ثم قرأ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ إلى قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. وأخرج «2» أيضا عنه قال: حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع، ثم قرأ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ حتى بلغ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ قال: والسابعة: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ. السبع اللاتي حرّمن من النسب 1- الأم: وهي كل امرأة لها عليك ولادة، ويرتفع نسبك إليها بالبنوه، سواء أكانت منك على عمود الأب أو على عمود الأم، فتحرم عليك أمك وجداتك وإن علون من جهة الأب، أو من جهة الأم. 2- البنت: وهي كل امرأة لك عليها ولادة سواء أكانت بنتا مباشرة أو بواسطة، فتشمل البنات، وبنات الأولاد وإن سفلن. 3- الأخت: وهي كل امرأة شاركتك في أصليك أبيك وأمك، أو في أحدهما، ولا تحرم أخت أختك إذا لم تكن أختا لك، كأن تكون لك أخت من أبيك لها أخت لأمها من رجل آخر. 4- العمة: كل امرأة شاركت أباك ما علا في أصليه أو في أحدهما. 5- الخالة: كل امرأة شاركت أمك مهما علت في أصليها أو في أحدهما. 6- بنت الأخ: كل امرأة لأخيك عليها ولادة. 7- بنت الأخت: كل امرأة لأختك عليها ولادة. فإن قيل: تحريم الجدّات وبنات الأولاد، هل أخذ من الآية أم من دليل آخر؟

_ (1) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (4/ 220) . [.....] (2) المرجع نفسه (4/ 220) .

السبع المحرمات بغير النسب

قلنا: إن الأم إذا كانت حقيقة في الأم المباشرة مجازا في الأم غير المباشرة فتحريم الأم من الآية، والجدات من الإجماع. وقال بعضهم: إنّ إطلاق الأم على الأم المباشرة والجدة من باب المشترك المعنوي، وعلى ذلك يكون تحريم الجدات من الآية، وكذا القول فيما ماثله. وقد اختلف في البنت من الزنى أهي داخلة في قوله: وَبَناتُكُمْ فتكون حراما، ولها حرمة البنت الشرعية، أم ليست داخلة، فلا تكون حراما، وليس لها حرمة البنت الشرعية؟ بالأول قال أبو حنيفة، وبالثاني قال الشافعي. ولعل أبا حنيفة نظر إلى الحقيقة، وأنها مختلقة من مائه، وبضعة منه فحرمها عليه. أما الشافعي فنظر إلى أن الشارع لم يعطها حكم البنتية، فلم يورّثها منه، ولم يبح الخلوة بها، ولم يجعل له عليها ولاية، وليس له أن يستلحقها، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «الولد للفراش، وللعاهر الحجر» «1» . والوجه ما ذهب إليه أبو حنيفة من الحرمة قياسا على ولد الزنى، فإنّه تحرم عليه أمه، وليس بينهما إلا أنه متخلق منها، وبضعة منها، فكذلك بنت الزنى مع أبيها، ونفي بعض لوازم البنت عنها للعقوبة لا يقتضي نفي البقية، وجواز نكاحها. السبع المحرمات بغير النسب 1- الأم من الرضاع: وهي كل امرأة أرضعتك، وكذلك كل امرأة انتسبت إلى تلك المرضعة بالأمومة، إما من جهة النسب، أو من جهة الرضاع. 2- الأخت من الرضاع: وهي ثلاث: أخت لأبيك وأمك، وهي المرأة التي رضعت من أمك بلبن أبيك. أخت لأبيك، وهي المرأة التي أرضعتها امرأة أبيك رضاعا بلبنه. أخت لأمك، وهي المرأة التي أرضعتها أمك بلبن غير لبن أبيك. ولم يذكر من المحرّم بالرضاع في القرآن سوى الأمهات والأخوات، والأم أصل، والأخت فرع، فنبه بذلك على جميع الأصول والفروع.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (3/ 6) ، 34- كتاب البيوع، 3- باب تفسير المشبهات حديث رقم (2053) ، ومسلم في الصحيح (2/ 1080) ، 17- كتاب الرضاع، 10- باب الولد للفراش حديث رقم (36/ 1457) .

وأيضا لما سمى المرضعة أما، والمرضعة أختا، فقد نبه بذلك على أنه أجرى الرضاع مجرى النسب، وقد جاءت السنّة مؤكدة بصريح العبارة لهذا المفهوم، فقد ثبت أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» «1» . وثبت في «الصحاح» «2» عن علي أنه قال: قلت يا رسول الله مالك تنوّق في قريش وتدعنا؟ قال: «وعندكم شيء» ؟ قلت: نعم، ابنة حمزة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها لا تحلّ لي إنّها ابنة أخي من الرضاعة» وذلك لأنّ ثويبة أرضعت حمزة والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وظاهر قوله: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ يقتضي أنّ مطلق الرضاع محرّم، وبذلك قال مالك وأبو حنيفة. وذهب الشافعي إلى أنه لا تحرّم إلا خمس رضعات، واستدل بما رواه مسلم «3» وغيره أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تحرّم المصة ولا المصتان» «4» «لا تحرّم الإملاجة ولا الإملاجتان» «5» وبما رواه مالك وغيره عن عائشة قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهنّ مما يقرأ من القرآن. وهذا الحديث الأخير لا يصحّ الاستدلال به، لاتفاق الجميع أنه لا يجوز نسخ تلاوة شيء من القرآن بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولا إسقاط شيء منه، وهذا الحديث يفيد أنه سقط شيء من القرآن بعد وفاته. وأما الحديث الأول، فكان مقتضى مذهب الشافعي أن يحرّم بما زاد على الرضعتين، لأنه يقول بالمفهوم. وقد رأى الحنفية أنه لا يجوز تخصيص آية التحريم هذه بخبر الواحد، لأنها محكمة، ظاهرة المعنى، بينة المراد، لم يثبت خصوصها بالاتفاق، وما كان هذا وصفه، فغير جائز تخصيصه بخبر الواحد ولا بالقياس.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (3/ 201) ، 52- الشهادات، 7- باب الشهادة على الأنساب حديث رقم (2645) . (2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1071) ، 17- كتاب الرضاع، 3- باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة حديث رقم (11/ 1446) . (3) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1073) ، 17- كتاب الرضاع، باب في المصة والمصتان حديث رقم (17/ 1450) . (4) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1074) ، 17- كتاب الرضاع، 5- باب في المصة والمصتان حديث رقم (18/ 1451) . (5) رواه مالك في الموطأ كتاب الرضاع، باب ما جاء في الرضاعة حديث رقم (17) .

وقد أخرج أبو بكر الرازي «1» عن طاووس عن ابن عباس أنه سئل عن الرضاع فقلت: إن الناس يقولون: لا تحرّم الرضعة ولا الرضعتان، قال: قد كان ذاك، أما اليوم فالرضعة الواحدة تحرم. فقد عرف ابن عباس خبر العدد في الرضاع، وأنه منسوخ بالتحريم بالرضعة الواحدة. اختلف العلماء في لبن الفحل أيحرّم أم لا يحرّم؟ وصورته: أن يتزوج رجل امرأتين، فتلدا منه، وترضع إحداهما صبية، والأخرى غلاما، فمن ذهب إلى أن لبن الفحل يحرّم حرّم الصبية على الغلام، لأنهما أخوان من الرضاع لأب، وهذا هو المتصوّر، لما ثبت في البخاري «2» عن عائشة أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن على عائشة بعد أن نزل الحجاب، فقالت عائشة: والله لا آذن لأفلح حتى أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن أبا القعيس ليس هو الذي أرضعني، إنما أرضعتني المرأة، قالت عائشة: فلما دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلت: يا رسول الله! إن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن عليّ فأبيت أن آذن له حتى أستأذنك، فقال: «إنه عمك فليلج عليك» وهو مذهب أكثر الأئمة. يقتضي قوله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ أنّ الرضاع يحرّم ولو في سن الكبر، إلا أن قوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [البقرة: 233] بيّن زمن الرضاعة، فذهب العلماء إلى أنّ من أرضع خارج الحولين لا يكون ابنا من الرضاعة، وأكد هذا ما روي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء من الثدي، وكان قبل الفطام» رواه الترمذي والنسائي «3» . وقد رأت عائشة أنّ رضاع الكبير محرّم، للحديث الصحيح «4» عنها قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا، وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد، ويراني فضلا، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى فيهم ما علمت، فكيف ترى يا رسول الله فيهم؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أرضعيه خمس رضعات يحرم بها، فكانت تراه ابنا من الرضاعة، فبذلك كانت عائشة تأخذ.

_ (1) في كتابه أحكام القرآن (2/ 125) . (2) رواه البخاري في الصحيح (6/ 153) ، 67- كتاب النكاح، 23- باب لبن الفحل حديث رقم (5103) . (3) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 458) ، كتاب الرضاع، باب ما ذكر أن الرضاع حديث رقم (1152) . (4) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1076) ، 17- كتاب الرضاع، 7- باب رضاعة الكبير حديث رقم (26/ 1453) .

وأباه سائر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وقلن: والله ما نرى ذلك إلا رخصة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسهلة. 3- أمهات نسائكم: وهنّ أمهات الزوجات. 4- ربائبكم: اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن: والرائب جمع ربيبة، فعيلة بمعنى مفعولة، من قولك ربّها يربّها، إذا تولّى أمرها، وهي بنت الزوجة من غيرك، وسميت بذلك لأنّ زوج أمها في الغالب يتولّى أمرها. ومقتضى ظاهر التلاوة أن الربيبة لا تحرم على زوج أمها إلا بشرطين: أولهما: كونها في حجره. ثانيهما: أن يكون دخل بأمها. أما الأول: فلم يشترطه جمهرة العلماء، قالوا: إنه خرج مخرج الغالب، لا أنه قيد في التحريم. والربيبة حرام على زوج أمها سواء أكانت في حجره أو لم تكن في حجره. وروى مالك بن أوس عن علي أنها لا تحرم حتى تكون في حجره، أخذا بظاهر القرآن. ولكنّ سائر الصحابة وعامة الفقهاء على القول الأول. وأما الثاني فهو متفق عليه، إلا أنهم اختلفوا في الدخول فقال الطبري والشافعي: إنه الجماع، وقال مالك وأبو حنيفة: هو التمتع من اللمس والقبلة، وقال عطاء وعبد الملك بن مروان: هو النظر إليها بشهوة. وقد اختلف العلماء في الدخول: أهو شرط في تحريم أمهات النساء، كما هو شرط في الربيبة، أم ليس شرطا فيهن؟ فروي عن علي، وجابر، وابن الزبير، وزيد بن ثابت، ومجاهد، أنه شرط فيهن، فلا تحرم أمّ الزوجة بالعقد، بل بالدخول بها. قال سائر العلماء: إنه ليس شرطا فيهن. وسبب الخلاف اختلافهم في قوله: اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ أهو وصف لنسائكم من قوله: مِنْ نِسائِكُمُ فقط أم هو وصف لها ولنسائكم من قوله: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ. وقد احتجّ الأولون بأنه لو كان لهما للزم أن يكون وصفا لمعمولي عاملين مختلفين، لأنّ إحداهما العامل فيها الإضافة، والأخرى العامل فيها حرف الجر، وذلك منعه البصريون كالعطف على معمولي عاملين مختلفين، وهذا الاستدلال لا يصح، لأنّ هذا أجازه الكوفيون.

والأولى أن يقال: إنه يحتمل أن يكون ذلك شرطا في تحريم الربيبة فقط، وأن يكون شرطا في تحريم أمهات النساء أيضا، ولا تحلّ الفروج بالاحتمال، فالاحتياط يقضي أن يجعل شرطا في الربيبة فقط. 5- حلائل أبنائكم الذين من أصلابكم: الحلائل جمع حليلة، فعيلة بمعنى مفعلة أي محلة. حرم الله على الأب زوجة ابنه، كما حرم على الابن زوجة أبيه وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ. وقد أرسلها الله فلم يقيدها بالدخول، فيعلم أنها تحرم على الأب بمجرد عقد الابن عليها، وقيد الله الأبناء بالذين من أصلابكم ليخرج الابن الدعيّ، فهذا تحل حليلته لمن تبناه، وذلك فائدة التقييد. وقد كانت العرب تحرّم زوجة الابن بالتبني على من تبنّاه، فأحلّها الإسلام، وتزوّج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش زوج زيد بن حارثة الذي تبناه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تزوجها بعد أن طلقها زيد، فقالت العرب: تزوّج محمد امرأة ابنه، فنزل: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الأحزاب: 37] وقوله: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب: 5] ونزل في ذلك أيضا: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ. فإن قيل: إنّ هذا القيد يخرج الابن من الرضاع كما يخرج الابن بالتبني. قيل: إن الابن بالرضاع حرمت حليلته بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» . وقد رأى الفخر الرازي أنّ اسم الحليلة كما يشمل الزوجة يشمل الأمة، لأنها أيضا تحلّ، فقوله: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ يفيد حرمة أمة الابن أيضا. وذهب الحنفية إلى أن اسم الحليلة خصّ عرفا بالزوجة، فلا تكون داخلة في الآية، ولا تحرم على الأب بمجرد ملك الابن إياها، بل بالوطء. 6- وأن تجمعوا بين الأختين: حرّم الله أن يجمع الرجل بين الأختين في النكاح، وقوله: وَأَنْ تَجْمَعُوا ... في تأويل مصدر معطوف على أُمَّهاتُكُمْ. وقد رأى علي في بعض الروايات عنه أنه يحرم الجمع بينهما بملك اليمين أو إحداهما بنكاح والأخرى بملك اليمين، وحجته أن الله حرم الجمع بين الأختين، وهذا يشمل الجمع بينهما بملك اليمين.

وذهب الفقهاء إلى جواز الجمع بينهما بملك اليمين، أو بزواج من إحداهما وملك الأخرى، ولا يجوز له إلا وطء إحداهما، فإذا وطئها حرمت عليه الأخرى، وحجتهم أنّ الجمع المذكور هنا هو الجمع في النكاح. ذهب مالك والشافعي إلى أنه إذا طلّق الأخت طلاقا بائنا حلّت له أختها، ولو لم تخرج من عدتها، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا تحلّ له أختها حتى تخرج الأولى من عدتها. ودليل الأولين أنّ الله قد حرم الجمع، ولا جمع إذا أبان الأولى، لأنها بإبانتها انتفت الزوجية، بدليل أنه لا يصح له وطؤها، وإذا وطئها حدّ. ودليل أبي حنيفة أن الأولى محبوسة عليه للعدة، والثانية محبوسة عليه أيضا بالزوجية، فقد جمع بينهما في الحبس. والظاهر ما ذهب إليه الإمامان مالك والشافعي، لأنّ الله حرّم الجمع في الزوجية، ولا زوجية للبائن. وقوله: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ يقال فيه ما قلناه في مثلها قريبا. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ولذلك لم يؤاخذهم بما كان منهم من الجمع بين الأختين فيما سلف في الجاهلية، وحكمة تحريم من حرّمن وأبّد تحريمهنّ. إما من النسب، فإنّه لما اقتضت طبيعة الوجود تكوين الأسرة، وكانت الأسرة محتاجة إلى الخلطة والمعاشرة، فلو أبيح من ذكرنا من المحارم، لتطلعت إليهنّ نفوس محارمهنّ، وكان فيهنّ طمع، والخلطة تسهل السبيل، فيكثر الوقوع في الفاحشة، والطبائع جبلت على الغيرة، فيغار الرجل من ابنه على أمه وأخته، ووقوع الفاحشة يدعو للمنازعات والمخاصمات والشغب وحدوث القتل، وحجز بعض المحارم عن بعض فيه مشقة وغير متيسر، فأبّد الله تحريم الزواج بالمحرمات من النسب ليسد باب الطمع، وإذا سدّ باب الطمع انتفت خواطر السوء، فلا يقع الفسوق الداعي إلى النزاع والخصام. ولمثل هذه العلة حرّمت المحرمات من الصهر، فإنّ المرأة تحتاج أمّها وبنتها أن تزورها في بيت الزواج، لو لم يجعلا محارم لتطلعت إليهنّ نفس الزوج وكان ما يترتب على ذلك من المفاسد. وأيضا الضرورة داعية إلى أن يتزوج الأباعد من الأباعد، لأنّه ليس لكل امرأة قريب ذكر يتزوج بها، فلو لم تكن هذه الحرمة مؤبدة لشغلت الخطيب الوساوس أن يكون أبوها أو أخوها هتك عفتها، ولهذه الحرمة المؤبدة يتزوج الرجل امرأة وهو مطمئن إلى عفافها، وآمن من أن يكون أبوها أو أخوها أو من هو شديد الخلطة بها من أبناء إخوتها سلب عفتها.

تحريم ذوات الأزواج

وإنما حرّم الجمع بين الأختين لأنّ الضرائر يكون بينهن من الكراهة والبغضاء ما هو معلوم، فلم يشأ الله أن يعرّض أرحام الأختين للقطيعة بتجويز كونهما ضرتين، يتغايران ويتباغضان، وكذلك القول في المرأة والخالة، والمرأة والعمة، وكذلك كل امرأتين لو جعلت إحداهما ذكرا حرّمت على الأخرى. تحريم ذوات الأزواج قال الله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) المحصنات عطف على أُمَّهاتُكُمْ فهنّ من المحرمات. مادة (ح ص ن) تدلّ على المنع، ومنه الحصن، لأنه يمنع من فيه، ويقال: أحصن الرجل إذا تزوّج، وأحصن إذا أسلم، وأحصن إذا صار حرّا، وأحصن إذا عف، وفي جميع ذلك معنى المنع، فالرجل إذا تزوّج منع نفسه من الزنى، وإذا أسلم منع نفسه من القتل، وإذا عتق فقد منع نفسه من الاستيلاء، والعفيف يمنع نفسه من الفحش. فمن وروده بمعنى تزوج قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أحصنت؟» يعني تزوجت. قال: نعم. وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن منهم ومن لم يحصن» «1» . ومن وروده بمعنى أسلم قوله: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ ومن وروده بمعنى الحرية قوله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ. ومن وروده بمعنى العفاف قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النور: 4] . والمراد بالمحصنات في الآية المتزوجات، فهي تحرّم ذوات الأزواج، واستثنى المملوكات، وقد استشكل هذا الاستثناء، فإنّ ذوات الأزواج إذا كنّ من إمائه محرمات على مالكيهن، ولأجل هذا اختلف في تأويل الآية: فذهب بعضهم إلى أن ذلك في بيع الأمة، فهو يقول: حرّمت عليكم ذوات الأزواج إلا ما طرأ على ملكهن ببيع، فيحللن، وذلك لأنّ بيع الأمة طلاقها، فمن باع أمة متزوجه كان ذلك البيع طلاقا

_ (1) رواه أبو داود كتاب السنن (4/ 157) ، باب إقامة الحد على المريض حديث رقم (4473) وأحمد في المسند (1/ 95) .

لها، وهذا ليس براجح، لأنّ الزواج كما جامع الملك السابق يجامع الملك الطارئ، وقد ورد أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خيّر بريرة لما بيعت «1» ، ولو كان بيعها طلاقها لما خيّرها. وقيل- وهو المختار- إنّ ذلك في حق المسبيات إذا كنّ ذوات أزواج، فهو يقول: وحرّم عليكم ذوات الأزواج إلا ما ملكتموهن بسبي، فسباؤكم إياهنّ هادم لنكاحهن. ويؤيد هذا ما ذكر في سبب نزول الآية. روى مسلم في «صحيحه» «2» عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث جيشا إلى أوطاس، فلقوا عدوا، فقاتلوهم، فظهروا عليهم، وأصابوا لهم سبايا، وكأنّ ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحرّجوا من غشيانهن من أجل أزواجهنّ من المشركين، فأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي فهنّ حلال لكم إذا انقضت عدتهن. فتضمّن هذا الحكم إباحة وطء المسبية بالملك، وإن كان لها زوج من الكفار. وقيل: إنّ المراد بالمحصنات الحرائر، وقوله: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إلا ما ملكتموهنّ بعقد زواج صحيح، وهذا ليس بظاهر، لأنّ الله قال: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: 5، 6] فجعل ما ملكت أيمانهم مقابلا للأزواج، والقرآن يفسّر بعضه بعضا. (كتب الله عليكم) مصدر مؤكّد أي: كتب الله ذلك- وهو تحريمه ما حرّم عليكم- كتابا، وفرضه فرضا. وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ عطف على قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ومن قرأها بالبناء للفاعل عطفها على كتب المقدر. محصنين: أعفّاء.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 210) ، 68- كتاب الطلاق، 14- باب لا يكون بيع الأمة طلاقا حديث رقم (5279) ، ومسلم في الصحيح (2/ 1141) ، 20- كتاب العتق، 2- باب إنّما الولاء حديث رقم (6/ 1504) . (2) رواه البخاري في الصحيح (2/ 1079) ، 17- كتاب الرضاع، 9- باب جواز وطء المسبية، حديث رقم (33/ 1456) . [.....]

مسافحين: زناة، من السفاح وهو الزنى، مأخوذ من السفح، وهو صب الماء، لأنّ الزاني لا غرض له من فعلته إلا ذلك. أَنْ تَبْتَغُوا مفعول لأجله، أي: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ إرادة أَنْ تَبْتَغُوا السناء بِأَمْوالِكُمْ حالة كونكم أعفّاء غير زناة، فلا تضيّعوا أمولكم في الزنى، فتذهب أموالكم، وتفتقروا، ويجوز أن يكون قوله: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ بدلا من قوله: ما وَراءَ ذلِكُمْ، واسم الإشارة في قوله: ذلِكُمْ يرجع إلى المحرّمات المذكورة قبل، وقد اعترض على ذلك بأنّ هذا يقتضي أنّ المحرمات هي من ذكرن، وأنّ من عداهن حلال، مع أنه قد ثبت حرمة نساء غير من ذكرن، وذلك كالمبتوتة، وما زاد على الرابعة، والملاعنة، والجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها. أما الجمع بين المرأة وعمتها فقد فهم تحريمه من قوله: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بطريق القياس، لأنّ العلة في تحريم الجمع هي القرابة القريبة، فكلّ من بينهما قرابة قريبة حرم الجمع بينهما، فجاز أن يقال: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أي من ذكرن أي إما بطريق النص، أو بطريق القياس. ومن يجوّز تخصيص القرآن بخبر الواحد المشهور يقول: إنّ آية الحلّ خصّصت بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا المرأة على خالتها» «1» . وأما البقية: غير الملاعنة فقد خصّصت آيات تحريمهن آية وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ. وأما الملاعنة فقد خصّص الآية قوله صلّى الله عليه وسلّم فيها: «المتلاعنان إذا تفرّقا لا يجتمعان قبل موته» . فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً (ما) واقعة على الاستمتاع، والعائد في الخبر محذوف، أي فآتوهن أجورهن عليه. كقوله: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) [الشورى: 43] أي منه، ويجوز أن تكون واقعة على النساء، وأعاد الضمير في (به) عليها باعتبار اللفظ، وفي مِنْهُنَّ باعتبار المعنى، وقوله: فَرِيضَةً معمول لفرض محذوف، والمراد بالأجور المهور، لأنها في مقابلة الاستمتاع، فسميت أجرا. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ من حطّ لكله أو بعضه، أو زيادة عليه.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1028) ، كتاب النكاح، 4- باب تحريم المرأة وعمتها وخالتها حديث رقم (33/ 1408) .

أمر بإيتاء الأزواج مهورهن، وأجاز الحط بعد الاتفاق برضا الزوجين وعلى ذلك تكون الآية نزلت في النكاح المتعارف. وقيل: نزلت في المتعة، وهي أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معين، وكان الرجل ينكح امرأة وقتا معلوما ليلة، أو ليلتين، أو أسبوعا بثبوت أو غير ثبوت، ويقضي منها وطرا، ثم يتركها. واتفق العلماء على أنها كانت جائزة، ثم اختلفوا، فذهب الجمهور إلى أنها نسخت، وذهب ابن عباس إلى أنها لم تنسخ، وهناك رواية عنه أنها نسخت، وروي أنه رجع عن القول بها قبل موته. والراجح أنّ الآية ليست في المتعة، لأنّ الله ذكر المحرّمات في النكاح المتعارف، ثم ذكر أنه أحلّ ما وراء ذلكم، أي في هذا النكاح نفسه. والراجح أنّ حكم المتعة الثابت بالسنة قد نسخ، لما أخرج مالك «1» عن علي أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: غدوت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا هو قائم بين الركن والمقام مسندا ظهره إلى الكعبة، يقول: «يا أيها الناس إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء، ألا وإنّ الله قد حرّمها عليكم إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنّ شيء فليخلّ سبيلها، لا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» «2» . وروي عن عمر: لا أوتى برجل تزوّج امرأة إلى أجل إلّا رجمتهما بالحجارة. ويدل على تحريم المتعة قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ والمستمتع بها ليست ملك يمين بالاتفاق، وليست زوجة لانتفاء خصائص الزوجية عنها، لأنها لا ترثه، ولا يلحق به ولدها. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح عباده حَكِيماً فيما شرع لكم من الأحكام، ولذلك شرع لكم هذه الأحكام اللائقة بحالكم. قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

_ (1) رواه مالك في الموطأ، كتاب النكاح، باب المتعة حديث رقم (542) . (2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1025) ، 16- كتاب النكاح، 3- باب نكاح المتعة، حديث رقم (21/ 1406) .

وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا إلى قوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ. أصل الطّول الفضل والزيادة، والمراد به هنا الزيادة في المال والسّعة. والمراد بالمحصنات: الحرائر، بدليل مقابلتهن بالمملوكات. لما بيّن الله من لا يحل من النساء ومن يحل منهن، بيّن لنا فيمن يحل أنه متى يحل؟ وعلى أي وجه يحل؟ فقال: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا إلخ يقول: ومن لم يستطع منكم زيادة في المال، وسعة يبلغ بها نكاح الحرّة: فلينكح أمة من الإماء المؤمنات، وإذا ضممت إلى هذا القدر قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ كان ظاهر الآية يدلّ على أنّ الله شرط في نكاح الإماء شرائط ثلاثة: الأول: ألا يجد الناكح مالا يتزوّج به حرّة. والثاني: أن يخشى العنت، وسيأتي بيانه. والثالث: أن تكون الأمة التي يريد نكاحها مؤمنة، لا كافرة. وإنما ضيّق الله في نكاح الإماء باشتراط هذه الشروط لما في نكاحهم من أضرار، أهمّها تعريض الولد للرق، لأن الولد يتبع الأمّ في الرق والحرية، فإذا كانت الأم رقيقة علقت بالولد رقيقا، وذلك يوجب النقص في حقّ الوالد وولده- وسنذكر بعض الأضرار عند قوله تعالى: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ- وبهذا الظاهر تمسك الشافعيّ رضي الله عنه، وهو أيضا قول ابن عباس وجابر وسعيد بن جبير ومكحول وآخرين. وروي أنّ مسروقا والشعبيّ قالا: نكاح الأمة بمنزلة الميتة والدم ولحم الخنزير، لا يحل إلا للمضطر. وروي عن علي وأبي جعفر ومجاهد وسعيد بن المسيّب وآخرين أنهم قالوا: ينكح الأمة وإن كان موسرا. وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه إلى جواز نكاح الأمة لمن ليس تحته حرّة، سواء أكان واجدا طول حرة أم لا، وسواء أخشي العنت أم لا، وسواء أكانت الأمة مسلمة أم لا، واحتج الحنفية على ذلك بالعمومات الكثيرة، كقوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] وقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النور: 32] وقوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ وقوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: 5] ، وجميع ذلك يتناول الإماء الكتابيات، ولم يشترط فيه عدم الطول، ولا خوف العنت، فلا يخرج منه شيء إلا بما يوجب

التخصيص، ولم تنتهض هذه الآية التي معنا حجة مخصّصة! أما أولا: فلأنّها ما دلت على ما ذهب إليه المخالف إلا بمفهوم الشرط، ومفهوم الصفة، وهما ليسا بحجة عند الإمام رضي الله عنه. وأما ثانيا: فعلى تقدير الحجّيّة يكون مقتضى المفهومين عدم الإباحة إذا اختلّ الشرط أو عدمت الصفة، وعدم الإباحة أعمّ من ثبوت الحرمة أو الكرامة، ولا دلالة للأعم على ما خص بخصوصه، فيجوز ثبوت الكراهة عند فقدان الشرط، كما يجوز ثبوت الحرمة سواء بسواء، والكراهة أقلّ في مخالفة العمومات، فتعيّنت، فقلنا بها. وقالوا في قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ: إنه ليس بشرط، وإنما هو إرشاد للإصلاح، لعموم مقتضى الآيات. وأجاب الشافعية: بأن هذه العمومات لا تعارض الآية التي معنا إلا معارضة العامّ للخاص، والخاص مقدّم على العام، وبأن الحنفية خصصوا عموم هذه الآيات فيما إذا كان تحته حرة، فقالوا: لا يجوز له نكاح الأمة، وإنما خصّصت لصون الولد عن الإرقاق، وهذا المعنى قائم في محل النزاع، فيجب أن يعطى حكمه، وهو عدم الجواز، وبأن صون الولد عن الإرقاق يمنع من نكاح الأمة، ولكن الآية أباحته لضرورة من خشي العنت، وفقد الطّول إلى الحرة، وشرطت أن تكون الأمة مسلمة، ففيما عدا ذلك يرجع إلى الأصل وهو المنع من النكاح. روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه تأوّل قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا على عدم وجود الحرة في عصمته، وأن وجود الطول هو كون الحرة تحته، وعليه يكون المراد بالنكاح في قوله: أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الوطء، ويكون التقدير: ومن لم يستطع منكم وطء الحرة. إلخ. والذي لا يستطيع وطء الحرة هو من لا يكون تحته حرة، فيكون منطوق الآية مساويا لقولنا: ومن ليس تحته حرة فلينكح أمة، وبذلك تنقلب الآية حجة للحنفية. قال الفخر الرازي: وجوابه أن أكثر المفسرين فسروا الطول بالغنى، وعدم الغنى تأثيره في عدم القدرة على العقد، لا في عدم القدرة على الوطء. اه. نزيد على ذلك تأويل أبي يوسف رحمه الله مع مخالفته رأي الجمهور من المفسرين لم ينه الإشكال بتمامه، إذ لا يزال الوصف في قوله تعالى: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ محل خلاف، وكذلك قوله: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ لا يزال أيضا محل خلاف. ألهما مفهوم يعمل به أم ليس لهما مفهوم؟ ويعود الكلام من أوله، وتعود الشبهة جذعة: وللحنفية دليل خاص بجواز نكاح الأمة الكتابية، وهو قياسها على الحرة والمملوكة الكتابيتين.

وأجاب الشافعي بأنه إذا تزوّج الحرة الكتابية، أو وطئ مملوكته الكتابية، فهناك نقص واحد، أما إذا تزوّج الأمة الكتابية فهناك نقصان الرق والكفر، فظهر الفرق. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ معناه اعملوا على الظاهر في الإيمان، فإنكم مكلفون بظواهر الأمور، والله يتولى السرائر، فالإيمان الظاهر كاف في صحة نكاح الأمة، ولا يشترط فيه العلم بالإيمان علما يقينيا، إذ لا سبيل لكم إليه. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فيه تأويلان: الأول: أنكم وفتياتكم من جنس واحد، وكلكم أولاد آدم، فلا تستنكفوا أن تنكحوا الإماء عند الضرورة. والثاني: أنكم مشتركون في الإيمان، والإيمان أعظم الفضائل، فالتفاوت فيما وراءه لا ينبغي الالتفات إليه. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] وهذا التأويل يقوّي قول الشافعي إن الإيمان شرط في نكاح الأمة، وعلى كلا التأويلين الجملة معترضة لتأنيس قلوبهم، وإزالة النفرة عن نكاح الإماء، وكانوا في الجاهلية يفتخرون بالأنساب، ويضعون من شأن الابن الهجين، فأعلمهم الله بهذه الكلمة أنّه لا فضل لأحد على أحد إلا بالدّين، وأنه لا ينبغي التخلّق بأخلاق الجاهلية الأولى. فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أعيد فيه الأمر- مع فهمه مما قبله- لزيادة الترغيب في نكاح الإماء، والمراد بالإذن هنا الرضا، وبالأهل أهل المولى. اتفق العلماء على أنّ نكاح الأمة بغير إذن سيدها غير جائز، عملا بظاهر هذه الآية، فإنّ قوله تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ يقتضي كون الإذن شرطا في جواز النكاح، وإن لم يكن النكاح واجبا كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم» «1» فالسلم ليس بواجب، لكنّه إذا اختار أن يسلم فعليه استيفاء هذه الشرائط. وكذلك اتفقوا على أنّ نكاح العبد بغير إذن سيده غير جائز إلا قولا حكيناه فيما سبق عن الإمام مالك، ونفى بعض علماء المالكية نسبة هذا القول إلى الإمام رضي الله عنه. وقد روينا لك حديث جابر: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» وقلنا: إن في تنفيذ نكاح الرقيق تعييبا له، فلا يملكه إلا بإذن مولاه. والمراد بعدم جواز نكاح الرقيق بغير إذن مولاه عند الشافعي أنه نكاح باطل غير صحيح، ويشهد له ظاهر الآية والحديث.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (3/ 59) ، 35- كتاب السلم، 2- باب السلم في وزن معلوم حديث رقم (2240) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1226) ، 22- كتاب المساقاة، 25- باب السلم حديث رقم (127/ 1604) .

والمراد بعدم الجواز عند الحنفية عدم النفاذ، لا عدم الصحة، بل هو موقوف كعقد الفضولي، وإلى هذا ذهب مالك، وهو رواية عن أحمد كما قال صاحب «روح المعاني» «1» . وادّعى بعض الحنفية أنّ الآية تدلّ على أنّ للإماء أن يباشرن العقد بأنفسهن، لأنّه اعتبر فيها إذن الموالي لا عقدهم، وهو غير سديد لوجهين: أمّا أولا: فلأنّ الآية دلت على أن رضا المولى لا بد منه، فأما أنه كاف في النكاح فليس في الآية دليل عليه، لأن عدم الاعتبار لا يوجب اعتبار العدم، فلعل العاقد يكون هو المولى أو الوكيل، فلا يلزم جواز مباشرتهن العقد بأنفسهن. وأما ثانيا: فلأنّه وإن يكن المراد من الأهل الموالي، لكن الفقهاء حملوا ذلك على من له ولاية للتزويج، وذلك إما المولى إن كان رجلا، أو ولي مولاه إن كان مولاه امرأة. ولو سلّم أن المراد بالأهل الموالي لا غير فهو عام يتناول الذكور والإناث، والدلائل الدالة على أن المرأة لا تنكح نفسها خاصة، والخاص مقدّم على العام. وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أكثر المفسرين على أن المراد بالأجور المهور، وعلى هذا التأويل تكون الآية دالّة على وجوب مهر الأمة إذا نكحها، سواء أسمي المهر في العقد أم لم يسمّ، ويكون قوله: بِالْمَعْرُوفِ مرادا منه مهر المثل، أو إيصال المهر إليها على العادة عند المطالبة من غير مطل ولا تأخير. والآية على ظاهرها تؤيّد ما حكاه بعض العلماء عن الإمام مالك أن مهر الأمة لها. وهذا يوجب كون الأمة مالكة، مع أنه لا ملك للقن، فلعله أراد أنها مالكة لمهرها يدا، كالعبد المأذون له في التجارة، لأن الإذن في نكاحها إذن لها في أن تضع يدها على المهر، فيجب التسليم إليها كما هو ظاهر الآية. وأكثر الأئمة على أنّ المهر للسيّد، لأنّه وجب عوضا عن منافع البضع المملوكة للسيد: وهو الذي أباحها للزوج بعقد النكاح، فوجب أن يكون هو المستحق لبدلها، ولأنه لا ملك للقن، لقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النحل: 75] وهذا ينفي كون المملوك مالكا لشيء أصلا. ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: «العبد وما في يده لمولاه» . وأجاب الجمهور عن ظاهر الآية بأن المراد: وآتوهن مهورهن بإذن أهلهن، وهذا القيد مقدّر في الكلام، لتقدم ذكره، أو أنّ المراد وآتوا: أهلهن مهورهن، وإنما

_ (1) روح المعاني (5/ 10) .

أضاف إيتاء المهور إليهن لتأكيد إيجاب المهر، والتنبيه على أنه حقّهن من جهة أنه ثمن بضعهن، وإنما تأخذه الموالي بجهة ملك اليمين. واختار بعض العلماء أنّ المراد من أجورهن النفقة عليهن، فكأنّه تعالى بيّن أن كونها أمة لا يقدح في وجوب نفقتها وكفايتها إذا سلمت إليه كالحرة، وحصلت التخلية من المولى بينه وبينها، ويكون قوله: بِالْمَعْرُوفِ هنا معناه آتوهن نفقتهن بالمعتاد المتعارف فيما بينكم، كقوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 233] وعلى هذا التأويل لا يكون في الآية دلالة على ما حكي عن الإمام مالك أن المهر للأمة لا لسيدها. مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ. المحصنات هنا العفائف. والمرأة المسافحة هي التي تؤاجر نفسها مع أي رجل أرادها. والتي تتخذ الخدن هي التي تتخذ صاحبا معينا. وكان أهل الجاهلية يفصلون بين القسمين، وما كانوا يحكمون على ذات الخدن بأنها زانية، فلما كان هذا الفرق معتبرا عندهم، أفرد الله كل واحد من هذين القسمين بالذكر، ونصّ على حرمتهما معا، ونظير ذلك قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف: 33] وقوله: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأنعام: 151] . وهذه الكلمات واقعة حالا من مفعول فَانْكِحُوهُنَّ أو وَآتُوهُنَّ وظاهر ذلك يمنع من نكاح الأمة الزانية، لكنه روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن نكاح الزانية فقال: «أوله سفاح وآخره نكاح» لذلك، ولأنّ الحرام لا يحرّم الحلال حمل العلماء هذه الآية على الندب والاستحباب. وسيأتي حكم نكاح الزانية عند قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النور: 3] . فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ، يقول الله: فإذا أحصنّ بالتزوج فإن زنين فحدّهنّ نصف حدّ الحرائر، وظاهر هذا أنّ الأمة لا تحدّ إذا زنت ما لم تتزوّج، وحكي هذا الظاهر مذهبا لمجاهد وطاووس. قال الزهري: المزوّجة محدودة في القرآن، وغيرها بالسنة، روى الشيخان «1» عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: «إن زنت اجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير» .

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (3/ 36) ، 34- كتاب البيوع، 66- باب بيع العبد حديث رقم (2153، 2154) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1328) ، 29- كتاب الحدود، 6- باب رجم اليهود حديث رقم (30/ 1703) .

فهذا الحديث الشريف دلّ على أنّ قوله: فَإِذا أُحْصِنَّ لم يجر مجرى الشرط، بل جيء به لدفع فتوهم أنّ التزويج يزيد في حدّهن، فلا مفهوم له. ومعلوم أنّ حدّ الحرائر الثيبات الرجم، وهو لا يتنصّف، فلا يكون مرادا هنا، وحدّ الحرائر الأبكار جلد مئة، ونصفه خمسون جلدة، فهو حد الأمة مطلقا كما علمت. ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ الإشارة إلى نكاح الإماء، وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر، ثم توسّع فيه، فاستعمل في كل جهد ومشقة، والمراد به هنا الزنا، وقد علمت أنّ خشية الزنى شرط آخر في جواز نكاح الإماء عند الشافعي رضي الله عنه، وأن أبا حنيفة رضي الله عنه لا يجعل ذلك شرطا، وإنما هو إرشاد للأصلح. وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ يقول الله تعالى: وصبركم عن نكاح الإماء خير لكم من نكاحهن، وإن رخص لكم فيه بشروطه السابقة: ذلك لما فيه من إضرار بعد تعريض الولد للرق، فإنهنّ ممتهنات مبتذلات خرّاجات ولاجات، وذلك ذلّ ومهانة لا يكاد يتحملها غيور، ولأنّ حق الموالي فيهن أقوى من حق الزوجية، فقد يستخدمونهن أكثر الأوقات، ولا يسلمونهن لأزواجهن إلا قليلا، وقد يسافرون بهن، أو يبيعونهن لحاضر أو باد، وفي ذلك مشقة عظيمة على الأزواج لا سيما إذا كان لهم منهنّ أولاد. وفي مسند الديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحرائر صلاح البيت، والإماء هلاك البيت» . وأخرج عبد الرزاق عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «إذا نكح العبد الحرة فقد أعتق نصفه، وإذا نكح الأمة فقد أرقّ نصفه» وعن ابن عباس أنه قال: ما تزحف ناكح الأمة عن الزنى إلا قليلا، وعن أبي هريرة وابن جبير مثله. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: والله واسع المغفرة، كثيرها، فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن، وفي ذلك تنفير عنه حتى كأنه ذنب، وهو واسع الرحمة كثيرها، فلذلك رخص لكم في نكاحهن. قال الله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) مثل هذا التركيب يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وقع في كلام العرب قديما، ومعلوم أنّه يمتنع أو يضعف دخول اللام على المفعول المتأخر عن فعله المتعدي، وقد خرّجه النحاة على مذاهب، فمذهب سيبويه وجمهور البصريين أن مفعول يُرِيدُ محذوف، واللام للتعليل. والتقدير: يريد الله تحليل ما أحل، وتحريم ما حرم، ليبين لكم.

وذهب بعض البصريين إلى أنّ الفعل مؤوّل بمصدر من غير سابك، على حد «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» والتقدير: إرادة الله كائنة للتبيين. وذهب الكوفيون إلى أنّ اللام ناصبة للفعل، وأنها تقوم مقام أن في فعل الإرادة والأمر، فيقال: أردت أن تذهب، وأردت لتذهب، وأمرتك أن تقوم، وأمرتك لتقوم، وعليه قوله تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ [الصف: 8] يعني يريدون أن يطفئوا، ومثله وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام: 71] أي أمرنا أن نسلم. والمعنى: يريد الله بإنزال هذه الآيات أن يبيّن لكم التكاليف، ويميّز فيها الحلال من الحرام والحسن من القبيح. وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي يهديكم مناهج من تقدّمكم من الأنبياء الصالحين، لتقفوا أثرهم، وتهتدوا بهداهم، وليس المراد أنّ جميع ما شرع لنا من الحلال كان مشروعا بعينه للأمم السابقين كذلك، بل المراد أنّ الله كما قد شرع للأمم السابقين من الأحكام ما بهم حاجة إليه، وما اقتضته مصالحهم، كذلك شرع لنا ما بنا الحاجة إليه، وما تدعو إليه مصالحنا، فإنّ الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في أنفسها إلا أنها متفقة في باب المصالح. وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ التوبة ترك الذنب، مع الندم والعزم على عدم العود، وذلك مما يستحيل إسناده إلى الله تعالى، فلا بد من تأويل فيه، فإما أن يراد من التوبة المغفرة مجازا لتسببها عنها، وذلك مراد من قال: معنى وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ يقبل توبتكم، وإما أن يراد من التوبة الإرشاد إلى ما يمنع عن المعاصي أو الإرشاد إلى ما يكفّرها. واختار المحققون من العلماء أن الخطاب ليس عاما لجميع المكلفين، بل لطائفة معيّنة قد تاب الله عليهم في نكاح الأمهات والبنات، وسائر المنهيات المذكورة في هذه الآيات، وحصلت لهم هذه التوبة بالفعل. والذي دعاهم إلى تخصيص هذا الخطاب أنه لو كان عاما لعارضه تخلف المراد عن الإرادة، وهي علّة تامة، فلا يدفع هذا التعارض إلى تخصيص الخطاب. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يعني والله ذو علم شامل لجميع الأشياء، فيعلم ما شرع لكم من الأحكام، وما سلكه المهتدون من الأمم قبلكم، وما ينفع عباده المؤمنين وما يضرهم، وهو حكيم يراعي في جميع أفعاله الحكمة والمصلحة، فيبيّن لمن يشاء، ويهدي من يشاء، ويتوب على من يشاء. قال الله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً (27) الجملة الأولى مؤكّدة لقوله تعالى: وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ والمراد بالذين يتبعون

الشهوات الفسقة المنهمكون في المعاصي. وقيل: هم اليهود والنصارى، وقيل: هم المجوس كانوا يحلّون الأخوات وبنات الإخوة والأخوات، فلما حرّمهنّ الله تعالى قالوا: إنكم تحلون بنت الخالة والعمة، مع أنّ الخالة والعمة عليكم حرام، فانكحوا أيضا بنات الأخ والأخت، فكانوا يريدون أن يضل المؤمنون فنزلت هذه الآية. والميل العظيم هو الانحراف عن الحق إلى الباطل، ولا شكّ أنه عظيم بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة على ندرة، واعترف بأنّها خطيئة، ولم يستحلّها. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ في جميع التكاليف إحسانا منه إليكم، ونظيره قوله تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 157] وقوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] وقوله: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] وقوله عليه الصلاة والسلام: «جئتكم بالحنيفية السمحة» «1» وذلك لأنه وإن حرّم علينا ما ذكر تحريمه من النساء، فقد أباح لنا غيرهن من سائر النساء، تارة بالنكاح، وتارة بملك اليمين، وكذلك جميع المحرمات، قد أباح لنا من جنسها أضعاف ما حظر، فجعل لنا مندوحة عن الحرام بما أباح من الحلال. وهذه الآيات يحتجّ بها في المصير إلى التخفيف فيما اختلف فيه الفقهاء، وسوّغوا فيه الاجتهاد، ومن شمائله صلّى الله عليه وسلّم أنه ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما «2» . وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً يستميله هواه وشهوته، ويستشيطه خوفه وحزنه، فهو عاجز عن مخالفة الهوى، وتحمّل مشاق الطاعة، فلذلك خفّف الله عنه في التكاليف، ورخّص له في كثير من الأحكام. وروي عن ابن عباس «3» أنه قال: ثماني آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ.

_ (1) رواه أحمد في المسند (5/ 266) و (6/ 116) . (2) رواه البخاري في الصحيح (4/ 201) ، 61- كتاب المناقب، 23- باب صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (3560) ، ومسلم في الصحيح (4/ 1813) ، 43- كتاب الفضائل، 20- باب مباعدته صلّى الله عليه وسلّم للآثام حديث رقم (77/ 2327) . (3) رواه البخاري في الصحيح كتاب المناقب، باب صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (3560) .

قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) ينهى الله كل أحد من المؤمنين عن أكل مال غيره بالباطل، وعن أكل مال نفسه بالباطل، لأنّ قوله تعالى: أَمْوالَكُمْ يقع على مال نفسه ومال غيره، وأكل مال نفسه بالباطل إنفاقه في المعاصي، وأكل مال غيره بالباطل فيه وجهان: أحدهما: ما قاله السدي: وهو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم. فالباطل ما يخالف الشرع. وثانيهما: ما قاله ابن عباس والحسن وهو أن يأكل بغير عوض، فالباطل كل ما يؤخذ بغير عوض. وقد تضمن الأكل بالباطل أكل أبدال العقود الفاسدة، كبيع ما لا يملك، وكمن اشترى شيئا من المأكول فوجده فاسدا لا ينتفع به، كالجوز والبيض والبطيخ، فيكون أكل ثمنه أكل مال بالباطل. وكذلك ثمن كل ما لا قيمة له ولا ينتفع به كالقردة والخنازير والذباب والزنابير والميتة والخمر، وكذلك أجرة النائحة وآلة اللهو. هذا يدلّ على أنّ من باع بيعا فاسدا وأخذ ثمنه أنه منهي عن أكل ثمنه، وعليه رده. وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً الاستثناء فيه منقطع. وقرأ الكوفيون بنصب تجارة، وعليها يكون اسم تَكُونَ عائدا على الأموال، أي: إلا أنّ تكون الأموال المتداولة بينكم تجارة صادرة عن تراض منكم. وقرأ الباقون برفع تجارة، وحاصل المعنى: لا تقصدوا أكل الأموال بالباطل، لكن اقصدوا كون الأموال تجارة عن تراض، أو لكن اقصدوا وقوع تجارة عن تراض. والتجارة اسم يقع على عقود المعاوضات، المقصود بها طلب الأرباح، وخصّها بالذكر من بين سائر أسباب الملك لكونها أغلب وقوعا، وأوفق لذي المروءات. أخرج الأصبهاني عن معاذ بن جبل: قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ أطيب الكسب كسب التجار: الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يطروا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا» . وقد دلّ ظاهر قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ على إباحة جميع أنواع التجارات ما حصل التراضي بين المتعاقدين، إلا أنه قد خص منها أشياء بنصّ الكتاب، وأشياء بسنة الرسول صلّى الله عليه وسلّم: فالخمر والميتة ولحم الخنزير

وسائر المحرمات في الكتاب لا يجوز الاتجار فيها، لأنّ إطلاق لفظ التحريم يقتضي أنّ سائر وجوه الانتفاع محرّمة، ولأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعل النهي عن الشحوم نهيا عن أكل ثمنها، ففي الحديث: «لعن الله اليهود حرّم عليهم الشحوم فباعوها، فأكلوا ثمنها» «1» . ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بيع المنابذة، والملامسة «2» ، وبيع الحصاة وبيع الغرر، «3» وبيع العبد الآبق «4» ، وبيع ما لم يقبض «5» ، وبيع ما ليس عند الإنسان «6» ، ونحوها من البيوعات المجهولة والمعقودة على غرر. كل ذلك ونحوه مخصوص من ظاهر قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ. وظاهر الآية يشهد للحنفية والمالكية ومن نفى خيار المجلس، لأنّ الآية تقتضي حلّ التصرف في المبيع بوقوع البيع عن تراض، سواء تفرّق المتبايعان أم لم يتفرقا، فإنّ الذي يسمى تجارة في عقد البيع إنما هو الإيجاب والقبول. وليس التفرّق والاجتماع من التجارة في شيء. والقائلون بخيار المجلس ومنهم الشافعي والثوري والليث وغيرهم يقولون: إن الآية مخصوصة بما رواه البخاري «7» وغيره من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «البيّعان كلّ واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار» كما خصصت بأحاديث النهي عن البيوع الباطلة، فيما تقدم.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (3/ 57) ، 34- كتاب البيوع، 112- باب بيع الميتة حديث رقم (2236) (بلفظ مختلف) ومسلم في الصحيح (3/ 1207) ، 22- كتاب المساقاة، 13- باب تحريم الخمر والميتة حديث رقم (71/ 1581) (بلفظ مختلف) . (2) رواه البخاري في الصحيح (3/ 34) ، 34- كتاب البيوع، 63- باب بيع المنابذة حديث رقم (2146) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1151) ، 21- كتاب البيوع، 1- باب إبطال بيع الملامسة حديث رقم (1/ 1511) . (3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1153) ، 21- كتاب البيوع، 2- باب بطلان بيع الحصاة حديث رقم (1513) . (4) رواه ابن ماجه (2/ 740) ، كتاب التجارات، باب النهي عن شراء ما في بطون الأنعام حديث رقم (2196) . (5) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1159) ، 21- كتاب البيوع، 8- باب بطلان بيع المبيع قبل القبض حديث رقم (29/ 1525) . [.....] (6) رواه ابن ماجه في السنن (2/ 737) ، كتاب التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك حديث رقم (2187) . (7) رواه البخاري في الصحيح (3/ 24) ، 34- كتاب البيوع، 44- باب البيعان بالخيار حديث رقم (2111) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1163) ، 21- كتاب البيوع، 10- باب ثبوت خيار المجلس حديث رقم (43/ 1531) .

وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ لما كان المال شقيق الروح من حيث إنه سبب قوامها، وبه صلاحها، حسن الجمع بين التوصية بحفظ المال، والتوصية بحفظ النفس. وظاهر قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ النهي عن أن يقتل المؤمن نفسه، وعلى هذا الظاهر اقتصر البلخي فقال: المراد النهي عن قتل الإنسان نفسه في حال غضب أو ضجر. ونظير ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجّأ بها في بطنه في نار جهنم» «1» . ولكن جمهور المفسرين على أن المعنى: لا يقتل بعضكم بعضا، وإنما قال: أَنْفُسَكُمْ مبالغة في الزجر، وقد ورد في الحديث: «المؤمنون كالنفس الواحدة» «2» ولأنّ العرب يقولون: قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم، لأن قتل بعضهم يجري مجرى قتلهم. وأنكر بعض الناس قول البلخي، وقال: إن المؤمن مع إيمانه لا يجوز أن ينهى عن قتل نفسه، لأنه ملجأ إلى ألا يقتل نفسه، وذلك لأنّ الصارف عنه في الدنيا قائم، وهو الألم الشديد والذم العظيم، والصارف عنه أيضا في الآخرة قائم، وهو استحقاق العذاب الشديد. وإذا كان الصارف خالصا امتنع منه أن يقتل نفسه، وإذا كان كذلك لم يكن للنهي عنه فائدة. وهذا غير سديد، لأنّ قتل النفس ما لم ينه عنه لا يعلم أنه يوجب العذاب الأليم في الآخرة، وربما تخيّل الإنسان أن نفسه ملكه، فإذا بخع نفسه فلا عقوبة عليه، إذ هو لم يعتد على غيره. وكم من مؤمن بالله واليوم الآخر يلحقه من الغم والأذية ما يظنّ معه أن القتل عليه أسهل، وإذا كان كذلك كان في النهي عن قتل الإنسان نفسه فائدة أي فائدة، لا سيما في عصرنا الحاضر، حيث ضعف إيمان الناس، وغلب عليهم حبّ الدنيا، واستهوتهم الشهوات، وسرت إليهم عدوى الانتحار، فترى الواحد منهم يفضّل أن يقتل نفسه لدريهمات خسرها في تجارته، أو لخلاف بينه وبين زوجته، أو لضيق ذات

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (7/ 41) ، 76- كتاب الطب، 56- باب شرب السم حديث رقم (5778) ، ومسلم في الصحيح (1/ 103) ، 15- كتاب الإيمان، 47- باب غلظ تحريم الإنسان نفسه حديث رقم (175/ 109) . (2) رواه مسلم في الصحيح (4/ 200) ، 45- كتاب الصلة، 17- باب تراحم المؤمنين حديث رقم (67/ 2586) (بلفظ مختلف) .

يده أو لأنّ فلانا رفض خطبته أو ما أشبه ذلك من توافه الأمور. ولا مانع من أن تكون الآية نهيا عن قتل أنفسهم، وعن قتل بعضهم بعضا، وعما يؤدي إلى ذلك: كتناول المخدرات، واستعمال السموم الضارة بالجسم، والمجازفة فيما يخشى منه الهلاك. أخرج الإمام أحمد وأبو داود «1» عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: لما بعثني النبي صلّى الله عليه وسلّم عام ذات السلاسل احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، قال: فلما قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر ذلك له، فقال: «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب» ؟ قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الآية فتيممت، ثم صليت، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يقل شيئا. ففهم عمرو رضي الله عنه أنّ الآية تتناول بعمومها مثل حالته، وأقره النبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً تعليل للنهي، أي إنما ينهاكم عن أكل الحرام وإهلاك الأنفس، لأنه لم يزل بكم رحيما. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) . المشار إليه أقرب مذكور، وهو قتل النفس. روي ذلك عن عطاء، وقيل: هو وما قبله. وقيل: مجموع ما تقدم من المحرّمات من قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النساء: 19] إلى هنا، وقيل: من أول السورة إلى هنا. والعدوان: الإفراط في مجاوزة الحد، وأصل الظلم النقص والجور ومجاوزة الحد، فقيل: المراد بالظلم هنا قصد التعدي على حدود الله، وهو كفر. وقيل المراد: بالعدوان والظلم معنى واحد، ودفع التكرار بأن المراد بالعدوان التعدي على الغير، وبالظلم ظلم النفس بتعريضها للعقاب. والمعنى: أن من يفعل ذلك المحرم حال كونه ذا عدوان وظلم عاقبه الله على ذلك في الآخرة بإدخاله نارا شديدة الإحراق، وإدخاله النار أمر هيّن على الله، لا يمنعه منه مانع.

_ (1) رواه أبو داود في السنن (1/ 140) ، كتاب الطهارة، باب إذا خاف الجنب حديث رقم (334) ، وأحمد في المسند (4/ 203) .

قال الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً (31) واجتناب الشيء تركه والابتعاد عنه، كأنه ترك جانبه وناحيته. والتكفير الغفر والمحو. والمراد بالسيئات: الصغائر لوقوعها في مقابلة الكبائر. والمدخل الكريم: الجنة. واختلف العلماء في الذنوب أهي متفاوتة، فيها كبائر وفيها صغائر، أم لا؟ فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّ كل شيء عصي الله به فهو كبيرة. وهذا القول ضعيف، لأن هذه الآية قد فصلت بين الكبائر وما يكفّر باجتناب الكبائر. فلو كانت الذنوب بأسرها كبائر لم يصح هذا الفصل. والجمهور على أن الذنوب متفاوتة منقسمة إلى كبائر وصغائر، قال العلامة ابن حجر الهيتمي: إنه لا خلاف بين الفريقين في المعنى، وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق، لإجماع الكل على أنّ من المعاصي ما يقدح في العدالة، ومنها ما لا يقدح فيها، وإنما الأولون فروا من التسمية، فكرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة نظرا إلى عظمة الله تعالى، وشدة عقابه، وإجلاله عن تسمية معصيته صغيرة، لأنها إلى باهر عظمته كبيرة أيّ كبيرة، ولم ينظر الجمهور إلى ذلك، لأنه معلوم، بل قسّموها إلى قسمين كما تقتضيه صرائح الآيات والأخبار، ولا سيما هذه الآية اه. والقائلون بانقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر فريقان: فريق يقول: الكبيرة تتميز عن الصغيرة في نفسها وذاتها. وفريق يقول: هذا الامتياز إنما يكون بحسب حال فاعليها، فربّ ذنب يكون صغيرة بالنسبة لشخص وكبيرة بالنسبة لآخر، ولذلك قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. والذين ذهبوا إلى أنّ الكبيرة تمتاز في نفسها عن الصغيرة اختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافا شديدا، فمنهم من ضبطها بالعد، ومنهم من ضبطها بالحد. فقيل في عدها عن ابن عباس في إحدى الروايات: إنّها ما ذكره الله من أول هذه السورة إلى هنا، وقيل: هي سبع كما في «الصحيحين» «1» «اجتنبوا السبع الموبقات» . «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم،

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (3/ 256) ، كتاب الوصايا، 2- باب قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً حديث رقم (2766) ، ومسلم في الصحيح (1/ 92) ، 1- كتاب الإيمان، 38- باب بيان الكبائر حديث رقم (145/ 89) .

وأكل الربا، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» . وقيل تسع، وقيل عشر، وقيل أكثر، فقد روى عبد الرزاق عن ابن عباس أيضا أنه قيل له: هل الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب، وروى ابن جبير أنه قال: إلى السبعمائة أقرب. والذين ضبطوا الكبيرة بالحد ذكروا لها عدّة تعاريف، فمنهم من قال: هي كل معصية أوجبت الحد، وقيل: هي كل ذنب قرن بالوعيد الشديد في الكتاب أو السنة. وقيل: هي كل معصية أوجبت الحد أو قرنت بالوعيد الشديد. وقيل: هي كل ما نص الكتاب على تحريمه بلفظ التحريم، إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة. قال الواحدي: الصحيح أن الكبيرة ليس لها حدّ يعرفها العباد به، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها، ولكنّ الله تعالى أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا في اجتناب المنهيّ عنه رجاء أن تجتنب الكبائر، ونظير ذلك إخفاء ليلة القدر والصلاة الوسطى وساعة الإجابة اه. يريد أنّ الله تعالى لو بيّن لنا أنّ الكبائر ليست إلا كذا وكذا عدا أو حدا، وانضم إلى ذلك ما عرفناه من هذه الآية أنه متى احترزنا عن الكبائر صارت صغائرنا مكفّرة، لكانت الآية إغراء لنا بالإقدام على الصغائر، والإغراب بالقبيح لا يليق. ولكن يجوز أن يبيّن في بعض الذنوب أنه كبيرة ولا يكون في ذلك إغراء إذ لم يبيّن جميع الكبائر لا عدّا ولا حدّا. وبعد فقد استشكلت الآية مع ما رواه مسلم «1» من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» ووجه الإشكال أنّ الصلوات إذا كفّرت لم يبق ما يكفره غيرها، فلم يتحقق مضمون الآية، وأن اجتناب الكبائر إذا كفّر لم يبق ما تكفره الصلوات، فلم يتحقق مضمون الحديث. وأجيب عنه بأجوبة أصحها أن الآية والحديث بمعنى واحد، فمضمون الحديث أنّ من اجتنب ترك الصلاة، واجتنب الكبائر كفّرت سيئاته الصغائر، وهذا هو معنى الآية، فيكون الحديث بيانا وتنبيها على أنّ ترك الصلاة من الكبائر فتدبّر. قال الله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) التمني: طلب ما يعلم أو يظن أنه لا يكون. ينهى الله المؤمنين عن فعل من أفعال القلوب، وهو الحسد، ليطهّر باطنهم. بعد

_ (1) رواه في الصحيح (1/ 209) ، 2- كتاب الطهارة، 5- باب الصلوات الخمس حديث رقم (16/ 233) .

أن نهاهم عن أكل الأموال بالباطل، وقتل النفس، وذلك من أفعال الجوارح ليطهّر ظاهرهم. وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية وجوها أشهرها ما روي عن مجاهد أنّ أم سلمة قالت: يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو، ولهم من الميراث ضعفنا، فليتنا كنا رجالا فنزلت الآية «1» . روي عن ابن عباس في معنى الآية: لا يقل أحدكم ليت ما أعطي فلان من المال والنعمة والمرأة الحسناء كان عندي، فإنّ ذلك يكون حسدا، ولكن ليقل: اللهم أعطني مثله. وعلى هذا التأويل تكون الآية على ظاهرها، ويكون معناها، ولا تتمنوا ما ميّز الله به بعضكم من المال والجاه، وكل ما يجري فيه التنافس، فإنّ هذا التفضيل قسمة صادرة من حكيم خبير نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الزخرف: 32] وعلى من كان حظه من الدنيا قليلا أن يرضى بما قسم الله له، ولا يحسد غيره، لأنّ الحسد أشبه شيء بالاعتراض على من أتقن كل شيء وأحكمه. وقدّر بعضهم في الكلام مضافا ينساق إليه الذهن، ويقتضيه المقام فقال: المعنى ولا تتمنوا مثل ما فضل الله به بعضكم على بعض، لأنّ المقام ليس مقام طلب زوال النعمة عن الغير، بل إنما هو طلب نعمة خاصّة أن تكون له، وأما أن تزول عن غيره أو لا تزول فليس من القصد في شيء. وعلى هذا التأويل يكون تمني مثل ما للغير منهيا عنه، لأنه قد يكون ذريعة إلى الحسد، ولأنّ تلك النعمة التي تمناها بخصوصها ربما كانت مفسدة له في دينه، ومضرة عليه في دنياه، فلا يجوز أن يقول: اللهم أعطني دارا مثل دار فلان، ولا ولدا مثل ولده، بل ينبغي أن يقول: اللهم أعطني ما يكون صلاحا لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي، ولا يتعرّض لمن فضل عليه. ويؤيد تأويل ابن عباس في الآية ما روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يتمنّ أحد مال أخيه، ولكن ليقل اللهم ارزقني، اللهم أعطني مثله» . وقوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ تعليل للنهي السابق، أي لكل من فريقي الرجال والنساء حظّ مقدّر في الأزل من نعيم الدنيا في التجارات والزراعات، وغير ذلك من المكاسب، فلا يتمنّ أحد خلاف ما قسم له. وقوله تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ. حذف منه مفعوله لإفادة العموم، أي:

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 221) ، كتاب التفسير حديث رقم (3022) .

شرح المفردات

واسألوا ما شئتم من إحسانه الزائد، وإنعامه المتكاثر، فإنه سبحانه يعطيكموه إن شاء. وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «سلوا الله من فضله، فإنّ الله يحب أن يسأل، وإنّ من أفضل العبادة انتظار الفرج» «1» . وقال سفيان بن عيينة: لم يأمر سبحانه بالمسألة إلا ليعطي. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ولذلك فضل بعض الناس على بعض حسب استعدادهم وتفاوت درجاتهم. قال الله تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) شرح المفردات التنوين في كلمة كُلِّ عوض عن مضاف إليه مفرد، سيأتي بيانه. والموالي جمع مولى، لفظ مشترك بين معان، فيقال للسيد المعتق: مولى، لأنه ولي النعمة في عتقه، ويسمّى مولى النعمة، ويقال للعبد المعتق: مولى، ويقال للحليف: مولى، ويقال للناصر: مولى، ويقال للعصبة، موالي، وهذا الأخير هو الأليق بهذه الآية الكريمة، ويؤيده ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا أولى الناس بالمؤمنين، من مات وترك مالا فماله للموالي العصبة، ومن ترك كلا أو ضياعا فأنا وليه» «2» . والأيمان جمع يمين، ومعناه هنا اليد اليمنى، وإسناد العقد إلى الأيمان مجاز، لأنه كان من عادتهم أن يأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد. واختلف المفسرون في تأويل قوله تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ فذكروا لذلك أوجها نجملها لك فيما يلي: 1- ولكلّ إنسان موروث جعلنا وارثا من المال الذي ترك، وهنا تمّ الكلام ويكون قوله تعالى: الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ جوابا عن سؤال مقدّر نشأ من الجملة السابقة، كأنه قيل: ومن الوارث؟ فقيل: الوالدان والأقربون، أو قيل: ومن هذا الإنسان الموروث؟ فقيل: الوالدان والأقربون، فالوالدان والأقربون إما أن يكونوا الوارثين أو المورثين، وعلى كل فالكلام جملتان.

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 528) ، كتاب الدعوات باب في انتظار الفرج، حديث رقم (3571) . (2) رواه البخاري في الصحيح (3/ 116) ، 43- كتاب الاستقراض، 11- باب الصلاة على من ترك دينا حديث رقم (2399) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1238) ، 23- كتاب الفرائض، 4- باب من ترك مالا، حديث رقم (14/ 1619) .

2- ولكل إنسان وارث ممن تركهم الوالدان والأقربون جعلنا موروثين، فالجار والمجرور في قوله: مِمَّا تَرَكَ متعلق بمحذوف صفة للمضاف إليه، و (ما) بمعنى من، والكلام جملة واحدة. 3- ولكل قوم جعلناهم وارثا نصيب مما ترك والداهم وأقربوهم، فيكون في الكلام مبتدأ محذوف، ويكون قوله: مِمَّا تَرَكَ صفة ذلك المبتدأ، وقوله: لِكُلٍّ خبره، والكلام جملة واحدة. 4- ولكل مال من الأموال التي تركها الوالدان والأقربون جعلنا ورثة يلونه ويحوزونه، وعليه يكون لِكُلٍّ متعلقا بجعلنا، مِمَّا تَرَكَ صفة المضاف إليه، والكلام جملة واحدة أيضا. وأما قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ فالراجح فيه أنه جملة مستقلة عن سابقتها، مؤلّفة من مبتدأ وخبر، وزيدت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط. وقد اختلف المفسرون في تأويل هذه الجملة على وجوه نذكرها فيما يلي: 1- أنّ المراد بالذين عقدت أيمانكم الحلفاء، وهم موالي الموالاة، وكان لهم نصيب من الميراث، ثم نسخ. أخرج ابن جرير «1» وغيره عن قتادة قال: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول هدمي هدمك، ودمي دمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، فجعل له السدس من جميع المال، ثم يقسّم أهل الميراث ميراثهم، ثم نسخ ذلك بعد في سورة الأنفال بقوله سبحانه: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: 8] وروي مثل ذلك عن ابن عباس وغيره. 2- أن المراد بهم الأدعياء، وهم الأبناء بالتبني، وكانوا يتوارثون بذلك السبب، ثم نسخ بآية الأنفال. 3- أن المراد بهم إخوان المؤاخاة، وقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يؤاخي بين الرجلين من أصحابه، وكانت تلك المؤاخاة سببا في التوارث، ثم نسخ ذلك بما تلونا «2» . 4- يرى أبو مسلم الأصفهاني أن المراد بهم الأزواج، والنكاح يسمى عقدا. 5- يرى الجبائي أنّ المراد بهم الموالي، وأنّ قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (5/ 34) . (2) رواه البخاري في الصحيح (5/ 211) ، 65- كتاب التفسير، 7- باب وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ حديث رقم (4580) .

معطوف على الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ويختار الوجه الرابع في تأويل قوله تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ إلخ أي ولكل شيء مما تركه الوالدان والأقربون، والذين عقدت أيمانكم موالي، أي وارثا، فآتوا الموالي نصيبهم، ولا تدفعوا المال إلى الحليف، بل إلى المولى الوارث. 6- أنّ المراد بهم الحلفاء، يؤتون نصيبهم من النصرة والنصح وحسن العشرة. أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس، فآتوهم نصيبهم من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصي لهم، وروي عن مجاهد مثله. 7- يرى الأصم أن المراد بهم الحلفاء، يؤتون من التركة على سبيل التحفة والهدية بالشيء القليل، كما أمر تعالى لمن حضر القسمة أي أن يعطى شيئا. وبعد فقد اختلف فقهاء الأمصار في توريث موالي الموالاة، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: من أسلم على يدي رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره فميراثه له. وقال مالك وابن شبرمة والثوري والأوزاعي والشافعي: ميراثه للمسلمين. احتج الحنفية بهذه الآية وبالحديث، أما وجه الدلالة في الآية فهو أنّ قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ يقتضي ظاهره نصيبا ثابتا لهم، والنصرة والنصيحة والوصية ليست بنصيب ثابت، فتأويل الآية على النصيب الثابت المسمى في عقد المحالفة أولى وأشبه بمفهوم الخطاب من تأويل الآخرين، فقد عقلنا من ذلك أنّ لمولى الموالاة نصيبا من الميراث، وقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ لم ينسخ هذا الحكم، إنما حدث وارث آخر هو أولى من مولى الموالاة، كحدوث ابن لمن له أخ، لم يخرج الأخ عن أن يكون من أهل الميراث إلا أن الابن أولى منه، وكذلك أولوا الأرحام أولى من الحليف، فإذا لم يكن رحم ولا عصبة فالميراث لمن حالفه وجعله له. وأما الحديث فهو ما روي عن تميم الداري أنه قال: يا رسول الله ما السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل من المسلمين؟ قال: «هو أولى الناس بمحياه ومماته» «1» فقوله: «هو أولى الناس بمماته» يقتضي أن يكون أولاهم بميراثه، إذ ليس بعد الموت بينهما ولاية إلا في الميراث. وقال المالكية والشافعية: لا دلالة في الآية على أنّ الحليف يرث، لأن دلالتها على ذلك موقوفة على ثلاثة أمور.

_ (1) رواه أبو داود في السنن (3/ 48) ، كتاب الفرائض، باب في الرجل يسلم على يدي الرجل حديث رقم (2902) .

أن يكون المراد بالذين عقدت أيمانكم الحلفاء. وأن يكون المراد بالنصيب النصيب في الميراث. وأن تكون الآية محكمة غير منسوخة. وقد علمت اختلاف المفسرين من السلف في تأويل الآية، وأن الذين أوّلوا الموصول بالحلفاء قالوا بنسخ الحكم، أو حمل النصيب على غير الميراث، على أنّ الآية في بعض وجوه التأويل تدل على عدم توريثهم، كما تقدم قريبا عن الجبائي. وحديث تميم الداري ليس نصا في الميراث، فإنّه يحتمل أنه أولى بمعونته وحفظه في محياه ومماته، ومعونته وحفظه بعد موته يكونان بحفظ أولاده ورعاية مصالحهم ومعونتهم، ومع ذلك فهو معارض بما رواه جبير بن مطعم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة» «1» فهذا الحديث يقتضي بطلان حلف الإسلام، ومنع التوارث به، فإذا كان الحديثان متعارضين والآية محتملة لعدة وجوه فالأشبه الرجوع بها إلى ما قاله أئمة التفسير من الصحابة والتابعين مثل ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم، فإنّهم أعرف منا بالناسخ والمنسوخ، وقد قالوا: إنها منسوخة بآية الأنفال، وظاهر قول ابن عباس: «وقد ذهب الميراث» أن الحليف كان له على حليفه النصرة والنصيحة، وكان له نصيب في تركته، فلما نزلت آية الأنفال نسخت نصيبه من الميراث وبقي ما كان له من النصرة والمشورة. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي أنه سبحانه لم يزل عالما بجميع الأشياء، مطلعا على جليها وخفيها، فيعلم من آتى الوارثين حقهم ومن منعهم، وسيجازي كلّا من المؤتي والمانع على حسب ما عمل، فهي في هذه الحالة وعد للطائعين ووعيد للعاصين. قال الله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) قوّام: صيغة مبالغة من القيام على الأمر بمعنى حفظه ورعايته، فالرجل قوّام على امرأته، كما يقوم الوالي على رعيته بالأمر والنهي والحفظ والصيانة. والقنوت: دوام الطاعة.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 1961) ، 44- كتاب فضائل الصحابة، 50- باب مؤاخاة النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (206/ 2530) . [.....]

وأصل النشز بسكون الشين وفتحها المكان المرتفع، فالنشوز الترفع الحسي، ثم توسّع فيه، فاستعمل في الترفع مطلقا، والمراد بالنشوز هنا العصيان والترفع عن المطاوعة. والعظة: النصيحة والزجر. المضاجع: مواضع الاضطجاع. وروى مقاتل أن سعد بن الربيع نشزت عليه امرأته، فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أفرشته كريمتي فلطمها! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لتقتص من زوجها، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ارجعوا، هذا جبريل أتاني وأنزل الله هذه الآية، وتلاها النبي صلّى الله عليه وسلّم. جعل الله للرجال حقّ القيام على النساء بالتأديب والتدبير والحفظ والصيانة، وعلّل ذلك بسببين: أولهما: ما فضل الله به الرجل على المرأة في العقل والرأي والعزم والقوة، ولذلك خصّ الرجال بالرسالة، والنبوة، والإمامة الكبرى والصغرى، وإقامة الشعائر: كالأذان، والإقامة، والخطبة، والجمعة، والجهاد، وجعل لهم الاستبداد بالفراق والرجعة وإليهم الانتساب، وأباح لهم تعدد الأزواج، وخصهم بالشهادة في أمهات القضايا، وزيادة النصيب في الميراث، والتعصيب، إلى غير ذلك. وثانيهما: ما ألزمه الله إياه من المهر والسكنى والنفقة. وقد دلت الآية على أمور: 1- تفضيل الرجل على المرأة في المنزلة والشرف. 2- أنّ للزوج تأديب زوجته ومنعها من الخروج. 3- أن له حق الحجر على زوجته في مالها، فلا تتصرف فيه إلا بإذنه، لأن الله جعله قوّاما عليها بصيغة المبالغة، والقوّام الناظر على الشيء، الحافظ له، والمالكية يقولون بهذا المبدأ على تفصيل فيه، محلّه كتب الفروع. 4- وجوب النفقة على الزوج لزوجته. 5- أنّ على الزوجة طاعة زوجها إلا في معصية الله، وفي الخبر: «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» «1» . 6- أنّ لها حق المطالبة بفسخ النكاح عند إعسار الزوج بالنفقة أو الكسوة، لأنه

_ (1) رواه ابن ماجه في السنن (1/ 595) ، كتاب النكاح، باب حق الزوج حديث رقم (1852) .

إذا خرج عن كونه قواما عليها، فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح، وهذا مذهب المالكية والشافعية. أما الحنفية فيقولون: ليس لها حق الفسخ لقوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة: 280] . فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ هذا شروع في تفصيل أحوال النساء، وكيفية القيام عليهن، بحسب اختلاف أحوالهن، وقد قسّمهن الله قسمين: طائعات، وناشزات. فالمرأة القانتة التي تطيع ربها، وتطيع زوجها، وتحفظه في نفسها وعفتها، وفي ماله وولده في حال غيبته- وهي في حضوره أحفظ- مثل هذه يقال لها امرأة صالحة وكفى. وأما المرأة الناشز فطريق القيام عليها بالتأديب والتقويم هو ما قال الله تعالى: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ إلخ. وظاهر قوله تعالى: فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ إلخ أنه خبر، وبعض العلماء يقول المراد به الأمر بالطاعة، فالمعنى: لتطع المرأة زوجها، ولتحفظه في نفسها وفي ماله، حتى تكون امرأة صالحة للحياة الزوجية، تستحق جميع حقوق الزوجة الصالحة. ويؤيد ذلك قوله تعالى: بِما حَفِظَ اللَّهُ فإنّ معناه، أنّ عليهن أن يطعن أزواجهن، ويحفظنهم، في مقابلة ما حفظه الله لهن من حقوق قبل الأزواج من مهر ونفقة ومعاشرة بالمعروف، فهو جار مجرى قولهم: هذا بذاك، أي هذا في مقابلة ذاك، وعليه تكون (ما) اسم موصول. وقيل: معنى بِما حَفِظَ اللَّهُ إن السبب في طاعتهن وحفظهن أزواجهن هو حفظ الله لهن، وعصمته إياهن، ولولا أنّ الله حفظهن وعصمهن ما حفظن أزواجهن، وعليه تكون (ما) مصدرية. وقد أخرج البيهقي وابن جرير وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ إلى قوله تعالى: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ. وفي «الصحيح» «1» «نساء قريش خير نساء ركبن الإبل، أحناه على ولد، وأرعاه على زوج في ذات يده» .

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 1958) ، 44- كتاب فضائل الصحابة، 49- باب من فضائل نساء قريش، حديث رقم (200/ 2527) .

وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ. هذا هو القسم الثاني من قسمي النساء اللاتي جعل الله للرجال حق القيام عليهن، كما سبق، وهو خطاب للأزواج، وإرشاد لهم إلى طريق القيام عليهن. وأصل الخوف فزع القلب عند الشعور بحدوث أمر مكروه في المستقبل، وقد يتوسع فيه، فيستعمل بمعنى العلم، لأنّ خوف الشيء إنما يكون للعلم بموقعه، وقد علمت أنّ النشوز هو العصيان، وظاهر الآية ترتب العقوبات المذكورة على خوف النشوز، وإن لم يقع النشوز بالفعل، وهو بعيد، لذلك أوّل العلماء هذه الآية عدة تأويلات، فمنهم من فسّر الخوف بالعلم، ومنهم من قدر مضافا: تخافون دوام نشوزهن، أو أقصى مراتب نشوزهن. ومنهم من قدر معطوفا محذوفا: تخافون نشوزهن ونشزن. ومنهم من أبقى الخوف على أصله، وجعل جزاءه الوعظ فقط، تخافون نشوزهن بظهور أماراته، كخشونة بعد لين، وتعبيس بعد طلاقة، وإدبار بعد إقبال، ومتى ظهرت هذه الأمارات كان للزوج أن يعظها فقط، ويخوّفها عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة، فإن لم تمتثل كان ذلك نشوزا محققا، وله فيه الوعظ والهجران والضرب. والمراد بالوعظ أن يقول لها مثلا: اتقي الله! فإنّ لي عليك حقا، وارجعي عما أنت عليه، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو ذلك. واختلفوا في معنى الهجران في المضاجع، فقيل: إنه كناية عن ترك جماعهن، وقيل: المراد تركهنّ منفردات في حجرهنّ ومحل مبيتهن، فيكون في ذلك ترك جماعهن وترك مكالمتهن، ولا يزيد في هجر الكلام عن ثلاثة أيام. وفسر العلماء الضرب المباح بأنه الضرب غير المبرح، أخرج الجصاص «1» عن جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه خطب بعرفات في بطن الوادي فقال: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، وأن لكم عليهنّ ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهنّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» . وأخرج ابن جرير «2» نحوه، وروى ابن جريج عن عطاء قال: الضرب غير المبرح بالسواك ونحوه، ومثله عن ابن عباس، وقال سعيد عن قتادة: ضربا غير شائن «3» .

_ (1) أخرجه الإمام أبو بكر الجصاص في كتابه أحكام القرآن (2/ 189) . (2) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (5/ 44) . (3) المرجع نفسه (5/ 44) .

وقال العلماء: ينبغي ألا يوالي الضرب في محل واحد، وأن يتقي الوجه فإنه مجمع المحاسن، ولا يضربها بسوط ولا بعصا، وأن يراعي التخفيف في هذا التأديب على أبلغ الوجوه. ومع أنّ الضرب مباح فقد اتفق العلماء على أنّ تركه أفضل. أخرج ابن سعد والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصديق رضي الله عنه قالت: كان الرجال نهوا عن ضرب النساء، ثم شكوهنّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخلى بينهم وبين ضربهن، ثم قال: «ولن يضرب خياركم» «1» . وروي نحوه عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفيه: «ولا تجدون أولئكم خياركم» «2» ومعناه أن الذين يضربون أزواجهم ليسوا خيرا ممن لم يضربوا، فدل الحديث على أن الأولى ترك الضرب. واختلف العلماء في هذه العقوبات أهي مشروعة على الترتيب أم لا؟ ومنشأ الخلاف اختلافهم في فهم الآية، فمن رأى عدم الترتيب يقول: الواو لا تقتضيه، والفاء في قوله: فَعِظُوهُنَّ لا دلالة لها على أكثر من ترتيب المجموع على النشوز، فله أن يقتصر على إحدى العقوبات أيا كانت، وله أن يجمع من غير ترتيب بينها. ومن ذهب إلى وجوب الترتيب يرى أن ظاهر اللفظ وإن دلّ على مطلق الجمع، فإنّ فحوى الآية تدل على الترتيب، إذ الواو داخلة على جزاءات مختلفة متفاوتة واردة على سبيل التدرج من الضعيف إلى القوي إلى الأقوى، فإنّه تعالى ابتدأ بالوعظ، ثم ترقى منه إلى الهجران في المضاجع، ثم ترقى منه إلى الضرب، وذلك جار مجرى التصريح بأنه مهما حصل الغرض بالطريق الأخف وجب الاكتفاء به، ولم يجز الإقدام على الطريق الأشد. وروي عن علي رضي الله عنه ما يؤيد ذلك فإنه قال: يعظها بلسانه، فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها، فإن أبت ضربها، فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين. فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا. تبغوا: تطلبوا، أي: فإن رجعن إلى طاعتكم بعد هذا التأديب فلا تطلبوا سبيلا وطريقا إلى التعدّي عليهن. أو: فلا تظلموهن بطريق من طرق التعذيب والتأديب. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً قيل: المقصود منه تهديد الأزواج على ظلم النساء، والمعنى أنه تعالى قاهر كبير قادر ينتصف لهن، ويستوفي حقهن، فلا ينبغي أن تغتروا بكونكم أعلى يدا منهن، وأكبر درجة.

_ (1) و (2) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (2/ 155) .

وقيل: المقصود منه حثّ الأزواج، وبعثهم على قبول توبة النساء، والمعنى: أنه تعالى مع علوه وكبريائه لا يؤاخذ العاصي إذا تاب، بل يغفر له، فإذا تابت المرأة عن نشوزها فأنتم أولى بأن تقبلوا توبتها، وتتركوا معاقبتها. قال الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) المراد بالخوف هنا: العلم. والشقاق: الخلاف والعداوة، وأصله من الشق، وهو الجانب، لأنّ كلّا من المتخالفين يكون في شق غير شق الآخر. و (بين) من الظروف المكانية غير المتصرفة، وإضافة الشقاق إليها توسّع، والأصل شقاقا بينهما، فللملابسة بين الظرف والمظروف نزّل الظرف منزلة الفاعل أو المفعول، وشبه بأحدهما ثم عومل معاملته في الإضافة إليه، فقيل شِقاقَ بَيْنِهِما. وقيل: الإضافة بمعنى (في) والضمير في (بينهما) للزوجين لدلالة النشوز- وهو عصيان المرأة زوجها- عليهما. والخطاب هنا للحكام، فإنه تعالى لما ذكر نشوز المرأة، وأنّ للزوج أن يعظها، ويهجرها في المضجع، ويضربها، بيّن أنه لم يبق بعد الضرب إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم من الظالم منهما، ويتوجه حكمه عليهما. وظاهر الأمر في قوله تعالى: فَابْعَثُوا أنه للوجوب، وبه قال الشافعي، لأنه من باب رفع الظلامات، وهو من الفروض العامة والمتأكدة على القاضي. وظاهر وصف الحكمين بأن أحدهما يكون من أهله، والثاني يكون من أهلها أن ذلك شرط على سبيل الوجوب، لكنّ العلماء حملوه على وجه الاستحباب، وقالوا: إذا بعث القاضي حكمين من الأجانب جاز، وذلك لأنّ فائدة بعث الحكمين استطلاع حقيقة الحال بين الزوجين، وإجراء الصلح بينهما، والشهادة على الظالم منهما، وهذا الغرض يؤديه الأجنبي كما يؤديه القريب، إلا أن الأقارب أعرف بحال الزوجين من الأجانب، وأشدّ طلبا للإصلاح، وأبعد عن الظنّة بالميل إلى أحد الزوجين، وأقرب إلى أن تسكن إليهم النفس، فيطلعوا على ما في ضمير كلّ من حب وبغض، وإرادة صحبة أو فرقة، لذلك كان الأولى والأوفق أن يكون أحد الحكمين من أهل الزوج والثاني من أهل الزوجة. واختلف العلماء فيما يليه الحكمان: أيليان الجمع والتفريق دون إذن الزوجين، أم ليس لهما تنفيذ أمر يلزم الزوجين دون إذن منهما؟

فذهب علي وابن عباس والشعبي ومالك إلى أن لهما أن يلزما الزوجين دون إذنهما ما يريان فيه المصلحة، مثل أن يطلق الرجل، أو تفتدي المرأة بشيء من مالها. فهما عندهم حاكمان موليان من قبل الإمام. وقال الحسن وأبو حنيفة وأصحابه: ليس للحكمين أن يفرّقا إلا برضا الزوجين، فهما عندهم وكيلان للزوجين. وللشافعي في المسألة قولان. وليس في الآية ما يرجح أحد الرأيين على الآخر، بل فيها ما يشهد لكلّ من الرأيين: فالشهادة للرأي الأول أنّ الله تعالى سمّى كلا منهما حكما، والحكم هو الحاكم، وإذا جعلهما الله حاكمين فقد مكّنهما من الحكم. والشهادة للرأي الثاني أنه تعالى لم يضف إليهما إلا الإصلاح، وهذا يقتضي أن يكون ما وراء الإصلاح غير مفوّض إليهما، ولما كانت الآية محتملة للرأيين، ولم يصحّ في المسألة شيء عنه صلّى الله عليه وسلّم كانت المسألة اجتهادية، وكلام أحد المجتهدين لا يقوم حجة على الآخر، فالترجيح للرأي والقياس، والذي يظهر لنا أنّ القياس يقتضي ترجيح الرأي الثاني، لأنه لا خلاف أنّ الزوج لو أقر قبل التحكيم بالإساءة إليها لم يجبرها الحاكم على الطلاق، وأنّ الزوجة لو أقرت كذلك قبل التحكيم بالنشوز لم يجبرها الحاكم على الافتداء، فإذا كان ذلك حكمهما قبل بعث الحكمين، فكذلك يكون الحكم بعد بعثهما، لا يجوز إيقاع الطلاق من غير رضا الزوج وتوكيله، ولا إخراج المال عن ملكها من غير رضاها. والضمير في قوله تعالى: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يجوز أن يكون للحكمين، ويجوز أن يكون للزوجين، وكذلك الضمير في قوله تعالى يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما والأوفق جعل الضمير الأول للحكمين، والثاني للزوجين، أي إن يقصد الحكمان إصلاح ذات البين بنية صحيحة، مع إخلاص النصيحة لوجه الله تعالى، إن يقصدا ذلك يوفق الله بين الزوجين بالألفة والمحبة، ويلقي في نفسيهما الموافقة وحسن العشرة. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً المراد منه الوعيد للزوجين وللحكمين في سلوك ما يخالف طريق الحق، فإنه سبحانه عليم بظواهر الأمور وبواطنها، فيعلم ما يريده كلّ واحد منهم، وسيجازيهم على حسب ما علم. قال الله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً (36) لما أرشد الله كلا من الزوجين إلى المعاملة الحسنة، وندب الحكّام إلى إزالة ما

بينهما من الخصومة، أرشد الناس جميعا إلى طائفة من خلال الخير، وبيّن لهم أنواعا من الأخلاق الحسنة التي تعلمهم كيف يعامل بعضهم بعضا، وقد ذكر من ذلك في هذه الآية ثلاثة عشر نوعا ما بين مأمور به ومنهي عنه: 1- أمرنا أن نعبده، والعبادة: المبالغة في الخضوع، ويكون ذلك بفعل ما أمر الله به لمجرد أنه أمر به، وترك ما نهى عنه لمجرد أنه نهى عنه، سواء في ذلك أعمال القلوب- ومنها التوحيد- وأعمال الجوارح. 2- ونهانا أن نشرك به شيئا: والإشراك ضد التوحيد، فيفهم من النهي عن الإشراك الأمر بالتوحيد، فالعطف من قبيل عطف الخاص على العام، وقدم في هذه التكاليف ما يتعلّق بحقه تعالى لأمرين: الأول: أنّ هذا الذي تعلق بحقه تعالى وهو العبادة والإخلاص فيها أساس الدين، ومداره الأعظم، ومن دونه لا يقبل الله من العبد عملا ما. والثاني: أن في ذلك إيماء إلى ارتفاع شأن الأمور الآتية وإن كانت متعلقة بحقوق العباد، لأن قرنها بالعبادة والتوحيد يكسبها رفعة شأن وعظم قدر عند الله. 3- وأمرنا بالإحسان إلى الوالدين: وقد قرن الله تعالى إلزام برّ الوالدين بعبادته وتوحيده في مواضع من القرآن منها هذه الآية، ومنها قوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء: 23] وقوله جلّ شأنه: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان: 14] وكفى بهذا دلالة على تعظيم حقهما، ووجوب برهما، والإحسان إليهما. وقد ورد في وجوب بر الوالدين آيات كثيرة، وأحاديث مشهورة، وبر الوالدين طاعتهما في معروف، والقيام بخدمتهما، والسعي في تحصيل مطالبهما، والبعد عن كل ما يؤذيهما. 4- وإلى ذي القربى: وهو صلة الرحم، على نحو ما ذكر في أول السورة وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ والإحسان إلى الأقارب يكون بمودتهم ومواساتهم. 5- وإلى اليتامى: كما وصّى في أول السورة وفي غيرها، قال ابن عباس: يرفق بهم يربيهم، وإن كان وصيا فليبالغ في حفظ أموالهم. 6- وإلى المساكين: والإحسان إلى المسكين إما بالتصدق عليه، وإما برده ردا جميلا، كما قال تعالى: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) [الضحى: 10] . 7- وإلى الجار ذي القربى: وهو الذي قرب جواره، أو من له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين.

8- وإلى الجار الجنب: وهو الذي بعد جواره، أو من ليس له مع الجوار قرابة. أخرج البخاري «1» في «الأدب المفرد» عن عبد الله بن عمرو أنه ذبحت له شاة، فجعل يقول لغلامه: أهديت لجارنا اليهودي، أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه» . وأخرج الشيخان «2» أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره» . وتحديد الجوار موكول إلى العرف، والإحسان إلى الجار يكون من وجوه: منها مواساته إن كان فقيرا، ومنها حسن العشرة، وكف الأذى عنه، والمحاماة دونه ممن يحاول ظلمه، وقد عد بعض العلماء من حق الجوار الشفعة لمن بيعت دار إلى جنبه. 9- وإلى الصاحب بالجنب: وهو الرفيق في كل أمر حسن كالتعلم والسفر والصناعة، وكمن جلس بجنبك في مسجد، أو مجلس، وغير ذلك. وعن علي كرم الله وجهه: الصاحب بالجنب المرأة. 10- وإلى ابن السبيل: وهو المنقطع عن ماله، أو الضعيف، ومعنى ابن السبيل صاحب الطريق، كما يقال لطير الماء ابن ماء، فالمسافر للزومه الطريق سمّي ابن السبيل، والضيف كالمجتاز غير المقيم، فسمّي ابن السبيل تشبيها بالمسافر. 11- وإلى ما ملكت أيماننا: قال قتادة: هم العبيد والإماء، أخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال: «كانت عامة وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حضره الموت الصلاة، وما ملكت أيمانكم، حتى جعل يغرغر بها في صدره، وما يفيض بها لسانه» «3» . وقال بعض العلماء: كلّ حيوان فهو مملوك، والإحسان إلى الكل بما يليق به طاعة عظيمة. 12- ونهانا عن الاختيال: فإنّ قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً معناه: أنه يكره المختال الفخور، أي أنه يعاقبه على خيلائه وفخره، والمختال: ذو الخيلاء والكبر، قال الزجاج: إنما ذكر الاختيال هاهنا لأن المختال

_ (1) انظر الأدب المفرد للإمام البخاري، صفحة (50) ، باب يبدأ بالجار حديث رقم (105) ، وأبو داود في السنن (4/ 377) ، كتاب الأدب، باب في حق الجوار حديث رقم (5152) والترمذي في الجامع الصحيح (3/ 294) في كتاب البر، باب ما جاء في حق الجوار حديث رقم (1943) . (2) رواه البخاري (7/ 104) ، 78- كتاب الأدب، 31- باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر حديث رقم (6018) ، ومسلم في الصحيح (1/ 68) ، 1- كتاب الإيمان، 19- باب الحث على إكرام الجار حديث رقم (77/ 48) . (3) رواه أحمد في المسند (3/ 117) ، وابن ماجه في السنن (2/ 900) ، كتاب الوصايا، باب هل أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (2697) .

[سورة النساء (4) : آية 43]

أنف من أقاربه إذا كانوا فقراء، ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء، فلا يحسن عشرتهم. 13- ونهانا عن الفخر: والفخور هو الذي يعدّد مناقبه على الناس تطاولا وتعاظما. أخرج الطبراني عن ثابت بن قيس بن شماس قال: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ إلخ، فذكر الكبر، وعظّمه، فبكى ثابت. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما يبكيك» ؟ فقال: يا رسول الله إني لأحبّ الجمال حتى إنه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي. قال: «فأنت من أهل الجنة، إنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك، ولكن الكبر من سفه الحقّ، وغمط الناس» «1» . قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) اختلف في سبب نزول الآية، فأخرج أبو داود والترمذي وحسّنه والنسائي والحاكم وصححه، عن علي كرم الله وجهه قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه طعاما، فدعانا، وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني، فقرأت: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) [الكافرون: 1] أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون فنزلت «2» . وفي رواية ابن جرير «3» وابن المنذر عن علي كرم الله وجهه أن إمام القوم يومئذ هو عبد الرحمن بن عوف، وكانت الصلاة صلاة المغرب، كان ذلك لما كانت الخمر مباحة. وقد فهم الصحابة من النهي في أول الأمر أن الممنوع هو قربان الصلاة في حال السّكر، فكانوا لا يتناولون مسكرا حتى إذا صلّوا العشاء شربوا، فقال عمر رضي الله عنه: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت آية المائدة فتركوا الشراب كله. وقيل: إنّ سبب النزول هو ما رواه ابن جريج عن إبراهيم النخعي قال: نال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جراحة، ففشت فيهم، ثم ابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك إلى

_ (1) انظر الدر المنثور في التفسير المأثور للسيوطي (2/ 162) . (2) رواه أبو داود في السنن (3/ 323) ، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر حديث رقم (3671) ، والترمذي في الجامع الصحيح (5/ 222) ، كتاب التفسير حديث رقم (3026) . (3) جامع البيان المشهور بتفسير الطبري في تفسيره رواه ابن جرير (5/ 61) .

النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت، والجمهور على أنها نزلت في غزوة المريسيع حين عرّس «1» النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة، فسقطت عن عائشة قلادة كانت لأسماء، فبعث رجلين في طلبها، فنزلوا ينتظرونهما، فأصبحوا وليس معهم ماء، فأغلظ أبو بكر على عائشة وقال: حبست رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين على غير ماء فنزلت «2» . فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة، فجعل يقول: ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر، وفي رواية: يرحمك الله يا عائشة، ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله فيه للمسلمين فرجا، وهذا يدلّ على أن سبب النزول كان في فقد الماء في السفر. والسكر المذكور في الآية هو السكر من الشراب، بدليل ما ورد في سبب النزول، وبدهي أن النهي موجه إلى جماعة المؤمنين أن يقربوا الصلاة، وهم على هذا الحال، فإنها قد تجرهم إلى ما يضرهم في دينهم من حيث لا يشعرون، ولقد أثّر فيهم النهي أثره، فكانوا يمتنعون من الشراب إلى ما بعد صلاة العشاء، ولا معنى لا دعاء نسخ الآية، إذ المؤمنون ما زالوا منهيين أن يقربوا الصلاة وهم سكارى. ولم تؤثر آية المائدة في هذا النهي شيئا حتى يقال: إنها نسخته. وقد اختلف العلماء في معنى الصلاة في قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فذهب جماعة إلى أن المراد منها موضعها وهو المسجد، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود والحسن، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه، والكلام إذا على حذف مضاف، وهو مجاز شائع، وقد عهد استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى في القرآن، كما في قوله تعالى: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ [الحج: 40] فقد فسرها ابن عباس بأنها كنائس اليهود. ويؤيد حمل الصلاة على هذا المعنى أن الله تعالى يقول: لا تَقْرَبُوا والقرب والبعد أولى به أن يكون في المحسات، فحملناه على المسجد، ولأنّا لو حملناه على الصلاة لم يصح الاستثناء في قوله: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حتى لو حملنا عابر السبيل على المسافر، لأنّ هذا الحكم حينئذ ليس خاصا بالمسافر، لأنّ كل من عجز عن استعمال الماء، سواء لفقده، أو عدم القدرة على استعماله كذلك، وأيضا فإنّ ظاهر النهي يدلّ على أنّ عابر السبيل ليس له أن يقرب الصلاة جنبا إلا بعد اغتسال، وهو إذا لم يجد الماء يقرب الصلاة كغيره بالتيمم. وأيضا فقد ذكر الله في الآية حكم المسافر في قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ

_ (1) التعريس: النزول آخر الليل، انظر لسان العرب (6/ 136) . (2) رواه ابن جرير في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (5/ 68- 69) . [.....]

إلخ. فيكون ذلك تكرارا، فمن أجل ذلك حملنا لفظ الصلاة على المسجد. وذهب الأكثرون إلى أن الصلاة باقية على حقيقتها، والمعنى: لا تصلوا وأنتم سكارى، ولا أنتم جنب، إلا في حال كونكم مسافرين حتى تغتسلوا، ويكون ذكر هذا الحكم قبل قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى تشويقا إلى بيان الحكم عند فقد الماء، فكأنه قيل: فإن لم تقدروا على استعمال الماء فإني مبيّن حكم ذلك بقولي: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إلى آخره. ويقرب لهؤلاء ما ذهبوا إليه أن الله يقول: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فإنّه يدل على أنّ المراد لا تقربوا نفس الصلاة، إذ المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع السكر منه، أما الصلاة ففيها أقوال مشروعة يمنع السكر منها، وهي القراءة والدعاء والذكر، فكان حملها على ما يقتضيه ظاهر اللفظ أولى. وقد ترتب على هذا خلافهم في حكم اجتياز المسجد للجنب، فمن ذهب إلى أن المراد من الصلاة موضعها، وهو المسجد، أخذ من الاستثناء أن الجنب ممنوع من المسجد إلا في حال العبور، فإنه يجوز له أن يعبر دون أن يمكث. وأما على القول الثاني فيكون معنى الآية لا تقربوا الصلاة في حال السكر، ولا في حال الجنابة حتى تغتسلوا، إلا إذا كنتم مسافرين، وحكم ذلك سأقصه عليكم، أما حرمة دخول المسجد للجنب فيستدل عليها بمثل ما روت عائشة رضي الله عنها قالت جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: «وجّهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة، فخرج إليهم بعد وقال: وجّهوا هذه البيوت فإني لا أحلّ المسجد لجنب ولا حائض» «1» وغير هذا من الأدلة. بقي أنّ بعض المفسرين يريد أن يأخذ من قوله: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وجوب القراءة في الصلاة، لأن الآية تنهى عن قرب الصلاة في حال السكر حتى يعلم المصلّي ما يقول: فلا بد أن يكون الذي يقول شيئا يمنع منه السكر، ولا شيء سوى القراءة. ولكنا إذا عرفنا أنّ الصلاة مناجاة ووقوف بين يدي مالك يوم الدين، العزيز القهار، كان معنى النهي لا تصلحوا حتى تكونوا على درجة من العلم والفهم تمكّنكم وتؤهّلكم للوقوف بين يدي ملك الملوك، وليس بنا حاجة لأن نلتمس دليلا على وجوب القراءة في الصلاة، لأن ذلك أمر متفق عليه، وأدلته كثيرة.

_ (1) رواه أبو داود في السنن (1/ 97) ، كتاب الطهارة، باب في الجنب حديث رقم (232) ، ورواه ابن ماجه في السنن (1/ 212) ، كتاب الطهارة، باب ما جاء في اجتناب الحائض حديث رقم (645) .

والجنب: اسم يستوي في الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، وأصل الجنابة البعد، ويقال للذي يجب عليه الغسل من حدث الجنابة: جنب، لأنّ جنابته تبعده عن الصلاة وعن المسجد وقراءة القرآن حتى يتطّهر. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً. ذكرت هذه الآية والآية التي في المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] الآية للتيمم أسبابا أربعة: المرض، والسفر، والمجيء من الغائط، وملامسة النساء، ورتبت عليها تيمم الصعيد الطيّب عند عدم وجود الماء فهما بظاهرهما تفيدان أنّ كلا من هذه الأسباب بمجرده يبيح التيمم عند عدم الماء. فالسفر عند عدم الماء مبيح للتيمم، والمرض أيا كان نوعه مبيح للتيمم عند عدم الماء، وكذلك ملامسة النساء، والمجيء من الغائط، وقد جاء بيان السنة العملية كذلك موافقا لما يفيده النظم الكريم، حيث أجاز التيمم عند فقد الماء حقيقة لكل هؤلاء، غير أنّه زاد أن المريض إذا كان مرضه يمنعه من استعمال الماء جاز له التيمم، كما روي في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه تيمم مع وجود الماء لخوف البرد فأجازه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولم ينكر، وقد اتفقوا على جوازه. بقي أنه ما الفائدة إذا في ذكر السفر والمرض في جملة الأسباب ما دام المسافر والمريض والمقيم والصحيح سواء، لا يباح لهم التيمم إلا عند فقد الماء؟ قال المفسرون في هذا: أما المسافر فلما كان غالب حاله عدم وجود الماء جاء ذكره كأنه فاقد الماء وأما المريض فإنّ تعليق الحكم به مشعر بأن مرضه له مدخل في السببية، ولذلك ترى ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من التابعين يقولون في قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أنه المجدور، ومن يضره الماء، وذلك أنّ المريض الذي لا يضره الماء لا معنى للترخيص له في التيمم، فذكر ليدل على أن مرضه حينئذ يقوم مقام عدم وجود الماء حقيقة، فلم يبق حينئذ إلا الجنب وما في معناه، والجائي من الغائط وما في معناه من غير المسافرين والمرضى، فهو إنما يباح لهم التيمم إذا فقدوا الماء. وعلى هذا يكون قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا راجعا إلى الأخيرين فقط، وهما المجيء من الغائط، وملامسة النساء، وتكون أسباب التيمم المذكورة في الآية ثلاثة على الحقيقة: المرض، والسفر، وفقد الماء في حال الإقامة والصحة. غير أنّ عطف هذه الأسباب بعضها على بعض بأو يقتضي أنها متقابلة، ومن قضية تقابلها أن يكون المسافر غير المريض، وكل منهما غير الجائي من الغائط

والملامس، وذلك يقتضي أنّ السفر مبيح للتيمم، ولو من غير حدث، وكذلك المرض، مع أن التيمم لا يطلب إلا من المحدث. وأجاب عن ذلك بعض العلماء بأن السبب في عدم ذكر الحدث مع المرض والسفر أنّ الكلام في الجنابة في السفر، حيث قال: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا فحال الجنابة معهما ملحوظ، حيث هذا بيان للحكم إذا لم يتيسر الغسل من الجنابة لفقد الماء، وأما الحدث الأصغر فيهما فيعلم حكمه من حكم الجنابة لدلالة النص. ومن العلماء من اختار في تأويل الآية رأيا آخر: فذهب إلى أنّ أَوْ في قوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ بمعنى الواو، ويكون المعنى عليه: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ويكون ذلك في معنى قولك: إن كنتم مرضى أو مسافرين محدثين حدثا أصغر أو أكبر، وفقدتم الماء حقيقة أو حكما، بأن لم تقدروا على استعماله مع وجوده، فتيمموا صعيدا طيبا. وقد جاءت أَوْ بمعنى الواو كثيرا كما في قوله تعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) [الصافات: 147] فإن معناه ويزيدون، وكقوله: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما [النساء: 135] معناه إن يكن غنيا وفقيرا فالله أولى بهما. ونقل صاحب «روح المعاني» «1» عن بعضهم أن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، ولا جنبا ولا جائيا أحد منكم من الغائط أو لامسا، يعني ولا محدثين، ثم قيل: وإن كنتم مرضى أو على سفر: فتيمموا وفيه الفصل بين الشرط والجزاء والمعطوف عليه من غير نكتة. وأقرب هذه التأويلات هو ما حملنا عليه الآية في أول الأمر، وما ورد عليه- من أن ذلك يقتضي أن السفر بنفسه سبب، وكذا المرض ولو من غير حدث- يندفع متى روعي الكلام في أمر الطهارة من الأحداث، وأنها الغسل، انظر إلى قوله تعالى: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا فأمر الحدث أمر مقرّر مفروغ منه، إنما الكلام في الأعذار المبيحة للتيمم، ولا سبب في الحقيقة إلا فقد الماء، وفقد الماء له مظاهر، فمن مظاهره السفر، وعدم الماء فيه غالب، وإن وجد فأغلب أمره أن يكون محتاجا إليه، ومن مظاهره المرض، وجعل المرض من أسباب التيمم مشعر بأن ذلك إنما يكون في مرض لا يمكن معه استعمال الماء، والمظهر الحقيقي لفقد الماء أن يكون خاليا من هذه الأعذار، ثم لا تجد الماء وأنت محدث حدثا أصغر أو أكبر. على هذا الوجه يصح أن تفهم الآية، ولا شيء في فهمها حينئذ من التكلف،

_ (1) انظر روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للإمام الألوسي (5/ 42) .

ويليه أن تكون أَوْ في قوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ بمعنى الواو، والمعنى عليه قد عرفته. ولنرجع إلى تفسير مفردات الآية: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا فإن المعنى أنه لا يحل لكم القرب من الصلاة وأنتم جنب إلا بأن تكونوا عابري سبيل، وإلا أن تغتسلوا، ولما كان الغسل قد لا يمكن، شرع في بيان الطهارة الواجبة حينئذ، والأعذار التي تبيحها. وفسر بعضهم قوله تعالى: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ بمعنى إلا معذورين بعذر شرعي، وقد تقدم أن المراد بالمرض ما يمنع من استعمال الماء مطلقا، سواء كان لتعذر الوصول إليه أم لتعذر استعماله. وقد أخرج ابن جريج عن ابن مسعود أنه قال: المريض الذي رخص له في التيمم الكسير والجريح، فإذا أصابته الجنابة لا يحل جراحته إلا جراحة لا يخشى عليها. أَوْ عَلى سَفَرٍ أو مسافرين، والسفر الطويل هنا كالقصير، فإنّك عرفت أن ذكر السفر هنا لا دلالة له على شيء، إذ المدار على فقد الماء، وإنما ذكر لأن فقد الماء معه غالب. وبذكر المسافر هنا يستدلّ من ذهب إلى أنّ المراد بالصلاة المسجد، وقد تقدم، وهو ظاهر، ومن ذهب إلى أن المراد الصلاة بحقيقتها الشرعية يقول: إنه إنما ذكر هنا مع فهمه مما تقدم لبناء الحكم الشرعي عليه، وبيان أن المريض مثله ومساو له في ذلك. أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ الغائط هو المكان المطمئن من الأرض، والمجيء منه كناية عن الحدث، لأنّ العادة كانت أنّ من يريد قضاء الحاجة يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس. أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ اختلف السلف رضوان الله عليهم أجمعين في المراد من الملامسة هنا، فقال علي وابن عباس وأبو موسى والحسن وعبيدة والشعبي: هي كناية عن الجماع، وكانوا لا يوجبون الوضوء ولا التيمم لمن مس امرأة. وقال عمر وابن مسعود: المراد من الملامسة المسّ باليد، وكانا يوجبان على من مس امرأة الوضوء. وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر والثوري والأوزاعي: لا وضوء على من مسّ امرأة، سواء أكان المس بشهوة، أو بغير شهوة. وقال مالك: إن مسها بشهوة تلذّذا فعليه الوضوء، وكذا إن مسته بشهوة تلذذا.

وقال الحسن بن صالح: إن قبل بشهوة فعليه الوضوء، وإن كان بغير شهوة فلا وضوء عليه. وقال الشافعي: إذا مس جسدها فعليه الوضوء، سواء أكان المس لشهوة أو لغير شهوة. استدل القائلون بأنّ المسّ ليس بحدث بما روي عن عائشة من طرق مختلفة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقبل نساءه ثم يصلي ولا يتوضأ «1» . وكان يقبلهن وهو صائم . ومن ذلك حديث عائشة أنها طلبت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة. قالت: فوقعت يدي على أخمص قدمه وهو ساجد، يقول: «أعوذ بعفوك من عقوبتك وبرضاك من سخطك» «2» فثبت بذلك أن المس ليس بحدث. ثم إن ظاهر مادة المفاعلة فيما يكون فيه الفعل من الجانبين مقصودا، وذلك في الجماع دون اللمس باليد، وأيضا فإنّ اللمس وإن كان حقيقة في اللمس باليد، إلا أنه قد عهد في القرآن إطلاقه كناية عن الجماع، كما في قوله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 237] بل هذا اللفظ قد اشتهر في هذا المعنى، تسمعهم يقولون في المرأة البغي، لا تردّ يد لا مس «3» ، يريدون أنها ليست عفيفة. وأيضا فالظاهر أن المراد في هذه الآية من الملامسة أو اللمس في القراءة الأخرى الجماع، لأجل أن تكون شاملة للحدثين الأصغر في قوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ والأكبر في قوله: أَوْ لامَسْتُمُ أما إذا أريد منه اللمس باليد مثلا، فإنه يكون قليل الفائدة، إذ المجيء من الغائط واللمس حينئذ من واد واحد. وأما من يرى أن الملامسة هي لمس البدن فهو يقول: إنّ اللمس حقيقة في المس باليد، والملامسة مفاعلة، وهو في الجماع مجاز أو كناية، ولا يعدل عن الحقيقة إلى غيرها إلا عند تعذر الحقيقة. والواقع أنّ اللمس حقيقة في المس باليد كما في قوله: لمست بكفي كفّه أبتغي الغنى ولكنه قد تعورف عند إضافته إلى النساء في معنى الجماع، ويكاد يكون ظاهرا

_ (1) رواه أبو داود في السنن (1/ 78) ، كتاب الطهارة، باب الوضوء حديث رقم (178) والترمذي في الجامع الصحيح (1/ 133) ، كتاب الطهارة باب ما جاء في ترك الوضوء حديث رقم (86) ، والنسائي في السنن (1- 2/ 112) ، كتاب الطهارة باب ترك الوضوء حديث رقم (170) . (2) رواه مسلم في الصحيح (1/ 352) ، 4- كتاب الصلاة، 42- باب ما يقال في الركوع والسجود حديث رقم (222/ 486) . (3) رواه النسائي في السنن كتاب النكاح، باب تزويج الزانية حديث رقم (3229) .

فيه، كما أن الوطء حقيقته المشي بالقدم، فإذا أضيف إلى النساء لم يفهم منه غير الجماع. وروى ابن جرير «1» عن سعيد بن جبير قال: ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي ليس الجماع، وقال ناس من العرب: اللمس الجماع، قال: فأتيت ابن عباس، فقلت: إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس، فقالت الموالي: ليس بالجماع، وقالت العرب: الجماع! فقال: من أي فريق كنت؟ فقال: كنت من الموالي، قال: غلب فريق الموالي إن المسّ واللمس والمباشرة الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء. وفي رواية، ولكنّ الله يكني ويعفّ. وقد اختار ابن جرير «2» أن الملامسة في الجماع، وإليك نصّ عبارته، قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: عنى الله بقوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ الجماع دون غيره من معاني اللمس، لصحة الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قبل بعض نسائه ثم صلّى ولم يتوضأ «3» ، وساق في ذلك أخبارا كثيرة بنحو ما قلناه آنفا. فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً. أي إذا أصابكم ما تقدّم من موجبات الطهارة، فطلبتم الماء لتتطهروا به فلم تجدوه، بأن عدمتموه، أو وجدتموه ولكن بثمن لا تقدرون على دفعه، أو وجدتموه ولكنكم تحتاجون إليه، ولا تقدرون على استعماله فتيمموا: أي اقصدوا صعيدا طيبا. وقد اختلف العلماء في المراد بالصعيد ما هو؟ فقال بعضهم: هو الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا غراس، وقال بعضهم: إنه الأرض المستوية، وقال بعضهم: بل الصعيد التراب، وقال آخرون: هو وجه الأرض، وقال بعضهم: هو الأرض ذات التراب والغبار. ومعنى الطيب: الحلال الطاهر. ومعنى الآية: وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فأردتم أن تصلّوا، ففقدتم الماء، فاعمدوا إلى الأرض الطاهرة، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم. وظاهر الآية يفيد أنّ وجود ماء أي ماء لا يصح معه التيمم، إذ قد رتبت الآية الأمر بالتيمم على نفي وجود ماء. وذلك يقتضي أنه لو وجد ماء، وكان في حاجة شديدة إليه، أو لا يقدر على

_ (1) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (5/ 65) . (2) المرجع نفسه (5/ 67) . (3) سبق تخريجه.

استعماله أنه لا يتيمم، ولكن لما قاله الله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة: 6] وقال: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] فهم منه أن الغرض من شرع التيمم هو التيسير على الناس، والتيسير على الناس لا يكون بإلزامهم أن يفقدوا ما معهم من الماء في الطهارة ليقعوا في العطب من جرّاء العطش أو الجوع. وكذلك فهم من ترتيب التيمم على عدم الماء أن المراد ماء يكفي للطهارة، وأما ما لا يكفي لها فوجوده غير معتدّ به. وقد اختلف فقهاء الأمصار في جواز التيمم بالحجر وما ماثله من كل ما كان من الأرض، فجوّزه أبو حنيفة، واشترط أبو يوسف أن يكون المتيمم به ترابا أو رملا وقال مالك: يتيمّم بالحصا والجبل: وحكي عن أصحابه عنه أنه أجاز التيمم بالزرنيخ والنّورة ونحوهما، وروى أشهب عنه أنه يجيز التيمم بالثلج. وقال الشافعي رضي الله عنه: إنما التيمم من التراب. ومنشأ الخلاف في فهم الطيّب، فمن حمله على الطاهر قال: المراد كلّ ما كان من جنس الأرض، بشرط الطهارة. وقد أطلق الطيب وأريد به الحلال الطاهر، كما في قوله تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: 57] . ومن فهم أنه ينبت قال: إنّ المراد الأرض الصالحة للإنبات، وهي ذات التراب، وقد أطلق الطيب وأريد منه ذلك كما في قوله: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف: 58] ، للأولين أن يقولوا: إنّ هذا الإطلاق غير مراد هنا، لأنّ المراد بالطيّب في قوله: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ البلد الذي ليست أرضه سبخة، ونحن مجمعون على جواز التيمم بتراب الأرض السبخة، فعلمنا أنّ الطيّب بهذا المعنى غير مراد هنا. وهذا وظاهر قوله تعالى في سورة المائدة: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة: 6] يدلّ على أنّ المراد بالصعيد: شيء يصل أثر منه إلى الوجه واليدين عند المسح. وهل المسّ على الحجر الأملس يصل منه شيء إلى الوجه واليدين؟ فنحن نرى أنّ الظاهر قول من قال: بأن المراد بالصعيد تراب الأرض، والسنة تؤيّد هذا، فقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من طرق صحيحة «1» ، جعلت لي الأرض مسجدا، وتربتها طهورا ، وروي و «ترابها طهورا» نعم قد ورد في هذا المعنى «جعلت لي

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 371) ، 5- كتاب المساجد حديث رقم (4/ 522) .

الأرض مسجدا وطهورا» «1» ولكنّ هذا يجب أن يحمل على ما جاء في الروايتين الأخريين جمعا بين الروايات. فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً. هذا بيان لكيفية التيمم، وقد اختلف فيها فقهاء الأمصار، فذهب الحنفية والمالكية والشافعية والثوري والليث إلى أن التيمم ضربتان، ضربة للوجه يمسحه بها، وضربة لليدين يمسحهما بها إلى المرفقين، وهو مرويّ عن جابر وابن عمر. وقال الأوزاعي: تجزئ ضربة واحدة للوجه والكوعين. وقال الزهري: ويمسح يديه إلى الإبط. وقال ابن أبي ليلى والحسن بن صالح: يتيمم بضربتين، يمسح بكل واحدة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه، وقد نقل أبو جعفر الطحاوي فيما رواه الجصاص عنه أنّ هذا الرأي لم يعرف عن غيرهما. وقد جاء في السنة ما يؤيد ما ذهب إليه الجمهور، فقد روي عن ابن عمر «2» وابن عباس «3» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في صفة التيمم أنه ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين. وقد يقال: إنّ ظاهر قوله: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ يقتضي مسح البعض كما دلّ على ذلك قوله في الوضوء: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [المائدة: 6] إذ الباء تقتضي التبعيض، إلا أن الفقهاء قد اتفقوا على أنه لا يجوز له الاقتصار على القليل، وأن عليه مسح الكثير، بل ذكر الكرخي من الحنفية أنه إن ترك شيئا قليلا أو كثيرا لم يجزئه، وقد جاءت الباء في قوله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 29] ولا يجوز الاقتصار في الطواف على بعض البيت فما هنا من هذا القبيل. هذا وقد عرض المفسرون هنا إلى أنّ التيمم هل يكفي لصلوات متعددة ما دام فاقدا للماء أم لا؟ ونحن نرى أنّ الآية التي نحن بصدد تفسيرها لا يستفاد منها شيء من هذا لا نفيا ولا إثباتا، وإنما ذلك يستفاد من أدلة أخرى تطلب في كتب الفقه. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً يعفو عما كان منكم من قيامكم للصلاة وأنتم سكارى، ويستر ذنوبكم، فلا تعودوا لمثلها فيعود عليكم إثمه وعذابه.

_ (1) المرجع نفسه (5/ 523) . (2) رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 114) . (3) المرجع نفسه (1/ 113) .

[سورة النساء (4) : الآيات 58 إلى 59]

قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) الأمانة مصدر سمّي به المفعول وهو ما يؤتمن عليه. روي في سبب نزول هذه الآية أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان بن طلحة بن عبد الدار باب الكعبة، وكان سادنها. وصعد إلى السطح، وأبى أن يدفع المفتاح إليه، وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه، فلوى علي بن أبي طالب يده، وأخذ منه المفتاح، وفتح، ودخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصلّى ركعتين، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح، ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت هذه الآية، فأمر النبيّ عليا أن يرده إلى عثمان، ويعتذر إليه، فقال عثمان لعلي: أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق! فقال: لقد أنزل الله في شأنك قرآنا، وقرأ عليه الآية، فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله، فهبط جبريل عليه السلام وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّ السدانة في أولاد عثمان أبدا «1» . نزلت الآية على هذا السبب الخاص، وليس ذلك بمخرج اللفظ عن عمومه، فهو عام يتناول كل ما يؤتمن عليه الإنسان، سواء أكان ذلك في حق نفسه أم في حق غيره من العباد، أم في حق ربه، فكلّ ذلك يجب رعاية الأمانة فيه، فرعاية الأمانة فيما هو من حقوق الله أن تمتثل أوامره. وتجتنب نواهيه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: الأمانة في كل شيء لازمة، في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم. وقال ابن عمر رضي الله عنه: خلق الله فرج الإنسان وقال: هذا أمانة خبأتها عندك، فاحفظها إلا بحقها. وأما رعاية الأمانة في حقّ النفس، فهو ألا يقدم الإنسان إلا على ما ينفعه في الدنيا والآخرة، وفي هذا يقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «كلكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته» «2» . وأما رعاية الأمانة في حقّ الغير فهو رد الودائع والعارية، وعدم غش الناس في كل ما يتصل بالمعاملة، من بيع وشراء، وجهاد ونصيحة، وألا يفشي عيوب الناس، وينشر الفاحشة.

_ (1) ذكره البغوي في تفسيره معالم التنزيل المشهور بتفسير البغوي ط 3، بيروت، دار المعرفة 1992 (1/ 443- 444) . (2) رواه البخاري في الصحيح (1/ 242) ، 11- كتاب الجمعة، 11- باب الجمعة حديث رقم (893) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1459) ، 33- كتاب الإمارة، 5- باب فضيلة الإمام حديث رقم (20/ 1829) . [.....]

وقد اعتنى القرآن بشأن الأمانة، وبيّن خطرها وعظيم قدرها في مواضع كثيرة، فقال: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الأحزاب: 72] وقال: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) [المؤمنون: 8] وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الأنفال: 27] وقال عليه الصلاة والسلام: «لا إيمان لمن لا أمانة له» «1» وقال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان» . قد رأيت أنّ الأمانات عامة واجبة الأداء، لا فرق بين واحدة منها وواحدة، ولا بدّ من دفعها إلى أهلها عند طلبهم إياها، وأما حكم الأمانة في حال الهلاك، وأنها مضمونة أو غير مضمونة، أو بعضها مضمون وبعضها الآخر غير مضمون، فنحن لا نعرض له، لأنّا نراه لا يتصل بالآية، ومردّه إلى أدلته في كتب الفقه. وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. إقامة العدل بين الناس أمر تقتضيه طبيعة العمران، وتشهد به بداية العقول، ولا بد للمجتمع الإنساني منه، حتّى يأمن الضعيف سطوة القوي، ويستتبّ الأمن والنظام بين النّاس. ومن أجل هذا تجد الشرائع السماوية تنادي بوجوب إقامة العدل، قال تعالى في كتابه الحكيم: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل: 90] وقال: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [الأنعام: 152] وقال: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: 8] وقال: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص: 26] . قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أنس عنه: «لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت. وإذا استرحمت رحمت» . وقد ذمّ الله الظلم والظالمين في آيات كثيرة قال: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22] وقال: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم: 42] وقال في عاقبة الظلم: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل: 52] ومن الظلم الحكم بغير ما أنزل الله. وقوله تعالى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ مشعر بأنّه لا بدّ للناسي أن يوجد فيهم من يحكم بينهم. وقد دلت الأدلة على أنّ الحكم لإمام المسلمين، يقضي بين الناس بما يراه موافقا للشرع فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) [النساء: 65] .

_ (1) رواه أحمد في المسند (3/ 135) .

إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أي نعم شيء يعظكم، أو نعم الذي يعظكم به، والمخصوص بالمدح محذوف، يرجع إلى المأمور به من أداء الأمانات، والحكم بين الناس بالعدل. إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً يبصر ما يكون منكم من أداء الأمانات وخيانتها فيحاسبكم عليه، ويسمع ما يكون من حكمكم بين الناس فيجازيكم به. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) لمّا أمر الله الولاة بأن يسيروا في حكمهم بين الناس على مقتضى العدل، وكان العدل لا يتحقّق إلا أن يلتزمه الناس، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ إلخ وقد اختلف المفسّرون في المراد بأولي الأمر، فذهب بعضهم إلى أنهم أمراء المسلمين، فيدخل فيهم الخلفاء الراشدون، والملوك والسلاطين، والقضاة وغيرهم، وذهب بعضهم: إلى أنّهم أمراء السرايا، وقال آخرون: إنّهم العلماء الذين يفتون في الأحكام الشرعية، ويعلمون الناس دينهم. وذهب الروافض إلى أنهم الأئمة المعصومون، بل لقد غلت طائفة منهم وزعمت أن المراد من أولي الأمر علي بن أبي طالب وحده. ونحن نرى أنه ليس ما يمنع أن يكون الجميع مرادا عدا ما ذهب إليه الخوارج، فالخلفاء واجبو الطاعة، وأمراء السرايا واجبو الطاعة، والعلماء واجبو الطاعة، كل ذلك واجب، ما لم يكن إلمام بمعصية، وإلا فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ويرى الفخر الرازي أنّ المراد من أولي الأمر أهل الحل والعقد، ويريد من ذلك أن يستدل بالآية على حجية الإجماع، وهو يدعم رأيه هذا بأنّ الله ذكر ثلاثة، واجبة طاعتهم: الله، ورسوله، وأولو الأمر، والله ورسوله مقطوع بعصمتهم، فوجب أن يكون أولوا الأمر كذلك، ولا نجد من أولي الأمر على ما ذكره المفسرون من هو واجب العصمة إلا أهل الحل والعقد عند اجتماعهم على أمر من الأمور، «لن تجتمع أمتي على ضلالة» فينبغي أن يكون المراد من أولي الأمر أهل الحل والعقد، ويكون ذلك دليلا على حجية الإجماع. وقد ذكر الله الأمر بطاعة الله والأمر بطاعة الرسول وأولي الأمر، ثم أمر برد ما يتنازع فيه إلى الله والرسول، جعل ذلك محقّقا للإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ووصفه بأنه خير وأحسن مآلا، وذلك يقتضي أن يكون الردّ إلى الله والرسول غير طاعة الله والرسول، وإلا كان ذلك تكرارا محضا، إذ يؤول الكلام إلى أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر، فإن تنازعتم في شيء فأطيعوا الله والرسول وذلك لغو ينزّه القرآن عن

مثله إذ لو اقتصر على قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ لفهم الأمر بالطاعة في كل الأحوال. وأيضا فإنّه كيف يتأتّى النزاع في أمر علم حكم الله ورسوله نصا فيه؟ إن ذلك يكون خروجا عما يقضي به الأمر بالطاعة، ومن أجل ذلك قيل: إنه يجب أن يكون الأمر بطاعة الله ورسوله فيما ثبت نصا عنهما أنه حكم الله في كتابه أو سنة رسوله، فأما ما لم ينصّ فيهما على حكمه فهذا الذي يصحّ أن يتنازع الناس في حكمه، لأنهم لا يجدون نصّا يلزمهم طاعته، وبما أنه لا يمكن أن يحوي الكتاب ولا أن تحوي السنة نصوص الأحكام في أشخاص المسائل، إذ أشخاص المسائل لا تتناهى. فجاز أن تكون حوادث لا نجد لها حكما في كتاب ولا سنة، فهذه هي التي قال الله لنا فيها: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ أي فارجعوا فيه إلى ما في الكتاب والسنة من أحكام- حيث يكون الحكم قد ورد من أجل حكمة ناط الشارع بها الحكم، ورتّبه عليها، وحيث تجدون هذه الحكمة فيما جدّ لديكم من الحوادث- تعلموا أنّ هذا الحكم الذي في الكتاب أو السنة مرتبا على هذه العلة هو حكم الله في كتابه أو سنة رسوله فيما جدّ من الحوادث. وهذا هو القياس الذي فهمه معاذ رضي الله عنه حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى اليمن، وأقرّه الرسول عليه، حيث روي أنه قال: «كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟» . قال: «أقضي بكتاب الله» . قال: «فإن لم يكن في كتاب الله؟» . قال: «أقضي بسنة نبي الله» . قال: «فإن لم يكن في كتاب الله وسنة رسول الله؟» . قال: «أجتهد رأيي لا آلو» . قال: فضرب على صدره وقال: «الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله إلى ما يرضي رسول الله» «1» . وإذا جرينا على ما رآه الفخر الرازي من تفسير أولي الأمر: بأهل الحل والعقد تكون الآية دالّة على حجية الكتاب والسنة والإجماع والقياس. وفي قوله: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ما يشعر بكون المتنازع فيه مما لا نص فيه، وإلا كان واجب الطاعة، غير محل للنزاع كما قدمنا.

_ (1) رواه أبو داود في السنن (1/ 295) ، كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي حديث رقم (3592) ، والترمذي في الجامع الصحيح (3/ 616) ، كتاب الأحكام، باب القاضي حديث رقم (1327) ، وأحمد في المسند (5/ 230) .

[سورة النساء (4) : الآيات 92 إلى 94]

وقد يقال: كيف قال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وطاعة رسوله هي طاعة الله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ؟ [النساء: 80] . قيل: ذلك إيماء إلى الكتاب والسنة، فالكتاب إلى الله، والسنة إلى الرسول، وإن كان الكلّ من عند الله. فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ التنازع: الاختلاف مأخوذ من النزع، الذي هو الجذب، لأنّ كلا من المتنازعين يجذب الحجة من صاحبه. إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وعيد من الله لكل من حاد عن طاعة الله ورسوله، والردّ إليهما عند الاختلاف، وهو في معنى قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء: 65] . ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا، اسم الإشارة يرجع إلى ما أمروا به من طاعة الله ورسوله، والردّ إليهما عند المنازعة. والتأويل: المآل والعاقبة. قد يؤخذ من الآية التي معنا أنّ أدلة الأحكام الشرعية أربعة لا غير، وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وإنّ غيرها لا يصحّ التعويل عليه في إثبات الأحكام، ولا الردّ إليه عند النزاع، لأنّ الأحكام إما منصوصة في كتاب أو سنة، وذلك قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وإما مجمع عليها من أولي الأمر بعد استنادهم إلى دليل علموه، وذلك قوله: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وإما غير منصوص ولا مجمع عليها، وهذه سبيلها الاجتهاد، والرد إلى الله والرسول وذلك هو القياس، فما أثبته الفقهاء والأصوليون غير هذه الأربعة كالاستحسان الذي يراه الحنفية دليلا، وإثبات الأحكام الشرعية تمشيا مع المصالح المرسلة الذي يقول به المالكية، والاستصحاب الذي يقول به الشافعية كلّ ذلك إن كان غير الأربعة فمردود بظاهر هذه الآية، وإن كان راجعا إليها، فقد ثبت أنّ الأدلة أربعة. قال الله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) تحرير رقبة: التحرير عبارة عن جعل العبد حرا، والحرّ في الأصل الخالص، وإنما سمي به من ليس رقيقا لأنّه خالص مما يكدر إنسانيته.

الدية: قال الواحدي: الدية من الودي كالشية من الوشي، والأصل ودية، فحذفت الواو، يقال ودى فلان فلانا أدى ديته إلى وليه، ثم إنّ الشرع خصّص هذا اللفظ بما يؤدّى في بدل النفس دون ما يؤدّى في بدل المتلفات، ودون ما يؤدّى في بدل الأطراف. وقوله: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً. معناه: وما كان جائزا لمؤمن قتل مؤمن إلا خطأ، والاستثناء فيه قيل: إنه منقطع بمعنى لكن، كقوله: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النساء: 29] وقيل: إنه متصل، وهو مستثنى مما يستلزمه وقوع المنهي عنه من الإثم، كأنّه قيل: لا يقتل المؤمن المؤمن فإنه إثم، إلا الخطأ فلا إثم عليه. وقيل: إنّ في الكلام تقديما وتأخيرا، والأصل: وما كان مؤمن ليقتل مؤمنا إلا خطأ، كقوله: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ [مريم: 35] وقوله: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النمل: 60] . وإنما حملت هاتان الآيتان على خلاف الظاهر، لأنّ الله لا يحرم عليه شيء، وإنما ينفى عنه ما لا يليق به، ولأنّ الله لم يحرّم عليهم أن ينبتوا شجرها، وإنما ينفي عنهم إمكان أن ينبتوا شجرها، والذي حدا بالقائلين إنه استثناء منقطع إلى القول به أنه لو كان متصلا، وما قبله نفي لجواز القتل، لكان مقتضيا أنّ القتل خطأ جائز. وانتصاب خطأ إما على أنه مفعول لأجله، أي ما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ، أو على أنّه صفة لمصدر محذوف، أي قتلا خطأ، أو على أنه حال بتأويله بمخطئ. ثم لما ذكر الله قتل الخطأ بيّن حكمه فقال: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي فعليه تحرير رقبة، ودية مسلمة إلى أهله، إلا أن يصدقوا بالدية، أي إلا أن يعفوا، وسمي العفو صدقة، لأنه معروف، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كلّ معروف صدقة» «1» . وسبب نزول هذه الآية ما كان من عيّاش بن أبي ربيعة، أخرج ابن جرير «2» عن السدي وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً قال: نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة المخزومي، وكان أخا لأبي جهل بن هشام لأمه، وإنه أسلم وهاجر في المهاجرين الأولين قبل قدوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فطلبه أبو جهل والحارث بن هشام، ومعهما رجل

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 697) ، 12- كتاب الزكاة، 16- باب بيان أن اسم الصدقة حديث رقم (52/ 1005) . (2) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (5/ 129) .

من بني عامر بن لؤي، فأتوه بالمدينة، وكان عياش أحبّ إخوته إلى أمه، فكلّموه وقالوا: إنّ أمك قد حلفت ألا يظلّها بيت حتى تراك، وهي مضطجعة في الشمس، فإنها لتنظر إليك، ثم أرجع وأعطوه موثقا من الله لا يحجزونه حتى يرجع إلى المدينة، فأعطاه بعض أصحابه بعيرا له نجيبا، وقال: إن خفت منهم شيئا فاقعد على النجيب، فلما أخرجوه من المدينة أخذوه فأوثقوه، وجلده العامري، فحلف ليقتلن العامريّ، فلم يزل محبوسا بمكة حتى خرج يوم الفتح، فاستقبله العامري، وقد أسلم، ولا يعلم عياش بإسلامه، فضربه فقتله، فأنزل الله وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً يقول: وهو لا يعلم أنه مؤمن وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فيتركوا الدية. قد أوجب الله القصاص في القتل في آية البقرة كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة: 178] وأوجب الدية والكفارة في القتل الخطأ في الآية التي معنا، فيعلم أن الذي وجب فيه القصاص هو القتل العمد، لا ما يشمل الخطأ، وقد رأى مالك في بعض الروايات عنه أنّ القتل إما عمد وإما خطأ، ولا ثالث لهما، لأنّه إما أن يقصد القتل فيكون عمدا، أو لا يقصده فيكون خطأ، ولا واسطة، والكتاب يساعده. أما سائر فقهاء الأمصار فقد أثبتوا واسطة بين العمد والخطأ، وهو شبه العمد، وإلى ذلك ذهب عمر وعلي وعثمان وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري والمغيرة، ولا مخالف لهم من الصحابة، وحجتهم في إثباته أن النيات مغيّبة عنا، لا اطلاع لنا عليها، وإنما الحكم بما ظهر، فمن قصد ضرب آخر بآلة تقتل غالبا حكمنا بأنه عامد، لأنّ الغالب أنّ من يضرب بآلة تقتل يكون قصده القتل، ومن قصد ضرب رجل بآلة لا تقتل غالبا كان مترددا بين العمد والخطأ، فأطلقنا عليه شبه العمد، وهذا بالنسبة إلينا لا بالنسبة إلى الواقع ونفس الأمر، إذ هو في الواقع إما عمد وإما خطأ، وقد أشبه العمد من جهة قصد الضرب، وقد أشبه الخطأ من جهة أنّ الآلة لا تقتل غالبا. وقد استدلوا أيضا بما روي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ألا إنّ قتل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا والحجر ديته مغلظة مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها ، وهو حديث مضطرب عند أهل الحديث «1» ، ذكر أبو عمر بن عبد البر «2» أنه لا يثبت من جهة الإسناد. ومالك رحمه الله يرى أنّ ما يسمى شبه عمد هو عمد يجب

_ (1) رواه أبو داود في السنن (4/ 199) ، كتاب الديات، باب الدية حديث رقم (4588) ، والنسائي في السنن (7- 8/ 409) ، كتاب القسامة باب كم دية شبه العمد حديث رقم (4805) ، وابن ماجه في السنن (2/ 877) ، كتاب الديات باب شبه العمد حديث رقم (2627) . (2) هو عبد الله بن محمد بن عبد البر القرطبي صاحب كتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والمسانيد.

فيه القصاص، وقد روي عنه أيضا أنه يثبت شبه العمد، والذين أثبتوا شبه العمد اختلفوا فيما هو عمد وما هو شبه عمد على أقوال كثيرة، أشهرها ثلاثة: 1- قال أبو حنيفة: العمد ما كان بالحديد، وكل ما عدا الحديد من القضيب أو النار وما يشبه ذلك فهو شبه العمد. 2- قال أبو يوسف ومحمد: شبه العمد ما لا يقتل مثله. 3- قال الشافعي: شبه العمد ما كان عمدا في الضرب خطأ في القتل، أي ما كان ضربا لم يقصد به القتل، فتولّد عنه القتل، والخطأ بما كان خطأ فيهما جميعا، والعمد ما كان عمدا فيهما جميعا. وما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله من جعل كلّ قتل بغير الحديد شبه عمد ضعيف، فإنّ من ضرب رأس إنسان بنحو حجر رحى فقتله، وادعى أنه ليس عامدا كان مكابرا، والمصلحة تقتضي بالقصاص في مثله، لأنّ الله شرع القصاص صونا للأرواح عن الإهدار، ولو كان القتل بالمثقّل لا قصاص فيه لارتكبه الناس، فشفوا نفوسهم بقتل أعدائهم، ونجوا من القصاص. والفقهاء يعتمدون في إثبات العمد وشبهه والخطأ على الآلة التي بها القتل وأشياء أخرى ذكرت في الفروع، وكان مقتضى النظر أن يبحث في ظروف القتل، وما أحاط به من ملابسات، وفي قرائن الأحوال لنعلم نية القاتل: أهو عامد أم مخطئ، إلا أنهم رأوا أنّ نية القاتل لا اطلاع لنا عليها، فاكتفوا بالنظر في الآلة التي كان بها القتل، ونحن نوافق على أنّ نية القاتل لا اطلاع لنا عليها. لكن ينبغي أن ننظر نظرا أوسع في جميع الملابسات المحيطة لنعلم نيته، ولعلّه لو قيل بذلك لم يكن بعيدا من الشريعة. وقد أوجب الله في القتل الخطأ أمرين: عتق رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله، فأما الرقبة المؤمنة فقد قال ابن عباس والحسن والشعبي فيها: لا تجزئ الرقبة إلا إذا صامت وصلّت. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: يجزئ الصبيّ إذا كان أحد أبويه مسلما. حجة الأولين أن الله شرط الإيمان فلا بد من تحققه، والصبيّ لم يتحقق منه. وحجة الآخرين: أنّ الله قال وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً فيدخل فيه الصبيّ، فكذلك يدخل في قوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ والرقبة قد ذكروا أنها على القاتل، فأما الدية فهي على العاقلة، وقد وردت أحاديث كثيرة تدلّ على أنّ الدية على العاقلة «1» ، والعاقلة قال الحجازيون: هم قرابته من جهة أبيه، وهم عصبته.

_ (1) رواه ابن ماجه في السنن (2/ 879) ، كتاب الديات، باب الدية على العاقلة حديث رقم (2633) .

وقال الحنفية: العاقلة هم أهل ديوانه. وحجة الحجازيين أنه تعاقل الناس في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي زمن أبي بكر، ولم يكن هناك ديوان، وإنما كان الديوان في زمن عمر بن الخطاب، فإن قيل: كيف يجني الجاني وتؤخذ عاقلته بجريرته فيحملون الدية، والله يقول: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه» وقال لأبي رمثة وابنه: «إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه» «1» . قلنا: إنّ هذا ليس من باب تحميل الرجل وزر غيره، لأنّ الدية على القاتل ابتداء. وتحميل العاقلة إياها من باب المعاونة، وكما تعاونه العاقلة فتدي عنه، يعاونها هو فيدي عنها، وكما تتعاون القبيلة في النّصرة، فتدفع بنفسها العدوّ المغير، تتعاون بمالها، فيدي بعضها عن بعض، وقد كان تحمّل العاقلة الدية معروفا عند العرب، وكانوا يعدّونه من مكارم الأخلاق، والنبي صلّى الله عليه وسلّم بعث ليتمّم مكارم الأخلاق، والمعاونة والتناصر وتحمّل المغارم مما يقوّي الألفة، ويزيد في المحبة، وقد ورد من الأحاديث ما يدلّ على أنّ العاقلة تحمل الدية. وروى المغيرة أنّ امرأة ضربت بطن امرأة أخرى فألقت جنينا ميتا فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عاقلة الضاربة بالغرّة، فقام حمل بن مالك فقال: كيف ندي من لا شرب ولا أكل، ولا صاح ولا استهل، ومثل ذلك بطل. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هذا من سجع الجاهلية» «2» . وقد ورد أنّ عمر رضي الله عنه قضى على عليّ بأن يعقل عن موالي صفية بنت عبد المطلب حين جنى مولاها، وعليّ كان ابن أخي صفية، وقضى للزبير بميراثها «3» . وقد ذهب أبو بكر الأصم وجمهور الخوارج إلى أن الدية على القاتل لا على العاقلة، اعتمادا على ما ذكرناه من العمومات، وعلى أنّ قوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ يقتضي أنّ من يجب عليه هو القاتل، والذي يناسب أن يكون كذلك في الدية، وقد علمت أنّ الآثار مجمعة على أنّ الدية على العاقلة.

_ (1) رواه أبو داود في السنن (4/ 165) ، كتاب الديات، باب النفس حديث رقم (4495) ، والنسائي في السنن (7- 8/ 423) ، كتاب القسامة باب هل يؤخذ أحد بجريرة أحد حديث رقم (4847) ، والترمذي في الجامع الصحيح (5/ 255) ، كتاب التفسير حديث رقم (3087) . (2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1311) ، 28- كتاب القسامة، 11- باب دية الجنين حديث رقم (37/ 1682) واللفظ عنده «أسجع كسجع الأعراب» . (3) انظر تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير للرافعي، كتاب الديات، (4/ 103) .

بقي أن يقال: إذا اختلف النظام الاجتماعي عما كان عليه في زمن العرب، وفقدت عصبية القبيلة بعضهم لبعض، وصار كل امرئ معتمدا على نفسه دون قبيلته، كما في النظام الحاضر، يكون الأوفق الأخذ برأي الأصم والخوارج أم برأي الجمهور؟ هذا محل اجتهاد، والحكمة في إيجاب الله الدية أن القاتل قد فوّت على أهل القتيل منفعتهم به، ولم يتعمّد قتله حتى يكون القصاص، فأوجب الله الدية مالا يدفع لورثة المقتول عوضا عما فاتهم من منافعه، وتطييبا لخواطرهم، فلا تتطلع نفوسهم للانتقام. ومقدار دية الخطأ مختلف فيها فأما على أهل الإبل فمائة، منها- وهي مخمّسة- عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون ذكرا، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، عند مالك والشافعي. وكذلك عند أبي حنيفة إلا أنه يجعل ابن اللبون ابن مخاض، وهي تؤجّل، تؤخذ نجوما على ثلاث سنين، وأما دية شبه العمد فهي مثلثة: منها أربعون خلفة، وثلاثون حقة، وثلاثون جذعة. ومالك لا يقول بشبه العمد إلا في قتل الوالد لولده. وأما دية العمد فما اصطلح عليه عند أبي حنيفة ومالك على المشهور من قوله. وأما عند الشافعي فكدية شبه العمد، وأما على أهل الذهب فألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم عند مالك، وعند العراقيين على أهل الورق عشرة آلاف درهم. قال الشافعي بمصر: لا تؤخذ من أهل الذهب ولا من أهل الورق إلا قيمة الإبل بالغة ما بلغت، وقوله بالعراق مثل قول مالك. ويدل للشافعي في قوله الأول ما روي «1» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: كانت الديات على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين. قال: فكان ذلك حتى استخلف عمر، فقام خطيبا فقال: إن الإبل قد غلت، ففرضها عمر على أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وترك دية أهل الذمة لم يرفع فيها شيئا. وقد روى أهل السنن الأربعة «2» عنه صلّى الله عليه وسلّم: «إن دية المعاهد نصف دية المسلم» ولفظ

_ (1) رواه أبو داود في السنن (4/ 183) ، كتاب الديات، باب الدية كم هي؟ حديث رقم (4542) . (2) رواه أبو داود في السنن (4/ 197) ، كتاب الديات، باب دية الذمي حديث رقم (4583) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 18) ، كتاب الديات حديث رقم (1413) .

ابن ماجه «1» : قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين، وهم اليهود والنصارى. واختلف الفقهاء في ذلك، فقال مالك: ديتهم نصف دية المسلمين في الخطأ والعمد، وقال الشافعي: ثلثها في الخطأ والعمد، وقال أبو حنيفة: بل كدية المسلم في الخطأ والعمد، وحجة مالك حديث عمرو بن شعيب، وحجة الشافعي أنّ عمر جعل ديته أربعة آلاف، وهي ثلث دية المسلم، وراعى أبو حنيفة أصله وهو جريان القصاص بين المسلم والذمي، فكما سوّى بينهما في القصاص سوّى بينهما في الدية. والدية تأخذها ورثة المقتول، وهي كميراث يقضى منها الدين، وتنفّذ منها الوصية، وتقسّم على الورثة. روي أن امرأة جاءت تطلب نصيبها من دية الزوج فقال عمر: لا أعلم لك شيئا، إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه، فشهد بعض الصحابة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمره أن يورّث الزوجة من دية زوجها فقضى عمر بذلك. فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أوجب الله في المؤمن الساكن بدار الحرب إذا قتله مؤمن تحرير رقبة مؤمنة، دون الدية، وإنما حملنا الآية على ذلك، ولم تحملها على المؤمن الذي يتّصل نسبه بقوم عدو، وهو ساكن ببلاد الإسلام، لانعقاد الإجماع على وجوب الدية فيه. وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ جعل الله في قتل المعاهد ما جعله في قتل المسلم من الدية وتحرير الرقبة. وحمل بعضهم الآية على المسلم الذي هو في قوم معاهدين، وليس بظاهر، لأنّه يكون تكرارا، إذ حكمه داخل في قوله: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً. ولا معنى لإفراده، لأنه لم يخالف حكمه بخلاف المؤمن الذي هو في قوم عدو، فإنه أفرده، لأنّ حكمه يخالف الأول. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً يقول الله: فمن لم يملك رقبة، ولا ما يتوصل به إليها فعليه صيام شهرين متتابعين توبة من الله، أي قبولا ورحمة منه من تاب الله عليه إذا قبل توبته، والعامل فيه محذوف. إما (شرع) أو (نقلكم) من العتق عند العجز إلى الصوم. وفي التعبير بالتوبة إشارة إلى أنّ القاتل ملوم، وأنه كان ينبغي له أن يتحرّى، وقد أوجب الله في صيامه الشهرين التتابع، فلو أفطر يوما وجب الاستئناف، إلا أن يكون الفطر بحيض أو نفاس أو مرض يمتنع معه الصوم.

_ (1) رواه ابن ماجه في السنن (2/ 883) ، كتاب الديات باب دية الكافر حديث رقم (2644) .

وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً فقد علم أنّ القاتل خطأ لم يتعمّد، فلذلك لم يؤاخذه، وعلم أنه فوّت على ورثة المقتول مصلحتهم بقتله، ففرض الدية تعويضا لهم، وهذا غاية في الحكمة والمصلحة. قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) يقول الله تعالى: ومن يقتل مؤمنا عامدا فجزاؤه على قتله عذاب جهنّم باقيا فيها، وغضب الله عليه لما ارتكبه من هذا الجرم الفظيع، وأخزاه وأعدّ له عذابا عظيما. بعد أن ذكر الله حكم من قتل المسلم خطأ، ذكر هنا حكم من قتله عامدا، واقتصر على ذكر عقوبته في الأخرى، لأنّه ذكر عقوبته في الدنيا وهي القصاص في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة: 178] . وقد استدلّ المعتزلة بهذه الآية على القطع بعذاب الفسّاق، وخلودهم في النار، إن لم يتوبوا، وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة شتّى. منها أنّ هذه الآية نزلت في كافر قتل مسلما، ويرد عليه أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأيضا قد ثبت في الأصول أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب له يدلّ على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، وبذلك علمنا من قوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] إن السرقة علة القطع. ومنها أنّ هذا وعيد بأنه سيفعل ذلك في المستقبل، والخلف في الوعيد كرم، وهذا مردود، لأنّ الوعيد قسم من الخبر، فإذا جوّز على الله الخلف فيه، فقد جوّز عليه الكذب، وهو باطل. ومنها أن هذه الآية دلّت على أن جزاء القاتل هو ما ذكر، وليس فيها ما يدلّ على أنه سيوصل هذا الجزاء إليه، وهذا مثل ما يقول السيد لعبده، جزاؤك أن أفعل بك كذا وكذا، ولكن لا أفعله. وهذا ضعيف أيضا، لأنّ الله ذكر في هذه الآية أنّ جزاءه ما ذكر، وذكر في آيات أخرى أنه سيوصل جزاء عاملي السوء إليهم، قال: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] وقال: وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) [الزلزلة: 8] . واختار الرازي في الجواب أنّ هذه الآية قد خصّصت في موضعين: أحدهما: القتل العمد، إذا لم يكن عدوانا، كقتل القصاص. والثاني: القتل الذي تاب عنه القتل وإذا دخلها التخصيص في هاتين المسألتين فنحن نخصّص هذا العموم فيما إذا حصل العفو بدليل قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] .

وقد ذهب ابن عباس إلى أنّ المؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا لا تقبل له توبة. أخرج ابن جرير «1» عن سالم قال: كنت جالسا مع ابن عباس، فسأله رجل فقال: أرأيت رجلا قتل مؤمنا متعمدا أين منزله؟ قال: جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه، ولعنه، وأعدّ له عذابا عظيما. قال: أفرأيت إن هو تاب، وآمن، وعمل صالحا، ثم اهتدى. قال: وأنّى له الهدى ثكلته أمّه والذي نفسي بيده لسمعته يقول- يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم-: «يجيء يوم القيامة معلّقا رأسه بإحدى يديه، إما بيمينه أو بشماله، آخذا صاحبه بيده الأخرى تشخب أوداجه حيال عرش الرحمن، يقول: يا ربّ سل عبدك هذا علام قتلني» «2» فما جاء نبيّ بعد نبيكم، ولا نزل كتاب بعد كتابكم. وقال جمهور العلماء: إنّ توبة القاتل تقبل، ويدل له أن الكفر أعظم من هذا القتل، والتوبة عن الكفر تقبل، فالتوبة عن القتل أولى بالقبول. وأيضا آيات الفرقان تدل على قبول توبته، وهي قوله: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الفرقان: 68- 70] . وأيا ما كان الأمر، فالآية تعدّ قتل المؤمن من الكبائر، وتهدّد القاتل بأنواع من التهديد والعقاب. وقد ورد في الأحاديث من التغليظ في قتل المسلم ما هو قريب مما في الآية: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم» «3» . وقال أيضا: «لو أنّ رجلا قتل بالمشرق، وآخر رضي بالمغرب لأشرك في دمه» . وقال أيضا: «إن هذا الإنسان بنيان الله، ملعون من هدم بنيانه» . وقال أيضا: «من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله» «4» .

_ (1) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (5/ 138) . [.....] (2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 224) ، كتاب التفسير حديث رقم (3029) ، والنسائي في السنن (7- 8/ 95) في تحريم الدم حديث رقم (3999) ، وابن ماجه في السنن (2/ 874) ، كتاب الديات حديث رقم (2621) . (3) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (4/ 10) ، كتاب الديات، باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن حديث رقم (1395) ، والنسائي في السنن (7- 8/ 93) حديث رقم (3987) . (4) رواه ابن ماجه في السنن (2/ 874) ، كتاب الديات باب التغليظ في قتل مسلم ظلما حديث رقم (2620) .

فعلى من ينشد الحيطة لنفسه في آخرته، ألا يقتل مسلما، ولا يعين على قتل مسلم بشهادة باطلة ونحوها. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) ضَرَبْتُمْ له معان منها السفر، وكأنه سمي به، لأنّ المسافر يضرب دابّته بعصاه ليصرفها كما يريد، ثم سمي به كلّ مسافر، أو لأنه يضرب برجليه الأرض في سيره. فَتَبَيَّنُوا وقرئ فتثبتوا وهما من التفعل بمعنى الاستفعال، أي اطلبوا بيان الأمر وثباته، ولا تتعجلوا فيه من غير روية. السَّلامَ وقرئ السلم وهما الاستسلام، وقيل الإسلام، وقيل التسليم أي تحية أهل السلام. معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله إذا سرتم سيرا لله تعالى في جهاد الكفار، ورأيتم من تشكّون أهو سلم لكم أم حرب، فاطلبوا بيان أمره، ولا تعجّلوا بقتله، ولا تقولوا لمن استسلم لكم لست مؤمنا، أو لمن أظهر إليكم الإسلام لست مؤمنا، تبتغون متاع الحياة الدنيا، فإنّ عند الله مغانم كثيرة من رزقه ونعمته، فالتمسوها بطاعته، فهي خير لكم. كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أي كهذا الذي كان مستخفيا بالإسلام من قومه- ولما وجدكم أظهر لكم دينه- كنتم من قبل مستخفين بدينكم من كفار قريش، فمنّ الله عليكم بإعزاز دينه، وتقوية شوكة الإسلام، فأظهرتم دينكم، فتبينوا أمر من أشكل عليكم أمره إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ومنه تعجيلكم بقتل من لم يتبيّن لكم شأنه ابتغاء عرض الدنيا الزائل وحطامها الفاني. وقال الزمخشري «1» : كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة، فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالاستقامة، والاشتهار بالإيمان، وإن صرتم أعلاما فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في المكانة، ولا تقولوا: إن تهليل هذا لاتقاء القتل لا لصدق النية، فتجعلوه سلّما إلى استباحة دمه وماله، وقد حرمهما الله.

_ (1) تفسيره في الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 553) .

[سورة النساء (4) : الآيات 101 إلى 106]

سبب نزول هذه الآية: قد اختلف فيه، ونحن نقتصر هنا على رواية واحدة «1» : قيل: إنّ مرداس بن نهيك رجل من أهل فدك أسلم، ولم يسلم من قومه غيره، فغزتهم سرية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عليها غالب بن فضالة الليثي، فهربوا، وبقي مرداس لثقته بإسلامه، فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل، وصعد، فلما تلاحقوا وكبّروا، كبر ونزل، وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد، واستاق غنمه، فأخبروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فوجد وجدا شديدا، وقال: «قتلتموه إرادة ما معه» ثم قرأ الآية على أسامة، فقال: يا رسول الله استغفر لي، فقال: «فكيف بلا إله إلا الله» قال أسامة: فما زال يعيدها حتى وددت أن لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم استغفر لي، وقال: أعتق رقبة. ويؤخذ مما تقدم أنّ الكافر إذا قال: لا إله إلا الله، حرم قتله، لأنّه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله. وقد قال الفقهاء: إذا قتله في هذه الحالة قتل به، وإنما لم يقتل أسامة لأنّه كان في صدر الإسلام، وتأوّل أنه قالها متعوّذا، وأنّ العاصم قولها مطمئنا. وقد ورد الحديث الصحيح «2» مبينا أنّ قول لا إله إلا الله عاصم كيفما كان، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» . قال الله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) الضرب في الأرض: السير فيها- قال الله تعالى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ [المزمل: 20] . وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النساء: 94] . القصر: من الشيء الحدّ منه وجعله أنقص مما كان، وهو بهذا المعنى في الصلاة يحتمل النقص من عددها، ويحتمل النقص من صفتها وهيئتها، فالأول أن تصير الرباعية ثنتين، والثاني التخفيف في هيئتها كأن تكون ذات ركوع وسجود، يمتنع المشيء فيها، فتصير ذات إيماء يباح الانتقال فيها، وكأن يصلي المأموم خلف الإمام الصلاة كاملة فيقتصر على جزء منها مع الإمام، ثم ينتظر حتى يجيء مأموم آخر فيصلي مع الإمام ما بقي من صلاة الإمام ثم ينصرف، ويتم كل من المأمومين صلاته

_ (1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (5/ 141) . (2) رواه مسلم في الصحيح (1/ 52) ، 1- كتاب الإيمان، 8- باب الأمر بقتال الناس حديث رقم (33/ 21) .

منفردا، كلّ ذلك حطّ من الصلاة، ونقص لها، وتخفيف على فاعلها. وقد اختلف العلماء في المراد بالقصر هنا، أهو القصر في عدد ركعات الصلاة أم هو القصر من هيئتها، والقائلون بأنّ القصر نقص عدد الركعات اختلفوا في المراد من الصلاة أهي صلاة المسافر أم هي الصلاة في حال الخوف من العدو، فعلى الأول يكون القصر للصلاة في السفر بالنظر لما كانت عليه في الحضر. وذهب ابن عباس وجابر بن عبد الله إلى الثاني، قال ابن عباس: فرض الله صلاة الحضر أربعا وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيكم، وهذا القول ليس بظاهر، لأنّ القرآن صريح في أن كيفية صلاة الخوف أن يقسم القوم أنفسهم طائفتين، يصلّي الإمام بطائفة منهما شيئا من الصلاة، ثم تأتي طائفة أخرى لم يصلّوا فيصلون مع الإمام، ونحن متفقون على أنّ المأموم عليه أن يؤدي مثل ما يؤدي الإمام، فما معنى قولهم: إن صلاة الخوف ركعة؟ إن أرادوا أنها ركعة بجماعة مع الإمام بالنظر لكل من الطائفتين فهو مسلم، ولا يثبت لهم ما قالوا من أنّ صلاة الخوف ركعة، وإن قالوا: إن كل طائفة ليس عليها إلا الذي صلت مع الإمام، فهو مخالف لما حكينا من الاتفاق على أن المأموم عليه أن يفعل مثل ما فعل الإمام، وقد دلّت كلّ الأخبار التي رويت في صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم لصلاة الخوف أنها ركعتان، يصلّي بكل طائفة ركعة، وعلى هذا يجب أن يحمل قول ابن عباس وجابر رضي الله تعالى عنهما أن صلاة الخوف ركعة، أنها ركعة لكل طائفة مع الإمام، وتقضي كل منهما ركعة دون الاقتصار على ركعة واحدة. وقد استدلّ القائلون بأنّ القصر قصر عدد الركعات بما روي عن يعلى بن أمية أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب: كيف تقصر وقد أمّنا، وقد قال الله: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فقال عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» «1» . وهذا يدلّ على أنّ المراد بالقصر في الآية القصر في عدد الركعات، لأنّ السائل فهم أنّ ذلك لا يكون إلا في الخوف، وقد فعل في الأمن فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هو صدقة» فدلّ على أنّ القصر الذي في الآية من جنس القصر الذي يكون في الأمن، وذلك نقص في الركعات دون الصفة، وأيضا فإنّ القصر أن تقتصر من الشيء على بعضه، والقصر في الصفة تغيير، لا إتيان بالبعض، لأنه جعل الإيماء بدل الركوع

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 478) ، 6- كتاب المسافرين، 1- باب صلاة المسافرين حديث رقم (4/ 686) .

والسجود مثلا. وأيضا: فإنّ (من) في قوله: مِنَ الصَّلاةِ للتبعيض، وذلك في الاقتصار على بعض الركعات أظهر. وأما دليل الذين قالوا: إنّ المراد بقصر الصلاة في الآية قصر الصفة والهيئة دون نقصان أعداد الركعات فهو أنّ الآية في صلاة السفر. أليس الله يقول: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ وقد روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر قال: «صلاة السفر ركعتان، وصلاة الفطر والأضحى ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام» «1» فقد أخبر أنّ صلاة السفر سواء أكانت صلاة أمن أم خوف تمام غير قصر. فإذا معنى القصر في الآية قصر الصفة لا قصر عدد الركعات، وهم يحملون قول عمر: «عجبت مما عجبت منه» على أنه لعله كان قد ظن في بادئ الأمر أنّ القصر في صلاة الخوف قصر عدد الركعات، فلما سمع من النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر» علم أن القصر في الآية إنما هو في الصفة. وقد اختلف الفقهاء في أنّ فرض المسافر في الظهر والعصر والعشاء أهو ثنتان، أم هو مخيّر بين القصر والإتمام، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: فرض المسافر ركعتان إلا في المغرب، فإنها ثلاث: فإن صلّى المسافر أربعا ولم يقعد على رأس الركعتين فسدت صلاته، وإن قعد بعدهما مقدار التشهد تمت صلاته مع الكراهية، لتركه السلام، بمنزلة من صلّى الفجر أربعا بتسليمة، وقال حماد بن سليمان: إذا صلّى أربعا أعاد. وقال مالك: إذا صلّى المسافر أربعا أعاد ما دام في الوقت، فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه. وقال الشافعي رضي الله عنه: القصر رخصة، فإن شاء قصر وإن شاء أتمّ. احتجّ الشافعي رحمه الله بأن ظاهر الآية نفي الجناح عنهم في القصر، وهذا اللفظ مشعر بأنّه رفع عنهم لزوم الإتمام من غير إلزام لهم بالقصر. وأيضا فقد روي عن عائشة أنها قالت: «قصر رسول الله وأتمّ» . وكان عثمان رضي الله عنه يتم ويقصر ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، وأيضا فقد جرى الشرع في رخص السفر على التخيير كالصوم والفطر فالقصر كذلك. واحتجّ الحنفية بما روي عن عمر أنه قال: صلاة السفر تمام غير قصر على لسان نبيكم، وبأن النبي صلّى الله عليه وسلّم التزم القصر في أسفاره كلها فقد روي عن ابن عباس رضي الله

_ (1) رواه النسائي في السنن (3- 4/ 203) ، كتاب صلاة العيدين، باب عدد صلاة العيدين حديث رقم (1565) ، وأحمد في المسند (1/ 37) .

عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج مسافرا صلّى ركعتين حتى يرجع «1» . وروي عن عمران بن حصين حججت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان يصلي ركعتين حتى يرجع إلى المدينة، وقال لأهل مكة: «صلوا أربعا فإنّا قوم سفر» «2» . وقال ابن عمر: صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السفر، فلم يزد على ركعتين، وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في السفر، فلم يزيدوا على ركعتين، حتى قبضهم الله «3» ، وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] وقال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158] وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» «4» وقد كانت صلاته في السفر ركعتين فوجب اتباعه، وذلك لأننا متفقون على أن لفظ الصلاة في القرآن مجمل يلتحق به البيان، والبيان فعل الرّسول أو قوله، وهذا فعله، وهذا قوله. وأيضا لو كان مراد الله التخيير بين القصر والإتمام لبيّن ذلك كما بينه في الصوم، وأما ما ورد عن عثمان فقد اعتذر عنه بأنه قد تأهّل، فإنّه حين أتم بمنى أنكر عليه الصحابة، قال: إنما أتممت لأني تأهلت بهذا البلد، وقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من تأهّل ببلد فهو من أهله» «5» . وقد قالت عائشة فيما روي عنها: أول ما فرضت الصلاة وأتمّ فيحمله الحنفية على قصر الفعل، وإتمام الحكم جمعا بين الروايات. وأما ظاهر قوله: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فهم يتأوّلون القصر على قصر الصفة. وقد ذكر صاحب «الكشاف» «6» وجها آخر في قوله: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فقال: إنهم لما ألفوا الإتمام فربما خطر ببالهم أنهم نقصوا في قصر الصلاة، فنفي الجناح من أجل ذلك. وظاهر تعليق القصر على الضرب في الأرض يدلّ على القصر في مطلق السفر، سواء في ذلك السفر للحج والجهاد والتجارة وغيرها، وأيضا قوله: «صلاة السفر ركعتان» يدل على ذلك.

_ (1) رواه الجصاص في أحكام القرآن (2/ 254) . (2) المرجع نفسه (2/ 254) . (3) رواه الجصاص في أحكام القرآن (2/ 254) . (4) رواه البخاري في الصحيح (1/ 175) ، 10- كتاب الأذان، 18- باب الأذان للمسافر حديث رقم (631) . (5) رواه أحمد في المسند (1/ 62) . (6) الإمام الزمخشري في كتابه الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 558) . [.....]

وقد روي عن عبد الله بن مسعود قال: «لا تقصر إلا في حج أو جهاد» . وعن عطاء قال: لا أرى أن يقصر الصلاة إلا من كان في سبيل الله. لكن هذا مخالف لظاهر الآية، ولا تمسك لهم بما روي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يقصر إلا في حج أو جهاد، فإنما ذلك لأنّه لم يسافر إلا في حج أو جهاد. وقد تمسك داود الظاهري بهذا الظاهر، وقال: إن قليل السفر وكثيره سواء في جواز القصر، فالمدار في تحقيق القصر عندهم على تحقق شرطه، وهو الضرب في الأرض. وأما الجمهور فقد قالوا: إنّ الضرب في الأرض حقيقته الانتقال من مكان إلى مكان. وظاهر أنّ مجرد الانتقال من مكان إلى مكان لا يكون سببا في الرخصة، فلا بدّ أن يكون الضرب المرخّص ضربا مخصوصا، ولما كان ذلك لا يعرف إلا ببيان السنة لمقدار الانتقال المرخّص، ولم يرد في بيان السنة ترخيص في القصر في أقل من سفر يوم، وذلك أنه حصل في المسألة روايات: 1- روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يقصر في يوم تامّ، وبه قال الزهري والأوزاعي. 2- قال ابن عباس: إذا زاد على يوم وليلة قصر. 3- قال أنس بن مالك: المعتبر خمسة فراسخ. 4- قال الحسن: مسيرة ليلتين. 5- قال الشعبيّ والنخعيّ وسعيد بن جبير: من الكوفة إلى المدائن، وهي مسيرة ثلاثة أيام، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وعنهم: يومان وأكثر الثالث. 6- قال مالك والشافعي: أربعة برد، كل بريد أربعة فراسخ. فهذه الأقوال على ما بينها من الاختلاف تدلّ على إجماعهم على أنّ السفر المرخّص مقدّر بقدر مخصوص هو الذي فيه الاختلاف. وقد عول الحنفية في مذهبهم على قوله عليه الصلاة والسلام: «يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام «1» ، وعلى ما ورد في منع المرأة من السفر فوق ثلاث إلا مع زوج أو محرم» فدلّ هذا على أنّ ما دون الثلاث ليس سفرا، بل هو في حكم الإقامة، حيث جعل الثلاث فاصلا بين الخروج دون محرم وعدمه. وأما الشافعية فإنهم عوّلوا في مذهبهم على ما روي عن مجاهد وعطاء عن ابن

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 232) ، 2- كتاب الطهارة، 24- باب التوقيت في المسح حديث رقم (85/ 276) .

عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان» . وقد تقدم الكلام على أدلة الحنفية والشافعية في الصوم، إنما الذي يعنينا الآن هو ما ذهب إليه الظاهرية، فنحن نقول لهم: إن الآية مجملة، وقد أجمع السلف على أن السفر مقدّر، وقد بينت السنة أنه مقدر على خلاف في الروايات مرجعه إلى الترجيح، فهو عند الترجيح يثبت أحد الأقوال في التقدير، وهو خلاف ما يدّعون. وقد زعم الظاهرية أيضا أنّ القصر في السفر إنما يكون عند الخوف تمسكا بالشرط في قوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إذ هو يفيد أن القصر إنما يحصل عند الخوف، فما لم يكن خوف لم يكن قصر، ولكنّا نقول: إنّ الآية لا تدل على أكثر من أنه عند الخوف يصح القصر، أما في حال عدم الخوف فهل يصح أم لا؟ ذلك ما لم تعرض له الآية، بل هي ساكتة عنه، وهذا السكوت عنه قد بينته السنة، وفائدة التقييد بالخوف في الآية بيان حال السفر الذي كانوا عليه وقتئذ إذ غالب أسفارهم إنما كان في حرب العدو، على أنّ لنا أن نقول إنّ القصر الذي في الآية هو قصر صفة في إحدى صلوات السفر، وهي الصّلاة في حال الخوف. ثم ماذا يقول الظاهرية في قوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا هل يقولون: السفر المرخّص إنما يكون في حال الخوف من الكفار فقط وأما من العدو مطلقا فلا، ما نظنهم يقولون بالتزامه، إذ المعقول أن الذي يصلح أن يكون علة هو خوف الفتنة مطلقا، وحيث كان الأمر كذلك فهم محجوجون بما احتجوا به. إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي إن خفتم أن يتخذ أعداؤكم اشتغالكم بالصلاة وطولها فرصة لتغلّبهم عليكم فتفتنون وتغلبون. فلا تمكنوهم من هذا، بل اقصروا من الصلاة، ويصحّ أن يكون المراد إن خفتم أن يفتنكم الكافرون في حال الركوع والسجود حيث لا ترون حركاتهم فصلوا راجلين أو راكبين آمنين. والفتنة: الشدة والمحنة والبلية. إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً فهم يتربّصون بكم الدوائر ليوقعوا بكم، وتتمّ لهم الغلبة عليكم، وقد سهلت لكم الطريق في قتالهم، فلا تدعوا لهم فرصة لينفذوا منها إلى غرضهم، ولو كانت تلك الفرصة هي الصلاة التي لا تترك بحال، فقد جعلت لكم أن تقصروا منها. قال الله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ

مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) هذا شروع في بيان كيفية صلاة الخوف. وقبل الكلام على معنى الآية نقول: قد ذهب الإمام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة في إحدى الروايات عنه والحسن بن زياد إلى أنّ ما اشتملت عليه الآية من الأحكام كان خاصا بوجود النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الجيش أخذا من ظاهر قوله: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ ثم هو يقول: إن هذا الحكم في حال وجود النبي صلّى الله عليه وسلّم كان معقول المعنى، مراعاة لوجوب التسوية بين أفراد الجيش في إحراز فضيلة الصلاة مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولذلك اغتفر لهم في الصلاة ما لم يغتفر في غيرها من الصلوات، من إباحة المشي، والسير مع الإمام، ثم مفارقته قبل تمام الصلاة معه، وحمل السلاح إلى غير ذلك. وأما بعد زمن النبيّ فلا داعي إلى أعمال من شأنها أن تفسد الصلاة في غير ضرورة، إذ من الممكن أن تتعدد الأئمة في الجيش، فيصلّي بكل فرقة إمام في أوقات مختلفة، مع بقاء العدة والحذر من العدو، وبعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يفضل إمام إماما، وفي الإمكان اختيار أئمة على سواء، فالضرورة التي كانت في إحراز فضل الصلاة مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد زالت، فلا حاجة إلى صلاة الخوف بكيفية من كيفياتها التي وردت وذهب إليها الفقهاء. ولكنّ جمهور الفقهاء على خلاف هذا، وأن صلاة الخوف لا تزال مشروعة، وهم مختلفون فيما بينهم على الكيفية التي تصلّى بها صلاة الخوف، وقد تقرّر عندهم أن خطاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خطاب لأمته: فلا مستمسك لأبي يوسف بالخطاب. وأما الشرط (إذا) فهو لا يدل على أكثر من ترتب وجود قسمة المصلين طائفتين على وجوده فيهم، ولكن لا دلالة على أنه إذا عدم الوجود فيهم انعدمت هذه القسمة. بعد هذا نقول: إنه ورد أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد صلّى صلاة الخوف على هيئات مختلفة، في مواضع مختلفة، وقد يكون صلاها في كلّ مرة على هيئة تخالف ما صلاها عليه في المرات الأخرى، وقد اتخذ الفقهاء من هذه الروايات على هذه الأوضاع المختلفة أدلة على مذاهبهم المختلفة وقد يكون في مخالفة النبي صلّى الله عليه وسلّم بين الأوضاع وفي الأماكن المختلفة: ما يصح أن يكون دليلا على أن الأمر فيها متروك لإمام الجيش، يصلّي بالناس حسبما تقضي المصلحة الحربية، وقد قال هذا أو ما يقرب من هذا كلّ من أبي بكر الرازي وابن جرير الطبري «1» .

_ (1) رواه أبو بكر الرازي في كتابه أحكام القرآن (2/ 258) ، وابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (5/ 165) .

ولنذكر أقوال الفقهاء في كيفية صلاة الخوف مع ما يوافق كلّ قول منها من الروايات التي رويت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها بحسب الاستطاعة فنقول: 1- ذهب أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله إلى أن كيفية صلاة الخوف أن يقسم الإمام القوم طائفتين، تقوم طائفة مع الإمام، وطائفة إزاء العدو، فيصلّي بهم ركعة وسجدتين، ثم ينصرفون إلى مقام أصحابهم، ثم تأتي الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو، فيصلّي بهم الإمام ركعة وسجدتين، ويسلّم هو، وينصرفون إلى أصحابهم، ثم تأتي الطائفة التي بإزاء العدو، وتقضي ركعة بغير قراءة وتتشهد، وتسلم، وتذهب إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيقضون ركعة بقراءة. فقد جاء في السنة ما يدل على أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلاها على هذا الوجه. روى الزهري عن سالم عن أبيه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى بإحدى الطائفتين ركعة: والطائفة الأخرى مواجهة للعدو، ثم انصرفوا، وقاموا في مقام أولئك. وجاء أولئك، فصلّى بهم ركعة أخرى، ثم سلّم، ثم قام هؤلاء فقضوا ركعتهم، وهؤلاء فقضوا ركعتهم «1» . وروي مثله عن نافع وابن عمر وابن عباس. 2- وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: إذا كان العدو بينهم وبين القبلة جعل الناس طائفتين، فيكبر ويكبرون جميعا، ويركع ويركعون جميعا معه، ويسجد الإمام والصف الأول، ويقوم الصف الآخر في وجه العدو، فإذا قاموا من السجود سجد الصف الآخر، فإذا فرغوا من سجودهم قاموا وتقدم الصف المؤخر، وتأخر الصف المقدم، فيصلّي بهم الإمام الركعة الأخرى كذلك. وإذا كان العدو في دبر القبلة قام الإمام ومعه صفّ مستقبل القبلة، والصف الآخر يستقبل العدوّ، فيكبر ويكبرون جميعا، ويركع ويركعون جميعا، ثم يسجد الصف الذي مع الإمام سجدتين، ثم ينقلبون فيكونون مستقبلي العدو، ثم يجيء الآخرون، فيسجدون، ويصلّي بهم الإمام الركعة الثانية، فيركعون جميعا، ويسجد الصف الذي معه، ثم ينقلبون إلى وجه العدو، ويجيء الآخرون، فيسجدون معه، ويفرغون، ثم يسلم الإمام وهم جميعا. وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان غير التي ذكرناها في مفتتح الكلام إحداهما يوافق فيها أبا حنيفة، والأخرى يوافق فيها ابن أبي ليلى إذا كان العدو في القبلة، ويوافق فيها أبا حنيفة إذا كان العدو دبر القبلة.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (5/ 64) ، 64- كتاب المغازي، 32- باب غزوة ذات الرقاع حديث رقم (4133) ، ومسلم في الصحيح (1/ 574) ، 6- كتاب صلاة المسافرين 57- باب صلاة الخوف حديث رقم (305/ 839) .

وقد روي في السنة ما يوافق قول ابن أبي ليلى. روى عكرمة عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزاة فلقي المشركين بعسفان، فلما صلّى الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه، قال بعضهم لبعض يومئذ: كان فرصة لكم، لو أغرتم عليه ما علموا بكم حتى تواقعوهم، قال قائل منهم: فإنّ لهم صلاة أخرى أحبّ إليهم من أهلهم وأموالهم، فاستعدوا حتى تغيروا عليهم فيها، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ الآية، وأعلمه ما ائتمر به المشركون. فلما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العصر، وكانوا قبالته في القبلة، فجعل المسلمين خلفه صفين، فكبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكبروا جميعا، ثم ركع وركعوا معه جميعا، فلما سجد سجد معه الصف الذين يلونه، وقام الصف الذين خلفهم مقبلين على العدو، فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من سجوده، وقام، سجد الصف الثاني، ثم قاموا وتأخر الذين يلون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتقدم الآخرون، فكانوا يلون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما ركع ركعوا معه جميعا، ثم رفع فرفعوا معه، ثم سجد فسجد معه الذين يلونه، وقام الصف الثاني مقبلين على العدو، فلما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من سجوده، وقعد الذين يلونه، سجد الصف المؤخّر، ثم قعدوا فتشهدوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جميعا فلما سلّم سلّم عليهم جميعا، فلما نظر إليهم المشركون يسجد بعضهم ويقوم بعض ينظر إليهم قالوا: قد أخبروا بما أردنا. 3- وقال مالك رضي الله عنه: يتقدم الإمام بطائفة، وطائفة بإزاء العدوّ، فيصلّي بالتي معه ركعة وسجدتين، ويقوم قائما، وتتمّ الطائفة التي معه لأنفسها ركعة أخرى، ثم يتشهدون، ويسلّمون، ثم يذهبون إلى مكان الطائفة التي لم تصلّ، فيقومون مكانهم، وتأتي الطائفة الأخرى، فيصلّي بهم ركعة وسجدتين، ثم يتشهدون، ويسلّم، ويقومون، فيتمّون لأنفسهم الركعة التي بقيت. 4- وقال الشافعي رضي الله عنه مثل قول مالك إلا أنه قال: لا يسلّم الإمام حتى تتمّ الطائفة الثانية لأنفسها، ثم يسلّم معهم، قال ابن القاسم: وكان مالك يقول بهذا لحديث رومان، ثم رجع عنه إلى حديث القاسم، وفيه أنّ الإمام يسلّم، ثم تقوم الطائفة الثانية فيقضون. أما حديث رومان الذي أشرنا إليه فهو ما روى يزيد عن رومان عن صالح بن خوّات مرسلا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «1» ، وذكر فيه أنّ الطائفة الأولى صلت الركعة الثانية قبل أن يصليها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (5/ 62) ، 64- كتاب المغازي، 32- باب غزوة ذات الرقاع حديث رقم (4129) ، ومسلم في الصحيح (1/ 575) ، 6- كتاب صلاة المسافرين، 57- باب صلاة الخوف حديث رقم (310/ 842) .

وأما حديث القاسم فهو ما روى ابنه عنه عن صالح بن خوّات عن سهل بن أبي حثمة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى بهم صلاة الخوف فصفّ صفّا خلفه، وصف مصافّ العدو، فصلّى بهم ركعة، ثم ذهب هؤلاء، وجاء أولئك فصلّى بهم ركعة، ثم قاموا فقضوا ركعة ركعة، وقد كان ذلك في غزوة ذات الرقاع. وقد رويت روايات أخرى بغير هذه الأوضاع لا نطيل بذكرها. فأنت ترى الروايات عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم مختلفة، ولعلّ السبب في الاختلاف ما أشرنا إليه سابقا. والآية التي نحن بصددها يمكن إرجاعها إلى هذه الروايات على تفاوت بينها، وسترى شيئا من ذلك. وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ أي إذا كنت أيها النبيّ مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم، فأقمت لهم الصلاة، فاجعلهم طائفتين، تقوم طائفة منهم معك في الصلاة، وظاهر هذا يخالف مذهب ابن أبي ليلى، لأنّ نص الآية مشعر بأنّ قيام طائفة منهم معه يكون حال قيامه هو في الصلاة، بأن تفتتح الصلاة بعد افتتاحه، ومن مقتضى قوله: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ أنّ الطائفة الأخرى لا تقوم معه، وابن أبي ليلى يقول: يكبرون جميعا، ويركعون جميعا، ثم تنفرد طائفة منهم بالسجود معه. وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فاعل الأخذ إما المصلون، وإما غيرهم، فإن كان ضمير الفاعل للمصلين فإنّ المراد من السلاح المأخوذ حينئذ ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر، والأمر بأخذ ذلك حينئذ للاحتياط ودفع الطوارئ، وأما إن كان ضمير الفاعل لغير المصلين، فالأمر بالأخذ لأنهم الذين يكونون في قبالة العدو. فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ أي إذا سجد المصلون مع الإمام فليكن غير المصلين من ورائهم، يدفعون عنهم العدوّ إذا أراد الإيقاع بهم، وربما تعلّق بهذا ابن أبي ليلى حيث ترتّب الأمر بالكون من ورائهم على السجود، فدلّ ذلك على أنه قبل السجود لا يطلب منهم أن يكونوا من ورائهم، وما ذلك إلا لأنهم مشتركون معهم في الصلاة، ولكننا نقول: إن ذلك غير لازم، إذ كثيرا ما تسمّى الصلاة سجودا، أو نقول: خصّ الأمر بالكون من ورائهم بحال السجود تنبيها على وجوب اليقظة والاحتراس في هذه الحال، لأنّها التي يظنّ العدوّ فيها انشغالهم بالصلاة، وربما كانت مباغتة لهم فيها. وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ هذا ظاهر أيضا في أنّ الطائفة الثانية لم تكن مع الأولى، بدليل أنه أمرها بالإتيان، وعلى مذهب ابن أبي ليلى لا يكون إتيان، بل تأخّر من التي سجدت مع الإمام أولا، وليس في هذا اللفظ دليل على أنّ الطائفة الأولى تقضي في مكانها قبل مبارحته، أو على أنها تذهب قبالة العدو قبل

القضاء، ولا على أنّ الطائفة الثانية تقضي في مكانها، بل اللفظ صالح للجميع، وليس فيه دليل أيضا على أنّ الإمام يسلّم بمجرد انتهائه من الركعة الثانية، ولا أنه ينتظر حتى تفرغ الثانية من قضاء ما فاتها. وإنما يطلب ذلك من السنة، وأنت تعلم أنّ السنة قد جاءت بالجميع. وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ هذا أمر للجميع بعد انتهاء الصلاة، وضم هذا الأمر بأخذ الحذر وهو التيقظ إلى الأمر بأخذ السلاح فقط عقب الركعة الأولى، لأنّ العدو في أول الصلاة لا يقوى عنده باعث المباغتة، لأنهم كانوا قياما في أولها، وإنما يقوى عنده ذلك في آخرها حين يتكرر منهم السجود، فمن أجل ذلك أمر في الأول بأخذ الأسلحة فقط، وهنا بأخذها وأخذ الحذر. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً. أي أنّ أعداءكم يتربّصون بكم الدوائر، ويتحيّنون لقتالكم الفرصة، ويودون لو تمكنوا منكم، فتغفلون عن عدتكم وما تقاتلونهم به، فتكون حربهم إياكم وغلبتهم عليكم سهلة ميسورة، ولن يمنعكم منهم إلا الحذر والرباط وإعداد العدة، فاحذروهم، وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ أي أنّه لا يمنعكم من عدوكم إلا الاستعداد له، فإن تعذّر عليكم حمل الميرة والسلاح للمطر أو المرض أو غير ذلك من الأعذار، فليس عليكم إثم في أن تضعوا أسلحتكم التي حالت الضرورة بينكم وبين حملها، ولكن يجب أن تكونوا على حذر وتيقظ من مباغتة العدو ومفاجأته، فبثوا له العيون والأرصاد، واتخذوا من فنون الدفاع في الحرب وأساليبه ما لا يجعل عدوكم على علم بما أنتم عليه من ضرورة حتى لا يفاجئكم، فتتم الهزيمة عليكم. إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً إنما عقّب الله تعالى الأمر بأخذ الحذر والسلاح بهذا الوعيد، لأنّ الأمر قد يتوهّم منه أنّ العدو شديد، وذلك قد يعقب وهما في النفوس، فإزالة لهذا الوهم قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً إذا كان ذلك خبرا منه تعالى بأنه مهينهم وخاذلهم وغير ناصرهم البتة، ليعلم المؤمنون أنّ الأمر بالحذر منهم، إنما هو لما جرت به سنة الله من إتباع المسببات الأسباب حتى لا يتهاونوا ويتركوا الأسباب جانبا. وقد اختلف الفقهاء في كيفية صلاة الخوف في المغرب، فقال الحنفية ومالك والحسن بن صالح والأوزاعي والشافعية: يصلّي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالطائفة الثانية ركعة، غير أن المالكية والشافعية يقولون: إنّ الإمام ينتظر قائما حتى تتمّ الطائفة

الأولى لنفسها، وتجيء الثانية على ما بينهما من خلاف في سلام الإمام. واختلفوا أيضا في الصلاة حال اشتباك القتال أتجوز أم لا؟ فقال الحنفية: لا صلاة حال اشتباك القتال، فإن قاتل فيها فسدت صلاته. وقال مالك: يصلي بالإيماء إذا لم يقدر على الركوع والسجود. وقال الشافعي: لا بأس أن يضرب الضربة، ويطعن الطعنة، فإن تابع الضرب والطعن فسدت صلاته، والأدلة تلتمس في غير الآية. قال الله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) يقول الله تعالى: فإذا فرغتم أيها المؤمنون من صلاتكم التي بينا لكم كيفيتها، فاذكروا الله قياما وقعودا ومضطجعين على جنوبكم، واذكروه معظمين خاشعين، سائليه النصر والظفر، فإنه الذي بيده النصر، وهو القادر على كل شيء، ومثل هذا في المعنى قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً. وقد طلب الله تعالى من عباده أن يذكروه دائما، والذكر أداة الفلاح، إذ هو وسيلة الخشية، ومتى وجدت الخشية وجدت الطاعة، واجتنبت المعصية، وذلك هو الفوز والسعادة. روى ابن جرير «1» عن ابن عباس في قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً أنه كان يقول: لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء معلوما، ثم عذر أهلها في حال غير الذكر، فإنّ الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه. ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، فقال: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسر والعلانية، وعلى كل حال. وقيل: إنّ معنى الآية: إن أردتم أداء الصلاة، واشتد الخوف إذا اشتبكتم في القتال، فصلوا كيفما كان. وهذا يوافق ما ذهب إليه الشافعيّ، رضي الله عنه من وجوب الصلاة حال المحاربة، وعدم جواز تأخيرها عن الوقت، وأنت ترى أنّ ذلك بعيد من لفظ قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ. فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ أي أقمتم، وهو مقابل لقوله: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ سميت الإقامة طمأنينة لما فيها من السكون والاستقرار، ويصح أن يكون المراد فإذا أمنتم وزال عنكم الخوف الذي ترتب عليه قصر صفة الصلاة وهيئتها. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أدوها على وجهها الذي كانت عليه قبل هذا، وأتموها، وعدّلوا أركانها، وراعوا شروطها، وحافظوا على حدودها.

_ (1) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (5/ 166) .

وقيل: إنّ معنى ذلك فإذا اطمأننتم، وأمنتم في الجملة: فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي حال القلق والانزعاج، ونسب ذلك إلى الإمام الشافعي قال صاحب «روح المعاني» : وليست هذه النسبة صحيحة. إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً فرضا محدودا بأوقات لا تجوز مجاوزتها، بل لا بد من أدائها في أوقاتها سفرا وحضرا، وقيل: المعنى كانت عليهم أمرا مفروضا مقدّرا في الحضر بأربع ركعات، وفي السفر بركعتين، فلا بدّ أن تؤدّى في كلّ وقت حسبما قدّر فيه، وقد ورد القرآن هكذا في توقيتها مجملا، ومرجع البيان فيه إلى السنة، فما ذكرت السنة أنه وقت وحد للصلاة وجب اتباعه. قال الله تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) بعد أن بيّن الله تعالى ما يجب أن يكون عليه المؤمنون في قتال عدوهم من أخذ الحذر أثناء الصلاة عاد إلى بعث المؤمنين على نحو آخر من المذهب الكلامي، وسوق الدعوى يحدوها الدليل. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ لا تضعفوا في قتالهم، ولا تتواكلوا، ولا يمنعكم منه ما يظن أن يصيبكم في قتال أعدائكم من ألم القتل والجرح، فإنّ ذلك أمر مشترك من شأنه أن يقع بكم، ويقع بأعدائكم ما دام لم ينثن أعداؤكم عن قتالكم، فما بالكم تخافونه دونهم. وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ بل إنّ أعداءكم إذا جاز لهم أن يخافوا فهم حقيقون بأن يخافوا، فإنّهم لا حجة لهم في الإقدام على أمر هو مظنة هلاكهم، فإنّهم على الباطل، والباطل مهما مدّ الله له في الأجل فهو في النهاية مدفوع. بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه، ولم يعدهم الله بالنصر كما وعدكم، ولا ثمرة تعود عليهم من قتالهم هذا، فإنهم وإن تمّت لهم الغلبة أمامهم جهنم مفتحة الأبواب، عميقة الغور، أعدت للكافرين المعاندين لكم، وقد وعدكم نصره، وضمن لكم الجنة، وأنتم الفائزون في الحالين، وأنتم بما تعبدون الله وتوحدونه لا تشركون به شيئا، تطمعون في نصره ورحمته، وهم بما يعبدون من الأصنام، وما هم عليه من العناد: ليس عندهم مثل هذا الطمع، أليس يكفي هذا وحده باعثا لكم على القتال دونهم؟ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لا يكلفكم شيئا إلا ما فيه صلاحكم في دينكم ودنياكم على مقتضى علمه وحكمته.

قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) روي في أسباب نزول الآية أخبار كثيرة، كلها متفقة على أنها نزلت في شأن رجل يقال له طعمة بن أبيرق، على خلاف فيما وقع منه، قال الفخر الرازي: إنّ طعمة سرق درعا، فلما طلبت الدرع منه رمى واحدا من اليهود بسرقتها، ولما اشتدت الخصومة بين قومه وبين قوم اليهودي جاء قوم طعمة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وطلبوا منه أن يعينهم على مقصودهم، وأن يلحق الخيانة باليهودي، فهمّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم بذلك فنزلت الآية «1» . وقيل: إنّ واحدا وضع عند طعمة درعا على سبيل الوديعة، ولم يكن هناك شاهد، فلما طلبها منه جحدها، وقيل: إنّ المودع لما طلب الوديعة زعم طعمة أن اليهودي سرق الدرع. وقد قال العلماء: إنّ ذلك يدل على أن طعمة وقومه كانوا منافقين، وإلا لما طلبوا من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يلحق السرقة باليهودي على سبيل التخرص والبهتان، انظر إلى قوله تعالى في الآيات التي بعد هذه وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ. وقد روي أن طعمة هرب بعد الحادثة إلى مكة وارتد، وسقط عليه حائط كان يثقبه للسرقة فمات. لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ أي بما أعلمك الله في كتابه، وأنزله إليك بوحيه، ويصح أن يكون المراد بما جعله الله رأيا لك، إما من طريق الوحي، أو الاجتهاد، وليس يلزم من تأويل الآية على العلم بطلان القياس، لأنّك قد عرفت أنّ القياس راجع إلى الكتاب والسنة، والعلم به عمل بأمر الله، وقد اختلف العلماء في أن النبي صلّى الله عليه وسلّم له أن يجتهد، أو ليس له ذلك، والمسألة لها موضع غير هذا في الأصول يجمع أدلة الطرفين. غير أن الذي يلزم التنبيه إليه أن الذي يقول: إنه يجوز له الاجتهاد يقول: إنه يجوز عليه الخطأ، لكنّه لا يقرّ على الخطأ، ويستشهد بمثل الحادثة التي نحن بصددها، فإنه قد بيّن له الحكم، وبمثل ما حدث في أسارى بدر. وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً الخائنون هو طعمة وقومه ومن يعنيه أمره منهم، واللام للتعليل، أي لا تكن لأجل الخائنين مخاصما لما يستعدونك عليه، وقيل: إنّ اللام بمعنى عن أي لا تكن مخاصما ومدافعا عنهم ضد البراءة وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ مما

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 228) ، كتاب التفسير حديث رقم (3036) ، وابن جرير (5/ 170) .

[سورة النساء (4) : الآيات 127 إلى 130]

هممت به في أمر طعمة وبراءته التي لم تتثبّت في شأنها، والأمر بالاستغفار في هذا وما ماثله لا يقدح في عصمة الأنبياء، لأنه لم يكن منه إلا الهم، والهم لا يوصف بأنه ذنب فضلا عن المعصية، بل إنّ ذلك من قبيل إن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وما أمره بالاستغفار إلا لزيادة الثواب، وإرشاده وإرشاد أمته إلى وجوب التثبت في القضاء، وقيل: إن المراد استغفر لأولئك الذين زعموا عندك براءة الخائن. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً يغفر لمن استغفره، ويرحم من استرحمه. قال الله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) الاستفتاء: طلب الإفتاء، والإفتاء: إظهار المشكل من الأحكام وتبينه، كأنّ المفتي لما بيّن المشكل قد قوّاه وصيّره فتيا. سبب النزول: أخرج ابن جرير وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت المواريث في سورة النساء شقّ ذلك على الناس وقالوا: أيرث الصغير الذي لا يعمل في المال ولا يقوم فيه، والمرأة التي هي كذلك، فيرثان كما يرث الرجل الذي يعمل في المال؟ فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء، فانتظروا، فلما رأوا أنه لا يأتي حدث، قالوا: لئن تمّ هذا إنه لواجب ما عنه بد. ثم قالوا: سلوا، فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزلت هذه الآية «1» . وروي مثل ذلك عن ابن عباس ومجاهد. وعن عائشة أنها نزلت في توفية الصداق لهن. وكانت اليتيمة تكون عند الرجل، فإذا كانت جميلة، ولها مال، تزوّج بها وأكل مالها، وإذا كانت دميمة منعها من الأزواج حتى تموت فيرثها. فأنزل الله هذه الآية «2» . معلوم أنّ الصحابة لم يطلبوا الإفتاء عن ذوات النساء، وإنما طلبوا الإفتاء عن حال من أحوالهن، وشيء يتعلّق بهن، فلا بد من تقدير محذوف في الكلام، فبعض المفسرين قدّر ذلك المحذوف أمرا خاصا، وجعل سبب النزول قرينة على تعيين ذلك المحذوف المسئول عنه، فقال: المراد يستفتونك في ميراثهن، أو في توفية صداقهن، أو في نكاحهن. واختار بعضهم التعميم في المسئول عنه، لأنّ سبب النزول لا يخصّص، ولأنّ تقدير العام أتمّ فائدة وأشمل، فقال: المراد يستفتونك فيما يجب لهن وعليهن مطلقا، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأل عن أحكام كثيرة تتعلّق بالنساء.

_ (1) و (2) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام السيوطي (2/ 231) .

وكذلك اختلفوا في المراد بما كتب لهنّ في قول الله تعالى: اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ فقيل: ما فرض لهن من الميراث، وقيل: من الصداق، وقيل: من النكاح، وقيل: ما يعم ذلك كله وغيره. وقوله تعالى: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ قد ذهب فيه المعربون مذاهب شتى، وأولى وجوه الإعراب أن تكون (ما) اسم موصول مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير: والذي يتلى عليكم في القرآن كذلك، أي يفتيكم فيهن أيضا. وذلك المتلو في الكتاب هو قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى [النساء: 3] إلخ. وحاصل المعنى: أنهم كانوا يسألون عن أحوال كثيرة من أحوال النساء، فما كان منها غير مبيّن الحكم قبل نزول هذه الآية ذكر أن الله يفتيهم فيه. وما كان منها مبيّن الحكم في الآيات المتقدمة أحالهم فيه إلى تلك الآيات المتقدمة وذكر أنها تفتيهم فيما عنه يسألون. وقد جعل دلالة الكتاب على الأحكام إفتاء من الكتاب، ألا ترى أنه يقال في المجاز المشهور إن كتاب الله بيّن لنا هذا الحكم، وكما جاز هذا جاز أيضا أن يقال: كتاب الله أفتى بكذا. وقوله تعالى: فِي يَتامَى النِّساءِ صلة يُتْلى أي يتلى عليكم في شأنهن. والإضافة في يتامى النساء من إضافة الصفة للموصوف عند الكوفيين، والبصريون يمنعون ذلك، ويجعلون الإضافة هنا على معنى (من) أو (اللام) أي في اليتامى من النساء، أو في أولادهن اليتامى. وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أي في أن تنكحوهن، أو عن أن تنكحوهن، فقد ورد في أخبار كثيرة أن أولياء اليتامى كانوا يرغبون فيهنّ إن كن جميلات، ويأكلون ما لهنّ وإلا كانوا يعضلونهن طمعا في ميراثهن. وحذف الجار هنا لا يعدّ لبسا، بل إجمال، فكل من الحرفين مراد على سبيل البدل. واحتج بعض الحنفية بقوله تعالى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ على أنه يجوز لغير الأب والجد تزويج الصغيرة، لأنّ الله ذكر الرغبة في نكاحها، فاقتضى جوازه. والشافعية يقولون: إنّ الله ذكر في هذه الآية ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذم، فلا دلالة فيها على ذلك. على أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحهن فعله في حال الصغر. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ عطف على يتامى النساء، وكانوا- كما علمت- لا يورثونهم كما لا يورثون النساء.

وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ أي قل الله يفتيكم إلخ ويأمركم أن تقوموا لليتامى بالقسط. أو هو معطوف على (يتامى النساء) والتقدير وما يتلى عليكم في يتامى النساء، وفي المستضعفين من الولدان، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً أي وما تفعلوه من خير يتعلّق بهؤلاء المذكورين أو بغيرهم فإنّ الله يجازيكم عليه ولا يضيع عنده منه شيء. قال الله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) هذا من الأحكام التي أخبر الله تعالى أنه يفتيهم بها في النساء مما لم يتقدم ذكره. والخوف هنا مستعمل في حقيقته، إلا أنّه لا يكون إلا بعد ظهور الأمارات تدل عليه. مثل أن يقول الرجل لامرأته: إنك قد كبرت، وإني أريد أن أتزوج شابّة جميلة. والأصل في البعل أنه السيد، وسمّي الزوج بعلا لكونه كالسيد لزوجته. والنشوز- وتقدم معناه- يكون وصفا للمرأة لما تقدم ويكون وصفا للرجل كما هنا، والمراد به هنا ترفّع الرجل بنفسه عن المرأة، وتجافيه عنها: بأن يمنعها نفسه ومودته. والإعراض الانصراف عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه. مثل أن يقلل محادثتها، أو مؤانستها لطعن في سن، أو دمامة، أو شين في خلق أو ملال. والإعراض أخف من النشوز. أخرج الترمذي وحسّنه عن ابن عباس قال: خشيت سودة رضي الله عنها أن يطلّقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله لا تطلقني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، ونزلت هذه الآية «1» . وأخرج الشافعي عن ابن المسيب أن ابنة محمد بن مسلمة كانت تحت رافع بن خديج، فكره منها أمرا إما كبرا أو غيره، فأراد طلاقها، فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك، فاصطلحا على صلح، فجرت السنة بذلك، ونزل القرآن «2» . وروي عن عائشة أنّها نزلت في المرأة تكون عند الرجل، فتطول صحبتها، فيريد أن يطلّقها، فتقول: أمسكني وتزوج بغيري، وأنت في حل من النفقة والقسم «3» .

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 232) ، كتاب التفسير حديث رقم (3040) . (2) انظر الدر المنثور السيوطي في التفسير بالمأثور للسيوطي (1/ 232) . (3) رواه ابن ماجه في السنن (1/ 634) ، كتاب النكاح، باب المرأة حديث رقم (1974) .

يقول الله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً والمقصود إن خافت امرأة من زوجها تجافيا أو انصرافا عنها فلا إثم عليهما في أن يجريا بينهما صلحا، بأن تترك المرأة له يومها كما فعلت سودة رضي الله عنها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة أو كسوة، أو تهب له شيئا من مهرها، أو تعطيه مالا لتستعطفه وتستديم المقام معه. وفي قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما دفع لما يتوهم من أن ما يأخذه الزوج كالرشوة فلا يحل. وجملة وَالصُّلْحُ خَيْرٌ معترضة، أي والصلح بين الزوجين أكثر خيرا من الفرقة وسوء العشرة، على معنى أنه إن يكن في الفرقة أو سوء العشرة خير فالصلح خير من ذلك. أو والصلح خير من الخيور وليس بشر. وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ اعتراض ثان، وفائدة الاعتراض الأوّل الترغيب في المصالحة. وفائدة الاعتراض الثاني تمهيد العذر في المماكسة والمشاحّة. وحضر: متعد لواحد، والهمزة تعديه إلى مفعول ثان كما هنا. فالمفعول الأول نائب الفاعل، والثاني كلمة الشحّ، ويجوز العكس. والشح: البخل مع الحرص، والمراد وأحضر الله الأنفس الشحّ أي جبل الله النفوس على الشح، فلا تكاد المرأة تسمح بحقها، ولا يكاد الرجل يجود بالإنفاق وحسن المعاشرة على التي لا يريدها. وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً هذا خطاب للأزواج بطريق الالتفات، قصد به استمالتهم وترغيبهم في حسن المعاملة، والصبر على ما يكرهون، أي وإن تحسنوا معاشرة النساء، وتتقوا النشوز، والإعراض مهما تضافرت أسبابهما، فإنّ الله يجازيكم على ذلك أحسن الجزاء، ويثيبكم عليه خير المثوبة. يؤخذ من هذه الآية أن الرجل إذا قضى وطرا من امرأته، وكرهتها نفسه، أو عجز عن حقوقها، فله أن يطلقها، وله أن يخيّرها إن شاءت أقامت عنده ولا حق لها في القسم والوطء والنفقة، أو في بعض ذلك بحسب ما يصطلحان عليه، فإذا رضيت بذلك لزم وليس لها المطالبة بشيء مضى من ذلك على الرضا. وهل لها في المستقبل الرجوع في ذلك الصلح؟ من العلماء من قال: إنّ حقها في القسم والنفقة يتجدد، فلها الرجوع في ذلك متى شاءت. وقال آخرون: إنّ هذا الصلح خرج مخرج المعاوضة، وقد سمّاه الله صلحا، فيلزم كما يلزم ما تصالح عليه الناس من الحقوق والأموال، فليس لها حق الرجوع فيه

بأيّ حال، ولو مكّنت من ذلك لم يكن صلحا، بل يكون من أكبر أسباب المعاداة والشريعة منزهة عن ذلك. وهنا أبحاث: الأول: رب قائل يقول إذا كان نشوز الرجل يحلّ له أن يأخذ من مال امرأته شيئا، أفلا يتخذ بعض الأزواج النشوز- بل التهديد به- وسيلة لأخذ مال المرأة، وانتقاصها حقها، وهلا يعدّ أخذ المال بهذه الوسيلة أخذا بسيف الإكراه، وأكلا لأموال الناس بالباطل. ونحن نقول: إذا كان الرجل يرغب في زوجته حقيقة، ويود بقاءها في عصمته، ولكنه تظاهر بالنشوز والإعراض اجتلابا لمالها، واستدرارا لخيرها، كان ذلك حراما، وكان أخذ المال بهذه الوسيلة أكلا لأموال الناس بالباطل، وقد حرّم الله أكل أموال الناس بالباطل، وحرّم مشاقة الرجل زوجته لغرض أخذ شيء من مالها، كما قال: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء: 19] إلى أمثال ذلك. ليس في مثل هذا النشوز والإعراض المصطنعين نزلت الآية، إنما الآية في رجل يرغب حقيقة في فراق زوجته لسبب ما، وقد جعل الله للرجل حق الطلاق، واستبدال زوج مكان زوج وأحلّ في هذه الآية الصلح بين الزوجين إذا كانا على ما وصفنا، رجل يريد الفراق لسبب من الأسباب، وامرأة تريد المقام معه، وإذا تراضيا على شيء من حق المرأة تنزل عنه في مقابلة أن ينزل الرجل عن شيء من حقه وهو الطلاق، لم يكن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، على أنّ الله تعالى أرشد الرجل إلى ترك النشوز مهما تكاثرت أسبابه، ووعده على ذلك الأجر والمثوبة، في قوله: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً. الثاني: قال الله تعالى في نشوز المرأة وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء: 34] وقال في نشوز الرجل: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً فجعل لنشوز المرأة عقوبة من زوجها يعظها ويهجرها في المضجع ويضربها. ولم يجعل لنشوز الرجل عقوبة من زوجته، بل جعل له ترضية وتلطفا. فما معنى ذلك؟ الجواب عن ذلك من وجوه: 1- قد علمت أنّ الله جعل الرجال قوامين على النساء، فالرجل راعي المرأة ورئيسها المهيمن عليها، ومن قضية ذلك ألا يكون للمرؤوس معاقبة رئيسه، وإلا انقلب الأمر، وضاعت هيمنة الرئيس. 2- أنّ الله فضل الرجال على النساء في العقل والدين، ومن قضية ذلك ألا

يكون نشوز من الرجل إلا لسبب قاهر، ولكن المرأة لنقصان عقلها ودينها يكثر منها النشوز لأقل شيء، وتتوهمه سببا، فلا جرم جعل الله لنشوزهن عقوبة حتى يرتدعن، ويحسنّ حالهن. وأنّ في مساق الآيتين ما يرشد إلى أنّ النشوز في النساء كثير، وفي الرجال قليل، ففي نشوز المرأة عبر باسم الموصول المجموع إشارة إلى أنّ النشوز محقق في جماعتهن. وفي نشوز الرجل عبر بإن التي للشك، وبصيغة الإفراد، وجعل الناشز بعلا وسيدا مهما كان. كل ذلك يشير إلى أنّ النشوز في الرجال غير محقق، وأنه مبنيّ على الفرض والتقدير، وأنه إذا فرض وقوعه فإنما يكون من واحد لا من جماعة، وأن ذلك الواحد على كل حال سيد زوجته. 3- أنّ نشوز الرجل أمارة من أمارات الكراهة وإرادة الفرقة، وإذا كان الله قد جعل له حق الفرقة ولم يجعل للمرأة عليه سبيلا إذا هو أراد فرقتها، فأولى ألا يجعل لها عليه سبيلا إذا بدت منه أمارات هذه الفرقة. الثالث: قال الجصّاص «1» في قوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ إنّه جائز أن يكون عموما في جواز الصلح في سائر الأشياء إلا ما خصّه الدليل، وذلك يدلّ على جواز الصلح عن إنكار، والصلح من المجهول، ونازعه في ذلك الفخر الرازي فقال: إنّ الصلح في الآية مفرد دخل عليه حرف التعريف، والمفرد الذي دخل عليه حرف التعريف مختلف في إفادته العموم، ولو سلّم أنّه يفيد العموم، فإنما ذلك إذا لم يكن هناك معهود سابق، أما إذا كان هناك معهودا سابقا كما في الآية، فالأصح أنّ حمله على المعهود السابق أولى من حمله على العموم، وذلك لأنا إنما حملناه على العموم والاستغراق ضرورة أنّا لو لم نقل ذلك لصار مجملا، ويخرج عن الإفادة، وإذا حصل هناك معهود سابق اندفع هذا المحذور، فوجب حمله عليه، وبذلك يندفع استدلال الجصّاص، ويكون المعنى: والصلح المعهود- وهو الصلح بين الزوجين- خير. وأنت تعلم أنّ الجصاص لم يجزم بأن اللفظ عام، بل قال: إنه يجوز أن يكون عاما، كما يجوز أن يكون خاصّا بالصلح بين الزوجين، على أنّ وقوع الجملة اعتراضا، وجريانها مجرى الأمثال مما يرجح كون اللفظ عاما، فتدبر ذلك. قال الله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) يخبر الله هنا بأنّ العدل بين النساء غير مستطاع، وفي آية سابقة قال:

_ (1) انظر أحكام القرآن للإمام أبي بكر الجصاص (2/ 283) .

فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: 3] فشرط في جواز الجمع بين النساء الوثوق من العدل بينهن. والعدل غير مستطاع، فكأن الجمع بين النساء غير جائز، لأنه مشروط بشرط قد أخبر الله أنه لا يتحقق ولن يكون، من أجل ذلك ترى أئمة التفسير من السلف الصالح كابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وأبي عبيدة وغيرهم يقولون: إن العدل الذي أخبر الله عنه أنه غير مستطاع هو التسوية بين الزوجات في الحب القلبي، وميل الطباع، ومعلوم أنّ ذلك غير مقدور. وأما العدل الذي جعل شرطا في جواز الجمع بينهن فهو التسوية بينهن فيما يقدر عليه المكلف ويملكه، مثل التسوية بينهن في القسم والنفقة والكسوة والسكنى وما يتبع ذلك من كل ما يملك ويقدر عليه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي مليكة أنّ الآية نزلت في عائشة رضي الله عنها، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبها أكثر من غيرها. وروى الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقسم بين نسائه، فيعدل، ثم يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» «1» وعنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بما لا يملكه هو، ويملكه الله: المحبة وميل القلب غير الاختياري. ومعنى الآية إنكم لن تقدروا على التسوية بين النساء في الحب وميل الطباع، فالتفاوت بينهن في الود والمحبة حاصل ولا محالة، وليس في استطاعتكم جلبه ولا دفعه، فالله قد عفا لكم عنه، ولستم مكلفين به ولا منهيين عنه، ولكن ذلك التفاوت في الحب له نتائج تظهر في الأقوال والأفعال التي تملكونها، وتقدرون عليها، ويصح تعلق الأحكام بها، فأنتم منهيون عن إظهار التفاوت في القول والفعل المقدورين لكم. وقال بعض العلماء: حقيقة العدل بين النساء التسوية بينهن في كل شيء، بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب في شأن من الشؤون، كالقسم والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها ما لا يكاد يحصر. والعدل بهذا المعنى غير مقدور للمكلف البتة. ولو حرص على إقامته وبالغ فيه، والعجز عن حقيقة العدل لا يمنع عن تكليفكم أيها الأزواج بما دونها من المراتب التي تستطيعونها، فإنّ الميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك كله لا يترك كله. فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فلا تجوروا على المرغوب عنها كلّ الجور،

_ (1) رواه أبو داود في السنن (2/ 209) ، كتاب النكاح باب القسم بين النساء حديث رقم (2134) ، والترمذي في الجامع الصحيح (3/ 446) ، كتاب النكاح حديث رقم (1140) ، وابن ماجه في السنن (1/ 633) ، كتاب النكاح، باب القسمة بين النساء حديث رقم (1971) ، وأحمد في المسند (6/ 144) .

فتمنعوها حقها من غير رضا منها، واعدلوا ما استطعتم، فإنّ عدم العدل بينهن يوقد نار الغيرة والحقد في نفوسهن، ويغريهن بالشر والفساد. وفي ذلك من المفاسد ما يربو على مصلحة تعدد الزوجات في نظر الشارع الحكيم. وفي قوله تعالى: فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ ضرب من التوبيخ للأزواج، أي لا ينبغي ولا يليق بكم أن تجوروا على الضرائر، فتدعوها كالمعلقة لا هي ذات بعل ولا مطلقة، فإما أن تعدلوا بينهن، وإلا فالفرقة أولى، كما قال تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: 229] . أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان له امرأتان فمال مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقّيه ساقط» «1» وكان السلف الصالح يستحبون أن يسووا بين الضرائر حتى في الطيب، يتطيّب لهذه كما يتطيب لهذه. وعن ابن سيرين في الذي له امرأتان يكره أن يتوضأ في بيت إحداهما دون الأخرى. وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أي وإن تصلحوا ما كنتم تفسدون من أمورهن فيما مضى بميلكم إلى إحداهن، وتتداركوه بالتوبة، وتتقوا بالجور فيما يستقبل، فإنّ الله يغفر لكم ما مضى من الحيف، ويتفضل عليكم برحمته وإحسانه. ظاهر هذه الآية يوجب التسوية في القسم بين الحرة والأمة. وهو قول أهل الظاهر، ورواية عن مالك رضي الله عنه، لكنّ جمهور الأئمة على أنّ الأمة المزوّجة على النصف من الحرة في القسم محتجين على ذلك بأن الإمام عليا رضي الله عنه قضى بذلك، ولا يعرف له في الصحابة مخالف مع انتشار هذا القضاء وظهوره، وموافقته للقياس، فإنّ الله سبحانه وتعالى لم يسوّ بين الحرة والأمة لا في الطلاق ولا في العدة ولا في الحد ولا في الملك ولا في الميراث ولا في الحج ولا في مدة الكون عند الزوج ليلا ونهارا، ولا في أصل النكاح، بل جعل نكاحها بمنزلة الضرورة، فاقتضى ذلك ألا يسوّي بينها وبين الحرة في القسم. ومن هذه الآية يعلم أنه لا تجب التسوية بين النساء في المحبة، فإنها لا تملك، وكانت عائشة رضي الله عنها- كما علمت- أحبّ نسائه إليه صلّى الله عليه وسلّم، وأخذ من هذا أنّه لا تجب التسوية بينهن في الوطء، لأنّه موقوف على المحبة والميل، وهي بيد مقلّب القلوب.

_ (1) رواه أبو داود في السنن (2/ 209) ، كتاب النكاح حديث رقم (2133) ، والترمذي في الجامع الصحيح (3/ 447) ، كتاب النكاح حديث رقم (1141) ، والنسائي في السنن (7- 8/ 74) ، كتاب في عشرة النساء حديث رقم (3952) ، وابن ماجه في السنن (1/ 633) ، كتاب النكاح حديث رقم (1969) .

[سورة النساء (4) : آية 176]

وفصّل بعض العلماء في ذلك فقال: إن تركه لعدم الداعي إليه فهو معذور، وإن تركه مع الداعي إليه، ولكن داعيه إلى الضرر أقوى، فهذا مما يدخل تحت قدرته وملكه، فإن أدّى الواجب عليه منه لم يبق لها حق، ولم يلزمه التسوية وإن ترك الواجب منه فلها المطالبة به. وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ بعد أن رغّب الله في الصلح بين الزوجين وحثّ عليه ذكر في هذه الآية جواز الفرقة إذا لم يكن منها بد، وسلّى كلا من الزوجين، ووعد كل واحد منهما بأنه سيغنيه عن الآخر إذا قصد الفرقة تخوّفا من ترك حقوق الله التي أوجبها. وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً. أي وكان الله ولا يزال غنيا كافيا للخلق، حكيما متقنا في أفعاله وأحكامه. قال الله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) أخرج ابن أبي حاتم أنّ هذه الآية نزلت في جابر بن عبد الله رضي الله عنه. وأخرج الشيخان عن جابر أنه قال دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ، ثم صبّ عليّ فعقلت فقلت يا رسول الله: إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث، فنزلت آية الفرائض «1» وهذه الآية آخر آيات الأحكام نزولا. وروي أنّ أبا بكر رضي الله عنه قال في خطبة له: ألا إن الآية التي أنزلها الله في سورة النساء في الفرائض [12] ، فأولها في الولد والوالد، وثانيها في الزوج والزوجة، والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء [176] أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم. أو من الأب، والآية التي ختم بها سورة الأنفال [75] أنزلها في أولي الأرحام، وقد أجمع العلماء على أنّ هذه الآية في ميراث الإخوة والأخوات من الأب والأم، أو من الأب. وأما الإخوة والأخوات لأم ففيهم نزلت الآية السابقة في صدر السورة وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً إلخ وتقدّم لك بيان ذلك مستوفى. واختلف العلماء في المراد بالولد في قوله تعالى: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وقوله تعالى:

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (5/ 210) ، 65- كتاب تفسير القرآن، 4- باب يُوصِيكُمُ اللَّهُ حديث رقم (4577) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1234) ، 32- كتاب الفرائض، 2- باب ميراث الكلالة حديث رقم (5/ 1616) . [.....]

إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فقال بعضهم: إن المراد به الذكر، لأنّه المتبادر، ولأنّه لو أريد به ما يشتمل الذكر والأنثى لكان مقتضى مفهومه أن الأخت لا ترث النصف مع وجود البنت، مع أنها ترثه معها عند جميع العلماء غير ابن عباس، ولكان مقتضاه أيضا أنّ الأخ لا يرث أخته مع وجود بنتها، والعلماء متفقون على أنه يرث الباقي بعد فرض البنت وهو النصف. والمختار الذي عليه المحققون أن الولد هنا عامّ في الذكر والأنثى، لأنّ الكلام في الكلالة وهو من ليس له ولد أصلا، لا ذكر ولا أنثى، وليس له والد أيضا، إلا أنه اقتصر على ذكر الولد ثقة بظهور الأمر. ولأنّ الولد مشترك معنويّ وقع نكرة في سياق النفي، فيعم الابن والبنت، وما ورد على المفهوم ليس بقادح. أما أولا: فلأن الأخت لا يكون لها فرض النصف مع وجود الولد مطلقا، أما مع الابن فلأنّه يحجبها. وأما مع البنت فلأنها تصيرها عصبة، فلا يتعين لها فرض، نعم يكون نصيبها مع بنت واحدة النصف بحكم العصوبة لا الفرضية، فلا حاجة إلى تخصيص الولد بالابن لا منطوقا ولا مفهوما. وأما ثانيا: فلأن الأخ لا يرث أخته مع وجود بنتها. لأنّ المتبادر من قوله تعالى: وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ أنه يرث جميع تركتها عند عدم الولد، ومفهومه أنّه عند وجود الولد لا يرث جميع تركتها، أما مع الابن فلأنه يحجبه، وأما مع البنت فلأنه يرث الباقي بعد فرضها، فصحّ أن الأخ لا يرث أخته مع وجود بنتها، تدبّر ذلك فإنّه دقيق. وبعد فإنّ الآية قدّرت في ميراث الإخوة والأخوات من الميت الكلالة صورا أربعا: الأولى: أن يموت امرؤ وترثه أخت واحدة، فلها النصف بالفرض، والباقي للعصبة إن كانوا، وإلا فلها بالرد. وكما ترث الأخت الواحدة من أخيها النصف، كذلك ترثه من أختها، لأنّ مقدار الميراث لا يختلف باختلاف الميت ذكورة وأنوثة، وإنما يختلف باختلاف الوارث. الثانية: أن يكون الأمر بالعكس تموت امرأة ويرثها أخ واحد فله جميع التركة، وكما يرث الأخ الواحد جميع تركة أخته كذلك يرث جميع تركة أخيه. الثالثة: أن يكون الميت أخا أو أختا وورثه أختاه، فلهما الثلثان. الرابعة: أن يكون الميت أخا أو أختا، والورثة عدد من الإخوة والأخوات، فللذكر مثل حظ الأنثيين. وظاهر الآية في هذه الصورة الرابعة عدم التفرقة بين الإخوة الأشقاء والإخوة لأب

في أنهم يشتركون في التركة إذا اجتمعوا، لكنّ السنّة خصصت هذا العموم، فقدمت الأشقاء على الإخوة لأب، فإذا اجتمع الصنفان حجب الإخوة الأشقاء الإخوة لأب. بقي من الصور المحتملة في الميراث بالأخوة: 1- أن يكون للميت الكلالة عدد من الإخوة الذكور، فالحكم أنهم يحوزون جميع التركة، لأنّ الواحد منهم إذا انفرد حاز التركة كلها، فأولى إذا اجتمعوا أن يحوزوها. 2- أن يكون للميت الكلالة أكثر من أختين، فالحكم أنهن يأخذن الثلثين بالفرض، لأنّ أكثر من بنتين لا يزدن عن الثلثين، فأولى ألا يزيد الأكثر من أختين عن الثلثين، وقد تقدم ذلك. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا مفعول يبيّن محذوف، والمصدر المنسبك مفعول لأجله بتقدير مضاف، أي: يبين الله لكم الحلال والحرام، وجميع الأحكام كراهة أن تضلوا. ويجوز أن يكون المصدر هو مفعول (يبيّن) أي يبين الله لكم ضلالكم، لتجتنبوه، فإن الشر يعرف ليتقى، والخير يعرف ليؤتى. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها أحوالكم وما يصلح لكم منها وما لا يصلح. عَلِيمٌ ذو علم شامل محيط، فيبيّن لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم.

من سورة المائدة

من سورة المائدة قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) شرح المفردات يقال أوفى ووفى (بفتح الفاء مخففة) ووفّى (بتشديد الفاء) بمعنى أدّى ما التزمه، مع المبالغة في حالة التشديد، والكلّ ورد في القرآن أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة: 111] وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) [النجم: 37] . والعقود: جمع عقد، وهو في الأصل الربط، تقول عقدت الحبل بالحبل إذا ربطته به، وعقدت البناء بالجص إذا ربطته به، وتقول: عقدت البيع لفلان إذا ربطته بالقول، واليمين في المستقبل تسمّى عقدا لأنّ الحالف ربط نفسه بالمحلوف عليه وألزمها به. المراد بالعقود هنا ما يشمل العهود التي عقدها الله علينا، وألزمنا بها من الفرائض والواجبات والمباحثات من معاملاتهم ومناكحاتهم. والأنعام: جمع نعم (بفتحتين) وأكثر ما يطلق على الإبل، ولكن المراد به هنا ما يشمل الإبل والبقر والغنم. والحرم: جمع حرام، بمعنى محرم، كعناق وهي الأنثى من ولد المعز وعنق بالضم. دعا الله المؤمنين وناداهم بوصف الإيمان، ليحثهم على امتثال ما يكلفهم به، فإنّ الشأن في المؤمنين الانقياد لما يكلّفون به من قبل الله تعالى، وطالبهم بالوفاء بالعقود أي التكاليف التي أعلمهم بها، والتزموها بقبولهم الإيمان الذي يعتبر تعهّدا منهم بالعمل بمبادئه، والوقوف عند حدوده، ومن هذه التكاليف ما يعقد الناس بعضهم مع بعض من الأمانات والمعاملات. ثم قال تعالى تمهيدا للنبيّ عن بعض محرمات الإحرام أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أي من الإبل والبقر والضأن والمعز.

والبهيمة في الأصل كلّ حيّ لا يميّز، سمّي بذلك لأنه أبهم عن أن يميز أي حجب، فهو عام يشمل الأنعام وغيرها، سواء أكانت من ذوات الأربع أم لا، وإضافته للبيان، أيّ بهيمة هي الأنعام، وخرج بها غير الأنعام، سواء كان من ذوات الحوافر كالخيل والبغال والحمير أم من غيرها مثل الأسد والنمر والذئب. وقيل: البهيمة خاصّ بذوات الأربع، وقال ابن عباس: المراد بالبهيمة هنا أجنة الأنعام، فهي حلال متى ذكّيت أمهاتها، وهو مذهب الشافعية، وإنما لم يقل أحلّت لكم الأنعام ليشير إلى أنّ ما يماثل الأنعام مثلها في الحل كالظباء وبقر الوحش ما لم يدلّ الدليل على حرمته. لما كان الإحلال لا يتعلق إلا بالأفعال كان من اللازم إضمار فعل يناسب الكلام، وقد دلّ على هذا بقوله تعالى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) [النحل: 5] أي لتنتفعوا بها في الدفء وغيره، فالمراد أحلّ لكم الانتفاع ببهيمة الأنعام، وهو يشمل الانتفاع بلحمها وجلدها وعظمها وصوفها وما أشبه ذلك. ثم قال: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي يستثنى من حلّ بهيمة الأنعام ما يتلى عليكم في آية تحريمه: من الميتة والمنخنقة إلخ فإنّ كلّ هذا حرام ما لم تدرك ذكاته، وهو حيّ بالتفصيل الذي يأتي. وقوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ حال من الكاف في أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ أي يشرع ما يشاء من تحليل وتحريم بحسب ما تقتضيه حكمته البالغة، فأباح بهيمة الأنعام في جميع الأحوال، وأباح الصيد في بعض الأحوال دون بعض، ولا اعتراض عليه، لأنّه مالك الأشياء وخالقها، فيتصرف فيها كما يشاء بحكمته وحسن تدبيره. وينبغي أن يعلم أنّ العقود التي يجب الوفاء بها لا تشمل التعاقد على المحرمات، فلا يجب الوفاء به، ومثله حلف الجاهلية على الباطل، كحلفهم على التناصر والميراث، بأن يقول أحد الطرفين للآخر إذا حالفه: دمي دمك وهدمي هدمك، وترثني وأرثك، فيتعاقدان بذلك على النّصرة والحماية سواء أكانت بحق أم بباطل، فأبطل الإسلام التناصر على الباطل بقوله تعالى: وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار» «1» وبنهيه عن العصبية العمية كما

_ (1) رواه ابن ماجه في السنن (2/ 784) ، 13- كتاب الأحكام، 16- باب من بنى في حقه حديث رقم (2340) و (2341) ، ومالك في الموطأ (2/ 745) ، 36- كتاب الأقضية، 26- باب القضاء حديث رقم (31) ، وأحمد في المسند (1/ 672) .

الأحكام

رواه مسلم والنسائي «1» من قوله عليه الصلاة والسلام: «من قتل تحت راية عمّية يدعو لعصبية أو ينصر عصبية فقتلة جاهلية» وأبطل هذا التوارث بآية المواريث، وبقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأحزاب: 6] . الأحكام يؤخذ من الآية: وجوب الوفاء بالتكاليف الإسلامية، وبالعقود التي يجريها الناس بعضهم مع بعض فيما هو مأذون فيه، كالقيام بأداء المهور والنفقات في باب النكاح، والمحافظة على مال المستأمن ونفسه في باب الأمان، والمحافظة على الوديعة والعارية والعين المرهونة وردها على أصحابها سالمة، وما أشبه ذلك، ويؤخذ منها أيضا حلّ ذبائح الأنعام من جهة الانتفاع بلحومها وجلودها وعظامها وأصوافها وحرمة الصيد في حال الإحرام. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) الشعائر: جمع شعيرة، وهي في الأصل ما جعل شعارا على الشيء وعلامة عليه، مأخوذ من الإشعار بمعنى الإعلام من جهة الإحساس، ويقال: شعرت بكذا أي علمته، ومنه سمّي الشاعر، لأنه بفطنته يشعر بما لا يشعر به غيره والمراد بالشعائر هنا قيل: مناسك الحج، وهو مروي عن ابن عباس، وقيل: فرائض الله التي حدها لعباده، وهو قول عطاء، وقيل: الأحكام الإسلامية كلها، فإنّ أداءها أمارة على الإسلام والتعبد بأحكامه، وهو المعوّل عليه. وإحلال الشعائر استباحتها والإخلال بأحكامها، وعدم المبالاة بحرمتها، والشهر الحرام رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم فلامه للجنس، وسمّي الشهر حراما باعتبار أنّ إيقاع القتال فيه حرام. والهدي ما يتقرب به المرء من النّعم ليذبح في الحرم. والقلائد: جمع قلادة وهي تطلق على ما يعلّق في عنق المرأة للزينة، وعلى ما يعلّق في عنق البعير أو غيره من النعم من جلد أو قشر شجر ليعلم أنّه هدي فلا يتعرّض له.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1478) ، 33- كتاب الإمارة، 13- باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين حديث رقم (57/ 1850) ، والنسائي في السنن (7- 8/ 139) ، كتاب التحريم، باب التغليظ حديث رقم (4125) .

والآمّون: جمع آم بمعنى قاصد من أم يؤم بمعنى قصد، والرضوان مصدر بمعنى الرضا، والشنآن مصدر بمعنى البغض يقال شنئته بالكسر أشنؤه بفتح النون شنئا بسكونها وشنآنا بفتح النون وسكونها أي أبغضته. ينادي الله المؤمنين وينهاهم بقوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ أي أحكام دينه على الوجه العام أو أعمال الحج ومناسكه كالإحرام والطواف والوقوف بعرفة وبقية أعمال الحج، ومعنى إحلالها الإخلال بأحكامها كاستعمال الطيب ولبس المخيط والصيد والقرب من النساء فإن ذلك يخل بواجبات الإحرام وكطواف الزيارة محدثا أو جنبا فإن ذلك يخل بواجب الطهارة في الطواف والوقوف بعرفة حدثا أو جنبا أو بعد قربان النساء فإن ذلك يخل بواجب الطهارة وحرمة قربان النساء بالنسبة للوقوف ثم قال: ولا الشهر الحرام أي لا تحلوه بالقتال فيه وعدم المبالاة بحرمته وقد نسخ هذا الحكم. بقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] فإنه ليس المراد بالأشهر الحرم أشهر الحج وإنما المراد بها الأشهر التي حرم الله قتالهم فيها وضربها أجلا لهم يسيحون فيها في الأرض ويفكرون في أمر الإسلام مع التروي والنظر فإن اعتنقوا الإسلام في أثنائها فقد نجوا وإلا عاملهم بما عامل به غيرهم من القتل والأسر ويدل على أن هذا الحكم منسوخ الإجماع على جواز قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم ثم قال: ولا الهدى أي لا تحلوا النعم التي يتقرب بها إلى الله تعالى لتذبح في الحرم وإحلالها هو التعرض لها وسلبها أو الانتفاع بها في غير ما سيقت له من التقرب إليه تعالى وأخذوا من ذلك عدم جواز الأكل من الهدايا التي تقدم للذبح في الحرم إلا أنهم استثنوا من ذلك هدى التطوع والقرآن والتمتع وحسا من المرقة فيبقى غيرها على عدم الجواز لأنها دماء مخالفات وكفارات وعقوبات فلا يجوز الانتفاع بشيء منها وقال: وَلَا الْقَلائِدَ. أي لا تحلوا القلائد أي الهدايا ذوات القلائد والهدايا التي تقلد هي ما كانت للتطوع أو النذر أو القرآن أو التمتع أما الهدايا التي تجب بسبب الجنايات فلا تقلد. القلائد أعلام تقام للمسرات وذلك ظاهر إذا كانت للتطوع أمثاله أما إذا كانت بسبب الجنايات كانت عقوبات للمخالفات فلا وجه لإعلانها والتنويه بها. وتفسير القلائد بالهدايا ذوات القلائد يدل على أنها نوع من الهدى السابق فكأنه قال لا تحلوا الهدى وخصوصا الهدايا ذوات القلائد ويحتمل أن يراد بالقلائد نفسها ويكون المراد النهى عن سلبها وتجريد الهدايا عنها فإن ذلك مما يعرض الهدايا للضياع. وقوله: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أي لا تحلوا قوما قاصدين إلى البيت الحرام لزيارته بأن تصدوهم عنه بأي وجه كان بأن تقاتلوهم أو تسلبوا أموالهم أو تزعجوهم وتخوفوهم.

وقوله: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً حال من الضمير المسكن في آمّين أي لا تتعرضوا لهم حال كونهم يطلبون من ربهم ثوابا ورضوانا لتعبدهم في بيته الحرام. قيل المراد بالآمّين المسلمين الذين يقصدون بيت الله للتعبد فيه وحينئذ يكون التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم للتشريف، ويكون ابتغاء الفضل والرضوان ظاهرا، وتكون الآية على هذا محكمة لا نسخ فيها. وقيل المراد بالآمين المشركين، ويؤيده ما قيل من أن الآية نزلت في الحطم بن ضبعة البكري، حين قدم المدينة بخيله وأصحابه، ولكنه دخلها وحده حتى كان بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم، وسمع منه، ثم قام وقد وعد النبيّ عليه السلام بأن يأتي مع أصحابه ليسلموا، وانصرف مع أصحابه، فمر بسرح المدينة، فاستاق ما مرّ به وهرب، فلما كان موسم الحج، خرج الحطم حاجا في حجاج بني بكر بن وائل، ومعه تجارة عظيمة، فسأل المسلمون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يأذن لهم في التعرض له فأبى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ إلخ. وحينئذ يفسّر ابتغاء الفضل بطلب الرزق بالتجارة، وابتغاء الرضوان بأنّهم كانوا يزعمون أنهم على سداد في دينهم، وأن الحجّ يقربهم إلى الله تعالى، ثم نسخت إباحة حجهم بعد ذلك. وقيل: المراد بالآمين ما يشمل المسلمين والمشركين فإنهم كانوا يحجون جميعا، ثم نسخت إباحة حج المشركين بقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة: 28] وقوله: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ [التوبة: 17] ويكون ابتغاء الفضل والرضوان عاما للدنيوي والأخروي ولو في زعم المشركين. فقد نهى الله تعالى المسلمين في صدر هذه الآية عن أمور خمسة: منها ما ترغب النفوس في التمتع به كالمباحات التي حرّمت لأجل الإحرام من استعمال الطيب، ولبس المخيط، والقرب من النساء، واصطياد الطيور والحيوانات. ومنها ما ترغب فيه النفوس بمقتضى شهواتها الغضبية كالانتقام ممن عاداها، وحال بينها وبين رغباتها. ومنها ما ترغب فيه النفوس الضعيفة كالتعرض للهدايا، فأرشدهم الله تعالى إلى أنّ هذه الرغبة مهما عظمت لا تغيّر شيئا من أحكام الله تعالى، ثم قال: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا أي إذا خرجتم من الإحرام أبيح لكم الصيد، وبالطبع يحلّ لكم أيضا كل ما كان مباحا قبل الإحرام. وإنما خص الصيد بالذكر لأنّهم كانوا يرغبون فيه كثيرا كبيرهم وصغيرهم وعظيمهم وحقيرهم، وللإشارة إلى أنّ الذي ينبغي الحرص عليه ما يعد قوتا تندفع به

الحاجة فقط، لا ما يكون من الكماليات، وما يكون إرضاء لشهوة الغضب. وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا. جرم تتعدى إلى مفعول واحد، كقولك جرم ذنبا، وإلى مفعولين كما في الآية، أي لا يكسبنكم بغض قوم لأجل أنهم صدوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية أن تعتدوا عليهم للانتقام منهم، وهذا نهي عن إحلال قوم من الآمين خصوا به مع اندراجهم في النهي عن إحلال الكل، لاستقلالهم بأمور ربما يتوهّم أنها مصححة لإحلالهم، وداعية إليه.. والشنآن مصدر أضيف إلى مفعوله، وأن صدوكم متعلق بالشنئان، بإضمار لام العلة، وإنما قدم قوله: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا على هذه الجملة مع تعلقها بقوله: وَلَا آمِّينَ للإشارة إلى أنّ التحلل من الإحرام لا يصحّح لهم التعدي على الآمين بل يجب عدم التعرض لهم إلى أن يخرجوا من هذه العبادة فإنّهم لم يخرجوا عن أنهم يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا، فالواجب أن يذكّر بعضكم بعضا بوجوب المحافظة على شعائر الله، وأن تتعاونوا على البر وأعمال الخير التي منها الإغضاء عن سيئات القوم احتراما للمسجد الحرام، وعلى التقوى أي تعاونوا على اتخاذ وقاية تقيكم من متابعة الهوى، والتمسك بأسباب العذاب الأليم وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ أي لا تتعاونوا على الجرائم التي يأثم فاعلها، وعلى مجاوزة حدود الله بالاعتداء على القوم وهم يبتغون فضلا من ربهم وَاتَّقُوا اللَّهَ بفعل ما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن لا يتقيه، وإظهار اسم الجلالة هنا لإدخال الروعة وتربية المهابة في القلوب. قال الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) شروع في ذكر المحرّمات التي أشير إلى شيء منها بقوله: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فحرّم الميتة لخبث لحمها ببقاء بعض المواد الضارة في جسمها. وهي الحيوان الذي مات دون ذكاة شرعية، فيحرم أكلها بالاتفاق، وأما شعرها وعظمها فقال الحنفية: طاهران يجوز استعمالهما، وقال الشافعية: نجسان لا يجوز استعمالهما، وقد استثني من الميتة المحرمة نوعان: السمك والجراد عند الجميع، ويدل على هذا الاستثناء ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: «أحلت لنا ميتتان ودمان،

فالميتتان السمك والجراد، والدمان الكبد والطحال» ذكره الدارقطني «1» . وحرم الدم أي المسفوح أي السائل من الحيوان عند التذكية، وأما الدم السائل من الحيوان الحي فقليله وكثيره حرام، وكانوا يملؤون الأمعاء من الدم، ويشوونه، ويأكلونه، فحرّمه الله، لأنه قذر يضر الأجسام. وحرم لحم الخنزير وكذلك شحمه وجلده باتفاق، وإنما خصّ اللحم بالذكر لأنه المقصود الأهم، وأما شعره فقال قوم بجواز استعماله في الخرز، والحقّ أن إباحة استعماله كانت للضرورة، وقد اندفعت الضرورة باختراع الآلات والأدوات التي تؤدي هذا المعنى بيسر. وحرم ما أهل لغير الله به، أي حرم الحيوان الذي أهل أي رفع الصوت لغير الله بسببه أي عند ذبحه، سواء اقتصر على ذكر غير الله كقوله عند الذبح: باسم المسيح، أو باسم فلان، أو جمع بين ذكر الله وذكر غيره بالعطف عليه كقوله باسم الله واسم فلان، أما بدون العطف كقوله باسم الله المسيح نبي الله، أو باسم الله محمد رسول الله، فقال الحنفية: تحل الذبيحة، ويعتبر ذكر غيره كلاما مبتدأ، ولكنه يكره الوصل صورة بخلاف العطف: فإنّه يكون نصا في ذكر غير الله. وحرم المنخنقة أي التي خنقت أو انخنقت بالشبكة أو بغيرها حتى ماتت. وحرم الموقوذة أي التي ضربت بالخشب أو بالحجر حتى ماتت. وحرم المتردية أي التي سقطت من علو إلى أسفل، أو وقعت في بئر فماتت. وحرم النطيحة التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح. وحرم ما أكل السبع بعضه ومات بجرحه. وهذه الخمسة تأخذ حكم الميتة التي ماتت حتف أنفها، لأنها لم تذكّ ذكاة شرعية، ولم يسل دمها بحيث يخرج جميعه منها، ثم قال: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي إلا ما أدركتموه حيا فذكيتموه. وتفصيل الكلام في ذلك: أنهم اتفقوا على أن الخنق وما معه إذا لم يبلغ بالحيوان إلى درجة اليأس من حياته بأن غلب على الظن أنه يعيش مع هذه الحالة كانت الذكاة محللة له، أما إذا غلب على الظن أنه يهلك بما حصل، فقال قوم: تعمل فيه الذكاة، وهو المشهور من مذهب الشافعي، والمنقول عن الزهري وابن عباس، وهو مذهب الحنفية، فإنهم يقولون في كتبهم: متى كانت عينه تطرف، أو ذنبه يتحرك، أو رجله تركض، ثم ذكّي فهو حلال، وقال قوم: لا تعمل فيه الذكاة، وروي الوجهان عن الإمام مالك رضي الله عنهم أجمعين.

_ (1) رواه أحمد في المسند (2/ 97) .

ومنشأ الخلاف في أن الذكاة تعمل أو لا تعمل اختلافهم في أن الاستثناء متصل أو منقطع، فمن رأى أنه متصل يرى أنه أخرج من الجنس بعض ما تناوله اللفظ، فما قبل كلمة الاستثناء حرام، وما بعدها خرج منه، فيكون حلالا، ومن رأى أنه منقطع يرى أنه لا تأثير للاستثناء في الجملة المتقدمة، وكأنه قال ما ذكيتموه من غير الحيوانات المتقدمة فهو حلال تتمتعون به كما تشاؤون. ويؤيد القول بأن الاستثناء متصل إجماع العلماء على أن الذكاة تحلّل ما يغلب على الظن أنه يعيش، فيكون مخرجا لبعض ما يتناوله المستثنى منه فيكون الاستثناء فيه متصلا. واحتج من قال: إن الاستثناء منقطع بأن التحريم إنما يتعلق بهذه الحيوانات بعد الموت وهي بعد الموت لا تذكى، فيكون الاستثناء منقطعا، وأجيب عن ذلك بأن الاستثناء متصل باعتبار ظاهر الحال، فإن ظاهر هذه الحيوانات أنها تموت بما أصيبت به، فتكون حراما بحسب الظاهر إلا ما أدرك حيا وذكّي، فإنه يكون حلالا، والتحريم وإن كان لا يتعلق بها حقيقة إلا بعد الموت كما يقولون، إلا أن اتصال الاستثناء يكفي فيه هذا الظاهر، خصوصا إذا لوحظ أنها إذا ذكيت وهي حية كانت مساوية لغيرها من بقية الحيوانات المذكاة، فلا وجه للقول بعدم حلها. والاستثناء المتصل على ما تقدم يرجع إلى الأصناف الخمسة من المنخنقة وما بعدها، وهو قول علي وابن عباس والحسن، وقيل: إنه خاص بقوله: وَما أَكَلَ السَّبُعُ والأول هو الظاهر. وحرم وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ: جمع نصاب كحمار وحمر، وقيل: جمع نصب بفتح وسكون، كسقف وسقف، وقيل مفرد، وجمعه أنصاب، كطنب وأطناب، وعلى كلّ فهي حجارة كانوا ينصبونها حول الكعبة، ويذبحون قرابينهم التي يتقرّبون بها إلى معبوداتهم عليها، ويعظّمونها، ويعتبرون الذبح لآلهتهم قربة، وكون الذبح على النصب قربة أخرى، ولهذا كانوا يلطّخون النصب بدم الذبائح، كأنهم يثبتون بذلك كون الذبح وقع قربة. وليست النصب هي الأوثان، فإنها حجارة غير منقوشة، بخلاف الأوثان فإنّها حجارة منقوشة. وحرم الاستقسام بالأزلام أي محاولة معرفة ما قسم وقدر في الأمر من الخير أو الشر بالأزلام، جمع زلم بفتحتين، وهو السهم قبل أن يتصل ويراش، وهي سهام ثلاثة، كتب على أحدها أمرني ربي، وعلى الثاني نهاني ربي، ولم يكتب على الثالث شيء، فإذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو غير ذلك يعمد إلى هذه

السهام، وكانت موضوعة في حقيبة حول الكعبة، فيخرج منها واحدا فإن خرج الآمر مضى لحاجته، وإن خرج الناهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاد التناول، وسميت هذه السهام أزلاما لأنّها زلمت بضم فكسر، أي سوّيت، فلم يكن نتوء أو انخفاض، وإنما ذكر هذا النوع هنا مع أنه ليس من المطعوم، لأنه لما كان يعمل حول الكعبة ذكر بجانب ما ذبح على النصب التي حول الكعبة. ثم قوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ يحتمل أن يكون راجعا إلى كل ما تقدم، أي أنّ التلبس بما تقدم ذكره تمرّد وخروج على أحكام الله تعالى، ويحتمل أن يكون راجعا إلى الاستقسام بالأزلام، والمعنى أنّهم فسقوا وخرجوا عن الحد بالاستقسام بالأزلام، لأنّهم إن أرادوا بالرب في قولهم: أمرني ونهاني ربي جانب الله تعالى كانوا قد كذبوا على الله، وافتروا عليه، وإن أرادوا الأصنام كان ذلك شركا وجهالة، وعلى كلّ فقد فسقوا وتمردوا، وخرجوا عن الحد. فإن قيل: إن الاستقسام بالأزلام لم يخرج عن أنه من جملة الفأل، وكان عليه السلام يحب الفأل «1» فلم صار فسقا؟ أجيب بالفرق بين الفأل وبين الاستقسام بالأزلام، فإنّ الفأل أمر اتفاقي تنفعل به النفس وتنشرح للعمل مع رجاء الخير منه، بخلاف الاستقسام بالأزلام فإنّ القوم كانوا يعملون بالأزلام عند الأصنام، ويعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام بإرشاد الأصنام وإعانتها، فلهذا كان الاستقسام بها فسقا وكفرا. ولما حذّر الله تعالى المؤمنين من تعاطي المحرمات التي ذكرها حرضهم على التمسك بما شرعه لهم، وثبته في قلوبهم، وبشرهم بما يقوّي عزيمتهم ويربّي فيهم الشجاعة والشهامة فقال: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أي من إبطال دينكم وغلبتكم عليه فَلا تَخْشَوْهُمْ أي لا تخافوا من أن يظهروا عليكم، واخشوا جانب الله تعالى فقط، أي استمروا على خشيته، والإخلاص له. والمراد باليوم الزمان الحاضر، وما يتصل به من الماضي والآتي. وقيل المراد يوم نزول هذه الآية، وهو يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع، والنبي صلّى الله عليه وسلّم واقف بعرفات على ناقته العضباء. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ليس المراد بإكمال الدين أنه كان ناقصا قبل اليوم ثم أكمله، وإنما المراد أن من أحكامه قبل اليوم ما كان مؤقتا في علم الله، قابلا للنسخ، ولكنها اليوم قد كملت، وصارت مؤبّدة صالحة لكل زمان ومكان، والمراد بإكماله إتمامه في نفسه وفي ظهوره، أما إتمامه في نفسه فكان

_ (1) رواه أحمد في المسند (2/ 332) .

باشتماله على الفرائض المقدسة، والحلال والحرام بالتنصيص على أصول العقائد، والتوقيف على أساس التشريع وقوانين الاجتهاد، نحو: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) [الإخلاص: 1] لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ: 3] ونحو إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل: 90] وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [النحل: 91] وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: 159] ونحو وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] . وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ. وأما إتمامه في ظهوره فكان بإعلاء كلمته، وغلبته على الأديان كلها، وموافقته للمصالح العامة، حتى إنّ كثيرا ممن لم يعتنقوا الدين الإسلامي يقتبسون منه ما يصلح أحوالهم، ويعين على ضبط أمورهم، وتدبير شؤونهم. وقد تمسّك بعضهم بقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ في نفي القياس، وبطلان العمل به، لأنّ إكمال الدين يقتضي أنه تعالى نصّ على أحكام جميع الوقائع، إذ لو بقي بعض لم يبيّن حكمه لم يكن الدّين كاملا. وأجيب بأنّ غاية ما يقتضيه كمال الدين أن يكون الله تعالى قد أبان الطريق لجميع الأحكام، وقد أمر الله بالقياس، وتعبّد المكلفين به في مثل قوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2] فكان هذا مع النصوص الصريحة بيانا لكلّ أحكام الوقائع غاية الأمر أنّ الوقائع صارت قسمين: قسم نص الله تعالى على حكمه وقسم أرشد الله تعالى إلى أنّه يمكن استنباط الحكم فيه من القسم الأول، فلم تصلح الآية متمسكا لهم. وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بالإكمال في الدين والشريعة بما فتح الله عليكم من دخول مكة آمنين مطمئنين، ومن انقياد الناس لكم وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أي اخترته لكم دينا، تأتمرون بأوامره، وتنتهون بنواهيه، بحيث لا أقبل منكم غيره كما قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] . فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المخمصة المجاعة قال أهل اللغة: الخمص والمخمصة خلو البطن من الطعام عند الجوع، وأصله من الخمص الذي هو ضمور البطن، وهذه الجملة متصلة بذكر المحرّمات، وقوله: ذلِكُمْ فِسْقٌ إلى قوله: دِيناً اعتراض أكّد به معنى التحريم، فإنّ منع الناس عن هذه الخبائث من جملة الدين الكامل، والنعمة التامة، والإسلام الذي هو الدين المرضي عند الله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ ألجأه الاضطرار وأصابه الضر فِي مَخْمَصَةٍ أي مجاعة، فتناول من المحرمات شيئا غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أي غير مائل لإثم، وغير

الأحكام

راغب في التمتع بما يوجب الإثم، بمعنى أنه يتناول منها ليدفع الضرورة لا للتلذذ، ولا يتجاوز الحد الذي يسدّ الرمق فقوله هنا: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ بمنزلة قوله في سورة البقرة: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [البقرة: 173] فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر لهم تناول ما كان محرما إذا اضطروا إليه رَحِيمٌ بعباده حيث أحسن إليهم بإباحة ما يدفع عنهم الضرر ولو كان محرّما. الأحكام يؤخذ من الآية ما يأتي: 1- حرمة الميتة وما ذكر معها في الآية. 2- حلّ البهيمة المذكاة من المنخنقة وما معها متى ذكّيت وبها حياة. 3- إباحة هذه المحرمات عند الاضطرار إليها لدفع الضرر. 4- أنّ حل التناول من هذه المحرمات مقيّد بأمرين: الأول: أن يقصد بالتناول دفع الضرر فقط. الثاني: أن لا يتجاوز ما يسدّ الرمق، أما إذا قصد التلذذ وإرضاء الشهوة، أو تجاوز المقدار الذي يدفع الضرر، كان واقعا في المحرم على خلاف في ذلك تقدم تفصيله في سورة البقرة. قال الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) كلمة (ماذا) يجوز أن تجعل اسماء واحدا للاستفهام في محل رفع بالابتداء وجملة (أحلّ لكم) خبر. ويجوز أن تجعل (ما) وحدها اسم استفهام مبتدأ ولفظ (ذا) بمعنى الذي خبر، وجملة (أحلّ لكم) صلة (لذا) وضمّن السؤال معنى القول، فصح أن ينصب الجملة في قوله (ماذا أحل لهم) . والطيبات جمع طيب، وهو في اللغة المستلذّ، ويسمى الحلال المأذون فيه طيّبا تشبيها له بما هو مستلذّ، لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرّة، ولكنّ المراد به هنا المستلذ لا الحلال، لأنّه لا معنى لأن يقولوا: ماذا أحل لهم؟ فيقال: أحل لكم الحلال، فإنّه غير مفيد. والجوارح، جمع جارحة، وهي الكواسب من الطيور والسباع، من (جرح) إذا كسب كما قال تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: 60] أي كسبتم وقال: الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ [الجاثية: 21] أي اكتسبوا.

والمكلبون جمع مكلّب، وهو الذي يؤدّب الكلاب وغيرها، ويعلمها أن تصيد لأصحابها، وإنما اشتق الاسم من الكلب مع أنه يعلّم الكلاب والبزاة وغيرها، لأنّ التأديب أكثر ما يكون في الكلاب، فكلّ ما يصاد به من السبع والكلب والصقر والبازي يحل أكل صيوده، وإن لم تدرك ذكاتها، وهو مذهب الجمهور، وقيل: لا يحل إلا ما صاده الكلاب تمسّكا بقوله تعالى: مُكَلِّبِينَ. وتمسك الجمهور بعموم قوله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ فإنه يشمل الكلاب وغيرها، غاية الأمر أنه يحتاج إلى نكتة للتعبير بقوله: مُكَلِّبِينَ وقد علمت النكتة مما تقدم على أنّ كل سبع قد يسمّى كلبا، كما ورد أنه عليه الصلاة والسلام قال في ابن أبي لهب «اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك» «1» فأكله الأسد في طريقه إلى الشام. هذه الآية وردت لذكر المحللات بعد ذكر المحرمات، كأنه لما تلا لهم ما حرّمه عليهم من خبيثات المآكل، سألوا عما أحلّ لهم فنزلت الآية، وروي أنه قدم عدي بن حاتم، وزيد بن المهلهل الطائيان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالا: إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فما يحل فنزلت الآية. وروي أيضا عن أبي رافع أنه قال أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أقتل الكلاب. فقال الناس: يا رسول الله ما الذي أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت «2» . والمعنى: يقول لك قومك مع تعدّد فرقهم واختلاف مقاصدهم: ماذا أحلّ لنا، فقل لهم بالنسبة للطائفة الأولى: أحل لكم الطيبات، أي كل ما يستلذ وتشتهيه النفوس المعتدلة، فالمراد الاستطابة عند أهل المروءة والرزانة والأخلاق الجميلة الهادئة، لا ما يعم ممن سقطت مروءتهم وقست قلوبهم، وتمردوا في أفكارهم، فإنّ أهل البادية ومن سقطت مروءتهم يستطيبون أكل جميع الحيوانات، فلا عبرة بهم، والذي يستطاب عند أهل المروءة حلال متى اقترن بشرطه، كالذكاة وذكر اسم الله عليه، ولو زعم بعض الناس تحريمه كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فهي مما يستطاب ويحل. وقل لهم بالنسبة للطائفتين الثانية والثالثة: أحل لكم ما علّمتم من الجوارح، والحل هنا يتعلق بالحيوانات المعلّمة نفسها أي يحل لكم اقتناؤها، وبيعها، وهبتها يؤيد ذلك رواية أبي رافع، لكن يستثنى من الحل أكلها، فإنّ الدليل ورد بتحريمه. ويتعلق أيضا بصيودها، يؤيد ذلك قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ورواية عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل المتقدمة.

_ (1) رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2/ 539) . (2) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (6/ 57) .

وقوله: (مكلّبين) حال من فاعل علّمتم، أي وما علمتم من الجوارح حال كونكم معلمين ومؤدبين. وقوله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ حال من فاعل علمتم، أو من الضمير في (مكلّبين) أي وحال كونكم تعلمونهن مما علمكم الله، فلا بد من أمور ثلاث. أن تكون الجوارح معلمة. وأن يكون من يعلمها ماهرا في التعليم مدرّبا فيه. وأن يعلم الجوارح مما علمه الله بأن تقصد الصيد بإرسال صاحبها، وأن تنزجر بزجره، وأن يمسك الصيد. ولا يأكل منه إذا كان كلبا ونحوه، وأن يعود إلى صاحبه متى دعاه إذا كان مثل البازي، فإنّ الفقهاء يقولون: يعرف تعليم الكلب بترك الأكل ثلاثا. ويعرف تعليم البازي بالرجوع إلى صاحبه إذا دعاه. وبيّنوا الفرق بأنّ تعليم الحيوان يكون بترك ما يألفه ويعتاده، وعادة الكلب السلب والنهب، فإذا ترك الأكل ثلاثا عرف أنّه تعلم، وعادة البازي النفرة فإذا دعاه صاحبه فعاد إليه عرف أنّه تعلّم. فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ يقال أمسك الكلب على صاحبه إذا أمسك الصيد ولم يأكل منه، أما إذا أكل منه فإنه لم يمسك على صاحبه، وكلمة (من) في قوله: (مما أمسكن) يحتمل أن تكون بيانية أي فكلوا الصيد، وهو ما أمسكن عليكم، والمراد ما جرحه الكلب مثلا ومات من جرحه، أو أدركه الصائد حيّا وذكّاه. ويحتمل أن تكون (من) للتبعيض أي كلوا بعض ما أمسكن عليكم، وهو ما جرحه ومات من جرحه، أو أدركه الصائد حيا وذكاه لا ما جرحه ولم يمت من جرحه ولكنه افترسه سبع فمات منه، وعلى هذا تكون البعضية في الجزئيات، ويجوز أن تكون البعضية في الأجزاء باعتبار أن المأكول هو البعض وهو اللحم دون الجلد والريش والدم والعظم. وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي على الكلب مثلا عند إرساله، فيكون الضمير عائدا إلى ما علمتم، أو اذكروا اسم الله على الصيد عند الإمساك أي إذا أدركتم ذكاته فيكون الضمير عائدا إلى ما أمسكن. وَاتَّقُوا اللَّهَ أي احذروا مخالفة أمره فيما أرشدكم إليه، واتخذوا وقاية من عذابه بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسبكم على ما تعملون من غير توان ولا إمهال، ولما ذكر فيما سبق شيئا من المحرمات والمحللات ناسب هنا ذكر الحساب كأنّه يقول بعد بيان الحلال والحرام وما يرضيه وما يغضبه: ينبغي التنبه إلى أنه تعالى سيحاسب العاملين على أعمالهم من غير توان متى جاء يوم الحساب.

يؤخذ من الآية ما يأتي: 1- إباحة الطيبات أي المطعومات التي تستطيبها النفوس الكريمة دون الخبائث التي أرشدت الشريعة إلى تحريمها. 2- إباحة الصيد بالجوارح بشرط كونها معلمة، وكون معلمها مؤدبا (بكسر الدال) ماهرا، وكونه يعلمها مما علمه الله مما دوّنه الفقهاء وفصلوه تفصيلا. 3- إباحة ما جرحته الجوارح وقتلته وأدركه الصائد ميتا لإطلاق قوله: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ. 4- وجوب ذكر الله عند الإرسال كما ورد من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله فكل» «1» أما عند إدراكه حيّا فتجب التسمية عند ذكاته على خلاف في ذلك. قال الله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) طعام الذين أوتوا الكتاب هو الذبائح، وقيل: الخبز والفاكهة، وقيل: جميع المطعومات، والمعوّل عليه الأول، والمحصنات جمع محصنة، وهي الحرة. وقيل: العفيفة، والأجور جمع أجر، والمراد به المهر، وعبّر عنه بالأجر للدلالة على أنّ عين المحصنة لا تملك بالمهر. محصنين بكسر الصاد أي متعففين بالزواج، يقال أحصن الرجل فهو محصن، أي تعفف فهو متعفف، وأحصن الزواج الرجل محصن بفتح الصاد، أي أعفّه الزواج، فهو معف بفتح العين. مسافحين: جمع مسافح، يقال: سافح الرجل المرأة إذا جامعها في الزنى من غير تحرّي الأسرار، وسمي مسافحا لأنه سفح ماءه، أي صبّه ضائعا. والأخدان: جمع خدن بكسر الخاء وسكون الدال، وهو الصديق، يطلق على الذكر والأنثى، والمراد بالخدن هنا البغيّ التي يخادنها الرجل، أي يصادقها ليفجر بها وحده سرّا. أخبر الله تعالى في الآية السابقة بأنّه أحلّ الطيبات، وكان المقصود بيان الحكم

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 271) ، 72- كتاب الذبائح، 2- باب صيد المعراض حديث رقم (5476) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1529) ، 34- كتاب الصيد، 1- باب الصيد بالكلاب حديث رقم (1/ 1929) .

والإخبار، وأعاده في هذه الآية للدلالة على أنّه تعالى كما أكمل الدين وأتمّ النعمة فيه أكمل النعمة فيما يتعلق بالدنيا التي منها إحلال الطيبات، وطعام أهل الكتاب، والمحصنات المؤمنات، والمحصنات الكتابيات. والمراد بالطيبات ما يستطاب ويشتهى عند أهل النفوس الكريمة. والمراد بطعام أهل الكتاب ذبائحهم عند الجمهور، وهو الراجح، لا الخبز والفاكهة، ولا جميع المطعومات، لأنّ الذبائح هي التي تصير طعاما بفعلهم، وأما الخبز والفاكهة والمطعومات فهي مباحة للمؤمنين قبل أن تكون لأهل الكتاب، وبعد أن تكون لهم فلا وجه لتخصيصها بأهل الكتاب. وخصّ هذا الحكم بأهل الكتاب لأنّ المجوس لا يحل أكل ذبائحهم، ولا التزوج بنسائهم، وإنما قال: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي يحل لكم أن تطعموهم من طعامكم، للتنبيه على أنّ الحكم مختلف في الذبائح والمناكحة، فإنّ إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين، بخلاف إباحة المناكحات. فإنها في جانب واحد، والفرق واضح، لأنّه لو أبيح لأهل الكتاب التزوج بالمسلمات، لكان لأزواجهن الكفار ولاية شرعية عليهن، والله تعالى لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعيا، بخلاف إباحة الطعام من الجانبين فإنها لا تستلزم محظورا. وأحل لكم المحصنات المؤمنات أي الحرائر أو العفائف، أو المراد المصونات، فيعم الحرائر والعفيفات، وتخصيصهن بالذكر للحث على ما هو الأولى في عقدة النكاح، لا لنفي ما عداهن، فإنّ نكاح الإماء لغير المالكين صحيح بشرطه، وكذا نكاح غير العفيفات. وأحل لكم المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم من اليهود والنصارى، أي أحلّ لكم الحرائر والعفيفات من أهل الكتاب، سواء أكنّ ذميات أم حربيات، وتخصيص الحرائر العفيفات بالذكر للحث على ما هو الأولى، كما سبق، لا لنفي ما عداهن، وقيّد الحل بإيتاء المهور في قوله: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ للدلالة على تأكّد وجوب المهر حتى كأنّه إذا لم يؤدّ المهر لا تحل له الزوجة، وللحثّ على ما هو الأولى، وهو إيتاء الصداق قبل الدخول. وقوله: مُحْصِنِينَ حال من فاعل آتَيْتُمُوهُنَّ أي أحل لكم محصنات أهل الكتاب إذا آتيتموهن أجورهن حال كونكم محصنين، أي متعففين بالزواج بهن (غير مسافحين) حال من ضمير مُحْصِنِينَ أو صفة لمحصنين، أي غير مجاهرين بالزنى، ولا متخذي أخدان، أي ولا مسرّين، وهو إما مجرور معطوف على غَيْرَ مُسافِحِينَ زيدت فيه (لا) لتأكيد النفي المستفاد من (غير) أو منصوب معطوف على غَيْرَ مُسافِحِينَ.

الأحكام

وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ سيقت هذه الجملة للتحذير من المخالفات وللترغيب فيما تقدم من الأحكام، أي ومن يكفر بشرائع الله وتكاليفه فقد خاب في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فباعتبار أن جميع أعماله حابطة ولاغية، لا فائدة فيها، وهو في ذلك معرّض للإذلال بالسيف حتى يسلم، أو يعطي الجزية عن يد وهو صاغر، وأما في الآخرة فهو هالك بنيران حامية مشتعلة، لا طاقة لأحد بها. أطلق الإيمان وأراد المؤمن به مجازا، وقيل: المراد ومن يكفر برب الإيمان، فهو مجاز بالحذف. الأحكام يؤخذ من الآية ما يأتي: 1- إباحة الطيبات من الرزق. 2- إباحة الأكل من ذبائح أهل الكتاب. 3- إباحة إطعام أهل الكتاب من طعام المسلمين. 4- إباحة نكاح المحصنات المؤمنات والمحصنات الكتابيات. 5- عدم الاعتداد بالأعمال إذا كان العامل جاحدا أحكام الله وشرائعه. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) للإنسان شهوات يجب أن يتمتع بها، وعليه واجبات يتحتم أن يؤديها، وأغلب شهواته منحصرة في المطعومات والمناكحات، ولمّا تفضل الله تعالى على الإنسان ببيان ما أحلّه وما حرّمه من المطاعم والمناكح شرع في بيان ما يجب عليه أداؤه لله تعالى، ليكون القيام بما وجب عليه شكرا له تعالى على ما أنعم به عليه فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ. والمراد بالقيام إلى الصلاة إرادة القيام إليها من إطلاق المسبب وإرادة السبب، وإنما وجب تأويل القيام بإرادته لأنه لو بقي على حقيقته لزم تأخير الوضوء ووجوبه عن القيام إلى الصلاة، والاشتغال بها، وهو باطل بالإجماع، وليس المراد بالقيام انتصاب القامة، وإنما المراد به الاشتغال بأعمال الصلاة، أي إذا أردتم ذلك فاغسلوا إلى آخره.

وإيجاب الوضوء عند إرادة الصلاة لا ينافي أنه يجب أيضا إذا ضاق الوقت، فإنّ وقت الصلاة إذا ضاق وجب الوضوء والصلاة وجوبا مضيقا، بمعنى أنّه يأثم بترك كلّ منهما، وإنما ربط الأمر بالوضوء بحالة إرادة الصلاة للإشارة إلى أن الشأن في المؤمنين إقامتها وعدم الإهمال في أدائها. وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إليها وإن لم يكن محدثا، والإجماع على خلافه، ولهذا قالوا: إن الخطاب للمحدثين للإجماع على أنّ الوجوب لم يكن إلا عليهم، ولأنّ في الآية ما يدل عليه، فإنّ التيمم بدل عن الوضوء، وقائم مقامه، وقد قيّد وجوب التيمم في الآية بوجود الحدث، وهو يدل على أنّ الأصل مقيّد بوجوب الحدث ليتأتّى أن يكون البدل قائما مقام الأصل، ولأن الأمر بالوضوء نظير الأمر بالاغتسال، وهو مقيّد بالحدث الأكبر في قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا فيكون نظيره، وهو الأمر بالوضوء مقيّدا بالحدث الأصغر. ويستأنس لاعتبار هذا القيد بما جاء في قراءة شاذة «إذا قمتم إلى الصّلاة وأنتم محدثون» وأما ما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام وخلفاؤه كانوا يتوضؤون لكل صلاة فلم يكن ذلك بطريق الوجوب، يدل عليه ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: «من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات» «1» مع ما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام يوم الفتح صلّى الصلوات الخمس بوضوء واحد فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله صنعت شيئا لم تكن تصنعه، فقال عليه الصلاة والسلام: «عمدا صنعته يا عمر» «2» يعني يريد بيان الجواز فيكون الوضوء على طهر مندوبا فقط لا واجبا. والوجه مأخوذ من المواجهة، وهي تقع بما كان من مبدأ سطح الجبهة إلى منتهى الذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا، فيجب غسل كل ما في هذه الدائرة فإن كان له لحية خفيفة وجب غسل الشعر والبشرة التي تحته، وإن كانت غزيرة وجب غسل ظاهرها فقط، ولكن لا يجب إيصال الماء إلى داخل العين لما في التزامه من الحرج، وقد قال تعالى في آخر الآية: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ. وأما الفم والأنف فأخذ حكمهما من دليل آخر. و (إلى) في قوله: إِلَى الْمَرافِقِ وإِلَى الْكَعْبَيْنِ تدل على أن ما بعدها غاية لما قبلها فقط، وأما دخول الغاية في الحكم أو خروجها عنه فلا دلالة لها عليه، وإنما هو

_ (1) رواه أبو داود في السنن (1/ 37) ، كتاب الطهارة باب الرجل يجدد الوضوء حديث رقم (62) ، والترمذي في الجامع الصحيح (1/ 87) ، كتاب الطهارة باب من جاء في الوضوء حديث رقم (59) . (2) رواه مسلم في الصحيح (1/ 232) ، 2- كتاب الطهارة، 25- باب جواز الصلوات حديث رقم (86/ 277) .

أمر يدور مع الدليل الخارجي، ففي مثل قولنا حفظت القرآن من أوله إلى آخره، وقوله تعالى: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء: 1] ما بعد (إلى) داخل في حكم ما قبلها، لأنّ الغرض في المثال الأول للدلالة على حفظ كل القرآن، وللعلم العادي في المثال الثاني بأنه عليه الصلاة والسلام لا يسرى به وهو زعيم ديني من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى- وهو من أعظم بيوت العبادة- من غير أن يدخله ويتعبد فيه. وفي مثل قوله تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة: 280] وقوله: أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] ما بعد (إلى) غير داخل في حكم ما قبلها، لأنّ الإعسار في المثال الأول علة في الإنظار، وبالميسرة تزول العلة، فيطالب بالدين، ولا يثبت الإنظار معها، ولأنه في المثال الثاني لو دخل الليل في حكم الصيام للزم الوصال، وهو غير مشروع في حقنا، وقوله: إِلَى الْمَرافِقِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ لا دليل فيه على أحد الأمرين، فقال الجمهور: بوجوب غسل المرفقين والكعبين احتياطا في العبادات، خصوصا إذا لوحظ أن الأيدي والأرجل تتناول في الاستعمال المرفقين والكعبين وما وراءهما، فيكون ذكرهما لإسقاط ما وراءهما لا غير، فيجب غسل المرفقين والكعبين لذلك، وهو مذهب الحنفية والشافعية. وقال زفر من الحنفية: لا يجب غسلهما لأنّ (إلى) لانتهاء الغاية، وما يجعل غاية للحكم يكون خارجا عنه. وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ اتفق الفقهاء على أنّ مسح الرأس من فرائض الوضوء، ولكنهم اختلفوا في مقدار المسح، فقال المالكية: يجب مسح الكل أخذا بالاحتياط. وقال الشافعية: يكفي مسح أقل ما يطلق عليه اسم المسح أخذا باليقين. وقال الحنفية: يفترض مسح ربع الرأس أخذا ببيان النبي صلّى الله عليه وسلّم كما روي عن المغيرة بن شعبة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان في سفر، فنزل لحاجته، ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته «1» . ومنشأ الخلاف هنا اعتبار الباء في قوله: بِرُؤُسِكُمْ زائدة أو أصلية فقال المالكية والحنابلة، إن الباء كما تكون أصلية تكون زائدة لتقوية تعلق العامل بالمعمول، واعتبارها هنا زائدة أولى، لأنّ التركيب حينئذ يدل على وجوب مسح كل الرأس، والبعض داخل فيه، فيكون ماسح الكل آتيا بالفرص بيقين، فيجب مسح الكل احتياطا. وقال الحنفية والشافعية: إنّ هذه الأدوات التي منها الباء موضوعة للدلالة على معان، فمتى أمكن استعمالها دالة على هذه المعاني وجب استعمالها على هذا النحو. والباء موضوعة للتبعيض، ويمكن استعمالها هنا فيه، فإننا نجد فرقا في المعنى

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 230) ، 2- كتاب الطهارة، 23- باب المسح على الناصية حديث رقم (83/ 273) .

بين وجودها في مثل هذا التركيب وعدم وجودها، لأنّك إذا قلت مسحت يدي بالحائط كان المفهوم مسح اليد ببعض الحائط لا بجميعه، وإذا قلت مسحت الحائط بيدي كان المفهوم مسح جميع الحائط، ومتى ظهر الفرق بين إدخال الباء وبين إسقاطها وجب أن يحمل قوله: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ على بعض الرأس وفاء بحق الحرف. إلا أن الحنفية استندوا في تقدير البعض بثلاث أصابع على رأي، وبربع الرأس على رأي آخر إلى ما رواه المغيرة بن شعبة كما تقدم. وأما الشافعية فقالوا: إن أقل ما ينطبق عليه اسم المسح داخل بيقين، وما عداه لا يقين فيه، فلا يكون فرضا. وقوله: وَأَرْجُلَكُمْ بالنصب معطوف على وجوهكم، فيجب غسل الأرجل إلى الكعبين، يؤيّد ذلك عمل النبي صلّى الله عليه وسلّم وعمل أصحابه في حياته وبعد مماته، فكان الحكم مجمعا عليه. وأما قراءة الجر فمحمولة على الجوار، كما في قوله في سورة هود إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود: 26] بجر الميم لمجاورة يوم المجرور، وفائدة الجر للجوار هنا في قوله: وَأَرْجُلَكُمْ التنبيه على أنه ينبغي الاقتصاد في صب الماء على الأرجل، وخص الأرجل بذلك لأنها مظنة الإسراف، لما يعلق بها من الأدران. والكعبان تثنية الكعب، وهو العظم الناتئ بين الساق والقدم، ولكل رجل كعبان يجب غسلهما. وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا أصل الفعل تطهّروا، أدغمت التاء في الطاء فسكنت، فأتى بالهمزة، أي فاغسلوا بالماء أبدانكم جميعها، فإنّ الأمر بالتطهير لما لم يتعلق بعضو دون عضو كان أمرا بتحصيل الطهارة في كل البدن، يدل على ذلك أنّ الوضوء لما تعلّق بعضو دون عضو نص الله تعالى في الأمر به على تلك الأعضاء التي أوجب غسلها، وإنما حملت الطهارة بالماء لأنّ الماء هو الأصل فيها، كما يشير قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: 11] . والجنابة معنى شرعي يستلزم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد إلى أن يغتسل الجنب. وقد بيّن النبي صلّى الله عليه وسلّم لحصول الجنابة سببين: الأول: نزول المني، فإنه عليه الصلاة والسلام يقول في هذا الشأن «الماء من الماء» «1» أي يجب استعمال الماء للغسل من أجل الماء، أي المني.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 269) ، 3- كتاب الحيض، 21- باب إنّما الماء من الماء حديث رقم (80/ 343) .

والثاني: التقاء الختانين، فإنه عليه الصلاة والسلام يقول: «إذا التقى الختانان وجب الغسل» «1» . وكما يجب الغسل للجنابة يجب عند انقطاع حيض ونفاس، لقوله تعالى في الحيض: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة: 222] ولحديث فاطمة بنت أبي حبيش أنه عليه الصلاة والسلام قال لها: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي» رواه البخاري «2» . وللإجماع على أن النفاس كالحيض. واختلف الفقهاء في المضمضة والاستنشاق في الغسل، فقال المالكية والشافعية: لا يجبان فيه، وقال الحنفية والحنابلة: يجبان. حجة المالكية والشافعية: ما ورد من أنّ قوما كانوا يتحدثون في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمر الغسل وكلّ يبين ما يعمل، فقال عليه الصلاة والسلام: «أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات، فإذا أنا قد طهرت» «3» . وحجة الحنفية والحنابلة أنّ الأمر بالتطهير يعمّ جميع أجزاء البدن الظاهرة والباطنة، ولكنّ الباطنة التي لا يمكن غسلها سقطت للحرج، فبقيت الطهارة متعلقة بالظاهرة والباطنة التي يمكن غسلها، وهي الفم والأنف، فكانت المضمضة والاستنشاق من الواجبات في الغسل، وأيضا رأينا أنه تعلقت بهما أحكام تدلّ على اعتبارهما من الأعضاء الظاهرة، وأحكام تدلّ على اعتبارهما من الأعضاء الباطنة، فمن الأول ما قالوه من أنه إذا تمضمض الصائم أو استنشق لا يفسد صومه، وهو دليل اعتبارهما من الظاهرة، ومن الثاني ما قالوه من أنّه إذا خرج القيء من الجوف إلى الفم ثم عاد، لا يفسد صومه وهو دليل اعتبارهما من الباطنة، وحيث اجتمع فيه شبه الأعضاء الظاهرة والباطنة كان الاحتياط في باب الطهارات في وجوب غسلهما. وأجيب عما تمسك به المالكية والشافعية بأن الغرض من الحديث بيان أنّه لا يجب الوضوء بعد الغسل كما فهم ذلك كثير من الصحابة فبيّن عليه الصلاة والسلام أنّ الواجب الغسل فقط، وأنّ الطهارة الصغرى تدخل في الطهارة الكبرى. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ.

_ (1) رواه أحمد في المسند (6/ 229) . (2) رواه البخاري في الصحيح (1/ 91) ، 60- كتاب الحيض، 9- باب الاستحاضة حديث رقم (306) . (3) رواه مسلم (بلفظ مختلف) في الصحيح (1/ 258) ، 3- كتاب الحيض، 11- باب استحباب الإفاضة، حديث رقم (54/ 327) . [.....]

بعد أن بيّن الله تعالى وجوب استعمال الماء في الوضوء والغسل عند إرادة الصلاة بيّن هنا أنّ وجوب استعمال الماء مقيّد بأمرين: الأول: وجود الماء. والثاني: القدرة على استعماله من غير ضرر. أما إذا انعدم الماء أو وجد ولكنّ مريد الصلاة مريض يضره الماء، فالوجوب ينتقل من استعمال الماء إلى التيمم في حالتي الحدث الأصغر والأكبر. فالتيمم رخصة مبنية على أعذار العباد، وهو حكم سقط به حكم آخر هو وجوب استعمال الماء لعذر، وهو عدم القدرة على استعمال الماء، فهو رخصة إسقاط في المحل، لاقتصاره على الوجه واليدين، وفي الآلة لقيامة مقام الماء عند عدم القدرة على استعمال الماء. وظاهر النص جواز التيمم للمريض مطلقا، ولكنّه مقيّد بمن يضره الماء، كما روي عن ابن عباس وجماعة من التابعين من أنّ المراد بالمريض المجدور، ومن يضره الماء كما تقدم في سورة النساء، ولذلك رأى الفقهاء أنّ المرض أنواع: الأول: ما يؤدي استعمال الماء فيه إلى التلف في النفس أو العضو بغلبة الظن، أو بإخبار الطبيب المسلم الحاذق، وفي هذه الحالة يجوز التيمم باتفاق. والثاني: ما يؤدي استعمال الماء معه إلى زيادة العلة، أو بطء المرض، وفي هذه الحالة يجوز التيمم عند الحنفية والمالكية، وهو أصح قولي الشافعي لما روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر في رأسه فشجّه، ثم احتلم، فخاف من زيادة العلة إن استعمل الماء، فقال لأصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على استعمال الماء. فاغتسل، ثم ازدادت علته ومات، فلما قدمنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علم بما حصل فقال عليه الصلاة والسلام: «قتلوه، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العيّ السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم» «1» . الثالث: ما لا يخاف معه تلفا ولا بطأ، ولا زيادة في العلة من استعمال الماء، وفي هذه الحالة لا يجوز التيمم عند الحنفية والشافعية، لأنّه لم يخرج عن كونه قادرا على استعمال الماء، فلا يرخّص له في التيمم وعند المالكية يجوز التيمم لإطلاق النص. الرابع: أن يكون المرض حاصلا لبعض الأعضاء، فإن كان الأكثر صحيحا وجب غسل الصحيح ومسح الجريح، ولا يجوز التيمم، وإن كان الأكثر جريحا يجوز التيمم، وهذا مذهب الحنفية. وعند الشافعية: يغسل الصحيح، ثم يتيمم مطلقا. وعند المالكية: جاز له التيمم مطلقا.

_ (1) رواه أبو داود في السنن (1/ 141) ، كتاب الطهارة، باب المجروح يتيمم حديث رقم (336) .

ومن ذلك يتبيّن أن المريض يترخّص بالتيمم، ولو كان الماء موجودا، بخلاف المسافر كما سيأتي، فإنّ ترخّصه مقيّد بعدم الماء. وقوله: أَوْ عَلى سَفَرٍ وإن كنتم مستقرين على سفر لا تجدون معه الماء وكنتم محدثين فَتَيَمَّمُوا أي فيلزمكم التيمم إلخ. وليس المراد سفر القصر وإنما المراد السير خارج العمران، سواء وصل إلى مسافة القصر أم لا، بخلافه في قوله تعالى في سورة البقرة فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184] فإنّ المراد به سفر القصر. وإنما قيد الأمر هنا بالسفر مع أن المنظور إليه عدم الماء، لأنّ السفر هو الذي يغلب فيه عدم الماء، بخلاف الحضر، ولو فرض عدم الماء في الحضر وجب التيمم على المحدث عند إرادة الصلاة عند الحنفية والمالكية والشافعية. أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ وتقدم في [النساء: 43] أنّ هذه كناية في قضاء الحاجة، وكل ما يخرج من السبيلين ملحق بقضاء الحاجة بدلالة الأحاديث الواردة عليه، و (أو) هذه بمعنى الواو، فإنّ الأمر بالتيمم للوجوب، ولا يجب التيمم في المرض أو السفر إلا عند الحدث مع إرادة الصلاة أو وجوبها، ولأنها إذا لم تكن بمعنى الواو لزم أن تكون قسما ثالثا مغايرا للمريض والمسافر، فلا يكون وجوب الطهارة عليهما متعلقا بالحدث، مع أنّ الوجوب لا يتعلق بهما إلا إذا كانا محدثين، فوجب أن تكون (أو) بمعنى الواو، ولذلك نظائر كما تقدم. أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ تقدم الكلام على تفسير هذه الجملة مستوفى [النساء: 43] وملخّصة أنّ الملامسة هنا يحتمل أن يراد بها الجماع، كما تأولها علي وابن عباس وغيرهما من السلف، وكانوا لا يوجبون الوضوء على من مسّ امرأة باليد، ويحتمل أن يراد بها المس باليد، كما تأولها بذلك عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود من السلف، وكانا يوجبان الوضوء على من مس امرأة باليد، وقد تقدّم ترجيح القول بأن المراد بها الجماع، كما تقدم تفصيل الخلاف بين الفقهاء في ذلك أيضا. فَلَمْ تَجِدُوا ماءً المراد بعدم وجدان الماء عدم القدرة على استعماله، سواء كان لعدم وجوده، كما في السفر، أو للضرر الذي يخشى من استعماله كما في حالة المرض، أو لمانع يمنع من استعماله كما إذا وجد الماء، ولكنه يخاف عطشا أو سبعا، أو وجده بأكثر من قيمته، فمثل هذا لا يعد واجدا للماء عند الحنفية والمالكية والشافعية. وقد وقع الخلاف بين الأئمة في المراد من وجود الماء الذي يمنع من التيمم، فقال المالكية: المراد بوجود الماء الوجود الحكمي، بمعنى أن الشخص يتمكن شرعا من استعماله من غير ضرر، والحنفية يقولون بالمراد الوجود الحسي، بمعنى أنه يتمكن

تمكنا حسيا من استعماله من غير ضرر، وينبني على هذا الخلاف أنّ من وجد الماء وهو في الصلاة يتمادى ولا يقطع الصلاة عند المالكية، لأنه لا يتمكن شرعا من استعماله من غير إبطال الصلاة، وهو لا يجوز له أن يبطل الصلاة، وعند الحنفية يبطل تيممه، فتبطل الصلاة ويجب استعمال الماء. وإطلاق الماء يدل على عدم جواز التيمم عند وجود الماء الذي تغيّر بطول المكث، فإنه لم يخرج عن أنه ماء. والمراد لم تجدوا ماء كافيا للوضوء أو للغسل، فلو وجد ماء كافيا لبعض الوضوء أو للغسل يتيمم عند الحنفية والمالكية، ولا يستعمل الماء في شيء من أعضائه. وعند الشافعية والحنابلة: يستعمل الماء في بعض الأعضاء، ثم يتيمم، لأنه لا يعدّ فاقدا للماء مع وجود هذا القدر. فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ تقدّم أنّ الصعيد: هو التراب على القول المختار الظاهر. والتيمم المطلوب شرعا هو استعمال الصعيد في عضوين مخصوصين على قصد التطهير، والعضوان هما: الوجه واليدان إلى المرفقين عند الحنفية، وهو أرجح القولين عند الشافعية وإلى الرسغين عند المالكية والحنابلة. وحجة الحنفية أن الأيدي في قوله: وَأَيْدِيَكُمْ تشمل العضو كله إلا أنّ التيمم بدل عن الوضوء، والبدل لا يخالف الأصل إلا بدليل، وقد جعل المرفق غاية في الأصل، فليكن غاية في البدل بدلالة النص، وأنه روى جابر بن عبد الله أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «التيمم ضربتان، ضربة للوجه، وضربة للذّراعين إلى المرفقين» . وكان مقتضى التعبير بالباء في قوله: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ جواز مسح بعض الوجه كما سبق مثله في وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ إلا أن الحنفية والشافعية أوجبوا الاستيعاب لما روي عن عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله أنهما حكيا تيممه عليه الصلاة والسلام، وفيه استيعاب الوجه واليدين إلى المرفقين، ولأنّ التيمم بدل عن الوضوء، والاستيعاب في الأصل واجب، فيكون البدل كذلك ما لم يدل دليل على خلافه، ولم يوجد. واختلف الفقهاء في لزوم إيصال التراب إلى الوجه واليدين وعدمه، فقال الحنفية والمالكية: لا يلزم، وقال الشافعية: يلزم، وسبب اختلافهم الاشتراك الواقع في حرف (من) في قوله: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ فإنّها ترد للتبعيض، وترد للابتداء، وتمييز الجنس، فرجّح الشافعية حملها على التبعيض من جهة قياس التيمم على الوضوء، وفي الوضوء يجب استعمال بعض الماء، فيجب في التيمم استعمال بعض التراب.

وهاهنا أمور

ورجح الحنفية والمالكية حملها على الابتداء، وتمييز الجنس، لما ورد في الأحاديث الكثيرة التي ترشد إلى آداب التيمم من أنّ المتيمم ينفض يديه، ليتناثر التراب، فيمسح وجهه ويديه من غير تلويث، ولما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام تيمم على حائط بضربتين للوجه واليدين «1» والظاهر أنه لا يعلق على يديه شيء من التراب. ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ. الحرج: الضيق، ولما بيّن الله تعالى فيما سبق أنه متى لم يتمكن المتطهر من استعمال الماء جاز له أن يتيمم، وكان في هذا تيسير عظيم على المسلمين، أعقبه بهذه الآية ليدل على فضله تعالى وعظيم إحسانه بطريق الصراحة، والمعنى أنّ الله وسّع عليكم فأمركم بالطهارة بالماء عند وجوده، وبالطهارة بالتراب عند عدمه، لأنّه تعالى لم يرد أن يضيّق عليكم بالتزام حال واحدة في حال اليسر والعسر، وَلكِنْ يُرِيدُ هذه التكاليف لِيُطَهِّرَكُمْ من الأدران، وينظفكم من الضعف والكسل والفتور الذي يعتري الجسم من حين لآخر، كالذي يكون عند القيام من النوم، وعند اندفاع الخبث وسيلان الدم والقيء، وما أشبه ذلك. وينظفكم أيضا من الأدران النفسية، كالتمرد وعدم الامتثال، فإنّ المتمرد ربما يزعم أنّ أعضاء الوضوء مثلا نظيفة لم تصب بشيء من النجاسات، أو أنّ التراب لم يخلق مطهّرا، وإنما خلقه الله ملوّثا، فلا ينقاد لهذه الأوامر. أما الذي يشعر بالعبودية، ويستحضر جلال الله تعالى فلا يسعه عند عدم إدراك حكمة التشريع إلا الانقياد والامتثال لأمره تعالى. فإنّ الله يريد هذه التكاليف ليطهركم من الأدناس الحسية والمعنوية. وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ باليسر في الدين، وبإرشادكم إلى التمتع بنعمة الأعمال الدينية بعد إرشادكم إلى التمتع بنعمة الدنيا بإباحة الطيبات من المطاعم والمناكح لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي كي تشكروه لإنعامه عليكم، فلعل للتعليل، أو المعنى ليتم نعمته عليكم حال كونكم متلبسين بحالة ترجون معها شكر الله تعالى، فتكون (لعل) للترجي الواقع من المخاطبين. وهاهنا أمور الأول: يؤخذ من الآية أن الطهارة شرط لصحة الصلاة، لأنّه تعالى أوجب الطهارة بالماء عند إرادة الصلاة، وبيّن أنه إذا انعدم الماء وجب التيمم، فدل ذلك على أن المأمور به أداء الصلاة مع الطهارة، فأداؤها دون الطهارة لا يكون أداء للمأمور به، فلا يسقط الفرض به، فتكون الطهارة شرطا لصحة الصلاة.

_ (1) رواه مسلم (بلفظ مختلف) (1/ 281) ، 3- كتاب الحيض، 28- باب التيمم حديث رقم (114/ 369) ، وأبو داود في السنن (1/ 138) ، كتاب الطهارة، باب التيمم حديث رقم (330) .

الثاني: التيمم بدل عن الوضوء في الحدث الأصغر باتفاق، وأما كونه بدلا عن الغسل في الحدث الأكبر فهو محل خلاف بين السلف، فالمروي عن عليّ وابن عباس والحسن وأبي موسى والشعبي، وهو قول أكثر الفقهاء أنه بدل عنه أيضا، فيجوز التيمم لرفع الحدث الأكبر. والمرويّ عن عمر وابن مسعود أنه ليس بدلا عن الغسل، فلا يجوز التيمم له لرفع الحدث الأكبر. الثالث: يؤخذ من الآية أنّ الطهارة لا تجب إلا عند الحدث، لأنها تضمنت أن التيمم بدل عن الوضوء والغسل، وقد أوجبه الله على مريد الصلاة متى جاء من الغائط، أو لامس النساء، ولم يجد الماء، وهو يدلّ على أن الطهارة بالماء واجبة على مريد الصلاة متى جاء من الغائط أو لامس النساء أيضا، لأنّ البدل لا يخالف الأصل إلا بدليل، ولم يوجد فلا تجب الطهارة إلا عند الحدث. ودلت الآثار الصحيحة على أنّ الريح والمذي والودي ينقض الوضوء كالبول والغائط. قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) لما ذكر الله فيما سبق التكاليف التي كلّف بها المؤمنين أردفه بما يوجب عليهم القبول والثبات، عليه، وهو منحصر بحسب ما ذكره في أمرين: الأول: نعمة الله عليهم. والثاني: الميثاق الذي أخذ عليهم بالسمع والطاعة لكل ما يلقى عليهم، والتزموا قبوله والعمل به. أما الأول: فلأنّ الإنعام يوجب على المنعم عليه تعظيم المنعم، وإجلاله، والتودد إليه بفعل ما يرضيه، واجتناب ما يغضبه، خصوصا إذا كان الإنعام وافرا، والإحسان جما. وإنما وحّد النعم ليشير إلى أنّ التأمل في جنس النعم كالنظر إلى الحياة والصحة والعقل والهداية وحسن التدبير والصون عن الآفات والعاهات، فجنس هذه النعم لا يقدر عليه غير الله تعالى، فيكون وجوب الاشتغال بشكرها أتم وأكمل. وإنما قال: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ وهو يشعر بنسيانها، مع أن مثلها لا ينسى، خصوصا إذا لوحظ أنها متواترة في جميع الأزمان، للإشارة إلى أنه لكثرة هذه النعم وتعاقبها صارت كالأمر المعتاد الذي لكثرة وجوده قد يغفل المرء عنه.

الأحكام

وأما الثاني: فالظاهر أن المراد بالميثاق المواثيق التي جرت بينه عليه السلام وبين المؤمنين ليكونوا على السمع والطاعة في المحبوب والمكروه، مثل مبايعته الأنصار ليلة العقبة، ومبايعته عامة المؤمنين تحت الشجرة، وهي بيعة الرضوان، وغيرهما من المواثيق التي أعطى فيها المؤمنون العهد بالسمع والطاعة في حالتي اليسر والعسر، وإنما أضيف الميثاق إليه تعالى مع أنه كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لأنّ الله تعالى هو المرجع، كما أشير إلى ذلك بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] وبقوله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] . ثم إنّه تعالى أكد على المؤمنين وجوب العمل بهذه المواثيق، فذكّرهم بأنهم التزموها وقبلوها، وقالوا: سمعنا وأطعنا، ثم حذرهم من نقضها ونسيان النعم بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي اتخذوا وقاية من عذاب الله الذي أعدّه لمن نقض العهد أو جحد النعم ولم يشكر الله عليها إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بخفيات الأمور الكامنة في الصدور، المستقرة فيها استقرارا يصحح إطلاق اسم الصاحب عليها، وكما يعلم الله خفيات الأمور يعلم جليات الأمور من باب أولى، وهذه الجملة تعليل لقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ. الأحكام يؤخذ من الآية ما يأتي: 1- وجوب تذكّر نعم الله التي يتمتع بها المرء مع اعتقاد أنها بتيسير الله ومحض إحسانه، لينشط في واجب الشكر عليها. 2- وجوب الوفاء بالعهود والمواثيق التي يفيد تنفيذها في الصالح العام وخير المجتمع. 3- وجوب تقوى الله فيما أمر به ونهى عنه. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) لما ذكر الله تعالى المؤمنين في الآية السابقة بما يوجب عليهم الانقياد لأوامره ونواهيه أقبل عليهم يخاطبهم، ويطالبهم بالانقياد لتكاليفه، سواء منها ما تعلق بجانبه تعالى وما تعلق بجانب عباده فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ أي قوموا قياما كثير العد لله تعالى بالحق في كل ما يلزمكم القيام به من الأمر بالمعروف والعمل به، والنهي عن المنكر واجتنابه. وكونوا شُهَداءَ بِالْقِسْطِ أي أدوا الشهادات في حقوق الناس بالعدل كما في قوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ أي شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [النساء: 135] .

الأحكام

وقيل: المراد الشهادة على الناس بمعاصيهم يوم القيامة كما في قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] أي كونوا من أهل العدالة الذين حكم الله بأنهم يكونون شهداء على الناس يوم القيامة وقيل المراد الشهادة لأمر الله بأنّه الحق، والظاهر الأول، وإن كان الثاني أنسب بكون الآية نزلت في يهود بني النضير، ومعنى كونه يشهد لله أنه لا يحابي بشهادته أهل وده وقرابته، ولا يمنع شهادته عن أعدائه وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا أي لا يحملنّكم بغض قوم على أن تجوروا عليهم في معاملتهم، وأن تظلموهم في محاكمتكم لهم، وأن تعتدوا عليهم في أنفسهم وأولادهم. قيل: نزلت هذه الآية في يهود بني النضير حين ائتمروا على الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأوحى الله إليه بذلك، ونجّاه من كيدهم، فأرسل عليه الصلاة والسلام إليهم يأمرهم بالرحيل من جوار المدينة، فامتنعوا وتحصنوا بحصونهم، فخرج عليه الصلاة والسلام إليهم بجمع من أصحابه، وحاصرهم ستّ ليال، اشتد الأمر فيها عليهم، فسألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يكتفي منهم بالجلاء، وأن يكفّ عن دمائهم، وأن يكون لهم ما حملت الإبل. وكان البعض من المؤمنين يرى لو يمثل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بهم، ويكثر من الفتك فيهم فنزلت الآية لنهيهم عن الإفراط في المعاملة بالتمثيل والتشويه، فقبل النبي عليه الصلاة والسلام من اليهود ما اقترحوه «1» . وقيل: نزلت في المشركين الذين صدوا المسلمين عن المسجد الحرام عام الحديبية، كأنه تعالى أعاد النهي هنا ليخفّف من حدة المسلمين ورغبتهم في الفتك بالمشركين بأيّ نوع من أنواع الفتك. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى نهاهم أولا عن أن تحملهم البغضاء على ترك العدل، ثم صرّح لهم بالأمر بالعدل، للتأكيد، ثم ذكر علة الأمر بالعدل بقوله: هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي العدل في معاملة الأعداء أقرب إلى اتقاء المعاصي على الوجه العام، أو المعنى: أن العدل في معاملة الأعداء أقرب إلى اتقاء عذاب الله على الوجه العام أيضا، وبه يندفع ما قد يقال: إن العدل من التقوى، فكيف يقال هو أقرب للتقوى. ثم أمر بالتقوى على الوجه العام فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي اتخذوا وقاية من عذابه في جميع أعمالكم، فإنّ الله خبير بما تعملون، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم. الأحكام يؤخذ من الآية ما يأتي: 1- وجوب القيام لله تعالى بكل التكاليف التي وجهها إلينا.

_ (1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (6/ 91) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 33 إلى 35]

2- وجوب أداء الشهادات على وجهها من غير محاباة ولا ظلم. 3- وجوب العدل في معاملة الأعداء والأحباب. 4- وجوب تقوى الله على الوجه العام. قال الله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) نص الله تعالى في الآية السابقة على تغليظ الإثم في قتل النفس بغير قتل نفس ولا فساد في الأرض حيث قال: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وبيّن في هذه الآية أنّ الفساد الذي يوجب القتل ما هو؟ فإن بعض ما يكون فسادا في الأرض لا يوجب القتل كشهادة الزور والسرقات وهتك الأعراض من غير المحصن، فقال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ إلخ. نزلت هذه الآية في قطّاع الطريق لا في المشركين ولا في المرتدين، فإنّ كلّا منهما إذا تاب قبلت توبته، سواء أكانت التوبة قبل القدرة عليهم أم بعدها، أمّا قطّاع الطريق فيسقط عنهم الحد إذا تابوا قبل القدرة عليهم، ولا يسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم. قيل: نزلت في قوم هلال بن عويمر الأسلمي، وكان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد على أنه لا يعينه ولا يعين عليه، وأنه إن أتاه أحد من المسلمين أو مرّ عليه من يقصد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يتعرض له بسوء، فمر قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بقوم من بني هلال، وكان هلال غائبا، فقطعوا عليهم الطريق، وقتلوا منهم، وأخذوا أموالهم. وقيل: نزلت في قوم من أهل الكتاب بينهم وبين رسول الله عهد، فنقضوا العهد، وقطعوا الطريق على المسلمين. وعلى كلّ فقوله: يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يتناول كلّ من اتصف بهذه الصفة سواء أكان كافرا أم مسلما، غاية الأمر أن يقال: إنّ الآية نزلت في الكفار، ولكنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومحاربة الناس لله على وجه الحقيقة غير ممكنة، لتنزهه عن أن يكون من الجواهر والأجسام التي تقاتل أو تقاتل، ولأنّ المحاربة تستلزم أن يكون كلّ من المتحاربين في جهة ومكان، والله منزّه عن ذلك، فيكون مجازا، إما من المخالفة والإغضاب مع التلبس بحالة تشبه حالة المحاربين، فإنّ قطّاع الطريق يخرجون ممتنعين مجاهرين بإظهار السلاح وقطع الطريق، أو المعنى يحاربون أولياء الله

ورسوله، فيكون نظير قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 57] . والمحاربون هم الذين يجتمعون بقوة وشوكة يحمي بعضهم بعضا، ويقصدون المسلمين، أو أهل الذمة في أرواحهم وأموالهم. والسعي في الأرض بالفساد عبارة عن إخافة الطرق بحمل السلاح، وإزعاج الناس، سواء أصحبه قتل النفوس وأخذ الأموال أم لا. واتفق العلماء على أنّ هذه الحالة إذا حصلت في الصحراء كانوا قطّاع الطريق، وأما إذا حصلت في المصر ففيها الخلاف، فقال أبو حنيفة: لا يكون قاطعا للطريق، لأنّ المجني عليه يلحقه الغوث في الغالب، فلا يتمكن المجتمعون من المقاتلة، وروي عن مالك أنه لا يكون محاربا حتى يقطع على ثلاثة أميال من القرية، وروي عنه أيضا إذا كابر في المصر باللصوصية كان محاربا، تجري عليه أحكام قطاع الطريق، وهو مذهب الإمام الشافعي، لإطلاق قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلخ. واختلفوا في الحكم المستفاد من هذه الآية، فقال قوم من السلف: الآية تدل على التخيير بين هذه الأجزية، فمتى خرجوا لقطع الطريق وقدر عليهم الإمام خيّر بين أن يجري عليهم أيّ نوع من هذه الأحكام، وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن وعطاء بن أبي رباح وهو مذهب المالكية. وقال قوم آخرون من السلف: الآية تدل على ترتيب الأحكام وتوزيعها على ما يليق بها من الجنايات، فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطّعت يده ورجله من خلاف، ومن أخاف السّبل ولم يقتل ولم يأخذ مالا نفي من الأرض، وهو ما رواه عطاء عن ابن عباس، وذهب إليه قتادة والأوزاعي، وهو مذهب الشافعية والصاحبين من الحنفية وأكثر العلماء. وأبو حنيفة يحمل الآية على التخيير، لكن لا في مطلق المحارب، بل في محارب خاص، وهو الذي قتل النفس وأخذ المال، فالإمام مخيّر في أمور أربعة: إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم. وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم. وإن شاء صلبهم فقط. وإن شاء قتلهم فقط. ولا يجوز إفراد القطع في هذه الحالة، بل لا بدّ من انضمام القتل أو الصلب إليه، لأنّ الجناية قتل وأخذ مال، والقتل وحده فيه القتل، وأخذ المال وحده فيه القطع، ففيهما مع الإخافة والإزعاج لا يعقل القطع وحده، هذا مذهب الإمام أبي حنيفة. وقال صاحباه: في هذه الصورة يصلّبون ويقتلون ولا يقطعون، واتفق أبو حنيفة

مع أصحابه على أنهم إذا قتلوا فقط يقتلون، وإذا أخذوا المال فقط تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف لا غير، وإن أخافوا الطريق ولم يأخذوا مالا ولم يقتلوا نفسا ينفون من الأرض. حجة المالكية ظاهر الآية، فإنّ الله تعالى ذكر هذه الأجزية بكلمة (أو) وهي موضوعة للتخيير، كما في كفارة اليمين، وكفارة جزاء الصيد، فيجب العمل بحقيقة هذا الحرف ما لم يدل الدليل على خلافه، ولم يوجد، فيثبت التخيير. حجة الشافعية والصاحبين وأكثر العلماء: أنّ الآية لا يمكن إجراؤهما على ظاهر التخيير في مطلق المحارب لأمرين: الأول: أن العقل يقضي أن يكون الجزاء مناسبا للجناية، يزداد بازديادها، وينقص بنقصها، وقد وردت الشريعة بهذا الذي يراه العقل حيث قال تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] فالتخيير في جزاء الجناية القاصرة بما يشمل جزاء الجناية الكاملة، وفي الجناية الكاملة بما يشمل جزاء القاصرة خلاف المشروع، يؤيّد هذا إجماع الأمة على أنّ قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال لا يكون جزاؤهم المعقول النفي وحده، وهو يدل على أنّه لا يمكن العمل بظاهر التخيير. والثاني: أن التخيير الوارد في الأحكام المختلفة بحرف التخيير إنما يجري على ظاهره إذا كان سبب الوجوب واحدا، كما في كفارة اليمين، وكفارة جزاء الصيد، أما إذا كان السبب مختلفا، فإنّه يخرج التخيير عن ظاهره، ويكون الغرض بيان الحكم لكل واحد في نفسه، وقطع الطريق متنوع، وبين أنواعه تفاوت في الجريمة، فقد يكون بأخذ المال فقط، وقد يكون بالقتل لا غير، وقد يكون بالجمع بين الأمرين، وقد يكون بالتخويف لا غير، فكان سبب العقاب مختلفا، فلا يحمل ظاهر النص على التخيير، بل يحمل على بيان الحكم لكل نوع، فيقتلون ويصلبون إن قتلوا وأخذوا، وتقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال لا غير، وينفون من الأرض إن أخافوا الطريق ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا. ونظير ذلك قوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً [الكهف: 86] فإنّه ليس الغرض التخيير، وإنما المعنى ليكن شأنك مع قومك تعذيب من جحد وظلم، والإحسان إلى من آمن وعمل صالحا، فلما اختلف السبب لم تحمل الآية على التخيير، بل على بيان الحكم لكل نوع. ويؤيد ما ذهب إليه أبو حنيفة أنّ الآية لا يمكن صرفها إلى ظاهر التخيير في مطلق المحارب، فإما أن تحمل على ترتيب الأحكام ويضمر في كل حكم ما يناسبه من الجنايات، وفيه إلغاء حرف التخيير بالمرة، وإما أن يعمل بظاهر التخيير بين

الأجزية الثلاثة، لكن لا في مطلق المحارب، بل في محارب خاص، وهو الذي قتل النفس وأخذ المال، وهذا هو الأقرب والأولى، لأن فيه عملا بحقيقة حرف التخيير، وبما هو المعقول المؤيد بما وردت به الشريعة. وقوله: وَيَسْعَوْنَ معطوف على يُحارِبُونَ وقوله: فَساداً حال من فاعل يَسْعَوْنَ بتأويله باسم الفاعل، أو هو مصدر مؤكّد ل يَسْعَوْنَ فإنّه بمعنى يفسدون إفسادا، فهو مصدر حذفت زوائده، أو هو اسم مصدر مؤكد. وقوله: أَنْ يُقَتَّلُوا خبر عن المبتدأ الذي هو (جزاء) والمراد يقتلون حدا، أي من غير صلب إن أفردوا القتل، ولا يسقط القتل حينئذ بعفو الأولياء، ولا فرق بين أن يكون القتل بآلة جارحة أو بغيرها، والإتيان بصيغة التفعيل لما في القتل هنا من الزيادة باعتبار أنه محتوم لا يسقط، ولو عفا الأولياء. وقوله: أَوْ يُصَلَّبُوا أي مع القتل إن قتلوا النفس وأخذوا المال. وقوله: أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أي إن أخذوا المال لا غير، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إن أخافوا الطريق، ولم يقتلوا نفسا، ولم يأخذوا مالا. وكيفية الصلب أن يصلب حيا على الطريق العام يوما واحدا، أو ثلاثة أيام لينزجر الأشقياء، ثم يطعن برمح حتى يموت، وهو مرويّ عن أبي يوسف، وذكره الكرخي أيضا. وقيل: يقتل ويصلّى عليه، ثم يصلب، وهو مذهب الشافعية، والنفي من الأرض هو الحبس عند الحنفية، والعرب تستعمل النفي بهذا المعنى كثيرا، لأنّ الشخص إذا نفي فارق بيته وأهله، فكأنّه نفي من الأرض، وقيل: النفي هو طلبهم عند الفرار، وعدم تمكينهم من الإقامة في مكان خاص، بمعنى أنه إذا طلبهم الإمام، فإن قدر عليهم أقام عليهم الحد، وإن هربوا طلبهم في البلدة التي ينزلون بها، فإن هربوا إلى بلدة أخرى طلبهم أيضا، وهكذا. وكيفية القطع أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، سواء أكانوا أخذوا المال من مسلم أم من ذمي، بشرط أن يكون المال بحيث لو قسم يخص كل واحد: قدر عشرة دراهم عند الحنفية، أو ربع دينار عند الشافعية كما في السرقة، ولم يعتبر الإمام مالك هذا الشرط، لأنّه يرى إجراء الحكم عليهم بأي نوع من أنواعه بمجرد الخروج، ولو لم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا. ذلِكَ الذي فصل من الأحكام لَهُمْ خِزْيٌ كائن فِي الدُّنْيا أي ذل وفضيحة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم جناياتهم، واقتصر في الدنيا على الخزي مع أنّ لهم فيها عذابا أيضا، وفي الآخرة على العذاب مع أن لهم فيها خزيا أيضا، لأن

الخزي في الدنيا أعظم من عذابها، والعذاب في الآخرة أشد من خزيها. ويؤخذ من الآية أن الحدود لا تسقط العقوبة في الآخرة حيث قال: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ فالحدود من الزواجر لا من الجوابر، كما هو صريح الآية، وقيل: إن الحدود تجبر الذنوب وتكفرها، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح «من أصاب من هذه المعاصي شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب منها شيئا فستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه» «1» . وأجيب عن الحديث بأن الآية قطعية فيجب أن يقيّد الحديث الذي هو ظني بما لا يتنافى مع الآية، وقد قالوا: يجب حمل الحديث على ما إذا تاب عن الذنب، فتوبته تكفّر إثم الجريمة، وإنما أضاف الكفارة إلى العقاب في الحديث باعتبار أنّ الظاهر أن من يقع في يد الحاكم، ويرى أنّ الحد واقع عليه لا محالة يندم على ما فعل، ويتوب منه، فيكفّر الله عنه إثم الجريمة، فيكون العقاب سببا في الكفارة بواسطة. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ استثناء لإخراج بعض ما تناول اللفظ، ولكنّه مخصوص بما هو من حقوق الله تعالى كما يدل عليه قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أما ما هو من حقوق الأولياء من قصاص أو مظلمة في مال أو غيره فهو ثابت لهم، إن شاؤوا عفوا، وإن شاؤوا استوفوا. والمراد أنّ التوبة قبل القدرة عليهم لا تسقط عنهم القتل حدا، الذي من آثاره أنه ينفّذ عليهم ولو عفا الأولياء، ولا تسقط عنهم القتل قصاصا، الذي أمره مفوّض إلى رأي الأولياء، إن شاؤوا عفوا، وإن شاؤوا استوفوا. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) سبق هذه الآية بيان خطر القتل والفساد وحكمهما، والإشارة إلى الغفران للتائبين، فكان من المناسب أن يأمر الله المؤمنين أن يتقوه في كل ما يأتون وما يذرون، فيتركوا المعاصي ومن جملتها القتل والفساد، ويفعلوا الطاعات ومنها السعي في إحياء النفوس، ودفع الفساد، والمسارعة إلى التوبة والاستغفار. فقال جلّ شأنه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ. ثم قال: وَابْتَغُوا أي اطلبوا لأنفسكم إِلَيْهِ أي إلى ثوابه ورضاه الْوَسِيلَةَ أي افعلوا الطاعات، واتركوا ما نهاكم عنه، فذلكم وحده هو الطريق

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (8/ 20) ، 86- كتاب الحدود، 9- باب الحدود حديث رقم (6784) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1333) ، 29- كتاب الحدود، 10- باب الحدود حديث رقم (41/ 1709) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 38 إلى 39]

المقرّبة من رضاه، الموصلة إلى ثوابه. والوسيلة فعلية بمعنى ما يتوسل به، أي يتقرب، وليست مصدرا، ولذا تعلّق بها ما قبلها، وهو (إليه) . قال العلامة أبو السعود «1» : ولعلّ المراد بها الاتقاء المأمور به، فإنّه ملاك الأمر كله، كما أشير إليه، وذريعة لنيل كل خير، ومنجاة من كل ضير. فالجملة حينئذ جارية مما قبلها مجرى البيان والتأكيد، أو مطلق الوسيلة وهو داخل فيها دخولا أولياء. وقيل: الجملة الأولى أمر بترك المعاصي، والثانية أمر بفعل الطاعات. ولما كان فعل الحسنات وترك السيئات شاقا على النفس الداعية إلى اللذات الحسية، المخالفة للعقل الداعي إلى الفضائل أردف الله تعالى هذا التكليف بقوله: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. قال الإمام فخر الدين «2» : وهذه الآية آية شريفة مشتملة على أسرار روحانية، ونحن نشير هاهنا إلى واحد منها، وهو: أن من يعبد الله تعالى فريقان: منهم من يعبد الله لا لغرض سوى الله، ومنهم من يعبده لغرض آخر، والمقام الأول هو المقام الشريف العالي، وإليه الإشارة بقوله: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ أي في سبيل عبوديته وطريق الإخلاص في معرفته وخدمته، والمقام الثاني دون الأول، وإليه الإشارة بقوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ والفلاح اسم جامع للخلاص من المكروه، والفوز بالمحبوب. قال الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أوجب الله تعالى في الآية السابقة قطع الأيدي والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة، وبيّن في هذه الآية أنّ أخذ المال على سبيل السرقة يوجب القطع أيضا، وإن كان بينهما اختلاف ما. قيل: نزلت هذه الآية في طعمة بن أبيرق حين سرق درع جار له، يدعى قتادة بن النعمان في جراب دقيق، به خرق، وخبأها عند زيد بن السمين اليهودي، فتناثر الدقيق من بيت قتادة إلى بيت زيد، فلما تنبه قتادة للسرقة التمسها عند طعمة فلم توجد، وحلف ما أخذها، وما له بها علم، ثم تنبهوا إلى الدقيق المتناثر، فتتبعوه حتى وصل إلى بيت زيد، فأخذوها منه، فقال: دفعها إليّ طعمة، وشهد ناس من اليهود بذلك، وهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجادل عن طعمة، لأنّ الدرع وجد عند غيره، فنزل قوله تعالى، وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ [النساء: 107] ثم نزلت هذه الآية لبيان حكم السرقة، وفرّ طعمة، ومات أثناء فراره.

_ (1) في تفسيره إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 32) . (2) في تفسيره مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (11/ 220) .

وَالسَّارِقُ مبتدأ خبره محذوف، والمعنى حكم السارق والسارقة مما يتلى عليكم، وقوله: فَاقْطَعُوا جملة مبينة لحكمهما، فهما جملتان، ويحتمل أن تكون جملة فَاقْطَعُوا خبرا عن المبتدأ، وحسّن اقترانها بالفاء أنّ الألف واللام في المبتدأ قائمة مقام الاسم الموصول، وخبره يقترن بالفاء كثيرا، خصوصا إذا روعي أنه جزاء، والجزاء يقترن بالفاء. ولما كانت السرقة معهودة كثيرا من النساء كالرجال صرّح بالسارقة للزجر، ومزيد العناية بالبيان، وإن كان المعهود إدراج النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال. والسرقة في اللغة: أخذ المال مطلقا في خفاء وحيلة، ولكنه ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما يبيّن أنّ قطع الأيدي لا يكون في مطلق السرقة، بل في سرقة شخص معيّن مقدارا معينا من حرز المثل، ولذلك عرف الفقهاء السرقة بأنها: أخذ العاقل البالغ مقدارا مخصوصا خفية من حرز بمكان، أو حافظ، ودون شبهة. أما العقل والبلوغ فلأنّ السرقة جناية، وهي لا تتحقق دونهما. وأما المقدار فقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعدا، أو قيمتها من غيرها، وروي عن الصاحبين أنه لا قطع إلا فيما يساوي عشرة دراهم مضروبة. وقال مالك والشافعي والأوزاعي: لا قطع إلا في ربع دينار. حجة الحنفية ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا قطع فيما دون عشرة دراهم» «1» . وما روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وابن عمر وأيمن الحبشي وأبي جعفر وعطاء وإبراهيم من أنهم كانوا يقولون: لا قطع إلا في عشرة دراهم. وحجة المالكية والشافعية: ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: «تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» وما روي عن عائشة أيضا من أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لا تقطع يد السّارق إلا في ربع دينار فصاعدا» «2» وهذا القول منقول عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. وإذا لوحظ أن الحدود تدرأ بالشبهات، وأنّ الاحتياط أمر لا يجوز الإغضاء عنه، وأنّ الحظر مقدّم على الإباحة أمكن ترجيح مذهب الحنفية، لأنّ المجنّ المسروق في عهده

_ (1) رواه النسائي في السنن (7- 8/ 455) ، كتاب قطع السارق حديث رقم (4956) . (2) رواه البخاري في الصحيح (8/ 21) ، 86- كتاب الحدود، 14- باب قول الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ حديث رقم (6789) .

عليه الصلاة والسلام الذي قطعت فيه يد السارق، وهو الأصل الذي تقطع في مثله يد السارق قدّره بعضهم بثلاثة دراهم، وبعضهم بأربعة، وبعضهم بخمسة، وبعضهم بربع دينار، وبعضهم بعشرة دراهم، والأخذ بالأكثر أرجح، لأنّ الأقل فيه شبهة عدم الجناية، والشبهة تدرأ الحدود، ولأنّ التقدير بالأقل يبيح الحد في أقل من العشرة، والتقدير بالعشرة يحظر الحد فيما هو أقل منها، والحاظر مقدّم على المبيح. فالاحتياط في عقوبة القطع يقضي بأنّ اليد لا تقطع إلا في سرقة عشرة دراهم فما فوقها. وأما اعتبار الحرز، فلما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن حريسة الجبل فقال: «فيها غرامة مثلها، وجلدات نكالا، فإذا آواها المراح، وبلغ ثمن المجن، ففيها القطع» «1» . ولما ورد من أنه عليه السلام قال: «ليس في الثمر المعلّق قطع حتى يؤويه الجرين، فإذا آواه الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن» «2» ومنه يعلم أنّ الإحراز شرط في القطع. والحرز قد يكون بما بني للسكنى وحفظ الأموال، ومثله المضارب والخيم والفسطاط مما يسكن الناس فيه، ويحفظون به أمتعتهم. وقد يكون الحرز بالحافظ في الصحراء والمساجد والرحاب والطرقات أما النوع الأول من الحرز فهو ظاهر، وأما الثاني فالأصل في كون الحافظ حرزا حديث صفوان بن أمية حين دخل المسجد ونام فيه، وتوسّد رداءه، فاستل اللص الرداء من تحت رأسه، واستيقظ صفوان، فأدرك اللص وساقه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأمر عليه الصلاة والسلام بقطعه، فقال صفوان: لم أرد هذا يا رسول الله، هو عليه صدقة. فقال عليه الصلاة والسلام: «فهلا قبل أن تأتيني به» «3» . وأما اعتبار عدم الشبهة، فلما روي واشتهر من قوله عليه الصلاة والسلام: «ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم» «4» . فلا يقطع من سرق من مال له فيه شركة أو سرق من مدينة مثل دينه، ولا يقطع

_ (1) رواه النسائي في السنن (7- 8/ 456) ، كتاب قطع السارق، باب التمر المعلق حديث رقم (4957) . (2) المرجع نفسه (4958) . (3) رواه أبو داود في السنن (4/ 128) ، كتاب الحدود، باب فيمن يسرق حديث رقم (4394) والنسائي في السنن (7- 8/ 438) ، كتاب السرقة، باب الرجل يتجاوز للسارق حديث رقم (4893) ، وابن ماجه في السنن (2/ 865) ، كتاب الحدود باب من سرق حديث رقم (2595) . (4) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (4/ 25) ، كتاب الحدود، باب ما جاء من درء الحدود حديث رقم (1424) .

العبد إذا سرق من مال سيده، ولا الأب من مال ابنه، وما أشبه ذلك لوجود الشبهة، ولا قطع معها. وتثبت السرقة بالإقرار مرّة، وبشهادة رجلين على السرقة للقطع، فإن شهد رجل وامرأتان على السرقة لا تقبل للقطع، ولكنّها تقبل لضمان المسروق، وهذا مذهب الحنفية والمالكية الشافعية. وإطلاق السارق يشمل الأحرار والعبيد، والذكور والإناث، والمسلمين والذميين. وفي قوله: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما مقابلة الجمع بالجمع، وهي تقتضي القسمة آحادا، فيدلّ التركيب على أنّ كل سارق تقطع منه يد واحدة، واليد التي تقطع هي اليمنى للإجماع على ذلك، ولقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (فاقطعوا أيمانهما) . واليد تطلق على العضو المخصوص إلى المنكب، وعلى هذا العضو إلى مفصل الكف، كما في قوله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [النمل: 12] والمراد ما كان إلى مفصل الكفّ، ولا خلاف بين السلف من الصدر الأول، ولا بين فقهاء الأمصار في أنّ قطع يد السارق يكون إلى مفصل الكفّ لا إلى المرفق ولا إلى المنكب، وقال الخوارج، تقطع إلى المنكب، وقال قوم: تقطع الأصابع فقط. حجة الجمهور ما رواه محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة رضي الله عنهم أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطع يد السارق من الرسغ ، وما روي عن علي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهما كانا يقطعان يد السارق من مفصل الرّسغ ، فكان هو المعوّل عليه. وإذا عاد السارق إلى السرقة ثانيا قطعت رجله اليسرى باتفاق الحنفية والمالكية والشافعية لما رواه ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قطع الرجل بعد اليد. ولما روي عن علي وعمر أن كلا منهما كان يقطع يد السارق اليمنى، ولما عاد السارق إلى السرقة قطع كل منهما رجله اليسرى ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكر على كل منهما أحد، فكان إجماعا. ولما رواه الدارقطني من أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذا سرق السارق فاقطعوا يده، ثم إن عاد فاقطعوا رجله» «1» .

_ (1) انظر نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي، كتاب السرقة، باب ما يقطع فيه وما لا يقطع (3/ 562) .

وإذا عاد إلى السرقة ثالثا وقف القطع عند الحنفية، فلا يقطع منه عضو بعد ذلك، ولكنّه يضمّن المسروق، ويعزّر بالحبس حتى تظهر توبته، لما روي عن علي بن أبي طالب أنه أتي بسارق للمرة الثالثة فقال: لا أقطع، إن قطعت يده فبأيّ شيء يأكل، وبأي شيء يستنجي، وإن قطعت رجله فبأيّ شيء يمشي، إني لأستحيي من الله، ثم ضربه بخشبة وحبسه «1» . وروي مثل ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعند المالكية والشافعية: تقطع يده اليسرى، وإن عاد إلى السرقة رابعا تقطع رجله اليمنى. وإذا كانت العين المسروقة قائمة، وردّت إلى مالكها، وقطعت يد السارق ثم عاد إلى سرقتها مرّة ثانية فلا يقطع فيها عند الحنفية، وأما المالكية والشافعية فيقولون بالقطع، وهو رواية عن أبي يوسف لإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام: «فإن عاد فاقطعوه» . تمسّك الحنفية بما يؤخذ من قوله عليه الصلاة والسلام: «لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه» «2» فإنّ عدم ضمان المال يدلّ على أنّ المال أصبح غير معصوم في حق السارق بعد قطع يده، لأنّه لو كان معصوما مع قطع يده لوجب ضمانه، وحيث لم يجب الضمان تبيّن أن المال غير معصوم في حقه، فإذا كانت العين المسروقة قائمة، وردت إلى المالك، فلا نزاع في أنّ العصمة عادت إليها، ولكن مع هذا لا زالت شبهة سقوط العصمة قائمة، فأشبهت المباح في حقه، فلا تقطع يده في سرقتها ثانية فإنّ الحدود تدرأ بالشبهات. وإذا قطعت يد السارق، وكانت العين المسروقة قائمة وجب ردها إلى صاحبها، وإذا كانت هالكة أو مستهلكة فلا ضمان عليه عند الحنفية، وقال المالكية: يضمّنها إن كان موسرا، ولا شيء عليه إن كان معسرا. وقال الشافعية: يضمنها مطلقا، أما ردها وهي قائمة فلما ورد من أنه عليه الصلاة السلام ردّ رداء صفوان إليه حين قطع يد السارق، وأما عدم الضمان عند عدمها فلقوله عليه الصلاة والسلام: «لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه» . وحجة القائلين بالضمان قياسه على سائر الأموال الواجبة، فإنّهم أجمعوا على رد العين المسروقة إذا كانت موجودة، وهو يستلزم أنها إذا لم تكن موجودة تكون في ضمانه، كما في سائر الأموال الواجبة، ترد بنفسها إن كانت قائمة، ويرد مثلها إن

_ (1) انظر نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية للزيلعي، كتاب السرقة، فصل في كيفية القطع وإثباته (3/ 570) . [.....] (2) رواه النسائي في السنن (7- 8/ 462) ، كتاب السرقة، باب تعليق يد السارق حديث رقم (4984) .

[سورة المائدة (5) : الآيات 42 إلى 45]

كانت هالكة، ويدلّ على ذلك أيضا ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام: «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» «1» . وقوله: جَزاءً مفعول له، أو مصدر مؤكد لفعله الدال عليه قوله: فَاقْطَعُوا أي فجازوهما جزاء وقوله: بِما كَسَبا متعلق (بجزاء) على الإعراب الأول، وبقوله: فَاقْطَعُوا على الإعراب الثاني، و (ما) مصدرية، أي بسبب كسبهما، أو موصولة، أي بسبب الذي كسباه. وقوله: نَكالًا مفعول له للإشعار بأنّ القطع للجزاء. والجزاء للنكال فيكون مفعولا له متداخلا كالحال المتداخلة. والنكال: الإهانة والتحقير للمنع من العودة. وقوله: مِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف صفة لنكالا. وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب في تنفيذ أوامره، يمضيها كيف يشاء من غير منازع ولا ممانع، وهو حَكِيمٌ في تشريعه، لم يشرع إلا ما فيه المصلحة، فمن تاب من السرّاق من بعد ظلمه بما وقع منه من السرقة، وأصلح في توبته بأن تكون التوبة عند الجمهور، وقيل: تسقطه، لأن ذكر الغفور الرحيم يدل على سقوط العقوبة، والعقوبة المذكورة هي القطع. قال الله تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) السحت: الاستئصال من سحته إذا استأصله، ومنه قوله تعالى: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [طه: 61] أي يستأصلكم، ويطلق السّحت على الحرام الخسيس الذي يعيّر به الإنسان، لأنّه يستأصل فضيلة الإنسان وشرفه، ويستأصل جسده في النار في الآخرة، ويطلق أيضا على شدة الجوع، لأنّ من كان شديد الجوع يستأصل ما يصل إليه من الطّعام. وقد روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد أنّ السحت الرشوة ، وأجر البغي وعسب الفحل، وثمن الخمر، وثمن الميتة، وحلوان الكاهن، والاستئجار في المعصية، ويرجع أصل ذلك كله إلى الحرام الخسيس الذي يعيّر به الإنسان ويخفيه.

_ (1) رواه أبو داود في السنن (3/ 284) ، كتاب البيوع، باب تضمين العارية حديث رقم (3561) ، والترمذي في الجامع الصحيح (3/ 566) ، كتاب البيوع، باب العارية حديث رقم (1266) ، وابن ماجه في السن (2/ 802) ، كتاب الصدقات، باب العارية حديث رقم (2400) .

ونزلت «1» هذه الآية في اليهود، كان الحاكم منهم إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة سمع كلامه، وعوّل عليه، ولا يلتفت لخصمه، فكان يأكل السّحت، ويسمع الكذب، وكان الفقراء منهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية، ويسمعوا منهم الأكاذيب لترويج اليهودية والطعن على الإسلام، فالفقراء كانوا يأكلون السحت الذي يأخذونه منهم، ويسمعون الكذب، فهذا هو المشار إليه بقوله تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وقيل: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ الذي كانوا ينسبونه إلى التوراة أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ للربا، كما قال تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [النساء: 161] . والرشوة قد تكون في الحكم، وهي محرمة على الراشي والمرتشي، وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لعن الراشي والمرتشي والرائش يعني الذي يمشي بينهما «2» ، لأنّ الحاكم حينئذ إن حكم له بما هو حقه كان فاسقا من جهة أنّه قبل الرشوة على أن يحكم بما يفترض عليه الحكم به، وإن حكم بالباطل كان فاسقا من جهة أنه أخذ الرشوة، ومن جهة أنه حكم بالباطل. وقد تكون الرشوة في غير الحكم، مثل أن يرشو الحاكم ليدفع ظلمه عنه، فهذه الرشوة محرّمة على آخذها، غير محرمة على معطيها، كما روي عن الحسن قال: لا بأس أن يدفع الرجل من ماله ما يصون به عرضه، وكما روي عن جابر بن زيد والشعبي: أنهما قالا: لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم. وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام حين قسم غنائم بعض الغزوات وأعطى العطايا الجزيلة أعطى العباس بن مرداس أقل من غيره، فلم يرق ذلك في نظره فقال شعرا يتضمن التعجب من هذا التصرف فقال عليه الصلاة والسلام: «اقطعوا لسانه» فزادوه حتى رضي ، فهذا نوع من الرشوة رخّص فيه السلف لدفع الظلم عن نفسه، يدفعه إلى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه. فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ قيل: نزلت هذه الآية في أمر خاص هو رجم اليهوديين اللذين زنيا، وأراد اليهود الترخيص لهما، فأنكروا الرجم، وتحاكموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبحث عليه الصلاة والسلام في كتبهم، وأطلعهم على آية الرجم، وبيّن لهم كذبهم وتحريفهم في كتاب الله، ثم رجم اليهوديين وقال: «اللهم إني أول

_ (1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (6/ 154) . (2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 622) ، كتاب الأحكام، باب ما جاء في الراشي والمرتشي حديث رقم (1336) ، وأحمد في المسند (5/ 279) .

من أحيا سنة أماتوها» «1» وإنما بحث عليه الصلاة والسلام في هذه الحادثة في كتبهم لأنّ الحدود الإسلامية لم تكن نزلت، فأقام الرجم على شريعة موسى عليه الصلاة والسلام، وأما ما نزل حكمه في الشريعة الإسلامية فلا يجوز للمسلم المحكّم أن يحكم فيه بغير حكم الإسلام. وقيل: نزلت في أمر خاص هو الدية بين بني قريظة وبني النضير، فكان بنو النضير يرون أنّ لهم شرفا يقضي بأن دية النضيري ضعف دية القرظي فغضب بنو قريظة، وتحاكموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحكم بينهم بالحق وجعل الدية سواء، وإذا لوحظ أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أمكن القول بأنّ الآية عامة في كل من جاء إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم يتحاكم إليه. وظاهر الآية أنّه عليه الصلاة والسلام مخيّر بين أن يحكم بينهم وبين أن يعرض عنهم، ولكنّ المتقدمين اختلفوا فقال النخعي والشعبي وقتادة وعطاء وأبو بكر الأصم وأبو مسلم أنّ حكم التخيير الذي تدل الآية عليه ثابت غير منسوخ. وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة: إن هذا الحكم منسوخ بقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وبعضهم وفق بين المختلفين بأنّ التخيير ورد في أهل العهد الذين ليسوا من أهل الذمة كبني قريظة والنضير، فلا يجب على الحاكم المسلم أن يجري عليهم أحكام المسلمين، وإن ترافعوا إليه كان مخيّرا بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم، وقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ورد في أهل الذمة الذين لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وعلى هذا فلا نسخ في الآية، وهذا هو أساس قول الحنفية: إن أهل الذمة والمسلمين سواء في إجراء الأحكام الإسلامية عليهم، كعقود المعاملات والتجارات والمواريث والحدود، إلا أنهم لا يرجمون، لأنّهم غير محصنين، ويجوز لهم الاتجار في الخمر والخنزير دون المسلمين. وقد ورد أنه عليه الصلاة والسلام قال في كتابه إلى أهل نجران: «إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله» فجعلهم كالمسلمين في تحريم الربا عليهم. وقال الشافعية: إنّ أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا وجب على الحاكم أن يحكم بينهم بما أنزل الله، وأما المعاهدون فلا يجب عليه ذلك إذا تحاكموا إلينا، بل هو مخيّر بين الحكم بينهم وبين الإعراض عنهم. وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً الغرض من هذه الجملة بيان حال الأمرين

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1327) ، 29- كتاب الحدود، 6- باب رجم اليهود حديث رقم (28/ 1700) .

اللذين خيّر فيهما عليه الصلاة والسلام، وكانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف، كالجلد بدل الرجم، فإذا أعرض عنهم شق ذلك عليهم، وتغيظوا منه، وربما يقصدونه بالأذى، فأخبره الله تعالى بأنه إن رأى الإعراض عنهم فلا بأس عليه، فإنّهم لا يضرونه بشيء أبدا، وقدم حال الإعراض للمسارعة إلى أنه لا ضرر عليه فيه، وإن كان مظنة الغيظ والحقد، ثم قال: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل الذي جاءت به الشرائع، أو جاء به الإسلام إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين الذين يحاربون المظالم. وهاهنا أمور: الأول: أنّ المحكّم ينفذ حكمه فيما حكّم فيه، فإنّ اليهود حكّموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونفذ حكمه فيهم. الثاني: أنه عليه الصلاة والسلام حكم بينهم بشريعة موسى عليه الصلاة والسلام، ولكن كان ذلك قبل أن تنزل عليه الحدود، أما الآن وقد أكمل الله الدين، وتقررت الشريعة، فلا يجوز لأي محكّم أن يحكم بغير الأحكام الإسلامية، لا فرق بين المسلمين وغيرهم. والثالث: قال الإمام الشافعي: التحكيم جائز، ولكن الحكم غير لازم، وإنما هو فتوى، فإن شاء المستفتي عمل بها أو تركها. قال الله تعالى: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) قال النيسابوري: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ تعجيب من الله لرسوله صلّى الله عليه وسلّم من تحكيمهم لوجوه: منها عدولهم عن حكم كتابهم. ومنها رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدونه مبطلا. ومنها إعراضهم عن حكمه بعد أن حكّموه، وهذا غاية الجهالة ونهاية العناد. والواو في قوله: وَعِنْدَهُمُ للحال من التحكيم والعامل ما في الاستفهام من التعجيب. أما قوله: فِيها حُكْمُ اللَّهِ فإما أن ينتصب حالا من التوراة على ضعف وهي مبتدأ، خبره عِنْدَهُمُ. وإما أن يرتفع خبرا عنها، والتقدير وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ ناطقة بحكم الله، فيكون عِنْدَهُمُ متعلقا بالخبر.

وإما ألا يكون له محل، ويكون جملة مبينة لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، كقولك: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب، فما تصنع بغيره. وأنّثت التوراة لما فيها من صورة تاء التأنيث. ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ عطف على يُحَكِّمُونَكَ و (ثم) لتراخي الرتبة، أي ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم. وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إخبار بأنهم لا يؤمنون أبدا، أو المراد أنهم غير مؤمنين بكتابهم كما يدعون اه. قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) نبه الله بهذه الآية اليهود الذين أنكروا ما تضمن كتابهم من مثل وجوب رجم الزاني والاقتصاص من القاتل المعتدي، ووبخهم على مخالفة الأحبار المتقدمين، والأنبياء المبعوثين إليهم. والمراد (بالهدى) بيان الأحكام والتكاليف، والمراد (بالنور) بيان ما ينبغي أن يعتقد من توحيد الله وأمور النبوة والمعاد. والنَّبِيُّونَ من بعثهم الله في بني إسرائيل من بعد موسى لإقامة التوراة، ومعنى إسلامهم انقيادهم لحكم التوراة، وعن قتادة: يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا محمدا عليه الصلاة والسلام، فقد حكم على من زنى من اليهود بالرجم، وكان هذا حكم التوراة، وذكر بلفظ الجمع تعظيما، ونظيره قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] . وقال ابن الأنباري: هذا رد على اليهود والنصارى، وتقرير أنّ الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية ولا بالنصرانية كما زعموا، بل كانوا مسلمين لله منقادين لتكاليفه. ولِلَّذِينَ هادُوا أي تابوا من الكفر متصل ب (يحكم) يعني أن النبيين إنما يحكمون بالتوراة للذين هادوا، أي لأجلهم، وفيما بينهم، أو هو مؤخّر من تقديم، فيكون التقدير: فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا. وَالرَّبَّانِيُّونَ العلماء الحكماء البصراء بسياسة الناس، وتدبير أمورهم، والقيام بمصالحهم. وَالْأَحْبارُ جمع حبر، بكسر الحاء أو فتحها، والمراد العلماء المتقنون الصالحون.

وقوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ معناه بما استودعوا من علمه، وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه على وجهين: أحدهما: أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم. والثاني: ألا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه. ويتعلق قوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا بالأحبار على معنى العلماء أو (يحكم) . وقوله: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ خطاب لليهود الذين كانوا في عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد أقدموا على تحريف التوراة خائفين أو طامعين، ولما كان الخوف أقوى تأثيرا من الطمع قدّم الله ذكره فقال: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ والمعنى: إياكم أن تحرفوا كتابي خوفا من الناس والملوك والأشراف، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم، وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم، فإنما يخشى العاقل عقاب ربّه وحده. ثم أتبع أمر الخوف بأمر الطمع والرغبة فقال: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي كما نهيتكم عن تغيير أحكامي من أجل الرهبة أنهاكم عن التغيير للطمع في المال أو الجاه، فمتاع الدنيا قليل، والرشوة التي تأخذونها سحت، لا بقاء لها، ولا منفعة، فلا ينبغي أن تضيّعوا بها الدّين والثواب الدائم. وقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وعيد شديد، المقصود منه تهديد اليهود الذين أقدموا على تحريف حكم الله في الزاني المحصن والاقتصاص من القاتل المعتدي، ومعناه أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة، وقالوا: إنّه غير واجب، أصبحوا كافرين، لا يستحقون اسم الإيمان لا بموسى والتوراة، ولا بمحمد والقرآن. هذا وقد احتج جماعة بهذه الآية على أنّ شرع من قبلنا لازم علينا إلا إذا قام الدليل على صيرورته منسوخا، لأنّ الله تعالى يقول: فِيها هُدىً وَنُورٌ والمراد بيان أصول الشرع وفروعه، ولو كانت التوراة منسوخة غير معتبرة الحكم بالكلية لما كان فيها هدى ونور، ولا يمكن أن يحمل الهدى والنور على ما يتعلق بأصول الدين فقط للزوم التكرار، على أن هذه الآية إنما نزلت في مسألة الرجم، فلا بد أن تكون الأحكام الشرعية داخلة فيها، لأنا- وإن اختلفنا في أنّ غير سبب نزول الآية هل يدخل فيها أم لا- غير مختلفين في أنّ سبب نزول الآية يجب أن يكون داخلا فيها. وأيد الخوارج أيضا بآخر هذه الآية قولهم: كلّ من عصى الله فهو كافر، فقالوا إنها نص في أنّ كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله. ولم يوافقهم جمهور الأئمة، بل دفعوا شبهتهم بأن قوله تعالى:

وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه وأقر بلسانه كونه حكم الله إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى، ولكنه تارك له، فلا تتناوله الآية. قال الله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) لما جعل اليهود ديّة النضيري أكثر من دية القرظي، ومنعوا أن يقتل به، مخالفين في هذا ما في التوراة، وما حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين سألوه، نزلت هذه الآية. ومعنى (كتبنا) فرضنا. وقد أخذ أبو حنيفة من الآية أن يقتل المسلم بالذمي. وقالت الشافعية: الآية خبر عن شرع من قبلنا، وشرعهم ليس شرعا لنا. وقرأ البعض (النفس) وجميع ما عطف عليه منصوبا، ونصب فريق الكلّ ما عدا الجروح فقد رفعه على القطع، ورفع آخرون ما سوى (النفس) على جعل ذلك ابتداء الكلام. وتدلّ الآية على جريان القصاص في جميع ما ذكر فيها، ويرى العلماء أنّ المراد بقوله: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ استيفاء ما يماثل فعل الجاني منه، فلا يجوز التعدي، وعليه فتؤخذ العين اليمنى باليمنى عند وجودها، ولا تؤخذ اليسرى باليمنى وإن رضي المقتص منه. وقالوا: إنما تؤخذ العين بالعين إذا فقأها الجاني متعمّدا، فإن أصابها خطأ ففيها نصف الدية، فإن أصاب العينين معا خطأ ففيهما الدية كاملة، ورأى البعض أن في عين الأعور الدية كلّها، لأنّ منفعته بها كمنفعة ذي العينين أو قريبة منها. وإذا فقأ الأعور عين الصحيح فعليه القصاص عند أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية كاملة دية عين الأعور، وقال أحمد بن حنبل: لا قود عليه، وعليه الدية كاملة. واختار ابن العربي الأول، لأنّ الله تعالى قال: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ والأخذ بعموم القرآن أولى، فإنّه أسلم عند الله، والقصاص بين صحيح العين والأعور كهيئته بين سائر الناس، ومتمسّك مالك أنّ الأدلة لما تعارضت خيّر المجني عليه. وحجة ابن حنبل أنّ في القصاص من الأعور أخذ جميع البصر ببعضه، وذلك ليس بمساواة. والقصاص من الأنف إذا كانت الجناية عمدا كالقصاص من سائر الأعضاء، وكذلك يقتص من صالم الأذن وقالع السن. وقوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ معناه أنها ذات مقاصة، وهو تعميم للحكم

[سورة المائدة (5) : الآيات 87 إلى 97]

بعد ذكر بعض التفاصيل، والمراد منه: كل ما تمكن المساواة فيه من الأطراف كالقدمين واليدين، ومن الجراحات المضبوطة كالموضحة- مثلا- وهي التي توضح العظم، أي تكشفه. أما الذي لا يمكن القصاص فيه كرض في لحم، أو كسر في عظم ففيه حكومة. وفي قوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ الضمير في (به) يعود إلى القصاص وقوله: فَهُوَ راجع إلى التصدق الدال عليه الفعل، والضمير في (له) يحتمل أن يعود إلى العافي المتصدق. روى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تصدق من جسده يشيء كفّر الله تعالى عنه مثل ما تصدّق» ويحتمل رجوعه إلى الجاني المعفوّ عنه، أي لا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو، وأما المتصدق فأجره على الله تعالى. ثم ذيل الله تعالى هذه الأحكام بما يوجب العمل بها، وهو قوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي ومن لم يحكم بما أنزل الله من الأحكام والشرائع فقد تعدّى حدود الله، ووضع الشيء في غير موضعه. قال الرازي: وفيه سؤال، وهو أنه تعالى قال أولا: فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وثانيا هُمُ الظَّالِمُونَ والكفر أعظم من الظلم، فلما ذكر أعظم التهديدات أولا فأي فائدة في ذكر الأخف بعده. وجوابه: أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى، وجحود لها، فهو كفر، ومن حيث إنه يقتضى إبقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم على النفس، ففي الآية الأولى ذكر الله ما يتعلق بتقصيره في حق الخالق سبحانه، وفي هذه الآية ذكر ما يتعلق بالتقصير في حق نفسه «1» اه. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) قد أمر الله تعالى في أول السورة بإيفاء العقود، وقد قالوا في تفسيره: إنّ ذلك شامل للوقوف عند حدود الله، والتزام ما أحله الله، واجتناب ما حرمه، وعدم تعدّي تلك الحدود، وقد نص بعد ذلك على عدم إحلال ما حرم الله في قوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ إلخ. وهو نوع من إيفاء العقود، وفي هذه الآية يقول الله تعالى: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وهو بيان للنوع المقابل لما ذكر أولا. أي كما نهيتكم عن إحلال ما حرّم الله أنهاكم عن تحريم ما أحل الله.

_ (1) انظر تفسير مفاتيح الغيب للإمام الرازي (12/ 8) .

والطيبات اللذائذ التي تشتهيها النفوس، ولا تعافها الطباع، لا شتمالها على ما ينفع، وتجردها عما يضر. وقد روي في سبب نزول هذه الآية أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جلس إلى أصحابه يوما في بيت عثمان بن مظعون يعظهم، فوصف لهم يوم القيامة، وبالغ، وأشبع الكلام في الإنذار والتحذير، فعزموا على أن يرفضوا الدنيا، ويحرّموا على أنفسهم المطاعم الطيبة، والمشارب اللذيذة، وأن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، وأن لا يناموا في فراش النساء، بل لقد عزم بعضهم على أن يجبّ مذاكيره، ويلبسوا المسوح، ويسيحوا في الأرض فوصل خبرهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فسألهم فقالوا: ما أردنا إلا خيرا، فقال لهم: «إني لم أومر بذلك، إن لأنفسكم عليكم حقا، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» «1» . وليس في ذلك شيء من الحض على الاستزادة من أسباب الشهوات، بل ذلك نهي عن الرهبانية الموصلة إلى هدم الأجسام، وانحلال القوى، ومتى انهدمت الأجسام، وانحلت القوى، تسرب الخراب والاضمحلال إلى الأمة، قلا تقوى على العمل. وأيضا فالناس مطالبون أن يعملوا عقولهم في مصلحة المجتمع، وأنّى لهم ذلك وقد انهدمت أجسامهم فضاعت عقولهم. والعقل السليم في الجسم السليم، ومع ذلك فالله لما نهانا عن تحريم الطيبات نهانا عن الاعتداء، وقال: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فهو يأمرنا أن نكون وسطا، وأن نلتزم التوسط في الأمور. وقد ذهب المفسرون مذاهب في المراد من قوله تعالى: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ فمنهم من ذهب إلى أن المراد لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله. ومنهم من قال: لا تظهروا باللسان تحريم ما أحل الله. ومنهم من قال: لا تجتنبوا ما أحل الله اجتنابا يشبه اجتنابكم لما حرم الله. ومنهم من قال: لا تحرّموا على غيركم بالتقوى ما أحل الله. ومنهم من قال: لا تحرّموا على أنفسكم بنذر أو يمين، وهو حينئذ في معنى قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم: 1] . ومنهم من يرى أن المراد النهي عن أن يغصب شيئا ويخلطه بماله فيحرم ماله، لعسر تمييزه عن المخلوط به. وأنت ترى أنه لا مانع من إرادة كل هذه الوجوه من الآية، فهي تحتملها جميعا، ولا داعي لتخصيصها بالبعض.

_ (1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (7/ 7) .

وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. أي: لا تعتدوا بتحريم الطيبات، ويحتمل أن يكون المعنى لا يحملنكم النهي عن تحريم الطيبات إلى استعمالها على وجه الإسراف، على حد قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: 31] ويحتمل أن يكون المراد: اقتصروا على ما أحل الله لكم من الطيبات، ولا تجاوزوها إلى ما حرّم عليكم. وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) أي كلوا ما أحلّ لكم وطاب مما رزقكم الله. (فحلالا) مفعول (لكلوا) و (مما رزقكم الله) حال منه، وسوغ مجيئها من النكرة تقدّمها عليها. ويستدل بالآية على أن الرزق اسم يتناول الحلال والحرام، ولو كان خاصا بالحلال لما كان لوصفه به كبير فضل. وتذييل الآية بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ بعث على المحافظة على ما أوصاهم به، والمداومة عليه، وقد أمر الله بالتقوى عقب النهي عن تحريم الطيبات، والأمر بالأكل من الرزق الطيب الحلال، ليشعرنا أنه لا منافاة بين التلذذ بالطيبات من الرزق وبين. التقوى، غير أنّه يجب أن تكن تقوى الله رائدنا فيما نقدم عليه من عمل، فلا نسرف، ولا نقتر، ولا نضارّ أحدا. والآية بعمومها دليل على حرمة الرهبانية. وقد جاء النهي عنها صريحا في «القرآن» وفي السنة، فقد صرح «القرآن» بأن الرهبانية مبتدعة. وجاء في السنة من طرق كثيرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من كان موسرا لأن ينكح فلم ينكح فليس مني» والآية على هذا في معنى قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32] . قال الله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) قيل في سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم لما حرّموا الطيبات من المآكل والمناكح والملابس. حلفوا على ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» .

_ (1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (7/ 10) .

واللغو من القول الساقط الذي لا يعتدّ به، وهو في اليمين الذي لا يتعلق به حكم. وقد اختلف السلف في تعيينه شرعا، فعن عائشة أنها قالت: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «هو كلام الرجل في بيته، لا والله، وبلى الله» «1» . وروي عنها أنّها قالت: لغو اليمين لا والله، بلى والله «2» . روي عن ابن عباس في لغو اليمين أن يحلف على الأمر أنه كذلك. وروي عنه أنه قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان. وذهب بعض العلماء إلى أن اللغو في اليمين هو الغلط من غير قصد بسبق اللسان. ويرى بعضهم أنّ اللغو أن تحلف على المعصية تفعلها، فينبغي ألا تفعلها، ولا كفارة فيه، واستدل له بحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها. فليتركها، فإنّ تركها كفارة» «3» . واختلف فقهاء الأمصار فيها أيضا فذهب الحنفية إلى أن اللغو هو: الحلف على شيء مضى وأغلب ظنه الصدق. وحكى الجصاص أنّ ذلك مذهب مالك والليث والأوزاعي. ونقل عن الربيع عن الشافعي أنّ من حلف على شيء أنّه وقع وهو يظنه كذلك فعليه كفارة، وكأن الشافعي رضي الله عنه لا يرى اليمين في مثل هذا المثال لغوا، بل يراها يمينا معقودة. وقد تقدم الكلام في سورة البقرة في بيان مذاهب الفقهاء في اليمين اللغو والغموس والمنعقدة، وهي أيضا معروفة في الفقه، وكذلك أحكامها، حيث يجعل الحنفية الأقسام الثلاثة متباينة في الحكم، فاللغو لا شيء فيه، وكذلك يقول جميع الفقهاء. إنما الكلام عندهم فيما هو حكم اللغو والغموس: يرى الحنفية أن جزاء الغموس الغمس في جهنم، وأنّها لا تكفر. والشافعية يقولون: إنّ الغموس تكفّر، لأنّ الله يقول: ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم، ومن تعمّد الكذب في يمينه فقد كسب بقلبه إثما، وهو مؤاخذ به، لأنّه عقد قلبه على الكذب في اليمين، وقد قال الله فَكَفَّارَتُهُ إلخ. والحنفية يقولون: إنّ اليمين الغموس هي المذكورة في قوله: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225]

_ (1) المرجع نفسه (2/ 241) . (2) المرجع نفسه (2/ 240- 241) . (3) رواه أحمد في المسند (2/ 185) .

والمؤاخذة بها هو عقاب الآخرة. ويدل له قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آل عمران: 77] فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة. وقد روى جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حلف بيمين آثمة على منبري هذا فليتبوأ مقعده من النار» «1» ولم يذكر الكفارة. والمسألة مبسوطة في كتب الفروع. وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ يحتمل أن تكون (ما) مصدرية، أي بتعقيدكم الأيمان، وتوثيقها بالقصد والنية. ويحتمل أن تكون (ما) موصولة، والعائد محذوف، أي بما عقدتم الأيمان عليه. والمعنى: لكن يؤاخذكم بنكث ما عقدتم الأيمان عليه، أو بنكث تعقيدكم اليمين. ويحتمل أن يكون المعنى: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم اليمين إذ حنثتم، وحذف الشرط للعلم به، وقد عرفت أنّ الشافعية يدخلون الغموس في اليمين المعقودة، ففيها الكفارة عندهم، والحنفية يقولون: لا كفارة في الغموس. فَكَفَّارَتُهُ أي فكفارة يمينكم إذا حنثتم، أو فكفارة نكثه إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ذهب الشافعية إلى جواز إخراج الكفارة قبل الحنث إذا كانت مالا، وأما إذا كانت صوما فلا، حتى يتحقّق السبب بالحنث، واستدلوا بظاهر هذه الآية، حيث ذكر الكفارة مرتبة على اليمين، من غير ذكر الحنث، وقال الله تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وقاسوها أيضا على إخراج الزكاة قبل الحول. وأما الصوم فلا ينتقل إليه إلا بعد العجز عن الخصال الثلاثة قبله، ولا يتحقق العجز إلا بعد الحنث ووجوب التكفير. والحنفية يرون أنّ الآية فيها إضمار الحنث، وهو متعيّن، إذ لم يقل أحد ولا الشافعية بوجوب الكفارة قبل الحنث، فالحنث وإن لم يذكر إلا أنه معلوم، فهي على حد قوله تعالى: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185] حيث كان وجوب العدة مرتبا على الإفطار المقدّر. ونحن نرى أنّ الآية لا تصلح شاهدا لواحد من الطرفين. مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ لا من جيده فيقع الحيف عليكم، ولا من رديئه فتبخسوا المسكين حقه، ويجوز أن يكون المراد من أوسطه في المقدار، أي: إذا كان فرد يأكل كثيرا، أو فرد يأكل قليلا فتوسطوا بين المقدارين، وأطعموا المسكين هذا

_ (1) رواه ابن ماجه في السنن (1/ 779) ، كتاب الأحكام، باب اليمين حديث رقم (2325) .

الوسط. وقدّره الشافعية بمدّ لكل مسكين، والحنفية قدّروه بما يجب في صدقة الفطر. والجار والمجرور مِنْ أَوْسَطِ متعلّق بمحذوف صفة لمصدر محذوف، أي إطعاما كائنا من أوسط. أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على (إطعام) إما باعتبار أن الكسوة مصدر، أو على إضمار مصدر. أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وقد اشترط الشافعية فيها الإيمان، لأنّ النص لم يقيّد هنا، وقيّد في مواضع أخر كالقتل مثلا، فدل ذلك على أنّ القيد حيث وجد فهو مقصود. والحنفية لا يرون هذا. إلى هنا نصّت الآية الكريمة على أنّ كفارة اليمين الإطعام، أو الكسوة، أو التحرير. وقد اختلف العلماء في متعلّق خطاب التكليف، فذهب بعض المعتزلة إلى أنّ الواجب الجميع، ويسقط بالبعض. وقيل: الواجب واحد بعينه عند الله، ويتعين بفعل المكلف، فيختلف بالنسبة للمكلفين. وقيل غير هذا، والمسألة معروفة في علم الأصول، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ واشترط الحنفية فيها التتابع، وهو مذهب ابن عباس ومجاهد، وأخرج الحاكم وابن جرير وغيرهم من طريق صحيح أنّ أبي بن كعب كان يقرأ الآية هكذا (ثلاثة أيام متتابعات) «1» وروي هذا أيضا عن ابن مسعود، وقال سفيان: نظرت في مصحف الربيع فرأيت فيه: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات) . وأما الشافعي فلا يشترط التتابع، لأنه يرى أن هذه قراءات شاذّة لا يحتجّ بها، ولعلها لم تثبت عنده. ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وحنثتم. وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي احفظوا أنفسكم من الحنث فيها، أو لا تبذلوها وأقلوا من الحلف، فإنّ ذلك مسقط لهيبتكم، وهو حينئذ في معنى قوله: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة: 224] ومنه قول الشاعر: قليل الألايا حافظ ليمينه ... إذا بدرت منه الأليّة برّت وقيل: إنّ معنى ذلك راعوها حتى لا تحنثوا فيها، فتلزمكم الكفارة. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي مثل هذا البيان الشافي بيّن الله لكم أحكامه، لتشكروه على ما أنعم عليكم.

_ (1) رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2/ 539) .

قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) الخمر: اسم لما خامر العقل وغطّاه من الأشربة، أيا كان نوعها، أو هو خاصّ بما كان من ماء العنب النيّئ الذي غلى واشتد وقذف بالزبد. يرى الحنفية أنّ الخمر حرّمت، ولم يكن العرب يعرفون الخمر في غير المأخوذ من ماء العنب، فالخمر عندهم اسم لهذا النوع فقط، وما وجد فيه مخامرة العقل من غير هذا النوع لا يسمى خمرا، لأنّ اللغة لا تثبت من طريق القياس، والحرمة عندهم تتعدى إلى المسكر لأنها معلولة بالإسكار، لا لأن المسكر خمر. ويرى غيرهم أنّ الخمر اسم لكل ما خامر العقل وغلبه، فغير ماء العنب حرام بالنص إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلخ. والواقع: أنه قد وردت آثار مختلفة في معاني الخمر، فقد روي عن ابن عمر أنّه قال: «حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء..» . ولقد كان بالمدينة من المسكرات نقيع التمر والبسر، فدل ذلك على أن ابن عمر وهو عربي ما كان يرى أنّ اسم الخمر يتناول هذين ... وفي مقابل هذا روى عكرمة عن ابن عباس قال: نزل تحريم الخمر وهو الفضيخ نقيع البسر، وهذا يدل على أنّ ابن عباس يرى أنّ غير العنب يسمى خمرا. وروى ثابت عن أنس قال: حرمت علينا الخمر يوم حرّمت وما نجد خمور الأعناب إلا القليل، وعامة خمورنا البسر والتمر. وروي عنه أنّه سئل عن الأشربة، فقال: حرّمت الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة، فكان عنده أنّ ما أسكر من هذه الأشربة فهو خمر. وروي عن عمر أنه قال: إنّ الخمر حرّمت وهي من خمسة أشياء من: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن من الحنطة خمرا، وإن من الشعير خمرا، وإن من الزبيب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا» «1» . وروي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنب» «2» . ولقد أطلنا بذكر هذه الآثار لمعرفة منشأ الخلاف، والحنفية يقولون فيما خالف

_ (1) و (2) سبق تخريجه. [.....]

مذهبهم من هذه الأخبار: إنها لبيان الحكم الشرعي، والحرمة بالقياس لتحقيق علة الحرمة، وهي الإسكار في القدر المسكر من هذه الأشياء. وأنت تعلم أن النزاع لو اقتصر على هذا يكون نزاعا في التسمية، والكلام إنما هو في الحكم، والمسلمون جميعا بحمد الله متفقون في الحكم من حيث الحرمة إلا شيئا يروى عن أبي حنيفة في حل القليل من غير الأصناف الأربعة، وهو ما لم يبلغ حدّ الإسكار، وقد نص بعض المتأخرين من الحنفية على أنّ هذه الرواية لا يجوز العمل بها ولا الفتوى، حتى في خاصة النفس، وأنّ الحكم أنّ ما أسكر كثيره فقليله حرام. غير أنّه يتبع الكلام في الحرمة كلام في الأحكام الأخرى كالنجاسة والحدّ، فمن يرى أنّ هذه الأشياء خمر، وأنها يشملها اسم الخمر يقول: إنها نجسة بقوله تعالى: رِجْسٌ وأنّ فيها الحد الذي ثبت بدليله المعروف في الفقه. ومن يرى أنها حرام من طريق القياس لإسكارها. هل يرى أنّ النجاسة ووجوب الحد ثبت للخمر للإسكار ومخامرة العقل، فينقل الحكم، وهو النجاسة ووجوب الحد، كما نقل الحرمة بالقياس للإسكار، أم هو يرى أنّ الذي ثبت بعلة الإسكار إنما هو الحرمة فقط، فلا يعدي النجاسة ووجوب الحد إلى غير ماء العنب والأشربة المعدودة عنده. وهل يورث الخلاف الذي رويناه فيما تقدم شبهة تسقط الحد؟ ذلك يجب الرجوع فيه إلى الفقه وقواعده، فإنّ ذلك لا ارتباط له بالآية التي معنا. والميسر: أصله من تيسير أمر الجزور بالاجتماع على القمار في توزيعه. وقد بيّن ذلك عند تفسير قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة: 219] . وقد روي عن الإمام علي أنّه الشطرنج. وعن عثمان وجماعة أنّه النرد، وقال جماعة من أهل العلم: القمار كله من الميسر. ويراد منه: تمليك المال بالمخاطرة، فكل مخاطرة بالمال قمار، وهو من الميسر، وهو حرام. رِجْسٌ أي قذر تعافه العقول. وعن الزجاج: الرجس كل ما استقذر من عمل قبيح، وقد يطلق الرجس على النجس. مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ من تسويله وتزيينه. فَاجْتَنِبُوهُ أي اجتنبوا الرجس لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ راجين الفلاح بهذا الاجتناب. ولقد شدد الله في الآية الكريمة أمر الخمر والميسر تشديدا يصرف النفوس عنه إلى غير عود، فصدّرت الجملة (بإنما) وقرنا بالأصنام والأزلام وهما ما هما من الشناعة، وسميا رجسا من عمل الشيطان، وذاك غاية القبح، ثم أمر باجتنابهما، وأضاف

الاجتناب إلى أعيانهما، حتى كأنهم مما يفرّ منهما، ثم جعل اجتنابهما سببا للفلاح والفوز، فهل مع هذا كله يعود الناس إليهما، إن ذلك لحسرة؟! ولقد أردف الله ذلك ببيان المضار التي تنجم من جراء الخمر والميسر، عسى أن يكون في ذلك ذكرى لمن ألقى السمع فقال: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أي بسبب تعاطيهما، أما الخمر فإنّها تذهب العقل، ومتى ذهب العقل جاءت العربدة وأفعال المجانين، ولو كان مجنونا لغفر الناس له ما يكون منه من أذى، فيتأذى الناس منه ويبغضونه لما يلحقهم من شره، ولا عذر له، فيغرس في قلوبهم الغل والضغينة، وما جر عليه ذلك إلا الخمر. وأما الميسر فإنه في حال انشغاله بالقمار يكون فاقد الإحساس والشعور، لا يبالي بالمال يخرج من يده إلى غير رجعة، طمعا في أن ينال أكثر منه، فإذا رجع خاسرا أكل قلبه الحسد، وامتلأت نفسه حقدا وحفيظة، وربما أداه ذلك إلى قتل من ظن أنّه سبب خسارته إن أمكنته الفرصة، وإن لم تمكنه رجع إلى نفسه بالقتل، أو بالهم والاكتئاب، وإن صادفه الحظ وكان رابحا امتلأ قلب صاحبه عليه غلا وضغينة. والحوادث منا في السمع والبصر كل يوم أصدق شاهد. دع ما يتخذه كل المتقامرين من وسائل خسيسة، وأيمان كاذبة يستعملونها في سبيل تحقيق أطماعهم، وكثيرا ما أودت تلك الوسائل بأصحابها. وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ بعد أن بيّن الأضرار التي تعود على المتقامرين والمخمورين في الدنيا بيّن أنّ ضررهما ليس قاصرا على الدنيا فقط، بل هما ضارّان بالدين أيضا، فإنّهما يمنعان من الذكر ومن الصلاة، ومتى منعا من الذكر والصلاة فقد صار الشخص فاجرا، لا يرقب في الله إلا ولا ذمة، فهو مستهتر، لا يبالي ما يرتكب من الآثام، فماذا يمنعه، وقد بعد من الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر. فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ في هذه الجملة من الردع والزجر والتهديد ما بلغ الغاية، وأنّ الأمر من الشدة والهول بحيث لا يمنعه إلا انتظار الجواب (انتهينا) انظر كيف قال عمر حين سمعها، وقد كان طلب البيان الشافي بعد آية البقرة قولة الخائف الوجل: انتهينا يا رب. ولقد سبق القول في سورة البقرة أن آية الخمر [219] التي فيها، كانت أول ما نزل في الخمر، ثم نزلت آية النساء، ثم هذه. وأخرج الربيع أنه لما نزلت آية البقرة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية النساء. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية المائدة فحرّمت الخمر عند ذلك.

قال الله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) أمر بالطاعة في كل ما جاء عن الله والرسول صلّى الله عليه وسلّم ويدخل فيه ما جاء في الخمر والميسر دخولا أوليا، وتحذير عن المخالفة، فإنّها موقعة في المهالك فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم ولم تعملوا بما أمرتم به فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ وقد بلّغكم فانقطعت حجتكم، وانسد أمامكم سبيل الاعتذار، ولم يعد لكم مطمع في التعلّة، وإن ذلك لتهديد شديد. قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) روي عن ابن عباس وجابر والبراء بن عازب وأنس بن مالك وغيرهم في سبب نزول هذه الآية: أنه لما حرّمت الخمر قالت الصحابة: كيف بمن ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . وقد فهم عمر بن الخطاب هذا المعنى من الآية. وقد أراد أن يقيم الحد على قدامة بن مظعون حين شهد عليه الشهود بأنه شربها. روى الزهري أن الجارود سيد بني عبد القيس وأبا هريرة شهدا على قدامة بن مظعون أنه شرب الخمر، وأراد عمر أن يجلده. فقال قدامة: ليس لك ذلك، لأن الله يقول: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا فقال عمر: إنك أخطأت التأويل يا قدامة، إذا اتقيت اجتنبت ما حرّم الله. والطعم يطلق في اللغة على التذوق والتلذذ بما يؤكل ويشرب وهو هنا بهذا المعنى. وبحسب ما ذكرنا من سبب النزول يكون معنى الآية: ليس على من آمن بالله واتقاه وعمل صالحا جناح فيما تناوله من المحرمات قبل تحريمها إذا ما اتقى الله في محارمه، وآمن به، وعمل صالحا، ثم استمر على هذه التقوى وهذا الإيمان في المستقبل، ثم اتقى الله فيما أحل له، وأحسن في استعماله. ومن هذا الذي قلنا تعرف معنى التقوى والإيمان المكرّرين في الآية، وتعرف معنى الإحسان الذي زيد فيها، وهو وجه من وجوه كثيرة أوردها المفسّرون لبيان أنه لا تكرار في الآية، ولنذكر بعضا منها، فقد قال بعضهم: إن التقوى والإيمان الأولين يراد بهما حصول أصل التقوى، وأصل الإيمان، والثانيين يراد منهما الثبات والدوام، والتقوى الثالثة اتقاء ظلم العباد مع ضم الإحسان إليه. وذهب بعضهم إلى أن التقوى الأولى تقوى المحرمات قبل نزول هذه الآية،

_ (1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (3/ 171) .

والثانية: اتقاء الخمر والميسر، والثالثة اتقاء ما يحدث بعد هذه الآية. وذهب بعضهم إلى أنّ التقوى الأولى اتقاء الكفر، والثانية اتقاء الكبائر، والثالثة اتقاء الصغائر. وذهب بعضهم إلى أنّ المراد من هذا التأكيد في الحثّ على الإيمان والتقوى. يبقى أن يقال: كيف شرط الله في رفع الجناح عن المطعومات والمشروبات الإيمان والتقوى مع أنّ الجناح مرفوع عن المباح من المطعومات حتى عن الكافرين، ولكن متى عرف أن ذلك كان جوابا عن سؤال بشأن مؤمنين خيف أن ينالهم شيء من الإثم على ما تناولوا من المحرمات قبل التحريم، وأن الآية بصدد طمأنة السائل على أصحابه، وأنهم ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وأنّها مثل قول الله تعالى في شأن من مات قبل الصلاة إلى الكعبة وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] متى عرف ذلك ظهرت فائدة الشرط وتذييل الآية بقوله تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ للإشادة بشأن الإحسان في ذاته، وشأن هؤلاء الذين نزلت الآية فيهم. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) تقدّم الكلام غير مرة في معنى الابتلاء، وأنّ المراد منه في مثل هذا المقام أن يعامل العباد معاملة المبتلي المختبر، ليتعرف حالهم وهل يثبتون على المحن والشدائد أو لا يثبتون. أخرج ابن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية عن مقاتل أنها نزلت في عمرة الحديبية حيث ابتلاهم الله بالصيد وهم محرمون، فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم، وكانوا متمكنين من صيدها أخذا بأيديهم، وطعنا، برماحهم، وذلك قوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ فهموا بأخذها، فنزلت هذه الآية، وخص الأيدي والرماح، لأن الصيد يكون بهما غالبا. والتنكير في قوله تعالى: بِشَيْءٍ للتحقير، وإنما امتحنوا بهذا الشيء الحقير تنبيها على أنّ من لم يثبت أمام هذه الأشياء التافهة كيف يثبت عند شدائد المحن، ويمكن أن يقال: إنّ التنوين للتعظيم، باعتبار جزاء الاعتداء عليه فإنّه عظيم، و (من) في قوله: مِنَ الصَّيْدِ للتبعيض، إما باعتبار أن المراد صيد البر لا صيد البحر، أو صيد الحرم دون صيد الحل. لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أي ليظهر ما علمه أزلا من أهل طاعته ومعصيته حاصلا منهم فيما لا يزال فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أي فمن تجاوز حدّ الله في الصيد بعد هذا التنبيه فله عذاب أليم، لأنّ المخالفة بعد الإنذار مكابرة وعدم مبالاة، والمراد

بالعذاب عذاب الآخرة، وقيل: بل وعذاب الدنيا، فقد روي عن ابن عباس. قال: هو أن يوسع ظهره وبطنه جلدا، ويسلب ثيابه. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ النهي عن القتل يدلّ على تحريم إزهاق روح الصيد مطلقا، سواء كان من طريق الفعل أو من طريق التسبب، كالإشارة والدلالة مثلا، ويؤيد هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسالم لبعض أصحابه: «هل أشرتم، هل دللتم» ، قالوا: لا. قال: «إذن فكلوا» «1» . فدل هذا على أنّ للإشارة والدلالة مدخلا في التحريم، وأنّهما مما يتناوله النهي في قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ فكان النهي متناولا للقتل من طريق المباشرة والتسبب. والمراد بالصيد المصيد، وقد اختلف في المراد بمدلوله، فذهب بعضهم إلى أنّ المراد منه الحيوان المتوحش مطلقا سواء أكان مأكولا أم غير مأكول، وخصّه بعضهم بالمأكول، وبالأوّل قال الحنفية، وبالثاني قال الشافعية، وانبنى على هذا الخلاف أن من قتل سبعا وهو محرم فهل يجب عليه الجزاء أو لا يجب، قال الحنفية: يجب، وقال الشافعية: لا يجب. استدل الحنفية لمذهبهم بأن الصيد اسم عام يتناول كل ما يصاد من المأكول ومن غير المأكول، وهو اسم عربي واضح الدلالة على معناه، وقد كانت العرب تصطاد، وتطلق اسم الصيد على كل ما تناولته أيديهم ورماحهم. ولم تنحصر فائدة حل الاصطياد في الأكل، بل قد تكون الفوائد التي هي غير الأكل أجدى من الأكل، ومغرية بالصيد أكثر منه، كصيد الفيلة للانتفاع بسنها مثلا، فيبقى اسم الصيد عاما في الحلال والحرام، لا يخرج منه شيء إلا ما أخرجه الدليل. وقد فهم الصحابة هذا فامتنعوا من فعله مطلقا، حتى أذن لهم صلّى الله عليه وسلّم في الخمس الفواسق، فهي خارجة من هذا العام بهذا الإذن. وقد قال الإمام علي رضي الله عنه: صيد الملوك أرانب وثعالب وإذا ركبت فصيدي الأبطال فسمى الثعلب، صيدا، وهو مما لا يؤكل، إذ هو من السباع ذات الناب. وذكر الفخر الرازي حجة الشافعية فقال: حجة الشافعي القرآن والخبر. أما القرآن فهو أنّ الذي يحرم أكله ليس بصيد، فوجب أن لا يضمن. إنما قلنا: إنه ليس

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 851) ، 15- كتاب الحج، 8- باب تحريم الصيد حديث رقم (56/ 1196) .

بصيد، لأن الصيد ما يحل أكله لقوله تعالى: بعد هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً فهذا يقتضي حل صيد البحر بالكلية، وحل صيد البر خارج وقت الإحرام، فثبت أنّ الصيد ما يحل أكله، والسبع لا يحل أكله، فوجب أن لا يكون صيدا، وإذا ثبت أنه ليس بصيد، وجب أن لا يكون مضمونا، لأنّ الأصل عدم الضمان. تركنا العمل به في ضمان الصيد بحكم هذه الآية. فبقي ما ليس بصيد على وفق الأصل. هذه عبارة الفخر الرازي أوردناها بنصها. ونحن لا نظن أن الإمام الشافعي وهو من هو يسلك هذا الطريق في الحجاج، فإنه يقال: ما الذي تدل عليه آية أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ إنها إن دلت على شيء فليس الذي تدل عليه أن الصيد هو المأكول. إذ هي قد أحلت شيئين صيدا وطعاما، فهما شيئان عامّ وخاصّ، فالأول الصيد مطلقا، والثاني طعامه، فهي تبيح الصيد انتفاعا وطعاما. انظر إلى مَتاعاً لَكُمْ أي نفعا، وهو أعمّ من أن يكون من طريق الأكل أو طريق الحلية مثلا، وأما قوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً فهو كقوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فإن دلت هذه على حل صيد غير المأكول دلت الأخرى، فنحن نرى أنّ هذه الآية التي ساقها الفخر دليلا لا تنهض دليلا على الدعوى. قال الفخر بعد ذلك: وأما الخبر فهو الحديث المشهور، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «خمس فواسق لا جناح على المحرم أن يقتلهنّ في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والحية، والعقرب، والكلب العقور» «1» وفي رواية أخرى: «السبع العادي» «2» قال والاستدلال به من وجوه: أحدها: أن قوله: «والسبع العادي» نص في المسألة. ثانيها: أنه عليه الصلاة والسلام وصفها بكونها فواسق، ثم حكم بحلّ قتلها، والحكم المذكور عقيب الوصف المناسب مشعر بكون الحكم معلّلا بذلك الوصف. وهذا يدل على أنّ كونها فواسق علة لحل قتلها، ولا معنى لكونها فواسق إلا كونها مؤذية، وصفة الإيذاء في السباع أقوى، فوجب جواز قتلها. ثم أتى بوجه ثالث لا يخرج في المعنى عن الثاني وهو أن الشارع خصها بهذا الحكم لا ختصاصها بمزيد الإيذاء، وصفة الإيذاء في السباع أتم، فوجب القول بجواز قتلها، وإذا ثبت جواز قتلها وجب أن لا تكون مضمونة.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 856) ، 15- كتاب الحج، 9- باب ما يندب للمحرم حديث رقم (66/ 1198) . (2) رواه أبو داود في السنن (2/ 113) ، كتاب الحج، باب ما يقتل من الدواب حديث رقم (1848) .

وما ندري إذا أراد الفخر أن يستدل للحنفية فماذا يقول: إنه لا يقول ولا يفعل أكثر من أن يقول: وحجة الحنفية، ثم يذكر هذا الدليل، فإنك قد عرفت أن الحنفية يقولون: إن الصيد اسم عام يتناول المأكول وغير المأكول لا يخرج عنه شيء إلا ما أخرج الدليل، وقد أخرج الدليل الخمس الفواسق، لأنها فواسق، لا لأنها ليست بصيد، أو لأنها غير مأكولة، فهذا دليل للحنفية لا عليهم. وأما ما ذكر من الرواية الأخرى التي صرح فيها باسم «السبع العادي» فالحنفية لهم أن يقولوا: بل هم قد قالوا فعلا: إن صح هذا الحديث فنحن نقول بموجبه، فقد جاء في الحديث وصف السبع بالعادي، والعادي معناه الضاري، وهم يقولون بقتل كل ما يكون منه عدوان دفعا لعدوانه، وإضافة هذا الوصف دليل على أنه من غير الفواسق، وفي ذلك دليل على أنه إنما يحل قتله في حال ضراوته وعدوانه. والحنفية يقولون: إن السبع لو قتل في هذه الحال لا جزاء فيه، فأنت ترى أنّ هذه الحجة التي ساقها الفخر الرازي للتدليل على مذهب الشافعية لا تصلح دليلا على الدعوى. وإنما يصلح دليلا لهم أن يقوم الدليل على أنّ الصيد خاصّ بالمأكول، فإن ثبت هذا كانت الآية حجة لهم، وإلا فهي ظاهرة في العموم حتى يقوم الدليل على الخصوص، وقد قال الفخر الرازي في الرد على بيت الإمام علي الذي استدل به الحنفية: إنه غير وارد، لأن الثعلب مأكول، فهو صيد، ونحن نقول به، والرد من هذه الجهة مقبول له أنه ثبت أنه إنما سماه صيدا لأنه مأكول، وهذه هي محل النزاع «1» . وعلى أي حال فالآية ظاهرها العموم حتى يقوم الدليل على الخصوص. وَأَنْتُمْ حُرُمٌ حرم جمع حرام، وقد قيل: إن المراد وأنتم محرمون بالحج، وقيل: بل المراد وقد دخلتم بالحرم، وقيل: هما مرادان بالآية، وعلى هذا المعنى الأخير فهذه الآية تدلّ على أنّ المحرم ممنوع من الصيد مطلقا داخل الحرم وخارجه، وعلى أنّ الحلال ممنوع من الصيد داخل الحرم. وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ظاهر الآية ترتيب الجزاء المخصوص على القتل العمد، وقد اختلف السلف في ذلك على ثلاثة أقوال: فالجمهور على أنّ الجزاء يترتب على قتل الصيد مطلقا، سواء تعمّد القاتل قتله أو أخطأ فيه، وسواء كان ذاكرا لإحرامه أو ناسيا. وإنما خصّ العمد بالذكر لأجل أن يرتّب عليه الانتقام عند العود، لأنّ العمد هو الذي يترتب عليه ذلك، دون الخطأ.

_ (1) انظر تفسير مفاتيح الغيب للإمام الرازي (12/ 87) .

بقي أن يقال: هذا حكم العمد قد عرف من الآية وأنّ فيه الجزاء، فمن أين الجزاء في الخطأ. قيل: إن جزاء الخطأ معروف من الدليل الذي يقرّر التسوية في ضمان المتلفات. إذ إنّ من قتل صيد إنسان عمدا أو خطأ في غير الحرم، أو أتلف مالا مملوكا لإنسان عمدا أو خطأ فعليه جزاؤه، فهذا حكم عام في جميع المتلفات. بل قد عرف في باب جنايات الإحرام بوجه خاص أنه لا فرق بين معذور وغير معذور في وجوب الفدية، وما الخطأ إلا عذر من الأعذار، غاية ما يؤثر في العقوبة الأخروية فيسقطها. وإذا ثبت أن جناية الإحرام يستوي فيها المعذور وغير المعذور علمنا أن القتل العمد والخطأ في وجوب الجزاء سواء، وليس ذلك إثباتا للكفّارة بالقياس، بل بما ثبت به أن ضمان المتلفات يستوي فيه العمد والخطأ. وذهب ابن عباس فيما رواه قتادة عنه: أنه لا شيء في الخطأ، وهو قول طاوس وعطاء ومجاهد في إحدى الروايتين عنه. والرواية الأخرى أنّه إن قتله عامدا ناسيا لإحرامه، أو قتله خطأ ذاكرا لإحرامه فهذا الذي يحكم عليه بالجزاء. أما من قتله عامدا ذاكرا لإحرامه فهذا لا ينفعه الجزاء. فقد أخرج ابن جرير «1» عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا غير ناس لحرمه، ولا مريد غيره، فقد حل، وليس له رخصة، ومن قتله ناسيا إحرامه، أو أراد غيره، فذلك العمد المكفر. وروى ابن أبي نجيح عنه أيضا في هذا المعنى قال: من قتله ناسيا لإحرامه متعمّدا لقتله، فذلك الذي يحكم عليه، فإن قتله ذاكرا لإحرامه متعمّدا قتله لا يحكم عليه، ولا حجّ له. وفي رواية: هذا لا يحكم عليه. هذا أجلّ من أن يحكم عليه. وقال ابن زيد: أما الذي يتعمّد فيه، وهو ناس لحرمه، أو جاهل أن قتله غير محرّم، فهؤلاء الذين يحكم عليهم. فأما من قتله متعمدا بعد نهي الله، وهو يعلم أنّه محرم، وأنه حرام، فذلك يوكل إلى نقمة الله. فهذه أقوال ثلاثة في قتل الصيد، وقد علمت أن الجمهور على الأوّل وعلمت وجهه. فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قرئ فَجَزاءٌ بالرفع والتنوين، والمعنى على هذه القراءة فالواجب جزاء مماثل للمقتول.

_ (1) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (7/ 27) .

وقرئ فجزآء مثل برفع جزاء مضافا إلى مِثْلُ ما قَتَلَ وظاهر هذه القراءة أنّ الجزاء إنما هو جزاء مثل المقتول لا جزاء المقتول. قالوا: إن ذلك خارج مخرج: مثلك جدير بالإكرام، والمعنى أنت جدير بالإكرام، ومن ذلك قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الأنعام: 122] إذ المعنى كمن هو في الظلمات، ويجوز أن تكون الإضافة على معنى (من) والمعنى فجزاء من مثل ما قتل. ومِنَ النَّعَمِ يحتمل أن يكون حالا من الجزاء، والمعنى فجزاء مماثل للمقتول حال كون الجزاء من النعم، وجوّز بعضهم أن يكون بيانا لما في قوله: ما قَتَلَ والمعنى عليه: فجزاء مماثل للمقتول حال كون المقتول من النعم، وأنت تعلم أن ذلك إنما يتم على رأي أبي عبيد والأصمعي اللذين يقولان: إن النعم كما يكون من الأهلي يكون من الوحشي، وهو خلاف المشهور، إذ إنّ المشهور أن النعم يطلق على الإبل وحدها، وعلى البقر والغنم مضمومة إلى الإبل، ويصح أن يكون حالا من الضمير في (قتل) وهو قريب من هذا المعنى. وقد اختلف العلماء في المراد بالمثل، فقد روي عن ابن عباس أن المثل النظير، ففي الظبية شاة، وفي النعامة بعير، وكذا كل صيد قتل يجب فيه نظيره في المنظر، وهو مذهب محمد بن الحسن والشافعي ومالك والإمامية، وحجتهم أن الله أوجب مثل المقتول مقيّدا بكونه من النعم، فلا بد أن يكون الجزاء مثلا من النعم، وذلك لا يكون إلا بأن يكون من الحيوانات التي تماثل المقتول، فلا تجب القيمة لأنّها ليست من النعم. وقد أوجب الصحابة رضوان الله عليهم كعلي وعمر وعبد الله بن مسعود وغيرهم في النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، إلى غير ذلك. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أن الواجب هو قيمة الصيد المقتول باعتبار كونه صيدا قبل الصيد، يقوّم في المكان الذي صيد فيه، أو في أقرب الأماكن إليه، وفي زمان الصيد، لأنّ القيمة تتفاوت باعتبار المكان والزمان، وخلاف محمد إنما هو فيما له مثل، أما ما لا مثل له فالواجب القيمة عنده كما هي عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وأما الشافعي فقد روي عنه أنه يعتبر المماثلة ولو في الصفات، فأوجب في الحمامة شاة، لأنّ الحمامة تشبه الشاة في عب الماء وفي الهدير. احتج أبو حنيفة وأبو يوسف: بأن الله أوجب مثل المقتول مطلقا، والمطلق ينصرف إلى الفرد الكامل منه، وذلك يكون فيما هو مماثل في الصورة والمعنى، وذلك طنما هو من المشارك في النوع، وإيجاب ذلك متعذر، لأنّ نوع الصيد صيد، وهو محذور، فننتقل منه إلى ما يقاربه، وهو المثل في المعنى، فوجب المصير إليه،

وذلك لأنّه قد عهد في الشرع عند إطلاق المثل أن يراد المشارك في النوع أو القيمة، فقد قال الله تعالى في ضمان العدوان: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ والمراد من المثل النظير بالنوع في المثليات، والقيمة في القيميات، فهو مشترك معنوي، والحيوانات قد اعتبرها الشارع من القيميات للاختلاف الباطني في أبناء النوع الواحد، فأولى أن يراد بالمثل القيمة فيما اختلف نوعه. وقد أهدر الشارع في ضمان المتلفات المماثلة الحاصلة في الصورة الظاهرة في أبناء النوع الواحد، فعدم اعتبارها فيما اختلف نوعه أظهر، ولسنا نقول إننا نعتبر القيمة ونصرفها نقدا، بل نحن نعتبرها معيارا تعرف بها قيمة الصيد، ثم يشترى بها ما يساويها من النعم إن بلغت هديا، وإلا أطعم بها مساكين، أو صام بمقدارها. فالمدار في الجزاء على المثل الذي هو القيمة، ليمكن أن يلجأ الحكمان إليها في تعيين الواجب من النعم. ويستشهد الحنفية لمذهبهم بقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فإن الالتجاء إلى حكمين اثنين من عدول المسلمين إنما يكون في شيء تختلف أنظار الناس فيه، وذلك ليس إلا القيمة. فإنّ مقابلة الصفات الظاهرة من العبّ والهدير قد لا تخفى على أحد. وللشافعي ومحمد رضي الله عنهما أن يقولا: بل الأمر على العكس، فلم يوجب الله في ضمان سائر المتلفات غير الصيد الالتجاء إلى الحكمين، لأنّ الوقوف على القيمة سهل، فأما الوقوف على المضاهاة والمشاكلة في صفات الحيوانات وهيئاتها وطبائعها مما لا يهتدي إليه إلا الخبير بهذه الصفات والطبائع، والخبير بهذه الأشياء في الناس قليل. وما نظن أحدا يشعر أنّ بين الحمامة والشاة شبها في العب والهدير إلا من درس طبائع الحيوان وخواصه، فمن أجل ذلك احتجنا إلى الحكمين. يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أي أنّ الجزاء الواجب يحكم به حكمان عدلان من المسلمين حال كون المحكوم به هديا بالغ الكعبة. أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أي من قتل صيدا فالواجب عليه جزاء مثله من النعم يبينه الحكمان، أو كفارة هي طعام مساكين أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً أو ما يساوي ذلك، أي الجزاء المماثل صياما يقدر لكل ما يساوي طعام مسكين صوم يوم، وما قل عن طعام المسكين يصوم عنه يوما، لأنّ الصيام لم يعهد في أقل من يوم. وأنت ترى في الآية (أو) التي للتخيير، فأين التخيير يا ترى: أهو لمن وجب عليه الجزاء، أم هو للحكمين، ومتى حكما بشيء التزمه قاتل الصيد لا يتعداه. قال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن الحكمين يقدران قيمة الجزاء، وأنه يساوي كذا من الهدي، وكذا من طعام المساكين، وكذا من الصيام، وقاتل الصيد مخيّر بين أيّها يفعل.

وقال محمد وهو محكيّ عن الشافعي أيضا: بل الخيار للحكمين، ومتى حكما بشيء والتزمه القاتل لا يتعداه. ويريد أبو حنيفة: أن يأخذ من قوله: (هديا) دليلا على أنّ الواجب في الجزاء القيمة، لأن الهدي لم يعرف إلا فيما تجوز به الضحايا، وهو الجذع من الضأن، والثني من غيره، لأنّ مطلق اسم الهدي ينصرف إليه، كما في هدي المتعة والقران. ولمحمد والشافعي أن يقولا: إن اسم الهدي قد يطلق على كل ما يهدى، وقد تأيّد هذا المعنى عندهما بما روي من أن الصحابة أوجبوا عناقا وجفرة. وأبو حنيفة يجيب عما ورد من فعل الصحابة: بأنهم إنما أوجبوه طعاما لا هديا، وأبو حنيفة يجيز أن يكون الإطعام من الصغار التي لا تصلح للضحايا على أنها طعام لا هدي. هذا وقد دلت الآية الكريمة على أنّه إذا كان الجزاء هديا فلا بدّ أن يبلغ الكعبة، فيذبح هناك. قال العلماء: والمراد من الكعبة الحرم، وإنما خصّت بالذكر للتعظيم، فلو ذبحه في غير الحرم كان إطعاما. والإطعام كما يكون في الحرم يكون في غيره، وقد نقل عن الشافعي أنّ الإطعام كذلك اعتبارا بالهدي. ومحلّ إثبات ذلك أو نفيه في الفقه، لأنّ الآية لم تقيّد الإطعام بكونه بالغ الكعبة. لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ أي شرعنا ما شرعنا من الجزاء على قتل الصيد ليذوق القاتل وبال أمره. والوبال في الأصل الثقل، ومنه الوابل للمطر الكثير، والوبيل للطعام الثقيل الذي يعسر هضمه، والمرعى الوخيم. والمعنى شرعنا ذلك ليذوق من قتل الصيد ثقل فعله وسوء عاقبته. عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ لكم من الصيد وأنتم محرمون، فلم يجعل فيه إثما، ولم يوجب فيه جزاء، ولم يؤاخذكم على ما كان منكم في الجاهلية من ذلك، مع أنه ذنب عظيم، حيث كنتم على شريعة إسماعيل، وقد كان الصيد فيها محرّما. وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ أي ومن عاد إلى قتل الصيد بعد ورود النهي فالله ينتقم منه، وهو العزيز الذي لا يغالب، المنتقم الذي لا يدفع انتقامه. والمراد بالانتقام الانتقام في الآخرة. وأما الكفارة فقد أوجبها الجمهور على العائد، فيتكرر الجزاء عندهم بتكرر القتل، وهو مذهب عطاء والنخعي والحسن وابن جبير.

وروي عن ابن عباس وشريح أنه إن عاد لم يحكم عليه بكفارة، حتى إنهما كانا يسألان المستفتي هل أصبت شيئا قبله؟ فإن قال: نعم، لم يحكم عليه، وإن قال: لا، حكم عليه. وهم في هذا الذي ذهبوا إليه يتمسكون بظاهر الآية. والجمهور يقولون: إن عذابه والانتقام منه في الآخرة لا ينافي وجوب الجزاء عليه، وإنما لم ينصّ عليه لعلمه مما تقدم. قال الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) أي أحل لكم أيها المحرمون ما يصاد من الماء بحرا كان أو نهرا، أو غيره، والمراد به الحيوان الذي يكون توالده ومثواه في الماء، سواء أكان مأكولا، أم غير مأكول. وقد قيل: إنّ هذا الترخيص خاصّ بالسمك، أما طير البحر فلا يتناوله الترخيص وَطَعامُهُ المراد منه ما يطعم منه ويحل أكله، فهو من عطف الخاص على العام، ويكون الحل الواقع على الصيد المراد منه حل الانتفاع مطلقا، ثم عطف عليه ما يفيد حل الأكل خاصة امتنانا بالإنعام بما هو قوام الحياة، وهو الأكل. ولا شكّ أنّ الصيد من البحر قد يقصد لمنافع أخرى غير الأكل، كأخذ زيته، وما يحويه بعض حيوان البحر من العظم والسن والعنبر وغير ذلك. وذهب ابن أبي ليلى إلى أنّ المراد من الصيد والطعام المعنى المصدري، فكأنه قيل: أحل لكم الاصطياد من البحر، وأن تطعموا ما صدتموه، ومن أجل ذلك ذهب هو إلى أنّ جميع حيوان البحر مأكول. وقيل: بل المراد بصيد البحر ما أخذ بحيلة، وبطعامه ما ألقاه البحر أو جزر عنه الماء. غير أنّ هذا ربما يعكّر على الحنفية الذين يقولون بحرمة ما طفا على وجه الماء من السمك الميت، وإن كان لهم أن يقولوا في الجواب: إن ما طفا ليس مما ألقاه البحر، بل هو ميت لعلة أخرى غير الصيد وغير إلقاء البحر وانحسار الماء عنه، وهو حينئذ ميتة يشملها قول الله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] وقد تقدّم الكلام فيه في سورة البقرة. وقيل: المراد بصيد البحر السمك الطري: وبطعامه السمك المملوح، وسميّ طعاما لأنه يدّخر للاقتيات؟ قالوا: وهذا بعيد، لأنه داخل تحت قوله: صَيْدُ الْبَحْرِ لأنّه قبل أن يملّح كان طريا. مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ أي أحللنا لكم ذلك لتتمتعوا به مقيمين ومسافرين، ولا

شكّ أنّ صيود البحر فيها متعة ومنفعة في السفر والحضر، سواء بالأكل أو بالادخار، أو بما يخرج منه مما ينتفع به. ويرى بعضهم أنّ التمتع به على التوزيع، فالطريّ منه للمقيمين، والقديد للمسافرين. وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ هو ما يكون توالده ومثواه في البر مما هو متوحش بأصل خلقته، والتحريم هنا إما منصبّ على ذات المصيد، أو على الفعل، فإن كان الثاني فالآية إنما تدل على حرمة الاصطياد فقط، وأما الأكل منه بأن ما يصيده حلال فلا تدل الآية على منعه، فمن يرى منعه فليلتمس له دليلا من غير الآية. وأما إذا كان التحريم منصبا على ذات المصيد فهو يقتضي تحريم جميع وجوه الانتفاع بالصيد، إلا ما يخرجه الدليل على ما تقرّر في الأصول، فيشمل تحريم الصيد والأكل وغيرهما، وقد عرفت أن قتل الصيد يخرج منه أشياء كالكلب العقور والذئب والسبع الضاري، لأنها من الخمس الفواسق: أما الذئب فلأنه عدّ نصا في بعض الروايات من الخمس الفواسق، وفي بعضها قيل: إنّه المراد من الكلب العقور، وأما السبع الضاري فلضراوته، والشافعي يخرج هذه الثلاثة، لأنها ليست بصيد، لأنّ الصيد عنده ما يؤكل على ما تقدّم. ما دُمْتُمْ حُرُماً أي محرمين، وظاهر الآية تحريم كلّ الصيد على المحرم، سواء أصاده هو أم محرم آخر أم حلال، سواء كان للمحرم دخل في صيده، أم لم يكن له دخل. والمسألة خلافية عند السلف، فمذهب ابن عباس وابن عمر وجماعة أنّ الصيد مطلقا حرام على المحرم عملا بظاهر الآية، وأيضا فقد أخرج مسلم «1» عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حمارا وحشيا، أو بعضه، أو بعض لحمه، أو عضوا من لحم صيد على اختلاف في الروايات، وهو عليه الصلاة والسلام بالأبواء أو بودان، فردّه صلّى الله عليه وسلّم، قال: فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما في وجهي قال: «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» . ويرى أبو هريرة وعطاء ومجاهد وابن جبير وعمر وطلحة وعائشة أنه يحل له أكل ما صاده الحلال، وإن صاده لأجله ما دام لم يدل عليه، ولم يشر إليه، ولم يأمره بصيده «2» ، وهو رواية الطحاوي عن أبي حنيفة، ووجهه أنّ الخطاب للمحرمين، فكأنه قيل: وحرم عليكم ما صدتم، والمراد ما يصيدونه حقيقة أو حكما بأن يدلّوا عليه، أو يشيروا إليه، أو يأمروا به.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 850) ، 15- كتاب الحج، 8- باب تحريم الصيد حديث رقم (1193) . (2) سبق تخريجه.

وقد روى محمد عن أبي حنيفة عن ابن المنكدر عن طلحة بن عبيد الله تذاكرنا لحم الصيد يأكله المحرم والنبي صلّى الله عليه وسلّم نائم، فارتفعت أصواتنا، فاستيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «فيم تتنازعون» . فقلنا: في لحم الصيد يأكله المحرم، فأمرنا بأكله. وروى مسلم عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجا، وخرجنا معه، فصرف نفرا من أصحابه فيهم أبو قتادة، فقال: «خذوا ساحل البحر حتى تلقوني» . قال: فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحرموا كلهم إلا أبا قتادة، فإنّه لم يحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش، فحمل عليها أبو قتادة، فأصاب منها أتانا، فنزلوا فأكلوا من لحمها قال: فقالوا: أكلنا لحما ونحن محرمون إلخ القصة، وفيها أنهم استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «هل معكم أحد أمره أو أشار عليه بشيء» . قالوا: لا، قال: «فكلوا» «1» . وعن مالك والشافعي وأحمد وداود رحمهم الله أنه لا يباح ما صيد له لما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صيد البر لكم حلال وأنتم محرمون، ما لم تصيدوه، أو يصاد لكم» «2» . وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ اتقوه فيما نهاكم عنه من الصيد وفي جميع المعاصي فإنكم ستعرضون عليه يوم الحشر، ويحاسبكم حسابا عسيرا. قال الله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) سمّي البيت الحرام كعبة لعلوّه، وارتفاع شأنه، ومن ذلك الكعبان، للعظمين الناتئين بجانبي القدمين، ويقال: كعب ثدي المرأة إذا نتأ وبرز الْبَيْتَ الْحَرامَ بيان الكعبة على جهة التمدح، فإنّه معظّم عندهم منذ القدم، لحرمته وقِياماً لِلنَّاسِ مفعول جعل الثاني، ومعنى كون البيت الحرام قياما للناس أنّ به قوامهم في صلاح أمورهم دينا ودنيا. حيث جعله الله مثابة للناس وأمنا، فيه يأمن الخائف، وينجو اللاجئ، وبه يطعم البائس الفقير، مما جعل الله في الحج من مناسك بها عمارة واد غير ذي زرع،

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 853) ، 15- كتاب الحج، 8- باب تحريم الصيد للمحرم، حديث رقم (59/ 1196) . (2) رواه أبو داود في السنن (2/ 113) ، كتاب المناسك، باب لحم الصيد حديث رقم (1851) ، والترمذي في الجامع الصحيح (3/ 204) ، كتاب الحج، باب ما جاء في أكل الصيد حديث رقم (846) ، والنسائي في السنن (5- 6/ 205) ، كتاب الحج، باب إذا أشار إلى الصيد حديث رقم (2826) .

ولولا ما فرض الله من الحج والنّسك ما استطاع أحد أن يقيم فيه، وقد جعل الله الدعاء فيه مقبولا، والحسنات فيه مضاعفة، لتشتد رغبة الناس فيه، فيزيد الخير، وتعم البركة. هذا إلى ما في اجتماع الناس ومجيئهم من البلاد النائية، والأقطار المختلفة من منافع دونها منافع المؤتمرات التي يلجأ إليها الناس اليوم لتعرّف وجوه مصلحة المجتمع، انظر كيف قال الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ [الحج: 27، 28] ولا تنس ما في أعمال الحج من منافع، حيث يتجرد الناس عن أمور الدنيا، لا يحملهم شيء على هذا التجرد إلّا تقوى الله، والمبادرة إلى امتثال أمره. يتذكرون باجتماعهم وتجرّدهم هول المحشر، والوقوف بين يدي ربهم، فتشتد خشيتهم، ويعظم خوفهم، فيتجنبون الموبقات والآثام. قال سعيد بن جبير: من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة أصابه. وأخرج ابن جرير «1» عن ابن زيد قال: كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض، ولم يكن في العرب ملوك كذلك. فجعل الله لهم البيت الحرام قياما يدفع به بعضهم عن بعض. فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه عنده ما قتله. وتعظيم البيت وجعله أمنا للخائف وملجأ للعائذ، أمر أودعه الله في قلوب الناس منذ القدم، وليس هناك ما يمنع الناس من الاعتداء غير ما أودعه الله في القلوب من الهيبة والجلال، وتعظيم البيت. وقد طبع الناس على الشر، فلا يكبح جماحهم في نفوسهم إلا امتثال أمر الله. وبذلك أمكن أن يعيش الناس في هذه الأرض الجرداء. فسبحان المدبر الحكيم. وَالشَّهْرَ الْحَرامَ معطوف على الكعبة، والمعنى وجعل الشهر الحرام قياما للناس، والمراد منه الشهر الذي يؤدّى فيه الحج، أو الجنس فيشمل الأشهر الأربعة، وقد عرفت أنّ المراد من القيام الصلاح في الدنيا والآخرة. ولا شكّ أنّ الشهر الحرام كذلك حيث يقوم فيها الحاج ممتثلا أمر ربه، ويقدم النسك، فينتفع، وينتفع الناس، ويأمن الخائف، حيث إنهم كانوا يأمنون فيها، ويتصرفون في معايشهم، فهو قيام للناس أيضا وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ معطوف على ما قبله أيضا وَالْهَدْيَ ما يهدى إلى الحرم ولا شك أنّه قيام للناس، به يقيم الفقر صلبه وَالْقَلائِدَ جمع قلادة والمراد بها ما يقلّد به البعير، وما كانوا يفعلونه من تقليد أنفسهم ومطيّهم بلحاء الشجر، حتى لا يتعرض لهم أحد بسوء، وقيل: بل المراد من القلائد ذوات القلائد، وخصت بالذكر لأنّ بها يعرف كون الهدي هديا، فلا يتعرّض له أحد بسوء حتى يبلغ محلّه، فيؤدي الغرض

_ (1) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (7/ 50) .

[سورة المائدة (5) : آية 103]

الذي من أجله شرع ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فإنّ شرع الحج وما فيه من مناسك ومنافع يقتضي حكمة وتدبيرا يستلزمان العلم بتفاضل الأشياء، وما ينطوي عليه من الأسرار، وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وذكر العامّ بعد الخاصّ ليكون الخاصّ كالدليل على العام. قال الله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) (البحيرة) : فعيلة بمعنى مبحورة، أي مشقوقة، قال الزجاج: كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنيها، وشقوها، وامتنعوا من نحرها، ولا تطرد من ماء ولا مرعى، وقيل فيها غير ذلك. و (السائبة) : فاعلة من سيبته فساب، إذا تركته فهو سائب، روي عن ابن عباس أنها التي تسيّب للأصنام، فتعطى للسدنة، وقيل غير ذلك. و (الوصيلة) : قال الزجاج: هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى كانت لهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى قيل وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، وقيل غير ذلك. و (الحامي) : قال أبو عبيدة والزجاج: إنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين، وقيل غير ذلك. والمعنى: ما شرع الله هذه الأشياء وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ حيث كانوا يفعلون ما يفعلون وينسبونه إلى شرع الله، وهم لا يعقلون أنّ ذلك افتراء على الله، وهو تنديد بهم لتعطيلهم العقل والنظر، إذ لو نظروا لعلموا أنّ هذه وثنية وشرك. والله لا يأمر بالكفر، ولا يرضاه لعباده. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) شَهادَةُ بَيْنِكُمْ: يجوز أن يكون مبتدأ وخبره اثنان، على حذف مضاف أي شهادة بينكم شهادة اثنين، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفا، أي فيما أمرتم أن

يشهدوا اثنان، ويكون اثنان فاعلا بالشهادة، وقرئ شَهادَةُ بالنصب والتنوين، أي ليقم شهادة بينكم اثنان، وعلى القراءة الأولى تكون إضافة شهادة إلى الظرف، وهو بينكم على التوسع. وإِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ: شارفه، وظهرت أمارته، وهو ظرف متعلّق بشهادة وحِينَ الْوَصِيَّةِ بدل منه، وفي هذا الإبدال تنبيه على أنّ الوصية لا ينبغي أن نتهاون فيها. ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ صفتان لاثنان أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ عطف على اثنان، وظاهر الآية أنّ المراد اثنان من المؤمنين، أو آخران من غير المؤمنين، لأنّ الله وجّه الخطاب للمؤمنين جميعا، فإذا قال: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ فهما من غير المؤمنين. وقال بعضهم: مِنْكُمْ أي من قبيلتكم، ومن غيركم، أي من غير قبيلتكم إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم فيها فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أي قاربتم الأجل، فليس المراد الموت بالفعل، وإنما المراد مشارفته، والعرب قد تعبّر بالفعل عن مقاربته ومشارفته تَحْبِسُونَهُما تقفونهما، وتصبرونهما، للحلف مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ صلاة العصر، وإنما فهمت صلاة العصر مع أن الصلاة مطلقة، لأنّها كانت معهودة للحلف عندها، وكان أهل الحجاز يقعدون للحكومة بعدها، وقيل: أي صلاة كانت، وقوله: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ جوابه محذوف دلّ عليه ما قبله، أي إن أنتم ضربتم في الأرض فآخران من غيركم، وجملة الشرط وجوابه اعتراضية، فائدتها التنبيه على أنّ شهادة اثنين من غير المسلمين إنما هي عند الضرورة، وقوله: تَحْبِسُونَهُما إما صفة لآخران، أو مستأنفة جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: ماذا نفعل بهما، فقال: تحبسونهما من بعد الصلاة. فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ أي شككتم في أمرهما، وجوابه محذوف علم مما قبله، أي فحلّفوهما لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً الضمير في به يرجع إلى القسم المفهوم من فَيُقْسِمانِ والمعنى لا نشتري بصحة القسم ثمنا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي لو كان المقسم له ذا قربى، قال الزمخشري «1» : أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال، ولو كان المقسم له قريبا على معنى أنّ هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا، وأنهم داخلون تحت قوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء: 135] . وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ لا نكتم شهادة الله، أي الشهادة التي أمر الله بحفظها.

_ (1) انظر تفسير الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للإمام الرازي (1/ 688) .

وروي عن الشعبي أنه وقف على شَهادَةُ وابتدأ اللَّهِ بمد الهمزة وتأويلها أنه حذف حرف القسم، وعوّض عنه همزة الاستفهام، والمعنى على القسم. وقرئ اللَّهِ بدون مد على القسم أيضا، وقد ذكر سيبويه أن من العرب من يطرح حرف القسم ولا يعوض منه حرف الاستفهام، فيقول: الله لقد كان كذا. فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أي اطّلع على أنهما فعلا ما أوجب إثما، واستوجبا أن يقال: إنهما من الآثمين. فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ قرئ استحقّ على البناء للمفعول، والمعنى فشاهدان آخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الإثم، أي من الذين جني عليهم، وهم أهل الميت وعشيرته، والْأَوْلَيانِ خبر لمبتدأ محذوف. أي هما الْأَوْلَيانِ كأنّه قيل: من هما؟ فقيل: الْأَوْلَيانِ أو بدل من الضمير في يقومان، ومعنى الْأَوْلَيانِ الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما بأحوال الميت، ويجوز أن يكون الْأَوْلَيانِ نائب فاعل اسْتَحَقَّ على حذف مضاف، أي استحق عليهم انتداب الأولين. وقرئ على البناء للفاعل والمعنى من الذين استحق عليهم الأوليان أو يجرّد وهما للشهادة، ويقدموهما لها، ويظهروا بهما كذب الكاذبين فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي ما اعتدينا في طلب هذا المال وفي نسبتهما إلى الخيانة، إنا إذا اعتدينا وخوّناهما وهما ليسا خائنين لمن الظالمين!. ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أي ما تقدم من الحكم أقرب أن يأتي الشهداء على نحو تلك الحادثة بالشهادة على وجهها الذي تحمّلوها عليه خوفا من عذاب الله، وهذه حكمة شرعية التحليف بالتغليظ المتقدم. وقوله تعالى: أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ بيان لحكمة ردّ اليمين على الورثة، وهو معطوف على مقدّر ينبئ عنه المقام، كأنه قيل: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويخافوا عذاب الآخرة، أو يخافوا أن تردّ أيمان على الورثة بعد أيمانهم، فيظهر كذبهم على رؤوس الأشهاد، فيكون ذلك الخوف داعيا إلى أن ينزجروا عن الخيانة التي تؤدي إليه، فأي الخوفين كان وجد المطلوب، وهو تأدية الشهادة دون تحريف ولا تبديل. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا سمع إجابة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ. يؤخذ من الآية أنّ الله طلب أن يشهد الموصي على وصيته اثنين عدلين من المؤمنين فإن كان في سفر، وأشرف على الموت، ولم يجد من المؤمنين، أشهد من غير المؤمنين على وصيته، فإذا أديا الشهادة، وارتاب ورثة الميت في شهادتهما حلف

الشاهدان بعد صلاة العصر على أنهما صادقان فيما شهدا به. فإن اطّلع على خيانة من هذين الشاهدين، فليقم اثنان من ورثة الميت الموصي، ويقسمان بالله على كذبهما، وهذا الحكم أقرب إلى أن يؤتى بالشهادة على وجهها، خوفا من الله، أو خوفا من العار. سبب نزول هاتين الآيتين أنّ تميم بن أوس الداري وعدي بن زيد خرجا إلى الشام للتجارة، وكانا حينئذ نصرانيين، ومعهما بديل بن أبي مريم مولى عمرو بن العاص، وكان مسلما مهاجرا، فلما قدموا الشام مرض بديل، فكتب كتابا فيه جميع ما معه، وطرحه في متاعه، ولم يخبرهما بذلك، وأوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله، ومات، ففتشاه، فوجدا فيه إناء من فضة منقوشا بالذهب، فأخفياه، ودفعا المتاع إلى أهله، فأصابوا فيه الكتاب، فطلبوا منهما الإناء، فقالا: ما ندري، إنما أوصى إلينا بشيء، وأمرنا أن ندفعه إليكم، ففعلنا، وما لنا بالإناء من علم، فرفعوهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية، واستحلفهما بعد صلاة العصر عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يأخذا شيئا مما دفع إليهما، ولا كتما، فحلفا على ذلك، فخلّى عليه الصلاة والسلام سبيلهما، ثم إنّ الإناء وجد بمكة، فقال من بيده الإناء: اشتريته من تميم وعدي، وقيل لما طالت المدة أظهراه، فبلغ ذلك بني سهم فطلبوه منهما، فقالا: كما اشتريناه من بديل. فقالوا: ألم نقل لكما هل باع صاحبنا من متاعه شيئا؟ فقلتما: لا. قالا: ما كان لنا بينة فكرهنا أن نقرّ به، فرفعوهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزل قوله عزّ وجلّ: فَإِنْ عُثِرَ الآية، فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان فحلفا بالله بعد العصر أنهما كذبا وخانا فدفع الإناء إليهما «1» ، وفي الآية سؤالات: أ- يؤخذ من ظاهر الآية أنّ غير المسلم تجوز شهادته على المسلم. اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ والآيات الأخرى تدلّ بعمومها على عدم صحة شهادة غير المسلمين. وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 2] مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ [البقرة: 282] وغير المسلمين ليسوا بعدول. ولمكان هذا السؤال اختلف العلماء في الجواب عنه، فذهب بعضهم إلى أنّ المراد ذوا عدل منكم، أو آخران من غيركم من غير قبيلتكم، ويبين فساد هذا الجواب أنّ الله خاطب المؤمنين عامّة في أول الآية. فإذا قال: مِنْكُمْ أو مِنْ غَيْرِكُمْ كان الظاهر من المؤمنين أو من غير المؤمنين. وذهب آخرون إلى أنّ هذه الآية قد نسخت وبطل حكمها، ويبعد هذا الجواب

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 240) ، كتاب التفسير باب ومن سورة المائدة حديث رقم (3059) .

أن دعوى النسخ لا تقبل إلا بحجة، وليس مع القائلين بالنسخ إلا مجرّد الدعوى، كيف وقد عمل بها أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعده. روي أنه شهد رجلان من أهل دقوقا على وصية مسلم فاستحلفهما أبو موسى بعد العصر ما اشترينا به ثمنا ولا كتمنا شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين، ثم قال: إن هذه القضية ما قضي بها من زمان رسول الله إلى اليوم. وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: إنه لا منسوخ في المائدة. وروي أيضا: المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلّوا حلالها، وحرّموا حرامها. وذهب آخرون إلى أن المراد من الشهادة أيمان الأوصياء للورثة، فما في الآية ليس شهادة، بل هو وصية، ويذهب إلى أنّ الأيمان قد سميت شهادة في القرآن وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ [النور: 6] . وهذا الجواب أيضا بعيد عن ظاهر الآية لأنه قال: اثْنانِ، واليمين لا تختص بالاثنين، وقال: ذَوا عَدْلٍ واليمين لا يشترط فيها ذلك، وقال: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ [النساء: 101] هو ليس شرطا أيضا في اليمين. وأحسن الأجوبة عن ذلك ما ذهب إليه علماء الحديث، وقاله الإمام أحمد: من أنه أجيزت شهادة الكفار في السفر للضرورة، قال صالح بن أحمد قال أبي: لا تجوز شهادة أهل الذمة إلا في مواضع: في السفر الذي قال الله تعالى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فأجازها أبو موسى الأشعري. وقد روي عن ابن عباس أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ من أهل الكتاب، وهذا موضع ضرورة لأنّه في سفر، ولا نجد من يشهد من المسلمين، وإنما جاءت في هذا المعنى وهو مذهب شريح، وقول سعيد بن المسيب، وحكاه عن ابن عباس. وبقي في المسألة بحث، وهو أتجوز شهادتهم عند أحمد في كل ضرورة أم لا تجوز إلا في ضرورة السفر؟ قال ابن تيمية: وقول الإمام أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضوع هو ضرورة يقتضي هذا التعبير قبولها في كل ضرورة حضرا وسفرا، ولو قيل: تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عدم فيه المسلمون لكان له وجه. هذا في شهادة الكفار على المسلمين، وأما شهادة بعضهم على بعض فذهب كثير من العلماء إلى منعها، واحتجوا بظواهر من القرآن مثل قوله: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء: 15] وقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 2] وقوله: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ [البقرة: 282] . وذهب آخرون إلى جوازها، وأجابوا عن هذه الآيات بأنّ هذا إنما هو في الحكم بين المسلمين، فإنّ السياق كله في ذلك، فإن الله تعالى قال: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ

مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ إلى قوله: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فلا تعرض في شيء من ذلك لحكم أهل الكتاب البتة. واحتجوا بقوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] فأخبر أنّ منهم الأمين على مثل هذا القدر من المال، فكونه أمينا على قرابته وأهل ملته أولى، وبقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الأنفال: 73] فأثبت لهم الولاية بعضهم على بعض. وهي أعلى رتبة من الشهادة وغاية الشهادة أن تشبّه بها، فإذا كان له أن يزوّج ابنته وأخته، ويلي مال ولده: فقبول شهادته عليه أولى وأحرى. واحتجوا أيضا بما روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنّ اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برجل منهم وامرأة زنيا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ائتوني بأربعة منكم يشهدون» وبما ثبت في «الصحيح» «1» : مرّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيهودي وقد حمم فقال: «ما شأن هذا» ؟ فقالوا: زنى، فقال: «ما تجدون في كتابكم» إلخ. فأقام الحد بقولهم، ولم يسأل اليهودي واليهودية، ولا طلب اعترافهما، وهذا هو الفقه. فإنّ أهل الذمة يتعاملون فيما بينهم بالبيع والإجارة والمداينة، وتقع بينهم الجنايات، ويتعدّى بعضهم على بعض، ولا يكون لهم شهداء إلا من أنفسهم، ويتخاصمون إلى قضاء المسلمين، فإذا لم يحكموا بينهم بشهودهم المرضيين عندهم ضاعت حقوقهم، وأدّى ذلك إلى الظلم والفساد، فالحاجة ماسّة إلى قبول شهادة بعضهم على بعض، وقد يكون بينهم الصادق الذي يتحرّى الصدق في أخباره، فيطمئن القاضي إلى قبول قوله. وإذا كان القصد من الشهادة الحكم بينهم بالعدل، ورفع التظالم، وإيصال كل ذي حق منهم إلى حقه: فكل شهادة منهم أوقعت في نفس القاضي ظنّا بصدقها وجب العمل بها للعدل والحق. ب- إنّ هذه الآية تجيز شهادة المدعين لأنفسهم واستحقاقهم بمجرد أيمانهم، وهذا يخالف ما علم من الشريعة من أنّ «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» «2» وما علم من الشريعة هو محض العدل، لأنه «لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى قوم دماء قوم وأموالهم» «3» أما جواب الجمهور عن هذا فمعروف وهو أن هذه الآية منسوخ حكمها.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1327) ، 29- كتاب الحدود، 6- باب رجم اليهود حديث رقم (28/ 1700) . [.....] (2) و (3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1336) ، 30- كتاب الأقضية، باب اليمين على المدعى عليه حديث رقم (1/ 1711) .

وأما على ما ارتضيناه من أنه لا نسخ فيها فالجواب هو ما يأتي: إنّ اليمين جعلت في جانب المدّعى عليه بقوة جانبه، بأن الأصل يشهد له، فإذا قوي جانب المدّعي بشاهد حلف معه فاليمين تكون بجانب أقوى المتداعيين شبهة. وهنا قد قوي جانب المدعي بالعثور على أنهما استحقا إثما، فلا جرم كانت اليمين في جانبهم، فليس هذا مخالفا للأصول، وإنما هو متفق معها، فقوة جانبهم بالعثور على الخيانة، كقوة جانب المدعي بالشاهد، وقوة جانبه بنكول خصمه عن اليمين، وقوة جانبه باللوث، وقوة جانبه بشهادة العرف في تداعي الزوجين وغير ذلك. ج- هذه الآية تقتضي بتحليف الشاهد، والشاهد لا يحلف وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة: 282] والجواب أنّ هذه الشهادة بدل عن شهادة المسلم للضرورة، فطلب الاحتياط فيها. على أنّ بعض السلف ذهب إلى تحليف الشاهد المسلم إذا ارتاب فيه الحاكم، وقد حلّف ابن عباس المرأة التي شهدت بالرضاع.

من سورة الأنعام

من سورة الأنعام قال الله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) لما قال المشركون: يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «الله قتلها» ، قالوا: فتزعم أنّ ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتل الصقر والكلب حلال، وما قتله الله حرام فأنزل الله قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إلخ. وجمهور المفسّرين على أنّ في الآية الأولى حصرا مستفادا من عدم اتباع المضلين المشار إليه بقوله تعالى قبل هذه الآية: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ومستفاد أيضا من الشرط إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ فيكون المعنى: اجعلوا أكلكم مقصورا على ما ذكر اسم الله عليه، ولا تتعدوه إلى الميتة، ولولا هذا القصر لم يلاق الجواب الاعتراض، ويكون الكلام متعرضا لما لا يحتاج إليه، وساكتا عما يحتاج إليه. وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه من البحائر والسوائب ونحوها. وفي ذلك إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يعولوا على عوائد الجاهلية في تحريم ما لم يحرّمه الله، ولا أن يعولوا على اعتراضاتهم وشبههم الواهية. وقوله: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ حال مؤكدة للإنكار، أي أنه ليس هناك سبب يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، والحال أنه قد بيّن المحرّم عليكم في قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى إلخ فبقي ما عدا ذلك على الحل. وقوله تعالى: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ معناه لكن الذي اضطررتم إلى أكله مما هو محرّم عليكم حلال لكم حال الضرورة. وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ معناه أن كثيرا من الكفار ليضلون الناس بتحريم الحلال وتحليل الحرام كما حرموا البحيرة والسائبة،

وأحلوا الميتة بأهوائهم وشهواتهم الباطلة، وبغير علم أصلا، إنما هو محض الهوى، وسيجازيهم الله على هذا الاعتداء لا محالة. قال الله تعالى: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) قيل: المراد اتركوا جميع المعاصي ما أعلنتم وما أسررتم. وقيل: ما عملتم وما نويتم. وقيل: ظاهِرَ الْإِثْمِ أفعال الجوارح وَباطِنَهُ أفعال القلوب. وقيل: اتركوا الزنى في الحوانيت واتخاذ الأخدان. وقد روي أنّ أهل الجاهلية كانوا يرون أنّ الزنى إذا ظهر كان إثما، وإذا استتر فلا إثم فيه. ثم أخبر الله أنه لا بدّ سيجازي مرتكبي المعاصي على عصيانهم. قال الله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) المتبادر من المقام تخصيص ما لم يذكر اسم الله عليه بالحيوان، فيكون ذلك نهيا عن الأكل من الحيوان الذي لم يذكر اسم الله عليه، فتحرم الميتة وما ذكر عليه اسم غير الله ومتروك التسمية عمدا كان تركها أم سهوا، وإلى ذلك ذهب داود، وروي عن الحسن وابن سيرين. وقال الشافعي: متروك التسمية حلال مطلقا، وهو رواية عن مالك. وذهب الحنفية إلى التفرقة بين العمد والنسيان، فحرموا متروك التسمية عمدا، وأحلّوا متروك التسمية نسيانا. وهذا هو الصحيح من مذهب مالك. وعن أحمد ثلاث روايات أصحها عندهم وهي المشهورة عنه: أن التسمية شرط للإباحة، فإن تركها عمدا أو سهوا في صيد فهو ميتة، وفي الذبيحة إن تركها سهوا حلّت، وإن تركها عمدا فعنه روايتان. وحجة داود ومن قال بقوله هذه الآية الكريمة، وهي ظاهرة في ذلك. وللحنفية في تقرير مذهبهم من الآية طريقان: الأول: أن ظاهر الآية يقتضي شمولها لمتروك التسمية نسيانا، إلا أنّ الشارع جعل الناسي ذاكرا، لعذر من جهته، وفي ذلك رفع للحرج، فإنّ الإنسان كثير النسيان، فيكون متروك التسمية سهوا مخصوصا من حكم الآية. والثاني: أنّ الناسي ليس بتارك التسمية، بل هي في قلبه على ما روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «تسمية الله على كل مسلم» وحينئذ يكون متروك التسمية عمدا أو سهوا بقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة: 3] إلى قوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ

[المائدة: 3] فأباح المذكى، ولم يذكر التسمية، وليست التسمية جزءا من مفهوم الذكاة، فإنّ الذكاة لغة الشق والفتح وقد وجدا. وبحديث البخاري وأبي داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنهم قالوا: يا رسول الله إن قومنا حديثو عهد بالجاهلية يأتون بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا أفنأكل منها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سموا وكلوا» «1» قال أصحاب الشافعي هذه التسمية المستحبة عند أكل كل طعام، وشرب كل شراب. وأجابوا عن هذه الآية بأنّ المراد فيها ما ذبح للأصنام، يدل على ذلك وجوه: الأول: أنّ من أكل متروك التسمية ليس بفاسق، وقد قال الله: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ. والثاني: أن قوله تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ يدل على أن المراد ما ذبح على اسم الأصنام، فإن معناه إنّكم لو رضيتم بهذه الذبيحة التي ذبحت على اسم الأصنام فقد رضيتم بألوهيتها، وذلك يوجب الشرك. والثالث: أن قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ لا يجوز أن يكون معطوفا على النهي قبله، لأنّ عطف الخبر على الإنشاء ضعيف إن لم يكن ممنوعا، فكان قوله: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ قيدا في النهي، فصار هذا النهي مخصوصا بما إذا كان الأكل فسقا، ثم طلبنا في كتاب الله تعالى أنه متى يكون الأكل فسقا فوجدناه مفسّرا في آية أخرى، وهي قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلى أن قال: رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فصار الفسق في هذه الآية مفسّرا بما أهلّ به لغير الله، وإذا كان كذلك كان قوله: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ مخصوصا بما أهلّ به لغير الله. وأجاب بعض الشافعية بجواب آخر وهو حمل النهي على كراهة التنزيه جمعا بين الأدلة. ومع هذا فالأولى بالمسلم أن يجتنب متروك التسمية، لأنّ ظاهر هذا النص قوي. وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ أي وإن إبليس وجنوده ليوسوسون إلى أوليائهم من المشركين ليجادلوا محمدا وأصحابه في أكل الميتة، كما سبق. وقال عكرمة: المراد بالشياطين مردة المجوس من أهل فارس، وكانوا قد كتبوا إلى قريش أنّ محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتّبعون أمر الله، ثم يزعمون أن ما يذبحونه حلال، وما يذبحه الله حرام، فوقع في أنفس المسلمين من ذلك شيء فأنزل الله هذه الآية «2» .

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 281) ، 72- كتاب الذبائح، 21- باب ذبيحة الأعراب حديث رقم (5507) ، وأبو داود في السنن (3/ 19) ، كتاب الأضاحي، باب ما جاء في أكل اللحم حديث رقم (2829) ، والنسائي في السنن (7- 8/ 272) ، كتاب الضحايا، باب ذبيحة من لم يعرف حديث رقم (4448) ، وابن ماجه في السنن (2/ 1059) ، كتاب الذبائح، باب التسمية حديث رقم (3174) . (2) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (8/ 12) .

[سورة الأنعام (6) : آية 141]

وقوله تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ يعني وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في تحليل الميتة، أو في تحليل ما أهلّ به لغير الله إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ وفيه دليل على أنّ من استحل الحرام واتبع غير الله في دينه كان كافرا، لأنه أشرك بالله غيره، بل آثر حكمه على حكم الله. وهذا الكلام على تقدير القسم وحذف اللام الموطئة، أي ولئن أطعتموهم إنّكم جواب القسم أغنى عن جواب الشرط، وأجاز المبرّد أن يكون الجواب للشرط بلفظ الماضي. قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) المعروشات من الكرم: ما يحمل على العريش، وهو عيدان تصنع كهيئة السقف، ويوضع الكرم عليها. وغير المعروشات: الملقيات على وجه الأرض من الكرم أيضا. وقيل المعروش ما يحتاج إلى عريش يحمل عليه من الكرم وما يجري مجراه. وغير المعروش: الشجر المستغني باستوائه على سوقه عن التعريش. والأكل: الثمر المأكول. والحصاد: حصد الزرع إذا انتهى وجاء زمانه. سيقت هذه الآية هي ومثيلتها السابقة في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ الآية لإقامة الدلائل على تقرير التوحيد. المعنى: أنّ الله وحده هو الذي خلق وأظهر هذه الجنات من غير أن يكون معه شريك. وقوله: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ أمر إباحة، وفائدة التقييد بقوله: إِذا أَثْمَرَ الترخيص للمالك في الأكل منه قبل أداء حقّ الله تعالى. واختلف العلماء في الحق الواجب في الثمر المفهوم من قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فعن ابن عباس أنه الزكاة الواجبة، وهي العشر، أو نصفه. وفي رواية أخرى على الخبر أيضا أنه ما كان يتصدق به يوم الحصاد بطريق الوجوب من غير تعيين المقدار، ثم نسخ بالزكاة، واختار هذه الرواية بعض العلماء، لأنّ الزكاة فرضت بالمدينة، وهذه السورة مكية. وأجاب الإمام الرازي «1» عن ذلك بأنّا لا نسلّم أنّ الزكاة لم تكن واجبة بمكة، وكون آيتها مدنية لا يدلّ على ذلك. على أنه قد قيل: إنّ هذه الآية من سورة الأنعام مدنية. وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.

_ (1) انظر تفسير مفاتيح الغيب للإمام الرازي (13/ 213) .

[سورة الأنعام (6) : آية 145]

لما أباح الله للمالك أن يأكل من الثمر قبل أداء حق الله تعالى فيه نهى عن الإسراف في الأكل المرخّص فيه قبل الحصاد، كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء، وقال الزهري: المعنى لا تنفقوا في معصية الله، ويروى نحوه عن مجاهد، فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفا، ولو أنفق درهما في معصية الله تعالى كان مسرفا. ومن هنا قال بعض الحكماء: لا سرف في الخير، ولا خير في السرف. وقال مقاتل: لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام «إنّ الله لا يحب المسرفين» بل يبغضهم من حيث إسرافهم ويعذّبهم عليه إن شاء. قال الله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) روي عن طاوس أنّ أهل الجاهلية كانوا يستحلّون أشياء، ويحرمون أشياء، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . وقد ذكر الله قبل هذه الآية ما كانوا يحرمون من الأنعام، وذمّهم على تحريم ما أحله، وعنّفهم، وأبان عن جهلهم، لأنّهم حرّموا بغير وحي من الله، ثم أتبع ذلك البيان الصحيح فقال: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إلخ فبيّن بذلك أنّ التحليل والتحريم لا يثبت كلّ منهما إلا بالوحي. وإذ ليس في الوحي محرّم غير أربعة أشياء: الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، والفسق الذي أهل لغير الله به: ثبت أنه لا يحرم إلا هذه الأربعة. واستشكلت هذه الآية بأنها حصرت المحرمات في هذه الأربعة، ولا شك أنها أكثر من ذلك. وأجيب عن ذلك بأجوبة: الأول: أن المعنى لا أجد محرّما مما كان أهل الجاهلية يحرّمونه من البحائر والسوائب كما يشير إلى ذلك سبب النزول والآيات السابقة على هذه الآية. وعلى هذا المعنى يكون الاستثناء منقطعا، أي لا أجد ما حرّموه، لكن أجد الأربعة محرّمة، والاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في إفادة الحصر، كما نبهوا على ذلك. والجواب الثاني: أن المعنى لا أجد إلى الآن محرّما على طاعم يطعمه إلا الأربعة، ولم يرتض الإمام الرازي «2» هذين الجوابين، لأنّه ورد في القرآن الكريم غير

_ (1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (8/ 50) . (2) انظر تفسير مفاتيح الغيب للإمام الرازي (13/ 219) .

هذه الآية ثلاث آيات كلّها تفيد حصر المحرمات في هذه الأربعة ففي سورة النحل قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [النحل: 115] وفي سورة البقرة قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة: 173] وإنما تفيد الحصر، فالآيتان تفيدان الحصر وفي سورة المائدة قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ [المائدة: 2] وهذه جملة حاصرة، وأجمع المفسرون على أنّ مراد الله بما يتلى هو قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] إلخ. وليس فيه إلا الأربعة، وأما المنخنقة وما معها فإنما هي من أقسام الميتة، وخصّت بالذكر لأنّهم كانوا يستحلّونها، وإذ كانت الآيات الثلاث تدل على حصر المحرم في الأربعة وجب القول بدلالة الآية التي معنا على الحصر، لتطابق الآيات التي ذكرنا، لأنّها كلها في موضوع واحد، وإن من هذه الآيات ما نزل بعد استقرار الشريعة، فآية البقرة مدنية، وليس قبلها ذكر ما كانوا يحرّمون من البحائر والسوائب، وكذلك آية المائدة مدنية، وهي من آخر القرآن نزولا، ولا شيء قبلها يقتضي تقييدها، والأصل عدم التقييد، فيدل ذلك على أنّ الحكم الثابت في الشريعة من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء. والجواب الثالث: وهو المرضي أنّ الآية وإن دلت على الحصر مخصوصة بالآيات والأخبار الدالّة على تحريم ما حرّم من غير الأربعة، مثل قوله تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف: 157] فذلك يقتضي تحريم كلّ الخبائث المستقذرة، كالنجاسات وهوام الأرض، ومثل ما رواه البخاري ومسلم في «صحيحيهما» عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية «1» . وما روياه «2» عن أبي ثعلبة الخشني أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع. وفي رواية ابن عباس: وأكل كل ذي مخلب من الطير «3» . وما روياه «4» عن عائشة وحفصة وابن عمر من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خمس من الدواب كلّهن فاسق يقتلن في

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 285) ، 72- كتاب الذبائح، 27- باب لحوم الخيل، حديث رقم (5524) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1541) ، 34- كتاب الصيد، 6- باب في أكل لحوم الخيل حديث رقم (36/ 1941) . (2) رواه البخاري في الصحيح (6/ 286) ، 72- كتاب الذبائح، 29- باب أكل كل ذي ناب حديث رقم (5530) ، ومسلم في الصحيح (3/ 1533) ، 34- كتاب الصيد، 3- باب تحريم أكل كل ذي ناب حديث رقم (12/ 1932) . (3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1534) ، 34- كتاب الصيد، 3- باب تحريم أكل ذي ناب حديث رقم (16/ 1934) . (4) سبق تخريجه.

الحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب والفأر، والكلب العقور» ففي الأمر بقتلهنّ دلالة على تحريم أكلهنّ، لأنّها لو كانت مما يؤكل لأمر بالتوصل إلى دفع أذاها بذكاتها، فلما أمر بقتلها، والقتل إنما يكون لا على وجه الذكاة، ثبت أنها غير مأكولة. وكذلك ما نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قتله، لأنّ ما يؤكل لا ينهى عن قتله. والشافعية يخصّصونها أيضا بما روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ما استخبثته العرب فهو حرام. وشنع عليهم الإمام الرازي «1» في ذلك، ولكن كلامه لا يخلو عن وهن، ورأي الشافعية في ذلك أن الحيوان الذي لم يرد فيه بخصوصه نصّ بالتحليل أو بالتحريم، ولم يؤمر بقتله، ولم ينه عن قتله، فإن استطابته العرب فهو حلال، وإن استخبثته فهو حرام. ومعتمدهم في ذلك قوله تعالى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف: 157] وقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة: 4] قالوا: وليس المراد بالطيب هنا الحلال، لأنّه لو كان المراد الحلال لكان تقديره أحل لكم الحلال، وليس فيه بيان، وإنما المراد بالطيبات ما يستطيبه العرب، وبالخبائث ما يستخبثونه، قالوا: ولا يرجع في ذلك إلى طبقات الناس، وينزل كل قوم على عادتهم في الاستطياب والاستخباث، لأنه يؤدي إلى اختلاف الأحكام في الحلال والحرام واضطرابها، وذلك يخالف قواعد الشرع، فيجب اعتبار العرب، فهم أولى الأمم بأن يؤخذ باستطيابهم واستخباثهم، لأنهم المخاطبون أولا، وهم جيل معتدل لا يغلب فيهم الانهماك على المستقذرات، ولا العفافة المتولدة من التنعم. قالوا: وإنما يرجع إلى العرب الذين هم سكان القرى والريف، دون سكان البوادي الذين يأكلون ما دب ودرج من غير تمييز، وتعتبر عادة أهل اليسار والثروة، وحال الخصب والرفاهية. وبعد فقد احتجّ بظاهر الآية: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إلخ كثير من السلف فأباحوا ما عدا المذكور فيها. فقد أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير قالت: قُلْ لا أَجِدُ إلخ. وعن ابن عباس أنه قال: ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرّم الله تعالى في كتابه: قُلْ لا أَجِدُ الآية. هذا واستدل بقوله سبحانه: عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ على أنه إنما حرّم من الميتة ما

_ (1) انظر كتاب أحكام القرآن للإمام الرازي (3/ 21) .

يتأتى فيه الأكل منها، فلم يتناول الجلد المدبوغ والشعر ونحوه، وقد فهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من النظم الكريم ذلك. أخرج أحمد «1» وغيره عن ابن عباس قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة- وفي بعض الروايات أنها كانت لميمونة- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أخذتم مسكها» فقالت: نأخذ مسك شاة قد ماتت! فقال عليه الصلاة والسلام: «إنما قال الله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً وإنكم لا تطعمونه، إن تدبغوه تنتفعوا به» . وقوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً يدلّ على أنّ المحرم من الدم ما كان سائلا. قال ابن عباس: يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء، وما يخرج من الأوداج عند الذبح، فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما، ولا الدم المختلط باللحم في المذبح، ولا ما يبقى في العروق من أجزاء الدم، فإنّ ذلك كله ليس بسائل. واستدل الشافعية بقوله سبحانه: فَإِنَّهُ رِجْسٌ على نجاسة الخنزير بناء على عود الضمير على خنزير، لأنّه أقرب مذكور.

_ (1) في المسند (6/ 334) ، والنسائي في السنن (7- 8/ 193) ، حديث رقم (4245/ 000) .

من سورة الأعراف

من سورة الأعراف قال الله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) أي إذا قرأ أيّ قارئ غيركم فاستمعوا له سماع تدبر وتذكر. واللام في قوله لَهُ قيل: إنها لام الأجل، وقيل: إنّها صلة، والمعنى فاستمعوه، وقيل: إنّها بمعنى (إلى) . والإنصات السكوت يقال: نصت وأنصت إذا سكت وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أقصى ما تبتغون. وقد وردت الآية هكذا عامة في وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في كل الأحوال، وعلى جميع الأوضاع خارج الصلاة وداخلها، كلّ ذلك يجب فيه الاستماع والإنصات للقرآن الكريم إذا قرئ. وقد اختلف العلماء في الحكم إذا كان الناس خلف الإمام هل يجب عليهم الاستماع والإنصات، ويسقط عنهم فرض القراءة، أم لا يجب عليهم؟ بل عليهم أن يقرؤوا سواء في ذلك جهريّة الإمام وسرّيته، أو ذلك خاص بالسرية دون الجهرية. ذهب الحنفية إلى أنّ المأموم لا يقرأ خلف الإمام مطلقا جهرا كان يقرأ الإمام أو سرا. وذهب جماعة إلى أنّ المأموم يقرأ إذا أسرّ الإمام، ولا يقرأ إذا جهر، وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد والزهري ومالك وابن المبارك وأحمد. وذهب الشافعي رضي الله عنه فيما رواه المزني عنه إلى أن المأموم يقرأ مطلقا أسرّ الإمام أو جهر، وروى البويطي عنه أنّه يقرأ في السرية أمّ القرآن، ويضم السورة، وفي الجهرية أمّ القرآن فقط. قال الآلوسي: والمشهور عند الشافعي أنّه لا سورة للمأموم الذي يسمع الإمام في جهرية، بل يستمع، فإن بعد بأن لم يسمع، أو سمع صوتا لا يميز حرفه، أو كانت سرّيّة قرأ في الأصح. تلك هي آراء العلماء في قراءة المأموم خلف الإمام، والحنفية يحتجون بظاهر

هذه الآية، يقولون: إن الله تعالى طلب ممن قرئ القرآن بمحضر منه شيئين: الاستماع والإنصات، وذلك عام في كل الأحوال والأوقات، لا يخرج منه شيء إلا ما أخرجه الدليل، فإن أخرج الدليل مثلا ما إذا كان المصلي يصلي وآخر ليس معه في الصلاة يقرأ، كان ذلك خارجا، وبقي ما عداه على وجوب الاستماع والسكوت، وإذا كانت سرية اكتفينا منه بالإنصات، لأنه الممكن، وهو يعلم أنّ الإمام يقرأ، فعليه أن يلزم الصمت عملا بهذه الآية. والحنفية في هذا الذي ذهبوا إليه يشاركون كثيرا من جلة الصحابة رضوان الله عليهم، فهو مذهب علي، وابن مسعود، وسعد، وجابر، وابن عباس، وأبي الدرداء، وأبي سعيد، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأنس. بل لقد روي عن بعضهم ذمّ من قرأ خلف الإمام، فقد روى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي كرم الله وجهه قال: من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة. وعن زيد بن ثابت قال: من قرأ خلف الإمام ملئ فوه ترابا. وروي عنه أنّ من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له. وقال الشعبي: أدركت سبعين بدريا كلهم يمنعون المقتدي عن القراءة خلف الإمام. ويروي الحنفية تأييدا لمذهبهم أخبارا كثيرة بعضها مرفوع وفي رفعه مقال، وبعضها مرسل. من ذلك ما أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في «سننه» عن مجاهد قال: قرأ رجل من الأنصار خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة فنزلت: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ إلخ. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به، فإذا كبّر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا» «1» . وأخرج أيضا عن جابر أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كان له إمام فقراءته له قراءة» . وكل ما قيل في هذا الحديث أنّه مرسل، والحنفية يحتجون بالمراسيل. على أنه قد رواه أبو حنيفة مرفوعا بسند صحيح. روى محمد بن الحسن في «موطئه» قال: أنبأنا أبو حنيفة حدثنا أبو الحسن موسى ابن أبي عائشة عن عبد الله بن

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (1/ 201) ، 10- كتاب الأذان، 82- باب إيجاب التكبير حديث رقم (734) ، ومسلم في الصحيح (1/ 309) ، 4- كتاب الصلاة، 19- باب ائتمام المأموم حديث رقم (86/ 414) .

شداد، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى خلف إمام فإنّ قراءته له قراءة» والروايات في ذلك كثيرة، وفي بعضها عن أبي حنيفة أنّ رجلا قرأ خلف النبي في الصلاة فنهاه آخر فتنازعا، وكان ذلك في الظهر أو العصر، فذكرا ذلك للنبي فقال الذي قدمنا لك. هذا طرف مما يحتج به الحنفية لمذهبهم. وأما حجة المالكية ومن يرى رأيهم: فما رواه مالك وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: «هل قرأ أحد منكم آنفا» ، فقال رجل: نعم يا رسول الله، فقال: «إني أقول ما لي أنازع في القرآن» قال فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما جهر فيه من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «1» . وروى مسلم «2» عن عمران بن حصين قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنا صلاة الظهر أو العصر، فقال: «أيكم قرأ خلفي بسبح اسم ربك الأعلى» ؟ فقال رجل: أنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قد علمت أنّ بعضكم خالجنيها» . وروي عن عبادة بن الصامت قال: صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: «إنّي لأراكم تقرءون وراء إمامكم» قال قلنا: يا رسول الله إي والله، قال: «فلا تفعلوا إلا بأمّ القرآن» «3» وأنت ترى أن هذين الحديثين يدلان على مذهب الشافعية لا على مذهب المالكية. والشافعية يستدلون بهذين الحديثين وبما ثبت من أنّه لا صلاة إلا بقراءة، ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب، وبقوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وقد جمع البخاري في المسألة جزءا كاملا، وكان رأيه رحمه الله أنّ المأموم يقرأ الفاتحة خلف الإمام في الصلاة الجهرية، وهو مذهب الشافعي ورواية عن مالك رحمه الله، وعلى كلّ حال فإنّ أدلة هذه المسألة متعارضة، وقد سلك كلّ إمام طريقا في الجمع بينها، وموضع ذلك كتب الفقه. قال الله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) قيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو أمر بإخفاء كلّ ذكر، لأنّ الإخفاء أدخل في

_ (1) رواه أبو داود في السنن (1/ 313) ، كتاب الصلاة، باب من كره القراءة حديث رقم (826) ، والنسائي في السنن (1- 2/ 478) ، كتاب الافتتاح، باب ترك القراءة حديث رقم (918) . [.....] (2) رواه مسلم في الصحيح (1/ 298) ، 4- كتاب الصلاة، 12- باب نهي المأموم حديث رقم (47/ 398) . (3) رواه أبو داود في السنن (1/ 311) ، كتاب الصلاة، باب من ترك القراءة حديث رقم (823) .

الإخلاص، وقيل: المراد بالذكر في النفس أن يكون عارفا بمعاني الأذكار التي يردّدها على لسانه، مستحضرا لصفات الكمال والعظمة والجلال، وذلك لأنّ المراد من الذكر أثره، وهو الخشية، فما لم يكن ذاكرا بقلبه فكيف يخشى. وقيل: الخطاب لمستمع القرآن، والمراد أمر المأموم بالقراءة سرّا بعد فراغ الإمام من قراءته تَضَرُّعاً وَخِيفَةً أي متضرعا خائفا وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أي ذاكرا متكلما بكلام هو دون الجهر من القول. قال ابن عباس هو أن يسمع نفسه. وقيل: المراد أن يقع الذكر متوسطا بين الجهر والمخافتة، على حدّ قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها [الإسراء: 110] . بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. الغدو جمع غدوة، وهي ما بين صلاة الغداة إلى طلوع الشمس. والآصال: جمع الجمع لأصيل، وقيل: غير هذا، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس، وإنما خصّ هذين الوقتين بالذكر، قيل: لأنهما وقتا هجوع وسكون، فيكون الذكر فيهما ألصق بالقلب وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ عن ذكر الله إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) هم الملائكة، فهم ينزّهونه، ويخصّونه بغاية العبودية. وهذه آية من آيات السجدة المعدودة في القرآن، طلب السجود ممن قرأها، أو سمعها، روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول يا ويله، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» «1» .

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 87) ، 1- كتاب الإيمان، 35- باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة حديث رقم (133/ 81) .

تفسير آيات الاحكام لفضيلة الشيخ محمّد علي السايس تحقيق ناجي إبراهيم سويدان المجلّد الثاني المكتبة العصريّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

من سورة الأنفال

بسم الله الرّحمن الرّحيم من سورة الأنفال قال الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) هذه السورة كلّها مدنية، وقيل: هي مدنية إلا قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وقيل: إلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وبعضهم استثنى خمس آيات بعد آية وَإِذْ يَمْكُرُ. ومناسبتها لسورة الأعراف: أنها في بيان حال الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع قومه، وسورة الأعراف مبينة لأحوال أشهر الرسل مع أقوامهم. وسبب نزول هذه الآية ما أخرجه أحمد وابن حبّان والحاكم من حديث عبادة بن الصّامت رضي الله عنه أنّ المسلمين اختلفوا في غنائم بدر، وفي قسمتها، فسألوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم كيف تقسم، ولمن الحكم فيها، أهي للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا؟ فنزلت «1» . والسؤال إمّا لاستدعاء معنى في نفس المسئول، وهذا يتعدّى بنفسه تارة، وبعن أخرى، كما في هذه الآية. وإما لاقتضاء مال، فيتعدّى لاثنين بنفسه، نحو سألت زيدا مالا، وقد يتعدّى بمن، وفاعل السؤال يعود على معلوم، وهو من حضر بدرا. والأنفال جمع نفل كسبب وأسباب، وهو في أصل اللغة من النّفل بفتح فسكون- أي الزيادة- ولذا سمي التطوع وولد الولد نافلة، ثم صار حقيقة في العطية لكونها تبرعا غير لازم. وتسمّى الغنيمة نفلا لأنّها منحة من الله من غير وجوب، أو لأن المسلمين فضّلوا بها على سائر الأمم التي لم تحلّ لهم، أو لأنها زيادة على ما شرع الجهاد له، وهو إعلاء كلمة الله: كذلك يسمّى بالنفل ما يشترطه الإمام للغازي زيادة على سهمه. وبعضهم فرّق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص: فالغنيمة ما حصل

_ (1) انظر تفسير ابن جرير الطبري المسمى جامع البيان (9/ 116) .

مستغنما ببعث كان أو بغير بعث، قبل الظفر أو بعده. والنفل ما كان قبل الظفر أو ما كان بغير قتال، وهو الفيء، أو ما يفضل عن القسم. إذا تبين هذا فاعلم أن الراجح هنا كون السؤال سؤال استفتاء لا استعطاء، وأنّ المراد بالأنفال الغنائم لا المشروط للغازي زيادة على سهمه، ويؤيد ذلك الراجح أمور: 1- أنّ هذا أول تشريع للغنيمة. 2- ما تقدّم من سبب النزول. 3- قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ فإنّه لو كان السؤال طلبا للمشروط لما كان هناك محذور يجب اتقاؤه. ومن ذهب إلى المرجوح وهو أن السؤال سؤال استعطاء، وأن النفل ما يشترط للغازي فقد التزم زيادة (عن) أو جعلها بمعنى (من) وهو تكلّف لا ضرورة إليه. ويبعده أيضا الجواب بقوله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فإنّ المراد به اختصاص أمرها وحكمها بالله تعالى ورسوله، فيقسمها النبي عليه الصلاة والسلام كما يأمره الله تعالى من غير أن يدخل فيه رأي أحد، ولو كان السؤال سؤال استعطاء، و (عن) زائدة لما كان هذا جوابا له، فإنّ اختصاص حكم ما شرط لهم بالله ورسوله لا ينافي إعطاءه إياهم، بل يحققه، لأنّهم إنما يسألون بموجب شرط الرسول عليه الصلاة والسلام الصادر عنه بإذن الله، لا بحكم سبق أيديهم إليه مما يخل بالاختصاص المذكور. والمعنى: يسألونك يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم ولمن الحكم فيها قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي قل لهم: الأنفال لله يحكم فيها بحكمه، وللرسول يقسمها بحسب حكم الله تعالى. وهذه الآية محكمة بيّن فيها إجمالا أنّ الأمر مفوّض لرسول الله، وآية وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ إلخ فصّلت هذا الإجمال ببيان مصارف الغنيمة، فلا تكون ناسخة لها فَاتَّقُوا اللَّهَ أي وإذا كان أمر الغنائم لله ورسوله فاتقوه سبحانه، واجتنبوا ما أنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجب لشق العصا وسخطه تعالى، أو فاتقوه في كل ما تأتون وتذرون، فيدخل ما هم فيه دخولا أوليا وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي أصلحوا نفس ما بينكم، وهي الحال والصلة التي بينكم تربط بعضكم ببعض، وهي رابطة الإسلام، وإصلاحها يكون بالوفاق والتعاون والمواساة وترك الأثرة والتفوق، وبالإيثار أيضا، فذات بمعنى حقيقة الشيء ونفسه مفعول به، وقيل: إنّ (ذات) بمعنى صاحبة، صفة لمفعول محذوف، أي أحوالا ذات بينكم، ولما كانت

ما يستنبط من الآية

الأحوال ملابسة للبين أضيفت إليه، كما تقول: اسقني ذا إنائك أي ما فيه، جعل كأنه صاحبه. والبين في أصل اللغة يطلق على الاتصال والافتراق، وكل ما بين طرفين كما قال تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: 94] برفع بين بمعنى الوصل، وبنصبه على الظرفية بمعنى وقع التقطع بينكم. ومن استعمال البين بمعنى الافتراق والوصل قول الشاعر: فو الله لولا البين لم يكن الهوى ... ولولا الهوى ما حنّ للبين آلف وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الغنائم، وفي كل أمر ونهي، وقضاء وحكم، وذكر الاسم الجليل في الأمرين لتربية المهابة وتعليل الحكم. وذكر الرسول مع الله تعالى أولا وآخرا لتعظيم شأنه، وإظهار شرفه، والإيذان بأنّ طاعته عليه الصلاة والسلام طاعة الله تعالى: وتوسيط الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى، والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح، وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ متعلق بالأوامر الثلاثة، والجواب محذوف لدلالة ما تقدّم عليه، أي فامتثلوا الأوامر الثلاثة فإنّ الإيمان يقتضي ذلك كله، أو الجواب نفس ما تقدم على الخلاف. وأيا ما كان، فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه، لا التشكيك في إيمانهم، وهو يكفي في التعليق بالشرط. والمراد بالإيمان التصديق، ولا خفاء في اقتضائه ما ذكر على معنى أن من شأنه ذلك، لا أنه لازم له حقيقة. وقد يراد بالإيمان الإيمان الكامل، والأعمال شرط فيه، أو شطر، فالمعنى إن كنتم كاملي الإيمان فإنّ كمال الإيمان يدور على تلك الخصال الثلاثة: الاتقاء والإصلاح وإطاعة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. ما يستنبط من الآية يستفاد منها أمور: 1- حرص الصحابة على السؤال عما يهمهم من أمر دينهم. 2- إنّ الأحكام مرجعها إلى الله تعالى ورسوله، لا إلى غيرهما. 3- اهتمام الشارع بإصلاح ذات البين، فهو واجب شرعا لتوقف قوة الأمة عليه وعزتها ومنعتها، ولحفظ وحدتها به. 4- إن امتثال ما أمر به الشارع من ثمرات الإيمان. والله أعلم.

[سورة الأنفال (8) : الآيات 15 إلى 16]

قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) (الزحف) قال الأزهري: أصل الزحف للصبي، وهو أن يزحف على استه قبل أن يقوم. وشبّه بزحف الصبي مشي الطائفتين اللتين تذهب كل واحدة منهما إلى صاحبتها للقتال، فتمشي كلّ فئة مشيا إلى الفئة الأخرى قبل التداني للضّراب. وقال الزمخشري «1» : الزحف الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنّه يزحف، أي يدبّ دبيبا، من زحف الصبي إذا دبّ على استه قليلا، سمي بالمصدر، والجمع زحوف. فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ أي لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم. إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ المتحرّف للقتال هو الذي يفرّ موهما قرنه أنه منهزم، فإذا تبعه عطف عليه فقتله، وهو باب من خدع الحرب ومكايدها، وهو حال من فاعل يُوَلِّهِمْ والاستثناء مفرّغ، أو منصوب على الاستثناء أي وَمَنْ يُوَلِّهِمْ إلا رجلا متحرفا لقتال. أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ التحيّز التنحي. والفئة: الجماعة. نهى الله عن الفرار، وتوعّد عليه أشدّ الوعيد، وهو أن يرجع بغضب من الله، وأنّ مقره في جهنم، ولم يبح الفرار إلا لاثنين: أحدهما: المتحرّف للقتال، وهو الذي يفرّ، ثم يكرّ مكيدة منه وخدعة. والثاني: الرجل الذي يرى أنّه كالمنفرد، ويرى جماعة من المسلمين تحميه إذا انحاز إليها. روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: خرجت سرية وأنا فيهم، ففروا، فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا، فدخلوا البيوت، فقلت: يا رسول الله نحن الفرّارون؟ فقال: «بل أنتم العكارون وأنا فئتكم» «2» والعكارون الكرّارون العطّافون. وانهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! هلكت فررت من الزحف، فقال عمر رضي الله عنه: أنا فئتك. وهذه الآية حرّمت الفرار من القتال، وأما كم عدد العدو الذي يحرم الفرار منه فقد بينته آية الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الأنفال: 66] .

_ (1) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الكتب العلمية (2/ 199) . (2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح حديث رقم (1770) .

[سورة الأنفال (8) : آية 41]

قال الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) هذه الآية بيّنت أن غنائم الحرب تخمّس، فيجعل خمس لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وأربعة الأخماس الباقية بينت السنة أنّها تقسّم على الجيش، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، أو سهمان على خلاف في الروايات. وقد اختلف العلماء فيما هي الغنيمة والفيء. فقال بعضهم: الغنيمة ما أخذ عنوة من الكافرين في الحرب، والفيء ما أخذ عن صلح، وقال بعضهم: الغنيمة ما أخذ من مال منقول، والفيء الأرضون. وقال آخرون: الغنيمة والفيء بمعنى واحد، وزعموا أن هذه الآية ناسخة لآية الحشر، فإنّ آية الحشر [7] جعلت الفيء كلّه لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وهذه الآية جعلت لهم الخمس فقط، فتكون هذه ناسخة لتلك، والظاهر أن الغنيمة والفيء مختلفان ولا نسخ. وقد ذكرت الآية أنّ الخمس لستة: أولها: الله عزّ وجلّ، وقد اختلف المفسرون فيه على قولين: 1- أن قوله: لِلَّهِ خُمُسَهُ مفتاح كلام لم يقصد به أنّ الخمس يقسم على ستة منها الله، فلله الدنيا والآخرة، بل يقسّم الخمس على خمسة للرسول ولذي القربى إلخ. ويكون الغرض من ذكر الله تعليمنا التبرك بذكره، وافتتاح الأمور باسمه. أو يكون معناه أنّ الخمس مصروف في وجوه القرب إلى الله. ثم بيّن تلك الوجوه فقال: للرسول ولذي القربى، فأجمل أولا، ثم فصّل. فإن قيل: لو أراد ذلك لقال: فإنّ لله خمسه للرسول دون (واو) . قيل: إن العرب قد تذكر الواو والمراد إلغاؤها، كما قال تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) [الصافات: 103] والمراد فلما أسلما تله للجبين، لأنه جواب لما. وكما قال الشاعر: لي شيء يوافق بعض شيء ... وأحيانا، وباطله كثير والمعنى يوافق بعض شيء أحيانا. 2- إنّ المراد لبيت الله، فسهم الله يصرف في الكعبة نقل عن أبي العالية والظاهر القول الأول لإجماع الحجة عليه. ثانيها: رسول الله، وقد ذكر بعضهم أنه افتتاح كلام كما قالوه في الله، والغنيمة تقسم على أربعة. وقال الأكثرون: إن الغنيمة تقسم على خمسة أولها سهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم يضعه حيث رأى.

ثالثها: ذوو القربى والمراد بها قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد اختلف في ذوي القربى: فقيل: هم قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بني هاشم، وقيل: هم قريش كلها، وقيل: هم بنو هاشم وبنو المطلب وهو الراجح، فقد أخرج ابن جرير «1» عن جبير بن مطعم قال: لما قسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه فقلنا: يا رسول الله! هؤلاء إخوتك بنو هاشم، لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله به منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال: «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» ثم شبّك رسول الله يديه إحداهما بالأخرى. وقيل: إن سهم ذوي القربى طعمة لرسول الله- هذا كله إذا كان رسول الله حيا- فأما بعد وفاته، فقد اختلف العلماء في سهمه وسهم ذوي قرباه، فقيل: يصرفان في معونة الإسلام وأهله وفي الخيل والسلاح. وقيل: هما للإمام من بعده روي عن قتادة أنه سئل عن سهم ذوي القربى، فقال: كان طعمة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كان حيّا فلما توفي جعل لولي الأمر من بعده. وقال العراقيون: سهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مردود في الخمس، والخمس مقسوم على ثلاثة أسهم على اليتامى والمساكين وابن السبيل، ويقال لهم: سهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سقط بموته فما الذي أسقط سهم ذوي القربى ولا يلزم من سقوط حق أحد المستحقين سقوط الآخرين. وقال بعضهم: سهم النبي لقرابة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال قائلون: سهم القرابة لقرابة الخليفة، ثم اجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وكأنّهما كانا يريان أنّ سهم ذوي القربى كان طعمة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته، وهو لا يورث «2» فجعلا هذين السهمين في سبيل الله. رابعها: اليتامى، وهم أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم. خامسها: المساكين، وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين. سادسها: ابن السبيل، وهو المجتاز سفرا قد انقطع به. وقد خالفت المالكية هذه الأقوال المتقدمة جميعها، ورأوا أنّ خمس الغنيمة

_ (1) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (10/ 5) . (2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1380) ، 32- كتاب الجهاد، 16- باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا نورث» حديث رقم (1752) ، والبخاري في الصحيح (8/ 4) ، 85- كتاب الفرائض، 2- باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا نورث» حديث رقم (6725) .

يجعل في بيت المال، ينفق منه على من ذكر، وعلى غيرهم، بحسب ما يراه الإمام، وكأنّهم رأوا أن ذكر هذه الأصناف على سبيل المثال، وهو من باب الخاص أريد به العام. وأصحاب الأقوال والمتقدمة رأوا أنه من باب الخاص أريد به الخاص. روى ابن القاسم وأشهب وعبد الملك «1» عن مالك أن الفيء والخمس يجعلان في بيت المال، ويعطى الإمام قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهما. وروى ابن القاسم عن مالك أنّ الفيء والخمس واحد. والذي جعل المالكية يذهبون هذا المذهب أخبار ثبتت في المغازي والسير: 1- روي في «الصحيح» «2» أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث سرية قبل نجد فأصابوا في سهمانهم اثني عشر بعيرا، ونفلوا بعيرا بعيرا. 2- ثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في أسارى بدر: لو كان المطعم بن عدي حيّا وكلّمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له «3» . 3- ثبت أنّه صلّى الله عليه وسلّم ردّ سبي هوازن وفيه الخمس «4» . 4- روي في «الصحيح» «5» عن عبد الله بن مسعود قال: آثر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين أناسا في الغنيمة، فأعطى الأقرع بن حابس مئة من الإبل، وأعطى عيينة مئة من الإبل، وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل والله إنّ هذه القسمة ما عدل فيها أو ما أريد بها وجه الله. فقلت: والله لأخبرنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته، فقال: «يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر» . 5- قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم» «6» . فمن هذه الأحاديث تعلم أنه قد أعطي من الخمس للمؤلفة قلوبهم وليسوا ممن

_ (1) فقيه مالكي، ومؤرخ، أندلسي، صاحب كتاب الواضحة، انظر الأعلام للزركلي (4/ 157) . (2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 68) ، 32- كتاب الجهاد، 12- باب الأنفال حديث رقم (1749) ، والبخاري في الصحيح (4/ 66) ، 57- كتاب الخمس، 15- باب ومن الدليل على أن الخمس حديث رقم (3134) . (3) رواه البخاري في الصحيح (4/ 67) ، 57- كتاب الخمس، 16- باب ما منّ النبي صلّى الله عليه وسلّم على أسارى حديث رقم (3139) . (4) رواه البخاري في الصحيح (4/ 67) ، 57- كتاب الخمس، 15- باب من الدليل على أن الخمس حديث رقم (3131) ، (3134) . (5) رواه مسلم في الصحيح (2/ 738) ، 12- كتاب الزكاة، 46- باب إعطاء المؤلفة حديث رقم (139/ 1062) . (6) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1376) ، 32- كتاب الجهاد، 14- باب التنفيل حديث رقم (47/ 1756) . [.....]

[سورة الأنفال (8) : الآيات 72 إلى 75]

ذكر الله في التقسيم، وأنه قد ردّه على المجاهدين بأعيانهم، وأنه قد أعطى بعضه وكله: وهذا يدل على أنّ ذكر هذه الأصناف في الآية بيان لبعض المصارف، لا بيان استحقاق وملك إذ لو كان استحقاقا وملكا لما جعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض الأحيان في غيرهم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. يقول الله: أيقنوا أنما غنمتم من شيء فقسمه كما بيّنت لكم، فاقطعوا أطماعكم عما ليس لكم من الخمس إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم يوم فرّقنا بين الحق والباطل ببدر، فأدلنا للمؤمنين من الكافرين، وذلك يوم التقى الجمعان، جمع المؤمنين وجمع المشركين، والله على ذلك وغيره قدير لا يمتنع عليه شيء أراده. قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) كان المؤمنون في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم أربعة أصناف: الأول: المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر، وربما تمتد أو يمتد حكمها إلى صلح الحديبية سنة ست. الثاني: الأنصار. الثالث: المؤمنون الذين لم يهاجروا. الرابع: المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية. وقد بين في هذه الآيات حكم كل منها ومكانتها فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذا هو الصنف الأول وهو الأفضل الأكمل. وقد وصفهم بالإيمان- والمراد به التصديق- بكل ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، ووصفهم بالمهاجرة من ديارهم وأوطانهم فرارا بدينهم من فتنة المشركين إرضاء لله تعالى ونصرا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، ووصفهم بالجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. فالجهاد بذل الجهد بقدر الوسع والطاقة ومصارعة المشاق. فأما ما كان منه بالأموال فهو قسمان: إيجابي: وهو إنفاقها في التعاون

والهجرة، ثم في الدفاع عن دين الله كصرفها للكراع والسلاح، وعلى المحاويج من المسلمين، وسلبي: وهو سخاء النفس بترك ما تركوه في وطنهم عند خروجهم منه وأما ما كان منه بالنفس فهو قسمان أيضا: قتال الأعداء وعدم المبالاة بكثرة عددهم وعددهم، وما كان قبل إيجاب القتال من مغالبة الشدائد، والصبر على الاضطهاد، والهجرة من البلاد. وقوله: فِي سَبِيلِ اللَّهِ قيل: هو متعلق بجاهدوا قيد لنوعي الجهاد، ويجوز أن يكون من باب التنازع في العمل بين هاجروا وجاهدوا. ولعل تقديم الأموال على الأنفس لما أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعا وأتم دفعا للحاجة حيث لا يتصور المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالمال. وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا هذا هو الصنف الثاني في الفضل كالذكر. ووصفهم بأنهم الذين آووا الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومن هاجر إليهم من أصحابه، ونصروهم، ولولا ذلك لم تحصل فائدة الهجرة، ولم يكن مبدأ القوة والسيادة، فالإيواء يتضمن معنى التأمين من المخافة، إذ المأوى هو الملجأ والمأمن، ومنه إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ [الكهف: 10] آوى إِلَيْهِ أَخاهُ [يوسف: 69] وقد كانت يثرب مأوى وملجأ للمهاجرين، شاركهم أهلها في أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، وكانوا أنصارا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقاتلون من قاتله، ويعادون من عاداه، ولذلك جعل الله حكمهم وحكم المهاجرين واحدا في قوله: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي يتولى بعضهم من أمر الآخرين أفرادا أو جماعات ما يتولونه من أمر أنفسهم عند الحاجة من تعاون وتناصر في القتال، وما يتعلق به من الغنائم، وغير ذلك، لأنّ حقوقهم ومصالحهم مشتركة، حتى إن المسلمين يرثون من لا وارث له من الأقارب. وقال بعض المفسرين: إن الولاية هنا خاصة بولاية الإرث، لأنّ المسلمين كانوا يتوارثون في أول الأمر بالإسلام، والهجرة دون القرابة، بمعنى أنّ المسلم المقيم في البادية أو في مكة أو غيرها من بلاد الشرك لم يكن يرث المسلم الذي في المدينة وما في حكمها إلا إذا هاجر إليها، فيرث ممن بينه وبينه مؤاخاة من الأنصار، وذلك أنّ المهاجري كان يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري، ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري، واستمر ذلك إلى أن فتحت مكة، وزال وجوب الهجرة، وغلب حكم الإسلام، فنسخ التوارث بالإسلام المصاحب للهجرة، وهذا التخصيص باطل، والمتعين أن يكون لفظ الأولياء عاما يشمل كل معنى يحتمله كما تقدم. والمقام الذي نزلت فيه هذه الآية- بل السورة كلها- يأبى أن يكون المراد به حكما مدنيا من أحكام الأموال فقط، فهي في الحرب، وعلاقة المؤمنين بعضهم ببعض،

وعلاقتهم بالكفار. وكل ما يصح في مسألة التوارث أنها داخلة في عموم هذه الولاية. وقال الأصم: الآية محكمة، والمراد: الولاية بالنصرة والمظاهرة، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا هذا هو الصنف الثالث من أصناف المؤمنين، وهم المقيمون في أرض الشرك تحت سلطان المشركين وحكمهم- وهي دار الحرب والشرك- بخلاف من يأسره الكفار من أهل دار الإسلام، فله حكم أهل هذه الدار. وكان حكم غير المهاجرين أنه لا يثبت لهم شيء من ولاية المؤمنين الذين في دار الإسلام، إذ لا سبيل إلى نصر أولئك لهم، ولا إلى تنفيذ هؤلاء لأحكام الإسلام فيهم. والولاية حقّ مشترك على سبيل التبادل، ولكنّ الله خص من عموم الولاية المنفية الشامل لما ذكرنا من الأحكام شيئا واحد فقال: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ فأثبت لهم حق نصرهم على الكفار إذا قاتلوهم أو اضطهدوهم لأجل دينهم. وإن كانوا هم لا ينصرون أهل دار الإسلام لعجزهم، ثم استثنى من هذا الحكم حالة واحدة. فقال: إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ يعني إنما يجب عليكم أن تنصروهم إذا استنصروكم في الدين على الكفار الحربيين، دون المعاهدين، فهؤلاء يجب الوفاء بعهدهم، لأنّ الإسلام لا يبيح الغدر والخيانة بنقض العهود. وهذا الحكم من أركان سياسة الإسلام الخارجية العادلة وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا تخالفوا أمره، ولا تتجاوزوا ما حدّه لكم، كيلا يحل عليكم عقابه. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي في النصرة والتعاون على قتال المسلمين، فهم في جملتهم فريق واحد تجاه المسلمين، وإن كانوا مللا كثيرة يعادي بعضهم بعضا. وقيل: إنّ الولاية هنا ولاية الإرث كما قيل بذلك في ولاية المؤمنين فيما قبلها، وجعلوه الأصل في عدم التوارث بين المسلمين والكفار. وفي إرث ملل الكفر بعضهم لبعض. وقول بعض المفسرين: إن هذه الجملة تدل بمفهومها على نفي المؤازرة والمناصرة بين جميع الكفار وبين المسلمين، وإيجاب المباعدة والمصارمة وإن كانوا أقارب غير مسلّمين، لأنّ صلة الرحم عامة في الإسلام للمسلم والكافر كتحريم الخيانة. والأصح عند الشافعية أنّ الكافر يرث الكافر، وهو قول الحنفية والأكثر، ومقابله عند مالك وأحمد. وعنهما التفرقة بين الذمي والحربي، وكذا عند الشافعية. وعن أبي حنيفة «1» لا يتوارث حربي من ذمي، فإن كانا حربيين شرط أن يكونا من دار واحدة.

_ (1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني ط 1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1990 (2/ 610) .

وعند الشافعية لا فرق. وعندهم وجه كالحنفية، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ أي إن لم تفعلوا ما ذكر، وهو ما شرع لكم من ولاية بعضكم لبعض، وتناصركم وتعاونكم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ تحصل فتنة عظيمة فيها: هي ضعف الإيمان، وظهور الكفر بتخاذلكم وفشلكم المفضي إلى ظفر الكفار بكم، واضطهادكم في دينكم، لصدكم عنه وَفَسادٌ كَبِيرٌ وهو سفك الدماء على ما روي عن الحسن، فالمراد فساد كبير فيها. وقيل: مفسدة كبيرة في الدين والدنيا. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا هذا ليس مكررا مع ما تقدم، لأنّ مساق الأول لإيجاب التواصل بينهما، ومساق الثاني الثناء عليهم، والشهادة لهم بأنهم هم المؤمنون حقّ الإيمان وأكمله، دون من أقام بدار الشرك مع حاجة الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين إلى هجرته، وأعاد وصفهم الأول لأنهم به كانوا أهلا لهذه الشهادة، وما يليها من الجزاء المذكور في قوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لا يقدر قدرها وَرِزْقٌ كَرِيمٌ لا تبعة له ولا منة فيه. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ هذا هو الصنف الرابع من المؤمنين في ذلك العهد، وهم من تأخر إيمانهم وهجرتهم عن الهجرة الأولى، أو عن نزول هذه الآيات. فيكون الفعل الماضي آمَنُوا وما بعده بمعنى المستقبل، وقيل: عن يوم بدر، وقيل: عن صلح الحديبية، وكان سنة ست. وجعلهم تبعا لهم وعدهم منهم دليل على فضل السابقين على اللاحقين. وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أولوا الأرحام أصحاب القرابة، وهو جمع رحم ككتف وقفل. وأصله رحم المرأة الذي هو موضع تكوين الولد من بطنها، ويسمّى به الأقارب، لأنهم في الغالب من رحم واحد. وفي اصطلاح علماء الفرائض: هم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب. والمعنى المتبادر من نص الآية أنها في ولاية الرحم والقرابة بعد بيان ولاية الإيمان والهجرة. فهو عزّ وجلّ يقول: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ أجدر وأحق من المهاجرين والأنصار الأجانب بالتناصر والتعاون. وكذا التوارث في دار الهجرة في عهد وجوب الهجرة. ثم في كل عهد هم أولى بذلك فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين، وأوجب به عليهم صلة الأرحام والوصية بالوالدين وذي القرابة في هذه الآية وغيرها. وجملة القول إنّ أولوية أولي الأرحام بعضهم ببعض هو تفضيل لولايتهم على ما هو أعم منها من ولاية الإيمان وولاية الهجرة في عهدها. فالقريب أولى بقريبه ذي رحمه المؤمن المهاجر والأنصاري من المؤمن الأجنبي. وأما قريبه الكافر فإن كان

ما يستفاد من الآيات

محاربا للمؤمنين فالكفر مع القتال يقطعان له حقوق الرحم. ثم ختم الله هذه السورة بقوله: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو تذييل لجميع أحكام السورة وحكمها، مبيّن أنها محكمة لا وجه لنسخها ولا نقضها. فالمعنى: أنه شرع لكم هذه الأحكام في الولاية العامة والخاصة والعهود وصلة الأرحام عن علم واسع محيط بكل شيء من مصالحكم الدينية والدنيوية. ما يستفاد من الآيات 1- ثبوت ولاية النصرة بين المؤمنين في دار الإسلام. 2- عدم ثبوت ولاية النصرة بين المؤمنين الذين في دار الإسلام والمؤمنين في دار الحرب أو خارج دار الإسلام إلا على من يقاتلهم لأجل دينهم، فيجب نصرهم عليه إذا لم يكن بيننا وبينه ميثاق صلح وسلام بحيث يكون نصرهم عليه نقضا لميثاقه. 3- ولاية الكفار بعضهم لبعض. 4- أننا إذا لم نمتثل ما شرعه الله من تحقيق ولاية النصرة بيننا بأن والينا الكفار أدى ذلك إلى ضعفنا، وظهورهم علينا. 5- أن ما شرعه الله سبحانه من أحكام القتال والغنائم وقواعد التشريع وسنن التكوين والاجتماع، وأصول الحكم المتعلقة بالأنفس ومكارم الأخلاق والآداب ناشئ عن علم واسع شامل محيط بالمصالح الدينية والدنيوية والله تعالى أعلم.

من سورة التوبة

من سورة التوبة قال الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) تعاهد النبي صلّى الله عليه وسلّم مع الكفار من مشركي مكة وغيرهم على ألا يصد عن البيت الحرام أحد من الطرفين، ولا يزعج أحد في الأشهر الحرم. وهذا هو العهد العام الذي كان بينه عليه الصلاة والسلام وبين أهل الشرك من العرب، وكان من وراء ذلك عهود بينه عليه الصلاة والسلام وبين كثير من قبائل العرب إلى آجال مسماة، وقد نقض كثير من المشركين عهودهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولمكانة الدين الإسلامي من مكارم الأخلاق، وللإشارة إلى أنه ليس الغرض من فرض الجهاد سفك الدماء، وإنما المهم الوصول إلى الإيمان وترك الجحود. أرشد الله المؤمنين بقوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ إلخ. إلى أن من جاء من المشركين الذي نقضوا العهد يطلب الأمان ليسمع كلام الله، ويتدبر، ويطلع على حقيقة الدين، يجب تأمينه وحمايته حتى يصل إلى غايته، ولا يجوز قتله، ولا التعدي عليه. ومتى أراد العودة إلى بلاده يجب تيسير الطريق أمامه ليصل إلى مأمنه، أي مسكنه الذي يأمن فيه. ذلك التسامح الذي أمرتكم به من إجارة المستجير منهم، وإبلاغه مأمنه بسبب أن هؤلاء المشركين قوم لا يعلمون حقيقة الإسلام، ومن جهل شيئا عاداه، أو هم قوم جهلة، ليسوا من أهل العلم، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يفهموا الحق، وحينئذ لا تبقى لهم معذرة. وقد ورد أنه جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الأجل لسماع كلام الله، أو لحاجة أخرى فهل يقتل؟ فقال علي: لا، إنّ الله تعالى قال: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ. وهنا أمور: الأول: أن المذكور في الآية كون المستجير طالبا لسماع القرآن، ويلحق به كونه طالبا لسماع الأدلة على كون الإسلام حقا، وكونه طالبا للجواب عن الشبهات التي عنده، لأنّ كل هؤلاء يطلبون العلم ويسترشدون عن الحق، ومن كان كذلك تجب إجارته.

يؤخذ من الآية ما يأتي

الثاني: قيل: المراد من قوله: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ سماع جميع القرآن، وقيل: سماع سورة براءة، لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين، وقيل: سماع كل ما يدل على أن الإسلام حق. الثالث: نصّ الفقهاء من الحنفية على أن الحربي إذا دخل دار الإسلام مستجيرا لغرض شرعي كسماع كلام الله، أو دخل بأمان لتجارة وجب تأمينه بحيث يكون محروسا في نفسه وماله إلى أن يبلغ داره التي يأمن فيها. يؤخذ من الآية ما يأتي 1- جواز تأمين الحربي إذا طلب ذلك من المسلمين ليسمع ما يدل على صحة الإسلام. 2- أنه يجب علينا تعليم كل من التمس منا أن نعلمه شيئا من أمور الدين. 3- أنه يجب على الإمام أن يحفظ الحربي المستجير، وأن يمنع الناس عن أن ينالوه بشيء من الأذى، لأن هذا هو المقصود من الإجارة والتأمين. 4- أنه يجب على الإمام أن يبلغه مأمنه بعد قضاء حاجته، فلا يجوز تمكينه من الإقامة في دار الإسلام إلا بمقدار قضاء حاجته، عملا بإشارة قوله تعالى: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ وقد نص الفقهاء من الحنفية على أنه يجب على الإمام أن يأمره بالخروج متى انتهت حاجته، وأن يعلنه بأنه إن أقام بعد الأمر بالخروج سنة في دار الإسلام فلا يمكّن من الرجوع إلى بلاد الحرب، ويصير ذميا، وتوضع عليه الجزية. قال الله تعالى: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) شروع في تحقيق حقيقة ما سبق من البراءة وأحكامها المتفرعة عليها، وتبيين الحكمة الداعية إلى ذلك، بأنه إذا ظهروا علينا لا يرقبون فينا إلّا ولا ذمة. و (كيف) للاستفهام الإنكاري لا بمعنى إنكار الواقع، بل بمعنى إنكار الوقوع. و (يكون) من الكون التام. و (كيف) محلها النصب على التشبيه بالحال أو الظرف، أو من الكون الناقص، و (عهد) اسمها، وفي خبرها ثلاثة أوجه: الأول: أنه (كيف) وقدم للاستفهام، و (للمشركين) متعلّق بمحذوف وقع حالا من (عهد) أو متعلق بيكون عند من يجوّز التعلق بالناقص. والثاني: أن خبر (يكون) هو (للمشركين) و (عند) على هذين ظرف للعهد، أو ليكون، أو صفة للعهد.

والثالث: أن الخبر (عند الله) ، و (للمشركين) حينئذ متعلّق بمحذوف حال من (عهد) أو متعلق بيكون كما تقدم، أو بالاستقرار الذي تعلّق به الخبر، ولا يضرّ تقديم معمول الخبر على الاسم لكونه حرف جر. و (كيف) على الوجهين الثاني والثالث نصب على التشبيه بالظرف أو الحال، كما في صورة الكون التام، والمراد بالمشركين الناكثون للعهد، لأنّ البراءة إنما هي في شأنهم. والعهد: ما يتفق رجلان أو فريقان من الناس على التزامه بينهما لمصلحتهما المشتركة، فإن أكّداه ووثقاه بما يقتضي زيادة العناية بحفظه والوفاء به سمي ميثاقا، وهو مشتق من الوثاق بالفتح، وهو الحبل والقيد. وإن أكّداه باليمين خاصّة سمي يمينا، وقد يسمّى بذلك لوضع كل من المتعاقدين يمينه في يمين الآخر عند عقده. وفي توجيه الإنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته لأنّ كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال قطعا. فإذا انتفت جميع أحوال وجوده، فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني: أي على حال. أو في أي حال يوجد لهم عهد معتدّ به عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ يستحق أن تراعى حقوقه، ويحافظ عليه إلى إتمام المدة، ولا يتعرض لهم بسببه قتلا ولا أخذا، وتكرير كلمة (عند) للإيذان بعدم الاعتداد به عند كل من الله تعالى ورسوله على حدة. والمعنى: بأية صفة وأية كيفية يثبت للمشركين عهد من العهود عند الله يقره لهم في كتابه وعند رسوله صلّى الله عليه وسلّم يفي لهم به، وتفون به أيها المؤمنون اتباعا له صلّى الله عليه وسلّم، وحالهم الذي بينتها الآية التالية تأبى ثبوت ذلك لهم إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، في هذا الاستثناء وجهان: أحدهما: أنه منقطع، أي لكن الذين عاهدتم إلخ. والثاني: أنه متصل، وفيه حينئذ احتمالان: أحدهما: أنه منصوب على أصل الاستثناء من (المشركين) والثاني أنه مجرور على البدل منهم، لأنّ معنى الاستفهام المتقدم نفي، أي ليس يكون للمشركين عهد إلا الذين لم ينكثوا. وعلى أنه منقطع فالذين مبتدأ خبره جملة (فما استقاموا) ، وهؤلاء المعاهدون المستثنون هنا هم المذكورون سابقا في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً إلخ [التوبة: 4] وإنما أعيد ذكر استثنائهم لتأكيده بشرطه المتضمن لبيان السبب الموجب للوفاء بالعهد. وهو أن تكون الاستقامة عليه مرعية من كل واحد من الطرفين المتعاقدين إلى نهاية مدته. وهذا زائد على ما هنالك من وصفهم بأنه لم ينقصوا من شروط العهد شيئا، ولم يظاهروا على المسلمين أحدا، واعلم أن قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ

[سورة التوبة (9) : الآيات 17 إلى 18]

الْمَسْجِدِ الْحَرامِ اعتراض بين قوله: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ وقوله المفسّر له: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً. وقوله: عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ المراد به جميع الحرم كما هي عادة القرآن إلا ما استثني، فالعندية فيه على حذف مضاف، أي عند قرب المسجد الحرام، وكان ذلك العهد يوم الحديبية سنة ست. فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ أي فمهما يستقم لكم هؤلاء فاستقيموا لهم. أو فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم، إذ لا يجوز أن يكون الغدر ونقض العهد من قبلكم. وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تعليل لوجوب الامتثال، وتبيين على أنّ مراعاة العهد من باب التقوى، وأن التسوية بين الغادر والوفي منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا. ومما يستفاد من هذه الآية: أن العهد المعتد به عند الله وعند الرسول هو عهد غير الناكثين، وأن من استقام على عهده نعامله بمقتضاه، وأن مراعاة العهد من تقوى الله التي يرضاها لعباده. قال الله تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) لما بدأ الله سبحانه وتعالى سورة التوبة بذكر البراءة من المشركين وبالغ في إيجاب ذلك بتعداد فضائحهم وقبائحهم أراد أن يحكي شبهاتهم التي كانوا يحتجون بها في أنّ هذه البراءة غير جائزة، مع الجواب عنها. ومما يروى في سبب النزول عن ابن عباس أنه لما أسر العباس يوم بدر عيّره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم، فأغلظ علي له القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا، فقال له علي رضي الله عنه: ألكم محاسن؟ فقال: نعم، إنّا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة ونسقي الحاج. فأنزل الله عزّ وجلّ ردا على العباس: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ إلخ «1» والمراد أنها تتضمن الرد على ذلك القول الذي كان يقوله ويفخر به هو وغيره من كبراء المشركين أيضا، لا أنها نزلت عند ما قال ذلك لأجل الرد عليه في أيام بدر، بل نزلت في ضمن السورة بعد الرجوع من غزوة تبوك.

_ (1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (10/ 66) .

وقوله تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ إلخ النفي في مثله يسمّى نفي الشأن، وهو أبلغ من نفي الفعل، لأنّه نفي له بالدليل، والعمارة للمسجد كما يؤخذ من نصوص اللغة تطلق على عبادة الله فيه مطلقا، وعلى النسك المخصوص المسمى بالعمرة، وهي خاصّة بالمسجد الحرام، وعلى لزومه والإقامة فيه لخدمته الحسية، وعلى بنيانه وترميمه. وكلّ ذلك مراد هنا، لأنّ اللفظ يدل عليه، والمقام يقتضيه. والمختار عند الحنفية استعمال المشترك في معانيه التي يقتضيها المقام تبعا للشافعي وابن جرير. وقوله: مَساجِدَ اللَّهِ قرئ بالإفراد، والمتبادر منه إرادة المسجد الحرام، لأنّه المفرد العلم الأكمل الأفضل، وإن كان المفرد المضاف يفيد العموم في الأصل. ومن قرأ بالجمع فإما أن يراد جميع المساجد، فيشمل المسجد الحرام أيضا، الذي هو أشرفها، وهذا آكد، لأنّ طريقه طريق الكناية، كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله كنت أنفى لقراءته القرآن من تصريحك بذلك. وإما أن يراد المسجد الحرام، وجمع لأنه قبلة المساجد، أو لأن كل بقعة منه مسجد. وقوله: شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ حال من الواو في (يعمروا) وهو قيد للنفي قبله مبين لعلته. والعلة الحقيقية هي نفس الكفر لا الشهادة به، ونكتة تقييده بها بيان أنه كفر صريح معترف به، لا تمكن المكابرة فيه. والشهادة بالكفر: قيل إنها بإظهار آثار الشرك من نصب الأوثان حول البيت والعبادة لها. وقيل: بقولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. وقيل: بقولهم كفرنا بما جاء به محمد. والظاهر شمول الشهادة لذلك كله. والمعنى: ما كان ينبغي ولا يصح للمشركين، ولا من شأنهم الذي يقتضيه شركهم، أو الذي يشرعه، أو يرضاه الله منهم أو يقرهم عليه، أن يعمروا مسجد الله الأعظم وبيته المحرم بأي نوع من أنواع العمارة المتقدمة في حال كونهم كافرين، شاهدين على أنفسهم بالكفر قولا وعملا، لأنّ هذا جمع بين الضدين، فإنّ عمارة مساجد الله الحسية إنما تكون لعمارتها المعنوية، بعبادته فيها وحده، ولا تصح ولا تقع إلا من المؤمن الموحّد له، وذلك ضد الكفر به. وهاهنا مسألتان: الأولى: هل يجوز أن يستخدم المسلم الكافر في بناء المساجد، أو لا يجوز، لأنّه من العمارة الحسية الممنوعة، قيل بالثاني، وفيه نظر، لأنّ الممنوع منها إنما هو الولاية عليها، والاستقلال بالقيام بمصالحها، كأن يكون ناظر المسجد وأوقافه كافرا. وأما استخدام الكافر في عمل لا ولاية فيه، كنحت الحجارة، والبناء والنجارة، فلا يظهر دخوله في المنع، ولا فيما ذكر من نفي الشأن.

والثانية: يؤخذ من «تفسير المنار» «1» أنه إذا وقع من بعض الحكام والأفراد من غير المسلمين أن من بنى مسجدا للمسلمين أو أوصى بمال لعمارة مسجد لهم لمصلحة له في ذلك، جواز قبولنا مثل هذا المسجد، وهذه الوصية بشرط ألا يكون فيهما ضرر ديني أو سياسي، لأنّه حينئذ يكون كمسجد الضرار. أُولئِكَ المشركون حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطلت أجور أعمالهم الخيرية: كصدقة، وصلة رحم، وقرى ضيف، وإغاثة ملهوف، وغيرهما مما يفخرون به: كعمارة مسجد، وسقاية حاج، فلا ثواب لهم عليها في الآخرة لعدم شرطها، وهو الإيمان، وإن كانوا يجازون عليها في الدنيا بإعطاء الولد والمال والصحة والعافية. وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ لعظم ما ارتكبوه. وهذه الجملة قيل: عطف على جملة حَبِطَتْ على أنها خبر آخر لأولئك وقيل: هي مستأنفة كجملة أُولئِكَ حَبِطَتْ وفائدتهما تقرير النفي السابق. الأولى من جهة نفي استتباع الثواب، والثانية: من جهة نفي استدفاع العذاب. إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) . بعد أن بين عدم استحقاق المشركين لعمارة مساجد الله أثبتها للمسلمين الكاملين، وجعلها مقصورة عليهم بالفعل، وهم الجامعون بين الإيمان بالله على الوجه الحق، والإيمان باليوم الآخر الذي فيه الجزاء، وبين إقامة الصلاة المفروضة بأركانها وآدابها، وتدبر تلاوتها وأذكارها، التي تكسب مقيمها مراقبة الله وحبه والخشوع له والإنابة إليه، وإعطاء زكاة الأموال لمستحقيها، وبين خشية الله دون غيره ممن لا ينفع ولا يضر كالأصنام وسائر ما عبد من دون الله خوفا من ضرره، أو رجاء في نفعه. فالمراد بالخشية الديني منها دون الغريزي، كخشية أسباب الضرر الحقيقية، فإنّ هذا لا ينافي خشية الله. قيل: ولم يذكر الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم مع الإيمان بالله، لأنه لما ذكر الصلاة وهي لا تتم إلا بالأذان والإقامة والتشهد، وهذه الأشياء تتضمن الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم كان ذلك كافيا. فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي فأولئك الجامعون لهذه الأوصاف هم الذين يرجون بحق أو يرجى لهم بحسب سنن الله في أعمال البشر وتأثيرها في إصلاحهم أن يكونوا من جماعة المهتدين إلى ما يحب الله ويرضى من عمارة مساجده حسا ومعنى.

_ (1) تفسير المنار لمحمد رشيد رضا طبعة بيروت، دار الفكر (10/ 208) .

[سورة التوبة (9) : الآيات 28 إلى 29]

ومعلوم أنّ الرجاء المستفاد من عسى لا يصح أن يكون صادرا من الله، لأنّ حقيقته ظنّ بحصول أمر وقعت أسبابه، واتخذت وسائله من مبتغيه. ويستنبط من الآيتين أمور: 1- أنّ أعمال البر الصادرة من المشركين لا تجلب لهم ثوابا في الآخرة، ولا تدفع عنهم عذابا. 2- أن كل ما اتصف بالإيمان، وما عطف عليه من الأوصاف المتقدمة فهو الجدير دون غيره بأن يقبل الله منه عمارة مساجده. 3- أخذ بعضهم من قوله تعالى: وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ أنه ينبغي لمن بنى مسجدا أن يخلص لله في بنائه بحيث لا يكون الباعث له على بنائه رياء ولا سمعة. 4- يؤخذ من التعبير بعسى في جانب المؤمنين قطع طماعية المشركين في الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها، وافتخروا بها، حيث بيّن الله تعالى أن حصول الاهتداء لمن آمنوا بالله، ولم يخشوا غيره دائر بين لعل وعسى. وإذا كان حال المؤمنين هكذا فلا يليق بالمشرك أن يرجو لنفسه الهداية والفوز بالخير فضلا عن قطعه بذلك. 5- التنويه بفضل عمارة المساجد وقد ورد في عمارة المساجد الحسية والمعنوية أحاديث كثيرة: ومنها ما رواه أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وغيرهم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، وتلا إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ» الآية «1» وهو نص في العمارة المعنوية، كما أنّ الحديث الأول نص في الحسية. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) الأكثرون على أن لفظ المشركين خاصّ بعباد الأوثان. وقال قوم: يتناول جميع الكفار، ويدل لهذا القول قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] أي لا يغفر أن يكفر به، وهذا هو الظاهر.

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 14) ، كتاب الإيمان، باب ما جاء في حرمة الصلاة، حديث رقم (2617) ، وأحمد في المسند (3/ 68) ، وابن ماجه في السنن (1/ 263) ، 4- كتاب المساجد، 19- باب لزوم المساجد حديث رقم (802) .

والنجس- بفتح الجيم- مصدر. والعيلة: الفقر والفاقة. نهى الله المؤمنين عن أن يقرب المشركون المسجد الحرام، أي عن تمكينهم من قربان المسجد الحرام، وعلّل هذا بأنهم نجس، إما لخبث باطنهم، أو لأن معهم الشرك المنزل منزلة النجس الذي يجب اجتنابه، أو لأنهم لا يتطهرون، ولا يغتسلون، ولا يجتنبون النجاسات. وقوله: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا تفريع على نجاستهم، واختلف العلماء في المراد بالمسجد الحرام فقال عطاء: الحرم كله قبلة ومسجد، فليس المراد خصوص المسجد الحرام، وإنما المراد منعهم من دخول المسجد الحرام ومكة والحرام. وقيل: المراد خصوص المسجد الحرام وهو مذهب الشافعية أخذا بظاهر اللفظ، وقيل المراد المسجد الحرام بالنص، وبقية المساجد تقاس عليه، لأن العلّة، وهي النجاسة، موجودة في المشركين، والحرمة موجودة في كل مسجد- وهو مذهب المالكية- فلا يجوز تمكينهم من دخول المسجد الحرام والمساجد كلها. وقيل: ليس المراد النهي عن دخول المسجد الحرام، وإنما المراد النهي عن أن يحج المشركون ويعتمروا كما كانوا يعملون في الجاهلية- وهو مذهب الحنفية- ويؤيد ذلك أمور: 1- قوله: بَعْدَ عامِهِمْ هذا فإنّ تقييد النهي بذلك يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام، أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا، وهو العام التاسع من الهجرة. 2- قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين نادى بسورة براءة: ألا لا يحجّ بعد عامنا هذا مشرك. 3- قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ فإنّ خشية العيلة تكون بسبب انقطاع تلك المواسم، لمنع المشركين من الحج والعمرة، لأن المؤمنين كانوا ينتفعون بالتجارات التي تروج في مواسم الحج. 4- إجماع المسلمين على منع المشركين من الحج والوقوف بعرفة والمزدلفة وسائر أعمال الحج، وإن لم تكن في المسجد. وقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي إن خفتم فقرأ بسبب منعهم من الحج وانقطاع ما كانوا يجلبونه إليكم من الأرزاق والمكاسب، فسوف يغنيكم الله. وهذا الجزاء إخبار عن غيب في المستقبل وقد وقع الأمر مطابقا لهذا الخبر، فقد أسلم الناس من أهل جدة، وصنعاء وحنين وتبالة وجرش وكثر ترددهم على

مكة بالتجارات وحمل الطعام وما يعاش به، وقد أرسل الله عليهم السماء مدرارا، فكثر خيرهم، واتسعت أرزاقهم، وتوجه الناس إليهم من أقطار الأرض. والتعبير بالمشيئة في قوله: إِنْ شاءَ لتعليم رعاية الأدب مع الله تعالى كما في قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] وللإشارة إلى أنه لا ينبغي الاعتماد على أنّ المطلوب يحصل حتما، بل لا بد من أن يتضرع المرء إلى الله تعالى في طلب الخيرات، وفي دفع الآفات إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأحوالكم وحَكِيمٌ يعطي ويمنع عن حكمة وصواب. وهاهنا أمور: 1- أنه علم مما تقدم أنه لا يجوز تمكين المشرك من دخول المسجد الحرام فقط عند الشافعية، ومن دخول المسجد الحرام والمساجد كلها عند المالكية، ويستثنى من ذلك حالة العذر، كدخول الذمي المسجد للتقاضي أمام الحاكم المسلم. وأباح الحنفية دخول الذمي المساجد كلها. 2- نقل صاحب «الكشاف» «1» عن ابن عباس أنّ أعيان المشركين نجسة كالكلاب والخنازير تمسكا بهذه الآية، ولكن اتفق الفقهاء على خلاف ذلك، وأن أبدانهم طاهرة للإجماع على أنهم لو أسلموا كانت أجسامهم طاهرة، مع أنّه لم يوجد ما يطهرها من الماء أو النار أو التراب أو مثل ذلك. ويدل له أيضا أنّه عليه الصلاة والسلام كان يشرب من أواني المشركين. 3- قيل الفضل في قوله: يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هو حمل الطعام إلى مكة من البلاد التي أسلم أهلها كجدة وصنعاء كما تقدم، فإنّه سد حاجتهم وأغناهم عما في أيدي المشركين، وقيل: المراد به الجزية، وقيل: الفيء قال الله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) أمر الله المسلمين في الآيات السابقة بقتال أهل الشرك، وعدم تمكينهم من المسجد الحرام، وفي هذه الآية أمر الله بقتال أهل الكتاب- التوراة والإنجيل- إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية، وبيّن أن العلة في لزوم قتالهم أمور: الأول: أنّهم لا يؤمنون بالله ما داموا على حالتهم التي هم عليها، فإنّ اليهود يعتقدون أنّ الإله جسم، مع أن الإله الحق منزه عن الجسمية والشبيه، فهم لا يؤمنون بوجود الإله الحق المنزه عن الجسمية.

_ (1) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للإمام الزمخشري (2/ 261) .

والأنصاري يعتقدون أن الإله حلّ في عيسى، مع أنّ الإله الحق منزّه عن الحلول في غيره، فهم لا يؤمنون بوجود الإله الحق المنزه عن الحلول في غيره. الثاني: أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الذي وردت به الآيات والنصوص، فإنهم يعتقدون بعث الأرواح دون الأجسام، ويرون أنّ أهل الجنة لا يأكلون ولا يشربون، ولا يتمتعون بالحور العين، ولا يرون وجود أنهار ولا أكواب ولا أشجار مما وردت به النصوص، ويقولون: إنّ نعيم الجنة وعذاب النار معان تتعلّق بالروح فقط، كالسرور والهم، فهم لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الذي وردت به النصوص. الثالث: أنّهم لا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله محمد عليه الصلاة والسلام في الكتاب والسنة. وقيل: المراد برسوله الذي يزعمون اتباعه، وهو موسى وعيسى عليهما السلام لليهود والنصارى، بل حرّفوا التوراة والإنجيل، وأتوا بأحكام من عند أنفسهم، فهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا. الرابع: أنهم لا يدينون دين الحق، أي لا يتخذون دين الحق دينا يعتقدون ويعملون بأحكامه، وهو الإسلام الناسخ لسائر الأديان بصريح قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 19] وقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] . والتعبير عن اليهود والنصارى بالاسم الموصول للدلالة على أن الصلة علّة في الحكم، فالعلة في وجوب قتالهم أنه لم يؤمنوا بالله واليوم الآخر إلخ، وقال: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ليبيّن أنّ المراد بالذين لا يؤمنون بالله إلخ هم أهل الكتاب، والغرض تمييزهم عن المشركين في الحكم، لأنّ الواجب في المشركين القتال إلى أن يسلموا، وأما الواجب في أهل الكتاب فهو القتال أو الإسلام أو الجزية، وقوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ غاية لانتهاء القتال. والجزية: اسم لما يعطيه المعاهد على هذه، مأخوذة من: جزى الرجل العامل أجره يجزيه، إذا أدّى ما وجب عليه للعامل من أجره، فكذلك إذا أدّى المعاهد الجزية فقد أدّى ما وجب عليه. وقوله: عَنْ يَدٍ يحتمل أن يراد باليد يد المعطي أو يد الآخذ. فإن أريد يد المعطي كان المعنى حتى يعطوا الجزية إعطاء لا تمتنع يدهم عن أنّ تمتد به، فيكونون منقادين طائعين، فإنّ من أبى وامتنع لا يعطي يده، ومن انقاد وأطاع أعطى يده. ولهذا يقول: أعطى يده إذا انقاد وأطاع، ونزع يده إذا خرج عن الطاعة. ويصح أن يكون المعنى: حتى يعطوا الجزية عن يد المعطي إلى يد الآخذ، والمراد حتى يعطوها بأيديهم نقدا لا نسيئة ولا مبعوثة على يد أحد.

[سورة التوبة (9) : الآيات 36 إلى 37]

وإن أريد يد الآخذ كان المعنى حتى يعطوا الجزية إعطاء ناشئا عن قهر يد قاهرة مستولية عليهم، وهي يد المسلمين، أو كان المعنى حتى يعطوا الجزية إعطاء ناشئا عن يد، أي عن إنعام عليهم، لأن قبول الجزية منهم، وترك أرواحهم نعمة عظمى تسدى إليهم. وقوله: وَهُمْ صاغِرُونَ معناه أن يعطوا الجزية وهم بحالة الصّغار والذل، فلا يقبل منهم أن يتأففوا، أو يظهروا السخط على ولاية المسلمين، أو يرموهم بالظلم والاستبداد، ولا يعقل أن يعطى المعاهدون الجزية على هذه الحالة إلا إذا كان ولاة المسلمين على استعداد تام في أمر القوة المادية، بحسب ما يناسب الزمان والمكان، وفي القوة المعنوية، بحيث تكون التربية العامة لجماعة المسلمين مما تربي فيهم ملكة التيقظ والعزة والشجاعة والعصبية والتراحم فيما بين أفراد المسلمين بعضهم مع بعض، إلى آخر ما ورد في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) عدّة القوم جماعتهم، وعدّة المرأة أقراؤها، وأيام إحدادها على زوجها. ومن الأول قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ أي جماعتها، والقيم الذي يتولى إصلاح غيره. والمستقيم الذي لا عوج فيه. والدين الإسلامي قيم يصلح من تمسك بمبادئه وأحكامه، وهو في ذاته أحكام مستقيمة لا عوج فيها، صالحة لكل زمان ومكان. كان اليهود والنصارى وغيرهم من الطوائف التي ليست عربية يعتمدون في معاملاتهم وأعيادهم على السنة الشمسية. وكانت السنة الشمسية ثلاثمئة وخمسة وستين يوما وربع يوم. وفي كل أربع سنوات يتكوّن من الكسر عندهم يوم كامل، فتكون السنة ثلاثمئة وستة وستين يوما، وفي كل مئة وعشرين سنة تزيد السنة شهرا كاملا، فتكون السنة ثلاثة عشر شهرا، وتسمى كبيسة. وكانت الأمة العربية تعتمد في معاملاتها وعبادتها على السنة القمرية، وكانت السنة القمرية ثلاثمئة وأربعة وخمسين يوما وكسرا. ولم يكن للكسر حكم. وقد توارثوا التعامل بذلك عن إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام. وقد وردت الشريعة الإسلامية بمراعاة السنة القمرية في آيات كثيرة منها هذه الآية التي معنا حيث يقول الله فيها: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ والأشهر الحرم من الشهور القمرية، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم. ومنها قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس: 5] فجعل

تقدير القمر بالمنازل علة لمعرفة السنوات والحساب، وهو إنما يصح إذا كانت السنة معلقة بدورة القمر، ومنها قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] ولهذا كانت السنة القمرية وشهورها العربية هي التي يعتد بها عند المسلمين في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم ومعاملاتهم وأحكامهم. وباعتبار نقصان السنة القمرية عن الشمسية أحد عشر يوما تقريبا تنتقل الشهور العربية من فصل إلى فصل، فيكون الحج واقعا في الشتاء مرة وفي الصيف مرة أخرى. وكان الأمر يشق على العرب أيام الجاهلية بهذا السبب، وكذلك كانوا إذا حضروا للحج حضروا للتجارة أيضا، وربما يكون الوقت غير مناسب لحضور التجارات من أطراف البلاد، فيختل بذلك نظام تجارتهم، وكان كثير من العرب يخالط الطوائف الأخرى فتعلموا منهم الاعتماد على السنة الشمسية، فأقدموا على الكبس بتكميل النقص الذي في السنة القمرية لتساوي السنة الشمسية، واعتبروا ذلك مبررا لاعتمادهم على السنة الشمسية، فاختاروا للحج وقتا معينا لمصلحتهم، لينتفعوا بتجاراتهم وعباداتهم ومصالحهم. وكانوا مع هذا يجعلون شهر المحرم مثلا حلالا عام وحراما في عام آخر، بحسب رغباتهم، وكانوا يؤخّرون الشهور، ويقدمونها بحسب أسمائها تبعا لغايتهم. فإذا كانوا في حرب، ودخل شهر رجب مثلا، قالوا: نسميه رمضان، ونطلق اسم رمضان على رجب. وهذا الأخير هو النسيء الذي اخترعوه. وهو وإن كان سببا لحصول مصالحهم الدنيوية إلا أنه يستلزم تغيير حكم الله تعالى فيما تعبدهم به. كما أنهم اخترعوا الكبس بطريقة غير التي كانت عند غيرهم. فكانوا لتكميل النقص الذي في السنة القمرية عن الشمسية يزيدون في كل ثلاث سنوات شهرا، لتكون السنة قمرية شمسية. ولكل هذا استوجبوا الذم العظيم، ونزلت «1» هذه الآية، أي إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ في علمه تعالى: اثْنا عَشَرَ شَهْراً لا أكثر ولا أقل، للرد على ما أقدم على الزيادة، فمن حكم على بعض السنوات بأنها صارت ثلاث عشر شهرا فقد جرى على خلاف حكم الله، وأبطل كثيرا من العبادات المؤقتة. وهذه العدة للشهور ثابتة في علمه تعالى، وفِي كِتابِ اللَّهِ أي في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه ما كان وما يكون. أو فيما كتبه الله وأوجب على عباده الأخذ به، وكذلك هي ثابتة في اليوم الذي خلق الله فيه السموات والأرض. وقوله: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ- جمع حرام- أي أربعة محرّمة حرّم فيها بعض ما كان مباحا في غيرها، أو هي ذات حرمة تمتاز بها عن بقية الشهور، فقد ورد أنّ

_ (1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (3/ 237) .

المعصية فيها أشد عقابا، وأنّ الطاعة فيها أعظم ثوابا. ولله تعالى أن يعظّم من الأزمان والأمكنة والناس ما شاء لا معقب لحكمه، فقد ميّز البلد الحرام عن سائر البلاد، وميّز يوم الجمعة ويوم عرفة عن سائر الأيام، وميّز شهر رمضان عن بقية الشهور، وميّز بعض الليالي كليلة القدر، وبعض الأشخاص بإعطائه الرسالة. وهذا غير مستبعد، لأنه لا مانع من أن يعلم الله تعالى أنّ وقوع الطاعة في هذه الأوقات أكثر تأثيرا في طهارة النفوس وأنّ وقوع المعاصي فيها أقوى تأثيرا في خبث النفس. وأجمع العلماء على أنّ ثلاثة من الأشهر الحرم متوالية وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب. وقد أشير إلى ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في خطبة طويلة في حجة الوداع: منها أربعة حرم أولهن رجب مضر، بين جمادى وشعبان، وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. وقوله: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ تحريم الأشهر الحرم هو الدين القيم. أي الحكم الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج، بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية. فمعنى كونه قيّما أنه قائم لا يبدل ولا يغير، ودائم لا يزول، فلا يجوز نقل تحريم المحرم مثلا إلى صفر. وذلك للرد على ما كان يعمله أهل الجاهلية من تقديم بعض أسماء الشهور، وتأخير البعض. فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أي في الأشهر الحرم أَنْفُسَكُمْ بأن تعملوا النسيء، فتنقلوا الحج من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه، إلى شهر آخر، وتغيّروا حكم الله تعالى. أو المراد النهي عن جميع المعاصي بسبب ما لهذه الأشهر من مزيد الأثر في تعظيم الثواب والعقاب، كما أشير إلى ذلك بقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 197] . فهذه الأشياء لا تجوز في غير هذه الأشهر، إلا إنه أكّد في المنع منها فيها تنبيها على زيادتها في الشرف. وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً نهاهم الله تعالى عن أن يظلموا أنفسهم في الأشهر الحرم. وأمرهم بقتال المشركين من غير تقييد بزمن، فيدلّ النص بظاهره على أن القتال في الأشهر الحرم مباح، ولهذا نقل عن عطاء الخراساني أنه قال: أحلّت القتال في الأشهر الحرم بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يشير إلى ما فيها من قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ومن قوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وأما آيات البقرة الدالة على تحريم القتال في الأشهر الحرم فهي منسوخة بآيات التوبة، لأنّ سورة التوبة نزلت بعد سورة البقرة بسنتين. ويدل له أنه عليه الصلاة والسلام حارب هوازن بحنين وثقيفا بالطائف في شهر شوال وبعض ذي القعدة.

وسئل سعيد بن المسيب هل يصح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام؟ قال: نعم. وهو المنقول عن قتادة والزهري وسفيان الثوري، ولكل هذا كان القول بإباحة القتال في الأشهر الحرم هو الذي عليه المعوّل. وقوله: كَافَّةً حال من الفاعل أو من المفعول، والمعنى على الأول: قاتلوا المشركين حال كونكم جميعا متعاونين غير متخاذلين، كما يقاتلونكم مجتمعين متعاونين غير متخاذلين. والمعنى على الثاني: قاتلوا المشركين حال كونهم جميعا لا فرق بين طائفة وطائفة، ما يقاتلونكم جميعا من غير مراعاة فريق منكم دون فريق. وكلمة كَافَّةً من الكلمات التي توحد وتؤنث بالهاء لا غير، فلا تثنّى ولا تجمع ولا تذكّر كالخاصة والعامة. وقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أي مع أوليائه الذين يخافون من غضبه، ويتخذون وقاية من مخالفة أمره. وهو معهم بالنصر والمعونة فيما يباشرونه من القتال وغيره. ووضع المظهر موضع المضمر للثناء عليهم بالتقوى، ولحثّ القاصرين عليها، وللإشعار بأنها المدار في الفوز والفلاح. قال الله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) النَّسِيءُ مصدر بمعنى التأخير، كالنذير والنكير، بمعنى الإنذار والإنكار، من نسأت الإبل عن الحوض إذا أخرتها، أنسؤها نسأ ونساء ونسيئا. والمراد النسيء في الشهور بمعنى تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ليس له تلك الحرمة، بسبب أنه كان يشق عليهم أداء عبادتهم وتجاراتهم على اعتبار السنة القمرية، حيث كان حجهم يقع مرة في الشتاء ومرة في الصيف، فيتألمون من مشقة الصيف، ولا ينتفعون بتجاراتهم ومرابحاتهم التي كانوا يودون استصحابها في موسم الحج، وربما لا يتيسر لهم ذلك. وكذلك كانوا أصحاب حروب وغارات، وكانوا يكرهون أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها، فتركوا اعتبار السنة القمرية، واعتمدوا على السنة الشمسية، ولزيادتها عن السنة القمرية احتاجوا إلى الكبس، فكانوا يجعلون بعض السنين ثلاثة عشر شهرا، وكانوا ينقلون الحج من بعض الشهور إلى بعض، ويؤخّرون الحرمة الحاصلة من شهر إلى شهر، ويستبيحون الحروب والغارات في الشهر الذي نقلوا حرمته، واستمروا في ذلك حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، وحرموا أربعة أشهر من شهور العام اكتفاء بمجرد العدد، فكان هذا التحليل

[سورة التوبة (9) : آية 60]

والتحريم زيادة في كفرهم، الحاصل باعتقاد الشريك لله تعالى وعبادة الأصنام. وقوله: يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بالبناء للمفعول، أي يوقع الذين كفروا بسبب النسيء في الضلال، أي يوقعهم الله في ضلال زيادة على ضلالهم القديم. وقرئ بالبناء للفاعل، أي يضلهم الله، يحلّون الشهر المؤخر عاما ويحرّمونه عاما آخر. ثم قيل إنّ أول من عمل النسيء نعيم بن ثعلبة الكناني وكان مطاعا في قومه الذين كانوا يسألونه أن يؤخّر حرمة الشهر إلى شهر آخر ليغيروا فيه على أعدائهم، فيقول قد فعلت، ثم يعملون ما يشاؤون.. وقوله: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي يوافقها في العدد، واللام متعلقة بالفعل الثاني، أو بما دل عليه مجموع الفعلين فيحلوا بهذه المواطأة ما حرمه الله من القتال، زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ أي حسّن الشيطان لهم أعمالهم السيئة، فظنوا ما كان سيئا حسنا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي لا يرشد الضالين الذين يختارون السيئات ويستقبحون الأعمال الصالحة. قال الله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) أفادت إِنَّمَا حصر الصدقات في هذه الأصناف الثمانية، وأنها تصرف إليهم، ولا تصرف إلى غيرهم. وقد كان لفظ الصدقة في عرف الشرع في صدر الإسلام يشمل الزكاة الواجبة والصدقة المندوبة. قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: 103] وقال عليه الصلاة والسلام: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» «1» وفي كتاب أبي بكر لأنس بن مالك حين وجهه إلى البحرين: هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على المسلمين، والتي أمر الله تعالى بها رسوله صلّى الله عليه وسلّم «2» . واتفق العلماء على أن قوله تعالى: الصَّدَقاتُ يشمل الزكاة الواجبة. واختلفوا في الصدقة المندوبة، فمنهم من قال بدخولها في لفظ الآية الكريمة، ومنهم من قال: لا تدخل، فمن قال بدخولها يرى أن اللفظ عامّ يتناول كل صدقة، سواء الواجبة والمندوبة، بل إنّ المتبادر من لفظ الصدقة هو المندوبة، فإذا أدخلنا فيه الزكاة الواجبة

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 673) ، 12- كتاب الزكاة حديث رقم (1/ 979) ، والبخاري في الصحيح (2/ 136) ، 24- كتاب الزكاة، 4- باب ما أدي زكاته حديث رقم (1405) . (2) رواه البخاري في الصحيح (2/ 154) ، 24- كتاب الزكاة، 38- باب زكاة الغنم حديث رقم (1454) .

فلا أقل من أن تدخل فيه أيضا الصدقة المندوبة، وتكون الفائدة بيان أنّ مصارف جميع الصدقات ليس إلا هؤلاء الأصناف الثمانية. ومن يرى أن المراد بالصدقات هنا هو الزكاة الواجبة يستدل على ذلك بأمور: الأول: أن (ال) في الصدقات للعهد الذكري، والمعهود هو الصدقات الواجبة التي أشار الله إليها بقوله قبل هذه الآية: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [التوبة: 58] والصدقات التي كان قوم من المنافقين يعيبون النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها وفي تقسيمها هي الزكاة الواجبة، فقد روي أنّ بعض المنافقين كان يعيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في توزيع الصدقة، ويزعمون أنه يؤثر بها من شاء من أقاربه وأهل مودته، وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل فيها، كلّ ذلك كان في الصدقات الواجبة، فلما ورد قوله تعالى عقب ذلك: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ دلّ على أنّ المراد الصدقات التي سبق الكلام فيها: وهي الصدقات الواجبة. الثاني: أنّ الصدقات المندوبة يجوز صرفها في غير الأصناف الثمانية باتفاق، مثل بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وتكفين الموتى وتجهيزهم ونحو ذلك، فلو كانت الصدقة المندوبة داخلة في الآية لما جاز صرفها في مثل هذه الوجوه. الثالث: أن الله تعالى جعل للعاملين عليها سهما فيها، ولم يعهد في الشرع نصب عامل لجباية الصدقات المندوبة، فلو كانت الصدقة المندوبة داخلة في الآية لوجب على الإمام أن ينصب العمال لجبايتها حتى يأخذوا سهمهم منها، ولم يقل بذلك أحد. الرابع: أثبت الله هذه الصدقات بلام التمليك للأصنام الثمانية، والصدقات المملوكة لهم ليست إلا الزكاة الواجبة. وفي الآية جمعان: بالواو وجمع بالصيغة، فالشافعي يبقيها على ظاهرها في الجمعين معا، فيجب عند صرف جميع الصدقات الواجبة سواء الفطرة وزكاة الأموال، إلى ثمانية الأصناف، لأن الآية أضافت جميع الصدقات إليهم بلام التمليك، وشرّكت بينهم بواو التشريك، فدلك على أن الصدقات كلها مملوكة لهم، مشتركة بينهم، فإن كان مفرّق الزكاة هو المالك أو وكيله سقط نصيب العامل، ووجب صرفها إلى الأصناف السبعة بالسوية، لا يرجح صنف على صنف إن وجدوا، وإلا فللموجود منهم، ولا يجوز أن يصرف لأقل من ثلاثة من كل صنف، لأن أقل الجمع ثلاثة. وإن كان مفرقها الإمام أو نائبه وجب استيعاب الأصناف كلها، بهذا قال عكرمة وعمر بن عبد العزيز والزهري وداود الظاهري. وقال الأئمة أبو حنيفة «1» ومالك وأحمد رحمهم الله: للمالك صرفها إلى صنف

_ (1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1- 2/ 121) .

واحد، قال أبو حنيفة ومالك: له صرفها إلى شخص واحد من أحد الأصناف، واستحب مالك صرفها إلى أمسهم حاجة. قال إبراهيم النخعي: إن كانت قليلة جاز صرفها إلى صنف، وإلا وجب استيعاب الأصناف. وما نقل عن الأئمة الثلاثة هو المروي عن عمر وابن عباس وحذيفة والحسن البصري وعطاء وسعيد بن جبير والضحاك والشعبي والثوري، واختار جمع من أصحاب الشافعي جواز دفع صدقة الفطر لثلاثة فقراء أو مساكين، بل ذهب الروياني «1» من الشافعية إلى جواز دفع زكاة المال أيضا إلى ثلاثة من أهل السّهمان، قال: وهو الاختيار لتعذر العمل بمذهبنا، ولو كان الشافعي حيّا لأفتانا به. وحمل الأئمة الثلاثة وموافقوهم الآية الكريمة على التخيير في هذه الأصناف، ومعناها: لا يجوز صرفها لغير هذه الأصناف، وهو فيه مخير. فالآية لبيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم لا لتعيين الدفع لهم. ويدلّ له قوله تعالى: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 271] وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها إلى فقرائكم» «2» فإن عموم ذلك يقتضي جواز دفع جميع الصدقات إلى الفقراء حتى لا يعطى غيرهم، بل ظاهر اللفظ يقتضي إيجاب ذلك، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت ... » فدلّ ذلك على جواز الاقتصار على صنف واحد. وأما دليل جواز الاقتصار على شخص واحد من أحد الأصناف فهو أن الجمع المعرّف بأل حقيقة إما في العهد وإما في الاستغراق. ومجاز في الجنس الصادق بواحد. والحقيقة هنا متعذّرة، لأنّ الاستغراق غير مستقيم، إذ يصير المعنى أن كل صدقة لكل فقير، وهو ظاهر الفساد، وليس هناك معهود ليرتكب العهد. وإذا تعذرت الحقيقة وجب الرجوع إلى المجاز، فيصير المعنى في الآية. أن جنس الصدقة لجنس الفقير. وجنس الفقير يتحقق بواحد، فيجوز الصرف إلى شخص واحد.

_ (1) عبد الواحد بن إسماعيل، فقيه الشافعية في زمانه، رحل إلى بخارى ونيسابور وانتقل إلى الري ثم أصبهان، مات قتلا سنة (502) انظر الأعلام للزركلي (4/ 175) . (2) رواه البخاري في الصحيح (2/ 133) ، 24- كتاب الزكاة، 1- باب وجوب الزكاة حديث رقم (1395) و (1496) (بلفظ مختلف) .

بيان الأصناف الثمانية

بيان الأصناف الثمانية الصنفان الأول والثاني: الفقراء والمساكين قال الإمام الشافعي في حد الفقير: إنه من ليس له مال ولا كسب يقع موقعا من حاجته، والمسكين هو الذي يقدر على ما يقع موقعا من كفايته، إلا أنه لا يكفيه، فالفقير أسوأ حالا من المسكين. وقال الإمامان أبو حنيفة «1» ومالك: إنّ المسكين أسوأ حالا من الفقير، والخلاف في ذلك لا يظهر له فائدة في الزكاة، لأنه يجوز عند أبي حنيفة ومالك صرف الزكاة إلى صنف واحد بل إلى شخص واحد من صنف. لكن يظهر للخلاف فائدة في الوصية للفقراء دون المساكين، أو العكس، وفيمن أوصى بألف للفقراء ومئة للمساكين مثلا. ومحل الخلاف إنما هو عند ذكر اللفظين معا، أو ذكر أحدهما مع نفي الآخر، أما إذا ذكر أحدهما ولم ينف الآخر، كما إذا قال: أوصيت للفقراء بكذا، فلا خلاف في أنه يجوز أن يعطي المساكين، وهذا معنى قول بعضهم: إنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، وحجة الشافعي فيما ذهب إليه وجوه: أولها: أنه تعالى بدأ بذكر الفقراء، وهو جلّ شأنه إنما أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعا لحاجتهم، وتحصيلا لمصلحتهم، وهذا يدلّ على أن الذي وقع الابتداء بذكره يكون أشدّ حاجة، لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم. ثانيها: أن الفقير أصله في اللغة المفقور الذي نزعت فقرة من فقار ظهره، فعيل بمعنى مفعول، فهو ممنوع من التقلب والكسب، ومعلوم أن لا حال في الإقلال والبؤس آكد من هذه الحال. ثالثها: ما روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يتعوّذ من الفقر «2» وقد قال: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين» «3» فلو كان المسكين أسوأ حالا لتناقض الحديثان لأنه حينئذ يكون قد تعوذ من الفقر ثم سأل حالا أسوأ منه، أما إذا قلنا إن الفقير أسوأ حالا فلا تناقض البتة. وقد توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يملك أشياء كثيرة، فدل ذلك على أن كونه مسكينا لا ينافي كونه مالكا لبعض الأشياء. رابعها: قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف: 79]

_ (1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1- 2/ 120) . (2) رواه النسائي في السنن (7- 8/ 655) ، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من الفقر حديث رقم (5479) . (3) رواه ابن ماجه في السنن (2/ 381) ، 37- كتاب الزهد، 7- باب مجالسة الفقراء حديث رقم (4126) . [.....]

فقد وصف بالمسكنة من له سفينة من سفن البحر، ولم نجد في كتاب الله ما يدل على أن الفقير يملك شيئا، فكان الفقير أسوأ حالا من المسكين. خامسها: نقل الشافعي وابن الأنباري وخلائق من أهل اللغة أن المسكين الذي له ما يأكل، والفقير الذي لا شيء له، وحجة الحنفية وموافقيهم وجوه: الأول: ما نقل عن الأصمعي وأبي عمرو بن العلاء ويونس وغيرهم من أهل اللغة أنّ المسكين أسوأ حالا من الفقير. والثاني: قوله تعالى: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) [البلد: 16] أي ألصق جلده بالتراب ليواري به جسده، وألصق بطنه به لفرط الجوع، فإنه يدل على غاية الضرر والشدة، ولم يوصف الفقير بذلك. والثالث: أن المسكين هو الذي يسكن حيث يحل، لأجل أنه ليس له بيت يسكن فيه، وذلك يدل على نهاية الضرر والبؤس. وإذا تأملت في أدلة الطرفين علمت أن لا مقنع في دليل منها إلا في أدلة النقل عن أهل اللغة، والنقلان متعارضان، وأيّا ما كان الأمر فقد اتفق الرأيان على أن الفقراء والمساكين صنفان. وروي عن أبي يوسف ومحمد أنهما صنف واحد، واختاره الجبائي، ويكون العطف بينهما لاختلاف المفهوم. وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا أوصى لفلان وللفقراء والمساكين، فمن قال: إنهما صنف واحد جعل لفلان نصف الموصى به، ومن قال: إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك. واقتضى ظاهر الآية جواز دفع الزكاة لمن شمله اسم الفقير والمسكين، سواء في ذلك آل البيت وغيرهم، وسواء الأقارب والأجانب، والمسلمون والكفار، إلا أنّ الأحاديث الصحيحة قيّدت هذا الإطلاق، ففي الصحيحين «1» من رواية ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: أعلمهم أنّ عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فاقتضى ذلك أن الصدقة مقصورة على فقراء المسلمين، فلا يجوز دفع شيء من الزكاة إلى كافر سواء في ذلك الفطرة وزكاة المال. وحكى النووي في مجموعه عن ابن المنذر أن أبا حنيفة رضي الله عنه يجيز دفع الزكاة إلى الكفار. وكذلك لا يجوز دفعها إلى من تلزم المزكي نفقته من الأقارب والزوجات من

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 50) ، 1- كتاب الإيمان، 7- باب الدعاء حديث رقم (1929) ، والبخاري في الصحيح (2/ 165) ، 24- كتاب الزكاة، 63- باب أخذ الصدقة حديث رقم (1496) .

سهم الفقراء والمساكين، لأن ذلك إنما جعل للحاجة، ولا حاجة بهم مع وجود النفقة لهم، ولأنه بالدفع إليهم يجلب إلى نفسه نفعا، وهو منع وجوب النفقة عليه. ولا يجوز دفعها إلى هاشمي باتفاق الأئمة، لما رواه مسلم «1» عن المطلب بن ربيعة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد» . وقال الشافعي: لا يجوز دفعها إلى مطلبي أيضا لما رواه البخاري في «صحيحه» «2» عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ بني هاشم وبني المطلب شيء واحد وشبّك بين أصابعه» ولأنه حكم واحد يتعلق بذوي القربى، فاستوى فيه الهاشمي والمطلبي كاستحقاق الخمس. هذا وقد اختلف الفقهاء في مقدار ما يعطى للفقير والمسكين، فقال الشافعي: يجوز أن يدفع إلى كل منهما ما تزول به حاجته، ولا يزاد على ذلك، سواء صار بذلك مالكا للنصاب أم لا. وكره أبو حنيفة «3» أن يعطى إنسان من الزكاة مئتي درهم، وأي مقدار أعطيه أجزأ، وأبو يوسف يمنع ما زاد على النصاب. وأما مالك رضي الله عنه فإنه يرد الأمر فيه إلى الاجتهاد. وقال الثوري: لا يعطى من الزكاة أكثر من خمسين درهما إلا أن يكون غارما. يرى الشافعي أن الله تعالى أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعا لحاجتهم، وتحصيلا لمصلحتهم، فالمقصود من دفع الزكاة سد الخلة، ودفع الحاجة، فيعطى الفقير والمسكين ما يسد خلته، ويدفع حاجته. ويرى أبو حنيفة ومالك أن الآية ليس فيها تحديد مقدار ما يعطى كل واحد منهم، وقد علمنا أنه لم يرد بها تفريق الصدقة على الفقراء على عدد الرؤوس لامتناع ذلك وتعذره، فثبت أنّ المراد دفعها، إلى بعض أيّ بعض كان. ومعلوم أنّ كل واحد من أرباب الأموال مخاطب بذلك، فاقتضى ذلك جواز دفع كل واحد منهم جميع صدقته إلى فقير واحد، قلّ المدفوع أو كثر، فثبت بظاهر الآية جواز دفع المال الكثير إلى واحد من الفقراء من غير تحديد للمقدار، وإنما كره أبو حنيفة أن يعطى إنسان مائتي

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 752) ، 12- كتاب الزكاة، 51- باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة حديث رقم (167/ 1072) . (2) رواه البخاري في الصحيح (4/ 68) ، 57- كتاب الخمس، 17- باب ومن الدليل على أنّ الخمس حديث رقم (3140) . (3) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1- 2/ 123) .

درهم، لأن المائتين هي النصاب الكامل، فيكون غنيا مع تمام ملك الصدقة، ومعلوم أنّ الله تعالى إنما أمر بدفع الزكوات إلى الفقراء لينتفعوا بها ويتملكوها، فلو أعطى الفقير مئتي درهم فإنّه لا يتمكن من الانتفاع بها إلا وهو غني، فكره أبو حنيفة من أجل ذلك دفع النصاب الكامل إلى إنسان واحد. الصنف الثالث: العاملون عليها وهم السعاة لجباية الصدقة، ويدخل فيهم الحاشر، والعريف، والحاسب، والكاتب، والقسّام وحافظ المال، ويعطى العامل عند الحنفية والمالكية ما يكفيه ويكفي أعوانه بالوسط مدة ذهابهم وإيابهم ما دام المال باقيا، وإذا استغرقت كفايتهم الزكاة، فالحنفية لا يزيدونهم على النصف. وعند الشافعية يعطون من سهم العاملين- وهو الثمن- قدر أجرتهم، فإن زادت أجرتهم على سهمهم تمم لهم، قيل: من سائر السهمان، وقيل: من بيت المال. وهذا الذي ذهب إليه الشافعي هو قول عبد الله بن عمر وابن زيد، وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثمن من الصدقات، وظاهر الآية معهما. وفيما يعطاه العاملون شبه بالأجرة وشبه بالصدقة. فبالاعتبار الأول حل إعطاء العامل الغني، وسقط سهم العامل إذا أدى الزكاة رب المال إلى الإمام أو إلى الفقراء. وبالاعتبار الثاني: لا تحل للعامل من آل البيت، ولا لمولاهم، ولا لغير المسلم. فعن ابن عباس أنه قال: بعث نوفل بن الحارث ابنيه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: انطلقا إلى عمكما، لعله يستعملكما على الصدقة، فجاءا فحدثا النبي صلّى الله عليه وسلّم بحاجتهما، فقال لهما: «لا يحل لكم أهل البيت من الصدقات شيء، لأنها غسالة الأيدي، إن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم» «1» . وروي عن علي أنه قال للعباس: سل النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يستعملك على الصدقة، فسأله فقال: «ما كنت لأستعملك على غسالة ذنوب الناس» «2» . وأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث أبا رافع- مولاه- عاملا على الصدقات وقال: «أما علمت أن مولى القوم منهم» «3» .

_ (1) رواه ابن سعد كما في كنز العمال للمتقي الهندي حديث رقم (33451) . (2) روي عن ابن عباس كما في كنز العمال للمتقي الهندي حديث رقم (16530) . (3) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 46) في الزكاة، باب ما جاء في كراهية الصدقة حديث رقم (657) ، وأبو داود في السنن (2/ 44) ، كتاب الزكاة، باب الصدقة حديث رقم (1650) ، والنسائي في السنن (5- 6/ 112) ، كتاب الزكاة، باب مولى القوم منهم حديث رقم (2611) .

وأخذ بعض العلماء من قوله تعالى: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها أنه يجب على الإمام أن يبعث السعاة لأخذ الصدقة. وتأكّد هذا الوجوب بعمل النبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء من بعده. ففي «الصحيحين» «1» من رواية أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استعمل ابن اللتبية على الصدقات. وروى أبو داود والترمذي «2» عن أبي رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ولّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من بني مخزوم على الصدقة فقال: اتبعني تصب منها. فقلت: حتى أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسألته فقال لي: «إن مولى القوم من أنفسهم» . والأحاديث في هذا الباب كثيرة. ويدل على الوجوب أيضا أن في الناس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه، ومنهم من يبخل، فوجب أن يبعث الإمام من يأخذ الزكاة. ولا يبعث إلا حرا عدلا فقيها يستطيع أن يجتهد فيما يعرض من مسائل الزكاة وأحكامها. ويدل قوله تعالى: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها على أنّ أخذ الصدقات إلى الإمام وأنه لا يجزئ ربّ المال أن يعطيها المستحقين، لأنه لو جاز لأرباب الأموال أداؤها إلى المستحقين لما احتيج إلى عامل لجبايتها، فيضر بالفقراء والمساكين، فدل ذلك على أن أخذها إلى الإمام، وتأكد هذا بقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً لكن ربما يعارضه قوله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) [المعارج: 24، 25] فإنه إذا كان ذلك الحق حقا للسائل والمحروم وجب أنه يجوز دفعه إليهما ابتداء. من أجل ذلك ترى للعلماء تفصيلا في أموال الزكاة: فإن كان مال الزكاة باطنا فقد أجمعوا على أن للمالك أن يفرقها بنفسه، كما أنّ له أن يدفعها إلى الإمام، وإن كان مال الزكاة ظاهرا كالماشية والزروع والثمار فجمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار على أنّه يجب دفعها إلى الإمام، فإن فرقها المالك بنفسه لم يحتسب له بما أدى، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية، وقول من قولي الشافعي عملا بظاهر قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ولأن الزكاة مال للإمام فيه حق المطالبة، فوجب الدفع إليه كالخراج والجزية، وقال الشافعي في الجديد: يجوز أن يفرقها بنفسه، لأنها زكاة، فجاز أن يفرقها بنفسه كزكاة الباطن.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 676) ، 12- كتاب الزكاة، 3- باب في تقديم الزكاة حديث رقم (1/ 983) ، والبخاري في الصحيح (2/ 156) ، 24- كتاب الزكاة، 49- باب قوله تعالى: (وفي الرقاب) حديث رقم (1468) . (2) سبق تخريجه.

الصنف الرابع: المؤلفة قلوبهم قال العلماء: المؤلفة قلوبهم ضربان: مسلمون وكفار، فأما الكفار فقد كانوا يتألفون لاستمالة قلوبهم إلى الدخول في الإسلام، ولكف أذيتهم عن المسلمين، وقد ثبت أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أعطى قوما من الكفار يتألف قلوبهم ليسلموا . ففي «صحيح مسلم» «1» أنه أعطى صفوان بن أمية من غنائم حنين ، وصفوان يومئذ كافر. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قسّم من غنائم حنين للمتألفين من قريش وفي سائر العرب وجد هذا الحيّ من الأنصار في أنفسهم، وأنّه قال لهم: «أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قواما ليسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام» «2» . واختلف العلماء في إعطاء الكفار من سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة، فروي عن الحسن وأبي ثور وأحمد أنهم يعطون، وهو قول عند المالكية. وذهب الحنفية والشافعية وأكثر العلماء: إلى أن إعطاءهم إنما كان في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أول الإسلام في حال قلة عدد المسلمين، وكثرة عدوهم، وقد أعزّ الله الإسلام وأهله، واستغنى بهم عن تألف الكفار، ولذلك فإنّ الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يعطوهم، وقال عمر رضي الله عنه: إنا لا نعطي على الإسلام شيئا، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. وأجابوا عن الحديث بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أعطاهم من خمس الخمس وكان ملكا له خالصا يفعل فيه ما يشاء، أما الزكاة فلا حق فيها للكفار. وأما المسلمون من المؤلفة قلوبهم فهم أصناف: صنف لهم شرف في قومهم يطلب بتألفهم إسلام نظائرهم. وصنف أسلموا ونيتهم في الإسلام ضعيفة، فيتألفون لتقوى نيتهم ويثبتوا. ففي «صحيح مسلم» «3» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطى أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن لكل واحد منهم مئة من الإبل، وأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم أيضا لشرفهما في قومهما. وصنف ثالث: وهم قوم يليهم جماعة من الكفار إن أعطوا قاتلوهم. وصنف رابع: وهم قوم يليهم قوم من أهل الزكاة إن أعطوا جبوها منهم. وقد ثبت أن أبا بكر أعطى عدي بن حاتم حين قدم عليه بزكاته وزكاة قومه عام الردة.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 733) ، 12- كتاب الزكاة حديث رقم (1060) . (2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 733) ، 12- كتاب الزكاة، 46- باب المؤلفة قلوبهم حديث رقم (137/ 1061) . (3) سبق تخريجه.

وقد اختلف العلماء في المؤلفة قلوبهم من المسلمين، فذهب الحنفية «1» إلى أنّ سهم المؤلفة قلوبهم قد سقط بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم سواء أكانوا من الكفار أم من المسلمين، لأن المعنى الذي لأجله كانوا يعطون قد زال بإعزاز الإسلام واستغنائه عن تأليف القلوب واستمالتها إلى الدخول فيه، وذهب إلى هذا كثير من أئمة السلف، واختاره الروياني وجمع من متأخري أصحاب الشافعي، وعلى هذا يكون عدد الأصناف سبعة لا ثمانية. والمنقول عن نص الشافعي وأصحابه المتقدمين أن حكم المؤلفة قلوبهم من المسلمين لا يزال معمولا به، وهو قول الزهري وأحمد، وإحدى الروايتين عن مالك. والآية في ظاهرها يشهد لهم. واختلف القائلون بسقوط سهم المؤلفة في توجيه رأيهم، مع أن الآية في ظاهرها جعلت للمؤلفة قلوبهم نصيبا من الزكاة، فقال صاحب «الهداية» «2» من الحنفية: إن هذا الصنف من الأصناف الثمانية قد سقط، وانعقد إجماع الصحابة على ذلك في خلافة الصديق رضي الله عنه، وحينئذ يكون هذا الإجماع أو مستنده ناسخا للآية في صنف المؤلفة. وقال آخرون في وجه سقوطه: إنه من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته، كانتهاء جواز الصوم بانتهاء وقته وهو النهار. الصنف الخامس: ما أشار إليه بقوله: وَفِي الرِّقابِ في قوله تعالى: وَفِي الرِّقابِ محذوف، والتقدير: وفي فك الرقاب. واختلف أهل العلم في تفسير الرِّقابِ فقال عليّ كرم الله وجهه وسعيد بن جبير والزهري والليث بن سعد والشافعي وأكثر العلماء: يصرف سهم الرقاب إلى المكاتبين. وقال مالك وأحمد: يشترى بسهمهم عبيد ويعتقون، ويكون ولاؤهم لبيت المال. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة، ولكن يعطى منها في رقبة، ويعان بها مكاتب. وقال بعض العلماء: يفدى من هذا السهم الأسارى. وحجة الشافعي وموافقيه أن قوله تعالى: وَفِي الرِّقابِ كقوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وهناك يجب الدفع إلى المجاهدين، فكذا هنا يجب الدفع إلى الرقاب، ولا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يراد فك رقبته إلا إذا كان مكاتبا، ولو اشترى بالسهم عبيدا لم يكن الدفع إليهم، وإنما هو دفع إلى سادتهم، وانتفاعهم بالعتق ليس تمليكا، لأنّ العتق إسقاط.

_ (1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1- 2/ 120) . (2) الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1- 2/ 120) . [.....]

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قوله وَفِي الرِّقابِ يريد المكاتبين. وتأكد هذا بقوله تعالى: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ [النور: 33] . وحجة المالكية أن الرقاب جمع رقبة، وكل موضع ذكرت فيه الرقبة فالمراد عتقها، والعتق والتحرير لا يكون إلا في القن، كما في الكفارات فلا بد من عتق رقبة كاملة ملكا ويدا، وحجة الحنفية أن قوله تعالى: وَفِي الرِّقابِ يقتضي أن يكون للمزكي مدخل في عتق الرقبة، وذلك ينافي كونه تاما فيه. ومن قال بفك الأسارى من سهم الرقاب يرى أن المراد تخليص المسلم من حال النقص وفداء مسلم وتخليصه من أيدي الكفار أولى من عتق مسلم تملكه يد مسلمة. ولا نعلم خلافا في أنه لا يجوز إعطاء المكاتب الكافر، ولا عتق قن كافر. والقائلون بإعطاء المكاتب شرطوا فيه الحاجة، فإن حل عليه نجم ولم يكن معه ما يؤديه أعطي مقدار النجم أو ما يكمله، وإن كان معه ما يفي بالنجم لم يعط شيئا. قال الشافعي وأصحابه: يجوز صرف الزكاة إلى المكاتب بغير إذن سيده، ويجوز الصرف إلى السيد بإذن المكاتب، ولا يجوز الصرف إلى السيد بغير إذن المكاتب، والأولى صرفها للسيد بإذن المكاتب، لأن الله تعالى أضاف الصدقات للأصناف الأربعة الذين تقدّم ذكرهم باللام، ولما ذكر الرقاب أبدل حرف اللام بحرف في فقال: وَفِي الرِّقابِ فلا بد لهذا العدول من فائدة وهي أنّ الأصناف الأربعة الأول يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات على أنه ملك لهم، يتصرفون فيه كما شاؤوا. وأما المكاتبون فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم من الرق، فكان الدفع إلى السادات محققا للصرف في الجهة التي من أجلها استحق المكاتبون سهم الزكاة، وكذلك القول في الغارمين يصرف المال إلى قضاء ديونهم، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاجون إليه، وابن السبيل يعطي ما يعينه في بلوغ مقصده. الصنف السادس: الغارمون أصل الغرم في اللغة اللزوم، ومنه قوله تعالى: إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً [الفرقان: 65] والغريم يطلق على صاحب الدين، وعلى المدين لملازمة كل منهما صاحبه. وأما الغارم فهو الذي عليه الدين، لأنه التزمه وتكفل بأدائه. ولم يختلف العلماء أن الغارمين هم المدينون، وأما قول مجاهد: الغارم من ذهب السيل بماله أو أصابه حريق فأذهب ماله فمحمول على أنه أراد من ذهب ماله وعليه دين. وأما من ذهب ماله وليس عليه دين فإنّه لا يسمى غريما، وإنما يسمى فقيرا أو مسكينا. وظاهر الآية أن المدين يعطى مطلقا سواء أوجد وفاء لدينه أم لا، وسواء استدان لنفسه أم لغيره، وسواء أكان دينه في معصية أم لا.

ولكن الحنفية يخصصون الغريم بمن لا يملك نصابا فاضلا عن دينه «1» ، وحجتهم في ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وأردها في فقرائكم» فإنّ هذا يدل على أنّ الصدقة لا تعطى إلا للفقراء. وقال الشافعية: إن استدان لنفسه لم يعط إلا مع الفقر، وإن استدان لإصلاح ذات البين أعطي من سهم الغارمين، ولو كان غنيا، لما روى أبو داود «2» عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين، فتصدّق على المسكين، فأهدى المسكين إليه» . وقال قوم: إذا كان الغريم قد استدان في معصية فإنه لا يدخل في عموم الآية، لأن المقصود من صرف المال المذكور في الآية الإعانة، والمعصية لا تستوجب الإعانة، ومثل هذا لا يؤمن إذا أدّي عنه دينه أن يستدين غيره، فيصرفه في الفساد. الصنف السابع: ما أشار الله إليه بقوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ. قال أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله: يصرف سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة إلى الغزاة الذين لا حقّ لهم في الديوان، وهم الغزاة إذا نشطوا غزوا. وقال أحمد رحمه الله في أصح الروايتين عنه: يجوز صرفه إلى مريد الحج. وروي مثله عن ابن عمر. وحجة الأئمة الثلاثة المفهوم في الاستعمال المتبادر إلى الأفهام أن سبيل الله تعالى هو الغزو، وأكثر ما جاء في القرآن الكريم كذلك، وأن حديث أبي سعيد السابق في صنف الغارمين يدل على ذلك، فإنه ذكر ممن تحل له الصدقة الغازي، وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة إلا الذين نعطيهم من سهم سبيل الله تعالى. واستدل لما روى عن أحمد بحديث أبي داود «3» عن ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، وإنها سألتني الحج معك. قالت: أحجّني مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقلت: ما عندي ما أحجك عليه. قالت: أحجني على جملك فلان. فقلت: ذلك حبيسي في سبيل الله. فقال: «أما إنّك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله» .

_ (1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1- 2/ 121) . (2) رواه أبو داود في السنن (2/ 38) ، كتاب الزكاة، باب من يجوز له أخذ الصدقة حديث رقم (1635) . (3) رواه أبو داود في السنن (2/ 158) ، كتاب المناسك، باب العمرة حديث رقم (1990) .

وأجاب الجمهور بأن الحج يسمى سبيل الله ولكن الآية محمولة على الغزو لما ذكرناه. وفسر بعض الحنفية سبيل الله بطلب العلم، وفسره في «البدائع» «1» بجميع القرب فيدخل فيه جميع وجوه الخير مثل تكفين الموتى، وبناء القناطر، والحصون، وعمارة المساجد، لأن قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ عام في الكل. وأيّا ما كان الأمر فقد اشترط الحنفية للصرف في سبيل الله الفقر. وقال الشافعية يعطي الغازي مع الفقر والغنى، للخبر الذي ذكرناه في الغارم، ويعطى ما يستعين به على الغزو من نفقة الطريق وما يشتري به السلاح والفرس، فإن أخذ ولم يغز استرجع منه. الصنف الثامن: ابن السبيل ابن السبيل الذي يعطى من الصدقة: هو الذي يريد السفر في غير معصية فيعجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة. قال العلماء: وإنما يعطى ابن السبيل بشرط حاجته في سفره، ولا يضر غناه في غير سفره، فيعطى ما يبلغ به مقصده. فإن كان سفره في طاعة كحج وغزو وزيارة مندوبة أعطي بلا خلاف. وإن كان سفره في معصية لم يعط بلا خلاف، لأنّ ذلك إعانة على المعصية. وإن كان سفره في مباح كرياضة فللشافعية فيه وجهان: أحدهما: لا يعطى، لأنه غير محتاج إلى هذا السفر. الثاني: يعطى، لأنّ ما جعل رفقا بالمسافر في طاعة جعل رفقا بالمسافر في مباح كالقصر والفطر. مسألة: هذه مسألة تشترك فيها الأصناف السابقة كلها: قال الرافعي «2» نقلا عن أصحاب الشافعي: من سأل الزكاة وعلم الإمام أنه ليس مستحقا لم يجز له صرف الزكاة إليه، وإن علم استحقاقه جاز الصرف إليه بلا خلاف، ولم يخرّجوه على الخلاف في قضاء القاضي بعلمه، مع أن التهمة هاهنا مجالا أيضا للفرق بأن الزكاة مبنية على الرّفق والمساهلة، وليس فيها إضرار بمعين، بخلاف قضاء القاضي. وإن لم يعرف حاله فالصفات قسمان: خفية وجلية. فالخفي: الفقر والمسكنة. فلا يطالب مدعيه ببينة لعسرها، فلو عرف له مال وادعى هلاكه لم يقبل إلا ببينة.

_ (1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني بيروت، دار الكتب العلمية (2/ 45- 46) . (2) عبد الكريم بن محمد القزويني، شيخ الشافعية في زمانه، كان له مجلس في قزوين، وتوفي منها سنة (623 هـ) ، ينتهي نسبه إلى رافع بن خديج الصحابي، انظر الأعلام للزركلي (4/ 55) .

[سورة التوبة (9) : آية 84]

وأما الجلي فضربان: أحدهما: يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في المستقبل، وذلك في الغازي وابن السبيل، فيعطيان بقولهما بلا بينة ولا يمين، ثم إن لم يحققا ما ادعيا، ولم يخرجا استردّ منهما ما أخذا. وإلى متى يحتمل تأخير الخروج؟ قال السرخسي: ثلاثة أيام، قال الرافعي: ويشبه أن يكون هذا على التقريب، وأن يعتبر ترصده للخروج، وكون التأخير لانتظار أو للتأهب بأهب السفر ونحوها. الضرب الثاني: يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في الحال، وهذا الضرب يشترك فيه بقية الأصناف، فالعامل إذا ادعى العمل طولب بالبينة، وكذلك المكاتب، والغارم، وأما المؤلف قلبه فإن قال: نيتي ضعيفة في الإسلام قبل قوله، لأن كلامه يصدقه، وإن قال: أنا شريف مطاع في قومي طولب بالبينة. قال الرافعي: واشتهار الحال بين الناس قائم مقام البينة في كل من يطالب بها من الأصناف، لحصول العلم أو الظن بالاستفاضة اه من «مجموع» النووي «1» بتصرف. وقوله تعالى: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ بعد قوله: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ إلخ جار مجرى قوله فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة، فهو زجر عن مخالفة هذا الظاهر، وتحريم لإخراج الزكاة عن هذه الأصناف وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم حَكِيمٌ لا يشرع إلا ما فيه الخير والصلاح للعباد. قال الله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) ذكر في تفسير قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التوبة: 80] ما رواه البخاري «2» وغيره عن ابن عمر حين أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي على عبد الله بن أبي. ونسوق الحديث بتمامه هنا لأنّ فيه ذكر السبب في نزول هذه الآية: قال ابن عمر رضي الله عنهما: لما توفي عبد الله بن أبي بن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلّي عليه، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله أتصلّي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلّي

_ (1) يحيى بن شرف الحوراني النووي، أبو زكريا، محيي الدين، علامة بالفقه والحديث تعلم في دمشق، وأقام بها زمنا طويلا له مصنفات عدّة توفي سنة (676 هـ) انظر الأعلام للزركلي (8/ 149) . (2) رواه البخاري الصحيح (5/ 246) ، 65- كتاب التفسير، باب اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ حديث رقم (4670) .

عليه! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما خيّرني الله فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً وسأزيده على السبعين، قال: إنه منافق. قال: فصلّى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ الآية» . وفي رواية له «1» عن ابن عباس عن عمر أنه قال: فلما أكثرت عليه صلّى الله عليه وسلّم قال: «أخّر عني يا عمر، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها» الحديث. والظاهر أنّ عمر فهم النهي الذي أشار إليه بقوله: تصلي عليه وقد نهاك ربك من قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية، وليس كما قال بعضهم أنه فهم النهي من قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] إلخ، إذ لو كان عمر يشير إلى هذه الآية لما طابق الجواب السؤال. وأخرج أبو يعلى وغيره عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يصلّي على عبد الله بن أبي، فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه فقال: وَلا تُصَلِّ ... الآية . فرواية أبي يعلى تدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يصل على عبد الله بن أبي. ولكنّ أكثر الروايات تدل على أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى عليه فكان في ذلك تعارض. فبعض العلماء يقول: رواية أبي يعلى لا تعارض رواية البخاري، فالمعوّل عليه رواية البخاري، وبعضهم جمع بين الروايتين حسبما أمكن فقال: المراد في الصلاة في رواية عمر وابنه الصلاة اللغوية بمعنى الدعاء، أو أنّ المراد بقوله: (فصلّى عليه) أنه دعا الناس للصلاة عليه، وتوجّه بهم إلى مكان الميت، فلما همّ بالصلاة عليه صلاة الجنازة أخذ جبريل بثوبه إلخ. والمراد من الصلاة المنهي عنها صلاة الجنازة المعروفة، وفيه دعاء للميت واستغفار واستشفاع. وماتَ ماض بالنسبة إلى سبب النزول وزمان النهي، ولا ينافي عمومه وشموله لمن سيموت. وأَبَداً ظرف متعلق بالنهي. ومعنى وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ النهي عن الوقوف على قبره حين دفنه، أو لزيارته. ومعنى القبر على هذا مدفن الميت. وجوّز بعضهم أن يراد بالقبر: الدفن ويكون المعنى: لا تتول دفنه. إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ تعليل للنهي عن الصلاة والقيام على القبر فإنّ الصلاة

_ (1) رواه البخاري الصحيح (5/ 246) ، 65- كتاب التفسير، 12- باب، حديث رقم (4671) .

[سورة التوبة (9) : آية 103]

على الميت والقيام على قبره احتفال بالميت، وإكرام له واحترام، وليس الكافر من أهل الاحترام والتعظيم. وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ معناه أنّهم مع كفرهم متمردون في دينهم خارجون عن الحد فيه. والظاهر أنّ هذه الآية لا تدل على وجوب الصلاة على موتى المسلمين، بل غاية ما تفيده أنّ الصلاة على الميت مشروعة، والوجوب مستفاد من الأحاديث الصحيحة، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «صلوا على صاحبكم» «1» وقد نقل العلماء الإجماع على ذلك إلا ما حكي عن بعض المالكية أنّه جعلها سنة. وقد دلت الآية على معان: منها حظر الصلاة على موتى الكفار، وحظر الوقوف على قبورهم حين دفنهم، وكذلك تولي دفنهم، وألحق بعض العلماء بذلك تشييع جنائزهم. ومنها مشروعية الوقوف على قبر المسلم إلى أن يدفن، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفعله «2» . وقد قام على قبر حتى دفن الميت، وكان ابن الزبير إذا مات له ميت لم يزل قائما على قبره حتى يدفن. وفي «صحيح مسلم» «3» أنّ عمرو بن العاص رضي الله عنه قال عند موته: إذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر الجزور، ويقسّم لحمها حتى أستأنس بكم، وانظر ماذا أراجع به رسل ربي. قال الجصاص: من الناس من جعل قوله تعالى: وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ قيام الصلاة. قال: وهذا خطأ من التأويل، لأنه تعالى قال: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ فنهى عن القيام على القبر كنهيه عن الصلاة على الميت، فغير جائز أن يكون المعطوف هو المعطوف عليه بعينه اه. قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) وَتُزَكِّيهِمْ: تنمي حسناتهم وأموالهم. وَصَلِّ عَلَيْهِمْ: ادع لهم، واستغفر لهم. سَكَنٌ من معاني السكن والسكون، وما تسكن النفس إليه وتطمئن من الأهل والمال والوطن. وكلّ من هذين المعنيين يصحّ أن يكون مرادا.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1237) ، 23- كتاب الفرائض حديث رقم (14/ 1619) . (2) رواه أبو داود في السنن (3/ 166) ، 23- كتاب الجنائز، باب الاستغفار حديث رقم (3221) . (3) رواه مسلم الصحيح كتاب الإيمان حديث رقم (121) .

سبب النزول

سبب النزول : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم لمّا تاب الله عليهم جاؤوا بأموالهم فقالوا: يا رسول الله! هذه أموالنا التي كانت سببا في تخلفنا، فتصدق بها عنا، واستغفر لنا. فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» فنزلت هذه الآية، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أموالهم الثلث. قال الحسن: وكان ذلك كفارة الذنب الذي حصل منهم. وقد راع كثير من المفسرين سبب النزول، فجعل الضمير في قوله تعالى: خُذْ خاصا بهذه الحادثة، وتكون الصدقة المأخوذة منهم صدقة تطوع معتبرة في كمال توبتهم، وجارية في حقهم مجرى الكفارة، وليس المراد بها الزكاة المفروضة، لأنها كانت واجبة من قبل. وعن الجبائي أن المراد بها الزكاة، وأمر صلّى الله عليه وسلّم بأخذها هنا دفعا لتوهم إلحاقهم ببعض المنافقين، فإنها لم تكن تقبل منهم، كما يشير إليه قوله تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ [التوبة: 53] . ومن الناس من لم يجعل سبب النزول حكما على الآية حيث قال: إنّ الضمير في قوله تعالى: مِنْ أَمْوالِهِمْ راجع إلى أرباب الأموال من المؤمنين مطلقا، ويدخل فيهم الذين اعترفوا بذنوبهم، وقد عرف مرجع الضمير بدلالة الحال عليه، كقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) [القدر: 1] وقوله جل شأنه: ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45] وقوله عزّ اسمه: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] وعلى هذا الرأي أكثر الفقهاء، إذا استدلوا بهذه الآية. على إيجاب الزكاة. قال الجصاص: وهو الصحيح، إذ لم يثبت أن هؤلاء القوم- يعني المعترفين- أوجب الله عليهم صدقة دون سائر الناس سوى زكاة الأموال، وإذا لم يثبت بذلك خبر فالظاهر أنهم وسائر الناس سواء في الأحكام والعبادات، وأنهم غير مخصوصين بها دون غيرهم من الناس، وإذا كان مقتضى الآية وجوب هذه الصدقة على سائر الناس كانت الصدقة هي الزكاة المفروضة، إذ ليس في أموال الناس حقّ واجب يقال له صدقة سوى الزكاة المفروضة. وليس في قوله تعالى: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها دلالة على أنها صدقة مكفرة للذنوب غير الزكاة المفروضة، لأنّ الزكاة المفروضة أيضا تطهّر وتزكي مؤدّيها. وسائر الناس من المكلفين محتاجون إلى ما يطهّرهم ويزكيهم. وقوله تعالى: مِنْ أَمْوالِهِمْ عام في أصناف الأموال، فيقتضي ظاهره أن يؤخذ من كل صنف بعضه، وحكى الجصاص عن شيخه أبي الحسن الكرخي أنه كان يقول:

متى أخذ من صنف واحد فقد قضى عهده الآية، وكذلك يقتضي ظاهر اللفظ، أنه لا يجزئ أخذ القيمة. والمقدار المأخوذ مجمل هنا، قد وكل الله بيانه إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وأكثر الآيات التي ذكر الله فيها إيجاب الزكاة ذكرت في مواضع من كتابه بلفظ مجمل مفتقر إلى البيان في المأخوذ والمأخوذ منه، ومقادير النّصب، ووقت الاستحقاق، فكان البيان فيها موكولا إلى بيان السنة، وبعض الآيات نصّ الله فيها على الصنف الذي تجب فيه الزكاة، فيما نصّ الله تعالى عليه من أصناف الأموال التي تجب فيها الزكاة الذهب والفضة بقوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة: 34] ومما نص عليه زكاة الزرع والثمار في قوله جل شأنه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ إلى قوله: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام: 141] وبينت السنة سائر الأموال التي تجب فيها الزكاة: مثل عروض التجارة والإبل والبقر والغنم السائمة على إختلاف الفقهاء في بعض ذلك. وظاهر قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أنّه يجب على الإمام أو نائبه إذا أخذ الزكاة أن يدعو للمتصدق، وبهذا أخذ داود وأهل الظاهر. وأما سائر الأئمة فقد حملوا الأمر هنا على الندب والاستحباب، قالوا: وإن ترك الدعاء جاز، لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لمعاذ: «أعلمهم أنّ عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وتردّ في فقرائهم» «1» ولم يأمره بالدعاء لهم، ولأنّ الفقهاء جميعا متفقون فيما لو دفع المالك الزكاة إلى الفقراء أنّه لا يلزمهم الدعاء، فيحمل الأمر على الاستحباب قياسا على أخذ الفقراء. وأما صيغة الدعاء فلم يرد فيها تعيين إلا ما رواه الستة «2» غير الترمذي من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى» ومن هنا قال الحنابلة وداود وأهل الظاهر: لا مانع أن يقول آخذ الزكاة اللهم صل على آل فلان، وقال باقي الأئمة: لا يجوز أن يقال: اللهم صل على آل فلان، وإن ورد في الحديث، لأنّ الصلاة صارت مخصوصة في لسان السلف بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، كما أنّ

_ (1) سبق تخريجه. (2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 756) ، كتاب الزكاة، 54- باب الدعاء، حديث رقم (176/ 1078) ، والبخاري في الصحيح (2/ 156) ، 24- كتاب الزكاة، 64- باب صلاة الإمام حديث رقم (1497) .

قولنا: «عزّ وجلّ» مخصوص بالله تعالى، وكما لا يقال: محمد عزّ وجلّ، وإن كان عزيزا جليلا، ولا يقال: أبو بكر صلّى الله عليه وسلّم أو علي صلّى الله عليه وسلّم، وإن صح المعنى. قالوا: وإنما أحدث الصلاة على غير الأنبياء مبتدعو الرافضة في بعض الأئمة، والتشبه بأهل البدع منهيّ عنه. ولا خلاف أنه يجوز أن يجعل غير الأنبياء تبعا لهم، فيقال: اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه، لأنّ السلف استعملوه، وأمرنا به في التشهد ولأن الصلاة على التابع تعظيم للمتبوع. قالوا: والسلام في حكم الصلاة، لأنّ الله تعالى قرن بينهما، فلا يفرد به غائب غير الأنبياء. وأما استحبابه في مخاطبة الأحياء تحية لهم، وفي تحية الأموات، فهو أمر معروف وردت به السنة الصحيحة. هذا وقد قال الشافعي: وبأي لفظ دعا جاز، وأحبّ أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله لك طهورا، وبارك لك فيما أبقيت. واحتج مانعو الزكاة في زمان أبي بكر رضي الله عنه بهذه الآية، فقالوا: إنه تعالى أمر رسوله بأخذ الصدقات، ثم أمره بأن يصلّي عليهم، وذكر أن صلاته سكن لهم، فكان وجوب الزكاة مشروطا بحصول ذلك السكن، ومعلوم أنّ غير الرسول لا يقوم مقامه في حصول ذلك السكن، فلا يجب دفع الزكاة إلى أحد غير الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وهذه شبهة ضعيفة، فإنّه لو سلم لهم أنّ هذه الآية وردت في وجوب الزكاة المفروضة، فإنّ نائب الرسول- وهو الإمام العادل- قائم مقام الرسول في كل ما يتعلق بأحكام الدين، إلا ما قام الدليل على اختصاص الرسول به، وليس تخصيص الرسول بالخطاب دليلا على اختصاص الحكم به، فإنّ معظم الأحكام الشرعية وردت خطابا للرسول عليه الصلاة والسلام: وإن سائر الآيات دلت على أنّ الزكاة إنما وجبت دفعا لحاجة الفقير، وإعانة على أبواب من البر في مصلحة الأمة، فنظام الزكاة من النظم الجليلة التي تحقق مصلحة عامة لمجموع الأمة، فهي باقية ما بقيت الأمة. وَاللَّهُ سَمِيعٌ يسمع الاعتراف بالذنب عَلِيمٌ بما في الضمائر من الندم. أو أنه سميع يجيب دعاءك لهم، عليم بما تقتضيه الحكمة في مصالح الناس. قال الله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ

[سورة التوبة (9) : الآيات 122 إلى 123]

طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) فَلَوْلا للتحضيض، وهي داخلة هنا على الماضي، فتفيد التوبيخ والتنديد على ترك الفعل فيما مضى، والأمر به في المستقبل. والفرقة والطائفة بمعنى، لكنّ سياق الكلام هنا، ومِنْ التبعيضية، يقتضيان أنّ المراد بالفرقة هنا الجماعة الكثيرة، وأن الطائفة جماعة أقل من الفرقة المرادة هنا. وعن السلف في سبب نزول هذه الآية روايتان: فروى الكلبي «1» عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله تعالى لما شدّد على المتخلفين قالوا: لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبدا، ففعلوا ذلك، وبقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحده، ونزل قوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا الآية. وأخرج ابن جرير «2» وابن المنذر عن مجاهد أنه قال: إنّ ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرجوا في البوادي، فأصابوا من الناس معروفا، ومن الخصب ما ينتفعون به، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال لهم الناس: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا، فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرّجا، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا إلخ. هاتان روايتان مختلفتان في سبب النزول، فرواية ابن عباس تجعل النفر المنهي عنه هو نفر المؤمنين جميعا للجهاد. نهوا عن ذلك لما يترتب عليه من الإخلال بالتعلم، فكما أنّ الجهاد فرض في الدين، كذلك تلقي العلم عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأخذ الأحكام المتجددة عنه فرض من فروض الدين، فلا ينبغي أن يكون في إقامة أحد الفرضين، إخلال بالآخر ومن الميسور أن نجمع بين الفرضين ونؤدّي كلّا من الواجبين، وطريق ذلك أن تنفر للجهاد طائفة من كل فرقة، وتبقى طائفة أخرى تتفقه في الدين، وتسمع من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، حتى إذا رجع إليهم إخوانهم من الغزو، علموهم ما تلقوه من أحكام الدين. وعلى هذا المعنى: لا يكون قوله تعالى: لِيَتَفَقَّهُوا متعلقا بنفر، لأن النفر للجهاد ليس علة في التفقه. وإنما هو متعلق بفعل مفهوم من الكلام، إذ المعنى لتنفر من كل فرقة طائفة

_ (1) محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث الكلبي، أبو النضر، نسبابة، عالم بالتفسير والأخبار وأيام العرب، ولد في الكوفة وتوفي فيها، انظر الأعلام للزركلي (6/ 133) . [.....] (2) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (11/ 48) .

وتبقى طائفة ليتفقهوا في الدين، فضمير يتفقهوا وينذروا يعود إلى الطائفة الباقية. ورواية مجاهد تجعل النفر المنهي عنه هو خروجهم جميعا لطلب العلم والتفقه في الدين، نهوا عن ذلك لما فيه من الإخلال بتعاطي أسباب الكسب والابتغاء من فضل الله وخيره بالتجارة والزراعة ووسائل الكسب، فكما أنّ طلب العلم ومعرفة الحلال والحرام من فرائض الدين، كذلك ابتغاء فضل الله بهذه الوسائل من فرائض الدين، فلا ينبغي أن تكون إحدى العبادتين سببا في الإخلال بالأخرى، والجمع بينهما ميسور بأن تنفر من كل فرقة طائفة لتتفقه في الدين، وتعلّم قومها إذا رجعت إليهم، وهذا المعنى هو مقتضى ظاهر الآية، واتساقها، فإنّ النفر على هذا المعنى يكون علة للتفقه في الدين، والطائفة النافرة هي التي تتفقه في الدين، وهي التي تنذر قومها إذا رجعت إليهم. لكن يعكر على هذا المعنى أنّ الآية تكون منقطعة عما قبلها، فإنّ ما قبلها وارد في شأن الجهاد والغزو في سبيل الله، ونصرة دينه، إلا أن يقال: إنه سبحانه وتعالى لما بيّن وجوب الهجرة والجهاد، وكل منهما سفر لعبادة، ناسب ذلك أن يذكر السفر الآخر وهو الهجرة لطلب العلم والتفقه في الدين، والآية على كلا الرأيين تدلّ على أن التفقه في الدين من فروض الكفاية. وما روي عن أنس بن مالك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» فعلى تسليم صحته يكون محمولا على ما يتوقف عليه أداء الفرائض، فمن لا يعرف حدود الصلاة ومواقيتها فحتم عليه أن يتعلمها، وكذلك الزكاة والصوم والحج وسائر الفروض. أما ما سوى ذلك من الأحكام الدينية التي لا تتوقف عليها صحة عبادته فتعلمها فرض على الكفاية، إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الباقين. وتدلّ الآية أيضا على أنّ خبر الواحد حجة، لأنّ الطائفة مأمورة بالإنذار، والإنذار يقتضي فعل المأمور به، وإلا لم يكن إنذارا، ولأنّه سبحانه أمر القوم بالحذر عند الإنذار، لأن معنى قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ليحذروا. وليس الاستدلال بالآية على حجية خبر الواحد متوفقا على أنّ الطائفة تصدق على الواحد الذي هو مبدأ الأعداد، بل يكفي في ذلك صدقها على ما لم يبلغ حدّ التواتر. وقوله تعالى: مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ عام يقتضي أن ينفر من كل جماعة تفردوا بقرية- قلوا أو كثروا- طائفة.

وكان الظاهر أن يقال بدل وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ليعلّموا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يفقهون، لكنه اختير ما في النظم الجليل للإشارة إلى أنّه ينبغي أن يكون غرض المعلّم الإرشاد والإنذار، وغرض المتعلم اكتساب الخشية لا التبسط والاستكبار. قال حجة الإسلام الغزالي «1» رحمه الله: كان اسم الفقه في العصر الأول اسما لعلم الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب، ويدل عليه هذه الآية، فما به الإنذار والتخويف هو الفقه، دون تعريفات الطلاق واللعان والسلم والإجارات. وسأل فرقد السبخي الحسن عن شيء فأجابه فقال: إن الفقهاء يخالفونك، فقال الحسن: ثكلتك أمك! هل رأيت فقيها بعينك، إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع الكافّ عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم، ولم يقل في جميع ذلك الحافظ لفروع الفتاوى اهـ. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) الغلظة: الشدة في القتال والعنف في القتل والأسر ونحو ذلك. وروي عن الحسن أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] . والمحققون على أنه لا نسخ إذ لا تعارض بين هذه الآية والآيات التي زعمها الحسن ناسخة. فقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ورد في الأمر بقتال المشركين جميعا في أي مكان كانوا. والآية التي معنا للإرشاد، ورسم الخطة المثلى في قتل الكفار، إذ من المعلوم أنه لا يمكن قتال جميع الكفار، وغزو جميع البلاد في وقت واحد، فكان أحسن الخطط في قتالهم البدء بقتال الأقرب فالأقرب، حتى يصلوا إلى الأبعد فالأبعد، وبذلك يحصل الغرض من قتال المشركين كافّة.

_ (1) محمد بن محمد بن محمد الغزالي، أبو حامد، حجة الإسلام، فيلسوف متصوف رحل إلى نيسابور ثم بغداد ثم الحجاز فمصر وعاد إلى بلدته له مؤلفات عديدة، انظر الأعلام للزركلي (7/ 22) .

وقوله تعالى: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ليس المقصود به أمر الكفار بأن يجدوا في المؤمنين غلظة، بل المراد أمر المؤمنين بالاتصاف بالغلظة على الكفار، حتى يجدهم الكفار متصفين بذلك. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالعصمة والنصر. وإذا كان المراد بالمتقين المخاطبين كان التعبير بالمظهر بدل الضمير للتنصيص على أنّ الإيمان والقتال على الوجه المذكور من باب التقوى، والشهادة بكونهم من زمرة المتقين. وإذا كان المراد بالمتقين الجنس كان المخاطبون داخلين فيه دخولا أوليا، والكلام تعليل وتوكيد لما قبله، أي قاتلوهم، وأغلظوا عليهم، ولا تخافوهم، لأنّ الله معكم، أو لأنّكم متقون، والله مع المتقين.

من سورة النحل

من سورة النحل قال الله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) ويجوز أن يكون متعلقا بقوله تعالى: تَتَّخِذُونَ، والسكر في الأصل مصدر سكر يضم ويفتح كالرشد والرشد، وقد اختلف السلف في تأويل السكر والرزق الحسن، فروي عن الحسن وسعيد بن جبير السكر: ما حرم منه، والرزق الحسن ما حل منه. وروي عن جماعة منهم النخعي والشعبي أن السكر خمر، وعن ابن شبرمة أنه خمر إلا أنه من التمر. وقد فهم هؤلاء من الامتنان باتخاذه حلّه في الأصل، ثم قالوا: هو منسوخ بتحريم الخمر. وروي عن ابن عباس نحو قول الأولين الذين قالوا: السكر المحرم، والرزق الحسن الحلال. وروي عنه أيضا أنّ السّكر النبيذ، والرزق الحسن الزبيب، وقد يتعلق الحنفية في الاستدلال لأبي حنيفة بهذه الآية في تحليل قليل المسكر من غير الخمر، ويقولون: إنّ الله امتن على عباده باتخاذ السّكر من ثمرات النخيل والأعناب، ولا يقع الامتنان إلا بمحلّل، فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ، فإذا وصل إلى السكر لم يجز. ويعضّدون هذا من السنة بما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «حرّم الله الخمر بعينها: القليل منها والكثير. والسّكر من كل شراب» «1» ، وأنت تعلم أن الاستدلال بالامتنان في الآية لا ينهض، فإنه إن كانت الآية قبل تحريم الخمر فهي تدل على أنها غير مرغوب فيها، إذ قد جعل الله السكر غير الرزق الحسن، وذلك كاف في تقبيحها. وقد روي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال عند نزول هذه الآية: «إنّ ربكم ليقدم في تحريم الخمر» «2» ، على أنّ الآية قد جمع فيها بين اتخاذ السكر والرزق الحسن من ثمرات

_ (1) رواه النسائي في السنن (7- 8/ 729) ، كتاب الأشربة حديث رقم (5714- 5717) . (بلفظ مختلف) . (2) رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/ 318) .

[سورة النحل (16) : آية 98]

النخيل والأعناب، فيجوز أن يكون ذلك جمعا بين العتاب في اتخاذ السكر، والامتنان بالرزق الحسن، ويكون المعنى: أتتخذون منه سكرا ورزقا حسنا. وإن كانت بعد التحريم ففي مقابلة السكر بالرزق الحسن ما يرده إلى المحرم، ويكون ذلك تقريعا شديدا لمن يقدم عليه. والحاصل أنّا نرى أن الآية ليس فيها ما يشهد بالحل، إذ الكلام في الامتنان بخلق الأشياء لمنافع الإنسان، ولم تنحصر المنافع في حل التناول، فقد قال الله في شأن الخمر: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة: 219] فهل انحصرت منافع السكر على فرض أنه النبيذ في الشرب؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ستعملون عقولهم بالنظر والتأمل، فيعلمون أن ربهم بهم رؤوف رحيم، وأنه يجب أن يخصّ بالعبادة وحده. قال الله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) ظاهر الآية جعل الاستعاذة عقب القراءة، وبه قال بعض الظاهرية. والجمهور على أن ذلك على حد قوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] وقوله: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام: 152] وقوله: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب: 53] وقوله: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً [المجادلة: 12] الذي تطلب من أجله الاستعاذة- وهو دفع وسوسة الشيطان- يقتضي تحصيل الاستعاذة قبل القراءة، وهذا المعنى يشير إلى قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ [الحج: 52] . وكيفية الاستعاذة عند جمهور القراء أن يقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» وقد تضافرت الروايات عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهذه الصيغة «1» ، وهناك صيغ أخرى وردت: كأعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم «2» ، والأمر بها للندب عند الجمهور، وعن الثوري أنها واجبة، وظاهر الآية يؤيده، إذ الأمر للوجوب. والجمهور يقولون: إنه صرفها عن الوجوب ما ورد أنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يعلمها الأعرابي «3» وأيضا فقد روي أنه كان يتركها. ثم هل هي مندوبة في أول الصلاة فقط أو في كل ركعة، خلاف بين الفقهاء يعرف في الفقه، ومبناه على أنّ الاستعاذة قد رتبت على شرط، فتتكرر بتكرره. ثم

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (4/ 130) . (2) رواه أبو داود في السنن (1/ 298) ، كتاب الصلاة، باب من لم ير الجهر ببسم الله حديث رقم (785) . (3) انظر ما رواه مسلم في الصحيح (1/ 298) ، 4- كتاب الصلاة، 11- باب وجوب قراءة الفاتحة حديث رقم (45/ 397) .

[سورة النحل (16) : آية 106]

بعد ذلك هل الصلاة عمل واحد فيكتفى بالاستعاذة في أولها، فمن راعى أنها عمل واحد مفتتح بقراءة يقول: إنها طلبت في بدء القراءة، وقد قالها، فلا يكررها، لأنّه لم يفرغ من العمل الذي بدأه بها. والآخرون يرون أنها قد رتّبت على القراءة، وكل ركعة فيها فيبدأ قراءته في كل ركعة بالاستعاذة. قال الله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) في قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ وجوه من الإعراب، أحسنها أنّ (من) مبتدأ محذوف الخبر، يدل عليه قوله بعد ذلك فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ والتقدير: من كفر بالله من بعد إيمانه فعليه غضب إلا من أكره إلخ. والحذف في مثل ذلك كثير، وجوز الرفع على القطع، والنصب على إضمار فعل الذم، واستبعد أبو حيان النصب على الذم. وجوز بعضهم كون (من) بدلا من الذين لا يؤمنون بآيات الله، ورد بأن المبدل منه مطروح من الكلام، وهو حينئذ يقتضي أن لا يفتري الكذب إلا من كفر بعد إيمانه، وأيضا هذا يتنافى مع سياق الآية الأولى، لأنها سيقت للرد على كفار قريش، وهم كفار أصليون. وجوز بعضهم غير ذلك، وأما قوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ فهو استثناء متصل من (من) ، لأنّ الكفر أعمّ من أن يكون اعتقادا فقط، أو قولا فقط، أو اعتقادا وقولا، ومن نطق بكلمة الكفر كافر، واطمئنان قلبه بالإيمان أمر مبطن لا اطلاع لأحد عليه، ولذلك صح الاستثناء ظاهرا. وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ أصل الاطمئنان سكون بعد انزعاج، والمراد هنا السكون والثبات على الإيمان بعد الانزعاج الحاصل بالإكراه، وقد يستدلّ بالآية على أن الإيمان هو التصديق بالقلب، حيث اكتفي بوجود الاعتقاد، وهو استدلال واه، إذ إنّ من يقول: إن القول ركن الإيمان لا يعني أنه لا يسقط للضرورة ترخيصا. وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أنس به، واطمأن إليه، واعتقده، وطابت به نفسه، وانفسح له صدره، و (من) شرطية، وجوابها فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ، والتنوين للتهويل وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يتناسب مع عظيم جرمهم. وقد روي في أسباب نزول هذه الآية أنّ عمار بن ياسر وقوما كانوا أسلموا، ففتنهم المشركون، فثبت على الإسلام بعضهم، وافتتن بعضهم. وقد روي أنّ عمارا أخذه بنو المغيرة، فغطوه في بئر ميمون، وقالوا: اكفر بمحمد، فتابعهم على ذلك وهو كاره، فشكا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له: «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئنا

بالإيمان، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فإن عادوا فعد» فنزلت هذه الآية «1» . وقد قالوا: إن هذا أصل في جواز إظهار الكفر في حال الإكراه وقالوا أيضا: إنّ الإكراه الذي يبيح ذلك هو أن يبلغ حدّا يخاف معه على نفسه أو بعض أعضائه التلف. إن لم يفعل ما أمر به، فأبيح له في هذه الحالة أن يظهر الكفر. وقد قالوا: يجب أن يجنح إلى التعريض فيما أمر به ما أمكنه، فإن ضيّق عليه حتى لم يكن للتعريض سبيل وسعه أن يفعل، فإن خطر بباله التعريض ولم يعرّض كان كافرا. وأما إن لم يخطر بباله شيء من ذلك بأن كان همه أن يخرج من الإكراه، وانحصر فكره في ذلك فلا شيء عليه. وحكم هذا الترخيص للإكراه كما يجري في الكفر يجري في غيره، غير أنه إذا أكره على قتل إنسان لا يجوز له أن يفعل، وهناك أمور يجب عليه فيها أن يفعل، فإن لم يفعل كان آثما- وهي مبيّنة في الفقه، وفي الأصول عند الكلام على أقسام الرخصة- والذي يعنينا هنا هو الإكراه على الكفر ما حكمه، فقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم عمارا أن يعود إلى مجاراتهم في القول إن عادوا إلى إكراهه، فما موجب الأمر؟ قالوا: إنه للإباحة، والصارف له عن الوجوب ما روي عن خبيب بن عدي رضي الله عنه لما أراد أهل مكة أن يقتلوه، لأنه لم يعطهم التقية، بل صبر حتى قتل، فكان عند النبي صلّى الله عليه وسلّم خيرا من عمار في إعطائه التقية، أضعف إلى ذلك أنّ في الصبر على المكروه إعزازا للدين، وغيظا للمشركين، فهو بمنزلة من قاتل المشركين حتى قتل، فتأثير الإكراه في هذه الصورة إنما هو إسقاط المأثم فقط. وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «2» فألحق المكره بالمخطئ والناسي. وقد وقع خلاف بين الفقهاء في طلاق المكره وعتاقه ونكاحه وأيمانه، فذهب الحنفية إلى أنّ الطلاق ونحوه يلزمه، لأن الطلاق يعتمد الاختيار، والإكراه ينفي الرضا، ويحقق الاختيار. وغيرهم يذهب إلى عدم لزومه، استدلالا بالحديث المتقدم والحنفية يحملونه على رفع الحكم الأخروي وهو المأثم، والكلام مستوفى في الفقه، فارجع إليه إن شئت. ومسألة طلاق المكره مسألة خلافية من الصدر الأول، فقد روي القول بالوقوع عن علي وعمر وسعيد بن المسيب وشريح وإبراهيم النخعي والزهري وقتادة.

_ (1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (14/ 122) . (2) سبق تخريجه، بلفظ (إنّ الله تجاوز) بدل (رفع عن أمتي) .

[سورة النحل (16) : الآيات 125 إلى 128]

وروي القول بعدم الوقوع عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير والحسن وعطاء وعكرمة وغيرهم، وروي عن الشعبي تفصيل يرجع إلى من حصل منه الإكراه، إن كان السلطان لم يلزمه الطلاق، وإن كان غيره لزمه. قال الله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) يقول الله ادْعُ يا محمد الناس إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ أي إلى شريعة ربك، وهي الإسلام بِالْحِكْمَةِ أي بالقول المحكم وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ بالعبر التي تؤثّر بها في قلوبهم وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ خاصمهم بالخصومة التي هي أحسن من غيرها، فاصفح عمّا نالوا به عرضك من الشتم والهجاء، ولن لهم في القول، وقابل السوء بالحسنى، وليكن قصدك من الخصومة الوصول إلى الحق، فلا تعمل ما يعمله السفهاء في جدالهم من رفع الصوت، وسب الخصم، والمغالبة باليد والسباب إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وبمن اهتدى إليه، فمجازيهم على ضلالهم واهتدائهم، فله الجزاء لا إليك، وإنما عليك الدعوة والبلاغ. وذهب ابن رشد والفخر الرازي وبعض فلاسفة المسلمين إلى أنّ المراد بالحكمة البرهان الذي يفيد يقينا لا يحتمل النقيض، وبالموعظة الحسنة الخطابة التي تفيد الظن الظاهر والإقناع، والمراد بقوله: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ استعمل معهم أحسن صناعة الجدل، فاستعمل معهم المقدمات المسلّمة عند الجمهور، أو عند المناظر، لتصل إلى الحق ولا تستعمل معهم المقدمات الباطلة، وتروجها عليهم بالسفاهة والشغب والحيل الباطلة. قالوا: وإنما احتيج لهذه الصناعات الثلاثة: البرهان، والخطابة، والجدل، لأن الناس متفاوتون في العقول والأفهام، فمنهم من بلغ رتبة الحكمة، فلا يقنعه إلا البرهان المفيد لليقين الذي لا يحتمل النقيض، لا حالا ولا مآلا. ومنهم الطرف الآخر، المقابل للأول، وهم جمهور الناس، وهؤلاء لا يفيدهم إلا صناعة الخطابة. والبرهان مضرّ بهم، فلا يصلون إليه، وربما أفسد استعماله معهم عليهم أمرهم. القسم الثالث بين بين، فقد ارتفع عن طبقة العامة، ولم يصل إلى طبقة الخاصة، وهؤلاء لا يصلحهم إلا الجدل الحسن، وفي هذا دليل على أن القرآن من عند الله، لأنّ هذه معارف لا يصل إليها إلا الحكماء الذين مارسوا الحكمة وانقطعوا لها! ومحمد صلّى الله عليه وسلّم نشأ أميا، لم يمارس الحكمة، فظهور هذه الحكمة العالية على لسانه دليل على أنّه من عند من علّم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم.

هذا تلخيص ما قالوه، والمعنى حسن في نفسه إلا أن حمل الكلام عليه بعيد، لأنّ الجدل في لسان العرب هو الخصومة، وتخصيصه بالقياس المؤلف من المسلمات اصطلاح منطقي حادث، ولا يسوغ حمل ألفاظ القرآن على الاصطلاحات الحادثة، ولا يصحّ فهمها إلا مراعى فيها معانيها التي وضعتها لها العرب، وما أرادوه يصحّ أن يكون داخلا في الحكمة، فإنّ المراد بها الطريق المحكم في الدعوة، ولا إحكام في الدعوة إلا إذا خوطب الناس بما يفقهون، فلا يخاطب العوام بالجدل والبرهان، ولا كل صنف من الناس إلا بما هو لائق به. ومن ذلك يعلم أن القائم بالدعوة ينبغي أن يكون على حظّ عظيم من علم النفس وعلم الاجتماع وطبائع الأفراد والأمم، فإنّه ليس شيء أنجع في الدعوة من معرفة طبائع الناس وميولهم، وتغذية هذه الطبائع والميول بما يناسبها. ومن الحمق أن يظنّ أن الناس متساوون في القدرة والأفهام فيما إذا خوطبوا على درجة واحدة من الخطاب، وكما أن الأمراض مختلفة، وأدويتها كذلك مختلفة، وليس دواء واحد نافعا لكل مرض ولكل مريض، كذلك أمراض النفوس، تحتاج إلى علاجات مختلفة، وتركيبات متباينة، وربّ دواء أفاد إنسانا، وأضر بآخر، وربما أفاده في وقت، وأضر به في آخر، ومدار الأمر على معرفة الداعي أنّ الغرض من القول الإفهام والتأثير، فيسلك لذلك سبله، وعلى أن يكون عنده عقل مفكر، ولسان مؤثر، سنذكر حديثا يدل على مقدار رفق النبي صلّى الله عليه وسلّم في الدعوة، ومقدار نجاح هذا الرفق. روى أبو أمامة أنّ غلاما شابا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله، أتأذن لي في الزنى؟ فصاح الناس به، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «قرّبوه إذن» فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أتحبه لأمك» قال: لا جعلني الله فداك، قال: «كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لابنتك» قال: لا جعلني الله فداك. قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم أتحبه لأختك» قال: لا جعلني الله فداك. قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم» فوضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يده على صدره وقال: «اللهم طهّر قلبه، واغفر ذنبه، وحصّن فرجه» فلم يكن شيء أبغض إليه منه «1» . وينبغي أيضا أن يكون الداعي شجاعا في الحق فلا يهن، صارما في الصدق، فلا يضعف، مخلصا فانيا في مبدئه فلا يبيعه بزخارف الدنيا وزينتها. والمثل الأعلى في ذلك صاحب الدعوة الإسلامية فقد اعترضوا سبيل الدعوة. بكل أنواع الإيذاء، وفتنوا المؤمنين. فلم يثن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عزمه، وصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.

_ (1) رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 256) .

ثم جاءت قريش إلى عمه أبي طالب، وعرضوا عليه أن يأخذ محمد ما شاء من مال ويترك ما يدعو إليه، فذكر أبو طالب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك فبكى وقال: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله، أو أهلك دونه» «1» . قال الله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) (126) واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك فى ضيق مما يمكرون (127) عُوقِبْتُمْ بِهِ أصل العقاب المجازاة على الفعل، فالفعل ابتداء ليس عقابا، وإنما سمّاه الله هنا عقابا على طريق المشاكلة ضَيْقٍ تخفيف الضيق أي في أمر ضيق، ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدرين كالقيل والقول. لما أمره الله بدعوة الناس إلى الإسلام، وكان في ضمن الدعوة تسفيه آرائهم، وإبطال عقائدهم، وتضليل طرائقهم، وهذا مما يدعو إلى الحمية والاعتداء على الداعي بأنواع الاعتداء، وربما حمل ذلك الداعي على مقابلة الشر بأكثر منه، نهى الله هنا عن مقابلة الشر بأكثر منه، فقال: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ، ثم دعا إلى الصبر، وعدم مقابلة الشر بمثله، وحبب فيه فقال: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وقد قيل في سبب نزول هذه الآيات: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لما رأى حمزة وقد مثّل به المشركون، قال: «والله لأمثّلن بسبعين منهم مكانك» «2» فنزل جبريل عليه السلام بخواتيم سورة النحل، فكف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما أراد ، وتكون سورة النحل مكية إلا هذه الآيات. وقيل إنّ هذا كان قبل الأمر بالجهاد العام، حين كان المسلمون لا يقاتلون إلا من قاتلهم، ولا يبدؤون بالقتال، فتكون كقوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) . وحمل الآية على قصة حمزة غير ظاهر لأنّ ذلك يجعل الآيات مفككة لا ارتباط لها، فالظاهر ما حملنا الآية عليه، وقريب منه قول مجاهد وابن سيرين: إن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم، قال ابن سيرين: إن أخذ منك رجل شيئا فخذ منه مثله. والضمير في قوله: لَهُوَ يرجع إلى المصدر في قوله: صَبَرْتُمْ والمصدر إما

_ (1) السيرة النبوية لابن هشام بيروت، دار الفكر (1/ 176- 177) . (2) انظر السيرة النبوية لابن هشام بيروت، دار الفكر (2/ 610) .

أن يراد به الجنس أي وللصبر خير للصابرين، وأنتم منهم إذا صبرتم. وإما أن يراد به صبركم، أي لصبركم خير لكم، فوضع الصابرين موضع لكم ثناء عليهم. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ أمر الله بالصبر أمرا صريحا بعد أن ذكر حسن عاقبته، ولما كان الصبر شاقا ذكر ما يعين عليه فقال: وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ فالجأ إليه في طلب الصبر، والتثبيت في الأمر وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ يدعوه إلى عدم الجزع والهلع بترك الحزن، والحزن سببه إما فوات محبوب أو توقع مكروه، فبيّن الله ما يستعين به على الصبر، وهو ترك الحزن، فقال: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على إخوانك المسلمين الذين قتلوا، وهم قتلى أحد، ولا تك في ضيق مما يمكرون، أي ولا يضق صدرك من مكرهم، فإنّ الله ينجيك من مكرهم، لأنّه مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا بالنصر والمعونة، أي هو ولي الذين اجتنبوا المعاصي وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ في أعمالهم، ومن التقوى والإحسان الصبر. وقيل: إن الضمير في قوله: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ يرجع إلى الكافرين، فيكون كقوله: وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [المائدة: 68] روي عن هرم بن حبان أنه قيل له حين احتضر: أوص، فقال: إنما الوصية من المال، ولا مال لي وأوصيكم بخواتيم سورة النحل.

من سورة الإسراء

من سورة الإسراء قال الله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ أصل الدلوك: الميل والزوال، وهذا المعنى يصح أن يراد منه ميل الشمس عن كبد السماء، وزوالها عنه وقت الظهيرة، ويصح أن يراد منه ميلها وزوالها عن الأفق في وقت الغروب، ولعلّ هذا هو منشأ اختلاف العلماء في تعيين الوقت المأمور فيه بإقامة الصلاة لدلوك الشمس. فقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، ومنهم ابن عباس وابن مسعود إلى أنّ المراد من دلوك الشمس غروبها. بل لقد روى ابن جرير «1» عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقسم على ذلك. فقد أخرج أن أبا عبيدة بن عبد الله كتب إلى عقبة بن عبد الغافر أن عبد الله بن مسعود كان إذا غربت الشمس صلّى المغرب، ويفطر إن كان صائما، ويقسم عليها يمينا ما يقسمه على شيء من الصلوات، بالله الذي لا إله إلا هو إنّ الساعة لميقات هذه الصلاة، ويقرأ فيها تفسيرها من كتاب الله أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ. وأخرج أيضا «2» عن مجاهد عن ابن عباس قال: دلوك الشمس غروبها. وذهب آخرون إلى أن دلوكها ميلها إلى الزوال، وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر والحسن، وعليه الجمهور، قالوا: والصلاة التي أمر بها ابتداء من هذا الوقت هي صلاة الظهر، وقد أيّدوا هذا القول بوجوه: منها ما روي عن جابر أنه قال: طعم عندي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، ثم

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (10/ 91) . (2) المرجع نفسه (10/ 91) . [.....]

خرجوا حين زالت الشمس، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هذا حين دلكت الشمس» . وهذا الحديث إن صحّ كان هو العمدة في الباب وابن جرير «1» وإن كان من أنصار هذا الرأي ينصّ على أنّ الخبر ونحوه في إسناده شيء، وإن كان لم يعينه. ومن الوجوه أيضا النقل عن أهل اللغة، فقد قالوا: إنّ الدلوك في كلام العرب الزوال، ولذا قيل الشمس إذا زالت دالكة. قال ابن جرير «2» : وهذا تفسير أهل الغريب أبي عبيدة والأصمعي وأبي عمرو والشيباني وغيرهم، وقالوا أيضا: إنّ أصل الدلوك مأخوذ من دلك العين حين تنظر ما لا تقوى على النظر إليه، وهذا إنما يكون عند الزوال لقوة الشمس فيه، حتى إنّ الناظر لا يستطيع أن ينظر، حتى يضع كفه على حاجبه، يمنع عن عينه شعاع الشمس. على أنّ الدلوك لو كان اسما لمطلق الميل لكان حمله على ميلها إلى الزوال في وقت الظهر أولى، وذلك لأنّ الآية تكون قد دلّت على الأمر بإقامة الصلاة ابتداء من الظهر إلى دخول الظلمة، أو إلى نصف الليل، فتكون قد انتظمت أربع صلوات. وَقُرْآنَ الْفَجْرِ دلت على الصلاة الخامسة، ولو حملنا الدلوك على الغروب تكون الآية قد دلّت على صلاتي المغرب والعشاء: إن لم نقل إنها تدل على صلاة واحدة هي صلاة المغرب. وقد قالوا: كلما كان المدلول عليه كثيرا كان الحمل عليه أولى، فيكون حمل الدلوك على ميل الشمس إلى الزوال في الظهيرة أولى من حمله على الزوال للغروب. واللام في قوله: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ لام الوقت والأجل، لأنّ الوقت سبب الوجوب. إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ قيل: غسق الليل سواده وظلمته، وقال بعضهم: غسق الليل دخول أوله. وأصله من غسقت العين إذا هملت بالدمع، والغاسق السائل، فمعنى غسق الليل انصب بظلامه، وذلك أن الظلمة كأنها تنصب على العالم. فمعنى الآية والله أعلم: أدم إقامة الصلاة من الظهيرة إلى وقت هجوم الظلمة، أو إلى غيبوبة الشفق، أو إلى منتصف الليل على ما قيل في تفسير الغسق. وعلى هذا تكون هذه الآية والتي بعدها على ما يجيء قد دلتا على الأمر

_ (1) المرجع نفسه (10/ 92) . (2) المرجع نفسه (10/ 92) .

بالصلاة من الظهيرة إلى العشاء، وذلك أربع صلوات على حسب البيان الذي وردت به السنة العملية، وعلى الأمر بالصلاة في الفجر، وتلك هي الصلاة الخامسة. ولقد أراد بعضهم أن يفهم من الأمر بإقامة الصلاة من دلوك الشمس إلى غسق الليل أنّ الله قد بين في الآيتين ثلاثة أوقات: وقت الدلوك، ووقت الغسق، ووقت الفجر، ووقت الدلوك فيه صلاتان، وهما: الظهر والعصر، ووقت الغسق فيه صلاتان: المغرب والعشاء، فدلّ ذلك على جواز الجمع بين الظهر والعصر، لأنّ وقتهما الدلوك، وجمع المغرب إلى العشاء، لأنّهما في الغسق، وهو استدلال عجيب، إذ إنّ كل ما في الآية أنّها أمرت بإقامة الصلاة من دلوك الشمس إلى الغسق، فهل هذا أمر يشغل كل هذا الوقت بالصلاة، أو أمر بفعل الصلاة في بعض أجزائه، وما مقدار هذا البعض؟ كل هذا خارج عن مدلول الآية، وقد بينته السنة، فإن كانت قد ورد فيها جمع الصلاتين، أو الصلوات من غير عذر، فبيانها هو الدليل، وإن كان قد ورد فيها أن الجمع بين الصلاتين لا يجوز إلا بشروط، وفي أوقات دون أخرى، كان ذلك هو الدليل على أن الجمع إنما يجوز بهذه الشروط. وحيث إنه قد انجر الكلام إلى الجمع فنقول: قد روي عن ابن مسعود وابن عباس جواز جمع الظهر إلى العصر، والمغرب إلى العشاء مطلقا ولو من غير عذر، والجمهور على خلاف مذهبهما. فالشافعية: يجيزون جمع التقديم والتأخير بشروط تعلم من كتبهم، والحنفية يقولون: لا جمع إلا في الظهر والعصر جمع تقديم يوم عرفة، والمغرب والعشاء جمع تأخير في مزدلفة، ويعرف ذلك من كتبهم أيضا. وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وَقُرْآنَ معطوف على الصلاة، أي وأقم قرآن الفجر، وقد قال أبو بكر الرازي «1» : إنّ ذلك يدلّ على وجوب القراءة في الصلاة، ووجه الدلالة أن الآية تدلّ على الأمر بقرآن الفجر، ولا نعلم قراءة واجبة في الفجر إلا أن تكون القراءة في صلاة الفجر، وقد حمل بعضهم القرآن في قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ على الصلاة في الفجر. قال أبو بكر الرازي: وهو عدول عن الحقيقة إلى المجاز من غير دليل، وذلك غريب من أبي بكر، فإنّ الدليل هو ما قاله: من أنا لا نعلم قرآنا واجبا في ذلك

_ (1) أحكام القرآن للإمام الرازي (3/ 206) .

الوقت، وإن كان له أن يقول: إن الفجر فيه قرآن واجب، وهو قرآن الفجر، ولكن هذا إن أثبت له ما أراد فهو يثبت وجوب القراءة في الفجر، فمن أين وجبت في كل الصلوات، سيقول من دليل آخر، فنقول: ذلك هو الدليل على وجوب القراءة. على أنا لا نرى أنّ حمل القرآن في قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ على الصلاة يؤدي إلى الغرض الذي أراده الجصاص من هذا، وهو أخذ وجوب القراءة في الصلاة، فإنّ تسمية صلاة الفجر بالقرآن إنما كانت لأن القراءة جزء مهمّ فيها، كما سميت الصلاة بالركوع والسجود. وقد أراد الفخر الرازي أن يأخذ من قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ دليلا على مذهب الشافعية، في استحباب التغليس بالفجر، ويقول في وجه الدلالة: إنّه أمر بإقامة الصلاة في الفجر، والفجر إنما سمي فجرا، لأنّ نور الصبح يفجر ظلمة الليل، قال وظاهر الأمر للوجوب، فمقتضى هذا اللفظ وجوب إقامة الصلاة في أول وقت الفجر، إلا أنا أجمعنا على أنّ الوجوب غير حاصل، فيبقى الأمر للندب. وأنت تعلم أنّ أمر تحديد الصلوات قد ثبت بالسنة في حديث جبريل، الذي بيّن فيه أول الوقت وآخره، فدلّ ذلك على الجواز في كل الوقت، فأفضلية التقديم على التأخير والعكس تحتاج إلى دليل مستقل، ك: «أبردوا بالظهر» «1» ، «ولا تزال أمتي بخير: ما عجّلوا المغرب وأخّروا العشاء» «2» ، فالتغليس بالفجر والتنوير والإسفار به يحتاج إلى دليل مستقل، فالحكم هو ما يدلّ عليه ذلك الدليل. وقد أخذ الفخر الرازي من تسمية صلاة الفجر بالقرآن الحثّ على تطويل القراءة في الصلاة، وهو وجيه. إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً قالوا: إن معنى ذلك أنّ ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام. قال الفخر- بعد سوق هذا الكلام- ويحتمل أن يكون المراد من قوله: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً الترغيب في أن تؤدى هذه الصلاة بجماعة، ويكون المعنى: كونها مشهودة بالجماعة الكثيرة، وهو حسن أيضا. وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) . وَمِنَ اللَّيْلِ الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره، قم، و (من) للتبعيض، والمعنى: قم بعض الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ الهجود: النوم، ولكنه أريد منه هنا

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (1/ 154) ، 9- كتاب مواقيت الصلاة، 9- باب الإبراد حديث رقم (538) . (2) رواه أبو داود في السنن (1/ 172) ، كتاب الصلاة، باب وقت المغرب حديث رقم (418) .

التيقظ، فقال بعضهم: هو من أسماء الأضداد، حتى قال أبو عبيدة: الهاجد النائم، والهاجد المصلي بليل. وذهب بعضهم إلى أن إطلاق المتهجد على المصلي بليل إطلاق شرعي، كأنه إنما سمّي بذلك لأنه ألقى الهجود، وهو: النوم عن نفسه، كما قيل للعابد: متحنث، لأنّه ألقى الحنث عن نفسه، ومتحرّج ومتأثمّ ومتحوّب لمن ألقى الحرج والإثم والحوب عن نفسه. ويرى بعضهم أن التهجد أخصّ من الصلاة بالليل، فلا يقال لكل من صلّى بالليل: متهجد، وإنما يقال لمن نام، ثم قام فصلّى، ثم رقد، فقام فصلّى، وهو مروي عن الحجاج بن عمر المازني قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلّى حتى يصبح أنه قد تهجد، إنما التهجد الصلاة بعد الرّقاد، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، هكذا كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحينئذ فلا يكون إطلاق التهجد على المصلي على هذا النحو مجازيا، لأنّ الهاجد هو النائم، والمتهجد طالب النوم، لأنّه كلما صلّى كان طالبا للنوم بعد الصلاة، فيكون التهجد في هذا المعنى حقيقيا بِهِ بالقرآن نافِلَةً لَكَ النفل الزيادة، وقد اختلف العلماء في معنى كون التهجد زيادة خاصة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لأن صلاة الليل ما تزال لكلّ من صلّى بليل، فذهب ابن جرير «1» في جماعة من السلف إلى أنّ معنى زيادتها له، خاصة أنها فريضة عليه، زيدت على المكتوبات الخمس بالنسبة له خاصّة. وذهب جماعة إلى أنّ معنى كونها نافلة له، أنّ النوافل إنما يحتاج إليها لتكون كفارة لذنوب من يفعلها، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قد غفر له ما تقدم من ذنبه، فهي زائدة له، لأنّ غيره نافلته تكفّر ذنبه، وأما نافلة النبي صلّى الله عليه وسلّم فلا تلاقي ما تكفره، فمن هذا كانت زائدة، وهو مروي عن مجاهد وآخرين. ولم يرتض هذا القول ابن جرير، وقال: نزلت سورة النصر قبل قبض الرسول صلّى الله عليه وسلّم وفيها أمره بالاستغفار وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النصر: 3] . وقد روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يزيد في الاستغفار في اليوم على مئة مرة «2» ، وكلما اشتد قرب العبد من ربه كلما زاد خوفه منه، وإن كان السيد قد أمنه، وذلك مقام يعرفه أهله. عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً كلمة (عسى) في كلام العرب تفيد التوقع، وهي هنا للوجوب، قالوا: إنما كانت للوجوب لأنّها تفيد الإطماع، ومن أطمع إنسانا

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (15/ 96) . (2) رواه مسلم في الصحيح (4/ 2075) 48- كتاب الذكر حديث رقم (4/ 2702) .

في شيء، ثم حرمه منه كان غارّا، وهذا المعنى مستحيل على الله تعالى، وقد أفاض ابن جرير «1» في بيان هذا المعنى. والمقام المحمود: قال الواحدي: أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة العظمى في إسقاط العقاب. وقد اختلف العلماء بعد هذا اختلافا يقصد منه إلى الكيفيات والتفاصيل، والمدار فيها على الأخبار الواردة، فما ورد منها من طريق صحيح كان المعوّل عليه في بيان كيفية الشفاعة والمقام المحمود، وكل ما تدلّ عليه الآية أن النبيّ عليه أفضل الصلاة والسلام سيبعثه الله مبعثا يحمده الناس عليه حمدا بالغا، وذلك لأنه منقذهم من هول العذاب.

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (15/ 97) .

من سورة الحج

من سورة الحج قال الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ينبغي قبل تفسير هذه الآيات أن نبيّن حكمة الحجّ، وتاريخ مشروعيته فنقول: أ- حكمة الحج: لعلّك تكون في حاجة إلى إطالة القول في بيان الحكمة في شرح الحج، والسرّ الذي من أجله كتب الله هذه الفريضة على المسلمين، بعد ما عملته في دراساتك السابقة في هذا الشأن، وإذا فيكون تعرّضنا هنا لشيء من هذا البيان إنما نقصد به التذكير على وجه الإجمال، بما سبق لك من التفصيل. شرع الله الحج إلى بيته الكريم لمنافع عظيمة تعود على المسلمين في دينهم ودنياهم: 1- فمناسك الحج من أعظم مظاهر الخشية والإخلاص لله في الذكر والدعاء والعبادة. 2- وهي كذلك دلائل على التجرّد من زينة الدنيا، وبواعث على عدم التعلق بشهواتها وزخرفها. 3- وهي بواعث على الرحمة والإحسان، والعدل والمساواة، إذ يكون الناس هناك في مستوى واحد، لا فرق بين أمير ومأمور، ولا بين غني وفقير. 4- هذا إلى ما يعود على سكان مكة، وجزيرة العرب، والناس جميعا من المنافع المعيشية والتجارية، وما يتهيأ لهم هناك من الاجتماع والتعارف، والاتفاق على ما ينهض بالمسلمين في جميع بقاع الأرض. ب- تاريخ مشروعية الحج: أما تاريخ مشروعيته فأنت تعلم أنّه كان مفروضا في زمن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والآيات التي معنا من أقوى الدلائل على ذلك.

فإذا قلنا: إن فرضيته باقية لم تنسخ في عهد نبي بعده كانت الأوامر الواردة به في شريعتنا تأكيدا لهذه الفرضية، وإذا علمت أن نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم قد حجّ حجتين قبل الهجرة، وحج بعد الهجرة حجة الوداع في السنة العاشرة، علمت أنّ أولى هذه الحجات وقعت عن فريضة الإسلام. وإن قلنا: إن فرضيته قد نسخت بعد سيدنا إبراهيم، كان وجوبه علينا ثابتا بقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] إذ هي الآية الصريحة في هذا الوجوب. وأما قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196] عام الوفود على الراجح، وهذا العام هو الذي قدم فيه وفد نجران على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصالحهم فيه على الجزية، ومعلوم أنّ مبدأ مشروعية الجزية كان عام غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة، وعلى هذا يكون مبدأ فرضية الحج في السنة التاسعة، وتكون الحجتان اللتان فعلهما النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل ذلك نافلتين، تطوّع بهما على دين سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ولقائل أن يقول: فلماذا لم يبادر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأداء الحج في تلك السنة، وهو أفضل الخلق، وأسبقهم إلى الخيرات، وأسرعهم إلى تأدية فرائض الله، وكيف يرسل أبا بكر ليحج بالناس، ويؤخر هو حجته إلى السنة التي بعدها؟ والجواب على ذلك أنه رؤي أن الوقت الذي خرج فيه أبو بكر ليحج بالناس كان زمن النسيء، ولم يكن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض حتى تعود عشر ذي الحجة إلى مركزها الحقيقي من السنة، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم أنها ستعود إلى مركزها الحقيقي، وينضبط نظام السنين القمرية في السنة العاشرة فتأخر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى السنة العاشرة كان لحكمة عظيمة، كي يقع حجّة الذي سيكون منهاجا للناس جميعا في الوقت الحقيقي الذي فرض الله على الناس أن يقوموا فيه بتلك الشعيرة، وليس على أبي بكر ولا على غيره ممن كانوا معه من حرج في حجهم في ذلك الوقت ما دام أمر الزمان لم يتقرر بعد. ونعود إلى التفسير: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ الأذان والتأذين الإعلام برفع الصوت على نحو ما يكون للصلاة. والمراد هنا النداء في الناس بأنّ الله قد كتب عليهم الحجّ، ودعاهم إلى أدائه. رِجالًا جمع راجل، كقيام جمع قائم، أي ماشين. وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ الضامر النحيف الهزيل، والمراد به هنا الهزيل من مشقة السفر يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ يأتين صفة لضامر، لأنه لما دخلت عليه أداة العموم صيّرته بمعنى ضوامر. والمعنى: وعلى ضوامر يأتين.

والفج أصله الطريق بين الجبلين، ثم استعمل في الطريق الواسع مطلقا. وتوسّع فيه حتى صار يستعمل في طريق. والعميق أصله البعيد أسفل، أي بعيد القاع، فاستعمل في البعيد مطلقا، لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ المراد بالمنافع ما يصيبون من خير الدنيا والآخرة: فخير الدنيا ما يصيبون من لحوم الذبائح، وأنواع التجارات، وما تكون في ذلك الاجتماع العظيم من التعارف، وأما خير الآخرة فهو ما يؤدون من تلك الشعائر التي هي سبب رضوان الله عليهم، وشهودها حضورها ونيلها. فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ قيل: هي عشر ذي الحجة. وقيل: هي العاشر واليومان بعده، وقيل: والثلاثة بعده. وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ قيل: المراد بذكر اسم الله حمده وشكره والثناء عليه، و (على) حينئذ للتعليل. واختار الزمخشري «1» أنّ ذكر اسم الله على البهيمة كناية عن ذبحها، و (على) حينئذ للاستعلاء، والبهيمة في الأصل اسم لكل ما له أربع قوائم، والمراد بها هنا ما يكون من الإبل والبقر والغنم. الْبائِسَ الْفَقِيرَ البائس من أصابه بؤس وشدة. والفقير المحتاج، سواء أكان له بلغة من العيش أم لا. ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ التفث القذر والوسخ، وقضاؤه إنهاؤه وإزالته، والمراد ما ينشأ عنه التفث من طول الشعر والأظفار. وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ النذر: ما التزمه الإنسان من أعمال البر. وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ العتيق الكريم، ومنه عتاق الإبل والخيل كرائمها، أو هو القديم، لأنّه أول بيت وضع للناس، أو هو العتيق بمعنى المعتق المتحرر من تسلط الجبارين واستيلائهم، فلا يريده أحد بعدوان إلا رده الله عنه، وجعل عاقبة بيته السلامة والحفظ. المعنى: يأمر الله تعالى نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد ما فرغ من بناء البيت بأن ينادي في الناس، ليعلمهم أنّ الله قد كتب عليهم الحج إلى هذا البيت العتيق، ليدركوا فيه منافع وخيرات كثيرة، تعود عليهم في دينهم ودنياهم، ويؤدّوا شعائر الله، ويذكروا اسمه الكريم على الذبائح التي يذبحونها شكرا لله على توفيقه إياهم وإرشادهم إلى ما يصلحهم، وأنه لا حرج على أصحاب تلك الذبائح أن يأكلوا

_ (1) في تفسيره: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل (3/ 153) .

منها، بل ينبغي لهم أن يواسوا الفقراء والبائسين، وأن يشاركوهم في الأكل منها، ولا يترفّعوا عليهم، وأنه يجب عليهم أن يتحلّلوا من قيود الإحرام متى فرغوا من المناسك الواقعة قبل الطواف، وأنه يجب عليهم أيضا أن يوفوا بما التزموه بالنذر من ذبح وغيره. وأن يطوفوا بالبيت طواف الإفاضة، أو طواف الوداع على ما قيل. قد يقال: إنه لم يكن حول الكعبة حينذاك أحد يسمع نداء سيدنا إبراهيم، فكيف يؤمر بهذا النداء الذي يذهب في الفضاء؟ والجواب أن الله سبحانه وتعالى قد أيدّ رسله بالمعجزات الخارجة عن مجرى العادات، فهو سبحانه قادر على أن يوصل صوت إبراهيم إلى من يشاء في تلك النواحي البعيدة، والأصقاع المترامية. وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس «1» قال: لما فرغ إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بناء البيت قال: ربّ قد فرغت، فقال: أذّن في الناس بالحج. قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال تعالى: أذّن وعليّ البلاغ. قال: رب كيف أقول، قال: قل يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه أهل السماء والأرض، ألا ترى أنهم يجيبون من أقصى البلاد، يلبون. على أنا نشاهد اليوم آلات الإذاعة تنشر الأصوات في جميع بقاع الأرض، فلا تحجزها جبال، ولا تضعفها بحار ولا قفار، فمن يشاهد هذه الحقائق التي يستطيعها كل من يزاول علومها، لا يمكنه أن يكابر في معجزات الأنبياء. هذا، وقيل إنّ المخاطب بالتأذين والدعوة إلى الحج هو نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأنه أمر بذلك حينما عزم على الحج في السنة العاشرة من الهجرة، وأن نظم الآية مع التي قبلها لا يأباه، إذ المخاطب في قوله تعالى قبل هذه الآية: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويكون المعنى حينئذ: واذكر يا محمد إذ بوأنا لإبراهيم، وأذن في الناس بالحج، ولكنك ترى أنّ في الآية الأولى أوامر ونواهي كلها متوجهة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فالظاهر أنّ الأمر بالتأذين أيضا لإبراهيم، إذ الغرض من تطهير البيت إعداده للطائفين والقائمين والركع السجود، فيكون دعاؤه الناس بعد ذلك للحج متناسبا غاية التناسب مع إعداد البيت وتطهيره. وبعض العلماء ردّ احتمال توجيه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن سورة الحج مكية، فنزولها قبل حجة الوداع بالضرورة، فلا يستقيم أن يكون المأمور بالدعاء هو النبي صلّى الله عليه وسلّم.

_ (1) انظر ما رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (4/ 355) .

ما في الآيات من الأحكام

ولكن هذا الردّ ينهار متى علمت أنّ الراجح هو أن سورة الحج مدنية، ما عدا آية وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى وثلاث آيات بعدها، كما هو مروي عن قتادة، وفي رواية، عن ابن عباس أنّ السورة كلها مدنية، وهو قول الضحاك أيضا. ما في الآيات من الأسرار: إذا كان الغرض من دعاء الناس للحج أن يأتوا إلى البيت الحرام، فالسرّ في العدول عن ذلك إلى التعبير بالإتيان إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه هو الداعي، والقدوة لهم فيما يكون بعد. وقوله تعالى: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ كلمة (كل) فيه للتكثير لا للإحاطة، على حد قوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] والسر في ذلك إفادة أن الركبان الآتين من الأماكن البعيدة يكونون كثيرين جدا، حتى كأنّهم يمتطون جميع الضوامر. لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ نكّرت المنافع لإفادة عظمتها وكثرتها، أو التنكير فيها للتنويع. وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ اختير هذا الأسلوب مع أنّ الذبح هو المعدود من مناسك الحج، كالذبح للمتعة والقرآن، ليفيد أن ذكر الله وحده خالصا من شوائب الشرك هو المقصود الأعظم، وتوسيط الرزق لبعثهم على الشكر والتقرب بتلك القربة، والتهوين عليهم في الإنفاق، وفي قوله تعالى: فَكُلُوا إلخ التفات إليهم بالخطاب، ليؤكّد لهم إباحة الأكل من تلك الذبائح، فلا يتحرّجوا من ذلك، وليبعثهم على مشاركة البائسين والفقراء ومواساتهم. ما في الآيات من الأحكام : 1- قوله تعالى: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فيه دليل على جواز كلّ من المشي والركوب في الحج. 2- استدل بعض المالكية على أنّ المشي في الحج أفضل من الركوب، بتقديمه عليه في الآية. وإلى هذا ذهب ابن عباس، فقد أخرج ابن سعد، وابن أبي شيبة، والبيهقي، وجماعة عنه أنه قال: ما آسى على شيء فاتني إلا أني لم أحج ماشيا حتى أدركني الكبر: أسمع الله تعالى يقول: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فبدأ بالرجال قبل الركبان. ولكنّك ترى أنّ مجرد التقديم لا يدل على الأفضلية، لجواز أن يكون تقديم الرجال على الركبان للإشارة إلى مسارعة الناس في الامتثال، حتى إن الماشي ليكاد يسبق الراكب، فإذا كان المشي أفضل، فإنما هو لأدلة أخرى. من ذلك ما أخرجه ابن سعد وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن

للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة، وللماشي بكل قدم سبعمائة حسنة من حسنات الحرم» قيل: يا رسول الله وما حسنات الحرم. قال: «الحسنة مئة ألف حسنة» «1» . 3- وفي قوله جل ذكره: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ دلالة على جواز التجارة في الحج، روي عن مجاهد أنه قال: المنافع التجارة، وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة. وروي مثل ذلك عن ابن عباس، وقد نص الفقهاء على أنّ التجارة جائزة للحاج من غير كراهة، إذا لم تكن هي المقصودة من السفر. 4- استدلّ المالكية بقوله تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ على أنّ ذبح الهدي لا يجوز ليلا، لأنّ الله جعل ظرف النحر هو الأيام لا الليالي، وأنت تعلم أنّ اليوم كما يطلق على النهار يطلق على مجموع النهار والليل، وغير المالكية يرى كراهة الذبح ليلا، لاحتمال الخطأ فيه بسبب الظلمة. وقد اختلف العلماء في المراد بالأيام المعلومات، فذهب الإمام مالك وأبو يوسف ومحمد إلى أنها أيام النحر، وهي العاشر من ذي الحجة، واليومان بعده، وهو مروي عن علي وابن عمر. وقال الإمامان أبو حنيفة والشافعي: الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، وهي معلومات لأنّ شأن المسلمين أن يحرصوا على معرفتها، ويتحرّوا هلال ذي الحجة لما يقع في ذلك من المناسك العظيمة، ولعلهم يقولون: إنّ المراد بالذكر ما يشمل التسمية على الذبائح وغيرها من الحمد والشكر والتكبير، وعلى هذا ينبغي أن تكون (على) في قوله جلّ شأنه عَلى ما رَزَقَهُمْ للتعليل كما في قوله تعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ [البقرة: 185] . ثم اختلف في أيام النحر، فالحنفية والإمام مالك قالوا: إنها ثلاثة أيام: العاشر وما بعده، وهو مروي عن جمع من الصحابة، منهم: عمر وعلي ، وابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وأنس، وكثير من التابعين. وقال الشافعي: إنها أربعة العاشر وما بعده. وقيل: إلى هلال المحرم، ولعل المذهب الأول أرجح، لأنّ بقية الأقوال لم ينقل ما يؤيّدها عمن يسامي أولئك الصحابة والتابعين. وقد احتج لمذهب الشافعي بما روى البيهقي عن جبير بن مطعم أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في حديث: «وكلّ أيام التشريق ذبح» ولا شك أنّ أيام التشريق ثلاثة بعد يوم

_ (1) انظر ما رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (4/ 355) .

النحر، ولكنّ هذا الحديث ضعيف قال فيه الإمام أحمد: لم يسمعه ابن أبي حسين من جبير بن مطعم، وأكثر روايته عن سهو. وقال البيهقي إنه من رواية سليمان بن موسى الأسدي فقيه أهل الشام، عن جبير، ولم يدركه، ورواه من طرق ضعيفة متصلا. 5- ظاهر قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْها وجوب الأكل من الهدايا، لكنّ هذا الظاهر غير مراد، فإنّ السلف متفقون على أنه لا يجب الأكل من شيء من الهدايا، إذ غاية ما أفاده هذا الأمر أنه رفع ما كان عليه أهل الجاهلية من التحرج عن الأكل من الهدايا، فأباح الأكل منها، أو ندب إليه، لقصد مواساة الفقراء، ومواساتهم في الأكل. فالأمر إما للإباحة أو للندب. ثم إنّ جواز الأكل من الهدايا ليس عاما في كل هدي، فإنّ دم الجزاء لا يجوز الأكل منه اتفاقا، ودم التطوع يجوز الأكل منه اتفاقا أيضا. أما دم القران والتمتع فقال الشافعية: إنه دم جبر، فلا يجوز الأكل منه، والحنفية يقولون: إنه دم شكر، فأباحوا الأكل منه، والظاهر يشهد لهم، فإنّ الآية فيها ترتيب قضاء التفث على الذبح والطواف، ولا دم تترتب عليه هذه الأفعال إلا دم المتعة والقرآن فإن سائر الدماء يجوز ذبحها قبل هذه الأفعال وبعدها، فثبت أنّ المراد في الآية دم المتعة والقران. هذا وقد ثبت أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أكل من البدن التي ساقها في حجة الوداع، وقد كان قارنا على ما هو الراجح. ونصّ الفقهاء على أنه يلحق بالأكل الانتفاع بجلودها وأصوافها، كما أنّه يجوز إطعام الأغنياء منها، فإنّ الآية أباحت لصاحب الذبيحة أن يأكل منها، ولو كان غنيا، ومتى جاز له أن يأكل وهو غني جاز أن يؤكل غنيا. 6- ظاهر قوله تعالى: وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ وجوب إطعام الفقراء من الهدايا، وبهذا الظاهر أخذ الشافعيّ، فأوجبوا إطعام الفقراء منها. وقال أبو حنيفة: إنه مندوب، لأنها دماء نسك، فتتحقق القربة فيها بإراقة الدم، أما إطعام الفقراء فهو باق على حكمه العام. 7- في الاقتصار على الأكل والإطعام دلالة على أنّه لا يجوز بيع شيء من الهدايا، ويشهد لذلك ما روى البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال: أمرني النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أقوم على بدنه فقال اقسم جلودها وجلالها، ولا تعط الجازر منها شيئا «1» .

_ (1) ما رواه مسلم في الصحيح (2/ 954) ، 15- كتاب الحج، 61- باب الصدقة حديث رقم (348/ 1317) ، والبخاري في الصحيح (2/ 226) ، 25- كتاب الحج، 120- باب لا يعطي الجزار من الهدي حديث رقم (1716) .

فإذا لم يجز إعطاء الجازر أجرته منها فأولى إلا يجوز بيع شيء منها. 8- في قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ دلالة على وجوب التحلل الأصغر، وذلك بالحلق أو التقصير. 9- وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ فيه دلالة على وجوب الوفاء بالنذر، وأداء ما التزمه الإنسان من أعمال البر، سواء أكان من جنسه واجب أم لا. 10- وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ فيه دلالة على لزوم هذا الطواف، والمراد به طواف الإفاضة، كما هو مروي عن ابن عباس وجماعة من التابعين، وبهذا قال فقهاء الأمصار. وقيل: الطواف في الآية هو طواف الصدر. وهو بعيد، لأنّ الطواف الذي يلي قضاء التفث إنما هو طواف الإفاضة الذي اتّفق على أنّه ركن، فمن البعيد جدا أن تتعرض الآية لطواف الوداع الذي اختلف في عدّه من المناسك، وتترك ما هو أهم منه وأعظم. هذا والحكم بأنّ وقت هذا الطواف أيام النحر كلها أو اليوم الأول فقط لا يؤخذ من هذه الآية، كما أنه لا يؤخذ منها اشتراط الطهارة وستر العورة فيه، لأنّ اسم الطواف يقع على الدوران حول الكعبة، فعلى أي حالة حصل هذا الدوران فقد حصل مسمى الطواف، ومن اشترط شيئا وراء ذلك فإنما طريقه السنة وعمل النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين. قال الله تعالى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) اسم الإشارة في مثل هذا الموطن يؤتى به للفصل بين كلامين، كما في قول زهير وقد تقدم له وصف هرم بالشجاعة والكرم: هذا وليس كمن يعيا بخطبته ... وسط الندى إذا ما ناطق نطقا وكما في قوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) [ص: 55] ويقدر له ما يتم به الكلام، أي الأمر ذلك، أو امتثلوا ذلك. وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ الحرمات جمع حرمة، قيل: هي بمعنى ما حرّمه الله من كلّ منهي عنه، أو من المنهيات في باب الحج فقط، كما روي عن ابن عباس أنّها فسوق، وجدال، وجماع، وصيد. وتعظيمها يكون باجتنابها. وقيل: الحرمات الأشياء التي جعل الله لها احتراما في الحج وغيره، وهي جميع التكاليف وقيل: وهي مناسك الحج خاصّة.

وقيل: إنها حرمات خمس: المشعر الحرام، والمسجد الحرام، والبيت الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يحل، وتعظيم هذه الأشياء ظاهر. فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ الضمير الأول راجع إلى التعظيم المأخوذ من يُعَظِّمْ أي أن تعظيم هذه الأشياء ينال به الإنسان مثوبة قد ضمنها الله سبحانه وتعالى له، وعلى هذا لا يكون خَيْرٌ أفعل تفضيل. أو نقول: إنه للتفضيل والمفاضلة على سبيل التنزل، وإرخاء العنان، أي على فرض أن ترك التعظيم فيه شيء من الخير، فالتعظيم أفضل منه. وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ المراد حلّ ذبحها وأكلها، ثم إنه ليس المقصود بما يتلى (ما ينزل في المستقبل) ما يعطيه ظاهر الفعل المضارع، بل المراد ما سبق نزوله، مما يدل على حرمة الميتة، وما أهل به لغير الله أو ما يدل على حرمة الصيد في الحرم أو حالة الإحرام. وعلى هذا يكون السر في التعبير بالمضارع التنبيه إلى أن ذلك المتلو ينبغي استحضاره والالتفات إليه، والاستثناء متصل إن أريد من المستثنى ما يكون محرما من خصوص الأنعام. وإن أريد به ما يشمل الدم ولحم الخنزير كان منقطعا. والظاهر الأول، والجملة معترضة لدفع ما عساه يقع في الوهم من أنّ تعظيم حرمات الله في الحج قد يقضي باجتناب الأنعام، كما قضى باجتناب الصيد. فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ، الرجس: القذر، وقوله: مِنَ الْأَوْثانِ بيان له. والأوثان: الأصنام، وسمّاها الله رجسا تقبيحا لها، وتنفيرا منها. والمراد باجتنابها اجتناب عبادتها وتعظيمها. ولتأكيد ذلك أوقع الاجتناب على ذاتها، وهذه الجملة مرتبطة بما قبل الاعتراض، مترتبة على حكمه، أي إذا كان تعظيم حرمات الله فيه الخير وفيه رضا الله تعالى وكان من تعظيم هذه الحرمات اجتناب ما نهى الله عنه، فاجتنبوا الأوثان، ولا تعظموها، ولا تذبحوا لها كما كان يفعل أهل الجاهلية. وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. الزور الكذب والباطل، وسمي زورا لميله عن وجه الحق، من الزور بفتح الواو وهو الميل والانحراف، وإضافة القول إليه بيانية. قيل: المراد بقوله: الزُّورِ خلط أهل الجاهلية في تلبيتهم، وقولهم فيها: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، وهو ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل. وقيل المراد به قولهم في البحائر والسوائب إنّها حرام، وأن تحريمها من الله. والأحسن التعميم في قول الزور حتى يشمل الشهادة الباطلة، فقد أخرج أحمد

وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود «1» أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «عدلت شهادة الزور الإشراك بالله» ثلاثا، وتلا هذه الآية. حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ الحنيف المائل عن الديانات الباطلة إلى الدين الحق، مأخوذ من الحنف بالتحريك وهو الميل، وقد اشتهر عند العرب إطلاق الحنيف على كل متمسك بدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام. والمعنى: اجتنبوا الرجس من الأوثان، واجتنبوا قول الزور حال كونكم ثابتين على الدين الحق، مخلصين لله في العبادة، من غير أن تجعلوا لغيره معه شركة فيها. فهما حالان مؤكّدتان لما قبلهما من الاجتناب. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ. خَرَّ. معناه سقط من علو. فَتَخْطَفُهُ تختلسه بسرعة وقوة. وهذه الجملة مستأنفة مقرّرة لوجوب اجتناب الشرك. والمعنى: أن من جعل لله شريكا فقد حق عليه الخسار والبوار، وهو في شركه شبيه به إذا سقط من جو السماء، فاجتمعت عليه الطيور الجارحة، فمزقته، وذهب كل منها بقطعة منه، فتمّ بذلك هلاكه. وظاهر على هذا أن التشبيه من باب تشبيه التمثيل، ويصح أن يكون تشبيها مفرقا. أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ، هوى يهوي سقط من علو. وهوى به أسقطه. والسحيق: البعيد، ماضيه سحق كبعد. هذا تشبيه ثان لمن أشرك بالله، والعطف فيه إما على قوله: خَرَّ مِنَ السَّماءِ أو على فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ والمعنى أنّ حال المشرك في شركه، وما يؤدي إليه من سوء العاقبة، شبيهة بحاله إذا أخذته ريح عاصفة، فقذفت به في مهوى عميق، لا يكون له منه خلاص ولا نجاة، أو أنّ حاله في ذلك شبيهة بحاله إذا خرّ من السماء، فعصفت به الريح، وهوت به في مكان سحيق. والتشبيه على هذين الوجهين تشبيه تمثيل، ويصح أن يكون تشبيها مفرقا أيضا، فيشبه الشيطان الذي يضله ويغويه بالريح التي تهوي به وترديه، ويشبه الشرك بالوادي

_ (1) رواه أبو داود في السنن (3/ 298) ، كتاب الأقضية، باب في شهادة الزور حديث رقم (3599) ، وأحمد في المسند (4/ 321) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 475) ، كتاب الشهادات، باب في شهادة الزور حديث رقم (2300) وابن ماجه في السنن (2/ 794) 13- كتاب الأحكام، 32- باب شهادة الزور حديث رقم (2372) .

العميق الذي لا ينجو من قذف فيه. ونتيجة هذه التشبيهات واحدة، والغرض من ذلك كله تقبيح حال الشرك، والتنفير منه. ولا يخفى عليك ما يؤخذ من هذه الآية من الأحكام فيما يتعلق بحرمات الله، والانتفاع بالأنعام، والإشراك بالله، وشهادة الزور. وليس في قوله تعالى: وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ما يدل على تعزير شاهد الزور، فإنّ غاية ما أفاده تحريم شهادة الزور، وما روي عن عمر رضي الله عنه من أنه كان يعزّر شاهد الزور، ويأمر فينادى عليه بالأسواق. وإليه ذهب أبو يوسف ومحمد، فإنما ذلك شيء يرجع إلى السياسات الشرعية، فللحاكم أن يفعل من ذلك ما يراه أحفظ لحقوق العامة، وأردع لأهل الفساد. قال الله تعالى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) الشعائر: العلامات التي تعرف بها الأشياء، فهي تشعر بها وتدل عليها، وقد اختلف في المراد بها هنا: فقيل: إنها الدين كله أوامره ونواهيه، فهي شعائر الله، لأنّ امتثالها والوقوف عند حدودها يدل على الطاعة لله تعالى، والإخلاص له. وقد اضطر من يقول بهذا أن يفسّر البيت العتيق في قوله جلّ شأنه: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ بالجنة، وهو كما ترى بعيد. وقال ابن عمر رضي الله عنهما والإمام مالك والحسن: إنها عرفة، ومنى والصفا والمروة، والبيت الحرام، وغيرها من مواضع الحج، وهو لا يخلو من شيء، فإن الله تعالى قال في شأنها: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ والمحلّ في الحج قد اشتهر في المكان الذي تذبح فيه الهدايا كما سيأتي. فالظاهر أنّ المراد بالشعائر الأنعام التي تساق هديا للكعبة، كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما وسميت بذلك لأنّها تدل على الحج، أو على طاعة سائقيها لله تعالى، وتعظيمها يكون بأن تختار سمينة حسنة غالية الأثمان. والتقوى هي الخشية التي تبعث على اتباع الأوامر واجتناب المناهي. ولا يخفى عليك أنّ الضمير في كلمة فَإِنَّها عائد على الشعائر، وهي لا تصلح أن تكون بعضا من التقوى إذا كانت (من) للتبعيض، ولا أن تكون ناشئة من التقوى إذا كانت (من) للابتداء، فلا بد من تقدير يصلح لذلك. كما أنك تعلم أنه لا بد من رابط في قوله: فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ يعود على المبتدأ، وهو (من) فيكون مآل الكلام هكذا: ذلك ومن يعظّم شعائر الله فإنّ تعظيمه إياها من تقوى القلوب. هذا ويصحّ في ضمير (فإنها) أن يكون راجعا إلى حالة المعظّم التي يدل عليها الفعل السابق في الآية، وعلى هذا فلا يحتاج إلا إلى الرابط فقط، والمعنى أنّ من

يعظّم الأنعام التي يسوقها للحرم، فيختارها سمانا حسانا، فإن تعظيمه إياها لا محالة ناشئ من التقوى الحقيقية، ودليل على أنه يخشى الله خشية تمكّنت من قلبه، فهو بتعظيمها قد جمع بين مظهر الخشية وحقيقتها، فعمله هذا هو عمل المخلصين، وليس كعمل المنافقين، الذين يأتون بصور الأعمال من غير أن يكون في قلوبهم شيء من الإخلاص. يدل على هذا إضافة التقوى إلى القلوب. ولا شك أن الإخلاص والتقوى والخشية هي غاية ما يتمنى الإنسان أن يدركه في هذه الدنيا، ليصل به إلى سعادة الآخرة. وإخبار الله تعالى بثبوت التقوى لمن عظّم تلك الشعائر من شأنه أن يحرك الناس، ويبعثهم على الاهتمام بأمرها، والعناية بتخيرها، والفرح بسوقها. ويؤكد هذا المعنى إضافة هذه الشعائر إليه تعالى. روي أنه صلّى الله عليه وسلّم أهدى مئة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب أي حلقة من ذهب. وروي أن عمر رضي الله عنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار. وكان قد سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يبيعها ويشترى بثمنها بدنا فنهاه عن ذلك، وقال: بل أهدها، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسوق البدن مجلّلة بالقباطي، فيتصدق بلحومها وجلالها. قال الله تعالى: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) مَنافِعُ الظاهر أنّ المراد بها المنافع الدنيوية من الركوب والدّر والصوف والوبر، ليكون قوله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ مفيدا معنى جديدا. فإنّ الخير ظاهر في ثواب الآخرة، فيكون في الأنعام التي تساق هديا إلى الكعبة منافع دنيوية ومنافع أخروية. أما الأجل المسمى فقد اختلف في معناه، فقال الإمام الشافعي: إنّه وقت نحرها، وهو مروي عن عطاء. وقال الحنفية: إنه وقت تعيينها وتسميتها هديا، كما روي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد، وقتادة. والمحل بالكسر من حلّ الشيء يحلّ بالكسر حلولا إذا وجب، أو انتهى أجله، وفي الحديث: «حلّت له شفاعتي» «1» وجبت. ويقال: حل الدين: انتهى أجله، فالمحل في الآية مكان الحلول، أي المكان الذي ينتهي فيه أجل تلك الأنعام، أو المكان الذي يجب ذبحها فيه.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (1/ 171) ، 10- كتاب الأذان، 8- باب الدعاء حديث رقم (614) . [.....]

ما في الآية من الأحكام وأقوال العلماء في ذلك

ومعنى أن محلها إلى البيت العتيق أنّ المكان الذي تذبح فيه الهدايا منته إلى البيت العتيق، ومتصل به، إذ هو الحرم، ولا شك أن الأمر كذلك، فإنّه ليس نفي البيت، ولا ما حوله من المسجد، إذ لا يحل الذبح فيهما، والمحل بهذا المعنى هو المراد في الآيات الأخرى، منها قوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة: 196] وقوله جلّ شأنه: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح: 25] وهو المعين في قوله عزّ اسمه: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: 95] وعلى هذا يكون المعطوف بثم في الآية كلاما تاما أريد به بيان المكان الذي تذبح فيه الهدايا، بعد ما بين حكم تعظيمها والانتفاع بها إلى الأجل المعين، وقيل: إنّ المراد بالمحل نفس الحلول بمعنى الذبح، وقيل أيضا: إنّ المحل زمان الحلول. وعلى هذين القولين يكون محلها معطوفا على منافع، ويكون قوله تعالى: إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ حالا من الضمير في محلها. والتقدير لكم فيها منافع دنيوية إلى أجل مسمى وبعده لكم منفعة دينية مقتضية للثواب الأخروي، وهو وجوب نحرها، أو وقت نحرها، وفي ذلك مبالغة، حيث جعل وقت النحر نفسه منفعة، والظاهر الأول. ما في الآية من الأحكام وأقوال العلماء في ذلك : قد علمت أنّ الشافعية فسّروا الأجل المسمى في الآية بوقت نحر الهدي، وعلى هذا قالوا بجواز الانتفاع بالشعائر بعد سوقها حتى تنحر، وقالوا أيضا: إنما يجوز الانتفاع إذا كانت هناك حاجة تدعو إليه، ولو لم تصل لدرجة الاضطرار: أما الانتفاع بغير حاجة فلا يجوز، فلو احتاج لشيء من لبنها ولو لم يصل إلى درجة المخمصة فله أن يشرب منه، وكذلك إذا كان يعلم أنّ صوفها أو وبرها يضرها، فله أن يجزّه وينتفع به، وليس عليه قيمته للفقراء، قالوا: والأولى أن يتصدق به عليهم. هذا هو المشهور من مذهبهم، وعندهم رواية أخرى عن الإمام الشافعي أنه لا يجوز الانتفاع إلا للمضطر. أما الحنفية فإنهم يفسّرون الأجل المسمى في الآية بوقت سوقها. فلا يجيزون الانتفاع بها بعد السوق إلا في حالة الاضطرار. وقال بعضهم: إنه يجوز الانتفاع بها مطلقا في حالتي الاختيار والاضطرار. ونقل ابن عبد البر عن بعض أهل الظاهر القول بوجوب الركوب. ولمن أجاز مطلقا حجج: 1- قد أثبتت الآية منافع في الشعائر، وأباحت الانتفاع بها، وهي لا تكون شعائر إلا بعد سوقها هدايا، وتعيينها لذلك، فيلزم أن يكون الانتفاع بها بعد السوق أيضا. 2- ثمّ إنّ الآية لم تقيّد جواز الانتفاع بحالة دون أخرى، فالتقييد بحالة الاضطرار

كما يقول الحنفية، أو بالحاجة كما هو مشهور مذهب الشافعية زيادة ليست في الآية. 3- ثم إنّ الأحاديث الواردة في ذلك مطلقة أيضا، فقد روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا يسوق بدنة، فقال: «اركبها» قال: إنّها بدنة. قال: «اركبها» قال: إنّها بدنة قال: «اركبها» ثلاثا. متفق عليه «1» . وروي عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول- في البدنة-: «اركبها بالمعروف» «2» فالحديثان مطلقان كالآية فيجوز الانتفاع بالبدنة على كل حال، وإذا فلا يكون فرق بين البدنة والناقة التي لم يسقها، فليس عليه فيما ينتفع به من ذلك ضمان. حجة الشافعية: استدلّ الشافعية بما أورده المجيزون في دليلهم الأول، وبأنّ إطلاق الآية يجب أن يقيّد بما ورد من الأحاديث التي تفيد أنّ الإباحة تثبت للحاجة: من ذلك: ما رواه أحمد والنسائي عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا يسوق بدنة، وقد أجهده المشي فقال: «اركبها» قال: إنّها بدنة. قال: «اركبها، ولو كانت بدنة» «3» . وروي عن جابر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا» «4» فهذان الحديثان يدلان على أنّ الإباحة إنما كانت لمسيس الحاجة إلى الانتفاع. قالوا: وعلى هذا يجب أن تحمل الآية والأحاديث المطلقة جمعا بين الأدلة. ثم إنه ليس في كل ذلك دليل على وجوب ضمان شيء من منافع الهدي، فلا يضمن المنتفع شيئا منها للفقراء، نعم إذا كان الركوب ينقص قيمتها نقصا بينا فعليه ضمان هذا النقص. حجة الحنفية: قال الحنفية ينبغي أن تحمّل الشعائر في الآية على الأنعام التي يراد سوقها للكعبة، لا على البدن التي سيقت بالفعل، فهي مجاز بقرينة إيقاع التعظيم عليها، فإنّ الآية ندبت إلى تعظيمها. ولا شك أنّ من تعظيمها تخيّرها سمينة حسنة، وذلك إنما يكون قبل سوقها وتعيينها هديا وهذه الأنعام التي تكون هديا بالسوق هي التي أباح الله الانتفاع بها إلى الأجل المسمى.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 960) ، 15- كتاب الحج، 65- باب جواز ركوب البدنة حديث رقم (373/ 1323) ، والبخاري في الصحيح (3/ 219) 25- كتاب الحج، 103- باب ركوب البدن حديث رقم (1690) . (2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 961) ، 15- كتاب الحج، 65- باب ركوب البدنة حديث رقم (375/ 1324) . (3) رواه النسائي في السنن (5- 6/ 195 كتاب المناسك، باب ركوب البدنة حديث رقم (2801) . (4) رواه مسلم في الصحيح كتاب الحج حديث رقم (1324) ، وأبو داود في السنن (2/ 81) ، باب ركوب البدن حديث رقم (1761) ، وأحمد في المسند (3/ 348) ، والنسائي (5- 6/ 194) ، كتاب المناسك باب ركوب البدنة حديث رقم (2801) .

ثم إنه ينبغي تفسير الأجل المسمى بوقت سوقها لا وقت نحرها، لأنّ صاحبها قد جعلها بالسوق خالصة لله تعالى، فقد خرجت عن ملكه بذلك فلا يجوز له حينئذ أن ينتفع بشيء منها إلا عند الضرورة، وما انتفع به كان حقا للفقراء يجب أن يعوضهم منه مقدار قيمته. يشهد لهذا ما ورد من الأحاديث التي قيّدت جواز الانتفاع بحالة الضرورة، فيجب أن يحمل غيرها عليها جمعا بين الأدلة. من ذلك ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر «1» : أنه سئل عن ركوب الهدي فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا» فمن هذا يعلم أن الجواز خاصّ بحالة الضرورة، فإنّ الإلجاء إلى ركوبها هو الاضطرار إليه. وقالوا أيضا: إن ركوبها ينافي تعظيمها، إذ في الركوب امتهان واستهانة ظاهرة، مع أنّ تعظيمها مطلوب بنفس الآية، وإذا فلا يركبها إلا إذا ألجئ. حجة القائلين بالوجوب: استدل القائلون بالوجوب بظاهر الأمر بالركوب فيما سبق من الأحاديث. وقالوا أيضا: إنّ في ركوبه مخالفة لما كان يصنعه أهل الجاهلية من مجانبة البحيرة والسائبة والوصيلة. وهو مردود بأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يركب هديه، ولم يركبه غيره، ولم يأمر الناس جميعا بركوب هداياهم، إلا ذلك المضطر، كما تقدم، فدل ذلك على عدم الوجوب. أما المالكية فالمشهور من مذهبهم أنه يكره الانتفاع بالبدن بركوبها ووبرها ولبنها، ولو كان لبنها فاضلا عن حاجة أولادها، والوجه فيه ظاهر، ومذهبهم على هذا قريب من مذهب الحنفية. وقال النووي من الشافعية والزيلعي من الحنفية: إنّ الإمام مالكا يقول بجواز ركوب البدن، ولو من غير حاجة، فلو صحّ هذا فالحجج المتقدمة ناطقة بخلافه. هذا والظاهر من قوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أنّ جميع الهدايا يجب أن تذبح في هذا المحل، سواء في ذلك ما تعلّق وجوبه بالإحرام، كما في جزاء الصيد والفدية ودم التمتع ودم الإحصار، وما التزمه الإنسان كما في الدم الذي يتطوّع به إلى الحرم، أو ينذره كذلك. قال الله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) المنسك: بفتح السين وكسرها: مفعل من النسك، بمعنى العبادة، فيصح أن

_ (1) سبق تخريجه.

يراد به النسك نفسه، ويصح أن يراد به مكان النسك أو زمانه، وعلى كل حال فالظاهر أنّ المراد بالنسك هنا عبادة خاصة، وهي الذبح تقرّبا إلى الله تعالى. فَلَهُ أَسْلِمُوا الإسلام لله الإخلاص له في الطاعة، وامتثال أوامره ونواهيه. وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الإخبات الخشوع، وقيل: التواضع. وقيل: الاطمئنان: مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض، وهي معان متقاربة ويصحّ أن يكون ما ذكر في الآية بعده تفسيرا له. ولا يخفى عليك أنّ قوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً معطوف على قوله سبحانه: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ وأنّ تقديم المفعول فيه لإفادة الحصر. والمعنى: أنّ الله جلّ شأنه قد شرع نسك الذبح لجميع الأمم التي خلت من قبل، يتقربون به إليه تعالى، ويذكرون اسمه الكريم عند الشروع فيه، وأن ذلك ليس خاصّا بأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ولا ببعض الأمم الأولى دون البعض، أو المعنى أنه تعالى قد خصص لكل أمة من الأمم مكانا أو زمنا يذبحون فيه، ولعل سرّ الإخبار بشرع هذا النسك لجميع الأمم من قبل هو تحريك النفوس، وبعثها إلى المسارعة إلى هذا النوع من البر، والاهتمام بهذه القربة، حيث إنّها قربة قد وردت بها الشرائع الأولى، وتتابعت عليها. وفي هذا الإخبار أيضا إشعار بأنّ أهل الجاهلية الذين كانوا يذبحون لأصنامهم، والذين كانوا يخلطون في التسمية على ذبائحهم- إنما كانوا يفعلون ذلك من عند أنفسهم، واتباعا لمحض شهواتهم وأهوائهم، فإنّ شرائع الله كلها قد أجمعت على أنّ التقرب بالذبح إنما يكون لله وحده، وأنّ الشروع في ذلك إنما يكون باسمه وحده، إذ ليس للناس إلا إله واحد، وهو الذي رزقهم، وشرع لهم، وكلّفهم، فليس لهم أن يميلوا بالعبادة إلى غيره، فقوله تعالى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ بمثابة العلة لما قبله من تخصيص اسمه الكريم بالذكر، لأنّ تفرده تعالى بالألوهية يقتضي أن لا يذكر على الذبائح غير اسمه، وإنما قيل: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ولم يقل فإلهكم واحد لإفادة أنه تعالى واحد في ذاته، كما أنه واحد في ألوهيته. وقوله تعالى: فَلَهُ أَسْلِمُوا مرتّب بالفاء على الحكم بوحدانية الإله، فإنّه متى كان الإله واحدا فقد وجب تخصيصه بالعبادة والإذعان له في جميع الأحكام، وإفادة التخصيص ظاهرة من تقديم المعمول. وقوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ فيه توجيه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ما كان متوجها إلى الناس، فالله سبحانه يأمر نبيّه أن يبلغ الناس أنّ من أذعن منهم لله، وأخلص له العمل والاعتقاد، فإنه يكون له أحسن الجزاء.

والسرّ في تحويل الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم هو أنّ مقام الأمر والنهي يناسبه أن يتجلّى الإله على العباد بعظمة الألوهية وقهرها وسلطانها، فيوجه أوامره إليهم كأنه يخاطبهم من غير وسيط، ليكون ذلك أدخل للهيبة في قلوبهم، وأبعث على خشوعهم وانقيادهم. فلما انتهى أمر التكليف عطف الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمره أن يبلّغهم وعد الله للعاملين المخلصين، إذ إنّ عملهم بذلك يكفي فيه أن يحدثهم به النبيّ المعصوم الذي هو الواسطة بينهم وبين خالقهم. ويؤخذ من هذه الآية: وجوب الذكر على الذبيحة حيث كان هو المقصود من الذبح الذي هو واجب، ووجوب اعتقاد أنّ الله واحد، ووجوب الإسلام بمعنى الإخلاص لله في العمل. قال الله تعالى: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وصف الله في هذه الآية المخبتين بأربع صفات تجد بعضها مرتبا على بعض أحسن ترتيب: الأولى: الخوف والخشوع عند ذكر الله. والثانية: الصبر على الآلام والمشقات. والثالثة: إقامة الصلاة. والرابعة: الإنفاق مما رزقهم الله. فهؤلاء المخبتون إذا سمعوا ذكر الله تحرّكت قلوبهم، وخفقت لما وقع فيها من الهيبة والخوف من عقاب الله وانتقامه، ولا شك أنّ هذا الخوف يحملهم على الرضا بقضاء الله تعالى، والصبر على ما يريده لهم من الآلام والشدائد، سواء في ذلك ما يكون في التكاليف وأنواع التعبدات، وما يلاقون من المشقات في أسفارهم لطاعة الله كما في الحج، وكل ما يصابون به في أنفسهم وأموالهم، ويحملهم كذلك على إحسان الأعمال، والقيام بما كلفهم الله إياه حقّ القيام. والإنفاق: قيل: إنّ المراد به الزكاة المفروضة، وقيل: إنه صدقة التطوع، وقيل: هو عام يشمل النوعين جميعا، وقد سبق لك شيء من هذا في أكثر من موضع، كما أنّه سبق لك في مثل هذه الآية بيان السر في تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر من بين سائر التكاليف، وأنّ الصلاة أهمّ التكاليف البدنية، كما أنّ الزكاة أهمّ التكاليف المالية: لما يترتب عليهما من صلاح النفوس واعتدالها، وسد حاجات الأمة وتقويم فقرائها وضعفائها. وينبغي أن تعلم أنّ قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ معطوف على المقيمي الصلاة باعتبار معناه، أي والذين يقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقناهم.

قد يقال: أنّ وصف المخبتين في هذه الآية بأنّهم الذين يجلون عند ذكر الله يخالف ما وصفوا به في قوله عزّ اسمه: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [الرعد: 28] فما هذا، وكيف يكون التوفيق بين آيتين إحداهما تثبت أنّ ذكر الله موجب للخوف والوجل، والأخرى تصرّح بأن ذكر الله يوجب سكون القلوب واطمئنانها، وزوال ما قد يعتريها من خوف وفزع أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] . والجواب أن الاطمئنان والوجل أمران يجدهما المؤمن المتقي، ويشعر بهما في قلبه في حالتين متمايزتين، ولسببين مختلفين، فهو إذا استحضر وعيد الله امتلأت نفسه هيبة، واقشعر جلده، ووجف قلبه، وخاف عذاب الآخرة، ثم إذا لمح جانب الوعد الكريم، واستحضر رحمة الله وسعة عفوه اطمأن قلبه، وسكن روعه، وصدق قول الله تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ فالحالة الثانية حالة الوعد والأولى حالة الوعيد، وأيضا فإنّ المؤمن كثيرا ما تصادفه في هذا الدنيا عقبات وشدائد، إذا عرضت لضعيف الإيمان واهن العزيمة اضطرب لها قلبه، وانشعب منها فؤاده، واستولى عليه الفزع والهلع. أما المؤمن الصادق فإنه يرجع بها إلى الله، ويستعين عليها بذكر الله، فيرتاح لكل ما يجري به قضاؤه وقدره، فهذه حالة السكون والاطمئنان إلى ذكر الله. أما خوفه ووجله فهو لكون تقصيره فيما عليه من موجبات العبودية للواحد القهار، وهذا الخوف تلتهب له نفسه، ويرتجف له جنانه. يؤخذ من الآية: أن التقوى، والخشية، والصبر على المكاره، والمحافظة على الصلاة، والرحمة بالفقراء، والإحسان إليهم، من أعظم ما ينال به العبد رضا الله تعالى، لما لها من الشأن العظيم، إذ عليها يقوم صلاح العباد والبلاد. قال الله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) (البدن) جمع بدنة، وهي اسم للواحد من الإبل ذكرا أو أنثى، سميت بذلك لعظم بدنها. وقد اشتهر إطلاقها في الشرع على البعير يهدى إلى الكعبة، وقد تطلق البدنة على البقرة أيضا لما أنها تجزئ في الهدي والأضحية عن سبعة كالبعير. قال الحنفية: إن البدنة صارت من قبل المشترك في المعنيين، فمن نذر بدنة أجزأته بقرة. وبذلك قال عطاء وسعيد بن المسيب. روى مسلم «1» عن جابر رضي الله عنه أنه قال: كنّا ننحر البدنة عن سبعة: فقيل: والبقرة؟ قال: وهل هي إلا من البدن.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 955) ، 15- كتاب الحج، 62- باب الاشتراك حديث رقم (353/ 1318) .

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال: لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر. أما الشافعية فقالوا: لا تطلق البدن بالحقيقة إلا على الإبل، وإطلاقها على البقر إنما يكون بضرب من التجوّز، فلو نذر بدنة لا تجزئه بقرة، وبهذا قال مجاهد، ويشهد له ما رواه أبو داود «1» عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة» فإنّ العطف يقتضي المغايرة، والظاهر أنّ اسم البدنة حقيقة فيما يكون من الإبل، وأن إطلاقها على البقرة لم يصل إلى مرتبة الحقيقة. فأمّا قول جابر: وهل هي إلا من البدن، وقول ابن عمر: لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر، فقد يحمل على أنهما أرادا اتحاد الحكم فيهما، وهذا شيء غير اشتراك اللفظ بينهما، وعلى كلّ حال فالمراد من البدن في الآية الإبل، وقوله تعالى: صَوافَّ ووَجَبَتْ جُنُوبُها يدل على ذلك، إذ نحر الحيوان قائما لم يعهد إلا في الإبل خاصّة. ولا يؤخذ من هذا أنّ الهدي خاص بالإبل. بل تخصيصها بالذكر لأنّها الأفضل من غيرها في الهدايا. صَوافَّ جمع صافة، وهي ما صفت قوائمها وسوقها واقفة، وقرئ صوافن جمع صافنة، قيل: إنها بمعنى صافة، وقيل: بل بمعنى أنّها قائمة على ثلاث قوائم، والرابعة مرفوعة، وهكذا يفعل بالإبل عند نحرها، مأخوذ من صفن الفرس إذا وقفت على ثلاث وطرف سنبك الرابعة، وقرئ صوافي جمع صافية بمعنى خالصة لله تعالى. وَجَبَتْ جُنُوبُها من معاني الوجوب السقوط، وجب الجدار سقط، ووجبت الشمس غربت، فوجبت جنوبها سقطت على الأرض، والجنوب: جمع جنب، وهو الشق، وسقوط جنوبها كناية عن موتها. الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ: القانع الراضي بما قدّر الله له من الفقر والبؤس، فلا يتعرّض لسؤال الناس، مأخوذ من قنع يقنع كرضي يرضى وزنا ومعنى. المعتر المعترض لسؤال الناس، فإنّ المعترّ كالممعتري هو من يعتري الأغنياء، ويذهب إليهم المرّة بعد المرّة، وقيل بعكس هذا: القانع: السائل، من قنع يقنع بالفتح فيهما. والمعترّ: الذي لا يسأل، كأنّه يدفع عار السؤال بترك السؤال. معنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى يمتنّ على عباده بأن جعل لهم في البدن يسوقونها إلى مكة قربة عظيمة، حيث جعلها شعيرة من شعائره، وعلما من أعلام

_ (1) رواه أبو داود في السنن (3/ 11) ، كتاب الضحايا، باب في البقر والجزور حديث رقم (2808) .

دينه، ودليلا على طاعته، ففي سوقها للحرم، ونحرها هناك، خير عظيم وثواب كبير، يناله أصحابها في الآخرة. وهكذا ترى أننا قد حملنا الخير هنا على الثواب الأخروي. والمنافع فيما تقدم على حظ الدنيا، ليكون الكلام كما قلنا مفيدا فائدة جديدة، وقد رتّب الله سبحانه وتعالى الأمر بذبحها، أو الأمر بذكر اسمه الكريم عند الذبح على ما قبله من جعلها شعائر. أو على قوله: لَكُمْ فِيها خَيْرٌ وأنه تعالى يمتنّ أيضا على عباده في هذه البدن، فأباح لهم إذا نحروها أن يأكلوا منها، وأن يتصدقوا على الفقراء، السائل منهم وغير السائل. ثم ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ومعناه سخرنا هذه البدن، وذللناها لكم، وأخضعناها لتصريفكم مع ضخامتها وقوتها التي بها، كان يمكن أن تتأبّى عليكم فلا تعطيكم قيادها، أو تندّ منكم فتتأبد تأبد الوحوش. فالله جلت قدرته قد سخّرها لكم ذلك التسخير العجيب، وسهل لكم أن تقفوها صواف، وأن تعقلوها، وتضربوا في لباتها، فتقع على جنوبها صريعة، وعلى هذا تكون الكاف صلة في قوله: كَذلِكَ، ويكون مآل القول سخرناها لكم ذلك التسخير البديع. ويصحّ أن تبقى الكاف على معناها مفيدة للتشبيه، ويكون ذلك من تشبيه الشيء بنفسه مبالغة، كأن ذلك التسخير بلغ في عظمه وغرابته مبلغا فاق به كلّ عجيب، حتى إذا أريد تشبيهه بشيء كان لا بدّ أن يردّ إلى نفسه فيشبه بها. وقيل: إنّ المشبه به هو تسخيرها، حين تكون صواف معقولة إحدى القوائم، والمشبه هو تسخيرها من قبل في ركوبها والحمل عليها، وغير ذلك من سائر وجوه الانتفاع. وجملة القول: إنّها نعمة جليلة، ومنّة عظيمة تستوجب من العباد أن يشكروا الله عليها، ويصرفوا ما أنعم به عليهم في الوجوه التي رسمها لهم الدين الحنيف. فقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تعليل لما قبله. وكلمة (لعل) فيه ليست للرجاء الذي هو توقع الأمر المحبوب، لأنّه مستحيل على الله تعالى من حيث أنه ينبئ عن الجهل بعواقب الأمور. قال ابن الأنباري «1» : إنّ لعلّ ترد بمعنى كي في لسان العرب، واستشهد على ذلك بقول من يراه حجة: فقلتم لنا كّفوا الحروب لعلّنا ... نكفّ ووثقتم لنا كلّ موثق فإنّ توثيق العهد بإنهاء الحرب لا يستقيم معه أن يكون معنى (لعلنا) الرجاء وتوقع الكف، إنما الذي يصلح له ذلك أن تكون لعلّ بمعنى كي.

_ (1) عبد الرحمن بن محمد، أبو البركات، مؤرخ، وأديب ولغوي كان زاهدا عفيفا، خشن العيش والملبس سكن بغداد وتوفي فيها سنة (577) انظر الأعلام للزركلي (3/ 327) .

هذا ويؤخذ من الاقتصار في الآية على البدن مع ورود الشرع بجواز الهدي من بهيمة الأنعام أنّ البدن في الهدايا أفضل من غيرها من البقر والغنم. ويؤخذ من الآية أيضا: الندب إلى نحر الإبل وهي قائمة معقولة إحدى القوائم، وأنه لا يجوز أن يؤكل منها بعد نحرها حتى تفارقها الحياة. ومقتضى الأمر في قوله جلّ شأنه: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ وجوب ذكر اسم الله حينئذ، وهو يؤيّد بظاهره قول من يرى من الأئمة وجوب التسمية على الذبيحة. ومن يرى ندب التسمية يؤوّل الأمر على الندب، أو يؤول ذكر اسم الله على الشكر والثناء. أما حكم الأكل منها وإطعام الفقراء فقد سبق لك القول فيه. قال الله تعالى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) النيل: الإدراك والإصابة. والتكبير في الآية: قيل: إنه ما يكون عند الذبح: بسم الله، الله أكبر، والأحسن أن يفسّر بالتعظيم والتقديس والشكر. والإحسان: هو إتقان العمل، والإتيان به على الوجه المطلوب، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم لما سئل عن الإحسان: «أن تعبد الله كأنّك تراه» «1» . المعنى: بأنّ من يريد رضا الله تعالى فلا يظن أنه يدرك ذلك باللحوم والدماء من حيث إنها لحوم ودماء، وإنما ينال ذلك بالتقوى والإخلاص، في العمل، فإنّ الأعمال دون التقوى والإخلاص كصور أجسام لا روح فيها ولا حياة. وللآية وجه آخر من التفسير- إن صح ما قيل في سبب نزولها- ذلك أنّه روي عن ابن عباس ومجاهد أنّ جماعة من المسلمين كانوا هموا أن يفعلوا في ذبائحهم فعل أهل الجاهلية، يقطعون لحومها، وينشرونها حول الكعبة، وينضحون عليها من دمائها، فنزلت الآية تزجرهم عن هذا الفعل، وترشدهم إلى ما هو الأجدر بهم والأليق بإيمانهم أن يفعلوه في ذبائحهم، حتى يدركوا رضا الله تعالى. وعلى هذا يكون المعنى: أن من يريد رضا الله تعالى، ويرجو أن ينال منه المثوبة بما يقرّب من هدي، فلا يظن أنّه ينال ذلك باللحم يقطعه وينثره، ولا بالدم يلطخ به الكعبة الطاهرة فعل أهل الشرك من الجاهلية، وإنما ينال ذلك بتقوى الله، والبعد عن مثل تلك الأعمال التي تجانب روح الإسلام وطهارته، والتي ليس فيها شيء من الإخلاص لله.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح كتاب الإيمان حديث رقم (37) .

فقوله تعالى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها هو كما علمت على تقدير الرضا، أو ما في معناه، أي لن ينال رضا الله لحومها ولا دماؤها، ولكن ينال رضاه التقوى منكم. وأنت ترى أنّ الآية قد نفت عن اللحوم والدماء أن تنال رضوان الله، مع أنه ليس من شأنها أن يقال فيها: تنال أو لا تنال، ولكن قصد المبالغة في الأخبار بأنّ أصحابها لا ينالون الرضا والثواب بها وحدها إذا لم يكن معها التقوى والإخلاص هو الذي قضى أن يكون نظم الآية على هذا النحو البديع، كأنه قيل: إذا كان يتصور أن تنال الدماء واللحوم نفسها أجر الله ورحمته صحّ أن يدرك أصحابها بها وحدها شيئا من ذلك، ففي الآية نوع من التجوز. وترى أيضا أنه قد أعيد في الآية حديث تسخير الأنعام، وتذليلها للناس، لأن في الإعادة تذكيرا بالنعمة يبعث على شكرها والثناء على الله من أجلها، والقيام له بما يجب لعظمته وكبريائه، لأنّه تعالى سخر لهم تلك البهائم، وأخضعها لتصريفهم، وأراهم ما يصنعون فيها، وكيف يتقرّبون بها. ومن هذا تعلم أن (على) في الآية الكريمة للتعليل، وأنّ (ما) مصدرية، ويصح أن تكون (ما) نكرة موصوفة، أو اسما موصولا مع مراعاة أن العائد محذوف، وفي صرف الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمره بتبشير المحسنين أعمالهم الآتين بها على الوجه المطلوب، ووعدهم بأنّ لهم من الله الجزاء الطيب على فعلهم ما علمته آنفا. هذا وفي الآية دلالة على أنّ التقوى وشكر الله تعالى والإحسان في العمل له جلّ شأنه من أهمّ المطالب الشرعية التي لا يجوز لأحد إغفالها أو التهاون فيها. قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) يصحّ أن يكون هذا كلاما متصلا بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وما وقع في البيت- من ذكر مناسك الحج وشعائره، وما فيها من منافع الدنيا والآخرة- استطراد لمزيد تعظيم شأن البيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، وتسجيل قبح صدهم للمسلمين عنه، وإخراج أهله منه ظلما وعدوانا، وتفويت هذه المنافع عليهم، لأنّ الجناية يعظم أمرها بعظم ما يترتب عليها من تفويت المنافع والإيقاع في الأضرار. ولأن خطورة الجناية تدلّ على خطر المجني عليه، وناهيك بجناية تقع على البيت الحرام، مع ما له من قداسة وحرمة، وتفوت على الناس منافع الحج مع ما فيها من خيري الدنيا والآخرة، ويكون قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا رجوعا إلى موضوع السياق، لبيان عاقبة هؤلاء الصادّين عن سبيل الله والمسجد الحرام، من قهرهم، وخذلانهم، وكسر شوكتهم، ونصر المسلمين عليهم، وإزالة صدهم، وتمكين المسلمين من البيت بعد تمكينهم منهم

«إنّ الله ليملي للظالم حتّى إذا أخذه لم يفلته» «1» . ويصحّ أن يكون متصلا بما قبله مباشرة، وذلك أنه تعالى لما بيّن مناسك الحج، وما فيه من المنافع، وكان في ذلك مزيد إلهاب وتشويق لنفوس المسلمين إلى البيت الحرام، والوقوف بالمشاعر العظام، ولكن أنّى لهم ذلك، وقد صدّهم المشركون، ووقفوا سدا منيعا دون إرواء هذه النفوس المتعطشة إلى رؤية هذا الحرم المقدس، الذي عاشوا طوال حياتهم في ظلّه وتحت حمايته، والذي عزّ عليهم فراقه، ولم ينقطع حنينهم إليه، والذي كان قلب الرسول صلوات الله وسلامه عليه معلّقا به، حتى إنه نظر إليه حين خروجه من مكة وقال: «والله إنّك لأحبّ أرض الله إليّ، وإنك لأحبّ أرض الله إلى الله، ولولا أنّ أهلك أخرجوني منك ما خرجت» «2» وإذا ذاك توجهت قلوبهم إلى ربّ هذا البيت، واستشرفت نفوسهم إلى عون الله ونصره وحماية بيته من عدوان المعتدين، وتخليصه من أيدي الجبابرة الظالمين، وذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا توطينا لنفوسهم، وتقوية لعزائمهم، وإعدادا لهم للجهاد والقتال الذي سيكون به تحقيق آمالهم، وتحرير أوطانهم وعقائدهم. وعلى كلّ فهو وعد من الله عزّ وجلّ، وبشارة للمؤمنين بنصر الله لهم، وتمكينهم من عدوهم، وكف بوائقه عنهم، وفي ضمنه وعيد شديد، وتهديد للمشركين بقهرهم وخذلانهم وكسر شوكتهم وزوال دولتهم، وفيه تمهيد وتوطئة لمشروعية الجهاد. هذا وصيغة المفاعلة في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ إما للمبالغة في الدفع، أو للدلالة على تكرره فقط، لأنّ صيغة المفاعلة تدلّ على تكرر الفعل وحصوله من الجانبين، وقد تجرّد عن معنى حصوله من الجانبين، فتبقى دلالتها على التكرر من جانب واحد كالممارسة، أي أنه تعالى يبالغ في دفع غائلة المشركين وبأسهم مبالغة لا تدع لهم غائلة من غوائلهم، أو أنه تعالى يدفع بأسهم وغوائلهم مرة بعد مرة حسبما يتجدد ذلك منهم، كقوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [المائدة: 64] . قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ نفي المحبة كناية عن البغض، وأوثر (لا يحب) على (يبغض) تنبيها على مكان التعريض، وأن المؤمنين هم أحباء الله وأولياؤه.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 1997) ، 45- كتاب البر، 15- باب تحريم الظلم حديث رقم (59/ 2583) ، والبخاري في الصحيح (5/ 255) ، 65- كتاب التفسير، 5- باب وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ حديث رقم (4686) . (2) انظر مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي حديث رقم (5499) وقال روى الترمذي بعضه، ورواه أبو يعلى ورجاله ثقات.

ومعنى خَوَّانٍ كَفُورٍ أي خوان في أماناته تعالى، وهي أوامره ونواهيه، أو جميع الأمانات، ونظيره قوله تعالى: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الأنفال: 27] وكفور، أي لنعمه عزّ وجلّ. قيل: إنه تعليل لما في ضمن الوعد الكريم من الوعيد للمشركين في الجملة الأولى، وقيل: تعليل للوعد الكريم نفسه، وضعّف هذا بأنّ قول القائل: دفعت زيدا عن بكر لبغض زيد ليس فيه كثير عناية ببكر، وهذا لا يناسب المقام. وهناك وجه آخر في ربط الجملة الثانية بالأولى، وحاصله أنك عرفت أنّ الجملة الأولى مشتملة على وعد صراحة ووعيد ضمنا، وإذا نظرت إلى الجملة الثانية وجدت أنها مشتملة على ثبوت البغض للمشركين صراحة، وهو يناسب الوعيد الضمني في الجملة الأولى، فيكون علة له، وعلى ثبوت المحبة للمؤمنين ضمنا كما هو قضية إيثار (لا يحب) على (يبغض) وهو يناسب الوعد المصرّح به في الجملة الأولى، فيكون علة له، وعلى هذا يكون منطوق الجملة الثانية علة لمفهوم الجملة الأولى، ومفهومها علة لمنطوقها، ويصير المعنى هكذا: إن الله يدافع عن الذين آمنوا لحبه إياهم، ويخذل المشركين ويقهرهم لبغضه إياهم، وعلى كلّ فإنّ ربط نفي الحب بالخوان الكفور يدلّ على أنّ علّة النفي هي الخيانة والكفر، ويدل بمفهومه على أنّ علة ثبوت المحبة في مقابله هي الأمانة والشكر، اللذان هما من خواص المؤمن. وهنا أمران جديران بالالتفات: الأول: أن صيغة المبالغة في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ لبيان الواقع، وأنهم كانوا كذلك، لا لتقيد البغض بغاية الخيانة والكفر المشعر بمحبة الله تعالى للخائن الكافر، وكثيرا ما تذكر القيود لبيان الواقع، حتى قيل: إنّه الأصل في استعمالها، ومن هذا القبيل قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: 130] ولا شكّ أنك إذا نظرت إلى هؤلاء المشركين، وما وقع منهم من الأفاعيل المنكرة، عرفت أنهم حقيقة بلغوا الغاية في الخيانة والكفر. الأمر الثاني: أنّ المراد نفي الحب عن كل فرد من الخونة الكفرة، فالمراد عموم السلب وشموله لجميع الأفراد، لا سلب العموم، وقول البيانيين: إنّ تقديم النفي على أداة العموم يفيد سلب العموم فالحق أنه حكم أكثري لا كلي، بدليل قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة: 276] وقوله: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) [القلم: 10] وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [لقمان: 18] وكذلك ما معناه، فالمعتبر إذا في الحقيقة هو القرائن، فمتى دلّت على عموم السلب كان الكلام لعموم السلب، تقدّم النفي أو تأخّر. ونقل بعضهم عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وجها آخر بناء على أنّ

الحكم كلي، وحاصله أنه قد يعدل بحسب الظاهر عما يدل على عموم السلب إلى ما يفيد سلب العموم ظاهرا، وإن كان السلب عاما بحسب الحقيقة تعريضا بأنّ المخاطبين شرّ هذا النوع، كما جاء في الآية الكريمة: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ تعريضا بما نزلت فيهم من الأعداء بأنّ محبة الله تعالى لا تنالهم بأي وجه من الوجوه، وأنّه لو تعلّقت محبة الله بخائن كافر فإنّها لا تتعلق بأولئك، لأنهم شر هذا النوع، ولا يخفى عليك أن بناء الحكم على أبعد الفروض والاحتمالات أبلغ وأقوى، لأن بناءه على تلك الصورة يجعل السامع لا يتطرق إليه أي احتمال آخر في خلاف الحكم. قال الله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الإذن معناه الترخيص، فهو للإباحة بعد الحظر، وقرئ كلّ من أُذِنَ ويُقاتَلُونَ بالبناء للمفعول وبالبناء للفاعل. هذه هي أول آية نزلت في القتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية، على ما روى الحاكم في «المستدرك» عن ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري وكذا النسائي بإسناد صحيح عنه موقوفا عن عائشة رضي الله عنها. وأخرج أحمد والترمذي وحسّنه والنسائي وابن سعد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: لما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم ليهلكنّ، فنزلت: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا. قال ابن عباس: فهي أول آية نزلت في القتال «1» . وأخرج ابن جرير عن أبي العالية: أول آية نزلت فيه وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [البقرة: 190] . وفي «الإكليل» للحاكم أنّ أوّل آية نزلت فيه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ. والظاهر الأول، وبه قال كثير من السلف كابن عباس ومجاهد، والضحاك وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة وغيرهم، ويؤيده أيضا ذكرها بعد الوعد بالمدافعة والنصر. المفردات: أُذِنَ المقصود به إباحة القتال ومشروعيته على القول الأول، وحكاية الإذن الحاصل من قبل توطئة لبيان أسباب المشروعية وغايتها على القول الثاني.

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 305) ، كتاب التفسير حديث رقم (3171) ، والنسائي في السنن (5- 6/ 309) ، كتاب الجهاد، باب وجوب الجهاد حديث رقم (3085) ، وأحمد في المسند (1/ 216) ، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (2/ 52) .

لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ المراد بهم المهاجرون، كما يدلّ عليه وصفهم بالإخراج من الديار بغير حق، لأنّ هذا الوصف لا ينطبق إذ ذاك إلا عليهم. والمأذون فيه هو القتال، وحذف لدلالة المقام عليه. ووصفهم بالقتال الواقع عليهم على قراءة المبني للمفعول على حقيقته، سواء قلنا: إنها أول آية نزلت في القتال أم لا، لأنّ قتال المشركين واضطهادهم لهم كان حاصلا على كل حال. وأما وصفهم بالقتال الواقع منهم على قراءة المبني للفاعل فعلى أنها ليست أول آية نزلت في القتال يكون على حقيقته أيضا، وعلى أنها أول آية نزلت فيه يكون وصفهم عند بدء الإذن بالقتال إما على تقدير الإرادة والحرص، أي يريدون أن يقاتلوا المشركين، ويحرصون على ذلك، وإما على إرادة استحضار ما يكون منهم في المستقبل، وحقيقة قد كانوا حريصين كل الحرص على هذا القتال، فإنّ الدفاع عن النفس والعقيدة والوطن أمر محبب إلى النفوس، لا سيما إذا كانت تعتقد أنها على الحق، وأن خصمها على الباطل. المعنى: لما وعد الله عزّ وجلّ في الآية السابقة المؤمنين بالدفاع وكفّ غوائل المشركين عنهم، وأوعد في ضمن هذا الوعد الكافرين بالقهر والخذلان، أتبع ذلك ببيان مشروعية الجهاد والإذن لهم في قتال أعدائهم، مع بيان أسبابه وغايته، للإيذان بأنّ طريق الدفاع الموعود به عن الأولياء وسبيل القهر والخذلان الموعود به للأعداء هو إذنه تعالى للمؤمنين في القتال، كما يدل على ذلك قوله تعالى في الآية التالية: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لأن القتال في سبيل الله من أعظم المواطن التي تتجلى فيها رعاية الله وعنايته بالمؤمنين بما يفاض عليهم في تلك المواقف الرهيبة من النصر والتأييد، وتثبيت قلوبهم، وإمدادهم بالأسباب الحسية والمعنوية على ما عرف وتواتر من نفحات الله لهم في مواطن الحرب وميادين القتال. ثم بيّن الله تعالى سبب الإذن في القتال على سبيل الإجمال بقوله: بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا فالله تعالى أذن للمسلمين في قتال عدوهم وندبهم للجهاد في سبيله، لا حبا في إراقة الدماء وإزهاق الأرواح، ولا لمجرد البطش والقهر، كما يزعم خصوم الإسلام، فإنّ الإسلام دين أمن وسلام، وبشير رحمة وطمأنينة، ولكنه تعالى أذن لهم لأجل أن يدفعوا ذلك الظلم الذي وقع عليهم من جانب المشركين والذي أصابهم في أوطانهم وأنفسهم ودينهم، فإنه صلّى الله عليه وسلّم ما كاد يصدع بالأمر، ويجهر بالدعوة، حتى هاج هائج قريش، وتذمرت على المسلمين، وأعلنوا عليهم حربا شعواء، وأعملوا فيهم يد الانتقام الوحشي، لا يألون في مؤمن إلّا ولا ذمة، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ

الْحَمِيدِ (8) [البروج: 8] ، ونالوا منهم أشد ما يناله عدوّ من عدوه، طمعا في ارتدادهم عن دينهم، والحيلولة بينهم وبين الالتفات حول الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وقد غاب عنهم أن الدين الحق متى خالطت بشاشته القلوب، واستقر في أعماق النفوس، كان التعذيب والتقتيل والتنكيل أهون عليها من انتزاع الدين منها. ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أيّ جنب كان في الله مصرعي فكانوا أمام هذه العواصف الهوجاء والمواقف الرهيبة والفتن التي كانت كقطع الليل المظلم أثبت على حبهم لرسولهم صلّى الله عليه وسلّم من الجبال الرواسي، فما استطاعوا فتنة مسلم عن دينه، ولا تحويل قلبه عن حب الله وحب رسوله صلّى الله عليه وسلّم. لم يقف ظلم هؤلاء الظالمين عند حد الأتباع والأنصار، بل آذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأشد أنواع الإيذاء، رموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، وحثوا على رأسه التراب، ووضعوا بين كتفيه وهو ساجد بين يدي ربه سلا «1» جزور وهم يتضاحكون، وأغرت ثقيف سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويرمون عراقيبه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء، وهذا قليل من كثير مما فعلوه معه صلّى الله عليه وسلّم، وهو صابر على أذيّتهم، محتسب عند الله ما يناله معهم. فعلوا كل هذا وأكثر منه بالمسلمين حتى ألجئوهم على الخروج من أوطانهم وترك أموالهم وأهليهم فرارا بدينهم. فأيّ ظلم أقبح وأشنع من هذا الظلم الذي لم يرتكبوه إلا انتصارا للباطل، واضطهادا للحق، وإيثارا لعبادة الأوثان على عبادة الله الواحد القهار، والذي لم يتعفف أهله عن الإسفاف في الخصومة والفجور في الإيذاء. قال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ذهب كثير من المفسرين إلى أنه وعد بالنصر، وتأكيد لما مرّ من الوعد بالدفاع عن المؤمنين، وتصريح بأنّ المراد بالوعد السابق ليس مجرد تخليصهم من أيدي عدوهم، بل إظهارهم عليهم، وتمكينهم في الأرض، وهو إخبار وارد على سبيل العزة والكبرياء، كما يقول الملك: إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك. لا يريد بذلك حقيقة الإخبار بالقدرة على ذلك، بل يريد أنه سيفعل على سبيل التأكيد. وذهب ابن كثير إلى أن المعنى: أنه تعالى قادر على نصر المؤمنين من غير قتال وجهاد، ولكنه أذن لهم في القتال، وندبهم إلى الجهاد، لأنه يريد من عباده بذل جهدهم في طاعته، كما قال تعالى:

_ (1) سلا الجزور: هو اللفافة التي يكون بها الجنين عند الولادة، وهو من الآدمية المستيمة.

[سورة الحج (22) : الآيات 77 إلى 78]

فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد: 4] . وقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ [التوبة: 16] وقال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) [محمد: 31] . وقال: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) [العنكبوت: 2] . أقول: وعلى هذا القول يكون المقصود هو تنبيه المسلمين إلى أنّ الدنيا دار ابتلاء واختبار، وأنّ الحياة ميدان تسابق وتنافس، وأن مدار هذا الدين على الإرادة والاختبار، لا على الإكراه والاضطرار، وأنّ الجزاء من جنس العمل فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) [الزلزلة: 7، 8] ولا يكون ذلك كله إلا بفتح أبواب العمل أمام العاملين، ودعوة الناس إلى الجهاد والكفاح، وابتلائهم بمواقع الشدائد والمحن، لكي يتبين المجاهدون من القاعدين، والمخلصون من المنافقين. ومن آمن حبا في الله ورسوله ممن آمن حبا في الإبقاء على نفسه وماله وجاهه، وإلا فلو كان النصر حليف المسلمين من غير قتال وجهاد، وكان المؤمن معافى في نفسه وماله وولده، متقلبا في أحضان النعيم من مهده إلى لحده، لما كانت الدنيا دار ابتلاء واختبار ولما كان إيمان المؤمن اختيارا وترجيحا للإيمان على الكفر، وإيثارا لمرضاة الله ومحابّه على مرضاة نفسه وشهواته، ولبطلت التكاليف المبنية على الإرادة والاختيار ومحاربة النفس والهوى، ولما كان الجزاء ثمرة للعمل، ونتيجة لازمة للكد والتعب، فعليهم أن يلتزموا هذه السنن، وأن يعملوا على مقتضاها، وفي ذلك بلوغ المأمول وإنجاز الموعود. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) قيل: إن الأمر في هذه الآية بالركوع والسجود والعبادة وفعل الخير متوجه إلى الناس جميعا، إذ إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، غير أن الخطاب فيها خصّ به المؤمنون لمزيد الاعتناء بهم وتشريفهم، ولأنهم هم الذين ينتفعون بهذا التكليف. وقيل: إن هذه الأوامر خاصة بالمؤمنين، كما أنّ الخطاب متوجه إليهم وحدهم. أما الكفار فإنّهم لما أعرضوا عن قبول دين الله، ولم يستجيبوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبوا من قبل أن يمتثلوا لهذه الأوامر، أعرض الله عنهم، وصرف خطابه وأوامره إلى أهل طاعته الذين يعرفون حقه، ويمتثلون أحكامه. أما أولئك الكفار فإنّهم لا ينفع فيها إرشاد، ولا يرجى منهم قبول ولا امتثال، فهم جديرون بالترك والإهدار. وهذا المعنى أحسن وأوجه، وهو سائر حتى مع القول بتكليف الكفار بالفروع، وهو الذي

يناسبه ما ورد في الآية الآتية من اجتباء المخاطبين، وتسميتهم بالمسلمين، وإعلاء شأنهم بقبول شهادتهم على الأمم يوم القيامة. وقد اختلف في المراد بالركوع والسجود في الآية. فقال الحنفية: إن المراد بهما معا الصلاة، فالأمر بهما أمر بالصلاة، وإنما عبّر عن الصلاة بهما لأنهما أهم أركانها وأفضلها. وقيل: إنهما كنايتان عن الذلة والخضوع. وقيل: المراد معناهما الشرعي المعروف. وقد أمر بهما لأنّ الناس في أول الإسلام كانوا يصلون تارة بغير ركوع، وتارة بغير سجود، فالله أمرهم بإتمام الصلاة والإتيان فيها بالركوع والسجود. وقال الشافعية إنّ الركوع مجاز عن الصلاة لاختصاصه بها. أما السجود فالمراد به سجود التلاوة. والعبادة: هي كل فعل تتجلى فيه الذلة والاستكانة تحت قهر الإله وسلطانه، وعلى هذا قيل: إن المراد بها التكاليف التي تربط العبد بربه، فهي أعمّ مما قبلها. أما فعل الخيرات فهو عام للتكاليف جميعها، يشمل ما يصلح علاقة العبد بالرب، وما يصلح علاقات الناس بعضهم مع بعض، فأنت تجد هذه الأوامر مرتبة، بدئ فيها بعبادة خاصة: وهي الصلاة، ثم ثنّي بما هو أعم منها: وهو جميع العبادات، ثم أتبع ذلك بما هو أعم من الكل: وهو فعل الخيرات الشامل للعبادات وللإحسان في المعاملات، وبعضهم حمل العبادة على الفرائض، وفعل الخير على النوافل. والفلاح: هو الفوز بنيل البغية، ولا شكّ أن بغية كل عابد سائر على نهج الشريعة إنما هي السعادة الدائمة في الآخرة، وهناءة العيش في الدنيا، وقد علمت آنفا ما ينبغي أن يقال في كلمة (لعل) الواردة في كلام الله تعالى. ويصحّ أن يراد منها هنا أيضا الرجاء الحقيقي. ولكن على تقدير صدوره من العباد فيكون المعنى عليه: يا أيها الذين آمنوا صلوا، وأدوا لله كل ما تعبدكم به، وافعلوا كلّ ما كلّفكم مما فيه الخير لكم ولأمتكم حالة كونكم راجين الفلاح، ومتوقعين الفوز ودرك الرغائب، فالله سبحانه يرشد المؤمنين إلى أنّه ليس من شأن العبد الذليل الذي يشعر قلبه الخشية من الله والخوف من جبروته أن يقطع بنتيجة في عمل من الأعمال التي كلّفها، بل ينبغي أن تكون حاله بعد أن يحسن عمله حالة الرجاء، وتوقع ما يؤمّل من نتيجة صالحة، إذ إن العواقب مجهولة، وقد يكون مقصّرا بعض التقصير في أعماله، فلم يأت بها على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه. ظاهر من الآية أنها قد جمعت أنواع التكاليف، وأحاطت بفروع الشريعة، فلم يفلت منها فرض ولا ما دون الفرض، وظاهر أيضا أنها قصدت إلى الصلاة التي هي

عماد الدين، فأمرت بها مستقلا، ولم تقتصر على طلبها في عموم العبادات، ولا شكّ أن ذلك يدلّ على تأكّدها وفرضيتها على الناس جميعا. غير أن الشافعية قالوا: إنّ الآية آية سجدة، وأخذوا من الأمر بالسجود فيها سجود التلاوة مطلوب لها كغيرها من بقية آيات السجود، مستندين في هذا إلى ما يأتي: 1- إنّ السجود حقيقة في المعنى المعروف: وهو وضع الجبهة على الأرض، فمتى أمكن حمل اللفظ عليه فلا يصح العدول عنه إلا لموجب، وهو غير موجود في الآية. 2- وقالوا: أيضا: قد ورد في السنة ما يؤيّد هذا المعنى، ويكشف عن المراد بالسجود في الآية، فقد أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه والبيهقي في «سننه» عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: «نعم فمن لم يسجدهما، فلا يقرأهما» «1» . وأخرج أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم عن عمرو بن العاص أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصّل، وفي الحج سجدتان «2» . وكان يقول بهذا علي، وعمر، وابنه عبد الله، وعثمان، وأبو الدرداء، وابن عباس في إحدى الروايتين عنه، وبه أخذ أيضا الإمام أحمد، واللّيث وابن وهب، وابن حبيب من المالكية رضي الله عنهم جميعا. وقال أبو حنيفة «3» ، ومالك، والحسن، وابن المسيب، وابن جبير، وسفيان الثوري رضي الله عنهم: إنّ هذه الآية ليست آية سجدة، واستدلوا بما يأتي: 1- إنّ اقتران السجود بالركوع دليل أنّ المراد به سجود الصلاة، كما في قوله تعالى: وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: 43] فإذا لم يكن هذا الاقتران موجبا لحمل السجود على سجود الصلاة، وأنه عبر عن الصلاة بمجموع الأمرين، فلا أقلّ من أن يكون مرجحا، لذلك فلا يصح أن يؤخذ من الآية أنّ السجود فيها سجود التلاوة. 2- ما روي عن أبي رضي الله عنه أنه عدّ السجدات التي سمعها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعدّ في الحج سجدة واحدة «4» .

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (2/ 470) ، كتاب الصلاة، باب السجدة حديث رقم (578) ، وأبو داود في السنن (1/ 521) ، كتاب الصلاة حديث رقم (1402) ، وأحمد في المسند (4/ 151) . [.....] (2) رواه أبو داود في السنن (1/ 521) ، كتاب الصلاة، باب تفريع أبواب السجود حديث رقم (401) ، وابن ماجه في السنن (1/ 335) ، 5- كتاب إقامة الصلاة، 70- باب عدد سجدات القرآن حديث رقم (1057) . (3) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1- 2/ 85) . (4) رواه الإمام أحمد في المسند (4/ 305) .

وما روي عن ابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: سجدة التلاوة في الحج هي الأولى، والثانية سجدة الصلاة. قالوا: وهذا المروي عن ابن عباس وابن عمر هو تأويل ما روي عن عقبة بن عامر على فرض صحته، مع أنّ فيه مقالا، وكذا في حديث عمرو بن العاص، وإليك ما قيل فيهما: أما حديث عقبة فقال الترمذي وأبو داود وغيرهما: إن إسناده ليس بالقوي، قالوا: لأنّ فيه عبد الله بن لهيعة، وقال الحاكم: إن عبد الله بن لهيعة أحد الأئمة، وإنما نقم اختلاطه في آخر عمره. وأما حديث عمرو بن العاص فقيل فيه: إنّه ضعيف أيضا، لأنّ في سنده عبد الله بن منين الذي قال فيه عبد الحق: إنّه لا يحتج به، وقال ابن القطان: إنه مجهول، لا يعرف له حال. وقالا أيضا: إنّ الراوي عن ابن منين هو الحارث بن سعيد العتقي المصري وهو لا يعرف أيضا اهـ. قال الله تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) الجهاد: هو بذل الطاقة، واستفراغ الوسع في مدافعة العدو، وهو قسمان عظيمان، تحت كل منهما أنواع، فالقسم الأول جهاد العدو الباطن، وتحته نوعان: 1- جهاد النفس. 2- جهاد الشيطان. والقسم الثاني: جهاد العدو الظاهر، وتحته ثلاثة أنواع: 1- جهاد الكفار. 2- جهاد المنافقين. 3- جهاد أهل الظلم والبدع والضلالات الاعتقادية والعملية. فالجهاد في القسم الأول يكون بمخالفة هوى النفس، ومدافعة وساوس الشيطان. وهذا هو أصل الجهاد، وأشدّ أنواعه، وهو الجهاد الأكبر، كما روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما عاد من غزوة تبوك قال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» «1» ولهذا كان فرض عين على كل فرد، لا يغني فيه أحد عن أحد شيئا، وفرضيته ثابتة من مبدأ الإسلام.

_ (1) حديث ضعيف، انظر الأسرار المرفوعة للملا علي القاري حديث رقم (211) .

وكذلك جهاد أهل الظلم والبدع، فهو فريضة على كل مكلف على حسب استعداده، وبقدر استطاعته، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» «1» . أما جهاد الكفار والمنافقين، فإنّه يكون بالحجة والبيان، كما يكون جهاد الكفار أيضا بالسيف والسنان. فجهادهم بالحجة واجب أيضا من مبدأ البعثة، كما في الأنواع السابقة، يشهد لذلك قوله تعالى في سورة الفرقان: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) [الفرقان: 51، 52] فالمجاهدة بالقرآن لا شك أنها من نوع الجهاد بالحجة والبرهان، وهذا النوع فرض كفاية على الأمة، يتصدى له أهل القدرة عليه من العلماء الواقفين على أسرار الشريعة، العارفين بمسالك القول وطرائق الإقناع. أما الجهاد بالسيف وغيره من آلات القتال فهذا هو الذي لم يشرع إلا بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وهو فرض كفاية على المسلمين، يجزئ فيه أن يقوم به بعضهم متى كانوا قادرين على أن يصدوا غارات العدو، وأن يدفعوه عن بقية المسلمين وبلادهم، وإلا فعلى حسب ما يرى الإمام، حتى لو أعلن النفير العام كان فرض عين على كلّ واحد من القادرين على القتال. وبعد فقد اختلف العلماء في المراد بالجهاد في قوله تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ فعن ابن عباس أنّ المراد به قتال الكفار والمشركين، وهو مرويّ عن الضحاك أيضا. وعن عبد الله بن المبارك: أنه مخالفة النفس والهوى، والأولى أن يحمل على المعنى العام الذي يشمل هذا وذاك. وقد علمت فيما سبق أنّ الراجح في سورة الحج أنها مدنية ما عدا آيات ليست هذه الآية منها، فلا يكون حينئذ مانع من حمل الجهاد على ما يشمل قتال الكفار وغيره، أما على اعتبار أنها مكية فيتعين تفسير الجهاد بجهاد النفس والشيطان على ما هو معروف، إذ إن القتال لم يفرض إلا بعد الهجرة. والجهاد في الله معناه الجهاد في سبيله، ومن أجل دينه، وحقّ الجهاد في الله أن يكون بقوة وعزيمة صادقة، وأن يكون خالصا لإعلاء دين الله وتأييد شريعته، فلا ينبغي للمسلم أن يخشى في الانتصار للحق لومة لائم، كما لا يجوز له في جهاد الكفار أن يقاتل من أجل غنيمة أو غيرها من الشهوات الدنيوية. وعلى تفسير حق الجهاد بذلك تكون الآية محكمة غير منسوخة بقوله تعالى:

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 69) ، 1- كتاب الإيمان، 2- باب كون النهي عن المنكر حديث رقم (49) .

فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ كما يقول مجاهد والكلبي، فإنّهما يقولان: إنّ حقّ الجهاد غاية لا يستطيعها عامّة المكلفين، فإنّها قد تتجاوز الوسع وحد الاستطاعة، ولكنك قد علمت الصواب في ذلك. وإضافة (حق) إلى (جهاد) في قوله تعالى: حَقَّ جِهادِهِ من إضافة الصفة للموصوف: كما يقال: حق يقين، وشبيه به قولهم فلان حق عالم، وهو جد ذكي، أما إضافة جهاد للضمير في قوله: جِهادِهِ فهي لأدنى ملابسة. وذلك لأنّ هذا الجهاد لما كان مطلوبا لله ومن أجل دينه كان خاصّا به سبحانه وتعالى، فصحّ أن تقع فيه هذه الإضافة التي تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه وأصله: وجاهدوا في الله حق جهادكم فيه، فحذف المضاف إليه، والجار للضمير فاتصل الضمير بالمضاف. هُوَ اجْتَباكُمْ الاجتباء: الاصطفاء والاختيار. وهذه الجملة واقعة في مقام التعليل للأمر بالجهاد، فالله وفّق المسلمين لقبول الإسلام، واختارهم لدينه، وشرّفهم بأن يكونوا خدام شريعته، يقيمونها، ويحفظونها ممن يريدها بتحريف أو عدوان، فجدير بمن اختارهم الله لهذا الأمر العظيم أن يبذلوا كل ما عندهم من استطاعة في حماية دينه، وألا يهملوا رعايته، أو يهنوا في حراسته، ولا شكّ أنّ الحكم بأنه سبحانه قد اجتبى المسلمين لذلك، من خير ما يبعثهم على أن يجاهدوا في الله حق الجهاد. وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ الحرج: الضيق كما فسره بذلك ابن عباس ومجاهد. أكد الله بهذا وجوب الجهاد على الناس، ولزوم محافظتهم على الدين الذي اختارهم لحمايته، فإنّه نفى أن يكون في أحكامه شيء من العسر والشدة التي تضيق بها صدورهم، ولا تتسع لها قدرهم، وإذا كان الأمر كذلك فلا يكون هناك مانع يمنعهم من مراعاتها، كما لا يكون لهم عذر إذا تهاونوا فيها، ولم يقوموا بخدمتها حق القيام، ما دام قد تحقّق المقتضى للجهاد، وهو اجتباؤهم، وانتفى المانع، وهو الحرج في التكاليف، وأنت خبير بأن هناك فرقا كبيرا بين المشقة في الأحكام الشرعية وبين الحرج والعسر فيها، فإنّ الأولى حاصلة، قلما تخلو عنها التكاليف، فإنّ التكليف هو إلزام ما فيه كلفة ومشقة. أما المشقة الزائدة التي تصل إلى حد الحرج فهي المرفوعة عن المكلفين فقد فرض الله الصلاة على المكلف في اليوم خمس مرات، وأوجب عليه أن يؤديها من قيام، وهذا شيء لا حرج فيه، ثم هو إذا لم يستطع الصلاة من قيام فله رخصة أن يصلي من قعود، أو بالإيماء. وكذلك شريعة الصيام لا تصل فيها المشقة إلى درجة العسر، إذ إن المفروض على الناس صيام شهر في كل عام، ومع ذلك فقد رخّص الله

للمكلّف في حالات تعظم فيها المشقة عليه أن يفطر، فأباح الفطر لكلّ من المسافر والمريض والهرم والحامل والمرضع، وهكذا تجد جميع التكاليف في ابتدائها ودوامها مراعى فيها التخفيف والتيسير على العباد، كما يشهد بذلك قوله تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 157] وقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] وغير ذلك في هذا المعنى كثير. مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ الملة والدين والشريعة شيء واحد، وكلمة مِلَّةَ منصوبة على المصدرية بفعل يدلّ عليه قوله تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فإنه يفيد معنى التوسعة، أي وسع عليكم في دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم، فحذف المصدر المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ويصحّ أن تكون منصوبة على الاختصاص بفعل تقديره: أعني ملة أبيكم إبراهيم، وقيل: إنها منصوبة على الإغراء أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم وظاهر أنه على الإعراب الأول لا يكون في الكلام دلالة على أنّ شريعتنا هي شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وحينئذ فلا مانع من تفسير الملة بالأحكام الشرعية كلها الاعتقادية والعملية، أما الإعرابان الآخران فإنّهما يدلان على اتحاد الشريعتين، وعلى هذا ينبغي قصر الملة على الأحكام الأصلية المتعلقة بالاعتقاد، إذ لا شك أنها واحدة في شريعتنا وشريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، بل هي واحدة في جميع الشرائع لم تتغير بتغير الأزمان والأقوام، اقرأ قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) [الأنبياء: 25] وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الأنبياء أولاد علّات» «1» يريد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة، وعلى هذا يكون تخصيص إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالذكر ليقويّ تمسك المؤمنين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بشريعته إذ إنّ أكثرهم من نسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهم يحبونه حب الأبناء للآباء، ولا شكّ أنّ هذا الحب يقوّي فيهم روح الاستمساك بشريعة نبيهم محمد صلّى الله عليه وسلّم، إذ كانت هي شريعة أبيهم إبراهيم من قبل. وقد تبين لك من هذا معنى أبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام للمؤمنين من هذه الأمة. ويصحّ أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام أب لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم السعيدة في الآخرة.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 1837) ، 43- كتاب الفضائل، 40- باب فضائل عيسى حديث رقم (143/ 2365) ، والبخاري في الصحيح (4/ 171) ، 60- كتاب الأنبياء، 48- باب (واذكر في الكتاب) حديث رقم (3442) .

هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وفي هذا اختلف العلماء في مرجع الضمير من قوله: هُوَ سَمَّاكُمُ فعن ابن زيد والحسن: أن الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، سمانا المسلمين قبل نزول القرآن، وذلك ظاهر، وسمانا المسلمين في القرآن لأنه تسبب في هذه التسمية بقوله: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 128] فلما استجاب الله دعاءه، وجعلنا أمة مسلمة من ذريته، كان إبراهيم كأنّه سمانا مسلمين. وذهب ابن عباس ومجاهد والضحاك إلى أن المسمّي هو الله جل شأنه، ويؤيد هذا الرأي قراءة أبي بن كعب (الله سماكم المسلمين) وابقاء الإسناد على ظاهره خير من التأويل فيه، وجعله مستعملا في حقيقته ومجازه. واللام في قوله تعالى: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ إما لام العاقبة، وهي متعلقة بسماكم على الوجهين في ضميره، وشهادة الرسول على أمته معناها الإخبار بأنّه قد بلّغهم رسالة ربه، وإما لام التعليل. وعلى في قوله: عَلَيْكُمْ بمعنى اللام، على حد قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة: 3] ومعنى شهادة الرسول لهم أن يزكيهم عند الله يوم القيامة، ويشهد بعدالتهم إذا شهدوا على الأمم السابقين ويكون التعبير بعلى لما في الشهيد من معنى الرقيب والمهيمن. وقد تبين لك أنّه لا بد على هذين الوجهين من التأويل في قوله تعالى: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ إما في (اللام) وإما في كلمة (على) والسبب في ذلك هو أنه لم يظهر للقائلين بهما الوجه في أن يعلل تعديل هذه الأمة وتسميتها مسلمة بشهادة الرسول عليها، إذ المستقيم إنما هو تعليل ذلك بقبول شهادتها على غيرها. والحق أنه لا حاجة لذلك التأويل، ولا مانع من بقاء كل من: على واللام على أصل معناه، ويكون قول شهادة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على الأمة علة في الحكم بعدالة ذلك الحكم الذي دلّت عليه تسميته مسلما، إذ لا شك أنه صلّى الله عليه وسلّم مسلم لله، وأنه سيد المسلمين، فهو داخل في قوله تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ دخولا أوليا، ويكون قبول الشهادة من أمته على الأمم الأخرى علة في تسميتها مسلمة كذلك. ويكون في الكلام تفصيل في الشهادة بعد إجمال في التسمية بالمسلمين، وهذا وجه وجيه لا خفاء فيه. قد يقال: إنه بعد هذا كله لا يظهر التعليل إلا إذا كانت التسمية بالمسلمين واقعة من الله تعالى، كما هو أحد الرأيين، فإنّه واضح جدا أن يقال: سماهم الله مسلمين هذه التسمية الدالّة على حكمه بعدالتهم، ليقبل شهادتهم على غيرهم، أما إذا كانت

التسمية من إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما هو الرأي الآخر، فلا يظهر ذلك التعليل، إذ يكون معنى الكلام عليه: سماهم إبراهيم هذه التسمية التي تضمّنت حكمه بعدالتهم، ليقبل الله شهادتهم على الناس يوم القيامة وفيه ما ترى. والجواب: أنّ تسمية سيدنا إبراهيم إياهم بالمسلمين قد أقرّها الله تعالى، فكأنّ الحكم بعدالتهم صادر منه جل شأنه، فيكون الله هو الذي عدّلهم ليقبل شهادتهم، وهذا الجواب مستقيم ولا غبار عليه. وبعد ... فشهادة النبي صلّى الله عليه وسلّم وشهادة أمته يوم القيامة يثبت بها شرف عظيم له عليه الصلاة والسلام ولهذه الأمة، فإنّ الله تعالى يصدّق قوله يوم القيامة على أمته في دعوى تبليغه إياها، لكن سائر المرسلين مع عصمتهم سوف يحتاجون لإثبات ما يدّعون على أقوامهم إلى من يشهد لهم بين يدي الله عزّ وجلّ. وكذلك هذه الأمة شرّفها الله بأن جعلها أهلا للشهادة على سائر الأمم، فهي تشهد على الناس جميعا، ولا يشهد عليها أحد منهم، إنما الذي يشهد عليها هو نبيّها الذي هو أشرف الخلق أجمعين. وفي هذا فضل كبير. وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ورد أنه يؤتى بالأمم وأنبيائهم فيقال للأنبياء: هل بلغتم أممكم، فيقولون: نعم بلغناهم، فينكرون فيؤتى بهذه الأمة فيشهدون أنّهم قد بلغوا، فتقول الأمم لهم: من أين عرفتم، فيقولون: عرفنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ قد سبق لك معنى إقامة الصلاة. أما الاعتصام فمعناه اتخاذ العصمة، وهي ما يعصم الشيء ويمنعه مما يضره. فالاعتصام بالله هو الثقة به، والالتجاء إليه، والاستعانة بقوته العظمى على دفع كلّ مكروه، وقيل: إن الاعتصام بالله هو الاستمساك بدينه والتزام شريعته. وهذه الجملة مرتبة بالفاء على ما قبلها، من اجتباء المخاطبين، وتسميتهم مسلمين، وتشريفهم بقبول شهادتهم على الأمم. وقد ختم الله الأوامر في هاتين الآيتين بالأمر بإقام الصلاة مع سبق الأمر بها في قوله تعالى: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا على ما علمت، ثم عطف عليه الأمر بإيتاء الزكاة لما تقدم لك كثيرا من أنهما أصل الخير وأسّ الفلاح، ثم أتبعهما الأمر بالاعتصام به سبحانه وتعالى، فإن هذا الاعتصام هو مبعث القوة، وهو سبيل الفوز، فمن استنصر بالله نصره، ومن لاذ بحماه أمّنه، ومن استعان بقوته يسّر له أمره، وأمكنه مما يريد. هُوَ المولى يطلق على معان: منها المالك، والناصر، والمعتق، والجار، وابن العم، والحليف. وأولاها الأول، وفي هذه الجملة هُوَ مَوْلاكُمْ عدة جميلة،

تشدّ العزم، وتقوّي القلب، وتوجب الاطمئنان وحسن الاعتماد على الله، وهي في منزلة العلة لما قبلها من الأمر بالاعتصام، فلذلك فصلت عنه. والمعنى: ثقوا بالله، والجؤوا إليه، واحتموا بحمايته، لأنّه هو مالككم وخالقكم، يغار عليكم، ويحفظكم، ويدفع المكروه عنكم. فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ النصير العظيم النصرة، الكامل المعونة. والمخصوص بالمدح ضمير يرجع إلى الله تعالى.

من سورة النور

من سورة النور قال الله تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) وَفَرَضْناها الفرض: قطع الشيء الصلب، والتأثير فيه، والمراد به هنا الإيجاب على أتم وجه، أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا. آياتٍ بَيِّناتٍ ترد الآية في القرآن بمعنى الكلام المتصل إلى مقطعه الاصطلاحي وبمعنى العلامة، وفي هذه السورة آياتٍ بَيِّناتٍ واضحة الدلالة على أحكامها. مثل الآيات التي نيطت بها أحكام الزنى، والقذف، واللعان، والحلف على ترك الخير، والاستئذان، وغض البصر، وإبداء الزينة للمحارم وغير المحارم، وإنكاح الأيامى، واستعفاف من لم يجد نكاحا، ومكاتبة الأرقاء، وإكراه الفتيات على البغاء، وطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والسلام على المؤمنين. إلى كثير من الأحكام التي ذكرت في هذه السورة. وفي هذه السورة أيضا طائفة من الآيات الكونية، والظواهر الطبيعية، فيها دلالات واضحة، وحجج قاطعة، على توحيد الله وكمال قدرته: مثل النور والظلمة، والتأليف بين السحاب، وإنزال المطر من خلاله، ووميض البرق ولمعانه، وتقليب الليل والنهار، واختلاف الحيوانات في أشكالها وهيئاتها وطبائعها، مع اتحاد المادة التي منها خلقت، إلى غير ذلك من حجج التوحيد وشواهد القدرة. وإذا علمت أنّ إطلاق الآية على كلّ من المعنيين- الكلام والعلامة- حقيقي علمت أنّ كلمة آية مشترك لفظي، فمن أجاز استعمال المشترك في معنييه لا مانع عنده من إرادة المعنيين جميعا في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ ومن أبى استعمال المشترك في معنييه يحتّم إرادة أحد المعنيين لا غير، فيحتمل أن يكون المراد بالآيات الآيات التي نيطت بها الأحكام في هذه السورة، ومعنى كونها بينات أنها واضحة الدلالة على ما نيط بها من الأحكام، ويحتمل أن يكون المراد بالآيات ما في هذه السورة من دلائل التوحيد، وشواهد القدرة، ومعنى كونها بينات أن دلالتها على ما ذكر واضحة ظاهرة وعلى هذا الاحتمال يكون قوله تعالى: وَفَرَضْناها إشارة إلى الأحكام والحدود المبينة في السورة. وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ إشارة إلى آيات التوحيد، ويؤيّد هذا الاحتمال قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فإنّ معنى التذكر أن يعاد إلى الذاكرة ما كان معلوما، والأحكام التي في هذه السورة لم تكن معلومة لهم

حتى يتذكروها، ولكن دلائل التوحيد وشواهده معروفة للناس، ولكنهم لم يفطنوا لها، فهم ليسوا في حاجة إلى أكثر من أن يلتفتوا إليها فيتذكروها بعد النسيان. والمعنى: هذه سورة أنزلناها، وفرضنا ما فيها من أحكام، وأنزلنا فيها دلائل وعلامات على توحيد الله وكمال قدرته، لتتذكروها، فتعتقدوا وحدانيته وقدرته جلّ شأنه. ومعلوم أن إنزال السورة كلها يستلزم إنزال هذه الآيات منها، فيكون التكرار في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لكمال العناية بشأنها، كما هي الحال في ذكر الخاصّ بعد العام. قال الله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزنى مقصور في اللغة الفصحى، وهي لغة الحجازيين. وقد يمدّ في لغة أهل نجد. والزنى من الرجل وطء المرأة في قبل من غير ملك ولا شبهة ملك، والزنى من المرأة تمكينها الرجل أن يزني بها. والجلد بفتح الجيم: ضرب الجلد بكسرها. وقد جاء صوغ فعل مفتوح العين من أسماء الأعيان يقال: رأسه، وظهره، وبطنه، وفأده، وحسه: إذا أصاب رأسه وظهره وبطنه وفؤاده وحسه. وجوّز الراغب أن يكون معنى جلده ضربه بالجلد مثل: عصاه ضربه بالعصا، وسافه ضربه بالسيف، ورمحه أي طعنه بالرمح. والرأفة: الشفقة والعطف. فِي دِينِ اللَّهِ في طاعته وإقامة حدّه الذي شرعه. وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما شهد كسمع شهودا: حضر. طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الطائفة في الأصل اسم فاعل مؤنّث من الطواف، وهو الدوران، والإحاطة، فهي إما صفة مفرد مؤنث أي نفس طائفة، فتطلق حينئذ على الرجل الواحد. وإما صفة جماعة، أي جماعة طائفة، فتطلق على من فوق الواحد. ويكاد اللغويون يجمعون على أنه يقال للواحد طائفة كما يقال لمن فوقه طائفة. وفي المراد بها هنا أقوال سنبينها فيما بعد. وقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا إلخ شروع في تفصيل الأحكام التي أشير إليها في قوله جل شأنه: وَفَرَضْناها والرفع في قوله جلّ شأنه الزَّانِيَةُ عند سيبويه والخليل على أنه مبتدأ، خبره محذوف، والكلام على حذف مضاف، والتقدير: مما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني، ويفهم من كلام سيبويه في «الكتاب» أن النهج المألوف

حد الزنى

في كلام العرب- إذا أرادوا بيان معنى وتفصيله اعتناء بشأنه- أن يذكروا قبله ما هو عنوان وترجمة له، وهذا لا يكون إلا بأن يبنى الكلام على جملتين. وقد يقال: ما الحكمة في أن بدأ الله في الزنى بالمرأة وفي السرقة بالرجل؟ والجواب: إن الزنى من المرأة أقبح، فإنّه يترتب عليه تلطيخ فراش الرجل، وفساد الأنساب، وعار على العشيرة أشد وألزم، والفضيحة بالحمل منه أظهر وأدوم، فلهذا كان تقديمها على الرجل أهم. وأما السرقة فالغالب وقوعها من الرجال، وهم عليها أجرأ من النساء وأجلد وأخطر، فقدّموا عليهنّ لذلك. حدّ الزنى كان حد الزنى في أول الإسلام ما قصّه الله علينا في سورة النساء من قوله جلّ شأنه: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) [النساء: 15، 16] فكانت عقوبة المرأة أن تحبس، وعقوبة الرجل أن يعيّر ويؤذى بالقول، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ. أخرج مسلم وأبو داود والترمذي «1» عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: كان نبي الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه كرب لذلك، وتربّد وجهه، فأنزل الله تعالى عليه ذات يوم، فلقي كذلك، فلمّا سرّي عنه قال: «خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مئة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مئة والرجم» . معنى تربّد: تغيّر. وأخرج أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ إلى قوله: سَبِيلًا فذكر الرجل بعد المرأة، ثم جمعهما فقال: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فنسخ الله ذلك بآية الجلد فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وتقدّم لك في تفسير هاتين الآيتين ما يغني عن الإعادة، فارجع إليه في سورة النساء. ظاهر قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ أنّ أولياء الأمر من

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 316) ، 29- كتاب الحدود، 3- باب حد الزنا، حديث رقم (13/ 1690) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 32) ، كتاب الحدود، باب الرجم حديث رقم (1434) ، وأبو داود في السنن (4/ 135) ، كتاب الحدود، باب في الرجم حديث رقم (4415) .

الحكام مكلّفون أن يجلدوا من زنى من ذكر أو أنثى مئة جلدة، سواء المحصن منهم وغيره. لكنّ السنة القطعية فرّقت في الحد بين المحصن وغير المحصن. وأجمع الصحابة رضي الله عنهم ومن تقدّم من السلف وعلماء الأمة، وأئمة المسلمين على أن من زنى وهو محصن فإنّه يرجم حتى يموت، ولا نعلم خلافا في ذلك لأحد إلا بعض المبتدعة من الخوارج، فإنّهم قالوا: إن الرجم غير مشروع، وإنه لا فرق في الحدّ بين المحصن وغير المحصن، وسنبيّن فساد مذهبهم إن شاء الله. والقائلون بأن الرجم مشروع قد اختلفوا فيه، أهو تمام ما على المحصن من العذاب، أم هو والجلد قبله حد المحصن. فإلى الأوّل ذهب جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وإلى الثاني ذهب علي رضي الله عنه وإسحاق وأهل الظاهر، وهو رواية عن أحمد رحمه الله. فعلى رأي الجمهور يكون المراد بالزانية في الآية الكريمة البكرين، وتكون الآية مخصوصة بالسنة القطعية، أو بالآية المنسوخة التلاوة «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله» على كلام فيها. وعلى رأي أهل الظاهر، تكون الآية باقية على عمومها، ويكون الرجم حكما زائدا في حقّ المحصن ثبت بالسنة. والظاهر أيضا من قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ أنّه يشمل الرقيق وغيره، فيكون الحدّ في الجميع واحدا، لكن قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ أخرج الإماء من هذا الحكم، فإنّ الآية نزلت فيهن، وكذلك أخرج العبيد، لأنّه لا فرق بين الذكر والأنثى بتنقيح المناط. وقال بعض أهل الظاهر عموم قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة، إلا أنه ورد النص بالتنصيف في حق الأمة، فلو قسنا العبد عليها لزم تخصيص عموم الكتاب بالقياس، يعني وهم لا يقولون به. ومن الظاهرية من قال: الأمة إذا تزوجت فحدّها في الزنى خمسون جلدة لقوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ إلخ. فإذا لم تتزوج فحدّها مئة جلدة للعموم في كلمة الزَّانِيَةُ. وجمهور الفقهاء على رد هذين الرأيين بما سلف لك هنا وفي سورة النساء. وكذلك عموم قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إلخ يشمل المسلم والكافر. غير أن الحربي لما يلتزم أحكامنا، ولم تنله يدنا كان خارجا من هذا الحكم، وبقي العموم فيمن عداه من المسلمين وأهل الذمة. وبهذا قال جمهور الفقهاء. وروي عن مالك رحمه الله أن الذمي لا يجلد إذا زنى، قيل: وهو مبنيّ على أنّ الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشريعة.

أدلة الخوارج والرد عليها

وظاهر الآية أيضا أنّ مئة الجلدة هي تمام حد البكر، فإنّ قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ قصد به بيان حكم الزنى، فكان المذكور تمام حكمه، لأنّ السكوت في مقام البيان يفيد الحصر، فيفهم منه أنّ حكم الزانية والزاني ليس إلا الجلد، فمن زاد على الجلد تغريب عام عمل بالسنة، وجعلها حكما على ظاهر الكتاب. ويرى الفقهاء جميعا ما عدا أهل الظاهر أنّ حد الرقيق مطلقا نصف حد الحر، لا فرق بين الذكر والأنثى، ولا بين الثيب والبكر. ويرى بعض أهل الظاهر أنّ التنصيف خاصّ بالأمة، أما العبد فهو كالحر البكر في الحد. ويرى بعض آخر منهم أنّ التنصيف خاص بالأمة المتزوجة. أمّا الأمة غير المتزوجة والعبد فحدّهما حدّ الحر البكر. أدلة الخوارج والرد عليها استدل الخوارج على أنّ الرجم غير مشروع بثلاثة أدلة: الأول: أن الله تعالى قال في حق الإماء: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء: 25] فجعل حد الإماء نصف حد المحصنات من الحرائر. والرجم لا يتنصّف، فلا يصحّ أن يكون حدّا للمحصنات من الحرائر. والثاني: أن الله تعالى فصّل أحكام الزنى وأطنب فيها بما لم يطنب في غيرها، والرجم أقصى العقوبات وأشدها، فلو كان مشروعا كان أولى بالذكر. والثالث: أن قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ يقتضي وجوب الجلد وعمومه لكل الزناة. وإيجاب الرجم على بعضهم يقتضي تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وهو غير جائز على مذهبهم. وأجاب الجمهور على الأول بأن المراد من المحصنات في قوله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ الحرائر. والحرائر نوعان: ثيبات وأبكار، وحد النوعين على التوزيع الرجم وجلد مئة، ولما كان الرجم لا يتنصّف كان العذاب مخصوصا بغير الرجم للدليل العقلي، وكان الرجم غير مشروع في حق الأرقاء. وتقدّم لك شيء من هذا في تفسير قوله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ في سورة النساء. وعن الثاني بأن الأحكام الشرعية كانت تنزل بحسب تجدّد المصالح فلعل المصلحة التي اقتضت وجوب الرجم حدثت بعد نزول هذه الآيات، وكفى بالسنة ووظيفتها البيان والتكميل- بيانا وتفصيلا.

دليل الظاهرية والرد عليهم

وعن الثالث بأنّ تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز عندنا، لأنّ اللفظ العام في القرآن الكريم وإن كان قطعيا في متنه ظني في دلالته، فأمكن تخصيصه بالدليل المظنون، وإن سلمنا أنّ خبر الآحاد لا يخصص القرآن فلا نسلم أنّ الرجم ثبت بطريق الآحاد، بل هو ثابت بالتواتر. رواه أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وجابر وأبو سعيد الخدري وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فهو على الأقل متواتر المعنى كشجاعة علي وجود حاتم. والآحاد إنما هي في تفاصيل صوره وخصوصياته. والخوارج كسائر المسلمين يوجبون العمل بالمتواتر معنى كالمتواتر لفظا إلا أن انحرافهم عن الصحابة، وتركهم التردد إلى علماء المسلمين والرواة منهم أوقعهم في جهالات كثيرة. ولقد عابوا على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه القول بالرجم، وقالوا: ليس في كتاب الله تعالى فألزمهم بأعداد الركعات ومقادير الزكوات فقالوا: ذلك من فعله صلّى الله عليه وسلّم وفعل المسلمين. فقال: وهذا أيضا كذلك. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألهم أمر هؤلاء الخوارج، فقد روي عن ابن عباس أنّه قال: سمعت عمر رضي الله عنه يخطب ويقول: إن الله بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها وو عيناها، ورجم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورجمنا بعده، وأخشى إن طال بالناس زمن أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى في كتابه، فإنّ الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال أو النساء، قامت البينة أو كان حمل أو اعتراف، والله لولا أن يقول الناس زاد في كتاب الله تعالى لكتبتها. أخرجه الستة «1» . وروى الزهري بإسناده عن ابن عباس أن عمر قال: قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، وقد قرأنا الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، فرجم النبي صلّى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده. دليل الظاهرية والرد عليهم استدل أهل الظاهر على وجوب الجلد والرجم في حد المحصن بالعموم في الآية مع ما رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «والثيب بالثيب جلد مئة ورمي بالحجارة» وفي رواية غيره «ورجم بالحجارة» .

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1317) ، 29- كتاب الحدود، 4- باب رجم الثيب حديث رقم (15/ 1691) ، والبخاري في الصحيح (8/ 32) ، 87- كتاب الحدود، 16- باب الاعتراف حديث رقم (6829) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 28) ، كتاب الحدود، باب في تحقيق الرجم حديث رقم (1431) ، وابن ماجه في السنن (2/ 853) ، 20- كتاب الحدود، 9- باب الرجم حديث رقم (2553) .

وما رواه البخاري وغيره عن علي كرم الله وجهه من قوله حين جلد شراحة ثم رجمها: جلدتها بكتاب الله تعالى ورجمتها بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأجاب الجمهور بأن الآية مخصوصة وخبر أبي داود متروك العمل بما رواه الستة «1» عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أن أعرابيا أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله تعالى، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله تعالى وائذن لي. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قل» . فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أنّ على ابني الرجم فافتديت منه بمئة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنّ على ابني جلد مئة وتغريب عام، وإن على امرأة هذا الرجم. فقال: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى، الوليدة والغنم ردّ عليك، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام، واغد يا أنيس- لرجل من أسلم- إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» ، فغدا عليها فاعترفت فأمر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم فرجمت. فقد دل هذا الحديث على أنّ الرجم هو تمام الحد على المحصن، ولو وجب الجلد إذ ذاك لذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم. وإنّ قصة ما عز رويت من جهات مختلفة وليس فيها ذكر الجلد مع الرجم، وكذا قصة الغامدية. وقد تكرر الرجم في زمانه صلّى الله عليه وسلّم ولم يرو أحد أنه جمع بينه وبين الجلد، فقطعنا بأنّ حد المحصن لم يكن إلا الرجم. وأما جلد علي كرم الله وجهه شراحة، ثم رجمه إياها فهو رأي له لا يقاوم ما ذكر من القطع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك لا يقاوم إجماع غيره من الصحابة رضوان الله عنهم. ولعل عمله هذا محمول على مثل ما رواه أبو داود عن جابر رضي الله عنه قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برجل زنى فجلد الحد، ثم أخبر أنّه محصن فأمر به فرجم. وأيضا فإنّ المعنى المعقول يأبى اجتماع الجلد مع الرجم، لأن الجلد حينئذ يعرى عن المقصود الذي شرع الحد لأجله، وهو الانزجار أو قصده إذ كان القتل لا حقا له. وللشافعية قاعدة في مثل هذا وهي أن الفعل إذا كان له جهتا عموم وخصوص،

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (8/ 43) ، 87- كتاب الحدود، 33- باب هل يأمر الإمام حديث رقم (6859) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 3) ، كتاب الحدود، باب الرجم حديث رقم (1433) ، وأبو داود في السنن (4/ 146) ، كتاب الحدود، باب المرأة حديث رقم (4445) ، والنسائي في السنن (7- 8/ 622) ، كتاب القضاة حديث رقم (5412) ، وابن ماجه في السنن (2/ 852) ، 20- كتاب الحدود، 7- باب حد الزنى حديث رقم (2549) .

أقوال الفقهاء في النفي

وكان لكل من جهتيه حكم فإنّه إذا أوجب أعظم الأمرين بجهة خصوصه لا يوجب أدونهما بجهة عمومه: مثاله خروج المني من القبل لمّا أوجب أعظم الأمرين وهو الغسل بخصوص كونه خروج مني لم يوجب أدونهما وهو الوضوء بعموم كونه خارجا، كذلك زنى المحصن لما أوجب أعظم الحدين وهو الرجم بخصوص كونه زنى محصن لم يوجب أدونهما وهو الجلد بعموم كونه زنى. أقوال الفقهاء في النفي علمت أن الحنفية «1» يقولون: إنّ النفي ليس من الحد في شيء، وإنه مفوّض إلى رأي الإمام، وحجتهم في ذلك ظاهر الآية الكريمة، فإنها اقتصرت في مقام البيان على مئة جلدة، فلو كان النفي مشروعا لكان ذلك نسخا للكتاب، وجميع ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في النفي لم يخرج عن كونه من أخبار الآحاد، وأخبار الآحاد لا تقوى على نسخ الكتاب، ولو كان النفي حدّا مع الجلد لكان من النبي صلّى الله عليه وسلّم توقيف للصحابة، لئلا يعتقدوا عند سماع التلاوة أنّ الجلد هو جميع الحد، ولوجب أن يكون وروده في وزن ورود نقل الآية وشهرتها. فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة، بل كان وروده من طريق الآحاد ثبت أنه ليس بحد. وقد روى الستة «2» غير النسائي عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: «إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير» . قال مالك: الضفير الحبل، وفي رواية: «فليجلدها ولا تثريب عليها» فظاهر الحديث أنّ الجلد هو تمام الحد، ولو كان النفي من الحد لذكره النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه غرّب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر، فلحق بهر قل فقال عمر: لا أغرب بعدها أحدا ولم يستثن الزنى. وروي عن علي كرّم الله وجهه أنه قال في البكرين إذا زنيا: إنهما يجلدان ولا ينفيان، وإنّ نفيهما من الفتنة. فإذا كانت الأخبار المثبتة للنفي معارضة بما سمعت، وهي بعد لم تخرج عن كونها أخبار آحاد، فليس بجائز أن نزيد في حكم الآية بهذه الأخبار، لأنّه يوجب

_ (1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1- 2/ 386) . (2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 328) ، 29- كتاب الحدود، 6- باب رجم اليهود حديث رقم (20/ 1703) ، والبخاري في الصحيح (8/ 37) ، 87- كتاب الحدود، 21- باب إذا زنت الأمة حديث رقم (6839) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 30) ، كتاب الحدود، باب الرجم حديث رقم (1433) ، وأبو داود في السنن (4/ 155) ، كتاب الحدود، باب في الأمة تزني حديث رقم (4469) ، وابن ماجه في السنن (2/ 857) ، 20- كتاب الحدود، 14- باب إقامة الحدود حديث رقم (2565) .

أقوال الفقهاء في حد الذمي المحصن

النسخ على ما سمعت، لا سيما مع إمكان استعمالها على وجه لا يوجب النسخ في الآية، ولا يدفع حكم الأخبار، وذلك بإبقاء الآية على حكمها، وأن الجلد هو تمام الحد، وجعل النفي على وجه التعزيز، ويكون النبي صلّى الله عليه وسلّم قد رأى في ذلك الوقت نفي البكر لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية، فرأى ردعهم بالنفي بعد الجلد، كما أمر بشق روايا الخمر، وكسر الأواني، لأنّه أبلغ في الزجر، وأحرى بقطع العادة. والقائلون بأن النفي من تمام الحد احتجوا بحديث عبادة بن الصامت وقد تقدم، وفيه تنصيص على أن النفي من الحد، وقد ورد مثله في قصة العسيف، وتكرّر ذكر النفي فيها على أنّه من الحد، ولا مانع من الزيادة على حكم الآية بخبر الآحاد. على أنّه ليس ذلك زيادة في حكم الآية، فإنّ إيجاب الجلد المفهوم من الآية مشترك بين إيجاب الجلد مع التغريب، وإيجابه مع نفي التغريب، ولا إشعار في الآية بأحد القسمين، إلا أن عدم التغريب للبراءة الأصلية، فإيجابه بخبر الواحد لا يدفع حكم الآية، ولا يزيل إلا محض البراءة الأصلية. والحاصل أنّ القائلين بالنفي يجعلون الجلد في الآية من قبيل الماهية بلا شرط شيء، والقائلين بعدم النفي يجعلون الجلد في الآية من قبيل الماهية بشرط لا شيء. أقوال الفقهاء في حد الذمي المحصن ترى الحنفية «1» أنّ حدّ الذمي المحصن هو الجلد لا الرجم، واحتجوا على ذلك بأمور: 1- منها ما رواه إسحاق بن راهويه بسنده عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من أشرك بالله فليس بمحصن» «2» ووجه الدلالة فيه أن الإحصان هنا ظاهر في إحصان الرجم، فيكون هذا الحديث معارضا لما ثبت من فعله صلّى الله عليه وسلّم، من رجم اليهوديين، وليس تاريخ يعرف به تقدم أحدهما على الآخر، فنرجع إلى الترجيح، والترجيح معنا، إذ المعلوم أنه إذا تعارض القول والفعل، ولم يعلم المتقدم من المتأخر، يقدّم القول على الفعل، ولأنّ هذا القول موجب لدرء الحد، والفعل يوجب استيفاءه، والأولى في الحدود ترجيح الرافع عند التعارض، لأنّ الحدود تدرأ بالشبهات، ورجم الذمي حدّ تمكنت فيه الشبهة، فيجب درؤه. 2- وإن النعمة في حق المسلم أعظم، فكانت جنايته أغلظ، كقوله تعالى في أمهات المؤمنين: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] .

_ (1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1- 2/ 385) . (2) رواه الدارقطني في سننه (2/ 250، 3/ 147) ، كتاب الحدود. عن ابن عمر.

الكلام فيمن يلي الحد

3- وإن إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام بالإجماع، فكذا إحصان الرجم، والجامع كمال النعمة. ويرى الشافعية أنّ حد الذمي المحصن الرجم، وحجتهم في ذلك عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قبلوا الجزية فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» . وما ثبت في «الصحيحين» «1» من أنه النبي صلّى الله عليه وسلّم رجم يهوديين زنيا ، فإن كان ذلك منه صلّى الله عليه وسلّم حكما بشرعه فهو ظاهر، وإن كان حكما بشرع من قبله فقد صار شرعا له، وأيضا فإنّ زنى الكافر مثل زنى المسلم في الحاجة إلى الزاجر. ثم أجابوا عن أدلة الحنفية فقالوا في الحديث: إنه مضطرب، قال فيه إسحاق: قد رفع هذا الخبر مرة ووقف على ابن عمر مرة أخرى، ورواه الدارقطني في «سننه» وقال: لم يرفعه غير إسحاق بن راهويه، ويقال: إنه رجع عنه، والصواب تفسير الإحصان في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من أشرك بالله فليس بمحصن» بالتزويج يجعل الحديث في ظاهره مصادما للواقع، فينبغي أن يكون المراد بالمحصن فيه المحصن الذي يقتصّ له من المسلم، فيكون الذمي الثيب محصنا إحصان الرجم، فثبت رجمه لعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وزنى بعد إحصان» . وأجابوا عن قول الحنفية: أن النعمة في حق المسلم أعظم إلخ بأنه معارض بأن الإسلام من كسب العبد، وزيادة الخدمة إن لم تكن سببا في تخفيف العقوبة فلا أقل من ألا تكون سببا في زيادتها. وأجابوا عن القياس على حد القذف بأن حد القذف ثبت لرفع العار كرامة للمقذوف، والكافر لا يكون محلا للكرامة، وصيانة العرض. الكلام فيمن يلي الحد الخطاب في قوله تعالى: فَاجْلِدُوا لأولياء الأمر من الحكام، لأنّ هذا حكم يتعلّق باستصلاح الناس جميعا، وكل حكم من هذا القبيل فإنما تنفيذه على الإمام. وقد جعل الفقهاء مثل هذا الأمر من الأدلة على وجوب نصب الخليفة، لأنه تعالى أمر بإقامة الحد، ولا يقوم به إلا الإمام، وما لا يتم الواجب إلا به يكون واجبا. ولا نعلم خلافا في أنّ الذي يلي إقامة الحد على الأحرار إنما هو الإمام أو نائبه. أما الأرقاء ففيمن يلي حدهم خلاف. فالإمامان مالك والشافعي يجيزان للسيد أن

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1326) ، 29- كتاب الحدود، 6- باب رجم اليهود، حديث رقم (1699) ، والبخاري في الصحيح (8/ 38) ، 87- كتاب الحدود، 24- باب أحكام أهل الذمة حديث رقم (6841) . [.....]

حكم اللواط والسحاق وإتيان البهائم

يحد عبده وأمته في الزنى والخمر والقذف. وللشافعي في السرقة قولان، والإمام أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر يقولون لا يملك السيد أن يقيم حدا ما. احتجّ مالك والشافعي بما أخرجه الستة «1» غير النسائي من قوله صلّى الله عليه وسلّم في الأمة: «إن زنت فاجلدوها» الحديث، وبما روى مسلم وأبو داود والنسائي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن ومن لم يحصن» «2» . وبما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقام حدا على بعض إمائه، فجعل يضرب رجليها وساقيها، فقال له سالم رحمه الله: أين قول الله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ؟ فقال: أتراني أشفقت عليها، إنّ الله لم يأمرني أن أقتلها. ولم يكن ابن عمر واليا ولا نائبا عن وال. وبأنّ الإمام لما ملك إقامة الحد على العبد كان السيد بإقامته أولى، لأن تعلّق السيد بالعبد أقوى من تعلق الإمام بالرعية، إن الملك أقوى من عقد البيعة، وإقامة الحد من السيد إنما هي بطريق الملك لغرض الاستصلاح كالحجامة والفصد. واحتج الحنفية بأنّ قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ عامّ في كل زان وزانية، والخطاب فيه لا شك أنه خطاب مع الأئمة دون سائر الناس، ولم يفرّق في المحدودين بين الأحرار والعبيد «3» ، فوجب أن تكون إقامة الحد على الأحرار وعلى العبيد للأئمة دون سائر الناس. ثم أجاب الحنفية عن الأحاديث التي يفيد ظاهرها إثبات حد الأرقاء لمواليهم بأن المراد أن الموالي يرفعون أمر عبيدهم إلى الحكام ليجلدوهم ويقيموا الحد عليهم، وجلد ابن عمر بعض إمائه إن صحّ كان رأيا له لا يعارض العموم في الآية. حكم اللواط والسحاق وإتيان البهائم قال الله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ فخصّ هذا الحكم بالزنى، ومعلوم أنّ العرف واللغة يفرّقان بين الزنى واللواط والسحاق وإتيان البهائم، فليس واحد من هذه الثلاثة الأخيرة داخلا في حكم الآية. ولما نقل عن الشافعي في أصح قوليه: إن حكم اللواط كحكم الزنى قال بعض أصحابه: إن اللواط زنى، لأنّه مثل الزنى في الصورة وفي المعنى، فيكون اللائط زانيا فيدخل في عموم الآية.

_ (1) سبق تخريجه. (2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 330) ، 29- كتاب الحدود، 7- باب تأخير الحد رقم (1705) . (3) هذا كلام فيه وهم، انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1/ 384) .

وهذا القول ليس بسديد لأنّه يصادم العرف واللغة، ألا تراه لو حلف لا يزني فلاط أو بالعكس لم يحنث، وكيف يكون اللواط زنى، وقد اختلف الصحابة في حكمه، وهم أعلم باللغة وموارد اللسان. وقال بعض آخر من الشافعية: اللواط غير الزنى، إلا أنه يقاس عليه بجامع كون الطبع داعيا إليه فيناسب الزاجر، وهذا أيضا ليس بسديد، لأنه بعد تسليم أن الطبع يدعو إلى اللواط فإنّ الزنى أكثر وقوعا، وأعظم ضررا لما يترتب عليه من فساد الأنساب، فكان الاحتياج فيه إلى الزاجر أشد وأقوى. ولعل أقوى أدلة الشافعي فيما ذهب إليه ما رواه أبو موسى الأشعري عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان» «1» فإنّ هذا الخبر إن لم يدل على اشتراك اللواط والزنى في الاسم والحقيقة فلا أقل من اشتراكهما في الحكم، وبقول الشافعي هذا قال أبو يوسف ومحمد. والقول الثاني من قولي الشافعي في حد اللائط: إنه يقتل: إما بحز الرقبة كالمرتد، وإما بالرجم، وهو مروي عن ابن عباس، وقول أحمد وإسحاق، ورواية عن مالك، وإما بالهدم عليه، ويروى عن أبي بكر الصديق، وإما بالرمي من شاهق، وهو مشهور مذهب مالك. وقال أبو حنيفة رحمه الله: ليس في اللواط «2» حد، بل فيه تعزير، لأنه وطء لا يتعلق به المهر، فلا يتعلق به الحد، ولأنه لا يساوي الزنى في الحاجة إلى شرع الحد، لأن اللواط لا يرغب فيه المفعول به طبعا، وليس فيه إضاعة النسب، وأيضا فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، وكفر بعد إيمان، وقتل نفس بغير حق» «3» قد حظر قتل المسلم إلا بإحدى هذه الثلاث، وفاعل ذلك خارج عن ذلك، لأنه لا يسمى زانيا، وأنت تعلم أنّه لم يثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قضى في اللواط بشيء، لأنّ هذا المنكر لم تكن تعرفه العرب، ولم يرفع إليه صلّى الله عليه وسلّم حادثة منه، ولكن ثبت عنه أنه قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» رواه أصحاب السنن الأربعة «4» وإسناده صحيح، وقال الترمذي: حديث حسن.

_ (1) رواه السيوطي في الجامع الصغير والدر المنثور. (2) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1/ 389) . (3) سبق تخريجه. (4) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (4/ 47) ، كتاب الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي حديث رقم (1456) ، وأبو داود في السنن (4/ 153) ، كتاب الحدود، باب فيمن عمل قوم لوط حديث رقم (4462) ، وابن ماجه في السنن (2/ 856) ، 20- كتاب الحدود، 12- باب من عمل عمل قوم لوط حديث رقم (2561) .

صفة الجلد

وحكم أبو بكر الصديق بقتل اللائط، وكتب به إلى خالد بن الوليد بعد مشاورة الصحابة. ونقل بعض الحنابلة إجماع الصحابة على أنّ حدّ اللواط القتل، وإنما اختلفوا في كيفيته: فمنهم من قال: يرمى من شاهق، ومنهم من قال: يهدم عليه حائط، ومنهم من قال: يقتل رميا بالحجارة. هذا ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في أن السحاق لم يشرع فيه إلا التعزير. وأما إتيان البهائم ففي رواية عن أحمد أنه كاللواط، عقوبته القتل، وهو قول مرجوح عند الشافعية. والصحيح أنّه ليس فيه إلا التعزير. صفة الجلد قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ قد تأوّله جماعة على أنّه نهي عن التخفيف في الجلد، وتأوله آخرون على أنه نهي عن ترك الحد وإسقاطه، ولا مانع عندنا من أن يكون اللفظ منتظما للمعنيين، أي لا ترأفوا بهما فتسقطوا الحد عنهما أو تخففوه، بل الواجب استيفاؤه كاملا غير منقوص وإذا ضم ذلك إلى ما يفهم من قوله تعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ أي اضربوا جلدها ضربا لا يتجاوز الألم فيه الجلد إلى اللحم كان المطلوب بمجموع اللفظين أن يكون الجلد على حد الاعتدال. روى عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي قال: أتي عمر بسوط فيه شدة، فقال: أريد ألين من هذا، فأتي بسوط فيه لين، فقال: أريد أشدّ من هذا، فأتي بسوط بين السوطين فقال: اضرب ولا يرى إبطك، وأعط كل عضو حقه، وروي مثل ذلك عن ابن مسعود وعلي وأنس بن مالك رضي الله عنهم. واتفق العلماء جميعا على أنّ الضارب يتقي الوجه والفرج. وروي عن علي كرّم الله وجهه استثناء الرأس أيضا، وبه قال أبو حنيفة ومحمد. وينبغي أن ينزع عن المحدود ما يمنع من الثياب أن يصل إليه ألم الضرب، كالحشو والفراء، لأنّ الضرب فوق الحشو والفرو لا يسمّى ضربا في العادة، ألا ترى أنّه لو حلف أن يضرب فلانا فضربه وعليه حشو أو فرو فلم يصل إليه الألم أنه لا يكون ضاربا ولم يبر في يمينه، ولو وصل إليه الألم كان ضاربا. تحريم الشفاعة في الحدود قلنا إن قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ معناها النهي عن تخفيف الحد وإسقاطه، فيكون في ذلك دليل على أنّه لا تجوز الشفاعة في إسقاط حد الزنى، لأنّ فيه تعطيلا لحدود الله أن تقام، وليس ذلك لخصوصية في الزنى، بل مثله سائر الحدود تحرم الشفاعة فيها، فقد صحّ أنه عليه الصلاة والسلام أنكر على حبّه

حضور الحد

أسامة بن زيد حين شفع في فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد المخزومية، وكانت سرقت قطيفة أو حليا، فقال له: «أتشفع في حد من حدود الله تعالى» ثم قام فاختطب فقال: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» أخرجه الخمسة «1» . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله تعالى فقد ضادّ الله عزّ وجلّ» أخرجه أبو داود «2» . وكما تحرم الشفاعة في الحدود يحرم على الإمام قبول الشفاعة فيها، فعن الزبير بن العوام رضي الله عنه أنه لقي رجلا قد أخذ سارقا يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله، فقال: لا حتى أبلغ به إلى السلطان، فقال الزبير: إنما الشفاعة قبل أن يبلغ السلطان، فإذا أبلغ السلطان لعن الشافع والمشفع. أخرجه مالك «3» وفي رواية أنّه قال: إذا بلغ الحد إلى الإمام فلا عفا الله عنه إن عفا. وأما قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فالغرض منه التهييج والإلهاب والحث على الامتثال كما يقال للرجل: إن كنت رجلا فافعل كذا، ولا شكّ في أنه رجل، كذلك المخاطبون لا شك في أنّهم مؤمنون، لكن قصد تهييجهم، وتحريك حميتهم، ليجدّوا في طاعة الله تعالى، ويجتهدوا في إجراء أحكامه على وجهها، وفي ذكر اليوم الآخر تذكير لهم بما فيه من العقاب ليستأصلوا عاطفة اللين في استيفاء حدود الله تعالى، وفي الحديث: «يؤتى بوال نقص من الحد سوطا فيقال له، لم فعلت ذاك؟ فيقول: يا رب رحمة بعبادك، فيقول له: أنت أرحم بهم مني، فيؤمر به في النار» . حضور الحد ظاهر الأمر في قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يقتضي وجوب الحضور على طائفة من المؤمنين، لكنّ الفقهاء أجمعوا على أنّ حضور الجمع

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1415) ، 29- كتاب الحدود، 2- باب قطع السارق، حديث رقم (1688) ، والبخاري في الصحيح (2/ 21) ، 86- كتاب الحدود، 13- باب كراهية الشفاعة حديث رقم (6788) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 29) ، كتاب الحدود، باب كراهية أن يشفع في الحدود حديث رقم (1430) ، والنسائي في السنن (7- 8/ 439) ، كتاب قطع السرقة، باب ذكر المخزومية حديث رقم (4895) ، وابن ماجه في السنن (2/ 851) ، 20- كتاب الحدود، 6- باب الشفاعة حديث رقم (2547) . (2) رواه أبو داود في السنن كتاب الأقضية، باب فيمن يعين حديث رقم (3597) . (3) رواه مالك في الموطأ كتاب الحدود، باب ترك الشفاعة حديث رقم (834) .

الكلام في نكاح الزناة والمشركين

مستحبّ لا واجب، والمقصود من حضورهم إعلان إقامة الحد للتنكيل وللعبرة والموعظة. واختلف العلماء في هذه الطائفة: فعن مجاهد والنخعي وأحمد: هي في الآية واحد. وقال عطاء وعكرمة وإسحاق: اثنان فصاعدا، وهو القول المشهور لمالك وقال قتادة والزهري: ثلاثة فصاعدا، وعن الشافعي وزيد أربعة بعدد شهود الزنى، وقال الحسن: عشرة، وعن ابن عباس الطائفة: الرجل فما فوقه إلى أربعين رجلا من المصدقين بالله، وأولى الأقوال بالصواب أنّ المراد بالطائفة هنا جماعة يحصل بهم التشهير والزجر، وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الأماكن والأشخاص. وفي قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما.. دليل على أنّ هذا الحد عقوبة لا استصلاح من قبل أنّه سماه عذابا، ولو كان الغرض منه الاستصلاح لكان الأولى به أن يسمّى تأديبا، ويمكن أن يراد من العذاب ما يمنع من المعاودة كالنكال، فيصح أن يكون الغرض منه الاستصلاح. الكلام في نكاح الزناة والمشركين قال الله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) الظاهر أنّ المراد من النكاح هنا العقد، لأنّ أكثر استعماله في لسان الشرع بمعنى العقد، بل قال الزجّاج وغيره: إنه لم يرد في كتاب الله إلا بهذا المعنى. وظاهر أيضا أن كلّا من الجملتين خبر، وأنّ معناهما أنّ الزاني لا يتزوج إلا زانية أو مشركة، وأن الزانية لا يتزوجها إلا زان أو مشرك، ولو أجرينا هذين الخبرين على ظاهرهما كانا غير مطابقين للواقع، فإنّا نرى الزاني قد يتزوج المؤمنة العفيفة، والزانية قد يتزوجها المؤمن العفيف. فكان إجراء الجملتين على ظاهر هما مشكلا، وللعلماء في حلّ هذا الإشكال تأويلات منها القوي، ومنها الضعيف، وسنذكرها مرتبة على حسب ترتيبها في القوة فيما نرى. 1- إن الكلام نهي جيء به في صورة الخبر للمبالغة، ويؤيده قراءة عمر بن عبيد لا يَنْكِحُ بالجزم، ويكون التحريم على ظاهره، والإشارة إلى النكاح المفهوم من الفعل، وكان الحكم كذلك في صدر الإسلام، ثم نسخ. قال سعيد بن المسيب: كان الحكم عاما في الزناة ألا يتزوج أحدهم إلا زانية، ثم جاءت الرخصة، ونسخ ذلك بقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ والزانية من أيامى

المسلمين، وبهذا القول قال مجاهد والشافعي والجبّائي وغيرهم. وعلى هذا الرأي اعتراضان: أحدهما: أنّ العام لا ينسخ الخاصّ، لا سيما على أصل الشافعي، فإنّ ما تناوله الخاص متيقّن، وما تناوله العام مظنون، فالعام المتأخر محمول على الخاص. والثاني: أنّه يلزم عليه حلّ نكاح المسلم للمشركة الوثنية، وحلّ نكاح المشرك للمسلمة، فإنّ الجملة الأولى وردت على سبيل الحصر، فتنحل إلى جملتين: أولاهما: تفيد أنّه يحرم على الزاني أن يتزوج المؤمنة العفيفة. وثانيتهما: تفيد أنّه يباح له أن يتزوج الزانية، والمشركة وثنية أو من أهل الكتاب. وكذلك الجملة الثانية تنحل إلى جملتين. أولاهما: تفيد أنّ الزانية لا يتزوجها المؤمن العفيف. وثانيتهما: تفيد أنّ الزانية يحل لها أن تتزوج الزاني والمشرك. ولأصحاب هذا التأويل أن يقولوا في دفع الاعتراض الأول: إنّ العام الذي اعتبرناه ناسخا قد انضمّ إليه من الآيات والأحاديث والإجماع ما صيّر دلالته على تناوله متيقنا، كدلالة الخاص على ما تناوله، قال الله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحرام لا يحرّم الحلال» وأجمع فقهاء الأمصار على جواز أن يتزوج الزاني بالعفيفة، وأن تتزوج الزانية بالعفيف. ولهم أيضا في دفع الاعتراض الثاني أن يلتزموا القول بأنّ نكاح المسلم للوثينة كان حلالا في صدر الإسلام، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: 221] وأن نكاح الكافر كان كذلك حلالا قبل الهجرة وبعدها إلى السنة السادسة سنة صلح الحديبية، وبعد غزوة الحديبية «1» نزلت آية التحريم: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة: 10] ولا مانع أن تكون الآية التي معنا نزلت قبل السنة السادسة، ففي هذه السورة آيات نزلت قبل هذه السنة، وهي آيات قصّة الإفك: بل فيما روى ابن أبي شيبة عن ابن جبير ما يفيد أنّ هذه الآية التي معنا مكيّة، وحينئذ يكون النسخ قد تناول الحكمين في الآية جميعا. 2- إنّ هذه الآية وردت في تقبيح حال الزاني ببيان أنه بعد أن رضي بالزنى لا يليق به أن ينكح العفيفة المؤمنة، وإنما يليق به أن ينكح زانية مثله، أو مشركة أسوأ

_ (1) انظر ما رواه البخاري في الصحيح (5/ 80) ، 64- كتاب المغازي، 36- باب غزوة الحديبية حديث رقم (4180) .

حالا منه. وكذلك الزانية بعد أن رضيت بالزنى لا يليق بها أن ينكحها مؤمن عفيف، وإنما يليق بها أن ينكحها زان مثلها، أو مشرك أسوأ حالا منها، فجملة: لا يَنْكِحُ في الموضعين خبر مراد به لا يليق به أن ينكح كما تقول: الشيخ لا يصبو، والسلطان لا يكذب، والأب لا يقتل ابنه، أي لا يليق بهم أن يفعلوا ذلك، نزّل فيه عدم لياقة الفعل منزلة عدم الفعل، وهو كثير في الكلام. ثم الإشارة في قوله تعالى: وَحُرِّمَ ذلِكَ إن كان الزنى المفهوم من قوله: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلخ فالتحريم على ظاهره، وإن كانت الإشارة للنكاح المفهوم من الفعل فالمراد من التحريم معناه اللغوي، وهو المنع، مثله في قوله تعالى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) [الأنبياء: 95] . وعلى هذا التأويل اعتراضان: أولهما: أنه لا يتمشى مع سبب النزول فإنها نزلت: إما في مرثد بن أبي مرثد حين سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن نكاح عناق، وكانت من بغايا مكة، فلم يرد عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شيئا حتى نزل: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الآية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا مرثد لا تنكحها» . وإما في جماعة من فقراء المهاجرين استأذنوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في التزوج ببغايا من الكتابيات والإماء، كنّ بالمدينة، فأنزل الله فيهم هذه الآية، وسواء أكان سبب النزول هو الأول أم الثاني، فإنّ الظاهر من سياقه أنّ الآية وردت لتحريم العفيفة على الزاني والزانية على العفيف. وثاني الاعتراضين أنّ الآية على هذا التأويل تفيد أنه يليق بالزاني المؤمن أن يتزوّج بوثنية، ويليق بالزانية المؤمنة أن يتزوجها مشرك. ولأصحاب هذا التأويل أن يقولوا في دفع الاعتراض الأول: الآية على هذا المعنى لا تنافي سبب النزول، فإنّه لا مانع أن يكون قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لمرثد: «لا تنكحها» معناه: لا يليق بك أن تتزوجها بعد أن علمت أنّ الله جعل من صفات المؤمن العفيف أنه لا يليق به من حيث هو مؤمن عفيف أن يرضى بنكاح الزانية، ولا مانع أيضا أن يكون فقراء المهاجرين كفّوا عن نكاح البغايا لهذا المعنى. وأن يقولوا في دفع الاعتراض الثاني: إن اللياقة إنما هي بالنظر إلى الزنى، فلا ينافي أنه لا عتبارات أخرى يحرم على المسلم أن يتزوّج المشركة الوثنية، ويحرم على المسلمة أن تتزوج مشركا. 3- إبقاء الخبر على ظاهره وجعل الكلام مخرّجا مخرج الغالب المعتاد، جيء به لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنى. ومعناه أن الفاسق الخبيث الذي

من شأنه الزنى والفجور لا يرغب غالبا إلا في فاسقة خبيثة من شكله أو في مشركة. والزانية الخبيثة كذلك لا يرغب فيها في الأعم الأغلب إلا خبيث مثلها أو مشرك. ونظير هذا الكلام لا يفعل الخير إلا تقي، وقد يفعل الخير من ليس بتقي، فيكون جاريا مجرى الغالب. والإشارة في قوله تعالى: وَحُرِّمَ ذلِكَ إن كانت للزنى فالتحريم على ظاهره، وإن كانت للنكاح فالتحريم بمعنى التنزيه، أي ينبغي أن يتنزّه المؤمنون عن ذلك النكاح، وعبر عن التنزيه بالتحريم للتغليظ، فإنّ نكاح الزواني يتضمّن التشبّه بالفسّاق، والتعرّض للتهمة وسوء القالة، والطعن في النسب، إلى كثير من المفاسد. وعلى هذا التأويل اعتراضان: الأول: أن إطلاق الزاني والزانية على من شأنهما الزنى والفسق لا يخلو عن بعد، لأنهما فيما تقدم من قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا لم يكونا بهذا المعنى، والظّاهر اتحاد معنى اللفظ في الآيتين. والثاني: أنه ليس بمسلّم أن الغالب في الزاني أنه لا يرغب في العفيفة، فإنّ كثيرا من الزناة يتحرّون في النكاح أكثر مما يتحرّى غيرهم. 4- إبقاء الخبر على ظاهره، وتأويل النكاح على معنى الوطء، ويكون المراد الإخبار بأنّ الزاني لا يطأ حين زناه إلا زانية أو أخس منها، وهي المشركة. والزانية لا يطؤها حين زناها إلا زان من المسلمين أو أخس منه، وهو المشرك. وحرم الله ذلك الزنى على المؤمنين. وهذا القول مروي عن ابن عباس وعروة بن الزبير وعكرمة، وهو قول أبي مسلم. وعلى هذا التأويل أيضا اعتراضان: الأول: أن فيه إجراء لفظ النكاح على غير المعهود في القرآن. والثاني: أن الزاني قد يزني بغير زانية، والعكس، فقد يعلم أحدهما أن هذا زنى، والآخر جاهل به يظن الحلّ، فيكون هذا الخبر غير مطابق للواقع، فإذا قالوا: إن الغالب في الزنى أن يكون معروفا للطرفين على أنه زنى. قلنا: إن الكلام يكون حينئذ من قبيل الإخبار بالواضحات، إذ المآل أن الزاني حين يزني بزانية لا يزني إلا بزانية، وهذا كلام خال عن الفائدة، وغاية ما تمحّلوا له أنهم قالوا: إن معنى الآية الإخبار عن اشتراكهما في الزنى، وأنّ المرأة كالرجل في ذلك، فإذا كان الرجل زانيا فالمرأة مثله إذا طاوعته وإذا زنت المرأة فالرجل مثلها، ففائدة الخبر الحكم بمساواتهما في استحقاق الحد وعقاب الآخرة. 5- إنّ الخبر بمعنى النهي، والتحريم على حقيقته، والحكم مخصوص بسبب

النزول، فتكون الآية واردة في قوم مخصوصين بأعيانهم، وفي تعيينهم خلاف يرجع إلى الخلاف في سبب النزول. فعن ابن عباس وابن عمر أنّ جماعة من المسلمين كانوا في جاهليتهم يزنون ببغايا مشهورات متعالنات، فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنى، فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة، إذ كان من عاداتهن الإنفاق على من تزوّجهنّ فنزلت الآية فكفوا عن زواجهن «1» . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد رضي الله عنه، وكان رجلا يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، فكانت امرأة بغيّ بمكة، يقال لها: عناق، وكانت صديقة له، وكان وعد رجلا من أسرى مكة أن يحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، فجاءت عناق، فأبصرت سواد ظلي تحت الحائط، فلما انتهت إليّ عرفتني، فقالت: مرثد، قلت: مرثد، فقالت: مرحبا وأهلا، هلمّ فبت عندنا الليلة، فقلت: يا عناق قد حرم الله تعالى الزنى. قالت: يا أهل الخيام، هذا الرجل الذي يحمل أسراكم. قال: فتبعني ثمانية، فانتهيت إلى غار فجاؤوا حتى قاموا على رأسي، وبالوا، فظلّ بولهم على رأسي، وأعماهم الله تعالى عني. قال: ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي، فحملته حتى قدمت المدينة، فأتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول الله! أنكح عناقا؟ فأمسك ولم يرد عليّ شيئا حتى نزل: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا مرثد لا تنكحها» أخرجه أصحاب السنن «2» . فالمراد بالزاني أحد أولئك القوم، أطلق عليه اسم الزنى الذي كان يفعله في الجاهلية للتوبيخ، فهو مجاز باعتبار ما كان، والمراد بالزانية إحدى هؤلاء البغايا، وهذا التأويل معترض من وجوه: أولا: جعل سبب النزول حكما على العام، والمعتمد أنّ سبب النزول لا يخصّص. ثانيا: أنه يبعد أن يعبّر في أحكام القرآن الكريم بلفظ عام ثم يراد منه قوم مخصوصون ينتهي الحكم بوفاتهم.

_ (1) انظر ما رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (5/ 19) . (2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 307) ، كتاب التفسير، حديث رقم (3177) ، وأبو داود في السنن (2/ 180) ، كتاب النكاح، باب قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً حديث رقم (1- 20) ، والنسائي في السنن (5- 6/ 374) ، كتاب النكاح، باب تزويج الزانية حديث رقم (3228) .

ثالثا: أنه يبعد كل البعد أن يصف الله بالزنى أحد أولئك القوم وهم مهاجرون قد أسلموا وحسن إسلامهم، ومحا الله عنهم كل أوضار الشرك وآثاره. رابعا: عدم التوافق بين معنى الزاني والزانية هنا، ومعناها في الآية السابقة: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا إلخ وقد قلنا: إنّ الأولى اتحاد المعنى في كلّ من الآيتين. ولعلّك تفهم من صنيعنا في ترتيب هذه التأويلات أنّ أقواها وأولاها بالصواب فيما نرى الأول والثاني. وبعد ... فإنا ذاكرون لك هنا خلاف السلف في تزويج الزانية، فعليّ وعائشة والبراء وابن مسعود في إحدى الروايتين عنه أنّ من زنى بامرأة أو زنى بها غيره لا يحل له أن يتزوجها. وعن علي إذا زنى الرجل فرق بينه وبين امرأته، وكذلك هي إذا زنت. وعن الحسن أنّ المحدودة في الزنى لا يتزوجها إلا محدود مثلها. وأبو بكر، وعمر، وابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود في الرواية الأخرى عنه، ومجاهد، وسليمان بن يسار، وسعيد بن جبير في آخرين من التابعين، وفقهاء الأمصار جميعا: على جواز نكاح الزانية، وأنّ الزاني لا يوجب تحريمها على الزوج، ولا يوجب الفرقة بينهما. ويؤيد هذا الرأي ما أخرجه الطبراني والدارقطني «1» من حديث عائشة قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن رجل زنى بامرأة، وأراد أن يتزوجها فقال: «أوله سفاح وآخره نكاح، والحرام لا يحرّم الحلال» . وما رواه أبو داود والنسائي «2» وغيرهما عن ابن عباس أنّ رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن امرأتي لا تمنع يد لا مس» . قال صلّى الله عليه وسلّم: «غربها» قال: أخاف أن تتبعها نفسي قال: «فاستمتع بها» وإسناده إسناد صحيح. قال أبو سليمان الخطابي إمام هذا الفن في «معالم السنن» قوله: «لا تمنع يد لامس» معناه الزانية، وأنها مطاوعة من أرادها، لا ترد يده، قال: وقوله: «غرّبها» أي أبعدها بالطلاق، وأصل الغرب البعد، قال: وفيه دليل على جواز نكاح الفاجرة. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «فاستمتع بها» أي لا تمسكها إلا بقدر ما تقضي متعة النفس منها ومن وطرها، والاستمتاع بالشيء الانتفاع به إلى مدة، ومنه نكاح المتعة، ومنه قوله تعالى: إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ [غافر: 39] اه وهكذا فسره المحققون من الفقهاء

_ (1) انظر كنز العمال للمتقي الهندي، حديث رقم (47657) . [.....] (2) رواه أبو داود في السنن (2/ 179) ، كتاب النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد حديث رقم (2049) ، والنسائي (5- 6/ 375) ، كتاب النكاح، باب تزويج الزانية حديث رقم (3229) .

حد القذف

وأهل الحديث، فيكون فيه حجة على جواز نكاح الزانية، وعلى أنّ الزوجة إذا زنت لا ينفسخ نكاحها. وأما تأويل من تأوّله على أنها سخية تعطي، ولا ترد من يلتمس منها مالا، فهو تأويل بعيد عن الصواب، إذ لو أراد هذا لقال: لا ترد يد ملتمس، ولقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أحرز عنها مالك. وقد يقال: لماذا بدئ بالزاني هنا وبدئ بالزانية في الآية السابقة، وما السر في ذلك؟ والجواب: أنه بدئ بالزانية هناك لما علمت آنئذ وبدئ بالزاني هنا لأنّ هذه الآية مسوقة لذكر النكاح، والرجل فيه هو الأصل، لأنّ إبداء الرغبة والتماس النكاح بالخطبة إنما يكون من الرجل لا من المرأة في مجرى العرف والعادة. قد يظن من لا يدقق النظر أنّ معنى الجملتين: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ واحد، وأنّه لا فرق بينهما، ولكن هذا ظنّ خاطئ، لأنّ معنى الجملة الأولى أنّ الزاني لا يرغب إلا في زانية أو مشركة، ولو اقتصر على هذه الجملة لم يعرف حال الزانية، فجاءت الجملة الثانية مبينة أنه لا يرغب فيها إلا زان أو مشرك، فالجملة الأولى تصف الزاني بأنّه لا يرغب في العفيفات المؤمنات، وإنما يرغب في الفواجر أو المشركات، والجملة الثانية تصف الزانية بأنّها لا يرغب فيها الأعفاء المؤمنون، وإنما يرغب فيها الفجار أو المشركون، وهذان معنيان مختلفان، لأنّه لا يلزم عقلا من كون الزاني لا يرغب إلا في زانية أنّ الزانية كذلك لا يرغب فيها غير الزاني، فجاءت الجملة الثانية مبينة لهذا المعنى. حد القذف قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) أصل الرمي: القذف بشيء صلب، يقال: رمى فلانا بالحجر ونحوه: قذفه به، ورمى الحجر: ألقاه، واستعمال الرمي في الشتم مجاز، وهو المراد هنا، والقرينة قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ لأنّ الإتيان بالشهادة هنا في مصلحة الرامين، وليس من المعقول أن يكون من مصلحتهم الإتيان بأربعة يشهدون بأنهم رموا المحصنات بالحجر أو نحوه، فتعيّن أن يكون المراد أنّهم يشتمون المحصنات ويرمونهم بالعيب، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون على صدقهم فيما رموا به المحصنات من العيب. ثم المراد بذلك العيب الزنى، ويدلّ عليه إيراد الجملة عقيب الكلام في الزنى وأحكامه. والتعبير عن المفعول بالمحصنات، وأشهر معاني الكلمة العفيفات المنزّهات عن

الزنى، فكأنه قيل: يرمون المنزهات عن الزنى، ويكاد هذا يكون صريحا في أنّ المراد يرمونهم بالزنى، ثم اشتراط أربعة من الشهود مع العلم بأنه لا شيء يتوقف ثبوته على شهادة أربعة إلا الزنى يقوّي أنّ المراد الرمي بالزنى. وأصل الإحصان: المنع، والمحصن بالفتح يكون بمعنى الفاعل والمفعول، وهو أحد الكلمات الثلاث التي جاءت نوادر يقال: أحصن فهو محصن، وأسهب فهو مسهب، وأفلح- إذا افتقر- فهو مفلح، والفاعل والمفعول في هذه الأحرف الثلاثة سواء. والمفهومات التي يطلق عليها لفظ الإحصان أربعة: فالمرأة تكون محصنة: بالعفاف والإسلام، وبالحرية، وبالتزوج. وكذلك الرجل. والصور التي يتحقق بها القذف أربع: فقد يكون القاذف والمقذوف رجلين، وقد يكونان امرأتين، وقد يكون القاذف رجلا والمقذوف امرأة، وقد يكون القاذف امرأة والمقذوف رجلا. فهل نستطيع أن نأخذ من الآية أحكام الصور الأربع؟ لا شك أنّ الآية جعلت الرامي من جنس الرجال، والظاهر أنّ المراد من المحصنات النساء المحصنات، وحينئذ تكون الآية تعرّضت بالنص لصورة واحدة من الصور الأربع، وهي أن يكون القاذف رجلا والمقذوف امرأة. أما حكم الصور الثلاث الباقية فإنما يثبت بدلالة النص، للقطع بإلغاء الفارق، وهو صفة الأنوثة في المقذوف، وصفة الذكورة في القاذف، واستقلال دفع العار بالتأثير في شرع الحكم، وحينئذ يكون تخصيص الذكور في جانب القاذف، والإناث في جانب المقذوف لخصوص الحادثة. وقد أخرج البخاري «1» أنّ الآية نزلت في عويمر وامرأته، وعن سعيد بن جبير أنّها نزلت في قصة الإفك. ومن قال: إنّ المراد بالمحصنات في الآية الفروج المحصنات، أو الأنفس المحصنات، لم يخل قوله عن وهن وضعف. ولم تشرط الآية في القاذف أكثر من عجزه عن الإتيان بأربعة شهداء، لكنّ قواعد الشرع تقتضي بأنّ المخاطب بمثل هذا الحكم إنما هو أهل التكليف: البالغ العاقل المختار العالم بالتحريم حقيقة أو حكما الملتزم بالأحكام إلى آخر ما هو مبيّن في كتب الفروع. وكذلك لم تشرط في المقذوف أكثر من أن يكون محصنا، وقد كان يكفي في تحقق الشرط أن يكون المرمي محصنا بأي معنى من معاني الإحصان الأربعة، إلا أنه لما كان ثبوت الحد يجب فيه الاحتياط، فلا يثبت إلا عن يقين: وجب اعتبار سائر

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 3) ، 65- كتاب التفسير، 1- باب الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ حديث رقم (4745) .

المفهومات التي يطلق عليها لفظ الإحصان إلا ما أجمع على عدم اعتباره هنا، وهو كون المرمي زوجا أو زوجة. وأشهر معاني الإحصان: العفّة عن الزنى، فمن أجل ذلك كانت العفة عن الزنى، معتبرة في تحقق الإحصان هنا قطعا، لا نعلم في ذلك خلافا لأحد، فمن قذف شخصا غير عفيف لا يحدّ باتفاق. واشتراط العفة عن الزنى في تحقق الإحصان يستتبع اشتراط البلوغ والعقل في تحققه أيضا، إذ إن الصبي لا يقال فيه عفّ عن الزنى، وكذلك المجنون لا يقال فيه: عفّ عن الزنى، كما لا يقال للمجبوب: عفّ عن الزنى، وكما لا يقال للأعمى: عفّ عن النظر إلى المحرمات، إنما يقال عفّ عن الزنى لمن كان يتصوّر الزنى منه، ثم كفّ عنه، وذلك البالغ العاقل الفحل. ولا بد من اعتبار الحرية، لأنّها من معاني الإحصان- على ما علمت- والرقيق ليس بمحصن بهذا المعنى، وإذا كان محصنا من جهة أخرى، فغاية ما فيه أنّه محصن من وجه، وغير محصن من وجه، وذلك شبهة في إحصانه، فوجب درء الحد عن قاذفه. وكذلك لا بد من اعتبار الإسلام أيضا في تحقيق الإحصان، فالكافر ليس بمحصن بهذا المعنى، وإذا كان محصنا من جهة أخرى، فغايته أنه محصن من وجه وغير محصن من وجه، فيكون ذلك شبهة في إحصانه، فيجب درء الحد عن قاذفه. ولولا أنّ الإجماع قائم على عدم اعتبار الإحصان بمعنى التزوج لكان عدم التزوج شبهة في إحصان المقذوف، فلا يحد قاذفه. والحاصل أنّه يعتبر في تحقق إحصان المقذوف العفة عن الزنى، والحرية والإسلام، وأما البلوغ والعقل فإنّهما من لوازم العفة- كما علمت- وهذا الذي ذكرناه لك هو رأي الجمهور من العلماء وفقهاء الأمصار، وأصحّ الروايتين عن أحمد، ولبعض الفقهاء خلاف في شيء من ذلك: فداود الظاهري لا يشترط الحرية في المقذوف، ويرى أنّ قاذف العبد يحد، فإن كان يكتفي في الإحصان بالعفة لشهرته فيها لزمه القول بحد من قذف كافرا عفيفا. وروي عن ابن أبي ليلى أنّ من قذف ذميّة لها ولد مسلم يحدّ. قال بعضهم: وكذلك يحد قاذفها إذا كانت تحت مسلم. ذهبوا إلى ذلك دفعا للعار الذي يلحق ابنها أو زوجها المسلم. وعن أحمد في إحدى الروايتين القول بحدّ قاذف الصبي الذي يجامع مثله. وقال مالك في الصبية التي يجامع مثلها: يحدّ قاذفها، ألحق مالك وأحمد في هذه الرواية دور المراهقة بالبلوغ، ونظرهما في ذلك إلى أنّ المراهق يلحقه العار كما يلحق

البالغ، فوجب الحدّ لدفع العار. وكذلك يقول مالك والليث: يحدّ قاذف المجنون لدفع العار الذي يلحقه. والجمهور يمنعون لحوق العار للصبي والمجنون إذا نسبا إلى الزنى، ولو فرضنا لحوق العار فليس ذلك على الكمال، فيندرئ الحد عن قاذفهما، وليس معنى ذلك أنه لا عقوبة على قاذفهما، بل يجب على الإمام تعزيره للإيذاء. وقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ قد شرط في تحقق القذف المستوجب للعقوبة عجز القاذف عن الإتيان بأربعة يشهدون أنهم قد رأوا المقذوف يزني، والتاء في بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ في ظاهرها تفيد اعتبار كونهم من الرجال، والحكم كذلك، لأنّه لا مدخل لشهادة النساء في الحدود باتفاق. ولم يستفد من الآية في صفة هؤلاء الشهداء أكثر من أنهم أربعة رجال من أهل الشهادة. وللعلماء خلاف في أهل الشهادة من هو فالشافعية يقولون: لا بد في أهل الشهادة أن يكون عدلا، والحنفية يقولون: الفاسق من أهل الشهادة، فإذا شهد أربعة فسّاق فهم قذفة عند الشافعية يحدون كما يحد القاذف الأول، إذ لم يأت بأربعة من أهل الشهادة. والحنفية يقولون: لا حد عليه، لأنه أتى بأربعة من أهل الشهادة، إلا أنّ الشرع لم يعتبر شهادتهم لقصور في الفاسق، فثبتت بشهادتهم شبهة الزنى، فيسقط الحد عنهم وعن القاذف، وكذلك عن المقذوف لاعتبار العدالة في ثبوت الزنى. وظاهر العموم في الآية أنه يكفي أن يكون أحد الأربعة زوج المقذوفة، وبهذا الظاهر قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال مالك والشافعي: يلاعن الزوج، ويحدّ الثلاثة، وحجتهم في ذلك أنّ الشهادة بالزنى قذف، بدليل أنّ الشاهد يحدّ إذا لم يكمل النصاب، ولفظ الآية وإن كان عاما إلا أن آية اللعان جعلت للزوج حكما يخصه، وآية اللعان أخصّ من الآية التي معنا، والخاصّ مقدّم على العام. وظاهر الإطلاق في الآية أنّه إذا أتى بأربعة شهداء كيفما اتفق مجيئهم مجتمعين أو متفرقين فهو آت بمقتضى النص، واجتماعهم أمر زائد لا إشعار به في الآية، وبهذا الظاهر قال مالك والشافعي، وأيدا قولهما بالقياس على الشهادة في سائر الأحكام، بل تفريقهم أولى، لأنه أبعد عن التهمة والتواطؤ. وأيضا فليس من الممكن أن يشهدوا معا في وقت واحد، فلا بد أن يسمع القاضي شهادتهم واحدا بعد آخر، فكذلك إذا اجتمعوا عند بابه، ثم دخلوا عليه واحدا بعد آخر. وقال أبو حنيفة: إذا جاؤوا متفرقين لم يسقط الحد عن القاذف، وعليهم حد

القذف، وحجته في ذلك أن الشاهد الواحد لما شهد صار قاذفا ولم يأت بأربعة شهداء، فوجب عليه الحد، وخرج عن كونه شاهدا، ولا عبرة بتسميته شاهدا إذا فقد المسمى، فلا خلاص من هذا الإشكال إلا باشتراط الاجتماع. وظاهر الآية أيضا أنه إذا لم يأت القاذف بتمام العدة، بأن أتى باثنين أو ثلاثة منها جلد، ولم تتعرّض الآية لحكم الشهود إذا لم يكملوا النصاب، والمأثور أنّهم يحدون، فقد صحّ أنه رفع إلى عمر بن الخطاب حادثة شهد فيها على المغيرة بن شعبة بالزنى: شبل بن معبد وأبو بكرة وأخوه نافع وكان رابعهم زيادا، فلم يجزم بالشهادة بحقيقة الزنى، فحد الثلاثة عمر بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينكروا عليه. وقوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً المخاطب فيه هم أولياء الأمر من الحكام. وقد سبق الكلام آنفا فيمن يلي الحدّ في تفسير قوله تعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وظاهر العموم في اسم الموصول في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ إلخ أنّ الزوج وغيره في هذا الحكم سواء، وأن الزوج إذا قذف زوجته، وعجز عن البينة فعليه الحد. لكن آية اللعان قد جعلت للزوج مخرجا إذا هو عجز عن البينة، فشرعت له اللعان كما يأتي، فتكون آية اللعان مخصّصة للعموم في الموصول هنا، وظاهر العموم أيضا أنّ الرقيق والحر في ذلك الحكم سواء، وأنّ كلا منهما يجلد ثمانين جلدة إذا وقع القذف منه بشرطه، وبهذا الظاهر قال ابن مسعود والأوزاعي، وهو أيضا مذهب الشيعة. لكنّ فقهاء الأمصار مجمعون على أنّ حد الرقيق في القذف أربعون جلدة على النصف من حد الحر، كما في الزنى، وعلى ذلك تكون الآية خاصة بالأحرار. وظاهر قوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ أنّ الإمام يقيم الحدّ ولو من غير طلب المقذوف، وبهذا قال ابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي: لا يحد إلا بمطالبة المقذوف. وقال مالك: إذا سمعه الإمام يقذف حده ولو لم يطلب المقذوف، إذا كان مع الإمام شهود عدول. ولا يخفى أنّ القول بتوقف استيفاء الحد على المطالبة ظاهر في أنّ الحد حق العبد، كما أنّ تنصيفه على الرقيق ظاهر في أنّه حق لله، ومما لا شكّ فيه أن في القذف تعديا على حقوق الله تعالى، وانتهاكا لحرمة المقذوف، فكان في شرع الحد صيانة لحق الله ولحق العبد. هذا المقدار لا خلاف فيه لأحد، إنما الخلاف بين الشافعية والحنفية في الذي يغلب من الحقين على الآخر. فالشافعية يغلّبون حق العبد باعتبار حاجته وغنى الله جلّ شأنه. والحنفية يغلبون حق الله تعالى، لأنّ ما للعبد من

الحقوق يتولى استيفاءه مولاه، فيصير حق العبد تابعا لحق الله تعالى، فإذا غلّبنا حق الله تعالى كان حقّ العبد مستوفى لا مهدرا، وليس العكس كذلك. فما لا تعارض فيه من الصور بين حقّ الله وحق العبد فأمره ظاهر، وكذلك ما اتفق فيه الفريقان على تغليب أحد الحقين. فمثال ما لا تعارض فيه أن يقذف الحرّ، ويعجز عن البينة، ويطلب المقذوف إقامة الحد عليه، فيستوفيه الإمام. ومن أمثلة ما اتفقا فيه على تغليب حق الله تعالى حدّ العبد إذا قذف، فلولا تغليب حق الله فيه ما تنصف، ومما اتفقا فيه على تغليب حق العبد أنه إذا لم يطلب المقذوف إقامة الحد فليس للإمام أن يستوفيه. أما ما تعارض فيه الحقان واختلف الشافعية والحنفية في حكمه فمن أمثلته أنه إذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد، فالحنفية يقولون بسقوطه تغليبا لحق الله تعالى، ولأنّه ليس مالا، ولا بمنزلة المال، بل هو حق محض كخيار الشرط وحق الشفعة. وقال الشافعية: لا يسقط الحد بموت المقذوف، بل يقوم ورثته مقامه في المطالبة به، ويرثونه عنه تغليبا لحق العبد. ومنها: أنّه إذا قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة فالحنفية يقولون بتداخل الحد، وعليه للجميع حدّ واحد تغليبا لحق الله تعالى، كمن زنى مرارا أو سرق أو شرب الخمر كذلك، وقال الشافعية: لا يتداخل الحد، فعليه لكل منهم حد تغليبا لحق العباد. ومنها: إذا عفا المقذوف عن الحد، فإنه يصحّ العفو عند الشافعية، ويسقط الحد تغليبا لحق العبد. وقال الحنفية: لا يسقط الحد بعفو المقذوف بعد طلبه إقامته. فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ هذه ثلاث عقوبات ترتبت على القذف بشرطه، وليس في الآية ما يدلّ على أن بعض هذه العقوبات مرتب على بعض، لأنّ العطف فيها بالواو. بل غاية ما أفادته الآية أنّ المجموع مرتب على القذف بشرط، فكأنه قيل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجمعوا لهم هذه العقوبات الثلاث: جلدهم ثمانين جلدة، ورد شهادتهم، وتفسيقهم. فظاهر الآية أنه متى قذف وعجز عن البينة استحق العقوبات الثلاث، ولا يتوقف رد شهادته على جلده. وبهذا الظاهر قال الشافعي والليث. وقال أبو حنيفة ومالك: لا ترد شهادته إلا بعد جلده، فما لم يجلد يكون مقبول الشهادة، وحجتهما في ذلك أنّ الواو، وإن لم تقتض الترتيب، لكنّ الظاهر من الترتيب في الذكر أنه على وفق الترتيب في الحكم، وأنّ الأصل قبول شهادته ما لم يطرأ مانع، وأنّ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون

عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف» «1» صريح في شهادة القاذف لا ترد إلا بعد حده. والخطاب في قوله تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً لأولياء الأمر من الحكام، لأنّه على نسق الخطاب في قوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً والمراد بالشهادة الإخبار بحق للغير على الغير أمام الحاكم، ولفظ (شهادة) نكرة واقعة في سياق النهي، فيكون عاما، وظاهر العموم فيه يقتضي أنّ شهادة القاذف مردودة سواء أكانت واقعة منه قبل القذف أم بعد القذف، وكذلك شهادة من قذف وهو كافر، ثم أسلم. ومن قذف وهو عبد، ثم أعتق: كل هؤلاء لا تقبل شهادتهم بمقتضى العموم في اللفظ. إلا أنّ الحنفية استثنوا الكافر إذا حدّ في القذف ثم أسلم، فإنّ شهادته بعد إسلامه تكون مقبولة. نظروا في ذلك إلى أن الكافر الذي أسلم قد استفاد بالإسلام عدالة لم تكن موجودة من قبل، فلم تدخل تحت الرد، والذي دخل تحت الرد إنما هو شهادته التي كان أهلا لها عند القذف، وهي شهادته على أهل دينه. واختلف العلماء في ردّ شهادة القاذف: أهو من تمام الحد أم ذلك عقوبة زائدة على الحد؟ فذهب الحنفية «2» إلى أن ردّ شهادته من تمام حده، ويشهد لهم ظاهر الآية، فقد رتّبت على القذف بشرطه عقوبتين، وأوجبت على الإمام استيفاءهما من القاذف، فكأنّ الظاهر أن مجموعهما حد القذف، ألا ترى أن الشافعية قد فهموا من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «البكر بالبكر جلد مئة وتغريب سنة» أنّ مجموع الجلد والتغريب حد الزاني البكر. وقال مالك والشافعي: الحد هو جلد ثمانين فقط، وأما رد الشهادة فهو عقوبة زائدة على الحد، وحجتهم في ذلك أنّ المعروف في الحدود أنها عقوبات بدنية، ورد الشهادة عقوبة معنوية، والحدود التي شرعت لحفظ الأرواح والدين والعرض والعقل والمال كلها عقوبات بدنية محسوسة، وحد القذف شرع لصيانة العرض، فكان إلحاقه بالأعم الأغلب أولى. وأيضا فقوله صلّى الله عليه وسلّم لهلال بن أمية: «البينة أو حدّ في ظهرك» يدلّ على أنّ الجلد هو تمام الحد، إذ لو كان رد الشهادة من تمام الحد لما صحّ بأن يقول: «أو حد في ظهرك» لأن رد الشهادة لا يكون في ظهره، بل ولا في سائر جسمه، واتفاق الصحابة على أنّ حد السكران ثمانون جلدة، وعلى أنّه مثل حد المفتري يدل على أن حدّ المفتري هو الجلد فقط، إذ لو كان ردّ الشهادة من الحد في القذف لكان من الحد في السكر، ولوجب رد شهادة من سكر، ولم يقل بذلك أحد.

_ (1) انظر أحكام القرآن للإمام أبي بكر الجصاص (3/ 280) . (2) انظر الهداية شرح بداية المبتدي (1/ 405) .

وقد عرّفوا الحد بأنه فعل يلزم الإمام إقامته، وليس الردّ فعلا يلزم الإمام إقامته، لأنه عمل سلبي. ويترتب على هذا الخلاف أنّ من قال بأنّ ردّ الشهادة من تمام الحد يلزمه القول بأنّ الحاكم لا يرد شهادة القاذف إلا بطلب المقذوف، فما لم يطلب المقذوف رد شهادة قاذفه لا ينبغي للحاكم أن يردها، إذ كانت من الحد، والحد لا يستوفيه الحاكم إلا بطلب المقذوف، فهل مذهب الحنفية كذلك؟ ومن قال بأن رد الشهادة ليس من الحد لا يرى رد الشهادة موقوفا على طلب المقذوف. وقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ معناه على ما قال بعضهم الإخبار بأنّهم عند الله وفي حكمه فاسقون خارجون عن طاعته، سواء أكانوا كاذبين في قذفهم- وذلك ظاهر- أم كانوا صادقين فيه. فإنّهم هتكوا عرض المؤمن، وأوقعوا السامع في الشك والريبة من غير مصلحة دينية. فكانوا فسقة لذلك. ويؤخذ من ذلك أنّ القذف مع العجز عن البينة معصية عظيمة، سواء أكان القاذف كاذبا أم صادقا. واختار الزمخشري «1» أنّ الجملة إنشائية في المعنى وإن كانت خبرية في اللفظ، فمعنى وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فسّقوهم. ولعل مراده اعتبروهم فسقة، واحكموا بفسقهم، وعاملوهم معاملة الفساق لأنّ الله أخبر بأنهم فاسقون. والأمر قريب. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) قال الشافعي: توبة القاذف إكذابه نفسه، وفسّره الإصطخري من أصحاب الشافعي بأن يقول كذبت فيما قلت فلا أعود إلى مثله، وقال أبو إسحاق المروزي «2» من أصحاب الشافعي: لا يقول كذبت، لأنه ربما يكون صادقا، فيكون قوله كذبت كذبا، والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل، وندمت على ما قلت، ورجعت عنه ولا أعود إليه. وقال بعض العلماء: توبة القاذف كتوبة غيره، أمر بينه وبين ربه، ومرجعها إلى الندم على ما قال، والعزم على ألا يعود. والسر في أنّ الشافعي أدخل في معنى التوبة التلفظ باللسان، مع أن التوبة من عمل القلب، أنه يرتب عليها حكما شرعيا، وهو قبول شهادة المحدود إذا تاب، فلا بدّ أن يعلم الحاكم توبته حتى يقبل شهادته. والحنفية لا يقبلون شهادة المحدود في قذف وإن تاب وأصلح، لذلك كانت

_ (1) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، (3/ 214) . (2) إبراهيم بن أحمد المروزي، فقيه انتهت إليه رياسة الشافعية بالعراق ولد بمرو، وأقام ببغداد وتوفي بمصر، انظر الأعلام للزركلي (1/ 28) .

التوبة عندهم عملا قلبيا بين العبد وربه، ليس من الضروري اطلاعنا عليه، لأنّه ليس هناك حكم عملي يترتب على هذه التوبة، ومنشأ الخلاف في ذلك خلافهم في الاستثناء في الآية وإلام يرجع. ومسألة رجوع الاستثناء بعد الجمل المتعاطفة بالواو مسألة أصولية ذكر الأصوليون الخلاف فيها بين العلماء. والمشهور عند الأصوليين أنّ أصحاب الشافعي يقولون برجوعه إلى جميع الجمل، وأنّ أصحاب أبي حنيفة يقولون برجوعه إلى الجملة الأخيرة، وجماعة من المعتزلة يقولون بالتفصيل، وآخرون يقولون بالاشتراك، وآخرون يقولون بالوقف، وليس هذا محل ذكر الحجج للمختلفين. والذي ينبغي ذكره هنا أنّ الخلاف بين الشافعية والحنفية إنما هو في الكلام إذا خلا عن دليل يدل على أحد الرأيين، أما إذا كان في الكلام دليل على أحد الرأيين فإنّه يجب المصير إليه بلا خلاف. فقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء: 92] قد اشتمل على قرينة تعيّن أنّ الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة وحدها. وتلك القرينة هي امتناع عود الاستثناء إلى تحرير الرقبة، لأنّه حقّ الله تعالى، وتصدق الولي لا يكون مسقطا لحق الله تعالى. وكذلك قوله تعالى في المحاربين: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا [المائدة: 33] إلى قوله سبحانه وتعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة: 34] فيه دليل على رجوع الاستثناء إلى الجمل كلها، فإنّ التقييد بقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ يمنع عود الاستثناء الأخيرة وحدها، أعني قوله سبحانه: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 114] إذ لو عاد إليها وحدها لم يبق لهذا القيد فائدة، إذ من المعلوم أنّ التوبة من الذنب تسقط العذاب الأخروي سواء أكانت قبل القدرة عليهم أم بعدها، فلم يكن للتقييد بقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فائدة إلا سقوط الحدّ. ونعود إلى الآية التي معنا قول الله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فيه ثلاث جمل متعاطفة بالواو، ومعقبة بالاستثناء، ولا خلاف بين الفريقين أنّ الاستثناء غير راجع إلى الجملة الأولى، أما على رأي الحنفية فظاهر، وأما على رأي الشافعية فلأنّ المحافظة على حقّ العبد قرينة على عدم رجوع الاستثناء إلى الجلد، فإنّ حق العبد لا يسقط بتوبة الجاني، فلم يبق إلا الجملتان الأخيرتان: رد الشهادة، والفسق، وإذ لا قرينة تعين أحد الأمرين فقد وقع الخلاف، ووجب التحاكم إلى الحجة والدليل، وأنت إذا رجعت إلى أدلة الفريقين- وهي كثيرة في كتب الأصول- فإنّك لا تجد فيها- على كثرتها- دليلا سلم من نقد.

وقد حاول بعض أجلاء الحنفية الانتصار لمذهبه فقال: إنّ في الآية قرينة تدل على أنّ الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة وحدها. وبيان ذلك أن قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ جملة مستأنفة بصيغة الإخبار، منقطعة عما قبلها، جيء بها لدفع ما عساه يخطر بالبال من أن القذف لا يصلح أن يكون سببا لهذه العقوبة، لأنّه خبر يحتمل الصدق، وربما يكون حسبة، فكان ذلك الاحتمال شبهة فيه، والشبهة تدرأ الحد، فكان قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ دفعا لذلك الوهم، ومعناه أنّهم- مع قيام هذا الاحتمال- قد فسقوا بهتك عرض المؤمن بلا فائدة، حيث عجزوا عن الإثبات، فمن أجل ذلك استحقوا هذه العقوبة، وإذا كانت الجملة الأخيرة مستأنفة توجّه الاستثناء إليها وحدها. وأنت خبير بأنّ مآل هذا التأويل أنّ العلة في هذه العقوبة فسقهم، وإذا كان الفسق الذي هو علة في ردّ الشهادة قد أثرت فيه التوبة فرفعته، ومحت أثره، فإنّه يلزم من ذلك أن يرتفع ردّ الشهادة الذي هو معلولة، وينمحي أثره، لضرورة زوال الحكم بزوال علته. وكذلك حاول بعض أجلّاء الشافعية الانتصار لمذهبه، فجعل جملة تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً مستأنفة منقطعة عن الجملة التي قبلها، لأنّها ليس من تتمة الحدّ لما علمت آنفا، ويكون قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ اعتراضا جاريا مجرى التعليل لعدم قبول الشهادة، غير منقطع عما قبله، ولهذا جاز توسطه بين المستثنى والمستثنى منه، ولا تعلّق للاستثناء به. ولكنك تعلم أنّ القول باستئناف جملة وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ إلخ بعيد كل البعد. ولعلّ الأولى في الاستثناء ما ذهب إليه الزمخشري «1» حيث قال: الذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط، والمعنى: ومن قذف فاجمعوا لهم بين الأجزية الثلاثة إلا الذين تابوا منهم، فيعودون غير مجلودين، ولا مردودي الشهادة، ولا مفسقين اهـ. أي لكن هذا الظاهر لم يعمل به في خصوص الجلد للإجماع على أنه لا يسقط بالتوبة لما فيه من حق العبد، فبقي الاستثناء في ظاهره عائدا إلى ردّ الشهادة والتفسيق. هذا وقد سبق أبا حنيفة إلى القول بعدم قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب كثير من علماء التابعين منهم الحسن، وابن سيرين، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير. وإلى ما ذهب إليه الشافعي من قبول شهادته إذا تاب ذهب أكثر التابعين وجميع فقهاء الأمصار غير الحنفية. وفي «صحيح البخاري» أنّ عمر رضي الله عنه جلد أبا

_ (1) انظر الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للإمام الزمخشري (2/ 214) .

اللعان

بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة بن شعبة. ثم استتابهم وقال: من تاب قبلت شهادته. وقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تعليل لما يفيده الاستثناء: أي إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم، ولا تفسّقوهم، لأنّ الله غفور رحيم، أو فلا تفسوقهم لأنّ الله غفور رحيم. اللعان قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) في «القاموس» : الشهادة: الخبر القاطع ... وأشهد بكذا أحلف اهـ وفي قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً [المجادلة: 16] بعد قوله جلّ شأنه: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ دليل على أنّ الشهادة ترد بمعنى اليمين، وقد أجرت العرب الشهادة: أفعال العلم واليقين مجرى اليمين وتلقتها بما يتلقى القسم، وأكدت بها الكلام كما يؤكد بالقسم. وقد شاع في لسان الشرع استعمال الشهادة بمعنى الإخبار بحقّ للغير على الغير، وتسمّى أيضا بينة. وقد ذكر مادة الشهادة في آيات اللعان خمس مرات: أما الأولى فالمراد بها البيّنة بلا خلاف وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أي وليس لهم بينة أربعة رجال عدول يشهدون بما رموهن به من الزنى. وأما الثانية فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ فأولى الأقوال بالصواب فيها أنّها بمعنى البينة أيضا، وأنّ المراد فبينته المشروعة في حقه أن يقول أربع مرات إلخ، ويكون الكلام على حد «ذكاة الجنين ذكاة أمه» أي الذكاة الشرعية التي تحلّ الجنين هي ذكاة أمه. فذكاة أمه ذكاة له، كذلك هنا، قول الزوج الكلمات الخمس بينة له على صدق ما يقول، وقائمة مقام أربعة رجال عدول يشهدون على صدقه. وأما الثلاثة الباقية «أربع شهادات بالله، أن تشهد أربع شهادات بالله» فهي محتملة لأن تكون بمعنى الإخبار عن علم، وبمعنى الحلف والقسم، لأنّ معنى «أربع شهادات بالله» أن يقول أربع مرات: أشهد بالله إلخ وقول القائل: أشهد بالله على كذا يحتمل أن يكون خبرا مؤكدا بالشهادة، كما يؤكّد بالقسم، ويحتمل أن يكون قسما مؤكدا بلفظ الشهادة، والعلماء مختلفون في المراد هنا بكلمات اللعان في قول أحد المتلاعنين: أشهد بالله إلخ، فمنهم من قال: هي شهادات غلبت عليها أحكام

سبب نزول آيات اللعان

الشهادات، ومنهم من قال: هي أيمان غلبت فيها أحكام الأيمان، وسيأتي بيان ثمرة الخلاف في ذلك. وظاهر قوله تعالى: إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أنه استثناء متصل. وقيل: إن (إلا) بمعنى (غير) ظهر إعرابها على ما بعدها بطريق العارية، فإنّ (إلا) و (غير) يتعاوران الاستثناء والوصفية، فتكون (غير) للاستثناء حملا على (إلا) وصفة حملا على (غير) ومن العلماء من جعل الاستثناء هنا منقطعا لظهور أن الزوج ليس من البينة التي كان يصحّ أن يستشهدها لو وجدها. وأولى الأقوال في هذا الاستثناء أنه متصل، وأن فيه تغليب الشهداء حتى شملوا الزوج القاذف، والسر في هذا التغليب الإشارة من أول الأمر إلى اعتبار قوله، وعدم إلغائه، ليوافق ما آل إليه اللعان في آخر الأمر من اعتبار قوله في سقوط الحد عنه بكلماته وحدها. واللعن: الطرد من رحمة الله والغضب: السخط، وهو أشد من اللعن، فلذلك أضيف الغضب إلى المرأة لما أنّ جريمتها وهي الزنى أشد من جريمة الرجل، وهي القذف. والدرء: الدفع، ومنه فَادَّارَأْتُمْ [البقرة: 72] : تدافعتم. والعذاب: كل مؤلم، والمراد به هنا حدّ الزنى أو التعزير بالحبس ونحوه، على اختلاف الرأيين كما ستعلم. سبب نزول آيات اللعان ذكر العلماء في سبب نزول هذه الآيات روايات فأخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس «1» رضي الله عنهما أنّ هلال بن أمية رضي الله عنه قذف امرأته عند النبي صلّى الله عليه وسلّم بشريك بن سحماء فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البينة أو حدّ في ظهرك» فقال: يا رسول الله! إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «البينة أو حدّ في ظهرك» فقال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله تعالى ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام، وأنزل عليه. وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ حتى بلغ إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فانصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأرسل إليهما، فجاء هلال فشهد، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الله يعلم أنّ أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟» ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا لها: إنّها موجبة. قال ابن عباس رضي الله عنهما فتلكأت ونكصت، وظننا أنها ترجع، ثم قالت: والله لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أبصروها. فإن

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 5) ، 65- كتاب التفسير، 3- باب (ويدرأ عنها العذاب) حديث رقم (4747) ، والترمذي في الجامع الصحيح (5/ 309) ، كتاب التفسير، تفسير سورة النور حديث رقم (3179) ، وأبو داود في السنن (2/ 253) ، كتاب الطلاق، باب في اللعان حديث رقم (2254) .

جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خدلج الساقين، فهو لشريك بن سحماء» فجاءت به كذلك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لولا ما مضى من كتاب الله تعالى لكان لي ولها شأن» . وقيل: إنها نزلت في عاصم بن عدي، وقيل: إنها نزلت في عويمر بن نصر العجلاني، وفي «صحيح البخاري» ما يشهد لهذا القول، بل قال السّهيلي: إنه هو الصحيح، ونسب غيره إلى الخطأ. ونحن ندع الخلاف في سبب النزول جانبا، والذي يهمنا من ذلك أن جميع الروايات متفقة على ثلاثة أمور: أولها: أن آيات اللعان نزلت بعد آية قذف المحصنات بتراخ، وأنها منفصلة عنها. والثاني: أنهم كانوا قبل نزول آيات اللعان يفهمون من قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية أنّ حكم من رمى الأجنبية وحكم من رمى زوجته سواء. والثالث: أنّ هذه الآية نزلت تخفيفا على الزوج، وبيانا للمخرج مما وقع فيه مضطرا. ونريد أن نبيّن علاقة آيات اللعان بآية القذف، فقواعد أصول الحنفية تقضي بأنّ آيات اللعان ناسخة للعموم في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ لتراخي نزولها عنها. وعلى ذلك يكون ثبوت الحد على من قذف زوجته منسوخا إلى بدل بيّنته آيات اللعان، وليس في هذه الآيات حكم يتعلق بقاذف زوجته أكثر من أنه يلاعن. وسائر الأئمة غير الحنفية يقولون: إن آيات اللعان جعلت قاذف زوجته إذا لم يأت بأربعة شهداء- مخيّرا بين أن يلاعن أو يقام عليه الحد، فتكون آيات اللعان مخصّصة لعموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ويكون نظم الآيتين هكذا: كلّ من قذف محصنة ولم يأت بأربعة شهداء. فموجب قذفه الحد لا غير، إلا من قذف زوجته، فموجب قذفه إياها الحد أو اللعان. ولعلّك تقول: لماذا كان حكم قاذف زوجته مخالفا لحكم قاذف الأجنبية، وما السرّ في أنه قد جاء هكذا مخففا؟ والجواب ببيان حكمة مشروعية اللعان، وذلك أنّه لا ضرر على الزوج في زنى الأجنبي، والأولى له ستره، وأما زنى زوجته فيلحق به العار وفساد النسب، فلا يمكنه الصبر عليه، ومن الصعب عليه جدا أن يجد البينة، فتكليفه إياها فيه من العسر والحرج ما لا يخفى. وأيضا فإنّ الغالب أنّ الرجل لا يرمي زوجته بالزنى إلا عن حقيقة، إذ ليس له الغرض في هتك حرمته، وإفساد فراشه، ونسبة أهله إلى الفجور، بل ذلك أبغض إليه، وأكره شيء لديه، فكان رميه إياها بالقذف دليل صدقه، إلا أنّ الشارع أراد كمال

شروط المتلاعنين

شهادة الحال بذكر كلمات اللعان المؤكّدة بالأيمان، فجعلها- منضمة إلى قوة جانب الزوج- قائمة مقام الشهود في قذف الأجنبي. شروط المتلاعنين شرط الحنفية في الزوج الذي يصحّ لعانه أن يكون أهلا لأداء الشهادة على المسلم، وفي الزوجة أن تكون كذلك أهلا لأداء الشهادة على المسلم، وأن تكون ممن يحد قاذفها، فلا لعان بين رقيقين، ولا بين كافرين، ولا بين المختلفين دينا، ولا بين المختلفين حرية ورقّا، أما كون الزوج من أهل الشهادة فلقوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فإنّ الاستثناء متصل في ظاهره، والمعروف في الاستثناء المتصل أنّ يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، فيكون الزوج شاهدا يعتبر فيه ما يعتبر في أهل الشهادة، وأيضا فكلمات اللعان من الزوج في ظاهرها شهادات مؤكدات بأيمان، فيجري على قائلها ما يجري على الشهود، وكذلك جعل الله كلمات الزوج الأربع بدلا من الشهود، وقائمة مقامهم عند عدمهم، فلا أقلّ من أن يشترط في قائلهن ما يشترط في أحد الشهود. وأما كون الزوجة من أهل الشهادة فلأن لعانها معارضة للعانه، فكما اشترطنا في الزوج أن يكون أهلا لأداء الشهادة على المسلم، كذل يشترط في الزوجة أن تكون أهلا لأداء الشهادة على المسلم، حتى يكون في لعانها قوة المعارضة للعانه. وأما كون الزوجة ممن يحد قاذفها فلأنّ اللعان كما علمت بدل عن الحد في قذف الأجنبية، فلا يكون لعان في قذف الزوجة إلا حيث يجب الحد على قاذفها لو كان أجنبيا. ويشهد للحنفية في اشتراطهم هذه الشروط أيضا ما رواه ابن عبد البرّ في «1» «التمهيد» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا لعان بين مملوكين ولا كافرين» . وما رواه الدارقطني «2» من حديثه أيضا عن أبيه عن جده مرفوعا «أربعة ليس بينهم لعان: ليس بين الحر والأمة لعان، ليس بين الحرة والعبد لعان، وليس بين المسلم واليهودية لعان، وليس بين المسلم والنصرانية لعان» وما رواه عبد الرزاق في «مصنفه» عن ابن شهاب قال: من وصية النبي صلّى الله عليه وسلّم لعتّاب بن أسيد أن لا لعان بين أربع ، فذكر معناه، وهذه الأحاديث الثلاثة وإن كان نقاد الحديث قد

_ (1) يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي، من كبار حفاظ الحديث، مؤرخ أديب، بحاثة، ولد بقرطبة، وتوفي بشاطبة سنة (463 هـ) انظر الأعلام للزركلي (8/ 240) . (2) انظر سنن الدارقطني (3/ 163) ، كتاب النكاح عن عبد الله بن عمرو.

تكلموا في كل واحد منها، فإنّ الحديث الضعيف إذا تعددت طرقه يحتجّ به لما عرف في موضعه. وهذا الذي ذهب إليه الحنفية قال به الأوزاعي والثوري وجماعة، وهو رواية عن أحمد رحمه الله. وذهب مالك والشافعي وأحمد في رواية أخرى إلى أنّ اللعان يصحّ من كلّ زوجين، سواء أكانا مسلمين أم كافرين، عدلين أم فاسقين، محدودين في قذف أم غير محدودين، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وربيعة وسليمان بن يسار. وحجتهم في ذلك عموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ قالوا: وقد سمّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللعان يمينا، فإنّه لما علم أن امرأة هلال بن أمية جاءت بولدها شبيها بشريك بن سحماء قال فيها: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» رواه أبو داود بإسناد لا بأس به «1» . يريد صلّى الله عليه وسلّم بالأيمان ما سبق من لعانها. فقد سمّى كلمات اللعان أيمانا، فلا يشترط في المتلاعنين إلا ما يشترط في أهل الأيمان. وقالوا أيضا: إنّ حاجة الزوج الذي تصحّ منه الشهادة إلى اللعان ونفي الولد كحاجة من تصحّ شهادته سواء، والأمر الذي نزل به مما يدعو إلى اللعان، كالذي ينزل بالعدل الحر، وليس من محاسن الشريعة أن ترفع ضرر أحد النوعين وتجعل له فرجا ومخرجا مما نزل به، وتدع النوع الآخر في الآصار والأغلال لا مخرج مما نزل به ولا فرج. وأما الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فقد علمت ما فيه من الاحتمالات. وكذلك علمت ما في حديث عمرو بن شعيب، فلم يبق إلا الكلام في ألفاظ اللعان: أهي شهادة أم يمين، فالحنفية وموافقوهم غلّبوا فيها جانب الشهادة، فشرطوا في المتلاعنين أهلية الشهادة. والشافعية وموافقوهم غلّبوا فيها معنى اليمين، فلم يشترطوا في المتلاعنين إلا أن يكونا ممن تصح أيمانهم. ظاهر قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية يقتضي أنّ الزوج إذا قذف امرأته بعد الطلاق أنه لا لعان بينهما، لأنها حينئذ ليست زوجة، وبهذا الظاهر قال عثمان البتي «2» . وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا وقع القذف في عدّة طلاق رجعي جرى بينهما اللعان، لأنّ المطلقة طلاقا رجعيا في حكم الزوجة ما دامت في العدة. وقال مالك

_ (1) انظر سنن أبي داود (2/ 253) ، كتاب الطلاق، باب اللعان حديث رقم (2254) . (2) عثمان البتي، فقيه البصرة، أبو عمرو، بيّاع البتوت (الأكسية الغليظة) اسم أبيه مسلم وقيل أسلم وقيل سليمان وأصله من الكوفة، انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (6/ 364) ترجمة (891) .

كيفية اللعان

رضي الله عنه: إن كان هناك نسب يريد أن ينفيه، أو حمل يتبرأ منه لا عن. وإذا لم يكن هناك حمل يرجى، ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة، فلم يحكم به، وكان قذفا مطلقا داخلا تحت قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية. كيفية اللعان كلمات اللعان هي على ما في كتاب الله تعالى: أن يقول الزوج أربع مرّات أشهد بالله إني لمن الصادقين، وفي المرّة الخامسة يقول: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. وشهادة الحال قرينة على تعيين متعلّق الصدق والكذب في قوله: لَمِنَ الصَّادِقِينَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي فيما رميتها به من الزنى ونفي الولد، وكذلك المرأة تقول في لعانها أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين، وفي المرة الخامسة تقول: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وتكتفي بدلالة الحالة عن ذكر متعلّق الصدق والكذب، هذه كلمات اللعان على ما حكاها الله سبحانه تراها قد اكتفي فيها بشهادة الحال عن بيان متعلّق الصدق والكذب. إلا أنّ بعض العلماء اشترط أن يذكر باللفظ متعلّق الصدق والكذب لقطع احتمال أن ينوي متعلقا آخر للصدق والكذب. وكذلك ظاهر الآية أنه لا يقبل من الرجل أقلّ من خمس مرات، ولا يقبل منه إبدال اللعنة بالغضب، وكذلك لا يقبل من المرأة أقل من خمس مرات ولا أن تبدل الغضب باللعنة. وظاهر الآية أيضا البداءة بالرجل في اللعان، وهو مذهب الجمهور من فقهاء الأمصار. وأبو حنيفة رحمه الله يعتدّ بلعانها إذا بدئ به. ومرجع الخلاف بين الإمام أبي حنيفة والجمهور من الفقهاء في هذا إلى أن الفقهاء يرون لعان الزوج موجبا للحد على الزوجة، ولعانها يسقط ذلك الحد، فكان من الطبيعي أن يكون لعانها متأخرا عن لعانه. وأبو حنيفة لا يرى لعان الزوج موجبا لشيء قبلها، فليس من الضروري أن يتأخر لعانها عن لعانه، وسيأتي لهذه المسألة مزيد تفصيل في الكلام على فائدة اللعان. هذه كيفية اللعان المأخوذة من القرآن، ويزاد عليها من السنة أنّه إذا كانت المرأة حاملا، وأراد الزوج أن ينفي ذلك الحمل وجب أن يذكره في لعانه، كأن يقول: وإنّ هذا الحمل ليس مني، هذا رأي الأئمة الثلاثة وجمهور الفقهاء. وقال أبو حنيفة: لا لعان لنفي الحمل، وإذا نفاه في لعانه لم ينتف، وسبيله إذا أراد نفيه أن ينتظر حتّى تضع حملها، فيلاعن لنفيه، لاحتمال أن يكون ما بها نفاخ وليس بحمل. وكذلك إذا كان هناك ولد يريد الزوج نفيه عنه وجب التعرّض لذلك في اللعان، وأخذ العلماء من أحاديث اللعان أيضا أنّه يندب أن يقام الرجل حتى يشهد، والمرأة

ما يترتب على اللعان

قاعدة، وتقام المرأة والرجل قاعد حتّى تشهد، وأن يعظها القاضي أو نائبه بمثل قوله لكل منهما عند الانتهاء إلى اللعنة والغضب: اتق الله، فإنّها موجبة، ولعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، كما يستحب التغليظ بالزمان والمكان، وحضور جمع من عدول المسلمين، على خلاف في ذلك بين الفقهاء، محلّه كتب الفروع. ما يترتب على اللعان ظاهر قوله تعالى: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ وقوله جلّ شأنه: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ أنّ اللعان من الزوج يسقط عنه حدّ القذف، ويوجب على الزوجة حدّ الزنى، وبيان ذلك من وجهين: الأول: أن قوله: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ إلخ معناه فالشهادة المشروعة في حقه التي تعمل عمل شهادة البينة إذا كان القاذف أجنبيا أن يأتي بكلمات اللعان على الوجه المبيّن في الآية، ومعلوم أنّ مقتضى شهادة البينة من الأجنبي وموجبها هو سقوط حد القذف عنه، ووجوب حد الزنى على المقذوف، وإذ قد أقام الله كلمات اللعان من الزوج مقام البينة من الأجنبي وجب أن يكون مقتضى كلمات اللعان وعملها هو شهادة الشهود الأربعة وعملها، فكما أسقطت الشهادة من الأجنبي حدّ القذف عنه، وأوجبت حد الزنى على المقذوف، كذلك كلمات اللعان من الزوج، تأخذ هذا المقتضى، وتعمل هذا العمل بعينه، فتسقط حد القذف عن الزوج، وتوجب حد الزنى على الزوجة. والوجه الثاني: أنّ كلمة العذاب في قوله تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ.. لا يصح أن يراد منها عذاب الآخرة، لأن الزوجة إن كانت كاذبة في لعانها لم يزدها اللعان إلا عذابا في الآخرة، وإن كانت صادقة فلا عذاب عليها في الآخرة حتى يدرأه اللعان، فتعيّن أن يراد به عذاب الدنيا، ولا يصحّ أن تكون اللام فيه للجنس، لأنّ لعانها لا يدرأ عنها جميع أنواع العذاب في الدنيا، فتعين أن تكون اللام للعهد، والمعهود هو المذكور في قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وهذا هو عذاب حد الزنى. ويشهد لذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم لخولة بنت قيس كما في بعض الروايات «الرجم أهون عليك من غضب الله» فقد فسر النبي صلّى الله عليه وسلّم العذاب المدروء عنها بالرجم. وأيضا فقوله صلّى الله عليه وسلّم على ما في الروايات الأخرى التي بلغت حدّ الشهرة أو التواتر لخولة عند ما أتمت كلمات اللعان الأربع «عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة» «1» يشهد بأن المراد بالعذاب الحد، إذ لو كان المراد به الحبس- وهي إنما تحبس لتلاعن- لما كان لتذكيرها بهذا القول من فائدة، فثبت من هذا أنّ لعان الزوج يسقط حد القذف عنه، ويوجب حد

_ (1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور (5/ 21) ، وابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (18/ 66- 67) .

الزنى عليها، وحينئذ يكون لعانها مسقطا للحد عنها، وبهذا قال الإمام مالك والشافعي والحجازيون، وخلائق من العلماء. وقال أبو حنيفة رحمه الله: آيات اللعان نسخت الحد عن قاذف زوجته فليس عليه حد في قذف زوجته فكيف يسقط لعانه حدا لم يثبت عليه وكذلك لا يوجب لعانه حدّ الزنى على الزوجة، لأن حد الزنى لا يثبت إلا بأربعة شهود أو بالإقرار أربع مرات، وليس لعان الرجل في قوة الشهود الأربعة، وليس نكولها بصريح في الإقرار. وعلى هذا الخلاف ينبني خلافهم في حكم الممتنع من اللعان من الزوجين فمالك والشافعي ومن وافقهما يقولون: الزوج الممتنع من اللعان يدخل في حكم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية، فإذا كانت زوجته ممن يحدّ قاذفها حدّ، وإلا عزر، لأنّ اللعان جعل رخصة له، فلما أبى أن يلاعن فقد أضاع على نفسه هذه الرخصة، فكان حكمه وحكم غير الزوج سواء. والزوجة الممتنعة عن اللعان بعد لعان زوجها يقام عليها حدّ الزنى، وهو مختلف بإحصانها ورقها وحريتها. والحنفية يقولون: إذا امتنع الزوج من اللعان حبس حتى يلاعن، لأن اللعان حق توجه عليه، وحكمه حكم سائر الحقوق التي لا يمكن استيفاؤها إلا بالقهر والتعزير، فللحاكم حبسه وتهديده حتى يلاعن أو يكذّب نفسه في القذف، فيقام عليه حده. ووافق الحنفية الإمام أحمد في حكم الزوجة الممتنعة في إحدى الروايتين عنه، وفي رواية أخرى عنه لا تحبس، ويخلى سبيلها كما لو لم تكمل البينة، وهذا قول غريب جدا، إذ كيف يخلّى سبيلها ويدرأ عنها العذاب بغير لعان، وهل هذا إلا مخالفة لظاهر القرآن. فأولى الأقوال بالصواب هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، ودل عليه ظاهر القرآن من أنّ لعان الزوج يسقط عنه حد القذف، ويوجب على الزوجة حدّ الزنى. وأنّ لعانها يدرأ عنها حد الزنى، ولم تتعرض آيات اللعان لأكثر من هذه النتائج. وأما نفي الولد، والفرقة بين المتلاعنين، والتحريم المؤبد بينهما، فإنّما مأخذها من السنة لا من القرآن الكريم. فنفي الولد مصرّح به في حادثة هلال بن أمية وغيرها، والروايات الدالة على أنه من نتائج اللعان كثيرة تكاد تبلغ حد الشهرة أو التواتر، وقد صرح العلماء بأنّ المقصود الأصلي من اللعان إنما هو نفي الولد. وكذلك الفرقة بين المتلاعنين ثبتت بالسنة الصحيحة، وللعلماء في موجبها خلاف. فقال الشافعي: إنها تقع بمجرد لعان الزوج وحده، وإن لم تلاعن المرأة، وحجته في ذلك أنّها فرقة حاصلة بالقول، فيستقل بها قول الزوج وحده كالطلاق، ولا تأثير للعان الزوجة إلا في دفع العذاب عن نفسها، كما قال تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ

تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ ففيه دلالة على أنّ كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج إلا درء العذاب عن الزوجة. وقال مالك وأحمد في إحدى الروايتين وأهل الظاهر: لا تقع الفرقة إلا بلعانهما جميعا، فإن تمّ لعانهما حصلت الفرقة، ولا يعتبر تفريق الحاكم. واحتجوا بأنّ الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين، ولا يكونان متلاعنين بلعان الزوج وحده، وأيضا لو وقعت الفرقة بلعان الزوج لا عنت المرأة وهي أجنبية، ولكنّه تعالى أوجب اللعان بين الزوجين. وقال أبو حنيفة وأحمد في روايته الأخرى: إنّ الفرقة لا تحصل إلا بتمام لعانهما، وتفريق الحاكم بينهما، والحجة في ذلك قول ابن عباس في حديثه، ففرق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهما، وهذا يقتضي أنّ الفرقة لم تحصل قبله، وقول عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، هي طالق ثلاثا، فقوله هذا يقتضي بقاء العصمة بعد اللعان، إذ لو وقعت الفرقة باللعان لكان كلامه لغوا، وتطليقه إياها عبثا، ولما أقره النبي صلّى الله عليه وسلّم على شيء من ذلك. وقال عثمان البتي وطائفة من فقهاء البصرة: لا يقع باللعان فرقة البتة، لأنّ أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقا في قذفه، وهذا لا يوجب تحريما، كما لو قامت البينة على زناها. وأما تفريق النبي صلّى الله عليه وسلّم بين المتلاعنين في قصة عويمر العجلاني فذلك لأنّ الزوج كان طلقها ثلاثا قبل اللعان. وأما التحريم المؤبد بينهما فقال به عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وجمع من الصحابة والتابعين، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف والثوري وأبو عبيد، والسنة الصحيحة صريحة في أنّ المتلاعنين لا يجتمعان أبدا. وقال أبو حنيفة ومحمد وسعيد بن المسيّب: إن أكذب الزوج نفسه فهو خاطب من الخطاب، وقد يحتجّ لهم بعموم قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] وقوله جلّ شأنه: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: 24] . والذي تقتضيه حكمة اللعان أن يكون التحريم مؤبدا، فإنّ لعنة الله وغضبه قد حلّ بأحدهما لا محالة، ولا نعلم عين من حلّ به ذلك منهما يقينا، فوجب التفريق بينهما خشية أن يكون الزوج هو الذي قد وجبت عليه لعنة الله، وباء بها، فيعلو امرأة غير ملعونة، وحكمة الشرع تأبى ذلك، كما تأبى أن يعلو الكافر المسلمة. وأيضا فإنّ النفرة الحاصلة من إساءة كل واحد منهما إلى صاحبه لا تزول أبدا، فإنّ الرجل إن كان صادقا عليها، فقد أشاع فاحشتها، وفضحها على رؤوس الأشهاد، وأقامها مقام الخزي والغضب، وإن كان كاذبا: فقد أضاف إلى ذلك أنّه بهتها، وزاد في غيظها وحسرتها. كذلك المرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد، وأوجبت عليه

لعنة الله، وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه، وخانته في نفسها، وألزمته العار والفضيحة، وأحوجته إلى هذا المقام المخزي، فحصل لكل واحد منهما من صاحبه من النفرة والإساءة والوحشة ما لا يكاد يلتئم معه شملهما، وما يبعد معه أن يعود بينهما السكن والمودة والرحمة التي هي سر الحياة الزوجية الهنية الراضية، فاقتضت حكمة الله- وشرعه كلّه حكمة ومصلحة وعدل ورحمة- تأبيد الفرقة بينهما، وقطع أسباب اتصالهما بعد أن تمحضت صحبتهما مفسدة، واستحال اجتماعهما إلى ضرر وشقاق. هذه أحكام مترتبة على قذف الرجل زوجته وحدها، فأما إذا قذف معها أجنبي فهذا موضع قد اختلفوا فيه، فقال أبو حنيفة ومالك: لكل منهما حكمه، فيلاعن للزوجة ويحدّ للأجنبي. وقال أحمد: يجب عليه حد واحد لهما، ويسقط هذا الحد بلعانه، سواء أذكر المقذوف في لعانه أم لم يذكره. وقال الشافعي: إن ذكر المقذوف في لعانه سقط الحد له، كما يسقط الحد للزوجة، وإن لم يذكره في لعانه حد له. والذين أسقطوا حكم قذف الأجنبي باللعان حجتهم ظاهرة، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم لم يحد هلال بن أمية لشريك بن سحماء، وقد سمّاه صريحا، وأيضا فإنّ الزوج مضطر إلى قذف الزاني لما أفسد عليه من فراشه، وربما يحتاج إلى ذكره ليستدل بشبه الولد له على صدقه، كما استدل النبي صلّى الله عليه وسلّم على صدق هلال بشبه الولد بشريك، فكان قذفه تابعا لقذف الزوجة، فوجب أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها. وأجاب القائلون بأن اللعان لا يسقط حدّ الأجنبي عن عدم إقامة الحد لشريك بجوابين. الأول: أن شريكا كان يهوديا، وهو باطل، والصحيح أن شريك بن عبدة، وأمه سحماء، وهو حليف الأنصار، ولم يكن يهوديا، وهو أخو البراء بن مالك لأمه. والجواب الثاني: أنه لم يطالب به، وحد القذف إنما يقام بعد المطالبة، وهو غير سديد أيضا، لأن شريكا لما استقر عنده أنه لا حقّ له في هذا القذف لم يطالب به، ولم يتعرض لقاذفه. وإلا فغير معقول أن يسكت عن براءة عرضه وله طريق إلى إظهارها بحد قاذفه، والقوم كانوا أشدّ حميّة وأنفة، وأقوى تمسكا بالمحافظة على الكرامة. هذا وقد استدلّ بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معيّن، لأنّ قول الزوج: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، دعاء على نفسه باللعن على تقدير كذبه، فإذا كان هذا جائزا فأولى منه بالجواز الدعاء باللعن على شخص مقطوع بكذبه. وكذلك استدل بمشروعية اللعان على إبطال قول الخوارج: إن الزنى والكذب في القذف كفر، وذلك لأنّ الزوج الذي قذف زوجته إن كان صادقا كانت زوجته زانية، وإن لم يكن صادقا كان كاذبا في قذفه، فأحدهما لا محالة كافر مرتد، والردة توجب الفرقة بينهما من غير لعان.

الاستئذان في دخول البيوت

وبهذه المناسبة ينبغي أن نذكر حكم قذف الزوج زوجته وحكم نفيه الولد: قال العلماء: لا يحل للرجل قذف زوجته إلا إذا علم زناها أو ظنه ظنا مؤكدا، كأن شاع زناها بفلان، وصدّقت القرائن ذلك. والأولى به تطليقها سترا عليها ما لم يترتب على فراقها مفسدة. هذا إذا لم يكن هناك ولد، فإن أتت بولد علم أنه ليس منه، أو ظنه ظنا مؤكدا وجب عليه نفيه، وإلا كان بسكوته مستلحقا لمن ليس منه، وهو حرام، كما يحرم عليه نفي من هو منه. وإنما يعلم أنّ الولد ليس منه إذا لم يطأها أصلا، أو وطئها وأتت به لدون ستة أشهر من الوطء. فإن أتت به لستة أشهر فأكثر، فإن لم يستبرئها بحيضة حرم النفي، وإن استبرأها بحيضة كان ذلك في مجال النظر، فإن قلنا إنّ الحمل لا يمنع الحيض حرم النفي، وإن قلنا إنّ الحمل يمنع الحيض حل النفي. وإذا وطئ وعزل حرم النفي، وكذلك إذا علم زناها وجاز كون الولد منه وكونه من الزنى حرم النفي لتقاوم الاحتمالين، والولد للفراش. قال الله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) فيه التفات من الغيبة إلى خطاب الرامين والمرميات بتغليبهم عليهن، وسرّ هذا الالتفات أن يستوفي مقام الامتنان حقّه في المواجهة، وحال الحضور أتم وأكمل منه في الغيبة وعدم المواجهة، وجواب (لولا) محذوف، وإنما حسن حذفه ليذهب الوهم في تقديره كل مذهب، فيكون أبلغ في البيان، وأبعد في التهويل والإرهاب، على حد قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام: 27] والمعنى أن من آثار فضل الله عليكم ورحمته بكم وتوبته على عباده وحكمته في أفعاله أن شرع اللعان بين الزوجين، ولولا ذلك لحصل لهما من الحرج ما لا يحيط به البيان، فلو لم يكن اللعان مشروعا لوجب على الزوج حدّ القذف، مع أن الظاهر كما تقدم صدقه، وأنه لا يفتري عليها لاشتراكهما في العار والخزي، ولو جعل شهاداته موجبة لحد الزنى عليها لفات النظر لها، ولو جعل شهاداتها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له. فكان من الحكمة وحسن النظر لهما جميعا أن جعل شهادات كلّ منهما دارئة لما توجه إليه من عذاب الدنيا، وآذن الكاذب منهما أن يلج باب التوبة حتى ينجو من عذاب الآخرة، فسبحانه ما أوسع رحمته، وأجلّ حكمته. الاستئذان في دخول البيوت قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) الآيات التي تقدّمت في صدر الصورة كانت في حكم الزنى وبيان أنّه قبيح ومحرّم، وأنّ صاحبه يستحق العذاب والنكال، ولما كان الزنى طريقه النظر والخلوة

والاطلاع على العورات، وكان دخول الناس في بيوت غير بيوتهم مظنة حصول ذلك كلّه أرشد الله عزّ وجلّ عباده إلى الطريقة الحكيمة التي يجب أن يتبعوها إذا أرادوا دخول هذه البيوت، حتى لا يقعوا في ذلك الشر الوبيل، وأيضا فإنّ أصحاب الإفك لم يكن لهم متكأ في رمي عائشة رضي الله عنها إلا أنها كانت مع صفوان في خلوة أو ما يشبه الخلوة، لذلك نهى الله سبحانه وتعالى عن دخول البيوت بغير إذن حتّى لا يؤدي ذلك إلى القدح في أعراض البرآء الأطهار. روي في سبب نزول هذه الآية أن امرأة أتت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحالة التي أحبّ أن لا يراني عليها أحد، ولا ولد ولا والد فيأتيني آت، فيدخل عليّ فكيف أصنع؟ فنزل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ. وكلمة بُيُوتاً نكرة واقعة في سياق النهي فكانت في ظاهرها شاملة البيوت المسكونة وغير المسكونة، إلا أن مقابلتها بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ يقتضي حملها على المسكونة فقط. والمراد بالبيوت المضافة إلى المخاطبين في قوله تعالى: غَيْرَ بُيُوتِكُمْ البيوت التي يسكنونها. فالمعنى: لا تدخلوا بيوتا مسكونة لغيركم حتى تستأنسوا إلخ. الاستئناس: استفعال. قيل: إنه من آنس بالمد بمعنى علم فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء: 6] فالاستئناس طلب العلم. فالذي يريد أن يدخل بيت غيره مكلّف قبل الدخول أن يستأنس، أي يتعرّف من أهله ما يريدونه من الإذن له بالدخول وعدمه، فهو بمعنى الاستئذان. وقد فسّره بذلك ابن عباس كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وابن الأنباري وابن جرير «1» وابن مردويه. وهو أيضا تفسير ابن مسعود وإبراهيم وقتادة رضي الله عنهم. ويدل على أنّ المراد بالاستئناس الاستئذان قوله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور: 59] فإنّ المراد بالذين من قبلهم هم المخاطبون في الآية التي معنا. وقد سمّى الله تعالى استئناسهم استئذانا. وعن ابن عباس من طريق شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عنه أنه كان يقرأ هذا الحرف حتى تستأذنوا ويقول: غلط الكاتب. وهذا يوافق ما رواه الحاكم وصححه والضياء في كتابه «الأحاديث المختارة» والبيهقي عن ابن عباس أيضا أنه قال في: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أخطأ الكاتب. وإنما هي حتى تستأذنوا ومن أجل أنّ هذه الرواية فيها كما ترى دلالة على أن ابن عباس ينكر وجها من وجوه القراءات المتواترة

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (18/ 87) . [.....]

للقرآن الكريم- ولا شك أنّ القول بهذا فيه شر كبير- لهذا أنكر أبو حيان هذه الرواية عن ابن عباس وقال: إنّه رضي الله عنه يجل مقامه أن يذهب هذا المذهب الفاسد، ومن روى عنه ذلك فهو طاعن في الإسلام، ملحد في الدين «1» . لكن غير أبي حيان ممن لا يرى رأيه في هذه الرواية يجيب عنها بغير ما أجاب، فابن الأنباري لم ينكرها، بل قال: إنها ضعيفة ومعارضة بروايات أخرى عن ابن عباس، منها ما تقدّم لك أنه كان يفسر الاستئناس بالاستئذان، وهذا يدلّ على أنّه ما كان ينكر قراءة حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا. وبعض العلماء لم يجادل في صحة الرواية التي يقول فيها ابن عباس بخطأ الكاتب نظرا إلى أنها رويت من عدة طرق في بعضها قوة وجودة لهذا اضطر أن يؤول قوله: «أخطأ الكاتب» بأنه ينبغي أن يكون مراد به أنّ الكاتب الذي عهد إليه أن يكتب القرآن بحرف واحد يجتمع عليه الناس أخطأ في اختيار هذا الحرف حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا دون الحرف الثاني تستأذنوا وكان ينبغي أن يختار الثاني، لأنّه أبين وأوضح دلالة على المعنى، ولأنّ معناه محدود، إذ ليس في اللفظ تجوّز ولا اشتراك. وهذا الجواب الأخير هو مختار المحققين من العلماء وأئمة التفسير. ويصح أن يكون الاستئناس مأخوذا من الأنس بضم الهمزة، وهو سكون النفس واطمئنان القلب وزوال الوحشة، فإنّ القادم على بيت غيره مستوحش لا يدري أيؤذن له بالدخول أم لا، فعليه أن يستأنس أولا، أي يلتمس ما يؤنس ويزيل وحشته، وذلك الالتماس إنما يكون بالاستئذان. وقيل: إنّ المراد بالاستئناس إعلام الطارق أهل البيت إعلاما تاما أنه قادم عليهم، ويدل له ما روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: قلنا يا رسول الله ما الاستئناس؟ فقال: «يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة يتنحنح يؤذن أهل البيت» «2» . وقيل: إنّ المراد بالاستئناس فعل ما يؤنس أهل البيت، ويدفع عنهم الوحشة التي كانت تلمّ بهم لو لم يفعل. وذلك يكون بالتنحنح وما يشبهه، فهذه معان أربعة للاستئناس: الأول: أن القادم يطلب العلم برأي أصحاب البيت في دخوله. والثاني: أنه يطلب منهم ما يؤنسه ويزيل وحشته. والثالث: أنه يعلمهم إعلاما مؤكدا بقدومه. والرابع: أنه يؤنسهم بعمل ما، كأن يسبح أو يكبر، ومنه ما تعارفه الناس اليوم من دقّ الباب دقا خفيفا دلالة على طلب الإذن.

_ (1) انظر البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (6/ 445) . (2) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (5/ 38) .

وأنت ترى أنّ مآل المعنيين الأولين للاستئناس هو الاستئذان، فيكون القادم منهيا عن الدخول قبل أن يأتي بعبارة صريحة تدلّ على الاستئذان، وحينئذ لا يباح له الدخول إلا أن يؤذن له، إذ لا معنى للاستئذان دون أن ينتظر الإذن، فيكون تأويل الآية هكذا: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا ويؤذن لكم، ويدل على هذا المضمر قوله تعالى بعد: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ. أما على المعنيين الآخرين فظاهر الآية أنّه لا يتوقف دخول القادم على أن يأذن له بذلك أهل البيت ما دام قد أعلمهم وأزال وحشتهم. وبهذا قال مجاهد وعكرمة، ولعلّك ترى أنّ هذا الرأي ضعيف، فإنّ إعلامهم ودفع الوحشة عنهم لا ينبغي أن يكون كافيا في إباحة الدخول، إذ الحكمة التي من أجلها شرع الاستئذان هي أنّ اقتحام البيوت بغير إذن قد يؤدي إلى أن يقع نظر الداخل على ما لا يحل النظر إليه، أو يطلع على ما يكره أهل الدار اطلاعه عليه. وظاهر الآية الكريمة أنّه لا بدّ قبل الدخول من الاستئذان والسلام معا، وعليه جمهور الفقهاء، فكلّ من الاستئذان والسلام مطلوب غير أنّ الطلب فيهما متفاوت، فالطلب في الاستئناس على سبيل الوجوب، والطلب في السلام على سبيل الندب، كما هو حكم السلام في غير هذا الموطن. وظاهرها أيضا تقديم الاستئذان على السلام، لأنّ الأصل في الترتيب الذكري أن يكون على وفق الترتيب الواقعي، وبهذا الظاهر قال بعض العلماء. وجمهور الفقهاء على تقديم السلام على الاستئذان، وحجتهم في ذلك عموم قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الترمذي عن جابر رضي الله تعالى عنه: «السلام قبل الكلام» «1» . وما أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في «الأدب» «2» عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلّم، قال: لا يؤذن له حتّى يسلم. وما أخرجه ابن أبي شيبة وابن وهب عن زيد بن أسلم قال: أرسلني أبي إلى ابن عمر رضي الله عنهما فجئته فقلت أألج؟ فقال: ادخل، فلما دخلت قال: مرحبا يا ابن أخي، لا تقل أألج، ولكن قل: السلام عليكم. فإذا قيل: وعليك، فقل: أأدخل؟ فإذا قالوا: ادخل، فادخل «3» .

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 56) ، كتاب الاستئذان، باب ما جاء في السلام حديث رقم (2699) . (2) الأدب المفرد للإمام البخاري صفحة (287) ، 494- باب الاستئذان غير السلام حديث رقم (1098) . (3) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (8/ 464) ، والسيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (5/ 39) .

وما أخرجه قاسم بن أصبغ وابن عبد البر عن ابن عباس قال: استأذن عمر رضي الله عنه على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: السلام على رسول الله السلام عليكم أيدخل عمر؟ وبعض العلماء فصّل في المسألة فقال: إن كان القادم يرى أحدا من أهل البيت سلّم أولا، ثم استأذن في الدخول، وإن كانت عينه لا تقع على أحد منهم قدّم الاستئذان على السلام. وهذا قول جيّد، ولا ينافيه حديث الترمذي والآثار السابقة، فإنّه يمكن أن تحمل على الحالات التي يكون فيها القادم بحيث يرى أهل البيت. فالأصل أن يقدّم الاستئذان على السلام كما هو ظاهر الآية إلا أن يكون القادم بحيث يرى أهل الدار، فينبغي أن يحييهم أولا بالسلام، ثم يستأذن. وفي هذا جمع بين الأدلة. وظاهر الآية أنّ الاستئذان غير مقيّد بعدد، فإن استأذن مرة فأجيب بالإذن دخل، وإن أجيب بالرد رجع، وإن لم يجب فلا عليه أن يرجع. وقال بعض العلماء: إنّ الاستئذان ثلاث مرات، فمن لم يؤذن له بعدهن فليرجع، إلا إذا أيقن أنّ من في البيت لم يسمع، فإنّه يجوز له الزيادة على الثلاث. والحكمة في هذا العدد أنّ المرة الأولى لإسماع من في البيت، والثانية: ليتهيؤوا، والثالثة: ليأذنوا، أو يردوا. واستدلّ هؤلاء بما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الاستئذان ثلاث: بالأولى يستنصتون، وبالثانية: يستصلحون، وبالثالثة: يأذنون أو يردون» وبما روي عن أبي سعيد الخدري «1» قال: كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار، فجاء أبو موسى فزعا، فقلنا له: ما أفزعك؟ فقال أمرني عمر أن آتيه فأتيته، فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، فرجعت فقال: ما منعك أن تأتيني؟ فقلت: قد جئت فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي. وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع» فقال: لتأتيني على هذا بالبينة أو لأعاقبنك، فقال أبيّ بن كعب: لا يقوم معك إلا أصغر القوم. قال أبو سعيد: وكنت أصغرهم، فقمت معه، فأخبرت عمر أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك. والراجح أنّ الواجب إنما هو الاستئذان مرة، فأما إكمال العدد ثلاثا فهو حقّ المستأذن، إن شاء أكمله، وإن شاء اقتصر على مرة أو مرتين. فقد روى الزهري عن عبيد الله بن أبي ثور عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألت عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم اللتان تظاهرتا عليه، اللتان قال الله فيهما: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: 4] ؟ فقال: حفصة وعائشة، قال: ثم أخذ يسوق الحديث، وذكر اعتزال النبي في المشربة،

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (7/ 169) ، 79- كتاب الاستئذان، 13- باب التسليم حديث رقم (6245) .

قال: فأتيت غلاما أسود فقلت: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فصمت، فرجعت فجلست إلى المنبر، ثم غلبني ما أجد، فرجعت إلى الغلام، فقلت: استأذن لعمر، فدخل، ثم خرج فقال: قد ذكرتك له فصمت. قال: فوليت مدبرا، فإذا الغلام يدعوني فقال: ادخل فقد أذن لك. الحديث «1» ... ففي رجوع عمر رضي الله عنه بعد المرة الثانية دليل على أنّ إكمال الثلاث ليس مطلوبا، بل هو حقّ المستأذن. وهذا ومن الأدب في الاستئذان أنه إذا وقف المستأذن ينتظر الإذن فلا يستقبل الباب بوجهه، بل يجعله عن يمينه أو شماله. فقد روي أنّ أبا سعيد الخدري استأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو مستقبل الباب، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تستأذن وأنت مستقبل الباب» . وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر «2» . قالوا: لأنّ الدّور لم يكن عليها حينئذ ستور. ولكن ينبغي أن يكون الأمر كذلك في الدور الآن، ولو كانت مغلقة الأبواب عند الاستئذان، فإنّ الطارق إذا استقبلها فقد يقع نظره عند الفتح له على ما لا يجوز، أو ما يكره أهل البيت اطلاعه عليه. وظاهر الآية أنّ الاستئذان واجب على كلّ طارق، ولو كان أعمى، وبذلك قال العلماء، لأنّ من عورات البيوت ما يدرك بالسمع، ففي دخول مكفوف البصر على أهل بيت بغير إذنهم إيذاء لهم. فأما ما رواه الشيخان من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما جعل الاستئذان من أجل النّظر» «3» فهو جار على الغالب، وليس الحصر فيه على سبيل التحقيق، بل هو حصر ادعائي مبني على المبالغة، وكمال العناية بالحث على حفظ النظر، وسياق القصة التي قال فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك يدلّ على ما ذكرناه، فقد روى سهل بن سعد أنّه اطلع رجل في حجرة من حجر النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومع النبي مدرى يحكّ بها رأسه فقال: «لو أعلم أنّك تنظر لطعنت بها في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل النّظر» وإذا كان الأمر كذلك، وكان القصد المبالغة والتشديد على ذلك الرجل الذي كان يطّلع على حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم علم الغرض من ذلك الحصر، ولم يكن في الحديث حينئذ دلالة على نفي أنه قد يكون الاستئذان من أجل السمع. فالمقصود إفادة أنّ النظر من أقوى الأسباب التي شرع لها الاستئذان.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (5/ 142) ، 46- كتاب المظالم، 25- باب الفرقة حديث رقم (2468) . (2) رواه أبو داود في السنن (4/ 386) ، كتاب الأدب، باب كم مرة يسلم حديث رقم (5186) . (3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1698) ، كتاب الآداب، 9- باب تحريم النظر حديث رقم (40/ 2156) ، والبخاري في الصحيح (7/ 168) ، 79- كتاب الاستئذان، 11- باب الاستئذان حديث رقم (6241) .

وظاهر التعبير في الآية باسم الموصول الخاص بجماعة الذكور أنّ النساء ليس عليهن استئذان، ولكنّك تعلم أنّ الحكمة التي من أجلها شرع الاستئذان متحققة في الرجال والنساء معا، ولهذا قال العلماء: إنّ في الآية تغليب الرجال على النساء، كما هو المعهود في الأوامر والنواهي القرآنية المبدوءة بمثل هذا النداء. وعلى هذا يكون على المرأة إذا أرادت أن تدخل بيت غيرها أن تستأذن قبل الدخول. فإنّ الناس قد يكرهون أن يطلع بعض النساء على بيوتهم، ويظهرن على ما فيها من أسراره. أخرج ابن أبي حاتم عن أمّ إياس قالت: كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة رضي الله عنها فقلت: ندخل؟ فقالت: فقالت واحدة: السلام عليكم، أندخل؟ قالت: ادخلوا. ثم قالت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ الآية. والظاهر من تخصيص النهي ببيوت الغير في قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ أنّ بيوتهم لا يثبت فيها هذا الحكم. والحكم كذلك إذا كانت البيوت خاصة بهم، لا يسكن معهم فيها غيرهم من الأجانب أو المحارم. أما إذا كان فيها أحد من هؤلاء فإنّ الاستئذان يكون مطلوبا أيضا. فقد أخرج مالك في «الموطأ» «1» عن عطاء بن يسار أنّ رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أأستأذن على أمي؟ قال: «نعم» قال: ليس لها خادم غيري، أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: «أتحب أن تراها عريانة؟» قال: لا. قال: «فاستأذن عليها» . وأخرج ابن جرير «2» والبيهقي عن ابن مسعود قال: عليكم أن تستأذنوا أمهاتكم وأخواتكم. وروى الطبري عن طاوس قال: ما من امرأة أكره إليّ أن أرى عورتها من ذات محرم. وقال الله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور: 59] فأوجب على من بلغ من الأطفال أن يستأذن من غير تفرقة بين الأجانب والمحارم، غير أنه ينبغي أن تعلم أنّ أمر الاستئذان في الدخول على المحارم أيسر منه في الأجنبيات من حيث كان يجوز أن يطّلع من المحارم على ما لا يجوز أن يطّلع من غيرهن: كالشعر، والصدر، والساق. وكذلك الاستئذان على الزوجات والمملوكات الأمر فيه أيسر من الاستئذان على المحارم. فقد قال الفقهاء: إنه يستحب أن يستأذن

_ (1) الموطأ للإمام مالك حديث رقم (963) . (2) في تفسيره جامع البيان المشهور بتفسير الطبري (18/ 87- 88) .

الرجل قبل دخوله بيته، أو يأتي بما يدلّ على قدومه كالتسبيح والتنحنح، فإنّه قد تكون المرأة في شأن لا تحب أن يطلع عليه زوجها أو سيدها. وظاهر الآية عموم النهي عن دخول البيوت بغير إذن في جميع الأزمان والأحوال، ولكن يجب أن يستثنى من ذلك ما تقضي به الضرورة، كهجوم لصوص على الدار، أو اشتعال النار فيها، فإنّ لمن يعلم ذلك أن يدخلها بغير إذن أصحابها. وبعد فإتماما للفائدة نسوق لك مسألة لها صلة كبيرة بالموضوع، وقد اختلف في حكمها الفقهاء. وذلك أنّه إذا رأى أهل الدار أحدا يطلع عليهم من ثقب في الباب، فطعن أحدهم عينه فقلعها، فهل عليه تبعة هذا الفعل من قصاص وغيره؟ قال الإمامان الشافعي وأحمد ورجال من أهل الحديث: لا شيء عليه، وحجتهم في ذلك ما أخرجه الشيخان «1» عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤوا عينه فقد هدرت عينه» . وما رواه سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لمن اطلع في إحدى حجراته، وكانت في يده مدرى يحكّ بها رأسه: «لو كنت أعلم أنّك تنظر لطعنت بها في عينك» «2» . وفي رواية أنس بن مالك رضي الله عنه: أنّ رجلا اطلع من بعض حجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقام إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمشقص أو بمشاقص، قال: فكأني أنظر إليه يختله ليطعنه «3» . وقال الإمامان أبو حنيفة ومالك: إنّ من قلع عين غيره على هذا النحو كان جانيا وعليه القصاص أو الأرش، لعموم قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ [المائدة: 45] . وأيضا فإنّ الاتفاق على أنّه إذ دخل الرجل الدار بغير إذن أهلها، فاعتدي عليه من أجل ذلك بقلع عينه فإنّ ذلك يعتبر جناية تستوجب الأرش أو القصاص، فإذا كان دخول الدار واقتحامها على أهلها مع النظر إلى ما فيها غير مبيح لقلع عين ذلك

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1699) ، 38- كتاب الآداب، 9- باب تحريم النظر، حديث رقم (43/ 2158) ، والبخاري في الصحيح (8/ 57) ، 88- كتاب الديات، 23- باب من اطلع، حديث رقم (6902) . (2) سبق تخريجه. (3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1699) ، 38- كتاب الآداب، 9- باب تحريم النظر حديث رقم (42/ 2157) ، رواه البخاري في الصحيح (7/ 198) ، 79- كتاب الاستئذان، 11- باب الاستئذان حديث رقم (6242) . [.....]

الداخل، فلا يكون النظر وحده من ثقب الباب مبيحا ذلك بالطريق الأولى. وأجابوا عن حديث أبي هريرة بأنه ضعيف وعلى فرض صحته ينبغي أن يؤول لمخالفته الأصول، وتأويله أن من اطلع في دار قوم بغير إذنهم فزجر ومنع من ذلك، فقاوم فقلعت عينه بسبب المقاومة والمدافعة فهي هدر. كما أنّه إذا حاول دخول الدار فمنع، فقاوم وغالب، فذهبت عينه فهي هدر. لكن الشافعية ومن وافقهم يقولون: إنّ هذه حادثة ورد فيها حكم يخصّها، فهي مستثناة من عموم قوله تعالى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ. ويقولون بالفرق بين من يتجسس على أهل الدار ويطلع عليهم وعلى عوراتهم من ثقب الباب وهم لا يشعرون، وبين من دخل عليهم وبصّرهم بنفسه، وحملهم على أن يتستروا منه. فلا شك أنّ الأول أعظم جرما من الثاني، فلو قلعوا عينه فلا شيء عليهم، وذهبت عينه هدرا. واسم الإشارة في قوله تعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عائد على المذكور في الآية، وهو الاستئناس والسلام، فإفراد الإشارة إليه باعتبار أنه المذكور، ويصحّ أن تكون الإشارة للدخول المطلوب شرعا، وهو الذي دلّ عليه قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا. والظاهر أن كلمة خَيْرٌ أفعل تفضيل، ولا شك أنّ الاستئذان قبل الدخول مع البدء بتحية الإسلام خير مما كان عليه العرب في الجاهلية من الدمور، وهو الدخول بغير استئذان، ومن قولهم في التحية: حييتم صباحا، أو: حييتم مساء، فإنّ أحدهم كان يدخل بغير استئذان على صاحبه في داره، فربما وجده مع امرأته في لحاف واحد، وكان كثير منهم يشقّ عليه ذلك، ويتأذّى به. والدمور وإن لم يكن فيه شيء من الخير قد فرض فيه ذلك على سبيل التنزل، أو مراعاة لاعتبارهم أن فيه خيرا، إذ كانوا يرون أن الاستئذان مذلة تأباها النفوس. ويرى بعض المفسرين أنّ كلمة خَيْرٌ صفة عارية عن معنى التفضيل وحينئذ لا تقتضي إثبات الخيرية للدخول بغير إذن، ولا لتحية الجاهلية. وكلمة لعلّ في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ للتعليل، والحكم المعلّل بها مطوي يدل عليه قوله تعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أي أرشدكم الله إلى ذلك الأدب، وبيّنه لكم لتجعلوه على ذكر منكم، فتعملوا بموجبه. قال الله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) قد تكون البيوت المسكونة خالية من أصحابها في وقت من الأوقات، وفي هذه الحال لا يحلّ أيضا لمن يجدها كذلك أن يدخلها، فإنّ خبيئات البيوت عورات لها، والدخول من غير إذن قد يؤدي إلى الاطلاع على هذه العورات، فيجب على الطارق

أن يمتنع عن دخولها حتى يأذن له أصحابها، وليس شيء يبيح الدخول إلا هذا الإذن الذي يصدر ممن يملكه، فإذن العبد والصبيّ والخادم لا يبيح الدخول في البيوت التي لا يوجد بها أصحابها، كما لا يبيح الدخول في البيوت التي يكونون فيها إلا أن يكون أحدهم رسولا من قبل صاحب الدار، وفي هذه الحالة لا يكون الإذن من هؤلاء، إنما هو من صاحب الدار. وإنما قيل: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً ولم يقل: فإن لم يكن فيها أحد، لأنّ التعبير الأول أشمل، إذ عدم وجود أحد فيها يصدق مع خلو البيوت من أصحابها في الواقع، كما يصدق مع كونهم فيها. فالمدار على ظن الطارق واعتقاده، فإن كان يعتقد أنه ليس بها أحد فلا يحلّ أن يدخلها، سواء أكان الأمر كذلك أم كان على خلاف ما ظنّ. وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ أي أنّه لا يليق بكم أيها المؤمنون أن تلحوا في الاستئذان، وأن تقفوا على الأبواب أو تقعدوا أمامها بعد أن تردّوا، ويقال لكم: ارجعوا، فإنّ الوقوف حينئذ فيه ذلة ومهانة لكم، وفيه إيلام لأصحاب البيوت، فالرجوع أزكى لكم، وأطهر لأخلاقكم، وأبعد بكم عن دنس الرذيلة. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ هذا وعيد لمن يعمل على خلاف ما أرشد الله سبحانه وتعالى إليه، فمن دخل تلك البيوت التي لا يجد فيها أصحابها، أو حاول دخولها بغير إذنهم، أو لج في الاستئذان، أو وقف على الباب بعد ما علم أنه لا يراد له الدخول: فالله عليم بهذا الذي يعمله. والقصد من هذا الإخبار إفادة لازمه، وهو المجازاة على هذه الأعمال. قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) سبب نزول هذه الآية على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل أنّه لما نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا إلخ قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام وبيت المقدس، ولهم بيوت معلومة على الطريق- يريد الخانات التي في الطرق- فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها ساكن؟ فرخّص الله سبحانه في ذلك، فأنزل قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إلى آخر الآية . فتكون هذه الآية مخصّصة لعموم الآية السابقة كما علمت. وقال ابن عباس فيما أخرجه عنه أبو داود في الناسخ، وابن جرير «1» ، أنّ قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها قد نسخ بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إلخ واستثنى منه البيوت غير المسكونة.

_ (1) في تفسيره جامع البيان في تفسير القرآن المشهور بتفسير الطبري (18/ 91) .

حكم النظر وإبداء الزينة

وكذلك روي عن عكرمة والحسن ما يدلّ على استثناء البيوت غير المسكونة من عموم البيوت في الآية السابقة. وقول ابن عباس: إنّ هذه الآية التي معنا قد نسخت الآية السابقة معناه أنها خصصتها. وكثيرا ما يطلب المتقدمون كلمة النسخ على معنى التخصيص. هذا- والبيوت غير المسكونة تشمل الخربات التي ليست لأحد، وتشمل البيوت العامرة التي تقصد لمنافع عامة غير السكنى كالحمامات والحوانيت والبيوت التي لا تختص بسكنى أحد، كالرباطات والفنادق، فهذه البيوت كلها لا حرج في دخولها بغير إذن، إذا كان للمرء في دخولها حاجة، كالاستحمام، والبيع والشراء، والاستكنان من الحر والبرد، وحفظ الرحال والسلع، فإنّ العرف جرى فيها بالإذن العام. والتعميم في البيوت غير المسكونة- على ما علمت- لا ينافيه ما روي عن محمد بن الحنفية وابن جبير والضحاك من أنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين. ولا ما روي عن غيرهم أنّها الخربات تقصد للتبرز فيها، إذ ليس الغرض من ذلك الحصر، وإنما المراد التمثيل. وقوله تعالى: فِيها مَتاعٌ لَكُمْ يصحّ أن يكون صفة ثانية للبيوت، ويصحّ أن يكون مستأنفا سيق لتعليل الإباحة ورفع الحرج. وعلى كل حال فإذا لم تكن للإنسان حاجة تدعوه لدخول هذه البيوت فليس له دخولها، إذ إنّ ذلك يكون ضربا من العبث الذي لا خير فيه. وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ وعيد لأهل الريبة الذين يدخلون هذه البيوت لمحاولة الاطلاع على العورات أو غيرها من الأغراض السيئة. حكم النظر وإبداء الزينة قال الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) اتصال هذه الآية بما قبلها هو أنّ غضّ البصر أمر مستحسن، وأدب جميل ينبغي للمستأذن أن يتحلّى به عند الدخول، فإنّ دخول بيت الغير مظنة الاطلاع على العورات. وقد جيء في صورة حكم عام كلف به المؤمنين جميعا، حتّى يشمل المستأذنين وغيرهم. وسبب نزول هذه الآية على ما أخرجه ابن مردويه «1» عن علي كرّم الله وجهه أنّ

_ (1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (5/ 40) .

رجلا مرّ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجابا به، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط، وهو ينظر إليها، إذا استقبله الحائط، فشقّ أنفه، فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره أمري، فأتاه، فقصّ عليه قصته، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هذا عقوبة ذنبك» وأنزل الله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ إلخ. يأمر الله نبيه أن يحث المؤمنين على أن يغضوا أبصارهم عمّا لا يحل، ويحفظوا فروجهم عن المحرمات، ويبيّن لهم أن ذلك أطهر لأخلاقهم، وأبعد بهم عن مظان الريبة وسوء السمعة. والفعل المضارع يَغُضُّوا مجزوم في جواب قُلْ ومفعول القول محذوف، والتقدير: قل للمؤمنين غضوا أبصاركم يغضوها. وكذلك التقدير في وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ وفي هذا إشارة إلى أنّ شأن المؤمنين أن يسارعوا إلى امتثال الأوامر، حتى كأنّهم لفرط مطاوعتهم لا ينفك فعلهم عن أمره عليه الصلاة والسلام. وغضّ البصر إطباق الجفن على الجفن، أو هو خفض الجفن الأعلى وإرخاؤه، ومن الثاني قول كعب بن زهير: وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغنّ غضيض الطرف مكحول فليس يريد أنها مغمضة عينها مطبقة أجفانها، بل إنها خافضة الطرف من الحياء والخفر. وكلمة مِنْ قيل: إنها صلة على مذهب الأخفش «1» ، والراجح أنها أصلية، وهي على ذلك تحتمل معاني أظهرها أنّها للتبعيض، أي يغضوا بعض أبصارهم، وهو كناية عن غض بصرهم عن بعض المبصرات، وهي التي لا تحلّ، أو يغضوا بعض أبصارهم عند النظر إلى المحرمات، فلا يحملقوا بأعينهم في محرّم، ويكون المعنى على هذا الوجه على إرادة توبيخ من يكثر التأمّل في المحرم، كما تقول لمن عهدت أنه يأتي نوعا من المنكر، ورأيته يسترسل فيه: بعض هذا يا فلان. فأنت لا تريد منه أن يقتصر على بعض هذا المنكر، ولا تفيد بهذا أنك ترضاه له، وأنك تقرّه عليه، بل غرضك أن تلومه وتوبخه على التمادي فيه. وربما ساعد على هذا المعنى ما سبق في نزول الآية، مما يدل على أنّ الرجل والمرأة كان كل منهما يمعن النظر في صاحبه، حتى وسوس الشيطان لهما أنّ كلّا منهما معجب بالآخر.

_ (1) سعيد بن مسعدة، عالم العربية، من مصنفاته (معاني القرآن) توفي سنة (215) انظر الأعلام للزركلي (3/ 101) .

وقد يرشّح هذا المعنى أيضا تغيير النظم في هذه الآية، وصرف الخطاب فيها عن وجهه بتوجيهه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتكليفه أن يأمر الناس بغض الأبصار، فإنّ في هذه الطريقة إشعارا بأنّ هذا الفعل قبيح، وأنّ صاحبه يستحق أن يعرض عنه، ويصرف الخطاب إلى غيره. ولا يلزم من مراعاة هذا المعنى في جانب الأمر بغضّ البصر أن يراعى أيضا في الأمر بحفظ الفروج، فإنّ أمر الفروج عظيم ينبغي أن يشدد فيه أكثر مما يشدد في غيره، فلا يستقيم مع ذلك أن يؤتى في جانب الأمر بحفظ الفروج بعبارة توهم صورتها أنّ بعض الفروج قد يتساهل فيه، [و] لا يشدد في الأمر بحفظه. وقال صاحب «الكشاف» «1» : إنما دخلت مِنْ في غضّ البصر دون حفظ الفرج للدلالة على أنّ أمر النظر أوسع، ألا ترى أنّ المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثديهن وأعضادهن وسوقهن وأقدامهن، وكذلك الجواري المستعرضات للبيع، وأنّ الأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها. وأمّا أمر الفرج فمضيّق، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه، وحظر الجماع إلا ما استثني منه. وقد اختلف في المراد بحفظ الفروج، فقيل: إنّ معناه تجنب الزنى واللواطة، وقيل: إن المراد سترها، فلا يحل للمؤمن أن يكشف عن سوءته، ولا أن يلبس لباسا رقيقا يشفّ عما تحته، ويبين عورته، ولا مانع من إرادة المعنيين جميعا. ثم لا يخفى وجه الجمع بين أمرين: أحدهما: متعلق بحفظ الأبصار. والثاني: متعلق بحفظ الفروج فإنّ النظر إلى المحرم من أقوى الدواعي إلى الوقوع في الفجور، فكان حراما، لأن من شأنه أن يؤدي إلى الحرام، فإن وقع القصر على محرم من غير قصد وجب أن يصرف عنه، وليس على المرء إثم في النظرة الأولى غير المقصودة، فقد روى مسلم «2» عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري. وروى أبو داود عن بريدة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإنّ لك الأولى وليست لك الآخرة» «3» . ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ أي ما ذكر من غضّ البصر وحفظ الفرج أطهر لقلوبهم، وأنقى

_ (1) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للزمخشري (3/ 229) . (2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 699) ، 3- كتاب الآداب، 10- باب نظر الفجأة حديث رقم (2159) . (3) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 94) ، كتاب الآداب، باب نظر الفجأة حديث رقم (2778) ، وأبو داود في السنن (2/ 214) ، كتاب النكاح، باب ما يؤمر به حديث رقم (2149) .

لدينهم، وأبعد بهم عن الريبة. وأفعل التفضيل هنا للمبالغة في أنّ غضّ الأبصار وحفظ الفروج يطهّران النفوس من دنس الرذائل، أو أنّ المفاضلة على سبيل الفرض والتقدير، أو باعتبار ظنهم أنّ في استيفاء اللذة نفعا. إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ الخبرة: العلم القوي الذي يصل إلى بواطن الأشياء، ويكشف عن دخائلها، فالله خبير بما يصنعون. عليم علما تاما بظواهر أعمالهم وبواطنها، لا تخفى عليه من ذلك خافية، وهو وعيد وتهديد على مثال ما سبق. قال الله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) جرت عادة القرآن الكريم في التكاليف العامة والآداب التي تشمل نوعي الذكور والإناث أن يوجّه الأمر والنهي، ويصرف الخطاب إلى جماعة الذكور، وتكون النساء داخلات في الحكم بطريق تغليب الرجال عليهن، أو بطريق المقايسة. وقد يكون للنساء حكم يخصّهنّ، فيفردن بالذكر من أجله. وعلى هذه الطريقة جاء قوله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ الآية، لأنهن زدن عن الرجال أحكاما تخصهن، وهي النهي عن إبداء زينتهن إلا ما استثنى الله تعالى. والأمر بإرخاء خمرهن على جيوبهن، والنهي عن كل فعل يلفت النظر إلى زينتهن، وينبّه الناس عليها. أمرت هذه الآية الكريمة المرأة بغضّ بصرها، ولم تعين ما يجب غض البصر عنه، كما أنّ الآية السابقة لم تعيّن ما يجب على الرجال غض أبصارهم عنه، وقد تكفّلت السنة ببيان ذلك، فحظرت على المرأة أن تنظر من غير زوجها إلى ما بين السرة والركبة، سواء في ذلك الرجال والنساء، وسواء أكان ذلك بشهوة أم بغير شهوة، حظرت عليها أيضا أن تنظر إلى شيء من بدن الرجل بشهوة. كلّ هذا محل اتفاق بين الفقهاء جميعا. أما نظرها إلى ما تحت الركبة وفوق السرة فقد اختلفت الروايات فيه. فأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه عن أم سلمة قالت: كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم حتى دخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب، فقال

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احتجبا منه» فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال: «أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه» «1» ؟. وفي «الموطأ» عن عائشة أنّها احتجبت من أعمى فقيل لها: إنّه لا ينظر إليك، قالت: لكنّي انظر إليه. فهاتان الروايتان بظاهرهما تحظران على المرأة أن تنظر إلى شيء من بدن الرجل الأجنبي، وهو قول أحمد، وأحد قولي الشافعي، وصححه النووي، وهو أيضا ظاهر قوله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ. وفي «الصحيحين» «2» وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يسترني بردائه وأنا انظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي يسأم. ولأحمد «3» عنها أن الحبشة كانوا يلعبون عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في يوم عيد قالت: فاطلعت من فوق عاتقه، فطأطأ لي منكبيه، فجعلت انظر إليهم من فوق عاتقه حتى شبعت، ثم انصرفت. وقد صحّ أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال: «إنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده» «4» ولا شكّ أن مساكنتها له تستلزم نظرها إليه. وصحّ أيضا أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم مضى إلى النساء في المسجد يوم عيد، فذكّرهن ومعه بلال، وأمرهنّ بالصدقة «5» . وبعيد ألا ينظرن إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وإلى بلال حين كن يسمعن الموعظة ويتصدقن، فدلّ مجموع ذلك على أنه يباح للمرأة أن تنظر من الرجل الأجنبي إلى ما عدا ما بين سرته وركبته. وبهذا قال جمع من فقهاء الأمصار، وهو أحد قولي الشافعي كما علمت. وأجاب أصحاب هذا الرأي عن حديث أم سلمة، واحتجاب عائشة من الأعمى: بأنّ الأعمى قد يبدو من عورته المتفق على حرمة النظر إليها ما لا يشعر به فأمرن بالاحتجاب منه لذلك، فلا يلزم من ذلك عدم جواز النظر بإطلاق. كما أجاب أصحاب الرأي الأول عن نظر عائشة إلى الحبشة وهم يلعبون بأنّ

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 95) ، كتاب الأدب، باب في احتجاب النساء حديث رقم (2779) ، وأبو داود في السنن (4/ 31) ، كتاب اللباس، باب قوله عزّ وجلّ: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ حديث رقم (4112) ، وأحمد في المسند (6/ 296) . (2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 607) ، 8- كتاب العيدين، 4- باب الرخصة حديث رقم (892) ، والبخاري في الصحيح (1/ 133) ، 8- كتاب الصلاة، 69- باب أصحاب الحراب حديث رقم (454) . (3) رواه أحمد في المسند (6/ 83) . (4) رواه مسلم في الصحيح (2/ 114) ، 18- كتاب الطلاق، 6- باب المطلقة حديث رقم (1480) . (5) رواه مسلم في الصحيح (2/ 606) ، 8- كتاب العيدين، 2- باب ترك الصلاة، حديث رقم (13/ 884) .

ذلك كان قبل نزول الحجاب، أو أنّها كانت يومئذ جارية صغيرة كما قالت هي عن نفسها. وعن سكنى فاطمة بنت قيس في بيت ابن أم مكتوم بأنه يمكن أن تساكنه وتغض بصرها عنه. وكذلك يمكن أن يستمع النساء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مع غض أبصارهن عنه عليه الصلاة والسلام وعن بلال رضي الله عنه. ولعل أولى ما جمع به بين هذه الأحاديث المتعارضة أن يحمل الأمر بالاحتجاب من ابن أم مكتوم على الندب، وكذلك احتجاب عائشة رضي الله عنها من الأعمى كان ورعا منها وعملا بما هو أجمل وأولى بالنساء، وحينئذ لا يكون حراما على المرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما عدا ما بين السرة والركبة، ويؤيد ذلك استمرار العمل على خروج النساء إلى الأسواق وإلى المساجد وفي الأسفار منتقبات حتى لا يراهن أحد من الرجال، ولم يؤمر الرجال بالانتقاب حتى لا يراهم النساء، فكان ذلك دليلا على المغايرة بين الرجال والنساء في الحكم. وليس بصحيح ما قيل من أن عائشة كانت صغيرة حينما كانت تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون، ولا أن ذلك كان قبل نزول الحجاب، لأنّ في بعض روايات الحديث تصريحا بأنّ هذه القصة كانت بعد قدوم وفد الحبشة، ومعلوم أنّ قدومهم كان سنة سبع وسن عائشة يومئذ ست عشرة سنة، وكانت هذه الحادثة بعد نزول الحجاب كما هو ظاهر. وقوله تعالى: وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ يقال فيه ما قيل في نظيره في الآية السابقة، وحاصله أنّ المراد بحفظ الفروج البعد عن الزنى والسحاق، أو سترها حتى لا يراها أحد، أو أنّ المراد الأمران جميعا. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها الزينة في الأصل اسم لكل ما يتزين به ويتجمل من أنواع الحلي والخضاب وغيرها. وقد اختلف العلماء في المراد بالزينة في الآية، فحملها بعضهم على معناها الحقيقي، إذ كان لا يصحّ العدول عنه متى أمكنت إرادته، وقال: إنّ الكلام دائر حول الزينة نفسها، والنهي منصبّ على إبدائها ذاتها، بدليل قوله تعالى فيما سيأتي وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ومعلوم أن ليس المراد أنهن منهيات عن إبداء الزينة مطلقا، حتى ولو كانت معروضة في منديل للبيع في الأسواق، بل المراد أنهنّ منهيات عن إبداء الزينة حين التحلي بها، واستعمالها في مواقعها، وحينئذ يكون إبداء مواقع الزينة منهيا عنه من باب أولى، فإنّه ما نهي عن الزينة إلا لملابستها تلك المواقع، فكان إبداء المواقع نفسها متمكنا في الحظر، ثابت القدم في الحرمة. ومنهم من قال: إن المراد من الزينة مواقعها من الأعضاء، إما بطريق تقدير

مضاف، والأصل: ولا يبدين مواقع زينتهن. وإما بطريق إطلاق الزينة وإرادة مواقعها لقوة الملابسة بينهما. والصارف عن المعنى الحقيقي أنّ الزينة نفسها ليست مقصودة بالنهي، بدليل أنّ ما استنثني منها في قوله تعالى: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها قد فسره كثير من الصحابة والتابعين بالوجه والكفين، وظاهر أنّ المستثنى من جنس المستثنى منه، فيكون المراد من الزينة مواقعها من البدن. يؤيّد هذا ما رواه أبو داود «1» عن عائشة أنّ أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال: «يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا» وأشار إلى وجهه وكفيه ، فإنّ هذا الحديث الشريف في معنى الآية. وظاهر قوله تعالى: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها أنّ النساء منهيات عن إبداء الزينة إلا الزينة التي ظهرت، فلسن منهيات عن إبدائها، وهو معنى لا يكاد يستقيم، لأنّ ما ظهر بالفعل فقد بدا فلا يقال فيه: إنهن غير منهيات عن إبدائه، وحينئذ فلا بد من تأويل في الكلام، وذلك بأحد وجوه ثلاثة: الأول: أن الاستثناء هنا منقطع، والمعنى عليه: ولا يبدين زينتهن أبدا، لكن ما ظهر منها بنفسه ومن غير قصد فهو عفو، كأن كشفت الريح عن نحرها أو ساقها. الثاني: أن المستثنى منه محذوف دل عليه النهي، فكأنه قيل: ولا يبدين زينتهن، وهنّ مؤاخذات على إبداء زينتهن، إلا ما ظهر منها بنفسه، فلسن مؤاخذات عليه. وعلى هذين التأويلين لا يكون ما ظهر من الزينة شيئا معيّنا. والثالث: أنّ معنى ما ظهر: ما جرت العادة وقضت الحاجة بظهوره، وكان في ستره حرج ومشقة في المتعارف بين الناس: أي ولا يبدين شيئا من زينتهن إلا شيئا جرت العادة بظهوره، فلسن منهيات عن إبدائه، وذلك هو الوجه والكفّين وما فيهما من زينة كالكحل والخضاب والخاتم، وعلى هذا التأويل تكون الزينة نوعين: ظاهرة وباطنة، فالله قد حظر إبداء شيء من الزينة الباطنة لغير من استثني فيما يأتي، ولم يحظر إبداء الزينة الظاهرة، لأنّ الحاجة تقضي بظهورها كما علمت. وتعميم النهي أولا، ثم الاستثناء منه ثانيا مشعر بأنّه ينبغي للنساء أن يحتطن في الستر، ولا يبدين من زينتهن الظاهرة إلا ما تدعو حاجتهن إلى إبدائه. وعلى الاختلاف في تأويل الآية انبنى خلاف الأئمة في آرائهم ومذاهبهم في عورة المرأة، فالحنفية والمالكية على أنّ الوجه والكفين ليسا بعورة، وهو أحد قولي الشافعي، ويشهد لهم ما تقدم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت

_ (1) رواه أبو داود في السنن (4/ 29) ، كتاب اللباس، باب فيما تبدي المرأة حديث رقم (4104) .

المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا» وأشار إلى وجهه وكفيه «1» . وفي رواية عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أن القدمين ليستا من العورة أيضا. نظر في ذلك إلى أنّ الحرج في سترهما أشدّ منه في ستر الكفين، لا سيما بالنسبة إلى أكثر نساء القرى الفقيرات، اللاتي يمشين لقضاء مصالحهن في الطرقات. وعن أبي يوسف أن الذراعين ليستا بعورة كذلك، لما في سترهما من الحرج، فأنت ترى أصحاب هذا القول قد نحوا في الآية منحى التأويل الأخير، وأنّ المراد أنهنّ منهيات عن إبداء زينتهن إلا ما دعت الحاجة إلى ظهوره وجرى عرف الناس في عصر التنزيل على أنه من الزينة الظاهرة التي لم يحظر إبداؤها. وذهب الإمام أحمد إلى أن بدن الحرة كلّه عورة، فيحرم إبداء شيء منه للأجنبي، وهو أصحّ قولي الشافعي، وأصحاب هذا الرأي تأولوا الآية على أحد الوجهين: الأول والثاني، وأن المراد ما ظَهَرَ: ما ظهر بنفسه من غير قصد إلى إظهاره، ويشهد لذلك من السنة: ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي «2» عن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن نظرة الفجأة فقال: «اصرف بصرك» . وما رواه أحمد وأبو داود والترمذي «3» عن بريدة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى، وليست لك الآخرة» . وما رواه البخاري «4» عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أردف الفضل بن العباس يوم النحر خلفه- وفيه قصة المرأة الوضيئة الخثعمية- فطفق الفضل ينظر إليها، فأخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بذقن الفضل، فحوّل وجهه عن النظر إليها. وقول الله تعالى: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب: 53] وهو- وإن كان السبب فيه أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم- فإنّ الحكم يتناول غيرهن بطريق القياس عليهن. ولعلك إذا نظرت إلى أنّ الشريعة سهلة سمحة لا حرج فيها ولا مشقة، ترجّح القول بأنّ الوجه والكفين من الأجنبية ليسا من العورة، فإنّ في تكليف النساء ستر الوجه والكفين حرجا ومشقة عليهن، لا سيما الفقيرات اللاتي ليس لهن خدم، فيضطرون إلى قضاء حاجاتهن من الأسواق بأنفسهنّ. وينبغي أن يكون القول بهذا خاصّا بالحالات التي تؤمن فيها الفتنة، أما في غيرها من الحالات التي نخشى فيها الفتنة، وفي الأوقات التي يكثر فيها الفساق في الأسواق

_ (1) و (2) و (3) سبق تخريجه. (4) رواه البخاري في الصحيح (7/ 164) ، 79- كتاب الاستئذان، 62- باب قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حديث رقم (6228) . [.....]

والطرقات، فلا يجوز للمرأة أن تخرج سافرة عن وجهها، ولا أن تبدي شيئا من زينتها. فأما قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لجرير بن عبد الله: «اصرف بصرك» وقوله لعلي بن أبي طالب: «لا تتبع النظرة ... » فمعناها النهي عن تعمد النظر إلى شيء من بدن المرأة لغير حاجة، فإن تعمد النظر إليها حينئذ لا يخلو عن ريبة، وقد أمرنا بالبعد عن مظانّ التهم والريبة. وأما صرف النبي صلّى الله عليه وسلّم وجه الفضل عن النظر إلى الخثعمية. فإنما كان ذلك لمخافة الفتنة، فقد أخرج الترمذي «1» وصححه: أنّ العباس بن عبد المطلب قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لويت عنق ابن عمك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما الفتنة» . فكان في ذلك دليل على جواز النظر عند أمن الفتنة، ولو لم يفهم العباس أنّ النظر جائز ما قال مقالته، ولو لم يكن ما فهمه صحيحا ما أقرّه عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم. وأما قوله تعالى: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ فحكمه خاصّ بأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أنّ لهن من الحرمة ما ليس لغيرهن من النساء، فلا يقاس غيرهن عليهن في ذلك. هذا وقد استثنت الشريعة حالات يباح فيها للأجنبي أن ينظر من بدن المرأة إلى ما تقضي الضرورة بالنظر إليه فللخاطب والشاهد والقاضي والعامل أن يرى الوجه، حتى على رأي القائلين بأن بدن المرأة كله عورة، وكذلك للطبيب أن يرى موضع العلاج، وللشاهد بالزنى أن يرى ما يصحح له الشهادة. وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ. والضرب: معناه السدل والإرخاء. والخمر: جمع خمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها، مأخوذ من الخمر بمعنى الستر والتغطية. والجيوب: جمع جيب. وهو فتحة في أعلى القميص يبدو منها بعض النحر. في هذا الأمر إرشاد من الله، وتعليم للنساء كيف يسترن بعض مواضع الزينة الباطنة منهن، أمرهن أن يرخين الخمر على جيوبهن، ليسترن الصدور والنحور، ولا يكنّ كنساء الجاهلية، إذ كانت إحداهنّ تضع خمارها على رأسها، ثم تلقي أطرافه وجوانبه من خلفها. وكانت تمشي بين الرجال هكذا، يظهر منها نحرها وصدرها. وفي ذلك دليل على أن صدر المرأة ونحرها عورة. لا يجوز للأجنبي النظر إليهما منها. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ قد تبين مما تقدّم أنّه لا يجوز للمرأة أن تبدي من زينتها خلاف ما استثناه الله تعالى بقوله: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها فحرام عليها أن تبدي معصمها أو ساقها أو جيدها أو شيئا من مواقع الزينة الباطنة منها.

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 232) ، كتاب الحج، باب ما جاء أنّ عرفة كلها موقف حديث رقم (885) .

أما قوله سبحانه: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ إلخ فالمقصود منه استثناء البعولة ومن عطف عليهم من عموم من نهيت المرأة عن إبداء الزينة الباطنة له. أما البعولة وهم الأزواج، ويلحق بهم من له حق التسرّي من السادة، فالأمر فيهم ظاهر. وأما سائر من استثنى الله فللحاجة إلى مخالطتهم مع أمن الفتنة. استثنت الآية نوعين لأجل المصاهرة: آباء الأزواج وأبناء الأزواج، وليس وراء هذين النوعين من المحارم بالمصاهرة أحد. واستثنت من المحارم بالنسب خمسة أنواع: هم آباء النساء، وأبناؤهن وإخوتهن، وأبناء إخوتهن وأبناء أخواتهن. ولم تذكر من المحارم الأعمام والأخوال، كما أنها لم تذكر المحارم بالرضاع. والفقهاء مجمعون على أنّ حكم هؤلاء كحكم المذكورين في الآية. أما عدم ذكر الأعمام والأخوال فلعلّ السر فيه أنّ العمومة والخئولة بمنزلة الأبوة، فكان ذكر الآباء مغنيا عن ذكر الأعمام والأخوال، وأما المحارم من الرضاع فعدم ذكرهم للاكتفاء ببيان السنة: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «1» . والأنواع الباقية: هي النساء، والمماليك، والتابعون غير أولي الأربعة، والأطفال. فأما النساء والمماليك فقد قال الله تعالى فيهم: أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وللعلماء خلاف في المراد بكل نوع من هذين النوعين، فذهبت طائفة إلى أنّ المراد بالنساء ما يعمّ الحرائر والإماء، وعليه يكون المراد بما ملكت أيمانهنّ خصوص العبيد، لأنّ الإماء قد دخلن في النساء. وحينئذ يحل للمرأة أن تبدي زينتها الباطنة للنساء الحرائر والإماء، ولمن تملكه من العبيد، لأنّهم في ذلك ملحقون بذوي المحارم. وبهذا قال ابن عباس وعائشة وأم سلمة وكثير من السلف وهو مذهب مالك، وأحد قولي الشافعي. ويؤيده ما رواه أحمد وأبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أتى فاطمة رضي الله عنها بعبد قد وهبه لها، وعلى فاطمة ثوب إذا قنّعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ما تلقى قال: «إنّه ليس عليه بأس، إنما هو أبوك وغلامك» «2» . وذهبت طائفة إلى أنّ المراد بالنساء خصوص الحرائر، لأنّ المراد بما ملكت أيمانهن خصوص الإماء، وذلك لأنّ العبد فحل غير محرم ولا زوج، والشهوة فيه متحققة، والحاجة إلى الخلطة به قاصرة، فكان هو والحر الأجنبي في التحريم سواء،

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1068) ، 17- كتاب الرضاع، 1- باب ما يحرم من الرضاعة حديث رقم (1444) . (2) رواه أبو داود في السنن (4/ 30) ، كتاب اللباس، باب في العبد ينظر إلى شعر مولاته، حديث رقم (4106) .

وحرمة النكاح بينه وبين سيدته عارضة كحرمة أخت الزوجة، وما زاد على الأربع والأمة المزوجة بالغير، فدلّ ذلك على أنّ قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ لا يشمل العبيد، وأنّه لبيان حكم الإماء لا غير، فوجب أن يكون قوله تعالى: أَوْ نِسائِهِنَّ مقصورا على الحرائر، لا يتناول الإماء، وإلا كان قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ لغوا. وعلى هذا لا يجوز للمرأة أن تبدي لعبدها من زينتها إلا ما يجوز أن تبديه للأجنبي، ولا يحلّ له أن ينظر من سيدته إلا ما يحل له أن ينظر إليه من الأجنبية، وبهذا قال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين، وكذا ابن المسيّب، فقد روي أنه رجع إليه وقال: لا تغرنّكم سورة النور فإنّها في الإناث لا في الذكور. وهو مذهب الحنفية وأحد قولي الشافعي، ويؤيده قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم» «1» والعبد ليس بذي محرم فلا يجوز لها أن تسافر معه. وحينئذ لا يجوز لها أن تبدي له من زينتها ما تبديه لمحارمها. وأجاب أصحاب هذا القول عن حديث أنس السابق بأنّ العبد كان صغيرا إذ إنّ الغلام حقيقة في غير البالغ. هذا وللعلماء خلاف أيضا في المراد بالنساء مع ناحية أخرى هي ناحية الدين: فقال جماعة: إنّ المراد بهنّ عموم النساء بلا فرق بين المسلمات والكافرات، وعلى هذا تكون الإضافة في قوله تعالى: أَوْ نِسائِهِنَّ للإتباع والمشاكلة، فيجوز للمرأة المسلمة أن تبدي من زينتها للمرأة الكافرة ما يحل لها أن تبديه للمسلمة، وهذا هو أحد قولين عند كل من الحنفية والشافعية، وصححه الغزالي من الشافعية، وأبو بكر بن العربي من المالكية، وقال آخرون: إنّ المراد بهن خصوص النساء المسلمات، فتكون الإضافة للاختصاص، أي النساء المختصات بهن في الصحبة والأخوة في الدين، وعلى هذا لا يحل للمسلمة أن تبدي شيئا من زينتها الباطنة للكافرة. واعتمده جمع من الشافعية. وقال أبو السعود من الحنفية: إنّه يصح القولان في مذهبهم، هو قول أكثر السلف. أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في «سننه» عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي عيبدة رضي الله عنه: أما بعد فإنّه بلغني أنّ نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فإنه من قبلك عن ذلك، فإنّه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تنظر إلى عورتها إلا من كانت من أهل ملتها. وأما التابعون غير أولي الإربة فقد قال الله فيهم: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ الإربة والأرب والأرب والمأربة: الحاجة. والمراد بالإربة هنا الحاجة إلى

_ (1) سبق تخريجه.

النساء. والمراد بالتابعين إلخ الذين يتبعون الناس لينالوا من فضل طعامهم، من غير أن تكون لهم حاجة في النساء، ولا ميل إليهن. وفي تعيين المراد بغير أولي الأربة من الرجال أقوال كثيرة للسلف: فنقل عنهم أنّه الشيخ الذي فنيت شهوته، أو الأبله الذي لا يدري من أمر النساء شيئا، أو المجبوب، أو الخصي، أو الممسوح، أو خادم القوم للعيش، أو المخنّث. والذي عليه المعول: أن المراد به كل من ليس له حاجة إلى النساء، وأمنت من جهته الفتنة ونقل أوصاف النساء للأجانب، فتعيين نوع من الأنواع السابقة بخصوصه لا يؤدي الغرض المقصود، فربّما كان أحد هؤلاء أعرف بالنساء، وأقدر على وصفهن ممن ليس على مثل حاله. أخرج مسلم وأبو داود والنسائي «1» وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم مخنّث، فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم يوما وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أرى هذا يعرف ما هاهنا لا يدخلنّ عليكنّ هذا» فحجبوه . فأنت ترى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حظر دخول ذلك المخنث على نسائه، لأنّه وصف امرأة أجنبية بحضرة الرجال الأجانب. وقد نهي الرجل أن يصف امرأته لغيره، فكيف إذا وصفها غيره من الرجال؟. وأما الأطفال فقد قال الله فيهم: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ قال الراغب «2» : كلمة طفل تقع على الجمع كما تقع على المفرد، فهي مثل كلمة ضيف. وقيل: هي مفرد، وصحح وصفه بالجمع أنّه محلى بأل الجنسية، فهو على حد قولهم: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض. فكأنه قيل: أو الأطفال الذين لم يظهروا ... كما هو منقول عن مصحف حفصة. ويقال: ظهر على الشيء إذا طلع عليه. ويقال: ظهر على فلان إذا قوي عليه. فعلى الأول يكون المعنى: أو الطفل الذين لم يطلعوا على عورات النساء. وهو كناية عن أنّهم لم يعرفوا ما العورة، ولم يميزوا بينها وبين غيرها. وعلى الثاني يكون المعنى: أو الطفل الذين لم يقووا على النساء. أي لم يبلغوا حدّ الشهوة والقدرة على الجماع. والعورات جمع عورة، وأصلها ما يحترز من الاطلاع عليه، سواء أكان ذلك من بدن الإنسان أم من متاعه. وغلبت في سوأة الرجل أو المرأة. والمراد بها هنا سوأة المرأة.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 1716) ، 39- كتاب السلام، 13- باب منع المخنث حديث رقم (2181) ، وأبو داود في السنن (4/ 30) ، كتاب اللباس، باب في قوله: غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ حديث رقم (4107) . (2) حسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم، عالم في التفسير والعربية والأدب، صاحب كتاب المفردات توفي (502) انظر الأعلام للزركلي (2/ 255) .

استثنى الله ممن لا يصح أن تبدي لهم المرأة زينتها الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء. وقد علمت أنّ عدم الظهور على عورات النساء له معنيان: فعلى المعنى الأول لا ينبغي للمرأة أن تظهر شيئا من زينتها الباطنة للمراهق الذي لم يبلغ الحلم، لكنه يعرف عورة النساء، ويميز بين ما للرجل وما للمرأة، ويلحق به من كان قريبا من المراهقة إذا كان يميز بين العورة وغيرها، ويستطيع أن يحكي ما يراه، وعلى المعنى الثاني لا يحرم على المرأة أن تبدي زينتها لمن دون المراهقة، ولا للمراهق أيضا إلا إذا كان فيه تشوّق للنساء، والأمر على المعنى الثاني أوسع في الإباحة منه على المعنى الأول. ويؤيد المعنى الأول أنّ الطفل مأمور بالاستئذان فى أوقات ثلاثة بيّنها الله تعالى بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [النور: 58] . ولا شك أن المأمور بذلك من الأطفال إنما هو الطفل الذي يعرف عورات النساء، ويخشى من دخوله في هذه الأوقات التي هي مظنة اختلال التستر أن يحكي ما يراه، ويصف ما يقع عليه بصره، سواء أكان مراهقا أم لا، فالطفل المأمور بالاستئذان في الأوقات الثلاثة، هو الذي يعرف العورة وهو الذي ينبغي للمرأة ألا تبدي له شيئا من زينتها، وعليه يكون المراد بالأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء: الأطفال الذين لا يعرفون ما العورة لصغرهم. وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ الضرب بالأرجل الدقّ بها على الأرض في المشي، والزينة هنا الخلاخل: أي لا يجوز للمرأة أن تدقّ برجليها في مشيتها لتسمع الناس صوت خلاخلها، فإنّ ذلك يحرك في قلوب الرجال الشهوة، ويدفعهم إلى التطلع إليها، ويحملهم على أن يظنوا بها ميلا إلى الفسوق، وإذا كان السبب في تحريم هذا الفعل هو ما يؤدي إليه من الفتنة والفساد، كان كلّ ما في معناه مما يجر إلى الفتنة والفساد ملحقا به في التحريم، كتحريك الأيدي بالأساور، وتحريك الجلاجل في الشعر. فالتنصيص في الآية على الضرب بالأرجل ليس لقصر النهي عليه، بل لأنّ هذا هو ما كان عليه نساء الجاهلية، فقد كانت إحداهنّ تمشي في الطريق، حتى إذا مرت بمجلس من مجالس الرجال وفي رجلها خلخال ضربت برجلها الأرض، فصوّت الخلخال. فنهى الله سبحانه المؤمنات عن ذلك. وظاهر الآية أنهنّ منهيات عن الضرب بأرجلهن، بقصد أن يعلم الناس ما يخفين من زينة، فيقتضي بمفهومه أنّه لا إثم على المرأة أن تضرب برجلها إذا لم تقصد بذلك تنبيه الناس على زينتها، ولعلّ هذا غير مراد، وإنّ تقييد النهي عن الضرب بحالة القصد إنما هو لموافقة سبب النزول، ومثل هذا لا يعتبر مفهومه. ويصحّ أن تكون اللام في قوله تعالى: لِيُعْلَمَ لام العاقبة، ويكون المعنى

على ذلك أنهنّ منهيات عن الضرب بأرجلهن أمام الرجال الأجانب مطلقا، سواء أقصدن إعلامهم أم لم يقصدن. فإنّ عاقبة الضرب بالأرجل وفيها الخلاخل أن يعلم الناس ما يخفين من الزينة فيفتتنوا بهن. وبالقياس على ما تقدم قال الفقهاء: إنّه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها متعطرة بحيث تشمّ منها الرائحة الطيبة، فقد أخرج أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يقبل صلاة امرأة تطيّبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة» «1» . وروى أبو داود والنسائي عن أبي موسى رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت، فمرّت بالمجلس، فهي كذا وكذا» «2» يعني زانية. واستدل الحنفية بهذا النهي على أنّ صوت المرأة عورة، فإنّها إذا كانت منهية عن فعل يسمع له صوت خلخالها، فهي منهية عن رفع صوتها بالطريق الأولى. والظاهر أنّه إذا أمنت الفتنة لم يكن صوتهنّ عورة، فإنّ نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم كنّ يروين الأخبار للرجال، وفيهم الأجانب من غير نكير ولا تأثيم. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. ختم الله سبحانه وتعالى هذه الآية الكريمة بأمر المؤمنين أن يتوبوا من التقصير الذي لا يخلو عنه أحد منهم، لا سيما ما يتعلّق بإبداء الزينة والنظر إليها. فالآية تشير بهذا الختام إلى أنّه قلّما يسلم أحد من الوقوع في بعض جرائم هذا الباب، ولهذا فهم محتاجون إلى عفو الله ومغفرته. فأرشدهم الله تعالى إلى طريق ذلك بقوله: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً وخاطبهم بعنوان الإيمان، لينبههم إلى أن الإيمان الصحيح هو الذي يحمل صاحبه على الامتثال، وعلى التوبة والاستغفار مما يكون قد ارتكبه من هفوات، فإنّ التوبة سبب الفلاح والفوز بالسعادة. هذا وعن ابن عباس أنّ المراد مما سبق منهم في الجاهلية من النظر وغيره، والآثام التي وقعت منهم في الجاهلية، وإن كان الإسلام قد جبّها فهم مأمورون بالتوبة منها كلما تذكّروا. قال بعض العلماء: وهذا هو الحال في كل معصية تاب منها صاحبها أنه يلزمه أن يكرر التوبة منها كلّما ذكرها.

_ (1) رواه أبو داود في السنن (4/ 51) ، كتتب الترجّل، باب ما جاء في المرأة حديث رقم (4174) ، وابن ماجه في السنن (2/ 1326) ، 39- كتاب الفتن، 19- باب فتنة النساء حديث رقم (4002) . (2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 99) ، كتاب الأدب، باب كراهية خروج المرأة حديث رقم (2787) ، وأبو داود في السنن (4/ 51) ، كتاب الترجّل، باب ما جاء في المرأة تتطيب حديث رقم (4173) ، والنسائي (7- 8/ 528) ، كتاب الزينة باب ما يكره من الطيب حديث رقم (5129) .

الترغيب في النكاح

الترغيب في النكاح قال الله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ إن الله سبحانه لم يحرّم على الناس نوعا من المتاع في الدنيا إلا جعل له نظيرا من الحلال الطيب، ليكون ذلك معينا لهم، ومقويا لعزائمهم على ترك ما حرّمه عليهم، فقد حرّم الربا وأحلّ البيع، وحرّم الميتة وأحل المذكّى، وحرّم الخنزير وأحلّ النعم، كما أنّه حرّم الزنى وأحلّ النكاح. فبعد ما زجر الله عن الزنى ودواعيه القريبة والبعيدة من النظر وإبداء الزينة ودخول البيوت بغير استئذان رغّب في النكاح، وأمر بالإعانة عليه، فالنكاح من خير ما يحقّق العفة، ويعصم المرء عن الزنى، ويبعد به عن آثامه. والْأَيامى: جمع أيم، وأصله أيايم قدّمت الميم على الياء، ثم فتحت للتخفيف، فانقلبت الياء ألفا. والأيم من لا زوج له من الرجال والنساء، سواء أكان بكرا أم ثيبا، وليس خاصّا بالنساء، قال قائلهم: فإن تنكحي أنكح وإن تتأيّمي ... وإن كنت أفتى منكم أتأيّم وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ معناه: زوجوا أياماكم بعضهم من بعض. وكذلك ليس خاصا بمن يموت عنه زوجه، بل يقال أيضا لمن فارق بالطلاق. قال الشماخ: يقرّ لعيني أن أحدّث أنّها ... وإن لم أنلها أيّم لم تزوج قاله في زوجه بعد ما فارقها، هذا هو المشهور في لسان العرب. فالمراد بالأيامى في الآية من لا زوج له من الرجال والنساء، وقوله مِنْكُمْ معناه الذين هم من جنسكم في الحرية، بقرينة عطف الصالحين من العبيد والإماء عليه. والمراد بالصلاح معناه الشرعي المعروف، وهو مراعاة أوامر الدين ونواهيه، وقيل: المراد به المعنى اللغوي، وهو الأهلية للنكاح، والقيام بواجبه، والعباد: كالعبيد جمع عبد، وهو الذكر من الأرقاء. والإماء: جمع أمة، وهي أنثى الرقيقة، ففي الصالحين تغليب الذكور على الإناث. وإنما اعتبر الصلاح في جانب الأرقاء دون الأيامى من الأحرار والحرائر، لأنّ

تزويج العبيد والإماء يفوّت على سادتهم منافع كثيرة، لا يشجعهم على التغاضي عنها، والتهاون فيها إلا استقامة أولئك العبيد والإماء وصلاحهم، أو ظن قيامهم بموجب النكاح وحقوقه. في الآية أمر بتزويج الأيامى من الأحرار والمملوكين، وقد اختلف العلماء في المأمورين بهذا الأمر، فقيل: إنّ هذا أمر موجّه إلى الأمة جميعها. وقيل: إنّ المأمورين هم أولياء الأحرار وسادات العبيد والإماء. ولكنك قد عرفت أنّ اسم الأيامى واقع على الذكور والإناث، فلا وجه لتخصيص الأولياء بالأمر، إذ إن الأيم الكبير من الأحرار لا ولاية لأحد عليه. فالوجه القول الأول: وهو أنّ المأمور الأولياء والسادات، وغيرهم من سائر الأمة، فالأمر متوجه إليهم جميعا أن ينكحوا من لا زوج له. والإنكاح معناه الحقيقي التزويج، وهو إجراء عقد الزواج. ولو أريد بالإنكاح في الآية هذا المعنى لكان الناس مكلّفين أن يزوّجوا الأيامى، وفيهم الرجال الكبار، مع أنّه لا ولاية لأحد عليهم. فكان لا بد من التأويل. إما في كلمة وَأَنْكِحُوا باستعمالها في معنى أعم من إجراء العقد وهو المساعدة في النكاح والمعاونة عليه، وإما في الْأَيامى بحملها على غير الرجال الكبار، ولعلّ التأويل الأول أرجح، فإنّ الآية مسوقة للترغيب في النكاح، والذي يناسبه إبقاء الأيامى على عمومها. وظاهر الأمر بالإنكاح أنّه للوجوب، وبه قال أهل الظاهر، وقال السلف وفقهاء الأمصار إنّه للندب، وصرفه عن ظاهره أمور: - منها: أنه لو كان تزويج من ذكر في الآية واجبا لشاع العمل به في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعصر الخلفاء الراشدين من بعده، ولنقل إلينا مستفيضا لعموم الحاجة إليه، مع أنّه قد كان في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم والعصور بعده أيامى كثيرون من رجال ونساء، ولم ينكر على واحد ترك تزويجهم. - ومنها: أنّ الأيم الثيب لو أبت الزواج فلا يجبرها أحد، فلو كان تزويجها واجبا لأجبرها عليه من ثبت عليه الوجوب. - ومنها: الاتفاق على أن السيد لا يجبر على تزويج عبده وأمته، فلا يكون تزويجهما واجبا عليه، والظاهر أن الحكم في المعطوف عليه، وهو الأيامى من الأحرار كذلك، إذ صيغة الطلب واحدة. واستدل الشافعية بظاهر قوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ على أنّه يجوز للولي أن يزوّج البكر البالغة دون رضاها، لأنّهم تأوّلوا الآية على أنّ الخطاب فيها للأولياء، فقد جعلت للولي حقّ تزويج موليته مطلقا، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، وسواء أرضيت

أم لم ترض، ولولا أنّ أدلة أخرى جعلت الثيب أحقّ بنفسها لكان حكمها حكم البكر الكبيرة، أنه يجوز تزويجها دون رضاها. وأنت تعلم أنه ليس في الآية دليل على إهدار رضا الكبيرة، ولا اعتباره، لكن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها» «1» يدل على وجوب استئذانها، واعتبار رضاها، فكان ذلك مخصصا للآية. وكذلك استدلّوا بها على أنّ المرأة لا تلي عقد النكاح، لأنّ المأمور بتزويجها وليّها فلو جاز لها أن تتولى النكاح بنفسها لفوتت على وليها ما جعله الله حقا من حقوقه، ولكنّك قد علمت أنّ الأولى حمل الخطاب في الآية على أنّه خطاب للناس جميعا على معنى ندبهم إلى المساعدة في النكاح، والمعاونة عليه، وعلى هذا فحكم مباشرة العقد ينبغي أن يؤخذ من غير هذه الآية. واستدل بعض الحنفية بظاهر قوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ على أنه يجوز للحر أن يتزوج بالأمة مطلقا، ولو كان مستطيعا طول الحرة. ويقول الشافعية: إنّ قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ [النساء: 25] أخصّ من الآية التي معنا، والخاصّ مقدّم على العام، فلا يجوز لمن وجد طول الحرة أن يتزوج أمة، كما تقدم ذلك في سورة النساء مفصّلا. وقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ يتناول بظاهره جميع الأيامى، إلا أنّهم أجمعوا على أنّه لا بد لهذا من شروط: ألا تكون المرأة محرما للزوج بنسب أو رضاع أو مصاهرة، ولا أخت زوجته، ولا عمتها، ولا خالتها، ولا بنت أخيها، ولا بنت أختها، إلى غير ذلك من الشروط التي تكفّلت بها الآيات والأحاديث الصحيحة. واستدلّ العلماء بقوله تعالى: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ على أنه يجوز للمولى أن يزوج عبده وأمته دون رضاهما، لأنّ الآية جعلت للسيد حقّ تزويج كلّ منهما، ولم تشترط رضاهما. إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ اختار بعض المفسرين أنّ الكناية في قوله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ راجعة إلى الأيامى من الأحرار والحرائر والصالحين من العبيد والإماء، وعلى ذلك يكون المراد من الإغناء التوسعة ودفع الحاجة، سواء أكان ذلك بملك ما يحصل به الغنى أم لا. واختار آخرون أنّها راجعة إلى الأيامى من الأحرار والحرائر خاصة، لأنّ قوله تعالى: يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ظاهر في أن يملكهم ما يحصل به الغنى، وتندفع به الحاجة، والأرقاء لا يملكون، فليسوا مرادين في الآية.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (8/ 72) ، 9- كتاب الإكراه، 3- باب لا يجوز نكاح المكره حديث رقم (6946) .

وظاهر الجملة الشرطية أنها وعد من الله تعالى بالغنى للمتزوج. وقد نقل عن كثير من الصحابة والتابعين ما يدلّ على أنهم أجروا الآية على ظاهرها، وأنها عدة كريمة من الله، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: أطيعوا الله تعالى فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، قال تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة في «المصنف» عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ابتغوا الغنى في النكاح، يقول الله تعالى: يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وروي مثل ذلك عن ابن عباس وغيره من علماء السلف. والأخبار الدالة على وعد الناكح بالغنى كثيرة. أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة حقّ على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والمجاهد في سبيل الله» «1» . وأخرج الخطيب في «تاريخه» عن جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يشكو إليه الفاقة فأمره أن يتزوج «2» . وقد يقال: كيف تبقى الشرطية على ظاهرها، وأنها وعد من الله بإغناء الفقراء إذا تزوجوا، مع أننا نرى كثيرا من الفقراء يتزوجون، ويستمر فقرهم، ولا يبسط لهم في الرزق، ووعد الله لا يتخلف؟ والجواب: أنّ هذا الوعد مشروط بالمشيئة، كما هو الشأن في مثله. وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ [التوبة: 28] ويرشد إلى إضمار المشيئة قوله تعالى: وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فإنّ المناسب للمقام أن يقال: (واسع كريم) لكنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل ليفيد أنه يعلم المصلحة، فيبسط الرزق لمن يشاء، ويقدّر لمن يشاء، حسبما تقضي به الحكمة والمصلحة، «إنّ من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر، ولو أغنيته لفسد حاله» . وذهب كثير من المفسرين إلى أنّ هذا ليس وعدا من الله بإغناء من يتزوج، بل المقصود الحث على المناكحة، والنهي عن التعليل بفقر المستنكحين، فالمعنى: لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم، أو فقر من تريدون تزويجها، ففي فضل الله ما يغنيهم، والمال غاد ورائح، وليس النكاح مانعا من الغنى، ولا سببا في الفقر. وما

_ (1) الترمذي في الجامع الصحيح (4/ 157) ، كتاب الجهاد، باب ما جاء في المجاهد حديث رقم (1655) ، والنسائي في السنن (5- 6/ 369) ، كتاب النكاح، باب معونة الله حديث رقم (3218) ، وأحمد في المسند (2/ 251) . (2) انظر تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، بيروت دار الفكر (1/ 365) .

استقر في الطباع من أنّ العيال سبب في الفقر إن هو إلا ارتباط وهمي، فقد ينمّي الله المال مع كثرة العيال، وقد يحصل الإقلال مع العزوبة، والواقع يشهد بهذا. وتحقيق ذلك أنّ المراد بيان أنّ النكاح ليس مانعا من الغنى، فعبّر عن ذلك ببيان أنّه سبب في الغنى مبالغة، على حدّ قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 10] فإنّ ظاهره الأمر بالانتشار في الأرض إذا قضيت الصلاة، والمراد تحقيق زوال المانع وإنّ الصلاة إذا قضيت فلا مانع من الانتشار في الأرض، فعبّر عن نفي المانع من الانتشار بما يقتضي طلب الانتشار مبالغة. هذا وقد استدل بعض العلماء بالآية على أنّ النكاح لا يفسخ بالعجز عن النفقة، لأنّه تعالى لم يجعل الفقر مانعا من الإنكاح، بل حثّ على إنكاح الفقراء، ووعدهم بالغنى، فإذا كان الفقر ليس مانعا من ابتداء النكاح فلأن لا يكون مانعا من استدامته أولى. وأنت تعلم أنّ غاية ما تفيده الآية أنّه يندب ألا يردّ الخاطب الفقير ثقة بما عند الله. وهذا القدر أيضا ثابت في استدامة النكاح، فإنّه يندب للمرأة إذا أعسر زوجها بنفقتها أن تصبر وتستأني بها، وهذا لا يمنعها أن تستوفي حقها من فسخ النكاح إذا كان الشرع قد قرّر لها حق الفسخ للإعسار، فالمسألة موقوفة على ورود الشرع بالتفريق للإعسار، فإذا ورد بذلك شرع فالآية لا تنافيه. واستدل بهذا كثير من العلماء على أنّه يندب للفقير أن يتزوج، ولو لم يملك أهبة النكاح، فإنّه من البعيد أن يندب الله الولي إلى إنكاح الفقير، ثم يندب الفقير إلى ترك النكاح، وتمام البحث في الآية الآتية: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الاستعفاف: الاجتهاد في العفة وصون النفس. والمراد بالنكاح هنا ما ينكح به، فإنّ فعالا يكون اسم آلة كركاب لما يركب به. ويجوز أن يراد به حقيقته الشرعية. وبالوجدان: التمكن منه، ويصح أن يقدّر في الكلام مضاف، أي لا يجدون أسباب النكاح ومبادئه: كالمهر، والكسوة، والسكنى، والنفقة. يأمر الله الذين لا يجدون ما يتزوجون به أن يجتهدوا في العفة عن إتيان ما حرّم الله عليهم من الفواحش إلى أن يغنيهم الله من سعته، ويرزقهم ما به يتزوجون. وفي ذلك عدة كريمة بالتفضل عليهم بالغنى تأميلا لهم وتطمينا لقلوبهم. واستدلّ بعض العلماء بالآية على أنّه يندب ترك النكاح لمن لا يملك أهبته مع التوقان. وقد تقدّم أن في الآية السابقة دليلا على ندب النكاح له، فكأنّ بين الآيتين تعارض في ظاهرهما، وللعلماء في الجمع بينهما طريقان: فالشافعية يجعلون هذه مخصصة للآية السابقة، ويقولون: الفقراء قسمان: قسم

مكاتبة الأرقاء

يملك أهبة النكاح، وقسم لا يملكها. فالفقراء العاجزون عن أسباب النكاح الذين لا يملكون أهبته قد ندبهم الله بهذه الآية إلى ترك النكاح وأرشدهم إلى ما هو أولى بهم وأصلح لحالهم: من الاستعفاف وصون النفس إلى وجدان الغنى، وحينئذ يتزوجون، فتعيّن أن يكون الفقراء الذين ندب الله إلى إنكاحهم بقوله: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هم الذين يملكون أهبة النكاح، ولا شكّ أنّ الفقير الذي يملك أهبة النكاح يندب له أن يتزوج. والحنفية يبقون الآية السابقة على عمومها، ويؤوّلون النكاح في هذه الآية على أنّه صفة بمعنى اسم المفعول، ككتاب بمعنى المكتوب، فالأمر بالاستعفاف هنا محمول على من لم يجد زوجة له، وحينئذ لا تعارض بين الآيتين، ولا يخفى أنّ الغاية في قوله تعالى: حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ تجعل هذا التأويل بعيدا كل البعد. والكلام فيما يعتري النكاح من الأحكام واختلاف المذاهب فيه مرجعه إلى كتب الفروع. واستدلّ بعض الناس بهذه الآية على بطلان نكاح المتعة، لأنه لو كان صحيحا لم يتعيّن الاستعفاف سبيلا للتائق العاجز عن مبادئ النكاح وأسبابه، وظاهر الآية أنّه لا سبيل له إلا أن يصبر ويستعفف. وقد يقال: إذا صحّ هذا كان دليلا على تحريم الوطء بملك اليمين. والجواب: أن من عجز عن المهر يكون عن شراء الجارية أشد عجزا في المتعارف الأغلب عند الناس، فلا سبيل له إلا أن يصبر ويستعفف. مكاتبة الأرقاء وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ. الكتاب والمكاتبة: مصدرا كاتب كالعتاب والمعاتبة. والكتابة بمعنى العقد الذي يجري بين السيد وعبده على عتقه بعد أن يؤدي مالا يتفقان عليه، لفظة إسلامية لا تعرفها الجاهلية. وسمّي هذا العقد كتابة إما لأنّ العادة جارية بكتابته لتأجيل العوض فيه، وإمّا لأنّ السيد كتب على نفسه عتقه إذا أدى المال، وإما لأنّ العوض فيه يكون منجما بنجوم يضم بعضها إلى بعض مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ عامّ في العبيد والإماء إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً للعلماء في تفسير الخير هنا أقوال: منها أنّ المراد به الأمانة والقدرة على الكسب، وذكر البيضاوي أنّ هذا التفسير قد روي مرفوعا، وهو مروي عن ابن عباس، واختاره الشافعي، لأنّ مقصود الكتابة لا يحصل إلا بأمانة العبد، وقدرته على

الكسب، وقد يرشّح هذا التفسير قوله تعالى: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [القصص: 26] . وفسّره بعضهم بالحرفة، وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه أبو داود في «المراسيل» والبيهقي في «السنن» وتعقب هذا القول ابن حجر بأنّ العبد إذا لم يكن أمينا أضاع ما كسبه، فلم يحصل المقصود من كتابته. وعن قتادة وإبراهيم وابن أبي صالح أنهم فسروه بالأمانة، وضعّفه ابن حجر أيضا بأنّ المكاتب إذا لم يكن قادرا على الكسب كان في مكاتبته ضرر على سيده، ولا وثوق بإعانته بنحو الصدقة والزكاة. وروي عن علي وابن عباس في رواية ثانية، وابن جريج ومجاهد وعطاء أنهم فسّروا الخير بالمال، ولعلّ مرادهم القدرة على كسب المال، كما هو أحد الأقوال السابقة، وإلّا فهو ضعيف لفظا ومعنى، أمّا ضعفه من جهة اللفظ فلأنّه لا يقال: فيه مال، وإنما يقال: عنده مال أو له مال، وأما ضعفه من جهة المعنى فلأنّ العبد لا مال له، وفسّر الحسن الخير بالصلاح، وهو ضعيف، لأنّه يقتضي ألا يكاتب غير المسلم، وقريب منه تفسير بعض الحنفية إياه بألا يضر بالمسلمين بعد العتق. بعد أن أمر الله سبحانه وتعالى بإنكاح الصالحين من العبيد والإماء أمر جلّ شأنه بكتابة من يطلب الكتابة منهم، ليكون حرا، فيتصرّف في نفسه. وأخرج ابن السكن في سبب نزول هذه الآية «1» عن عبد الله بن صبيح قال: كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى، فسألته الكتابة فأبى، فنزل قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إلخ. وظاهر الأمر في قوله: فَكاتِبُوهُمْ أنّه للوجوب، وبه قال عطاء، وعمرو بن دينار، والضحاك، وابن سيرين، وداود، وحكاه بعض الناس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أخذا مما رواه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير «2» عن أنس بن مالك قال: سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه، فأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأقبل علي بالدّرة، وتلا قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ إلخ وفي رواية أنّه قال: كاتبه، أو لأضربنّك بالدّرة، وفي أخرى أنه حلف عليه ليكاتبنّه. وجمهور العلماء على أنّ الأمر في قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ للندب والاستحباب، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه» «3» ولأنّه لا

_ (1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (5/ 45) . (2) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (18/ 98) . (3) رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 72) . [.....]

فرق بين أن يطلب الكتابة، وأن يطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة، فكما لا يجب هذا البيع، كذلك لا تجب الكتابة، وهذه طريقة المعاوضات أجمع، مرجعها إلى رضا الطرفين واختيارهما. وما روي عن عمر في قصة سيرين لا يدلّ على الوجوب، لأنّها لو كانت واجبة لحكم بها عمر على أنس، ولم يكن يحتاج أن يحلف عليه ليكاتبنّه، ولم يكن أنس أيضا يمتنع من شيء واجب عليه. وأما تهديد عمر إيّاه فإنما كان من كمال شفقته على رعيته، وحبه الخير لهم، فكثيرا ما كان يأمر الناس بما لهم فيه الحظ في الدين، وإن لم يكن واجبا على وجه التأديب والمصلحة. وذهب بعض العلماء إلى أنّ قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ أمر ورد بعد الحظر، فهو للإباحة، لأنّ الكتابة من السيد بيع ماله بماله، وهذا محظور، فلما ورد الشرع بطلبه كان مباحا. وحينئذ يكون ندب الكتابة واستحبابها من دليل آخر، مثل قوله تعالى: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) [البلد: 12، 13] وقوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ إلى قوله: وَفِي الرِّقابِ [البقرة: 177] إلى غير ذلك من العمومات التي تندب إلى عمل البر وفعل الخير. وظاهر الإطلاق في قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ جواز الكتابة، سواء أكان البدل حالّا أم مؤجلا بنجم واحد أو أكثر، وإلى ذلك ذهب الحنفية. ومنع الشافعية الكتابة على بدل حالّ، قالوا: إنّ الكتابة تشعر بالتنجيم، فتغني عن التقييد. وأيضا لو عقدت الكتابة حالّة توجهت المطالبة على المكاتب في الحال، وليس له مال يؤدي منه، فيعجز عن الأداء، فيرد إلى الرق، ولا يحصل مقصود الكتابة. ونظيره من أسلم فيما لا يوجد عند حلول الأجل فإنّه لا يجوز. وكذلك منع الشافعية الكتابة على أهل من نجمين، وسندهم في ذلك أنها عقد إرفاق، ومن تمام الإرفاق التنجيم، ومع أنّ هذا الرأي مروي عن عمر وعثمان وعلي وابن عمر تراه خلاف ظاهر الآية، ومستند الشافعية فيه ليس بالقوي. وقوله تعالى: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً شرط، ومشروطه الأمر بالكتابة، فإن لم يعلموا فيهم خيرا لم تجب، أو لم تندب مكاتبتهم، على الخلاف في مقتضى الأمر كما تقدم. بل ربما تكون الكتابة حين انتفاء الشرط محرمة، كما إذا علمنا أنّ المكاتب يكتسب بطريق الفسق، أو يضيّع كسبه في الفسق، ولو استولى عليه السيد لا متنع من ذلك، ونظيره الصدقة والقرض إذا علم أنّ من أخذهما يصرفهما في محرم فإنهما يحرمان. وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ قد اختلف أهل التأويل في المأمور بإعطاء المكاتب من هو؟ وفي المال أي الأموال هو؟ فقال أكثر العلماء: المأمور بالإعطاء هو مولى العبد المكاتب، والمال الذي أمر بإعطائه منه هو مال الكتابة.

الإكراه على البغاء

ثم اختلفوا على أنّ الربع هو المراد بالآية. وعن ابن مسعود والحسن الثلث. وعن ابن عمر السبع. وعن قتادة العشر. وقال الشافعي: لم تقدّر الآية الشيء الذي يؤتيه المولى، فيكفي في الخروج من عهدة الطلب أن يؤتيه أقلّ متمول، وفي حكمه حط شيء من مال الكتابة، بل الحط أولى من الإيتاء، لأنّه المأثور عن الصحابة، ولأنه في تحقق المقصود من الكتابة أقرب من الإيتاء. وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال: قال مالك: سمعت بعض أهل العلم يقول: إنّ ذلك أن يكاتب الرجل غلامه، ثم يضع عنه من آخر كتابه شيئا مسمّى. قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت، وعلى ذلك أهل العلم وعمل الناس عندنا. ثم اختلف هؤلا في الإيتاء: أهو على سبيل الفرض والتحتيم أم على سبيل الندب والاستحباب؟ فقال سفيان الثوري وطائفة من العلماء: إنّه ليس بواجب، وإن يفعل ذلك حسن. وذهب الشافعي إلى أنّ الإيتاء واجب، وفي معناه الحط كما تقدم، لأنّ ظاهر الأمر في الآية الوجوب، ولا صارف عنه. وقال جماعة من العلماء: إنما هذا أمر متوجه إلى الناس كافة أن يعطوا المكاتبين سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضة بقوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ [التوبة: 60] وهذا هو مذهب الحنفية، وحكاه أبو بكر بن العربي عن مالك. وظاهر أنّ الأمر حينئذ يكون للوجوب. وقيل: إنّه أمر ندب للمسلمين عامة بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم. وقيل إنه أمر للموالي أن يقرضوا المكاتبين شيئا من أموالهم لاستثماره في التجارة ونحوها إعانة لهم على أداء مال الكتابة. الإكراه على البغاء قال الله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ الفتيات: جمع فتاة، وكلّ من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة في أيّ سن كانا. والبغاء: زنى النساء. والتحصن: التعفف عن الزنى.

والعرض: المتاع سريع الزوال. والمراد به هنا ما يعمّ أجورهنّ التي يأخذنها على الزنى بهن وأولادهن من الزنى. أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه «1» أنّ جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، كان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية. وقيل: نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما على الزنى، أحدهما عبد الله بن أبي. وقيل: كان له ست جوار أكرههن على البغاء، وضرب عليهن ضرائب، فشكت اثنتان منهن إلخ. وعن علي وابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يكرهون إماءهم على الزنى، يأخذون أجورهن، فنهوا عن ذلك في الإسلام، ونزلت الآية. وعلى جميع الروايات لا سبيل إلى تخصيص الآية بمن نزلت فيه، بل هي عامة في سائر المكلّفين، لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قد يقال: إنّ النهي عن الإكراه هنا مقيّد بأمرين: الأول: أنّهنّ يردن التحصن. والثاني: أنّهم يبتغون عرض الحياة الدنيا، فيلزم القائلين بالمفهوم أنّ الإكراه على الزنى جائز إذا لم يردن التحصن، أو لم يقصدوا به عرض الحياة الدنيا، والإكراه على الزنى غير جائز بحال من الأحوال إجماعا. والجواب عن ذلك من وجوه: الأول: أنّ الشرط لم يقصد به تخصيص النهي بحالة وجوده، وإخراج ما عداها من حكمه، بل قصد به النص على عادة من نزلت فيهم الآية، حيث كانوا يكرهونهنّ على البغاء، وهن يردن التعفف عنه. ومعلوم أنّه لا يعمل بمفهوم القيد إلا حيث لا يكون له فائدة غير المفهوم، فإذا ظهر له فائدة غير المفهوم، فلا اعتبار بمفهومه. وهنا قد ظهر للشرط فائدة، وهي أنّ في التنصيص على تعفف الإماء توبيخا لسادتهم، وتقبيحا لحالهم، حيث لم يبلغوا في محاسن الآداب والترفع عن الدنيا مبلغ الفتيات المبتذلات، مع وفور شهوتهن، ونقصان عقلهن، وقصور باعهن في معرفة محاسن الأمور. وكذلك قوله تعالى: لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا لم يقصد به التنصيص على هذه الحالة لإخراج ما عداها من الحكم، وإنما جيء به ليسجّل عليهم عادة كانت

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 2320) ، 54- كتاب التفسير، 3- باب قوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ حديث رقم (26/ 3029) ، وأبو داود في السنن (2/ 278) ، كتاب الطلاق، باب في تعظيم الزنى حديث رقم (2311) .

تجري فيما بينهم أيضا، زيادة في التشنيع عليهم، وتقبيحا لما كانوا عليه من احتمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير. والوجه الثاني: أنّ قوله تعالى: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً شرط في تصور الإكراه وتحققه، وليس شرطا للنهي، وهذا الوجه ضعيف، لأنّ الإكراه قد يتصوّر إذا لم يردن التحصن، بأن تكره على زنى غير الذي أرادته، ولو سلّم أن الإكراه لا يتصور إلا إذا أردن التحصن، فذكر الإكراه مغني عن هذا القيد. والوجه الثالث: أن المفهوم اقتضى ذلك الحكم، وهو جواز الإكراه على الزنى عند عدم إرادتهن التحصن، لكن ذلك الذي اقتضاه المفهوم قد انتفى لمعارض أقوى منه وهو الإجماع. وإيثار إِنْ في قوله تعالى: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً على (إذا) لأنّ إرادة التحصن من الإماء كالشأن النادر، أو للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك، فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع. فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ اختلف أهل التأويل في المغفور له من هو، أهو المكرهون أم المكرهات؟ فأكثر العلماء من السلف والخلف على أنّ المعنى: فإنّ الله من بعد إكراههن غفور لهن رحيم بهن، ويؤيد هذا الرأي قراءة ابن مسعود: مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ورويت هذه القراءة عن ابن عباس أيضا. وأورد على هذا الرأي اعتراضان: أولهما: أنه يلزم عليه خلو جملة الجزاء من عائد على اسم الشرط. وثانيهما: أنه لا إثم عليهن حال الإكراه، لأنهنّ غير مكلفات، ولا إثم دون تكليف، فكيف تعلّقت المغفرة بهن؟ والجواب عن الأول: أن خلو الجزاء عن ضمير اسم الشرط لا محذور فيه، لأن اللازم لانعقاد الشرطية كون الأول سببا للثاني، وهو هنا ظاهر، على أنّ التقدير: فإنّ الله من بعد إكراههم إياهن، ففاعل المصدر هو العائد، والمحذوف كالملفوظ. والجواب عن الثاني: أن تعليق المغفرة بهن إما لأنهنّ وإن كن مكرهات لا يخلو عن شائبة مطاوعة بحكم الجبلّة البشرية، وإما لتشديد المعاقبة على المكرهين، لأنّ الإماء مع قيام عذرهن إذا كنّ بصدد المعاقبة، حتى احتجن إلى المغفرة، فما حال المكرهين؟ واختار بعض العلماء أنّ المعنى: أنّ الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهم، أي للمكرهين، وجعل ذلك مشروطا بالتوبة. وهو تأويل ضعيف لأنّ فيه تهوين أمر الإكراه على الزنى، والمقام مقام تهويل وتشنيع على المكرهين.

[سورة النور (24) : الآيات 58 إلى 61]

قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) يقول الله جل ذكره: لقد أنزلنا إليكم في هذه السورة آيات تبيّن لكم ما بكم الحاجة إلى بيانه من الأحكام والحدود والشرائع، وأنزلنا لكم فيها مثلا وقصة عجيبة من قبيل أمثال الذين مضوا من قبلكم، وموعظة ينتفع بها المتقون. فما تقدم من أول السورة إلى هنا يشتمل على آيات ذكر فيها الحدود والأحكام الشرعية، وعلى قصة الإفك العجيبة المشابهة لقصة يوسف وقصة مريم عليهما السلام، حيث اتهما بما اتهمت به عائشة رضي الله عنها من الإفك، فبرأهما الله، وعلى مواعظ وزواجر مثل قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: 2] وقوله جل شأنه: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [النور: 12] إلخ. وقال بعض العلماء المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة جميع ما في القرآن الكريم من الآيات والأمثال والمواعظ. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) روي أنّ أسماء بنت أبي مرثد دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فيه، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فنزلت هذه الآية «1» . وروي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضي الله عنه غلاما من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو، فدخل وعمر نائم قد انكشف عنه ثوبه، فقال عمر: لوددت أنّ الله عزّ وجلّ نهى آبائنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن، فانطلق معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية، فخرّ ساجدا شكرا لله . وهذه إحدى موافقات رأي عمر للوحي. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنّه قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبهم أن يباشروا نساءهم في هذه الساعات، فيغتسلوا، ثم يخرجون إلى الصلاة، فأمرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا عليهم في تلك الساعات

_ (1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (5/ 55) .

إلا بإذن، بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الآية، فإذا صحّ أنّ سبب النزول قصة أسماء المتقدمة كان قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطابا للرجال والنساء بطرق التغليب، لأنّ دخول سبب النزول في الحكم قطعي كما هو الراجح في الأصول. وقد يقال: الأمر في قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ للمملوكين والصغار، وكيف يؤمر الصبي الذي لم يبلغ الحلم، ولا تكليف قبل البلوغ؟ والجواب من وجهين: الأول: أن الأمر وإن كان كذلك في الظاهر، لكنّه في الحقيقة للمخاطبين، فهم أمروا أن يأمروا مماليكهم وصبيانهم بالاستئذان، وإلى هذا المعنى يرشد كلام السدي في سبب النزول كما سبق. وأمر المخاطبين صبيانهم بالاستئذان إنما هو من باب التأديب والتعليم، ولا إشكال فيه، ومثله ما روي من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر» «1» . والثاني: أنّ الأمر للبالغين من المذكورين على وجه التكليف، ولغيرهم على وجه التأديب. وظاهر الأمر في قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ أنّ للوجوب، وبهذا الظاهر قال بعض العلماء. ولكن الجمهور على أنّه أمر استحباب وندب، وأنّه من باب التعليم والإرشاد إلى محاسن الآداب، فلو دخل المملوك المكلّف على سيده بغير استئذان لم يكن ذلك معصية منه، وإنما هو خلاف الأولى، وإخلال بالأدب. نعم إذا كان يعلم أنّ في دخوله بغير إذن إيذاء لسيده كان دخوله حينئذ حراما، لا من حيث إنه دخل بغير إذن، بل من حيث أنه آذى غيره، وعلى كلا القولين حكم الاستئذان في الأوقات الثلاثة الآتية محكم ليس بمنسوخ ولا مؤقّت بوقت قد انتهى على الصحيح. وزعم بعض الناس أنّه منسوخ، لأن عمل الصحابة والتابعين في الصدر الأول كان جاريا على خلافه. وقال آخرون: إنّ طلب الاستئذان كان في العصر الأول إذ لم يكن لهم أبواب تغلق ولا ستور ترخى. تمسّكوا في ذلك بما أخرجه أبو داود «2» عن عكرمة قال: إنّ نفرا من أهل العراق قالوا لابن عباس رضي الله عنهما: كيف ترى فى هذه الآية التي أمرنا بها ولا يعمل بها أحد. قول الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الآية،

_ (1) رواه أبو داود في السنن (1/ 197) ، كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام حديث رقم (495) . (2) رواه أبو داود في السنن (4/ 388) ، كتاب الأدب، باب الاستئذان حديث رقم (5192) .

فقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنّ الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال، فربما دخل الخادم أو الولد أو اليتيمة والرجل على أهله، فأمرهم الله تعالى بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور وبالخير فلم أر أحدا يعمل ذلك بعد. وظاهر قوله تعالى: الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أنّ الحكم خاص بالذكور من العبيد سواء أكانوا كبارا أم صغارا، وبهذا الظاهر قال ابن عمر ومجاهد. والجمهور على أنه عام في الذكور والإناث من الأرقّاء الكبار منهم والصغار. وعن ابن عباس أنه خاص بالصغار، وهو بعيد. وأبعد منه ما روي عن السلمي من تخصيصه بالإناث. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ كناية عن أنهم قصروا عن درجة البلوغ، ولم يصلوا حدّ التكليف، فالكلام مستعمل في لازم معناه، لأنّ الاحتلام أقوى دلائل البلوغ، وسيأتي لذلك مزيد شرح عند تفسير قوله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ إن شاء الله. والجمهور على أنّ المراد بالذين لم يبلغوا الحلم الصبيان من الذكور والإناث، سواء أكانوا أجانب أم محارم، إلا أنّ قوله تعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ يجعل اسم الموصول هنا خاصا بالمراهقين. كما أنّ وصفه بقوله تعالى: ومِنْكُمُ يجعله خاصا بالأحرار ويشعر بذلك أيضا ذكره في مقابلة الذين ملكت إيمانكم. ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ الظهيرة وقت الظهر، وقل: شدة الحر عند انتصاف النهار. وقد اختلف العلماء في إعراب ثَلاثَ مَرَّاتٍ تبعا لاختلافهم في المراد بها. فالجمهور على أنّها منصوبة على الظرفية، للاستئذان، لأنّ المعنى: ليستأذنكم المذكورون في ثلاثة أوقات: قبل الفجر، ووقت الظهيرة، وبعد صلاة العشاء. وقال أبو حيان: إنّها مفعول مطلق مبيّن للعدد، لأنّ المعنى: ليستأذنوكم ثلاث استئذانات كما هو الظاهر، فإنّك إذا قلت: ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام: «الاستئذان ثلاث» وعليه يكون قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ إلخ ظرفا لثلاث مرات. وقد يقال: إنّ رأي أبي حيان يقتضي أن يكون الاستئذان ثلاث مرات واقعا في كل وقت من الأوقات الثلاثة المذكورة بعده، وليس هذا بمراد، ولعلّ هذا هو الذي حمل الجمهور على العدول عن مقتضى ظاهر اللفظ إلى القول بأنه ظرف أبدل منه الأوقات الثلاثة إبدال مفصّل من مجمل. ولأبي حيان أن يقول: إنّ مجموع

الاستئذانات الثلاث واقع في مجموع الأوقات الثلاثة، فلكل وقت استئذانة واحدة، والأمر قريب. وقوله تعالى: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ معناه أنّ هذه الأوقات الثلاثة السالفة الذكر هي ثلاثة أوقات يختلّ فيها تستركم عادة، فالوقت الأول: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وقت القيام من المضاجع، وطرح ثياب النوم، ولبس ثياب اليقظة، وذلك مظنة انكشاف العورة. والوقت الثاني: وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وقت يتجردون فيه عن الثياب لأجل القيلولة. والوقت الثالث: وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ وقت يخلعون فيه ثياب اليقظة ويلبسون ثياب النوم، وقد يتعاطون فيه مقدمات المباشرة. لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ الظاهر أنّ المراد من هذه الجملة أنّه لا إثم في ترك الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة، فذلك ترخيص في الدخول بغير استئذان في الأوقات الممتدة بين كل وقتين من الأوقات الثلاثة السابقة. أما الوقتان الواقعان فيما بين صلاة الفجر والظهيرة، وفما بين الظهيرة وصلاة العشاء، فترك الاستئذان فيهما أمر ظاهر، لأنّهما ليسا من أوقات العورة. وأما الوقت الممتد بين العشاء والفجر فترك الاستئذان فيه غير ظاهر، لأن هذا الوقت وقت نوم يختل فيه التستر عادة، فكان من حقه أن يدخل في أوقات العورة التي لا يباح فيها الدخول بغير استئذان. وللعلماء في ذلك توجيهات: منها: أن الأمر بالاستئذان في الأوقات الثلاثة السابقة يفهم منه الأمر بالاستئذان في هذا الوقت من باب أولى، وعليه يكون حكم هذا الوقت كالمستثنى من قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ. ومنها: أنّه مسكوت عن حكمه لندرة الوارد فيه جدا. ومنها: أن العادة جارية بأنّ من ورد في هذا الوقت لا يرد حتى يشعر أهل البيت، ويعلمهم بوروده، لما في الدخول هذا الوقت من دون إعلام من التهمة وإساءة الظن. ولأبي حيان رأي آخر في معنى الجملة، وهو أنّ التقدير ليس عليكم ولا عليهم جناح بعد استئذانهن فيهن، فتصرّف في الكلام بالحذف والإيصال. فحذف فاعل الاستئذان، وهو الضمير المضاف إليه، وحذف حرف الجر، فصار بعد استئذانهن، ثم حذف المصدر المضاف، فصار بعدهن. وحاصل المعنى عليه: فإذا استأذنوكم في الأوقات الثلاثة، فلا جناح عليكم ولا عليهم. وهذا المعنى وإن كان يدفع الإشكال السابق، إلّا أنّه خلاف الظاهر، والتصرف في الكلمة على هذا النحو تأباه جزالة النظم الجليل. وقد علمت فيما سبق أنّ الأمر في قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إلخ

في ظاهر اللفظ موجّه لمن لم يبلغ الحلم، وهو في الحقيقة أمر لأوليائهم أن يعلّموهم الآداب الحسنة، ويأمروهم بالاستئذان في الأوقات الثلاثة السابقة، فإذا اعتبر الأمر في ظاهر اللفظ قيل: ليس عليهم جناح بعدهن، وإذا اعتبر المأمورون في الحقيقة قيل: ليس عليكم جناح، واقتصر عليهم. لكنّ النظم الجليل قد روعي فيه الاثنان، فجمعهما في نفي الجناح مبالغة في الإذن بترك الاستئذان بعد الأوقات الثلاثة. والظاهر أنّ المراد بالجناح المنفي الإثم الشرعي، أي لا إثم عليكم ولا إثم عليهم في دخولهم عليكم بغير استئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة. ويفهم منه أنّ على المخاطبين وعلى الصغار الذين لم يبلغوا الحلم إثما إذا دخل هؤلاء الصغار في الأوقات الثلاثة من دون استئذان. وهو مشكل من وجهين: الأول: أن المخاطبين حمّلوا تبعة فعل غيرهم، مع أنه لا تزر وازرة وزر أخرى. والثاني: أنّ الصغار غير مكلّفين، فلا يتصور في حقهم الإثم الشرعي. والجواب أنّه لا مانع من تأثيم المخاطبين لتركهم تعليم الصغار، وتمكينهم إياهم من الدخول بغير استئذان في أوقات العورات. وإنّ الجناح المنفي عن الصغار الجناح العرفي، بمعنى الإخلال بالأدب والمروءة. نفت هذه الآية الحرج في دخول المماليك والذين لم يبلغوا الحلم بغير استئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها يحظر الدخول بغير استئذان في جميع الأوقات، فكان بين ظاهر الآيتين تعارض. وأصحّ ما دفع به هذا التعارض أنّ الآية السابقة خاصة بالأحرار البالغين، وفي حكمهم مماليك الأجانب. وهذه الآية في الصبيان ومماليك المدخول عليه، فلا تعارض. ويؤخذ من تعليل الأمر بالاستئذان في الأوقات الثلاثة بأنها أوقات عورة، يختل فيها تسترهم: أن العبرة بتحقق هذا المعنى، بقطع النظر عن خصوص الوقت، فلو كان أهل البيت على حال يكرهون اطلاع المماليك والمراهقين عليهم فيها كانكشاف عورة ومداعبة زوجة. أو أمة. فإنّه ينبغي أن يستأذن مماليكهم وصبيانهم عليهم ولو كان ذلك في غير الأوقات الثلاثة. لأن المعنى الذي من أجله أمروا بالاستئذان، وهو خشية الاطلاع على العورات متحقق. فالأمر بالاستئذان فيها، ونفي الجناح بعدها جاريان على العادة الغالبة. طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي وهم يطوفون عليكم بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي بعضكم طائف على بعض، فحذف متعلّق الجار، وهو كون خاصّ لدلالة ما قبله عليه. والجملة الأولى مستأنفة لبيان العذر المرخّص في ترك الاستئذان، أي إن من

شأنهم مخالطتكم، والتردد عليكم بالدخول والخروج، فرفع الحرج عنكم وعنهم في ترك الاستئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة. والجملة الثانية مؤكّدة للأولى في بيان الحكمة التي من أجلها رخّص في ترك الاستئذان، إلا أنها أشمل من الأولى، فإنّ معناها أن كلّا منكم لا يستغني عن مخالطة الآخر، فهم طوّافون عليكم، وأنتم طوّافون عليهم. وفي هذا تسلية للماليك والخدم، بأنّ التعاون في الحياة أمر مشترك بين المالك والمملوك والخادم والمخدوم. وكان من حق المقابلة أن يقال: طوافون عليكم، وأنتم طوافون عليهم. لكن عدل عنه إلى ما في النظم الجليل بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ مراعاة لجانب السادة المخدومين، وتلطفا في التعبير عن حاجتهم إلى المماليك والخدم. وتدل الآية الكريمة على اعتبار العلل في الأحكام الشرعية، لأنّ الله تعالى نبّه على العلة في طلب الاستئذان في الأوقات الثلاثة بقوله جلّ شأنه: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ ونبّه على العذر المبيح لترك الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة بقوله عزّ اسمه: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ. وتدلّ الآية أيضا على أنّ من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح. على وجه التأديب والتعليم، وليعتاده ويتمرّن عليه، ليكون أسهل عليه عند البلوغ. قال تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: 6] روي في تفسيرها أدّبوهم وعلّموهم. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ معنى تبيين الآيات إنزالها مبينة واضحة الدلالة على معانيها وما قصد منها. يكثر في القرآن أنّ الله جلّ شأنه بعد أن يذكر الآيات واضحة الدلالة مبيّنة بيانا يشفي الصدور، ويعمر القلوب باليقين والاطمئنان، ويحمل السامع على أن يستيقن أن هذا هو البيان، لا بيان بعده، يردف ذلك بقوله عزّ اسمه كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ فينبه المخاطبين على أنّ هذه عادة الله في آياته كلّها يبينها البيان الشافي لقوم يعقلون. وَاللَّهُ عَلِيمٌ ذو علم شامل لكل معلوم، فيعلم ما يصلح لكم وما لا يصلح حَكِيمٌ فيشرع لكم من الأحكام ما يناسبكم، ويكفل لكم السعادة في المعاش والمعاد. قال الله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) قد يتوهّم بعض الناس أنّ الصبي وقد اعتاد الدخول والتردد على أهل بيت معين إذا بلغ مبلغ الرجال فلا حرج في دخوله بغير استئذان، كسابق عادته، فجاءت هذه

الكلام في بلوغ الصبي

الآية لدفع هذا التوهم، وبيان أنّ الأطفال الذين قد رخّص لهم في ترك الاستئذان في غير العورات الثلاث إذا بلغوا الحلم وجب عليهم أن يستأذنوا، كما استأذن الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها إلخ أي فعليهم أن يستأذنوا في كلّ الأوقات، ويرجعوا إذا قيل لهم ارجعوا. الكلام في بلوغ الصبي قال الله تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ في القاموس الحلم بالضم والاحتلام: الجماع في النوم، والاسم منه الحلم كعنق. وقال الراغب: الحلم زمان البلوغ سمي بذلك لكون صاحبه جديرا بالحلم وضبط النفس عن هيجان الغضب. والصّحيح أن الحلم هنا بمعنى الجماع في النوم، وهو الاحتلام المعروف. وأنّ الكلام كناية عن البلوغ والإدراك كما سبق. جعلت الآية حدّ التكليف منوطا ببلوغ الصبي الحلم. ومثل الآية في ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «رفع القلم عن ثلاث ... وعن الصبيّ حتّى يحتلم» «1» وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «غسل الجمعة واجب على كلّ حالم» وفي رواية «على كل محتلم» «2» وفي حديث معاذ «3» رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا، يعني الجزية . ومعنى هذه النصوص أنّ الصبي إذا بلغ أوان الاحتلام جرت عليه أحكام البالغين، سواء احتلم أم لم يحتلم وأجمع الفقهاء على أن الغلام إذا احتلم فقد بلغ، وكذلك الجارية إذا احتملت أو حاضت أو حملت. لكنّهم اختلفوا في أمارات أخر تدل على البلوغ، ويناط بها التكليف من غير احتلام ولا حيض. فعن قوم من السلف أنّهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار: روى ابن سيرين عن أنس قال: أتي أبو بكر رضي الله عنه بغلام قد سرق فأمر به فشبّر فنقص أنملة، فخلّى عنه. وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه

_ (1) رواه أبو داود في السنن (4/ 131) ، كتاب الحدود، باب المجنون يسرق حديث رقم (4403) . (2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 580) ، 7- كتاب الجمعة، حديث رقم (5/ 846) ، والبخاري في الصحيح (1/ 239) ، 11- كتاب الجمعة، 2- باب فضل الغسل حديث رقم (879) . (3) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 20) ، كتاب الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر حديث رقم (623) ، وأبو داود في السنن، (2/ 14) ، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة حديث رقم (1576) ، والنسائي في السنن (5- 6/ 26) ، كتاب الزكاة، باب زكاة البقر حديث رقم (2451) ، وأحمد في المسند (5/ 230) .

الحدود، يقتص له ويقتص منه. وفقهاء الأمصار لا يجعلون ذلك من أمارات البلوغ، فقد يكون دون البلوغ وهو طويل، وقد يكون فوق البلوغ وهو قصير. وعن آخرين أنهم اعتبروا الإنبات من أمارات البلوغ، يقال: أنبت الغلام إذا نبت شعر عانته. ويقال: كناية عن ذلك: اخضرّ إزاره. والشافعي رضي الله عنه يجعل الإنبات دليلا على البلوغ في حق أطفال الكفار لإجراء أحكام الأسر والجزية والمعاهدة وغيرها عليهم. واحتجّ له بما روى عطية القرظي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بقتل من أنبت من قريظة، واستحياء من لم ينبت، قال: فنظروا إليّ فلم أكن أنبت فاستبقاني صلّى الله عليه وسلّم «1» . وفي كتب المغازي والسير المعتمدة أنّ سعد بن معاذ رضي الله عنه لما حكم في بني قريظة أن تقتل الرجال، وتسبى الذرية، وتقسّم الأموال أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتل كل من جرت عليه الموسى منهم، ومن لم ينبت ألحق بالذرية «2» . وروى عثمان رضي الله عنه أنّه سئل عن غلام فقال: هل اخضرّ إزاره؟ وفقهاء الأمصار مجمعون على اعتبار السن في البلوغ، إلا أنهم مختلفون في التقدير. فالمشهور عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أن الغلام لا يبلغ إلا بعد أن يتم له ثماني عشرة سنة، وفي الجارية سبع عشرة سنة. وقال صاحباه والشافعي وأحمد: حدّ البلوغ بالسن في الغلام والجارية خمس عشرة سنة، وهو رواية عن الإمام أيضا وعليه الفتوى. دليل المشهور عن الإمام قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام: 152] وأقل ما قيل في بلوغ الأشدّ ثماني عشرة سنة، فيبني الحكم عليه للتيقن، غير أنّ الإناث نشوءهن وإدراكهن أسرع، فنقص في حقهن سنة، لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة. وللشافعي ومن معه أنّ العادة جارية ألا يتأخر البلوغ في الغلام والجارية عن خمس عشرة سنة، ولهم أيضا ما روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه عرض على النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، وله أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه «3» . واعترض الجصاص عليهم بأنّ هذا الخبر لا دلالة فيه على المدعى، لأنّ الإجازة في القتال والرد يتبعان القوة والضعف، لا البلوغ وعدم البلوغ، فلعلّ عدم

_ (1) رواه أبو داود في السنن (4/ 132) ، كتاب الحدود، باب في الغلام حديث رقم (4404) . (2) مسلم في الصحيح، 32- كتاب الجهاد، 22- باب حديث رقم (64/ 1768) ، والبخاري في الصحيح (5/ 60) ، 64- كتاب المغازي، 31- باب مرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (4121) . (3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1490) ، 33- كتاب الإمارة، 23- باب بيان سن البلوغ حديث رقم (9/ 1868) .

إجازته عليه الصلاة والسلام لابن عمر أولا إنما كان لضعفه، وإجازته إياه ثانيا إنما كانت لقوته وقدرته على حمل السلاح لا لبلوغه، ويشعر بذلك أنّه صلّى الله عليه وسلّم ما سأله عن الاحتلام والسن. قال الله تعالى: وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) القواعد: جمع قاعد بغير تاء، لأنه مختص بالنساء كحائض وطامث. قال ابن السكيت «1» : امرأة قاعد: قعدت عن الحيض. وفي «القاموس» أنها هي التي قعدت عن الولد، وعن الحيض، وعن الزوج. لا يَرْجُونَ نِكاحاً لا يطمعن في النكاح لكبر سنّهنّ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ يخلعنها غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ أصل التبرج: التكلّف في إظهار ما يخفى. ومادة برج تدور على الظهور والانكشاف، ومن ذلك البرج بالتحريك سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله. والبرج بالضم: الحسن. والبارجة: السفينة الكبيرة للقتال، والمراد بالتبرج هنا: تكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها. رخّص الله للنساء العجائز اللائي أيسن، ولم يبق لهن مطمع في الأزواج، أن يخلعن ثيابهن، من غير أن يقصدن بخلع الثياب التبرج والتكشف للرجال، ولم تبيّن الآية الثياب التي رخّص للقواعد أن يخلعنها. وللمفسرين في بيانها رأيان: الأول: أن المراد بها الثياب الظاهرة التي لا يفضي وضعها إلى كشف العورة: كالجلباب السابغ: الذي يغطي البدن كله، كالرداء الذي يكون فوق الثياب، وكالقناع: الذي فوق الخمار. وحجة أصحاب هذا الرأي ما أخرجه ابن جرير عن الشعبي أنّ أبي بن كعب قرأ: أن يضعن من ثيابهن. وما أخرجه ابن المنذر عن ميمون بن مهران أنّه قال: في مصحف أبي بن كعب، ومصحف ابن مسعود أن يضعن جلابيبهن وهي قراءة ابن عباس أيضا. قالوا: والجلباب ما تغطي به المرأة ثيابها من فوق كالملحفة، فلا حرج عليهن أن يضعن ذلك عند المحارم من الرجال وغير المحارم من الغرباء، غير متبرجات بزينة. والرأي لثاني: أنهن يضعن خمرهن وأقنعتهن إذا كنّ في بيوتهن، أو من وراء الخدور والستور. ويضعّفه أنّ للشابة أن تفعل ذلك في خلوتها، فلا معنى لتخصيص القواعد بذلك.

_ (1) يعقوب بن إسحاق، لغوي، أديب توفي (424 هـ) انظر الأعلام للزركلي (8/ 195) .

وقد يقال: إذا كان وضع الثوب لا يترتب عليه كشف العورة فما معنى نفي الجناح فيه؟ وهل ينفى الجناح إلا في شيء قد كان يتوهّم حظره ومنعه؟ والجواب: أن الله تعالى ندب نساء المؤمنين إلى أن يبالغن في التستر والاستعفاف، بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، وجعل ذلك من الحشمة ومحاسن الآداب، فإنّه أبعد عن الريبة بهن، وأقطع لأطماع ذوي الأغراض الخبيثة، فكان إدناء الجلابيب من الآداب التي ندب إليها النساء جميعا، فرخص الله للقواعد من النساء أن يضعن جلابيبهن، ونفى عنهن الجناح في ذلك، وخيّرهن بين خلع الجلباب ولبسه، ولكن جعل لبسه استعفافا وخيرا لهن من حيث إنه أبعد عن التهمة، وأنفى للظنّة. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وسيجازيهن على ما يجري بينهنّ وبين الرجال من قولهنّ وقصدهنّ. وقد تخرّج الآية على معنى ثالث يقتضيه ظاهرها: وهو أنّ الله تعالى كما رخّص للنساء أن يبدين زينتهن لغير أولي الإربة من الرجال كذلك رخّص للنساء غير أولات الإربة أن يضعن ثيابهنّ التي كان يحرم عليهن خلعها بحضرة الرجال الأجانب، فلا حرج على العجوز أن تخلع خمارها وقناعها، ولو أدّى ذلك إلى كشف عنقها ونحرها للأجانب، ما دامت الفتنة مأمونة، وقد يساعد على ذلك أنّ نفي الحرج في خلعهنّ ثيابهنّ يدلّ على أنّ خلع هذه الثياب قد كان محظورا قبل أن يقعدن عن الحيض والولد، أيام كان لهنّ في الرجال مطمع، وللرجال فيهنّ رغبة. ولا شكّ أن المحظور حينئذ إنما هو خلع الثياب التي يفضي خلعها إلى كشف شيء من العورة، فما كان محظورا عليهن أيام صباهن هو الذي أبيح لهنّ حين كبرن، وانقطعت رغبتهن في الرجال. ولقد كان معروفا في لسان العرب عصر التنزيل أن معنى وضع الرجل ثوبه، ووضع المرأة ثوبها، أنّ كلّا منهما يخلع من ثيابه ما يزيد على ما يلبسه في بيته، وأمام أهله ومحارمه. ففي «صحيح مسلم» «1» وغيره من حديث فاطمة بنت قيس أنها لما طلقها زوجها فبتّ طلاقها، أمرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن تعتدّ في بيت أمّ شريك ثم أرسل إليها أنّ أمّ شريك يغشاها أصحابي، فاعتدّي في بيت ابن عمك ابن أم مكتوم فإنّه ضرير البصر، تضعين ثيابك عنده. وفي رواية: «فإنّك إذا وضعت خمارك لم يرك» ظاهر أنّ المراد من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «تضعين ثيابك عنده» أنّها تتحلل مما يجب عليها لبسه بحضرة الرجال الأجانب. قال الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

_ (1) سبق تخريجه.

الحرج: الضيق. ومنه الحرجة للشجر الملتف بعضه ببعض، لضيق المسالك فيه، والمراد بالحرج هنا الإثم. والمفاتح: جمع مفتح أو مفتاح، وملك المفتاح كناية عن كون الشيء تحت يد الشخص وتصرفه، كأن يكون وكيلا عن رب المال، أو قيمه في ضيعته وماشيته. والصديق: من يصدق في مودتك وتصدق في مودته، يقع على الواحد وعلى الجمع، والمراد به هنا الجمع. والأشتات: جمع شتّ، صفة مشبهة على فعل كحق. يقال أمر شتّ أي متفرق. وأصل معنى التحية طلب الحياة، كأن يقول: حيّاك الله، ثم توسّع فيه، فاستعمل في كل دعاء، وتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. مُبارَكَةً بورك فيها بالأجر. طَيِّبَةً تطيب بها نفس السامع. اختلف الرواة في سبب نزول هذه الآية اختلافا كثيرا، نشأ عنه اختلاف أهل التأويل في معنى الآية، وأوجه اتصال جملها بعضها ببعض، فذكروا في ذلك أقوالا كثيرة، نذكر لك منها أقربها للصواب، وأولاها بالاعتبار: فمنها: ما اختاره ابن جرير «1» وهو أنّ المراد نفي الحرج عن العمي والعرج والمرضى وجميع الناس في أن يأكلوا من بيوت الذين ذكر الله، فيكون الله قد نفى الحرج عن أهل العذر أولا، ثم نفى الحرج عن المخاطبين، ثم جمع المخاطبين مع أهل العذر في الخطاب بقوله: أَنْ تَأْكُلُوا وكذلك تفعل العرب إذا جمعت بين خبر الغائب والمخاطب غلّبت المخاطب فقالت: أنت وأخوك قمتما، وأنت وزيد جلستما، ولا تقول: أنت وأخوك جلسا. أخرج ابن جرير «2» عن معمر قال: قلت للزهري في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ: ما بال الأعمى ذكر هاهنا والأعرج والمريض؟ فقال: أخبرني عبيد الله أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم يقولون:

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (18/ 130) . (2) المرجع نفسه (18/ 129) . [.....]

قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا. وكانوا يتحرّجون من ذلك يقولون: لا ندخلها وهم غيّب، فأنزلت هذه الآية رخصة لهم. فالآية وإن كانت نزلت في تحرّج الزمنى من أن يأكلوا من بيوت من خلّفوهم على بيوتهم، إلا أنها ذكرت حكما عامّا لكل الناس، فنفت عنهم الحرج في أن يأكلوا من بيوتهم، أو بيوت آبائهم. إلخ ويدخل في ذلك سبب النزول دخولا أوليا. وقد يقال: إنّ أكل الناس من بيوتهم قد كان معلوما حكمه، وأنه كان حلالا لهم، فما معنى نفي الحرج فيه؟ والجواب: أنّ أكل الناس في بيوتهم لم يذكر هنا لنفي حرج قد كان متوهّما، وإنما ذكر لإظهار التسوية بين أكلهم من بيوت أقاربهم وموكّليهم وأصدقائهم، وأكلهم من بيوتهم. ونظيره قوله تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [آل عمران: 46] قد كان معلوما أنه لا عجب في أن يتكلّم إنسان في زمان كهولته، فكان الغرض من ذكره بيان أنّ كلامه في زمن المهد مثل كلامه وهو كهل. كذلك ما معنا: الغرض بيان أنّ أكلهم من بيوت المذكورين كأكلهم من بيوت أنفسهم سواء بسواء. وبعض العلماء يتأوّل قوله تعالى: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ على بيوت الزوجات والأولاد. ومنها ما اختاره الجبّائي وأبو حيان: وهو أنّ الآية تنفي الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في القعود عن الجهاد، وتنفي الحرج عن المخاطبين في أن يأكلوا من بيوت الذين ذكرهم الله فالمعنى: ليس على أصحاب العذر حرج في التخلف عن الجهاد، وليس عليكم أيها الناس حرج في أن تأكلوا إلخ. وقد يبدو أنّ في هذا العطف غرابة لبعد الجامع. ولكن إذا علم أنّ الغرض بيان الحكم كفاء الحوادث، وأن الكلام في معرض الإفتاء والبيان، وأن الحادثتين قد اشتركتا في ذلك الغرض الذي سبق له الكلام- قرب الجامع بينهما، وصح عطف إحداهما على الأخرى. قال الزمخشري «1» : ومثاله أين يستفتي مسافر عن الإفطار في رمضان وحاجّ مفرد عن تقديم الحلق على النحر، فنقول: ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر. فإن قيل: فما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟ قيل: إنّ الترخيص لأهل العذر في ترك الجهاد، قد ذكر أثناء بيان الاستئذان ليفيد أن نفي الحرج عنهم في التخلف عن الجهاد مستلزم عدم وجوب الاستئذان منه

_ (1) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (3/ 257) .

صلّى الله عليه وسلّم، فلهم القعود عن الجهاد من غير استئذان ولا إذن، كما أنّ للمماليك والصبيان دخول البيوت في غير العورات الثلاث من غير استئذان ولا إذن من أهلها. ومنها: أنّ الآية تنفي الحرج عن الناس في أن يأكلوا مع الأعمى والأعرج والمريض، وفي أن يأكلوا من بيوتهم أو بيوت آبائهم إلخ. وذلك أنّه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما نزل قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 188] تحرّج المسلمون عن مؤاكلة الأعمى، فإنه لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لأنّه لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض لأنه لا يستوفي حظّه من الطعام، فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» . ومن ذهب إلى هذا التأويل جعل كلمة عَلَى بمعنى (في) فقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ إلخ معناه ليس في الأعمى حرج، أي ليس عليكم في مؤاكلة الأعمى حرج إلخ. ومنها ما روي أنّه قد كان أهل الأعذار يتحرّجون أن يأكلوا مع الأصحاء حذرا من استقذارهم إياهم، وخوفا من تأذّيهم بأفعالهم وأوضاعهم فنزلت الآية «2» . أي ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج في أن يأكلوا مع الأصحاء، وليس عليكم أيها الناس حرج في أن تأكلوا من بيوتكم إلخ. وعلى جميع الآراء ترى الآية الكريمة قد أباحت الأكل من بيوت الأقارب: الآباء، والأمهات، والإخوة، والأخوات، والأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات. وأباحت أيضا الأكل مما كان تحت يد الشخص وتصرفه من مال غيره، والأكل من بيوت الأصدقاء، ولم يذكر فيها قيد ما لإباحة الأكل من هذه البيوت، فهي في ظاهرها تنافي قوله: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» «3» وما في حديث ابن عمر عنه صلّى الله عليه وسلّم: «لا يحلبنّ أحد ماشية أحد إلا بإذنه» «4» وأيضا فإنّ إباحة الأكل من هذه البيوت، دون شرط ولا قيد، تدل على أنّ لهم دخولها بغير استئذان، وهو معارض لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها وقوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: 53] فإذا كانوا ممنوعين من دخول بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا بإذن، وهو عليه الصلاة والسلام أجود الناس وأكرمهم، وأقلهم حجّابا، كان دخولهم بيت غيره صلّى الله عليه وسلّم بغير إذن أولى بالحظر، وأدخل في المنع.

_ (1) رواه ابن جرير في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (18/ 128- 129) . (2) المصدر السابق نفسه. (3) سبق تخريجه. (4) رواه أبو داود في السنن (2/ 386) ، كتاب الجهاد، باب فيمن قال لا يحلب حديث رقم (2623) .

من أجل ذلك قال جماعة من المفسرين: إنما كان ذلك في صدر الإسلام، ثم نسخ بما تلونا، واستقرت الشريعة على أنّه لا يحل مال امرئ مسلم إلا برضاه، ولا ينبغي دخول البيت إلا بإذن أهله. وقال أبو مسلم الأصفهاني: هذه الآية في الأقارب الكفرة، أباح الله سبحانه للمؤمنين ما حظره في قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] وقال قتادة: الآية التي معنا على ظاهرها، والأكل مباح دون إذن، لكنه لا يجمل. والصحيح الذي عليه المعول في دفع هذا التعارض أنّ إباحة الأكل من هذه البيوت مقيّدة ومشروطة بما إذا علم الآكل رضا صاحب المال بإذن صريح أو قرينة، فإذا دلّ ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح. وقد يقال: إذا وجد الرضا جاز الأكل من بيت الأجنبي والعدو، فأي معنى في تخصيص هؤلاء بالذكر؟ والجواب: أن تخصيصهم بالذكر لاعتياد التبسط بينهم، فإنّ العادة في الأعم الأغلب أنّ الناس تطيب نفوسهم بأكل أقاربهم ووكلائهم وأصدقائهم من بيوتهم. عن الحسن أنه دخل داره، وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره، فيها الخبيص وأطايب الأطعمة، وهم مكبون عليها يأكلون، فتهلّلت أسارير وجهه سرورا، وضحك وقال: هكذا وجدناهم، يريد أكابر الصحابة. وكذلك يقال في دخولهم هذه البيوت: لا بد فيه من إذن صريح أو قرينة. ونسب إلى بعض أئمة الحنفية أنّه احتج بظاهر الآية على أنّه لا قطع في سرقة مال المحارم مطلقا، لأنّها دلت على إباحة دخول دارهم بغير إذنهم، فلا يكون مالهم محرزا بالنسبة إليهم. وأنت تعلم أنّه لو سلّم أنّ ظاهر الآية يدلّ على إباحة دخول بيوت المحارم بغير إذن، فهذا الظاهر غير مراد قطعا، كما سبق على أنه يستلزم أنه لا قطع في سرقة مال الصديق، ولم يقل بذلك أحد. والإجابة بأنّ الصديق إذا قصد أن يسرق مال صديقه انقلب عدوا غير سديدة، لأنّه في الظاهر صديق كما هو الفرض، ولا عبرة بنيته وقصده، فمال صديقه على هذا الرأي غير محرز بالنسبة إليه في ظاهر حاله، والشرائع إنما تجري ما ظهر من الحال، لا على ما بطن من المقاصد والسرائر. وأما قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فللمفسرين فيه رأيان: الأول: أنّه كلام متصل بما قبله، ومن تمامه، فحين نفى الحرج عنهم في الأكل

نفسه أراد أن ينفي الحرج عنهم في كيفية الأكل، فالجملة واقعة موقع الجواب عن سؤال نشأ مما قبلها، كأنّه قيل: هل نفي الحرج في الأكل من بيوت من ذكروا خاصّ بما إذا كان الأكل مع أهل تلك البيوت؟ فكان الجواب: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً. والرأي الثاني: أنّه كلام منقطع عما قبله، سيق لبيان حكم آخر مماثل لما بيّن من قبل، وذلك أن قوما من العرب كانوا يتحرّجون أن يأكلوا طعامهم منفردين، وكان الرجل لا يأكل حتى يجد ضيفا يأكل معه، فإن لم يجد لم يأكل شيئا، وربما قعد الرجل منهم والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح، وربما كانت معه الإبل الحفّل، فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل، قال حاتم الطائي: إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا، فإنّي لست آكله وحدي وكذلك كان ناس منهم يتحرّجون أن يأكلوا مجتمعين، يخاف أحدهم إن أكل مع غيره أن يزيد أكله على أكل صاحبه. وكان آخرون إذا نزل بهم ضيف رأوا ألا يأكلوا إلا معه، ولو ترتب على ذلك لحوق الضرر بهم، وتعطيل مصالحهم، فنزلت الآية الكريمة لنفي الجناح عن الناس في أكلهم مجتمعين أو متفرقين، وتوسيع الأمر عليهم في ذلك، وبيان أنّ أمر الطعام ليس من العظم بحيث يحتاط فيه إلى هذا الحد وتراعى فيه هذه الاعتبارات الدقيقة المعنتة. وقد يقال: إنّ الآية حينئذ تسوّي بين أكل الرجل وحده وأكله مع غيره، مع أن الذي استقرت عليه الشريعة أن اجتماع الأيدي على الطعام سنة مستحسنة، وأن تركه بغير داع مذمة. وفي الحديث: «شر الناس من أكل وحده، وضرب عبده، ومنع رفده» . والجواب أنّ الحديث محمول على من اعتاد الأكل وحده، والتزمه بخلا أن يشاركه أحد في طعامه. والآية تنفي الجناح عمن حصل منه ذلك اتفاقا، لا بخلا بالمشاركة، ولا كراهة في القرى. ووجه آخر: وهو أنّ الحديث يذمّ من أكل وحده بأنه آثم، فهو لا يعارض الآية التي نفت الإثم عن الذي يأكل وحده. فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً هذا بيان للأدب الذي ينبغي أن يراعى عند دخول بيوت الذين ذكروا من قبل. وهذا الحكم وإن كان معلوما من قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها إلا أنه أعيد هنا لدفع ما عسى أن يتوهّم من أنّ الأقارب والأصدقاء بينهم من المودة ولحمة القرابة ما لا يحتاج معه إلى تبادل السلام والتحية، فكأنّ الآية تشير

إلى أن القرابة والصداقة ليس معناهما إغفال الآداب العامة، وإهدار الحقوق الإسلامية، فإذا دخلت بيوت أقاربكم وأصدقائكم فلا بدّ أن تسلموا عليهم، لأنّهم منكم بمنزلة أنفسكم، فكأنّكم حين تسلمون عليهم تسلّمون على أنفسكم. هذا وأخرج جماعة عن ابن عباس أنّ المراد بالبيوت هنا المساجد، والسلام على الأنفس باق على ظاهره، ومن دخل المسجد فعليه أن يقول: السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وروي عن عطاء أنّ المراد بالبيوت بيوت المخاطبين، فإذا دخل الرجل بيته قال: السلام علينا من ربنا إلخ. وعن أبي مسلم أنّ المراد بالبيوت بيوت الكفار، وداخلها يقول ما تقدم، أو يقول: السلام على من اتبع الهدى. وأنت تعلم أنّ الأنسب بالمقام هو الرأي الأول، وكلمة بيوتا وإن كانت نكرة في سياق الشرط، إلا أنّ الفاء في قوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ تؤذن بأن المراد بها البيوت المذكورة قبل. ومعنى كون التحية من عند الله أنها ثابتة بأمره تعالى، ومشروعة من لدنه عزّ وجلّ. قال الضحاك: في السلام عشر حسنات ومع الرحمة عشرون، ومع البركات ثلاثون. وظاهر ذلك أنّ البادئ بالسلام يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: ما أخذت التشهد إلا من كتاب الله تعالى، سمعت الله تعالى يقول: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً فالتشهد في الصلاة التحيات المباركات الطيبات لله. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي هكذا يفصّل الله لكم معالم دينكم، فيبينها لكم، كما فصّل في هذه الآية ما أحل لكم فيها، وعرّفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تفقهوا عن الله أمره ونهيه وأدبه.

من سورة لقمان

من سورة لقمان قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) المختار عند أهل التأويل أنّ قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إلى آخر الآيتين كلام مستأنف من الله تعالى، جاء معترضا بين وصايا لقمان لابنه، ولهذا الاعتراض من البلاغة أحسن موقع، ذلك لأنّ الفائدة فيه توكيد ما تضمّنته أولى وصايا لقمان، وهو النهي عن الشرك، وتقرير أنّه ظلم عظيم، فإنه قيل: حقّا إنّ الشرك لمنهي عنه، وإنّه لظلم عظيم مهما كانت أسبابه، ومهما كان الحامل عليه، فمع أننا وصّينا الإنسان بوالديه أن يبرّهما، ويحسن إليهما، فقد نهيناه عن إطاعتهما في الشرك لو فرض أنهما طلباه منه بإلحاح وجهد. حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ هذا اعتراض أيضا بين قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ وقوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ لبيان العلة في الوصية، أو في وجوب امتثالها. وقوله تعالى: وَهْناً عَلى وَهْنٍ حال من فاعل حَمَلَتْهُ على التأويل بالمشتق، أي حملته أمه حال كونها ذات وهن على وهن، أي ذات ضعف على ضعف متتابع متزايد من حين الحمل إلى الوضع. وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ الفصال الفطام، أي وفطامه يكون في انقضاء عامين، أي في أوّل زمان انقضائهما. استدل العلماء غير أبي حنيفة بقوله تعالى: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ على أنّ مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم عامان، ومثل هذه الآية في ذلك قوله في سورة البقرة: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: 233] . وعلم [من] هذه [الآية] فائدة [فقد] استنبط علي وابن عباس وكثير غيرهما من قوله تعالى في سورة الأحقاف: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف: 15] أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر. روي أنّ عثمان أمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر، فقال له علي كرّم الله وجهه: قال الله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وقال: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ.

وروي أنّ عثمان رضي الله عنه سأل الناس عن ذلك فقال له ابن عباس مثل ذلك، وأنّ عثمان رجع إلى قول علي وابن عباس، وحكى الجصاص «1» اتفاق أهل العلم على أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر. وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن مدة الرضاع المحرّم ثلاثون شهرا «2» . لقوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وسنبينه إن شاء الله. ثم إنه رحمه الله يحمل الآية التي معنا على الكثير الغالب في الفطام، إذ إنه لا يتجاوز به في العادة عامين، ويقول في آية البقرة إنها لبيان المدة التي تستحق فيها المطلقة أجرا على الإرضاع، إذ إنها لا تستحق أجرا فيما وراء العامين، وذلك لا ينفي أن يكون ما بعد العامين إلى تمام الثلاثين شهرا من مدة الرضاع المحرّم. وللحنفية في وجه الدلالة من قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً على مذهب الإمام طريقتان: الأولى: أنّه ذكر في الآية أمران متعاطفان أعقبا ببيان مدتهما، فتكون هذه المدة لكلّ من الأمرين استقلالا على ما يشهد به كلام الفقهاء في مثل قول المقرّ: عليّ لكلّ من فلان وفلان مئة إلى سنة أنّ السنة أجل كلّ من الدينين، فتكون الثلاثون شهرا مدة كل من الحمل والرضاع، غير أنّه قد ثبت في الحمل ما أوجب نقصه من الثلاثين شهرا، وهو ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّ الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين، ولو بقدر فلكة مغزل، ومثل هذا لا يقال بالرأي، فله حكم الحديث المرفوع، وإذا كان الأمر كذلك بقيت مدة الفصال على ظاهرها. والطريقة الثانية: في معنى قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً هي أن ليس المراد بالحمل هنا حمل الجنين في البطن، بل حمل الولد بعد الولادة في مدة الرضاع، وحينئذ تكون المدة المضروبة في الآية إنما هي لشيء واحد، هو ذلك الحمل الذي ينتهي بالفصال. وأنت تعلم أن العلماء ومنهم أبو حنيفة متفقون فيما حكى الجصاص على أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر، وأنهم استنبطوا ذلك من قوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وقوله تعالى: وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ. فتأويل الحنفية آية الأحقاف وحملهم لها على الوجهين المتقدمين ينافي ما اتفق عليه الفقهاء جميعا ويلزمهم حينئذ أحد أمرين: إما أن الإمام لم يوافق الجماعة في أنّ أقل

_ (1) في كتابه أحكام القرآن (3/ 351) . (2) الهداية شرح بداية المبتدي للإمام المرغيناني (1- 2/ 243) .

مدة الحمل ستة أشهر، وإما أن يكون له دليل على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر غير هاتين الآيتين، ولا أظن شيئا من هذين اللازمين منقولا عن أبي حنيفة رحمه الله. أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ أَنِ هنا على ما اختاره الزمخشري «1» وغيره تفسيرية، فما بعدها بيان لفعل التوصية، إذ هو متضمّن معنى القول. أي قلنا له: اشكر لي ولوالديك، وإنما وسّط الأمر بشكر الله تعالى مع أنّ الوصية في الآية مخصوصة بالوالدين، لإفادة أنّ لا يقع شكر الوالدين موقعه إلا بعد الشكر لله. فشكر الله تعالى حسن رعاية النّعم التي أنعم بها على الإنسان، وصرفها فيما خلقت له بالطاعة، وإخلاص العبادة لله، وفعل ما يرضيه. وشكر الوالدين إطاعتهما، وبرهما، والقيام بكل ما يرضيهما، إلا أنّ يكون فيه معصية لله. وعن سفيان بن عيينة: من صلّى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا لوالديه في أدبارها فقد شكرهما. ولعل هذا بيان لبعض أفراد الشكر إِلَيَّ الْمَصِيرُ أي إنّ مرجع الناس جميعا في الآخرة إلى الله وحده، فهو الذي يحاسب العباد، ويجازيهم على ما قدّموا من أعمال. وهذا ظاهر في التهديد والتخويف من عاقبة المخالفة والعقوق والعصيان، كما هو وعد بالجزاء الحسن على امتثال أمر الله وطاعته وبر الوالدين وصلتهما. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما الجهاد والمجاهدة بذل الجهد، واستفراغ الوسع للوصول إلى الغرض. وهو هنا الإشراك بالله. وأراد سبحانه بنفي العلم نفي الشريك، أي لتشرك بي ما ليس بشيء، يريد الأصنام، كقوله سبحانه في شأنها ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت: 42] . وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً قيّد الصحبة بأنها في الدنيا. مع أنّ ذلك معروف، إذ الدنيا هي دار التكليف، لتهوين أمر الصحبة، والإشارة إلى أنّها في أيام قلائل، سريعة الانقضاء، فلا يضرّ تحمل مشقتها، لقلّة أيامها، ووشك انصرامها. و (المعروف) هنا ما يعرفه الشرع ويرتضيه، وما يقضي به الكرم والمروءة في إطعامهما وكسوتهما، وعدم جفائهما وانتهارهما، وعيادتهما إذا مرضا، ومواراتهما إذا ماتا، إلى ما هو معروف من خصال البر بهما وصلتهما. أبان قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إلى آخر الآيتين أنّ أمر الله بالإحسان إلى الوالدين عامّ في الوالدين المسلمين والكافرين، وأن طاعة الوالدين على أي دين كانا واجبة، إلّا إذا أمرا بمعصية، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأنّ طلب

_ (1) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (3/ 494) .

الوالدين من ولدهما الإشراك بالله لا يسوّغ له الشرك، ولا يعتبر إكراها يبيح النطق بكلمة الكفر تقية. ودلّ قوله تعالى: وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً على أنّ الولد لا يستحق القود على أحد والديه، وأنّه لا يحد له إذا قذفه، ولا يحبس له بدين عليه، وأن على الولد نفقة كلّ منهما إذا احتاجا إليه، إذ كان جميع ذلك من الصحبة بالمعروف، وفعل ضده ينافي مصاحبتهما بالمعروف. وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ أي اتبع سبيل من رجع إليّ بالتوحيد والإخلاص بالطاعة، لا سبيل والديك اللذين يأمرانك بالشرك. أخرج الواحدي «1» عن عطاء عن ابن عباس أنه قال: يريد بمن أناب أبا بكر رضي الله عنه. فإنّ قوله تعالى: وَإِنْ جاهَداكَ إلخ نزل في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وإسلام سعد كان بسبب إسلام أبي بكر رضي الله عنه. وذلك كما روي عن ابن عباس أنه حين أسلم أبو بكر رآه سعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، فقالوا لأبي بكر: آمنت وصدّقت محمدا صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال أبو بكر: نعم، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فآمنوا وصدّقوا، فأنزل الله تعالى يقول لسعد: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ يعني أبا بكر رضي الله عنه. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه كان يقول: من أناب هو محمد صلّى الله عليه وسلّم، لكنّ جمهور المفسرين على أنّ المراد العموم، كما هو ظاهر اسم الموصول، ولذلك قالوا: إنّ قوله تعالى: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ يدل على صحة إجماع المسلمين، وأنّه حجة لأمر الله تعالى إيانا باتباعهم. وهو مثل قوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً [النساء: 115] . ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إليّ مرجع من آمن منكم، ومن أشرك، ومن برّ، ومن عقّ، فأنبئكم عند رجوعكم بما كنتم تعملون بأن أجازي كلّا منكم بما صدر عنه من الخير والشر. والجملة مقرّرة لما قبلها، ومؤكدة لوجوب الإحسان إلى الوالدين وبرهما وطاعتهما فيما يأمران به، ما دام ليس فيه معصية لله تعالى، فإذا أمرا بمعصية فلا طاعة لهما، لأنّه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» «2» .

_ (1) انظر أسباب النزول للإمام الواحدي النيسابوري صفحة (363) . (2) سبق تخريجه.

من سورة الأحزاب

من سورة الأحزاب قال الله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) المراد بالقلب هنا: المضغة الصنوبرية في داخل التجويف الصدري، والجعل الخلق، وإذا كان الرجل لم يخلق له قلبان- والرجل أكمل النوع الإنساني حياة- فأولى ألا يكون للأنثى قلبان، وأما الصبيان فمآلهم أن يكونوا رجالا، فالمعنى حينئذ: ما خلق الله لأحد من الناس قلبين في جوفه، وكانت العرب تزعم أنّ كلّ لبيب أريب له قلبان، واشتهر أبو معمر الفهري بين أهل مكة بذي القلبين لقوة حفظه. تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ نزل القرآن الكريم والعرب يعقلون من هذا التركيب (ظاهر من زوجته) أنه قال لها: «أنت عليّ كظهر أمّي» فهو نظير (لبّى) إذا قال: (لبيك) و (أفف) إذا قال: (أف) و (سبّح) إذا قال: (سبحان الله) و (كبّر) إذا قال: (الله أكبر) . فجاء الشرع فألحق بهذه الصيغة- «أنت عليّ كظهر أمّي» - في الحكم كلّ ما يدلّ على تشبيه الرجل زوجته أو جزءا منها بأنثى محرّمة عليه على التأبيد. وقد كان الظهار في الجاهلية طلاقا لا حلّ بعده برجعة ولا بعقد، لأنهم كانوا يجرون أحكام الأمومة على المظاهر منها، فأبطل الله هذه العادة، وجعل للظّهار أحكاما سوف يأتي بيانها في تفسير سورة المجادلة إن شاء الله. أَدْعِياءَكُمْ الأدعياء جمع دعي، وهو الذي يدعى ابنا وليس بابن، وقد كان التبني عادة فاشية في الجاهلية وصدر الإسلام، يتبنّى الرجل ولد غيره، فتجري عليه أحكام البنوّة كلّها. وقد تبنّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زيد بن حارثة، وتبنّى حذيفة سالما مولاه، وتبنّى الخطاب- أبو عمر رضي الله عنه- عامر بن أبي ربيعة. وكثير من العرب تبنى ولد غيره، فجاء القرآن الكريم بإبطال هذا العمل وإلغائه. بيّنت الآية أنّ هذه الأمور الثلاثة باطلة لا حقيقة لها، فكون الرجل له قلبان أمر لا حقيقة له في الواقع. وجعل المظاهر منها أمّا أو كالأم في الحرمة المؤبّدة من

مخترعات أهل الجاهلية، التي لم يستندوا فيها إلى مستند شرعي. وجعل المتبنى ابنا في جميع الأحكام مما لا حقيقة له في شرع ظاهر. ولما كان أظهر هذه الأمور في البعد عن الحقيقة كون الرجل له قلبان قدّم الله جل شأنه قوله: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وضربه مثلا للظهار والتبني، أي كما لا يكون لرجل قلبان لا تكون المظاهر منها أما ولا المتبنّى ابنا. وقوله عزّ وجلّ: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ الإشارة فيه إلى ما يفهم من الجمل الثلاث من كون الرجل له قلبان، وكون المظاهر منها أما والدعيّ ابنا. وزيادة قوله تعالى: بِأَفْواهِكُمْ للتنبيه على أنه قول صادر من الأفواه فقط، من غير أن يكون له مصداق أو حقيقة في الواقع ونفس الأمر، فلا يستتبع أحكاما كما يزعمون. وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي فدعوا قولكم، وخذوا بقوله عزّ وجلّ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أخرج الشيخان والترمذي والنسائي «1» وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ إلخ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنت زيد بن حارثة بن شراحيل» . وكان من أمره ما رواه ابن مردويه عن ابن عباس «2» أنّه كان في أخواله بني معن من بني ثعل من طيء، فأصيب في نهب من طيء، فقدم به سوق عكاظ. وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إلى عكاظ يتسوّق بها، فأوصته عمته خديجة أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا إن قدر عليه، فلما قدم وجد زيدا يباع فيها، فأعجبه ظرفه، فابتاعه، فقدم به عليها، وقال لها: إني قد ابتعت لك غلاما ظريفا عربيا، فإن أعجبك فخذيه، وإلا فدعيه، فإنه قد أعجبني، فلما رأته خديجة أعجبها، فأخذته. فتزوجها الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو عندها، فأعجب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ظرفه، فاستوهبه منها، فقالت: أهبه لك، فإن أردت عتقه فالولاء لي، فأبى عليها الصلاة والسلام، فوهبته له إن شاء أعتق، وإن شاء أمسك. قال: فشب عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم إنّه خرج في إبل لأبي طالب بأرض الشام، فمرّ بأرض قومه، فعرفه عمه، فقام إليه فقال: من أنت يا غلام؟ قال: غلام من أهل مكة.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 884) ، 44- كتاب فضائل الصحابة، 10- باب فضائل زيد حديث رقم (62/ 2425) ، والبخاري في الصحيح (6/ 6) ، 65- كتاب التفسير، 2- باب ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ حديث رقم (4782) ، والترمذي في الجامع الصحيح (5/ 330) ، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأحزاب حديث رقم (3209) . (2) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (5/ 181- 182) .

قال: من أنفسهم؟ قال: لا. قال: فحرّ أنت أم مملوك؟ قال: بل مملوك. قال: لمن؟ قال: لمحمد بن عبد المطلب. فقال له: أعرابي أنت أم أعجمي؟ قال: عربي. قال: ممن أهلك؟. قال: من كلب. قال: من أي كلب؟ قال: من بني عبدون. قال: ويحك ابن من أنت؟ قال: ابن حارثة بن شراحيل. قال: وأين أصبت؟ قال: في أخوالي. قال: ومن أخوالك؟ قال: طيء. قال: ما اسم أمك؟ قال: سعدى. فالتزمه وقال: ابن حارثة! ودعا أباه قال: يا حارثة هذا ابنك، فأتاه حارثة، فلما نظر إليه عرفه، كيف صنع مولاك إليك؟ قال: يؤثرني على أهله وولده، ورزقت منه حبّا فلا أصنع إلّا ما شئت، فركب معه أبوه وعمه وأخوه حتى قدموا مكة، فلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال له حارثة: يا محمد أنتم أهل حرم الله وجيرانه وعند بيته، تفكّون العاني، وتطعمون الأسير، ابني عبدك، فامنن علينا، وأحسن إلينا في فدائه، فإنّك ابن سيد قومه، وإنا سندفع إليك في الفداء ما أحببت. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيكم خيرا من ذلك؟» قالوا: وما هو؟ قال: «أخيره، فإن اختاركم فخذوه بغير فداء، وإن اختارني فكفوا عنه» . فقالوا: جزاك الله خيرا فقد أحسنت. فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا زيد أتعرف هؤلاء» ؟ قال: نعم. هذا أبي وعمي وأخي. فقال عليه الصلاة والسلام: «فهم من قد عرفتهم، فإن اخترتهم فاذهب معهم، وإن اخترتني فأنا من تعلم» . فقال زيد: ما أنا بمختار عليك أحدا أبدا، أنت معي بمكان الوالد والعم. قال أبوه وعمه: أيا زيد أتختار العبودية؟ قال: ما أنا بمفارق هذا الرجل. فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرصه عليه قال: «اشهدوا أنّه حر، وأنّه ابني يرثني وأرثه» . فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامة زيد عليه صلّى الله عليه وسلّم، فلم يزل في الجاهلية يدعى زيد بن محمد حتى نزل القرآن: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فدعي زيد بن حارثة. هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي دعاؤهم لآبائهم، ونسبتهم إليهم بالغ في العدل والصدق، وزائد فيه في حكم الله تعالى وقضائه. فأفعل التفضيل ليس على بابه، بل قصد به الزيادة مطلقا، ويجوز أن يكون على بابه، جاريا على سبيل التهكم بهم. فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ أي فهم إخوانكم في الدين ومَوالِيكُمْ

أي وهم مواليكم في الدين أيضا، فليقل أحدكم: يا أخي أو يا مولاي، يقصد بذلك الأخوة والولاية في الدين. وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ظاهر السياق أن المراد نفي الجناح عنهم فيما أخطؤوا به من التبني، وإثبات الجناح عليهم فيما تعمدت قلوبهم من التبني أيضا. والقائلون بهذا الظاهر مختلفون في المراد بالخطأ ما هو؟ فأخرج ابن جرير «1» وغيره عن مجاهد أنّ المراد بالخطأ الذي رفع عنهم فيه الإثم هو تسميتهم الأدعياء أبناء قبل ورود النهي. وأنّ العمد الذي ثبت فيه الإثم عليهم هو ما كان من ذلك بعد النهي، فالخطأ هنا معناه الجهل بالحكم. وأخرج ابن جرير «2» وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: لو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه، لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمّدت وقصدت دعاءه لغير أبيه. أي فعليك فيه الإثم، فعلى رأي مقاتل يكون المراد بالخطأ مقابل العمد. وكلا الأمرين بعد ورود النهي. وأجاز بعض المفسرين أن يراد العموم في فِيما أَخْطَأْتُمْ وفي ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ويكون معنى قوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إلخ نفي الجناح عنهم في الخطأ كله دون العمد، فيتناول ذلك لعمومه خطأ التبني وعمده. والكلام حينئذ وارد في العفو عن الخطأ، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» أخرجه ابن ماجه «3» من حديث ابن عباس. وكما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لست أخاف عليكم الخطأ، ولكن أخاف عليكم العمد» أخرجه ابن مردويه «4» . وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً فيغفر لمن تعمّد قلبه الإثم إذا تاب رَحِيماً من رحمته أنّه رفع الإثم عن المخطئ، ولم يؤاخذه على خطئه. وظاهر الآية يدلّ على أنه يحرم على الإنسان أن يتعمّد دعوة الولد لغير أبيه، وذلك محمول على ما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية. وأمّا إذا لم تكن كذلك، كما يقول الكبير للصغير على سبيل التحنن والشفقة: با بني. وكثيرا ما يقع ذلك، فالظاهر عدم الحرمة.

_ (1) و (2) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (21/ 76) . (3) رواه ابن ماجه في السنن (1/ 659) ، 10- كتاب الطلاق، 16- باب طلاق المكره حديث رقم (2045) . [.....] (4) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للإمام السيوطي (5/ 182) .

ولكن أفتى بعض العلماء بكراهته سدا لباب التشبه بالكفار. ولا فرق في ذلك بين كون المدعو ذكرا أو كونه أنثى. وإن لم يعلم علم اليقين وقوع التبني للإناث في الجاهلية. ومثل دعاء الولد لغير أبيه انتساب الشخص إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه، وعدّ ذلك كثير من العلماء في الكبائر. وهو محمول أيضا على ما إذا كان الانتساب على الوجه الذي كان في الجاهلية، فقد كان الرجل منهم ينتسب إلى غير أبيه وعشيرته، وقد ورد في هذا الادعاء الوعيد الشديد. أخرج الشيخان وأبو داود «1» عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنّه غير أبيه فالجنة عليه حرام» . وأخرج الشيخان «2» أيضا: «من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» . وأخرجا «3» أيضا: «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلم إلا كفر» . وأخرج الطبراني في «الصغير» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كفر من تبرّأ من نسب وإن دقّ، أو ادعى نسبا لا يعرف» «4» . قال العلماء في معنى «كفر» هنا أنّه إن كان يعتقد إباحة ذلك فقد كفر وخرج عن الإسلام. وإن لم يعتقد إباحته ففي معنى كفره وجهان: أحدهما: أنه أشبه فعله فعل الكفار أهل الجاهلية. والثاني: أنّه كافر نعمة الله والإسلام عليه. وكذلك قوله في الحديث الآخر «فليس منا» أي إن اعتقد جوازه خرج عن الإسلام، وإن لم يعتقد جوازه فالمعنى: أنّه لم يتخلّق بأخلاقنا. وليس الاستلحاق الذي أباحه الإسلام من التبني المنهي عنه في شيء، فإن من شرط الحل في الاستلحاق الشرعي أن يعلم المستلحق- بكسر الحاء- أن المستلحق- بفتحها- ابنه، أو يظن ذلك ظنا قويا، وحينئذ شرع له الإسلام استلحاقه، وأحلّه له، وأثبت نسبه منه بشروط مبيّنة في كتب الفروع.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 80) ، 1- كتاب الإيمان حديث رقم (114/ 63) ، والبخاري في الصحيح (8/ 15) ، 85- كتاب الفرائض، 29- باب من ادعى حديث رقم (6766) . (2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1147) ، 20- كتاب العتق، 4- تحريم تولي العتيق حديث رقم (1370) (بلفظ مختلف) ، والبخاري في الصحيح (2/ 269) ، 29- كتاب فضائل المدينة، 1- باب حرم المدينة حديث رقم (1870) . (3) رواه مسلم في الصحيح (1/ 80) ، 1- كتاب الإيمان، 27- باب حديث رقم (113/ 62) ، والبخاري في الصحيح (8/ 15) ، 8- كتاب الفرائض، 21- باب من ادعى حديث رقم (6768) . (4) رواه ابن ماجه في السنن (2/ 916) ، 3- كتاب الفرائض، 13- باب من أنكر ولده، حديث رقم (2744) .

أما التبنّي المنهي عنه، فهو دعوى الولد مع القطع بأنّه ليس ابنه، وأين هذا من ذاك؟ وظاهر الآية أيضا أنّه يباح أن يقال في دعاء من لم يعرف أبوه: يا أخي، أو يا مولاي، إذا قصد الأخوة في الدين، والولاية فيه، لكنّ بعض العلماء خصّ ذلك بما إذا لم يكن المدعو فاسقا، وكان دعاؤه بيا أخي أو يا مولاي تعظيما له، فإنه يكون حراما، لأننا نهينا عن تعظيم الفاسق، فمثل هذا يدعى باسمه، أو بيا عبد الله، أو يا هذا. مثلا. قال الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) لعلّك ترى زيدا قد تصيبه وحشة من أنّه صار لا يدعى بعد الآن زيد بن محمد، خصوصا بعد أن كان من أمر أبيه وعمه في النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنّه قد يرى في تخلّي النبي عن أبوته حطّا من قدره بين الناس، وقد كان هو يعتز بهذه الدعوة، لأنها تكسبه جاها عريضا ينفعه في الدنيا والآخرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية تسلية لزيد، ولبيان أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم إن تخلى عن أبوة زيد فإلى الولاية العامة، والرأفة الشاملة التي تعم المسلمين جميعا لا تفريق بين ابن الصلب وغيره، فهو يرعاهم حق الرعاية، ويهديهم طريقا إن اتبعوه لن يضلوا بعده أبدا. وما كانت أبوته لزيد أو لأحد غيره بزائدة في ذلك شيئا، ولن ينقص زيد بتخلّي النبي عن أبوته شيئا فالرسول أولى وأحق بكل المؤمنين من أنفسهم، فهو الآمر الناهي بما يحقّق للناس سعادتهم في الدنيا والآخرة، والحفيظ على مصالحهم، لا يضيّع شيئا، وقد تأمر النفس بالسوء؟ أما الرسول فهو الذي يوحى إليه، لا ينطق عن هوى، ولا يهدي إلا إلى الخير. ولم يذكر في الآية ما تكون فيه الأولوية، بل أطلقت إطلاقا ليفيد ذلك أولويته في جميع الأمور، ثم إنّه ما دام أولى من النفس، فهو ولى من جميع الناس بطريق الأولى. وقد روى البخاري «1» وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فأيّما مؤمن مات وترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني، فأنا مولاه» . وقوله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي منزلات منزلة الأمهات في تحريم نكاحهن،

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (3/ 116) ، 43- كتاب الاستقراض، 11- باب الصلاة على من ترك دينا حديث رقم (2399) .

واستحقاق تعظيمهن، وأما في غير ذلك، فهنّ أجنبيات، فلا يقال لبناتهم أخوات المؤمنين، ولا يحرمن على المؤمنين. ومن أجل هذا قالت السيدة عائشة لمن قالت لها يا أمه: أنا أمّ رجالكم لا أم نسائكم. ثم الظاهر، أنّ المراد من أزواجه كل من وقع عليها اسم الزوج، سواء من طلّقها ومن لم يطلقها، فيثبت الحكم للجميع، فلا يحل نكاح أحد منهنّ حتى المطلقة، وقيل لا يثبت هذا الحكم لمن فارقها عليه الصلاة والسلام في الحياة، كالمستعيذة «1» ، وصحح إمام الحرمين وغيره قصر التحريم على المدخول بها فقط. وقد روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله عنه فهم برجمه فأخبره أنها لم تكن مدخولا بها فكف عنه. وفي رواية أنّه همّ برجمها، فقالت: ولم هذا؟ وما ضرب عليّ حجاب، ولا سميت للمسلمين أمّا، فكفّ عنها. وأما التي اختارت الدنيا منهنّ حين نزلت آية التخيير الآتية فقد ذكر بعض العلماء أنّ الخلاف الذي سمعت يجري فيها كذلك. واختار الرازي والغزالي القطع بالحل. وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ الظاهر أنّ المراد بأولي الأرحام ذوو القرابات مطلقا، سواء كانوا أصحاب فروض أم عصبات أم ذوي أرحام. فالمراد من الآية الكريمة أنّ أصحاب القرابة أيّا كان نوعها أولى من غيرهم بمنافع بعض، أو بميراث بعض، على ما سيأتي من القول فيه. وقوله: فِي كِتابِ اللَّهِ المراد منه ما كتبه في اللوح المحفوظ، أو ما أنزله في القرآن من آية المواريث وغيرها، كآية الأنفال، أو المراد بكتاب الله ما كتبه وفرضه وقدّره، سواء أكان ذلك الفرض في القرآن أو في غيره. قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ يحتمل أن يكون راجعا إلى أولي الأرحام والمعنى: وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض في النفع أو في الميراث، وقد قال بجواز هذا صاحب «الكشاف» «2» . ويحتمل أن يكون قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ متعلقا بأولي، والمعنى: وأولو الأرحام بعضهم أولى من المؤمنين والمهاجرين بنفع بعض، أو بميراث بعض، ويكون هذا إبطالا لما كان في صدر الإسلام من التوارث بالهجرة والنصرة، على نحو ما جاء في آخر سورة الأنفال من

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 200) ، 68- كتاب الطلاق، 3- باب من طلّق حديث رقم (5255) . (2) انظر الكشاف للإمام الزمخشري (3/ 524) .

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) [الأنفال: 72- 75] . فأنت ترى أنّه كان هناك توارث بالهجرة والنصرة، ثم نسخ، وتأكّد النسخ بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية» «1» وظاهر أنّ النفي لا يراد منه نفي حقيقة الهجرة، وترك بلد إلى آخر، فذلك موجود بعد الفتح، ويوجد كل يوم، بل المراد نفي الأحكام التي كانت تترتب على الهجرة كالتوارث بها، وحينئذ يكون معنى قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ أنّ التوارث الذي كان سبب الهجرة قد بطل، وصار التوارث بالرحم. إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً يحتمل أن يكون الاستثناء هنا متصلا، ويحتمل أن يكون منقطعا. فعلى الأول: يكون استثناء من أعم الأحوال التي تقدر الأولوية فيها كالنفع، فإنّه يتنوع إلى ميراث وصدقة وهدية ووصية، وغير ذلك، ويكون المعنى: أن أولي الأرحام أولى بجميع وجوه النفع من غيرهم من المؤمنين والمهاجرين، إلّا أن يكون لكم في هؤلاء ولي تريدون أن توصوا إليه، وتسدوا إليه معروفا، فذلك جائز، ويكون هو أولى بذلك المعروف من ذوي الأرحام، فإنّ الوصية لا تجوز لهم إلا برضاء الورثة. وعلى الثاني: وهو أن الاستثناء منقطع فتجعل ما فيه الأولوية هو الميراث فقط، وهو المستثنى منه، ويكون فعل المعروف وهو المستثنى الوصية. ولا شك أنّهما جنسان، وتخصيص ما فيه الأولوية بالميراث مفهوم من الكلام، إذ المسلمون جميعا بعضهم أولى ببعض في التناصر والتواصل والتراحم، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. وقد يكون بعض وجوه النفع الأجانب فيها أولى من ذي الرحم، فإنّ الصدقات يأخذها الفقراء وإن كانوا أجانب، ويحرم منها الأغنياء وإن كانوا أقارب.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1488) ، 33- كتاب الإمارة، 20- باب المبايعة حديث رقم (86/ 1864) .

والشيء الوحيد الذي يكون فيه ذو الرحم أولى من غيره هو الميراث، ويكون المعنى على هذا كأنه قيل: لا تورثوا غير ذي رحم، لكن أن تسدوا إلى أوليائكم المؤمنين والمهاجرين معروفا، فذلك جائز: بل هم أحق بالوصية من ذوي الأرحام. وترى أنّا قد فسرنا الأولياء في قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً بالأولياء من المؤمنين والمهاجرين، وذلك جريا على ما ذهب إليه كثير من المفسرين من أن الآية في ترك التوارث بالهجرة والمؤاخاة، ويكون هذا تمشيا مع ما أسلفناه من أنّ (من) في قوله: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ داخلة في المفضل عليه. وروي عن بعضهم أن الآية نزلت في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني، ويكون معنى الآية أولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى بميراث بعض، إلا إذا كان لكم أولياء من غيرهم، فيجوز أن توصوا إليهم، وهذا الوجه مروي عن محمد بن الحنفية وغيره. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً كان هذا الحكم الذي دلت عليه الآيتان مثبتا بالأسطار في القرآن، أو حقا مثبتا عند الله لا يمحى. ترى مما تقدم أنّا قد فسرنا (أولي الأرحام) بذوي القرابة مطلقا، أيا كان نوعهم، وقد نقل الفخر الرازي أنّ الإمام الشافعي رضي الله عنه فسّرها بذلك، وتبعه في هذا أبو بكر الرازي من الحنفية. ثم هو بعد ذلك يردّ فيها دليلا للحنفية على توريث ذوي الأرحام من حيث إنّ الآية قد أريد منها هذا النوع الخاص من الوارثين، بل من حيث إنّ الآية اقتضت أنّ ذا القرابة مطلقا أولى من غيره. وأما تقديم بعض ذوي القرابة على بعض فهذا به أدلته الخاصة، ويقتضي ذلك أن يكون ذو الرحم وهو الصنف الذي يدلي إلى الميت بواسطة الأنثى أولى من بيت المال، فتكون الآية حجة على من قدّم بيت المال عليهم. وقد اختلف العلماء في تقديم ذوي الأرحام على مولى العتاقة. فذهب بعضهم إلى أنّ ذا الرحم أولى، وهو يروى عن ابن مسعود، وظاهر الآية يساعده. ويرى بعضهم أنّ مولى العتاقة مقدم على ذوي الأرحام، وهو مرويّ عن كثير من الصحابة، بل زعم الجصاص أنّه مذهب سائر الصحابة، وقد روي عن ابنه حمزة أعتقت عبدا ومات، وترك بنتا، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم نصف ميراثه لابنته، ونصفه لابنة حمزة، ولم يقل لنا الرواة هل كان للميت ذو رحم حتى يتم الدليل؟ وهذا إن صح يدلّ أيضا على أن مولى العتاقة أولى من الرد، وهذا لا يكون إلا إذا كان مولى العتاقة محسوبا من العصبات، والعصبات أولى بالميراث من غيرهم، وقد روي أنّ النبي جعل ابنة حمزة عصبة لمولاها، وقد ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الولاء لحمة كلحمة النّسب» .

[سورة الأحزاب (33) : الآيات 49 إلى 59]

وللمخالف أن يقول: إن التشبيه يقتضي مطلق الاستحقاق، فأين تقديمه على غيره. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (49) لا خلاف بين العلماء في أنّ المراد بالنكاح هنا العقد، ولا خلاف بينهم أيضا في أنّ قيد الإيمان هنا ليس للاحتراز، بل لمراعاة الغالب من حال المؤمنين أنّهم لا يتزوجون إلا بمؤمنات، وللإشارة إلى أنه ينبغي أن يقع اختيارهم في الزواج على المؤمنات. وكذلك اتفقوا على أنّه ليس المراد بالمس هنا حقيقته، وهي إلصاق اليد بالجسم، وإلا لزمت العدة فيما لو طلقها بعد أن مسها بيده من غير جماع ولا خلوة. ولم يقل بذلك أحد. بل المراد بالمس الجماع، لشهرة الكناية به وبالمماسة والملامسة ونحوها عن الجماع في لسان الشرع. والعدة شرعا المدة التي تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها من الحمل، أو للتعبّد، أو للتفجّع على زوج مات. ومعنى تَعْتَدُّونَها تعدونها عليهن، أو تستوفون عددها عليهن. والمتعة في الأصل الاستمتاع، وما يتمتع به، وفي لسان أهل الشرع ما يعطيه الزوج لمطلقته إرضاء لها، وتخفيفا من شدة وقع الطلاق عليها. وبيان مقدار المتعة ونوعها قد تكفّلت به كتب الفروع. وأصل التسريح إرسال الماشية لترعى السرح، وهو شجر عظيم ذو ثمر. ثم توسع في التسريح، فجعل لكل إرسال في الرعي، ثم لكل إرسال وإخراج. والمراد به هنا تركهن وعدم حبسهن في منزل الزوجية، إذ لا سبيل للرجال عليهن بعد طلاقهن. والسراح الجميل يكون بمجاملتهن بالقول اللين، وترك أذاهن، وعدم حرمانهن مما وجب لهن من حقوق. أخذ بعض العلماء من قوله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ أنّه لا طلاق قبل النكاح، فقول الرجل: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، أو إن تزوجت فلانة فهي طالق، لا يعدّ طلاقا، فإذا تزوج لم تطلق زوجته بهذه الصيغة التي صدرت منه قبل النكاح، سواء أخصّ أم عمّ، وسواء أنجز أم علّق. وقد أخرج جماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن ذلك فقال: هو ليس بشيء، فقيل له: إنّ ابن مسعود كان يقول: إن طلق ما لم ينكح فهو جائز، فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن، لو كان كما قال لقال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن ولكن إنما قال: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ وقد ذكر في «الدر المنثور» وغيره من رواية علي وجابر ومعاذ وغيرهم رضي الله عنهم

عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا طلاق قبل نكاح» «1» وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين، وهو مذهب الشافعي وأحمد. وقال الحنفية: الطلاق يعتمد الملك أو الإضافة إليه، لكنه في حال الإضافة إلى الملك يبقى معلّقا، حتى يحصل شرطه الذي هو الملك، فإذا قال للأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق، كان هذا تعليقا صحيحا للطلاق على شرط النكاح، فإذا حصل هذا الشرط وقع الطلاق على فوره، وكان طلاقا في الملك بالضرورة، فكأنّه أنجزه عليها حينذاك. والفرق واضح بين تنجيز الطلاق على الأجنبية، وبين تعليق طلاقها على نكاحها، فإنّ الأول طلاق لم يحصل في الملك، ولم يكن مضافا إليه. أما الثاني فإنّ وقوعه لا بد أن يصادف الملك حيث كان معلقا عليه. والحنفية لا يشترطون في التعليق على الملك أن يكون صريحا بصيغة من الصيغ المعهودة في التعليق، بل المعوّل عليه عندهم أن يكون المعنى على التعليق، فلا فرق عندهم بين التعليق اللفظي كأن يقال: إن تزوجت فلانة فهي طالق. والتعليق المعنوي مثل: كل امرأة أتزوجها طالق. غير أنّهم يشترطون في التعليق المعنوي ألا تكون المرأة معيّنة بالاسم أو بالإشارة مثل: فلانة التي أتزوجها طالق، وهذه المرأة الحاضرة التي أتزوجها طالق، فإنّ تعيين المرأة بالاسم أو بالإشارة يضعف معنى التعليق، فتلتحق هاتان الصورتان وما أشبههما بالطلاق الناجز، والطلاق الناجز لا يقع في غير الملك بالاتفاق. وقد حكي عن مالك رضي الله عنه أنّه إن عمّ لم يقع، وإن سمّى شيئا بعينه امرأة أو جامعة إلى أجل وقع. وحكي عنه أيضا أنه إذا ضرب لذلك أجلا يعلم أنه لا يبلغه كأن قال: إن تزوجت امرأة إلى مئة سنة لم يلزمه شيء، وهذا الذي حكيناه عن الحنفية والمالكية منقول عن كثير من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، على اختلاف في التفصيل، ليس هذا محل ذكره. ويقول أصحاب هذا الرأي: إنّ قوله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ لا ينافي ما ذهبنا إليه، بل إنه ظاهر الدلالة على صحة قولنا، لأنّ الآية حكمت بصحة وقوع الطلاق بعد النكاح. ومن قال لأجنبية: إذا تزوجتك فأنت مطلّقة، فهي طالق بعد النكاح، فوجب بظاهر الآية إيقاع طلاقه، وإثبات حكم لفظه.

_ (1) رواه ابن ماجه في السنن (1/ 660) ، 10- كتاب الطلاق، 17- باب لا طلاق قبل النكاح حديث رقم (2048) .

وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا طلاق قبل نكاح» «1» - فبعد تسليم صحته- لا ينافي ما ذهبنا إليه، لأنّ من ذكرنا مطلّق بعد النكاح. وقد روي عن الزهري في هذا الحديث إنما هو أن يذكر للرجل المرأة، فيقال له: تزوجها. فيقول: هي طالق البتة، فهذا ليس بشىء. فأمّا من قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق البتة فإنما طلقها حين تزوجها. ثم إنّ عطف الطلاق في الآية على النكاح ب ثُمَّ لا يدل على أنّ الحكم خاص بالحالة التي يتراخى فيها الطلاق عن النكاح، فإنه لا فرق بين أن يقع متراخيا، وأن يقع على الفور، بل عدم الاعتداد في صورة الفورية أولى منه في صورة التراخي. وعلى هذا يكون التعبير ب ثُمَّ للتنصيص على الحكم في الصورة التي قد يتوهم فيها وجوب العدة، لطول المدة التي هي مظنة الملاقاة والمباشرة. وهذا ظاهر إذا كانت كلمة ثُمَّ باقية على معناها الوضعي، مفيدة للتراخي الزماني. ويصحّ أن يراد منها التراخي في الرتبة وبعد المنزلة، فيستفاد منها أنّ مرتبة الطلاق بعيدة عن مرتبة النكاح، إذ إنّ النكاح تترتب عليه منافع كثيرة، ويثمر ثمرات طيبة. فأما الطلاق فإنّه يحل العقدة، ويفصم العروة، ويبطل ما بين الزوجين وأقاربهما من روابط وصلات. ولهذا قال بعض الفقهاء: إنّ الآية ترشد إلى أنّ الأصل في الطلاق الحظر، وأنّه لا يباح إلا إذا فسدت الزوجية، ولم تفلح وسائل الإصلاح بين الزوجين. وظاهر التقييد بعدم المس- الذي عرفت أنّه كناية عن الجماع- أنّ الخلوة ولو كانت صحيحة لا توجب ما يوجبه الجماع من العدة بعد الطلاق، وهو قول الشافعي في الجديد. أما الحنفية والمالكية الذين يقولون بأنّ الخلوة الصحيحة كالجماع فمن العسير جدّا أن تحمل الآية على محمل يساعدهم. وقد حاول بعضهم أن يجعل المس كناية عن الخلوة أو عما يشمل الخلوة والجماع، ولكنّ ذلك بعيد، إذ لم يعرف، ولم يشتهر إطلاق المس على الخلوة. وإذا فوجوب العدة بالخلوة عند من يقول بذلك لا بد له من دليل آخر، وذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الدارقطني والرازي في «أحكام القرآن» «من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق، دخل بها أو لم يدخل» . وقال ابن المنذر: إنّ هذا قول عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وجابر، ومعاذ، وروي عن زرارة بن أبي أوفى أنّه

_ (1) سبق تخريجه.

قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه إذا أرخى الستور، وأغلق الباب، فلها الصداق كاملا، وعليها العدة، دخل بها أو لم يدخل. هذا وقد اختلف علماء الحنفية بعد الاتفاق على وجوب العدة بالخلوة، فمنهم من يقول: إنّها واجبة قضاء وديانة، وإنّه لا يحل للمرأة أن تتزوج بزوج آخر قبل أن تعتدّ ما دامت الخلوة بالأول صحيحة، ولو من غير وقاع. ومنهم من يقول: إنّه يحل لها ذلك متى كان الزوج لم يواقعها، فأما في القضاء فلا اعتبار إلا بالظاهر. وظاهر الآية أيضا أنه لا عدة على المرأة المدخول بها إذا طلّقها زوجها رجعيا، أو أبانها بينونة صغرى ثم راجعها، أو عقد عليها قبل انقضاء عدتها، ثم طلقها قبل أن يمسها، إذ إنّ هذا الطلاق الثاني يصدق عليه أنه طلاق قبل المس، وبذلك قال أهل الظاهر. فليس عليها عدة جديدة للطلاق الثاني لأنّه طلاق قبل المس، كما أنّه ليس عليها أن تكمّل العدة الأولى، لأنّ الطلاق الثاني قد أبطل الطلاق الأول. ثم يكون لها نصف الصداق في صورة البينونة، والوجه فيه ظاهر. وقال بعض الفقهاء ومنهم عطاء والشافعي في أحد قوليه: إنّه يجب على المرأة في الصورتين أن تبني على عدة الطلاق الأول، وليس عليها أن تستأنف عدة جديدة، إذ الطلاق الثاني لا عدة له، ولكن لا ينبغي أن يبطل ما وجب بالطلاق الأول، فإنّه طلاق بعد دخول، يجب أن تراعى فيه حكمة الشارع في إيجاب الاعتداد، وعلى الزوج نصف الصداق في صورة البينونة، كما يقول أهل الظاهر. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري والأوزاعي: أنّه يجب على المرأة أن تستأنف عدة جديدة في الصورتين، لأنّ الطلاق الثاني- وإن كان لم يفصل بينه وبين الرجعة أو العقد الثاني مسّ ولا خلوة- لا يصدق عليه أنه قد حصل قبل الدخول على الإطلاق، إذ المفروض أنّ المرأة كان مدخولا بها من قبل، وعلى الرجل في صورة البينونة مهر كامل لهذا الاعتبار. وأما المالكية فإنّهم يفرقون بين صورتي الرجعيّ والبائن. فيقولون في الأولى: إنّه يجب على المرأة أن تستأنف عدة كاملة، إذ أنّها في حكم الموطوءة بعد المراجعة. أما في صورة البائن فإنّ النكاح بعد البينونة عقدة جديدة، فالطلاق بعدها يصدق عليه أنه طلاق قبل الدخول، فلا يوجب عدة، لكنّه لا يصحّ أن يهدم ما وجب على المرأة بالطلاق، فعليها أن تكمل العدة الأولى، ولها على المطلّق نصف المهر. فهم يوافقون أبا حنيفة في صورة الطلاق الرجعي، فيوجبون عدة كاملة، ويخالفونه في صورة البائن فيوجبون نصف المهر، وإكمال عدة الطلاق الأول.

وظاهر قوله تعالى: فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها أنّ العدة حيث تجب تكون حقا للمطلّق، وقد يقول بعض من يسير مع الظواهر: إنّ العدة حقّ خالص للمطلق، فإنّه يغار على ولده، ويعنيه ألا يسقى زرعه بماء غيره، وكون العدة لا تسقط إذا أسقطها المطلّق لا يدل على أنها لسيت حقه، إذ قد عهد في الشريعة حقوق لا يملك أصحابها إسقاطها كحق الإرث وحق الرجوع في الهبة وحق خيار الرؤية. لكن المشهور عند الفقهاء أنّ العدة ليست حقا خالصا للعبد، فإنّ منع الفساد باختلاط الأنساب من حقّ الشارع أيضا. فالراجح أن العدة تعلّق بها حقّ الله وحقّ العبد ولما كانت منفعتها عائدة على العبد، وكانت غيرة الرجل مظنة أن تدفعه إلى أن يحول بين المرأة وحريتها في أن تلتمس غيره من الأزواج، حتى في هذه الحالة التي لم يحصل فيها خلوة ولا وقاع، لما كان ذلك كذلك خاطبه الله سبحانه وتعالى بأنه لا سبيل له على هذه المرأة، وأنه يجب عليه أن يخلي سبيلها بالمعروف، فلا يكون في الآية دلالة على أنّ العدة حق خالص للمطلق. وظاهر أنّ الضمير في قوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ راجع إلى المؤمنات اللاتي طلّقن قبل أن يمسسن، سواء أكن مفروضا لهنّ أم لا. فيكون ظاهر قوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ إيجاب المتعة للمطلقة قبل الدخول، سواء أفرض لها مهر أم لم يفرض، وبهذا الظاهر كان يقول الحسن وأبو العالية. وقد أخرج عبد بن حميد عن الحسن أيضا أنّ لكل مطلقة متاعا، سواء أدخل بها أم لم يدخل، وسواء أفرض لها أم لم يفرض. وظاهر هذه الرواية الوجوب في الكلّ عملا بظاهر قوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) [البقرة: 241] . ولكنّ قوله تعالى في سورة البقرة: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ [البقرة: 237] لم يجعل للتي طلقت قبل الدخول وقد فرض لها مهر إلا نصف ما فرض لها، ولم يجعل لها متعة، لأنّ وروده في مقابلة قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) [البقرة: 236] يجعله كالبيان لمفهوم القيد الذي هو عدم الفرض، فيكون كالصريح في أنّ التي طلقت قبل الدخول ولم يفرض لها مهر ليس لها متعة. وقد علمت أنّ ظاهر الآية التي معنا يوجب لها المتعة، فكان بين الآيتين تعارض في ظاهرهما: وللعلماء في دفع هذا التعارض طرق: فمنهم من جعل آية البقرة مخصّصة لآية الأحزاب التي معنا، أو ناسخة

لعمومها، ويكون المعنى: فمتعوهن إن لم يكن مفروضا لهم [مهر عند عقد] النكاح. فوجوب المتعة المستفاد من قوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ خاصّ بمن لم يفرض لها من المطلقات قبل الدخول، دون من فرض لها، وبهذا قال ابن عباس، وهو مذهب الحنفية والشافعية. ويؤيّد ذلك أن المتعة إنما وجبت للمطلقة، لإيحاش الزوج إياها بالطلاق، فإذا وجب للمطلقة قبل الدخول نصف المهر كان ذلك جابرا للإيحاش، فلم تجب لها المتعة. ومنهم من حمل المتعة في آية الأحزاب على العطاء مطلقا، فيعم نصف المفروض والمتعة المعروفة في الفقه، وتكون الآية قد تعرّضت لحكم المطلقة قبل الدخول في صورتيها، فأوجبت لها على المطلّق شيئا تتمتّع به، وتزول به وحشتها، إلا أن ذلك الشيء في صورة الفرض مقدّر بنصف المفروض بالنص، وفي صورة عدم الفرض غير مقدّر، فإن اتفقا على شيء فذاك، وإلا قدّرها القاضي بنظره واجتهاده، معتبرا حالهما إيسارا وإعسارا، وما يليق بنسب المرأة وكرامتها. ومنه من حمل الأمر في قوله تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ على الإذن الشامل للوجوب والندب، مع بقاء المتعة على معناها المعروف، فتكون الآية قد تعرّضت لحكم المطلقة قبل الدخول في صورتيها أيضا، إلا أنّه في صورة عدم الفرض يكون التمتيع واجبا، لقوله تعالى في هذه الصورة بخصوصها: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ ... وفي صورة الفرض الصحيح يكون التمتيع مستحبّا، لأنّه من الفضل المندوب إليه بقوله تعالى في هذه الصورة بخصوصها: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ وقد تقدّم لك ما في ذلك في تفسير سورة البقرة. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) الكلام على ربط الآية بما قبلها واضح بيّن. فقد كان الكلام هناك في أنكحة المؤمنين. وأحكامها. وهنا في نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم اللاتي يحلّ له نكاحهن، وأحكام أخرى تتبع النكاح. والمراد من الأجور هنا: المهور والصدقات. وسميت الصدقات أجورا في هذا الموضع وغيره من القرآن الكريم لما يظهر للناس بادئ الرأي أنّ في العقد تقابلا بين

المنفعة والمهر. وذلك كاف في تصحيح إطلاق اسم الأجر على المهر، وقد قلنا في بادئ الرأي، لأنّ الله تعالى يقول: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) [النساء: 4] والنحلة العطية. وإنك لترى الفقهاء قاطبة في مواضع كثيرة يقولون: المهر ليس في مقابلة البضع، ولا في مقابلة المنفعة، ولا هو في مقابلة الانتفاع، إنما هو بدل وعطية لإظهار خطر المحل وشرفه. على أنّك ترى أنّ حقيقة الأجرة لا تمشي مع المهر خطوات كثيرة، فالأجرة في مقابلة المنفعة تنقسم عليها، وتتجزأ معها بحسب الزمن، وليس كذلك المهر، حيث يجب نصفه بالطلاق بعد العقد قبل المس، ويجب كله في غير هذه، ولا عبرة بمرات الانتفاع كثرة وقلّة، بل المرة الواحدة كالذي لا يتناهى من المرات. وأنت تعرف أنّ الخلوة الصحيحة مرة واحدة توجب المهر كاملا عند الحنفية، فهل ترون أن الرجل انتفع، وأنّ انتفاعه تكرّر. وقد جاء في الآية الكريمة عدة قيود، ما أريد بواحد منها إلا التنبيه على الحالة الكريمة الفاضلة: منها، وصف أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم باللاتي آتى أجورهن، فإنه تنبيه على الحالة الكاملة، فإن الأكمل إيتاء المهر كاملا دون أن يتأخر منه شيء. وما الذي عليه الناس من تأخير بعض المهر إلا شيء أحدثه العرف، واقتضاه الحذر بعد أن فسد حال الناس، واقتضاه التغالي في المهور أو الظهور بمظهر المغالاة فيها. وإذا كان الفقهاء قد جعلوا للمرأة حقّ الامتناع من تمكين الزوج حتى تأخذ المهر كاملا. فلا يكون الأليق أن يدفع المهر كاملا حتى لا يظهر الرجل بمظهر من يريد استحلال الفروج بالمجان. ويقول العلماء: إنّ تعجيل المهور كان سنة السلف، لا يعرف منهم غيره، وقد شكا بعض الصحابة عدم قدرته على التزوج فقال له صلّى الله عليه وسلّم: «أين درعك الحطمية» «1» . ومنها أن تخصيص المملوكات بأن يكنّ من الفيء من هذا القبيل، فإنّ المملوكة إذا كانت غنيمة من أهل الحرب كانت أحلّ وأطيب مما يشترى من الجلب، لأن تلك ظاهرة الحال، معروفة النشأة. ومن تلك القيود قيد الهجرة في قوله: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ ولا شك أن من هاجرت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى بشرف زوجية النبي صلّى الله عليه وسلّم ممن عداها. وإنما قلنا الذي قلنا حتى لا نخوض فيما خاض فيه المفسرون من أشياء لا تغني من الحق شيئا، فقد حاولوا أن يأخذوا من قوله تعالى: اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أن الممهورات من نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أخذن مهرهنّ كلّه معجلا وأن تعجيل المهر كان

_ (1) رواه النسائي في السنن (5- 6/ 440) ، كتاب النكاح، باب تحلة الخلوة حديث رقم (3375) .

واجبا عليه. لماذا؟ لأن الفقهاء قالوا: إن المراد في حل من عدم التمكين حتى تأخذ المهر. ولو لم يعجّل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مهور نسائه لكنّ في حل من حق الامتناع، وهو لو طلبهن ما كان لهن حق الامتناع، لأنه عصيان لأمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم هكذا يقرر المفسرون حكما: هو الوجوب على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لأن الفقهاء قالوا، وبعد تسليم الذي قالوا، كيف يكون الامتناع في هذه الحالة معصية؟!! وهو مقرر بقاعدة شرعية هي التي نقلتموها عن الفقهاء!! وكذلك نريد أن نخرج مما خاضوا فيه من بحث أن المملوكات من غير الفيء هل كنّ حلالا له أو لا؟ وإنك لتعجب حين تراهم يقولون: هل كانت تحته مملوكات من غير هذا النوع أو لم يكن؟ ثم يقررون أنه لم يكن!! وإذا سئلوا عن مارية قالوا: إنّ هدية الحربيين بمنزلة الفيء. وكان خيرا لهم من هذا أن يبحثوا المسألة من الوجهة التاريخية، ولا يكتفوا بسرد رواية لا يعلم مدى صحتها إلا الله. وأعجب من هذا أنّك تسمعهم يروون أن من بين أزواجه زينب بنت خزيمة الأنصارية، وهي التي كانت تعرف بأمّ المساكين. ثم يخوضون في أنّ غير المهاجرات كنّ محرّمات عليه أولا قبل التحريم والتحليل. ابحثوا الذي وقع واعرفوه، ثم قولوا: هل الذي وقع كان واجبا لا معدى عنه: أم كان التزاما للحالة الفضلى؟ هذا إذا ثبت أن جميع نسائه كن مهاجرات. وأشد عجبا من ذلك كله خوضهم في المراد بالأزواج اللاتي أحلّهن الله لنبيه صلّى الله عليه وسلّم، فيقولون: هنّ من كنّ في عصمته: كعائشة وحفصة ممن تزوجها بمهر. ويزعمون أن الذي يلجئهم إليه هو دفع التعارض بين هذا، وبين قوله تعالى بعد ذلك: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ. ولو أنهم حملوا الإحلال على الإذن العام بالنكاح من هذه الأصناف الأربعة: الممهورات، والمملوكات، والأقارب، والواهبات أنفسهن من غير مهر، ثم يجيء قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ملزما بالوقوف عند ما انتهى إليه من الزوجات لا يعدوهنّ، كما أباح النساء للناس، ثم بيّن لهم الوقوف عند الأربع من غير المحرمات بأسباب التحريم، لو أنهم فعلوا ذلك لما كان للذي ظنوه من التعارض أي أثر. ولما كانوا في حاجة إلى أن يحملوا بنات العم وبنات العمات على القرشيات، وبنات الخال وبنات الخالات على أقاربه من بني زهرة. ولكنّ الذي ألجأهم إلى ذلك هو أنهم لم يجدوا في نسائه واحدة من بنات عمه، وبنات عماته لم يكن منهن إلا زينب، وهذا الذي ذهبوا إليه إن نفعهم في بنات العمومة لا

يجدون له أثرا في بنات الخئولة، فهو لم يتزوج واحدة من بنات خاله وخالاته. ولقد كان يغني عن هذا كله ذكر وصف القرابة، لكن الأمر ليس كما ذهب إليه المفسرون وإنما هو تعداد للأصناف التي يباح له أن يتزوج منها على الوجه الكامل. كما بيّن للناس ما فرضه عليهم في أزواجهم في غير هذا الموضع. ولو تمشينا معهم إلى آخر الآية لما استطعنا أن نمشي في الواهبات أنفسهن، فقد نصوا على أنّ الصحيح أنه لم يكن فيمن كان تحته من النساء من وهبت نفسها، قال أبو بكر ابن العربي: وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: لم يكن عند النبي صلّى الله عليه وسلّم امرأة موهوبة. وقد بيّنا الحديث الصحيح في مجيء المرأة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ووقوفها عليه، وهبتها نفسها له من طريق سهل وغيره في «الصحاح» وهو القدر الذي ثبت سنده وصحّ نقله. والذي يتحقق أنها لما قالت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: وهبت نفسي لك، فسكت عنها، حتى قام رجل فقال: زوجنيها يا رسول الله، إن لم تكن لك بها حاجة «1» . إلخ القصة انتهى ما أردنا نقله عن ابن العربي «2» . وإلى هنا يتضح أنّ المراد بالإحلال: الإذن العام، والتوسعة في الزواج من هذه الأصناف، والإباحة له في أن يختار منهنّ من تقتضي الحكمة الزواج منها. ولعلك بهذا الذي ذكرنا تستغني عن الكلام في تفسير الآية من جديد. فهو أن هناك أشياء تكلّم فيها المفسرون، لا نرى بأسا من التعرض لها قبل الكلام فيما ذكروا من أحكام، قالوا إنها تتصل بالآية: فقد عرض المفسرون للحكمة في إفراد العم والخال، وجمع العمة والخالة. - كما تكلموا عن الشرط الثاني إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها هل هو شرط في الشرط الأول، أو في مشروط الشرط الأول: وهو الإحلال. - ولقد تكلموا في قوله تعالى: خالِصَةً فقالوا: هل يرجع إلى المرأة المؤمنة، أو لما قبله جميعا، وسنذكر هذا على الترتيب فنقول. قال المفسرون: إن المراد من بنات العم والعمة: القرشيات، فإنّه يقال للقرشيين قربوا أن بعدوا أعمامه عليه الصلاة والسلام، ويقال للقرشيات قربن أم بعدن عماته. والمراد من بنات الخال والخالة البنات من بني زهرة. إطلاق العم والعمة: على أقارب الشخص من جهة أبيه، والخالة والخال على الأقارب من جهة الأم، أمر جرى به العرف.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1040) ، 16- كتاب النكاح، 13- باب الصداق حديث رقم (76/ 1425) ، والبخاري في الصحيح (6/ 168) ، 67- كتاب النكاح، 51- باب التزويج حديث رقم (5149) . (2) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (3/ 1546) . [.....]

وقد كان تحت النبي صلّى الله عليه وسلّم ست من القرشيات، ولم تكن تحته زهرية قط. وذلك يرشد إلى أنّ المراد من الإحلال الإذن في العقد على هؤلاء، دون أن يستدعي وقوعه. وإذا حمل العم والعمة على ما هو المعروف، وكذا الخال والخالة كان الإحلال أيضا مراد منه ذلك. لأنّه لم يكن من بنات أعمامه تحته أحد، وكذا من بنات خؤولته، ولم يكن من بنات عمته معه إلا زينب بنت جحش. ثم قالوا في الحكمة في إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة كلاما كثيرا، بل إنّ من العلماء من ألف في ذلك كتابا برأسه، فمنهم من زعم أن العم والخال لم يجمعا لوقوعهما على وزن المصدر، وهو لا يجمع. وقيل: بل إن عدم الجمع في العم والخال جاء على الأصل من إرادة العموم عند الإضافة، وأما العمة والخالة وإن كانتا مضافين فجمعا لمكان تاء الوحدة فيهما، وهي تأبى العموم في الظاهر وجمع الكل في سورة النور في قوله تعالى: أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ [النور: 61] لا يسأل عن علته، لمجيئه على الأصل في نسق واحد. ويرى بعضهم أنّ الخطاب لما كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولم يكن له إلا عمّ واحد تحل بناته له، وهو أبو طالب، أما حمزة والعباس فقد كانا أخويه من الرضاعة، فقد أفرد العم من أجل ذلك، وجمعت العمات لأنهنّ كثيرات. ويرى البعض أن الذي جرى هنا من الإفراد في العم جرى على نحو مألوف العرب، فإنك لا تكاد تجد في كلام العرب العم مضافا إليه الابن أو البنت مفردين أو مجموعين إلا مفردا، كما قيل: إن بني عمك فيهم رماح. وكما قيل: قالت بنات العمّ يا سلمى. وجاء الكلام في الخال والخالة على مثاله، وفي هذا القدر كفاية. وأما الشرطان في قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها فقد قالوا: إنّ الشرط الثاني شرط في الأول، فتكون هبة المرأة نفسها لا تستلزم الحل إلّا إذا وجدت إرادة الاستنكاح، ويقولون: إنّ هذه الإرادة تكون جارية مجرى القبول، وإذا كانت السين والتاء للطلب، فتكون الإرادة بمعنى الرغبة التي تسبق العقد، ثم الهبة والاستنكاح يكون بعد. ثم إنّهم يقرّرون هنا قاعدة حاصلها: أنّه إذا اجتمع شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر عنه في اللفظ متقدم عليه في الوجود، وهذه القاعدة لو سلمت لهم لكان ذلك مخلّا بتفسير الإرادة بالقبول، لأن القبول لا يكون إلا بعد الإيجاب، وعلى ذلك يلزم

أن يقال: إن القاعدة أغلبية، وأن الآية جرت على خلاف الغالب، ولكن من أين لهم هذه القاعدة؟ وما الذي يضرّ لو أنّ مجموع الشرطين جعلا قيدين في الإحلال، سبق الثاني في الوجود أو تأخر، خصوصا وقد ذهب إلى هذا الذي نقول طائفة كبيرة من العلماء في مقدمتهم إمام الحرمين. ونحب أن نقول: إنّ أكثر العلماء على أنّ الهبة وقعت من كثير من النساء، وقد وردت روايات كثيرة في أشخاص الواهبات. غير أنّهم مع ذلك يصحّحون أنّه لم يكن تحته صلّى الله عليه وسلّم امرأة وهبت نفسها. وقد أخرج ابن سعد أنّ ليلى بنت الحطيم وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ووهب نساء أنفسهنّ، فلم نسمع أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل منهن أحدا. وقد روى ابن جرير «1» وغيره عن ابن عباس أنه قال: لم يكن عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم امرأة وهبت نفسها. وأما قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فقد ذهب بعضهم إلى أن (خالصة) منصوب على المصدرية. وقد جاء المصدر على هذا الوزن كثيرا: كالعافية، والكاذبة. ثم هو يرجع إلى إحلال الواهبة، أي أحللنا لك الواهبة يخلص لك ذلك خلوصا. وذهب بعضهم إلى أن (خالصة) حال من امرأة، أي أحللنا لك امرأة وهبت نفسها حال كونها خالصة لك، لا تحل لأحد بعدك. ويرى البعض أنه راجع إلى جميع المحللات، والمعنى أحللنا لك كلّ ما تقدم على أن تختص بهن، لا يكون لأحد بعدك أن ينكحهن. وأما قوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فهو جملة اعتراضية جيء بها لتوكيد مضمون الجملة قبلها. والمعنى: أن ما ذكرناه حكمك مع نسائك، وأما حكم أمتك مع نسائهم، فعندنا علمه، نبينه لهم على حسب ما تقضي به الحكمة والمصلحة في شأنهم. واحتيج إلى هذا هنا حتى لا يظنّ أنّ ما جاز للنبي صلّى الله عليه وسلّم في أزواجه من الشؤون يجوز لأمته، وقد كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم في النكاح وفي التسري خصائص ليست لغيره، فهو يزيد في النساء إلى التسع، وغيره لا يباح له الزيادة على الأربع، واختص النبي صلّى الله عليه وسلّم بنكاح الواهبات دون الناس. والذي فرضه الله على الناس في أزواجهم ألا يجاوزوا أربعا من النساء، والولي، والشهود، والمهر، والنفقة، والكسوة، على ما في بعض ذلك من خلاف بين الفقهاء.

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (22/ 17) .

الأحكام

وضّحته كتب الفروع، إلى غير ذلك مما فرض الله للناس في شأن الأزواج والمملوكات، مما اقتضت الحكمة الإلهية أن يكون غير شأن النبي في النساء، وما علم الله أن فيه صلاح العباد في هذا الشأن أيضا. لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ قيل متعلّق بأحللنا، وهو راجع إلى جميع ما ذكر. والمعنى: أحللنا لك من آتيت أجورهنّ من النساء والمملوكات والأقارب والواهبة لندفع عنك الحرج الذي يلحقك فتتفرّغ لتبليغ الرسالة. وقيل: هو متعلق بخالصة، أو بعاملها، أي خصصناك بنكاح من وهبت نفسها لك، لكيلا يكون عليك حرج، فلا تبحث عن مهر، ولا تسعى في تدبيره. ويروي بعض المحققين أنه متعلق بمحذوف، أي بينا هذا البيان حتى تخرج من الحرج، ومما يظن الناس تأثيمك فيه، ومتى علموا أنّك تصدر في الذي تفعل عن وحي ربك اندفع الذي ظنوا، وكفيت الاعتراض والتأثيم. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يغفر للناس ما لا يمكنهم التحرز عنه، رحيما بهم، يدفع عنهم الحرج والعنت. الأحكام أحلّ الله تعالى لنبيه توسعة عليه، وتيسيرا له في نشر الرسالة، صنوفا من النساء، صنفا يدفع له المهر، وصنفا يتمتع به بملك اليمين، وصنفا من أقاربه، وصنفا رابعا ينكحه دون مهر، بعد أن تهب المرأة نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم ويتم القبول، وهذا خاصّ بالنبي صلّى الله عليه وسلّم يجوز له، ولا يجوز لأحد من المؤمنين. ذلك هو محصول الآية الكريمة على ما رجّحه العلماء من جعل الخصوصية في نكاح الهبة، وإن اختلفوا في مرجح الخصوصية في هذا النكاح على ما يأتي بيانه. وقد أراد الكرخي أن يأخذ من تسميته المهر أجرا في قوله تعالى: آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ حجة في عقد النكاح بلفظ الإجارة، ولم يتابعه سائر الحنفية في هذا الذي ذهب إليه. ولعلّ مستند الكرخي في هذا أنّ الله قد سمّى المهر أجرا، والأجر يجب بعقد يتحقّق بلفظ الإجارة، فيصح النكاح بلفظ الإجارة. وليس هذا يصح مستندا، فالحنفية وهم الذين يقولون: إنّ العبرة في العقود للمعاني، يقولون: إنّ معنى الإجارة يتنافى مع عقد النكاح، إذ النكاح مبني على الإطلاق، والتوقيت يبطله، وعقد الإجارة مبني على التوقيت، حتى لو أطلق المتعاقدان العقد عن التوقيت كان مؤقتا، ويتجدد العقد ساعة فساعة، فكيف يصحّ جعل ما هو موضوع للتوقيت دالا على ما يبطله التوقيت.

وشيء آخر: وهو أنّ الإجارة عقد على المنافع بعوض. وبعبارة أخرى هي تمليك المنافع بعوض. ويقول الحنفية وقد فرّعوا الفروع على ما قالوا: إنّ النكاح ليس عقد تمليك، وإنما هو استباحة، وهما مختلفان في الآثار. وفرق آخر: هو أنّ «1» الحنفية يصرّحون بأنّ المهر في النكاح ليس عوضا، وإنما هو عطية أوجبها الله تعالى إظهارا لخطر المحل، ولذلك صحّ النكاح مع النص فيه على ترك المهر، ويجب مهر المثل بالدخول، ولو كان عوضا لما صح تركه، فضلا عن النص عن الإسقاط، ولو سلّم أن النكاح يقتضي التمليك فلا يصح أن يعقد بلفظ الإجارة، حتى لا يلتبس الأمر بعقد المتعة الباطل، وما ينشأ اللبس إلا من لفظ الإجارة الدالّ على التوقيت. وما كانت تسمية المهر أجرا لتستلزم هذا الذي ذهب إليه الكرخي، وقد بينا لك فيما تقدم المسوّغ لهذا، وهو ما يبدو من شبه بين الأجر والمهر، والمسألة في هذا سهلة، فالحنفية كلهم على غير ما يرى الكرخي. ومما جرى الخلاف فيه بين الفقهاء عقد النكاح بلفظ الهبة لغير النبي صلّى الله عليه وسلّم. فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، وزفر، ومحمد، والثوري، والحسن بن صالح: يجوز، ولها ما سمّى في العقد. ومهر المثل إن لم يسمّ شيء. وروى ابن القاسم عن مالك أنّ الهبة لا تحل بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم إن كانت هبة نكاح، وقال الشافعي رضي الله عنه: لا يصحّ النكاح بلفظ الهبة. وخلاف الفقهاء تابع لنزاع العلماء في معنى قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فذهب جماعة إلى أن الخصوصية والخلوص الوارد في الآية هو خلوص عقد النكاح بلفظ الهبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ألا ترى كيف قال الله تعالى: لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وكيف قال: إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها وقبل ذلك: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ وفي جميع ذلك من الإشارة ما يدلّ على أن إحلال المرأة من طريق الهبة كان خاصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم. وذهب آخرون إلى الخلوص والخصوصية الواردة في الآية كان في نكاح الواهبة بغير مهر. أما عقد النكاح بلفظ الهبة فكان جائزا للنبي وأمته معه، لا خصوصية فيه، وهو مروي عن مجاهد، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وزعم الذاهبون إليه أنّ الآية تدلّ عليه، وذلك أنّ الله تعالى يقول: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ

_ (1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1- 2/ 206) .

جعل الله العقد خالصا للنبي، وأضاف لفظ الهبة إلى المرأة، وأضاف إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إرادة الاستنكاح، فدلت المخالفة بين الجانبين على أنّ المراد مدلول اللفظ الذي فيه جانب المرأة، وهو ما يدل عليه لفظ الهبة من ترك العوض. وأيضا فلو كانت الخصوصية راجعة للفظ الهبة لجاء في اللفظ الذي يكون في جانبه، أما خصوصية أن يكون عقده بلفظ الهبة من جانب المرأة دون أن يكون فيه إسقاط العوض فيكاد يكون غير مقبول. ووجه آخر هو أن الله تعالى قال بعد ذلك: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وذلك يشير ظاهرا إلى أن الخصوصية دفعت حرجا. وقصر النكاح على لفظ النكاح أو التزويج لا حرج فيه، إنما الحرج يكون في إلزام المهر، لأن ذلك يلزمه مشقة السعي في التحصيل، وهو مشغول بشؤون الرسالة، ويرجّح هذا الذي نقوله قول الله تعالى في أول الآية: آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ حيث يكون إحلال الهبة مقابلا له، فيكون المعنى أحللنا لك الممهورات وغير الممهورات. ثم هم يسوقون في ذلك حديثا رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه، عن محمد بن بشر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها كانت تعيّر النساء اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي صلّى الله عليه وسلّم، قالت: ألا تستحي أن تعرض نفسها بغير صداق؟ أنزل الله عزّ وجلّ: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ قالت: إني أرى ربّك عزّ وجلّ يسارع لك في هواك «1» . ويقولون بعد ذلك أنه قد ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عقد على امرأة بلفظ التمليك لرجل على ما معه من القرآن، فقال: «ملكتكها بما معك من القرآن» ، وذلك يدل على صحة عقد النكاح بلفظ يدل على التمليك، ولفظ الهبة يدل على التمليك، فصح عقد النكاح به. ذلك مجمل ما يقال في الاستدلال للمجيزين على ما ذهبوا إليه، وما نراه يدل لهم. وإنا لنسألهم: أين وجدتم في الآية أنّ النكاح كان دون مهر؟ أليس في لفظ الهبة؟ فكيف يكون ما يدل عليه اللفظ خاصا به صلّى الله عليه وسلّم، وليس شيء يدل عليه إلا اللفظ ومع ذلك فأنتم لا تقولون بجواز عقد النكاح بلفظ الهبة مع بقاء معناه، وهو ترك العوض. والذي في الآية ترك العوض مدلولا عليه بلفظ الهبة. فمن أين لكم الخصوصية في المعنى دون اللفظ؟ ومن أين لكم أنه يجوز عقد النكاح لغير النبي صلّى الله عليه وسلّم بلفظ الهبة مع إيجاب المهر؟ فإن كنتم تريدون أنّ عقد النكاح بلفظ الهبة يصحّ من النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن غيره، وتريدون أن تأخذوه من الآية فخذوا جواز

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 28) ، 65- كتاب التفسير، 7- باب تُرْجِي مَنْ تَشاءُ ... حديث رقم (4788) ، وأحمد في المسند (6/ 158) .

ذلك للناس جميعا بكل ما دلّ عليه، وهو العقد بلفظ الهبة من غير مهر. أما أن تقولوا: إنّ العقد بلفظ الهبة جائز للناس جميعا ويجب المهر، فهو الذي لا نجد لكم سندا فيه. وكيف يكون السند، والله تعالى يقول: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ولا يمكن رجوع الخصوصية للمعنى إلا بعد أن يكون مستفادا من اللفظ، مدلولا عليه به، ولو أسقط لفظ الهبة من العقد استبعد إسقاط المهر، فالحقّ أنّ الخصوصية راجعة إلى ما كان من عقد النكاح بلفظ الهبة، مع ما يحمل من المعنى، وهو تمليك البضع بغير عوض. وما سقتم من حديث عائشة لا ينفعكم، فليس فيه إلا أنّ نكاح الواهبة كان بغير عوض، وعائشة إنما فهمت ذلك من لفظ الهبة. ونحن نقول: إنّ الخصوصية كانت في عقد النكاح بلفظ الهبة ومعناه، أما عقده بلفظ الهبة وحده دون المعنى فلا نقول: إنّ الخصوصية راجعة إليه. وأما ما قلتم من أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عقد النكاح بلفظ التمليك، فهو بعد تسليم حجية الحديث المروي فيه لا يدلّ [على ما ذهبتم إليه] . وهناك رواية أخرى تدل على أن العقد كان بلفظ: «زوجتكها» «1» ولا دلالة فيما رويتم، فعقد النكاح بلفظ التمليك لا يفيد أن كل ما يدل على التمليك ينعقد به النكاح، ألا ترون أن لفظ الإجارة يدل على التمليك، وأنتم لا ترون النكاح ينعقد به، لما فيه من معنى يتنافى مع المقصود من النكاح، وهو أن الإجارة مبينة على التوقيت. وكذلك نحن نقول بعد أن نسلّم لكم أنّ صيغ العقود يصحّ القياس فيها: إنّ لفظ الهبة نصّ على ترك العوض، والنكاح لا بدّ فيه من العوض، وإن لم يذكر في العقد، فلا يصح أن يدل عليه بلفظ صريح في ترك العوض. هذا ما رأينا أن نذكره مما تكلم فيه المفسرون من الأحكام، وهناك أشياء أخرى عرض لها المفسرون: كالكلام على أعمام النبي، وعمّاته، وأخواله، وخالاته ومن وهبت نفسها من النساء، وما نرى أن نتابعهم فيه، لأنّ ذلك حتى بعد صحة ما يروى لا فائدة من ذكره [هاهنا] . قال الله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) الإرجاء: التأخير والتنحية.

_ (1) رواه ابن ماجه في السنن (1/ 608) ، 9- كتاب النكاح، 17- باب صداق النساء حديث رقم (1889) .

والإيواء: الضم والتقريب. والابتغاء: الطلب. والعزل: الإبعاد. اختلف في سبب نزول هذه الآية، فروى أبو رزين العقيلي أنّ نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم لمّا أشفقن أن يطلقهنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قلن: يا رسول الله! اجعل لنا من نفسك ومالك ما شئت فكانت منهن: سودة بنت زمعة، وجويرية، وصفية، وميمونة، وأم حبيبة غير مقسوم لهنّ. وكان ممن آوى: عائشة، وحفصة، وزينب، وأم سلمة: يضمهن ويقسم لهن. وقيل كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا خطب امرأة لم يكن الرجل أن يخطبها حتى يتزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو يتركها. ويكون المعنى على ما روى أبو رزين: اعزل من شئت من القسم، وضمّ إليك من تشاء. ويرى ابن العربي «1» أنّ القولين غير صحيحين، أما ما روي عن أبي رزين فلم يرد من طريق صحيح. وأما الآخر، فلأنّ امتناع الخطبة بعد خطبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا ذكر له، ولا إشعار به، وهو مع كونه غير خاص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لا يكاد يتسق مع باقي الآية. وقد اختلف العلماء في المراد من الإرجاء والإيواء: فقد روي عن ابن عباس أنّ معنى الآية: تطلّق من تشاء، وتمسك من تشاء. وروي عن قتادة: أنّ المعنى: تترك من تشاء، وتنكح من تشاء، وقد أسلفنا لك. عن أبي رزين ما يفيد أن المعنى: تترك من تشاء من غير قسم، وتقسم لمن تشاء. ويرى ابن العربي «2» أنّ الصحيح في سبب نزول الآية وفي معناها هو ما روي من طريق صحيحة عن عائشة أنها قالت: كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهنّ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وثبت في «الصحيح» «3» أيضا عنها أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يستأذن في يوم المرأة منّا بعد أن نزلت هذه الآية: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ فقيل لها: فما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول: إن كان الأمر إليّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحدا أبدا.

_ (1) أحكام القرآن للإمام ابن العربي (3/ 1554) . (2) المرجع نفسه (3/ 155) . (3) رواه البخاري في الصحيح (6/ 28) ، 65- كتاب التفسير، 7- باب ترجي من تشاء حديث رقم (4789) .

ويرى ابن العربي «1» أنّ المعنى بعد ذلك هو: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أذن له في غير إلزام أن يكون مردّ الأمر في القسم إليه، إن شاء قسم، وإن شاء لم يقسم، لكنّه كان يقسم بينهن من غير أن يكون القسم فرضا عليه. وذلك خاصّ به دون المؤمنين. وقد ظلّ شأن النبي مع نسائه وشأن نسائه معه على هذا، حتى أدرك الكبر سودة بنت زمعة، فوهبت قسمها لعائشة، وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك. ولنرجع بعد ذلك إلى تفسير الآية بتمامها، حتّى يتبين من التفسير أيّ المعاني أجدر بأن يكون مقصودا من الآية. تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ قد عرفت مما سقناه لك آنفا أنّ الإرجاء التأخير، وأن الإيواء الضم، وعرفت آراء العلماء في المراد بذلك. ونزيد هنا أنهم اختلفوا أيضا في مرجع الضمير في (منهن) ، فرآى بعضهم أنه يرجع إلى نساء الأمة جميعا، وأنّ المعنى أن لك أن تترك نكاح من تشاء من نساء الأمة، وأن تنكح من تشاء. وهذا القول بعينه قدمناه لك في جملة الأقوال. ونقول: إنه لم يفد فائدة جديدة، فالمقصود منه قد استفيد من آية إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قول الله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ على ما تقدم بيانه، وهو بعد ذلك لا يتسق مع قول الله تعالى: وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ. ويرى البعض أنّ الضمير للواهبات، ويكون المعنى إنّ لك أن تقبل هبة من تشاء، وتترك هبة من تشاء، ويروون في ذلك من الروايات ما يستندون إليه، إذ يفيد أنّ بعض الواهبات قبلهنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم ودخل بهن، وأرجأ البعض الآخر، ولم يدخل بهن، ويقولون: إنّ منهن أمّ شريك. وأنت تعلم مما سبق أن العلماء اختلفوا في وقوع الهبة، وعلمت أنّ الصحيح أنّها وقعت، وعلمت كذلك أنهم اختلفوا في قبوله صلّى الله عليه وسلّم الهبة منهن، وأن الصحيح أنه لم يكن تحته امرأة وهبت نفسها، ومتى علمت هذا كان لك أن تحكم بضعف هذا القول، خصوصا إذا نظرت إلى أن ضمير (منهن) للجمع، ولم يرد للواهبات ذكر بالجمع حتى يكون مرجعا، فخير أن يكون مرجع الضمير لنسائه اللاتي هنّ تحته: وأنّ المراد ترك أمر القسم إليه، إن شاء قسم، وإن شاء لم يقسم توسعة عليه، حتى تطمئن نفوس زوجاته، على ما يأتي بيانه.

_ (1) أحكام القرآن للإمام ابن العربي (3/ 1556) .

وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ أي أنّه لا حرج ولا إثم إذا عنّ لك أن تطلب إحدى المرجئات والمعزولات، فتضمها، وتؤويها إليك بعد عزلها وإرجائها، ويجوز حمل الإرجاء والعزل هنا على الطلاق، ويكون المعنى: ومن طلبت رجوعها ممن تكون قد عزلت فلا جناح عليك في طلب رجوعها إلى العصمة. ويجوز أن يراد منه التأخير في القسم، أو ترك القسم، ويكون المعنى: ومن طلبت إيواءها وإدخالها في القسم ممن أخرت القسم لها أو تركته، فلا جناح عليك. وأما أن يراد بالابتغاء طلب النكاح، وبالعزل والإرجاء تركه، على أن يكون المعنى: ومن طلبت نكاحها من اللاتي تركت فبعيد، لأنّ العزل مشعر بأن تكون المعزولة كانت في زمرة ثم عزلت، وفصلت عنها. والتي رفض نكاحها لا يقال: إنها كانت في زمرة فصلت وعزلت منها. ومَنْ عل كلّ هذا شرطية جوابها فلا جناح عليك. وروي عن الحسن أنّ معنى الآية: إنّا جعلنا لك أمر الإرجاء والإيواء، وجعلنا لك أيضا أن تطلب نكاح من تشاء عوضا ممن عزلتها بالطلاق أو بالموت. وهو في هذا يحمل الإرجاء على الطلاق، ويكون المعنى: أن الله أحلّ لك صنوفا من الأزواج، تطلق من تشاء منهن، وتعتاض عمن عزلت بالطلاق أو بالموت منهن، وعلى هذا (فمن) في قوله: مِمَّنْ عَزَلْتَ للبدل، مثلها في قوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ أي بدل الآخرة. ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً اسم الإشارة يرجع إلى ما تضمّنه الكلام السابق من تفويض أمر الإرجاء والإيواء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، أي إنّ تفويضنا الأمر- في إبقاء من تشاء، وترك من تشاء، أو في القسم وتركه إليك- أقرب أن تكون أعينهن قريرة. وذلك كناية عن سرورهن بذلك، فلا تحزن من كان لهن الإرجاء، ويرضين بما تصنع معهن. لأنّه متى علمن أنّ الأمر صار إليك، صار في مرجو المعزولة أن تكون يوما صاحبة فراش، فلا تيأس من قربك، ولا تقنط من رحمة الله. وأما قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ فهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأزواجه رضي الله عنهن، وجمع بجمع الذكور للتغليب، وتعقيب الكلام السابق بهذا يراد منه الحثّ على إصلاح ما عساه يكون في القلوب جميعا بالقدر المستطاع، فيخفف النبي صلّى الله عليه وسلّم ما عساه يكون منه من أثر للميل في معاملة نسائه، ويذهب من النساء ما عساه يكون من أثر للغيرة التي تغلب النساء عادة وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً يعلم خفيّات الصدور، وما يكون لها من آثار ظاهرة وباطنة. ولا يعجل العقاب قبل الإرشاد والنصح.

قال الله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) لا يزال الكلام متصلا في خطاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في شأن أزواجه، فلا تبحث عن الربط. و (بعد) في قوله: مِنْ بَعْدُ ظرف مبني على الضم لحذف المضاف إليه. وقد اختلف في تعيين هذا المحذوف على ثلاثة أقوال ترجع في الحقيقة إلى اثنين. 1- روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه قال: المراد من (بعد) من عندك من النساء اللواتي اخترنك على الدنيا، ويكون ذلك قصرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم على أزواجه مجازاة لهنّ، وشكرا على هذا الاختيار، كما قصرهن الله عليه إكراما له في قوله: وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً. 2- روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: المراد من (بعد) من أحللنا لك في الآية المتقدمة، وهن الأصناف الأربعة. 3- روي عن مجاهد أن المعنى: لا يحل لك نكاح غير المسلمات. وهذا الرأي الأخير في الحقيقة يرجع إلى الثاني، لأنّ المروي عن أبيّ يدل عليه، إذ ليس في الأصناف التي أحلّت للنبي غير مسلمة، فيكون ما روي عن مجاهد داخلا في الذي روي عن أبيّ، ويكون المعنى: لا يحل لك من عدا من آتيت أجورهن، وقرابتك المؤمنات. المهاجرات وما ملكت يمينك ومن وهبت نفسها إليك. ويقول ابن العربي «1» : ويقوى في النفس قول ابن عباس، والله أعلم كيف وقع الأمر. وسيأتي لنا كلام في هذا عند الكلام على آراء العلماء في نسخ الآية. وقد اختلف العلماء أيضا في قوله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ فروي عن ابن عباس أنّ المراد: لا يحلّ لك أن تطلّق أحدا من أزواجك لتنكح غيرها. وروي عن مجاهد أن المعنى: لا يحل لك أن تبدل المسلمة التي عندك بمشركة، ونقل عن ابن زيد أن المعنى: لا تعطي زوجك بدلا من زوج رجل آخر. أما قول مجاهد فهو مبنيّ على رأيه في صدر الآية، ولو تأملت وجدت صدر الآية مغنيا عنه على حسب تأويله هو، فإنّ صدر الآية معناه عنده: لا يحل لك نكاح غير المسلمات، وذلك يقتضي تحريم العقد عليهن مطلقا، سواء أكان العقد مبتدأ، أم على وجه الإتيان بالمشركة بعد اطراح المسلمة من العصمة، وحينئذ يخلو وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ من الفائدة.

_ (1) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (3/ 1559) .

وأما قول ابن زيد فباطل أيضا، فإنّ نكاح الاستبدال الذي يدّعيه حرام على كل الناس، فلا يكون هناك محلّ لتوجيه الخطاب إليه وحده. وأما إعراب قوله تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ فيرى البعض أنّها في موضع الحال، والمعنى: لا يحل لك أن تتبدل بهن أزواجا على أي حال، حتى حال إعجابك بحسنهن. ويرى البعض أنّ هذه جملة شرطية حذف جوابها، لفهمه من الكلام، والمعنى: ولو أعجبك حسنهنّ لا يحل لك نكاحهن. إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ رأيت في الذي سبق أنّ تقييد حلّ المملوكة بكونها فيئا لا يقصد منه الاحتراز، وقد جاء استثناء المملوكات من المحرمات مطلقا، فهو متفق مع الذي قلنا هناك. وأما من يرى أنّ القيد هناك للاحتراز، فلعله يحمل المطلق هنا على المقيد هناك، أو لعلّه يقول: إنّ العموم هنا أبطله الخصوص هناك، وما نريد أن نعرض إلى أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هل كان يحل له الكافرات، أو هن كنّ محرمات عليه؟ فالواقع أنّ النبي لم ينكح كافرة بعد الرسالة، والبحث في حلهن وحرمتهن غير مجد بعد ذلك. بقي أنّ العلماء اختلفوا في الآية: أبقيت محكمة لم يدخلها النسخ، أم نسخت؟ والذين قالوا بالنسخ اختلفوا في الناسخ: أهو الكتاب أم السنة؟ فذهب جماعة إلى أنّها محكمة، وأنّ ذاك كان تكريما للمختارات، وجزاء على إحسانهن. ويرى البعض أنها منسوخة، ويروون في ذلك حديثا عن عائشة: «ما مات النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا وقد أحلّ الله له من شاء من النساء إلا ذات محرم» «1» ويقول ابن العربي «2» في هذا: إنه حديث ضعيف شديد الضعف. والذين ذهبوا إلى النسخ اختلفوا في الناسخ، فيرى بعضهم أنّ الناسخ هو قوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى آخر الآية، ويقولون: إنّ الترتيب في التلاوة ليس دليل الترتيب في النزول. وهذا عجيب من قائليه، فإنّ النسخ في الحقيقة يعتمد ثبوت تأخر الناسخ عن المنسوخ، وأن يكون بينهما تعارض، وأين هذا مما يقولون؟ هل مجرد احتمال أن تكون الآية التي معنا متقدمة في النزول كاف لإثبات النسخ فيها؟ أما الذين قالوا: إن الآية منسوخة بالسنة، وإن ذلك دليل على جواز نسخ الكتاب بالسنة، فأمرهم أعجب، فإن الذين يجيزون نسخ الكتاب بالسنة لا يقولون إنّه

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 332) ، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الأحزاب حديث رقم (3216) ، والحاكم في المستدرك (2/ 437) . (2) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (3/ 1559) .

ينسخ بكل سنة، بل كان متواترا معنى، وهو المشهور، فكيف يكون النسخ هنا بقول عائشة، وهي لم ترفعه، وفوق ذلك يقول ابن العربي فيه: إنّه حديث ضعيف. ثم كيف جاز لهم أن يجعلوا النسخ هنا دليلا على القاعدة الأصولية: نسخ الكتاب بالسنة، والأصول لا تثبت إلا بقاطع كما يقولون. وحديثهم الذي يستدلون به على النسخ قد علمت قيمته. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً يطلع على ما يكون من كل أحد فيجازيه بحسابه. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) روي في سبب نزول هذه الآية روايات كثيرة سنذكرها، ونبيّن الصحيح منها بعد أن نقول لك: إنّ الكلام هنا بيان لما يكون عليه حال المؤمنين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في البيت، وذلك ينتظم أحوالا كثيرة بينت الآية الكريمة أحكامها: منها لزوم عدم الدخول إلا بعد صدور الإذن، وهذا يكون بعد الاستئذان. ومنها أن الدخول إذا كان لطعام فيلزم أن يكون المجيء إليه في إبانه لا قبله. وأن ينتشروا على فور الطعام، ولا يمكثوا سامرين. وسيأتي عند الكلام على تفسير الآية ما يراه العلماء في معنى الآية، وإنما نذكر هنا أن الآية سيقت لبيان آداب الناس في بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والآية بعد هذا اشتملت على أحكام دخول البيت، وعلى حجاب النساء، ومنع المؤمنين من مخالطتهن، ولو من طريق المسألة إلا من وراء حجاب. وقد ذكر العلماء أسبابا كثيرة يرجع بعضها إلى مسألة دخول البيت، ويرجع بعضها الآخر إلى مسألة حجاب نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم. ونرى أن لا مانع من أن يكون كلّ ما روي بعد أن يكون صحيحا سببا للنزول، وقد علمت مرارا أنّ الآية نزلت على أسباب كثيرة. روى البخاري ومسلم والترمذي واللفظ له «1» عن أنس بن مالك قال: تزوج

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1042) ، 16- كتاب النكاح، 13- باب الصداق حديث رقم (80/ 1428) ، والبخاري في الصحيح (6/ 29) ، 65- كتاب التفسير، 7- باب لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا ... حديث رقم (4791، 4792) ، والترمذي في الجامع الصحيح (5/ 333) ، كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب حديث رقم (3218) .

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدخل بأهله، فصنعت أمّ سليم حيسا، فجعلته في تور، وقالت لي: يا أنس اذهب بهذا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقل: بعثت إليك بها أمي وهي تقرئك السلام، وتقول: إنّ هذا لك منا قليل يا رسول الله. قال: فذهبت بها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: إنّ أمي تقرئك السلام، وتقول: إنّ هذا منا لك قليل يا رسول الله. فقال: «ضعه» ، ثم قال: «اذهب فادع لي فلانا وفلانا، ومن لقيت» فسمّى رجالا. قال: فدعوت من سمّى ومن لقيت، قال: قلت لأنس: عددكم كما كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة، قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أنس هات التّور» قال: فدخلوا حتى امتلأت الصفّة والحجرة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليتحلّق عشرة عشرة، وليأكل كلّ إنسان مما يليه» قال: فأكلوا حتى شبعوا، قال: فخرجت طائفة ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم قال: قال لي: يا أنس ارفع، قال: فرفعت فما أدري حين وضعت كان أكثر أم حين رفعت! قال: وجلس منهم طوائف يتحدثون في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورسول الله جالس، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط، فثقلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلّم على نسائه، ثم رجع. فلما رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد رجع ظنّوا أنّهم قد ثقلوا عليه، قال: فابتدروا الباب، فخرجوا كلّهم، وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أرخى الستر، ودخل، وأنا جالس في الحجرة، فلم يلبث إلا يسيرا حتى خرج عليّ، وأنزلت هذه الآيات، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأهن على الناس: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ إلى آخر الآية [53] ، قال أنس: أنا أحدث الناس عهدا بهذه الآيات، وحجبن نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم. ورويت روايات كثيرة قال فيها أبو بكر بن العربي «1» : إنها ضعيفة كلّها ما عدا الذي ذكرنا، وما عدا الذي روي أنّ عمر قال: قلت يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب «2» . وما دامت الروايات لم تصح فلنعرض عن ذكرها. وهناك رواية أخرى في «الصحيح» «3» أيضا تعيّن الزوجة، وذلك على نحو ما روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أنس قال: لما تزوّج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش، دعا القوم، فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام. فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء

_ (1) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (3/ 1575) . (2) رواه البخاري في الصحيح (6/ 29) ، 65- كتاب التفسير، باب لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا ... حديث رقم (4790) . [.....] (3) سبق تخريجه.

النبي صلّى الله عليه وسلّم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا، فجئت فأخبرت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ. ولعلّك بعد الذي قدّمنا في غير حاجة إلى إعادة القول في إضافة البيوت مجموعة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهي بيوته، اختصّ بها، وأعدها لسكنى أزواجه المتعددات، وقد نهى الله المؤمنين أن يدخلوا هذه البيوت إلا دخولا مصحوبا بالإذن، والاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال، أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا حال كونكم مصحوبين بالإذن لكم، وتكون باء المصاحبة مقدرة في الكلام. وذهب بعضهم إلى أن الباء المقدّرة باء السببية، والاستثناء من عموم الأسباب. وذهب الزمخشري إلى عدم تقدير الباء، وإلى أن الاستثناء من عموم الأوقات، أي لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلا وقت الإذن، وهذا متوقف على صحة وقوع المصدر المؤول مع الظرف. ويرى أبو حيان أنّ وقوع المصدر موقع الظرف خاصّ بالصريح دون المؤول، والمسألة خلافية من خلافيات النحاة، والأشهر أنه لا يجوز. وقوله تعالى: إِلى طَعامٍ متعلّق بيؤذن، وكان الظاهر أن يعدّى (بفي) بدل (إلى) إلّا أنّ الفعل يُؤْذَنَ ضمّن معنى الدعوة، فعدّي بما يتعدى به فعلها، وتضمينه معنى الدعوة للإيذان بأنه لا ينبغي الدخول للطعام إلا بدعوة إليه، وإن وجد صريح الإذن بالدخول، ويرى البعض أنّ إِلى طَعامٍ تنازعه تدخلوا ويؤذن. غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ إناه مصدر مضاف إلى الضمير، نقول: أنى الطعام يأنى إذا نضج إنى، أي نضجا. ويرى بعضهم أنّه ظرف بمعنى حين، وهو مقلوب آن، فجاءت النون قبل الألف، وغيرت فتحة الهمزة كسرة، والمعنى على الأول: غير منتظرين نضجه، وعلى الثاني غير منتظرين وقته، أي وقت إدراكه ونضجه، وهما متقاربان. ثم إن (غير) منصوب على الحالية، وهي حال مترادفة، أي لا تدخلوا في حال من الأحوال، إلا حال الإذن لكم، غير منتظرين النضج أو وقته، وصاحب الحال على هذا هو واو الجماعة في لا تَدْخُلُوا. ويرى بعضهم أنه حال من فاعل فعل محذوف، أي ادخلوها غير ناظرين إناه. وجوّز بعضهم أن يكون حالا من الضمير المجرور في لَكُمْ، ويكون المعنى: لا تدخلوا إلا حال الإذن، حال كونكم غير ناظرين. ويكون هذا إشارة إلى أنّ الإذن ينبغي أن يكون لمن كانت عادته لمن يسبق وقت الطعام، فإنّ ذلك يكون إثقالا على من في البيت.

ويرى البعض أنّ قوله: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ حال من الواو في تَدْخُلُوا ويكون المعنى: نهيهم عن الدخول في هذه الحال، وهي حال عدم انتظار الطعام. وهم يروون في ذلك أنّ بعض أصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يدخل في وقت الطعام من غير سابق دعوة، وكانوا يسمّون الثقلاء من أجل ذلك، وبعد تسليم ما رووا فكيف تفيد الآية النهي عن الذي كان منهم؟ لعلهم يقولون: إنّ المعنى: لا تدخلوا حال كونكم غير منتظرين وقت الطعام، إلّا أن يؤذن لكم. ويكون المراد نهيهم أن يدخلوا على الفجاءة، وأما إذا جاؤوا ومكثوا انتظارا للطعام، فلا يكون ذلك منهيا عنه وهم بهذا يدفعون ثقيلا بأثقل منه، إذ إنهم يجوز لهم حينئذ أن يدخلوا البيت، ويمكثوا ما طاب لهم المكث حتى يجيء الطعام، ويهيّأ لهم. وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا هذا استدراك على ما فهم من النهي عن الدخول بغير إذن، وهو مشعر بأنّ الإذن متضمّن معنى الدعوة، وهو بعد هذا تصريح بما علم قبل. فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا أمر بالتفرّق بعد الفراغ من الطعام، بعدية يرجع في تحديدها إلى ما يجري به العرف. وأنت بعد الذي اطلعت عليه من سبب نزول ترى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان قد ثقل عليه أن يمكث هؤلاء الأضياف بعد أن فرغوا من الطعام، ولم يدعوه يتفرّغ لبعض شأنه في بيته، وكان يمنعه الحياء أن يأمرهم بالتفرّق. وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ الاستئناس للحديث طلب الأنس به، والطمأنينة والسرور والارتياح له، وقد أطلق نفي الاستئناس للحديث من غير بيان صاحب الحديث، للإشارة إلى أنّ المكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإطلاق، أيا كان الاستئناس، سواء كان لحديث بعضهم بعضا، أو لحديث غيرهم، فإنّ الأمر كان أمر وليمة، وقد انتهت، ولم يبق إلا أن يفرغ من البيت لبعض شأنهم، والبقاء بعد ذلك نوع من الثقل غير محمود. ويرى بعض المفسرين أنّ قوله تعالى: مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ معطوف بالجر على (ناظرين) وتكون (لا) لتأكيد النفي، ويجوز أن تكون (لا) بمعنى (غير) معطوفة على (غير ناظرين) . ويرى البعض أنّ (مستأنسين) حال من فاعل فعل محذوف دلّ عليه الكلام، أي ولا تمكثوا مستأنسين لحديث، واللام في قوله: (لحديث) إما تعليلية داخلة على محذوف، أي لأجل استماع الحديث، أو هي للتقوية. إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ هذا بمثابة التعليل لما قبله، أي إنما نهيتم عن دخول بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا في الحدود المبينة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم يتأذّى من الدخول على غير هذه الحدود وإيذاء النبي لا يصح أن يكون من المؤمنين، من أجل

ذلك بيّنا لكم الحدود، ورسمنا الطرق، حتى لا يلحقه أذى، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم ضجرا على ما عرفت من أسباب النزول. من بقاء من بقي عنده بعد انتهاء الطعام، بل لقد همّ بالقيام لينتبهوا فيقوموا فأقاموا، ولقد كان يمنعه الحياء أن يأمرهم بالانصراف. وقد كان من عادات العرب ألّا يطلبوا إلى الضيف الانصراف بعد القرى مهما طال المكث، وكان الناس من أجل ذلك في حاجة لأن يتعلموا آداب المنازل، والنبي صلّى الله عليه وسلّم شديد الحياء، فنزل القرآن إرشادا لهم وتعليما. واسم الإشارة على ما ترى راجع إلى ما يكون منهم من الدخول على غير الوجوه المبيّنة، وقيل: بل هو راجع إلى مفهوم من الكلام، وهو المكث قصد الاستئناس للحديث، أو راجع إلى الاستئناس المفهوم من مستأنسين. والاستحياء على الحقيقة لا يكون منهم، وإنما يكون من شيء يتصل بهم، ويلحقهم من جهته، وهو إخراجهم أو منعهم من البقاء والمكث، وإلا فالذات لا يستحيا منها، إنما يكون الاستحياء من الأفعال. انظر إلى قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ فإنّه يدل على أنّ الذي كان يستحي منه النبي هو الحق، وهل يتصف بالحقيقة إلا الأفعال؟ ولو كان المراد الاستحياء من ذواتهم لقال تعالى في مقابله والله لا يستحي منكم. وأطلق استحياء الله من الحق وأريد منه عدم السكوت عن بيانه، فسمّى السكوت عليه استحياء على طريق المشاكلة، لوقوعه بجانب استحياء الرسول صلّى الله عليه وسلّم من إخراجهم. و [يفيد] ظاهر الآية منع مكث المدعو إلى الطعام بعد تناول الطعام إذا كان ذلك مؤذيا لصاحب البيت، وإذا كانت الآية التي معنا خاصة بآداب دخول بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقد تكفّلت سورة النور ببيان آداب دخول المنازل على الإطلاق في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) [النور: 27] وفي غيرها من الآيات، فارجع إليها إن شئت. وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً. لا يزال الكلام كما ترى متصلا في ذكر آداب الدنو من بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ترى ذلك ماثلا في ضمير النساء في قوله تعالى: سَأَلْتُمُوهُنَّ فهو راجع إلى نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد فهم اشتمال الكلام عليهن من النهي عن دخول البيوت، وعن إطابة المكث تلذذا بالحديث، وعن الأمر بالدخول إن كانت هناك دعوة، والانتشار عقب الطعام، ومن أن مخالفة ذلك تؤذي النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو ما كان ليتأذّى لولا وجود النساء في البيوت، فإرجاع الضمير إلى مفهوم من الكلام السابق مؤذن بأنّه متصل بالكلام

السابق، متمّم له في ذكر آداب البيوت، واقع على ما وقع عليه من سبب، فهو في غير حاجة إلى ربط جديد، ولا إلى سبب خاصّ يقع عليه، وأنه ليكفي أن يوجد شأن من الشؤون يتصل بالبيوت، لنذكر كل الأحكام التي تكفل حياطة البيوت من الأذى. ويرى بعض المفسرين تنزيل هذه الآية على سبب خاص روي هنا من طريق صحيح، ويعدون الآية إحدى موافقات القرآن لعمر رضي الله عنه، وذلك على نحو ما قدمنا مما روى البخاري «1» وغيره عن أنس رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر، ولو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب. وليس هناك ما يمنع أن يكون ذلك أحد الأسباب التي نزلت من أجلها الآيات في شأن بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويكون قد جاء في بعضها أو كلها ما يوافق رأي عمر، وحرصه على كرامة نساء الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فتكون الأسباب قد تجمّعت فنزلت الآيات متصلا بعضها ببعض في صيانة بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم وحرمة أزواجه. والمتاع ما يستمتع به حسيا كالماعون، أو معنويا كتعرّف الأحكام، والحجاب: الساتر، وتكليف الرجال سؤال النساء المتاع من وراء حجاب مؤذن بتكليف من في البيوت ضرب الحجاب، لأنّه من غير المعقول أن يكون ضرب الحجاب على غير أصحاب البيوت. ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ الإشارة راجعة إلى السؤال من وراء حجاب، أو إلى كلّ ما تقدم من الأحكام، ومعنى كونه أطهر أنّه أكثر تنزيها لقلوب الرجال والنساء من الهواجس التي تتولّد فيها عند اختلاط الرجال بالنساء، فإنّ الرؤية بريد الفتنة. هكذا كفل القرآن بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذه الأحكام، وأبعد عنها الريبة. واجتث أصول المخاوف والفتنة، فالآيات كما ترى خاصّة بآداب الاتصال ببيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة بلفظها، وبتوجيه الخطاب فيها، وبأسباب نزولها، وبما ذكر فيها من علة. وأما بيوت المؤمنين فقد تكفلت بآدابها سورة النور كما قلنا لك وآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ الآية في سورة الأحزاب وستعرف فيها آراء العلماء في الحجاب. وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً. والمعنى: أنّه لا يكون من شأن المؤمنين أن تقع منهم أذية للرسول صلّى الله عليه وسلّم أيا كان نوعها، سواء أكانت من النوع الذي ذكر في الآية مما يتصل بالبيوت، أم من غيرها، وهذا التعميم يرشد إليه إطلاق الفعل. تُؤْذُوا عن التقييد بكونه في البيوت،

_ (1) سبق تخريجه.

أو في غيرها، فدلّ ذلك على أنّ شأن المؤمنين ألا يكون منهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم إلّا ما يكون إكراما وشكرا على ما أسدى إلى الأمة من خير، فلا معنى لتقييد الأذى هنا بنوع منه، كاللبث في بيوته صلّى الله عليه وسلّم، والاستئناس للحديث فيها، وكون الآية وردت في هذا السياق لا يقتضي تقييدها به، بل يقتضي دخولها في العموم الذي دلّت عليه الآية. وذكر النبي بوصف الرسالة هنا مشعر بتوبيخ من تحدّثهم نفوسهم بأذيته، إذ ذلك يكون كفرانا بنعمة الرسالة الواجب شكرانها. وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ ذكر هذا بعد النهي عن الأذى بصيغة الخبر من قبيل ذكر الخاص بعد العام، للاهتمام به، فإنّ امتهان فراش الرسول صلّى الله عليه وسلّم من أكبر الأذى. وقد عرض المفسرون هنا للكلام في المراد من الأزواج، وقد سبق لك عند الكلام على آية التخيير شيء من هذا. فقد ذهب بعضهم إلى أنّ الأزواج اللائي لا ينكحن هن من ثبت لهن هذا الوصف، ولو من طريق العقد من غير أن يدخل بها. وإطلاق الأزواج هنا ظاهر في هذا. ويرى بعضهم كإمام الحرمين قصره على المدخول بها، ونحيلك هنا على ما ذكرناه عند الكلام على المختارات، لتقف على أرجح الأقوال في ذلك. وقد عرض المفسّرون أيضا إلى البعدية من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً هل هي بعدية الوفاة، أو بعدية الفراق مطلقا. وما دام أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يثبت أنّه طلق أحدا من نسائه من طريق صحيح، وحتى التي قيل: إنها اختارت الدنيا قيل: إنها جنّت، وقد منعه الله من أن ينكح أزواجا بعد اللائي كنّ معه، وأن يطلقهن ليتزوج غيرهن. فما نرى معنى لهذا الذي خاض فيه المفسرون، ونرى أنّ البعدية بعدية الوفاة. وأما الكلام في حلّ المطلقة، ومن فسخ نكاحها فهو كلام مبني على الفرض والتقدير، ولا شأن للآية به، وإن كان لنا أن نقول شيئا فذلك أنّ إضافة البعدية إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم ظاهر في بعدية الوفاة. وأيضا فإنّ منع المؤمنين من نكاح أزواجه إنما هو لكفّ الأذى عنه صلّى الله عليه وسلّم، وأي أذى يلحقه من أن تنكح امرأة نبذها، ولم تنل شرف أمومة المؤمنين. إنّ منع زواجها فيه أذاها هي، ولا يليق أن يكون مقصدا من مقاصد الشريعة إلحاق الأذى بالناس، على أنّ منعها من الزواج فيه تسوية بينها وبين من نلن رضاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم، واللازم عدم التسوية. إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً اسم الإشارة راجع إلى إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ونكاح أزواجه من بعده. قال الله تعالى: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لما كان مقام البيوت خصوصا بيوت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقتضي حيطة شديدة، حتى يكون

الامتثال للأحكام الواردة فيه يتفق فيه الظاهر والباطن، أعقب الله الآيات الواردة فيه بما يجعل الناس في تمام اليقظة، وعلى أشد ما يكون من الحذر، ذلك أنه نبههم إلى أنّ علمه قد أحاط بخفيات النفوس، فضلا عما يظهر منها، وذلك تهديد شديد يقطع ما يخالج النفوس من الوساوس، وما يحيط بها من دوافع الشهوات، فيعمل الناس على الإقلاع عن مجاراة الوساوس، واستئصال نوازع الشهوات، فإنّ الله مطّلع على ما ظهر وما خفي، ومجاز كلّ إنسان بحسب ذلك العلم، ومن ذا الذي يستطيع بعد هذا أن تحدثه نفسه بالدنو من الأذى، والله القادر على الجزاء قد أحاط بكل شيء علما. قال الله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) قد فهم مما تقدّم أنّ على نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يحتجبن عن الرجال، ولا يظهرن عليهم، وقد يفهم النصّ على عمومه، فيتناول أقرب الناس إليهنّ، وفي ذلك ما فيه من حرج، بل قد يكون فيه قطع الرحم التي أمر الله أن توصل، فجاءت هذه الآية الكريمة لبيان الأقارب الذين لا يحرم ظهور نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم أمامهم من غير حجاب. وقد ذكر الله من ذلك ستة أصناف هم: الآباء، والأبناء، والإخوان، وأبناء الإخوان، وأبناء الأخوات، والنساء المضافات إليهن، وما ملكت أيمانهنّ. وقد بقي من المحارم: الأعمام والأخوال من غير ذكر، وقد ذهب العلماء في ذلك مذاهب: فمنهم من يرى أنه اكتفي عنهم بذكر الآباء، وقد جرى العرف بإطلاق الأب على العم والخال. ومنهم من رأى أنّ في ذكر أبناء الإخوان رمزا إلى قرابة العمومة، وفي ذكر أبناء الأخوات رمزا إلى قرابة الخئولة، وذلك أن من يكون ابن أخي المرأة تكون المرأة عمته، ومن يكون ابن أختها تكون هي خالته. وعجب أن يرى بعض العلماء أنّ عدم التنصيص على الأعمام والأخوال يقتضي وجوب الاحتجاب منهم، ويذهب في التعليل مذهبا أعجب، فيقول: إنّ الأعمام والأخوال لو اطلعوا على النساء فربّما وصفوهنّ لأبنائهم؟ يا هؤلاء! أنتم تتكلمون في نساء متزوجات، هن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهل يريد العم أن يفسد ابنة أخيه على زوجها- وهو المصطفى- ليزوجها لابنه، وهل تقولون: إنّ الحكم كذلك في سائر النساء، ولا تعدون الأخوال والأعمام محارم في حق النظر، أو تقولون إن ذلك خاص بنساء النبي صلّى الله عليه وسلّم؟! وإذا كان خوف الوصف يصلح علّة للحجاب، فالوصف ممكن في الجميع، لا للأقارب فحسب، بل للأجانب، فكلّ من

أبحتم له النظر يمكن أن يصفها لكل من تحلّ له، سواء أكان قريبا أم أجنبيا، والعمة والخالة تريان من المرأة كل شيء إلا العورة، ويمكن أنّ كلّ واحدة منهما تصف لابنها ما رأت من ابنة أخيها أو من ابنة أختها. وكيف يمكن أن يكون إمكان الوصف علة في الحجاب، وقد أباح النبي صلّى الله عليه وسلّم نظر المرأة لمن أراد أن يخطبها وقال: «انظر إليها، فإنّه أحرى أن يؤدم بينكما» «1» . وقد اختلف العلماء في تعيين المراد من النساء في قوله تعالى: وَلا نِسائِهِنَّ فروي عن ابن عباس ومجاهد أنّ المراد منهنّ المؤمنات، وتكون إضافتهن إليهن باعتبار أنهن على دينهن، ويكون ذلك دليل احتجاب نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم من الكافرات. ويرى بعضهم أنّ المراد منهن النساء القريبات، وتكون إضافتهنّ إليهن لمزيد اختصاصهن بهن، لما لهنّ من صلة القرابة، وكذلك من يكون من النساء مضافا إليهن لأي صلة أخرى، كالمتصرفات الخادمات. وأما ما ملكت الأيمان فهو بظاهره، ويعمّ الذكور منهم والإناث، وتخصيص بعض العلماء له بالإماء يحتاج إلى دليل يدلّ على أنّ المرأة تحتجب من عبدها، ويبقى ظاهر الآية معمولا به حتى يقوم الدليل. وقد تكلم بعضهم بعد ذلك في دخول المكاتب، وعدم دخوله، وهو رقيق ما بقي عليه درهم، فمن نظر إلى هذه الجهة قال: إنّ الآية تتناوله بظاهرها، وإخراجه يحتاج إلى الدليل، ومن نظر إلى أنّ الله إنما أباح الظهور للعبد لحاجة المرأة إلى خدمته، ومن حيث إنه حرّ يدا، وهو مشغول بسعيه في أداء بدل الكتابة، فهو لا يقوم بخدمة سيدته، ومن أجل ذلك لا يوجد المعنى الذي من أجله رفع الجناح في العبيد، فلا يكون مما تتناوله الآية. وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لما كان أمر الحجاب عن الأجانب، والترخيص في تركه للأقربين المحارم يحتاج إلى كثير من الحذر والتقوى، فقد يجر دخول الأقارب بيوت الأزواج إلى مفاسد ومنغّصات، وقد يكون في الكلام مع الأجانب من وراء الحجب ما لا يقل عن تلك المفاسد. وتلك أشياء قد ترتكب مع التظاهر بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وليس من علاج لهذه الحال، إلّا أن يلزم النساء خشية ربهنّ وتقواه. وجه الله الخطاب للنساء بعد أن كان الحديث عنهنّ حديثا عن الغائبات، حتى

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 397) ، كتاب النكاح، باب النظر إلى المخطوبة حديث رقم (1087) ، وابن ماجه في السنن (1/ 599) ، 9- كتاب النكاح، 9- باب النظر إلى المرأة حديث رقم (1865) ، والنسائي في السنن (5- 6/ 378) ، كتاب النكاح، باب إباحة النظر حديث رقم (3235) .

يكون لهنّ من علمهن بمراقبة الله وعلمه ما قد تنطوي عليه نفوسهن وقاية ودرعا يقيهن من الوقوع في مهاوي الفساد. وانظر كيف عقّب الله أمرهنّ بالتقوى بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً يعلم علم شهود وحضور ومعاينة، فيجازي على ما يكون، وفي ذلك منتهى التحذير من مخالفة الأوامر والنواهي، ولقد بلغ من المبالغة في تكريم أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم أن قال بعض العلماء بحرمة نظر نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم وهنّ مستترات. قال القاضي عياض «1» : فرض الحجاب مما اختصصن به، فهو فرض عليهنّ بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهنّ كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن وإن كنّ مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة. واستدلّ لذلك بما روي أنّ حفصة لما توفي عمر رضي الله عنه كان يسترها النساء أن يرى شخصها. ويرى ابن حجر بحق أنّ ذلك إن صحّ فلا دلالة فيه. وقد كان نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم يؤدين الحج بعد وفاته.، ويطفن بالبيت، ويسعين بين الصفا والمروة، ولو قيل: إنّ الستر وعدم النظر إلى الشخوص أفضل ومندوب لكان شيئا يصح أن يصار إليه، ويشهد له ما روي أنّ عمر رضي الله عنه أمر يوم وفاة زينب بنت جحش ألا يشهد جنازتها إلا ذو رحم محرم منها، عملا بالحجاب، فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش بقبة تضرب عليها، وقالت: إنها رأت ذلك في بلاد الحبشة، فصنعه عمر. قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) قد بين الله تعالى فيما سبق أنّ شأن المؤمنين ألا تكون منهم أذية للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وذلك بعث على تكريمه صلّى الله عليه وسلّم، وحياطة لمقامه الشريف، وهنا بيّن الله تعالى أنّ الله يكرم نبيّه على وجه التأكيد، فكان ما هنا بمثابة العلة لما قبله، فكأنه قيل: ما كان لكم أن تؤذوه، لأنّ الله يصلّي عليه والملائكة، وما دام الأمر كذلك فهو لا يستحق إلا الإكرام والتمجيد، وأكّد الخبر اهتماما به، وجيء به جملة اسمية لإفادة الدوام، وكانت الجملة اسمية في صدرها فعلية في عجزها للإشارة إلى أنّ هذا التمجيد الدائم يتجدّد وقتا فوقتا على الدوام. وقد ذكر في الآية أنّ الله وملائكته يصلّون على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمر المؤمنين بأن يصلوا عليه، وبأن يسلّموا تسليما. وقد عرض المفسّرون لبيان معنى صلاة الله على نبيه، وصلاة الملائكة عليه، وكذا صلاة الخلق وتسليمهم. ونحن متابعوهم فيما قالوا.

_ (1) عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي أبو الفضل عالم المغرب، وإمام أهل الحديث، ولي قضاء سبتة توفي بمراكش مسموما قيل سمه يهودي، انظر الأعلام للزركلي (5/ 99) .

فقيل: الصلاة من الله على نبيه ثناؤه عليه وتعظيمه، هو مروي عن البخاري عن الربيع بن أنس، ثم تعظيم الله له في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دينه، وإبقاء العمل بشريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته، وإجزال الأجر والثواب له، وإعطائه المقام المحمود. وهل من الملائكة الدعاء له. وقيل: هي من الله الرحمة، ومن الملائكة الدعاء. وعلى القولين: فالصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة، وقد عبّر عنها بلفظ واحد أضيف إلى واو الجماعة يُصَلُّونَ فمن ذهب إلى منع الجمع بين الحقيقة والمجاز ذهب إلى أنّ في الآية حذفا تقديره هكذا: إنّ الله يصلّي، وملائكته يصلون، فتكون واو الجماعة خاصّة، وذهب بعضهم إلى أنّ تعدّد الفاعل مؤذن بتعدّد الفعل، فيكون الفعل مسندا إلى كلّ من الفاعلين. وذهب جماعة إلى القول بأنّه من باب عموم المجاز، لا من الجمع بين الحقيقة والمجاز، فيقدّرون معنى مجازيا عاما، ينتظم أفرادا كثيرة، ويكون كلّ فرد منها فردا حقيقيا من أفراد المعنى المجازي للعام، ويقولون: إنّ هذا المعنى العام هو الاعتناء بالمصلّى عليه، وهذا الاعتناء له أفراد، فهو يكون من الله على وجه، ويكون من الملائكة على وجه آخر. وأما صلاة المؤمنين عليه، فهي تعظيمهم لشأنه، وذلك يكون بوجوه كثيرة: منها الدعاء له باللفظ الوارد في ذلك، وقد جاءت كيفية الصلاة عليه من المؤمنين من طرق كثيرة، وفيها صور من الصلاة مختلفة، واختلافها يشعرك بأنّ الغرض ليس تحديد كيفية خاصّة، وإنما هي ألوان من التعظيم، وسنقتصر على بعض ما صحّ من هذه الكيفيات لأنّ استيعابها يطول. روى الشيخان «1» وغيرهما عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: «قل اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» . وأخرج مالك وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم «2» عن أبي حميد الساعدي أنهم

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 305) ، 4- كتاب الصلاة، 17- باب الصلاة على النبي حديث رقم (66/ 406) ، والبخاري في الصحيح (6/ 32) ، 65- كتاب التفسير، 10- باب إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ ... حديث رقم (4798) . (2) رواه مسلم في الصحيح (1/ 356) ، 4- كتاب الصلاة، 17- باب الصلاة على النبي حديث رقم (69/ 407) ، والبخاري في الصحيح (7/ 252) ، 8- كتاب الدعوات، 32- باب الصلاة على النبي حديث رقم (6360) ، ومالك في الموطأ (1/ 165) ، وأحمد في المسند (5/ 424) .

قالوا: يا رسول الله كيف نصلّي عليك؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قولوا: اللهم صلّ على محمّد وأزواجه وذريّته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمّد وأزواجه وذريّته، كما باركت على آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد» . وأخرج الجماعة «1» عن أبي سعيد الخدري قلنا: يا رسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: «قولوا: اللهم صلّ على محمّد عبدك ورسولك، كما صلّيت على إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم» . وهناك روايات أخرى دون هذه في الصحة، وتخالفها بالزيادة والنقص في مواضع كثيرة، وما دام المراد تعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم فأيّ عبارة تكون واردة من طريق صحيح كان لك أن تأخذ بها. وأما التسليم: فقد قيل: إنّ المعنى أن الله أمر المؤمنين أن يقولوا السلام عليك يا رسول الله، وقد اختلف في معنى السلام عليك فقيل: إنّ معناه دعاء له بالسلامة من الآفات والنقائص [أن] تحيط به وتلازمه. وقيل: بل السلام اسم من أسماء الله، ومعنى كونه عليه: أنه حافظه، حتى إن بعض من قال بهذا قال: إنّ الكلام على حذف مضاف، والتقدير حفظ السلام عليك. وقيل: بل السلام الانقياد وعدم المخالفة، ومعنى كونه عليك: ملازمته، وهو حينئذ دعاء للمسلم عليه بانقياد الناس له انقيادا ملازما بحيث لا يخالفونه. قالوا: إنما أكّد التسليم بالمصدر، ولم يؤكد الصلاة، لأن الصلاة قد قرنت بما يؤكدها، وهو الإخبار بأنّها تكون من الله ومن الملائكة، فكان ذلك أبعث على أن تكون من الناس. وخص المؤمنين بالتسليم، لأنّ الآية وردت بعد الكلام في أذية النبي صلّى الله عليه وسلّم، والأذية المحدّث عنها إنما تكون من البشر. وقيل: بل صلاة الله مشتملة على تسليمه، وأما صلاة الناس فلا تشتمل عليه، فلذلك طلب التسليم منهم. ويكاد العلماء يجمعون على وجوب الصلاة والتسليم عليه مرّة في العمر، بل

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 32) ، 65- كتاب التفسير، 10- باب إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ ... حديث رقم (4798) ، وابن ماجه في السنن (1/ 292) ، 5- كتاب إقامة الصلاة، 25- باب الصلاة على النبي حديث رقم (903) ، والنسائي في السنن (3- 4/ 56) ، كتاب السهو، باب نوع آخر من الصلاة على النبي حديث رقم (1291) .

لقد حكى القرطبي «1» الإجماع على ذلك، وذلك عملا بما يقتضيه الأمر صَلُّوا من الوجوب، وتكون الصلاة والسلام في ذلك ككلمة التوحيد، وذلك أنك تعلم أنّ الصحيح أنّ الأمر لا يقتضي التكرار، وإنما هو للماهية المطلقة عن قيد التكرار والمرّة، وحصوله بالمرة ضرورة من ضرورات الحصول. وذهب بعضهم إلى القول بوجوب الصلاة والتسليم في التشهد، وقيل: هي واجبة في الصلاة من غير قيد بمكان. وقيل: يجب الإكثار منها من غير تقيّد بعدد، وقيل: تجب في كل مجلس مرة ولو تكرر ذكره فيه، وقيل: تجب كلما ذكر. ولعل هذا القول من قائليه مبنيّ على أنّ الأمر يفيد التكرار، ولعلهم يستدلون بالأحاديث الترغيبية والترهيبية الواردة في فعلها وتركها، وأنت لو اطلعت على هذه الأحاديث لفهمت من صيغتها أنّها لمجرد الترغيب، وأنّها ككل الحسنات تتضاعف، انظر إلى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلّى عليّ واحدة صلّى الله عليه عشرا» «2» و «من صلّى عليّ عشرا صلّى الله عليه مائة» فإنك واجد أنّه متفق مع قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: 160] وما قال أحد إلا أن هذا ترغيب في الإحسان. وعلى كلّ فالآية لا دلالة لها إلا على الوجوب مرة، فمن زاد على هذا فعليه الدليل، ونحن لما يدل عليه ملتزمون. وأخيرا فليلتمس القائلون بغير ما تدل عليه الآية دليلهم في غيرها، فإن قام دليل على وجوب الصلاة والسلام في التشهد وجب، وإن دلّ على ختام الصلاة وجب، وإلا فالآية بمنأى عن هذا كله. قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) هذا عود إلى تأكيد النهي عن أذى النبي صلّى الله عليه وسلّم، بعد الأمر بالصلاة والتسليم عليه اقتضته العناية الكاملة بشأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وقد قيل: إنّ المراد بأذى الله ورسوله ارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر والعصيان، وقيل: بل إيذاء الله تعالى: ما يكون من قبيل قول اليهود والنصارى يد الله مغلولة، والمسيح ابن الله، وعزير ابن الله، وجعل الأصنام شركاء لله، وإيذاء الرسول: انتقاصه بوصفه بالشّعر والسّحر والجنون. وقيل: إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم المراد هنا هو ما كان من طعنهم في نكاح صفية بنت حيي، إلى غير ذلك، ولا مانع أن يكون كلّ ذلك مرادا.

_ (1) الجامع لأحكام القرآن المشهور بتفسير القرطبي، طبعة تصوير، بيروت دار المعرفة (14/ 232- 233) . (2) رواه مسلم في الصحيح (1/ 306) ، 4- كتاب الصلاة، 17- باب الصلاة من النبي حديث رقم (408) .

وقيل: إن المقصود هنا إيذاء الرسول خاصة صلّى الله عليه وسلّم وذكر الله عزّ وجلّ معه للتشريف، والإشارة إلى أنّ ما يؤذي الرسول صلّى الله عليه وسلّم لخليق به أن يؤذي الله تعالى، ولا يرضيه، كما جعلت طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومحبته طاعة الله تعالى ومحبته. واللعن الطرد والإبعاد من رحمة الله، وبعد ذلك فهناك العذاب المهين المحقّر ينتظر في الآخرة. قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) لما أنهى الكلام في شأن الذين يؤذون الله ورسوله ناسب ذلك أن يقرن به ذكر الذين يتعرّضون للمؤمنين بالأذى، والأذى هنا مطلق كالأذى في الآية السابقة، يتناول كل ما يصدق عليه اسم الأذى، سواء أكان بالقول أم بالفعل، وسواء أكان إيذاء للعرض أو الشرف أو المال، فإنّ الذين يلحقون بالمؤمنين أيّ نوع من أنواع الأذى يستحقون الجزاء الذي ذكر في الآية الكريمة، لا يخصّ منه شيء إلا ما خصّه الله تعالى، وهو أن يكون الإيذاء جزاء على الاكتساب، كالإيذاء بالقصاص، والإيذاء بقطع اليد في السرقة، وكالإيذاء بالتعزيرات المختلفة، وكالحقّ الوارد في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلا بحقّها» «1» . وقد فهم أبو بكر رضي الله عنه أنّ الزكاة حقّ المال، فقاتل مانعيه من أجله، وقال: والله لو منعوني عناقا كانوا يعطونه لرسول الله لقاتلتهم عليه. وحاجّه في ذلك عمر، فقال له: إلا بحقها، والزكاة حق الأموال، فانشرح صدره لما رآه أبو بكر. وقد يخطر لك أن تقول: لماذا قيل: بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا هنا، ولم يقل في الآية المتقدمة مثله؟ ونقول: لأنّ اكتساب الأذى هناك لا يكون، أما العباد فكل يوم يعدو بعضهم على بعض. والمراد بالبهتان الفعل الشنيع، والإثم المبين البيّن الظاهر. واحتماله: حمله وفي التعبير بالاحتمال إشارة إلى ثقل ما يحملون من أوزار. ويذكر المفسّرون هنا أسبابا لنزول الآية «2» ، فيقولون: هي في قوم آذوا عليا أو

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 5) ، 1- كتاب الإيمان، 8- باب حديث رقم (20 و 21) ، و (1/ 53) ، 8- باب الأمر بقتال الناس حديث رقم (36/ 22) ، والبخاري في الصحيح (1/ 14) ، 2- كتاب الإيمان، 17- باب حديث رقم (25) و (1/ 118) ، 8- كتاب الصلاة، 28- باب فصل استقبال القبلة حديث رقم (392) . (2) انظر تفصيله في الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (5/ 220- 521) .

عائشة، وقيل في شأن النبي وصفيّة، وقيل: في قوم كانوا يتّبعون النساء إذا برزن لحاجتهنّ. وهي بعد ثبوتها لا تقتضي حمل الآية على واحد منها، وقد تكون الآية نزلت بعد تجمّع الأسباب. وقد روى البيهقي في «شعب الإيمان» عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أيّ الرّبا أربى عند الله» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم» ثم قرأ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا الآية. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) جرى حكم العرف بتخصيص النساء بالحرائر، وسبب النزول الآتي يقتضيه، وآخر الآية ظاهر فيه. والإدناء: التقريب، أدناني منه: قرّبني منه. وهو هنا مضمّن معنى الإرخاء والسدل، ولذا عدّي بعلى، يقال: إذا زلّ الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك على وجهك، أي أرخيه واسدليه. والجلابيب جمع جلباب، وقد اختلف أهل التأويل في الجلباب على ألفاظ متقاربة عمادها أنه الثوب الذي تستر به المرأة بدنها كله، ويتأتى معه رؤية الطريق إذا مشت. روى جماعة من المفسرين أنّه كانت الحرة والأمة تخرجان ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل من غير امتياز بين الحرائر والإماء، وكان في المدينة فسّاق لا يزالون على عاداتهم في الجاهلية، يتعرّضون للإماء، وربما تعرضوا للحرائر، فإذا قيل لهم يقولون: حسبناهن إماء فأمرت الحرائر أن يخالفن الإماء في الزي، فيستترن ليحتشمن ويهبن، فلا يطمع فيهنّ مراض القلوب. واختلف أهل التأويل في كيفية هذا التستر، فأخرج ابن جرير «1» وغيره عن ابن سيرين أنه قال: سألت عبيدة السلماني عن هذه الآية يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ فرفع ملحفة كانت عليه، فتقنّع بها، وغطّى رأسه كلّه حتى بلغ الحاجبين، وغطّى وجهه، وأخرج عينه اليسرى من شقّ وجهه الأيسر، وروي مثل ذلك عن ابن عباس. وفي رواية أخرى عنه أنها تلوي الجلباب فوق الجبين، وتشدّه، ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها، لكن تستر الصدر ومعظم الوجه. وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية

_ (1) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (22/ 33) .

يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ خرج نساء من الأنصار كأن على رؤوسهنّ الغربان من أكسية سود يلبسنها. ومعنى الآية: أنّ الله جلّ شأنه يأمر الحرائر إذا خرجن لحاجة أن يتقنّعن ويستترن، حتى يميّزن من الإماء، فلا يتعرّض لهنّ أحد بالإيذاء. هذه طريق الجمهور في تأويل الآية. ومن المعروف أن هذه الآية نزلت بعد أن استقر أمر الشريعة على وجوب ستر العورة، فلا بد أن يكون الستر المأمور به هنا زائدا على ما يجب من ستر العورة، ولذلك ترى عبارات المفسرين على اختلاف ألفاظها متحدة في أنّ المراد بالجلباب الثوب الذي تستر به المرأة بدنها كلّه من فوق ثيابها، كالملاءة المعروفة في عصرنا. وعلى ذلك يكون الأمر بإدناء الجلابيب من الأدب الحسن، زيادة في الاحتياط، ومبالغة في التستر والاستعفاف، وبعدا عن مظان التهمة والارتياب. ولا يعدّ في إجراء الأمر على ظاهره من وجوب لبس الجلباب إذا كان خروج المرأة بدونه- وإن كانت مستورة العورة- مدعاة للفتنة، وسببا في تعرّض الفساق لها، وإيذائها بالرفث وفحش القول. وقد يقال: إنّ تأويل الآية على هذا الوجه، وقصرها على الحرائر، قد يفهم منه أنّ الشارع أهمل أمر الإماء، ولم يبال بما ينالهنّ من الإيذاء، وتعرض الفسّاق لهن في الطرقات، مع أنّ في ذلك من الفتنة ما فيه: فهلا كان ذلك التصون والتستر عامّا في جميع النساء؟ الجواب: أنّ الإماء بطبيعة عملهن يكثر خروجهن، وترددهنّ في الأسواق ومحالّ البياعات في خدمة سادتهن، وقضاء مصالحهم، فإذا كلّفن أن يتقنّعن، ويلبسن الجلباب السابغ كلّما خرجن، كان في ذلك حرج ومشقة عليهن، وليس كذلك الحرائر، فإنهنّ مأمورات بالاستقرار في البيوت، وعدم الخروج منها إلا في أوقات الحاجة الشديدة، فلم يكن عليهنّ من الحرج والمشقة في التقنّع والتستر ما على الإماء. ولقد راعى الشارع هذه الحال، فنهى الناس أن يؤذوا المؤمنين والمؤمنات جميعا، سواء الحرائر والإماء، وتوعّد المؤذين بالعذاب الأليم والعقاب الشديد. ومع هذا فإنّ الشرع لم يحظر على الإماء التقنع والتستر، ولكنّه لم يكلفهن ذلك دفعا للحرج والعسر. فللأمة أن تتقنع وتلبس الجلباب السابغ متى تيسر لها ذلك. وأما نهي عمر رضي الله عنه الإماء في زمانه، وزجره إياهنّ عن التقنع، فإنما كان ذلك من السياسات الشرعية، لأنّه كان يخشى إذا هنّ تشبهن بالحرائر في لباسهن وزيهنّ أن يعتدن الرقة، ويضعفن عن الخدمة والعمل، وتكثر مؤنهنّ على سادتهنّ.

وبعد فقد اختار أبو حيان «1» في تأويل الآية الكريمة وجها غير الوجه الذي سلكه الجمهور، فجعل الأمر بإدناء الجلابيب موجها إلى النساء جميعا، سواء الحرائر والإماء، وجعل معنى قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ أنهنّ يعرفن بالعفة والتصون، فلا يتعرّض لهنّ، ولا يتلقين بما يكرهن، فإنّ المرأة إذا بالغت في التستر والتعفف لم يطمع فيها أهل السوء والفساد، وهو رأي تبدو عليه مخائل الجودة. وفي «الطبقات الكبرى» أنّ أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية استنبط من هذه الآية- على رأي الجمهور في تأويلها- أنّ ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن، وإن لم يفعله السلف، لأن فيه تمييزا لهم، حتى يعرفوا، فيعمل بأقوالهم. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً فيغفر لمن امتثل أمره ما عسى أن يصدر منه من الإخلال بالتستر رَحِيماً بعباده، حيث راعى في مصالحهم أمثال هذه الجزئيات، وأرشدهم إلى هذه الآداب الحسنة الجميلة.

_ (1) في تفسيره البحر المحيط (7/ 250) .

من سورة سبأ

من سورة سبأ قال الله تعالى في قصة سليمان عليه السلام: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) هذا شيء من قصة نبي الله سليمان عليه السلام المذكورة في هذه السورة، ولتعلم سياق الحديث فيها نذكر لك ما قبل هذه الآية. قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) [سبأ: 10- 12] . فضمير يَعْمَلُونَ عائد على الجن، وضمير (له) يعود على سليمان. فكما سخّر الله لسليمان الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، وسخّرها عاصفة تجري إلى مسافات بعيدة، سخّر له الجن، وجعلهم طوع أمره، ورهن مشيئته، يعملون صنوفا مما يشاء من أصناف يتعذّر عملها على البشر في ذلك الوقت، وبالسرعة التي يعملها بها الجن، ومن هذه الأشياء المحاريب: وهي جمع محراب، وهي القصور الشامخات، أو البيوت المرتفعة، أو أماكن العبادة، وقد ذكر الله المحراب في القرآن في مواضع في سورة آل عمران وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمران: 37] فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ [آل عمران: 39] وفي سورة ص وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) [ص: 21] . ويقول الذين يفسرون المحراب بالقصر: إنه سمّي بذلك لأنه يحارب من أجله. وقد يبدو من قوله تعالى: يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أنّه المكان المعدّ للصلاة. وأما المحاريب المعروفة الآن بما يدخل في الحائط على سمت القبلة ليتبيّن الناس منها جهة القبلة. فيقول المفسرون: إنها شيء لم يكن قد عرف في الصدر الأول. غير أنّه قد يرجّح كون المحاريب بمعنى القصور الشامخات أنها ذكرت على أنها مما كان يعمله الجنّ لسليمان، وقد يكون عمل القصور مما يستعصي على الناس في ذلك الزمن، لجهلهم بفن العمارة. والتماثيل جمع تمثال بكسر التاء، وهو بوزن تفعال، ولم يرد هذا الوزن في القرآن إلا في لفظين (تلقآء) و (تبيان) .

وتمثال الشيء مثاله وصورته أيا كان المثال والصورة، ذات جسم أو ليست ذات جسم، فمثال الشيء ما يماثله ويحكيه. والجفان جمع جفنة: إناء يوضع فيه الطعام، وقيل: إناء عظيم. والجواب أصله الجوابي جمع جابية، وهي الحوض العظيم. والقدور جمع قدر، وهو ما يطبخ فيه الطعام، وراسيات: ثابتات، إشارة إلى أنها قدور عظيمة لا تنقل من مكانها من ثقلها. وقوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً إمّا جملة مستأنفة بتقدير القول، أي قلنا: اعملوا يا آل داود شكرا، أو حالية من فاعل (سخّرنا) أي سخّرنا قائلين اعملوا، و (شكرا) مصدر وقع موقع الحال، أي اعملوا شاكرين، وقيل: هو مفعول لأجله، وقيل غير ذلك. والشكور هو الذي يشكر في جميع أحواله من الخير والضر، قيل: هو المتوفّر على أداء الشكر ما وسعه بقلبه ولسانه لا يني. هذا وقد جاء ذكر سليمان في القرآن الكريم ست عشرة مرة في ست من سوره: في البقرة، وفي النساء وفي الأنعام، وفي الأنبياء، وفي النمل، وفي سبأ، وفي ص. ولم يجئ هذا الذكر لتوفية قصة بتمامها أو قصص، وإنما هو تعداد لآلاء الله على سليمان: منها ذكاؤه وبصره النافذ في القضاء والحكم وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء: 78] . ومنها تعليمه منطق الطير وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل: 16] . ومنها تسخير الرياح له، تجري بأمره رخاء حيث أصاب. ومنها إسالة عين القطر وهو النحاس المذاب، والقرآن في هذا يحدّث عن عملية صهر المعادن. ومنها تسخير الجن، وقد جاء الكلام عن تسخير الجن في القرآن الكريم بالآية التي معنا، وفي قوله: وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) [ص: 37] . وفي قوله: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [النمل: 17] وقد صرّح القرآن الكريم في الآية التي معنا بأنّهم كانوا يعملون بين يديه بإذن ربه، لا يستطيعون أن يحيدوا عن ذلك وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ ثم تحدّث عما كانوا يعملون فقال: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ إلخ. هذا وقد يفهم من الآية- بل هي صريحة في ذلك- أنّ نبي الله سليمان كان

يتخذ التماثيل، فالقرآن صريح في امتنان الله على سليمان بأنّه سخّر له الجن لتعمل له ما يشاء عمله، من المحاريب والتماثيل، والجفان، والقدور الراسيات. صحيح أنّه لم يذكر في القرآن صراحة أنّ الجن عملت له المحاريب والتماثيل والجفان، ولكنّ تخصيص هذه الأشياء بالذكر في معرض الامتنان دليل على أنّ سليمان كان يبغي صنع هذه الأشياء، وهو قد لا يجد من يصنعها، أو يحذق صنعها، فسخّر له الجن لعملها، وأنّه يمتن عليه بذلك، وعلى هذا ففي تسخير الله الجن لعمل ما يشاء سليمان من التماثيل إذن من الله لسليمان باتخاذها، وهذا دليل على أنّ اتخاذها مشروع عند سليمان، فهل الأمر كذلك في شريعتنا، ذلك هو الذي يجمل بنا أن نتكلم فيه فنقول: إنّ القرآن نعى على التماثيل يعكف لها ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ [الأنبياء: 52] وندّد بمن يتخذون الأصنام والأوثان آلهة، وفي القرآن من قصص إبراهيم في تحطيم الأصنام ما هو معروف، وقد ورد أنّ رسولنا الأعظم حطّم الأصنام التي كانت حول الكعبة «1» ، والتي كانت على الصفا والمروة، والدين الإسلامي دين التوحيد، وعدوّ الشرك، وليس في الإسلام ذنب أعظم من الشرك إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48 و 116] . والسنة قد جاءت بالنعي على التصوير والمصورين، وبالنهي عن اتخاذ الصور، وبالتنفير منها: وجاءت الأحاديث النبوية الشريفة في الموضوع على وجوه كثيرة من الاختلاف. ولكنّها ترجع إلى خمس أمهات ننقلها لك عن القاضي أبي بكر بن العربي، وقد كنا أحببنا أن ننقلها عن البخاري، لكنّا وجدنا إرجاعها إلى الأمهات الخمس ويرجع الفضل فيه للقاضي أبي بكر، فآثرنا الأخذ عنه، فإنّ البخاريّ ذكرها في أبواب على عادته. قال القاضي رضي الله عنه «2» : إنّ أمهات الأحاديث خمس أمهات: الأم الأولى: ما روي عن ابن مسعود وابن عباس «أنّ أصحاب الصور يعذّبون، أو هم أشدّ الناس عذابا» «3» . وهذا عامّ في كل صورة. الأم الثانية: روي عن أبي طلحة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (5/ 109) ، 64- كتاب المغازي، 49- باب أين ركز النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (4287) . [.....] (2) انظر أحكام القرآن لابن العربي، بيروت دار الفكر. (4/ 1589) . (3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1670) ، 37- كتاب اللباس، 26- باب تحريم تصوير صورة حيوان حديث رقم (98/ 2109) ، والبخاري في الصحيح (7/ 85) ، 71- كتاب اللباس، 89- باب عذاب المصورين حديث رقم (5950) .

ولا صورة» «1» زاد زيد بن خالد الجهني: «إلا ما كان رقما في ثوب» «2» . وفي رواية عن أبي طلحة نحوه، فقلت لعائشة: هل سمعت هذا؟ فقالت: لا، وسأحدثكم، خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم في غزاة، فأخذت نمطا فسترته على الباب، فلما قدم ورأى النّمط عرفت الكراهة في وجهه، فجذبه حتى هتكه، وقال: «إنّ الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين» قالت: فقطّعت منه وسادتين، وحشوتهما ليفا، فلم يعب ذلك عليّ «3» . الأم الثالثة: قالت عائشة: كان لنا ستر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حوّلي هذا، فإني كلّما رأيته ذكرت الدنيا» «4» . الأم الرابعة: روي عن عائشة قالت: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا مستترة بقرام فيه صورة، فتلوّن وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: «إنّ من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبّهون خلق الله» «5» قالت عائشة: فقطّعته، فجعلت منه وسادتين. الأم الخامسة: قالت عائشة: كان لنا ثوب ممدود على سهوة فيها تصاوير، فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي إليه، ثم قال: أخّريه عني، فجعلت منه وسادتين فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يرتفق بهما «6» . وفي رواية في حديث النمرقة. قالت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسّدها، فقال: «إنّ أصحاب هذه الصور يعذّبون يوم القيامة، وإنّ الملائكة لا يدخلون بيتا فيه صورة» «7» . هذه هي الأمهات الخمس التي جمعها ابن العربي، ومن الحقّ أن نذكر لك ما

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1669) ، 37- كتاب اللباس، 26- باب تحريم تصوير صورة حيوان حديث رقم (84/ 2106) ، والبخاري في الصحيح (7/ 84) ، 71- كتاب اللباس، 88- باب التصاوير حديث رقم (5949) . (2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1665) ، 37- كتاب اللباس، 26- باب تحريم تصوير الحيوان حديث رقم (83/ 2106) ، والبخاري في الصحيح (71/ 87) ، 77- كتاب اللباس، 92، باب من كره القعود، حديث رقم (5958) . (3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1666) ، 37- كتاب اللباس، 26- باب تصوير الحيوان حديث رقم (2107) . (4) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1666) ، 37- كتاب اللباس، 26- باب حديث رقم (2107) و (88/ 000) . (5) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1666) ، 37- كتاب اللباس حديث رقم (92/ 000) ، والبخاري في الصحيح (7/ 87) ، 77- كتاب اللباس، 95- باب من لم يدخل بيتا حديث رقم (5961) . (6) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1166) ، 37- كتاب اللباس، 26- باب حديث رقم (92/ 000) ، والبخاري في الصحيح (7/ 86) ، 77- كتاب اللباس، 93- باب كراهية الصور حديث رقم (5954) . (7) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1666) ، 37- كتاب اللباس، 26- باب حديث رقم (96/ 000) ، والبخاري في الصحيح (7/ 87) ، 77- كتاب اللباس، 95- باب من لم يدخل حديث رقم (5961) .

جمع به بين هذه الأحاديث قال: تبين بهذه الأحاديث أنّ الصور ممنوعة على العموم، ثم جاء إلى ما كان رقما في ثوب، فخصّ من جملة الصور، ثم يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعائشة في الثوب المصور: «أخّريه عني، فإني كلّما رأيته ذكرت الدنيا» فثبتت الكراهة فيه. ثم بهتك النبي صلّى الله عليه وسلّم الثوب المصوّر على عائشة منع منه، ثم بقطعها لها وسادتين، حتى تغيرت الصورة، وخرجت عن هيئاتها، بأنّ جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة ولو كانت متصلة الهيئة لم يجز، لقولها في النمرقة: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها. فمنع منه، وتوعّد عليها. وتبين بحديث الصلاة إلى الصورة أنّ ذلك كان جائزا في الرقم في الثوب، ثم نسخة المنع، فهكذا استقرّ فيه الأمر والله أعلم. هكذا يرى ابن العربي أنّ المنع في الأول كان عاما، ثم استثنيت منه أشياء رخّص فيها، ثم زال ذلك بالرجوع إلى المنع في الكل، ونحن نرى أنّ هذه الطريقة في الجمع بعيدة. إذ فيها إثبات النسخ لجواز اتخاذ بعض الصور، والرجوع إلى الحظر الذي ادعى أنه عام. ومعلوم أنّ النسخ يشترط فيه العلم بالتاريخ، وإلا إذا كان يكفي الإمكان فلقائل أن يقول: إن أحاديث المنع يحتمل أن تكون متقدمة، ثم جاءت أحاديث الترخيص. ومن أجل ذلك نرى أنّ الذي يذهب إليه ابن العربي بعيد، وأنّ الأولى في الجمع أن يقال: تحمل النصوص التي فيها الحظر بإطلاق على ما كان منها مجسّدا لذي روح، ويستأنس له بقوله صلّى الله عليه وسلّم في بعضها: «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون خلق الله» وروي من طريق آخر: «يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» بل في بعضها ما هو تحد قوي بنفخ الروح «يعذّب حتّى ينفع فيه الروح، وما هو بنافخ» «1» . وبهذا يكون قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون» مرادا منه الذين يصوّرون صور الأجسام ذوات الروح إذا كانت على حالة بحيث يمكن أن يقال: إن صاحبها يضاهي بها خلق الله، وهذا أيضا إنما يكون إذا كانت كاملة الخلق بحيث لا ينقصها إلا نفخ الروح، وإذا يكون تصوير الجمادات كالجبال والأنهار والكائنات النامية التي ليست بذات روح خارجة من الحظر، لأنّها ليست مما تناولها النصّ بإشارة «يشبهون خلق الله» ، وبإشارة «يقال لهم أحيوا ما خلقتم» وحتى «ينفخ فيها الروح وما هو بنافخ» إذ كل هذه الجمادات والنباتات لا تجتمع فيها كلّ هذه الصفات، فتكون

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1671) ، 37- كتاب اللباس، 26- باب حديث رقم (100/ 2110) ، والبخاري في الصحيح (3/ 54) ، 34- كتاب البيوع، 104- باب بيع التصاوير حديث رقم (2225) .

خارجة من الحظر، وتبقى التماثيل المجسّمة للحيوان على هيئته الكاملة محظورات، وهي التي تكون مرادة من النص. وهذا تأويل قريب بالنسبة للتأويلات الأخرى، كتأويل من يحمل «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة» على بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة، وكتأويل من يقول: إنّ معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المصورون يعذّبون» وما ماثله في المعنى: أن المراد من يجعلون لله صورة، فإن هذه تأويلات بعيدة، فلا دليل على التخصيص بالنسبة للأول، ولا يتفق مع بقية الأحاديث والأخبار بالنسبة للثاني. بقيت الأحاديث المتعارضة فيما كان رقما في ثوب، وما ماثله من الرسوم التي لا ظلّ لها، فقد روي في بعض الروايات عدم دخول الملائكة بيتا يحوي الكلب أو الصورة بإطلاق، وفي بعضها استثناء الرقم في الثوب، وفي بعضها أنه رأى صورة الطائر في ثوب اتّخذ ساترا، فهتكه، أو فغضب، وقال: إنا لم نؤمر بكسوة الحجر والطين، وفي بعضها أنّ أصحاب هذه الصور يعذّبون، وكل هذه الروايات تعارض الرواية التي فيها استثناء الرقم في الثوب، وتوافق الروايات التي جائت بالإطلاق، ولكنّا نقول: إنّ الجمع بينها ممكن، إذ من الممكن أن يقال: إنّه غضب لمّا رأى الصورة معلقة أمام المارّة يستقبلونها، فربما أشعر وضعها هذا بتعظيمها، ولو كانت على غير هذا الوضع، ووضعت للاستعمال فلا بأس. وقد ارتفق بها وسادة. وأما تأويل ابن العربي التوسد بأن الصورة خرجت عن هيئتها، فلم يوجد في الأحاديث ما يدلّ عليه. ويؤيّد هذا المعنى حديث الصورة التي كانت أمامه في الصلاة، فأمر بإزاحتها قائلا: «كلّما رأيتها تذكّرت الدنيا» يعني أنّ هذا نوع من الزينة التي تشغل البال. وكذلك يدلّ استعماله للوسادة التي اتّخذت من الساتر الذي كان فيه الصورة، وأمر بإزاحته، على أنّ المدار في النهي عن الصور والتنفير منها: ألا تتّخذ فتعظّم، فإنّ ذاك قد يجرّ إلى عبادتها، فالنهي عنها من باب سد الذرائع، فإن انتفى أن تكون الصورة في وضع يشعر بالتعظيم، وانتفى قصد التعظيم، فقد زال النهي، كما دلّ على ذلك فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم وارتفاقه بالوسائد التي فيها الصور. ولعلّك تقول: ما دام الأمر كذلك فلنطرد الباب على وتيرة واحدة، فنجري الكلام في التماثيل المجسمة لذي الروح على هذا الوجه، فنقول: فرق بين هذه وهذه، فإنّ الصورة المجسّمة تبقى عصورا طويلة، وقد يفضي التقادم إلى نسيان المعنى الأصلي من اتخاذها، وينقلب الناس يعبدونها، ويعكفون عليها. قال ابن العربي: والذي أوجب النهي في شريعتنا- والله أعلم- ما كانت عليه

العرب من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصوّرون ويعبدون، فقطع الله الذريعة وحمى الباب. وقد ورد في كتب التفسير في شأن يغوث، ويعوق، ونسر، وود، وسواع: أنّهم كانوا قوما صالحين، ثم صوّروا بعد موتهم تذكيرا بهم وبأعمالهم، ثم انتهى الحال آخر الأمر إلى عبادتهم. قال ابن العربي: وقد شاهدت بثغر الإسكندرية إذا مات ميت صوّروه من خشب في أحسن صورة، وأجلسوه في موضعه من بيته، وكسوه بزّته إن كان رجلا، وحليتها إن كانت امرأة، وأغلقوا عليه الباب، فإذا أصاب واحدا منهم كرب، أو تجدّد له مكروه فتح الباب عليه، وجلس عنده يبكي، ويناجيه بكان وكان، حتى يكسر سورة حزنه بإهراق دموعه، ثم يغلق الباب عليه، وينصرف عنه، وإن تمادى بهم الزمان تعبّدوها من جملة الأصنام والأوثان «1» . بعد هذا نقول: إنه ليس لأحد أن يحتجّ بقصة سليمان في التماثيل، فإنّها وإن كانت في شريعة من قبلنا، فقد وجد المغيّر في شريعتنا، وشريعة من قبلنا إنما تكون شريعة لنا إذا لم يوجد الناسخ، وقد وجد، على أنّ من الممكن أن يقال: إن التماثيل التي كانت في ذلك العهد يحتمل أن تكون مما أباحت شريعتنا اتخاذه، فإن لم يصلنا من طريق قاطع أنّ التماثيل التي كانت، إن كانت هناك تماثيل اتخذت، كانت تماثيل لذي روح، وحينئذ يزول الإشكال. وإننا لننقل لك عن العلامة ابن حجر في شرحه للبخاري آراء العلماء في اتخاذ الصور تتميما للفائدة قال رحمه الله: نقلا عن ابن العربي: حاصل ما في اتخاذ الصور أنّها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع، وإن كانت رقما فأربعة أقوال: الأول: يجوز مطلقا، عملا بحديث: «إلا رقما في ثوب» . الثاني: المنع مطلقا. الثالث: إن كانت الصورة باقية بالهيئة، قائمة الشكل حرم، وإن كانت مقطوعة الرأس، أو تفرّقت الأجزاء جاز، قال: وهذا هو الأصح. الرابع: إن كانت مما يمتهن جاز، وإن كان معلقا لم يجز. ونقل عن النووي أنّ جواز اتخاذ الصور إنما هو إذا كانت لا ظلّ لها، وهي مع ذلك مما يوطأ ويداس، أو يمتهن بالاستعمال، كالمخاد والوسائد. والقول بجواز ذلك مروي عن جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، وهو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي.

_ (1) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (4/ 1588) .

ونقل عن ابن العربي أيضا أنّ ذات الظل حرّمت بالإجماع، سواء كانت مما يمتهن أم لا. قال ابن حجر: واستثني من ذلك لعب البنات. ولعلك تريد بعد ذلك أن تعرف حكم ما يسمى بالتصوير الشمسي أو الفتوغرافي فنقول: يمكنك أن تقول: إنّ حكمها حكم الرقم في الثوب، وقد علمت استثناءه نصا. ولك أن تقول: إن هذا ليس تصويرا، بل حبس للصورة، وما مثله إلا كمثل الصورة في المرآة، لا يمكنك أن تقول: إن ما في المرآة صورة، وأن أحدا صوّرها، والذي تصنعه آلة التصوير هو صورة لما في المرآة، غاية الأمر أنّ مرآة الفتوغرافية تثبت الظلّ الذي يقع عليها، والمرآة ليست كذلك. ثم توضع الصورة أو الخيال الثابت في العفريتة في حمض خاص، فيخرج منه عدة صور. وليس هذا بالحقيقة تصويرا فإنّه إظهار واستدامة لصور موجودة، وحبس لها عن الزوال، فإنّهم يقولون: إنّ صور جميع الأشياء موجودة، غير أنها قابلة للانتقال بفعل الشمس والضوء ما لم يمنع من انتقالها مانع، والحمض هو ذلك المانع. وما دام في الشريعة فسحة بإباحة هذه الصور كاستثناء الرقم في الثوب فلا معنى لتحريمها، خصوصا وقد ظهر أنّ الناس قد يكونون في أشد الحاجة إليها. ولعلنا بعد هذا نكون قد وفّينا الموضوع ما يستحقّ، والله الهادي إلى سواء السبيل.

من سورة ص

من سورة ص قال الله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وهذه قصة من قصص حياة نبي الله أيوب عليه السلام، ولقد عرض القرآن الكريم لذكر أيوب عليه السلام في أربعة مواضع منه. فقد جاء ذكره في سورة النساء [163] في عداد الأنبياء الذين أوحي إليهم. إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) . وجاء ذكره في سورة الأنعام [83، 84] في عداد الأنبياء من ذرية نوح عليه السلام: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) . وجاء ذكره وذكر كشف الضرّ عنه في سورة الأنبياء [83، 84] بعد ذكر تسخير الريح عاصفة لسليمان، وعمل الجن له في قوله تعالى: وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) . وجاء ذكره في سورة ص [41- 44] في قوله تعالى: وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) إلى وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) . فأنت ترى أنّ أيوب قد ذكر مرّة في عداد النبيين الذين أوحي إليهم، ومرّة في عداد من كان من ذرية نوح من النبيين، ومرّة ثالثة في سورة الأنبياء حيث ذكر بعض ما أصابه من ضرّ مسه، وقد سأل أرحم الراحمين كشفه، فاستجاب له، فكشف ما به من ضرّ، وآتاه أهله رحمة من عنده وذكرى للعابدين. وقد جاء ذكره في سورة ص تفصيلا بعض التفصيل لهذا الضر الذي أصابه، وبيانا لطريق كشف الضرّ عنه، فقد جاء في تفصيل الضرّ أنّ الشيطان مسّه بنصب

وعذاب، والنصب: بضم النون وإسكان الصاد: التعب، كالنّصب بالفتح فيهما، والعذاب: النكال. وجاء في بيان كشف الضر عنه أمره أن يركض برجله، والقول له: هذا مغتسل بارد وشراب. والمغتسل: مكان الغسل، والشراب: ما يشرب. ثم جاء في هذا البيان أيضا أنه وهبه أهله ومثلهم معهم، وأنّ ذلك كان رحمة منه وذكرى لأولي الألباب، على نحو ما جاء في سورة الأنبياء تماما بفارق بسيط، ذلك أنّه قيل في الأنبياء: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وقيل في ص: وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وقيل في الأنبياء: رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ وقيل في ص [43] رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ. وقد جاء في سورة ص زيادة لم تظهر في (سورة الأنبياء) ذلك هو قول الله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ وإنما جعلنا هذه زيادة لم تظهر، مع أنّها طريق من طرق كشف الضر الذي أصاب أيوب، لأنا رأينا القرآن قد فصل بين الضّرّ الذي أصاب أيوب في شخصه، وبين ما أصابه في أهله. فقال في الأول: فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ. وقال في الثاني: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ. فدلّ ذلك على أنه أصابه ضران: ضرّ في النفس، وضرّ في الأهل، وقد جاء إيتاء الأهل في السورتين نصا، وجاء كشف الضّرّ في الأنبياء بلفظه، وفي ص بالأمر بالرّكض بالرجل. أما الأمر بأخذ الضّغث، والضرب به، فشيء جديد، جاءت به آية مستقلة، وهي في شأن من شؤون أيوب كان من الخير ألا يفعله حتّى لا يتأذّى به غيره. ويكاد القرآن الكريم يكون صريحا في أنّ الضرّ الذي مسّ أيوب عليه السلام ضر حسيّ، تلمسه من قول أيوب: مسني الضر، وقوله في سورة ص: مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ وفي قول الله: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وقوله لأيوب: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وليس بلازم في ثبوت صبر أيوب أن يكون الضر الذي أصابه قد وصل إلى الحدّ الذي عصم منه الأنبياء، وعلى الوجه الذي ينقله المفسرون من الإسرائيليات التي لا يكاد يثبت منها شيء. بل يكفي أن يكون مرضا من الأمراض المستعصية التي ينوء بحملها الناس عادة، ويضجرون من ثقلها، وخصوصا إذا امتدّ الزمن بها، وإنّك لتفهم من التعبير عنها بمس الشيطان أنها مما لا يؤلف عادة، وكلّ غريب غير مألوف يقال فيه: إنّه من فعل الشيطان. وقد يكون التعبير عنها بأنها مس الشيطان للتأدب، على حد ما يقال: (إن كان خيرا فمن الله، وإن كان شرّا فمني ومن الشيطان) .

فإذا احتملها الإنسان وصبر عليها صحّ أن يقال فيه: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ. وأما اللجوء إلى القول بأن ذلك الضّرّ هو إعراض قوم أيوب عن دعوته فرارا مما رواه المفسرون من خرافات لا تصح، فهو ظنّ لا يغني من الحق شيئا. فالقرآن الكريم في المواضع الأربعة التي جاء فيها ذكر أيوب لم يذكر فيها شيئا عن دعوته في قومه، ولا شيئا مما كان من قومه، ولو أنّ الذي أصاب أيوب من قومه في دعوته كان شيئا يصحّ أن يذكر لذكره الله في عبارة صريحة واضحة جلية، كما هو الشأن في الذين لقوا عنتا في سبيل دعوتهم، على أنّا لا نعتقد أنّ أحدا من الرسل لقي عنتا مثل الذي لقي إبراهيم ونوح وموسى. لقد بلغ من عداوة قوم إبراهيم له أن قالوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ [الأنبياء: 68] . وبلغ من عناد قوم نوح أن قال فيهم: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً (6) [نوح: 5، 6] وأن اضطر إلى أن يسأل الله: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً (27) [نوح: 26، 27] . وحتى ابنه كان في معزل عنه، ولم يستمع لأبيه حتى في طلب النجاة من الغرق. ولم يكن شأن موسى مع قومه بأقلّ من هذا، فقد أخرجه عنادهم إلى التيه، كلّ هذا وغيره أصاب الأنبياء في دعوتهم، ولم يحك القرآن أن أحدا منهم قال: مسني الضر، ولا مسني الشيطان بنصب وعذاب. وقد أمر الله نبينا صلّى الله عليه وسلّم أن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ولم يقل أحد: إنّ أيوب كان من أولي العزم، مع أنّ الله يقول فيه: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً ولقد كان صبر أيوب مضرب الأمثال، وأولو العزم من الرسل هم الذين أصابهم عنت معارضة الدعوى، فصبروا، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتأسّى بهم. ترانا قد أطلنا في غير ما هو مقرّر علينا، ولكن جرّنا إليه أنّا أردنا أن نبيّن المخاطب في قوله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ. والضغث: في اللغة قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس. وقال ابن عباس: وهو عثكال النخل. والحنث: يطلق على الإثم، وعلى الخلف في اليمين، وعلى هذا فقد أمر الله أيوب أن يأخذ قبضة من حشيش، أو حزمة حطب، فيضرب بها، ونهاه أن يحنث. وإذن لقد كان أيوب حلف ليضرب، وكان هذا الضرب مؤذيا وإذا تركه أيوب يكون حانثا مخالفا ليمينه، فنهاه الله أن يحنث، وأوجد له المخرج من إيقاع الذي

يترتب على البر باليمين، وهو أن يأخذ الضغث فيضرب به، فلا يتأذّى المضروب، فيكون قد برّ بيمينه، وابتعد من الحنث، وتجنّب إيقاع الأذى بالغير. وقد جعل المفسرون يعيّنون من كان سيلحقه الأذى، ويذكرون السبب الذي انبنى عليه عزم إيقاع الأذى، وأخذوا يصوّرون الذي كان من أيوب تارة على أنه كان يمينا، وتارة على أنه كان نذرا، وقد ذكروا في كل ذلك روايات لم تثبت صحتها، فرووا أنّ امرأة أيوب هي المحلوف عليها، وقالوا في سبب الحلف إنّها كانت تخدمه، وضجرت من طول مرضه، فتمثّل لها الشيطان طبيبا، فقالت له: هل لك أن تشفي هذا المريض؟ فقال: بشرط أن يقول كلمة واحدة هي: أني شفيته: فقالت لأيوب: كلمة واحدة تقولها، وتشفى، ثم تستغفر الله، فحلف أو نذر لئن شفي ليضربنّها مئة جلدة. وقيل بل كانت تأتي له بالطّعام، فأتت يوما بطعام أكثر من المعتاد، وكانت قد باعت ذوائبها، فارتاب في أمرها، فحلف أو نذر. وقيل: بل طلبت إليه أن يسأل ربّه أن يشفيه، فظنّ ذلك منافيا للصبر فحلف. وقالوا في الضر الذي أصابه أقوالا كثيرة ينافي ما ثبت للأنبياء من العصمة من المنفّرات. وقد فهمت قبلا أنّ القرآن يدلّ على أنّ الضرّ حسي تناول البدن بإشارة (مسّني الضّرّ) ومَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ وبإشارة فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وبإشارة ارْكُضْ بِرِجْلِكَ إذ هو ظاهر في أنّه إنما أمر بذلك كطريق من طرق العلاج، وكذلك قول الله هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ فهو ظاهر في أنّ المراد أن يغتسل من المغتسل، وأن يشرب من الشراب فيشفى. وكذلك يدلّ القرآن على أنّه قد أصيب في أهله بغير تعيين لنوع الإصابة، أكانت بالموت أم بالمرض، أم بهما معا، فكشف عنه هذا الضر، فآتاه أهله ومثلهم معهم، والله يعلم كيف كان هذا الإيتاء، أبإحياء من مات؟ أم بمباركة من بقي وزيادة نسله؟ وقد كان منه حلف بضرب كان من الخير ألا يفعله، فنهاه عن الحنث، وأوجد له المخرج من شرّ الأذى، فأمره بأخذ الضّغث والضرب به. ذلك كلّ ما يدل عليه القرآن الكريم، وهو ليس في حاجة إلى ما جاء في الإسرائيليات، ولو علم الله في البيان أكثر من هذا خيرا لبيّنه. ثم قال الله تعالى: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ صبر على ما أصابه من أذى في بدنه وأهله وماله، والأواب: كثير التأويب والرجوع إلى الله في كلّ أموره. فأنت ترى أنّ أيوب كان قد حلف على ضرب يتكرّر مرارا، وذلك يؤذي

المضروب، فأوجد له تحلّة القسم، وذلك بالضرب بالضغث، ويظهر أنّه لم يكن عنده كفارة اليمين. وبناء على رأي بعض الأصوليين الذين يقولون: إنّ شرع من قبلنا شرع لنا قال الحنفية: إنّ من حلف ليضرب مئة ضربة، فأخذ حزمة من حطب عدد عيدانها مئة، فضرب بها برّ بيمينه، ولا كفارة عليه، لأنّ الله قد رخّص لأيوب هذا، وجعله غير حانث به، وما دام غير حانث فهو بار، لأنّه لا واسطة بين الحنث والبر، ومن أجل أنّه برّ لا تجب الكفارة، لأن الكفارة في شريعتنا إنّما تجب عند الحنث. والمالكية- وإن كانوا يقولون بهذه القاعدة الأصولية- ويقولون: هي رخصة خاصة بأيوب، بدليل توجيه الخطاب له، وبما ذكر للترخيص من العلة. ويقول ابن العربي «1» : إنّما انفرد مالك عن القاعدة لتأويل بديع هو أنّ مجرى الأيمان عند مالك في سبيل النية والقصد أولى، لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما الأعمال بالنيات» «2» ، وقصة أيوب عليه السلام ولم يصح فيها شيء يبيّن كيفية اليمين حتى نلتزم شريعته فيها. انتهى ملخصا فلا معنى لترك ما دلت عليه شريعتنا لشيء لا نعرف ما هو، وشريعتنا تقضي بحمل الأيمان على اللغة، أو على العرف، واللغة لا تجعل الضارب مرة بسوط ذي شعب ضاربا مرات بعدد الشعب، وكذا العرف، فوجب أن نجري على ما هو الحكم عندنا بموجب العرف واللغة. ولذلك لا يجوز هذا فيمن وجب عليه الحد إذا كان صحيحا، وأما إذا كان مريضا فهذه رخصة في حدّ المريض خاصّة، وإن شئت فقل: إنّها حدّ المريض إذا كان لا يقوى على احتمال الحد، ولذلك نرى أنّ الأولى الأخذ برأي مالك في المسألة خصوصا وأنّ الكفارة شرعت عند إرادة العدول عن مقتضى اليمين إلى ما هو خير، بل لقد قال بعضهم: إنّ المخالفة إلى الخير كفارة. بقي أنّ بعض العلماء يريد أن يأخذ من هذه الآية مشروعية الحيلة، وسنسمعك شيئا من حججهم، وشيئا من ردّ ابن القيم في كتابه «أعلام الموقعين» عليهم، ونوصيك بقراءته في هذا الموضوع، فهو نفيس. وقبل أن ننقل لك عن ابن القيم نقول: إنّ الحيلة- كما هو ظاهر من اسمها- ما يقصد به الاحتيال لدفع شيء عن وجهه الذي هو عليه، أو جلبه من غير وجهه الذي

_ (1) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (4/ 1640) . (2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1515) ، 33- كتاب الإمارة، 45- باب قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال» حديث رقم (155/ 1907) ، والبخاري في الصحيح (1/ 3) ، 1- كتاب الوحي، 1- باب كيف بدء الوحي حديث رقم (1) .

هو عليه، كأولئك الذين يتظاهرون أنّهم يؤدون الزكاة، فيجيئون بفقير يعطونه شيئا من المال، وقد تواضعوا على أن يهبه لهم، ثم وثم، حتى ينتهي ما عليهم من الزكاة، عدّا على الفقير، وهبة من الفقير لهم. ومثل آخر ذلك الذي أسماه الحنفية إسقاط الصلاة، وقاسوها على الحج عن الغير، وعلى فدية الصوم، ولسنا نريد أن نقول لهم شيئا في القياس والجامع والفارق، وإنما هو شيء أوجدوه، قصدوا منه الإحسان إلى الفقراء، ثم أجازوا الحيلة في إسقاط ما يسقط الصلاة، فقالوا: يعطى الفقير نصف صاع، ثم يهبه، وتتكرّر العملية بعدد الصلوات المتروكة، أو بعدد الأيام المتروكة، فيكونون قد أحسنوا إلى الفقراء، وتسقط الصلاة عن ميتهم. وهناك أمثلة كثيرة، فقد أدخلوا الحيلة في كلّ شيء: أدخلوها في التحليل في المطلق ثلاثا، وأدخلوها في الزكاة، وفي الاستبراء، وفي كفارة الصيام. وما ندري لماذا شرعت الأحكام بعد إذ جاءت الحيل، وانفتح بابها لعدم التزام الأحكام، وللعلماء آراء في مشروعية الحيلة، فبعضهم يمنعها مطلقا، وبعضهم يجيزها مطلقا، وبعضهم يقول: إن عطلت مصلحة شرعية كالتحيّل في الزكاة لا تقبل، وإلا قبلت. ونحن ننقل لك طرفا من أدلة المجيزين وأدلة المانعين عن العلّامة ابن القيم رحمه الله قال: قال أرباب الحيل: قد أكثرتم من ذمّ الحيل، وأجلبتم بخيل الأدلة ورجلها، وسمينها ومهزولها، فاستمعوا الآن تقريرها، واشتقاقها من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة وأئمة الإسلام، وأنّه لا يمكن لأحد إنكارها. قال الله تعالى لنبيه أيوب: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ فأذن لنبيه أيوب أن يتحلّل من يمينه بالضرب بالضّغث، وقد كان نذر أن يضربها ضربات معدودة. وهي في المتعارف الظاهر إنما تكون متفرقة، فأرشده تعالى إلى الحيلة في خروجه من اليمين، فنقيس عليه سائر الباب، ونسميه وجوه المخارج من المضائق ولا نسميه بالحيل التي ينفر الناس من اسمها. وأخبر تعالى عن نبيه يوسف عليه السلام أنّه جعل صواعه «1» في رحل أخيه، ليتوصل بذلك إلى أخذه من إخوته، ومدحه بذلك، وأخبر أنّه برضاه وإذنه، كما قال: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف: 76] .

_ (1) إناء يشرب فيه، انظر لسان العرب لابن منظور (8/ 215) مادة صوع. [.....]

وقال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) [النمل: 50] فأخبر الله أنّه مكر بمن مكر بأنبيائه ورسله. وكثير من الحيل هذا شأنها، يمكر بها على الظالم والفاجر، ومن يعسر تخليص الحق منه، فتكون وسيلة إلى نصر مظلوم، وقهر ظالم، ونصر حق، وإبطال باطل، والله تعالى قادر على أخذهم بغير وجه المكر الحسن، ولكن جازاهم بجنس عملهم، وليعلّم عباده أنّ المكر الذي يتوصّل به إلى إظهار الحق، ويكون عقوبة للماكر، ليس قبيحا. وقد ساق ابن القيم بعد ذلك آثارا، عن الصحابة، وأحاديث من السنة، وأقوالا عن السلف والأئمة، يتمسك بها القائلون بمشروعية الحيلة، يطول المقام بذكرها، فنحيلك على «أعلام الموقعين» «1» إن أردتها. ثم أخذ يرد على هذا الذي تمسّك به القوم، فأطال في إبداع، ونحن نذكر هنا طرفا منه. قال: ونحن نذكر ما تمسكتم به في تقرير الحيل والعمل بها، ونبيّن ما فيه، متحرّين العدل والإنصاف، منزّهين لشريعة الله وكتابه وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم عن المكر والخداع والاحتيال المحرم، ونبيّن انقسام الحيل والطرق إلى ما هو كفر محض، وفسق ظاهر، ومكروه، وجائز، ومستحب، وواجب عقلا أو شرعا، ثم نذكر فصلا نبيّن فيه التعويض بالطرق الشرعية عن الحيل الباطلة، فنقول وبالله التوفيق، وهو المستعان وعليه التكلان: أما قوله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ فقال شيخنا: الجواب: أنّ هذا ليس مما نحن فيه، فإنّ للفقهاء في موجب هذه اليمين في شرعنا قولين: يعني إذا حلف ليضربنّ امرأته أو عبده مئة ضربة: أحدهما: قول من يقول موجبها الضرب مجموعا أو مفرقا، ثم منهم من لا يشترط مع الجمع الوصول إلى المضروب، فعلى هذا تكون هذه الفتيا موجب هذا اللفظ عند الإطلاق، وليس هذا بحيلة، إنما الحيلة بصرف اللفظ عن موجبه عن الإطلاق. والقول الثاني: أن موجبه الضرب المعروف، وإذا كان هذا موجبه لم يصح الاحتجاج علينا بما يخالف شرعنا من شرائع من قبلنا، لأنّا إن قلنا: «ليس شرعا لنا مطلقا» فظاهر، وإن قلنا: «هو شرع لنا» فهو مشروط بعدم مخالفته شرعنا، وقد انتفى الشرط. وأيضا فمن تأمّل الآية علم أنّ هذه الفتيا خاصة الحكم، فإنّها لو كانت عامة الحكم في حقّ كلّ أحد لم يخف على نبي كريم موجب يمينه، ولم يكن في قصّها علينا كبير عبرة، فإنما يقصّ علينا ما خرج عن نظائره، لنعتبر به، ونستدل به على حكمة الله فيما قصّه علينا.

_ (1) انظر أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم بيروت، دار الجيل (3/ 290- 403) .

ثم قال: ويدل عليه اختصاص قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً وهذه الجملة خرجت مخرج التعليل، كما في نظائرها، فعلم أنّ الله سبحانه إنما أفتاه بذلك جزاء له على صبره، وتخفيفا عن امرأته ورحمة بها. وأيضا فإنّه تعالى إنما أفتاه بهذا لئلا يحنث، كما قال: وَلا تَحْنَثْ وهذا يدلّ على أنّ الكفارة لم تكن مشروعة في شريعته: بل ليس في اليمين إلا البرّ أو الحنث، وقد كان ذلك مبررا في شريعتنا قبل شروع الكفّارة «لم يكن أبو بكر يحنث في يمين حتّى أنزل الله كفارة اليمين» . وإذا كان كذلك، يكون كأنّه نذر ضربها، وهو نذر لا يجب الوفاء به، لما فيه من الضرر عليها. ولا يغني عنه كفارة يمين، لأنّ تكفير النذر فرع عن تكفير اليمين، فإذا لم تكن كفارة النذر مشروعة إذ ذاك، فكفارة اليمين أولى: وقد علم أنّ الواجب بالنذر يحتذى به حذو الواجب بالشرع وإذا كان الضرب الواجب بالشرع. يجب تفريقه إلّا إذا كان المضروب ميؤوسا من شفائه، فيكون الواجب أن يجتمع الضرب، لمكان العذر. وبعد كلام طويل قال في قصة يوسف: نحن نسأل القائلين بجواز الحيل: هل تجيزون أنتم مثل هذا في شريعتنا حتى يكون لكم أن تحتجّوا بمثله؟ وأما مجرد وجوده في شريعة يوسف فليس ينفعكم. قال شيخنا: ومما قد يظنّ أنّه من جنس الحيل التي بيّنا تحريمها، وليس من جنسها قصة يوسف، حين كاد الله له في أخذ أخيه، كما قصّ ذلك في كتابه [يوسف: 70] ، فإن فيه ضروبا من الحيل الحسنة: منها: جعله بضاعتهم في رحالهم، ليرجعوا بعد المعرفة. ومنها: جعل السقاية في رحل أخيه ليظهره بمظهر السارق، فيحتجزه. وقد ذكروا أنّ ذلك كان بمواطأة بينه وبين أخيه، وعلى ذلك فليس هناك حيلة. ثم أطال في بيان الموضوع، ونحن نجتزئ منه بهذا. وبعد فإنّ التحايل على إسقاط التكاليف الشرعية أمر تنفر منه الطباع، وما ندري هل علم المحتالون أنّ حيلهم تنطلي فتسقط التكاليف أو هم قد اتخذوا عند الله عهدا أنه لا يجازيهم على هذا التحايل؟ ثم من يخادعون!!! التحايل في الحرب في اتقاء الظالمين أمر مقبول إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ [آل عمران: 28] أما التحايل لإسقاط التكاليف، ولأكل الأموال من غير وجهها فما نظنّ أحدا يقول به. وفي هذا القدر كفاية، ونكرر الوصية بمطالعة الموضوع في مراجعه، فإنّه نفيس، ويكفي أن نبهناك إليه، والله وليّ التوفيق.

من سورة الأحقاف

من سورة الأحقاف قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) قدمنا لك في سورة لقمان [14] ما فيه كفاية في تفسير الآية الأولى وفي بيان ما تشتمل من أحكام، وخلاف العلماء في مدة الرضاع، ومستندهم الذي يستندون إليه في تدعيم آرائهم، ونحن من أجل ذلك لا نعيده، وإن احتجت إلى شيء منه فارجع إليه هناك، وإنما نذكر هنا ما لم يرد له ذكر هناك. الكره: بفتح الكاف وضمها المشقة كالضّعف والضّعف بالفتح والضم. ومن ظريف ما يقولون في بيان المفردات هنا: أنّ المشقة تكون بعد الحمل بقليل لا وقت الحمل، بل حين يثقل الولد في بطنها، وكأنّهم ظنّوا أنّ القرآن يحدّد وقت المشقة. وهذا الموضع لبيان المتاعب التي تتجشمها الأمّ أثناء الحمل، حتى يكون ذلك مرقّقا للولد على أمه، فالمدار أن يكون تعب في أثناء الحمل. وقد يسبق الكره ثقل الولد، بل هو الواقع الكثير، فإنّ الوالدات يتحمّلن كثيرا من المتاعب في أيام الوحم، فيمتنعن من الطعام ومن الشراب، ويعفن كل شيء. وقوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً غاية لمحذوف، تقديره فعاش أو طالت حياته، حتى إذا بلغ أشده. والأشد: القوة، وبلوغه استحكامه، وذلك يكون بكماله في القوة المادية والعقلية. وبلوغ الأربعين سنة قيل: هو وقت بلوغ الأشد، وذلك هو الوقت الذي يكتمل فيه الخلق، وتقوى متانته، ولذلك قيل: إنّه لم ينبأ نبيّ قبل الأربعين، وإن كان بعض العلماء على خلافه، مستدلا بما ورد في شأن عيسى ويحيى من مثل: قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) [مريم: 30] . ومن مثل: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم: 12] .

ويرى ابن العربي أنّه يجوز بعث الصبي، ولكنه لم يقع، وتأوّل الأدلة على أنّها إخبار عمّا سيكون، لا عمّا وقع بالفعل، قال: ومثله كثير في القرآن. على أنّه لا مانع من أن تبقى الآيات على ظاهرها، ويكون ذلك على خلاف الغالب في الأنبياء. قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ. أوزعه بالشيء: أغراه به، فأوزع فهو موزع، أي مغرى إذا أغراه غيره، والمراد هنا حمله على سلوك سبيل الشكر والتوفيق إلى السير فيه. والمراد بالنعمة التي أنعم الله بها عليه وعلى والديه، قيل: نعمة الدين، وقيل: كلّ ما في الإنسان من نعمة وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ [النمل: 19] معطوف على أَنْ أَشْكُرَ والعمل الصالح المرضي ما يكون سالما من غوائل عدم القبول وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي اجعل الصلاح يسير فيها، ويمشي خلالها، ويتفشّى فيها، ويرسخ، حتى يكون لها خلقا وطبعا. وأصلح: أصله يتعدى بنفسه، وإنما عدّي بالحرب (في) لإفادة الرسوخ والسريان إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ من جميع الذنوب والآثام وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أنفسهم إليك، المنقادين لك، الخاضعين لربوبيتك. أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا. هذا إشارة إلى الإنسان المذكور في قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ وجمعه باعتبار أفراده الذين تحقق فيهم ما ذكر من الأوصاف المذكورة، من معرفة حقوق الوالدين، والرجوع إلى الله بسؤال التوفيق للشكر، إلى آخر ما في الآية، وهو إيذان بأنّ هذه الأوصاف هي صفات الإنسانية الكاملة، من اتصف بها فهو الإنسان، وأصحابها هم الذين يكرمهم الله، فيتقبل عنهم ما قدموا من صالح العمل وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فيعفو عنها، إذ هي تتلاشى بجانب الحسنات إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: 114] وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ الذي وعدهم الله به في كتبه وعلى لسان أنبيائه، والله منجز ما وعد.

من سورة محمد صلى الله عليه وسلم

من سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم قال الله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) أثخن في العدو- بالغ في الجراحة فيهم، وأثخن فلانا أوهنه. وحَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي غلبتموهم، وكثرت فيهم الجراح. والمعنى: أنهم صاروا لا قبل لهم بالحرب، ولا قدرة لهم على قتالكم من شدة ما أصابهم. والوثاق: ما يشد به، وأوثقه به: شده فيه. ومن عليه منّا: أنعم، واصطنع عنده صنيعة. وفداه يفديه فداء، وافتدى به، وفاداه: أعطي شيئا فأنقذه، والفداء ككساء: ذلك الشيء المعطى. والأوزار، جمع وزر بكسر الأول: الإثم، والثقل، والسلاح، والحمل الثقيل. هذا هو بيان المفردات التي تحتاج إلى بيان في الآية الكريمة. ومعنى الآية بعد هذا: أنّ الله تعالى يأمر المؤمنين عند لقاء الكفار في الحرب ألا تأخذهم في قتال الكفار شفقة، بل عليهم أن يعملوا فيهم السلاح، فيضربوا به رقابهم، وأن يستمر ذلك حتى يهنوا ويضعفوا، وتخضد شوكتهم، فلا يبقى لهم بعد ذلك قدرة على قتال المسلمين، فإذا انتهت الحرب بإثخانهم وقهرهم، فعلى المؤمنين أن يشدّوا وثاق من قدروا عليه منهم، وذلك كناية عن قيد الأسر، ووقوعهم أسرى في يد المؤمنين هنالك بعد الأسر، واستقرارهم في قبضة المؤمنين يكون لنا أن نبقيهم كذلك أسرى أرقاء، يقتسمهم الغانمون على ما ورد في قسمة الغنائم، وأن ننعم عليهم بالإطلاق من غير مقابل، فيكون ذلك يدا لنا عليهم، ومنة نمنّ عليهم بها، حيث أصبح الأعداء لا يخشى بأسهم. وأن نأخذ الفداء في مقابل إطلاقهم، لنسد بالفداء ما عساه يكون عند المؤمنين من حاجة إليه، وقد جعل الله تعالى غاية هذه الأوامر وضع الحرب أوزارها وآثامها وشرورها، التي تلحق الناس منها، أو وضع الأثقال والتبعات

التي تلحق الناس في الحروب، أو وضع الحرب سلاحها، فلا يكون قتال بعد. ثم قال الله تعالى: (ذلك) وقد كثر في لغة العرب استعمال اسم الإشارة عند الفصل بين كلامين، والانتهاء من الأول وإرادة الانتقال إلى الثاني. كأنه قيل: ذلك هو ما نريد أن نقوله في هذا الشأن، ونقول بعده كذا وكذا. أو احفظ ذلك والأمر بعده كذا وكذا، فاسم الإشارة للفصل بين كلامين، والكلام في الإعراب بعد ذلك سهل يسير. والكلام الذي بعده يقصد منه بيان الحكمة في شرع القتال مع قدرة الله أن ينتصر على أعدائه من غير أن تكون حرب بينهم وبين أوليائه، وتلك الحكمة هي امتحان الناس، واختبار صبرهم على المكاره، واحتمالهم للشدائد أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) [آل عمران: 142] . ثم بيّن الله تعالى بعد ذلك أنّ الذين يكون من حظّهم أن يقتلوا في سبيل الله ستحفظ أعمالهم، وتخلّد لهم، ثم هم بعد ذلك في روضات الجنات يحبرون. والآية الكريمة بعد هذا متفقة مع آية الأنفال ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال: 67] غير أنّ آية الأنفال لم يذكر فيها ما يكون بعد الإثخان، والآية التي معنا بيّن فيها أنّ المؤمنين عليهم بعد غلبة الأعداء وقهرهم أن يشدوا الوثاق، ثم لهم بعد ذلك أن يمنّوا على من أوثقوهم من غير فداء، ولهم أن يفادوهم، وقد تسأل بعد هذا وأين استرقاقهم؟ فنقول: إن الاسترقاق قد فهم من الأمر بشدّ الوثاق. وبعد هناك حالان أذن لنا فيهما الشارع الكريم: هما المن والفداء. وإنا نذكر لك هنا آراء العلماء في المن على الأسرى وأخذ فدائهم ثم نعقب عليه بما يفتح الله به: قد اختلف العلماء فيما دلّت عليه الآية الكريمة في مواضع: منها المراد بالذين كفروا، فذهب بعضهم إلى أنهم المشركون، وهو مروي عن ابن عباس، وذهب بعضهم إلى أن المراد كلّ من ليس بيننا وبينهم عهد ولا ذمة، ويظهر أنّ هذا هو الصحيح، إذ الآية عامة، والتخصيص لا دليل عليه. وقد اختلف أيضا في المراد من ضرب الرقاب، فذهب السدي إلى أنّ المراد منه القتال، وذهب جماعة على أن المراد منه قتل الأسير صبرا، والظاهر الأول، فإنّه الذي ينساق إليه الذهن من قول الله: فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ إذ جعل الإثخان وهو الإضعاف- غاية لضرب الرقاب، فأين قتل الأسير صبرا، وهو إنما يقع في الأسر بعد إثخانه وضعفه. وكذلك اختلف العلماء في المراد من الفداء، فقال بعضهم: المراد من المفاداة

العتق: وقال بعضهم: إنّ المراد إطلاق سراحهم في مقابل ما يأخذه المسلمون منهم، وقد يكون المقابل أسرى من المسلمين عند الكفار، من طريق التبادل، حسبما يتيسر عند المفاداة، وقد يكون المقابل مالا، أو عتادا يأخذه المسلمون في نظير أسرى الحرب. واختلفوا كذلك في المراد من وضع الحرب أوزارها، بعد الذي علمت من معاني الأوزار، فقال بعضهم: إنّ وضع الأوزار كناية عن الإيمان، والمعنى حتى يؤمنوا ويذهب الكفر، وقال بعضهم: بل المراد حتى ينزل عيسى عليه السلام، وأنت لو نظرت إلى قول الله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة: 193] رجحت الأول على الثاني، نعم إنّ نزول عيسى قد ورد فيه أنّه حين يكون لا يكون على ظهر الأرض كافر، ولكنّ نزول عيسى أمر لا شيء في الآية، ولا في غيرها مما جاء في القرآن، يشعر به. بقي بعد كلّ هذا خلاف العلماء في الأحكام التي دلّت عليها الآية من التخيير بين الاسترقاق والإطلاق دون مقابل والفداء، ألا تزال هذه الأحكام معمولا بها، أم نسخ العمل بها، وتغيّرت الأحكام. فذهب بعضهم إلى أنّها منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] وذهب البعض إلى أنّ النسخ إنما هو في بعض ما تناولته فقط، فهي منسوخة في حقّ عبّاد الأوثان، فهؤلاء لا يمنّ عليهم، ولا يفادون، لأنّنا منهيون عن معاهدتهم، وقال الضحاك: لا نسخ فيها، بل هي باقية الحكم في كل ما دلّت عليه. ويرى سعيد بن جبير، أنّ الكفار بعد أن يثخنوا ويضعفوا فالحكم فيهم باق لا يتغير، أما قبل أن يضعفوا فلا يجوز أن يكون هناك منّ ولا فداء، وهذا يتفق مع ما أشير إليه في قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال: 67] وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا. قال الجصاص «1» : اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير، لا نعلم بينهم خلافا فيه، وقد تواترت الأخبار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قتل الأسير. منها قتله عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث [وهو الذي قالت أخته: أمحمّد ها أنت صنو كريمة ... في قومها، والفحل فحل معرق ما كان ضرّك لو مننت وربّما ... منّ الفتى، وهو المغيظ المحنق قتل بعد الأسر يوم بدر. وقتل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد أبا عزّة الشاعر، بعد ما أسر.

_ (1) انظر أحكام القرآن للإمام أبي بكر الجصاص (3/ 391) .

وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم بالقتل وسبي الذرية. ومنّ على الزبير بن باطا من بينهم. وفتح خيبر بعضها صلحا وبعضها عنوة، وشرط على ابن أبي الحقيق ألا يكتم شيئا، فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله «1» . وفتح مكة، وأمر بقتل هلال بن خطل، ومقيس بن صبابة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وآخرين. وقال: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلّقين بأستار الكعبة» . واختلف الفقهاء في فداء الأسير، فقال الحنفية جميعا: لا يفادى الأسير بالمال، ولا يباع السّبي لأهل الحرب، فيرجعون حربا علينا، وقال أبو حنيفة: لا يفادون بأسرى المسلمين أيضا، وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس أن يفادى أسرى المؤمنين بأسرى المشركين، وهو قول الثوري والأوزاعي. ونقل المزني عن الشافعي: أن للإمام أن يمنّ على الرجال الذي ظهر عليهم، أو يفادي بهم. أما المجيزون للفداء بأسرى المسلمين وبالمال، فيستدلّون بقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً فقد أجازت الآية الكريمة الفداء مطلقا غير مقيّد، وبأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فادى أسرى بدر بالمال. ويحتجون للفداء بأسرى المسلمين بما روى ابن المبارك عن معمر عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين: قال أسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأسر أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلا من بني عامر بن صعصعة، فمرّ به على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال الأسير: علام أحبس؟ فقال: «بجريرة حلفائك» فقال: «إني مسلم» فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كلّ الفلاح» . ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فناداه أيضا، فأقبل، فقال: إني جائع فأطعمني، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نعم هذه حاجتك» ثم فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما «2» . وروي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين ، ولم يذكر في هذه الرواية إسلام الأسير. والذين يقولون بعدم الجواز يقولون: إنّ هذه الآية نسختها آية فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة: 5]

_ (1) رواه أبو داود في السنن (3/ 92) ، كتاب الخراج، باب ما جاء في حكم أرض خيبر حديث رقم (3006) . (2) رواه مسلم في الصحيح (3/ 2262) ، 26- كتاب النذر، 3- باب لا وفاء لنذر، حديث رقم (8/ 1641) ، وأبو داود في السنن (3/ 200) ، كتاب الأيمان حديث رقم (3316) .

وبقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) [التوبة: 29] . ويقولون: إنّ ما كان من النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلح الحديبية: «إنّ من جاءنا منهم رددناه عليهم» «1» قد نسخ. ونهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإقامة بين أظهر المشركين، وقال: «من أقام بين أظهر المشركين فقد برئت منه الذّمة» «2» وما روي في أسارى بدر منسوخ بما تلونا. هذه حجج الفريقين قد سقناها لك، وإنك لترى فيها أنّ النبي فعل أشياء كثيرة مختلفة، فمنّ وقال: «اذهبوا فأنتم الطّلقاء» وقال: «من دخل دار فلان فهو آمن» . وفي الوقت نفسه قتل جماعة من الأسرى، وقال: «اقتلوهم وإن تعلقوا بأستار الكعبة» وقتل يهود بني قريظة نزولا على حكم سعد بن معاذ، وكانوا قد رضوا حكمه، ومنّ على واحد منهم، وفادى بالمال والمسلمين، وترى أنّ كلّ ذلك قد كان تبعا للمصلحة الحربية، وقد أرشد الله تعالى في القرآن الكريم إلى أنّ المصلحة الحربية فوق كلّ اعتبار، انظر إلى قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) [الأنفال: 67] فقد عاتب الله نبيه على اتخاذ الأسرى قبل أن تقوى شوكة الإسلام، وقبل أن يتمّ خذلان العدو وقهره. وقد يكون في إباحة الأسر قبل الغلبة تقوية قلوب الأعداء، إذ يقولون: ما دمنا سنكون أحياء نأكل ونشرب، فما لنا نخضع لدعوتهم، فيستمرّون في مناوشة المسلمين، ومداومة حربهم كلّ يوم. أما إذا علموا أنّه لا هوادة في الحرب، وأنهم مقتولون إن لم يؤمنوا، وأنهم لا ملجأ لهم من الله إلا إليه أسلموا، وقبلوا الدعوة، أو أسلموا أمورهم، وانقادوا، وذلوا، فلا يقومون بحرب، ولا يقلقون راحة المسلمين، فما لنا لا نوادعهم، ونأسر منهم، فنسترقّ، ونمنّ، ونفادي، فانظر عظمة الإسلام ومكارمه.

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (4/ 115) ، كتاب السير، باب الأسارى حديث رقم (1568) ، وابن ماجه في السنن (1/ 689) ، 1- كتاب الكفارات، 16- باب النهي عن النذر حديث رقم (2124) . (2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (4/ 132) ، كتاب السير، باب كراهية المقام حديث رقم (1604) ، وأبو داود في السنن (2/ 394) ، كتاب الجهاد، باب النهي حديث رقم (2645) .

[سورة محمد (47) : آية 33]

وقد جاء القرآن بالترخيص في هذا صريحا في الآية التي معنا. والقول بالنسخ لا حاجة إليه، وقواعد النسخ تأباه، إذ النسخ مشروط- بعد المعارضة- بعدم إمكان الجمع بعد ثبوت التأخر في الناسخ، والتقدم في المنسوخ. وحيث إنه لا معارضة فإنّ لنا أن نقول: إنّ آيات القتال كانت في أولئك الذين كانوا حربا على المسلمين، وأخرجوهم من ديارهم، وظاهروا على إخراجهم، وعاهدوا، ونقضوا عهدهم، أو نقول: إن المصلحة الحربية والتمكين لقاعدة المسلمين (جزيرة العرب) ألا يبقى فيها دينان، قضت بالقتل حتى تطهر الجزيرة. انظر إلى قول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 28] . وبعد فإنّا نرى أن يفوّض إلى أهل الذكر والبصر بالحرب أمر الحرب، ووضع خططها، والتصرف في الأسرى وغيرهم، بحسب ما تقضي المصلحة الحربية، فإن رأوا إبادتهم خيرا أبادوهم، وإن رأوا استرقاقهم استرقوهم، وإن رأوا المفاداة بالمال وبالأسرى فعلوا، فيترك لهم أمر تقدير المصلحة. وما نحسبنا مخطئين إذا قلنا: إنّ الذي كان من النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأعمال المختلفة كان نزولا على مقتضى المصلحة، ولذلك نراه كان يجتهد في تعرّف وجوه المصلحة، فيستشير أبا بكر وعمر، ويختلف أبو بكر وعمر، ويجيء القرآن مؤيدا لأحد الرأيين، وكذلك نزوله على تحكيم سعد بن معاذ، ولو كان الأمر أمر خطة مرسومة، وحدا لا يتخطّى، لما كان هناك معنى للاستشارة، ولا للنزول على الرضا بالتحكيم ولما خالف في الحرب الواحدة بين أسير وأسير، فقتل هذا ومنّ على غيره. فالمصلحة العامة وحدها هي المحكّمة، وهي الخطة التي تتّبع في الحروب، خصوصا والحرب مكر وخديعة، وما دامت مكرا وخديعة فليترك للماكرين وضع خطط المكر والخديعة، ولا يرسم لهم كيف يمكرون، وإلا ما كانوا ماكرين. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إطاعة الله ورسوله امتثال أوامرهما واجتناب نواهيهما. وقد نهى الله المؤمنين في الآية الكريمة عن إبطال أعمالهم، وذلك يدل بظاهره على أنّ من شرع نافلة، ثم أراد تركها، ليس له ذلك. واختلف العلماء: فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنّ له ذلك، قال الشافعي هو تطوّع: و «المتطوّع

أمير نفسه» «1» وإلزامه إياه مخرج عن وصف التطوع ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة: 91] . وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه ليس له ذلك. وقال المالكية والحنفية: هو أمير نفسه، ولا سبيل عليه قبل أن يشرع، أمّا إذا شرع فقد ألزم نفسه، وعقد عزمه على الفعل، فوجب عليه أن يؤدي ما التزم، وأن يوفي بما عقد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] والله أعلم.

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 109) ، كتاب الصوم، باب ما جاء في إفطار الصائم حديث رقم (732) .

من سورة الحجرات

من سورة الحجرات قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) اشتملت سورة الحجرات على إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وبيّنت لهم أقوم الطرق التي يسلكونها في حياتهم الدنيا، وخير المناهج التي ينتهجونها في معاملتهم، فبيّنت لهم أنواعا من الأدب، تختلف باختلاف من تكون المعاملة معه. وذلك أنه إمّا أن تكون المعاملة: مع الله تعالى، أو مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو مع غيرهم من بني آدم وهؤلاء على قسمين، لأنهم إما مؤمنين ملتزمين الطاعة، أو خارجين عن حدودها وهؤلاء هم الفاسقون. والمؤمن الذي التزم حدود الطاعة إما أن يكون حاضرا أو غائبا، فهذه خمسة أصناف. وقد جاء خطاب المؤمنين ب (يا أيها الذين آمنوا) في هذه السورة خمس مرات، بيّن تعالى في كلّ مرّة مكرمة تتناسب مع من تكون المعاملة معه. - فقال في جانب الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم إنما جيء به هنا لأنه الذي يوضّح طريق طاعة الله تعالى. - وقال في جانب المعاملة مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ. - وقال في جانب المؤمن الخارج عن حدود الطاعة (الفاسق) : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا. - وقال في جانب المعاملة مع المؤمنين الحاضرين: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ. - وقال في جانب الغائب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ.

ومن أراد أن يقف على المكرمتين الأوليين فليطلبهما في كتب التفسير. ولنبدأ بالآية التي معنا. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) . يحذّر الله المؤمنين في هذه الآية، ويرشدهم إلى وجوب عدم الاعتماد على أقوال الكذبة الفاسقين، فإنّ الاستماع إليهم يوقع الفتنة بين المؤمنين، فيفشلوا، وتذهب ريحهم، وتتمكن العداوة والبغضاء من نفوسهم، وحينئذ يعضّون أصابعهم ندما، ولا ينفع الندم. وقد يبدو أنّ مقتضى الترتيب أن تؤخّر آية الفاسق بعد آيات المؤمنين، ولكن لما كان الاستماع إلى الفاسق والاعتماد عليه قد يؤدي إلى فتنة وفساد كبير قدّم الكلام فيه، اعتناء بأمر المسلمين، واهتماما بأمر سلامتهم من الفتن، التي يجرّها الاعتماد على من يوضعون خلال المؤمنين، يبغونهم الفتنة. وقد روي في سبب نزول هذه الآية ما أخرجه أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني وغيرهم «1» بسند جيّد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، فدعاني إلى الزكاة، فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته، وترسل إليّ يا رسول الله رسولا لإبّان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول فلم يأت، فظنّ الحارث أن قد حدث فيه سخطة من الله عزّ وجلّ ورسوله، فدعا بسروات قومه، فقال لهم: بأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان وقّت لي وقتا يرسل إليّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعث رسول الله الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وهو أخو عثمان رضي الله عنه لأمه إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد إلى أن بلغ بعض الطريق فرق، فرجع، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّ الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي. فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه حتّى استقبله البعث، وقد فصل عن المدينة، قالوا: هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟

_ (1) انظر المسند للإمام أحمد بن حنبل (4/ 279) .

قالوا: إليك، قال: ولم؟ قالوا: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنّك منعته الزكاة، وأردت قتله قال: لا والذي بعث محمدا بالحق، ما رأيته بتة، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «منعت الزكاة، وأردت قتل رسولي؟» قال: لا والذي بعثك بالحق، ما رأيته ولا رآني، ولا أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خشية أن تكون سخطة من الله عزّ وجلّ ورسوله، قال: فنزلت الحجرات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ. ولم يختلف الذين رووا أسباب النزول في أنّ الوليد بن عقبة بن أبي معيط كان الشخص الذي جاء بالنبإ، إنما اختلفوا في أسباب قوله، فمنهم من روى أنّه خاف وفرق حين رأى جماعة الحارث وقد خرجت في انتظاره، فظنها خرجت لحربه، ومنهم من روى أنّه كان بينه وبينهم موجدة في الجاهلية، فجاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: إنّهم قد تركوا الصلاة، وارتدوا، وكفروا بالله، فلم يعجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعث خالد بن الوليد إليهم، وقال: «ارمقهم عند الصلاة، فإن كان القوم قد تركوا الصلاة فشأنك بهم، وإلا فلا تعجل عليهم» . وهنا يختلف الذين رووا سبب النزول مرة أخرى، فيروي بعضهم ما قدمنا من أنّهم قدموا، وقابلوا البعث حيث فصل من المدينة. ويروي بعض آخر أنّ خالد بن الوليد رضي الله عنه خرج إليهم، ودنا منهم عند غروب الشمس، فكمن حيث يسمع الصلاة، فرمقهم، فإذا هو بالمؤذن قد قام حين غربت الشمس، فأذّن ثم أقام الصلاة، فصلوا المغرب. فقال خالد: ما أراهم إلّا يصلون، فلعلهم تركوا غير هذه الصلاة، ثم كمن حتى إذا جنح الليل وغاب الشفق أذّن مؤذنهم، فصلوا. فقال: فلعلهم تركوا صلاة أخرى، فكمن حتى إذا كان في جوف الليل تقدّم حتى أطل الخيل بدورهم، فإذا القوم تعلّموا شيئا من القرآن، فهم يتهجدون به من الليل، ويقرؤونه. ثم أتاهم عند الصبح فإذا المؤذن حين طلع الفجر قد أذّن ثم أقام، فقاموا فصلوا، فلما انصرفوا وأضاء لهم النهار إذا هم بنواصي الخيل في ديارهم، فقالوا: ما هذا؟ قال: خالد بن الوليد. قال: يا خالد ما شأنك؟ فقال: والله أنتم شأني، أتي النبي صلّى الله عليه وسلّم فقيل له: إنكم كفرتم بالله وتركتم الصلاة، فجعلوا يبكون، فقالوا: نعوذ بالله أن نكفر بالله أبدا، فصرف الخيل وردّها عنهم، حتى أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأنزل الله قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا «1» . وقد عرفت مرارا أنّ الآية تكون عامة، وإن نزلت على سبب خاص، ما دام

_ (1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (6/ 89) .

لفظها عاما، وقد قال الحسن: فو الله لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة إنّها لمرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء. والفاسق: الخارج من حدود الشرع، من قولهم: فسق الرطب: إذا خرج عن قشره، وسمي به الفاسق لانسلاخه عن الخير، والفسق أعمّ من الكفر، لأنه يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير، ولكن تعورف فيما كان بكثيره، يكثر ما يقال لمن كان مؤمنا، ثم أخلّ بجميع الأحكام أو ببعضها. والتبين: طلب البيان، وقد قرئ (فتثبتوا) بدل فَتَبَيَّنُوا وهما متقاربان، إذ التثبت طلب الثبات، وما كان ثابتا كان قريب المعرفة. ويرى بعض اللغويين أنّه لا يقال للخبر نبأ حتى يكون ذا فائدة عظيمة، ويكون معنى الآية: إن جاءكم أيّ فاسق بنبإ عظيم، له نتائج عظيمة، فلا تقبلوه بادئ الأمر، بل توقّفوا فيه، وتثبتوا، حتى تأمنوا العاقبة. والتعبير بكلمة (إن) التي هي (للشك) للإشارة إلى أنّ الغالب في المؤمن أن يكون يقظا، يعرف مداخل الأمور، وما يترتّب عليها، وإذ يكون هذا شأن المؤمنين فلا يجيئهم كاذب يكذب عليهم، وإن وقع ذلك يكون على ندرة وقلّة. وقوله تعالى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ تعليل للأمر بالتبين، وهو إمّا مقدّر فيه لام التعليل قبل (إن) و (لا) النافية بعدها، أي فتبينوا لئلا تصيبوا، وإما مقدر فيه (الكراهة) أي كراهة أن تصيبوا. وقوله: بِجَهالَةٍ أي متلبسين بجهالة، أي جاهلين حالهم، أو تصيبوهم بسبب جهالتهم أمرهم وما هم عليه. و (أصبح) هنا بمعنى (صار) والمعنى: فتصيروا من بعد تبيّن الأمر نادمين، ويستمر معكم هذا الندم. والندم ضرب من الغم، وهو أن يلحق النادم الغمّ على ما وقع منه، يتمنى أنه لم يقع، وهو غمّ يصحب الإنسان صحبة لها دوام ولزوم، لأنه كلما تذكر فعله راجعه الندم. وقد استدلّ بالآية على أنّ الفاسق أهل للشهادة، وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة، قاله الآلوسي، وقال الأثري: إنّ العبد إذ شهد لا تقبل شهادته، ولا يحتاج فيها إلى التبيّن. ومذهب الحنفية «1» أنّ الفاسق لا تقبل شهادته وإن كان أهلا لها، ولو قضى بها القاضي كان عاصيا، وينفذ قضاؤه، وتقبل شهادته عندهم في النكاح، لأنّ الشهادة من باب الولاية، وهو لمّا جاز أن يكون وليا على الزوجة في مالها، جاز أن يلي عليها في بضعها، وعبارته في النكاح عبارة، وتعبير عن ثبوت العقد لا إلزام فيها، ومن مذهبهم ألا تقبل الشهادة من الفاسق فيما فيه إلزام، والإلزام الذي في النكاح لم يجئ من الشهادة، وإنما جاء من التزام المتعاقدين في العقد.

_ (1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1- 2/ 131) .

واستدلّ بالآية أيضا على قبول خبر الواحد العدل، وتقرير الاستدلال بها من وجهين: الأول: أنه قد رتب الأمر بالتبين على مجيء الفاسق لنبأ، فيفيد ذلك أن الفسق علة للتبين، ومعنى كون الشيء علة لشيء آخر، أن يكون له تأثير في وجوده، لا يوجد إلا معه، وإلا فلو وجد دونه لما كان علة له، والفرض أنّه العلة. وقد رد هذا بأنّ إثبات العلية بطريق ترتّب الحكم على الوصف إثبات بظني، ولا ينهض حجة في إثبات أصل من الأصول، ولأنّ الاقتصار على شيء لا ينفي ثبوت الحكم فيما عداه. والثاني أن التبين مشروط بمجيء الفاسق، ومفهوم هذا الشرط انعدام الأمر بالتبين عند عدم الشرط، فيثبت انعدام التبين في خبر الواحد العدل فيكون مقبولا، وهو مردود، بأنّ ذلك قول ناشىء من اعتبار مفهوم المخالفة حجة، وهو مختلف فيه، فلا يثبت به أصل من الأصول، لأنّ الظواهر لا تكفي في إثبات المسائل العلمية. واستدل الحنفية بالآية على قبول خبر الواحد المجهول الحال، لأنّها دلت على أنّ الفسق شرط وجوب التثبت والتبين، فيقتصر فيه على محل وروده، ويبقى ما وراءه على الأصل، وهو القبول. وأنت ترى أنّ هذا استدلال مبني على أنّ الأصل العدالة. والخصم ينازعهم فيه، ويقول: بل الأصل عدمها، والظاهر أنّ مسألة قبول المجهول مبنية على هذا، فإن صحّ أنّ الأصل العدالة، فهو باق على عدالته، حتى يتبين خلافها، وإن كان الأصل عدمها، فهو داخل في الفسق، ويكون المراد منه من لم تتبيّن عدالته. واستدلّ بالآية أيضا على أنّ من الصحابة من ليس بعدل، لأن الله تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة، فإنّها نزلت فيه، وسبب النزول لا يمكن إخراجه من اللفظ العام، وهو صحابي بالاتفاق، وتكون الآية ردّا على قول من ذهب إلى أنهم كلهم عدول ولا نبحث عدالتهم في رواية ولا شهادة. والمسألة خلافية، وفيها أقوال كثيرة: أحدها، هذا وعليه أكثر العلماء سلفا وخلفا. والثاني: أنّهم كغيرهم، فيبحث على العدالة فيهم كما يبحث عنها في غيرهم رواية وشهادة، إلا من يكون ظاهر العدالة أو مقطوعها كالشيخين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. وثالثها: أنهم عدول إلى زمن عثمان، ويبحث عن عدالتهم من مقتله. ورابعها: أنهم عدول إلا من قاتل عليا والمسألة لها موضع غير هذا، ولكل أدلته وبراهينه.

ثم إنّ الفاسق قسمان: قسم فاسق غير متأوّل، وهذا لا خلاف أنه لا يقبل خبره. وقسم فاسق متأوّل: كالجبرية والقدرية، ويقال له: المبتدع بدعة واضحة، وهذا قد اختلف فيه، فمن الأصوليين من ردّ شهادته وروايته، ومنهم من قبلهما. فأما الشهادة فلأنّ ردها لتهمة الكذب، والفسق من حيث الاعتقاد لا يدل عليه، بل قد يكون أمارة الصدق، لأنّ الذي جعله يذهب مذهبه هو تعمقه في الدين، والكذب حرام في كلّ الأديان، ومن المبتدعة من يقول: بكفر الكاذب. وأما الرواية: فلأنّ من احترز عن الكذب على غير الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو على الرسول صلّى الله عليه وسلّم أشدّ تحرّزا، فهذا يجب أن يكون حالهم ما لم يظهر منهم ما ينافيه، وعلى هذا جمهور أهل الفقه والحديث. وذهب الشافعي وبعض العلماء إلى الأول، لأنّ الآية إنما دلّت على التثبت من قول يقوله الفاسق، وظاهر أنّ ذلك إنما كان لأنّ الغالب في الفاسق أن يكذب، فإذا ظهر أنه ممن لا يكذب، فالآية لم تعرض له، والذين تقبل شهادتهم من المبتدعة قوم يتشدّدون في الدين، لا يبيحون الكذب، فلم يكونوا ممن تناولته الآية الكريمة. وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) . يرى الزمخشري أنّ الجملة المصدّرة (بلو) لا تكون كلاما مستأنفا، لأدائه إلى تنافر النظم. ولكن تكون كلاما متصلا بما قبله، وهي هنا (حال) من أحد الضميرين في (فيكم) المستتر المرفوع، أو البارز المجرور. والمعنى: أنّ فيكم رسول الله على حال يجب عليكم تغييرها، وهي أنّكم تحاولون معه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعنّ لكم من رأي، وينزل على إرادتكم فعل المطواع لغيره، التابع له فيما يرتئيه. وهو لو فعل ذلك لعنتم، ووقعتم في العنت والهلاك، يقال: فلان يتعنّت فلانا، أي يطلب ما يؤديه إلى الهلاك. ويقال: أعنت العظم إذا هيض بعد الجبر. وقد يستفاد من هذا أنّ بعض المؤمنين كانوا يزيّنون للرسول صلّى الله عليه وسلّم الإيقاع بقوم الحارث وتصديق الوليد في نبئه، وأنه كانت تفرط منهم نظائر ذلك من الهنات، وأنّ فريقا منهم كان يتصوّن، ويزعم إيمانهم، وجدّهم في التقوى فلا يجسرون على ذلك، وسيأتي بيان ذلك عند قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ.

ويرى بعضهم أنه يجوز أن يكون قوله: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ كلاما مستأنفا، وذلك أنّه لما قال الله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ثم قال: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ كان ذلك بمثابة أنّ طريق الكشف والتبيّن سهل وممكن، وهو الرجوع إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم. لأنه فيكم، يبيّن لكم، ويرشدكم، وفي ذلك تنزيل لهم منزلة الجاهلين بمكان الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيهم، وبوظيفته من البيان والإرشاد بينهم. فاتجه من ذلك: أن يسأل سائل: ماذا فعلوا حتى نسبوا إلى التفريط، وقرّعوا بجهل منزلة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيهم؟ فجاء قوله تعالى: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ مومئا إلى ما كان منهم من محاولة أن ينزل الرسول صلّى الله عليه وسلّم على رأيهم في الذي يرون، واتباع إشارتهم فيما يقولون. وذلك أنّه بيّن لهم النتيجة التي تترتب على نزوله على إرادتهم، والخضوع لإشارتهم، فقال: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وأنت ترى أن هذا القول وإن كان حسنا من حيث المعنى، إلّا أن فيه تغاضيا عن أنّ قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ معطوف (بالواو) وهو مرتبط بما قبله، وفيما ذهب إليه هذا البعض ما يفضي بترك العطف. وظاهر كذلك أنّ ما ذهبوا إليه فيه إضمار لا حاجة إليه، ولا ضرر في جعل الجملة لَوْ يُطِيعُكُمْ حالا من أحد الضميرين، على ما ذهب إليه الزمخشري «1» . والمعنى على أحد الوجهين: هو جعلها حالا من الضمير المستتر، وأمّا الوجه الآخر فالمعنى: (واعلموا أنّ فيكم رسول الله) حال كونكم على حال تتنافى مع مقامه بينكم، تلك الحال هي إرادتكم أن ينزل على إرادتكم، وذلك ضارّ بكم، يترتب عليه عنتكم وهلاككم. وجاء قوله: (لو يطيعكم) على صيغة المضارع بدل الماضي للدلالة على أنهم كانوا يريدون إطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لهم إطاعة مستمرة، بدليل قوله تعالى: فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ وذلك أن صيغة المضارع تفيد التجدد والاستمرار، تقول: فلان يقري الضيف ويحمي الحريم، تريد أنّ ذلك شأنه، وأنّه مستمر على ذلك. وقوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ استدراك على ما يقتضيه الكلام من وقوع العنت بهم. والمعنى: أنّ ما هم عليه كان يقتضي هلاكهم، ولكن منع من ذلك أنّ الله هدى فريقا منهم، وحبّب إليه الإيمان، فآمن، وزينه في قلبه، فأقام عليه، فلم يكن شأنه شأن أولئك الذين يريدون قلب الأوضاع، بأن يتّبعهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الذي يرون.

_ (1) في تفسيره الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (4/ 361) .

وكان الظاهر على هذا المعنى أن يقول: ولكنّ الله حبّب إلى بعضكم الإيمان، ولكنّه عمّم الخطاب تعريضا بمن فرط منه ذلك، وإشارة إلى أنهم وقد دخلوا في الإيمان واستقر الإيمان في قلوبهم ما كان ينبغي أن يكون ذلك شأنهم، فاستغني عن التنصيص على خطاب البعض لذلك، وأيضا فإنّه لما ذكر الصفة التي تميز هذا الفريق اكتفى بها عن التنصيص على الموصوف، مراعاة لما في تعميم الخطاب من فائدة التعريض. ويرى بعضهم أنّ الخطاب لجميع المؤمنين، والمعنى عليه: أنّه لم يلحقكم العنت، لأنّه يعلم أنّه لم يدفعكم إلى ما أنتم فيه إلا حبّكم الإيمان، ومقامه في قلوبكم، وكرهكم الكفر، ونفرتكم من الفسوق والعصيان. ومعنى تحبيب الإيمان إليهم تقريبه لهم، وإدخاله في قلوبهم، ومعنى تزيينه في قلوبهم إقامته فيها، بحيث لا يفارقها، وذلك أنّ من أحبّ شيئا فقد يفارقه، ولكن إذا زيّن له يستمر في الإقامة عليه والمكث فيه. وقد ذكر الله الإيمان، وقابله بأمور ثلاثة كرهها إليهم، وهي: الكفر، والفسوق، والعصيان. والإيمان اسم لثلاثة أشياء: التصديق بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح. فالكفر هو الإنكار، وهو يقابل الإذعان بالجنان. والفسوق يقابل الإقرار باللسان، وقد سبق إطلاق الفسق على المجيء بالنبإ الكاذب، وسيجيء إيراده بهذا المعنى في قوله: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وذلك يدلّ على استعمال الفسق في الأمر القولي. وهو في هذا المعنى مناسب لاشتقاق كلمة الفسق، فإنّها في أصل وضعها تدلّ على الخروج، مأخوذة من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، فهو يدلّ على الظهور والكذب يظهر ويعرف، فمن ثمّ صحّ إطلاق الفسق عليه. وأما العصيان فهو ترك العمل. ويرى بعضهم أنّ الكفر: الشرك، والفسوق: الكبيرة، والعصيان: الصغيرة. وقوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ الإشارة فيه إلى الفريق الذي حبّب إليه الإيمان، وزيّن في قلبه، والخطاب فيه للرسول صلّى الله عليه وسلّم وفي تسميتهم بالراشدين إشارة إلى أنهم أقاموا على اتباع أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ووقفوا عند إرشاده، وعرفوا مقامه ومكانه بينهم، فاستحقوا الرشد وكانوا راشدين. وفيه تعريض بالفريق الآخر حيث ابتعدوا عما يوصلهم إلى الرشد. فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) قوله: (فضلا) إما منصوب على أنه مفعول له، والعامل فيه فعل مفهوم من قوله (الراشدون) أي وفّقهم الله إلى الرشد، فضلا، منه ونعمة، والعامل فيه حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ويكون قوله: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ جملة اعتراضية، وإما منصوب عل أنّه مصدر من غير لفظ العامل، وهو الراشدون،

وذلك أن الرشد فضل، فكأنه قيل: هم الراشدون رشدا، أو هو مصدر، وعامله محذوف، أي تفضل فضلا، وأنعم نعمة. والفضل: ما في خزائن الله، وهو مستغن عنه، والنعمة: ما يصل من الفضل إلى العبد. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يعلم من يتحرّى الخبر ومن لا يتحراه، ومن يريد الرسول صلّى الله عليه وسلّم على ما تقتضي به الحكمة ومن لا يريده، وهو فوق هذا يعلم الأشياء، ويعلم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بها، ويأمره منها بما تقضي به الحكمة، فيجب أن تقفوا عند أمره، وأن تجتنبوا الاقتراح عليه. قال الله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) لما حذّر الله المؤمنين نتائج الاستماع لنبأ الفاسق، أراد أن يبيّن ما يتدارك به الأمر لو وقع، فقال: وَإِنْ طائِفَتانِ الطائفة: أقل من الفرقة، بدليل قوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: 122] كذا قيل، ولك أن تقول: لولا تقدّم الفرقة ما فهم منه هذا المعنى، فالطائفة الجماعة، والفرقة الجماعة، وقد تكون الجماعة قليلة، وقد تكون كثيرة. والتعبير (بإن) للإشارة إلى أنّه لا ينبغي أن يقع القتال بين المسلمين، وأنه إن وقع فإنما يقع من الندرة والقلة، التي يشكّ في وجودها، وجاء اقْتَتَلُوا بلفظ الجمع، مع أنّ الظاهر مجيئه بلفظ التثنية، لأن الطائفة وإن كان مفردا في اللفظ فهو جمع في المعنى، فروعي فيه المعنى أولا، ثم روعي اللفظ ثانيا، في قوله: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما. (واقتتلوا) بمعنى تقاتلوا، والمراد بالإصلاح في قوله: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما الأولى بذل النصح والإرشاد، وإزالة الشبه التي تكون عند إحداهما، أو عند كليهما، ودعوتهما إلى النزول على حكم الله. فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى البغي: العدوان، والمراد الغلو بغير الحق، وعدم الإذعان للنصيحة فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي استمرّوا في قتالها حتى ترجع إلى حكم الله، أو إلى ما أمر الله به من عدم البغي. فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ بفصل ما بينهما من أسباب الخصومة ونتائجها، ولا تكتفوا بمجرد المتاركة والموادعة، خشية أن تكون إحداهما أو كلاهما تركته تقية، وانتظارا للفرصة تسنح، وتقييد الصلح بالعدل هنا لأنه بعد القتال، وذلك مظنة الحيف، أي لا يحملنكم ما كان منهم من عناد وبغي على أن تظلموهم، ولا على أن

تظلموا عدوّهم لضعفه، بل يجب أن تعدلوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى. وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي اعدلوا، والزموا العدل في كل الأمور، فإنّ الله يحب المقسطين، فيجازيهم أحسن الجزاء. سبب النزول: أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير «1» وغيرهم في سبب نزول هذه الآية عن أنس رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لو أتيت عبد الله بن أبي، فانطلق إليه، وركب حمارا، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليه، قال: إليك عنّي، فو الله لقد آذاني ريح حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه، وغضب للأنصاري آخرون من قومه، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فأنزل الله فيهم: وَإِنْ طائِفَتانِ. وقيل: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم متوجها لزيارة سعد بن عبادة في مرضه، فمر على عبد الله بن أبي بن سلول، فقال ما قال، فرد عليه عبد الله بن رواحة، فتعصّب لكل أصحابه، فتقاتلوا، فنزلت، فقرأها صلّى الله عليه وسلّم فاصطلحوا، وكان ابن رواحة خزرجيا، وابن أبي أوسيا. وقيل: إنّها نزلت في رجل من الأنصار يقال له عمران، وكان تحته امرأة يقال لها: أم زيد، وقد أرادت أن تزور أهلها، فحبسها زوجها، وجعلها في علية له، لا يدخل عليها أحد من أهلها، فبعثت المرأة إلى أهلها، فجاء قومها، فأنزلوها لينطلقوا بها، واستعان الرجل بقومه، فجاؤوا ليحولوا بين المرأة وأهلها، فتدافعوا، وكان بينهم معركة، فنزلت فيهم هذه الآية، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأصلح بينهم، وفاؤوا إلى أمر الله «2» . والخطاب في الآية الكريمة لولاة الأمور، والأمر فيها للوجوب، فيجب الإصلاح بالنصح، فإن أبت إحداهما إلا البغي، وجب قتالها ما قاتلت، فإن رجعت عن بغيها، والتزمت حكم الله تركت. هذا وقد تمسّك جماعة بما جاء في سبب النزول، وقالوا: يقتصر في قتال الفئة الباغية على ما دون السلاح، ولا يجوز مقاتلتهم بالسلاح، وهو لا يصح أن يتمسّك به. فأنت تعلم أنّ الله قال: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ وهو أمر بالمقاتلة إلى

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1424) ، 32- كتاب الجهاد، 40- باب حديث رقم (117/ 1799) ، والبخاري في الصحيح (3/ 221) ، 53- كتاب الصلح، 1- باب ما جاء في الإصلاح، حديث رقم (2691) ، وأحمد في المسند (3/ 157) . (2) انظر تفسير ابن جرير الطبري المسمى جامع البيان في تفسير القرآن (26/ 81) .

الفيئة، فإذا كانوا لا يفيئون إلا بالسيف وجب قتالهم به، لأن الغرض من المقاتلة هو الفيئة، وهي لا تحصل إلا به، وقد وقع من الصحابة قتال البغاة بالسيف، وكفى بهم قدوة، ونزول آية عامة على واقعة خاصة لا يخصص العام، على أنّ القتال إنما شرع عند البغي قمعا للفتنة بين المسلمين، والمفروض أنّ العلاج قد استعصى بالنصح، ويراد اتخاذ علاج حاسم، فليترك الأمر لمن يباشر الحسم، فإن رأى أنّ الدواء يستأصل بما دون السلاح كان مسرفا في الزيادة، وإن رأى أنّ الفتنة لا تدفع إلا بالسلاح فعل حتى الفيئة. واختلفت أقوال الفقهاء في أموال البغاة التي أخذت منهم أثناء قتالهم، فعن الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة: أن أموالهم لا تكون غنيمة. وإنما يستعان على حربهم بكراعهم وسلاحهم عند الاستيلاء عليه، فإذا وضعت الحرب أوزارها ردّ المال عليهم، وكذا يردّ الكراع والسلاح إذا لم يبق أحد باغيا. وروي عن أبي يوسف: أن ما وجد في أيدي أهل البغي من كراع وسلاح فهو فيء يقسّم ويخمس، وإذا تابوا لم يؤخذوا بدم ولا مال استهلكوه. وروي عن الإمام مالك رضي الله عنه: ما استهلكه الخوارج من مال ودم ثم تابوا لم يؤخذوا به، وما كان قائما بعينه ردّ، وهو مروي عن الأوزاعي والشافعي. وقال الحسن بن صالح: إذا قوتل اللصوص المحاربون فقتلوا، وأخذ ما معهم، فهو غنيمة لمن قاتلهم بعد إخراج الخمس، إلا أن يكون شيء قد علم أنّهم سرقوه من الناس، وعرف أصحابه، فإنّه يردّ عليهم. وما استهلك من أموالهم أثناء التجمع للقتال، والتفريق عند وضع الحرب أوزارها، لا ضمان فيه بالإجماع. وقد جاء في حديث أخرجه الحاكم «1» ما يوضّح الحكم في المسألة، فقد جاء فيه قال عليه الصلاة والسلام: «يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة» . فقال: الله ورسوله أعلم. قال: «لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسّم فيئها» . وقد روى عكرمة بن عمار بسنده عن ابن عباس أنّ الخوارج نقموا على علي رضي الله عنه أنّه لم يسب ولم يغنم، فحاجّهم قائلا: أفتسبون أمّكم عائشة، ثم تستحلون منها ما تستحلّون من غيرها؟ فإن فعلتم لقد كفرتم. وقد سئل أبو وائل: أخمّس علي أموال أهل الجمل؟ قال: لا.

_ (1) رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (2/ 155) . [.....]

وإنما ذكر الله العدل في الإصلاح بعد الفيئة، لأنّ هذا وقت قد غلبت فيه الفئة الباغية على أمرها، ويغلب أن تظلم، وتصادر أموالها، وما أخذ منها لا يردّ إليها. فالعدل وذكره هنا بمثابة أن يقال: لا يحملنّكم قهركم إياهم على ظلمهم، فهم طائفة من المؤمنين عصمت دماؤهم، وعصمت أموالهم، وما حصل منهم يكفي فيه قهرهم، وما نالهم من الهزيمة، فتكون الآية حينئذ ظاهرة في أنّه لا يجوز أسرهم بعد الفيئة، ولا يكون مالهم فيئا ولا يضمّنون شيئا. قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) بيّن الله تعالى في الآية السابقة أنّه لو ظهرت بوادر القتال بين طائفتين من المؤمنين، فالواجب إصلاح ذات البين بالنصح والإرشاد، فإن جنحا للسلم، فقد كفى الله المؤمنين القتال، وإن جنحت إحداهما، وبغت الأخرى، فالواجب قتال الباغية حتّى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت ورجعت فالواجب الإصلاح بالعدل، لا يجهز على جريح، ولا يسبى أحد، ولا يقسم الفيء، وهنا بيّن الله تعالى أنّ الإصلاح كما يجب بين الجماعات فهو واجب بين الأفراد، حتّى لا يظنّ ظانّ أنّ الإصلاح إنما يجب عند اختلاف الجماعات والطوائف، لأنّ اختلاف الجماعات شديد البلاء، يخشى منه على المسلمين أن تذهب ريحهم، ويتمكّن منهم عدوّهم. فأمّا إذا كان الخلاف بين فردين فليست له هذه الأهمية، فلا يجب الإصلاح، فدفعا لهذا الوهم قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وقد ذهب بعض أهل اللغة، إلى أنّ إخوة جمع الأخ من النسب، وأما الأخ بمعنى الصديق فجمعه إخوان، فجعل الله الإخوة في الإسلام إخوة في النسب، فأعطاها اسمها توكيدا لأمر المحافظة عليها، وإشارة إلى أنهم في الإسلام إخوة، وأن الإسلام ينتمون إليه كما ينتمي الإخوة إلى أبيهم. أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم وزيادة في أمر العناية بالإصلاح بين الأخوين ذيّل الله الأمر به بالأمر بالتقوى، لأنّه لما لم يكن عاما فقد لا يخشى ضرره، فلا يتسارع الناس إلى إزالته، فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يعني والله أعلم: فأصلحوا بينهما، وليكن رائدكم في هذا الإصلاح تقوى الله وخشيته، والخوف منه، فالتزموا الحق العدل، ولا تحيفوا، ولا يكن منكم ميل لأحد الأخوين، فإنّهم إخوانكم، وليس أحدهما بالنسبة إليكم فاضلا والآخر مفضولا، إذ الذي جمع بينكم وبينهما الإسلام، وفي الإسلام تذهب الفوارق وتتلاشى. الحصر (بإنما) يفيد أنّ أمر الإصلاح ووجوبه إنما هو عند وجود الإخوة في الإسلام، فأما بين الكفار فلا، وأما بين المسلم والكافر، فللمسلم علينا النصرة

والإعانة مطلقا إن كان خصمه حربيا. ونصره وإعانته عند وقوع ظلم عليه إن كان خصمه ذميا أو صاحب أمن. وأما إن كان خصمه ذميا والمسلم ظالم له، فالواجب علينا وضع الظلم، فقد استحق بعقد الذمة أن يكون له ما لنا وعليه ما علينا. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) السخر: الهزء، قيل: وهو النظر إلى المسخور بعين النقص، وقال القرطبي: إنّ السخرية وهي اسم منه، الاستحقار والاستهانة، والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه. والأكثر تعدية فعله (بمن) وهي لغة الكتاب العزيز، كما تدل عليه الآية التي معنا، وقوله تعالى: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ [هود: 38] ويقال: فلان سخرة، بوزن همزة. إذا كان يهزأ به الناس، وقد تكون السخرية بمحاكاة الفعل بالقول والإشارة، أو الضحك على كلام المسخور منه إذا بدا منه تخبط أو غلط، أو على صنعته، أو قبح صورته، ويرى بعضهم أن السخرية ذكر الشخص بما يكره على وجه مضحك بحضرته. ويرى البعض أنّ المراد منها احتقار القول أو الفعل بحضور صاحبه. والآية نزلت في قوم بني تميم، سخروا من بلال وسلمان وعمّار وخباب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة «1» . وقد ذكر فيها النهي عن السخرية بالنساء تتميما لبيان الحكم. وروي أنّها في شأن أمّ سلمة حين سخر منها بعض الصحابيات، وقيل غير ذلك. وقوله عزّ وجلّ: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ تعليل للنهي، أي عسى أن يكون المسخور منه عند الله خيرا من الساخر، ف «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبرّه» وقيل: بل المعنى عسى أن يبدّل الله الحال، ويعكس الأمر، فيصير المسخور منه عزيزا رفيع الجانب، والساخر ذليلا مهانا، وهو حينئذ على حد قوله: لا تهن الفقير علّك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه وقد ذكر الله تعالى النساء مع القوم في الآية، فكان ذلك قرينة على أنّ المراد

_ (1) انظر ما رواه السيوطي في كتابه الدر المنثور في التفسير بالمأثور (6/ 91) .

بالقوم الرجال. ويرى بعضهم أنّ القوم اسم خاصّ بالرجال لا يدلّ على النساء إلا من طريق التغليب، ومنه ما جاء في بيت زهير: وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء وكأنّ هذا المعنى يرجع إلى أنّ لفظ القوم مأخوذ من أنّ الرجل قوّام على المرأة، وهو في الأصل: إما مصدر بمعنى القيام، ثم استعمل في جماعة الرجال، وإما اسم جمع لقائم. وقد جاء النهي عن السخرية موجها إلى جماعة الرجال والنساء، وإن كان حكم الفرد من الفريقين كذلك، جريا على ما كان حاصلا، وما هو الأغلب من وقوع السخرية في المجامع والمحافل. وما دامت علة النهي عامة، فهو يفيد عموم الحكم لعموم العلة. وكلمة (عسى) في مثل هذا التركيب الذي أسندت فيه إلى (أن، والفعل) قيل: تامة، لا تحتاج إلى خبر، و (أن) وما دخلت عليه في محل رفع على الفاعلية. وقيل ناقصة، وسد ما بعدها مسد جزءيها. وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يعب بعضكم بعضا، وقد جعل الله لمز بعض المؤمنين لمزا للنفس، لأنهم كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن أخاه، فكأنّه عاب نفسه. وقد ذكر الله في الآية النهي عن ثلاثة أشياء: عن السخرية، وعن اللمز، وعن التنابز بالألقاب. أما التنابز بالألقاب: وهو التعاير بها، فمغايرته للسخرية واللمز ظاهرة. وأما السخرية واللمز، فقد ذهب العلماء في المغايرة بينهما إلى وجوه، فمنهم من يرى أنّ السخرية احتقار الشخص مطلقا على وجه مضحك بحضرته، واللمز التنبيه على معايبه، سواء أكان على مضحك أم غيره، وسواء أكان بحضرته أم لا، وعلى هذا اللّمز أعم من السخرية، ويكون من عطف العام على الخاص، لإفادة الشمول. ومنهم من يرى السخرية الاحتقار واللمز والتنبيه على المعايب، أو تتبعها، وهو يرى أنّ العطف من قبيل عطف العلة على معلولها. كأنّه قيل: لا يحقّر أحد لعيبه، وهذا الوجه لا يكاد يظهر له كبير معنى. ومنهم من يرى أنّ اللمز خاص بما كان من السخرية على وجه الخفية، وعليه العطف من عطف الخاص على العام، مبالغة في النهي عنه، كأنه جنس آخر. ويرى بعضهم أن المعنى: ولا تأتوا من الأفعال ما يكون سببا لأن يلمزكم الناس، ويكون المعنى لا يسخر أحد من أحد، ولا يفعلنّ أحد ما يقتضي أن يلمزه الناس. وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ التنابز: التعاير، والتداعي بالألقاب، وخصّ في العرف

بالمكروه منها، وقد نقل عن العلماء النصّ على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره، سواء أكان صفة له، أم لأبيه، أم لأمه، أم لكلّ من ينتسب إليه. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ تعليل للنهي، والاسم هنا المراد منه الذكر، والمراد: ذم أن يجتمع اسم الفسوق الذي يلحق الناس بسبب التنابز مع الإيمان، وذلك تغليظ شديد، حيث جعل التنابز فسقا، وفيه من التنفير منه ما لا يخفى. وقيل: بل المعنى: لا ينسبن أحدكم غيره إلى الفسق الذي كان فيه بعد اتصافه بالإيمان، كأنّه قيل: لا تشهّروا بالناس بذكر ما كانوا عليه من فسق بعد ما حصلوا على الإيمان، ويكون ذلك نهيا عن أن ينادى من دخل الإسلام بصفته التي كان عليها، وقد استثني من النهي دعاء الرجل بلقب قبيح لا على سبيل الاستخفاف والإهانة، بأن يكون على قصد التمييز، كقول المحدّثين: سليمان الأعمش. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي من لم يتب عما نهي عنه من الأمور الثلاثة فهو ظالم، وكأنه لا ظالم سواه، لأنه وضع العصيان موضع الطاعة، وعرّض نفسه للعذاب. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يقال اجتنب الشيء أي كان منه على جانب، ثم استعمل في التباعد مطلقا، فمعنى قوله تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ تباعدوا عن كثير من الظن، وجيء بلفظ (كثير) منكّرا، ليحتاط فيه، فيكون بعيدا عن بعض الظن الذي هو إثم إذا ابتعد عن الكثير منه. والظن أنواع: منه ما هو محرّم، ومنه ما هو واجب ومنه ما هو مندوب، ومنه ما هو مباح. فالمحرم: كسوء الظن بالله والعياذ بالله. وسوء الظن بالمسلم مستور الحال، ظاهر العدالة، فقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظنّ بالله عزّ وجلّ» «1» . وعنه أنه قال: «إيّاكم والظنّ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث» «2» . وقد جاء في القرآن الكريم: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يونس: 36] وقال الله تعالى: وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الفتح: 12] وفي الحديث: «إنّ الله تعالى حرّم من المسلم دمه وعرضه وأن يظنّ به ظنّ السوء» .

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 2205) ، 51- كتاب الجنة، 19- باب الأمر بحسن الظن حديث رقم (2877) . (2) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (6/ 92) .

وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أساء بأخيه الظنّ فقد أساء الظنّ بربّه، إن الله تعالى يقول: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ. وقد قدمنا أنّ الممنوع إساءة الظن بالمسلم المستور ظاهر العدالة، وأما من يتعاطى الرّيب، والمجاهرة بالخبائث، فلا يحرم إساءة الظن به، فليس الناس أحرص منه على نفسه، وقد أمر أن يتجنب الريب، وألّا يقف مواقف التّهم، فمن وقف مواقف التهم اتّهم. والظن الواجب: يكون فيما تعبّدنا الله تعالى بعلمه، ولم ينصب عليه دليلا قاطعا، فهنا يجب الظن للوصول إلى المعرفة التي تعبّدنا الله بها، وما غلب على ظنه فهو الذي تعبّدنا الله به. ومن ذلك قبول شهادة العدل، وتحرّي القبلة، وتقويم المستهلكات، وأروش الجنايات التي لم يرد بمقاديرها نصّ عن الشارع. والمندوب من الظن: ظنّ الخير بالمسلم، وقد تقول: ما دام سوء الظن محرّما، فما بال حسن الظن مندوبا؟ ولكن إذا علمت أنّ هناك واسطة، وهو ألا يظن شيئا علمت أنّه لا يلزم التقابل في الحكم. والظنّ المباح: قد مثّلوا له بالشك في الصلاة، وكأنهم يريدون من الظنّ استواء الطرفين، ومثّلوا له أيضا بالظن الذي يعرض في القلب، مما يوجب الريبة، وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا ظننتم فلا تحققوا» أي لا توجدوا أثرا لهذا الظن. وحرمة الظن بالناس إنما تكون إذا كان لسوء الظن أثر يتعدّى إلى الغير، وأمّا أن تظنّ شرا لتتقيه، ولا يتعدّى ذلك إلى الغير، فذلك محمود غير مذموم، وهو محمل ما ورد من أنّ (من الحزم سوء الظن) . و (احترسوا من الناس بسوء الظن) . وما جاء في الحكم: (حسن الظنّ ورطة، وسوء الظنّ عصمة) . وقوله تعالى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ تعليل للأمر باجتناب الظنّ. والإثم الذنب الذي يستحقّ فاعله العقوبة عليه. وَلا تَجَسَّسُوا أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم، وتستكشفوا ما ستروه. والتجسس: تفعل من الجس، وهو بمعنى التحسس على ما قيل، وبعضهم يرى أنهما متغايران، وأن التجسس معرفة الظاهر، وبالحاء تتبع البواطن، وقيل: بالعكس، والأمر مرجعه إلى اللغة. وقد عدّ العلماء التجسس من الكبائر. وقد أخرج أبو داود وغيره عن أبي برزة الأسلمي قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنّه

من يتّبع عوراتهم يتّبع الله عورته ومن يتّبع الله عورته يفضحه في بيته» «1» . وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لا يذكر بعضكم بعضا بما يكره. أخرج مسلم وأبو داود والترمذي «2» وغيرهم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «ذكرك أخاك بما يكره» . قيل: أفرأيت لو كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه» . ومعلوم أنّ المراد من هذا النهي النهي عن الإيذاء بتفهيم الغير معايب المغتاب، وذلك يتناول كلّ طرق الإفهام، وهو يتناول أيضا كلّ ما يكره، سواء في دينه أو دنياه، وفي خلقه أو خلقه، وفي ماله، أو ولده، أو زوجته، أو مملوكه، أو خادمه، أو لباسه، وخصّه بعضهم بما لا يذمّ شرعا من الصفات، فمن ذكر الزاني بأنّه زان لا يكون مغتابا، ولا يحرم عليه هذا الذكر عنده. واستدل لذلك بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اذكروا الفاجر بما فيه، يحذره الناس» . ولم يرفض الجمهور ذلك، وقالوا: الحديث ضعيف لا ينهض حجة: قال أحمد: وهو منكر، وقال البيهقي: ليس بشيء، ولو صحّ فهو محمول على فاجر متهتّك يعلن فجوره وتهتكه. ويرى بعضهم أنّ الذكر بالمكروه يحرم مطلقا في الغيبة والحضور، ونصّ بعض المفسرين على أنه المعتمد، ويكون التقييد بالغيبة خارج مخرج الغالب، إذ إنّ الغالب أن الناس تستحي من أن تذكر أحدا بمعايبه في حضرته. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ هذا مثال ذكره الله تنفيرا من الغيبة، وتبعيدا منها، وهو مثل بالغ النهاية في تأدية المراد، قد وضّح فيه ما يصدر من المغتاب من حيث صدوره عنه، ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه تستقبحه العقول، وتنفر منه الطباع، وتنكره الشرائع، وقد ذكر المثل على سبيل الاستفهام التقريري، وهو لا يقع إلّا في كلام مسلّم عند السامع، حقيقة أو ادّعاء، وقد أسند في المثل الفعل إلى أحد إيذانا بأنّه لا يستقر في طبع أحد كائنا من كان أن يقدم على أن يأكل لحم إنسان، فضلا عن أن يحبه، وما بالك به إذا كان المأكول لحم أخيه؟ لا

_ (1) رواه أبو داود في السنن (4/ 292) ، كتاب الأدب، باب في الغيبة حديث رقم (4880) ، وأحمد في المسند (4/ 421) . (2) رواه مسلم في الصحيح (4/ 2001) ، 45- كتاب البر، 20- باب تحريم الغيبة حديث رقم (70/ 2589) ، والترمذي في الجامع الصحيح (4/ 290) ، كتاب البر، باب الغيبة حديث رقم (1934) ، وأبو داود في السنن (2/ 290) ، كتاب الأدب، باب في الغيبة حديث رقم (4874) .

شك أنه يكون أشنع، وماذا تكون الشناعة إذا كان الأخ ميتا؟ إنّها تكون شناعة ما فوقها شناعة. فقد بيّن الله بهذا المثل أوضح بيان أنّ وقوع المغتاب في عرض الناس بذكر معايبهم يشبه أن يكون أكلا للحومهم، وهم إخوته، وليتهم كانوا حاضرين، بل هو إنما ينهش أعراضهم وهم غائبون، فهو كالكلب ينهض لحوم الجيف. ولو عقل الناس هذا المثل، وما استعمل فيه من طرق التنفير ما أقدموا على الغيبة. والفاء في قوله تعالى: فَكَرِهْتُمُوهُ فإن الفصيحة مقدّر معها (قد) وهي واقعة في جواب شرط مقدّر، أي إن عرض لكم هذا فقد كرهتموه، ولا يمكنكم إنكار كراهته. وبعضهم: إنّ المعنى فأنتم تكرهونه، ويكون الكلام تصريحا بجوابهم عن الاستفهام، كأنّهم قالوا: لا نحب، فقال الله تعالى: فأنتم كرهتموه، وعبر بالماضي للمبالغة. وَاتَّقُوا اللَّهَ عطف على مقدّر، كأنه قيل: امتثلوا ما أمرتم به، ونهيتم عنه، واتقوا الله إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ تعليل للأمر بالتقوى، وتوّاب: معناه كثير القبول لتوبة من تاب. والغيبة محرّمة بنص إلهيّ في الآية الكريمة، وقد نقل القرطبي «1» الإجماع على أنها من الكبائر. والغزالي: يرى أنّها من الصغائر، وهو عجيب من عمدة الأخلاق الغزالي، ولعلّه أراد أن يخفف على الناس لمّا رأى فشوها فيهم، لا يخلو منهم من لا يرتكبها إلا النادر، ولكنّا ما علمنا أنّ إطباق الناس على منكر يكون سببا في تخفيفه ولو لم يرد فيها من دلائل التحريم غير ما ذكر في هذه الآية وأنّها من أشنع القبائح لكان ذلك كافيا في كونها من الكبائر. وليس لأحد أن يتعلّق بما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد «2» عن أبي بكرة أنّه قال: بينما أنا أماشي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو آخذ بيدي، ورجل عن يساري، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير» وبكى إلى أن قال: وما يعذبان إلا في الغيبة والبول إذ المراد أنهما ما كان يكبر عليهما أن يتجنّبا سبب هذا العذاب، فكان أحدهما لا يستنزه من البول، وإنّه ليسير، وكان الآخر لا يبتعد عن الغيبة، وما هو عليه بعسير. ولو أنّ الإمام الغزالي رحمه الله ذهب إلى أنّ بعضها ليس بكبيرة، بل هو من الصغائر لكان الأمر هينا فإنّك عرفت أنّ الغيبة إنما نهي عنها من أجل الإيذاء، وهو مراتب، فلن يكون ذكر معايب الثوب أو القربة مثلا ببالغ حدّ الخوض في العرض من جهة الإيذاء، فالغيبة حرام، ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة والاستغفار منها.

_ (1) انظر الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي (16/ 337) . (2) رواه الإمام أحمد في المسند (5/ 39) .

وقد أخرج العلماء أشياء لا يكون لها حكم الغيبة فيما إذا كان العيب لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا به. فمن ذلك التظلم: فلمن ظلم أن يشكو لمن يظنّ منه القدرة على إزالة ظلمه. ومنه الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على تغييره. ومنه الاستفتاء: كأن يقول للمفتي ظلمني فلان بكذا، فما طريق الوصول إلى حقي؟ ومنه أن يكون صاحب العيب مجاهرا بالمعصية، كشربه الخمر- للذين يتظاهرون-. ومنه جرح الرواة والمصنفين والمفتين مع عدم الأهلية، وكلّ ما فيه تحذير المسلمين من الشر، إذا تعين ذلك طريقا له. هذا وقد اشتملت الآية الكريمة على الأمر باجتناب الظنّ باجتناب أثره، ثم النهي عن طلب تحقيق ذلك الظن بقوله: ولا تجسسوا ثم النهي عن ذكر ما عسى أن يكون المتجسس قد وقف عليه، فهذه ثلاثة مترتبة: ظنّ، فعلم من طريق التجسس، فاغتاب.

من سورة الواقعة

من سورة الواقعة قال الله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) قبل أن نتكلّم عن تفسير الآيات نقول: قد ورد القسم على هذا النحو في القرآن الكريم كثيرا، منه قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) [الانشقاق: 16، 17] وفَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) [التكوير: 15، 16] ولا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) [القيامة: 1] وفَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) [الحاقة: 38] وفَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ [المعارج: 40] ولا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) [البلد: 1] . وقد جاء على غير هذه الصورة، أي من غير (لا) النافية، ومن غير الفعل (أقسم) . وقد جاء القسم على أنواع: إمّا قسم الله بنفسه موصوفا بالربوبية فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ [الذاريات: 23] والقسم هنا على مضمون جملة خبرية فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) [الحجر: 92، 93] . وإمّا قسم بالذّات معنونة بلفظ الجلالة: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء: 57] وتارة يكون القسم بأشياء من خلقه: (كالصافّات) (والطور) (والذاريات) (والنجم) و (مواقع النجوم) و (الشمس وضحاها) و (الفجر) و (البلد) و (القيامة) و (التين والزيتون) . وتارة يكون القسم بالقرآن موسوما باسمه يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) [يس: 1، 2] ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) [ص: 1] ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) [ق: 1] أو موسوما باسم الكتاب حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) [الزخرف: 1، 2 والدخان: 1، 2] . ومهما يكن المقسم به فالمقسم عليه لا يعدو أن يكون من أصول الإيمان التي يجب على الخلق معرفتها، فهو تارة يكون قسما على التوحيد، كقوله تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) [الصافات: 1- 4] . وتارة يكون قسما على أنّ القرآن حقّ، كقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) وقوله: حم (1)

وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ [الدخان: 1- 3] وقوله: حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف: 1- 3] على بعض الوجوه في جواب القسم. وتارة يكون المقسم عليه أنّ محمدا رسول يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) [يس: 1- 3] . وتارة يكون المقسم عليه نفيا لصفة ذميمة عن الرسول الأكرم ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) [القلم: 1، 2] ووَ النَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) [النجم: 1، 2] ومن هذا قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ (41) [الحاقة: 38- 41] . وتارة يكون المقسم عليه الجزاء والوعد والوعيد مثل قوله تعالى: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) [الذاريات: 1- 5] ومنه قوله: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) [الذاريات: 23] ومنه: إلى قوله: إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) [المرسلات: 1- 7] ومنه وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) إلى قوله: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) [الطور: 1- 8] . هذا وقد أمر الله نبيّه أن يقسم على الجزاء والمعاد في ثلاثة مواضع، قال: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن: 7] وقال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ: 3] وقال تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس: 53] . وقد جاء المقسم عليه أحوالا من أحوال الإنسان التي هو عليها: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) [الليل: 1- 4] . ووقع القسم على صفة الإنسان: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) [العاديات: 1- 6] . وجاء القسم على عاقبة الإنسان: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التين: 1- 6] وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) [العصر: 1- 3] . قد أردنا بهذا الذي ذكرنا أن نريك فنون القسم في القرآن، سواء في المقسم به والمقسم عليه، ولولا الإطالة في غير الموضوع المقرّر لذكرنا لك شيئا من فنون القرآن

الكريم في جواب القسم، وإنّه تارة يكون إنشاء، وتارة يكون خبرا، وتارة يكون مذكورا، وتارة يكون محذوفا، لكنّ ذلك يحتاج إلى الشرح والإيضاح، فيطول، ونريد أن نرجع إلى القول في الذي معنا. فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) . قد أطلعناك على أمثلة كثيرة من هذا النوع من القسم في القرآن الكريم، ويمتاز ما معنا بأنه قيل فيه صراحة وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) فكان هذا دليلا على أنّ هنا قسما وحلفا مثبتا، وأنّ الكلام إثبات قسم لا نفي قسم. ولقد كانت الصورة الظاهرة صورة نفي القسم مجالا فسيحا للعلماء، أجهدوا فيه قرائحهم، وأبدوا آراءهم في بيان المراد، والجمع بينه وبين قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) فذهب بعضهم إلى أنّ (لا) زائدة، مثلها في قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ [الحديد: 29] معناه ليعلم، والمعنى هنا: فأقسم بمواقع النجوم، والقول بالزيادة يكاد لا يرتضيه أحد. وذهب بعضهم إلى أن (لا) هي لام القسم بعينها، أشبعت فتحتها، فتولدت منها الألف، نظير الألف في قول الشاعر: أعوذ بالله من العقراب حيث أشبعت فتحة الراء، فتولّدت منه الألف، وحينئذ تتحد القراءتان، قراءة مدّ اللام وعدم مدها في المعنى، ويكون المد مدّ إشباع، ويكفي في ضعف هذا القول اعتراف قائليه بقلّة هذا التوليد في لغة العرب. على أنّ هذا يوقعنا في شيء آخر، لا يقرّه النحويون، وهو خلوّ فعل القسم إذا كان مستقبلا من النون، فإنّ النحاة يقولون: إذا وقع الفعل مستقبلا مقرونا باللام في حيّز القسم وجب اتصال الفعل بنون التوكيد، وحذفها ضعيف جدا، حتى لقد اضطروا إلى تخريج القراءة الأخرى لاقسم على أنّ اللام للابتداء، وليست للقسم، وقالوا: إنّها داخلة على مبتدأ محذوف، والمعنى: فلأنا أقسم، وإن كان هذا التخريج لا يخلو من شيء. وقيل: بل النفي على حاله، و (لا) نفي لمحذوف، هو ما كان يقوله الكفار في ذم القرآن، من أنّه سحر وشعر وكهانة. ثم استؤنف الكلام بعد ذلك، ويكون حاصل المعنى: فلا صحة لما يقولون، أقسم بمواقع النجوم إلخ وفوق أن الحذف لا دليل عليه، فهو لا يتفق مع ما يقول النحاة من أنّ اسم لا وخبرها لا يصحّ حذفهما، إلا إذا كانا في جواب سؤال، كما تقول: هل من رجل في الدار؟ فنقول: لا. على أنّ علماء المعاني يقولون في مثل هذا الموضع: إنّ العطف بالواو متعيّن، كما يقال: هل شفي فلان من مرضه فيقال: لا، وأطال الله بقاءك.

ويرى الفخر الرازي «1» أن كلمة (لا) هي نافية على معناها، غير أن في الكلام مجازا تركيبيا، وتقديره أن نقول: (لا) في النفي هنا مثلها في قول القائل: لا تسألني عما جرى عليّ، يشير إلى أن ما جرى عليه أعظم من أن يشرح فلا ينبغي أن يسأله، فإن غرضه من السؤال لا يحصل، ولا يكون غرضه من ذلك النهي إلّا بيان عظمة الواقعة، ويصير كأنه قال: جرى عليّ أمر عظيم، ويدل عليه أن السامع يقول له: ماذا جرى عليك، ولو فهم من حقيقة كلامه النهي عن السؤال لما قال: ماذا جرى عليك، فيصحّ منه أن يقول: أخطأت حيث منعتك عن السؤال، ثم سألتني وكيف لا، وكثيرا ما يقول ذلك القائل الذي قال: لا تسألني عند سكوت صاحبه عن السؤال، أو لا تسألني، وتقول: ماذا جرى عليك؟ ولا يكون للسامع أن يقول: إنك منعتني عن السؤال: كل ذلك تقرّر في أفهامهم: أنّ المراد تعظيم الواقعة لا النهي. إذا علم هذا فنقول في القسم: مثل هذا موجود من أحد وجهين: إما أن لكون الواقعة في غاية الظهور، فيقول: لا أقسم بأنه على هذا الأمر، لأنه أظهر من أن يشهر، وأكثر من أن ينكر، فيقول: لا أقسم، ولا يريد به القسم ونفيه، وإنما يريد الإعلام بأن الواقعة ظاهرة، وإما لكون المقسم به فوق ما يقسم به، والمقسم صار يصدق نفسه فيقول: لا أقسم يمينا بل ألف يمين، ولا أقسم برأس الأمير برأس السلطان، ويقول: لا أقسم بكذا، مريدا لكونه في غاية الجزم. والثاني: يدل عليه أنّ هذه الصيغة لم ترد في القرآن، والمقسم به هو الله تعالى أو صفة من صفاته، وإنما جاءت أمور مخلوقة، والأول لا يرد عليه إشكال إن قلنا: إن المقسم به في جميع المواضع رب الأشياء، كما في قوله: وَالصَّافَّاتِ المراد منه رب الصافات، فإذا قوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) أي الأمر أظهر من أن يقسم عليه وأن يتطرّق الشك إليه. ولعلك بعد كلام الفخر تكون قد فهمت أن نفي القسم استعمل في القسم من طريق أوكد. وقبل أن نتكلم على معنى القسم من الله بذاته، أو بأشياء من خلقه، نتكلم على تفسير الآية التي معنا، لنفرغ إلى القول في هذه النواحي باستفاضة. أُقْسِمُ أحلف بِمَواقِعِ النُّجُومِ المواقع جمع موقع، وموقع الشيء ما يوجد فيه، وما يسقط فيه إن كان من أشياء مرتفعة. وعليه، فمواقع النجوم قيل: المشارق والمغارب جميعا، لأنها موجودة فيها. وقيل: المغارب فقط، لأنّ عندها تسقط النجوم. وقيل: بل مواقعها مواضعها من بروجها في السماء ومنازلها منها. وقيل: بل

_ (1) في تفسيره مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (29/ 187) .

المراد مواقعها يوم القيامة إذا الكواكب انتثرت، وسنتكلّم بعد على حكمة القسم بمواقع النجوم خاصة. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) عظيم خبر (إن) وقوله: لَوْ تَعْلَمُونَ اعتراض بين إنّ وخبرها. والضمير في قوله: (إنه) يرجع إلى القسم المفهوم من الكلام على ما تقدّم توضيحه. ولَوْ تَعْلَمُونَ شرط، جوابه: إمّا محذوف بالكلية، لأنه لا يتعلق بذكره غرض، إذ المقصود هو نفي ما دخلت عليه (لو) . وكأن المعنى: إنّه لقسم عظيم. لو تعلمون. وذلك أنّ (لو) حرف يدلّ على امتناع شيء لامتناع غيره، وعلى ذلك فهي تدلّ على نفي مدخولها لانتفاء شيء آخر، فإذا قد أفاد دخول (لو) على (تعلمون) انتفاء علمهم، وهذا هو الذي يعنينا، أما الجواب فعلمه بعد ذلك كأنّه لا يعني. ويقول الفخر الرازي «1» : إنّ فائدة مجيء النفي على هذه الصورة بدل قوله: (وإنه لقسم عظيم) ولا تعلمون أنّ النفي على الصورة التي معنا أوكد، لأنّ إتيانه عليها ذكر للشيء بدليله. أما الصورة الأخرى فليس فيها إلا إثبات عظم القسم مقترنا بنفي علمهم من غير تعرّض للإشعار بسبب نفي العلم عنهم. أما هنا فكأنّه قيل: لو كان عندكم أثارة من علم لثبت عندكم عظم القسم، فإن كان أحد يشكّ في ذلك، فمنشأ الشك ليس لعدم العظم في نفس الأمر، بل لأنّه لا يعلم، وأين هذا من ذاك. وإما أن يكون جواب (لو) مقدّرا مفهوما من خبر (إن) أي لو كان عندكم علم لعظّمتموه، لكنكم لم تعظّموه فلا علم عندكم، وترى أنّا لم نقدّر لتعلمون مفعولا، بل جعلناه منزّلا منزلة اللازم، ويصحّ أن يقدّر له مفعول يدلّ عليه خبر (إن) . إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) . الضمير في (إنّه) يرجع إلى معلوم للمخاطبين، وهو الكلام العربي الذي أنزله الله على محمد صلّى الله عليه وسلّم وكان الكفار يقولون فيه: إنه شعر، إنه سحر إنّه كهانة وافتراء. فقال الله في الرد عليهم: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) ، وقال بعضهم: هو الكلام من أول سورة الواقعة إلى هنا مما جاء فيها من التوحيد، والحشر، والدلائل التي سيقت لإثباتها، وذلك أنهم كانوا يقولون: هذا كلام من عند محمد لم ينزل عليه من عند الله، فقال الله في الردّ عليهم: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) . والقرآن مصدر أريد منه اسم المفعول، فهو بمعنى المقروء، على حد قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى [الرعد: 31] وهو

_ (1) في تفسيره مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (29/ 189) .

من باب هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان: 11] وقيل: بل هو اسم لما يقرأ من الكلام المنزّل إلخ كالقربان اسم لما يتقرّب به، والمشركون وإن كانوا لا يجهلون أنّه مقروء إلا أنهم كانوا ينازعون في أنه قرآن كريم، وأيضا كانوا يقولون: هو من عند محمد، وكانوا ينكرون تنزيله وأنّ محمدا يتلو عليهم ما سمع من الوحي. ومعنى كونه كريما: أنّه طاهر الأصل، ظاهر الفضل، يجد فيه كلّ الناس ما يريدون من خير: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا أبدا كتاب الله» «1» وقد وصف الله القرآن بأوصاف كثيرة، وصفه بكونه حكيما، وبكونه عزيزا، وبكونه كريما، وبكونه مجيدا، وهو كريم، من أقبل عليه أخذ منه ما أراد، وهو عزيز من أعرض عنه ذلّ، وهو حكيم بما اشتمل عليه من كنوز الحكمة، وهو مجيد بما اشتمل عليه من شريف المقاصد. وقوله: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) أفاد شيئين: الأول: أنه مظروف في كتاب والثاني: أنّه مكنون. فأما ظرفيته في الكتاب فلنا أن نقول: إنّه على حد فلان كريم في نفسه، حيث لا يراد إنّ المظروف شيء والمظروف فيه شيء آخر، فإنّ الشيء لا يكون ظرفا لنفسه، فالقرآن- وهو كتاب- كريم، في كتاب أي نفسه، أو كريم ثبت كرمه في كتاب، هو اللوح المحفوظ، أو يقال: إنّ المظروف هو جملة إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) والمظروف فيه هو كتاب، ويكون المعنى: إنّ مضمون هذه الجملة ثابت في كتاب هو اللوح المحفوظ، وقد قيل: الكتاب هو اللوح المحفوظ، وقيل: هو المصحف، وقيل: بل هو كتاب من الكتب المنزلة: كالتوراة، والإنجيل. وأما كونه مكنونا: فالمكنون هو المستور، فإن كان الكتاب اللوح المحفوظ فمعنى كونه مكنونا أنّه مستور عن الأعين، لا يطّلع عليه إلا نفر مخصوص من الملائكة، ويصحّ أن نقول: إن المكنون أريد منه المحفوظ، ويكون الكن كناية عن الحفظ، لأنّ الشيء إذا كان شريفا عزيزا لا يكتفى في صونه وحفظه بطرق الحفظ المعتادة، بل يستر عن العيون، وكلّما ازدادت عزته ازداد ستره، زيادة في الصون. فقد استعمل الكن والستر وأريد منه المبالغة في الحفظ والصيانة، وقيل: إنّ معنى كونه في كتاب مكنون كونه محفوظا من التبديل والتغيير، فهو على حد قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) [الحجر: 9] . وأما قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) فإما أن نجعله من صفة الكتاب بمعنى اللوح المحفوظ، وإما أن يكون صفة أخرى للقرآن الكريم.

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 621) ، كتاب المناقب، باب مناقب أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (3786) .

وعلى الأول: فالمطهرون الملائكة، وطهارتهم نزاهتهم عمّا في طبيعة الإنسان من الشهوة التي هي من مقتضيات المادة، ونفي مسه إلا من هؤلاء يراد منه أنّه لا يطّلع عليه إلا هؤلاء. وعلى الثاني: فالمراد من المطهرين يحتمل أن يكون الخالين عن الحدثين الأصغر والأكبر، وتكون الطهارة مرادا منها الطهارة الشرعية. ويكون المعنى: لا يمس القرآن إلا من كان على طهارة من الحدثين. والنفي على معنى أنّه لا ينبغي، كمثله في قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النور: 3] . ويرى البعض فرارا من كون الجملة خبرية أنّ (لا) ناهية، والضمة التي في (يمسه) ضمة اتباع، لا ضمة إعراب، وقد صرّح الفخر الرازي «1» بضعف هذا القول وإن روي عن ابن عطية. ومع كون الجملة صفة للقرآن فيحتمل أن يكون المراد من المطهرين الملائكة، وهو مروي من عدّة طرق: فعن قتادة أنّه قال في الآية: ذاك عند ربّ العالمين، لا يمسه إلا المطهرون من الملائكة، فأما عندكم فيمسه المشرك والنجس والمنافق الرجس، وقد روي عن الإمام مالك رضي الله عنه: أحسن ما سمعت في الآية: الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلا المطهرون. أنّها بمنزلة الآية التي في عبس كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) [عبس: 11- 16] . وقيل: الآية صفة القرآن حقا، والمراد من المطهرين الخالون من الشرك، والمراد من المس الطلب، مثله في قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ [الجن: 8] وقد عرفت أنّ المسّ بمعنى اللمس، والمعنى: أن القرآن لا يطلبه للعمل به إلا المطهّرون من دنس الشرك. وأما قوله: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) فهو وصف آخر للقرآن الكريم، والتنزيل بمعنى منزل أو يقال: وصف به لأنّ القرآن ينزل نجوما على خلاف سائر الكتب. وقد أنهينا القول في تفسير الآيات، وهنا أشياء لا بدّ أن نتعرض لها، لأن بعضها من الأحكام التي أراد الفقهاء أن يأخذوها من الآية. وبعضها الآخر وعدناك به، وهو ما يتعلّق بالقسم. ولنشرع في البعض الأول، وهو ما يتعلّق بالأحكام. قد رأيت أثناء التفسير أنّ من المفسرين من يريد إرجاع الضمير في لا يَمَسُّهُ إلى القرآن الكريم، وأنّ من الآراء في (المطهرين) رأيا يقول: هم المطهرون من الناس وأنّ طهارتهم هي الطهارة الشرعية من الحدثين. على هذين الاعتبارين يقوم الاستدلال بعض الفقهاء بالآية على عدم مس المحدثين للمصحف، وعدم مس المحدث

_ (1) في تفسيره مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (29/ 193) .

للمصحف أمر يكاد يجمع عليه، ومن أجازه من الفقهاء أجازه لضرورة التعلم، أو التعبد عند بعضهم، وقد يكون الحكم مسلّما لا اعتراض عليه، إنما الذي لا يسلّم هو أن يكون الحكم مأخوذا من هذه الآية، فإنّك لمست ما فيها من احتمالات كثيرة، بل ويرجّح بعض العلماء أن الكتاب هو اللوح المحفوظ، وأنّ الضمير في (يمسه) راجع إليه، وأنّه حتى على فرض أن الكتاب القرآن، فليس هو المصحف، بل هو المصحف الذي بأيدي الملائكة، ولئن كان هو المصحف فالمطهرون يحتمل أن يراد منهم المؤمنون، ويراد من المس الإدراك، ويكون المعنى لا تفهمه إلا القلوب الطاهرة، وحرام على القلوب الملوثة أن تجد نور الإيمان. قال البخاري في هذه الآية: لا يجد طعمه إلا من آمن به. وقد رجّح العلماء أنّ المراد من الكتاب الكتاب الذي بأيدي الملائكة، على نحو ما هو مذكور في قوله تعالى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) [عبس: 13- 16] والكتاب بهذا المعنى هو الذي يصحّ وصفه بأنه لا يمسه إلا المطهرون، إذ هو بأيديهم، وأما غيرهم فهم لا يمسونه، لأنه ليس في متناولهم، وقد ذكروا في ترجيح ذلك وجوها كثيرة. منها أن الآية سيقت تنزيها للقرآن عن أن تنزيل به الشياطين، وأنّه في محل مضمون لا يصل إليه فيمسه إلّا المطهرون، وأما الأخبثون من خلقه، فلا يصلون إليه، ويكون ذلك على حد قوله تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) [الشعراء: 210، 211] أفرأيت كيف نفى الله ابتغاء مجيئهم به، ونفى استطاعتهم أن ينزلوا به، وكذلك آية عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) [عبس: 1] التي أسلفنا لك ذكرها. ومن وجوه الترجيح: أنّ السورة مكية، ومعلوم أنّ القرآن في مكة أكثر عنايته كان موجها إلى أصول الدين: من تقرير التوحيد، والمعاد والنبوة. وأما الأحكام، وبخاصّة ما يتعلق منها بمس الأشياء في تفاصيل جزئية فمردّه إلى المدني من السور. ومن وجوه الترجيح: أن القرآن في أول نزوله لم يكن جمع في مصحف، بل لم يكن تمّ نزولا حتى يكون الناس في حاجة إلى بيان حكم مس المصحف، نعم إنه يحتمل أن يكون خبرا عما يكون. ومن الوجوه أيضا: أنّ الله تعالى قال في وصف الكتاب: مَكْنُونٍ وذلك كناية عن الصون والستر عن الأعين، لا تناله أيدي البشر. اسمع قول الكلبي في تفسير الآية، قال: هو مكنون من الشياطين. وقال مجاهد: مكنون لا يصيبه تراب ولا غبار، هل ترى أنّ المصحف لا يمسه غبار، أم ذاك خبر عن شيء في السماء؟ قال أبو إسحاق: مصون في السماء.

على أنّ ذلك يتفق تماما مع قوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) ولو نظرت إلى أنّ الآية سيقت للرد على المكذبين لوجدت الذي نقول أبلغ في الرد عليه من وصفه بأنه لا يمسه المحدثون. على أنّ الآية خبر، وتأويلها على الوجه الذي ذكرنا يبقيها على خبريتها، أمّا تأويلها على الوجه الآخر، فيحتاج إلى إخراجها عن الخبرية إلا الإنشاء، والأصل إبقاء الخبر على خبريته حتى يوجد المقتضى، ونحن نبحث عنه فلا نجده. على أنّه لو كان المعنى ما ذهبوا إليه لقيل: لا يمسه إلا المتطهرون بدل إلا المطهرون، فالمطهرون من تكون طهارتهم من غيرهم، أما المتطهرون فطهارتهم مسندة إليهم، وحيث أراد الله هذا المعنى قال فيه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222] . وفي الحديث: «اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» «1» . ومن وجوه الترجيح أنّه لو أريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن وصفه بكونه مكنونا ذا فائدة كبيرة، إذ ما فائدة أن يقال: إنّ القرآن في مستور، وكل الكتب كذلك. إنما سيقت الآية الكريمة لمدحه وتشريفه، وبيان الخصال التي اختص بها، والتي تدلّ على أنّه منزل من عند الله، وأنّه محفوظ مصون، لا تصل إليه الشياطين، ولا يمسه إلا السفرة الكرام البررة. نعم إذا كان المفسرون تبعا للفقهاء يستدلّون بالآية من وجهها الذي استدل بها منه ابن تيمية على الحكم كان حسنا، حيث قال: إنّ الآية تدلّ على الحكم من باب الإشارة والتنبيه، لأنّه ما دامت صحف القرآن في السماء لا يمسها إلا المطهرون، فالصحف التي بأيدينا كذلك ينبغي ألا يمسها إلا الطاهر. على أنّهم لو ذهبوا إلى السنة لوجدوا بها الذين يطلبون، فقد روى أصحاب السنن «2» من حديث الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أنّ في الكتاب الذي كتبه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل اليمن في السنن والفرائض والديات: «ألا يمسّ القرآن إلا طاهر» وقد رجّح العلماء صحة ما رواه ابن حبان في «صحيحه» ومالك في «الموطأ» ثم الآثار بعد ذلك كثيرة. ولعل هذا يغنيك عن الرجوع إلى ترجيح أحد الآراء على غيره في التفسير، أما الحكم فنحن نسلم به من دليله إذا كان في غير الآية، والآثار عليه كثيرة: منها ما ورد

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (1/ 78) ، كتاب الطهارة، باب فيما يقال بعد الوضوء، حديث رقم (55) . (2) انظر صحيح ابن حبان (14/ 501- 515) ، وموطأ مالك حديث رقم (199) .

في حديث إسلام عمر أنّه قال لأخته: أعطوني الكتاب الذي تقرءون، فقالت: لا يمسه إلا المطهرون، فقام، واغتسل، وأسلم ومسّ المصحف. وعن كثير من الصحابة أنهم كانوا يأمرون أبناءهم بالوضوء لمس المصحف. وعن الحسن والنخعي كراهة مس المصحف على غير وضوء. ثم اسمع رأي الجصاص بعد أن نقل الخلاف الذي عرفت آنفا، قال أبو بكر «1» : إن حمل اللفظ على حقيقة الخبر فالأولى أن يكون المراد القرآن الذي عند الله، والمطهرون الملائكة. وإن حمل على النهي وإن كان في صورة الخبر، كان عموما فينا، وهذا أولى، لما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كتب لعمرو بن حزم «ولا يمس القرآن إلا طاهر» فوجب أن يكون نهيه هذا بالآية إذ هي تحتمله. ولننتقل بعد ذلك للكلام في القسم وفاء بالذي وعدناك، وسيكون كلامنا في الموضوع من ناحيتين: ناحية القسم من الله. وناحية بمواقع النجوم خاصّة لأنه معنا، ومن حقك أن تعرف وجه القسم بها، واختصاصها بالموضع الذي وردت فيه. فنقول: قد رأيت أول ما كتبنا أنّا سقنا لك أنواعا من القسم الوارد في القرآن، فعرفت أنّه أقسم بذاته، وأنّه أقسم بأشياء غير الذات، ومنها القرآن الكريم، وأريناك أمثالا كثيرة فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الذاريات: 23] يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) [يس: 1، 2] وَالصَّافَّاتِ وَالطُّورِ (1) إلخ، وقد كان العلماء فرقتين في قسمه بغير ذاته، فمنهم من سلك طريق التأويل، وصرف العبارات عن ظاهرها، فقالوا مثلا يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) : أي وربّ القرآن الحكيم، وَالضُّحى (1) : ورب الضحى. وهلم جرا. وزعموا أن الذي حملهم على هذا التأويل أنهم: 1- قد رأوا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن الحلف بغير الله، وقال: «من كان حالفا فيحلف بالله أو ليذر» «2» ، والنهي يقتضي قبح المنهي عنه، فإذا ورد في الشرع ما ظاهره أنّه حلف بغير الله وجب تأويله، وردّه إلى أن يكون حلفا بالله. 2- أنّ الحلف بالشيء يقتضي أن يكون المقسم به معظما، والتعظيم لا يكون إلا لله، فوجب أن تحمل الأقسام على ذلك. 3- أنه قد ورد مصرّحا به على هذا النحو في قوله تعالى:

_ (1) انظر أحكام القرآن للإمام أبي بكر العربي (3/ 416) . [.....] (2) رواه النسائي في السنن (7- 8/ 7) ، كتاب الأيمان، باب التشديد في الحلف حديث رقم (3773) .

وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) [الشمس: 5- 7] حيث جاء الحلف بالذات بعد الحلف بالسماء وبالأرض وبالنفس، فلا بدّ أن يكون القسم في الجميع على هذا المعنى. أما الفرقة الأخرى من العلماء فذهبت إلى أنّ القسم وقع بأعيان الأشياء المقسم بها، وقد قالوا في الاحتجاج على صحة ما ذهبوا إليه: 1- أن القسم هو بهذه الأشياء في الظاهر، والعدول عنه عدول عن الظاهر، ولا يكون إلا لدليل، وما ذكرتم لا يصلح دليلا، لأن ما منع من العباد لا يلزم أن يكون ممنوعا صدوره من الله. إذ المانع في حق العباد أن في القسم بغير الله تعظيما لذلك الغير، والعباد يجب ألا يشركوا مع الله أحدا في التعظيم. وهذا المعنى غير مدرك في جانب الله تعالى، فهو إذ يعظّم، فإنما يعظّم أشياء دانت له بالربوبية، ولا يمكن في العقل أن تتعاظم على من هي في قبضة يده وبسطة سلطانه. وهو إذا يعرّف الناس بعظمتها، فإنما يرشدهم إلى عظمة خالقها، وأنه إذ يقسم بها فإنما يقسم لأنّ لها شأنا بديعا، ومنفعة عند العبد يدركها، وينتقل من إدراك إتقان صنعها إلى أنه لا بد أن تكون صادرة عن المدبر الحكيم، اللطيف الخبير، ثم هي فوق ذلك نعمة من نعمه على عباده، والحلف بها تذكير بالنعمة لتقابل بالشكر. 2- إنه قال تعالى: وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فأقسم بالسماء، ثم عطف عليها ما بناها، وذلك على طريقتكم قسم بالباني، فلو كان القسم على تقدير مضاف لتكرر القسم في الموضع الواحد من غير موجب، إذ يصير المعنى وباني السماء وبانيها، وطاحي الأرض وطاحيها، ومسوّي نفس ومسويها. ومثل هذا ينزّه عنه القرآن الكريم. ولو قلنا على طريقتنا إنّ هذا قسم بالسماء وببانيها، أو ببنايتها لم يلزم هذا المحذور، فتعيّن أن يكون القسم قسما بأعيان هذه الأشياء. 3- أنّه لا يبعد أن يقسم بهذه الأشياء تنبيها إلى شرفها، وما حوت من إبداع وإتقان، ليكون ذلك دليلا على عظمة خالقها، وأنّه إله واحد. ويكون ذلك من تضافر الحجج على المدعى الواحد، فهو قسم واستدلال بما في المقسم به من وجوه الدلالة المختلفة، ومن أجل ذلك نقول: لا داعي إلى التأويل، والقسم قسم بأعيان الأشياء وحقيقتها. وهنا سؤال يتردّد كثيرا، حاصله أن يقال: ما فائدة القسم؟ والمخاطب أحد رجلين: مؤمن بالقرآن، ومكذب به، وما كان المؤمن محتاجا وهو مؤمن إلى قسم، فهو مصدّق من غير يمين. وإن كان من المكذبين الذين لم تغنهم الآيات والنذر، فكيف يصدّق لمجرد القسم بعد أن لم يؤثّر فيه الدليل؟

ويقول العلماء جوابا عن هذا: إنّ هذه الأيمان والأقسام لم تجئ لإثبات الدعاوى، فالدعاوى لها ما يثبتها، وقد اقترنت من دلائل الإثبات بما لا يدحض، إنما جاءت هذه الأقسام لتوكيد ما ثبت من طريق الحجة والبرهان على منهاج العرب وأسلوبهم في توكيد الكلام بالحلف، وقد كان القسم أحد أساليب التوكيد عندهم، والقرآن بلغتهم نزل. على أننا نحيلك إلى التبصر في كل الأقسام الواردة في القرآن، وبالتأمل فيها تجدها أشياء في مواضعها أقسم بها، وقد حوت من الدلائل ما يجعل القسم ليس قسما في الواقع، وإنما هو تذكير بالدليل الذي يشتمل عليه المقسم به، فهو يذكر في معرض القسم، وهو مخلوق من المخلوقات، فتتوجه النفس إلى سر القسم بهذا المخلوق متسائلة: ما القسم بهذا؟ وما معناه؟ وما مغزاه؟ وما سره؟ ثم تتوجه من ذلك إلى ما في القسم به، باعتبار ما ينبعث منه من بواعث التعظيم، ويكون حاصل المعنى، وحق هذه الأشياء التي ينطق صنعها ووجودها بالعظمة أنّ المقسم عليه لحق. وما دمنا قد وصلنا إلى هذا فلنتكلم على القسم بمواقع النجوم: يقول الله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) والحديث قبل القسم من أول سورة الواقعة في شأن الواقعة والقيامة الكبرى، وما يكون فيها من أشياء جسام إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) ثم ذكر الله أقسام الخلق يومئذ، ثم ذكر الأدلة القاطعة على عموم قدرته، وعلى المعاد. فذكر النشأة الأولى دليلا: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) . ثم ذكر إخراج النبات من الأرض، وإنزال الماء من السماء. وخلق النار، وسأل الناس أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) ثم ذكر أنّه جعل ذلك تذكرة ومتاعا، وأمر نبيه أن يسبّح باسم ربه العظيم، ثم أقسم بمواقع النجوم على إثبات القرآن، وكرمه وصونه، وحفظه، وأنه تنزيل من رب العالمين. وقد عرفت طرفا من أقوال العلماء في المراد بالمواقع، وما دام الكلام سيكون في سر القسم بها نذكر شيئا مما قيل فيها غير ما سمعت: فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: النجوم آيات القرآن، ومواقعها نزولها شيئا بعد شيء. وقد روي مثل هذا عن سعيد بن جبير، ومقاتل، وقتادة.

وقيل: النجوم الكواكب، ومواقعها مساقطها عند الغروب، وهو قول أبي عبيدة، وقد تقدم قول كهذا. وقيل: بل مواقعها انتثارها وانكدارها يوم القيامة، وهو مروي عن الحسن. ويقول الذي يقول المواقع المساقط عند الغروب: إنّ الله تعالى يقسم بالنجوم وطلوعها، وجريانها وغروبها، إذ فيها، وفي أحوالها الثلاث آية وعبرة ودلالة. والنجوم متى ذكرت في القرآن الكريم فالمراد منها الكواكب، انظر إلى قوله تعالى: وَإِدْبارَ النُّجُومِ [الطور: 49] وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ [الأعراف: 54] ومن هنا يمكن أن يقال- بل هو قد قيل: إنّ المناسبة بين المقسم به وهو النجوم ومواقعها، وبين المقسم عليه وهو القرآن، أنّ النجوم جعلها الله يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وآيات القرآن يهتدى بها في ظلمات الجهل والغواية، وتلك ظلمات حسية، وهذه ظلمات معنوية، تلك يؤمن جانبها بالنجوم، وهذه تتوقى بهداية القرآن، فالقسم هنا قد جمع فيه بين هدايتين. هداية ومنافع، ليدير الناس وجوههم إلى القرآن، ويتبصّروا ما فيه جيدا، فيعلموا أنّه هاديهم الذي لا يضلون معه. ولا تنس كذلك أنّ الله قد جعل النجوم رجوما للشياطين، وفي آيات القرآن من رجوم الشياطين ما تجعل الشياطين يولّون عند سماعه، وما نريد أن نترك هذا الموضع حتى نسمعك رأي الفخر الرازي «1» في هذا: قال رحمه الله بعد سؤال حاصله: هل في القسم بمواقع النجوم خاصة فائدة؟ قلنا: نعم، فائدة جليلة، وبيانها أنّا قد ذكرنا أنّ القسم بمواقعها، وأن المواقع كما هي مقسم به، هي من الدلائل، وقد بيّناه في الذاريات، وفي الطور، وفي النجم، وفي غيرها، فنقول هي هنا كذلك. وذلك من حيث أنّ الله تعالى لما ذكر خلق الآدمي من المني وموته، بيّن بإشارته إلى إيجاد الضدين في الأنفس، قدرته واختياره، ولما كان هذا دليلا من دلائل الأنفس ذكر أيضا من دلائل الآفاق على قدرته واختياره فقال: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ إلى غير ذلك، وذكر قدرته على زرعه، وجعله حطاما. وخلقه الماء عذبا فراتا، وجعله أجاجا، إشارة إلى أنّ القادر على الضدين مختار، ولما لم يكن قد ذكر من الدلائل السماوية شيئا، ذكر الدليل السماوي في معرض القسم، وقال: بِمَواقِعِ النُّجُومِ فإنها أيضا دليل الاختيار، لأنّ كون كلّ واحد في موضع من السماء دون غيره من المواضع مع استواء المواضع في الحقيقة دليل على أنّ الفاعل مختار. فقال:

_ (1) انظر كتابه مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (29/ 188) .

بِمَواقِعِ النُّجُومِ ليشير إلى البراهين النفسية والآفاقية بالذكر، كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] وهذا كقوله: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) [الذاريات: 20- 22] حيث جمع بين الأنواع الثلاثة كذلك هنا اه. وهو جميل كما ترى، غير أنّ للباحث أن يقول: ظاهر كلام الفخر أنّ القسم بمواقع النجوم لإثبات القدرة والاختيار لفاعل مختار، لكن الآية تقول: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) وظاهر ذلك أنّ المراد إثباته هو هذا الذي سيق مساق المقسم عليه، فمن أين إثبات القدرة والفاعل المختار في القسم بمواقع النجوم؟ وفي النفس من كلام الفخر روعة، ومن آثارها أن نقول: إنّ هذا استدلال على القدرة والفعل من طريق القسم على القرآن وكرمه وصونه، وأنّه تنزيل من رب العالمين بمواقع النجوم من طريق أبلغ، وكأنّه بعد أن سيقت الدلائل السابقة، والتي كان ختامها القسم بمواقع النجوم، وذكرت في القرآن كأنه قيل: اذكروا هذه الدلائل، وتعرّفوا نتائجها، واذكروا معها مواقع النجوم، وتعرّفوا نتيجة الاستدلال بها، تعلموا أنّ القرآن- الذي جاء بهذا- كريم، وأنّه مصون، وأنّه تنزيل من رب العالمين. وقبل أن نختم الموضوع نقول: إنّ قوله تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) توكيد لما قبله، وتقرير له. وكما أنّه لازم لكونه قرآنا كريما بهذا في كتاب مكنون، فهو ملزوم له، فهو دليل وهو مدلول، وكفى هذا خاتمة للموضوع.

من سورة المجادلة

من سورة المجادلة قال الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) ثبت في السنن والمسانيد «1» أنّ أوس بن الصامت قال لزوجته خولة بنت ثعلبة بن مالك في شيء راجعته فيه: أنت عليّ كظهر أمّي وكان الرجل في الجاهلية إذا قال لزوجته ذلك حرمت عليه، فندم من ساعته، فدعاها، فأبت، وقالت: والذي نفس خولة بيده، لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابة مرغوب فيّ، فلما خلا سنّي، ونثرت بطني، جعلني عليه كأمه، وتركني إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه فحدثني بها، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن» وفي رواية: «ما أراك إلا قد حرمت عليه» . قالت: ما ذكر طلاقا، وجادلت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرارا، ثم قالت: اللهم إني أشكو إليك فاقتي، وشدّة حالي، وروي أنها قالت: إنّ لي صبية صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء، وتقول: اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيك، وما برحت حتى نزل القرآن فيها. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا خولة أبشري» قالت: خيرا، فقرأ عليه الصلاة والسلام عليها: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها. قال النحاة: إنّ قد الداخلة على الماضي لا بدّ فيها من معنى التوقع، يعنون أنه لا يقال: قد فعل إلا لمن ينتظر الفعل، أو يسأل عنه، ولذلك قال سيبويه: وأما قد فجواب هل فعل، لأنّ السائل ينتظر الجواب، وقال الخليل: هذا الكلام لقوم ينتظرون الخبر، يريد أنّ الإنسان إذا سئل عن فعل، أو علم أنّ المحدّث يتوقع أن يخبر به قال: قد فعل. وإذا كان المخبر مبتدئا قال: فعل كذا وكذا. و (قد) هنا فيها معنى التوقع، فإنّ السماع في قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها

_ (1) رواه أبو داود في السنن (2/ 241) ، كتاب الطلاق، باب الظهار حديث رقم (2214) .

مجاز عن القبول والإجابة بعلاقة السببية. ولا شكّ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتوقع أن يجيب الله دعاءها ويفرّج كربها. تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها أي تراجعك الكلام في شأن زوجها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ الشكوى أن تخبر عن مكروه أصابك، وهي من الشكو، وأصله فتح الشكوة، وإظهار ما فيها، والشكوة وعاء كالدلو، أو القربة الصغيرة، يتخذ للماء واللبن ونقع الزبيب والتمر، ثم شاع استعمال الشكوى في إظهار البثّ، وما انطوت عليه النفس من المكروه. وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما السمع هنا على حقيقته المعروفة، وهي أنّه صفة يدرك بها الأصوات، غير صفة العلم، أو أنه نوع من الإدراك يرجع إلى صفة العلم. والتحاور: المرادّة في الكلام، وهو قريب من معنى المجادلة. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي أنه تعالى يسمع كل المسموعات، ويبصر كل المبصرات، على أتم وجه وأكمله، ومن لازم ذلك أن يسمع تحاورهما، ويبصر هيئة المجادلة حين رفعت رأسها إلى السماء مبتهلة ضارعة. قالت عائشة رضي الله عنها: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت خولة بنت ثعلبة تشكو إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا في كسر البيت يخفى عليّ بعض كلامها، فأنزل الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) أخرجه البخاري والنسائي «1» . قال الله تعالى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) الظهار لغة مصدر ظاهر، مفاعلة. يقال: ظاهر زيد عمرا، إذا قابل ظهره بظهره حقيقة، وظاهره غايظه، وإن لم يكن هناك تقابل حقيقة، باعتبار أنّ المغايظة تقتضي هذه المقابلة، وظاهره: ناصره باعتبار أنّه يقال قوّى ظهره إذا نصره، وظاهر بين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر، باعتبار ما يلي به كل منهما الآخر ظهر الثوب. وظاهر من امرأته قال لها: أنت علي كظهر أمي. وكان ذلك طلاقا في الجاهلية كما تقدم، وقال بعض العلماء: وكان طلاقا أيضا في أوّل الإسلام، لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الرواية السابقة: «ما أراك إلا قد حرمت عليه» . وحكى بعضهم أنّه كان طلاقا يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه. وقيل: لم يكن طلاقا من كل وجه، بل كانت الزوجة تبقى معلقة، لا ذات زوج،

_ (1) رواه البخاري (8/ 212) ، 98- كتاب التوحيد، 9- باب وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً والنسائي كتاب الطلاق، باب الظهار حديث رقم (3460) .

ولا خلية تنكح غيره، وكان الظاهر أن يقال: ظاهر زوجته، كما يقال طلق زوجته، إلا أنّه لتضمنه معنى التبعيد عدّي بمن. وقوله تعالى: ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ ليس خبر المبتدأ، إنما هو دليله، والخبر محذوف، والتقدير: الذين يظاهرون من نسائهم مخطئون، لسن أمهاتهم، ما أمهاتهم على الحقيقة إلا اللائي ولدنهم، فلا يشبّه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الله بهن. وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وصف الله الظهار بأنه منكر وزور، باعتبار أنّ قول الرجل لامرأته (أنت عليّ كظهر أمي) يتضمّن إخبارا وإنشاء، فالأول من جهة إخباره بأنها تشبه أمه، والثاني من جهة أنه أنشأ طلاقها وتحريمها، فهو خبر زور، وإنشاء منكر، ينكره الشرع، ولا يعرفه. وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ كثير العفو والمغفرة، فيغفر لهم ما سلف من الظهار، ويعفو عمن ارتكبه إذا تاب. تمسّك المالكية بظاهر قوله تعالى: مِنْكُمْ في أنّ الذمي إذا قال لزوجته أنت عليّ كظهر أمي لم يعتبر ذلك ظهارا، ولم تترتب عليه أحكام. وهذا هو المنقول عن الحنابلة، وهو المعول عليه عند الحنفية، إلا أنّ الحنفية لم يستدلوا عليه بمفهوم قوله تعالى: مِنْكُمْ، بل حجتهم في ذلك أنّ الذمي ليس من أهل الكفّارة. وقال الشافعية كما يصح طلاق الذمي وتترتب عليه أحكامه، يصحّ ظهار الذمي وتترتب عليه أحكامه، وقوله تعالى: مِنْكُمْ إنّما ذكر للتصوير والتهجين، لأن الظهار كان مخصوصا بالعرب، فليس من مفهوم الصفة ليستدل به على عدم صحة الظهار من الذمي. واعترض قول الشافعية بصحة ظهار الذمي مع اشتراطهم النية في الكفارة بخصالها الثلاث والإيمان في الرقبة. والذمي ليس من أهل النية، ويتعذّر ملكه للرقبة المؤمنة. وأجابوا عن ذلك بأنّ خصال الكفارة منها ما هو عبادة بدنية وهو الصوم، ومنها ما هو من قبيل الغرامات وهو العتق والإطعام، والنية فيما كان من قبيل الغرامات إنّما هي للتمييز، فلا يشترط فيها الإسلام، كما في قضاء الديون. فالذمي يكفّر بالإعتاق والإطعام، ولا يكفّر بالصوم، لأنه لا يصح منه، كما أنّ العبد المظاهر لا يكفّر بغير الصوم، لأنه لا يملك. ويتصور ملك الذمي للعبد المسلم بإسلام قنّه، أو بقوله لمسلم: أعتق عبدك عن كفارتي فيجيبه، فإن لم يمكنه شيء من ذلك وهو موسر، منع الوطء لقدرته على ملك الرقبة المسلمة، بأن يسلم فيشتريها، وكذلك لا ينتقل من الصوم إلى الإطعام لقدرته عليه بالإسلام. فإن عجز عن الصوم لكبر ونحوه انتقل إلى الإطعام، ونوى للتمييز أيضا.

قال العلماء: لفظ النساء المضاف إلى الرجال حقيقة في الزوجات دون الإماء، لأنّ المتبادر من كلمة نساء الرجل إنما هو زوجاته دون إمائه، فلا يقال فيهن نساؤه، إنما يقال جواريه وإماؤه وسراريه. والتبادر من أمارات الحقيقة، وحينئذ يكون ظاهر قوله تعالى: مِنْ نِسائِهِمْ أنّ الظهار إنما يكون في الزوجات، فلو قال لأمته: الموطوءة، أو غير الموطوءة: أنت عليّ كظهر أمي، لم يعتبر ذلك ظهارا، ولم تترتب عليه أحكام الظهار، وهو منقول عن كثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وإليه ذهب الحنفية، والشافعية، والحنابلة. وقد نقل عن مالك والثوري صحة الظهار في الأمة مطلقا. وعن سعيد بن جبير وعكرمة وطاوس والزهري صحته في الأمة الموطوءة، ذهبوا إلى التعميم في قوله تعالى: مِنْ نِسائِهِمْ كما عمّ قوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ [النساء: 23] الزوجات والإماء، فحرّم بنت الأمة كما حرّم بنت الزوجة. واقتضى قوله تعالى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ أنه ليس للنساء ظهار، فلو ظاهرت امرأة من زوجها لم يلزمها شيء، وهو متفق عليه بين الأئمة الأربعة، وقال أبو بكر بن العربي: وهو صحيح معنى، لأنّ الحل والعقد والتحليل والتحريم في النكاح بيد الرجال، ليس بيد المرأة منه شيء. ونقل أبو حيان عن الحسن بن زياد أنّها تكون مظاهرة، ويلزمها التكفير قبل التماس. وعن الأوزاعي وعطاء وإسحاق أنّ عليها كفارة يمين، وعن الزهري: أنها تكفّر كفارة الظهار، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها. وكذلك اقتضى عموم الموصول في قوله تعالى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ صحة ظهار العبد من زوجته، لأنّ أحكام النكاح في حقه ثابتة. وإن تعذّر عليه العتق والإطعام، فإنه قادر على الصيام. وحكى الثعلبي عن مالك أنّه لا يصح ظهار العبد. ولكنّ الذي عليه المعوّل عند المالكية هو صحة ظهاره. ويؤخذ من قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً أنّ الظهار حرام، بل اعتمد فقهاء الشافعية القول بأنه كبيرة، لأنّ فيه الإقدام على إحالة حكم الله تعالى وتبديله دون إذنه سبحانه. ولأنّ من أقدم على الظهار بعد أن أخبر الله بأنه منكر من القول وزور يعتبر كاذبا معاندا للشرع، فمن ثمّ كان كبيرة. قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا

ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) رتب الله الكفارة على الظهار الذي يعقبه العود، وقد اختلف أهل التأويل في العود ما هو؟ فحكى عن مجاهد أنّ الظهار في الإسلام عود إلى ما كان عليه أهل الجاهلية، ومعنى الآية عنده: والذين كان من عادتهم أن يظاهروا من نسائهم، فقطعوا ذلك بالإسلام، ثم يعودون لمثله، فعلى من عاد منهم تحرير رقبة من قبل أن يتماسا.. إلخ فالكفارة تجب بنفس الظهار في الإسلام. وقد روي مثل ذلك عن طاوس والثوري وعثمان البتّي. وقال أبو العالية وأهل الظاهر: العود تكرار لفظ الظهار وإعادته، فلا تلزم الكفارة إلا إذا أعاد لفظ الظهار. واختلفت الروايات عن الأئمة الأربعة، فأصحّ الروايات عن أبي حنيفة أنّ العود هو العزم على الوطء. وروى ابن الجلّاب عن مالك روايتين: أولاهما: أنه العزم على الوطء. وثانيتهما: أنه العزم على الإمساك. وابن العربي ينقل عن «الموطأ» أنه العزم عليهما معا. وقال الإمام أحمد في قوله تعالى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا قال: هو الغشيان إذا أراد أن يغشى كفّر. اه. وقال الشافعي: الذي عقلت مما سمعت في يَعُودُونَ لِما قالُوا أنّ المظاهر حرم مس امرأته بالظهار، فإذا أتت على المظاهر مدة بعد القول بالظهار ولم يحرّمها بالطلاق الذي يحرّم به، ولا شيء يكون له مخرج من أن تحرم عليه به، فقد وجب عليه كفارة الظهار، كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسك ما حرّم على نفسه عاد لما قال فخالفه، فأحل ما حرّم، ولا أعلم له معنى أولى به من هذا. فأمّا مجاهد ومن يرى رأيه، فلم يخف عليهم أنّ العود شرط في الكفارة، ولكنّ العود عندهم هو العود إلى ما كان عليه أهل الجاهلية من المظاهرة من الزوجات، وهكذا استعملوا العود في معناه الحقيقي، كما قال الله تعالى في جزاء الصيد: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة: 95] أي ومن عاد للاصطياد بعد نزول تحريمه، وكما قال تعالى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الإسراء: 8] أي وإن عدتم إلى الذنب عدنا إلى العقوبة، وقد أخبر الله عن الظهار أنه منكر وزور، فهو معصية منهيّ عنه، والعود إلى المنهي عنه فعله بعد النهي عنه.

ولا يخفى أنّ حمل الكلام على تأويل مجاهد ومن يرى رأيه خروج بالآية عن مقتضى الفصاحة، وتفكيك لنظمها. فإنّهم جعلوا الفعل المستقبل الدالّ على الاستمرار يَظْهَرُونَ بمعنى الماضي المنقطع. وجعلوا العائد غير المظاهر، إذ المظاهرون على رأيهم أهل الجاهلية، والعائدون أهل الإسلام، فإذا ساغ فهم ذلك في رجل ظاهر في الجاهلية، ثمّ ظاهر في الإسلام، فكيف يسوغ في رجل لم يظاهر في الجاهلية، أو لم يدرك الجاهلية أصلا؟ ومعلوم أنّ مساق الآية لبيان حكم المظاهر في الإسلام، وعليه ينطبق سبب النزول، وأيضا فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر أوس بن الصامت بالكفّارة، ولم يسأله أظاهر في الجاهلية أم لا؟ وأما أبو العالية وأهل الظاهر فقد استدلوا على رأيهم بأنّ الذي يعقل من لغة العرب في العود إلى الشيء إنما هو فعل مثله مرّة ثانية، كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] والفعل معدّى باللام كآية الظهار سواء بسواء، واتفق أهل التأويل على أن عودهم لما نهوا عنه هو إتيانهم مرة ثانية بمثل ما أتوا به أول مرة. وكذلك قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وهو في سورة المجادلة بعد ذكر الظهار بآيات، والعهد قريب. وقالوا أيضا: أصحّ خبر في الظهار حديث عائشة رضي الله عنها أنّ أوس بن الصامت كان به لمم، فكان إذا اشتد به لممه ظاهر من زوجته، فأنزل الله فيه كفّارة الظهار. فهذا الحديث يقتضي التكرار. وقالوا أيضا: فما عدا تكرار اللفظ: إما إمساك وإما عزم وإنما فعل، وليس واحد منها عودا لما قال، فلا يكون الإتيان به عودا، لا لفظا ولا معنى. وأجاب الجمهور عن ذلك بأنّ هذا الرأي يقتضي أنّ الظهار أول مرة لا يترتب عليه كفارة، وقصة خولة تدفعه، لأنّه لم ينقل التكرار، ولا سأل عنه صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك لم يسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم سلمة بن صخر حين ظاهر من زوجته فألزمه الكفارة: أهذا ظهار مكرّر، أم هو أول ظهار؟ وأما حديث عائشة فما أصحّه، وما أبعد دلالته على ما قالوا، فإنّ غاية ما أفاده أن أوس بن الصامت ظاهر من زوجته مرات كثيرة، وأن زوجته جاءت آخر مرة تجادل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتشتكي إلى الله، فأنزل الله تحريم الظهار، ورتّب عليه وجوب الكفارة قبل التماس، فكان الذي أخذ هذا الحكم هو المرة الأخيرة، وأما ما قبلها من مرات المظاهرة فإنّها لغو لا حكم لها، أو أنها كما في بعض الآراء كانت طلاقا. أما الأئمة الأربعة وأكثر المجتهدين فلم يخف عليهم أنّ الظاهر من قوله تعالى:

ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أنّهم يكررون ما قالوا، إلّا أنّه منع من هذا الظاهر أن التكرار لم ينقل في قصة خولة وزوجها أوس، ولا في قصة سلمة بن صخر، وأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يسأل أوسا ولا سلمة عنه. وقد قال أهل اللغة إذا قال قائل: (عاد لما فعل) جاز أن يريد أنه فعله مرة أخرى، وهذا ظاهر. وجاز أن يريد أنه نقض ما فعل وتداركه. لأنّ التصرف في الشيء بنقضه وتداركه لا يمكن إلا بالعود إليه، فلما منع من إجراء اللفظ على ظاهره ما تقدم، وجب المصير إلى المعنى الثاني وهو النقض والتدارك. إلا أنّ الأئمة مختلفون في العمل الذي ينقضه المظاهر ويتداركه، فيرى غير الشافعي أنّ الظهار يوجب تحريما للزوجة لا يرفعه إلا الكفارة، فالذي يريد المظاهر نقضه وتداركه هو تحريمها عليه، ونقض ذلك التحريم وتداركه إنما يكون بوطئها، أو بالعزم على وطئها، أو باستباحة وطئها، على خلاف بينهم تقدم بيانه. ويرى الشافعي أنّ كلمة الظهار فيها تشبيه الزوجة بالأم، وهذا التشبيه يقتضي فراقها، فالذي يريد المظاهر نقضه والرجوع عنه هو فراقها، فإن مضت مدة تتسع للفراق الشرعي ولم يفارق صار ناقضا لمقتضى ما قال راجعا عنه. وإن اتصل بلفظ الظهار فرقة فليس بعائد. واعترض القول بأن العود هو الوطء بأنّ الآية ناصّة على وجوب الكفارة قبل الوطء، فيكون العود سابقا عليه، فكيف يكون هو الوطء؟ وأجاب بعض من يرى هذا الرأي بأنّ المراد من قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا من قبل أن يباح التماس شرعا، والوطء أولا حرام، موجب للتكفير، وهذا الجواب خروج باللفظ عن مقتضى ظاهره، من غير أن يقوم عليه دليل سوى التزام هذا المذهب. وأجاب آخرون: بأنّ قوله تعالى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا معناه ثم يريدون العود، كما قال تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: 98] وكما قال: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] ونظائره مما يطلق الفعل فيه على إرادته لوقوعه بها، وهذا معنى قول الإمام أحمد وقد تقدّم: إذا أراد أن يغشى كفّر. واعترض القول بأنّ العود هو العزم على الوطء بأنّ الآية لما نزلت، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المظاهر بالكفارة، لم يسأله هل عزم على الوطء؟ والأصل عدم ذلك، والوقائع القولية كهذه يعمّها الاحتمال، فتكون الكفارة واجبة، سواء أعزم على الوطء أم لم يعزم. والجواب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ترك السؤال عن ذلك، لعلمه به من خولة، فقد أخرج

الإمام أحمد وأبو داود «1» وغيرهما من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام قال: حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت: فيّ وفي أوس بن الصامت أنزل الله تعالى صدر سورة المجادلة، كنت عنده شيخا كبيرا قد ساء خلقه، فدخل عليّ يوما، فراجعته بشيء، فغضب، فقال: أنت عليّ كظهر أمي، ثم رجع، فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليّ، فإذا هو يريدني عن نفسي، قلت: كلا والذي نفس خولة بيده، لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت، حتّى يحكم الله ورسوله فينا. ثم جئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكرت له ذلك، فما برحت حتّى نزل القرآن ... الخبر. فإنّ ظاهر قولها: فذكرت له ذلك أنّها ذكرت كلّ ما وقع. ومنه طلب أوس وطأها، المكنّى عنه ب: يريدني عن نفسي. وذكرها ذلك له عليه الصلاة والسلام أهمّ لها من ذكرها إياه ليوسف بن عبد الله بن سلام. واعترض القول بأنّ العود هو إمساكها زمنا يتّسع للفراق الشرعي ولم يفارق، بأن الله تعالى قال: ثُمَّ يَعُودُونَ وكلمة (ثم) تقتضي التراخي الزماني، والإمساك المذكور معقب لا متراخ، فلا يعطف بثم، بل بالفاء. والجواب أن زمن الإمساك ممتدّ، ومثله يجوز فيه العطف بثم، والعطف بالفاء باعتبار ابتدائه وانتهائه. وقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مبتدأ ثان، خبره محذوف أي فعليهم تحرير رقبة، والجملة خبر الموصول، ولتضمنه معنى الشرط زيدت الفاء في خبره، والمراد بالرقبة المملوك من تسمية الكل باسم الجزء فتحرير الرقبة إعتاق المملوك، وجعله حرّا. وقد أطلق الله الرقبة هنا، ولم يقيّدها بالإيمان، فاقتضى ذلك إجزاء عتق الرقبة في الكفارة، وبهذا الظاهر قال الحنفية وأهل الظاهر، وقالوا: لو كان الإيمان شرطا لبيّنه سبحان، كما بينه في كفارة القتل، فوجب أن يطلق ما أطلقه الله، ويقيد ما قيده، فيعمل بكلّ منهما في موضعه، وزاد الحنفية أنّ اشتراط الإيمان هنا زيادة على النص، وهو نسخ، والقرآن لا ينسخ إلّا بالقرآن أو الخبر المشهور، ولا يحمل المطلق على المقيّد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة، ولا يلزم من التقييد في كفارة القتل الذي هو أعظم، ثبوت مثله في كفارة الظهار الذي هو أخف، فلا يصحّ أن تكون آية القتل بيانا لآية الظهار. وذهب مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه إلى اشتراط الإيمان في كفارة غير القتل، كما هو شرط في كفارة القتل، قالوا في بيان ذلك واللفظ للشافعي: شرط الله سبحانه في الرقبة في القتل أن تكون مؤمنة، وأطلق هنا، كما شرط العدالة في

_ (1) سبق تخريجه.

الشهادة، وأطلق الشهود في مواضع، فاستدللنا به على أنّ ما أطلق على معنى ما شرط. على أنّه سبحانه إنما ردّ زكاة المسلمين على المسلمين لا على المشركين وفرض الله الصدقات، فلم تجز إلا لمؤمن، وكذلك ما فرض من الرقاب، لا يجوز إلا لمؤمن. قال الشافعي: وإنّ لسان العرب يقتضي حمل المطلق على المقيد إذا كان من جنسه، فحمل عرف الشرع على مقتضى لسانهم. قال: ولو نذر رقبة مطلقة لم يجزه إلا مؤمنة، وهذا بناء على هذا الأصل، وأن النذر محمول على واجب الشرع، وواجب العتق لا يتأدّى إلا بعتق المسلم. ومما يدلّ على هذا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لمن استفتى في عتق رقبة منذورة: «ائتني بها» ، فسألها: «أين الله» ؟ فقالت: في السماء. فقال: «من أنا» ؟ فقالت: أنت رسول الله. فقال: «أعتقها فإنّها مؤمنة» «1» قال الشافعي: فلما وصفت بالإيمان أمر بعتقها اه. والضمير في قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا للمظاهر والمظاهر منها معلومين من السياق، والتماسّ كناية عن الجماع، فدلّت الآية على حرمة الجماع قبل التكفير. وألحق الحنفية بالجماع دواعيه من التقبيل ونحوه، لأنّ الأصل أنه إذا حرّم الشيء حرّم بدواعيه، إذ طريق المحرم محرم، وأظهر القولين عند الشافعية الجواز، لأن حرمة الجماع ليست لمعنى يخل بالنكاح، فلا يلزم من تحريم الجماع تحريم دواعيه، فإنّ الحائض يحرم جماعها دون دواعيه، والصائم يحرم منه الوطء دون دواعيه، والمسبية يحرم وطؤها دون دواعيه. أوجبت الآية الكفارة قبل المسيس، وقد يذهب من يتمسّك بالظواهر إلى أنّه إذا وطئ قبل أن يكفّر أثم، وسقطت عنه الكفارة، لأنه قد فات وقتها، ولم يبق له سبيل إخراجها قبل التماس، وهذا الحكم منقول عن الزهري وسعيد بن جبير وأبي يوسف. ولكنّك تعلم أنّ الآية مع أنّها وقتت للكفارة ميقاتا هو ما قبل المسيس، فإنّها مع ذلك حرّمت على المظاهر العائد المسيس حتى يكفر، فما لم يكفر لا يحل له وطؤها، ولو وطئها مئة مرة، وفوات وقت الأداء لا يسقط الواجب في الذمة، كالصلاة والصيام وسائر العبادات. فلا يزال المظاهر مطالبا بالكفّارة. وقد دلت على ذلك السنة الصحيحة أخرج أبو داود والترمذي «2» وغيرهما أنّ سلمة بن صخر البياضي ظاهر من امرأته، فوقع عليها قبل أن يكفّر، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 381) ، 5- كتاب المساجد، 7- باب الكلام في الصلاة حديث رقم (33) . (2) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 503) ، كتاب الطلاق، باب كفارة الظهار حديث رقم (1200) ، وأبو داود (2/ 240) ، كتاب الطلاق، باب الظهار حديث رقم (2213) ، وابن ماجه في السنن (1/ 665) ، 10- كتاب الطلاق، 25- باب الظهار حديث رقم (2062) .

حملك على ذلك» ؟ فقال: رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فاعتزلها حتى تكفّر» فحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوجوب الكفارة على من وطئ قبل أن يكفّر، وإلى ذلك ذهب الأئمة الأربعة وأكثر المجتهدين. ويروى عن مجاهد في الرجل يطأ قبل أن يكفّر أنّ عليه كفارتين، وصحّ مثله عن ابن عمر وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، ووجه قولهم: أنّ إحدى الكفارتين للظهار الذي اقترن به العود. والثانية للوطء المحرم، كالوطء في نهار رمضان، وكوطء المحرم. وعن الحسن وإبراهيم أنّ عليه ثلاث كفارات، ولا يعلم لذلك وجه إلا أن يكون عقوبة على إقدامه على الحرام، وحكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدلّ على خلاف هذه الأقوال. ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ أي الحكم بالكفارة، تزجرون به عن مباشرة ما يوجبه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بجميع أعمالكم، ظواهرها وبواطنها، ومجازيكم عليها كلها، فحافظوا على حدود ما شرع لكم، ولا تخلّوا بشيء منه. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) . فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي فمن لم يجد الرقبة فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا. والمراد بمن لم يجد الرقبة من لم يملك الرقبة ولا ثمنها فاضلا عن قدر كفايته، واختلفت مذاهب الفقهاء في بيان قدر الكفاية، ومحلّ ذلك كتب الفروع، وكذلك اختلفوا في اعتبار وقت اليسار والإعسار. فذهب مالك والشافعي في أظهر أقواله إلى اعتبار ذلك بوقت التكفير والأداء، لأنّ الكفّارة عبادة لها بدل من غير جنسها، كالوضوء والتيمم، والقيام من الصلاة والقعود فيها، فاعتبر وقت أدائها. وذهب أحمد والشافعي في أحد أقواله إلى اعتبار ذلك بوقت الوجوب، تغليبا لشائبة العقوبة، كما لو زنى قنّ ثم عتق، فإنّه يحدّ حدّ القنّ. وقد جرى عرف الشارع على اعتبار الشهور بالأهلة، فلا فرق بين التام والناقص، فمن بدأ بالصوم في أول الشهر كمّل الشهرين بالهلال، ولو اتفق أنهما ناقصان أجزأه ذلك إجماعا. ومن بدأ بالصوم في أثناء الشهر- فقد اختلفوا فيه، فقال الشافعية: بحسب الشهر بعده بالهلال لتمامه، ويتم الأول من الثالث ثلاثين يوما، لتعذّر الهلال فيه. وقال الحنفية: لا بدّ من ستين يوما. أوجبت الآية التتابع في صيام الشهرين، فلو أفطر يوما منهما ولو الأخير من غير عذر، انقطع التتابع، ولزمه الاستئناف اتفاقا. ومن صور الفطر بغير عذر أن

يتخللها يوم يحرم صومه كيوم النحر، لأنّه لو ابتدأ صوم الشهرين وهو يعلم أنّ يوم النحر سيتخللهما فسد صومه، لأنّه نيته لصوم الكفارة مع علمه بطروء المبطل تلاعب منه، فهو كالإحرام بالظهر قبل وقتها، مع العلم بذلك. ولو ابتدأ صومهما وهو لا يعلم أنّ يوم النحر سيتخللهما صحّ صومه، لكنّه لا يعتدّ به في الكفارة، لأنّه قطع التتابع بتقصيره. أما الإفطار بعذر فقد اختلفت مذاهب الفقهاء فيه، فذهب الحنفية إلى وجوب الاستئناف لزوال التتابع المشروط، وهو قادر عليه عادة. وذهب مالك والشافعي في أحد قوليه إلى أنه لا يقطع التتابع، لأنّ التتابع لا يزيد على أصل وجوب رمضان، وهو يسقط بالعذر. وفرّق بعض العلماء بين العذر الذي يمكن معه الصوم: كالسفر والمرض، والعذر الذي لا يمكن معه الصوم: كالجنون والإغماء جميع النهار، فجعل الأول قاطعا للتتابع، والثاني غير قاطع له. وأوجبت الآية أن يكون صوم الشهرين المتتابعين قبل المسيس، وقد رأى بعض الظاهرية أنّ من وطئ قبل أن يصوم شهرين متتابعين أثم بالوطء، وسقطت عنه الكفارة لفوات وقتها وعدم التمكن من إيقاع الصيام المتتابع قبل المسيس. كما قالوا ذلك فيمن وطئ قبل العتق، وقد تقدم. والجواب هنا هو الجواب هناك. واختلف الفقهاء فيمن وطئ التي ظاهر منها في خلال الشهرين ليلا متعمدا ونهارا ناسيا. فذهب أبو حنيفة ومحمد ومالك وأحمد في ظاهر مذهبه إلى وجوب استئناف الصوم عملا بظاهر الآية، فإنها أمر بصيام شهرين متتابعين لا مسيس فيهما. فإذا جامعها في خلال الشهرين لم يأت بالمأمور به. وذهب أبو يوسف والشافعي وأحمد في رواية أخرى عنه إلى عدم وجوب الاستئناف، لأنّ هذا الوطء لم يفسد الصوم، فلم يتخلّل الشهرين إفطار، فلم ينقطع التتابع، وليس من شرط التتابع ألا يتخلل الشهرين جماع. وكما أنّ ظاهر الآية وجوب صوم شهرين متتابعين لا مسيس فيهما، كذلك ظاهرها وجوب صوم شهرين متتابعين لا مسيس قبلهما، فلو كان الواطئ في خلالهما غير آت بالمأمور به، لكان الوطئ قبلهما غير آت بالمأمور به، ولفات الامتثال بالوطء قبلهما، ولا قائل به غير أهل الظاهر، فوجب حينئذ حمل قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا على تحريم المسيس قبل أن يتمّ صيام الشهرين المتتابعين، لا على أنّ عدم المسيس شرط في الاعتداد بالصوم.

فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أي فمن لم يستطع صيام شهرين متتابعين بأن لم يستطع الصيام: أو لم يستطع تتابعه لسبب من الأسباب، كهرم، ومرض لا يرجى زواله، أو يطول زمانه، أو لحوق مشقة شديدة لا تحتمل عادة، فعليه إطعام ستين مسكينا. أطلقت الآية إطعام المساكين، ولم تقيده بقدر ولا تتابع، فاقتضى ذلك أنّه لو أطعمهم فغداهم وعشاهم من غير تمليك جاز، وكان ممتثلا لأمر الله تعالى، وهذا قول الجمهور أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وسواء أطعمهم جملة أم متفرقين، وليس معنى هذا [أن] تمليك المساكين لا يجزئ، بل المراد أنّ الآية أمرت بالإطعام الذي هو حقيقة في إعطاء الطعام، سواء أكان ذلك بالتمليك أم بالإباحة، فأيهما وقع من المكفر أجزأه. وأوجب الشافعية تمليكهم، قالوا: نحن لا ننكر أنّ الآية تحتمل التمليك والإباحة، إلا أنّ السنة وردت بالتمليك، وجرى عرف الشرع في الصدقة الواجبة أنّها مقدرة مشروط فيها التمليك، فكما أنّ الزكاة وصدقة الفطر لا بدّ فيهما من التمليك، كذلك الكفارة لا بدّ فيها من التمليك، ولا تجزئ فيها الإباحة. وذلك لأن التمليك أدفع للحاجة، فلا تقوم مقامه الإباحة. ثم اختلفت المذاهب في المقدار الذي يملّك لكل مسكين. فقال الحنفية: يعطى لكل مسكين نصف صاع من برّ، أو صاع من شعير أو تمر، ومستندهم في ذلك أخبار ذكرها صاحب «فتح القدير» . وقال الشافعية: لكل مسكين مدّ من غالب قوت محل المكفّر، لأنّه صحّ في رواية عنه صلّى الله عليه وسلّم تقدير الكفارة بستين مدا، وصحّ في رواية أخرى تقديرها بستين صاعا، والنسخ هنا متعذّر للجهل بالتاريخ، ولإمكان الجمع بين الروايتين، فكان ذلك الجمع متعينا، فحملت رواية الستين صاعا على بيان الجواز الصادق بالندب. ومذهب مالك فيما روى عنه ابن وهب مدان، وقيل: مد وثلثا مد، وقيل: ما يشبع من غير تحديد. وظاهر قوله تعالى: فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أنّه لا بدّ من استيفاء عدد الستين، فلو أطعم واحدا ستين يوما لم يجزه إلا عن واحد. هذا قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه، والثانية إن وجد غيره لم يجزئه، وإن لم يجد غيره أجزأه. وهو ظاهر مذهبه. والثالثة: أنّ الواجب إطعام طعام ستين مسكينا، ولو لواحد في ستين يوما، وهو مذهب أبي حنيفة «1» رحمه الله، قالوا: لأنّ المقصود سدّ خلة

_ (1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1- 2/ 301) .

المحتاج، والحاجة تتجدد كل يوم، فالدفع إليه في اليوم الثاني كالدفع إلى غيره، وكالدفع إليه في اليوم الأول، وأنت تعلم أنّ الآية نصّت على ستين مسكينا، وبتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين مسكينا، فكان التعليل بأنّ المقصود سدّ خلة المحتاج إلخ مبطلا لمقتضى النصّ فلا يجوز. ألا ترى الحنفية حين قالوا: لا يجزئ الدفع لمسكين واحد طعام ستين دفعة واحدة، علّلوا ذلك بأنّ التفريق واجب بالنص، مع أنّ تفريق الدفع غير مصرّح به، وإنما هو مدلول التزامي لعدد المساكين، فالنص على العدد أولى بالاعتبار، لأنّه المستلزم، وغاية ما يعطيه كلامهم أنّه بتكرر الحاجة يتكرر المسكين حكما، فكان تعدّدا حكما. وحينئذ يلزم أنّ يكون المراد بالستين مسكينا في الآية مسكينا حقيقة أو حكما، من باب عموم المجاز الذي يشمل تعدد المساكين حقيقة، وتعددهم حكما، فيكون ستين مسكينا مجازا عن ستين حاجة، وهو أعم من كونها حاجات ستين مسكينا، أو حاجات واحد في ستين يوما. ولا يخفى أنّه لا مقتضى للعدول عن الحقيقة إلى هذا المجاز، وأن ظاهر الآية إنما هو عدد معدوده ذوات المساكين، وتعدد الذوات مما يصح أن يكون مقصودا معقول المعنى لما في تعميم الجميع من بركة الجماعة، وشمول المنفعة، واجتماع القلوب على المحبة والدعاء. وظاهر الاقتصار في الآية على المساكين أنّه لا يجزئ دفع الكفارة إلّا إلى المساكين، ويدخل فيهم الفقراء، كما يدخل المساكين في لفظ الفقراء عند الإطلاق. وقد قالوا: كما علمت المسكين والفقير إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، هذا مذهب الجمهور. وعمّم أصحاب أحمد وغيرهم الحكم في كلّ من يأخذ من الزكاة لحاجته، وهم الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارم لمصلحته والمكاتب، ولكنّ ظاهر القرآن اختصاصها بالمساكين على ما علمت. وقد أطلقت الآية المسكين هنا، ولكنّ الفقهاء شرطوا فيه اعتبارا بمسكين الزكاة ألّا يكون ممن تلزم المكفر نفقته، وألا يكون هاشميا ولا مطلبيا ولا كافرا على خلاف في ذلك بين الفقهاء، منشؤه اختلاف أقوالهم في مسكين الزكاة. واستنبط بعض الشافعية من التعبير في جانب تحرير الرقبة بعدم الوجود، وفي جانب الصيام بعدم الاستطاعة، أنّه لو كان له مال غائب ينتظره ليعتق منه ولا يصوم، ولو كان مريضا يرجى برؤه، ولكنه يدوم في ظنه مدة شهرين يطعم، ولا ينتظر البرء ليصوم، ووافقهم الحنفية في عدم الصوم لا في الإطعام. ثمّ إنّ الله سبحانه قيّد التكفير بكونه قبل المسيس في العتق والصيام، وأطلقه في

الإطعام، فكان ذلك ظاهرا في أنّه لو وطئ قبل الإطعام أو في خلاله لم يأثم، ولا يستأنف، ونقل عن هذا بعض الناس عن أبي حنيفة، ولكنّه توهم، والذي عليه المعول عنده رحمه الله أنّه يأثم، ولا يستأنف الإطعام، وبهذا قال جمهور الفقهاء. أما عدم استئناف الإطعام فوجهه ظاهر، وأما حرمة الوطء فدليل الفقهاء عليها مختلف بحسب اختلافهم في قواعد الأصول، فمن يرى حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحادثة يقول: استفيد حكم ما أطلقه الله مما قيّده، إما بيانا، وإما قياسا قد ألغي فيه الفارق بين الصورتين، فإنّ المعروف عن الشرع في الأعم الأغلب ألا يفرّق بين المتماثلين، وقد ذكر الله مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا مرتين، ونبّه بذلك على تكرّر حكمه في الكفارات الثلاث، ولو ذكره في آخر الكلام مرة واحدة لأوهم اختصاصه بالإطعام، ولو ذكره في أول مرة فقط لأوهم اختصاصه بالعتق، وإعادته في كل مرة تطويل، فكان أفصح الكلام وأبلغه وأوجزه ما جاء به النظم الجليل. وأيضا فإنّه نبه بوجوب التكفير قبل المسيس في الصوم مع تطاول زمنه وشدة الحاجة إلى المسيس فيه، على أن اشتراط تقدم الإطعام الذي لا يطول زمنه أولى. على أنّ قوله صلّى الله عليه وسلّم في الخبر الحسن. وقد تقدّم «اعتزلها حتّى تكفّر عنك» «1» يشمل التكفير بالإطعام. وأما الحنفية الذين لا يرون حمل المطلق على المقيد في مثل هذه الحادثة، فلهم على حرمة الوطء قبل الإطعام دليلان. الأول: أنّ إباحة الوطء قبل الإطعام قد تفضي إلى الممتنع، والمفضي إلى الممتنع ممتنع، بيان ذلك: أنّه لو قدر على العتق أو الصيام في خلال الإطعام أو قبله يلزمه التكفير بالمقدور عليه، فلو أبيح للعاجز عنهما القربان قبل الإطعام ثم اتفق أنّه قدر على العتق فوجب التكفير به، لزم أن يقع العتق بعد التماس، وهو ممتنع. واعترض على هذا الدليل بأنّ القدرة حال قيام العجز بالفقر والكبر والمرض الذي لا يرجى زواله أمر موهوم، والأمور الموهومة لا تراعى في إثبات الأحكام ابتداء، بل غايتها أن تراعى في ثبوت الاستحباب ورعا. والدليل الثاني: ما تقدم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اعتزلها حتى تكفّر» وقد يقال: إن هذا الحديث ليس نصا في الموضوع، لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك للمظاهر قبل أن يتبين عجزه

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (3/ 503) ، كتاب الطلاق، باب في المظاهر حديث رقم (1199) ، وأبو داود في السنن (2/ 242) ، كتاب الطلاق، باب في الظهار حديث رقم (2221) ، والنسائي (5- 6/ 479) ، كتاب الطلاق، باب الظهار حديث رقم (3458) ، وابن ماجه في السنن (1/ 666) ، 10- كتاب الطلاق 26- باب المظاهر حديث رقم (2065) .

[سورة المجادلة (58) : الآيات 9 إلى 13]

عن الإعتاق والصوم، فجاز أن يراد اعتزلها حتى تكفّر بالعتق، أو حتّى تكفّر بالصوم. بقي أن يقال: لم تذكر الآية حكم من عجز عن الخصال الثلاث، أتسقط الكفارة عنه أم تستقر في ذمته ويحرم عليه المسيس حتى يكفر؟ والذي استظهره العلماء أنّها لا تسقط، بل تستقر في ذمته، حتى يتمكن، قياسا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات، كجزاء الصيد وغيره. ولأنّ أصحاب السنن رووا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعان أوس بن الصامت بعذق من تمر، وأعانته زوجته بمثله فكفّر، وأمر سلمة بن صخر أن يأخذ صدقة قومه فيكفّر بها عن نفسه، ولو سقطت بالعجز لما أمرهما بإخراجها. وقد أطلنا هنا بذكر الفروع، لأننا نراها كلها متعلقة بتفسير الآية، والله الموفق. ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الإشارة إلى ما سبق من البيان وتفصيل الأحكام، وتعليمهم إياها. أي ذلك الذي بيّنا فيما مرّ واقع وحاصل لتؤمنوا بالله ورسوله، وتعملوا بما شرع لكم، وترفضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أي الأحكام المذكورة حدود الله فالزموها، وقفوا عندها لا تتعدوها وَلِلْكافِرِينَ الذين يتعدونها عَذابٌ أَلِيمٌ على كفرهم. وأطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظا وزجرا، نظير قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران: 97] . قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) التناجي: التسار والمناجاة المسارّة. مأخوذ من النجوة، وهي ما ارتفع من الأرض، وسمّيت بذلك، لأن المتسارين يكونان بخلوة في نجوة من الأرض، بعيدا عن المتسمعين، أو سمّيت بذلك لأنّ السرّ يصان، فكأنه ارتفع عن الناس، ومن هذا قال الشاعر: وفتيان صدق لست مطلع بعضهم ... على سرّ بعض غير أني جماعها يظلّون شتّى في البلاد وسرّهم ... إلى صخرة أعيا الرّجال انصداعها وقيل: إنّ التناجي من المناجاة، وهي الخلاص، وكأنّ المتناجيين يتعاونان على أن يخلّص أحدهما الآخر. والآية التي معنا خطاب المؤمنين، وأريد من النهي هنا التعريض بأولئك الذين كانوا يدورون في المجالس يشيعون السوء ويتناقلونه، حتى يؤثّر ذلك في أقارب

الغائبين في الغزو من المؤمنين الخلص، فكانوا يقولون: تم كيت وكيت، فكانت تنخلع قلوب أقارب المؤمنين من سوء ما يشاع عن أهليهم، وكان يكاد يؤثّر ذلك فيهم لولا أن الكذب حبله غير طويل، فلم يلبث الغائبون أن يعودوا منصورين على خير ما يكون النصر، ويفتضح أمر أولئك الذين لا تخلو منهم أمة، أولئك دعاة التردد والهزيمة، ضعفاء النفوس، لا تقوى نفوسهم على مجالدة أعدائهم، فيلجؤون إلى مقالة السوء يرددونها، يرجون من وراء ذلك الفتّ في عضد خصومهم، ولقد كان اليهود والمنافقون يلجأون إلى هذه الحال دائما، فكانوا يتناجون دون المؤمنين. وكلّما مروا بهم يتغامزون، فلما كثر ذلك، شكا منهم المؤمنون إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فنهاهم عن ذلك، ولكن الضعيف دائما يجد في هذا التناجي سلوة يستر بها ضعفه، فلم ينتهوا، فأنزل الله فيهم. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ. وكانت هذه الحال حالا ذميمة مؤذية، فنهى المؤمنين أن يفعلوا هذا، فيكون فيهم هذا الصنف من الناس، فهم لم يكن منهم هذا التناجي المذموم حتى ينهوا عنه، إنما نهوا عنه تعريضا بأولئك الذين لا يعيشون إلّا في الظلام، ويصطادون في الماء العكر، أرأيت الآية التي سقنا لك فيهم، وهذا الآية كيف نهي المؤمنون فيها أن يتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهذا هو الذي كان منهم، ثم هو تحذير للمؤمنين أن يفعلوا فعلهم، فيستحقوا ما استحق أولئك من العاقبة. وقيل: بل الخطاب للمنافقين، وسمّاهم مؤمنين باعتبار ثوبهم الذي يظهرون فيه، والظاهر الأول، فإنّ الآية نهت المؤمنين أن يتناجوا بالإثم والعدوان، أي بما هو إثم في ذاته، ثم هو عدوان على منصب الرسالة، إذ يجعل الناس ينفضّون من حول الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ثم أمرتهم إذا كان لا بدّ لهم من التناجي أن يتناجوا بما هو برّ وخير، وبما هو وقاية لهم، وحفظ من عذاب الله، ثم أمرتهم بأن يتقوا الله الذي إليه يحشرون، فيحاسبهم على ما كان منهم بعد أن يطلعهم عليه، لا تخفى عليه منه خافية، ثم قال الله في تعليل ما تقدّم إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا. وأسندت النجوى إلى الشيطان باعتبار أنّه الذي يوسوس بها ويزينها للناس فيرتكبونها، وغايته منه إدخاله الحزن على الذين آمنوا، ولكنّهم ما داموا مؤمنين فلن يضرّهم منه شيء وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ واسم ليس إمّا الشيطان، وإمّا التناجي، وما دام الأمر كلّه لله، فإن قدّر الله مكروها فهو لا بدّ كائن، وإن أراد خيرا فلا رادّ لفضله، يصيب به من يشاء. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ولا يبالوا ما يكون من نجوى الشيطان، لأن الذي

يتناجى به المنافقون إن وقع فهو بقضاء الله ومشيئته، وما شاء لا بدّ أن يكون. والقصد من هذا إزالة ما عساه يدخل في نفوس المؤمنين بتأثير هذه المناجاة. ثم إنّ التناجي بين المؤمنين قد يكون منهيا عنه، روى البخاريّ ومسلم «1» وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس، من أجل أنّ ذلك يحزنه» . قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) كان المؤمنون يتنافسون في القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويتسابقون إلى ذلك، لا يكاد أحد يؤثر غيره بمجلسه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واتفق أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلس يوم الجمعة في الصّفة، وفي المكان ضيق، وكان عليه الصلاة والسلام يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر، منهم ثابت بن قيس بن شماس، وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فردّ النبي عليهم. ثم سلّموا على القوم، فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم، ينتظرون أن يوسع لهم، فشقّ ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لبعض من حوله: قم يا فلان ويا فلان، فأقام نفرا مقدار من قدم، فشقّ ذلك عليهم، وعرفت كراهيته في وجوههم. واتخذ المنافقون من ذلك طريقا عسى أن يصلوا منه إلى قلوب المؤمنين، فقالوا: ما عدل رسول الله بإقامة من أخذ مجلسه وأحبّ قربه لمن تأخر عن الحضور، فأنزل الله قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا الآية. أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان. والتفسّح في المجلس: التوسع فيه، أي إذا قال لكم قائل كائنا من كان: توسعوا، فليفسح بعضكم عن بعض، ليأخذ القادم مكانه في المجلس، فإنّ ذلك سبب المودة والمحبة بينكم، ومدعاة للألفة وصفاء النفوس. ولئن كانت الآية نزلت في خصوص التوسع في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنّها لمرسلة عامة في كل المجالس التي يكون فيها خير للناس، مجالس العلم، ومدارسة القرآن، ومجالس القتال إذا اصطفوا للحرب، ومجالس الرأي والشورى، ومجالس الناس في مجتمعاتهم للأغراض الدينية.

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (7/ 183) ، 79- كتاب الاستئذان، 46- باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة حديث رقم (2690) ، ومسلم في الصحيح (4/ 1718) ، 39- كتاب السلام، 15- باب تحريم المناجاة حديث رقم (37/ 2184) .

يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ في رحمته، أو في منازلكم في الجنة، أو في قبوركم، أو في دوركم، أو في رزقكم، وفي كل ما تحبّون التوسعة فيه. وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا النشز: الارتفاع في مكان، والمراد هنا النهوض من المجلس، أي: وإذا قيل لكم انهضوا للتوسعة على المقبلين فانهضوا، ولا تباطؤوا. وقال الحسن وقتادة والضحاك: إنّ المعنى: وإذا دعيتم إلى قتال أو صلاة أو طاعة فأجيبوا. وقيل: إذا دعيتم للقيام عن مجلس الرسول فقوموا، لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أحيانا يؤثر الانفراد في أمر الإسلام أو لبعض شأنه، ولا مانع من تعميم الحكم في كل مجلس، فإذا دعت الحاجة إلى أن ينفرد صاحب المجلس في أمر، أو إلى أن يخلو ببعض الجالسين، فله أن يطلب في رفق إلى الجالسين أن يقوموا، إذا لم يترتب على ذلك مفسدة أعظم ضررا من فوات المصلحة التي دعت إلى الانفراد. وهذا مما لا نزاع لأحد في جوازه. نعم لا يجوز للقادم أن يقيم أحدا ليجلس هو في مجلسه، فقد روى مالك والبخاريّ ومسلم «1» وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه، ولكن تفسّحوا أو توسّعوا» . وقد جرى الحكم أنّ من سبق إلى مباح فهو أولى به، والمجالس من هذا المباح، وعلى القادم أن يجلس حيث انتهى به المجلس، إلا أنّ مكارم الأخلاق تقضي على الجالسين بتقديم أولي الفضل وأهل الحجى والحلوم، بذلك جرى عرف الناس وعوائدهم في القديم والحديث. ولقد كان هذا هو الشأن بين الصحابة في مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فكانوا يقدّمون بالهجرة وبالعلم وبالسن. روى أبو بكر بن العربي «2» بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد وقد طاف به أصحابه إذ أقبل علي بن أبي طالب، فوقف وسلّم، ثم نظر مجلسا يشبهه، فنظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وجوه أصحابه أيهم يوسّع له، وكان أبو بكر جالسا على يمين النبي صلّى الله عليه وسلّم، فتزحزح له عن محله، وقال: هاهنا يا أبا الحسن، فجلس بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبين أبي بكر، فقال: «يا أبا بكر! إنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل» .

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1714) ، 39- كتاب السلام، 11- باب تحريم إقامة الإنسان، والبخاري في الصحيح (7/ 177) ، 79- كتاب الاستئذان، 31- باب لا يقيم الرجل الرجل حديث رقم (6269) . (2) انظر أحكام القرآن لابن العربي (4/ 1747) .

وثبت في «الصحيح «1» أنّ عمر بن الخطاب كان يقدّم عبد الله بن عباس على الصحابة، فكلّموه في ذلك، فدعاهم ودعاه، وسألهم عن تفسير إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) [النصر: 1] فسكتوا. فقال ابن عباس: هو أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم، ثم قال: بهذا قدمت الفتى. وكان التقدم في مجلس الجمعة بالبكور، إلا ما يلي الإمام، فإنّه لذوي الأحلام والنّهى. وكان التقدم في مجلس القتال إذا اصطفوا للحرب لذوي النجدة والمراس من الناس، والتقدم في مجلس الرأي والشورى لمن له بصر بالشورى، وخبرة بالأمور. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ. اختلف المفسرون في المراد بالموصول هنا الَّذِينَ آمَنُوا ووَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فقال جماعة: المراد من (الذين آمنوا) كلّ المؤمنين، سواء من أوتوا العلم منهم، ومن لم يؤتوه. والمراد من (الذين أوتوا العلم) العلماء من المؤمنين خاصة، وعلى ذلك يكون العطف من عطف الخاص على العام، تعظيما للعلماء بحسبانهم، كأنهم جنس آخر. وقال قوم: المراد بالذين آمنوا: المؤمنون الذين لم يؤتوا العلم، بدليل مقابلته بالذين أوتوا العلم، وهذا مروي عن ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم، وعليه يكون العطف عطف متغايرين بالذات، ويكون الموصول الثاني معمولا لفعل محذوف دلّ عليه المذكور، ويكون معمول الفعل المذكور محذوفا، دلّ عليه المعمول المذكور، ويكون الكلام من عطف الجمل، والتقدير: يرفع الله الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات تليق بهم، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات. وقال آخرون: المراد بالموصولين واحد، والعطف لتنزيل التغاير في الصفات منزلة التغاير في الذوات. والمعنى: يرفع الله الذين آمنوا العالمين درجات. وعلى هذه الأوجه يكون رفع الدرجات جزاء لامتثالهم لأمر النهوض من المجالس، وفي هذا الجزاء مناسبة للعمل المأمور به، وهو ترك ما كانوا يتنافسون فيه من الجلوس في أرفع المجالس وأقربها من النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما كان الممتثل لذلك يخفض نفسه تواضعا لله، وامتثالا لأمره جوزي على تواضعه برفع الدرجات و «من تواضع لله رفعه» وذهب آخرون إلى أنّ جملة يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ كالتعليل للأمر السابق، أي إذا قيل لكم انهضوا للتوسعة على القادمين فانهضوا، لأنّ

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (6/ 113) ، 65- كتاب التفسير، 40- باب قوله تعالى: (فسبح بحمد ربك) حديث رقم (4970) .

منهم مؤمنين علماء رفعهم الله درجات على غيرهم، فأوسعوا لهم في المجالس وأكرموهم كما أكرمهم الله. ثم الآية بعد هذا دليل على فضل العلماء، ولا يقلّ ما روي من الآثار والأخبار في ذلك عن دلالة الآية في الظهور والوضوح، فقد أخرج الترمذي وأبو داود «1» وغيرهما عن أبي الدرداء مرفوعا «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» . وأخرج الدارمي «2» عن عمر بن كثير عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام، فبينه وبين النبيين درجة» وعنه صلّى الله عليه وسلّم: «بين العالم والعابد مئة درجة، بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعون سنة» «3» . وعنه صلّى الله عليه وسلّم: «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء» «4» . وحسب العلماء أن يلوا الأنبياء، ويتقدّموا الشهداء. والمراد بالعلم الذي أوتوه هو العلم النافع في الدنيا والدين، ولن يكون العلم نافعا يرفع صاحبه حتى يكون هو من العاملين، وإلا كان من الذين يقولون ما لا يفعلون، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) . قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) قد علمتم فيما سبق أن الصحابة كانوا يتنافسون في القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مجلسه، ويتسابقون عليه، وأنه صعب على بعضهم أن يقوم للمتأخر، وقد كان بعضهم يناجي الرسول صلّى الله عليه وسلّم في بعض شأنه، وكانوا يكثرون من هذه المناجاة، فكان ذلك يشقّ على الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقد يستثقله الحاضرون، فأراد الله أن يحدّ من هذه المناجاة، وهي لا يمكن منعها، فقد يكون لبعض الناس شأن لا يحبّ الكلام فيه إلا مناجاة، وشؤون الناس لا يمكن ضبطها، ولا معرفة مقدار الأهمية فيها، إلا بعد

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 47) ، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه حديث رقم (2682) ، وأبو داود في السنن (3/ 313) ، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم حديث رقم (3641) . [.....] (2) رواه الدارمي في السنن (1/ 100) ، باب فضل العلم والعالم. (3) المرجع نفسه. (4) رواه ابن ماجه في السنن (2/ 1443) ، 37- كتاب الزهد 37- باب ذكر الشفاعة حديث رقم (4313) .

حصول المناجاة بالفعل، فأمر الله المؤمنين أن يقدّموا صدقات عند مناجاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، بهذا ترى أنّ الآية متصلة بما قبلها تمام الاتصال، فكلّ منهما متعلّق بما يكون في مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما يفعله الجالسون في المجلس الشريف. أمر الله المؤمنين بذلك حدّا للمناجاة التي تكون لغير حاجة ومنعا منها، ونفعا للفقراء الذين يكونون في مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقد تدعو المناجاة إلى أن يقوموا من مجلسهم لهذا الذي يريد أن يناجي الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإذا كان هذا القيام سيعود بالفائدة على الفقراء اطمأنت قلوب القائمين، فقراء كانوا أو أغنياء، فإنّ الأغنياء يطيب خاطرهم لنفع الفقراء. والتعبير بقوله تعالى: بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً يراد منه أن تكون الصدقة حاضرة عند النجوى، على طريق تمثيل النجوى بمن له يدان، أو هو استعارة مكنية تقوم على تشبيه النجوى بالإنسان، وإثبات اليدين تخييل. ويقول المفسرون: إن هذا الأمر اشتمل على فوائد كثيرة: منها: تعظيم أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإكبار شأن مناجاته، كأنها شيء لا ينال بسهولة. ومنها: التخفيف عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتقليل من المناجاة. ومنها: تهوين الأمر على الفقراء الذين قد يغلبهم الأغنياء على مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فإنهم إذا علموا أنّ قرب الأغنياء من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومناجاتهم له تسبقها الصدقة لم يضجروا. ومنها: عدم شغل الرسول صلّى الله عليه وسلّم بما لا يكون مهما من الأمور، فيتفرغ للرسالة فإنّ الناس وقد جبلوا على الشحّ بالمال يقتصدون في المناجاة التي تسبقها الصدقة. ومنها: تمييز محبّ الدنيا من محبّ الآخرة، فإنّ المال محكّ الدواعي. هذا وقد اختلف العلماء في مقتضى هذا الأمر، أهو الوجوب أم هو الندب. فقال بعضهم بالوجوب، مستدلا بأنّ الآية فيها أمر بتقديم الصدقة عند النجوى، والأمر للوجوب، ثم قال الله في آخر الآية: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ومثل هذا لا يقال إلا في الواجبات التي لا تترك. وقال بعضهم: إن الأمر هنا للندب والاستحباب، وذلك أنّ الله قال في الآية: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ومثل هذا قرينة تصرف الأمر عن ظاهره، وهو إنما يستعمل في التطوع دون الفرض. وأيضا قال الله تعالى في الآية التي بعد هذه مباشرة: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ وهذا يزيل ما في الأمر الأوّل من احتمال الوجوب، انظر إلى قوله: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ.

وقد أجاب القائلون بالوجوب: بأنه كما يوصف التطوع بأنّه خير وأطهر، كذلك يوصف الفرض، بل هو أولى. وأما آية أَأَشْفَقْتُمْ فهي ناسخة للوجوب الذي ثبت بالأمر، ولا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة اتصالهما في النزول. وهؤلاء القائلون بالوجوب وبالنسخ اختلفوا في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ، فقال بعضهم: ما بقي المنسوخ إلّا ساعة من نهار، وينسب ما روي عن تأخّر كبار الصحابة عن تقديم الصدقة إلى ضيق الوقت، وروي أنه بقي الأمر عشرة أيام ثم نسخ. وقد روى عن علي بن أبي طالب أنه أول من عمل بهذا الأمر، وآخر من عمل به، وأنه كان عنده دينار فصرفه إلى عشرة دراهم، فكلما ناجى الرسول صلّى الله عليه وسلّم قدّم درهما. ويرى أبو مسلم الأصفهاني عدم وقوع النسخ، ويقول في هذه الآية: إنّه كان يوجد بين المؤمنين جماعة من المنافقين، كانوا يمتنعون من بذل الصدقات، وإنّ فريقا منهم عدل عن نفاقه، وصار مؤمنا ظاهرا وباطنا إيمانا حقيقيا. فأراد الله تعالى أن يميزهم عن المنافقين الذين لا يزالون على نفاقهم، فأمر بتقديم الصدقة، ليتميز هؤلاء من هؤلاء، وإذا كان هذا التكليف لهذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت، لا جرم يقدر التكليف بذلك الوقت. قال الفخر الرازي: وحاصل قول أبي مسلم أنّ ذلك التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة، فوجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى الغاية المخصوصة، فلا يكون هذا نسخا. ثم قال: وهذا كلام حسن لا بأس به، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ ومنهم من قال: إنه منسوخ بوجوب الزكاة. ونحن نرى مع الفخر الرازي أنّ كلام أبي مسلم كلام حسن، لكنّا نبحث عن أولئك الذين حسن إيمانهم، الذين أريد تمييزهم من المنافقين، فلا نجد أنّ أحدا تصدّق. بل لقد روي أنّه لم يعمل بهذه الآية إلا الإمام علي بن أبي طالب، ولقد عجب الناس كيف لم يعمل كبار الصحابة بهذا التكليف، وصاروا يعتذرون عنه بأنه لم يبق إلا ساعة من نهار، ومنهم من قال: إنّه استمر عشرة أيام، ومنهم من قال: نسخ قبل أن يعمل به أحد. ويعجبنا قول الفخر في الدفاع عن عدم عمل الصحابة: أنه على تقدير أن أفاضل الصحابة وجدوا الوقت ولم يفعلوا فهذا لا يجر إليهم طعنا، وذلك أن الإقدام على هذا العمل مما يضيق به قلب الفقير، ويوحش قلب الغني، لأنه إن لم يفعل جرّ ذلك إلى الطعن فيه، فهذا العمل لما كان سببا لحزن الفقير، ووحشة الغني، لم يكن في تركه كبير مضرة، بل لقد بينا أنهم إنما كلّفوا بهذه الصدقة ليتركوا هذه المناجاة. ولما كان الأولى بهذه المناجاة أن تكون متروكة، لم يكن تركها سببا للطعن.

والذي أعجبنا من كلام الفخر هو الجزء الأخير منه، وأما ما قبله فهو قابل للمناقشة، وما نرى في عدم فعل الصحابة طعنا ولا شينا، بل إنّهم فهموا أنّ شرعية هذا الحكم قصد منها الحد من المناجاة الكثيرة، فيضيع وقت الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقد سبق أن قلنا: إن المناجاة لا يمكن منعها، فمنها الضروري، ومنها ما يكون فيه مصلحة عامة للمسلمين. وأما الصدقة فلم تطلب لأنّها صدقة، فالصدقات مطلوبة، ومرغب فيها من غير توقف على المناجاة، ولو أنّ الصحابة فهموا أن المقصود التوسل بالمناجاة لتكون بابا من أبواب الصدقة ما تأخروا، فمنهم من نزل عن جميع ماله، ومنهم من كان يريد أن يتصدّق بالثلثين، لأنه لا يرثه إلا ابنة واحدة. وما دام المقصود القصد من المناجاة التي تشغل الرسول صلّى الله عليه وسلّم فليحرصوا على القصد، على أنّهم وجدوا في قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فسحة. فمن ذا الذي كانت دراهمه ودنانيره حاضرة معه في مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلّم حتى يتصدق بها، أو يقال: إنه لم يمتثل الأمر؟ ونظنّ أنّا بما قدمنا نجدك في غنى عن تفسير الآية الأولى، وأما قوله: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) فمعناه أخفتم تقديم الصدقات لما فيها من إنفاق المال، فإذ لم تفعلوا ما أمرتم به، وتاب عليكم، ورخّص لكم في الترك، فأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، ولا تفرّطوا فيها وفي سائر الطاعات. وليس يشتمّ من هذه الآية أنه وقع منهم تقصير، فإنّ التقصير إنما يكون إذا ثبت أنه كانت مناجاة لم تصحبها الصدقة، والآية قالت: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا أي ما أمرتم به من التصدق، وقد يكون عدم الفعل لأنهم لم يناجوا، فلا يكون عدم الفعل تقصيرا. وأما التعبير بالإشفاق من جانبهم فلا يدل على تقصيرهم، فقد يكون الله علم أنّ كثيرا منهم استكثر التصدق عند كل مناجاة في المستقبل لو دام الوجوب، فقال الله لهم: أَأَشْفَقْتُمْ. وكذلك ليس في قوله: وَتابَ اللَّهُ ما يدل على أنهم قصّروا، فإنّه يحمل على أنّ المعنى أنه تاب عليهم برفع التكليف عنهم تخفيفا، ومثل هذا يجوز أن يعبّر عنه بالتوبة، ولذلك عقب عليه بما يكون شكرا على هذا التخفيف فقال: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعني أنّه إذا تاب عليكم، وكفاكم هذا التكليف، فاشكروه بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومداومة الطاعة، لأنه المحيط بأعمالكم ونياتكم.

من سورة الحشر

من سورة الحشر قال الله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) أفاء: قال المبرّد: يقال: فاء إذا رجع، ومنه قوله تعالى في الإيلاء: فَإِنْ فاؤُ [البقرة: 226] ، وأفاءه الله ردّه، وقال الأزهري «1» : الفيء ما ردّه الله على أهل دينه من أموال من خالف أهل دينه بلا قتال: إمّا بأن يجلوا عن أوطانهم ويخلوها للمسلمين، أو يصالحوا على جزية يؤدونها من رؤوس أموالهم، أو مال غير الجزية يفتدون به من سفك دمائهم، كما فعله بنو النضير حين صالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، على أنّ لكل ثلاثة منهم حمل بعير مما شاؤوا، سوى السلام، ويتركون الباقي، فهذا المال الذي تركوه هو الفيء، وهو ما أفاء الله على المسلمين، أي رده من الكفار إلى المسلمين. ولابن العربي في تسمية أيلولة هذه الأموال فيئا معنى لطيف لا بأس أن نطلعك عليه، قال رحمه الله: ما أَفاءَ يريد ما ردّ، وحقيقة ذلك، أنّ الأموال في الأرض للمؤمنين حقا، ولعله يشير بذلك إلى معنى قوله تعالى: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] فيستولي عليها الكفار مع ذنوبهم عدلا، فإذا رحم الله المؤمنين ردّها عليهم من أيدي الكفار رجعت في طريقها ذلك، فكان ذلك فيئا. والضمير في (منهم) للذين كفروا من أهل الكتاب المذكورين في أول السورة: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ وهم يهود بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ يقال: وجف الفرس والبعير: يجف وجفا ووجيفا، أسرع في السير، وأوجفه صاحبه: حمله على السير السريع، والضمير في (عليه) يرجع إلى ما في قوله: ما أَفاءَ اللَّهُ والركاب: ما يركب، وهو اسم جمع، وقد خصّ في لسان العرب

_ (1) محمد بن أحمد، إمام في اللغة، توفي (370 هـ) ، من مصنفاته تهذيب اللغة، انظر الأعلام للزركلي (5/ 311) .

بما كان من الإبل خاصة، لا يكادون يطلقون اسم الراكب إلّا على راكب البعير، وإن كانت التسمية للاشتقاق من الركوب، ويوجد هذا المعنى في غير راكب البعير، لكنّ العرب كثيرا ما يقصرون اللفظ على بعض ما يوجد فيه مبدأ الاشتقاق. وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ المعنى: أنّ هذه الأموال وإن كانت فيئا فإنّ الله جعلها لرسوله خاصّة، لأن رجوعها له لم يكن من طريق قتالكم لهم، بل كان عن طريق إلقاء الرعب في قلوبهم، ولم يتكلف الناس فيه سفرا، ولا تجشّموا رحلة، ولا أنفقوا مالا، وما كان من عمل الناس في حصارهم فهو عمل يسير لا يعتد به في جانب إلقاء الرعب فيهم، ومن أجل ذلك كان الفيء للرسول صلّى الله عليه وسلّم. ولعلك من هذا استشعرت أنّ في الآية محذوفا دلّ عليه الكلام، وهو خبر (ما) في قوله: وَما أَفاءَ اللَّهُ تقديره فلا شيء لكم فيه، دلّ عليه قوله: فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يظهركم على أعدائكم من غير حاجة إلى حرب هذا هو تفسير هذه الآية. وقد جاء الكلام فيما يؤخذ من الأعداء في ثلاثة مواضع من القرآن: الأول: في قوله تعالى في سورة الأنفال: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ [الأنفال: 41] . والموضع الثاني: هو الآية الأولى التي معنا: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ الآية. والموضع الثالث: هو الآية التي بعدها: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ. وقد نقلنا لك من الآيات ما يفهم منه أنّ الآيات تبدو متخالفة الحكم، فآية الأنفال تقول: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ فأسندت الغنم لهم، ثم قالت: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ إلخ فدلّ ذلك على أنّ الغنيمة توزّع أخماسا، على حسب ما فهمته في الفقه، وما عرفته في تفسير الآية في الأنفال. والآية التي معنا تقول: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ومعنى هذا على ما علمت: أن ما ردّه الله على رسوله من أموال الكفار لا شيء لكم فيه، لأنّكم لم توجفوا عليه، وإنما هو للرسول صلّى الله عليه وسلّم خاصة، يصرفه كيف شاء. والآية الثالثة خالفت هذه الآية، فلم تقل منهم، بل قالت: مِنْ أَهْلِ الْقُرى ووزّعت الفيء كتوزيع الغنيمة، مع فرق واحد هو أنّ آية الأنفال وزعت فيها الغنيمة وقيل فيها: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وآية الحشر جعلت الفيء بين الذين ذكروا في الأنفال، ولم يشر فيها إلى الخمس.

ولقد كان ما بدا من خلاف بين الآيات مثار الخلاف بين العلماء في مدلول الآيات، فمنهم من يرجع آية الحشر الثانية إلى آية الأنفال، ويجعل آية الحشر الأولى منسوخة، ومنهم من يقول: الآيات الثلاث لثلاثة معان متباينة: فآية الأنفال في الأموال تؤخذ عنوة. وآية الحشر الأولى [6] فيما يتركه الكفار فرارا ويأخذه المسلمون بعدهم من غير قتال. وآية الحشر الثانية [7] فيما يؤخذ صلحا من جزية وخراج، وما شابه ذلك. والأحكام في الآيات مختلفة بحسب ذلك، فما يكون غنيمة يقسّم بين الغانمين، وما يؤخذ فرارا فهو للرسول، يأكل منه، ويصرفه بعد ذلك في مصالح المسلمين، وما يؤخذ صلحا فهو لمن ذكر الله في آية الحشر الثانية، وسنزيدك بعض الإيضاح فنقول: إنّ من العلماء من جعل الغنيمة غير الفيء، وقال: الغنيمة: ما أخذه المسلمون من أموال الكفار في الحرب، والفيء: ما أخذ من غير حرب، وجعل آية الأنفال في الغنيمة، وقال: إن آية الحشر الأولى في الكفار من أهل الكتاب من بني النضير، لم يتكلّف المسلمون عناء في مقاتلتهم، ولم يكن للمسلمين يومئذ خيل ولا ركاب، ولم يقطعوا إليها مسافات كثيرة، إذ لم يكن بينها وبين المدينة سوى ميلين، ولم يركب إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان راكبا جملا، فلما كانت المقاتلة قليلة، ولم يكن للمسلمين فيها خيل ولا ركاب، جعل ما أخذ من الكفار كلّه للرسول صلّى الله عليه وسلّم، يعول منه أهله، وينفق الباقي في مصالح المسلمين، ثم جعل الآية الثانية من الحشر بيانا لما أفاء الله على المسلمين من أموال سائر الكفار، ويجعل الآية الثانية كأنّها جواب سؤال نشأ من الآية الأولى كأنّه قيل: قد علمنا حكم الفيء من بني النضير، فما حكم الفيء من غيرهم، فقال: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ولذلك ترى العطف. وقد نقل الآلوسي الفرق بين الغنيمة والفيء عن بعض الشافعية، وقال: إن الحنفية قالوا بالتفرقة أيضا، ونقولها عن «المغرب» وغيره من كتب اللغة، قالوا: الغنيمة: ما نيل من الكفار عنوة والحرب قائمة. وحكمها أن تخمّس، وباقيها للغانمين خاصة. والفيء: ما نيل منهم بعد وضع الحرب أوزارها، وصيرورة الدار دار الإسلام، وحكمه أن يكون لكافة المسلمين، ولا يخمّس بل يصرف جميعه في مصالح المسلمين. ونقل هذا الحكم الإمام ابن حجر عمّن عدا الإمام الشافعي من الأئمة الأربعة: وقال: إن الشافعي خمّس الفيء قياسا على الغنيمة التي ثبت التخميس فيها بالنص. بجامع أنّ كلّا منهما مال الكفار، استولى عليه المسلمون، واختلاف سبب الاستيلاء بالقتال وغيره لا تأثير له. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه صنع بأرض العراق ما حكمت به الآية،

وكان بعض الصحابة قد طلب إليه قسمته بين المسلمين كالغنيمة، فاحتجّ عليهم بالآية، ووافقه علي وعثمان وطلحة والزبير، بل إنّ المخالفين أيضا رجعوا إليه بعد ما حكّم الآية. والذي يعنينا هنا هو اختلاف العلماء في الفيء يخمّس أو لا يخمّس؟ أما توزيع الخمس فليس لنا به تعلق، لأنه ليس في الآية، ولأنّه تقدّم خلاف العلماء فيه في سورة الأنفال [28] فارجع إليه إن شئت، ولنأخذ في تفسير الآية الثانية. قال الله تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ. قد ذكر الله تعالى أنّ ما ردّه على رسوله من أهل القرى هو لمن ذكرهم في النظم الكريم، وهم ستة، وقد اختلف العلماء- الذين قالوا بالقسمة أخماسا، أربعة أخماس للغانمين، وخمس لمن ذكر الله تعالى في قسمة هذا الخمس بين الذين ذكروا- فقال جماعة: يقسّم خمسة أسهم للخمسة الذين ذكرهم الله، وهم الرسول، وذو القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل وأما الله سبحانه وتعالى فإنّما كان ذكره معهم افتتاح كلام تيمّنا بذكره، وإلا فهو مالك السموات والأرض. وذهب بعضهم إلى أنّ الخمس ستة أسهم، منها سهم الله يصرف إلى حاجة بيته، وهو الكعبة، إن كانت قريبة، وإلا فإلى مسجد كلّ بلدة ثبت فيها الخمس، ويقول الجمهور: إنّ جعل السهام ستة خلاف المعهود عن السلف في تفسير ذلك. وأما سهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقد كان له في حياته، ينفق منه على نفسه وعياله، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين. ثم اختلف العلماء في هذا السهم بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم، فذهب الحنفية إلى سقوطه، وقالوا في تعليل ذلك: إنّ الخلفاء الراشدين ذهبوا فيه هذا المذهب، ولو كانوا يعلمون انتقاله للخلفاء ما أسقطوه، ثم إنّه جعل للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو مشتق من الرسالة، وذلك مؤذن بأنّ الرسالة علة في هذا الجعل. وقد انتهت الرسالة، فينتهي ما نيط بها من الحكم. ونقل عن الشافعي رضي الله عنه: أنّه يصرف للخليفة، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يستحقه لإمامته لا لرسالته، ولكنّ الأكثر من الشافعية على أنّ السهم باق، ولكنه يصرف في مصالح المسلمين العامة، وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مالي مما أفاء الله عليكم إلّا الخمس، والخمس مردود عليكم» «1» . وأما سهم ذي القربى فهو لذي قرباه صلّى الله عليه وسلّم، وهم معروفون في الفقه، وقد مرّ

_ (1) انظر ما رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/ 186) .

الخلاف فيهم في سورة الأنفال، فلا نعيده، وكذا بيان اليتامى، والمساكين، وابن السبيل، فارجع إليه إن شئت. هذا وممّن قال بأن الفيء كلّه للرسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته الإمام الغزالي رضي الله عنه، وممن ذهب إلى أنّ الفيء يصرف مصرف الغنيمة الإمام الزمخشري «1» رضي الله عنه، فقد جعل آية الحشر الثانية بيانا للآية الأولى، مستدلا بترك العطف على ما مرّ. وذهب أيضا إلى أنّ المراد بأهل القرى، هو المراد بالضمير في بني النضير في مِنْهُمْ وهم بنو النضير. وذهب المحقق ابن عطية إلى أنّ الآية الأولى في بني النضير خاصة. وإلى أنّ الفيء فيها للرسول صلّى الله عليه وسلّم خاصة، وأما الآية الثانية فالمراد من أهل القرى فيها غير بني النضير، وهم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب التي تسمّى قرى عرينة، والحكم في أموال هؤلاء هو ما قال الله: إنها فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى. كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ الدولة بضم الدال وفتحها ما يدول ويدور للإنسان من الغنى والغلبة، وفرّق بعضهم بين مضموم الدال ومفتوحها، فقالوا: إنّها بضم الدال ما يدول للإنسان من المال، وبفتحها ما يكون له من النصر. وقال بعضهم: هي بالضم اسم لما يتداول، وبالفتح مصدر بمعنى التداول، وقال بعضهم: بل هما لفظان لمعنى واحد. والجملة بعد هذا تعليل لتقسيم الفيء، والضمير في يكون للفيء. والمعنى. أنا قسمنا الفيء هذا التقسيم كي لا يختص به الأغنياء، أو كي لا يكون دولة وغلبة جاهلية بينكم، كما كان الأغنياء منهم يستأثرون بالغنيمة، وكانوا يعتزّون به. وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. ذهب بعض المفسرين إلى أنّ معنى (آتاكم) أعطاكم من الفيء، وأنّ ما نهاكم أي عن أخذه، فانتهوا عن أخذه، وكأنّه يستعين على ذلك بالمقام. وذهب بعضهم إلى أنّها في كلّ ما أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم به ونهى عنه، وفي جملة ذلك الفيء استدلالا بما في الآية من ألفاظ العموم، ولأنّه قال بعدها: وَاتَّقُوا اللَّهَ حيث يتناول كل ما يجب فيه التقوى. والآية بعد هذا توجب امتثال أوامر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونواهيه أيضا، والله أعلم.

_ (1) انظر تفسير الكشاف للزمخشري (4/ 502) .

من سورة الممتحنة

من سورة الممتحنة قال الله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) واختلف العلماء في المراد من الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فذهب بعضهم إلى أنّهم مؤمنون، قعدوا عن الهجرة ضعفا منهم عن القيام بها. وقيل: بل هم مؤمنون من مكة، أقاموا بين الكفرة، وتركوا الهجرة مع القدرة، وزاد مجاهد على أن المهاجرين والأنصار كانوا يريدون برّ هؤلاء القاعدين عن الهجرة، ولكنهم تحرّجوا من برهم، لتركهم فرض الهجرة. وعلى هذين القولين تكون الآية باقية الحكم، وأنّه ليس ما يمنع المسلمين في دار الإسلام من بر إخوانهم المسلمين الذين بقوا في دار الحرب. وقال بعضهم: إنّ المراد النساء والصبيان من الكفرة، الذين لا يقاتلون، وهو مروي عن عبد الله بن الزبير. وقال الحسن: هم قوم من خزاعة وبني الحرث بن كعب، وكنانة، ومزينة: كانوا صالحوا النبي صلّى الله عليه وسلّم على ألا يقاتلوه، ولا يعينوا عليه، وعليه فالآية خاصة بعدم النهي عن برّ من بينه وبين المسلمين عهد، وهي باقية الحكم. وقد أخرج البخاريّ وأحمد «1» ، وجماعة أنها في أم أسماء بنت أبي بكر، وكانت قد قدمت على بنتها أسماء بهدية، وهي مشركة، وقيل: بل جاءت تطلب صلتها، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها، حتّى أرسلت إلى عائشة رضي الله عنها لتسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذا، فسألته، فأنزل الله قوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ الآية. قال الآلوسي: والأكثر على أنها في كفرة اتصفوا بما في حيز الصلة، سواء في

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (3/ 192) ، 5- كتاب الهبة، 29- باب الهدية حديث رقم (2620) ، وأحمد في المسند (6/ 344) .

ذلك النساء والصبيان والمعاهدون، ومجيئها بعد آية لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ يقرّب هذا، فقد بيّن الله تعالى أنّه لا ينهانا عن برّ أحد من الناس، إلا من قاتلنا، وظاهر على قتالنا، وأخرجنا من ديارنا، وظاهر على إخراجنا. وأما من عدا هؤلاء من الكفار فلم ينهنا عن برهم والإقساط إليهم، إذ علّة النهي عن البرّ أنّهم آذونا، فلا يكونون أهلا لبرنا، فإذا انتفت العلة انتفى النهي. ومعنى قوله: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ أنّه لا ينهى المسلمين عن الإحسان إلى من اتصفوا من الكفرة بهذه الصفات المذكورة، وهي عدم المقاتلة في الدين، وعدم إخراج المسلمين من ديارهم، ومعنى الإقساط الإفضاء بالقسط، وهو العدل، فمعنى تقسطوا إليهم تفضوا إليهم بالقسط والعدل، فالإقساط مضمّن معنى الإفضاء، ولذلك عدّي بإلى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين. وقد استدلّ بالآية بعض العلماء على جواز التصدّق على أهل الذمة دون أهل الحرب على وجوب النفقة للأب الذمي دون الحربي، لأنّه يجب قتله والاستدلال على هذا الأخير استدلال عجيب، إذ كلّ ما في الآية عدم النهي عن البرّ، وهل عدم النهي عن البرّ يستلزم وجوب البر، والشهاب الخفاجي قد نقل أنّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] وإن كان القول بالنسخ لا يكاد يظهر. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ. أي ليس النهي عن موالاة الأعداء نهيا عن البر بمن لم يقاتلكم، ولم يخرجكم من دياركم، إنما ينهاكم الله عن أعدائه وأعدائكم، الذين قاتلوكم من أجل دينكم، وألجئوكم إلى الخروج من دياركم، وظاهروا على إخراجكم، وأعانوا عليه، هؤلاء هم الذين نهاكم الله وينهاكم أن تتولوهم، وتلقوا إليهم بالمودة. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسهم بتعريضها للعذاب، حيث فعلوا ما يوجبه، وهو اتخاذ الأعداء أولياء وهم ظالمون، لأنّهم وضعوا الولاية وضع العداوة، وكأنه لا يستحق وصف الظلم إلّا هؤلاء. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) غير المؤمنين فريقان: أحدهما: كافر، عدو لله وللمؤمنين، لا يألو جهدا في أذاهم، والإيقاع بهم ما

استطاع إلى ذلك سبيلا، وهؤلاء قد نهانا الله عن برّهم، وتوليهم، وموادتهم، بل أمرنا أن نقعد لهم كل مرصد، وأن نعدّ لقتالهم ما استطعنا من قوة ومن رباط الخيل. والفريق الثاني: قوم كافرون، ولكنهم لم يقاتلونا، ولم يخرجونا من ديارنا، ولم يظاهروا، إما لعهد بيننا وبينهم، وإما لأنهم قوم ضعاف لا يستطيعون حربا، ولا قتالا، ولا إخراجا، ولا مظاهرة على إخراج، وهؤلاء قد بيّن الله أنه لا ينهانا عن برّهم والإقساط إليهم. وهناك فريق لا يعلم المؤمنون حالهم على الجزم، وهم يظهرون الإيمان، فهؤلاء بيّن الله حكمهم في الآيات التي معنا، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ إلخ نزلت هذه الآية بعد صلح الحديبية، وقد روي أنّه صلّى الله عليه وسلّم أمر عليا رضي الله عنه أن يكتب عقد الصلح، فكتب: باسمك اللهم. هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكفّ بعضهم عن بعض، على أنّ من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه ردّه عليه، ومن جاء قريشا من محمّد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنّه لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحبّ أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. وقد نفّذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العهد، فجاءه أبو جندل بن سهيل فرده، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في مدة العهد، وإن كان مسلما. ثم جاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أمّ «1» كلثوم بنت عقبة بن معيط إحدى المؤمنات الجائيات، فخرج أخواها عمّار والوليد، حتى قدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكلّماه في أمرها ليردها إلى قريش، فنزلت الآية، فلم يردها صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: نزلت الآية في امرأة تسمّى سبيعة بنت الحارث الأسلمية، جاءت مؤمنة مهاجرة، وطلبوا ردّها. فنزلت «2» الآية. وقيل: نزلت في غيرها، ولعل سبب النزول متعدّد، وعلى أي حال فالآية في امرأة أو نساء جئن مهاجرات بعد صلح الحديبية. وقد منعت الآية إرجاع هؤلاء النسوة إلى الكفار. فقيل: نزلت الآية بيانا لنص العقد، وأنه ما تناول إلّا الرجال، غير أنّ هذا يكون من تخصيص العام بالمتأخر، لأنّ نصّ عقد الصلح كان عاما «من جاء إلى محمد من قريش دون إذن وليه ردّه عليه»

_ (1) انظر أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (7/ 376) ترجمة (7585) . (2) رواه البخاري في الصحيح (5/ 80) ، 64- كتاب المغازي، 36- باب غزوة الحديبية حديث رقم (4180) .

ومن العلماء من لا يجيز التخصيص بالمتأخر، فلعلّ هذا القائل يلتزم الذهاب إلى قول الجبّائي ومن وافقه في جواز تخصيص العام بالمخصّص المتأخر، وقد نسب إلى الزمخشري أنّ هذا ليس من باب التخصيص، وإنما هو من بيان المجمل، ذلك أنه يرى أنّ هذه الصيغ لا تفيد العموم من طريق الوضع، بل هي من باب المطلق، وتدلّ على العموم بالقرائن. وعلى هذا (فمن) التي في عقد الصلح كانت مجملة، وجاءت الآية مبينة لها، وليس هذا من تأخير البيان عن وقت الحاجة، بل هو تأخيره لوقت الحاجة، فإنّ الحاجة إليه إنما كانت عند مجيء المؤمنات مهاجرات، وقد نزلت الآية عنده بيانا للإجمال الذي في العقد. وقد ذهب جماعة إلى أنّ التعميم في عقد الصلح لم يكن من طريق الوحي، بل كان اجتهادا منه صلّى الله عليه وسلّم أثيب عليه بأجر واحد، وجاءت هذه الآية بعدم إقراره على هذا الاجتهاد، ومسألة اجتهاده صلّى الله عليه وسلّم في الأحكام مسألة مختلف فيها، ومن يجيزها يقول: ما دام أنه يجيء الوحي بعدم التقرير على الخطأ فلا ضير فيها، وقد جاءت الآية بعدم التقرير على التعميم. وذهب جماعة إلى أنّ العهد كان بوحي، وجاءت الآية ناسخة، ومن لا يجيز نسخ السنة بالكتاب يقول: نسخ العهد بالسنة، وهي امتناعه صلّى الله عليه وسلّم من الرد، وجاءت الآية مقرّرة لهذا الامتناع. ومن العلماء من يرى أن العهد كان على غير الصيغة المتقدمة، وأنه كان يشتمل على نصّ خاص بالنساء، صورته أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا، فإن دخلت في دينك ولها زوج ردّت على زوجها ما أنفق، وللنبي صلّى الله عليه وسلّم من العهد مثل ذلك، وعلى هذا فالآية موافقة للعهد مقرّرة له. وهذا هو الذي عليه المعوّل، وأما الأقوال قبله فإنّها تنافي روح التشريع الإسلامي من جهة أنّ الوفاء بالعهد واجب، ولا ينبغي لأحد الطرفين أن يستبدّ بتخصيص نصوصه أو إلغائها دون موافقة الطرف الثاني. وأنت تعلم أنّ عهد الحديبية ما نسخ إلا بعد أن نقضته قريش، ونكثوا أيمانهم، يوضّح ذلك ما جاء في سورة التوبة: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) [التوبة: 12، 13] . وما دام العهد قد نسخ فنسخه نسخ لما اشتمل عليه من الحكم. ولنرجع إلى تفسير الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ.

المراد إذا جاءكم النساء اللائي يظهرن الإيمان، وإنما كان هذا هو المراد لأنّ الله تعالى يقول: فَامْتَحِنُوهُنَّ ثم قال: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فدل ذلك على أنّ الغرض من الامتحان علم إيمانهن، وقوله تعالى: مُهاجِراتٍ منصوب على الحالية، وجيء به بعد قوله تعالى: إِذا جاءَكُمُ لبيان العلة في عدم إرجاعهن، إذ هنّ ما هجرن مكة وانتقلن منها إلا حبا في الله، وفرارا بدينهن من أذى الكفار، وهنّ الضعيفات اللاتي لا جلد لهنّ على الإيذاء، فإذا قضى نصّ العهد أن يبقي الرجال، فهم يتحمّلون الأذى، أما هؤلاء اللاتي اضطررن إلى الهجرة، فكيف يلزمهنّ البقاء، وهنّ لا يستطعن حماية أنفسهنّ فَامْتَحِنُوهُنَّ فاختبروهن بما ترونه موصلا إلى غلبة الظن بإيمانهنّ. وقد روي عن ابن عباس في كيفية امتحانهن أنه قال: كانت المرأة إذا جاءت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حلّفها عمر رضي الله عنه بالله بأنها ما خرجت رغبة بأرض عن أرض، وبالله ما خرجت من بغض زوج، وبالله ما خرجت التماس دنيا، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله. وعن ابن عباس أيضا أنّ امتحانهنّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر عمر بن الخطاب فقال: قل لهن إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بايعكن على ألا تشركن بالله شيئا إلخ ما في الآية الآتية، وسيأتي أنّ آية مبايعة النساء لها سبب غير هذا. وقوله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ جملة اعتراضية جيء بها لإفادة أنّ الامتحان الغرض منه الوصول إلى غلبة الظن، وإلا فالحقيقة لا يعلمها على ما هي عليه إلا الله وحده سبحانه، فإنه المطلع على ما في القلوب، يعلم السرّ وأخفى فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أي فإن تبيّن بعد الامتحان إيمانهنّ، وغلب على ظنكم هذا، فلا ترجعوهنّ إلى أزواجهنّ الكفار، وإنما أقحمنا لفظ الأزواج أخذا من قوله بعد: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فإنّه استئناف قصد منه بيان علّة النهي عن إرجاعهن إلى الكفار، وجملة لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ أفاد الفرقة، وتحقيق زوال النكاح الأول على الثبوت والاستقرار، والجملة الثانية: وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ أفادت أنّ النكاح في المستقبل لا يستأنف للكفار، وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أي أعطوا أزواجهنّ مثل ما أنفقوا عليهن من المهر، وقد قيل: إنّ ذلك واجب، وقيل: إنّه مندوب، وقد فعل ذلك في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد روي أنّ ربيعة الأسلمية لما جاءت تزوجها عمر، وأعطى زوجها ما أنفق. وقيل: إنّ هذا الحكم غير باق، لأنّ ذلك كان في المهاجرات، وقد ذهبت الهجرة «ولا هجرة بعد الفتح» على أنك قد سمعت ما روي من أنّ العهد كان فيه نصّ جاءت الآية مقرّرة له، وقد انتهى العهد بما فيه، فلا بقاء لهذا الحكم الآن. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي إنه لا تثريب عليكم في نكاحهن

عند إيتاء الأجور، فمتى أعطيت الأجور، فليس شيء وراء ذلك يمنع من الحلّ. وأنت تعلم أنّ هذا الحكم وإن كان قد بطل العمل به بالنسبة لمن جرى بينه وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم عهد الحديبية من قريش، فإنّه لا مانع أن يكون معمولا به في العهود التي تجري بين المسلمين والكفار في مثل تلك الحالة التي كان عليها المسلمون يومئذ. فإذا عاهدناهم على أنّ من جاءتنا مؤمنة من أزواجهم رددنا عليهم ما أنفقوا وجب الوفاء بذلك العهد. هذا وقد اختلف العلماء في الحربية تخرج إلى المسلمين مسلمة، فقال أبو حنيفة: إذا خرجت الحربية مسلمة، ولها زوج كافر في دار الحرب، وقعت الفرقة بينهما، ولا عدّة عليها. وقال أبو يوسف ومحمد: تقع الفرقة، وعليها العدة. وإن أسلم الزوج بعد ذلك لم تحل له إلا بنكاح جديد، وإليه ذهب سفيان الثوري. وقال مالك والليث بن سعد والأوزاعي والشافعي: إن أسلم الزوج قبل أن تحيض ثلاث حيض فهي امرأته. ولا تحل الفرقة إلا إذا انقضت العدة، فإذا انقضت فلا سبيل له عليها إن اجتمع معها في الإسلام بعد ذلك، ولا تحل له إلا بعقد جديد. والخلاف بين الحنفية وغيرهم إنما هو في الحربيين إذا أسلمت المرأة وخرجت مهاجرة إلى دار الإسلام، فإنّ الحنفية يقولون في هذه الصورة بالخروج من دار الحرب وهي مسلمة: وقعت الفرقة، فسبب الفرقة اختلاف الدارين، والمراد به عندهم أن يكون أحد الزوجين من أهل دار الحرب، والآخر من أهل دار الإسلام، ولا اعتبار لمضي العدة وعدمه. وغيرهم يقول: لا عبرة باختلاف الدار، فإذا أسلمت المرأة انتظر إسلام زوجها زمن العدة، سواء أبقيت في دار الحرب أم خرجت وحدها مهاجرة. وأما إذا كانا ذميين، فأسلمت المرأة، فمذهب الحنفية «1» أنّه لا تقع الفرقة حتى يعرض عليه الإسلام، فإن أسلم، وإلا فرّق بينهما، وكذلك إذا بقيا في الحرب. والجماعة يقولون كما قالوا في الصورة الأولى، أي أنها تنتظر زمن العدة، فإن جمعها وإياه الإسلام، في العدة فهي امرأته، وإلّا حصلت الفرقة. وقد استدل الحنفية لمذهبهم بقوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ. وقالوا في وجه استدلالهم بالآية: إنّ المهاجرة إلى دار الإسلام قد صارت من أهل دار الإسلام، وزوجها باق على كفره من أهل دار الحرب، فقد اختلفت داراهما وحكم الله بوقوع الفرقة بينهما بقوله: فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ولو كانت

_ (1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1/ 239) .

الزوجية باقية لكان الزوج أولى بها، وقد قال الله: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ. وأيضا قوله تعالى: وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا يدلّ على ذلك، لأنه لو كانت الزوجية باقية لما استحقّ الزوج ردّ المهر، لأنه لا يستحق البضع وبدله. قالوا: ويدل عليه أيضا قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ لأنه لو كان النكاح باقيا لما جاز لأحد أن يتزوجها. واستدلوا أيضا بقوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ لأنّ معناه عندهم لا تتمسكوا بها، ولا تعتدوا بها، ولا تمنعكم عصمة الكافرين السابقة من التزوج بهنّ. وقال الحنفية أيضا: اتفق الفقهاء على جواز وطء المسبية بعد الاستبراء، وإن كان لها زوج في دار الحرب إذا لم يسب زوجها معها، ولا سبب يجوّز هذا في نظرهم إلا اختلاف الدارين، لأنه ليس معنا إلا طروء الملك، واختلاف الدارين وطروء الملك من حيث هو لا يقتضي فساد النكاح، بدليل أنّ الأمة التي لها زوج لو بيعت لا تقع الفرقة بينهما، وكذلك إذا مات السيد عن أمة لها زوج، لم يكن انتقال الملك إلى الوارث سببا للفرقة. والجماعة يقولون: إنّ سبب الفرقة هو الإسلام، لأنها لم تعد صالحة لأن تكون فراشا لكافر، وهذا المعنى متحقّق، سواء أبقيت في دار الحرب، أم خرجت، والعدة لازمة شرعا في كل ذات زوج ما دامت حرة، وقد عرفت عدة الحرة في الشرع، وقد كان موجب الفرقة بينهما من قبل الزوج، وهو بقاؤه على الكفر، فإذا أسقط الزوج هذا الموجب في وقت يمكنه فيه التدارك، فهي امرأته، لأن المانع من بقاء زوجية قد زال قبل فوات الأوان. وقد روي عن مجاهد قال: إذا أسلم وهي في العدة فهي امرأته، وإن لم يسلم فرّق بينهما. وعن عطاء مثل هذا، وكذلك عن الحسن، وابن المسيّب. وأيضا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ردّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول، وقد كانت زينب هاجرت إلى المدينة، وبقي زوجها بمكة مشركا، ثم ردها عليه بعد إسلامه. والحنفية ردّوا الاستدلال بهذا الحديث من وجوه، قالوا: إنّ هذه الرواية فيها أنّه ردها بعد ست سنين، وذلك لا يعمل به عندكم. وقالوا: إن رواية ابن عباس ومذهبه يخالف مرويّة، على أنّه قد روي هذا الحديث من طريق آخر جاء فيه أنه ردها عليه بنكاح ثان. والكلام في هذا الحديث محله كتب الحديث، والذي يعنينا إنما هو الآية. يقول الجماعة: إنّ هذه الآية بل الآيات لا دليل فيها، فإنّ عدم الإرجاع إلى الكفار مبني على مجيء المؤمنات مهاجرات، فلم جعلتم العلة هي الهجرة وحدها،

وهي دون الإيمان لا تصلح علة، إذ إنّها لو صلحت لكان خروج الحربية إلينا بأمان موجبا للفرقة، وهو لا يوجبها اتفاقا، وكذلك المسلم إذا دخل دار الحرب بأمان، أو أسره أهل الحرب لا يبطل نكاح امرأته التي في دار الإسلام. وجواب الحنفية عن هذا- بأنّ المراد أن يكون من أهل دار الإسلام- جواب لا ينفع، فإنّه تستر وراء الألفاظ، وإلّا فأهليتها لدار الإسلام موجودة وهي في دار الحرب إذا أسلمت قبله، فلماذا تنتظرونه حتى يعرض عليه الإسلام، فإن أسلم، وإلا فرّق بينهما. فالأهلية فوجودة من اللحظة الأولى، فلو كانت الأهلية هي الموجبة لحصلت الفرقة بالإسلام لمجرده، وهو ما نقول به، غاية الأمر أننا نخالفكم في العدة، أنتم تقولون بعدم وجوبها، ونحن نقول بوجوبها، لأننا نرى أن العدة شرعت لتعرف براءة الرحم، ولحقّ الزوج، حتى لا يضيع نسب ولده، فإذا أسلم وامرأته في العدة فهو أحقّ بها، لأن المانع من بقاء الزوجية قد زال، والعدة واجبة على الزوجة غير المسبية، وهذه زوجة غير مسبية، فتلزمها العدة. قال الحنفية في مسألة العدة: إنّ قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ظاهر في عدم وجوب العدة، لأنّه لم يشترط في رفع الجناح في النكاح إلا إيتاء المهر، ولو كان هناك شيء غير هذا لبينه. وللجماعة أن يقولوا في هذا الدليل: إنّه متروك الظاهر، وإلا لا قتضى أن يصحّ النكاح بغير شهود، وهو لا يصحّ بالاتفاق، بل هو لا يصح إلا مستوفيا كلّ شرائطه، فلو كان تحته أختها لا يحل له أن ينكحها مهما دفع من المهر. نعم قد يقال في هذا: إن الله تعالى يقول: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ والنكاح حقيقة شرعية معروفة الأركان والشرائط، فالمفروض استيفاؤها، والآية سيقت لدفع ما كان يظنّ من أنّ للنكاح الأول حرمته، وأنّه باق، فنفت الآية هذا الظن، ورفعت الجناح في النكاح مع استيفاء الشرائط والأركان وانتفاء الموانع. وأما استدلال الحنفية بقوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ فتأويله عند الجماعة: ولا تمسكوا بعصم نسائكم المشركات الباقيات في دار الحرب، وتكون الآية لمنع بقاء نكاحهن، كما منع ابتداء نكاح المشركات وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: 221] . ويكون المراد منع المؤمنين من أن يكون بينهم وبين نسائهم الباقيات على الشرك علقة من علق الزوجية أصلا، وعدم الاعتداد بذلك النكاح، فهو لا يمنع خامسة ولا نكاح أختها. وقد يساعد على هذا التأويل قوله تعالى: وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا. فإن معناه: اسألوا الكفار مهور نسائكم، ولهم من السؤال مثل ذلك، وعليكم الإجابة.

وأما قياس الحنفية طروء الملك في المسبية على بيع الأمة المزوّجة في أنّ كلّا لا يقتضي فساد النكاح، فهو قياس مع الفارق. فإنّ الذي حصل للمسبية إنما هو استرقاق واستحداث رق بعد حرية، والذي حصل في الأمة المبيعة إنما هو انتقال ملك من شخص إلى شخص. ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ فاتبعوه، ولا تحيدوا عنه، وقد روي أنّ الصحابة أدوا إلى المشركين ما أنفقوا من مهور المهاجرات، وأبى المشركون أن يدفعوا مهور من بقي عندهم من نساء المؤمنين، فنزل قوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) . والمعنى: إن انفلت منكم شيء من أزواجكم وانحاز إلى جانب الكفار وجاء دوركم ونوبتكم في استيفاء ما أنفقتم من المهور على أزواجكم، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم من المسلمين مثل ما أنفق هؤلاء الأزواج من مهور المهاجرات اللاتي هاجرن إليكم وتزوجتموهنّ، ولا تدفعوا إلى أزواجهنّ الكفار، ويكون ذلك قصاصا. إباء عن الدفع منكم بإباء عن الدفع منهم. وقد روي عن الزهري ما يوافق هذا المعنى قال: يعطي من لحقت زوجته بالكفّار من صداق من لحق بالمسلمين من زوجات الكفّار، وعلى هذا تكون المعاقبة بمعنى العقبى والنوبة، وعن الزجاج أنّ المعنى: فقاتلتم الكفار وأصبتم منهم الغنائم، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الغنائم. وقد روي عن ابن عباس أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعطي الذي ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمّس المهر، لا ينقص منه شيئا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ فلا يزد أحدكم عن الذي أنفق، ولا ينقص المعطى منه شيئا، وذلك شأن المؤمن، فإيمانه يدفعه إلى أن يخشى الله، ويتقيه في كل أعماله وأحواله.

من سورة الجمعة

من سورة الجمعة قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) المراد بالنداء الأذان والإعلام، والمراد بالصلاة المنادى لها صلاة الجمعة، بدليل قوله: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إذ غيرها من الصلوات التي يؤذّن لها لا مزية لها في يوم الجمعة عن غيره. والأذان الذي يجب السعي عنده اختلف فيه، فقال بعضهم: المراد به الأذان الذي بين يدي الخطيب، ووجه هذا أنّه الأذان الذي كان على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر، فقد كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤذّن واحد، وكان إذا جلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على المنبر أذّن على باب المسجد، وإذا نزل من على المنبر أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر كذلك، ويرى بعضهم أنّ السعي إنما يجب عند الأذان الأول الذي على المنارة، وهو الأذان الذي زاده عثمان رضي الله عنه، وذلك حين رأى كثرة الناس وتباعد مساكنهم، فأمر بالأذان الأول على داره التي تسمّى الزوراء، فإذا جلس على المنبر أذّن المؤذن الثاني، فإذا نزل أقام الصلاة، وفي بعض الروايات زاد الأذان الثالث، وكونه ثالثا، لأنّ الإقامة تسمّى أذانا، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «بين كلّ أذانين صلاة» «1» . وهذا القول هو الظاهر من مذهب الحنفية، وهم قد نظروا فيه إلى المعنى. وذلك أنّ المراد من النداء الإعلام، والسعي إنما يجب عند الإعلام، وقد فهم عثمان رضي الله عنه هذا المعنى، وزاد النداء الثاني ليتمكّن الناس من حضور الخطبة والصلاة من أماكنهم البعيدة، ولم تكن بالمسلمين حاجة إلى هذا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم لقرب مساكنهم من المسجد، ولأنّهم كانوا يحافظون على أن يجيئوا في أوّل الوقت- إن لم يكن قبله- محافظة على أخذ الأحكام عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم فكان النداء الذي بين يدي الخطيب يسمعهم

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 573) ، 6- كتاب المسافرين، 56- باب بين كل أذانين حديث رقم (304/ 838) ، والبخاري في الصحيح (1/ 175) ، 10- كتاب الأذان، 16- باب بين كل أذانين صلاة حديث رقم (627) .

فيحضرون سراعا، ويدركون الخطبة من أولها، لقرب المساكن من المسجد. والسعي عند الأذان الثاني يفوّت على الناس سماع الخطبة التي خفّضت من أجلها الصلاة، ويفوّت عليهم السنة القبلية. ومن يرى أنّ السعي إنما يجب بالأذان الذي بين يدي الخطيب يقول: إنّه النداء الذي كان في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، وهو أحرص الناس على أن يؤدّي المؤمنون الواجب عليهم في وقته، فلو كان السعي واجبا قبل ذلك لبيّن لهم، ولجعل بين الأذان والخطبة زمنا يتّسع لحضور الناس، ومسألة السنة القبلية فيها كلام، وربّما كان في عمل الرسول صلّى الله عليه وسلّم والأذان بين يديه وهو على المنبر ما يدل على أنّ السنة القبلية التي كانت في الظهر لم تعد مطلوبة في الجمعة، ومع ذلك فهي سنة، وهل يمكن أن يقال: إن السعي يجب قبل وقته لتحصيل سنة لم تثبت، ومع ذلك فالمصلي يندب له أن يجيء مبكّرا لفوائد جمة، منها أداء السنّة. هذا وقد تكلّم المفسرون هنا في لفظ (من) وأنّها بمعنى (في) وتبعيضية، كما تعرّضوا لحركة (ميم) الجمعة، وما فيها من لغات، وفي أصل مدلولها قبل أن تكون علما، والمناسبة عند النقل، وذلك بحث لا طائل تحته بعد أن صارت الجمعة في لغاتها جميعا علما على اليوم المعروف من أيام الأسبوع. وقد اختلف العلماء في أول جمعة صلّيت في الإسلام، فقد أخرج عبد الرزّاق وعبد بن حميد عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبل أن تنزل الجمعة قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه بكل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه، فنذكر فيه الله تعالى ونشكره، فقالوا: يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة بذلك، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلّى بهم يومئذ ركعتين، وذكّرهم، وسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا، وذبح لهم شاة، وغدّاهم، وعشّاهم منها «1» . وهذا الخبر مرويّ عن غير ابن سيرين أيضا فقد أخرج أبو داود وابن ماجه والبيهقي عن عبد الرحمن بن كعب أن أباه كان إذا سمع النداء ترحّم على أسعد بن زرارة، فقلت: يا أبتاه أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلّما سمعت الأذان للجمعة ما هو؟ قال: لأنّه أول من جمع بنا في نقيع الخضمات في هزم من حرّة بني بياضة، قلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعين رجلا «2» .

_ (1) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (6/ 218) . (2) رواه أبو داود في السنن (1/ 402) ، كتاب الصلاة، باب الجمعة حديث رقم (1069) ، وابن ماجه في السنن (1/ 343) ، 5- كتاب إقامة الصلاة، 78- باب فرض الجمعة حديث رقم (1082) .

قال الكمال بن الهمام: الظاهر من هذه الروايات أنّ صلاة أسعد بن زرارة للجمعة كانت قبل أن تفرض «1» . ويرى العلامة ابن حجر أنّ الجمعة فرضت في مكة، ولم تقم بها، إما لعدم تكامل العدد، وإما لأنّ أمرها كان على الإظهار، والنبي صلّى الله عليه وسلّم كان في مكة غير متمكن من الإظهار. وقال: إنّ أول من أقامها بالمدينة أسعد بن زرارة، بقرية على ميل من المدينة، فلعلّها فرضت، ثم نزلت الآية، ولكن يمنع من هذا ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه خطب فقال: «إن الله فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا، في عامي هذا، إلى يوم القيامة، فمن تركها استخفافا بها، أو جحودا لها، فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ولا زكاة له، ولا حج له، ولا صوم له، ولا برّ له حتى يتوب، فمن تاب تاب الله عليه» «2» . حيث ذكر في هذا الحديث أنّه لا حج له، والحج وإن كان قد اختلف في مبدأ افتراضه، إلا أنّهم صححوا أنه في السنة السادسة من الهجرة، فالظاهر أنّ الجمعة كانت بعد ذلك. ويرى بعض آخر من العلماء أنّ أول من جمع بالناس مصعب بن عمير، فقد أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال: أذن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالجمعة قبل أن يهاجر، ولم يستطع أن يجمع بمكة، فكتب إلى مصعب بن عمير: «أما بعد، فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة، فتقرّبوا إلى الله بركعتين» قال: فهو أول من جمع، حتى قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة. وقد جمع بين هذين بأنّ جمع أسعد كان بغير أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجمع مصعب كان بأمره، وأول جمعة صلّاها النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت بعد مقدمه بأربعة أيام حيث أدركه وقتها في بني سالم بن عوف، فصلّاها في بطن واد لهم، حيث خطب صلّى الله عليه وسلّم، وصلّى بالناس. وقوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ السعي المراد منه المشي دون إفراط في السرعة. أخرج الستة في كتبهم عن أبي سلمة من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم، فصلّوا، وما فاتكم فأتموا» «3» .

_ (1) انظر فتح القدير للإمام كمال الدين السيواسي المعروف بابن الهمام الحنفي بيروت، دار الفكر (2/ 51) . [.....] (2) رواه ابن ماجه في السنن (1/ 343) ، 5- كتاب إقامة الصلاة، 78- باب فرض الجمعة حديث رقم (1081) . (3) رواه مسلم في الصحيح (1/ 420) ، 5- كتاب المساجد، 27- باب ما يقال في تكبيرة الإحرام رقم (151/ 602) ، والبخاري في الصحيح (1/ 246) ، 11- كتاب الجمعة، 18- باب المشي إلى الجمعة حديث رقم (908) .

والمراد من ذكر الله الخطبة والصلاة جميعا، لاشتمالهما عليه، واستظهر بعضهم أنّ المراد به الصلاة، وقصره بعضهم على الخطبة. وقد ورد الذكر في الآية مطلقا غير محدود، ومن أجل ذلك قال الحنفية: إنه لا يشترط في الخطبة اشتمالها على ما يسمّى خطبة عرفا، لأنّ الله تعالى ذكر الذكر من غير تفضيل بين كونه طويلا أو قصيرا، يسمى خطبة أو لا يسمى خطبة، فكان الشرط هو الذكر مطلقا، وما ورد من الآثار مشتملا على بيان الكيفية فهو يدل على السنية أو الوجوب، ولا ينتهض دليلا على أنه لا يجوز إلا ذلك. ودونه تبطل الخطبة، ولا تصح الصلاة، بل هو اختيار للفرد الكامل من أفراد المطلق. والشافعية يشترطون أن يأتي الخطيب بخطبتين مستوفيتين لشروط خاصة، واستدلوا على ذلك بآثار وردت فيها، فإن ثبتت هذه الأدلة، وانتهضت دليلا لإثبات الشرطية، فهي الدليل. وقد جاء في الآية الأمر بالسعي، والأمر للوجوب، فيكون السعي واجبا، وقد أخذوا من هذا أنّ الجمعة فريضة، وذلك أنّه قد رتّب الأمر للذكر على النداء للصلاة، فإذا كان المراد بالذكر هو الصلاة، فالدلالة ظاهرة، لأنه لا يكون السعي لشيء واجبا حتّى يكون ذلك الشيء واجبا. وأما إذا كان المراد بالذكر الخطبة فقط فهو كذلك، لأن الخطبة شرط الصلاة، وقد أمر بالسعي إليه، والأمر للوجوب، فإذا وجب السعي للمقصود تبعا، فما ذلك إلا لأن المقصود بالذات واجب، ألا ترى أن من ارتفع عنه وجوب الجمعة لا يجب عليه السعي لها، إذا فالسعي تابع لوجوب الجمعة، والجمعة جاء طلبها والنكير على تركها في السنة، وقد انعقد الإجماع على وجوبها بشروطها. وقد أجمعوا على اشتراط العدد فيها، بل هي ما سميت جمعة إلا لما فيها من الاجتماع، وقد اختلف في أقلّ عدد تنعقد به الجمعة على أقوال كثيرة: ابتدأت من الاثنين إلى الثمانين، ولقد قيل: إنه قد زادت الأقوال فيها على ثلاثة عشر قولا. والكلام فيها من حيث التحديد ومن حيث الأدلة يرجع [فيه] إلى كتب الفقه وكتب السنة، فإنّ الآية لم تعرض لشيء منها. وَذَرُوا الْبَيْعَ المراد من البيع المعاملة، فهو مجاز عن ذلك، فيعم البيع والشراء والإجارة، ولقد ذهب جماعة إلى أنّ الأمر للوجوب، فيكون الاشتغال بهذه الأشياء محرّما. وقال بعضهم: هو مكروه تحريما، بل لقد زعم بعضهم أنّ الكراهة تنزيهية، بناء على أنّ الأمر للندب، ولم يرتضه كثير من العلماء، وقد قالوا: إنّ التحريم يستمرّ إلى فراغ الإمام من الخطبة.

وأما مبدأ التحريم فهو مبنيّ على الخلاف الذي قد علمته في المراد بالنداء، وظاهر أنّ المأمور بالسعي هو المأمور بترك البيع، وأما من عداهم فلا يشملهم الأمر، فإنّ الأمر بترك البيع إنما كان لوجوب السعي. وقد روي عن بعض السلف أنّ ترك البيع وقت النداء واجب على الناس جميعا من وجب عليه السعي ومن لم يجب. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي السعي إلى ذكر الله، وترك أعمالكم من أجل ذلك خير لكم وأنفع، والتفضيل باعتبار ما في المعاملة من المنافع الدنيوية، وقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ معناه: إن كنتم من أهل العلم عرفتم أنّ امتثال أوامر الله في الذهاب إلى الجمعة، والانتفاع بما يلقى على الناس من مواعظ خير لكم في الدنيا والآخرة. في الدنيا حيث يبصّركم الإمام بما فيه خيركم ونجاتكم من الأذى، وفي الآخرة برضا الله عنكم، حيث امتثلتم أمره. قال الله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) . أي إذا فرغتم من أداء الصلاة فتفرّقوا في الأرض إلى حيث تؤدّون أعمالكم التي كنتم تركتموها من أجل الذكر، واطلبوا الربح من فضل الله وفيض إنعامه. وقد قالوا: إن هذا أمر ورد بعد الحظر فهو للإباحة، وعليه فليس يطلب من الإنسان أن يخرج من المسجد بعد الصلاة، لا وجوبا ولا ندبا. ولقد روي عن بعض السلف أنّه كان إذا انتهت الصلاة خرج من المسجد، ودار في السوق ساعة، ثم رجع إلى المسجد فصلّى ما شاء أن يصلّي، فقيل له: لأي شيء تصنع هذا؟ قال: إني رأيت سيّد المرسلين يصنع هذا، وتلا قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ رضي الله عن أصحاب رسول الله، فقد كانوا يتأسون بالمصطفى حتى في حركاته وسكناته. وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً وفي وقت اشتغالكم بأعمالكم، ولا تكتفوا بالذكر الذي سعيتم من أجله، لكي تفوزوا بخير الدارين. وقد عرض المفسرون هنا لأحكام كثيرة تتعلق بالجمعة، كاشتراط المصر، وكون الخطبة قبل الصلاة أو بعدها، وهل هناك سنن قبلية، أو بعدية؟ ونحن نرى أن هذه الأحكام لا تدل عليها الآية، ولا من طريق الإشارة، فيرجع إليها في السنة والفقه.

قال الله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) أخرج البخاري ومسلم وأحمد والترمذي «1» وغيرهم عن جابر بن عبد الله قال: بينما النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة قائما، إذ قدمت عير المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا، أنا فيها وأبو بكر وعمر، فأنزل الله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً إلى آخر السورة. بهذا تضافرت الروايات على اختلاف بينها في التفاصيل، وفي بعض الروايات أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم نارا» وفي بعضها: كان الباقي ثمانية، وفي بعض آخر: بقي أربعون رجلا، وكانت العير لعبد الرحمن بن عوف تحمل طعاما، وكان قد أصاب المدينة جوع وغلاء سعر. ولما كانت الآية نزلت بعد أن ترك من ترك رسول الله في موقفه، قال العلماء: إن إِذا مستعملة في الماضي، ولما كان العطف بين قوله: تِجارَةً أَوْ لَهْواً ب أَوْ صحّ مجيء الضمير في إليها مفردا، ورجع الضمير إلى التجارة دون اللهو، لأن الانفضاض كان لها بالأصالة، ولهوهم كان للفرح بمجيء التجارة التي أنقذتهم مما هم فيه من الجوع وغلاء السعر، وقد روي أنّه حين جاءت العير استقبلها الناس بالفرح وضرب الدفوف، فخرج المنفضون على ذلك. وقد استدل العلماء بقوله تعالى: وَتَرَكُوكَ قائِماً على مشروعية القيام أثناء الخطبة، والمشروعية أمر متفق عليه بين العلماء، وقد ثبت في السنة أنّ النبي ما خطب إلا قائما، وكذلك الخلفاء من بعده، استمرّ الأمر هكذا إلى زمن بني أمية، حيث وجد منهم من استهان بأمر الخطبة فخطب جالسا. نعم قد روي أن أول من خطب جالسا معاوية رضي الله عنه، وقد حمل العلماء هذه الرواية على فرض صحتها على أنّه كان عاجزا عن القيام، وإلا فمقام معاوية أجلّ من أن يخالف ما كان عليه الرسول صلّى الله عليه وسلّم. أخرج البخاري ومسلم «2» عن ابن عمر أن النبيّ كان يخطب خطبتين يجلس بينهما.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 590) ، 7- كتاب الجمعة، 11- باب قوله تعالى: إِذا رَأَوْا تِجارَةً حديث رقم (39/ 863) ، والبخاري في الصحيح (2/ 75) ، 65- كتاب التفسير، 2- باب وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً حديث رقم (4899) ، والترمذي في الجامع الصحيح (5/ 386) ، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الجمعة، حديث رقم (3311) ، وأحمد في المسند (3/ 370) . (2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 589) ، 7- كتاب الجمعة، 10- باب ذكر الخطبتين حديث رقم (33/ 861) ، والبخاري في الصحيح (1/ 251) ، 11- كتاب الجمعة، 3- باب القعدة بين الخطبتين حديث رقم (928) .

وحكم القيام في الخطبة أنّه سنة عند الحنفية «1» ، ويرى الشافعية أنّه أحد شروطها، وأنت تعلم أنّ الحنفية لا يثبتون الشرط إلا بقطعي، وهو غير موجود هنا. والشافعية يتمسكون بما في الآية من إشارة، وبما ثبت من السنة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية على ما عرفت قبلا. قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ قدمت التجارة على اللهو عند الرؤية، لأنها كانت الباعث الأقوى على الخروج، وأخّرت هنا لأنّه أقوى في الذم، والغرض التنفير، فكان من المناسب تقديمه. وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فهو الذي يقدّر الأقوات وييسرها، وهو الذي بيده ملكوت كل شيء، وما يمسك فلا مرسل له، وما يرسل فلا ممسك له، إلا من بعد إذنه، وما ينبغي لأحد أن يهجر عبادة الله من أجل شيء، إن كان له فسوف يأتيه، وإذا لم يكن له فلن يفيد فيه الإسراع إليه، والجري وراءه، وهو لو شاء الحرمان منه لحرمه وهو في البيت، بل وفي اليد إلى الفم. وقد حاول العلماء أن يستدلوا بما روي في أسباب النزول من أعداد الباقين والمنفضين على العدد في الجمعة، فمن صحّ عنده أن الباقين كانوا اثني عشر قال: إنّ العدد المعتبر في الابتداء هو العدد المعتبر في البقاء، فلو كان العدد الباقي لا تصحّ به الجمعة لما صحت الجمعة، ولم يرو أنّهم أعادوها. وقد ردّ هذا الاستدلال من وجوه: أولا: قد روي أنّ الباقي كان أربعين، وروي أنه كان ثمانية، ولو سلّم أنهم كانوا اثني عشر، فلا دلالة فيه، لأنّه لا يدل إلا على أنّها تصح باثني عشر، وهو لا يفيد أنها لا تصح بما دون ذلك، فأين التحديد باثني عشر. وقد سبق أن قلنا: إن الآية لا يؤخذ منها شيء من هذه الأحكام التي يثبتها الفقهاء في الجمعة، ولا دلالة لها على أكثر من وجوب السعي عن الجمعة، وعلى وجوب ترك البيع وشؤون الدنيا من أجل الصلاة، وعلى أنّه لا يجوز أن يترك الناس الخطيب يخطب وينصرفوا إلى أي شأن آخر.

_ (1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1/ 89) .

من سورة الطلاق

من سورة الطلاق قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ إنما كان النداء خاصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، والخطاب بالحكم عاما له ولأمته تكريما له عليه الصلاة والسلام، وإظهارا لجلالة منصبه، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت، إظهارا لمقامه فيهم، واعتبارا لترؤسه، وإنه المتكلّم عنهم، وإنه هو الذي يصدرون عن رأيه، ولا يستبدّون بأمر دونه. وقيل الجمع في قوله: إِذا طَلَّقْتُمُ للتعظيم، مثل قوله تعالى: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون: 99] وقول القائل: ألا فارحموني يا إله محمد. وقيل: أراد يا أيها النبيّ ويا أيها المؤمنون، فحذف لدلالة الخطاب عليه. وقيل: أراد يا أيها النبيّ قل للمؤمنين إذا طلقتم النساء إلخ. وقد اتفق المفسّرون على اعتبار التجوّز في قوله تعالى: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ لأن الكلام لا يستقيم دونه، لما فيه من تحصيل الحاصل، أو كون المعنى إذا طلقتموهن فطلقوهنّ مرة ثانية، وهو غير مراد قطعا، فلا بدّ من التجوّز، إما بإطلاق المسبب وإرادة السبب، وإما بتنزيل المشارف للفعل منزلة الشارع فيه، والمعنى: إذا أردتم تطليقهن تطلقوهن لعدتهنّ. واللام في قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ لام التوقيت كاللّام الداخلة في التاريخ، نحو كتبته لثلاث مضين من المحرم، أي فطلّقوهن في عدتهن، أي في وقتها. والمراد بالأمر بإيقاع الطلاق في ذلك النهي عن إيقاعه في الحيض، وردت بذلك السنة الصريحة، فالمعنى: إذا أردتم تطليقهنّ، فلا تطلقوهن في الحيض، فهو مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم «1» : «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم»

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 226) ، 22- كتاب المساقاة، 24- باب الرهن، حديث رقم (1604) ، والبخاري في الصحيح (3/ 59) ، 35- كتاب السلم، 1- باب السلم في الوزن حديث رقم (2240) .

ليس معناه إيجاب السلم، بل معناه النهي عن السلم فيما لم يعلم كيله أو وزنه أو أجله. وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم «1» : «كل مما يليك» ليس معناه إيجاب الأكل. بل معناه: النهي عن أن يجيل يده في الإناء، وهكذا جرى عرف اللسان العربي في كل ما كان من هذا القبيل، فكانت الآية دليلا على حرمة الطلاق في الحيض. واتفق الفقهاء على أنّ ذلك طلاق بدعي محرّم. والمعنى: فيه الإضرار بالزوجة بتطويل المدة التي تتربصها، فإنّ بقية الحيض لا تحسب من العدة عند من يرى أنّ الأقراء الأطهار، وكذلك لا تحسب هي ولا الطهر بعدها من العدة عند من يرى أنّ الأقراء الحيض. وأيضا ليس من الوفاء ولا من المروءة أن يطلقها في وقت رغبته عنها، لسبب لا دخل لها فيه. وألحق الفقهاء بذلك في الحرمة الطلاق في النفاس، لما ذكر من المعنى. وأتت السنة الصحيحة بصورة ثالثة للطلاق البدعي المحرم، وهي أن يطلّقها في طهر جامعها فيه، والمعنى في ذلك أنه ربما يندم على الطلاق إذا ظهر الحمل، إذ الإنسان قد يسمح بطلاق الحائل لا الحامل، وقد لا يتيسّر له ردها، فيتضرر هو والولد. واستثنى كثير من الفقهاء من الطلاق المحرّم خلعها في الحيض بعوض منها، لأنّ بذلها المال يشعر بحاجتها إلى الخلاص، وبرضاها بتطويل المدة، وقد قال تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ وأذن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لثابت بن قيس في الخلع على مال من غير استفصال عن حال زوجته «2» . استدلّ أهل الظاهر بقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ على أنّ الطلاق في الحيض لا يقع، ولا يترتب عليه حكم، لأن الآية ظاهرة في النهي عن الطلاق في غير العدة. وقد بينت السنة ذلك، بأنه الطلاق في الحيض. وثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ» «3» وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1599) ، 36- كتاب الأشربة، 135- باب آداب الطعام حديث رقم (107/ 2022) ، والبخاري في الصحيح (6/ 241) ، 70- كتاب الأطعمة، 2- باب التسمية حديث رقم (5376) . (2) رواه أبو داود في السنن (2/ 244) ، كتاب الطلاق، باب في الخلع حديث رقم (2227) ، والنسائي في السنن (5- 6/ 481) ، كتاب الطلاق، باب في الخلع حديث رقم (3462) . (3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1343) ، 30- كتاب الأقضية، 8- باب نقض الأحكام حديث رقم (17/ 1718) ، والبخاري في الصحيح (3/ 222) ، 53- كتاب الصلح، 5- باب إذا اصطلحوا على صلح جور حديث رقم (2697) .

ردّ» قالوا: وهذا صريح في أنّ هذا الطلاق المحرم الذي ليس عليه أمره صلّى الله عليه وسلّم مردود وباطل. قالوا: وإذا كان النكاح المنهي عنه لا يصح لأجل النهي، فما الفرق بينه وبين الطلاق؟ وكيف أبطلتم ما نهى الله عنه من النكاح، وصححتم ما حرّمه ونهى عنه من الطلاق؟ وليس لكم متمسك في ذلك إلا رواية عن ابن عمر قد خالفها ما هو مثلها أو أحسن منها عن ابن عمر أيضا، فقد أخرج أبو داود «1» عن أبي الزبير أنّه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة يسأل ابن عمر، قال أبو الزبير: وأنا أسمع: كيف ترى في رجل طلّق امرأته حائضا فقال: طلّق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسأل عمر عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّ عبد الله بن عمر طلّق امرأته وهي حائض. قال عبد الله: فردها عليّ ولم يرها شيئا. وليست رواية نافع عن ابن عمر: «مره فليراجعها» «2» بأصحّ من رواية أبي الزبير عنه: «فردها عليّ ولم يرها شيئا» . وحينئذ يتعيّن الجمع بينهما بحمل المراجعة في قوله: «مره فليراجعها» على الارتجاع والرد إلى حالة الاجتماع كما كانا من قبل، وليس في ذلك ما يقتضي وقوع الطلاق البتة. وأجاب الجمهور عن ذلك بأنّ الاستدلال بالآية على عدم وقوع الطلاق في الحيض موقوف على أنّ النهي عن الشيء يقتضي الفساد، وهي مسألة أصولية كثرت فيها المذاهب والآراء، وصحّح الحنفية منها أنه لا يقتضي الفساد مطلقا. وقال الشافعية: إنّه يدلّ على الفساد في العبادات وفي المعاملات إذا رجع إلى نفس العقد، أو إلى أمر داخل فيه، أو لازم له. فإن رجع إلى أمر مقارن كالبيع وقت نداء الجمعة، فلا يدل على الفساد، والنهي فيما نحن فيه لأمر مقارن، وهو زمان الحيض، فهو عندهم لا يدل على الفساد أيضا. وأيّد ذلك بأمر ابن عمر بالرجعة، إذ لو لم يقع الطلاق لم يؤمر بها، وقد قال الله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] وهذا يعمّ كلّ طلاق. وكذلك قوله: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] وقوله: الطَّلاقُ مَرَّتانِ [البقرة: 229] وقوله: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ [البقرة: 241] وهذه كلها عمومات لا يجوز تخصيصها إلا بنص أو إجماع، والمطلقة في الحيض داخلة في هذه العمومات. وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» فما أصحه وما أبعده

_ (1) رواه أبو داود في السنن (2/ 228) ، كتاب الطلاق، باب في طلاق السنة حديث رقم (2185) . (2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1093) ، 18- كتاب الطلاق، 1- باب تحريم طلاق الحائض حديث رقم (1/ 1471) ، والبخاري في الصحيح (6/ 199) ، 68- كتاب الطلاق، 1- باب قول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حديث رقم (5251) .

عن محل النزاع، فإنّ وقوع طلاق الحائض مشروع، فلا يقال فيه: إنه عمل ليس عليه أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو مردود، وتحريم الطلاق في الحيض لا يمنع ترتيب أثره وحكمه عليه، كالظهار، فإنّه منكر من القول وزور، ولا شكّ في ترتيب أثره وحكمه عليه، وهو تحريم الزوجة إلى أن يكفّر، فهكذا الطلاق البدعي محرّم، ويترتب عليه أثره، إلى أن تراجع، وكذلك القذف محرّم، ويترتب عليه أثره من الحدود والشهادة. وكذلك وطء الزوجة في الحيض محرّم، ويترتب عليه أثره وحكمه، حتى ولو دخل بزوجته وهي حائض اعتبر ذلك وطأ يقرّر المهر ويوجب العدة. وكذلك الإيمان وهو أصل العقود وأجلها وأشرفها يزول بالكلام المحرّم إذا كان كفرا، فكيف لا يزول عقد النكاح بالطّلاق المحرم، الذي وضع لإزالته؟ وكذلك طلاق الهازل يقع مع تحريمه، لأنّه لا يحلّ الهزل بآيات الله، فإذا وقع طلاق الهازل مع تحريمه فطلاق الجادّ أولى أن يقع مع تحريمه. والفرق بين النكاح المحرّم والطلاق المحرّم أنّ للنكاح عقد يتضمن حلّ الزوجة، وملك بضعها، فلا يكون إلا على الوجه المأذون فيه شرعا، فإنّ الأبضاع في الأصل على التحريم، ولا يباح منها إلا ما أباحه الشارع بخلاف الطلاق، فإنه إسقاط لحقه، وإزالة لملكه، وذلك لا يتوقف على كون السبب المزيل مأذونا فيه شرعا. على أن من النكاح ما يكون محرما ويقع عقده صحيحا، كمن عقد على مخطوبة الغير، فإنّ الإقدام على هذا النكاح حرام، ومع ذلك إذا وقع العقد كان صحيحا. وأما رواية أبي الزبير عن ابن عمر فردّها عليّ، ولم يرها شيئا، فهي مردودة لمخالفة أبي الزبير فيها من هو أوثق منه، قال أبو داود: والأحاديث كلّها على خلاف ما قال أبو الزبير. وقال الشافعي: ونافع أثبت عن ابن عمر من أبي الزبير عنه، والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به إذا تخالفا، وكذلك قال الخطابيّ. وقال ابن عبد البر: تفرّد بهذه الرواية أبو الزبير، وقد روى الحديث عن ابن عمر جماعة أجلة، فلم يقل ذلك أحد منهم، وأبو الزبير ليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بخلاف من هو أثبت منه. وقال بعض أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثا أنكر من هذا. واستدل الشافعيّ بقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ على أن الأقراء الأطهار، ووجه الاستدلال به أنّ اللام هي لام الوقت، أي فطلقوهن وقت عدتهن، وفد فسر النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية بهذا التفسير، ففي «الصحيحين» «1» عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلّق امرأته وهي حائض في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسأل عمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فقال

_ (1) سبق تخريجه.

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلّق لها النساء» فبيّن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنّ العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء هي الطهر الذي بعد الحيضة، ولو كان القرء هو الحيض كان قد طلقها قبل العدة، لا في العدة، وكان ذلك تطويلا عليها. ويشهد لهذا الذي ذهب إليه الشافعي قراءة ابن مسعود فطلقوهن لقبل طهرهن. وقال الذاهبون إلى أن الأقراء الحيض: إنّ أهل العربية يفرّقون بين لام الوقت وفي التي للظرفية، فإذا أتوا باللام لم يكن الزمان المذكور بعدها إلا ماضيا أو منتظرا، ومتى أتوا بفي لم يكن الزمان المجرور بها إلا مقارنا للفعل، واعتبر ذلك في قولك: (كتبته لثلاث خلون) و (كتبته بثلاث بقين) و (كتبته في ثلاث) ففي المثال الأول تكون الكتابة بعد مضي الثلاث، وفي المثال الثاني تكون الكتابة قبل حلول الثلاث، وفي المثال الثالث تكون الكتابة في نفس الثلاث وفي أثنائها. إذا تقرر ذلك يكون قوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ معناه فطلقوهن لاستقبال عدتهن، لا في عدتهم، إذ من المحال أن يكون الطلاق وهو سبب العدة واقعا في العدة، وإذا كانت العدة التي تطلّق لها النساء مستقبلة بعد الطلاق، فالمستقبل بعدها إنما هو الحيض، فإنّ الطاهر لا تستقبل الطهر، إذ هي فيه، وإنما تستقبل الحيض بعد حالها التي هي فيها. ولكن المعروف أن اللام إذا دخلت الوقت أفادت معنى التوقيت، واختصاص بذلك الوقت على الاتصال، لا استقبال الوقت، فلا تقول: كتبته لثلاث بقين إلا إذا كنت حين الكتابة متلبسا بأولها، فيكون معنى فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ فطلقوهنّ للوقت الذي يشرعن فيه في العدة على الاتصال بالطلاق. واستدل بعض الناس بالآية على أنّ نفس الطلاق مباح، فإنّه إنما نهي عنه إذا كان سببا في تطويل مدة التربص، فاقتضى ذلك أنه إذا خلا عن هذا لم يكن منهيا عنه، بل كان مأذونا فيه، ولا يخفى على المنصف أنّ الآية لم تدل على أكثر من حرمة الطلاق في الحيض. وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أصل الإحصاء العد بالحصا، كما كانت عادة العرب قديما، ثم توسع فيه، فاستعمل في ضبط العدد وإكماله، فمعنى إحصاء العدة ضبطها وإكمالها ثلاثة قروء كوامل. وإحصاء العدة واجب لإجزاء أحكامها فيها: من حق الرجعة للزوج، والإشهاد عليها، ونفقة الزوجة وسكناها، وعدم خروجها من بيتها قبل انقضائها، والإشهاد على فراقها إذا بانت، وتزوج غيرها من النساء ممن لمن يكن يجوز له جمعها إليها.

وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ في الإضرار بهنّ بتطويل العدة عليهن. لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ نهي للأزواج عن إخراج المطلقات المعتدات من مساكنهنّ عند الطلاق إلى أن تنتهي العدة، ونهي للمعتدات عن الخروج منها، وفيه دليل على وجوب السكنى لهنّ ما دمن في العدة، وستطلع على كلام في ذلك. وأضاف البيوت إليهنّ وهي لأزواجهنّ لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكناها، كأنّها ملك لهنّ. واختلفت آراء الفقهاء في ملازمة المعتدة بيت الفراق، أهو خالص حقّ الزوجين أم هو حقّ لهما وللشرع؟ فالصحيح عند الحنفية أنّ للشرع في ذلك حقا لا يملك الزوجان إسقاطه. وعلى ذلك يكون قوله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ دالّا على حرمة إخراجهنّ بمنطوقه، وعلى حرمة الإذن لهنّ في الخروج بإشارته، لأنّ الإذن في المحرّم محرّم. كأنه قيل لا تخرجوهن ولا تأذنوا لهم في الخروج إذا طلبن ذلك وَلا يَخْرُجْنَ بأنفسهم إن أردن. وذهب الشافعية إلى أن ملازمتها بيت الفراق خالص حقهما، فلو اتفقا على الانتقال جاز، لأنّ الحقّ لا يعدوهما، وعليه يكون المعنى: لا تستبدّوا بإخراجهنّ، ولا يخرجن باستبدادهنّ. إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ اختار بعض المفسّرين أنّ الفاحشة المبيّنة هي نفس الخروج قبل انقضاء العدة. وأنّ هذا الاستثناء راجع إلى قوله تعالى: وَلا يَخْرُجْنَ والمعنى: لا يطلق لهن في الخروج إلا في الخروج الذي هو معصية وفاحشة، ومعلوم أنه لا يطلق لهن في المعصية والفاحشة، فيكون ذلك منعا عن الخروج على أبلغ وجه. ومنه ما روى مسلم في «صحيحه» عن ابن عباس، وقد عرض عليه بعض الناس كتابا كانوا يزعمون أنّ فيه قضاء عليّ كرم الله وجهه، فقال: ما قضى بهذا علي إلا أن يكون ضلّ. يريد: أنه لم يقض بهذا أبدا، لأنه لا يقضي به إلا إذا كان قد ضلّ، ومعلوم أنّ عليا لم يضل، فهو لم يقض به، وهذا أسلوب من أساليب العربية البديعة البليغة، تقول: لا تسب أخاك إلا أن تكون قاطع رحم، ولا تزن إلا أن تكون فاسقا فاجرا. روي هذا الوجه من التأويل عن ابن عمرو والسدي وابن السائب والنخعي، وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله. وقال ابن عباس: إلّا أن تبذو على أهله، فإذا فعلت ذلك حلّ لهم أن يخرجوها. وقد أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فاطمة بنت قيس بالانتقال حين بذت على أحمائها. وقال الحسن وزيد بن أسلم: الفاحشة المبيّنة الزنى، فإذا زنت أخرجت لإقامة الحد.

وقيل: الفاحشة المبينة تطلق على النشوز. قال الجصاص «1» : هذه المعاني كلها يحتملها اللفظ، وجائز أن يكون جمعها مرادا، فيكون خروجها فاحشة، وإذا زنت أخرجت للحد، وإذا بذت على أهله أخرجت أيضا، قال: وما ذكرنا من التأويل المراد يدل على جواز انتقالها للعذر، لأنّ الله تعالى قد أباح لها الخروج للأعذار التي وصفنا. ولكنّك تعلم أننا إذا خرّجنا الآية على المعنى الأول فإنّها تدلّ على أنه لا يباح خروجها بحال، فكيف يقول الجصاص: وجائز أن يكون جميع هذه المعاني مرادا؟ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أي الأحكام السابقة حدود الله التي حدّها وعيّنها لعباده، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ أي ومن يتجاوز هذه الحدود المذكورة فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ فقد حمّل نفسه وزرا، وأكسبها إثما، فصار بذلك لها ظالما وعليها متعديا. أو فقد ظلم نفسه بتعريضها للضرر الدنيوي، كما سيأتي تفصيله. لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً هذه جملة مستأنفة مسوقة لتعليل مضمون الشرطية السابقة. والخطاب فيها للمتعدي بطريق الالتفات، لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي. والمعنى: من يتعدّى حدود الله فقد عرّض نفسه للضرر، فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر، لعل الله يحدث في قلبك بعد الذي فعلت من التعدي أمرا يقتضي خلاف ما فعلت، فامتثل أمر ربّك، ولا تطلّق في الحيض، ولا تهمل في إحصاء العدة، ولا تخرج المعتدة من بيتها، لا يحملنك البغض والغضب على أن تفعل شيئا من ذلك، فإنّ الكراهة والمحبة بيد الله مقلب القلوب، فعسى أن ينقلب البغض محبة والمقت مقة، والطلاق رجعة، فانظر لنفسك، وأبق للصلح بابا، ولا تبتّ حبل المودة بتا، فتندم حين لا ينفع الندم، والواقع يصدّق ذلك، فإن الغالب في الطلاق أن يكون نتيجة كراهة كاذبة، أو ثورة غضب جامحة تغمر العقل، وتقوى عليه، حتى إذا تمّ الانفصال، وهدأت الأعصاب، وثاب الرجل إلى رشده، انتابته عوامل القلق والحنين إلى صحبة مضت أن تعود، وتذكّر من زوجته خلالا كان يرضاها، وقلما يخلو أحد من ذلك، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي خلقا» » وقد يكون بينهما ولد، أو يظهر بها حمل، فتتأكد الرغبة فيها، والندم على طلاقها.

_ (1) انظر أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص (3/ 462) . (2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1091) ، 17- كتاب الرضاع، 18- باب الوصية بالنساء حديث رقم (61/ 1469) . [.....]

قال الله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ هذا من مجاز المشارفة، بقرينة ما بعده، لأنّه لا يؤمر بالإمساك بعد انقضاء العدة، أي فإذا شارفن آخر عدتهنّ فأمسكوهنّ بمعروف، أو فارقوهنّ بمعروف، والإمساك بالمعروف مراجعتهن مع حسن المعاشرة، والإنفاق المناسب، والمفارقة بالمعروف تخليتهنّ حتى تنقضي عدتهن مع إيفائهن حقهن، واتقاء الضّرار بهن. وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ أي وأشهدوا عند الرجعة إن اخترتموها، أو الفرقة إن اخترتموها، لأنّ الإشهاد يقطع النزاع، ويدفع الريبة. وهذا أمر ندب واستحباب في الرجعة والفرقة، كما في قوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [البقرة: 282] وللشافعي قول في القديم بوجوب الإشهاد في الرجعة، وأنه شرط في صحتها. والجديد أنه لا يشترط لصحتها الإشهاد عليها، بناء على الأصح أنّها في حكم استدامة النكاح لا ابتدائه، ومن ثمّ لم يحتج فيها لولي ولا لرضاها، وإنما يندب فيها الإشهاد لقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وصرفه عن الوجوب إجماعهم على عدم الوجوب عند الطلاق، فكذلك عن الإمساك. وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أي أدوا الشهادة أيها الشهود خالصة لوجه الله، وفيه دليل على وجوب إقامة الشهادات عند الحكام على الحقوق كلها، لأنّ الشهادة هنا اسم للجنس، وإن كان مذكورا بعد الأمر بإشهاد ذوي عدل على الرجعة أو الفرقة، لأنّ ذكرها بعده لا يمنع استعمال اللفظ على عمومه. ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الإشارة إلى ما تقدّم من الحث على إقامة الشهادة لله، أو إلى ما تقدّم من الأحكام كلها، من إيقاع الطلاق على وجه السنة، وإحصاء العدة، والكف عن الإخراج والخروج، والإشهاد على الرجعة أو الفرق، وإقامة الشهادة لله، أي هذه الأحكام يوعظ بها من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، لأنه المنتفع بها. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ هذا اعتراض جيء به لتأكيد ما سبق من الأحكام، أي وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في كل عمله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من هموم الدنيا ومضارها، وغمرات الموت وأهوال الآخرة وشدائدها، ويرزقه الفوز بخيري الدارين، من وجه لا يخطر بباله، وإذا كان هذا وعدا لعامة المتقين، تناول بعمومه الزوج الذي اتقى الله في الطلاق للسنة، ولم يخرج المعتدة من مسكنها، وأمسك

بمعروف أو فارق بمعروف، واحتاط فأشهد على ما اختار، يعد الله هذا الزوج بالخلاص مما عسى أن يقع فيه من الهموم ومشاكل الزوجية، ويفرّج عنه ما يعتريه من الكروب، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وكذلك يتناول الزوجة التي اتقت الله فيما عليها من حق، فلم تخرج من منزل عدتها، ولم تكتم ما خلق الله في رحمها، فالله يعدها على هذه التقوى بتفريج كربها، ورزقها من حيث لا تحتسب. وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي فهو كافيه جل شأنه في جميع أموره، لأنّ الله هو القادر على كل شيء، الغني عن كل شيء، الجواد بكل شيء، فإذا فوّض العبد الضعيف أمره إليه كفاه لا محالة ما أهمّه. إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ إنّ الله يبلغ ما يريده سبحانه، ولا يفوته مراد. قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً أي إنّه عزّ وجلّ قدّر الأشياء قبل وجودها، وعلم مقاديرها وأوقاتها، وإذا كان كلّ شيء من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى، ولا يقع إلا حسبما علم، لم يسع العاقل إلا التسليم للقدر، وفي هذه الجملة كسابقتها بيان لوجوب التوكل عليه تعالى، وتفويض الأمر إليه جلّ ثناؤه. قال الله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أخرج الحاكم، وصححه البيهقي في «سننه» وجماعة عن أبيّ بن كعب أنّ أناسا من أهل المدينة لما نزل قوله تعالى في سورة البقرة: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر في القرآن: الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهنّ الحيض، وذات الحمل، فأنزل الله التي في سورة النساء القصرى وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الآية «1» . جعل الله عدّة الآيسة ثلاثة أشهر، ولا خلاف بين الفقهاء في أن المرأة ما دامت ترى الحيض فهي من ذوات الأقراء، لا تكون آيسة ولو بلغت مئة سنة. إنما خلافهم فيمن انقطع حيضها متى تكون آيسة، وتعتد بالأشهر؟ ألذلك حدّ معين أم ليس له حد معين؟ والقائلون بالتحديد مختلفون، فمنهم من قدّره بالسنين. بخمسين سنة وبخمس وخمسين وبستين وباثنتين وستين إلى أقوال أخر، أقصاها خمس وثمانون، ومنهم

_ (1) انظر تفسير ابن جرير الطبري المسمى جامع البيان في تفسير القرآن (28/ 91) .

من اعتبره بيأس النساء في بلدها الذي هي فيه، فإنّ المكان إذا كان طيب الهواء والماء كبعض الصحارى يبطئ فيها سنّ اليأس، وقيل: يأس كل النساء إلخ. قال أصحاب التحديد: إن اليأس يعتمد غلبة الظن، ومهما انقطع دم المرأة فإنّها لا تزال ترجو عوده، ولا يتأكد الظن بعدم عوده إلا إذا بلغت من السن مبلغا لا يحيض مثلها فيه، وأمر العدد مبني على الاحتياط وطلب اليقين ما أمكن. والقائلون بعدم التحديد يقولون: اليأس ضدّ الرجاء، فإذا كانت المرأة قد يئست من الحيض ولم ترجه فهي آيسة، ولو خالفت في ذلك عادة النساء جميعا، ولو كان لها أربعون سنة أو أقل، كما أنّها ما دامت تحيض وترى الدم وترجوه فهي ليست آيسة، ولو كان لها سبعون سنة أو أكثر، ولو خالفت في ذلك عادة النساء جميعا. وكما أنه يرجع في الاعتداد بالأقراء إلى عادة المعتدة نفسها، لا إلى عادة غيرها، كذلك يرجع في الإياس إلى كل امرأة من نفسها، وكما أنّهم لم يجعلوا للصغر الموجب للاعتداد بالأشهر حدّا، كذلك ينبغي ألا يكون للكبر الموجب للاعتداد بها حدا. وينبني على الخلاف في التحديد وعدمه خلافهم في المرأة التي طلّقت، وكانت من ذوات الأقراء، ثم ارتفع حيضها، بماذا تعتد؟ فأصحاب التحديد يقولون: تنتظر حتى ترى الدم أو تبلغ حدّ اليأس، فتعتد بثلاثة أشهر، ولو كانت مدة التربص أكثر من عشر سنين. وهذا هو مذهب الحنفية وقول الشافعي في الجديد. والذين لا يرون لليأس حدّا يقولون: تتربّص غالب مدة الحمل، ثم تعتد عدة الآيسة، ثم تحلّ للأزواج مهما كانت سنها، قالوا: وقد صحّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة طلّقت، فحاضت حيضة أو حيضتين، ثم ارتفعت حيضتها، لا تدري ما رفعها، أنّها تتربص تسعة أشهر، فإن استبان بها حمل وإلا اعتدت ثلاثة أشهر. وقد وافقه كثير من الفقهاء على هذا منهم مالك وأحمد والشافعي في القديم. وكذلك اختلفوا في متعلّق الارتياب في قوله تعالى: إِنِ ارْتَبْتُمْ فقال جماعة: إن ارتبتم في حكمهنّ فلم تدروا ما عدتهن؟ فعدتهن ثلاثة أشهر، وعلى ذلك يكون الشرط بيانا للواقعة التي نزل فيها الحكم من غير قصد للتقييد، فلا مفهوم له عند القائلين بالمفهوم. قال آخرون: إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض أم استحاضة، وإذا كانت هذه عدة المرتاب في دمها، فغير المرتاب في دمها أولى بذلك. وقال الزجاج: المعنى: إن ارتبتم في حيضهن، وقد انقطع عنهن الدم، وكن ممن يحيض مثلهن. إلى أقوال أخر.

قال ابن جرير الطبري «1» رحمه الله: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال: عنى بذلك إن ارتبتم فلم تدروا ما الحكم فيهنّ. وذلك أنّ معنى ذلك لو كان كما قاله من قال: إن ارتبتم بدمائهن فلم تدروا أدم حيض أم استحاضة، لقيل: إن ارتبتنّ، لأنهنّ إذا أشكل الدم عليهن فهن المرتابات بدماء أنفسهن لا غيرهن. وفي قوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ وخطابه للرجال بذلك دون النساء الدليل الواضح على صحة ما قلنا من أنّ معناه: إن ارتبتم أيها الرجال بالحكم فيهنّ. وأخرى: وهي أنّه جل ثناؤه قال: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ واليائسة من المحيض هي التي لا ترجو محيضا للكبر، ومحال أن يقال: واللائي يئسن، ثم يقال: ارتبتم بيأسهن، لأن اليأس هو انقطاع الرجاء، والمرتاب بيأسها مرجو لها، وغير جائز ارتفاع الرجاء ووجوده في وقت واحد اه. وهذا الذي اختاره ابن جرير وافقه عليه جمهور المفسرين، وليس عليه اعتراض سوى أن يقال: إذا كان معنى إِنِ ارْتَبْتُمْ إن جهلتم عدتهن فسألتم عنها، فأي فائدة في ذكر هذا الشرط بعد أن كان معلوما في كل الأحكام الشرعية أنّ الله أنزلها لتعليم من لا يعلم؟ وأجابوا عن ذلك بأنّ المقصود: إن سألتم عن حكمهنّ، وشككتم فيه، فقد بيناه لكم أيها السائلون، ففيه تنويه بشأن السائلين، وبيان لنعمته تعالى عليهم حين أجاب طلبهم، وأزال ما عندهم من الشك والريب، بخلاف المعرض عن طلب العلم الذي لم يخطر بباله، استوفيت عدد النساء أم لم تستوف؟ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ مبتدأ خبر محذوف، أي واللائي لم يحضن كذلك، أي عدتهن ثلاثة أشهر، يريد أنّ المعتدة التي لم يسبق لها حيض تعتد بثلاثة أشهر، سواء أكان عدم حيضها لصغر، أم لعلة، أم لمنعه بدواء. ولا نعلم خلافا في أنّ التي لم تر الحيض أصلا تعتد بثلاثة أشهر، مهما بلغت من السنّ، إلا رواية عن أحمد رحمه الله فيمن بلغت ولم تحض أنّها تتربص تسعة أشهر غالب مدة الحمل، فإن استبان حملها وإلا اعتدت ثلاثة أشهر، فيكون مثلها كمثل التي ارتفع حيضها، لا تدري ما رفعه. والرواية الثانية عن أحمد الموافقة لرأي الجمهور أنها تعتد ثلاثة أشهر، ولم يجعلوا للصغر الموجب للاعتداد بالأشهر حدّا. أخذ العلماء من قوله تعالى: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أن للإنسان أن يزوّج ولده الصغار، لأنّ الله تعالى جعل على من لم تحض من النساء لصغر أو غيره عدة، ولا يكون على الصغيرة عدة إلّا أن يكون لها نكاح.

_ (1) في تفسيره جامع البيان تفسير القرآن المشهور بتفسير الطبري (28/ 91) .

وظاهر العموم في قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ وقوله تعالى: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ أنّ الحرة والأمة في ذلك سواء، فكما تعتد الحرة الآيسة أو الصغيرة بثلاثة أشهر، كذلك تعتد الأمة الآيسة أو الصغيرة ثلاثة أشهر، وبهذا قال أهل الظاهر وابن سيرين ومكحول ومالك، وهو أحد الأقوال في مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد رحمهم الله. وقال جمهور العلماء: عدة الأشهر فرع وبدل عن عدّة الأقراء، وقد جرى عمل المسلمين من الصحابة والتابعين على أنّ عدة الأمة ذات الأقراء قرآن، ولا يعرف في الصحابة مخالف في ذلك. وبه قال الأئمة الأربعة، وخلائق من فقهاء الأمصار لا يحصون عدا، ذهبوا إلى أنّها على النصف من عدة الحرة. ولولا أنّ القرء لا يمكن تنصيفه لكانت عدتها قرءا ونصفا. ثم من هؤلاء الفقهاء من قال: عدة الأمة الآيسة والصغيرة شهران، لأن عدتها بالأقراء قرآن، فجعل كلّ شهر مكان قرء، وهو أحد أقوال الشافعي، وأشهر الروايات عن أحمد. ومنهم من قال: عدتها شهر ونصف، لأن التصنيف في الأشهر ممكن، فتنصفت بخلاف القروء، ونظير هذا أنّ المحرم إذا وجب عليه في جزاء الصيد نصف مدّ أخرجه، فإن أراد الصيام مكانه لم يجز إلا صوم يوم كامل، وهذا هو مذهب أبي حنيفة، والقول الثالث للشافعي، ورواية ثالثة عن أحمد رحمهم الله. ثم إنّه لا تعارض بين قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وقوله تعالى في سورة البقرة: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] . فإنّ آية البقرة خاصّة بذوات الأقراء، والآيسة والتي لم تحض ليستا من ذوات الأقراء، وهو ظاهر. إنما التعارض بين الآية التي معنا وقوله تعالى فى سورة البقرة: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234] فإنّ آية البقرة عامة تشمل ذوات الأقراء واللائي يئسن واللائي لم يحضن، فتقضي بعمومها أنّ عدة الوفاة للآيسة والصغيرة أربعة أشهر وعشرا، والآية التي معنا عامة في السبب الذي من أجله كانت العدة، سواء أكان فرقة حي أم فرقة ميت، فاقتضت بعمومها أنّ عدة الوفاة للآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر، فكان بين النصين تعارض في ظاهرهما. لكنّ العلماء يكادون يجمعون على أنّ الآية التي معنا واردة في خصوص عدة الطلاق، لأنّ سياق الآية ظاهر في ذلك، وحينئذ يكون اعتداد الآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر خاصا بالمعتدات المطلقات، فلا يكون بين الآيتين تعارض. وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أجل الشيء مدته كلها، وأجله أيضا آخر

مدته، والمراد بالأجل هنا آخر المدة التي تتربصها المرأة، أي آخر عدتهن أن يضعن حملهن، وظاهر هذا أنّ المعتدة الحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل، سواء أكانت معتدة عن طلاق أم عن وفاة، فتكون الآية معارضة لآية البقرة، وهي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً لأن بين الآيتين عموما وخصوصا من وجه. وذلك أنّ آية البقرة أعم من التي معنا في المعتدات، إذ تشمل الحامل وغير الحامل، وأخص من التي معنا في سبب العدة وهو الوفاة وعلى العكس من ذلك الآية التي معنا، فكان التعارض واقعا بينهما في القدر الذي اجتمعتا عليه واشتركتا فيه، وهو عدة المتوفى عنها الحامل، فآية البقرة تجعل عدتها أربعة أشهر وعشرا، والآية التي معنا تجعل عدتها مدة حملها، فمتى وضعت فقد انقضت عدتها. ومن أجل هذا التعارض اختلف السلف في عدة المتوفى عنها إذا كانت حاملا، فقال علي وابن عباس وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم: تعتد بأبعد الأجلين من وضع الحمل أو أربعة أشهر وعشرا، وهذا أحد القولين في مذهب مالك رحمه الله، واختاره سحنون. وقال جمهور الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة: إنّ عدتها تنتهي بوضع الحمل، ولو كان الزوج على مغسله فوضعت حلّت. فمن ذهب إلى أبعد الأجلين احتجّ بأنّ النصين متعارضان على ما سمعت، ولا يمكن تخصيص العموم في أحدهما بالخصوص في الآخر، لأنّ ذلك إلغاء، ولا يصار إلى الإلغاء إلا إذا تعذّر الجمع، والجمع هنا ممكن، فكان هو المتعين، وبالاعتداد بأبعد الأجلين يحصل الجمع بين النصين، لأنّ مدة الحمل إن زادت فقد تربصت أربعة أشهر وعشرا مع الزيادة، وإن قصرت وتربصت المدة فقد وضعت وتربصت، فيحصل العمل بمقتضى الآيتين. وأنت تعلم أنّ هذا إنما هو جمع بين المدتين، ولا يعدّ جمعا بين النصين. وإعمالا لعموم كل منهما في مقتضاه، وذلك أنها إذا وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر ثم حكمنا عليها بأنها لا تزال في العدة، كان ذلك إهدارا لمقتضى الحصر والتوقيت في قوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فإنّه ظاهر في أنه لا عدة عليها بعد وضع الحمل، وأنها حلال للأزواج متى وضعت حملها. وأصحاب هذا الرأي يحرمونها على الأزواج، ويلزمونها القرار في مسكن العدة إلى أن تنتهي أربعة الأشهر والعشر. فكيف يقال بعد ذلك إنّهم عملوا بمقتضى الآية التي معنا؟ وكذلك يقال فيمن مضى عليها أربعة أشهر وعشر ولم تضع حملها إذا ألزمناها

الاعتداد إلى وضع الحمل، كان ذلك إهدارا لمقتضى الحصر والتوقيت في قوله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وهو ظاهر. فلم يكن في هذا المذهب جمع بين النصين، بل فيه إهدار لأحد النصين لا محالة. أما الجمهور الذين قالوا: إنّ عدتها تنتهي بوضع الحمل فقط، فدليلهم على ذلك: أنّ السنة الصريحة دلت على اعتبار الحمل فقط. كما في «الصحيحين» «1» أنّ سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة، فتوفي عنها وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلّت من نفاسها تجمّلت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل، فقال لها: ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح إنّك والله ما أنت بناكح حتى تمرّ عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزوّج إن بدا لي. وصحّ أيضا أنّ أبا سلمة بن عبد الرحمن وابن عباس اجتمعا عند أبي هريرة وهما يذكران المرأة تنفس بعد وفاة زوجها بليال فقال ابن عباس: عدّتها آخر الأجلين. وقال أبو سلمة: قد حلت، فجعلا يتنازعان ذلك فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي- يعني أبا سلمة-، فبعثوا كريبا- مولى ابن عباس- إلى أم سلمة رضي الله عنها يسألها عن ذلك، فجاءهم، فأخبرهم أنّ أمّ سلمة قالت: إنّ سبيعة الأسلمية نفست بعد وفاة زوجها بليال، وإنّها ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمرها أن تتزوّج «2» . وروى الضياء في «المختارة» وابن مردويه وغيرهما عن أبي بن كعب قال: قلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن أهي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها؟ قال: «هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها» . فجاءت السنة مبيّنة أنّ قوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ عام في المطلقة والمتوفى عنها، وأنّ عموم الآية مراد، وإن كان السياق يقتضي أنها خاصة بالمطلقات، فصارت الآية بعد بيان السنة ناصّة على أنّ عدة الحامل المتوفى عنها تنتهي بوضع الحمل فقط، والآية التي معنا نزلت بعد آية البقرة، كما أخرج أبو داود

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1121) ، 11- كتاب الطلاق، 6- باب المطلقة، حديث رقم (53/ 1482) ، والبخاري في الصحيح (6/ 223) ، 68- كتاب الطلاق، 39- باب وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ حديث رقم (5318) . (2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1122) ، 18- كتاب الطلاق، 8- باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، حديث رقم (57/ 1485) ، والبخاري في الصحيح (6/ 79) ، 65- كتاب التفسير 25- باب وَأُولاتُ الْأَحْمالِ حديث رقم (4909) .

والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود «1» رضي الله عنه أنه قال: من شاء باهلته أنّ الآية التي في سورة النساء الصغرى وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ إلخ نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهرا. وفي البخاري «2» عنه أيضا أشهد لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى فتكون الآية التي معنا ناسخة لآية البقرة فيما اجتمعتا عليه، واشتركتا فيه، فصار المراد من الأزواج في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً الآية غير الحوامل من المتوفى عنهن. ومن الناس من قال: الآية التي معنا خاصة بالمطلقات كما هو ظاهر السياق. وآية البقرة خاصّة بالمتوفى عنهن، فلا تعارض بينهما، غير أنّ السنة الصحيحة وردت بإخراج الحوامل من عموم الأزواج في قوله تعالى: وَيَذَرُونَ أَزْواجاً فجعلت المراد منهن غير الحوامل، فكانت آية البقرة مخصوصة بالسنة، وكان حكم الحوامل المتوفى عنهنّ معلوما من السنة لا من الكتاب. ومنهم من قال: الآية التي معنا أخصّ مطلقا مما في سورة البقرة، وبيان ذلك أنّ الله ذكر في سورة البقرة حكم المطلقات من النساء، وحكم المتوفى عنهنّ في آيتين على التفريق، ثم وردت هذه الآية التي معنا بعدهما مخصّصة في البابين معا، ولا شك أنّ المستفاد من آيتي البقرة هو أنّ عدة المعتدات الحوامل وغير الحوامل إما ثلاثة قروء، وإما أربعة أشهر وعشر، وأن المستفاد من الآية التي معنا أنّ عدة المعتدات الحوامل تنتهي بوضع الحمل، فكانت الآية معنا أخص مطلقا من آيتي البقرة، وقد نزلت بعدهما، فكانت مخصّصة لهما. والله أعلم. واقتضى قوله تعالى: أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أنّ العدة تنقضي بوضع الحمل، وأنّ المرأة إذا وضعت حملها فقد حلّت للأزواج، ولا يتوقف حلّها على طهرها من النفاس خلافا للشعبي والحسن وإبراهيم النخعي وحماد، فإنّهم قالوا: لا يصحّ زواجها حتى تطهر من نفاسها، واحتجوا بقوله في حديث سبيعة: «فلما تعلّت من نفاسها» أي طهرت منه، ولا حجة لهم فيه، لأنّ ذلك إخبار عنه وقت سؤالها، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنها حلت حين وضعت» ولم يعلّل بالطهر من النفاس. وكذلك اقتضى قوله تعالى: أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أنها إذا كانت حاملا بتوأمين لم

_ (1) رواه أبو داود في السنن (2/ 276) ، كتاب الطلاق، باب عدة الحامل حديث رقم (2307) ، وابن ماجه في السنن (1/ 654) ، 10- كتاب الطلاق، 7- باب الحامل حديث رقم (2030) ، والنسائي في السنن (5- 6/ 508) ، كتاب الطلاق، باب عدة الحامل حديث رقم (13522) . (2) رواه البخاري في الصحيح (6/ 79) ، 65- كتاب التفسير، 2- باب وَأُولاتُ الْأَحْمالِ حديث رقم (4910) .

تنقض عدتها حتى تضعهما جميعا، واقتضى أيضا أن العدة تنقضي بوضع الحمل، سواء أكان حيا أم ميتا، تام الخلقة أم ناقصها، نفخ فيه الروح أم لم ينفخ. وظاهر العموم في قوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أنّ الحرة الأمة في الاعتداد بوضع الحمل سواء، ولا نعلم خلافا في ذلك بين العلماء. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أي ومن يخف الله فيأتمر بما أمر به وينته عما نهى عنه يسهّل عليه أمره كله. ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ الإشارة إلى ما تقدّم من الأحكام كلّها يقول تعالى ذكره: هذا الذي بينت لكم من حكم الطلاق والرجعة والعدة أمر الله أنزله إليكم لتأتمروا له، وتعملوا به وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ يمح ذنوبه من صحائف أعماله، ولا يؤاخذه بها إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: 114] وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ويضاعف له جزاء حسناته، ويجزل له المثوبة على عمله. قال الله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أي أسكنوهنّ بعض مكان سكناكم مِنْ وُجْدِكُمْ بدل: أو عطف بيان لقوله تعالى: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ. والوجد: الوسع، أي أسكنوهنّ من وسعكم، ومما تطيقونه. وظاهر قوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ يقتضي وجوب السكنى لكل مطلقة، سواء أكانت رجعية أم بائنا، وسواء أكانت حاملا أم غير حامل. وظاهر قوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ يقتضي بمنطوقه وجوب النفقة للمطلقات الحوامل، سواء أكنّ رجعيات أم بوائن، وبمفهومه عند القائلين به أنه لا نفقة لغير الحامل، سواء أكانت رجعية أم بائنا. وقد أجمع العلماء على أنّ للرجعية السكنى والنفقة، أما السكنى فلقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ وقوله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ أما النفقة فلأنّ الرجعية كالزوجة في بقاء حبس الزوج وسلطته عليها، فكان إجماعهم على وجوب النفقة لها، ولو لم تكن حاملا مخصّصا لمفهوم قوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ لغير الرجعية عند القائلين بالمفهوم. وكذلك على أن للبائن الحامل السكنى والنفقة، لقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ وقوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ.

أما البائن غير الحامل فقد اختلف العلماء في سكناها ونفقتها على ثلاثة أقوال: أحدها: وجوب السكنى والنفقة. والثاني: عدم وجوبهما. والثالث: وجوب السكنى دون النفقة. فأما وجوب السكنى والنفقة فهو قول عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وكثير من فقهاء الصحابة والتابعين. وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وسائر فقهاء الكوفة: احتجوا لوجوب السكنى بقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ فهو أمر بالسكنى لكل مطلقة. ولوجوب النفقة بأنها جزاء الاحتباس، وهو مشترك بين الحائل والحامل، ولو كان الإنفاق جزاء للحمل لوجب في ماله إذا كان له مال، ولم يقولوا به. وقوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ ليس للشرط فيه مفهوم مخالفة، بل فائدته أن الحامل قد يتوهم أنها لا نفقة لها لطول مدة الحمل، فأثبت لها النفقة، ليعلم غيرها بطريق الأولى فهو من مفهوم الموافقة. وقد قال عمر رضي الله عنه: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلّى الله عليه وسلّم لقول امرأة لا ندري جهلت أم نسيت. يريد قول فاطمة بنت قيس حين طلّقها زوجها البتة: لم يجعل لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سكنى ولا نفقة. وأما القول بأنها لا سكنى لها ولا نفقة فهو مروي عن ابن عباس وأصحابه، وجابر بن عبد الله، وفاطمة بنت قيس من فقيهات نساء الصحابة، وكثير من التابعين، وإليه ذهب إسحاق وداود وأحمد وسائر أهل الحديث، وحجتهم في ذلك حديث فاطمة بنت قيس الذي اتفق على صحته المحدثون. أخرج مسلم «1» وغيره عن فاطمة بنت قيس أنّ أبا عمرو بن حفص طلّقها البتة وهو غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله مالك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكرت ذلك له فقال: «ليس لك عليه نفقة» وفي رواية «لا نفقة لك ولا سكنى» ، وفي أخرى للنسائي «2» «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها الرجعة» . وقالوا: وقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ إنما هو في الرجعيات خاصة، لأنّ الله تعالى ذكر للمطلقات في هذه السورة أحكاما متلازمة، لا ينفك بعضها عن بعض: أحدها: أن الأزواج لا يخرجوهن من بيوتهن. والثاني: أنّهن لا يخرجن.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1114) ، 18- كتاب الطلاق، 6- باب المطلقة حديث رقم (1480) . (2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1118) ، 18- كتاب الطلاق، 6- باب المطلقة، حديث رقم (44/ 1480) ، والنسائي في السنن (5- 6/ 518- 519) ، كتاب الطلاق، باب الرخصة في خروج المبتوتة، حديث رقم (3547- 3551) .

والثالث: أنّ لأزواجهن إمساكهن بالمعروف قبل انقضاء الأجل، أو فرقتهن بالمعروف. والرابع: إشهاد ذوي عدل، وهو إشهاد على ما اختار من الرجعة والفرقة، وأشار سبحانه إلى حكمة ذلك، وأنّه في الرجعيات خاصة بقوله لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً والأمر الذي يرجى إحداثه هاهنا هو المراجعة، كما قال السلف، ثم ذكر سبحانه الأمر بإسكان هؤلاء المطلقات فقال: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ فكان الظاهر من سياق الكلام ونظمه أنّ الضمائر كلها متّحد مفسرها، وأحكامها كلها متلازمة. وكان قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة» مفسّرا لكتاب الله، ومبيّنا للمراد منه، وأنّ الأمر بالإسكان إنما هو في خصوص الرجعيات. قالوا: ولو سلمنا أنّ الآية عامة في الرجعيات والبوائن لكان الحديث مخالفا لعمومها، وحينئذ يكون الحديث مخصصا لعموم الآية، فحكمها حكم تخصيص العام من الكتاب بالخاص من السنة، وهو كثير. قالوا: وإذا بانت المرأة من زوجها صارت أجنبية، ولم يبق إلّا مجرد اعتدادها منه، وذلك لا يوجب لها نفقة كالموطوءة بشبهة أو زنى، ولأنّ النفقة إنما تجب في مقابلة التمكين في الاستمتاع، والبائن لا يمكن استمتاعه بها بعد بينونتها، ولأنّ النفقة لو وجبت عليه لأجل عدتها لوجبت للمتوفى عنها من ماله، ولا قائل به. وأما القول بأنّ لها السكنى دون النفقة: فهو رأي فقهاء المدينة، وإليه ذهب مالك والشافعي، واحتجوا لوجوب السكنى بظاهر العموم في قوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ولعدم وجوب النفقة بحديث فاطمة بنت قيس مع ظاهر قوله تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فإنّ مفهومه أنهنّ إذا لم يكن حوامل لا ينفق عليهن، قالوا: وحديث فاطمة صحيح لا ننكر صحته، ولكنه قد خالف في السكنى ظاهر العموم في قوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ ويجب قبيل القول بالتخصيص أو النسخ الجمع بين الحديث والآية ما أمكن. وقد جاء في «الصحيحين» عن عائشة وغيرها أنّ فاطمة كانت امرأة لسنة، وأنها استطالت على أحمائها، فأمرها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالانتقال من مسكن فراقها. وفي «صحيح البخاري» عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إنّ فاطمة كانت في مكان وحش، فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص النبي صلّى الله عليه وسلّم لها. وفي «صحيح مسلم» «1» عن هشام عن أبيه عن فاطمة نفسها قالت: قلت: يا

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1121) ، 18- كتاب الطلاق، 6- باب المطلقة حديث رقم (53/ 1481) .

رسول الله، زوجي طلّقني ثلاثا، وأخاف أن يقتحم علي، قال: فأمرها فتحوّلت. فلما كان من الممكن حمل إسقاط السكنى في الحديث على أنّه كان لاستطالتها على أحمائها، أو لخوفها أن يقتحم عليها، أو لهما معا، تعيّن تأويل الحديث على هذا المعنى، للجمع بينه وبين الآية، وصار المراد من الحديث أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أذن لها في الانتقال لعذر، وهذا لا ينافي وجوب السكنى للمعتدة البائن. قال الجصاص «1» في حديث فاطمة بنت قيس: وهذا حديث قد ظهر من السلف النكير على راويه، ومن شرط قبول أخبار الآحاد تعرّيها من نكير السلف اه. ولما كان هذا ردّا لحديث صححه المحدثون، وأخذ به جمع من الفقهاء والأئمة العارفين بعلل الأحاديث وطرق الجرح والتعديل، أحببنا أن نذكر خلاصة للمطاعن التي وردت على هذا الحديث مع بيان ما فيها. روى مسلم في «صحيحه» «2» عن الأسود بن يزيد أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال- وقد ذكر له قول فاطمة بنت قيس-: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ. وروى ابن حزم في «المحلى» والجصاص في «أحكام القرآن» «3» عن حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان أنه أخبر إبراهيم النخعي بحديث الشعبي عن فاطمة ابنت قيس، فقال له إبراهيم: إنّ عمر بن الخطاب أخبر بقولها فقال: لسنا بتاركي آية في كتاب الله وقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لقول امرأة لعلها أوهمت! سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لها السكنى والنفقة» «4» . وفي النسائي «5» أن الأسود بن يزيد سمع الشعبي يحدّث بحديث فاطمة بنت قيس، فأخذ كفا من حصباء فحصبه وقال: ويلك لم تفتي بمثل هذا؟ قال عمر رضي الله عنه: إن جئت بشاهدين يشهدان أنهما سمعاه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلا لم نترك كتاب ربنا لقول امرأة. وروى مسلم في «صحيحه» «6» أن مروان بن الحكم قال في حديث فاطمة: لم نسمع هذا إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها.

_ (1) انظر أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص (3/ 461) . (2) رواه في الصحيح (2/ 1118) ، 18- كتاب الطلاق، 6- باب المطلق حديث رقم (46/ 1480) . (3) انظر أحكام القرآن للجصاص (3/ 460) . (4) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1118) ، 18- كتاب الطلاق، 6- باب المطلقة، حديث رقم (44/ 1480) . (5) رواه النسائي في السنن (5- 6/ 518) ، كتاب الطلاق حديث رقم (3547) . [.....] (6) في الصحيح (2/ 1118) ، 18- كتاب الطلاق، 6- باب المطلقة حديث رقم (41/ 1480) .

وحاصل هذه المطاعن يرجع إلى أربعة أمور: الأول: أنّ راويته امرأة. والثاني: أنّها لم تأت بشاهدين يتابعانها على حديثها. والثالث: أن روايتها تضمنت مخالفة القرآن. والرابع: أن روايتها خالفت السنة. فأما أنها امرأة، فإنّ ذلك لا ينبغي أن يعدّ مطعنا، فإن أحدا من أصحاب الجرح والتعديل لم يقل بأنّ الأنوثة من الأمور التي تردّ بها الرواية، ولم يختلفوا في أنّ السنن تؤخذ عن المرأة كما تؤخذ عن الرجل، وكما أنّ في الرجال عدالة وضبطا كذلك في النساء عدالة وضبط، وكم من سنة تلقتها الأئمة بالقبول عن امرأة، وهذه مسانيد نساء الصحابة بأيدي الناس، لا تشاء أن ترى فيها سنة تفرّدت بها امرأة منهنّ إلا رأيتها. وأما أنّها لم تأت بشاهدين، فذلك أيضا ليس بجرح ترد له الرواية، ولم يشترط أحد في الرواية نصابا، ولم يكن طلب عمر الشهادة على الرواية وكذلك تحليف عليّ كرّم الله وجهه، إلا تثبتا منهما رضي الله عنهما، حتّى لا يركب الناس الصعب والذلول في الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد نقل مثل ذلك عن عمر رضي الله عنه في حديث أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتّى شهد له أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، وفي حديث المغيرة بن شعبة في إملاص المرأة حتى شهد له محمد بن مسلمة «1» كلّ ذلك كان تثبتا منه رضي الله عنه، وتحذيرا من الإكثار في الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لأنّه كان يعتبر الشهادة شرطا في قبول الرواية، وإلا فقد قبل عمر خبر الضحاك بن سنان الكلابي وحده، وقبل لعائشة رضي الله عنها عدّة أخبار تفرّدت بها. وأما أن روايتها تضمنت مخالفة القرآن، فقد أجبنا عنه في تقرير مذهب أهل الحديث في سكنى البائن ونفقتها، وحاصله أنّ الآية إما أن تكون خاصّة بالرجعيات كما هو ظاهر السياق، وإما أن تكون عامة في الرجعيات والبوائن. فإن كانت خاصة بالرجعيات فلا مخالفة بينها وبين حديث فاطمة، وهو ظاهر، وإليه ذهب الإمام أحمد، رحمه الله، روى عنه أصحابه أنّه أنكر هذا من قول عمر، وجعل يتبسم ويقول: أين في كتاب الله إيجاب السكنى والنفقة للمطلّقة ثلاثا؟ وأنكرته قبله الفقيهة الفاضلة فاطمة بنت قيس راوية الحديث، وقالت: بيني وبينكم كتاب الله، قال الله تعالى: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً وأي أمر يحدث بعد الثلاث؟

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (8/ 190) ، 97- كتاب الاعتصام، 13- باب ما جاء في اجتهاد القضاء، حديث رقم (7317) ، 7318) .

وإن كانت الآية عامة في الرجعيات والبوائن، فليس هذا أوّل موضع خصّص فيه الكتاب بالسنة، فآية المواريث خصّصت بالسنة الدالة على أن الكافر والقاتل والرقيق لا يرثون، وقوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: 24] خصّص بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح المرأة على عمتها» الحديث. وأما أنّ روايتها تضمنت مخالفة السنة فلا نجد سنة مخافة لحديث فاطمة، إلا روايتين عن عمر رضي الله عنه: إحداهما: قوله لا ندع كتاب ربّنا وسنة نبينا، وهذا له حكم المرفوع. والثانية: قوله سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لها السكنى والنفقة» . أما الرواية الأولى عن عمر فقد قال فيها الإمام أحمد رحمه الله: لا يصحّ ذلك عن عمر رضي الله عنه وقال أبو الحسن الدارقطني قوله: «وسنة نبينا» هذه زيادة غير محفوظة، لم يذكرها جماعة من الثقات، بل السنة بيد فاطمة بنت قيس قطعا، ومن له إلمام بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشهد شهادة الله أنه لم يكن عند عمر رضي الله عنه سنة عن رسول الله أنّ للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة. وأمّا الرواية الثانية: فلم يخرّجها فيما نعلم إلا ابن حزم والجصّاص عن حماد عن إبراهيم أنّ عمر إلخ ومعلوم أنّ إبراهيم لم يولد إلا بعد وفاة عمر بسنين، فالخبر منقطع، وقد أنكره علماء الحديث، وصرّح ابن القيم بأنّه مكذوب على عمر، وأنه لو كان هذا عند عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لخرست فاطمة وذووها، ولما فات هذا الحديث أئمة الحديث والمصنفين في السنن والأحكام، فإن كان مخبر أخبر به إبراهيم عن عمر رضي الله عنه، وأحسنّا به الظن، كان قد روى قول عمر بالمعنى، وظنّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الذي حكم بثبوت النفقة والسكنى للمبتوتة حين قال عمر: لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة. وقد تناظر في هذه المسألة ميمون بن مهران وسعيد بن المسيّب فذكر له ميمون خبر فاطمة بنت قيس فقال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس. فقال له ميمون: لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما فتنت الناس، وإنّ لنا في رسول الله أسوة حسنة اه. ولا نعلم أحدا من الفقهاء إلّا وقد احتجّ بحديث فاطمة بنت قيس هذا، وأخذ به في بعض الأحكام. وقد ذكر النووي في «شرحه على صحيح مسلم» ستة عشر حكما استنبطها العلماء من هذا الحديث. وإذا قد تبيّن أنّ هذه المطاعن مردودة ولم يقدح شيء منها في صحة الحديث لزم القائلين بوجوب السكنى والنفقة للمبتوتة أن يجمعوا بينه وبين الآية ما أمكنهم الجمع، وإلا فالنسخ أو التخصيص.

وقد سلك الجصاص «1» في تأويل الحديث طريقة أقرب إلى الصواب، وأخفّ في الاستهجان من رد الحديث وإنكاره، والطعن فيه بغير مطعن، قال: وللحديث عندنا وجه صحيح يستقيم على مذهبنا فيما روته من نفي السكنى والنفقة، وذلك أنّه قد روي أنها قد استطالت بلسانها على أحمائها، فأمروها بالانتقال، فلما كان سبب النقلة من جهتها، كانت بمنزلة الناشزة، فسقطت نفقتها وسكناها جميعا اه. والخطاب في قوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ وقوله تعالى: فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ للأزواج، فاقتضى ذلك بظاهره أنّ السكنى والنفقة إنما تكونان للزوجات المطلقات، لا المتوفى عنهن من الزوجات. وقد روى الدارقطني «2» بإسناد صحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليس للحامل المتوفّى عنها زوجها نفقة» فالمتوفّى عنها غير الحامل أولى ألا يكون لها نفقة. ولا نعلم خلافا في ذلك إلا ما روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما كانا يقولان بوجوب النفقة للمتوفّى عنها من التركة، وظاهر الآية والسنة الصحيحة على خلاف ما يقولان. فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي فإن أرضعن لكم بعد انقضاء عدتهن بوضع حملهن فأدوا إليهنّ أجورهن على الإرضاع، والتزموا ذلك لهن. دلّ هذا على أنّ الأمّ إذا رضيت أن ترضع ولدها بأجر المثل، فهي أحقّ به، لوفور شفقتها، فهي أولى بحضانته وإرضاعه من كل أحد، وليس للأب أن يسترضع غيرها حينئذ. ودلّ على أنّ الأجرة إنما تستحق بالفراغ من العمل، لا بالعقد، لأنّ الله أوجبها بعد الرضاع، بقوله: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. ودلّ أيضا على أنّ نفقة الولد الصغير على أبيه، لأنّه إذا لزمه أجرة الرضاع فكفايته ألزم، ومن ثمّ أجمعوا على ذلك في طفل لا مال له، وألحق به بالغ عاجز كذلك، لخبر هند بنت عتبة «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» «3» . وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ أي ليأمر بعضكم بعضا بجميل في الإرضاع والأجر وغيرهما.

_ (1) انظر أحكام القرآن للجصاص (3/ 462) . (2) رواه الدارقطني في السنن (4/ 21) . (3) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1338) ، 30- كتاب الأقضية، 4- باب قضية هند حديث رقم (1714) ، والبخاري في الصحيح (3/ 24) ، 34- كتاب البيوع، 44- باب من أجرى أمر الأمصار حديث رقم (2211) .

وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ أي، وإن ضيّق بعضكم على بعض في الأجرة، أو في الرضاع، كأن تشتطّ الأمّ في الأجرة، أو تأبى الرضاع، أو يشاح الأب في أجرة المثل فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى الكلام على معنى: فليطلب له الأب مرضعة أخرى، وبذلك يظهر الارتباط بين الشرط والجزاء. وإنما اختير ما في النظم الجليل ليكون فيه نوع من المعاتبة للأمّ، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيأبى: سيقضيها غيرك، أي ستقضي وأنت ملوم، ففيه تنبيه على أنّ الأمّ لا ينبغي لها أن تعاسر في رضاع ولدها، فإنّ المبذول من جهتها هو لبنها لولدها، ولبنها غير متموّل، ولا مضنون به في العرف والعادة، وخصوصا من الأم للولد، وليس كذلك المبذول من جهة الأب، فإنّه المال المضنون به عادة، فكانت الأمّ أجدر باللوم، وأحقّ بالعتب. ودلّ قوله تعالى: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى على أنّها إذا طلبت أكثر من أجر المثل، فللأب أن يسترضع غيرها ممن يرضى بأجرة المثل، إذا قبل الصبيّ ثدي الأجنبية، ولم يحصل له ضرر بلبنها، وإلا أجبرت الأمّ على إرضاعه بأجرة المثل. قال الله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) قدّر الله الرزق: ضيّقه، ولم يبسطه. دلت الآية على أنّ نفقة الزوجات والأقارب متفاوتة بحسب اليسار والإعسار. ولم تقدّر الآية في النفقة شيئا معينا، لا كيلا ولا وزنا، ولا نوعا من الطعام، بل أحالت ذلك على العادة ومتعارف الناس في نفقاتهم، فدلّ ذلك على أنّ النفقة ليست مقدرة شرعا، وإنما تتقدّر بالاجتهاد على مجرى العادة بحسب حال المنفق وكفاية المنفق عليه. وأيد ذلك ما أثبت عنه صلّى الله عليه وسلّم من أنه ردّ الأزواج في النفقة إلى المعروف، وهو ما جرى عليه الناس في عرفهم. ففي «صحيح مسلم» «1» أنه صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبة الوداع: «واتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنّ بأمان الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف» . وفي «الصحيحين» «2» أنّ هند امرأة أبي سفيان قالت له: إنّ أبا سفيان رجل

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 886) ، 15- كتاب الحج، 18- باب في المتعة بالحج حديث رقم (146/ 1218) . (2) سبق تخريجه.

شحيح ليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم. فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» . ولقد جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفقة المرأة مثل نفقة الخادم، وسوّى بينهما في عدم التقدير، وردهما إلى المعروف، فقال في الزوجات: «ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف» وقال في الخادم: «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف» «1» ولا ريب أنّ نفقة الخادم غير مقدرة، ولم يقل أحد بتقديرها، فكذلك نفقة الزوجة. ولم يحفظ عن أحد من الصحابة قط تقدير النفقة، لا بمدّ ولا برطل، بل المحفوظ عنهم والذي اتصل به العمل في كل عصر ومصر أنّهم كانوا ينفقون على أهليهم الخبز والإدام من غير تقدير ولا تمليك. وصحّ عن ابن عباس في قوله تعالى: مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة: 89] الخبز والزيت. وعن عمر: الخبز والسمن، والخبز والتمر، ومن أفضل ما تطعمون الخبز واللحم، ومثل هذا مرويّ عن عليّ وابن مسعود وابن عمر وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك من الصحابة رضوان الله عليهم، وروي مثله عن كثير من التابعين. وبعدم تقدير النفقة قال الجمهور من فقهاء الأمصار. وخالف الشافعي وأبو يعلى «2» فقدّرا نفقة الأزواج، إلا أنّ أبا يعلى قدّرها بالخبز، فجعل الواجب رطلين من الخبز في كل يوم في حق الموسر والمعسر، اعتبارا بالكفّارات، فإنّها لا تختلف قلة وكثرة باختلاف اليسار والإعسار، وإنما تختلف جودة ورداءة، لأنّ الموسر والمعسر سواء في قدر المأكول، وما تقوم به البنية، وإنما يختلفان في جودته، فكذلك النفقة الواجبة. وأما الشافعي فإنّه قدرها بالحبّ، فجعل على الفقير مدا، وعلى الموسر مدّين، وعلى المتوسط مدّا ونصفا، قال أصحاب الشافعي: نفقة الزوجات متفاوتة ومقدرة بالمد، ومعينة الجنس وهو الحبّ، فهذه ثلاث دعاوى: أما أصل التفاوت فدليله قوله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1284) ، 27- كتاب الأيمان، 10- باب إطعام المملوك، حديث رقم (41/ 1662) . (2) القاضي أبو الحسين بن الفراء البغدادي الحنبلي، كان مفتيا مناظرا عارفا بالمذهب ودقائقه، صلبا في السنة كثير الحط على الأشاعرة توفي سنة (526 هـ) انظر شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد (2/ 79) .

وأما التقدير بالأمداد وتعيين الحب: فبالقياس على الكفارة، بجامع أنّ كلّا مال وجب بالشرع، ويستقر في الذمة، وأكثر ما وجب في الكفارات لكل مسكين مدان، مثل كفارة الحلق في النسك. وأقل ما وجب له مد في كفارة اليمين ونحوه، والمد يكتفي به الزهيد، وينتفع به الرغيب، فلزم الموسر من الأزواج الأكثر، والمعسر منهم الأقل، والمتوسط ما بينهما. وأيضا فإنّ النفقة عليهنّ في مقابلة التمتع بهنّ، وشرف القوامة عليهنّ، فاقتضى ذلك تقديرها كما يقدر كل ذي مقابل، وإنما لم تعتبر الكفاية كنفقة القريب لأنّها تجب للمريضة والشبعانة. وليس في الآية الكريمة أكثر من الدلالة على أنها متفاوتة، وما اقتضاه حديث هند من تقديرها بالكفاية يجاب عنه بأنّه لم يقدّرها بالكفاية فقط، بل بها بحسب المعروف، وما ذكر من توزيع الأمداد بحسب اليسار والإعسار هو المعروف المستقر في العقول، ولو فتح للنساء باب الكفاية من غير تقدير لوقع التنازع لا إلى غاية، فتعيّن ذلك التقدير اللائق بالعرف. قالوا: وقد روي التقدير في الكفارات عن الصحابة، فعن عمر في كفارة اليمين: لكل مسكين صاع من تمر أو شعير، أو نصف صاع من بر. ومثله عن عائشة. وعن علي: نصف صاع لكل مسكين. وعن زيد بن ثابت: يجزئ لكل مسكين مدّ حنطة، وروي مثله عن ابن عمر، وابن عباس، وابن المسيّب، وابن جبير، ومجاهد، والقاسم، وسالم، وأبي سلمة. وقال سليمان بن يسار: أدركت الناس وهم يطعمون في كفارة اليمين مدّا بالمد الأول. قالوا: وثبت في «الصحيحين» «1» أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لكعب بن عجرة في كفارة فدية الأذى: «أطعم ستة مساكين نصف صاع طعاما لكل مسكين» فدلّ ذلك على أنّ الإطعام في الكفارات مقدّر بالأمداد من الحبّ المقتات، فجعلنا ذلك أصلا، وعدّيناه إلى نفقة الزوجات لما تقدم. ومعلوم أنّ الشافعية لم يقولوا بتقدير نفقة الزوجة إلا عند تنازع الزوجين، أمّا إذا تراضيا على أن تأكل من بيته، فأكلت قدر كفايتها، كان ذلك إنفاقا عليها، وليس لها

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (2/ 859) ، 15- كتاب الحج، 10- باب جواز حلق الرأس حديث رقم (80/ 1201) ، والبخاري في الصحيح (5/ 185) ، 65- كتاب التفسير، 32- باب (فمن كان منكم مريضا) حديث رقم (4517) .

أن تطالبه بنفقة عن المدة التي أكلتها عنده، سواء أأكلت معه أم وحدها، أم أضافها شخص إكراما له، كل ذلك يعتبر إنفاقا عليها، ويسقط نفقتها، لإطباق الناس عليه في زمنه صلّى الله عليه وسلّم وبعده، ولم ينقل خلافه. واختار جمع من أصحاب الشافعي أنّ نفقة الزوجات معتبرة بالكفاية لا بالأمداد، لقوة الدليل على ذلك، حتى قال الأذرعي «1» : لا أعرف لإمامنا رضي الله عنه سلفا في التقدير بالأمداد، ولولا الأدب لقلت: الصواب أنها بالمعروف تأسيا واتباعا اه. والمأمور بالإنفاق في قوله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ إلخ الآباء الذين سبق ذكرهم في قوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ومن ثمّ كانت الآية أصلا في وجوب النفقة للولد على الأب دون الأمّ. ودلّ قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها على أنّه لا فسخ بالعجز عن الإنفاق على الزوجة، لأنّه قد تضمّن أنه إذا لم يقدر على النفقة لم يكلفه الله الإنفاق في هذه الحال، فلا يجوز إجباره على الطلاق من أجل النفقة، لأنّ فيه إيجاب التفريق لشيء لم يجب عليه، وكذلك قوله تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً يدلّ على أنه لا يفرّق بينهما من أجل عجزه عن النفقة، لأنّ العسر يرجى له اليسر، كما قال الله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة: 280] وبهذا قال أهل الظاهر، وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، وأحد قولي الشافعي رواية عن أحمد رحمهم الله. وعلى هذا لا يلزمها تمكينه من الاستمتاع، لأنّه لم يسلم إليها عوضه، كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع لم يجب تسليمه إليه. وعلى الزوج تخلية سبيلها، لتكتسب، وتحصل ما تنفقه على نفسها، لأنّ في حبسها بغير نفقة إضرارا بها. والقول بالفسخ مذهب مالك، وأظهر قولي الشافعي، ورواية عن أحمد رحمهم الله، وحجتهم في ذلك خبر الدارقطني والبيهقي في الرجل لا يجد شيئا ينفق على امرأته يفرّق بينهما. قالوا: وقضى به عمر رضي الله عنه، ولم يخالفه أحد من الصحابة، وقال ابن المسيّب: إنّه من السنة. قالوا: وقد شرع الفسخ بالعنة لإزالة الضرر، والضرر الذي يلحقها بعدم النفقة أشدّ من ضررها بالعنة، فكان الفسخ بالعجز عن النفقة أولى من الفسخ بالعنة. وفي تخلية سبيلها للكسب تشويش على الحياة الزوجية، وإخلال بالسكن الذي

_ (1) أحمد بن حمدان أبو العباس شهاب الدين، فقيه شافعي ولد بأذرعات الشام وتفقه بالقاهرة استقر في حلب وتوفي فيها سنة (783 هـ) انظر الأعلام للزركلي (1/ 119) .

هو ثمرة الزواج، وما بقاء الزوجية بعد أن خلينا سبيلها، ورفعنا يد الزوج عنها، ولم نلزمها تمكينه من استمتاع بها؟ وقد تناظر في ذلك مالك وغيره فقال مالك: أدركت الناس يقولون: إذا لم ينفق الرجل على امرأته يفرّق بينهما. فقيل له: قد كانت الصحابة رضي الله عنهم يعسرون ويحتاجون. فقال مالك: ليس الناس اليوم كذلك، إنما تزوجته رجاء اه. ومعنى كلامه إنّ نساء الصحابة رضي الله عنهم كنّ يردن الدار الآخرة وما عند الله، ولم يكن مرادهنّ الدنيا، فلم يكن يبالين بعسر أزواجهن، لأن أزواجهنّ كانوا كذلك، وأما النساء اليوم، فإنما يتزوجن رجاء دنيا الأزواج ونفقتهم وكسوتهم، فالمرأة إنما تدخل اليوم على رجاء الدنيا، فصار هذا المعروف كالمشروط في العقد، وكان عرف الصحابة رضي الله عنهم كذلك كالمشروط في العقد، والشرط العرفي في أصل مذهبه كاللفظي. وفي المسألة مذهبان آخران: أحدهما: أنه إذا أعسر بنفقتها حبس حتى يجد ما ينفقه، وهذا مذهب حكاه الناس عن عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، وهو مذهب غير معقول، لأنّه إذا حبس فمن أين يجد النفقة؟ ولعلّ العنبري من القائلين بالتفريق للإعسار، وأنه يريد أنّ الحاكم إذا أمره بالطلاق فامتنع حبسه حتى يطلّق، أو يظهر له مال، وإلا فالكلام على ظاهره بيّن البطلان. والثاني: أنه لا فسخ، وعليها نفقة نفسها إن كانت غنية، وإن عجز الزوج عن نفقة نفسه أيضا كلّفت المرأة الإنفاق عليه، وهو مذهب ابن حزم، قال في «المحلى» : فإن عجز الزوج عن نفقة نفسه وامرأته غنية كلّفت النفقة عليه، لا ترجع بشيء من ذلك إن أيسر. وهذا المذهب مع بطلانه ومخالفته قواعد الشرع وعمل الناس أقرب إلى العقل من مذهب العنبري والله الموفق. ودلّت الآية أيضا على أنّه ينبغي للإنسان مراعاة حال نفسه في النفقة والصدقة، وفي الحديث: «إنّ المؤمن أخذ عن الله أدبا حسنا، إذا هو وسع عليه وسع، وإذا هو قتر عليه قتر» «1» .

_ (1) رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (6/ 239) .

من سورة التحريم

من سورة التحريم قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) ذهب العلماء في سبب نزول الآيتين مذاهب مروية: فروى عكرمة عن ابن عباس أنّها نزلت في الواهبة التي جاءت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت له: إنّي وهبت لك نفسي، فلم يقبلها. وقال الحسن وقتادة: بل نزلت في شأن مارية القبطية أمّ إبراهيم، «1» حيث خلا بها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في منزل حفصة، وكانت هذه خرجت إلى منزل أبيها في زيارة، فلما عادت، وعلمت، عتبت على الرسول صلّى الله عليه وسلّم فحرم الرسول صلّى الله عليه وسلّم مارية على نفسه إرضاء لحفصة، وأمرها ألا تخبر أحدا من نسائه، فأخبرت بذلك عائشة، لمصافاة كانت بينهما، فطلّق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حفصة، واعتزل نساءه شهرا، وكان جعل على نفسه أن يحرمهن شهرا، فأنزل الله هذه الآية، فراجع حفصة. واستحل مارية، وعاد إلى نسائه. وقد اختلف أصحاب هذا القول فيما بينهم: هل كان تحريم مارية بيمين؟ فقال قتادة والحسن والشعبي: حرمها بيمين. وقال غيرهم: حرمها بغير يمين، وهو عن ابن عباس. وثالث الأقوال: ما ثبت في «الصحيح» «2» عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش، ويمكث عندها، فتواصيت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير- وهو نبت كريه الرائحة- قال: «لا ولكنّي شربت عسلا عند

_ (1) انظر تفسير ابن جرير الطبري، المسمى جامع البيان في تفسير القرآن (28/ 100) . (2) رواه مسلم في الصحيح (2/ 1100) ، 18- كتاب الطلاق، 3- وجوب الكفارة، حديث رقم (20/ 1474) ، والبخاري في الصحيح (6/ 81) ، 65- كتاب التفسير، 1- باب (يا أيها النبي ... ) حديث رقم (4912) . [.....]

زينب بنت جحش، ولن أعود إليه، وقد حلفت لا تخبري أحدا. يبتغي مرضاة أزواجه» . وقد روى مسلم، وأشهب عن مالك أنّ النبي شرب العسل عند حفصة، وروي أنّه كان عند أم سلمة، والأكثر أنّه كان عند زينب بنت جحش، ولعلّ الحادثة تكررت قبل النزول. وبعد فيرى ابن العربي «1» أن ما قيل من أنّ الآية نزلت في الواهبة فهو ضعيف من حيث السند، وضعيف من حيث المعنى: فأما السند: فرواته غير عدول. وأما المعنى: فما يصحّ أن يقال: إن رد النبي صلّى الله عليه وسلّم للهبة كان تحريما، بل هو رفض لها، وللموهوب له شرعا ألا يقبل الهبة. وأما ما روي من أنه حرم مارية فهو أمثل في السند وإن قرب من حيث المعنى، لكنّه لم يدوّن في صحيح ولا نقله عدل. قال ابن العربي: إنما الصحيح أنّه كان في العسل، وأنّه شربه عند زينب، وتظاهرت عليه عائشة وحفصة، وجرى ما جرى، فحلف ألّا يشرب، وأسرّ ذلك، ونزلت الآية في الجميع. وبعد، فقد اختلف العلماء في أنّ تحريم النبي صلّى الله عليه وسلّم ما حرّم أكان بيمين، أم لم يصحبه يمين، وقد جرى بناء على ذلك خلاف بين العلماء في أنّ الرجل إذا حرّم شيئا ولم يحلف أيكون ذلك يمينا، فيجب فيه ما يجب في اليمين، أم لا يكون؟ وتشعبت أطراف الخلاف بينهم إلى حدّ كبير، سنقفك على شيء منه بعد التفسير. لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ أي لم تمنع نفسك من شيء أباح الله لك الانتفاع به تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ الابتغاء: الطلب، والجملة حال من فاعل تحرّم. فيكون قيدا للعامل. وقد قال العلماء: إنّ العتاب موجّه إلى هذا القيد، لأنّ الكلام إذا كان مقيّدا بقيد إثباتا أو نفيا، فالنظر فيه إلى القيد، ولا مانع من أن يكون العتاب موجها إلى المقيّد مع قيده. ويرى البعض أنّ الجملة استئناف، وذلك أنّ الاستفهام ليس على حقيقته، بل هو معاتبة على أنّ التحريم لم يكن عن باعث صحيح، وحينئذ

_ (1) انظر أحكام القرآن لابن العربي (4/ 1833) .

يكون الاستفهام منشأ لأن يسأل فيقال: وما ينكر منه في التحريم وقد كان الأنبياء يحرّمون كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [آل عمران: 93] فقيل في جواب هذا السؤال: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ فكأنّ التحريم لم ينكر لذاته، وإنّما لما اشتمل عليه من الحرص على مرضاة الأزواج، ومثل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أجلّ من أن يقدم على ما يقدم عليه، ويمتنع عما يمتنع منه تبعا لإرضاء النساء. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقارف ذنبا، والذي كان منه إنما هو خلاف الأولى، فالإتيان بالغفران والرحمة هنا تكريم للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حيث جعل ما لا يعدّ ذنبا كأنه ذنب، ولا يكون ذلك إلا لمن سمت منزلته. وقد رأيت أنّا فسرنا التحريم هنا بالامتناع، وامتناعه عن شرب العسل أو غيره إنما كان كامتناعه عن أكل الضب، وهو بهذه المثابة لا شيء فيه، وإنما عوتب من أجل أنّ الباعث كان الحرص على مرضاة الأزواج. وقد أراد الزمخشريّ «1» أن يقول: بل هو قد قال: إنّ الذي وقع هنا هو أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حرّم من عند نفسه ما أحل الله، فيكون قد غيّر الحكم ابتغاء مرضاة الأزواج فآخذه الله به، وأنكره عليه، وغفر له ما وقع منه من الزلة، وقد شنع العلماء على الزمخشري في قوله هذا. وذلك أن تحريم الحلال ينتظم معنيين: فقد يراد منه اعتقاد حكم التحريم فيما جعله الله حلالا، وذلك تغيير لحكم الله، وتبديل له على نحو الذي كان من الكفار من تحريمهم البحائر والسوائب والوصائل وغيرها، وكقولهم: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام: 138] وعلى نحو ما حكى الله عنهم في قوله: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النحل: 35] وتحريم الحلال بهذا المعنى كفر لا يكون إلا من الكافرين. والمعنى الثاني: الامتناع من الحلال امتناعا مطلقا، أو مؤكّدا باليمين مع اعتقاد حل الفعل الذي امتنع منه، وهذا شيء لا خطر فيه، ولا شيء، وقد امتنع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أكل الضب، وقال: «إنّه لم يكن بأرض

_ (1) انظر كتاب الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل للزمخشري (4/ 564) .

قومي» «1» . والذي وقع من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان من هذا النوع، وإنما عوتب على ما صاحب الامتناع من الحرص على مرضاة الأزواج، خصوصا بعد المظاهرة التي كانت منهنّ، ومرضاة مثل هؤلاء ينبغي ألا يحرص عليها. وقد اعتذر بعض العلماء عن الزمخشري، وأوّل كلامه. قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ الفرض: التقدير، والمراد منه هنا: جعل تحلة اليمين شريعة، والمراد من التحلة الكفارة، والتحلة مصدر حلّل، كالتكرمة مصدر كرّم، وهو مصدر غير قياسي، إذ المصدر القياسي في كلّ منهما: التحليل والتكريم. وأصله من الحلّ ضدّ العقد، وذلك أنّ من حلف على شيء فكأنّه قد عقد عليه، لأنّه التزمه. وقد جعل الله الكفارة حلّا لهذا الالتزام. وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ هو سيدكم، ومتولي أموركم، وهو العليم بشأنكم، يعلم ما فيه مصلحتكم، فيشرع لكم ما تقضي به هذه المصلحة، وهو الحكيم الذي لا يصدر عنه إلا كل متقن محكم. اختلف العلماء في أنّ التحريم الذي كان من النبي صلّى الله عليه وسلّم هل كان مقترنا بيمين، وظاهر الآية قد يؤيّد القول بالإيجاب، لقوله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ إذ هو مشعر بأن ثمة يمينا تحتاج إلى التحلة، وقد جاء في بعض الروايات ما يؤيده. واختلفوا أيضا في أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعطى كفارة، أو لم يفعل. وقد ذهب الحسن إلى أنه لم يعط كفارة، ويقول في التوجيه: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو توجيه لا يخلو من شيء، وقد نقل عن الإمام مالك رحمه الله في «المدونة» أنّه أعطى الكفارة. وقد اختلف العلماء بعد ذلك في الرجل يحرّم شيئا، كأن يقول لزوجته: أنت عليّ حرام، أو الحلال عليّ حرام، ولم يستثن شيئا. ويقول ابن العربي «2» : بأنّ للعلماء في تحريم الرجل لزوجته خمسة عشر قولا، يجمعها ثلاثة مقامات: المقام الأول: في جمع الأقوال. الثاني: في التوجيه.

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (3/ 1543) ، 34- كتاب الصيد، 7- باب إباحة الضب حديث رقم (43/ 1945) ، والبخاري في الصحيح (6/ 288) ، 72- كتاب الذبائح، 33- باب النصب حديث رقم (5537) . (2) انظر أحكام القرآن لابن العربي (4/ 1835) .

المقام الثالث: في عد الصور في ذلك. ونحن نقتصر هنا على جمع الأقوال، ونترك المقامين الآخرين إلى الفقه وعلم الخلاف، فإنّ الآية لا تحتمل كلّ ما قال الفقهاء. القول الأول: روي عن أبي بكر وعائشة والأوزاعي أنّ تحريم الزوجة يمين تلزم فيها الكفارة. القول الثاني: قال ابن مسعود: ليس تحريم الزوجة بيمين، وتلزم فيه الكفارة. القول الثالث: قال عمر بن الخطاب: إنّ تحريم الزوجة طلقة رجعية، وهو رأي الزهري. القول الرابع: أن تحريم الزوجة ظهار، وهو رأي عثمان البتي وأحمد بن حنبل. القول الخامس: قال حماد بن سلمة «1» ، وهو رواية عن مالك: أنه طلقة بائنة. القول السادس: أنّه ثلاث تطليقات، وهو مروي عن علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي هريرة، ومالك. القول السابع: قال أبو حنيفة: إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى، وإلّا كانت يمينا، وكان الرجل موليا من امرأته. القول الثامن: قال ابن القاسم «2» : إنّ من حرّم زوجته لا تنفعه نية الظهار، وإنما يكون طلاقا. القول التاسع: قال يحيى بن عمر «3» : يكون طلاقا، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفّر كفارة الظهار. القول العاشر: هو ثلاث قبل الدخول وبعده، لكنه ينوي في التي لم يدخل بها إذا قال: نويت الواحدة، وهو عن مالك وابن القاسم. القول الحادي عشر: هو ثلاث، ولا ينوي بحال، ولا في محل، قال ابن العربي هو قول عبد الملك في «المبسوط» .

_ (1) ابن دينار البصري أبو سلمة، مفتي البصرة، وأحد رجال الحديث ومن النحاة كان حافظا ثقة مأمونا، وكان إماما في العربية، شديدا على المبتدعة، انظر الأعلام للزركلي (2/ 272) . (2) عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي المصري أبو عبد الله، فقيه، ولد في مصر سنة (191 هـ) انظر الأعلام للزركلي (3/ 323) . (3) يحيى بن عمر بن يوسف بن عامر الكناني الأندلسي أبو زكريا فقيه مالكي عالم بالحديث نشأ بقرطبة، وسكن القيروان توفي سنة (289 هـ) انظر الأعلام للزركلي (8/ 160) .

القول الثاني عشر: هو في التي لم يدخل بها واحدة، وفي التي دخل بها ثلاث، وهو رأي أبي مصعب، ومحمد بن عبد الحكم. القول الثالث عشر: أنّه إن نوى الظهار- وهو أن ينوي أنّها محرمة كتحريم أمه- كان ظهارا، وإن نوى تحريم عينها بجملته بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين، وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين، وهو عن الشافعي. القول الرابع عشر: أنّه إن لم ينو شيئا لا يلزمه شيء. القول الخامس عشر: أنّه لا شيء عليه أصلا، قاله مسروق، وربيعة من أهل المدينة. وبعد فإنّك ترى أنّ الآية الكريمة ليس فيها أكثر من أنّ الله سبحانه عاتب نبيّه على أنّ منع نفسه شيئا أباحه الله له، والظاهر أنّ هذا المنع كان مصحوبا باليمين، فقال الله: لا تمتنع، وكفّر عن يمينك بالتحلة، وإذا جرينا على ما هو الصحيح من أنّ الحادثة كانت في شرب العسل ازددت يقينا بأنّ كلّ هذه الأقوال التي قبلت في تحريم الزوجة من غير يمين تحتاج إلى أدلتها من غير الآية، فلتطلب في أماكنها، والله المستعان، وبه التوفيق.

من سورة المزمل

من سورة المزمل قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) قال الحسن وعكرمة وعطاء وجابر: إنّ هذه السورة مكية كلّها. وحكى الأصبهاني أنّها مكية ما عدا الآيتين: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ. وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وهناك قول ثالث: أنها مكية ما عدا قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ ... وقد اعترض السيوطي في «الإتقان» على الأخير بأنه يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة رضي الله عنها أنّ قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إلخ قد نزل بعد نزول صدر السورة بسنة، لما كان قيام الليل فرضا في أول الإسلام قبل أن تفرض الصلوات الخمس. يعني: وإذا كانت الصلوات الخمس قد شرعت في مكة قبل الهجرة بسنة، وقد تمّ بفرضيتها نسخ ما كان قبلها من فرض القيام، ظهر أنّ آخر المزمل من المكي. ولعلك تختار القول الأول لما أورده السيوطي على الأخير، ولأنّ أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالصبر على أذى الكفار، والإعراض عنهم، وهجرهم، إنما كان في أول الإسلام، قبل أن يكثر أنصار الدعوة الإسلامية، وقبل أن يأذن الله تعالى للمؤمنين المظلومين أن يدفعوا عن أنفسهم بالقوة. على ما يدل عليه الاستقراء، وتتبع موارد الآيات القرآنية التي تأمر بمثل ما ورد في آيتي وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ والتي بعدها. يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) المزّمل بتشديد الزاي والميم: اسم فاعل من تزمّل، وأصله المتزمل، فأدغمت التاء والزاي، ومعناه: المتلفف في ثيابه، ومنه قول ذي الرّمة: وكائن تخطت ناقتي من مفازة ... ومن نائم عن ليلها متزمل وقرأه أبيّ على الأصل. كما قرئ بتخفيف الزاي، على أنه اسم فاعل أو اسم مفعول. وقد اختلف المفسرون في سبب تزمّله عليه الصلاة والسلام، فقيل: إنه كان نائما بالليل متزمّلا في قطيفة، أو أنه يريد فتلفّف بالقطيفة، فجاءه الملك بنداء الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) إلخ ليدع النوم، ويقوم لما هو أهم، وينهض لعبادة الله في

ناشئة الليل، فإنها خير معين له على تحمّل ما سيرد عليه من الوحي، وما سيلقى عليه من القول الثقيل. وقيل: إنّ تزمّله عليه الصلاة والسلام كان لأسفه وحزنه لما بلغه ما كان من المشركين، وما دبّروه من القول السيئ، يدفعون به دعوته. فقد أخرج البزار والطبراني في «الأوسط» وأبو نعيم في «الدلائل» عن جابر رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما تصدّوا الناس عنه. فقالوا: كاهن. قالوا: ليس بكاهن، قالوا: مجنون. قالوا: ليس بمجنون، قالوا: ساحر، قالوا: ليس بساحر. قالوا: يفرّق بين الحبيب وحبيبه، فتفرّق المشركون على ذلك. فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فتزمل في ثيابه، وتدثّر فيها، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) . وقد يساعد هذا القول ما ورد في السورة من قوله تعالى: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) على القول بأنّ هاتين الآيتين من المكي، وأنهما نزلتا مع الآيات السابقة. غير أنّه يقال: إذا كان هذا هو سبب التزمل، وأنه من أجله أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في هذه السورة أن يهجر أولئك، ويصبر عليهم، ولا يأبه لقولهم، فما السبب في أنه لم تذكر الآيتان وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وما بعدها عقب النداء؟ ولماذا فصل بين ذلك بالأوامر الأولى المتعلقة بقيام الليل والذكر والترتيل؟ والجواب: أنه لا شك أنّ هذه العبادات تقوّي قلبه عليه الصلاة والسلام، وتثبّت فؤاده، وتعينه على الصبر والاحتمال والإغضاء عن السوء من أقوال الكافرين. وقيل: إنّ السبب هو ما ورد في حديث جابر المشهور «1» على ما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي، فلم أر شيئا، فرفعت رأسي، فإذا الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض، فجثثت- بمثلثتين مبنيا للمجهول، فزعت- منه رعبا، فرجعت، فقلت: دثروني، دثروني» وفي رواية: فجئت أهلي، فقلت: زمّلوني زمّلوني، فأنزل الله يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) . وجمهور العلماء يقولون: وعلى إثرها نزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) وعلى هذا يكون

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 143) ، 1- كتاب الإيمان، 73- باب بدء الوحي حديث رقم (161) ، والبخاري في الصحيح (6/ 97) ، 65- كتاب التفسير، حديث رقم (4922) ، والترمذي في الجامع الصحيح (5/ 399) ، كتاب التفسير، باب ومن سورة المدثر حديث رقم (3325) ، وأحمد في المسند (3/ 306) .

سبب التزمل هو ما عراه صلّى الله عليه وسلّم من الرعب والفزع عند رؤية الملك، وتكون حادثة التزمل هي حادثة التدثر بعينها، أما على القولين الأولين فيصحّ أن يكون السبب واحدا أيضا، كما يصحّ أن يكون مختلفا. والحكمة في ندائه عليه الصلاة والسلام بوصف التزمل هو إرادة ملاطفته وإيناسه، على نحو ما كان عليه العرب في مخاطباتهم في مثل هذه الحالة، ومن ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي لما غاضب فاطمة، وكان نائما قد لصق بجبينه التراب فقال له: «قم أبا ترب» «1» . قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ المراد من قيام الليل صلاة التهجد، وذلك بتقدير الصلاة، أي انهض لصلاة الليل، أو بتضمين (قم) معنى صل. وقد أعرب بعض المفسرين: (الليل) ظرفا لفعل القيام، جريا على مذهب البصريين الذين يجوّزون في مثله أن يكون ظرفا، ولو استغرقه الحدث، كما هنا، فإنّ المعنى على إرادة جميع أجزاء الليل حتى يصحّ الاستثناء بقوله: إِلَّا قَلِيلًا فإنّ الاستثناء معيار العموم. أما على رأي الكوفيين الذين يمنعون ذلك فنصب الليل يكون من قبيل النصب على المفعولية. ومعنى قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) انهض للصلاة مستغرقا بها الليل إلا جزءا قليلا منه، ونِصْفَهُ بدل كل من الليل بعد مراعاة الاستثناء، فكأنه قيل: قم نصف الليل، ويصحّ أن يكون بدلا من قَلِيلًا والأمران في قوله تعالى: أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ معطوفان على الأمر الأول. والضميران في (منه) و (عليه) عائدان على الليل بعد مراعاة الاستثناء، والإبدال أيضا. ويصحّ أن يعود على (نصفه) والمآل واحد. وحاصل المعنى أنه صلّى الله عليه وسلّم مأمور بأن يقوم من الليل للتهجد، وأنّ الله خيّره أن يقوم نصف الليل، وأن ينقص من النصف مقدارا قليلا، وأن يزيد على ذلك النصف، ولم تقيد الزيادة على النصف بالقلّة، كما قيّد النقص بها، لأنّ الزيادة الكثيرة لا تخلّ بالأمر، بل فيها زيادة برّ وعمل صالح. أمّا النقص الكثير عن النصف فعلى خلاف ذلك، إذ إنّه مخلّ بالمطلوب. هذا وقد قال العلماء: إنّه في حالة النقص عن النصف لا يتحقق الوفاء إلا إذا كان النقص لا يبلغ الربع، وهو ظاهر، إذ لا يقال في الاستعمال العربي لمن اقتصر على الربع إنه أنقص من النصف قليلا- ومن العلماء من قال: إنّ القليل هو ما دون

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 1874) ، 44- كتاب فضائل الصحابة 4- باب من فضائل علي حديث رقم (38/ 2409) .

السدس، فإذا بلغ النقص السدس، أو تجاوزه كان كثيرا مخلّا بالوفاء. لكنه يقال: كيف يكون النصف بدل كلّ من الليل الذي استثنى منه القليل؟ وكيف يكون نصف الشيء مطابقا له مع استثناء جزء قليل منه؟ وأجاب المفسرون بأنّه لزيادة الاعتناء بالنصف المقارن للتهجد، وتفضيله بالصلاة فيه على النصف الآخر الخالي من الصلاة، جعل هو أغلب الليل وأكثره، وإن كان في الحقيقة نصفه. ظاهر توجيه الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمره بقيام الليل مع ندائه بالوصف الخاصّ به- وهو التزمل- أنّ التهجد كان فريضة عليه، وأنّ فرضيته كانت خاصة به. وإلى هذا ذهب جمع من العلماء، قالوا: وهو الذي يدلّ عليه قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء: 79] فإنّ قوله: نافِلَةً لَكَ بعد الأمر بالتهجد ظاهر في أن الوجوب من خصائصه عليه الصلاة والسلام، وليس معنى النافلة في هذه الآية ما يجوز فعله وتركه، فإنّه على هذا الوجه لا يكون خاصا به عليه الصلاة والسلام، بل معنى كون التهجد نافلة له صلّى الله عليه وسلّم أنّه شيء زائد على ما هو مفروض على غيره من الأمة. وذهب جماعة آخرون إلى أنّ وجوب التهجد كان ثابتا في حقّ الأمة أيضا، مستندين إلى قوله تعالى في آخر السورة التي معنا إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ إلخ. فإنه يدلّ على أنّ الصحابة كانوا يقومون من الليل كما كان يقوم النبي صلّى الله عليه وسلّم أدنى من ثلثيه ونصفه وثلثه، وإنه قد خفّف الله عنهم جميعا بأمرهم بالقيام على حسب ما يتيسر لهم، قالوا: ويشهد لهذا ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنّه كان يقول: أوّل ما نزل أول المزمل، كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان، وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة «1» . وما رواه ابن جرير «2» عن أبي عبد الرحمن أنه قال: لما نزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، حتى نزلت (فاقرءوا ما تيسر منه) قال: فاستراح الناس. وما أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» «3» عن سعيد بن هشام أنه سأل عائشة رضي الله عنها عن قيام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: ألست تقرأ هذه السورة: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) ؟

_ (1) رواه أبو داود في سننه (1/ 487) ، كتاب الصلاة، باب نسخ قيام الليل، حديث رقم (1305) . (2) في تفسيره جامع البيان، المشهور بتفسير الطبري (29/ 79) . (3) رواه الإمام أحمد في المسند (6/ 54) .

قال: بلى. قالت: فإنّ الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فرضيته. وقال بعض الناس: إنّ التهجد لم يكن مفروضا لا على النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا على أحد من أمته، واحتجّوا على ذلك بما يأتي: 1- ظاهر قوله تعالى في سورة الإسراء نافِلَةً لَكَ [الإسراء: 79] فإنه يفيد أنّ التهجد زيادة لم تتعلق بها الفرضية، وقد علمت ردّه فيما سبق. 2- أنّ الأمر في قوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ وقوله جلّ شأنه: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ لا يفيد الوجوب، وحمله على الندب أولى، لأنّا وجدنا أوامر الشريعة تارة تفيد الوجوب، وتارة تفيد الندب، فينبغي حمل ما يرد منها على القدر المشترك بينهما، وهو ترجيح جانب الفعل على جانب الترك، دفعا للتجوّز والاشتراك اللفظي وإذا كان الأمر كذلك كان الثابت معنى الندب، لأن تمام معنى الواجب- وهو عدم جواز الترك- لا بدّ له من دليل آخر، كالتوعد على الترك، أو قرينة أخرى تدل على ذلك، وهو غير متوفّر في الأمرين السابقين، فبقي الترك على أصله، وهو الجواز. والجواب يعلم مما تقرر في علم الأصول، وهو أنّ المختار في الأوامر حملها على الإلزام، إلا أن يصرف عن ذلك صارف، وهو مذهب الجمهور. 3- أنه تعالى ترك تقدير قيام الليل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وخيّره بين أن يقوم نصف الليل، أو يزيد عليه، أو ينقص منه، ومثل هذا لا يكون في الواجبات، فإنّ الشأن فيها أن تعيّن وتحدّد مقاديرها، كما في المكتوبات. والجواب: أنه لا مانع من ذلك. وقد عهد في الشريعة أن يفرض الله على المكلف أحد أمور معينة، بحيث لا يجوز له الإخلال بها جميعا، ثم إذا فعل واحدا منها كان قائما بما وجب عليه، فيكون قيام الليل مفروضا، بحيث لا ينقص كثيرا عن النصف، فإذا قام المكلف في الليل قريبا من نصفه فقد حصل الواجب، وإذا زاد إلى النصف أو أكثر منه كان محصّلا للواجب من باب أولى. وبعد فهذه أقوال ثلاثة قد عرفت مآخذها، وعرفت الردّ على ما استدل به أصحاب القول الثالث. أما ما استند إليه أصحاب القول الأول فيمكن الجواب عنه بأنّ توجيه الخطاب إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحده لا يقتضي تخصيصه بما ورد بعده من الأوامر، فإنّه عليه الصلاة والسلام نبيّ متبوع، وخطابه يتناول أمته، كما هو معروف في الأصول، إلّا أن يقوم دليل على الخصوص.

أما آية الإسراء: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء: 79] فهي مدنية متأخّرة في النزول عن سورة المزمّل فيصح أن يكون التهجد قد بقي وجوبه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ما نسخ عن أمته، ويكون معنى الآية: استمر على التهجد بالليل فريضة زائدة لك على ما استقرّ وجوبه على أمتك. والذي يستخلص من ذلك أنّ أرجح الأقوال هو الثاني، وهو القول بأنّ التهجد كان فريضة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعلى أمته، إذ هو الذي يمكن أن تأتلف عليه النصوص القرآنية السابقة. ويشهد له ما تقدّم من الآثار عن ابن عباس وعائشة وغيرهما. وننتقل بعد ذلك إلى الكلام في بقاء وجوب التهجد وعدمه، وفي تعيين الناسخ على القول بعدم البقاء. وللعلماء في ذلك أربعة أقوال: الأول: نقل عن الحسن وابن سيرين وابن جبير ما يفيد القول ببقاء وجوب التهجد على الناس جميعا، وأنّ أصل وجوب القيام لم ينسخ، وإنما الذي نسخ هو وجوب قيام جزء مقدّر من الليل لا ينقص كثيرا عن النصف على ما علمت. وهذا قول يخالف ما روي عن عائشة رضي الله عنها على ما سبق، وكذلك يخالف ما روي عن ابن عباس أنّه قال: سقط قيام الليل عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وصار تطوعا، وبقي بعد ذلك فرضا على رسول الله عليه الصلاة والسلام. ويردّه أيضا ما ثبت في «الصحيحين» «1» أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للرجل الذي سأله عما يجب: «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوّع» . القول الثاني: أنّه نسخ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن أمته بآخر سورة المزمّل، واستبدل به قراءة القرآن على ما يعطيه ظاهر قوله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] . ويدل عليه أيضا ظاهر ما روي عن عائشة رضي الله عنها كما تقدم فإنّ قولها: فصار قيام الليل تطوعا، لم تقيده بالأمة. القول الثالث: أنّ وجوب التهجد استمر على النبي وعلى الأمة، حتى نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج. القول الرابع: أنّه نسخ عن الأمة وحدها، وبقي وجوبه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما يعطيه ظاهر آية الإسراء [79] .

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (1/ 40) ، 1- كتاب الإيمان، 2- باب بيان الصلوات حديث رقم (8/ 11) ، والبخاري في الصحيح (1/ 20) ، 2- كتاب الإيمان، 35- باب الزكاة من الإسلام حديث رقم (46) .

ولعلّ الراجح هو هذا القول الأخير، كما أنّ الظاهر أنّ نسخ التهجد لم يحصل دفعة واحدة، فإنّ آخر سورة المزمل يفيد نسخ المقدار الذي بيّن في أولها، ولا يلزم من هذا نسخ وجوب التهجد من أصله، وكان بين آخر السورة وأولها نحو عام، كما ورد في الآثار السابقة. أما النسخ أصل الوجوب فإنه كان بافتراض الصلوات الخمس ليلة المعراج، وكان ذلك قبل الهجرة بعام. والظاهر أيضا أنّ هذا كله بالنظر للأمة، فأما النبي صلّى الله عليه وسلّم فإنّ آية الإسراء المدنية تدلّ على أنّ وجوب التهجد قد بقي عليه من بعد هذا، وأنّه استمر وجوبه عليه لم ينسخ إلى آخر حياته عليه الصلاة والسلام لعدم ما يدلّ على ذلك النسخ، وهذا هو الذي يشهد له ما تقدّم لك عن ابن عباس أنه يقول: سقط قيام الليل عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصار تطوعا، وبقي ذلك فرضا على رسول الله عليه الصلاة والسلام. ويشهد له أيضا ما صحّ أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يدع قيام الليل حضرا ولا سفرا، وأنه كان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع صلّى من النهار اثني عشر ركعة. كما ورد عن عائشة في حديثها مع سعيد بن هشام وقد تقدم بعضه. فإنّ مواظبة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على قيام الليل في الحضر والسفر، وقضاءه ما فاته من ذلك بعذر النوم أو المرض دليل على استمرار فرضية القيام عليه صلّى الله عليه وسلّم. وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا تقول العرب: ثغر رتل ورتل بالفتح والكسر، إذا كان مفلّجا أو حسن التنضيد، وفي «القاموس» : الرتل محركة: حسن تناسق الشيء، وفيه أيضا: ورتل الكلام ترتيلا: أحسن تأليفه. وترتّل فيه ترسّل. أما أقوال أهل التفسير: فعن ابن عباس أنّ معنى وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا بيّنه تبيينا وعن مجاهد: ترسّل فيه ترسلا. وقال قتادة: تثبّت فيه تثبتا. وكلها تدور حول شيء واحد، والمراد: اقرأه في قيامك بالليل على مهل، وتبيّن حروفه، فإنّ ذلك يكون عونا لك ولمن يسمع منك على فهمه وتدبر معانيه. أخرج العسكري في «المواعظ» عن عليّ كرّم الله وجهه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن هذه الآية فقال: «بيّنه تبيينا، ولا تنثره نثر الدقل، ولا تهذّه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة» «1» الدقل بفتح القاف: رديء التمر ويابسه. والهذّ: الإسراع، ولقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ قراءة مرتّلة مفسّرة حرفا حرفا، وكان يقطّع قراءته آية آية، ويمد حروف المد.

_ (1) انظر ما رواه السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور (6/ 277) . [.....]

روى ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أمّ سلمة رضي الله عنها أنّها سئلت عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: كان يقطّع قراءته آية آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) رواه أحمد وأبو داود والترمذي «1» . وأخرج البخاري «2» عن أنس أنّه سئل عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: كانت مدّا، ثم قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) يمد بِسْمِ اللَّهِ ويمد الرَّحْمنِ ويمد الرَّحِيمِ. وعلى هذا فليس لأحد من الناس مخالفة في أنّه يقرأ القرآن بترتيل وتبيين حروف، وتحسين مخارج، وإظهار مقاطع، إنما الكلام في التغني به وتلحينه. وقد اختلف في ذلك علماء السلف والخلف، فقال بكراهته أنس بن مالك، وسعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد، والحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي، والإمامان مالك وأحمد. وروي عن ابن المسيب أنّه سمع عمر بن عبد العزيز يؤم الناس فطرب في قراءته، فأرسل إليه سعيد يقول: أصلحك الله إنّ الأئمة لا تقرأ هكذا. فترك عمر التطريب بعد. وروي عن القاسم أنّ رجلا قرأ في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم فطرب فأنكر ذلك القاسم، وقال: يقول الله عزّ وجلّ: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ. وروى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن الألحان في الصلاة؟ فقال: لا تعجبني، وقال: إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم. وروي عن أحمد أنّه كان يقول في قراءة الألحان: ما تعجبني، ويقول: القراءة بالألحان بدعة لا تسمع. وعن عبد الله بن يزيد العكبري قال: سمعت رجلا يسأل أحمد: ما تقول في القراءة بالألحان؟ فقال له: ما اسمك؟ قال: محمد. قال له: أيسرك أن يقال لك: موحامد، ممدودا؟ وأجاز القراءة بالألحان عمر بن الخطاب، وابن عباس وابن مسعود

_ (1) رواه الترمذي في الجامع الصحيح (5/ 170) ، كتاب التفسير، تفسير فاتحة الكتاب حديث رقم (2927) ، وأبو داود في السنن كتاب القراءات حديث رقم (4001) ، وأحمد في المسند (6/ 302) . (2) رواه البخاري في الصحيح (6/ 136) ، 66- كتاب فضائل القرآن، 29- باب مد القراءة حديث رقم (5046) .

وعبد الرحمن بن الأسود بن زيد والإمامان أبو حنيفة والشافعي، واختاره أبو جعفر الطبري وأبو بكر بن العربي. فعن عمر بن الخطاب فيما رواه الطبري أنه كان يقول لأبي موسى: ذكّرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن، فيقول عمر: من استطاع أن يتغنّى بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل. وابن مسعود كانت تعجبه قراءة علقمة الأسود- وكان حسن الصوت- فكان يقرأ له علقمة، فإذا فرغ قال له: زدني فداك أبي وأمي. وعن عطاء بن أبي رباح قال: كان عبد الرحمن بن الأسود يتبع الصوت الحسن في المساجد في شهر رمضان. وروى الطحاوي أنّ أبا حنيفة كان يستمع القرآن بالألحان، كما روي أنّ الشافعي كان كذلك. هذا هو المأثور عن الأئمة والعلماء في قراءة التلحين والتطريب، والنظر بعد ذلك في أدلتهم. استدل المجيزون بما يأتي: 1- ما أخرجه أبو داود والنسائي عن البراء بن عازب أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «زيّنوا القرآن بأصواتكم» «1» . 2- وما أخرجه مسلم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن» . 3- وما في «البخاري» «2» عن عبد الله بن مغفّل قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجّع في قراءته. 4- وما روي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استمع ليلة لقراءة أبي موسى الأشعري، فلما أخبره بذلك قال: لو كنت أعلم أنّك تسمعه لحبّرته لك تحبيرا، ويروى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما سمعه قال: «إنّ هذا أعطي مزمارا من مزامير آل داود» «3» .

_ (1) ما رواه أبو داود في السنن (1/ 546) ، كتاب الصلاة، باب استحباب الترتيل حديث رقم (1468) ، والنسائي في السنن (1- 2/ 522) ، كتاب الافتتاح حديث رقم (1016) . (2) رواه مسلم في الصحيح (1/ 547) ، 6- كتاب صلاة المسافرين 35- باب ذكر قراءة النبي حديث رقم (237/ 794) ، والبخاري في الصحيح (6/ 137) ، 66- كتاب فضائل القرآن، 30- باب الترجيع حديث رقم (5047) . (3) رواه مسلم في الصحيح (1/ 546) ، 6- كتاب صلاة المسافرين، 34- باب استحباب تزيين الصوت حديث رقم (235/ 793) ، والبخاري في الصحيح (6/ 137) ، 66- كتاب فضائل القرآن، 31- باب حسن الصوت، حديث رقم (5048) .

5- وما رواه مسلم «1» عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما أذن الله لشيء أذنه لنبي حسن الصوت يتغنّى بالقرآن» . الأذن بفتحتين الاستماع. 6- وقالوا أيضا: إنّ الترنم بالقرآن، والتطريب بقراءته من شأنه أن يبعث على الاستماع والإصغاء، وهو أوقع في النفس، وأنفذ في القلب، وأبلغ في التأثير. روي أنّ عقبة بن عامر كان من أحسن الناس صوتا فقال له عمر: اعرض عليّ سورة كذا، فعرض عليه، فبكى عمر وقال: ما كنت أظنّ أنها نزلت. أما المانعون فاحتجوا بما يأتي: 1- ما رواه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق، فإنّه يجيء من بعدي أقوام يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم» فقد نعى على من يرجّع بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، على نحو ما يفعله أكثر قراء هذا العصر، ووصفهم بفتنة القلوب، كما وصف بها كل من يسمع لهم ويعجبه شأنهم. 2- وما روي عنه صلّى الله عليه وسلّم أنّه ذكر أشراط الساعة، وذكر أشياء، منها أن يتخذ القرآن مزامير، وقال: «يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم، ولا أفضلهم ليغنيهم غناء» . 3- وما رواه ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤذّن يطرب فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الأذان سهل سمح، فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن» أخرجه الدارقطني «2» . فقد كره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يطرب المؤذن في أذانه، فدلّ ذلك على أنه يكره التطريب في القراءة بطريق أولى. 4- وما روي أنّ زيادا النميري جاء إلى أنس رضي الله عنه مع القرّاء فقيل له: اقرأ، فرفع صوته وطرب- وكان رفيع الصوت-، فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خرقة سوداء، وقال: يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون، وكان إذا رأى شيئا ينكره رفع الخرقة عن وجهه. وهذا له حكم الرفع، فقوله: ما هكذا كانوا يفعلون. دلّ على أنّ القراءة في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم لم تكن على نحو قراءة زياد. 5- وقالوا أيضا: إنّ التغني والتطريب يؤدّي إلى أن يزاد على القرآن ما ليس منه، وذلك لأنّه يقتضي مدّ ما ليس بممدود، وهمز ما ليس بمهموز، وجعل الحرف الواحد حروفا كثيرة، وهو لا يجوز. هذا إلى أنّ التلحين من شأنه أن

_ (1) رواه في الصحيح (1/ 545) ، 6- كتاب صلاة المسافرين، 34- باب استحباب تزيين الصوت حديث رقم (232/ 792) . (2) رواه الدارقطني في سننه (2/ 86) ، كتاب الجنائز، باب تخفيف القراءة.

يلهي النفوس بنغمات الصوت، ويصرفها عن الاعتبار وتدبر معاني القرآن. هذه أدلة المانعين، وقد تأوّلوا ما أورده المجيزون مما يفيد جواز القراءة بالألحان فقالوا في حديث: «زينوا القرآن بأصواتكم» إن فيه قلبا، وأصله: «زينوا أصواتكم بالقرآن» كما قيل في: عرضت الناقة على الحوض، وعلى تسليم أنه ليس في الحديث قلب، فمعنى تزيين القرآن بالأصوات تجويده، وتحسين أدائه بالمد والغنة والإظهار، وضبط كلماته، وتبيين حروفه، وأنت ترى أنّ هذا التأويل بوجهيه بعيد عن لفظ الحديث غاية البعد، وهو على كل حال تأويل لا دليل عليه، ولا موجب له. وقالوا في الحديث الثاني: «ليس منّا من لم يتغن بالقرآن» إنه ليس من الغناء وإنما هو من الاستغناء، كما فسره بذلك سفيان بن عيينة، ومعناه: ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن الحديث، أو عن أخبار الأولين. قالوا: وقد ورد التغني بمعنى الاستغناء في كلام العرب. قال الأعشى: وكنت امرأ زمنا بالعراق ... عفيف المناخ طويل التغنّي وأنت ترى أيضا أنّ تأويل التغني بالاستغناء تأويل بعيد لا دليل عليه، ولذلك لما سئل الشافعي عن هذا التأويل المنسوب لابن عيينة قال: نحن أعلم بهذا، لو أراد به الاستغناء لقال. من لم يستغن بالقرآن، ولكن لما قال: «يتغنّ بالقرآن» علمنا أنه أراد به الغناء. أما بيت الأعشى فلا حجة لهم فيه، فإنّه لا يستقيم معناه على إرادة الاستغناء، وإنما هو بمعنى الإقامة، من قولهم: غنى فلان بمكان كذا إذا أقام، ومنه قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا. ثم أوّلوا ما ورد في بقية الأحاديث التي استدلّ بها المجيزون من الترجيع والتحبير والتغني مما يرجع لحسن التجويد، وإتقان الأداء. والحق أنّ الأدلة تشهد للمجيزين، وذلك لأنه إذا كان التلحين والتطريب يغيّر من ألفاظ القرآن، ويخلّ بما نقل إلينا من طرق الأداء أو كان تكلّفا وتصنّعا ورفعا وخفضا على نحو توقيعات الموسيقى، فلا كلام في أنّه ممنوع ومحرّم. أما إذا كان تحبيرا وترقيقا وتحزينا، وشيئا قضى به اتعاظ القارئ، وكمال تأثّره بمعاني القرآن، فليس هناك من الأدلة ما ينهض على منعه. بل الأدلة شاهدة به وداعية إليه. وعلى هذا ينبغي حمل كل ما أورده المانعون في منع التغني على التغني المذموم الذي يسير فيه القارئ مع الهوى ويلهو به عن تدبر المعنى ويخرج فيه عن الحدود والقوانين المأثورة في الأداء والترتيل. وهذا محمل قريب جدا وهو فوق ذلك مؤيد بتلك النصوص والآثار التي تجيز التغني في قراءة

القرآن وبعد هذا ترى الأدلة كلها متفقة لا تعارض بينها ولا تدافع. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) الإلقاء: الإنزال: والإيحاء. وعبّر به للإشارة من أول الأمر إلى أنّ ما يوحى به شديد وعظيم. والمراد بالقول الثقيل: القرآن، وثقله باعتبار ما اشتمل عليه من تحميله عليه الصلاة والسلام أعباء الرسالة ومهمة التبليغ، وما إلى ذلك من التكاليف التي يتطلّب القيام بها صبرا وجلدا وقوة عزيمة. وقيل: إنه ثقيل في نزوله عليه صلّى الله عليه وسلّم، وتلقيه إياه من الوحي، فقد كان عليه الصلاة والسلام يكرب عند ذلك، ويرجف، ويشتدّ عليه الأمر. روى الشيخان ومالك والترمذي والنسائي عن عائشة «1» رضي الله عنها أنّها قالت: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا. أخرج أحمد وابن جرير «2» وغيرهما عن عائشة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها، فما تستطيع أن تتحرّك، حتى يسرّى عنه، وتلت إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) . وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم نزل عليه الوحي مرة، وكان جالسا واضعا فخذه على فخذ زيد بن ثابت، فكادت فخذه عليه الصلاة والسلام ترضّ فخذ زيد من شدّة الضغط. قيل: معنى ثقله: أنه كلام رصين، فخم، له رجحان ووزن، ليس بالسفساف ولا بالهين الضعيف. وقيل: إنّ ثقله كناية عن بقائه على وجه الدهر، لا يزول ولا يتبدل، فإنّ المعهود في الأجسام الثقيلة أنّها تثبت وتبقى في مكانها. قال الله تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) واختلف المفسرون في المراد بالناشئة. فقيل: إنّها من نشأ من مكانه إذا نهض، فتكون الإضافة في ناشِئَةَ اللَّيْلِ على معنى في. والمعنى: إن النفس أو النفوس الناشئة

_ (1) رواه مسلم في الصحيح (4/ 1816) ، 43- كتاب الفضائل، 22- باب طب عرق النبي حديث رقم (86/ 2333) ، والبخاري في الصحيح (4/ 95) ، 59- كتاب بدء الخلق، 6- باب ذكر الملائكة، حديث رقم (3215) ، والترمذي في الجامع الصحيح (5/ 557) ، كتاب المناقب، حديث رقم (3634) ، والنسائي في السنن (1- 2/ 485) ، كتاب الافتتاح، باب جامع ما جاء في القرآن حديث رقم (933) . (2) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان في تفسير القرآن (29/ 80) .

في الليل الناهضة من مضاجعها للعبادة هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا والوطء المواطأة والموافقة، كالوطاء. والقيل: القول كالمقال. والمراد به قراءة القرآن، أو مطلق الذّكر، أي إنها أشد موافقة ومصادفة للخشوع والإخلاص. أو أن قلبها يكون بالليل أشد موافقة للسانها منه في سائر الأوقات، إذ يكون القلب في ساعات الليل حاضرا لا يشغله شاغل، ولا يصرفه عن خشية الله صارف. وَأَقْوَمُ قِيلًا أي إنّ قولها يكون حينئذ أكثر اعتدالا واستقامة على نهج الصواب، لأنّ الأصوات هادئة، والليل ساكن، فلا يضطرب المصلي، ولا يختلط عليه قوله وقراءته. وقيل: إن المراد بناشئة الليل العبادة فيه، ومعنى أن عبادة الليل أشدّ وطأ: أن موافقتها الإخلاص والخشوع في هذا الوقت أعظم منها في أي وقت آخر. أو أنّ قلب العابد فيها يكون أكثر موافقة للسانه منه في غير ذلك من الأوقات. وقيل: المراد بناشئة الليل ساعاته، والمعنى عليه كسابقه، ولعلّ أحسن هذه الأقوال أوسطها. أما موقع هاتين الآيتين مما قبلهما، فقال بعض المفسرين: إن أولاهما معترضة بين الأمر بالقيام وعلتها التي بينتها الآية الثانية، وهي قوله تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) وإنّ السر في هذا الاعتراض هو تسهيل أمر القيام بالليل عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالموازنة بينه وبين ما سيوحى إليه من أنواع التكاليف وشدائد الأعمال. ولكنّك ترى أنّه لا حاجة إلى جعل الآية الأولى معترضة بين ما قبلها وما بعدها، فإنّ ارتباطها بما قبلها واضح جدّا، وهي منه في منزلة العلة من المعلول، فكأنّ الله تعالى يقول لنبيه: قُمِ اللَّيْلَ وتجرد للعبادة، وأعد نفسك لما سيلقى عليك، لأنّا سنوحي إليك بأمور عظيمة، وسنحمّلك تكاليف ثقيلة تقتضيها طبيعة الرسالة التي اخترناك لها. ثم إنّ هذا يتضمّن دعوى أنّ العبادة في جوف الليل تعينه صلّى الله عليه وسلّم، وتهيئه لتحمل أعباء الرسالة، والاضطلاع بشؤونها، فتأتي الآية الثانية وهي قوله تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) لتعزيز الدعوى. فهي من سابقتها بمنزلة العلة من المعلول. فكأنّ الله جل شأنه يقول: حقا إنّ قيام الليل يعينك على تحمل ما سنلقيه عليك، لأنّ عبادة الليل أشدّ مواطأة وموافقة للإخلاص والخشوع، وأكثر اعتدالا واستقامة على نهج الحق والصواب.

قال الله تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7) السبح في الأصل: الذهاب في الماء، والتقلّب فيه. ويصحّ أن يطلق عن القيد، فيستعمل في مطلق الذهاب والتقلّب. وعلى هذا يكون معنى الآية: إنّ لك في النهار شغلا كثيرا، وتقلبا في أعمال متنوعة لا تستطيع معها أن تقوم في النهار بما يريده منك من تلك العبادات الخاصة، فلذلك كتبناها عليك في الليل، فيكون هذا تيسيرا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وبيانا للحكمة في التخفيف عنه، إذ لم يجمع عليه في النهار بين تلك العبادات وبين ما هو موكول إليه من الأعمال. ويصحّ أن يكون الغرض توكيد أمر القيام عليه، وأنه يجب أن يتفرّغ له بالليل، إذ يكفي أن يكون له من النهار فسحة طويلة يزاول فيها ما شاء من الأعمال. أما الليل فيجب أن يتوفّر فيه على القيام بحقّ الله وعبادته. قال الله تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) التبتل: الانقطاع، يقال بتله وبتّله بالتخفيف والتشديد، بتلا وتبتيلا، فانبتل وتبتّل، ومنه البتول للعذراء المنقطعة عن الأزواج، أو المنقطعة للعبادة. يأمر الله سبحانه وتعالى نبيّه أن يداوم على ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل وقراءة القرآن، فلا يشغله عن ذلك شاغل في ليله ولا نهاره، وأن يجعل همّه كله في إرضاء ربه، ويجرد نفسه عن التعلق بغيره، ويستغرق في مراقبته في كل ما يأتي وما يذر من الأعمال. وليس المراد أن ينقطع حتى عن أعمال النهار، ويعكف على الذكر والعبادة، فإنّه يتنافى مع قوله تعالى في الآية السابقة: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7) بل المراد التنبيه إلى أنّه ينبغي ألا يشغله السبح في أعمال النهار عن ذكر الله. هذا وإنما قيل: تَبْتِيلًا ولم يقل: تبتلا، حتى يتفق مع الفعل قبله، مراعاة للفواصل، وللدلالة على أنّ التبتل والانقطاع يحتاج إلى عمل اختياري منه صلّى الله عليه وسلّم، بأن يجرّد نفسه عن التعلق بغير الله تعالى، ويحصر همه في مراقبته جلّ شأنه، فيحصل التبتل الذي هو أثر لذلك. وقد يقال: فلماذا لم يقل: وتبتل إليه تبتيلا حتى يوافق الفعل مصدره؟ والجواب: إنّ ذلك للإشارة إلى أنّ المقصود الأهم إنما هو حصول ذلك الأثر، وهو التبتل. قال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى

[سورة المزمل (73) : آية 20]

وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) المراد من القيام هو ما تقدّم في أول السورة، وهو صلاة التهجد على ما عرفت. وكلمة أَدْنى من الدنو، وهو القرب، فهي في الأصل بمعنى أقرب، تقول: رأيت محمّدا في الدرس أدنى التلاميذ من الأستاذ، أي أنه يجلس في أقرب الأمكنة إليه، لكنّها استعملت في الآية بمعنى الأقل، على طريق المجاز المرسل، لأنه إذا قربت المسافة بين الشيئين كانت الأحيان بينهما قليلة. قرأ الجمهور: وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالنصب عطفا على أَدْنى لأنّه ظرف أو مفعول فيكون المعنى: إنّ الله قد علم أنّك كنت تقوم من الليل للصلاة على هذه الأوجه، فتارة تقوم أقلّ من ثلثيه، وأخرى تقوم نصفه، وثالثة تقوم ثلثه، وهذه القراءة تدلّ على أنّ عمله صلّى الله عليه وسلّم وعمل الصحابة معه كان وفق المأمور به في أول السورة، فإنّه إذا قام أقلّ من الثلثين فقد حقّق الزيادة على النصف، وإذا قام الثلث، فقد صدق أنّه نقص عن النصف قليلا. والنصف مطابق للنصف. وحينئذ لا تكون هناك مخالفة، لا بطريق الاختيار، ولا بطريق الاضطرار. ويكون التخفيف عنهم بسبب أنّهم- كما علم الله- لا يطيقون المواظبة على القيام بالمأمور به، إذ لا يمكنهم تقدير الليل، ولا يستطيعون ضبط ساعاته، فإذا حرصوا على الوفاء بالمطلوب اضطروا أن يأخذوا بأكبر المقادير وأوسعها، وفي ذلك مشقة زائدة. وقرأ نافع: نِصْفَهُ وثُلُثَهُ بالجر، عطفا على (ثلثيه) فيكون المعنى: إنّ الله علم أنك تقوم أقل من الثلثين مرّة، وأقلّ من النصف مرّة، وأقلّ من الثلث مرّة ثالثة. وظاهر أنّ ما دون الثلث لا يوافق المأمور به في أول السورة، وهو أن ينقص من النصف مقدار قليل، فإنّه لم يجر عرف الكلام أن يقال لما دون الثلث- في معرض التقدير بمثل هذه المقادير- إنه أقل من النصف، كما لا يقال لأمر حدث قبيل طلوع الفجر مثلا: إنه حصل بعد العشاء. على أنّ ما دون الثلث قد جاء في الآية التي معنا مقابلا لما دون النصف، إذ الأحوال الثلاثة هي: القيام أقل من الثلثين، وأقل من النصف، وأقل من الثلث، فيتعين أن يكون قيام ما دون الثلث شيئا غير قيام ما دون النصف وحينئذ لم يأت عملهم في جميع الحالات موافقا للأمر في أول السورة، إذ قيام ما دون الثلث لا يكون امتثالا للأمر بقيام النصف إلا القليل. لكنّ ذلك لما لم يكن عن اختيار وقصد،

بل كان عن محض الضرورة، بسبب أنهم لم يمكنهم ضبط مقادير الزمان مع عذر النوم لم يكن إثما، وانتفت فيه المؤاخذة، وعلى هذا يكون التخفيف عنهم بسبب هذه الضرورة، وهي عدم قدرتهم على إحصاء الوقت وضبط ساعات الليل. وبعد فلا تناقض بين القراءتين، فإنّ الآية ليست حديثا عما أمروا به من القيام، بل هي إخبار عن الواقع الذي كان يحصل منهم. وهم كانوا أحيانا يقومون ثلث الليل، ويقومون نصفه، ويقومون قريبا من ثلثيه، وأحيانا يقومون أقلّ من ثلثه، وأقلّ من نصفه، ظنا منهم أنهم وفوا في قيامهم أقلّ من الثلث بالقدر المأمور به، لعدم ضبط الزمن، وتحديد مقاديره. فقراءة النصب توافق الحالات الأولى، وقراءة الجرّ تنزّل على الحالات الثانية. وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وهذا معطوف على الضمير المستكنّ في تَقُومُ وهو وإن كان ضمير رفع متصل، قد سوغ العطف عليه الفصل بينه وبين المعطوف، والمعنى: أنّ الله يعلم أنّه كان يقوم كذلك جماعة من الذين آمنوا بك، واتبعوا هداك. وقد يقال: إنّ هذا يدلّ على أنّ قيام الليل لم يكن فرضا على جميع الأمة، وهو خلاف ما تقرّر تفسيره في أول السورة، ويخالف أيضا ما دلّت عليه الآثار المتقدمة هناك. والجواب: أنه ليس في الآية ما يفيد أنّ الصحابة رضوان الله عليهم كانوا جميعا يصلّون مع النبي صلّى الله عليه وسلّم صلاة التهجد في جماعة واحدة، فلعلّ بعضهم كان يقيمها في بيته. فلا ينافي ذلك فرضية القيام على الجميع. وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ الكلام هنا على الحصر والاختصاص، أي أنّ الله هو وحده الذي يقدّر الليل والنهار، يعلم مقاديرهما وأجزاءهما، وما مضى من كلّ، وما بقي على التعيين والتحديد. وهذا الاختصاص- على ما يقول الزمخشري «1» - مستفاد من تقديم اسم الجلالة مبتدأ، وبناء الفعل عليه. أما غير الزمخشري فإنه ينكر عليه مذهبه هذا في الاختصاص، إذ إنّه إذا قيل: محمد يحفظ الدرس، أو يتفقه على فلان، لم يفد ذلك أنه هو وحده الذي يحفظ ويتفقه. فالحصر في الآية مستفاد من سياق الكلام ودلالة المقام. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ إحصاء الأشياء عدّها، والإحاطة بمقدارها، ويصحّ أن يستعمل في القدرة على الفعل وإطاقته، وكلّ من المعنيين سائغ في الآية.

_ (1) انظر تفسير الكشاف للزمخشري (4/ 643) .

فعلى الأول: يكون الضمير المفعول في تُحْصُوهُ عائدا على مصدر مفهوم من يُقَدِّرُ في الجملة السابقة. والمعنى عليه: علم الله أنكم لم تحصوا تقدير الليل والنهار، ولن تستطيعوا ضبط ساعاتهما، ولا معرفة ما فات من ذلك على التحديد، ولا ما هو آت، وأنكم إذا أخذتم دائما بالأحوط ضعفتم، وشقّ عليكم الأمر، ولذلك خفف الله عنكم في أمر القيام، ورفع عنكم المقدار المحدد، ورخّص لكم أن تقوموا مقدارا ما من الليل غير مقيّد بثلث ولا بغيره. وعلى الثاني: يكون الضمير عائدا على القيام المفهوم من تَقُومُ. والمعنى عليه: علم الله أنكم لن تحصوا قيام الليل، أي لن تطيقوه، ولن تستطيعوا المواظبة عليه مقدّرا بذلك المقدار، ولذلك خفف عنكم. فَتابَ عَلَيْكُمْ التوبة في الأصل معناها العود والرجوع. يقال: تاب العاصي إذا رجع إلى سبيل الطاعة، ويقال: تاب الله عليه، بمعنى عفا عنه، وعاد عليه بالمغفرة، فالتوبة في قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ يصحّ أن تكون بمعنى المغفرة، أي غفر لكم ما كان عساه يفضي إلى مؤاخذتكم من عدم الوفاء بما أمرتم به، إذ كنتم تقومون في بعض الأحوال أقل من ثلث الليل، مع أنكم مأمورون أن تقوموا نصفه على الأقل، لا تنقصون منه إلا قليلا. وهذا- كما ترى- إنما يظهر على قراءة نافع ومن وافقه بجر (نصفه) و (ثلثه) . أما على قراءة النصب فيكون معنى فَتابَ عَلَيْكُمْ عاد عليكم بالترخيص والتخفيف، ورجع بكم من عسر إلى يسر، ومن شدة إلى لين، وليس هو من التوبة بمعنى المغفرة. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ للعلماء في المراد بالقراءة هنا ثلاثة أقوال: الأول: - قول من حمل القراءة على ظاهرها، وقال: إن صلاة التهجد قد نسخت بهذا الأمر وصار المطلوب قراءة شيء من القرآن. ثم من هؤلاء من قال: إنّ الأمر بالقراءة للوجوب، ومنهم من حمله على الندب. القول الثاني: أن المراد بالقراءة الصلاة، عبّر عنها لأنّها من أركانها، كما يعبّر عنها بالقيام والركوع والسجود، فيكون معنى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ صلوا ما تيسر لكم من الصلاة. ويشهد لذلك سياق الآية، وما سبق من الآثار التي تدل على أنّ آخر السورة نسخ أولها، فصار الواجب قيام جزء ما من الليل، ثم نسخ ذلك بفرض المكتوبات الخمس. القول الثالث: - أن المراد قراءة القرآن في الصلاة عملا بدلالة اللفظ مع شهادة السياق وتلك الآثار.

وقد تعلّق بعض الفقهاء بهذه الجملة: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ يستدلون بها على أن المفروض من القراءة في الصلاة ليس سورة معينة، بل ما يطلق عليه اسم القراءة من أي سورة. وقبل أن نشرح وجه الدلالة على ذلك، يلزم أن ننبهك إلى أنّ الاستدلال بها لا يستقيم على الوجه الأول من التفسير، فإنّ المراد بالقراءة على هذا الوجه حقيقة التلاوة خارج الصلاة، فلا تعلق لذلك بالموضوع. وكذلك لا يستقيم على الوجه الثاني فإنّ القراءة عليه لم يرد بها معناها الحقيقي، بل هي مجاز عن الصلاة كما عرفت، فالتمسك بها إنما يستقيم على الوجه الثالث. وذلك أنّه- بعد اتفاق الأئمة على أنّ القراءة في الصلاة من فرائضها- يقول الحنفية: إنّ الفرض مطلق قراءة آية أو ثلاث آيات- على اختلاف القولين بين الإمام وصاحبيه- من أيّ سورة من القرآن، وأنّ الفاتحة غير متعينة للفرضية، فإذا صلّى بها أو بغيرها فقد حصل ركن القراءة. وذلك لأنّ قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أمر بمطلق القراءة من غير تقييد بفاتحة ولا بغيرها، ومقتضى هذا الأمر وجوب تحصيل المطلق في أي فرد من أفراده. قالوا: ويشهد لذلك: 1- ما في «الصحيحين» «1» عن أبي هريرة أنّ رجلا دخل المسجد فصلّى، ثم جاء فسلّم على النبيّ عليه الصلاة والسلام، فردّ عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ، فصلّى، ثم جاء فأمره بالرجوع، فعل ذلك ثلاث مرات، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره. فقال عليه الصلاة والسلام: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبّر، ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئنّ راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن قائما، ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا، ثم ارفع حتى تستوي قائما، ثم افعل ذلك في صلاتك كلّها» . علمه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كيفية الصلاة، وبين له أركانها وشرائطها، ولم يعيّن عليه في ذلك قراءة الفاتحة، بل قال له: «اقرأ ما تيسر معك من القرآن» . فلو كانت الفاتحة بخصوصها ركنا لعيّنها له، وعلمه إياها إن كان يجهلها، أو وكل به من يعلمه ذلك. 2- وما روى أبو داود «2» عن أبي هريرة من قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب» فإنّه ظاهر في عدم تعيين الفاتحة.

_ (1) سبق تخريجه. (2) رواه أبو داود في سننه كتاب الصلاة، باب القراءة حديث رقم (819) .

3- أما غير الحنفية فإنّهم يقولون: إنّ قراءة الفاتحة على التعيين فرض لا تجزئ الصلاة بتركها، أو بترك حرف منها، ويقولون: إن الآية- وإن كانت مطلقة- قد قيدتها الأحاديث الصحيحة التي تدلّ على أنّ خصوص الفاتحة ركن. فمن ذلك: 1- ما رواه السبعة «1» عن عبادة بن الصامت أنّه عليه الصلاة والسلام قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» قال: النفي هنا يدلّ على انعدام الصلاة الشرعية، لعدم القراءة فيها بالفاتحة، ولا يكون عدم قراءة الفاتحة موجبا لانعدام الصلاة إلا إذا كانت الفاتحة من فرائضها. قالوا: ولا يرد على هذا الدليل أنّه مشترك الدلالة وأنّه كما يصحّ أن يقدّر فيه متعلق الجار والمجرور الصحة حتى يكون المعنى: لا صلاة صحيحة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، كذلك يصحّ تقديره بالكمال، فيكون المعنى: لا صلاة كاملة إلخ ومثل هذا لا يصح به الاستدلال. قالوا: لا يرد هذا: لأن الأصل في مثل هذا المتعلق أن يقدّر كونا عاما، لعدم القرينة الدالة على الخصوص. فالمعنى: لا صلاة كائنة أو موجودة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وعدم الوجود شرعا هو عدم الصحة، بل أقوى منه. ولو سلّم أنّه كون خاص، فتقدير الصحة أولى، لأن النفي متوجه في لفظ الحديث إلى ذات الصلاة، وإذا كانت الذوات لا يصحّ أن يتوجه عليها النفي، لأنّه من خواص النسب، وتعذّر بذلك حمل اللفظ على حقيقته كان الحمل على أقرب المجاورين أولى، وذلك بتقدير الصحة، فإنّ ما ليس بصحيح أقرب إلى المعدوم مما ليس بكامل. 2- وما رواه الدارقطني «2» عن عبادة بن الصامت أنّه عليه الصلاة والسلام قال: «لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» فإنّ عدم الإجزاء ظاهر جدا في عدم الصحة. 3- وما رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة «3» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج، فهي خداج، فهي خداج» الخداج بالكسر: النقصان مأخوذ من خداج الناقة، وهو إلقاؤها ولدها قبل أوانه. 4- عمل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فإنّه عليه الصلاة والسلام قد واظب على قراءة الفاتحة في كل صلاة من غير ترك، فلولا أنّها ركن لتركها ولو مرة تعليما وتشريعا. هذه أدلة الفريقين تجدها في ظاهرها متعارضة، فكان لا بدّ من النظر فيها.

_ (1) سبق تخريجه. (2) رواه الدارقطني في سننه (1/ 322) . [.....] (3) سبق تخريجه.

وينبغي أن تعلم أولا: أنه لا سبيل إلى دعوى النسخ في شيء من تلك الأحاديث المتعارضة، لأنه لم يوقف فيها على تمييز السابق من اللاحق، فلا بدّ إذا من أحد أمرين: إما الجمع بينهما، وإما ترجيح بعضها على بعض. على أنه متى أمكن أن يجمع بينها فلا ينبغي العدول عنه. واعلم أيضا أنه لا مجال للمناقشة في أنّ قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ من قبيل المطلق، وأنّ من يجادل في هذا فهو يحاول أن يلوي الأساليب العربية عن استقامتها. كما أنّ قوله صلّى الله عليه وسلّم للرجل المسيء صلاته: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» من قبيل المطلق أيضا. وعلى هذا أجاب الحنفية عما استدل به مخالفوهم من الشافعية وغيرهم بما يأتي: قالوا على الدليل الرابع: إنّ عمل النبي صلّى الله عليه وسلّم ومواظبته على قراءة الفاتحة من غير ترك لا يدل على الفرضية، فإنّه عليه الصلاة والسلام كما كان يواظب على الفرائض، كان يواظب على الواجبات التي هي أدنى منها، وليس ترك الواجب في بعض الأحيان طريقا متعينا للتمييز بينه وبين الفرض، فإنّ التمييز كما يكون بالفعل يكون بالقول، كأن يقول لهم: إن ترك هذا لا يبطل الصلاة، ولكن لا يجوز أن تتركوه. وأجابوا عن حديث أبي هريرة- وهو الدليل الثالث- بأنّ النقصان أعمّ من الفساد، فقد تكون الصلاة ناقصة مع الصحة بأن تكون مستجمعة شروطها وفرائضها وتخلّف شيء من الواجبات، أو السنن فيها فلضرورة الجمع بين الأدلة المتعارضة يحمل النقصان على غير الفاحش الذي يفسد الصلاة، وهو محمل غير بعيد. وأجابوا عن الدليل الثاني: وهو ما رواه الدارقطني عن عبادة بن الصامت أنّه عليه الصلاة والسلام قال: «لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» بأنّ رواية الجماعة عنه أنّه عليه الصلاة والسلام قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» أرجح من تلك الرواية، لأنه لا شك أنّ ما اتفق عليه الجماعة أصحّ مما تفرّد به غيرهم ولأنّ كلتا الروايتين- وإن كانت معارضة بظاهرها لإطلاق القرآن- فأقرب الروايتين إليه رواية الجماعة، وأيضا فإنّه يصحّ أن تكون رواية الدارقطني بالمعنى وأنّ الراوي فهم من «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» عدم الإجزاء. فعبّر بلفظ: «لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» .

فلم يبق إلا أن يجمع بين هذه وبين قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ. وذلك أن الرواية على كل حال حديث آحاد لا تناهض القرآن، ولا تقوى على نسخه، فلو حملنا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» على نفي الصحة لزم أن يكون قاضيا على الكتاب، ناسخا لحكمه، لأنّ مقتضى الكتاب صحة الصلاة بكل قراءة، ولو بغير فاتحة الكتاب، ومقتضى الحديث على ذلك المحمل عدم صحتها، إلا أن يقرأ فيها بالفاتحة، وإذا كان الشافعي رحمه الله لا يرى نسخ الكتاب حتى بالحديث المتواتر، كما نصّ على ذلك في «الرسالة» فيلزم ألا يجيز نسخه برواية الآحاد من باب أولى. وإذا كانت العبرة في الأمور بمعانيها وحقائقها، لا بأسمائها وألقابها فتغيير حكم الآية بذلك الحديث- على النحو الذي يقول به الشافعية ومن وافقهم- تغيير لا يختلف في شيء عن تغيير النسخ وسمّه بعد ذلك بما شئت. وعلى هذا ينبغي أن يحمل الحديث على نفي الكمال، بدليل نصّ الكتاب، وما جاء في حديث المسيء صلاته، ويكون قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» نظير قوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وقوله: «لا صلاة للعبد الآبق» فإنّ القرينة الدالة على أنّ المراد نفي الكمال متحققة في الجميع، وعلى هذا يتم العمل بالقرآن والحديث، إذ يكون الأول مفيدا أنّ مطلق القراءة فرض في الصلاة. والثاني يفيد أنّ قراءة الفاتحة من الواجبات التي هي دون الفرائض. وبعد فالعلماء مختلفون أيضا في محلّ القراءة المفروضة: فالحنفية «1» القائلون بأن الفرض مطلق القراءة يقولون: إنها فرض في ركعتين من الصلوات الرباعية. أمّا القائلون بأنّ الفرض خصوص الفاتحة، فمنهم من يقول بفرضيتها في كل ركعة من الصلاة كما هو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك. ومنهم من يقول بفرضيتها في ركعتين كما هي الرواية الأخرى. ولا نرى أن نعرض هنا لهذه التفاصيل، ومآخذ الأئمة فيها، فإنّ مرجع ذلك كله الحديث وكتب الفروع. عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. الضرب في الأرض: السير فيها، والسفر للتجارة والتعيش.

_ (1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني (1- 2/ 58) .

عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى قال بعض المفسرين: هذه الجملة مستأنفة لبيان حكمة أخرى لتخفيف قيام الليل بعد الحكمة الأولى، وهي عدم القدرة على إحصاء الوقت وتقدير ساعاته، أي علم أنه سيكون منكم مرضى إلخ كما علم عسر تقدير الأوقات عليكم. ولكنّك ترى أنه كان الظاهر على هذا أن يؤتى بالجملة الثانية عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى. موصولة بالأولى غير مفصولة. وظاهر كلام الإمام الرازي «1» أن قوله تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى هو الذي يبيّن حكمة النسخ، وأنه جواب لسؤال تقديري، فكأنه قيل: لم نسخ الله ذلك؟ فقال: لأنه علم تعذر القيام على المرضى والضاربين في الأرض والمجاهدين في سبيل الله. وهذا التوجيه يدل على أنّ قوله تعالى فيما سبق عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ لا مدخل له في النسخ والتخفيف، مع أنّ صريح الآية يخالفه، إذ قد رتب عليه الترخيص بالفاء الدالة على التسبب، وذلك هو قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ. فالظاهر أنّ قوله تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى قد جاء مجيء التفصيل بعد الإجمال، فحكمة النسخ واحدة: هي رفع المشقة المترتبة على وجوب القيام الطويل في الليل. أجملت هذه الحكمة في قوله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ ثم فصلت في قوله جلّ شأنه: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى إلخ. فليست هذه لبيان حكمة ثانية للنسخ كما أنها ليست مستقلة بالبيان عن ذلك الإجمال. بيّن الله تعالى بذلك ثلاثة أشياء، كلها مقتض للتخفيف على الناس في قيام الليل: الأول: المرض. فالمريض يصعب عليه طول التهجد، فإنّ السهر الكثير قد يضاعف علته ويزيد آلامه. الثاني: الضرب في الأرض للتجارة. والثالث: الجهاد في سبيل الله. فإنّ الضاربين للتجارة وابتغاء الرزق، والمجاهدين في سبيل الله مشتغلون في نهارهم بتلك الأعمال الشديدة، فلو لم يناموا في الليل نوما يستعيدون به ما فقدوه من قوتهم لضعفوا، وكلّوا، وانقطعوا عن كثير من جلائل الأعمال. قال المفسرون: إنّ في قرن الضرب في الأرض للتجارة بالجهاد في سبيل الله إشارة إلى أنّ الساعين في معايشهم يقاربون في الأجر المجاهدين.

_ (1) انظر تفسير مفاتيح الغيب المعروف أيضا بالتفسير الكبير للرازي (30/ 187) .

روى البيهقي وسعيد بن منصور عن عمر رضي الله عنه قال: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحبّ إليّ من أن يأتيني وأنا بين شعبتي جبل ألتمس من فضل الله تعالى، وتلا هذه الآية وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ إلخ. وعن ابن مسعود أنه قال: أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء، ثم قرأ: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ أعيد هنا هذا الأمر لتوكيد الرخصة وتقديرها، وليعطف عليه ما بعده من بقية الأوامر. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ اختلف المفسرون في المراد بالصلاة والزكاة هنا، فمنهم من حمل الصلاة على المكتوبات الخمس، والزكاة على زكاة الفطر، قال: لأن الآية مكية، وزكاة المال لم تفرض إلا في المدينة. وهذا القول مردود من وجهين: الأول: أنّ زكاة الفطر لم تجب إلا بعد الهجرة. الثاني: أنّ الراجح في زكاة المال أنّها فرضت في مكة. غير أنه لم يعيّن فيها نصاب خاصّ، ولم تحدد الأنواع التي تجب فيها الزكاة ولا القدر الواجب صرفه للفقراء، إلا في المدينة، فكان الواجب أول الأمر أن يصرف للفقير شيء ما من المال، ويدل لذلك أنّ الزكاة وردت في آيات كثيرة مكية، كما في صدر سورة المؤمنون. على أنّ هذا التفسير لا يتم في الصلاة إلا على القول بأنّ هذه الآية قد تأخّر نزولها عن صدر السورة بعشر سنين أو أكثر، حتى فرضت المكتوبات ليلة المعراج. وبعضهم: حمل الصلاة على المكتوبات أيضا والزكاة على زكاة المال، وفهم كذلك أنّ زكاة المال فرضت في المدينة، فالتزم القول بأنّ هذه الآية مدنية. وهو مردود أيضا بما سبق، وبأنّ الراجح- كما علمت أول الكلام على صدر سورة المزمل- أنّ هذه السورة برمتها مكية. وبعضهم حمل كلّا من الصلاة والزكاة على التطوع قال: لأنّ سورة المزمل من أوائل ما نزل من القرآن، والمكتوبات الخمس لم تفرض إلا ليلة المعراج في السنة الثانية عشرة من البعثة، وقال في الزكاة ما قاله صاحب الوجه الأول. والحق الذي يتمشّى مع الراجح في تاريخ شرعية الزكاة، ويتفق مع ما تقدم لك

عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما من أنّ آخر سورة المزمل قد نزل بعد صدرها بحول، أو قريب من الحول، هو أنّ الأمر في قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ على ظاهره مفيد للوجوب، وتحمل الصلاة على ما كان مفروضا في النهار أول الأمر: (ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي) وتحمل الزكاة على المفروضة أيضا، وهي زكاة المال التي فرضت في السنة الخامسة من البعثة، على ما هو الراجح، وبذلك يتمّ القول، ولا يكون هناك إشكال. وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً في «القاموس» : والقرض (بالفتح) ويكسر: ما سلّفت من إساءة أو إحسان، وما تعطيه لتقضاه. وفيه أيضا: وأقرضه: أعطاه قرضا. وحينئذ يكون الكلام من باب المجاز، إذ المراد من إقراض الله إعطاء الفقراء والمساكين ما يعينهم، ويسد خلّتهم، فاستعمل فيه اللفظ الذي يدلّ على إعطاء الله جلّ وعلا، وعبّر فيه بالإقراض، للدلالة على أنّ ثوابه مضمون، وجزاءه لا شكّ في تحققه، كما أنّ القرض لصاحبه لا شكّ في حصوله إذا كان المستقرض وفيا كريما. قال بعض المفسرين: إن المراد بالقرض الصدقات المندوبة أمر بها الأمر بالزكاة المفروضة، إذ العطف يقتضي المغايرة. وحمله بعض آخر على نفس الزكاة السابقة، وقال: إنّ حكمة العطف إرادة الحث والتشجيع على أداء الزكاة من حيث إنها معتبرة كالقرض، لا يضيع معروفها، ولا ينقص شيء من ثوابها، وإنّ معنى وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أدوا الزكاة المفروضة عليكم على أحسن الوجوه، بأن تختاروها من أطيب الأموال وأنفعها للفقراء، وتخلصوا في ذلك النية، وترجوا به مرضاة الله. ولعلّ الوجه الأول هو الأرجح. وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً. خَيْراً هو المفعول الثاني لتجدوا، والضمير المنفصل توكيد للمفعول الأول، وهو- وإن كان ضمير رفع- قد وقع موقع ضمير النصب. ويصحّ أن يكون ضمير فصل. المعنى: أنّ أيّ عمل تقدمونه في الدنيا، تبتغون به منفعتكم في الآخرة، سواء أكان متعلقا بالمال، أم بغيره، فإنكم تلقون به عند الله جزاء أحسن منه وأكثر نفعا. وفسر ابن عباس المفضّل عليه بالوصية، فقد روي عنه أنه يقول: تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت. وقيل: إن المراد أنه خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا، إذ الفرق عظيم بين المتاع الدنيوي والنعيم الجزيل الأخروي.

روى البخاري «1» عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيّكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله؟» قالوا: يا رسول الله ما منّا من أحد إلا ماله أحبّ إليه! قال: «إنما ماله ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر» . وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ختم الله جلّ شأنه القول بطلب الاستغفار مما عسى أن يقع في الأعمال من الخلل أو التقصير، ووعد سبحانه بالرحمة والمغفرة لمن يلجأ إلى جنابه الكريم، إذ أخبر بأنّه عظيم المغفرة واسع الرحمة. تم الكتاب بعونه تعالى

_ (1) رواه البخاري في الصحيح (7/ 226) ، 81- كتاب الرقائق، 12- باب ما قدم من ماله حديث رقم (6442) .

§1/1