تعظيم الله جل جلاله «تأملات وقصائد»

أحمد بن عثمان المزيد

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المقدمة الحمدُ للهِ الذي رفعَ السماءَ بقدرتِهِ وبسطَ الأرضَ بمشيئتهِ ومهَّدَها للسُّلَّاك، وسَخَّرَ الفُلكَ ومهَّدَ المُلْكَ ودبَّر الأملاك. الحيُّ القيومُ الذي لا تأخُذُه سِنَةٌ ولا نومٌ، الذي خلقَ الموتَ والحياةَ وقدَّر النجاةَ والهلاكَ. الذي له الخلقُ والأمرُ، وبيدهِ الإطلاقُ والإمساكُ، الذي أنشأَ اللوحَ والقلمَ، وعلَّمَ الإنسانَ ما لم يعلمْ ووهبَ له العقلَ الكاملَ والفهمَ والإدراكَ ... والصلاةُ والسلامُ على البشيرِ النذير والسراج المنيرِ، أعظمِ الخلقِ خشيةً لربّهِ وتعظيمًا له، وتمجيدًا لجلالِهِ، وعبادةً وذكرًا وشكرًا ومحبةً وخوفًا ورجاءً ورغبًا ورهبًا. واللهُ سبحانه وتعالى هو أهلُ الثناءِ والمجدِ، وصاحبُ الجبروتِ والملكوتِ والكبرياءِ والعظمةِ ... هو عالِمُ السرِّ وأخفى، قيومُ السمواتِ والأرضِ، عالمُ الأسرارِ، مقيلُ العثار، مدبرُ الليلِ والنهارِ. {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}. هو الأولُ فليس قبلَهُ شيءٌ، وهو الآخرُ فليس بعدَهُ شيءٌ وهو الظاهرُ فليسَ فوقَهُ شيءٌ، وهو الباطنُ فليسَ دونَهُ شيءٌ ...

هو خيرُ المسؤولين، وأكرمُ المعطين، ورازقُ الناسَ أجمعين. يعلمُ حوائجَ السائلين، وضمائرَ الصامتين، وأسرارَ صدورِ العالمين. لا يزدادُ على كثرةِ السؤالِ إلا جودًا وكرمًا، ولا على كثرةِ الحوائجِ إلا تفضلًا وإحسانًا. هو العليُّ الكبيرُ، الوليُّ الحميدُ، العزيزُ المجيدُ، المبدئُ المعيدُ، الفعالُ لما يريدُ، الحيُّ القيومُ، القويُّ المتينُ، العظيمُ الجليلُ، له الخلقُ والأمرُ، وبيدهِ النفعُ والضرُّ، وله الحكمُ والتقديرُ، والملكُ والتدبيرُ، ليسَ لهُ في صفاتِهِ شبيهٌ ولا نظيرٌ، ولا له في آلهيتهِ شريكٌ ولا ظهيرٌ، ولا له في سلطانهِ وليٌّ ولا نصيرٌ. سبحانه من مليكٍ ما أمنَعَه، وجوادٍ ما أوسعَهُ، ورفيعٍ ما أرفَعَه، لا رادَّ لمشيئته، ولا مبدِّل لكلماتهِ، قولهُ حُكْمٌ، وقضاؤه حَتْمٌ، وأمْرُه رشدٌ، باهِرُ الآياتِ، فاطرُ السمواتِ، بارئُ السماتِ، مجيبُ الدعواتِ، مغيثُ اللهفاتِ، مقيلُ العثراتِ. أكبرُ من كلّ شيءٍ، وأعظمُ من كلِّ شيءٍ، وأعزُّ من كلِّ شيءٍ، وأقدرُ من كل شيءٍ، وأعلمُ من كلِّ شيءٍ، وأحكمُ من كلِّ شيءٍ. قالَ ابنُ القيِّمِ في صفةِ عظمةِ اللهِ ـ عز وجل ـ: «يدبِّرُ أمرَ الممالكِ، ويأمرُ وينهى، ويخلقُ ويرزقُ، ويميتُ ويُحْيي، ويقضي وينفِّذُ، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويقلِّبُ الليلَ والنهارَ، ويُدَاوِلُ الأيامَ بينَ الناسِ، ويُقَلِّبُ الدُّوَلَ، فيذهبُ بدولةٍ، ويأتي بأخرى. والرسلُ من الملائكةِ عليهم الصلاةُ والسلامُ بين صاعدٍ إليه بالأمرِ، ونازلٍ من عندِهِ به، وأوامرُه ومراسيمُهُ متعاقبةٌ على تعاقبِ الأوقاتِ، نافذةٌ

بحسبِ إرادتهِ ومشيئتهِ، فما شاءَ كانَ كما شاءَ في الوقتِ الذي يشاءُ على الوجهِ الذي يشاءُ، من غيرِ زيادةٍ ولا نقصانٍ، ولا تَقَدُّمٍ ولا تأخُّرٍ، وأمرُهُ وسلطانُهُ نافِذٌ في السمواتِ والأرضِ وأقطارِها، وفي الأرضِ وما عليها وما تحتها، وفي البحارِ والجوِّ، وفي سائرِ أجزاءِ العالمِ وذرَّاتِهِ، يُقَلِّبها ويُصَرِّفها، ويُحدِثُ فيها ما يشاءُ، وقد أحاطَ بكلِّ شيءٍ علمًا، وأحصى كلَّ شيءٍ عددًا، ووسعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وحكمةً، ووسعَ سَمْعُهُ الأصوات، فلا تختلفُ عليه ولا تشتبهُ عليه، بل يسمعُ ضجيجَها باختلافِ لغاتِها على تَفَنُّنِ حاجاتِها، فلا يَشغَلُهُ سمعٌ عن سمعٍ، ولا تُغلِطُه كثرةُ المسائلِ، ولا يتبَرَّمُ بإلحاحِ المُلِحِّين ذوي الحاجات. وأحاط بصرُه بجميعِ المرئياتِ، فيرى دبيبَ النملةِ السوداءِ على الصخرةِ الصَّمَّاءِ في الليلةِ الظلماءِ، فالغيبُ عنده شهادةٌ، والسرُّ عنده علانيةٌ، يعلمُ السرَّ وأخفى من السرِّ؛ فالسرُّ ما انطوى عليه ضمير العبدِ، وخطرَ بقلبِهِ، ولم تتحركْ به شفتاه، وأخفى منه: ما لم يخطرْ بقلبِهِ بَعْدُ، فيَعلَمُ أنه سيخطرُ بقلبِهِ كذا وكذا في وقتِ كذا وكذا. وله الخلقُ والأمرُ، وله الملكُ وله الحمدُ، وله الدنيا والآخرةُ، وله النعمةُ، وله الفضلُ، وله الثناءُ الحسنُ، وله الملكُ كلُّه، وله الحمد كلُّهُ، وبيدهِ الخيرُ كلُّهُ، وإليه يرجعُ الأمرُ كلُّهُ، شملت قدرتُهُ كلَّ شيءٍ، ووسعتْ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ، ووسَعَت نعمتُهُ إلى كلِّ حيّ. {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَانٍ} [الرحمن:29]: يغفرُ ذنبًا، ويفرِّجُ همًّا، ويكشفُ كربًا، ويجبرُ كسيرًا، ويُغني فقيرًا، ويُعَلِّمُ جاهلًا،

ويهدي ضالًّا، ويُرشِدُ حيرانًا، ويغيث لَهْفَانًا، ويَفُكُّ عانيًا، ويُشبع جائِعًا، ويَكْسُو عاريًا، ويشفي مريضًا، ويُعافي مبتلى، ويقبل تائبًا، ويجزي محسنًا، وينصرُ مظلومًا، ويقصمُ جبَّارًا، ويقيل عثرَةً، ويسترُ عورةً، ويُؤَمِّن روعةً، ويرفعُ أقوامًا، ويضع آخرين. لا ينامُ، ولا ينبغي له أن ينامَ، يخفضُ القسطَ ويرفعُهُ، يُرفَع إليه عملُ الليلِ قبلَ عملِ النهارِ، وعملُ النهار قبلَ عملِ الليلِ، حجابُه النورُ، لو كشفَهُ لأحرقتْ سُبُحات وجههِ ما انتهى إليه بصرُه من خلقه. يمينُه مَلأى، لا تَغِيضُها نفقة، سحَّاءُ الليلَ والنهارَ، أرأيتم ما أنفقَ منذ خلقَ الخلقَ، فإنه لم يَغِضْ ما في يمينهِ. قلوبُ العبادِ ونواصيهم بيدهِ، وأزمَّةُ الأمورِ معقودةٌ بقضائهِ وقدرِهِ، الأرضُ جميعًا قبضتُهُ يومَ القيامةِ، والسمواتُ مطوياتٌ بيمينهِ، يقبضُ سمواتِهِ كلِّها بيدِهِ، والأرضَ باليدِ الأخرى، ثم يَهُزُّهنَّ، ثم يقولُ: أنا الملكُ، أنا الملكُ، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكنْ شيئًا، وأنا الذي أعيدُها كما بَدَأتُها. لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفرَهُ، ولا حاجةٌ يُسأَلُها أن يعطيَها. لو أن أهلَ سمواتِهِ، وأهلَ أرضِهِ، وأولَ خلقِهِ وآخرَهم، وإنسَهم وجنَّهم، كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ منهم، ما زاد ذلك في ملكهِ شيئًا، ولو أنَّ أولَ خلقهِ وآخرَهم، وإنسَّهم وجِنَّهم، كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ منهم، ما نقصَ ذلك من ملكهِ شيئًا، ولو أن أهلَ سمواتِهِ، وأهل أرضِهِ، وإنسَهم وجِنَّهم، وحيَّهُم وميِّتهم، كانوا على أفجر قلبِ رجلٍ منهم، ما نقص ذلك

من ملكهِ شيئًا، ولو أن أهلَ سمواته، وأهلَ أرضه، وإنسَهم وجنَّهم، وحيَّهُم وميِّتهم، ورطَبهم ويابِسهم، قاموا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوه فأعطى كلًّا منهم مسألتَهُ، ما نقصَ ذلك مما عندَهُ مثقالَ ذرةٍ. ولو أنَّ أشجارَ الأرضِ كلَّها ـ من حين وُجدتْ إلى أن تنقضيَ الدنيا ـ أقلامٌ، والبحرُ وارءه سبعةُ أبحرٍ تمدُّه من بعده مِدادٌ، فكُتِبَ بتلك الأقلامِ، وذلك المدادِ، لفنيت الأقلامُ ونفدَ المدادُ، ولم تنفدْ كلماتُ الخالقِ تباركَ وتعالى. وكيفَ تَفْنَى كلماتُه جَلَّ جلالُهُ وهي لا بدايةَ لها ولا نهاية؟! والمخلوقُ له بدايةٌ ونهايةٌ، فهو أحقُّ بالفناءِ والنَّفادِ، وكيف يُفنِي المخلوقُ غيرَ المخلوق؟! هو الأولُ الذي ليسَ قبلهُ شيءٌ، والآخرُ الذي ليسَ بعده شيءٌ، والظاهرُ الذي ليس فوقه شيءٌ، والباطنُ الذي ليس دونه شيءٌ. تباركَ وتعالى، أحقُّ من ذُكِر، وأحقُّ من عُبد، وأحقُّ من حُمِد، وأولى من شُكِر، وأنصَرُ من ابتُغِي، وأرأفُ من مَلَك، وأجودُ من سُئِل، وأعفَى من قَدِر، وأكرم من قُصِد، وأعدل من انتَقَم. حكمُه بعد علمهِ، وعفوهُ بعد قدرتهِ، ومغفرتُه عن عِزَّتهِ، ومَنْعُه عن حكمتهِ، وموالاتُه عن إحسانهِ ورحمتهِ. ما لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ واجبٌ ... كَلَّا ولا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ إن عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ، أو نُعِّمُوا ... فَبِفَضْلِهِ، وهو الكريمُ الواسِعُ

هو الملكُ الذي لا شريكَ له، والفردُ فلا ندَّ له، والغنيُّ فلا ظهيرَ له، والصمدُ فلا ولدَ له، ولا صاحبةَ له، والعليُّ فلا شبيهَ له، ولا سَمِيَّ له، كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهَهُ، وكلُّ مُلكٍ زائلٌ إلا ملكهُ، وكلُّ ظلٍّ قَالِصٌ إلا ظِلُّهُ، وكلُّ فضلٍ منقطعٌ إلا فضله. لن يُطاعَ إلا بفضلهِ ورحمتهِ، ولن يُعصى إلا بعلمهِ وحكمتهِ، يُطاعُ فيَشكرُ، ويُعصَى فيتجاوزُ ويَغْفِرُ، كلُّ نقمةٍ منه عدلٌ، وكلُّ نعمةٍ منه فضلٌ، أقربُ شهيدٍ، وأدنى حفيظٍ، حالَ دون النفوسِ، وأخذَ بالنواصي، ونسَخَ الآثار، وكتبَ الآجالَ، فالقلوبُ له مُفْضِيَةٌ، والسرُّ عنده علانيةٌ، والغيبُ عندَهُ شهادةٌ، عطاؤه كلامٌ، وعذابهُ كلامٌ، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]» (¬1). أما بعد: فإنَّ هذا الكتابَ يهدفُ إلى ترسيخِ أعظمِ قيمةٍ في حياةِ المسلمِ وهي العبوديةُ للهِ عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. والعبوديةُ هي: الذلُّ والخضوعُ والانقيادُ للهِ عز وجل والافتقارُ التامُّ إليه سبحانهُ، وتحقيقُ أنه لا معبودَ بحقّ إلا اللهُ، وهذا لا يكونُ إلا بتعظيمِ اللهِ عز وجل المتضمنِ للخوفِ والرجاءِ والمحبةِ له تعالى وقد ذمَّ اللهُ ? من لا يعظمُهُ فقال: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}. وقال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}. ¬

(¬1) انظر: الوابل الصيب؛ لابن القيم (ص:15، وما بعدها).

فشأنُ اللهِ أعظمُ من كلِّ شيءٍ، وعظمةُ الله عز وجل فوقَ كلِّ تصدرٍ وتقديرٍ. وقد جعلتُ هذا الكتابَ ـ تعظيمُ اللهِ ـ الأولَ في مكتبةِ اسعد مجتمعك ليترسخَ في الناسِ أنَّ تعظيمَ اللهِ عز وجل هو أعظمُ وسيلةٍ توصلُ إلى سعادةِ الفردِ والأسرةِ والمجتمعِ بل إلى سعادةِ البشريةِ كلِّها خصوصًا في زمنِ العولمةِ وحيث صار العالمُ قريةً واحدةً ضعفَ منه أثر الوسائلِ الخارجيةِ لحمايةِ ووقايةِ المجتمعِ من منعٍ ومراقبةٍ فصار لزامًا الاهتمامُ والتركيزُ التامُّ على تقويةِ تعظيمِ اللهِ في النفسِ بتقويةِ الوازعِ الدينيِّ ومراقبةِ اللهِ في السرِّ والعلنِ. إنَّ المعظمَ للهِ عز وجل متوازنٌ من جميعِ الجوانبِ يحملُ همَّ الآخرةِ ولا ينسى نصيبهُ من الدنيا، معظِّمٌ لأمرِ اللهِ ونهيه في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، محققٌ لتوحيدِ اللهِ على أكملِ وجهٍ سالمٌ من الشركِ بجميعِ صورِهِ، مؤدٍ واجباتِهِ الدينيةِ على أكملِ وجهٍ، من صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وحجٍّ وغيرِها من الفرائضِ والواجباتِ. وهو كذلك من أعظمِ الناسِ تأديةً للحقوقِ وأعظمِها: حقُّ الوالدين، والأبناءِ والزوجةِ والأرحامِ والجيرانِ والأصدقاءِ والأطفالِ والفقيرِ وغيرِهم. وكذلك فإنه يجتنبُ المحرماتِ التي نهى اللهُ عنها من مسكراتٍ ومخدراتٍ وانحرافاتٍ جنسيةٍ، واعتداءاتٍ على الأنفسِ والأموالِ بالسرقةِ والرشوةِ وغيرِها. والمعظمُ لله عز وجل مجتنبٌ لهذه المحرماتِ عبوديةً للهِ عز وجل خوفًا ورجاءً ومحبة للهِ، ولذلك فإنه يجتنبُ المحرَّماتِ في سائرِ الأماكنِ داخل وطنه وخارجه، إذا

رآه الناسُ وإذا لم يَرَوْه، لأنه لا يراقبُ إلا اللهَ عز وجل، فسلِمَ بذلك من التناقضِ والازدواجيةِ التي سيطرتْ على كثير من الناسِ. وكذلك فإنَّ المعظمَ للهِ عز وجل لا يقتصرُ على تركِ المحرماتِ الظاهرةِ فقط، بل يهتمُّ بتطهيرِ قلبِهِ من المحرماتِ الباطنةِ كالكبر والغلِّ والحسدِ والبغضاءِ والرياءِ والسمعةِ والغرورِ وغيرِ ذلك. وكذلك فإنه يهتمُّ بتحليةِ قلبهِ بالقيمِ والعباداتِ القلبيةِ كالصدقِ والإخلاصِ والمحبةِ والصبرِ والتوكلِ والإنابةِ وغيرِها. والمعظمُ للهِ عز وجل همُّه إقامةُ العبوديةِ للهِ تعالى في نفسِهِ أولًا، وإسعادُ الآخرين بدخولِهم فيها،. والمعظمُ للهِ عز وجل معظمٌ لجنابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مدافعٌ عنه محبٌّ له، يشرفُ بالتأسي به والانضواءِ تحت لوائِهِ ولذلك فإنه يقتدي به في كلِّ الأمورِ، ويدعو إلى سنتهِ، ويبينُ فضائِلَهُ ومحاسِنَهُ وكمالَ أخلاقهِ وآدابِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهو لا يُقَدِّمُ على الكتابِ والسنةِ شيئًا من الآراءِ والأهواءِ والأقوالِ والعاداتِ. كما أنه ملتزمٌ بمنهجِ الوسطيةِ في عباداتِهِ وتعاملاتِهِ كلِّها سالمٌ من التطرفِ والغلوِّ والإرهابِ والبدعِ والضلالات. والمعظمُ للهِ هو الساعي الحقيقيُّ لإعمار الوطنِ وتنميتِهِ عبادةً للهِ في سائرِ المجالاتِ الاقتصاديةِ والإداريةِ والاجتماعيةِ والسياسيةِ والصحيةِ والتعليميةِ والأمنيةِ وفقَ الكتابِ والسنةِ، حيث يجعلُ من هذه الحياةِ مزرعةً للآخرةِ وممرًّا إليها.

ولذلك فإنه من أكثر الناسِ إتقانًا لعملِهِ وإحسانًا له. كما أنه لا يبخلُ بالخيرِ على الناسِ، بل يدلُّ الناسَ على كلِّ خيرٍ طلبًا لمرضاتِ اللهِ، ويغلقُ كلَّ بابٍ من أبوابِ الضررِ والفسادِ والإيذاءِ وذلك؛ لأنه من أصدقِ الناسِ نصحًا لمجتمعه ووطنه. المعظمُ للهِ يتفاعلُ مع مجتمعِهِ بأمرِهِ بالمعروفِ ونهيهِ عن المنكرِ واصلٌ لرحمِهِ، راعٍ لجارِهِ، مساعدٌ للمحتاجِ، زائرٌ للمريضِ، مصلحٌ بين المتخاصمين، مشاركٌ في أفراحِ مجتمعِهِ. والمعظمُ للهِ يعملُ بشموليةِ الإسلامِ الواسعةِ، ويرسخُ مبادِئَهُ في كلِّ الأمورِ، ويدخلُ في السِّلم كافة، ولا يختزلُ الدينَ في قضايا يحددُها لنفسِهِ، أو يحدُدها له غيرُهُ، وإنما يعظمُ ما عظمَهُ اللهُ ورسولُهُ، لا ما عظمتْهُ الأهواءُ والعاداتُ والتقاليدُ والمجتمعُ والبيئةُ، وما تفرضُهُ العولمةُ في واقعِنا المعاصرِ. وهو من خلال ذلك يقدمُ مصلحةَ الأمةِ والمجتمعِ على مصالِحِهِ الشخصيةِ الفرديةِ المحدودةِ. إنَّ ترسيخَ قيمةِ تعظيمِ اللهِ عز وجل يعالجُ كثيرًا من مشاكلِ المجتمعِ الأمنيةِ والاقتصاديةِ والإداريةِ بأيسرِ السبلِ وأقلِّ التكاليفِ والأعباءِ على الدولةِ. وكذلك فإنَّ ترسيخَ قيمةِ تعظيمِ اللهِ في النفوسِ تعالجُ كثيرًا من المشكلاتِ الاجتماعيةِ كعقوقِ الوالدينِ وقطيعةِ الرحمِ وظلمِ المرأةِ والعنفِ الأسريِّ وانتهاكِ الأعراضِ وغير ذلك من الاعتداءِ على الأنفسِ والأموالِ الخاصةِ والعامةِ وغيرِ ذلك من المشكلاتِ، حيث لا توجدُ مشكلةٌ إلا ومن أعظمِ أسبابِها ضعفُ تعظيمِ اللهِ عز وجل في النفوسِ، وقد رأينا أنَّ هذه القيمةَ لما

ترسَّختْ في نفوسِ الجيلِ الأولِ في عصرِ النبوةِ وعصرِ الخلافةِ الراشدةِ ومنْ بعدَهم أنتجتْ أمةً ضربتْ أروعَ الأمثلةِ في الطهارةِ والاستقامةِ والأمانةِ وأداءِ الواجباتِ والابتعادِ عن المحرماتِ والوصولِ إلى أعظمِ مظاهرِ المدنيةِ والحضارةِ. وهذا الكتابُ هو تأملاتٌ في تعظيمِ اللهِ عز وجل من خلالِ تدبرِ الآياتِ القرآنيةِ والأحاديثِ النبويةِ في اللهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ، وما سطَّرَهُ العلماءُ الربانيون في بيانِ عظمةِ اللهِ وغناه المطلقِ. وكذلك ما كتبَهُ الشعراءُ في قصائدَ في تعظيمِ اللهِ عز وجل، وقد جمعتُ ما تيسَّرَ منها في هذا الكتابِ وهذا العملُ هو جزء من مشروع أسعد مجتمعك. ويحدوني الأملُ أن نشتركَ جميعًا دعاةٌ وخطباءُ ومفكرون وكتابٌ وإعلاميون ورجالُ أعمالٍ في ترسيخِ قيمةِ تعظيمِ اللهِ بكلِّ الوسائلِ المتاحةِ المقروءةِ والمسموعةِ والمرئيةِ ومثلِ ذلك أن نطبِقَها في سائرِ مجالاتِ حياتِنا ليقتدوا بنا. أسألُ اللهَ أنْ يباركَ في الجهودِ وأنْ يسعدَ الجميعَ دنيا وآخرة. د. أحمد بن عثمان المزيد أستاذ الدراسات الإسلامية المشارك كلية التربية - جامعة الملك سعود [email protected]

تأملات

عبادةُ التعظيمِ إن تعظيمَ اللهِ عز وجل من أعظمِ العباداتِ التي غفلَ عنها كثيرٌ من الناسِ، فساءتْ أحوالُهم، وانقلبتْ موازينُهم، وتلاعبتْ بهم الشياطينُ والأهواءُ والأنفسُ الأمارةُ بالسوءِ. فالتوحيدُ الذي هو رأسُ الأمرِ هو الأصلُ في تعظيمِ اللهِ عز وجل فاللهُ عز وجل أعظمُ من أن يُعْبَدَ معَهُ غيرُه قال تعالى في الحديثِ القُدْسِيِّ: «أنا أغنى الشركاءِ عن الشِّركِ، من عملَ عملًا أشركَ فيه معي غَيْرِي تركتُه وشِرْكَهُ» [مسلم]. ولمَّا عبدَ قومُ نوحٍ الأصنامَ أنكرَ عليهم نوحٌ عليه السلام وقال لهم: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]. قال ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ: أي ما لكم لا ترجونَ للهِ عظمةً، وقال سعيدٌ بنُ جبيرٍ: ما لكم لا تُعَظِّمُونَ اللهَ حقَّ عظمتِه، وقال الكلبيُّ: لا تخافونَ للهِ عظمةً (¬1). وهدهدُ سليمانَ عليه السلام لمّا كان معظمًا للهِ عز وجل استنكرَ أن يعبدَ قومٌ الشمسَ من دونِ الله تعالى: {إِنّي وَجَدتّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشّمْسِ مِن دُونِ اللهِ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدّهُمْ عَنِ السّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ * أَلاّ يَسْجُدُوا للهِ الّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:23 - 26]. حتى الجماداتِ فإنها تستبشعُ افتراءَ الكذبِ على اللهِ وادعاءَ أن له ولدًا ¬

(¬1) مدارج السالكين (2/ 495).

تعظيمًا لله عز وجل وإجلالًا له: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً *لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً *تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم:88 - 92]. قال الضحاكُ بنُ مزاحمٍ في قولِه تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} أي: يَتَشَقَّقْنَ من عظمةِ اللهِ عز وجل (¬1). فعظمةُ اللهِ تعالى متقرِّرَةٌ لدى هذه الأجرامِ العظيمةِ، ولذلك فإنها لا تطيقُ هولَ تلك الكلمةِ الشنيعةِ وهي نسبةُ الولدِ إلى اللهِ تعالى، ولولا حلمُ اللهِ تعالى لخرَّ العالمُ وتبددْت قوائِمُه غضبًا على من تفوَّه بها. قال محمدُ بنُ كعبٍ: كادَ أعداءُ اللهِ أن يُقيموا علينا الساعةَ. وقدْ ذكرَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمه الله علاقةَ التعظيمِ بالوحدانيةِ فقالَ: «فمن اعتقدَ الوحدانيةَ في الألوهيةِ للهِ سبحانه وتعالى والرسالةَ لعبدِه ورسولِه، ثم لم يُتْبِعْ هذا الاعتقادَ موجَبَهُ من الإجلالِ والإكرامِ، الذي هو حالٌ في القلبِ يظهرُ أثرُه على الجوارحِ، بل قارنَه الاستخفافُ والتسفيهُ والازدراءُ بالقولِ أو بالفعلِ كانَ وجودُ ذلك الاعتقادِ كعدمِهِ، وكانَ ذلك موجِبًا لفسادِ ذلك الاعتقادِ ومزيلًا لما فيه من المنفعةِ والصلاحِ، إذ الاعتقاداتُ الإيمانيةُ تُزكِّي النفوسَ وتصلِحُها، فمتى لم توجبْ زكاةَ النفسِ ولا صلاحَها، فما ذاك إلا لأنها لم ترسَخْ في القلبِ» (¬2). ¬

(¬1) الدر المنثور (5/ 544). (¬2) الصارم المسلول (1/ 375).

ومن دلائلِ تعظيمِ اللهِ عز وجل عبوديةُ الكائناتِ لله تعالى وسجودُها لعظمتِه سبحانه كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18]. وتعظيمُ اللهِ جل وعلا هو الذي يعطي العبادةَ روحَها وجلالَها، وهو الذي يجعلُها عبادةً مقبولةً خالصةً صحيحةً تامَّةَ الشروطِ والأركانِ، أمَّا عبادةٌ بلا تعظيمٍ فإنها كالجسدِ بلا روحٍ ولذلك قال ابنُ القيمِ رحمه الله: «وروحُ العبادةِ هو الإجلالُ والمحبةُ، فإذا تخلَّى أحدُهما عن الآخرِ فسدَتْ، فإذا اقترنَ بهذين الثناءُ على المحبوبِ المعظَّمِ فذلك حقيقةُ الحمدِ (¬1). والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لما سألَهُ جبريلُ عن الإحسانِ قال: «أن تعبدَ اللهَ كأنَّك تراهُ، فإن لم تكن تراهُ فإنه يراك» (¬2)، وهذه المراقبةُ في العبادةِ هي طريقُ التعظيمِ والإجلالِ للهِ تعالى قال ابنُ رجبٍ: «فقولُه - صلى الله عليه وسلم - في تفسيرِ الإحسانِ: «أن تعبدَ اللهَ كأنك تراهُ» إلخ، يشيرُ إلى أنَّ العبدَ يعبدُ اللهَ على هذه الصفةِ، وهي استحضارُ قربِهِ، وأنه بين يديْهِ كأنَّه يراه، وذلك يوجبُ الخشيةَ والخوفَ والهيبةَ والتعظيمَ» (¬3). * * * ¬

(¬1) مدارج السالكين (2/ 495). (¬2) أخرجه البخاري (48)، ومسلم (9). (¬3) جامع العلوم والحكم (1/ 126).

تعظيم الله في أمهات العبادة

تعظيم الله في أمهات العبادة والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أرشدَ إلى تعظيمِ اللهِ ? في أمَّهاتِ العبادةِ فالصلاةُ وهي أعظمُ الشعائرِ التعبديةِ بعد الشهادتينِ كلُّها قائمةٌ على التعظيمِ للهِ عز وجل، وكان - صلى الله عليه وسلم - يستفتحُ الصلاةَ بعباراتِ التعظيمِ والتمجيدِ والإجلالِ للهِ عز وجل. ففي السننِ عن عائشةَ وأبي سعيدٍ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا استفتحَ الصلاةَ قال: «سبحانك اللهمَّ وبحمدِك وتبارَكَ اسمُكَ، وتعالى جدُّك ولا إله غيرُك» (¬1). وفي صحيح مسلمٍ عن عليٍّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه قالَ: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ إلى الصلاةِ قال: «وجَّهْتُ وجهِيَ للذي فطرَ السمواتِ والأرضَ حنيفًا وما أنا من المشركينَ إنَّ صَلاتي ونسُكي ومحيايَ ومماتي للهِ ربِّ العالمينَ، لا شريكَ له وبذلكَ أمرتُ وأنا من المسلمينَ، اللَّهُمَّ أنت الملِكُ لا إله إلَّا أنت، أنت ربي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي، واعترفتُ بذنبي فاغفِرْ لي ذنوبِي جميعًا إنَّه لا يغفرُ الذنوبَ إلَّا أنتَ، واهدني لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسَنِهَا إلَّا أنتَ، واصرِفْ عني سيئَهَا لا يصرفُ عني سيِّئَهَا إلا أنتَ، لبيك وسعدَيْك، والخيرُ كلُّه في يديْك، والشرُّ ليس إليك، أنا بك وإليك تباركْتَ وتعالَيْتَ، أستغفِرُك وأتوبُ إليك» (¬2). وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة في جوف الليل قال: «اللهم لك الحمد أنت نور السموات ¬

(¬1) أخرجه الترمذي (225)، والنسائي (889). (¬2) رواه مسلم (1290)، والترمذي (3344).

والأرضِ ومَن فيهن ولكَ الحمدُ، أنت قَيَّامُ السمواتِ والأرضِ ومَنْ فيهن، ولكَ الحمدُ، أنت ربُّ السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحقُّ، ووَعدُك الحقُّ، وقولُك الحقُّ، ولقاؤُك حَقٌّ، والجنةُ حَقٌّ، والنارُ حَقٌّ، والنبيون حَقٌّ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - حَقٌّ، والسَّاعة حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أسْلمتُ، وبك آمنتُ، وعليكَ توكلتُ، وإليكَ أنبتُ، وبكَ خاصمتُ، وإليكَ حاكمتُ، فاغفر لي ما قدَّمتُ وما أخرّتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنت إلهي لا إله إلَّا أنت» (¬1). فهو - صلى الله عليه وسلم - أعظمُ الناسِ تعظيمًا لربِّه تعالى، وأحسنُهم ثناءً عليه وافتقارًا إليه ورغبةً في فضْلِه ورهبةً من عذابِه. وفاتحةُ الكتابِ كذلكَ من أعظمِ ما عُظِّمَ به اللهُ تبارك وتعالى، ولذلكَ جاءَ في الحديثِ القُدْسِيِّ: «قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفينِ، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قال الله تعالى: أثنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مَجَّدني عبدي ـ وقال مرةً فَوَّضَ إليَّ عبدي ـ فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذا بيني وبينَ عبدي ولعبدِي ما سأل، فإذا قال: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} قال: هذا لعبدِي ولعبدِي ما سألَ» (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (1053)، ومسلم (1288). (¬2) صحيح مسلم (ح598) كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وسنن الترمذي (2877)، وسنن النسائي (900)، وأبي داود (699)، وابن ماجه (774)، وأحمد (9552).

والركوعُ كذلكَ من مواضِعِ تعظيمِ اللهِ جل وعلا في الصلاةِ لقولِه - صلى الله عليه وسلم -: «أما الركوعُ فعظِّمُوا فيه الربَّ» (¬1). وفي السننِ عن حذيفةَ رضي الله عنه أنه سَمِعَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ إذا ركعَ: «سبحانَ ربي العظيمِ» ثلاث مراتٍ، وإذا سجَدَ قال: «سبحانَ ربي الأعلى» ثلاثَ مراتٍ (¬2). وهذا يدلُّ على أن التعظيمَ يكونُ في الركوعِ والسجودِ إلَّا أنَّه في الركوعِ يكونُ الثناءُ والتعظيمُ أكثرُ أما السجودُ فيكونُ فيه التسبيحُ الذي هو تعظيمٌ للهِ ? ويكونُ فيه الدعاءُ والمسألةُ قال - صلى الله عليه وسلم -: «أما الركوعُ فعظِّمُوا فيه الربَّ وأما السجودُ فاجتهدُوا في الدعاءِ فَقَمِنٌ أنْ يُستجَابَ لكم» (¬3). وعن عائشة ل قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثِرُ أن يَقُولَ في ركوعِه وسجودِه: «سبحانَكَ اللهمَّ ربَّنا وبحمدِكَ اللهمَّ اغفِرْ لي» (¬4). وعنها ل قالت: كان رسولُ الله غ يقولُ في ركوعِه وسجودِه: «سُبوحٌ قُدوسٌ، ربُّ الملائكةِ والروحِ» (¬5). وكذلك جعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذِكْرَ ما بعد الرفعِ من الركوعِ منصبًّا على تعظيمِ اللهِ جلَّ وعلا، فعن أبي سعيدٍ رضي الل عنه قال: كان رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذا رفَعَ رأسَه من الركوعِ قال: «اللهم ربَّنا لك الحمدُ ملْءَ السمواتِ ومِلْءَ الأرضِ، ومِلْءَ ما بينهما، وملءَ ما شئتَ من شيءٍ بعدُ، أهلَ الثناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال ¬

(¬1) مسند أحمد (1801)، ومسلم (479)، وأبو داود (742)، والنسائي (1045). (¬2) الترمذي (261)، وابن ماجه (88). (¬3) مسلم (479)، النسائي (1045)، أحمد (1801). (¬4) البخاري (761)، مسلم (484). (¬5) مسلم (487)، النسائي (1134)، أبو داود (872).

العبدُ وكلُّنَا لك عبدٌ، اللهمَّ لا مانعَ لما أعطيتَ، ولا معطيَ لما منعتَ، ولا ينفعُ ذا الجدِّ منك الجدُّ» (¬1). أما الحجُّ فإنه كذلك من العباداتِ التي يَتَجَلَّى فيها تعظيمُ الربِّ جلَّ جلالُه في كلِّ منسكٍ من مناسكِهِ فإن هناك كثيرًا من أفعالِ الحجِّ غيرُ معقولةِ المعنى، غير أنَّ المعنى الذي يجمَعُها جميعًا هو الطاعةُ المطلقةُ والتعظيمُ المطلقُ للهِ تعالى، فالطوافُ يكونُ حولَ البيتِ الذي هو من الحجارةِ، والحجرُ الأسودُ يُقَبَّلُ مع كونِه حجرًا، ورَمْيُ الجِمارِ إنما هو حَجَرٌ يُرمى به حَجَرٌ، فما الذي جعلَ هذا الحجَرَ يُرْمَى وهذا الحَجَرَ يُقَبَّلُ وهذا الحَجَرُ يُطافُ حولَه سِوَى العبوديةِ المحضةِ والتعظيمِ الخالصِ للهِ تعالى! وفي التلبيةِ التي هي شعارُ الحجِّ أعظمُ عباراتِ الثناءِ والتعظيمِ للهِ جل وعلا: «لبيك اللهُمَّ لبيك، لبيك لا شريكَ لك لبيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والملكُ، لا شريكَ لك». ذكر ابنُ القيمِ رَحِمَهُ اللهُ في معنى التلبيةِ كلامًا جميلًا نذكرُ منهُ ما يدلُّ على تعظيمِ الربِّ تعالى حيثُ ذكرَ من مَعَانيها: إجابةً لك بعدَ إجابةٍ، أو انقيادًا لك بعد انقيادٍ، أي انقدتُ لك، وَسَعَتْ نفسِي خاضعةً ذليلةً، أو حبًّا لك بعد حبٍّ، أو أخلَصْتُ لُبِّي وقَلْبِي لك، فهي شعارُ التوحيدِ ملةِ إبراهيمَ الذي هو روحُ الحجِّ ومقصدُه، بلْ روحُ العباداتِ كلِّها والمقصودُ منها، ولهذا كانت التلبيةُ مفتاحَ هذه العبادةِ التي يُدْخَلُ فيها بها. ¬

(¬1) البخاري (1549)، مسلم (1184)، أبو داود (1747).

وكذلك فإنها مشتملةٌ على الاعترافِ للهِ بالنعمةِ كلِّها ولهذا عَرَّفَها باللامِ المفيدةِ للاستغراقِ أي النعمُ كلُّها لك وأنت مُوليها والمنعمُ بها. ومشتملةٌ كذلك على الاعترافِ بأن المُلْكَ كلَّه للهِ وحده، فلا مُلْكَ على الحقيقةِ لغيرِه. واللهُ سبحانه يفرَّقُ في صفاتِه بين الملكِ والحمدِ، وسَوَّغَ هذا المعنى أنَّ اقترانَ أحدُهُما بالآخرِ من أعظمِ الكمالِ والملكِ. والملكُ وحدَه كمالٌ، والحمدُ كمالٌ، واقترانُ أحدِهما بالآخرِ كمالٌ، فإذا اجْتمعَ الملكُ المتضمِّنُ للقدرةِ، مع النعمةِ المتضمِّنةِ لغايةِ النفعِ والإحسانِ والرحمةِ، مع الحمدِ المتضمِّنِ لعامةِ الجلالِ والإكرامِ الداعِي إلى محبَّتِه، كان في ذلك من العظمةِ والكمالِ والجلالِ ما هو أولى به وهو أهلُه» (¬1). * * * ¬

(¬1) تهذيب سنن أبي داود (1/ 224 - 229) باختصار.

حقيقة تعظيم الله تعالى

حقيقةُ تعظيمِ اللهِ تعالى ذكرَ الهرويُّ رحمهُ الله في (منازلِ السائرينَ) حقيقةَ تعظيمِ اللهِ تعالى فقال: «تعظيمُ الحقِّ سبحانه هو ألا يجعلَ دونَه سببًا، ولا يَرَى عليه حقًّا، أو ينازَع له اختيارًا». وهذا من دُرَر كلامِه رحمه الله، وقد شَرَحه الإمامُ ابنُ القيمِ فقال: «هذه الدرجةُ تتضمنُ تعظيمَ الحاكمِ سبحانه صاحبَ الخلقِ والأمرِ ... وذكر من تعظيمِه ثلاثةَ أشياءَ: إحداها: أن لا تجعلَ دونَه سببًا، أي لا تجعَلْ للوصْلةِ إليه سببًا غيرَه، بل هو الذي يوصِلُ عبدَه إليه، فلا يوصِلُ إلى اللهِ إلا اللهُ، ولا يقرِّبُ إليه سِوَاه، ولا يُدِني إليه غيرُه، ولا يُتَوصلُ إلى رضاهُ إلا به، فما دلَّ على اللهِ إلا اللهُ، ولا هَدَى إليه سِواه، ولا أَدْنَى إليه غيرُه، فإنه سبحانَه هو الذي جعلَ السببَ سببًا، فالسببُ وسببيتُه وإيصالُه كلُّه خلقُه وفعلُه. الثاني: أن لا يَرى عليه حقًّا، أي لا تَرى لأحدٍ من الخلقِ لا لك ولا لغيرِك حقًّا على اللهِ، بل الحقُّ للهِ على خلقِه وفي أثرٍ إسرائيلي: أن داودَ عليه السلامُ قال: يا ربّ بحقِّ آبائي عليك. فأوْحَى اللهُ إليه: يا داودُ! أيُّ حقٍّ لآبائِك عليَّ؟ ألستُ أنا الذي هديتُهم ومننْتُ عليهم واصطفيتُهم وليَ الحقُّ عليهم. وأما حقوقُ العبيدِ على اللهِ تعالى؛ من إثابةٍ لمطيعِهم، وتوبتِه على تائِبِهم، وإجابَتِه لسائِلِهم، فتلك حقوقٌ أحقَّها اللهُ سبحانه على نفسِه بحكمِ وعدِهِ وإحسانِه، لا أنَّها حقوقٌ أحقُّوها هم عليه، فالحقُّ في الحقيقةِ للهِ على عبدِه.

وحقُّ العبدِ عليه هو ما اقتَضَاه جودُه وبرُّه وإحسانُه إليه بمحضِ جودِه وكرمِه، هذا قولُ أهلِ التوفيقِ والبصائرِ. الثالث: وأما قولُه: ولا ينازِعُ لهُ اختيارًا، أي إذا رأيتَ اللهَ عز وجل قد اختارَ لك، أو لغيرِك شيئًا؛ إما بأمرِه ودينِه، وإما بقضائِهِ وقدرِه، فلا تنازع اختيارَه، بل ارضَ باختيارِ ما اختارَه لك فإن ذلك من تعظيمِه سبحانه. ولا يَرِدُ عليه قَدَرُه عليه من المعاصي، فإنه سبحانه وإن قَدَّرَها لكنه لم يختَرْها له، فمنازَعتُها غيرُ اختيارِه من عبدِه، وذلك من تمامِ تعظيمِ العبدِ له سبحانه» (¬1). والمؤمنُ ـ من تعظيمِ ربّه تبارك وتعالى ـ يرى الخيرَ في كلِّ ما يأتي به اللهُ ـ، ويعلَم أنَّ الله تعالى يريدُ به الخيرَ واليسرَ والفلاحَ الذي قد يأتي في ثَوبِ البلاءِ والشدةِ والضيقِ، ولذلك قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «عجبًا لأمرِ المؤمنِ إن أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمنِ، إن أصابتْه سراءُ شَكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضَرَاءُ صَبَرَ فكانَ خيرًا له» (¬2). إن غيرَ المؤمنِ لا يصيبُه من هذا الخيرِ شيءٌ لأنه لا يعظمُ اللهَ تعالى ولا يرضَى بقضائِه، ويرى لنفسِه الحقَّ على اللهِ تعالى، كما قالَ صاحبُ الجنتينِ: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف:36]. أما المؤمنُ المعظِّمُ لربِّه ـ تبارك وتعالى ـ فإنَّه يرضى بما قدَّرَهُ الله عليه، ويصبِرُ على البلاءِ، ويسألُ ربَّه أن يرفَعَ عنه هذا البلاءَ وأن يثبِّتَه على الحقِّ، ¬

(¬1) مدارج السالكين (2/ 501). (¬2) أخرجه مسلم (5318).

كما أنه يعودُ باللائمةِ في نزولِ هذا البلاءِ على نفسِه، ويعلمُ أنه مستحقٌّ له وأن اللهَ عز وجل لم يظلمْهُ وإنما ابتلاهُ بذنوبِه تنبيهًا وإيقاظًا حتى يتدارَكَ أمرَهُ، ويصلحَ شأنَهُ، كلُّ ذلك لأنه لا يرى لنفسِه حقًّا على الله تعالى كما قال الناظمُ وأحسن: ما للعبادِ عليه حقٌّ واجبُ ... كلَّا ولا سعيٌ لديه ضائعُ إن عُذِّبُوا فبعدلِه أو نُعِّموا ... فبفَضْلِهِ وهو الكريمُ الواسعُ * * *

من معاني اسم الله (العظيم)

من معاني اسم الله (العظيم) من أسمائِه تعالى: (العظيم) قال تعالى: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]، وقال: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} [الحاقة:33]. قالَ الزجاجُ: العظيمُ: المعظَّمُ في صفةِ اللهِ تعالى يفيدُ عِظَمَ الشأنِ والسلطانِ، وليس المرادُ به وصفَه بعظمِ الأجزاءِ لأن ذلك من صفاتِ المخلوقينَ تعالى الله عن ذلك علوًّا (¬1). قال الشيخُ السعديُّ رحمه الله تعالى: «العظيمُ الجامعُ لجميعِ صفاتِ العظمةِ والكبرياءِ، والمجدِ والبهاءِ الذي تحبُّه القلوبُ، وتعظِّمُه الأرواحُ، ويعرفُ العارفونَ أنَّ عظمةَ كلِّ شيءٍ، وإن جَلّتْ في الصفةِ، فإنها مُضْمَحِلةٌ في جانبِ عظمةِ العليِّ العظيمِ. واللهُ تعالى عظيمٌ له كلُّ وصفٍ ومعنىً يوجبُ التعظيمَ، فلا يقدرُ مخلوقٌ أنْ يُثْنِيَ عليه كما ينبغي له، ولا يُحصِي ثناءً عليه، بل هو كما أثنى على نفسِه، وفوقَ ما يُثْنِي عليه عبادُه. واعلمْ أن مَعَانِي التعظيمِ الثابتةِ للهِ وحدَه نوعانِ: أحدُهما: أنه موصوفٌ بكلِّ صفةِ كمالٍ، وله من ذلك الكمالِ أكملُه، وأعظمُه وأوسعُه، فلهُ العلمُ المحيطُ، والقدرةُ النافذةُ والكبرياءُ والعظمةُ، ومن عظمتِه أنَّ السمواتِ والأرضَ في كفِّ الرحمنِ أصغرُ من الخردلَةِ كما قال ابنُ عباسٍ وغيرُه، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا ¬

(¬1) تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج (ص:46).

قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، وقال: {إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [فاطر:41]، وقال تعالى وهو العليُّ العظيمُ: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} الآية [الشورى:5]. وفي الصحيحِ عنه - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ يقولُ: الكبرياءُ ردائِي والعظمةُ إزاري، فمن نازَعَني واحدًا منهما عذبتُه» (¬1)، فللهِ تعالى الكبرياءُ والعظمةُ، والوصفانِ اللذانِ لا يُقْدَرُ قدرُهما ولا يُبْلَغُ كُنْهَهُمَا. النوعُ الثاني من معاني عظمتِه تعالى: أنَّه لا يستحقُّ أحدٌ من الخلقِ أن يعظِّمَ كما يعظَّمَ اللهُ؛ فيستحقُّ ـ جلَّ جلالُه ـ من عبادِهِ أن يعظِّمُوه بقلوبِهم، وألسنتِهم، وجوارحِهم؛ وذلك ببذلِ الجهدِ في معرفتِه، ومحبتِه، والذلِّ له، والانكسارِ له، والخضوعِ لكبريائِه، والخوفِ منه، وإعمالِ اللسانِ بالثناءِ عليه، وقيامِ الجوارحِ بشكرِه وعبوديتِه. ومن تعظيمِه: أن يُتَّقى حقَّ تقاتِه؛ فيطاعَ فلا يُعْصَى، ويذكرَ فلا يُنسى، ويُشْكَرَ فلا يُكْفَرُ. ومن تعظيمِه: تعظيمُ ما حرَّمَهُ وشرعَهُ من زمانٍ ومكانٍ وأعمالٍ: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [الحج:30]. ومن تعظيمِه: أن لا يُعترضُ على شيءٍ مما خَلَقَهُ أو شَرَعَهُ» (¬2). ¬

(¬1) رواه أبو داود (3567)، وابن ماجه (4164). (¬2) الحق الواضح المبين (ص:27 - 28).

وعظمةُ اللهِ سبحانَه وتعالى لا تكيَّفُ ولا تحدُّ، ولا تمثَّلُ بشيءٍ، ويجبُ على العبادِ أن يعلَمُوا أنه سبحانَهُ عظيمٌ كمَا وصفَ نفسَهُ بذلك، ووصفَهُ به رسولُه - صلى الله عليه وسلم - بلا كيفيةٍ ولا تحديدٍ، وقدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قالَ: «تفكرُوا في آلاءِ اللهِ ولا تَفَكَّرُوا في اللهِ»، وفي لفظ: «تَفكَّروا في خلقِ اللهِ ولا تَفَكَّرُوا في اللهِ». * * *

من شواهد العظمة

من شواهد العظمة هذا الكونُ مليءٌ بالشواهدِ التي تدلُّ على عظمةِ الخالقِ سبحانه وتعالى ـ، وكل شاهدٍ من هذه الشواهدِ يوصِلُ إلى الذي يليه حتى يصلَ الأمرُ إلى الشاهدِ الأكبرِ، وهو شهودُ جلالِ الربِّ ـ تبارك وتعالى ـ وعظمتِهِ، وقديمًا قال الأعرابيُّ: «البعرةُ تدلُّ على البعيرِ، ومسيرُ الأقدامِ يدلُّ على المسيرِ، فسماءٌ ذاتُ أبراجٍ وأرضٌ ذاتُ فجاجٍ، وبحارٌ ذاتُ أمواجٍ، أفلا يدلُّ ذلك على اللطيفِ الخبيرِ». ولنتأملْ معًا رحلةَ الشواهدِ التي يحكيها لنا الإمامُ ابنُ القيمِ رحمه اللهُ وهي رحلةُ التأملِ والتفكرِ والنظرِ بعينِ البصيرةِ والمعاينةِ لكلِّ ما حولَنا في هذه الدنيا، ولكلِّ ما سيكونُ في الآخرةِ من مشاهدَ وأهوالٍ وصولًا إلى دارِ المتقينَ الجنةِ، ودارِ الكافرينَ النارِ، ثمَّ مشاهدُ عذابِ أهلِ النارِ وأعظمُهُ حجبُهم عن اللهِ تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، ونعيمِ أهلِ الجنةِ وأعظمُه رؤيةُ الربِّ العظيمِ في يومِ المزيدِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَة*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، ثم الانتقالُ بعد ذلك إلى مشاهدِ صفاتِ هذا الإلهِ العظيمِ والربِّ الكريمِ، فيكونُ هذا أعظمَ المشاهدِ في قلبِ المؤمنِ. قال الإمامُ ابن القيم (¬1): 1 - شاهد الدنيا: فأولُ شواهدِ السائرِ إلى اللهِ والدارِ الآخرةِ: أن يقومَ به شاهدٌ من الدنيا وحقارتِها، وقلةِ وفائِها، وكثرةِ جفائِها، وخسةِ شركائِها، وسرعةِ انقضائِها. ¬

(¬1) مدارج السالكين (3/ 250).

ويرى أهلَها وعشاقَها صَرعَى حولَها، قد بَدَّعَتْ بهم (¬1)، وعذبَتْهم بأنواعِ العذابِ، وأذاقتْهم أمرَّ الشرابِ. أضحكَتْهم قليلًا، وأبكَتْهم طويلًا. سَقَتْهم كؤوسَ سُمِّها، بعد كؤوسِ خمرِها. فسكروا بحبِّها. وماتوا بهجرِها. 2 - شاهد الآخرة: فإذا قام بالعبدِ هذا الشاهدُ منها: ترحَّل قلبُه عنها، وسافر في طلبِ الدارِ الآخرةِ وحينئذٍ يقومُ بقلبِه شاهدٌ من الآخرةِ ودوامِها، وأنها هي الحيوانُ حقًا. فأهلُها لا يرتحلون منها، ولا يظْعَنون عنها، بل هي دارُ القرارِ، ومحطُّ الرحالِ، ومنتهى السيرِ، وأن الدنيا بالنسبةِ إليها ـ كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ما الدُّنيا في الآخرةِ إلا كما يجعلُ أحدُكم إصبعَه في اليمِّ، فلينظُرْ بم ترجِعُ؟» (¬2)، وقال بعضُ التابعينَ: ما الدنيا في الآخرةِ إلا أقلُّ من ذرةٍ واحدةٍ في جبالِ الدنيا. 3 - شاهد النار: ثم يقومُ بقلبِه شاهدٌ من النارِ، وتَوَقُّدِها واضطرامِها، وبُعْدِ قعرِها، وشدةِ حَرِّها، وعظيمِ عذابِ أهلِها. فيشاهدُهم وقد سِيقوا إليها سُودَ الوجوهِ، زُرقَ العيونِ، والسلاسلُ والأغلالُ في أعناقِهم. فلما انتهوا إليها: فُتِّحتْ في وجوهِهم أبوابُها. فشاهدوا ذلك المنظرَ الفظيعَ، وقد تقَطَّعتْ قلوبُهم حسرةً وأسفًا {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف:53]، فأراهم شاهدُ الإيمانِ، وهم إليها يُدفعونَ. وأتى ¬

(¬1) بدّعت بهم: خذلتهم. (¬2) مسلم (2858)، الترمذي (2323)، ابن ماجه (4108).

النداءُ من قِبَلِ ربِّ العالمينَ {وَقِفُوَهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات:24]، ثم قيلَ لهم {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ. أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لا تُبْصِرُونَ. اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور:14 - 16]، فيراهم شاهدُ الإيمان. وهم في الحميمِ، على وجوهِهم يُسحبونَ. وفي النارِ كالحطبِ يُسجَرون {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41]، فبئسَ اللحافُ وبئسَ الفراشُ. وإن استغاثوا من شدةِ العطشِ {يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29]، فإذا شربوه قطَّع أمعاءَهم في أجوافِهم، وصَهَرَ ما في بطونِهم. شرابُهم الحميمُ، وطعامُهم الزَّقُّومُ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:36 - 37]. فإذا قام بقلبِ العبدِ هذا الشاهدُ: انخلعَ من الذنوبِ والمعاصي، واتباعِ الشهواتِ. لبسَ ثيابَ الخوفِ والحذرِ، وأخصبَ قلبَهُ من مطرِ أجفانِهِ، وهانَ عليه كلُّ مصيبةٍ تصيبُهُ في غيرِ دينِهِ وقلبِهِ. وعلى حَسَبِ قوةِ هذا الشاهدِ يكونُ بعدُه من المعاصي والمخالفاتِ. فيذيبُ هذا الشاهدُ من قلبِه الفضلاتِ، والموادَّ المهلكةَ، وينضجُها ثم يخرجُها. فيجدُ القلبُ لذةَ العافيةِ وسُرورَها.

4 - شاهد الجنة: فيقومُ به بعد ذلك: شاهدٌ من الجنةِ، وما أعدَّ اللهُ لأهلِها فيها، مما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمِعَتْ، ولا خطرَ على قلبِ بشرٍ، فضلًا عمَّا وصَفَه اللهُ لعبادِهِ على لسانِ رسولِه من النعيمِ المفصَّلِ، الكفيلِ بأعلى أنواعِ اللذَّةِ، منَ المطاعمِ والمشاربِ، والملابسِ والصورِ، والبهجةِ والسرورِ. فيقومُ بقلبِهِ شاهدُ دارٍ قد جعلَ اللهُ النعيمَ المقيمَ الدائمَ بحذافِيرِه فيها. تربتُها المسكُ، وحصباؤُها الدُّرُّ، وبناؤُها لَبِنُ الذَّهبِ والفضةِ، وقَصَبُ اللؤلؤِ، وشرابُها أحلى من العسلِ، وأطيبُ رائحةً من المسكِ، وأبردُ من الكافورِ، وألذُّ من الزنجبيلِ، ونساؤُها لو بَرَزَ وجهُ إحداهُنَّ في هذه الدنيا لغلبَ على ضوءِ الشمسِ، ولباسُهم الحريرُ من السندسِ والإستبرقِ، وخدمُهم ولدانٌ كاللؤلؤِ المنثورِ، وفاكهتُهم دائمةٌ، لا مقطوعةٌ لا ممنوعةٌ، وفُرشٌ مرفوعةٌ. وغذاؤُهم لحمُ طيرٍ مما يَشْتهونَ، وشرابُهم عليه خمرةٌ لا فيها غَوْلٌ ولا هم عنها يُنزفونَ وخُضْرَتُهُم فاكهةٌ مما يتخيرون، وشاهِدُهم حورٌ عينٌ كأمثالِ اللؤلؤِ المكنونِ، فهم على الأرائكِ مُتكؤونَ، وفي تلك الرياضِ يُحبرونَ، وفيها ما تشتهي الأنفسُ وتلذُّ الأعينُ، وهم فيها خالدونَ. 5 - شاهد يوم المزيد: فإذا انضم إلى هذا الشاهدِ: شاهدُ يومِ المزيدِ، والنظرُ إلى وجهِ الربِّ جلَّ جلالُه، وسماعُ كلامِهِ منه بلا واسطةٍ. كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «بينما أهلُ الجنةِ في نعيمِهم، إذ سطَعَ لهم نورٌ. فرفَعُوا رؤُوسَهم. فإذا الربُّ تعالى قد أشرَفَ عليهم من فوقِهم. وقال: يا أهلَ الجنةِ، سلامٌ عليكم ـ ثم قرأ قولَه تعالى:

{سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس:58]ـ ثم يَتَوارى عنهم. وتبقَى رحمتُه وبركتُه عليهم في ديارِهم» (¬1). فإذا انضمَّ هذا الشاهدُ إلى الشواهدِ التي قبلَه: فهناك يسيرُ القلبُ إلى ربِّه أسرعَ من سيرِ الرياحِ في مهابِّها، فلا يلتفتُ في طريقِه يمينًا ولا شمالًا. 6 - شاهدُ جلالِ الربِّ وعظمتِهِ: هذا، وفوقَ ذلك: شاهدٌ آخرَ تضمحِلُّ فيه هذه الشواهدُ، ويغيبُ به العبدُ عنها كلِّها. وهو شاهدُ جلالِ الربِّ تعالى، وجمالِه وكمالِه، وعزِّه وسلطانِه، وقيوميتِه وعلوِّه فوقَ عرشِه، وتكلُّمِه بكتبِه وكلماتِ تكوينِه، وخطابِه لملائكتِه وأنبيائِه. فإذا شاهدَه شاهدَ بقلبِه قيومًا قاهرًا فوقَ عبادِه، مستويًا على عرشِه، منفردًا بتدبيرِ مملكتِه، آمرًا ناهيًا، مرسِلًا رسلَه، ومُنْزِلًا كتبَه. يرضَى ويغضَبُ، ويثيبُ ويعاقبُ. ويعطِي ويمنعُ، ويعزُّ ويذلُّ. ويحبُّ ويغضبُ. ويرحمُ إذا استُرحِمَ، ويغفرُ إذا استُغفِرَ، ويعطِي إذا سُئِلَ، ويجيبُ إذا دُعِيَ، ويقيلُ إذا استُقيلَ. أكبرُ من كلِّ شيءٍ، وأعظمُ من كلِّ شيءٍ، وأعزُّ من كلِّ شيءٍ، وأقدرُ من كلِّ شيءٍ، وأعلمُ من كلِّ شيءٍ، وأحكمُ من كلِّ شيءٍ. فلو كانت قُوى الخلائقِ كلِّهم على واحدٍ منهم، ثم كانوا كلُّهم على تلك القوةِ، ثم نُسبت تلك القوى إلى قوةِ اللهِ تعالى لكانتْ دونَ قوةِ البعوضةِ بالنسبةِ إلى قوةِ الأسدِ. ¬

(¬1) ابن ماجه (184)، باب (13) فيما أنكرت الجهمية.

ولو قُدِّرَ جمالُ الربِّ تعالى لكان دونَ سراجٍ ضعيفٍ بالنسبةِ إلى عينِ الشمسِ. ولو كانَ علمُ الأولينَ، والآخرينَ على رجلٍ منهم، ثم كان كلُّ الخلقِ على تلكَ الصفةِ، ثم نُسبَ إلى علمِ الربِّ تعالى لكانَ ذلك بالنسبةِ إلى علمِ الربِّ كنقرةِ عُصفورٍ في بحرٍ. وهكذا سائرُ صفاتِهِ، كسمعِه وبصرِه، وسائرِ نعوتِ كمالِه. فإنَّه يسمعُ ضجيجَ الأصواتِ باختلافِ اللغاتِ، على تفننِ الحاجاتِ. فلا يشغَلُه سمعٌ عن سمعٍ. ولا تُغلطُه المسائلُ. ولا يتبرمُ بإلحاحِ الملِحِّينَ. سواءٌ عندَه من أسرَّ القولَ ومن جهرَ به. فالسِّر عنده علانيةٌ. والغيبُ عنده شهادةٌ. يرى دبيبَ النملةِ السوداءِ، على الصخرةِ الصماءِ، في الليلةِ الظلماءِ. ويرى نياطَ عروقِها، ومجاري القوتِ في أعضائِها. يضعُ السماواتِ على إصبعٍ من أصابعِ يدِه، والأرضَ على إصبعٍ، والجبالَ على إصبعٍ، والشجرَ على إصبعٍ، والماءَ على إصبعٍ. ويقبضُ سماواتِه بإحْدَى يديه، والأرضينَ باليدِ الأخرى. فالسماواتُ السبعُ في كفِّه كخردلةٍ في كفِّ العبدِ. ولو أنَّ الخلقَ كلَّهم من أولِهم إلى آخرِهم قاموا صفًّا واحدًا ما أحاطُوا باللهِ عز وجل. لو كشفَ الحجابَ عن وجهِه لأحرقَتْ سُبحاتُه ما انتهى إليه بصرُه من خلقِه.

فإذا قامَ بقلبِ العبدِ هذا الشاهدُ: اضْمَحَلَّتْ فيهِ الشواهدُ المتقدمةُ، من غيرِ أنْ تعدَمَ. بل تصيرُ الغلبةُ والقهرُ لهذا الشاهدِ، وتندرجُ فيه الشواهدُ كلُّها. ومَنْ هذا شاهِدُه: فله سلوكٌ وسيرٌ خاصٌّ، ليسَ لغيرِه ممن هو عن هذا في غفلةٍ، أو معرفةٍ مجملةٍ. فصاحبُ هذا الشاهدِ: سائرٌ إلى اللهِ في يقظتِهِ ومنامِهِ، وحركتِهِ وسكونِهِ وفطرِهِ وصيامِهِ، لهُ شأنٌ وللناسِ شأنٌ. هو في وادٍ والنَّاسُ في وادٍ. 7 - شاهدُ التوحيدِ: فإذا طلعتُ شمسُ التوحيدِ، وباشَرَتْ جوانُبَها الأرواح، ونورُها البصائِرَ، تجلَّتْ بها ظلماتُ النفسِ والطبعِ، وتحركتْ بها الأرواحُ في طلبِ من ليس كمثلِه شيءٌ وهو السميعُ البصيرُ، فسافرَ القلبُ في بيداءِ الأمرِ، ونَزَلَ منازلَ العبوديةِ، منزلًا منزلًا، فهو ينتقلُ من عِبادةٍ إلى عبادةٍ، مُقيم على معبود واحد. فلا تزالُ شواهدُ الصفاتِ قائمةً بقلبِهِ، توقظُه إذا رقدَ، وتذكِّرُهُ إذا غفلَ، وتحدُو به إذا سارَ، وتقيمُهُ إذا قعدَ. إن قام بقلبِه شاهدٌ من الربوبيةِ والقيوميةِ رأى أنَّ الأمرَ كلَّهُ للهِ. ليس لأحدٍ معه من الأمرِ شيءٌ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر:2 - 3]. {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107]،

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]، {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84 - 89]. إن قامَ بقلبِه شاهدٌ من الإلهيةِ: رأى في ذلك الشاهدِ الأمرَ والنهيَ، والنبواتِ، والكتبَ والشرائعَ، والمحبةَ والرضى، والكراهةَ والبغضَ، والثوابَ والعقابَ، وشاهدَ الأمرَ نازلًا ممن هو مستوٍ على عرشِهِ، وأعمالُ العبادِ صاعدةٌ إليهِ، ومعروضة عليه. يجزي بالإحسانِ منها في هذه الدارِ وفي العقبى نضرةً وسرورًا، ويقدمُ إلى ما لم يكنْ عن أمرِهِ وشرعِهِ منها فيجعلُهُ هباءً منثورًا. وإن قامَ بقلبِه شاهدٌ من الرحمةِ: رأى الوجودَ كلَّه قائمًا بهذهِ الصفةِ، قدْ وَسِعَ من هي صفتُه كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، وانتهتْ رحمتُهُ إلى حيثُ انتهى علمُه، فاستوى على عرشِه برحمتِهِ، لتسعَ كلَّ شيءٍ، كما وَسِعَ عرشُهُ كلَّ شيءٍ. وإنْ قامَ بقلبه شاهدُ العِزَّة والكبرياءِ، والعظمةِ والجبروتِ: فله شأنٌ آخر. وهكذا جميعُ شواهدِ الصفاتِ، فما ذكرنا إنما هو أدنى تنبيهٍ عليها. فالكشفُ والعيانُ والمشاهدةُ لا تتجاوزُ الشواهدَ البتةَ.

أإله مع الله؟

أإله مع الله؟ قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ (¬1): «لا ريبَ أن اللهَ ربُّ العالمينَ، ربُّ السمواتِ والأرضينَ وما بينهما وربُّ العرشِ العظيمِ، ربُّ المشرقِ والمغربِ لا إله إلا هو فاتخذْه وكيلًا، ربُّكم وربُّ آبائِكم الأولين، ربُّ الناسِ مَلِكُ الناسِ إلهُ الناسِ،. وهو خالقُ كلِّ شيءٍ وهو على كلِّ شيءٍ وكيلٌ. خلقَ الزوجينِ الذكرَ والأنثى، من نطفةٍ إذا تُمنى، وهو ربُّ كلِّ شيءٍ ومليكُه، وهو مالكُ المُلك؛ يُؤتي المُلكَ من يشاءُ، وينزعُ الملكَ ممَّنْ يشاءُ، ويعزُّ من يشاءُ، ويذلُّ من يشاءُ، بيدِه الخيرُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ. له ما في السمواتِ وما في الأرضِ وما بينهما وما تحتَ الثرى، الرحمنُ على العرشِ استوى، له المُلكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56]. قلوبُ العبادِ ونواصِيهم بيدِه، وما منْ قلبٍ إلَّا وهو بينَ إصبعينِ من أصابعِ الرحمنِ، إن شاء أن يُقيمَهُ أقامَه، وإن شاء أن يُزيغَهُ أزاغَهُ. وهو الذي أضحَك وأبكَى، وأغنَى وأقنَى، وهو الذي يُرسلُ الرياحَ بشرًا بين يديْ رحمتِه، ويُنزلُ من السماءِ ماءً فيُحيي به الأرضَ بعدَ موتِها، ويبُثُّ فيها من كلِّ دابَّةٍ. وهو {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (2/ 398 - 400) دار الوفاء.

يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125]، {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70]. وهو الحيُّ القيومُ الذي لا تأخذُهُ سِنةٌ ولا نومٌ، وهو القائمُ بالقسطِ، القائمُ على كلِّ نفسٍ بما كسَبَتْ، الخالقُ البارئُ المصورُ. {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، ما شاءَ اللهُ لا قوةَ إلا باللهِ، فما شاء اللهُ كان، وما لم يشا لم يكنْ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ، ولا ملجأَ منه إلا إليه. فهذه المعاني وما أشبهَها من معاني ربوبيتِه ومُلكِه، وخلقِه ورزقِه، وهدايتِه ونصرِه، وإحسانِه وبرِّه، وتدبيرِه وصنعِه، ثمَّ ما يتصلُ بذلك من أنه بكلِّ شيءٍ عليمٌ، وعلى كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّه سميعٌ بصيرٌ، لا يشغَلُه سمعٌ عن سمعٍ، ولا تُغلِطُه المسائلُ، ولا يتبرمُ بإلحاحِ المُلحِّينَ، يُبصرُ دبيبَ النملةِ السوداءِ، في الليلةِ الظلماءِ، على الصخرةِ الصماءِ. فهذا كلُّه حقٌّ، وهو محضُ توحيدِ الربوبيةِ؛ وهو مع هذا قد أعطى كلَّ شيءٍ خلقَه ثمَّ هَدَى، وأحسنَ كلَّ شيءٍ خَلَقهُ، وبدأَ خلقَ الإنسانِ من طينٍ. وهذا صنعُ اللهِ، الذي أتقنَ كلَّ شيءٍ، والخيرُ كلُّه بيديْهِ، وهو أرحمُ الراحمينَ، وهو أرحمُ بعبادِهِ من الوالدةِ بولدِهَا، كما أقسمَ على ذلك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: «واللهِ للهُ أرحمُ بعبادِه من هذه الوالدةِ بولَدِها» (¬1) إلى نحوِ هذه المعاني، ¬

(¬1) البخاري (5999)، مسلم (2754).

التي تقتضي شمولَ حكمتِه وإتقانِه وإحسانِه خَلْقَ كلِّ شيءٍ وسعةَ رحمتِه وعظمتَها وأنها سبقتْ غضبَه كلُّ هذا حقٌّ» (¬1). فاللهُ عز وجل هو مالكُ الملكِ الذي {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ:3]، وإذا نظر العبدُ في تدبيرِ اللهِ تعالى لهذا الكونِ كاد عقلُه يطيشُ من هذه القدرةِ الباهرةِ، والقوةِ القاهرةِ، والرحمةِ الظاهرةِ، والإتقانِ والإحسانِ والحكمةِ في كلِّ شيءٍ. * * * ¬

(¬1) مجموع الفتاوى (2/ 400).

الطريق إلى تعظيم الله تعالى

الطريق إلى تعظيم الله تعالى إن تعظيمَ اللهِ تعالى لا يكونُ إلَّا بعدَ معرفةِ اللهِ سبحانه وتعالى بأسمائِه وصفاتِه وأفعالِه ونعوتِ جلالِه، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد:19]، فلا بدَّ من العلمِ والمعرفةِ، فهي النورُ الذي يضيءُ لك طريقَ التعظيمِ والإجلالِ. فاللهُ سبحانه وتعالى عظيمٌ في ذاتِه، عظيمٌ في أسمائِه، عظيمٌ في صفاتِه، عظيمٌ في ملكِه وسلطانِه، عظيمٌ في خلقِه وأمرِه، عظيمٌ في دينِه وشرعِه، عظيمٌ في علمِه وكلماتِه قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف:109]، وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27]، هذا علمُ الله تعالى فماذا عن قدرته؟ قال تعالى بعد هذه الآية: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان:28 - 31]. إنها العظمةُ المطلقةُ والقدرةُ المطلقةُ والعلوُّ المطلقُ، والجلالُ المطلقُ، والقهرُ المطلقُ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].

قال الإمامُ ابنُ القيمِ في ارتباطِ التعظيمِ بالمعرفةِ: «وهذه المنزلةُ ـ أي منزلةُ تعظيمِ قال الإمامُ ابنُ القيمِ في ارتباطِ التعظيمِ بالمعرفةِ: «وهذه المنزلةُ ـ أي منزلةُ تعظيمِ الله عز وجل تابعةٌ للمعرفةِ، فعلى قدرِ المعرفةِ يكونُ تعظيمُ الربِّ تعالى في القلبِ، وأعرفُ الناسِ به أشدُّهم له تعظيمًا وإجلالًا، وقد ذمَّ اللهُ تعالى من لم يعظِّمْهُ حقَّ عظمَتِهِ، ولا عَرَفَهُ حقَّ معرفتِهِ، ولا وَصَفَهُ حقَّ وصفِهِ، فقال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]» (¬1). وقال أبو القاسمِ إسماعيلُ الأصبهانيُّ في صفةِ العظمةِ: «العظمةُ صفةٌ من صفاتِ اللهِ، لا يقومُ لها خلقٌ، واللهُ تعالى خلقَ بين الخلقِ عظمةً يعظّمُ بها بعضُهم بعضًا، فمن الناسِ من يعظَّم لمالٍ، ومنهم من يعظَّم لفضلٍ، ومنهم من يعظَّم لعلمٍ، ومنهم من يعظَّم لسلطانٍ، ومنهم من يعظَّم لجاهٍ، وكلُّ واحدٍ من الخلقِ إنما يعظَّمُ لمعنى دونَ معنىً واللهُ عز وجل يعظَّمُ في الأَحوالِ كلِّها، فينبغي لمن عَرَفَ حقَّ عظمةِ اللهِ أن لا يتكلمَ بكلمةٍ يكرهُها اللهُ، ولا يرتكبَ معصيةً لا يرضاها اللهُ، إذ هو القائمُ على كلِّ نفسٍ بما كسبتْ» (¬2)، يشير بذلك رحمه اللهُ إلى أنَّ المعصيةَ تُضْعِفُ من تعظيمِ العبدِ لربِّه، وقد تذهبُ التعظيمَ من قلبِه بالكليةِ. * * * ¬

(¬1) مدارج السالكين (2/ 495). (¬2) الحجة في بيان المحجة (1/ 141، 142).

تعظيم الأمر والنهي

تعظيمُ الأمرِ والنهيِ وهذا يدلُّ على أن أولَ مراتبِ التعظيمِ هي تعظيمُ الأمرِ والنهيِ، وقد ذكر ذلك ابنُ القيمِ فقال: «تعظيمُ الأمرِ والنهيِ هو ناشئٌ عن تعظيمِ الآمرِ الناهي فإن اللهَ تعالى ذمَّ من لا يعظِّمهُ ولا يعظِّمُ أمرَهُ ونهيَهُ، قال سبحانه وتعالى ـ: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13]، قالوا في تفسيرِها: ما لكم لا تخافونَ للهِ تعالى عظمةً. وما أحسنَ ما قالَه شيخُ الإسلامِ في تعظيمِ الأمرِ والنهيِ: «هو ألا يُعَارَضَا بترخصٍ جافٍ، ولا يُعرَّضا لتشديدٍ غالٍ ولا يُحْمَلَا على علةٍ توهنُ الانقيادَ». ومعنى كلامِه: أن أولَ مراتبِ تعظيمِ الحقِّ عز وجل: تعظيمُ أمرِه ونهيِه، وذلك لأن المؤمنَ يعرِفُ ربَّه ? برسالتِه التي أرسلَ بها رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى كافةِ الناسِ، ومقتضاها: الانقيادُ لأمرِهِ ونهيهِ، وإنما يكونُ ذلك بتعظيمِ أمرِ اللهِ عز وجل واتباعِه، وتعظيمِ نهيِه واجتنابِه، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه واجتنابه دالًّا على تعظيمِه لصاحبِ الأمرِ والنهيِ، ويكونُ بحسبِ هذا التعظيمِ من الأبرارِ المشهودِ لهم بالإيمانِ والتصديقِ وصحةِ العقيدةِ، والبراءةِ من النفاقِ الأكبرِ. فإن الرجلَ قد يتعَاطَى فعلَ الأمرِ لنظرِ الخلقِ وطلبِ المنزلةِ والجاهِ عندَهم، ويتَّقِي المناهِيَ خشيةَ سقوطِه من أعينِهم، وخشيةَ العقوباتِ الدنيويَّةِ من الحدودِ التي رتَّبَها الشارعُ على المناهِي، فهذا ليس فعلُه وتركه صادرًا عن تعظيمِ الأمرِ والنهيِ، ولا عن تعظيمِ الآمرِ الناهِي» (¬1). ¬

(¬1) الوابل الصيب (ص:17 - 18).

كيف نعرف الله؟

كيف نعرف الله؟ (¬1) الربُّ تعالى يدعُو عبادَه في القرآنِ إلى معرفتِه من طريقينِ: أحدُهما: النظرُ في مفعولاتِه. والثاني: التفكُّرُ في آياتِه وتدبُّرُها. فتلكَ آياتُه المشهودَةُ، وهذه آياتُه المسموعَةُ المعقولَةُ. فالنوعُ الأولُ: كقولِه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ} [البقرة:164]، إلى آخرها. وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} [آل عمران:190] .. وهو كثيرٌ في القرآنِ. والثاني: كقولِه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82]. وقوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]، وقوله: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ} [ص:29] .. وهو كثيرٌ أيضًا. فأمَّا المفعولاتُ، فإنها دالَّةٌ على الأفعالِ، والأفعالُ دالَّةٌ على الصفاتِ؛ فإنَّ المفعولَ يدلُّ على فاعلِ فعلِه، وذلكَ يستلزِمُ وجودَه وقدرتَه ومشيئتَه وعلمَه لاستحالةِ صدورِ الفعلِ الاختياريِّ من معدومٍ أو موجودٍ لا قدرةَ له ولا حياةَ ولا علمَ ولا إرادةَ. ثم ما في المفعولاتِ من التخصُّصَاتِ المتنوعةِ دالٌّ على إرادةِ الفاعلِ، ¬

(¬1) الفوائد لابن القيم (ص:40 - 42).

وأنَّ فعلَه ليس بالطبعِ بحيثُ يكونُ واحدًا غيرَ متكررٍ. وما فيها من المصالحِ والحِكمِ والغاياتِ المحمودةِ دالٌّ على حكمتِه تعالى. وما فيها من النفعِ والإحسانِ والخيرِ دالٌّ على رحمتِه. وما فيها من البطشِ والانتقامِ والعقوبةِ دالٌّ على غضبِه. وما فيها من الإكرامِ والتقريبِ والعنايةِ دالٌّ على محبتِه. وما فيها من الإهانةِ والإبعادِ والخذلانِ دالٌّ على بُغضِه ومَقتِه. وما فيها من ابتداءِ الشيءِ في غايةِ النقصِ والضعفِ ثم سَوْقِهِ إلى تمامِه ونهايتِه دالٌّ على وقوعِ المعادِ. وما فيها من أحوالِ النباتِ والحيوانِ وتصرُّفِ المياهِ دليلٌ على إمكانِ المعادِ. وما فيها من ظهورِ آثارِ الرحمةِ والنعمةِ على خلقِه دليلٌ على صحةِ النبوَّاتِ. وما فيها من الكمالاتِ التي لو عَدِمَتْها كانتْ ناقصةً دليلٌ على أنَّ معطي تلكَ الكمالاتِ أحقُّ بها. فمفعولاتُه من أدلِّ شيءٍ على صفاتِه وصِدْقِ ما أخبرَتْ به رُسُلُه عنه؛ فالمصنوعاتُ شاهدةٌ تُصَدِّقُ الآياتِ المسموعاتِ، منبهةٌ على الاستدلالِ بالآياتِ المصنوعاتِ. قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، أي أنَّ القرآنَ حقٌّ، فأخبرَ أنَّه لا بدَّ أن

يُريَهُم من آياتِه المشهودَةِ ما يبيِّنُ لهم أنَّ آياتِه المتلوَّةَ حقٌّ. ثم أخبرَ بكفايةِ شهادتِه على صحةِ خَبَرِه بما أقامَ من الدلائلِ والبراهينِ على صدقِ رسولِه. فآياتُه شاهدةٌ بصدقِه، وهو شاهدٌ بصدقِ رسولِه بآياتِه. فهو الشاهدُ والمشهودُ له، وهو الدليلُ والمدلولُ عليه. فهو الدليلُ بنفسِه على نفسِه كما قالَ بعضُ العارفينَ: كيفَ أطلبُ الدليلَ على من هو دليلٌ لي على كلِّ شيءٍ؟ فأيُّ دليلٍ طلبتَه عليه فوجودُه أظهرُ منه. ولهذا قال الرُّسُلُ لقومِهم: ... {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ}؟ [إبراهيم:10]؛ فهو أعرفُ من كلِّ معروفٍ، وأبينُ من كلِّ دليلٍ. فالأشياءُ عُرِفَتْ به في الحقيقةِ، وإنْ كانَ عُرِفَ بها في النَّظَرِ، والاستدلالِ بأفعالِه وأحكامِه عليه. * * *

معرفة جمال الله

معرفةُ جمالِ اللهِ عز وجل (¬1) من أعزِّ أنواعِ المعرفةِ: معرفةُ الربِّ سبحانه بالجمالِ، وهي معرفةُ خواصِّ الخلقِ، وكلُّهم عَرَفَهُ بصفةٍ من صفاتِه، وأتمُّهم معرفةً من عَرَفَهُ بكمالِه وجلالِه وجمالِه سبحانه، ليسَ كمثلِه شيءٌ في سائرِ صفاتِه، ولو فَرَضْتَ الخلقُ كلُّهم على أجملِهم صورةً، وكلُّهم على تلكَ الصورةِ، ونَسَبْتَ جمالَهم الظاهرَ والباطنَ إلى جمالِ الربِّ سبحانَه لكانَ أقلَّ من نسبةِ سراجٍ ضعيفٍ إلى قرصِ الشمسِ، ويكفِي في جمالِه أنَّه لو كَشَفَ الحجابَ عن وجْهِه لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُه (¬2) ما انتهى إليه بصرُه من خلقِه. ويكفِي في جمالِه أنَّ كلَّ جمالٍ ظاهرٍ وباطنٍ في الدنيا والآخرةِ فمن آثارِ صنعَتِه، فما الظنُّ بمَنْ صدرَ عنه هذا الجمالُ؟! ويكفِي في جمالِه: أنَّه لَهُ العزَّةُ جميعًا، والقوَّةُ جميعًا، والجودُ كلُّه، والإحسانُ كلُّه، والعلمُ كلُّه، والفضلُ كلُّه، ولِنُورِ وجهِه أَشْرَقَتِ الظلماتُ، كما قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في دعاءِ الطائفِ: «أعوذُ بنورِ وجهِكَ الذي أشرقَتْ لهُ الظلماتُ وصلُحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرةِ» (¬3). وقال عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: ليسَ عندَ ربِّكُم ليلٌ ولا نهارٌ، نورُ السمواتِ والأرضِ من نورِ وجهِه، فهو سبحانَه نورُ السمواتِ والأرضِ، ويومَ القيامةِ إذا جاء لفصلِ القضاءِ تُشْرِقُ الأرضُ بنُوره. ¬

(¬1) الفوائد (ص:258). (¬2) (سُبُحاتُ) وجهِ الله تعالى بضمتين: جلالتُه. (¬3) رواه الطبراني في (الكبير) عن عبد الله بن جعفر. وهو ضعيف. انظر: تخريج فقه السيرة (131).

ومن أسمائِه الحسنى (الجميلُ). وفي الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ» (¬1). وجمالُه سبحانَه على أربعِ مراتِبٍ: جمالُ الذاتِ، وجمالُ الصفاتِ، وجمالُ الأفعالِ، وجمالُ الأسماءِ. فأسماؤُه كلُّها حُسْنَى، وصفاتُه كلُّها صفاتُ كمالٍ، وأفعالُه كلُّها حكمةٌ ومصلحةٌ وعدلٌ ورحمةٌ. وأمَّا جمالُ الذَّاتِ، وما هو عليه، فأمرٌ لا يُدْرِكُهُ سِوَاهُ، ولا يعلمُه غيرُه، وليسَ عندَ المخلوقينَ منه إلا تعريفاتٌ تَعَرَّفَ بها إلى مَنْ أَكْرَمَهُ من عبادِه، فإنَّ ذلكَ الجمالَ مصونٌ عن الأغيارِ محجوبٌ بسترِ الرداءِ والإزارِ، كما قال رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يُحْكَى عنه: «الكبرياءُ رِدَائي، والعظمةُ إزاري» (¬2). ولما كانت الكبرياءُ أعظمُ وأوسعُ كانتْ أَحَقَّ باسمِ الرداءِ؛ فإنه سبحانَه الكبيرُ المتعالِ، فهو سبحانَه العليُّ العظيمُ. قال ابنُ عباسٍ: حجبَ الذاتَ بالصفاتِ، وحجبَ الصفاتِ بالأفعالِ، فما ظنُّكَ بجمالٍ حُجِبَ بأوصافِ الكمالِ وسُتِرَ بنعوتِ العظمةِ والجلالِ؟! ومن هذا المعنى يُفْهَمُ بعضُ معانِي جمالِ ذاتِه؛ فإنَّ العبدَ يترقَّى من معرفةِ الأفعالِ إلى معرفةِ الصفاتِ، ومن معرفةِ الصفاتِ إلى معرفةِ الذاتِ. فإذا شاهدَ شيئًا من جمالِ الأفعالِ، استدلَّ به على جمالِ الصفاتِ، ثم استَدَلَّ بجمالِ الصفاتِ على جمالِ الذاتِ. ¬

(¬1) رواه مسلم (147)، والترمذي (1999). (¬2) مسلم (620)، وأبو داود (3567).

ومن ههنا يتبينُ أنَّهُ سبحانَه لهُ الحمدُ كلُّه، وأنَّ أحدًا من خَلْقِهِ لا يُحصِي ثناءً عليه، بل هو كما أثْنَى على نفسِه، وأنه يستحقُّ أن يُعْبَدَ لذاتِه، ويُحَبَّ لذاتِه، ويُشْكَرَ لذاته، وأنه سبحانَه يُحِبُّ نفسَه ويُثني على نفسِه ويحمدُ نفسَه، وأن محبَّتَه لنفسِه وحمدَه لنفسِه وثناءَه على نفسِه وتوحيدَه لنفسِه، هو في الحقيقةِ الحمدُ والثناءُ والحبُّ والتوحيدُ؛ فهو سبحانه كما أَثْنَى على نفسِه، وفوقَ ما يُثْنِي به عليه خلقُه. وهو سبحانه كما يُحِبُّ ذاتَه يحبُّ صفاتِه وأفعالَه، فكلُّ أفعالِه حسنٌ محبوبٌ، وإن كانَ في مفعولاتِه ما يُبْغِضُهُ ويكرهُه، فليس في أفعالِه ما هو مكروهٌ مسخوطٌ، وليسَ في الوجودِ ما يُحَبُّ لذاتِه ويُحْمَدُ لذاتِه إلا هو سبحانَه. وكل ما يُحَبُّ سواهُ، فإنْ كانَتْ محبَّتُه تابعةٌ لمحبتِه سبحانَه بحيثُ يُحَبُّ لأجلِه، فمحبَّتُه صحيحةٌ، وإلا فهي محبةٌ باطلةٌ. وهذا هو حقيقةُ الإلهيةِ؛ فإنَّ الإلهَ الحقَّ هو الذي يُحَبُّ لذاتِه ويُحْمَدُ لذاتِه. فكيفَ إذا انضافَ إلى ذلكَ إحسانُه وإنعامُه وحلمُه وتجاوزُه وعفوُه وبرُّه ورحمتُه؟ فعلى العبدِ أنْ يعلَمَ أنَّه لا إلهَ إلا اللهُ، فيحبُّه ويحمدُه لذاتِه وكمالِه، وأنْ يعلمَ أنَّه لا مُحْسِنَ على الحقيقةِ بأصنافِ النعمِ الظاهرةِ والباطنةِ إلا هو، فيحبُّه لإحسانِه وإنعامِه، ويحمَدُه على ذلكَ؛ فيحبُّه من الوجهينِ جميعًا. وكما أنَّه ليسَ كمثلِه شيءٌ، فليسَ كمحبَّتِه محبةٌ. والمحبَّةُ معَ الخضوعِ هي العبوديةُ التي خُلِقَ الخلقُ لأجلِها؛ فإنَّها غايةُ الحبِّ بغايةِ الذُّلِّ، ولا يصلحُ ذلكَ إلَّا له سبحانَه. والإشراكُ به في هذا، هو الشركُ الذي لا يَغْفِرُه اللهُ، ولا يقبلُ لصاحِبِه عملًا.

وحمدُه يتضمَّنُ أصلينِ: الإخبارُ بمحامدِه وصفاتِ كمالِه، والمحبةُ له عليها. فمَنْ أخبرَ بمحاسنِ غيرِه من غيرِ محبةٍ له لم يَكُنْ حامدًا. ومن أحبَّه من غير إخبارٍ بمحاسنِه لم يَكُنْ حامدًا حتى يجمَعَ الأمرينِ. وهو سبحانَه يحمدُ نفسَه بنفسِه، ويحمدُ نفسَه بما يُجْرِيهِ على ألسنةِ الحامدينَ له من ملائكتِه وأنبيائِه ورُسلِه وعبادِه المؤمنينَ؛ فهو الحامدُ لنفسِه بهذا وهذا؛ فإن حمدَهم له بمشيئتِه وإذنِه وتكوينِه؛ فإنَّه هو الذي جعلَ الحامدَ حامدًا، والمسلمَ مسلمًا، والمصلِّيَ مصليًا، والتائبَ تائبًا؛ فمنه ابتدأتِ النعمُ وإليه انتهَتْ، فابتدأَتْ بحمدِه وانتهَتْ إلى حمدِه. وهو الذي ألهمَ عبدَه التوبةَ، وفرحَ بها أعظمَ فرحٍ، وهي من فَضْلِه وجُودِه. وألهمَ عبدَه الطاعةَ، وأعانَه عليها، ثم أثابَه عليها، وهي من فَضْلِهِ وجودِه. وهو سبحانَه غنيٌّ عن كلِّ ما سواهُ بكلِّ وجهٍ، وما سواهُ فقيرٌ إليه بكلِّ وجهٍ، والعبدُ مفتقرٌ إليه لذاتِهِ في الأسبابِ والغاياتِ؛ فإنَّ ما لا يكونُ به لا يكونُ، وما لا يكونُ له لا يَنْفَعُ. * * *

أعرف الناس بالله

أعرفُ الناسِ باللهِ (¬1) من الناسِ من يعرفُ اللهَ بالجودِ والإفضالِ والإحسانِ، ومنهم من يعرِفُه بالعفوِ والحلمِ والتجاوزِ، ومنهم من يعرفُه بالبطشِ والانتقامِ، ومنهم من يعرفُه بالعلمِ والحكمةِ، ومنهم من يعرفُه بالعزِّةِ والكبرياءِ، ومنهم من يعرفُه بالرحمةِ والبرِّ واللطفِ، ومنهم من يعرفُه بالقهرِ والملكِ، ومنهم من يعرفُه بإجابةِ دعوتِه وإغاثةِ لهفتِهِ وقضاءِ حاجتِه. وأعظمُ هؤلاءِ معرفةً: من عَرَفَه من كلامِه؛ فإنَّه يعرِفُ ربًّا قد اجتمعَتْ له صفاتُ الكمالِ ونعوتُ الجلالِ، منزَّهٌ عن المثالِ، بريءٌ من النقائص والعيوبِ، له كلُّ اسمٍ حسنٍ وكلُّ وصفِ كمالٍ، فعَّالٌ لما يريدُ، فوقَ كلِّ شيءٍ، ومع كلِّ شيءٍ، وقادرٌ على كلِّ شيءٍ، ومقيمٌ لكلِّ شيءٍ، آمرٌ ناهٍ، متكلمٌ بكلماتِه الدينيةِ والكونيةِ، أكبرُ من كلِّ شيءٍ، وأجملُ من كلِّ شيءٍ، أرحمُ الراحمينَ، وأقدرُ القادرينَ، وأحكمُ الحاكمينَ. فالقرآنُ أُنْزِلَ لتعريفِ عبادِه به، وبصراطِه الموصلِ إليه، وبحالِ السالكينَ بعد الوصولِ إليه. * * * ¬

(¬1) الفوائد (ص:257).

الحمد من طرق تعظيم الله تعالى

الحمدُ من طرقِ تعظيمِ اللهِ تعالى ومن الوسائلِ التي تُفضِي إلى تعظيمِ اللهِ تعالى وإجلالِه: كثرةُ حمدِه سبحانه وتعالى والثناءِ عليه سبحانه وشكرِه على نعمِه. وقدْ روى البخاريُّ عن أبي أمامةَ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا رَفَعَ مائدتَه قال: «الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، غيرَ مكفيٍّ، ولا مودَّعٍ، ولا مستغنَىً عنه». فاللهُ تعالى لا يستطيعُ أحدٌ أن يكافِيه على إنعامِه أبدًا، لأنَّ شكرَه سبحانه هو نعمةٌ من نِعَمِه كما قيل: إذا كان شُكري نعمةَ اللهِ نعمةً ... عليَّ له في مثلِها يجبُ الشكرُ فكيف وقوعُ الشكرِ إلا بفضلِه ... وإنْ طالتِ الأيامُ واتَّصلَ العمرُ إذا مسَّ بالسرَّاءِ عمَّ سرورُها ... وإن مسَّ بالضرَّاءِ أعقَبَها الأجرُ فما منهما إلا لهُ فيه نعمةٌ ... تضيقُ بها الأوهامُ والسِّرُّ والجهرُ فالمعظِّمُ لربِّه عز وجل يعترفُ بقلبِه أنَّه لو أنفقَ جميعَ عمرِه في قيامِ الليلِ وصيامِ النهارِ ولم يَزَلْ لسانُه رطبًا بذكرِ اللهِ، فإنَّه لا يستطيعُ تأديةَ شكرِ نعمةٍ واحدةٍ منْ نعمِ اللهِ عليه. ومعَ ذلكَ فإنَّه يَجِبُ على العبدِ أن يَلْهَجَ بحمدِ اللهِ تعالى وشكرِه والثناءِ عليهِ وأن يقدِّمَ ذلكَ بين يَدَيْ دُعائِهِ وسؤالِه. فإنَّ الحمدَ يتضمَّنُ مدحَ المحمودِ بصفاتِ كمالِه، ونعوتِ جلالِه، معَ محبَّتِه والرِّضَا عنه، والخضوعِ له. فلا يكونُ حامدًا من جَحَدَ صفاتِ المحمودِ، ولا من أعرضَ عن محبَّتِه والخضوعِ له. وكلَّما كانت صفاتُ كمالِ المحمودِ أكثرَ كان حمدُه أكملَ، وكلما نقصَ من صفاتِ كمالِه نقصَ من حمدِه

بحَسَبِها. ولهذا كانَ الحمدُ كلُّه للهِ حمدًا لا يحصِيهِ سِوَاهُ، لكمالِ صفاتِه وكثرتِها. ولأجلِ هذا لا يُحْصِي أحدٌ من خلقِه ثناءً عليه، لما له من صفاتِ الكمالِ، ونعوتِ الجلالِ التي لا يحصِيها سِوَاهُ. ومعلومٌ بالفِطَرِ والعقولِ السليمةِ والكُتُبِ السماويَّةِ: أنَّ فاقدَ صفاتِ الكمالِ لا يكونُ إلهًا، ولا مدبِّرًا، ولا ربًّا، بل هو مذمومٌ، معيبٌ ناقصٌ، ليسَ له الحمدُ، لا في الأولى ولا في الآخرةِ. وإنَّما الحمدُ في الأولى والآخرةِ لمن له صفاتُ الكمالِ، ونعوتُ الجلالِ، التي لأجلِها استحَقَّ الحمدَ. وكذلكَ حمدُه لنفسِه على عدمِ اتِّخَاذِ الولدِ المتضمِّنِّ لكمالِ صَمَدِيَّتِه وغِنَاه وملكِه، وتعبيدِ كلِّ شيءٍ له. فاتِّخَاذُ الولدِ يُنَافِي ذلكَ، كما قال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ} [يونس:68]. وحمدُ نفسِه على عدمِ الشريكِ، المتضمِّنِ تفرُّدِه بالربوبيَّةِ والإلهيَّةِ، وتوحُّدِه بصفاتِ الكمالِ التي لا يوصَفُ بها غيرُه، فيكونُ شريكًا له. فلو عَدِمَها لكانَ كلُّ موجودٍ أكملَ منه. لأنَّ الموجودَ أكملُ من المعدومِ. ولهذا لا يحمدُ نفسَه سبحانه بعدمٍ، إلا إذا كانَ متضمِّنًا لثبوتِ كمالٍ. كما حَمِدَ نفسَه بكونِه لا يموتُ لتضمُّنِه كمالَ حياتِه. وحَمِدَ نفسَه بكونِه لا تأخُذُه سنةٌ ولا نومٌ، لتضمُّنِ ذلك كمالَ قيوميَّتِه. وحَمِدَ نفسَه بأنَّه لا يعزُبُ عن علْمِهِ مثقالُ ذرةٍ في الأرضِ ولا في السماءِ، ولا أصغرُ من ذلك ولا أكبرُ، لكمالِ علمِه وإحاطتِه.

وحَمِدَ نفسَه بأنَّه لا يظلِمُ أحدًا، لكمالِ عدلِه وإحسانِه. وحَمِدَ نفسَه بأنَّه لا تدركُه الأبصارُ، لكمالِ عظمَتِه، يُرى ولا يُدْرَكُ، كما أنه يُعْلَمُ ولا يُحَاطُ به علمًا. فمجرَّدُ نفْيِ الرؤيةِ ليسَ بكمالٍ. لأنَّ العدمَ لا يُرى. فليسَ في كونِ الشيءٍ لا يُرَى كمالٌ ألبتةَ. وإنَّما الكمالُ في كونِه لا يحاطُ به رؤيةً ولا إدراكًا، لعظمَتِه في نفسِه، وتعلِّيهِ عن إدراكِ المخلوقِ له. وكذلكَ حَمِدَ نفسَه بعدمِ الغفلةِ والنسيانِ، لكمالِ علمِه. فكلُّ سَلْبٍ في القرآنِ حَمِدَ اللهُ به نفْسَه فلمضادَتِه لثبوتِ ضِدِّه، ولتضمُّنِه كمالَ ثبوتِ ضِدِّهِ. فعلمت أنَّ حقيقةَ الحمدِ تابعةٌ لثبوتِ أوصافِ الكمالِ، وأنَّ نفيَها نفيٌ لحمدِه، ونفيُ الحمدِ مستلزمٌ لثبوتِ ضدِّه (¬1). * * * ¬

(¬1) مدارج السالكين (1/ 26).

التفكر من طرق تعظيم الله تعالى

التفكرُ من طرقِ تعظيمِ اللهِ تعالى فمن تعظيمِ اللهِ تباركَ وتعالى: التفكرُ في آياتِه وآلائِه وبديعِ صُنْعِه كما قالَ تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]. قال ابنُ كثير رحمه الله: «ومعنى الآيةِ أن اللهَ تعالى يقولُ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هذه في ارتفاعِها واتساعِها، وهذه في انخفاضِها وكثافَتِها واتضاعِها، وما فيها من الآياتِ المشاهَدَةِ العظيمةِ من كواكبَ سياراتٍ، وثوابتَ وبحارٍ وجبالٍ وقفارٍ وأشجارٍ ونباتٍ، وزروعٍ وثمارٍ، وحيوانٍ ومعادنَ، ومنافعَ مختلفةِ الألوانِ والروائحِ والطعومِ والخواصِّ، {وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي تعاقُبُهما وتقارضُهما الطولَ والقِصَرَ، فتارةً يطولُ هذا ويقصُرُ هذا، ثم يعتدلانِ ثم يأخذُ هذا من هذا فيطولُ الذي كان قصيرًا، ويقصُرُ الذي كانَ طويلًا. وكلُّ ذلك تقديرُ العزيزِ العليمِ، ولهذا قال تعالى: {لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ} أي العقولِ التامةِ الذكيةِ التي تُدركُ الأشياءَ بحقائِقِها على جليَّاتِها، وليسُوا كالصُمِّ البُكْمِ الذين لا يعقلونَ، الذين قال الله فيهم: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:105 - 106]، ثم وصف تعالى أولي الألباب، فقال: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ}. كما ثبت في صحيحِ البخاريِّ عن عمرانَ بن حصينٍ: أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -

قال: «صلِّ قائمًا، فإن لم تستطعْ فقاعدًا، فإن لم تستطعْ فعلى جَنْبٍ» (¬1) أي لا يقطعونَ ذكرَه في جميعِ أحوالِهم بسرائرِهم وضمائرِهم وألسنتِهم، {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي يفهمونَ ما فيهما من الحِكَمِ الدالةِ على عظمةِ الخالقِ وقدرتِه وعلمِه وحكمتِه واختيارِه ورحمتِه. وقال الشيخُ أبو سليمانَ الدارانيُّ: إني لأخرجُ من منزلي فما يقعُ بصري على شيءٍ إلا رأيتُ للهِ عليَّ فيه نعمةً ولي فيه عبرةٌ. رواه ابنُ أبي الدنيا في كتابِ التوكلِ والاعتبارِ. وعن الحسنِ البصريِّ أنه قالَ: تفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من قيامِ ليلةٍ، وقال الفضيلُ: قال الحسنُ: الفكرةُ مرآةٌ تريك حسناتِك وسيئاتِك. وقال سفيانُ بن عيينةَ: الفكرةُ نورٌ يدخلُ قلبَك وربَّما تمثَّل بهذا البيتِ: إذا المرءُ كانت له فكرةٌ ... ففي كلِّ شيءٍ لهُ عبرةٌ وعن عيسى عليه السلام أنه قال: «طُوبى لمن كانَ قيلُه تذكُّرًا وصمتُه تفكرًا، ونظرُه عِبَرًا». قال لقمانُ الحكيمُ: «إن طولَ الوحدةِ ألهمُ للفكرةِ، وطولَ الفكرةِ دليلٌ على طرقِ بابِ الجنةِ». وقال وهبُ بنُ منبهٍ: «ما طالت فكرةُ امريءٍ إلا فَهِمَ، ولا فَهِمَ امرؤٌ قطُّ إلا عَلِمَ، ولا عَلِمَ امرؤٌ قطُّ إلا عَمِلَ». وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: «الكلامُ بذكرِ اللهِ عز وجل حسنٌ، والفكرةُ في نعمِ اللهِ أفضلُ العبادةِ». ¬

(¬1) رواه البخاري (1050)، وأبو داود (815).

وقال مغيثٌ الأسودُ: «زورُوا القبورَ كلَّ يومٍ تُفَكِّرُكم، وشاهدُوا الموقفَ بقلوبِكم، وانظرُوا إلى المنصرفِ بالفريقينِ إلى الجنةِ أو النارِ، وأشعِرُوا قلوبَكم وأبدانَكُم ذكرَ النارِ ومقامِعَها وأطباقَها». وعنِ ابن عباسٍ أنه قال: «ركعتانِ مقتصدتانِ في تفكرٍ، خيرٌ من قيامِ ليلةٍ والقلبُ ساهٍ». وقال الحسنُ البصريُّ: «يا ابنَ آدمَ، كلْ في ثلثِ بطنِك، واشربْ في ثلثِه، ودعْ ثلثَه الآخرَ تتنفسُ للفكرةِ». وقال بعضُ الحكماءِ: «من نظرَ إلى الدنيا بغيرِ العبرةِ، انطمس من بصرِ قلبِه بقدرِ تلك الغفلةِ». وقال بشرُ بنُ الحارثِ الحافي: «لو تفكَّر الناس في عظمةِ اللهِ تعالى لما عَصَوْهُ». وقال الحسنُ عن عامرِ بنِ عبدِ قيسٍ، قال: «سمعتُ غيرَ واحدٍ ولا اثنينِ ولا ثلاثةٍ من أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يقولونَ: إن ضياءَ الإيمانِ أو نورَ الإيمانِ التفكُّرُ». وعن عيسى عليه السلام أنه قال: «يا ابنَ آدمَ الضعيفَ اتقِ اللهَ حيثما كنتَ، وكن في الدنيا ضيفًا، واتخذ المساجدَ بيتًا، وعلِّم عينَيْك البكاءَ، وجسدَك الصبْرَ، وقلبَكَ الفِكْرَ، ولا تهتمّ برزقِ غدٍ». وعن أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، أنه بكى يومًا بين أصحابِه، فسُئل عن ذلك، فقال: «فكرتُ في الدنيا ولذاتِها وشهواتِها، فاعتبرتُ منها

بها، ما تكادُ شهواتُها تنقضي حتى تكدِّرَها مرارتُها، ولئن لم يكن فيها عبرةٌ لمن اعتبر إنَّ فيها مواعظَ لمن ادَّكَرَ». وقال ابنُ أبي الدنيا: «أنشدني الحسين بن عبد الرحمن: نزهةُ المؤمنِ الفِكَر ... لذةُ المؤمنِ العِبَر نحمدُ اللهَ وحدَه ... نحنُ كلٌّ على خَطَر ربَّ لاهٍ وعمرُه ... قد تقضَّى وما شَعَر رُبَّ عيشٍ قد كان فو ... قَ المنى مونَقَ الزَّهَر في خريرٍ من العُيو ... نِ وظلٍ من الشَّجَر وسرورٍ من النَّبَا ... تِ وطيبٍ من الثَمَر غيَّرتْه وأهلَه ... سرعةُ الدهرِ بالغِيَر نحمدُ الله وحدَه ... إن في ذا لمعتَبَر إنَّ في ذا لعِبْرةٌ ... للَّبيبِ إن اعتَبَر وقد ذم الله تعالى من لا يعتبرُ بمخلوقاتِه الدالةِ على ذاتِه وصفاتِه وشرعِه وقدرِه وآياتِه، فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:105 - 106]، ومدح عبادَه المؤمنينَ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} قائلين: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} أي ما خلقْتَ هذا الخلقَ عبثًا، بل بالحقِّ لتجْزِيَ الذين أساؤوا

بما عمِلوا، وتجزي الذين أحسَنوا بالحسْنى، ثم نَزَّهُوهُ عن العبثِ وخلقِ الباطلِ، فقالوا: {سُبْحَانَكَ} أي عن أن تخلقَ شيئًا باطلًا {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أي يا من خلق الخلقَ بالحقِّ والعدلِ، يا من هو منزَّهٌ عن النقائصِ والعيبِ والعبثِ. قِنَا من عذابِ النارِ بحولِك وقوتِك وقَيِّضْنَا لأعمالٍ ترضَى بها عنا. ووفِّقْنَا لعملٍ صالحٍ تهدينا به إلى جناتِ النعيمِ، وتجيرنا به من عذابِك الأليم» (¬1). * * * ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (1/ 570 - 572) باختصار.

وفي أنفسكم أفلا تبصرون

وفي أنفسِكم أفلا تُبصرون تفكَّرْ في نفسِك أيُّها الإنسانُ .. أين كنتَ؟ وكيف جئتَ؟ ومم خلقتَ؟ قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مّن طِينٍ* ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ* ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمّ أَنشَانَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:12 - 16]. فالإنسانُ إذا تفكَّر بعقلِه في نفسِه رآها مدبَّرةً وعلى أحوالٍ شتَّى مُصَرَّفة .. كان نطفةً، ثم علقةً، ثم مضغةً، ثم لحمًا وعظمًا .. فيعلمُ ـ بهذا الفكرِ ـ أنه لم ينتقِلْ من حالِ النقصِ إلى حالِ الكمالِ، لأنَّه لا يقدرُ على أن يحدثَ لنفسِه في الحالٍ الأفضلِ التي هي كمالُ عقلِه وبلوغِ أشدِّه عُضْوًا من الأعضاءِ، ولا يمكنُه أن يزيد في جوارحِه جارحةً، فيدلُّه ذلك على أنه في حالِ نقصِه وأوانِ ضعفِه على فِعل ذلك أعجزُ. وقد يرى نفسَه شابًّا ثم كهلًا، ثم شيخًا وهو لم ينقِلْ نفسَه من حالِ الشبابِ والقوةِ إلى حالِ الشيخوخةِ والهرمِ، ولا اختارَه لنفسِه، ولا في وُسْعِه أن يزايلَ حالَ المشيبِ ويراجعَ قوةَ الشبابِ. فيعلمُ بذلك أنه ليس هو الذي فعلَ تلكَ الأفعالَ بنفسِه، وأنَّ له صانعًا صنَعَه، وناقلًا نَقَلَهُ من حالٍ إلى حالٍ، ولولا ذلك لم تتبدلْ أحوالُه بلا ناقلٍ ولا مدبرٍ.

وقالَ بعضُ الحكماءِ: إن كلَّ شيءٍ في العالمِ الكبيرِ له نظيرٌ في العالمِ الصغيرِ الذي هو بدنُ الإنسانِ ولذلك قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذرايات:21]. • والسمعُ والبصرُ منها بمنزلةِ الشمسِ والقمرِ في إدراكِ المدركاتِ بها. • وأعضاؤُه تصيرُ عند البِلى ترابًا من جنسِ الأرضِ. • وفيه من جنسِ الماءِ العرقُ وسائرُ رطوباتِ البدنِ. • ومن جنسِ الهواءِ فيه الروحُ والنفسُ. • ومن جنسِ النارِ فيه المرةُ الصفراءُ. • وعروقُه بمنزلةِ الأنهارِ في الأرضِ. • وكَبِدُه بمنزلةِ العيونِ التي تستمدُّ منها الأنهارُ لأن العروقَ تستمدُّ من الكبدِ. • ومثانَتُه بمنزلةِ البحرِ؛ لانصبابِ ما في أوعيةِ البدنِ إليها، كما تنصبُّ الأنهارُ إلى البحرِ. • وعظامُه بمنزلةِ الجبالِ التي هي أوتادُ الأرضِ. • وأعضاؤُه كالأشجارِ، فكما أنَّ لكلِّ شجرةٍ ورقًا وثمرًا، فَلِكُلِّ عضوٍ فعلٌ أو أثرٌ. • والشعرُ على البدنِ بمنزلةِ النباتِ والحشيشِ على الأرضِ.

• ثمَّ إنَّ الإنسانَ يحكي بلسانِه كلَّ صوتِ حيوانٍ، ويحاكِي بأعضائِه صنعَ كلِّ حيوانٍ. فهو العالمُ الصغيرُ مع العالمِ الكبيرِ، مخلوقٌ مُحدَثٌ لصانعٍ واحدٍ لا إلهَ إلا هُو (¬1). قال قتادةُ في قولِه تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} قالَ: «من تفَكَّرَ في نفسِه علِمَ أنَّه خُلِقَ ليَعْبُدَ اللهَ»، وقال ابنُ الزبيرِ ومجاهدٌ: «المرادُ: سبيلُ الخلاءِ والبولِ». وقال السائبُ بنُ شريكٍ: «يأكلُ ويشربُ من مكانٍ واحدٍ ويُخْرِجُ من مكانينِ». ولو شَرِبَ لبنًا محضًا لخرجَ منه الماءُ ومنهُ الغائطُ. وقال ابنُ زيدٍ: «المعنى أنَّه خلقَكُم من ترابٍ وجعلَ لكمُ السمعَ والأبصارَ والأفئدةَ {ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:20]». وقال السدِّيُّ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} أي: «في حياتِكُم وموتِكم وفيما يدخلُ ويخرجُ من طعامِكم». وقال الحسنُ: «في الهرمِ بعدَ الشبابِ، والضعفِ بعدَ القوَّةِ، والشيبِ بعدَ السوادِ». وقيلَ المعنى: وفي خلقِ أنفسِكم من نطفةٍ وعلقةٍ ومُضْغةٍ ولحمٍ وعظمٍ إلى نفخِ الروحِ، وفي اختلافِ الألسنةِ والألوانِ والصورِ إلى غيرِ ذلكَ من ¬

(¬1) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/ 202).

الآياتِ الباطنةِ والظاهرةِ، وحسبُكَ بالقلوبِ وما ركَزَ فيها من العقولِ، وما خُصَّت به من أنواعِ المعاني والفنونِ، وبالألسنِ والنطقِ ومخارجِ الحروفِ، والأبصارِ والأطرافِ، وسائرِ الجوارحِ، وتأتيها لما خُلقتْ له، وما سوَّى في الأعضاءِ من المفاصلِ للانعطافِ والتثَنِّي {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، وقوله: {أَفَلا تُبْصِرُونَ} يعني بَصَرَ القلبِ، ليعرِفُوا كمال قدرة الخالق (¬1). أراد رجلٌ أن يحاججَ الإمامَ عليًّا رضي الله عنه فوقفَ وقال: «يا عليّ! إني سائلُك .. فقال الإمام: سلْ تفقهًا ولا تسأل تعنُّتًا. فقالَ الرجلُ: أنت حَمَلْتني على ذلك ثم قال: هل رأيتَ ربَّك يا عليّ؟ قال: ما كنتُ أعبد ربًّا لم أرَه! فقال الرجلُ: كيف رأيته؟ قال: لم تَرَهُ العيونُ بمشاهدةِ العيانِ، ولكن رأتْه القلوبُ بحقيقةِ الإيمانِ، ربي واحدٌ لا شريكَ له، أحدٌ لا ثانيَ له، فردٌ لا مِثلَ له، لا يحويه مكانٌ، ولا يداولُه زمانٌ، لا يُدْرَكُ بالحواسِّ، ولا يُقَاسُ بالقِيَاسِ» (¬2). قال عليّ رضي الله عنه: دواؤُك فيكَ وما تبصرُ ... وداؤُك منكَ وما تشعرُ وتزعمُ أنَّك جرمٌ صغيرٌ ... وفيكَ انطَوَى العالمُ الأكبرُ فمن تأمل في ذاتِه، وتفكَّرَ في صفاتِه ظهرت له عظمةُ باريه، وآياتُ مُبْدِيه .. ¬

(¬1) انظر: المصدر السابق (17/ 40). (¬2) تفسير روح البيان (9/ 128).

فسبحانه من ربٍّ لا يُضَاهَى، ومنانٍ لا يُحصَى كرمُهُ ولا يتناهى، ونحن في تيارِ بحرِ جودِه سابحونَ، وعن إقامةِ مراسمِ شُكْرِهِ قاصرونَ. وما أحسنَ قولَ بعضِ العارفينَ: أنه تعالى يملكُ عبادًا غيرَك، وأنت ليس لك ربٌّ سواه ثم إنك تتساهلُ في خدمَتِهِ، والقيامِ بوظائفِ طاعتِهِ، كأنَّ لك ربًّا بل أربابًا غيرَه، وهو سبحانه يعتني بتربيتِك حتى كأنه لا عبدَ له سواك، فسبحانَه ما أتمَّ تربيتَه، وأعظمَ رحمتَه (¬1). إليك إلهَ الخلقِ أرفعُ رغبتي ... وإن كنتُ ياذا المنِّ والجودِ مجرمًا ولما قَسَا قلبي وَضَاقَتْ مذَاهبي ... جعلتُ الرَّجا مِني لعفوكَ سُلَّمًا تعاظَمَنِي ذنبي فلما قرنتُه ... بعفْوِكَ ربِّي كان عفوُكَ أعظَمَا وما زلتَ ذا عفوٍ عن الذنبِ لم تَزَلْ ... تجُودُ وتعفُو مِنَّةً وتكرُّما ولولاكَ لم يصمدْ بإبليسَ عابدٌ ... فكيفَ وقد أغْوَى صفيَّكَ آدمَا فيا ليتَ شِعْرِي هل أصيرُ لجنةٍ ... فَأَهْنَا وأما للسعيرِ فأنْدَمَا وإني لآتِي الذنبَ أعرفُ قدرَه ... وأعلمُ أن اللهَ يعفُو ويرحَمَا فإن تعفُ عني تعفُ عن متمردٍ ... ظلُومٍ غشُومٍ لا يزايلُ ماثَمًا وإن تنتقِمْ مني فلستُ بآيسٍ ... ولو أُدْخِلَتْ نفسي بجُرمي جهنَّمَا * * * ¬

(¬1) (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني) لأبي الفضل محمود الألوسي.

عناية الله بالإنسان

عنايةُ اللهِ بالإنسانِ جاء في بعضِ الآثارِ: يا ابن آدم! أنَّى تعجزُني وقد خلقتُك من نطفةٍ، ثم من علقةٍ، ثمَّ من مضغةٍ، ثم نفختُ فيك الروحَ، وجعلتُ لك مُتَّكأً عن يمينِك، ومتَّكأً عن شمالِك. فالذي عن يمينِك الكبدُ، والذي عن شمالِك الطحالُ، وجعلتُ وجهك إلى ظهرِ أمِّك حتى لا تفزَعَ من الرَّحِمِ، وغشَّيتُ وجهَك بغشاءٍ حتى لا تؤذيكَ رائحةُ الطعامِ، ورزقتُك وأنتَ في بطنِ أمِّك. حتى إذا جاءَ وقتُ خروجِك إلى الدنيا، أمرتُ الملكَ الموكَّلَ، فأخرجَك إلى الأرضِ، ليسَ لكَ يدٌ تبطِشُ، ولا رِجْلٌ تسعَى بها، ولا سنٌّ يقطَعُ. وأنبتُّ لك في صَدْرِ أمِّك عرقَيْنِ رقيقينِ يُغَذِّيَانِكَ بلبنٍ سائغٍ، باردٍ في الصيفِ، دافئٍ في الشتاءِ. وقذفتُ محبَّتَك في قلبِ والدَيْكَ، فلا يأكلانِ حتى تأكلَ، ولا يشربانِ حتى تشربَ، ولا يرقدانِ حتى ترقدَ، حتى إذا اشتدَّ عودُك، وقَوِيَ جسمُك بارَزْتَني بالمعاصي، ولم تستحِ منِّي! ومعَ ذلك إن تبتَ إليَّ قبلتُك، وإن سألتَنِي أعطيتُك، وإن استَغْفَرْتَنِي غفرتُ لكَ، وأنا الرحمنُ الرحيمُ. {أَوَلَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ* وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم} [يس:77 - 79]. عن بُسرِ بن جِحَاشٍ القرشيِّ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بزقَ يومًا في كفِّهِ، فوضَع عليها أصبعَه، ثم قالَ: «قالَ اللهُ: ابنَ آدمَ! أنَّى تُعجِزُنِي، وقد خلقْتُك من مثلِ هذه .. حتى إذا سوَّيتُك وعدَّلتُك مشيتَ بين بردين، وللأرضِ منك وئيدٌ،

فجَمعتَ ومنعتَ .. حتى إذا بلغَتِ التراقِيَ قلتَ: أتصدَّقُ، وأنَّى أوانُ الصدقةِ» [رواه أحمد]. قال ابنُ الجوزيِّ: «وجميعُ الموجوداتِ من آثارِ قدرتِه .. وأعجبُ آثارِ الآدميّ، فإنك إذا تفكرتَ في نفسِك كَفَى، وإذا نظرتَ في خلقِك شَفَى! أليس قد فعلَ في قطرةٍ من ماءٍ ما لو انقَضَتِ الأعمارُ في شرحِ حكمَتِه ما وفَّتْ؟ كانتِ النقطةُ مغموسةً في دمِ الحيضِ ومقياسُ القدرةِ يشقُّ السَّمْعَ والبصرَ! خلق منها ثلاثمائةٍ وستينَ عظمًا، وخمسمائةٍ وتسعًا وعشرينَ عَضَلَةً، كلٌّ من ذلك تحتَه حكمةٌ. فالعينُ سبعُ طبقاتٍ، وأربعةٌ وعشرينَ عضلةً لتحريكِ حَدَقَةِ العينِ وأجفانِها، لو نُقِصَتْ منها واحدةٌ لاختلَّ الأمرُ. وأظهرَ في سوادِ العينِ على صِغَرِه صورةَ السماءِ مع اتساعِها. وخالفَ بينَ أشكالِ الحناجرِ في الأصواتِ. وسخَّر المعدةَ لإنضاجِ الغذاءِ. والكبدَ لإحالتِه إلى الدمِ. والطحالَ لجذبِ السوداءِ. والمرارةَ تناولُ الصفراءَ كلَّها.

والعروقَ كالخدمِ للكبدِ، تنفذُ منها الدماءُ إلى أطرافِ البدنِ. فيا أيُّها الغافلُ! ما عندكَ خبرٌ منك، فما تعرفُ من نفسِكَ إلا أن تجوعَ فتأكلَ، وتشبعَ فتنامَ، وتغضبَ فتخاصِمَ، فبماذَا تميزتَ على البهائمِ؟!

انظر حولك .. تأملات في الكون والآفاق

انظر حولَك .. تأملاتٌ في الكونِ والآفاقِ ارفعْ بصرَ فِكْرِكَ إلى عجائبِ السمواتِ، فتلمَّح الشمسَ في كلِّ يومٍ في منزلٍ، فإذا انخفَضَتْ بَرَدَ الهواءُ وجاءَ الشتاءُ، وإذا ارتفَعَتْ قَوِيَ الحرُّ، وإذا كانت بين المنزلتينِ اعتدلَ الزمانُ. ثم اخفِضْ بَصَرَكَ إلى الأرضِ، ترى فِجَاجَها مذلَّلةً للتسخيرِ، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15]، وتفكَّروا في شُربِها بعد جَدْبِها بكأسِ القطرِ. وتلمَّحْ خروجَ النباتِ يرفُلُ في ألوانِ الحُللِ على اختلافِ الصورِ والطعومِ والأراييحِ. وانظرْ كيفَ نَزَلَ القطرُ إلى عِرقِ الشَّجَرِ، ثم عاد ينجذبُ إلى فروعِها، ويجري في تجاويفِها بعروقٍ لا تفتقِرُ إلى كُلْفَةٍ. فلا حظَّ للغافلِ في ذلك إلا سماعُ الرعدِ بأذنِه، ورؤيةِ النباتِ والمطرِ بعينيه .. كلا! لو فُتح بصرُ البصيرةِ لقرأَ على كلِّ قطرةٍ خطًّا بالقلمِ الإلهِيِّ: أنَّها رزقُ فلانٍ في وقتِ كذا!! ثم انظُرْ إلى المعادنِ لحاجاتِ الفقيرِ إلى المصالحِ، فمنها مودعٌ كالرصاصِ والحديدِ، ومنها مصنوعٌ بسببِ غيرِه كالأرضِ السبخةِ، يُجمعُ فيها ماءُ المطرِ فيصيرُ مِلْحًا. وانظرْ إلى انقسامِ الحيواناتِ ما بين طائرٍ وماشٍ وإلهامِها ما يُصلِحُها. وانظرْ إلى بُعْدِ ما بين السماءِ والأرضِ، كيف ملأَ ذلكَ الفراغَ هواءً، لتستنشقَ منه الأرواحُ، وتَسْبَحَ الطير في تيَّارِه إذا طارَتْ.

وانظرْ بفكرِك إلى سَعَةِ البحرِ وتسخيرِ الفُلكِ فيه، وما فيه من دابةٍ. قال يحيى بنُ أبي كثيرٍ: خلقَ اللهُ ألفَ أمةٍ، فأسْكَنَ ستمائةٍ في البحرِ، وأربعمائةٍ في البرِّ. واعجبًا لك! لو رأيتَ خطًّا مستحسَنَ الرَّقْمِ، لأدرَكَك الدهشُ من حكمةِ الكاتبِ، وأنت تَرَى رقومَ القدرةِ ولا تعرفُ الخالقَ، فإن لم تَعْرِفْهُ بتلك الصنعةِ، فتَعَجَّبْ كيف أعْمَى بصيرتَك مع رؤيةِ بصرِك! (¬1). فسبحانَك يا ربَّنا .. يا من سبحتْ له الكائناتُ .. وسجدَ له الصخرُ والنباتُ .. وتدكدَكَتْ لخشيتِه الجبالُ الراسياتُ .. ويهتفُ حمدًا جمالُ الصباحِ ... وسِحرُ الربيعِ الشهيُّ العَطِر وسِحْرُ السماء الشَّحيُّ الوديعُ ... وهمسُ النسيمِ ولحنُ المَطَر تُسبِّحُه نغماتُ الطيورِ ... يُسبِّحُه الظلُّ تحتَ الشَّجَر يُسبِّحه النبعُ بين المروجِ ... يسبِّحُ دومًا أريجُ الزَّهَر يسبِّحه النورُ بين الغصونِ ... وسِحْرُ المساءِ وضوءُ القَمَر قال الإمامُ ابنُ الجوزيِّ: عَرض لي في طريقِ الحجِّ خوفٌ من العربِ، فَسِرْنَا على طريقِ خيبرٍ، فرأيتُ من الجبالِ الهائلةِ والطرقِ العجيبةِ ما أذهَلَنِي .. وزادتْ عظمةُ الخالقِ عز وجل في صَدْرِي، فصارَ يعرِضُ لي عند ذكرِ تلك الطرقِ نوعُ تعظيمٍ لا أجدُه عند ذكرِ غيرِهَا. ¬

(¬1) انظر: التبصرة لابن الجوزي (/59 - 61).

فصحتُ بالنفسِ: ويحكِ! اعبُرِي إلى البحرِ، وانظري إليه وإلى عجائِبِه بعينِ الفكْرِ، تُشاهدِي أهوالًا هي أعظمُ من هذه .. ثم اخرُجي عن الكونِ، والتفتي إليه، فإنكِ ترينَه بالإضافةِ إلى السمواتِ والأفلاكِ كذرَّةٍ في فلاةٍ .. ثم جُولي في الأفلاكِ .. وطوفي حولَ العرشِ .. وتلمَّحِي ما في الجنانِ والنيرانِ .. ثم اخرُجِي عن الكلِّ والتَفِتِي إليه .. فإنكِ تشاهدينَ العالَمَ في قبضةِ القادرِ الذي لا تَقِفُ قدرَتُه عندَ حدٍّ .. ثم التفِتِي إليكِ .. فتلمَّحِي بدايتكِ ونهايتَكِ .. وتفكَّرِي فيما قبل البدايةِ وليس إلا العدمُ .. وفيما بعدَ البِلَى وليس إلا الترابُ!! فكيف يأنسُ بهذا الوجودِ من نَظَرَ بعينِ فكرِهِ المبدأَ والمنتَهَى؟ وكيف تغفلُ القلوبُ عن ذكرِ هذا الإلهِ العظيمِ؟ باللهِ لو صَحَّت النفوسُ عن سُكْرِ هواها لذابتْ من خوفِه .. أو لغابَتْ في حبِّه .. غيرَ أنَّ الحسَّ غَلَبَ .. فعظُمَتْ قدرةُ الخالقِ عندَ رؤية جبلٍ .. وإن الفطنةَ لو تلمَّحتْ المعانِيَ لدلَّت القدرةُ عليه أوفى من دليلِ الجبلِ. فسبحانَ من شغلَ أكثرَ الخلقِ بما هم فيه عما خُلِقوا له .. سبحانَه» [صيد الخاطر]. الفجرُ بدَّده الضحى وعلى الضحى شدَّ الأصِيل والليلُ يدنو زحفُه فكأنما انَهَمَرَتْ سُيُول أرخَى على الدنيا دُجَاهُ فعمَّ في الدنيا الذُّهُول الصمتُ لوَّن هذه الدنيا وغطَّاها خُمُول والريحُ أعياها السُّرى والبدرُ من ضعفٍ خَجُول

ونظرتُ من يَحْمِي الأنامَ وعزَّ في الناسِ السبيلُ! ونظرتُ من للنَّجْمِ يُمْسِكُه فلا يخشَى أُفُول!! ونظرتُ ثم نظرتُ ثم رأيتُ كم حَارَتْ عُقُول ونَظَرْتُ ثم نَظَرْتُ يا سبحانَ ربِّي ما أقُول وضحَ الدليلُ وغابَ عنا أنه وَضَحَ الدَّلِيل ولربما تَحْوِي يَدِي وأنا بما تَحْوِي جَهُول!! ذكر الحافظُ ابنُ رجبٍ عن بعضِ السلفِ أنه قرأَ في بعض الكتب المنزلةِ: «يقولُ اللهُ عز وجل: يؤمَّلُ غيري للشدائدِ .. والشدائدُ بيدِي .. وأنا الحيُّ القيومُ .. ويُرجَى غيري .. ويُطرقُ بابُه بالبُكرَاتِ! وبيدي مفاتيحُ الخزائنِ .. وبابي مفتوحٌ لمن دعاني!! من ذا الذي أمَّلني لنائبةٍ فقطعتُ به .. أو من ذا الذي رَجَاني لعظيمٍ فَقَطَعْتُ رَجَاءَه!! .. ومن ذا الذي طرقَ بابي فلم أَفْتَحْ له؟ أنا غايةُ الآمالِ .. فكيف تَنْقِطُعُ الآمالُ دوني؟! أبخيلٌ أنا؟ فيبخِّلُني عَبْدِي!! أليس الدنيا والآخرةُ والكرمُ والفضلُ كلُّه لي؟! فما يمنعُ المؤمِّلينَ أن يؤمّلوني؟!

لو جمعتُ أهلَ السمواتِ وأهلَ الأرضِ .. ثم أعطيتُ كلَّ واحدٍ منهم ما أعطيتُ الجميعَ .. وبلّغتُ كلَّ واحدٍ منهم أمَلَه .. لم يُنْقِصْ ذلك من مُلكي ذرةً .. وكيف يَنْقُصُ مُلكٌ أنا قيّمُهُ؟! فيا بؤسًا للقَانِطِينَ من رَحْمَتِي!! ويا بؤسًا لمن عَصَاني .. وتوثَّب على مَحَارِمي!! * * *

تعظيم الله تعالى من خلال أسمائه وصفاته

تعظيمُ اللهِ تعالى من خلالِ أسمائِه وصفاتِه لا شكَّ أنَّ من أعظمِ أسبابِ تعظيمِ الله سبحانه وتعالى: تدبُّرُ معانِي أسمائِهِ الحسْنَى وما تدلُّ عليه من صفاتٍ وما توجِبُهُ من آثارٍ عظيمةٍ، ولذلكَ نَبَّهَ اللهُ سبحانه وتعالى على التأمُّلِ والتدبُّرِ في تلكَ الآثارِ فقالَ في صفةِ «الرحمةِ»: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50]. فإذا جَهِلَ الإنسانُ معانِيَ تلكَ الأسماءِ الحسْنَى، وجَهِلَ ما تدلُّ عليه من صفاتٍ، كيفَ له أن يَعْرِفَ آثارَ هذهِ الأسماءِ ويَنْتَفِعَ بها فقد قال سبحانه: {قلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، وقال: {ولِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]. والدعاءُ هنا يَتَضَمَّنُ نوعينِ: أولًا: دعاءُ المسألةِ والطلبِ: وذلك بأن تُقَدِّمَ بين يَدَيْ دعائِك من أسماءِ اللهِ ما يكونُ مناسبًا للمطلوبِ، كما قال ابنُ القيمِ: يسألُ في كلِّ مطلوبٍ بما يكونُ مقتضيًا لذلك المطلوبِ، فيكونُ السائلُ متوسِّلًا إليه بذلك الاسمِ، ومن تأمَّلَ أدعيةَ الرسلِ وجدَها مطابقةً لهذا. ثانيًا: دعاءُ الثناءِ والعبادةِ: وذلكَ بأنْ تُمَجِّدَهُ وتُثْنِيَ عليه بأسمائِهِ الحسْنَى وأن تَتَعَبَّدَ للهِ تعالَى بمقتَضَى هذهِ الأسماءِ.

ولا شكَّ أن الجهلَ بمعانِي هذه الأسماءِ الحسْنَى يمْنَعُ من الانتفاعِ بها في هذا البابِ. وقدْ أكثرَ الإمامُ ابنُ القيمِ وأطابَ في ذكرِ معانِي أسماءِ اللهِ الحسْنَى، وتَبِعَهُ في ذلكَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ بنِ سَعْدِيٍّ رحمهما الله (¬1)، وكان مما قالا: * * * ¬

(¬1) انظر: (ص:130) من هذا الكتاب.

نظرات في الأسماء والصفات وآثارها

نظراتٌ في الأسماءِ والصفاتِ وآثارِها قال ابنُ القيمِ عن هذا المشهدِ: «وهو من أجلِّ المشاهدِ. والمطَّلِعُ على هذا المشهدِ: معرفةُ تعلقِ الوجودِ خلقًا وأمرًا بالأسماءِ الحُسْنَى، والصفاتِ العُلَى، وارتباطُه بها. وإن كان العَالَم ـ بما فيه ـ من بعضِ آثارِها ومقتضياتِها. وهذا من أجلِّ المعارفِ وأشرفِها، وكلُّ اسمٍ من أسمائِه سبحانَه له صفةٌ خاصَّةٌ. فإن أسماءَه أوصافُ مدحٍ وكمالٍ. وكلُّ صفةٍ لها مقتضَىً وفِعْلٌ: إمَّا لازمٌ وإما مُتَعَدٍّ، ولذلكَ الفعلِ تعلُّقٌ بمفعولٍ هو من لوازِمِهِ. وهذا في خلقِهِ وأمرِهِ، وثوابِهِ وعقَابِهِ. كلُّ ذلكَ آثارُ الأسماءِ الحسنَى وموجِبَاتُها. ومن المحالِ تعطيلُ أسمائِه عن أوصافِها ومعانِيها، وتعطيلُ الأوصافِ عما تقتضِيهِ وتستَدْعِيه من الأفعالِ، وتعطيلُ الأفعالِ عن المفعولاتِ، كما أنه يستحيلُ تعطيلُ مفعولِه عن أفعالِه وأفعالِه عن صفاتِه، وصفاتِه عن أسمائِه. وتعطيلُ أسمائِه وأوصافِه عن ذاتِه. وإذا كانتْ أوصافُه صفاتِ كمالٍ، وأفعالُه حكمًا ومصالحَ، وأسماؤُه حُسْنَىً: ففرضُ تعطيلِها عن موجباتِها مستحيلٌ في حقِّه. ولهذا ينكرُ سبحانه على من عطَّلَهُ عن أمرِه ونهيِه، وثوابِه وعقابِه، وأنه

بذلكَ نسبَهُ إلى ما لا يليقُ به وإلى ما يتنزَّهُ عنه، وأنَّ ذلكَ حُكْمٌ سيِّئٌ ممن حكمَ به عليه، وأنَّ من نسَبَه إلى ذلكَ فما قدَرَهُ حقَّ قَدْرِه، ولا عظَّمَهُ حقَّ تعظِيمِه، كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام:91]، وقال تعالى في حقِّ مُنْكِرِي المعادِ والثوابِ والعقابِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، وقالَ في حقِّ من جَوَّزَ عليهِ التسويةَ بينَ المختلفَيْنِ، كالأبرارِ والفجارِ، والمؤمنينَ والكفارِ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، فأخبرَ أنَّ هذا حكمٌ سيَّئٌ لا يليقُ به، تَابَاهُ أسماؤُه وصفاتُه. وقال سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ*فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116]، عن هذا الظنِّ والحسبانِ، الذي تَابَاهُ أسماؤُه وصفاتُه. ونظائرُ هذا في القرآنِ كثيرةٌ. يَنْفِي فيها عن نفسِهِ خلافَ موجبِ أسمائِه وصفاتِه. إذ ذلك مستلزمٌ تعطيلَها عن كمالِها ومقتضياتِها. فاسمُهُ (الحميدُ، المجيدُ) يمنعُ تركَ الإنسانِ سُدًى مُهملًا معطَّلًا، لا يُؤمرُ ولا يُنهَى. ولا يثابُ ولا يعاقبُ. وكذلك اسمُه (الحكيمُ) يأبَى ذلكَ. وكذلكَ اسمُه (الملكُ) واسمُه (الحيُّ) يمنعُ أنْ يكونَ معطَّلًا من الفعلِ. بلْ حقيقةُ (الحياةِ) الفعلُ. فكلُّ حيٍّ فعَّالٌ. وكونُه سبحانَهَ (خالقًا قيومًا) من موجباتِ حياتِه ومقتضياتِها.

واسمُه (السميعُ البصيرُ) يوجبُ مسموعًا ومرئيًا. واسمُهُ (الخالقُ) يقتضِي مخلوقًا. وكذلكَ (الرزَّاقُ). واسمُهُ (المَلِكُ) يقتضي مملكةً وتصرُّفًا وتدبيرًا، وإعطاءً ومنعًا، وإحسانًا وعدْلًا، وثوابًا وعقابًا. واسمُهُ (البَرُّ المُحسنُ، المُعطِي، المنَّانُ) ونحوُها تقتضِي آثارَهَا وموجباتِها. إذا عُرِفَ هذا. فمن أسمائِه سبحانَهُ (الغفَّارُ، التوَّابُ، العفُوُّ) فلا بدَّ لهذه الأسماءِ من متعلقاتٍ، ولا بدَّ من جنايةٍ تُغْفَرُ، وتوبةٍ تُقْبَلُ، وجرائمَ يُعْفَى عنها. ولا بدَّ لاسمِهِ (الحكيمِ) من متعلَّقٍ يظهرُ فيه حُكمُهُ، إذ اقتضاءُ هذه الأسماءِ لآثارِها كاقتضاءِ اسمِ (الخالقِ، الرزَّاقِ، المعطِي، المانعِ) للمخلوقِ والمرزوقِ والمعطى والممنوعِ. وهذه الأسماءُ كلُّها حسْنَى. والربُّ تعالى يحبُّ ذاتَه وأوصافَه وأسماءَه. فهو عَفُوٌّ يُحِبُّ العفوَ، ويحبُّ المغفرةَ، ويحبُّ التوبةَ، ويفرحُ بتوبةِ عبدِه حينَ يتوبُ إليهِ أعظَمَ فَرَحٍ يخطُرُ بالبالِ. وكان تقديرُ ما يغفِرُه ويعفُو عن فاعِلِه، ويحلمُ عنه، ويتوبُ عليه ويسامِحُه: من موجبِ أسمائِه وصفاتِه، وحُصولُ ما يحبُّه ويرضَاهُ من ذلك. وما يحمدُ به نفسَه، ويحمَدُه به أهلُ سمواتِه وأهلُ أرضِه: ما هو من موجباتِ كمالِه ومقتَضَى حمدِه. وهو سبحانَه: (الحميدُ المجيدُ) وحمدُه ومجدُه يقتضِيَانِ آثارَهُمَا.

ومن آثارِهِمَا: مغفرةُ الزلَّاتِ، وإقالَةُ العَثَرَاتِ، والعَفْوُ عن السيئاتِ، والمسامحةُ على الجناياتِ، مع كمالِ القدرةِ على استيفاءِ الحقِّ، والعلمُ منه سبحانه بالجنايةِ ومقدارِ عقوبَتِها، فحِلمُهُ بعدَ علمِهِ، وعفوُهُ بعدَ قدرَتِهِ، ومغفرَتُهُ عن كمالِ عزَّتِهِ وحكمَتِهِ، كما قال المسيح عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، أي فمغفرتُك عن كمالِ قدرتِكَ وحكمتِكَ، لستَ كمن يغفرُ عَجْزًا، ويسامحُ جَهْلًا بقدرِ الحقِّ، بلْ أنت عليمٌ بحقِّكَ، قادرٌ على استيفائِه، حكيمٌ في الأخذِ به. فمن تأملَ سريانَ آثارِ الأسماءِ والصفاتِ في العالمِ، وفي الأمرِ، تبيَّنَ له أن مصدرَ قضاءِ هذه الجناياتِ من العبيدِ، وتقديرَها: هو من كمالِ الأسماءِ والصفاتِ والأفعالِ. وغاياتُها أيضًا: مقتَضَى حمدِه ومجدِه، كما هو مقتَضَى ربوبيَّتِهِ وإلهيَّتِهِ. فله في كلِّ ما قَضَاهُ وقَدَّرَهُ الحكمةُ البالغةُ، والآياتُ الباهرةُ، والتعرفاتُ إلى عبادِه بأسمائِه وصفاتِه، واستدعاءُ محبتِهم له، وذكرِهم له، وشكرِهم له، وتعبدِهم له بأسمائِه الحُسْنَى. إذ كلُّ اسمٍ فله تعبُّدٌ مختصٌّ به، علمًا ومعرفةً وحالًا. وأكملُ الناسِ عُبوديةً: المتعبِّدُ بجميعِ الأسماءِ والصفاتِ التي يطلعُ عليها البشرُ، فلا تحجُبُه عبوديةُ اسمٍ عن عبوديةِ اسمٍ آخرَ، كمنْ يَحْجُبُهُ التعبدُ باسمِ (القديرِ) عن التعبُّدِ باسمِ (الحليمِ الرحيمِ) أو يحجُبُهُ عبوديةُ اسمِه (المُعطِي) عن عبوديةِ اسمِه (المَنَّاعِ) أو عبوديةِ اسمِهِ (الرَّحيمِ والعفوِّ والغفورِ) عن اسمِه (المنتقمِ) أو التعبُّدُ بأسماءِ (التودُّدِ، والبِرِّ، واللُّطفِ،

والإحسانِ) عن أسماءِ (العدلِ، والجبروتِ، والعظمةِ، والكبرياءِ) ونحو ذلك. وهذه طريقةُ الكُمَّلِ من السائرينَ إلى اللهِ. وهي طريقةٌ مشتقةٌ من قلبِ القرآنِ. قال الله تعالى: {ولِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، والدعاءُ بها يتناولُ دعاءَ المسألةِ، ودعاءَ الثناءِ، ودعاءَ التعبدِ. وهو سبحانَه يدعُو عبادَه إلى أن يعرفُوه بأسمائِه وصفاتِه، ويُثْنُوا عليه بها، ويأخذُوا بحظِّهِم من عبوديَّتِها. وهو سبحانَه يحبُّ موجبَ أسمائِه وصفاتِه. فهو (عليمٌ) يحبُّ كلَّ عليمٍ (جَوادٌ) يُحبُّ كلَّ جوادٍ (وترٌ) يحبُّ الوترَ (جميلٌ) يحبُّ الجمالَ (عَفُوٌّ) يحبُ العَفْوَ وأهلَهُ (حَيِيٌّ) يحبُّ الحياءَ وأهلَهُ (بَرٌّ) يحبُّ الأبرارَ (شكُورٌ) يحبُّ الشاكرينَ (صبورٌ) يحبُّ الصابرينَ (حليمٌ) يحبُّ أهلَ الحلمِ. فلمحبتِه سبحانَه للتوبةِ والمغفرةِ، والعفوِ والصفحِ: خلقَ من يغفرُ له، ويتوبُ عليهِ، ويعفُو عنه، وقدَّرَ عليه ما يقتَضِي وقوعَ المكروهِ والمبغوضِ له، ليترتبَ عليهِ المحبوبُ لهُ المرضِي له، فتوسُّطُه كتوسُّطِ الأسبابِ المكرُوهَةِ المفضِيَةِ إلى المحبوبِ. فرُبَّما كان مكرُوهُ العبادِ إلى ... محبوبِها سببٌ ما مِثلُه سببُ والأسبابُ ـ مع مسبَّباتِها ـ أربعةُ أنواعٍ: محبوبٌ يُفضِي إلى محبوبٍ. ومكروهٌ يُفضِي إلى محبوبٍ.

وهذانِ النوعانِ عليهما مدارُ أقضيتِهِ وأقدارِه سبحانه بالنسبةِ إلى ما يحبُّه وما يكرَهُهُ. والثالثُ: مكروهٌ يفضِي إلى مكروهٍ. والرابعُ: محبوبٌ يفضِي إلى مكروهٍ. وهذانِ النوعانِ ممتنعانِ في حقِّه سبحانَه، إذ الغاياتُ المطلوبةُ من قضَائِهِ وقدَرِهِ ـ الذي ما خَلَقَ ما خَلَقَ، ولا قَضَى ما قَضَى إلَّا لأجْلِ حُصُولِها ـ لا تكونُ إلا محبوبةً للربِّ مرضيةً له. والأسبابُ الموصِّلَةُ إليها مُنقسمَةٌ إلى محبوبٍ له ومكروهٍ له. فالطاعاتُ والتوحيدُ: أسبابٌ محبوبةٌ له، مُوصِلَةٌ إلى الإحسانِ، والثوابِ المحبوبِ له أيضًا. والشركُ والمعاصي: أسبابٌ مسخوطةٌ له، مُوصِلَةٌ إلى العدلِ المحبوبِ له، وإنْ كانَ الفضلُ أحبَّ إليه من العدلِ. فاجتماعُ العدلِ والفضلِ أحبُّ إليه من انفرادِ أحدِهما عن الآخرِ، لما فيهما من كمالِ المُلكِ والحمدِ، وتنوعِ الثناءِ، وكمالِ القدرةِ. فإن قيل: كان يمكنُ حصولُ هذا المحبوبِ من غيرِ توسُّطِ المكروهِ. قيلَ: هذا سؤالٌ باطلٌ، لأنَّ وجودَ الملزومِ بدونِ لازمِه ممتنعٌ. والذي يقدَّرُ في الذهنِ وجودُه شيءٌ آخرَ غيرُ هذا المطلوبِ المحبوبِ للربِّ. وحكمُ الذهنِ عليه بأنه محبوبٌ للربِّ حكمٌ بلا علمِ، بل قد يكونُ مبغوضًا للربِّ تعالى لمنافاتِه حكمتَه، فإذا حَكَمَ الذهنُ عليه بأنه محبوبٌ له. كان نسبةً له إلى

ما لا يليقُ به. ويتعالى عنه. فليُعْطِ اللبيبُ هذا الموضِعَ حقَّه من التأملِ. فإنه مزلَّةُ أقدامٍ، ومضلَّةُ أفهامٍ. ولو أمسكَ عن الكلامِ من لا يعلمُ لقلَّ الخلافُ. وهذا المشهدُ أجلُّ من أن يحيطَ به كتابٌ أو يستوعِبَهُ خطابٌ، وإنما أَشَرْنَا إليه أدنَى إشارةٍ تُطْلِعُ على ما وراءِها. واللهُ الموفقُ والمعينُ (¬1). * * * ¬

(¬1) مدارج السالكين (1/ 350).

تعظيم الله تعالى في القرآن

تعظيم الله تعالى في القرآن ومن وسائلِ تعظيمِ الله تعالى: تدبرُ القرآنِ وتحديقُ النظرِ في سُوَرهِ وآياتِه، فالقرآنُ كلُّه ينطقُ بالتعظيمِ والتمجيدِ والإجلالِ لربِّ العالمينَ حتى قال أحدُ الباحثينَ الغربيينَ ليس هناك كتابٌ حَوَى من التعظيمِ والثناءِ والحمدِ والتقديسِ للهِ تعالى مثلَ ما حواه القرآنُ وهذا يثبتُ أنه من عندِ اللهِ تعالى، لأنه لو كان من افتراءِ محمدٍ لجعلَ محمدٌ لنفسه شيئًا من هذا التعظيمِ الإلهيِّ وهو ما لا نَجِدْه أبدًا في القرآنِ. فانظرْ كيف يحمدُ اللهُ تعالى نفسه: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1]، {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، وانظر كيف أثبتَ لنفسِه كمالَ العلم: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:3]، وانظر كيف أثبتَ لنفسِه القدرةَ التامَّةَ والقهرَ التامَّ: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:17 - 18]. ومع ذلك فهو يثبتُ لنفسِه الرحمةَ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54]، وهكذا لا نجدُ آيةً من القرآنِ إلا وهيَ تدلُّ على عظمةِ اللهِ تعالى بلفظِها ومعناها، ولذلك فقد وصفَ اللهُ تعالى هذا الكتابَ بالعظمةِ فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]. وقال سبحانه:

{لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21]. فإذا كان هذا حالُ الجبلِ الصخرِ الأصمِّ إذا أُنزلَ عليه القرآنُ فكيف بحالِ الإنسانِ الضعيفِ؟! وقد وصف اللهُ تعالى أهلَ الإيمان بالخشيةِ والرقةِ والقشعريرةِ عند سماعِ القرآنِ كما في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]، وقال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:106 - 109]، وما ذلك إلا لما سَمِعُوهُ وشَاهَدُوهُ في آياتِ اللهِ تعالى المتلوةِ من شواهدِ العظمةِ والقدرةِ والكبرياءِ والجلالِ. * * *

وما قدروا الله حق قدره

وما قدروا الله حق قدره قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]. هذا ذمٌّ للمشركينَ الذينَ لم يخلِصُوا العبادةَ للهِ فعبدُوا مع اللهِ آلهةً أخرى وذلكَ لجهلِهِم بعظمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وما يستحِقُّه منَ العبادةِ والتعظيمِ. وهذه الآيةُ تشملُ كلَّ من عبدَ مع اللهِ غيرَه في كلِّ زمانٍ ومكانٍ فهؤلاءِ جميعًا ما قدروا اللهَ حقَّ قدرِه. قالَ ابنُ كثيرٍ في تفسيرِه: «يقولُ تعالى: وما قدرَ المشركونَ اللهَ حقَّ قدرِه، حينَ عبدُوا معه غيرَه، وهو العظيمُ الذي لا أعظمَ منه، القادرُ على كلِّ شيءٍ، المالكُ لكلِّ شيءٍ، وكلُّ شيءٍ تحتَ قهرِه وقدرتِه. وقال السُّدِّيُّ: ما عظَّموه حقَّ عَظَمَتِهِ. وقال محمدُ بنُ كعبٍ: لو قَدَرُوه حقَّ قَدْرِه ما كَذَّبوه. وقال عليُّ بنُ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} همُ الكفارُ الذين لم يؤمنوا بقدرةِ اللهِ تعالى عليهم، فمن آمنَ أنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ فقد قَدَرَ اللهَ حقَّ قدرِه، ومن لم يؤمنْ بذلك فلم يَقْدُرِ اللهَ حقَّ قدرِهِ» (¬1). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير (7/ 113).

وقال السعديُّ في تفسيرِه: «يقولُ تعالى: وما قدرَ هؤلاءِ المشركونَ ربَّهم حقَّ قدرِه، ولا عظَّموه حقَّ تعظيمِه، بل فعلوا ما يناقضُ ذلك، من إشراكِهم به مَنْ هو ناقصٌ في أوصافِه وأفعالِه، فأوصافُه ناقصةٌ من كلِّ وجهٍ، وأفعالُه ليس عنده نفعٌ ولا ضرٌ، ولا عطاءٌ ولامنعٌ، ولا يملكُ من الأمرِ شيئًا. فَسَوَّوْا هذا المخلوقَ الناقصَ بالخالقِ الربِّ العظيمِ، الذي من عظمَتِهِ الباهرةِ، وقدرتِه القاهرةِ، أنَّ جميعَ الأرضِ يومَ القيامةِ قبضةٌ للرحمنِ، وأنَّ السماواتِ ـ على سَعَتِها وعِظَمِها ـ مطوياتٌ بيمينِه، فلا عظَّمَه حقَّ عَظَمَتِهِ من سَوَّى به غيرَه، ولا أظلمَ منه. {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تنزَّهَ وتعاظَمَ عن شركِهم به» (¬1). وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ: «واللهُ سبحانَه بعثَ الرسلَ وأنزلَ الكتبَ؛ بأنْ يكونَ هو المعبودَ وحدَهُ لا شريكَ له وإنِّما يعبدُ بما أَمَرَ به على أَلْسُنِ رسلِه. وأصلُ عبادتِه: معرفتُهُ بما وصفَ به نفسَه في كتابِه وما وصفَه به رسلُه؛ ولهذا كانَ مذهبُ السلفِ أنهم يصفُونَ اللهَ بما وصفَ به نفسَه وما وصفَه به رسلُه من غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ ومن غيرِ تكييفٍ ولا تمثيلٍ والذينَ يُنكرونَ بعضَ ذلكَ ما قدرُوا اللهَ حقَّ قدرِهِ وما عَرَفُوهُ حقَّ مَعْرفتِهِ ولا وَصفُوه حقَّ صفتِه ولا عبدُوهُ حقَّ عبادَتِهِ. واللهُ سبحانه قد ذكرَ هذه الكلمةَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} في ثلاثِ ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن (ص:729).

مواضعٍ؛ ليثبتَ عظمتَه في نفسِه وما يستحقُّه من الصفاتِ وليثبتَ وحدانيَّتَه وأنَّه لا يستحقُّ العبادةَ إلا هو وليثبتَ ما أنزَلَهُ على رسلِه فقالَ في الزمرِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67] الآية، وقال في الحجِّ: ... {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الحج:73 - 74]، وقال في الأنعامِ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام:91]. وفي المواضعِ الثلاثةِ ذمَّ الذين ما قدرُوه حقَّ قدرِه منَ الكفارِ فدلَّ ذلك على أنه يجبُ على المؤمنِ أن يقدُرَ اللهَ حقَّ قدرِه كما يجبُ عليه أن يتقِيَهُ حقَّ تقاتِه وأن يجاهدَ فيه حقَّ جهادِه قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78]، وقال: ... {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102]، والمصدرُ هنا مضافٌ إلى مفعولٍ والفاعلُ مرادٌ أي حقَّ جهادِه الذي أمرَكُم به وحقَّ تقاتِه التي أمرَكُم بها واقدرُوه قدرَه الذي بيَّنَه لكم وأمرَكم به فصدِّقُوا الرسولَ فيما أخبرَ وأطيعُوه فيما أوجبَ وأمرَ. وأما ما يخرجُ عن طاقةِ البشرِ، فذلك لا يُذَمُّ أحدٌ على تركِه قالتْ عائشةُ: فاقدرُوا قدرَ الجاريةِ الحديثةِ السنِّ الحريصةِ على اللهوِ. ودلت الآيةُ على أنَّ له قدرًا عظيمًا؛ لا سيّما قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وفي تفسيرِ ابنِ أبي طلحةَ عن ابنِ عبَّاسٍ قال: من آمنَ بأنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ فقدْ قَدَرَ اللهَ حقَّ قدْرِه. وقدْ ثبتَ في الصحيحينِ من حديثِ ابنِ مسعودٍ أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قرأَ هذه

الآيةَ لما ذكرَ له بعضُ اليهودِ أنَّ اللهَ يحملُ السمواتِ على أصبعٍ والأرضينَ على أصبعٍ والجبالَ على أصبعٍ والشجرَ والثرى على أصبعٍ وسائرَ الخلقِ على أصبعٍ؛ فضحِكَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تعجبًا وتصديقًا لقولِ الحبرِ وقرأَ هذهِ الآيةَ. وعن ابن عباسٍ قال: مرَّ يهوديٌّ بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أبا القاسِمِ ما تقولُ إذا وضعَ اللهُ السماءَ على ذِهِ؟ والأرضَ على ذِهِ والجبالَ والماءَ على ذِهِ وسائرَ الخلقِ على ذِهِ؟ فأنزلَ اللهُ تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} رواهُ الإمامُ أحمدُ بن حنبلٍ والترمذيُّ من حديثِ أبي الضحى عنِ ابنِ عباسٍ وقال غريبٌ حسنٌ صحيحٌ. وهذا يقتضي أنَّ عظمَتَه أعظمُ ممَّا وصفَ ذلكَ الحبرُ فإنَّ الذي في الآيةِ أبلغُ كما في الصحيحينِ عن أبي هريرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «يقبضُ اللهُ الأرضَ يومَ القيامةِ ويطوي السماءَ بيمينِه ثم يقولُ: أنا الملكُ أين ملوكُ الأرضِ». وفي الصحيحينِ عن ابنِ عمرَ قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يطوي اللهُ السمواتِ يومَ القيامةِ ثمَّ يأخُذُهُنَّ بيدِه اليمنى. ثم يقول: أينَ الملوكُ؟ أين الجبارونَ؟ أين المتكبرونَ؟». ورواهُ مسلمٌ أبسطَ من هذا وذكرَ فيه أنَّه يأخذُ الأرضَ بيدِه الأخرى. وقدْ روى ابنُ أبي حاتمٍ: حدثنا أبي ثنا عمرُو بن رافعٍ ثنا يعقوبُ بن عبدِ اللهِ عن جعفرَ عن سعيدٍ بن جبيرٍ قال: تكلَّمَتِ اليهودُ في صفةِ الربِّ ـ تبارك وتعالى ـ فقالُوا ما لم يعلَمُوا ولم يَرَوْا فأنزلَ اللهُ على نبيِّه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ

بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فجعلَ صفتَه التي وصفُوه بها شِركًا. وقال: حدثنا أبي ثنا أبو نعيمٍ ثنا الحكمُ يعني أبا معاذٍ عن الحسنِ قال: عَمَدَتِ اليهودُ فنظرُوا في خلقِ السمواتِ والأرضِ والملائكةِ فلما فرَغُوا أخذُوا يقدرُونَه فأنْزَلَ اللهُ تعالى على نبيِّه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} وهذا يدلُّ على أنَّه أعظمُ مما وصفُوه وأنهم لم يقدُرُوه حقَّ قدرِه. وقوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} فكلُّ من جعلَ مخلوقًا مثلًا للخالقِ في شيءٍ من الأشياءِ فأحَبَّه مثلَ ما يحبُّ الخالقَ أو وصَفَه بمثلِ ما يوصَفُ به الخالقُ فهو مشركٌ سوَّى بينَ اللهِ وبينَ المخلوقِ في شيءٍ من الأشياءِ فعَدَلَ بِرَبِّه. والربُّ تعالى لا كُفْؤَ لهُ ولا سَمِيَّ لَهُ ولا مِثْلَ له ومَنْ جعَلَهُ مثلَ المعدومِ والممتنعِ فهو شرٌّ من هؤلاءِ فإنَّه معطِّلٌ ممثِّلٌ والمعطِّلُ شرٌّ من المشركِ. واللهُ ثَنَّى قصةَ فرعونَ في القرآنِ في غيرِ موضعٍ؛ لاحتياجِ الناسِ إلى الاعتبارِ بها فإنه حَصَلَ له من الملكِ ودعوى الربوبيةِ والإلهيةِ والعلوِّ ما لم يحصُلْ مثلَهُ لأحدٍ من المعطِّلِينَ وكانتْ عاقِبَتُه إلى ما ذَكَرَ اللهُ تعالى وليسَ للهِ صفةٌ يماثِلُهُ فيها غيرُه؛ فلهذا لم يَجُزْ أن يُستَعْمَلَ في حقِّهِ قياسُ التمثيلِ ولا قياسُ الشمولِ الذي تَستَوِي أفرادُه فإنَّ ذلك شركٌ؛ إذ سُوِّيَ فيه بالمخلوقِ؛ بل قياسُ الأولى. فإنَّه سبحانه له المثلُ الأعلى في السمواتِ والأرضِ فهو أحقُّ من غيرِه بصفاتِ الكمالِ وأحقُّ من غيرِه بالتَّنْزِيهِ عن صفاتِ النقصِ (¬1). ¬

(¬1) الفرقان (ص:75).

ويدعو ابنُ القيمِ رحمهُ اللهُ إلى التأملِ في القرآنِ بهدفِ الوصولِ إلى تعظيمِ اللهِ تعالى ومحبَّتِه وإفرادِه بالعبادةِ والطاعةِ، قالَ رحمهُ اللهُ: «تأمل خطابَ القرآنِ تجدْ ملكًا له المُلكُ كلُّه، وله الحمدُ كلُّه، أزِمَّةُ الأمورِ كلُّها بيدِه، ومصدَرُها منه، ومردُّها إليه، لا تَخْفَى عليه خَافِيةٌ في أقطارِ مملكتِهِ، عليمًا بما في نفوسِ عبيدِه، مُطَّلِعًا على أسرارِهم وعلانِيَتِهم، منفَرِدًا بتدبيرِ المملكةِ، يسمعُ، ويرى، ويعطي، ويمنعُ، ويثيبُ، ويعاقبُ، ويُكرمُ، ويُهينُ، ويخلقُ، ويرزقُ، ويُميتُ، ويُحيي، ويقدِّرُ، ويقضي، ويدبِّرُ. الأمورُ نازلةٌ من عندِه دقيقُها وجليلُها، وصاعدةٌ إليه لا تَتَحَرَّكُ في ذرِّةٍ إلا بإذْنِه، ولا تسقُطُ ورقةٌ إلا بعلْمِه. فتأملْ كيفَ تجِدُهُ يثنِي على نفسِه، ويمجِّدُ نفسَه، ويحمَدُ نفسَهُ، وينصَحُ عبادَه، ويدُلُّهم على ما فيه سعادَتُهم وفلاحُهم ويرغبُهم فيه، ويحذِّرُهم مما فيه هلاكُهم. ويتعرَّضُ إليهم بأسمائِه وصفاتِه، ويتحبَّبُ إليهم بنعمِهِ وآلائِه. فيذكِّرُهم بنعَمِهِ عليهم، ويأمرُهم بما يَسْتَوْجِبُون به تمامَها، ويحذِّرُهم من نِقَمِهِ، ويذكِّرُهم بما أعدَّ لهم من الكرامةِ إن أطاعُوه، وما أعدَّ لهم من العقوبةِ إن عَصَوْهُ. ويخبِرُهم بصُنْعِه في أوليائِهِ وأعدائِهِ، وكيفَ كانتْ عاقبةُ هؤلاءِ وهؤلاءِ. ويثنِي على أوليائِهِ بصالحِ أعمالِهم، وأحسنِ أوصافِهِم، ويذمُّ أعداءَه بسيِّئِ أعمالِهم، وقبيحِ صفاتِهم. ويضربُ الأمثالَ، وينوِّعُ الأدلةَ والبراهينَ، ويجيبُ عن شُبهِ أعدائِه أحسنَ الأجوبَةِ، ويصدِّقُ الصادق، ويكذِّبُ الكاذبَ، ويقولُ الحقَّ، ويهدي السبيلَ. ويدعو إلى دارِ السلامِ، ويذكرُ أوصافَها وحسنَها ونعيمَها، ويحذِّرُ من دارِ البوارِ، ويذكُرُ عذابَها وقبْحَها وآلامَها، ويُذَكِّرُ عبادَه فقرَهم إليهِ، وشدةَ

حاجَتِهم إليه من كلِّ وجهٍ، وأنهم لا غنىً لهم عنه طرفةَ عينٍ، ويذكُرُ غنَاهُ عنهم وعن جميعِ الموجوداتِ، وأنه الغنيُّ بنفسِه عن كلِّ ما سوَاهُ، وكلُّ ما سوَاهُ فقيرٌ إليه بنفسِه، وأنه لا ينَالُ أحدٌ ذرةً من الخيرِ فما فوقَها إلا بفضْلِه ورحمَتِه، ولا ذرَّةً من الشَّرِّ فما فوقَها إلا بعدْلِه وحكمَتِه. ويشهدُ من خطابِه عتابَه لأحبابِه ألطفَ عتابٍ، وأنَّه معَ ذلك مُقيلُ عثراتِهم، وغافرُ زلاتِهم، ومقيمُ أعذارِهم، ومصلحُ فسادِهم، والدافعُ عنْهُم، والمحامِي عنهُم، والناصرُ لهم، والكفيلُ بمصالحِهم، والمنجي لهم من كلِّ كربٍ، والموفِّي لهم بوعدِه، وأنه وليُّهم الذي لا وليَّ لهم سوَاهُ، فهو مولاهُم الحقُّ، ونصيرُهم على عدوِّهم؛ فنعمَ المولى ونعمَ النصيرُ. فإذا شهدتِ القلوبُ من القرآنِ ملكًا عظيمًا، رحيمًا، جوادًا، جميلًا، هذا شأنُه؛ فكيفَ لا تحبُّه، وتُنافِسُ في القربِ منه، وتنفِقُ أنفاسَها في التودُّدِ إليه، ويكونُ أحبَّ إليها من كلِّ ما سوَاهُ، ورضَاهُ آثَرُ عندَها من رضَا كلِّ ما سوَاهُ؟! وكيفَ لا تَلْهَجُ بِذِكْرِه، ويصيرُ حبُّه، والشوقُ إليه، والأنسُ به، هو غذاؤُها وقوتُها ودواؤُها؛ بحيثُ إن فَقَدَتْ ذلكَ فَسَدَتْ وهلكَت ولم تَنْتَفِعْ بحياتِها؟! * * *

تجليات الله تعالى في القرآن

تجلياتُ اللهِ تعالى في القرآن (¬1) القرآنُ كلامُ اللهِ، وقدْ تجلَّى اللهُ فيه لعبادِهِ بصفاتِهِ، فتارةً يتجلَّى في جلبابِ الهيبةِ والعظمةِ والجلالِ؛ فتخضَعُ الأعناقُ، وتنكَسِرُ النُّفوسُ، وتخْشَعُ الأصواتُ، ويذوبُ الكِبْرُ كما يذوبُ الملحُ في الماءِ. وتارةً يتجلَّى في صفاتِ الجمالِ والكمالِ، وهو كمالُ الأسماءِ، وجمالُ الصفاتِ، وجمالُ الأفعالِ الدالُّ على كمالِ الذاتِ؛ فيستنفذُ حُبُّه من قلبِ العبدِ قُوةَ الحبِّ كلِّها، بحسبِ ما عَرَفَهُ من صفاتِ جمالِه ونعوتِ كمالِه، فيصبحُ فؤادُ عبدِه فارغًا إلَّا من محبَّتِه، فإذا أرادَ منه الغيرُ أن يُعلِّقَ تلكَ المحبةِ به أَبَى قلبُه وأحشاؤُه ذلكَ كلَّ الإباءِ، كما قيلَ: يُرادُ من القلبِ نسيانُكُم ... وتَابَى الطباعُ على النَّاقل فتبقَى المحبةُ له طبعًا لا تكلفًا .. وإذا تجلَّى بصفاتِ الرحمةِ والبرِّ واللُّطفِ والإحْسانِ، انبعثَتْ قوَّةُ الرجاءِ من العبدِ، وانبَسَطَ أمَلُهُ، وقويَ طمعُهُ، وسارَ إلى ربِّه وحادِي الرجاءِ يحدُو ركابَ سيرِه. وكلَّما قوِيَ الرَّجاءُ، جدَّ في العملِ، كما أنَّ الباذرَ كلَّما قويَ طمعُه في المغلِّ (¬2) غلقَ أرضَه بالبذرِ، وإذا ضَعُفَ رجاؤُه قصَّرَ في البَذْرِ. وإذا تجلَّى بصفاتِ العدلِ والانتقامِ والغضبِ والسخطِ والعقوبةِ، انقمعتِ (¬3) النفسُ الأمَّارةِ، وبطلتْ أو ضعفتْ قُوَاها: من الشهوةِ، والغضبِ، ¬

(¬1) الفوائد (ص:105 - 108). (¬2) المغلّ: هنا بمعنى ناتج الأرض. (¬3) قمعه وأقمعه: أي قهره وأذله (فانقمع).

واللهوِ، واللعبِ، والحرصِ على المحرماتِ، وانقبضتْ أعِنَّةُ (¬1) رعوناتِها (¬2)؛ فأحضَرَت المطيةُ حظَّها من الخوفِ والخشيةِ والحذرِ. وإذا تجلَّى بصفاتِ الأمرِ والنهيِ والعهدِ والوصيةِ وإرسالِ الرسلِ وإنزالِ الكتبِ وشرعِ الشرائعِ، انبعثَ منها قوةُ الامتثالِ والتنفيذِ لأوامرِه، والتبليغِ لها، والتواصي بها، وذكرِها، وتذكُّرِها، والتَّصديقِ بالخبرِ، والامتثالِ للطلبِ، والاجتنابِ للنهيِ. وإذا تجلَّى بصفاتِ السمعِ والبصرِ والعلمِ، انبعثتْ منَ العبدِ قوةُ الحياءِ؛ فيستحيِ من ربِّه أن يرَاهُ على ما يكرَهُ، أو يسمَعُ منه ما يكرَهُ، أو يخفِي في سريرَتِهِ ما يمقتُهُ عليه؛ فتبقى حركاتُه وأقوالُه وخواطرُه موزونةٌ بميزانِ الشرعِ، غيرَ مهملةٍ ولا مرسَلَةٍ تحتَ حكمِ الطبيعةِ والهوى. وإذا تجلَّى بصفاتِ الكفايةِ والحسْبِ، والقيامِ بمصالحِ العبادِ، وسوقِ أرزاقِهم إليهم، ودفعِ المصائبِ عنهم، ونصرِه لأوليائِه، وحمايتِه لهم، ومعيَّتِه الخاصةِ لهم، انبعثَ من العبدِ قوةُ التوكلِ عليه، والتفويضُ إليه، والرضَا به وبكلِّ ما عَلِمَ العبدُ بكفايةِ اللهِ وحسنِ اختيارِه لعبدِه وثقتِه به ورضَاهُ بما يفعَلُهُ به ويختارُه له. وإذا تجلَّى بصفاتِ العزِّ والكبرياءِ، أعطَتْ نفسُهُ المطمئنةُ ما وصلتْ إليه من الذلِّ لعظمتِه، والانكسارِ لعزَّتِه، والخضوعِ لكبريائِه، وخشوعِ القلبِ ¬

(¬1) أعِنة: جمع (عِنان)، وهو سير اللجام الذي يمسك. (¬2) الرُّعُونة: الحمق والاسترخاء.

والجوارحِ له؛ فتعلُوه السكينةُ والوقارُ في قلبِه ولسانُه وجوارحُه وسمتُه (¬1)، ويذهبُ طَيشُه وقوتُه وحدتُه. وجماعُ ذلك: أنه سبحانه يتعرفُ إلى العبدِ بصفاتِ إلهيَّتِهِ تارةً، وبصفاتِ ربوبيَّتِهِ تارةً؛ فيوجبُ له شهودُ صفاتِ الآلهيةِ المحبةَ الخاصَّةَ، والشوقَ إلى لقائِه، والأنسَ والفرحَ به، والسرورَ بخدمتِه، والمنافسةَ في قربِه، والتودُّدَ إليه بطاعتِه، واللَّهَجَ بذكْرِه، والفرارَ من الخلقِ إليه، ويصيرُ هو وحدَهُ هَمَّهُ دونَ ما سوَاهُ. ويوجبُ له شهودُ صفاتِ الربوبيةِ التوكلَ عليه، والافتقارَ إليه، والاستعانةَ به، والذلَّ والخضوعَ والانكسارَ له. وكمالُ ذلكَ أن يشهدَ ربوبيَّتَهُ في إلهيتِه، وآلهيَّتَه في ربوبيَّتِه، وحمدَه في ملْكِهِ، وعزَّه في عفْوِه، وحكمَتَه في قضائِه وقدرِه، ونعمتَه في بلائِه، وعطاءَه في منعِه، وبرَّه ولطفَه وإحسانَه ورحمتَه في قيُّوميَّتِه، وعدلَه في انتقامِه، وجودَه وكرمَه في مغفرتِه، وسترِه وتجاوُزِه. ويشهدَ حكمتَه ونعمتَه في أمرِه ونهيِه، وعزَّه في رضَاهُ وغضبِه، وحِلمَه في إمهالِه، وكرمَه في إقبالِه، وغنَاهُ في إعراضِه. * * * ¬

(¬1) سمته: هيئته.

تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه

تعظيمُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لربِّه إذا كان التعظيمُ ثمرةً من ثمراتِ المعرفةِ فقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أعرفَ الخلقِ بربِّه، وكيفَ لا يكونُ كذلكَ وهو الذي اصطفَاهُ ربُّه وعلَّمَه {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء:113]، ومنْ تدبَّرَ في عبادةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وذكرِهِ ودعائِه ولجوئِه إلى ربِّه عَلِمَ أنَّهُ أعظَمُ من عَظَّمَ الله تعالى، فقدْ كان - صلى الله عليه وسلم - يقومُ من الليلِ حتى تتفطَّرَ قدماه، فقالتْ له عائشة رضي الله عنها: تفعلُ ذلك وقد غُفِرَ لك ما تقدمَ من ذنبِك وما تأخرَ!! فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أفلا أحبُّ أن أكون عبدًا شكورًا» (¬1). ومن تعظيمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لربِّه أنه كان يسدُّ جميعَ الأبوابِ التي تُفضِي إلى الغلوِّ فيه وإخراجِه عن حدودِ العبوديةِ والرسالةِ التي أَنْزَلَهُ اللهُ تعالى إيَّاها، فكان - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: «لا تُطْروني كما أطرتِ النصارى ابنَ مريمَ، إنما أنا عبدُه، فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه» (¬2). وعن محمدِ بن جبيرِ بن مطعِمٍ عن أبيه قال: أتى رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أعرابيٌّ فقال: يا رسولَ الله! جَهِدت الأنفسُ، وضاعتِ العيالُ، ونُهكتِ الأموالُ، وهلكتِ الأنعامُ، فاستسِقِ اللهَ لنا، فإنا نستشفِعُ بكَ على اللهِ، ونستشْفِعُ باللهِ عليكَ. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ويحك! أتدري ما تقولُ؟»، وسبَّحَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فما زالَ يسبِّحُ حتى عُرِفَ ذلك في وجوهِ أصحابِه، ثم قال: «إنَّه لا ¬

(¬1) البخاري (1130)، مسلم (2819)، الترمذي (412). (¬2) البخاري (3445)، مسلم (1691)، أحمد (155).

يُسْتَشْفَعُ باللهِ على أحدٍ من خَلْقِه، شأن اللهِ أعظمُ من ذلك» (¬1). وعن ابن عباسٍ قال: قال رجلٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ما شاءُ اللهُ وشئتَ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أَجَعَلْتَنِي للهِ ندًّا؛ لا بل ما شاءَ اللهُ وحدَهُ» (¬2). وعن عبدِ اللهِ بن الشخيرِ قال: انطلقتُ في وفدِ بني عامرٍ إلى رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: أنت سيدُنا. فقال: «السيدُ اللهُ» فقلنا: وأفضلُنَا فضلًا وأعظمُنَا طَوْلًا. فقال - صلى الله عليه وسلم -: «قولوا بقولِكم أو بعضِ قولِكم، ولا يَسْتَجْرِيَنَّكُم الشيطانُ» (¬3). قال في (النهاية): «أي لا يَسْتَغْلِبَنَّكُم فيتخِذُكم جَريًّا، أي رسولًا ووكيلًا، وذلك أنهم كانوا مَدَحُوه، فَكَرِهَ لهمُ المبالغةَ في المدحِ، فنهاهم عنه» (¬4). وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: «السيدُ اللهُ» أي السؤددُ على الحقيقةِ إنما هو للهِ ?، لأنه المتصفُ بذلك على الإطلاقِ فهو الذي الخلقُ خلقُه، والملكُ ملكُه، وهو المتفضلُ بكلِّ النِّعَمِ، وهو المتصرفُ في الخلقِ كيفَ شاءَ، وهو صاحبُ السؤددِ على الحقيقةِ، وأما غيرُه ممن حصَّل سؤددًا فإنما هو سؤددٌ ناقصٌ وغيرُ كاملٍ، ولهذا فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أخبر عن نفسِه بأنه سيدُ ولدِ آدمَ غ، وهو سيدُهم في الدنيا والآخرةِ ـ صلواتُ اللهِ وسلامِه وبركاتِه عليه ـ، ولكنَّ ¬

(¬1) رواه أبو داود (4101) بيند فيه ضعف. (¬2) رواه أحمد (1742). (¬3) رواه أبو داود (4172)، وأحمد (15726). (¬4) النهاية (1/ 739) ط: الشاملة.

السؤددَ الذي يليقُ بالإنسانِ، للرسولِ - صلى الله عليه وسلم - منه الحظُّ الأكبرُ والنصيبُ الأوفرُ، وأما السؤددُ الكاملُ على الحقيقةِ فهو للهِ ? ... فالرسولُ - صلى الله عليه وسلم - لحمايَتِه جنابَ التوحيدِ، ولحرصِه على ألا يحصلَ غلوٌّ يُؤَدِّي إلى محذورٍ أرشدَ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ وبيَّنَ أن السيدَ هو اللهُ وأن السؤددَ الحقيقيَّ إنما هو للهِ ـ (¬1). وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعظمُ اللهَ تعالى من خلالِ تدبرِ آياتِ القرآنِ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يخشى من نزولِ العذابِ على هذه الأمةِ ففي صحيحِ البخاريِّ من حديثِ جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما قالَ: لمَّا نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أعوذ بوجهِك». قال: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أعوذُ بوجهِكَ» قال: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَاسَ بَعْضٍ} قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هذا أهونُ أو هذا أيسرُ» (¬2). وكان غ إذا رأى غيمًا عُرِفَ في وجْهِه، قالت عائشةُ: يا رسولَ اللهِ! الناسُ إذا رأوُا الغيمَ فَرِحُوا، رجاءَ أن يكونَ فيه المطرُ، وأَراكَ إذا رأيتَ غَيْمًا عُرِفَ في وجْهِكَ الكراهَيَةُ! فقال: «يا عائشةُ! وما يُؤَمِّنني أن يكونَ فيه عذابٌ؟ قد عُذِّبَ قومٌ بالريحِ، وقد رأى قومٌ العذابَ فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف:24]» (¬3). وكان - صلى الله عليه وسلم - من تعظيمِه لربِّه يتأثرُ بالآياتِ التي يخوفُ اللهُ بها عبادَه فعن عبدِ الله بن عمرِو - رضي الله عنه - قال: انكسَفَتِ الشمسُ يومًا على عهدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ¬

(¬1) انظر شرح سنن أبي داود للشيخ عبد المحسن العباد (27/ 446)، ط. الموسوعة الشاملة. (¬2) رواه البخاري (4262)، والترمذي (2991). (¬3) رواه البخاري (4454)، ومسلم (1497).

فقامَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي، فلم يَكَدْ أن يسجُدَ ثم سَجَدَ، فلم يكد أن يَرْفَعَ رأسَهُ، فجعلَ ينفُخُ ويبكِي ويقولُ: «ربِّ ألم تَعِدْني ألا تعذِّبَهم وأنا فيهم؟ ربِّ ألم تَعِدْني ألا تعذِّبَهم وهم يستغفرون؟ ونحن نستغفِرُك»، فلما صلَّى ركعتينِ انجلَت الشمسُ، فقامَ فحمِدَ اللهَ تعالى وأثنَى عليه ثم قال: «إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتانِ من آياتِ اللهِ، لا ينكسِفَانِ لموتِ أحدٍ ولا لحياتِه، فإذا انكسَفَا، فَافْزَعُوا إلى ذكرِ اللهِ» (¬1). وقد ذكرْنَا شيئًا من تعظيمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لربِّه في أمهاتِ العبادةِ كالصلاةِ والحجِّ وذكرِ الله تعالى. * * * ¬

(¬1) رواه أبو داود (1194)، والنسائي (547).

أحاديث نبوية في تعظيم الله سبحانه وتعالى

أحاديث نبويةٌ في تعظيمِ اللهِ سبحانه وتعالى وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يدُ اللهِ ملْأَى لا يغيضُها (¬1) نفقةٌ، سَحَاءَ الليلَ والنهارَ»، وقال: «أرأيتُم ما أنفقَ منذُ خلقَ السمواتِ والأرضَ، فإنَّه لم يُغِضْ ما في يدِه»، وقال: «وكانَ عرشُه على الماءِ، وبيدِه الأخرى الميزانُ يخفضُ ويرفعُ» (¬2) [متفق عليه]. وكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يأمرُ بتعظيمِ اللهِ عز وجل في الصلاةِ، فقال: «أمَّا الركوعُ فعظِّمُوا فيهِ الربَّ» (¬3). عن عبدِ اللهِ بن عمرَ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «يطوِي اللهُ عزَّ وجلَّ السمواتِ يومَ القيامةِ، ثم يأخُذُهنَّ بيدِه اليمْنَى ثم يقولُ: أنا الملكُ أينَ الجبارونَ؟ أينَ المتكبِّرونَ؟ ثم يطوِي الأرضينَ بشمالِه ثم يقولُ: أنا الملكُ، أينَ الجبارونَ؟ أينَ المتكبرونَ؟» (¬4) [رواه مسلم]. وعن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن اللهَ لا ينامُ، ولا ينبغي له أن ينامَ، يخفضُ القسطَ ويرفعُه، يُرفَعُ إليه عملُ النهارِ قبلَ عملِ الليلِ، وعملُ الليلِ قبلَ عملِ النهارِ، حجابُه النورُ، لو كَشَفَهُ لأحرقَتْ سُبُحُاتِ وجْهِه، ما انتَهَى إليه بصرُه من خلقِه» (¬5). ¬

(¬1) يغيضها: ينقصها. (¬2) رواه البخاري (684)، ومسلم (993). (¬3) رواه مسلم (479)، وأبو داود (876). (¬4) رواه مسلم (2788). (¬5) رواه مسلم حديث رقم (445).

وعن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه قالَ: جاءَ حبرٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمدُ! أو يا أبا القاسمِ! إنَّ الله تعالى يُمْسِكُ السمواتِ يومَ القيامةِ على إصبعٍ، والأرضينَ على إصبعٍ، والجبالَ والشجرَ على إصبعٍ، والماءَ والثرى على إصبعٍ، وسائرَ الخلقِ على إصبعٍ ثم يهزُّهُنَّ فيقولُ: أنا الملكُ، أنا الملكُ، فضَحِكَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تعجُّبًا مما قالَ الحبرُ، تصديقًا له ثمَّ قرأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]» (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ تعالى يقولُ: إن العِزَّ إِزَارِي، والكبرياءَ ردائِي، فمن نازَعَنِي فيهما عذَّبتُهُ» (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمُهُ اللهُ يومَ القيامةِ، ليسَ بينَه وبينَه ترجمان، فينظرُ أيمنَ منه، فلا يرَى إلا ما قدَّمَ، وينظرُ أشأمَ (¬3) منه، فلا يرَى إلا ما قدّمَ، وينظرُ بين يدَيْهِ، فلا يَرَى إلا النَّارَ تلقاءَ وجهِه، فاتَّقُوا النَّارَ، ولو بشقِّ تمرةٍ، ولو بكلمةٍ طيبةٍ» (¬4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحدَكم يُجمعُ خلقُهُ في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفةً، ثم يكونُ علقةً مثل ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثل ذلك، ثم يبعثُ اللهُ إليه مَلَكًا، ويؤمرُ بأربعِ كلماتٍ، ويقالُ له: اكتبْ علمهُ، ورزقهُ، وأجلهُ، وشقيٌّ أم ¬

(¬1) متفق عليه البخاري (7513)، ومسلم (2786). (¬2) رواه البخاري في الأدب المفرد (552)، وقال الألباني: صحيح. (¬3) أي: جهة شماله. (¬4) البخاري (7512)، ومسلم (1016).

سعيدٌ، ثم ينفخُ فيه الروحَ، فإنَّ الرجلَ منكم ليعملُ بعملِ أهلِ الجنةِ، حتى لا يكونُ بينهُ وبينَها إلَّا ذراعٌ، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهلِ النارِ، فيدخلُ النارَ. وإنَّ الرجلَ ليعملُ بعملِ أهلِ النارِ، حتى ما يكونُ بينَهُ وبينها إلَّا ذراعٌ، فيسبقُ عليهِ الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهلِ الجنةِ، فيدخلُ الجنةَ» (¬1). عن أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله فيما يرويه عن ربه ? أنه قال: «يا عَبَادي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلمَ عَلَى نفسِي وجعلتُهُ بينكم مُحرَّمًا فلا تظَّالموا. يَا عِبادِي كُلكُم ضَالٌّ إلَّا من هديتُه فاستَهْدُوني أَهْدِكُم. يَا عِبادِي كُلكُم جَائِعٌ إلَّا من أَطْعمتُهُ فاسْتَطعمُوني أُطعِمْكُم. يَا عِبادِي كُلكُم عَارٍ إلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسِكُم. يَا عِبادِي إنكم تُخطئِون باللَّيلِ والنَّهارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فاستغفروني أغفر لكم. يَاعِبادِي إِنَّكم لن تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضَروني وَلَنْ تَبْلغُوا نَفْعِي فتنفعُوني. يَا عِبادِي لو أَنَّ أَوَّلكم وآخرَكم وإِنْسَكُمْ وجنَّكُم كانوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ واحدٍ منكم ما زادَ ذلكَ في ملكي شيئا. يَا عِبادِي لو أَنَّ أوَّلكم وآخرَكم وإنسَكُم وجنَّكُم كانوا عَلَى أَفْجرِ قلب رَجُلٍ واحدٍ منكم ما نَقَصَ ذلك من مُلكي شيئا. ¬

(¬1) البخاري (6594)، ومسلم (2643)، والترمذي (2137).

يَا عِبادِي لو أَنَّ أوَّلكم وآخرَكم وإنسَكُم وجنَّكُم قاموا في صَعيدٍ وَاحدٍ فسألوني فأعطيت كل واحدٍ مسألته ما نقصَ ذلكَ مما عندي إلَّا كما ينقصُ المخيط إذا أُدخِلَ البحر. يَا عِبادِي إِنَّما هي أعمالُكُم أُحْصِيها لكُم ثُمَّ أوفيكم إيَّاهَا فمن وَجَدَ خيرًا فليحمدِ اللهَ، ومَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يلومنَّ إلَّا نفسه» [رواه مسلم]. قوله: «إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما». قال ابن دقيق العيد: «قال بعض العلماء: معناه لا ينبغي لي ولا يجوز عليَّ كما قال تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم:92]، فالظلم محال في حق الله تعالى. قال بعضهم في هذا الحديث: لا يسوغ لأحد أن يسأل الله تعالى أن يحكم له على خصمه إلا بالحق بقوله سبحانه: «إني حرمت الظلم على نفسي»، فهو سبحانه لا يظلم عباده فكيف يظن ظان أنه يظلم عباده لغيره؟ وكذلك قال: «فلا تظالموا» المعنى: المظلوم يقتص له من الظالم، وحذفت إحدى التاءين تخفيفًا أصله: فلا تتظالموا. وقوله: «كُلُّكُم ضَالٌ إلَّا من هديتُه، ... وكلُّكُم عَارٍ إلَّا مَن كسوتُه ... وكلكم جائعٌ إلَّا من أطعمتُه ...». تنبيه على فقرنا وعجزنا عن جلب منافعنا ودفع مضارنا إلا أن يعيننا الله سبحانه على ذلك، وهو يرجع إلى معنى: لا حول ولا قوة إلا بالله. وليعلم العبد أنه إذا رأى آثار هذه النعمة عليه أن ذلك من عند الله ويتعين عليه شكر الله تعالى وكلما ازداد من ذلك يزيد في الحمد والشكر لله تعالى.

وقوله: «فاستهدوني أهدكم» أي اطلبوا مني الهداية أهدكم والجملة في ذلك أن يعلم العبد أنه طلب الهداية من مولاه فهداه ولو هداه قبل أن يسأله لم يبعد أن يقول: إنما أوتيته على علم عندي. وكذلك «كلكم جائع» إلى آخره يعني أنه خلق الخلق كلهم ذوي فقر إلى الطعام فكل طاعم كان جائعا حتى يطعمه الله بسوق الرزق إليه وتصحيح الآلات التي هيأها له فلا يظن ذو الثروة أن الرزق الذي في يده وقد رفعه إلى فيه أطعمه إياه أحد غير الله تعالى وفيه أيضا أدب للفقراء كأنه قال: لا تطلبوا الطعام من غيري فإن هؤلاء الذين تطلبون منهم أنا الذي أطعمهم «فاستطعموني أطعمكم»، وكذلك ما بعده. وقوله: «إنكم تخطئون بالليل والنهار». في هذا الكلام من التوبيخ ما يستحي منه كل مؤمن وكذلك أن الله خلق الليل ليطاع فيه ويعبد بالإخلاص حيث تسلم الأعمال فيها غالبا من الرياء والنفاق أفلا يستحي المؤمن أن لا ينفق الليل والنهار [في الطاعة] فإنه خلق مشهودا من الناس فينبغي من كل فطن أن يطيع الله فيه أيضا ولا يتظاهر بين الناس بالمخالفة وكيف يحسن بالمؤمن أن يخطئ سرا أو جهرا لأنه سبحانه وتعالى قد قال بعد ذلك: «وأنا أغفر الذنوب جميعًا» فذكر الذنوب بالألف واللام التي للتعريف وأكدها بقوله: «جميعا» وإنما قال ذلك قبل أمره إيانا بالإستغفار لئلا يقنط أحد من رحمة الله لعظم ذنب ارتكبه. قوله: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم» إلى آخره .. فيه ما يدل على أن تقوى المتقين رحمة لهم وأنها لا تزيد في ملكه شيئًا.

وأما قوله: «لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكُم وإنسَكُم وجنَّكُم قاموا في صعيد واحد». إلى آخره ففيه تنبيه الخلق على أن يعظموا المسألة ويوسعوا الطلب، ولا يقتصر سائل ولا يختصر طالب؛ فإن ما عند الله لا ينقص، وخزائنه لا تنفد، فلا يظن ظان أن ما عند الله يغيضه الإنفاق كمال قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الآخر: «يدُ الله مَلْأَى لا يغُيضُها نفقةٌ سَحَاء الليلِ والنَّهار أرأيتُم مَا أنفَقَ منذُ خلقَ السَّمواتِ والأرضَ فَإِنَّه لم يغضْ مَا في يَمينه» وسر ذلك أن قدرته صالحة للإيجاد دائما لا يجوز عليها عجز ولا قصور والممكنات لا تنحصر ولا تتناهى. وقوله: «إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر». هذا مثل قصد به التقريب إلى الأفهام بما نشاهده، والمعنى: أن ذلك لا ينقص مما عنده شيئا والمخيط ـ بكسر الميم وإسكان الخاء وفتح الياء ـ: هو الإبرة. وقوله: «إنَّما هي أعمالُكم أُحصيهَا لَكُم، ثُمَّ أُوفِيكُم إيَّاهَا فمن وَجدَ خيرًا فليحمد الله». يعني لا يسند طاعته وعبادته من عمله لنفسه بل يسندها إلى التوفيق ويحمد الله على ذلك. وقوله: «ومن وجد غير ذلك». لم يقل ومن وجد شرًا يعني: ومن وجد غير الأفضل. «فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نفسَهُ» أكد ذلك بالنون تحذيرا أن يخطر في قلب عامل أن اللوم تستحقه غير نفسه، والله أعلم (¬1). ¬

(¬1) شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد (ص:80).

تعظيم الصحابة والسلف الصالح لله عز وجل

تعظيم الصحابة والسلف الصالح لله عز وجل وقال ابن رجب أيضًا: «وكان خلفاءُ الرسلِ وأتباعُهم من أمراءِ العدلِ وأتباعِهم وقضاتِهم لا يَدْعُونَ إلى تعظيمِ نفوسِهم البتةَ، بل إلى تعظيمِ اللهِ وحدَه، وإفرادِه بالعبوديةِ والإلهيةِ، ومنهم من كان لا يريدُ الولايةَ إلا للاستعانةِ بها على الدعوةِ إلى اللهِ وحدَه. وكانتِ الرسلُ وأتباعُهم يصبرونَ على الأَذَى في الدعوةِ إلى اللهِ ويتحمَّلُونَ في تنفيذِ أوامرِ اللهِ من الخلقِ غايةَ المشقةِ وهم صابرونَ بل راضونَ بذلك، كما كان عبدُ الملكِ بنُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ رحمه الله يقولُ لأبيهِ في خلافَتِه: «إذا حُرِصَ على تنفيذِ الحقِّ وإقامةِ العدلِ يا أبتِ لوددتُ أني غَلَتْ بي وبك القدورُ في اللهِ عز وجل». وقال بعضُ الصالحينَ: وددتُ أنَّ جِسْمِيَ قُرِّضَ بالمقاريضِ، وأن هذا الخلقَ كلَّهم أطاعُوا اللهَ عز وجل» ومعنى هذا أن صاحبَ ذلك القولِ قد يكونُ لَحَظَ نُصْحَ الخلقِ والشفقةَ عليهم من عذابِ اللهِ، وأحبَّ أن يَقِيَهم من عذابِ اللهِ بأذى نفسِه، وقد يكونُ لَحَظَ جلالَ اللهِ وعظمَتِه وما يستحِقُّه من الإجلالِ والإكرامِ والطاعةِ والمحبةِ، فودَّ أنَّ الخلقَ كلَّهم قامُوا بذلك، وإن حَصَلَ لَهُ في نفسِه غايةُ الضَّررِ» (¬1). * * * ¬

(¬1) شرح حديث: «ما ذئبان جائعان ..» (ص: 19).

حقيقةُ التعظيمِ: عن ابن السماكِ قال: أوصاني أخي داودُ بوصيةٍ قال: انظر، أن لا يراك اللهُ حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيثُ أمرَكَ؛ واستحِ في قربِه منك، وقدرتِه عليك (¬1). وقال رجلٌ لوهيبِ بن الوردِ: عِظْنِي، قال: اتقِ أن يكونَ اللهُ أهون الناظرينَ إليك (¬2). قل عليَّ رقيبُ: عن أحمدَ بنِ حنبلَ رحمه الله تعالى قال: إذا ما خلوتَ الدهْرَ يومًا فلا تَقُلْ ... خلوتُ ولكنْ قلْ عَلَيَّ رقيبُ ولا تحسبَنَّ اللهَ يُغْفِلُ ما مَضَى ... وأن الذي يُخْفَى عليه يغيبُ لهوْنَا عن الأيامِ حتى تَتَابَعَتْ ... ذنوبٌ على أثارهنَّ ذنوبُ فيا ليتَ اللهَ يغفرُ ما مضى ... ويأذنُ لي في توبةٍ فأتوبُ حبُّ القرآنِ: عن سفيانَ بن عيينةَ قال: لا تبلُغُوا ذِروةَ هذا الأمر، إلا حتَّى لا يكونُ شيءٌ أحبَّ إليكم من اللهِ؛ ومن أحبَّ القرآنَ، فقد أحبَّ اللهَ؛ افقهوا ما يقالُ لكم (¬3). ¬

(¬1) الحلية (7/ 358). (¬2) الحلية (8/ 142). (¬3) الحلية (7/ 278).

لذةُ المحبة: قال إبراهيمُ بنُ أدهمَ: لو علِمَ الناسُ لذةَ حبِّ اللهِ: لقلَّتْ مطاعِمُهم، ومشارِبُهم، وحرصُهم، وذلك أنَّ الملائكةَ: أحبُّوا اللهَ، فاستغْنَوْا بذكرِه عن غيرِه (¬1). جنة الدنيا: عن أبي الدرداءِ رضي الله عنه أنه قال: لولا ثلاثُ خلالٍ، لأحببتُ أن لا أبقَى في الدنيا؛ قيلَ: وما هنَّ؟ فقال: لولا وضوعُ وجهِي للسجودِ لخالِقِي في اختلافِ الليلِ والنهارِ، يكونُ تقدمةً لحياتِي، وظمأُ الهواجرِ، ومقاعدةُ أقوامٍ ينتقونَ الكلامَ كما تُنتقى الفاكهةُ. قال أبو نعيم: وتمامُ التقوى: أن يتقيَ اللهَ عز وجل العبدُ، حتى يتقيَه في مثلِ مثقالِ ذرةٍ، حتى يتركَ بعضَ ما يَرَى أنَّه حلالٌ خشيةَ أن يكونَ حَرَامًا، يكونُ حاجزًا بينه وبين الحرامِ؛ إن اللهَ تعالى قد بَيَّنَ لعبادِه الذي هو يُصَيِّرُهم إليه؛ قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8]. فلا تَحْقِرَنَّ شيئًا من الشرِّ أن تتقِيَهُ، ولا شيئًا من الخير أن تفعَلَه (¬2). ¬

(¬1) الحلية (10/ 81). (¬2) الحلية (1/ 212).

تفكيرُ الحسينِ: عن الحسنِ قال: تَفَكُّرُ ساعةٍ، خيرٌ من قيامِ ليلةٍ (¬1). أفضلُ العبادةِ: عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ قالَ: الكلامُ بذكرِ اللهِ حسنٌ، والفكرةُ في نعمِ اللهِ أفضلُ عبادةٍ (¬2). الفكرُ أولاً: عن وهبِ بن مُنَبَّهٍ قال: ألم يفكِّر ابنُ آدمَ، ثمَّ يَتَفَهَّمُ ويعتبرُ، ثم يُبْصِرُ، ثم يعقِلُ ويتفقَّهُ حتى يعلَمَ؟ فيتبيَّنُ له: أنَّ للهِ حلمًا: به يخلقُ الأحلامَ، وعلمًا: به يعلمُ العلماءَ، وحكمةً: بها يُتْقِنُ الخلقَ، ويدبِّرُ بها أمورَ الدنيا والآخرةِ؛ فإنَّ ابن آدمَ، لن يبلغَ بعلْمِه المقدرِ علمَ اللهِ الذي لا مقدارَ له، ولن يبلغَ بحلمِه المخلوقِ حلمَ اللهِ الذي بِهِ خلقَ الخلقَ كله، ولن يبلغَ بحكمتِه حكمةَ اللهِ: التي بها يتقنُ الخلقَ، ويُقَدِّرُ المقاديرَ؛ وكيف يُشْبِهُ ابنُ آدمَ ربَّ ابنِ آدمَ؟ وكيف يكونُ المخلوقُ كمن خَلَقَهُ؟ (¬3). احذر سَخَطَ ربِّك: وعن سفيانَ الثوريِّ، قالَ: احذرْ سَخَطَ اللهِ في ثلاثٍ: احذرْ أنْ تُقَصِّرَ فيما أمرَك، واحذرْ أن يَرَاكَ وأنتَ لا تَرْضَى بما قَسَمَ لك، وأن تطلبَ شيئًا من ¬

(¬1) الحلية (6/ 271). (¬2) الحلية (5/ 314). (¬3) الحلية (4/ 23 - 24).

الدنيا فلا تَجِدْهُ، أن تسخَطَ على ربِّكَ (¬1). تأملاتٌ: عن جعفرَ بنِ سليمانَ قال: سمعتُ خليفةَ العبديَّ يقولُ: لو أنَّ اللهَ لم يُعْبَدْ إلا عن رؤيةٍ، ما عبدَهُ أحدٌ؛ ولكنْ المؤمنونَ تفكَّرُوا في مجيءِ هذا الليلِ إذا جاءَ، فَمَلَأَ كلَّ شيءٍ وغَطَّى كلَّ شيءٍ، وفي مَجِيءِ سلطانِ النهارِ إذا جاءَ، فمَحَا سلطانَ الليلِ؛ وفي السَّحابِ المسخَّرِ بين السماءِ والأرضِ، وفي النجومِ، وفي الشتاءِ، وفي الصيفِ؛ واللهِ ما زَالَ المؤمنونَ يتفكَّرُونَ فيما خلقَ ربُّهم، حتى أيقنَتْ قلوبُهم بربِّهم؛ وحتَّى كأنَّمَا عبدوا الله تعالى عن رؤيةٍ (¬2). عبادةُ أبي الدرداءِ: عن عونِ بنِ عبدِ اللهِ قالَ: سألتُ أمَّ الدرداءِ: ما كان أفضلُ عملِ أبي الدرداءِ؟ قالت: التفكرُ والاعتبارُ (¬3). تفكُّرُ داودَ الطائيِّ: عن عبدِ الأعلى بنِ زيادٍ الأسلميِّ قال: رأيتُ داودًا الطائيَّ يومًا، قائمًا على شاطئِ الفراتِ، مبهوتًا؛ فقلتُ: يا أبا سليمانَ، ما يوقِفُك هنا؟ قال: انظُرْ إلى الفُلْكِ، كيفَ تجرِي في البحرِ مسخراتٍ بأمرِ اللهِ تعالى (¬4). ¬

(¬1) نزهة الفضلاء (1/ 697). (¬2) الحلية (6/ 303). (¬3) الحلية (4/ 253). (¬4) (7/ 356).

كيفيةُ التعاملِ مع الأسبابِ: وقال بنانٌ الحمالُ: رؤيةُ الأسبابِ على الدوامِ قاطعةٌ عن مشاهدةِ المسبِّبِ، والإعراضُ عن الأسبابِ جملةً، يؤدِّي بصاحِبِه إلى ركوبِ الباطلِ (¬1). لو كُشِفَ الغطاءُ: وعن أحمدَ بن أبي الحواريِّ، قال: كُنتُ أسمعُ وكيعًا يبتدئُ قبلَ أن يُحَدِّثَ فيقولُ: ما هنالِك إلا عفوُه، ولا نعيشُ إلا في سترِه، ولو كُشِفَ الغطاءُ لكُشِفَ عن أمرٍ عظيمٍ (¬2). كيفيةُ المراقبةِ: سُئِلَ عبدُ اللهِ بن فاتكٍ عن المراقبةِ فقال: إذا كنتَ غافلًا: فانظُرْ نَظَرَ اللهِ إليك؛ وإذا كنتَ قائلًا: فانظر سَمْعَ اللهِ إليك؛ وإذا كنتَ ساكتًا: فانظُرْ علمَ اللهِ فيكَ قال اللهُ تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] (¬3). * * * ¬

(¬1) نزهة الفضلاء (3/ 1169). (¬2) نزهة الفضلاء (2/ 987). (¬3) الحلية (10/ 358).

أثر الذنوب والمعاصي في ضعف تعظيم الله في القلب

أثرُ الذنوبِ والمعاصِي في ضَعْفِ تعظيمِ اللهِ في القلبِ قالَ الإمامُ ابنُ القيمِ: «ومن عُقُوباتِها ـ أي الذنوبُ والمعاصي ـ أنها تُضْعِفُ في القلبِ تعظيمَ الربِّ جلَّ جلالُه وتضعِفُ وقَارَهُ في قلبِ العبدِ ولا بدَّ شاءَ أم أبى، ولو تمَكَّنَ وقَارُ اللهِ وعظمتُه في قلبِ العبدِ لما تجرَّأَ على معاصِيه. وربَّما اغتَرَّ المغتَرُّ وقال إنما يحمِلُني على المعاصِي حسنُ الرجاءِ وطَمَعِي في عَفْوِهِ لا ضعفُ عظمتِه في قلبِي وهذا من مغالطةِ النفسِ؛ فإنَّ عظمةَ اللهِ تعالى وجلالَه في قلبِ العبدِ وتعظيمَ حرماتِه يحولُ بينَه وبينَ الذنوبِ، والمتجرِّؤنَ على معاصِيه ما قَدَرُوه حقَّ قدرِه، وكيفَ يَقْدُرُهُ حقَّ قدرِه أو يعظِّمُه أو يكَبِّرُه أو يرجُو وقارَه ويُجِلُّهُ من يهونُ عليهِ أمْرُهُ ونَهْيُهُ؛ هذا من أمحلِ المحالِ وأبينِ الباطلِ، وَكَفَى بالعاصِي عقوبةً أَنْ يَضْمَحِلَّ من قَلْبِهِ تعظيمُ اللهِ جلَّ جلالُه وتعظيمُ حرماتِه، ويهونَ عليهِ حَقُّهُ. ومن بعضِ عقوبةِ هذا أن يرفَعَ اللهُ عزَّ وجلَّ مهابَتَهُ من قلوبِ الخلقِ ويهونُ عليهم ويستخِفُّونَ به كما هَانَ عليه أَمْرُهُ واستَخَفَّ به، فعلى قدرِ محبةِ العبدِ للهِ يحِبُّهُ النَّاسُ، وعلى قَدْرِ خَوْفِهِ منَ اللهِ يخافُهُ الناسُ، وعلى قدرِ تعظِيمِه للهِ وحرماتِه يُعَظِّمُ الناسُ حرمَاتِهِ. وكيفَ يَنْتَهِكُ عبدٌ حرماتِ اللهِ ويطمَعُ أنْ لا يَنْتَهِكَ الناسُ حرماتِه، أم كيفَ يهونُ عليهِ حقُّ اللهِ ولا يُهَوِّنُهُ اللهُ على الناسِ، أم كيفَ يستخِفُّ بمعاصِي اللهِ ولا يستخِفُّ به الخلقُ.

وقدْ أشارَ سبحانَهُ إلى هذا في كتابِهِ عندَ ذِكْرِ عقوباتِ الذنوبِ وأنَّهُ أَرْكَسَ أربابَها بما كَسبُوا، وغَطَّى على قلوبِهم وطَبَعَ عليها بذنوبِهم، وأنَّه نسيَهُمْ كما نَسُوهُ، وأهانَهُمْ كما أهانُوا دينَه، وضَيَّعَهُم كما ضَيَّعُوا أمرَهُ؛ ولهذا قال تعالى في آيةِ سجودِ المخلوقاتِ له: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]؛ فإنَّهم لما هانَ عليهِمُ السجودُ له واستَخَفُّوا بِهِ ولم يَفْعَلُوهُ، أهانَهُم فلم يَكُنْ لهم مِنْ مُكْرِمٍ بعدَ أنْ أهانَهُمْ، ومَنْ ذا يُكْرِمُ من أهانَهُ اللهُ أو يُهِنْ من أَكْرَمَ» (¬1). * * * ¬

(¬1) الجواب الكافي (1/ 46).

عشرة وسائل لتعظيم الله عز وجل

عشرةُ وسائل لتعظيم الله عز وجل لا شكَّ أن تعظيمَ اللهِ عز وجل من أجلِ العباداتِ القلبيةِ التي تَظْهَرُ آثارُها على الجوارحِ من خلالِ المسارعةِ إلى كلِّ ما يُحِبُّهُ اللهُ ويرضَاهُ منَ الأقوالِ والأفعالِ الظاهرةِ والباطنةِ. فلولا وجودُ نوعِ تعظيمٍ للهِ عز وجل في القلبِ لما صبرَ الناسُ على طاعةِ اللهِ، وعن معصيةِ اللهِ، وعلى أقدارِ اللهِ المؤلمةِ. وعلى قَدْرِ تعظيمِ اللهِ تعالى في القلبِ يكونُ إحسانُ العبادةِ وإتمامُها وإكمالُها وإتقانُها. وهناك وسائل كثيرة لتعظيمِ اللهِ تعالى منها: 1 - إفرادُ اللهِ سبحانَه بالوحدانيةِ: فيشهد العبدُ انفرادَ اللهِ تعالى بالخلقِ والحُكْمِ، وأن ما شاء كان وما لم يشا لم يكنْ، وأنه لا تتحركُ ذرةٌ إلا بإذنِه، وأنَّ الخلقَ مقهورونَ تحتَ قبضَتِهِ، وأنه ما من قلبٍ إلا وهو بين أصبعينِ من أصابِعِهِ، إنْ شاءَ اللهُ أن يُقِيمَهُ أقَامَهُ، وإنْ شاءَ أن يُزِيغَهُ أزَاغَهُ، فالقلوبُ بيدِهِ، وهو مُقَلِّبُهَا ومُصَرِّفُهَا كيفَ شاءَ وكيفَ أرادَ، وأنَّه هو الذي آتَى نفوسَ المؤمنينَ تَقْوَاهَا، وهو الذي هَداهَا وزكَّاهَا، وأَلْهَمَ نُفوسَ الفُجَّارِ فُجُورَهَا وَأَشْقَاهَا، من يهدِ اللهَ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هَادِيَ له، يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ بفضْلِهِ ورحمَتِهِ، ويُضِلُّ من يشاءُ بعدلِهِ وحِكْمَتِهِ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]» (¬1). ¬

(¬1) مدارك السالكين (2/ 412).

فإذا شاهدَ العبدُ ذلك، واستقرَّ في قلبِهِ إفرادُ اللهِ تعالى بالوحدانيةِ، فأوْرَثَه ذلك ـ ولا بدَّ ـ تعظيمَ اللهِ عز وجل، وانتقلَ من توحيدِ الربوبيةِ إلى توحيدِ الألوهيةِ، فاتخذ اللهَ وحدَه إلهًا ومعبودًا، وأحبَّ ما يحبُّه الله، وأبغضَ ما يبغضُه اللهُ، وأعطى للهِ، ومنع للهِ، ووالى في اللهِ، وعادى في اللهِ، فهذا التوحيدُ هو الذي من أجلِهِ أُرْسِلَتِ الرُّسلُ، وأُنْزِلَتِ الكتبُ، وخُلِقَ الخلقُ، وقَامَتْ سوقُ الجهادِ على ساقٍ. قال ابنُ القيمِ رحمه الله في منزلةِ التعظيمِ: «هذه المنزلةُ تابعةٌ للمعرفةِ، فعلى قَدْرِ المعرفةِ يكونُ تعظيمُ الربِّ تعالى في القلبِ، وأعرفُ الناسِ به، أشدُّهم له تعظيمًا وإجلالًا، وقد ذمَّ اللهُ تعالى من لم يُعَظِّمْه حقَّ عظمتِه، ولا عرفَه حقَّ معرفتِه، ولا وَصَفَهُ حقَّ صِفَتِه، فقال: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارً} [نوح:13]، قال ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ: «لا ترجُونَ للهِ عظمةً». وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ: «ما لكم لا تعظِّمُونَ اللهَ حقَّ عظمَتِه» (¬1). 2 - تدبُّر معاني أسماءِ اللهِ تعالى وصفاتِه: فأسماءُ اللهِ تعالى كلُّهَا حُسْنَى، وكلُّها تدلُّ على الكمالِ المطلقِ، والحمدِ المطلقِ، وكلُّهَا مشتقةٌ من أوصَافِها، فتدبرُ معاني هذه الأسماءِ وما تُوجِبُهُ من آثارٍ من وسائلِ تعظيمِ اللهِ عز وجل قال تعالى: {ولِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]، وقد ثبتَ في الصحيحينِ (¬2) من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قالَ: ¬

(¬1) المصدر السابق (2/ 495). (¬2) رواه البخاري (2531)، ومسلم (4836).

«إنَّ للهِ تسعةً وتسعينَ اسمًا، مائةً إلا واحدًا، من أَحْصَاهَا دخلَ الجنةَ» أي من حَفِظَها وفهمَ معانِيها ومدلولَها، وأثْنَى على اللهِ بها، وسأَلَهُ بها، واعْتَقَدَها دخلَ الجنةَ، والجنةُ لا يدخُلُها إلا المؤمنونَ، فعُلِمَ أنَّ ذلك أعظمُ ينبوعٍ ومادةٍ لحصولِ الإيمانِ وقوتِهِ وثباتِهِ (¬1). 3 - تدبر القرآن: قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]، فهذا دليلٌ على أن تدبرَ القرآنِ العظيمَ يورثُ الخشيةَ والتعظيمَ للهِ سبحانه وتعالى، قال ابنُ القيمِ: «فليسَ شيءٌ أنفعُ للعبدِ في معاشِه ومعادِه، وأقربُ إلى نجاتِه من تدبرِ القرآنِ، وإطالةِ التأملِ فيه، وجمعِ الفكرِ على معانِي آياتِهِ، فإنَّها تُطْلِعُ العبدَ على معالمِ الخيرِ والشرِّ بحذافِيرِها، وعلى طرقَاتِهِمَا وأسبابِهِمَا وغاياتِهِمَا وثمراتِهِمَا، ومآلِ أهلِهِمَا، وتُتِلُّ في يدِهِ (¬2) مفاتيحَ كنوزِ السعادةِ والعلومِ النافعةِ، وتُثَبِّتُ قواعدَ الإيمانِ في قلبِه، وتُشَيِّدُ بنيانَه، وتُوَطِّدُ أركانَه، وتُرِيهِ صورةَ الدنيا والآخِرَةَ، والجنةِ والنارِ في قلبِه، وتُحْضِرُه بينَ الأممِ، وتُرِيهِ أيَّامَ اللهِ فيهم، وتبصِّرُه مواقِعَ العِبَرِ، وتُشْهِدُهُ عدلَ اللهِ وفَضْلِهِ، وتُعَرِّفُهُ ذاتَهُ، وأَسْمَاءَهُ وصِفَاتِهُ وأَفْعَالَهُ، وما يحبُّهُ وما يبغضُه، وصراطَه الموصِّلَ إليه، وما لسالِكِيه بعدَ الوصولِ والقدومِ عليه، وقواطعَ الطريقِ وآفاتِها» (¬3). ¬

(¬1) شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة (ص:3 - 4). (¬2) تتل في يده: تلقيه. (¬3) مدار السالكين (1/ 450).

وقد قال الله تعالى في وصفِ كتابِه: {لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21]، فإذا كانَ هذا تأثيرُ القرآنِ على الجبالِ، فكيفَ يكونُ تأثيرُه على قلبِ المؤمنِ؟ قال جعفرُ: «سمعتُ مالكَ بن دينارٍ قرأَ: {لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ ..} الآية، ثم قالَ: أقسمُ لكم لا يؤمنُ عبدٌ بهذا القرآنِ إلا صُدِعَ قلبُه» (¬1). وعن ثابتٍ البنانيِّ أنه قرأ: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة:7]، قال: تأكلُه إلى فؤادِه وهو حيٌّ، ثم بكَى وأبكَى من حَوْلَه (¬2). 4 - التفكرُ في آلاءِ اللهِ وعظيمِ نعمِه: قال ابنُ القيمِ: «فجديرٌ بمن له مُسْكَةٌ من عقلٍ (¬3) أن يسافرَ بفكرِهِ في هذه النعمِ والآلاءِ، ويكررُ ذكرَهَا، لعلَّه يوقِفُه على المرادِ منها ما هو، ولأيِّ شيءٍ خُلِقَ، ولماذا هُيِّئَ، وأيُّ أمرٍ طُلِبَ منه على هذه النعمِ، كما قال تعالى: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف:69]، فَذِكْرُ آلائِه تبارك وتعالى ونعمِه على عبدِه سببُ الفلاحِ والسعادةِ لأن ذلك لا يزيدُه إلا محبةً للهِ وحمدًا وشكرًا وطاعةً» (¬4). 5 - التأملُ في ملكوتِ السمواتِ والأرضِ: وهذا أيضًا من أعظمِ وسائلِ تعظيمِ اللهِ تعالى، وقدْ ربطَ القرآنُ بين هذا ¬

(¬1) الحلية (2/ 378). (¬2) السابق (2/ 323). (¬3) مسكة من عقل: بقية. (¬4) مفتاح دار السعادة (1/ 229).

التأملِ وبين تعظيمِ اللهِ تعالى فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]. وقد ذكر ابنُ القيمِ رحمه الله أن الربَّ تعالى يدعو عبادَه في القرآنِ إلى معرفَتِه من طريقينِ: أحدهما: النظرُ في مفعولاتِه. والثاني: التفكرُ في آياتِه وتدبرُها (¬1). وقال رحمه الله: والنظرُ في هذه الآياتِ وأمثالِها نوعانِ: نظرٌ إليها بالبصرِ الظاهرِ، فَيَرى ـ مثلًا ـ زُرقةَ السماءِ ونجومَها وعلوَّها وسَعَتَها، وهذا نظرٌ يشاركُ الإنسانُ فيه غيرَه من الحيواناتِ، وليسَ هو المقصودُ بالأمرِ. والثاني: أن يتجاوزَ هذا إلى النظرِ بالبصيرةِ الباطنةِ، فتفتحُ له أبوابُ السماءِ، فيجولُ في أقطارِها وملكوتِها وبين ملائِكَتِها. ثم يفتحُ له بابٌ بعد بابٍ، حتى ينتهيَ به سَيْرُ القلبِ إلى عرشِ الرحمنِ، فينظرُ سَعَتَه وعظمتَهُ وجلالَهُ ومجدَهُ ورفعَتَهُ، ويرَى السمواتِ السبعَ والأرضينَ السبعَ بالنسبةِ إليهِ كحلقةٍ ملقاةٍ بأرضِ فلاةٍ. ويَرَى الملائكةَ حافِّينَ من حَوْلِه، لهم زَجَلٌ بالتسبيحِ والتحميدِ والتقديسِ والتكبيرِ، والأمرُ ينزلُ من فوقِه بتدبيرِ الممالكِ والجنودِ التي لا يعلَمُهَا إلا ربُّها ومليكُها. فينزلُ ¬

(¬1) الفوائد (ص:40).

الأمرُ بإحياءِ قومٍ وإماتةِ آخرينَ، وإعزازِ قومٍ وإذلالِ آخرينَ، وإسعادِ قومٍ وشقاوةِ آخرينَ، وإنشاءِ مُلْكٍ وسَلْب مُلْكٍ، وتحويلِ نعمةٍ من مَحَلٍّ إلى محلٍّ، وقضاءِ الحاجاتِ على اختلافِها وتباينِها وكثرتِها؛ من جبرِ كسيرٍ، وإغناءِ فقيرٍ، وشفاءِ مريضٍ، وتفريجِ كربٍ، ومغفرةِ ذنبٍ، وكشفِ ضرٍّ، ونصرِ مظلومٍ، وهدايةِ حيرانَ، وتعليمِ جاهلٍ، وردِّ آبقٍ، وأمانِ خائفٍ، وإجارةِ مستجيرٍ، ومددٍ لضعيفٍ، وإغاثةٍ لملهوفٍ وإعانةٍ لعاجزٍ، وانتقامٍ من ظالمٍ، وكفٍّ لعدوانٍ ... فحينئذٍ يقومُ القلبُ بين يديِ الرحمنِ مُطرِقًا لهيبتِه، خاشِعًا لعظمتِه، عانٍ لعزَّتِه، فيسجدُ بينَ يدَيِ الملكِ الحقِّ المبينِ سجدةً، لا يرفعُ رأسَهُ منها إلى يومِ المزيدِ (¬1). 6 - تعظيمُ شعائرِ اللهِ وحرماتِه: فإذا عظَّمَ العبدُ ما عظَّمَه اللهُ تبارك وتعالى، امْتَلَأَ قلبُه بالتعظيمِ لله والخشيةِ منه، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وكانَ من شدةِ تعظيمِ السلفِ لله ?، أنَّهم كانوا يبكُونَ إذا خُولِفَ أمرُ اللهِ سبحانه وتعالى من غيرِهم، فعن ربيعِ بن عتابٍ قال: كنتُ أمشِي مع زيادِ بن جريرٍ، فسَمِعَ رَجُلًا يحلِفُ بالأمانَةِ. قال: فنظرتُ إليه وهو يبكِي قلت: ما يبكِيكَ؟ فقال: أما سَمِعْتَ هذا يحلفُ بالأمانةِ؟ فَلَئَنْ تُحَكُّ أحشَائِي حتى تُدْمَى أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بالأمانةِ (¬2). وكان عمرُ بنُ ذرٍّ يقولُ: آنَسكَ جانبُ حِلْمِهِ فتوثَّبْتَ على معاصِيه! ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة (1/ 199). (¬2) الحلية (4/ 196).

أَفَأَسَفَه تريدُ؟ أما سمعتَه يقولُ: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55]. أيُّها الناسُ: أَجِلّوا مقامَ اللهِ بالتنزُّهِ عما لا يحلُّ، فإنَّ اللهَ لا يؤمنُ إذا عُصِي (¬1). 7 - التأملُ في سننِ اللهِ عز وجل: ومن وسائلِ تعظيمِ الله ?: التأملُ في سننِه التي لا تتبدلُ ولا تتغيرُ ومن هذهِ السننِ: سُنَّةُ الدفْعِ: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة:251]. وسُنَّةُ التداولِ: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]. وسنةُ الابتلاءِ: {أَلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:1 - 3]. وسنةُ التغييرِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوامَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد:11]. وسنةُ نصرِ المؤمنينَ إذا حَقَّقُوا الشرطَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وغير ذلك من السنن. ¬

(¬1) الحلية (5/ 111).

فلا شكَّ أنَّ التأملَ في هذهِ السننِ وغيرِها مما يورثُ تعظيمَ اللهِ في القلوبِ، لأنه يؤدِّي إلى حقيقةٍ مفادُها أنَّ لهذا الكونِ إلهًا عظيمًا قادرًا، له مقاليدُ كلِّ شيءٍ، ولا يُعْجِزُهُ شيءٌ في الأرضِ ولا في السماءِ، غيرَ أنه سبحانه وتعالى قد سَيَّرَ هذا الكونَ بما فيه وَفْقَ نظامٍ مُحكمٍ وقوانينَ ثابتةٍ لا تتبدلُ ولا تتغيرُ. 8 - معرفةُ بعضِ جوانبِ الإعجازِ العلميِّ في القرآنِ والسنةِ: ومثالُ ذلكَ قولُ اللهِ تعالى: {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق:12]، قال الدكتور زغلولٌ النجارُ: «من الآياتِ الوصفيةِ المبهرةِ قولُ الحقِّ تبارك وتعالى في سورةِ الطارقِ: {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} فهذا قسمٌ عظيمٌ لحقيقةٍ كونيةٍ مبهرةٍ لم يُدْرِكْها العلماءُ إلَّا في النِّصفِ الأخيرِ من القرنِ العشرينَ. فالأرضُ التي نَحْيَا عليها لها غلافٌ صَخْرِيٌّ خارجيٌّ، هذا الغلافُ مُمَزَّقٌ بشبكةٍ هائلةٍ من الصُّدوعِ، تمتدُّ لمئاتِ الآلافِ من الكيلومتراتِ طولًا وعرضًا، بعمقٍ يتراوحُ ما بين 65 كيلومترًا و150 كيلومترًا في كلِّ الاتجاهات. ومن الغريبِ أن هذه الصدوعَ مرتبطةٌ ببعضِها البعضِ ارتباطًا يجعلُها كأنَّها صدعٌ واحدٌ، يُشَبِّهُهُ العلماءُ باللِّحامِ على كرةِ التنسِ. وانطلاقًا من ذلك يُقْسِمُ اللهُ تعالى بهذه الحقيقةِ الكونيةِ المبهرةِ، التي لم يَسْتَطِعْ العلماءُ أن يدركُوا أبعادَها إلا بعدَ الحربِ العالميَّةِ الثانِيَةِ، واستمرتْ دراستُهم لها لأكثر من عشرينَ سنةً متصلةً من 1945 م - 1965 م حتى استطاعُوا أن يرسمُوا هذه الصدوعَ بالكاملِ، والقرآنُ الكريمُ كانَ قد سبقَ

إدراكَهم بأكثرِ من ألفٍ وأربعمائةٍ من السنينَ بقولِ الحقِّ تبارك وتعالى: {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}» (¬1). فلا شكَّ أنْ تأمُّلَ مثلَ هذهِ الحقائقِ العلميةِ الموافقةِ للقرآنِ الكريمِ مما يُقَوِّي جانبَ تعظيمِ اللهِ سبحانه وتعالى في النفسِ. 9 - التأملُ في دلائلِ الحكمةِ الإلهيةِ: فهو سبحانه وتعالى الحكيمُ الذي بَهَرَتْ حكمتُه الألبابَ، وهو سبحانه لم يخلُقْ شيئًا عبثًا ولا سدىً، وله الحكمةُ البالغةُ في كلِّ ما قدَّرَهُ وقَضَاهُ من خيرٍ وشرٍّ وطاعةٍ ومعصيةٍ، وحِكَمُهُ سبحانه باهرةٌ تَعْجَزُ العقولُ عن الإحاطةِ بكُنْهها، وتَكِلُّ الألسنُ عن التعبيرِ عنها. وللهِ في كلِّ تحريكةٍ ... وتسكينةٍ أبدًا شاهدُ وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ ... تدلُّ على أنه واحدُ وحظُّ العبدِ في نفسِه وما يخصُّه من شهودِ هذهِ الحكمةِ فبحَسَبِ استعدادِه وقوةِ بصيرتِه، وكمالِ علمِه ومعرفتِه باللهِ وأسمائِه وصفاتِه، ومعرفتِه بحقوقِ العبوديةِ والربوبيةِ. وكلُّ مؤمنٍ له من ذلك شِربٌ معلومٌ، ومقامٌ لا يتعدَّاه ولا يتخطَّاه، واللهُ الموفقُ والمعينُ (¬2). 10 - محاسبةُ النفسِ: من وسائلِ تعظيمِ اللهِ عز وجل: «محاسبةُ النفسِ» وذلكَ لأنَّ من أركانِ ¬

(¬1) من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم (ص:83 - 84)، باختصار يسير. (¬2) انظر: مدارج السالكين (1/ 411 - 412).

المحاسبةِ المقايسةِ بينَ ما كانَ من اللهِ من نعمٍ وإمهالٍ وسِتْرٍ وإفضالٍ وما من العبدِ من غفلةٍ وجهلٍ ومعصيةٍ. قال ابنُ القيمِ: «وبهذه المقايسةِ تعلمُ أن الربَّ ربٌّ والعبدَ عبدٌ، ويتبينُ لك حقيقةُ النفسِ وصفاتِها، وعظمةُ جلالِ الربوبيةِ، وتفرُّدُ الربِّ بالكمالِ والإفضالِ، وأنَّ كلَّ نعمةٍ منه فضلٌ، وكلَّ نقمةٍ منه عدلٌ، وأنتَ قبلَ هذه المقايسةِ جاهلٌ بحقيقةِ نفسِكَ، وبربوبيةِ فاطِرِها وخالِقِها ...» (¬1). * * * ¬

(¬1) مدارج السالكين (1/ 188).

من ثمرات تعظيم الله عز وجل

من ثمراتِ تعظيمِ اللهِ عز وجل هناكَ آثارٌ كثيرةٌ لتعظيمِ اللهِ عز وجل على القلوبِ والجوارحِ منها: أ - على الفردِ: 1 - تحقيقُ التوحيدِ للهِ والسلامةُ من الشركِ ووسائلِه. 2 - محبةُ اللهِ عز وجل المحبةَ الشرعيةَ. 3 - الخوفُ من اللهِ عز وجل من غيرِ قنوطٍ. 4 - الرجاءُ في اللهِ عز وجل مع حسنِ العملِ. 5 - مراقبةُ اللهِ عز وجل في السرِّ والعلانيةِ. 6 - التوكلُ على اللهِ في كلِّ الأمورِ معَ الأخذِ بالأسبابِ. 7 - الثقةُ باللهِ عز وجل في أَحْلَكِ الظروفِ. 8 - الثباتُ والطمأنينةُ واليقينُ في اللهِ عز وجل. 9 - الحياءُ من اللهِ عز وجل. 10 - التبرؤُ من الحولِ والقوةِ وإظهارُ الافتقارِ إلى اللهِ عز وجل. 11 - تحكيمُ شرعِ اللهِ عز وجل في كافةِ الأمورِ مع الرِّضَا والتسليمِ. 12 - حفظُ الضرورياتِ الخمسِ؛ وهيَ: الدينُ، والنفسُ، والعقلُ، والمالُ، والعرضُ. 13 - المسارعةُ إلى أداءِ الواجباتِ من صلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ وحجٍّ وبرٍ

ب - على الأسرة

بالوالدينِ وصلةٍ للرحمِ وحسنِ خلقٍ. 14 - تركُ جميعِ المعاصي والمنكراتِ القوليةِ والعمليةِ والاعتقاديةِ. 15 - كثرةُ ذكرِ اللهِ عز وجل ودعائِه واستغفارِه وتلاوةِ كتابِه. 16 - الإكثارُ من ذكرِ الموتِ. 17 - قصرُ الأملِ. 18 - اتهامُ النفسِ دائمًا بالإهمالِ والتقصيرِ. 19 - ألَّا يَرَى لنفسِهِ على اللهِ حقًّا. 20 - ألا يَشْكُو اللهَ عز وجل إلى خلقِه. 21 - ألا يُذِلَّ نفسَه لصاحبِ دنيا. ب - على الأسرةِ: لا شكَّ أنَّ الأسرةَ هي المنبعُ الأساسُ الذي يصدُرُ عنه كافَّةُ الأخلاقِ والسلوكياتِ والتصرفاتِ، سواءٌ أكانت أخلاقًا وسلوكياتٍ محمودةً أم مذمومةً. ولذلكَ فإنَّ الأسرةَ إذا تربَّتْ ونشأَتْ على معانِي تعظيمِ اللهِ ـ ومراقبتِه في السرِّ والعلانيةِ، فإنَّ ذلك سوفَ يُنْتِجُ أفرادًا يتحلَّوْنَ بعُمْقِ الإيمانِ ومكارمِ الأخلاقِ، والوقوفِ عندَ حدودِ اللهِ ـ، وكبحِ جماحِ رغباتِ النفسِ وشهواتِها، والحذرِ من كلِّ ما يُغْضِبُ اللهَ ـ مهما كانتِ الظروفُ معينةً على المعصيةِ حاثَّةً على الوقوعِ فيها.

ومن ثمراتِ تعظيمِ اللهِ سبحانه في محيطِ الأسرةِ ما يلي: 1 - أداءُ الحقوقِ، سواءٌ حقُّ الوالدينِ، أو الزوجِ، أو الزوجةِ، أو الأولادِ، أو الخادمِ. 2 - تربيةُ الأبناءِ على الأخلاقِ الكريمةِ والصفاتِ النبيلةِ. 3 - تربيةُ الأبناءِ على مراقبةِ اللهِ وتعظيمِه في السرِّ والعلانيةِ. 4 - تعظيمُ شأنِ الصلاةِ في محيطِ الأسرةِ. 5 - مشاركةُ أفرادِ الأسرةِ في الأعمالِ الخيريَّةِ والأنشطةِ الاجتماعيةِ. 6 - تطهيرُ البيتِ منَ الملاهِي والمنكراتِ والصُوَرِ. 7 - المحافظةُ على الوقتِ لأنَّه في الحقيقةِ هو عُمُرُ الإنسانِ ورأسُ مالِه الذي يشترِي به مرضاةَ اللهِ والخلودَ في الجنةِ والنجاةَ من النارِ. 8 - الإحسانُ إلى الجيرانِ وعدمُ إيذائِهم وتعاهُدِهِم بالتُّحَفِ والهدايا والزياراتِ. 9 - ترتيبُ الأولوياتِ، وتقديمُ الفرائضِ على النوافلِ، وواجبِ الوقتِ على غيرِه. 10 - تعظيمُ أوامرِ اللهِ ونواهِيهِ ونصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ والانقيادِ التامِّ لها. 11 - تربيةُ أفرادِ الأسرةِ على روحِ الإبداعِ والتفوقِ والتميُّزِ في كافَّةِ مجالاتِ الحياةِ، وهذا من الإحسانِ الذي أَمَرَنَا الله تعالى به: {وَأَحْسِنُوَا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195].

جـ - من ثمرات تعظيم الله على المجتمع

جـ - من ثمراتِ تعظيمِ اللهِ على المجتمعِ: إن المجتمعَ الذي يغلبُ على أفرادِه خشيةُ اللهِ تعالى وتعظيمُه في الغيبِ والشهادةِ يكثُرُ خيرُه، ويقلُّ شرُّه، وينتفعُ به القريبُ والبعيدُ، والقاصِي والداني، ويصبحُ قدوةً لغيرِه من المجتمعاتِ والشعوبِ، ومن ثمراتِ تعظيمِ اللهِ على المجتمعِ ما يلي: 1 - حفظُ الضرورياتِ الخمسِ التي جاءَ الإسلامُ بحفظِها؛ وهي: الدينُ، والنفسُ، والعقلُ، والمالُ، والعرضُ. 2 - التكافلُ الاجتماعِيُّ بحيثُ لا يبقَى جائعٌ لا يجِدُ طعامًا، ولا مريضٌ لا يَجِدُ دواءً، ولا عَارٍ لا يَجِدُ لباسًا، ولا أُسرةٌ مهددَّةٌ بالطردِ من البيتِ، لأنَّ ربَّ الأسرةِ لا يَجِدُ قيمةَ إيجارِ البيتِ، أو قيمةَ ما تَسْتَهْلِكُهُ الأسرةُ من ماءٍ وكهرباء. 3 - تعزيزُ الأخلاقِ الإسلامية بينَ أبناءِ المجتمعِ، وتنفيرُ أبناءِ المجتمعِ من الأخلاقِ السيئةِ، وتكريمُ أهلِ التميزِ في هذا البابِ. 4 - حملُ رايةِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ بالطرقِ الشرعيةِ التي تُثمرُ المطلوبَ من كثرةِ المعروفِ وطرقِ الخيرِ، وإماتةِ المنكراتِ أو تقليلِها. 5 - محاربةُ البدعِ والمحدثات المتعلقةِ بالعباداتِ والمعاملاتِ والسلوكِ، والرجوعُ بالناسِ إلى سماحةِ الإسلامِ وبساطَتِهِ. 6 - إبرازُ أهلِ الخشيةِ والتعظيم كنجومٍ للمجتمعِ ينبغي الاستفادةُ منهم، وفي مقدِّمَتِهم أهلُ العلمِ لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فطر:28].

7 - إشاعةُ روحِ التناصحِ بين أبناءِ المجتمع وبخاصةٍ في أسواقِ المسلمينَ، بحيثُ لا يوجدُ بين الناسِ غشٌّ ولا غررٌ ولا احتكارٌ. 8 - رفضُ المجتمعِ لكافةِ الاستخداماتِ السلبيةِ لوسائلِ الإعلامِ والتقنيةِ، والاقتصارُ على النافعِ والمفيدِ منها، ويدخلُ في ذلك الصحفُ والمجلَّاتُ والقنواتُ التلفزيونيةُ، والراديو والكمبيوتر، والانترنت والهاتفُ الجوالُ وغيرُ ذلك. 9 - تكاتفُ المجتمعِ في مجابهةِ المشكلاتِ الطارئةِ قبلَ أن تتفاقمَ ويستفحلَ خَطَرُها، ومن ذلك: العنوسةُ بين الفتياتِ، البطالةُ، المسكراتُ والمخدراتُ، التدخينُ، التشبُّهُ بالكفارِ، العنفُ والإرهابُ، العلاقاتُ المحرمةُ بين الجنسينِ. 10 - العملُ على تقويةِ روابطِ الوحدةِ والألفةِ بين المسلمين في كلِّ مكانٍ، من أجلِ إقامةِ أمةٍ واحدةٍ قادرةٍ على الحفاظٍ على هويةِ الأمةِ والدفاعِ عن كيانِها ضدَّ كافَّةِ الهجماتِ التي تُشَنُّ عليها. * * *

المعاني الجامعة للأسماء الحسنى

المعاني الجامعة للأسماء الحسنى وقال الشيخُ عبدِ الرحمنِ السعديِّ (¬1): «وقد تكررَ كثيرٌ من أسماءِ اللهِ الحسنى في القرآنِ بحسبِ المناسباتِ، والحاجةُ داعيةٌ إلى التنبيهِ إلى معانِيها الجامعةِ، فنقولُ: قد تكرَّرَ اسمُ «الربِّ» في آياتٍ كثيرةٍ. «الربُّ»: هو المربِّي جميعَ عبادِه بالتدبيرِ وأصنافِ النِّعمِ. وأخصُّ من هذا تربيتُه لأصفيائِهِ بإصلاحِ قلوبِهم وأرواحِهم وأخلاقِهم. ولهذا كَثُرَ دعاؤُهم له بهذا الاسمِ الجليلِ، لأنَّهم يطلبُونَ منه هذهِ التربيةَ الخاصَّةَ. 1 - «اللهُ»: هو المألوهُ المعبودُ، ذو الألوهيةِ والعبوديةِ على خلقِهِ أجمعينَ، لما اتَّصفَ به من صفاتِ الألوهيةِ التي هي صفاتُ الكمالِ. 2، 3 - «الملكُ، المالكُ»: الذي لهُ الملكُ فهو الموصوفُ بصفةِ الملكِ، وهي صفاتُ العظمةِ الكبرياءِ، والقهرِ والتدبيرِ، الذي له التصرفُ المطلقُ في الخلقِ والأمرِ والجزاءِ، وله جميعُ العالمِ العلويِّ والسفليِّ، كلُّهُم عبيدٌ ومماليكُ، ومضطرونَ إليه. 4، 5 - «الواحدُ، الأحدُ»: وهو الذي تَوحَّدَ بجميعِ الكمالاتِ، بحيثُ لا يشارِكُهُ فيها مشاركٌ، ويجبُ على العبيدِ تَوْحِيدُهُ، عقلًا، وقولًا، وعملًا، بأنْ يعترفُوا بكمالِه المطلقِ، وتفرُّدِه بالوحدانيةِ، ويفردُوه بأنواعِ العبادةِ. ¬

(¬1) ملحق بتفسير السعدي (ص:945 - 949).

6 - «الصَّمَدُ»: هو الذي يَقْصِدُهُ الخلائقُ كلُّها في جميعِ حاجَاتِها، وضروراتِها وأحوالِها، لما له من الكمالِ المطلقِ في ذاتِه، وأسمائِه، وصفاتِه، وأفعالِه. 7، 8 - «العليمُ، الخبيرُ»: وهو الذي أحاطَ علمُه بالظاهرِ والباطنِ، والإسرارِ والإعلانِ، وبالواجباتِ والمستحيلاتِ والممكناتِ، وبالعالمِ العلويِّ والسفليِّ، وبالماضِي والحاضِرِ والمستقبلِ، فلا يَخْفَى عليه شيءٌ من الأشياءِ. 9 - «الحكيمُ»: وهو الذي له الحكمةُ العُلْيَا في خلقِهِ وأَمْرِهِ، الذي أحسنَ كلَّ شيءٍ خلقَهُ {أفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. فلا يَخْلُقُ شيئًا عبثًا، ولا يَشْرَعُ شيئًا سُدىً، الذي له الحكمُ في الأولى والآخرةِ، وله الأحكامُ الثلاثةُ لا يشارِكُهُ فيها مشاركٌ، فيحكمُ بين عبادِه، في شرعِه، وفي قدرِه وجزائِه. والحكمةُ: وضعُ الأشياءِ مواضعَها، وتنزيلُها منازِلَها. 10، 16 - «الرحمنُ، الرحيمُ، البَرُّ، الكريمُ، الجوادُ، الرؤوفُ، الوهَّابُ». هذه الأسماءُ تتقاربُ معانِيها، وتدلُّ كلُّها على اتِّصافِ الربِّ بالرحمةِ، والبِرِّ والجودِ، والكرمِ، وعلى سَعَةِ رحمتِه ومواهبِه، التي عمَّ بها جميعَ الوجودِ، بحسبِ ما تقتضِيهِ حكمتُه، وخصَّ المؤمنينَ منها بالنصيبِ الأوفرِ، والحظِّ الأكملِ، قال تعالى: ... {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} الآية.

والنعمُ والإحسانُ كلُّه من آثارِ رحمتِه، وجودِه، وكرمِه، وخيراتُ الدنيا والآخرةِ، كلُّها من آثارِ رحمتِه. 17 - «السميعُ» لجميعِ الأصواتِ، باختلافِ اللغاتِ على تفنُّنِ الحاجاتِ. 18 - «البصيرُ» الذي يبصرُ كلَّ شيءٍ وإنْ دقَّ وصَغُرَ، فيبصرُ دبيبَ النملةِ السوداءِ في الليلةِ الظلماءِ على الصخرةِ الصَّمَّاءِ. ويُبصرُ ما تحتَ الأرضينَ السبعِ، كما يبصرُ ما فوقَ السمواتِ السبعِ. وأيضًا سميعٌ بصيرٌ بمنْ يستحقُّ الجزاءَ بحسبِ حكمتِه، والمعنى الأخيرُ يرجِعُ إلى الحكمةِ. 19 - «الحميدُ» في ذاتِه، وأسمائِه، وصفاتِه، وأفعالِه، فلهُ من الأسماءِ أحسنُها، ومن الصفاتِ أكملُها، ومن الأفعالِ أتمُّها وأحسنُها، فإنَّ أفعالَه تعالى دائرةٌ بينَ الفضلِ والعدلِ. 20 - 23 - «المجيدُ، الكبيرُ، العظيمُ، الجليلُ» وهو الموصوفُ بصفاتِ المجدِ، والكبرياءِ، والعظمةِ، والجلالِ، الذي هو أكبرُ من كلِّ شيءٍ، وأعظمُ من كلِّ شيءٍ، وأجلُّ وأعلى. وله التعظيمُ والإجلالُ في قلوبِ أوليائِه وأصفيائِه، قد مُلئَتْ قلوبُهم من تعظيمِه وإجلالِه، والخضوعِ له والتذلُّلِ لكبريائِه. 24 - 26 - «العفُوُّ، الغفورُ، الغفارُ» الذي لم يزَلْ، ولا يَزَالُ بالعفوِ معروفًا، وبالغفرانِ والصفحِ عن عبادِه موصُوفًا، كلُّ أحدٍ مُضْطَرٌّ إلى عَفْوِه ومغفرَتِه، كما هو مُضْطَرٌّ إلى رحمتِه وكرمِه، وقد وَعَدَ بالمغفرةِ والعفوِ لمن أتى بأسبابِها، قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}.

27 - «التوَّابُ» الذي لم يَزَلْ يتوبُ على التائبينَ، ويغفرُ ذنوبَ المنيبينَ، فكلُّ من تابَ إلى اللهِ توبةً نصوحًا، تابَ اللهُ عليه، فهو التائبُ على التائبينَ أولًا بتوفِيقِهم للتوبةِ والإقبالِ بقلوبِهم إليه، وهو التائبُ عليهم بعد توبَتِهم قبولًا لهم، وعَفْوًا عن خطَايَاهم. 28، 29 - «القدُّوسُ، السلامُ» أي: المعظَّمُ المنزَّهُ عن صفاتِ النقصِ كلِّها، وأن يماثِلَه أحدٌ من الخلقِ، فهو المتنَزِّهُ عن جميعِ العيوبِ، والمتنزِّهُ عن أن يقارِبَه أو يماثِلَه أحدٌ في شيءٍ من الكمالِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}، ... {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}، {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}. فالقدُّوسُ كالسلامِ، ينفيانِ كلَّ نقصٍ من جميعِ الوجوهِ، ويتضمَّنَانِ الكمالَ المطلقَ من جميعِ الوجوهِ، لأنَّ النقصَ إذا انْتَفَى ثَبتَ الكمالُ كُلُّه. 30، 31 - «العليُّ الأعلى» وهو الذي له العلوُّ المطلقُ من جميعِ الوجوهِ، علوُّ الذَّاتِ، وعلوُّ القدرِ والصِّفَاتِ، وعلوُّ القهرِ. فهو الذي على العرشِ اسْتَوَى، وعلى المُلْكِ احْتَوَى، وبجميعِ صفاتِ العظمةِ والكبرياءِ والجلالِ والجمالِ وغايةِ الكمالِ اتَّصَفَ، وإليهِ فيها المُنْتَهَى. 32 - «العزيزُ» الذي له العزةُ كلُّها: عزةُ القوَّةِ، وعزةُ الغلبةِ، وعزةُ الامتناعِ، فامتنعَ أن ينالَه أحدٌ من المخلوقاتِ، وقَهَرَ جميعَ الموجوداتِ، ودَانَتْ لهُ الخليقَةُ وخَضَعَتْ لعظمتِه. 33، 34 - «القويُّ، المتينُ» هو في معنى العزيزِ.

35 - «الجبَّارُ» هو بمعنى العليِّ الأعلى، وبمعنى القهَّارِ، وبمعنى «الرَّؤُوفِ» الجابرِ للقلوبِ المنكسِرَةِ، وللضعيفِ العاجزِ، ولمن لاذَ بهِ ولجأَ إليه. 36 - «المتكبِّرُ» عن السوءِ والنقصِ والعيوبِ، لعظمتِه وكبريائِه. 37 - 39 - «الخالقُ، البارئُ، المصوِّرُ» الذي خلقَ جميعَ الموجوداتِ وبَرَأَها وسوَّاها بحكمتِه، وصوَّرَها بحمدِهِ وحكمتِهِ، وهو لم يَزَلْ ولا يَزَالُ على هذا الوصفِ العظيمِ. 40 - «المؤمنُ» الذي أَثْنَى على نفسِه بصفاتِ الكمالِ، وبكمالِ الجلالِ والجمالِ، الذي أَرْسَلَ رسلَه وأنزلَ كتبَه بالآياتِ والبراهينِ، وصدَّقَ رسلَه بكلِّ آيةٍ وبرهانٍ، يدُلُّ على صدقِهم وصحةِ ما جاؤُوا به. 41 - «المهيمنُ»: المطلعُ على خفايَا الأمورِ وخبايَا الصدورِ، الذي أحاطَ بكلِّ شيءٍ علمًا. 42 - «القديرُ» كاملُ القدرةِ، بقدرتِه أوجدَ الموجوداتِ، وبقدرتِه دبَّرَها، وبقدرتِه سوَّاها وأحكَمَها، وبقدرَتِه يُحيي ويُميتُ، ويبعثُ العبادَ للجزاءِ، ويجازي المحسنَ بإحسانِه، والمسيءَ بإساءَتِه، الذي إذا أرادَ شيئًا قال له: {كُنْ فَيَكُونُ}، وبقدرَتِه يقلِّبُ القلوبَ، ويُصَرِّفُها على ما يشاءُ ويريدُ. 43 - «اللطيف» الذي أحاطَ علمُه بالسرائرِ والخفايَا، وأدركَ الخبايَا والبواطنَ والأمورَ الدقيقةَ، اللطيفُ بعبادِه المؤمنينَ، الموصلُ إليهم مصالِحَهم بلطفِه وإحسانِه، من طرقٍ لا يشعرونَ بها، فهو بمعنى «الخبيرِ» وبمعنى «الرؤوفِ».

44 - «الحسيبُ» هو العليمُ بعبادِه، كافي المتوكلينَ، المُجَازِي لعبادِه بالخيرِ والشَّرِّ، بحسبِ حكمَتِه وعِلْمِهِ بدقيقِ أعمالِهم وجليلِها. 45 - «الرقيبُ» المطلَّعُ على ما أَكَنَّتْهُ الصُدُورُ، القائمُ على كلِّ نفسٍ بما كسبتْ، الذي حَفِظَ المخلوقاتِ وأَجْرَاهَا على أحسنِ نظامٍ وأكملِ تدبيرٍ. 46 - «الحفيظُ» الذي حَفِظَ ما خَلَقَهُ، وأَحَاطَ علمُه بما أوجدَهُ، وحَفِظَ أولياءَه من وقوعِهِم في الذنوبِ والهَلَكَاتِ، ولَطَفَ بهم في الحركاتِ والسكناتِ، وأحصى على العبادِ أعمالَهم وجزاءَها. 47 - «المحيطُ» بكلِّ شيءٍ علمًا، وقدرةً، ورحمةً، وقهرًا. 48 - «القهَّارُ» لكلِّ شيءٍ، الذي خَضَعَتْ لهُ المخلوقاتُ، وذَلَّتْ لعزَّتِه وقوَّتِه وكمالِ اقْتِدَارِه. 49 - «المُقيتُ» الذي أوصلَ إلى كلِّ موجودٍ ما به يقتاتُ، وأوصلَ إليها أرزاقَها وصَرَّفَها كيفَ يشاءُ بحكمتِه وحمدِه. 50 - «الوكيلُ» المتولِّي لتدبيرِ خلقِه بعلمِه وكمالِ قدرتِه وشمولِ حكمتِه، الذي تولَّى أولياءَه، فيَسَّرَهُم لليُسْرَى، وجنَّبَهُمُ العُسْرَى، وكَفَاهُمُ الأمورَ. فمن اتَّخَذَهُ وكِيلًا كَفَاهُ {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}. 51 - «ذو الجلالِ والإكرامِ» أي: ذو العظمةِ والكبرياءِ، وذو الرحمةِ والجودِ، والإحسانِ العامِّ والخاصِّ، المكرمُ لأوليائِه وأصفيائِه، الذين يجلُّونَهُ ويعظِّمُونَهُ ويحبُّونَه.

52 - «الودودُ» الذي يُحِبُّ أنبياءَه ورسُلَهُ وأَتْبَاعَهُم، ويُحِبُّونَهُ، فهو أَحَبُّ إليهم من كلِّ شيءٍ، قدِ امتلَأَتْ قلوبُهم من محبَّتِهِ، ولَهَجَتْ ألسنتُهم بالثناءِ عليه، وانجذَبَتْ أفئدَتُهم إليهِ وُدًّا وإخلاصًا وإنابةً من جميعِ الوجوهِ. 53 - «الفتَّاحُ» الذي يحكمُ بين عبادِه بأحكامِه الشرعيَّةِ، وأحكامِه القدريةِ، وأحكامِ الجزاءِ، الذي فَتَحَ بلُطْفِهِ بصائرَ الصادقِينَ، وفتحَ قلوبَهم لمعرفتِه ومحبتِه والإنابةِ إليه، وفتحَ لعبادِه أبوابَ الرحمةِ والأرزاقِ المتنوعَةِ، وسَبَّبَ لهم الأسبابَ التي ينالُونَ بها خَيْرَ الدُّنْيَا والآخرةِ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ} [فاطر:2]. 54 - «الرزَّاقُ» لجميعِ عبادِه، فما من دابَّةٍ في الأرضِ إلا على اللهِ رزْقُها. ورِزْقُهُ لعبادِه نوعانِ: رزقٌ عامٌّ: شَمَلَ البَرَّ والفاجرَ، والأولينَ والآخرينَ، وهو رزقُ الأبدانِ. ورزقٌ خاصٌّ: وهو رزقُ القلوبِ، وتَغْذِيتُها بالعلمِ والإيمانِ، والرزقُ الحلالُ الذي يعينُ على صلاحِ الدينِ، وهذا خاصٌّ بالمؤمنينَ، على مراتِبِهم منه، بحسبِ ما تقتَضِيهِ حكمتُه ورحمتُه. 55، 56 - «الحَكَمُ، العدْلُ» الذي يحكُمُ بين عبادِه في الدنيا والآخرةِ بعدلِه وقسطِه. فلا يظلمُ مثقالَ ذرَّةٍ ولا يُحَمِّلُ أحدًا وزرَ أحدٍ، ولا يجازِي العبدَ بأكثرَ من ذنبِه، ويؤدِّي الحقوقَ إلى أهلِها، فلا يدَعُ صاحبَ حقٍّ إلا أَوْصَلَ إليه حقَّهُ، وهو العدلُ في تدبيرِه وتقديرِه {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود:56]. 57 - «جامعُ النَّاسِ» ليومٍ لا ريبَ فيه، وجامعُ أعمالِهم وأرزاقِهم، فلا

يتركُ منها صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصَاهَا، وجامعُ ما تفرَّقَ واستحالَ من الأمواتِ الأولينَ والآخرينَ، بكمالِ قدرتِه، وسعةِ علمِه. 58 - «الحيُّ القيُّومُ» كاملُ الحياةِ والقائمُ بنفسِه. القيومُ لأهلِ السمواتِ والأرضِ، القائمُ بتدبيرِهم وأرزاقِهم، وجميعِ أحوالِهم، فـ «الحيُّ»: الجامعُ لصفاتِ الذاتِ، و «القيومُ» الجامعُ لصفاتِ الأفعالِ. 59 - «النورُ» نورُ السمواتِ والأرضِ، الذي نَوَّرَ قلوبَ العارفينَ بمعرفتِه والإيمانِ به، ونَوَّرَ أفئدتَهم بهدايتِه، وهو الذي أنارَ السمواتِ والأرضَ بالأنوارِ التي وضَعَها، وحجابُه النورُ، لو كشَفَه لأحرَقَتْ سبحاتُ وجهِه ما انتهى إليه بَصَرُه من خلقهِ. 60 - «بديعُ السمواتِ والأرضِ» أي: خالقُهما ومبدعُهما، في غايةِ ما يكونُ من الحسْنِ والخلقِ البديعِ، والنظامِ العجيبِ المحكمِ. 61، 62 - «القابضُ، الباسطُ» يقبضُ الأرزاقَ والأرواحَ، ويبسطُ الأرزاقَ والقلوبَ، وذلكَ تبعٌ لحكمتِه ورحمتِه. 63، 64 - «المعطي، المانعُ» لا مانعَ لما أعطَى، ولا معطِيَ لما منعَ، فجميعُ المصالحِ والمنافعِ منه تُطلبُ، وإليه يرغبُ فيها، وهو الذي يعطِيها لمن يشاءُ، ويمنعُها من يشاءُ بحكمتِه ورحمتِه. 65 - «الشهيدُ» أي: المطَّلعُ على جميعِ الأشياءِ. سمعَ جميعَ الأصواتِ خفيَّها وجليَّها، وأبصرَ جميعَ الموجوداتِ دقيقَها وجليلَها صغيرَها وكبيرَها، وأحاطَ علمُه بكلِّ شيءٍ، الذي شَهِدَ لعبادِه وعلى عبادِه بما عملُوه.

66، 67 - «المبدئُ، المعيدُ» قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، ابتدأَ خلقَهم ليبلوَهُم أيهم أحسنُ عملًا، ثم يعيدُهم ليجزيَ الذين أحسنُوا بالحُسْنَى، ويجزِيَ المسيئِينَ بإساءَتِهم. وكذلكَ هو الذي يُبْدِأُ إيجادَ المخلوقاتِ شيئًا فشيئًا، ثم يعيدُها كلَّ وقتٍ. 68 - «الفعَّالُ لما يريدُ» وهذا من كمالِ قوتِه ونفوذِ مشيئتِه وقدرتِه، أنَّ كلَّ أمرٍ يريدُه يفعلُه بلا ممانعٍ ولا معارضٍ، وليسَ له ظهيرٌ ولا معينٌ، على أيِّ أمرٍ يكونُ، بلْ إذا أرادَ شيئًا قال له: {كُنْ فَيَكُونُ}، ومعَ أنَّه الفعَّالُ لما يريدُ، فإرادتُه تابعةٌ لحكمتِه وحمدِه، فهو موصوفٌ بكمالِ القدرةِ، ونفوذِ المشيئةِ، وموصوفٌ بشمولِ الحكمةِ، لكلِّ ما فعلَه ويفعلُه. 69، 70 - «الغنيُّ، المغنِي» فهو الغنيُّ بذاتِه، الذي له الغنى التامُّ المطلقُ، من جميعِ الوجوهِ والاعتباراتِ لكمالِه، وكمالِ صفاتِه، فلا يتطرقُ إليها نقصٌ بوجْهٍ من الوجوهِ، ولا يمكنُ أن يكونَ إلا غنيًّا، لأن غنَاهُ من لوازمِ ذاتِه، كما لا يكونُ إلا خالقًا، قادرًا، رازقًا، محسنًا، فلا يحتاجُ إلى أحدٍ بوجْهٍ من الوجوهِ، فهو الغنيُّ، الذي بيدِه خزائنُ السمواتِ والأرضِ، وخزائنُ الدنيا والآخرةِ. المغني جميعَ خلقِه غنىً عامًّا، والمغنِي لخواصِّ خلقِه بما أفاضَ على قلوبِهم من المعارفِ الربانيَّةِ والحقائقِ الإيمانيةِ. 71 - «الحليمُ» الذي يدرُّ على خلقِه النعمَ الظاهرةَ والباطنةَ، مع معاصِيهم وكثرةِ زَلَّاتِهم، فيحلُمُ عن مقابلةِ العاصِينَ بعصيانِهم، ويستعتُبُهم كي يتوبوا، ويمهِلُهم كي يُنِيبُوا. 72، 73 - «الشاكرُ، الشكور» الذي يشكرُ القليلَ من العملِ، ويغفرُ

الكثيرَ من الزللِ. ويضاعفُ للمخلصِينَ أعمالَهم بغيرِ حسابٍ، ويشكرُ الشاكرينَ، ويذكرُ من ذكرَه، ومن تقرَّبَ إليه بشيءٍ من الأعمالِ الصالحةِ، تقرَّبَ اللهُ منهُ أكثرَ. 74، 75 - «القريبُ، المجيبُ» أي: هو تعالى القريبُ من كلِّ أحدٍ. وقربُه تعالى نوعانِ: قربٌ عامٌّ من كلِّ أحدٍ، بعلْمِهِ، وخبرَتِهِ، ومراقبتِه، ومشاهدتِه، وإحاطتِه. وقربٌ خاصٌّ، من عابدِيه، وسائلِيه، ومحبِّيه، وهو قربٌ لا تُدْرَكُ له حقيقةٌ، وإنما تُعْلَمُ آثارُه، من لطفِه بعبدِه، وعنايتِه به، وتوفيقِه وتسديدِه. ومن آثارِه: الإجابةُ للداعينَ والإثابةُ للعابدينَ، فهو المجيبُ إجابةً عامَّةً للداعينَ مهما كانُوا، وأينَ كانُوا، وعلى أيِّ حالٍ كانُوا كما وعدَهم بهذا الوعدِ المطلقِ، وهو المجيبُ إجابةً خاصَّةً للمستجيبينَ له المنقادينَ لشرعِه، وهو المجيبُ أيضًا للمضطرينَ، ومن انقطعَ رجاؤُهم من المخلوقينَ وقَوِيَ تعلُّقُهم به طمعًا ورجاءً وخوفًا. 76 - «الكافي» جميعَ عبادِه ما يحتاجُونَ ويضطرُّونَ إليه، الكافي كفايةً خاصَّةً من آمنَ به، وتوكَّلَ عليه، واستمدَّ منه حوائجَ دينِه ودنياه. 77 - 80 - «الأولُ، والآخرُ، والظاهرُ، والباطنُ». قد فسَّرَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تفسيرًا جامعًا واضحًا، فقال: «أنتَ الأولُ فليسَ قبلَكَ شيءٌ، وأنتَ الآخِرُ فليسَ بعدَكَ شيءٌ، وأنتَ الظاهرُ فليسَ فوقَكَ شيءٌ، وأنتَ الباطِنُ فليسَ دونَكَ شيءٌ» (¬1). ¬

(¬1) مسلم (2713)، أبو داود (5051)، الترمذي (3400).

81 - «الواسعُ» الصفاتِ والنعوتِ ومتعلقاتِها، بحيثُ لا يُحصِي أحدٌ ثناءً عليه، بلْ هو كَمَا أثنَى على نفسِه. واسعُ العظمةِ والسلطانِ والملكِ، واسعُ الفضلِ والإحسانِ، عظيمُ الجودِ والكرمِ. 82، 83 - «الهادي، الرشيدُ» أي: الذي يهدِي ويرشدُ عبادَه إلى جميعِ المنافعِ، وإلى دفعِ المضارِّ، ويعلِّمُهم ما لا يعلمونَ، ويهدِيهم لهدايةِ التوفيقِ والتسديدِ، ويُلهِمُهم التقوى، ويجعلُ قلوبَهم منيبةً إليهِ منقادَةً لأمْرِهِ. وللرشيدِ معنىً بمعنَى الحكيمِ، فهو الرشيدُ في أقوالِه وأفعالِه، وشرائعُه كُلُّها خيرٌ ورَشَدٌ وحكمةٌ، ومخلوقاتُه مشتملةٌ على الرشدِ. 84 - «الحقُّ» في ذاتِه وصفاتِه، فهو واجبُ الوجودِ، كاملُ الصفاتِ والنعوتِ، وجودُه من لوازمِ ذاتِه، ولا وجودَ لشيءٍ من الأشياءِ إلا به. فهو الذي لم يَزَلْ ولا يَزَالُ بالجلالِ والكمالِ موصُوفًا، ولم يَزَلْ ولا يَزَالُ بالإحسانِ معروفًا. فقولُه حقٌّ، وفعلُه حقٌّ، ولقاؤُه حقٌّ، ورسلُه حقٌّ، وكتبُه حقٌّ، ودينُه هو الحقُّ، وعبادتُه وحدَه لا شريكَ له هي الحقُّ، وكلُّ شيءٍ ينسبُ إليه فهو حقٌّ {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62]. {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} [يونس:32]، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًاً} [الإسراء:81]. * * *

قصائد في تعظيم الله - عز وجل -

قصائد فِي تَعْظِيم الله - عز وَجل -

1 - أسماء الله الحسنى

1 - أسماء الله الحسنى العليُّ فَهوَ العَليُّ بِذَاتِهِ سُبحَانَهُ ... إِذ يستَحيلُ خِلافُ ذَا بِبَيَان وَهْوَ الَّذِي حَقًّا عَلَى العَرْشِ استَوى ... قَد قَامَ بالتَّدبيرِ للأَكوان حَيٌّ مُرِيدٌ قَادِرٌ مُتكَلِّمٌ ... ذُو رَحمَةٍ وإرَادَةٍ وحَنَان هُوَ أوَّلٌ هُوَ آخِرٌ هُوَ ظَاهِرٌ ... هُوَ بَاطِنٌ هَي أربعٌ بِوِزَان مَا قَبلَهُ شيءٌ كَذَا ما بَعدَهُ ... شَيءٌ تَعَالى اللهُ ذُو السُّلطَان مَا فَوقَهُ شيءٌ كَذَا ما دُونَهُ ... شيءٌ وَذَا تَفسيرُ ذِي البُرهان فانظُرْ إِلى تَفسيرِهِ بتَدَبُّرٍ ... وتَبَصُّرٍ وتَعَقُّلٍ لمِعَان وانظر إلى ما فيهِ من أنواع مَعْـ ... ـرفَةٍ لخَالقِنَا العَظيمِ الشَّان وهُوَ العَليُ فَكَلُّ أنواعِ العُلُـ ... ـوِّ لَهُ فثابِتَةٌ بلا نُكران العظيم وهُوَ العَظِيمُ بِكُلِ مَعنًى يُوجِبُ ... التَّعظِيمَ لَا يُحصِيهِ مِن إنسَان وَهُوَ الجلَيلُ فكُلُّ أوصَافِ الجَلَا ... لِ لَهُ مُحَقّقَةٌ بِلَا بُطلان الجميل وَهُوَ الجمِيلُ عَلَى الحقِيقَةِ كَيفَ لا؟! ... وَجَمالُ سائِرِ هَذِهِ الأكوان مِن بَعضِ آثارِ الجمَيلِ فَرَبُّها ... أولَى وأجدَرُ عَندَ ذِيَ العِرفان فَجمَالَهُ بالذَّاتِ والأوصافِ والـ ... أفعَالِ والأسمَاءِ بالبُرهَان

لا شَيءَ يُشبِهُ ذَاتَهُ وَصِفَاتِهِ ... سُبحَانَهُ عَن إِفكِ ذِي البُهتَان المجيد وهُوَ المَجِيدُ صَفاتُهُ أوصَافِ تع ... ظِيمٍ فَشَأنُ الوَصفِ أعظَمُ شَان السميع وهُوَ السَّميعُ يَرى ويَسمَعُ كُلَّ مَا ... فِي الكَونِ مِنْ سِرٍّ ومِنْ إِعلان ولِكُلِ صَوتٍ مِنهُ سَمعٌ حاضرٌ ... فالسِّرُّ والإعلانُ مُسْتويان والسمعُ منه واسعُ الأصواتِ لا ... يَخْفَى عليه بعيدُها والدَّاني البصير وهُوَ البَصِيرُ يَرى دَبيبَ النَمَّلةِ السْ ... ودَاءِ تَحتَ الصَّخْرِ والصَّوان ويَرَى مَجارِي القُوتِ في أعضَائِهَا ... ويَرَى بَياضَ عُروقِها بِعيان ويَرَى خَياناتِ العُيونِ بِلَحظِهَا ... ويَرَى كَذَاكَ تَقَلُّبَ الأجفَان العليم وهُوَ العَليمُ أحَاطَ عِلمًا بالذِي ... في الكَونِ من سِرٍّ ومِنْ إعلان وبكُلِّ شيءٍ عِلمُهُ سُبحَانَهُ ... فَهْوَ المُحيطُ ولَيسَ ذَا نِسيَان وَكَذاكَ يعْلمُ مَا يَكونُ غَدًا وَمَا ... قَد كَانَ والموجودَ في ذَا الآن وَكَذَاكَ أَمرٌ لَمْ يَكُن لَو كَانَ كَيْـ ... ـفَ يَكُونُ ذَاكَ الأَمرُ ذَا إِمكَان الحميد وهُوَ الحَميدُ فَكُلُ حَمدٍ وَاقعٍ ... أو كَانَ مَفروضًا مَدَى الأزمَان

مَلَأ الوجُودَ جَميْعَهُ ونَظَيرَهُ ... مِن غَيرِ ما عَدٍّ ولا حُسْبَان هُوَ أهْلُهُ سُبْحَانَهُ وبِحَمْدِهِ ... كُلُّ المحَامِدِ وَصْفُ ذِي الإِحسَان وهُوَ المِكُلِّمُ عَبْدَهُ مُوْسَى بتَك ... لِيمِ الخِطابِ وَقَبلَهُ الأبَوان كَلِماتُهُ جَلَّتْ عن الإحصَاءِ والتَّع ... دَادِ بَل عَن حَصرِ ذِي الحسبَان لو أنَّ أشجَارَ البِلادِ جَميعَهَا الـ ... أقْلَامُ تَكْتُبُهَا بكَلِّ بَنَان والبَحرَ تُلقَى فِيهِ سَبعَةُ أبحُرٍ ... لِكَتابَةِ الكَلِماتِ كُلِّ زَمَان نَفِدَت وَلَم تَنفَد بِهَا كَلِمَاتُهُ ... ليْسَ الكَلامُ مِن الإِلهِ بِفَان القدير وهُوَ القَدِيرُ ولَيْسَ يُعجِزُهُ إذا ... مَا رَامَ شَيئًا قَطُّ ذُو سُلطَان القويُّ وَهُوَ القَوِيُّ لَهُ القُوَى جَمعًا تعَا ... لَى اللهُ رَبُّ النَّاسِ والأَكوان الغنيُّ وهُوَ الغَنيُّ بذاتِهِ فغِناهُ ذا ... تِيٌّ لَهُ كَالجُودِ والإِحسَان العزيز القاهر وهُوَ العَزيزُ فَلَن يُرامَ جَنَابُهُ ... أنَّى يُرامُ جَنَابُ ذِي السُّلطَان وهُوَ العَزيزُ القَاهرُ الغلَّابُ لمْ ... يَغلِبْهُ شَيءٌ هَذِهِ صِفَتَان وهُوَ العَزيزُ بقُوَّةٍ هِيَ وَصفُهُ ... فالِعَزُّ حِينَئِذٍ ثَلاثُ مَعَان وَهْيَ الَّتي كَمُلَت لَهُ سُبحَانَهُ ... مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَادِمِ النُقصَان

الحكيم وهُوَ الحَكِيمُ وذَاكَ مِن أوصَافِهِ ... نَوعَانِ أيضًا مَا هُمَا عَدَمَان حُكمٌ وإِحكَامٌ فَكُلٌ مِنهُمَا ... نَوعَانِ أيضًا ثَابتَا البُرهَان والحُكْمُ شَرعِيٌّ وَكَونيٌّ وَلَا ... يَتلازَمانِ وَمَا هُمَا سِيِّان الحييُّ وهُوَ الحَيِيُّ فَلَيسَ يَفضَحُ عَبدَهُ ... عِندَ التَّجَاهُرِ مِنهُ بِالعِصيَان لَكِنَّهُ يُلقِي عَلَيه سِترَهُ ... فَهُوَ السِّتِيرُ وَصَاحبُ الغُفرَان الحليم وهُوَ الحَلِيمُ فَلَا يُعَاجِلُ عَبْدَهُ ... بِعُقُوبَةٍ لِيَتُوبَ مِنْ عِصيان العفو وَهُوَ العَفُوُّ فَعَفوُهُ وَسِعَ الوَرَى ... لولَاهُ غَارَ الأَرض بالسُّكَان الصبور وَهُوَ الصَّبُورُ عَلَى أذَى أعدائِهِ ... شَتَمُوهُ بَل نَسَبُوهُ لِلبُهتَان قَالُوا لَهُ ولَدٌ ولَيسَ يُعَيِدُنَا ... شَتمًا وتَكذِيبًا مِنَ الإِنسان هَذَا وَذَاكَ بِسَمعِهِ وَبِعِلمِهِ ... لَوْ شَاءَ عَاجَلهُم بِكُلِ هَوَان لَكِنْ يُعَافِيهمِ ويَرزُقْهُمُ وهُمْ ... يُؤذُونَهُ بالشِّرْكِ وَالكُفرَان الرقيبُ وَهَوَ الرَّقِيبُ عَلَى الخَواطِر واللَّوَا ... حِظِ كَيفَ بالأَفعَالِ بِالأرْكَان

الحفيظُ الكفيلُ وَهُوَ الحَفيظُ عَلَيهِمُ وَهُوَ الكَفِيـ ... ـلُ بِحِفظِهِمْ مِنْ كُلِّ أمرٍ عَان اللطيفُ وَهُوَ اللَّطِيفُ بِعَبْدِهِ وَلِعَبْدِهِ ... واللَّطفُ فِي أوصَافِهِ نَوعَان إدرَاكُ أسرارِ الأمُورِ بِخِبرَةٍ ... واللُّطفُ عِندَ مَوَاقِعِ الإحسِان فيُرِيكَ عِزَّتَهُ ويُبدِي لُطفَهُ ... وَالعَبدُ فِي الغَفَلَاتِ عَن ذَا الشَّان الرفيقُ وَهُوَ الرَّفِيقُ يُحِبُّ أهلَ الرِّفقِ بَل ... يُعطِيهُمُ بالرِّفقِ فَوقَ أمَان القريبُ وهُوَ القَريبُ وقُربُهُ المُختَصُّ بالدْ ... داعِي وعَابِدِهِ عَلَى الإِيمَان المجيبُ وَهُوَ المُجِيبُ يَقولُ مَنْ يَدعُو أُجِبْـ ... ـهُ أَنَا المُجِيبُ لِكُلِّ مَن نَادَانِي وهُوَ المُجِيبُ لِدَعوَةِ المضطَرِّ إِذ ... يَدْعُوهُ فِي سِرٍ وفي إعلان الجوادُ وهُوَ الجَوَادُ فَجُودُهُ عَمَّ الوُجُو ... دَ جَمِيعَهُ بالفَضلِ والإِحسَان وهُوَ الجَوَادُ فَلا يُخَيِّبُ سَائِلًا ... وَلَوَ انَّهُ مِن أُمَّةِ الكُفران المغيثُ وهُوَ المُغيثُ لِكُلِّ مخلُوقَاتِهِ ... وَكَذَا يَجُيبُ إغَاثَةَ اللَّهفَان

الودودُ وَهُوَ الوَدُودُ يُحِبُّهُم ويُحبُّهُ ... أحبَابُهُ وَالفَضلُ للمَنَّان وهُوَ الَّذِي جَعلَ المَحَبَّةَ في قُلُو ... بِهمُ وَجَازَاهُم بِحُبٍّ ثَان هَذَا هُوَ الإِحَسانُ حَقًّا لَا مُعَا ... وَضَةً وَلَا لِتَوقُّعِ الشُّكْرَان لَكِن يُحِبُّ شَكُورَهُم وَشُكُورُهُم ... لَا لاحِتياجٍ مِنهُ للشُّكرَان الشكورُ وَهُوَ الشَّكُورُ فَلَن يُضَيِّعَ سَعيَهُم ... لِكِن يَضاعِفُهُ بِلَا حُسبَان ما لِلعِبَادِ عليه حَقٌ وَاجِبٌ ... هُوَ أوجَبَ الأَجرَ العَظِيمَ الشَّان كَلَّا وَلَا عَمَلٌ لَدَيهِ ضَائعٌ ... إِن كَانَ بِالإِخلَاصِ والإِحسَان إن عُذِّبُوا فِبعَدلِهِ أو نُعِّمُوا ... فِبفَضلِهِ وَالحَمدُ للرَّحمَن الغفورُ وهُوَ الغَفُورُ فَلَو أُتِي بقُرَابِهَا ... مِن غَيرَ شِركٍ بَل منَ العِصَيان لاقَاهُ بالغُفرانِ مِلءَ قُرَابِها ... سُبحَانَهُ هُوَ وَاسِعُ الغُفران التوابُ وكَذلِكَ التَّوابُ مِنْ أوصَافِهِ ... والتَّوبُ فِي أَوصَافِهِ نَوعَان إذنٌ بِتَوبةِ عَبدِهِ وقَبُولِهَا ... بَعدَ المتَابِ بمنَّةِ المنَّان الإلهُ السيدُ الصمدُ وَهُوَ الإلهُ السَّيدُ الصَّمَدُ الَّذِي ... صَمَدَتْ إِليهِ الخَلقُ بالإِذعان

الكَامِلُ الأَوصَافِ مِنْ كُلِّ الوُجُو ... هِ كَمَالُهُ ما فِيهِ مِنْ نُقْصَان القهارُ وكَذلِكَ القَهَّاُر مِنْ أَوْصَافِهِ ... فَالخَلْقُ مَقْهُورُونَ بالسُّلْطَان الحيُّ العزيزُ القادرُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَيًّا عَزِيزًا قَادِرًا ... مَا كَانَ مِنْ قَهْرٍ وَلَا سُلطان الجبارُ وَكَذلِكَ الجَبَّارُ مِنْ أَوْصَافِهِ ... والجَبْرُ فِي أَوْصَافِهِ قِسمَاِن جَبْرُ الضَّعِيفِ وَكُلُّ قَلْبٍ قَدْ غَدَا ... ذَا كَسْرةٍ فَالجَبْرُ مِنْهُ دَان الثَّانِي جَبْرُ الْقَهْرِ بِالعِزِّ الذي ... لَا يَنْبَغِي لِسِوَاهُ مِنْ إِنْسِان ولَهُ مُسَمًّى ثالثٌ وهُوَ العُلوْ ... فَلَيْسَ يَدْنُو مِنْهُ مِن إِنْسَان مِنْ قَوْلِهِمْ جَبَّارَةٌ لِلنَّخلِةِ الـ ... ـعُلْيَا التي فاتَتْ لِكُلِّ بَنان الحسيبُ وَهُوَ الحَسِيبُ كِفَايَةً وحِمَايةً ... وَالحَسْبُ كَافِي الْعَبْدِ كُلَّ أَوان الرشيدُ وَهُوَ الرَّشِيدُ فَقَولُهُ وفِعَالُهُ ... رُشْدٌ وَرَبُّكَ مُرْشِدُ الحَيْرَان وَكِلَاهُمَا حَقٌّ فَهَذَا وَصْفُهُ ... وَالْفِعْلُ للإِرْشَادِ ذَاكَ الثَانِي العدلُ وَالْعَدْلُ مِنْ أَوْصَافِهِ فِي فِعْلِهِ ... وَمَقَالِهِ وَالحُكْمُ بِالمِيزَان فَعَلى الصِّراطِ المَستَقيمِ إلهُنَا ... قَولًا وَفِعْلًا ذَاكَ فِي القُرآن

القدوسُ هَذَا وَمِنَ أَوْصَافِهِ القُدُّوْسُ ذَو ... التَّنْزِيْهِ بِالتَعْظِيمِ للرَّحْمَن السلامُ وَهُوَ السَّلَامُ عَلَى الحَقِيقَةِ سَالمٌ ... مِنْ كُلِّ تَمثِيلٍ وَمِنْ نُقْصَان البرُّ والبَرُّ فِي أَوْصَافِهِ سُبْحَانَهُ ... هُوَ كَثْرِةُ الخَيْرَاتِ والإحْسَان صَدَرَتْ عَنْ البِرِّ الذي هُوَ وَصْفُهُ ... فَالبِرُّ حِينَئذٍ لَهُ نَوعَان وَصْفٌ وفِعْلُ فَهُوَ بَرٌّ مُحْسِنٌ ... مُوْلِي الجَميلِ ودَائِمُ الإِحْسَان الوهَّابُ وكَذلِكَ الوَهَّابُ مِن أَسْمَائِهِ ... فَانْظُرْ مَوَاهِبَهُ مَدَى الأزَمَان أهْلُ السَّمَواتِ العُلَى والأَرْضِ عَنْ ... تِلكَ المَواهِبِ لَيْسَ يَنْفَكَّان الفتاحُ وَكَذلِكَ الفَتَّاحُ مِنْ أَسْمَائِهِ ... والفَتْحُ فِي أَوْصَافِهِ أَمْرَان فَتْحٌ بِحُكْمٍ وَهْوَ شَرْعُ إِلهنَا ... وَالْفَتْحُ بِالأَقْدَارِ فَتْحٌ ثان وَالرَبُّ فَتَّاحٌ بِذَيْنِ كِلَيْهمِا ... عَدْلًا وَإِحْسَانًا مِنَ الرَّحْمن الرزاقُ وَكَذَلِكَ الرَزَّاقُ مِنَ أَوْصَافِهِ ... والرَّزْقُ مِنْ أَفْعَالِهِ نَوْعَان رِزْقٌ عَلَى يَدِ عَبْدِهِ ورَسُولِهِ ... نوعانِ أيْضًا ذَانِ مَعْرُوفَان

رِزْقُ القُلُوبِ العِلمُ والإيمَانُ والر ... زْقُ المُعَدُّ لِهَذِهِ الأَبْدَان هَذا هُوَ الرِّزْقُ الحَلالُ وَرَبُنَّا ... رَزَّاقُهُ وَالفَضْلُ لِلمَنَّان وَالثَّانِي سَوْقُ القُوتِ لِلأَعْضَاءِ فِي ... تِلْكَ المَجَارِيْ سَوقُهُ بِوَازان هَذَا يَكُونُ مِنَ الحَلالِ كَمَا يَكُو ... نُ مِنْ الحَرَامِ كِلاهُمَا رِزْقَان واللهُ رَازِقُهُ بِهَذَا الاعْتَبا ... رِ وَلَيْسَ بِالإِطْلَاقِ دُوْنَ بَيَان القيومُ هَذَا وَمِنْ أَوْصَافِهِ القَيُّومُ والـ ... ـقَيُّومُ فِي أَوْصَافِهِ أمْرَان إِحْدَاهُمَا القَيُّومُ قَامَ بِنَفْسِهِ ... وَالْكُونُ قَامَ بِهِ هُمَا الأمْرَان فَالَأوَّلُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ غَيْرِهِ ... وَالْفَقْرُ مِنْ كُلٍّ إليهِ الثَانِي وَالوْصفُ بِالقَيُّوْمِ ذُوْ شأنٍ ... كَذَا مَوْصُوْفُهُ أَيْضًا عظيمُ الشَّان الحيُّ القيومُ وَالحَيُّ يَتْلُوهُ فَأوْصَافُ الكَما ... لِ هُمَا لأُفْقِ سَمَائِها قُطبان فَالحَيُّ وَالقَيُّومُ لَنْ تَتَخَلَّفَ الـ ... أوْصَافُ أصَلًا عَنهُمَا بِبَيَان القابضُ الباسطُ الخافضُ الرافعُ هُوَ قَابِضٌ هُوَ بَاسِطٌ هُوَ خَافِضٌ ... هُوَ رَافِعٌ بِالعَدْلِ وَالمِيزَان المعزُّ المذلُّ وَهُوَ المُعِزُّ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ وذا ... عِزٌّ حَقِيقِيٌّ بَلَا بُطْلَان وَهُوَ المُذِلُّ لِمَنْ يَشَاءُ بِذِلِةِ الدَّا ... رَيْنِ ذِلُّ شَقَا وَذِلُّ هَوان

المعطِي المانعُ هُوَ مَانِعٌ مُعْطٍ فَهَذَا فَضْلُهُ ... وَالمَنْعُ عَيْنُ العَدْلِ لِلْمَنَّان يُعْطِي بِرَحْمَتِهِ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَا ... ءُ بِحِكْمَةٍ وَاللهُ ذُو سُلْطَان النورُ وَالنُّورُ مِنَ أَسْمَائِهِ أيْضًا وَمِنَ ... أَوْصَافِهِ سُبْحَانَ ذِي البُرْهَان قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ كَلَامًا قَدْ حَكا ... هُ الدَّارِمِيُّ عَنْهُ بِلَا نُكْرَان مَا عِنْدَهُ لَيْلٌ يَكُونُ ولا نَها ... رٌ قُلتُ تَحتَ الفُلْكِ يُوْجَدُ ذَان نُورُ السَّمَواتِ العُلَى مِنْ نُورِهِ ... والأرْضِ كَيْفَ النَّجَمُ والقَمَران مِنْ نُورِ وَجْهِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ ... وَكَذَا حَكَاهُ الحَافِظُ الطَبْرَانِي فِيهِ اسْتَنَارَ العَرْشُ والكُرسِيُّ مَعْ ... سَبْعِ الطِبَاقِ وسَائِرِ الأكْوان وكِتَابُهُ نُورٌ كَذلِكَ شَرْعُهُ ... نُورٌ كَذا المَبعوثُ بِالفُرْقَان وَكَذلِكَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِ الفَتَى ... نُورٌ عَلَى نُورٍ مَعَ القُرْآن وَحِجَابُهُ نُورٌ فَلُوْ كَشَفَ الحِجَا ... بَ لأحْرَقَ السُبُحَاتُ للأَكْوَان وَإِذْا أَتَى لِلْفَصْلِ يُشْرِقُ نُورُهُ ... فِي الأرْضِ يَوْمَ قِيَامَةِ الأَبْدَان وَكَذَاكَ دَارُ الرَّبِ جَنَاتُ العُلَى ... نُورٌ تَلَألَأُ لَيْسَ ذَا بُطْلَان وَالنُّورُ ذُو نَوعَيْنِ مَخْلُوقٌ وَوَصْـ ... ـفٌ مَا هُمَا وَاللهِ مُتَّحِدَان وَكَذَلِكَ المَخْلُوقُ ذُو نَوعَينِ مَحْـ ... ـْسُوسٌ ومَعْقُولٌ هُمَا شَيئَان احْذَرْ تَزلَّ فَتَحْتَ رِجْلِكَ هُوَّةٌ ... كَمْ قَدْ هَوَى فِيها عَلَى الأزْمَان

مِنْ عَابِدٍ باِلجَهْلِ زَلَّتْ رِجْلُهُ ... فَهَوَى إِلَى قَعْرِ الحَضِيْضِ الدَّانِي لَاحَتْ لَهُ أَنْوَارُ آثارِ العِبَا ... دَةِ ظنَّها الأنْوَارَ لِلرَّحْمَن فأتَى بِكُلِّ مُصِيبَةٍ وبَليَّةٍ ... مَا شِئْتَ مِنْ شَطْحٍ ومِنْ هَذَيان وَكَذَا الحُلُولِيُّ الذِي هُوَ خَدْنُهُ ... مِنْ هَهُنَا حَقًّا هُمَا أَخَوَان ويُقَابلُ الرَجُلِين ذُو التَّعْطِيل والـ ... ـحُجبِ الكَثيفَةِ مَا هُمَا سِيَّان ذَا فِي كَثافَةِ طَبْعِهِ وظَلامِهِ ... وبِظُلْمَةِ التَّعْطِيلِ هَذَا الثَانِي والنُّورُ مَحْجُوبٌ فَلَا هَذَا وَلَا ... هَذَا لَهُ مِنْ ظُلمَةٍ يَرَيَانِ (¬1) * * * ¬

(¬1) من النونية الكافية الشَّافية في الانتصار للفرقة النَّاجية لابن القيم.

2 - يا من له وجب الكمال بذاته

2 - يا من له وجب الكمال بذاته (¬1) ابن الفرس الخزرجي يا من له وَجَبَ الكمالُ بذاتِه ... فالكُلُّ غايةُ فوزِهم لُقياهُ أنت الذي لما تَعَالى جَدُّهُ ... قصُرَتْ خُطا الألبابِ دونَ حِماهُ أنت الذي امتلأَ الوجودُ بحمدِهِ ... لمَّا غدا مَلْآنَ من نُعماهُ أنت الذي خلقَ الوجودَ بأسرِهِ ... من بينِ أَعْلَاهُ إلى أَدْنَاهُ أنت الذي خَصَّصْتَنا بوجودِنا ... أنَتَ الذِي عَرَّفْتَنَا معنَاهُ سُبْحَانَ مَن ملأَ الوجودَ أدلَّةً ... ليلُوحَ ما أخفَى بما أَبْدَاهُ سُبحانَ مَنْ أحْيَا قلوبَ عبادِهِ ... بلوائحٍ من فَيْضِ نورِ هُداهُ هَلْ بعدَ معرفةِ الإِلَهِ زيادةٌ ... إلَّا استدامةُ ما يُديمُ رِضَاهُ واللهِ لا آوي لغَيْرِك إنَّه ... حُرِمَ الُهدَى مَنْ لم تكنْ ماوَاه مَوْلاي أُنسُكَ لم يَدَعْ لي وَحْشَةً ... إلَّا مَحَا ظَلْماءَها بِسَنَاهُ مولاي جُودُك لم يَدَعْ لي مطلبًا ... إلَّا وتَممَه إلى أَقْصَاهُ لم يَنْقَطِعْ أحدٌ إليكَ محجَّةً ... إلَّا وأصبحَ حامدًا عُقباهُ عَجَزَ الأنامُ مِن اِمتداحِك إِنَّهُ ... تَتَضَاءلُ الأفكارُ دونَ مَدَاهُ مَنْ كَانْ يعرِفُ أنَّك الحقُّ الذي ... بَهَرَ العقولَ فَحْسبُهُ وكَفَاهُ ¬

(¬1) تسبيح ومناجاة وثناء (ص:92 - 93).

3 - أتيتك راجيا يا ذا الجلال

3 - أتيتك راجيًا يا ذَا الجَلالِ (¬1) أبو إسحاق الألبيري أتيتُك راجيًا يَا ذا الجلالِ ... ففرِّجْ ما تَرَى من سُوءِ حَالي عَصَيْتُك سَيِّدِي ويْلِي بجَهْلي ... وَعَيبُ الذنبِ لم يخطُرْ ببالي إلى من يَشْتَكِي المملوكُ إلَّا ... إِلى مَوْلَاهُ يا مَوْلَى الَموَالي لَعَمْرِي ليتَ أُمِّي لَم تلِدْني ... ولم أُغْضِبْك في ظُلَمِ اللَّيَالي فَهَا أنا عبدُك العَاصي فقيرٌ ... إِلى رُحْماكَ فاقبلْ لي سُؤَالي فإنْ عاقَبْتَ يا ربِّي تُعَاقِبْ ... مُحقًّا بالعذابِ وبالنَّكَال وإن تَعْفو فعفْوك قد أَرَاني ... لِأفعالي وأوزاري الثقال * * * ¬

(¬1) ديوان أبي إسحاق الألبيري (ص:110).

4 - إلهي وخالقي

4 - إلهي وخالقي لكَ الحمدُ يا ذا الجودِ والمجدِ والعُلا ... تباركتَ تُعطِي من تَشَاءُ وتمنعُ إِلهي وَخلَّاقي وحرزِي (¬1) وموئلي (¬2) ... إِليكَ لَدَى الإعْسَارِ واليُسْرِ أفْزَعُ إِلهي لِئِن جَلَّتْ وجَمَّتْ خَطِيئتي ... فعفُوُك عَن ذنبي أَجَلُّ وأوسَعُ إلهي لئن أعطَيْتَ نفسي سُؤَالها ... فها أنا في أرضِ الندامةِ أَرْتعُ إلهي تَرَى حالِي وفَقْرِي وفَاقَتِي ... وَأنتَ مُناجَاتِي الخفيَّةَ تَسْمَعُ إلهي فَلَا تَقْطَعْ رَجَائي ولا تُزِغْ ... فُؤَادي فلي في سَيْبِ (¬3) جودِك مَطْمَعُ إلهي لئن خيَّبْتَنِي أو طَرَدْتَنِي ... فَمَنْ ذا الذي أرجُو ومن لي يَشْفَعُ ¬

(¬1) الحرز: ما يتقى به المهالك. (¬2) الموئل: الملجأ والملاذ. (¬3) سب: عطاء.

إلهي أجِرْني من عَذَابِك إنَّنِي ... أَسيرٌ ذليلٌ خائفٌ لك أخضَعُ إلهي فآنِسْنِي بتلقينِ حُجَّتِي ... إذا كان لي في القبرِ مَثْوَىً ومَضْجَعُ إلهي لَئِنْ عَذَّبتَني ألفَ حِجَّةٍ ... فحبلُ رَجَائِي مِنْكَ لا يتقطَّعُ إلهي أذِقْنِي طَعْمَ عَفْوِك يومَ لا ... بنونَ ولا مالٌ هنالِك ينفعُ إلهي إذا لم تَرْعَني (¬1) كنتُ ضائعًا ... وإن كنتَ ترعَاني فلستُ أُضيَّعُ إلهي إذا لم تَعْفُ عن غيرِ محسنٍ ... فمن لمُسيءٍ بالهَوَىَ يَتَمَتَّعُ إلهي لَئِنْ فرَّطتُ في طلبِ التُّقَى ... فها أنا إثر العفوِ أقفُو وأَتْبَعُ إلهي لَئِن أخطأتُ جهلًا فَطَالما ... رجوتُك حتى قِيلَ هَا هُو يجزَعُ ¬

(¬1) ترعني: تحفظني.

إلهي ذنوبي جَازَتِ الطودَ (¬1) واعتَلتْ ... وصفحُك عن ذَنْبي أَجَلُّ وأرفعُ إلهي يُنحِّي ذِكْرُ طَوْلِك (¬2) لَوْعَتي ... وذكرُ الخطايا العينُ منِّي تَدْمَعُ إلهي أنِلْنِي مِنْك رُوحًا ورحمةً ... فلستُ سِوَى أبوابِ فَضْلِك أقْرَعُ إلهي لَئِنْ أقصَيْتَني أو طَرَدتَني ... فما حِيلَتي يا ربِّ أم كيفَ أصْنَعُ؟ إلهي حليفُ الحبِّ بالليلِ ساهرٌ ... يُنَادي ويدعُو والمغفَّلُ يهجَعُ وكلُّهُم يرجُو نوالكَ راجيًا ... لرحمتِك العُظمَى وفي الخُلْدِ يَطْمَعُ إلهي يُمَنِّيني رَجَائي سلامةً ... وقبحُ خطيئَاتي عليَّ يُشيعُ إلهي فانشُرْني على دينِ أحمدٍ ... تقيًّا نقيًّا قانتًا لك أَخْشَعُ (¬3) ¬

(¬1) الطود: الجبل. (¬2) طولك: فضلك وإحسانك. (¬3) ديوان علي بن أبي طالب (ص:78 - 80).

5 - هو الله

5 - هو الله (¬1) علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لَكَ الحَمدُ والنَّعْمَاءُ والمُلكُ رَبَّنا ... ولا شَيءَ أعلَا مِنكَ مَجدًا وأمجَدُ مَلِيكٌ على عَرشِ السَّماءِ مُهيمِنٌ ... لِعِزَّتِهِ تَعنُو الوُجُوهُ وَتَسجُدُ فَسُبحانَ مَنْ لا يَقدُرُ الخلْقُ قَدرَهُ ... وَمَنْ هُوَ فَوقِ العَرشِ فَردٌ مُوحَّدُ ومَنْ لَم تُنَازِعْهُ الخَلائِقُ مُلكَهُ ... وَإِن لَم تُفَرِّدهُ العِبَادُ فَمُفرَدُ مَليكُ السَّمَاوَاتِ الشِّدَادِ وأرضِها ... وَلَيسَ بِشَيءٍ عَنْ قَضَاهُ تَأوُّدُ هُوَ اللهُ بَاري الخلقِ، وَالخَلقُ كُلُّهُم ... إِماءٌ لهُ طَوعًا جَمِيعًا وأَعبُدُ وأنَّى يَكُونُ الخَلقُ كَالخَالِقِ الذِي ... يُميتُ ويُحيي دَائبًا لَيسَ يَهمَدُ تُسبِّحُهُ الطَّيرُ الجوانِحُ في الخَفَا ... وَإِذْ هِيَ في جَوِّ السَّماءِ تُصَعِّدُ وَمِن خَوفِ رَبِّي سَبَّحَ الرَّعدُ فَوقَنَا ... وسَبَّحَهُ الأشجَارُ وَالوَحشُ أبَّدُ * * * ¬

(¬1) رائق الزهرة: لأبي داود الأصبهاني (1/ 146)، والشعر منسوب لأمية بن أبي الصلت.

6 - يا من يرى ما في الضمير ويسمع

6 - يا من يَرَى ما في الضميرِ ويسمعُ السهلي يا من يرَى ما في الضميرِ ويسمعُ ... أنتَ المعَدُّ لكلِّ ما يُتوقَعُ يا مَن يُرجَّى للشدائدِ كلِّها ... يا مَنْ إليه المُشتَكَى والمَفْزَعُ يا مَن خزائنُ مُلكِهِ في قولِ كُنْ ... أُمنُنْ فإنَّ الخيرَ عندَكَ أجمعُ ما لي سِوَى فَقْرِي إليكَ وسيلةٌ ... فبالافتِقَارِ إليكَ فَقْرِيَ أَدْفَعُ ما لي سِوَى قَرْعِي لبابِك حيلةٌ ... فلئِن رُددتُ فأيَّ بابٍ أقرعُ ومن الذي أدُعو وأهتفُ باسمِهِ ... إن كانَ فضلُكَ عن فقيرٍ يُمنعُ؟! حاشَا لمجدِك أن تُقنِّط عاصيًا ... فالفَضْلُ أجزلُ والمواهبُ أوسعُ (¬1) * * * ¬

(¬1) البداية والنهاية (12/ 390).

7 - عفوك اللهم

7 - عفوك اللهم الشافعي حدَّثَ المزنيُّ قال: دخلتُ على الشافعيِّ في مرضِه الذي مات فيه فقلتُ: كيفَ أصبحتَ؟ قال: أصبحتُ من الدنيا راحلًا، وللإخوانِ مفارقًا، ولكأسِ المنيةِ شاربًا، وعلى اللهِ ـ جل ذكرُه ـ واردًا، ولا واللهِ ما أدري روحي تصيرُ إلى الجنةِ أم إلى النارِ؟ ثم بَكَى وأنشأَ يقولُ: إليك إلهَ الخلقِ أرفعُ رَغْبَتِي ... وإن كنتُ ياذا المنِّ والجودِ مجرمًا ولما قَسَا قَلْبِي وضاقتْ مذَاهِبي ... جَعَلْتُ الرَّجا مِني لِعفُوِكَ سُلَّمًا تعاظَمَنِي ذَنْبِي فلمَّا قرنتُهُ ... بعفوِكَ ربِّي كَانَ عفوُكَ أعظَمَا فما زلتَ ذا عفوٍ عَنِ الذنبِ لم تَزَلْ ... تجُودُ وتعفُو مِنَّةً وتكرُّمَا فلولاكَ لم يَصْمُدْ لإبليسَ عابدٌ ... فكيفَ وَقْدَ أَغْوَى صَفِيَّكَ آدمَا فيا ليت شِعْري هل أصيرُ لجنَّةٍ ... أُهَنّا وإمَّا للسعيرِ فأنْدَما فَلِلهِ درُّ العارفِ الندْبِ إنَّهُ ... تفيضُ لفرطِ الوَجْدِ أجفانُهُ دمَا يُقيمُ إذا ما الليلُ مدَّ ظلامَهُ ... على نفسهِ من شِدَّةِ الخَوْفِ مأتمَا فصيحًا إذا ما كان في ذِكْرِ ربِّهِ ... وفي ما سِوَاهُ في الوَرَى كان أَعْجَمَا ويذكُرُ أيامًا مضَتْ من شَبَابهِ ... وما كان فيها بالجهَالةِ أجْرَما فصارَ قرينَ الهمِّ طولَ نهارِهِ ... أخا السُّهدِ (¬1) والنجوى إذا الليلُ أظلمَا ¬

(¬1) السهد: قلة النوم.

يقولُ حبيبي أنتَ سُؤلي وبُغيتي ... كَفَى بك للراجينَ سؤلًا ومَغْنَما عَسَى من لَهُ الإحسانُ يغفرُ زلَّتي ... ويستُرُ أَوْزَارِي ومَا قَدْ تَقَدَّما تعاظَمَني ذَنْبِي فأقبلتُ خاشِعًا ... ولولا الرِّضَا ما كنتَ يا ربِّ مُنعما فإن تعفُ عني تَعْفُ عن مُتَمَرّدٍ ... ظلُومٍ غَشُومٍ لا يزايلُ مأثما وإن تَستقِدْ مني فلستُ بآيسٍ ... ولو أدخلوا نفسي بُجرمٍ جهنَّما فجرُمي عظيمٌ من قديمٍ وحادثٍ ... وعفوُك يأتي العبدَ أعْلَى وأجْسَمَا حَوَاليَّ فضلُ اللهِ من كلِّ جانبٍ ... ونورٌ من الرحمنِ يفترشُ السَّمَا وفي القَلْبِ إشراقُ المحبِّ بوصْلهِ ... إذا قاربَ البُشْرى وجازَ إلى الحِمَى حواليَّ إيناسٌ من اللهِ وحدَهُ ... يطالِعُنِي في ظلمةِ القبرِ أنجُما أصونُ وِدَادِي أن يُدَنِّسَه الهَوَى ... وأحفظُ عهدَ الحبِّ أن يَتَثَلَّمَا ففي يَقْظَتِي شوقٌ وفي غَفْوَتي مُنًى ... تلاحِقُ خَطْوِي نشوةً وترنُّما ومن يَعْتَصِمْ باللهِ يسْلَمْ من الوَرَى ... ومن يرجُه هيهاتَ أن يتندَّما (¬1) * * * ¬

(¬1) ديوان الشافعي (ص:114 - 115).

8 - لك الحمد

8 - لك الحمدُ عبد الرحمن البرعي لكَ الحمدُ حَمدًا نستلذُّ بهِ ذكرا ... وإن كنتُ لا أُحصي ثناءً ولا شكرا لكَ الحمدُ حَمدًا طيبًا يَمْلَأُ السَّما ... وأقطارَها والأرضَ والبَرَّ والبحرا لكَ الحمدُ حمدًا سرمَديًّا مُباركًا ... يَقِلُّ مِدادُ البحْرِ عن كُنهِهِ حَصْرا لكَ الحمدُ تَعظيمًا لوجهِكَ قائِمًا ... بحقِّكَ في السَّرَّاء مِني وفي الضرَّا لكَ الحمدُ مقرُونًا بشكرِكَ دائمًا ... لكَ الحمدُ في الأولى لكَ الحمدُ في الأُخرى لكَ الحمدُ حمدًا طيبًا أنت أهلهُ ... على كلِّ حالٍ يَشْمَلُ السِرَّ والجهْرا لكَ الحمدُ موصُولًا بغيرِ نِهايةٍ ... وأنت إلهي ما أحقَّ وما أحْرَى لكَ الحمدُ يا ذا الكبرياءِ ومن يكُن ... بحَمدِكَ ذا شُكرٍ فقد أحْرَزَ الشُّكْرا

لكَ الحمدُ حمدًا لا يُعُدُّ لحاصرٍ ... أيُحْصِي الحَصَى والنَّبتَ والرَّملَ والقَطْرا لكَ الحمدُ أضعافًا مُضاعفةً على ... لطائفِ ما أحلى لدَينا وما أَمْرا لكَ الحمدُ ما أوْلاكَ بالحمدِ والثَّنا ... على نِعَمٍ أتبَعتَها نِعمًا تَتْرى لكَ الحمدُ حمدًا أنتَ وفَّقتَنِي لهُ ... وعلَّمْتَنِي من حَمدِكَ النَّظمَ والنَّثرا لكَ الحمدُ حمدًا نبتَغِيهِ وسِيلَةً ... إليكَ لتجدِيدِ اللَّطائفِ والبُشرى لكَ الحمدُ كم قلَّدتَنا من صنيعةٍ ... وأبْدَلْتَنَا بالعُسْرِ يا سيديِ يُسرا لكَ الحمدُ كم من عثرةٍ قد أَقَلْتَني ... ومن زلَّةٍ ألبستَنا مَعَها سِترا لكَ الحمدُ كم خصَّصْتَنِي ورفعتَني ... على نُظرائي من بَني زمَني قَدْرا لكَ الحمدُ حمدًا فيه وردِي ومَشْرَعي ... إذا خابتِ الآمالُ في السَّنةِ الغَبْرا

لكَ الحمدُ حمدًا ينسخُ الفقرَ بالغِنَى ... إذا خِفتُ يا مَوْلايَ بعدَ الغِنى فَقْرا إلهي تغَمَّدني برحمَتِكَ التي ... وسِعَت وأوسَعتَ البَرَايا بِها بِرّا وقوِّ بِرُوحٍ منك ضَعْفِي وهِمَّتي ... على الحقِّ واغْفِرْ زلَّتي واقبلِ العُذرا فإني من تَدْبيرِ حالي وحِيلَتي ... إليك ومن حَولي ومن قوَّتي أَبْرَا * * *

9 - مع الله

9 - مع الله عمر بهاء الأميري مَعَ اللهِ في سُبُحَات الفِكَر ... مَعَ اللهِ في لمحَاتِ البَصَرْ مَعَ اللهِ في زَفَراتِ الحَشَا ... مَعَ اللهِ في نَبَضاتِ البَهَرْ (¬1) مَعَ اللهِ في رَعَشاتِ الهَوَى ... مَعَ اللهِ في الخَلجاتِ الأُخَرْ مَعَ اللهِ في مُطْمَئنِّ الكَرَى (¬2) ... مَعَ اللهِ عندَ امتدَادِ السَّهَر مَعَ اللهِ آنَ اجتلاءِ السَّنا (¬3) ... ونَيلِ المُنى والهَناءِ الأغَرّ مَعَ اللهِ حالَ اتِّقادِ الأسَى ... ووَقعِ الأذَى واحتِدَامِ الخَطَر مَعَ اللهِ في حَملِ عِبءِ الضَّنَى ... مَعَ اللهِ بالصَّبر فيمَن صَبَر مَعَ اللهِ والقَلبُ في نَشْوةٍ ... مَعَ اللهِ والنَّفسُ تَشكَو الضَّجَر مَعَ اللهِ في كُلِّ بُؤسَى ونُعمَى ... مَعَ اللهِ في كُلِّ خيرٍ وشَر مَعَ اللهِ فِي أَمسِيَ المُنْقَضِي ... مَعَ اللهِ فِي غَدِيَ المُنْتَظَرْ مَعَ اللهِ فِي عُنْفُوَانِ الصِّبَا ... مَعَ اللهِ فِي الضَّعْفِ عِنْدَ الكِبَرْ مَعَ اللهِ قَبْلَ حَيَاتِي وَفِيهَا ... وَمَا بَعْدَهَا، عِنْدَ سُكْنَى الحُفَرْ مَعَ اللهِ في فْيءِ (¬4) فِرْدَوْسِهِ ... مَعَ اللهِ فِي عَوذِنَا مِنْ سَقَرْ ¬

(¬1) البهر: ما يعتري الإنسان عند السعي الشديد والعدو من النهج وتتابع النفس. (¬2) الكرى: النوم. (¬3) السنا: الضوء. (¬4) فيء: هو الظل.

مَعَ اللهِ فِي نَبْذِ مَا قَدْ نَهَى ... مَعَ اللهِ بِالسَّمْعِ فِيمَا أَمَرْ مَعِ اللهِ فِي الجِدِّ مِنْ أَمْرِنَا ... مَعَ اللهِ فِي جَلَسَاتِ السَّمَرْ مَعَ اللهِ فِي خَلَوَاتِ اللَّيَالِي ... مَعَ اللهِ فِي الرَّهْطِ وَالمُؤتَمَر مَعَ اللهِ فِي حُبِّ أَهْلِ التُّقَى ... مَعَ اللهِ فِي كُرْهِ مَنْ قَدْ فَجَرْ مَعَ اللهِ فِي مُدْلَهِمِّ (¬1) الدُّجَى ... مَعَ اللهِ عِنْدَ انبِلَاجِ السَّحَرْ مَعَ اللِه فِي لَألآتِ النُّجُومِ ... وَحَبْكِ (¬2) الغُيَومِ وَضَوْءِ القَمَرْ مَعَ اللهِ وَالشَّمْسُ تَكْسُو الدُّنَى ... مَعَ اللهِ وَالشُّهْبِ كَرٌّ وَفَرْ مَعَ اللهِ عِنْدَ هَزِيمِ الرُّعُودِ ... وَلمعِ البُرُوقِ وَدَفْقِ المَطَرْ مَعَ اللهِ فِي الفَلَكِ المُستَطِيرِ ... وَفِي الشَّمسِ تَجرِي إِلَى مُسْتَقَر مَعَ اللهِ فِي الأرْضِ فِي سَهْلِهَا ... وَأَودَائِهَا وَالرَّواسِي الكُبَرْ مَعَ اللهِ فِي البَحْرِ مِلْحٌ أُجَاجٌ ... مَعَ اللهِ فِي سَلسَبِيلِ النَّهَرْ مَعَ اللهِ فِي نَأَمَاتِ (¬3) الوُجُودِ ... مَعَ اللهِ فِي كُلِّ مَا قَدْ فَطَرْ مَعَ اللهِ فِي سَكَنَاتِ الحَيَاةِ ... مَعَ اللهِ فِي حَرَكَاتِ الحَجَرْ مَعَ اللهِ فِي نَسَماَتِ الرِّيَاحِ ... اللَّوَاقِحِ تَخطُرُ بَيْنَ الشَّجَرْ مَعَ اللهِ فِي نَفَحَاتِ الشَّذَا ... مَعَ اللهِ مِلءَ ثُغُورِ الزَّهَرْ ¬

(¬1) مدلهم: شديد الظلمة. (¬2) حبك الغيوم: طرائقها. (¬3) تأمات الوجود: أحواله الخفية.

مَعَ اللهِ فِي الحَقْلِ حُلْوِ الجَنَى ... مَعَ اللهِ فِي الرَّوضِ دَانِي الثَّمَرْ مَعَ اللهِ سَامِعِ صَوْتِ الدَّبِيبِ ... مِنَ النَّمْلِ أَنَى وَأَيَّانَ مَرْ مَعَ اللهِ وَالنَّحْلُ يَحسُو الرَّحِيقَ ... وَيَحمِي جَنَاهُ بَوخْزِ الإِبَرْ مَعَ اللهِ فِي رَفرَفَاتِ الفَرَاشِ ... تَلَامَعُ فِي الشَّمْسِ مِثلَ الدُّرَرْ مَعِ اللهِ وَالطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا ... وَتَنْعَمُ بِالرِّزْقِ مُنذُ البُكَرْ مَعَ اللهِ فِي سَيْرِ وَحشِ الفَلَاةِ ... بِهَديِ الغَرائِزِ تَقضِي الوَطَرْ مَعَ اللهِ يَنْفُخُ مِنْ رُوحِهِ ... عَلَى حَمَأٍ فَيَكُونُ البَشَرْ مَعَ اللهِ مَا اخْتَلجَتْ نُطْفَةٌ ... بِرُوحِ خَفِيٍّ وَمَا دَرَّ دَرْ مَعَ اللهِ فِيمَا سَيَذْرَأُ مِنْ ... نُفُوسٍ وفيما مَضَى وَاندَثَرْ مَعَ اللهِ مَا اخْتَلفَتْ فِي الأنَامِ ... طَبَائِعُ أُنثَاهُمُ والذَّكَرْ مَعَ اللهِ مَا افتَرَقَتْ فِي الوَرَى ... لُغَاهُمْ وَألوَانُهُمْ وَالصُّوَرْ مَعَ اللهِ نَوَّعَ أَشكَالَهُم ... وَخَصَّ أنَامِلَهُم بِالأَثَرْ مَعَ اللهِ مَيَّزَ أَذوَاقَهُمْ ... فَكُلٌّ لَهُ فِي هَواهُ نَظَرْ مَعَ اللهِ فِي سَبْرِ كُنْهِ الوُجُودِ ... وَرُوحِ الحَيَاةِ وَسِرِّ القَدَرْ مَعَ اللهِ فِي عَالَمِ المُدْرَكَاتِ ... وَفِي الغَيْبِ مِنْ كَائِنَاتٍ أُخَرْ مَعَ اللهِ فِيمَا بَدَا وَانْتَشر ... مَعِ اللهِ فِيمَا انْطَوَى وَاسْتَتَرْ مَعَ اللهِ وَفْقَ نَوَامِيسِهِ ... مَعِ اللهِ رَهْنَ القَضَا وَالقَدَر

مَعَ اللهِ فِي بَعْثِهِ المُرْسَلِينَ ... هُدَاةً دُعَاةً إِلَى مَا أَمَرْ مَعَ اللهِ فِي وَحْيِ قُرآنِهِ ... مَعَ اللهِ فِي آيِهِ وَالسُّوَرْ مَعَ اللهِ فِي قَصَصِ الأوَلِين ... وَفِي قَصَص الأوَلِينَ العِبَرْ مَعَ اللهِ طَوعًا مَعَ اللهِ سَوقًا ... فَمَا مِنْ مَلَاذٍ وَلَا مِنْ وَزَرْ مَعَ اللهِ وَالفَيْضُ مِنْ قُدْسِهِ ... يُنِيرُ بَصِيرَتَنَا وَالبَصَرْ وَيَدفَعُ أَعْمَاقَ إِيمَانِنَا ... فِرَارًا إِليه ونعمَ المفرّ * * *

10 - لك الأمر وحدك

10 - لك الأمر وحدك للشاعر محمد العلائي لك الأمرُ لا يدري عبادُك ما بِيَا ... لك الأمرُ لا للنَّاصِحينَ ولا لِيَا وهذي مَعَاذِيري وتلكَ صَحَائفٌ ... عليها خَطَاياي .. وفيها اعترافِيَا وفيها من الأمسِ الدفينِ وحاضِري ... وفيها من الآتي وفيها ابتِهَاليا وفيها تهاويلٌ .. ومهجةُ شاعرٍ ... ينامُ بها يأسًا ويصْحُو أَمَانيا وفيها أعاجيبٌ يكفِّرُ همُّها ... ذنوبي وإن كانتْ جِبَالًا رواسِيا! ونازعني شوقٌ إليك وهَزَّني ... من الغيبِ ما يهفُو إليه رَجَائيا فجئتُ من الدنيا الأثيمةِ هاربًا ... بصَفْويَ من أكْدَارِها ونَقَائِيَا وناديتُ أحلَامي إليكَ وخَافقًا ... تهيَّب أسبابَ المُنَى والتمادِيا!

أناديك في ضَعفٍ وأخجلُ أن ترَى ... جراحَ أمانيه ولونَ دِمَائيا لك الأمرُ أشواقي ببابِك والمنَى ... ولي أملٌ ألَّا يطولَ انتظارِيَا لك الأمرُ ما لي أرتجيك فيَلْتَوِي ... لساني وأمضِي بالتوسُّلِ شَاكِيا ذكرتُك في نفسٍ هَدَاها ضلالُها ... إليك وعافتْ وِحْدَتي وارتِيَابِيا ومنَّيتُ رُوحي من سَنَاك بلمْحَةٍ ... أُضمِّدُ آلامي بها وجِرَاحِيا تعاليتَ لم أذكُرْ سواك بمِحْنَتِي ... ولم أرجُ إلا مِنْ يدَيْك جَزَائِيا وفوَّضتُ عن عِلْمٍ إليك إِرَادتي ... وَحَسْبي ما أدَّى إليه اخْتِيَاريا لك الأمرُ شَاقْتنِي سماؤُك وانتَهى ... إليك بأحلامِ الضَّميرِ مَطَافِيا وأنزلتُ آمالي وفيها ملامِحٌ ... تَردُّ أمَامي ما تركتُ وَرَاءِيا!

يُطَالِعُنِي منها زمانٌ عرفتُهُ ... بريحِ ليالِيه ولونِ سُهَادِيا!! ضياؤُك أغْرَى باليقينِ جَوَارِحي ... وفَجَّرَ أَعْمَاقي وأفضى بِذَاتِيا لك الأمرُ أسبابٌ ضعافٌ وخَاطري ... ببابِك يخشَى رَجْعَتِي وانْحِرَافيا دعوتُك مِلءَ النفسِ ألا تردَّه ... مغيظًا وألَّا تستعيدَ سُؤَالِيا وحاشَاك أن ترضَى مع النفسِ مذهَبًا ... بغيرِ يقينٍ منك يهدِي شُعَاعِيا لك الأمرُ هذا من يديك عدالةٌ ... وهذا قليلٌ في مقامِ اتِّصَالِيا أتيتُك والحقُّ الصريحُ يمُدُّني ... إليك ولحنُ البشرِ ملءُ فؤاديا وفي النفسِ فجْرٌ من يقينٍ ومَوْكِبٌ ... من الخيرِ يحدُوهُ إليك وَلَائِيا وفيها رجاءٌ فاضَ منك جلالُه ... وآفاقُ نورٍ يَسْتَحِيها ضِيَائيا

وأحببتُ حتى أَسْكَرَتْنِي مَوَدَّتي ... وذابَ يميني رحمةً وشِمَالِيا وهامَتْ بآلامِ الحياةِ وسَائِلي ... وفاضَتْ على ما ليسَ مني هِبَاتِيا وأرسلتُ أنسَامي عبيرًا وبهجةً ... لتنفحَ أشواكَ الرُّبى والأفَاعِيا وآمنتُ حتى كادَ يذهبُ خَاطِري ... وتصعَدُ أنفاسًا إليك حَيَاتِيا! ولم يبقَ حرفٌ منك إلا أسرَّهُ ... ضَمِيري وأبدتْه إليك سَمَائيا!! لك الأمرُ آفاقٌ تَرَاءَتْ لخَوَاطِرِي ... وعاوَدَني منها دبيبُ شِكَاتيا! وذكرني بِشْرُ المساءِ منازلًا ... أتيتُك منها عابسَ الوجهِ دامِيَا أقلِّبُ أَوْهَامي يمينًا ويُسْرَةً ... وأرفعُ آمالًا إليك رَوَانِيا!! ينازِعُني ماضٍ شَرِقْتُ بعَذْبِه ... وراودتُ فيه ما أشابَ النَّواصِيَا

إذا طافَ منه حولَ نفسِي طائفٌ ... ذكرتُ زماني والسنينَ الخَوَاليا هناك وفي أرضٍ عليها مَلَاعِبِي ... وأطيافُ آبائي ولغوُ دِيارِيا وفيها تَعِلَّاتي ورَاحُ مَشَارِبي ... وزلاتُ أَهْوَائِي ودمعُ مَتَابِيا وأحْلَامِي الموتَى وذاتُ مواجِعي ... وأطلالُ ماساتِي ورجعُ بَلَائِيا لك الأمرُ ألهاني حديثٌ أعادَهُ ... عليك ضَمِيري واستحَاه لِسَانِيا! وأسرفتُ في ذكرِ المساءِ ولم أكُنْ ... لأُسرفَ لولا رجفةٌ من صَبَاحِيا لك الأمرُ نادتْ بالرحيلِ خَوَاطري ... وهبَّتْ على نَفْسِي رياحُ اغْتِرَابِيا وذكَّرتُها أنَّ الشعابَ جديدةٌ ... وأن عليها من سَنَاك هَوَادِيا! وأنَّ شعابَ الأمسِ واجهتُ غَيَّها ... على غيرِ إيمانٍ فكانت مَهَاوِيا!!

لك الأمرُ مالي في وداعِك باهتًا ... ومالي أَخْطُو شاحبَ النفسِ نَائِيا لك الأمرُ لاحَتْ من بعيدٍ مَذَاهِبِي ... وآذنَ حاديها وآنَ ارتحَالِيا!! ورَفَّتْ عليها من سَنَاكَ مآثرٌ ... ورَفَّتْ عليها غَايَتِي وَصَلاتِيَا تنسّمتُ أمواجَ الرحيلِ وأشرفَتْ ... عَليَّ أمانِيه فبارِكْ شِرَاعيا (¬1) * * * ¬

(¬1) الله أهل الثناء والمجد (ص:166 - 171).

11 - وإياك لا تجعل مع الله غيره

11 - وإياكَ لا تَجْعَلْ مع اللهِ غَيْرَه زيد بن عمرو بن نفيل إِلَى اللهِ أُهْدِي مِدْحَتي وثَنَائِيا ... وَقَولًا رَضِيًّا لَا يَنِي الَدَّهرَ بَاقِيَا إِلَى المَلِكِ الأَعْلَى الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ ... إِلَهٌ وَلَا رَبٌّ يَكُونُ مُدَانِيَا أَلَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِيَّاكَ وَالرَّدَى ... فَإِنَّكَ لَا تُخْفِي مِنَ اللهِ خَافِيَا وَإِيَاكَ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ غَيْرَهُ ... فَإِنَّ سَبِيلَ الرَّشْدِ أَصْبَحَ بَادِيَا حَنَانَيْكَ إِنَّ الجِنَّ كَانَتْ رجَاءَهُم ... وَأَنْتَ إِلَهِي رَبُّنَا وَرَجَائِيَا رَضِيْتُ بِكَ اللَّهُمَّ رَبًّا فَلَنْ أُرَى ... أَدِينُ إِلَهَا غَيْرَكَ اللهُ ثَانِيَا وَأَنْتَ الَّذِي مِنْ فَضْلِ مَنٍّ وَرَحمَةٍ ... بَعَثْتَ إِلَى مُوسَى رَسُولًا مُنَادِيَا فَقُلْتَ لَهُ اذْهَبْ وَهَارُونَ فَادعُوَا ... إِلَى اللهِ فِرْعَوْنَ الَّذِي كَانَ طَاغِيَا وَقُولَا لَهُ آأنْتَ سَوَّيتَ هَذِهِ ... بِلَا وَتَدٍ حَتَى اطْمَأَنَّتْ كَمَا هِيَا وَقُولَا لَهُ آأَنتَ رَفَّعْتَ هَذِهِ ... بِلَا عَمَدٍ أرفِقْ إِذًا بِكَ بَانِيَا وَقُولَا لَهُ آأَنْتَ سَوَّيْتَ وَسْطَهَا ... مُنِيرًا إِذَا مَا جَنَّهُ اللَّيلُ هَادِيَا وَقُولَا لَهُ مَنْ يُرْسِلُ الشَّمْسَ غَدْوَةً ... فَيُصْبِحُ مَا مَسَّتْ مِنَ الأَرْضِ ضَاحِيَا وَقُولَا لَهُ مَنْ يُنْبِتُ الحَبَّ فِي الثَّرَى ... فَيُصْبِحُ مِنْهُ البَقْلُ يَهْتَزُّ رَابِيَا وَيُخِرجُ مِنْهُ حَبَّهُ في رُؤسِهِ ... وَفِي ذَاكَ آيَاتٌ لِمنْ كَانَ وَاعِيَا وَأَنْتَ بِفَضْلِ مِنْكَ نَجَّيْتَ يُونُسا ... وَقَدْ بَاتَ فِي أَضْعَافِ حُوتٍ لَيَالِيَا

12 - أسلمت وجهي إليك

وَإِنِي لَوْ سَبَّحْتُ بِاسْمِكَ رَبَّنَا ... لَأُكْثِرُ إِلَّا مَا غَفَرْتَ خَطَائِيَا فَرَبَّ العِبَادِ أَلقِ سَيْبًا وَرَحْمَةً ... عَلَيَّ وَبَارِك في بَنِيَّ وَمَالِيا (¬1) * * * 12 - أسلمت وجهي إليك زيد بن عمرو بن نفيل وَأَسْلَمتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمتْ ... لَهُ الأرضُ تَحْمِلُ صَخرًا ثِقالا دَحَاهَا فَلَمَّا رآها استَوَتْ ... عَلَى المَاءِ أَرسى عليها الجِبالا وَأَسْلمتُ وَجهِي لمَنْ أسلمتْ ... لهُ المُزنُ تَحْمِل عَذْبًا زُلَالًا إذا هِي سِيقَتْ إلى بَلدةٍ ... أطَاعَتْ فَصَبَّتْ عليها سِجالا (¬2) * * * ¬

(¬1) الروض الأنف (1/ 386). (¬2) الروض الأنف (1/ 389).

13 - قريح القلب

13 - قريح القلب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قريحُ القلبِ من وجَعِ الذنوبِ ... نحيلُ الجِسْمِ يشهَقُ بالنحيب أضرَّ بجسمِهِ سَهَرُ الليالي ... فصارَ الجِسْمُ منه كالقضيب وغيَّرَ لونَهُ خوفٌ شديدٌ ... لِما يلقاهُ من طولِ الكُروب ينادي بالتضرُّعِ يا آلهي ... أقِلني عَثْرتي واسْتُر عُيوبي فزِعتُ إلى الخلائِقِ مستغيثًا ... فلم أَرَ في الخلائقِ من مُجيب وأنتَ تُجيبُ من يدعُوكَ ربِّي ... وتكشِفُ ضُرَّ عبدِكَ يا حبيبي ودائي باطنٌ ولَديْك طِبٌّ ... فمن لي مثلُ طِبِّك يا طَبيبي (¬1) * * * ¬

(¬1) ديوان علي بن أبي طالب رضي الله عنه (ص:43).

14 - إلهي وسيدي

14 - إلهي وسيدي رضيّ الدين الغزي إِلَهي سَيِّديِ رَبي أَغِثنِي ... وَخُذْ بِيَدِي وَمِنْ بُعدِي أَجِرنِي إِلَهِي قَدْ جَنَيْتُ وَأَيُّ عَبدٍ ... ضَعيفِ الخَلقِ مِثلِي لَيْسَ يَجْنِي إِلَهِي لَيْسَ أَجْدَرُ بِالخَطَايَا ... وَبِالتَّقْصِيرِ والزَّلَّاتِ مِنِّي إِلَهِي لَو أَتَيْتُ بِكُلِّ ذَنْبٍ ... فَلَا أَوْلَى بَعَفوٍ مِنْكَ عَنِّي إِلَهِي أَنْتَ ذُو صَفْحٍ جَمِيلٍ ... وَجُودٍ وَاسِعٍ وعَظِيمِ مَنّ إِلَهِي مَا عَصَيتُ بِغيْرِ عِلْمٍ ... وَلَا أَبَدًا أَطَعتُ بِغَيرِ إِذن إِلَهِي إِنْ أَطِعْ فَبِمَحضِ فَضْلٍ ... وَإِنْ أَعصِ فَمِنْ نَقْصٍ وَوَهن إِلَهِي مَا لِعَبدٍ حُجَّةٌ في ... تحَمُّلِهِ الجِنَايةَ والتَّجَنِّي إِلَهِي إِنَّ حُجَّتَكَ الَّتِي قَدْ ... عَلَا بُرهَانُهَا مِنْ غَيْرِ طَعْن إِلَهِي لَيْتَنِي لَوْ كُنتُ عَبدًا ... بِلَا خَطَإٍ وَهَلْ يُجْدِي التَّمَنِّي إِلَهِي ليْتَنِي لَا كُنْتُ إِذْ لَمْ ... أُطِعْكَ وَلَيْتَ أُمِّي لم تَلِدْنِي إِلَهِي إنَّ خَوفِي زَادَ لَولَا ... رَجَائِي مُتُّ مِنْ هَمٍّ وَحُزْنِي إِلَهِي مَنْ يُنَاقَشْ فِي حِسَابٍ ... يُعَذَّبْ مِنْهُ يَا رَبِّي أَقِلنِي إِلهِي أنتَ قَهَّارٌ حَليمٌ ... بِحَقٍّ مِنْكَ يَا ذُخرِي أَعِذنِي إِلَهِي لَيْسَ إلَّا أَنتَ رَبِّي ... فَلَا أَبَدًا بِغَيرِكَ تَمتَحِنِّي إِلَهِي إنْ أَسَأَتُ بِغَيرِ عِلمٍ ... فَإِنِّي فِيكَ قَدْ أَحسَنْتُ ظَنِّي

15 - أفر إليك منك

إِلَهِي أَنْتَ قَدْ حَقَّقْتَ فقْرِي ... إِلَيْكَ وَلَيْسَ شَيءٌ عَنْكَ يُغنِي إِلَهِي إِنَّنِي أَخشَى وَأَرجُو ... أَمَانًا مِنْكَ فَامْنُنْ لِي بِأَمْن إِلَهِي غَيرُ بَابِكَ فِي أُمورِي ... إِذَا مَا ضِقْتُ ذَرعًا لم يَسَعنِي إِلَهِي قَدْ رَجَعْتُ إليكَ عَمَّا ... سواكَ فلا إلى غيرِك تَكِلْني إِلهِي مِثْل ما أحْسَنْتَ بدءًا ... ففي العُقبى بِحَقِّك لا تسُؤني إِلهِي من يُعينُ على وصُولي ... إلى مَا تَرْتَضِي إن لم تُعِنّي إِلَهِي مَنْ سِوَاكَ يُزِيلُ هَمِّي ... وَمَنْ أَدعُوهُ مُضطَرًّا يُجِبنِي إِلَهِي لَستُ أُحصِي مَا بِهِ قَدْ ... مُنِحتُ مِنَ العَطَاءِ بِلَا تَعَنِّي (¬1) * * * 15 - أفرُّ إليك منك أبو نواس أيا مَنْ لَيسَ لي مِنْهُ مُجِيرُ ... بِعَفْوِكَ مِنْ عَذَابِكَ أَستَجِيرُ أنا العَبدُ المُقِرُّ بِكُلِّ ذَنبٍ ... وأنتَ السَّيِّدُ المولَى الغَفُورُ فَإِنْ عَذَّبْتَنِي فَبِسُوءِ فِعلِي ... وإِنْ تَغْفِرْ فَأنتَ بِهِ جَدِيرُ أَفرُّ إليكَ مِنْكَ وأَيْنَ إِلَّا ... يَفرُّ إِليكَ مِنْكَ المُستَجِيرُ (¬2) ¬

(¬1) الكواكب السائرة (1/ 15) ط. المكتبة الشاملة الإلكترونية. (¬2) ديوان أبي نواس (1/ 68).

16 - تبارك ذو الجلال وذو المحال

16 - تبارك ذو الجلالِ وذو المحال يحيى بن معاذ تبارَكَ ذُو الجلالِ وذو المحَالِ ... عَزيزُ الشَّانِ مَحْمُودُ الفِعَال سُروري بالسُّؤالِ لكي أراهُ ... فكيف أُسَرُّ منه بالنوَال فيا ذَا العِزِّ! يا ذا الجُودِ! جُدْ لِي ... وغيِّر مَا تَرَى من سُوءِ حالِي (¬1) * * * 17 - ولكنني في رحمةِ اللهِ أطمعُ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ذُنوبيَ إنْ فَكَّرتُ فيها كثيرةٌ ... ورحمةُ ربِّي مِنْ ذُنوبيَ أَوْسَعُ فما طمَعي في صالحٍ قد عملتُهُ ... ولكنَّني في رحمةِ اللهِ أطْمَعُ (¬2) * * * ¬

(¬1) الحلية (10/ 63). (¬2) ديوان علي بن أبي طالب رضي الله عنه (ص:77).

18 - إلهى أنت للإحسان أهل

18 - إلهى أنت للإحسانِ أهلٌ إلهي أنتَ للإحسانِ أهلٌ ... ومنك الجودُ والفضلُ الجزيلُ إلهي باتَ قلبي في همومٍ ... وحالي لا يُسَرُّ به خليلُ إلهي تُب وجُد وارحمْ عُبيْدًا ... مِنَ الأَوْزَارِ مدمعُهُ يسيلُ إلهي ثوبُ جِسْمِي دنّسَتْهُ ... ذنوبٌ حملُها أبدًا ثقيلُ إلهي جُد بعفوِك لي فإني ... على الأبوابِ منكَسِرٌ ذليلُ إلهي خانَني جَلَدي وصَبْري ... وجاء الشيبُ واقتربَ الرحيلُ إلهي داوِني بدواءِ عفوٍ ... به يُشفَى فؤادي والغليلُ إلهي ذابَ قلْبِي من ذُنوبي ... ومن فِعْلِ القبيحِ أنا القتيلُ إلهي قلتَ ادعُوني أُجِبكُمُ ... فهاك العبدُ يدعُو يا وكيلُ إلهي هذه الأوقاتُ تمضِي ... بأعمارٍ لنا وبها تزولُ (¬1) * * * ¬

(¬1) مناجاة ختم بها الدكتور علي محمد الصلابي كتابه في السيرة النبوية (ص:895).

19 - عظمت صفاتك يا عظيم

19 - عظُمت صفاتُك يا عظيم الأصمعيّ يا فَاطِرَ الخلقِ البَدِيعِ وكَافِلًا ... رِزقَ الجَميعِ سَحَابُ جُودِكَ هَاطِلُ يا مُسبِغَ البِرِّ الجَزِيلِ ومُسبِلَ الـ ... ـسَّترِ الجَمِيلِ، عَمِيمُ طَولِكَ طَائِلُ يا عَالِمَ السِّرِ الخَفِيِّ ومُنجِزَ الـ ... ـوَعْدِ الوَقِيِّ، قَضَاءُ حُكمِكَ عَادِلُ عَظُمَتْ صِفَاتُكَ يَا عَظِيمُ فَجَلَّ أَن ... يُحصِي الثَّنَاءَ عَلَيكَ فِيهَا قَائِلُ الذَّنبُ أنتَ لَهُ بِمَنِّكَ غَافِرٌ ... ولِتَوبَةِ الَعاصِي بِحِلمِكَ قَابِلُ رَبٌّ يُرَبِّي العَالَمينَ بِبِرِّه ... ونَوَالُهُ أبَدًا إِليهم وَاصِلُ تَعصِيهِ وهوَ يسُوقُ نَحوَكَ دَائِمًا ... مَا لا تَكُونُ لبَعضِهِ تَستَأهِلُ مُتَفَضِّلٌ أبَدًا وأنتَ لِجُودِه ... بِقَبَائِحِ العِصيَانِ مِنكَ تُقَابِلُ

وإذا دَجَى لَيلُ الخُطُوبِ وأظلَمَتْ ... سُبلُ الخَلَاصِ وخَابَ فِيهَا الآمِلُ وأيستَ من وَجْهِ النَّجَاةِ فَمَا لَهَا ... سَببٌ ولَا يَدنُو لَهَا مُتَنَاوِلُ يَأتِيكَ مِن أَلطَافِهِ الفَرَجُ الذِي ... لَمَ تَحتَسِبهُ وأنْتَ عَنهُ غَافِلُ يا مُوجِدَ الأشيَاءِ مَنْ ألقَى إِلَى ... أبوَابِ غَيرِك فَهُوَ غِرٌّ جَاهِلُ ومَنِ استَرَاحَ بِغَيرِ ذِكرِكَ أو رَجَا ... أحَدًا سِوَاكَ فَذَاكَ ظِلٌّ زَائِلُ عَمَلٌ أرِيدَ بِه سِوَاكَ فَإنَّهُ ... عَمَلٌ ـ وإنْ زَعَمَ المُرَائِي ـ بَاطِلُ وإِذَا رَضِيتَ فَكُلُّ شَيءٍ هَيِّنٌ ... وإذَا حَصَلتَ فَكُلُّ شَيءٍ حَاصِلُ قد أَثقَلَت ظَهِري الذُنُوبُ وَسَوَّدَت ... صُحُفي العُيُوبُ وسِترُ عَفوِكَ شَامِلُ

هَا قَدْ أَتَيتُ وَحُسنُ ظَنِّي شَافِعِي ... وَوَسَائِلي نَدَمٌ ودَمعٌ سَائِلُ (¬1) فاغفِر لِعَبدِكَ مَا مَضى وَارزُقهُ تَو ... فِيقًا لِمَا تَرضَى فَفَضلُكَ كَامِلُ وافعَل بِهِ مَا أنتَ أهلُ جَمِيلِه ... والظَّنُّ كُلَّ الظَّنِّ أنَّكَ فَاعِلُ (¬2) * * * ¬

(¬1) هذه إحدى شروط التوبة: 1 - الندم. 2 - الإقلاع. 3 - العزم على عدم المعاودة. (¬2) ذكر القصيدة الدميري في حياة الحيوان الكبرى (2/ 17)، وقد حكاها الأصمعيُّ عن غلام.

20 - عرفتك يا إلهي

20 - عرفتك يا إلهي عبد الرحمن حبنكة إِلَهِي عَرَفْتُكَ مِنَ كُلِّ شَيءٍ ظَهَرْ ... عَرَفْتُكَ مِمَا اَختَفَى وَاسْتَتَرْ عَرَفْتُكَ مِنَ حَاضِرَاتِ الوُجُودِ ... وَمِمَا مَضَى فِي زَمَانٍ غَبَرْ عَرَفْتُكَ مِنَ لَفَحَاتِ الرّيَاحْ ... وَمِنْ نَفَحَاتِ نَسِيمِ السَّحَرْ عَرَفْتُكَ مِنَ وَطْأَةِ الحَادِثَاتِ ... وَمِنَ رِقَةٍ مِثْلِ خَمْلِ الزَّهَرْ عَرَفْتُكَ مِنَ حِكَمٍ غُلِّفَتْ ... بِمَظْهَرِ خَيْرٍ وَمَظْهَرِ شَرْ عَرَفْتُكَ مِنَ كُلِّ عُمْقٍ لَدَيّ ... عَرَفْتُكَ مِنَ مَسْمَعِي وَالبَصَرْ عَرَفْتُكَ مِمَا وَرَاءَ الشُّعُورِ ... عَرَفْتُكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ شَعَرْ بِأَنَّكَ أَنْتَ الإِلَهُ الأَحَدْ إِلَهِي فَطَرتَ حَيَاتي عَلَى الفَقرِ لكْ ... وَفِكرِي وَقَلبِي علَى العِلمِ بِكْ وَنَفسِي عَلَى حُبِّ مَا قَدْ وَهَبَتْ ... ورُوحِي عَلَى الأُنْسِ فِي حَضرَتِكْ لِذَلِكَ يَا رَبِّ آمَنتُ بِكْ ... خُضُوعًا وَحُبًّا وأسلَمْتُ لَكْ عَلَى رُغمِ أنفِ الجَحُودِ الكَنُود ... آمنتُ بِكْ ثُمَّ آمَنتُ بِكْ رَضَيتُكَ رَبًّا فأَذلَلتُ قَلبًا ... وَرُوحًا ولُبًّا إلى عِزَّتِكْ وَأَخضَعتُ نَفسِي وَفِكرِي وَحِسِّي ... وَوَجهي وَرَأسِي إلى قُدرَتِكْ

وسَلَّمْتُ أمرِي بِجَهرِي وسرِّي ... وَخَيري وَشَرِّي إلى حِكْمَتِكْ صَلَاتي ونُسكِي خُشُوعِي وَحُبِّي ... خُضُوعي وَقُربِي إلى حَضرَتِكْ ومَحيايَ رَبِّي وغُفرَانُ ذَنبِي ... ومَوتِي وبَعثِي إلى رَحمَتِكْ إِلَهِي إِلَهِي تَبَارَكتَ فِي ... عُلَاكَ فَإنِّي آمنتُ بكْ إلَهِي إِلَهِي تَعَالَيتَ فِي ... سَنَاكَ فإنِّي أسلَمتُ لَكْ إِلهِي عَرَفْتُكَ مِنْ لَامِعَاتِ الأُفُقْ ... عَرَفْتُكَ مِنَ مُوحِشَاتِ الغَسَقْ عَرَفْتُكَ مِنْ نَفَحَاتِ الفَلَقْ ... عَرَفْتُكَ مِنَ خَلقِكَ المُتَّسِقْ بِأَنَّكَ أَنْتَ الإِلَهُ الأَحَدْ عَرَفْتُكَ مِنْ بَهْجَةٍ فِي القَمَرْ ... عَرَفُتْكَ مِنَ نَسْمَةٍ فِي السَّحَرْ عَرَفُتْكَ مِنَ بَسْمَةٍ فِي الزَّهَرْ ... عَرَفُتْكَ مِنَ نَامِياتِ الشَّجَرْ بِأَنَّكَ أَنْتَ الإِلَهُ الأَحَدْ عَرَفْتُكَ مَا لَاحَ نُورٌ وَنَارْ ... وَمَهْمَا يَدُرْ كَوكَبٌ فِي مَدَارْ عَرَفْتُكَ مَهْمَا الزَّمَانُ اسْتَدَارْ ... وَمَهْمَا أَتَى اللَّيْلُ بَعْدَ النَّهَارْ بِأَنَّكَ أَنْتَ الإِلَهُ الأَحَدْ وَأَنَّكَ أَنْتَ العَظْيمُ الصَّمَدْ عَرَفْتُكَ بِالسُّحُبِ الهَاطِلَاتْ ... لِتُحِيِيَ كُلَّ بِلادٍ مَوَاتْ بِكُلِّ نَبَاتٍ عَجِيبِ النَّبَاتْ ... بِمُخْتَلِفَاتٍ وَمُشْتَبِهَاتْ

بِأَنَّكَ أَنْتَ الإِلَهُ الأَحَدْ عَرَفْتُكَ حِينَ سَلَكْتُ القِفَارْ ... وَسَارَ بِنَا فِي السُّهُولِ القِطَارْ عَرَفْتُكَ حِينَ رَكِبْتُ البِحَارْ ... وَحِينَ جَرَتْ بِي جَوارٍ كِبَارْ بِأَنَّكَ أَنْتَ الإِلَهُ الأَحَدْ عَرَفْتُكَ حِينَ رَكِبْتُ الهَوَاءْ ... وَطَوَّفْتُ فِي جَنَبَاتِ الفَضَاءْ وَحِينَ تَامّلْتُ هَذِي السَماءْ ... وَكُلَّ عَظِيمٍ بِهَا ذِي بَهَاءْ بِأَنَّكَ أَنْتَ الإِلَهُ الأَحَدْ وَأَنَّكَ أَنْتَ العَظْيمُ الصَّمَدْ إِلَهِي عَرَفْتُكَ مِنَ ذِي جَنَاحٍ يَطِيرْ ... عَرَفْتُكَ مِنْ ذِي قَوَامٍ يَسِيرْ عَرَفْتُكَ مِنَ سَابِحٍ فِي الغَدِيرْ ... عَرَفْتُكَ مِنْ زَاحِفٍ فِي الهَجِيرْ بِأَنَّكَ أَنْتَ الإِلَهُ الأَحَدْ عَرَفْتُكَ لمَّا نَظَرْتُ الجِبَالْ ... عَرَفْتُكَ مِنْ رَائِعَاتِ الجَمَالْ عَرَفْتُكَ حِينَ شَرِبْتُ الزُّلَالْ ... عَرَفْتُكَ إِذْ ظَلَّلَتْنِي الظِلَالْ بِأَنَّكَ أَنْتَ الإِلَهُ الأَحَدْ عَرَفْتُكَ مِنْ لَمسِ لِينِ الحَريِرْ ... وَمِنْ لمَسِ ذِي قَسْوَةٍ فِي الصّخُورْ عَرَفْتُكَ مِنْ نَفَثَاتِ السَّعِيرْ ... وَمِنَ بَارِدٍ قَاتِلٍ زَمْهَرِيرْ بِأَنَّكَ أَنْتَ الإِلَهُ الأَحَدْ

وَأَنَّكَ أَنْتَ العَظْيمُ الصَّمَدْ إِلَهِي عَرَفْتُكَ مِنَ نَبَضَاتِ الجَنَانْ ... وَمِنْ مَنْطِقٍ عَجَبٍ فِي اللّسَانْ عَرَفْتُكَ مِنْ حَرَكَاتِ البَنَانْ ... وَأَرْشَدَنِي لِعُلَاكَ اليَدَانْ بِأَنَّكَ أَنْتَ الإِلَهُ الأَحَدْ عَرَفْتُكَ مِنَ أَكْبُدٍ ظَامِئَاتْ ... عَرَفْتُكَ مِنْ مِعَدٍ جَائِعَاتْ عَرَفْتُكَ مِنْ حَرَكَاتِ الحَيَاةْ ... عَرَفْتُكَ مِنْ سَكَنَاتِ المَمَاتْ بِأَنَّكَ أَنْتَ الإِلَهُ الأَحَدْ عَرَفْتُكَ مِنْ مُعِجِزَاتِ السّوَرْ ... وَمَا جَمَعَتْ مِنْ جَلِيلِ العِبَرْ وَعَرَّفَنِي بِكَ طهَ (¬1) الأغَرْ ... رَسُولُكَ أحْمَدُ خَيْرُ البَشَرْ بِأَنَّكَ أَنْتَ الإِلَهُ الأَحَدْ وَأَنَّكَ أَنْتَ العَظْيمُ الصَّمَدْ (¬2) * * * ¬

(¬1) طه: ليس من أسماء النبي، ولكنه ورد في القرآن كبقية الأحرف المقطعة في أوائل السور على سبيل الإعجاز. (¬2) ديوان: آمنت بالله (ص:9 - 12).

21 - أشكو إليك ذنوبا

21 - أشكو إليك ذنوبًا يحيى بن معاذ أشكُو إليك ذنوبًا لستُ أنكِرُها ... وقد رجوتُك يا ذا المنِّ تَغْفرُها من قبلِ سُؤلك لي في الحشرِ يا أمَلي ... يومَ الجزاءِ على الأهوالِ تذكرُها أرجُوك تغِفُرُها في الحشرِ يا أمَلي ... إذْ كنتَ سؤْلي كما في الأرضِ تستُرها * * * 22 - مسلم يخاطبُ الكونَ شعر عائض القرني قف في الحياةِ تَرَى الجمالَ تَبَسُّما ... والطلُّ من ثغرِ الخمائلِ قد هَمَى وشَدَتْ مطوّقةُ العروسِ ورجَّعَتْ ... وترعْرَعَ الفَنَنُ الجميلُ وقد نما وسرى النسيمُ يهزُّ عطْفَ عبيره ... والماءُ في عطْفِ الجَدَاوِلِ تَمْتَمَا وتفتّحَ الأزهارُ واعتنَقَ النَّدَى ... هدرَ الغديرُ وكان قبلُ ملثَّما والنبتُ قد شقَّ الثَّرى فعيونُه ... تاقَتْ إلى ضوءٍ تألَّقَ في السَّمَا والشمسُ أرَسَلتِ الأشعَّةَ في الفَضَا ... بَدَدًا وَقَبَّلَتِ الجليدَ فَهَمْهَمَا وَسَرتْ طيورُ القاعِ تنشُدُ في الرُّبا ... بيتَ القَصيدِ سعادةً وترنُّما والنحلُ قد تَرَك الخليةَ مولعًا ... برحيقِ زهرٍ ظلَّ يسكُبُ في اللَّمَّا وفراشَةُ البستانِ ألقتْ نفسَها ... في سندسٍ فوقَ البطائِحِ وسّما وبكى الغمامُ من الفراقِ مشامتٌ ... في الأرضِ يضحَكُ ترحةً وتلوّما

وتطاولَتْ شممُ الجبالِ ونافرتْ ... قِمَم التلالِ فلم تُكُنْ أبدًا كما والمؤمنُ اطلعَ الوجودَ مسلَّمًا ... أهلًا بمن حازَ الجمالَ مسلّما فجثَتْ لطلعَتِه الجبالُ وأذعنتْ ... إذ كان منها في الحقيقةِ أعظَما وقد اشْرَأَبتْ كلُّ كائنةٍ له ... فكأنه مَلِكٌ يسيرُ مُعَلِّما ورأى الحياةَ بنظرةٍ قدسيةٍ ... وبها إلى عزّ المهيمنِ قد سمَا كشفَ الحجابَ عن الغيوبِ فَأَشْرَقَتْ ... سبلُ الهدايةِ قبلَه فتقدَّما عرفَ الحقيقةَ فاسْتَنَار بنورِها ... وتراهُ في عُمْقِ التفَكُّرِ مُلَهمًا في كلّ ماثلةٍ تمرُّ بعينِه ... عِبَرٌ تُعرِّفه الإلهَ الأعْظَما حَبْلُ الرجاءِ غدا به متمسِّكًا ... أنعِمْ بحَبْلٍ قطُّ لن يَتَصَرَّما أَتَرَى الجمالَ بغيرِ منظارِ التُّقى ... حسنًا ولو مَلَكَتْ يداك الأنجُما أتظنُّ أن الأُنسَ يَسْكُنُ بُرهةً ... قلبًا ولم يكُ في الحقيقةِ مُسْلِما؟! لا والذي جمعَ الخلائقَ في مِنًى ... وبدا فأعطَى من أحَلَّ وأحْرَما ما في ربوعِ الكونِ أجملُ منظرٍ ... من مؤمنٍ للسْعِد جدَّ ويمَّمَا إن متَّ يا جَامِي الحياةِ فإنَّما ... هي نقلةٌ تلقَى حياةً أوسَما في ظلِّ ربٍّ كنتَ قد وحَّدتَه ... تلقاه في الأخْرَى أبرَّ وأكرَما بل كيفَ ترحَلُ والحياةُ تقدما ... ما للعوالمِ حَوْلَ قبرِك جُثَّما فاسَعْد فقد ظَفَرَتْ يداك بصَفْقةٍ ... واهنا فإنك بعدُ لن تَتَنَدَّما (¬1) ¬

(¬1) عائض القرني، واإسلاماه (ص:18 - 21).

23 - الجحود

23 - الجحود خير الدين وانلي يَغذوكَ لكن أنتَ تشكرُ غيرَهُ ... ويذودُ عنك فتمْدَحُ الأوثانا؟! أَوَ هَكَذا ردُّ الجميلِ لأهْلهِ ... أَوَ هكذا تَسْتَقْبِلُ الإحْسَانا؟! يا من جحدتَ لذي الصَّنيعِ صنيعَهُ ... أَوَ مَا تهابُ السُّخْطَ والنيرانا؟! أتخاصمُ الجبَّارَ في عَلْيَائِه؟! ... يا من بَراكَ من الثرى إنسانا من نُطفةٍ سوّاك ربي مبصرًا ... تتبيَّنُ الأشكالَ والأَلْوَانا بل سخَّر السَّبعَ الطباقَ لخدمةٍ ... والأرضَ والأنهارَ والخلْجَانا والفُلكَ تجري والرياحَ لواقحًا ... والماءَ يُحْيِي الزرعَ والأَفْنَانا والرعدُ في كبدِ السَّماءِ مُسَبِّحًا ... والثلجَ يهطِلُ يرفِدُ الغُدْرَانا والطيرُ يبسُطُ جنحَه كسفينةٍ ... فوقَ الرياحِ يسبِّحُ الرحْمَانا في كلِّ شيءٍ للمُهيمنِ آيةٌ ... تدعُ الجَحُودَ بأمرِه حَيْرَانا يا من جَحَدْتَ ألم تفكِّرْ لحظةً ... في ذا الوجودِ وتنظرِ الأكوانا في قلبِكَ الخفَّاقِ أكبرُ آيةٍ ... إن لم تجدْ مِنْ حَوْلِك البُرهانا السمعُ والأبصارُ خلقٌ مُعْجِزٌ ... يتحديانِ الجَحْدَ والنُّكْرَانا والسيرُ منتصبًا دليلٌ واضحٌ ... أن المسيِّرَ ميَّز الإِنْسانا والنطقُ آيةُ قدرةٍ جبارةٍ ... والمخُّ يحفظُ كلَّ ما قد كانا واللمسُ للأشياءِ والشمُّ الذي ... لا يُخطيءِ الأرياحَ والرَّيحانا

والشَّعرُ يكسُو الجلدَ ثوبًا ناعِمًا ... متموِّجًا متجدِّدًا أَلْوَانا كالجلدِ للحِرْباءِ يشبهُ لونُه ... ما حولَه فتظنُّه أغصَانا والرأسُ يحْمِي المخَّ في تَجويفِه ... والصدرُ يَحْمِي القلبَ والشَّريانا فِلِمَ الجُحُودُ وفَضْلُ ربِّك سابقٌ ... من قبلِ أن تَسْتَرضِعَ الأَلْبانا؟! (¬1) * * * ¬

(¬1) ديوان النصر للإسلام (ص:123).

24 - يا منزل الآيات والفرقان

24 - يا منزل الآياتِ والفرقانِ أبو محمد الأندلسي القحطاني يَا مُنْزِلَ الآيَاتِ وَالفُرْقَانِ ... بَينِي وَبَيْنَكَ حرْمَةُ القُرْآن اشْرَحْ بِهِ صَدْرِي لمعرِفَةِ الهُدَى ... وَاعْصِمْ بِهِ قَلبِي مِنَ الشَّيطَان واحطُطْ بِهِ وِزْرِي وَأخْلِصْ نِيَّتِي ... وَاشدُدْ بِهِ أَزْرِي وأَصْلِحْ شَانِي واكْشِفْ بِهِ ضُرِّي وحقِّقْ تَوبَتِي ... أرْبِحْ بِهِ بَيْعِي بِلَا خُسْرَان طهِّر بِهِ قَلْبِي وصَفِّ سَرِيرَتِي ... أجمِلْ بِهِ ذِكْرِي وَأَعْلِ مكَانِي وَاقْطَعْ بِهِ طَمَعِي وَشرِّفْ هِّمَتِي ... كَثِّرْ بِهِ وَرَعِي وَأحِي جِنَانِي أسهِرْ بِهِ لَيْلِي وأظْمِ جَوَارِحِي ... أسبِلْ بِفيْضِ دُمُوعِهَا أجفاني وَأمزِجْهُ يَا رَبِّي بلحْمِي مَعْ دَمِي ... وَاغْسِلْ بِهِ قَلْبِي مِنَ الأَضْغَان أَنْتَ الَّذِي صَوَّرْتَنِي وَخَلقتَنِي ... وَهَديْتني لِشَرَائِعِ الإِيمَان أَنْتَ الَّذِي عَلَّمْتَنِي ورَحِمْتَنِي ... وَجعلتَ صَدْرِيَ واعِيَ القُرْآن أَنْتَ الَّذِي أَطْعَمْتَنِي وَسقَيْتَنِي ... مِنْ غَيْرِ كَسْبِ يَدٍ وَلَا دُكَّان وجَبَرْتَنِي وَسَتَرْتَنِي وَنَصَرْتَنِي ... وَغَمَرْتَنِي بِالفَضْلِ والإِحْسَان أَنْتَ الَّذِي آوَيْتَنِي وَحَبَوْتَنِي ... وَهَدَيْتَنِي مِنَ حِيرَةِ الخُذْلَان وَزَرَعَتَ لِي بَيْنَ القُلُوبِ مَوَدَّةً ... وَالعَطْفَ مِنْكَ بِرَحْمَةٍ وَحَنَان وَنَشرتَ لِي فِي العَالمِينَ مَحَاسِنًا ... وَسَتَرْتَ عَنْ أبصَارِهِمْ عِصْيَانِي

وجعلتَ ذكْرِيَ في البَرِيَّةِ شَائِعًا ... حَتَّى جَعلْتَ جَمِيعَهُم إِخوَانِي وَاللهِ لَو عَلِمُوا قَبِيحَ سَرِيرَتِي ... لَأبَى السَّلَامَ عليَّ مَنْ يَلْقَانِي ولَأعْرَضُوا عَنِّي ومَلُّوا صُحْبَتِي ... وَلَبُؤْتُ بَعْدَ كرامةٍ بَهَوان لَكنْ سَتَرتَ مَعَايِبِي ومثَالِبِي ... وحَلُمْتَ عَنْ سَقَطِي وعَنْ طُغيَانِي فَلَكَ المحَامِدُ والمدَائِحُ كُلُّهَا ... بَخوَاطِرِي وَجَوَارِحِي وَلِسَانِي وَلقَدْ مَنَنْتَ عَلَيَّ رَبِّ بَأنْعُمٍ ... مَا لِي بشُكْرِ أقلِّهنَّ يَدَان فَوَحَقِّ حِكْمَتِكَ التِي آتَيْتَنِي ... حَتَّى شَددتَ بِنُورِهَا بُرْهَانِي لئنِ اجتَبَتْنِي مِنَ رِضَاكَ مَعُونَةٌ ... حتى تُقوِّيَ أيدُهَا إِيمَانِي لأُسَبِّحَنَّكَ بُكْرةً وَعَشِيَّةً ... ولتخدمنَّكَ في الدُّجَى أَركَانِي ولأذْكُرَنَّكَ قَائِمًا أَو قَاعِدًا ... ولَأشْكُرَنَّكَ سائِرَ الأَحيَان ولأكتُمَنَّ عَنْ البَرِيَّةِ خِلَّتِيَّ ... ولاشْكُوَنَّ إليك جَهْدَ زمَانِي ولأقْصِدنَّكَ في جَمِيعِ حَوَائِجِي ... مِنْ دُونِ قصدِ فُلانةِ وفُلان ولأحسِمَنَّ عَنْ الأنَامِ مَطَامِعِي ... بحُسَامِ يَأسٍ لم تَشُبْهُ بَنَانِي ولأجعلَنَّ رِضَاك أكبرَ هِمَّتي ... ولاضرِبَنَّ مِن الهَوَى شَيْطَانِي ولأكسُوَنَّ عُيوبِ نَفسِي بالتُّقُى ... ولأقبِضَنَّ عَنِ الفُجُورِ عِنَانِي ولأمنَعَنَّ النَّفْسَ عَنْ شَهَوَاتِهَا ... ولأجعَلَنَّ الزُّهْدَ مِنْ أعْوَانِي ولأتْلُوَنَّ حُرُوفَ وَحْيِكَ فِي الدُّجَى ... ولأحْرِقَنَّ بنُورِهِ شَيْطَانِي

أنت الذي يا ربّ قلتَ حروفَه ... ووصفته بالوعْظِ والتبيان ونَظَمْتَه ببلاغةٍ أزليةٍ ... تكييفُها يخفَى على الأذْهان وهو المحيطُ بكلِّ شيءٍ عِلْمُه ... من غير إغفالٍ ولا نِسْيان من ذا يكيِّفُ ذاتَه وصفاتِه ... وهو القديمُ مكوِّنُ الأكوان سبحانَه ملِكًا على العرشِ استوى ... وَحَوَى جميعَ الملكِ والسطانِ (¬1) * * * ¬

(¬1) مختارات من نوية القحطاني، ط. مكتبة السوادي - جدة.

25 - سبحانك اللهم

25 - سبحانك اللهم مصطفى عكرمة يا رَبِّ قَدْ أَبدَعتَ مِنْ عَدَمٍ جَميعَ الكائِنَات وَجَعَلتَ لِلإِنسانِ آياتِ الرَّشادِ البيِّنَات وأَمَرتَهُ ألَّا يَحيدَ الدَّهرَ عَنْ دَربِ الهُداة مَنَّيْتَهُ ... وأَعَنْتَهُ ... لِنَوالِ كُلِّ الأُمنيَات الأَرضُ كَمْ قد أَعطَتِ الإنسانَ شَتَّى الأُعطِياتِ! أنتَ الَّذِي أودَعْتَ فيها كُلَّ ألوانِ الهِبات أَنبَتَّنا مِنْها .. كما أَنبَتَّ أَزواجَ النَّبات شَتَّى نَرَى أَلوانَهُ رَغمَ التَّشابُهِ في الصِّفات وتَسُحُّ أبوابُ السَّمَواتِ العُلى بالنُّعمَيات قَدَّرتَ رَبِّي الخَلقَ تَقديرًا بِهِ كُلُّ العِظات وَوَهَبتَ يا رَبَّاهُ كُلَّ الخَلقِ أَسبابَ الحَياة هذي السَّماءُ بِلا دَعائمَ حَيَّرت كُلَّ البُناة أَمسكتَها ... فإِذا بِها مَثَلُ الثَّباتِ علَى الثَّبات وَزَرَعتَ في الأجواءِ آلافَ النُّجومِ النَّيِّرات تَهدي بِها في الدَّهرِ أصحابَ العُقولِ الراجِحات

وَبَسطتَ فَوقَ الماءِ أرضًا لم تَزَل في الدّائِرات الكُلُّ في فَلَكٍ يدورُ كما أرَدتَ بِلا انفِلات لا الماءُ يَطغى، لا، ولا يُخْشَى عَلَيها من أَذاة سُبحَانَكَ اللهُمَ تُخرِجُ كُلَّ حَيٍّ من مَمَات يا مَنْ إذا قَدْ قُلتَ: كُنْ ... كانتْ جَميعُ المُعجزات أدعُوكَ فامنَحْ أُمَّتي سُبُل الهِدايةِ والنَّجاةِ (¬1) * * * ¬

(¬1) ديوان حتى ترضى (ص:49 - 50).

26 - سبحان من يعطي المنى

26 - سبحان من يعطي المنى سُبْحَانَ من يُعْطِي المُنىَ بخواطرٍ ... في النَّفس لم ينطِقْ بهنَّ لِسَانُ سُبْحَانَ من لاشيءَ يحجُب علمَه ... فالسرُّ أجمعُ عندَه إعلانُ سُبْحَانَ مَنْ هُوَ لا يزالُ مُسبّحًا ... أبدًا وليس لغيرِهِ السُّبحانُ سُبْحَانَ مَنْ تجْري قَضَاياه على ... ما شاءَ منها غائبٌ وعيانُ سُبْحَانَ مَنْ هُو لا يزالُ ورزقُهُ ... للعالمينَ به عليه ضَمَانُ سُبْحَانَ من في ذكرِه طرقُ الرِّضَى ... منه وفيه الرَّوحُ والريحانُ ملكٌ عزيزٌ لا يقارَنُ عِزُّه ... يُعصَى ويُرجَى عنده الغفرانُ ملكٌ له ظهرُ القضاءِ وبطنُه ... لم تُبل جدَّة ملكِه الأزمانُ ملكٌ هو الملكُ الذي من حِلْمِه ... يُعصَى بحسنِ بلائِهِ ويُخانُ يَبْلَى لكلِّ مسلّطٍ سلطانُه ... واللهُ لا يَبْلَى له سُلطانُ (¬1) * * * ¬

(¬1) الله أهل الثناء والمجد (ص:110).

27 - إخلاص العبودية

27 - إخلاصُ العبودية خير الدين وائلي علَى المَولى تَوَكَّلْنَا ... وسبَّحْنا اسمَهُ الأعلَى وحَسبُ المُسلِمِ المُؤمِنْ ... بنصرِ اللهِ أن يُوقِنْ فإنَّ العونَ والنصْرا ... لمنْ يَدعوه مُضطَّرا ومن يسأَلْ سوى الربِّ ... يُدنِّس طاهرَ القَلب ومِنْ يُشرِكْ بمولاهُ ... يكنْ في النارِ مَثواهُ وكلُّ الذنبِ قد يُغفرْ ... سُوَى الإشراكِ بالأكْبَرْ ومن يطلبْ من القبرِ ... ينلْ ما نالَ ذو الكفر فأخْلِصْ يا أخي النيَّةْ ... وأنواعَ العبوديَّةْ لربٍّ قادرٍ قاهرْ ... حكيمٍ عالمٍ غافِرْ ففي الإخلاصِ للمولَى ... بلوغُ المِرفَقِ الأعلى لدَى الرحمنِ في الجنَّهْ ... ولُقيا الفضلِ والمنَّهْ فعندَ اللهِ للعابِدْ ... نعيمٌ وافرٌ خالِدْ فياذا الفضلِ والجودِ ... وباري كلِّ موجود أَنِلْنِي راحةَ البالِ ... معَ المختارِ والآلِ (¬1) ¬

(¬1) ديوان النصر للإسلام (ص:127).

28 - إلهي أقلني عثرتي

28 - إلهي أقلني عثرتي عبد الرحيم البرعي عَسى من خَفِيِّ اللطفِ سُبحانَهُ لُطْفٌ ... بِعَطْفَةِ بِرٍّ فالكَرِيمُ لَهُ عَطفُ عَسى مِن لَطِيفِ الصُّنعِ نَظرَةُ رَحمَةٍ ... إلى مَنْ جفَاهُ الأهلُ والصَّحبُ والإِلْفُ عَسى فَرَجٌ يأتِي بِهِ اللهُ عاجِلًا ... يُسَرُّ بِهِ المَلْهُوفُ إن غَمَّهُ اللَّهفُ عَسى لِغَريبِ الدَّارِ تَدبِيرُ رَأفَةٍ ... وبِرٌّ مِنَ البارِي إذا العَيشُ لَمْ يَصفُ عَسى نَفحَةٌ فَردِيَّةٌ صَمَديَّةٌ ... بِها تنقَضِي الحاجاتُ والشَّمْلُ يُلتفُّ فإنِّيَ والشَّكوى إلى اللهِ كالَّذِي ... رَمى نَفسَهُ في لُجَّةٍ مَوجُها يَطفُو فَمِنْ مِحَنِ الأيَّامِ قَلبِي مُعَذَّبٌ ... ألَمَّ بِرَوحِي قَبلَ حَتفِ الفَنا حَتفُ ومِنْ فُرقَةِ الأحبابِ قَلبِي مُقسَّمٌ ... ثلاثٌ وأرباعٌ ونِصفٌ ولا نَصفُ

وإني لأرضَى ما قَضَى اللهُ لي ولو ... عَبَدْتُ على حَرْفٍ لأَزْرَى بيَ الحرفُ ولم أَبنِ حُسنَ الظَّنِّ في سيِّدي عَلى ... شفا جُرُفٍ هارٍ فَيَنهارُ بي الجَرفُ ولكِنْ دَعَوتُ اللهَ يَكشِفُ كُربَتِي ... فَما كُربَةٌ إلَّا ومِنهُ لَها كَشفُ فكَمْ بُسِطت كَفٌّ بسوءٍ تُرِيدُني ... فَقالَ لَها الكافِي ألا غُلَّتِ الكَفُّ وَكَمْ هَمَّ صَرفُ الدّهْرِ يَصرِفُ نابَهُ ... عَلَيَّ فَجاءَ الموتُ وانصَرَفَ الصَّرفُ ولمْ أَعتَصِمْ باللهِ إِلَّا وَمَدَّ لِي ... مَنَ البِرِّ ظِلًّا في رضاءٍ لَهُ وَكْفُ (¬1) وإني لمُستغَنٍ بِفَقرِي وفاقَتِي ... إِليهِ ومُستقْوٍ وَإنْ كانَ بِي ضَعفُ وفي الغَيبِ لِلعَبدِ الضَّعيفِ لَطائفٌ ... بِها جَفَّتِ الأقلامُ وانطَوَتِ الصُّحفُ ¬

(¬1) وكْف: الوكف الجريان والتتابع.

بِقُدرَةِ مَنْ شَدَّ الهوا وبَنى السَّما ... طَرائِقَ فَوقَ الأرضِ فَهْي لَها سَقفُ ومَنْ نَصَبَ الكُرسيَّ والعَرشَ واستَوى ... على العَرشِ، والأملاكُ مِن حَولِهِ حَفُّوا ومَنْ بَسَطَ الأرضِينَ فَهِيَ بِلُطفِه ... لِحَيِّ بَنِي الدُّنيا ومَيِّتِهِمْ ظَرفُ وألقى الجبِالَ الشُّمَّ فِيها رَواسِيًا ... فَلَيسَ لها مِنْ قَبلِ مَوعِدِها نَسفُ وأَلبْسَها من سُندُسِ النَّبتِ بَهجَةً ... مِنَ النورِ ما صِنْفٌ يُشابِهُهُ صِنفُ وسَخَّرَ من نَشْرِ السَّحابِ لواقِحًا ... إذا انتشَرَت دَرَّت سَحائِبُها الوَطفُ (¬1) وأَنشَأ من أَلفافِها كُلَّ حَبَّةٍ ... به الأبُّ والريحانُ والحَبُّ والعَصْفُ ويعلمُ مَسْعَى كلَّ سارٍ وساربٍ ... وما أعلنوه من خِطابٍ وما أخْفُوا ¬

(¬1) الوطف: الماء المنهمر.

ويَدرِي دَبِيبَ النَّملِ في اللَّيلِ إن سَعَت ... وإن وَقَفَتْ ما أمكَنَ السَّعيُ والوقفُ ووزنُ جِبالٍ كَمْ مَثاقِيلَ ذَرَّةٍ ... وكَيْلُ بِحارٍ لا يُغَيِّضُها نَزفُ وكَمْ في غَرِيبِ المُلكِ والمَلَكُوتِ مِنْ ... عَجائِبَ لا يُحصِي لأيسَرِها وصفُ فَسُبحانَ مَنْ إن هَمَّ وَهْمٌ يَقِيسُهُ ... بِكُفءٍ وتكيِيفٍ يُلَجِّمُهُ الكَفُّ إِلَهِي أقِلنِي عَثرَتِي وتَوَلَّنِي ... بِعفوٍ فإنَّ النائِباتِ لها عُنفُ خَلَعتُ عِذَارِي ثُمَّ جِئتُكَ عائِذًا ... بِعُذرِي فإن لم تَعفُ عَنِي فَمَنْ يَعفُو * * *

29 - رحمتك اللهم

29 - رحمتك اللهم الإمام الشافعي قَلبِي برَحَمتِكَ اللَّهُمَّ ذُو أنُسِ ... في السِّرِّ والجَهرِ والإصبَاحِ والغَلَس ومَا تَقَلَّبتُ مِنْ نَومِي وَفي سِنَتي ... إلَّا وذكرُكَ بين النَّفْسِ والنَّفَس لقَدْ مَننتَ علَى قَلبي بمعرِفَةٍ ... بأنَّكَ اللهُ ذُو الآلاءِ والقُدس وقَد أتَيتُ ذُنُوبًا أنتَ تَعلمُها ... ولم تَكُنْ فاضحِي فِيهَا بِفعلِ مُسِي فَامنُنْ عَلَيَّ بِذكرِ الصَّالحينَ ولا ... تجعَل عَلَيَّ إذًا في الدِّينِ من لَبَس وكُنْ مَعِي طُولَ دُنياي وآخِرتي ... ويَومَ حَشريِ بِما أنزَلت في عَبَس (¬1) * * * ¬

(¬1) ديوان الشافعي (ص:85).

30 - إلهنا ما أعدلك

30 - إلهنا ما أعدلك أبو نواس إلهنا ما أعدَلكْ ... مَلِيكَ كلِّ من مَلَكْ لبيك قد لبيتُ لكْ ... لبيكَ إنَّ الحمدَ لكْ والملكُ لا شريكَ لكْ ... والليلُ لمَّا أن حَلَكْ والسَّابِحَاتُ في الفَلكْ ... على مجارِ المنسَلِكْ ما خاب عبدٌ أمّلَكْ ... أنت له حيثُ سَلَكْ لولاك يا ربّ هَلَكْ ... كلُّ نبيٍّ ومَلَكْ يا مخطئًا ما أغْفَلَكْ ... عجّل وبادِرْ أجَلَكْ واختِمْ بخيرٍ عَمَلَكْ ... لبيك إن الملكَ لكْ والحمدُ والنِّعمةُ لكْ ... والعزُّ لا شريكَ لك (¬1) * * * ¬

(¬1) أناشيد فتية الحق (ص:46).

31 - لك المجد في كل الوجود

31 - لك المجدُ في كل الوجودِ عبد الرحمن حبنكة لكَ المجدُ في كلِّ الوجودِ لك الحمدُ ... إلهي. فأنتَ الخالقُ الصَّمَدُ الفردُ إلهي وأنت الربُّ تخلُقَ مَا تشَا ... وأنتَ مُعينُ العبدِ ما التجأَ العبدُ لديكَ إلهي رزقُنَا وحياتُنا ... ومنكَ إلهي السعدُ ما أقبلَ السَّعدُ وكلُّ تصاريفِ الوجودِ قضاؤُها ... لديكَ ومَا تقضِيهِ حقَّ لهُ الحمدُ ولا خير إلا في يديكَ قضاؤُهُ ... وكم ساءنَا خيرٌ إذا ألِمَ الجِلْدُ وكم مؤلمٍ للنَّفسِ نَكْرهُ مسَّهُ ... وفيهِ لنا خيرٌ وفيهِ لنا مجدُ فأنتَ حَكيمٌ والحكِيمُ بفعْلهِ ... حميدٌ وعلمُ الناسِ صغَّرهُ الحَدُّ * * *

32 - تسبيحات

32 - تسبيحات (¬1) حازم القَرْطَاجَنِّي سُبحانَ من سَبَّحَتْهُ أَلْسُنُ الأمم ... تَسْبيحَ حَمْدٍ بِمَا أَوْلَى مِنَ النِّعَم سُبحانَ مَن سبَّحَتْهُ ألْسُنٌ عَرفتْ ... بأَنَّ تسبيحَهُ مِنَ أَفْضلِ العِصَم سُبحانَ مَنْ سبَّحتْهُ ألسنٌ نطقَتْ ... من عالَمٍ في حِجَابِ الغيبِ مُكْتَتَم سُبحانَ من سبَّحَت حمدًا ملائِكَةٌ ... لهُ بِلَا فترةٍ تَعْرو وَلَا سَأَم سُبحانَ مَن سَبَّحَتْ سَبعٌ له سَبَحَتْ ... مِنَ السمواتِ ذاتِ الأنجُمِ العُتُم سُبحانَ مَن سبَّحَتْ شمسُ النهارِ لهُ ... والبدرُ بدرُ الدُّجَى والشُّهْبُ في الظُّلم سُبحانَ من سبَّحَ الليلُ البهيمُ له ... وسبَّحَ الصُّبحُ يُبدي ثَغْرَ مُبْتَسَم ¬

(¬1) تسبيح ومناجاة وثناء (ص:99 - 101).

سُبحَانَ من سبَّح الجِسْمُ الجمادُ له ... بمنطقٍ من لسانِ الحالِ مُنفهِم سُبحَانَ مَن سبَّح الحيُّ الفَصِيحُ لهُ ... بمنطقٍ مِنْ صَريحِ اللَّفظِ مُلْتَئِم سُبحانَ مَنْ فجَّر الأنهارَ أسفَلَها ... وَأَنْشأَ السُّحْبَ منها في ذُرَى القِمَم سُبحَانَ عالمِ ما في العالمينَ معًا ... من كلِّ ما دَقَّ أو ظَلَّ ذا ضِخَم سُبحَانَ مَنْ كُلُّ حينٍ في الوجودِ لهُ ... إعدامُ موجودٍ أو إيجادُ منعَدَم سُبحَانَ مَن خَلَقَ الإنسانَ من عَلَقٍ ... وردَّه بعدَ أمشاجٍ إلى رِمَم سُبحَانَ من شاءَ سُكنى الروحِ في جسدٍ ... باقٍ إلى أمدٍ لا بدَّ مُختَرم سبحانَ مَنْ كُلُّ شيءٍ عندَهُ لِمَدًى ... مثلُ الشبابِ الذي يُفْضِي إلى الهرَم سُبحانَ من جعلَ الدنيا وصورَتَها ... مثلَ الخيالِ سَرَى والعيشَ كالحُلُم

سُبحَانَ من جَعَل الدنيا مُحببةً ... ملتَّذةً معَ ما فيها مِنَ الأَلَم سُبحَانَ من حَبَّبَ الأخرى لطائفةٍ ... سَمَتْ إلى أشرفِ الدَّارينِ بالهِمَم سُبحَانَ من ينشُرُ الموتَى ويبعَثُهم ... للفصْلِ ما بين ظَلَّام ومُظَّلم سُبحَانَ مَنْ بينَهم بالعدلِ يحكُم في ... يومٍ به ليسَ غيرُ اللهِ من حَكَم سُبحَانَ من جلّ في سلطانِه وعلا ... عن أن يُرى معه حُكْمٌ لمحْتَكِم سُبحَانَ من شاء تدبيرَ الأمورِ على ... ما خطَّ تقريرُه في اللوحِ بالقلَم سُبحَان من ألهَمَ العبْدَ السعيدَ لما ... أضحَى الشَّقِيُّ إليه غيرَ مُلْتَهَم سُبحَانَ من ضَلَّل الأشقَى بِمَعْصِيةٍ ... فضَلَّ عن طرُقِ التوفيقِ وهْو عَم سُبحَانَ من إن يشا يجْزِ المسيءَ وإن ... يَشَا عفا عن كبيرِ الإثم واللَّمم

سُبحَانَ من منه نرجُو عَفْوَ مقْتدِرٍ ... ونستعيذُ به من بطْشِ مُنْتَقِم سُبحَانَ من يُعدِمُ الموجودَ حين يَشَا ... سبحان من أوجَدَ الأشياءَ من عَدَم سُبحَانَ من لم يُحطْ خلقٌ به وله ... إحاطةٌ بجميعِ الخلْقِ كلِّهِم سُبحَانَ من بدليلِ الوحْي زادَ هُدًى ... من اهتدَى بدليلِ العقل والفِهَم سُبحَانَ من شاء إمدادَ العقولِ بما ... أوحَى إلى رُسْلِه في الأعصُرِ القِدَم سُبحَانَ من تَمَّم الحسنَ بخاتَمِهم ... محمدٍ خيرِ مبعوثٍ ومختَتَم * * *

33 - بكل الشوق

33 - بكلِّ الشوقِ محمد التهامي بكُلِّ الشَّوقِ في قَلْبي ... طرقتُ البابَ يا رَبِّي وفي شَفَتي ضَرَاعاتٌ ... لقلبٍ ذابَ في جَنْبِي دُعَاءٌ في تألُّقِهِ ... ضِيَاءٌ غيرُ ذي لَهَب يَسِيلُ الطُّهرُ في دمعي ... ليغسِلَ صِدقُهُ ذَنبي وحَسْبي أنَّك الرَّحمـ ... ـنُ في رضوانِهِ حسبي تُجيب ضراعةَ المُحتا ... جِ عِندَ الموقفِ الصَّعْب وتَهْدِي خُطْوَةَ الحْيرا ... نِ إن ضَلَّتْ على الدَّرب طلبتُ رضاكَ يا رحما ... نُ واسترحَمْتُ في طَلَبي قصدتُكَ يا حِمَى رُوحي ... ويا غَوثِي من الكُرَب ويا حِصْني مِنَ الأيَّا ... مِ والأيَّامُ تَعْصِفُ بي ويا عَوني عَلَى الإنسا ... نِ والإنسانُ يغْدِرُ بي ويَلْبَسُ ثوبَ إنسانٍ ... ليُخْفِيَ صورةَ الذِّئب سألتُ اللهَ أن ترتا ... حَ دُنيانا مِنَ اللَّهَب وأن يرتاحَ صِدقُ النَّا ... سِ مِنْ دوَّامةِ الكَذِب وأن يخلُو رحابُ الأرْ ... ضِ من حَمَّالةِ الحَطب

وأن يرضَى رضاءً يُنـ ... ـقِذُ الدُّنيا من الغضَب سألتُ اللهَ أن يَهْدِي ... إلينا نعمَةَ الحُبّ وأن يَسقي ظِمَاءَ الرُّو ... حِ من تيَّارِهِ العَذْب وأن يسري رحيقُ الحُـ ... ـبِ من قلبٍ إلى قلب فَنَسْعَدُ كُلما ضمَّت ... خُطانا لمسةُ القُرب سألتُ اللهَ والمسئُو ... لُ فوقَ الشَّكِّ والرِّيَب هو المُعطي بلا منٍّ ... عطاءً غيرَ مُقتَضَب دعوتُ وحُلميَ المأمُو ... لُ يبدو اليومَ عن كَثَب تعالى اللهُ من دانٍ ... إلى الدَّاعي ومُقتربِ (¬1) * * * ¬

(¬1) من ديوان يا إلهي، لمحمد التهامي (ص:7 - 8)، وانظر: رائق الشهد (ص:451 - 452).

34 - رب لا يقهر

34 - ربٌّ لا يقهر خير الدين وانلي آمنتُ بربٍّ لا يُقهَرْ ... سُبوحٍ قُدوسٍ أكبرْ بالجبتِ كفرتُ وبالطاغو ... تِ فدعْوَى الشّركِ هي المنكرْ لا ربَّ لهذا الكونِ سوى الـ ... ـخلّاقِ القيّومِ الأقْدَرْ الخلقُ جميعًا قبَضتُهُ ... في الحشرِ ويا هولَ المحْشَرْ أبوابُ الخُلدِ مفتَّحةٌ ... والنارُ بمن يَهْوِي تُسعَرْ وملائكةُ النيرانِ على الـ ... أبوابِ تنفِّذُ ما تُؤمَرْ وأمامَ الجنَّةِ ترحيبٌ ... من رضوانَ الملَكِ الأشْهَرْ والرسْلُ بفردوسٍ أَعْلَى ... والصِّدِّيقونَ ومن شَمَّرْ الخلدُ طريقٌ مفروشٌ ... بالشوكِ طويلٌ مسْتَوْعَر والنارُ بلذّاتِ حُفَّتْ ... وبِمَكْروهٍ حُفَّ الكَوْثَر لا يغفرُ ربّي إشراكًا ... والأدنَى من ذَنْبٍ يُغْفَرْ وشفاعةُ أحمدَ للعاصي ... من أهلِ الملَّةِ لا تُنكَرْ وكذاكَ شفاعةُ قرآنٍ ... وشفاعةُ طِفلٍ مُستَصْغَرْ للهِ سَجَدْتُ ولم أسجُدْ ... يومًا للطاغوتِ الأكفَرْ للهِ نَذَرْتُ ولم أنذُر ... للقبرِ ومن فيهِ يُقبرْ

باللهِ حَلَفْتُ ولم أحْلِفْ ... بسواهُ فاللهُ الأكبرْ للهِ عَمِلتُ وما راءيتُ ... فذاكَ هو الشركُ الأصْغَرْ في اللهِ أُجاهِدُ لا أبغِي ... أجرًا أو أبغِيَ أن أُذكَرْ والعونَ من المولى أرجُو ... نعمَ المرجُوُّ المستنصَرْ أدعُو الرحمنَ ولا أدعُو ... ميتًا أو جنِّيًا أحمَرْ وأخافُ الجبّارَ الأعلى ... لا أخشَى جبارًا أصغَرْ وأُحبُّ حبيبًا لا يفْنَى ... لا ينسى الحِبَّ ولا يَبْهَرْ للهِ ذبحتُ ولم أذبَحْ ... لسواهُ الهَدْيَ ولم أَنحَرْ وعلى القيّومِ توكلتُ ... عَلَّامِ الغيبِ وما يَظهَرْ ربّي الرزاقُ هو المعبودُ ... هو المقصودُ هو الأظهَرْ الكونُ جميعًا قبضَتُه ... جلَّ الفعَّالُ المُستقدَرْ (¬1) * * * ¬

(¬1) ديوان النصر للإسلام (ص:129 - 130).

35 - لله الأمر من قبل ومن بعد

35 - لله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ (¬1) إلى اللهِ كلُّ الأمرِ في الخلقِ كلّه ... وليس إلى المخلوقِ شيءٌ من الأمر إذا أنا لم أقبَلْ من الدَّهرِ كلَّ ما ... تكَرهْتُ منه طالَ عتبي على الدهْر تَعَوَّدتُ مسَّ الضُّرِّ حتى أَلِفْتُهُ ... وأحْوجَنِي طولُ العزاءِ إلى الصَّبْر وصيَّرني يأسي من الناسِ راجيًا ... لِسُرْعةِ لُطفِ اللهِ من حيثُ لا أدْرِي * * * ¬

(¬1) الله أهل الثناء والمجد (ص:670).

36 - إلهي وجاهي

36 - إلهي وجاهي لك الحمدُ طوعًا ... لك الحمدُ فرضًا وثيقًا عميقًا ... سماءً وأرضًا لك الحمدُ صَمْتًا ... لك الحمدُ ذِكْرًا لك الحمدُ خَفْقًا حثيثًا ... ونبضًا لك الحمدُ ملءَ خلايا جَنَاني وكلّ كِياني ... رُنوًّا وغَمْضًا إلهي وجاهي إليك اتِّجَاهي وطيدًا مديدًا ... لترضَى فأرضَى فأنتَ قِوَامي ... وأنت انسِجَامي مع الكونِ والأمرُ لولاكَ فوضى (¬1) * * * ¬

(¬1) من ديوان قلب ورب لعمر بهاء الدين الأميري (ص:197 - 198).

37 - سبحانك يا الله

37 - سبحانك يا الله عبد الرحيم البرعي لكَ الحمدُ يا مُستوجِبَ الحمدِ دائمًا ... على كلِّ حالٍ حمدَ فانٍ لدائم وسبحانكَ اللهُمَّ تسبيحَ شاكرٍ ... لمعروفِكَ المعروفِ يا ذا المراحِم فكم لكَ من سترٍ على كُلِّ خَاطِئٍ ... وكم لكَ من برٍّ على كلِّ ظالم وجُودُكَ موجودٌ وفضلُكَ فائضٌ ... وأنتَ الذي تُرجَى لكشفِ المظالم وبابُكَ مفتوحٌ لكُلِّ مُؤمِّل ... وبرُّك ممنوحٌ لكلِّ مُصَارِم فيا فالِقَ الإصباحِ والحَبِّ والنَّوى ... ويا قاسمَ الأرزاقِ بين العوالِم ويا كافلَ الحيتانِ في لُجِّ بحْرِها ... ويا مُؤنسًا في الأفقِ وحشَ البهائِم ويا مُحصي الأوراقِ والنبتِ والحصَى ... ورملِ الفَلا عَدًّا وقطرِ الغَمَائم

إليكَ توسَّلنا بكَ اغْفِر ذُنُوبَنا ... وخفِّفْ عَنِ العَاصينَ ثِقْلَ المظَالم وحبِّبْ إلينا الحقَّ واعِصْم قُلُوبَنَا ... من الزِّيغِ والأهواءِ يا خيرَ عاصم ودمِّر أعادِينا بسُلطانِكَ الذي ... أذلَّ وأفنَى كُلَّ عاتٍ وغاشم ومُنَّ علينا يومَ ينكَشِفُ الغطا ... بسترِ خَطَايَانا ومَحْوِ الجَرَائم وصلِّ على خيرِ البرايا نبيِّنا ... مُحمَّدٍ المبعُوثِ صفوةِ آدم * * *

38 - رب رحماك!

38 - ربِّ رحماك! لكَ محيايَ خالصًا .. ومماتي ... يا إلهي .. ويا عظيمَ الصَّفِات لكَ سَعْيي .. وفيكَ غايةُ حُبِّي ... ونجَاوَى ضرَاعتي .. وصلاتِي وسُجُودي .. معرَاجُ رُوحي وعَقلي ... وانعِتاقي .. ولذَّتي .. وحَياتِي وكأنّي في بحرِ نورِكَ طيفٌ ... هائمُ الشَّوقِ .. واكِفُ (¬1) العبَرات وأرى الكونَ .. الفضاءَ .. كِتَابًا ... سُطِّرَتْ فيه أروعُ الآيات كلُّ شيءٍ مرآتُهُ عنكَ تحْكِي ... وتُرينا الإبداعَ .. والمعجزَات ولسانُ الوجودِ يلهَجُ بالحمدِ اعـ ... ـترافًا مِنهُ بفيضِ الهِبات ربِّ رُحماكَ! .. كلُّ نبضَةِ عِرقٍ ... من فُؤادي تجيشُ بالدَّعوات قصُرَتْ هِمَّتي .. وهِيضَ جَناحِي ... أينَ مِنّي النُّهوضُ بالواجبات أين بذلي من أجلِكَ النَّفسَ وَالمَا ... لَ .. ومَعنَى تَجَرُّدي .. وثَبَاتِي طَالمَا قد ظلَمتُ نَفْسِي .. فعَفوًا ... وأعِنِّي ربِّي علَى الطَّاعات ورجَائي .. وحُسنُ ظَنِّي .. وصِدْقي ... هُو يومَ الحسَابِ حبلُ نجَاتي (¬2) * * * ¬

(¬1) واكف: منهمر. (¬2) ديوان (جراح وكلمات)، انظر: رائق الشهد (ص:70 - 71).

39 - أطيار

39 - أطيار مصطفى عكرمة هُنا في الرَّوضِ أطيارٌ ... بحَمْدِكَ سبَّحت رَبِّي أَرىَ أَشْكَالَها اختَلَفتْ ... ولكن كُلُّها تَصْبِي تناغَمَ صوتُها .. وحَكَى ... لنا في رِقّةِ الصَّبّ بألحانٍ تبايُنُها ... بأفصَحِ مَنطقٍ يُنْبِي بأنَكَ أنتَ مُبدِعُها ... ومُبدعُ لحْنِها العَذب وأنتَ هديتَها طَبعًا ... يُحَيِّر كُلَّ ذي لُبّ وأنتَ منحتَها عَزمًا ... على التَّحليقِ يا رَبِّي تَسَاوَى عِندَ أصغَرِها ... قَصِيُّ البُعدِ بالقُرب أقامَت في الذُّرَى وكرًا ... لتَأمنَ كُلَّ ذي رُعْب تطيرُ لَهُ على أمنٍ ... وتَهْدِي البِشْرَ للزَّغْبِ (¬1) وتُخرجُ من حَوَاصِلِها ... وتُطعِمُها من الحَبّ وترعاها لِكي تَقْوَى ... وتمرَحَ في المَدَى الرَّحْب وتهتِفُ باسمِكَ الأعلَى ... مُسبِّحةً أيا رَبِّي فكم من آيةٍ فيها ... غَفَا عن وَعْيِها صَحْبي! ¬

(¬1) الزغب: صغار الطير التي لا ريش لها.

وإدراكُ الذِي تُوحِي ... هِ كانَ .. ولم يَزَل دَأبي فمَنْ إلّاكَ أرشَدَها ... لتَحيا العُمرَ في حُبِّ! ومن إلَّاكَ سَوَّاها ... تُحيِّرُ كلَّ ذِي لُبِّ! إلهي إنَّ بعضَ الطَّيْـ ... ـرِ في تسبيحِها .. قَلبي وحَسْبي اليَومَ إيمانِي ... بقُدرةِ خالِقي حَسْبي (¬1) * * * ¬

(¬1) حتى ترضى (ص:42 - 44).

40 - يكفيك رب لم تزل في حفظه

40 - يكفيك ربٌّ لم تَزَل في حفظِه ابن قيم الجوزية يكفيكَ من وَسِع الخلائِقَ رَحمةً ... وكفايَةً ذُو الفضلِ والإحسان يكفيكَ من لم تَخْلُ من إحسانِهِ ... في طَرْفَةٍ كتقلُّبِ الأجفان يكفيكَ ربٌّ لم تَزلْ ألطَافُهُ ... تَأتِي إليكَ برحمَةٍ وحَنان يكفيكَ رَبٌّ لم تَزلْ في سِترِهِ ... ويَراكَ حينَ تَجِيءُ بالعَصيان يكفيكَ ربٌّ لم تَزلْ في حِفظِهِ ... وَوقَايةٍ منهُ مَدَى الأزمَان يكفيكَ ربٌّ لم تَزلْ في فَضلِهِ ... مُتقَلِّبًا في السِّرِ والإعْلان يدعُوهُ أهلُ الأرضِ مَعْ أهلِ السَّما ... ءِ فكلُّ يومٍ ربُّنا في شَان وهُو الكفيلُ بكُلِّ ما يَدعُونَهُ ... لا يَعتَري جدوَاهُ من نُقصانِ (¬1) * * * ¬

(¬1) الكافية الشافية

41 - تسبح كل الكائنات بحمده

41 - تسبحُ كلُّ الكائناتِ بحمدهِ تَباركَ مَنْ شُكْرُ الوَرَى عنهُ يقصُرُ ... لكونِ أيادي جُودِهِ ليسَ تُحْصَرُ وشَاكرُها يحتاجُ شُكرًا لشُكرِهَا ... كذلكَ شُكرُ الشُّكرِ يحتاجُ يُشكرُ ففي كلِّ شُكرٍ نعمَةٌ بعدَ نعمةٍ ... بغيرِ تناءٍ دُونهَا الشُّكرُ يصْغُرُ فمن رَامَ يقضِي حقَّ واجبِ شُكرِهَا ... تحَمَّلَ ضمنَ الشُّكرِ ما هُو أكبرُ تُسبِّحُهُ الحيتانُ في الماءِ وفي الفَلَا ... وحُوشٌ وطَيرٌ في الهَوَاءِ مُسخَّرُ وفي الفُلكِ والأملاكِ كُلٌّ مُسبِّحٌ ... نهَارًا وليلًا دائمًا ليسَ يفتُرُ تُسبِّحُ كلُّ الكائِناتِ بحَمدِه ... سَمَاءٌ وأرضٌ والجبَالُ وأبحُرُ جميعًا ومن فِيهنَّ والكُلُّ خاشِعٌ ... لهيبَتِهِ العُظمَى وَلَا يتكَبَّرُ

لهُ كُلُّ ذرَّاتِ الوجُودِ شَواهدٌ ... على أنهُ البَاري الإلَهُ المُصوِّرُ دَحَا الأرضَ والسَّبعَ السَّماواتِ شَادَهَا ... وأتقنَهَا للعالمينَ ليَنظُرُوا وأبدَعَ حُسنَ الصُّنعِ في ملكُوتِهَا ... وفي مَلَكوتِ الأرضِ كي يَتَفكَّرُوا وأوتَدَهَا بالرَّاسِيَاتِ فلَم تَمِدْ ... وشَقَّقَ أنهارًا بِهَا تتفَجَّرُ وأخرجَ مرعَاها وبثَّ دوابَّهَا ... وللكُلِّ يأتِي منهُ رِزقٌ مُقدَّرُ من الحَبِّ ثمَّ الأبِّ والقضْبِ والكَلَا ... ونخْلٍ وأعْنَابٍ فَواكِهُ تُثمِرُ فأضحَت بِحُسنِ الزَّهرِ تَزْهُو ريَاضُها ... وفي حُلَلٍ نسجُ الرَّبيعِ تَبَختَرُ وزَانَ سَمَاءً بالمصَابيحِ أصبحَتْ ... وأمستْ تُبَاهِي الحُسْنَ تزهُو وتَزهَرُ ترَاهَا إذا جَنَّ الدُّجَى قد تقلَّدَت ... قلائِدَ دُرِّيٍّ لِدُرٍّ تُحَقِّرُ

42 - الله سندنا

فيَا نَاظِرًا زهرَ البَسَاتِين دُونَهَا ... أظُنُّكَ أعمَى ليسَ للحُسنِ تُبصِرُ (¬1) * * * 42 - الله سندنا خير الدين وانلي ما غيرُ اللهِ لنا سَندُ ... فعليهِ دومًا نعتَمِدُ لم نشركْ يومًا بالباري ... فهو الأحدُ الفردُ الصَّمدُ من للمضْطرِّ إذا نَادَى ... كي يكْشِفَ عنهُ ما يجدُ؟ من للمحْزونِ وللمكرو ... بِ وللمَلْهوفِ المعتَمَدُ؟ من غيرُ اللهِ يُؤيِّدُنا ... بالنصرِ ومن منهُ المدَدُ؟ فعلى الرحمنِ توكلَّنا ... وإليهِ نَجِدُّ ونجتَهِدُ وله أسلَمْنا عن طوعٍ ... وبهِ نعتزُّ ونعتَضِدُ وإليهِ أنبْنا في ذلٍّ ... من هَوْلِ جهنمَ نرتَعِدُ ندعُوه نرجُو جنَّتَهُ ... فالخلدُ منالٌ مبتَعَدُ لكنَّ الرحمةَ واسعةٌ ... يُؤتَاها العبدُ المجتَهِدُ (¬2) * * * ¬

(¬1) رائق الشهد (ص:85 - 86). (¬2) ديوان النصر للإسلام (ص:131).

43 - أمن ينجيكم في ظلمات البر والبحر

43 - أمّن ينجيكم في ظلمات البر والبحر عبد الرحمن حبنكة رَكِبتُ البِحارَ وأهوالَهَا ... وحَمَّلتُ في الفُلْكِ أحمَالهَا وخُضْتُ العُبابَ وأمواجَهُ ... وقد زُلزِلَتْ فيهِ زلزالَهَا وهاجَتْ عواصِفُهُ في الضَّبا ... بِ وجرَّتْ ليالِيهِ أذيالهَا وخفَّت علَى موجِهِ الجَاريا ... تُ وقطَّعتِ النَّفسُ آمالَهَا ولم يبقَ من سَبَبٍ يُرتَجَى ... وأوقَفَتِ النَّاسُ أعمَالَهَا ونادَى المُنادِي: إلهِي أغِثْ ... فإنَّكَ وحدَكَ تُرجَى لهَا فأرخَى المُهيمِنُ حَبْلَ النَّجَا ... ةِ ونَالَ السَّلامَةَ من نَالَهَا وأرْسَتْ علَى الشَّاطيء المُرتَجَى ... وألقَتْ علَى البَرِّ أثقَالَهَا وأثنت علَى اللهِ نَفسُ الشَّكُورِ ... ولم يُنسِها الأمنُ أحوَالَهَا وكم أنفُسٍ جَحَدت رَبَّها ... ومرَّتْ تُجَرِّرُ أذيَالَها وساوِسُ شيطَانِهَا استحْوَذَتْ ... علَيهَا من الوَهمِ فاجتالَها فيَا ويلَهَا أنفُسًا بالجُحُو ... دِ تُقَابِلُ أنعُمَ من عَالَها وتتبَعُ أوهَامَهَا البَاطِلا ... تِ وتَعبُدُ بالذُّلِّ مُغتالَها ***

44 - زهرة الروض أجيبي

44 - زهرةُ الروض أجيبي شَدَّني الحُسنُ وأغرَى ... إذ رَأت عينَايَ زهرَه تنشُرُ العِطرَ وتُضفِي ... من شَذَا العِطرِ المسَرَّه بهجَةُ العينِ ولُطفًا ... رَفَّ إحساسًا وفِكرَه يأسِرُ الرَّائينَ طَوْعًا ... ينفُحُ الأرجَاءَ سِحرَه زهرَةَ الرَّوضِ أجيبِي ... من تُرَى أهدَاكِ نَضْرَه من تُرَى أنشاكِ أُنسًا ... لمُحِبٍّ زَادَ صَبْرَه من تُرَى أهدَاكِ ألوَا ... نًا لَهَا في السِّحرِ قُدرَه تَجْذِبُ الرَّائين طُرًّا ... تَفْتِنُ الألبَابَ بُكرَه من أُناسٍ وطُيُورٍ ... رَاقَهَا الحُسنُ بزَهْرَه أو هَوَامٍ تنقُلُ الطَّلْعَ ... فتَزهُو مِنهُ دُرَّه من تُرَى أهدَاكِ عِطرًا ... تنشُدُ الأحيَاءُ سِحرَه من تُرَى سَوَّاكِ شكلًا ... يُرهِفُ الحِسَّ بنَظرَه من تُرَى أجرَى حياةً ... فيكِ إذ ما كُنتِ بِذْرَه من تُرَى أنبَتَ من مَيْ ... تٍ حياةً ومَسَرَّه من تُرَى أسرَى بكِ المَا ... ءَ فكَانت مِنهُ خُضرَه زهرَةَ الرَّوضِ تُرَى من ... فيكِ قد أودَعَ خَيرَه

من تُرَى أهدَاكِ سِحْرًا ... زاهيًا يُحسِنُ أسرَه فأَمَالت زهرَتي رَأ ... سًا وأَومَت لي بنَظرَه خالِقي اللهُ تعَالى ... فِيَّ قد أودَعَ سِرَّه خالِقي اللهُ تجلَّى ... مُبدعًا في كُلِّ ذَرَّه (¬1) * * * ¬

(¬1) رائق الشهد (ص:334 - 335).

45 - توبة وإقبال

45 - توبة وإقبال ربّ قد أقبلتُ في ظلِّ رحابِكْ خاشعَ الطرفِ لدى نورِ شِهَابكْ خاضعَ النفْس ذليلًا صاغرًا وفؤادي ساجدٌ يَجْثُو ببابِكْ كم بكى يا ربّ في سَجْدَتِه إذ يهابُ الهولَ في يومِ حِسَابِكْ يرقُبُ الغفرانَ في يومِ الظَّمَا وهو يرجُو الوردَ من فَيْضِ شَرَابِكْ كلما وَسْوَسَ شيطانُ الهَوَى قلتُ يا شيطانُ سُحْقًا لِسَرَابِكْ أو دَعَاني خاطرٌ يعْصِفُ بي قلتُ يا شاعِرُ رفْقًا بِشَبابِكْ كيف تَشْرِي ضَلَّةً بعدُ هدًى وتُمَنِّي النفسَ ظلمًا بِخَرَابِكْ أنت ما زلتَ فَتًى لا تَرْعَوِي ضَلَّتِ الحكمةُ في غَضِّ إِهَابِكْ

46 - رحماك يا رب العباد

عُدْ إلى اللهِ وَرَتِّلْ آيَهُ فلعلَّ الله يرضَى بمَتَابِكْ ربِّ لن يَهْدِيَنِي في حَيْرَتِي غيرُ نورٍ وَسنَاءٍ من كتابِكْ (¬1) * * * 46 - رحماك يا ربَّ العبادِ رحْمَاك يا ربَّ العبادِ رجَائي ... ورِضَاك قَصْدِي فاستجِبْ لِدُعَائي وحَمِاك أَبْغِي يا إلهي راجيًا ... منك الرِّضا فَجُدْ بوَلائي ناديتُ باسْمِك يا إلهي ضارِعًا ... إن لم تُجِبْني فمن يُجيبُ بُكائي أنتَ الكريمُ فلا تَدَعْني تائِهًا ... فلقَدْ عَييتُ من البِعَادِ النَّائي ما لي سِوَى أعتابِ جُودِكَ مَوْئِلٌ ... فلئِن رُدِدتُ فمن سِوَاكَ رَجَائِي ولقد رجوتُك يا إلهي ضَارِعًا ... متذللًا فلا تَرُدَّ رجَائِي (¬2) * * * ¬

(¬1) يوسف العظم (السلام الهزيل) (ص:14 - 16). (¬2) أناشيد فتية الحق (ص:37).

47 - توكلت على الله

47 - توكلتُ على اللهِ توكلتُ في رِزقِي علَى اللهِ خالقِي ... وأيقنتُ أن اللهَ لا شَكَّ رازِقي وما يَكُ من رزقِي فليسَ يفوتُني ... ولو كانَ في قَاعِ البِحارِ الغوامِق سيأتي بهِ اللهُ العظيمُ بِفَضْلِه ... ولو لم يكنْ مِني اللسانُ بنَاطِق ففي أيِّ شيءٍ تذهَبُ النفسُ حسرَةً ... وقد قسَّمَ الرَّحمنُ رِزقَ الخلائِقِ (¬1) * * * ¬

(¬1) ديوان الشافعي (ص:99).

48 - حبيب القلوب

48 - حبيبُ القلوب هبِ الرسلُ لم تأتِ من عندِه ... ولا أخْبرتْ عن جمالِ الحبيب أليس من الواجبِ المسْتَحَقِّ ... محبتُه في اللِّقَا والمغيبِ؟ فمن لم يكنْ عقلُه آمرًا ... بذا ما له في الحِجَى من نَصِيب وإن العقولَ لتدعُو إلى ... محَبةِ فاطرِها من قريب أليستْ على ذاك مجبولةً ... ومفطورةً لا بكسْبٍ غريبِ؟ أليس الجمالُ حبيبَ القلوبِ ... لذاتِ الجمالِ، وذاتِ القلوبِ؟ أليس جميلًا يحبُّ الجمالَ؟ ... تعالى إلهُ الورَى عن نَسِيب أما بعدَ ذلك إحْسَانُه ... بداعٍ إليه الفُؤاد المنيبِ؟ فمن ذا يُشَابِهُ أوصَافَه؟ ... تعالى إلهُ الورَى عن ضَرِيبِ (¬1) ومن ذا يكافئُ إحسانَه ... فيألَهُه قلبُ عبدٍ منيبِ؟ وهذا دليلٌ على أنَّه ... إلى كلِّ ذي الخَلْقِ أولى حبيب فيا منكرًا ذاك واللهِ أنت ... عينُ الخصيمِ وعينُ الحريبِ (¬2) ويا من يُحِبُّ سواه كمثـ ... ـلِ محبتِه أنت عبدُ الصَّلِيب ويا من يوحِّدُ محبوبَه ... ويُرضيه في مَشْهدٍ، أو مغيب حَظَيْتَ وخَابوا فلا تَبْتئسْ ... بكيدِ العدوِّ وهجرِ القريبِ (¬3) ¬

(¬1) ضريب: يقال: فلانٌ ضريب فلان: إذا كان شبيهًا له. (¬2) الحريب: المحارب والمسلوب. (¬3) الله أهل الثناء والمجد (ص:363 - 364).

49 - آيات من الدرر

49 - آياتٌ من الدُّررِ محمد عبد الله القولي تباركَ اللهُ زانَ الأرضَ بالدُّررِ ... واستنطَقَ الحُسنَ في زَهرٍ وفي شَجَر وهَزْهَزَ الأرضَ من نومٍ ليُوقِظَهَا ... ورشَّ في وجهِهَا الوسنَانِ بالمطَر وأرسلَ الشَّمسَ تُذكيهَا بقُبلتِهَا ... فاستعذَبَتْ دفئَهَا المحفوفَ بالخدَر وحرَّكَ الرِّيحَ مسَّت شَعْرَهَا بيدٍ ... كأنهَّا الطَّيفُ يغشَاهَا بلا كَدَر وأرسلَ النَّهرَ تُطفِي فيهِ حُرقَتَها ... وتستَقي رَغَدًا ينسَابُ بالنَّهر وأبهجَ الطَّيرَ فاهتزَّت مَعَازفُهَا ... تُدغدِعُ السَّمعَ في لحنٍ بلا وتَر وغرَّد البُلبُلُ الصَّدَّاحُ يُطربُهَا ... فينتشِي الحسُّ ما في الكأسِ من سكَر ففتَّحَتْ عينَهَا والنَّومُ يجذِبُهَا ... ومسَّحَتْ ذَيلَ طيفٍ عَادَ للسَّفر وسبَّحتْ ربَّهَا الوهَّابَ واتَّكأتْ ... وأعتدَتْ مجْلِسًا كم طَابَ للبَشر وفكَّرتْ أيَّ ثوبٍ تنتَقِي لَهُمُو ... تحيَّر القلبُ من أثوابِهَا الكُثُر تنهَّدَتْ نشَرَتْ أزهَى ملابِسَهَا ... وقلَّبت تَصْطَفِي الفتَّانَ للنَّظر وسارَعتْ لحِلَاها تنتَقِي قمَرَا ... عِقْدًا تألَّقَ في نَجْماتِهِ الزُهُر تقلدَّتهُ وفي حبَّاتِهِ بَهَرٌ ... قد هيَّجَ اللؤلؤَ الوضَّاءَ كالقمَر تبسَّمتْ وارتدَتْ ثوبًا يُزيِّنُها ... وصفَّقَتْ للجَواري إقتفِي أثَرِي تباركَ اللهُ أعطَى الحُسنَ مُقتَدِرًا ... فاختَالتِ الأرضُ في وَشيٍ من الزَّهَر وجَرجَرتْ ثوبَهَا المعطُورَ مَنْسَجُهُ ... وأفرَدَت ذَيلَهُ المرشُوشَ بالصُّور

وأشرقَتْ بعَطاءِ اللهِ تلبَسُهُ ... وتزدَهِي بجمَالٍ سارَ في زُمَرِ (¬1) ترنو إلى المَاءِ تلقَى فيهِ صُورتَهَا ... وتَنْتَشِي فرَحًا من آيِهَا الغُرَر شتَّى من النَّبتِ هذِي الأرضُ قَد وَلَدَتْ ... وأودَعَتها الدُّنا للعيشِ والنَّظر ففي الرُّبا شَجَرٌ أفنانُهُ ضَحِكَتْ ... ويبسُمُ الزَّهرُ مَطْوِيًّا على ثَمَر وفي البحارِ نباتٌ راقَ سَاكنَهَا ... تحيَا عليهِ ويحمِيها من الخطَر والنَّهرُ قِيعَانُهُ بالنَّبتِ قد فُرِشَتْ ... تباركَ اللهُ بثَّ الخَيرَ في النَّهَر والماءُ مُدْهِشَةٌ في الأرضِ صنعَتُهُ ... والنَّبتُ مُختَلِفٌ في الذَّوْقِ والصُّور تباركَ اللهُ أَعطَى الأرضَ فتنَتَها ... واستنطقَ الشِّعرَ آياتٍ من الدُّرَرِ (¬2) * * * ¬

(¬1) زمر: جماعات. (¬2) رائق الشهد (ص:332 - 334).

50 - الإبداع

50 - الإبداعُ خير الدين وانلي تفوحُ روائحُ الرَّيحانِ ... لا أزْكَى ولا أطْيَبْ ويشْدُو الطيرُ في البستانِ ... لا أنْدَى ولا أطْرَبْ ويزهو الزهرُ في الرّمانِ ... لا أبْهَى ولا أعْجَبْ فَجَلَّتْ قُدرةُ الرحمنِ ... لا أَقْوَى ولا أغْرَبْ يُنادي البلبلُ الشَّادي ... رفيقتَه ويُغرِيها وتثغو (¬1) الشاةُ في الوَادِي ... فلا تُنسَى بوادِيها وماءُ البركةِ الهادي ... يعانِقُ رمْلَ شَاطِيها وألحانٌ من الحَادِي ... إلى الغَيْماتِ يُهديها يدُ الإبداعِ في الكونِ ... بكلِّ خليقةٍ تظهَرْ من الأصواتِ واللونِ ... إلى الأعراضِ فالجْوهَرْ فَسِرْ في الأرضِ في هَوْنِ ... ولا تَسْتَعْلِ أو تفخَرْ فأنتَ أحقُّ بالعَوْنِ ... وأنت الأضْعَفُ الأصْغَرْ كتابُ اللهِ مَفْتوحٌ ... لمن يَسْتَوْضِحُ السِّرَّا ونصرُ اللهِ ممنوحٌ ... لراجٍ عندْ النَّصْرَا ¬

(¬1) تثغو: تصيح.

ورزقُ اللهِ مَطْروحٌ ... لمن قد قدَّمَ الشُّكْرَا وفعلُ الخيرِ مَسْموحٌ ... بهِ فاستكثرِ الأجْرَ عن الأرواحِ لا تَسْألْ ... فسرُّ الروحِ مجهولُ ولا تُهْمِلْ ولا تَكْسَلْ ... فراعي الضأنِ مَسْؤولُ وسلْ عن كلِّ ما تجهَلْ ... فهذا العِلمُ مبذولُ ويَلْقَى المرءُ ما يَعْمَلْ ... وفَضْلُ اللهِ مأمولُ تأَمّلْ صَنْعَةَ الخالِقْ ... وكلُّ الخلقِ آياتُ فهذا كَوْكَبٌ سامِقْ ... وهذي الأرضُ ذرَّاتُ وهذا شامخٌ شاهِقْ ... وذاكَ السهلُ جَنَّاتُ وموجٌ زاخرٌ دافِقْ ... وأحياءٌ وأمواتُ وكلُّ الكونِ إحْكَامٌ ... مِنَ الأسْمَى إلى الأصغَرْ ودينُ اللهِ إسلامٌ ... على أدْيانِهم يظهَرْ وشرعُ اللهِ أحكامٌ ... جَلِيَّاتٌ لمن أبصَرْ ووحيُ اللهِ إلهامٌ ... فجلَّ الخالِق الأكْبَرْ (¬1) * * * ¬

(¬1) ديوان النصر للإسلام (ص:140 - 141).

51 - عجائب أصناف النبات

51 - عجائب أصناف النبات عبد الرحمن حبنَّكة عجائبُ لا تنتَهِي في النَّباتْ ... تدلُّ على الخالقِ المقتدِرْ عجائبُ في أصلِ تكوينِهِ ... عجائبُ في نَجْمِهِ والشَّجَرْ عجائبُ لا تنقَضِي في الجُذُورْ ... وفي السُّوقِ ثمَّ بفَيْضِ الثَّمرْ عجائبُ تبدُو بأوراقِهِ ... وما جَمَعَتْ من ثُغورٍ كُثُرُ نسيجٌ بهِ يُدْهِشُ النَّاظرينْ ... وتحتارُ فيمَا حَوَاهُ الفِكَرْ ومختَلِفَاتٌ بهِ لا تُعدُّ ... فتحلُو صُنُوفٌ وأُخرى تَمُرّ وكلٌّ لهُ مَيْزةٌ في الحَيا ... ةِ يعرِفُ قيمتَهَا من خَبَر ***

52 - سبحانك ربي

52 - سبحانك ربي أُسبِّحُ ربي مثلَ الطيور ... وأهتفُ باسمِ إلهي كبيرْ أرى كبرياءً بلونِ السَّماءْ ... ووَمْضِ النجومِ وبُعدِ المسيرْ وفي شَفَقٍ مُشْفِقٍ كالجراحْ ... يُذَكِّرُ من أبصَروا بالسَّعير وحين يساقُ السَّحَابُ الجوادْ ... ليُحْيِيَ في الأرضِ مَوْتَى القبورْ وفي الشمْسِ لُفَّتْ بخِدْرِ الحياءْ ... تُنادِي الأحبَّةَ عند البُكُورْ وفي النخلِ دانٍ بِقنوانِهِ ... وفي النَّحْلِ يجمَعُ حُلْوَ العبيرْ بصوتٍ تَرَقْرَقَ بين الحَصَا ... بِكَفِّ الحبيبِ البشيرِ النَّذِير بغِبْطَةِ بشرٍ بليلٍ حَزِين ... بَبَسْمةِ طفلٍ حبيبٍ صَغير أبيعُ وربّي مني اشْتَرَى ... أبيع الحياةَ ولا أستَشِير وأُشهِدُ خَلْقَكَ أَنَي عبدٌ ... أَحَبَّ المليكَ العزيزَ الغفور وأُسلمَ عند لِقَاك الرِّحَا ... لَ وأُلْقِي لديْك عَنَاءَ المسِير (¬1) * * * ¬

(¬1) أناشيد دعوة الحق (ص:136).

53 - قف بالخضوع

53 - قف بالخضوع البرعي قف بالخضُوعِ ونادِ يا اللهُ ... إنَّ الكريمَ يُجيبُ من ناداهُ واطلُب بطاعَتِهِ رِضاهُ فلم يزَلْ ... بالجودِ يُرضِي طالبينَ رِضَاهُ واسأَلْهُ مغفرةً وفضْلًا إنَّهُ ... مبسوطَتَانِ لسَائليهِ يداهُ واقصِدْهُ منقطِعًا إليه فكلُّ من ... يرجُوهُ مُنقطِعًا إليه كفاهُ شَمِلَتْ لطائِفُهُ الخلائِقَ كلَّهَا ... ما للخَلَائقِ كافلٌ إلَّا هُو فعزيزُها وذليلُها وغنيُّها ... وفقيرُها لا يرتَجُون سِوَاهُ مَلِكٌ تدينُ لهُ المُلوكُ ويَلْتَجِي ... يومَ القيامةِ فقرُهُم بغِناهُ هو أوَّلٌ هو آخرٌ هو ظاهرٌ ... هو باطنٌ ليسَ العيُونُ تراهُ حجَبتْهُ أسرارُ الَجلالِ فدونَهُ ... تَقِفُ الظُّنونُ وتَخْرُسُ الأفْواهُ صَمَدٌ بلا كفْءٍ ولا كيفيَّةٍ ... أبدًا فما النُّظَراءُ والأشْبَاهُ؟! شَهِدَتْ غرائبُ صُنعِهِ بوجُودِهِ ... لولاهُ ما شَهِدَت بهِ لولاهُ وإليهِ أذعَنتِ العُقولُ فآمنَتْ ... بالغيبِ تؤثِرُ حُبَّها إيَّاهُ سُبحانَ من عَنَتِ الوُجُوهُ لوجْهِهِ ... ولهُ سُجُودٌ أوجهٌ وجباهُ طوعًا وكرهًا خاضِعينَ لعِزِّهِ ... ولهُ عليها الطَّوْعُ والإكْرَاهُ سَلْ عنهُ ذرَّاتِ الوجُودِ فإنها ... تدعُوهُ معبُودًا لها ربَّاهُ

أبدي بمُحْكَمِ صَنِيعِهِ من نُطفةٍ ... بَشَرًا سويًّا جلَّ مَنْ سَوَّاهُ وبنى السَّمواتِ العُلا والعَرشَ وال ... كُرسيَّ ثمَّ علا عليه عُلاهُ ودَحا بساطَ الأرضِ فرشًا مُثبتًا ... بالرَّاسِيَاتِ وبالنَّباتِ حَلاهُ تجرِي الرِّياحُ على اختلافِ هبُوبِها ... عن إذنِهِ والفُلكُ والأمواهُ ربٌّ رحيمٌ مُشْفِقٌ متعطِّفٌ ... لا ينتَهِي بالَحصْرِ ما أعطاهُ كم نعمةٍ أولى وكم من كُربَةٍ ... أجلَى وكم من مُبتلًى عافاهُ؟! وإذا بُليتَ بغُربةٍ أو كُربةٍ ... فادعُ الإلهَ ونادِ يا اللهُ لا مُحسنُ الظنِّ الجميلِ بهِ يَرى ... سُوءًا ولا راجِيهِ خابَ رجاهُ ولحِلْمِهِ سُبحانهُ يُعصَى فلم ... يَعْجَلْ على عبدٍ عَصَى مولاهُ يأتيهِ مُعتَذِرًا فيقبلُ عُذْرَهُ ... كرمًا ويغفرُ عمدَهُ وخَطَاهُ يا ذا الجلالِ وذا الجمالِ وذا البَقَا ... يا مُنعِمًا عمَّ الأنامَ نَدَاهُ * * *

54 - روعة الخلق

54 - روعة الخلق خير الدين وانلي بديعٌ كلُّ ما في الكَوْ ... نِ خلقُ المبْدعِ القادرْ جميلٌ كلُّ ما في الكوْ ... نِ للمُسْتَمْتِعِ الشَّاعِرْ تأَمَّلْ هل تَرَى عيبًا ... بصُنعِ المتقِنِ الفاطِرْ تعالى اللهُ ربُّ العَرْشِ ... جلَّ الباطنُ الظَّاهِرْ تأَمَّلْ زَهْرةَ التفَّاحِ ... ذاتَ السِّحْرِ والعِطْر وتابِعْ شَدْوَ شَحْرورٍ ... يُناجي بَسْمَة الفجر وراقبْ نَمْلَةً تسعَى ... ونَحْلًا غاصَ في الزهْر ونهرًا فِضَّةً يجرِي ... على حَصْباءَ كالدُّرِّ تأمَّل طائرًا يَسْعَى ... على أفراخِهِ الزُّغب وبطًّا سَابحًا يَجْرِي ... مع التيارِ في حَرْب وشاةً طِفْلَها تَدْعُو ... ثُغَاءً مفرحَ القَلْب ومُهْرًا قافزًا يَلهُو ... على بُسُطٍ من العُشْبِ (¬1) * * * ¬

(¬1) ديوان النصر للإسلام (ص:142).

55 - سبحان الله

55 - سبحان الله يوسف العظم لا تمتَرُوا في ذاتِهِ ... فالكَونُ من آياتِه إن ضجَّ في حَركاتِهِ ... أو نامَ في سكَناتَه والصُّبحُ في إشراقِهِ ... واللَّيلُ في ظُلُماتِه والشَّمسُ في كبِدِ السَّما ... والنَّجمُ في رَعَشَاتِه والجوُّ في إعصارِهِ ... إن هَبَّ أو نَسَماتِه والرَّعدُ دوَّى قاصِفًا ... والبرقُ في ومَضَاتِه واللَّيثُ في فَلَواتِهِ ... يختَالُ في خُطُواتِه والطَّيرُ حلَّقَ في الفضَا ... أو نامَ في وَكَناتِه والوردُ والعِطرُ الشَّذِيُّ ... يفُوحُ من روضَاتِه دَانت لهُ الأزهارُ والـ ... أشوَاكُ بعضُ حُماتِه لا تَمتَروا في ذاتِهِ ... أو تهزَءُوا بدُعاتِه سُبحانهُ قد حقَّقَ الـ ... إعجَازَ في كَلِماتِه لا تمترُوا في ذَاتِهِ ... فالرِّزقُ من آياتِه سُبحانهُ من خالقٍ ... برٍّ بمخْلُوقَاتِه غَمَرَ الوجُودَ بفضلِهِ ... وأفاضَ من خَيْراتِه

من نَبعِهِ الثَّرِّ الغَزيرِ ... يجُودُ من بَركاتِه ناءَت بهِ السُّحُبُ الثِّقا ... لُ فسَالَ في رَبواتِه والحقْلُ حانَ حصادُهُ ... نَقْتَاتُ من غَلَّاتِه والنَّهرُ في السَّهل الفَسِيـ ... ـحِ يَرِقُّ عذبُ فُراتِه والغَابُ ظلٌّ وارفٌ ... والرَّوضُ في ثَمَراتِه والماءُ صافٍ في الغَديـ ... ـرِ يشِفُّ في مِرَأَىتِه لا تقنطُوا من رحمَةِ الـ ... ـرَّحمنِ أو مَرضاتِه فالحِلمُ والغُفرانُ والـ ... ـرضوانُ بعضُ صِفاتِه لا تمتَرُوا في ذاتِهِ ... فالرُّوحُ من آياتِه والصَّدرُ في أنفاسِهِ ... والقلبُ في خَفَقاتِه والثُّغرُ في تسبيحِهِ ... والثَّغرُ في بسَماتِه والصَّومُ في رمَضَانِهِ ... والحجُّ في ميقَاتِه والمُؤمنُ البَرُّ الكَريـ ... ـمُ مُصدِّقًا بزَكاتِه والصَّالحُ العَفُّ التَّقيُّ ... يهيمُ في صَلواتِه يرجُو الرِّضى من ربِّهِ ... ليُقيمَ في جَنَّاتِه والفاجِرُ الغِرُّ الجهُو ... لُ يَتِيهُ في نزَوَاتِه لا يَسْتَقِيمُ ولا يسيـ ... ـرُ على طَريقِ هُداتِه

والمرءُ في أفراحِهِ ... والمرءُ في مأسَاتِه يمضِي علَى دَرْبِ الحيَا ... ةِ وينتَهِي بمَمَاتِه لا تَمتَروا في ذَاتِهِ ... فالموتُ بعضُ عظَاتِه لا تَمتَروا في ذاتِهِ ... فالوَحْيُ من آياتِه والحقُّ من إلهَامِهِ ... والنُّورُ من مِشْكاتِه والعَقلُ في إبداعِهِ ... والفِكرُ في سَبَحاتِه والعلمُ في العَصرِ الحديـ ... ـثِ يضِجُّ في آلاتِه يرتَادُ آفاقَ الفضَا ... ءِ ويمتطِي طيَّاتِه والبَحْرُ يهدِرُ صاخبًا ... والفُلكُ في جنَبَاتِه والذَّرَّةُ الصُّغْرى مَصِيـ ... ـرُ الكونِ في ذَرَّاتِه فخرَابُهُ ودَمَارُهُ ... إن سادَ حِقْدُ طُغاتِه وعَمَارُهُ وَصَلَاحُهُ ... إن سادَ عقلُ تُقاتِه كم مِجْهَرٍ قَرُبت لنا ال ... أبعادُ في عَدَساتِه أو هاتِفٍ حَمَل الحديـ ... ـثَ مُردِّدًا همساتِه لا تمتَروا في ذَاتِهِ ... فالكُلُّ من آياتِهِ (¬1) * * * ¬

(¬1) قصيدة سبحان الله من ديوان في رحاب الأقصى ليوسف العظم، (531. 241)، المكتب الإسلامي. وانظر: رائق الشهد (ص:325 - 327).

56 - إلا ببابك

56 - إِلا بِبَابِكَ مصطفى عكرمة إِلَّا بِبابِك ما أطلتُ وقوفي ... يا من تُلبّي حاجَة الملهوف ذلُّ الوُقوفِ ببابِ عِزِّكَ عِزَّةٌ ... يا ربِّ فاقَبْل ذِلَّتي ووقُوفي عمَّرتُ بالأحْلامِ قَلْبي .. يا لهُ ... من خَافقٍ بِضَلالِهِ مشغوفِ! صرفَتْهُ أهواءُ الحياةِ عن الهُدَى ... ولكم لها في النَّاسِ من تَصْريفِ! هي عونُ إبليسٍ وعدَّةُ جُندهِ ... ولكم يُساقُ المرءُ بالتَّسويفِ! غالتْ وأغْرَى وصفُها فاسْتَرْسَلَتْ ... والوصفُ كم يُغريكَ بالموصوفِ! كم ذا وقفتُ ولم أنلْ من وعْدِها ... إلَّا بريقَ الوعدِ والتَّرجيف ومضيتُ لا العِبَرُ الكبارُ تهُزُّني ... يومًا .. وإن بلَغَتْ أُلوفَ أُلوف والصَّحْبُ قد عكَفوا على لذّاتِهم ... ولكم على اللذاتِ طالَ عُكوفي! ألِفوا الحياةَ كما اشتهَت أهواؤهُم ... بئسَت حياةُ اللَّهْوِ من مألوف رباهُ إنّي ما ارتَضَيْتُ سبيلَهُم ... ولكم عزفتُ وطالَ عنهُ عُزوفي! لكنَّها الأهواءُ والهفي لما ... عانيتُ في الأهواءِ من تَلْهيف رباهُ إن قَطَفوا لَذَائِذَهُم هُنا ... رباهُ فاجْعَل في الجِنانِ قُطُوفي هي حقبةٌ عاشَ الفؤادُ بها الأسَى ... ما بينَ حَالَيْ خائفٍ ومُخيف واليومَ تابَ وجاءَ تحدُوهُ المُنى ... من غيرِ إبطاءٍ ولا تزييف

غُفرانَكَ اللهُم إنِّي تائبٌ ... يدعُو بقلْبٍ خاشعٍ وضعيف يا ربِّ رُدَّ المُسلمينَ وردَّهُ ... للدِّينِ يا من أنتَ خيرُ لطيف وانصُر بحقِّكَ أُمَّتي والطُف بها ... يا من تُلبّي حاجَةَ المَلهوفِ (¬1) * * * ¬

(¬1) حتى ترضى (ص:32 - 34).

57 - بك أستجير

57 - بك أستجير إبراهيم بديوي بك أستجيرُ فمن يجيرُ سِوَاكا ... فأجِرْ ضعيفًا يَحْتَمِي بِحَمَاكا إِنَّي ضعيفٌ أستعينُ على قِوِى ... ذَنْبي ومَعْصِيَتي بفيضِ قِوَاكا أذنبتُ يا ربي وآذتْني ذنوبٌ ... مَا لَها من غافرٍ إلَّا كَا دنْيَايَ غَرَّتني وعفوُك غَرَّني ... وا حَيْرَتي في هذه أو ذاكَا يا مدرِكَ الأبصارِ والأبصارُ لا ... تَدْري له ولكُنهِهِ إِدرَاكا إن لم تكنْ عَيْنِي تَرَاك فإنني ... في كلِّ شيءٍ أستبينُ عُلاكا يا منبتَ الأزهارِ عاطرةَ الشَّذَا ... هذا الشَّذَا الفوَّاحُ نفحُ شَذَاكا ربَّاهُ ها أنا ذا خَلُصْتُ من الهَوى ... واستقبلَ القلبُ الخليُّ هَوَاكا وتركْتُ أُنْسِي بالحياةِ ولهوِها ... ولقيتُ كلَّ الأنسِ في نَجْواكا ونسيتُ حُبِّي واعتزلتُ أحِبَّتي ... ونسيتُ نَفْسي خوفَ أن أنسَاكا أنا كنتُ يا ربي أسيرَ غِشاوةٍ ... رانَتْ على قَلْبِي فَضَلَّ سَنَاكا واليومَ يا ربِّي مَسَحْتُ غِشَاوتي ... وبدأتُ بالقلْبِ البصيرِ أَرَاكا يا غَافِرَ الذنبِ العظيمِ وقابلًا ... للتِّوبِ قلبٌ تائبٌ ناجَاكا يا ربِّ جئتُك ثاويًا أبْكِي على ... ما قَدَّمَتْه يَدَايَ لا أَتَباكى أخشَى من العَرْضِ الرهيبِ عليك يا ... ربي وأخْشَى منك إذ ألقَاكا

يا ربّ عدتُ إلى رِحَابِك تائبًا ... مُسْتَسْلمًا مسْتَمْسِكًا بعُراكا ما لي وما للأغنياءِ وأنت يا ... رَبِّي الغنيُّ ولا يُحَدُّ غِنَاكا ما لي وما للأقوياءِ وأنت يا ... ربي عظيمُ الشَّأنِ ما أقْوَاكا إني أويْتُ لكل مأوًى في الحياةِ ... فما رأيتُ أعزَّ مِنْ مَاواكا وتلمسَتْ نفسي السبيلَ إلى النَّجَاةِ ... فلم تجدْ منجًى سِوَ ى مَنْجَاكا وبحثتُ عن سِرِّ السعادةِ جاهدًا ... فوجدتُ هذا السرَّ في تَقْوَاكا فليرضَ عنِّي الناسُ أو فليسْخَطوا ... أنا لم أعُدْ أسْعَى لغيرِ رِضَاكا أدعوك يا ربي لتغْفِرَ حَوْبَتي ... وتُعَينَني وتمدَّني بهُدَاكا فاقْبَلْ دعائي واسْتَجِبْ لرجَاوَتي ... ما خابَ يومًا من دَعَا ورجَاكا يا ربّ هذا العصرُ ألحدَ عندما ... سخَّرتَ يا ربِّي له دُنياكا ما كاد يُطْلِقُ للعُلا صاروخَه ... حتى أشاحَ بوجِهه وقَلَاكا أَوَ مَا دَرَى الإنسانُ أن جميعَ ما ... وصَلَتْ إليه يَدَاه من نُعْمَاكا يا أيُّها الإنسانُ مهلًا واتَّئدْ ... واشكُر لربِّك فضلَ ما أوْلَاكا أفإنْ هَدَاك بعِلْمِه لعَجِيبةٍ ... تَزْوَرُّ عنه ويَنْثَنِي عِطْفَاكا قلْ للطبيبِ تخطَّفَتْه يدُ الرَّدَى ... يا شَافِيَ الأمْراضِ من أردَاكا؟ قلْ للمريضِ نَجَا وعُوفي بعدَما ... عَجَزَتْ فنونُ الطِبِّ، من عَافَاكا؟ قل للصحيحِ يموتُ لا من علةٍ ... من بالمنايا يا صحيحُ دَهَاكا؟

قلْ للجنينِ يعيشُ معزولًا بلا ... راعٍ ومرعًى ما الذي يَرْعَاكا؟ قل للوليدِ بكَى وأجهَشَ بالبُكَا ... عند الولادةِ ما الذي أبكَاكا؟ وإذا تَرَى الثُّعبانَ ينفُثُ سُمَّهُ ... فاسألْه مَن ذا بالسُّمومِ حَشَاكا؟ واسألْه كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو ... تَحْيَا وهذا السُّمُّ يملأُ فَاكا؟ واسأل بطونَ النحلِ كيفَ تَقَاطَرَتْ ... شَهْدًا وقل للشَّهْدِ من حَلَّاكا؟ بل سَائِلْ اللبنَ المصَفَّى كان بيـ ... ـن دمٍ وفَرْثٍ ما الذي صَفَّاكا؟ وإذا رأيتَ الحيَّ يخرجُ مِن ... ثَنَايا مَيِّتٍ فاسْأَلْه من أحْيَاكا؟ قلْ للهَوَاءِ تحسُّه الأيدي ويخـ ... ـفى عن عيونِ الناسِ من أخْفَاكا؟ وإذا رأيتَ البدَر يَسْري ناشرًا ... أنوارَه فاسأَلْه من أسْرَاكا؟ وإذا رأيتَ النخْلَ مشقوقَ النَّوَى ... فَاسْأَله مَن يا نخلُ شقَّ نَوَاكا؟ وإذا رأيتَ النارَ شبَّ لهيبُها ... فَاسْأَل لهيبَ النارِ من أورَاكا؟ وإذا ترى الجبلَ الأشَمَّ منَاطِحًا ... قِمَمَ السَّحَاب فَسَلْه من أرسَاكا؟ وإذا تَرى صَخْرًا تفجَّر بالمياهِ فَسَلْه ... مِن بالماءِ شَقَّ صَفَاكا؟ وإذا رأيتَ النهرَ بالعذبِ الزُّلالِ جَرَى ... فسَلْه مَن الذي أجْرَاكا؟ وإذا رأيتَ البحرَ بالملحِ الأُجَاجِ طَغَى ... فسَلْه من الذي أطْغَاكا؟ وإذا رأيتَ الليلَ يغْشَى داجِيًا ... فاسْأَلْه مَن يا ليلُ حَاكَ دُجَاكا؟ وإذا رأيت الصُّبْحَ يُسْفِرُ ضَاحِيًا ... فاسأله مَن يا صبحُ صاغَ ضُحَاكا؟

هذي العجائِبُ طالما أَخَذَتْ بها ... عيناكَ وانفَتَحَتْ بها أُذنَاكا واللهُ في كلِّ العَجَائِبِ مبدعٌ ... إن لم تكُنْ لِتراهُ فهو يَرَاكا يا أيُّها الإنسانُ مهلًا مالذي ... باللهِ جَلّ جَلَالُه أغْرَاكا فاسجُدْ لموْلاك القديرِ فإنَّما ... لا بدَّ يومًا تَنْتَهي دنياكا وتكونُ في يومِ القيامةِ ماثلًا ... تُجْزَى بما قَدْ قدَّمَتْه يَدَاكا (¬1) * * * ¬

(¬1) الله أهل الثناء والمجد (ص:545 - 550).

58 - يسبحك الخلق في كل آن

58 - يسبحُك الخلقُ في كلِّ آن الدكتورة عاتكة الخزرجية (¬1) يسبحُك الخلقُ في كلِّ آنِ ... ويَعْنو لهيبَتِك القَانِتون ويَسْأَلُك الرحمَةَ الأتقِيَا ... ء ويأوي إلى ظِلِّك المذنبون وتُحنى الجباهُ لعزِّ الإلهِ ... ويخضَعُ للأكبرِ الكابرون! تباركتَ سُبِّحْتَ يا ذا الجلا ... لِ ويا من إليه غدًا يَنْسِلُون ويا مجريَ الفُلْكَ فوقَ البحا ... رِ ومن باطنِ الصَّخْر ثجَّ العُيُون ويا مُجري الشمسَ في أُفْقِها ... وكلٌّ على فَلَكٍ يَسْبَحُون تباركتَ كيف سَلَخْتَ النها ... رَ من الليل كيف مَسَخْتَ القُرون؟ وكيف بَرَيتَهُمُ من رُغَا ... م وكلٌّ إلى أجلٍ سائرون؟ وَسَرَّيْتَ بينهُمُ بالحِما ... مِ ورَوَّضْتَ فيهم جماحَ الحَرون (¬2) تباركت كيف قَسَمْتَ الجُدو (¬3) ... د وكيف يُقال بها العَاثرون وسعتَ بحِلْمِك طيشَ الجَهُو ... ل وغيَّ الكفورِ ولُؤْمَ الخؤُون ولم توصِدِ البابَ دونَ الجَمُو ... دِ ولا دونَ ما أمَّل التَّائبون حكمتَ فأقسطْتَ في العالمين ... وبالعَدْلِ فليحْكُم الحَاكِمون ¬

(¬1) تسبيح ومناجاة وثناء - حسن موسى الشريف (ص:132 - 134). (¬2) الحرون: المكابر والمعاند. (¬3) الجدود: الحظوظ.

فنارُك يَصْلَى بها الكافرون ... وجناتُ عَدْنٍ بها المؤمنون تباركتَ يا ربِّ هذا الوُجُود ... ومن باسمِه سبَّح العَالمون ويا موقِدَ النارِ من أخضرٍ ... ومُعْطي مِنَ الأرضِ ما يشْتَهون ويا مخرجَ الحيِّ من ميتٍ ... ومن قال للشيءِ كنْ كيْ يكُون تباركْتَ يا فاطرَ الكائناتِ ... ومن هُمْ إليه غدًا يَنْسِلون فزعتُ لبابِك أرجو حِمىً ... لضَعْفي فأنتَ حِمايَ المصُون عبادُك يا ربِّ ضَلّوا السبيلَ ... وحَارَ الدليلُ فما يهتَدون تَشَامَخَ في أرضِك الأدنياءُ ... فأيانَ عن غَيِّهم ينتهُون وجَارتْ بأحكامِها الأقوياءُ ... فَسِيمَ الضعيفُ عذابًا وهُون ولم يُعطِ من مالِكَ الأغنياءُ ... وراحوا على شُحِّهم يَحْرِصُون ولم يبقَ في الناسِ معنَى الحياءِ ... فأمسُوا بآثامِهم يفخَرون وضجَّتْ مواخِيرُهم بالحياةِ ... وباتَتْ محاريبُهم في سُكون! عِبَادُك يا ربّ ضَلّوا السبيلَ ... فأين الدليلُ؟ عَسَى يهتدون أخافُ عليهم وأرجُو لهم ... فغفرًا لهم إنهم لا يعُون! وأنت اللطيفُ الرؤوفُ الرحيمُ ... وأنت الرفيقُ الشفيقُ الحنون * * *

59 - يا مجيب السائلين

59 - يا مجيب السائلين عبد الرحمن حبنكة ربّ إني قدْ سألتُك ... يا مُجيبَ السَّائلينْ لم يَخِب دَاعِكَ ربِّي ... وهو يدعُو بيقِينْ إنَّني أدْعُوكَ يا اللهُ ... مَعْ إخلاصِ دِينْ * * * ربِّ إني قد سألتُكْ ... إذ تُحِبُّ السَّائلينْ بدُعائي قد عبَدتُكْ ... إذ تُحِبُّ العابِدينْ أنتَ أولَى بِيَ مِنِّي ... فأعِنّي يا مُعينْ أنتَ بي أعلَمُ مِنِّي ... أنتَ خيرُ الأكرمينْ فاصْطَنِعْنِي لكَ يا ربِّي اصطِنَاعَ الأقربينْ واتَّخِذْني لكَ ضمنَ الصّالحِين الطاهِرينْ وبفضلٍ منكَ فارفَعْنِي لأوجِ المُحسِنينْ أنت رَبِّي في تصَاريفِكَ ... خَيرُ الأحْكَمِينْ ورجَائي باستجَابَاتِكَ لي حقُّ اليقينْ لستُ أخشى ردَّ سُؤلي ... ولكَ الوَعدُ المتيِنْ أنا يا ربِّي بألطافِكَ في حِصْنٍ حَصِينْ

فاقضِ لي الخيرَ وأكرمِني بسُلطانٍ مكينْ تنصُرُ الحقَّ بهِ ... والخيرَ بينَ العالَمينْ وبهِ تنصُرُ قُرآ ... نَكَ ذا النُّورِ المُبينْ تنصرُ الدِّينَ الذي جَا ... ءَ بِهِ الدّاعي الأمِينْ أحمدُ المُختارُ خيرُ الخلقِ خيرُ المُرسَلينْ وبهِ تنصُرُ في الدُّ ... نيا جُمُوعَ المؤمنينْ وبِهِ تهزِمُ يا ربِّي حُشُودَ الكَافِرينْ ربِّ واجعلنِي إمامًا ... للهُداةِ المتَّقينْ * * * ربِّي إنِّي قد سألتُكَ ... يا مُجِيبَ السَّائلينْ بدُعائي قد عبَدتُكْ ... إذ تُحِبُّ العابِدينْ (¬1) * * * ¬

(¬1) ديوان ترنيمات إسلامية (ص:58 - 59).

60 - كتاب الكون

60 - كتاب الكون خير الدين وانلي كم في كتابِ الكونِ من عِبرٍ ... لأولي النُّهى والبحْثِ والنَّظر في الأرضِ في الآفاقِ قاطبةً ... في النفسِ في الأصواتِ في الصُّور في ذرةٍ عَمْياءَ هائجةٍ ... في الشمسِ ذاتِ الوهْجِ والشَّرر في النَّجْمِ في الأفلاكِ سابحةً ... في الشُّهْبِ ذاتِ الخَطْفِ للبصَر في الزهرةِ الأخاذِ رونقُها ... في الطيرِ صدّاحًا على الشَّجَر في البحرِ والأمواجُ صاخبةٌ ... تعلو تَرومُ تَنَاولَ القمَر في الراسِياتِ الشمِّ عمَّمَها ... ثلجُ الشتاءَ يسيلُ في النَّهر في السَّفْحِ والأعشابُ مائسةٌ (¬1) ... ترنو إلى الوديانِ في خَفَر * * * ماذا أقولُ لغافلٍ لاهٍ ... عن كلِّ ما في الكونِ من عِبَر أيظنُّ خلقَ الكونِ عن عَبَثٍ ... كلَّا فخلقُ الكونِ عن قَدَر ما فيهِ من وَهَنٍ ولا خَللٍ ... ما فيه من واهٍ ومُنفطِر الشمسُ في الأفلاكِ جاريةٌ ... كالأرضِ ذات الماءِ والمَدَرِ (¬2) لا الليلُ يسبقُ لا النهارُ ولا ... تُفني البحارُ رواسِيَ الجُزُر ¬

(¬1) مائسة: مائلة متبخترة. (¬2) المَدَر: الطين.

النبتَةُ الخَضْراءُ ضاربةٌ ... أطْنَابَها في الصَّخْرِ والحَجَر والزهرةُ البيضاءُ فائحةٌ ... والجذْرُ بين الطينِ والكَدَر والغيمةُ السوداءُ مُثْقَلَةٌ ... تجْرِي بأطنابٍ من المطر والهرةُ السَّمراءُ حانيةٌ ... فوق الصِّغارِ العُمْي عن خَطَر الكونُ متَّسِقٌ ومنتظِمٌ ... كم فيهِ من ذِكْرَى لمُعتَبر سبحانَ من باللُّطْفِ قدَّرَهُ ... أعظِمْ بقيومٍ ومُقتَدِرِ (¬1) * * * ¬

(¬1) ديوان النصر للإسلام (ص:134).

61 - إلهي أنت تعلم كيف حالي

61 - إلهي أنت تعلم كيف حالي عبد الرحيم البرعي أغيبُ وذُو اللَّطائفِ لا يغيبُ ... وأرجُوهُ رجَاءً لا يخيبُ وأسألهُ السَّلامةَ من زمانٍ ... بُليتُ بهِ نوائبُه تُشيبُ وأُنزلُ حَاجتي في كلِّ حالٍ ... إلى من تَطمئِنُّ بهِ القلُوبُ ولا أرجُو سواهُ إذا دَهَاني ... زمانُ الجَوْرِ والجارُ المُريبُ فكم للهِ من تدبيرِ أمرٍ ... طوتهُ عن المُشاهدَةِ الغيُوبُ وكم في الغيبِ من تيسير عُسرٍ ... ومن تفريجِ نائبةٍ تنُوبُ ومن كرمٍ ومن لطفٍ خفيٍّ ... ومن فرجٍ تزُولُ بهِ الكُروبُ وما لي غيرُ بابِ اللهِ بابٌ ... ولا مولى سواهُ ولا حبيبُ كريمٌ مُنعمٌ برٌّ لطيفٌ ... جميلُ السّترِ للدَّاعي مُجيبُ حليمٌ لا يُعاجِلُ بالخَطَايا ... رحيمٌ غيثُ رحمتِهِ يَصُوبُ فيا ملكَ المُلوكِ أقِلْ عِثَاري ... فإني عنكَ أَنْأَتْنِي الذُنوبُ وأمرضَنِي الهَوى لهوانِ حظِّي ... ولكن ليسَ غيرَكَ لي طبيبُ وعَانَدَني الزمانُ وعِيلَ صَبري (¬1) ... وضاقَ بعبدِكَ البلدُ الرَّحيبُ فآمن رَوْعَتي واكْبِتْ حسُودًا ... يُعاملُني الصَّدَاقةَ وهو ذيبُ ¬

(¬1) عيل صبري: غُلِب.

وآنِسْني بأولادِي وأهْلي ... فقد يَسْتَوْحِشُ الرجلُ الغريبُ ولي شَجَنٌ بأطفالٍ صِغَارٍ ... أكادُ إذا ذكرتُهُم أذوبُ ولكني نَبَذْتُ زِمَامَ أمْرِي ... لمن تدبيرُهُ فينا عَجيبُ هو الرحمنُ حَوْلي واعْتِصَامي ... بهِ وإليهِ مُبتَهِلًا أُنيبُ إلهي أنتَ تعلمُ كيفَ حالي ... فهل يا سيِّدي فرجٌ قريبُ * * *

62 - حبيبي أنت رحمن

62 - حبيبي أنت رحمن يحيى بن معاذ أنا إن تُبتُ منَّاني ... وإن أذنبتُ رجَّاني وإن أدبَرْتُ نادَاني ... وإن أقبلْتُ أدنَاني وإن أحْبَبْتُ والاني ... وإن أخْلَصْتُ نَاجَاني وإنْ قَصَّرتُ عافَاني ... وإن أَحْسَنْتُ جازَاني حبيبي أنتَ رَحْمَاني ... أَلَا اصرِفْ عني أحْزَاني إليك الشَّوقُ من قَلْبي ... عَلَى سرِّي وإعْلَاني فيا أكرَمَ من يُرجَى ... وأنتَ قديمُ إحسان وما كُنتَ على هذا ... - إلهَ النَّاسِ - تنسَاني لَدَى الدُّنيا وفي العُقبَى ... على ما كانَ من شَاني (¬1) * * * ¬

(¬1) الحلية، (10/ 62).

63 - رب سبحانك

63 - ربِّ سبحانك محمود حسن إسماعيل ربِّ سُبحانكَ في أعلَى عُلاك كلَّما ندعوكَ .. تُعطينا يدَاك خَيَّمَ اللِّيلُ، فنادَيتُ .. إلَهي فإذَا الكونُ ضياءْ وجرَى الدمعُ فناديتُ .. إلهي فإذا الدُّنيا صَفاءْ والرِّضا يغمُرُ قَلْبي وشِفَاهي وتُناجِيني السَّماءْ ربِّ سبحانكَ في أعلى عُلاك كلَّمَا ندعُوكَ تُعطينا يدَاك كلَّمَا تُشرِقُ شمسٌ أو تغيبْ يملأُ القلبَ ضِيَاك وإذا ضَاقَتْ من اليأسِ القُلُوب يغمُرُ الرُّوحَ هُدَاك وإذا ملَّتْ من العَفوِ الذُّنوب

64 - يا أرحم الرحماء

صَافَحَ النَّفسَ رِضَاك ربِّ سُبحانكَ في أعْلَى عُلاك كُلَّما ندعُوك .. تعُطينا يدَاك (¬1) * * * 64 - يا أرحم الرحماء محمد الحامد يا أرحم الرُّحماءِ ما لي حيلةٌ ... إلا الرُّجوعُ إليكَ يا ربَّاهُ أنا قد أسأتُ، وأنتَ ربٌّ غافرٌ ... غوثَاهُ ممَّا قد عَرَا غَوْثَاهُ يا سيِّدي يا من إليهِ شِكَايتي ... أوَّاهُ ممَّا نابني أوَّاهُ أدرِكْ بلُطْفِك نادمًا ذا حسرةٍ ... مُسْتَغْفرًا مما جَنَتْهُ يَدَاهُ ما للضَّعيفِ إذا ألمَّت كُربةٌ ... إلا الدُّعاء: اللهُ ياللهُ يا ربِّ نفِّس عن عُبيدِكَ كُربةً ... وأرِحْهُ مما قد عنَا ودَهَاهُ (¬2) * * * ¬

(¬1) الأعمال الكاملة لمحمود حسن إسماعيل (4/ 1783 - 1784). (¬2) مجلة حضارة الإسلام، العدد 3، (ص:83)، من السنة العاشرة، من جمادي الأولى سنة 1389 هـ، وانظر: رائق الشهد (ص:222 - 223).

65 - تأملات إيمانية

65 - تأملات إيمانية عبد الرحمن حبنكة لستُ أدْري ما حَيَاتِي ... لا. ولا ما هُو آت أنا من أينَ؟ وممَّن ... قبستْ نفسِي صِفَاتي؟ أنا لا أملكُ نفسِي ... في انتقالٍ أو ثَبَات إن ربًّا هو أعطَاني وجُودي وحَيَاتي مثلما أعطَى جميعَ الكائناتِ الحادِثَات وهَداني أن أرَى زَادِي لما بعدَ الممات خيرُ زادٍ لي تَقْوَاي وفِعْلُ الصَّالحات واعْتِرَافي بالذي أبدَعَنِي في الكائنات قَد عَرَفْتُ اللهَ ربي ... حينما أدركْتُ ذاتي أفَلَا أملأُ فِكْرِي ... وفَمِي بالصَّلوات ووجُودي وصِفَاتِي ... منهُ بعضُ النَّفحات إن شُكري يا إلهي ... لك يُعلي دَرَجَاتي فلكَ الشُّكرُ على ما ... جُدتَ لي من أُعْطِياتِ (¬1) * * * ¬

(¬1) ديوان ترنيمات إسلامية (ص:129).

66 - تبارك الله

66 - تبارك الله خير الدين وانلي تباركَ اللهُ كم في الكونِ من عَجَبٍ؟! ... في البرِّ والبحرِ والأفلاكِ والشهُب طيرٌ يُهاجرُ من أقصى الشمالِ إلى ... أقصى الجنوبِ ولا يهتمُّ بالسَّغَبِ (¬1) ويقطعُ السَّمكُ الشِّلالَ مُتجهًا ... إلى المنابعِ كي يفنَى من التعَب وينشرُ النملُ حبًّا كي يُجِفِّفَه ... ويصنعُ النحلُ شكلًا مُنتهى العجَب ويحملُ (الكنغرُ) الأبناءَ يحفظُها ... في جيبهِ سائرًا وَثْبًا على الذَّنَب ويرفَعُ القردُ أولادًا على كَتِفٍ ... ويزقمُ (¬2) الطيرُ أفراخًا ذَوِي زَغَبِ (¬3) ويَجْأرُ الحوتُ في الأعماقِ مبتهجًا ... ويُنْقِذُ الصوتُ خَفَّاشًا من العَطَب ¬

(¬1) السغب: الجوع. (¬2) يزقم: يلقم. (¬3) الزغب: الريش الصغير.

ويَسْبَحُ البطُّ في أعقابِ مَوْلدِه ... بلا مرانٍ وماءُ النهرِ في صَخَب وَيْلقَمُ الثديَ والعينانِ مُغْمَضَةٌ ... هِرٌّ وليدٌ وما في الثِّديِ من حَلَب ويقفزُ المهرُ خلفَ الأمِّ مرتَجِفًا ... ولم يزلْ عَظْمُه أوهَى من القَصَب ويتبعُ الكلبُ ريحًا غابَ صاحبُها ... ويسمعُ الهرُّ همسَ الفأرِ في الخِرَب ويُبصرُ الصَّقرُ من عَلْيائِهِ جُرُذًا ... ويُمْسِكُ القنفذُ الأفْعَى من الذَّنَب وينقرُ الطيرُ دودًا غابَ في غَصْنٍ ... تحتَ اللّحَاءِ وما في الغُصْنِ من ثُقَب ويُمسِكُ البجَعُ الأسماكَ سابحةً ... ويُرسِلُ الأخطبوطُ الرجْلَ عن جُنْب وينفخُ الثعلبُ الأحشاءَ مرتميًا ... حتى تُهاجِمَهُ الغِربانُ عن كَثَب ويلْسَعُ العَنْكبوتُ الجُعلَ في عُنقٍ ... حتى يخدِّرَه تخديرَ مُرتَقِب

67 - ما شئت كان

ويُمسِكُ الضَّبُّ غُصْنًا حين تدرِكَهُ ... أفعَى ليمنَعَ بلعَ الرأسِ كالذَّنَب تبارك اللهُ لا تُحصَى خلائِقُه ... وكلُّ آلائِهِ تدعو إلى العَجَبِ (¬1) * * * 67 - ما شئت كان الشافعي ما شئتَ كانَ، وإن لم أَشَا ... وما شِئْتُ إن لم تشأَ لم يكُنْ خلقتَ العبادَ لما قد عَلِمتَ ... ففي العلمِ يجري الفَتَى والمُسِنْ فمنهُم شقيٌّ، ومنهم سعيدٌ ... ومنهُم قبيحٌ، ومنهم حَسَنْ على ذا مننتَ، وهذا خذلتَ، ... وذاكَ أعنتَ، وذا لم تُعنْ (¬2) * * * ¬

(¬1) ديوان النصر للإسلام (ص:136). (¬2) ديوان الشافعي (ص:118).

68 - يا كافل الرزق

68 - يا كافل الرزق مصطفى عكرمة قدَّرتَ أرزاقَ كلِّ الخلقِ من عَدم ... وزدتَ في الرِّزقِ يا ذا الجودِ والكرم أبوابُ جودِكَ ما تنفكُّ مشرعَةً ... حتى طَفَوْنا على بَحْرٍ من النِّعم هذي الملايينُ مما قد خَلَقْتَ تَرى ... من حَوْلها الرِّزقَ موفُورًا على أَمَم فالنَّملُ، والطَّيْرُ .. والأسماكُ أجمعُها ... من عاش في النُّورِ، أو من عاشَ في الظُّلم والآدميونَ نالوا فوقَ ما سألوا ... عَبرَ الزَّمَانِ .. كأنَّ الكُلَّ في حُلُم وكلُّ ذي مُهجةٍ في الأرضِ زاحفةٍ ... أو غيرِ زاحفةٍ تَسْعَى على قَدَم تَسْعَى .. وللسَعي أوقاتٌ محدَّدةٌ ... ورزقُها غيرُ محدودٍ ومُنقَسم لم ينفَدِ الرِّزقُ يومًا رَغْمَ كَثرَتِها ... وربَّما قد قَضَتْ يومًا من التُّخَم

آلافُ آلافِ أعوامٍ وما بَرِحَت ... كلُّ الخلائِقِ تَلْقَى غايةَ الكرم لا عقلُها كافِلٌ أرزاقَها أبدًا ... ولا قُواها تُنجِّيها من الأَلم يا ربِّ أنتَ الذِي أعطيتَها كَرمًا ... وأنتَ من قدَّر الأرزاقَ من قِدَم وأنت يا ربِّ هاديها .. وكافِلُها ... وأنت كافِلُ رزقِ الكُلِّ من عَدَم وأنتَ تعلمُ عنها فوقَ ما عَلِمَتْ ... عن نَفْسِها .. وهي كالذَّراتِ في الرَّحِم وأنتَ وحدَكَ من يُرجَى .. ومن يدُهُ ... تُعطي .. فتُغنِي وتكفِي سائِرَ الأُمَّم فامنُن عليَّ برزقٍ وافرٍ أبدًا ... واجعَلْهُ ربِّي حَلالًا سائغًا بِفَمِي ورُدَّ يا ربِّ للإسلام عزَّتهُ .. ... وابعث بنا من يُصحِّينا من الرِّمَم حتى تعودَ إلى ما كان أُمَّتُنا ... بنَهْجِكَ الحقِّ تَهْدِي أقوَمَ القِيَمِ (¬1) ¬

(¬1) حتى ترضى (ص:62 - 64).

69 - إليك جميع الأمر

69 - إليك جميع الأمر ابن الوزير الصنعاني (¬1) إليكَ جميعُ الأمرِ يُرْجَعُ كلُّهُ ... ومنكَ الأمَاني تُرتَجَى والبشائرُ وبعضُ أياديكَ العوالمُ والذِي ... بهَا والبحارُ والثقالُ الموَاطِرُ ومنكَ العطَا والمنعُ والأمرُ كلُّهُ ... إليكَ ومَا في الكونِ غيرُكَ قادرُ فمنْ شاءَ فليمنعْ سواكَ فلا أذًى ... إذَا يَبِسَ الضَّحْضَاحُ فالبحرُ زاخرُ وعفْوُكَ يا ربَّ الخلائقِ واسعٌ ... تضيعُ الخطَايا عندهُ والكبائرُ فلو يعلمُ الخلقُ الذي أنتَ أهلُهُ ... من العفوِ لم يقنُطْ منَ العفوِ فاجرُ ورحمتُكَ العظمَى كتبتَ بسَبقِهَا ... كتابًا كريمًا فهوَ عندَكَ حاضرُ وأنت تحبُّ الحمدَ والمدْحَ والثَّنا ... ووصفُ محبِّ الحمدِ والمدحِ ظاهِرُ فوعدُكَ أولَى من وعيدِكَ بالوَفا ... لذاكَ وحظُّ الفضْلِ للعدلِ قاهرُ وقد جاءتِ البُّشرى وصَحَّتْ بأننَا ... لَنَا ظنُّنا فالظنُّ أنَّك غافرُ ولي حينَ يشتدُّ الوعِيدُ ذخيرَةٌ ... سريرةُ حبٍّ يومَ تُبلَى السَّرائرُ تجَلى هُمومي في فُؤادِي قرَارَها ... وأرجُو بقاهَا يومَ تَفْنَى الذَّخائرُ وديعتُكم أن تحفظُوهَا فإنهَا ... صَنيعتُكُم والجودُ بالحفظِ آمِرُ * * * ¬

(¬1) رائق الشهد (ص:162 - 164).

70 - الكون البديع

70 - الكون البديع خير الدين وانلي اقرا سطورًا من كتا ... بِ الكونِ منْ دنيا الجمالْ فالحسنُ فيهِ كامنٌ ... والحسنُ مرآةُ الخيالْ في الزهرةِ الخالصةِ الطُّهـ ... ـرِ وفي الماءِ الزلالْ في الغُصنِ يرنُو للمرو ... جِ نديةً مثلَ اللآلْ في السَّلْسَلِ العذبِ النميـ ... ـرِ تحفُّه خُضْرُ التلالْ في الموجِ يغشى الأفقَ تعـ ... ـلوه نُسَيْماتُ الشَّمالْ عرِّجْ على النبعِ الوقو ... رِ وسلهُ يُنبئْكَ العُجابْ واسألْ زُرافاتِ الطيو ... رِ عن الفضَاءِ عنِ السَّحابْ واستَلْهِمِ النجمَ النشيـ ... ـدَ الشَّجِيَّاتِ العِذابْ كمْ منَ جمالٍ في رحا ... بِ الكونِ والكونُ كتابْ سبحانكَ اللهمَّ يا ... ربَّ المحاسِنِ والجَمالْ أنت الجميلُ خَلَقْتَ هـ ... ـذا الكونَ في أبهَى مِثَال لا يستطيعُ العقلُ إحصا ... ءَ المحامِدِ والكمالْ لا تُدُركُ الأفهامُ سرَّ ... الخلقِ أو كُنْهَ الزَّوال (¬1) ¬

(¬1) ديوان النصر للإسلام (ص:137).

71 - يا ربنا لك الصلاة

71 - يا ربنا لك الصلاة محمود حسن إسماعيل يا ربَّنا لكَ الصَّلاهْ والحمدُ من كلِّ الحيَاهْ من زهرةٍ على الغصُونْ ... لَهفَانةٍ إلى ندَاكْ منْ دَمْعَةٍ علَى الجفُونْ ... ظمآنةٍ إلى رضَاكْ منْ تائبٍ إلى حِما ... كَ هلَّلتْ خُطَاهْ يا ربَّنا لكَ الصَّلاهْ والحمدُ من كلِّ الحيَاهْ يا راحمًا للتَّائبينْ ... للعَفْوِ لا نرجُو سِوَاكْ يا مَوئلًا للحَائرينْ ... طُوبى لمَن يلقَى هُدَاكْ يا غوثَ كلِّ العالمين ... حمدًا لما تُعطِي يداكْ بكُلِّ ما تحيَا الحياةُ نعبُدُك وكلُّ ما فوقَ الثَّرَى يُوحِّدُك وكلُّنا ندعُوكَ يا ربَّاهْ يا ربَّنا لكَ الصَّلاةْ والحمدُ منْ كُلِّ الحياةْ! (¬1) ¬

(¬1) الأعمال الكاملة لمحمود حسن إسماعيل ج (4/ 1779 - 1781)، انظر: رائق الشهد (ص: 213 - 214).

72 - يا رب إني مذنب أواه

72 - يا ربِّ إني مذنبٌ أواهُ عبد الرحمن حبنكة ناديتُ يا مولايَ يا اللهُ ... يا ربِّ إنِّي مُذنبٌ أواهُ أرجُو عطاياكَ الحسانَ وإنَّ لي ... قلبًا دعاكَ فلا تَرُدَّ ندَاهُ ما في العوالمِ من يلبي داعيًا ... إلاكَ يا مولايَ يا اللهُ داءُ الفؤادِ غرورُهُ بلذاذةٍ ... من عاجلِ الدنيَا وأنتَ دوَاهُ فامسحْ برحمتكَ التي تجلُو بهَا ... قلبي فيُشرِقُ في السُّلُوكِ سَنَاهُ فأكونُ عبدكَ مثلمَا ترضَى لنَا ... وأجدُّ في إحسانِ ما تَرْضَاهُ وأكونُ بالتوفيقِ منكَ مُحصَّنًا ... وينالُ قلبي من رِضاكَ مُناهُ وأعيشُ في سَعْدِ الحياةِ وطيبِها ... وأصيرُ حيثُ يصيرُ من ترعاهُ ويضُمُّني الفردوسُ في أكنافهِ ... مع من وهبتَ من الخِيَارِ عُلاهُ مولاي أنتَ، ولا يهونُ بدهرِهِ ... من كنتَ يا ربَّ الورَى مولاهُ (¬1) * * * ¬

(¬1) ترنيمات إسلامية (ص:146).

73 - يا سروري

73 - يا سروري رابعة العدوية يا سُروري ومُنْيَتِي وعِمادي ... وأَنِيسي وعُدَّتي ومُرَادي أنتَ روحُ الفُؤادِ أنتَ رجائي ... أنتَ لي مُؤنسي وشوقُكَ زادي كم بدَتْ منَّةٌ وكمْ لكَ عندِي ... من عَطَاءٍ ونعْمةٍ وأيَادِي حُبُّكَ الآنَ بُغيتي ونَعيمي ... وجَلَاءٌ لعينْ قلبي الصَّادي ليسَ لي عنكَ ما حييتُ براحٌ ... أنتَ منِّي مُمكَّنٌ في الفؤاد إن تكن راضيًا عليَّ فإني ... يا مُنى القلبِ قد بدا إسْعَادي * * *

74 - سبحان الله

74 - سبحان الله أبو العتاهية سبحانَ من يُعطي المُنَى بخواطرٍ ... في النفسِ لمْ ينطقْ بِهنَّ لسانُ سبحانَ من لا شيءَ يحجُبُ علمَهُ ... فالسرُّ أجمعُ عندهُ إعلانُ سبحانَ من هوَ لا يزالُ مسبَّحًا ... أبدًا وليسَ لغيرهِ السُّبحانُ سبحانَ من تجرِي قضاياهُ علَى ... ما شاءَ منهَا غائبٌ وعيَانُ سبحانَ من هو لا يزالُ ورزقُهُ ... للعالمينَ بهِ عليهِ ضَمانُ سبحان من في ذِكرهِ طُرُقُ الرضَى ... منهُ وفيهِ الرَّوحُ والرَّيحانُ ملكٌ عزيزٌ لا يُفارِقُ عزَّهُ ... يُعصَى ويُرجَى عندهُ الغفرانُ ملكٌ لهُ ظهرُ القضاءِ وبطنُهُ ... لم تُبلِ جِدَّةَ مُلكِهِ الأزمَانُ مَلِكٌ هو الملكُ الذي من حِلْمِهِ ... يُعصَى بحُسنِ بلائِهِ ويخانُ يَبْلَي لكُلِّ مسلَّطٍ سُلطانُهُ ... واللهُ لا يبلَى لهُ سُلطانُ كم يَسْتَصِمُّ الغافلونَ وقد دُعُوا ... وغدَا وراحَ عليهمِ الحدِثانُ (¬1) * * * ¬

(¬1) رائق الشهد (ص:87).

75 - أنا الفقير

75 - أنا الفقير ابن الوزير الصنعاني إليكَ وجَّهتُ يا مولاي آمالي ... فاسمَعْ دُعائي وارحَمْ ضَعْفَ أحوالي أرجُوك مولاي لا نفسي ولا وَلَدي ... ولا صَديقي ولا أهْلي ولا مَالي لَما عرفتُكَ لم أنظُرْ إلى أحدٍ ... فلا الرعيةَ أرجُوها ولا والوالي فلا تَكِلْني إلى من ليس يكْلَؤُني ... وكن كَفيلي فأنت الكافلُ الكالي (¬1) ولتَسْقِني كأسَ حُبٍّ من وِدَادِكَ يا ... مولايَ فهو شرابٌ سَلْسَلٌ حالي فلا وحقِّكَ ما للقلبِ من شَغَفٍ ... إلا بحبِّكَ فاشْرَحْ لي به بَالي أنا الفقيرُ إلى مولايَ يَرْحمُني ... إذا تقضَّى بهولِ الموتِ إمهالِي ¬

(¬1) الكالي: الحافظ.

أنا الفقيرُ إلى مولايَ يَرْحمُني ... في بطنِ لحدٍ وَحِيشٍ مُظلمٍ خالِي هُناكَ لحمِي لِدُودِ القبرِ فاكِهةٌ ... والعظمُ منِّي رمِيمٌ في الثَّرى بالي أنا الفقيرُ إلى مولايَ يرْحَمُني ... يومَ القيامةِ من عُنفٍ وأهوال وأن أكونَ بعيدًا من تعطُّفِه ... مقطِّعًا عنهُ في الآبادِ آمالِي أنا الفقيرُ إلى مولايَ يحشُرني ... في زُمرةِ المصطفىَ المختارِ والآل صلَّى الإلهُ على أرواحهِم أبدًا ... ضَعْفًا على قدرِ زخَّارٍ وهطَّال * * *

76 - دليل الحائرين

76 - دليل الحائرين (¬1) يا منْ إليهِ جميعُ الخلقِ يبتهلُوا ... وكلُّ حيٍّ على رُحماهُ يتَّكِلُ يا من نأَى فرأَى ما في القلُوبِ ومَا ... تحتَ الثَّرى وحجابُ الليلِ مُنْسَدِلُ يا من دنا فنأى عن أن يُحيطَ بهِ ال ... أفكارُ طُرًّا أو الأوهامُ والعلَلُ أنتَ المنادَى بهِ في كلِّ حادثةٍ ... وأنتَ ملْجَأُ من ضاقتْ بهِ السُّبُلُ أنتَ الغياثُ لمنْ سُدَّت مَذَاهبُهُ ... أنتَ الدليلُ لمنْ ضاقتْ به الحيلُ إنَّا قَصَدْناكَ والآمالُ واقعَةٌ ... عليكَ والكلُّ ملهُوفٌ ومبتَهِلُ فإن غفرتَ فعنْ طَوْلٍ وعن كَرمٍ ... وإن سَطَوْتَ فأنتَ الحاكِمُ العَدِلُ * * * ¬

(¬1) بستان الواعظين (ص:153 - 154).

77 - نحن العبيد وأنت الملك

77 - نحن العبيد وأنت الملك (¬1) يا منْ يُغيثُ الورَى من بعدِ ما قَنَطوا ... ارحَمْ عبادًا أكُفَّ الفقرِ قد بَسَطُوا عودتهُم بسطَ أرزاقٍ بلا سَبَبٍ ... سوى جميلِ رجاءٍ نَحْوَهُ انبسَطوا وعُدْتَ بالفضلِ في وردٍ وفي صَدْرٍ ... بالجودِ إن أقسَطوا والحلمِ إن قَسَطُوا عوارفُ ارتبطَتْ شُمُّ الأنوافِ بها ... وكلُّ صعبٍ بقيدِ الجودِ يرتبطُ يا من تعرَّفَ بالمعروفِ فاعترفَتْ ... بجَمِّ إنعامِهِ الأطرافُ والوسَطُ وعالمًا بخفيَّاتِ الأُمورِ فلا ... وهمٌ يجوزُ عليه لا ولا غَلَطُ عبدٌ فقيرٌ ببابِ الجودِ مُنكَسِرٌ ... من شأنهِ أن يوافي حينَ ينضَغِطُ مهمَا أتَى ليمدَّ الكفَّ أخجَلهُ ... قبائحٌ وخطايَا أمرُها فَرَطُ يا واسعًا ضاقَ خطوُ الخلقِ عن نِعَمٍ ... منهُ إذا خَطَبُوا في شُكرِها خبطُوا وناشرًا بيدِ الإجْمالِ رحمتَهُ ... فليسَ يلحَقُ منهُ مسرفًا قَنَطُ ارحمْ عبادًا بضنكِ العيشِ ما لهَمُوا ... غيرُ الدُجنَّةِ لحُفٌ والثَّرى بُسُطُ لكنَّهم من ذُرَى علياكَ في نَمَطٍ ... سامٍ رفيعِ الذُرَى ما فوقَه نَمَطُ ومن يكنْ بالذي يهواهُ مجتمعًا ... فما يُبالي أقامَ الحيُّ أم شَحَطُوا نحنُ العبيدُ وأنتَ الملكُ ليسَ سوَى ... وكلُّ شيءٍ يُرَجَّى بعدَ ذا شَطَطُ * * * ¬

(¬1) موارد الظمآن لدروس الزمان (1/ 48).

78 - صرفت إلى رب الأنام مطالبي

78 - صرفت إلى ربِّ الأنام مطالبي (¬1) صرَفتُ إلى ربِّ الأنامِ مطَالبي ... ووجهتُ وجهِي نحْوَهُ ومآربي إلى الملكِ الأعلى الذي ليسَ فوقَهُ ... مليكٌ يُرجَّى سيبهُ في المتاعب إلى الصَّمَدِ البَرِّ الذي فاضَ جودُهُ ... وعمَّ الورَى طُرًّا بجزلِ المواهِب مُقيلي إذا زلَّت بي النعلُ عاثرًا ... وأسمحُ غفَّارٍ وأكرمُ واهب فما زالَ يُوليني الجميلَ تلطُّفًا ... ويدفعُ عَنِّي من صُدورِ النَّوائب ويرزُقُني طفلًا وكهْلًا وقبلَهَا ... جنينًا ويَحْميني وبيَّ المكاسِب إذا أغلقَ الأملاكُ دوني قُصورَهُمْ ... ونهنَهَ (¬2) عن غِشْيانهمْ زجرُ حاجِب فَزِعتُ إلى بابِ المُهيمنِ طارقًا ... مُدلًّا أُنادي باسمِهِ غيرَ هائب فلم أُلفِ حُجَّابًا ولم أخشَ مِنْعَةً ... ولو كانَ سُؤلي فوقَ هامِ الكواكِب كريمٌ يُلبِّي عبدَهُ كلمَا دَعَا ... نهارًا وليلًا في الدُّجَى والغياهِبِ (¬3) سأسألهُ ما شئتُ إنَّ يمينَهُ ... تسحُّ دِفَاقًا باللَّهَى (¬4) والرَّغائبِ (¬5) فحسبي ربِّي في الهزاهزِ (¬6) ملجَأً ... وحرزًا إذا خيفَتْ سهامُ النوائب ¬

(¬1) إرشاد العباد للاستعداد ليوم المعاد (ص:121 - 122). (¬2) نهنه: كفّ وزجر. (¬3) الغياهب: الظملة الشديدة. (¬4) اللهى: العطايا. (¬5) الرغائب: العطاء الكثير. (¬6) الهزاهز: الفتن.

79 - عفوك اللهم

79 - عفوك اللهم (¬1) يا من يُجيبُ دُعا المضْطرِّ في الظُلَمِ ... يا كاشف الضُّرِّ والبلْوَى مع السَّقَم قد نامَ وفدكَ حولَ البيتِ وانتبهُوا ... وأنت عينُكَ يا قيومُ لم تَنَم هب لي بجودِكَ فضلَ العفوِ عن جُرمي ... يا من إليه أشارَ الخلقُ في الحرَم إن كانَ عَفْوُكَ لا يُدركْهُ ذو سَرَفٍ ... فمن يجودُ على العاصِينَ بالكَرَم * * * 80 - يا عظيم النعم (¬2) محمود سامي البارودي لكَ الحمدُ، إنَّ الخيرَ منكَ، وإنني ... لصنعكَ يا ربَّ السَّماواتِ شاكرُ فأنتَ الذي أوليتَني كلَّ نعمةٍ ... وهذَّبتني حتَّى اصطفَتني العشَائرُ فقرِّبْ ليَ الخيرَ الذي أنَا راغِبٌ ... وباعِدني الشرَّ الذي أنا حاذِرُ فليسَ لمنْ تُقصيهِ في النَّاسِ نافعٌ ... وليسَ لمنء تُدنيهِ في النَّاسِ ضائرُ ولا لامرئٍ ألهمتَهُ الرُّشدَ خاذِلٌ ... ولا لامرئٍ أَوْرَدْتَهُ الغَيَّ ناصِرُ فإن أدركتْ نفسي المرامَ ولم أقُمُ ... مقامَ ضليعٍ بالذي أنت آمرُ فلا لاح لي في ذِرْوةِ المجدِ كوكبٌ ... ولا طارَ لي في قُنَّةِ العزّ طائرُ * * * ¬

(¬1) كتاب التوابين (ص:149). (¬2) ديوان البارودي (2/ 493) الموسوعة الشاملة.

81 - إليك أفر من زللي

81 - إليك أفرُّ من زللي المقري إليكَ أفرُّ من زللِي ... فرارَ الخائفِ الخجِل فخُذْ بيدَيْ غريقٍ في ... بحارِ القَوْلِ والعمل وهبْ لي منكَ عارفَةً ... تُعَرّفُ ما تنكَّرَ لِي وتهدِينِي إلى رَشَدي ... وتمنعُني من الزَّلل وتحمِلُني على سَنَنٍ ... يؤمِّنُني من الوجَل فأنتَ دليلُ من عَمِيَتْ ... عليهِ مسالِكُ السُّبُل على جدوَاكَ معتَمَدي ... فأنقِذني من الدَّخل وألحِقني بجنَّاتٍ ... لدَى درجاتِهَا الأُوَل فأنتَ ملاذُ مُعتَصمٍ ... وأنتَ عمادُ مُتَّكلِ (¬1) * * * ¬

(¬1) نفح الطيب، (1/ 48) الموسوعة الشاملة، وقد حذفنا ما في القصيدة من توسل غير مشروع.

82 - رأيت الله

82 - رأيتُ اللهَ (¬1) عائض بن عبد الله القرني إلهَ الكونِ يُسْعِدُني رِضَاكا ... وما لي خالقٌ أبدًا سِواكَا تراك إذا رأيتُ الكَوْنَ عَيْنِي ... وأنتَ اللهُ أعظمُ أن نَرَاكَا إذا ما الفجْرُ في الآفاقِ حَاكَا ... وإذ بالطَلِّ مُنْسَكِبٌ تَبَاكَى وإذا بالماءِ في الأوهَادِ يَسْرِي ... يُتَمْتِمُ عن مَعَانٍ لستُ أدري عساهُ يقولُ للرحمَنِ شُكرًا ... فأنتَ اللهُ قد أجريتَ نَهْري وتنشقُّ الزُّهورُ بكلِّ لونِ ... تقولُ لنا أيَا قَوْمِي دعُوني أسبحُ للذي بالماءِ أسَرى ... إليَّ وكُنتُ في هَوْلِ المنُون وهبَّ الطَّيرُ للأرْزَاقِ صُبحَا ... تُسبِّحُ وهيَ في الآفاقِ سَبْحَا ولولا ربُّها سَقَطَتْ خِفافًا ... وأهوَى نحوَها الصَّيادُ ذبحَا إلهي في جميعِ الكَوْنِ شاهدْ ... بأنكَ موجدٌ للخَلْقِ واحدْ ومن جَحَدَ الحقيقةَ كذَّبوه ... كذبتَ لقد خَسِرتَ أيا مُعاندْ فمُدَّ الطَّرفَ في لَوْحِ السَّماءِ ... وسائِلْ وردَهُ بعدَ انتِهاء أحَطْتَ بكُنهِه أم لمَ تُحِطْهُ ... فأنتَ اليومَ في دورِ الغَبَاء تَرَى قمرًا فَقِفْ حتَّى تُفكّرْ ... ترى الرحمنَ ممَّا رُمتَ أكبرْ ¬

(¬1) ديوان لحن الخلود (ص:44 - 45).

فَمِنْ أينَ الشُّعاعُ فلستُ أَدْرِي ... وكيفَ البدرُ في الخضْرا تكوَّر وطَلَّ الفَجْرُ في الدُّنيا بشَمسٍ ... أبِكْرٌ هذه أم بنتُ أمس فينقَشِعُ الظَّلامُ ولم يُطقْها ... يَكِرُّ بجُنْدِهِ في حينِ نُمْسِي رأيتُكَ خالِقي في كلِّ معنًى ... كلامُكَ بين أظهرِنا سمِعْنا ولَوْلا أنتَ ما كُنَّا وكانتْ ... نفوسٌ في أكنَّتِنا اجتَمَعْنا لقد فجَّرْتَ ينبوعَ المعانِي ... فراعَ الكُفرُ من سِحْرِ المثاني كتبتَ لكَ البقاءَ فدُمتَ حيًّا ... قديرًا مالِكًا والكُلُّ فَانِي أأُذري الدَّمعَ أم تَكْفِي شُجُوني ... لغيرِ هواكَ ما سَالتْ عُيوني فمن نرجُو سِوَاكَ ومن سَيَرْحَمْ ... وقد أَسْلَفْتُ ذنبًا حالَ دُوني نظرتُ إليكَ من جُنحِ الغُيوبِ ... وقد كثُرَتْ على قَلبي ذُنوبي وقد سارتْ خُطَايَ علَى طريقٍ ... إلى ربِّ السَّنا أبدًا هُروبي إليكَ عَقَدْتُ بالوُثقَى حِبَالي ... ومن فَيْضِ الهُدَى شَرَفي ومالي بنورِ عُلاكَ أمضي في طَرِيقي ... أضاءتْ من سَنى النُّورِ اللَّيالي * * *

§1/1