تعريف عام بدين الإسلام

علي الطنطاوي

قصة هذا الكتاب

قصة هذا الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم في صدر الطبعات السابقة، فصل عنوانه (قصة هذا الكتاب) أعدت النظر فيه اليوم، فوجدت أني لم أسرد فيه القصة من أولها. ولعل أول القصة كان أيام الحرب الأولى (حرب سنة 1914) وهي الأيام التي بلغت فيها سن التمييز، وأدركت ما يحيط بي، فوجدت في بيت أبي دروساً يلقيها على تلاميذه بعد الفجر، وقبل العشاء، وكانت دروساً تختلف عن دروس المدرسة التي كنت أذهب إليها، وكان التلاميذ فيها مشايخ بعمائم ولحى، لم يكونوا صغاراً كتلاميذ المدرسة، فكنت أستمع اليها ولو لم أفهمها، كما أستمع الى دروس المدرسة. فكانت دراستي بذلك مزدوجة: درست في المدارس الى نهاية الجامعة، وكنت مع ذلك أتلقى العلم عن العلماء. عن أبي (الشيخ مصطفى الطنطاوي) أولا، وكان من صدور الفقهاء في الشام، وكان أمين الفتوى عند المفتي الشيخ أبي الخير عابدين، فلما توفي رحمه الله، في شعبان سنة 1343 هقرأت على غيره من العلماء (¬1) ¬

(¬1) ثم اتصلت بعدد لا أحصيه الآن من العلماء. منهم من قرأت عليه. ومنهم من حضرت دروسه، ومنهم من جلست اليه واستفدت منه، في الشام ومصر والعراق. من هؤلاء الشيخ بدر الدين الحسني المحدث الأكبر وقرينه السيد محمد بن جعفر الكتاني صاحب الرسالة المستطرفة والشيخين المعمرين الشيخ عبد المحسن الأسطواني والشيخ سليمان الجوخدار ومفتي الشام الشيخ عطا الكسم وخلفه المفتي الشيخ محمد شكري الأسطواني وخلفه المفتي (الطبيب) الشيخ أبو اليسر عابدين والسيد محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر والشيخ عبد المجيد سليم شيخ الجامع الأزهر والشيخ مصطفى عبد الرازق شيخ الجامع الأزهر والشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر. وخالي المؤرخ العالم الكاتب محبّ الدين الخطيب. والمربي الكبير الشيخ أبو الخير الميداني والعالم المحدث الراوية الشيخ صالح التونسي والعالم الأديب السلفي النظار الشيخ محمد بهجة البيطار والعالم الشيخ توفيق الأيوبي والمربي العالم الشيخ أحمد النويلاتي والمفسر الشيخ عبد الله العلمي والعالم الواعظ الشيخ هاشم الخطيب وامامي العربية وشيخي الأدب الأستاذ سليم الجندي والشيخ عبد القادر المبارك وأستاذ الكتاب المؤرخ الكاتب محمد كرد علي منشئ المجمع العلمي في دمشق. والشيخ المصنف الأديب الشيخ عبد القادر المغربي، والأديب الراوية الأستاذ عز الدين التنوخي، والكاتب العبقري الأستاذ معروف الأرناؤوط والأستاذ الحقوقي العالم شاكر الحنبلي والمحامي العالم الأستاذ سعيد محاسن والعالم المصنف الشيخ عبد القادر بدران الحنبلي والعالم المصنف الشيخ محمد الكافي المالكي والفقيه الشيخ نجيب كيوان الحنفي والعلامة الشيخ أمين سويد. والمربي المصنف الشيخ زيد زين العابدين التونسي والمربي الشيخ أحمد النويلاتي، وشيخ علماء العراق الشيخ أمجد الزهاوي والعالم الحقوقي الحاج حمدي الأعظمي العراقي ومفتي بغداد الشيخ قاسم القيسي والفقيه المؤرخ المحدث الشيخ زاهد الكوثري والعلامة الأديب الشيخ البشير الابراهيمي الجزائري والمربي المصلح الشيخ كامل القصاب والشيخ عيد السفرجلاني وجودت القرآن على شيخ قراء الشام الشيخ محمد الحلواني والشيخ عبد الرحيم دبس وزيت وولده شيخنا (وتلميذ والدي) الفقيه الحنفي الشيخ عبد الوهاب والقارئ المبدع الشيخ عبد الله المنجد، وخلق غيرهم كثير أسأل الله لهم الرحمة والغفران، من ذكرت منهم هنا ومن غاب الآن اسمه عن ذاكرتي، وأظن أني لو عددتهم لأربى عددهم على المئة جزاهم الله خيراً.

فكنت أول من جمع في دمشق بين أسلوبي الدراسة، وكان العلماء يومئذ بين (شيخ) لا يعرف من علوم الدنيا الحديثة شيئا وبين (افندي) لا يفقه من علوم الدين شيئا، الا شيئاً قليلا لا يغني ولا يجزي. فتنبهت مبكرا الى ضرورة عرض الاسلام بأسلوب عصري وكتبت في ذلك مقالات، ونشرت رسائل، ذكرت منها من نحو خمسين سنة بعض الآراء التي أوردها اليوم، في هذا الكتاب.

ففي كتابي (الاصلاح الديني (¬1)) في الصفحة (11) منه، عند الكلام على ضرورة التدين، قلت ما نصّه: "هل يمكن للإنسان أن يعيش بلا دين؟ لا فرق بين هذا السؤال وبين قولك: هل يمكن للإنسان أن يعيش بالمادة وحدها، وينبذ كل ما وراءها حتى نفسه التي بين جنبيْه، وحبّه الذين يجيش به صدره، وشعوره بالطبيعة وجمالها، والطيور وتغريدها، والمقبرة ووحشتها؟ " وبعد أن تحدثت عن عالم المثل الأفلاطونية، واستشهدت بأقوال (كانْت) و (أوغست كونت) و (باستور) و (نيوتن) و (باسكال) و (مالبرانش) و (هارفي) و (غوليه) و (هوكسلي) ذلك لأني كنت حديث العهد بدراسة الفلسفة وكان مكتوباً على غلاف الكتاب (بقلم علي الطنطاوي بكالوريوس في الآداب وفي الفلسفة). قلت بعد ذلك، في الردّ على من يدعّي أن هذا الكون وجد بالمصادفة، ما نصّه: "اذا وضعنا في كيس أربع كرات بيضاء وواحدة حمراء، وسحبنا واحدة منها، كان احتمال خروج الحمراء واحداً من خمسة، واذا وضعنا تسعاً بيضاً وواحدة حمراء، كان واحداً من عشر، فلو وضعنا ما لا نهاية له (?) من البيض كان الاحتمال واحداً من لا نهاية، ولا يقول عاقل أن الحمراء تخرج حتماً من السحب مرة أو مرتين أو مئة مرة. وهذه الكواكب التي لا نهاية لها، ليس لها الا حالة واحدة، تجعلها تسير بهذا النظام، ويمتنع بينها الصدام، فكيف نقول ان هذه الحالة حصلت بالمصادفة من غير مسيّر حكيم عليم؟ ". ... ¬

(¬1) المطبوع في دمشق سنة 1348 هوهو الجزء الأول من (رسائل في سبيل الإصلاح) التي كان لصدورها أصداء، وألفت في الكلام عنها كتب، منها كتاب (الافصاح عن رسائل الاصلاح) للشيخ أحمد الصابوني الحلبي.

هذا ما قلته من نحو خمسين سنة في كتاب لي مطبوع موجود. ثم صح العزم مني على إصدار كتاب في هذا الموضوع وجعلتُ عنوانه (لماذا أنا مسلم)، وأعددتُ فصوله وأعلنتُ عنه، ونشرتُ مقدمته في رسائل (سيف الاسلام) التي كنت أصدرها سنة 1349 هـ (1930 م)، ولكن تعذر الطبع وضاعت الأصول ولم يصدر الكتاب. ولما ذهبتُ الى العراق سنة (1936 م) مدرساً للأدب العربي في الثانوية المركزية في بغداد، وكلفت حيناً بتدريس الدين، جعل الطلاب يسألونني عن كتاب واحد، يفهمون منه الاسلام، لا يريدون كتاب تجويد، ولا كتاب توحيد، ولا كتاب تفسير، ولا فقه ولا أصول، ولا حديث ولا مصطلح، بل كتاباً في الاسلام، يعرضه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضه، على من يفد عليه من العرب (أو الأعراب) فيفهمونه في يوم واحد، أو في بعض يوم. فلم أكن أجد مثل هذا الكتاب، فكتبتُ في الرسالة وكنتُ من كتّابها عشرين سنة كاملة من سنة تأسيسها الى سنة احتجابها. كتبتُ مقالات أدعو فيها العلماء الى تأليف هذا الكتاب، وأعدتُ الدعوة، فما استجاب لها أحد إلا شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار، وإذا رجعتم إلى (الرسالة) وجدتم فيها ما كتب. ... ومرّت الأيام، ورأيت الطريق الذي كنتُ أسلكه وحدي، أو مع نفر من أمثالي، منذ أربعين سنة (طريق الجمع بين الإلمام بعلوم الدين، والالمام بعلوم الدنيا)، قد كثر بحمد الله سالكوه، وصاروا عشرات، ثم صاروا (بحمد الله مرة ثانية) مئات. ونشأ فيهم من هو أكثر مني علماً، وأفصح لساناً، وأكثر إيماناً، وأفضل في كل شيء، وألّفوا عشرات من الكتب الاسلامية الجيدة ولكن هذا الكتاب لم يؤلف. وجاءت سنة (1387 هـ)، فنشرت مقالة في (مجلة رابطة العالم الاسلامي)، عنوانها (تعريف عام بدين الاسلام) تنبّه لها صديقنا معالي الشيخ

(محمد عمر توفيق)، وزير الحج والأوقاف يومئذ، فكتب للرابطة لتكليفي بتأليف كتاب في هذا الموضوع. وتنبّه لها صديقنا الشيخ مصطفى العطار، فكتب لمعالي وزير المعارف الشيخ (حسن بن عبد الله آل الشيخ) ووجدت منه، ومن معالي الشيخ عبد الوهاب عبد الواسع (وكان يومئذ وكيل وزارة المعارف) كل التشجيع. وع م لت الصيف كله، والسنة الجامعية بعده، لكني كنت أدافع الكسل، وأشتغل على ملل، وتجمّعت لديّ ثلاثة ظروف كبار، فيها فصول كاملات، وفيها قصاصات ومذكرات، تحتاج إلى تصنيف، وترتيب، وعمل كثير. وجاء الصيف الجديد، وذهبت الى عمان، ومن خوفي على هذه الظروف حملتها بيدي، وأذكر أنني خرجت من المطار، ودخلت السيارة لتحملني الى دار زوج بنتي، وهي معي. وشغلت بمتاعب الانتقال، ومباهج الاستقبال، ولقاء الأصحاب والآل. فلم أذكرها الاّ بعد أسبوعين، فبحثت عنها فلم أجدها، ونفضت الدار نفضاً. وسألت كل سائق سيارة، وراجعت كل مخفر شرطة، فلم أصل الى شيء. وبقيت أياماً، وأنا ذاهل متألم، لا أهنأ بطعام ولا أستغرق في منام، حتى اذا هدأت نفسي، ورجع لي عقلي، قررت أن أستعين الله وأبدأ من جديد. وكنت أنزل في ضاحية من عمان: مكتبتي في دمشق، وأوراقي في مكة، وما عندي الا المصحف، فقلت: لعل هذا هو الخير، فما أؤلف هذا الكتاب للفقهاء والعلماء، بل للشبان، أعرّفهم فيه ما الاسلام، وكلما أقللت النقل عن الكتب، وجئت بشيء جديد كان خيراً لهم. وباشرت العمل وأنجزت هذا الجزء الأول، وهو جزء العقيدة، في عشرة أيام، وحملت مخطوطته معي إلى مكة.

فطبع أولا في (المدينة) والفضل في طبعه لله، ثم للاستاذ (عثمان حافظ)، ثم نشرته وزارة المعارف الأردنية، في عدد خاص من مجلتها (رسالة المعلم)، وطبعت منه اثني عشر ألف نسخة، وزعتها على جميع المعلمين والمعلمات، في المملكة الأردنية، وكان الفضل في ذلك لله، ثم لمعالي وزير المعارف والأوقاف السابق الدكتور (اسحاق الفرحان) وكان يومئذ مدير دائرة الكتب والمناهج في الوزارة - ولمعالي وزيرها يومئذ الأستاذ بشير الصباغ، وللأخ الدكتور الشيخ ابراهيم زيد الكيلاني، والأخ الأستاذ سليم الرشدان. ثم نشرته وزارة الدفاع الأردنية وكان الفضل في ذلك لمعالي الصديق اللواء (معن أبي نوار) سفير المملكة الآن في لندن، وللصديق أبي أنور العقيد (أحمد العبيدات). وقرأه أفراد الجيش الأردني. ثم قامت مؤسسة الرسالة في بيروت بطبعه أولاً طبعة رخيصة، ثم عادت فطبعته طبعة أنيقة، فهذه الطبعة التي أقدم لها هذه المقدمة هي في الواقع (الطبعة السادسة) من الكتاب. أما الجزء الثاني والثالث اللذين أرجو أن أتكلم فيهما عن الاسلام، وعن الاحسان (أي السلوك الاسلامي) فأنا والله في خجل من القراء، وعذري أن القلوب بيد الله، والله هو باعث الهمم، ومنشئ العزائم، وقد والله ضعفت همتي، ووهن العزم مني. ولقد كنت في شبابي في توثب دائم. أكتب وألتمس الناشر، على قلة البضاعة، وضحالة التفكير، والآن حين نضج الفكر، واختمرت المعلومات، وكثر الناشرون، لم أعد أقوى على العمل، فإن ألهم الله واحداً من القراء ودعا لي بظهر الغيب بأن يسهل الله عليّ كتابة الجزأين، كتبتهما بتوفيق الله وعونه كما كتبت الأول في عشرة أيام. ولكن متى تجيء هذه الأيام العشرة؟ العلم عند الله. ... ومن الانصاف أن أذكر أن جماعة من اخواننا قد ألّفوا كتباً في تلخيص الاسلام، منهم أخي وابن شيخي الأستاذ محمد المبارك، الذي عمل على تدريس هذا التلخيص في الجامعات باسم مادة (نظام الاسلام) وشارك في وضع مناهجه، وألّف فيه كتباً ثلاثة. وألّفوا كتباً في العقيدة، كل كتاب له أسلوب، وله طريقة، منهم أخي الأستاذ محمد القاسمي وأخي الأستاذ الدكتور سعيد ابن الملاّ رمضان البوطي، وأخي الأستاذ عبد الرحمن ابن الشيخ حسن حبنكة حفظه الله وحفظ هؤلاء الاخوان، وقواهم وأمدهم بعونه. هذا، وأنا أرجو أن ينفع الله بهذا الكتاب، وأن يكون زاداً لي يوم لا زاد الا التقوى وصالح الأعمال. ولقد ذكرت في مقدمة الطبعة السابقة، أني أكتب من نحو خمسين سنة (من سنة 1347 هـ) والمطبوع مما كتبت يزيد على أحد عشر ألف صفحة، وان لي أربعين كتاباً ما بين رسالة صغيرة وكتاب كبير،

واني أحاضر في النوادي من سنة (1345 هـ) وأتحدث في الاذاعات بلا انقطاع، من يوم أنشئت محطة الشرق الأدنى في يافا، قبل الحرب الثانية، وان لدي الآن أصول أحد عشر كتاباً لا تحتاج الى عمل قليل لتقدم للمطبعة. وأنا أرضى أن أنزل عن هذا كله، ويوفق الله إلى إكمال هذا الكتاب وإكمال كتاب (ذكريات نصف قرن) الذي أروي فيه خبر ما رأيت وما سمعت، من تبدل الدول، وتحول الأحوال، ومن لقيت من الرجال فلقد شهدت في الشام حكم العثمانيين، وحكم الشريف فيصل، وحكم الفرنسيين، وعهد الاستقلال وما بعده من العهود، وعشت حيناً من عمري في مصر، وفي العراق، وفي لبنان، وفي السعودية، ورحلت الى أقصى المشرق حتى لم يبق بيني وبين (سيدني) في اوستراليا، الاّ مرحلة ساعتين بالطيارة، ورحلتُ الى (فولندام) في أقصى الشمال من هولندا، ورأيت حلواً ورأيت مرّاً، وذقت الفقر وذقت الغنى، ووجدت الوفاء ووجدت الغدر، وتركت من التلاميذ في سورية والعراق ولبنان والسعودية آلافاً وآلافاً، منهم من صار رئيس جمهورية، ومنهم من بلغ رياسة الوزراء، ومن كان وزيراً أو قاضياً كبيراً، أو موظفاً أو سفيراً، أو أستاذاً في الجامعة أو مقدماً في عالم المال والأعمال. ولقد كنت في عمري كله بعيداً عن غمرة المجتمع معتزلاً الناس. لكني كنت أرى وأسمع كل شيء ولطالما وقفت مواقف كانت حديث الناس، وكانت حادث الساعة. وكنت فيها ملء الأسماع والأبصار، وكان اسمي فيها على كل لسان. ولكن ذلك كله مضى، وسيمضي العمر، ويذهب الجاه والمال، كما ذهب الشباب، وينسى الناس كل ما عملت، وعمل غيري، ولا يبقى الا الذي يحمله معه العبد الى آخرته، هذا وحده الذي يبقى وكل ما سواه الى زوال.

فيا رب لا تجعل عملي يذهب سُدى، واكتب لي بفضلك ورحمتك بعض الثواب عليه. اللهم اجعل ما كتبت وما خطبت من العلم النافع الذي لا ينقطع بانقطاع العمر. اللهم اني استغفرك، وأتوب إليك وأسألك حسن الخاتمة، والوفاة على الإيمان مكة المكرمة (اجياد): 23 جمادى الأول 1394 هـ علي الطنطاوي

بين يدي الكتاب

بين يدي الكتاب فأي الطريقين تسلك؟ هذه خواطر قدمتها بين يدي الكتاب، وأعددت بها للقارئ الجو الذي يعينه على الدخول فيه. اذا كنت مسافراً وحدك فرأيت أمامك مفرق طريقين. طريقا صعبا صاعدا في الجبل، وطريقاً سهلاً منحدراً إلى السهل. الاول فيه وعورة، وحجارة منثورة، وأشواك وحفر، يصعب تسلقه، ويتعسر السير فيه، ولكن أمامه لوحة نصبتها الحكومة، فيها: ان هذا الطريق على وعورة أوله، وصعوبة سلوكه، هو الطريق الصحيح، الذي يوصل إلى المدينة الكبيرة، والغاية المقصودة. والثاني معبّد، تظلله الأشجار ذوات الأزهار والثمار، وعلى جانبيه المقاهي (¬1) والملاهي، فيها كل ما يلذ القلب، ويسر العين، ويشنف (¬2) الاذن. ولكن عليه لوحة فيها: انه طريق خطر مهلك، آخره هوة فيها الموت المحقق، والهلاك الأكيد. فأي الطريقين تسلك؟ لا شك ان النفس تميل إلى السهل دون الصعب، واللذيذ دون المؤلم، وتحب الانطلاق وتكره القيود، هذه فطرة فطرها الله عليها، ولو ترك الانسانُ نفسه وهواها، وانقاد لها، سلك الطريق الثاني، ولكن العقل يتدخل، ويوازن بين اللذة القصيرة الحاضرة يعقبها ألم طويل، والألم العارض المؤقت تكون بعده لذة باقية، فيؤثر الاول. ¬

(¬1) أقهى: داوم على شرب القهوة. (¬2) الشنف القرط (الحلق) وهذا التعبير هنا على المجاز.

هذا هو مثال طريق الجنة، وطريق النار .. طريق النار فيه كل ما هو لذيذ ممتع، تميل اليه النفس، بدفع اليه الهوى. فيه النظر إلى الجمال ومفاتنه، فيه الاستجابة للشهوة ولذاتها، فيه أخذ المال من كل طريق، والمال محبوب مرغوب فيه، وفيه الانطلاق والتحرر، والنفوس تحب الحرية والانطلاق، وتكره القيود. وطريق الجنة فيه المشقات والصعاب. فيه القيود والحدود، فيه مخالفة النفس، ومجانبة الهوى. ولكن عاقبة هذه المشقة المؤقتة في هذا الطريق، اللذة الدائمة في الآخرة، وثمرة اللذة العارضة في طريق النار، الألم المستمر في جهنم. كالتلميذ ليالي الامتحان يتألم حين يترك أهله عاكفين على الراني (¬1)، يشاهدون ما يسر ويمتع، وينفرد هو بكتبه ودفاتره، فيجد بعد هذا الألم لذة النجاح. وكالمريض يصبر أياما على ألم الحِمية عن أطايب الطعام فينال بعدها سعادة الصحة. وضع الله الطريقين أمامنا، ووضع فينا ملكة نفرق بها بينهما، نعرف بها الخير من الشر سواء في ذلك العالمُ والجاهل، والكبير والصغير. كل منهم يستريح ضميره اذا عمل الخير، وينزعج اذا أتى الشر. بل ان هذه الملكة موجودة حتى في الحيوان: القط اذا القيت اليه بقطعة اللحم أكلها أمامك، متمهلا مطمئنا، واذا خطفها ذهب بها بعيداً، فأكلها على عجل، وعينه عليك يخاف أن تلحق به، فتنزعها منه، أفليس معنى هذا أنه أدرك ان اللقمة الاولى حق له، والثانية عدوان منه؟. أليس هذا تفريقا منه بين الحق والباطل، والحلال والحرام؟. والكلب اذا عمل حسنا تمسح بصاحبه، كأنه يطلب منه المكافأة. واذا أذنب ذنبا نأى فوقف بعيداً، يبصبص بذنبه، كأنه يبدي المعذرة أو يتوقع العقاب. ¬

(¬1) الراني والرائي: كلمتان وضعتهما للتلفزيون، وهما (اسم فاعل) بمعنى (اسم المفعول) على المجاز العقلي، كقوله تعالى: "فهو في عيشة راضية ... "، أي: في عيشة مرضية.

وهذا تأويل قوله تعالى: {ووهديناه النجدين}. وأقام الله على طريق الجنة دعاةً يدعون اليه، ويدلّون عليه، هم الانبياء. كما قام على طريق النار، دعاةٌ يدعون اليه، ويرغبون فيه هم الشياطين. وجعل العلماء، ورثة الأنبياء، فاطمة بنت محمد ما ورثت منه مالا ولا عقاراً، والعلماء ورثوا منه هذه (الدعوة) فمن قام بها حق قيامها، استحق شرف هذا الميراث. وهذه (الدعوة) صعبة، لأن النفس البشرية طبعت على الميل إلى الحرية، والدين يُقيدها، وعلى الانطلاق وراء اللذة، والدين يُمسكها، فمن يدعو إلى الفسوق والعصيان، يوافق طبيعتها فتمشي معه مشي الماء في المنحدر. اصعد إلى خزان الماء في رأس الجبل، فأثقبه بضربة معول، يَنْزل الماء وأنت واقف حتى يستقر في قرارة الوادي، فاذا أردت أن تعيده لم يعد الا بمضخات، ومشقات، ونفقات بالغات. والصخرة الراسية في الذروة، لا تحتاج الا إلى زحزحتها وامالتها، حتى تتدحرج وتهوي، تنزل بلا مشقة ولا تعب. فاذا أردت أن ترجعها، وجدت المتاعب والمشقات. بين يدي الكتاب وهذا هو مثال الانسان الرفيق الشرير يقول لك: ها هنا امرأة جميلة ترقص عارية فتميل اليها نفسك. ويدفعك اليها هواك، ويسوقك اليها الف شيطان، فلا تشعر الا وأنت على بابها. فاذا جاء الواعظ ليصرفك عنها، صعب عليك الاستجابة اليه، ومقاومة ميل نفسك، وهوى قلبك. فدعاة الشر لا يتعبون ولا يبذلون جهدا، ولكن التعب وبذل الجهد على دعاة الخير، وعلى الواعظ. داعي الشر عنده كل ما تميل اليه النفس، من العورات المكشوفة، والهوى المحرم، وكل ما فيه متعة العين والاذن ولذة القلب والجسد، أما داعي الخير، فما عنده الا المنع. ترى البنت المتكشفة فتميل إلى اجتلاء محاسنها فيقول لك: غض بصرك عنها، ولا تنظر اليها. ويجد التاجر الربح السهل من الربا، يناله بلا كد

ولا تعب، والنفس تميل اليه. فيقول له: دعه: وانصرف عنه، ولا تمد يدك اليه، ويبصر الموظف رفيقه، يأخذ من الرشوة، في دقيقة واحدة ما يعدل مرتبه عن ستة أشهر، ويتصور ما يكون له بها من سعة، ومما يقضي بها من حاجات، فيقول له: لا تأخذها، ولا تستمتع بها. يقول لهم: اتركوا هذه اللذات الحاضرة المؤكدة، لتنالوا اللذات الآتية المغيّبة. دعوا ما ترون وما بتصرون، إلى ما لا ترون الآن ولا تبصرون .. قاوموا ميل نفوسكم، وهوى قلوبكم، وذلك كله ثقيل على النفس، ولا تنكروا وصفي الدين بأنه ثقيل، فان الله سماه بذلك في القرآن، فقال: {سنلقي عليك قولاً ثقيلاً}. وكل المعالي ثقيلات على النفس، ترك التلميذ الراني والاقبال على الدرس ثقيل. وترك العالم مجلس التسلية والاشتغال بالقراءة والاقراء ثقيل، وترك النائم فراشه والنهوض إلى صلاة الفجر ثقيل، وهجر الرجل زوجه وولده ومشيه إلى الجهاد ثقيل. لذلك تجد الطالحين أكثر من الصالحين، والغافلين السادرين في الغيّ أكثر من الذاكرين، السالكين سبيل الرشاد، ولذلك كان اتّباع الكثرة بلا بصر ولا دليل، يُضل فاعله في أكثر الاحيان .. {وإن تطع أكثر من في الأرض يُضلوك عن سبيل الله}. ولولا أن القلة والندرة، من صفات السموّ والرفعة، ما كان الالماس (¬1) نادراً، والفحم كثيرا موفورا، ولا كان العباقرة والنابغون، والابطال المتميزون، قلّةً في الناس. ان الانبياء وورثتهم من صالحي العلماء هم الدعاة إلى طريق الجنة، والشياطين وأعوانهم من الفاسدين المفسدين من الناس، هم الدعاة إلى طريق النار. وقد جعل فينا - في داخلنا - أنصارا لهؤلاء وانصارا لهؤلاء، في داخلنا حزب هو مع الانبياء، وحزب هو حزب الشياطين، فحزب الأنبياء يتمثل في العقل، وحزب الشياطين في النفس الامارة بالسوء. تقولون: ما العقل وما النفس؟ ¬

(¬1) الذي جاء في أكثر كتب اللغة: ان لامها أصلية، وذلك خلافا لما في (القاموس المحيط) للفيروز ابادي.

ولست أدعي اني أضع لكل منهما حدوداً ظاهرة، واميّزها تمييزاً واضحاً. فان هذه الأمور، لا تزال في ظلمات جَهلنا بها، لم يستطع العلم أن يضيء جوانبها. كلنا يقول: (قلت لنفسي) و (وقال لي عقلي)، فما أنت وما نفسك؟ وما نفسك وما عقلك؟ لم يتضح ذلك لنا بعد (¬1)، فلست أكشف هنا المجهول، ولكن أذكر بمثال مشاهد معلوم: تكون نائما في ليالي الشتاء، متمتعا بدفء الفراش، ولذة المنام، فتسمع قرع المنبه يدعوك إلى الصلاة، فتحس صوتا من داخلك يقول لك: (قم إلى الصلاة)، فاذا جئت تقوم، سمعت صوتا آخر، يقول لك: (نم قليلا)، فيعود الصوت الأول يقول: (الصلاة خير من النوم)، فيقول الثاني: (النوم لذيذ، والوقت متسع، فتأخر دقائق). ولا يزال الصوتان يتعاقبان، تعاقب دقات الساعة: (نم. قم. نم. قم .. ) (¬2). هذا هو العقل، وهذه هي النفس. ¬

(¬1) اذا قلت (أنا) فان جسدي جزء من ال (انا) ولكن ليس كل ال (انا) لأن المرء قد تبتر يداه ورجلاه ولا تنقص ال (أنا) بالنسبة اليه ونفسي - أي ميولي وعواطفي - ولذاتي وآلامي، جزء من ال (انا) ولكن ليس كل ال (انا)، لأن المشاهد ان الانسان يبدل عواطفه وميوله، وان ما يلذني اليوم وأنا على عتبة السبعين، ما كان يلذني وأنا شاب وما كان يؤلمني وأنا شاب، لم يعد يؤلمني اليوم. فالجسد اذن يتبدل - حتى لا تبقى فيه خلية مما كان فيه قبل سنين - والنفس تتبدل آمالها وآلامها - فما الشيء الذي لا يتبدل في, والذي هو (انا) على التحقيق؟ هو الروح، وما الروح؟ الله أطلعنا على كثير من وظائف أعضاء الجسم وأسرارها، وأمراض وعلاجها، وعلى كثير من أحوال النفس وعوارضها وأمراضها. وقال لنا ان من النفوس الأمارة بالسوء واللوامة والمطمئنة وان النفس ذائقة الموت، ولكنه لم يطلعنا على شيء من أحوال الروح لأنها من أمر ربي. الروح لا تخضع لقيود الزمان والمكان. فقد ينام النائم ربع ساعة أمامك، فيرى أنه سافر الى اميركا أو الهند، وعاش عشرين أو ثلاثين سنة، وأحس بأقصى السرور أو بمنتهى الألم، فكيف دخلت عشرون سنة في عشرين دقيقة؟ كيف تداخل المكانان؟ هذا مثال لعذاب القبر والنعيم. الروح لا يؤثر فيها المرض ولا الصحة، الروح هي التي كانت موجودة قبل ارتباطها بهذا الجسد وبهذه النفس. وستبقى بعل تحلل الجسد، وفناء النفس. - فأما اذن الروح - وقد مدت لي هذه المعاني وأنا أعد لكتاب الطبعة الخامسة. (¬2) ويحس مثل ذلك من يريد القفز من فوق حفرة أو ساقية، وهو يرجو الوصول ويخشى السقوط، ويسمع من نفسه صوتين يتعاقبان: ثب .. ارجع. ثب .. ارجع. فان وثب عند قول: (ثب) ولم يتردد نجح. وان تردد حتى جاء قول: (ارجع) ووثب .. سقط، وهذا مجرب.

وهذا مثال يتكرر آلاف المرات، في آلاف الصور، كلما عرض للمرء مثل هذا الموقف فوقف أمام لذة محرمة تدعوه نفسه إلى غشيانها، وكان في قلبه إيمان، يدفع عقله إلى منعه منها، وعلى مقدار ما يكون من انتصار العقل، تكون قوة هذا الايمان. وليس معنى هذا أن ينتصر العقل دائما، وألاّ يقارب المسلم المعاصي ابدا، فالاسلام دين الفطرة، دين الواقع، والواقع ان الله خلق خلقاً للطاعة الخالصة، ولمحض العبادة، هم (الملائكة)، ولم يجعلنا الله ملائكة، وخلق خلقا شأنهم المعصية والكفر هم (الشياطين)، ولم يجعلنا كالشياطين، وخلق خلقا لم يعطهم عقولاً ولكن غرائز، فلا يكلفون ولا يسألون، وهم (البهائم والوحوش)، ولم يجعلنا الله وحوشا ولا بهائم. بين يدي الكتاب فما نحن إذن؟ ما الإنسان؟ الانسان مخلوق متميز، فيه شيء من الملائكة وشيء من الشياطين، وشيء من البهائم والوحوش، فاذا استغرق في العبادة، وصفا قلبه إلى الله عند المناجاة، وذاق حلاوة الايمان في لحظات التجلي، غلبت عليه في هذه الحال الصفة الملكية، فأشبه الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. فاذا جحد خالقه، وأنكر ربه، فكفر به، أو أشرك معه في عبادته غيره، غلبت عليه في هذه الحال الصفة الشيطانية. واذا عصف به الغضب، فأوتر أعصابه، وألهب دمه، وشد عضلاته، فلم يعد له امنية الا ان يتمكن من خصمه فيعضه بأسنانه، وينشب فيه أظافره، ويطبق على عنقه بأصابعه، فيخنقه خنقاً ثم يدعسه دعسا، غلبت عليه في هذه الحال الصفة الوحشية، فلم يبق بينه وبين النمر والفهد كبير فرق. واذا عضه الجوع، وبرّح به العطش، وانحصرت آماله، في رغيف يملأ معدته، وكأس تبل صداه أو تملكته الشهوة، وسيطرت على نفسه (الرغبة الجنسية) فغلا بها دمه، واشتعلت بها عروقه، وامتلأ ذهنه بخيالات الشبق

وأمانيه، غلبت عليه في هذه الحال الصفة البهيمية، فكان كالفحل أوالحصان، أو ما شئت من أصناف الحيوان. هذه حقيقة الانسان، فيه الاستعداد للخير، والاستعداد للشر، أعطاه الله الأمرين، ومنحه العقل الذي يميز به بينهما، والارادة التي يستطيع بها أن يحقق احدهما، فان أحسن استعمال عقله في التمييز، وأحسن استعمال ارادته في التنفيذ، ونمّى استعداده للخير، حتى تخلق به وأنجزه، كان في الآخرة من السعداء. وان كانت الاخرى، كان من المعذبين. صحيح أن النفس مطبوعة على الحرية، والدين قيد، ولكن لا بدّ من هذا القيد، ولو تركناها تأتي الفواحش كما تشاء انطلاقا من طبع الحرية فيها، لصار المجتمع (مارستانا) كبيراً، لأن الحرية المطلقة للمجانين. المجنون يفعل كل ما يخطر على باله، يمشي في الطريق عارياً، ويركب على كتفي سائق السيارة العامة، ويستحسن ثوبك فيأخذه من فوق كتفيك، وتعجبه بنتك فيطلبها منك بحق الغرام، لا بشرعة الإسلام. المجنون هو الحر الحرية المطلقة، وأما العاقل، فان عقله يقيد حريته. وما العقل؟ انه قيد، ان لفظه مشتق من الاصل الذي اشتق منه (العقال) أي الحبل، الذي يقيد به الجمل. والحكمة، قريب معنا، من (حَكَمة الدابة) وهي كذلك قيد، والحضارة قيد، لأنها لا تدعك تفعل ما تريد، بل توجب عليك مراعاة حقوق الناس وأعراف المجتمع. والعدالة قيد، لأنها تضع نهاية لحريتك، حيث تبدأ حرية جارك. ثم إن المعاصي لذيذة، لأنها توافق طبيعة النفس، انك تجد لذة في سماع الغيبة والمشاركة فيها، لأنها تشعرك بأنك خير من هذا الذي يذكرونه بالسوء وأفضل. والسرقة لذيذة لأن فيها امتلاك المال بلا كد ولا نصب، والزنا لذيذ لأن فيه إعطاء النفس هواها، وانالتها مشتهاها، والغش في الامتحان لذيذ، لأنه يوصل إلى النجاح بلا جهد، والهرب من الواجب - مهما

كان - لذيذاً على النفس، لأن فيه الراحة والكسل. ولكن الانسان حين يفكر ويستعمل عقله، يجد أن هذه الحرية المؤقتة لا تساوي ما بعدها من سجن في جهنم طويل، وهذه اللذة المحرمة، لا تعدل ما بعدها من العذاب. من يرضى أن نجعل بيننا وبينه عهداً، (اتفاقية عند الكاتب العدل) مدتها سنة، نعطيه خلالها كل ما يطلب من مال، ونسكنه في القصر الذي يريد، في البلد الذي يختار، ونزوجه بمن شاء من النساء، مثنى وثلاث ورباع، ولو طلق كل عشية واحدة، وتزوج كل صباح أخرى، ولا نمنع عنه شيئا يريده، ولكنا اذا انقضت السنة، علقناه من عنقه على المشنقة حتى يموت؟ الا يقول: "تعساً وبعداً للذة سنة بعدها الموت؟ " الا يتصور نفسه ساعة يعلق على المشنقة، فيرى أنه لم يبق في يده شيء منها؟ مع أن ألم الشنق بعض دقيقة وعذاب الآخرة دهر طويل. ليس منا أحد لم يقارف في عمره معصية، ولم يجد لهذه المعصية لذة، أقلها انه آثر متعة الفراش مرة على القيام لصلاة الفجر، فماذا بقي في أيدينا الآن من هذه اللذة التي أحسسنا بها قبل عشر سنين؟ وليس منا أحد لم يكره نفسه على اداء طاعة، ولم يحمل لهذه الطاعة ألماً، أقله الجوع والعطش في رمضان، فماذا بقي في نفوسنا الآن، من ألم الجوع في رمضان، الذي جاء من عشر سنين؟ لا شيء. ذهبت لذات المعاصي وبقي عقابها، وذهبت آلام الطاعات وبقي ثوابها. وساعة الموت، ما الذي بقي لنا - تلك الساعة - من جميع اللذائذ التي ذقناها، والآلام التي حملناها؟ ان كل مؤمن يريد أن يتوب ويرجع إلى الله، ولكنه يؤجل، ويسوف، أنا كنت أقول: اذا حججت تبت وأنبت، فبلغتها وما تبت، وجاوزت الستين وما

تبت، وشبت وما تبت، ليس معنى هذا اني مقيم على المحرمات، مرتكب للفواحش، لا وبحمد الله. ولكن معناه، ان الانسان يرجو لنفسه الصلاح، ولكنه يسوف، يظن ان في الاجل فسحة، يحسب أن العمر طويل، فيرى الموت قد طرقه فجأة. وقد رأيت أنا الموت مرتين، وعرفت ما شعور الميت، لقد ندمت على كل دقيقة أضعتها في غير طاعة ... إي والله. فلما نجوت، بقيت على هذا الشعور شهوراً، صرت فيها صالحاً، ثم انغمست مرة ثانية في غمرة الحياة، ونسيت .. نسيت الموت. كلنا ننسى الموت، نرى الاموات يمرون بنا كل يوم، ولكن لا نتصور اننا سنموت. نقف في صلاة الجنازة ونحن نفكر في الدنيا، يظن كل واحد منا ان الموت كتب على الناس كلهم إلا عليه، مع ان الانسان يعلم ان الدنيا مولية عنه، وأنه مُوَلٍّ هو عنها. مهما عاش الانسان فهو ميت. ليعش ستين سنة، ليعش سبعين، ليعش مئة سنة، الا تنقضي؟ الا تعرفون من عاش مئة سنة ثم مات؟ نوح لبث يدعو قومه تسع مئة وخمسين سنة. فأين نوح الآن؟ هل بقيت له الدنيا؟ هل سلم من الموت؟ فلماذا لا نفكر في الموت، ونستعد له، ان كان لا بد منه؟ من كانت أمامه سفرة لا يعرف موعدها الا يتهيأ لها، حتى يكون جاهزا، فاذا دعي أجاب؟ رأيت (وكنت الصيف الماضي في عمان) المعلمين الاردنيين، الذين تعاقدوا مع المملكة العربية السعودية للعمل فيها، وقد خبروهم ان الطيارات تنقلهم تباعا، فليستعدوا، فمن أنجز جواز سفره، وأكمل حزم متاعه، وودع أهله، ووضع إلى جنبه ثيابه، فإنه يلبي في أي ساعة يدعى فيها، فيلبس ثيابه ويمضي إلى المطار. ومن أهمل وأجّل، حتى اذا دعي قال لهم: امهلوني حتى أنزل إلى السوق فأشتري متاعي، وأذهب إلى القرية فأودع أهلي، وأراجع الحكومة لاستخراج جوازي؟ لم يمهلوه، بل ذهبوا وتركوه. ولكن ملك الموت اذا جاء لا يتركه ويذهب، بل يأخذه كرها، يأخذه ولو كان آبياً، لا يمهله ساعة، ولا دقيقة، ولا لمحة، ولا يملك أن يمهله.

وليس يعرف أحد منا متى يأتي ليأخذه ملك الموت. وما الموت؟ ما حقيقته؟ ان لحياة الانسان مراحل، فمرحلة وهو جنين في بطن امه، ومرحلة وهو في هذه الدنيا، ومرحلة وهو في البرزخ بين الدنيا والاخرة، من يوم موته إلى يوم القيامة، والمرحلة الدائمة وهي الحياة الحقيقية، مرحلة الآخرة. ونسبة كل مرحلة لما قبلها كنسبة ما بعدها اليها. ان سعة هذه الدنيا بالنسبة لضيق بطن الام، كسعة البرزخ بالنسبة لهذه الدنيا، وسعة الآخرة بالنسبة للبرزخ. ان الجنين يحسب دنياه هذا البطن، ولو عقل وفكر، وسئل وأجاب، لقال بأن خروجه منه موت محقق، ولو كان في البطن توأمان، فولد أحدهما قبل الاخر، ورآه نزل قبله، ففارقه وقد كان معه، لقال بأنه مات، ودفن في الاعماق. ولو رأى المشيمة التي كانت من جسده، ملقاه مع القمامة لظن بأنها هي اخوه، وبكى عليها، كما تبكي الام حين ترى جسد ولدها، التي كانت تخشى عليه مس الغبار قد أودع التراب، لا تدري أن هذا الجسد كالمشيمة؟ قميص توسخ وألقي؟ ثوب انتهى وقته، وانقضت الحاجة اليه. هذا هو الموت، انه (ولادة جديدة)، خروج إلى مرحلة أطول وأرحب من مراحل الحياة، وما هذه الدنيا الا طريق، حياتنا فيها كحياة المهاجر إلى اميركا، انه يحسن اختيار غرفته في الباخرة، ويحرص على راحته فيها، ويهتم بها، ولكن هل ينفق ماله كله على تجديد فرشها، ونقش جدرانها، حتى لا يبقى معه شيء فيصل إلى اميركا مفلسا خالي الوفاض؟ أم يقول: ان مدة بقائي في هذه الغرفة اسبوعا، فأنا أرضى فيه بما تيسر، وأمشّي فيه الحال وأدخر المال لاعداد الدار التي سأسكنها في اميركا. لأن فيها المقام؟ أتعرفون ما مثال الدنيا والاخرة؟ أعلنت اميركا مرة عن تجربة ذرية تجريها في جزيرة صغيرة من جزر البحر الهادي، وكان ذلك من خمس عشرة سنة (أو نحوها)، وكان في الجزيرة بضع مئات من السكان من صيادي الأسماك، فطلبت اليهم اخلاء مساكنهم،

على أن تعوضهم عنها وعما فيها، ببيوت مفورشة، في أي بلد يريدون من البلدان، على أن يعلنوا استعدادهم لاخلائها، واحصاءهم لما فيها، قبل موعد كذا (وحددت لهم موعدا) ثم تأتي الطيارات فتحملهم من الجزيرة. فمنهم من أعلن الاستعداد للاخلاء، وقدم الاحصاء قبل الموعد، ومنهم من أهمل وأجل حتى قرب الموعد، ومنهم من قال: هذا كله كذب. ما في الوجود مكان اسمه اميركا. وما الدنيا الا هذه الجزيرة. ولسنا نتركها، ولا نرضى أن نفارقها، ونسي أن الجزيرة ستنسف كلها فتكون أثرا بعد أن كانت عيناً. هذا مثل الدنيا، والاول مثل المؤمن الذي يفكر في آخرته، ويستعد بالتوبة والطاعة دائما للقاء ربه، والثاني مثل المؤمن المقصر العاصي، والثالث مثل المادي الكافر، الذي يقول: انما هي حياتنا الدنيا، لا حياة بعدها، وان الموت نوم طويل، وراحة دائمة، وفناء محقق .. وليس معنى هذا ان الاسلام من المسلم، أن يزهد في الدنيا مرة واحدة، وينفض أصابعه منها، ولا أن يسكن المساجد فلا يخرج منها، ولا أن يأوي إلى مغارة يمضي حياته فيها، لا .. بل ان الاسلام يطلب من المسلمين أن يكونوا في الحضارة الخيرة سادة المتحضرين، وفي المال أغنى الاغنياء، وفي العلم - العلم كله - أعلم العلماء، وأن يعرف كل مسلم حق جسده عليه بالغذاء والرياضة، وحق نفسه بالتسلية والاجمام والمتعة بغير الحرام. وحق أهله بالرعاية وحسن الصحبة، وحق ولده بالتربية والتوجيه والعطف، وحق المجتمع بالعمل على كل ما يصلحه، كما يعرف حق الله بالتوحيد وبالطاعة. يجمع المال ولكن من الحلال، ويستمتع بالطيبات المباحة، ويكون في الدنيا على أحسن ما يكون عليه أهلها، بشرط أن يبقى صحيح التوحيد، لا يداخل ايمانه شرك ظاهر أو خفي، صحيح الاسلام، يدع المحرمات، ويأتي الفرائض، وأن يكون المال في يده لا في قلبه، لا يكون اعتماده عليه، بل يكون اعتماده على ربه، وأن يكون رضا الله هو مقصده ومبتغاه.

دين الإسلام

دين الإسلام قلت مرة لتلاميذي: "لو جاءكم رجل أجنبي، فقال لكم: ان لديه ساعة من الزمن، يريد أن يفهم فيها ما الاسلام، فكيف تفهمونه الاسلام في ساعة". قالوا: "هذا مستحيل، ولا بد له أن يدرس الوحيد والتوجيد، والتفسير والحديث والفقه والأصول، ويدخل في مشاكل ومسائل، لا يخرج منها في خمس سنين". قلت: "سبحان الله أما كان الاعرابي يقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلبث عنده يوماً أو بعض يوم، فيعرف الاسلام ويحمله إلى قومه، فيكون لهم مرشداً ومعلماً، ويكون للاسلام داعياً ومبلغاً؟ وأبلغ من هذا، أما شرح الرسول الدين كله (في حديث سؤال جبريل) بثلاث جمل، تكلم فيها عن: الايمان والاسلام، والاحسان؟ فلماذا لا نشرحه اليوم في ساعة؟ .. ". فما الاسلام؟ وكيف يكون الدخول فيه؟ كل نحلة من النحل الصحيحة والباطلة، وكل جمعية من الجمعيات النافعة والضارة، وكل حزب من الاحزاب الخيرة والشريرة، لكل ذلك (مبادئ) وأسس فكرية، ومسائل عقائدية (¬1)، تحدد غايته وتوجه سيره، وتكون كالدستور لأعضائه وأتباعه. ¬

(¬1) تجوز النسبة إلى الجمع اذا جرى مجرى العلم، فتقول: (حقوق دولية)، و (قوانين عمالية)، و (مظاهرات طلابية)، و (مسائل عقائدية). كما قالوا كذلك: (عالم أصولي)، و (رجل أنصاري)، و (مائدة ملوكية)، و (رسائل اخوانية) ..

ومن أراد أن ينتسب إلى واحد منها، نظر أولا إلى هذه (المبادئ)، فان ارتضاها واعتقد صحتها، وقبل بها بفكره الواعي وبعقله الباطن، ولم يبق عنده شك فيها، طلب (الانتساب) إلى الجمعية. فانتظم في سلك أعضائها ومتبعيها، ووجب عليه أن يقوم بالأعمال التي يلزمه بها دستورها، ويدفع رسم الاشتراك الذي يحدده نظامها، وكان عليه (بعد ذلك) أن يدل بسلوكه على اخلاصه لمبادئها، فيتذكر هذه المبادئ دائماً، فلا يأتي من الأعمال ما يخالفها، بل يكون باخلاقه وسلوكه، مثالا حسنا عليها، وداعية فعليا لها. فالعضوية في الجمعية هي: (علم) بنظامها، و (اعتقاد) بمبادئها، و (اطاعة) لأحكامها، و (سلوك) في الحياة موافق لها. هذا وضع عام، ينطبق على الاسلام. فمن أراد أن يدخل في دين الاسلام عليه (أولا) أن يقبل أسسه العقلية، وأن يصدق بها تصديقا جازما، حتى تكون له (عقيدة). وهذه الأسس تتلخص في أن يعتقد ان هذا العالم المادي ليس كل شيء، وان هذه الحياة الدنيا ليست هي كالحياة كلها. فالانسان كان موجوداً قبل أن يولد، وسيظل موجوداً بعد أن يموت، وانه لم يوجد نفسه، بل وجد قبل أن يعرف نفسه، ولم توجده هذه الجمادات من حوله، لأنه عاقل ولا عقل لها، بل أوجده وأوجد هذه العوالم كلها من العدم إله واحد، هو وحده الذي يحيي ويميت، وهو الذي خلق كل شيء، وان شاء أفناه، وذهب به، وهذا الإله لا يشبه شيئا مما في العوالم، قديم لا أول له، باق لا آخر له، قادر لا حدود لقدرته، عالم لا يخفى شيء عن علمه، عادل ولكن لا تقاس عدالته المطلقة بمقاييس العدالة البشرية، هو الذي وضع نواميس الكون التي نسميها (قوانين الطبيعة)، وجعل كل شيء فيها بمقدار، وحدد من الأزل جزئياته وأنواعه، وما يطرأ عليه (على الاحياء وعلى الجمادات) من حركة وسكون، وثبات وتحول، وفعل وترك. ومنح الانسان عقلا يحكم به على كثير من الأمور، التي جعلها خاضعة لتصرفه. وأعطاه عقلا يختار به ما يريد، وارادة يحقق بها ما يختار. وجعل بعد هذه الحياة المؤقتة حياة دائمة في الآخرة،

فيها يكافأ المحسن في الجنة، ويعاقب المسيء في جهنم. وهذا الإله واحد احد، لا شريك له يعبد معه، ولا وسيط يقرب اليه ويشفع عنده بلا اذنه، فالعبادة له وحده خالصة، بكل مظاهرها. له مخلوقات مادية ظاهرة لنا، تدرك بالحواس، ومخلوقات مغيبة عنا، بعضها جماد وبعضها حي مكلف، ومن الاحياء ما هو خالص للخير المحض، (وهم الملائكة)، ومنها ما هو مخصوص بالشر المحض (وهم الشياطين) (¬1)، وما هو مختلط، منه الخير والشرير، والصالح والطالح (وهم الجن). وانه يختار ناساً من البشر، ينزل عليهم الملك بالشرع الالهي ليبلغوه البشر، وهؤلاء هم الرسل. وان هذه الشرائع تتضمنها كتب وصحائف أنزلت من السماء، ينسخ المتأخر منها ما تقدمه أو يعدله. وان آخر هذه الكتب هو القرآن، وقد حرفت الكتب والصحف قبله، أو ضاعت ونسيت، وبقي هو سالما من التحريف والضياع، وان آخر هؤلاء الرسل والأنبياء هو محمد بن عبد الله العربي القرشي، ختمت به الرسالات، وبدينه الاديان، فلا نبي بعده. فالقرآن هو دستور الاسلام، فمن صدق بأنه من عند الله، وآمن به جملة وتفصيلا، سمي (مؤمنا). والايمان بهذا المعنى، لا يطلع عليه الا الله، لأن البشر لا يشقون قلوب الناس ولا يعلمون ما فيها، لذلك وجب عليه ليعدّه المسلمون واحداً منهم، ان يعلن هذا الايمان بالنطق بلسانه بالشهادتين. وهما: "أشهد ان الا إله إلا الله، وأشهد ان محمدا رسول الله". فاذا نطق بهما صار مسلما، أي: (مواطنا) أصيلا في دولة الاسلام، وتمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها المسلم، وقبل بالقيام بجميع الأعمال التي يكلفه بها الاسلام. ¬

(¬1) والشياطين من الجن.

وهذه الأعمال (أي العبادات) قليلة، سهلة، ليس فيها مشقة بليغة، وليس فيها حرج. أولها: أن يركع في الصباح ركعتين يناجي فيهما ربه، يسأله من خيره، ويعوذ به من عقابه، وأن يتوضأ قبلهما أي يغسل أطرافه، أو يغسل جسده كله (ان كانت به جنابة). وأن يركع وفي وسطه أربعا، ثم رابعا، وأن يركع بعد غياب الشمس ثلاثاً، وفي أول الليل أربعاً (¬1). هذه هي الصلوات المفروضة، لا يستغرق اداؤها كلها نصف ساعة في اليوم، لا يشترط لها مكان لا تؤدى إلا فيه، ولا شخص معين (أي رجل دين) لا تصح الا معه، ولا واسطة فيها (ولا في العبادات كلها) بين المسلم وربه. الثاني: ان في السنة شهرا معينا، يقدم فيه المسلم فطوره، فيجعله في آخر الليل بدلا من أن يكون في أول النهار، ويؤخر غداءه إلى ما بعد غروب الشمس، ويمتنع في النهار عن الطعام والشراب ومعاشرة النساء، فيكون من ذلك شهر صفاء لنفسه، وراحة لمعدته، وتهذيب لخُلقه، وصحة لجسده، ويكون هذا الشهر مظهرا من مظاهر الاجتماع على الخير، والتساوي في العيش. الثالث: انه اذا فضل عن نفقات نفسه، ونفقات عياله، مقدار من المال محدود، بقي سنة كاملة لا يحتاج اليه، لأنه في غنى عنه، كلف أن يخرج منه بعد انقضاء السنة، مبلغ (2,5) في المئة، للفقراء والمحتاجين، لا يحس هو بثقلها، ويكون منها عون بالغ للمحتاج، وركن وطيد للتضامن الاجتماعي، وشفاء من داء الفقر، الذي هو من شر الادواء. الرابع: ان الاسلام رتب للمجتمع الاسلامي، اجتماعات دورية. اجتماع بمثابة مجالس الحارات، يعقد خمس مرات في اليوم، مثل ¬

(¬1) وتحديد وقتها وبيان كيفيتها يكون بعد.

حصص المدرسة، هو صلاة الجماعة، يوثق كل عضو في عبوديته لله بالقيام بين يديه، ويكون من ثماره أن يعين الاقوياء الضعيف، ويعلّم العلماء الجاهل، ويسعف الأغنياء الفقير. ومدة انعقاده ربع ساعة، فلا يعطل عاملا عن عمله، ولا تاجراً عن تجارته، واذا تم الاجتماع وتخلف عنه مسلم فصلى في بيته، لم يعاقب على تخلفه ولكن فاته ثواب حضوره. واجتماع لمجالس الاحياء. يعقد مرة في الاسبوع، هو (صلاة الجمعة)، ومدة انعقاده أقل من ساعة وحضوره واجب على الرجال. واجتماع كمجالس المدينة، يعقد مرتين في السنة، وهو (صلاة العيد) وحضوره ليس على سبيل الالزام ومدة انعقاده أقل من ساعة، واجتماع، هو كالمؤتمر الشعبي العام، يعقد كل سنة في مكان معين، هو في الحقيقة دروة توجيهية ورياضية وفكرية، يكلف المسلم بأن يحضره مرة واحدة في العمر، اذا قدر على حضوره، وهو (الحج). هذه هي (العبادات) الأصلية التي يكلف بها. ومن العبادات أن يمتنع عن أفعال معينة، أفعال يجمع عقلاء الدنيا على أنها شر، وان الواجب الامتناع عنها، كالقتل بلا حقٍ، والتعدي على الناس، والظلم بأنواعه، والمسكر الذي يغيب العقل، والزنا الذي يذهب الاعراض، ويخلط الانساب، والربا والكذب والغش والغدر، والفرار من الخدمة العسكرية التي يراد منها اعلاء كلمة الله، ومنها (بل من أشدها) عقوق الوالدين، والحلف كاذباً، وشهادة الزور. وأمثال ذلك من الأعمال القبيحة الشريرة، التي تجتمع العقول على ادراك قبحها وشرها. واذا قصر المسلم في القيام ببعض الواجبات، او ارتكب بعض الممنوعات، ثم رجع (وتاب) وطلب العفو من الله، فان الله يعفو عنه، وان لم يتب فإنه يبقى مسلما معدودا في المسلمين، ولكنه يكون (عاصيا) يستحق العقاب في الآخرة، ولكن عقابه مؤقت، لا يدوم دوام عقاب الكافر.

أما إذا أنكر بعض المبادئ، أي العقائد الأصلية، أو شكَّ فيها، أو جحد واجبا مجمعاً على وجوبه، أو حراما مجمعا على حرمته، أو أنكر ولو كلمة واحدة من القرآن، فإنه يخرج من الدين، ويعتبر مرتداً تنزع عنه الجنسية الاسلامية والردة أكبر جريمة في الاسلام، فهي كالخيانة العظمى في القوانين الحديثة، جزاؤها (ان لم يرجع عنها، ويتنصل منها) الموت. قد يترك المسلم بعض الواجبات، أو يأتي بعض الممنوعات، وهو معترف بالوجوب والحرمة، فيبقى مسلما ولكنه يكون (عاصياً) اما الايمان فلا يتجزأ، فلو آمن مثلا بتسع وتسعين عقيدة، وكفر بواحدة فقط، كان كافراً. وقد يكون المسلم غير مؤمن، كمن انتسب إلى حزب أو جمعية، وحضر اجتماعاتها، ودفع اشتراكاتها، وقام بواجب العضو فيها، ولكنه لم يقبل بمبادئها، ولم يقتنع بصحتها، بل دخل فيها للتجسس عليها، أو افساد أمرها. وهذا هو (المنافق) الذي ينطق (¬1) بالشهادتين، ويؤدي العبادات ظاهرا، ولكنه غير مؤمن بالحقيقة ولا ناج عند الله، وان كان عند الناس معتبرا من المسلمين، لأن الناس لهم الظواهر, والله وحده مطلع على السرائر والقلوب. فاذا آمن الناس بالأسس الفكرية للاسلام، وهي التصديق المطلق بالله، وتنزيهه عن الشريك والوسيط، وبالملائكة، وبالرسل، وبالكتب، وبالحياة الاخرى، وبالقدر، ونطق بالشهادتين، وصلى الفرائض، وصام رمضان، وأدى زكاة ماله، ان وجبت عليه الزكاة، وحج مرة في العمر ان استطاع، وامتنع عن المحرمات المجمع على حرمتها، فهو مسلم مؤمن، ولكن ثمرة الإيمان لا تظهر منه، ولا يحس بحلاوته، ولا يكون مسلما كاملا، حتى يسلك في حياته مسلك المسلم المؤمن. وقد لخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهاج ¬

(¬1) النفاق هو اظهار الايمان. وابطان الكفر. وليس منه قوله صلى الله عليه وسلم: آية المنافق ثلاث الخ ... ". فمن أخلف الوعد، وكذب القول، او خان الامانة، لا يعتبر بهذا وحده كافرا، وانما هو نفاق اجتماعي، غير النفاق الأصلي، نفاق العقيدة الذي ذكرناه.

هذا السلوك، بجملة واحدة، كلمة من جوامع الكلم، ومن أبلغ ما نطق به بشر. كلمة تجمع الخير كله، خير الدنيا، وما في عقبه من خير الآخرة. هي: أن يتذكر المسلم في قيامه وقعوده، وخلوته وجلوته، وجده وهزله، وفي حالاته كلها، ان الله مطلع عليه، وناظر اليه، فلا يعصيه وهو يذكر أنه يراه، ولا يخاف أو ييأس وهو يعلم أنه معه، ولا يشعر بالوحشة وهو يناجيه، لا يحس بالحاجة إلى أحد، وهو يطلب منه ويدعوه، فان عصى - ومن طبيعته انه يعصي - رجع وتاب، فتاب الله عليه. كل ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم، في تعريف (الاحسان): "أن تعبد الله كأنك تراه، فان لم تكن تراه فإنه يراك". هذا هو دين الاسلام بالقول المجمل، وتفصيله يأتي: (العقيدة) في هذا الجزء. و (الاسلام) و (الاحسان) في الأجزاء التالية ان شاء الله.

تعريفات

تعريفات العلم الضروري والعلم النظري لا بد لي في هذا الفصل الذي أعرّف فيه (العقيدة) من أن أعرض إلى توضيح بعض المصطلحات التي يكثر دوراها على ألسنة العلماء، وورودها في كتب العقائد، وهي: (الشك)، و (الظن)، و (العلم)، لأصل منها إلى تعريف (العقيدة). (ديكارت) في منهجه المشهور، ومن قبله (الغزالي) في (المنقذ من الضلال)، بدأً بالشك ليصلا منه إلى اليقيقن، شك ديكارت، ليتخذ من الشك سبيلا للتحقق، فما هو الشك؟ اذا كنت في مكة مثلا، وسألك سائل: هل في الطائف الآن مطر؟ لا تستطيع أن تقول: (نعم)، ولا تستطيع أن تقول: (لا). لأن من الممكن أن يكون في الطائف في تلك الساعة مطر، ومن الممكن أن يكون الجو فيها صحوا لا مطر فيه، إمكان وجود المطر خمسون في المئة مثلا، وإمكان عدمه خمسون، تساوى الطرفان فلا دليل يرجح الوجود، ولا دليل يرجح العدم. وهذا هو الشك. فان نظرت فأبصرت في جهة الشرق، (والطائف شرقي مكة) غيوما تلوح على حواشي الافق من بعيد، رجح عندك رجحانا خفيفا ان في الطائف مطرا. وهذا الرجحان الخفيف لإمكان الوجود، هو ما يسمونه (الظن)، فأنت تقول: اظن ان في الطائف الآن مطرا، فالظن ستون في المئة مثلا (نعم)، وأربعون (لا).

العلم الضروري والعلم النظري

فإن رأيت الغمام قد ازداد وتراكم، واسود وتراكب، وخرج البرق يلمع من خلاله، وازداد ظنك بنزول المطر في الطائف، فصار (نعم) سبعون أو خمس وسبعون في المئة، وكان هذا ما يسميه علماؤنا بـ (غلبة الظن)، فأنت تقول لسائلك: يغلب على ظني ان في الطائف الآن مطرا. فإن أنت ذهبت إلى الطائف، فرأيت المطر بعينك، وأحسست به على وجهك أيقنت بنزوله، وعلماؤنا يسمون هذا اليقين (علما). فصار لكلمة (العلم) معان: (العلم) المطلق الذي يقابل الجهل، (والعلم) الذي يقابل الفن والفلسفة. فالكيمياء علم، والفيزياء علم. أما الرسم فهو فن، والشعر فن. والعلم بهذا المعنى هو الذي تكون غايته الحقيقة، وأداته العقل، ووسيلته المحاكمة، والتجربة، والاستقراء. والفن هو الذي تكون غايته الجمال، وأداته الشعور، ووسيلته الذوق. (والعلم) الذي يجيء بمعنى اليقين، ويقابل الشك والظن، هو الذي نقصده في هذا البحث (¬1). العلم الضروري والعلم النظري: العلم الذي يحصل بالحس والمشاهدة، لا يحتاج إلى دليل. الجبل الذي تراه أمامك لا تحتاج إلى إقامة الدليل على وجوده، انك تعلم - ضرورة - بأنه موجود، وكل من يراه (من العقلاء) يعلم أنه موجود. وهذا ما يسمى (العلم الضروري)، أما العلم بأن مربع الوتر (في المثلث القائم الزاوية) يساوي مجموع مربعي الضلعين القائمين، فيحتاج إلى دليل عقلي، فالعالم أو طالب العلم الذي يصل إلى الدليل، يعلم هذه الحقيقة، أما العامي الجاهل فلا يعلمها، ¬

(¬1) أما العلم بالمعنى الخاص: كقولنا (علم النحو)، و (علم الكيمياء). فلعلمائنا فيه تعريفات كثيرة، ولكن اوضح تعريف وأبعده عن التعقيد، هو ما عرفه به (سارتون) بقوله: "العلم هو مجموعة معارف محققة ومنظمة .. ". فبقوله (معارف) خرجت المشاعر والخيالات، وبقوله (محققة) خرجت النظريات والفروض. وبقوله منظمة خرجت المعارف المبعثرة المتفرقة.

ولا يصدق بها، ما دام لم يطلع على هذا الدليل، ولو رأى المثلث أمامه، ولو أقيم على كل ضلع منه، مربع له. وهذا ما يسمى به (العلم النظري)، وهو الذي لا يحصل الا بالدليل العقلي. تعريفات البديهية والعقيدة ومن العلم النظري، ما يحتاج في الاصل إلى دليل، ولا يدرك بمجرد الحس والمشاهدة، ولكنه يعم ويشتهر، حتى يدركه العالم والجاهل، والكبير والصغير، وحتى يصير أقرب إلى (العلم الضروري). مثاله: العلم بأن (الجزء أصغر من الكل)، الرغيف الناقص أصغر من الرغيف الكامل، هذه حقيقة هي في الاصل من العلم النظري الذي يحتاج إلى دليل، ولكنك لا تجد من يشك فيها، ويطلب الدليل عليها، فالطفل اذا أخذت منه كف (الشكلاطة) الكامل، وأعطيته كفا ناقصا لا يقبله، واذا حاولت اقناعه بأن هذا أكبر لم يقنع، لأن كون (الجزء أصغر من الكل) بديهية. و (مقولة الهُوية) - أي كون الشيء هو نَفْسُه - بديهية، ولو قال لك قائل: "اثبت لي ان هذا القلم الذي تحمله بيدك ليس ملعقة شاي". تقول له: "هذه بديهية، لا تحتاج إلى اثبات لأن القلم قلم .. ". فالبديهيات (¬1) هي الحقائق العقلية التي يقبلها الناس جميعا، ولا يطلب أحد عليها دليلا، فاذا دخلت البديهية العقل الباطن، واستقرت فيه، وأثرت في الحدس والشعور، ووجهت الانسان في تفكيره (عقله الواعي)، وفي أعماله، سميت: (عقيدة)، وسمي الاعتقاد بها: (ايمانا). ولكنا نعرف ان الانسان يعتقد الحق أحيانا، ويعتقد الباطل حينا، ونشاهد في هذه الأيام، من اتباع المذاهب المنحرفة، و (المبادئ) الباطلة، من ¬

(¬1) القياس: ان نقول في النسبة إلى البديهية (بدهي)، ولكن علماءنا استعملوا من القديم كلمة (بديهي) و (طبيعي)، كما يستعملها جمهور الناس اليوم. وانا اوثر أن استعمل العامي الفصيح، تنبيها على فصاحته، وقد نبهت في حواشي كتبي إلى عشرات وعشرات من هذه الكلمات.

امتزج بها قلبا وقالبا، وتمسك بها ظاهرا وباطنا، وبذل ماله ونفسه في نصرتها وحمايتها، فهل نسمي هؤلاء (مؤمنين)؟ أما اطلاقا فلا، ولكن يمكن أن نطلق عليهم اسم الايمان مضافا إلى الباطل الذي يؤمنون به، على نحو قوله تعالى: ?ألم تر إلى الذين اوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت?؟. ويمكن اطلاق اسم الايمان مقيدا بالوصف، نحو قوله تعالى: ?وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون?. أما (الايمان) بالمعنى الخاص، الذي لا ينصرف اذا اطلق الا إليه، ولا يدل الا عليه، المعنى الذي يراد كلما ورد ذكر الايمان ومشتقاته، في الكتاب والسنّة، وعلى ألسنة العلماء. فهو: الاعتقاد بالله ربا واحدا. - ... ... ومالكا مختارا متصرفا. - ... ... وإلها مفردا بالعبادة، لا يشرك معه غيره في كل ما هو من جنس العبادة. - ... ... والاعتقاد بكل ما أوحي به إلى نبيه، من: خبر الملائكة، والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. وصاحب هذا الاعتقاد هو (المؤمن)، فان نقص (¬1) شيئا منه، او ردّه، أو تردد في تصديقه، أو شك فيه، فَقَدَ صفةَ الايمان، ولم يعدْ يعدُّ مع المؤمنين. ¬

(¬1) نقص شيئاً منه بمعنى أنقص.

قواعد العقائد

قواعد العقائد (¬1) القاعدة الأولى: ما أدركه بحواسي لا أشك في انه موجود. هذه بديهية عقلية مسلّمة، ولكن المشاهد اني أمشي في الصحراء ساعة الظهيرة، فأرى بركة ماء، تلوح ظاهرة للعين، فاذا جئتها لم أجد الا التراب لأن الذي رأيته سراب. وأضع القلم المستقيم في كأس الماء، فأراه منكسرا، وهم لم ينكسر. ويكون المرء في سهرة، الحديث فيها عن الجن والعفاريت، ثم يذهب إلى داره، ¬

(¬1) استأذن قارئ كتابي: ان امهد لذكر هذه القواعد، بكلمة ليست من موضوع هذا الكتاب، ولكنها تبين قصتها، وكيف وصلت اليها. وتفصيل ذلك: أنني كنت أدرس الأدب العربي في بغداد قبل الحرب الثانية، فكلفت في النصف الثاني من العام أن أدرس معه الدين، وكان منهج الدين سورا من القرآن تفسر وتشرح .. فقبلت ودخلت فاذا الفصل في هرج ومرج، وكان عهدي به في درس الأدب، هادئا ساكنا، واذا الطلاب يتخذون من درس الدين مسلاة ومضيعة للوقت، وأدركت ان سبب ذلك ضعف الايمان في نفوسهم. فقلت لهم: ارفعوا المصاحف واسمعوا، والهمني الله الهاما مفاجئا، بلا اعداد سابق بحثا جديدا في الايمان، وضعت فيه بعض هذه القواعد، ونشرت خلاصته في الرسالة سنة (1937) أو سنة (1938)، وهو في كتابي: (فكر ومباحث). ولما كلفت وضع مناهج مدراس الأوقاف في سورية (أيام الوحدة)، ووضعتها كلها وحدي، وطبقت كما وضعتها، أدخلت هذه القواعد في المنهج، ودللت على ما كتبته ليكون مرجعا، فأخذه أحد المؤلفين في العقائد وادعاه لنفسه، ووضعه في كتابه، ولكن لم يهتد إلى ما أريده منه، فمشى في أول الطريق وضاع في آخره. فلما أحلت على المعاش (وكنت مستشار محكمة النقض)، وذهبت إلى الرياض، ثم إلى مكة، أدرس في كلية التربية فيها، رجعت إلى هذه القواعد، وزدت فيها حتى بلغت ثماني قواعد، هي التي أذكرها هنا.

القاعدة الثانية

فإن كان الطريق خاليا مظلما، وكان مخلوع القلب، واسع الخيال، رأى أمامه جنيا أو عفريتاً، فشاهده وأحس بوجوده، وما ثمة شيء مما رأى، والسحرة والمشعوذون يعرضون غرائب تراها ولا حقيقة لها. فالحواس إذن تخطئ، وتخدع، وتتوهم، او يتوهم صاحبها. فهل أشك لهذا في وجود ما أحس به؟ لا، لأني ان شككت فيما أرى وأسمع وأحس، تداخلت لديّ الحقائق والخيالات. وصرت أنا والمجنون سواء. ولكن أضيف شرطا آخر لحصول العلم (أي اليقين) بوجود ما أحسه - هو الا يحكم العقل بالتجربة السابقة ان الذي أحس به وهم او خداع حواس، والعقل يخدع أول مرة، فيحسب السراب ماء، فاذا رآه مرة اخرى أدرك أنه سراب. والعقل يحكم بعد أن رأى القلم منكسرا أول مرة، أنه لا يزال مستقيما كما كان، وان بدا للعين منكسرا، والأمور التي تخطئ فيها الحواس أو تخدع، أمور محدودة معدودة معروفة، لا تبطل القاعدة ولا تؤثر فيها، ومنها عمل سحرة فرعون، وما يعمله سحرة (السيرك) في هذه الأيام. قواعد العقائد القاعدة الثانية هناك أشياء ما شاهدناها ولا أحسسنا بها، ولكنا نوقن بوجودها كما نوقن بوجود ما نشاهده ونحس به، نوقن بوجود الهند والبرازيل، ولم نزرهما ولم نرهما، ونوقن بأن (الاسكندر المقدوني) فتح بلاد فارس، (والوليد بن عبد الملك) بنى الجامع الأموي، ولم نحضر حروب الاسكندر، ولا شهدنا بناء الجامع الأموي. ولو نظر كل واحد منا في نفسه لرأى ان ما يوقن بوجوده من الأشياء التي لم يرها، أكثر من (الأشياء) التي رآها من الممالك والبلدان، ومن حوادث التاريخ الذي كان، ومما يقع الآن. فكيف أيقن بوجود هذه الأشياء وهو لم يدركها بحواسه؟ أيقن به حين نقله جماعات عن جماعات، لا يتصور امكان اتفاقهم (في

القاعدة الثالثة

العادة) على اختراع هذه الاخبار، ونقلها كذبا. فالقاعدة الثانية: ان اليقين كما يحصل بالحس والمشاهدة، يحصل بالخبر الذي نعتقد صدق صاحبه. قواعد العقائد القاعدة الثالثة - ما مدى العلم الذي تبلغه الحواس؟ ما مدى العلم الذي تبلغه الحواس؟ وهل تستطيع أن تصل إلى ادراك كل موجود؟ ان مثل النفس والحواس مع الموجودات، كمثل رجل سجنه الحاكم في برج القلعة، وسد عليه الأبواب والنوافذ، ولم يترك له الا شقوقا في جدار البرج، شقا يطل منه على النهر الذي يجري في الشرق، وشقا على الجبل الذي يقوم في الغرب، وشقا على القصر الذي يجثم في الشمال، وشقا على الملعب الذي يقع في الجنوب. السجين هو النفس، والقلعة الجسد، وهذه الشقوق هي الحواس، حس النظر يشرف منه على عالم الألوان، وحس السمع على عالم الأصوات، وحس الذوق على عالم الطعوم، وحس الشم على عالم الروائح، وحس اللمس على عالم الأجسام. 1 - والسؤال الآن: هل أدرك بكل حاسة من هذه الحواس كل ما في العالم الذي تشرف عليه؟ السجين عندما ينظر من شق النهر، لا يرى النهر كله، ولكن جزءاً منه، وكذلك العين حين تشرف على عالم الألوان، لا تراه كله بل ترى بعضه. أنا لا أرى نملة تمشي على بعد ثلاثة أميال، مع أن النملة موجودة، ولا أرى الجراثيم والحوينات (¬1) في كأس الماء الصافي، مع ان في الكأس الملايين من هذه الجراثيم. ولا أرى الكهارب التي تدور وسط الذرة، دوران ¬

(¬1) حوين تصغير حيوان، وهذا ما يسمى في علم الصرف (تصغير الترخيم) ويكون بعد حذف الزوائد من الاسم.

الكواكب في فضاء الأفلاك. وان لهذه النملة صوتا، ولكني لا أسمعه، لأن أذني تلتقط الهزات من خمس إلى عشرين الفا، فما نقص لا تسمعه، وما زاد ثقب طبلة الاذن فبطل بذلك السمع. وأنا لا أشم للسكر رائحة، مع أن النملة والذباب يشمه ويسرع اليه. فالحواس اذن لا تدرك من العوالم التي سلطت عليها الا جزءا منها. 2 - ثم الا يمكن أن يكون بين عالم الألوان الذي تشرف عليه العين. وعالم الاصوات الذي تطل عليه الاذن عالم آخر، لا أدركه أصلا لأنه ليس عندي الحاسة لادراكه؟ الا يمكن أن يكون بين النهر وبين الجبل بالنسبة لسجين البرج بستان عظيم، لم يره ولم يعلم به، لأنه لا يجد شقا يطل منه عليه؟ فهل يحق له أن ينكره لأنه لا يراه؟ الاكمه (الذي ولد أعمى)، قد يستطيع بالسماع معرفة أن البحر أزرق، والمرج أخضر، ولكنه لا يستطيع أن يدرك ما هي الزرقة وما هي الخضرة، والأصم، قد يعرف بالتعلم ان في الانغام: البيات، والرصد، والسيكا. ولكنه لا يستطيع أن يدرك حقيقة النغم، فهل يحق للأعمى أن ينكر وجود الخضرة، وللأصم أن يجحد حقيقة النغم لأنه لا يدركها؟ ان الغرفة التي تبدو لك ساكنة سكونا عميقا، فيها - في جوّها - جميع الاغاني والاصوات التي تذاع الان، من جميع الاذاعات. أنت لا تحس بها لأنها ليست لوناً تراه بعينك، ولا صوتا تسمعه باذنك. انها اهتزازات من نوع آخر، فيها صوت ولكن لا تدركه الاذن، فاذا جئت بالرّاد (¬1) الذي يردّها عليك، سمعتها. الضغظ الجوي لا تحس باختلافه القليل، لأنه ليس لديك حاسة تدركه بها، فاذا جئت بـ (البارومتر) أدركته به. الهزات الخفيفة لا تدركها، ولكن (الرادار) يدركها. ¬

(¬1) الراد: اسم فاعل من رد وضعتها (للراديو)، لأنه يرد الصوت الذي يرسله المذياع.

القاعدة الرابعة

ففي الوجود أشياء كثيرة لا تدخل في نطاق الحواس، لأنها ليست لونا يرى، ولا صوتا يسمع، ولا جمادا يلمس، ولا رائحة تشم، ولا طعما يذاق، فهل يحق لي ان أنكرها، لأن حواسي المحدودة لا تدركها؟ 3 - والحواس هل هي كاملة؟ كان الاقدمون يحصرونها في خمس حواس فقط، لا يتصورون امكان الزيادة عليها. ولكن كشفت في الانسان الان حواس اخرى أودعها الله فيه وما يقبل الزيادة يوصف بالنقصان. أنا أغمض عيني، وأبسط يدي أو أقبضها، فأحس بأنها مبسوطة أو مقبوضة لم ألمسها ولم أرها، فبأي حاسة أحسست بها؟ بما يسمى (الحسّ العضلي). وأحس بالتعب والوني، وبالغثيان، وبالانبساط أو الانقباض، وما أحسست بذلك بواحدة من الحواس الخمس، بل (بالحس الداخلي). وأمشي فلا أميل، مع أن الطفل أول مشيه يميل، وراكب الدراجة، ولاعبو (السرك)، الذي يأتون بالعجائب، بأي حاسة ضبطو توازنهم؟ ان هناك حاسة ثامنة هي (حاسة التوازن)، وأذكر أنهم كشفوا موضعها، الذي وضعها الله فيه، في الاذن الداخلية مادة سائلة قليلة، بها يكون التوازن، وأذكر أنهم (في تجاربهم) استخرجوها من أرنب، فصارت تمشي الارنب مترنحة كأنها سكرى. فالقاعدة الثالثة: هي أنه لا يحق لنا أن ننكر وجود أشياء لمجرد أننا لا ندركها بحواسنا. قواعد العقائد القاعدة الرابعة - الخيال قلنا ان الحواس محدودة المدى، فأنا لا أستطيع أن أرى ببصري كل مرئي، وهذا صحيح ولكن الله أعطانا (ملكة) نتم بها نقص الحواس، هي الخيال. أنا ان لم أستطع أن أرى داري في دمشق، وأنا في مكة، أستطيع أن أتخيلها فكأنني أراها، فالخيال يكمل الحواس. فهل للخيال حدود، أم أنه مطلق غير محدود؟ هل أستطيع أن أتخيل شيئا لم أدركه بالحواس؟

الخيال عند علماء النفس خيالان: خيال مرجع، كتخيلي الدار في دمشق، وأنا في مكة، وخيال مبدع، هو خيال الشعراء والقصاصين والرسامين، وسائر أهل الفنون. فانظروا إلى خيالات هؤلاء الفنانين، هل جاؤوا بشيء غير ما في الواقع؟ الذي نحت تمثال (فينوس) جاء بصورة لم نر من يماثلها تماماً، ولكن هل كانت جديدة، أم أخذ أجزاء من الواقع، فألف بينها؟ أخذ أجمل انف رآه، وأجمل فم، وأجمل جسم، فجمع هذا إلى ذاك، فجاء بجديد، ولكن هذا الجديد مؤلف من أجزاء قديمة. وتمثال الثور المجنح الأشوري في متحف باريس، ما فيه الا ان ناحِتَهُ أخذ رأس رجل فوضعه على جسد ثور، ووضع له أجنحة طائر. صورة جديدة ولكنها مؤلفة من أجزاء قديمة. وكذلك الحيوان العجيب الذي تخيله القزويني، وخيالات الشعراء مهما أوغلت في باب الاستعارة والتشبيه والكناية - والمبالغات العجيبة، لا تخرج عن كونها جمعا بين أجزاء متفرقة في الواقع. بل اننا اذا أوغَلْنا في الاغراب في جمع هذه الاجزاء، نجد الخيال نفسه قد عجز عن الالمام بهذا الجمع، خذوا - مثلا - جزءاً من عالم اللون، وجزءا من عالم الصوت: فقولوا ان فلانا المغني قد غنى نغمة معطرة بعطر الورد، او أن العطر الفلاني له رائحة لونها أحمر، واعرضوا هذه الصورة على خيالكم، تجدوا أنكم لم تستطيعوا أن تتخيلوها، مع أنها جميعا ما خرجت عن عالم الواقع. فنحن لا نستطيع أن نتخيل نغمة عطرة، ولا رائحة حمراء، ولا نتصور الا الابعاد الثلاثة (الطول والعرض والارتفاع)، لا نستطيع أن نتصور بعداً رابعاً (¬1) ولا دائرة ليس لها محيط، ولا مثلثا ليس له زوايا. فكيف (اذن) نتخيل الآخرة وما فيها، وهي عالم يختلف عن عالمنا؟ ان الآخرة بالنسبة لهذه الدنيا، كالدنيا بالنسبة لبطن الجنين، لو أمكن أن نتصل بالجنين ونسأله وأمكن ¬

(¬1) المقصود البعد الحقيقي، أما ما ذهب إليه (انشتاين) من اعتبار الزمان بعداً رابعاً، فهو شيء اعتباري لا حقيقي.

القاعدة الخامسة

أن يجيب، وقلنا له: ما الكون؟ لقال، ان الكون هو هذه الأغشية التي تغشاني، وهذه الظلمات التي تحيط بي. ولو قلنا له: ان هاهنا كونا آخر فيه شمس وقمر، وليل ونهار، وبر وبحر، وسهل وجبل، وصحاري قاحلة، وجنات عارشات. لما فهم معنى هذا الكلام ولو فهمه لما استطاع تخّيل حقيقته. ومن هنا قال ابن عباس: "ما في الدنيا مما في الآخرة الا الاسماء". فلا خمر الآخرة كخمرة الدنيا، ولا حورها كنسائها، ولا نار جهنم كنارها، ولا الصراط الممدود على جهنم كالجسور الممدودة على الأودية والأنهار. فالقاعدة الرابعة، ان الخيال البشري لا يستطيع أن يُلمّ الا بما أدركته الحواس. قواعد العقائد القاعدة الخامسة لما أبصرت العين العود المستقيم أعوج، وهو في كأس الماء، لم ينخدع العقل بما رأت العين، بل عرف أنه لم يزل مستقيما، ولما رأت التراب ماء في الصحراء، عرف العقل أنه سراب، وأنه ليس ماء ولكنه تراب. ولما أبصرنا ساحر (السيرك) يخرج من فمه مئة منديل، ومن كمّه عشرين ارنباً أدرك العقل أنها خدعة. فالعقل أصح حكما، وحكمه أبعد مدى، ولكن هل يحكم على كل شيء ويمتد مداه إلى غير ما نهاية؟ ان العقل لا يستطيع أن يدرك شيئاً، حتى يحصره بين اثنين: الزمان والمكان، فما لم ينحصر بينهما، لم يدركه العقل بنفسه. فلو قال لك مدرس التاريخ؛ ان حربا وقعت بين العرب والفرس، ولكنها لم تقع قبل الاسلام ولا بعده، ولم تقع في زمن من الازمان، ولكنها وقعت فعلا، لم تدرك ذلك ولم تصدقه، ولم تقبله. ولو قال لك مدرس الجغرافية؛ ان بلدة ليست في سهل ولا جبل، ولا في بر ولا بحر، ولا في أرض ولا سماء، ولا في مكان من الأمكنة، ولكنها موجودة - لم تدرك ذلك، ولم تصدقه، ولم تقبله. فالعقل لا يحكم الا في حدود الزمان والمكان. فما كان خارجا عنهما من مسائل الروح، وأمور القدر، وآلاء الله وصفاته، فلا حكم للعقل عليه.

ثم إن العقل محدود، لا يحكم على غير المحدود، ولا يستطيع أن يحيط به. تصور خلود المؤمنين في الجنة! ان عقل المؤمن موقن بأنه حقيقة وقد جاءه هذا اليقين من الخبر الصادق. ولكن انظر هل يحيط عقلك بالخلود؟ ركز فكرك فيه، تجد انك تتصور بقاءهم في الجنة قرنا وقرنين، ومئة قرن، ومليون والف مليون، ثم تجد عقلك يقف عاجزا، ويسألك وبعد؟ إنه يريد أن يضع لذلك نهاية. انه لا يدرك الـ (لا نهاية)، واذا افترض الوصول اليها وقع في التناقض الذي يقول ببطلانه. ان للفيلسوف الالماني (كانْت) كتابا مشهورا، في اثبات ان العقل لا يستطيع أن يحكم الا على عالم المادة وحده. ولكن ما قال به (كانْت) قاله علماؤنا من قبل وردّدوه وأثبتوه حتى صار كالبديهية المسلّمة، وصار الكلام فيه كالحديث المعاد. حتى (متناقضات كانْت) المشهورة، سبق اليها علماؤنا، وبينوا بالادلة الرياضية ان (الدور والتسلسل) باطل. من أقرب أدلتهم هذا الدليل، وهو أن تخرج من نقطة (م)، مثلا (في الشكل) شعاعين، أي خطين مستقيمين متباعدين، وتفرض مد كل خط إلى ما لا نهاية له (&) وتصل بين الخطين على أبعاد متساوية خطوطاً: (ن هـ) و (ن1 هـ1) (ن2 هـ2) وهكذا، حتى تصل إلى الخط (& &) هل هذا الخط محدود، أم هو غير محدود؟ [رسم] اذا قلت أنه محدود يردّ عليك انه بين لا نهايتين، فكيف يكون محدودا؟ وان قلت أنه غير محدود، ردّ عليك بأنه بين نقطتين، فيكف يكون غير محدود؟ فهو محدود، وغير محدود، وهذا تناقض! فثبت ان العقل يختل ميزانه ان حاول الحكم على غير المحدود، ويقع في التناقض المستحيل، اذا بحث فيما لا ينتهي.

القاعدة السادسة

فالعقل اذن لا يستطيع أن يحكم، ولا يصح حكمه الا في الأمور المادية المحدودة. أما (ما وراء المادة)، أي عالم الغيب (الميتافيزيك)، فلا حكم للعقل عليه. وهذا الذي أثبته (كانْت) في كتابه، وقاله علماؤنا من قبل، موجود في كتاب شرح المواقف للسيد، ورسالة (المقصد الاسني) للغزالي (¬1) وسائر كتب علم الكلام. قواعد العقائد القاعدة السادسة - الإستعاذة بقوة وراء الكائنات ان الناس جميعا، المؤمن منهم والكافر، والناشئ في صوامع العبادة، والمتربي في مخادع الفسوق، اذا ألمّت بهم ملمّة ضاقوا بها ذرعا، ولم يجدوا لها دفعا، لم يعوذوا منها بشيء من هذه الكائنات، وإنما يعوذون بقوة وراء هذه الكائنات، قوة لا يرونها ولكنهم يشعرون بأرواحهم وقلوبهم، وكل عصب من أعصابهم بوجودها، وبعظمتها وجلالها. يقع هذا الكثير من الطلاب أيام الامتحان، ولكثير من المرضى عند اشتداد الألم، وعجز الطبيب. كلهم يعودون إلى ربهم، ويقبلون على عبادته. فهل سألتم أنفسكم، ما السبب في هذا وأمثاله؟ لماذا نجد كل من وقع في شدة يرجع إلى الله؟ نذكر جميعا (¬2) أيام الحرب الماضية، والتي قبلها، كيف كان الناس يقبلون على الدين، ويلجؤون إلى الله. الرؤساء والقواد يؤمّون المعابد، ويدعون الجنود إلى الصلاة. ¬

(¬1) بقيت هذه الرسالة (المقصد الأسني في شرح أسماء الله الحسنى) في مكتبتي أكثر من ثلاثين سنة، لم أجد دافعاً إلى قراءتها، ثم أخذتها فوجدت فيها شيئا عجيباً من عبقرية الغزالي. فهو يتكلم عن الاسم والمسمى والصلة بينها ويربط بين أسماء الله وسلوك المسلم بأسلوب جديد وطريقة مبتكرة. وهذا شأن الغزالي في كل موضوع يكتب فيه وإن كان في كتابه العظيم (الاحياء) كثير من الصوفيات المخالفة للسنة، وكان فيه كثير من الأحاديث التي لا أصل لها، وكان أثره في نفس قارئه العزلة والخمول، والبعد عن روح المغامرة والجهاد. مع انه ألف في عهد الحروب الصليبية، التي وجب فيها الجهاد على الرجال والنساء، كما هو واجب الآن، لاخراج الكافر من أرض المسلمين التي يحتلها. وأنا أقول بأن الغزالي أعظم مفكر اسلامي، ولكنه ليس بمعصوم - والانصاف العلمي يستوجب ذكر عيوبه المعدودة - وكفى المرء نبلا أن تعد معايبه. (¬2) أعني الكهول والشيوخ الذين أدركوا الحرب الأخيرة: سنة (1939 م)، ومن قبلها الحرب الأولى: (1914 م)، وقد أدركتهما وقلت ما قلت عنهما، عن مشاهدة وعيان.

ولقد قرأت في مجلة (المختار) المترجمة عن مجلة (ريدر زاديجست)، مقالة نشرت أيام الحرب، لشاب من جنود المظلات (يوم كانت المظلات والهبوط بها شيئا جديدا) يروي قصته فيقول: انه نشأ في بيت ليس فيه من يذكر الله أو يصلي، ودرس في مدارس ليس فيها دروس للدين، ولا مدرس متدين، نشأ نشأة (علمانية) مادية، أي مثل نشأة الحيوانات التي لا تعرف الا الأكل والشرب والفساد، ولكنه لما هبط أول مرة، ورأى نفسه ساقطا في الفضاء قبل أن تنفتح المظلة، جعل يقول: يا الله يا رب. ويدعو من قلبه، وهو يتعجب من أين جاءه هذا الايمان؟ وبنت (ستالين) نشرت من عهد قريب مذكراتها، فذكرت فيها كيف عادت إلى الدين، وقد نشأت في غمرة الالحاد، وتعجب هي نفسها من هذا المعاد. وما في ذلك عجب، فالايمان بوجود اله، شيء كامن في كل نفس، انه فطرة (غريزة) من الفِطَر البشرية الأصلية، كغريزة الجنس، والانسان (حيوان ذو دين). ولكن هذه الفطرة، قد (تغطيها) الشهوات والرغبات والمطامع، والمطالب الحيوية المادية، فاذا هزتها المخاوف والاخطار والشدائد، القت عنها غطاءها فظهرت. ولذلك سمي غير المؤمن (كافرا)، ومعنى الكافر في لسان العرب (الساتر). ومن العجيب اني وجدت تأييد هذه الفكرة في كلمتين متباعدتين، في الزمان والمكان والظرف والقصد، ولكنهما متقاربتان في المعنى. كلمة لعابدة مسلمة تقية معروفة هي (رابعة العدوية (¬1))، وكلمة لكاتب فرنسي ملحد معروف هو (اناتول فرانس). واناتول فرانس يقول في معرض كفره والحاده: "ان المرء يؤمن اذا ظهر بنتيجة فحص البول، انه مصاب بداء السكري، (يوم لم يكن قد عرف الانسولين) .. ". ورابعة، قيل لها: "ان ¬

(¬1) ظهرت من سنوات قصة غنائية مصورة، زعموا أنها تمثل حياة رابعة العدوية، مع انها لا تمثل الا ما في نفس مؤلفها من خيالات وتهاويل، وما فيها من حقائق التاريخ الا القليل.

فلانا أقام ألف دليل على وجود الله"، فضحكت وقالت: "دليل واحد يكفي"، قيل: "وما هو؟ "، قالت: "لو كنت ماشيا وحدك في الصحراء، وزلت قدمك فسقطت في بئر، لم تستطع الخروج منها، فماذا تصنع؟ ". قال: "انادي يا (الله) .. " قالت: وذاك هو الدليل .. ". في قرارة نفس كل انسان الايمان باله، هذه حقيقة نعرفها نحن المسلمين لأن الله خبرنا ان الايمان فطرة فطر الناس عليها. وقد عرفها الافرنج من جديد، (دوركايم) استاذ الاجتماع الفرنسي المشهور (¬1) له كتاب في ان الايمان بوجود اله بديهية. لا يمكن أن يعيش الانسان ويموت من غير أن يفكر في وجود اله لهذا الكون، ولكنْ ربما قصر عقله فلم يهتد إلى المعبود بحق، فعبد من دونه أشياء، عبدها على توهم أنها هي الله، او انها تقرب إلى الله. فاذا جد الجد، وكانت ساعة الخطر، رجع إلى الله وحده ونبذ هذه المعبودات. مشركو قريش، كانوا يعبدون (هبل)، و (اللات)، و (العزى)، حجارة وأصنام، (هبل) صنم من العقيق، جاء به (عمرو بن لحيّ) من عندنا، من (الحمّة) (¬2) قالوا له انه اله عظيم قادر، فحمله على جمل وجاء به، فسقط على الطريق فانكسرت يده، فعملوا له يدا من ذهب. اله تنكسر يده! وكانوا مع ذلك يعبدونه!! يعبدونه في ساعات الامن، فاذا ركبوا البحر، وهاجت الامواج، ولا شبح الغرق، لم يقولوا: يا (هبل)، بل قالوا: يا الله. وهذا مشاهد إلى اليوم عندما تغرق السفن، أو تشب النيران، أو يكون الخطر، او يشتد المرض، تجد الملحدين يرجعون إلى الدين. لماذا؟ لان الايمان غريزة، أصدق تعريف للانسان انه (حيوان متدين)، ¬

(¬1) دوركايم استاذ الاجتماع الفرنسي: هو يهودي مثل (فرويد)، الذي أفسد عقول الناس حينا من الدهر. (¬2) الحمة ذات الينابيع المعدنية التي أخذها اليهود من سورية بعد حرب الأيام الستة.

ضيق الألفاظ

وانظروا إلى هؤلاء الملحدين الماديين، عندما يأتيهم الموت هل تظنون ان (ماركس) أو (لينين) لما أيقن بالموت، دعا (وسائل الانتاج) التي يؤلهها، أم دعا الله؟ ثقوا أنهما لم يموتا حتى دعوا الله، ولكن حين لا ينفع الدعاء. و (فرعون) تكبر وتجبر، وقال، أنا ربكم الأعلى، فلما أدركه الغرق، قال: "آمنت بالذي آمنت به بنوا اسرائيل .. ". وفي عاطفة الحب التي يحس بها المحبون دليل على ان الإيمان فطرة في النفوس، الحب صورة مصغرة للإيمان، ونوع من أنواع العبادة. والفرنسيون لما غلب عليهم ترك الدين، استعملوا كلمة (العبادة) في الحب (¬1). وقلدهم في ذلك بعض المتفرنجين منا، فصاروا يقولون في قصصهم: (يحبها ويعبدها) و (احبها حتى العبادة) وما ذلك الا لأن العبادة هي المظهر الفطري للاعتقاد بالاله، ولأن في الحب شبها من الايمان. المحب يطيع محبوبه، وينفذ كل رغبة له، وكذلك يكون المؤمن مع الله. والمحب لا يبالي أن يسخط عليه الناس كلهم ان رضي المحبوب، وكذلك يكون المؤمن مع الله. والمحب يخاف المحبوب، ويخشى غضبه، ويرضى بكل ما يكون منه وكذلك يكون المؤمن مع الله. فالحب (أي العشق) دليل على ان الايمان فطرة في النفوس. قواعد العقائد ضيق الألفاظ وليس معنى هذا أن حب الله، من جنس حب المعشوق، لا. فالعاشق يطيع معشوقه ويخشاه، ويرضى بكل ما يجيء منه، ويؤثر رضاه على رضى الناس، للذته به، فهو يحب فيه نفسه، ولو أن (ليلى) أصابها الجذام فشوه وجهها، وأكل أنفها وعينها لما دنا منها (قيس) ولما مال عليها، بل لفر منها، ونأى عنها، هذا هو فرق ما بين حب المخلوق وحب الخالق. ¬

(¬1) كلمة العبادة هي في اللغة الفرنسية: ( Adorer) .

القاعدة السابعة

انهما نوعان مختلفان ولكن اللغات البشرية لضيقها عن استيعاب المعاني الروحية، تستعمل اللفظ الواحد، في معان كثيرة. فنحن نقول: "فلان يحب مناظر الجبال"، و "فلان يحب علم التاريخ"، و "فلان يحب الرز باللحم"، "والوالد يحب ولده"، و "المجنون يحب ليلى"، و "المؤمن يحب الله". وكل حب منها، يختلف عن الآخر. ومثل ذلك كلمة: (الجمال)، نستعملها وهي لفظ واحد، للدلالة على ألف معنى. ومن ذلك قولنا: "الله سميع بصير"، و "فلان سميع بصير"، أي: ليس أصم ولا أعمى. وسمع الله وبصره لا يشبه سمع العبد ولا بصره لأن الله لا يماثل شيئاً من المخلوقات ولا يماثله شيء، وجيمع آيات الصفات جاءت من هذا الباب، والله ليس كمثله شيء. قواعد العقائد القاعدة السابعة - الدليل النفسي على وجود العالم الآخر هي ان الانسان يدرك بالحَدْس ان هذا العالم المادي ليس كل شيء، وان وراءه عالماً روحياً مجهولا، يدرك منه لمحات تدل عليه. ذلك ان الانسان يرى اللذات المادية محدودة، اذا هي بلغت غايتها ووصلت إلى حدها، لم تعد اللذة لذة، ولكن صارت (عادة)، فذهب طعمها، وبطل سحرها، وصارت كالنكتة المحفوظة، والحديث المعاد. يبصر الفقير سيارة الغني تمر به، وعمارة الغني يمر بها، فيحسب أنه يحوز الدنيا ان حاز مثلها، فان صارت له، لم يعد يشعر بالمتعة بها. ويسهر المحب يحلم بوصل الحبيب، يظن ان متع الدنيا كلها بحبه، والاماني كلها في قربه، فاذا تزوج التي يحب، ومر على الزواج سنتان، اضمحلت تلك الأماني، وماتت تلك المتع، ولم يبق له منها الا ذكرها، ويمرض المريض ويتألم، فيتصور اللذة كلها في ذهاب الألم والشفاء من المرض، فاذا عاودته الصحة، ونسي أيام المرض، لم يعد يرى في الصحة شيئا من تلك اللذات، ويتمنى الشاب "الشهرة" ويفرح ان اذاعت الاذاعة اسمه، ونشرت الصحف رسمه، فاذا هو اشتهر وصار اسمه ملء السمع، وشخصه ملء البصر، صارت له الشهرة أمراً معتادا.

القاعدة الثامنة

ثم يجد أنه يسمع الاغنية الحالمة، في الليلة الساجية، قد خرجت من قلب مغنٍ عاشق، فهزت من سامعها حبّة القلب، وأطلّت على عالم الروح، ويقرأ القصة العبقرية، للأديب البارع، فيحس كأنها تمشي به في مسارب عالم مسحور، فيه مع السحر شعر وعطر، فاذا انتهت القصة رأى كأنه كان في حلم لَذٍّ فتّان، وصحا منه، فهو يحاول عبثا أن يعود إلى لذته وفتونه. ويعيش في لحظات التجلي، حين تصفو النفوس بالتأمل فتتخفف من أثقال المادة، فتعلو بجناحين من الصفاء والتجرد، حتى تصل إلى حيث ترى الأرض وما عليها، أصغر من أن ينظر اليها، لما تجد من لذة الروح التي لا تَعْدلها لذة الطعام للجائع، ولا لذة الوصال للمحروم، ولا لذائذ المال والجاه للفقير المغمور. واذا بالنفس تتشوق أبدا إلى هذا (العالم الروحي) العلوي، العالم المجهول، الذي لا تعرف منه الا هذه اللمحات، التي لا تكاد تبدو لها حتى تختفي، وهذه النفحات التي لا تهب حتى تسكن. فيعلم أن اللذات المادية محدودة، وان اللذات الروحية أكبر منها كبرا، وأعمق في النفس أثرا. ويُوقن (بالحدس النفسي، لا بالدليل العقلي)، ان هذه الحياة المادية ليست كل شيء، وان العالم المجهول، المختبئ وراء عالم المادة، حقيقة قائمة، تحن اليها الأرواح، وتحاول أن تطير اليها، ولكن هذا الجسد الكثيف يحجبها عنها، ويمسكها عن ان تنطلق وراءها، وهذا هو الدليل النفسي على وجود العالم الآخر. قواعد العقائد القاعدة الثامنة - الاعتقاد بوجود الحياة الاخرى الاعتقاد بوجود الحياة الاخرى، نتيجة لازمة للاعتقاد بوجود الله - وبيان

ذلك ان الاله لا يكون الا عادلا، والعادل لا يقرّ الظلم، ولا يدع الظالم بغير عقاب - ولا يترك المظلوم من غير انصاف، ونحن نرى أن في هذه الحياة من يعيش ظالما ويموت ظالما لم يعاقب - ومن يعيش مظلوما ويموت مظلوما لم ينصف - فما معنى هذا؟ وكيف يتم هذا ما دام الله موجودا - وما دام الله لا يكون الا عادلا؟ معناه أنه لا بد من (حياة اخرى) يكافأ فيها المحسن. ويعاقب المسيء. وان (الرواية) لا تنتهي بانتهاء هذه الدنيا، ولو انه عرض (فلم) في الراني (التلفزيون)، فقطع من وسطه وقيل (انتهى)، لما صدق أحد من المشاهدين انه انتهى، ولنادوا ماذا جرى للبطل؟ وأين تتمة القصة؟ ذلك لأنهم ينتظرون من المؤلف أن يتم القصة، ويسدد حساب أبطالها. هذا والمؤلف بشر، فكيف يصدق عاقل، ان (قصة) الحياة تنتهي بالموت؟ كيف؟ ولم يسدد بعد الحساب، ولا اكتملت الرواية؟ فأيقن العقل من هنا، ان لهذا الكون ربا، وان بعد الدنيا آخره. وان ذاك العالم المجهول، الذي لمحت الروح ومضة من نوره في الاغنية الحالمة، والقصة البارعة، واستروحت نفحة من عطره، في ساعة التجلي، ليس عالم المثل (¬1) الذي كان خيالا صاغه أفلاطون، ولكنه عالم الآخرة، الذي هو حقيقة أبدعها خالق افلاطون. ورأى أن أكبر لذائذ الدنيا، لذة الوصال، لا تدوم الا نصف دقيقة، فعلم أنها ليست الا مثالا من لذات الآخرة، انها لقمة من الطعام تذوقها، فان اعجبك اشتريت منه فأكلت حتى شبعت. انها نموذج تجاري (¬2)، تراه فان ارتضيته طلبت البضاعة. ان هذه اللذة التي لا تدوم الا نصف دقيقة، مثال مصغر للذات العالم الآخر، التي تدوم ابدا، والتي لا حد لها تقف عنده، والتي تبقى (لذة) دائما، لا تصير (عادة)، كما تصير اللذات في الدنيا عادات. ¬

(¬1) المثل العليا: نظرية لافلاطون معروفة ( Idé alisme) ، ومنها جاء قولهم: "شيء مثالي"، وهو ( Idéal) . (¬2) النموذج التجاري: هو تعريف للاصطلاح الفرنسي: ( Echantillon) وتلفظ: (اشانتيون)

الإيمان بالله

الإيمان بالله وجود الله الايمان بالله يتضمن أربع قضايا: هي: ان الله موجود بلا موجد، وأنه رب العالمين وأنه مالك الكون المتصرف فيه، وانه الاله المعبود وحده، لا يعبد معه غيره. وجود الله: قلنا في القاعدة السادسة: ان الاعتقاد بوجود الله من الأمور البديهية التي تدرك بـ (الحدس) النفسي، قبل أن تقبل بالدليل العقلي، فهي لا تحتاج إلى دليل، وان كانت الادلة على صحتها ماثلة في كل شيء، ولست أعرض هذه الأدلة فهي أكثر من أن تستقصى، والعالم الدمشقي الشيخ جمال الدين القاسمي ذكر منها الكثير الكثير، في كتابه (دلائل التوحيد). مع انه الف من أكثر من نصف قرن. ومع انها قد جدت اليوم أدلة أظهرها العلم الحديث. الذي لم يكن معروفا قبل خمسين سنة، ومن نظر في كتاب: (الله يتجلى في عصر العلم)، وقد كتبه ثلاثون من علماء الطبيعة والفلك ممن انتهت اليهم الرياسة في هذه العلوم. ومثله كتاب: (العلم يدعو للايمان)، يجد ان العالم الحقيقي لا يكون الا مؤمنا، والعامي لا يكون الا مؤمنا، وان الالحاد والكفر انما يبدوان من أنصاف العلماء، وأرباع العلماء، ممن تعلم قليلا من العلم، فخسر بذلك (الفطرة) المؤمنة، ولم يصل إلى العلم الذي يدعو إلى الإيمان، فوقع في الكفر. في هذين الكتابين مقالات، هي ثمرة ما وصل اليه تفكير هؤلاء

العلماء، من أمثال (فرنك الن) الذي أثبت أن القول بقدم العالم - كما كان يقول فلاسفة اليونان - مستحيل، وان العلم كشف ان لكل شيء عمرا، أي أن له بداية، تنفي كونه قديما. و (فرنك الن) هذا، من أكبر علماء الحياة (البيولوجيا). وأمثال (روبرت موريس بدج) مكتشف الرادار، وعالم الكيمياء (جون كليفلاند كوثران)، و (جون هربرت بلوند) استاذ الفيزياء، وأنا أرجو أن تقرأوا هذين الكتابين وأمثالهما ... وأمثالهما كثير: أنا لا أحب أن أعيد سرد الادلة القديمة على وجود الله، أدلة علماء الكلام، ولا الادلة الحديثة التي جاء بها هؤلاء العلماء، ولكن أشير إلى دليل واحد من الادلة القرآنية، وادلة القرآن: واضحة، صريحة، حاسمة. تأتي بالحجة الضخمة، في العبارة القصيرة، التي يفهمها العامي، وتمتلئ نفس العالم الذي يدرك مغزاها، اعجابا منها، وعجبا من قوتها ودقتها ووضوحها، وكلاهما (العامي والعالم) لا يملك الا أن يقول: صحيح! نبهنا الله في القرآن بكلمة واحدة، على أن الدليل فينا، "في أنفسنا"، فكيف ننكر قضية قد سطر على جباهنا ما يشعر بصدقها، قال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟!} فنحن نشعر - من أعماق قلوبنا - بأنه موجود، نلجأ اليه في الشدائد والملمات، بفطرتنا المؤمنة، بغريزة التدين فينا، ونرى الادلة عليه فينا، وفي العالم من حولنا، فالعقل الباطن يؤمن وجوده بالحدس، والعقل الواعي يؤمن بوجوده بالدليل. فكيف لعمري يجحد الله الجاحد، وهو - نفسه - الدليل على وجوده؟! بأنه كمن يحمل مالك بيده، ويدعي انه لم يأخذه ولم يلمسه، ومن يلبس ثيابه مبتلة يقطر منها الماء، ويدعي أنه لم يقرب الماء. هذه حقيقة الحقائق، ولكن لماذا نجد أكثر الناس لا ينتبهون اليها؟! الجواب: لأنهم لا يفكرون في أنفسهم، {نَسُوا الله فأنساهم أنفسهم}. انهم يفرون منها، يخافون الانفراد بها، لا يستطيع أحدهم أن يبقى وحيدا، خاليا بنفسه بلا عمل، لذلك يشتغل عنها بحديث فارغ، أو

كتاب تافه، أو عمل يشغل نفسه، ويصرم فيه عمره، كأن نفسه عدو له يكرهه، وينفر منه. وكأن عمره - وهو رأس ماله - حمل على عاتقه، يرمي به ليتخلص منه. أنظر إلى أكثر الناس تجدهم يأكلون ويشربون، وينامون ويستيقظون. يحرصون على اللذة، ويبتعدون عن الألم، يبتغون الخير في الدنيا لأنفسهم وأهلهم ومن يحبون. يصبح الواحد منهم فينظف جسده، ويرتدي ثيابه، ويتناول طعامه، ويغدو إلى عمله، يعمل لجمع المال ويستزيد من الربح، ثم يعود إلى داره، فيتغذى ويستريح. ثم يعود إلى العمل، أو يعمد إلى التسلية. يفتش عما يملأ به الفراغ، ويضيع به الوقت، ويقطع به العمر، حتى يعاوده الجوع فيأكل، أو يدركه النعاس فينام. ثم يستقبل يوماً جديداً، فيعيد فيه (برنامج) اليوم الذي مضى. يذكر ماضيه، وما ماضيه الا الأيام التي أحس أنه عاشها في هذه الدنيا، ويفكر في مستقبله، وما مستقبله الا الأيام التي يقدّر أنه يعيشها في هذه الدنيا. أما المسلم، فلا يكتفي من الحياة بأن يأكل ويشرب، ويعمل ويتسلى، بل يسأل نفسه، من أين جئت؟ وإلى أين أسير؟ ما المبدأ؟ وما المصير؟ ينظر فيجد ان حياته لم تبدأ بالولادة حتى تنتهي بالموت. يرى انه كان جنينا في بطن أمه قبل أن يولد، وكان حُوَيْناً منويا في ظهر أبيه قبل أن يَسْتَجِنّ. وكان قبل ذلك دما يجري في عروق هذا الأب. وهذا الدم جاء مما تناول من الغذاء، وهذا الغذاء كان نباتا نبت من الأرض، او حيوانا تغذى من النبات .. أطوار مرّ بها قبل الولادة لا يعرف عنها شيئا، سلسلة طويلة، فيها حلقات قليلة واضحة، وباقيها يحجبه عن عيوننا الظلام، فكيف يوجد نفسه بعقله وارادته وقد كان موجودا، قبل أن يكون له عقل وارادة؟ ان الواحد منا لا يعرف نفسه قبل بلوغه الرابعة من عمره، لا يذكر أحد منها مولده. من يذكر مولده؟ من يذكر أيامه لما كان في بطن أمه؟ فاذا كان موجودا

قبل أن يعلم بوجوده، فهل يمكن أن يقال انه هو الذي أوجد نفسه؟ سل هذا الكافر الملحد - ان لقيته - وقل له: هل خلقت أنت نفسك بارادتك وعقلك؟ هل أنت الذي ادخلت نفسك في بطن أمك؟ وهل أنت الذي اختار هذه المرأة لتكون له أما؟ وهل أنت الذي ذهب بعد ذلك فجاء بالقابلة لتخرجه من هذا البطن؟ فهل خلق اذن من العدم بلا فاعل ولا خالق؟ هذا مستحيل. فهل خلقته اذن هذه الموجودات التي كانت من قبله؟ الجبال والبحار والشمس والكواكب؟ (ديكارت) لما جرّب مذهب الشك الذي اشتهر به (¬1) وشك في كل شيء، وصل إلى نفسه. فلم يستطع أن يشك فيها؟ لأنه هو الذي يشك ولا بد في الشك من شاك، لذلك قال كلمته المشهورة (أنا أفكر فأنا موجود (¬2))، موجود لا شك في وجوده، فمن أوجده؟ هل أوجدته هذه الكائنات المادية؟ انها جمادات لا عقل لها، وهو عاقل، فهل يمنح العقل من ليس بعاقل؟ هل يعطي الشيء فاقده؟ وهذا هو موقف ابراهيم أبي الانبياء عليه السلام، لما رأى أباه (وكان مَثّالا) ينحت الاصنام بإزميله، يعمل من الحجر صورة، فيتخذها هو وقومه آلهة! حجر تصنعه يد الانسان ثم تعبده! اله أخلقه وأطلب منه أن يخلق لي ما أريد؟! هذا أمر لا يقبله العقل. فأين هو الاله الحق اذن؟ وذهب يبحث ويفكر، وأدركه الليل، وطلع عليه النجم براقا لامعا عاليا، لم يخرج من الأرض كالصخرة التي تصنع منها التماثيل. لم يعمله الانسان بيده ثم يعبده، وظن أنه وجد الاله الذي يبحث عنه، واذا بالقمر يطلع فيختفي النجم، ويرى القمر أكبر في النظر وأضوأ، فيؤمن بأن القمر هو الاله، ويرقبه الليل كله، فاذا بالشمس تطلع فتطفئ شعلة القمر، وتفيض النور على الأرض، فيقول هذا هو الاله. ولكن الشمس تأفل (تذهب) وتدع ¬

(¬1) مذهب ديكارت في الشك: لم يكن جديداً، فهو مسبوق اليه. راجع (المنقذ من الضلال) للغزالي. (¬2) " je pense donc je suis ".

الأرض في الظلام، فما هذا الاله الذي يمضي، ويتخلى عن ملكه؟ .. كلا ليست الشمس إلهاً خلقني، ولا هذه الموجودات آلهة، ولا أنا الاله. أنا ما خلقت نفسي، ولا خلقت من غير شيء، فلم يبق الا احتمال واحد، هو الصحيح، هو الحق وما عداه باطل: هو ان وراء هذه الجمادات كلها، إلهاً قادراً عظيما هو الذي أوجدها وأوجدني وأوجد كل شيء. هذا الدليل هو الذي عرض له القرآن. في جملة واحدة - هي معجزة من معجزات البيان الرباني، ضربة قاضية على من يخضع للعقل، ويحترم التفكير من الملحدين، هي قوله تعالى: {أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون}؟ ّ! كان السخفاء من الملحدين، من أرباع المتعلمين، يقولون: (الطبيعة)، الطبيعة أوجدت الانسان، الطبيعة وهبت العقل للانسان. وكان من المعلمين من يقول لنا هذا ونحن صغار. في أيام الحرب الأولى وفي أعقابها، من المعلمين الذي شموا رائحة التمدن الجديد، من (اسطنبول) اولا (وباريس) ثانيا، فحسبوا أنهم صاروا يعدون بذلك من (المنورين)، وكانت كلمة (المنورين) في تلك الأيام، مثل كلمة (التقدميين) الآن. ولكل زمان ألفاظ يضحكون بها علينا، كما كانوا يضحكون على ذقون الهنود الحمر في اميركا بالخرز والثياب الملونة، ليأخذوا بدلا منها بلادهم. وكبرنا بعد، وسألنا: ما (الطبيعة)؟ ان كلمة الطبيعة في اللغة على وزن (فعيلة) وهي بمعنى (مفعولة)، فاذا كانت مطبوعة فمن (طبعها)؟. قالوا: الطبيعة هي المصادفة .. قانون الاحتمالات. قلنا: هل تعرفون ما مثال هذا الكلام؟ مثاله: اثنان ضاعا في الصحراء، فمرا على قصر، كبير عامر فيه الجدران المزخرفة المنقوشة، والسجاد الثمين، والساعات والثريات. قال الأول: ان رجلا بنى هذا القصر وفرشه.

فرد عليه الثاني وقال: أنت رجعي متأخر، هذا كله من عمل الطبيعة!! قال: كيف كان بفعل الطبيعة؟ قال: كان هنا حجارة فجاءها السيل، والريح والعوامل الجوية فتراكمت، وبمرور القرون بالمصادفة، صارت جدارا. قال: والسجاد. قال: أغنام تطايرت أصوافها، وامتزجت وجاءتها معادن ملونة، فانصبغت وتداخلت فصارت سجادا!! قال: والساعات؟ قال: حديد تآكل بتأثير العوامل الجوية، وتقطع وصار دوائر وتداخل، وبمرور القرون، صار على هذه الصورة. ألا تقولون ان هذا مجنون؟ هل المصادفات هي التي جعلت الخلية من خلايا الكبد التي لا ترى الا بالمجهر تقوم بأعمال كيميائية تحتاج إلى آلات تملأ بهواً كبيراً، ثم لا تستطيع أن تقوم الا بجزء منها؟! هذه الخلية تحول السكر الزائد في الدم إلى مولد سكر العنب (كليكوجين)، لنستعمله عند الحاجة بعد اعادته إلى (كليكوز)، وتفرز الصفراء، وتعدل (الكولسترول) في الدم، وتصنع الكريات الحمر، ولها بعد أعمال اخرى! والمصادفات جعلت في اللسان تسعة آلاف عقدة صغيرة كلها تصلح للتذوق، وفي كل اذن مئة ألف خلية للسمع، وفي كل عين مئة وثلاثين مليون خلية كلها تصلح لاستقبال الضوء. والأرض بما فيها من العجائب والأسرار، والهواء الذي يحيط بها، وما يحمله من أحياء لا ترى ولا تدرك، والأشكال العجيبة لذرة الثلج التي تسقط، خلقها بهذه الدقة، وأودع فيها هذا الجمال، الذي لم نره الا من عهد قريب. انظر إلى هذه الأرض وما فيها من معادن، وما أودع فيها من أسرار، وإلى أنواع حيوانها ونباتها، وما فيها من الصحارى الشاسعة، والبحار الواسعة، والجبال السامقة، والاودية العميقة .. ثم وازنها بالشمس ترها صغيرة

ضئيلة إلى جنب الشمس وعظمها، والشمس التي تكبر الأرض بمليون مرة، هي بالنسبة لكوكب من هذه الكواكب حبة رمل في الصحراء الكبرى. والشمس التي تبعد عنا بأكثر من مئة مليون كيل (كيلومتر)، اذا قدرنا بعدها بالزمن الضوئي، وسرعة الضوء ثلاث مئة ألف كيل في الثانية الواحدة، يبلغ بعدها عنا ثماني دقائق. فماذا يكون بعد النجوم التي يصل ضوؤها الينا في مليون سنة ضوئية؟ السنة الضوئية تعدل عشرة آلاف مليار كيلومتر (¬1)، فكم كيلومتر في مليون سنة؟ وهذه الكواكب، ومنها كوكب المجرة، التي لا يعرف علم الفلك عنها أكثر من انها بقعة مضيئة، فيها من الكواكب ما لا يعلمه الا الله، هذه الكواكب على ضخامتها التي يعجز العقل عن تصورها، تسير بسرعة هائلة، سرعة تتخطى حدود الأرقام، فكيف لا يقع فيما بينها اصطدام؟ قرأت لاحد علماء الفلك، ان احتمال اصطدامها، كاحتمال اصطدام ست نحلات لو أطلقت في الفضاء المحيط بالأرض. ان سعة فضاء الأرض بالنسبة لست نحلات، كذلك الفضاء بالنسبة لهذه الكواكب التي لا تعد ولا تحصى. وهذا الفضاء كله وسط كرة هائلة هي السماء الدنيا، كرة من جرم حقيقي ليست هواء ولا فضاء (¬2)، ولا خطا وهميا هو مدار الكواكب كما تصور بعض المحدثين من المفسرين، كرة محيطة بهذا الفضاء وما فيه، ومغلقة عليه وهو في داخلها. كرة محفوظة لها أبواب تفتح وتغلق، جعلها الله (سقفا محفوظا) لهذا الفضاء، وجعل هذه الكواكب فيها كالمصابيح التي تزين ¬

(¬1) أذكر في معرض هذا الحديث أن ابوللو (9) التي وصلت إلى القمر، قطعت في الذهاب والاياب أربع مئة ألف كيل (كيلومتر)، أي: مدة ثانية وثلث ثانية فقط بالزمن الضوئي! (¬2) هذا الذي قلته عن السماء: شيء فهمته من ايات الكتاب، وسنن الله في الفلك التي كشفها العلماء، ولم أجد من قال به، وقد فصلت القول فيه في غير هذا الكتاب.

الله رب العالمين

السقف. لها سَمْك، وبعدها فضاء .. الله أعلم بسعته. ربما كان كهذا الفضاء أو أكبر منه، تحيط به كرة أخرى، أكبر وأضخم، ثم فضاء ثالث، ثم كرة ثالثة. ثم فضاء رابع ثم كرة رابعة. ثم فضاء خامس، ثم كرة خامسة. ثم فضاء سادس، ثم كرة سادسة. ثم فضاء سابع ثم كرة سابعة. ثم تأتي أجسام غاية في الكبر والعظم، هي العرش، والكرسي، وما أخبر الله عنه، من هاتيك العوالم. ومن أعجب العجب، ومن أظهر الادلة على الله، ان هذا الفضاء بكل ما فيه موجود بصورة مصغرة، بحيث لا يدرك العقل دقتها وصغرها - كما أنه لا يدرك سعة الفضاء ورحبه - موجود في الذرة. الذرة التي لا ترى الا بالمجهر الالكتروني. الذرة التي كان يسميها العلماء والفلاسفة الاقدمون الجوهر الفرد (الجزء الذي لا يتجزأ)، الذرة التي قال العلماء أنه لو صف أربعون مليونا منها جنبا إلى جنب، كان طولها (طول الأربعين مليونا) معشارا واحدا (سانتي متر)، وسط هذه الذرة "فضاء فيه نواة، تدور حولها أجسام صغيرة (¬1) كدوران الكواكب في الفضاء، ونسبة النواة للذرة، كنسبة حبة القمح للقصر العظيم، والنواة يزيد وزنها وحدها عن وزن (1800) من هذه الكهارب، فهل هذا كله من عمل (المصادفات)؟ وان الذي يثلج صدر المؤمن، ان هذه المقالات التافهة كالطبيعة، والمصادفات وأمثالها، قد انقطع ورودها على ألسنة العلماء، ولم يبق من قائل بها الا أشباه العوام، ممّن يدعون العلم وليسوا من العلماء. الإيمان بالله الله رب العالمين هذه هي القضية الثانية من قضايا الايمان بالله، وهي: ان تعتقد ان الله ¬

(¬1) هذه الأجسام الصغيرة: يسمونها الكهارب (الالكترونات).

(وحده) هو الذي أوجد هذه العوالم كلها، عالم الحيوان، وعالم النبات، وعالم الافلاك. العوالم الظاهرة لنا، والمغيبة عنا، أوجدها من العدم، ووضع لها هذه النواميس العجيبة، التي لم نكتشف إلى الان في الكيمياء والفيزياء والطب والفلك، الا الاقل الاقل منها، وهو (وحده) الذي يعلم دقيقها وجليلها. كم ورقة في كل شجرة، وشكل كل ورقة، ووضعها، وكم (جرثومة) في الدنيا، وطولها وعرضها وأجزائها التي ركبها منها، وما في كل ذرة من الكهارب الثابتة والمتحركة، وعددها، وما يطرأ على كل منها من عوارض، وما تتصف به من حركة وسكون، وتطور وتحول، كل ذلك مسجل عنده في كتاب. هذه العوالم كلها، هو ربها، هوالذي أوجدها، وهو يحفظها، وهو الذي يحولها من حال إلى حال، وهو الذي جعل في كل ذرة منها، ما يدل العاقل عليه، ويرشده اليه. هذه هي القضية الثانية من قضايا الايمان بالله، قضية لا بد منها، ولكن هل يكفي الايمان بها ليكون الانسان مؤمنا؟ اذا جاءك من يقر بأن الله هو الخالق، وهو الرب، فهل تعتبره بهذا وحده من المؤمنين؟ لا .. ان ذلك وحده لا يكفي، لأن أكثر الأمم القديمة كانت تقول له، كفار قريش، الذين بعث محمد صلى الله عليه وسلم لانكار شركهم، وتسفيه عقائدهم، وكلف بحربهم، كانوا اذا سئلوا عنه اعترفوا به ولم ينكروه. بل ان ابليس - وهو شر الخلق - ما أنكر ان الله ربه، تنبهت إلى هذا من قوله: {ربِّ بما اغويتني .. }. وقوله: {ربِّ انظرني .. }. فهو مقر بأن الله ربه!.

الله مالك الكون

الإيمان بالله الله مالك الكون والقضية الثالثة: ان الله هو مالك الكون، يتصرف فيه تصرف المالك الحر بملكه، يحيي ويُميت، هل تقدر أن تدفع عن نفسك الموت، وتمنحها في الدنيا الخلود؟ يمرض ويشفي، هل تقدر أن تشفي من حرمه الله الشفاء؟ يمنح المال ويبتلي بالفقر، يبعث السيول ويصيب بالجفاف. كان في السنة الماضية فيضانات في شمالي ايطاليا، جرفت المدن، ودمرت العمران، وكان في ذلك الوقت في الهند جفاف يبس معه الزرع، وهلكت الماشية، وصار توزيع الماء بالبطاقات. فمن زاد الماء على هؤلاء حتى شكوا منه، وحرمه أولئك حتى تمنوه؟ من يعطي هذا بنات وهذا بنين، ويجعل من يشاء من الناس عقيما؟ هل يستطيع من رزق البنات أن يحولهن إلى بنين، ومن كان عقيما أن ينجب الولد؟ هو يكتب الموت على ناس وهم أطفال، ويمد في عمر ناس حتى يصيروا شيوخا. يبعث موجة البرد والصقيع على بلد، ويبعث موجة الحر على بلد، ويصيب بلدا بالزلازل أمور مشاهدة، لا يملك الانسان لها دفعا ولا منعا. الإيمان بالله الاله المعبود لذلك يقر أكثر الناس بأنه هو مالك الملك، المتصرف بالكون، ولكن هل يكفي هذا ليكون مؤمنا؟ لا .. بل لا بد معها من القضية الرابعة، وهي انه وحده الاله المعبود. اذا اعترفت بأن الله موجود، وأنه رب العالمين، وأنه مالك الملك، فلا تعبد معه غيره، ولا تقابل غيره بأي صورة من صور العبادة. وقد أراني الله معنى لسورة الناس، فيه رد على من يقر بوجود الله وبربوبيته وملكه، ولكنه لا يوحده توحيد الالوهية، معنى لم أجد من المفسرين من ذكره، وأرجو أن يكون صوابا.

يقول الله عز وجل: {قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس.}. فلماذا كرر لفظ الناس؟ وعمد إلى الاظهار بدلا من الاضمار؟! فلم يقل مثلا: "رب الناس، وملكهم، والههم .. ؟! ". الذي ظهر لي، كأن ربنا (والله أعلم) يقول لهم: "هذه ثلاث قضايا، متماثلة متكاملة، كل قضية مستقلة بنفسها، مع ارتباطها باختها. فهو: (رب الناس) أي خالقهم وحافظهم، وهو: (ملك الناس) أي مالكهم المتصرف فيهم. وهو (اله الناس) أي المستحق وحده لعبادتهم، لا يجوز أن يكون له شريك فيها .. ". ومقتضى ذلك أن تصدقوا بالقضايا الثلاث، أو أن تنكروا القضايا الثلاث، فما بالكم: تصدقون بالاولى والثانية، وترفضون الثالثة؟ كيف تفرقون بين المتماثلات؟ فتقبلون بعضا وتأبون بعضا؟ والثلاث سواء في الثبوت، لا سبيل إلى التفريق بينها في الحكم؟.

توحيد الألوهية

توحيد الألوهية روح العبادة الايمان بان الله رب العالمين، وأنه مالك الكون، عمل من أعمال القلب، عقيدة يعتقدها الانسان. أما الايمان بأنه الاله، فلا يقتصر على الاعقتاد، بل يتعداه إلى السلوك والعمل. وإلى القيام بالعبادة، وافراد الله بها. فان استنكف عن عبادته، أو عبد معه غيره لم يكن مؤمنا، وإن صدق واعتقد أن الله هو رب العالمين، ومالك الكون. فما هي العبادة؟ أول ما يبدر إلى الذهن، ان العبادة هي الذكر والصلاة والصيام وتلاوة القرآن وأمثال ذلك مما يقرب إلى الله وهذا حق، ولكن العبادة لا تقتصر على هذا، بل ان كل عمل نافع، لم يمنعه الشرع، يعمله المؤمن ابتغاء ثواب الله، يكون عبادة. يأكل ليتقوى على الطاعة فيكون أكله بهذا القصد عبادة، وينكح ليعف نفسه وأهله، فيكون نكاحه عبادة، وبمثل هذا القصد يكون كسبه المال عبادة، وانفاقه على أهله عبادة، وتحصيله العلم والشهادات عبادة، وشغل المرأة بأعمال بيتها، وخدمة زوجها، ورعاية أولادها عبادة، وكل عمل مباح ان قصد فاعله قصدا فيه رضا الله كان عبادة، فالعبادة يتسع معناها حتى يشمل كل أعمال الانسان النافعة، ويحيط بها كلها. ولعل هذا هو المعنى المقصود بقوله تعالى: {وما خلقت الجنَّ والانس الا ليعبدون .. }.

روح العبادة

روح العبادة: والعبادة لها روح ولها جسد، فروحها العقيدة التي دفعت اليها، والغاية التي عملت من أجلها، وجسدها عمل الجوارح، من لفظ اللسان، وحركات الجسم. الصلاة مثلا حركات وألفاظ، قيام وقعود، وركوع وسجود، وتلاوة وذكر وتسبيح، ولكن هذا كله جسد الصلاة، فان لم يكن الدافع اليه توحيداً صحيحاً، وعقيدة سليمة، ولم يكن المقصود به امتثال أمر الله، وطلب رضاه، كانت الصلاة جسدا ميتا لا روح فيه. توحيد الألوهية الأساس في توحيد الألوهية الأساس أن نعتقد ان الله وحده هو النافع وهو الضار، ولا بد لهذا من شيء من البيان: الله خالق كل شيء، أوجد العوالم، وبث فيها من كل شيء. وأعطانا العقول وقال لنا: فكروا بعقولكم في هذه الأشياء التي خلقتها، وانظروا ماذا في السموات والأرض، فنظرنا فوجدنا ان الله الذي خلق هذه الأشياء، قد سلط بعضها على بعض، فالنار اذا مست الشجرة اليابسة أحرقتها، والماء اذا صب على النار أطفأها، والبعوضة (¬1) اذا لدعت الانسان أصابته بالبرداء (الملاريا)، والمادة التي في قشور شجرة (الكينا) اذا دخلت جسد المريض شفته من البرداء. وانه جعل بين هذه الأشياء روابط، وجعل اجتماعها بمقادير قدرها، وامتزاجها بنسب عينها ينتج عنه أشياء جديدة. فـ (الكلور) وهو مادة مؤذية، و (الصوديوم) وهو مادة مؤذية، اذا اجتمعا كان منهما مادة نافعة لا بد للانسان منها، ولا يستغنى عنها وهي ملح الطعام. 1 - ووجدنا أن الروابط والعلاقات، تتبع كلها قواعد ثابتة، وأساليب معينة، لا تتبدل ولا تتغير هي سنن الله في الكون، التي اصطلحنا على تسميتها (قوانين الطبيعة). ¬

(¬1) أعني النوع المعروف منها.

2 - وان هذه الروابط بين الأشياء التي سميناها قوانين الطبيعة، ليست كلها كالعلاقة الظاهرة بين النار والخشب الذي نحرقه، والنار والماء الذي يطفئها، ليست كلها بهذه (البساطة (¬1)) وهذا الظهور، بل ان أكثرها أدق وأعمق. الله وضع في هذا الكون دواء لكل داء، ولكن لم يضع الدواء في مكان باد للعين، ولم يجعله (جاهزاً) معداً للاستعمال، بل جعله (تعالت حكمته) مخبوءاً في أوضاع عجيبة، وفي أماكن لا يظن أنه موجود فيها، فـ (البنسلين) الشافي، وضعه ربنا في العفن الاخضر، الذي يبدو انه سم مميت، كما وضع أجمل العطور ذوات الروائح العبقة، وأبدع الاصبغة ذوات الألوان الزاهية، في أقبح مادة ريحا وأبشعها شكلا، المادة السوداء القبيحة التي اسمها القطران، ومنها تستخرج العطور والألوان! ولم توضع وضعا قريبا، بل ان العنصر المؤثر المطلوب، جعله ربنا ممزوجاً بمواد اخرى، متداخلا معها، يحتاج استخلاصه منها إلى عمليات وتجارب وجهود، ومن قرأ كتاب (التلميذة الخالدة) (¬2)، علم كيف احتاج استخراج (غرام الراديوم)، إلى تصفية ركام هائل كالتل الصغير، من مواد مختلفة، واجراء العمليات المتعاقبة عليها، التي استمر اجراؤها سنين. 3 - ولم نكتشف إلى الآن من هذه (النواميس) الكونية التي وضعها خالق الكون الا قطرة من بحر، رأينا فيها العجب العجاب، وصنفنا هذا القليل الذي كشفناه في زمر وأصناف سميناها (علوما)، فكان منها علم الحياة، وعلم الكيمياء، وعلم الفيزياء، وعلم الجسم (الفسيولوجيا)، وعلوم الطب، وسائر العلوم. وانقطع إلى كل علم منها ناس منا، تفرعوا لفهم قوانين الله فيه، وكشف المزيد منها، فكان منهم علماء الحياة، وعلماء الكيمياء، وسائر العلماء. ¬

(¬1) البساطة في اللغة السعة ولكني قصدت بها المعنى العامي. (¬2) قصة مدام كوري وزوجها. وأرجو أن يقرأ الطلاب هذا الكتاب، ليروا كيف يكون الصبر على تحصيل العلم. وفي سير علمائنا الأولين مئات الأمثلة على مثل هذا الصبر، وعلى الاخلاص للعلم والجد فيه.

4 - ووجدنا ان في الكون أشياء تضرنا وأشياء تنفعنا، وأن النفع والضرر على نوعين. منه ما يكون بسبب ظاهر، تطبيقا لقانون من قوانين الطبيعة، التي كشفناها وأدخلناها في نطاق علومنا، كمن يقف قلبه بتناول مادة سامة عرفناها، وعلمنا - بالتجربة - تأثيرها في القلب، ومنه ما يكون بغير سبب ظاهر، ولا يستند إلى قانون معروف، كمن يكون قوي الجسد، صحيح الجسم فيقف قلبه فجأة، بسكتة قلبية لا نعرف سببها. وكلا النوعين من الله، فالله وحده هوالنافع، وهو الضار. 5 - والله قد فطر الانسان على جلب النفع، فهو يتخذ لجلبه كل وسيلة. وفطره على كره الضرر، فهو يستعمل لدفعه عنه كل حيلة. ويستعين على ذلك بكل طاقة ممكنة، وهذه الاستعانة منها ما يجوزه الدين، ومنها ما يمنعه، ويراه منافيا للايمان. فما هي الاستعانة المشروعة، وما هي الاستعانة الممنوعة؟ اذا مرض ولدك، وكان الطبيب إلى جوارك يسمع كلامك (فدعوته)، ففحص عن المرض، ووصف له الدواء، كانت هذه استعانة مشروعة، لأنك استعنت على الشفاء بالقانون الطبيعي، الذي وضعه خالق الكون، وبالرجل العالم بهذا القانون. ولكن ان دعوت دجالا أو ساحراً، ليعمل على شفائه بلا علم، ولا قانون، بل بقوى غيبية يزعم الاتصال بها، لم يثبت وجودها بالعلم الحسي، ولا بالدليل السمعي (¬1) كانت استعانة ممنوعة. وإن جئت قبر الطبيب بعد موته، فدعوته وهو لا يقدر أن يفحص المريض، وأن يصف الدواء، كانت استعانة ممنوعة. وان عجز العلم ولم ينفع الدواء، فتوسلت إلى الشفاء بالدعاء، أو بالصدقة، أو طلبت من رجل صالح أن يدعو لك، كانت هذه استعانة مشروعة، وان وقفت على قبر الرجل الصالح، فاستعنت به وهو لا يملك تحريك لسانه بالدعاء لك، ولا يقدر من عند نفسه على شفاء مريضك، كانت هذه استعانة ممنوعة. ¬

(¬1) الدليل السمعي: هو آية من كتاب الله تعالى، أو حديث ثابت من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

التحليل والتحريم لله وحده

وتوسلك إلى الشفاء بسقي المريض الدواء الذي وصفه له الطبيب مشروع، ولكن ان أخذت الوصفة فجعلتها (حجابا) علقته بعنق المريض، أو نقعتها وسقيته ماءها، واعتقدت ان ذلك يشفيه فذلك ممنوع. وطلبك النفع بأشياء لم يجعلها الله سبباً ظاهراً له ممنوع، فالمرأة العاقر التي تشتهي الولد، اذا استعانت بطب الأطباء، وبالأدوية التي أنزلها الله، المستخرجة وفق قوانين العلم، لم تأت أمرا ممنوعا ولم تخالف الدين. ولكن اذا اعتقدت (كما كان يعتقد عجائز الشام (¬1)): ان قرع حلقة (جامع الحنابلة) في جبل قاسيون أول جمعة من رجب، يسبب لها الحبل، أو توسلت إلى ذلك بربط خرقة على شباك أحد القبور، تكون قد ارتكبت ممنوعاً، وخالفت عقيدة التوحيد. فتبين من هذا ان الاستعانة بقوانين الطبيعة، والرجوع إلى الرجل العالم بها، واتخاذ الأسباب المعتادة الحصول النفع، كل ذلك جائز مشروع، على أن نذكر أن النافع في الحقيقة هو الله تعالى وحده دون سواه. وان الاستعانة بقوة غيبية مزعومة، لم يؤيدها العلم التجريبي ولم يثبتها الدليل السمعي، انما هي استعانة ممنوعة، منافية لعقيدة التوحيد. توحيد الألوهية التحليل والتحريم لله وحده وهذه المنافع التي نصل اليها بتطبيق قوانين الطبيعة منافع دنيوية، لأن الله سلط عقولنا على كشف هذه القوانين، ولم يسلطها على كشف ما وراء المادة، ولا على جلب المنافع الأخروية. فنحن نعمل على جلب النفع، ودفع الضرر، في حدود المادة، وفي هذه الدنيا، ولا نملك لأنفسنا في العالم الآخر نفعاً ولا ضرراً. ولما كان الله قد جعل للنفع الاخروي سببا، وهذا السبب هو عمل الواجب وجعل للضرر الاخروي سببا، وهذا السبب هو فعل الحرام، كان ¬

(¬1) وكما يعتقد نساء ايطاليا، ان من تتطاول بكلتا يديها إلى نافذة ضريح أحد القديسين، يزول عقمها اذا كانت عقيما. ولنساء أوربا وأميركا اعتقادات أغرب من هذا.

حب الله وخشية الله

التحريم والتحليل، الذي يترتب عليه الثواب والعقاب لله وحده، وليس لاحد أن يقول برأيه، هذا حلال وهذا حرام. وليس لأحد أن يوجب أمراً لم يوجبه الله، أو يحرم أمراً لم يحرمه الله، ومن أعطى حق التحليل والتحريم لغير الله، يكون قد عبده من دونه، أو شاركه معه في عبادته (¬1). توحيد الألوهية حب الله وخشية الله الانسان يحب ويكره، يحب الطعام اللذيذ، ويحب المنظر الجميل، ويحب الرجل المرأة، وقد يبالغ في هذا الحب (أي: العشق)، فيفيض عليه - كما قدمنا - بعض مظاهر العبادة، ولكنه يبقى مع ذلك مقيدا محدودا ككل، حب بشري. فنحن نحب المنفعة التي ننالها من الشيء الذي نحبه، أو اللذة التي نحس بها بقرب الشخص الذي نعشقه، فاذا أصيب المحبوب بمرض مشوه تتساقط منه الجوارح، ويذهب معه الجمال، او فسد الطعام وركبه العفن، أو تبدل المنظر وذهب منه الجمال، انتهى هذا الحب، بل ربما تحول إلى كره. أما حب الله الذي يحسه المؤمن فهو حب مطلق غير مقيد ولا محدود، بل ان ما نحبه في الدنيا، انما نحب فيه الخالق الذي خلقه وأوجده، وسخره لنا وأقدرنا على الانتفاع به، او التلذذ بمرآه أو ملمسه. والانسان يخشى كثيرا من المخلوقات، يخشى النار المشتعلة، والوحش المفترس، والسم المميت، والظالم القوي. ولكنها خشية محدودة مقيدة، هي البعد عن الضرر الكامن في المخوف، او الناشئ عنه. فاذا أمن الضرر ذهب من نفسه الخوف، أما خوف الله فمطلق غير مقيد ولا محدود. وحب الله والخشية منه، هما من أسس التوحيد، وهما روح العبادة. ولا ¬

(¬1) ولو ان مسلما شرب الخمر وهو معتقد حرمتها معترف بذنبه، وآخر ادعى ان شراب الليمون - مثلا - حرام، لكان ذنب من حرم الحلال بلا دليل، أكبر من ذنب من ارتكب الحرام بلا انكار لحرمته. ولقد قرن ذلك في القرآن بالشرك: ? وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء ?.

أيات الصفات

بد من التنبيه على ان حب الله ليس معناه نظم قصائد الغزل بالله كما فعل ابن الفارض، ولا تسميته بالعشق الالهي كما نسبوا إلى رابعة العدوية. وخوف الله ليس معناه الفزع المؤدي إلى الكره، ولا الجزع الموصل إلى الاختلال، بل ان حب الله بطاعته وإيثار مرضاته على شهوات النفس، ووساوس الشيطان، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به: {قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني ... } فالاتباع هو مقياس الحب، وخوفه باجتناب محرماته، وايثار لذة الثواب في الآخرة، على لذة المعصية في الدنيا. ثم ان الطاعة لله ليست كالطاعة لمخلوقاته، فنحن نطيع بعض البشر اما امتثالا لأمر الله كطاعة الرسول، او استجابة لدواعي الطبع، أو خوفا من الخطر. فالشعب يطيع الحاكم، والولد يطيع الوالد، والمرأة تطيع الزوج، والانسان يطيع من أحسن اليه اذا أمره بما لا يضره، وقد يكره أحدنا على الطاعة فيطيع خوفا من الأذى، ولكن هذه كلها (عدا طاعة الرسول فهي من طاعة الله) كلها طاعة محدودة، ليست الطاعة المطلقة التي لا حد لها، لأن الطاعة المطلقة لله، الطاعة في كل شيء، الطاعة فيما يسرنا وما يسؤونا، فيما نفهم حكمته وما لا نفهم حكمته، وهذه الطاعة هي ثمرة حب الله، وهي الدليل عليه. توحيد الألوهية أيات الصفات لقد اجتنبت في هذا الكتاب الخوض في المسائل الكلامية، وأعرضت عن سرد اختلافات المتكلمين، ولكن مسألة (آيات الصفات) قد طال فيها المقال، وكثر الجدال، ولا بد من بعض البسط للكلام فيها. لقد وصف ربنا نفسه في القرآن بألفاظ موضوعة في الأصل للدلالة على معانٍ أرضية، ومقاصد بشرية، مع أن الله ليس كمثله شيء، وهو الرب الخالق، تعالى عن أن يشبه المخلوقين. ولا يمكن أن تفهم هذه الألفاظ حين اطلاقها على الله، بالمعنى نفسه الذي تفهم به حين اطلاقها على المخلوق.

فنحن نقول فلان عليم، وفلان بصير، ونقول ان الله عليم، بصير، ولكن الكيفية التي يعلم بها العبد ويبصر - ليست هي التي يعلم بها ربنا ويبصر. وعلم العبد وبصره ليس كعلم الله وبصره، كذلك نقول استوى المعلم على منبر الفصل، ونقول استوى الله على العرش، ونحن نعرف معنى الاستواء (القاموسي) ونطبقه على المعلم، ولكن هذا المعنى لا يمكن أن يكون هو بذاته المقصود حين نقرأ {الرحمن على العرش استوى}. هذا كله متفق عليه بين العلماء، فهم جميعا مقرّون بأن آيات الصفات هي كلام الله. فاذا قال الله {ثم استوى على العرش}. لم يستطع أحد أن يقول: ما استوى. وهم جميعا معترفون بأن المعنى القاموسي البشري لكلمة (استوى). ليس هو المراد من قوله (استوى على العرش). ولكنهم مع ذلك اختلفوا اختلافا كبيرا، في المراد المقصود، بعد اتفاقهم على ترك التعطيل والتشبيه، تساءلوا: هل هذه الآيات حقيقة أم مجاز؟ وهل تؤوّل أم لا تؤول؟ أما الذين أوّلوا فقالوا بأن الحقيقة هي استعمال اللفظ بالمعنى الذي وضع له. وهذا هو تعريف الحقيقة عند عامة علماء البلاغة. ولا شك ان اللسان العربي الذي نزل به القرآن. وضعت فيه هذه الألفاظ قبل نزول القرآن. ووضعت لمعانٍ أرضية مادية، حتى انها لتعجز عن العبير عن العواطف والمشاعر البشرية. فضلا عن التعبير عن صفات الله خالق البشر، فان مظاهر الجمال وأشكاله لا حدّ لها، وما عندنا لها كلها الا كلمة (جميل) وأين جمال المنظر الطبيعي، من جمال القصيدة الشعرية، من جمال العمارة المزخرفة من جمال الغادة الحسناء؟ وفي النساء ألف لون من ألوان الجمال، وما عندنا لها كلها الا هذا اللفظ الواحد، فاللغات تعجز عن وصف الشعور بالجمال وكذلك القول في الحب، في تعداد أنواعه. واختلاف مشاعره. وضيق

الفاظ اللغة، عن وصف هذه الأنواع. ونعت هذه المشاعر فكيف تحيط بصفات الله، وتشرح كيفياتها؟ واذا كانت الحقيقة هي (استعمال اللفظ فيما وضع له) وكانت ألفاظ: استوى - وجاء - وخادع - ويمكر - ونسيهم. انما وضعت للمعاني الأرضية البشرية المادية، وكان استعمالها في القرآن في قوله {استوى على العرش} {وجاء ربك} {وهو خادعهم} {ويمكر الله} وقوله {فنسيهم} في غير هذا المعنى المادي الأرضي البشري الذي وضعت له - لم تكن اذن (حقيقة) بمقتضى تعريفهم هذا للحقيقة. ومن ينكر انها مجاز، ومنهم ابن تيمية، يعرّف (الحقيقة) تعريفا آخر خاصاً به، غير التعريف الذي جرى عليه البلاغيون ويقول ما معناه: ان تأويل هذه الألفاظ، أي تفسيرها تفسيرا مجازيا، والجزم بأنه هو المراد مردود، لأن المعاني المجازية هي أيضاً معانٍ بشرية. ولقد نظرت فوجدت أن هذه الآيات على ثلاثة أشكال: 1 - آيات وردت على سبيل الاخبار من الله، كقوله: {الرحمن على العرش استوى}. فنحن لا نقول: "انه ما استوى"، فنكون قد نفينا ما أثبته الله. ولا نقول انه استوى على العرش، كما يستوي القاعد على الكرسي، فنكون قد شبهنا الخالق بالمخلوق، ولكن نؤمن بأن هذا هو كلام الله، وان لله مرادا منه لم نفهم حقيقته وتفصيله، لأنه لم يبيّن لنا مفصلا، ولأن العقل البشري (كما قدمنا) يعجز عن الوصول إلى ذلك بنفسه. 2 - آيات، وردت على الأسلوب المعروف عند علماء البلاغة بالمشاكلة، والمشاكلة هي كقول القائل: قالوا اقترح شيئاً نجدْ لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً وقول أبي تمام في وقعة عمورية، يرد على المنجمين الذين زعموا ان النصر لا يجيء الا عند نضج التين والعنب:

تسعون الفاً كآساد الشرى نضجت ... جلودهم قبل نضج التين والعنب والآيات الوادرة على هذا الاسلوب كثيرة، كقوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم}. فكلمة (نسوا) جاءت على المعنى (القاموسي) للنسيان. وهو غياب المعلومات عن الذاكرة. ولكن كلمة (فنسيهم) جاءت مشاكلة لها، ولا يراد منها ذلك المعنى، لأن الله لا ينسى: {وما كان ربك نسياً}. ونقول بعبارة أخرى: ان كلمة (نسوا) استعملت بالمعنى الذي وضعت له. وكلمة (فنسيهم) استعملت بغير هذا المعنى. ومثلها قوله {وهو معكم اينما كنتم} اتفق الجميع على انها معيّة علم لا معيّة ذات، لأن صدر الآية ينص على أن الله استوى على العرش. مثلها قوله {سنفرغ لكم أيها الثقلان}، وقوله {ومكروا ومكر الله} وقوله {يخادعون الله وهو خادعهم}. كل هذه الآيات لا يجوز فهمها بالمعنى القاموسي، الماديّ، بل بمعنى يليق به جلّ وعلا. آيات دلت على المراد منها آيات اخرى. كقوله تعالى: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت ايديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء}. تدل على المراد منها آية: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط}. ويفهم منها ان بسط اليد يراد به الكرم والجود، ولا يستلزم ذلك، (بل يستحيل) أن يكون لله تعالى يدان كأيدي الناس والحيوان تعالى الله عن ذلك. وقد جاء في القرآن قوله:

المحكم والمتشابه

{بين يدي رحمته}، و {بين يدي عذابٍ أليم}. والقرآن {لا يأتيه الباطل من بين يديه}. وليس للرحمة ولا للعذاب ولا للقرآن، يدان حقيقيتان. توحيد الألوهية المحكم والمتشابه بين الله في القرآن، ان فيه آيات محكمات، واضحة المعنى، صريحة اللفظ، وآيات وردت متشابهات، وهي التي لا يضح (¬1) المعنى المراد منها تماما بل تكثر افهام الناس لها، وتتشابه تفسيراتها حتى يتعسر أو يتعذر معرفة المراد منها، وآيات الصفات منها، وان على المؤمن، الا يطيل الغوص في معناها، ولا يتتبعها فيجمعها، ليفتن الناس بالبحث فيها (¬2). توحيد الألوهية موقف المسلمين منها وكيف فهموها المسلمون الاولون، وهم سلف هذه الامة، وخيرها وأفضلها، لم يتكلموا فيها، ولم يقولوا انها حقيقة، ولم يقولوا انها مجاز، ولم يخوضوا في شرحها، بل آمنوا بها كما جاءت من عند الله على مراد الله. فلما انتشر علم الكلام، وأوردت الشبه على عقائد الاسلام، وظهرت طبقة جديدة من العلماء، انبرت لرد هذه الشبه، تكلم هؤلاء العلماء في آيات الصفات، وفهموها على طريقة العرب، في مجاوزة المعنى الأصلي للكلمة اذا لم يمكن فهمها به إلى معنى آخر، وهذا ما يسمى: (المجاز)، او (التأويل) (¬3). ¬

(¬1) يضح: هي الفعل المضارع من الفعل الماضي (وضح). ومثلها: وعظ - يعظ. (¬2) ومن جمعها كلها، وألقاها على التلاميذ، فقد جانب طريقة السلف لا سيما اذا ضم اليها أحاديث الآحاد المروية في مثلها - والتي لا تعتبر دليلا قطعيا في أمور العقائد. (¬3) التأويل: من آل الأمر إلى كذا أي: صار، وأوله اليه (على وزن فعل) أي: صير، ولفظ (التأويل) جاء في القرآن بمعنيين: تأويل لفظي أي بيان ما ينتهي اليه معنى اللفظ (ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا) وتأويل عملي - أي بيان ما تنتهي اليه الحال (يوم يأتي تأويله) ومن هنا فرق المتأخرون بين التأويل والتفسير، فالتأويل ما بينا والتفسير كشف المعنى من فسر (مثل سفر) أي انكشف.

مظاهر العبادة

وهو موضع نزاع بين العلماء طويل. والحق ان هذه الآيات نزلت من عند الله، من أنكر شيئاً منها كفر. وان من عطلها تماما، فجعلها لفظا بلا معنى كفر. ومن فهمها بالمعنى البشري، وطبقه على الله فجعل الخالق كالمخلوق كفر والمسلك خطر، والمفازة مهلكة، والنجاة منها باجتناب الخوض فيها، واتباع سنن السلف، والوقوف عند حد النص، وهذا ما أدين الله به، وما أعقتده. مظاهر العبادة غاية العبادة القلب الذي يؤمن بأن النفع والضرر كله من الله، وان التحليل والتحريم لله، وان الحب المطلق والخوف المطلق والطاعة المطلقة لله، يمتلئ بتعظيم الله، ويستعشر معنى (الله أكبر)، فيصغر معه كل شيء في جنب الله. ولما كان في أعمال الانسان ما يدل على التعظيم المطلق، كالدعاء والصلاة، والركوع والسجود، والنذر والذبح، والتسبيح والتهليل. فان المؤمن لا يصنعها الا الله، فلا يصلي لسواه، ولا يركع ولا يسجد الا له، ولا يقول لأحد غيره: سبحانك، ولا يطلب غفران الذنوب إلا منه، لأن هذه كلها من مظاهر التعظيم المطلق، الذي هو سرّ العبادة. ومن أعظم مظاهره الدعاء، والدعاء في اللغة النداء، والشرع لا يمنع أن تدعو (أي تنادي) انسانا حيا يسمع صوتك، ليعينك بعلمه أو قوته، على جلب النفع لك، وليس هذا هو الدعاء الذي نتكلم عنه، بل الدعاء الذي نقصده هنا، والذي هو مخّ العبادة، هو طلب جلب النفع ودفع الضرر بلا سبب مادي ظاهر، وهذا الذي لا يوجّه الا الله وحده، رأسا بلا واسطة، فلا يطلب الشفاء نفسه من الطبيب ولو كان حيا، لأن الطبيب يصف الدواء والشفاء من الله، فأولى الاّ يطلبه - أو يطلب ما يشابهه - من ميت أو من جماد، لأنه لا يمنح النفع بلا سبب ظاهر الا الله.

فالمؤمن يتخذ الأسباب، ثم يطلب المسبب من الله، وما لا يعرف الناس له سببا يطلبه من الله وحده، يدعوه ويقول: "يا الله"، ويعتقد ان بابه مفتوح، وان اجابته حاصلة لا يدعو غيره بدله، ولا يدعو غيره معه، وال يتخذ غيره وسيطا في الدعاء بينه وبينه. هذا هو الدعاء الذي هو مخّ العبادة. غاية العبادة: قلت ان للعبادة جسدا هو الألفاظ التي ينطق بها اللسان، والأعمال التي تقوم بها الأعضاء، ولها روح وروحها العقيدة التي دفعت اليها، والغاية التي عملت من أجلها، أي النتائج التي قصدها من عملها وقد شرحت جانبا من هذه العقيدة، وسألمّ الآن بطرف من هذه المقاصد. المقصد الصحيح للعبادة: أن يكون الباعث عليها، والمقصود بها رضا الله، فلا نعملها للمال، ولا للجاه، ولا لنيل اعجاب الناس، ولا نتخذها سلما إلى متع الدنيا، ولا نريد بها الشهرة بالصلاح، وهذا المقصد الصحيح يسمى (الاخلاص)، وما يداخله من المقاصد الاخرى يدعى (الرياء)، والذي يحدّد المقصد من العمل هو (النية). والله لا يسألنا يوم القيامة عن الأعمال فقط بل يسألنا لماذا عملناها، وقد يكون العمل صالحا في ذاته ولكن لم يصح المقصد منه، ولم تسلم النية، ولم تكن خالصة لله، فيتحول صلاحه إلى فساد، وحسنه إلى قبح. الصلاة مثلا عمل صالح، ولكن اذا كانت نية المصلي أن يراه الناس، فيعتقدوا صلاحه فيعطوه الأموال، ويهدوا إليه الهدايا. ولم يصل امتثالا لأمر الله، وطلبا لرضاه، كانت صلاته هذه عملا سيئا، وان كانت الصلاة في الأصل من الأعمال الحسنة. لذلك تفاوتت هجرة المهاجرين، فكان منها الحسن والسيء، وان كان ظاهرها واحدا، وكانوا جميعا قد اشتركوا في السفر والارتحال، ومشوا في وقت واحد، في طريق واحد. فمن كان يقصد الفرار بدينه، ورضا ربه، كانت سفرته هجرة لله، يثاب عليها ثواب المهاجرين، ومن كان خاطبا امرأة في

الخلاصة

المدينة، يريد زواجها، فلما رأى المهاجرين، قال في نفسه: اني أصحبهم لأتزوج بهذه المرأة. أو كانت له تجارة فصحبهم ليعمل في تجارته، وكان هذا وحده هو مقصده من السفر، كانت سفرته للدنيا، ولم تكن لله. والنيات هي التي تفرق بين العادة والعبادة، فمن أفاق متأخرا، ومضى إلى عمله مستعجلا، وشغل عن طعامه وشرابه، فلم يدخل جوفه شيئا إلى الغروب، يكون قد قام بكل ما يطلب من الصائم ولكن لم ينل ثواب الصائمين، لأنه ما نوى الصيام ولا قصده (¬1)، والأعمال العادية، المباحة غير الممنوعة، اذا قصد بها صاحبها رضى الله، ونوى بها نية صالحة كانت له عبادة، ومن هنا قلنا ان جميع أعمال الانسان النافعة تكون له (بالنية) عبادة، فتشمل العبادة الحياة كلها، ويكون المرء متعبدا في طعامه وشرابه، وقيامه وقعوده، وكسبه وزواجه، ومن هنا يكون الفهم الصحيح لقوله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون}. فتكون العبادة بهذا المعنى الشامل، هي غاية الخلق. مظاهر العبادة الخلاصة فتلخص من ذلك أن توحيد الالوهية - وهو القسم الرابع والقسم الاخص من الايمان بالله هو أن نعتقد ان النفع والضرر كله من الله وحده، فلا تطلب النفع الا منه، اما عن طريق السنن التي وضعها لهذا الكون المسماة بقوانين الطبيعة، واما منه رأسا بالدعاء، تدعوه وحده، لا تدعو غيره، ولا تدعوه مع غيره، ولا تتخذ اليه وسيطا، ولا تستعين الا به أو بالأسباب التي جعلها طريقا للنفع، مع ملاحظة أنه هوالنافع لا مجرد السبب، وأن تخصه بالحب المطلق الدافع إلى الطاعة المطلقة، والخشية الدافعة إلى اجتناب ¬

(¬1) وهذا لا يعارض ما ذهب اليه الحنفية من صحة الوضوء بلا نية، لمن غسل أعضاء الوضوء كلها لأن (الوضوء) ليس عبادة مستقلة، ولكنه شرط لهذه العبادة، كما يشترط لها: طهارة الثوب والمكان، وستر العورة، وذلك كله يصح ولو بلا نية.

البحث العلمي

المحرمات، وأن تخصه بالتعظيم المطلق، وبكل ما يدل عليه من قول وعمل، وأن تقصد رضاه وحده، لا تقصد بعبادتك الدنيا وأهلها .. مظاهر العبادة البحث العلمي ولما كان الله قد أعطانا العقول، وأمرنا بالنظر في أسرار الوجود، وفي سننه العجيبة، وقوانينه التي أوجدها فيه، وكان علينا امتثال أمر الله، كان درس العلوم الطبيعية، واكتشاف أسرار الوجود عبادة. بشرط الاّ تقف عند معرفة القانون، بل تفكر في الاله العظيم الذي أوجده، فتزداد بهذا الفكر ايمانا بالله، واخلاصا في عبادته، وشرط آخر، هو ان تستعمل هذه الأسرار فيما ينفع الناس، ويرضي الله، لا فيما يضرهم ويؤذيهم، ويسبب في الأرض الفساد. مظاهر العبادة شبهة وردها يسأل كثيرون، ما بال الكافر يعمل على ما ينفع الناس، يوزع الصدقات، ويبني الملاجئ والمستشفيات، ويفتح المدارس، ثم لا يكون له (عندكم) ثواب في الآخرة؟ والرد: ان الله لا يضيع عمل عامل من ذكر وأنثى، ولا يحرم محسنا ثمرة احسانه بل يعطيه ما يطلبه، أليس الجزاء الأعظم أن تعطي المحسن ما يطلبه. فان كان المحسن مؤمنا، مصدقا بالآخرة، وطلب ثوابها، أعطاه الله ثواب الآخرة وان كان (هو نفسه) لا يريد الا الدنيا، الشهرة، والذكر الحسن، وان تكتب الجرائد عنه، ويسجل التاريخ اسمه، أعطاه ما يطلبه. هو لا يريد الآخرة، فلماذا تحزن أنت، وتعترض اذا لم يمنح ثوابها؟. مظاهر العبادة جدال في غير طائل امتلأت كتب علم الكلام بالجدال: في (الصفات) و (الذات)، هل علم الله تعالى (مثلا) بذاته، أم بصفة العلم فيه، وبالتفريق بين صفات الذات، كالعلم والقدرة، وصفات الأفعال كالخلق والرزق. والجدل في كلام الله الذي جر إلى فتنة كبيرة، ما كان لها من داع، هي فتنة الامتحان

وجه الحق فيها

بالقول بخلق القرآن، وفي الحسن والقبح، والصلاح والاصلاح، وفي القضاء والقدر، وارادة الانسان، وأمثالها. ووجه الحق في هذه المسائل، هو رفض البحث فيها، والجدال عليها، وهي (اذا استعرنا لغة المحاكم) دعوى مردودة شكلا. أولا: لأن السلف وهم أفضل المسلمين، وخيار هذه الأمة، من الصحابة والتابعين الكبار ما عرفوها، ولا بحثوا فيها. وكان دينهم أسلم، وايمانهم أصح، وهم قدوتنا في ديننا. ثانيا: لأن من يدقق في أقوال الفرق المختلفة، يجدها كلها مبنية على أساس واحد، هو قياس الخالق على المخلوقين، وتطبيق منطق العقل البشري، وأحوال النفس الانسانية علىالله. وذلك باطل، لأن الخالق لا يشبه بالمخلوق، ولأن الله ليس كمثله شيء. ثالثا: لأن هذه الأمور كلها، مما وراء المادة، أي من عالم الغيب، وقد تقدم في القاعدة الخامسة من قواعد الايمان، ان العقل قاصر حكمه على عالم المادة، لا يستطيع أن يحكم على ما وراء المادة، ولا يستطيع أن يدركه. مظاهر العبادة وجه الحق فيها وأنا أدعو إلى شيء جديد، شيء هو أقرب إلى الحق، وأنفع لنا، هو أن ننقل الموضوع من جدال في صفات الله، إلى سلوك في الحياة يوصل إلى رضاه، فبدلا من أن نبحث (بحثا غير منتج) في القرآن هل هو مخلوق، أم غير مخلوق، نقول، ان القرآن أنزله الله لنعمل به، فلنعمل به، ولنأتمر بأمره، ولنقف عند نهيه. وبدلا من البحث في علم الله، وهل هو بذاته أم بصفة زائدة على الذات، نقول: اذا كان الله يعلم عنا كل شيء من سرنا وجهرنا، وانفرادنا واجتماعنا. فيجب أن نسلك في الحياة سلوكا موافقا لشرع ربنا، حتى يعلم عنا ما يرضيه علينا.

هذا هو الحق، وما مثل من يصنع هذا ومثل من يجادل في صفات الله، الا كمثل طلاب المدرسة، الذين يقال لهم: انها ستأتي لجنة عليا من الوزارة تتولى هي امتحانكم، فالعاقل منهم يقول: اذا كانت هذه اللجنة ستتولى الامتحان، فينبغي أن أستعد وأدرس، ولا أدع من المنهج المقرر شيئا لا أحفظه، والأحمق يجادل في هذه اللجنة، كيف يكون امتحانها، هل تتولاه كلها أم أفراد منها. وهل عددها (شفع) أم (وتر)، وهل تجيء بالسيارة أم بالطيارة، ولا يزال في هذا وشبهه حتى يأتي يوم الامتحان، وهو لم يعد له شيئا. إن الله لا يسألنا يوم القيامة عن شيء مما ينى عليه المتكلمون جدالهم، وأقاموا عليه مختلف مذاهبهم، وملأوا به كتبهم. ولو كان ذلك من شروط الايمان، لبحث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلنتركه كله، فإنه أثر من آثار الفلسفة اليونانية القديمة التي دالت دولتها، وبطلت أكثر نظرياتها، ووهت أدلتها، وحل محلها في مسائل (الميتافيزيك) ما وراء المادة، فلسفة جديدة، لا تقل عنها ضلالا وتخبطا في مهامه الظنون، فلنجعل كتاب الله أمامنا، وليكن عليه اعتمادنا، وما كان فيه من ذكر لأمور مغيبة لم يعرض الا إلى جزء منها، آمنا بما جاء فيه، وفوضنا ما خفي عنا إلى من أنزله علينا.

مظاهر الإيمان

مظاهر الإيمان الايمان والعمل التلميذ الذي يؤمن بأن الامتحان قريب، لم يبق دونه الا اسبوع، ثم لا يستعد له، ولا يهتم به، بل يشتغل عنه باللهو واللعب، لا يكون كامل الايمان بقرب الامتحان. والتائه الذي ترشده إلى الطريق الموصل، فيصدقك ويؤمن بكلامك، ثم يمشي إلى الشمال بدلا من اليمين، لا يكون تام الايمان بصدق المرشد. فالايمان الكامل تبدو آثاره في أعمال المؤمن، وفي سلوكه. الايمان والعمل: فالايمان لا ينفك عن العمل، لأن العمل نتيجة له، وثمرة من ثمراته، وهو مظهره الذي يظهر به للناس. ولذلك قرن الله الايمان بالعمل الصالح. {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون اولئك هم المؤمنون حقاً ... } {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه ... } {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون ... }

الايمان يزيد

{ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ... }. مظاهر الإيمان الايمان يزيد من العلماء من نظروا إلى الايمان، باعتباره عقيدة، لا تقبل التجزئة، فلا يكون المرء إلا واحداً من اثنين: مؤمنا، أو كافراً، ولا توسط بينهما، فذهبوا إلى ان الايمان لا يزيد ولا ينقص. ولكن الجمهور نظر اليه، مقرونا بالعمل الصالح، فرأوه يزيد بازديادها، وهذا هو الحق الذي وردت به النصوص القاطعة، قال تعالى: {واذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ... فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا ... وما زادهم الا إيماناً وتسليماً}. مظاهر الإيمان ترك العمل لا يكفر والعلماء من أهل السنة متفقون على أن مجرد ارتكاب المحرم من غير انكار لحرمته، وترك الواجب من غير انكار لوجوبه، ولا استخفاف به، يعرّض صاحبه لعذاب الآخرة لكنه لا يكفر صاحبه، ولا يخلده في النار. وما ورد في الحديث، من ان الزاني لا يزني حين يزني وهو مؤمن، معناه أنه لا يكون ساعة الزنا ذكرا ان الله مطلع عليه، ولو ذكر ذلك لمنعه منه حياؤه من الله، ولو ان فاسقا أعد عدة الزنا، وهم، فرأى أباه يطل عليه ويراه - هل يستطيع أن يمضي فيه، أم يمنعه منه الحياء من أبيه؟ فكيف لا يمنعه الحياء من الله، وهو ذاكر انه يراه؟. ثمرات الايمان الذكر وثمراته هي هذه الأعمال القلبية، التي لخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في

الحديث الصحيح، بهذه الكلمة الجامعة المانعة، التي تعدّ من جوامع الكلم، ومن دلائل البيان النبوي، الذي لا يدانيه ولا يقاربه بيان بشري، هي قوله في تعريف الاحسان: "ان تعبد الله كأنك تراه، فان لم تكن تراه فإنه يراك". الذكر: وأول هذه الثمرات الذكر، ولقد قرأت عن أحد الصالحين (ونسيت (¬1) اسمه)، ان ابتداء أمره أنه كان له خال متعبد، وكان يلازمه، فقال له: "يا خالي ماذا أعمل لأكون مثلك". فقال له خاله: قل كل يوم ثلاث مرات "ان الله ناظر اليّ، ان الله مطلع عليّ". فقالها، واستمر عليها اسبوعا، فأمره أن يقولها ثلاث مرات في عقب كل صلاة، فقالها، وتركه اسبوعا، وأمره أن يقولها بقلبه بدلا من أن يحرك بها لسانه، فتعود بذلك على أن يكون دائماً ذاكراً مراقباً. وما أمر الله بشيء في القرآن ما أمر بالذكر، ولا أثنى على أحد ما أثنى على الذاكرين. والذكر في لسان العرب الذي نزل به القرآن ذكران: ذكر القلب، وذكر اللسان، وكلاهما ورد في القرآن. فمن ذكر القلب قوله: {إني نسيت الحوت وما أنسانيه الا الشيطان أن أذكره}. أي: ان اتذكره ويخطر على بالي. ومنه: {اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ... يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم}. ومن ذكر اللسان قوله: {واذكر في الكتاب ابراهيم ... واذكر في الكتاب مريم ... اذكرني عند ربك ... واذكروا اسم الله عليه}. ¬

(¬1) وليس تحت يدي وأنا أكتب هذا الكتاب، شيء من المراجع لأرجع اليه في تذكر ما نسيت، ما عندي الا كتاب الله وكفى به مرجعا.

فاذا أردت أن تتحقق لك صفة الذاكر، فتذكر بقلبك (¬1) (أي: بعقلك) وأنت وحدك، وأنت في الملأ، وأنت في السوق، وأنت في الطريق. وتذكر في كل وقت، وعلى كل حال، ان الله يراك، فلا تعمل الا ما يرضيه، فإن أديت واجبا فاذكر انك تؤديه امتثالا لأمره، وان تركت محرما فاتباعا لنهيه، وان عملت مباحا فاقصد به وجها تستحق به الثواب، وان عرض لك طريقان، فاختر منهما ما يدنيك من الجنة ويباعدك عن النار. وان نسيت فاذنبت ذنبا، ثم تذكرت فتب منه، واطلب العفو عنه. {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}. واذكر بلسانك، فان أفضل الذكر ذكر اللسان مع حضور القلب، فان كان الفكر غائبا لا يعي ما يقول اللسان، كان ذكره كلاما بال معنى، كذكر بياع الكعك في الشام ينادي: (الله كريم) لا يقصد ذكر الله، ولكن يبيع الكعك، وذكر بياع الخس ينادي: (الله دايم). وربما كان ذكر اللسان معصية، كمن يسمّي الله على شرب الخمر، ومن يذكر الله في أغاني الفسوق التي تغنيها المغنيات، فان قصد بذلك الهزء، او دلت عليه دلالة ظاهرة، كان ذكره هذا كفراً. وأفضل الذكر تلاوة القرآن، الا في المواضع التي عيّن لها الشارع ذكرا خاصا، كالتسبيح في الركوع والسجود مثلا. والذكر المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما ما يسمى في أيامنا بحفلات الذكر، وكان يعرف عند علمائنا بالرقص لما فيه من القيام والركوع، والانحناء والاستواء، بحركات موزونة، ونغمات معروفة، ولا ينطق فيه بتهليل ولا تحميد، بل بأصوات مبهمة مثل: (آه) و (أح)، ففي حاشية ابن عابدين (¬2) (وهي عمدة المذهب الحنفي) أنه ¬

(¬1) وليس المراد القلب المادي الذي يضخ الدم لأنحاء الجسم، بل المراد مكان الفكر والمشاعر من الانسان. (¬2) الجزء الثالث - صفحة (307) من الطبعة الاميرية.

بين الخوف والرجاء

حرام، الا اذا فعله مغلوبا على أمره، غائبا عن حسه، لم يتعمده ولكن حملته عليه سيطرة العاطفة، وفرط الوجد، فان استحله قد يحكم بكفره. ثمرات الايمان بين الخوف والرجاء وأن يكون المؤمن بين الخوف من عقاب الله، والرجاء لعفوه، يذكر ان الله سريع الحساب وأنه شديد العقاب، فيغلب عليه الخوف، ويذكر أنه عفو رحيم، وأنه أرحم الراحمين، فيغلب عليه الرجاء، فان ملأ قلبه الخوف وحده، يكون قد يئس من رحمة الله: {إنه لا ييأس من رَوْحِ الله الا القوم الكافرون}. وإن ملأ قلبه الرجاء وحده، يكون قد أمن مكر الله. {فلا يأمن مكر الله الا القوم الخاسرون}. وقد قدمنا الكلام بأن الخالق لا يشبه المخلوق، والخوف منه ليس كالخوف من مخلوقاته، فأنت تخاف الأسد الذي يواجهك كاشرا عن أنيابه، مالئا الجو بزئيره، وأنت وحدك أمامه أعزل بلا سلاح، ولكن خوف الله ليس كخوف الأسد، لأن الأسد يمكن درء خطره عنك، ولو أرادك به، والله رب الأسد وخالقه، لا يمكن دفع قضائه اذا كتبه عليك. وأنت تخاف السيل الهدار، يكاد يصل اليك وأنت في مجراه، لا قوة لك على دفعه، ولكنه ليس كخوف الله الذي أجراه، والذي يوقفه ويجففه اذا شاء ويرده إذا أراد، والسيل يمكن الفرار منه، والابتعاد عنه، وعذاب الله اذا وقع، ما منه مفر. وأنت تخاف الأمراض والآفات، وفقد الاحباب، وذهاب المال، ولكن ذلك ليس كخوف الله، الذي بيده الأمر كله، ان شاء ابتلاك به، وان شاء عافاك منه، وما في الوجود شيء يعافيك بما بيتليك به الله. فالمؤمن ينبغي أن يكون بين الخوف والرجاء، اذا وقف في الصلاة فقال: {الرحمن الرحيم}. استشعر الرجاء، وان قال: {مالك يوم الدين}. احس الخوف.

التوكل

وأكثر المسلمين اليوم، غلبّوا الرجاء على الخوف، والأمل بالعفو، على توقي العقاب. على ان المسلم اذا أتى الفرائض، واجتنب المحرمات يكون من الخائفين المتقين، لكنه يخسر الدرجات العالية في الجنة، فهو كالتلميذ الذي يحصل أقل درجات النجاح، لا يرسب في فصله، ولكن لا ينال تقديراً ولا مكافأة، ويكون نجاحه (وسطا) لا (جيدا) ولا (ممتازا). ثمرات الايمان التوكل قال الله تعالى: {إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا}. وقال: {إن الله يحب المتوكلين}. فما هو التوكل؟ وما حقيقته؟ لقد تقدم القول بأن الله جعل فيما خلق من الأشياء النافع والضار، وجعل من سنن الكون ما هو سبب للنفع، وما هو سبب للضرر، فهل التوكل على الله ترك الأسباب؟ لقد كان في المتصوّفة من يرى التوكل في ترك التسبب، لا يعمل لتحصيل الرزق، وينتظر ان يصل اليه رزقه بلا عمل، ويدع مريضه بلا تطبيب، ويرجو أن يناله الشفاء بلا دواء، ويسلك الصحراء بلا زاد، ويأمل أن يجيئه زاده من غير تعب، ويدع طلب العلم، ويعتقد ان العلم يأتيه بلا طلب (¬1)، وهذا مخالف للشرع، فالشرع يقول: {فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله}. ويقول: "يا عباد الله تداووا", ويقول: "وتزودوا" ويقول: "طلب ¬

(¬1) واحتجوا خطأ بقوله: ? واتقوا الله ويعلمكم الله ? مع أنها جملة من آية، من قرأها كلها أدرك انها لا تؤدي هذا المعنى. ولو فرض انه يحتج بهذه الجملة وحدها، وان العلم يكون بالتقوى بلا تعلم، فانه يرد عليهم ان التقوى انما تكون بفعل المأمور به شرعا، ومن المأمور به طلب العلم، فمن لم يعمل بهذا الأمر لا يكون تقياً.

العلم فريضة" فمن ترك طلب العلم وزعم أنه يأتيه فقد خالف الشرع والطبع. ومن الاجانب الذين يعيشون بالمادة وحدها، وللمادة وحدها، من يعتقد ان الأسباب هي التي تصنع المسببات، وان الدواء يشفي بذاته، والسعي هو الذي يوصل وحده إلى النجاح. وهذا مخالف للواقع، فإنه قد يوجد السبب ولا يوجد المسبب، قد يحصل التداوي ولا يكون الشفاء، وقد يكون في المستشفى مريضان في غرفة واحدة، المرض لديهما واحد، والطبيب واحد، والدواء واحد، فيموت الأول، ويبرأ الثاني، وقد يحرث الفلاح الأرض بأحدث الآلات، ويلقي فيها بأحسن البذور، ويضع لها أغلى السماد، فيأتي البرد الشديد، أو الحر الشديد، أو الجفاف المحرق، أو السيل الجارف، فتذهب هذه الأسباب كلها هدرا. فلا الأسباب وحدها توجد المسبب حتما، ولا اهمالها يجوز عقلا، بل الذي يدعو اليه العقل، ويأمر به الشرع، هو أن يتخذ المرء الأسباب كلها، ثم يسأل الله تحقيق النتائج. قيد الناقة وتوكل على الله في حفظها، واقرأ دروسك كلها وتوكل على الله، واسأله النجاح في الامتحان. هذا هو التوكل الحقيقي، ليس التوكل، في اهمال الأسباب، وتعطيل سنن الله في الكون، ولا في نسيان ان الله هو النافع الضار وابتغاء النفع (حقيقة) من سواه. الأسباب لا بد منها، وفي اتخاذها اطاعة لأمر الشرع، واتباع لسنن الله في الوجود. ولكن الأسباب وحدها لا تكفي، لأن النتائج بيد الله، فالمتوكل على الله حقا، من يبذل للوصول إلى المطلوب كل جهد، ويتخذ اليه كل وسيلة مشروعة، ويعتقد ان الموصل هو الله، فيتوكل عليه، ويطلب منه ما يريد.

الشكر

ثمرات الايمان الشكر ويكون بعد ذلك راضيا عن الله، مهما منعه أو أعطاه، فيتحقق بصفة الشكر. {ومن شكر فانما يشكر لنفسه ... وسيجزي الله الشاكرين}. والشكر من ثمرات الايمان، واذا أحسن اليك عبد من عباد الله فلم تشكره، كنت مقصراً عنه، مسيئا اليه، مع أنه واسطة والمحسن الحقيقي هو الله فكيف لا تشكر الله، والله هو الذي أنعم عليك بنعمة السمع والبصر، والصحة والأمن، وسخر لك ما في الأرض، وأعطاك من النعم ما لا تستطيع عده ولا احصاءه؟ ان الانسان لا يعرف قيمة النعمة الا عند فقدها، ان وجعه ضرسه رأى أعظم النعم في زوال الألم، فان زال عنه نسي هذه النعمة، وان احتاج يوما إلى دينار ولم يجده عرف نعمة الغنى، فان هو استغنى نسيها. وان انقطع تيار الكهرباء، وشمل الدار الظلام عرف نعمة النور, فان وجده لم يعد يدرك قدره. فاذا كنت لا تستطيع أن تحصي نعم الله عليك، أفلا تشكره عليها؟ تشكر الله بلسانك بحمده والثناء عليه، فتقول: "الحمد لله ... رب لك الحمد"، وتشكر الله بعملك فتفيض من هذه النعم على من حرم منها، وشكر الغني أن يعطي الفقير، وشكر القوي أن يساعد الضعيف، وشكر صاحب السلطان أن يقيم الحق، ويسير بالعدل. فان كنت من ذوي اليسار، وكان على مائدتك خمسة ألوان، وكان جارك جوعان، فلم تعطه شيئا لم تكن من الشاكرين. ولو قلت بلسانك ألف مرة: (الحمد لله). وتشكر الله بقلبك فتكون راضيا عنه، فانعا بما قسم لك، لا تسخط ولا تستقل النعم، ولا تحسد أحداً على ما أعطاه الله. فمن جمع شكر القلب بالرضا عن الله، وشكر العمل بأن يفيض على

الصبر

المحرومين من فضل (¬1) النعم، وشكر اللسان بأن يكثر من حمد الله، كان من الشاكرين حقا. ثمرات الايمان الصبر والمسلم بين نعمتين، ان أصابه خير فشكر كان له اجر، وان مسه ضر فصبر كان له أجر، فلا يعدل أجر الغني الشاكر، أو يزيد عليه، الا أجر الفقير الصابر. {ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}. وهذه الحياة الدنيا، ليست دار نعيم، وليست تخلو من المكدرات، من انحراف الصحة، أو ضياع المال، أو فقد الحبيب، أو غدر الصديق، أو ذهاب الأمن، هذه طبيعتها التي لا تتغير ... جبلت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الاقذار والاكدار ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار قال تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين ... }. لأنهم مع الأيام ينسون المصاب، ويجدون الثواب، وغيرهم يحمل الألم. ولا ينال شيئاً. مصاعب ومصائب لا بد منها، فإما أن تداويها بالصبر فتنال الاجر، وإما أن تثور عليها، فتزيد ثورتك من عذابك، ولا تدفع عنك ما بك. هذا هو النوع الأول من الصبر، الصبر على المصائب. والنوع الثاني هو الصبر عن المعاصي، صبر الشاب الذي يرى العورات البادية ونفسه تميل اليها، فيغض بصره من خوف الله عنها، ويعرف سبيل اللذات المحرمة، فيمنع نفسه عن سلوكها، على رغبته فيها. صبر ¬

(¬1) فضل النعم: ما يزيد منها، و (الفضل) في اللغة الزيادة.

الانقياد لحكم الشرع

الموظف الذي تعرض عليه الرشوة، تعدل راتبه عن ستة أشهر، فيكف يده عنها، على حاجته اليها. صبر التلميذ في الامتحان اذ يتمكن من سرقة الجواب من الكتاب، فلا يقدم عليها، وان كان نجاحه منوطا بها. المعاصي لذيذة للنفس، فان امتنع عنها، مع تمكنه منها، كان مع الصابرين. والثالث الصبر على الطاعات، على القيام لصلاة الفجر، وترك لذة المنام ودفء الفراش، في الغداة الباردة. على احتمال الجوع والعطش في شهر الصيام، في الصيف الملتهب. على اكراه النفس المحبة للمال، على اخراج الزكاة، وبذل الصدقة. الصبر على التمسك بالدين في هذا الزمان الفاسد، الذي عاد فيه الدين غريبا كما بدأ غريبا، وصار القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، وصار المتدين فيه معرضا لسخرية الناس، وايذاء الحكام، ونقص المرتب، والاخراج من الديار، فمن احتمل ذلك لله وحده قاصدا ثوابه، كان من {الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ... أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ... وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظٍ عظيم ... }. ثمرات الايمان الانقياد لحكم الشرع قلنا بان الايمان عمل من أعمال القلب، سر من الأسرار التي لا يعلم بها الا الله، وانما للناس الظواهر، لذلك ميزنا المؤمن من غير المؤمن بمقاله وأعماله. فالاسلام هو مظهر الايمان، والاسلام في اللغة هو التسليم: (اسلم) و (سلم) بمعنى واحد، فالولد يستسلم لأبيه ثقة به والمحب يستسلم لمحبوبه ميلا اليه، والمهزوم يستسلم لمن هزمه خوفا منه. أما المؤمن فيسلم لحكم ربه استسلاما مطلقا، يطيع له كل أمر، ولو لم يعرف الحكمة منه، ووجه المنفعة فيه، ويدع كل ما ينهى عنه، ولو لم يدرك سر نهيه عنه، وهذا الاستسلام له جانبان: جانب عملي، هو الامتثال بالقول والعمل، وسيأتي

الكلام عنه ان شاء الله، في الجزء المخصص للاسلام من هذا الكتاب، وجانب نفسي هو الذي نبحث عنه الآن، ونحن نتكلم عن الايمان. هذا الجانب هو الرضا القلبي بحكم الشرع، واطمئنان النفس اليه، وأن نعمل الواجب أو نترك الحرام عن اقتناع، ليس في قلوبنا تبرم به، ولا سخط عليه، قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}. وهذا هو الجانب العملي. {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}. وهذا هوالجانب النفسي. فلا يكفي مجرد الاحتكام إلى الرسول، اذا لم يكن في قلوبنا اعتقاد صحة هذا الحكم، والرضا به، والاطمئنان اليه. {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا (بألسنتهم مقرين معترفين بقلوبهم) سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ... }. ومن الناس من يسأل دائماً عن حكمة الشرع في كل أمر ونهي. كأنهم لا يطيعون الا اذا عرفوا الحكمة، وللشرع حكمة لا شك فيها، ولكنها قد تبدو لنا، بالنص أو بالاستنباط، وقد تخفى علينا، افنعصي ربنا اذا لم تظهر حكمة شرعه لنا؟! تصور: انك كلما أمرت ولدك بأمر لم ينفذه، حتى تبين له مقصدك منه، وحكمتك فيه، ولو كان الموقف ضيقا لا يتسع للبيان، ولو كان في الأمر سر لا يجوز معه الاعلان! الا تعد هذا الولد عاصيا لك؟ اولا تنتظر منه أن يطيعك على أي حال، لأنه ولدك ولأنك أبوه؟ ولو أن ضابطا تلقى أمر القيادة فأبى أن ينفذه حتى تشرح له خطتها التي أوحت به، وغايتها من اصداره ألا يستحق العقاب؟

شدة ولين

ان حق الله على العبد لا يقاس بحق الوالد على الولد ولا بحق القائد على الجند، ومن حقه تعالى علينا أن نطيع في المنشط والمكره، والموافق لنا والمخالف لرغبتنا، لا أن نتمحل الادلة، ونتعسف النظر، لنجد قولا في الفقه يرضي أهواءنا؟ ولا أن نجعل من الحضارة الأجنبية، واعرافها التي أخذنا بها حجة على الشرع، فنؤول ما لا يؤول من النصوص، ونتنكب الطريق المستقيم في البحث لنقول ان ديننا لا ينافي هذه الاعراف، ثم اذا تبدلت اعراف (¬1) المجتمع، او تحول مورد هذه الحضارة الاجنبية من الغرب إلى الشرق، بدلنا بحثنا، وجئنا بتأويل جديد. لا، بل الاحتكام إلى الشرع، والعمل بحكمه، والرضا به، والاطمئنان اليه، هذا هو شأن المؤمنين المصدقين حقا بصحة هذا الدين. ثمرات الايمان شدة ولين ومن مظاهر الايمان ودلائله، أن يكون الحب في الله والبغض في الله، نحب المطيع التقي ولو لم يكن لنا منه نفع، ونبغض الكافر الفاجر ولو لم ينلنا منه ضرر. بل اننا نبغضه ونهجره ولو كان مفيدا لنا، ولو كانت تربطنا به أوثق الروابط. ذلك لأن اخوة الدين أقوى عند المؤمن من اخوة الدم، وصلة العقيدة أوثق من صلة النسب. ولقد بين الله لنوح ان ابنه الكافر ليس من أهله، لأنه عمل غير صالح، ونفى أن تكون بين المؤمنين وبين المعاندين الذين يحاربون الدين مودة، و (تعايش سلمي)، مهما كانت قوة الصلات بين الفريقين. فقال: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادَّ الله ورسوله ... }. لا يكرههم على الاسلام اكراها، بل يمنعهم أن يعترضوا سبيله، ¬

(¬1) من هذا التبدل ان نقول يوماً (ديموقراطية الاسلام)، ونقول في يوم آخر (اشتراكية الاسلام). وبذلك ندور كلما دارت الأيام، ونساير هوى الحكام.

التوبة والاستغفار

ويحاربوا دعوته، فان اطمأنوا لدعوتنا ودخلوا في ديننا صاروا منا لهم ما لنا وعليهم ما علينا وان سالموا دعوتنا، سالمناهم وحفظنا لهم حقوقهم وان بقوا على دينهم. فالمؤمن يحب اذا أحب للدين، ويبغض اذا أبغض للدين. فاذا أحب تجلى فيه كرم النفس ورقة الطبع، وبدا منه التسامح والبذل، يذل لأخيه ولا يرى ذلك ذلا، ويؤثره على نفسه بالشيء ولو كانت به حاجة اليه. واذا أبغض ظهر منه الغضب لله، والشدة في الدفاع عن دينه، والبأس في قتال أعدائه، فهو يجمع بين اللين والشدة، والرقة والغلظة. اللين والرقة لاخوانه في الايمان والشدة والغلظة على أعداء الدين أنصار الشيطان. {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ... اذلةٍ على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم (¬1) ... }. هذه حال المؤمنين، لما كانوا من المجاهدين، فلما تركنا الجهاد، وخالفنا الشرع، وصارت شدتنا على أنفسنا، وليننا أمام أعدائنا، سلط الله علينا بذنوبنا من لا يخافه ولا يرحمنا، فملك بلادنا، وتحكم فينا. ثمرات الايمان التوبة والاستغفار خلق الله الانسان وغرز في نفسه حب العاجلة، وطول الأمل، والرغبة في جمع المال، والشهوة لمقاربة النساء، والغضب، والميل إلى البطش والانتقام، وسلط عليه الشيطان يزين له الفواحش، ويحبب اليه المعاصي، ووضع فيه نفسا امارة بالسوء، متشهية للحرام، تعين عليه الشيطان، فكان من نتائج ذلك أنه يأتي المعاصي، ويرتكب الذنوب، فماذا يصنع لينجو من عقاب المعصية وتبعات الذنب؟ إن الله من رحمته به فتح له باب التوبة. قال له: انك تستطيع أن تمحو ¬

(¬1) وإلى جانب هذا الجهاد لا ينسون قوله تعالى: ? لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم ?.

من صحيفتك كل ذنب عملته، فكأنه ما كان، بل (ربما) سجلت لك حسنة، مكان السيئة التي كانت عليك. كدفتر التاجر يكون مقيدا فيه أن له عليك مئة دينار، فلا يكتفي بأن يسامحك بها، ويمحوها لك، بل ينقل قيدها من صفحة الدين الذي عليك، إلى صفحة الدين الذي لك. قال تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً}. وباب التوبة مفتوح، ما دام المرء صحيحا معافى، فان تاب التوبة الصادقة قبلت توبته، ولا يغلق الا ساعة الاحتضار، الساعة التي تصير فيها الروح في الحلقوم، الساعة التي يواجه فيها الانسان الحقيقة، ويرى عياناً ما جاءه به الرسول خبراً، فتكون توبته حينئذ من قبيل تحصيل الحاصل، لأن التوبة هي الرجوع الاختياري إلى الله، وقد أرجع كرها وجبرا، فلم يعد ينفعه الاقرار، بعد أن فقد الاختيار، قال تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريبٍ فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفارٌ ... }. وأول شروط التوبة الانقطاع عن الاساءة والعزم على الا يعود اليها. لو كنت ماشيا في الطريق، ففتح رجل نافذته وألقى عليك ماء وسخا، فلما لمته وشتمته، اعتذر اليك، وهو مستمر بصب الماء عليك، أو امتنع عنه، ولكنه أوعدك بالعودة إلى مثله غدا، فهل تقبل اعتذاره؟ ان للتوبة روحا وجسدا، فروحها استشعار قبح المعصية، وجسدها الامتناع عنها. كمن يمشي على طريق، فيرى لوحة تدله على أنه غير طريقه المقصود، انه يشعر بخطئه، وهذا الشعور هو الأصل. اذ لولا معرفة الخطأ، ما كانت الهداية إلى الصواب، ولكنه اذا اقتصر على هذه المعرفة، ولم يعمل

بمقتضاها، واستمر ماشيا في الطريق المنحرف لم ينفعه علمه بانحرافه، بل انه يكون به أكبر ذنبا، وأعظم تبعة، لأن الذي ينحرف وهو لا يعرف، له بعض العذر، ولكن الذي يعرف الطريق، وينحرف عنه عمدا، لا عذر له (¬1). والشرط الثاني: أن يجعل الاحسان بدل الاساءة، والاصلاح مكان الافساد، أي أن يحقق التوبة، بتبديل العمل، وتعديل السلوك. {كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ... فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ... الا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ... إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم ... }. ومن الاصلاح أن يكون ترك الذنب حقيقيا، وأن تعزم عزما صادقا على الاّ تعود اليه. فان عقدت على ذلك العزم الصادق، ثم غلبتك النفس، أو حملتك الظروف، فعدت اليه، ثم تبت قبلت توبتك، ولو تكررت العودة وتعددت التوبة. أما ان خالط عزمك تردد من الأصل، وقلت في نفسك، اذا اشتدت رغبتي رجعت ثم تبت لا تكون توبتك صادقة ولا مقبولة. هذا في التوبة من حقوق الله، انه يكفي فيها أن تترك الذنب نادما على فعله، عازما عزم الصدق على عدم العودة إليه. أما حقوق الناس: ان كنت ظلمت احدا، أو أكلت ماله، او آذيته في جسده أو في عرضه، أو شهدت عليه زورا، او اغتبته أو وشيت به، أو أشعت عنه قالة السوء، فلا بد في ذلك وأمثاله، من أن تؤدي اليه حقه، أو ينزل لك عنه ويسامحك به، أو يرحمك الله فيرضيه عنك. والا لم تقبل توبتك، وأخذ المظلوم يوم القيامة من حسناتك، أو حمل عليك من سيئاته. ¬

(¬1) الأول ضال ولكن الثاني مغضوب عليه. واليهود من (المغضوب عليهم)، لأنهم عرفوا الحق وخالفوه، ? فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ... ?.

وباب التوبة مفتوح مهما كثرت الذنوب، فلا ييأس أحد من عفو الله، فان اليأس من عفو الله أكبر من كل ذنب. {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً}. فالتوبة هي ترك للسيء و (رجوع) إلى الحسن، أما الاستغفار فهو طلب الغفران من الله، وقد أمر الشرع به، وحث عليه: {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا اليه ... واستغفروا ربكم ثم توبوا اليه إن ربي رحيم ودود ... ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه}. وجاء، مثل ذلك على لسان كل رسول، ينصح به قومه، ويدلهم به على طريق العفو من الله، والنجاة من عذابه. والمذنبون على درجات: أما الذين ماتوا على كفرهم فلا أمل لهم في المغفرة. {إن الله لا يغفر أن يشرك به}. والمشركون في الأصل أشد كفرا من أهل الكتاب ولكن الجميع في حكم هذه الآية سواء، فلا يقال لمن مات كافرا (رحمه الله)، ولا (غفر الله له)، ولا يقال له (المرحوم أو المغفور له فلان). وأما العصاة من المسلمين، الذين ماتوا بلا توبة فأمرهم إلى الله، ان شاء غفر لهم. {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. وان شاء عذبهم بالنار، لكنهم لا يخلدون فيها. ولا يستهن أحد بعذاب النار، ولا يستخفه، فان نار الدنيا وهي نعمة، لا يطيق أحد احتمالها دقائق، فكيف نعرض أنفسنا لعذاب جهنم دهورا؟ وأما التائبون فيتوب الله عليهم بمنه وكرمه، هذا الذي يتوب من بعد الذنب، أما الذي يتوب منه، ويتنبه لنفسه ويدركه خوف ربه، قبل اتمام

الذنب، ويتركه لله مع شدة الرغبة فيه، وعظم الميل اليه. فله أعظم الثواب، كمن يستنزله الشيطان، فيدفعه إلى الزنا، حتى اذا تمت له أسبابه، وشرع به او هَمَّ، فذكر الله، فأعرض عنه وشهوته متعلقة به، ونفسه راغبة فيه، وأين من يقدر على ذلك الا ان أمده الله بقوة منه؟ فلا يجرب هذه التجربة أحد، فأنه يكون كمن يتناول جراثيم المرض الخطر، ان نجا منه اكتسب مناعة تجعله أقوى ممن لم يدن منه المرض، ولكن احتمال حصول المناعة من المرض واحد في المئة، واحتمال الهلاك به تسعة وتسعون. هذا في مرض الجسد، أما الكف عن الذنب، فانه لا يكسبه مناعة من العودة اليه، فمن أراد السلامة من الشر فليبتعد عنه، وليقطع أسبابه، وليسد الطريق اليه، ويهجر من الناس من يرغبه فيه، ويدعوه اليه. فان الصاحب ساحب، المرء على مذهب خليله، وقديما قالوا: "قل لي من ترافق، أقل لك من تكون". فلينتبه لذلك الناشئون، ويطلبوا من الله العون.

الإيمان باليوم الآخر

الإيمان باليوم الآخر نحن والموت نحن والموت على أصناف أربعة: صنف يهتف مع الشاعر الاحمق: ما مضى فات والمؤمَّل غيبٌ ... ولك الساعة التي أنت فيها!! لا يفكر في ماض، ولا يعد لمقبل. يظن الامس (¬1) قد فني، والغد لا يأتي، يقول: (ما مضى فات) ولا والله ما فات، ولكن قيد علينا حسنه وسيئه، في كتاب لا يترك صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها. و (المؤمل غيب)، ولكنه غيب عن الحس، حاضر في النفس موجود عند الله، آت لا شك فيه، وهذا الصنف شر الثلاثة، وهو الذي لا يذكر الموت ولا يفكر فيه. وصنف، يذكر الموت، ولكن كذكر الشاعر الفارسي، عمر الخيام الذي فتن بباطله الناس، يقول: اذا كان الموت حقاً لا شك فيه، وكانت الحياة قصيرة لا بقاء لها، فلنملأها بالعشق والهيام. واذا كانت قد جبلت على المكاره والآلام، فلنهرب منها إلى كأس المدام، فنمضي العمر في شعر ... وسكر ... وعهر ... وصنف يذكر الموت ولكن كذكر أبي العتاهية، ملأ بذكر الموت بيانه، وشغل به لسانه، ولكنه لا يذكر (الا قليلا) ما بعد الموت. فكأنه يقول مع ¬

(¬1) أمس إذا أتت (دون تعريف) تكون مبنية على الكسر، فاذا عرفت بـ (ال) أعربت.

الحياة الأخرى

القائل: "رأيت الموت غاية كل حي". والقائل الآخر: "ان تحت الرجام نوماً طويلاً". وأهل الحق الذين عرفوا أنه ليس غاية ولكنه البداية، وما هو بنوم ولكنه يقظة من النوم، (الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا) وعرفوا ان وراء الموت حياة أطول، حياة لا تكاد تنتهي، اما أن يكون فيها النعيم المقيم، وأما أن يكون فيها العذاب الأليم. وهذا هو الصنف الرابع، صنف المهتدين المؤمنين. الإيمان باليوم الآخر الحياة الأخرى هذه هي الحياة الحقيقية، من أصيب بقصر النظر لم يرها، ومن ابتلي بضعف العقل لم يصدق الخبر عنها، ومن كان له بصر يرى، وعقل يدرك، رأى أن حياة الانسان مراحل. فلقد كان يوماً منطوياً على نفسه، مكوماً في بطن أمه، يعيش بين أحشائها، ولو كان يفكر يومئذ لظن أن هذه هي الحياة فهو يتمسك بها، لا يخرج منها الا مرغماً. ولو كان ينطق لحسب هذا الخروج موتاً ودفنا في الأعماق مع أنه (ولادة)، وانتقال إلى عالم أرحب، هو هذه الدنيا، والذي نراه نحن موتا، وخروجا من هذه الدنيا، هو في الحقيقة ولادة، وانتقال إلى عالم أرحب، إلى عالم البرزخ، البرزخ بين الدنيا المادية الفانية، والحياة الاخرى الباقية. الإيمان باليوم الآخر الاستعداد للموت الانسان مغروز فيه طول الأمل، فهو (غريزة) في نفسه، لذلك كان الموت أقرب شيء في حواسنا منا، وأبعد شيء في أفكارنا عنا. نرى مواكب الأموات تمر بنا كل يوم، ونحس أننا باقون. ونمشي في الجنائز، ونحن نفكر في الدنيا أو نتحدث عنها. ونرى القبور تملأ رحاب الأرض، ولا نفكر اننا سنكون يوما من ساكنيها. استغفر الله، بل تسكنها أجسادنا، وما الاجساد؟ ان الرجل يتوسخ قميصه فيخلعه ويرميه، والطفل يولد فيدع مشيمته ويخرج منها، والرجل يموت فيفارق جسده ويتخلى عنه، وما الجسد الا قميص، يلبس ويخلع، وما يوضع في التراب إلا الجسد.

ساعة الموت من أدلة الايمان

الانسان ينسى الموت، ولكن المؤمن يذكره دائماً، ويكون أبدا على استعداد لاستقباله، يستعد بالتوبة والاستغفار ورد الحقوق، كلما أصبح وكلما أمسى حاسب نفسه. فشكر الله عما وفقه اليه من خير، واستغفره مما وقع منه من شر، يذكر الآخرة، ويخاف يوما تتقلب فيه الوجوه والابصار. يخشى ما بعد الموت من العذاب، ويرجو ما بعده من المكافأة، ويستعين على ذلك بالصبر والصلاة، وفعل الخير ابتغاء رضا الله، واحتسابا لما عنده. الإيمان باليوم الآخر ساعة الموت من أدلة الايمان تأمل قوله تعالى {فلولا اذا بلغت} أي الروح (الحلقوم) وجاءت ساعة الموت التي لا مهرب منها (وأنتم حينئذ) تحفون بالمحتضر الحبيب اليكم، العزيز عليكم (تنظرون) تظهرون العاطفة، تستنجدون الطب، تبذلون الجهد، تعانقونه تحدبون عليه (ونحن أقرب اليه منكم ولكن لا بتصرون) لأن حواسكم لا تدرك الا عالم المادة، وقد أوشك أن يدخل عالم ما وراءها (فلولا ان كنتم غير مدينين) - كما تزعمون - وغير خاضعين لرب الكون ومالكه وكان لكم شيء من الأمر (ترجعونها ان كنتم صادقين) تردون الروح الى الجسد بعدما خرجت منه، تسخرون لذلك عقولكم وعلومكم وأموالكم فان لم تستطيعوا، فلم لا تقرون بأن لهذا الكون ربا، مالكا لكم، هو أحياكم وهو يميتكم وهو بعد ذلك يحييكم؟. الإيمان باليوم الآخر شبهة تافهة قرأت لبعض الملحدين فصلا يسألون فيه ساخرين، يقولون: "اذا كان يموت في لحظة واحدة ميت في اميركا وميت في الصين، فكيف يقبض ملك الموت روحيهما؟ ... ". والجواب (اولا): ان مثل مثل الملك بالنسبة لأرضنا، كمثل أحدنا لو انحنى على قربة فيها آلاف النمل، أو كأس فيها ملايين الجراثيم، بل ان الملك من الملائكة أكبر من ذلك بالنسبة الينا، وما كرتنا الأرضية في كفه الا كحبة قمح في كف واحد من البشر .. هذه واحدة.

يوم القيامة

والثانية: ان لملك الموت أعوانا في قبض الأرواح، قال تعالى: {حتى إذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون}. الإيمان باليوم الآخر يوم القيامة الايمان باليوم الاخر (يوم القيامة) الركن الثاني من أركان العقائد، ولا يكاد يذكر الايمان بالله في القرآن، حتى يقرن به الايمان باليوم الآخر. والمؤمن يذكره دائما، فيكثر من الخير ابتغاء ثوابه، ويبتعد عن الشر ما استطاع خوف عذابه، اذا عرض له محرم لذيذ، ذكر ألم الآخرة على ارتكابه فصرف نفسه عنه، وزهدها في لذته. وان واجه واجبا صعبا، ذكر ثواب الآخرة على فعله، فحمل نفسه عليه ورغبها فيه، تتجافى جنوبهم عن المضاجع، ينفقون في السراء والضراء، يؤثرون على أنفسهم بالخير ولو كانوا أحوج اليهن يفكرون في شدة عقاب الله، فتوجل من سماع اسمه قلوبهم، ثم يتذكرون رحمته فتلين قلوبهم به، وتستريح إلى ذكره. الإيمان باليوم الآخر موعد الساعة لقد صرح القرآن، بأنه لا يعلم موعدها أحد من الخلق، لا يعلمه الا الله وحده. {يسألونك عن الساعة قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ... }. وانها لا تأتي الا بغتة، وان أمرها. {كلمح البصر أو هو أقرب}. ولكن ورد في القرآن أنه يسبقها أحداث غريبة تقع في هذا الكون، منها: انه يخرج من الأرض دابة تكلم الناس وهذا خبر حق، من الغيب الذي لا يدرك بالعقل البشري، ولا نعلم عنه الا ما أعلمنا الله به، والله لم يبين لنا ما هي هذه الدابة؟ وما صفتها؟ فوجب الايمان بها، وترك الكلام فيها بلا دليل سمعي ثابت. ومن ذلك: دك سد يأجوج ومأجوج، وخروجهم منه، والله لم يبين من هم يأجوج ومأجوج، وأي الامم هم، وما بلدهم، وأين يقع السد، فان استطعنا تحديد ذلك بالبحث والاستقراء، ووصلنا إلى نتيجة لا تخالف خبر

ابتداء الساعة

القرآن، قلنا بها، والا صدقنا بخبر القرآن مجملاً ووقفنا عند حدوده، قال تعالى: {واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ... }. وأمور أخرى ورد بها الحديث الصحيح (¬1)، ولم يصرح بذكرها القرآن، منها: انه يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا، ويقل الرجال، ويكثر النساء، وتندر الامانة، وتضطرب موازين المجتمع، فيرتفع المنخفض، وينزل العالي، ثم يكون ظهور (الدجال)، ونزول (عيسى) ناصراً لشريعة خاتم الرسل، (محمد) صلى الله عليه وسلم وعلى اخوانه المرسلين. الإيمان باليوم الآخر ابتداء الساعة الذي يظهر من آيات الساعة في القرآن (¬2)، ان ابتداءها يكون يزلزال هائل، لا يشبه ماعرف الناس من الزلازل، يقع - والله أعلم - والحياة البشرية لا تزال مستمرة على الأرض، والناس لا يزالون أحياء في الدنيا، فيصاب المجتمع البشري بفزع عام، ورعب شامل، يبلغ من شدته ان الام تذهل عن رضيعها، على ما ركب في طبعها من الحنو عليه، والميل اليه. والحوامل يسقطن من الرعب ما في بطونهن، والناس يكادون يفقدون عقولهم الواعية، فيغدون كأنهم سكارى. {وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}. ومما يرجح القول بأن هذا الزلزال قبل القيامة قوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الانسان ما لها}؟. ¬

(¬1) الأحاديث التي يرويها واحد عن واحد لا نستطيع أن نجزم بأن الرسول قد نطق بها كما نجزم بصحة نص القرآن لذلك نحكم بكفر من يكذب شيئا من القرآن ولا نحكم بكفر من ينكر شيئا من هذه الأحاديث. (¬2) في الفصول الاولى من الكتاب: جعلت الكلام عاما للمسلم وغير المسلم، واعتمدت فيه على أدلة العقل أكثر من أدلة النقل، فلما وصلت إلى شعب الايمان، وصار الكلام موجها - على الغالب - للمؤمن، جعلت الاعتماد على الأدلة السمعية، وأكثرت الاستشهاد بالآيات.

حوادث فلكية

فالانسان باق في الأرض، يشهد الزلزال، ويسأل عن أمره، ويبحث في أسبابه (¬1). الإيمان باليوم الآخر حوادث فلكية يوم القيامة، وما يكون فيه، وما يأتي بعده، هو (كما قدمت القول) من الأمور الغيبية، ليس للحواس احاطة به، كما تحيط بالمخلوقات المادية، ولا للعقل البشري حكم عليه، كما يحكم على الحوادث الدنيوية، وعمله كله في فهم النصوص، وادراك معناها. وفي القرآن نصوص صريحة، تدل على أن كثيراً من السنن الكونية، التي سميناها (اصطلاحا) قوانين الطبيعة، تطرأ عليها تبديلات وتعديلات، فكأن استمرارها منوط باستمرار هذه الحياة الدنيا، فاذا انتهت مدتها انتهى أمد هذه القوانين. وكأن العالم الذي تشاهده، بأرضه وكواكبه، على ما فيه من الاتقان العجيب، بناء مؤقت، أقيم لغرض محدود، ولمدة محدودة. من هذه الحوادث، ان الجبال تصيبها رجفة أرضية هائلة، تفتت صخورها حتى تصير الجبال كالقطن المنفوش، ويغدو الجبل العظيم تلا متداعيا، وكثيبا مهيلا. ثم تنسف نسفا، فتسير كما تسير كثبان الرمل، ثم تغدو سرابا، وتصير الأرض كلها قاعا مستويا. كل هذا خبر به القرآن، وخبر ان البحار تتفجر مياهها، ثم تتبخر. والكواكب ينتثر عقدها، ويتبدل مسيرها. والقمر يجمع مع الشمس، والسماء تكشط وتنشق وتنفطر، ثم تطوى كما تطوى الرسائل في السجل الكبير، ثم تكون النتيجة ان الأرض تبدل فكأنها غير الأرض، وان السماء تبدل فكأنها غير السماء، وكل هذا خبر به القرآن. ¬

(¬1) وقال قوم في ذلك: بل هو البعث لقوله تعالى: ? وأخرجت الأرض أثقالها ?. والقولان محتملان، ولا أجزم .. بل أقول: "الله أعلم ... ".

النفخ في الصور

الإيمان باليوم الآخر النفخ في الصور لا نعرف ما هو (الصور) على حقيقته، ولا (كيفية) النفخ فيه، وكل ما يقال في وصفه وتفصيل أمره، ما لم يكن مستندا إلى دليل سمعي صحيح، لا يعوَّل عليه. والذي جاء في القرآن: انه ينفخ فيه (فيفزع) من في السموات ومن في الأرض، وينفخ فيه (فيصعق) من في السموات ومن في الأرض. والظاهر من القول: انهما نفختان، وربما كانت - وهذا أرجح - نفخة الفزع هي نفخة الصعق، فلا يبقى بعد ذلك من الأحياء أحد إلا مات "الا من شاء الله"، وتمضي مدة الله أعلم بمداها، لم يخبرنا الله عنها. ثم ينفخ نفخة البعث، فتعود الحياة لكل ميت، ويبعثون من قبورهم "ينظرون" "إلى ربهم ينسلون". الإيمان باليوم الآخر البعث والحشر يبعث كل ميت على الحالة النفسية التي مات عليها، يظن انه لم يمر عليه الا ساعة أو ساعات، كالذي تصدمه سيارة وهو يشتري أو يبيع أو يتحدث، فيغمى عليه ويغيب عن وعيه ثلاثة أيام، فاذا صحا عاد يتم حديثه، أو يكمل بيعه وشراءه، لا يدري انها مرت عليه أيام ثلاثة، وكذلك يكون الناس يوم البعث، لذلك علمنا الدين أن نسأل الله حسن الخاتمة. وقد أقام الله للناس أمثلة على ذلك في الدنيا، منها الذي مر على القرية الخالية الخاوية، فقال: {انَّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مئة عامٍ}. وأهل الكهف، الذي ناموا ثلاث مئة وتسع سنين، ثم قاموا يظنون أنهم ناموا ساعات، وبعثوا يشترون بنقودهم التي الغي التعامل بها، وهم لا يدرون. هذه حال الناس عند البعث، يظن كل منهم أنه نام قليلا واستيقظ، يتناقضون فيما بينهم:

{يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ... وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون ... }. يظنون أنهم لا يزالون في الدنيا، ولكن هول الموقف، يقطع كل رابطة بينهم. {فلا أنساب بينهم يومئذ}. يرى المرء صديقه الحميم فلا يسأل عنه ولا يهتم به. لا يهتم أحد إلا بنفسه، يهرب من أخيه وأمه وأبيه، ومن زوجته وبنيه. بل انه يضحي بهم ويقدمهم افدية له، لو كان يقبل منه الفداء، ويتركون امدا - الله أعلم بمدته - يموج بعضهم في بعض، ثم يجمعون فيساقون إلى المحشر .. يساقون جميعا. البشر كلهم، من آدم إلى آخر واحد من ذريته، من مات منهم على فراشه، ومن غرق في البحر، ومن أكله السبع، ومن سقط من الطيارة، ومن أحرق بالنار وذري رماده في الهواء، يعيدهم الذي أوجدهم من العدم أول مرة، ويجمعهم جميعا، ويساقون إلى أرض المحشر، هم والجن والشياطين والوحوش. {مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يومٌ عسر}. ثم يأمر ربنا بجهنم فتبرز للناس من بعيد، ويقول لهم: {ألم أعهد اليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين وان اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلاً كثيراً أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون .. }. ويأمر ربنا فيفرز المجرمون ويمتازون فيعرفون، فيتمنى كل منهم أنه لم يكن بشرا، ويقول: {يا ليتني كنت ترابا}. ثم يجمع الله الكافرين في جهنم، مع الذين كانوا يعبدونهم من دون الله، ويظنونهم آلهة من الجن والشياطين، وما اخترعوا من أسماء ما لها حقائق، وما أنزل الله من سلطان زعموها آلهة كما فعل اليونان بما سموه (زيوس) و (افروديت). والرومان: (جوبيتر) و (فينوس). والفرس:

(هرمز) و (اهرمان). والمصريون: (حابي). والفينيقيون (بعل). و (اللات) و (العزى) عند العرب. زعموهم شركاء لله وزعم اليونان او الرومان أن (ابولّون) اله الشمس والفنون. و (باخوس) اله الخمر، و (ديانا) وهي نفسها (ارتيميس) الهة الصيد و (مينرفا) الهة الحكمة و (نبتون) اله البحر الخ ... فيقول لهم: {نادوا شركائي الذين زعمتم .. فدعوهم فلم يستجيبوا لهم}. فقال لهم ربنا: {ما لكم لا تناصرون؟!}. وينظر الضعفاء إلى المستكبرين، الذين جعلوا أنفسهم في الدنيا (زعماء)، فقادوا قومهم إلى الشرك وإلى الكفر، فاستنصروهم فقالوا: {إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء؟}.فأجابوهم بالبراءة منهم، وأقروا بعجزهم عن أن يغنوا عنهم ولا عن أنفسهم شيئا، ووقف الجميع خاضعين خانعين، قد ذلوا جميعاً أمام رب العالمين، وذهبت الالوهيات المزعومة، ومحيت الزعامات الباطلة المكذوبة، وانفصمت عرى الحلف الشيطاني بين الكفار وما كانوا يعبدون من مخلوقات، وتبرأ كل معبود بالباطل ممن كان يعبده، حتى الشيطان يعترف لمن تبعه بكذبه فيقول: {لما قضي الأمر أن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم}. ويتملص من التبعة ويلقيها كلها عليهم، مقراً بضعفه وعجزه في الدنيا، وانه لم يكن يملك الا الوسوسة والتضليل، ما كان له من حول ولا طول، ولا كان يقدر على نفع ولا ضر ويقول: {وما كان لي عليكم من سلطان الا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} {ان كيد الشيطان كان ضعيفا}.

الحساب

الإيمان باليوم الآخر الحساب ولا بد من الوقوف للحساب، فيقام ميزان العدل المطلق، الذي لا يضيع مثقال حبة من خردل، ولا ذرة من غبار، ولا واحدة من الكهارب (الالكترونات) التي تسبح في فضاء الذرة، ولا أصغر من ذلك. تحصى على المرء أعماله كلها، وتقدر ظروفه كلها، وتبرز نياته الخيرة واخلاصه القلبي، فتكون ثقلا له في جانب الحسنات من الميزان، وما كان في قلبه من نفاق أو رياء، فيكون ثقلا عليه في جانب السيئات من الميزان (¬1). محاكمة عادلة، لا ينفع فيها الانسان الا عمله الذي قدمه، وعفو ربه الذي يرجوه، ورحمته التي يؤملها، لا يسعفه ما كان له من مال الا ما أنفق منه لله وفي سبيل الله، ولا يعينه ما كان له من جاه الا إن استعمله في طاعة الله، ولا يستطيع أحد أن ينفع احداً أبدا، ولا تملك نفس لنفس شيئا، ولا يجد أحدهم شفيعا يشفع له الا من بعد اذن ربه. وشفاعة الآخرة ليست كشفاعة الدنيا، فالشفيع في الدنيا يدخل على الحاكم يدل عليه بمودته له أو جاهه عنده، يلزمه الشفاعة ولو كان في قرارة نفسه لا يريدها، فيحابي بها موظفا، أو يبرئ بها متهما، أما الشفاعة في الآخرة فتكون عندما يريد ربنا (برحمته) العفو عن أحد، ويريد (بكرمه) تشريف احد، يجعله سبباً ظاهراً لهذا العفو، فيأذن له بالشفاعة له، فيشفع بإذنه وأمره. الإيمان باليوم الآخر الشهود والبينات محاكم الدنيا، التي يتولاها حكام من العباد، لها عدالة بشرية محدوة، ووسائل للاثبات ظاهرة معدودة، ولكن محاكمات الآخرة قاضيها رب الأرباب، وعدالتها مطلقة لا حد لها، وبيناتها شهادات الأنبياء، والملائكة الذين كانوا يحصون الأعمال، ويدونون الحسنات والسيئات. والصحف التي دونت فيها هذه الاحصاءات، واعترافات المذنبين وشهادات الأعضاء. ¬

(¬1) ان كل ما قالوا في وصف الميزان وشكله لا دليل عليه.

شهادة الرسل: اذا كان يوم الحساب أحضر النبيون كما قال تعالى: {ووضع الكتاب وجيء بالنبيين}. وكانت محاكمة كل أمة وفق شريعتها، بحضور نبيها: {وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها} {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً}. الكتب والصحف: هذه الصحف التي تسجل فيها أعمالنا كلها في الدنيا، تكون مطوية مخفية، سراً لا يدري به الخلق. فإن تاب العبد من ذنوبه المدونة فيها التوبة الصادقة، مُحيت منها، وإلا بقيت فيها، فإذا حل يوم الحساب، نُشرت وأُعلنت، كنتائج الامتحانات تكون سراً عند الفاحصين فلا يعلم برسوب الراسب سواهم، فإذا جاء وقت إعلانها عرف بذلك الناس، وافتضح الراسب في أهله وبين إخوانه، ولكن الفضيحة هنا على رؤوس الخلائق جميعاً، وهي الفضيحة الكبرى، والراسب هنا يسقط في جهنم ويخسر -إن كان كافراً- سعادة الأبد، ويلقى العذاب الدائم. تُنشر الصحف وتوزع، فيلقى كل إنسان كتابه منشوراً، ويقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}. فمن كانت حسناته التي دونها ملك اليمين أكثر، ناوله كتابه بيمينه بشارة له بأنه سوف {يحاسب حساباً يسيراً}، فإذا رأى ما فيه فرح واستبشر، كما يفرح التلميذ الذي يأخذ نتيجة الامتحان فيرى أنه ناجح، ويحب أن يطلع على نجاحه الإخوانُ والأقران، يقول: {هاؤُمُ اقرؤوا كتابيه. إني ظننت -أي: إني أيقنت في الدنيا- أني ملاق حسابيه}. ومن كانت سيئاته التي دونها ملك الشمال أكثر، ناوله كتابه بشماله

الدفاع ثم الاقرار

فيبكي على نفسه، ويوقن بهلاكه، ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}. {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا}. ويقرأ المجرمون كتبهم، فيرون كل عمل عملوه مدونَّاً فيها {أحصاه الله ونسوه}، قيقولون متعجبين: {يا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا}. وأيقنوا أنهم ظلموا أنفسهم: {ولا يظلم ربك أحداً}. وندموا على ما فرطوا، حين اتبعوا وسوسة الشيطان، وهوى النفس الأمّارة بالسوء، فمقتوا لذلك أنفسهم، وإذا هم: {يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ}. الإيمان باليوم الآخر الدفاع ثم الاقرار ثم إذا وقف الكفار للحساب، لجأوا إلى الانكار، وحلفوا كذبا على براءتهم، يظنون أنهم أمام حاكم من البشر، ممن لهم الظواهر، ونسوا أنهم أمام رب العالمين، الذي يطلع على ما في النفوس، ويعلم ما تكن الضمائر، {فيحلفون له كما يحلفون لكم}. يقولون: {والله ربنا ما كنا مشركين}. فيمسك الله بألسنتهم، ويمنعهم من أن ينطقوا، ويأمر أعضاءهم التي مارست الحرام فتقر بما صنعت، تنطق اليد معترفة بما اجترحت من حرام، والرجل بما مشت اليه من حرام. {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون .. }.

اعتراض تافه

فاذا أخذوا باقرارهم، وثبت الذنب عليهم، عاتبوا أعضاءهم. {وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء!!}. كانوا يختبئون في الدنيا ليأتوا الفواحش، مع ان المتحدث اليوم في الراني (التلفزيون) يكون في غرفة لها أبواب مغلقة، وجدران مطبقة، ثم يراه من ورائها الملايين، ويسمع كلامه، ويشهد عليه، فان كان هذا مما وقف اليه البشر في الدنيا، فكيف بعلم الله وحسابه في الآخرة؟ لذلك يؤنبهم ربهم ويقول لهم: {وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم}. وكيف يفر المرء من جلده، وبصره وسمعه، وهو معه قائم به. {ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين}. وهذه عاقبة كل كافر بالله، منكر ليوم الحساب، لا يمتد بصره إلى أبعد من هذه الدنيا، يجحد الآخرة وهي آتية لا ريب فيها، ويختفي بذنبه من الله، والله مطلع عليه، وأعضاؤه التي يمارس بها الذنوب ستشهد عليه، فكيف يتوارى من شاهد هو معه، لا يستطيع أن يفارقه؟ اللهم عفوك وغفرانك، واستر علينا في الآخرة، كما سترت علينا في الدنيا وأنت الغفار الستار. الإيمان باليوم الآخر اعتراض تافه وقد كان فريق من الناس، يقولون لنا ساخرين ونحن صغار: "كيف تنطق اليد والرجل، وما لهما لسان، وما تقدران على بيان؟ ". فاخترعت آلات التسجيل، والسينما الناطقة، وصارت تقام في مداخل المصارف آلات تصوير

الحساب ونتائجه

خفية، تصور بالأشعة التي لا ترى (¬1)، تتحرك لمجرد اجتياز الشخص من أمامها، فاذا سرق السارق وأنكر، عرضوا عليه (الفلْم) يعيد حركاته وسكناته، وهمسه لنفسه وكلامه مع رفيقه، فكانت هذه المخترعات حجة على هؤلاء المتعالين الجهلاء، كأنها تقول لهم: "ويحكم الذي أنطق الشريط في الدنيا، وسجل الحركات والكلمات، تعلن كلام السارق الذي أخفاه وتثبت عليه فعله الذي أنكره .. الذي وفق إلى هذا في الدنيا، الا ينطق اليد والرجل في الآخرة؟ ". الإيمان باليوم الآخر الحساب ونتائجه الحساب أنواع، منه الحساب اليسير كحساب الذين أعطوا كتابهم بايمانهم، ومنه الحساب الشديد كحساب القرية التي عتت عن أمر ربها. ويخرج الناس بنتيجة الحساب وهم أصناف: السابقون المقربون، وأصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة. {فأما إن كان من المقربين فروحٌ وريحان وجنةُ نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزلٌ من حميمٍ وتصلية جحيم إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم}. الإيمان باليوم الآخر ورود جهنم ويمرون جميعا على صراط من فوق جهنم، يسرعون باجتيازه بمقدار قربهم من الله، واستكثارهم من الحسنات، فينجو منها المتقون، ويسقط فيها الظالمون، قال تعالى: {وان منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً}. ¬

(¬1) الأشعة التي يسمونها: "تحت الحمراء".

الجنة وجهنم

وفي سورة (الهاكم التكاثر) قوله تعالى: {لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين}. أما الرؤية الأولى: فهي - والله أعلم - ورود المتقين عليها، الذي يكون معه النجاة منها، وأما الرؤية الثانية: فهي ورود الظالمين عليها، وسقوطهم فيها. وربما كانت الرؤية الأولى قبل الحساب، حين تبرز الجحيم فيراها الناس كما قدمنا. الإيمان باليوم الآخر الجنة وجهنم أوصاف الجنة التي وردت في القرآن، كقوله تعالى: {تجري من تحتها الأنهار}، وان أهلها يُحَلّون فيها من أساور من ذهب، ولؤلؤا، وان لباسهم فيها حرير، وان فيها أنهارا من لبن، وأنهارا من خمر، وأنهارا من عسل، وان فيها الحور العين، والغلمان. كل ذلك جاء على وجه التقريب إلى الافهام، لأن اللغات البشرية موضوعة في الأصل للتعبير عن الأشياء الأرضية، ومن المحقق أن أنهار الجنة ليست كأنهار الدنيا، ولا لبنها وعسلها وخمرها، كخمر الدنيا وعسلها ولبنها، ولا حورها كنساء الأرض، ولا غلمانها كغلمانها، ولو رجعنا إلى المقدمات التي قدمناها في أول هذا الكتاب، وهي (قواعد العقائد) لذكرنا ان الخيال البشري يعجز عن الاحاطة بها، أو تمثل حقيقتها. والذين فصلوا في وصفها من المفسرين، لم يستندوا في ذلك إلى دليل، وكان منتهى جهدهم ان قاسوا الآخرة على الدنيا، كما قاس المتكلمون عدالة الله وصفاته، على ما عرفوا من الصفات البشرية، والعدالة البشرية، فتخبطوا في متاهات وضلالات، كان ينجيهم منها، ويبعدهم عنها، أن يقفوا عند حدود النصوص، وأن يسلكوا مسلك السلف، وان يقروا بعجز العقل عن ادراكها، والخيال عن تمثيلها. ومن هذه المباحث السقيمة، والمجادلات العقيمة، ما قالوه عن الحور العين، وهل الاستمتاع بهن كالاستمتاع بنساء الدنيا، ونسوا أن هذه المتعة

دخول الجنة

على شكلها المعروف، غايتها الحمل وبقاء النسل (¬1)، ولا داعي لذلك في الآخرة، فكان الحق أن نؤمن بكل ما ورد في القرآن، ثم نشتغل بالعمل الصالح الذي يوصلنا إلى الجنة، بدلا من المناقشة في تفصيل أمرها، والخلاف على وصف حقيقة ما فيها، مما لم يذكره القرآن لنا. الإيمان باليوم الآخر دخول الجنة وليس دخول الجنة بالتمني والتشهي، ولكن بالايمان والطاعة. {ليس بأمانيِّكم ولا أمانيِّ أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجزَ به} {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين؟}. فالمؤمن الذي يدخل الجنة ام أن يكون (فاعلا) للخير داعيا إلى الله، باذلا الجهد في سبيل اعلاء كلمته، عاملا على ذلك بنفسه وماله ولسانه، فيكون من الذين جاهدوا، فان لم يستطع فعليه - على الأقل - الا يكون (منفعلا) بالشرّ، ولا متبعا لدعوته، وأن يسلم بنفسه وأهله، وأن يصبر على ما يلقى في سبيل تمسكه بدينه، فيكون من الصابرين. فاذا انتهى الحساب، واجتاز المؤمن الصراط، تحققت النجاة. {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زُمراً حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها (¬2) وقال لهم خزنتها سلامٌ عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ... }. ¬

(¬1) ولو فكر فيها العاقل لاستقبحها، واستقذر موضعها، ولكن الله وضع الشهوة لتمنع هذا التفكر، كما وضع البنج (أي المخدر) ليمنع الشعور بألم العملية الجراحية. (¬2) في آية جهنم قال: ? حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها ?. لأنها كسجن مغلق الأبواب، فلا تفتح إلا لاستقبال داخل، أو خروج خارج أما هنا فقال: ? وفتحت أبوابها ... ?، لأنها مفتحة الأبواب دائما، وان كان لا يدخلها أحد، الا بإذن ربها خالقها.

وصف الجنة

الإيمان باليوم الآخر وصف الجنة أما سعتها فان عرضها عرض السماوات والأرض، ولا تعجبوا من هذا فان الآخرة بالنسبة لهذه الدنيا، كهذه الدنيا بالنسبة لبطن الأم، أما يرى الجنين بطن الأم دنياه كلها، أو ليست دار واحدة من دور الدنيا، أوسع من دنيا الجنين بملايين المرات؟ هذه الجنة (أعدت للمتقين)، ومن هم المتقون الذين أعدت لهم؟ وماذا كانوا يصنعون؟ لعلنا نصنع مثلهم فنكون معهم، لقد بيّن الله ان المتقين هم: {الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس .. والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم}. هذه بعض صفات المتقين، فمن اتصف بها بعد تصحيح العقيدة، وصدق التوحيد، أدخله الله بكرمه ومنّه، هذه الجنة التي أعدّها لهم. والجنة درجات: ففيها جنة النعيم وهي أبعد من أن ينالها كل واحد: {أيطمع كل امرئٍ منهم أن يدخل جنة نعيم}. وهي للسابقين السابقين. {أولئك المقربون في جنات النعيم}. وفيها الجنة التي سماها الله (الغرفة)، ووعد بها عباد الرحمن، الذين وصفهم في سورة الفرقان بأنهم الذين يجمعون صحة الاعتقاد، واستقامة السلوك، وكثرة العباد، وعلو الأخلاق فدل ذلك على ان (الغرفة) درجة عالية في الجنة، خص بها هؤلاء الذين جمعوا صفات الكمال، وصبروا على مشقة القيام بها، وصرف النفس عن رغبتها في التملص منها. وبين ربنا في الجنة: {جناتٌ معروشاتٌ وغير معروشات}. وإن فيها مكانا اسمه: (جنة المأوى)، ومكانا اسمه: (جنات عدن)، ولمن خاف مقام ربه جنتان لا جنة واحدة، وان فيها ما دعاه بـ (عليين). فدل ذلك على أن نعيمها درجات، وأهلها منازل.

أهل الجنة وأحوالهم

الإيمان باليوم الآخر أهل الجنة وأحوالهم يجتمع أهل الجنة باخوانهم وأهلهم: {ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون ... هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون ... والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمانٍ ألحقنا بهم ذريتهم ... }. يجتمعون على ود وصفاء، {ونزعنا ما في صدورهم من غلٍ}، وحقد. تصف لهم الأسرة والأرائك، فتكون مجالسهم عليها: {متكئين على سررٍ مصفوفة}. يقعدون عليها. {اخواناً على سررٍ متقابلين}. عليها فرش بطائنها من شيء نفيس، سماه ربنا (الاستبرق)، وحولهم جنتان ملتفتان، ثمارهما قريبة من أيديهم، دانية منهم. يخدمهم فيها خدم صغار. {غلمان لهم كأنهم لؤلؤٌ مكنونٌ ... يدعون فيها بكلِّ فاكهة آمنين ... يطاف عليهم بكأسٍ من معينٍ بيضاء لذة للشاربين لا فيها غولٌ ولا هم عنها ينزفون}. والطعام (يطاف) به: {عليهم بصحافٍ من ذهبٍ}. أما شرابهم فيحمل اليهم: {بأكوابٍ وأباريق وكأسٍ من معين}. يؤتى اليهم بكل ما يريدون من طعام. {وفاكهةٍ مما يتخيرون ولحم

طيرٍ مما يشتهون ... في سدرٍ مخضودٍ وطلحٍ منضود وظل ممدودٍ وفاكهة كثيرةٍ لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرشٍ مرفوعة ... لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ودانيةً عليهم ظلالها وذُللت قطوفها تذليلاً ... تعرف في وجوههم نضرة النعيم}. فوجوههم "ناعمةٌ لسعيها راضية" .. يقصدون من أركان الجنة حيث شاؤوا، يتقابلون فيها ويتحدثون. {تحيتهم فيها سلامٌ}. لا يقولون الا خيرا. {وهدوا إلى الطيب من القول ... واقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا انا كنا قبل في أهلنا مشفقين (خائفين من دخول النار) فمنَّ الله علينا ووقانا عذاب السموم}. وهذا: من ثمرة الدعاء والاستغفار. {انا كنا من قبل ندعوه إنه هو البرُّ الرحيم}. فاذا تحدثوا تذكروا في أحاديثهم أيام الدنيا، وأحوال أهلها، وما كان من أمرهم فيها، وما انتهوا اليه في الآخرة. {قال قائل منهم انه كان لي قرينٌ يقول (ساخراً معانداً) أئنك لمن المصدقين أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون قال (أي المؤمن في الجنة لاخوانه فيها) هل أنتم مطلعون}. على أهل النار لتروه فيها؟ ودل ذلك على أنهم يستطيعون الاطلاع عليهم. {فاطلع فرآه في سواء الجحيم}. قال له (وهذا وما يأتي بعده يدل على أن أهل الجنة وأهل النار يتبادلون الحوار): {تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين}. ويمنّ عليهم ربهم بالحور العين، يزوجهم بهن.

جهنم

{وزوجناهم بحورٍ عين كأمثال اللؤلؤ المكنون}. انشأهن إنشاء، فجعلهن: {أبكاراً عرباً أتراباً .. قاصرات الطرف (من الحياء) لم يطمثهن انس قبلهم ولا جانٌّ ... }. وأهل الجنة. {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين}. يقولون: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا ان تلكم الجنة اورثتموها بما كنتم تعملون ... لا يمسهم فيها نصب وما هم بمخرجين ... لا يذوقون فيها الموت الا الموتة الأولى ... والملائكة يدخلون عليهم من كل بابٍ}. يحيونهم ويهنئونهم يقولون: {سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ... وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ... ان هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون ... وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}. اللهم برحمتك التي وسعت كل شيء، وعفوك ومغفرتك - وأنت العفو الغفور - أعذنا من عذاب النار، وأدخلنا الجنة بسلام. الإيمان باليوم الآخر جهنم المتبادر إلى الأذهان ان جهنم نار كالنار التي نعرفها في الدنيا، لكنها أشد منها. حتى انها لا تقاس من شدتها بها، وان ماثلتها في نوعها، ولكن الذي يبدو لمن ينعم النظر في وصف القرآن لها، انها من نوع آخر. اذ لو كانت نارا من نوع نار الدنيا، لأحرقت كل شيء فتركته فحما. مع ان جهنم فيها شجر،

وفيها ماء، وفيها ظل، وان كان ظلها وماؤها وشجرها، للتعذيب لا للنعيم. ونار الدنيا تحرق من يدخل فيها فيموت، فيستريح من ألمها. وجهنم - نعوذ بالله منها - ألم دائم لأهلها. {لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها}. لا تحرق الجلود فتذهبها، ولكن تنضجها، وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، وأهلها يعيشون ويفكرون، ويتذكرون ويختصمون. وفي جهنم شجر، ولكنها شجرة الزقوم، التي: {تخرج من أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين}. وفي جهنم طعام، وأهلها يأكلون، ولكنهم آكلون من ثمر هذه الشجرة الخبيثة: {فمالئون منها البطون ... إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل (عكر الزيت) يغلي في البطون كغلي الحميم}. وفي جهنم شراب، فيها ماء، ولكنه ماء صديد، يسقى منه الكافر، فهو: {يتجرعه ولا يكاد يسيغه}. فاذا أكلوا من هذه الشجرة، شربوا بعدها من الحميم، من هذا الماء الذي وصفه القرآن، وهم من شدة عطشهم يشربون منه شرب الهيم، شرب الابل الهائمة العطشى، ثم يصب من فوق رؤوسهم من هذا الحميم. {يصهر به ما في بطونهم والجلود}. وفي جهنم ثياب، ولكنها من نار: {فالذين كفروا قطعتْ لهم ثياب من نار}. وفي جهنم ظل وظلل، ولكنها من نار: {لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل} {انه ظلٌ من

دخول النار

يحمومٍ لا بارد ولا كريم}. هذه عاقبة من آثر الدنيا وترفها، وأصر على الكفر، وأنكر البعث. {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون .... لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعالٌ لما يريد}. الإيمان باليوم الآخر دخول النار اذا انتهى الحساب، وحقت كلمة العذاب على الكفار، يساقون إلى جهنم زمراً. فتغتاظ جهنم نفسها من كفرهم واصرارهم، واعراضهم عن رسل ربهم. وخزنة جهنم لا ينقضي عجبهم من حماقتهم وعنادهم فهم، يعودون إلى سؤالهم: {تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوجٌ سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير؟!}. فلم يسعهم الا الاعتراف: {قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء ... }. فقالت لهم الملائكة: {ان أنتم إلا في ضلالٍ كبير}. فأقروا بأنهم كانوا صماً لا يسمعون، وكانوا قد عطلوا عقولهم فلا يفكرون، وأنهم لو كانوا سمعوا المواعظ، وفكروا في أنفسهم، وفي الكون من حولهم، لاستدلوا بذلك على الله، فآمنوا به واتبعوا رسله، وما وصلوا إلى جهنم. {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير ... }.

جهنم سجن

الإيمان باليوم الآخر جهنم سجن جهنم: {لها سبعة أبوابٍ}. يوزع أهلها عليهم: {لكل بابٍ منهم جزءٌ مقسوم}. وهي مغلقة بمزاليج ضخمة، كأنها الأعمدة: {إنها عليم مؤصدة في عمدٍ ممددةٍ}.وهم يلقون فيها - من مكان ضيق: {مقرنين} مربوطاً بعضهم ببعض. وقد أعد الله لهم: {سلاسل وأغلالاً وسعيرا ... }. الإيمان باليوم الآخر محاولات للخروج عمر الله الانسان في الدنيا دهرا، وأعطاه فيها عقلا يختار به ما يريد، وارادة ينفذ بها ما يختار، فاختار بعض الناس سلوك طريق جهنم، وعملوا ما يوصلهم اليها، فلما بلغوها، راحوا يحاولون الخروج منها، ويعدون انهم ان أعيدوا إلى الدنيا، آمنوا وأصلحوا، يحسبون الأمر كامتحانات الدنيا، فمن رسب في دورة، استدرك النجاح في اخرى، لا يدرون ان من خرج من الدنيا لا يعود اليها، ومن دخل النار لا يخرج منها، فحق عليهم قول الله عز وجل: {ولقد جئناهم بكتابٍ فصلناه على علمٍ هدىً ورحمةً لقومٍ يؤمنون هل ينظرون الا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نردّ فنعمل غير الذي كنا نعمل؟ ... وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مردٍ من سبيل؟! ... وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعملْ صالحاً غير الذي كنا نعمل ... }. فيكون الجواب الحاسم: {أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير؟! فذوقوا فما للظالمين من نصير}.

أحاديثهم واختلافهم

فليجؤون (¬1) إلى خزنة جهنم، كما يلجأ السجين إلى حراس السجن، يظن أنهم يملكون له نفعا، أو يدفعون عنه ضرا، يقولون: {لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب قالوا أو لم تأتيكم رسلكم بالبينات؟! قالوا (لهم ساخرين منهم) فادعوا وما دعاء الكافرين الا في ضلالٍ ... }. فاذا يئسوا منهم عمدوا إلى مالك، رئيس حرس جهنم. {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك}. فأجابهم الجواب الصارم الحاسم، قال: {إنكم ماكثون}. فيفكرون في أن يفتدوا أنفسهم، كما كانوا يفتدون في الدنيا بالمال، ولكن هيهات: {ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}. فلا تفيدهم هذه المحاولات شيئا، ويبقون في جهنم. {ولهم مقامع من حديدٍ كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍّ أعيدوا فيها}. وقيل لهم: {ذوقوا عذاب الحريق}. الإيمان باليوم الآخر أحاديثهم واختلافهم أهل الجنة اخوان على سرر متقابلين، قد نزع ما في صدورهم من ¬

(¬1) من الناس من يضع همزة هذه الكلمة على الألف (فليجأون)، وهو غلط، ومنهم من يضعها على مدة هكذا: (يلجئون)، اذ يرسمون الهمزة على (كرسي) بعد الجيم والصواب (فيما أرى) هو ما رسمتها عليه.

حوار بين أهل الجنة وأهل النار

غل، وهدوا إلى الطيب من القول، فما في أحاديثهم لغو ولا كذب ولا إثم. وأهل جهنم في نزاع وجدال: {كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى اذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هولاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعفٌ ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضلٍ فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ... هذا فوج مقتحم معكم لا مرحباً بهم انهم صالوا النار قالوا بل أنتم لا مرحباً بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سِخرياً أم زاغت عنهم الأبصار ... إن ذلك لحقٌ تخاصم أهل النار ... وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين ... }. الإيمان باليوم الآخر حوار بين أهل الجنة وأهل النار سبق ما يشير إلى أن أهل الجنة يستطيعون أن يطلعوا على أهل النار، وفي القرآن ان هؤلاء وهؤلاء يتنادون ويتحدثون. {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قدْ وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً قالوا نعم فأذن مؤذنٌ بينهم أن لعنة الله على الظالمين ... ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهواً ولعباً وغرتهم الحياة الدنيا ... }. الإيمان باليوم الآخر الأعراف الذي يفهم من الآيات، ان (الأعراف) مكان بين الجنة والنار. يقوم فيه مدة من الزمان، من قصرت به حسناته عن دخول الجنة، ولم تبلغ سيئاته ادخاله

النار. يرون منه الجنة ويأملون في دخولها، ويخاطبون أهلها، ويرون النار ويعوذون بالله منها ويكلمون أصحابها، وبينهما (أي بين أهل الجنة وأهل النار) حجاب. {وعلى الأعراف رجالٌ يعرفون كلاً بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلامٌ عليكم لم يدخلوها (أي أهل الأعراف) وهم يطمعون (في دخولها) وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا (أي قال أهل الأعراف) ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ... }. ورأوا في جهنم ناسا يعرفونهم، كانوا في الأرض من الجبارين. يعتزون بجموعهم وأتباعهم، وجماهير العامة التي تؤيدهم، فيتكبرون بذلك ويطغون، فنادوهم وقالوا لهم: {ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون؟! ... }. وسيرون يومئذ، انه ما أغنى عنهم شيئا، ولا خفف عنهم من عذابهم كثيرا ولا قليلا، وانهم قد خلفوه كله وراءهم، وتركوه خلف ظهورهم، انه لا ينزل مع الميت اذا مات صديق، ولا (رفيق)، ولا حليف ولا اليف، ولا جند ولا أعوان. كلهم يتركه وينصرف عنه، فينزل القبر وحده، ويبعث من القبر وحده، ويقف للحساب وحده. هذه حقيقة مشاهدة في الدنيا، ولكن عميت الأبصار عن رؤيتها، وعميت البصائر عن إدراكها. فيا رب افتح أبصارنا حتى نرى الحقائق الدالة عليك، ونور بصائرنا حتى نبصر الطريق الموصل إليك، وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وارزقنا رضاك والجنة، وأعذنا من غضبك والنار، يا عفو يا غفار.

الإيمان بالقدر

الإيمان بالقدر معنى القدر والقضاء الذي يفهم من الآيات التي ذكرت القدر كقوله تعالى: {وإن من شيء الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدرٍ معلوم}. وقوله: {إنا كل شيءٍ خلقناه بقدر}. وقوله عن الأرض: {وبارك فيها وقدَّر فيها أقواتها}. وقوله عن القمر: {والقمر قدَّرناه منازل ... }. وقوله: {وخلق كل شيءٍ فقدره تقديراً ... وكل شيء عنده بمقدار}. الذي يفهم منها ان القدر، هو السنن التي سنها الله لهذا الكون، والنظام (¬1) الذي سلكه به والقوانين الطبيعية التي سيّره عليها. وان كل ما فيه قد خلق بمقادير معينة، ونسب محددة، فما من موجود الا وقدر قبل إيجاده مقداره وعدد ذراته، وكمية العناصر التي يتألف منها ونوعها، وما يعرض له من امتزاج بغيره، وانفصال عنه، وما يناله من حركة وسكون، كل ذلك محدد منذ الأزل. ¬

(¬1) النظام هو الخيط الذي تنظم به حبات العقد والسبحة والسلك الذي تسلك به.

الثواب والعقاب

وأنا أوضح الفرق بين القدر والقضاء بمثال "ولله المثل الأعلى": العمارات التي تقام تعلق عليها لوحة فيها: "ان التصميم للمهندس الفلاني، والتنفيذ للمقاول الفلاني"، فالمهندس يرسم الخريطة ويعين علو البناء وسمك الجدران، وما يوضع فيها من الحديد و (الاسمنت) والحجر، ونسبة كل منها، وما يكون فيها من أبواب ونوافذ، يقدر ذلك ويحدده، هذا مثال القدر. والمقاول ينفذ ما قدره المهندس، وهذا مثال القضاء، وكلاهما لله وحده: وكما يمكن للمهندس أن يبدل (اذا أراد) في بعض تفصيلات التصميم، فالله من رحمته جعل الدعاء والصدقة سبباً في رفع بعض ما كان مقدراً. قدرها وحده، ورفعها بالدعاء وحده (¬1). الإيمان بالقدر الثواب والعقاب هذا معنى القدر بوجه عام، وهو يشمل كل موجود أوجده الله، قدر الله مقاديره وأحواله، وعلم ما سيكون له وما يكون منه، ومن جملة مخلوقات الله الانسان، وهنا تعترض مشكلة طالما خاض فيها الخائضون، وطالما كثر فيها الجدال، هي أمر الثواب والعقاب. اذا كان كل ما يقع في الكون مرسوماً ومعلوماً عند الله من قبل. وكانت سنن الله لا تبديل لها ولا تغيير. فكيف يكون الثواب والعقاب؟ والجواب الاجمالي: انه لا بد من التفريق بين وضع الانسان المشاهد (الملموس)، وبين صفات الله وأعماله، وهي مغيبة، لا يستطيع العقل أن يحكم عليها، ولا يصل إلى ادراكها، ولا يعرف عنها الا ما جاء بطريق الوحي. ¬

(¬1) ولو كان كل ما يفعل العبد مجبراً عليه من الأزل، لا يبدل ولا يعدل، وليس له اختيار فيه، لم يبق من فائدة لبعثة الأنبياء، وجهاد الكفار، ولا للدعاء. وقد دعا الانبياء والخلفاء الراشدون وصلحاء كل أمة، طالبين دفع الشر، وجلب الخير. وقد رأيت عند وجيه الحجاز، الشيخ الجليل محمد ضيف، رحمه الله، رسالة مخطوطة للشوكاني في هذا المضمار، ولم يكتب في موضوعها مثلها.

الانسان مخير

الإيمان بالقدر الانسان مخير وأنا أتكلم الآن عن الوضع القائم المشاهد، وسأتكلم بعد ذلك عن النصوص. والواقع ان الانسان له حرية، له (عقل) يستطيع أن يحكم به على الأمور المادية، ويميز به بين الخير والشر، والصلاح والفساد. وله (ارادة) يستطيع أن يعمل بها الخير أو أن يعمل الشر. كل انسان عاقل يدرك ان الصلاة خير، وان الزنا شر. ويقدر اذا خرج من داره أن يمشي من جهة اليمين إلى المسجد فيصلي، أو يمشي من جهة الشمال إلى الماخور فيزني هل يشك أحد في هذا؟ واذا كانت يدي سليمة ما بها مرض أو شلل، فأنا أستطيع أن أرفعها، فهل في الناس من يدعي أنني لا أستطيع رفع يدي؟ واذا كنت قادرا على رفع يدي، رفعتها لأعطي فقيرا دينارا، أو رفعتها لأضرب بريئا بالعصا، فهل هذا كذاك؟ أليس إعطاء الفقير حسنة تستحق الثواب، وضرب البريء سيئة تستوجب العقاب؟ التلميذ يستطيع أن يمضي ليالي الامتحان باللهو واللعب، ويستطيع أ، يشغلها بالجد والدرس، أليس هذا صحيحا؟ فهل يدعي أحدٌ أن سقوط اللاعب كان ظلما، او ان نجاح المُجد كان محاباة؟. الإيمان بالقدر والانسان مجبر لقد استطعت أن أحرك يدي بارادتي، لأن الله جعل عضلاتها خاضعة لي، ولكني لا أستطيع التحكم في عضلات قلبي ومعدتي. وهذا التلميذ قد يكون ذكيا يدرس الدرس مرة فيحفظه، ثم يلهو ويتسلى، وقد يكون غبيا، يدرس الليل والنهار، فلا يفهم ولا يحفظ. وقد يكون بيته هادئا، وأبوه عالما ييسر له أمر الدرس، وقد يكون بيته صاخبا، وأبوه جاهلا مشاكساً، فلا يستطيع أن يدرس. فهو لا يملك منح نفسه الذكاء، ولا يملك اختيار أبويه، ولا انتخاب الزمان الصالح ليوجد فيه، ولا البيئة الصالحة ليمضي فيها طفولته. هذه كلها أمور لا يملكها الإنسان، كما لا يملك أن يجعل أنفه أجمل، وقامته أطول، فهو من هذه الناحية مجبر.

حر مخير في حدود الطاقة البشرية

الإيمان بالقدر حر مخير في حدود الطاقة البشرية فالانسان حر مخير في حدود الطاقة البشرية، وكونه مجبرا - في بعض الحالات - لا ينفي عنه صفة الحرية. كالسيارة والصخرة، لا ينكر أحد أن السيارة تمشي ولكن في حدود قوة محركها، ومدى احتمالها، فان صنعت سيارة شحن لا يمكن أن تمشي بسرعة سيارة السباق وان صنعت لتمشي على الأرض لا يطلب منها أن تصعد السلم، ولا أن تخترق الجدار. انها تسير على الطريق، فان عاق مسيرها عائق، لم تفقد صفة القدرة على السير، ولا تكون كالصخرة. وكذلك الانسان، تعترضه في الحياة عوارض تعطل ارادته، وعوائق تحول وجهته، وتؤثر فيه أمور لا يملك دفعها ولا ابدالها، ولكن ذلك لا ينفي انه حر، فهو (إنسان حر)، يتصرف ضمن الحدود الانسانية، وليس إلهاً ليصنع ما يشاء. الإيمان بالقدر الثواب والعقاب منوط بالحرية فاذا لم تكن حرية فلا عقاب، المكره على فعل الشر لا يعاقب عليه، والله انمان يؤاخذنا على ما نملك الخيار في فعله أو تركه، للانسان ما كسب. وعليه ما اكتسب، لا يكلف الله نفسا الا وسعها، والله لا يضيع مثقال ذرة. واذا كانت المحاكم البشرية، بعدالتها النسبية، تقدر ظروف المتهم ودوافعه، وبيئته واستعداده، وترى تقدير ذلك من العدل، فهل يترك ذلك في محكمة رب العالمين، التي فيها العدالة المطلقة. وهل يعاقب المذنب الناشئ من والدين فاسقين، وبيئة فاسدة، والذي عاش طفولة مهملة مشردة، كمن أذنب الذنب نفسه، وهو ناشئ في أفضل البيئات، مولود من خير الآباء؟. الإيمان بالقدر مقاييس العدالة على أن أكثر علماء الكلام قد أخطؤوا أكبر الخطأ، حين طبقوا على الله مقاييس العدالة البشرية. تنبهت إلى هذه الحقيقة بواقعة وقعت لي، أسردها لأن فيها عبرة، وان لم يكن موضع سردها هذا الكتاب. كنت سنة (1931) أدرس في مدرسة ابتدائية في الشام، وكنت في فورة

الشباب وعنفوانه. في رأسي خواطر، وفي نفسي غرور، وعلى لساني بيان واندفاع، فعرضت لي شكوك في مسألة القدر، كنت أسأل عنها العلماء، فلا أجد عندهم الجواب الشافي لها، فيدفعني الغرور إلى جدالهم وازعاجهم. حتى جاء يوم كنت فيه في المدرسة، وكنت أؤدب تلميذا بالضرب، (وكان الضرب من وسائل التأديب في تلك الأيام) ففجر الولد وتوقح، وجعل يصرخ ويقول: "هذا ظلم ... أنت ظالم ... "!!. ثقوا يا أيها القراء، اني لما سمعت ذلك سقطت العصا من يدي، ونسيت الولد والمدرسة، ورأيت كأني كنت في ظلمة فأضيء لي مصباح منير، فقلت لنفسي: ان التلميذ يرى ضربي اياه ظلما، وأنا أراه عدلا، والعمل واحد، واذا ذهب يشكو إلى أهله قالوا له: لا ما هذا ظلم، هذا عدل، انه يضربك لمصلحتك. فاذا كان التلميذ لا يحق له أن يطبق مقاييسه الناقصة على عدالة المعلم، فكيف اطبق أنا مقاييسي البشرية للعدالة على الله. ألا يمكن أن يكون الفعل الذي أراه ظلما هو عين العدل؟ الولد المريض يرى الإبرة التي يدخلها الطبيب تحت جلده ظلما، وهي في رأي أبيه عدل كل العدل، لأن الولد نظر إلى ألمها، والأب أبصر أثرها في شفاء الولد. ان القاضي لا يستطيع أن يحكم في دعوى حتى يطلع على مراحلها كلها، ووقائعها جميعا، ونحن انما نطلع غالبا على طرف من الواقع، ونصدر أحكاماً خاطئة، بعد دراسات ناقصة. لو تهت انت ورفيقك في الصحراء، فمرت سيارة فخمة، دعاكما صاحبها، وأركبكما فيها، فأخرج صديقك سكينه فمزق جلد المقعد، الا ترى عمله ظلماً؟ انه ظلم بلا شك، ولكن اذا علمت ان أمامك عصابة من قطاع الطريق، كلما رأوا سيارة سليمة أخذوها، وان كانت ممزقة المقعد تركوها، الا يتحول هذا الفعل في نظرك من ظلم إلى عدل؟ بل ان صاحب السيارة لوعرف هذه الحقيقة، لمزق جلد مقعدها بنفسه، لأنه يفضل أن تبقى السيارة له، ومقعدها ممزق، عن أن تذهب كلها وهي

مع النصوص

سليمة؟ أليس هذا صحيحا؟ هذه هي قصة الخضر وموسى، لما ركبا في السفينة وخرقها، ضربها الله مثلا، نفهم منه ألاّ نسرع إلى إصدار الأحكام قبل الاحاطة بالوقائع. الإيمان بالقدر مع النصوص لا بد لي قبل الكلام علىالنصوص من التذكير بهذه القواعد: 1 - ان عمل العقل منحصر بفهم النصوص، ولا يستطيع أن يدرك من نفسه حقيقة القدر بالتفصيل، لأنه - كما قدمنا - عاجز عن الخوض فيما وراء المادة، لذلك ينبغي اجتناب المباحث التي لم يوضحها النص. 2 - أن نعرف ان الأصل هو القرآن، فان تعارضت آية منه وحديث من أحاديث الآحاد، ولم يمكن التوفيق بينهما على شكل مقبول، أخذنا بالآية (¬1). 3 - أنه لا يمكن أن يكون في القرآن أو صحيح الحديث نص صريح، ينكر وجود أمر واقع مشاهد ملموس، لأن الذي أنزل القرآن هوالذي أوجد الواقع، ولا ينفي ربنا ما أوجده. 4 - ان كثيرا من النصوص التي يفهم منها الاجبار، ونفي الاختيار عن الانسان، كقوله تعالى: {هوالذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء}. فلا يملك الوليد الذي صور بنتا أن يجعل نفسه صبيا، ولا الأسود اللون أن يصير لونه أبيض، ومثلها قوله تعالى: {وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة}. وما يشير إلى الأحداث الكونية التي هي فوق طاقة الانسان كقوله: ¬

(¬1) من القواعد المعروفة عند أهل المصطلح: ان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول ما يناقض القرآن، ولا ما يخالف الواقع المشاهد، فان روى عنه حديث مناقض للقرآن، أو يخالف الواقع المشاهد، نحكم أن الرسول لم يقله، ولو روي بسند صحيح.

{أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما}. ومثلها: {وإن يمسسك الله بضرٍ فلا كاشف له إلا هو}. وما يدل على الظروف المؤدية إلى الصلاح أو الفساد، وليست من صنع الانسان كقوله: {ونفسٍ وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}. ومنه الآيات التي جاءت فيها كلمة الهداية بمعنى الدلالة والارشاد، كقوله: {وهديناه النجدين}. وقوله: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا}. الذي ظهر لي: ان أكثر هذه النصوص، تشير إلى الأمور التي تؤثر في صلاح الانسان وفساده بعض التأثير، وليست من صنعه، وقد قدمت القول بأن الله لا يؤاخذ العبد عليها، ولا يمكن أن يجبر الله عبده على أمر بحيث لا يستطيع تركه ثم يعاقبه عليه. هذه هي النصوص التي وقف عندها أصحاب الفرق المنحرفة، فأساؤوا فهمها، وأخطأوا في تطبيقها، وكان عليهم: 1 - التفريق بين آيات الاخبار عن مشيئة الله، وقدرته، وتصرفه في ملكه، والآيات المتعلقة بالثواب والعقاب. 2 - اعتبار مجموع النصوص لا الوقوف عند افرادها، ومن تتبع مجموع النصوص رأى أن القرآن يثبت للانسان الحرية والارادة، اللتين يترتب عليهما الثواب والعقاب. فيمن يقرأ قوله تعالى عن القرآن: {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً}.

بحث عقيم

يفهم منه بادى الرأي (¬1)، ان الهدى والضلال أمر مقدر، قدره الله على العباد، فجعل هؤلاء ضالين، وهؤلاء مهتدين. ولكن اذا انتبه إلى قوله تعالى: {هدىً للمتقين}. وقوله: {وما يضل به الا الفاسقين}. علم ان الهدى والضلال ليس الزاما من الله، ولكنه تبع لحالة المرء، فان كان متقيا، كان القرآن هدى له، وان كان فاسقا، كان له ضلالا. وتبقى مع ذلك الشبهة قائمة، فيقول القائل: وما يدريني اذا كان الله قد جعلني مع المتقين أو جعلني مع الفاسقين؟ فاذا انتبه إلى قوله تعالى: {للمتقين الذي يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ... }. وقوله: {إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض}. علم ان المسألة ليس فيها اجبار، وان مردها إلى صفات وأعمال داخلة في نطاق حرية الانسان وطاقته. فأنت تستطيع أن تؤمن بالغيب وتقيم الصلاة، وتنفق في سبيل الله، وتستطيع أن تنقض العهد وتقطع الموصول، وتفسد في الأرض. أمور في طاقتك عملها، وفي امكانك تركها، فان عملت الثلاث الأولى، كنت بذلك من المتقين، فاستحققت الهداية، وان عملت الثلاث الأخرى، كنت بذلك من الفاسقين، فاستحققت الضلال. الإيمان بالقدر بحث عقيم وهنا يرد قولهم: هل عملت السوء بمشيئة الله أم لا؟ وهل كنت أستطيع الا أعمله؟ وهل خلقت أنا عملي؟ وأمثال هذه الأمور التي ملأ بحثها كتب علم الكلام. وذلك كله بحث عقيم، لأن الخالق لا يقاس على المخلوقين، والعقل لا يحكم على الله وصفاته. والله لا يسأل عما يفعل، وانما يسألنا عن أفعالنا، والله عادل لا شك في عدله. وخير لنا أن ننظر إلى أنفسنا، وأن ¬

(¬1) في قولك: بادي الرأي، وبادئ الرأي، أي: من النظرة الأولى، ومن أول وهلة.

الاحتجاج بالقدر

نحسن استعمال عقولنا، ونعمل على توجيه ارادتنا إلى الخير، وندع المباحث المتعلقة بالله، التي لم يتكلم فيها السلف ولا شغلوا أنفسهم بها. الإيمان بالقدر الاحتجاج بالقدر ومن العصاة من يحتج لعصيانه بالقدر، تقول للزاني: لم زنيت؟ فيقول: لأنه قدر علي! وهي حجة واهية، مردودة من وجهين: 1 - لأن الحساب والعقاب يكون على العمل، وعلى الدوافع اليه، والبواعث عليه. وهذا الزاني لم يطلع على اللوح المحفوظ، ويَرَ ان الزنا مكتوب عليه - كما يزعم - ويذهب ليزني تنفيذا لحكم القدر، وانما تبع الشهوة، وطلب اللذة العاجلة، واستجاب لنداء الشيطان. وقد احتج المشركون بمثل هذه الحجة فقالوا: {لوشاء الله ما أشركنا}. فرد الله عليهم بقوله: {قل هل عندكم من علمٍ فتخرجوه لنا؟}. أي: من أين عرفتم قبل أن تشركوا أن الشرك مقدر عليكم؟ وهل جربتم الايمان فوجدتم انه ممتنع عليكم؟ 2 - ان لو كان هذا المحتج بالقدر صادقا، لرضي بكل ما يقدره الله عليه، من فقر ومرض وجوع، وفقد حبيب، وذهاب مال، والمشاهد أنه لا يرضى بذلك، وهو مقدر عليه، ولا يسكن اليه. بل هو يعمل لجمع المال، ودفع المرض، واذهاب الجوع، ويألم لفقد الحبيب، وذهاب المال، فلماذا سخر قواه كلها، واستعمل عواطفه لجلب لذة الدنيا، ودرء الالم فيها، ولم يسخر عقله لقمع الشهوة، ومنع النفس من الحرام الذي ترغب فيه، وهو يعلم ما في عقبه من العذاب؟. الإيمان بالقدر نحن والسلف أمام عقيدة القدر خصوم الاسلام يتهمون المسلمين اليوم بالتواكل والتكاسل، لأنهم

يؤمنون بالقدر، وان كان في هذه التهمة بعض الحق، كان السبب فيها سوء فهم كثير من المتأخرين لعقيدة القدر. لقد اتخذها كثير من المسلمين الجاهلين حجة لارتكاب المعاصي، وسبباً للكسل والخمول، مع ان سلفنا قد اتخذوا منها دافعاً إلى العمل وإلى الجهاد. قرأنا ان الرزق مقسوم: "ما كان لك سوف يأتيك على ضعفك وما كان لغيرك لن تناله بقوتك"، فظن قومن ان مقتضى ذلك ترك الكسب، واهمال السعي، وان نقعد بلا عمل، وننتظر ان تمطرنا السماء ذهباً وفضة، وان نسافر بلا مال ولا استعداد ... وقرأ ذلك السلف، ففهموا منه ان عليهم أن يعملوا كل ما في وسعهم، وأن يبذلوا لجمع المال من الحلال كل ما في طاقاتهم، ثم اذا استفرغوا الجهد رضوا بما جاءهم، فلم يسخطوا على ربهم، ولم يحملوا الحسد لمن نال من اخوانهم أكثر مما نالوا، ولم يبطرهم الغنى ولم يؤلمهم الفقر. وسمعنا أن الأجل محتوم، فاتخذنا ذلك سبباً لاهمال التوقي والاحتياط، واضاعة المسؤوليات، والخلط بين الجريمة المتعمدة وبين القدر الذي وقع بلا جرم (¬1)، وسمع ذلك أجدادنا فقالوا: اذا كان الاجل محتوما لا يموت أحد قبل موعده ولو خاض اللهب وتلقى بصدره الرماح، ولا يتأخر عن موعده ولو اعتصم في حصن له سبعة أسوار، فلنعمل لما يرضي الله، نجاهد بأنفسنا في سبيل الله، لا نخشى الموت لأن الموت محتوم، له موعد لا يسبقه ولا يتأخر عنه، ولنجاهد بألسنتنا في انكار المنكر، ومواجهة الطاغي الظالم بكلمة الحق، فأقبلوا لا يخشون في الحق احدا، ولا يخافون الا الله شيئا. وفهمنا ان كل شيء مقدر، وأهملنا دراسة سنن الله في الكون، وقوانين الطبيعة التي جعلها ربنا سبباً للنفع والضرر، وكان سلفنا هم علماءَها (¬2)، وهم الذين يعرفونها ويستفيدون منها، فكان من نتيجة ذلك أن هبطنا من ¬

(¬1) يسرع السائق حتى اذا اصطدم، قال: انه القدر، ويهمل التلميذ، فاذا رسب، احتج بالقدر. (¬2) (هم) تأكيد، و (علماءها) خبر كان.

سبب تقديس الاموات

الذروة إلى الحضيض، ونزلنا من الأعالي إلى الأسافل. وكانوا بالايمان سادة الدنيا وقادتها وأساتذتها، فصرنا المسودين المقودين، وفتحوا بسيف الحق ثلث العالم المتحضر، وفتح عدونا بسيف الباطل قلب بلادنا. الإيمان بالقدر سبب تقديس الاموات ولما رأينا (أي رأى بعضنا) ان حياتنا كلها قد فسدت، وان الاحياء منا قد ذلّوا وذكرنا عز الاجداد وصلاحهم، تحوّل يأسنا من الحاضر إلى أمل بالماضي، وصّغار احيائنا إلى تعظيم أمواتنا، فنشأت من هنا مظاهر تقديس الأموات، والاعتماد عليهم، وانتظار المدد منهم. نظن ان نجاحهم وخيبتنا، تمكنهم من أمدادنا، فصرنا نقيم الأضرحة الفخمة، والقباب العالية عليها، ونبدي من التقديس لها، ما رجع بنا إلى قريب من عقائد الجاهلية. وصرنا ننذر النذور لهذه القبور، ونتوسل بها التوسل الممنوع، وربما طلبنا من أصحابها النفع والضرر، بلا أسباب ظاهرة، ولا واسطة ملموسة. وكل ذلك (رد فعل) لسوء حاضرنا، وجلال ماضينا. الإيمان بالقدر خلط لا مبرر له وكل ذلك جر اليه الفهم الخاطئ منا لعقيدة القدر، هذا الفهم الذي جعل منا من يخلط بين النصوص الواردة في الأمور الارادية، التي نملك التصرف فيها، والامور التي جعلها الله فوق ارادتنا، وأعلى من أن تصل اليها طاقاتها، ونشأ هذا الخلط العجيب في المذاهب الكلامية. فمن مدع ان الانسان مسير لا ارادة له، لأنه لا يستطيع أن يتحكم في عضلة قلبه مثلا، ولا عمل له في اختيار أبويه، وانتخاب بيئته الأولى، ونسوا ان الله أعطاه عضلات يتحكم فيها، وأعطاه عقلا يستطيع به أن يصحح (على قدر الامكان) اخطاء بيئته وآثار تربيته. وتوسع آخرون، وأعطوا ارادة الانسان أكثر مما لها في الواقع. وخلطوا تبعا لذلك في أمر الثواب والعقاب، ونسوا ان الله لا يحاسب الانسان الا في

حدود حريته وقدرته، ولا يؤاخذه على ما أكره عليه. وتَخبّطوا في البحث عن عدالة الله، ونسوا الحقيقة الأولى، وهي أن عدالة الله لا تقاس بمقايس العدالة البشرية. وطريق السلامة في عقيدة القدر وفي سائر العقائد، ان نعود فيها إلى المنبع الأصلي: القرآن. وأن نتبع فيها ما كان عليه السلف من الصحابة والتابعين، وأن ندع هذه البحوث العقيمة التي أثارتها الدراسة الناقصة، للفلسفة اليونانية البدائية السطحية.

الإيمان بالغيب

الإيمان بالغيب عالم الغيب: قدمنا في (قواعد العقائد) ان الحواس لا تصل إلى ادراك كل موجود، وان في الوجود عوالم حقيقية، لا ندركها بحواسنا، أقربها الينا الروح التي يحيا بها كل واحد منا. من ينكر وجود الروح؟ لا أحد. من أدرك (ماهية) الروح؟ لا أحد. فالعالم المدرَك المشاهد، هو الذي سماه القرآن، (عالم الشهادة)، والعالم المغيب عن حواسنا - عالم ما وراء المادة " Metaphysique " هو عالم الغيب. أما عالم الشهادة فيستوي في الايمان به، والتصديق بوجوده الناس جميعا، حتى الحيوان الاعجم يدرك بحسه وجودَه. فلا فضل في الايمان به لأحد على الحد، لأن ذلك من (العلم الضروري). ولكن الفضل، في الايمان بالغيب، فيمن يؤمن بما لا يراه ويصدق بوجوده، اعتمادا على صدق الخبر به. وهذا ما يمتاز به المتقون، ولذلك جعل الله أول صفة وصف بها المتقين، في أول سورة البقرة، أنهم {الذين يؤمنون بالغيب}. الإيمان بالغيب كيف نؤمن بالغيب؟ كيف نؤمن بالغيب ولم يعطنا الله الحواس التي ندركه بها؟ اننا لو تركنا

الغيب الذي يجب الإيمان به

لحواسنا نعتمد عليها وحدها، ولعقولنا نحكم بها على ما جاء من طريق الحواس فقط، لبقينا على جهلنا بما وراء المادة، فكان من حكمة الله، ومن رحمته بنا، انه لم يترك العقل في عجزه عن ادراكها، بل أخبره بما يحتاج اليه من خبرها. وهذا الاخبار لا يأتي من داخل النفس بل من خارجها، وليس من قبيل الحدس النفسي، ولا الإلهام الروحي، ولا الوميض الذهني، ولا الاستنتاج العقلي. ليس صادراً عن الطاقة الانسانية، ولكنه آت من خارجها بطريق من الطرق الثلاثة: الأول- أن يضع الله هذه الاخبار في الانسان، بالهام أو بمنام، أو بنوع من التلقي الذي لا عمل فيه للانسان، ولا يستطيع الوصول اليه باجتهاد، فيحس بها، ويعبر عنها. الثاني- بأن يسمعها من غير أن يرى قائلها الحقيقي، فتصل إلى اذنه ويدركها ويعيها. الثالث- (وهو الأعم الأكثر) أن يرسل الله واحدا من مخلوقاته الخيرة، المطيعة المغيبة عنا، التي تسمى الملائكة، إلى واحد من البشر، يختاره الله ويصطفيه، فيبلغه رسالة الله، ويأمره أن يبلغها الناس. فهذه ثلاثة طرق ليس لها رابع. {وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله الا وحياً أو من وراء حجابٍ أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء}. الإيمان بالغيب الغيب الذي يجب الإيمان به والغيب الذي هو ركن الإيمان، والذي يكفر منكره ويخرج من ملة الاسلام، هو ما جاء في القرآن. أما الغيب الذي ورد في السنة الصحيحة، فلا يكفر منكره ويخرج من الملة، بل يفسق. وهذا الفرق بين الكتاب والسنة يحتاج إلى شيء من البيان، ذلك أن ما

أبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي، وما نطق به من الحديث، هما في الأصل درجة واحدة من الحجية (¬1)، فالقرآن وحي من الله بلفظه ومعناه، والحديث وحي من الله بالمعنى، واللفظ لفظ الرسول، قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى}. والصحابة الذين سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم الآية يبلغها، والحديث ينطق به، لم يكونوا يفرقون بينهما، في وجوب العمل، وفي الحجية. ولكن الفرق نشأ من الرواية والنقل، فالقرآن نقل نقلا متواترا، بحيث نجزم بأن النص الذي في المصحف، هو الذي نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهوالذي بلغه محمد أصحابه، ما نقص منه شيء (¬2) ولا زيد فيه شيء، ولا أبدل منه شيء. أما الحديث فنقل جله (ان لم نقل كله) آحاد عن آحاد، ولقد بذل علماء الحديث في تمحيص روايته، والفحص عن رجاله، أقصى ما تصل اليه الطاقة البشرية، ولكنا لا نقطع مع ذلك بأن الحديث الذي رواه (البخاري) و (مسلم) وأصحاب السنن، قد قاله صلى الله عليه وسلم، وأنه نقل بلفظه، كما نقطع بأن ما في المصحف هو القرآن المنزل. ولما كانت العقيدة أساس الدين، ويترتب على الاخلال بها الكفر والردة، وكان لا يحكم على مسلم بالردة ما دام في الأمر احتمال الا يكون كفر. لذلك قلنا ان من أنكر عقيدة جاءت بصريح القرآن يكفر، ومن أنكر عقيدة وردت في صحيح السنة يفسق ولا يكفر، هذا ان ردها عنادا وخلافا، أما اذا كان من أهل الحديث، العارفين بعلله، ورد الحديث لعلة في سنده أو متنه، فلا شيء عليه. ¬

(¬1) أي في قوة الاحتجاج بهما. (¬2) ومن اعتقد من اتباع الفرق المنسوبة إلى الإسلام، ان الذي في المصاحف ليس القرآن كله، وان من القرآن ما ليس في المصحف التي يتداولها المسلمون، كفر وخرج من ملة الإسلام، الا ما كان من الآيات التي قال قوم أنها منسوخة التلاوة، ولم يثبت ذلك بخبر متواتر.

المغيبات

الإيمان بالغيب المغيبات المغيبات التي أخبر بها الشرع، ويجب بها الايمان، ويترتب على انكارها الكفر، هي الملائكة والجن، والكتب والرسل، واليوم الآخر، وما فيه من الحساب، وما بعده من الثواب والعقاب، والقدر، وما جاء في القرآن، عن خلق السموات والأرض، وخلق الانسان، وكل ما أخبر به القرآن. الإيمان بالغيب شبهة وردها الماديون الذين لا يؤمنون الا بما يحسون به، نرد عليهم بالقاعدة الثالثة من قواعد العقائد التي تبين أنه لا يشترط من عدم الوجدان عدم الوجود، وأنه لا يحق لنا أن ننكر أشياء لمجرد أننا لا نحس بوجودها، وبالقاعدة التي بيّنا فيها ان الخبر الصادق يفيد اليقين، كما يفيده الحس، وما دام قد ثبت صدق محمد صلى الله عليه وسلم في اخباره عن الله، وثبت نقل هذا الخبر الينا، فقد حصل من هنا اليقين لدينا معشر المؤمنين بوجود هذه المغيبات. الإيمان بالغيب أقسام الغيب عالم الغيب على أقسام، كل قسم منها يسمى غيباً: 1 - قسم لم ندركه نحن، ولكن أدركه غيرنا من البشر، كقصة يوسف مثلا، سماها الله غيباً، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم وقومه لم يدركوها بحواسهم، لم يروها ولم يسمعوا بها، ولكن بني اسرائيل، (أعني أولاد يعقوب) يوسف واخوته، أدركوها وعاشوها، وكانت هي وقائع حياتهم. 2 - وقسم لم يدركه البشر، وان كان من الممكن عقلا أن يدركوه لو قدم الله موعد إيجادهم، كالحوادث التي كانت في الأرض من قبلهم، وأخبار المخلوقات التي كانت تسكنها، ولكنهم لم يعرفوا عنها في الواقع، وعن أخبار خلق أبيهم آدم، وبداية الحياة البشرية، الا ما جاءهم علمه من طريق الوحي. 3 - وقسم لا يمكن إدراكه بالحواس، ولا الحكم عليه بالعقل، ولا الاحاطة بحقيقته بالخيال، كصفات الله، وما غيبه عنا من مخلوقاته، كالملائكة

شبهة وردها

والجن والشياطين، وأحوال يوم القيامة، وما بعده من الحساب والثواب والعقاب. الإيمان بالغيب شبهة وردها قد يقول قائل: ان من أمور الغيب التي استأثر الله بها، انزال الغيث، والعلم بما في الأرحام، فكيف تخبر النشرة الجوية عن جو الغد، أصحو أم ماطر؟ ويكشف العلم عما في بطن الحامل: هل هو ذكر أم أنثى؟ والجواب: 1 - ان الذي أنزل القرآن هو الله، وان الذي خلق الكون وما يقع فيه هو الله، فلا يمكن أن يأتي في القرآن نص صريح قاطع بانكار أمر قائم مشاهد ملموس، واذا وجدنا نصاً يظهر منه انه مخالف للواقع، ندقق النظر فيه، فنرى ان المعنى المقصود منه غير ما بدا لنا (¬1). 2 - النشرة الجوية انما تخبر عن المطر بعد رؤية أسبابه، وتمام خلقه، وبيان ذلك ان المطر الذي ينزل في سواحل الشام مثلا، تبين (من العلم بسنن الله في الكون)، ان سببه الهواء الذي يجيء من البحر الاطلسي، فيمر بمضيق جبل طارق، فيصطدم بكتلة هوائية راكدة، فتشكل السحب من اختلاف درجة حرارة الهواء القادم والهواء الراكد، فاذا رأوه علموا استناداً إلى معرفة سنن الله، انه سيتوجه إلى ساحل الشام بعد كذا. فهو كمن شاهد موزع البريد من نافذته، وقدر متى يصل إلى داره، فقال لأهله: سيأتي موزع البريد بعد خمس دقائق، وكمن يحمل منظاراً يضعه على عينيه، فيرى السيارة القادمة فيخبر بها قبل ظهورها للعيان. ما علم في الحقيقة الغيب، ولكن رأى الواقع قبل أن يراه غيره، ¬

(¬1) وهذا، اذا كان النص آية من القرآن، وليس في القرآن آية تدل دلالة قطعية على نفي أمر حكم العقل بوجوده حكما قطعياً. وإما ان كان النص حديث آحاد (أي نقله واحد عن واحد)، فاننا نجزم أن الرسول لم يقله، ولو نقله رجال الصحيح، لأن الرسول صلوات الله عليه لا يقول ما يخالف الواقع المحسوس.

ومثله من يخبر عن نوع الجنين بعد تشكيله. وأما إنشاء السحاب، وانزال المطر في أرض كتب الله عليها الجفاف، ومنعه عن أرض أنزله الله عليها، ومعرفة جنس الجنين، وهو لا يزال حويناً منوياً، أو حوينا صادف بويضة، فهذا هو المراد من الآية والله أعلم.

الملائكة والكتب والرسل

الملائكة والكتب والرسل الوحي وامكانه ولزومه الايمان بالملائكة والرسل والكتب من أسس العقائد، التي لا يكون الانسان مؤمنا الا بها. والملائكة رسل الله إلى الأنبياء، والأنبياء رسل الله إلى الناس، والكتب هي الرسالة التي حملها الملك إلى الرسول، ونقلها الرسول إلى الناس. الوحي وامكانه ولزومه: الوحي ممكن عقلا، لأن الله قادر على خلق الملائكة، واصطفاء الرسل. وشرع الاحكام، لا يمنع العقل ذلك، بعد ان آمن بوجود الله، وقدرته وارادته. وهو واقع فعلا، لأن الخبر الصادق ورد به، وقد قدمنا ان الخبر الصادق طريق من طرق العلم (بمعنى اليقين)، واننا نوقن بما نصدق الخبر به، كما نوقن بما نراه ونسمعه. وهو لازم اذ لولاه لاقتصر البشر على عالم المادة وجهلوا ما وراءه، ولكانوا كالانعام والمواشي، يعيشون لدنياهم وحدها، لا يعرفون الا الطعام والنكاح، واللذائذ الجسدية، لا يتصلون بربهم، ولا يعملون لآخرتهم. ولولاه لفقدوا السمو الخلقي، والرفعة الانسانية. ومهما أوردوا، من نظريات في علم الاخلاق ( la morale) ، وفي الأساس الذي تبنى عليه، فان الاخلاق اذا لم تبن على أساس من العقيدة، كان بناؤها على كثيب من الرمل، لان الانسان مفطور على حب نفسه، وجلب النفع لها، ودرء الأذى عنها، فلا يعمل عملا لا يكون له فيه لذة أو كسب (¬1). ¬

(¬1) انظر كتاب الحكم " Maximes " لمؤلفه " Laroche Faucold " لاروشفوكلد.

شبهة وردها

ولو ان رجلا لا يملك الا ديناراً يدخره لعشائه، ورأى صندوقاً لمساعدة الايتام، هل يضع الدينار في الصندوق اذا كان لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ويبيت طاويا ولا يخبر بذلك احداً، ولا يدع أحداً يراه؟ أما المؤمن فانه يضعه في الصندوق لأنه يعلم ان الله يراه، ويعطيه بدله سبعمئة دينار يوم القيامة. المؤمن وحده هو الذي يعمل الخير، رآه الناس أم لم يروه، شكروه أم لم يشكروه، أثابوه وعوضوه عنه أم لم يثيبوه ولم يعوضوه. المؤمن وحده هو الذي يدع فعل البشر، سواء أكان وحده أم كان مع الناس، اما الذي يعمل الخير للثناء او العطاء، فلا يعمله الا اذا وجد من يثني عليه ويعطيه. والذي يدع الشر خوف الفضيحة، أو خشية العقاب، لا يدعه ان أمن أن يبصره الشرطي، أو يراه الناس. ولو حاسب الله الناس في الآخرة على ذنوبهم. ولم يرسل اليهم رسلا يعرفونهم شرع ربهم، لاحتجوا وقالوا: {ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك}. ولادَّعوا انهم لو بلغوا الرسالة لعملوا بها، ولو عرفوا الشريعة لاتبعوها، فكانت الرسلات: {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}. الملائكة والكتب والرسل شبهة وردها يقول الناس: لماذا لم يهد الله الناس كلهم إلى طريق الجنة؟ ولماذا وضع في نفوسهم الشهوة ثم عاقبهم على الزنا؟ وغرز فيهم حب المال وحاسبهم على جمعه من غير الحلال؟ والجواب: ان هذا القول، كقول طلاب المدرسة، لماذا لا يعطوننا أسئلة الامتحان من أول السنة، ولماذا أخفوها عنا، وكلفونا الاستعداد لها؟ انهم أخفوها ليجد الطالب ويقرأ المقرر كله، ولو أعطيناه أسئلة الامتحان من الآن، لما بقي معنى للامتحان. والدنيا دار ابتلاء، والابتلاء في لغة العرب الاختبار (الامتحان)، ليتميز

الملائكة

الطائع من العاصي، والمستقيم من المنحرف. ولولا حواجز السباق (¬1)، لما بان الخائر الضعيف من الفارس المغوار. ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، ولو أراد لخلقهم للطاعة الخالصة كما خلق الملائكة، ولكن هكذا شاء، ولا راد لما يشاء، ولا يسأل عما يفعل، ونواصينا بين يديه، ونحن ملك له راجعون اليه، ما لنا رب غيره ولا إله سواه، إن شاء عذبنا وإن شاء عفا عنا، ونحن نسأل الله عفوه ورحمته، ونعوذ به من عذابه، لأننا لا نستطيع أن نتخلص من عذابه الا بعفوه، ولا نستطيع أن ننال العفو الا منه وحده. الملائكة والكتب والرسل الملائكة وجود الملائكة ثابت وارد في القرآن، فمن أنكر شيئا مما ورد في القرآن من خبرهم كفر، والذي ورد من خبرهم وصفتهم في القرآن هو: 1 - أنهم خلقوا قبل البشر، وخبرهم ربنا انه: {جاعلٌ في الأرض خليفةً قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء}؟. 2 - انهم خلقوا للطاعة الخالصة: {ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك}. فهم: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ... ويسبحونه وله يسجدون ... يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به}. 3 - وان الله لما أتم خلق آدم، علمه الأسماء (¬2) وامتحنهم بالسؤال عنها، فلم يعرفوها حتى أعلمهم آدم بها، فلما بان فضله بذلك عليهم، أمرهم بالسجود له، سجود تحية لا سجود عبادة. ¬

(¬1) أي سباق الخيل. (¬2) لم يبين الله ما هي هذه الأسماء، لكن الظاهر أنها أسماء الملائكة، أو أسماء الأشياء الموجودة يومئذ، ولم يبين اللغة التي علمه الأسماء بها.

4 - انهم يتشكلون بأشكال مادية أحيانا, ويظهرون بصورة بني آدم، ففي قصة مريم: {فارسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا}. وضيوف ابراهيم كانوا ملائكة جاؤوا على صورة البشر، فقدم اليهم عشاءهم من لحم عجل سمين: {فلما رأى أيديهم لا تصل اليه نكرهم وأوجس منهم خفية قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط}. 5 - وان مقرهم السماء ينزلون منها إلى الأرض (¬1) بأمر الله: {ما نتنزل إلا بأمر ربك}. 6 - وانهم درجات وأصناف في أصل الخلقة وفي مقام العبودية، جعلهم الله {رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء ... وما منّا إلا له مقامٌ معلوم}. فمنهم من ينزل بالوحي وهو جبريل: {قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ... وانه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين}. ... ... ... ومنهم ملك الموت (¬2) الموكل بقبض الأرواح: {قل يتوفاكم ملك الموت الذي وُكل بكم}. ومنهم الذي ينفخ في الصور، ومنهم ميكال (ميكائيل)، ومنهم حملة العرش: ¬

(¬1) إذا كان في النجوم ما يحتاج الوصول اليه إلى مليار سنة ضوئية. والسماء بعد النجوم كلها قطعاً فبأي سرعة كانوا ينزلون؟ ان العقل يعجز عن تصور هذه السرعة! (¬2) لم أجد على كثرة ما بحثت نصاً من كتاب أو سنة ثابتة ان اسمه "عزرائيل".

{والذين يحملون العرش ... ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية}. ومنهم الموكلون بتنعيم أهل الجنة: {والملائكة يدخلون عليهم من كل بابٍ سلامٌ عليكم بما صبرتم}. ومنهم المكلفون بتعذيب أهل النار: {عليها ملائكة غلاظٌ شدادٌ}. ومنهم من يسجل على الانسان أعماله: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيبٌ عتيدٌ ... وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين}. ومنهم من يسوق الانسان للحساب يوم القيامة ومن يشهد عليه: {وجاءت كل نفس معها سائقٌ وشهيد}. 7 - ومن أعمالهم التي خبر القرآن عنها، انهم يثبتون المؤمنين في المعارك: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا}. وأنهم يدعون لهم، ويصلون عليهم، ويستغفرون لهم: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته ... ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيءٍ علماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدنٍ التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته}. ويشهدون صلاة الفجر مع المؤمنين: {إن قرآن الفجر كان مشهوداً}. ويبشرون المؤمنين عند الموت ويؤنبون العاصين: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا

ثمرة الإيمان بالملائكة

ولا تحزنوا وأبشروا ... إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم ... ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم}. ويسوقونهم من بعد إلى النار، ويوبخونهم: {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسلٌ منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين}. ويستقبلون أهل الجنة ويرحبون بهم {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين}. وانهم لا يتناكحون ولا يتناسلون، ولا يوصفون بذكورة ولا انوثة. هذا جل ما جاء في القرآن من خبر الملائكة، وفي السنة الصحيحة كثير من أخبارهم. جاءت في أحاديث آحاد، لكن صحت روايتها، وثبت سندها. ومن أنكر شيئاً مما ورد في القرآن عن الملائكة أو غيرهم كفر. والايمان بالملائكة أحد أركان العقائد الاسلامية: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ... }. الملائكة والكتب والرسل ثمرة الإيمان بالملائكة ازدياد الشعور بعظمة الله، واستشعار رحمته، اذ وكل الملائكة بالدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم. والتحرز عما أمكن من المعاصي، حين يتذكر انهم يسجلون عليه كل ما يقوله ويفعله. والإقدام والشجاعة في الجهاد، حين يتصور انهم يؤيدون المجاهدين، بأمر رب العالمين. والعمل للجنة ليكون ممن يسلمون عليه. والبعد عن أسباب دخول النار لئلا يكون ممن يوبخونه.

الجن

ومن ثمراته الاجمالية التشبه بهم في لزوم الطاعة، واجتناب العصيان، وتقوية الجانب الملائكي في الانسان. الملائكة والكتب والرسل الجن خبّر الله في القرآن، بأنه خلق خلقا آخر، تعجز عيوننا عن رؤيتهم على صورهم الأصلية، كما تعجز عن رؤية الملائكة، ورؤية الأشعة التي هي فوق البنفسجية وتحت الحمراء، ورؤية الموجات الصوتية، ورؤية التيار الكهربائي، وهو يمشي في سلك النحاس، وهذا الخلق هو الجن. والذي يجب الايمان به، ويكفر منكره، هو ما جاء من أخبارهم في القرآن، وان لم يخصصه الله بالذكر، ويجعله من أركان الايمان صراحة كالايمان بالملائكة. الملائكة والكتب والرسل الجن في القرآن 1 - خبر القرآن ان الجن خلقوا من النار، ولا يلزم من هذا ان يكونوا نارا تحرق ما تمسه، ولا يمنع أن يكون الله قد حولهم فيما بعد إلى طبيعة أخرى. فالانسان خلق من طين، ولكنه لم يبق طينا بل أنشأه الله خلقا آخر، فجعله مركبا من عظام وعضلات ودم وأعصاب على سنة الله في الكون، اذ يحول المخلوقات من حال إلى حال. فيجعل من (الخلية) أحياء مختلفي الصفات والهيئات والطبائع، ويجعل من (الذرة) معادن مختلفة الأوزان والأشكال والخصائص، ويجعل من (البذرة) اليابسة شجرة خضراء الأوراق ملونة الأزهار. 2 - وخبر أنهم خلقوا قبل خلق الانسان: {والجان خلقناه من قبل من نار السموم}. 3 - وأنهم يروننا ولا نراهم، وليس في هذا عجب، فمن كان بيده المنظار رأى الشخص البعيد وذلك الشخص لا يراه، ونحن في الدنيا وفقنا إلى صنع آلات كالرائي (التلفزيون) والهاتف المرئي نرى منها المتحدث، وهو لا يرانا، قال: {يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم}.

4 - وأنهم مكلفون مثلنا يحاسبون على أعمالهم كما نحاسب، ويثابون ويعاقبون كما نثاب نحن ونعاقب، وان جهنم والعياذ بالله منها، تمتلئ بالجن والانس معا. قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون ... وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ... }. 5 - وان رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بلغتهم، كما بلغتهم من قبلها رسالة موسى. {قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم}. 6 - وأنه كان منهم الصالحون والعاصون، وأنهم كالبشر أصناف: {وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً ... وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون}. 7 - وأن الله سخرهم لسليمان: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل (¬1) وجفانٍ كالجواب وقدورٍ راسياتٍ}. 8 - وأنهم لا يعلمون الغيب، لذلك لبثوا يعملون لسليمان بعدما مات: {ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خرَّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين}. 9 - وان الله تحداهم، كما تحدى البشر أن يأتوا بمثل القرآن: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً}. 10 - وأنهم كانوا يتحسسون أخبار السماء من الملائكة، فلماء جاء الاسلام منعوا من ذلك ورموا بالشهب: ¬

(¬1) التماثيل: بالمعنى المعروف، وهي الصور المجسمة، وهي محرمة قطعا في ديننا.

الشياطين

{وأنا كنّا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً}. الملائكة والكتب والرسل الشياطين وهم كفار الجن، أبوهم إبليس، وقد قال قوم ان إبليس من الملائكة، ولكن الصحيح انهم من الجن. أولاً: لأن الله صرح بذلك في القرآن، فقال: {فسجدوا الا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه}. ثانياً: لأن إبليس عصى ربه, والملائكة: {لا يعصون الله ما أمرهم}. ثالثاً: لأن القرآن صرح بأنه خلق من النار: {قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ}. الشياطين في القرآن: 1 - الشيطان هو العدو الأول للبشر، اخرج أباهم من الجنة، وهو يعمل على منعهم من دخولها ويبعدهم عن طريقها، ويغريهم بسلوك طريق النار، وهم مع ذلك يتبعونه ويَدَعون شرع الله إلى وسواسه، وهدي الأنبياء إلى ضلاله. وقد وبخهم الله على فعلهم وعلى هذه الحماقة منهم، اذ يستجيبون لعدوهم الذي يريد العذاب لهم، ولا يستجيبون لربهم، الذي يدعوهم ليغفر لهم ويرحمهم: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدوٌ بئس للظالمين بدلاً}. 2 - دلت هذه الاية على ان الشياطين يتناسلون، ويكون لهم ذرية وأنهم جميعا ذرية إبليس. 3 - سلط الله الشيطان على الناس، ولكنه لم يعطه القدرة على النفع

والضرر، ولم يمنحه القوة التي لا تُدفع، بل أعطاه الكيد: {إن كيد الشيطان كان ضعيفاً ... وليس بضارهم شيئاً الا بإذن الله ... وما كان له عليهم من سلطانٍ ... }. 4 - عمله الوسواس والاغراء بالشر والدعوة إلى القبائح: {يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ... يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً}. يحملهم على الخمر والميسر وأمثالها، وأمثالُها: {رجسٌ من عمل الشيطان}. برنامجه كله ينحصر في الشر والفحش والخلاف، وأول مادة في هذا البرنامج وأول ما فتن به آدم وحواء، التكشّف والتعرّي، ولبس القصير من الثياب: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما ... }. فكان نزع الثياب، وابداء العورات، أول مادة في هذا القانون الشيطاني. ومن شأن إبليس أن يحسن في عيون أتباعه (السيّئ) حتى يروه حسنا، ويجمل لهم القبيح فلا يبصروه قبيحا: {وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ... }. ومن شأنه أن يدفع أولياءه إلى إثارة الشبه في وجوه المؤمنين، وشغلهم عن دعوتهم دعوة الحق بالجدال والمراء، وقد نبهنا الله إلى ذلك، وقال لنا: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ... }. فلا تستجيبوا لهم ولا تسقطوا في شركهم: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون}. ومن شأنه أن يشغل المؤمن عن ذكر ربه، حتى ينساه، فيقدم على المعاصي، فالعاصون:

{استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله}. ولكن {الذين اتقوا اذا مسهم طائفٌ من الشيطان (فأنساهم ربهم) تذكروا فإذا هم يبصرون}. 5 - لكن الشيطان رغم دأبه على الافساد، وثباته على عداوة بني آدم، وأنه يأتيهم عن أيمانهم وعن شمائلهم، ومن أمامهم ومن خلفهم، وأنه يقعد لهم كل مرصد، وأنه يستفزهم بصوته ويجلب عليهم بخيله ورجله، وأنه يشاركهم في الأموال والأولاد ... إنه على هذا كله لا يملك الا الوسواس، والاغراء بالشر، لا يقدر على نفع لهم ولا ضر، وحين يتجادل الكفار والشياطين في الآخرة، يقول لهم: {وما كان لي عليكم من سلطانٍ إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ... }. ولما دعا إبليس ربه أن يؤجل موته، وأجابه: {قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين}. قال الله عز وجل: {هذا صراطٌ علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين ... إنه ليس له سلطانٌ على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون .. }. 6 - وهو يخذل أتباعه ويتخلى في ساعة العسرة عنهم، ويخون عهدهم: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال (أي: يوم بدر للمشركين من أهل مكة) لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريءٌ منكم إني أرى ما لا ترون}. يعني الملائكة التي نزلت يومئذ لتأييد المؤمنين: {إني أخاف الله}.

{كمثل الشيطان اذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريءٌ منك إني أخاف الله ... }. شياطين الإنس: هذا بعض ما ورد في القرآن الكريم من صفات الشيطان، انه يعمل على نشر الكفر واذاعة الفاحشة، وكشف العورات، يزين للناس ما هم عليه من القبيح ويحسنه لهم، حتى يقيموا عليه ولا يتحولوا عنه. يثير الشبه، ويجادل بالباطل، ويوقع العداوة بين المسلمين ويفرق جمعهم، حتى اذا استجابوا له واتبعوه، واحتاجوا يوما إلى نصره ومعونته، فاستعانوا به واستنصروه تخلى عنهم وتبرأ منهم. وكل من تخلق بهذه الأخلاق من الناس، كان حكمه حكم الشيطان. {قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس}. فمن رغّب بالفاحشة وزينها للناس بالصور العارية، أو القصص الداعرة، أو الأدب المكشوف، فهو من شياطين الإنس, ومن دعا إلى عصبية جاهلية (من الجاهلية الأولى أو الجاهلية الجديدة)، تجعل أمة محمد أمما، وتحيل وحدتهم تفرقا، فهو من شياطين الإنس. ومن صرف الناس عن طريق الجنة إلى طريق النار، وأنساهم ذكر الله واليوم الآخر، فهو من شياطين الإنس: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك ربِّ أن يحضرون}.

الإيمان بالرسل

الإيمان بالرسل حقيقة الرسول وأول ما يقرره القرآن، ان الملائكة والجن والرسل، خلق من خلق الله، كلهم عباده، وهو أوجدهم وهو المتصرف فيهم، وأنهم لا يملكون لأنفسهم (فضلا عن غيرهم) نفعا ولا ضراً إلا بإذن الله. الرسل جميعا بشر، يولدون كما يولد البشر، ويموتون كما يموتون، ويمرضون مثلهم ويصحون (¬1)، لا يختلفون عنهم في تكوين أجسادهم، ولا في تصوير أعضائهم، ولا في جريان دمائهم وحركات قلوبهم، يأكلون ويشربون، كما يأكل الناس ويشربون. ليس فيهم شيء من الألوهية، لأن الألوهية لله وحده، ولكنهم بشر يوحى اليهم، وقد عجبت الأمم الأولى من الوحي، فقال لهم الله عز وجل راداً عليهم مبينا انه لا مكان لعجبهم: {أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجلٍ منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا}. وعجبوا أن يكون الرسول من البشر ومنعهم من الايمان. {أن قالوا أبعث الله بشراً رسولا}. فرد الله عليهم، بأن الرسول انما يكون من جنس من أرسل اليهم، فالبشر يرسل اليهم رسول من البشر. ¬

(¬1) الرسل جميعاً بشر: يشبهون البشر في كل شيء، الا ما كان من ذلك منافيا لاصطفائهم للرسالة، كالأمراض المشوهة المنفرة، او المانعة من القيام بالدعوة.

{لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزّلنا عليهم من السماء ملكاً رسولا}. وناقشوا رسلهم {قالوا إن أنتم الا بشرٌ مثلنا}، {قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم}. كما قلتم: {ولكن الله يمُنُّ على من يشاء من عباده}. وقد منَّ علنا فأوحى إلينا الشريعة، وأمرنا بتبليغها: {وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً}. فرد الله عليهم، مخاطبا رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق}. وقال لهم رداً عليهم: {وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً (أي: على هيئة رجل) وللبسنا عليهم ما يلبسون}. حقيقة الرسول: الرسول بشر يمتاز بالوحي، وقد قال تعالى لمحمد: {قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليّ}. وقد أكد بشريته باستعمال (إنما) وهي تفيد الحصر والقصر، وتنفي عنه ما ينافي البشرية، ثم أكدها مرة ثانية بقوله: {مثلكم}. هو مثلنا في تكوين جسده، وطبيعة خلقه، ولكنا لسنا جميعا مثله، في خلقه ولا في مزاياه ولا في عظمته، ولو لم يكن (محمد) خاتم الأنبياء، لكان - بلا جدال - أعظم العظماء وبطل الأبطال. فاذا كان بشرا مثلنا، يجوز عليه ما يجوز علينا، فهل يخطئ كما نخطئ؟ والجواب:

1 - ان الخطأ إما أن يكون في مجال التبليغ عن الله، وفي بيان الشريعة، وهذا النوع من الخطأ يستحيل وقوعه من الرسل جميعا، لأن الرسول (لا ينطق) اذا بلغ عن الله أو بين شريعته: {عن الهوى إن هو الا وحيٌ يوحى}. والله يقول: {يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم}. ويستحيل أن نقع من الرسول (بعد رسالته) معصية، أو يأتي ما يجرح العدالة أو يحل بالمروءة أو ينافي الكمال، لأن الله جعله قدوة، وأمر المسلمين أن يتأسوا به، وان يتبعوه في فعله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ}. وهذه الأسوة ثابتة للرسل جميعا: {لقد كان لكم فيهم أسوةٌ حسنة}. وذلك يقتضي العصمة من ارتكاب المعاصي واتيان النقائض. 2 - وإما أن يكون الخطأ في أمر شرعي اجتهد فيه الرسول، ولم ينزل عليه فيه شيء من ربه: وهذا النوع من الخطأ ممكن وقوعه من الرسل، ولكن الله لا يقرهم على الخطأ بل يبين لهم وجه الصواب فيه، كما وقع من الرسول في قصة الأعمى، وفي قصة أسرى بدر، اجتهد فبين الله له أنه لم يصب في اجتهاده. وقد فكرت في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم يوم جاءه الأعمى، وقلت لنفسي: لو لم ينزل الله هذه الآيات من سورة (عبس وتولى)، وعرض موقفه على عقلاء الدنيا وساستها وعلمائها، هل كان فيهم أحد يقول بأن في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم ما ينتقد أم يقرر الجميع ان الذي فعله هو عين الصواب؟ رجال من كبار القوم يتألفهم ويحاول أن يكسبهم لنصرة الدعوة، فيأتي واحد من أتباعه يسأله عن مسألة ليست مستعجلة، ولا ينشأ عن تأخيرها ضرر،

وهو يستطيع أن يسأل عنها في كل وقت، فيرجئ جوابه حتى ينتهي مما هو فيه. هل يفعل أحد من الناس غير هذا؟ هل في الدنيا من لا يقول بأن عمل الرسول هو الذي يرونه الصواب؟ انه هو الصواب في مقياس المنطق البشري، ولكن لما نزل الوحي بمقياس آخر، تبين ان ميزان الله أقوم من موازين الناس، وان حكم من خلق العقل أصح من حكم العقل، بل هو الحكم القويم، وحكم العقل هو المعوج المنحرف. ومثل هذا يقال في موقفه صلى الله عليه وسلم يوم (أسرى بدر)، أي ان ما وقع منه صلى الله عليه وسلم، انما كان خطأ بالنسبة لحكم الله، ولو لم ينزل الوحي بتخطئته لكان عند أعقل الناس صوابا، فليس في ذلك خطأ (بالمعنى المعروف) وقع من محمد، بوصفه عظيماً من عظماء البشر، بل ان فيه الدليل على ان وحي السماء فوق حكمة الأرض. 3 - واما أن يكون الخطأ في أمر من الأمور الادارية والحربية، وهذا أيضاً ممكن وقوعه لأن الرسول بشر، يفكر في هذه الأمور تفكيرا بشريا، وقد كان الصحابة يسألونه في مثل هذه الأحوال: هل القرار الذي قرره بأمر من الله ووحي، او باجتهاد منه؟ فان خبرهم بأنه ليس لديه فيه أمر من الله، وأنه رأي شخصي، عرضوا عليه أراءهم فأخذ بها أو ردها. كما وقع في حادثة اختيار المعسكر يوم بدر، اذ قالوا له: "يا رسول الله، أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم عنه أو نتأخر، أم هو الرأي والمكيدة؟ " فلما بين لهم أنه رأيه الشخصي، عرضوا عليه رأيا غيره فأخذ به وعدل عن رأيه. ووقع مثل ذلك في حفر الخندق، وفي حادثة الصلح مع غطفان في تلك المعركة. 4 - أما الأمور الدنيوية الخالصة، فكان الرسول يتكلم فيها برأيه الشخصي، وقد يخطئ في الأمور الصناعية والزراعية والطبيّة التي لا يعرفها

الرسول لا يعلم الغيب

في العادة إلا أهلها، كما أخطأ في مسألة تأبير (أي تلقيح) النخل، وليس في هذا عيب أو نقص، لأنه لا يطلب من العظيم ولو كان عالماً - ولو كان أكبر علماء الدنيا - أن يعرف كل الذي يعرفه أرباب الصناعات، وأصحاب المهن ورجال الزراعة والتجارة، وسائر المهن. ومسألة تلقيح النخل مسألة زراعية فرعية، أبدى فيها صلى الله عليه وسلم رأيا عارضا، لم يلزمهم ولم يحملهم عليه، ولم يقل لهم أنه من الدين، وان الله أوحى به، فلما تبين له خطؤه، قال: "أنتم أعرف بأمور دنياكم (¬1) ". الإيمان بالرسل الرسول لا يعلم الغيب القرآن قد صرح بأن الرسول لا يعلم الغيب، وأمر الله الرسول في القرآن أن يخبر الناس بأنه لا يعلم الغيب: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك إن أتبع الا ما يوحى إليَّ ... قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا الا نذير وبشير لقومٍ يؤمنون ... }. فخبر الناس بذلك، وتلا عليهم هذه الآيات، وبقيت قرآنا يتلى في المساجد، ويقرأ به في الصلوات. الإيمان بالرسل الرسل كثيرون وأصول الرسالات واحدة بين الله في القرآن ان لكل أمة من الامم رسولا أرسله الله إليها: {وإن من أمةٍ الا خلا فيها نذير ... ولكل أمة رسول}. ولكن الله لم يذكرهم جميعا في القرآن، بل ذكر بعضا منهم: {ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك ... }. ولكنهم جميعا بعثوا بتوحيد الله، والتصديق باليوم الآخر، واتباع ما ¬

(¬1) ولعل الحديث الوارد في الذباب اذا سقط في الاناء من هذا القبيل، والدليل على ذلك لم يقل احد أن غمس جناحي الذبابة واجب، وان مخالفة هذا الأمر - وعدم غمسه.

سؤال وجوابه

شرع الله. فأصول الإسلام هي نفسها أصول الديانات السابقة، التي بعث بها الرسل الأولون. {شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا اليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ... }. أرسل كل رسول إلى قومه وجعل رسالته اليهم بلسانهم ليكلمهم ويفهمهم، {وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه ليبين لهم ... }. وختم هذه الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلها عامة للناس جميعا، وجعله خاتم النبيين فلا نبي بعده، ولا وحي ينزل من السماء بعد أن انقطع بموته، وكان بها كمال الدين واتمام النعمة: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا}. الإيمان بالرسل سؤال وجوابه قد يسأل سائل: "كيف كانت رسالة محمد للناس كلهم، وكانت رسالة كل رسول إلى قومه، وكيف بقيت إلى يوم القيامة لا تنسخ ولا تعدل، وقد نسخت الشرائع من قبلها وعدلت؟ ". والجواب (والله أعلم): ان شريعة الاسلام قد جاءت مرنة، تصلح لكل زمان ومكان. وبيان ذلك أن العقائد والعبادات في الاسلام جاءت بها نصوص قطعية مفصلة، لا تقبل التعديل ولا التبديل، لأن العقائد والعبادات لا تتبدل بتبدل الازمان، ولا تختلف باختلاف الاعراف. والأوضاع الدستورية والمعاملات المالية والاحوال الادارية، التي تؤثر فيها تبدل الزمان واختلاف العرف، جاءت فيها نصوص عامة هي كالأساس والدعائم في البناء، وترك لنا أن نضع لكل زمان ما يصلح له بشرط المحافظة على هذه القواعد،

وأمثل على ذلك بأمثلة أعرضها عرضا موجزا. من الأمثلة: ان الإسلام أوجب أن يكون الحاكم منتخبا برأي الأمة، وأن يكون فيه من الصفات من يمكنه من القيام بأعباء الحكم، وأن يلتزم بالدستور الاسلامي الذي هو القرآن، وأن يستشير أهل الحل والعقد. وترك لنا تحديد اسلوب الانتخاب (أي البيعة)، وطريقة تعيين أهل الحل والعقد، وكيفية الاستشارة، الخ. وألزمنا أن نحكم بين الناس بالعدل، ولكنه ترك لنا رسم الطريق الموصل إلى العدل، وأن نحدد أسلوب تعيين القضاة وأصول المرافعات، ووضع للعقود قواعد عامة تضمن أهلية المتعاقدين وحريتهما، وصحة صيغة العقد وتعبيرها عن ارادتهما ومحل العقد، ومنع أنواعا من العقود فيها مضرة عامة أو فيها تغرير بأحد الطرفين. وترك لنا تنظيم الاوضاع التفصيلية للعقود بأنواعها. وجعل الأعمال الفردية والمعاملات المالية جائزة مباحة، لا تحرم الا ان ورد بنص تحريمها، أو دخلت أصل محرم. وفتح لنا باب (الاستصلاح)، فكل أمر فيه مصلحة للمجتمع الاسلامي، وليس في الشرع ما يوجبه أو ينهى عنه، اذا أمر به الحاكم المسلم، صار واجبا دينيا، كالقوانين المالية، وقانون أصول المحاكمات، والأنظمة الادارية، كنظام السير، ونظام البلديات، وأمثالها. فالاسلام فيه من المرونة ما يجعله صالحا لكل زمان ومكان، ولكن بعض الفقهاء المتأخرين - لضيق أذهانهم - يضيقون على الناس ما وسعه الشرع، حتى يضطروهم (كما قال ابن القيم في كتاب الطرق الحكيمة) إلى ابتغاء التوسعة، في غير ما جاء به الاسلام. وسبب آخر: هو ان الامم كانت (على عهود الرسل الأولين) تعيش في عزلة لا تقارب بينها ولا اتصال، الا على الدواب والجمال، فتعارفت الامم بعد رسالة محمد، ودنا البعيد، وطويت للمسافر الأرض، حتى وصلنا إلى

الاسلام لا يفرق بين الرسل

زمان تلقى فيه الخطبة في أميركا، فيسمعها من في الصين قبل أن يسمعها من كان قاعدا أمام الخطيب (¬1)، وصارت الدنيا كأنها بلد واحد، والامم كلها أمة واحدة، ولو ان المسلمين قاموا بما يجب عليهم من الدعوة لدينهم، وتبليغ رسالة الاسلام، لعمت هذه الدعوة الأرض كلها. الإيمان بالرسل الاسلام لا يفرق بين الرسل واذا كان في اتباع الانبياء (ممن يدعون الانتساب إلى واحد منهم) من يطعن على غير نبيه، فإن الاسلام أوجب على المسلم تعظيم الانبياء والرسل جميعا، فاذا أساء القول في واحد منهم أو طعن عليه، خالف طريق الاسلام: {آمن الرسول بما أنزل اليه من ربه والمؤمنون كلٌ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحدٍ من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}. فالمسلم يحب موسى وعيسى وغيرهما كما يحب محمداً، ويجلهم ويكبرهم كإكباره محمداً واجلاله. واليهودي الذي دخل النصرانية لما جاء بها المسيح لم يخسر موسى، ولكنه ربح معه عيسى. والنصراني الذي يدخل اليوم في الاسلام لا يخسر عيسى وموسى، ولكن يربح معهما محمدا، وصلى الله على محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. الإيمان بالرسل الرسل في القرآن المسلم يعتقد ان القرآن كلام الله، نزل به جبريل على محمد، وبلغه محمد كما سمعه من جبريل، وان ما بين دفتي المصحف هو القرآن كله، كما نزل به جبريل، فمن أنكر شيئا منه أو شك فيه، خرج من الاسلام. وقد ورد في القرآن ذكر خمسة وعشرين نبيا، جمعت اسماؤهم في خمس آيات هي قوله تعالى: ¬

(¬1) هذه حقيقة: لأن انتقالها عن طريق الموجات الاذاعية أسرع من انتقالها عن طريق الاهتزازات الهوائية.

المعجزات

{وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاًّ هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كلٌّ من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلاًّ فضلنا على العالمين}. وقوله تعالى: {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبياً ورفعناه مكاناً علياً}. وقوله: {وإلى عادٍ أخاهم هوداً}. وقوله: {وإلى ثمود أخاهم صالحاً ... وإلى مدين أخاهم شعيباً ... وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلٌّ من الصابرين}. وذكر آدم ولم يصرح بأنه كان رسول، ولكن تدل الآيات التي ذكر فيها على ترجيح القول برسالته. خمسة وعشرون، منهم من اقتصر على ذكر اسمه كإدريس وذي الكفل، ومنهم من أورد قصته موجزة كإسماعيل وإسحاق ويونس، ومنهم من أورد قصته مفصلة كإبراهيم وموسى ويوسف وعيسى، وكل ما جاء به في القرآن من قصص الأنبياء حقٌ وصدق يجب الإيمان به. {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعضٍ منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجاتٍ}. الإيمان بالرسل المعجزات لما أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى القدس، فذهب وعاد في ليلة واحدة لم تستطع قريش أن تصدق ذلك، وعدّته مستحيلا، لأنه لا يمكن تحقيقه بوسائلها المعروفة وهي الإبل والدواب، ولكن هذا المستحيل صار اليوم أمراً ممكناً مألوفاً، لا يعجب منه ولا ينكره أحد.

الكرامات

ولو قيل لأكبر علماء الطبيعة قبل قرن أو قرنين من الزمان ان الناس سيركبون متن الريح بمراكب من الحديد والفولاذ، ويخترقون نطاق الهواء، ويسجلون حديث المحدث وخطبة الخطيب، فيسمعونها من شاؤوا متى شاؤوا (¬1). ولو مات المحدث والخطيب، لقال ان ذلك مستحيل، مع أنه وقع اليوم وصار معروفا. فكيف تحقق المستحيل؟ الجواب: ان المستحيل قسمان، مستحيل في العادة، كالأمور التي ذكرتها. ومستحيل في العقل كاجتماع النقيضين، الوجود والعدم مثلا. فلا يكون الرجل نفسه موجوداً في هذا الوقت في هذا المكان، وهو غير موجود فيه. وكتبدل هوية الشيء فلا يكون الكتاب ملعقة، في الوقت الذي يكون فيه كتابا. المستحيل في العقل لا يتصور وقوعه، أما المستحيل في العادة، فقد رأينا كيف أن العلم (علم العبد بقوانين الطبيعة (¬2)) صيره ممكناً. فهل يعجز الخالق الذي أوجد هذه القوانين أن يصيره ممكنا؟! لا شك في قدرته على ذلك. فوقوع المستحيل في العادة ممكن لله عز وجل، فإذا صح الخبر به تحققنا من وقوعه، وأيقنا به. الإيمان بالرسل الكرامات وقد جاء في القرآن ذكر ثلاثة أنواع، فيها وقوع المستحيل في العادة. نوع وقع على يد الرسل لما تحدتهم أقوامهم، إثباتاً لرسالتهم، وتأكيداً لصدقهم، ويسمى المعجزة، فإبراهيم ألقي في النار، فبدل الله طبيعة النار المحرقة وجعلها برداً وسلاما. وموسى ألقى عصاه فانقلبت حية، وضرب بها الصخر فانبجس منه الماء والبحر فانحسر حتى مشى فيه الناس. وعيسى أحيا الموتى بإذن الله، وكذلك كل ما جاء في القرآن من المعجزات. ¬

(¬1) الهمزة هنا تكتب على واو بعدها واو الجمع، ويرى (المبرد) صاحب الكتاب (الكامل) كتابتها مفردة، وجرى على هذا المدرسون في مصر. والأول هو الأصح فيما أرى. (¬2) أي سنن الله في الكون.

المعجزة والسحر

ونوع وقع على يد ولي لله صالح، كوجود الطعام عند مريم في المحراب، واحضار الذي عنده علم من الكتاب عرش بلقيس من اليمن إلى فلسطين، في أقل من لمح البصر وتسمى الكرامة. ونوع وقع على يد كافر، كما صنع السامري لبني اسرائيل من الحلي عجلا له خوار، وتسمى استدراجاً. ويجب الايمان (أولا) بأن الأنواع الثلاثة ممكنة الوقوع، لأنها وردت في القرآن. ويجب الايمان (ثانياً) على وجه التفصيل، بكل ما ورد من ذلك في القرآن. أما ما يرويه الناس من الكرامات ينسبونه إلى بعض من يسمونهم أولياء، فهو خبر، يحتمل الصدق والكذب، فإن كان واقعاً من ولي. والولي هو المؤمن التقي: {ألا إن أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون}. ولم يكن فيه معصية، وصدقت به، لم يكن عليك من الله شيء، وان لم يصح عندك فلم تصدق به، لم يكن عليك من الله شيء. أما ان كانت الكرامة المزعومة تشتمل على معصية، (كبعض ما يروي الشعراني في الطبقات)، أو كانت واقعة من غير مؤمن، أو من غير تقي، فليست كرامة. الإيمان بالرسل المعجزة والسحر لما كانت المباراة بين موسى وبين سحرة فرعون، ألقوا حبالهم وعصيهم، فرآها الناس حيات وثعابين. وألقى موسى عصاه فصارت حية، وأكلت هذه الحيات والثعابين. فهل الأمران سواء؟ هل عمل موسى من جنس عمل سحرة فرعون؟! اذا كان من جنسه فلماذا آمن السحرة؟ كان عمل السحرة خداعا للبصر وإيهاماً للناس. أرَوْهم حيات وثعابين مع أن الحبال والعصي لا تزال على

معجزات محمد عليه الصلاة والسلام

حالها، حبالا وعصيا. أما عصا موسى فقد تحولت (فعلا) إلى حية. ولو كان ثمة آلة تصوير والتقطت صورتها، لظهرت في الصورة حية حقيقية، على حين تظهر حيات السحرة حبالا وعصياً. لذلك آمن السحرة هذا الايمان السريع، إنهم رأوا شيئاً ليس من السحر ولا من التخييل ولا من التهويل. شيء هز قلوبهم حتى اضطرها إلى الإيمان، وبلغ منهم الايمان مبلغاً، جعلهم يتحدون فرعون ولا يبالون به، إنهم تصوروا عظمة الله الذي آمنوا به، فهانت عليهم عظمة فرعون الزائفة، وربوبيته المكذوبة، لقد صغرت الدنيا في عيونهم فلم يحفلوا بتهديد فرعون اياهم بالصلب وقطع الأعضاء، ان فرعون لا يملك الا تعذيبهم في الدنيا وما الدنيا في جنب الآخرة؟ وما عذابها المؤقت عند نعيم الآخرة الدائم؟ لذلك صرخوا في وجهه مستهينين بقضائه: {فاقضِ ما أنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا}. إني أتمنى والله وأنا المولود في الإسلام، الذي تسلسل في آبائه الاسلام، أن يكون لي مثل هذا الايمان الذي كان لسحرة فرعون، بعد دقائق معدودات من اسلامهم (¬1). الإيمان بالرسل معجزات محمد عليه الصلاة والسلام المعجزتان الكبريان: القرآن: وهذه المزايا الفردة، التي جعله الله بها أهلا لحمل رسالة الاسلام. ترجمة حياته صلى الله عليه وسلم كانت في ذاتها معجزة. كان بشرا وأمره الله أن يقرر هذه الحقيقة، ويعلنها للناس لئلا يتخذوه إلها، أو يمنحوه من صفات الألوهية, قال له ربه جلّ وعلا: ¬

(¬1) الاسلام له معنى عام، ومعنى خاص ومعنى أخص. فالمسلم بالمعنى العام: كل من اتبع رسولا، وقت رسالته. والمسلم بالمعنى الخاص: من اتبع رسالة محمد. وبالمعنى الأخص: ما ورد في حديث (جبريل)، الذي شرح معنى الايمان والاسلام والاحسان، واطلاق الاسلام هنا بالمعنى العام.

{قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحي إليّّ}. بشر مثلكم في المقومات العامة للصفة البشرية، ولكن ليس في البشر (على التحقيق) من هو مثله في عظمته، ولم يخلق الله من هذا الطراز من أبناء آدم جميعا الا رجلا واحدا اسمه محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى أبيه ابراهيم، وعلى موسى وعيسى وجيمع الأنبياء. وان من الظلم لمحمد، وان من الظلم للحقيقة، أن نقيسه بواحد من هؤلاء الآلاف من العظماء الذين لمعت اسماؤهم في دياجي التاريخ، من يوم وجد التاريخ، فان من العظماء من كان عظيم العقل ولكنه فقير في العاطفة، وفي البيان، ومن كان بليع القول وثاب الخيال، ولكنه عادي الفكر، ومن برع في الادارة، أو القيادة، ولكن سيرته وأخلاقه كانت أخلاق السوقة الفجار (¬1). ومحمد صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي جمع العظمة من أطرافها، وما من أحد من هؤلاء، الا كانت له نواح يحرص على سترها وكتمان أمرها، ويخشى أن يطلع الناس على خبرها. نواح تتصل بشهوته، أو ترتبط بأسرته، أو تدل على ضعفه وشذوذه، ومحمد هو وحده الذي كشف حياته للناس جميعا، فكانت كتابا مفتوحا، ليس فيه صفحة مطبقة، ولا سطر مطموس، يقرأ فيه من شاء ما شاء. وهو وحده الذي اذن لأصحابه أن يذيعوا عنه كل ما يكون منه، ويبلغوه، فرووا كل ما رأوا من أحواله في ساعات الصفاء، وفي ساعات الضعف البشري، وهي ساعات الغضب، والرغبة، والانفعال. وروى نساؤه كل ما كان بينه وبينهن. هاكم السيدة عائشة تعلن في حياته وباذنه أوضاعه في بيته، وأحواله مع أهله، لأن فعله كله دين وشريعة، ولولا أن في القراء الشبان والنساء، لسردت عليكم طرفا منها، وكتب الحديث والسير والفقه ممتلئة بها. ¬

(¬1) ومن تصفح سير أدباء الافرنج رآها كلها كذلك، اسكندر دوماس وبودلير، وبيرون،. وسير قوادهم كذلك، من نابليون بونابارت إلى أصغر قائد عندهم.

لقد رووا عنه كل شيء حتى ما يكون في حالات الضرورة البشرية، فعرفنا كيف يأكل، وكيف يلبس، وكيف ينام، وكيف يقضي حاجته، وكيف يتنظف من آثارها. فأروني عظيما آخر، جرؤ أن يغامر فيقول للناس: هاكم سيرتي كلها، وأفعالي جميعا، فاطلعوا عليها، وارووها للصديق والعدو، وليجد من شاء منهم مطعنا عليها. أروني عظيما آخر دونت سيرته بهذا التفصيل، وعرفت وقائعها وخفاياها، بعد ألف وثلاثمئة سنة، مثل معرفتنا بسيرة نبينا؟ والعظمة اما أن تكون بالطباع والأخلاق والمزايا الصفات الشخصية، واما ان تكون بالأعمال الجليلة التي عملها العظيم. واما أن تكون بالآثار التي أبقاها في تاريخ امته وفي تاريخ العالم. ولكل عظيم جانب من هذه المقاييس تقاس بها عظمته، اما عظمة محمد فتقاس بها جميعا لأنه جمع أسباب العظمة، فكان عظيم المزايا، عظيم الأعمال، عظيم الآثار. والعظماء اما أن يكونوا عظماء في أقوامهم فقط، نفعوها بقدر ما ضروا غيرها، كعظمة الأبطال المحاربين، والقواد الفاتحين. واما أن تكون عظمة عالمية، ولكن في جانب محدود، في كشف قانون من القوانين التي وضعها الله في هذه الطبيعة، وأخفاها حتى نعمل العقل في الوصول اليها، أو معرفة دواء من أدوية الامراض، أو وضع نظرية من نظريات الفلسفة، أو صوغ آية من آيات البيان، قصة عبقرية، أو ديوان شعر بليغ. أما محمد فكانت عظمته عالمية، في مداها، وكانت شاملة في موضوعاتها. وكان مؤمنا بما يدعو اليه، وكثير ممن نعرف من الدعاة، قديما وحديثا، يقولون بألسنتهم ما تخالفه أفعالهم، ويعلنون في الملأ ما لا يأتونه في

الخلوات، وتغلب عليهم طبائع نفوسهم، في ساعات الرغبة والرهبة والغضب والجوع والحاجة، فينسون كل ما يقولونه. ولست أتكلم عن احد، ولكن أضرب نفسي مثلا، أنا أحاول السمو النفسي حين ألقي المحاضرة وأكتب المقالة الداعية إلى الحق والخير والهدى، فلا أكاد أعلو قليلا حتى يغلب عليّ ثقل طبيعتي وشهوات نفسي الامارة بالسوء، فأعود إلى الأرض. ويرى الناس ذلك من الوعاظ والخطباء فلا يبالون بما يقولون، ولا يكون للوعظ فيهم أثر. أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يدع يوما إلى محاضرة جامعة في بيان أحكام الإسلام، ولم يقم مدرسة لها ساعات ودروس، ولم يجلس في حلقة وعظ، بل كان يبلغ ما يوحى اليه في البيت والمسجد والطريق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، حين تدعوا الحاجة اليه، ولكنه يقول ذلك بلسانه وعمله، ويعبر عنه بقوله وفعله. فقد كان خلقه القرآن، وأنتم تسمعون هذه الكلمة ولا تفكرون في معناها، ومعناها يا سادة: ان كل فعل من أفعاله، وكل خلق من خلائقه، آيات تتلى، ومحاضرة تلقى، وحلقة درس ومجلس وعظ، لأنها كلها تنطق بما يأمر به القرآن. وكان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، ويستغفر الله دائما فقيل له: ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ وكان في أعماله كلها في صلاة لأن كل سعي للخير ودفع للشر وعمل لمصلحة الجماعة، ان اريد به وجه الله، كان لصاحبه صلاة. وأنا أكتفي بمثال واحد على إيمانه بما يدعو اليه، وتمسكه بتطبيقه تمسكا كاملا يعلو على كل الاعتبارات وامهد لهذا المثال بصورة واقعة. لو اتهمت فتاة من أشرف الأسر - من أسرة كبيرة أو وزير - بتهمة السرقة، أترونها تسجن كما تسجن (نورية (¬1))، لو كانت هي السارقة، وينفذ فيها حكم القانون كما ينفذ في تلك النورية، أم تمتد إلى قضيتها مئة اصبع، فتستر ¬

(¬1) النورية هي الغجرية. والنور منتشرون في آسية واوروبة، وأظهر الأقوال، أن أصلهم من الزط الذين أسكنهم الحجاج بن يوسف الثقفي أواسط العراق، وقاموا - من بعد - بثورتهم المشهورة.

الجرم، أو تسهل المحاكمة، أو تهون العقاب؟ لقد وقعت قضية كهذه على عهد الرسول. فتاة من أشرف أسر قريش، من بني مخزوم، من أسرة الوليد الذي يقال له الوحيد، أسرة خالد سيد قواد المعارك، وهي ثالث أسرة شرفا بعد هاشم وأمية، سرقت هذه الفتاة، وثبت الجرم، وتقرر الحكم، فسعى ناس في الوساطة لها، يظنون أن الرسول - لما يعرفون من حبه للصفح والعفو - سيعفو، فاذا هو يغضب ويفهمهم انما أهلك من كان قبلهم، انهم اذا اجترم الشريف تركوه، واذا اجترم الضعيف عاقبوه. ويقول لهم قولته العجيبة التي وطدت في حياة الاسلام ركنا ثابتا، وقررت أن الحدود لا تسمع فيها شفاعة، ولا يكون فيها عفو: "اما والله لو أنَّ (فاطمة بنت محمد) سرقت، لقطعت يدها". وكان ذلك عنده شيئاً طبيعياً لأنه كان يعيش بالدعوة، ويعيش للدعوة، هواه تبع لما أنزل اليه، وكل ما يصله بالناس من أسباب القرابة والصداقة والمنفعة، ينقطع اذا اعترض طريق الدعوة. وقد فرغ صلى الله عليه وسلم مما يحيا له الناس عادة من أمر الطعام واللباس، وفرغ من مطالب النفس كلها، ولم يكن يحرص على التقشف أو يعتمد الجوع، كما يفعل بعض من يدعي الزهد، ولا يواظب على لباس الفقر، ولا على اتخاذ الصوف، بل كان يأكل ما قدم إليه من الطيبات، وان لم يعجبه (مما لم يكن محرما) لم يأكله، ولم يعبه. وما عرف عنه انه ذم طعاما قط، وان لم يجد صبر على الجوع حتى يبرح به فيربط على بطنه الحجر، وكان يلبس ما وجد، ولا يلتزم زيا خاصا ولا نوعاً خاصاً ولا لونا خاصا، وقد لبس العمامة على القلنسوة، والقلنسوة بلا عمامة والعمامة بلا قلنسوة، واتخذ القميص والازار والرداء ولبس البرد، ولبس الجبة، لا كهذه الجبة الواسعة والاكمام العريضة، بل الجبة الضيقة الاكمام، ولم تكن عمامته كهذه العمائم، بل كما يعرف من عمائم أهل الحجاز، قطعة من قماش تلف على الرأس فان لم تكن اليها حاجة القيت على العاتق، أو استعملت في حاجة السلم، أو لربط الأسير في

الحرب وكان يتخذ لها ذؤابة أحيانا، والعمائم ضرورة من ضرورات الطبيعة في الحجاز ذات الشمس المحرقة، فهم يقون رؤوسهم بها، من وقدة الشمس، ومن ذلك قيل: "العمائم تيجان العرب"، ولم يحرص فيها على لون بعينه، ولقد كانت عمامته يوم الفتح سوداء. وليس في الاسلام محرم من الثياب الا ثوبا يكشف عن عورة، ولا يجوز للمرأة المسلمة أن تكشف عن أكثر من وجهها وكفيها، وما كان من حرير للرجال، وما كان من الثياب الخالصة بأهل دين غير الاسلام بحيث ان لبسه لابس ظن أنه منهم، كلباس الرهبان مثلا. وما كان من لباس النساء خاصة يلبسه الرجل، أو من لباس الرجال خاصة تلبسه المرأة، وما كان فيه من سرف وتبذير، وكل ثوب بعد ذلك جائز اتخاذه في الاسلام. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يحرم زينة الله التي أخرج لعباده، ولا الطيبات من الرزق، ولا يردها، ولا يأباها ان وجدها، ولكنه لم يكن يحرص عليها، ويجعلها أكبر همه من دنياه. لقد فرغ كذلك من شهوة الغنى والجاه، وأنتم تعرفون ان قريشا عرضوا عليه ما شاء من أموالهم ان شاء الغنى، وعرضوا عليه السلطان والامارة عليهم ان شاء الجاه، ولم يتركوا شيئا مما يعلمون ميل النفوس اليه، وتعلقها به، لا بذلوه له، ليترك دعوته. فكان يأبى عليهم ما عرضوه، راثياً لهم مشفقا عليهم. وفرغ كذلك من أمر الشهوة الجنسية، ولقد غر أقواما من المستشرقين، الذين درسوا الرسول بهذه العقلية الأرضية المريضة، وقاسوه بالمقياس الذين يقيسون به العظماء من رجالهم. فرأوا أنه تزوج تسع نسوة، فقالوا إنه رجل شهواني، يحسبونه من نوع من عرفوا من رجال السيف أو القلم. فنابليون مثلا الذي أكره أمة كاملة بحكومتها ووجوه شعبها على أن يكونوا (قوادين) له، يوصلونه إلى الفتاة البولونية (¬1) التي أحب، وزاد على ذلك فاضطر أبا الفتاة ¬

(¬1) الفتاة البولونية: هي (ماري فاليفسكا) وقصتها مشهورة، حتى لقد أخرجت بها الافلام للسينما.

على أن يلزمها الإثم الذي أراده منها، وجعل استقلال بولونيا رهنا بتحقيق هذه الرغبة النجسة الفاجرة. وليس ذلك وزر نابليون وحده، بل ان اسكندر دوماس، وبيرون وغوت، وبودلير والعشرات من أمثالهم كانت كلها كذلك، وهذه تراجم عظمائهم، اذا بلغت في أي منها بحث أخباره الجنسية، زكمت أنفك روائح تلك الارجاس، فجاؤوا بهذه العقلية يدرسون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدلوا بقولهم عنه أنه شهواني، على جهل بعلم النفس، وجهل بتاريخ محمد، وبعد عن الحياد والنزاهة في البحث. ان أشد أيام الرغبة الجنسية يقظة وثورة هي السن التي بين البلوغ والخامسة والعشرين، هذه هي السن الخطرة التي ينبغي فيها على كل عاقل وعاقلة أن يحذر فيها كل ما يجر إلى المعصية من التكشف والاختلاط، ومتابعة النظر إلى المحرمات، وادمان الفكر فيها، ولو كان الاختلاط باسم العلم أو الدرس. فأين كان محمد في هذه السن؟ وما هي حوادث صبوته؟ ولقد كان حرا، في بلد حرّ، ولو أرادها لم يمنعه منها مانع من رقابة ولا من عرف، ولقد كان لداته من الشباب غارقين في هذه الملذات، لا يحرمها عليهم دين ولا قانون. ان سيرة محمد مكشوفة للعدو والصديق، معرضة لأنظار كل ناقد، فهل ترون فيها انه كان في هذه السن من أرباب الصبوات ومن ذوي الشهوة العارمة ومن المقبلين على المتع والملذات؟ فقد فكر مرة واحدة في أن يمارس بعض ما يمارس لداته (¬1) من اللهو، فألقى الله على عينيه النوم حتى فاته ما فكر فيه. ولو أنه واقع شيئا من ذلك فهل كان يسكت عنه خصومه من المشركين، وقد كانوا حريصين على حربه وايذائه من كل سبيل؟ وتزوج وهو ابن خمس وعشرين، فهل تزوج الفتاة البكر الجميلة، أم تزوج امرأة في سن أمه أرملة في الأربعين؟ وسائر زوجاته أما كان جلهن أرامل، تزوجهن زواج المصلحة؟ ¬

(¬1) اللدات: المتقاربون في السن، وتكون اللدات للرجال والاتراب للنساء، و (لدة) من (ولد)، مثل (عدة) من (وعد).

وقد أحل الله له أكثر من أربع، فأعطاه بذلك أكثر من باقي المسلمين. ولكنه حرمه بالمقابل حقا منحه لكل زوج، وهو حق الطلاق. على ان القوة الجنسية ليست عيبا، وكيف وهي مظهر الرجولة؟ وفيم تكون الرجولة إن لم تكن في هذا؟ لكن العيب، أن يحيا الرجل لها وحدها، ولا يفكر الا فيها، وأن يطلبها من طريق الحرام. وقصة زواجه يزينب هذه التي يجتر بتردادها الخصوم، لا تستحق أقوالهم فيها الرد، لأنها في الواقع مبنية على تحريف متعمّد للواقع، أو على سوء فهم ظاهر. وزينب فتاة جميلة، وهي قريبة من الرسول، لو كان قد فكر فيها لتزوج بها، وكان ذلك لو أراده أكبر أمانيها وأماني أهلها، ولكن الله جعلها محوراً لاصلاحين اجتماعيين من الاصلاحات الاسلامية، واحد كانت هي مكان التجربة فيه، والآخر كان مكانه الرسول نفسه. أراد الاسلام القضاء على هذه العزة الجاهلية، وهذا الشعور الطبقي، بتزويج زينب - وهي من أشرف أسر العرب - بزيد وهو أسير متبنى، لا يُعدُّ في نظر هذا المجتمع كفؤاً لها. فتزوجته على كره منها ومن أهلها، وكانت حياتها سلسلة متصلة من المنازعات، وكان كلاهما يتمنى الفراق، ولكن الرسول يمنعه من طلاقها، ويقول له: (أمسك عليك زوجك واتق الله). حتى امتلأت الكاس وفاضت، ولم يبق إلى الاحتمال سبيل .. فطلقها! وهنا تجيء التجربة الثانية وهي أصعب وأشق، ويكون على الرسول حمل عبئها، بزواجه من زينب، لابطال عادة التبني، وبيان ان زوجة المتبنى لا يحرم على المتبني. والصعوبة فيها في تعريض محمد لأن يظن به هذا المجتمع أنه تزوج امرأة ابنه، وهذا الموقف أشق ما مر بالرسول، ومع ذلك قد احتمله راضيا بأمر الله.

فالحكاية ليست كما يظنون ويقدرون. وما يقولونه فيها لغوٌ لا يستحق الرد، وما عرضتُ له إلا لأبين الحق لمن لا يعرفه من القراء (¬1). وقوة الجسد هي الانتصار على المقاومة المادية، وقوة القلب نصر على الخصوم، وهنالك قوة أكبر، لأنها نصر على ما هو أكبر من المادة، ومن الخصم. هي قوة الخُلُق، وهي نصر على النفس، وطبائعها وغرائزها ورغباتها وميولها. وهذه مسألة نفسية مسلمة، عبر عنها الرسول بألفاظ شتى في مناسبات مختلفة، فقال: "ليس الشديد بالصُرَعَةَ (¬2) ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب". وهذا حق تستطيعون ادراكه من أنفسكم، واذا كانت القوة التي تصرع بها الخصم تقد بواحد مثلا، فان القوة التي تحتاجها للتغلب على غضبك، واطفاء ناره في صدرك، وأن تبدو هادئا في حركاتك وصوتك ولهجتك، تقدر بمئة، فهي أصعب بمئة مرة من تلك. وجرب أن تجيء لغضبان قد أعماه الغضب، حتى لا يبصر ما أمامه، فتحاول أن تذكره الخُلُق الحسن، واللين والعفو، هل تجد في كل عشرة آلافِ واحداً يستجيب لك في هذه الحال؟ تصور لو أن رجلا قتل أحب الناس إليك وأعزهم عليك، ثم جاءك مستسلما لدعوتك (وأنت الداعية)، هل تنسى ما ذرفت من ماء العين على قريبك، وما أرقت عليه من دمع القلب ... وتعفو؟ لقد عفا الرسول عن (وحشي) قاتل (حمزة)، لما أسلم، لكن غلبته طبيعته البشرية، فيما لا يخالف الاسلام، ولا يضر الرجل، فقال له: (لا تجعلني أراك)، فكان يتوارى عن عينيه. ¬

(¬1) اقرأ كتاب (نداء للجنس اللطيف) للسيد رشيد رضا. (¬2) الصرعة: مدمن المصارعة ومحترفها. والمعنى المراد: ان قوة الاعصاب التي يملك بها المرء نفسه عند الغضب، أكبر من قوة المصارع الذي يغلب بها خصمه عند المباراة.

وهند، هند امرأة أبي سفيان، التي بلغ من حقدها على محمد ودعوته، ان فعلت ما لا تفعله امرأة، ولا يفعله انسان، ولا يفعله الذئب، ولا النمر. شقت صدر حمزة وأخرجت قلبه وأكلته .. هند التي فعلت في حرب الرسول الافاعيل، لقد عفا عنها وبايعها وقَبِل اسلامها. وأهل الطائف الذين سمعتم بخبر ما فعلوا بالرسول، لما أسلموا عفا عنهم. وهاكم الموقف الأكبر، المثل الأعلى في بابه، في كل العصور: أهل مكة الذين جرعوه وأصحابه الصّاب والعلقم، وآذوه في جسده ونفسه وعقيدته، وقالوا عنه، ونالوا منه، ومن أصحابه، وقاطعوه، وحبسوه في الشِّعب، ووضعوا الشوك في طريقه، وألقوا على رأسه كرش الناقة، وهو ساجد، وسخروا منه أنواع السخريات، واستمر ذلك لا يوما ولا يومين، ولا سنة ولا سنتين، ولكن ثلاث عشرة سنة، ثم حاربوه وذبحوا أقرباءه وأصحابه، حتى ظفر بهم، وأقامهم أمامه حول الكعبة، اذلاء لا يملكون دفاعا، وجاءت ساعة الانتقام .. لا، دعُوا كلمة الانتقام فانها لا تليق بالمقام، ساعة العقوبة المشروعة، التي يكون فيها الرد على هذه السلسلة الطويلة من التعديات والإساءات وها هو ذا يقول لهم: "ماذا ترون أني فاعل بكم؟ ". انهم يذكرون ما صنعوا ويعرفون ما يستحقون، ولكن يذكرون أيضا خلق محمد ويعرفون مثله، فيقولون: "أخ كريم، وابن أخ كريم". ويسكتون في انتظار الحكم القطعي، ولو كان الحكم بقتلهم جميعاً، لما وجد من كتّاب التاريخ الصديق منهم والعدو من يلومه بكلمة، ولكن حكم محمد كان غير ذلك، كان مفاجأة لا يتوقعها أحد، مفاجأة أدهشت عصره وكل عصر يأتي بعده، قال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". وأنا آسف أن أعرض هذا الموقف، هذا العرض الموجز، ولقد كنت أتمنى لو جعلت الفصل عنه وحده، لأجلوه عليكم كما ينبغي أن يجلى، هذا الموقف يحتاج إلى قوة عشرة آلاف مصارع.

وأنا أعجب لماذا حاول المتأخرون من مؤلفي السيرة الاستكثار من المعجزات، والتوسع فيها، واضافة معجزات لم تكن، وما حاجتهم اليها؟ وكل موقف من سيرة الرسول، وكل جانب من شخصيته، هو معجزة من أكبر المعجزات. وما المعجزة؟ أليست الأمر الذي يعجز الناس عن مثله؟! ان صدقه وأمانته معجزة، ولن اسردّ عليكم أمثلة كثيرة، فالمجال ضيق. ولكن أعرض مثالاً واحداً، حادثة مررت بها في مطالعاتي مئات المرات فكنت اقرؤها على انها خبر عادي، ثم تنبهت اليها يوما، فجأة .. فاذا هي اعجوبة، وكم في السيرة من أمثال هذه الاخبار. كلكم تعرفون أنه لما هاجر الرسول إلى المدينة، ترك علياً مكانه ليرد الودائع التي كانت عنده لقريش، فهل فكرتم يوما ما قصة هذه الودائع؟ يردها لقريش لا للمسلمين، اذ لم يبق أحد من المسلمين في مكة لما هاجر الرسول، لأنه كان آخر من هاجر، بقى كما بقى الربان في السفينة الجانحة، لا يتركها حتى ينزل الركاب جميعاً، ويصلوا إلى قوارب النجاة وهذه مَنْقبة ذكرتها عرضا. قصة الودائع هي أن قريشا كانت (على كل ما كان بينها وبين الرسول) لا تجد من تأتمنه على ذخائرها الا محمدا، فتصوروا حزبين مختلفين، الحرب قائمة بينهما، حرب اللسان واليد والمبدأ والعقيدة، ثم يأتمن أفراد الحزب على أموالهم وأوراقهم، رجلا من الحزب الآخر! هل سمعتم بمثل هذه الحادثة؟ وكيف يستودعونها هذا الخصم، ان لم يكن في أخلاقه وأمانته معجزة من المعجزات، والشك فيه أحد المستحيلات؟ هكذا كان محمد! ويوم بدر يوم مر يعدل الصفوف قبل المعركة، وفي يده قدح (قطعة

من الخشب)، فوجد سواد بن غزية بارزاً من الصف، فدفعه بالقدح في بطنه وقال: "اعتدل يا سواد". قال؛ "يا رسول الله أوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل". تصوروا هذه المشهدة، قائد الجيش يجابهه جندي عادي بهذا الكلام، ماذا ترونه صانعا به؟ يؤدبه؟ يعرض عنه؟ أو تبلغ به سماحة الصدر ونبالة الطبع، فيسامحه ويعفو عنه؟ او يزيد على الغاية فيقول: "عفوا انا أعتذر اليك"؟. أما رسول الله فقد صنع شيئاً لا يصنعه احد، ولا يخطر على بال أحد، كشف له عن بطنه وأعطاه القدح، وقال له: "استقد! "، أي: أوجعني كما أوجعتك. أقاد من نفسه وهو سيد البشر. هكذا كان محمد! كانت سيرة حياته كلها معجزة، عجز عظماء العالم جميعاً عن أن يتركوا لهم سيرة مثلها، في كل ناحية منها عزة وعظمة، في قوة جسده، وتكوينه الرياضي. في روحه الرياضية، وأنه لا يستخفه النصر حتى يبطره، ولا تزلزله الهزيمة حتى تثير غضبه أو تذهب بعزمه. في ثباته في المعامع الحمر حتى كان أبطال الصحابة يحتمون به، وفي شجاعته التي تضعضع أمامها صناديد الرجال، وفي تواضعه للمسكين والفقير، ووقوفه للأرملة وللعجوز. في اقراره بالحق، في صدق التبليغ عن الله، حتى انه بلغ الآيات التي نزلت في تخطئته وفي عتابه، في احترامه العهود وحفاظه على كلمته، مهما كلفه الحفاظ عليها من مشقة ونصب، سواء عنده في ذلك معاملاته الشخصية وشؤون الدولة. وفي ذوقه وحسه المرهف، وأنه هو الذي سن آداب الطعام وقرر قواعد

النظافة في وضعه مع أصحابه اذ يعلمهم ويعمل معهم، ويعيش مثلما يعيشون، ويستشيرهم ويسمع منهم، ويجلس حيث يجد المكان الفارغ في آخر المجلس حتى كأن القادم عليه ليراه، ينظر في وجوه القوم فيقول: "أيكم محمد؟ " لأن محمداً لم يكن يمتاز عليهم في جلوسه، ولا في ثيابه، كان مثلهم في كل شيء. في سلوكه المهذب العفيف مع النساء، وفي سيرته في بيته ومع أهله، ومزحه الصادق، وانطلاق نفسه. وأنه كان محببا إلى كل قلب، في تواضعه ورفضه أن يعد ملكا. ونهى أصحابه عن القيام له، وأنه كان يقوم بحاجة أهله، ويخصف بيده نعله. وأنه عاش حياة الفقر زهداً في الغنى لا عجزاً عنه، ولو شاء لكان قصره أفخم من ايوان كسرى ودارة قيصر. ولكنه اختار الآخرة فكانت دور نسائه جميعا، نسائه التسع، لا يتجاوز طولها كلها (¬1) خمسة وعشرين متراً. وكان منزل عائشة غرفة واحدة مبنية من اللبن والطين، وكانت من الضيق بحيث انها لم تكن تتسع لنومها وصلاته، فكان اذا سجد دفع رجلها ليسجد في مكانها، أما طعامه فقد حدثت عائشة أنه كان يمر الشهر والشهران، ولا يوقد في بيت رسول الله نار ليخبز عليها الخبز. قالوا: "فماذا كنتم تأكلون؟ ". قالت "التمر والماء" هذا هو طعام أسرة رسول الله. وفي بيانه وفصاحته، أنه كان أبلغ من نطق وأبان ... كل ذلك فيه الاعجاز، وفيه الدليل على ان الله ما اختاره لأسمى الرسالات، وما جعله خاتم الأنبياء، حتى أعده لذلك اعداداً جعله واحداً في بني آدم، ليس له في شمائله نظير صلى الله عليه وسلم. والله أعلم حيث يجعل رسالته. ¬

(¬1) دور نسائه التسع: مكانها في الحجرة الشريفة، التي دفن فيها، ومساحتها في حدود ما ذكرت.

الإيمان بالكتب

الإيمان بالكتب القرآن القرآن هو معجزة محمد. والذين زعموا ان القرآن من تأليف محمد، أنكروا عليه أنه نبي، ولكنهم وصفوه بأنه إله، ونحن نشهد: "ان لا اله الا الله وأنه عبد الله ورسوله.". ذلك ان القرآن لا يستطيع أن يأتي به بشر، ولا يمكن أن يأتي الا من عند الله. فمن قال ان محمداً ألفه، فقد منح محمدا صفة الالوهية! والا فأروني رجلا كان اميا لا يقرأ ولا يكتب كما كان محمد، ولم يدخل في عمره مدرسة، بل لم يكن في بلده مدرسة، بل هو لم يكن في بلدة كبيرة من بلدان الحضارة، بل كان في قرية متوارية بين الجبال السود، وراء رمال الصحراء، لم تدر بها (روما) ولا (القسطنطينية) ولا (مدائن كسرى)، ولم يدر أحد فيها بفلسفة (اليونان) و (الرومان) ولم يسمع واحد منهم بأدب (الهند) و (ايران). قرية ليس فيها عالم ولا باحث، ولا مثقف ثقافة صغار المفكرين في ذلك الزمان، وهو لم يخرج منها الا إلى قرية مثلها أو أكبر قليلا منها، هي (بصرى) الشام، من أرض حوران، ولم يقم فيها الا يوماً أو أياما قليلات معدودات.

هل يمكن لمثل هذا الرجل أن يأتي بمثل القرآن؟ هذه تواريخ العباقرة والنابغين بين أيديكم، تواريخ الامم كلها في العصور كلها، فهل فيها حادث مثل هذا الحادث؟ لقد ألف (موزارت) قطعة موسيقية وهو دون العاشرة، ونظم (بشار) الشعر وهو في مثل هذه السن، ونبغت مؤلفة (جين اير)، واختها كاتبة (أعالي وذرنج) نبوغا مفاجئا، وترك (شكسبير) هذه الثروة الأدبية، ولم يكن من أكابر أدباء عصره ومثقفيه. كل هذا ممكن، ويمكن أن يؤلف شاب مغمور، كتابا يأتي في بقصة رائعة، أو نظرية علمية جديدة لأنه عبقري، والعبقرية ليست وقفا على المتعلمين، ولا على خريجي الجامعات، وقد تظهر العبقرية حيث لا يتوقع ظهورها، ولكن من عرفهم التاريخ من عباقرة العلم والأدب والفن، انما سبقوا زمانهم بقرن مثلا! زادوا على أقرانهم خمسين في المئة، أو مئة في المئة. ان لسبقهم حدودا، انه سبق معقول. وليس في التاريخ كله، رجل كانت له ظروف محمد صلى الله عليه وسلم، يأتي بكتاب هو في الأسلوب الأدبي في أبهى صور الجمال، وهو في مجال التشريع قانون في ذروة الكمال، وهو في الآلهيات والاخبار عن المغيبات، يأتي بما لا يعرفه أحد من البشر، ولا يمكن أن يدركه بنفسه العقل البشري، وهو في الطبيعة يشير إلى قوانين وظواهر لم يكن يعرفها أحد في عصره، ولا في العصر الذي تلا عصره، ولا في العصور العشرة التي جاءت بعد ذلك. فيه اشارات إلى قوانين لم تكشف الا بعده بألف وثلاث مئة سنة، وقوانين لم تكشف للآن. كتاب أمره الله أن يتحدى به الناس جميعا، فتحدى الانس والجن: أن يأتوا بعشر سور من أمثال سوره، أن يأتوا بسورة واحدة .. فعجزوا! وهذا التحدي قائم إلى الآن، والعجز مستمر إلى الآن. اعجازه ثابت، ولكن لا تبحثوا كما بحث علماء البلاغة، عن موطن الاعجاز، فان موطن الاعجاز ليس في ألفاظه وحدها، ولا في أخباره عن

المغيبات فقط، ولا في أمر واحد من الأمور التي ادعوا ان الاعجاز فيها، بل فيه كله مجتمعا. كالمرأة الجميلة، ليس جمالها في لون بشرتها وحده، ولا في عينيها وحدهما، ولا في أي عضو واحد من أعضائها، بل جمالها فيها كلها. وان كان كل ناظر في القرآن، يلمح الاعجاز من الجهة التي ينظر فيها. تعرفون قصة رئيس قسم تحقيق الشخصية، الذي أسلم لما سمع قوله تعالى: {بلى قادرين على أن نسوي بنانه ... }. فكر: لماذا خص (البنان) بالذكر؟ ماذا فيه؟ فيه بصمات الاصابع، هذه المعجزة الآلهية العجيبة، كم على ظهر الأرض من ناس؟! أنه ليس فيهم اثنان تتفق بصمة أحدهما وبصمة الآخر. انها ظاهرة عجيبة، لكنها عرفت من قريب، لم يكن يعرفها أحد على عهد محمد ولا في القرون العشرة التي تلت عهد محمد. فلا بد اذن أن يكون محمد قد تلقاها من عند الله، ولا بد أن يكون القرآن كلام الله، وفي القرآن مئات من أمثال هذه الاشارة، لا نزال نجد كل يوم من يتنبه إلى واحدة منها، كلما درس القرآن دارس، بدت له من اعجازه جوانب لم يدركها الاولون، لأنه لا تفنى عجائبه. لذلك يجب أن يفسر القرآن في كل زمان تفسيرا جديدا. يفسره الأديب، ويفسره الحقوقي، ويفسره الفلكي، ويفسره عالم النفس، وعالم الاجتماع، والمؤرخ، كل واحد منهم يجد فيه مجالا لعلمه واختصاصه، ودليلا من اختصاصه وعلمه على ان القرآن كلام الله. ان معجزات الرسل الأولين وقعت مرة وانقضت، ولكن معجزة محمد قائمة تتكرر كل يوم، ومعجزات الرسل دليل، من غير جنس الرسالة، على صحة الرسالة، ومعجزة رسالة محمد، هي رسالته نفسها، صلى الله عليه وعلى اخوانه الأنبياء والمرسلين.

باقي الكتب المنزلة

الإيمان بالكتب باقي الكتب المنزلة نحن نؤمن بالقرآن، وبالكتب المنزلة التي خبرنا عنها القرآن، وهذه الكتب هي: (صحف ابراهيم)، و (صحف موسى) وهي (التوراة)، و (زبور داود)، و (انجيل عيسى). والقرآن هو الحاكم عليها، والميزان الذي يعرف به صحيحها من الذي حرف منها، قال تعالى: {وأنزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ... }. فما أخبرنا الله في القرآن أنه من هذه الكتب آمنا به، وقلنا بكفر من أنكره، وما وافق القرآن من أخبار هذه الكتب اعتقدنا أنه باق على صحته، وأن التحريف لم يصل اليه، وما جاء من أخبارها مخالفاً لما رواه القرآن عنها، اعتقدنا أنه محرف عن أصله. صحف ابراهيم: خبرنا الله ان مما جاء في صحف ابراهيم، وتكرر في صحف موسى: {ألا تزر وازرةٌ وزر أخرى وأن إلى ربك المنتهى ... }. إلى آخر هذه الأيات. وان من ذلك قوله: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خيرٌ وأبقى إنّ هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى}. التوراة: التوراة منزلة من عند الله، فيها هدى للناس، وفيها حكم الله، قال تعالى: {وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ... إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور}.

ومما خبرنا به عن أحكام التوراة قوله: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأُذن بالأُذن والجروح قصاص ... }. (¬1) وخبرنا ان فيها بشارة محمد صلى الله عليه وسلم، قال: {الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة}. وان فيها وصف المؤمنين: {محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ... }. الزبور: قال تعالى: {وآتينا داود زبورا}. وخبرنا ان مما كتب في الزبور وراثة الصالحين الأرض، قال تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عباديَ الصالحون}. ولعل المراد بالأرض الجنة، لقوله تعالى حكاية عن المؤمنين الذين يدخلونها: {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء .. }. الانجيل: قال تعالى: {وآتيناه (الانجيل) فيه هدىً ونورٌ مصدقاً لما بين يديه من (التوراة) .. }. وبين ان الانجيل منزل، يشتمل على أحكام تشريعية، قال تعالى: ¬

(¬1) لبعض العلماء بحث في هذه الأحكام، هل كلفنا نحن المسلمين بها أم لا؟ راجع تفسير المنار.

{وليحكم أهل (الإنجيل) بما أنزل الله فيه ... }. وفيه تعديل لشريعة التوراة: {ومصدقاً لما بين يديَّ من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم .. }. وفيه كالتوراة بشارة محمد، ووصف للمؤمنين به. ونحن نؤمن بكل ما أنزل الله من: (صحف)، و (توراة)، و (زبور)، و (انجيل)، ونحترم سائر الأنبياء وفيهم: (ابراهيم) و (موسى) و (داود) و (عيسى). صلى الله عليهم جميعا.

خاتمة

خاتمة هذه هي العقائد الاسلامية: من اعتقدها واعتقد بكل ما أخبر به القرآن، من خلق السماوات والأرض والانسان. وظهرت آثار هذا الاعتقاد في عمله، فهو المسلم الكامل. يعمل بالقرآن الذي اعتقد صحته، لا يكتفي بتلاوته بلا فهم، ولا بتلحينه والتطريب به بلا علم، بل يتخذه دستورا لحياته، يحل حلاله، ويحرم حرامه. يعمل ما أوجبه، ويترك ما نهى عنه. ان كانت ديانات الناس للمعابد وحدها، فالاسلام ليس للمسجد وحده، ولكن للمسجد وللدار وللسوق، ولقصر الحكم، وللحرب وللسلم. الاسلام يلازم المسلم دائما، يبين له ما يباح له، وما يحرم عليه، هو معه ان خلا بنفسه، ومعه ان انفرد بأهله، وهو معه في تجارته وفي عمله، كل عمل من أعمال المسلم له حكم من الأحكام الخمسة، ومنها الاباحة الاصلية. وان كانت الديانات الاخرى عبادات فقط، لا علاقة لها بالسياسة، ولا بالعلم، فالاسلام عبادة، وقانون مدني، وقانون جزائي، وقانون دولي، ونظام اداري، ومذهب خلقي، وهو علم، وهو سياسة، وهو عمل، وهو جهاد. افتحوا أي كتاب من كتب الفقه، وانظروا في فهرسه، تروا هذه الجوانب كلها فيه.

وان كانت العبادات في الديانات الاخرى صلاة فقط، فالعبادة عندنا ليست صلاة وصياماً فقط، بل ان كل عمل ينفع الناس ان قصد به فاعله وجه الله، كان له عبادة. واذا فصلوا بين الدين - الذي هو عبادة فقط - وبين العلم، فالاسلام دين العلم. أول كلمة نزلت من كتابه كانت (اقرأ)، لم تكن (قاتل)، ولا (اجمع المال)، ولا (ازهد في الدنيا). و (اقرأ) هذه أول كلمة أنزلت من القرآن وجاء بعدها ذكر العلم، ما منَّ الله على الانسان بما أعطاه من مال ولا قوة ولا جاه، بل بأنه علمه ما لم يعلم. وكل علم يحتاج اليه مجتمع اسلامي، يكون تعلمه فرض كفاية على القادرين عليه، فهل في الوجود دين - الاّ الاسلام - يجعل تعلم الكيمياء، والطب، والطيران، من الفروض الدينية؟ والاسلام دين الغنى، الله سمى المال في القرآن خيرا، فقال: {وإنه لحب الخير شديد}. وقال في آية الوصية: {إن ترك خيراً ... }. أي: مالا. فينبغي أن يكون المسلمون أغنياء، ولكن بشرط أن يجمعوا المال من الحلال، وأن يكون المال في أيديهم لا في قلوبهم. والمال وكل ما في الكون مسخر للانسان. والانسان المسلم يحس أنه عبد الله، ولكنه سيد لما في الكون من أشياء، يتصرف فيه تصرف السيد، يستجلب النفع الذي أودعه الله فيه، فهو يرغب في النافع ولكن لا يعظمه لذاته، فان عظمه لذاته صار عبدا له، وكان بذلك قد أشركه في العبادة مع الله. والمال جعله الله أداة لجلب النفع، فان أنت ادخرته وخبأته ولم تنتفع منه صرت خادما له وعبدا، وقد قال الرسول، صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدرهم".

والثياب جعلت لدفع البرد، وستر الجسد، فان عظمتها لذاتها، فحفظتها ورعيتها ولم تنتفع بها، صرت عبدا لها، وقد: "تعس عبد الخميصة". والاسلام دين القوة ولكن بلا ظلم. والاسلام للدينا والآخرة. {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ... }. وهو يريد من المسلمين أن يصدقوا الايمان، وأن يتبعوا الشرع، وأن يكونوا مع هذا أرقى الأمم، وأقوى الأمم، وأعلم الأمم، وأغنى الأمم، ليجمعوا حسنة الدنيا وحسنة الآخرة. وأن يعلم كل مسلم - بعد هذا - ان عليه واجبا آخر، هو التعريف بالاسلام، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. فلا يكره الناس على الاسلام. {لا إكراه في الدين}. بل يعرض عليهم محاسنه حتى يرغبوا فيه، ولا يدعو بلسان مقاله فقط، بل بلسان حاله، بأن يكون المجتمع الاسلامي صورة مجسمة لمبادئ الاسلام، لا بأن يكون صورة مشوهة لها، تنفر منها وتبعد عنها كما هي الحال الآن. بأن يكون الداعي قوي العقل ليقيم الحجة. عالما بالاسلام ليحسن العرض، مثقفا بثقافة العصر. يكلم الناس بلغة العصر، وأن يكون لطيف المدخل، خفيف الظل، لا فظا ولا غليظا، ولا جافيا عاتيا. وأن يعلم ان الاسلام لا يفزع من المناظرة، ولا يهرب منها، وان كل شيء فيه بالدليل وبالحجة والبرهان، وأنه يطالب بالدليل حتى ممن يدعي ما يخالف الاسلام: {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ... ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به}.

ولو كان له برهان ... ولكن يستحيل اقامة الدليل على خلاف التوحيد. ولو وجد هؤلاء الدعاة إلى الله، لدخلت الدنيا كلها في دين الله، والله أنزل هذا الدين، وهو قد تعهد بحفظه: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. فالاسلام باق لا يزول، والعاقبة له، ولكن اما أن نعود - نحن المسلمين - إلى ديننا، فيكون لنا شرف النصر في الدنيا، وثواب الله في الآخرة، وإما أن يستبدل بنا قوما غيرنا يدخلون في الاسلام، ويتولون الدعوة اليه والدفاع عنه. ونعوذ بالله من أن يستبدل بنا، ونسأله أن يردنا إلى ديننا، وأن يكتب النصر له على أيدينا، وأن يغفر لنا ويرحمنا. وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين.

§1/1