تطور الأدب الحديث في مصر

أحمد هيكل

محتويات الكتاب

محتويات الكتاب ... الصفحة الموضوع 13-16 مقدمة 17-22 تمهيد - الحالة الثقافية والأدبية قبل العصر الحديث 23-42 الفصل الأول - فترة اليقظة 25-31 أهم أسباب اليقظة 25- 26 1- أسلحة علمية للحملة الفرنسية 26-31 2- أول الاتصال الفعلي بالثقافة الحديثة 31-42 الأدب وأولى محاولات التجديد 31-37 1- الشعر 38-42 2- النثر 43-87 الفصل الثاني - فترة الوعي 45- 52 أبرز عوامل الوعي 45- 46 1- اشتداد الصلة بالثقافة الحديثة 46-48 2- إحياء التراث العربي 48-50 3- مؤسسات سياسية ومجالات ثقافية 51-52 4- الثورة الأولى 53-87 الأدب وحركة الإحياء 53- 66 أولا- الشعر 53- 58 1- الاتجاه التقليدي وبعض لمحات التجديد 58-66 2- ظهور الاتجاه المحافظ البياني 66- 87 ثانيًا- النثر 66-68 1- الكتابة الإخوانية واتجاهها إلى التقليد 68-70 2- الكتابة الديوانية وميلها إلى الترسل 70-75 3- المقالة ونشأتها

الصفحة الموضوع 75-78 4- الخطابة وانتعاشها 78-81 5- الرواية ونشأة اللون التعليمي 82-84 6- المسرحية وميلادها 84-87 7- كتب الأدب وتجددها 89-229 الفصل الثالث- فترة النضال 91-107 حوافز النضال واتجاهاته 91-98 1- من جرائم الاحتلال البريطاني 98-105 2- مراحل النضال وطرائفه 105-107 3- بعض معالم النضال المشرقة 108-229 الأدب بين المحافظة والتجديد 108-165 أولًا- الشعر 108-148 1- سيطرة الاتجاه المحافظ البياني 112-133 1- المحافظون والنضال 113-116 من أجل الجامعة الإسلامية 116-118 علاقتهم بالحاكم 118-129 موقفهم من الإنجليز 129-130 في الإصلاح السياسي 130-133 من أجل المجتمع 133-135 ب المحافظون بين الإسلاميات والذاتيات والمناسبات 136-143 جـ عمود الشعر دعامة المحافظين 143-148 د تأثيرات حسنة وأخرى سيئة للاتجاه المحافظ 148-165 2- ظهور الاتجاه التجديدي الذهني 151-156 أ- ريادة هذا الاتجاه 156-161 ب- موضوعات هذا الاتجاه

الصفحة الموضوع 161- 162 جـ أسلوب هذا الاتجاه 162-164 د العاطفة في هذا الاتجاه 164-165 هـ التجديديون بين النظرية والتطبيق 165-229 ثانيًا- النثر 165-174 1- المقالة وظهور أول طريقة فنية للنثر الحديث 174-182 2- الخطابة ونشاطها 182-218 3- القصص بين استلهام التراث ومحاكاة أدب الغرب 182-190 أالرواية الاجتماعية المقامية 190-193 ب القصة التهذيبية البيانية 193-197 جـ الرواية التعليمية التاريخية 198-204 د ميلاد الرواية الفنية 204-218 هـ ميلاد القصة القصيرة 218- 229 4- المسرحية وأولوية الأدب المسرحي 222-223 أمسرحية المعتمد بن عباد 223-226 ب مسرحية علي بك الكبير 226-229 جـ مسرحية أبطال المنصورة 231-421 الفصل الرابع - فترة الصراع 233-255 دوافع الصراع ومجالاته 233-239 1- بين الروح الوطنية والانحرافات الحزبية 239-243 2- بين نشوة النصر ومرارة النكسة 243-248 3- نمو الحياة الثقافية 248-255 4- غلبة التيار الفكري الغربي 256-265 الأدب وغالبة الاتجاه التجديدي

الصفحة الموضوع 266-370 أولًا: الشعر 266-288 1- تجمد الاتجاه المحافظ البياني 266-283 أمن الناحية الموضوعية 283-285 ب من الناحية الفنية 285-288 جـ محاولات تجديدية 288-297 2- انحسار الاتجاه التجديدي الذهني 397-370 3- ظهور الاتجاه الابتداعي العاطفي 312-329 أخصائصه المتصلة بالموضوعات 329-344 ب خصائصه من حيث الأسلوب 344-352 جـ خصائصه في موسيقى الشعر 352-354 د خصائصه من حيث المضمون 354-358 هـ أهم مصادر تلك الخصائص 358-360 وريادة هذا الاتجاه 360-364 ز مقاومة هذا الاتجاه 364-370 حـ محاولات مسرحية وقصصية 370-421 ثانيًا: النثر 374-397 1- المقالة وتميز الأساليب الفنية 379-383 أطريقة طه حسين 383-387 ب طريقة العقاد 387-391 جـ طريقة الرافعي 391-393 د طريقة الزيات 393-397 هـ طريقة المازني 397-413 2- الخطابة وازدهارها

الصفحة الموضوع 413-417 3- القصص واستقرار اللون الفني 417-421 4- المسرحية وتأصيل الأدب المسرحي 422-433 المراجع 422-432 أولًا: المراجع العربية 433 ثانيًا: المراجع الأجنبية

مقدمات

مقدمات مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: يبدأ العصر الحديث للأدب العربي في مصر -بل للتاريخ المصري كله- بتلك السنوات التي شهدت خروج البلاد من ظلمات العصر التركي، لتفتح عيونها على نور الحضارة الحديثة، ولتأخذ طريقها في موكب المدنية المتقدمة، وذلك بعد أن أغمضت عيونها عن النور، وعوقت خطاها عن السير زهاء ثلاثة قرون، هي مدة الحكم التركي الكريه. ومن الممكن تحديد تلك البداية، بسنوات الحملة الفرنسية من سنة 1798م إلى 1801م، أي بأواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر. وليس ذلك باعتبار الحملة الفرنسية خيرًا أسدى إلى مصر، بل باعتبارها عملًا عدونيا مدبرًا، أثار في مصر ما كمن من عناصر القوة، فقد اتخذت الحملة الفرنسية من العلم أسلحة ضمن أسلحتها، ومن العلماء جندًا في عداد جندها، ومن هنا رأى المصريون في تلك الحملة علما غير ما يعرفون، وعلماء غير ما يعهدون، وأدركوا خطورة ذلك كله عليهم أن لم يكن لهم مثله، فتطلعوا إلى نور الحضارة الحديثة، وبدءوا التأهب للسير في موكب المدنية المتقدمة.. وهكذا كانت تلك الحملة تنبيهًا غير مقصود لعناصر القوة في الشعب المصري العظيم، تمامًا كما تنبه عناصر المقاومة في جسم الكائن الحي، حين يتسلل إلى دمه مكروب يريد أن يفتك به، فيتسلح الجسد بما فيه من قوى كامنة، ويقاوم بما احتفظ به من حيوية محجبة، وحينئذ قد يكسب مناعة أقوى مع الزمن، وصحة أتم على الأيام. وقد تعاقبت السنون منذ تلك البداية إلى عهدنا الحاضر، ومر الأدب -والتاريخ المصري كله- بفترات مختلفة، لكل منها طابع خاص.

ولذا يحسن أن يقسم هذا العصر الحديث الطويل، الذي يبلغ نحو قرن وثلثي قرن إلى فتراته المختلفة، التي يتميز كل منها -إلى حد كبير- بطابعه السياسي والاجتماعي والثقافي، ثم بطابعه الأدبي، نتيجة لذلك كله، وبهذا يتيسر الدرس، ويكون أقرب إلى الدقة، وتلك الفترات هي: الفترة الأولى: من الحملة الفرنسية إلى ولاية إسماعيل من1798 إلى 1863. الفترة الثانية: من ولاية إسماعيل إلى الثورة العرابية من 1863 إلى 1882. الفترة الثالثة: من الاحتلال البريطاني إلى نهاية ثورة 19 من 1882 إلى 1922. الفترة الرابعة: فترة ما بين الحربين من 1922 إلى 1939. الفترة الخامسة: من الحرب العالمية الثانية إلى قيام ثورة 23 يولية من 1939 إلى 1952. الفترة السادسة: من قيام الثورة إلى اليوم من 1952 إلى اليوم. وإذا تأملنا الفترة التي نعيشها اليوم، وقارناها بما نعرف من تاريخ الفترات السابقة، وجدنا الاختلاف يصل أحيانًا إلى درجة التباين أو التناقض، وخاصة إذا كانت المقارنة بين اليوم والأمس البعيد، وهذا من شأنه أن يثير تساؤلا معقولا، وهو: كيف يمكن أن يندرج مثل هذا التاريخ الطويل المختلف الفترات تحت عصر واحد؟ وكيف يمكن مثلًا أن يسمى كل من نتاج أوائل القرن التاسع عشر، ونتاج الثلث الأخير من القرن العشرين بالأدب الحديث مع ما بينهما من خلاف ليس أقل من الخلاف بين القديم والحديث؟ والجواب أن القديم والحديث من الأمور السنية، فما هو حديث اليوم، وسوف يكون قديمًا في الغد، وما هو قديم اليوم، قد كان حديثًا بالأمس، وكل ما في الأمر أن تاريخنا الأدبي مرتبط بتاريخنا السياسي، وقد اصطلح

على تسمية ذلك العصر الذي سلف تحديده بالعصر الحديث، رغم أن أوائله أوشكت أن تفقد صفة الحداثة.. وإذن فهو عصر حديث؛ لأنه يقابل ما كان من عصور قديمة، ثم؛ لأنه العصر الذي بدأ فيه فعلا ما يسمى بتاريخ مصر الحديث، وأخيرًا؛ لأنه منذ بدايته يخالف في وضوح هذا التخلف المؤلم الذي فرض على الشعب المصري من قبل، خلال العهد التركي. ومهما يكن من أمر، فالمهم ليس الاسم، وإنما هو الدرس، وما دام أساس الدرس هو التمييز بين فترات ذلك العصر، وتحديد سمات كل فترة وخصائص أدبها، فهذا يكفي. وسوف أتناول في هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ تطور الأدب الحديث في مصر، من أول هذا العصر الحديث إلى قيام الحرب الكبرى الثانية، أي خلال أربع فترات من هذه التي تؤلف هذا العصر، وقد اتخذت من الحرب العالمية الثانية نقطة انتهاء لهذا الكتاب؛ لأنها -في رأيي- بداية مرحلة جديدة في الحياة الفكرية والأدبية، ففي سنواتها عرف كثير مما كان مجهولًا عن الاشتراكية وفكرها، وأدبها، وفي أعقابها أخذ الاتجاه الواقعي الاشتراكي يجذب طائفة من المفكرين والأدباء المصريين، وهكذا لم يعد الفكر والأدب الغربيان ينفردان بالتأثير، كما كان الحال قبل تلك الحرب، وإنما ظهر مؤثر جديد له قوته، وفعاليته مما سيتضح بجلاء في الأدب المصري بعد تلك الحرب، كل ذلك بالإضافة إلى ما وفد من مذاهب واتجاهات من الغرب، وما نشأ من قيم وأفكار منذ تلك الحرب، التي غيرت الكثير من الغرب، وما نشأ من قيم وأفكار منذ تلك الحرب، التي غيرت الكثير من المقررات والمواضعات، الأمر الذي يجعل منها نقطة لعصر، ونقطة ابتداء لعصر جديد. وسوف أحاول أن أعرض في هذا الكتاب لكل الأنواع الأدبية التي عاشت خلال كل فترة، وأن أتتبع كل نوع في تطوره من فترة إلى أخرى، وذلك من خلال المؤثرات العامة التي وجهت الأدب كله، ثم من خلال العوامل

الخاصة التي أسهمت في تشكيل كل نوع أدبي على حدة. ونظرًا لوفرة النتاج القصصي والمسرحي في فترة ما بين الحربين، قد خصصت له كتابًا مستقلًا هو في الواقع مكمل لهذا الكتاب، وقد عرضت في الكتاب الثاني هذا النتاج عرضًا نقديًا يأخذ حقه من التفصيل، بجانب ما اشتمل عليه هذا الكتاب لاأول من عرض تاريخي قضت الضرورة أن يكون على شيء من الإجمال، وهذا الكتاب الثاني هو الأدب القصصي والمسرحي -من أعقاب ثورة 19 إلى قيام الحرب العالمية الثانية. أما ما تبقى من فترات العصر الحديث -منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم- فأرجو أن أوفق إلى إنجاز دراسة عنها قريبًا إن شاء الله. والله الموفق، ومه يستمد العون. المؤلف.

تمهيد

تمهيد: الحالة الثقافية والأدبية قبل العصر الحديث. كانت القرون الثلاثة التي سيطر فيها الحكم التركي على مصر، قد عملت عملها في إغماض العيون، وتكبيل العقول، وعقل الإرادات، وعقد الألسنة. فقد فرض الأتراك على البلاد نوعا من الاحتلال هو في حقيقته محاولة لقتل البلاد ماديًا وأدبيًا، وذلك أن احتلالهم قد عمل على امتصاص كل خيرات الشعب، ومصادرة جميع موارده، وسجن أروع قدراته، وتعويق أعظم ملكاته. وفي سبيل تنفيذ ذلك قد نقل الأتراك من مصر -أول احتلالهم- كثيرًا من العلماء والفنانين، وعديدًا من الكتب والنفائس1، ثم تركوا الدواوين، وجعلوا أهم الرياسات والأعمال الإدارية في أيدي الأترك، وأذنابهم من المماليك، ثم أكثروا من فرض الضرائب، وأهملوا كل إصلاح، ولم يوجهوا أية رعاية إلى التعليم، حتى لقد أغلقت المدارس بل هدمت وانتبهت2، وكانت النتيجة أن انطفأت شعلة الحياة العلمية في البلاد، إلا وميضًا ينبعث من الأزهر، الذي ظل الملاذ لما بقي من علوم الدين واللغة، وإن كان يعاني في تلك الآونة كثيرًا من الجمود، ككل مظاهر الحية في ذلك العهد المظلم3.. كذلك تعطلت الحركة الأدبية بل تحجرت، وانحرفت اللغة العربية بل فسدت، فكثر فيها التركي

_ 1 انظر: بدائع الزهور لابن إياس، وتاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي جـ1 ص42-43. 2 انظر: تاريخ الحركة القومية للرافعي جـ1، والخطط التوفيقية لعلي مبارك جـ1 ص87. 3 كانت قد نسيت العلوم الرياضية والطبيعية والعقلية، بل أهمل كل تطوير أو ابتكار في الدراسات اللغوية والشرعية، وأصبح كل النشاط ترديدًا للقديم البالي، ومحاولة من البعض لعلم حواشي وتقريرات، كما فعل الصبان في حاشيته على الأشموني، والزبيدي في تاج العروس.

والعامي، وحادت عن قواعد الإعراب، وابتعدت عن سلامة التركيب العربي الأصيل1. ومن هنا أصبح الأدب في حالة من السقم تقارب الموت ... فكانت تمثله نماذج نثرية وشعرية هزلية، ليس من وراءها أي صدق إحساس أو فنية تعبير، بل ليس من وراءها حتى تقليد لتلك النماذج الرائعة، من أدبنا في عصور الازدهار، وإنما هي نماذج شاحبة مفتعلة غالبًا، تغطي ركاكتها في أكثر الأحيان ألوان من البديع، كثيرًا ما تبدو كأكفان ذات ألوان وتطاريز، تلف أجداثًا وعظامًا نخرة. وقد كان أغلب النتاج الأدبي لتلك الفترة، يدور حول الأمداح النبوية، والأمور الإخوانية، والمراثي الباردة، والمواعظ المباشرة، وتسجيل بعض الأحداث في لغة سقيمة، على أن الروح المصرية وبعض ومضاتها الفنية كانت تلوح في بعض النماذج الفصحى حينا، وتنفس عن نفسها عن طريق الأدب الشعبي أحيانًا. وكان هذا الأدب الشعبي ممثلًا في الموال، والأغنية. والسيرة الشعبية، التي كان منها الديني كسيرة السيد البدوي، أو سيرة سيدي إبراهيم الدسوقي أو قصة سيدنا علي ورأس الغول، كما كان منها التاريخي البطولي مثل أبي زيد الهلالي، وعنترة والظاهر بيبرس، وسيف بن ذي يزن. بل غلب هذا الاتجاه حتى أصبح لقب الشاعر يطلق عادة على شاعر الربابة، الذي قص تلك الأشعار على الناس في المقاهي والمحافل، وهذا يؤكد أن الروح الفنية عاشت كامنة في ضمير الشعب، تنتظر الجو الملائم للانطلاق الرائع. ويكفي لتصور المستوى العلمي، وما بلغه من تخلف حينذاك، أن نقرأ ما حكاه الجبرتي عن دهشته البالغة هو وبعض إخوانه، خلال زيارتهم

_ 1 اقرأ على سبيل المثال: بدائع الزهور وعجائب الدهور لابن إياس، وعجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي، فالأول يمثل صدر العصر التركي، والثاني يمثل آخره، وكلاهما يكتب بلغة تبعد كثيرًا عن الاستقامة، مما يصور فساد اللغة طيلة هذا العهد المظلم.

لمعمل علمي من معامل الفرنسيين، وحضورهم بعض التجارب هناك، فقد تحدث الجبرتي عن ذلك كله، وكأنه يتحدث عن عمل من أعمال السحر.. يقول الجبرتي في حديثه عن المعمل، وبعض التجارب العلمية التي كان يجريها الفرنسيون: ... وأفردوا مكانًا في بيت حسن كاشف جركس لصناعة الحكمة والطب الكيماوي، ومن غريب ما رأيته في ذلك المكان أن بعض المتقيدين لذلك، أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوعة فيها بعض المياه المستخرجة، فصب منها شيئًا في كأس، ثم صب عليها شيئًا من زجاجة أخرى، فعلا الماء، وصعد منه دخان ملون حتى انقطع وجف ما في الكأس، وصار حجرًا أصفر، فقلبه على البرجات حجرًا يابسًا أخذناه بأيدينا ونظرناه، ثم فعل كذلك بمياه أخرى فجمد حجرًا ياقوتيا، ثم أخذ مرة شيئًا قليلًا جدًّا من غبار أبيض، ووضعه على السندال، وضربه بالمطرقة بلطف، فخرج له صوت هائل كصوت القرابانة، انزعجنا منه فضحكوا منا ... ولهم فيه أمور وأحوال، وتراكيب غريبة، ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا1. كذلك يكفي لتصور المستوى اللغوي أن نقرأ بعض ما كتبه ابن إياس2، أو الجبرتي، وإن كان الجبرتي يمتاز بكثير من الروح المصرية ذات الومضات الفنية، التي تلوح أحيانًا من خلال التهافت اللغوي، ومن ذلك قوله متحدثأ عن بعض الولاة: ومما اتفق له أن بعض التجار أراد الحج، فجمع ما عنده من الذهبيات والفضيات، واللؤلؤ والجوهر ومصاغ حريمه، ووضعه في صندوق وأودعه عند صاحب له بسوق مرجوش، يسمى الخواجا علي الفيومي، بموجب قائمة أخذها مع مفتاح الصندوق، وسافر إلى الحجاز، وجاور هناك سنة،

_ 1 انظر: عجائب الآثار للجبرتي جـ1 ص35-36. 2 لابن إياس كتابة تقرب من العامية أحيانًا، مثل قوله عن ثورة بعض الجند فصاروا يسبوا ملك الأمراء سبا فاحشًا، وكان سبب ذلك أنه كان لهم ثلاثة أشهر جامكية منكسرة، فنفق عليهم شهرين وتأخر لهم شهرًا واحدًا، فقالوا: ما نسافر حتى ينفق علينا الشهر المنكسر، وإلا نزلنا نهبنا المدينة وشوشنا على الناس، انظر: بدائع الزهور جـ5 ص302.

ورجح مع الحجاج، وحضر إليه أحبابه وأصحابه للسلام عليه، وانتظر صاحبه الحج علي الفيومي فلم يأته، فسأل عنه فقيل له: إنه طيب بخير، فأخذ شيئا من التمر واللبان والليف ووضعه في منديلِ، وذهب إليه ودخل عليه، ووضع بين يديه ذلك المنديل، فقال له: من أنت، فإني لا أعرفك قبل اليوم حتى تهاديني؟ فقال: أنا فلان صاحب الصندوق الأمانة، فجحد معرفته وأنكر ذلك بالكلية، ولم يكن بينه وبين بينة تشهد بذلك، فصار عقل الجوهري، وتحير في أمره، وضاق صدره، فأخبر بعض أصحابه، فقال له: اذهب إلى كجك محمد أوده باشه، فذهب إليه وأخبره بالقصة، فأمره أن يدخل إلى المكان الداخل، ولا يأتي حتى يطلبه، وأرسل إلى الفيوم، فلما حضر إليه بش في وجهه ورحب به وآنسه بالكلام الحلو، ورأى في يده سبحة مرجان فأخذها من يده يقلبها، ويلعب بها ثم قام كأنه يزيل ضرورة، وأعطاها لخادمه وقال له: خذ خادم الخواجا صحبتك، واترك دابته هنا عند بعض الخدم، وذاهب صحبة الخادم إلى بيته، وقف عند باب الحريم وأعطهم السحبة أمارة، وقل لهم: إنه اعترف بالصندوق الأمانة، فلما رأوا الأمارة والخادم، لم يشكوا في صحة ذلك، وعندما رجع كجك محمد إلى مجلسه، قال للخواجا: بلغني أن رجلا جواهرجي أودع عندك صندوقًا أمانة ثم طلبه فأنكرته، فقال: لا وحياة رأسك، ليس له أصل، وكأني اشتبهت عليه، أو أنه خرفان وذهلان، ولا أعرفه قبل ذلك ولا يعرفني، ثم سكتوا، وإذا بتابع الأوده باشه والخادم داخلين بالصندوق على حمار، فوضعوه بين أيديهما، فانتفع وجه الفيومي واصفر لونه، فطلب الأوده باشه صاحب الصندوق، فحضر فقال له: هذا صندوقك؟ قال: نعم، قال له: عندك قائمة بما فيه؟ قال: معي، وأخرجها من جيبه مع المفتاح، فتناولها الكاتب وفتحوا الصندوق، وقابلوا ما فيه على موجب القائمة، فوجدت بالتمام، فقال له: خذ متاعك واذهب، ثم التفت إلى الخواجا الفيومي -وهو ميت في جلده ينتظر ما يفعل به- فقال له: صاحب الأمانة أخذها، إيش جلوسك؟

فقام، ينفض غبار الموت وذهب1. وأخيرًا يكفي لتصور حال الشعر، وما مني به -في الأعم الأغلب- من هزال وتستر وراء بعض المحسنات، أن نقرأ مثل هذين البيتين لبعض الشعراء في وفاء النيل: النيل في مصر أوفى ... في توت حادي وعاشر والناس قد أرخوه ... لله جبر الخواطر2 فالشاعر ليس عنده شيء يقوله إلا التاريخ للعام الذي أوفى فيه النيل، وكان عام 1117هـ، وهو ما أجهد الشاعر نفسه -وأجهدنا معه- ليرمز إليه بحروف الشطر الأخير من البيتين3. على أن بعض نماذج الشعر كانت تخلو من المحسنات التي في مقدمتها التاريخ، وتأتي مجرد سرد مجانب لأبسط مقومات الشعر، بل غير سالم من الانحراف اللغوي، وإن اشتمل أحيانًا على الروح المصري اللطيف، ومن ذلك قول الشيخ حسن البدوي: كن جار كلب، وجار الشرة اجتنب ... ولو أخا لك من أمٍ يرى وأبِ

_ 1 انظر: عجائب الآثار للجبرتي جـ1 ص97. 2 انظر: عجائب الآثار للجبرتي جـ1 ص30. 3 لكل حرف من الحروف الهجائية رقم يقابله؛ فالشاعر يأتي بكلمات ذات حروف يؤدي حاصل جمعها إلى الرقم المطلوب، والحروف الهجائية تقابل بالأرقام هكذا: أب جـ د هـ وز ح ط ي ك ل م ن س ع ا 2 3 4 5 6 7 8 9 10 20 30 40 50 60 70 ف ص ق ر ش ت ث خ ذ ض ظ غ 80 90 100 200 300 400 500 600 700 800 900 1000 وعلى هذا تكون حروف كلمات الشطر الأخير مقابلة بـ65 + 205+ 847 والمجموع هو 1117.

ما جار كلب شكا يومًا بوائقه ... إذا شكا غيره من مصمة الوصب وجانب الدار إن ضاقت مرافقها ... والمرأة السوء، لو معروفة النسب ومركبًا شر الأخلاق لا سيما ... إن كان ذا قصر أو أبتر الذنب أو كان ذا بطء سير، والعمائم ما ... تفاحشت كبرًا تبدو كما القبب1

_ 1 انظر: عجائب الآثار جـ1 ص75.

الفصل الأول: فترة اليقظة

الفصل الأول: فترة اليقظة أهم أسباب اليقظة أسلحة علمية للحملة الفرنسية ... الفصل الأول: فترة اليقظة من الحملة الفرنسية إلى ولاية إسماعيل 1798-1863 أهم أسباب اليقظة: 1- أسلحة علمية للحملة الفرنسية: كانت الحملة الفرنسية ترمي إلى تكوين إمبراطورية شرقية قوية مستقرة1، لذلك اتخذت العلم سلاحًا ضمن أسلحتها، وحشدت العلماء جندًا ضمن جنودها2، وكان من مظاهر ذلك أن أنشاء العلماء الفرنسيون المصاحبون للحملة في مصر، مراكز للأبحاث الرياضية، ومراصد فلكية، ومعامل كيماوية، كما أنشأوا بعض المصانع ومعملًا للورق، ثم مجمعًا عليمًّا لدراسة أحوال مصر الطبيعية والجغرافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والتاريخية والثقافية؛ وكان ذلك أساسًا لإمداد الحكومة الفرنسية بالمعلومات والتوجيهات، والإحصاءات والخرائط، ولتأكيد الوجود الفرنسي في مصر، وإقامته على دعائم من العلم والخبرة.. كذلك أقام الفرنسيون مطبعة عربية، وأصدروا صحيفتين فرنسيتين ونشرة باللغة العربية، كما أقاموا أيضًا مسرحًا للتمثيل، كانوا يقدمون فيه رواية فرنسية كل عشر ليال، وفتحوا مدرستين لتعليم أبناء الفرنسيين، ومكتبة عامة جمعوا فيها ما حملوه معهم من كتب، وماجمعوه من مساجد مصر وأضرحتها. وكانوا يدعون بعض المصريين إلى مشاهدة ما بها من كتب، كما كانوا يدعونهم إلى مشاهدة بعض تجاربهم العلمية، وذلك لتأليف قلوبهم، وإيهامهم بأنهم جاءوا لتحضيرهم والنهوض بهم3. ولعل مما يرتبط بهذه المظاهر، تشكيلهم للديوان، الذي كان يضم تسعة

_ 1 انظر: تاريخ الحركة القومية جـ1 ص66. 2 انظر: تاريخ الحركة القومية جـ2 ص79، 118. 3 اقرأ في الأعمال العلمية والفنية للحملة الفرنسية، تاريخ الحركة القومية جـ1 ص118 إلى 156.

أعضاء من علماء الأزهر، وذلك للعمل على استتباب الأمن، والتظاهر بأن الشعب يشارك في حكم نفسه1. ويلاحظ أولًا: أن أغلب تلك المظاهر الثقافية متصل بالعلم العملي، كما يلاحظ ثانيًا، أن جميعها جاءت في صورة عدوانية ضمن الحملة الفرنسية الغازية، ومن هنا لم يكن لها تأثير فعلي في وصل المصريين بالثقافة الأوروبية، وبخاصة الثقافة الأدبية، وإنما اقتصر تأثير كل هذه المظاهر على الإثارة أو الإيقاظ، حتى أحس البعض بوجوب التغيير، وتطلع إلى التسلح بوسائل أفضل، وهذا ما عبر عنه الشيخ حسن العطار2 بقوله حينذاك: إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد ما بها من العلوم والمعارف3.

_ 1 انظر: المصدر السابق جـ1 ص95، وما بعدها. 2 هو من كبار علماء الأزهر، ومم تولوا مشيخته، وقد عاصر الحملة الفرنسية وكان على صلة ببعض علمائها، وهو أستاذ لرفاعة الطهطاوي، وقد توفي سنة 1835م. 3 انظر: الخطط التوفيقية لعلي مبارك جـ4 ص38.

أول الاتصال الفعلي بالثقافة الحديثة

2- أول الاتصال الفعلي بالثقافة الحديثة: كان محمد علي جنديًا ألبانيا مغامرًا، قد جاء إلى مصر ضمن الحملة التركية التي اشتركت في إخراج الفرنسيين سنة 1801م، وقد امتدت أطماعه إلى الاستقلال بمصر أولًا، ثم تأسيس إمبراطورية كبيرة ثانيًا، واستطاع بدهائه ومكره أن يخدع القوى الشعبية التي ظهرت قوتها أثناء مقاومة الفرنسيين، حتى ولته تلك القوى حاكمًا على البلاد سنة 1805م، وما لبث أن خان تلك القوى، فاضطهد زعماءها وعلى رأسهم السيد عمر مكرم، كما غدر بالمماليك فنكل بهم في مذبحة القلعة، ورأى أن الحاجة ماسة إلى قوة مسلحة تخمد القوى الشعبية التي يدين لها بعرشه، وترهب بقايا المماليك الذين ينازعونه سلطانه، كما تحميه من تركيا التي تملك عزله، وإنجلترا التي تهدد أطماعه1. فعمد إلى إنشاء جيش قوي، وعمل كل ما من شأنه أن يحيط هذا الجيش

_ 1 اقرأ عن محمد علي بالتفصيل في: تاريح الحركة القومية للرافعي جـ2 ص311 وما بعدها، وجـ3.

بأسباب القوة، فأنشأ مدرسة حربية، ثم مدرسة للطب ليقوم أبناؤها بعلاج الجيش، ثم أنشأ مدرسة للصيدلة، وأخرى للطب البيطري -وأخرى للهندسة- كما أنشأ عددًا من المدارس الابتدائية والتجهيزية1. وقد استقدم محمد علي -أول الأمر- الأساتذة الأجانب للتدريس في المدارس المختلفة، ونظرًا لعدم معرفة هؤلاء بلغة البلاد أو معرفة التلاميذ بلغتهم، فقد استعان بالمترجمين من السوريين والمغاربة، وغيرهم2. كذلك أرسل محمد علي البعثات إلى أوروبا، ليقوم أبناؤها فيما بعد بمطالب الجيش، وللتدريس في تلك المدارس التي هي في خدمة الجيش، وقد تعددت البعثات وتنوعت، بين هندسية وطبية وزراعية وصيدلية وقانونية، وسياسية وكيماوية، كما كان منها بعثات للتخصص في الطباعة والحفر، والميكانيكا وغيرها3. وهكذا كان أول لقاء عملي بين المصريين والثقافة الغربية في العصر الحديث. وقد أنتج هذا اللقاء ثمارًا طيبة، فقد عاد هؤلاء المبعوثون بعلم جديد وعقلية جديدة إلى بلادهم، فعلموا في المدارس وعملوا في المصالح، وترجموا وألفوا وخططوا، وبهذا وضعوا أساس الحركة الثقافية والأدبية الحديثة، كما بدءوا تطوير اللغة بما ترجموا إليها من علوم حديثة، وبما أمدوها به من مصطلحات جديدة، ثم بما عبروا عنه من أفكار وموضوعات منوعة، أكثرها يتصل بالحياة، ويرتبط بموكب الثقافة الإنسانية المتطورة. وكان من أجل مظاهر ذلك، مدرسة الألسن التي اقترح إنشاءها رفاعة الطهطاوي، وعهد إليه بإدارتها، وكانت تعني بدراسة اللغات الفرنسية

_ 1 انظر: تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص19 وما بعدها، وتاريخ التعليم في عصر محمد علي لأحمد عزت عبد الكريم. 2 تاريخ آداب اللغة العربية جـ4 ص30، 166. 3 المصدر السابق: ص20-21، وتاريخ التعليم في عصر محمد علي لأحمد عزت عبد الكريم ص434-453. وانظر كذلك: Studies on he Civiaztion of Islam, Gibb. p 247

والإيطالية والتركية والفارسية، إلى جانب آداب اللغة العربية، والتاريخ والجغرافيا والشريعة الإسلامية، والشرائع الأجنبية. وقد استطاعت مدرسة الألسن بفضل خريجيها، أن تترجم كثيرًا من الكتب القيمة، كما ترجم رفاعة رسائل عديدة في مختلف الفنون والعلوم، وترجم كذلك بعض قطع من الشعر الفرنسي، من بينها نشيد المرسيلييز، وترجم دستور فرنسا وعلق عليه بوعي لمفاهيم الحرية، وحقوق المواطنين ونظام الحكم1. ولعل من أهم المظاهر الثقافية التي عرفت في تلك الآونة، إنشاء المطبعة الأميرية سنة 1822، ثم إصدار صحيفة سميت أولًا باسم جورنال الخديو، ثم أخذت اسم الوقائع المصرية، وكانت تحرر أولًا بالتركية والعربية، ثم صارت تكتب بالعربية وحدها2. وليس من شك في أن تلك الألوان الثقافية قد أثمرت ثمارًا طيبة منذ تلك الآونة، رغم ما كان من نكسة للثقافة، وتعويق الفكر في عهد عباس الأول وسعيد، على اختلاف في درجة التعويق، ومظهر النكسة بين هذين الحاكمين الرجعيين3.

_ 1 تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي جـ1 ص478 وما بعدها، واقرأ عن رفاعة في: رفاعة الطهطاوي للدكتور أحمد بدوي، والخطط التوفيقية لعلي مبارك جـ13 ص53، وتراجم مشاهير الشرق جـ3 ص19، تاريخ الحركة القومية للرافعي جـ4 ص470، وما بعدها. 2 تاريخ آداب اللغاة العربية لجورجي زيدان جـ3 ص63 وما بعدها، وأدب المقالة الصحفية في مصر للدكتور عبد اللطيف حمزة جـ1 ص110، 126، 127. وتاريخ الحركة القومية للرافعي جـ3 ص537-538. 3 أغلق عباس المدارس بما في ذلك مدرسة الألسن، واستدعى أعضاء البعثات، ونفي رفاعه الطهطاوي إلى السودان، وأمر أولًا بقصر الترجمة على التركية، ثم ألغاها نهائيًا. أما سعيد فرغم أنه أتاح بعض الفرص للمصريين بإلغاء نظام الاحتكار، وإباحة الترقي في الجيش إلى رتبة ضابط، فإنه قد ألغى ديوان المدارس، وأوقف مطبعة بولاق وعطل حركة الترجمة والنشر. اقرأ: تاريخ التعليم في مصر -عصر عباس وسعيد، لأحمد عزت عبد الكريم.

وهناك ملاحظات على تلك الحركة الثقافية التي كانت في عهد محمد علي، منها أنها دارت -قبل كل شيء- حول الجيش، ولم تتجه أساسًا إلى إضاءة الحياة المدنية، ومنها أنه عنيت أولًا بأبناء الأتراك والمماليك، وكان حظ أبناء الشعب منها ضئيلًا، ومنها أنها اهتمت -أكثر ما اهتمت- بالجوانب العملية والمادية، ولم تعط إلا القليل للجوانب النظرية والأدبية. ولهذا كله لم يكن تأثير تلك الحركة الثقافية على الحياة الفكرية والأدبية قويًّا، وخاصة إذا ذكرنا أن الشعب كان في ذاك العهد يعاني من سوء الحالة الاقتصادية ما لا يمكنه أن يفرغ لفكر أو يقبل على أدب؛ فقد نزع محمد علي الأرض من يد الفلاحين، وأصبح هو المالك لكل شيء، أما الناس عنده فهم أشبه بآلات تعمل لتنتج له ما يرضي طمعه، كما كان الوالي هو صاحب الأمر في كل شيء، وليس للشعب رأي في أمور بلده، بعد نفي الزعامات الشعبية واضطهاد العناصر الوطنية، وحكم الشعب حكمًا استبداديًّا غاشمًا. وأهم الثمار التي جنيت من هذه الحركة الثقافية هي ظهور جماعة من المثقفين المصريين، الذين نهلوا من ثقافة الغرب وعرفوا لغته وبعض أدبه، وأصبحوا يمثلون -آخر الأمر- لونًا جديدًا إلى جانب اللون التقليدي الممثل في علماء الأزهر حينذاك، وهؤلاء المثقفون الجدد سيقومون هم، وتلاميذهم بريادة التيار الثقافي الجديد، والتبشير بحياة أدبية جديدة، رغم ما حدث من تعويق وانتكاس في عهدي عباس، وسعيد على ما سبقت الإشارة إليه1. وربما كان من ثمار تلك الحركة كذلك، انتعاش اللغة العربية بعض الانتعاش، وتجددها بعض التجدد، وذلك؛ لأنها أصبحت لغة العلوم الحديثة ولغة الصحافة الجديدة، ووسيلة الأفكار والنظم الوافدة، فاتسعت للمصطلحات العلمية والفنية، ومالت أكثر إلى الموضوعية، وتخلصت نوعًا من الركاكة والتكلف. وربما كانت تلك بداية اللغة العربية الحديثة المتطورة2.

_ 1 اقرأ الهامش السابق. 2 تطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص21.

الأدب وأولى محاولات التجديد

الأدب وأولى محاولات التجديد الشعر ... الأدب وأولى محاولات التجديد: أما الأدب فقد ظل -في جملته- على ما كان عليه من قبل، فكان أبرز الأدباء طائفة من الشيوخ ذوي الثقافة التقليدية، وممن عاشوا على التراث الأدبي المتصل بالعهد التركي، ولم يظهر من بين أصحاب الثقافة الحديثة من يمثلون اتجاهًا مقابلًا في الأدب للاتجاه القديم، كما حدث في العلم؛ لأن التحول كان تحولًا علميًّا، لم يمس الحياة الأدبية مسًّا واضحًا، ومع ذلك فقد ظهر في كتابات قلة من ذوي الثقافة الجديدة بعض لمحات تجديدية جديرة بالتسجيل في الشعر والنثر على السواء، وهذا تفصيل القول في كل من الفنيين الأدبيين. 1- الشعر: كان أكثر الشعر من هذا اللون التقليدي المتخلف الرديء، الذي يسير هزاله وتهافته بألوان من المهارة اللفظية، والحيل اللغوية، والمحسنات البديعية المتكلفة، كعمل أبيات تقرأ من اليسار كما تقرأ من اليمين، أو أبيات كل كلماتها معجم الحروف، أو كل كلماتها مهمل الحروف، وكعمل أبيات أوائل حروفها تؤلف بيتًا آخر أو أبياتًا من الشعر، أو تدل على اسم معين أو تاريخ خاص، وكعمل أبيات كل كلماتها مبدوءة بحرف معين، أو كل كلماتها مفرقة الحروف، وما إلى ذلك. ومن النماذج السائرة في هذا الاتجاه، أغلب أشعار الشيخ على الدرويش1،

_ 1 اقرأ ترجمته في: تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص212، والآداب العربية في القرن التاسع عشر للويس شيخو جـ1 ص79، وأعيان البيان للسندوبي ص46، وأعلام من الشرق والغرب لمحمد عبد الغني حسن ص56.

فهو مثلًا يتغزل ببيتين بادئًا كل الكلمات فيها بحرف العين، فيقول: علي على عينيك عذل عواذلي ... عذاب، عليها عند عاشقها عذب عذارك عذري، عجب عطفك عدتي ... عيونك عضبي عاد عائبها عضب1 ومثل الشيخ علي الدرويش كثيرون، مثل الشيخ محمد شهاب الدين المصري2، الذي يقول في الوصف، جاعلًا كل همه أن يأتي بكل الكلمات مفرقة، مع ما أمكن من الجناس: رَاحَ دَنٍ أدَرْتَ أَمْ ذوْبَ وَرْدِ ... رَقَّ إذ دَارَ دُونَ آسٍ وَوَرْدِ رُبَّ روضٍ أراك دَوْحَ أراكٍ ... دُون أوراقِ وَرْدهِ رَاقَ وِرْدِى إن ذَوَي زَارَهُ وازن رُوَاهُ ... دَرُّ وَدْقٍ وَرَدَّهُ أيَّ رَدِّ3 وقد كانت بعض نماذج الشعر في تلك الفترة تخلو من الألاعيب والمحسنات، ولكنها تأتي سطحية الفكرة، مهزوزة الصورة فاترة التأثير، ومن ذلك قول الشيخ حسن قويدر4: يا طالب النصح خذ مني محبرة ... تلقى إليها على الرغم المقاليد عروسة من بنات الفكر قد كسيت ... ملاحة ولها في الخد توريد كأنها وهي بالأمثال ناطقة ... طير له في صميم القلب تغريد احفظ لسانك من لغو ومن غلط ... كل البلاء بهذا العضو مرصود

_ 1 ديوان السيد علي الدرويش ص17. 2 اقرأ ترجمته في: الآداب العربية للويس شيخو جـ1 ص84 وما بعدها، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص213، وأعيان البيان السندوبي ص25، وأعلام من الشرق والغرب لمحمد عبد الغني حسن ص16. 3 ديوان السيد محمد شهاب الدين ص6. 4 اقرأ في ترجمته: الآداب العربية للويس شيخو جـ1 ص53، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص232-233، وأعيان البيان للسندوبي ص17.

واحذر من الناس لا تركن إلى أحد ... فالخل في مثل هذا العصر مفقود بواطن الناس في ذا الدهر قد فسدت ... فالشر طبع لهم والخير تقليد1 على أن نماذج قليلة من شعر تلك الفترة كانت أقل تكلفًا، وأكثر قربًا من روح الشعر، ومن تلك النماذج قول الشيخ حسن العطار2 راثيًا: أحاديث دهر قد ألم فأوجعا ... وحل بنادي جمعنا فتصدعا لقد صال فينا البين أعظم صولة ... فلم يخل من وقع المصيبة موضعا وجاءت خطوب الدهر تترى فكلما ... مضى حادث يعقبه آخر مسرعا وحل بنا ما لم نكن في حسابه ... من الدهر، ما أبكى العيون وأفزعا خطوب زمان لو تمادى أقلها ... بشامخ رضوى أو ثبيرٍ تضعضعا وأصبح شأن الناس ما بين عائد ... مريضًا وثانٍ للحبيب مشيعا لقد كان روض العيش بالأمن يانعا ... فأضحى هشيما ظله متقشعا أيحسن ألا يبذل الشخص مهجة ... ويبكي دمًا إن أفنت العين أدمعا وقد سار بالأحباب في حين غفلة ... سرير المنايا عاجلا متسرعا وفي كل يوم روعة بعد روعة ... فلله ما قاسى الفؤاد وروعا3 ولعل السبب في قرب بعض نماذج قليلة كهذه من روح الشعر، أن أصحابها كانوا على شيء من الصلة بالشعر القديم الجيد، فالشيخ العطار مثلًا قد جمع طائفة من أشعار ابن سهل الإشبيلي، قد نشرت على أنها ديوان هذا الشاعر

_ 1 الآداب العربية للويس شيخو جـ1 ص49. 2 اقرأ ترجمته في: تاريخ الجبرتي جـ4 ص232، والخطط التوفيقية جـ4 ص38، ومناهج الألباب المصرية لرفاعة الطهطاوي ص376، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص232، وتاريخ الحركة القومية للرافعي جـ3 ص742. 3 هذه الأبيات من قصيدة واردة في الجبرتي جـ4 ص232- 233، وهي في رثاء الشيخ محمد الدسوقي.

الأندلسي الكبير1، وهذا دليل على صلة هذا الشيخ ببعض نماذج الشعر القديم الجيد. بل إن نماذج أقل من السابقة القريبة من روح الشعر، قد ظهرت في أواخر تلك الفترة، وتضمنت أوائل سمات التجديد، وإن لم تكن من الشيوع بحيث تعد اتجاهاً، وكان أصحاب هذه النماذج هم بعض تلاميذ ذاك الجيل السابق، وكانوا ممن أضافوا إلى ثقافتهم العربية ثقافة أجنبية، فقد نظم رفاعة الطهطاوي2

_ 1 وهو من شعراء القرن السابع الهجري عاش أكثر حياته في إشبيليه، وكان يهوديا فأسلم ثم مات غريقًا وهو في رحلة بحرية، وكان معروفًا برقة الغزل وعذوبة الشعر، كما كان من الوشاحين الكبار. 2 ولد في طهطا سنة 1216هـ 1801م، وتنقل مع والده في بعض أقاليم الصعيد، وحين توفي والده وهو صغير تولى أخواله تربيته، وبعد أن حفظ القرآن، ومبادئ علوم اللغة والدين قدم على الأزهر، ودرس على كبار العلماء فيه، وكان من أهم أساتذته الشيخ حسن العطار، الذي كان يقرب رفاعة ويؤثره بدروس وتوجيهات علمية قيمة، وبعد أن قضى رفاعه في الأزهر ثماني سنوات، عين واعظًا وإماًما لإحدى فرق الجيش المصري، وبعد نحو عام، اختير إمامًا للبعثة التعليمية الموفدة إلى فرنسا، وكان الذي زكاة لهذه المهمة أستاذه الشيخ حسن العطار، وفي فرنسا لم يقنع بمهمة الإمامية بل تعلم اللغة الفرنسية، وشارك أعضاء البعثة في الدرس، بل فاقهم في ذلك، والغالب أنه ضم إلى أعضاء البعثة منذ أبدى استعدادًا فائقًا لهذه المهمة، وقد اتجه بصفة خاصة إلى إتقان الترجمة، التي أجادها إجادة فائقة، وإلى ذلك درس التاريخ والجغرافيا والأدب، والرياضيات، والطبيعيات، والقوانين. وبعد نحو خمس سنوات عاد إلى مصر، فعين مترجما في مدرسة الطب ومدرسًا للترجمة بالمدرسة الفرنسية الملحقة بها، كما أسند إليه إدارة المدرسة التجهيزية التي كانت تعرف بمدرسة المارستان، ثم نقل إلى مدرسة المدفعية بطره، وعهد إليه بترجمة العلوم الهندسية والفنون الحربية، ثم أعفي من هذا العمل، وأسند إليه أمر نظارة مكتبة المدرسة التجهيزية بالقصر العيني، وكانت مكتبة كبيرة تحوي 15.000 مجلد معظمها بالفرنسية والإيطالية، كما أسند إليه رياسة فرقة الجغرافيا بهذه المدرسة، وأخيرًا نقل إلى رياسة مدرسة الألسن، التي ارتبط اسمها به، والتي صارت أشبه بكلية آداب وحقوق وتجارة معًا، وبعد نجاح باهر لمدرسة الألسن، ألغيت في عهد عباس ونقل رفاعة إلى السودان للإشراف على مدرسة ابتدائية هناك، وقد ضاق صدر رفاعه بهذا النفي كما فجع في مدرسة الألسن. =

بعض الأشعار الوطنية، كما نظم بعض الأناشيد الحماسية، كذلك نظم صالح مجدي1 -تلميذ رفاعة- طائفة من الأناشيد التي نراها في نهاية ديوانه. وكل من الشعر الوطني وشعر الأناشيد، ذو طابع تجديدي واضح، على الأقل إذ قيس بما كان من طابع الشعر في تلك الفترة، وذلك أن الشعر الوطني، وشعر الأناشيد الحماسية، فيه حديث عن الوطن بهذا المفهوم السياسي والحاضري الجديد، وفيه كذلك تمجيد لهذا الوطن، والحث على افتدائه، وبذل كل شيء في سبيله.. ثم إن الأناشيد بخاصة فيها -إلى جانب تمجطيد الجيش- تلوين في موسيقى الشعر، من حيث تنويع الوزن وتعديد القافية، ورعاية تناسق خاص بين الأجزاء، واختيار إيقاع ملائم، يناسب الإنشاد الجماعي، أو يساير خطوات الجند ومن إليهم، وكل هذا جديد، يذكر بالفضل للرائد الطهطاوي، وتلميذه صالح مجدي. ومن نماذج شعر رفاعة الوطني، الذي يأتي متناثرًا في قصائده قوله: ولئن حلفت بأن مصر لجنة ... وقطوفها للفائزين دواني

_ = ولما ولي سعيد خلفًا لعباس، أعيد رفاعة إلى مصر، فحاول استئناف رسالته، فعين ناظرًا ثانيًا للمدرسة الحربية، ثم رئيسًا لها فأدخل فيها كثيرًا من العلوم المدنية ليعوض بها مدرسة الألسن، حتى لقد ألحق بهما قلمًا للترجمة، جعل عليه تلميذه صالح مجدي ... ولكن المدرسة الحربية ألغيت بعد حين على يد سعيد وعطل نشاط رفاعه الجم، وقد ظل بغير منصب حتى عهد إسماعيل، ثم عين عضوًا في قومسيون الديوان الخاص بالمدارس، كما عين عضوًا في القومسيون الخاص بالنظر في المكتبات، ثم اختير ناظرًا لقلم الترجمة، وحين أنشئت صحيفة روضة المدارس جعلت تحت نظارته، وظل في هذه المناصب حتى توفي سنة 1290هـ 1873م. اقرأ ترجمته في: الخطط التوفيقية لعلي مبارك جـ13 ص53، ومشاهير الشرق لجورجي زيدان جـ2 ص19، وتاريخ الحركة القومية للرافعي جـ3 ص470، ورفاعه الطهطاوي للدكتور أحمد بدوي. 1 اقرأ ترجمته في مقدمة ديوانه المطبوع، وهي بقلم ابنه محمد، والخطط التوفيقية جـ8 ص22، والآداب العربية للويس شيخو جـ2 ص18، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص194.

والنيل كوثرها الشهي شرابه ... لأبر كل البر في أيماني1 ومما يصلح شاهدًا على ريادة الرفاعة لفن الأناشيد الحماسية قوله: يا أيها الجنود ... والقادة الأسود إن أمكم حسود ... يعود هامي المدمع فكم لكم حروب ... بنصركم تؤوب لم تثنكم خطوب ... ولا اقتحام معمع وكم شهدتم من وغى ... وكم هزمتم من بغى فمن تعدى وطغى ... على حماكم يصرع2 ومما يلفت النظر ويحمل على الإعجاب، ما نراه في بعض هذا اللون من شعر رفاعة من تلوين في موسيقى الشعر، وخروج على رتابة النغم خروجًا لم يألفه الشعر العربي، لا في عصر الشاعر ولا فيما قبله من عصور، ولا نكاد نجد له شبيهًا إلا عند الأندلسيين الوشاحيين المجيدين، وبمثل هذا اللون من الشعر، يعتبر رفاعة من رواد التجديد في موسيقى الشعر الحديث، ومن شواهد ذلك قوله: يا حزبنا قم بنا نسود ... فنحن في حربنا أسود عند اللقا بأسنا شديد ... هام عدانا لنا حصيد حامي حمى مصرنا سعيد ... في عصره مجدنا يعود بجنده المجند ... وسيفه المهند

_ 1 ورد هذان البيتان ضمن قصيدة لرفاعه في: تخليص الإبريز في تلخيص باريز ص191. 2 هذا النشيد وارد في مواقع الأفلاك رفاعه الطهطاوي ص10.

ونصره المؤيد ... وعزه المشيد في عصره مجدنا يعود1 فالشاعر فضلًا عن تلوينه للقوافي في هذا النشيد، قد استخدم بحرين، إذ استخدم مخلع البسيط في الأشطر الطوال، واستخدم مجزوء الرجز في الأشطر القصار، وهذا ما لم يجرؤ عليه إلا أئمة التجديد من الوشاحين أنفسهم. وأغلب الظن أن رفاعه -رائد هذا الشعر الوطني، ورائد فن النشيد بصفة خاصة- قد تأثر بما قرأ وسمع من شعره فرنسي، وربما تأثر في هذا الباب بالذات، بنشيد المارسيلييز -نشيد الثورة الفرنسية المعروف- الذي ترجمه رفاعة ضمن ما ترجم من آثار الفكر الفرنسي2، وأغلب الظن كذلك أن رفاعة كان على معرفة ببعض نماذج الموشحات التي من خصائصها تنوع الأوزان والقوافي. وقد استطاع رفاعة بذكاء أن يطوع هذا القالب الغنائي الأندلسي لمضمونات وطنية وحماسية، فكانت بواكير الأناشيد في الأدب الحديث. وخلاصة القول في شعر تلك الفترة إذن، أن الطابع العام كان الطابع التقليدي المتخلف الرديء، الذي منه نماذج تعمد إلى الألاعيب والمحسنات، كأكثر نماذج الشيخ الدرويش، والشيخ الشهاب، ومنه نماذج تنجو من الألاعيب والمحسنات، ولكن تتورط في السطحية والاهتزاز والفتور، وبالإضافة إلى هذا الطابع العام كانت توجد نماذج قليلة أقرب إلى روح الشعر، كبعض نماذج الشيخ العطار، ثم كانت توجد نماذج أقل، تحمل بواكير التجديد، كوطنيات الطهطاوي وأناشيده، وكأناشيد تلميذه صاحل مجدي، فهذه الفترة على طابعها التقليدي المتخلف الرديء، قد حوت في آخرها بذور التجديد الشعري الذي سيتضح في الفترة التالية:

_ 1 انظر: رفاعة الطهطاوي للدكتور أحمد بدوي ص122. 2 حول ما ترجمه رفاعة متصلًا بالأدب، اقرأ: رفاعة الطهطاوي للدكتور أحمد بدوي ص182، وما بعدها.

النثر

2- النثر: أما النثر فقد كان معظمه كالشعر في عمومه، من حيث التقليدية المتخلفة، فهو غالبًا يعبر عن موضوعات ساذجة، ويتقوقع في الرسائل والمقامات ونحوها، من الأنواع التقليدية، ثم هو يتستر بالمحسنات، ولا يسلم كثيرًا من التهافت. ومن أمثلة ذلك قول الشيخ علي الدرويش من رسالة يهدد فيها أحد الشعراء بالهجاء: "وإني نصحتك نصيحة الشفيق، لعلك من الغي تفيق، فإن رجعت نجوب بالهرب، وإلا فوحق من أخلاك من الأدب، وجعل شعرك ضحكة للعجم والعرب، أعمل فيك دقيقة من صناعة الآداب، ما جاء بها أحد على ممر الأحقاب، وما سمعها سامع إلا وحفظها، ولا نظرها ناظر إلا ولحظها، فإن حفظت عرضك فيها، وإلا فأنا لها"1. ومنه أيضًا -وإن كنا أقرب نوعًا إلى الفن- قول الشيخ حسن العطار في رسالة: "أما بعد فإن أحسن وشي رقمته الأقلام، وأبهى زهر تفتحت عنه الأكمام، عاطر سلام يفوح بعبير المحبة نفحه، ويشرق في سماء الطروس صبحه. سلام كزهر الروض أو نفحة الصبا ... أو الراح تجلى في يد الرشأ الألمي سلام عاطر الأردان، تحمله الصبا سارية على الرند والبان، إلى مقام حضرة المخلص الوداد، الذي هو عندي بمنزلة العين والفؤاد، صاحب الأخلاق الحميدة، حلية الزمان الذي حلى به معصمه وجيده"2. على أن بعض النثر قد خطا خطوة أبعد من تلك الأغراض الساذجة، كما تحرر بعض الشيء من التهافت والمحسنات، وأصبح يحمل زادًا فكريا حينًا، وتجارب إنسانية حينًا آخر، ويحاول أن يأخذ شكلًا جديدًا غير شكل الرسالة

_ 1 أعلام من الشرق والغرب لمحمد عبد الغني ص64. 2 إنشاء العطار ص12.

والمقامة وما إليهما، وكان باكورة ذلك كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" لرفاعة الطهطاوي، هذا الكتاب لاذي تحدث فيه رفاعة عن رحلته إلى باريس، ووصف كثيرًا من انطباعاته ومشاهداته، كما نقل عديدًا من المعارف والنظم، والقوانين التي أعجب بها في فرنسا. ورغم أن الكتاب قد جاء مزيجًا من خصائص كتب الرحلات والكتب العلمية، والتقارير الرسمية، مع خلو تام من كل عنصر روائي؛ فإن بعض الباحثين يعتبره البذور الأولى للرواية التعليمية في الأدب الحديث، وذلك لتقديمه ما قدم من معارف من خلال رحلة؛ ثم لتمهيده لأعمال جاءت بعد ذلك فيها الهدف التعليمي، وفيها كثير من العناصر الروائية1. والكتاب بعد ذلك ذو قيمة كبيرة من الناحية الفكرية، فهو صورة لاحتكاك عقلية أزهرية مستنيرة بالحضارة الأوروبية، وهو كذلك صورة لجرأة مثقف مصري في وصف قيم ديمقراطية، وأنظمة دستورية آراها في فرنسا، وأعجب بها، وأعلن هذا الإعجاب في بيئته كانت تحكم في تلك الآونة حكمًا استبداديًّا غاشمًّا2، وقد ذكر رفاعة أن الذي نبهه إلى تأليف هذا الكتاب هو أستاذه الشيخ حسن العطار، فهو يقول في المقدمة: فلما رسم اسمي في جملة المسافرين، وعزمت على التوجه، أشار على بعض الأقارب والمحبين، لا سيما شيخنا العطار -فإنه مولع بسماع عجائب الأخبار، والاطلاع على غرائب الآثار- أن أنبه على ما يقع في هذه السفرة، على ما أراه وما أصادفه من الأمور الغريبة، والاشياء العجيبة؛ ليكون نافعًا في كشف القناع عن هذه البقاع"3. ويقول رفاعة معلقًا في كتابه على ما أورد من نصوص الدستور الفرنسي: "إن سائر الفرنسيين متساوون قدام الشريعة، معناه سائر من يوجد في

_ 1 تطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص52، وما بعدها. 2 المصدر السابق ص57. 3 تخليص الإبريز ص4 طبعة وزارة الثقافة.

بلاد فرنسا من رفيع ووضيع، لا يختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون، حتى إن الدعوى الشرعية تقام على الملك؛ وينفذ عليه بالحكم كغيره، فانظر إلى هذه المادة، فإنها لها تسلط عظيم على إقامة العدل، وإسعاف المظلوم، وجبر خاطر الفقير، بأنه كالعظيم نظرًا إلى إجراء الأحكام، ولقد كادت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية، وهي من الأدلة الواضحة على وصول العدل عندهم إلى درجة عالية، وتقدمهم في الآداب الحضرية"1. على أن لرفاعة عملًا آخر أكثر أهمية في هذه الناحية من ذاك الكتاب، هذا العمل هو ترجمته لمغامرات تليماك Les Aventures de Tedlemaque التي كتبها القس الفرنسي فينيلون Fenellone، وقد سمى رفاعة الترجمة "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك"، ولعل الأدب العربي الحديث لم يعرف تجرمة لرواية فرنسية قبل ترجمة رفاعة لتلك الرواية، وهكذا تأتي أهمية تلك الترجمة أولًا من حيث إنها أول مظهر من مظاهر النشاط الروائي في مصر خلال العصر الحديث، ثم تأتي أهميتها ثانيًا من حيث ما اشتملت عليه من نقد لاستبداد عباس الأول، ومن دعوة محجبة لملصريين إلى التآزر والاتحاد للمقاومة والخلاص، ثم تقديم لبعض قيم الديمقراطية، ومبادئ الحرية2. فقد ذكر رفاعة أنه قصد بترجمة تليماك: "إسداء نصائح إلى الملوك والحكام، وتقديم مواعظ لتحسين ساوك عامة الناس". ولكن يلاحظ بوضوح أنه اختار هذه الرواية بالذات لكونها أنسب الأعمال لحاله، وموقف عباس منه، حين اضطهده ونفاه إلى السودان، ولذا نرى رفاعة في تليماك يتحدث عن الملك المصري الذي ينفي "منظور" إلى السودان بسبب بعض الوشايات، ثم يتحثد عن ملك جديد يتولى الملك بعد الملك السابق، ويطلق سراح جميع الأسرى3، وهو في ذلك يوشك أن يتحدث عن نفسه ونفي عباس له، وتطلعه إلى حاكم عادل يأتي بعد عباس.

_ 1 انظر: تخليص الإبريز ص80. 2 انظر: تطور الرواية العربية ص57-60. 3 انظر: وقائع تليماك ص18، وما بعدها.

ونراه في موضع آخر يقول: "الملك هو ولي الأمر في الرعية، يأمر وينهى، وأحكام المملكة وقوانينها تجري عليه.. وإذا أساء الاستعمال تغل يده؛ فإن الأهالي سلمته الشرائع وديعة بشرط أن يكون أبًا للرعايا بموافقتها"1. وهو هنا يوشك أن يسمى عباسًا ويحرض عليه. وفي موضع ثالث يقول: ".... فالحكمة الإلهية التي أوجدت البرية من العدم. تحب أن تكون بينهم رباطة تربطهم بالاتفاق والاتحاد، وأن يكونوا إخوانًا؛ فإن جميع البشر أبناء رجل واحد، انتشروا في جميع جهات الأرض، فإذا كلهم إخوان، ومحبة الإخوان واجبة، فويل لأهل الجحود الذين يتطلبون الفخار بسفك الدماء"2. وفي ذلك ما فيه من دعوة إلى التجميع، وتعريض بالطغاة. وأخيرًا نلاحظ أهمية أخرى لهذه الترجمة، وهي أن لغته أسلس وأقرب إلى الجمال من لغة الكتاب الأول، وذلك لتقدم أسلوب رفاعة في الفترة التي بين الكتابين3، ومن هنا يعتبر الكتاب بالإضافة إلى كل ما تقدم، خطوة في سبيل تحسين النثر العربي وتطويره. وأخيرًا هناك ظاهرة جديرة بالتسجيل تتعلق بالأدب في تلك الحقبة، وهي الالتفات من بعض الكتاب إلى موضوع الوطن والوطنية، بالمفهوم الحديث تقريبًا، فقد كان الوطن من قبل ذائبًا في جملة العالم الإسلامي أو دولة الخلافة، وليس له دلالة خاصة، وبالتالي ليس هناك كتابات تدور حوله وتتغنى به. أما الآن ومع كتابات رفاعة الطهطاوي بصفة خاصة، فنحن نجد فكرة الوطن تبرز، والتغني به يبدأ، حتى ليمكن أن يعتبر ما كان من ذلك حجر الأساس

_ 1 المصدر السابق ص66. 2 المصدر السابق ص197. 3 طبع تخليص الإبريز أول مرة سنة 1834، وطبع مواقع الأفلاك أول مرة سنة 1867، فالمدة بينهما تزيد على ثلاثين عامًا.

في الأدب المصري القومي في العصر الحديث1. وهكذا نرى أن رفاعة الطهطاوي يعتبر واضع بذور التجديد في الأدب المصري الحديث، فأدبه يمثل دور الانتقال من النماذج المتحجرة التي تحمل غالبًا عفن العصر التركي إلى النماذج المجددة التي تحمل نسمات العصر الحديث.

_ 1 انظر: في الأدب الحديث لعمر الدسوقي جـ1 ص32.

الفصل الثاني: فترة الوعي

الفصل الثاني: فترة الوعي أبرز عوامل الوعي اشتداد الصلة بالثقافة الحديثة ... الفصل الثاني: فترة الوعي من ولاية إسماعيل إلى الثورة العرابية 1863-1882 أبرز عوامل الوعي: 1- اشتداد الصلة بالثقافة الحديثة: كان إسماعيل مفتونًا بالحضارة الأوروبية، قد شغف بها منذ كان يدرس في باريس ضمن من بعث بهم محمد علي من أبناء الأتراك والشراكسة، فلما ولي أمر مصر سنة 1863م1 أراد أن يهيئ لنفسه جوًّا ملائمًا من الرفاهية الغربية، كما أراد من جهة أخرى، أن يوهم نفسه ويوهم الآخرين بأنه حاكم متحضر، فأكثر من إنشاء القصور، وإقامة الحفلات، والأخذ بمظاهر الترف والبذخ، كما حدث في حفلات افتتاح قناة السويس، كذلك أراد أن يحقق لنفسه ما أمكن من استقلال عن الخلافة في تركيا، فأكثر من الهدايا والرشوات المرسلة إلى الآستانة، لتجنب متاعب الخلافة، وما يحيط بها من مؤامرات، وقد كلفه كل ذلك نفقات ضخمة، وحمله على التورط في ديون كثيرة، مما قوى النفوذ الأجنبي في البلاد. وكان إسماعيل بالتالي، يرى لزامًا عليه أن يترضى الأجانب بشتى الطرق، ويتملق مشاعرهم بمختلف الأساليب، فأخذ يحاول الظهور بالسلوك الأوروبي، ويدعي السعي لجعل مصر قطعة من أوروبا، وكان من مظاهر ذلك، إعادة البعثات للتعليم في أوروبا2، وفتح المدارس التي كانت أغلقت في عهدي عباس وسعيد، وقد استغل رفاعة الطهطاوي وتلميذه علي مبارك هذا التظاهر بالإصلاح عند إسماعيل، فوجهاه إلى خدمة الشعب في ميدان التعليم، فعملا على إعادة مدرسة الألسن، وعلى زيادتها بمدرسة الإدارة التي صارت بعد ذلك مدرسة

_ 1 اقرأ في تاريخ إسماعيل وعصره: عصر إسماعيل لعبد الرحمن الرافعي. 2 اقرأ فيما يتصل بالتعليم في ذلك العصر: تاريخ التعليم في مصر -عصر إسماعيل لأحمد عزت عبد الكريم.

الحقوق، كذلك عملا على افتتاح كثير من المدارس الابتدائية والثانوية، ونتيجة لدعوة رفاعة إلى تعليم المرأة، افتتحت أول مدرسة للبنات، وحين رأى علي مبارك أن الهوة قد اتسعت بين التعليم الجديد الممثل في المدارس، وبين التعليم القديم الممثل في الأزهر، وأن الأزهر بصورته التي كان عليها في تلك الآونة لم يعد صالحًا لإمداد التعليم الحديث بالمدرسين الأكفاء، والمؤلفين الواعين، أنشأ مدرسة عالية تجمع بين القديم الصالح والجديد الحي، ويكون من أغراضها إمداد الدولة بالمدرسين والمؤلفين المتطورين، وهكذا أنشئت دار العلوم، وافتتحت سنة 1871 لتمثل اللقاء المتزن بين الثقافتين القديمة والحديثة، ولتخرج من لا نزال نرى تعاقب أجيالهم، وتتابع آثارهم في ميادين التعليم والتأليف، وفي آفاق اللغة العربية وآدابها، والدراسات الإسلامية1. ولقد ساعد على نشر التعليم الحديث، وعلى طائفة من المثقفين، وإدراكهم أن الجهود الأهلية يجب أن تؤازر الجهود الرسمية؛ فقد تألفت جمعية سميت باسم "اتحاد الشبيبة المصرية" سنة 1879، ودعت إلى إنشاء المدارس لتعليم أبناء الشعب2، وبهذا تعددت المدارس بمختلف المستويات، وخطة الحركة التعليمية خطوات واسعة، وكان لذلك أثره في خلق طبقة كبيرة من المثقفين، كما كان أثره في إنماء الوعي.

_ 1 اقرأ في تاريخ دار العلوم تقويم دار العلوم لمحمد عبد الجواد. 2 انظر تاريخ التعليم في مصر -عصر إسماعيل لأحمد عزت عبد الكريم ص76.

إحياء التراث العربي

2- إحياء التراث العربي: وكان من نتاج هذا الوعي النامي في تلك الفترة، أن أحس كثير من المثقفين بوجوب إبراز عظمة بلادهم، وإشراق تاريخهم، ورقي ثقافتهم، وجلال حضارتهم، وأنهم هم وحضارتهم ليسوا عالة على ما جاء من الغرب، وخاصة إذا كان ما جاء من الغرب ملكًا في حقيقته لأولئك الأجانب الذين يمثلون السيطرة والاستغلال والتعالي، وهكذا أراد هؤلاء المثقفون أن يواجهوا الثقافة

الغربية الوافدة بثقافة عربية أصيلة، ولم يكن من الممكن أن تكون الثقافة التي خلفتها عصور التخلف الأخيرة هي الثقافة التي يمكن أن تسد حاجة هؤلاء المثقفين حينذاك، أو تصلح لمواجهة الثقافة العربية المتحدية، ومن هنا اتجه هؤلاء المثقفون إلى التراث العربي القديم، وإلى انتفاء جمهرة من روائعه لإحيائها ونشرها، للاتكاء عليها في إرضاء الوعي النامي، المتلهف إلى ثقافة عربية جيدة، تقف أمام الثورة الغربية الوافدة، وقد كانت نواة هذه الحركة "جمعية المعارف" التي ألفت سنة 1868 1، وما لبثت أن نمت نموًّا سريعًا وعنيت كثيرًا بإحياء عدد كبير من الكتب التاريخية والأدبية العربية، كما عنيت بنشر طائفة من الدواوين الشعرية، التي أنتجتها العصور العربية الزاهرة في المشرق والأندلس2. وليس من شك في أن جميعة المعارف قد سارت على الدرب الذي بدأه رفاعة، وبعض رفاقه قبل ذلك بسنوات، حين تم على أيديهم إحياء بعض الكتب العربية3 متأثرين بأساتذتهم المستشرقين4. وقد ساعد تلك الجمعية على إحياء ما أحيت من كتب التراث ودواوينه،

_ 1 انظر: تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص80. 2 من الكتب التي نشرتها جمعية المعارف: أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن أثير، وتاج العروس في شرح جواهر القاموس، وتاريخ ابن الوردي، وشرح التنوير على سقط الزند، وديوان ابن خفاجة الأندلسي، وديوان ابن المعتز العباسي، والبيان والتبيين للجاحظ، وشرح الشيخ خالد على البردة، ورسائل بديع الزمان الهمذاني. 3 من الكتب التي نشرت على يد هؤلاء الرواد من قبل: تفسير الفخر الرازي، ومعاهد التنصيص، وخزانة الأدب، ومقدمات الحريري انظر: الخطط التوفيقية جـ13 ص55-56. 4 كان سلفستر دي ساسي من أساتذة رفاعة، وقد نشر كليلة ودمنة ومقامات الحريري، ورحلة عبد اللطيف البغدادي. "انظر: تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص148".

ما كان لديها، من مطبعة يسر لها نشر تلك الكتب، ومكنت القراء من الانتفاع بها على نطاق واسع. ولما لم يكن من الميسور الجميع الناس اقتناء الكتب، فقد اقترح علي مبارك إنشاء دار تجمع فيها الكتب المتناثرة في الأضرحة والمساجد، وما يمكن من المكتبات الخاصة، ليقصدها الناس للقراءة والإفادة مما بها من ذخائر، وهكذا أنشئت سنة 1870 "دار الكتب المصرية"1 التي لعبت هي الأخرى دورًا كبيرًا في نشر الثقافة، وإنما الوعي ولفت أنظار المثقفين إلى ما في تراثهم، وأدبهم من روائع.

_ 1 اقرأ حديث علي مبارك عن دار الكتب في: الخطط التوفيقية جـ3 ص14.

مؤسسات سياسية ومجالات ثقافية

3- مؤسسات سياسية ومجالات ثقافية: وتبعًا لسياسة إسماعيل في الظهور بمظهر الحاكم التقدمي من جانب، ولإرضاء الأجانب من جانب آخر، أمر بإنشاء "مجلس شورى النواب" سنة 1866، كما سمح لبعض الصحف بالظهور، وقد بدأت الصحافة أول الأمر رسمية أو بعيدة عن السياسة مثل "الوقائع المصرية" التي كانت تعتبر الجريدة الرسمية للدولة، ومثل "اليعسوب" التي كانت مجلة طبية شهرية، و"كروضة المدارس" التي كانت مجلة ثقافية أدبية نصف شهرية، والتي كان يشرف عليها رفاعة الطهطاوي، ويفحس المجال فيها لمحاولات التلاميذ الأدبية, كالتلميذ إسماعيل صبري، الذي سوف يصير من كبار شعراء الفترة التالية، ثم بدأت الصحافة تبعد عن الجانب الرسمي وتتصل بالسياسة، وكانت أقدم صحيفة ظهرت على هذا النحو هي "وادي النيل" لعبد الله مسعود، ثم تلتها "نزهة الأفكار" لإبراهيم المويلحي، ومحمد عثمان جلال، ثم "الوطن" لميخائيل عبد السيد، "أبو نضارة" ليعقوب صنوع، هذا بالإضافة إلى ما كان يرد إلى مصر من صحف شرقية "كالجوائب" التي كانت تصدر في الآستانة لأحمد فارس الشدياق، والتي كانت تنشر

بين موادها نماذج من نتاج كتاب مصريين1. وقد شهدت أيام إسماعيل هجرة عدد كبير من مسيحي الشام إلى مصر، وكان ذلك فرارًا من الاضطرابات التي حدثت سنة 1860، وقد جاء هؤلاء ومعهم حقد مرير على الخليفة التركي الذي عانوا من ضغوطه الشيء الكثير، كما كانت نفوسهم تتطلع إلى الحرية التي افتقدوها، وتركوا بلادهم من أجلها، وقد شجعم إسماعيل على ذلك لما فيه من إضعاف لنفوذ الخلافة، التي كانت ما تزال تلقي ظلها على مصر، ثم لما فيه من خدمة غير مباشرة له، وهي تحقيق أطماعه في التفرد بالبلاد ما أمكن. وكان في هؤلاء المهاجرين الشاميين طائفة من الأدباء والصحفيين، أضافوا جهودهم إلى جهود المصريين في إنضاج الوعي، بما كتبوه وأذاعوه، وقد كانت جهودهم الصحفية في المقام الأول في هذا الشأن. ومن الصحف التي أصدرها هؤلاء المهاجرون الشاميون: "الكوكب الشرقي" لسليم الحموي، و"الأهرام" لسليم وبشارة تقلا، و"مصر" و"التجارة" لأديب إسحاق وسليم نقاش، وغيرها2. وقد كان هؤلاء المهاجرون الشاميون يأخذون غالبًا طريقًا آخر غير طريق إخوانهم المصريين، وإن كان الطريقان يبدوان طريقًا واحدًا في الظاهر؛ فعلى حين كان المصريون يهتمون بما هو عربي إسلامي، ويؤمنون بأن في تراثهم أمجادًا يجب بعثها، والاتكاء عليها في تلك المرحلة من تاريخهم، كان المهاجرون الشاميون غالبًا لا يميلون إلى هذا التراث العربي القديم، لاتصاله بالإسلام الذي يمثله الخليفة عدوهم الأول، وهكذا سنراهم يشاركون المصريين في دعواتهم إلى التحرر، والخلاص من كل ضغط وعسف، ولكنا سنراهم في

_ 1 انظر: تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص55، واقرأ في الصحافة المصرية: تطور الصحافة المصرية للدكتور إبراهيم عبده. 2 انظر: تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص56-57، واقرأ بتوسع في: تطور الصحافة المصرية للدكتور إبراهيم عبده.

الوقت نفسه لا يضيقون بالأوربيين ضيق المصريين، كما نراهم لا يهتمون بما هو عربي اهتمام المصريين، بل نراهم يحاولون إحلال فكرة الوطن محل فكرة الخلافة، والاستعاضة بالدعوة إلى التحرر من الخليفة عن الدعوة إلى التحرر من الاستعمار، وليس من شك أنه قد كان وراء كل ذلك خصومتهم العنيفة للخليفة، وكراهيتهم لكل ما يرتبط بالخلافة، ولو من بعيد1. ومهما يكن من أمر، فقد أسهموا بمجهود مشور في إنضاج الوعي، وتطوير الصحافة، وإدخال بعض الفنون إلى مصر، كما كان لما استلزمته صحفهم وصحف إخوانهم المصريين من مطابع، أثر كبير في نشر الثقافة بصفة عامة. وفي هذه الفترة كان قد جاء إلى مصر جمال الدين الأفغاني بآرائه الإصلاحية ودعوته التحررية، ورأى فيه المصريون، وإخوانهم الشاميون قوة تعين على ما يرجوه الجميع، فالمصريون رأوا فيه الزعيم المسلم الداعي إلى الإصلاح الديني والاجتماعي فتحسموا له وتأثروا به، والشاميون رأوا فيه الزعيم السياسي المنادي بالحرية، ومقاومة الطغيان فالتفوا حوله، وأفسحوا في صحفهم له. وهكذا كانت حركة فكرية أدبية نشطة كان لها أثرها المحمود في اللغة والأدب، كما سنرى ذلك في حينه إن شاء الله، ولعل مما يرتبط بما كان من منضجات للوعي، تلك الجمعيات الثقافية المتعددة التي كانت مجالًا لتبادل الآراء، ونشر الأفكار، وبث الوعي، واتساع رقعة الثقافة على وجه العموم، هذا بالإضافة إلى ما كان لها من أثر في إتاحة الفرصة للألسنة لتمرن على الخطابة، وتجيد القول وتطوع اللغة، ومن أشهر تلك الجمعيات "الجمعية الخيرية الإسلامية" التي أنشئت بالإسكندرية أولًا سنة 1878، وكان من عمدها عبد الله النديم، خطيب الثورة العرابية2.

_ 1 تطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن البدر ص28-29. 2 تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص78، وما بعدها.

الثورة الأولى

4- الثورة الأولى: وكانت السنوات الأولى من عهد إسماعيل سنوات هدوء نسبي، قد أفاد منه الرواد المصريون، في تثقيف الشعب قدر الطاقة، وإنضاج وعيه ما أمكن، وقد كان مما ساعد على هذا الهدوء النسبي، ارتفاع أسعار القطن المصري نظرًا للإقبال عليه في الأسواق العالمية، بسبب الحرب الأهلية في أمريكا1، وكان إسماعيل في تلك السنوات يمثل الحاكم المستبد، ويساعده على استبداده انشغال الناس عنه، بين رواد فكر ينشرون العلم، وييسرون الثقافة، وينفضون الغبار عن التراث، وبين ملاك جدد يحاولون أن يربحوا لأنفسهم بعض ما يعوض خسائر الماضي. إلا أن المسألة ما لبثت أن تأزمت في الفترة الأخيرة من عهد إسماعيل، فقد كسدت الأسواق، وكثر الدائنون، وازداد النفوذ الأجنبي، وانكشف الغطاء عن الاستغلال، والفساد والتبديد، والاستهتار بمقدرات البلاد، وكانت القوى الشعبية قد بدأت تستعيد وجودها من أيام سعيد، حين عاد الفلاحون يملكون الأرض، وحين أبيح للمصريين أن يصلوا في الجيش إلى مراتب الضباط2. وكانت مدرسة الحقوق قد نبهت كثيرين إلى الحقوق والقوانين، كما كانت هي ودار العلوم، والجمعيات الثقافية قد شحذت الألسنة وأنضجت الأقلام، كذلك كان "مجلس شورى النواب"، وغيره من قاعات القول المختلفة، قد أتاح للأصوات أن ترتفع، كما سمحت الصحافة للأقلام أن تجول وتصول. ومن هذا كله كانت حركة وعي متأجج أخذ مظهرين، أحدهما فكري انعكس على اللغة والأدب، والآخر سياسي أدى إلى ثورة عسكرية شعبية في عهد توفيق، تلك الثورة التي تعتبر الأولى في تاريخنا الحديث، والتي قادها

_ 1 تاريخ مصر من الفتح العثماني لسليم حسن، وعمر الإسكنداري ص244-245. 2 المصدر السابق ص214.

الزعيم المصري العظيم أحمد عرابي1. ومعروف أن تلك الثورة قد تآمرت عليها خيانات شتى، وانتهت بها إلى الفشل ونفي عرابي وأصحابه، لكن من المؤكد أن هزيمة الثورة العرابية لم تهزم الوعي القومي في مظهريه الفكري والسياسي، فقد ظل هذا الوعي حيًّا ناميًا متطورًا حتى أوصل إلى ثورة 23 يوليو، ومهد لانتصاراتها الفكرية والسياسية جميعًا.

_ 1 اقرأ عن هذه الثورة المجيدة، الثورة العرابية لعبد الرحمن الرافعي.

الأدب وحركة الإحياء

الأدب وحركة الإحياء أولا: الشعر الاتجاه التقليدي وبعض لمحات التجديد ... الأدب وحركة الإحياء: ليس من شك في أن العوامل المختلفة التي نمت الوعي وأنضجته، كانت ذات آثار واضحة في أدب تلك الفترة، كما كان للوعي نفسه أعظم الأثر في خروج الأدب من طور إلى طور، وانتقاله إلى مرحلة جديدة ذات سمات واضحة، فالوسائل السالفة الذكر، قد طوعت اللغة وقومتها إلى حد كبير، ففتحت لها ميادين كانت مغلقة أو مجهولة من قبل، وغذتها بموضوعات وأفكار وقضايا، ووهبتها حياة ومرونة، ومنحتها قابلية للتعبير عن كثير من النواحي الفكرية والوجدانية، كما أن الوعي نفسه قد نفر الواعين من المستوى الذي كان قد وصل إليه الأدب في العصر التركي، وامتد ظله الكئيب إلى الفترة التي تلته، كذلك حمل الواعي على البحث عن التراث، ونفض الغبار عن روائعه، وكان لإحياء التراث على هذا النحو، أثر كبير في إخراج الأدب من عصور الظلمات إلى عصور النور، وسوف يتضح ذلك بتفصيل القول في كل نوع أدبي على حدة. أولًا: الشعر: 1- الاتجاه التقليدي، وبعض لمحات التجديد: لم يكن من الممكن أن يتخلى كل الشعراء عن الطريقة التقليدية، التي غلبت في الفترة السابقة، فقد وجد في هذه الفترة كثير من الشعراء، ممن عاشوا على تراث الفترة السابقة، وتتلمذوا على بقايا العصر التركي، لهذا نجد طائفة منهم لم يؤثر وعي الفترة كثيرًا عليهم، ولم يخرجهم تمامًا عن تقليديتهم فظلوا ينظمون الشعر على تلك الطريقة التقليدية، السائرة في اتجاه الضحالة، والتستر بالمحسنات والألاعيب كثيرًا، والآخذة بشيء من روح الشعر قليلًا.. وقد كان أكثر هؤلاء يتخذون الشعر وسيلة لكسب العيش، ومن

هنا التصقوا بالولاة والحكم والرؤساء، مداحين ومجاملين، فكثر في شعرهم المدح الفاتر، وتسجيل المناسبات التافهة، التي تصل إلى التهنئة بمولود أو ختان غلام، ولم يحققوا تطويرًا يذكر في ميدان الشعر، وهكذا جاء شعرهم مترددًا بين جانبي التقليدية. اللذين شهدتهما الفترة السابقة، ممثلين في الشيخ الدرويش والشيخ العطار، أي أن هؤلاء التقليديين من شعراء فترة الوعي، لم يكونوا واقفين شعرهم على المحسنات، والألاعيب الساترة للتهافت، كما لم يكونوا صارفين له إلى محاكاة القديم الجيد، بل كان شعرهم مزيجًا من هذا وذاك على تفاوات في الدرجة بين شاعر وآخر، بل على تفاوات في الدرجة بين قصيدة وأخرى من قصائد الشاعر الواحد. ومن هذه الطائفة من الشعراء التقليديين الخالصين، الشيخ علي أبو النصر1، والشيخ علي الليثي2. فالشيخ علي أبو النصر مثلًا. ينظم أبياتًا على شكل لغز حول حرف التعريف "أل"، فيقول في بعد تام عن الشعر وحقيقته: إذا كنت في الآداب سيد من درى ... وفي محكم الألغاز أحسن من يدري فما كلمة فيها كلام وإنها ... لفي غاية الإشكال يا غرة الدهر هي الحرف من حرفين واسم بمدة ... كذا الفعل منها لا يغيب عن الفكر وفي قلبها في الأصل بعض فوائد ... ولكنه لا زال في حيز الهجر وغايتها بدء لها عند ذي النهى ... وجملتها تأتيك في النظم والنثر3 وهو كذلك يتحدث عن مجلس النواب وأعضائه، فلا يشغل نفسه إلا بالتاريخ لدورة من دورات انعقاده، وهو يغالي في إظهار مهارته في هذا التاريخ، فيجعل الشطرة الأولى من كل بيت ترمز بحروفها إلى التاريخ الإفرنجي، وهو سنة 1879، والشطرة الثانية من كل بيت ترمز إلى التاريخ

_ 1 اقرأ عن هذا الشاعر في: مقدمة ديوانه، ترجمة بقلم أحمد خيري، وفي لويس شيخو جـ2 ص13-16. 2 اقرأ عنه في: تاريخ الآداب العربية للويس شيخو جـ2 ص98-99. وفي: تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص219-220، وفي شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد ص99-110. 3 انظر: ديوان الشيخ علي أبو النصر ص90-91.

العربي، وهو سنة 1296، وفي ذلك يقول في ركاكة، وتهافت لا تغني عنهما حلية التأريخ: أعد لي ذكر من وعت الإمارة ... لأجمعهم، وما احتاجت أمارة منار الفضل إن دعت الدواعي ... سراة الملك أركان الإدارة لهم في كل ناشئة ثبات ... وتدبير به ازدهت الوزارة هم البصراء حيث تكون شورى ... لأنواع لهم فيها استشارة1 وهو أيضًا يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، فيثقل القصيدة بألوان من الجناس توشك أن تقحم هذه الحلية البديعية بين كل كلمتين، وهذا في تكلف وتعسف يتنافى مع روح الشعر، وفي ذلك يقول: حادى العيس نحو سربى سربى ... عل يوما ينال فيه العلاء واحدها وحدها ودعني ووجدي ... إذ لأشجانها يهبج الحداء وتمسك بطيب طيبة وانزل ... بحمىً تحتمي به الأنبياء يا حياة النفوس حبك حسبي ... ولدائي العضال نعم الدواء أولني ما به تلافي تلافي ... أنا ممن له إليك التجاء إنّ في الظن أن يقيني يقيني ... من لظى، حيث في غد بي يجاء2 ثم هو بعد ذلك يقول بعض النماذج القليلة التي لا تعتمد على الألغاز، ولا التأريخ ولا المحسنات مع اشتمالها على روح الشعر، ومن هذه النماذج القليلة قوله يصف كأسًا أهديت إليه: أهدى الحبيب لمن أحب ... قدحًا تحلى بالذهب لو أفرغت فيه الطلا ... لأطل ينظره الحبب قد راق منظر حسنه ... ودعا له داعي الطرب لما نظرت لشكله ... في رسم تيجان العرب قبلته وقبلته ... ووعدته بنت العنب3

_ 1 انظر: المصدر السابق ص109. 2 انظر: المصدر السابق ص8-9. 3 المصدر نفسه ص20.

ويمكن أن نرى شبيهًا بكل ذلك، في شعر الشيخ علي الليثي، ومن سار في نفس الطريق من الشعراء التقليديين الخالصين. على أن بعض التجديد قد ظهر كومضات مضيئة خلال أشعار بعض التقليديين، فجاء شعرهم -في جملته- تقليديًّا كسابقيهم، غير أنه امتاز عن شعر أولئك الشيوخ، بأنه لم يكن تقليديا خالصًا، وهذه الطائفة الثانية كانت تتألف من نفر ممن أتيح له قدر من الثقافة الجديدة، أو أتيح لهم حظ من الاتصال بحياة أكثر رحابة وأعظم انفساحًا، ويأتي في طليعة هؤلاء صالح مجدي، الذي عرفناه في أواخر الفترة السابقة يجاري أستاذه رفاعة في نظم القصائد الوطنية، وأولى محاولات الأناشيد الحماسية1؛ فنحن نراه في هذه الفترة -فترة الوعي- يلتفت إلى بعض الموضوعات السياسية والاجتماعية، فيقول فيها شعرًا ناقدًا، يدل على وعي وصدق حس، ومن ذلك حديثه عن تغلغل الأجانب في البلاد واستئثارهم بعديد من مناصبها، واستنزافهم لكثير من مواردها، الأمر الذي تفاقم على عهد إسماعيل، وكان صالح مجدي في مثل هذا الشعر، يعبر عن روح كل مصري وثورته، حيث يقول: إذ ما زماني بالقنا والقواضب ... علي سطا في مصر سطوة غاضب حملت على إبطاله ببسالة ... وبددتهم في شرقها والمغارب ولي معه منذ الفطام وقائع ... بأيسرها تبيض سود الذوائب ومن عجب في السلم أني بموطني ... أكون أسيرًا في وثاق الأجانب وأن زعيم القوم يحسب أنني ... إذا أمكنتني فرصة لم أحارب وأني أغضي عن مساو عديدة ... له بعضها يقضي بخلع المناكب وهل يجعل الأعمى رئيسًا وناظرًا ... على كل حربي لنا في المكاتب ومن أرضه يأتي بكل ملوث ... جهول بتلقين الدروس لطالب ويغتنم الأموال لا المنافع ... تعود على أبنائنا والأقارب

_ 1 راجع ما كتب عن ذلك في الفص السابق، "مبحث 1- الشعر".

ولا ينثني عن مصر في أي حالة ... إلى أهله إلا بملء الحقائب فبينوا عن الأوطان فهي غنية ... بأبنائها عن كل لاه ولاعب1 بل إننا نرى صالح مجدي في بعض قصائده يهاجم إسماعيل هجومًا عنيفًا، ويذكر استهتاره، وتبديده لأموال الدولة على فجوره ولذائذه الرخيصة، ثم يدعو الشاعر المصريين إلى التنبه واليقظة، بل يحثهم على الثورة، وفي ذلك يقول: رمى بلادكم في قعر هاوية ... من الديون على مرغوب جوسيار وأنفق المال لا بخلا ولا كرمًا ... على بغي وقواد وأشرار والمرء يقنع في الدنيا بواحدة ... من النساء ولم يقنع بمليار ويكتفي ببناء واحد وله ... تسعون قصرًا بأخشاب وأحجار فاستيقظوا لا أقال الله عثرتكم ... من غفلة ألبستكم ملبس العار2 كذلك نرى صالح مجدي كأستاذه رفاعة، يتناول بالوصف بعض المخترعات الحديثة التي عرفتها تلك الفترة، ومن ذلك قصيدة في الباخرة، التي سماها "الوابور"3، وأغلب الظن أن افتتاح قناة السويس، وما سار بها من بواخر، كان من أسباب الالتفات إلى مثل هذا الموضوع من مثل هذا الشاعر المستنير ذي الومضات التجديدية. ويمكن أن يعد كذلك محمود صفوت الساعاتي4، من هؤلاء الشعراء المستنيرين ذوي التقليدية غير الخالصة؛ وذلك أنه بالإضافة إلى شعره الكثير الذي يتحرك في نطاق التقليدية بجانبيها، من ضحل يستخدم كثيرًا من ألوان

_ 1 انظر: ديوان صالح مجدي ص22-24. 2 المصدر السابق ص180. 3 اقرأ قصيدة "الوابور" في ديوان صالح مجدي، وقارنها بقصيدة مشابهة لرفاعة في: مناهج الألباب المصرية. 4 اقرأ عنه في: الآداب العربية للويس شيخو جـ2 ص17-18، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص217، وأعلام من الشرق والغرب لمحمد عبد الغني حسن ص40.

البديع والألاعيب، إلى جزل يحوي كثيرًا من روح الشعر -نقول: إنه بالإضافة إلى هذا الشعر، التقليدي بجانبيه، له بعض النماذج ذات الومضات، الفنية الذكية، ولعل أهم هذه الومضات، روح الدعابة والفكاهة المصرية، التي تصل أحيانًا إلى ما يشبه الرسم "الكاريكاتوري"، وببعض النماذج التي قدمها صفوت الساعاتي من هذا الشعر، يمكن أن يعد مؤسسا للشعر الفكاهي في الأدب الحديث، ومن تلك النماذج قصيدته التي يداعب فيها بعض الشيوخ النحاة، الذين كانوا في نظره يعيشون على مضغ المصطلحات، ولوكها دون جدوى. وفي القصيدة يعرض الشاعر باستخدام مصطلحات النحاة، ويقدم بعض التراكيب والصور الضاحكة، التي ترد هنا على مسئولية صاحبها، وناقل الكفر ليس بكافر.. يقول الساعاتي: إذا ارتفعت بالنحو أعلام علمنا ... جعلنا جواب الشرط حذف العمائم ليعلم من بالنصب يرفع نفسه ... بأن حروف الخفض غير الجوازم ويعلم من أعياه تصريف اسمه ... بأنا صرفناه كصرف الدراهم نصبنا على حال من العلم والعلا ... وكنا على التمييز أهل المكارم لأنا رأينا كل ثور معمم ... يكلف قرنيه بنطح النعائم يجر من الإدلال فضل كسائه ... كأن الكسائي عهده عنده غير عالم إذا نظر الكراس حرك رأسه ... وصاح: أزيد قام أم غير قائم؟ وقال: المنادي اسم شرط مضارع ... وظرف زمان، نحو جاء ابن آدم وجمعك للتكسير اسم إشارة ... كقولك: نام الشيخ فوق السلالم1

_ 1 انظر: ديوان الساعاتي ص173-174.

ظهور الاتجاه المحافظ البياني

2- ظهور الاتجاه المحافظ البياني: وفي الوقت الذي كانت فيه هذه الطائفة من الشعراء ترتبط بالاتجاه التقليدي على اختلاف بينهم في نسبة هذا الارتباط، ومع اتضاح لبعض ملامح التجديد عند البعض، مما جعل التقليدية خالصة عند أمثال الشيخ علي أبي النصر، والشيخ علي الليثي، وغير خالصة عند أمثال صالح مجدي، وصفوت الساعاتي، نقول: في هذا الوقت كانت طائفة أخرى من الشعراء، قد نما وعيها أكثر، وصارت نفرتها من الاتجاه التقليدي أشد، ورأت هذه الطائفة أن المثل الشعري، ليس ما خلفته عصور التخلف، وأن التشبث بالألاعيب اللغوية والمحسنات البديعية، يجعل حقيقة الشعر تفلت من قبضة الشاعر. وقد كانت هذه الطائفة الثانية تجمع -غالبًا- بين شيئين، لم يتهيأ للطائفة الأولى، وأول هذين الشيئين هو عدم إلحاح الحاجة عليها للتكسب بالشعر، تلك الآفاة التي من شأنها أن تشد الشاعر إلى حاكم أو غنى، وتجعله يقول: لا ما يرضي الشاعر نفسه، بل ما يرضي الحاكم أو ولي النعمة. ومن هنا يكون الإكثار من شعر المدح الملق، والمناسابت التافهة، وما إلى ذلك مما لا يمس شعور الشاعر، أو يصدر عن إحساسه الصادق، أما الشيء الثاني الذي كان -غالبًا- يجمع بين هذه الطائفة الثانية من الشعراء؛ فهو البعد شبه الكامل عن الثقافة التقليدية، والقرب الشديد من الثقافة الحديثة، هذا بالإضافة إلى الاتصال القوي بألوان من الحياة الحضرية. هذان العاملان، بالإضافة إلى عامل تقدم الوعي والنفرة من الأنماط التقليدية؛ جعل هذه الطائفة من الشعراء تبحث عن مثل للشعر غير المثل المتخلف، الذي غلب على نتاج التقليديين، ولم يكن من المستطاع أن يكون المثل الأعلى هو الشعر الأوروبي، وذلك؛ لأنه لم يكن قد ترجم منه إلى العربية حتى ذاك الوقت ما يمكن أن يلفت النظر، هذا بالإضافة إلى ما كان من توجس -في تلك الفترة- من هذه الوافدات الأجنبية، التي ترتبط بهؤلاء الأجانب الممثلين للعدوان في كثير من مظاهر الحياة المصرية. وهكذا لم يكن أمام تلك الطائفة من الشعراء الواعين الموفورين ذوي الثقافة والحياة العصرية، إلا الشعر العرب القديم، في صورته البيانية الجديدة، التي خلفتها عصور الازدهار في المشرق والأندلس.. وكان ذلك متفقًا تمامًا مع روح الفترة، تلك الروح الواعية، الباحثة عن أمجاد الماضي العربي المشرق، لتتكئ عليها الأمة في كفاحها، ولتجمع بها شملها، وتقوى من

عزيمتها، وتواجه بذلك كله مزاعم من ينكرون أصالتها وقوتها، ويريدون أن يسلبوا كل مقدراتها، وقد تجلت هذه الروح بشكل آخر في حركة إحياء التراث، التي قامت بها جمعية كجمعية المعارف1. هذا، وقد كان في طليعة هذه الطائفة من الشعراء: البارودي2 وإسماعيل

_ 1 راجع ما كتب عن ذلك في المقال رقم 2 من هذا الفصل. 2 ولد بمصر سنة 1838، وكان أبوه من أمراء المدفعية في عهد محمد علي، ثم كان مديرًا لبربر ودنقله في السودان، وقد توفي الوالد ومحمود في الثانية عشرة من عمره، ولكن أهله قاموا بعد أبيه بواجب تربيته، فألحق بالمدرسة الحربية، وحين تخرج لم يجد عملًا عسكريًّا؛ لأن البلاد كانت تجتاز محنة عباس وسعيد اللذين رجعا بالبلاد إلى الخلف، وقد انتهز محمود الفرصة فأكب على قراءة الأدب والشعر، ثم سافر إلى الآستانة وعمل بها في وزارة الخارجية، وحين زار إسماعيل تركيا سنة 1863 اختار البارودي في حاشيته، فعاد معه إلى مصر، ثم عين في سلاح الفرسان، وسافر إلى فرنسا مع بعض الضباط ليشاهدوا استعراض الجيش الفرنسي السنوي، وانتهز الفرصة فسافر إلى إنجلترا، وحين شبت ثورة ضد تركيا في جزيرة كريت سنة 1866، رأى إسماعيل أن يساعد تركيا بفرقة مصرية، وسافر البارودي ضمن ضباط هذه الفرقة، وحين أعلنت روسيا الحرب على تركيا سنة 1877، أمدت مصر دولة الخلافة بعون عسكري، كان البارودي ضمن قواده، وحين رجع إلى مصر عين مديرًا للشرقية، ثم محافظة للعاصمة، وفي عهد توفيق عين البارودي وزيرًا للأوقاف، ثم وزيرًا للحربية، ولكن البارودي ما لبث أن استقال، ثم عاد وزيرًا، بل أسندت إليه رئاسة الوزراء. وحين شبت ثورة عرابي، انضم إليها، ولما أخفقت نتيجة للخيانات من خصومها وللغدر من الخديو والإنجليز؛ قدم إلى المحاكمة، ثم نفي إلى سرنديب، وظل بها سبعة عشر عاما وبضعة أشهر، وأخيرًا صدر العفو عنه سنة 1900، فرجع إلى مصر، وتوفي سنة 1904، وقد خلف ديوانًا طبعته من بعده أرملته. كما خلف مختارات من الشعر العربي لثلاثين شاعرًا، وقد طبعتها كذلك أرملته بعد وفاته. اقرأ عنه: مقدمة ديوانه طبعة دار الكتاب، بقلم الدكتور محمد حسين هيكل، وشعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي للعقاد، وفي الأدب الحديث لعمر الدسوقي، والبارودي لعمر الدسوقي، والأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف، ومهرجان البارودي، وهو مجموع الأبحاث والدراسات التي ألقيت في المهرجان الذي أقامه مجلس رعاية الفنون والآداب.

صبري1، وعائشة التيمورية2، وإن كان البارودي أوضح الجميع أخذًا بهذا الاتجاه الجديد؛ فهو أقواهم شاعرية، وأعلاهم قامة، وأغزرهم نتاجًا، وأبعدهم عن التقليدية التي غلبت على كثير من شعراء تلك الفترة، ومن هنا يعتبر البارودي -بجدارة- رائد هذا الاتجاه الذي اتجه بأسلوب الشعر، إلى الأسلوب القديم المشرق الحي، البعيد عن التهافت والتستر بالمحسنات، فهو مؤسس الاتجاه المحافظ البياني في الشعر الحديث، وليس المراد بالمحافظة أي لون من التقليدية أو المحاكاة بمعناها الرديء، الذي تلغى معه الشخصية أو تغلق العيون، والمشاعر عما يحيط بالشاعر ويمس نفسه، وإنما المراد بالمحافظة اتخاذ النمط العربي المشرق مثلًا أعلى في الأسلوب الشعري، وهذا النمط تمثله تلك النماذج الرائعة من الشعر، التي خلفها قمم الشعراء في عصور الازدهار

_ 1 ولد بالقاهرة سنة 1854 لإحدى الأسر المتوسطة، وتعلم بمدرسة المبتديان، ثم بمدرسة الإدارة ثم أرسل في بعثة إلى فرنسا حيث نال ليسانس الحقوق من كلية إكس سنة 1878، وتنقل بعد عودته في مناصب القضاء، ثم عين محافظاً للإسكندرية، ثم رقي وكيلًا لوزارة العدل بعد ثلاث سنوات، وظل بهذا المنصب حتى أحيل إلى المعاش سنة 1907، وكان منذ حداثته مولعًا بالأدب والشعر، فلما أتيحت له فرصة الفراغ من المناصب الرسمية خلص لشعره، وفنه حتى توفي سنة 1923، وقد خلف ديوانًا. اقرأ عنه: شعراء مصر، وبيئاتهم للعقاد، وفي الأدب الحديث لعمر الدسوقي، والأدب المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف. 2 ولدت بالقاهرة سنة 1840 في بيت الأسرة التيمورية، ووالدها إسماعيل تيمور باشا، كان يرأس القلم الأوروبي في ديوان الخديوي، ثم كان رئيسًا للديوان الخديوي كله، وتلقت مختلف العلوم العربية في بيت الأسرة على كبار الأساتذة، كما تعلمت الفارسية والتركية، وقد اتجهت إلى الأدب والشعر في سن مبكرة، ولكن الحياة الزوجية ومسئولية الأمومة عوقتها حينًا، ثم ما لبثت أن انصرفت إلى هوايتها بعد وفاة زوجها، واضطلاع ابنتها بشئون البيت، وقد ظلت تكتب الشعر بالعربية والفارسية، حتى توفيت سنة 1902، وقد خلفت ديوانًا في كل من اللغتين. اقرأ: الترجمة التي كتبها لها حفيدها أحمد كمال زاده في صدر ديوانها، واقرأ عنها الأبحاث التي كتبتها الدكتورة بنت الشاطئ، والدكتورة سهير القلماوي والقصاص محمود تيمور ابن أخيها.

في المشرق والأندلس، من أمثال أبي تمام والبحتري، والمتنبي من المشارقة، وابن زيدون وابن خفاجة من الأندلسيين، والمراد بالبيانية، إبراز الجانب البياني في الشعر بشكل واضح، والاعتماد عليه أساسًا كعنصر من أهم عناصر الجمال فيه؛ حتى ليقدم الجانب البياني على الجوانب المتعددة الأخرى، التي يمكن أن يتألف منها نسيج الشعر، كالجانب الذهني1، والجانب العاطفي2، وما إليهما. وقد كان هذا الأسلوب المحافظ البياني بعد ذلك وسيلة تعبير عن حياة الشاعر الخاصة وأحاسيسه الذاتية، ثم عن قضايا بلده ومشكلاته القومية، وأخيرًا كان وسيلة لتسجيل بعض أحداث العصر، الخارجة عن نطاق الذات والوطن. وهكذا لم يكن استخدام الأسلوب المحافظ البياني، حاملًا للشعراء من أصحاب هذا الاتجاه على حصر أنفسهم في أغراضهم الأقدمين أصحاب هذا الأسلوب في الأصل، وإنما كان أسلوبًا حيًّا مشرقًا، قد اختير للتعبير عن أغراض تشبه أغراض الأقدمين حينًا، وتختلف عنها في كثير من الأحايين، على أن الشاعر من أصحاب هذا الاتجاه كان يتخذ من العالم العربي القديم عالمًا مثاليًا، يخفق له قلبه، ويهيم به خياله، ويشد إليه وجدانه؛ لأنه عالم الآباء الأماجد والتاريخ العريق، والدولة العربية الإسلامية الغالية، ومن هنا كان يستمد الشاعر كثيرًا من صوره من هذا العالم، بل يجمع بعض الألوان والخطوط من الصحراء، فيرسم خيامها وكثبانها وبانها، ويتغنى بهند وأسماء وسعاد والرباب، ويبكي الرسوم والأطلال، ويذكر أماكن تعود ذكرها الشاعر القديم كالعقيق ونجد، ويشبه الحبيبة بنفس طريقة ذاك الشاعر القديم، فيجعل قوامها غصنًا، وإشراقها بدرًا ونفرتها ظبيًّا، ويتخذ

_ 1 هذا الجانب يغلب على نسيج الشعر الذي يمثله شكري، والمازني والعقاد، وهو الاتجاه الذي يسمى "بمدرسة الديوان". 2 هذا الجانب يغلب على نسيج الشعر الذي يمثله أبو شادي، وعلي طه وناجي والهمشري، وهو الاتجاه الذي يسمى باسم "مدرسة أبوللو".

الشاعر من أصحاب الاتجاه المحافظ ذلك كله، رمزًا إلى صور جديدة وتعبيرًا عن معان حديثة، وهو في ذلك صادق غالبًا، إذا استثنينا ما يكون من رياضة القول في أول عهود التأدب، نعم هو صادق مع نفسه، ومع فنه ومع طبيعة عصره. ذلك العصر الذي عرفنا أنه كان مشدود الوجدان إلى الماضي العربي العظيم، وإلى تراثه الجيد المشرق1. ومهما يكن من أمر، فقد استطاع هذا الأسلوب أن يعبر -في تلك الفترة- عن الشاعر وحياته وتجاربه، وعن وطن الشاعر ومشكلاته وقضاياه، بل استطاع أن يسجل بعض الأحداث الكبيرة التي وقعت خارج الشاعر وبعيدًا عن وطنه، وقد أدى هذا الاتجاه الشعري كل ذلك بتوفيق، وصل أحيانًا إلى حد الروعة، ونقل الشعر العربي الحديث معه إلى النور والحياة2. فالبارودي مثلًا يعبر عن تجربة البعد عن الوطن، والحنين إلى الأهل والأحباب، أيام كان بعيدًا عن مصر ليشارك في حرب البلقان، فيقول: هو البين حتى لا سلام ولا رد ... ولا نظرة يقضي بها حقه الوجد ولكن إخوانا بمصر ورفقة ... نسوا عهدنا حتى كأن لم يكن عهد أحن لهم شوقًا على أن دوننا ... مهامه تعيا دون أقربها الربد أفي الحق أنا ذاكرون لعهدكم ... وأنتم علينا ليس يعطفكم ود فلا تحسبوني غافلًا عن ودادكم ... رويدًا فما في مهجتي حجر صلد هو الحب لا يثنيه نأي وربما ... تأرج من مسر الضرام له النّد3 وهو يصور حال مصر قبل الثورة العرابية، وما ضاقت به من تأزم

_ 1 راجع ما كتب عن روح هذه الفترة في المقالات التمهيدية من هذا الفصل، وخاصة المقال رقم 2 - إحياء التراث العربي. 2 اقرأ شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد، في حديثه عن البارودي، واقرأ مقدمة ديوان البارودي بقلم الدكتور محمد حسين هيكل. 3 ديوان البارودي جـ1 ص161، وما بعدها.

وفساد أرق المواطنين، وفزعهم، ويتوقع الفرج وانكشاف الغمة، لكن بحد السيف، فيقول: تنكرت مصر بعد العرف واضطربت ... قواعد الملك حتى ريع طائره فأهمل الأرض جرًا الظلم حارثها ... واسترجع المال خوف العدم تاجره واستحكم الهول حتى ما يبيت فتى ... في جوشن الليل إلا وهو ساهره يا نفس لا تجزعي فالخير منتظر ... وصاحب الصبر لا تبلى مرائره لعل بلجة نور يستضاء بها ... بعد الظلام الذي عمت دياجره إني أرى أنفسًا بما حملت ... وسوف يشهر حد السيف شاهره1 بل إنه يحرض فعلا على الثورة والحرب، وانتهاز الفرصة لحصد رءوس الحكم الدخلاء الظالمين، فيقول: فيا قوم هبوا إنما لعمر فرصة ... وفي الدهر طرق جمة ومنافع أصبرًا على مس الهوان وأنتم ... عديد الحصى؟ إني إلى الله راجع وكيف ترون الذل دار إقامة ... وذلك فضل الله في الأرض واسع أرى أرؤساً قد أينعت لحصادها ... فأين ولا أين السيوف القواطع فكونوا حصيدًا خامدين أو افزعوا ... إلى الحرب حتى يدفع الضيم دافع أهبت فعاد الصوت لم يقض حاجة ... إلي، ولباني الصدى وهو طائع فلم أدر أن الله صور قبلكم ... تماثيل لم تخلف لهن مسامع فلا تدعوا هذي القلوب فإنها ... قوارير محني عليها الأضالع2 وهو بعد ذلك يتجاوز تجاربه النفسية الذاتية، وقضايا وطنه القومية، ليحدثنا عن تلك الأرض النائية ببلاد البلقان، وما جرى عليها من حرب بين الروس والأتراك، فيقول: وأصبحت في أرض يحار بها القطا ... وترهبها الجنان وهي سوارح بعيدة أقطار الدياميم لو عدا ... سليك بها شأوًا قضى وهو رازح

_ 1 المصدر نفسه جـ2 ص128. 2 المصدر نفسه جـ2 ص211، وما بعدها.

تصيح بها الأصداء في غسق الدجى ... صياح الثكالى هيجتها النوائح تردت بسمور الغمام جبالها ... وماجت بتيار السيول الأباطح فأنجادها للكاسرات معاقل ... وأغوارها للعاسلات مسارح مهالك ينسي المرء فيها خليله ... ويندر عن سوم العلا من ينافح فلا جو إلا سمهري وقاضب ... ولا أرض إلا شمري وسابح ترانا بها كالأسد نرصد غارة ... يطير بها فتق من الصبح لامح مدافعنا نصب العدا ومشاتنا ... قيام تايها الصافنات القوارح ثلاثة أصناف تقيهن ساقة ... حيال العدا إن صاح بالشر صائح فلست ترى إلا كماة بواسلا ... وجردًا تخوض الموت وهي ضوابح1 وبمثل تلك النماذج، عبر الاتجاه المحافظ البياني في توفيق واضح، عن أغراض أرحب من تلك الأغراض التي عبر عنها الشعراء الأقدمون، وانفسح لتسجيل نبضات الشاعر الحديث، وقضايا وطنه وكبريات أحداث عصره. ولم يستلزم هذا الأسلوب المحافظ البياني، حصر الشاعر في نطاق الأغراض التي كان يعبر عنها هذا الأسلوب في العصور القديمة، بل إن التزام منهج القصيدة العربية، واستخدام بعض الصور القديمة، والألوان البدوية الصحراوية نفسها، وما فيها من أماكن ونباتات وحيوانات -كالعقيق ونجد، وكالخزامى والبهار، وكالرئم والمها- لم تحل بين هذا الأسلوب، ونقل كل ما أراد الشاعر المحافظ أن يعبر عنه من تجاربه الذاتية، أو قضايا وطنه القومية، أو الأحداث الإنسانية الخارجة عن ذات الشاعر وقضايا وطنه، وهذا إذا أخذنا هذه الصور والألوان العربية القديمة على أنها رموز للتعبير عن معالم نفسية ومادية جديدة، فالشاعر حين يقول متشوفًا إلى مسارح شبابه، وأنسه بمصر: أين ليالينا بوادي الغضا ... ذلك عهد ليته ما انقضى كنت به من عيشتي راضيًا ... حتى إذا ولى عدمت الرضا

_ 1 ديوان البارودي جـ1 ص110-113.

أيام لهو وصباً كلما ... ذكرتها ضاق علي الفضا1 إنما يتخذ "وادي الغضا" رمزًا لأعز الأماكن على نفسه في مصر. وبديهي أنه لا يريد وادي الغضا بمعناه الحرفي، هذا المكان المعروف بشبه الجزيرة العربية، وإنما يريد باستخدام هذا الاسم بالذات، استغلال ما فيه من ظلال نفسية وشحنات عاطفية، خلعها عليه الشعر القديم، والاستخدام العربي السالف، وقد لاءم ذلك ما كان من الشعور المسيطر في تلك الفترة، وهو شعور الالتفات الوجداني إلى ماضي العرب ومجدهم، والتعلق بكل ما يتصل بهم، ومثل هذا الكلام يمكن أن يقال فيما يستخدم الشاعر المحافظ البياني -في ذاك الجيل- من أسماء أشخاص وأشياء، وأماكن ونباتات وحيوانات، قد كثر ورودها في الشعر العربي القديم. وقبل ختام الحديث عن هذا الاتجاه الشعري، المحافظ البياني، وما له وما عليه في فترة الوعي، نسجل أن شعراءه لم يتخلصوا تخلصًا كاملًا من كل عيوب التقليديين؛ فقد تورطوا أحيانًا -بنسب متفاوتة- في المحسنات والتأريخ، وبعض المجاملات البعيدة عن الصدق، ولكن ذلك كان شيئًا ضئيلًا بجانب الطابع العام لاتجاههم، الذي كان شيئًا آخر غير اتجاه التقليديين.

_ 1 ديوان البارودي جـ2 ص176.

ثانيا: النثر

ثانيًا: النثر 1- الكتابة الإخوانية، واتجاهها إلى التقليد: كانت بعض ألوان النثر تميل إلى التقليد الذي خلفته عصور التخلف، من حيث التحرك في أغراض ضيقه، وتناول أفكار تافهة، والعناية بقيود البديع، التي في مقدمتها السجع والجناس.. وكان أكثر ألوان النثر أخذًا بهذا الاتجاه التقليدي المتخلف، هذا اللون الذي يمكن أن يسمى "الكتابة

الإخوانية"، ونعني بها تلك الكتابة التي تدور حول الإخوانيات، والتي كانت مجال نشاط لطائفة من الأدباء التقليديين في تلك الفترة؛ ممثلة في رسائل التهنئة والاعتذار، وقطع التقريظ والتقديم، وما إلى ذلك من أغراض، يغلب عليها الجانب الفردي أو الشخصي، كما تبدو فيها سذاجة الموضوع وتفاهة المعاني، ثم تتزاحم بها ألوان البديع، وخاصة الجناس والسجع، وكثيرًا ما كان هذا اللون من الكتابة لا يكتفى باتخاذه ميدانًا لتسابق الأدباء التقليديين، ومجالًا لإبراز البراعة في الحيل اللفظية، والمحسنات البديعية، بل يتجاوز ذلك إلى إظهار القدرة على حوك الألغاز، وفهم الأحاجي.. وقد ساعد على تكبيل هذا اللون من النثر بكل تلكك القيود، وبعده عن الترسل والموضوعية، انحصاره في دائرة ضيقة ومجال محدود، قد لا يتجاوز اثنين يتراسلان، فهذا اللون بطبيعته بعيد عن الموضوعية، ناء عن الجماهيرية، صالح لترسب عيوب عصور التخلف عليه، وتقوقع التقليدية فيه، ومن هنا لم يتأثر هذا اللون من النثر بما كان في تلك الفترة من وعي نام ناضج؛ قد أثر على كثير من ألوان الأدب الأخرى، وظل هذا اللون -تقريبًا- على الصورة التي كان عليها في العصر التركي وما تلاه، إذا استثنينا شيئًا من صحة اللغة وسلامة التعبير، والبعد عن اللحن والدخيل، والخلاص من عدم استقامة التراكيب، وما إلى ذلك من مظاهر بدأت تكسبها اللغة منذ الفترة السابقة، وزاد حظها منها في الفترة التي نسوق عنها الحديث. ومن أمثلة هذه الكتابة الإخوانية ما كتبه الشيخ علي أبو النصر1 من منفلوط إلى أحد أصحابه بمصر، حيث يقول: "إن أبهى ما تسر به نفوس الأحبة، وأبهج ما يستضاء بنوره في دياجي المحبة، دون ما رسمه يراع المشوق،

_ 1 اقرأ ترجمته في: مقدمة ديوانه بقلم أحمد خيري، وفي: الآداب العربية للويس شيخو جـ2 ص13-16.

وأبدعه مما يحسن ويروق، تشوقًا إلى اقتطاف ثمرات المسامرة، وتشوفا إلى أبيات بمحاسن البديع عامرة، ولما تشرف المحب بورود المحلق الأسنى، الجامع بين رقة اللفظ ودقة المعنى، كان يرقص طربًا، بعد أن قضى مما رآه عجبًا، وتاقت نفسه إلى التشبه بالأوائل، وأين فهاهة باقل، من فصاحة سحبان وائل. وكرم أخلاق سيدي يقضي بغض البصر عن العيوب، وكل ما استحسنه المحبوب محبوب، وعين الرضا عن كل عيب كليلة، ولا حول فيما قضى الإله ولا حيلة، فإني وجدت الرسائل لا تجدي إذ شط المزار، ومعانقة الطيف لا تغني متى عز الاصطبار، غير أني أمرت بأداء ما وجب، ونسجت على منوال من تحلى بالأدب، وركضت بجواد القريحة، وقدحت زند فكرة ليست بالمستريحة ... 1".

_ 1 ديوان علي أبو النصر ص204-205.

الكتابة الديوانية وميلها إلى الترسل

2- الكتابة الديوانية وميلها إلى الترسل: وقد أدى تعريب الدواوين في تلك الفترة إلى اتساع المجال أمام الكتابة لتطور نفسها بعض الشيء، فالكتابة الديوانية "كتابة رسمية"، ومن هنا لا تتحمل -كثيرًا- هذه الألاعيب اللغوية والمحسنات اللفظية، التي من شأنها أن تغلف الركاكة وتستر التفاهة، أو على الأقل تحدث جوًا من التسلية والتفكة بين أصداء يتناولون أمورًا شخصية، وفردية تخصهم وحدهم، لذلك نجد في الكتابة الديوانية -عموماً- ميلا إلى الموضوعية، واتجاهًا إلى الترسل، وبعدًا عن أبرز عيوب الكتابة الإخوانية، وليس الأمر أمر كاتب وكاتب فحسب، بحيث يكون واحد يسير فقط على الطريقة التقليدية، ويسير آخر على الطريقة المترسلة، بل الأمر -أيضًا- أمر ميدانين للكتابة، أو فنيين من فنونها، هذا يميل إلى طريقة في الأداء، وذاك يؤثر أخرى في التعبير، وقد وجدنا أديبًا كعبد الله فكري1، يكتب كتابات إخوانية بطريقة،

_ 1 اقرأ ترجمته في: الآداب العربية للويس شيخو جـ2 ص85-87، وشعراء مصر للعقاد ص78.

ويكتب كتابات ديوانية بأخرى، فهو حين يكتب في المسائل الإخوانية، يجنس ويسجع ويتكلف ما يتكلفه هؤلاء التقليديون، ثم هو حين يكتب في المسائل الرسمية يبسط ويترسل، ويجنح إلى ما يجنح إليه المجددون.. وهكذا كانت الكتابة الديوانية ميدانًا من الميادين التي ساعدت على تطور النثر وترسل الكتابة، والتخلص من عيوب التقليدية المتخلفة1، وهذا نموذج من كتابات عبد الله فكري الديوانية، كتب به إلى الوزير رياض باشا، يسجل له ما حدث في مؤتمر المستشرقين الذي كان عبد الله فكري قد شارك فيه مندوبًا عن الحكومة في جوتمبرج.. يقول عبد الله فكري ... "ثم أشير إلي فقمت، وأنشدت قصيدة كنت أعددتها لذلك بعد ارتحالنا من باريس، فأتممتها في الطريق، وبيضتها في استكهولم، فابتدأت أقول: اليوم أسفر للعلوم نهار ... وبدت لشمس نهارها أنوار ومضيت فيها إلى آخرها، وصفق الناس لكل من خطب، وبالجملة لي لما أتممت الإنشاد، وخاطبني أناس منهم باستحسانها.. وحضر كاتب المؤتمر على أثر الفراغ منها، وسارني بطلب نسختها، فأخذها في الحفلة، وخطب بعد ذلك أناس، منهم المسيو "شفر" وافد فرنسا، وكانت هذه الحفلة خاصة بذلك، ليس فيها تقديم موضوعات علمية, ثم قام الملك وودع الحاضرين، وصافح البعض، وصافحنا، وقال: "حسنًا" وانصرفنا، وانقضت الحفلة، وارفضت الجميعة"2. فإذا عرفنا أن عبد الله فكري هو القائل في تقريظ الوقائع المصرية: "لار يب أن كل من عرف التمدن، وشم عرف التفنن، وأخذ بنصيب من الفهم والتفطن، كان أحب شيء إليه، وأوجب أمر لديه، أن يكون مطلعًا على وقائع مصره، وعارفًا بما تجدد بين بني عصره، من حوادث الزمان، وعجائب عالم الإمكان ... "3 أقول: إذا عرفنا أن عبد الله فكري هو قائل

_ 1 شعراء مصر للعقاد ص84-86. 2 انظر: المصدر السابق ص84-85. 3 المصدر نفسه ص85.

هذا الكلام، عرفنا كيف كانت تخالف الكتابة الديوانية الكتابة الإخوانية مخالفة توشك أن تكون تامة، وعرفنا أن المسألة لم تكن فقط اختلاف كاتب وكاتب في هذا الشأن، وإنما كانت كذلك اختلاف ميدان وميدان، أو نوع من الكتابة ونوع آخر.

المقالة ونشأتها

3- المقالة ونشأتها: لم يعرف أدبنا القديم هذا القالب الفني للكتابة النثرية، وهو قالب "المقالة"، وإن كان عرف شيئًا قريبًا منه، وهو "الرسالة" التي نراها في بعض كتابات علم مثل الجاحظ، حيث تناول موضوعات محددة في صورة مركزة، تشبه -إلى حد كبير- شكل المقالة، وإن لم تكن هي تماماً. فالمقالة تتناول موضوعًا أكثر تحديدًا، وتعرضه بصورة أشد تركيزًا، وهذا الموضوع يتصل بقضية حية، ويتجه فيه الحديث إلى الجماعة، ويخضع آخر الأمر في أسلوبه لمقتضيات الصحافة، التي نشأ معها هذا الفن1. وهكذا جاء فن المقالة -في الأدب المصري- استجابة لضرورات سياسية واجتماعية، ثم تطور نتيجة لهذا الوعي الذي كان ينمو وينضج في تلك السنين، من النصف الثاني من القرن الماضي، فقد وعي المصريون واقعهم بكل ما فيه من حاجات إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي والديني، واتجه فريق من مثقفيهم إلى الكتابة في تلك الجوانب الإصلاحية العديدة، متخذين من الصحافة -تلك الوسيلة الجديدة- أداة لتوصيل آرائهم، وأفكارهم إلى مواطنيهم، وبدءوا يكتبون بأسلوب قريب من الأسلوب التقليدي المزركش، ثم أخذوا تدريجيًّا يتخلصون من ذلك الترسل2، فلم يكن من الممكن أن يتجهوا إلى جمهور المواطنين عن طريق الصحف، بتلك اللغة المتكلفة المتلاعبة الملتوية الثقيلة،

_ 1 انظر: أدب المقالة الصحفية للدكتور عبد اللطيف حمزة جـ1. 2 المصدر السابق جـ1 جـ2.

لأنها عاجزة عن علاج المشكلات أولًا ثم؛ لأنها لن تفهم من جمهور القراء ثانيًا. وكان الوعي قد لفت الأنظار إلى التراث العربي النثري المشرق، وأدرك الوراد من الكتاب1 ما فيه هذا النثر من ترسل، وبساطة، وحرية، وقوة، وكان قد أذيع -ضمن ما أذيع من تراث- آثار نثرية جيدة، يمكن أن تكون أنماطًا للكتابة التي يجب أن توجه الجماهير عن طريق الصحف، كبعض كتب ابن المقفع، وكبعض آثار ابن خلدون، فأخذ الرواد من المثقفين المصريين يكتبون موضوعات في السياسة، والاجتماع والدين، بهذه اللغة الجانحة إلى الموضوعية والوضوح والترسل، وهم في ذلك مراعون لمقتضيات الصحافة وتحديد أنهرها، ومستوى قرائها، ووسائل تأتيها، فكانت من هذه الكتابات المقالات الحقيقية الأولى في الأدب الحديث2. وقد كان يؤازر المصريين ويشاركهم تلك الحركة، إخوانهم من مهاجري الشام المسيحيين، كما كان يرودهم ويوجههم، ذلك المصلح الغيور السيد جمال الدين الأفغاني، ومن كل تلك الظروف ولدت المقالة في ألوانها السياسية والاجتماعية والدينية، حيث وجدت موضوعات عامة تدعو إلى الكتابة، ووجد جمهور كبير يتجه إليه الكتاب، كما وجدت صحف تنقل هذه الكتابات إلى أكبر عدد من المتلقين، وفيهم العاديون من المتعلمين، بل وفيهم المستمعون للقراء من الأميين، وأخيرًا حيث وجد في التراث العربي -الذي بدأ الاهتمام به- نمط أسلوبي يمكن أن يحتذى في الجانب التعبيري على الأقل. وكان لهذا التحول من الموضوعات التقليدية الضيقة فيما يكتب أولًا، ثم من الفرد إلى الجماعة فيمن يكتب إليه ثانيًا، أكبر الآثار في أن اتخذت المقالة

_ 1 في مقدمة هؤلاء الشيخ محمد عبده. 2 سبق رفاعة الطهطاوي ببعض كتابات رائدة في "الوقائع"، ثم في "روضة المدارس"، ولكنها لم تتخلص تمامًا من المعوقات التي لم تجعلها مقالات مكتملة. انظر: أدب المقالة الصحفية في مصر للدكتور عبد اللطيف حمزة جـ1 ص122، وما بعدها.

لغة تنأى عن فردية الموضع وعن استقراطية التعبير، وتميل إلى الموضوعية في الأغراض، والديمقراطية في الأسلوب. وليس من شأنك في أن حركة الترجمة، وانتشار الصحافة، وإسهام المهاجرين الشوام، وتوجيهات الأفغاني؛ قد ساعدت الرواد الأول من كتاب المقالة في الأدب المصري الحديث على أن يرسوا دعائم هذا الفن النثري. ولقد كان من أوائل هؤلاء الرواد، الشيخ محمد عبده1؛ فهو صاحب

_ 1 ولد بمحلة نصر إحدى قرى البحيرة سنة 1849، وحفظ القرآن بالقرية، ثم التحق بالمسجد الأحمدي بطنطا، وفيه تلقى بعض علوم اللغة العربية والشريعة، ثم عاد إلى بلده بعد حين وقد يئس من مواصلة الدرس لما وجد من تعقيدات تملأ الكتب المقررة، ثم قدم على الأزهر سنة 1866 بعد أن اتصل ببعض الشيوخ الذين شجعوه وشحذوا عزيمته، وفي الأزهر أكب على الدراسة على كبار الشيوخ، وحين قدم السيد جمال الدين الأفغاني إلى مصر للمرة الأولى سنة 1869، اتصل به محمد عبده، وحين عاد للمرة الثانية سنة 1871 بادر محمد عبده إلى لقائه، وتعلم على يديه الكثير في الأدب والفلسفة والتاريخ، والسياسة والاجتماع، وقد قرب الأفغاني الشاب المصري من نفسه، وأحله منزلة المريد. وفي سنة 1876 بدأ محمد عبده يكتب في الصحف فصولا في موضوعات ثقافية مختلفة، فاشتهر بين أقرانه، وبدأ يعرف بحسن الفهم وجمال البيان، وجرأة القلب، وقد أوغر هذا صدور بعض المتخلفين والحاقدين، وبدأ خصومه يظهرون، وحين أتم محمد عبده دراسته في الأزهر وعرض نفسه على لجنة امتحان العالمية سنة 1877 اجتاز الامتحان بعد صدام مع بعض الشيوخ، وكانت النتيجة أننال العالمية من الدرجة الثانية، وتولى التدريس بعد ذلك في الأزهر، ثم عين مدرسًا للتاريخ في دار العلوم سنة 1878. ثم حالت السياسة بينه وبين التعليم، حين أمر الخديو توفيق بإخراج الأفغاني من البلاد، وتحديد إقامة محمد عبده في محلة نصر، ثم استدعي للإشراف على الوقائع المصرية سنة 1780. وحين بدأت بوادر الثورة العرابية لم يكن الشيخ مؤيدًا لها، ثم انضم إليها بعد ذلك، وبعد فشل الثورة قبض على محمد عبده وحوكم، وظل رهن المحاكمة ثلاثة شهور بالسجن، ثم حكم عليه بالنفي ثلاث سنوات في سوريا، فلجأ إلى بيروت، وبعد أن أقام في الشام نحو عام كتب إليه السيد جمال الدين الأفغاني من فرنسا ليلتحق به، فذهب إلى باريس عام 1884، واتصل بأستاذه الذي كان قد عاد من الهند، وأقام بالعاصمة الفرنسية، وفي باريس أصدر مع أستاذه جريدة العروة الوثقى، وقد أتيح للشيخ أن يزور لندن بدعوة من بعض أصدقائه الإنجليز، ثم عاد إلى باريس ... ورجع إلى بيروت سنة 1885، للتدريس في المدرسة السلطانية.

أثر كبير في تخليص لغة النثر عمومًا من التفاهة وأثقال المحسنات، وذلك بعد أن تطور هذا الشيخ1، وآمن بوجوب التخلص من تلك الآفات المعوقة، وكان قد استجاب لتوجيهات الأفغاني في وجوب الترسل، كما كان قد قرأ بعض التراث العربي البعيد عن الزخرف، كمقدمة ابن خلدون، وفتن بأسلوبها المرسل القوي المعبر، فلما أسند إليه تحرير "الوقائع المصرية" في عهد توفيق، عمل على تخليص كتاباتها من أوضار التقليدية المتخلفة، فكان يكتب كتابة موضوعية حية مرسلة، تعد نماذج رائدة إلى حد كبير، كما كان يحث الآخرين من كتاب "الوقائع" وغيرها على الأخذ بهذا الأسلوب الحي المرسل فيما يكتبون، ومن هذه الناحية يعتبر الشيخ محمد عبده ذا دور في إحياء النثر يشبه -إلى حد ما- دور البارودي في إحياء الشعر2. ويلاحظ أن أسلوب المقالة -في تلك الفترة- لم يتخذ شكلًا واحدًا بطبيعة

_ ثم صدر عفو عن الشيخ وعاد إلى وطنه، وعين قاضيًا في المحاكم الأهلية سنة 1888، حيث عمل في محكمة بنها، ثم في محكمة الزقازيق، ثم في محكمة عابدين، ثم عين متسشارًا في محكمة الاستئناف، وسافر بعد ذلك مرات إلى فرنسا وسويسرا، وكان يحضر في جامعة جنيف أثناء العطلة الصيفية دروسًا في الآداب والحضارة، وكان قد أتقن الفرنسية، وعين سنة 1899 مفتيًا للديار المصرية، كذلك عين عضوًا في مجلس شورى القوانين، وبذل جهدًا كبيرًا في إصلاح الأزهر، وإصلاح الفكر الديني على وجه العموم، وتوفي سنة 1905. اقرأ عنه في: تاريخ الشيخ محمد عبده لمحمد رشيد رضا، وفي: أدب المقالة الصحفية لعبد اللطيف حمزة جـ2، وفي: محمد عبده للدكتور عثمان أمين. 1 بدأ الشيخ بأسلوب متكلف فيه عيوب العصر التقليدية، وتمثله مقالاته في الأهرام. انظر: أدب المقالة الصحفية في مصر للدكتور حمزة جـ2 ص76، وما بعدها وانظر: في دور الشيخ محمد عبده: Studies on the Civilization of Islam Gibb p>.253 2 انظر: أدب المقالة الصحفية جـ2 ص62، وما بعدها، والأدب العربي في مصر للدكتور شوقي ضيف، وفي الأدب الحديث لعمر الدسوقي، في حديثهما عن دور محمد عبده في تطوير النثر.

الحال؛ فقد اختلفت أشكاله بعض الاختلافات نظرًا لاختلاف الكتاب وطبيعتهم وثقافتهم أولًا، ثم نظرًا لاختلاف الموضوع المعالج ثانيًا، فحين يكون الكاتب ذا ثقافة فكرية يغلب على أسلوبه الجانب الذهني، والقرب من القضايا المنطقية، وما فيها من استدلال واحتجاج؛ وحين يكون الكاتب ذا ثقافة فنية يغلب على أسلوبه طابع التصوير والخيال، والشاعرية أحيانًا، وخاصة إذا كان الموضوع على حظ من العاطفية يحتمل ذلك، ومن هنا لم تختف كل أنواع المحسنات تمامًا، بل ظل بعضها يأتي بين الحين والحين، وخاصة السجع والتقسيم اللذان يكسبان الكالم موسيقى ويزيدانه تأثيرًا، وذلك حين يأتيان مطبوعين، وفي مواقف تتحملهما. وهذا نموذج من مقالات الشيخ محمد عبده في الوقائع بعد أن انتقل أسلوبه إلى المرحلة الثانية مرحلة الترسل والموضوعية والبساطة، وعنوانه "خطأ العقلاء"، يقول الشيخ في هذا المقال: "إن كثيرًا من ذوي القرائح الجيدة، إذا أكثروا من دراسة الفنون الأدبية، ومطالعة أخبار الأمم وأحوالهم الحاضرة، تتولد في عقولهم أفكار جليلة، وتنبعث في نفوسهم همم رفيعة، تندفع إلى قول الحق، وطلب الغاية التي ينبغي أن يكون العالم عليها، ولكونهم اكتسبوا هذه الأفكار، وحصلوا تلك الهمم من الكتب والأخبار، ومعاشرة أرباب المعارف ونحو ذلك، تراهم يظنون أن وصول غيرهم إلى الحد الذي وصلوا إليه، وساير العالم بأسره، أو الأمة التي هم فيها بتمامها -على مقتضى ما علموه- هو أمر سهل، مثل سهولة فهم العبارة عليهم، وقريب الوقوع، مثل قرب الكتب من أيديهم، والألفاظ في أسماعهم، فيطلبون من الناس طلبًا حاثًّا، أن يكونوا على مشاربهم، ويرغبون في أن يكون نظام الأمة، وناموسها العام على طبق أفكارهم، وإن كانت الأمة عدة ملايين، وحضرات المفكرين أشخاصًا معدودين، ويظنون أن أفكارهم العالية إذا برزت من عقولهم إلى حيز الكتب والدفاتر، ووضعت أصولًا وقواعد لسير الأمة بتمامها، ينقلب بها حال الامة من أسفل درك في الشقاء إلى أعلى درج في السيادة، وتتبدل

العادات وتتحول الأخلاق، وليس بين غاية النقص والكمال، إلا أن ينادي على الناس باتباع آرائهم، تلك ظنونهم التي تحدثهم بها معارفهم المكتسبة من الكتب والمطالعات، وإنهم وإن كانوا أصابوا طرفًا من الفضل من جهة استقامة الفكر في حد ذاته، وارتفاع الهمة وانبعاث الغيرة، لكنهم أخطأوا خطأ عظيمًا، من حيث إنهم لم يقارنوا بين ما حصلوه، وبين طبيعة الأمة التي يريدون إرشادها. ولم يختبر قابلية الأذهان، واستعدادات الطبائع للانقياد إلى نصائحهم، واقتفاء آثارها"1.

_ 1 أدب المقالة الصحفية، للدكتور عبد اللطيف حمزة جـ2 ص83، وما بعدها.

الخطابة وانتعاشها

4- الخطابة وانتعاشها: أما هذا اللون من ألوان النثر، فقد كان من أهم وسائل تنمية الوعي وإنضاجه، كما كان من أهم وسائل التعبير عن الدعوات الإصلاحية في السياسة والاجتماع، ثم كان قبل ذلك كله من أبرز الفنون الأدبية التي تأثرت بالوعي، وبحركة الإصلاح في شتى نواحيه. فالخطابة قد وجدت دواعيها، وكثرت ميادينها في تلك الفترة، بعد أن كانت في عهود التخلف قد انحصرت -أو كادت- في الميدان الديني، وفي أضيق مجالاته، وهو خطبة الجمعة وما ماثلها من خطب العيدين، على أن تلك الخطابة الدينية المحصورة في هذا النطاق ضيق، كانت قد تجمدت -غالبًا-، وأصبح أغلب الخطباء يقرءون الخطبة من كتب معدة في عصور سابقة، وكثيرًا ما لا يتناسب موضوع الخطبة، ولا أسلوبها مع الموقف أو حال المستمعين، فلما كانت فترة الوعي وجدت دواع مختلفة أفسحت الطريق أمام الخطابة لتأخذ طريقها إلى أفق رحب مضيء. ففي ميدان السياسة، وجد -إلى جانب الجمعيات السياسية التي كانت مدارس الخطابة1- "مجلس شورى النواب" الذي نما فيه الوعي بعد فترة

_ 1 انظر: Studies on the of Islam Gibb. p 253.

من إنشائه، وأصبح بعد نحو عشر سنوات مجالًا للخطابة السياسية، التي تعارض الحكومة وتنتقد تصرفات المسئولين، وتندد بالخديو نفسه، وتشن حملات شديدة على التدخل الأجنبي، والحكم الاستبدادي، وتطالب بألوان من الإصلاح في السياسة والحكم والاقتصاد.. كذلك وجدت الحركة العرابية، فكانت مجالًا من أهم المجالات لإنعاش الخطابة السياسة ومدها بأخصب زاد. وكانت أحداث سنة 1881 بخاصة، وقودًا غذى الخطابة السياسية في مجال الثورة العرابية، وأمدها بفيض من الحياة؛ فحادث قصر النيل وما صاحبه وأعقبه من مؤتمرات واجتماعات، وحادث عابدين وما مهد له وقيل فيه، ثم يوم سفر عبد العال حلمي وقواته إلى دمياط، وسفر عرابي وجنده إلى رأس الوادي، ثم ما كان بعد ذلك من حشد الشعب للوقوف في وجه العدوان الإنجليزي، والتآمر الخديوي، كل ذلك كانت الخطابة إحدى وسائله -بل أهم وسائله- في الإقناع والتحميس والتجميع والعمل.. وهكذا كانت الخطابة السياسية منتعشة في تلك الفترة من جديد، بعد أن ظلت قرونًا ذابلة، أو خامدة لا تكاد يحس لها وجود أو تدرك له حياة. وفي ميدان الاجتماع وجد عدد من الجمعيات الخيرية والاجتماعية التي اتخذت الخطابة وسيلة لبث أفكار الإصلاح، والدعوة إلى حياة أفضل، في الثقافة، والتعليم، والاقتصاد، وما إلى ذلك. وهكذا كانت الخطابة الاجتماعية -هي الآخر- إحدى وسائل الاستمالة والإقناع والعمل على الإصلاح الاجتماعي في شتى مظاهره، ومن هنا انتعشت الخطابة الاجتماعية، بل وجدت أشبه بالجديدة في الأدب المصري، الذي عرفها مع هذه المظاهر الحضارية، التي لم تكن من موضوعات الخطابة إلا في العصر الحديث. وطبيعي ألا تكون الخطابة بألوانها المختلفة ذات أسلوب واحد في تلك الفترة، وإن كانت كل الألوان تخلصت -إلى حد كبير- من الجمود والتفاهة، وعدم مراعاة الحال، التي كانت تسيطر على الخطابة الدينية المتخلفة في العصر التركي وما تلاه.. وطبيعي أن تختلف أساليب الخطابة باختلاف ألوانها، فالخطابة السياسية تعمد كثيرًا إلى الإثارة ومخاطبة المشاعر، وتتزين بألوان

من المؤثرات العاطفية كالشعر الحماسي، والقصص الديني ونحو ذلك مما يشد مشاعر الجماهير، ثم تتحلى ببعض المحسنات كالسجع والتقسيم الذي يبعث في الكلام موسيقى، ويزيد به التأثير.. أما الخطابة الاجتماعية، فتعمد أكثر إلى مخاطبة العقل واستخدام المنطق، وقد تتعرض لذكر الأرقام والحقائق المحسوسة، في لغة أشبه بلغة العلم، ومع ذلك لا تترك فرصة يمكن فيها التأثير، وجذب القلوب حتى تنتهزها بأسلوب عاطفي، قد يعتمد على الخيال، ويتحلى ببعض المحسنات ... وهذا نموذج من خطب عبد الله النديم، خطيب الثورة العرابية1، والنموذج من خطبة هذا الثائر، في مظاهرة توديع أحد زعماء الثورة -عبد العال حلمي-المبعد بقواته إلى دمياط، بعد الحركة العسكرية في عابدين والمطالبة بمطالب الشعب ... وكانت المظاهرة في محطة العاصة قبيل تحرك القطار بالقائد وجنوده.. وفي هذه الخطبة يقول النديم: "حماة البلاد وفرسانها.. من قرأ التاريخ، وعلم ما توالى على مصر من الحوادث والنوازل، عرف مقدار ما وصلتم إليه من الشرف، وما كتب لكم في صفحات التاريخ من الحسنات؛ فقد ارتقيتم ذروة ما سبقكم إليها سابق، ولا يلحقكم في إدراكها لاحق، ألا وهي حماية البلاد، وحفظ العباد وكف يد الاستبداد عنهما. فلكم الذكر الجيمل، والمجد المخلد، يباهي بكم الحاضر من أهلنا، ويفاخر بمآثركم الآتي من أبنائنا، فقد حيي الوطن حياة طيبة بعد أن بلغت التراقي، فإن الأمة جسد والجند روحه، ولا يحاة للجسد بلا روح، وهذا وطنكم العزيز أصبح يناديكم ويناجيكم، ويقول:

_ 1 عن عبد الله النديم وترجمته اقرأ: الآداب العربية للويس شيخو جـ2 ص99، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ1 ص220، والثورة العرابية لعبد الرحمن الرافعي ص531، وزعماء الإصالح في العصر الحديث لأحمد أمين ص204، وأدب المقالة الصحفية للدكتور عبد اللطيف حمزة جـ2 ص114، واقرأ تقديرًا كبيرًا لدوره في: Studies on the Civilization of Islam, Gibb. p.253

إليكم يرد الأمر وهو عظيم ... فإني بكم طول الزمان رحيم إذا لم تكونوا للخطوب وللردى ... فمن أين يأتي للديار نعيم وإن الفتى إن لم ينازل زمانه ... تأخر عنه صاحب وحميم فردوا عنان الخيل نحو مخيم ... يقلبه بين البيوت نسيم وشدوا له الأطراف من كل وجهة ... فمشدود أطراف الجهات قويم إذا لم تكن سيفًا فكن أرض وطأة ... فليس لمغلول اليدين حريم وإن لم تكن للعائذين حماية ... فأنت ومخضوب البنان قسيم ولقد ذكرت باتحادكم وحسن تعاهدكم ما كان من رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم- عند تغييب سيدنا عثمان في أهل مكة، من مبايعة أهل الشجرة على حفظه، وصيانته -صلى الله عليه وسلم-، فصاروا يعنون بالعشرة المبشرين بالجنة"1.

_ 1 انظر: مذكرات الثورة العرابية لأحمد عرابي جـ1 ص259، وما بعدها.

الرواية ونشأة اللون التعليمي

5- الرواية ونشأة اللون التعليمي: أما هذا اللون من النثر -وهو الرواية- فقد نشأ منه في تلك الفترة اللون التعليمي؛ بعد أن وضع بذوره رفاعة الطهطاوي في الفترة السابقة؛ فقد ألف علي مبارك1 كتابًا سماه "علم الدين"، وجعل هدفه تقديم معارف منوعه أولًا،

_ 1 ولد في قرينة برنبال من قرى الدقهلية سنة 1239هـ، وتنقل مع والده في عدة أقاليم بالوجه البحري حتى استقر بعرب السماعنة بالشرقية، وهناك تلقى علومه الأولية على يد والده، ثم بمساعدة بعض المربين، وبعد ألوان من النضال التحق بمدرسة القصر العيني التجهيزية، ثم صعد إلى المهندسخانة، ثم اختير عضوًا في البعثة المسافرة إلى فرنسا، وبعد أربع سنوات من الدراسة استقدم إلى مصر في عهد عباس، وما زال يعمل في حقل التعليم وتنظيمه، والإشراف عليه، حتى وشي به لدى سعيد فأرسل ضمن حملة ساعدت بها مصر تركيا في حروبها مع روسيا، وهناك قاسى كثيرًا، ولكنه عاد سالمًا، وبعد عودته سرح من الخدمة فعاد شبه متعطل، ثم أعيد إلى بعض المناصب التافهة، ولكنه لم يجد فرصته إلا بعد أن مات سعيد، فقد وجد في عهد إسماعيل فرصًا للعمل المثمر، فكان ناظرًا للقناطر الخيرية، ثم كان وكيلًا لديوان المدارس، ثم أشرف على إدارة السكك الحديدية، ثم ديوان الأشغال، ونظارة =

ثم المقارنة بين أحوال الشرق وأحوال الغرب ثانيًا، واختار لتلك المعارف والمقارنة قلب الحكاية، واتخذ صورة الرحلة من مصر إلى أوروبا شكلًا لهذه الحكاية، ثم آثر جعل بطلها شيخًا ريفيًّا مصريًّا أزهريًّا مستنيرًا يصاحب في تلك الرحلة عالمًا إنجليزيا، تعرف به في مصر وهيأ له -بعد أن أعجب به- أن يصحبه إلى أوروبا، ومما يدور بين البطل والعالم الإنجليزي، ومما يكون في الرحلة من مواقف عديدة، يقدم المؤلف مجموعة كبيرة من المعلومات، في العلوم الإنسانية والطبيعية وغيرها، كما يعقد مقارنات بين الشرق والغرب.. ومن هنا كان هذا العمل رواية؛ لأنه اتخذ شكل الرحلة وحكايتها، ثم هو تعليمي؛ لأنه لا يقصد إلى غرض فني أدبي، بل إلى غرض ثقافي تربوي، هو تقديم هذه المعارف والمقارنات في إطار مشوق1. وواضح أن هذا العمل يتفق مع ما سبق أن ألفه رفاعة الطهطاوي من قبل، باسم "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، فكلاهما معلومات ومعارف تقدم في شكل رحلة، وكلا المؤلفين أزهري مصري يجمع إلى ثقافته الشرقية العربية الدينية، ثقافة أوروبية حديثة، وإن كان علي مبارك تخصص في الهندسة، ورفاعة تخصص في الأدبيات، غير أن عمل علي مبارك قد اعتبر رواية تعليمية على حين اعتبر عمل رفاعة بذورًا لهذا اللون فحسب؛ لأن عمل رفاعة خال تمامًا من العناصر الروائية، باستثناء عرضه للرحلة الواقعية -التي قام بها المؤلف- في صورة يغلب عليها جانب التقريرات الرسمية، والترجمة والسرد العلمي في كثير من المواطن، حتى لقد سمى المؤلف كل فص باسم "مقالة".

_ 1 عن تحليل هذا العمل وتقويمه اقرأ: تطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص61، وما بعدها.

أما علي مبارك فعلى الرغم من أن عمله هو الآخر يحكي رحلة المؤلف، فإنه قد أكسب هذه الرحلة شكلًا خياليًّا، حيث وضع لها أشخاصًا بعضهم له أصل من الواقع مثل علم الدين، الذي ليس إلا علي مبارك نفسه، وبعضهم من صنع خيال المؤلف، مثل السائح الإنجليزي، وغيره من الشخصيات، وهذا الجانب الخيالي من جهة، ثم قصد المؤلف قصدًا إلى الحكاية والقص -مما صرح به في صدر الكتاب- من جهة أخرى، قد جعل من هذا العمل رواية تعليمية، ولم يقف بها عند مرحلة البذور الأولى التي وضعها أستاذه الطهطاوي، وقد كان من مظاهر الخيالية والروائية، ومحاولة البعد عن جو الكتاب التعليمي، تسمية المؤلف لكل فصل من الكتاب باسم "مسامرة". غير أن عمل علي مبارك مع ذلك ليس رواية ناضجة، وذلك لغلبة الجانب العلمي عليه، ولشيوع الجفاف فيه، ثم لعدم التزامه للمقاييس الروائية، وذلك أن المؤلف كثيرًا ما يقدم المعارف والعلوم في هذا العمل ناسيًا أنه يحكي ويقص، وناسيًا أنه وعد بتقديم ما سيقدم في إطار حكاية، ثم هو كثيرًا ما يقطع تسلسل القص لينتهز فرصة -أي فرصة- لحشد المعلومات، وهو أيضًا يجري الأحاديث على ألسنة الشخصيات دون مراعاة لطبيعة هذه الشخصيات، ولا لثقافتها. وأخيرًا هو لا يعني بالتشويق، ولا يلتفت أصلًا إلى العنصر الغرامي -مما تتميز به الرواية التعليمية بصفة خاصة-، ولا يهتم كثيرًا برونق الأسلوب1. ومن هنا يضعف العنصر الروائي، ويبعد الكتاب عن مقومات الفن، ويعد -في أحسن الاحتمالات- رواية تعليمية غير ناضجة، ومع ذلك فعلي مبارك رائد في هذا اللون من ألوان الرواية الذي يهدف إلى التعليم والمقارنة، ولكتابة فضل السبق على تلك الأعمال التي ستظهر أكثر نضجًا وفنًّا في الفترات التالية.. يقول علي مبارك: ".. وقد رأيت النفوس كثيرًا ما تميل إلى السير والقصص وملح الكلام، بخلاف الفنون البحتة، والعلوم المحضة، فقد تعرض عنها في كثير من الأحيان، لا سيما عند السآمة والملال من كثرة الأشغال،

_ 1 المصدر السابق ص64-66.

وفي أوقات عدم خلو البال، فحداني هذا أيام نظارتي لديوان المعارف، إلى عمل كتاب أضمنه كثيرًا من الفوائد، في أسلوب حكاية لطيفة ينشط الناظر إلى مطالعتها، ويجد فيها رغبته فيما كان من هذا القبيل، فيجد في طريقه تلك الفوائد، ينالها عفوًا بلا عناء، حرصًا على تعميم الفائدة وبث المنفعة، فجاء كتابًا جامعًا، اشتمل على غرر الفوائد المتفرقة في كثير من الكتب العربية والإفرنجية، في العلوم الشرعية، والفنون الصناعية، وغرائب المخلوقات وعجائب البر والبحر.. مفرغًا في قالب سياحة عالم مصري، وُسِمَ "بعلم الدين" مع رجل إنجليزي، كلاهما هيان بن بيان، نظمهما سمط الحديث، لتأتي المقارنة بين الأحوال المشرقية والأوروبية1". هذا وبالإضافة إلى فضل الريادة التي ينسب إلى عمل علي مبارك في ميدان الرواية التعليمية بخاصة، ينسب إليه كذلك فضل الإسهام في لفت الأنظار إلى الفن القصصي بعامة. وفي مجال لفت النظر إلى هذا الفن، وتشجيع الأقلام على تناوله، وتشجيع القراء على الشغف به، يذكر بعض من ترجموا أعمالًا روائية كبيرة في تلك الفترة، وفي طليعة هؤلاء، يأتي اسم محمد عثمان جلال، الذي ترجم رواية "بول وفرجيني" للكاتب الفرنسي "برناردين دي سان بيير"، وقد عرب محمد عثمان جلال هذه الرواية، وسماها باسم عربي هو "الأماني والمنة في حديث قبول وورد جنة"، بل إنه قد تصرف فيها بما يتلاءم مع الجو العربي، والذوق العربي والقارئ العربي. وبلغ من هذا التصرف، أن جعل لغتها السجع، بل أنطق بعض أبطالها بالشعر العربي الفصيح، وعلى الرغم من أن مثل تلك الترجمة أو مثل هذا التعريب، مما لا يعد من الأعمال الفنية الدقيقة، فإن ما قام به محمد عثمان جلال -رغم عيوبه- قد كان من ألوان النشاط الروائي الفعال الذي أسهم في نقل هذا النوع الأدبي الغربي إلى الأدب المصري الحديث.

_ 1 انظر: علم الدين لعلي مبارك ص6-8.

المسرحية وميلادها

6- المسرحية وميلادها: لم يعرف التاريخ الفني الحديث في مصر، مسرحيات قبل تلك الفترة التي نؤرخ لأدبها، ولم يكن لمصر مسرح عربي قبل سنة 1870 على وجه التحديد؛ ففي هذا التاريخ أنشئ أول مسرح عربي في مصر، محاكيًا أولًا المسرح الأوروبي، ثم مستفيدًا بعد ذلك من نشاط الوافدين الشوام، الذين كانت لهم صلة بفن المسرح، وكتابة المسرحيات قبل ذلك بفترة1. وبيان ذلك، أن بعض المسارح كان قد أنشئ في مصر قبل هذا التاريخ، غير أن هذه المسارح ظلت أجنبية، لا تقدم عليها مسرحيات عربية، ولا يمثل عليها مملثون عرب، فقد أنشأ نابليون في مصر، أول مسرح سنة 1798، لكي يستمتع جنوده ببعض المسرحيات الفرنسية، ثم أنشئ بعد ذلك -في أيام إسماعيل- "مسرح الكوميدي" سنة 1868، وقدمت عليه المسرحية الغنائية الإيطالية "ريجوليتو"، ثم أنشئ "مسرح الأبرا" سنة 1869، وقدمت عليه المسرحية الغناية الإيطالية "عايدة"، وكان ذلك بمناسبة الاحتفالات التي أقيمت لافتتاح قناة السويس2، ويلاحظ أن المسرحية العربية لم يكن لها أي مكان على أي مسرح في مصر حتى هذا التاريخ. وقد كان نشاط الفرق الأجنبية التي عملت في مصر حينذاك، مشجعًا لبعض المصريين على الاشتغال بالتمثيل؛ فقد تحمس يعقوب صنوع، صاحب جريدة "أبي نضارة"، والذي كان قد درس في إيطاليا، وشاهد كثيرًا من المسرحيات فيها، فأنشأ أول مسرح عربي في مصر، وألف له

_ 1 أنشأ مارون نقاش أول مسرح عربي في بيروت سنة 1847، انظر: المسرحية للدكتور يوسف نجم ص31 وما بعدها، والمسرح النثري للدكتور محمد مندور، الحلقة الأولى ص2-3. 2 اقرأ عن نشأة المسرح العربي في مصر: المسرحية للدكتور يوسف نجم ص17-26، والفن المسرحي في الأدب العربي للدكتور محمود شوكت ص13 وما بعدها.

فرقة دربها على التمثيل، وكتب لها الروايات، وافتتح مسرحه سنة 1870 وسماه "التياترو الوطني"، وقد قدم على هذا المسرح اثنتين وثلاثين مسرحية من تأليفه، بالإضافة إلى بعض المترجمات، وكانت مسرحياته المؤلفة، تتناول قضايا اجتماعية وأخلاقية وسياسية، وكان منها الملهاة والهزلية والمسرحية العصرية والمسرحية الغنائية، كما كانت الشخصيات مزيجًا من المصريين والأجانب، وكان المستوى الفني ساذجًا بطبيعة الحال، وكانت اللغة غالبًا العامية، أما مترجماته فكانت عن بعض ملاهي "موليير"، الذي يبدو أن المؤلف كان يعتمد عليه أحيانًا فيما يؤلف من مسرحيات، والذي كان يتأسى به كثيرًا، حتى لقب "موليير مصر". وقد ظل هذا المسرح المصري الأول يعمل حتى سنة 1873، حين أغلقه إسماعيل؛ بسبب التعريض به وبالقصر، في بعض ما كان يقدم من مسرحيات1. وبعد ذلك بثلاث سنوات، وفد على مصر رجل من إخواننا مسيحي الشام، يسمى سليم نقاش، وكان قد عرف فن المسرح من عمه مارون النقاش، الذي كان قد أنشأ أول مسرح عربي في بيروت سنة 1848، وقدم عليه بعض المسرحيات الغنائية وغيرها، وقد واصل سليم النقاش في مصر، ما بدأه "أبو نضارة" قبله بنحو ست سنوات، فقدم على مسرح "زيزنيا" بالإسكندرية، تلك المسرحيات التي كان عمه قد قدمها في بيروت، مضيفًا إليها مسرحيات مترجمة ومقتبسة عن مسرحيات أجنبية، وكان يساعده في إعداد النصوص، الصحفي السوري أديب إسحاق، ولكن الاثنين آثرا بعد فترة أن يوجها جهودهما إلى الصحافة؛ لأنها كانت في ذلك الحين أكثر رواجًا، فتولى أمر الفرقة الشامية زميل لهما هو يوسف الخياط، الذي انتقل بالفرقة إلى القاهرة، فقدمت عرضها على مسرح "الأوبرا"، ولكنها

_ 1 المسرحية للدكتور يوسف نجم ص77-91.

ما لبثت أن غصب عليها إسماعيل، لاتهامها بالتعريض به، وقد سبب ذلك توقف نشاطها حينًا، ثم عادت إلى التمثيل بين الإسكندرية والقاهرة، وتولدت منها فرقة أخرى سنة 1882 برياسة سليمان القرداحي أحد أفراد الفرقة الشامية الأولى، وقد تنافست الفرقتان، ونشطتا حركة التمثيل في مصر1. وإلى هنا كان أكثر المسرحيات هي المترجمة والمقتبسة، والمعربة والممصرة، وكان أقلها هي المسرحيات المؤلفة. ويلاحظ أن المسرحيات المؤلفة في ذلك العهد المبكر، لم تصل إلى مستوى الأدب المسرحي، فهي بداية بسيطة لكتابة شيء يعرض على المسرح، ولكنها ليست نصوصًا أدبية تمتع بقراءتها، وتؤدي وظيفة لمتصفحها في كتاب، كوظيفتها لمشاهدها على الخشبة، وهي بعد ذلك لا تصلح للدرس والنقد كباقي نصوص الأدب، وكالأدب المسرحي الذي سوف نجده بعد ذلك شعرًا عند شوقي، أو نثرًا عند الحكيم. وقد كان الجانب اللغوي من أهم عيوب تلك المسرحيات؛ فهي غالبًا كانت لغة متعثرة بين البديع والركاكة؛ لأنها كانت أحيانًا الفصحى المسجوعة التي يتخللها الشعر غير الملائم للنص المسرحي غالبًا، كما كانت أحيانًا أخرى العامة المهلهلة، التي يتخللها الزجل المقحم في أكثر الحالات2، ومع ذلك فمسرحيات تلك الفترة -على عيوبها- قد مثلت ميلادها هذا الشكل الفني في مصر لأول مرة، وكانت الخطوات الأولى في هذا الطريق الذي سوف يوصل إلى نشأة الأدب المسرحي.

_ 1 انظر: المصدر السابق ص94-112. 2 انظر: المسرح النثري للدكتور محمد مندور، الحلقة الأولى ص17-19.

كتب الأدب وتجددها

7- كتب الأدب وتجددها: ونعني بها هذا اللون من الكتابات التثقيفية، التي تجم بين مختارات من الشعر، والنثر، والتاريخ، والحكم، والأمثال، وغير ذلك مما يمتع الأديب، ويفيد المتأدب من ثقافة عامة، تتشكل بثقافة المؤلف، وتصور- إلى حد كبير- ثقافة عصره. وقد عرفنا في أدبنا القديم ألوانًا من هذه الكتب، عند أبي الفرج في كتابه "الأغاني"، وعند ابن عبد ربه في كتابه "العقد الفريد".. وكانت تلك الكتب -رغم طابعها الثقافي العام- تسمى "كتب أدب"، بمعنى عام لكلمة أدب، يراد به الثقافة الإنسانية العامة، التي يتخللها الشعر والنثر، وجيد القول المأثور على وجه العموم. وقد حفظت لنا تلك الفترة التي نسوق عنها الحديث، بعض الأعمال التي يمكن أن توضع في هذا اللون من التأليف الأدبي.. وأهم تلك الأعمال كتابان لرفاعة الطهطاوي، الذي امتد به الأجل إلى تلك الفترة1، وكان لها فيها نشاط لا يمكن أن يغفل هذان الكتابان هما: "مناهج الألباب المصرية، في مباهج الآداب العصرية"، ثم "المرشد الأمين للبنات والبنين"، وكل من الكتابين، يقدم معلومات شتى ومعارف منوعة، في أسلوب أدبي، وتتخللها مختارات الشعر والنثر، وتتناثر فيها المأثورات والتواريخ، وتحليها الحكم والأمثال، ثم إن ما في هذين الكتابين من معلومات ومعارف، تلونها ثقافة رفاعة، التي تجمع بين الشرق والغرب، ويمتزج فيها ما هو عربي أزهري، بما هو أوروبي باريسي، وهي بعد ذلك تصور طابع العصر الذي التقى فيه تياران، أحدهما عربي قديم، وثانيهما غربي حديث ... ومن هنا يمكن اعتبار هذين الكتابين امتدادًا، أو تطورًا لهذا اللون من الأدب التأليفي، الذي عرفناه قديمًا عند أبي الفرج صاحب الأغاني، وابن عبد ربه صاحب العقد. ويشترك الكتابان في أن لغتهما مرسلة حينًا مسجوعة حينًا آخر، وهي في الحالتين واضحة معجبة، وأجود بكثير من لغة رفاعة في كتابيه السابقين، "تخليص الإبريز" و"مواقع الأفلاك"، ويغلب استخدام السجع والتأنق الأسلوبي في هذين الكتابين المتأخرين، حين يكون المقام عاطفيًا وجدانيًا،

_ 1 توفي رفاعة سنة 1873م.

كما يغلب الترسل المتقارب للغة العلم، حين يكون الموقف فكريًا أو علميًا. على أن الكتابين بعد اشتراكهما في هذه الصفات العامة ينفرد كل منهما بسمات خاصة، فالكتاب الأول يغلب عليه جانب التثقيف العلمي، بمقالات عن التجارة والصناعة والزراعة والسياسة، هذا بالإضافة إلى العلوم الإنسانية كالتاريخ والأخلاق، أما الكتاب الثاين فيغلب عليه التهذيب الأدبي بمقالات في الآداب والتربية، والدين والوطنية والاجتماع، وما إلى ذلك ... وفيما يلي نماذج من الكتابين: يقول رفاعة في مقدمة "مناهج الألباب": ".... وهو نخبة جليلة، وتحفة جميلة، في المنافع العمومية، التي بها للوطن توسيع دائرة المدنية.. وعززتها بالآيات البينات، والأحاديث الصحيحة والدلائل المبينات، وضمنتها الجم الغفير من أمثال الحكماء، وآداب البلغاء وكلام الشعراء ... "1. ويقول في "المرشد الأمين" في حديثه عن الوطن وكون مصر أحسن الأوطان: "الوطن هو عش الإنسان الذي فيه درج، ومنه خرج، ومجمع أسرته، ومقطع سرته، وهو البلد الذي نشأته تربته، وغداه هواؤه، وحلت عنه التمائم فيه، قال أبو عمرو بن العلاء: مما يدل على حرية الرجل وكرم غريزته، حنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى متقدم إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه، والكريم يحن إلى أحبابه كما يحن الأسد إلى غابة، ويشتاق اللبيب إلى وطنه، كما يشتاق النجيب إلى عَطَنه، فلا يؤثر الحر على بلده بلدًا، ولا يصبر عنه أبدًا، قال الشاعر: بلاد بها نيطت علي تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها وكان الناس يتشوقون إلى أوطانهم، ولا يفهمون العلة في ذلك، حتى أوضحها علي بن العباس الرومي، في قصيدة لسليمان بن عبد الله بن طاهر، يستعديه على رجل من التجار يعرف بابن أبي كامل، أجبره على بيع داره، واغتصبه على بعض جدرها، فقال ابن الرومي:

_ 1 انظر: مناهج الألباب المصرية لرفاعة الطهطاوي -المقدمة ص4.

ولي وطن آليت ألا أبيعه ... وألا أرى غيري له الدهر مالكًا وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذالكا فقد ألفته النفس حتى كأنه ... لها جسد إن بان غودر هالكا ولا يشك أحد في أن مصر وطن شريف إن لم نقل: إنها أشرف الأمكنة؛ فهي أرض الشرف والمجد في القديم والحديث، وكم ورد في فضلها من آيات بينات وأثار وحديث، فما كأنها إلا صورة جنة الخلد، منقوشة في عرض الأرض، بيد الحكمة الإلهية، التي جمعت محاسن الدنيا فيها، حتى تكاد أن تكون حضرتها في أرجائها ونواحيها ... "1. ثم يقول في الكتاب نفسه عن تعليم المرأة: "ينبغي صرف الهمة في تعليم البنات؛ فإن هذا مما يزيدهن أدبًا وعقلًا، ويجعلهن للمعارف أهلًا، ويصلحن به لمشاركة الرجال في الكلام والرأي، فيعظمن في قلوبهم ويعظم مقامهن ... وليمكن للمرأة -عند اقتضاء الحال- أن تتعاطى من الأشغال والأعمال ما يتعاطاه الرجال، على قدر قوتها وطاقتها، فكل ما يطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن، وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة؛ فإن فراغ أيديهن عن العمل، يشغل ألسنتهن بالأباطيل، وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل، فالعمل يصون المرأة عما لا يليق، ويقربها من الفضيلة، وإذا كانت البطالة مذمومة في حق الرجال، فهي مذمة عظيمة في حق النساء، فالمرأة التي لا تعمل تقضي الزمن خائضة في حديث جيرانها، وفيما يأكلون ويشربون ويلبسون ويفرشون، وفيما عندهم وعندها، وهكذا ... "2. وهذا الكلام بالإضافة إلى كونه نصًّا أدبيًّا ذا قمية في ذاته، يعتبر ريادة لفكرة إصلاحه اجتماعية كبير، وهي فكرة تحرير المرأة، فقد سبق رفاعة بها قاسم أمين بزمن، وإن لم يتوسع فيها توسع هذا الأخير. وهكذا يضيف رفاعة إلى ألوان رياداته، لونًا آخر يذكر له مع كل ثناء عرفان بالفضل.

_ 1 انظر: المرشد الأمين لرفاعة الطهطاوي ص90. 2 انظر: المصدر السابق ص66.

الفصل الثالث: فترة النضال

الفصل الثالث: فترة النضال حوافز النضال واتجاهاته: 1- من جرائم الاحتلال البريطاني: لقد بدأ الإنجليز يطمعون في الاستيلاء على مصر، منذ أيام الحملة الفرنسية عليها، ولذا طارد أسطولهم الأسطول الفرنسي حتى أغرقه في أبي قير سنة 1798، ولذا أيضًا شاركوا في إخراج الفرنسيين من مصر سنة 1801، وللسبب نفسه حاولوا غزو البلاد بتلك الحملة المعروفة بحملة فريزر سنة 1807، ولكن المصريين ردوهم ببسالة في موقعة رشيد الخالدة1. وحين عجز الإنجليز عن التدخل العسكري المباشر، ظلوا يتحينون الفرص لكسب نفوذ في مصر، حتى يمهدوا به قليلًا قليلًا لما بيتوه من احتلال كامل، وما إن تورط إسماعيل في الديون، حتى أمدته بريطانيا -فيمن أمده من دول- حتى تضيق الحبل حول رقبته، بل حور رقبة مصر، ثم ضرب الإنجليز ضربتهم التي حققت التدخل الفعلي في شئون البلاد، وذلك حين اشتروا حصة مصر من أسهم قناة السويس سنة 1875؛ فقد تبع ذلك تدخلهم في توجيه اقتصاديات البلاد وسياستها، بحجة المحافظة على مصالحهم وأموالهم، الممثلة فيما لهم من ديون وحقوق في قناة السويس، وتحقق كثير من طمعهم، ولكنهم لم يرضوا إلا بنيل كل ما بيتوا له، وهو الاحتلال الكامل. ولذا انتهزوا فرصة تحرك العناصر الوطنية المطالبة بتحقيق مطالب الشعب على أيدي عرابي، وأصحابه، ونفذوا مؤامرتهم الاستعمارية، ليتخلصوا من تلك العناصر الوطنية أولًا، وليتم لهم ما طمعوا فيه من احتلال مصر آخر الأمر.. وهكذا ضربوا الإسكندرية من البحر في يوليو سنة 1882، ونزلوا إلى أرض مصر، وتحرك عرابي بجنده لنزالهم، وعمل جهده على تحطيم غزوهم، ولكن

_ 1 انظر تاريخ مصر السياسي لمحمد رفعت جـ1 ص92-93.

الخيانة والتآمر والغدر كانت فوق طاقة الثائر الأمين الباسل، فهزم عرابي وجنده في معركة التل الكبير، وتم احتلال الإنجليز لمصر في سبتمبر سنة "1882"1. ومعروف أن أهم أطراف المؤامرة كانت تتمثل في توفيق الخائن، والإنجليز المعتدين، ولذا تآزر هذان الطرفان من أول أيام الاحتلال على إضعاف كل القوى الواعية في مصر، حتى تستحيل البلاد إلى حقل كبير ينتج القطن لمصانع بريطانيا، ويصب المال في جيب الخديوي، وأعوانه الرجعيين. وتبعًا لتنفيذ تلك الخطة، اكتفى الخديوي من حكم البلاد بالاسم، وبعض مظاهرة الشكلية الزائفة التي يضمنها له الإنجليز، وأطلق الأيدي هؤلاء المعتدين في مصر، يصفون كل قواها الواعية على الوجه الذي يحقق أطماعهم، ويسدد لهم ثمن حمايتهم للخديوي الخائن. وهكذا نفي عرابي وأصحابه، وصفيت كل العناصر الوطنية في الجيش وخارجه، إما بالنفي أو السجن أو الاختفاء، ونتيجة للسياسة التي رسمها الإنجليز وأشرفوا على تنفيذها بوساطة مستشاريهم، ومعتمديهم2، سرح الجيش

_ 1 اقرأ ذلك بالتفصيل في: الثورة العرابية والاحتلال البريطاني لعبد الرحمن الرافعي، وفي: مذكرات عرابي لأحمد عرابي. 2 من مستشاريهم المخربين. "دوفرين" الذي كان سفيرًا لبريطانيا في الآستانة، وجاء بعد الاحتلال إلى مصر، ووضع تقريره المشهور الذي رفع إلى وزارة الخارجية البريطانية، وضمنه مقترحاته لتصفية الوضع في مصر، وكان من هذا التقرير: وجوب تسريح الجيش وحل مجلس شورى النواب ... ومن معتمديهم "كرومر" الذي عمل في مصر نحو ربع قرن من سنة 1883 إلى سنة 1907، وكانت سنواته سنوات إرهاب وطغيان لا تنسى ... ومنهم كذلك "غوست" الذي جاء بعد "كرومر"، والذي هادن الخديوي على حساب الوطنيين ... ومنهم "كتشنر" الذي كان "سردار" الجيش أيام "كرومر"، ثم عين معتمدا بعد "غورست".... ومن أخطر مستشاريهم "دانلوب" الذي عمل مستشارًا للمعارف من سنة 1906 إلى سنة 1919، وكان من أهم أسباب تأخر التعليم في مصر، وجموده على عهد الاحتلال، وقد ظل أثر سياسته الفاسدة يسيء إلى التعليم في مصر سنوات بعد رحيله.

الوطني القوي الذي حارب مع عرابي، وكان يضم كثيرًا من الوطنيين الأقوياء البواسل، وأعيد تكوينه على ضعف وهزال، وفي عدد لا يتجاوز ستة آلاف، على رأسهم "سردار" إنجليزي يعاونه طائفة من كبار الضباط الإنجليز، كذلك أغلقت مصانع الأسلحة كلها وبيعت آلاتها، كما أنهيت البحرية المصرية، وبيعت سفنها، وشبيه بما فعل مع الجيش لتصفيته، وإضعافه وجعله في قبضة المحتلين، فعل مع البوليس، بوضع رجل إنجليزي على رأسه، وتعيين وكيل إنجليزي لوزارة الداخلية. ونتيجة للسياسة الإنجليزية نفسها أرهق الاقتصاد المصري بل خنق؛ وذلك بتعيين مستشار إنجليزي للمالية، وإجهاد الخزانة المصرية بتعويضات مجحفة تؤدي للأجانب عما أصابهم من خسائر وهمية، ثم كان من عوامل خنق الاقتصاد المصري، وإرهاق المصريين ماليًّا تحميل مصر تكاليف جيش الاحتلال والموظفين الإنجليز، ثم تحميلها كذلك تكاليف حرب المهدي في السودان1. هذا فيما يتصل بالقوتين العسكرية والاقتصادية، اللتين تمثلان للبلاد ساعدها الذي تحتمي به، وقلبها الذي تعيش عليه. أما فيما يتعلق بالقوتين الثقافية والأخلاقية، فقد عمل الاحتلال على إضعافهما ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فقد عوقبت البعثات2، وأهملت المعاهدات العالية3، واقتصر الاهتمام.

_ 1 انظر: مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال البريطاني لعبد الرحمن الرافعي: ص: 9، 17، 19، 64، 159. 2 كان أكثر البعثات قبل الاحتلال يوفد إلى فرنسا، فأصدر كرومر قرارًا بإلغاء البعثات إليها، وكان ذلك سنة 1895. اقرأ: في الأدب الحديث لعمر الدسوقي جـ2 ص33. 3 من صور هذا الإهمال بل العبث ضغط دنلوب على عميد مدرسة الحقوق الفرنسي "مسيو لامبير" حتى استقال، فعين بدلا منه شابًا إنجليزيًا، كما استبدل بالأساتذة الفرنسيين مدرسين من الإنجليز الصغار، الذي يجهلون قوانين البلاد. اقرأ: مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص244، وما بعدها.

بالتعليم على اللون الذي يخرج طائفة من الموظفين الذي يعملون تحت رياسة رؤساء من الإنجليز. وكان من أبرز مظاهر تخلف التعليم في عهد الاحتلال، انخفاض نسبة المتعلمين في الأربع والعشرين سنة الأولى من الاحتلال إلى النصف، وانخفاض ميزانية التعليم بشكل واضح عما كانت عليه قبل الاحتلال1، وقد اعترف بذلك الإنجليز على لسان رجهلم في مصر حينذاك "كرومر"2، الذي كان يدعو جهرًا إلى عدم تقدم التعليم في مصر3. كذلك فرضت اللغة الإنجليزية على التعليم، وحوربت اللغة العربية ألوانًا من الحرب، فلم تعد وسيلة للتدريس، وإنما حلت محلها لغة المحتلين4، ولم تترك الفصحى وسيلة للتعبير خارج قاعات الدرس، لتنمو وتتطور، وتصل المصريين بالماضي العربي المشرق، والتراث الإسلامي المجيد، وتجمعهم مع إخوانهم العرب والمسلمين في كتلة قوية واعية، وإنما ظهرت دعوات خبيثة من خبر الاستعمار، وبعض من خدع فيهم من العرب، وراحت هذه الدعوات تهاجم الفصحى، وتنسب إلى المصريين التخلف والعجز بسببها،

_ 1 كانت نسبة المتعلمين سنة 1883 نحو 16% فصارت سنة 1907 نحو 8%، وكانت ميزانية التعليم سنة 1866 أكثر من 000 و 141 من الجنيهات، فهبطت سنة 1885 على عهد الاحتلال إلى 689 و 84، وزادت هبوطًا سنة 1890، فصارت 337 و 80. انظر: في الأدب الحديث لعمر الدسوقي جـ2 ص18، وانظر: كذلك: Modern Egypt. Cormer, Vol, 2 p. 529 2 انظر: The Situation in Eypt, Cromer p.12. 3 انظر: Abbas II. Cormer, pp. 23-24. 4 حمل "دنلوب" علي مبارك على إصدار قرار يجعل اللغة الإنجليزية لغلة التعليم سنة 1889، وظل الحال كذلك حتى نجح المصريون في إعادة اللغة العربية إلى ميدان التعليم سنة 1908، وتم تعريب التعليم سنة 1912. اقرأ: في الأدب الحديث لعمر الدسوقي جـ2 ص43-45.

وتنادي باتخاذ العامية لغة للتأليف العلمي والأدبي، وبإحلال العامية محل الفصحى في القراءة والكتابة1. وهكذا عوُقت الحركة العلمية، وتناقص عدد المتعلمين، ووجدت اللغة العربية صعوبات وعراقيل، وأصبح من يشتغلون بها من الطوائف المضطهدة في رزقها، وفي وضعها الاجتماعي. كذلك حل المستعمرون "مجلس شورى النواب"، بحجة أن المصريين لم يصلوا بعد إلى المرحلة التي يستطيعون فيها أن يكون لهم مجلس نيابي، أو حكومة ديمقراطية، وقد استعاضوا عن هذا المجلس بثلاث مؤسسات أخرى هي الجمعية العمومية، ومجلس شورى القوانين، ومجال المديريات، وكل هذه المؤسسات لا تغني عن المجلس النيابي شيئًا بطبيعة الحال، وإن برر الإنجليز مسلكهم العدواني بأنهم يريدون أن يدربوا المصريين على الحكم النيابي الذي لم يصلوا إلى مستواه في زعمهم2.

_ 1 من أمثلة الهجوم على الفصحى، ما دعا إليه "دوفرين" في تقريره المشهور سنة 1883 من تحبيذ اللغة العامية والعناية بها، ثم ما قاله وليام ولكوكس" في خطبة ألقاها في نادي الأزبكية سنة 1893، من أن العامل الأكبر في فقدان المصريين لقوة الاختراع هو استخدام الفصحى، ثم ما قاله: "ويلمور" أحد قضاة الإنجليز سنة 1901، من نصح المصريين بهجر الفصحى، ومن العرب الذين خدعوا بمثل تلك الدعوات: إسكندر معلوف السوري، الذي حاول أن يوهم المصريين بأن سبب تأخره هو استخدام الفصحى، وذلك في مقال له بالهلال في مارس سنة 1902. اقرأ: في الأدب الحديث لعمر الدسوقي جـ2 ص40، وما بعدها، ومقالا للدكتور علي عبد الواحد وافي في مجلة الرسالة، العدد الصادر في 3 ديسمبر سنة 1964، ومقالًا للأستاذ محمود شاكر في الرسالة عدد 7 يناير سنة 1965. وانظر: رسالة كاملة في هذا الموضوع للدكتورة نفوسة زكريا، وعنوان هذه الرسالة هو: تاريخ الدعوة إلى العامية وأثرها في مصر. 2 انظر: مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال البريطاني ص36-51.

وفي الوقت نفسه أخمدت أنفاس الصحافة بسبب أقل شبهة في معاداة الإنجليز أو الخديو، فمنعت "العروة الوثقى" من دخول مصر، وكان يصدرها في باريس جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وقت إبعادة عن البلاد، بعد الثورة العرابية. كذلك ألغيت صحيفة "الوطن"، وصحيفة "مرآة الشرق"، وصحيفة "الزمان"، وعطلت "الأهرام" بعض الوقت1. وهكذا خنقت روح القوة الأخلاقية، وهي الحرية، وأصبح بعض الناس يتشكلون وفق مصالحهم، أو ما يرونه من صالح جماعتهم، فتقرب نفر من المستعمرين، وهادن آخرون الحكام الخائنين، وبدأت المفاسد الخلقية التي تخلفها مصادرة الحرية تظهر في صورة شتى، ولكن كلها قبيح شائه كريه. وقد أضيف إلى هذا العامل الرئيسي المفسد للأخلاق، عامل الضغط الاقتصادي على طبقات الشعب الكادحة، بما كان من استغلال الإقطاعيين لهم، وامتصاص المرابين لدمائهم، وجور السلطان عليهم، أجل أضيف هذا العامل الاقتصادي المفسد، إلى العامل المعنوي المتلف، فتضاعفت المأساة، وظهرت مع الاحتلال عيوب خلقية عديدة، في طليعتها: النفاق، والجشع والحقد، وما إلى ذلك مما يخلفه فقدان الحرية، وسوء النظم الاقتصادية. كذلك أدخل الاحتلال إلى مصر ألوانًا من المباذل الوضيعة، كالبغاء الرسمي ونوادي الميسر، وحانات الخمر، وظهرت هذه المباذل في المدن، وجرفت كثيرًا من المواطنين، فعرفت حياتنا الاجتماعية -وخاصة في المدن- عيوبًا لم تعرفها قبل عهد الاحتلال2. وهكذا عمل الاستعمار على قتل القوتين الثقافية والأخلاقية، اللتين

_ 1 انظر: المصدر السابق ص161-163، ومذكراتي في نصف قرن لأحمد شفيق. 2 اقرأ: مقالًا لعبد الله النديم، يندد فيه بتلك المفاسد في "الأستاذ" عدد 17 يناير سنة 1893.

تمثلان عقل الأمة، وضميرها تماماً كما عمل على قتل القوتين العسكرية والاقتصادية، اللتين تمثلان ساعد الأمة وقلبها. حقيقة قد أباح الاحتلال -بعد فترة- إنشاء بعض الصحف، كما سمح بقيام بعض الأحزاب، ولكن ذلك كان أساسًا لتأجيج الخصومات، وتفريق شمل الأمة. وحقيقة قد قام الاحتلال ببعض ألوان من إصلاح الري، وإقامة بعض السدود والقناطر، ولكن ذلك كان بقصد زيادة محصول القطن، الذي كانت تحتكره المصانع الإنجليزية، على أن هذا كله لم يخلف رخاء اقتصاديًا، ولم يرفع مستوى الشعب، وإنما زاد من ثراء طائفة من كبار الملاك، وضاعف من تحكمهم في الطبقة الكادحة1. ومن ذلك كله كانت التركة التي خلفها الاحتلال، تركة مثقلة رهيبة تحتاج إلى نضال صابر وكفاح مرير، حتى يصلح ما فسد ويقوم ما اعوج، كان على البلاد أن تناضل في ميادين عديدة، في ميادني السياسة ضد المحتل وحليفه اقصر، وفي ميدان الاقتصاد ضد الفقر والاستغلال، وفي ميدان التعليم ضد الجهل والأمية، وفي ميدان الثقافة ضد العدوان على اللغة وتراث العرب والإسلام، وفي ميدان الاجتماع ضد التخلف والجمود، وفي ميدان الأخلاق ضد التبذل والتفرنج. والحق أن الاحتلال لم يستطع -رغم وسائله العديدة- أن يحول بين الرواد المصريين، وبين خوض معركة النضال من أجل تخليص الوطن، وإصلاح ما فسد من أمره، وكل ما استطاعه الاحتلال هو أن يعوق مسيرة مصر إلى نهضتها، وأن يكلفها الكثير من التضحيات والجهد، لكي تحقق ما تصبو إليه من هدف كبير، وقد أثبت مصر في نضالها الشريف، أنها بإيمانها ونبل غايتها، أقوى من الاحتلال بكل جيوشه، وخسيس أهدافه.

_ 1 انظر: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد حسين جـ1 ص215- 216، وتطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص36، ومصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص27-30.

مراحل النضال وطرائقه

2- مراحل النضال وطرائقه: كانت السنوات العشر الأولى من سني الاحتلال سنوات كئيبة، خيم فيها ما يشبه الذهول الذي يصيب المرء من أثر الصدمة، وكان للضغط الشديد الذي يفرضه الإنجليز، وللاضطهاد البالغ الذي وقع بالمصريين، أثر كبير في سيطرة هذا الجو الكئيب، الذي أوقف -تقريبًا- كل نشاط سياسي، للقيادات المصرية، ووجه النضال إلى طريق الإصلاح الديني والفكري، الذي تزعمه من رأوا أن الحالة غير ملائمة للعمل السياسي، وأن الواجب انتهاز الفرصة للإصلاح في ميادين أخرى تؤهل المواطنين بعد ذلك للحياة الأفضل. وكان في مقدمة هؤلاء المصلحين، الإمام محمد عبده، الذي أخذ نفسه -بعد عودته إلى مصر، وبعد انتهاء مدة إبعاده- بإصلاح الأزهر والقضاء الشرعي، وبتوضيح الجوانب المشرقة في الإسلام، والرد على طعنات أعدائه، كما اهتم كثيرًا بجانب الإصلاح الديني، والفكري على وجه العموم1. ولما مات توفيق، وتولى عباس حلمي سنة 1892، أراد هذا الخديو الجديد - في أول عهده- أن يدعم سلطانه، وأن يتكئ على سند غير سند الإنجليز الذين لا أمان لهم في السياسة، فتظاهر بالوطنية، وأبدى كثيرًا من المظاهر التي يخالف بها سابقية من الحكام، فأخذ يستقبل طوائف الشعب في مناسبات عديدة، وراح يزور الأقاليم المصرية المختلفة، وبدأ يقرب العناصر الوطنية ويؤازرها، فأصدر عفوًا من المشتركين في

_ 1 انظر: المنار جـ2 ص893.

الثورة، بل تعدى ذلك إلى تشجيع المصريين على مقاومة الإنجليز، وعدم الخضوع لهم1. وكان المصريون من جانبهم، قد بدأت تتبدد صدمتهم بالاحتلال، وشرعوا يثوبون إلى أنفسهم، ويعون واقعهم ويدركون واجبهم، ومن هنا بدأ النشاط السياسي النضالي يظهر، وأخذ نفر من الزعماء المصريين الجدد يندد بالاحتلال، وينتقد وجود الإنجليز، وينادي بالاستقلال والحرية. وكان الإنجليز بدورهم قد بدءوا يخفقون قبضتهم على الصحافة، وعلى العمل السياسي، أملا في أن تشغل المعارك الصحفية المصريين عن الإنجليز، وطمعًا في أن يستهلك النزاع الحزبي جهود المواطنين، ولكن المصريين أحسنوا -إلى حد كبير- الإفادة من الفرصة المتاحة؛ فأنشأوا الصحف الوطنية، وراح كتابهم يهاجمون الاستعمار، وينادون بالحرية، ويناضلون جاهدين لتخليص الوطن مما جلبه عليه الاحتلال2. وهكذا بدأ النضال السياسي، ولكنه أخذ اتجاهين مختلفين، الاتجاه الأول يلونه حماس ديني، فيرى أن المشكلة الأولى هي مشكلة جلاء الإنجليز، وإنهاء الاحتلال ولكن مع الإيمان بأن الجامعة الإسلامية، هي طريق القوة، وبأن الولاء للخلافة -التي يعتبر الخليفة التركي رمزًا لها- ولاء ضروري تفرضه فكرة الإيمان بضرورة قيام جامعة إسلامية تتكتل لتواجه خطر الاستعمار. ورغم أن زعماء هذا الاتجاه كانوا من ذوي الثقافة المدنية الحديثة، وأنهم لم يكونوا من رجال الدين، قد كانت عواطفهم الدينية تلون أفكارهم، وتوجه

_ 1 انظر: مذكراتي في نصف قرن لأحمد شفيق جـ2 ص16، 26، 35، 37، 38، 52. 2 تحدث الشيخ علي يوسف في السنة الأولى لظهور المؤيد سنة 1889 عن مسألة الجلاء، ثم تبعه مصطفى كامل في الأهرام والمؤيد واللواء. انظر: منتخبات المؤيد ص30، واقرأ: مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي.

دعوتهم كما كان لسياستهم ما يبررها -في نظرهم- حينذاك، من وجوب التكتل أمام قوى الغرب، ومن وجوب جمع كلمة المسلمين تحت فكرة الجامعة الإسلامية، وعدم الانفصال عن الخلافة باسم القومية أو الوطنية؛ لأن ذلك معناه الانقسام، وإتاحة الفرصة للمستعمر ليلتقم أمم الإسلام واحدة وراء أخرى1. وكان يمثل هذا الاتجاه الأول؛ الحزب الوطني، ويقوده مصطفى كامل الذي اتخذ صحيفة اللواء لسان حاله2. كما كان أصحاب هذا الاتجاه، وعلى رأسهم مصطفى كامل، موالين -أول الأمر- للخديوي الجديد عباس، لما كان يظهره من وطنية ومؤازره للوطنيين، وكراهية ومناوأة للإنجليز، ثم عادوا فعادوا عباسًا وحاربوه، وذلك حين ضعف أمام الضغط الإنجليزي وانقلب على الوطنيين، وهادن المحتلين حتى انتهى معهم إلى سياسة الوفاق3. أما الاتجاه الثاني من اتجاهي النضال الوطني، فقد كان يلونه حماس قومي، فهو يرى أن فكرة الجامعة الإسلامية غير ممكنة التحقيق، وأن الانفصال عن الخلافة واجب بعدما كان من فساد الخلفاء الأتراك، وأنه لا ولاء إلا لمصر، ولا عمل إلا من أجل مصر، وأن مصر للمصريين وأصحاب هذا الاتجاه يعتقدون بعد هذا المشكلة الحقيقية هي الاحتلال، وأن إخراج الإنجليز من مصر واجب، ولكن ذلك يجب أن يسبقه إعداد

_ 1 اقرأ بعض ما كتبه مصطفى كامل عن ذلك في "المسألة الشرقية" ص19-22. 2 اقرأ تفصيل القول عن هذا الاتجاه في: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد حسين. الفصل الأول من الجزء الأول. ويلاحظ أن الحزب الوطني لم يؤلف بصفة رسمية إلا سنة 1907، وإن كان اسمه يطلق على السائرين في اتجاه مصطفى كامل قبل ذاك التاريخ بزمن. انظر: مصطفى كامل للرافعي ص255، وما بعدها. 3 انظر: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر لمحمد حسين جـ1 ص154، وما بعدها، وص174 وما بعدها.

الشعب لحكم نفسه، وتأهيله لتملك المسئولية الكبيرة؛ وذلك بتنويره وتثقيفه، وبتعويده نظم الحكم الحديثة، ومن هنا شغل أصحاب هذا الاتجاه أنفسهم أولًا بالإصلاح الفكري والاجتماعي والسياسي، وعملوا على أن يقوم في مصر حكم ديمقراطي، فيه وزارة من المصريين تزاول عملها على أساس المسئولية البرلمانية، وفيه برلمان يمثل الشعب، ويراقب أعمال الوزارة وباقي السلطات. وكان هذا الاتجاه ممثلًا في حزب الأمة، ويتزعمه لطفي السيد، الذي اتخذ صحيفة الجريدة لسانًا لحاله1. ويلاحظ أن أصحاب هذا الاتجاه الثاني، كانوا -في جملتهم- من كبار الملاك وأبنائهم، وكانوا بين مستمدين لنفوذهم مما تحت أيديهم من إقطاع كبير، مثل محمود سليمان رئيس حزب الأمة؛ وبين مستمدين لنفوذهم مما في رءوسهم من ثقافة واسعة، مثل لطفي السيد محرر الجريدة، وقاسم أمين أحد مفكري الحزب. على أن الجميع كانوا يعتقدون أنهم أصحاب المصالح الحقيقية في مصر، وأنهم أحق بالحكم والسلطان، وتولي شئون البلاد من الأتراك وأسرة محمد علي، ومن هنا أخذت سياستهم هذا الاتجاه الذي يهدف أقرب ما يهدف إلى الإصلاح السياسي الداخلي ونيل الدستور، وأخذ أكبر قسط من السلطة التي في يد الخديوي، ومن هنا لم يكن أصحاب هذا الاتجاه في تحمس أصحاب الاتجاه الأول، لإخراج الإنجليز2، وإن كانوا لم يقروا بقاءهم بطبيعة الحال3.

_ 1 كون حزب الأمة بصفة رسمية سنة 1907، وظهرت جريدته في نفس العام، وسوف ترد ترجمة موجزة للطفي السيد حين يكون الحديث عن طريقته في النثر. 2 انظر بعض شواهد ذلك في عدد الجريدة الصادرة في 23 مارس سنة 1907، وفي العدد الصادر في 30 سبتمبر سنة 1907. 3 اقرأ تفاصيل هذا الاتجاه في: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر جـ1 الفصل الثاني.

على أن ارتباط أصحاب الاتجاه الأول بفكرة الجامعة الإسلامية، صبغت دعوتهم الإصلاحية، وكل نشاطهم النضالي بطابع إسلامي عربي واضح، وذلك لارتباط الإسلام بالتراث العربي ارتباطًا لا انفصام له، ومن هنا عنوا بالتراث العربي والاهتمام به، والإقبال على تمثله والاعتماد عليه، كما نافحوا عن اللغة العربية، وتصدوا للدعوات المحاربة لها أو الغاضة من شأنها، كما اهتموا بإشاعة القيم الإسلامية العربية، والاعتماد على الأسلوب الحضاري الذي عرفته حضارة العرب والإسلام، ولم يفتنوا كثيرًا بالحضارة الغربية، وأساليبها الغربية الوافدة. كما أن ارتباط أصحاب الاتجاه الثاني بفكرة القومية، شكل دعوتهم الإصلاحية، وكل نشاطهم النضالي بطابع غربي أوروبي واضح، فإيمانهم بالقومية، جعلهم يعطون ظهرهم للخلافة، ويولون وجوههم شطر البلاد التي نشأت فيها القوميات، والتي ازدهرت فيها مدنية حديثة تبهر الأبصار. ومن هنا شغل أصحاب هذا الاتجاه الثاني شطرًا كبيرًا من نشاطهم بألوان من الإصلاح الفكري والاجتماعي والسياسي، الذي يستمد مثله الأعلى من حضارة الغرب ومدنية أوروبا؛ فنادوا بفصل الدين عن الدولة، كما نادوا بفكرة الوطنية بمفهوم عقل مصلحي، لا بمفهوم وجداني حماسي، كذلك دعوا إلى تفسير نصوص الدين بما يلائم الحضارة ويتفق مع التطور، وظهرت في هذا المجال دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة1. والحق أن الاتجاه الأول أخذ -من الناحية السياسية- يضعف شيئًا

_ 1 اقرأ مثلا لفكرة فصل الدين عن الدولة فيما كتبه عبد القادر حمزة بعنوان "خطر علينا وعلى الدين" في "المقتطف" عدد مارس سنة 1904. واقرأ مثلا لفكرة الوطن بذلك المفهوم في افتتاحية "الجريدة العدد الصادر في 10 مارس سنة 1907، وعنوان المقال "الوطنية في مصر". واقرأ أمثلة من محاولة تطويع الدين ونصوصه بما يحقق فكرة التطور، ويلائم مفهوم الحضارة عند مفكري هذا الاتجاه، فيما كتبه قاسم أمين في كتابيه "تحرير المرأة" و "المرأة الجديدة"، وقد ظهر الأول سنة 1899، ثم ظهر الثاني سنة 1900.

فشيئًا حتى أصبحت دعوته السياسية أشبه بحلم يعيش عليه بعض المتحمسين. أما من الناحية الفكرية، فقد كان خلال تلك الفترة في المحل الأول، ثم استمرت دعوته وعاشت عبر السنين، كتيار فكري يرى أن نقطة الانطلاق إلى الثقافة، والحضارة يجب أن تبدأ مما عرفه العرب أيام مجدهم الزاهر. وأما الاتجاه الثاني فقد استطاع -من الناحية السياسية- أن يتغلب، وذلك بسبب قوة نفوذ السائرين فيه، وكونهم يقتسمون الثراء المادي والفكري جميعًا. وقد ساعد على تغلب هذا الاتجاه من الناحية السياسية، ما مني به أصحاب الاتجاه الأول من ضربات أضعف قوتهم، وقللت أعوانهم، ومن تلك الهزائم معاداة الخديو لهم بعد أن انقلب على الوطنيين وهادن الإنجليز، ومنها تخلي فرنسا عن مؤازرتهم ضد بريطانيا، بعد الاتفاق الودي الذي تم بين الدولتين سنة 1904، والذي أطلقت به فرنسا يد بريطانيا في مصر، وأطلقت به بريطانيا يد فرنسا في المغرب، ومنها ظهور دعوة تركيا الفتاة، ومناداة بعض الأتراك أنفسهم بترك فكرة الخلافة، ومنها بعد ذلك كله ما كان من تخلف تركيا وفساد خلافتها، وعدم ارتياح وطني مستنير إلى الارتباط بها على الرغم من تخلفها، وضعتها وفسادها. أما من الناحية الفكرية، فقد كان هذا الاتجاه في المحل الثاني، ولم يستطع أن يتغلب على الاتجاه الأول، بل عاشا معًا يمثلان ثنائية "أيديلوجية" في الحياة الفكرية والاجتماعة، ثم يشكلان أهم اتجاهات الأدب كما سنرى إن شاء الله. على أن من الحق أن يقال ابتداء: إن هذا الاتجاه الثاني، هو الذي فتح الطريق إلى التجديد في الأدب، ومعهد إلى تعرف الأدب بالتيارات الغربية الحديثة، والفنون الأدبية الجديدة. وهكذا أصبح النضال السياسي -بعد ضعف الحزب الوطني- ممثلا في حزب الأمة، وقد آثر هذا الحزب البدء بنواحي الإصلاح، والإعداد للاستقلال وخطا في ذلك خطوات فساح، ثم قامت الحرب الكبرى الأولى سنة 1914.

وكان الخديوي عباس في تركيا لبعض شئونه، فانتهزت بريطانيا الفرصة، وأعلنت الحماية على مصر، ومنعت عباسًا من العودة إلى البلاد، وولت آخر من أسرة محمد علي، هو حسين كامل، الذي خلعت عليه لقب سلطان1. وعاش المصريون فترة الحرب الكبرى الأولى في ضيق بالغ، وتحت ضغط رهيب، حيث فرض الإنجليز على الصحف الرقابة، وأعلنوا الأحكام العسكرية، وساقوا المصريين إلى العمل الشاق المهين تحت اسم "السلطة"، واستولوا على كثير من أقوات أبناء البلاد، وأموالهم لإمداد الجيوش البريطانية، كل هذا تحت عين الحكام من أبناء أسرة محمد علي، والمواطنون وزعماؤهم مكبلوا الإرادة مغلولو القدرة، لا يستطيعون أن يقاوموا هذا الطغيان، إلا بما سمحت به ظروفهم القاسية، حينذاك، كالسخط على الإنجليز والابتهاج بكل ما يصيبهم من هزائم، وكبعض المحاولات لاغتيال صنائعهم من الحكام المفروضين على البلاد، فقد اعتدى على السلطان حسين مرتين بقصد اغتياله، ولكنه نجا في المرتين، واستمر ضغط الإنجليز من جانب، وتمكين صنائعهم لهم من جانب آخر، حتى نهاية الحرب2، فلما وضعت الحرب أوزارها، وأعلنت الهدنة سنة 1918، تقدم نفر من زعماء البلاد3 إلى المعتمد البريطاني، مطالبين برفع يد الإنجليز عن مصر، ثم تألف وفد4، وطلب السماح لبعض أعضائه بالسفر إلى إنجلتراء لحضور مؤتمر الصلح الذي ستسافر إليه وفود عديدة من

_ 1 انظر: ثورة سنة 1919 لعبد الرحمن الرافعي جـ1 ص15، وما بعدها. 2 اقرأ المصدر السابق ص11، 24، 30، 31، 37، 38، 41، 42. 3 هم: سعد زغلول وعبد العزيز فهمي وعلي شعراوي، وكان الأول وكيل الجمعية التشريعية، وكان الثاني والثالث عضوين بها. 4 كان هذا الوفد مؤلفًا من: سعد زغلول وعبد العزيز فهمي، وعلي شعراوي ولطفي السيد ومحمد محمود، وعبد اللطيف المكباتي. ثم أضيف إليه مصطفى النحاس وحافظ عفيفي، ثم أضيف إليهم إسماعيل صدقي وحمد الباسل ومحمود أبو النصر وآخرون. انظر: ثورة سنة 1919 ص30 وما بعدها.

الشعوب لتعرض مطالبها، ولكن هذا المطلب العادل قوبل بالرفض، بل تجاوزت سلطات الاحتلال ذلك إلى اعتقال بعض زعماء الوفد، ونفيهم إلى "مالطة"1. وهكذا شبت الثورة المصرية في مارس سنة 1919، واشتركت فيها كل القوى الوطنية، وبهذه الثورة تُوجْت تلك المرحلة من مراحل نضال الشعب المصري البطل2.

_ 1 كان المعتقلون ثلاثة هم: سعد زغلول ومحمد محمود وحمد الباسل. 2 اقرأ تفاصيل تلك الثورة التي ظلت نحو ثلاث سنوات، واشتركت فيها كل طوائف الشعب سنة 1919 لعبد الرحمن الرافعي.

بعض معالم النضال المشرقة

3- بعض معالم النضال المشرقة: وقد كان للنضال المصري في تلك الفترة معالم بارزة في شتى الميادين، وارتبطت بعض تلك المعالم ببعض الأحداث الكبرى التي شهدتها هذه السنوات، وكان هذا النضال هو الرد الطبيعي على جرائم الاحتلال، ومحاولته لقتل كل القوى الواعية في البلاد. فقد قوبلت مجاربته للتعليم بحركة مضادة، تدعو إلى بذل الجهود الوطنية في إنشاء المدارس ونشر الثقافة1، وقد توجت تلك الجهوند بإنشاء الجامعة المصرية الأهلية سنة "1908"2، وقد أضيف إلى نضال المصريين في هذا الشأن، مقاومتهم للحيلولة بين أبنائهم، وبين البعثات التي عوقها كرومر، فراح القادرون منهم يبعثون بأولادهم لاستكمال دراساتهم في فرنسا التي كان الإنجليز يحاربون ثقافتها، كما عملت الجامعة بعد إنشائها على إيفاد بعض خريجيها الممتازين إلى فرنسا لاستكمال دراستهم3.

_ 1 اقرأ عن بعض النشاط المتصل بتلك الدعوة في: مصطفى كامل ص139-140. 2 كان مصطفى كامل قد دعا إلى إنشائها سنة 1904، ثم سنة 1905، ولكن التحمس للفكرة ازداد بعد حادث دنشواي سنة 1906، وكان في طليعة القائمين على المشروع سعد زغلول، وقاسم أمين. انظر: مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص223-225. 3 يعتبر الدكتور طه حسين ثمرة من ثمار الجامعة وبعثاتها.

كذلك قوبل ضغط الاحتلال على الحريات وخنقه للصحافة، بإظهار مزيد من الصحف التي فضحت جرائمه، وشهرت بعدوانه، وقد كان في طليعة الصحف الوطنية في ذلك العهد صحيفة "المؤيد" للشيخ علي يوسف، وقد ظهرت سنة 1889، وارتفع صوتها منذ العام الأول بمسألة الجلاء1، ثم ظهرت صحيفة "الأستاذ" للسيد عبد الله النديم سنة 1892، وحملت على الاحتلال والفساد الذي جرَّه على البلاد، حتى ضاق بها الإنجليز، وضغطوا على الخديو حتى أبعد صاحبها عن مصر2، ثم ظهرت "اللواء" لمصطفى كامل سنة 1900، فكانت سوط عذاب على الإنجليز وعملائهم وجرائمهم، ثم ظهرت "الجريدة" لسان حال حزب الأمة سنة 1907، وكان يرأس تحريرها لطفي السيد3، وقامت هي الأخرى بدور في تحرير الفرد والجماعة لا يمكن أن يجحد، وإن لم تكن في حماس "المؤيد" و"الأستاذ" و"اللواء" فيما يتعلق بموضوع الجلاء، والتشهير بالإنجليز. وقد كان من أبرز الأحداث التي وجد فيها الوطنيون، والصحافة الوطنية مجالا لمهاجمة الإنجليز، حادث دنشواي الذي وقع سنة 1906، والذي نصب فيه الإنجليز المشانق وأدوات التعذيب لأبناء تلك القرية المسالمة من قرى المنوفية، قبل أن يحاكموا بتهمة قتل أحد الإنجليز، الذين كانوا قد ذهبوا إلى تلك القرية لصيد الحمام، فأصيب بضربة شمس أنهت حياته4. وكذلك قوبل الضغط الاقتصادي، وما خلفه من فقر وعدم، بدعوات إلى مساعدة المعوزين، ومديد العون إلى المحتاجين، وأنشئت الجمعيات الخيرية، وأسست الملاجئ ونحوها من دور البر. كذلك قوبل ما بثه الاحتلال من مفاسد خلقية، وما أشاعه من مباذل،

_ 1 انظر: منتخبات المؤيد، السنة الأولى ص30. 2 وقد مات النديم بعد قليل من نفيه بالآستانة سنة 1896. 3 اقرأ ترجمة موجزة عنه في مبحث النثر من هذا الفصل "هامش". 4 انظر: مصطفى كامل للرافعي ص197، وما بعدها.

بدعوات حارة إلى الأخذ بالأخلاق الكريمة، وازدراء العادات المريضة الوافدة من الغرب العادي، وكان أكثر الداعين إلى صلابة الخلق، واستقامة السلوك من أصحاب الاتجاه العربي الإسلامي1، وكانت دعوتهم تتخذ أشكالًا مختلفة من أشكال الأدب، كما سنرى حين نفصل القول في أدب هذه الفترة، وكان التراث العربي الإسلامي، وتقاليده الحضارية في ماضيها المشرق تمد هؤلاء الدعاة بكثير مما يؤدي دعوتهم، ويمنحها المادة والشكل على السواء. وعلى الجملة، قد أشعلت آثام الاحتلال، ومفاسده روح المقاومة، وشحذت النفوس للنضال، الذي تحرك في كل الميادين، وتوجته ثورة سنة 1919.

_ 1 من أمثال الشيخ علي يوسف، والسيد عبد الله النديم، ومحمد المويلحي، وعبد العزيز جاويش.

الأدب بين المحافظة والتجديد

الأدب بين المحافظة والتجديد أولا: الشعر سيطرة الاتجاه المحافظ البياني ... الأدب بين المحافظة والتجديد: كان الطابع الغالب على أدب تلك الفترة هو طابع المحافظة واستلهام الماضي، أو اتخاذ التراث العربي المشرق الذي خلفته عصور الازدهار نقطة انطلاق نحو أدب معاصر، وليس معنى ذلك أن التيار الفكري المتجه إلى الحضارة الغربية لم تكن له آثار أدبية تصوره، وإنما الذي يراد تقرير هو أن هذا التيار الغربي كان في تلك الفترة في طور التمهيد، والإعداد الفكري لظهور الأدب الذي يمثله1، وقد ظهر وليدًا غضا، أمام أدب محافظ قد استوى واستحصد، وملك على الناس مشاعرهم الفنية، وشكل لهم أنماطهم الأدبية، وهكذا لم تكن القوة الأدبية لهذا التيار الغربي المجدد، معادلة لقوة التيار العربي المحافظ، بل لم تكن قوة هذا التيار الغربي في ميدان الأدب معادلة لقوته هو نفسه في مجال الفكر والإصلاح الاجتماعي؛ نظرًا لكونه من الناحية الأدبية قد كان محتاجًا إلى تغييرات فكرية ونفسية واجتماعية كبيرة تمهد له، وتعد للأخذ به، وتدفع إلى السير في طريقه. ومن هنا كانت غلبة الطابع المحافظ على الأدب بفنونه المختلفة، على الوجه الذي يتضح تفصيله فيما يلي: أولاً: الشعر: 1- سيطرة الاتجاه المحافظ البياني: عرفنا من حال الشعر في الفترة السابقة، أنه قد ظهر الاتجاه المحافظ البياني الذي راده البارودي، وبعث به الشعر العربي، وذلك حين رده إلى استلهام النماذج الجيدة التي خلفتها عصور الازدهار، وحين جعل النموذج البياني

_ 1 تطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص41.

المشرق قالبًا للتعبير عن أحاسيس الشاعر وتجاربه، وعن قضايا وطنه وأهم أحداث عصره1، وعرفنا كذلك أن هذا الاتجاه لم يكن وقت ظهوره على يد البارودي هو الاتجاه الشعري الوحيد، بل لم يكن الاتجاه الفني الغالب، وإنما كانت الغلبة لذلك الاتجاه التقليدي الجامد، الذي كان يمثله شعراء عديدون، تقيدهم -عادة- بقايا أغلال العصر التركي والمملوكي، وتكبل شعرهم -غالبًا- ألوان من الألاعيب اللفظية والمحسنات المتكلفة، لتستر ضحالة الموضوعات، وفقر الأفكار، وبرودة المشاعر، وتهافت الأسلوب2. ونضيف الآن، أن هذا الاتجاه المحافظ البياني، قد أخذ يقوى عوده رويدًا رويدًا، على يد الجيل الذي خلف البارودي، حتى استحصد في هذه الفترة التي نسوق عنها الحديث، بل حتى سيطر سيطرة توشك أن تكون تامة، ومن هنا اختفى -أو كاد- ذاك الاتجاه التقليدي الجامد، وأصبح الاتجاه الذي يملأ الحياة الأدبية هو هذا الاتجاه المحافظ البياني الحي، الذي راد طريقه البارودي في الفترة السابقة، وأصبح جيل الشعراء في هذه الفترة، يسيرون في نفس اتجاهه، ويترسمون خطاه؛ فإسماعيل صبري3، وأحمد شوقي4،

_ 1 اقرأ ما كتب عن الشعر في الفصل السابق -مبحث الشعر، المقال 2- ظهور البياني المحافظ. 2 اقرأ ما كتب عن ذلك في الفصل السابق -مبحث الشعر، المقال 1- الاتجاه التقليدي، وبعض لمحات التجديد. 3 اقرأ ترجمة موجزة له في مبحث الشعر بالفصل السابق المقال 2 "هامش". 4 ولد شوقي سنة 1869، ونشأ في بيئة أرستقراطية، وتعلم في مدارس القاهرة الابتدائية والثانوية، ثم التحق بمدرسة الحقوق، وتخرج في قسم الترجمة سنة 1887، فعين بالقصر في عهد توفيق، ثم أرسل في بعثه إلى فرنسا ليدرس الحقوق، فدخل مدرسة "مونبلييه" ودرس بها عامين، ثم انتقل إلى باريس، وظل بها عامين آخرين، حتى حصل على إجازة الحقوق، وأتيح له أن يطوف في فرنسا وأن يزور إنجلترا، ثم عاد إلى مصر فعمل رئيسًا للقسم الإفرنجي بالقصر، وكان من =

وحافظ إبراهيم1، ومحمد عبد المطلب2، وبقية شعراء هذا الجيل التالي من أمثال أحمد محرم3، وعلي الغاياتي4،

_ حاشية الخديوي كما كان شاعره، وحين أعلنت الحرب العالمية الأولى سنة 1914، كان الخديو عباس في تركيا، فمنعه الإنجليز من دخول مصر، وأخذوا يبعدون أنصاره أيضًا، فنفى شوقي إلى إسبانيا، حيث ظل في "برشلونة" أيام الحرب، ثم عاد بعد انتهائها، وبعد أن زار الأندلس في جنوب إسبانيا، قد بويع بإمارة الشعر سنة 1927، وظل مرموقًا حتى توفي سنة 1932. اقرأ عنه: شوقي شاعر العصر الحديث للدكتور شوقي ضيف، وأبي شوقي لحسين شوقي، وحافظ وشوقي للدكتور طه حسين، وشعراء مصر وبيئاتهم للعقاد، والأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف. 1 ولد حافظ في "ذهبية" بديروط، حيث كان يعمل والده، وفي سن الرابعة تقريبًا مات هذا الوالد، فانتقلت الأم بطفلها إلى القاهرة، حيث كفله خاله، وقد تعلم حافظ أولًا في الكتاب، ثم التحق بمدارس مختلفة كانت الخديوية آخرها، وحين نقل الخال إلى طنط انتقل معه حافظ، ولم يختلف هناك إلى مدرسة، بل تردد حينًا على المسجد الأحمدي، وهناك اتضح ميله إلى الشعر، وحين ظهر منه عدم الميل إلى مواصلة الدراسة قامت جفوة بينه وبين خاله، فاتجه حافظ إلى المحاماة، التي كانت لا تشترط مؤهلا في القانون حينذاك، ثم التحق بالمدرسة الحربية، وتخرج فيها سنة 1891، وعين في وزارة الحربية، ثم نقل إلى الداخلية، ثم عاد إلى الحربية ورافق الحملة التي توجهت إلى السودان بقيادة "كتشنر"، وهناك اشترك في ثورة قام بها بعض رجال الجيش، وحوكم، وأحيل إلى الاستيداع سنة 1900، ثم طلب إحالته إلى المعاش سنة 1903، فظل شبه مشرد حين عين سنة 1911 في القسم الأدبي بدار الكتب، وظل به حتى سنة 1932، حيث أحيل إلى المعاش، ثم مات في نفس العام. اقرأ عنه في: حافظ للدكتور عبد الحميد سند الجندي، وحافظ وشوقي للدكتور طه حسين، وشعراء مصر وبيئاتهم للعقاد، والأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف. 2 ولد بقرية من قرى جرجا سنة 1871، وتعلم في الأزهر، وعمل بعد ذلك مدرسًا، وشارك في الحركة الوطنية وتوفي سنة 1931. اقرأ عنه في: شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد، وفي الأعلام للزركلي جـ7 ص124. 3 ولد في إبيار من قرى الدلنجات سنة 1877، وتلقى مبادئ العلوم في البلدة وتثقف على يد بعض شيوخ الأزهر، وسكن دمنهور بعد وفاة أبيه، وعاش يتكسب بالأدب ونشره، واشتهر بميوله الوطنية والإسلامية، وتوفي سنة 1945. اقرأ عنه: في الأعلام للزركلي جـ1 ص192. 4 ولد بدمياط سنة 1885 في أسرة متوسطة، ثم انتقل إلى القاهرة، وقد ناهز الثانية والعشرين بعد أن تعلم في مسقط رأسه، وانضم إلى الحزب الوطني، وعمل بالصحافة وحين أصدر ديوان وطنيتي حوكم واتهم بالعيب في ذات الخديوي، وبالتحريض على كراهية الحكومة، وحكم عليه بالحبس سنة حكمًا غيابيًا، إذ كان قد رحل إلى الآستانة، ثم سافر إلى سويسرا، وهناك أصدر جريدة منبر الشرق بالفرنسية، وظل في منفاه حتى سنة 1937، حيث عاد إلى مصر واستأنف إصدار جريدته بالعربية، اقرأ عنه في: مقدمة وطنيتي. وفي شعراء الوطنية لعبد الرحمن الرافعي ص305.

وغيرهم1؛ قد صاغوا شعرهم على طريقة البارودي، وساروا في فنهم على دربه: فقضوا قضاء شبه تام على الطريقة التقليدية الجامدة، وجعلوا السيطرة للاتجاه المحافظ البياني، وذلك بفضل تمكنهم من أسلوب هذا الاتجاه، وكثرة نتاجهم بطريقته، وقوة تمسكهم بتقاليده، ثم لإلحاح دواعي السير على منهجه. وقد عرفنا أن أهم أسباب ظهور هذا الاتجاه في الفترة السابقة، كانت تتمثل في هذا النوعي الناضج عند بعض المثقفين، الأمر الذي حمل على الالتفات إلى مجد الماضي وتراث الأمس، للاتكاء عليه ومواجهة تحدي الحضارة الغربية به2، ونضيف الآن أن النضال الذي شهدته الفترة التي نسوق عنها الحديث، قد عمق الإحساس بتلك الفترة، وجعل الارتباط بالماضي العربي أقوى والاتكاء على التراث المجيد أشد، وخاصة عند هذه الجمهرة من المثقفين الذين يؤمنون بفكرة الجامعة الإسلامية، ويرتبطون تبعًا لها بالتراث الإسلامي العربي3، ومن هنا كان هذا الشغف البالغ بالاتجاه المحافظ البياني في الشعر، وكانت سيطرته، وأخذ جمهرة الشعراء الكبار به. فجلهم من المؤمنين بفكرة الجامعة الإسلامية، ومن المرتبطين تبعًا لها بالتراث،

_ 1 مثل مصطفى صادق الرافعي، وأحمد نسيم، وأحمد الكاشف. 2 اقرأ ما كتب عن ذلك في الفصل السابق، المقال 2- إحياء التراث العربي. 3 كان من أبرز هؤلاء: الشيخ محمد عبده، والشيخ علي يوسف، وإبراهيم ومحمد المويلحي، والمنفلوطي.

ومن المفتونين بناء على هذا بنماذج الشعر الرائعة التي خلفها هذا التراث، وهم لذلك كله يسيرون في الاتجاه الذي يعتمد أساسًا على أسلوب هذه النماذج التراثية، ويتخذها مثلًا أعلى للأسلوب الشعري. 1- المحافظون والنضال: أما أهم الأغراض التي عالجها أصحاب هذا الاتجاه في هذه الفترة، فهي تلك الأغراض التي بدأ علاجها البارودي بشعره من قبل، وهي تلك التي تشمل الذات وتجاربها، والوطن وقضاياه، والعالم وأهم أحداثه، غير أن شعراء هذه الفترة قد وسعوا تلك الخطوات القصار التي خطاها البارودي في طريق الوطنيات، وبعض الأحداث الكبرى الخارجة على حدود الوطن؛ فهم قد عالجوا كل قضايا مصر ومشكلاتها، وأبرز أحداث العالم الإسلامي وتطوراته، وكثيرًا من شئون العالم الخارجي وأزماته، ومن هنا خاضوا كثيرًا في السياسة المصرية والعربية والإسلامية، كما خاضوا في المسائل الاجتماعية والثقافية والفكرية والأخلاقية، هذا إلى اهتمام كبير بالماضي وأمجاده، تارة ماضي العرب والإسلام، وأخرى ماضي الفراعنة ومصر، وهم في ذلك كله معبرون عن روح هذه الفترة، مستجيبون لطابعها العام وهو طابع النضال من أجل الخلافة وتآمر الغرب عليها، والنضال من أجل بعض الدول الإسلامية وطمع الاستعمار فيها، والنضال من أجل الوطن واستبداد الاحتلال والقصر به، والنضال من أجل المجتمع المصري وما جلبه المستعمر من آفات عليه1. وهكذا نجد الشعر المحافظ البياني قد خاض معركة النضال، وجال في كل ميادينها فأبلى أحسن البلاء، وكان جهازًا من أهم أجهزة المقاومة، وسلاحًا من أمضى أسلحة معركة النضال التي خاضتها مصر في عهد الاحتلال.

_ 1 اقرأ تفصيل ذلك في: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد حسين جـ1.

من أجل الجامعة الإسلامية: والملاحظ أن الشعراء جميعًا من أصحاب هذا الاتجاه، قد مدحوا الخليفة التركي ومجدوه على تفاوت بينهم، وواضح أن الدافع الأساسي إلى ذلك، كان اعتبار الخليفة رمزًا لوحدة المسلمين، وشعارًا لفكرة الجامعة الإسلامية التي آمن بها الكثيرون في تلك الأحايين، كضمان لوحدة الشعوب في هذه المنطقة وتكتلها ضد الاستعمار الغربي وعدوانه، فقد ظهر جليًّا تآمر الدول الأوروبية على تركيا، وتطلعها إلى اقتسام الدول التي تؤلف الخلافة الإسلامية، وقد اتضح هذا في مؤتمر برلين سنة 1878، حين اجتمع لحل مشكلات تركيا في البلقان، فعمل على تمزيق ولاياتها بل ابتلاع ما أمكن منها، فاحتلت إنجلترا جزيرة قبرص، واحتلت روسيا بعض أملاك تركيا على البحر الأسود، واضطرت تركيا إلى التخلي عن رومانيا والصرب، ثم احتلت فرنسا تونس سنة 1881، واحتلت انجلترا مصر سنة 1882، ثم هاجمت إيطاليا ليبيا سنة 1911، وحُملت تركيا على التخلي عنها سنة 1912 لتفرغ للثورات المأججة ضدها في البلقان، وأكثر من ذلك قد تهجم على الإسلام والمسلمين بعض الكتاب الغربيين، وأعلن بعضهم ابتهاجه بتوغل فرنسا في قلب الإسلام بأفريقيا، ومن هؤلاء الكتاب: "هانوتو" و"رينان" و"كرومر1". ومن هنا كانت هذه الحفاوة من جانب الشعراء بالخلافة والخليفة، لا تقديرًا لتريكا أو لذات السلطان التركي، وإنما لهذه الجامعة الإسلامية التي يعتبر الخليفة رمزًا لها2.

_ 1 انظر: الوطنية في شعر شوقي للدكتور أحمد الحوفي ص102، والاتجاهات الوطنية جـ1 ص2، وما بعدها. 2 الاتجاهات الوطنية جـ1 ص11، وما بعدها.

يقول أحمد محرم مخاطبًا أمم الخلافة: يا آل عثمان من ترك ومن عرب ... وأي شعب يساوي الترك والعربا صونوا الهلال وزيدوا مجده علمًا ... لا مجد من بعده إن ضاع أو ذهبا1 ويقول أحمد شوقي مخاطبًا الخليفة: أمةُ الترك والعراقُ وأهلو ... هـ ولبنان والربى والخيامُ عالم لم يكن لينظم لولا ... أنك السلم وسلطة والوئام2 ويقول حافظ إبراهيم عن الخلفاء العثمانيين: وردوا على الإسلام عهد شبابه ... ومدوا له جاهًا يرجى ويرهب أسود على البسفور تحمي عرينها ... وترعى نيام الشرق، والغرب يرقب3 ويقول علي الغاياتي مخاطبًا السلطان عبد الحميد، ومشيرًا إلى نكبة الاحتلال لمصر: رمتها الحادثات بشر قوم ... لهم في كل مظلمة شئون قضت في عصرهم مصر ولولا ... رجاء فيك ما قرت عيون فأعزز يا حمى الإسلام شعبًا ... بعزك لا يذل ولا يهون4 ونظرًا لكون المسألة لم تكن مسألة الخليفة لشخصه، ولا الخلافة العثمانية لذاتها، وإنما كانت رعاية لوحدة الأمم الإسلامية وسلامتها من طمع الغرب العادي؛ لم يقف الشعراء عند تمجيد الخليفة والخلافة، بل مجدوا نظام الأمم الإسلامية المعتدى عليها، وحثوا على عونها وخوض المعارك إلى جانبها، ومن هنا نجد ألمع الشعراء يشهرون بالطليان في عدوانهم على ليبيا سنة 1911، ونراهم يعتبرون هذا العدوان عدوانًا على الوطن، وينادون بمؤازرة إخوانهم في ليبيا، ويدعون إلى الحرب المقدسة إلى جوارهم.

_ 1 ديوان محرم جـ2 ص4. 2 الشوقيات جـ1 ص296. 3 حافظ جـ2ص17. 4 ديوان وطنيتي ص55.

يقول محمد عبد المطلب من قصيدة له في ذلك العدوان الطلياني: بني أمنا أين الخميس المدرب ... وأين العوالي والحسام المذرب إذا اهتز في نصر الحنيف تساقطت ... نفوس العدا في حده تتحلب خليل مالي إن تذكرت برقة ... بجنبي نيران الأسى تتلهب نعم راعني من نحو برقة صائح ... يهيب بأنصار الهلال: ألا اركبوا1 ويقول أحمد الكاشف2 في المناسبة نفسها: المؤمنون إليك مستبقونا ... لذمارهم وديارهم حامونا فاحشد كتائبك التي أعددتها ... للحق أبلج والرجاء متينًا3 ويقول حافظ كذلك في تلك الحرب مصورًا فظائع الطليان ضد العرب، ومنددًا بمباركة الباب للحملة: كبلوهم قتلوهم مثلوا ... بذوات الخدر طاحوا باليتامى ذبحوا الأشياخ والزمنى ولم ... يرحموا طفلًا ولم يبقوا غلامًا أحرقوا الدور استحلوا كل ما ... حرمت "لاهاي" في العهد احترامًا بارك المطران في أعمالهم ... فسلوه: بارك القوم علامًا؟ أبهذا جاءهم إنجيلهم ... آمرًا يلقي على الأرض سلامًا4 ويقول شوقي أيضًا حاثًّا على التطوع بجانب جيوشًا تركبًا، ومعتبرًا كل المسلمين من أبناء الدولة العثمانية: يا قوم عثمان والدنيا مداولة ... تعاونوا بينكم يا قوم عثمانا كونوا الجدار الذي يقوى الجدار به ... فالله قد جعل الإسلام بنيانًا هل ترحمون لعل الله يرحمكم ... بالبيد أهلًا وبالصحراء جيرانًا

_ 1 ديوان عبد المطلب ص25. 2 ولد بقرية القرشية سنة 1878، وكان له اشتغال بالتصوير، وميل إلى الموسيقى، كما كانت له اهتمامات سياسية، وقد اتهم بالدعوة إلى إنشاء خلافة عربية، وألزم بالبقاء في قريته، وظل كذلك حتى مات سنة 1948، اقرأ عنه في: الأعلام للزركلي جـ1 ص120-121. 3 ديوان الكاشف جـ2 ص17. 4 ديوان حافظ جـ2 ص66.

في ذمة الله -أوفى ذمة- نفر ... على طرابلس يقضون شجعانًا1 وإذا كان بعض الشعراء قد استمد كثيرًا من تحمسه للخليفة والخلافة مما يجري في عروقه من بعض دم تركي، فإن جمهرة الشعراء قد كانوا مدفوعين إلى تمجيد الخلافة والخلفاء، ومؤازرة جنده بفكرة الجامعة الإسلامية، التي كانت هدفًا سياسيًّا نبيلًا في ذلك الحين. علاقتهم بالحاكم: والملاحظ كذلك أن أكثر الشعراء المحافظين قد مدحوا الخديو، ومن جاء بعده من الحاكمين، والحق أن معظم هذا المدح كان بدافع تعلق الآمال بالحاكم، ورجاء أن يعمل لخدمة الوطن، فمثلًا كانت أكثر الأمداح التي وجهت إلى عباس الثاني بسبب ما ظهر به في أول عهده من اصطناع الوطنية، ومعاداة الإنجليز، أي أن ما وجه إليه من أمداح -كان في جملته- مشاركة في النضال باعتبار هذا الحاكم قد كان في الفترة التي يمدحه فيها جل الشعراء، يمثل مؤازرة الوطنيين وخصومة الاحتلال، ولذا نرى طائفة الشعراء الوطنيين الصرحاء ينصرفون عنه بمجرد مهادنته للإنجليز، ومعاداته للمناضلين، بل إن بعض هؤلاء الشعراء لم يكتف بالانصراف عنه، وإنما تجاوز ذلك إلى نصحه، ثم إلى نقده، وأخيرًا إلى هجائه في صورة تبلغ حدًّا رائعًا من الشجاعة والجرأة والفدائية. يقول علي الغاياتي مخاطبًا عباسًا الثاني بعد أن تنكر للمناضلين وهادن الإنجليز. أعباس هذا آخر العهد بيننا ... فلا تخش منا بعد ذاك عتابًا أيرضيك فينا أن نكون أذلة ... ننال إذا رمنا الحياة عقابًا؟ وأرضيت أعداء البلاد وأهلها ... وأصليتنا بعد الوفاق عذابًا2

_ 1 الشوقيات جـ1 ص303. 2 وطنيتي ص43-44.

ويقول أحد محرم معرضًا بفساد الخديو: أضر الناس ذو تاج تولى ... فما نفع البلاد ولا أفادا وكان على الرعية شر راعٍ ... وأشأم مالك في الدهر سادا فلا هو يرتجى يومًا لنفع ... يعز به الرعية والبلادا1 ثم ينتقل في قصيدة أخرى من التعريض إلى الهجاء الصريح، راميًا الملوك بالكذب والبعد عن الشرف، فيقول: كذب الملوك ومن يحاول عندهم ... شرفًا ويزعم أنهم شرفاء الحق منتهك المحارم بينهم ... والعدل وهم والوفاء هباء رفعوا العروش على الدماء وإنما ... تبقى السفينة ما أقام الماء2 وإذا كان بعض الشعراء قد استمروا على الاتصال بعباس، ومدحوه حتى بعد انقلابه على الوطنيين، ثم مدحوا من جاء بعده من حكام من أسرة محمد علي، فإن ذلك لا يطعن في شعر المحافظين جملة، ولا يغض من بسالته ونضاليته. وهؤلاء النفر من الشعراء الذين استمروا على صلة بالقصر، أو مدحوا حكامه، قد كانوا ممن خضعوا لظروف شخصية، وانحرفوا معها عن طريق التضحية والفداء، فشوقي -وهو زعيم هذا النفر من الشعراء- قد كان يرتبط بحكام القصر برباط الدم، كما كان مدينًا للقصر بتربيته وتعليمه في الخارج، وجاهه في الداخل3، وغير شوقي من هذا النفر من الشعراء قد كان منهم الطامح إلى منافسة شوقي، ونيل شيء من جاهة الذي ناله عن طريق القصر، كما كان منهم المتقي للأذى في الرزق أو المنصب أو البدن، ثم كان منهم الآمل أن يقدم هؤلاء الحكام للبلاد شيئًا من الخير باعتبارهم القابضين على السلطة في تلك السنين، وقد تكون كل هذه العوامل هي التي حملت شاعرًا كحافظ إبراهيم على أن يمدح عباسًا ومن جاء بعده، وليته ما فعل.

_ 1 ديوان محرم جـ2 ص53-56. 2 المصدر السابق جـ1 ص150-151. 3 الأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف ص111.

موقفهم من الإنجليز: أما فيما يتعلق بالسلطة الغاشمة الأخرى التي كانت جاثمة على صدر البلاد في تلك الفترة، وهي سلطة الاحتلال، فيلاحظ أن كبار الشعراء كانوا حيالها في عداء، واستنكار كما كانوا ضدها في نضال، غير أنهم كانوا في عدائهم واستنكارهم ونضالهم طائفتين، طائفة صريحة العداء مستمرة الاستنكار دائمة النضال، وأخرى تريد أن تكون كذلك، ولكن ظروف حياتها، وطبيعتها التي تؤثر السلامة، ولا تقوى على الفداء تحول بينها وبين ما تريد، فهي تجاهر بمعاداة الاحتلال، وتصرح باستنكاره، وتخوض معركة نضاله، ولكن حين تأمن مغبة ذلك، ولا تخاف عاقبة ما تقول، ثم هي تضمر العداء وتكتم الاستنكار وتكف عن النضال حين تتوقع شرًّا يمس المنصب، أو الرزق أو الذات بأذى، بل ربما تتورط هذه الطائفة فيما هو أقبح من ستر الخصومة للاحتلال، وكتم الاستنكار لوجوده وكف النضال لقواه؛ فتصرح أحيانًا بمهادنته والإفادة منه، أو تتردى فيما هو أشنع من ذلك، فتمدحه بعض المرات وتثني عليه. وقد كان يمثل الطائفة الأولى علي الغاياتي وأحمد محرم، فالغاياتي دائم التنديد بالاحتلال ومخلبه الخديو، دائم الحث للوطنيين على النهوض والثورة، ومن ذلك قوله: وعداة ملكوا الأمر ولم ... يحفظوا للشعب في حق ذمامًا وولاة أقسموا أن يسجدوا ... كلما رام العدا منهم مراما رب ماذا يصنع المصري إن ... جاوز الصبر مدى الصبر فقاما طال يوم الظلم في مصر ولم ... نَدْرِ بعد اليوم للعدل مقاما1 ومنه أيضًا قوله مهاجمًا وزارة بطرس غالي الذي ولاه الاحتلال رئيسًا للوزارة:

_ 1 وطنيتي ص41-42.

ألا مطر الله الوزارة نقمةً ... ولا بلغت مما تروم مراما تحاول أن تقضي علينا بإثمها ... ولكن ستلقى دون ذاك أثاما وزارة خداع أقامته بيننا ... يد الحاكمين الآمين فقاما1 وأحمد محرم كثير التشهير بكبت الحريات، وضياع البلاد على يد المستعمرين ومخالبهم من الحكام غير الشرعيين، وهو لا يفتأ يدعو إلى الثورة وينادي بالكفاح من أجل الخلاص، ومن ذلك قوله: يا أمة خاط الكرى أجفانها ... هبي فقد أودت بك الأحلام هبي فما يحمي المحارم راقد ... والمرء يظلم غافلا ويضام هبي فما يغني رقادك والعدا ... حول الحمى مستيقظون قيام غنموا نفائسه وثم بقية ... ستنيلها أيديهم الأيام عجبًا لهذا النيل كيف نعقه ... ويدوم منه البر والإكرام2 وقوله بمناسبة صدور قانون المطبوعات: صبوا المداد وحطموا الأقلاما ... واطووا الصحائف وانزعوا الأفهاما أيسوس ريب الدهر منه أمة ... تبغي حياة المجد أم أنعاما3 أما الطائفة الثانيةن فقد كان يمثلها شوقي وحافظ، بكل أسف.. أما شوقي فقد كان موقفه يتشكل -غالبًا- بموقف القصر4، باعتباره من كبار موظفيه الذين يؤثرون المحافظة على المنصب والحرص على الجاه، بالإضافة إلى ولائه لحكام القصر الذي تربطه بهم رابطة الدم، وتشده إليهم مآثر عديدة. ومن هنا نراه -عادة- يهاجم الاحتلال في الوقت الذي يكون فيه القصر جريئًا على الاحتلال، ثم نراه -غالبًا- يسكت على جرائم المحتلين حين يكون القصر مذعورًا منهم، أو على وفاق معهم، ولذا يهاجم شوقي الإنجليز،

_ 1 المصدر السابق ص64. 2 ديوان محرم جـ1 ص85. 3 المصدر السابق جـ2 ص47-48. 4 الاتجاهات الوطنية جـ1 ص195.

ويندد بالاحتلال في تلك الفترة التي كان فيها عباس على وفاق مع الوطنيين، ولم يكن بعد قد هادن المحتلين، ومن أشعار شوقي في تلك الفترة، قصيدته التي يهاجم فيها رياض باشا، على خطبته المشهورة، التي مدح فيها الإنجليز، وهي القصيدة التي يقول فيها: خطبت فكنت خطبًا لا خطيبًا ... أضيف إلى مصائبنا الجسام لهجت بالاحتلال وما أتاه ... وجرحك منه لو أحسست دام أراعك مقتل من مصر دام ... فقمت تزيد سهماً في السهام1 ومن شعره في بعض أوقات الأمن وضمان السلامة، قصيدته في رحيل "كرومر" التي يقول فيها: لما رحلت عن البلاد تشهدت ... فكأنك الداء العياء رحيلا أنذرتنا رقًّا يدوم وذلة ... تبقى وحالًا لا ترى تحويلًا أحسبت أن الله دونك قدرة ... لا يملك التغيير والتبديلا2 ولكنا نرى شوقي يسكت عن حادثة دنشواي، فلا يقول شعرًا فيها إلا بعد عام من مأساتها، وذلك حين يأمن مغبة القول، أو حين يأمن القصر سوء عاقبة الحديث، أي بعد أن ذهب "كرومر" الطاغية الشديد العداء لعباس؛ وجاء "غورست" المعتمد البريطاني المهادن المتساهل، فهنا نسمع شوقي يقول ميميته التي يتحدث فيها عن ضحايا دنشواي، ويطالب بالإفراج عن مسجونيهم، وفيها يقول: مرت عليهم في اللحود أهلةٌ ... ومضى عليهم في القيود العام كيف الأرامل فيك بعد رجالها ... وبأي حال أصبح الأيتام "نيرون" لو أدركت حكم كرومر ... لعرفت كيف تنفذ الأحكام3 وليس من الممكن الاعتذار عن شوقي في سكوته عامًا عن الحديث عن مأساة دنشواي، مهما قيل: إنه كان لم يلهم شعرًا يومها، أو أنه كان خارج

_ 1 الشوقيات جـ1 ص259. 2 المصدر السابق جـ1 ص209-210. 3 المصدر نفسه جـ1 ص301.

مصر وقت حدوثها1؛ فالشيء الذي لا شك فيه أن الحادثة كانت من البشاعة بحيث تثير كل من له حظ ولو ضئيل من الإحساس، فضلًا عن شاعر كبير، ويستوي في ذلك أن يكون الشاعر في مصر أو خارج مصر، بل ربما كان وجوده يومها خارج البلاد، أدعى لتأثره وهز وجدانه؛ فمن جرب البعد عن الوطن يعرف كيف تهزه مآسيه أضعاف ما تهزه وهو على أرض بلاده، وحسبنا أن نعرف أن الكاتب البريطاني "برناردشو"، قد هزته حادثة دنشواي، فكتب منددًا بجناتها، مدافعًا عن المصريين فيها، وهو أجنبي، بل هو من أبناء أمة الاحتلال الآثمة في الحادث المشئوم2. ولنفس السبب الذي أسكت شوقي عامًا عن حادث دنشواي، نراه يسكت مدة عن رثاء مصطفى كامل؛ فلا يرثيه يوم وفاته كغيره من كبار الشعراء، ولا يرثيه بعد أيام تسمح بعمل قصيدة في رثاء صديق ومجاهد كبير، وإنما يرثيه بعد نحو أسبوعين3، ولا يعرض في رثاء لوطنية المرئى ومحاربته للاحتلال والاستبداد، وإنما يدير الحديث حول شبابه الذي ذوى، ويردد تكهنات الناس عن سبب وفاته، ويعدد من أمجاده القدرة الخطابية، والدعوة إلى الإصلاح الخلقي والعلمي، وما إلى ذلك، وفي هذا يقول: أبكي صباك ولا أعاتب من جنى ... هذا عليه كرامة للجاني يتساءلون أبا السلال قضيت أم ... بالقلب أم هل مت بالسرطان الله يشهد أن موتك بالجحا ... والجد والإقدام والعرفان إن كان للأخلاق ركن قائم ... في هذه الدنيا فأنت البانى هل قام قبلك للمدائن فاتح ... غاز بغير مهند وسنان يدعو إلى العلم الشريف وعنده ... أن العلوم دعائم العمران4

_ 1 وطنية شوقي للدكتور أحمد الحوفي ص 169-170. 2 جاء حديث برناردشو عن دانشواي في مقدمة مسرحيته "جزيرة جون بول الأخرى" john bull s other island. انظر: برناردشو للأستاذ أحمد زكي ص 193، وما بعدها. 3 وطنية شوقي ص 101. 4 الشوقيات جـ3 ص 157-158.

والسبب في موقف شوقي من رثاء مصطفى كامل واضح، وهو ما كان من معاداة عباس للشاب الثائر، ثم ما كان من سخط الإنجليز عليه، فلم يرد شوقي -فيما يبدو- أن يرثي مصطفى كامل رثاء وطنيا، حتى لا يجلب على نفسه سخط الخديوي، وحتى لا يثير مشكلات تمس ما بين القصر والإنجليز من وفاق، ومن هنا تردد شوقي أولًا، ثم دبج هذا الرثاء "الدبلوماسي" الذي لم يورد فيه أهم خصائص مصطفى كامل كثائر وطني، ورائد من أبرز رواد الحركة المقاومة للاحتلال. وبناء على ولاء شوقي للقصر، حينذاك، وتشكل موقفه بطابع علاقته به، يفسر موقفه من عرابي، وهجاؤه له بثلاث قصائد بعد عودته من المنفى، حيث يقول في الأولى: صغار في الذهاب وفي الإياب ... أهذا كل شأنك يا عرابي عفا عنك الأباعد والأداني ... فمن يعفو عن الوطن المصاب1 ويقول في الثانية: أهلًا وسهلًا بحاميها وفاديها ... ومرحبًا وسلامًا يا عرابيها وبالكرامة يا من راح يفضحها ... ومقدم الخير يا من جاء يخزيها2 ويقول في الثالثة: عرابي كيف أوفيك الملاما ... جمعت على ملامتك الأناما فقف بالتل واستمع العظاما ... فإن لها كما لهمو كلامًا3 وليس من السهل الاقتناع بأن الدافع لشوقي على هذا الهجاء، كان حب مصر، وكراهية ما ترتب على حركة عرابي من احتلال4؛ لأن الدافع لو كان

_ 1 وطنية شوقي ص215-216. 2 المصدر السابق ص217-220. 3 المصدر نفسه ص220-225. 4 المصدر نفسه ص221-231.

ذلك، لرأينا الشاعر يهجو توفيقًا الذي استدعى الإنجليز، واستند على حرابهم ليحكم مصر قهرًا. ولا يبرر سخط شوقي على عرابي، ما كان من سخط بعض كبار الوطنيين عليه، مثل مصطفى كامل1؛ فالواقع أن مصطفى كامل كان يصدر عن رأي سياسي، وفكرة، وطنية شكلت كل سياسته، فهو قد سخط على عرابي لما ترتب على حركته من شر للوطن، وفي الوقت نفسه سخط على القصر حين ترتب علىموقفه من ضر آذى الوطن، أي أنه لم يكن يصدر عن شعور شخصي، وعلاقة ذاتية كما فعل شوقي، ولذا لا يبرر موقف شوقي بموقف مصطفى كامل؛ لأن الباعث مختلف في كم الموقفين. أما تورط شوقي أحيانًا في مدح الإنجليز تبعًا لتشكل موقفه بموقف القصر، أو سيره في طريق المصلحة الشخصية؛ فقد كان منه قصيدته بمناسبة تأجيل حفلة تتويج الملك إدوارد السابع سنة 1902، تلك القصيدة التي حاول فيها أن يستنبط عبرة الدهر في إخلاف الظنون، وإرغام القوى على المقدور، وخضوع الكبار لأصغر لمسات القضاء، حيث حال دون تتويج الملك دمل أصابه. ولكن الشاعر لا يكتفي بذلك بل يتورط في تمجيد الملك والإنجليز حيث يقول: إلى موكب لم تُخرج الأرض مثله ... ولن يتهادى فوقها من يقاربه إذا سار فيه سارت الناس خلفه ... وشدت مغاوير الملوك ركائبه2 ومن ذلك الشعر المتورط كذلك في مدح الإنجليز قول شوقي في قصيدته اللامية التي نظمها بعد عزل عباس، وتولية حسين كامل سنة 1914، حيث يتحدث فيها عن الإنجليز على هذا النحو: حلفاؤنا الأحرار إلا أنهم ... أرقى الشعوب عواطفًا وميولًا أعلى من الرومان ذكرًا في الورى ... وأعز سلطانًا وأمنع غيلًا لما خلا وجه البلاد لسيفهم ... ساروا سماحًا في البلاد عدولًا3

_ 1 المصدر السابق والصفحة نفسها. 2 الشوقيات جـ1 ص76. 3 المصدر السابق ص215.

وأخيرًا منه مقدمة قصيدته في ذكرى شكسبير سنة 1916، حيث يقول عن الإنجليز: يا جيرة المنش حلالكم أبوتكم ... ما لم يطوق به الأبناء آباء ملك يطاول ملك الشمس، عزته ... في الغرب باذخة في الشرق قعساء تأوي الحقيقة منه والحقوق إلى ... ركن بناه من الأخلاق بناء أعلاه بالنظر العالي ونطقه ... بحائط الرأي أشياخ أجلاء وحاطه بالقنا فتيان مملكة ... في السلم زهر رُبًا في الروع أرزاء يستصرخون ويرجى عز نجدتهم ... كأنهم عرب في الدهر عرباء وكان ودهم الصافي ونصرتهم ... للمسلمين وراعيهم كما شاءوا1 على أن ذلك ليس معناه تجريح وطنية شوقي، وإنما معناه فقط أن الرجل لم يكن في وطنيته فدائيا أو واضح الشجاعة، فكانت وطنيته تأخذ مظهرا هادئا فيه أحيانا كثير من السلبية، وفيه أحيانا أخرى بعض التقية أو النفعية. على أن وطنية شوقي التي لا شك فيها قد تجلت حين انطلق من قيد القصر، بعد عودته من المنفى ثورة 1919، وفي هذا الشعر الرائع الذي صبه حمدًا على الاحتلال وأعداء الوطن، وناضل به من أجل تحرير مصر وخير المصريين، وقد مضت بعض نماذج هذا الشعر، ومن أروع ما تتجلى فيه وطنية شوقي، ذاك الشعر التاريخي الممتاز، الذي يصور فيه أمجاد مصر وتاريخها المشرق، من مثل قوله في المصريين القدماء، وما خلفوه من آثار: قل لبان بني فشاد فغالى ... لم يجز مصر في الزمان بناء ليس في الممكنات أن تنقل الأجبال ... شما وأن تنال السماء زعموا أنها دعائم شيدت ... بيد البغي ملؤها ظلماء دمر الناس والرعية في تشييـ ... دها والخلائق الأسراء أين كان القضاء والعدل والحكمة ... والرأي والنهي والذكاء

_ 1الشوقيات جـ2 ص5.

وبنو الشمس من أعزة مصر ... والنجوم التي بها يستضاء إن يكن غير ما أتوه فخارٌ ... فأنا منك يا فخار براء1 أما حافظ، فقد كانت وطنيته تُسفر وتنطلق، حين يكون بعيدًا عما يحملها التستر والتقيد، ثم هي تحتجب وتكبل حين تفرض عليه الظروف أن يحافظ على لقمة العيش وأمن السرب، فهو في السنوات الأولى من حياته الشعرية، قد كان حرًّا من قيد الوظيفة، منذ أن أحيل على المعاش من عمله في الجيش سنة 1903، إلى أن عين في دار الكتب سنة 1911، ولذا نراه في هذه السنوات الطليقة يلهب ظهر الاحتلال بأشعار وطنية كالسياط النارية، فيذيع في حادث دنشواي قصيدته المشهورة التي يقول فيها مخاطبًا الإنجليز، في مرارة وسخرية: خفضوا جيشكم وناموا هنيئًا ... وابتغوا صيدكم وجوبوا البلادا وإذا أعوزتكم ذات طوق ... بين تلك الربا فصيدوا العبادا إنما نحن والحمام سواء ... لم تُغادر أطواقنا الأجيادا لا تُقيدوا من أمة بقتيل ... صادت الشمس نفسه حين صادا ليت شعري أتلك محكمة التفتيش عادت أم عهد نيرون عادا2 ثم يذيع قصيدة ثانية في استقبال "كرومر" يشير فيها إلى فظاعة الحادث المشئوم، فيقول عن ضحايا دنشواي: جلدوا ولو منيتهم لتعلقوا ... بجبال من شنقوا ولم يتهيبوا شنقوا ولو منحوا الخيار لأهلوا ... بلظى سياط الجالدين ورحبوا يتحاسدون على الممات وكأسه ... بين الشفاه وطعمه لا يعذب3 ثم يتبع تلك القصيدة بأخرى حين يفد على مصر المعتمد البريطاني الجديد "غورست"، وفي تلك القصيدة يشير إلى مأساة دنشواي أيضًا، فيقول: قتيل الشمس أورثنا حياة ... وأيقظ هاجع القوم الرقود

_ 1 الشوقيات جـ1 ص2-3. 2 ديوان حافظ جـ2 ص20-21. 3 المصدر السابق ص24.

فليت كرومرًا قد دام فينا ... يطوق بالسلاسل كل جيد ويتحف مصر آنًا بعد آن ... بمجلود ومقتول شهيد لننزع هذه الأكفان عنا ... ونبعث في العوالم من جديد1 وهو في كل تلك القصائد يندد بالاحتلال، وينشر فظائعه مرة بالسخرية، ومرة بغير السخرية. وحين يموت مصطفى كامل، يرثيه بقصيدته المشهورة، التي يشير فيها إلى إيقاظ الفقيد للشعور الوطني، وإحيائه لآمال الوطنيين في الحرية، وكون موته راحة للاحتلال، فيقول: أيا قبر هذا الضيف آمال أمة ... فكبر وهلل والق ضيفك جاثيا هنيئًا لهم فليأمنوا كل صائح ... فقد أسكت الصوت الذي كان عاليًا ومات الذي أحيا الشعور وساقه ... إلى المجد فاستحيا النفوس البواليا2 ثم يتبع حافظ تلك القصيدة بأخرى في حفلة الأربعين، وفيها يندد بطاغية الاستعمار كرومر، ويشيد بجهاد الفقيد لتحطيمه، فيقول: زين الشباب وزين طلاب العلا ... هل أنت بالمهج العزيزة داري ثم وامح ما خطت يمين كرومر ... جهلا بدين الواحد القهار ما زلت تختار المواقف وعرة ... حتى وقفت لذلك الجبار وهدمت سورًا قد أجاد بناءه ... فرعون ذو الأوتاد والأنهار3 وحين تحل الذكرى السنوية لوفاة مصطفى كامل يذيع حافظ قصيدة ثالثة، يقول فيها عن المحتلين وألاعيبهم: وللسياسة فينا كل آونة ... لون جديد وعهد ليس يحترمُ ماذا يريدون لا قرت عيونهم ... إن الكنانة لا يطوى لها علم كم أمة رغبت فيها فما رسخت ... لها -على حولها- في أرضها قدم ما كان ربك رب البيت تاركها ... وهي التي بحبال منه تعتصم4

_ 1 ديوان حافظ جـ2 ص33-34. 2 المصدر السابق ص149-150. 3 المصدر نفسه ص151-155. 4 المصدر نفسه ص162.

ثم ينتهز كل فرصة ممكنة ليشهر بالاحتلال، ويهاجم الإنجليز ومن يمالئونهم، يفعل ذلك مثلًا في قصيدة ينشئها بمناسبة الاحتفال بالعام الهجري1، وفي قصيدة أخرى بمناسبة أزمة مد امتياز قناة السويس2، كما يفعله في قصائد أخرى لا يسنى خلالها وطنه ومأساته. كل هذا نراه من حافظ في السنوات الأولى من حياته الشعرية، حين كان حرًّا من قيد الوظيفة، طليقًا من قيود الحرص على دفع الأذى عن الذات، ولقمة العيش، أما حين تسند إليه وظيفة في دار الكتب سنة 1911، وحين يجد نفسه مضطرًّا إلى المحافظة على تلك الوظيفة، بعد ما عاش شبه مشرد يستعين برعاية الأصدقاء من الموسرين والزعماء؛ فإنه يسكت تقريبًا عن مهاجمة الاحتلال3. بل إنه قد تورط كما تورط شوقي، فأثنى على الإنجليز في بعض المناسبات التي لابست فترات خوفه على نفسه أو رزقه، ومن ذلك قصيدتاه4 في رثاء الملكة "فيكتوريا" سنة 1901، ثم في تتويج الملك "إدوارد"؛ فقد كان حافظ خلال تلك الفترة في الاستيداع، عقوبة له على اشتراكه في حركة تمرد قام بها بعض الضباط المصريين بالسودان، وفي القصيدة الأولى يقول للملكة "فيكتوريا": أمالكة البحار ولا أبالي ... إذا قالوا تغالي في المقال فمثل علاك لم أر في المعالي ... ولا تاجًا كتاجك في الجلال5

_ 1 ديوان حافظ جـ2 ص41. 2 المصدر السابق ص59. 3 الاتجاهات الوطنية للدكتور محمد حسين جـ1 ص212. والأدب العربي المعاصر للدكتور شوقي ضيف ص103. 4 الأولى في ديوان حافظ جـ2 ص16 وما بعدها، والثانية في ديوانه جـ1 ص18، وما بعدها. 5 انظر: ديوان حافظ جـ2 ص137.

وفي القصيدة الثانية يقول حافظ الملك "إدوارد": "إدوارد" دمت ودام الملك في رغد ... ودام جندك في الآفاق منتصرا هم يذكرونك إن عدوا عدولهم ... ونحن نذكر إن عدوًا لنا عمرا كأنما أنت تجري في طريقته ... عدلًا وحلمًا وإيقاعًا بمن أشرا1 ومن شعر حافظ، المتورط في مدح الإنجليز، قوله في قصيدة للسلطان حسين كامل، حين ولى سنة 1914: ووال القوم إنهم كرام ... ميامين النقيبة أين خلوا لهم ملك على التايمز أضحت ... وليس لهم إذا فتشت مثل2 ومن شعره المتورط كذلك في مدح الإنجليز، قصيدته في مقدم "مكمهون" التي يقول فيها سنة 1915: أنت أطباء الشعو ... ب وأنبل الأقوام غايه أنى حللتم في البلا ... د لكم من الإصلاح آيه3 وطبيعي أننا لا نريد أن نشكك في وطنية حافظ، ونضاله من أجل الوطن، وإنما نريد فقط أن نقرر أن الرجل لم يكن صريح الوطنية دائمًا، ولم يكن واضع العداء للإنجليز في كل الحالات؛ فقد كان سلوكه في هذا السبيل يتشكل بظروفه ووضعه، مما اضطره إلى أن يداري حينًا، ويتقي حينًا، ويتورط فيما هو أقبح من المدارة والتقية في بعض الأحايين، ولذا كان مما يثير التساؤل أن نرى الإنجليز يتركونه آمنًا في مصر، على حين ينفون شوقيًا بضع سنين4، أيام الحرب العالمية الأولى، ولذا أيضًا رأينا حافظًا يعود إلى مهاجمة الإنجليز والاحتلال حين فك من إسار الوظيفة وترك دار الكتب، كما رأيناه لا يجرؤ

_ 1 المصدر السابق جـ1 ص20. 2 المصدر نفسه جـ1 ص67-71. 3 ديوان حافظ جـ2 ص82. 4 أثار هذا التساؤل A.J> Abery Hafiz and Shauqui.

على نشر ما قال من شعر في ثورة19 إلا في منشورات سرية، ثم عاد فنشره في الصحف بعد سنوات حين أمن مغبة هذا النشر1. ومهما يكن من أمر، فالذي لا شك فيه، أنه مثل شوقي؛ حيث لا يمكن أن يعتبر واحد منهما شاعر الوطنية الفرد، أو شاعرها الأول، وإنما هناك شعراء أقل من شوقي وحافظ حظًّا من الشهرة، كانوا في ميدان الوطنية أشد استبسالًا وأقوى نضالًا، وأكثر مصارحة وأعظم شجاعة. هذا، وإن كان شوقي أعظم شعراء عصره فنًّا، وحافظ أكثرهم تصويرًا لآلام الشعب. في الإصلاح السياسي: هذا فيما يتعلق بالنواحي السياسية في ميادينها الكبرى، المتصلة بالخلافة والقصر والإنجليز، على أن هناك ميادين سياسية أخرى، قد جال فيها هؤلاء الشعراء المحافظون وناضلوا، وهي ميادين الإصلاح السياسي، والمطالبة بالدستور والشورى وحرية الشعب وما إلى ذلك، وقد كان هؤلاء الشعراء يتحينون كل الفرص للإسهام بشعرهم في تلك الميادين، مطالبين بالإصلاح في كل الجوانب. يقول علي الغاياتي لشوقي، حين نشر في المؤيد سنة 1908، أن الدستور لا يستطيع عباس أن يصدره إلا برضى الإنجليز: يا شاعر النيل العظيم أما ترى ... للنيل إلا أسوأ الحالات ما كنت أحسب أن مثلك وهو في ... شعراء مصر صاحب الآيات يجني على الشعب الكريم جناية ... ويود أن يبقى مع الأموات أو أنت تروي عن سواك حديثه ... كيما نرى الدستور ليس بآت2 ويقول حافظ من قصيدته في الاحتفال بالعام الهجري سنة 1909 "1327": ويا طالبي الدستور لا تسكتوا ولا ... تبيتوا على يأس ولا تتضجروا

_ 1 ديوان حافظ جـ2 ص87. 2 وطنيتي ص58.

فما ضاع حق لم ينم عنه أهله ... ولا ناله في العالمين مقصر1 ويقول شوقي عن الشورى والمساواة في همزيته النبوية: داء الجماعة من أرسطاليس لم ... يوصف له حتى أتيت دواء فرسمت بعدك للعباد حكومة ... لا سوقة فيها ولا أمراء الله فوق الخلق فيها وحده ... والناس تحت لوائها أكفاء والدين يسر والخلافة بيعة ... والأمر شورى والحقوق قضاء2 من أجل المجتمع: فإذا تركنا ميادين السياسة، وانتقلنا إلى الميادين الأخرى، وجدنا الشعر قد خاض كل معاركها النضالية وأبلى أحسن البلاء، فأسهم في قضايا وحدة المجتمع وإنهاضه وتحريره، وشارك في قضايا التعليم ونشره وتمصيره، كما ساند غير هذه، وتلك من قضايا مصر في ذلك الحين3، فيوم أطلت الفتنة برأسها كالأفعى، تحاول أن تفرق وحدة الأمة حين قتل بطرس غالي، واتخذ الاحتلال وأذنابه من قتل مسيحي بيد مسلم منفذًا لبث سموم التفرقة بين المصريين؛ حينذاك انبرى الشعراء يعملون على تنقية الجو من السموم، ويناضلون من أجل جمع الشمل ووحدة الصف، وفي ذلك يقول علي الغاياتي: وما أمة القرآن في مصر أمة ... ترى أمة الإنجيل أبغض جيلًا فإنّا وأنتم إخوة في بلادنا ... أقمنا على دين السلام طويلًا4 ويقول إسماعيل صبري: دين عيسى فيكم ودين أخيه ... أحمدٍ، يأمراننا بالإخاء مصر أنتم ونحن، إلا إذا قا ... مت بتفريقنا دواعي الشقاء5

_ 1 ديوان حافظ جـ2 ص42. 2 الشوقيات جـ1 ص26. 3 الاتجاهات الوطنية جـ1 ص223، وما بعدها. 4 وطنيتي ص113. 5 ديوان إسماعيل صبري ص180.

ويقول شوقي: نُعلي تعاليم المسيح لأجلهم ... ويوقرون لأجلنا الإسلاما الدين للديان جل جلاله ... لو شاء ربك وحد الأقواما1 ويقول أحمد محرم: تعالوا إلينا إنما نحن إخوة ... وإني رأيت الأخذ بالرفق أحزما تفرقنا الأديان والله واحد ... وكل بني الدنيا إلى آدم انتمى2 ويقول حافظ: قد ضمنا ألم الحياة وكلنا ... يشكو فنحن على السواء وأنتم إنى ضمين المسلمين جميعهم ... أن يخلصوا لكم إذا أخلصتم3 وحين دعا المصلحون إلى إنشاء جامعة مصرية لتصنع للبلاد رواد الفكر، تحمس الشعراء لهذه الدعوى، وآزروها، وناضلوا مع المناضلين في سبيلها، يقول حافظ في إحدى قصائده أثناء الحض على إنشاء الجامعة سنة 1907، وهو يتهكم باهتمام الإنجليز بالمدارس الأولية فحسب: ذر الكتاتيب منشيها بلا عدد ... ذر الرماد بعين الحاذق الأرب فأنشأوا ألف كتاب وقد علموا ... أن الكواكب لا تغني عن الشهب فما لكم أيها الأقوام جامعة ... إلا بجامعة موصولة السبب4 وحين يحمل الاستعمار -وبعض المخدوعين في دعواه- على اللغة العربية، يخوض الشعراء معركة الدفاع عنها والنضال في سبيل سيادتها، وفي ذلك يقول حافظ تائيته المشهورة، التي منها على لسان العربية:

_ 1 الشوقيات جـ3 ص144. واقرأ إشادة بدور شوقي في هذا التوفيق في: Ahmed Ahawki Prince des Poetes; A. El- Gomayel. p. 21. 2 ديوان محرم جـ2 ص89-94. 3 ديوان حافظ جـ1 ص291. 4 المصدر السابق ص265-267.

وسعِْتُ كتاب الله لفظًا وغاية ... وما ضقت عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة ... وتنسيق أسماء لمخترعات1 وحين دعا قاسم أمين دعوته المشهورة إلى تحرير المرأة، شارك الشعراء في تلك المعركة ما بين مؤيد ومتحفظ ورافض، وهم جميعًا مع ذلك كله مشاركون في قضية حية مناضلون في سبيل ما يعتقدون أنه الخير. يقول شوقي في رثاء قاسم أمين: ماذا رأيت من الحجاب وعسره ... فدعوتنا لترفق ويسار رأي بدا لك لم تجده مخالفًا ... ما في الكتاب وسنة المختار إنَّ الحجاب سماحة ويسارة ... لولا وحوش في الرجال ضوار2 ويقول محرم: أغرك يا أسماء ما ظن قاسم ... أقيمي وراء الخدر فالمرء واهم تضيقين ذرعًا بالحجاب وما به ... سوى ما جنت تلك الرؤى والمزاعم سلام على الإسلام في الشرق كله ... إذا ما استبيحت في الخدور الكرائم3 ويمضي الشعراء مشاركين في كل حركات الإصلاح مناضلين في كل ميادينه الأخلاقية والاجتماعية والثقافية، بل إن بعضهم يبالغ في ذلك حتى ليشارك بشعره في تسجيل أكثر ما يتصل بالمجتمع من أحداث؛ من حريق كبير يفزع المواطنين ببعض البلاد4، إلى ملجأ للأطفال ينشأ في إحدى العواصم5، ما دامت المشاركة بالشعر إسهامًا في قضية اجتماعية إنسانية تمس المواطنين، والحق أن حافظًا كان بطل هذا الميدان، فكم له من شعر أنشده في حفلات أقيمت لجمع التبرعات للمنكوبين، أو في افتتاح مؤسسة للمشردين، وكم له من

_ 1 المصدر نفسه جـ1 ص253. 2 الشوقيات جـ3 ص78. 3 ديوان محرم جـ2 ص63-65. 4 ديوان حافظ جـ1 ص250، وما بعدها. 5 المصدر السابق ص283.

قصائد في الحث على تخفيف مصاب المصابين، ومسح دموع الباكين، ومن شعره في هذا الباب قصيدته في حريق ميت غمر سنة 1902، التي يقول فيها: سائلوا الليل عنهم والنهارا ... كيف باتت نساؤهم والعذارى كيف أمسى رضيعهم فقد الأم ... وكيف اصطلى مع القوم نارا كيف طاح العجوز تحت جدار ... يتداعى وأسقف تتجارى رب إن القضاء أنحى عليهم ... فاكشف الكرب واحجب الأقدارا ومر الناس أن تكف أذاها ... ومر الغيث أن يسيل انهمارا1 ومنه قوله في حفل جمعية رعاية الطفل سنة 1913: هذا صبي هائم ... تحت الظلام هيام حائر أبلى الشقاء جديده ... وتقلمت منه الأظافر فانظر إلى أسماله ... لم يبق منها ما يظاهر هو لا يريد فراقها ... خوف القوارس والهواجر إني أعد ضلوعه ... من تحتها والليل عاكر2 "ب" المحافظون بين الإسلاميات والذاتيات والمناسبات: وهكذا نرى -من الناحية الموضوعية- أن هؤلاء الشعراء المحافظين قد توسعوا كثيرًا في هذا الباب الذي فتحه البارودي، وعالجه من قبله صالح مجدي، وهو باب القضايا الوطنية والإصلاحية، بل إن بعض الشعراء المحافظين أوشكوا أن يجعلوه جل شعرهم، على أنهم في الوقت نفسه لم يسنوا ميادين أخرى من ميادين القول، أهمها ميادين الأمجاد الإسلامية، والتجارب الذاتية، والمناسبات المحلية والعالمية، فقد قالوا في هذه الجوانب على تفاوت بينهم، فهم مختلفون في حظهم من هذا الشعر غير النضالي، وفي اللون الذي يغلب على شعر كل منهم حين يبعد عن ميدان النضال، فشوقي مثلًا يدير كثيرًا منه حول الحب، والخمر

_ 1 ديوان حافظ جـ1 ص250. 2 المصدر السابق جـ1 ص292-293.

والطبيعة، وما إلى ذلك مما تسمح به ظروفه المرفهة الناعمة، وحافظ يجيد في الشكوى من الدهر وتصوير قسوة الحياة، ونحو ذلك مما يتسق وطبيعة عيشته القاسية المجهدة، ومحرم يتألق في تسجيل الأمجاد الإسلامية، على حين يبرع الكاشف في رسم الصور الاجتماعية والأخلاقية.. يقول شوقي في حفل راقص أقيم بقصر عابدين، متحدثًا عن الخمر والنساء واللهو: طال عليها القدم ... فهي وجود عدم قد وئدت في الصبا ... وانبعثت في الهرم بي رشأ ناعم ... ما عرف العمر هم تسأل أترابها ... مومئة بالعنم أي فتى ذلكن ... العربي والعلم يشربها ساهرًا ... ليلته لم ينم قلن تجاهلته ... ذاك رب القلم1 ويقول حافظ من قصيدة له، يتحدث فيها عن بؤسه وسوء حظه، وتمنيه للموت: سعيت إلى أن كدت أنتعل الدما ... وعدت وما أعقبت إلا التندما فهبي رياح الموت نكبًا وأطفئي ... سراج حياتي قبل أن يتحطما فما عصمتني من زماني فضائلي ... ولكن رأيت الموت للحر أعصما2 ويقول الكاشف في الفلاح المصري: إذا استبقيت في الدنيا حبيبًا ... فخير أحبتي فلاح مصرا كريم يملأ الدنيا ثراء ... ولا يلقى سوى الإجحاف أجرا فقير ما أراه شكا افتقارا ... ولو يجزى على تعب لأثرى فمحراث يشق الأرض عندي ... ويخرج من ثراها الخصب تبرا كسيف في يد الجندي لاقى ... به جيشًا وحصنًا مشمخرا3

_ 1 الشوقيات جـ2 ص111-112. 2 ديوان حافظ جـ2 ص114-115. 3 ديوان الكاشف جـ1 ص104.

ويقول في الفلاحة حاملة الجرة: حاملة الجرة تمشي بها ... منيرة الطلعة وسط الزحام كراية حمراء معقودة ... لقائد سار بجيش لهام لولا اعتدال العنق من تحتها ... وهزة العطف بها والقوام أرقتها من ثقلها مشفقًا ... ولو شكا أهلك حر الأوام يا مي ما أغناك عن جرة ... لو شئت كانت في عيون الأنام وأنت لو حملتها عمدة ... لنال تشريفًا وأعلى مقام عساك تبغين بها رأفة ... يا مي إرواء صوادي الغرام1 وإلى جانب الشعر الوطني الإسلامي والاجتماعي والذاتي، يكثر عند الشعراء المحافظين شعر المناسبات والمجاملات، فهم قد مدحوا، ورثوا، وهنأوا، وقرظوا، وعاتبوا، وداعبوا، وهجوا، وذلك على تفاوت بينهم بطبيعة الحال. كما أنهم أسهموا بشعرهم في تسجيل بعض الأحداث العالمية الكبرى كزلزال مدمر2، أو حرب ضروس3، ونحو ذلك. كل هذا مع بقاء الملاحظة التي سبق تسجيلها في أول هذا الحديث، وهي أن طابع النضال في جميع مجالاته، كان طابعًا بارزًا في شعر هؤلاء المحافظين، فهم قد كانوا بحق مستجيبين للطابع العام لتلك الفترة، وهو طابع النضال، فقد ناضلوا من أجل الجامعة الإسلامية لمواجهة أطماع الغرب في ذلك الحين، وناضلوا من أجل الوطن وتخليصه من سيطرة القصر وقيود الاحتلال، كما ناضلوا من أجل رقى المجتمع، وإنهاضه مما فرض عليه من تخلف، وهم قد أبلوا -في جملتهم- أحسن البلاء، حين استخدموا الشعر سلاحًا في معركة النضال.

_ 1 المصدر السابق ص131. 2 ديوان حافظ جـ1 ص215. 3 الشوقيات جـ1 ص30-48.

"جـ" عمود الشعر دعامة المحافظين: والحق أن الشعراء المحافظين قد انتقلوا بالشعر تمامًا من طور الجمود، والمحاكاة الذي تقوقع فيه خلال عهود التخلف، إلى طور التصرف والابتكار، الذي بدأ يتلمسه مع محاولات الباوردي، فلم يعد مع هؤلاء الشعراء المحافظين مجال لهذا الشعر الركيك المتهافت، الذي كان كرفات بلا روح، في أكفان مطرزة بالمحسنات اللفظية والألاعيب اللغوية، بل إن الشعر قد وصل مع هؤلاء المحافظين إلى أسمى الدرجات من حيث جلال الصياغة، وروعة البيان، كما عبر بنجاح عن تجارب الشعراء الذاتية، وقضايا وطنهم الحية، وسجل بعض أحداث عالمهم الكبيرة، وأبرز ما يسجل له بالثناء، إسهامه في معركة النضال، التي تعددت ميادينها ما بين سياسة واجتماعية وثقافية، مما يدل على استجابة الشعراء لروح العصر، ووعيهم لمشكلاته وإدراكهم لدور الفن في خدمة الحياة، ولدور الشعر بخاصة في مراحل النضال. ولكن الحق أيضًا أن هؤلاء الشعراء المحافظين قد وقفوا بالفن الشعري عند مرحلة اتخاذ النماذج القديمة الجيدة مثلًا أعلى. فهم -إلى معارضتهم العديدة لشعراء أقدمين- قد حافظوا إلى حد كبير، على التقاليد الشعرية المتصلة بمنهج القصيدة، وأسلوب الشعر ومعانيه وصوره، وبهذا وقفوا عند تلك المرحلة التي وصل إليها البارودي، والتي كانت مرحلة ضرورية في طريق تطور الشعر العربي، هذا وإن كانوا قد أوضحوا معالم طريقة البارودي، وزادوها صقلًا وتطويعًا لمطالب العصر، ولكن مع الاحتفاظ بروح الطريقة، والسير على هداها. ومن هنا يمكن أن يقلل: إن هؤلاء الشعراء المحافظين كانوا -إلى درجة كبيرة- يتمسكون بعمود الشعر العربي، أي بتلك المجموعة من التقاليد الفنية، التي كان يسير عليها الشعراء الكبار الأقدمون، والتي حاول

النقاد العرب استنباطها، والتعريف بها فيما بعد1. فأحيانًا نرى شعراءنا المحافظين يسيرون في نفس الطريق الذي سار فيه الشعراء الأقدمون من حيث بناء القصيدة، وتأليف عناصرها؛ فهم مثلًا يبدءون القصيدة الحديثة بالغزل التقليدي كما بدأ سابقوهم، حتى ولو كان موضوع القصيدة أبعد الموضوعات عن الحب وتهالكه، وعن النساء ووصفهن، ثم يخلصون من ذلك إلى الغرض المقصود، فهذا هو حافظ يقول في مطلع قصيدة يمدح بها البارودي سنة 1900: تعمدت قتلي في الهوى وتعمدا ... فما أثمت عيني ولا لحظة اعتدى كلانا له عذر فعذري شبيبتي ... وعذرك أني هجت سيفي مجردا هوينا فما هنا كما هان غيرنا ... ولكننا زدنا مع الحب سؤددا2 ثم يمضي واصفًا محبوبته ساردًا مغامراته في لقائها، إلى أن ينتقل آخر الأمر إلى التخلص من الغزل إلى المدح، كما يفعل القدماء فيقول: فمالت لتغريني ومالأها الهوى ... فحدثت نفسي والضمير ترددًا أهم كما همت فأذكر أنني ... فتاك، فيدعوني هواك إلى الهدى كذلك لم أذكرك والخطب يلتقي ... به الخطب إلا كان ذكرك مسعدًا3 وهذا هو عبد المطلب ينشد قصيدة في حفل لجمعية المواساة سنة 1914، فيبدأ القصيدة بقوله: وعدت يا طيف بالمزار ... أيظفر الجفنُ بالقرار وهل يطيب الكرى لجفن ... يبيت في ذمة الدراري4

_ 1 مما قيل عن عمود الشعر قول المرزوق عن الشعراء الذين حققوه في شعرهم: "إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته، وجزالة اللفظ واستقامته، والإصابة في الوصف، ومن اجتماع هذه الأساليب الثلاثة، كثرت سوائر الأمثال، وشوارد الأبيات، والمقارنة في التشبيه، والتحام أجزاء النظم والتآمها، على تخير من لذيذ الوزن، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما القافية، حتى لا منافرة بينهما. فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر، ولكل باب معيار"، انظر: شرح المرزوقي لديوان الحماسة جـ1 ص9. 2 ديوان حافظ جـ1 ص7. 3 المصدر السابق ص9-10. 4 ديوان عبد المطلب ص90.

ثم يتخلص من الغزل إلى الغرض المقصود من القصيدة، وهو الدعوة إلى البر والحث على المواساة، فيقول: خل الهوى والصبا ودعني ... من التصابي والادكار فإن لي بالهموم شُغلا ... عن ذكر ليلى وعن نوار وراحمتا للكريم يشكو ... نوائب العيش أم يداري1 بل هذا هو شوقي يقول في مطلع قصيدة سياسية خالصة، حول مشروع "ملنر"، والوفد الذي جاء يعرض ذاك المشروع على المصريين: إثن عنان القلب واسلم به ... من ربرب الرمل ومن سربه ومن تثني الغيد عن بانة ... مرتجة الأرداف عن كثبه ظباؤه المنكسرات الظبا ... يغلبن ذا اللب على لبه2 ثم يمضي في هذا الغزل إلى أن يتخلص بقوله عن نفسه، وقلبه: شاب وفي أضلعه صاحب ... خلو من الشيب ومن خطبه ما خف إلا للهوى والعلا ... أو لجلال الوفد في ركبه3 وربما كان أكثر من ذلك كله دلالة على تمسك بعض هؤلاء الشعراء المحافظين بهذه الظاهرة من ظواهر عمود الشعر، أن واحدًا من هؤلاء الشعراء قد قدم بالغزل التقليدي لقصيدة قالها في أجنبي، كان قد زار مصر، أما الشاعر فهو أحمد نسيم4، وأما الأجنبي فهو "الدوق أوف كنوت"، وأما القصيدة فهي التي يقول الشاعر في مطلعها، وكأنه يتحدث عن بدوي أو أحد شيوخ القبائل في الجاهلية: هل الحب إلا مهجة الصب تدنف ... أو الشوق إلا لوعة وتلهف أفق قبل حب ليس يخبو ضرامه ... غداة رحيل والمدامع ذرف

_ 1 المصدر السابق ص90-91. 2 الشوقيات جـ1 ص64. 3 الشوقيات جـ1 ص65. 4 ولد بالقاهرة سنة 1878، وتعلم بها، ثم عمل بدار الكتب، وتوفي سنة 1938. اقرأ عنه في: الأعلام للزركلي جـ1 ص25، وفي: شعراء الوطنية لعبد الرحمن الرافعي ص213.

إلى أن يتخلص إلى المدح بقوله: وما هاجني إلا الجمال مع الصبا ... ودل الغواني والغزل المشنف على أنه لا مرتجى غير قادم ... عليه من العلياء برد مفوف1 وأحيانًا أخرى نرى الشعراء المحافظين يصفون الأطلال، ويتحدثون عن الرسوم والديار، كما يفعل القدماء, ومن أمثلة ذلك قول الكاشف: ديار أحبائي عليك سلاميا ... بعهدك أدعو لو سمعت دعائيًا وهل تسمع الدار المعطلة التي ... غدا رحبها من أهلها اليوم خاليًا وصارت عفاءً غير ربع يلوح لي ... بأيدي البلى يستقبل الريح خاويًا ويلقى الغوادي شاكيًا بأس وقعها ... وقد يشتكي الربع الضعيف الغواديا ولكنن في أن تلبي لطامع ... عساني أدري أين ساروا عسانيا2 ومن ذلك أيضًا قول محرم: أهذي ديار للقوم غيرها الدهر ... فعوجوا عليها نبكها أيها السفر محا آيها مر العصور وكرها ... إذا مر عصر كر من بعده عصر نسائلها: أين استقل قطينها ... وهل تنطق الدار المعطلة القفر3 بل منه كذلك قول شوقي: أنادي الرسم لو ملك الجوابا ... وأفديه بدمعي لو أثابا نثرت الدمع في الدمن البوالي ... كنظمي في كواعبها الشبابا وقفت بها كما شاءت وشاءوا ... وقوفًا علم الصبر الذهابا ومن شكر المناجم محسنات ... إذا التبر انجلى شكر الترابا4 ومرات نرى الشعراء المحافظين، يتوجهون بالخطاب في القصيدة إلى الصاحبين، تمامًا كما كان يفعل الشعراء الأقدمون، منذ استن لهم هذه السنة

_ 1 ديوان نسيم جـ1 ص128-129. 2 ديوان الكاشف جـ1 ص88. 3 ديوان محرم جـ1 ص73. 4 الشوقيات جـ1 ص54.

امرؤ القيس، حين قال "قفا نبك"، فهذا هو حافظ إبراهيم يقول من قصيدة له في تهنئة الإمام محمد عبده بالإياب من الجزائر: بكرا صاحبي قبل الإياب ... وقفا بي بعين شمس قفا بي1 ويقول أيضًا من قصيدة له في رثاء عثمان أباظة: ردّا كئوسكما عن شبه مفؤود ... فليس ذلك يوم الراح والعود2 ويقول شوقي في قصيدة له في إسماعيل: يا خليلي لا تذما لي الموت ... فإني من لا يرى العيش حمدا3 ومرات أخرى نرى الشعراء المحافظين يتحدثون، وكأنهم يعيشون في القرون الإسلامية الأولى، بل يرجعون إلى العصر الجاهلي، ويحيون في الصحراء بين الخيام والنخيل، ومع العيس والآرام، فهم يتحدثون عن أماكن فيذكرون وادي الغضا ونحوه، ويصفون حبيبة يعشقونها فيتصورون الظبا والمها، وهم يسافرون فيذكرون الركائب والرحال والجمال، ويتشوقون فيذكرون البرق الذي يلتمع من حيث يقيم الأحباب، ويدعون بأن يجود الغيث أماكن من إليهم يحنون. وعلى الجملة هم بخيالهم، وتصورهم يعيشون في ذاك العالم العربي القديم، الذي عاش فيه آباؤهم الأقدمون، وهم لا يزالون يتخذون من هذا العالم القديم عالمًا مثاليًّا أسطوريًّا، ينقلون عنه ويقتبسون منه، ويعبرون به عن العالم الجديد الذي فيه يعيشون، وقد يحس بعضهم أنه يُرمى بالتخلف والتقليد، فيترك الحديث عن وصف الناقة مثلًا حين يفتتح قصيدة له بحديث رحلة توصله إلى الغرض من القصيدة، فيتحدث بدلًا من الناقة عن السفينة، كما فعل شوقي في قصيدته الهمزية، التي يقول في مطلعها: هممت الفلك واحتواها الماء ... وحداها بمن تقل الرجاء4

_ 1 ديوان حافظ جـ1 ص23. 2 المصدر السابق جـ2 ص23. 3 الشوقيات جـ1 ص123. 4 الشوقيات جـ1 ص1.

أو يتحدث عن الطيارة باعتبارها آخر ما عرف من وسائل المواصلات، كما فعل عبد المطلب في قصيدته في مدح الإمام علي، حيث يقول: أجدك ما النياق وما سراها ... نخوض بها المهامه والأكاما وما قطر البخار إذا استقلت ... بها النيران تضطرم اضطراما فهب لي ذات أجنحة لعليِّ ... بها ألقى على السحب الإماما1 ولكن الشاعر المحافظ يظل مع ذلك محافظًا، سائرًا على طريقة القدماء، آخذًا بتقاليدهم، متمسكًا بعمود شعرهم؛ لأنه لم يغير المنهج ولم يبدل الخطة، من حيث وصف الرحلة مثلًا، والتمهيد بوصف أو ذكر ما يركب، للدخول في الموضوع الأساسي2. وهكذا كان الطابع الغالب على الجو الشعري الذي يتنفس فيه الشعراء المحافظون، ويتنفس فيه معهم قراؤهم ومستمعوهم؛ هو الجو العربي القديم، الذي يصل أحيانًا إلى أن يكون جوًّا بدويًّا صحراويًّا. وقد سبق تبرير ذلك المسلك للبارودي بأمرين، الأول هو روح الفترة التي كانت مشدودة الوجدان إلى التراث بكل ما فيه، وكل ما يصوره من ماض رائع، وتاريخ عربي إسلامي مشرق، والثاني هو طبيعة المرحلة الشعرية التي كان يحققها البارودي، وهي مرحلة الإحياء، التي كان لا بد منها لكي يعود الشعر إلى الأصالة والجمال، بعد الزيف والقبح، حتى ولو كانت الأصالة فيها روح التراث، ولو كان الجمال ذا سمات عريقة مضت عليها قرون، ولكنها خلدت على تلك القرون، فلم يكن من المستطاع أن يخلق البارودي، أو غيره شعرًا جديدًا من العدم، وكان من الضروري أن يقوم هو أو غيره، بصرف الأنظار عن الشعر الركيك المتخلف، وتوجيهها إلى شعر آخر حي نابض جميل، ولم يكن غير الشعر الجيد القديم، شعر التراث3.

_ 1 ديوان عبد المطلب ص230. 2 شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد ص49-52. 3 شعراء مصر وبيئاتهم ص121، وما بعدها، ومقدمة الدكتور محمد حسين هيكل لديوان البارودي ص11-14.

والواقع أن الشعراء المحافظين الذين جاءوا بعد البارودي عمقوا تجربته، وأكدوا محاولته ووسعوا خطوته، وجودوا الأسلوب الفني الذي أخذ به. ولكن الواقع أيضًا أنهم وقفوا عند ذلك، ولم يسيروا بالشعر الحديث مرحلة جديدة، فهل نبرر مسلكهم كما بررنا مسلك البارودي؟ الجواب بالنفي، وذلك أن الزمن كان قد سار بهم، فابتعدوا عن أن يظلوا متصورين للعالم العربي القديم -حتى بما فيه من بداوة- كعالم مثالي أسطوري، ينقلون عنه ويغترفون منه، ويعبرون به عن عالمنا الجديد، كما أن الثقافة الفنية والأدبية قد أتيحت لبعضهم مثل شوقي، بما كان يتحتم معه أن يرى مناهج للشعر الحديث أكثر تلاؤمًا من المناهج القديمة، التي كانت لعصور غير عصورنا، ولحياة غير حياتنا. أو بتعبير آخر كان على مثل شوقي أن يدرك أن المثل الأعلى للشعر في العصر الحديث، يجب أن يكون غير المثل الأعلى الذي كان للشعراء العرب الذين عاشوا منذ أكثر من عشرة قرون1. فحيث إن مرحلة الإحياء كانت قد تحققت بفضل البارودي، وابتعد الزمن بالشعراء المحافظين بعده عن أن يظلوا عند اتخاذ الماضي مثلًا أعلى للحاضر، وحيث قد أتيح لبعضهم من الفرص الثقافية ما كان يتحتم معه أن يدرك مثلًا أعلى للشعراء أكثر ملاءمة لروح العصر؛ فإن من العسير أن يدافع عن الشعراء المحافظين، ويبرر وقوفهم بالشعر عند مرحلة البارودي. ولعل ذلك يؤيده قول الدكتور طه حسين في هؤلاء الشعراء المحافظين الذين جاءوا عبد البارودي: "وعندنا شعراء، ولكنهم لم يجددوا شيئًا، ولم يبتكروا ولم يستحدثوا، وإنما اكتسبوا شخصيتهم من القديم، واستعاروا مجدهم الفني من القدماء، فليس لهم إلا فضل واحد هو فضل الإحياء، وما زال ينقصهم فضل آخر، هو فضل الإنشاء والابتكار2". كذلك صور المنفلوطي تلك الظاهرة بشيء من المبالغة التي لا تُخفي كل

_ 1 حافظ وشوقي للدكتور طه حسين ص19 وما بعدها. 2 المصدر ص9.

الحق، فقال: "شعراء مصر في هذا العصر ليسوا شعراء هذا البلد ولا هذا الزمن، وإنما هم جماعة من تجار العاديات، لا يزالون يصورون لنا في هذه العصور تماثيل كاذبة لآداب الجاهلية الأولى"1. وقد يقال: إن هؤلاء الشعراء كان يستخدمون أسماء الأماكن العربية، ونحوها استخدامًا رمزيًا لإثارة الوجدان، أو لخلق جو معين، كما يستخدم الشاعر العربي الحديث كلمة مثل "أبولو" أو "الأولمب" أو "منرفا" ونحو ذلك، ولكن يرد على هذا القول بأن استخدام الشعراء المحافظين لمشاهد العالم العربي القديم، لم يقف عند هذه اللمحات التي تدخل في باب الرمز، وإنما تعداه إلى تأسي الأقدمين في منهج القصيدة، ومعارضتها أحيانًا، واستخدام نفس المعاني والصور. "د" تأثيرات حسنة، وأخرى سيئة للاتجاه المحافظ: وإذا كان المحافظون قد أسهموا بشعرهم في النضال الذي خاضته البلاد حينذاك في كل الميادين، وحققوا انتصارًا للشعر بذلك، لم يحققه البارودي نفسه، وإذا كانوا قد جودوا التبعير الشعري، ووصلوا به إلى الغاية من حلاوة الموسيقى، وروعة البيان وإشراق الصياغة؛ فإن هاتين الحسنتين كانت لهما سيئتان تقابلهما، ويقتضي الإنصاف تسجيلهما، الأولى هي أن كثرة خوض الشعر للمعارك جره إلى كثير من المناسبات، والمواقف المحفلية، حتى أصبح شعر المناسبات والمجاملات ظاهرة توشك أن تطغى على بقية الظواهر الشعرية الفنية الأخرى، وقد صور الدكتور طه حسين هذه الظاهرة في أسلوب ساخر لا يخلو من المبالغة، ولكنه لا يبعد كثيرًا عن الحق، فقال: "وأصبح الشعر بفضل الشعراء وكسلهم العقلي فنًّا عرضيًّا، لا يحفل به إلا للهو والزينة والزخرف، فإذا أراد بنك مصر أن يفتتح بناءه الجديد، طلب إلى شوقي قصيدة، فنظم له شوقي هذه القصيدة، وإذا أرادت دار العلوم أن تحتفل بعيدها الخمسيني كما

_ 1 اقرأ مقدمة ديوان الكاشف التي كتبها المنفلوطي جـ2 ص ل.

يقولون، طلبت إلى شوقي والجارم، وعبد المطلب أن ينظموا لها قصائد، فنظموا لها القصائد، وإذا مات عظيم وأريد الاحتفال بتأبينه، أو نبه نابه وأريد الاحتفال بتكريمه، طلب إلى الشعراء أن ينظموا الشعر في المدح والرثاء، فنظموه كما ينظمه القدماء؛ فانحط الشعر، حتى أصبح كهذه الكراسي الجميلة المزخرفة التي تتخذ في الحفلات والمآتم، وأصبحنا لا نتصور حفلة بغير قصيدة لشوقي أو حافظ، كما أننا لا نتصور عيدًا، أو مأتمًا بغير مغن، أو مرتل للقرآن1. وقد جرت هذه الظاهرة السيئة -ظاهرة المناسبات والمحافل- إلى عدة ظواهر سيئة تفرعت عنها، من أهمها عدم تعبير الشعر في كثير من الأحيان عن تجارب صادقة، ومن أهمها أيضًا تشكل أسلوب الشعر، بما يلائم المحافل ومجامع الجماهير، ومواقف خطابهم، ومن هنا كثر عند الشعراء المحافظين التعبير المباشر الذي يجعل الشعر أحيانًا قريبًا من النثر، فيفسد عليه كثيرًا من قيمة الفنية؛ لأن ما أمكن أن يقال نثرًا، فمن الأفضل ألا يقال شعرًا2، كذلك كثر عند هؤلاء الشعراء، الأسلوب الخطابي، وما يستلزمه من صيغ النداء، وأفعال الطلب وما إلى ذلك، حتى أصبح ذلك كله مظهرًا من مظاهر افتتاح القصائد عند بعضهم، وتستطيع أن تحصى في شعر شوقي مثلًا، عددًا كبيرًا من هذه الافتتاحات الخطابية، من مثل قوله: "قم ناج جلق"3، ثم "قم حي هذه النيرات"4، "قم في فم الدنيا"5، "قم ناد أنقرة"6. أو مثل قوله: "قف ناد أهرام الجلال"7، "قف بالممالك وانظر دولة المال"8،

_ 1 حافظ وشوقي لطه حسين ص149-150. 2 انظر: T.S Eliot" points of view.p.52. 3 الشوقيات جـ2 ص122. 4 المصدر السابق جـ1 ص102. 5 الشوقيات جـ1 ص175. 6 المصدر السابق ص198. 7 المصدر نفسه ص129. 8 المصدر نفسه ص229.

"قف على كنز بباريس ثمين1"، "آذار أقبل قف بنا يا صاح"2. أما السيئة الثانية، التي تقابل حسنة تجويد الصياغة، فهي أن كثرة العناية بالصياغة والإفراط في الجانب البياني، جعل امثل الأعلى في الأداء الشعري مثلًا متعلقًا بالشكل، مهتمًا باللفظ، غير مكترث بالمضمون أو معني بالمعنى. ومن هنا أوشك الشعر أن يتحول إلى صياغات جميلة، وأساليب آسرة. وموسيقى تملأ الآذان، وقد جرت هذه الظاهرة السيئة كذلك إلى عدة ظواهر سيئة أخرى تفرعت عنها أيضًا، من أبرزها إهمال جوانب فنية كثيرة تأتي وراء جمال الصياغة، وأسر الأسلوب وروعة الموسيقى، ومن أهم هذه الجوانب جانب الأفكار الدقيقة، والتجارب النفسية العميقة، واتضاح شخصية الشاعر وطبيعته، ولون نظرته إلى الحياة والكون، ورسمه للطبيعة والناس، وإضافاته الخلاقة إلى كل ما يتحدث عنه. وهكذا أصبح كل الشعراء المحافظين سواء، يقولون تقريبًا نفس الأفكار، ويرسمون نفس الصور، ويوشكون أن يحسوا نفس الأحاسيس، حتى لا يستطاع تمييز واحد عن الآخر، أو معرفة بعضهم من بعض، اللهم إلا بما يكون من جودة صناعة أسلوبية يتفوق بها واحد أحيانًا عن واحد آخر، وذلك؛ لأن هدفهم جميعًا واحد، هو الصياغة البيانية المشرقة كما أن مثلهم واحد، وهو النماذج الرائعة خلفها التراث، فبقدر موهبة الشاعر منهم، وقدرته على إجادة الصياغة البيانية المشرقة، وبقدر قربه من نماذج التراث أو تفوقه عليها، كان حظه من التفوق والامتياز، وفي ذلك يقول العقاد في حديثه عن شوقي كإمام لهذا الاتجاه المحافظ البياني: "في أحمد شوقي ارتفع شعر الصنعة إلى ذروته العليا، وهبط شعر الشخصية إلى حيث لا تبين لمحة من الملامح، ولا قسمة من القسمات التي يتميز بها إنسان عن سائر الناس3"، ويقول كذلك عن هذا الشعر المحافظ البياني، الذي سماه شعر الصنعة، مقابلًا بينه وبين شعر

_ 1 المصدر نفسه ص312. 2 الشوقيات جـ2 ص23. 3 شعراء مصر وبيئاتهم ص156.

الشخصية: "ومنه ما هو قريب إلى الطبيعة، ولكنه منقول من القسط الشائع بين الناس، وليس فيه دليل على شخصية القائل، ولا على طبعه؛ لأنه أشبه شيء بالوجوه المستعارة، التي فيها كل ما في وجوه الناس، وليس فيها وجه إنسان1". ويقول مرة أخرى عن شوقي إمام هذا الاتجاه: "فإذا عرفت شوقيًا في شعره، فإنما تعرفه بعلامة صناعته، وأسلوب تركيبه، كما تعرف المصنع من علامته المرسومة على السلعة المعروضة، ولكنك لا تعرفه بتلك المزية النفسية التي تنطوي وراء الكلام، وتنبثق من أعماق الحياة2". ثم يقول أخيرًا مسميًا هذا الشعر المحافظ البياني باسم آخر غير اسم "شعر الصنعة"، وهو اسم "شعر النماذج": "ولقد وجد شعر النماذج في شوقي رسوله المبين، بل خاتم رسله أجمعين، فأبطاله من الممدوحين، والمرئيين طراز في مراتب المجد، التي يرتضيها السمت والهيبة، وفضائل الأخلاق في قصائده، هي الفضائل التي اصطلح عليها العرف، وتتابعت بها معايير الحمد والثناء، وعواطف الإنسان هي العواطف التي رسمها لنا تقاليد الزمن في أحوال المحبين والطامحين، أو آداب الآباء والبنين، وآيته فيما عرض له من ذلك كله، تلك القدرة البارعة في تجويد الصناعة التي لا تفوقها قدرة في عصره، ونكاد نقول في عصور الأقدمين والمحدثين3". وبديهي أن هذا الحديث عن شوقي، وكلفه بالصياغة لا يخصه وحده، وإنما ينسحب على كل الشعراء من أبناء اتجاهه مثل حافظ، ومحرم والغاياتي والكاشف ونسيم، وعبد المطلب. وفي ظاهرة عدم تمايز الشعراء المحافظين -نتيجة لكلفهم بالصياغة أولا، ثم لاتخاذهم القديم مثلًا أعلى ثانيًا- يقول الدكتور طه حسين، منكرًا عليهم حتى التمايز بالألفاظ والأساليب، وغير مكتف بما أنكره العقاد من عدم

_ 1 المصدر السابق والصفحة نفسها. 2 شعراء مصر وبيئاتهم ص161. 3 اقرأ: مهرجان شوقي "مجموعة الأبحاث والدراسات التي نشرها المجلس الأعلى لرعاية الفنون" ص8.

التمايز بالشخصية والطابع النفسي: "وإن الشعراء بعيدون كل البعد عن أن يصلوا إلى ما وصل إليه الكتاب من التمايز بألفاظهم، وأساليبهم، وآرائهم وشخصياتهم، وأن يستقلوا عن القدماء من فحول الشعراء ... حتى أصبح من أيسر الأمور على الناقد إذا قرأ قصيدة لشوقي، أو لحافظ أو غيرهما، أن يرد القصيدة إلى أصلها القديم الذي أخذت منه، أو أن يرد كل جزء من أجزاء هذه القصيدة إلى أصله الذي أخذ منه1". فكما جرت حسنة إسهام الشعر في النضال إلى غلبة شعر المناسبات والمحافل، الذي جر بدوره إلى عدم الاهتمام بصدق التجربة، ثم إلى الخطابية والمباشرة في التعبير؛ كذلك جرت حسنة الكلف بتجويد الصياغة، إلى عدم العناية بالأفكار الدقيقة، والتجارب النفسية العميقة، وإلى عدم اتضاح شخصية الشاعر وطبعه، ولون نظرته إلى الحياة والكون، ورسمه للطبيعة والناس.. وهناك ظاهرة سيئة أخرى جاءت أيضًا نتيجة لعدم رعاية الجانب المعنوي في الشعر، وتلك الظاهرة هي عدم رعاية الوحدة العضوية، بحيث جاءت أغلب قصائد الشعراء المحافظين مشتملة على عدد من الأغراض أولًا، ثم جاء الغرض الواحد غير مترابط المعاني، ولا مرتبها ترتيبًا بنائيًا متآزرًا ثانيًا. وهكذا أصبح الشعر المحافظ البياني ليس المثل الفني الأعلى، رغم ما له من حسنات روعة للصياغة، والإسهام في النضال، والقضاء الكامل على بقايا الاتجاه التقليدي المتخلف، وملء الحياة الأدبية بالشعر المشرق الحي، وأصبحت الحاجة ماسة إلى شعر آخر يخطو إلى مرحلة جديدة غير مرحلة البعث التي رادها البارودي، ويتجنب عيوب الشعر المحافظ البياني، التي في مقدمتها: الالتفات إلى القديم، ومحاكاته بالتمثل، والاستيحاء أو المعارضة، ثم الإكثار من القول في المناسبات والمجاملات، مما يجعل أكثر النتاج الشعري متناولًا لخارج نفس الشاعر ووجدانه، غير صادر عن تجاربه وأحاسيسه، ثم الاهتمام البالغ بجانب الصياغة، وعدم رعاية جانب المعنى، وما يطلبه من فكر صائب ووجدان صادق، وأخيرًا عدم رعاية الوحدة العضوية، نتيجة للاهتمام بجوانب بلاغية جزئية، والكلف بجمال البيت المفرد، وعدم النظر إلى القصيدة كبناء فني.

_ 1 حافظ وشوقي للدكتور طه حسين ص137-138.

ظهور الاتجاه التجديدي الذهني

2- ظهور الاتجاه التجديدي الذهني: لقد دعت الحاجة الفنية إلى ظهور لون جديد من الشعر، يحالو القيام بما عجز عنه الاتجاه المحافظ البياني، من تحقيق المثل الشعري الأعلى، الذي يلائم العصر والبيئة، ويتجنب ما تورط فيه الاتجاه المحافظ البياني من مآخذ. وقد ولد هذا الاتجاه الجديد على يد ثلاثة من الشبان المصريين، اشتركوا في عدة سمات، فهم أولًا من ذوي الثقافة الأدبية الإنجليزية بالإضافة إلى الثقافة العربية، وهم ثانيًا من المفكرين المغلبين كثيرًا لجانب العقل، وهم ثالثًا من الشباب الثائر، المتطلع إلى آفاق عليا وقيم أفضل، وهم آخر الأمر من الطموحين الذين يرون آمالهم أكبر من إمكانيات عصرهم، وظروف معيشتهم. أما هؤلاء الشبان الثلاثة فهم عبد الرحمن شكري1، وإبراهيم عبد القادر

_ 1 ولد عبد الرحمن شكري ببورسعيد سنة 1886، وتعلم بها وبالإسكندرية، ثم بالقاهرة، حيث أتم دراسته الثانوية برأس التين، ثم دخل مدرسة الحقوق أولًا، ولما فصل منها لأسباب سياسية التحق بالمعلمين العليا، وتخرج سنة 1909. وأوفد في بعثة إلى انجلترا، فدرس في جامعة "شيفلد" ثلاث سنوات، ونال درجة البكالوريوس في الآداب. ثم عاد إلى مصر واشتغل في مناصب التعليم من مدرس إلى مفتش إلى ناظر، ثم اعتزل الخدمة سنة 1938، وعاد إلى بورسعيد، وظل بها إلى سنة 1952، ثم انتقل إلى الإسكندرية، وظل بها حتى مات سنة 1958 حيث دفن هناك. اقرأ عنه في المقدمة التي صدر بها ديوانه الكامل، الأستاذ نقولا يوسف، وهو الديوان الذي جمع فيه كل شعره، وصدر سنة 1960. وفي: الأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف ص128 وما بعدها، والشعر المصري بعد شوقي للدكتور مندور الحلقة الأولى ص66 وما بعدها.

المازني1، وعباس محمود العقاد2، وقد اتصل الأول والثاني بالثقافة الأدبية الإنجليزية أولًا عن طريق دراستهما الرسمية في مدرسة المعلمين العليا، ثم عمقا هذه الثقافة بالدراسة الشخصية، والعمل في الحقل الأدبي، أما العقاد؛ فقد اتصل بتلك الثقافة الإنجليزية عن طريق قراءته الشخصية، وتثقيفه الذاتي، الذي وصل به إلى القمة التي تربع عليها كواحد من أعلام الأدب المعاصر.

_ 1 ولد المازني بالقاهرة سنة 1889، ومات أبوه وهو صغير، فنشأ نشأة قاسية صابرة، وتعلم كل مراحل التعليم بالقاهرة، وكان قد التحق بالطب بعد إتمام الدراسة الثانوية، ولكنه فزع من رؤية قاعة التشريح، وحاول أن يلتحق بالحقوق، ولكنه عجز عن المصروفات، فالتحق بالمعلمين، وتخرج سنة 1909، واشتغل بعد تخرجه بالتدريس في المدارس الثانوية، ثم درس الإنجليزية في دار العلوم، وأخيرًا تبرم بالوظيفة الحكومية، واستقال سنة 1913، وعمل حينًا في المدارس الحرة، ثم تفرغ من سنة 1917 للأدب والصحافة، إلى أن توفي سنة 1949. اقرأ عنه في: أدب المازني للدكتورة نعمات فؤاد، ومحاضرات عن المازني للدكتور محمد مندور، والأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف ص261 وما بعدها. 2 ولد العقاد بأسوان سنة 1889، وتلقى بها دروسه الابتدائية، ولم يكتف بالمرحلة الابتدائبية التي أتمها سنة 1903، وإنما انتفع كثيرًا بمجالس الشيخ أحمد الجداوي الذي كان من تلاميذ الأفغاني، فكان يتردد على مجالس هذا الشيخ كثيرًا مع والده، كما انتفع بالدراسة الذاتية، والاطلاع الشخصي الذي وصل به إلى منزلة الريادة بعد ذلك، وقد اشتغل في أول حياته العملية ببعض الوظائف الحكومية، كالقسم المالي بمديرية الشرقية، وكديوان الأوقاف بالقاهرة، وكمصلحة الإيرادات بقنا، وكالتدريس في بعض المدارس الأهلية بالقاهرة. ولكنه كان يؤثر الصحافة والأدب، فاتصل في أو عهده الصحفي بالدستور التي كان يصدرها فريد وجدي، ثم كتب في صحف أخرى، حتى كان الكاتب الأول لصحف الوفد وخاصة البلاغ، بعد أن انقطع للكتابة.... وبعد خلافه مع زعماء الوفد في منتصف الثلاثينات، انضم إلى معارضي الوفد، وصار ألمع كتاب هذه المعارضة، وظل ينتج في الأدب والفكر حتى توفي سنة 1964. اقرأ عنه: العقاد دراسة وتحية بقلم طائفة من تلاميذه ومحبيه. ومع العقاد لشوقي ضيف، والأدب العربي المعاصر في مصر لشوقي ضيف، ص136 وما بعدها. والشعر المصري بعد شوقي لمندور الحلقة الأولى ص39 وما بعدها.

وقد كانت لهؤلاء الثلاثة قراءات في الشعر الإنجليزي، وتعرف على شعرائه، وخاصة الرومانتيكيين من أمثال "وردزورث" و"شيلي" و"بيرون" وغيرهم، كما كانت لهم قراءات في النقد، وإعجاب بالناقد الإنجليزي "هازلت" بصفة خاصة1. وقد وجههم ذلك -بالإضافة إلى ميولهم، وثقافتهم الفكرية- إلى أن يقولوا شعرًا مخالفًا للشعر المحافظ البياني، متسمًا بسمات مغيرة لسمات شعر المحافظين. وكانت أهم سمات هذا الشعر الذي ظهر مع هؤلاء سمتين، هما التجديدية والذهنية، أما التجديدية فتتمثل في جانبين، جانب المفهوم الحقيقي للشعر، وجانب الشكل الفني للقصيدة، والمفهوم الحقيقي للشعر عندهم هو أن الشعر تعبير عن النفس الإنسانية في فرديتها وتميزها، والشكل الفني للقصيدة هو ما يقوم على اعتبارها كائنًا حيًّا، لكل جزء من أجزائه وظيفة ومكان، كوظيفة عضو المس ومكانه2. وأما الذهنية، فتتمثل في رعاية الجانب الفكري في النسيج الشعري، وعدم قصر هذا النسيج على خيوط من العاطفة وحدها، فالواجب عندهم أن يخاطب الشعر العقل كما يخاطب القلب، وأن يتسع مفهوم الوجدان بحيث يشمل كل ما يجده الإنسان في نفسه من شعور، ومن فكر معًا3. ومن هنا ثار هؤلاء المجددون على طريقة المحافظين، ونعوا عليهم اتخاذهم النماذج البيانية القديمة مثلًا أعلى4، كما نعوا عليهم زجهم بالشعر في المناسبات والمحافل5، والبعد عن النفس الإنسانية6، كما عابوهم أيضًا بالاهتمام

_ 1 انظر: شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي للعقاد ص192-194. واقرأ بعض الأصول النقدية التي عرف بها هازلت، والتي شاعت بعد ذلك عند هؤلاء الشعراء المصريين: Lectrres on English Poets: William Hazlitt, PP. 1-18. 2 شعراء مصر وبيئاتهم ص7. 3 ديوان بعد الأعاصير ص45، والشعر المصري بعد شوقي الحلقة الأولى ص41. 4 شعراء مصر وبيئاتهم ص52، وخلاصة اليومية للعقاد ص105 وما بعدها. 5 اقرأ مقالًا للعقاد في صحيفة عكاظ عدد 9 مارس سنة 1914. 6 خلاصة اليومية ص105 وما بعدها، وشعراء مصر ص7.

بقشور الأشياء وظواهرها1، وعدم اتضاح الشخصية وتميزها2، وأخيرًا عابوهم بعدم رعاية الوحدة العضوية في القصيدة3. ونتيجة لطموح هؤلاء الشبان وكبر آمالهم، وعدم مواتاة إمكانيات عصرهم بالنسبة إليهم، أو نتيجة لشعورهم بعدم القدرة على تحقيق آمالهم الفنية، وشق طريقهم أمام هذا الطود الشامخ، الذي يمثله الاتجاه المحافظ البياني، ويتربع عليه الشاعر الكبير شوقي؛ قد أحس هؤلاء الشعراء الشبان بكثير من المرارة والظلم4، فشابت حركتهم ثورة، وأخذت أحيانًا شكل تدمير، فلم يكتف هؤلاء الثائرون بإذاعة شعرهم الجديد، الذي يمثل مذهبهم التجديدي، وطابعهم الذهني، وإنما قدموا لشعرهم وصاحبوه، وأتبعوه بمقالات وكتابات تهدم الاتجاه القديم، وتجرح أعلامه وخصوصًا شوقي وحافظ5، وتصل في هذا وذاك إلى درجة كبيرة من المبالغة، وهذا مظهر من مظاهر المرارة والإحساس بالظلم. وهناك مظر آخر لتلك المرارة، وهو كثرة الشكوى، وانعكاس طابع الأسى عمومًا على كثير من نماذج الشعر لهؤلاء الشباب6. أ- زيادة هذا الاتجاه: يذهب بعض الدارسين إلى أن الشاعر خليل مطران، هو الأب الشرعي لهذا الاتجاه7. ويعللون هذا الرأي بأن الشاعر مطران، قد بدأ يكتب عن

_ 1 الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الأولى ص6. 2 شعراء مصر وبيئاتهم ص156، 167-168. 3 المصدر السابق ص7، والشعر المصري بعد شوقي الحلقة الأولى ص15. 4 الشعرالمصري بعد شوقي الحلقة الأولى ص4-5. 5 المصدر السابق ص4. 6 اقرأ بعد الأعاصير ص45. 7 انظر: مطران لإسماعيل أدهم ص33-34، وجماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص95.

خطوط هذا الاتجاه الشعري الجديد منذ سنة 1900، حين كتب في المجلة المصرية مبشرًا به، لافتًا الأنظار إليه، بمثل قوله: "إن اللغة غير التصور والرأي، وإن خطة العرب في الشعر لا يجب حتمًا أن تكون خطتنا، بل لهم عصرهم ولنا عصرنا، ولهم آدابهم وأخلاقهم وحاجاتهم وعلومهم، ولنا آدابنا وأخلاقنا وحاجاتنا وعلومنا، ولهذا وجب أن يكون شعرنا مماثلًا لتصورنا وشعورنا، لا لتصورهم وشعورهم، وإن كان مفرغًا في قوالبهم، محتذيًا مذاهبهم اللفظية1". ثم أذاع ديوانه سنة 1908، مصدرًا بمقدمة تمثل الخطوط العريضة للمبادئ الأساسية لهذا الاتجاه، ومحتويًا على كثير من النماذج التي تعتبر تطبيقًا ناجحًا له. وفي هذه المقدمة يقول مطران: "هذا شعر ليس ناظمه بعبده، ولا تحمله ضرورات الوزن، أو القافية على غير قصده، يقال فيه المعنى الصحيح باللفظ الفصيح، ولا ينظر قائله إلى جمال البيت المفرد، ولو أنكره جاره، وشاتم أخاه، ودابر المطلع، وقاطع المقطع، وخاتم الختام، بل ينظر إلى جمال البيت في ذاته، وفي موضعه، وإلى جملة القصيدة في تركيبها وترتيبها، وفي تناسق معانيها ومواقفها2". ويضيف أصحاب هذا الرأي أن العمل الشعري الأول لهذا الاتجاه، قد ظهر سنة 1909، وهو الديوان الأول لشكري، ثم تبعه الديوان الأول للمازني سنة 1913، وأخيرًا ظهر الديوان الأول للعقاد سنة 1916، وقد يزيد أصحاب هذا الرأي أن العمل النقدي الأول الذي يحوي مبادئ هؤلاء في تجديد الشعر، إنما هو كتاب الديوان، الذي أصدره العقاد والمازني سنة 1921، وهذا معناه عند أصحاب هذا الرأي أن هؤلاء الشعراء المجددين المصريين الثلاثة، قد أظهروا آثارهم التجديدية بعد كتابات مطران التي تعتبر الريادة الأولى لهذا الاتجاه3.

_ 1 المجلة المصرية سنة 1900 العدد الثالث ص85. 2 ديوان مطران -المقدمة. 3 انظر: مطران لإسماعيل أدهم ص33- 34، وتطور الشعر الحديث في مصر للدكتور ماهر حسن ص175، وما بعدها.

ولكن العقاد ينكر تأثره هو أو أحد رفاقه بمطران، ويؤكد أنه كان هو وزميلاه يتعرفون على ألوان التجديد في الشعر بقراءاتهم المباشرة في الأدب الإنجليزي، وعدم احتياجهم، لأن يتأثروا بالتجديد نقلًا عن مطران، الناقل بدوره عن الفرنسية، بل يبالغ العقاد فيرى أن مطران قد تأثر بهؤلاء الشعراء الثلاثة، ويستدل على ذلك باتجاه مطران أخيرًا إلى الأدب الإنجليزي، وترجمته لبعض أعمال شكسبير1. والواقع أن العقاد وصاحبيه، لم يظلوا غافلين عن التجديد حتى ظهر ديوان مطران سنة 1908، ولم يكن كتاب "الديوان" الذي ظهر سنة 1921 هو بداية المعركة بينهم وبين المحافظين؛ فالحق أن كتاباتهم التجديدية قد بدأت بكتابات العقاد في صحيفة الدستور منذ سنة 1907، حيث نشر بها وبغيرها آراء نقدية تجديدية عن "التشبيه الشعري"، و"الشعر والألفاظ"، و"الكاتب والشاعر" وغير ذلك2، والحق أيضًا أن معركتهم مع المحافظين قد بدأت بنقدات العقاد لحافظ وشوقي، التي بدأها منذ سنة 1909، مثل نقده لحافظ إبراهيم، ونعيه عليه خلطه للأغراض في قصيدة واحدة، وقوله عند سنة 1909 ما خلاصته، أنه أخذ قطعة من الحرير، وقطعة من المخمل وقطعة من الكتان، وكل منها صالح وحده لصنع كساء فاخر في نسجه ولونه، ولكنها إذا جمعت على كساء واحد، فتلك مرقعة الدراويش3. ومثل نقده لشوقي، واتهامه له بالغول والتقليد وعدم الصدق، وقوله عنه سنة 1910ما نصه: "ليت شعري ماذا كان يعني شوقي بك بقوله على قبر بطرس غالي باشا: القوم حولك يا ابن غالي خشع ... يقضون حقًّا واجبًا وذماما يتسابقون إلى ثراك كأنه ... ناديك في عهد الحياة زحاما

_ 1 شعراء مصر وبيئاتهم ص200. 2 نشر العقاد هذه الآراء بعد ذلك في كتابه خلاصة اليومية الذي ظهر سنة 1912. 3 أفيون الشعوب للعقاد ص152.

يبكون موثلهم وكهف رجائهم ... والأريحي المفضل المقداما أكان يريد أن يقول: إن زائري قبر الراحل، وفيهم ساداته الأمراء والوزراء والعظماء والعلماء، وفيهم نائب مولاه الأمير، ووكلاء الدول وأكابر السراة والوجهاء؛ أكان يريد أن يقول: إن هؤلاء كلهم ممن كانوا يقصدون من نادى ابن غالي موئلا وكهف رجاء، يستعطون من أريحة ساكنة الجواد، ويستدرون من أفضاله؟ أم أراد أن يقول كما قال الناس في هذا المعنى، فأخطأ التقليد؟ أم كان لا يريد أن يقول شيئًا؟ أم تراه يحسب أنهم ملكوا عليه حتى دموع عينيه، وأنه نائحة المعيَّة، أعد ليرثي كل من يموت من خدامها بلا مقابل؟! 1". وقد اتضحت المعركة بظهور دواوين شكري، والمازني والعقاد، وكتاباتهم في تأييد مذهبهم، ونقد المذهب المقابل، ومن أهم ما كان من تلك الكتابات المتقدمة زمنًا، المقدِّمة التي كتبها العقاد للجزء الثاني من ديوان شكري سنة 1913، والمقدمة التي كتبها في نفس العام للجزء الأول من ديوان المازني، والتي يقول فيها: "لقد تبوأ منابر الأدب فتية لا عهد لهم بالجيل الماضي، ونقلتهم التربية والمطالعة أجيالًا بعد جيلهم، فهم يشعرون بشعور الشرقي، ويتمثلون العالم كما يتمثله الغربي، وهذا مزاج أول ما يظهر من ثمراته، أن نزعت الأقلام إلى الاستقلال ورفع غشاوة الرياء، والتحرر من القيود الصناعية، هذا من جهة الأغراض، أما من جهة الروح والهوى، فلا يعسر على البصير أن يلمح القطوب للحياة في أسر الشاعر العصري الحديث.. وحسب الأدب في العصر الحديث من روح الاستقلال في شعرائه، أنهم رفعوه من مراغة الامتهان التي عفرت جبينه زمنًا، فلن نجد اليوم شاعرًا حديثًا يهنئ بالمولود، وما نفض يديه من تراب الميت، ولن نراه يطري من هو أول ذامية في خلوته،

_ 1 خلاصة اليومية للعقاد ص21-22، والكتاب منشور سنة 1912، ولكنه يجمع مقالات نشر قبل ذلك، وقد كان اغتيال بطرس غالي سنة 1910.

ويقذع في هجو من يكبره في سريرته، ولا واقفًا على المرافئ يودع الذاهب ويستقبل الآيب1". ومن تلك الكتابات كذلك، المقالات النقدية التي كتبها المازني في صحيفة عكاظ سنة 1913، ناقدًا لحافظ إبراهيم، ومقارنًا بينه وبين عبد الرحمن شكري، وقائلًا في ذلك: " ... وبعد فإن حافظًا إذا قيس إلى شكري لكان كالبركة الآجنة، إلى جانب البحر العميق الزاخر، وحسب القارئ أن يتأمل ديوانيهما ليعلم ما بينهما من البعد، وليعرف كيف يقعد الخيال بحافظ، ويسمو بشكري في سماء الفكر، وكيف يجني التقليد على رجل، ويغلق في وجهه أبواب التصرف والتفنن؛ فإن حافظًا قد حذا في شعره حذو العرب، وقلدهم في أغراضهم، وفرط عنايتهم بإصلاح اللفظ، وإن فسد المعنى2". ومن تلك الكابات المتقدمة أيضًا، كتابات العقاد في صحيفة عكاظ سنة 1914 بعنوان "شعر الندابون"، ومما جاء في تلك الكتابات قوله: "إن للشعراء الندابين شعرهم وللعصر شعره، وعليهم أن يقروا في قبورهم، ويتزملوا بأكفانهم، حتى إذا تهدم جدار أو اصطدم قطار أو وقع طيار، هنالك يثوّب الداعي بهم3". على أن من أهم الكتابات الموضحة لمعالم هذا الاتجاه، ما جاء في مقدمة شكري لديوانه الخامس الصادر سنة 1916، والتي يقول فيها: " ... ويمتاز الشاعر العبقري بالشره العقلي، الذي يجعله راغبًا في أن يفكر كل فكر، ويحس كل إحساس.. ولقد فسد ذوق المتأخرين في الحكم على الشعر، حتى صار الشعر عبثًا لا طائل تحته؛ فإذا تغزلوا، جعلوا حبيبهم مصنوعًا من قمر وغصن، وتل وعين من عيون البقر، ولؤلؤ وبرد.. وأجل المعاني

_ 1 ديوان المازني -المقدمة ص13-14 "طبعة المجلس الأعلى". 2 صحيفة عكاظ عدد السابع والعشرين من يوليو سنة 1913. 3 صحيفة عكاظ عدد التاسع من مارس سنة 1914.

الشعرية ما قيل في تحليل عواطف النفس، ووصف حركاتها ... والشعر ما أشعرك وجعلك تحس عواطف النفس إحساسًا شديدًا، لا ما كان لغزًا أو خيالًا من خيالات معاقري الحشيش. فالمعاني الشعرية، هي خواطر المرء وآراؤه وتجاربه، وأحوال نفسه وعبارات عواطفه ... إن قيمة البيت في الصلة بين معناه، وبين موضوع القصيدة.. ومثل الشاعر الذي لا يعني بإعطاء وحدة القصيدة حقها، مثل النقاش الذي يجعل نصيب كل أجزاء الصورة التي ينقشها من الضوء نصيبًا واحدً1". وليس يبعد بعد ذلك أن يكون مطران بما كتبه مبكرًا في المجلة المصرية سنة 1900، قد كان من عوامل التنبيه، التي حمست هؤلاء الشبان على ارتياد آفاق جديدة في الشعر ونقده، وإن كان من البعيد جدا أن يصل هذا التنبيه المحتمل إلى مستوى الأستاذيه أو الريادة؛ وذلك لما عرفنا من تمكن هؤلاء الشبان من أداة الاتصال بالينابيع الشعرية الجديدة في مصادرها الأصلية، ثم لما نعرف من انطوائية مطران ووضعه الحساس، كواحد من مهاجري الشام المسيحيين؛ الأمر الذي يصعب معه أن يكون إمامًا، أو رائدًا لمثل هؤلاء الشبان الثائرين الطامحين الغيورين. هذا، وكما يعتبر شوقيس قمة الاتجاه المحافظ البياني، يعتبر العقاد قمة هذا الاتجاه التجديدي الذهني، فهو الذي حمل لواءه، في وفرة النتاج واستمراره، وتنوع جوانبه، وهو الذي ظل يكافح عن تقاليده أكثر من خمسين عامًا دون أن يلين أو يفتر، وهو الذي خلف تلاميذ يعتبرون امتداد هذا الاتجاه بعد عمده الثلاثة الأول2. ب- موضوعات هذا الاتجاه: ظهر هذا الاتجاه التجديدي الذهبي، كرد فعل للاتجاه المحافظ البياني. ولذا كان فيه عند أول ظهوره، شيء من المبالغة التي تصاحب عادة ردود

_ 1 ديوان شكري ص360-367 "الديوان الكامل الذي صدر سنة 1960". 2 من أمثال: عبد الرحمن صدقي، ومحمود عماد، وطاهر الجبلاوي.

الأفعال، ففي مجال الموضوعات، نجد أعلامه يبتعدون كثيرًا عن المجال الخارجي، النائي عن نفس الشاعر ووجدانه، فلا يقولون في المناسبات، ولا في السياسات ولا في الإصلاحيات، وإنما يهتمون كل الاهتمام بالعالم النفسي للشاعر، وما يتصل بهذا العالم من تأملات فكرية، ونظرات فلسفية، تهتم بحقائق الكون، وتفتش عن أسرار الوجود، وواضح أن ذلك كان رد فعل لتطرف المحافظين، وإسرافهم في الخوض بالشعر في شتى المناسبات، والمجاملات من مدح ورثاء وتهنئة، وما إلى ذلك. ومن هنا يتحدث العقاد عن المعرفة، ويقرر أن نهايتها كالذرى الثلجية، يجمد عندها الوجود؛ حيث تتعرى الحقائق، وتختفي من الحياة حرارة الشوق إلى المجهول ... وفي ذلك يقول من قصيدة "القمة الباردة". إذا ما ارتقيت رفيع الذرى ... فإياك والقمة البارده هنالك لا الشمس دوارة ... ولا الأرض ناقصة زائده ولا الحادثات وأطوارها ... مجددة الخلق أو بائده ويا بؤس فإن يرى ما بدا ... من الكون بالنظرة الخالدة فذلك رب بلا قدرة ... وحي له جثة هامده إلى الغور، أما ثلوج الذرى ... فلا خير فيها ولا فائده1 ويتحدث كذلك عن الحياة، ويوضح أن فيها استمرارًا يذوب معه الأمس في اليوم، ويبقى الأب في الابن. وفي ذلك يقول من قصيدة "أمنا الأرض": أسائل أمنَّا الأرضا ... سؤال الطفل للأم فتخبرني بما أفضى ... إلى إدراكه علمي

_ 1 ديوان العقاد ص206.

جزاها الله من أم ... إذا ما أنجبت تئد تغذي الجسم بالجسم ... وتأكل لحم ما تلد أقاموا أمس وانصرفوا ... فليس لفلهم شمل فأين نفوس من سلفوا ... وأين يكون من يتلو فقالت: في ملامحكم ... يبين الجد والخلف فجرسوا في جوانحكم ... فثم يجوس من سلفوا وأين عظام من نبها ... ن الماضين في السير فقالت: قد صنعت بها ... لكم حلوى من الثمر1 كذلك يتحدث المازني عن قضية الجبر، وتحكمه في مصائر البشر، وفرضه للخير والشر على الناس، فيقول من قصيدة له: "على لسان الأقدار": بأيدينا قلوبكم ... لنا فيها ألاعيب وفينا الخير موجود ... ومنا الشر مجلوب ولا عن صرفنا معدى ... ولا في الأرض محجوب نصرف أمر دنياكم ... بما فيه الأعاجيب2 كما يتحدث عن مأساة الإنسان، وغروره برغم عجزه، وسخطه برغم ملازمة الظلم له، وفي ذلك يقول من قصيدة بعنوان "الإنسان والغرور": أقم وادعًا واصبر على الضيم والأذى ... فإنك إنسان وجدك آدم وهبك على الدنيا سخطت وظلمها ... أتملك دفع الظلم، والظلم لازم بني آدم للغرور رمى بكم ... مراميه، حتى غدا وهو حاكم

_ 1 ديوان العقاد ص148. 2 ديوان المازني ص150 "طبعة المجلس الأعلى لرعاية الفنون".

تظنون أن الأرض قد بسطت لكم ... ومن أجلكم تجري الغمام الروائم وأن النجوم الزهر علقن زينة ... تقر بها الألحاظ وهي هوائم فما لكم لا تنظمون نثيرها ... فيصبح منها حليكم والتمائم؟! 1 ثم يتحدث شكري عن فكرة البعث، وما يكتنفه من فزع وهول، ويتخذ من ذلك وسيلة لتصوير إحساسه بثقل الحياة وعبء العيش، حتى ليتمنى الموت الأبدي، ويكره البعث الذي يعود به إلى الحياة من جديد؛ وذلك لما يتصور في العودة إلى الحياة من تكرار لما فيها من آثام العيش، وسخافات الناس.. وفي ذلك يقول شكري من قصيدته "حلم بالبعث" التي اتخذ لها صورة الحكاية التي تقع أحداثها في حلم: رأيت في النوم أني رهن مُظْلمة ... من المقابر ميتا حوله رِمَمُ ناء عن الناس، لا صوت فيزعجني ... ولا طموح ولا حُلم ولا كلم مطهر من عيوب العيش قاطبة ... فليس يطرقني هم ولا ألم ولست أشقى لأمر لست أعرفه ... ولست أسعى لعيش شأنه العدم فلا بكاء ولا ضحك ولا أمل ... ولا ضمير ولا بأس ولا ندم والموت أطهر من خبث الحياة وإن ... راعت مظاهره الأجداث والظلم مازلت في اللحد ميتًا ليس يلحقني ... نبح العدو وبي عن نبحه صمم مرت علي قرون لست أحفظها ... عدا كأن مر بي الآباد والقدم حتى بعثت على نفخ الملائك في ... أبواقهم وتنادت تلكم الرمم وقام حولي من الأموات زعنفة ... هوجاء كالسيل جمٌّ لُجُّه عرم فذاك يبحث عن عين له فقدت ... وتلك تعوزها الأصداغ واللمم وذاك يمشي على رجل بلا قدم ... وذاك غضبان لا ساق ولا قدم ورب غاضب رأس ليس صاحبه ... وصاحب الرأس يبكيه ويختصم ويبحثون عن المرآة تخبرهم ... عن قبح مما تترك الأجداث والعدم جاءت ملائكة باللحم تعرضه ... ليلبس اللحم من أضلاعنا الوَضَم

_ 1 المصدر السابق ص 157.

رقدت مستشعرًا نومًا لأوهمهم ... أني عن البعث بي نوم وبي صمم فأعجلوني، وقالوا: قم فلا كسل ... ينجي من البعث، إن الله محتكم قد مت ما مت في خير وفي دعة ... وقد بعثت، فماذا ينفع الندم استغفر الله من لغو ومن عبث ... ومن جناية ما يأتي به الكلم1 على أن الشعراء التجديديين الذهنيين لم يحصروا أنفسهم في الموضوعات التجريدية، كالمعرفة والحياة والجبر، والغرور والبعث؛ وإنما طرقوا كثيرًا من الموضوعات الحسية، ولكن على طريقتهم؛ تلك الطريقة التي يغلب أن تتخذ من البصر طريقًا إلى البصيرة، ومن الحس سبيلًا إلى المعنى، ومن المحدود معبرًا إلى ما لا يحد، فهم يتناولون الموضوع الحسي لا ليصفوه من الخارج، متحدثين عن حجمه ولونه، ذاكرين ما يشبهه من الأشياء أو ما لا يشبهه؛ وإنما يتناولون المحسوس لينتقلوا منه إلى نفوسهم، ويصوروا ما يثيره فيها هذا المحسوس العابر من خوالد المعاني2، ولنأخذ مثلًا لذلك قول العقاد عن "العقاب الهرم": يهم ويعيبه النهوض فيجثم ... ويعزم إلا ريشه ليس يعزم لقد رنق الصرصور، وهو على الثرى ... مكب، وقد صاح القطار وهو أبكم يلملم حدباء القدامى كأنها ... أضالع في أرماسها تتهشم ويثقله حمل الجناحين بعد ما ... أقلاه، وهو الكاسر المتقحم جناحين لو طارا لنصت فدومت ... شماريخ رضوى واستقل يلملم ويغمض أحيانًا، فهل أبصر الردى ... يحط عليه أم بماضيه يحلم؟؟ لعينيك يا شيخ الطيور مهابة ... يفر بغاث الطير عنها ويهزم وما عجزت عنك الغداة وإنما ... لكل شباب هيبة حين يهرم3 فالعقاد في هذا الأبيات يرسم صورة العقاب الهرم، من خلال نفسه وما

_ 1 ديوان شكري ص241. 2 انظر: العقاد -دراسة وتحية، مقال الدكتور زكي نجيب محمود عن العقاد الشاعر ص37 وما بعدها. 3 ديوان العقاد ص30.

أثار فيها مشهد هذا العقاب من أحاسيس، وهو بهذا الرسم الملون بلون نفس الشاعر، أو النابع من داخله ينقل القارئ من الصور الجزئية العابرة للعقاب الهرم، إلى الصورة الكلية الخالدة، لكل مجلد تليد تمسه عوادي الأيام، فتصيب منه الجانب المادي، أما الجانب المعنوي فيه، فيبقى برغم العوادي وبرغم الأيام، حاملًا على الإجلال باعثًا للمهابة1. حـ- أسلوب هذا الاتجاه: وفي مجال الأسلوب نجد هؤلاء الشعراء التجديديين يبتعدون غالبًا عن اتخاذ النماذج القديمة مثلًا أعلى؛ فلا يتمثلون معانيها، ولا يترسمون صورها، ولا يحاكون بناءها، وإنما يرتبطون بها فقط في حدود استخدام اللغة العربية في تراكيب قويمة، ولكن للتعبير عن معانيهم هم، ولتصوير صور من تأليفهم هم، ثم لتأليف بناء شعري من تصميمهم هم. يفعلون ذلك وإن سبب شيئًا من عدم رونق الصياغة، أو جر إلى البعد -بعض الشيء- عن إشراق البيان. كما نجد هؤلاء التجديديين أيضًا يحاولون جاهدين أن يستنبطوا الحقائق، وينفذوا من الأمور إلى الجوهر، غير مكتفين بالظواهر، ولا واقفين عند المحسوسات، يفعلون ذلك وإن أدى في بعض الأحيان إلى شيء من البرود في الشعر، أو أفضى إلى شيء من الجفاف في القصيد. وأخيرًا نجدهم يحاولون تحقيق الوحدة في القصيدة، وجعلها بناء حيًّا بحيث لا تتعدد أغراضها، ولا تتنافر أجزاؤها، وإنما تتناول تجربة واضحة، وتصلح لأن يوضع لها عنوان يشير إلى مضمونها، على أن تتآزر أجزاؤها، ويؤدي كل منها وظيفة حية في مكانه.

_ 1 العقاد -دراسة وتحية ص37 وما بعدها.

د- العاطفة في هذا الاتجاه: وفي مجال العاطفة، يلاحظ على شعر هذا الاتجاه التجديدي الذهني أن العاطفة قد تأتي وراء الذهن، على أن تلك العاطفة حين تنضح تكون من لون مفعم بأحاسيس الأسى، مليء بمشارع المرارة، جياش بالحزن والضيق الذي يبلغ أحيانًا حد اليأس، وليس من شك في أن قراءات رواد هذا الاتجاه في الأدب الرومانتيكي الإنجليزي، قد كان لها أثر في شيوع هذه العاطفة في شعرهم، ولكن طبيعة هؤلاء الرواد أولًا، وظروف حياتهم ثانيًا، كان لها أعظم الأثر في هذا الشأن، فإحساسهم المفرط بما يكتنف الحياة من مظالم وشرور وآثام، ومعاناتهم الواعية للمتاعب، والعقبات التي سدت الطرق إلى ما كانوا يرون أنفسهم جديرين به من مجد، ومقاساتهم الشديدة لألوان من الاضطهاد التي وصلت أحيانًا إلى درجة المحاربة في الرزق، كل ذلك كان المصدر الأول لهذه العواطف المفعمة بالأسى، المليئة بالمرارة، الجياشة بالحزن والضيق الذي يبلغ أحيانًا حد اليأس. ومما يمثل هذا الطابع من شعر المازني قوله في قصيدة يعبر بها عن مأساة الضيق بالحياة وعدم احتمالها، نتيجة لفرط الإحساس، وخيبة الآمال، وتحدي الأحداث المستمر: لبست رداء الدهر عشرين حجة ... وثنتين، يا شوقي إلى خلع ذا البرد عزوفًا عن الدنيا، ومن لم يجد بها ... مرادًا لآمال تعلل بالزهد تراغمني الأحداث حتى كأنني ... وجدت على كره من الحدثان فلا هي تصمي القلب مني إذا رمت ... ولا ترعوي يومًا عن الشنآن أبيت كأن القلب كهف مهدم ... برأس منيف فيه للريح ملعب أواني في بحر الحوادث صخرة ... تناطحها الأمواج وهي تقلب

سأقضي حياتي ثائر النفس هائجًا ... ومن أين لي عن ذاك هدى ومذهب على قدر إحساس الرجال شقاؤهم ... وللسعد جو بالبلادة مشرب1 ومما يمثل هذا الطابع من شعر العقاد، قوله في قصيدة يصور فيها تجربة الظمأ الروحي، والسأم النفسي، والحيرة العقلية، واليقضة الشعورية، والعجز المعذب عن نيل السعادة أو السلو عنها: ظمآن ظمآن لا صوب الغمام ولا ... عذب المدامخ ولا الأنداء ترويني حيران حيران لا نجم السماء ولا ... معالم الأرض في الغماء تهديني يقظان يقظان لا طيب الرقاد يدا ... ويني، ولا سمر السمار يلهيني غصان غصان لا الأوجاع تبليني ... ولا الكوارث والأشجان تبكيني شعري دموعي وما بالشعر من عوض ... عن الدموع نفاها جفن محزون يا سوء ما أبقت الدنيا لمغتبط ... على المدامع أجفان المساكين هم أطلقوا الحزن فارتاحت جوانحهم ... وما استرحت بحزن في مدفون أسوان أسوان لا طب الأساة ولا ... سحر الرقاة من اللأواء يشفيني سأمان سأمان لا صفو الحياة ولا ... عجائب القدر المكنون تعنيني أصاحب الدهر لا قلب فيسعدني ... على الزمان ولا خل فيأسوني يديك فامح ضنى يا موت كبدي ... فلست تمحوه إلا حين تمحوني2 وكثير من شعر شكري يمثل هذا الطابع الذي رأيناه بوضوح في "حلم بالبعث". وليس كل شعر أصحاب هذا الاتجاه آخذًا هذا المنحى الباكي، وليس كله مفعمًا بالعاطفة على هذا النحو؛ فلهم كثير من الشعر في مناح أخرى، تصل أحيانًا إلى حد السخرية والإضحاك، كما لهم كثير من الشعر لا تكاد تحس فيه إلا برودة الذهن وجفاف العقل، ولكن طابع النفس الإنسانية وقلقها وعدم

_ 1 ديوان المازني ص42-44. 2 ديوان العقاد جـ2 ص154.

رضاها، وطابع الفكر الممزوج بالعاطفة، أو العاطفة التي يساندها الفكر، وهو الطابع الغالب على شعر هؤلاء الشعراء. هـ- التجديديون بين النظرية والتطبيق: وبعد، فهل وفت كل نماذجهم بمبادئ مذهبهم؟ أو جاءت كل أشعارهم ممثلة لدعوتهم؟ الحق أننا لا نرى التطابق الكامل بين مذهبهم النظري، وكل نماذجهم التطبيقية، وخاصة بعد امتداد الزمن بهم، وبعدهم رويدًا رويدًا عن التحمس لتجديداتهم، أو عن فترة رد الفعل الذي صاحب حركتهم، فقد رأينا العقاد ثملًا -وهو أقواهم شكيمة، وأشدهم تحمسًا لهذا المذهب- يعود فيمدح، ويشارك بشعره في بعض المناسبات، ويضطر إلى الاعتذار عن ذلك بأن المدح الصادق لا يعاب على الشاعر1، بل إننا رأينا العقاد وبعض رفاقه يعارضون بعض نماذج الشعر القديم، ومن أمثلة ذلك معارضتهم لنونية ابن الرومي، كما رأينا كثيرًا من نماذجهم لا تتحقق فيها الوحدة على الوجه الذين طالبوا به في كتاباتهم. ومع ذلك قد أحدث اتجاههم تأثيرًا كبيرًا في حياة الشعر الحديث، وخلق تيارًا ثانيًا إلى جانب التيار الأول، قد يتشرك مع في بعض السمات، ولكنه يخالفه في كثير من الأسس، وهو بعد ذلك يمثل حلقة هامة في سلسلة تطور الشعر العربي الحديث، برغم أن الاتجاه المحافظ ظل مسيطرًا، وغالبًا على الشعراء وجمهور الشعر جميعًا، وربما كانت تلك الغلبة لما كان يساند كبيري الشعر المحافظ من اعتبارات خارجة عن طبيعة الفن، ككون شوقي شاعر القصر، والقادر على تحريك الأقلام وكسب الأنصار، وكون حافظ شاعر الزعماء السياسيين، والحائز على عطف طبقات الشعب، وربما كان لغلبة الطاقة الشعرية والقدرة البيانية عند واحد كشوقي، أثر في شيوع حب

_ 1 ديوان بعد الأعاصير -المقدمة، وشعراء مصر وبيئاتهم ص18.

الشعر البياني وعدم الكلف بغيره1 حينذاك. وقد ألف بعض الدارسين أن يطلقوا على هذا الاتجاه اسم "شعراء الديوان"، أو "جماعة الديوان" أو "مدرسة الديوان"2، ووجهة نظره في نسبة هؤلاء الشعراء إلى الديوان مسوغة بأن هذا الكتاب الذي أصدره العقاد، والمازني سنة 1921، يحوي أهم مبادئ هؤلاء الشعراء جميعًا، ويمثل حركتهم التجديدية التي قابلوها بها الحركة المحافظة، ولعل من الأفضل ترك هذه التسمية لسببين، أولهما أن كتاب "الديوان"، قد ظهر بعد ظهور هذا الاتجاه الشعري بوقت ليس باليسير، ونسبة الاتجاه إليه توهم الارتباط الزمني بين الاتجاه والكتاب، وتوهم تأخر ظهور هذا الاتجاه عن زمنه أكثر من عشر سنين. وثاني السببين، هو أن كتاب "الديوان" قد تضمن هجومًا عنيفًا على شكري أحد أعلام هذا الاتجاه ومؤسسيه3، فمن الأفضل ألا ينسب شعر شكري إلى كتاب قد حوى هجومًا عليه وتجريحًا له، ومن الأفضل كذلك، ألا ينسب الشاعر نفسه إلى كتاب بلغ من ظلمه له أن وصفه بالجنون.

_ 1 حافظ وشوقي ص46-47. 2 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور ص34 وما بعدها. وجماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص84 وما بعدها. 3 كان الهجوم بقلم المازني الذي اتهم شكري بالجنون، وأوصاه بترك الشعر لإراحة نفسه أولًا، وإراحة قرائه ممن شعره ثانيًا، وكان ذلك في مقالين أحدهما بالجزء الأول، والثاني بالجزء الثاني من الديوان انظر: الديوان جـ1 ص48 وما بعدها، وجـ2 ص85 ومابعدها.

ثانيا: النثر

ثانيًا: النثر 1- المقالة وظهور أول طريقة فنية للنثر الحديث: لقد أثمرت تلك الجهود التي بذلها محمد عبده، وأنصاره منذ الفترة السابقة1، حتى تبلور الاتجاه الذي راده في طرقة فنية للمقالة، تعتبر

_ 1 اقرأ ما كتب عن ذلك في مبحث النثر بالفصل السابق من هذا الكتاب.

الطريقة النثرية الأولى -من الناحية الزمنية- في الأدب الحديث، وقد كان مصطفى لطفي المنفلوطي1، وهو العلم البارز في تلك الطريقة، التي يمكن أن تحمل اسمه، فيقال لها: "طريقة المنفلوطي". وطريقة المنفلوطي لها سمات أسلوبية واضحة، أهمها: البعد عن التكلف، والنأي عن التقليد، والقصد إلى الصدق، والاهتمام بحسن الصياغة، وجمال الإيقاع ورعاية الجانب العاطفي، ثم الميل إلى السهولة والترسل، وترك التعقيد والمحسنات، فيما عدا بعض السجع المطبوع، الذي يأتي بين الحين والحين للإسهام في موسيقى الصياغة2. وقد كان المثل الأعلى لتلك الطريقة، ذلك النثر المرسل الجيد الذي خلفته عصور الازدهار العربية، لكن لم تكن كتابات المنفلوطي مع ذلك محاكاة لتلك النماذج التي يمثلها نثر تلك العصور القديمة، وإنما كانت كتابات -برغم محافظتها- فيها كثير من الإبداع والأصالة، وعليها طابع الكاتب وفيها ملامح شخصيته، والطريقة التي أوضح معالمها المنفلوطي، طريقة محافظة بيانية، أشبه بطريقة شوقي في الشعر، وقد كان المنفلوطي قمة من كتبوا بها منذ رادها محمد عبده في الفترة السابقة، كما كان شوقي قمة من نظموا بالأسلوب المحافظ

_ 1 ولد بمنفلوط سنة 1876، وتدرج في تعليمه من الكتاب إلى الأزهر، وحضر دروس الشيخ محمد عبده، ثم ترك الأزهر بعد عشر سنوات، وذلك لغلبة الميول الأدبية عليه، واتجه إلى كتب الأدب ودواوين الشعر، وكتابات محمد عبده وكبار المفكرين وترجماتهم، وقد اتجه إلى الكتابة في الصحف، فكان من كتاب المؤيد البارزين، ثم عينه سعد زغلول محررًا عربيًا في وزارة المعارف، ثم انتقل مع سعد إلى وزارة العدل، ثم فصل بعد خروج سعد من الوزارة، وظل يكتب في الصحف، إلى أن عينه سعد من جديد في وظيفة تحريرية في مجلس الشيوخ بعد أن أعد البرلمان سنة 1923، وظل في هذا العمل حتى توفي سنة 1924. اقرأ عنه في: الأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف ص227، المحافظة والتجديد في النثر العربي المعاصر لأنور الجندي، والمنفلوطي حياته وأدبه لمحمد أبو الأنوار "رسالة ماجستير"، واقرأ عنه أيضًا في: Studies on the civiaztion of Islam: Gibb. p. 258 2 اقرأ مقدمة النظرات، والأدب العربي المعاصر في مصر ص230، وما بعدها.

البياني، منذ اتجه إليه البارودي في الفترة السابقة أيضًا، كذلك كانت تلك الطريقة النثرية تسهم في النضال بكل ميادينه السياسية، والاجتماعية والإصلاحية، تمامًا كما كان الشعر المحافظ يفعل. وأهم ما يمثل تلك الطريقة مقالات المنفلوطي، التي كان ينشرها في المؤيد1، والتي جمعها بعد ذلك في ثلاثة مجلدات باسم "النظرات"، وهي مقالات في الأدب والأخلاق والاجتماع، تتسم بهذه الخصائص الأسلوبية التي أشير إليها من قبل، والتي من أهمها: رعاية جمال الأسلوب دون اعتماد على المحسنات، باستثناء القليل من السجع المطبوع، ثم الاهتمام بتحريك العاطفة، وهزها بمختلف الوسائل. وقد سيطرت تلك الطريقة، وغلبت نزعتها على الكتابة خلال تلك الفترة وبعدها بسنوات، حتى لقد طبعت النظرات إلى الآن ست عشرة مرة2، نظرًا لأسلوبها الذي يجذب القراء، وخاصة الشادين في الأدب، والناشئة في صناعة القلم، فبقيت حية مقروءة على حين اختفت معظم الكتابات التي كانت تهاجم صاحبها، وذلك؛ لأنها كانت أكثر تمثيلًا لروح العصر3. ومع هذا لم تكن "طريقة المنفلوطي" هي المثل الأعلى لكتابة المقالة، فقد عيب عليها: الاهتمام البالغ بالأسلوب، وفقر الجانب الفكري، والمبالغة في اصطناع الأسى وإثارة العاطفة، ثم عدم الدقة في الاستعمال اللغوي أحيانًا، والميل إلى حشد الألفاظ المترادفة، والعبارات المكملة، والكلمات المؤكدة، دون حاجة إلى ذلك يقتضيها الموقف، أو تحتاجها الفكرة4.

_ 1 كان يصدر المؤيد الشيخ علي يوسف، وقد بدأ المنفلوطي كتابته لنظرات سنة 1908، ونشر أول جزء منها في مجلد سنة 1909. انظر: المحافظة والتجديد في النثر العربي المعاصر لأنور الجندي ص243. 2 هكذا كانت طبعة النسخة التي بين يدي، ولعل طبعات أخرى قد تمت بعدها. 3 انظر: Studies on the Civlization of Islam: Gibb p.263 4 الديوان جـ2 ص7 وما بعدها، والأدب العربي المعاصر في مصر ص233.

وبرغم ذلك وغيره مما أخذ على المنفلوطي وأسلوبه، قد كانت المقالات التي خلفها هذا الكاتب أول نماذج فنية للمقالة، يمكن أن تقرأ وتستعاد، فتمتع وتعجب، ويمكن لهذا أن تعتبر -بحق- قطعًا من الأدب، لا مجرد كتابات في الأدب، أو الأخلاق أو الاجتماع ككتابات كثيرين غيره. وهذا نموذج من النظرات، عنوانه: "أيها المحزون" يقول فيه المنفلوطي: "إن كنت تعلم أنك قد أخذت على الدهر عهدًا أن يكون لك كما تريد في جميع شئونك وأطوارك، وألا يعطيك ولا يمنعك إلا كما تحب وتشتهي، فجدير بك أن تطلق لنفسك في سبيل الحزن عنانها كلما فاتك مأرب، أو استعصى عليك مطالب، وإن كنت تعلم أخلاق الأيام في أخذها وردها، وعطائها ومنحها،، وأنها لا تنام عن منحة تمنحها، حتى تكر عليها راجعة فتستردها، وأن هذه سنتها وتلك خلتها في جميع أبناء آدم، سواء في ذلك ساكن القصر وساكن الكوخ، ومن يطأ بنعله هام الجوزاء، ومن ينام على بساط الغبراء؛ فخفض من حزنك، وكفكف من دمعك، فما أنت أول غرض أصابه سهم الزمان، وما مصابك بأول بدعة طريفة في جريدة المصائب والأحزان". "أنت حزين؛ لأن نجمًا زاهرًا من الأمل كان يتراءى لك في سماء حياتك، فيملأ عينيك نورًا، وقلبك سرورًا، وما هي إلا كرة الطرف أن افتقدته فما وجدته. ولو أنك أجملت في أملك، لما غلوت في حزنك، ولو أنك أنعمت نظرك فيما تراءى لك، لرأيت برقًا خاطفًا، ما تظنه نجمًا زاهرًا، وهناك لا يبهرك طلوعه، فلا يفجعك أفوله". "أسعد الناس في هذه الحياة، من إذا وافته النعمة تنكر لها، ونظر إليها نظر المستريب بها، وترقب في كل ساعة زوالها وفناءها، فإن بقيت في يده فذاك، وغلا فقد أعد لفراقها عدته من قبل". "لولا السرور في ساعة الميلاد، ما كان البكاء في ساعة الموت، ولولا

الوثوق بدوام الغنى، ما كان الجزع من الفقر، ولولا فرحة التلاق، ما كانت ترحة الفراق1". على أن طريقة المنفلوطي -أو الاتجاه المحافظ البياني- في النثر، لم تكن الطريقة الوحيدة لكتابة المقالة في تلك الفترة؛ فالحق أن تلك الطريقة كانت الطريقة الوسط، التي تأتي بين اتجاهين آخرين، لم يكونا من الوضوح والقوة حينذاك، بحيث يعتبران طريقتين مميزتين أخريين. أما أحد هذين الاتجاهين، فقد كان أكثر تشبثًا بالتراث، وأقوى تعلقًا ببعض مخلفاته، حيث اصطنع السجع على طريقة أسلوب المقامات، وكانت كتابات أصحاب هذا الاتجاه، مقالات في موضوعات أشبه بموضوعات طريقة المنفلوطي، فبعضها أدبي، وبعضها أخلاقي، وبعضها اجتماعي، ومع ذلك لم يتخذ أسلوبًا فيه كثير من طابع الكتابة التنليدية التي عرفت في الفترة السابقة2، والتي كانت تتناول في أكثر الأحايين موضوعات ليس لها صفة العموم، وأغلب الظن أن امتداد تأثير هؤلاء السجاعين الشكليين من جانب، والتشبث الشديد بالتراث، وبفن المقامات من جانب آخر؛ ثم محاولة بعض الشعراء كتابة نثر فيه بعض خصائص الشعر من جانب ثالث؛ كل هذا قد أوجد هذا الاتجاه في كتابة المقالة المسجوعة، رغم انطلاق لغة المقالة وتحررها، وميلها إلى طبيعة الفن النثري الحي. ومن أبرز ما يمثل هذا الاتجاه من اتجاهات الكتابة، كتاب "أسواق الذهب"3 للشاعر أحمد شوقي، وكتاب "صهاريج اللؤلؤ" للسيد توفيق

_ 1 النظرات للمنفلوطي جـ1 ص61. 2 أقر مبحث النثر في الفصل السابق مقال1 -الكتابة الإخوانية، واتجاهها إلى التقليد. 3 ظهر سنة 1916، انظر المحافظة والتجديد في النثر العربي المعاصر لأنور الجندي ص243، ونشأة النثر الحديث، وتطوره لعمر الدسوقي جـ1 ص127.

البكري1، إذا استثنينا منه قصائده المستقلة، فكل من الكتابين يحوي مقالات في موضوعات مختلفة، وإن غلب عليها طابع التأملات، والانطباعات والوصف، وما إلى ذلك من الموضوعات القريبة من ميدان الشعر، وكل مقالة تعتمد أساسًا في أسلوبها على السجع، وحشد المترادفات، وإيراد الإشارات التاريخية، وبث الحكم والأمثال، ويزيد "صهاريج اللؤلؤ" على ذلك، تضمين المقالات بعض ما يناسب المقام من الشعر، إما للمؤلف، وإما من التراث. كما يزيد "صهاريج اللؤلؤ" أيضًا اشتماله على بعض قصائد شعرية للمؤلف لا تتخلل النثر، وإنما ترد مستقلة. وليس من شك في أن هذا الاتجاه -برغم جودة بعض نماذجه- كان صحوة الموت بالنسبة للنثر البديعي المتكلف، الذي لفظ آخر أنفاسه بعد سيطرة الاتجاه المرسل، وتطور طرقه وتنوعها، منذ الفترة التالية. وهذا نموذج من "أسواق الذهب" لشوقي، يقول فيه تحت عنوان المال: "يا مال الدنيا أنت، والناس حيث كنت، سحرت القرون، وسخرت من قارون، وسعرت النار يا نيرون. تعود الحقد أن يحالفك، وكتب على الشر أن يخالطك ويؤالفك، الفتنة إن حركتها اتقدت، وإن تركتها رقدت، والحرب وهي الحرب، تبعثها ذات لهب، منك الرياح ومنك الحطب، تزري بالكرام، وتغري بالحرام، وتضري بالإجرام، فقدانك العر والضر، ونكد الدنيا على الحر، حالك وحال الناس عجب، تملكهم من المهد، ويقولون: أصبنا وملكنا، وترثهم عند اللحد، ويقولون، ورثنا وتركنا، من عاش قوموه بما ملك، ومن هلك، تساءلوا: كم ترك؟ المحروم من أوثقك، والضائع من أطلقك، وهما فقيران، من جمعك ومن فرقك، كثير هم، وقليلك غم، ومع التوسط الخوف والطمع، والحرص والجشع؛ حذر النفاد، ورغبة في الازدياد. الملك سوقة إذا نزل إليك، والسوقة ملك إذا علا عليك.

_ 1 اقرأ عنه في: الأعلام الزركلي جـ6 ص291، وفي الأدب الحديث لعمر الدسوقي جـ2 ص421 وما بعدها، وقد ظهر صهاريج اللؤلؤ قبل سنة 1912، التي نقل فيها المؤلف إلى لبنان للعلاج.

أرخصت الجمال، ونقصت الكمال، وخطبت لهجن الرجال ربات الحجال، صويحباتك هن المفضلات، وغيرهن المتروكات المعطلات. العريان من ليس له منك سترة، والمستضعف من ليس له منك قدرة، فسبحان من قهر بك الخلق، وقهرك برجال الخلق"1. وهذا نموذج من "صهاريج اللؤلؤ" للبكري، يقول فيها تحت عنوان "العزلة" متحدثًا عن عوامل هجرة للحياة الاجتماعية الحضرية، وما فيها من مفاسد: " ... وأما الأخلاء، والصحب والسجراء2، فحسبك من رجل غون في كل أمر لم ترده، ونصير في كل مطلب لم تقصده، فإن عرض لك بعض الحاج، فالعلوي يسترفد الحجاج. ماء يتلون بلون الإناء، ونيلوفر يدور مع الشمس في الإصباح والإمساء، إن جددت فإليك، أو شقيت فعليك، مدحٌ مع المادح، وقدح مع القادح. والقوم من يلق خيرًا قائلون له ... ما يشتهي، ولأم المخطئ الهبل أجسام متدانية، وقلوب متنائية، وإنكان خبر سوء فحماد الراوية. حدث عن البحر ولا حرج، مئذنة في ظاهر مستقيم وباطن معوج. له لطف قول دونه كل رقية ... ولكنه في فعله حية تسعى وأما أبناء السامة3، فإن أحدهم غادة ينقصها الحجاب، ينظر في المرأة ولا ينظر في كتاب، إنما هو لباس على غير ناس، كما تضع الباعة مبهرج الثياب على الأخشاب. وهل ينفع الوشي السحيب مضللا ... وإن ذكوت في القوم قيمته خزي رماد تخلف عن نار، وحوض شرب أوله، ولم يبق منه غير أكدار. آباء وأحساب، وحال كشجر السلجم4 أحسن ما فيه ما كان تحت التراب "ترى

_ 1 أسواق الذهب ص67. 2 جمع سجير، وهو الخليل الوفي. 3 الذهب والفضة. 4 نبات.

الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل" إلى رطانة بالعجمية بين الأعراب "أبرد من استعمال النحو في الحساب"، "لو كان ذا حلية لتحول"، "وهل عند رسم دارس من معول". وقح تواصوا بترك البر بينهم ... نقول: ذا شرهم بل ذاك بل هذا ميسر يلعب، ومال يسلب. وخدن يخدع، وكلب يتبع، وعطر ينفح، وفرس يضبح. أبا جعفر ليس فضل الفتى ... إذا راح في فضل عجابه ولا في فراهة برذونه ... ولا في نظافة أثوابه دنيا موجودة، ونفس مفقودة. وعقل أسير، وهو أمير. "اليوم خمر، وغدًا أمر". فبيناه غني يتملك، إذ هو فقير يتصعلك. قوت، كيلا تموت. ومن إيوان كسرى إلى بيت العنكبوت ... "1. وأما الاتجاه الآخر، فقد كان كرد فعل للاتجاهين السابقين، فهو لم يكن شديد الكلف بتجويد الصياغة، ورعاية جانب البيان، كما لم يكن -من باب أولى- متكلفًا للسجع مصطنعًا لغة المقامات، وذلك؛ لأن السائرين في هذا الاتجاه، لم يكونوا من المتعلقين بالتراث، ولا من المؤمنين بفكرة الجامعة الإسلامية التي تشد إليه، وإنما كانوا من المولين وجوههم شطر الغرب، ومن المؤمنين بالحضارة الأوروبية أشد الإيمان، ومن هنا لم يشغلوا أنفسهم بتجويد الأسلوب تجويدًا بيانيًا كما فعل المنفلوطي، كما لم يرهقوا أقلامهم بتحميلها أعباء البديع كما فعل البكري، وإنما اهتموا أعظم الاهتمام بالجانب الفكري، فمالوا إلى الموضوعية، واصطناع المنطق، وجنحوا إلى الوضوح والدقة، والترسل الكامل. هذا إلى تحميل الكلام شحنة من الثقافة والفكر الغربي، وخير من يمثل هذا الاتجاه في تلك الفترة أحمد لطفي السيد2، ومن أمثلة مقالاته ما كتبه تحت عنوان:

_ 1 صهاريج اللؤلؤ ص142 وما بعدها. 2 ولد بقريق برقين من أعمال السنبلاوين سنة 1872، وتعلم في كتاب القرية، ثم =

"غرض الأمة هو الاستقلال"، حيث يقول: "استقلال الأمة في الحياة الاجتماعية، كالخبز في الحياة الفردية، لا غنى عنه؛ لأنه لا وجود إلا به، وكل وجود غير الاستقلال مرض يجب التداوي منه، وضعف يجب إزالته، بل عار يجب نفيه.. استقلال الأمة عمن عداها، أو حريتها السياسية حق لها بالفطرة، لا ينبغي لها أن تتسامح فيه، أو أن تني في العمل للحصول عليه، بل ليس لها حق التنازل عنه لغيرها، لا بكله ولا بجزئه؛ لأن الحرية لا تقبل القسمة، ولا تقبل التنازل، فكل تنازل من الأمة عن حريتها -كلها أو بعضها- باطل بطلانًا أصليًّا، لا تلحقه الصحة بأي حال من الأحوال، فلا جرم مع هذا المبدأ المسلم به عند علماء السياسة أن قلت: إنه يجب على الأمة أن توجه كل قواها -بغير استثناء- للحصول على وجودها، أي الحصول على الاستقلال1..". هذا، وقد كانت تلك الاتجاهات الأسلوبية الثلاثة، تتقاسم أقلام الناثرين

_ في مدرسة المنصورة الابتدائية، ثم في مدرسة الخديوية بالقاهرة، وانتهى من المرحلة الثانوية سنة 1889. ثم التحق بالحقوق. وخلال دراسته في الحقوق تردد على الأزهر مع أستاذه الشيخ حسونه النواوي؛ ليقرأ له دروس الفقه التي كان يلقيها في الصباح الباكر، وأتم دراسة الحقوق سنة 1894، وعين في النيابة. وفي سنة 1897 سافر إلى سويسرا، "والتقى فيها بقاسم أمين، ومحمد عبده، وسعد زغلول"، واختلف إلى ما كان يلقي من محاضرات في جامعة جنيف ... ثم انتظم بعد عودته إلى مصر في سلك النيابة حتى سنة 1905، فاستقال وعمل بالمحاماة، ثم أخرج الجريدة سنة 1907، وشارك في الكفاح من أجل الجامعة التي افتتحت سنة 1908 ... ثم عين مديرًا لدار الكتب خلال الحرب الأولى، ثم اختير مديرًا للجامعة بعد أن صارت حكومية سنة 1925، وفي سنة 1928 ترك الجامعة إلى وزارة المعارف، ثم ترك الوزارة، وعاد إلى الجامعة، ثم استقال بمناسبة أزمة طه حسين في عهد صدقي، ثم عاد بعد استقالة وزارة صدقي سنة 1935، وظل في الجامعة إلى سنة 1941، فعين عضوًا بالشيوخ، وشارك في بعض الوزارات، ثم اختير رئيسًا للمجمع اللغوي، وظل كذلك إلى أن توفي سنة 1963، اقرأ عنه في: الأدب العربي المعاصر في مصر لشوقي ضيف ص251، وفي المحافظة والتجديد في النثر العربي المعاصر لأنور الجندي، وفي أدب المقالة الصحفية لعبد اللطيف حمزة جـ6 ص42، وما بعدها. 1 انظر: الأدب العربي المعاصر في مصر ص257-258.

عمومًا في تلك السنين، على اختلاف الميادين التي فيها يكتبون؛ فقد كانوا يسيرون في تلك الاتجاهات الثلاثة، ولكن مع غلبة الاتجاه المحافظ البياني، أو سيطرة الأسلوب المرسل الجانح إلى جمال العبارة وجودة الصياغة، حتى فيما سوى المقالة من فنون النثر الفني، ولذا يمكن أن يقال: إن تلك الفترة قد شهدت -بظهور أول طريقة فنية للمقالة- ظهور أول طريقة فنية للنثر الحديث، وهي طريقة المنفلوطي.

الخطابة ونشاطها

2- الخطابة ونشاطها: في السنوات العشر الأولى للاحتلال. خفت صوت الخطابة، الذي كان قد بدأ يعلو منتعشًا في الفترة السابقة، وخاصة مع الثورة العرابية1، وحين بدأت الحركة الوطنية تعود إلى اليقظة، وتتخذ سبيل النضال كانت الخطابة من أهم أسلحتها في هذه السبيل، وقد تعددت المجالات وتنوعت الميادين التي منحت الخطابة الانتعاش ثم النشاط؛ حتى شهدت تلك الفترة طائفة كانوا من أعظم من عرف تاريخ الأدب الحديث من خطباء، كما حظي التراث الأدبي بجمهرة من أروع ما ضم هذا التراث من خطب2. وكان من أهم مجالات الخطابة المجال السياسي، والمجال الاجتماعي، والمجال الفضائي، أما المجال السياسي، فكان له ميدانان: ميدان رسمي يتمثل في الجمعية العمومية، ومجلس شورى القوانين ثم في الجمعية التشريعية بعد ذلك، وميدان غير رسمي يتمثل في الأحزاب، والهيئات السياسية التي كانت تناضل لتحقيق ما ترى أنه الخير للبلاد، وقد كان أهم هذه الهيئات السياسية غير الرسمية الحزب الوطني، وحزب الأمة.

_ 1 اقرأ ما كتب عن ذلك في مبحث النثر في الفصل السابق، مقال 4 -الخطابة وانتعاشها. 2 اقرأ في تفصيل ذلك: الخطابة السياسية، لعبد الصبور مرزوق "رسالة ماجستير".

وعلى الرغم من أن المؤسسات الرسمية السالفة الذكر قد أقامها الاحتلال أول الأمر للتمويه بأن الأمة تشارك في حكم نفسها؛ قد استطاع المخلصون من الوطنيين أن يتخذوا منها منبرًا لنقد الحكومة، وفضح ألاعيب الاحتلال، كما استطاعوا أن يكونوا معارضة قوية تقف في وجه كل ما يرونه ضارًّا بمصلحة البلاد من مشروعات، فقد تصدوا لمشروع مد امتياز شركة قناة السويس، وهاجموا قانون المطبوعات، الذي كان الهدف منه كبت الحريات، وحملوا الحكومة على إعادة اللغة العربية لغة للتعليم في المدارس، إلى غير ذلك من الوقفات الجريئة التي كانت الخطابة لسانها الناطق، وسلاحها الباتر1. وطبيعي أن أعضاء تلك المؤسسات السياسية رسمية، لم يكونوا جميعًا من المعارضين بل كان فيهم -بحكم التنظيم الديمقراطي في ذلك الحين- ممثلون للحكومة يدافعون عن مشروعاتها أمام المعارضين، ومن هنا ظهر من الطرفين خطباء مفوهون، وكان من ألمع الخطباء الحكوميين سعد زغلول، وفتحي زغلول2. هذا في المجال الرسمي، أما في المجال الشعبي، فقد كان الميدان أرحب؛ إذا رأينا زعماء الحزبين الكبيرين يخوضون معركة النضال أكثر جرأة، وأعظم انطلاقًا؛ لأنهم لم يكونوا مقيدين برسوم ومواضعات، ولوائح تحد من نشاطهم، وتلجم بعض الشيء ألسنتهم، فهم لا يتحرجون تحرج الخطباء الرسميين من التنديد بالاحتلال والهجوم على المحتلين، وإنما يوجهون جل نشاطهم إلى هذا الميدان من ميادين النضال، وليس من شك في أن زعماء الحزب الوطني قد كانوا في تلك الفترة أكثر جنود هذا اللون ممن ألوان النضال حماسة، وأقواهم شكيمة، ويأتي في مقدمة هؤلاء جميعًا

_ 1 المصدر السابق ص292، وما بعدها "النسخة المكتوبة على الآلة الكاتبة". 2 المصدر السابق.

مصطفى كامل1، الذي يعد علمًا من أعلام الخطابة السياسية في التاريخ الأدبي. فقد كان ذا موهبة خطابية مبكرة، من أهم مظاهرها: التحمس الشديد، والتدفق المنساب، والقدرة البالغة على تحريك مشاعر الجماهير، وإلهاب عواطف المستعمين، ثم المهارة في تفنيد حجج الخصوم، وتدعيم الرأي الذي يدعو إليه، بمزيج من الحجج العقلية، والمؤثرات العاطفية. وقد كان مصطفى كامل لا يدع فرصة إلا انتهزها، للتشهير بالاحتلال وجرائمه، ثم للمطالبة الحارة بالجلاء والدستور، وتحقيق آمال البلاد2. وقد كانت الخطابة من أهم عوامل نجاح مصطفى كامل، بل أصبحت تشكل جزءًا من شخصيته كزعيم، ومن يومها ارتبط النجاح السياسي بالنجاح في الخطابة والقدرة عليها، وأصبحنا نرى جل الزعماء الكبار يهتمون بالخطابة ويتخذون منها وسيلة فعالة من وسائل النجاح. هذا في المجال السياسي، أما المجال الاجتماعي؛ فقد كان نشاط الخطابة فيه لا يقل عن نشاطها في المجال السياسي، لما عرفنا من أن السياسيين كانوا أيضًا أصحاب دعوات إصلاحية اجتماعية، بل كثيرًا ما كان الخطيب السياسي الناجح هو نفسه الخطيب، والمصلح الاجتماعي الناجح؛ لأن هذا الجيل كان يخوض معركة نضال في عدد من الميادين، وإن كان أهمها الميدان السياسي بطبيعة الحال، ومن هنا جال الخطباء في ميادين الدعوة

_ 1 ولد بمصر سنة 1874، وتعلم في المدارس المدنية، ثم درس الحقوق، وأكمل دراسته في فرنسا، وقاد حركة الجهاد الوطني ضد الإنجليز، وكان رئيسًا للحزب الوطني، ونتيجة لكفاحه المتواصل خطيبًا، وكاتبًا في مصر وخارج مصر؛ توفي وهو في عمر الورد سنة 1908. اقرأ عنه: مشاهير الشرق لجورجي زيدان جـ1 ص110، وفي: مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي، وفي: مصطفى كامل في 34 ربيعًا لعلي فهمي، وفي: مصطفى كامل لفتحي رضوان، وفي الجزء الخامس من أدب المقالة الصحفية للدكتور عبد اللطيف حمزة، وفي: تراجم مصرية وغربية للدكتور محمد حسين هيكل. 2 انظر: مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص424، والخطابة السياسية لعبد الصبور مرزوق ص218 وما بعدها "الرسالة المكتوبة على الآلة الكاتبة".

إلى نشر التعليم، وتحرير الفرد، وإصلاح الفكر، وإنهاض الاقتصاد، ومحاربة التخلف، وما إلى ذلك؛ في الوقت الذي غالبًا فيه في ميادين الدعوة إلى الاستقلال وإجلاء الإنجليز، وإصلاح أداة الحكم، وغير هذا من ميادين النضال السياسي. بقي مجال ثالث قد نشطت فيه الخطابة أيضًا في تلك الفترة، وهو المجال القضائي، وقد أدى إلى نشاط الخطابة في هذا المجال، ما كان من إنشاء المحاكم الأهلية في تلك الفترة1، بعد أن أنشئت المحاكم المختلفة في الفترة السابقة، وبعد أن بدأت مدرسة الحقوق تؤتي ثمارها، وتقدم للأمة رجالًا يعتبر اللسن من أدوات صناعتهم في تلك الأحايين، وهكذا ظهر جيل من الخطاء القضائيين الرائدين، الذين درسوا القانون، واحترفوا العمل القضائي الذي كانت الخطابة من أهم وسائله، حيث عمل البعض مدعين عموميين، وعمل آخرون محامين، وهؤلاء وأولئك كانوا يعتمدون على المقدرة في الخطابة القضائية، وكانت مقوماتها تزيد على مقومات الخطابة الأخرى: المقدرة على تفسير القانون، وفهم نصوصه لصالح من يمثله الخطيب، ثم القدرة على الجدل، وإبطال أدلة الخصم، وتدعيم موقف الطرف الذي يقابله، فهي تجمع إلى مقومات الخطابة كثيرًا من مقومات المناظرة، وتضم إلى ثقافة الخطيب العامة وقدراته الخاصة، ثقافات وقدرات منطقية. وقد كان من عوامل نشاط هذا اللون من الخطابة، أن كثيرين من رجالها كانوا في الوقت نفسه خطباء سياسيين، وربما خطباء اجتماعيين أيضًا؛ من أمثال سعد زغلول وغيره من رجال هذا الجيل، الذي عمل في المجال القضائي والميدان السياسي، والإصلاح الاجتماعي في كثير من الأحايين. وهكذا نشطت الخطابة في تلك الفترة، وإن خمدت في السنوات الأولى منها. وقد تعددت مع هذا النشاط ميادينها، وكثر النابعون فيها.

_ 1 انظر: تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص282. وتاريخ مصر لعمر الإسكندري، وسليم حسن ص311.

ولم تكن المسألة متعلقة بالكم فحسب، بل قد شملت الكيف أيضًا، حيث لم تعد الخطابة في هذه الفترة في نفس المستوى الفني الذي كانت عليه في الفترة السابقة، والذي يتمثل في خطب رجل كعبد الله النديم، لقد عرفت الخطابة في هذه الفترة -زيادة على ما عرفته في الفترة السابقة- ثقافة أعمق وفكرًا أنضج، واتصالًا بالمعارف السياسية والمباحث الاجتماعية، والمواد الدستورية والقانونية. وقد أمدها كل ذلك بحيوية أكثر وفاعلية أقوى، ومنحها قيمة فنية أعلى. وبالإضافة إلى ذلك كله، قد زاد بعد الخطابة عن المحسنات والزخرف، وقوى اتصالها بالأصالة والإبداع والموضوعية، ومن هنا يعتبر كثير من خطب تلك الفترة، التي خلفها مصطفى كامل، وسعد زغلول وغيرهما نماذج أدبية ممتازة للخطابة. وغني عن الإيضاح أن نقول: إن الخطابة قد اختلفت أساليبها -بعد ذلك- باختلاف ميادينها أولًا، ثم باختلاف الخطباء وطبيعتهم وثقافتهم ثانيًا. فعلى حين كان رجل مصطفى كامل يميل في خطبه إلى العاطفية والمصارحة والعنف. كان أخر كسعد زغلول يميل إلى الذكاء والمراوغة واللباقة، هذا في الوقت الذي يجنح ثالث كلطفي السيد إلى الموضوعية، والمنطقية والعمق. على أن التعرف الكامل على خصائص كل يحتاج إلى دراسة مستقلة1، وحسبنا هنا معرفة الخصائص المشتركة التي تمس الخطابة بوجه عام، والتي سبق إيضاحها بما سمح به المقام في هذه السطور، ويمكن أن يقرب خصائص الخطابة السياسية هذا النموذج من خطب مصطفى كامل. قال في حفل وطني بالإسكندرية سنة 1900: "سادتي وأبناء وطني الأعزاء، كلما جئت إلى الإسكندرية، ورأيت هذه الحياة الحقيقية التي جعلت لكم مقامًا محمودًا بين بني مصر، أعود

_ 1 اقرأ الدراسة التي كتبها عبد الصبور مرزوق بعنوان "الخطابة السياسية في مصر من الاحتلال البريطاني إلى إعلان الحماية" "رسالة ماجستير مكتوبة على الآلة الكاتبة".

شاعرًا بان في هذه المدينة الزاهرة أساتذة في الوطنية، عنهم تؤخذ دروس محبة الأوطان، ومنهم تعرف الأمة حقوقها وواجباتها، وهذا ما أخرني في السنين الأخيرة عن الوقوف أمامكم هذا الموقف، ومناجاتكم في شئون الوطن العزيز. ولكني أشعر بأن تبادل الميول، وانتقال العواطف الطاهرة من فؤاد إلى فؤاد، واجتماع القلوب في وقت واحد حول آمال واحدة، وسريان روح مشتركة في المجموع العظيم، مما يزيدنا اعتقادًا على اعتقاد، وحبًّا للديار على حب، ويخفف حب، ويخفف عن الوطن المقدس آلام مصائبه العظام. ".. إني أشد الناس أملا في مستقبل أمتي وبلادي، وأرى الشعب الذي أنا منه جديرًا بالرفعة والسمو، حقيقا بالمجد والحرية والاستقلال. ولولا هذا الأمل وهذا الاعتقاد، لكنت فارقت الحياة، وتركت الدنيا غير آسف على أحد، وكيف لا أكون ذا أمل، وهذه أمتي أجد فيها روحًا جديدة، وحياة صادقة، ووطنية ناشئة قوية؟ ومن منكم لا يرى ما أرى؟ هل ينكر أحد شعور الأمة بحالها وانتباهها من رقدتها، وقيامها من وهدتها وعملها لخيرها، وسعادتها؟! " ... قد يظن بعض الناس أن الدين ينافي الوطنية، أو أن الدعوة إلى الدين ليست من الوطنية في شيء؟ ولكني أرى أن الدين والوطنية توأمان متلازمان، وأن الرجل الذي يتمكن الدين من فؤاده، يحب وطنه حبًّا صادقًا، ويفديه بروحه وما تملك يداه، وليست فيما أقول معتمدًا على أقوال السالفين، الذين ربما اتهمهم أبناء العصر الحديث بالتعصب والجهالة، ولكني أستشهد على صحة هذا المبدأ بكلمة "بسمارك" أكبر ساسة هذا العصر، وهو خير رجل خدم بلاده ورفع شأنها، فقد قال هذا الرجل العظيم بأعلى صوته: "لو نزعتم العقيدة من فؤادي لنزعتم محبة الوطن معها1 ... ". ولعل مما يزيد الأمر إيضاحًا هذين النموذجين الآخرين للخطابة القضائية في تلك الفترة, وأولهما جزء من مرافعة ثروت حين كان ممثلًا للنيابة في قضية

_ 1 انظر: مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص146-147.

اغتيال بطرس غالي، وفيه يقول عن الورداني المتهم: ".. إن الوطنية التي يدعي الدفاع عنها بهذا السلاح المسموم لبراء من هذا المنكر، إن الوطنية الصحيحة لا تحل في قلب ملأته مبادئ تستحل اغتيال النفس. إن مثل هذه المبادئ مقوضة لكل اجتماع". "وماذا يكون حال أمة إذا كان حياة أولي الأمر فيها رهينة حكم متهوس، يبيت ليلة فيضطرب نومه وتكثر هواجسه، فيصبح صباحه ويحمل سلاحه، يغشاهم في دار أعمالهم، فيسقيهم كأس المنون؟ ثم إذا سئل في ذلك تبجح وقال: إنما أخدم وطني! لأن أعتقد أن مثلهم خائنون للبلاد ضارون بها". "تبًّا لتلك المبادئ وسحقًا لها، كيف تقوم لنظام قائمة مع تلك المبادئ الفاسدة؟ إن مبادئ كل اجتماع، ألا ينال إنسان جزاء على عمل مهما كان هذا الجزاء صغيرًا، إلا على يد قضاة اشترطت فيهم ضمانات قوية، وبعد أن يتمكن من الدفاع عن نفسه، حتى ينتج الجزاء النتيجة الصالحة التي وضع لها من حماية الاجتماع، فإذا كان هذا هو الشأن في أقل جزاء يلحق بالنفس أو بالمال، فما بالك بجزاء هو إزهاق الروح والحرمان من الحياة؟ "تلك مبادئ لا وجود المجتمع إلا بها، ولا سعادة له بدونها؛ فالطمأنينة على المال والنفس هي أساس العمران، ومن الدعائم التي بني عليها في كل زمان ومكان، ولكن الورداني له مذهب آخر في الاجتماع، فهو يضع نفسه موضع الحكم على أعمال الرجال، فما ارتضاه فيها كان هو النافع، وما لم يرتضه كان هو الضار، ويريد أيضًا أن يكون القاضي الذي يقدر الجزاء، ثم يقضي به عن غير معقب ولا راد. " ... إن مثل هذا الحق لا يمكن أن يكون إلا الله سبحانه وتعالى، المطلع على السرائر، العليم بالنيات، ومع ذلك فإنه جل شأنه شرع الحساب قبل العقاب، ثم إن هذا الحق لم يتطلع إليه أحد من العالمين

حتى الأنبياء أنفسهم؛ وقد أجمعت الشرائع على عصمتهم من الزلل والخطأ. ولكن الورداني يريد أن يضع نفسه فوق كل الدرجات المتصورة، فحاكم وحكم، وقتل: "إني لترتعد فرائصي إذا تصورت منظر البلاد، وقد فشا فيها البلاء الأكبر بفشو تلك المبادئ القاضية1". والنموذج الثاني جزء من مرافعة أحمد لطفي حين كان مدافعًا في القضية نفسها، وفيه يقول مخاطبًا الورداني ... " " ... أما أنت أيها المتهم، فقد همت بحب بلادك حتى أنساك هذا الهيام كل شيء حولك؛ أنساك واجبًا مقدسًا هو الرأفة بأختك الصغيرة، وأمك الحزينة، فتركتها تبكيان هذا الشباب الغض، تركتهما تتقلبان على جمر الغضا، تركتهما تقلبان الطرف حولهما، فلا تجدان غير منزل مقفر غاب عنه عائله، تركتهما على ألا تعود إليهما، وأنت تعلم أنهما لا تطيقان صبرًا على فراقك لحظة واحدة؛ فأنت أملهما ورجاؤهما. "دفعك حب بلادك إلى نسيان هذا الواجب، وحجب عنك كل شيء غير وطنك، فلم تعد تفكر في تلك الوالدة البائسة، وهذه الزهرة اليانعة، ولا فيما ينزل بهما من الحزن والشقاء بسبب ما أقدمت عليه، ونسيت كل أملك في هذه الحياة، وقلت: إن السعادة في حب الوطن وخدمة البلاد، واعتقدت أن الوسيلة الوحيدة للقيام بهذه الخدمة هي تضحية حياتك، أي أعز شيء لديك ولدي أختك ووالدتك؛ فأقدمت على ما أقدمت راضيًا بالموت لا مكرهًا، ولا حبًّا في الظهور، أقدمت وأنت تعلم أن أقل ما يصيبك هو فقدان حريتك، ففي سبيل أمتك بعت حريتك بثمن غال. "فاعلم أيها الشاب أنه إذا اشتد معك قضاتك -ولا إخالهم إلا

_ 1 هذه المرافعة في: الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية "عن الخطابة للدكتور أحمد الحوفي ص97-98".

راحميك -فذلك؛ لأنهم حذقة القانون، وهذا هو السلاح المسلول فوق رأس العدالة والحرية، وإذا لم ينصفوك -ولا أظنهم إلا منصفيك- فقد أنصفك ذلك العالم الذي يرى أنك لم ترتكب ما ارتكبته بنية الإجرام، ولكن باعتقاد أنك تخدم بلادك، وسواء وافق اعتقادك الحقيقة أم خالفها، فتلك مسألة سيحكم التاريخ فيها. "وإن هناك حقيقة عرفها قضاتك وشهد بها الناس، وهي أنك لست مجرمًا سفاكًا للدماء، ولا فوضويًّا من مبادئه الفتك ببني جنسه، ولا متعصبًا دينيًّا؛ وإنما أنت مغرم بحب بلادك هائم بوطنك. "فليكن مصيرك أعماق السجن أو جدران المستشفى، فإن صورتك في البعد والقرب مرسومة على قلوب أهلك وأصدقائك، وتقبل حكم قضاتك باطمئنان، واذهب إلى مقرك بأمان"1.

_ 1 هذا الدفاع في: المصدر السابق "عن الخطابة للدكتور الحوفي ص105-106".

القصص بين استلهام التراث ومحاكاة أدب الغرب

3- القصص بين استلهام التراث، ومحاكاة أدب الغرب: خطا القصص في تلك الفترة خطوات واضحة، واتجه اتجاهات مختلفة، ولكنه تدرج آخر الأمر بين طرفين متقابلين، أولهما محافظ يستلهم التراث، ويتأثر ببعض قوالبه، وآخرهما تجديدي يحاكي قصص الغرب، وينسج على منواله. وبين هذين الطرفين وجدت ألوان أخرى، تختلف قربًا وبعدًا من هذين الطرفين، باختلاف طبيعة أصحابها وثقافتهم وأهدافهم، وفيما يلي رصد لأهم تلك الاتجاهات جميعًا. أ- الرواية الاجتماعية المقامية: تنوعت الأعمال القصصية التي تسير في الاتجاه المحافظ، وتستلهم التراث وما فيه من ألوان قصصية، مثل "ألف ليلة" و"المقامات"، وتنوعت كذلك مادة هذه الأعمال روحها وأهدافها؛ فكانت أحيانًا خيالية

المادة شاعرية الروح، تهدف إلى التسلية مثل "ورقة الآس" لأحمد شوقي، التي تأثر في مادتها "بألف ليلة"، وفي أسلوبها "بالمقامات"1. كما كانت أحيانًا أخرى اجتماعية المادة تأملية الروح، تهدف إلى الإصلاح، مثل "ليالي سطيح" لحافظ إبراهيم، التي تأثر في مادتها بالمقالات والأحاديث الاجتماعية والسياسية، ولكنه استلهم في أسلوبها المقامات، وبعض شخصيات التراث؛ حيث استخدم شخصية "سطيح"، وهو كاهن بني ذئب في الجاهلية، ليجري على لسانه ما يريد أن يقدم من آراء وتأملات2. على أن أهم هذه الأعمال القصصية المحافظة التي كانت تستلهم التراث، هو اللون الاجتماعي الغاية، المقامي الأسلوب، الروائي البناء، الذي يمثله "حديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحي3، والذي يمكن أن يسمى "الرواية الاجتماعية المقامية"، باعتبار غايته وطابع أسلوبه. "فحديث عيسى بن هشام" يمكن اعتباره رواية أخذت طريقًا تهذيبيًّا، يهدف إلى تبصير المواطنين بطائفة من عيوبهم ليعدلوا من سلوكهم، وعلى هذا يكون هذا العمل رواية تهذيبية ذات طابع اجتماعي، ويكون

_ 1 الفن القصصي في الأدب المصري الحديث للدكتور محمود شوكت ص54 وما بعدها. 2 المصدر السابق ص51 وما بعدها، وتطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص77، وما بعدها. 3 ولد في القاهرة سنة 1858، وكان أبوه إبراهيم المويلحي يصدر مجلة مصباح الشرق التي كانت من أهم المجلات الأدبية؛ فنشأ محمد في بيئة أدب وصحافة، وقد تعلم في المدارس المدنية، كما كان يختلف إلى الأزهر، ويحضر دروس محمد عبده، وعمل في بعض دواوين الحكومة، وسافر إلى إيطاليا وفرنسا، وهناك ساعد الأفغاني ومحمد عبده في إصدار العروة الوثقى، وأتقن الفرنسية، وعاد بعد ثلاث سنوات إلى مصر، وعاون أباه في إخراج مصباح الشرق، وكان ينتشر بها حديث عيسى بن هشام على حلقات، ثم جمعها ونشرها في كتاب سنة 1906، وعين مديرًا للأوقاف سنة 1910. وتوفي سنة 1930. اقرأ عنه في: الأدب المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف ص234، وما بعدها.

بهذا تطويرًا لمحاولة علي مبارك السابقة في "علم الدين"1. ويمكن من جهة أخرى اعتباره رواية أخذت طريقًا اجتماعيًّا يرمي إلى تصوير ما في المجتمع من مفارقات، ورسم ما بين جيل المؤلف، والجيل السابق من اختلافات، وتوضيح ما بين المجتمع الشرقي، والمجتمع الغربي من تباين؛ وعلى هذا يكون هذا العمل أول رواية اجتماعية مصرية في الأدب الحديث2، برغم إفادتها من محاولة علي مبارك، وتأثرها بالمقامات. ومهما يكن من أمر، فبالإضافة إلى الجانب الروائي في هذا العمل، قد كان له جانب آخر يشده بسبب إلى بعض الأشكال الأدبية في تراثنا العربي، وهو شكل المقامة، ويتضح ذلك من أول وهلة، حين نتذكر أن اسم الرواية الذي جعله المؤلف عنوانًا لهذا العمل، وهو "عيسى بن هشام" هو نفس الاسم الذي اتخذه بديع الزمان لرواية مقاماته، وليس ذلك هو الجانب الوحيد الذي يربط "حديث عيسى بن هشام" بالمقامات، بل هناك أيضًا استخدام السجع في لغة السرد والوصف، التي يحكيها عيسى بن هشام في عمل المويلحي، تمامًا كما كان يحكيها في عمل البديع، هذا بالإضافة إلى اشتراك العملين في تصوير بعض جوانب البيئة الاجتماعية، وألوان من قطاعاتها ومفارقاتها، ثم اشتراك العملين في عدم استمرار كل الشخصيات، واختفاء كثير منها بانتهاء الفصل الذي يتحدث عنها. وليس معنى اشتراك "حديث عيسى بن هشام" مع المقامات في تلك الجوانب، أن هذا العمل مقامة كبيرة، أو مجموعة مقامات حاكي بها المويلحي بديع الزمان؛ فالواضح أن في "حديث عيسى بن هشام" -إلى جانب بعض نقط الشبه بالمقامة- مواطن اختلاف كبيرة، تقرب هذا العمل من الراوية، بل تجعله رواية فعلًا، قد استوحى صاحبها

_ 1 انظر تطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص67 وما بعدها، والفن القصصي في الأدب المصري الحديث للدكتور محمود شوكت ص46 وما بعدها. 2 انظر: دراسات في الرواية المصرية للدكتور علي الراعي ص7 وما بعدها.

التراث العربي، والتفت إلى بعض أشكاله، ومن أبرز مواطن الاختلاف بين المقامة و"حديث عيسى بن هشام" أن المقامة تتناول موقفًا بسيطًا نابعًا من حدث أو أحداث يسيرة، والبطل عادة رجل من الشطار، يدور حوله الحدث أو الأحداث اليسيرة، ولا تحس فيه نمو الشخصية، ولا ترى معه تطورًا لأحداث، ثم لايراد من المقامة -أساسًا- إلا تقديم حصيلة لغوية غزيرة، تتمثل في حشد المترادفات المختلفة، والألفاظ المتقعرة، التي تلف بالسجع لتخفيف وقعها وتيسير حفظها، أما "حديث عيسى بن هشام" فقصة طويلة، واضحة المعالم، لها بداية وفيها تطور ينتهي بنهاية مقنعة1، وتلك القصة بعد ذلك مليئة بالمواقف العديدة المعقدة، والأحداث الكثيرة المتطورة، والشخصيات المنوعة النامية، وفيها كذلك كثير من العناصر الفنية الروائية، كالتشويق والمفاجأة والتعقيد والحل، فيها ذلك كله برغم اشتمالها على بعض العيوب الفنية التي لا تجعلها رواية كاملة النضج، وإنما تجعلها بداية للرواية الاجتماعية الفكاهية، وإن كانت بداية على حظ غير قليل من التوفيق، ومن أبرز تلك العيوب -بالإضافة إلى ما تقدم من عيب عدم استمرار كل الشخصيات ونموها، وعيب التزام السجع في السرد والوصف -عيب فرض المؤلف ذاته، وآراءه على الشخصية في بعض المواقف، حتى تبدو الشخصية متحدثة لا بما يناسبها، ويلائم الموقف ويطور الحدث، وإنما بما يريد المؤلف أن يقدمه من رأي حول موضوع معين. ومن هنا يأتي الحوار أحيانًا أشبه بمقال2. وبالإضافة إلى هذا العيب، يوجد عيب آخر، هو عدم الترابط بين بعض الفصول بشكل فني كاف، بل انفصامها أحيانًا، بحيث تبدو أشبه بلوحات اجتماعية فكاهية3. وإذا كان ارتباط "حديث عيسى بن هشام" بالمقامة قد أنقص من

_ 1 دراسات في الرواية المصرية للدكتور علي الراعي ص21-22. 2 تطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص76-77. 3 دراسات في الرواية المصرية ص22.

قيمته الفنية كرواية، فالواقع أن هذا الارتباط قد كان -من جانب آخر- محاولة مخلصة لربط الأدب الحديث بالتراث القديم، واتخاذ هذا التراث نقطة انطلاق إلى فنون أدبية جديدة. و"حديث عيسى بن هشام"، يتلخص في أن الرواية عيسى بن هشام، قد ذهب إلى المقابر يومًا للاتعاظ والاعتبار، فشاهد قبرًا قد انشق عن رجل يخرج منه مبعوثًا إلى الحياة من جديد، وحين فزع ابن هشام من هذا الميت المبعوث، طمأنه هذا الخارج من القبر، وعرفه بنفسه، مبينًا أنه أحمد باشا المنيكلي الذي كان رئيس "الجهادية" في عهد محمد علي، ثم طلب المنيكلي من ابن هشام أن يذهب إلى منزل الباشا في القلعة ليحضر له الملابس، ولكن ابن هشام اعتذر بأنه لا يعرف بيت المنيكلي، نظرًا لكون البيوت تعرف اليوم بأرقام، وأسماء شوارع وما إلى ذلك، وانتهى الأمر بأن خلع ابن هشام بعض ملابسه على الباشا المبعوث، وصحبه من المقابر إلى قلب القاهرة، ليوصله إلى بيته في القلعة، ولكن الباشا لا يصل إلى بيته، بسبب المشاكل التي تعترضه، وتحتم عليه المبيت في قسم الشرطة، ففي طريقهما إلى بيت الباشا، تبعهما أحد الحمارين مدة، ثم ادعى على الباشا أنه استدعاه وعطله، وطالبه لذلك بأجره على هذا الوقت المضيع في خدمته، والحق أنه لم يكن قد استدعاه حقيقة، وإنما كان -فقط- قد لوح بيديه، وهو يحدث عيسى بن هشام.. وقامت مشادة بين الحمار والباشا، استدعى من أجلها الشرطي الذي قاد الجميع إلى القسم، حيث بات الباشا ليلته. وبعد ذلك يساق الباشا إلى وكيل النيابة، ثم يقدم إلى المحكمة، فيحكم عليه بالسجن، ويضطر إلى التظلم أمام لجنة المراقبة، ويعرض الأمر على محكمة الاستئناف. ويخلص الباشا من ورطة البوليس، والقضاء -مؤقتًا- ليقع في ورطة من نوع جديد؛ وذلك أنه يضطر إلى الاستعانة بمحام، فتظهر حاجته الشديدة إلى المال، وهنا يحاول الحصول عليه بشتى الطرق، فيبحث عمن بقي من أسرته

فلا يجد إلا حفيدًا، ولكن هذا الحفيد يرفض أن يعطيه ما يريد، فيحاول أن يتصل بأحد معارفه من رجال العهد السالف، فلا ينجح كذلك، وأخيرًا يتذكر أن له وقفًا يمكن أن ينتفع به في تلك الأزمة، ويدفعه ذلك إلى الاحتكاك بالقضاء الشرعي بعد أن احتك بالقضاء المدني. ثم يترك المؤلف القضية لينتقل بالباشا بين قطاعات اجتماعية أخرى، ونماذج بشرية عديدة، كالطبيب، والعمدة، والمرابي، والغانية، والخليع، وغيرهم. وأخيرًا ينتقل المؤلف بالباشا في رحلة خارج مصر، ويقف كثيرًا عند مواطن الاختلاف بين المدنية الشرقية والمدنية الغربية. وخلال كل تلك القطاعات والشخصيات، التي تعرضها الرحلة في الداخل أولًا، ثم في الخارج ثانيًا، يقدم المؤلف نقداته الاجتماعية، ويصور العيوب ويرسم المفارقات. فهو يصور الشرطي مثلًا، مشغول عن المشادة بين الحمار والباشا، بما يجمعه من الباعة من أصناف المأكولات التي يحشو بها منديله الأحمر، وهو يصور وكيل النيابة مهملًا أصحاب القضايا، ليستقبل بعض أصحابه من الشباب الرشيق المعطر، وليتحدث معهم عن السهرات، ولعب القمار وصحبة النساء، وهو يصور القاضي ضيق الصدر متبرمًا بالمتقاضين، لا لكثرة القضايا فحسب، بل؛ لأنها ستفوت عليه وليمة قد دعي إليها عند الظهر تمامًا، وهو يصور المحامي الشرعي مدعيًا للتقوى، متظاهرًا بالصلاح، ليدخل الحيلة على المتقاضيات والمتقاضين، وليسلب من المال أكبر قسط ممكن، وقد كانت تلك القطاعات وهذه الفئات، على كثير من العيوب والانحرافات في ذلك الحين، مما سوغ للمؤلف نقدها بتلك الطريقة اللاذعة، مشاركًا فيما يخوضه كل المخلصين من الكتاب والقادة، والمفكرين من معركة النضال ضد الفساد، والتخلف والاستبداد. ولا يفوت المؤلف منذ السطور الأولى أن يخرج نفسه من المأزق الذي كان سيوقعه فيه اختياره للبطل شخصية من الجيل الماضي، ينشق عنها القبر وتبعث من جديد، فيوضح المؤلف أن كل ما كان من التقاء عيسى بن هشام بأحمد باشا

المنيكلي، وما جرى بينهما ولهما من أحداث في مصر وخارجها، إنما كان رؤيا رآها ابن هشام في منامه. وواضح أن ابن هشام هذا ليس في الحقيقة إلا محمد المويلحي مؤلف هذا العمل العظيم، الذي يعتبر استجابة حساسة واعية لروح العصر، من حيث الالتفات إلى التراث والاعتزاز به أولًا، ثم من حيث الإسهام بالقلم في معركة النضال، ذات الميادين العديدة التي اختار منها المؤلف في هذا العمل، ميدان الإصلاح الاجتماعي، فكان صاحب أول رواية اجتماعية في الأدب المصري الحديث. وبعد، فهذا نموذج من "حديث عيسى بن هشام" نعيش فيه لحظات مع هذا الرائد من رواد الأدب الحديث بعامة، ورواد الفن القصصي بخاصة ... يقول المويلحي -على لسان ابن هشام- متحدثًا عن المحامي الشرعي، حين ذهب إليه الراوي مع الباشا ليوكلاه في قضية الوقف: " ... ووجدناه على سجادة الصلاة، وعلى يساره امرأة كانت السعلاة، فسمعناه يقول لها في تسبيحه؛ "أتستكثرين -أدر الله عليك خيره، وأبدلك زوجًا غيره- ما أخذته منك لاستنباط الحيلة في التفريق، واستخراج الحكم بالتطليق، فأبعدت عنك زوجًا تكرهينه، لتتبدلي منه زوجًا تحبينه؟ ثم إنه أحس بدخولنا من ورائه، فارتد إلى اتصال تسبيحه ودعائه، وانتفضت المرأة فتنقبت بخمارها، وتلفعت بإزارها، وخرجت وتركتنا، مع رجل يخدع الأنام بطول صلواته، ويتلو سورة الأنعام في ركعاته. إذا رام كيدًا بالصلاة مقيمها ... فتاركها عمدًا إلى الله أقرب وجلسنا مدة ننتظر خلاصة من هذا الرياء، وخلاص الملكين من صحيفته السوداء، وخلاصنا من هذا الكرب والعناء، وكنا نشاهد منه في خلال ذلك نظرات مختلسات نحو الباب، كأنه هو أيضًا في انتظار وارتقاب؛ إلى أن دخل علينا غلام يصيح به: "إلى متى هذه العبادة، فقد بليت السجادة، وحاجات الناس موكولة إليك، وقضاء مصالحهم موقوف عليك، وهذا دولة

البرنس ينتظرك في القصر منذ العصر، دع مدير الأوقاف ونقيب الأشراف"، فلم يعبأ المصلي بهذا الكلام، بل جهر بالآية من سورة الأنعام: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ لَا شَرِيْكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} . .....ثم تنحنح الشيخ وسعل، وبصق وتفل، وتسعط ثم تمخط، واقترب منا ودنا، ثم قال لنا: "المحامي"- دعونا من هذا الكلام، وقولا لنا: ما حقكم في الوقف، وما شرط الواقف، وكم يقدر ثمن العين، لنقدر قيمة الأتعاب بحسبه؟ "عيسى بن هشام"- إن لصاحبي هذا وقفًا عاقته عنه العوائق، فوضع سواه يده عليه، ونريد رفع الدعوى لرفع تلك اليد. "المحامي"- سألتك ما قيمة العين؟ "عيسى بن هشام"- لست أدري على التحقيق، ولكنها تبلغ الألوف. "المحامي"- لا يمكن أن تقل الأتعاب حينذاك عن المئات. "عيسى بن هشام" لا تشتط أيها الشيخ في قيمة الأتعاب، وارفق بنا، فإننا الآن في حالة عسر وضيق. "الغلام"- وهل ينفع في رفع الدعوى اعتذارًا بإعسار؟ ألم تعلم أن هذا "شغل" له "اشتراكات"، وللكتبة والمحضرين "تطلعات"، وأنى لكما بمثل مولانا الشيخ يضمن ربح الدعوى، وكسب القضية، بما يهون معه دفع كل ما يطلبه من قيمة أتعابه؟ وهل يوجد مثله أبدًا في سعة العلم بالحيل الشرعية، ولطف الحيلة في استمالة محامي الخصم، واستجلاب عناية القضاة؟ "عيسى بن هشام"- دونك هذه الدراهم التي معنا، فخذها الآن، ونكتب لك صكًا بما يبقى لحين كسب القضية. "المحامي"- بعد أن استلم الدراهم يعدها -أنا أقبل منك هذا العدد

القليل الآن، ابتغاء ما ادخره الله لعباده من الأجر والثواب في خدمة المسلمين، وعليك بشاهدين للتوكيل"1. ب- القصة التهذيبية البيانية: وقد اتجه مصطفى لطفي المنفلوطي في أعماله القصصية وجهة خاصة، لا يستوحي فيها المقامات ولا غيرها من قوالب التراث، ولا يحاكي القصص الغربي كما سيفعل آخرون فيما بعد، وإنما يقدم نوعًا من القصص، فيه بعض عناصر قصصية، ولكنها غير مكتملة من الناحية الفنية الخالصة؛ لأن إلى جانبها عناصر أخرى أقرب إلى فن المقال أو فن الخطابة، ومن هذا المزيج القصصي المقالي الخطابي، اتخذ المنفلوطي طريقته القصصية، هادفًا إلى غاية تهذيبية، وهي تعميق الإحساس بالمثل العليا والقيم الإنسانية الكبرى، كالوفاء والشرف والشجاعة، والفضيلة وحب الخير والحق والجمال، مستخدمًا للتعبير عن طريقته والوصول إلى غايته، أسلوبًا بيانيًّا أخاذًا، يقوم على تجويد التعبير، ورعاية موسيقى الكلام، والاهتمام برسم الصور، وإثارة العاطفة؛ كل ذلك من غير التزام للسجع، ولا لغيره من المحسنات، ومن غير محاكاة للمقامات ولا غيرها من مخلفات التراث، بل مع إبداع وابتكار وأصالة، وشخصية تتضح في الأسلوب كما تتضح في طريقة القصص، وغايته جميعًا2. وأعمال المنفلوطي القصصية من حيث مصدرها نوعان: نوع أساس فكرته وأهم أحداثه من أصل أجنبي، ونوع أساس فكرته وأحداث مخترع، أما النوع الأول، فيتمثل في روايته التي ترجمت له أحداثها، والتي معظمها

_ 1 انظر: حديث عيسى بن هشام ص103 وما بعدها. 2 انظر: تطور الرواية العربية ص178 وما بعدها، والأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف ص229، وما بعدها.

من النوع الذي يطلق عليه اسم "رومانس"1، وقد اعاد المنفلوطي كتابتها بطريقته وأسلوبه، متصرفًا بالحذف والزيادة والتعديل، حتى جعلها عملًا جديدًا أو كالجديد، وتلك الروايات هي: "الفضيلة" التي أساسها "بول وفرجيني" "لبرناردين دي سان بيير"، و"مجدولين" التي أصلها "تحت ظلال الزيزفون"، لـ"ألفونس كار"، و"الشاعر" التي مردها إلى سيرانو دي برجراك "لأدمون روستان"، و"في سبيل التاج" التي أصلها مسرحية شعرية "لفرانسوا كوبيه"، وقد قدمها المنفلوطي من جديد في شكل روائي، محولًا شعرها وحوارها إلى سرد نثري خاضع لأسلوبه البياني الخاص. ومن هذا النوع الأول -المعتمد على أصول أجنبية- بعض تلك القصص القصيرة التي ضمنها "نظراته" و"عبراته"، وهي في الأصل روايات أجنبية، حفظ المنفلوطي فكرتها، وتصرف فيها بأسلوبه الخاص، مثل: "الذكرى" التي أصلها "آخر ملوك بني سراج" "لشاتوبريان" و"الشهداء"، التي أصلها "أتالا" للكاتب الفرنسي نفسه، ومثل "الضحية" التي أصلها "غادة الكاميليا" لإسكندر دوماس الابن"2. وأما النوع الثاني المخترع، فتمثله قصص قصا غير ناضجة قد ضمنها كتابيه "النظرات" و"العبرات" وعالج فيها مواقف اجتماعية وإنسانية عديدة، واهتم بشخصيات بائسة، كاللقطاء وضحايا الخمر والمعدمين والمظلومين، واعتمد فيها على طريقته البيانية الأخاذة، وقصد من ورائها إلى غايته الأدبية العامة، وهي التهذيب وتعميق الإحساس بالفضيلة والخير، ومحاربة بعض المفاسد والعيوب الاجتماعية، وبرغم عدم اكتمال قصص المنفلوطي القصيرة من

_ 1 انظر: An Introduciton to Engbish novel,: kettle. pp. 31-35 2 انظر: حولية معهد الدراسات الشرقية سنة 1959 جـ1 ص145 ... هنري بريز، والفن القصصي في الأدب المصري الحديث للدكتور محمود شوكت ص80، وتطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص179.

الناحية الفنية1، فإنه يعتبر صاحب المحاولات الاولى لهذا الفن في الأدب المصري الحديث. وبرغم تصرفه في الروايات ذات الأصول الأجنبية، وبرغم طريقته غير الدقيقة في الكتابة القصصية بعامة، واعتماده على الاسترسال الإنشائي، والانفعال العاطفي الحزين، والبعد عن التحليل والتدقيق في رسم الشخصيات2؛ فإنه يعتبر دعامة من دعامات الفن القصصي في الأدب المصري؛ فهو أول من صنع جمهورًا كبيرًا للفن القصصي، وحمل القراء على اعتبار القصص، والروايات نماذج أدبية عالية، لا تقل روعة عن الشعر، وبهذا يعتبر المنفلوطي مرحلة هامة في تاريخ أدب مصر الحديث بعامة، وفي تاريخ فنها القصصي بصفته خاصة3. وهذا نموذج من قصصه القصيرة التي يمكن أن تسمى أيضًا: "المقالة القصصية" والتي تعتبر المحاولات الأولى لفن القصة القصيرة في الأدب المصري الحديث. يقول المنفلوطي في "قصة الكأس الأولى" التي حكى فيها أنه سمع أنين جار له في هجعة الليل، فذهب يعوده ويعينه على أمره، وحين دخل إلى حجرة هذا الجار سأله عما به: " ... فزفر زفرة كادت تسقط له ضلوعه، وأجاب: أشكو الكأس الأولى، قلت: أي كأس تريد: قال: أريد الكأس التي أودعتها مالي وعقلي وصحتي وشرفي، وهأنذا اليوم أودعها حياتي، قلت: قد كنت نصحتك وعظتك وأنذرتك بهذا المصير الذي صرت إليه، فما أجديت عليك شيئًا، قال: ما كنت تعلم حين نصحني من غوائل هذا العيش النكد أكثر مما أعلم، ولكنني كنت شربت الكأس الأولى، فخرج الأمر من يدي، كل كأس شربتها جنتها على الكأس الأولى، أما هي؛ فلم

_ 1 انظر: الأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف ص230. 2 انظر: الفن القصصي لشوكت ص58 وما بعدها، وفي الأدب المصري الحديث للدكتور القط ص81 وما بعدها، وتطور الرواية العربية للدكتور بدر ص180 وما بعدها. 3 المصدر الأخير ص184.

يجنها على غير ضعفي، وقصور عقلي عن إدراك خداع الأصدقاء والخلطاء، فلم تكن شهوة الشراب مركبة في الإنسان كبقية الشهوات، فيعذر في الانقياد إليها كما يعذر في الانقياد إلى غيرها من الشهوات الغريزية، فلا سلطان لها عليه إلا بعد أن يتناول الكأس الأولى، فلم يتناولها؟ يتناولها؛ لأن الخونة الكاذبين من خلانه، وعشرائه خدعوه عن نفسه في أمرها، ليستكملوا بانضمامه إليهم لذتهم التي لا تتم إلا بقراع الكئوس، وضوضاء الاجتماع، ولو علمت كيف خدعوه وزينوا له الخروج عن طبعه ومألوفه، وأية ذريعة تذرعوا بها إلى ذلك؛ لتحققت أنه أبله إلى النهاية من البلاهة، وضعيف إلى الغاية التي ليس وراءها غاية1 ... ". حـ- الرواية التعليمية التاريخية: ظهر هذا الاتجاه الروائي التاريخي على يد جورجي زيادن2، أحد إخواننا الشوام المسيحيين المهاجرين إلى مصر، والمستوطنين لها, وقد كان جورجي زيادن إلى جانب اشتغاله بالصحافة، يميل إلى كتابة التاريخ العربي والحضارة الإسلامية، مجازيًا في ذلك هذا المثيل الثقافي العام الذي غلب على تلك الفترة، وجذبها إلى الاعتزاز بالماضي والعمل على كشف الغطاء عنه، وقد رأى جورجي زيدان أن كتب التاريخ تتجه إلى المثقفين وحدهم، إن لم تقتصر على المتخصصين في التاريخ والمشتغلين بالحضارة؛ فأراد أن يكسب للتاريخ أكبر عدد من القراء العاديين، فاختار له شكل الرواية التي تيسر

_ 1 النظرات جـ1 ص37 وما بعدها. 2 ولد في بيروت سنة 1861، وتعلم أولًا في بعض مدارسها الابتدائية، ثم درس العلوم الإعدادية، والتحق بالقسم الطبي بالمدرسة الأمريكية، وفي أوائل السنة الثانية اضطر إلى مغادرة البلاد إلى مصر لتكميل دراسته بها، غير أنه لم يصبر على طول مدة الدراسة، فاشتغل بتثقيف نفسه، وعمل بالصحافة حينًا، ثم رافق الحملة إلى السودان سنة 1884 كمترجم. وزار بعد ذلك لندن سنة 1886. وعاد إلى مصر فأدار أعمال المقتطف، ثم استقال سنة 1888، وعكف على الكتابة ... وتولى التدريس حينًا ... ثم أصدر مجلة الهلال سنة 1892. وظل يكتب للهلال ويؤلف في التاريخ وغيره إلى أن توفي سنة 1914. انظر: تاريخ آداب اللغة العربية جـ4 ص283 وما بعدها.

قراءته وتجذب القراء إليه1. وهكذا قدم سلسلة من الروايات التاريخية التي تضم في ثنايا البناء القصصي أطراف التاريخ الإسلامي في المشرق والمغرب، فقدم "فتاة غسان" لعرض الأحداث التاريخية التي صاحبت الغزوات الإسلامية الأولى، والتي شاهدت ظهور الإسلام، وانتشاره في بلاد العرب والشام والعراق، وقدم "أرمانوسة المصرية"، لعرض الأحداث التاريخية التي صاحبت فتح العرب لمصر، وكتب "عذراء قريش" و"غادة كربلاء" و"الحجاج بن يوسف" للتأريخ للوقائع التي حدثت خلال الصراع السياسي، منذ أواخر عهد عثمان إلى سيطرة العهد الأموي، وكتب "أبا مسلم الخرساني" و"العباسة" و"الأمين والمأمون" ليفصل القول في أحداث قيام الدولة العباسية، ثم في الصراع بين الرشيد والبرامكة، وأخيرًا في الصراع بين العرب والفرس.. وأخرج "فتاة القيروان" لتسجيل أحداث الفتح الإسلامي للمغرب، وأذاع "فتح الأندلس" و"عبد الرحمن الناصر"؛ ليقدم أهم أحداث الإسلام والمسلمين في الفردوس المفقود. ولم يكتف جورجي زيدان بتقديم التاريخ الإسلامي القديم، بل كان أحيانًا يقطع التسلسل التاريخي ليقدم رواية ذات أحداث حديثة، كما فعل في رواية "الانقلاب العثماني" التي أراد أن يسجل بها سقوط السلطان عبد الحميد، وكفاح الأتراك من أجل الدستور، وهذه الرواية -بالإضافة إلى ثلاث روايات أخرى- تمثل حصة التاريخ الحديث من رواياته، أما تلك الروايات الثلاث، فهي: "استبداد المماليك" و"المملوك الشارد" و"أسير المتمهدي2". وهي تعالج أحداث عصر المماليك، ثم عصر محمد علي، ثم ثورة المهدي.

_ 1 انظر: مقدمة الحجاج بن يوسف لجورجي زيدان. وتطور الرواية العربية 92-93. 2 انظر: الفن القصصي في الأدب المصري الحديث للدكتور محمود شوكت ص145 وما بعدها، وتطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص94 وما بعدها، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص285.

وليس من شك في أن جورجي زيدان قد تأثر ببعض الكتاب الغربيين ممن اشتهروا بالرواية التاريخية، مثل "إسكندر دوماس الأب"، الذي كتب سلسلة من الروايات عن التاريخ الفرنسي، تصل إلى عصر لويس الحادي عشر، ومثل "والتر سكوت" الكاتب الإنجليزي الذي يعد من أبرز رواد هذا النوع من الروايات1. على أن جورجي زيدان قد خالف هذين الكاتبين في أن كلا منهما متأثر بالإحساس القومي تأثرًا جعلهما يستخدمان التاريخ في إبراز هذا الإحساس. أما جورجي زيدان، فليس وراء كتابته إحساس قومي، وإنما وراءها تعليم للتاريخ بشكل جذاب، ومن هنا جعل الفن القصصي في خدمة التاريخ على عكس الكاتبين الغربيين، وتبعًا لعدم اهتمام جورجي زيدان بالجانب القومي. كان لا يلجأ دائما إلى الفترات المشرقة التي تمثل أمجاد العرب والإسلام، وإنما كان يلجأ إلى المواقف الحساسة، التي تحوي صراعًا بين مذهبين سياسيين أو عنصرين بشريين، يتنازعان على السلطان والنفوذ. ويدخل في هذا الباب ما يلاحظ من إنصاف جورجي زيدان للشعوب الأعجمية، واهتمامه بالأديرة والرهبان، وتصويره -أحيانًا- لبعض الشخصيات الكبيرة في تاريخنا بصورة الوصوليين الذين يحاولون الكسب والسيطرة، ولو بقتل أقرب الناس إليهم2. وتحوي كل رواية من روايات جورجي زيدان عنصرين أساسيين، الأول عنصر تاريخي يعتمد على الحوادث والأشخاص التاريخية، والثاني عنصر خيالي يقوم على علاقة غرامية بين محبين، تقف بينهما الحوائل، حتى تقارب الأحداث التاريخية النهاية، فتنمحي تلك الحوائل، ويتم اجتماع الشمل. ففي "أرمانوسة المصرية" مثلًا يتناول العنصر التاريخي فتح العرب لمصر، ويقوم العنصر الخيالي على حب "أرمانوسة" المسيحية ابنة المقوقس

_ 1 انظر: تطور الرواية العربية ص90-92. وانظر أيضًا. The Cambridge history of English Literature. Vol. 12 p.2 2 تطور الرواية العربية ص90-94، والفن القصصي ص145.

"لأركاديوس" ابن قائد الروم، والحائل بين الحبيبين هو طلب الإمبراطور نفسه الزواج من "أرمانوسة"، حتى ليوشك الزفاف أن يتم بإرسال الفتاة إلى القسطنطينية، ثم تحدث المعجزة، وتحل العقدة حين تعود "بأرمانوسة" حملة عمرو بن العاص، وهو قادم إلى مصر، وتصل "أرمانوسة" مع الحملة إلى الإسكندرية معززة مكرمة، لتلتقي بحبيبها "أركاديوس"، وتتزوج به بعد نهاية الفتح1. وتكرر العقدة القصصية على هذا الوجه في روايات جورجي زيدان، واختياره للشخصيات إما خيرة أبدًا، وإما شريرة أبدًا ليمثل بينها الصراع، وعدم اهتمامه بالتحليل للأشخاص والترابط، والنمو للأحداث، واعتماده كثيرًا على المغامرة والمفاجأة والصدفة؛ كل ذلك أضعف رواياته من الناحية الفنية2، ومع ذلك فروايات جورجي زيدان تمثل المرحلة الأولى من مراحل الرواية التاريخية، التي سوف تصل إلى مستوى النضج في فترات تالية، حيث تهدف إلى بعث الروح القومي، وتتبع الأسلوب الفني المتلافي للأخطاء التي وقع فيها جورجي زيدان، صاحب الفضل في ريادة هذا الطريق3. وهكذا نجد جورجي زيدان قد استفاد من التراث في المادة التاريخية، ثم في بعض العناصر القصصية، التي أقام عليها الأحداث الخيالية في رواياته، وكان مصدره في المادة التاريخية كتب التاريخ، كما كان مصدره في بعض العناصر القصصية، القصص الشعبي.. كذلك استفاد الشكل الروائي من الأدب الغربي وخاصة كتابات الروائيين التاريخيين، وإن خالفهم فكان مؤرخًا في قالب رواية، وكانوا روائيين بمادة تاريخ. وهذا نموذج من كتابة جورجي زيدان الروائية التاريخية، وهو من رواية

_ 1 المصدر الأخير ص145-146. 2 الفن القصصي ص145-151، وتطور الرواية العربية ص97-106، وانظر: في القيم الفنية للرواية الصحيحة Aspects of the novel: Forster. 3 انظر: الفن القصصي ص151-152، وتطور الرواية العربية ص106.

"الحجاج بن يوسف"، وفيه يصور مجلس الشعراء عند سكينة بنت الحسين، ويدير الحديث حول "حسن"، أحد رجال عبد الملك بن مروان، وليلى الأخيلية الشاعرة. يقول جورجي زيدان: "فدخلت ودخل هو في أثرها، بعد أن خلع نعليه بالباب، ووضعهما في ناحية يعرفها، ثم أطل على القاعة فإذا هي واسعة، وقد فرشت أرضها بالطنافس الثمينة وحولها الوسائد المزركشة، وفي صدرها ستارة عليها صور أشجار وطيور ملونة، جلست خلفها سكينة، ونساؤها بحيث ترى ضيوفها ولا يرونها. ورأى في القاعة جماعة قد تصدر منهم خمسة، عليهم لباس البدو، جلسوا في صدر القاعة، فقال حسن: ومن هؤلاء المتصدرون؟ قالت ليلى: هم الشعراء. ألا تعرف أحدًا منهم؟ قال: أظنني أعرف أحدهم، الجالس على الوسادة المثنية؛ فقد عرفته من ضخامة بدنه وعبوسة وجهه وغلظه. أليس هو الفرزدق؟ قالت: بلى، هو بعينه، ألا تعجب من اجتماعه هو وجرير في مجلس واحد، مع ما اشتهر بينهما من المهاجاة؟ قال: وأيهم جرير؟ قالت: هو ذاك الذي كف شعره وأدهن، ومتى تكلم سمعت لكلامه غنة يخرج بها الكلام من أنفه كأن فيه نونًا. قال: ومن ذلك الرجل القصير الدميم، العظيم الهامة مع اجمراره؟ قالت: هو كثير عزة العاشق المشهور. قال: أعاذ الله عزة من منظره، فإنه قبيح! ومن هو ذاك الشاب الجميل الطويل بين المنكبين الحسن البزة، وكأنه جالس القرفصاء؟ قالت: هو جميل بثينة، أحد عشاق بني عذرة، ألا تراه حزينًا؟ فإنه علق بحب بثينة، ولما اشتهر حبه لها منعه أهلها منها ... "1.

_ 1 انظر: الحجاج بن يوسف لجورجي زيدان ص49 وما بعدها.

د- ميلاد الرواية الفنية: في أواخر تلك الفترة وصلت الرواية إلى نهاية الطرف الثاني، الذي يستدبر التراث ويحاكي قصص الغرب، ويمكن اعتبار ذلك رد فعل لما سبقه من محافظة اختلفت درجاتها، وبالغ بعض المتشبثين بها حتى كتبوا روايات في لغة المقامات. وقد تمثل هذا الاتجاه المتجه تمامًا إلى القصص الغربي في رواية "زينب" للدكتور محمد حسين هيكل1، الذي بدأ كتابتها وهو في باريس يدرس الاقتصاد السياسي سنة 1910، وأكملها سنة 1911، ونشرها سنة 1912، وتعتبر "زينب" أول رواية فنية في تاريخ الأدب المصري الحديث، وذلك لواقعيتها وسيرها على القواعد الفنية للرواية إلى حد كبير2.

_ 1 ولد في كفر غنام بمركز النسبلاوين سنة 1888 لأسرة ريفية مصرية لها بعض الثراء. وتعلم في الكتاب، ثم في مدرسة الجمالية الابتدائية، ثم في الخديوية الثانوية، ثم في الحقوق وتخرج سنة 1909، وتفتحت ميوله الأدبية منذ كان في الحقوق، وكتب بعض المقالات في "الجريدة" ... ثم سافر إلى فرنسا ليتم دراسته العليا، فالتحق بكلية الحقوق بباريس، وحصل على درجة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي سنة 1912، وحين عاد إلى مصر اشتغل بالمحاماة في المنصورة. ومنذ سنة 1917 أخذ يلقي بعض المحاضرات في الجامعة الأهلية، وحين أنشأ حزب الأحرار سنة 1922 جريدة السياسة اختير هيكل رئيسًا لتحريرها. ومنذ سنة 1927 أصدر ملحقًا للسياسة باسم السياسة الأسبوعية. وكان خاصًا بالأدب والنقد، وفي سنة 1937 عينه محمد محمود وزيرًا للدولة، ثم جعل وزيرًا للمعارف، ثم عين سنة 1945 رئيسًا لمجلس الشيوخ، وظل كذلك حتى سنة 1950، وتفرغ بعد ذلك للكتابة التي كانت دائمًا شغله إلى جانب مناصبه حتى توفي سنة 1956. انظر: الأدب العربي المعاصر ص270 وما بعدها. Studies on the Civilization of Islam: Gibb. pp.273-275 2 اقرأ عن زينب في: الفن القصصي في الأدب المصري الحديث ص220 وما بعدها، وفجر القصة ليحيى حقي ص38 وما بعدها. ودراسات في الرواية المصرية للدكتور الراعي ص23=

ورواية "زينب" تصور واقع الريف المصري في تقاليده القاسية وطبيعته السمحة؛ فهي تحكي قصة شاب مثقف من أبناء الطبقة المتوسطة اسمه حامد يجب ابنة عم له اسمها عزيزة، وتحاول التقاليد القاسية في الريف دون التعبير عن هذا الحب، بل تقسو التقاليد أكثر فتفرض على عزيزة زوجًا آخر يختاره أهلها، ويحرم منها حامدًا نهائيًا، ولكنه يجد بعض العزاء، والتنفيس عند فتاة ريفية من الطبقة الكادحة، اسمها "زينب" تسمح ظروفها كعاملة أن تلتقي بحامد، وتذيقه بعض متع الحب، ولكنها لا تفهم الفتى المثقف ابن الطبقة الوسطى حتى الفهم؛ فتفضل عليه إبراهيم رئيس العمال الذي تعمل تحت إشرافه في تنقية الحقل من دودة القطن، ويتم حرمان حامد من زينب، حين يزوجها أهلها، فيغارد القرية نهائيًا، أما زينب فنظرًا لكونها لم تستطع الجهر بحب إبراهيم؛ بسبب قسوة التقاليد، فإن أهلها يزوجونها لرجل آخر لا تحبه، وإن كنت تخلص له وتؤدي حقوق الزوجية بصبر وأمانة، ويبتعد إبراهيم -كما ابتعد حامد- حيث يجند للخدمة في الجيش، ويسافر إلى السودان، تاركًا منديله لزينب تذكار حب. وتنتهي الرواية بمرض زينب من أثر الجوى، وتصاب بالسل، ثم تموت. كل هذه الأحداث التي تصور قسوة التقاليد، وتفريقها بين حامد وعزيزة، ثم بين حامد وزينب، وأخيرًا بين زينب وإبراهيم، والتي يمكن تلخيصها في "عدم الاعتراف بمشروعية الحب، وعدم التسليم بحق الإنسان في اختيار قرينة الذي يهتف به قلبه"1؛ كل هذه الأحداث تدور على

_ = وما بعدها، وتطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر ص317 وما بعدها. ومجلد السنة الثانية من مجلة البيان سنة 1912. واقرأ عن قواعد الرواية الفنية في: The Rise of the novel: Watt Aspects of the nvel: Forster The strueture of the novel, Muir 1 تطور الرواية العربية ص333.

مسرح الريف المصري، الذي صوره المؤلف تصويرًا شاعريًا مثاليًا أخاذًا، وهذا التصوير إذا أخذ مستقلًا كان من أروع ما كتب عن الريف من أدب، ولكنه إذا أخذ كمسرح لتلك الأحداث القاسية الحزينة، كان فيه كثير من التناقض، الذي يشبه تناقض "ديكور" المسرحية الحزينة، حين يجعل بهيجًا مشرقًا. وقد أخذ هذا على مؤلف "زينب1"، ولكن بعض النقاد يرى أن وصف الريف على هذا النحو قد جاء قصدًا، وأنه يمثل عنصرًا قائمًا بذاته في الرواية2، وكأن المؤلف قد قصد به أن يكون تعويضًا من الطبيعة عما أصاب أهل الريف من الحرمان وقسوة الظروف3. وليس من شك في أن الدكتور محمد حسين هيكل، قد اعتمد في روايته على محاكاة ما قرأ من أدب فرنسي، وخاصة أدب الرومانسيين، وليس من شك أيضًا في أنه استوحى خياله، وعاطفته المشبوبة بسبب بعده عن مصر وحنينه إلى الوطن وريفه، الذي يمثل أصل بقعة فيه، واعتماد المؤلف على محاكاة ما قرأ في الأدب الفرنسي، يفسر ما يتخلل لوحة روايته أحيانًا من خطوط وألوان غريبة عن البيئة المصرية الريفية، مثل تصوير زينب العاملة "بواسة حضانة" على حد تعبير الأستاذ يحيى حقي، كأنها بطلة من أبطال قصة فرنسية. ومثل تصوير حامد متقدمًا إلى شيخ صوفي ليحدثه عن خطاياه؛ كأنه فتى مسيحي يتقدم للاعتراف أمام قسيس، ومثل رسم هذه الصورة الدرامية لنهاية زينب، حين تلفظ أنفاسها والدم ينزف من فمها، فتمسحه بمنديل حامد، وكأنها "غادة الكاميليا"4. أما عاطفة المؤلف المشبوبة وحنينه الملتهب إلى مصر، فيفسر إفراطه في وصف الريف وإسهابه في تصوير محاسنه؛ لأنه كان يراه من خلال خياله،

_ 1 المصدر السابق والصفحة نفسها، ودراسات في الرواية المصرية ص39 وما بعدها. 2 فجر القصة ص47-48. 3 انظر: زينب ص18. 4 فجر القصة ص50.

ويجمله بما تخلعه عليه عواطفه، شأنه في ذلك شأن أي شاب وطني يغترب عن بلده الحبيب1. وهذان العيبان -عيب الخطوط والألوان الأجنبية، وعيب الإفراط في وصف الريف وتصوير محاسنه، بطريقة لا تخدم أحداث الرواية، وبيئة أبطالها- تضاف إليهما بعض العيوب الأخرى، مثل: عدم الدقة في رسم الشخصيات، وعدم إنطاقها بما يلائم مستواها، وإنما بما يلائم المؤلف نفسه، ثم عدم التسويغ المقنع لبعض الأحداث والتصرفات2، إلى غير ذلك من المآخذ التي لا تجعل من "زينب" رواية فنية كاملة النضج، وإن كانت بداية طيبة، ومبكرة للرواية الفنية في الأدب المصري الحديث. بقي جانب يتصل بلغة هذه الرواية، وهو استخدام المؤلف فيها للعامية في الحوار كثيرًا ثم في السرد قليلًا، أما الحوار فيمكن تسويغ استخدام العامية فيه، بدافع فني هو الرغبة في تحقيق الواقعية، وإنطاق الأشخاص بلغة تلائمهم، وتحدد أبعادهم، خصوصًا وأكثرهم من الفلاحين، أما السرد فلا يبرر استخدام المؤلف للعامية فيه دفاع فني مقنع، وأغلب الظن أن الدافع الحقيقي كان عجز المؤلف في تلك المرحلة المبكرة من حياته الأدبية عن العثور على جميع الألفاظ والتراكيب الفصحى، التي تؤدي دلالات شعبية ريفية يريد أن يعبر عنها، وربما يؤكد هذا ما تورط فيه المؤلف من أخطاء نحوية تناثرت في الرواية. ومع كل ذلك، فالدكتور محمد حسين هيكل يقف في طليعة من كتبوا الرواية الفنية، ويعتبر رائدها الأول في الأدب الحديث، ومن الطريف أنه حين نشرها أول مرة سنة 1912 استحى أن يضع عليها اسمه، بل استحى أن يسميها رواية أو قصة، وإنما كتب عليها "مناظرة وأخلاق ريفية، بقلم

_ 1 انظر: زينب ص11 وفجر القصة ص48. 2 انظر: تطور الرواية العربية ص323-331. ودراسات في الرواية المصرية ص39-45. وفجر القصة ص49-52.

فلاح مصري"، وقد فسر ذلك بعد هذا، فبين أنه خاف على سمعته كمحام من أن يعاب عليه كتابة الروايات؛ لأن الناس في تلك الأحايين لم يكونوا ينظرون إلى الروائيين بعين الاحترام1، وربما كان من الأسباب ما ذكره الأستاذ يحيى حقي، من اشتمال الرواية على أحداث حب، لم تكن البيئة الاجتماعية تحترم أصحابه في تلك الآونة2، ولعل السبب الحقيقي، ليس خجل المؤلف من أن يعرف بكتابة الرواية؛ لأن غيره ممن كانوا أكثر تزمتًا قد عالجوا هذا الفن، وإن كان علاجهم لها بطريقة مخالفة، مثل الشيخ مصطفى لطفي المنفلوطي، ولعل السبب أيضًا ليس اشتمال الرواية على أحداث حب، فإن روايات المنفلوطي الشيخ الوقور قد اشتملت على تلك الأحداث، مما يدل على أن البيئة لم تكن تزدري الرواية الجيدة أولًا، ولا تأنف من اشتمالها على أحداث حب ثانيًا. والمعقول أن يكون سبب خجل المؤلف من تسميتها رواية، وإخفاء نفسه تحت لقب فلاح مصري، وهو إحساسه بأنه هو البطل حامد، وبأن أهم الأحداث التي في روايته واقعية، تجعلها أشبه بترجمة ذاتية، ولذا استحى المؤلف أن يقول للناس -وهو محام ناشئ-: إنه كان يحب العاملة الريفية زينب، ويمارس معها بعض مظاهر الحب الجسدية، وما إلى ذلك من أحداث، لا يليق بالمؤلف أن تنسب إليه، وهو رجل يعد نفسه للمناصب الكبرى، وينتمي إلى حزب سياسي له خصوم يتلمسون زلات رجاله3. وهذا جزء من رواية زينب، نعيش فيه قليلًا مع أول رواية فنية مصرية، ونتبين معه أهم خصائصها، يقول هيكل في أول الفصل الأول: "في هاته الساعة من النهار، حين تبدأ الموجودات ترجع لصوابها، ويقطع الصمت المطلق الذي يحكم على الفلاحين طول الليل، أذان المؤذن، وصوت الديكة

_ 1 انظر: زينب ص7، وفجر القصة ص43 وما بعدها. 2 فجر القصة ص43-44. 3 المصدر السابق ص44.

ويقظة الحيوانات جميعًا من راحتها، وحين تتلاشى الظلمة ويظهر الصباح رويدًا رويدًا من وراء الحجب -في هاته الساعة، كانت زينب تتمطى في مرقدها، وترسل في الجو الساكن الهادئ تنهدات القائم من نومه، وعن جانبها أختها وأخوها ما يزالان نائمين، فانسحبت هي من بينهما، وبعيون ما يزال فيها أثر النوم، نظرت لكل ما حولها، ولم يدعم نسيم الصباح تترك مكانها، بل استندت إلى الوسادة، وجاهدت أن تنظر لعلها تر ى ما في صحن الدار، فلم تجد شيئًا، وأدارت رأسها، فإذا باب الغرفة موصد، ولا صوت حولها، إلا ما يتنادى به رسل الصلاح من أطراف القرية. "بقيت في مكانها هنيهة ساكنة لا تبدي حراكًا، ثم فردت ذراعيها من جديد، وأرسلت في الهواء تنهداتها، وتركت نفسها تذهب في أحلام يحييها النسيم، حتى أحست بالباب تفتحه أمها راجعة من أدوار "الملية"، وهنالك التفتت إلى أختها تهزها لتستيقظ، لكن الصغيرة كانت في نوم عميق فلم تنتبه، وتقلبت كأن بها ضيقًا ممن يقلقها في مضجعها ... وأخيرًا نادتها أمها: - يا زينب.. - نعم.. "ولم تزد على هذا الجواب كلمة، وبعد أن استيقظت أختها، التفت إلى أخيها وأيقظته وحدقت نحو الشرق، فإذا الأفق متورد، والشمس في لونها القاني، والسماء قد خلعت قميص الليل، هنالك قامت فأوقدت نارًا، و"لدنت" فوقها رغيفًا لكل منهما، ولم تنس أمها وأباها. "دخل أبوها راجعًا من الجامع، وقد قرأ الورد وصلى الفجر، وما كان يتخطى عتبة الدار، حتى نادى "يا محمد"، وسأله إن كان قد استيقظ بعد، وإن كان قد أعد عمله. "وجلست العائلة جميعًا حول "المشنة"، وأكل كل منهم رغيفه "بحصوة" ملح، ثم قال الرجل وابنه إلى عملهما، أما زينب، فانتظرت مع أختها أن يمر بهما إبراهيم ليذهبوا جميعًا إلى مزرعة السيد محمود لتنقية القطن، وقد كان

في أملهم جميعًا أن ينتهوا اليوم من بر الترعة الغربي، أو كما يسميه كاتب المالك "نمرة20"؛ لينتقلوا في الغد إلى نمرة 14. "نزلتا حين رأتا إبراهيم ومن معه مقبلين، وتهادى الكل "صباح الخير"، ثم خرجوا من الحارة إلى سكة البلد، ثم منها إلى سكة الوسط، وهكذا كانوا عند نمرة 20 ساعة مرور وابور الصباح، ولم يتمهلوا أن أخذ كل منهم خطه على وجه الترتيب الذي كانوا عليه أمس.. ارتفعت الشمس حين نقوا خطين، وأرسلت بشعاعها تغمر هامة الشجرات التي ما تزال في مبتدأ حياتها، ومع ذلك يعني بها الفلاح والمالك أكثر من عنايتهما بأبنائهما، واصطفوا للوجه الثالث، بعد أن فصلهم عن الأولين مصرف، فلم ينس إبراهيم أن ينبههم إلى أن هذه الجهة "أغلت" من سابقتها، وتستحق لذلك عناية أكبر، وأنذرهم أنه سيدقق في مراقبتهم، ومن وجد وراءه شيئًا "أوراه شغله1". هـ- ميلاد القصة القصيرة: وإذا كانت قصص المنفلوطي -التي احتواها كتاب "العبرات"- تمثل الريادة الأولى غير الناضجة لفن القصة القصيرة2؛ فإن قصص محمد تيمور3

_ 1 زبيب ص13 وما بعدها. 2 اقرأ المقال الذي عنوانه: "القصة التهذيبية البيانية" ص179 من هذا الكتاب. 3 ولد سنة 1892، ونشأ في بيت أبيه العالم الأديب أحمد تيمور، وتلقى علومه أولًا في مصر حتى أتم مرحلة الثانوية، ثم سافر إلى أوروبا لاستكمال دراسته العالية، فاتجه أولًا إلى برلين لدراسة الطب، ولكنها ما لبث أن تركها إلى باريس لدراسة القانون، غير أنه وجه كل همه إلى قراءة الأدب، ومشاهدة المسرح، فلم يوفق في دراسته القانونية النظامية على حين نجح في دراسته الفنية الحرة، وبعد ثلاث سنوات عاد إلى مصر في إجازة سنة 1914، وكانت الحرب العالمية الأولى قد شبت، فحالت بينه وبين العودة إلى باريس، فاتجه إلى مدرسة الزراعة العليا، ولكنه لم يواصل الدراسة بها لعدم اتفاقها مع ميوله، وانصرف إلى الحق الأدبي والفني، فاشتغل بالمسرح تأليفًا وتمثيلًا، ثم عين أمينًا للسلطان حسين، فهجر التمثيل واقتصر على التأليف، وفي هذه الفترة كتب سلسلة قصصه =

التي ضمتها مجموعة "ما تراه العيون1" تمثل الريادة الناضجة والأدنى إلى الكمال في هذا الفن، فهي خطوة تالية لخطوة المنفلوطي2، وأفسح منها وأقرب إلى المعالم الصحيحة3 التي أرساها كتاب هذا النوع الأدبي في الآداب التي سبقت إليه، وهي الآداب الغربية. وقد كان محمد تيمور على صلة قوية بالفن القصصي الغربي، وكان

_ = القصيرة "ما تراه العيون"، وبعد فترة ترك العمل في القصر، وواصل العمل في المسرح والكتابة في الأدب، وحين شبت ثورة سنة 1919 أسهم فيها بجهده الفني، وكان من ذلك مسرحية العشرة الطيبة، التي تضمنت نقدًا لاذعًا لقصر السلطان فؤاد وحاشيته ووزرائه، ثم مات محمد تيمور سنة 1921، وهو في ريعان الشباب. اقرأ عنه في: مؤلفات محمد تيمور -المقدمة التي كتبها شقيقه محمود للمجلد الأول الذي عنوانه "وميض الروح"، وفي فجر القصة ليحيى حقي ص56 وما بعدها، وفي القصة القصيرة في مصر لعباس خضر ص109 وما بعدها. 1 نشرت هذه المجموعة قصصًا مفرقة أول الأمر في "السفور" خلال حياة المؤلف ومنذ 1917، ونشرت بعد ذلك مجموعة سنة 1923 ضمن "مؤلفات محمد تيمور"، وهو الكتاب الذي أخرجه شقيقة محمود تيمور، جامعًا فيه كل مؤلفات الفقيد القصصية والمسرحية والنقدية، والشعرية في ثلاثة مجلدات، وكانت هذه القصص ضمن محتويات المجلد الأول الذي عنوانه: "وميض الروح"، ثم نشرت وحدها سنة 1927، وقد ألحقت بها لوحات قصصية باسم "خواطر"، وأخيرًا نشرت ضمن سلسلة المكتبة العربية التي تنشرها وزارة الثقافة. 2 تحوي النظرات بعض القصص القصيرة غير الناضجة إلى جانب المقالات والخواطر، وقد نشرت أولًا في المؤيد، ثم جمعت في ثلاثة أجزاء، أما العبرات فجميعها قصص قصار مؤلفة أو مترجمة، وهي تتبع طريقة المنفلوطي التي سبق عنها الحديث، وقد نشرت سنة 1915. اقرأ ما كتب بعنوان: "القصة التهذيبية البيانية" ص179 من هذا الكتاب. 3 عن أهم معالم القصة القصيرة اقرأ: Reading the short story: H. shaw and D. Bement واقرأ أيضًا: short story writing: s. A. Moseley وكذلك: The Encyclopeadia Britannica,: Val.20

متأثرًا إلى درجة كبيرة "بموباسان" القصصي الفرنسي الشهير1، كما كان محمد تيمور كذلك على صلة بالمحاولات التي سبقت محاولته في الأدب المصري الحديث، وكان متأثرًا أيضًا بما كتبه المنفلوطي، ولذا نجد في قصصه القصيرة الأولى آثار ذلك كله؛ ففيها كثير من المعالم الفنية للقصة القصيرة كما عرفت عند كتاب الغرب، وعند "موباسان" بصفة خاصة، ويبدو ذلك في واقعيته الصادقة، واتجاهه إلى الأحداث العادية والمشكلات اليومية، واهتمامه بالأناس البسطاء، ثم نجد في قصص محمد تيمور الأولى أيضًا بعض آثار المنفلوطي، التي تبدو أحيانًا في إدارة الكاتب الحديث حول نفسه، وكأنه بطل من أبطال القصة، كما تبدو كثيرًا في خلق الأجواء العاطفية، وإثارة المشاعر الحانية نحو الفقراء والمساكين وضحايا المجتمع على وجه العموم، ثم تبدو أحيانًا أخرى في التقديم للقصة بمقدمة تصور الحالة النفسية للكاتب، والغالب على هذه الحالة أن تكون حالة ضيق، أو حزن أو قلق غير معروفة الأسباب من جانب الكاتب، وإن كانت القصة بعد ذلك تفسر هذه الأسباب، أو توحي بها على أقل تقدير. وأولى قصص محمد تيمور، وهي قصة "في القطار" التي نشرها سنة 1917 2. والتي تمثل ميلاد القصة القصيرة الفنية في الأدب المصري الحديث3، تؤكد هذه الحقائق، كما تؤكد في الوقت نفسه سيطرة روح الفترة

_ 1 اقرأ شفاء الروح -الفصل الأول، ففيه يقرر محمود تيمور أن شقيقه امتدح له "موباسان" غير مرة حين فتن به، واقرأ مقدمة قصة "ربي لمن خلقت هذا النعيم" لمحمد تيمور في مجموعة ما تراه العيون، ففيها يصرح بأنه يقتبس عن "موباسان". 2 نشرت في مجلة السفور التي كان يصدرها عبد الحميد حمدي من سنة 1915 إلى سنة 1924. 3 هذا ما يراه الأستاذ عباس خضر حسب استقرائه، وهو ما نطمئن إليه بالنسبة للأدب المصري على الأقل، أما بالنسبة للأدب العربي الحديث بعامة، فقد رأى الدكتور محمد يوسف نجم أن قصة العاقر لميخائيل نعيمة أسبق من محاولات محمد تيمور الأولى، ويحدد سنة 1915 تاريخًا لنشر قصة نعيمة، اقرأ: القصة القصيرة في مصر لعباس خضر ص114، والقصة في الأدب العربي الحديث للدكتور محمد يوسف نجم ص217.

على هذا النوع الأدبي منذ ميلاده؛ تلك الروح التي رأيناها توجه كل الأنواع الأدبية إلى نواحي النضال من أجل من حياة مصرية أفضل، وقد كانت القصة القصيرة كسبًا لهذا الميدان النضالي وخاصة في الميدان الاجتماعي؛ لارتباطها بالواقع بحكم طبيعتها الفنية.. وهذه قصة "في القطار". "صباح ناصع الجبين يجلي عن القلب الحزين ظلماته، ويرد الشيخ شبابه، ونسيم عليل ينعش الأفئدة، ويسري عن النفس همومها، وفي الحديقة تتمايل الأشجار يمنة ويسرة، وكأنها ترقص لقدوم الصباح، والناس تسير في الطريق، وقد دبت في نفوسهم حرارة العمل، وأنا مكتئب النفس، أنظر من النافذة الجمال الطبيعة، وأسأل نفسي عن سر اكتئابها فلا اهتدى لشيء، وتناولت ديوان "موسيه"، وحاولت القراءة فلم أنجح، فألقيت به على الخوان، وجلست على مقعد واستسلمت للتفكير، كأنني فريسة بين مخالب الدهر. "مكثت حينًا أفكر، ثم نهضت واقفًا، وتناولت عصاي وغادرت منزلي، وسرت وأنا لا أعلم إلي أي مكان تقودني قدماي، إلى أن وصلت إلى محطة باب الحديد، وهناك وقفت مفكرًا، ثم اهتديت للسفر ترويحًا للنفس، وابتعت تذكرة، وركبت القطار للضيعة، لأقضي فيها نهاري بأكمله. "وجلست في إحدى عربات القطار بجوار النافذة، ولم يكن أحد سواي، وما لبثت في مكاني حتى سمعت صوت بائع الجرائد يطن في أذني: "وادي النيل، الأهرام، المقطم"، فابتعت إحداها وهممت بالقراءة، وإذا باب الغرقة قد انفتح، وخل شيخ من المعممين، أسمر اللون طويل القامة نحيف القوام كث اللحية، له عينان أقفل أجفانها الكسل، فكأنه لم يستيقظ من نومه بعد، وجلس الأستاذ غير بعيد عني، وخلع مركوبه الأحمر، قبل أن يتربع على المقعد، ثم بصق على الأرض ثلاثًا، ماسحًا شفتيه بمنديل أحمر، يصلح أن يكون غطاء لطفل صغير، ثم أخرج من جيبه مسبحة ذات مائة حبة وحبة، وجعل يردد اسم الله، والنبي والصحابة والأولياء

الصالحين، فحولت نظري عنه، فإذا بي أرى في الغرفة شابا لا أدري من أين دخل علينا، ولعل انشغالي برؤية الأستاذ منعني أن أرى الشاب ساعة دخوله. "نظرت إلى الفتى، وتبادر إلى ذهني أنه طالب ريفي انتهى من تأدية امتحانه، وهو يعود إلى ضيعته ليقضي إجازته بين أهله وقومه، نظرت إلى الشاب كما نظر إلي، ثم أخرج من جيبه رواية من روايات مسامرات الشعب وهم بالقراءة، بعد أن حول نظره عني وعن الأستاذ، ونظرت إلى الساعة راجيًا أن يتحرك القطار قبل أن يوافينا مسافر رابع، فإذا بأفندي وضاح الطلعة حسن الهندام دخل غرفتنا، وهو يتبختر في مشيته، ويردد أنشودة طالما سمعتها من باعة الفجل والترمس، جلس الأفندي وهو يبتسم واضعًا رجلًا على رجل بعد أن أقرأنا السلام، فرددناه رد الغريب على الغريب. "وساد السكون في الغرفة، والتلميذ يقرأ روايته، والأستاذ يسبح وهو غائب عن الوجود، والأفندي ينظر لملابسي طورًا وللمسافرين تارة أخرى، وأنا أقرأ وادي النيل، منتظرًا أن يتحرك القطار قبل أن يوافينا زائر خامس. "مكثنا هنيهة لا نتكلم كأنا ننتظر قدوم أحد، فانفتح باب الغرفة، ودخل شيخ يبلغ الستين، أحمر الوجه براق العينين، يدل لون بشرته على أنه شركسي الأصل، وكان ممسكًا مظلة أكل عليها الدهر وشرب، أما حافة طربوشه فكانت تصل إلى أطراف أذنيه، وجلس أمامي وهو يتفرس في وجوه رفقائه المسافرين، كأنه يسألهم: من أين هم قادمون، وإلى أين هم ذاهبون، ثم سمعنا صفير القطار ينبئ الناس بالمسير، وتحرك القطار بعد قليل، يقل من فيه إلى حيث هم قاصدون. "سافر القطار ونحن جلوس لا ننبس ببنت شفة، كأنما على رءوسنا الطير، حتى اتقرب من محطة شبرا، فإذا بالشركي يحملق في ثم قال موجهًا كلامه إلي: - هل من أخبار جديدة يا أفندي؟

فقلت: -وأنا ممسك الجريدة بيدي- ليس في أخبار اليوم ما يستلفت النظر، اللهم إلا خبر وزارة المعارف بتعميم التعليم، ومحاربة الأمية. "ولم يمهلني الرجل أتم كلامي؛ لأنه اختطف الجريدة من يدي دون أن يستأذنني؛ وابتدأ بقراءة، ما يقع تحت عينيه، ولم يدهشني ما فعل؛ لأني أعلم الناس بحدة الشراكسة، وبعد قليل وصل القطار محطة شبرا، وصعد منها أحد عمد القليوبية، وهو رجل ضخم الجثة كبير الشارب أفطس الأنف، له وجه به أثار الجدري، تظهر عليه مظاهر القوة والجهل، جلس العمدة بجواري، بعد أن قرأ صورة الفاتحة وصلى على النبي ... ثم سار القطار قاصدًا قليوب. "مكث الشركسي قليلًا يقرأ الجريدة، ثم طواها وألقى بها على الأرض، وهو يحترق من الألم، وقال: - يريدون تعميم التعليم، ومحاربة الأمية حتى يرتقي الفلاح إلى مصاف أسياده، وقد جهلوا أنهم يحنون جناية كبرى. فالتقطت الجريدة من الأرض، وقلت: - وأية جناية؟ - إنك ما زلت شابا لا تعرف العلاج الناجع لتربية الفلاح. - وأي علاج تقصد؟ وهل من علاج أنجع من التعليم؟ فقطب الشركسي حاجبيه، وقال بلهجة الغاضب: - هناك علاج آخر. - وما هو؟ فصاح بملء فيه صيحة أفاق لها الأستاذ من نومه، وقال: - السوط. إن السوط لا يكلف الحكومة شيئًا، أما التعليم فيتطلب أموالًا طائلة، ولا تنس أن الفلاح لا يذعن إلا للضرب؛ لأنه اعتاده من المهد إلى اللحد: "وأردت أن أجيب الشركسي، ولكن العمدة -حفظه الله- كفاني

مئونة الرد، فقال للشركسي، وهو يبتسم ابتسامة صفراء: صدقت يا بيه صدقت. ولو كنت تسكن الضياع مثلنا، لقلت أكثر من ذلك، إننا نعاني من الفلاح ما نعاني لنكبح جماحه، ونمنعه من ارتكاب الجرائم. فنظر إليه الشركسي نظرة ارتياب، وقال: حضرتكم تسكنون الأرياف؟ أنا مولود بها يا بيه. ما شاء الله. "جرى هذا الحديث والأستاذ يغط في نومه، والأفندي ذو الهندام الحسن ينظر لملابسه، ثم ينظر لنا ويضحك، أما التلميذ فكانت على وجهه سيما الاشمئزاز، ولقد هم بالكلام مرارًا فلم يمنعه إلا حياؤه وصغر سنه، ولم أطق سكوتًا على ما فاه به الشركسي، فقلت له: - الفلاح يا بيه إنسان مثلنا، وحرام ألا يحسن الإنسان معاملة أخيه الإنسان. فالتفت إلي العمدة كأني وجهت الكلام إليه، وقال: أنا أعلم الناس بالفلاح؛ ولي الشرف أن أكون عمدة في بلد به ألف رجل، وإن شئت أن تقف على شئون الفلاح أجيبك، إن الفلاح يا حضرة الأفندي لا يفلح معه إلا الضرب، ولقد صدق البك فيما قال: وأشار إلى الشركسي: - ولا ينبئك مثل خبير. فاستشاط التلميذ غضبًا ولم يطق السكوت، فقال وهو يرتجف: - الفلاح يا حضرة العمدة. فقاطعه العمدة قائلًا: - قل يا سعادة البك؛ لأني حزنت الرتبة الثانية منذ عشرين سنة. قال التلميذ:

- الفلاح يا حضرة العمدة لا يذعن لأوامركم إلا بالضرب؛ لأنكم لم تعودوه غير ذلك، فلو كنتم أحسنتم صنيعكم معه لكنتم وجدتم فيه أخًا يتكاتف معكم ويعاونكم، ولكنكم -مع الأسف- أسأتم إليه، فعمد إلى الإضرار بكم تخلصًا من إساءتكم، وإنه ليدهشني أن تكون فلاحًا، وتنحي باللائمة على إخوانك الفلاحين. فهز العمدة رأسه، ونظر إلى الشركسي، وقال: - هذه نتائج التعليم. فقال الشركسي: - نام وقام فوجد نفسه قائم مقام. أما الأفندي ذو الهندام الحسن، فإنه قهقه ضاحكًا وصفق بيديه، وقال للتمليذ: - برافو يا أفندي، برافو، برافو. ونظر إليه الشركسي، وقد انتفخت أوداجه، وتعسر عليه التنفس، وقال: - ومن تكون أنت؟ - ابن الحظ والأنس يا أنس. وقهقه عدة ضحكات متوالية. "ولم يبق في قوس الشركسي منزع، فصاح وهو يبصق على الأرض طورًا، وعلى الأستاذ طورًا، وعلى حذاء العمدة تارة: - أدبسيس فلاح. ثم سكت وسكت الحاضرون، وأوشكت أن تهدأ العاصفة، لولا أن التفت العمدة إلى الأستاذ، وقال: - أنت خير الحاكمين يا سيدنا، فاحكم لنا في هذه القضية. فهز الأستاذ رأسه، وتنحح، وبصق على الأرض، وقال: - وما هي القضية لأحكم فيها بإذن الله جل وعلا. - هل التعليم أفيد للفلاح أم الضرب؟

فقال الأستاذ: - بسم الله الرحمن الرحيم إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "ولا تعلموا أولاد السفلة العلم". وعاد الأستاذ إلى خموله، وإطباق أجفانه مستسلمًا للذهول، فضحك التلميذ وهو يقول: - حرام عليك يا أستاذ، إن بين الغني والفقير من هو على خلق عظيم، كما أن بينهم من هو في الدرك الأسفل. فأفاق الأستاذ من غشيته، وقال: - واحسرتاه إنكم من يوم ما تعلمتم الرطان، فسدت عليكم أخلاقكم، ونسيتم أوامر دينكم، ومنكم من تبجح وبغي واستكبر وأنكر وجود الخالق. فصاح الشركسي والعمدة: "لك الله يا أستاذ" وقال الشركسي: - كان الولد يخاف أن يأكل مع أبيه، والآن يشمته ويهم بصفعه. وقال العمدة: - كان الولد لا يرى وجه عمته، والآن يجالس امرأة أخيه. "ووقف القطار في قليوب، فقرأت الجميع السلام وغادرتهم، وسرت في طريقي إلى الضيعة، وأنا لا أكاد أسمع دوي القطار وصفيره، وهو يعدو بين المروج الخضراء؛ لكثرة ما يصيح في أذني من صدى الحديث1". ويلاحظ على هذه القصة أن المؤلف بدأها بمقدمة في وصف الطبيعة، وكآبة النفس برغم مناظر الطبيعة الخلابة، وفي تلك المقدمة يتضح تأثير المنفلوطي، وقد تبدو هذه المقدمة مقحمة أمام النظرة السريعة، بحيث يظن أن من الأفضل الاستغناء عنها، ولكن النظرة الفاحصة تؤكد أن هذه المقدمة تخدم بناء القصة وتؤدي وظيفة حيوية فيها؛ فهي توحي بالمشكلة من أول سطور القصة، وهي مشكلة الأزمة التي يعانيها الكاتب من جزاء الظلم الاجتماعي الجاثم على صدر الفلاح، تلك الأزمة التي لا يفرجها ما للطبيعة من جمال وفتنة، أو هي مشكلة

_ 1 ما تراه العيون لمحمود تيمور ص5 وما بعدها.

تكدير الإنسان بظلمة لصفاء الطبيعة، وتشويهه بعداوانه لكل ما فيها من بهاء وحسن. ولكي يقنعنا المؤلف بهذه القضية بأسلوب فني؛ أطعلنا على موقف لبعض النماذج البشرية، التي تمثل قطاعات مهمة من قطاعات المجتمع، واختار عربة القطار مسرحًا لهذا الموقف، وما يدور به من حوار وتصرفات لهذه النماذج. فهناك شيخ وشركسي وعمدة وطالب وموظف، ولكل رأيه في قضية تعليم الفلاح والاهتمام بأمره، ولكل أيضًا تصرفاته وسماته، ومن خلال ما يدور بينهم من حديث، وما يبدو من كل منهم من أفعال، وما يتسم به من سمات؛ يصل المؤلف ويصل بنا أيضًا إلى ما يريد أن يقول. فالشركسي في عنجهيته وكبريائه، وأخذه ما ليس له دون أدنى مبادئ اللياقة، إنما هو نموذج الإقطاعيين الغاصبين في تلك السنين، والشيخ في غفلته وخموله، وفي آرائه المتخلفة وأحكامه المنافقة، إنما هو نموذج بعض رجال الدين، الذين كانوا في غفلة وتخلف، ومداهنة لذوي السلطان في تلك الأحايين، والعمدة في جهله وفظاظته وعدوانيته ليس إلا في نموذج صنائع الحكام، وذيول السلطة الغاشمة في هذه العهود السود، والأفندي في سطحيته، وسلبيته ليس إلا نموذج الموظفين اللامباليين، الراضين فهو في رهافة حسه، وإيجابيته، ورفضه وشجاعته؛ إنما هو نموذج الجيل الجديد، الذي يعقد عليه الأمل لمصر الناضلة. ويلاحظ كذلك أن القصة قد أثارت العطف على الفلاحين، كما حركت السخرية من الإقطاعيين، وهي في الوقت نفسه قد نبهت إلى غفلة بعض رجال الدين وخطورة تخلفهم، وأشارت بأصبع الاتهام إلى رجال الإدارة في ذلك الحين، وما كانوا يرتكبون من جرائم القسوة والقهر مع أبناء الشعب الكادحين في الأرض الطيبة. ويلاحظ بعد ذلك كله، أن القصة في جملتها قد جاءت باللغة الفصحى البسيطة، الخالية من التقعر ومن التنميق الأسلوبي معًا، وقد تخللها بعض ألفاظ

وتعبيرات من غير الفصحى، ألجأت إليها ضرورة رسم بعض الشخصيات بأبعادها، أو إنطاقها بما يلائمها؛ مثل: "أدبسيس" التي قالها الشركسي في رده على التلميذ. ومثل: "برافو" التي قالها الموظف في تعليقه على التمليذ أيضًا. والأولى من مكملات شخصية الشركسي، والثانية توحي بتعلق الموظف ببعض المظاهر الغربية، مما يؤكد سطحيته وتفاهته؛ وكانت هذه إحدى خصائص محمد تيمور اللغوية، حيث يستعمل أحيانًا اللفظية العامية أو الأمية حين لا تسعف الفصحى. ومعظم القصص الأخرى التي تضمها مجموعة "ما تراه العيون"1 تتفق مع هذه القصة في الخطوط الفنية العامة، وإن خالفتها في بعض التفاصيل، فهي قد سيطرت عليها روح النضال من أجل مجتمع مصري أفضل، ومن هنا نراها تعالج موضوعات اجتماعية مستنبطة من الحياة اليومية، وتصور شخوصًا من الناس العاديين، وخاصة من المظلومين طبقيًّا والمنكوبين اجتماعيًّا. كما نرى هذه القصص في جملتها تهتم برسم الشخصيات، وتقديم المضمون من خلال حوار الأبطال وتصرفاتهم، وما تؤول إليه الأحداث الدائرة بينهم، نرى ذلك في قصة "عطفة المنزل رقم22"، التي تحكي حكاية رجل مستهتر في سلوكه، مضيق على زوجته؛ يعربد ما شاء له شيطانه، على حين يحبس زوجته بين جدران البيت، وهو في ذلك مطمئن إلى أن عرضه مصون، وخاصة أنه ترك زوجته في حراسة أمه، وأمه كما يقول لصاحبه: "من النساء اللواتي لا تفلح معهن شدة ولا رجاء"، وكان هذا الصاحب رفيقًا للزوج في نزواته، ولكنه كان أعزب، وتكذب ظنون الزوج حين يفتح هذا الرفيق الأعزب عينيه مرة على إحدى ضحاياه، فإذا هي زوجة صديقة المطمئن وهمًا إلى أنه أحكم على زوجته الأبواب، وجعلها في حراسة أمه اليقظة1!! ونرى ذلك أيضًا في قصة "صفارة العيد" التي تتحدث عن يتيم في يوم عيد، وهو يصارع الحرمان، ويتطلع في لهفة إلى شيء من اللهو، وبعض من

_ 1 اقرأ القصة في: ما تراه العيون ص17 وما بعدها.

السعادة كبقية الصبية في ذلك اليوم، ويدخل في معارك مع بعض الصبية المحظوظين السعداء، وبرغم أنه ينتظر عليهم، يظل عاجزًا عن الانتصار على فقرة وحرمانه، وتعاسته1. ومحمد تيمور يميل أحيانًا في بعض قصصه إلى تحليل الميول، والكشف عن الطبائع، ولمس أغوار النفوس، وأوضح مثال لذلك قصة "كان طفلًا فصار شابًا"، وهي قصة يصور فيها تطور عاطفة مربية إزاء ربيب نشأته، ويبرز كيف تطورت هذه العاطفة من حب أم لطفل، إلى عشق امرأة لفتى2. ولم تكن مجموعة "ما تراه العيون" مؤلفة كلها؛ بل كان بعضها مقتبسًا، وقد صرح بذلك المؤلف في أمانة، فقصة "ربي لمن خلقت هذا النعيم" قد اقتبس فكرتها من قصة لـ"موباسان" هي "ضوء القمر"، وقد قدم محمد تيمور لتلك القصة حين نشرها بمقدمة صرح فيها بأنه بدل أشخاصها، وزمانها ومكانها وموضوعها، ومصر كل شيء فيها، حتى لم يبق من الأصل إلا روح الكاتب3. وهذه القصة -تحكى بعد التبديل- حكاية رجل غني أراد أن يزوج ابنته بشاب من طبقته، لكنها رفضت، وأصرت على الرفض، برغم ضغوط الأب وحزن الأم، ولاذت بالصمت، ولم تبح بسبب رفضها لهذا الزواج المأمول في نظر الأبوين، وقد أرق الأب ذات ليلة، فخرج إلى حديقة المنزل، وراعة منظر القمر وهو يكسو بأشعته الفضية أشجار الحديقة، فثار في نفسه هذا السؤال "ربي لمن خلقت هذا النعم؟ "، وما انتهى من تساؤله حتى لمح في الحديقة شبحين: فتاة حسناء وفتى وسيمًا، وكان الفتى يقول لفتاة: "أنا مرغم على تركك يا حبيبتي، وإني أقسم لك أني سأبقى على عهد حبي الطاهر الشريف، إلى أن يضم عظامي القبر"، وتبين الرجل أن الفتاة ابنته، وأن الفتى

_ 1 انظر: ما تراه العيون ص47 وما بعدها. 2 اقرأ القصة في: ما تراه العيون ص67 وما بعدها. 3 اقرأ القصة في: ما تراه العيون ص57.

هو حبيبها الذي رفضت زواج المصلحة من أجله، فثار في نفس الوالد هذا الجواب: "ربي إنك خلقت هذا النعيم للمحبين"1. هذا وقد اتجه محمد تيمور أيضًا إلى كتابة المقالات والخواطر القصصية، التي رأينا أصولها من قبل عند المنفلوطي، ولكن محمد تيمور خطا بها هي الأخرى خطوة أفسح، حتى وصل في بعضها إلى ما يمكن أن يسمى "اللوحة القصصية"؛ وذلك لما فيها من تجسيم رائع لمفارقة، أو رسم جيد لشخصية، أو تسجيل حي لحدث، أو تحريك درامي لخاطرة، كل ذلك مع البعد عن الخطابية المجلجلة، والوعظ المتكلف، والأسلوب المنمق. وأكثر هذه اللوحات تدور حول مقارنات بين الغنى والفقر، والقوة والضعف، والتقدم والتخلف، وما إلى ذلك من تناقضات تمتلئ بها الحياة التي تزدحم بالمفارقات، ولولا أن المؤلف كان يجعل أساس هذه اللوحات أحداثًا عرضت له أو اتصلت به، ولولا أنه يعلق عليها بما يريد أن يقدم من عبرة، أو نقد أو فكرة إصلاح لكانت هذه اللوحات أقاصيص من الطراز الجيد2. ومن نماذج تلك اللوحات3: لوحة "لبن بقهوة ولبن بالتراب" التي يقول فيها: "صباح اليوم، بعد أن صحوت من نومي ولبست ملابسي، أتتني الخادمة بالفطور لآكل ثم أخرج: ألقيت نظري على الطعام، فوجدته مختلف الألوان، من جبن وزيتون وبيض ولبن وقهوة، وكانت لي شهية للأكل فأكلت من الجبن والزيتون والبيض حتى شبعت؛ ثم نظرت للبن

_ 1 اقرأ القصة في: ما تراه العيون ص7 وما بعدها. 2 انظر: عباس خضر -القصة القصيرة في مصر منذ نشأتها حتى سنة 1930 ص124، ويحيى حقي: فجر القصة ص61. 3 جمعت هذه اللوحات تحت عنوان: "خواطر" ونشرت ضمن المجلد الأول من مؤلفات محمد تيمور، وهو المجلد الذي عنوانه: "وميض الروح". ثم نشرت ملحقة بمجموعة قصص "ما تراه العيون".

والقهوة وقلت لنفسي: "إني أشرب اللبن مع القهوة صباح كل يوم، وقد شبعت من غيره اليوم، وليس في مقدوري أن أضيف إلى ما في معدتي من اللبن شيئًا". وقمت لأرتدي ملابسي، وإذا بي أرى كلبي يبصبص لي بذنبه، فأفرغت ما كان في فنجاني من اللبن في وعاء الكلب، وتركته والوعاء. "ركبت ركاب رمل حتى الإسكندرية، وقضيت بعض حوائجي، ثم أردت الرجوع، فانتظرت في المحطة قليلًا مترقبًا القطار الذي يقلني حتى المحطة التي أسكن فيها، وإذا بي أرى رجلًا يبلغ الخمسين يسيرًا وراءه طفل -ما شككت في أنه ولده- يحمل معه قدرًا مملوءًا بسائل لا أعرفه، وحاولا ركوب قطار كان قد غادر المحطة، وابتعد عنها قليلًا، وإذا بالولد يهوي على الأرض، والأب يهوي فوقه، ولحسن حظهما لم يصابا بسوء، ولكن القدر قد انكسر وسال ما فيه على الأرض، وكان لبنًا ناصع البياض، فنظر إليه الرجل نظرة ملؤها الأسف، وكادت الدموع تسيل من عينيه، ثم سار في طريقه مع ابنه، وكأنه تفاءل شرًّا مما حدث فعاد من حيث أتى، لم ألبث في طريقي قليلًا حتى رأيت طفلين من أطفال شوارع الإسكندرية يتسابقان لمكان الحادثة، وكانا لابسين من الملابس ما لا يحجب من جسديهما إلا القليل، عاريي الرأس، حافيي الأقدام، تتراكم على جبهتيهما وملابسهما القاذورات والأوساخ، تسابقا لمكان الحادثة، ولما وصلا إليه ركعا على الأرض ولبثا يلحسان اللبن، وكان لبنًا بالتراب لا بالقهوة. بالله أترفض نفسي في هذا الصباح فنجان لبن بقهوة، وترضى نفسًا هذين الفقيرين لبنًا ممزوجًا بالتراب؟! "1. وهكذا نرى أن أواخر هذه الفترة قد شهدت ميلاد القصة القصيرة كما شهدت ميلاد الرواية الفنية2. وقد جاءت هذه، ثم تلك، على

_ 1 ما تراه العيون "الطبعة الثانية سنة 1927" ص127. 2 كان ميلادها على يد الدكتور محمد حسين هيكل حين نشر سنة 1912.

يدي كاتب من ذوي الثقافة الأجنبية، ومن المتصلين بالأدبي الغربي، لهذا جاءت في بنائها الفني على نمط الشكل الأوروبي، وإن لم تخل من بعض الرواسب العربية. على أنه يلاحظ أن القصة القصيرة قد تأخر ميلادها عن الرواية الفنية نحو خمس سنين1، ولعل السبب في ذلك هو أن ارتباط القصة القصيرة بالواقعية أشد، ومعالجتها لأحوال الناس العاديين أكثر، والتحامها بالروح القومية أقوى. فكان أن ظهرت مع سنوات غليان المجتمع بالروح القومية، والتفاته بعطف إلى العناصر الكادحة، وتأمله بمرارة لواقعة المتناقض؛ وهذه السنوات هي السنوات التي تمخضت عن ثورة سنة 1919، التي سيشب بعدها الفن القصصي كله، ولا يقف عند مرجلة الميلاد.

_ 1 ظهرت أول قصة قصيرة فنية على يد محمد تيمور، وهي قصة "في القطار" سنة 1917، ومن قبل ظهرت رواية زينب على يد الدكتور محمد حسين هيكل سنة 1912.

المسرحية وأولية الأدب المسرحي

4- المسرحية وأولية الأدب المسرحي: تضاعف النشاط المسرحي في مصر خلال هذه الفترة، بعد أن ولد المسرح ونشط في الفترة السابقة، وكان تضاعف هذا النشاط بسبب قدوم فرقة شامية جديدة، هي فرقة أبي خليل القباني1؛ فقد قدم على مصر سنة 1884، وعمل في الإسكندرية أولًا، ثم عاد إلى القاهرة، وعمل على مسرح "الأوبرا"، وتنقل بعد ذلك بفرقته في عدد من الأقاليم والعواصم المصرية2. وهكذا أصبح في مصر عدد من الفرق التمثيلية، كفرقة يوسف الخياط، وفرقة سليمان القرداحي، وفرقة أبي خليل القباني، وبهذا زاد التنافس بين تلك الفرق، وتضاعف النشاط في مجال المسرح، فكثر جمهوره، وتعدد الكاتبون له من شاميين ومصريين، وقد كان في مقدمة هؤلاء الكتاب

_ 1 انظر: المسرحية في الأدب العربي الحديث، للدكتور يوسف نجم ص60-68. 2 المصدر السابق ص115 وما بعدها.

المسرحيين في هذا العهد المبكر، محمد عثمان جلال1، الذي ترجم للمسرح ومصر، كما ألف كذلك بعض الأعمال المسرحية، ومن ترجماته تلك المجموعة التي نشرها سنة 1889 باسم "الروايات المفيدة في علم التراجيدة"، متضمنة ترجمة لثلاث مسرحيات للشاعر الفرنسي الكبير "راسين" هي: "إستر" و"أفغانية" و"إسكندر الأكبر"، ومن تمصيراته تلك المجموعة التي نشرها سنة 1893 باسم "الأربع روايات من مختارات التياترات" مشتملة على أربع مسرحيات من ملاهي المسرحي الفرنسي العظيم "موليير"، وتلك المسرحيات هي: "الشيخ متلوف" و"النساء العالمات" و"مدرسة الأزواج" و"مدرسة النساء"، كذلك ألف محمد عثمان جلال مسرحية "المخدمين" التي عالج فيها موضوعًا اجتماعيًا، وهو حيل المخدمين، ووسائلهم في السيطرة على الخدم وإفسادهم على مخدوميهم، وقد كتب تلك المسرحية بالزجل المصري، الذي اختاره من قبل لغة لترجماته وتمصيراته2. غير أن نجاح القباني، وفرقته لم يقف عند إنعاش النشاط المسرحي ومضاعفة الاهتمام بالمسرح والكتابة له؛ وإنما تجاوزه إلى شيئين مهمين؛ وهما توجيه الاهتمام إلى المسرحية التاريخية العربية، ثم العناية باللغة الفصحى والشعر في كتابة المسرحية، فقد كان القباني يميل إلى المسرحيات المستمدة من التاريخ العربي أولًا، وكان يفضل للغتها الفصحى التي يتخللها الشعر ثانيًا، ولما كان يقدم المسرحيات، وفيها مشهيات كثيرة تلائم الأذواق في ذلك الحين، من أغان

_ 1 ولد في إحدى بلدان بني سويف سنة 1828، وتدرج في التعليم من الكتاب إلى تجهيزية قصر العيني إلى مدرسة الألسن، ثم اشتغل في سلك القضاء، فعمل بالمحاكم المختلطة والاستئناف، وتوفي سنة 1898. اقرأ عنه في: شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد ص111، وتاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 ص221. وفي الأدب الحديث لعمر الدسوقي جـ1 ص89 وما بعدها، والفن القصصي لمحمود شوكت ص71 وما بعدها. 2 انظر: المسرحية في الأدب العربي الحديث للدكتور يوسف نجم ص218-221، ثم 273-288، ثم 430-432. وانظر: شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد ص117، والمسرحية لعمر الدسوقي ص18، وفي الأدب الحديث للمؤلف نفسه جـ1 ص91.

وإنشادات ورقصات1؛ فقد كثر الإقبال على مسرحياته، ونجح هذا الاتجاه الذي وجه إليه المسرحية، نحو التاريخ العربي أولًا، ثم نحو اتخاذ الفصحى والشعر لغة للمسرح ثانيًا، وبرغم أن الفصحى التي كانت تكتب بها مسرحيات القباني، قد كانت مفعمة بالمحسنات التي في مقدمتها السجع، وبرغم أن الشعر لم يكن ملائمًا دائمًا للموقف أو مؤديًا وظيفة في البناء المسرحي؛ قد كان هذا الاتجاه متفقًا إلى حد كبير مع الاتجاه الأدبي العام في ذلك الحين، هذا الاتجاه الذي عرفنا أنه كان يهتم بالتراث، ويتشبث بالماضي، حتى يحاول أن يصطنع في بعض مجالات الفن القصصي لغة المقامات، باعتبارها لغة الفن القصصي البارز، الذي عرف في عهود الازدهار2. ومهم يكن من أمر، فقد ساعد نجاح مسرح القباني على السير في اتجاهه وتجويده، كما ساعد على دفع المسرح خطوة إلى الأمام، فقد انفصل إسكندر فرح عن فرقة القباني، وألف فرقة سنة 1981، واستعان بالشيخ سلامة حجازي3، مواصلًا الاتجاه الغنائي، إلى أن انفصل عنه الشيخ سلامة حجازي سنة 1905، فاعتمد على المسرحيات غير الغنائية، واجتذب إلى الكتابة المسرحية طائفة من الأقلام الممتازة، مثل مطران ونجيب الحداد، وفرح أنطون وغيرهم، ممن ألفوا وترجموا عن الإنجليز والفرنسية4. كذلك واصل الشيخ سلامة حجازي نشاطه المسرحي الغنائي بعد أن استقل، وكون له فرقة خاصة، وعنى عناية بالغة بالملابس والمناظر، وروعة

_ 1 انظر: المسرحية للدكتور يوسف نجم ص122، والمسرحية لعمر الدسوقي ص18 وما بعدها. 2 اقرأ ما كتب عن ذلك الاتجاه في مبحث النثر في هذا الفصل، فقرة 3 - مقال "أ"- الرواية الاجتماعية المقامية. 3 اقرأ عنه في: المسرحية للدكتور يوسف نجم ص135-149، والمسرح النثري للدكتور محمد مندور الحلقة الأولى ص12. 4 المسرحية للدكتور يوسف نجم ص125-132.

العرض، وأنشأ "دار التمثيل العربي"، واهتم إلى درجة كبيرة بالروايات التاريخية، مثل "صلاح الدين" و"زنوبيا" و"غانية الأندلس" هذا بالإضافة إلى الروايات المترجمة والمؤلفة الأخرى، وقد كان الشيخ سلامة يغني في مواقف من رواياته، كما كان يغني أيضًا بين الفصول، وكان هذا الغناء من أهم عوامل جذب الجمهور إلى المسرح في تلك الأحايين1. ثم خطا المسرح المصري أهم خطواته نحو الفن الصحيح، وذلك حين ألف جورج أبيض2 فرقته المسرحية، بعد عودته سنة 1910 من دراسة التمثيل في فرنسا، وقد استهلت هذه الفرقة عملها بتقديم مشهد شعري من تأليف حافظ إبراهيم هو "شهيد بيروت" في مارس سنة 1912، ثم قدمت الفرقة في نفس الشهر مسرحية "أوديب"، ثم قدمت "لويس الحادي عشر"، ثم"عطيل". والأولى ترجمة فرح أنطون، والثانية ترجمة إلياس فياض، والثالثة ترجمة مطران، وبرغم استهلال جورج أبيض بالمسرحيات المترجمة، قد اهتم بعد ذلك بالروايات التاريخية العربية، مثل "صلاح الدين ومملكة أورشليم" و"الحاكم بأمر الله"3. ومع جورج أبيض وما قدم من روايات على أسلوب مسرحي فني4، يكون المسرح المصري قد جاوز طور النشأة، وتكون المسرحية الصحيحة قد ظهرت أولياتها، ويكون الأدب المسرحي في مصر قد رأى النور، وظهرت نماذج وليدة منه، وخاصة في أواخر تلك الفترة التي تنتهي بثورة 1919.

_ 1 المصدر السابق ص148-149. 2 اقرأ عنه في المصدر السابق ص152-165. وطلائع المسرح العربي لمحمود تيمور ص43 وما بعدها. 3 المسرحية للدكتور نجم ص154-157. 4 انظر: المسرح النثري للدكتور محمد مندور الحلقة الأولى ص12-16، والمسرحية للدكتور نجم ص157.

أ- مسرحية المعتمد بن عباد: ولكن ما هي تلك المسرحيات التي يمكن أن تعتبر أول الأدب المسرحي المصري الحديث، الحق أنه يمكن أن تعتبر مسرحية "المعتمد بن عباد" أول مسرحية تدخل في هذا الباب، وقد ألفها إبراهيم رمزي1 سنة 1892 معتمدًا على فترة تاريخية تتصل بتاريخ العرب في الأندلس، ومختارًا من بين صفحاتها ثلاث حوادث كبيرة. الأولى ما كان بين الملك الأندلسي المعتمد بن عباد، ووزيره الشاعر أبي بكر بن عمار، من صداقة انتهت بعداوة أدت إلى قتل الوزير. والثانية غزو الأذفونش "ألفونس السادس" لإشبيلية، واستنجاد الأندلسيين بالمرابطين في شمال أفريقيا، ومجيء يوسف بن تاشفين لنجدة أهل الأندلس، ثم عودته إلى المغرب وقد طمع في الاستيلاء على تلك البلاد التي استنجدت به، أما الحادثة الثالثة، فهي ما كان من أمر هذا الجيش الذي خلفه ابن تاشفين في الأندلس، وما كان من تقويضه لملك المعمتد وأسره، ثم نقله إلى سجن أغمات في شمال إفريقيا، حيث قضى نحبه بعد أن فجع بوفاة زوجته اعتماد. والواقع أن تلك المسرحية لم تكن ناضجة ولا قريبة من الناضجة، وذلك؛ لأن المؤلف قد اقتصر على سرد المعلومات التاريخية عن طريق الحوار، دون أن يضيف شيئًا أو يحذف شيئًا، كما تقتضي طبيعة التأليف المسرحي المعتمد على مادة التاريخ، ومن هنا جاءت المسرحية على كثير من التفكك، وليست فيها مراعاة لإطاري الزمن والمكان المعقولين، كما أنها لا تعطي تفسيرًا مقنعًا لما وراءها من مآس، ولا هدفًا محددًا لما تعرضه من أحداث، وكل ما في الأمر أنها أشبه بفصول التاريخ التي اتخذت شكل المسرحية، ولغة الحوار الدرامي.

_ 1 اقرأ عنه في: المسرح النثري للدكتور مندور الحلقة الأولى. وفي: طلائع المسرح العربي لمحمود تيمور ص47 وما بعدها.

وقد كتبت تلك المسرحية باللغة الفصحى المسجوعة، وتخللها قطع وأبيات من الشعر، مما أضاف إلى عيوبها السابقة عيبًا آخر، هو عيب اللغة المصنوعة التي لا تلائم الشخصيات وتطور الأحداث وتصور الجو، بقدر ما ترضى نزعة الالتفات إلى التراث، وإرضاء حاجة المشاهدين1. على أننا إذا تذكرنا أن تلك المسرحية قد كتبت في هذا العهد المبكر، وتحت تلك الظروف التي عرفناها، وما كان فيها من عامية وركاكة من جانب، ومحافظة واهتمام بالفصحى، ورعاية للتراث من جانب آخر، إذا تذكرنا ذلك عطفنا على تلك المحاولة المبكرة، واعتبرنا صاحبها رائدًا مستحقًا للثناء. ب- مسرحية علي بك الكبير: وإذا كانت مسرحية "المعتمد بن عباد"، أو الأدب المسرحي النثري، فإن "علي بك الكبير" لأحمد شوقي أول الأدب المسرحي الشعري، وقد ألفها شوقي، وهو في باريس سنة 1893، بعد أن أتيح له أن يتصل بالأدب الفرنسي، ويشاهد المسرحيات في العاصمة الفرنسية. وقد صور شوقي في تلك المسرحية عصر المماليك، وما فيه من مساوئ سياسية واجتماعية، واختار بطلًا لمسرحيته علي بك الكبير، الذي كان مملوكًا طموحًا، استقل بمصر عن الأتراك، وتلقب بلقب سلطان سنة 1769، ووسع رقعة ملكه بالاستيلاء على اليمن وجدة ومكة، ثم غزة ونابلس والقدس ويافا وصيدا ودمشق، وقد احتال الأتراك لدرء خطر هذا المملوك، باصطناع مملوك آخر هو محمد أبو الذهب، الذي كان علي بك الكبير قد تبناه من قبل ورباه، فغدر أبو الذهب بعلي بك الكبير، بإيعاز من الأتراك، وما زال به حتى قتله، وخلفه في الولاية على مصر، وقد رأى المؤلف أن يضيف إلى ذلك الصراع بين علي بك الكبير، ومحمد أبي الذهب، قصة غرام بين مملوك ثالث هو

_ 1 انظر: المسرحية للدكتور يوسف نجم ص298 وما بعدها، والمسرح النثري للدكتور مندور الحلقة الأولى ص30 وما بعدها.

"مراد بك" وبين "آمال" مملوكة علي بك الكبير، التي اتخذها زوجة، وربط شوقي القصتين التاريخية والخيالية؛ فجعل "مراد بك" يساعد "محمد أبا الذهب"، ويتآمر معه لكي يفوز بمحبوبته "آمال" بعد قتل زوجها، ورغبة في تقديم مفاجأة مسرحية، جعل المؤلف "مراد بك" يكتشف في آخر المسريحة أن حبيبته "آمال" إنما هي أخت مجهولة له، والذي يكشف عن هذا السر هو أبوها وأبوه، النخاس مصطفى الياسرجي. هذا وقد كتب شوقي تلك المسرحية شعرًا، ولكنه كان دون شعره الذي عرفناه بعد ذلك، حين عاد إلى كتابة المسرحيات، بعد أن هجرها من أيام كتابة هذه المسرحية إلى سنة 1927، وهناك عيب آخر وهو غلبة الشعر الغنائي على الشعر الدرامي فيها، وكان هذا العيب مما وجه إلى شوقي في مسرحياته الأولى، ثم حاول التخلص منه في المسرحيات المتأخرة، كما حاول أن يتخلص منه، ومن العيب السابق. حين أعاد كتابة تلك المسرحية سنة 1932. وهناك عيب آخر في تلك المسرحية حاول شوقي أن يتلافاه حين أعاد كتابتها؛ وهو بعض زلات يصف فيها الشعب المصري بالضعف والذلة، ليجسم ما أراد من تصوير المماليك بالقوة والعنف. على أن في تلك المسرحية عيبًا أبلغ من كل تلك العيوب، قد حاول شوقي أن يصححه حين أعاد كتابة المسرحية ولكنه لم يوفق تمامًا هذا العيب هو عجز البطل عن كسب عطف المشاهدين، مما يفقد المسرحية عنصر الإثارة، وحرارة "الدراما" وقوة الانفعال، وذلك لكون البطل شخصية سيئة لا تجلب العطف؛ لأنها من شخصيات المماليك الغادرين الشريرين1. ومع ذلك فقد توفرت للمسرحية عناصر فنية أخرى تجعلها أكثر نجاحًا من المسرحية النثرية التي كتبها إبراهيم رمزي باسم "المعتمد بن عباد"، وأهم

_ 1 انظر: مسرحيات شوقي للدكتور محمد مندور ص40 وما بعدها، والمسرحية في شعر شوقي للدكتور محمود شوكت ص110-111، والمسرحية للدكتور يوسف نجم ص302 وما بعدها.

تلك العناصر الفنية في مسرحية شوقي، هي: الحبكة، والتعقيد، والحل، والتشويق، والمفاجآت، وحيوية الحوار إلى حد كبير1. وبرغم ذلك لم تصادف النجاح الذي كان شوقي ينتظره، ولم ير تشجيعًا يدفعه إلى مواصلة الكتابة للمسرح في ذلك العهد المبكر، فآثر الشعر الغنائي، واهتم منه بشعر المدح، وما يشبهه من الشعر السياسي والاجتماعي، الذي يحقق له التفوق بسرعة، ويوصله إلى منصب شاعر الأمير، ثم أمير الشعراء، وظل لا يعاود الكتابة للمسرح إلى سنة 1927، حين تقدم الوعي الفني، وازدهر المسرح المصري، وظهرت فرق تمثيلية جيدة، فعاد يكتب سلسلة مسرحياته المعروفة، ثم يعيد مسرحيته الأولى، ويحاول تلافي بعض ما كان فيها من عيوب2. وهكذا يمكن اعتبار هذين العملين بداية الأدب المسرحي المصري.. وقد تبعث هذين العملين أعمال أخرى لمؤلفين مصريين آخرين، وهي أعمال تتفاوت في قربها من المسرحية الفنية الناضجة، ولكنها جميعًا تشترك في أنها تمثل الطلائع الأولى لهذا الفن، كما تشترك في أنها تمثل روح العصر إلى حد كبير، وهذا يتضح في اتجاهها إلى التاريخ العربي المجيد واستلهامه أولًا، ثم في الاهتمام باللغة الفصحى، ومزجها بالشعر ثانيًا، ثم في التعريض ببعض المفاسد التي جرها الاحتلال، ويحاول المصريون التخلص منها آخر الأمر، ومن أمثلة ذلك، مسرحية "فتح الأندلس" لمصطفى كامل، التي ضمنها بعض الخطب، والشعر الحماسي والأناشيد، وهاجم فيها الطغيان والاحتلال، متأثرًا بموقفه كزعيم لحركة تحررية وطنية3، ومن أمثلة تلك المسرحيات أيضًا "حياة مهلهل بن ربيعة، أو حرب البسوس" لمحمد عبد المطلب ومحمد عبد المعطي مرعي، ثم "حياة امرئ القيس" للمؤلفين نفسيهما، وهاتان المسرحيتان الأخيرتان تقومان تقريبًا على سرد التاريخ، والقصائد دون إعمال خيال أو تصرف فني،

_ 1 مسرحيات شوقي لمندور الحلقة الأولى ص47، والمسرحية لنجم ص303. 2 مسرحيات شوقي لمندور ص40. 3 المسرحية ليوسف نجم ص310 وما بعدها.

يحول مادة التاريخ إلى عمل مسرحي حي1؛ فهما دون المسرحيات الأخرى، ولكنهما تدخلان في نتاج تلك المرحلة المبكرة، وتتسمان بالطابع العام، الذي يستلهم التاريخ، ويرعى الفصحى والشعر. جـ- مسرحية أبطال المنصورة: ثم تخطو هذه المرحلة البادئة خطوات أفسح، وتظهر بعض المسرحيات الأدنى إلى النضج، والتي تمثل أحسن ما عرفت تلك الفترة من أدب مسرحي، وتأتي في مقدمة هذه المسرحيات مسرحية "أبطال المنصورة" التي ألفها إبراهيم رمزي سنة 1915، بعد أن تمكن من فن الأدب المسرحي، واكتسب فيه ثقافة أجنبية، هيأتها له رحلته إلى إنجلترا، ودراسته فيها للأدب التمثيلي، واختلافه إلى المسارح الإنجليزية، أيام ازدهار مسرحيات "إبسن" و"برناردشو"2. ومن هنا جاءت مسرحية "أبطال المنصورة" خالية من أهم تلك العيوب التي شابت مسرحيته السابقة "المعتمد بن عباد"، فقد جاءت مسرحية بعيدة عن أن تكون مجرد سرد للتاريخ؛ بل فيها من التاريخ فقط ما يخدم الهدف ويلائم الفن. وفيها من الخيال والإبداع إضافات وتعديلات، لا تتنافى مع روح التاريخ، ولا مع منطق الحياة، وهذه الإضافات والتعديلات تعين في الوقت نفسه على خلق الحركة الدرامية، واستخدام عنصر التشويق والمفاجأة، ثم توفير الصراع الداخلي والخارجي، حتى لقد اعتبر بعض النقاد الكبار هذه المسرحية من أروع ما كتب في هذا الفن في الأدب العربي، بل قال: "لعلها تسمو إلى مستوى الأدب الفني العالمي الرفيع"3. وتصور مسرحية "أبطال المنصورة" جانبًا من الحروب الصليبية التي

_ 1 المصدر السابق ص321-325. 2 المسرح النثري للدكتور محمد مندور الحلقة الأولى ص35. 3 المصدر السابق.

جرت في مصر، وانتهت بانتصار أمرائها محسن وأقطاي وبيبرس، على تلك الحملة الفرنسية التي نزلت دمياط بقيادة لويس التاسع، وانتهت بمعركة المنصورة التي قتل فيها بيبرس أخا الملك لويس، ثم أسر الملك نفسه، وسجنه في البيت المعروف ببيت القاضي لقمان في المنصورة، وأخيرًا أطلق الملك الفرنسي بفدية كبيرة بعد أن تعهد بألا يعود إلى مثل تلك الحرب. وقد طعم المؤلف تلك الأحداث البسيطة بعناصر خيالية لا تتعارض مع روح التاريخ، ولا مع منطق الحياة الإنسانية، فابتكر شخصيات خيالية، واستخدمها في تحريك الأحداث، وإثارة التشويق، وإعداد المفاجآت، وحقق بها عنصرًا دراميًا هامًا في المسرحية، ومن تلك الشخصيات شخية هبة الله، الذي رسمه طبيبًا خاصًّا للملك الصالح أيوب ولزوجته شجرة الدر، وجعله يلعب في المسرحية دور الدسيسة، ويبرر المؤلف ذلك بجعل أصله فرنسيًا، ولكنه تربى في مصر، فلم ينس أصله والعمل لمصلحة الفرنسيين ضد من ائتمنوه على أنفسهم. وينتهي أمر هذا الخائن بأن يفضح، ويقتله بيبرس في نهاية المسرحية. ولم يفت المؤلف أن يقيم عقدة غرامية خلال تلك الأحداث، فيجعل بيبرس محبًا لصفية أخت شجرة الدر، ويدخل هبة الله منافسًا له في هذا الغرام. ومع أن الهدف الأساسي للمسرحية قد كان إظهار بطولة المسلمين، وسماحتهم في الحروب الصليبية، وانتصارهم بفضل شجاعتهم دون التجاء إلى الخديعة والغش كما كان يفعل الصليبيون خلال حروبهم مع المسلمين؛ لم يغفل إبراهيم رمزي جوانب الضعف البشري الطبيعي الذي في نفوس الأبطال المسلمين كبشر، وقد تجلى ذلك في البطل الكبير بيبرس، وذلك حين صوره المؤلف في بعض المواقف محتاجًا إلى العطف، ظامئًا إلى الحنان كغيره من الرجال، ومن تلك المواقف، هذا الموقف الذي كان بينه وبين شجرة الدر، والذي يشكو فيه لوعته لغياب حبيبته صفية، التي كان قد أخفاها الدسيسة "هبة الله".. وهذا جزء من الموقف:

شجرة الدر: "بصوت هادئ" يا مرحبًا بك يا ركن الدين. بيبرس: لمثل هذا الصوت فزعت نفسي، إلى مثل هذا الحنان تطلع قلبي، إلى مثل هذه النظرة المشفقة ظمأت روحي. املكي عني أساي، املكي عني دمعة عيني "يضع وجهه بين راحتيه" إني أكاد أجن يا أختاه "تخنقه العبرات". شجرة الدر: روح عنك يا ركن الدين، أتيأس من رحمة الله؟.. بيبرس: آه يا مولاتي. لقد بحثت عن صفية في كل مكان، لكني لم أوفق إلى خبر عنها، سألت البوادي والقفار، وفتشت الخرائب والديار، فلم تحر جوابًا، ولقد طالما تمثلتها في سفرتي تستصرخ، فأصرخ من أعماق قلبي: لبيك..لبيك.. ثم أنتبه فلا يجيبني إلا الصدى، حتى تغشاني غاشية جنون، فأهيم على وجهي في البراري.. ثم أصرخ:.. ها أنذا، لبيك.. إلى أن أذعرت طير قلبي المسكين بصراخي. وترينني الآن كالطفل، لا يخفف حزني دمعة أذرفها، أو أم آوي إليها. إني أكاد أجن، أجن، أواه ... 1". وقد رأى بعض النقاد أن إبراهيم رمزي قد عنى في تلك المسرحية بالأسلوب أكثر من عنايته بالمعاني، وذلك لما يرى من جودة أسلوبه وأناقته، وواضح أن هذا الرأي بعيد عن الدقة؛ أسلوب إبراهيم رمزي في مثله هذه المسرحية -برغم جودته والتأنق فيه- أسلوب غزير المعاني نابض بالحركة النفسية، والحركة الدرامية، وتلك الأناقة في اللغة قد أضفت على لغة المسرحية جمالًا، دون أن تنال شيئًا من طبيعة الحوار الفنية، ولا تزال لغة الفصحى الجيدة السبك -حتى اليوم- خير وسيلة للتعبير في المسرحيات التاريخية بنوع خاص2.

_ 1 المسرح النثري للدكتور مندور الحلقة الأولى ص37-41. 2 المصدر السابق ص41.

هذا، وقد كان فرح أنطون -وهو من إخواننا السوريين المتمصرين- قد كتب سنة 1914 مسرحية مشابهة باسم "صلاح الدين، ومملكة أورشليم"، قبل أن يكتب إبراهيم رمزي مسرحيته، مما يحتمل معه أن يكون اللاحق قد تأثر بالسابق، ومع إمكان ذلك، جاءت مسرحية إبراهيم رمزي أرقى من الناحية الفنية، وذلك لقرب الأحداث المتخيلة من ممكنات الحياة والتاريخ، ثم لروعة أسلوب إبراهيم رمزي، وغزارته، وتركيزه1.

_ 1 المصدر السابق ص43-44.

الفصل الرابع: فترة الصراع

الفصل الرابع: فترة الصراع دوافع الصراع ومجالاته بين الروح الوطنية والانحرافات الحزبية ... الفصل الرابع: فترة الصراع من أعقاب ثورة 19 إلى قيام الحرب العالمية الثانية 1922-1939 دوافع الصراع ومجالاته: 1- بين الروح الوطنية والانحرافات الحزبية: لقد خرجت مصر من ثورة 1919 ببعض المكاسب، وخطت في سبيل حريتها بعض الخطوات، فقد اضطرت إلى إعلان تصريح 28 فبراير سنة 1922، الذي نص على إنهاء الحماية المفروضة على البلاد، ثم أعلن الاستقلال، وصدر الدستور، فسجل أن جميع السلطات مصدرها الأمة، وقرر أن الحرية الشخصية مكفولة، وأن حرية الرأي والصحافة مضمونة، كما قرر حق الأمة في حكم نفسها، وحقها في أن يكون لها برلمان يمثل إرادتها، ثم أجريت الانتخابات، وفاز بالأغلبية حزب الوفد، الذي كان يمثل العناصر الوطنية حينذاك، فأسند إلى رئيسه سعد زغلول تأليف الوزارة، ثم افتتح البرلمان1، وبدأت البلاد تستشعر الحرية والسيادة، وتأمل أن تمضي في طريق النصر، محافظة على حقوقها بالدستور، معلنة إرادتها بالبرلمان، محققة لتلك الإرادة بالحكومة الوطنية. غير أن هذا الأمل لم يعش طويلًا، فقد تآمر القصر والإنجليز على استقلال مصر الوليد، وعلى دستورها الذي لم يجف مداده، وعلى برلمانها الذي لم تطو أعلام الاحتفال به، أما القصر، فكان يرى أن الدستور منحة منه، وأن السطلة العليا في البلاد يجب أن تكون له2، وأما الإنجليز فكانوا يريدون للاستقلال أن يكون شكلًا لا مضمونًا، وللدستور أن يكون ملهاة تحول النضال الوطني ضدهم، إلى صراع سياسي على الحكم، كما كانوا يريدون من البرلمان أن يخرج سياسيين أمعات، يربطون بلادهم ببريطانيا ربطًا

_ 1 اقرأ تفصيل أحداث هذه السنوات في كتاب: "في أعقاب الثورة المصرية" لعبد الرحمن الرافعي، جـ1ص39 وما بعدها. 2 انظر: المصدر السابق جـ2 ص237، وما بعدها إلى 242.

توثقه جمهرة الأصوات1، وقد ساعد بعض زعماء ثورة 19 على نجاح هذه المؤامرة، وذلك بتعلقهم بالحكم وميلهم إلى السلطة، وتمكينهم للأهواء الشخصية والمكاسب الذاتية، وقد استغل كل من القصر والإنجليز هذا الضعف في نفوس هؤلاء الزعماء، فوجهوا الضربات إلى الاستقلال والدستور، والحكم الوطني، بل إلى هؤلاء الزعماء أنفسهم؛ حيث ضربوا بعضهم بالبعض، وأحالوا طاقاتهم الوطنية النضالية، إلى خصومات حزبية نفعية، وهكذا أصبح القصر والإنجليز، والزعامات المنحرفة في جانب العدوان على الحرية والدستور، وأصبحت القوى الوطنية -تقودها بعض الزعامات المخلصة- في جانب الدفاع عن الحرية والدستور، ومكاسب ثورة 19 على وجه العموم. وقد سجل تاريخنا الحديث أن القوى الوطنية كانت تمكن للزعامات المخلصة من السلطة عن طريق الانتخابات، والسير على هدى الدستور، وأن القوى العدوانية المتحالفة ضد مكاسب الشعب، كانت تمكن للزعامات المنحرفة من السلطة عن طريق الانقلابات والمؤامرات، والاعتداء على الدستور، فقد جاءت القوى الوطنية بسعد زغلول إلى الحكم عن طريق الدستور، والبرلمان في أوائل سنة 1924، فأطاحت القوى العدوانية بسعد في أواخر العام نفسه، وجاءت بزيور، ومكنت له عن طريق تعطيل الدستور، وحل البرلمان2، ثم جاءت القوى الوطنية -بعد نضال- بمصطفى النحاس الذي خلف سعدًا في رياسة الوفد، وكان يتمتع بتأييد الأغلبية البرلمانية، وبمساندة الدستور حين جاءت به إلى الحكم تلك القوى الوطنية سنة 1928، ولكن القوى العدوانية المتحالفة ضد حرية الشعب ودستوره، وقد أطاحت به في نفس العام، وجاءت بمحمد محمود عن طريق تعطيل الدستور، وحل البرلمان3، وبعد نضال آخر جاءت القوى الوطنية بمصطفى النحاس للمرة الثانية إلى الحكم

_ 1 انظر: Allenby in Egypt: Viscount wavell, p.104. 2 انظر: في أعقاب الثورة المصرية جـ1 ص135، وما بعدها و195 وما بعدها. 3 انظر: المصدر السابق جـ1 ص229، وما بعدها وجـ2 ص11، 52.

في أول سنة 1930، وكان ذلك عن طريق الانتخابات، ورعاية نصوص الدستور؛ ولكن قوى العدوان ما لبثت أن أطاحت به، وجاءت بصدقي بعد شهور من نفس العام، وكان هذا الانقلاب -ككل الانقلابات السابقة- عن طريق تعطيل البرلمان والعبث بالدستور، بل إن هذا الانقلاب قد أضاف إلى التآمر العدواني تزييف دستور خادع يسلب الأمة حقوقها، ويضع مقدراتها في قبضة القصر، كما أضاف إلى ذلك تشكيل برلمان شائه يزور إرادة الشعب ويحل محلها إرادة خصوم الشعب1، وبعد نضال أطول وجهاد أشق أتت القوى الوطنية بمصطفى النحاس إلى وزارته الثالثة في مايو سنة 1936، وكان ذلك -كما حدث دائمًا- عن طريق الانتخابات ورعاية الدستور، غير أن قوى العدوان أطاحت به في العام التالي، وجاءت بمحمد محمود عن الطريق الذي سلكته دائمًا تلك القوى العدوانية، وهو طريق العبث بإرادة الشعب الممثلة في برلمانه، والزراية بحقوقه المسطرة في دستوره2. هذا، وقد نجحت قوى العدوان أخيرًا في تحويل البقية البقاية من الزعامات الوطنية، التي كانت تتصدر النضال الوطني في تلك السنين، فانحرفت عن الطريق القويم، وتورطت في مهادنة القصر، وفي الاستسلام للإنجليز، هذا الاستسلام الذي أكدته معاهدة 36، التي أبرمت بين مصر وبريطانيا، واشترك في توقيعها عن مصر جبهة تضم ممثلين لكل الأحزاب السياسية العاملة في ذلك الوقت، فقد كانت تلك المعاهدة تحمل في طياتها خديعة كبرى، حيث نصت في مقدمتها على الاستقلال، ثم حوت في صلبها كل ما يسلب هذا الاستقلال3. كذلك تورطت البقية الباقية من الزعامات الوطنية في مصادرة الحريات

_ 1 انظر: في أعقاب الثورة المصرية جـ2 ص53-152. 2 انظر: في أعقاب الثورة المصرية جـ2 ص154-218 وجـ3 ص10-59. 3 انظر: في أعقاب الثورة المصرية جـ3 ص18-31.

والإغداق على المحاسيب، واتخاذ التأييد الشعبي -أو الأغلبية البرلمانية- مسوغًا لدكتاتورية حزبية، تعمل من أجل تأكيد سلطانها ونفع أنصارها، وإن كان ذلك على حساب الوطن والمواطنين. ويرى هذا الانحراف بصورة واضحة، في مسلك مصطفى النحاس، منذ وزارته التي جاءت سنة 1936؛ حيث مكن بما تورط فيه من انحرافات، لنجاح المؤامرة التي طوحت بوزارته، وجاءت بوزارة محمد محمود في أواخر سنة "1937"1. كذلك يرى هذا الانحراف بصورة أوضح في مسلك مصطفى النحاس أيام وزارته التي ألفها بأمر الإنجليز في فبراير سنة 1942، خلال الحرب العالمية الثانية؛ ففي خلال حكم هذه الوزارة، اتضحت التبعية للاحتلال كما لم تتضح من قبل، واتخذت مساندة الإنجليز وسيلة لقهر الخصوم السياسيين، حتى أصدقاء الأمس الذين جرأوا فقط على النقد، أو المخالفة في الرأي2. ومن هنا تفككت القوى الشعبية، وانحرف زعماؤها، وأصبح حزب الوفد -الذي كان في أول عهده يمثل القيادة الوطنية المخلصة -يمثل دكتاتورية حزبية لا تقل ضررًا عن أحزاب الأقلية، بل إن انحرافات هذا الحزب ولدت منه أحزابًا أخرى، أضافت إلى الصراع الحزبي الممزق عناصر جديدة، تلقى الوقود في اللهب. فقد بدأت الحياة الحزبية في الفترة السابقة بحزب الأمة، والحزب الوطني3،

_ 1 انظر: المصدر السابق جـ3 ص44 وما بعدها. 2 انظر: المصدر السابق جـ3 ص101-108 و113-120. 3 ألف حزب الأمة بصفة رسمية في 21 سبتمبر سنة 1907 "انظر مذكراتي في نصف قرن أحمد شفيق جـ2 ص129". وألف الحزب الوطني بصفة رسمية في 27 ديسمبر سنة 1907. وقد كان اسم الحزب الوطني يطلق أية جهاد مصطفى كامل، على جماعة الوطنيين الذين ينادون بالاستقلال والحرية "انظر: مصطفى عبد الرحمن الرافعي ص225-260".

أما في هذه الفترة، فقد تحول حزب الأمة أولًا إلى حزب الوفد1، ثم انفصل المختلفون مع سعد -وأكثرهم من رجالات حزب الأمة السابق-، وألفوا حزب الأحرار الدستوريين2، ومضى الصراع بين الوفد والأحرار حينا إلى أن أنفصل عن الوفد جماعة، وألفوا الهيئة السعدية3، ثم انفصل آخرون وألفوا الكتلة الوفدية4، كل هذا بالإضافة إلى تلك الأحزاب التي كانت تظهر أشبه بعمليات الإجهاض غير المشروع،، كحزب الاتحاد الذي افتعل لتأييد زيور5، وحزب الشعب الذي اصطنع لمساندة صدقي6. وهكذا طبعت تلك الفترة من الناحية السياسية بطابع الصراع، الذي يمثل تحالف قوى القصر، والإنجليز والمستوزرين طرفه العدواني، وتمثل القوى الوطنية طرفه المناضل، وبرغم تفوق قوى العدوان، ونجاحها حتى في الانحراف بالبقية الباقية القليلة المخلصة من الزعامات الوطنية، قد تجلت مقاومة الشعب

_ 1 تألف الوفد أول ما تألف في 13 نوفمبر سنة 1918، وكان أبرز أعضائه من أبناء حزب الأمة "انظر: ثورة سنة 1919 لعبد الرحمن الرافعي جـ1 ص75". 2 تألف حزب الأحرار في 30 أكتوبر سنة 1922، وكان رئيسه أولًا عدلي، ثم عبد العزيز فهمي، ثم محمد محمود "انظر: في أعقاب الثورة المصرية لعبد الرحمن الرافعي جـ1 ص68". 3 فصل محمود فهمي النقراشي من الوفد في سبتمبر سنة 1937 لمعارضته، ثم فصل أحمد ماهر في يناير سنة 1938 لتضامنه مع النقراشي؛ ولأنه حين كان رئيسًا لمجلس النواب أمر بعدم المناقشة في مرسوم تأليف وزارة محمد محمود ومرسوم تأجيل البرلمان، وكان هذان الرجلان دعامتي الهيئة السعدية. "انظر: في أعقاب الثورة المصرية جـ3 ص50 وما بعدها وص58". 4 فصل مكرم عبيد من الوفد في مايو سنة 1942 لعدم موافقته على استثناءات معينة، فألف ما سمي بالكتلة الوفدية "انظر: في أعقاب الثورة المصرية جـ3 ص118، وما بعدها". 5 انظر: في أعقاب الثورة المصرية جـ1 ص212. وقد كان تأسيس هذا الحزب في يناير سنة 1925. 6 انظر: في أعقاب الثورة المصرية جـ2 ص242، وقد كان تأسيس هذا الحزب في نوفمبر سنة 1930.

نفسه في كثير من المواقف المشرقة، التي تشهد بأنه لا يمكن أن يقهر مهما كانت قوى الشر التي تحاربه، أو تحاول تعويق خطاه على طريق النصر، فقد قابل ممثلو الأمة قرارات حل البرلمان في عهود الانقلاب الدستوري، وسد مداخل دار النيابة بالجنود المدججين بالسلاح؛ قابلوا ذلك بالتحدي والاجتماع على شكل برلمان في أماكن أخرى، ثم اتخذوا قرارات جريئة تدين الحكومات الانقلابية بالاعتداء على الدستور والحريات، حدث ذلك في عهد زيور1، كما حدث في عهد محمد محمود2، كما حدث في عهد صادق3. كذلك قابل كتاب الأمة، ومفكروها إجراءات المصادرة وكبت الحريات، بالصيحات الحرة والكتابات الجريئة، التي دفعت بعدد منهم إلى السجن، كما حدث للأستاذ العقاد، حين هاجم فؤادًا الملك الطاغية تحت قبة البرلمان4. بل إن كثيرين من أبناء الشعب قد قابلوا القهر بالتمرد، والعدوان بالثورة، وعرضوا أجسادهم لسياط العذاب، بل فتحوا صدورهم لرصاص القتل5. وتاريخ مصر الحديث مزدان بكثير من أسماء هؤلاء الأبطال الذين سقطوا في سبيل الحرية، وفي مقدمة هؤلاء تأتي أسماء شهداء سنة 1935: عبد الحكم الجراحي طالب الآداب، وعبد المجيد مرسي طالب الزراعة،

_ 1 انظر: في أعقاب الثورة المصرية جـ1 ص236 وما بعدها. 2 انظر: في أعقاب الثورة المصرية جـ2 ص61 وما بعدها. 3 انظر: في اعقاب الثورة المصرية جـ2 ص118 وما بعدها. 4 كان صدقي قد تولى الحكم 1930 وأصبح من المتوقع -كما هي العادة- حل البرلمان وتعطيل الدستور، فاجتمع البرلمان اجتماعًا خاصًا للنظر فيما يراد بدستور البلاد، ونوقش الموضوع، ووقف العقاد خطيبًا، فكان مما قاله: "إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس يخون الدستور، أو يعتدي عليه"، وكان من الواضح أن المقصود هو الملك فؤاد، فدبر للعقاد قضية عيب في الذات الملكية، وحكم عليه بالسجن تسعة أشهر "انظر: العقاد -دراسة وتحية ص64-65". 5 انظر: في أعقاب الثورة المصرية جـ2 ص119، وما بعدها وص50 وما بعدها، وص174 وما بعدها.

وعلي عفيفي طالب دار العلوم1. وبرغم أن قوى العدوان المتحالفة ضد مكاسب الشعب قد حولت الاستقلال إلى لفظ بلا معنى، وجعلت من الحرية شهيدًا تمزقه الحراب، وأحالت النضال الوطني إلى صراع حزبي، وخلقت من الدستور ملهاة يعبث بها القصر والمستوزرون، ومن البرلمان والحكومة مطمعًا يهرول نحوه هواة السلطة، ومحترفو الحكم؛ برغم ذلك كله قد التمعت في تلك الفترة إشراقات كانت ذات أثر بالغ في حياة مصر الاجتماعية والفكرية والأدبية، فقد بقيت الروح الوطنية حية نامية مناضلة، تتطلع إلى غد أكثر إشراقًا، وتبحث عن زعيم أعظم قدرة وأنفذ بصيرة، كما أصبح الناس أشد تعلقًا بالحرية التي كسبوها بدمائهم، وحاولوا جاهدين ممارستها، وتأكيدها في حياتهم، مما جعل من تلك الفترة خطوة واسعة على طريق النصر.

_ 1 انظر: في أعقاب الثورة المصرية جـ2 ص201 وما بعدها.

بين نشوة النصر ومرارة النكسة

2- بين نشوة النصر، ومرارة النكسة: كان لثورة 1919، ومشاركة كل الطوائف الشعبية فيها، ثم انتهائها ببعض المكاسب، أثر واضح في الشعور بالثقة عند أبناء الشعب، الذين حملوا عبء النضال ثم استشعروا حلاوة النصر، بعد أن ذاقوا ويلات الحرب، ومن قبلها آثام الاحتلال. وقد تحسنت الأحوال الاقتصادية في أوائل تلك الفترة بعض الشيء، حيث استشعر الناس الاستقرار والأمن، بعد معاناة القلق والخوف، وحيث أنشئت بعض المؤسسات الاقتصادية كبنك مصر وبنك التسليف، فقد أدى بدء الالتفات إلى الصناعة مع شركات بنك مصر، إلى إتاحة الفرصة لطائفة من الأيدي العاملة، على حين أنقذ بنك التسليف كثيرين من الفلاحين، من أيدي المستغلين والمرابين1.

_ 1 انظر: تاريخ مصر الاقتصادي والمالي في العصر الحديث للدكتور أمين مصطفى عفيفي عبد الله ص503 وما بعدها.

وقد أسهمت تلك العوامل في نمو القوى الشعبية، التي أحسست كيانها وأدركت دورها، وفرضت وجودها على القوى المتصارعة التي اضطرت إلى أن تحس هذا الكيان، وتدرك هذا الدور. غير أن هذه القوى الشعبية لم تستطع برغم ذلك أن تتصدر، وهذا لعدم إمكانياتها المادية، ولعدم اكتمال قوتها إلى الحد الذي يتيح لها تولي القيادة. فقد كانت السيطرة لا تزال في أيدي الإقطاعيين، الذين كانوا يلقبون بأصحاب المصالح الحقيقية1، والذين كانوا يتولون الزعامة اللاسياسية، ويضمون إلى جانبهم من يتولون الزعامة الفكرية2، الأمر الذي أعطاهم مزيدًا من القوة، بل مزيدًا من السيطرة؛ فجعل منهم أكثر الحكومات والبرلمانات، وأهم السلطات التي تتصدر طبقات الشعب. ولقد كان من أسباب بقاء الإقطاعيين مسيطرين على النفوذ والتصدر، أن ثورة 19 لم تلتفت إلى التغير الاجتماعي في حياة المصريين، أو بتعبير أدق، لم يلتفت زعماء تلك الثورة إلى أن يجعلوا منها ثورة اجتماعية واقتصادية3، ولم يتجاوزوا بها هذا المجال السياسي الضيق، والذي انتهى ببعض المكاسب التي تنازع عليها هؤلاء الزعماء، فقد ظلت الزراعة هي عماد الاقتصاد المصري، وبقيت معظم الأراضي الزراعية التي هي عماد هذا الاقتصاد، في أيدي الإقطاعيين، وقد سبب هذا الوضع كثيرًا من الأضرار الاقتصادية، والاجتماعية زيادة على الأضرار السياسية، فبالإضافة إلى سيطرة طائفة قليلة من الطوائف، وتحكمها في مصائر البلاد، كان من أهم الأضرار استغلال الاستعمار لهذا الوضع لصالحه، وذلك بالضغط على السياسة المصرية، وتوجيهها إلى حيث يشاء، فقد تبع بقاء مصر بلدًا زراعيًا، الاهتمام بالقطن كمصدر أول لثروة البلاد،

_ 1 انظر: الجريدة عدد 23 مارس سنة 1907، وعدد 13 يونيه سنة 1907. 2 كان حزب الأمة يستكتب الدكتور محمد حسين هيكل، والدكتور طه حسين، كما كان حزب الوفد يستكب الأستاذ عباس العقاد، والأستاذ سلامة موسى. 3 انظر: الميثاق الوطني ص26-27.

وتبع ذلك اعتبار بريطانيا لنفسها المستورد الوحيد لهذا القطن، وتبع ذلك الاعتبار تحكمها في ثمنه، أي تحكمها في مصدر الثورة المصرية الأول، ومن هنا كان التخلف الاقتصادي الذي بلغ حد الأزمة في عهد صدقي "من سنة 30 إلى 34"، تلك الأزمة التي عانى منها الشعب كثيرًا من العسر والضيق والتأزم1. لكن برغم عدم تصدر القوى الشعبية، وبقاء الصدارة لطبقة الإقطاعيين، قد كان لنمو القوى الشعبية أثر واضح في حياة تلك الفترة، وبخاصة من الناحية الأدبية، وسوف نرى في مجال الأدب، كيف عنيت فنون بهذه الطبقة، فاستلهمت جوانب من حياتها، وصورت بعض شخصياتها، وعالجت كثيرًا من مشكلاتها. هذا ولقد كان من أهم مظاهر الحياة الاجتماعية في تلك الفترة، استقرار تجربة تحرر المرأة، ومشاركتها في كثير من المجالات السياسية، والكفرية والاجتماعية. فبعد أن كان قاسم أمين في الفترة السابقة ينادي للمرأة بالسفور، ويرى الكثير من المعارضة بل المعاداة، نرى المرأة في هذه الفترة قد خرجت إلى كل مجالات الحياة، وشاركت الرجل في تلك المجالات مشاركة توشك أن تكون تامة. وكانت ثورة 19 قد ساعدت على هذه الدفعة، حيث شجعت المرأة على الإسهام في الحياة السياسية، حين خرجت أول مظاهرة نسوية سنة 1919 تطالب بالاستقلال، وتحقيق مطالب البلاد2، ثم تبع ذلك تأليف لجنة مركزية للسيدات الوفديات سنة 22، شاركت في حركة المقاطعة التي نظمها الوفد ضد الإنجليز، على أثر اعتقال سعد للمرة الثانية3، ثم دخلت المرأة الجامعة وواصلت مشاركتها في الحياة العلمية4، كذلك ألفت الجمعيات

_ 1 انظر: في أعقاب الثورة المصرية لعبد الرحمن الرافعي جـ2 ص163، وما بعدها. 2 انظر: ثورة سنة 1919 لعبد الرحمن الرافعي جـ1 ص137-140. 3 انظر: حوليات مصر السياسية لأحمد شفيق -المقدمة جـ2 ص365-367. 4 دخلت المرأة الجامعة لأول مرة سنة 1929 "انظر تقويم جامعة القاهرة الصادر سنة 1957 ص386".

النسوية، ومضت تسهم بشكل واضح في الحياة الاجتماعية. فإذا جاوزنا الجوانب الاقتصادية والاجتماعية لتلك الفترة، إلى تلمس الجوانب النفسية، أو التعرف على "سيكلوجية" المجتمع حينذاك، رأينا أن النفسية الاجتماعية كانت -في أوائل ذلك العهد- مزيجًا من الشعور باستقلال الشخصية المصرية؛ والإحساس بالحرية الفردية، ثم من روح الثورة والرغبة في التغيير، وقد وصل الشعور بالاستقلال والحرية عند البعض إلى حد الغرور الذاتي أو الفردية الجامحة1، كما بلغ الإحساس بروح الثورة والرغبة في التغيير عند بعض آخر، إلى درجة التمرد أو التخبط، أو الهدم في بعض الأحايين2. أما بعد سنوات من ذلك العهد، وبالأخص بعد اتضاح انحراف الزعامات، وافتضاح حيل الاستعمار، وانكشاف تآمر القصر؛ وبعد تحول الاستقلال إلى حماية مقنعة، والدستور إلى خديعة يتلهى بها المستوزرون؛ وبعد التنكيل بكثير من المواطنين، والضغط على الحريات والانتكاس بمكاسب الشعب -بعد أن كان ذلك، قد تحول البعض إلى الشعور بالمرارة والإحساس بخيبة الأمل، مما أدى بطائفة إلى الانطواء على النفس، أو العكوف على الذات، أو الانعزال عن قضايا المجتمع3، على أن نفرًا من هؤلاء كان يستسلم في انطوائه، وعزلته إلى الحزن واجترار الشكاية والألم4، على حين كان يستعيض نفر آخر بألوان من المسكنات أو الملهيات؛ فيعيش على فلسفة استمتاعية، تلهي ذاته، وتزيد الهوة بينه وبين قضايا

_ 1 كان من مظاهر هذا الشعور عند البعض، الدعوة إلى الانفصال عن آسيا وأفريقيا، بل الانفصال عن الماضي الإسلامي، كما نرى في بعض كتابات سلامة موسى حينذاك. 2 كان من آثار هذا الإحساس عند البعض، الدعوة إلى التغريب حينًا، وإلى الفرعونية حينًا، وإلى العامية حينًا آخر، كما نرى في بعض ما كتب حينذاك بأقلام هيكل عن الفرعونية، وطه حسين عن التغريب، وسلامة موسى عن العامية. 3 وقد عبر عن هذا الشعر الابتداعيون الذي انضم كثير منهم إلى جماعة "أبوللو". 4 من أمثال الشاعر الهمشري المتوفى في ديسمبر سنة 1938.

أمته1، وسوف نرى حين نتحدث عن الأدب، كيف كان مرد الاتجاهات الأدبية المختلفة إلى هذه الأنماط من المشاعر والأحاسيس، بل كيف تشكل النتاج الأدبي عمومًا بهذا الطابع الاجتماعي، وما حدد معالمه من أبعاد.

_ 1 من أمثال الشاعر علي محمود المتوفى سنة 1949.

نمو الحياة الثقافية

3- نمو الحياة الثقافية: نمت الحياة الثقافية في مصر بعد ثورة 19، وكان هذا النمو نتيجة لعوامل عديدة، ومن أهم تلك العوامل: تدعيم الجامعة، واتضاح شخصيتها، بعودة طلائع بعثاتها إلى الوطن، وإسهام هذه الطلائع بنشاط واضح في الحياة الثقافية، وكان من ألمع هؤلاء، الدكتور طه حسين، والدكتور أحمد ضيف، والدكتور علي العناني1، كما كان من أسباب تدعيم الجامعة

_ 1 عاد طه حسين من بعثته في فرنسا سنة 1919، وعاد أحمد ضيف سنة 1918، وعاد علي العناني سنة 1921. وقد ولد طه حسين في عزبة الكيلو "على بعد كيلو من مغاغة مركز المنيا"، وذلك سنة 1889، وتلقى دروسه الأولى في كتاب القرية بمغاغة، ثم انتقل إلى القاهرة ليدرس في الأزهر سنة 1902، وحين أنشئت الجامعة الأهلية أخذ يتردد عليها من سنة 1908، ثم تفرغ لها حين أسقط في العالمية سنة 1912. ونال الدكتوراه من الجامعة سنة 1914 على بحثه: "ذكرى أبي العلاء"، ثم أوفد في بعثه في نفس العام إلى فرنسا، فدرس نحو عام في مونلييه، ثم عاد إلى مصر لعجز ميزانية الجامعة سنة 1915، ثم سافر في أواخر هذا العام إلى باريس بعد إصلاح شئون الجامعة، وظل بها حتى سنة 1919، وكان قد نال الدكتوراه سنة 1918 على بحثه "فلسفة ابن خلدون"، ثم دبلوم الدراسات العليا في التاريخ القديم سنة 1919، ثم عاد إلى مصر، فعمل مدرسًا للتاريخ القديم بالجامعة القديمة، ثم أستاذًا للأدب العربي حين ضمت الجامعة إلى الحكومية سنة25، ثم انتخب عميدًا للآداب سنة 1930، ثم أخرج من الجامعة في عهد صدقي سنة 1932، ثم أعيد إلى الجامعة سنة 1936، ثم انتخب عميدًا سنة 1938، ثم عين مستشارًا فنيًا لوزارة المعارف، ثم مديرًا لجامعة الإسكندرية في وزارة الوفد سنة 1942، ثم أحيل إلى التقاعد سنة 1944، ثم عاد وزيرًا للمعارف في وزارة الوفد سنة 1950، ونال جائزة الدولة التقديرية سنة 1961، وخلف بعد ذلك لطفي السيد في رياسة =

واتضاح شخصيتها وضعها تحت إشراف الدولة سنة 1925، وضم مدارس الحقوق والطب والعلوم إليها، ثم تتابع1 الكليات الأخرى إلى حرمها بعد ذلك، حتى تمت جامعة مكتملة2. كذلك كان من مظاهر نمو الحياة الثقافية في مصر خلال تلك الفترة، إصلاح الأزهر وإنشاء كلياته المتخصصة3، كما كان من مظاهر نمو الحياة الثقافية أيضًا توسع الدولة في التعليم نسبيًا، وبخاصة في مجال التعليم العام، ثم ازدياد الاهتمام بتعليم المرأة، وإيفاد كثير من البعثات4، التي لم تقتصر على الجانب الحكومي، بل تعدته إلى الهيئات والمؤسسات، التي يأتي

_ = المجمع اللغوي. "اقرأ عنه: في "طه حسين الكاتب والشاعر" لمحمد السيد كيلاني"، "ومع طه حسين" لسامي الكيلاني و"الهلال" عدد أول فبراير سنة 1966". واقرأ عنه في: Studies on the Civilization of Islam: Gibb.pp. 275-279 أما أحمد ضيف فقد ولد سنة 1880، وتخرج في دار العلوم سنة 1909، وأرسلته الجامعة في بعثة إلى فرنسا، فحصل على الدكتوراه سنة 1917، وعاد في أوائل سنة 1918، فعمل في الجامعة، إلى أن نقل منها سنة 1925 إلى المعلمين العليا، ثم عاد إلى دار العلوم سنة 1932، وما زال بها حتى صار وكيلًا لها سنة 1938، ثم أحيل إلى المعاش سنة 1940، فعمل في كلية الآداب حتى توفي سنة 1945، "اقرأ عنه في: "تقويم دار العلوم، لمحمد عبد الجواد ص164 وما بعدها". أما علي العناني فقد ولد سنة 1881، وتخرج في دار العلوم سنة 1910، وأرسلته الجامعة في بعثة إلى ألمانيا، وحصل على الدكتوراه سنة 17، وقضى فترة بتركيا، ورجع إلى مصر نحو سنة 1921، وعين مدرسًا بالجامعة، ثم نقل منها سنة 25 إلى المعلمين العليا، ثم إلى دار العلوم، ثم إلى وزارة المعارف ليعمل مفتشًا، وتوفي سنة 1943 اقرأ عنه في: "تقويم دار العلوم" ص221، وما بعدها". 1 انظر: في أعقاب الثورة المصرية لعبد الرحمن الرافعي جـ2 ص21-22، وانظر: محمد فريد للمؤلف نفسه ص377. 2 انظر: تقويم جامعة القاهرة الصادر سنة 1957 ص1-4. 3 انظر: الأزهر -تاريخه وتطوره- ص265 وما بعدها. 4 انظر: تاريخ البعثات الحكومية لمحمد فؤاد شاكر "مكتوب على الآلة الكاتبة بمكتبة وزارة التربية بقم 1208".

في مقدمتها بنك مصر؛ حيث أوفد طائفة من أبناء الأمة للتخصص في فنون مختلفة، لينتفع بهم في مجالات الصناعة التي احتضنتها شركات البنك حينذاك1. على أن هناك أجهزة أخرى غير هذه الأجهزة التعليمية الرسمية، وغير الرسمية قد أسهمت بشكل واضح في النمو الثقافي الذي شهدته البلاد في تلك السنين. وقد كانت الصحافة أهم تلك الأجهزة؛ فقد استتبع الصراع الحزبي الذي كان سمة السياسية في تلك الفترة، أن أنشأ كل حزب صحيفة أو أكثر، وكان هذا أساسًا لخدمة أغراض الحزب، ولكن رؤي أن ملء الصحف بحديث السياسة وحدها لا يلفت أنظار القراء، ولا يجلب كثيرًا من الأنصار، ومن هنا اهتمت الصحف الحزبية بالنواحي الثقافية التي لا صلة لها بالسياسة، وكان لتلك الصحف كتاب، هم أساسًا من الرواد الثقافيين، لا من الزعماء السياسيين، وهكذا كان لحزب الوفد من الصحف: "البلاغ" و"كوكب الشرق" و"البلاغ الأسبوعي"، وكان له من الكتاب -في أوائل تلك الفترة- طائفة منهم: عباس العقاد وسلامة موسى وعبد القادر حمزة. كذلك كان لحزب الأحرار من الصحف: "السياسة" والسياسة الأسبوعية"2، كما كان له من الكتاب طائفة منهم: الدكتور محمد حسين هيكل، والدكتور طه حسين، والدكتور محمود عزمي.

_ 1 انظر: في أعقاب الثورة المصرية لعبد الرحمن الرافعي جـ2 ص 268. 2 ظهرت " السياسة" في 30 أكتوبر سنة 1922، و"السياسة الأسبوعية" في 13 مارس سنة 1926، بمثابة ملحق أدبي للسياسة، وظهر "البلاغة" في سنة 1923، و"كوكب الشرق" في سبتمر سنة 1924، و"البلاغ الأسبوعي" في سنة 26 نوفمبر سنة 1926، "انظر تطور الصحافة المصرية لإبراهيم عبده ص 206 وما بعدها".

وقد كان كتاب صحف الوفد متأثرين بالثقافة الإنجليزية كما كان كتاب صحف الأحرار متأثرين بالثقافة الفرنسية1. على أن الأمر لم يقتصر على هذه الصحف الحزبية، أو ذات اللون الحزبي الواضح، بل كانت هناك صحافة ثقافية، أو ذات مسلك ثقافي في الظاهر على الأقل، وتمثل مجلتا الهلال والمقتطف هذا اللون من الصحافة، وقد كان يغلب على الأولى الطابع الأدبي، وعلى الثانية الطابع العملي، وأصحاب كل من المجلتين كانوا من المتمصرين الشاميين، الذين يقدرون مصلحة البلاد حينًا، ويخطئونها في كثر من الأحايين2. كذلك لم يقف الأمر عند هذين اللونين من الصحافة المسهمة في نمو الثقافة عن طريق الترويج للأحزاب السياسية حينًا، وعن طريق إنجاح المؤسسات الشامية حينًا آخر؛ بل إن صحافة وطنية ثقافية خالصة قد ولدت خلال تلك الفترة، وأدت أجل الخدمات إلى البلاد في تلك السنوات، ومثل ميلادها مرحلة تحول في الحياة الثقافية والفكرية على السواء، وقد تمثلت هذه الصحافة في مجلات "الرسالة" و"الرواية"3 و"أبوللو"4 و"الثقافة"5، وأمثالها.

_ 1 وقد كان لون إحدى الثقافتين واضحًا في آثار إحدى الطائفتين، على حين كان يتضح لون الثقافة الأخرى في الطائفة المقابلة، فعلى حين نجد طه حسين مثلًا يهتم ببودلير، وينهج نهج ديكارت نجد العقاد يهتم بتوماس هاردي، ويأخذ طريق هازلت. 2 انظر: بعض ما يؤخذ على اتجاه أصحاب المقتطف في: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد حسين جـ1 ص73، وما بعدها وجـ2 ص334، وما بعدها، وانظر بعض ما يؤخذ على اتجاه أصحاب الهلال في المصدر نفسه جـ2 ص327، وما بعدها. 3 أنشأ هاتين المجلتين الأستاذ أحمد حسن الزيات، الأولى في يناير سنة 1933، وظلت تصدر حتى سنة 1953. أما الثانية فظهرت في فبراير سنة 1937، وظلت إلى سنة 1940، ثم ضمت إلى الرسالة. 4 أنشأ هذه المجلة الدكتور أحمد زكي أبو شادي في سبتمبر سنة 1932، واستمرت عامين، فكان آخر أعدادها في ديسمبر سنة 1934. 5 أصدرت هذه المجلة لجنة التأليف والترجمة والنشر برياسة الأستاذ أحمد أمين في يناير سنة 1939، واستمرت 14 عامًا.

وهناك جهاز آخر بعد جهاز الصحافة، لا شك أنه قد أسهم بنصيب في تنمية الثقافة في تلك الفترة، هذا الجهاز هو المسرح، فقد ازداد الاهتمام بهذا الجهاز، فأنشئت الفرقة القومية، وجعل على رأسها خليل مطران1، كما كانت قد أنشئت فرق مسرحية أخرى كفرقة رمسيس2، وقد أسهم هذا النشاط المسرحي الخصب في إفساح آفاق المشاهدين، إلى ما كان من إنضاج فن المسرحية، وإخصاب الأدب المسرحي، على ما سنرى حين يكون الحديث عن الأدب المسرحي في هذه الفترة. ولا يمكن في مجال الحديث عن الأجهزة الثقافية، وإسهامها في التنمية الثقافية خلال ذاك العهد، أن نغفل السينما، فقد دخلت مصر لأول مرة خلال هذه الفترة3، وبرغم أنها بدأت بأفلام أجنبية صامتة، وبأفلام عربية صامتة كذلك، ثم ثنت بأفلام ناطقة، ولكنها هزيلة -برغم ذلك قد أدت السينما بدورها خدمات لا تنكر في مجال تنمية الثقافة؛ حيث أطلعت مشاهدين كثيرين على أقطار بعيدة، وأشركتهم في قضايا عديدة، كما حركت خيالهم، ووسعت دنياهم، ونمت مشاعرهم، وزادت من معارفهم. كذلك لا يمكن أن تغفل الإذاعة في مجال الحديث عن الأجهزة الثقافية التي عرفت في هذه الفترة، فقد دخل المذياع إلى مصر لأول مرة خلال هذه السنين. وبرغم أنه بدأ يتلقى إذاعات إعلانية، ومواد ترفيهية هزيلة مما كانت ترسله

_ 1 أنشئت هذه الفرقة سنة 1935. 2 أنشئت فرقة رمسيس سنة 1923. 3 ظهر أول فيلم مصري سنة 1927، وهو فيلم ليلى، وكان فيلمًا صامتًا، وظهر أول فيلم مصري ناطق سنة 1935، وهو فيلم أولاد الذوات. انظر: صحيفة الأخبار العدد الصادر في 12 نوفمبر سنة 1967.

المحطات الأهلية المحلية؛ ما لبث أن خضع لإشراف الدولة1، واهتم بالمواد الثقافية عن طريق البرامج، والأحاديث، والتمثيليات، بل تجاوز ذلك إلى الاهتمام بالمواد الأدبية الخالصة كالأشعار، والقصص والنقد، مما كان له أثر في الحياة الثقافية بعامة، وفي الحياة الأدبية بخاصة.

_ 1 وجدت محطات إرسال وإذاعات ساذجة قبيل سنة 1932، وكان يديرها بعض تجار أجهزة الراديو، ثم أصبحت الإذاعة تحت إشراف الدولة في مايو سنة 1934، وكانت تديرها شركة ماركوني تحت إشراف وزارة الداخلية حينًا، وتحت إشراف وزارة المواصلات حينًا، وتحت إشراف وزارة الشئون في بعض الأحايين، ثم أنهت الحكومة المصرية عقدها مع شركة ماركوني وصيرت الإذاعة جهازًا مصريًا لحمًا ودمًا منذ يومًا سنة 1947.

غلبة التيار الفكري الغربي

4- غلبة التيار الفكري الغربي: شهدت تلك الفترة تحولًا خطيرًا في الحياة الفكرية، وقد تمثل هذا التحول في تغلب التيار الفكري المتجه إلى الغرب، والمستدبر للشرق، والقائم أولًا على الشعور الوطني لا الإسلامي ولا العربي، والمهتم ثانيًا بالارتباط بالواقع المحلي، واتخاذ الغرب مثلًا أعلى لترقية هذا الواقع والنهوض به، ثم المبتعد آخر الأمر على التراث وتمجيده1. وقد كان هناك أسباب عديدة دفعت بهذا الاتجاه الفكري إلى الأمام، بعد أن كان في الفترة السابقة يأتي في المحل الثاني، ويكاد ينحصر تفوقه في المجال السياسي والإصلاحي فحسب، مع ترك التفوق في المجال الفكري والأدبي للاتجاه المحافظ المؤمن أساسًا بالفكرة الإسلامية، والمتجه ابتداء إلى تطوير الحاضر بالاتكاء على أمجاد الماضي، وعدم الافتتان بكل ما هو غربي2.

_ 1 اقرأ ما ورد عن هذا التيار في الفصل السابق، المقال 2- مراحل النضال وطرائقه ... وانظر مراجع هذا المقال. 2 اقرأ ما ورد عن هذا التيار في الفصل السابق، المقال -مراحل للنضال وطرائقه، وانظر مراجع هذا المقال.

أما أهم تلك الأسباب التي جعلت من الاتجاه الغربي اتجاهًا رئيسيًا متفوقًا، ودفعت به إلى الأمام في المجال الفكري والأدبي، فأهمها: تلك الروح التي خلفتها الحرب العالمية الأولى، ومن بعدها ثورة سنة 1919؛ فشأن الحروب والثورات أن تزلزل القيم، وتدعو إلى التغيير، وتدفع إلى التطلع نحو الجديد. كذلك كان من أهم الأسباب، هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، واتضاح فشل فكرة الخلافة والجامعة الإسلامية، بقيام ثائرين في تركيا نفسها، يلغون الخلافة، ويرفضون الجامعة الإسلامية، وينادون بفكرة الوطنية المحلية1؛ الأمر الذي شجع على تبني الفكرة نفسها في مصر، بل على ظهور كتاب جريء، يقرر أن الخلافة ليست شكلًا حتميًّا للحكم يفرضه الإسلام، وهو كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ علي عبد الرازق، أحد كتاب جريدة السياسية2. ثم كان من أهم أسباب تفوق هذا الاتجاه كذلك، ازدياد الاتصال بالغرب في المجال الفكري بسبب عودة طائفة من الدارسين في أوروبا إلى مصر، ممن كانوا يؤمنون بهذا الاتجاه الغربي ويروجون له، من أمثال محمد حسين هيكل، ومحمود عزمي وطه حسين. كما كان من أسباب تفوق هذا الاتجاه، سيطرة روح حزب الأمة على الحياة في تلك الفترة؛ فذلك الحزب الذي أسس ذلك الاتجاه في الفترة السابقة، قد تحول في هذه الفترة أولًا إلى الوفد، حين اشترك أعلامه في تبني القضية الوطنية تحت اسم "الوفد المصري" بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى3،

_ 1 انظر: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد حسين جـ2 ص128 وما بعدها. 2 لمعرفة تفاصيل عن قضية هذا الكتاب اقرأ: في أعقاب الثورة المصرية لعبد الرحمن الرافعي جـ1 ص226-228. واقرأ المنار، م26 جـ3 ص612-217 وجـ5 ص363-391. 3 انظر: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد حسين جـ2 ص129، وثورة سنة 1919 لعبد الرحمن الرافعي جـ1 ص75.

ثم تفرع عن هذا الحزب، حزب "الأحرار الدستوريين" مؤلفًا من الخارجين من الوفد، والمعارضين لسياسة سعد زغلول رئيس الوفد1، وهكذا جاء حزب "الوفد" وحزب "الأحرار" امتداد لحزب الأمة، حيث كان على رأس الأول سعد زغلول، المناصر في الفترة السابقة لذلك الحزب، والمؤازر لمفكرة لطفي السيد، كما كان على رأس الثاني عدلي يكن، ثم عبد العزيز فهمي، ثم محمد محمود، وكلهم ربيب حزب الأمة، بل إن ثالثهم كان ابن الرئيس الأول لذاك الحزب2. وبرغم أن حزب "الوفد" كان في عهوده الأولى يقود القوى الشعبية، ويمثلها من الناحية السياسية إلى حد كبير، قد كان في المجال الفكري كحزب "الأحرار" يمثل روح حزب الأمة، من حيث الاتجاه إلى الغرب واستدبار الشرق، ومن حيث الاعتماد أساسًا على فكرة الوطنية المحلية، وعدم الاتساع بها إلى فكرة القومية العربية، أو الجامعة الإسلامية. وقد ساعد على ذلك استخدام هذين الحزبين الرئيسيين -اللذين يمثلان هذا الاتجاه الفكري- لطائفة من الكتاب الكبار، الذين كانوا في جملتهم من أصحاب هذا الاتجاه3.

_ 1 انظر: في أعقاب الثورة المصرية لعبد الرحمن الرافعي جـ1 ص68. 2 انظر: ثورة سنة 1919 جـ1 ص75، وفي أعقاب الثورة المصرية جـ1 ص68، والاتجاهات الوطنية جـ2 ص129 "هامش". 3 كان من صحف الوفد: "البلاغ" و"البلاغ الأسبوعي" و"كوكب الشرق"، وكان من صحف الأحرار: "السياسة"، و"السياسة الأسبوعية"، وكان من كتاب الوفد في أوائل تلك الفترة: عباس العقاد وسلامة موسى، كما كان من كتاب الأحرار في أوائل تلك الفترة: هيكل وطه حسين. وقد ظل العقاد كاتب الوفد الأولى حتى سنة 1935، حين هاجم وزارة توفيق نسيم لعدم إعادتها للدستور، الذي يحقق آمال البلاد، فغضب مصطفى النحاس لهجوم العقاد على نسيم الذي كان في نظر النحاس تمهيدًا لعودة الوفد إلى الحكم، وإزاء إصرار العقاد على مهاجمة نسيم فصله الوفد "انظر: العقاد دراسة وتحية ص65، وما بعدها". أما طه حسين فقد ظل مواليًا للأحرار، حتى سنة 1932 حين أخرجه صدقي من الجامعة، وكان الوفديون والأحرار متضامنين لمحاربة صدقي، فأخذ طه حسين يكتب في صحف الوفد باسم هذا التضامن أولًا، وما زال يقرب من الوفد حتى لم يعد مع الأحرار حين فضوا التضامن، بل حتى صار وزيرًا في وزارة الوفد بعد ذلك بسنوات. "انظر: مجلة الهلال -أول فبراير سنة 1966 ص 161 و"طه حسين الكاتب والشاعر"، لمحمد السيد كيلاني".

وقد بدأ هذا الاتجاه حادًّا في السنوات العشر الأولى من سني هذه الفترة، ومثل ما يشبه المراهقة الفكرية، أو الحيرة "الأيديلوجية" التي تبحث عن المثل في عصبية واندفاع، فتخطئه كثيرًا، ولا تكاد ترى وجه الحق إلا بعد جهد، ومن هنا دعا أصحاب هذا الاتجاه إلى خلق الأدب القومي1، كما دعوا إلى استلهام الماضي الفرعوني2، ونادوا باتباع الغرب حينًا3، وبالارتباط بشعوب البحر الأبيض حينًا آخر4. ثم بدأ أصحاب هذا الاتجاه يهدئون من ثورتهم، ويعدلون من خطتهم، بل بدأوا يقربون كثيرًا من نقطة الإشراق في الماضي العربي الإسلامي، ويخففون من اندفاعهم نحو كل ما هو غربي، فبدأ الدكتور محمد حسين هيكل، الذي احتضن دعوة الفرعونية حينًا، ودعوة الأدب القومي حينًا آخر، والذي جعل الغرب، وقيمه ورجالاته مثلًا أعلى في بعض الأحايين5؛ بدأ يكتب عن "حياة

_ 1 قام بهذه الدعوة طائفة من كتاب السياسة الأسبوعية "وفي مقدمتهم، هيكل، "انظر: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر جـ2 ص137 وما بعدها". وانظر: "في أوقات الفراغ" و"ثورة الأدب" للدكتور محمد حسين هيكل. 2 تزعمت صحيفة "السياسة الأسبوعية" كذلك هذا الاتجاه الذي تبناه الدكتور محمد حسين هيكل أيضًا فترة من حياته، قبل أن يتحول إلى الاتجاه الإسلامي. "انظر: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد حسين جـ2 ص135 وما بعدها". 3 كتب في ذلك كثيرون مثل طه حسين، ومحمود عزمي وهيكل. "انظر: أعداد السياسة الأسبوعية منذ سنة 1926". 4 كتب في ذلك طه حسين، وبسط فكرته عن هذا الموضوع في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر". 5 لقد كتب في أول عهده عن "جاك جاك رسو"، حيث أخرج عنه كتابًا في جزأين، الأول سنة 1921، والثاني سنة 1923، كما كتب عن آخرين من قادة الفكر الغربي مثل: "أناتول فرانس"، و"بيرلوتي" اللذين كتب عنهما في كتابه "في أوقات الفراغ" الذي ظهر سنة 1925.

محمد1"، ويهيم في "منزل الوحي2"، كما بدأ الدكتور طه حسين يحوم "على هامش السيرة3"، وإن بقي سنوات بعد ذلك أكثر من صاحبه افتنانًا بالغرب وإيمانًا به4، ثم تبعهما -بعد سنوات- الأستاذ عباس العقاد، فشرع يجلو العبقريات الإسلامية، ويتغنى بالحضارة العربية، ويزداد إيمانًا بتلك الحضارة وأعلامها على مر السنين5. أما الاتجاه المحافظ الذي كان له السبق في المجال الفكري خلال الفترة السابقة، فقد أصبح في المحال الثاني، وراحت فكرته السياسية تتطور رويدًا رويدًا لتحل فكرة الجامعة العربية محل فكرة الجامعة الإسلامية6، كما راح يقاوم بعنف دعوات أصحاب الاتجاه الأول، ويخوض معهم صراعًا فكريًّا7، تؤججه السياسة والحزبية، والصحافة في كثير من الأحايين8، لكنه استطاع آخر الأمر، أن يحد من غلواء أصحاب الاتجاه الغربي، بل

_ 1 بدأ يكتب عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مقالات في: "السياسة الأسبوعية" منذ سنة 1932، وأخرج كتابه حياة محمد سنة 1935. 2 أظهر هذا الكتاب سنة 1936 بعد أن زار الأراضي المقدسة. 3 بدأ طه حسين ينشر هذا الكتاب مقالات في "الرسالة" سنة 1933، ثم أخرجه كتابًا بعد ذلك. 4 تمثل في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" الذي صدر سنة 1938. 5 بدأ العقاد يكتب "العبقريات"، والتراجم والدراسات الإسلامية منذ سنة 1942 حين أصدر "عبقرية محمد". 6 انظر: في تطور فكرة الجامعة العربية: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد حسين جـ2 ص88 وما بعدها. 7 اقرأ صورة من هذا الصراع في كتاب: "المعركة بين القديم والجديد" لمصطفى صادق الرافعي. 8 مما يصور ذلك مثلًا أن ردود الرافعي على طه حسين حول "الشعر الجاهلي" نشرت في كوكب الشرق، لسان حال الوفد، نظرًا لدفاع "السياسة" عن طه حسين، وهي لسان حال الأحرار.

استطاع أن يكسب نفرًا من قادتهم، لا في جانب المحافظة والاتجاه إلى الماضي والإيمان بالجامعة الإسلامية، بل في جالنب الاعتدال والإنصاف، والإيمان بروائع التراث العربي، وأمجاد الماضي الإسلامي، حتى كفروا أخيرًا بما دعوا إليه أولًا من محلية ضيقة، وفرعونية منصرمة، وفرنجة تابعة1. وإذا كان هيكل وطه حسين والعقاد يمثلون الاتجاه الغربي، في حدته أولًا ثم في اعتداله أخيرًا، فإن الرافعي وعزام والزيات2 يمثلون الاتجاه المحافظ،

_ 1 لقد عبر الدكتور محمد حسين هيكل عن العودة إلى الاعتدال والإنصاف، في مقدمة كتابه "في منزل الوحي". 2 المراد مصطفى صادق الرافعي، وعبد الوهاب عزام، وأحمد حسن الزيات. أما الرافعي، فقد ولد في بهتيم من قرى القليوبية سنة 1880، ونشأ بطنطا حيث كان يعمل والده، وتنقل معه في دمنهور والمنصورة، فتعلم بمدرسة دمنهور الابتدائية، والمنصورة الابتدائية، التي نال منها شهادته، ثم أصيب بالصمم في تلك المرحلة، وقعدت به تلك العاهة عن مواصلة الدراسة الرسمية، فتفرغ للدراسة الحرة والتثقيف الذاتي، وعمل كاتبًا بمحكمة طلخا الشرعية سنة 1899، ثم نقل إلى إيتاي البارود، فطنطا حيث ظل كاتبا بمحكمتها إلى آخر حياته، ولم يتجاوز الدرجة السادسة، ثم توفي سنة 1937، ودفن بطنطا. "اقرأ عنه في "حياة الرافعي" لسعيد العريان". وأما عزام فقد ولد في بلدة الشوبك بالجيزة في أول أغسطس سنة 1895، وتعلم بالأزهر والقضاء الشرعي، واشتغل مدرسًا في كليات الشريعة واللغة العربية والآداب، وقد كان قد أوفد إمامًا في سفارة مصر بلندن، فاستغل وجوده في إنجلترا في تعلم الإنجليزية، وإعداد رسالته لنيل الدكتوراه، وكان موضوع رسالته "الشاهنامة"، وله رحلات كثيرة إلى تركيا والحجاز والعراق بالشرق، وإلى لندن وبروكسيل في الغرب، وقد عمل سفيرًا لمصر بالمملكة السعودية، وتوفي سنة 1958، "اقرأ عنه في: النثر العربي المعاصر لأنور الجندي ص725 وما بعدها". وأما الزيات، فقد ولد في قرية كفر دميرة القديمة مركز طلخا سنة 1885، وتلقى علومه في الأزهر عشر سنين، ثم انتقل إلى الجامعة القديمة، ثم علم في الفرير، حيث تعلم الفرنسية، ثم دخل مدرسة الحقوق الفرنسية، وأدى امتحانها في باريس، ثم عمل رئيسًا لقسم اللغة العربية في الجامعة الأمريكية في القاهرة سنة 1925، ثم عين أستاذًا للأدب العربي في المعلمين العالية ببغداد سنة 1929، ثم عاد من العراق سنة 1932، وأصدر الرسالة سنة 1933، ثم عين رئيسًا لتحرير مجلة الأزهر، ثم مجلة الرسالة التي أصدرتها وزارة الثقافة، ونال جائزة الدولة التقديرية سنة 1963، وظل عضوًا بالمجمع اللغوي، والمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، إلى أن توفي سنة 1968 "اقرأ عنه في: النثر العربي ص655 وما بعدها".

في صراعه من أجل الفكرة الإسلامية والتراث العربي، وفي انتصاره بعد ذلك في ترويض المندفعين، وحملهم على كثير من الاعتدال. وهكذا أصبح التيار الفكري الرئيسي هو التيار العربي المعتدل، المؤمن بالفكر الغربي، واتخاذه مثلًا أعلى مع الالتفات إلى مواطن الإشراق في الماضي العربي والإسلامي، ومحاولة الإفادة من تلك المواطن ما أمكن، ووراء هذا التيار يأتي تيار أقل قوة منه، وهو التيار المحافظ المؤمن بالفكر العربي الإسلامي، واتخاذه فلسفة ومذهبًا بل حمى يذاد عنه ويحارب من أجله، هذا مع التسليم ببعض جوانب الخير في الحضارة الغربية، ومحاولة الانتفاع بها ولكن بحذر. ووراء هذين التيارين وجد تيار ثالث كان في تلك الفترة أضعف من التيارين السابقين، ولكنه كان ذا أثر في الحياة الفكرية لا يخفى. هذا التيار، هو التيار الغربي المتطرف، الذي كان يؤمن بالغرب وماديته إيمانًا مطلقًا، ولا يرى في الشرق، وروحانيته شيئًا يستحق أن يؤخذ به، وقد تحمس هذا الاتجاه المتطرف لكل الدعوات التي دعا إليها الاتجاه الغربي، وزاد عليها تطرفًا وصل أحيانًا إلى حد الهدم، ومن ذلك الدعوة إلى احلال اللغة العامية محل اللغة الفصحى. وكان يمثل هذا الاتجاه سلامة موسى1، وإذا جاز أن نطلق على الاتجاه الأول الاتجاه الحضاري، وعلى الثاني الاتجاه الروحي، أمكن أن نطلق على الاتجاه الثالث الاتجاه المادي، فقد كان التفكير المادي بخاصة أساس الاتجاه الأخير2.

_ 1 اقرأ مثالًا من كتابات سلامة موسى حول إحلال العامية محل الفصحى في: مجلة الهلال عدد يولية سنة 1926. واقرأ بعض آرائه في العربية والعرب في كتابه: "البلاغة العصرية"، وكتابه "اليوم والغد"، واقرأ تفصيل تاريخ الدعوة إلى العامية، وما لها من أصول استعمارية في كتاب الدكتورة نفوسة زكريا "تاريخ الدعوة إلى العامية وأثرها في مصر"، واقرأ عرضًا للموضوع نفسه في مقال الأستاذ محمود شاكر في الرسالة العدد 105 الصادر في 7 يناير سنة 1965. 2 لقد عنى سلامة موسى بترجمة آراء "ماركس" و"دارون" و"فرويد"، وكان من المبشرين دائمًا بالاتجاهات المادية، والمناهضين للاتجاهات الروحية، وقد ولد =

وقد عاشت هذه الاتجاهات الثلاثة في الحياة الفكرية خلال تلك الفترة، وأثرت في أدبها تأثيرًا يختلف وضوحًا وخفاء، أو قوة وضعفًا، تبعًا لما كان لكل اتجاه من قوة ونفوذ، أو تبعًا لما كان لكل من ظروف ملائمة وأرض ميهأة، وسوف نرى ذلك كله حين يكون الحديث عن الأدب إن شاء الله، حيث نرى ابتداء أن أبرز نتاج، وأكثره وأهمه كما وكيفًا، هو الذي خلفه زعماء الاتجاه الأول، من أمثال هيكل وطه حسين والعقاد، كما أن النتاج الذي يليه هو نتاج زعماء الاتجاه الثاني، من أمثال الرافعي والزيات وعزام، وأخيرًا يأتي في نتاج الاتجاه المادي المتطرف الذي يتزعمه سلامة موسى، وهذا اللون الأخير برغم فاعليته وتأثيره في جيل تال، لا يعد عنه العبض نتاجًا أدبيًّا بقدر ما يعد كتابة إصلاحية، وفصولًا فكرية ومقالات صحفية.

_ = سلامة موسى بإحدى قرى الشرقية سنة 1877، وتعلم في المراحل الأولى بمصر، ثم سافر إلى أوروبا سنة 1908، وقضى مدة بين فرنسا، وإنجلترا، ثم عاد إلى مصر سنة 1913، متأثرًا أكثر بالثقافة الإنجليزية، واشتغل بالصحافة، فكتب في الهلال والبلاغ وغيرهما، ثم أنشأ المجلة الجديدة سنة 1929. وكان أول من ترجم التفسير المادي للتاريخ لماركس إلى العربية، وتوفي سنة 1958. اقرأ عنه في: النثر العربي المعاصر لأنور الجندي ص364 وما بعدها، واقرأ عن تزعمه للجناح الغربي المتطرف كلام "جيب" في كتابه: Studies on the Civilization of Islam, pp. 284-285

الأدب وغلبة الاتجاه التجديدي

الأدب وغلبة الاتجاه التجديدي مدخل ... الأدب وغلبة الاتجاه التجديدي: لقد عكس أدب تلك الفترة طابعها العام، ومثل بخاصة أهم معالمها النفسية1 والثقافية والفكرية، فهو أولًا قد سجل الشعور باستقلال الشخصية المصرية، وهو ثانيًا قد صور الإحساس بالحرية الفردية، وهو ثالثًا قد جسم روح الثورة المتطلعة إلى التغيير، وهو رابعًا قد مثل -في بعض جوانبه- هذا التطرف في الشعور بالحرية والاستقلال، والثورة عند البعض، مما وصل إلى حد الذاتية المنعزلة أو الفردية المتقوقعة أحيانًا، وبلغ درجة التمرد أو الهدم في بعض الأحايين، والأدب آخر الأمر قد صور هذا الصراع الذي سببه اصطدام التيار الفكري الغربي بالاتجاه الفكري العربي الإسلامي2، هذا الصراع الذي تعددت ميادينه، واشتعل أواره، حتى خرج كثيرًا عن الموضوعية، وتقاليد المعارك الأدبية المهذبة3. فقد كان الشعور باستقلال الشخصية المصرية، والإحساس بالحرية الفردية، والتشبع بروح الثورة، طابع أدب أصحاب التيار الفكري الغربي، ولم يكن من الممكن أن يتركهم أصحاب الاتجاه المحافظ يروجون لدعواتهم، ويدعون لآرائهم، التي يعتبر كثير منها في نظر المحافظين خطرًا على الروح الإسلامي والفكر العربي، ومن هنا قاوموهم وتتبعوا بالرد كثيرًا من نتاجهم، وخاض الطرفان كثيرًا من المعارك الحامية، التي كان مصدرها الاختلاف الفكري بين الجانبين، وليس من شك في أن الصراع الحزبي قد لعب دورًا كبيرًا في إذكاء نار هذا الصراع الأدبي، وليس من شك أيضًا في أن الصحافة قد

_ 1 اقرأ تلك المعالم في المقال الثاني من هذا الفصل "بين نشوة النصر ومرارة النكسة". 2 اقرأ عن هذين التيارين في المقال الرابع من هذا الفصل "غلبة التيار الفكري الغربي". 3 اقرأ نموذج من ذلك في كتاب "على السفود" لمصطفى صادق الرافعي، و"المعركة بين القديم والجديد" للمؤلف نفسه.

أشعلت هذا الصراع، وأن كثيرًا من حدة المعارك الأدبية التي أدت في تلك الفترة، كان وراءه محركات سياسية حزبية1، ودوافع صحفية نفعية، تهم أصحاب الصحف، وتغريهم بإلقاء الوقود في اللهب؛ حتى تجاوزت المعارك ميدانها بين الاتجاهين المختلفين، وانتقلت إلى أصحاب الاتجاه الفكري الغربي أنفسهم، وذلك لانقسامهم بدورهم إلى كتاب وفد، وكتاب أحرار2. وهكذا صور أدب تلك الفترة -إلى جانب روح التحرر والثورة- ما كان من صراع انتقل من الحياة السياسية إلى الحياة الفكرية، ثم إلى الحياة الأدبية، وهكذا أيضًا كان التحرر والصراع يمثلان أهم جوانب الأدب في تلك الفترة، بحيث يمكن إدراج أهم ألوان النشاط الأدبي تحت هذين المعلمين. ويمكن في هذا المجال أن نضرب المثل ببعض الاتجاهات، والأعمال الأدبية البارزة التي ظهرت في تلك الفترة: لقد ظهرت دعوة إلى وجوب خلق أدب قومي يستلهم الواقع المصري، ولا يستلهم التراث العربي، وتبنى هذه الدعوة طائفة من كتاب "السياسة الأسبوعية3"، وكان على رأس هؤلاء الكتاب الدكتور محمد حسين هيكل،

_ 1 يمكن أن نأخذ مثالًا لهذه الظاهرة ما كان من دفاع "السياسة" -صحيفة الأحرار- عن كتاب الشعر الجاهلي، لطه حسين، ثم نقد "كوكب الشرق" و "البلاغ" -صحيفتي الوفد- لهذا الكتاب. فقد نشر الغمراوي نقده، لكتاب طه حسين في البلاغ، كما نشر الرافعي نقده في "كوكب الشرق". 2 يمكن أن نأخذ مثالًا لذلك ما كان من حديث طه حسين عن وجود الوحدة في القصيدة العربية القديمة، واستشهاده بقصيدة لبيد التي مطلعها "عفت الديار"، فليس ذلك إلا ردًا على العقاد الذي كان ينفي تحقق الوحدة في الشعر التقليدي، ويطالب بتحققها في الشعر الحديث. "نشر طه حسين رأيه ذاك في حديث الأربعاء جـ1 ص30 وما بعدها". كذلك يمكن أن نأخذ مثلًا لذلك ما كان من نقد طه حسين للعقاد والمازني، وأخذه عليهما الاهتمام بالشاعر أكثر من شعره، على حين يتخذ هو الشاعر وسيلة لفهم الشعر. "نشر طه حسين رأيه ذاك في "من حديث الشعر والنثر ص268". 3 انظر: الاتجاهات الوطنية جـ2 ص137 وما بعدها.

الذي تحمس لتلك القضية في كتابه "في أوقات الفراغ"، ثم عاد إليها بعد ذلك في كتابه "ثورة الأدب"، فإذا تأملنا تلك الدعوة، وجدناها تمثيلًا للإحساس باستقلال الشخصية المصرية، وقد تطرفت تلك الدعوة حينًا، فوصلت إلى الدعوة الفرعونية، والمناداة باستلهام الأدب للماضي المصري القديم، باعتبار أن الروح المصري الحديث ليس إلا امتدادًا للروح الفرعوني، برغم تتابع العصور، وتوالي الديانات وتمازج الأجناس.. وقد تبنى تلك الدعوة كذلك بعض كتاب "السياسة"، وتحمس لها بصفة خاصة الدكتور محمد حسين هيكل1، وكان وراءها أيضًا هذا الشعور باستقلال الشخصية المصرية. بل إن هذا الشعور باستقلال الشخصية المصرية، وعدم ارتباطها بالماضي العربي والتراث الإسلامي، قد جمح بالبعض فدعا إلى اصطناع اللغة العامية المصرية، وإحلالها في المجال الفكري والأدبي محل العربية الفصحى، وقد ردد تلك الدعوة طائفة من المتطرفين، من أشهرهم سلامة موسى، وقد سبقه إلى تلك الدعوة بعض العلماء والخبراء الغربيين، الذين لا ترتفع دعوتهم عن مستوى الشبهات2. وواضح أن الإحساس بالحرية الفردية، والتشبع بروح الثورة كانا يرفدان الشعور باستقلال الشخصية المصرية، عند كل أصحاب هذه الدعوات من كتاب تلك الفترة.

_ 1 انظر: الاتجاهات الوطنية جـ2 ص136 وما بعدها. 2 عرض سلامة موسى لتلك الدعوة سنة 1926 فيما نشره بمجلة "الهلال" عدد يولية من ذاك العام، كذلك عرض لها في كتابات أخرى بعد ذلك، وبخاصة في كتاب "البلاغة العصرية"، كما أزرى على اللغة العربية والعرب في كتاب "اليوم والغد". وكان قد سبقه إلى ذلك طائفة من الكتاب، وخبراء الاستعمار الأجانب منذ سنوات التمهيد للاحتلال سنة 1880. "اقرأ تفصيل ذلك كله في: "تاريخ الدعوة إلى العامية" للدكتورة نفوسة زكريا، واقرأ عرضًا للموضوع نفسه في مقال للأستاذ محمود شاكر بمجلة الرسالة العدد 105 الصادر في يناير سنة 1965".

كذلك ظهرت دعوة إلى عدم إجلال التراث العربي، أو التسليم بكل ما جاء منه، ووجوب إخضاعه للمنهج العلمي، وإن شوهه ذلك المنهج، وقد تمثلت تلك الدعوة في عملين أدبيين للدكتور طه حسين، هما "حديث الأربعاء" و"الشعر الجاهلي"، أما "حديث الأربعاء"، فقد نشره المؤلف أولًا على هيئة مقالات ظهر معظمها في السياسة ما بين سنتي 1922 و1924، ثم ظهر كتابًا سنة 1925، وقد تناول طه حسين في هذا الكتاب -ضمن ما تناول- طائفة من الشعراء أصحاب الاتجاه المحدث، من أمثال أبي نواس، ومن سلك مسلكه، وبين كيف أن هؤلاء الشعراء يصورون عصرهم العباسي، عصر لهو ومجون وشك وزندقة، ووجه الأنظار إلى وجوب الاعتماد في صور أمثال تلك العصور العربية، لا على ما جاء في كتب التاريخ، وأخبار الخلفاء فحسب، بل على ما ورد في دواوين الشعر وكتب الأدب، وأخبار الشعراء والأدباء كذلك؛ حتى ولو أدى ذلك إلى تجريد عصر مما خلع عليه من جلال، أو حرمان خليفة مما وهبه التاريخ من تقدير1. أما كتاب "في الشعر الجاهلي"، فقد ظهر سنة 1926، بعد أن ألقى الدكتور طه حسين مادته محاضرات على طلبة كلية الآداب في السنة السابقة، وهذا الكتاب يشك في نسبة معظم الشعر الجاهلي إلى الشعراء الجاهليين، ويرى أنه من صنع شعراء إسلاميين، وضعوه بعد العصر الجاهلي لأغراض مختلفة، منها السياسي والقبلي والديني، ثم نسبوه إلى الجاهليين، وهذا يخالف ما عليه التقاليد العربية من أن هذا الشعر من صنع شعراء جاهليين معينين، قالوه في الجاهلية، ورواه عنهم الرواة، وحفظ عن طريق الرواية التي حفظ بها التراث العربي الجاهلي كله، حتى دوِّن في عصر التدوين. وإذا تأملنا تلك النظرة التي نظر بها الدكتور طه حسين إلى التاريخ العربي أولًا، وإلى الشعر الجاهلي ثانيًا، وجدنا أن وراءها شعورًا باستقلال الشخصية المصرية، يحمل على عدم الارتباط بالتاريخ والتراث العربيين، ارتباطًا يحمل

_ 1 انظر: حديث الأربعاء لطه حسين جـ2.

على إجلالهما أو التسليم بما اشتملا عليه، أو استقر حولهما من قضايا. وليس يخفى ما وراء نظرة الدكتور طه حسين كذلك من إحساس قوي بالحرية الفردية، وتشبع هائل بالروح الثورية، مما جعله يخرج على الناس بهذه الآراء التي زلزلت أفكارهم وأثارت مشاعرهم، وجرت عليه كثيرًا من الخصومات والخصوم، حتى تجاوز الأمر الوسط العلمي والأدبي، وعرضت القضية في البرلمان، وأوشكت أن تطوح بالمؤلف خارج الجامعة، لولا أن هدد رئيس الوزارة حينذاك بالاستقالة، فسكنت العاصفة إلى حين، واكتفى بمصادرة الكتاب، الذي أدخل عليه صاحبه بعد التعديلات التي لم تمس فكرته الأساسية، ونشره بعد ذلك باسم "في الأدب الجاهلي"1. كذلك ظهر كتاب "الديوان" للعقاد والمازني في جزأين، ظهر أولهما سنة 1920، وثانيهما سنة 1921، وقد نادى فيه المؤلفان بأسس جديدة للأدب ونقده، كما ناديا أساسًا بعدم محاكاة القدماء، وبالأصالة، وبرفض اتخاذ الأنماط الأدبية القديمة مثلًا للأدب المصري الحديث، وقد ركزا على تحطيم من تمثل فيهم الارتباط بالتراث، ومحاكاة الأدب القديم، وهما شوقي في الشعر، والمنفلوطي في النثر، هذا بالإضافة إلى هجمات أخرى على بعض الشعراء

_ 1 كانت الخلافات الحزبية من محركات هذه الزوبعة، فقد كانت الأغلبية البرلمانية وفدية حينذاك، وكان رئيس مجلس النواب هو سعد، ولذا انتقلت القضية إلى مجلس النواب لينال من طه حسين الموالي للأحرار الدستوريين. ولكن رئيس الوزراء حينذاك كان عبد الخالق ثروت، وكانت عواطفه مع الأحرار الدستوريين، وكان طه حسين قد جعل إهداء كتابه إليه، ومن هنا دافع عنه رئيس الوزراء على حين هاجمه رئيس مجلس النواب، ونظرًا لتهديد رئيس الوزراء بالاستقالة، قد انتقلت القضية من مجلس النواب إلى النيابة، التي صادرت الكتاب، اقرأ تفصايل هذه القضية في كتاب "فصول ممتعة" لمحمد سيد كيلاني، واقرأ عدد الهلال الصادر أول فبراير سنة 1966 الخاص بطه حسين ص15، 159 وما بعدها. وانظر: كتاب الاتجاهات الوطنية جـ2 ص386 وما بعدها وكتاب: "المعركة بين القديم والجديد" ص158-165, و"حياة الرافعي" لسعيد العريان ص154-160.

والكتاب الآخرين، من أمثال شكري والرافعي. وليس يخفى ما وراء هذا العمل من شعور باستقلال الشخصية المصرية،وبالحرية الفردية، وبروح الثورة جميعًا. كذلك ظهر اتجاه شعري يغني ذات الشاعر وأحاسيسه، ويفيض بعاطفته الذاتية لا بعواطف قومه، ويهجر أساليب أسلافه إلى إبداعات فنه، وهو إلى ذلك يهيم بالخيالات المجنحة والمجالات الحالمة، ويهرب من متاعب الحياة وبرودة الواقع، إلى أحضان الطبيعة ودفء الحب. وإذا تأملنا دوافع هذا الاتجاه الشعري1 في تلك الفترة، وجدنا من أهمها الشعور باستقلال الشخصية المصرية، والإحساس بالحرية الفردية، والتشبع بروح الثورة، هذا بالإضافة إلى كثير من الأسى والمرارة واليأس، وغير ذلك من مشاعر خانقة قد خلفتها خيبة الأمل، وسببها الشعور بالنكسة؛ هذا الشعور الذي جرف طائفة من المواطنين، وتمثل في مسلك هؤلاء الشعراء المرهفين، بعد سنوات من بدء تلك الفترة، حين ظهر العدوان على الحرية والعبث بمكاسب الشعب، والتآمر على انتصارات ثورة 1919. وفي مقال هذه المظاهر التي تصور الشعور باستقلال الشخصية المصرية، والإحساس بالحرية الفردية والتشبع بالروح الثورية، والتي مثلتها أعمال أدباء ممن يسيرون في الاتجاه الفكري الغربي، وجدت مظاهر عديدة تصور وجهة نظر المحافظين أصحاب الاتجاه الفكري العربي، وتصور في نفس الوقت هذا الصراع الذي نشأ من اصطدام الاتجاهين الفكريين، والذي يعتبر الجانب الثاني من جانبي صورة الأدب في تلك الفترة. فقد ظهرت كتابات ترد على الدعوة إلى أدب قومي أو أدب فرعوني، كما ظهرت كتابات تدحض الدعوة إلى العامية، وغيرها من الدعوات التي تدور

_ 1 هو الاتجاه الذي يسمى "مدرسة أبوللو". انظر: تفصيل هذا الاتجاه في "جماعة أبوللو، وأثرها في الشعر الحديث" لعبد العزيز الدسوقي، و"الشعر بد شوقي" الحلقة الثانية للدكتور محمد مندور واقرأ ما كتب عنه في هذا الفصل في مبحث الشعر تحت عنوان "3- ظهور الاتجاه الابتداعي العاطفي".

كلها حول فكرة الانفصال عن التراث، والماضي العربي الإسلامي، وكانت هذه الكتابات -في جملتها- بأقلام أصحاب الاتجاه العربي الإسلامي، من أمثال محمد رشيد رضا، وشكيب أرسلان، ومصطفى صادق الرافعي1. كذلك كثرت المقالات وتعددت الكتب التي ترد على آراء طه حسين في كتابيه "حديث الأربعاء" و"في الشعر الجاهلي"، وقد حظي كتابه "في الشعر الجاهلي" بصفة خاصة، بعدة كتب ألفها أصحابها في الرد عليه، وأهم هذه الكتب: "تحت رآية القرآن" للرافعي، و"نقد كتاب الشعر الجاهلي" لمحمد فريد وجدي، و"نقض كتاب في الشعر الجاهلي" للخضر حسين، و"النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي" للدكتور محمد الغمراوي. كذلك قوبل اتجاه "الديوان" في الأدب والنقد، باتجاه مضاد، مثلًّه كتاب "على السفود" الذي أخرجه مصطفى صادق الرافعي سنة 1930، بعد أن نشره مقالات في مجلة العصور، بين سنتي 1929و 1930. وقد صور هذا الكتاب بعض آراء المحافظين في الأدب والنقد، وجعلها في مواجهة آراء أصحاب الاتجاه الغربي، التي مثَّل بعضها "الديون"، ولكن "على السفود" صور قبل كل شيء حدة الصراع الأدبي، وضراوته التي بلغت ذروتها في ذلك الحين، فقد هاجم الرافعي في كتابه العقاد، وأدبه هجومًا نأى كثيرًا عن الموضوعية، وبعد عن أسس النقد، وقرب جدًّا من السباب الخالص. ومن الحق أن نقرر أنه منذ سنة 1932، قد بدأت الحدة التي شهدتها السنوات الأولى من هذه الفترة تخف، فلم نعد نرى مظاهر الشعور الحاد باستقلال الشخصية المصرية، هذا الشعور الذي حمل أحيانًا على الدعوة إلى الانفصال عن الماضي العربي والتراث الإسلامي، ولم نعد نرى مظاهر الإحساس المفرط بالحرية الفردية، هذا الإحساس الذي دفع أحيانًا إلى الجرأة على التراث والسخرية ببعض المقدسات، كذلك لم نعد نرى مظاهر التشبع

_ 1 اقرأ أمثلة لتلك الكتابات في: "المعركة بين القديم والجديد" للرافعي. وانظر: أيضًا مقال الدكتور علي العناني في الهلال، أول نوفمبر سنة 1932.

المبالغ بروح الثورة، الذي ورط البعض في التخبط، ووصل بهم أحيانًا إلى الهدم. كذلك لم نعد نرى مظاهر الصراع العنيف، الذي أذكته الحزبية والصحافة، ووصل ببعض الأدباء إلى المهاترات والشتائم، ومجانبة ما تمليه روح الأدب في سماحتها ومثاليتها. فمنذ سنة 1932، قد بدأت تهدأ تلك الفورة التي خلفتها ثورة 1919، كما راح يتلاشى هذا الاستخفاف الذي صنعته الحرب العالمية الأولى، كذلك تجلى فشل تجارب القومية الضيقة، والفرعونية المنبتة، والعامية العاجزة، والتغريب المضلل، وانكشف الغرب للمبالغين في التعلق به، عن استعمار جشع، وهنا بدأت موجة التحرر تتعقل، فلا تنفصل عن الماضي العريق انفصالًا، بل تلتفت إليه بين الحين والحين، لتنتقي أروع ما فيه، بل لترتبط به شيئًا من الارتباط، يمد النهضة ببعض القوة ويجعل اليوم المتحفز، مستندًا إلى أمس ركين1. كذلك بدأ الصراع يتحول إلى جدل فكري، وأدب خصب، بعد أن كان معارك كلامية جارحة، تتطاير خلالها الشتائم من غير حساب. وهنا، ومع هذا التحرر وتعقله، وتحول الصراع واعتداله، ظهرت كتابات طه حسين، وهيكل عن محمد صلى الله عليه وسلم، فقد بدأ طه حسين ينشر "على هامش السيرة" في "مجلة الرسالة" سنة 33، ثم أخرجه كتابًا بعد ذلك، وكان هيكل قد بدأ يكتب "حياة محمد"، ويذيع ما يكتب في "السياسة الأسبوعية" منذ سنة 32 حتى استوى كتابه العظيم الذي أخرجه سنة 35. بل إنه أتبع ذلك الكتاب بكتابه الإسلامي الثاني "في منزل الوحي" الذي

_ 1 عبر الدكتور محمد حسين هيكل عن هذا التحول إلى الاعتدال والتبصر، أوضح تعبير في مقدمة كتابه: "في منزل الوحي"، كما أشار إلى ما كان من حيرة وتخبط قبل ذلك، في تعليقه على كتاب "وجهة الإسلام" الذي أخرجه "جيب"، وقد نشر هذا التعليق في ملحق السياسة الأدبي عدد 14 أكتوبر سنة 1932. "انظر: لاتجاهات الوطنية: جـ2 ص149، 159".

أخرجه سنة 1936، والذي كتبه بعد أن زار الأراضي الحجازية المقدسة، وفي هذا الكتاب الثاني أعلن الدكتور محمد حسين هيكل توبته عن التطرف في الاتجاه إلى الغرب، واستدبار الشرق، وأكد أن المذهب الذي اهتدى إليه أخيرًا بعد تجارب عديدة، هو وجوب ربط الحضارة المصرية الحديثة بالحضارة العربية القديمة، ولزوم استلهام الفكر والأدب المعاصرين للفكر والأدب الإسلاميين؛ لأن التراث الروحي للعروبة والإسلام، هو أنسب ما يمكن أن تستلهم الروح المصرية التي لم تنفصل قط عن ماضيها في العروبة والإسلام1. وكانت سنة 1933، قد شهدت ميلاد "مجلة الرسالة" التي يمثل صاحبها الاتجاه الفكري المحافظ، في شكله الناضج الواعي المثقف، الذي تسلح بثقافة الغرب، ولكن لم يجعلها تغلب في وجدانه روح العروبة والإسلام، وقد استكتب صاحب الرسالة في مجلته زعماء الاتجاه الفكري الغربي، بعد أن خفت حدتهم، فأذاعوا عن طريق الرسالة كتابات تعتبر مرحلة التحول والاعتدال في حياتهم الأدبية والفكرية، كما تعتبر مرحلة التحول والاعتدال في الأدب المصري الحديث أيضًا2. فمنذ هذا الوقت لم نجد دعوات أدبية مندفعة كالتي عرفت أيام "السياسة"، كما لم نجد خصومات كالتي شهدناها أيام "السفود"، وقد كانت معارك أدبيةٌ تحتدم بين الحين والحين، وعلى صفحات "الرسالة" بالذات، كالمعارك التي كان يخوضها الدكتور زكي مبارك كثيرًا، ولكن تكل المعارك التي حدتها كانت أقرب الموضوعية، وأدنى إلى روح المنطق، وأبعد ما تكون عن السباب، والتجريح الذي عرف في المعارك القديمة. هذا، وقد كان من أهم نتائج التحرر والصراع، اللذين مثلا جانبي الأدب في تلك الفترة، اتضاح الأساليب الأدبية، وتميزها تميز شخصيات

_ 1 انظر: في منزل الوحي للدكتور هيكل "المقدمة". 2 حسبنا أن نعرف أن طه حسين كتب أول ما كتب في الرسالة "على هامش السيرة"، بعد أن كتب سنة 1926 "في الشعر الجاهلي"، الذي تضمن ما أخذ عليه مما يمس العقيدة، كنظرته إلى قصة إبراهيم وإسماعيل، وعدم الاعتراف بها علميًا، ولو جاء بها التوراة والإنجيل.

الأدباء؛ فنتيجة للشعور باستقلال الشخصية والإحساس بالحرية، قد حاول كل أن يؤكد ذاته ويميز أسلوبه، ويذيع طريقته، وقد ساعد الصراع على تحقيق تلك الغاية، بدفعه لكل كاتب أن يكون المتفوق والمميز والمفضل، وهكذا تكاملت في هذه الفترة -ولأول مرة- أساليب طه حسين والعقاد والزيات والرافعي، وغيرهم من أعلام الكتاب1. وأخيرًا كان من أهم نتائج الشعور باستقلال الشخصية وبالحرية الفردية، ظهور في فن التراجم الذاتية، تلك التي يؤرخ فيها الأديب لحياته ويكتب عن نفسه، على نحو ما فعل طه حسين في "الأيام" التي بدأ ينشرها مقالات في مجلة الهلال سنة 1926، ثم أخرجها في كتاب بعد ذلك2. وهكذا يمكن أن يقال: إن الطريق الشائك الذي سلكه أدب تلك الفترة، والذي تردد فيه بين الثورية والمحافظة، قد وصل به آخر الأمر إلى معالم محددة، وأول هذه المعالم، أن الأدب قد غلب عليه الاتجاه التجديدي، الذي تزعمه أصحاب التيار الفكري الغربي، وأصبح الاتجاه المحافظ في هذه الفترة في المحل الثاني، بعد أن كانت له الغلبة في الفترة السابقة، كذلك صار مؤيدو هذا الاتجاه المحافظ يبذلون أقصى الجهد لمساندة فريقهم، والاحتفاظ بوجودهم، ويحاولون جاهدين، أن يطوروا أنفسهم ويعدلوا طريقتهم، لكن ذلك لم يمنح أدبهم الصدارة، بعد أن أكد غلبة الاتجاه التجديدي، أعلامٌ مقتدرون، مثل هيكل والعقاد وطه حسين. كذلك كان من أهم المعالم التي انتهت إليها مسيرة الأدب في تلك الفترة، استكمال أهم ملامح شخصيته، واستيفاء بقية فنونه، وسوف نرى تفصيل كل ذلك -إن شاء الله- فيما يلي من فصول.

_ 1 سوف توضح خصائص كل أسلوب حين يكون الحديث عن النثر في تلك الفترة إن شاء الله في المقال "1- المقالة وتميز الأساليب الفنية". 2 ظهر الجزء الأول من الأيام سنة 1927، وظهر الجزء الثاني بعد ذلك.

أولا: الشعر

أولًا: الشعر. 1- تجمد الاتجاه المحافظ البياني: كانت أول ظاهرة تتصل بالشعر في تلك الفترة، هي ظاهرة تجمد الاتجاه المحافظ البياني، الذي نشأ في فترة الوعي على يد البارودي، وما زال يقوى حتى سيطر في فترة النضال على يد شوقي1. ولقد كان من أهم مظاهر هذا الاتجاه في فترة الصراع -التي يساق عنها الحديث- أنه من الناحية الموضوعية لم يضف أي كسب جديد إلى المجالات التي كان يعبر عنها من قبل2، كما أنه من الناحية الفنية لم يصب أي تطور في أسلوبه الذي عرف به فيما سبق3. أ- من الناحية الموضوعية: أما من الناحية الموضوعية، فقد ظل هذا الاتجاه يعني في المقام الأول بالأمور العامة، وبخاصة الأمور السياسية والاجتماعية، وإذا كان يلاحظ على تلك الأمور شيء من التغيير، فهو تغيير في شكل تلك الأمور لا في حقيقتها، فكل ما حدث هو نقل الاهتمام من مسألة سياسية إلى أخرى، أو تركيز الاهتمام حول مجال اجتماعي دون آخر، وقد كان ذلك لما طرأ على الحياة السياسية والاجتماعية من تطورات4.

_ 1 انظر: الفصل الثاني المقال الثاني في مبحث الشعر وعنوانه "2- ظهور الاتجاه المحافظ البياني"، والفصل الثالث المقام الأول من المقالات الخاصة بالشعور وعنوانه: "1- سيطرة الاتجاه المحافظ البياني". 2 انظر: تفصيل هذه المجالات في الفصل الثالث، المبحثين أ، ب من مباحث المقال رقم 1 من المقالات المخصصة للشعر. 3 انظر: تفصيل النواحي الفنية لهذا الاتجاه في الفصل الثالث، المبحثين جـ، د من مباحث المقال رقم 1 من المقالات الخاصة بالشعر. 4 انظر: في تلك التطورات الفصل الرابع المقال 1، 2 من المقالات التمهيدية التي قدم بها للحديث عن الأدب.

وهكذا نجد أعلام الاتجاه الشعري المحافظ، يشاركون بشعرهم -خلال فترة الصراع- في القضايا السياسية الداخلية، أكثر مما يهتمون بالشئون الوطنية الخارجية، أو بتعبير أدق، نجدهم يتحولون بشعرهم إلى ميدان الصراع الداخلي. ويولون هذا الميدان اهتمامًا أكثر من الاهتمام بميدان النضال الوطني، فقد أصبح الدستور والبرلمان اهتمامًا أكثر من الاهتمام بميدان النضال الوطني، فقد أصبح الدستور والبرلمان، والأحزاب والزعماء شغل الناس الشاغل، ولما كان من طبيعة هذا الاتجاه المحافظ أن يعبر عما يشغل الناس، وأن يسهم في الحياة السياسية كما يعيشها الناس، نراه في هذه الفترة يهتم في المحل الأول بقضايا الدستور، وأحداث البرلمان، ومشكلات الأحزاب، وتقويم الزعماء، وما إلى ذلك، كل هذا مع اختلاف في وجهات النظر بين الشعراء في بعض المسائل، في ذاك الوقت. فحين تتأهب الامة لتأليف برلمانها بعد أن فازت بالدستور المضطهد، والاستقلال المقيد، يتحدث شوقي سنة 1922 عن هذا البرلمان المأمول، ويدعو المواطنين إلى انتخاب الواعين الجديرين بالنيابة، فيقول: دار النيابة قد صفت أرائكها ... لا تجلسوا فوقها الأحجار والخشبا اليوم يا قومن إذ تبنون مجلسكم ... تبنون للعقب الأيام والحقبا1 ويردد الفكرة نفسها في قصيدة أخرى سنة 1924، فيقول: دار النيابة هيئت درجاتها ... فليرق في الدرج الذوائب والذرا الصارخون إذا أسيء إلى الحمى ... والذائدون إذا أغير على الشرى لا الجاهلون العاجزون ولا الأولى ... يمشون في ذهب القيود تبخترا2 ثم يقول سنة 1925، منددًا بإغلاق البرلمان، مشهرًا بالعدوان عليه على أثر الانقلاب الدستوري الأول3.

_ 1 الشوقيات جـ1 ص73-74. 2 الشوقيات جـ1 ص179. 3 وهو الانقلاب الذي تولى الوزارة على أثره زيور.

احتل حصن الحق غير جنوده ... وتكالبت أيد على المفتاح ضجت على أبطاله ثكناته ... واستوحشت لكماتها النزاح هجرت أرائكه، وعطل عوده ... وخلا من الغادين والرواح وعلاه نسج العنكبوت فزاده ... كالغار من شرف وسمت صلاح1 إلى أن يقول في قصيدة أخرى سنة 1926، محييًا عودة البرلمان2، ممجدًا كيانه باعتباره ثمرة لنضال الأمة، من عهد عرابي إلى عهد مصطفى كامل، ومن معركة التل الكبير إلى مأساة دنشواي: بنيان آباء مشوا بسلاحهم ... وبنين لم يجدوا السلاح فثاروا فيه من التل المدرج حائط ... ومن المشانق والسجون جدار أبت التقيد بالهوى وتقيدت ... بالحق أو بالواجب الأحرار في مجلس، لا مال مصر غنيمة ... فيه، ولا سلطان مصر صغار3 ... وحين تفوز الأمة بالدستور المضطهد، يقول شوقي أيضًا من قصيدة له سنة 1924، محذرًا من اتخاذ هذا الدستور مجالًا للهوى الشخصي، أو مثارًا للنزاع الحزبي: وتفيأوا الدستور تحت ظلاله ... كنفًا أهش من الرياض وأنضرا لا تجعلوه هوى وخلفًا بينكم ... ومجر دنيا للنفوس ومتجرا4 ثم يعود إلى الحديث عن الدستور في قصيدة أخرى سنة 1926 مقسمًا به كشيء مقدس، مصورًا ما بذل في سبيله من تضحيات، وما يرتبط به من آمال، فيقول:

_ 1 الشوقيات جـ2 ص192. 2 هو البرلمان الذي جاء على أثر فوز الوفد بالأغلبية، وتولى سعد زغلول رياسته، وعدلي رياسة الحكومة. 3 الشوقيات جـ2 ص209. 4 الشوقيات جـ1 ص178.

.. وبالدستور وهو لنا حياة ... نرى فيه السلامة والفلاحا أخذناه على المهج الغوالي ... ولم نأخذه نيلا واستماحا بنينا فيه من دمع رواقًا ... ومن دم كل نابتة جناحا1 ثم يواصل تمجيده في قصيدة أخرى سنة 1926، مؤكدًَا أنه هيكل الحرية الذي من شأنه أن يفدى بالضحايا، وأنه يشاد كما تشاد خنادق المحاربين، تحت وابل من الرماح: صرح على الوادي المبارك ضاحي ... متظاهر الأعلام والأوضاح هو هيكل الحرية القاني، له ... ما للهياكل من فدى وأضاح يُبنى كما تبنى الخنادق في الوغى ... تحت النبال وصوبها السحاح2 إلى أن يجعله في قصيدة أخرى سنة 1927، غاية النعم، التي يهون من أجلها كل حدث، ويغفر للزمن كل ذنب، وفي ذلك يقول: إذا سلم الدستور هان الذي مضى ... وهان من الأحداث ما كان آتيا ألا كل ذنب لليالي لأجله ... سدلنا عليه صفحنا والتناسيا3 وعلى حين نجد شاعرًا كشوقي يبتهج بالبرلمان، ويمجد الدستور على هذا النحو، نجد شاعرًا آخر كأحمد محرم، يسخط على الدستور، ويلعن اليوم الذي فتح فيه البرلمان؛ وذلك لما رأى من استغلال المستعمر لهذه الملهاة لصرف الجهود الوطنية عن نضاله، وفي ذلك يقول الشاعر: سأتبع يوم السبت ما عشت لعنة ... يطير بها عاد من الطير ضابحُ هو اليوم يوم الشؤم ضج نذيره ... ومر به طير من النحس بارح يقولون: نواب ودار نيابة ... وملك ودستور من الحق واضح

_ 1 الشوقيات جـ4 ص31. 2 الشوقيات جـ2 ص190. 3 الشوقيات جـ4 ص183.

وساوس أقوام مهاذير ما لهم ... من الرأي هاد أو من اللب ناصح1 وحين يتزعم سعد الحركة الوطنية منذ ثورة سنة 1919، ويتولى رياسة أول حكومة دستورية كانت من مكاسب تلك الثورة، نجد شاعرًا كحافظ إبراهيم يمجده، ويدعو إلى مؤازرته والسير على هديه، فيقول من قصيدة له: يأيها النشء الكرام تحية ... كالروض قد خطرت عليه قبول سيروا على سنن الرئيس وحققوا ... أمل البلاد، فكلكم مأمول أنتم رجال غد وقد أوفى غدٌ ... فاستقبلوه وحجلوه وطولوا2. لكننا نجد شاعرًا آخر كأحمد محرم يدعو عليه، ويتهمه بتحكيم شهواته، وبالتسامح مع أعداء البلاد، وبالاعتداء على المواطنين، وفي ذلك يقول من إحدى قصائده: جزى الله سعدًا، إنها شهواته ... طغت ريحها، فالشر غاد ورائح أباح حمى مصر وسودانها معا ... فأمعن مغتال وأوغل طامح يسامح أعداء البلاد ويعتدي ... على قومه، شر الحماة المسامح3 وحين يشتد الخلاف الحزبي سنة 1925، نرى سخطًا على تلك الأحزاب حتى من أكثر الشعراء تهليلًا للدستور والحياة النيابية، فشوقي ينعي على الأحزاب هذا الخلاف في عدد من القصائد، ويقول إحداها سنة 1925: إلام الخلف بينكم إلاما ... وهذي الضجة الكبرى علاما وفيم يكيد بعضكم لبعض ... وتبدون العداوة والخصاما ولينا الأمر حزبًا بعد حزب ... فلم نك مصلحين ولا كراما4

_ 1 ديوان محرم المخطوط "عن الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد حسين جـ2 ص396". 2 ديوان حافظ جـ1 ص114. 3 ديوان محرم المخطوط "عن الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد حسين جـ2 ص397". 4 الشوقيات جـ1 ص274-276.

كما يقول من قصيدة أخرى في العام نفسه مقارنًا بين اتحاد الأمس أمام الحوادث، وتفكك اليوم في مواجهتها: مشينا أمس نلقاها جميعًا ... ونحن اليوم نلقاها فرداى ومن لقى السباع بغير ظفر ... ولا ناب تمزق أو تفادى1 كما ينعي أحمد محرم كذلك على الأحزاب إسلامها البلاد إلى الفوضى، وإيقاعها بالمواطنين الظلم، فيقول من قصيدة له سنة 1925: سائل الأحزاب ماذا عندها ... غير ترجاف ووهم مقلق وتأمل هل ترى اليوم سوى ... دولة فوضى وحكم أخرق فات "نيرون" رجال رزقوا ... من فنون الظلم ما لم يرزق2 ويقول من قصيدة أخرى في السنة نفسها، داعيًا الشعب إلى الانفضاض عن الأحزاب، والانفصال عن الزعماء الحزبيين، الذين لم يعد لهم هم إلا الكيد والصراع، وإسقاط الوطن صريعًا شهيدًا في معركتهم الخاسرة: دع الزعماء إن لهم لدينا ... يدين بغيره الشعب الرشيد لمن تتألف الأحزاب شتى ... وما هذي الصواعق والرعود تداعوا للوغى فهوى صريعًا ... على أيديهم الوطن الشهيد3 كما يندد الكاشف بما منيت به البلاد على يد الأحزاب من فرقة أشعلت بين بنيها ما يشبه الحرب التي لا تنقضي، وفي ذلك يقول من قصيدة له سنة 1925: تنازع قومي اليوم جند وفادة ... فلم أر إلا سالبًا وسليبا مبادئ أحزاب أرى أم منافعًا ... توالت صنوفًا بينهم وضروبا تقضت حروب العالمين ولم أزل ... أرى بين أبناء البلاد حروبا4

_ 1 الشوقيات جـ4 ص16. 2 انظر: شعراء الوطنية لعبد الرحمن الرافعي ص205-206. 3 انظر: شعراء الوطنية لعبد الرحمن الرافعي ص207. 4 انظر: المصدر السابق ص248.

وحين يكون الائتلاف بين الأحزاب سنة 1926، ويتهادن الزعماء، وتنام الفتنة إلى حين، يبتهج شوقي بهذا، بل يتغنى به، فيقول من إحدى قصائده في هذا الوقت: التامت الأحزاب بعد تصدع ... وتضافت الأقلام بعد تلاح سحبت على الأحقاد أذيال الهوى ... ومشى على الضغن الوداد الماحي وجرت أحاديث العتاب كأنها ... سمر على الأوتار والأقداح ترمي بطرفك في المجامع لا ترى ... غير التعانق واشتباك الراح1 وحين يستبد بعض الحكام في عهود الانقلابات الدستورية، نرى بعض الشعراء المحافظين يصبون بشعرهم اللعنات على الاستبداد والمستبدين، وبرغم أن معظم شعر هؤلاء الشعراء في هذا الميدان قد ضاع، أو نسي لما لم يتح له من نشر أو تسجيل، فإن قليلًا منه قد استطاع أن ينجو من وادي النسيان، ويصل إلينا مسجلًا ما كان من مقاومة لهؤلاء الحكام المستبدين، ومن هذا الشعر القليل الذي نجا من الضياع، قول حافظ من قصيدة له في صدقي سنة 1932: ودعا عليك الله في محرابه ... الشيخ والقسيس والحاخام لا هم أحي ضميره ليذوقها ... غصصًا وتنسف نفسه الآلام2 وكما نجد أعلام الاتجاه المحافظ البياني يتحولون بشعرهم إلى ميدان الصراع السياسي، ويولونه اهتمامًا أكثر من اهتمامهم بميدان النضال الوطني، نجدهم كذلك يعبرون عما طرأ على الفكر المصري حينذاك، من تطورات "أيديلوجية" وما أصاب النظرة السياسية من تغيرات3. فحين تغلب فكرة الوطنية المحلية فكرة الجامعة الإسلامية -في هذه الفترة- نجد أعلام الاتجاه المحافظ يعبرون عن هذا الشعور الوطني، حتى ليتطرف بعضهم فيقدس الوطن تقديسًا، وهذا شوقي يقول للشباب سنة 1924:

_ 1 الشوقيات جـ2 ص191. 2 ديوان حافظ جـ2 ص105. 3 انظر: في ذلك: الفصل الرابع، المقال "1- غلبة التيار الفكري الغربي".

وجه الكنانة ليس يغضب ربكم ... أن تجعلوه كوجهه معبودا ولوا إليه في الدروس وجوهكم ... وإذا فرغتم فاعبدوه هجودا1 وحين تغذو فكرة الفرعونية الشعور الوطني، وتساندها الكشوف الأثرية، وبخاصة كشف مقبرة توت عنخ آمون؛ نجد الشعر المحافظ يغني الأمجاد الفرعونية، عاكسًا هذا الحماس الملتهب لفكرة الوطنية، التي أصبحت تتكئ على ماض مشرف عريق، ومن هنا نجد لشوقي عددًا غير قليل من القصائد في الآثار المصرية، من بينها أربع قصائد في توت عنخ آمون، وما حوته مقبرته من عجائب، وما أوحى به تاريخه من أمجاد، وما ألهمت قصة آثاره من عظات2. ومن ذلك قوله في إحدى: تلك القصائد مفاخرًا بالفراعين: مشت بمنارهم في الأرض "روما" ... ومن أنوارهم قبست أثينا ملوك الدهر بالوادي أقاموا ... على وادي الملوك محجبينا تعالى الله كان السحر فيهم ... أليسوا للحجارة منطقينا3 كذلك نجد لحافظ قصيدته المشهورة "مصر تتحدث عن نفسها"، تلك القصيدة التي نراه فيها يمجد الفراعنة تمجيدًا نحس معه تفضيلهم على العرب، بل نكاد نشم منه اعتبار العرب غرباء عن مصر كاليونان، وفي تلك القصيدة يقول حافظ على لسان مصر، تحت هذا الحماس الذي كانت تزيده فكرة الفرعونية، وتؤججه الكشوف الأثرية الباهرة: إن مجدي في الأوليات عريق ... من له مثل أولياتي ومجدي أنا أم التشريع، قد أخذ الرو ... مان عني الأصول في كل حد وشدا "بنتئور" فوق ربوعي ... قبل عهد اليونان أو عهد نجد4

_ 1 الشوقيات جـ1 ص127. 2 الأولى في الشوقيات جـ1 ص79 وما بعدها، والثانية في نفس المصدر ص334 وما بعدها، والثالثة في الجزء الثاني ص116، والرابعة في نفس المصدر ص197 وما بعدها. 3 الشوقيات جـ1 ص35. 4 ديوان حافظ جـ2 ص91.

وزعماء الاتجاه المحافظ برغم أنهم عنوا كثيرًا بالصراع السياسي، واهتموا بالحديث عن الدستور، والبرلمان والأحزاب والزعماء، وبرغم أنهم صوروا التحول "الأيديلوجي"، وسجلوا الحماس البالغ للوطنية المحلية، وما تؤججه من فكرة فرعونية -برغم ذلك كله، لم ينسوا قضية الإنجليز ووجوب جلائهم، كما لم يحولوا أنظارهم عن إخوانهم العرب والمسلمين، ووجوب الانتصار لهم. أو بتعبير أكثر إيجازًا: لم يصرفهم الاشتغال بالصراع الداخلي، عن النضال في المجال الخارجي، وإن كانوا قد جعلوا من الميدان الأول أهم الميدانين، بل اتخذوا من الميدان الثاني طريقًا لخدمة الميدان الأول في كثير من الأحايين. فنحن أولًا نرى زعماء الاتجاه المحافظ ينددون في مناسبات عددية بالإنجليز، ويشككون في نواياهم، ويحذرون الزعماء من حيلهم، ويتوجسون مما يبدو من خير على أيديهم، ويطالبون بالجلاء للخلاص منهم، ونحن ثانيًا نرى هؤلاء الشعراء قد تعلقت أنظارهم بالأقطار الإسلامية، والبلاد العربية، وسجلوا أهم أحداثها، وغنوا أفراحها وبكوا مآسيها، ولم تخلعهم فكرة الوطنية المحلية، وما تؤججها من فرعونية، من الارتباط شعوريًّا بأبناء دينهم المسلمين وأبناء لغتهم العرب، وظلوا إلى تحركهم في دائرة الوطنية بعمق، يتحركون في دوائر العروبة، والإسلام والشرق، دون تمييز دقيق بين هذه الدوائر في كثير من الأحايين. ونتيجة لعدم نسيان مشكلة الإنجليز، وقضية الجلاء -برغم الاهتمام الزائد بالصراع السياسي- وجدنا شاعرًا كشوقي، يقول في قصيدة له سنة 1922 متحدثًا عن مصر، وخديعة الإنجليز لها بتصريح 28 فبراير، وعن وجوب مواصلة النضال ضد المحتلين حتى يتحقق الاستقلال الحق: ربحت من التصريح أن قيودها ... قد صرن من ذهب وكن حديدا يا فتية النيل السعيد خذوا المدى ... واستأنفوا نفس الجهاد مديدا1

_ 1 الشوقيات جـ1 ص127.

ووجدنا الشاعر نفسه يقول من قصيدة له سنة 1923، أثناء انعقاد مؤتمر لوزان، متحدثًا عن غطرسة الإنجليز وتجاهلهم لحق مصر، نظرًا لكونها لا تستند إلى قوت تنتزع بها هذا الحق: أتعلم أنهم صلفوا وتاهوا ... وصدوا الباب عنا موصدينا ولو كنا نجر هناك سيفًا ... وجدنا عندهم عطفًا ولينا1 كذلك وجدنا شاعرًا كحافظ إبراهيم يشكك في تصريح 28 فبراير، ويدعو إلى الحذر والنضال، فيقول عن الإنجليز والتصريح: قد حارت الأفهام في أمرهم ... إن لمحوا بالقصد أو صرحوا إني أرى قيدًا فلا تسلموا ... أيديكم، فالقيد لا يسجح حتَّام يمضي أمرنا غيرنا ... وذاك الأحرار لا يملح2 ثم وجدنا الشاعر نفسه يحذر سعدًا من الإنجليز وأحابيلهم، فيقول من قصيدة له سنة 1924: لا تقرب "التاميز" واحذر ماءه ... مهما بدا لك أنه معسول الكيد ممزوج بأصفى مائه ... والختل فيه مذوب مصقول كم وارد يا سعد قبلك ماءه ... قد عاد منه والفؤاد غليل3 كذلك وجدنا الكاشف يشكك في الاستقلال المقيد الذي خدع به الإنجليز تطلع المصريين، ويندد بحيل المستعمرين وأحابيلهم، فيقول من قصيدة له سنة 1923، فيما سمي حينذاك "عيد الاستقلال": يا عيد الاستقلال أنت ... له خيال أم حقيقه للعتق أم للرق ما ... خطوه في تلك الوثيقه إن أطلقوا أمس البلا ... د، فمنهم ليست طليقه وحديقة أضحت ولكن ... للغريب جنى الحديقة4

_ 1 الشوقيات جـ1 ص340. 2 ديوان حافظ جـ2 ص95-96. 3 ديوان حافظ جـ1ص111. 4 شعراء الوطنية للرافعي ص245.

وإلى جانب هذا كله، وجدنا الحديث عن الجلاء يتردد في أشعار زعماء الاتجاه المحافظ؛ فشوقي يقول في قصيدة له سنة 1924 متحدثًا عن طائفة من الوطنيين بعد الإفراج عنهم، مما سمي حينذاك بالمؤامرة الكبرى: طلبوا الجلاء على الجهاد مثوبة ... لم يطلبوا أجر الجهاد زهيدا والله ما دون الجلاء ويومه ... يومًا تسميه الكنانة عيدا وجد السجين يدًا تحطم قيده ... من ذا يحطم للبلاد قيودا1 ويقول في قصيدة أخرى سنة 1925 بمناسبة ذكرى مصطفى كامل: بك الوطنية اعتدلت وكانت ... حديثًا من خرافة أو مناما بنيت قضية الأوطان منها ... وصيرت الجلاء لها دعاما2 كما وجدنا مجابهة الإنجليز، وتحديهم من الأمور التي تتردد كذلك في شعر هؤلاء الشعراء، فمحرم يقول من قصيدة له سنة 1925 في استقبال اللورد "جورج لويد": عميد الغاصبين نزلت أرضًا ... يبيد الغاصبون ولا تبيد يذود الواحد القهار عنها ... إذا قهرت جنودك من يذود أتذكر إذا لقومك ما أرادوا ... وإذا "لكرومر" البطش الشديد تطوف جنوده فتصيد منا ... ومن سرب الحمائم ما تصيد3 وكذلك يقول حافظ سنة 1932 مخاطبًا دار المندوب السامي، ومنددًا بما سموه سياسة الحياد، ليتخلصوا من تبعة ما كان يتورط فيه صدقي من استبداد، وتنكيل بالمواطنين: قصر الدبارة قد نقضـ ... ت العهد نقض الغاصب أخفيت ما أضمرته ... وأبنت ود الصاحب

_ 1 الشوقيات جـ1 ص127. 2 الشوقيات جـ1 ص177-178. 3 شعراء الوطنية لعبد الرحمن الرافعي ص207.

الحرب أروح للنفو ... س من الحياد الكاذب1 ويقول في نفس السنة مخاطبًا "السير برسي لوين" المندوب السامي، وقتئذ: ألم تخبر بني التاميز عنا ... وقد بعثوك مندوبًا أمينا بأمنا قد لمسنا الغدر لمسا ... وأصبح ظننا فيكم يقينا كشفنا عن نواياكم فلستم ... وقد برح الخفاء محايدينا سنجمع أمرنا فترون منا ... لدى الجلي كرامًا صابرينا2 ويصل حافظ إلى قمة التحدي حين يقول سنة 1932، مخاطبًا الإنجليز: حولوا النيل واحجبوا الضوء عنا ... واطمسوا النجم واحرمونا النسيما واملأوا البحر إن أردتم سفينا ... واملأوا الجو إن أردتم رجومًا إننا لن نحول عن عهد مصر ... أو ترونا في الترب عظمًا رميمًا3 وواضح أن وطنية شوقي في هذه الفترة أصرح منها في الفترة السابقة، وخاصة فيما يتعلق بموقفه من الإنجليز، والسبب في هذه الصراحة، ما أفاده الرجل بعد عودته من المنفى من انعتاق من قيد القصر، هذا القيد الذي كان يفرض عليه -فيما سبق- أن يربط موقفه بموقف القصر إزاء الإنجليز، الأمر الذي ورطه أحيانًا في مهادنة المحتلين، بل أوقعه في مدحهم. وواضح كذلك أن وطنية حافظ في هذه الفترة، وخاصة في أواخرها قد طرأ عليها شيء من الشجاعة، حتى لنراه يقول للإنجليز ما لم يقله منذ عين في دار الكتب، وحتى لنراه أيضًا يقول لبعض الحكام المستبدين ما لم يقله غيره من الشعراء، والسبب في ذلك أن الرجل كان قد اطمأن بعض الشيء بعد الاستقلال المقيد، وأمن في بعض الفترات أذى المحتلين، كما كان بعد ذلك قد أمضى مدة خدمته في دار الكتب، وأحيل إلى المعاش؛ فلم يعد قيد الوظيفة يعقل لسانه أو يهيض جناحه، ولذا هاجم الإنجليز، وطالب بالجلاء

_ 1 ديوان حافظ جـ2 ص109. 2 ديوان حافظ جـ2 ص106-107. 3 ديوان حافظ جـ2 ص108.

ولعن المستبد صدقي، ولذا أيضًا وجدنا أهم ما له من شعر وطني في تلك الفترة قد قاله حول سنة 1932، وهي سنة إحالته إلى المعاش. ونتيجة لتعلق أنظار هؤلاء الشعراء بالبلاد الإسلامية والعربية، وارتباطهم وجدانيًّا بإخوانهم المسلمين والعرب، وتحركهم في دوائر الإسلامية والعروبة والشرق، إلى جانب تحركهم بعمق في دائرة الوطنية المحلية؛ نتيجة لهذا كله، نجد زعماء الاتجاه المحافظ يتابعون أحداث الخلافة بعد الحرب العالمية الأولى، باكين هزيمة تركيا أولا، ثم مهللين لانتصار مصطفى كمال ثانيًا، ثم جزعين من إلغاء أتاتورك للخلافة آخر الأمر، وهم في كل ذلك مدفوعون بمشاعر إسلامية خالصة، يذكرونها صراحة، ويؤكدونها بترديد أسماء المعالم المقدسة في البلاد الإسلامية، ليخلعوا على تلك المعالم مشاعرهم، وليثيروا -بما تحمله من طاقات شعورية- حماس المسلمين في كل مكان. كما نجد هؤلاء الشعراء المحافظين يسهمون في قضايا البلاد الإسلامية العربية الأخرى، مؤازرين نضالها، مباركين انتصارها، باكين من استشهدوا من أبطالها، وهم في هذه المرة مشيدون بالرابطة الإسلامية والرابطة العربية، التي تذكر كل منهما صراحة أو تكنيه، أو يشار إلى أي منهما بلفظ الشرق، الذي كان يعني الوطن العربي أحيانًا، والوطن الإسلامي أحيانًا، كما تدل على ذلك استعمالات الشعراء في ذاك الوقت1. فحين تُحتل الآستانة، ويتقسمها الإنجليز والفرنسيون والطليان، يتحدث حافظ إبراهيم عن هذه النكبة، فيقول مناجيًا الله سبحانه، في تحسر المسلم على ما كان من ضياع أرض إسلامية عزيزة، وإذلال لإخوة مسلمين أعزاء:

_ 1 من الاستعمالات التي تجعل للشرق معنى العروبة قول شوقي: كان شعري الغناء في فرح ... الشرق وكان العزاء في أحزانه قد قضى الله أن يؤلفنا الجرح ... وأن نلتقي على أشجانه كلما أن بالعراق جريح ... لمس الشرق جنبه في عمانه ومن الاستعمالات التي يراد بها الوطن الإسلامي قول شوقي: "ونحن في الشرق والفصحى بنو رحم"، حيث جعل الفصحى رمزًا للعروبة، وجعل الشرق رمزًا للإسلام.

أيرضيك أن تغشى سنابك خيلهم ... حماك، وأن يمنى الحطيم وزمزم وكيف يذل المسلمون وبينهم ... كتابك يتلى كل يوم ويكرم نبيك محزون وبيتك مطرق ... حياء، وأنصار الحقيقة نوم1 وحين ينتصر مصطفى كمال سنة 1922، وتنهض تركيا بعد ما منيت به من هزيمة واستسلام، يتحدث شوقي عن هذا الانتصار بلغة المسلم المبتهج بانتصار قائد مسلم في معركة إسلامية، حتى ليذكره هذا النصر القريب في الأناضول بما كان من انتصار بعيد في بدر، وحتى لينقل إليه مصطفى كمال صورة خالد بن الوليد، وحتى ليجعل الفرحة تهز كل جوانب العالم الإسلامي، وتمس كل آثاره المقدسة، وفي ذلك يقول شوقي: الله أكبركم في الفتح من عجب ... يا خالد الترك جدد خالد العرب لما أتيت ببدر من مطالعها ... تلفت البيت في الأستار والحجب وهشت الروضة الفيحاء ضاحكة ... إلى المنورة المكية الترب وأرَّج الفتح أرجاء الحجاز وكم ... قضى الليالي لم ينعم ولم يطب2 بل يتحدث عبد المطلب عن هذا الانتصار، في حماس أعظم واندماج أشد، حتى ليعتبره انتصارًا لقومه، وفوزًا لآله، وهو في ذلك لا يعتبر نفسه تركيًّا، ولا يتخلى عن شيء من حماسه لوطنه، وإنما يصدر عن هذا الشعور الإسلامي المجمع، الذي يعتبر المسلمين إخوة، وفي ذلك يقول من قصيدة له: لقد ظنوا الظنون بنا سفاهًا ... ورادوا البغي وانتجعوا الخيالا كأم لم يعلموا أن المنايا ... بأيدينا نصرفها نصالا وأن لنا لدى الغارات خيلا ... بحد بنا إلى الموت اختيالا وما يونان -إن جهلت- بكفء ... لنا يوم المغار ولا مثالا3

_ 1 ديوان حافظ جـ2 ص88-89. 2 الشوقيات جـ1 ص48-52. 3 ديوان عبد المطلب ص198.

وحين يُلغي مصطفى كمال الخلافة، يبكيها شوقي -قبل كل شيء- في حزن المسلم، الذي كان يرى فيها وسيلة تجميعن وتكتيل لقوى المسلمين، ومظهرًا من مظاهر عظمة الإسلام وجلاله، وفي ذلك يقول: ضجت عليك مآذن ومنابر ... وبكت عليك ممالك ونواح بكت الصلاة، وتلك فتنة عابث ... بالشرع عربيد القضاء وقاح أفتى خزعبلة وقال ضلالة ... وأتى بكفر في البلاد صراح إن الذين جرى عليهم فقهه ... خلقوا لفقه كتيبة وسلاح1 كما يتحدث أحمد محرم -كمسلم- عما لقيت الخلافة من خيانات بعض الزعامات العربية الطامعة، والمدفوعة بإغراءات الإنجليز وحيل الاستعمار، فيقول في قصيدة له في المناسبة نفسها: وما نفع الخلافة حين تمسي ... حديث خرافة للهازلينا ثوت تتجرع الآلام شتى ... على أيدي الدهاة الماكرينا منعنا الظلم أن يطغى عليهم ... فخانونا وكانوا الظالمينا نصاب لأجلهم ونصاب منهم ... فإن تعجب فذلك ما لقينا2 وحين تهب سوريا في ثورتها ضد الاحتلال الفرنسي سنة 1925، يسهم الشعراء المحافظون بشعرهم في المعركة، إلى جانب إخوانهم السوريين، حتى لنجد لشوقي وحده ثلاثة قصائد في هذه المناسبة، فهو أولًا يذيع قصيدته النونية المشهورة، مؤكدًا أخوة الإسلام والعروبة، والمأساة بين سوريا ومصر، فيقول: قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا ... مشت على الرسم أحداث وأزمان تغير المسجد المحزون واختلفت ... على المنابر أحرار وعبدان

_ 1 الشوقيات جـ1 ص106-107. 2 ديوان محرم مخطوط "عن الاتجاهات الوطنية للدكتور محمد حسين جـ2 ص31".

فلا الأذان أذان في منابره ... إذا تعالى ولا الآذان آذان ونحن في الشوق والفصحى بنو رحم ... ونحن في الجرح والآلام إخوان1 ثم يذيع قصيدته الثانية سنة 1926 بمناسبة نكبة دمشق، ويتحدث فيها عن صلات الدين واللسان، والمحنة بين المصريين والسوريين، ويحاول أن يستنهض همم مواطنيه في نضال الإنجليز، بتمجيده لبطولات أبناء سوريا في نضال الفرنسيين، ومن تلك القصيدة يقول شوقي: نصحت ونحن مختلفون دارًا ... ولكن كلنا في الهم شرق وتجمعنا إذا اختلفت بلاد ... بيان غير مختلف ونطق وللأوطان في دم كل حر ... يد سلفت ودين مستحق وللحرية الحمراء باب ... بكل يد مضرجة يدق2 ثم يذيع قصيدته الثالثة سنة 1926 أيضًا، رابطًا بين معاناة قومه من أجل الحرية، ومعاناة إخوانه في سوريا من أجلها أيضًا، ويوضح أن الطريق الوحيد إلى الظفر بها هو طريق الدم، وفي تلك القصيدة يقول: سلوا الحرية الزهراء عنا ... وعنكم: هل أذاقتنا الوصالا وهل نلنا كلانا اليوم إلا ... عراقيب المواعد والمطالا عرفتم مهرها فمهرتموها ... دمًا صبغ السباسب والدغالا3 وحين يستشهد القائد العربي محمد بن سعيد العاصي في فلسطين سنة 1929 4، يذيع محرم قصيدة في رثائه، وفيها يستنهض همم المسلمين والعرب من أجل نصرة فلسطين، سابقًا كل الشعراء إلى هذا الميدان المقدس، ومن هذه القصيدة يقول:

_ 1 الشوقيات جـ2 ص122-125. 2 الشوقيات جـ2 ص90-91. 3 الشوقيات جـ2 ص228. 4 كان ذلك حين اتسع نطاق القتال بين العرب واليهود منذ حوادث البراق، أو حائط المبكى.

نظم المجد لأبطال الحمى ... ونظمت الشعر نارًا ودما يا فلسطين ارفعي تاجيك في ... دولة البأس وزيدي شمما صخرة صماء تحمي صخرة ... علمتها كيف تشفي الصمما أسمت "بلفور" نجوى وعده ... ترتمي حزنًا وتمضي ندما1 وحين يقتل الطليان الشهيد المسلم، عمر المختار سنة 1931، يذيع شوقي همزيته الرائعة، التي يصور فيها كيف ضجت أفريقيا على البطل العظيم، الذي ركزه المستعمرون -عن جهل- لواء يتجمع تحته المظلومون ليثأروا من ظالميهم. ومن تلك القصيدة قول شرقي: ركزوا رفاتك في الرمال لواء ... يستنهض الوادي صباح مساء يا أيها السيف المجرد في الفلا ... يكسو السيوف على الزمان مضاء أفريقيا مهد الأسود ولحدها ... ضجت عليك أراجلا ونساء والمسلمون على اختلاف ديارهم ... لا يملكون على المصاب عزاء2 ويذيع محرم قصيدة في نفس المناسبة، معتبرًا المصيبة مصيبة الإسلام والمسلمين، فيقول: هتف النعي فما ملكت بياني ... ليت النعي إلى الإمام نعاني ذعر الحطيم وراع يثرب حائط ... للموت ضج لهوله الحرمان سهم أصاب المسلمين وجال في ... كبد الهدى وحشاشة الإيمان3 وحين ينكل الصهيونيون بأبناء الإسلام والعروبة في فلسطين، يقول محرم من قصيدة له سنة 38 متنبئًا بما سيجره اغتصاب الأرض المقدسة على الإسلام والعروبة من ويلات، ومثيرًا الهمم إلى خوض معركة الحياة ضد الصهيونية الباغية:

_ 1 ديوان محرم المخطوط "عن الاتجاهات الوطنية للدكتور محمد حسين جـ2 ص155". 2 الشوقيات جـ4 ص17-18. 3 ديوان محرم المخطوط "عن الاتجاهات الوطنية للدكتور محمد حسين جـ2 ص154".

من ذا يرى دمه أعز مكانة ... من أن يخصب في فلسطين الربا وطن يعذب في الجحيم وأمة ... أعزز علينا أن تصاب وتنكبا إنا لنعلم أن آكل لحمهم ... سيخوض منا في الدماء ليشربا1 ب- من الناحية الفنية: أما من الناحية الفنية، فإن زعماء الاتجاه المحافظ البياني ظلوا على طريقتهم في محافظتها على تقاليد الشعر العربي التي حددتها عصور الازدهار، ووقفوا عند ما ألفوا من الاهتمام قبل كل شيء بالجانب البياني، وجعل إتقان الصياغة في المحل الأول2، شأنهم في ذلك شأن "الكلاسيكيين" الذين تعد الصياغة المتقنة أبرز خصائصهم3. وليس من شك أنهم أحسوا بحرج موقفهم، وخاصة بعد الهجوم العنيف الذي وجه إليهم من أصحاب الاتجاه التجديدي الذهني، وبصفة أخص، بعد ظهور كتاب "الديوان"، الذي أخرجه العقاد والمازني، وجعلا من أهم أهدافه هدم هؤلاء المحافظين، بتحطيم زعيمهم شوقي عن طريق نقد شعره وبيان ما فيه من تخلف، وبعد عن الفن الشعري الذي يتطلبه العصر4. وقد عبر حافظ عن هذا الإحساس عند الشعراء المحافظين، حين قال: ملأنا طبقا الأرض وجدًا ولوعة ... بهند ودعد والرباب وبوزع وملت بنات الشعر منا مواقفًا ... بسقط اللوى والرقمتين ولعلع تغيرت الدنيا وقد كان أهلها ... يرون متون العيس ألين مضجع

_ 1 انظر: شعراء الوطنية للرافعي ص210. 2 انظر: تفصيل مذهبهم في الفصل الثالث، المبحثين جـ، د من مباحث المقال رقم 1 من المقالات الخاصة بالشعر. 3 انظر: Wat is classic T, Eliot p,9 4 ظهر الديوان سنة 1921، وتولى العقاد نقد شوقي والرافعي، وتولى المازني نقد المنفلوطي وشكري، وكان نقد المازني لشكري خارجًا عن طبيعة الكتاب؛ لأن شكري من عمد التجديد، وكان النقد له بدوافع شخصية.

وكان بريد العلم عيرًا وأينقا ... متى يعيها الإيجاف في البيد تظلع فأصبح لا يرضى البخار مطية ... ولا السلك في تياره المتدفع ونحن كما غنى الأوائل لم نزل ... نغني بأرماح وبيض وأدرع عرفنا مدى الشيء القديم فهل مدى ... لشيء جديد حاضر النفع ممتع؟! 1 غير أن هذا الإحساس لم يتجاوز هذا الاعتراف من جانب حافظ، وبعض محاولات للتجديد لا تنم عن فهم لحقيقته عند رفاق حافظ، ممن حسبوا أن التجديد هو الحديث عن بعض المخترعات الحديثة، كالقطار والطيارة، وما إلى ذلك، وجعل مجرد الحديث عن هذه الأشياء ثورة على الحديث عن الجمل والناقة مثلًا، مع أن من المقررات أن التجديد لا يكون في تناول شيء جديد فحسب، وإنما في طريقة تناول هذا الشيء، بل في طريقة الإحساس به والوقوف منه، قبل طريقة الحديث عنه، وقد تناول الشعراء المحافظون ما تناولوا من مخترعات حديثة بنفس الطريقة القديمة، التي تتناول الشيء من الخارج، وتعدد مظاهره لونًا وحجمًا وفائدة أو ضررًا، دون أن تتعدى ذلك -في الغالب- إلى وقع هذا الشيء على نفس الشاعر، أو تحاول النفاذ من الحدود الشكلية لهذا الشيء إلى ما وراء اللون والحجم، والمظاهر السطحية، بل أكثر من ذلك، قد عبر الشعراء المحافظون عن هذه المخترعات الحديثة، بتلك الأوصاف والتراكيب، والصور التي ألفت، بل استهلكت في الحديث عن أشياء معرفة في القدم، ومن ذلك قول شوقي في الطيارة: أعقابٌ في عنان الجو لاح ... أم سحاب فر من هوج الرياح أم بساط الريح ردته النوى ... بعد ما طوف في الدهر وساح أو كأن البرج ألقى حوته ... فترامى في السموات الفساح2

_ 1 ديوان حافظ جـ1 ص129-130. 2 انظر: الشوقيات جـ2 ص194.

جـ- محاولات تجديدية: ولعل المحاولة الوحيدة الجادة في مجال التجديد الشعري من جانب المحافظين هي تلك المحاولة التي قام بها شوقي لتطويع الشعر للمسرح، والحق أن هذه المحاولة ليست وليدة تلك الفترة التي يساق عنها الحديث، ولم يتجه إليها شوقي في تلك السنوات فقط، وإنما بدأها من قبل ذلك بسنين1، ولكن الحق أيضًا، أن شوقي كان قد انصرف عن كتابة المسرحيات الشعرية منذ خاب أمله بعد كتابة مسرحيته الأولى "علي بك الكبير"، التي ألفها في فرنسا سنة 1893، ولكنه تحت عبء الإحساس بالجمود، وإزاء الاتهام بالتخلف، وأمام هجمات دعاة التجديد في هذه الفترة؛ اتجه من جديد إلى الشعر المسرحي منذ سنة 1927، ووالي إخراج مسرحياته الشعرية من ذلك التاريخ حتى سنة 1932، فأخرج في هذه السنوات: "مصرع كليوباترا" و"مجنون ليلى" و"قمبيز" و"عنترة" و"الست هدى"، كما أعاد كتابة مسرحيته الشعرية الأولى "علي بك الكبير" بما يتلاءم مع مستواه الشعري والفني الجديد، وربما يجنبه الأخطاء التي تورط فيها حين أقدم على المحاولة لأول مرة2. وربما اعتبرت محاولة أخرى لأحمد محرم، في المحل الثاني من هذه المحاولة؛ وذلك أنه أراد أن يطوع الشعر للقصص التاريخي الحماسي الطويل، فألف نحو سنة 1933 "ديوان مجد الإسلام3" ليحكي بالشعر سيرة

_ 1 كتب أولى مسرحياته "علي بك الكبير"، وهو في باريس سنة 1893. 2 انظر: مسرحيات شوقي لمحمد مندور، والمسرحية في شعر شوقي للدكتور محمود شوكت. واقرأ الدراسة التي كتبتها عن مسرحيات شوقي في الفصل الخاص بها في كتابي "الأدب القصصي والمسرحي في مصر". 3 انظر: "ديوان مجد الإسلام"، المقدمة التي كتبها المشرف على تصحيحه محمد إبراهيم الجيوشي ص هـ.

الرسول وبطولاته وغزواته، وربما أراد محرم بهذا العمل أن يطرق بالشعر العربي فن الملحمة، ولكنه في الواقع لم يخرج ملحمة بالمفهوم الفني لهذا الجنس الأدبي، وإن طاب لكثير ممن تحدثوا عن هذا العمل أن يسموه "الإلياذة الإسلامية"1. وذلك أن الملحمة في حقيقتها، وكما عرفت -من أروع نماذجها التي خلفها "هوميروس"- تعتمد أساسًا على الأساطير الشعبية، والبطولات الخيالية، التي تصل أحيانًا إلى جعل الأبطال في مصاف الآلهة، أو أنصاف الآلهة، وهي لهذا كله لا تعني بالوقائع التاريخية ولا الأحداث الحقيقية، وإنما تعني قبل كل شيء بالخيال الجامح والتصوير الأسطوري، مما كان يرضي ظمأ الجماهير إلى البطولة الخارقة، وتلهفها على الأبطال الخياليين2. أما "ديوان مجد الإسلام"، فبرغم اتخاذه سيرة بطل عظيم مادة، وبرغم تسجيله لمعارك وانتصارات باهرات، فإن هذا العمل الشعوي قد التزم الوقائع التاريخية، وسجل الأحداث الحقيقية، ولم يعتمد أصلًا على الأساطير ولم يحكم الخيال؛ ثم هو بعد ذلك قد التزم في البناء الفني شكل القصائد الغنائية المتتالية، التي تؤلف في جملتها ديوانًا ذا موضوع واحد، هو حياة محمد صلى الله عليه وسلم، وبطولاته وغزواته. وقد درج الشاعر على أن يقدم بين يدي معظم القصائد -بمقدمة نثرية تجمل الأحداث التاريخية التي ستعالج فيما يلي من أبيات، كذلك درج على التزام الوزن والقافية في كل قصيدة تعالج فصلًا، أو موضوعًا معينًا، ثم تغيير الوزن والقافية في القصيدة الأخرى، وهكذا. ومن هنا نرى أن أهم تجديد في هذا العمل، هو معالجته في ديوان

_ 1 يفهم من المقدمة أن الشاعر لم يطلق على هذا العمل اسم "الإلياذة الإسلامية"، وإنما كان ذلك من إضافات الآخرين. انظر المقدمة ص ي. 2 انظر: المدخل إلى النقد الأدبي الحديث للدكتور محمد غنيمي هلال ص70، وما بعدها وانظر: الأدب ومذاهبه للدكتور محمد مندور ص22-25.

كامل لموضوع واحد، هو سيرة الرسول وبطولاته وغزواته، أما بعد ذلك فهو -في جملته- قصائد غنائية تستلهم مادة تاريخية، ولا تؤلف ملحمة إلا على سبيل التجوز، واعتبار الحديث عن البطولة بالشعر المتسم بالطول والإفاضة، كافيًا لإطلاق هذا الاسم1. وهذه أبيات من القصيدة الأولى، التي تحمل عنوان: "مطلع النور الأول"، وفي هذه الأبيات يتحدث الشاعر عن ثبات محمد صلى الله عليه وسلم؛ وعدم استجابته لإغراء قومه بالملك والمال، حتى يصرفوه عن دعوته: جاءه عمه يقول: أترضى ... أن يقيموك سيدًا أو أميرا ويصبوا عليك من صفوة الما ... ل، حيًا ماطرًا وغيثًا غزيرا لو أتوني بالنيرين لأعرضـ ... ـت أريهم مطالبي والشقورا2 إن يشيروا بما علمت فإنى ... لأدع الهوى وأعصي المشيرا دون هذا دمي يراق، ونفسي ... تطعم الحتف رائعًا محذورًا3 ... على أن محاولة شوقي برغم نجاحها، إنما كانت محاولة للتجديد في فن الشعر بعامة، وليست محاولة للتجديد في مجال الشعر الغنائي بخاصة، فهي تهدف إلى عمل شعر "درامي"، وهو نوع من الشعر مغاير في حقيقته للشعر الغنائي من الناحية الفنية، وإن خدمت الشعر العربي بوجه عام، وفتحت أمامه ميدانًا من أخصب الميادين.

_ 1 منذ عصر النهضة حاول عدد من الأدباء في العالم عمل ملاحهم بمفهومات مختلفة عن المفهوم القديم للملحمة، فمثلًا وجدت الملحمة الأدبية التي تعتمد على الفكرة، والمعاني المجردة، والتي تقابل الملحمة التاريخية التي تعتمد على التاريخ الممزوج بالأساطير، لكن ملحمتي هومير بقيتا تمثلان النسق الأعلى للملاحم وترشمانه. انظر: المفهوم الصحيح لهذا النوع الأدبي في الأدب ومذاهبه للدكتور محمد مندور ص22-25، وانظر: الأدب وفنونه للدكتور عز الدين إسماعيل ص126-128. 2 الشقور: الحاجات والأمور المتصلة بالقلب، جمع شقر. 3 ديوان مجد الإسلام ص5.

لهذا نستطيع أن نقرر: إنه باستثناء محاولة شوقي الناجحة -أو برغمها- قد تجمد الاتجاه الشعري المحافظ في هذه الفترة، حيث لم يضف جديدًا إلى مجاله الموضوعي، ولم يصب تجديدًا في أسلوبه الفني، وحيث وقف عند المرحلة التي وصل إليها، منذ وصل إلى قمته مع أمير الشعراء. وقد سار في هذا الاتجاه الشعري المحافظ بعد جيل شوقي، جيل آخر تمثل في علي الجارم، ومحمد الأسمر وعزيز أباظة، وعلي الجندي ومحمود غنيم وغيرهم. ولكن بموت شوقي سنة 1932، ماتت سيادة هذا الاتجاه، وظل كل السائرين في طريقة يحاولون جاهدين أن يقربوا من قمته الشامخة، التي علاها كثير من الجليد.

انحسار الاتجاه التجديدي الذهني

2- انحسار الاتجاه التجديدي الذهني: إذا كانت الظاهرة الأولى من ظواهر الشعر في هذه الفترة، هي ظاهرة تجمد الاتجاه المحافظ البياني، فالظاهرة الثانية هي ظاهرة انحسار الاتجاه التجديدي الذهني1، فقد شهدت هذه الفترة انحسار هذا الاتجاه كمًّا وكيفًا، حتى أوشك أن يختفي من الحياة الأدبية، لولا جهود العقاد وإصراره وأصالته، التي حفظت لهذا الاتجاه الاستمرار، برغم ما أحاط به من معوقات. وقد من أهم أسباب انحسار هذا الاتجاه -ومن أهم مظاهره أيضًا- توقف شكري عن إصدار دواوين جديدة، بعد أن أصدر ديوانه السابع "أزهار الخريف" سنة 1918. وقد كان هذا التوقف من جانب شكري، بسبب تأزمه النفسي، نتيجة لإحساسه بخيبة الأمل، وعدم نيله ما كان يطمح إليه من مجد أدبي لم يحققه له إصدار سبعة دواوين، ثم نتيجة لعدد من الصدمات في حياته العامة وصلاته الخاصة2،

_ 1 اقرأ تفصيل القول عن هذا الاتجاه وظهوره، وخصائصه في الفصل الثالث، المقال رقم 2 من المقالات الخاصة بالشعر. 2 انظر: ديوان عبد الرحمن شكري تحقيق نقولا يوسف: المقدمة ص85 وما بعدها.

ربما كان من أقساها عليه إقذاع صديقه المازني في نقده، وإقرار صديقه العقاد لهذا النقد، بنشره في كتاب الديوان الذي أصدراه معًا، والذي اتهم فيه شكري بالجنون، وسمي صنم الألاعيب، ونصح بالانصراف عن التأليف ليريح أعصابه المختلة، ويريح القراء من جهوده العقيمة1!! كذلك كان من أسباب انحسار هذا الاتجاه -ومن مظاهره أيضًا- انصراف المازني عن الشعر، منذ أصدر ديوانه الثاني سنة 1917، فقد اتجه إلى الصحافة، وآثر القصة والمقال من بين فنون الأدب، حيث لم يعد يرى الشعر كافيًا لسد حاجاته أولًا، ولا للتعبير الطليق عما يريد أن يعالج من شئون الحياة ثانيًا، وقد حول تأملاته وذهنياته الشعرية، إلى لون من السخرية الواعية، أجاد استخدامه فيما كان يكتب من مقالات اجتماعية، ومن قصص أو صور قلمية2. وهكذا بقي العقاد وحده من زعماء الاتجاه التجديدي الذهني يواصل كتابة الشعر، ولكنه لم يجعل الشعر همه أو فنه الأدبي الأول، بل انصرف هو الآخر إلى الصحافة والكتابة السياسية أولًا، ثم إلى التأليف الأدبي والإسلامي أخيرًا، حتى اعتبر في طليعة الكتاب السياسيين في أوائل هذه الفترة، ثم اشتهر كعلم من أعلام الكتابة الأدبية والإسلامية في آخريات تلك السنوات3.

_ 1 انظر: الديوان جـ1 ص48 وما بعدها، وجـ2 ص85 وما بعدها. هذا وقد نشر شكري بعد فترة من توقفه عددًا من القصائد المتفرقة حين كان يلح عليه خاطرًا، أو فكرة وحين كان يتغلب طبعه الأدبي على تأزمه النفسي، فقد نشر قصيدة الطفل في الهلال في أغسطس سنة 1932، ثم نشر عدة قصائد في سنتي 1935 و 1936 بالرسالة والمقتطف، والمجلة الجديدة، ثم عاد فنشر بعض القصائد في سنة 1949. انظر: مقدمة ديوان عبد الرحمن شكري بقلم نقولا يوسف ص10-11. 2 انظر: أدب المازني للدكتورة نعمات فؤاد ص113-114، ومحاضرات عن إبراهيم المازني للدكتور محمد مندور ص41. 3 انظر: مع العقاد لشوقي ضيف ص38-51. وانظر: العقاد دراسة وتحية=

وبرغم أن العقاد في هذه الفترة لم يجعل الشعر همه أو فنه الأول، قد ظلت دواوينه تتوالى دون انقطاع، بل لقد أخرج في عام وحد من أعوام تلك الحقبة ديوانين اثنين.. فبعد أن أخرج الجزء الأول من ديوانه الأول سنة 1916، ثم الجزاء الثاني سنة 1917، أخرج الجزء الثالث من هذا الديوان سنة 1921، ثم جمع تلك الأجزاء وضم إليها الجزء الرابع، وسمى كل ذلك: "ديوان العقاد"، ونشره سنة 1928 1. وفي سنة 1933، أخرج العقاد ديوانين آخرين، الأول باسم "وحي الأربعين"، والثاني باسم "هدية الكروان"، ثم أخرج سنة 1937 ديوان المسمى "عابر سبيل2". والملاحظ على شعر العقاد الذي ظهر في تلك الفترة، أنه قد سار -في جملته- على المبادئ التي ارتضاها هو وزميلاه شكري والمازني منذ الفترة السابقة، وهي المبادئ التي تقوم قبل كل شيء على عدم اعتبار الشعر المحافظ البياني مثلًا أعلى للشعر في العصر الحديث، والتي تهتم بالتجديد في موضوعات الشعر، وطريقة أدائه، وتعني في المحل الأول بنفس الشاعر وأصالته، والتي تعطي قيمة كبرى للخيط الذهني في النسيج الشعري، وتحاول محاولة جادة لتحقيق الوحدة العضوية وصدق التجربة الشعرية3، كل هذا مع توفيق أحيانًا وإخفاق في بعض الأحايين، وخاصة حين يطغى الفكر، فيفسد طبيعة الشعر4.

_ = ص 310 وما بعدها، لترى أن أعظم كتبه الأدبية ظهرت في الثلاثينات، وأن عبقرياته ظهرت في الأربعينات. 1 انظر: ديوان العقاد كلمة ختام ص351، والعقاد دراسة وتحية ص310، ومع العقاد لشوقي ضيف ص138-139. 2 وبعد ذلك أخرج "أعاصير مغرب" سنة 1942، ثم "بعد الأعاصير" سنة 1950. 3 انظر: تفصيل هذه المبادئ في الفصل الثالثل، المبحث جـ من مباحث المقال رقم2 من المقالات المخصصة للشعر. 4 انظر: The Name and Nature of poety. Hausman p.47

ففي الجزء الثالث من ديوان العقاد الأول، هذا الجزء الذي ظهر سنة 1921، نراه يعني بالتأملات الفكرية، والقضايا الذهنية، التي تصل أحيانًا إلى درجة التفلسف، كما نراه يبتعد عن التأثير بالقيم البيانية، ويركز اهتمامه على التأثير بالقيم الفكرية، ثم نراه يجعل صدق التجربة الشعرية، وتحقيق الوحدة العضوية في المحل الأول: ومما يؤيد ذلك هذا النموذج الذي يتحدث فيه العقاد عن الإنسان، وحريته الفطرية، وما يكبلها به الإنسان نفسه من قيود مختلفة، وقد سمى الشاعر هذا النموذج "حانوت القيود"، وفيه يقول: تزود منه الناس في كل حقبة ... وحجوا إليه موكبًا بعد موكب يصيحون فيه بالقيود كأنهم ... سراحين في واد من الأرض مجدب فمن قائل: عجل بقيدي فإنني ... طليق، ومن عان كثير التقلب إذا أخطأ الأغلال قطب وجهه ... كئيبًا، وإن أثقلنه لم يقطب فهذا إلى قيد من العقل ناظر ... وما العقل إلا من عقال مؤرب يخفض من أهوائه كل ناهض ... ويغلب من آماله كل أغلب ويمشي بأغلال التجارب معجبًا ... على غبطة منه لمن لم يجرب وهذا إلى قيد من الحب شاخص ... وفي الحب قيد الجامح المتوثب ينادي: أنلني القيد يا من تصوغه ... ففي القيد من سجن الطلاقه مهربي أدره على لبي وروحي ومهجتي ... وطوق به كفى وجيدي ومنكبي ورصعه بالحسن المسوم وأجله ... بكل سعيد في المناظر طيب عزيز علينا أن نعيش وحولنا ... أسارى الهوى من فائز ومخيب1 وفي الجزء الرابع من ديوانه الأول، الذي صدر سنة 1928، ومعه كل الأجزاء الثلاثة السابقة؛ نرى العقاد يسير في نفس الخط التجديدي الذهني، وربما يصل فيه إلى درجة أكثر نضجًا وأتم استراء، بل قد يصل إلى حد من التأمل الفلسفي ينتهي به -في بعض التجارب- إلى فلسفة السخط

_ 1 انظر: ديوان العقاد ص204-205.

والرفض، والإقرار "بلا جدوى شيء في هذا الوجود"، ففي ذلك الجزء من ديوان العقاد، نراه -مثلًا- يقول في قطعة بعنوان "سيان": يا شمس ما ضرك لو لم تشرقي؟ ... يا روض ما ضرك أو لم تعبق؟ يا قلب ما ضرك لو لم تخفق؟! ... سيان في هذا الوجود الأحمق من كان مخلوقًا ومن لم يخلق1!! وإنما قلت: "إن شعر العقاد في تلك الفترة قد سار -في جملته-" على المبادئ التي ارتضاها هو وزميلاه من قبل، ولم أقل: قد سار كله على تلك المبادئ؛ لأن العقاد كان في بعض هذا الشعر يفعل فعل الشعراء المحافظين، من حيث النظم في المناسبات والسياسات والإخوانيات، التي تصل أحيانًا إلى حد التفاهة. وليس من شك أن روح الفترة التي عرفنا أنها كانت فترة صراع سياسي، قد أثرت على العقاد، فحادت به -بعض الشيء- عن الطريق الذي رسمه هو وصاحباه من قبل، وليس من شك أيضًا في أن ارتباط الشاعر ببعض الهيئات، وصلته ببعض الأصدقاء، قد كان من العوامل التي ورطته في بعض شعر المناسبات والإخوانيات، إلى جانب ما ورطته فيه صراعات الفترة من شعر السياسيات. فمثلًا نرى العقاد في الجزأين الثالث والرابع من ديوانه الأول، قد أورد قصائد تخالف ما أخذ به نفسه هو وصاحباه من قبل، وتماثل ما أخذه على خصومه، حين هاجم رثائهم، وأمداحهم وتهانيهم، وما إلى ذلك من شعر المناسبات. فنحن نطالع له في الجزء الثالث قصيدة رثاء السلطان حسين2، وأخرى في رثاء محمد فريد3، وثالثة في رثاء الطلبة الذين ذهبوا ضحية حادث قطار في إيطاليا4. كما نطالع له في الجزء الرابع قصيدة في سعد زغلول بمناسبة عودته من

_ 1 انظر: ديوان العقاد ص298. 2 انظر: ديوان العقاد ص218-219. 3 انظر: ديوان العقاد ص228-231. 4 انظر: ديوان العقاد ص231-233.

منفاه سنة 1923 1. ثم نطالع بعد تلك القصيدة مباشرة قصيدة أخرى في ذكرى مرور أربعين يومًا على وفاة سعد2.. كما نطالع بعد ذلك في أواخر الديوان قصيدة ثالثة3 في سعد أيضًا قالها العقاد بمناسبة زيارة الزعيم الوفدي لمدينة أسوان سنة 1923. وما نراه في الجزأين الثالث والرابع من ديوان العقاد الأول، نراه فيما صدر له بعد ذلك من دواوين، فنراه في "هدية الكروان"، قد جعل معظم الديوان لموضوعات تسير في خطه الشعري الحقيقي، بل قد جعل قسمًا كاملًا من الديوان لمناجاة طائرة الكروان، وعرض كثير من القضايا العاطفية والفكرية من خلال هذه النجوى، ومن ذلك قصيدة "اليوم الموعود" التي يقول فيها: لي جنة يا يوم أجمع في يدي ... ما شئته من زهرها المتبسم وأذوق من ثمراتها ما أشتهي ... لا تحتمي مني ولا أنا أحتمي لم آس بين كرومها وظلالها ... إلا على ثمر هناك محرم فكأنها هي جنة في طيها ... ركن تسلل من جحيم جهنم أبدًا يذكرني النعيم بقربها ... حرمان مرؤود وعزة معدم وأبيت في الفردوس أنعم بالمنى ... وكأنني من حسرة لم أنعم4 ولكننا نرى في الديوان نفسه أن الشاعر قد أورد بعض التهاني والتقريظات5، بل نراه ينظم قصيدة في وصف البيرة على لسان طفل، فيقول كلامًا دون مستوى العقاد، واتجاهه بمسافات ومسافات، وحسبنا أن نقرأ مطلع هذه القصيدة الذي يقول فيه:

_ 1 انظر: ديوان العقاد ص277-280. 2 انظر: ديوان العقاد ص281-292. 3 انظر: ديوان العقاد ص247. 4 انظر: "هدية الكروان" ص48. 5 من ذلك تهنئة لمكرم عبيد حين أجرى عملية جراحية، وتهنئة لحافظ جلال بمناسبة خطبته، ومنه تقريض لبعض الأدباء.

البيلا البيلا البيلا ... ما أحلى سلب البيلا1 وفي "وحي الأربعين" نرى العقاد -إلى جانب ما له من "تأملات في الحياة"، و"خواطر في شئون الناس" و"قصص وأماثيل" و"وصف وتصوير"، و"غزل ومناجاة" -نراه إلى جانب كل ذلك قد عقد بابًا باسم "قوميات واجتماعيات"، أورد فيه قصيدة ألقيت في حفل جمعية من جمعيات الإحسان، وأخرى قيلت بمناسبة عيد الاستقلال السوري، ومطلع هذه القصيدة يذكرنا بطريقة المحافظين الخطابية وجلجلتها البيانية، فهو يقول فيه: ربع الشآم أعامر أم خالي ... اليوم عيدك عيد الاستقلال2 كما نرى الشاعر إلى جانب كل ذلك قد عقد بابًا باسم "متفرقات"، وضمنه قصيدة في مشروع القرش، كما ضمنه أبياتًا في إهداء كتاب، وقصيدتين في رثاء الكاتب محمد السباعي، والشاعر حافظ إبراهيم. بل نجد الشاعر في هذا الديوان، يقدم للقراء ما يشبه الاعتذار، عن اكتفائه بما قدم فقط من شعر قليل متصل بالمناسبات المصرية، وعن عدم إيراده لكل ما قد قال في تلك المناسبات من شعر، وفي ذلك يقول: "اكتفينا بما نقدم في هذا الباب، ولم ننشر فيه كل القصائد التي نظمت في المناسبات المصرية، رعاية لعهد الائتلاف"3. وفي ديوان "عابر سبيل" نجد العقاد يسير في اتجاهين متضادين، أو -على الأقل- متباعدين أشد التباعد، فنحن نجده أولًا يبلغ حد المبالغة في رعاية مذهبه الشعري، الذي يرى أن موضوع الشعر هو كل ما يقع على الحس ويثير الوجدان، حتى ولو كان أبسط الأشياء، ومن هنا يجعل القسم الأول من هذا الديوان نماذج تطبيقه لهذه النظرية، فيتحدث عن جملة أشياء

_ 1 انظر: هدية الكروان ص139. 2 انظر: وحي الأربعين ص146. 3 انظر: وحي الأربعين ص152.

مما يقع في طريق عابر السبيل، وتقع عليه عينه كل يوم، "كالبيت" و"أصداء الشارع" و"عسكري المرور" و"الفنادق"، و"القطار العابر" و"المصرف" و"المتسول" و"جهات الدكاكين"، وهو خلال حديثه عن هذه الأشياء -التي لا تلفت الشعراء عادة- يستبطن الأسرار التي تحتويها، ويكشف المعاني الإنسانية التي تعكسها، ويستخرج العبر الكونية التي وراءها، فهو يعمل ذهنه وفكره بل فلسفته في أشياء قد تبدو أبعد ما تكون عن الذهن، والفكر والفلسفة، ومن أمثلة ذلك قوله عن "الفنادق" مثلًا: حسب الفنادق أن تذكرنا ... مر الفناء بكل من يحيا تبدو الوجوه لعين عابرها ... وتغيب عنه كأنها رؤيا في كل توديع وتفرقة ... شيء من التوديع للدنيا1 ومن أروع أمثلة هذا الباب في "عابر سبيل"، قول العقاد في "وجهات الدكاكين": إن الدكاكين التي عرضت ... تلك المطارف تعرض النوبا تحكي الفواجع كلهن لنا ... صدقًا، ولا تحكي لنا كذبا هذا الستار، فنح جانبه ... تجد القضاء يهيئ اللعبا انظر إلى النساج منحنيًا ... يطوي بياض نهاره دأبا وانظر إلى السمسار مقتصدًا ... أو طامعًا في الربح مغتصبا وانظر إلى التجار، ما عرفوا ... غير النضار وعده تعبا وانظر إلى الشارين قد سمحوا ... بالمال يقطر من دم صببا وانظر تر الحسناء لابسة ... لا تلتمس غير الهوى أربا لو تعرف الحسناء ما صنعت ... شقت جيوب ردائها رهبا هذا زمان العرض فانتظروا ... عرضًا يرينا الويل والحربا بهر النفوس بكل ظاهرة ... وطوى جمال النفس محتجبا فالويل للعين التي امتلأت ... والويل للقلب الذي نضبا2

_ 1 انظر: عابر سبيل ص37. 2 انظر: عابر سبيل ص25.

ثم نحن نجد الشاعر بعد هذه المبالغة في الذهنية، والتفلسف والابتعاد عن الموضوعات المعروفة إلى موضوعات هي أبعد ما تكون عن مجالات الشعراء؛ تجده يسير في اتجاه مضاد، أو على الأقل في اتجاه شديد البعد عن هذا الاتجاه. فهو نفس الديوان يعقد بابًا "للقوميات" يتحدث فيه عن "ذكرى الجهاد"، وعن "عيد بنك مصر"، كما يتحدث عن "ذكرى سيد درويش"، وعن نقل "جثمان سعد زغلول"، وعن "بعض المتطوعين في مشروع القرش"، وعن "بعض العهود السياسية"، وعن "دار العمال" ... ثم يعقد بابًا آخر "للمتفرقات" يورد فيه قصائد في تكريم أحد البشوات بمناسبة حفل قد أقامه أبناء أسوان لهذا الباشا، ثم يورد كذلك قصيدة في تهنئة عروسين، وأخرى في طبيب عيون، كما يورد في هذا الباب قصيدة في الملك غازي ملك العراق، وقد نظمها لتكون أغنية كما يقول الديوان، وفيها يقول على طريقة المحافظين: غازي قلوب الشعب بالكرم ... والفضل والتوفيق والحسنى1 وهكذا نرى الاتجاه التجديدي الذهني قد انحسر في تلك الفترة، فهو بعد أن كان يندفع بقوة ثلاثة من الشعراء الرواد، الذين كانوا يجعلون الشعر فنهم الأول، أصبح يسير هادئًا بجهد شاعر واحد من هؤلاء الثلاثة، جعل من الشعر -في الغالب- مجالا للتعبير عن لحظات التوهج الذهني، وصرف جل طاقته إلى الكتابة السياسية والاجتماعية أولًا، والأدبية والإسلامية آخرًا، ثم هو بعد أن كان يأخذ نفسه بقيم شعرية صارمة، تباعد بينه وبين تقاليد الشعراء المحافظين، قد ترخص -بعض الشيء- في هذه القيم، حتى اقترب في بعض شعره من هؤلاء الشعراء، فمدح ورثى وهنأ وقرظ، وتورط في كثير من شعر المناسبات، التي كان يحارب التورط فيها هو وزميلاه من قبل. ولكن برغم انحسار الاتجاه التجديدي الذهني في هذه الفترة، قد ظل يمثل -بنماذجه الجيدة- خطًّا مميزًا في مسيرة الشعر العربي الحديث، واستطاع ما تم على يد عملاقه العقاد، من نتاج شعري أولًا، ومن كتابات نقدية ثانيًا، أن يبقى -بعد رواده الأول- ممثلًا في نتاج نفر ممن تتلمذوا على العقاد وشعره، كمحمود عماد، وعبد الرحمن صدقي، وعلي أحمد باكثير. كما استطاع أن يسهم أعظم الإسهام فيما ظهر بعده من اتجاهات تجديدية أخرى، كان أهمها الاتجاه الذي هو موضوع الحديث التالي:

_ 1 انظر: عابر سبيل ص141.

ظهور الاتجاه الابتداعي العاطفي

3- ظهور الاتجاه الابتداعي العاطفي: بعد سنوات من مبدأ تلك الفترة، وبعد أن أصيب الاتجاه الشعري الأول بالتجمد1، ومنى الاتجاه الثاني بالانحسار2، كانت الظروف مهيأ لنشأة اتجاه شعري ثالث؛ فنشأ هذا الاتجاه ليعوض بحرارته وانطلاقه ما أصاب الحياة الشعرية من تجمد على أيدي البيانيين، ومن انحسار على أيدي الذهنيين. وإذا كنت قد سميت الاتجاه الأول "الاتجاه المحافظ البياني" نظرًا لميله إلى المحافظة على القيم الشعرية التي خلفتها عصور الازدهار، ثم لاهتمامه بالناحية البيانية -قبل كل شيء- في التعبير الشعري3، وإذا كنت قد سميت الاتجاه الثاني "الاتجاه التجديدي الذهني"، نظرًا لاهتمامه بالتجديد في مفهوم الشعر وأسلوبه ووظيفته، ثم لإبرازه الجانب الفكري في مضمون الشعر4؛ أقول: إذا كنت سميت الاتجاهين السابقين على هذا النحو، فإنني أميل إلى تسمية هذا الاتجاه الثالث "الاتجاه الابتداعي العاطفي"، نظرا لكون الشعر السائر في هذا الاتجاه لا يتسم بالتجديد فحسب، وإنما يتجاوزه إلى الابتداع المنطلق المتحرر، ثم لكون هذا الشعر يجيش بالعاطفة

_ 1 اقرأ تفصيل ذلك في المقال رقم 1 من المقالات الخاصة بالشعر في الفصل الرابع. 2 اقرأ تفصيل ذلك في المقال رقم 2 من المقالات الخاصة بالشعر في الفصل الرابع. 3 اقرأ تفصيل المقال عن هذا الاتجاه في الفصل الثاني -المقال رقم 2 من المقالات الخاصة بالشعر، ثم في الفصل الثالث المبحث جـ من مباحث المقال رقم 1 من مقالات الشعر. 4 اقرأ تفصيل القول عن هذا الاتجاه في الفصل الثالث -المقال رقم2 من المقالات الخاصة بالشعر.

الحارة المتدفقة، لا بالبيان المنمق، ولا بالذهن المتفلسف، وسوف تتضح تلك التسمية بصورة أكثر جلاء، حين أعرض للخصائص الفنية لهذا الاتجاه1. أما تلك الظروف التي هيأت التربة لظهور هذا الاتجاه، وجعلت منه اتجاهًا ضروريًّا -في ذلك الحين- لسد الفراغ في الحياة الفنية، فأهمها ذلك الصراع الذي كان قد احتدم بين المحافظين البيانيين وعلى رأسهم شوقي، وبين المجددين الذهنيين وعلى رأسهم العقاد، فهذا الصراع الذي بدأ في أوائل القرن العشرين، ووصل إلى ذروته مع كتاب "الديوان" سنة 1921 2 قد كشف القناع عن محاسن كل من الاتجاهين ومساوئهما، فاتضح أجمل ما في الاتجاه البياني من روعة الأسلوب وجمال الصياغة، ورونق الموسيقى، ومائية الشعر، واتضح كذلك أجمل ما في الاتجاه الذهني من اهتمام بالصدق الفني، والتفات إلى الجانب الوجداني، واتجاه إلى التعبير عن نزعات النفس، وحقائق الكون، وأسرار الطبيعة، هذا إلى الاهتمام بالوحدة العضوية، والصورة الشعرية. كذلك برز -من خلال هذا الصراع- أقبح ما في الاتجاهين، من تأس لخطى السابقين، واتجاه إلى المناسبات، وميل إلى الخطابية عند المحافظين3، ومن برود ذهني، وجفاف شعري، وميل إلى العقلانية عند المجددين4، ومن هنا كانت الفرصة متاحة أمام جيل الشباب من الشعراء لكي يختار أحسن ما في الاتجاهين، ويتجنب أسوأ ما فيهما، وأن يمزج بين محاسن كل حين يقول شعرًا يريد له أن ينجو مما تورط فيه الجيلان السابقان من محافظين، ومجددين على السواء.

_ 1 اقرأ الفقرة التي عنوانها "خصائصه من حيث الأسلوب، وطريقة الأداء"، والفقرة التي عنوانها "خصائصه من حيث المضمون". 2 انظر: الفصل الثالث -المقال رقم2 من مقالات الشعر، مبحث أ. 3 انظر: الفصل الثالث -المقال رقم 1 من مقالات الشعر، المبحث د. 4 انظر: الفصل الثالث -المقال رقم من مقالات الشعر، مبحث جـ.

وهكذا كان الصراع بين "الاتجاه المحافظ البياني" و"الاتجاه التجديدي الذهني"، من أهم العوامل التي هيأت لظهور "الاتجاه الابتداعي العاطفي"، وتبصيره بكثير من قيم الشعر، فأخذ ما أخذ، وطرح ما طرح، وليس من شك في أن جهود رواد "الاتجاه التجديدي" العقاد وشكري والمازني، قد كانت من أهم ما أفاد منه هذا "الاتجاه الابتداعي" الذي ليس إلا خطوة أفسح نحو التجديد1. وهناك عامل ثان من العوامل التي هيأت لظهور هذا الاتجاه، وهو التأثر بشعر "الرومانتيكيين" الأوروبيين، وبالإنجليز منهم بصفة خاصة، فقد كان رواد هذا الاتجاه من شعراء الشباب -في ذلك الحين- مثقفين ثقافة أوروبية، ومجيدين بصفة خاصة للغة الإنجليزية، ومتعلقين بصفة أخص بشعر "الرومانتيكيين" الإنجليز2؛ فأحمد زكي أبو شادي3 الذي

_ 1 انظر: "جماعة أبولو" لعبد العزيز الدسوقي ص27، 156 وما بعدها، 278، 315. 2 اقرأ اعتراف ناجي بتأثره هو وزملائه بالثقافة الإنجليزية في مقدمة: "أطياف الربيع" لأحمد زكي أبو شادي ص"ل"، واقرأ كذلك رائد الشعر الحديث لمحمد عبد المنعم خفاجى جـ2 ص281، واقرأ أيضًا: محمد عبد المعطي الهمشري لصالح جودت ص31، وعلي محمود طه للسيد تقي الدين السيد "مقدمة صالح جودت ص6 وص34، 35 من هذا الكتاب". 3 ولد أحمد زكي أبو شادي سنة 1892 بالقاهرة، وتلقى بها تعليمه الابتدائي والثانوي، ثم التحق بمدرسة الطب ومكث بها سنة، ثم انقطع عن الدراسة عامًا نتيجة لصدمة عاطفية، وسافر بعدها إلى إنجلترا لإتمام دراسته العالية هناك، وظل بها من سنة 1912 إلى سنة 1922، ثم عاد وقد أتم دراسة الطب، وتخصيص في علمي الأمراض الباطنية والجراثيم، وعمل بعد عودته إلى الوطن في الوظائف الحكومية بين القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، حيث تدرج في السلم الوظيفي من طبيب "بكتريولوجي" إلى مدير معمل، إلى وكيل لكلية طب الإسكندرية سنة 1942، وفي سنة 1946 آثر الهجرة إلى أمريكا، واستقر بها حتى مات سنة 1955، وكان إلى تخصصه في الطب و"البكتريولوجي" هاويًا للنحالة والتعاون مفتونًا بالأدب والشعر بصفة خاصة، وقد كان أشرب حب الأدب من أبيه وأصدقاء أبيه، فهو ابن محمد بك أبي شادي المحامي، والصحافي صاحب جريدة "الإمام" الأسبوعية و"الظاهر" اليومية، وقد كان من أصدقائه ورواد مجلسه الأدبي: إسماعيل صبري وحافظ إبراهيم، وخليل مطران وأحمد محرم.

يعتبره عدد من الدارسين رائد هذا الاتجاه، كان قد عاش في إنجلترا نحو عشر سنوات لإتمام دراسته في الطب، وكان مفتونًا ببعض الشعراء "الرومانتيكيين" الإنجليز، وإبراهيم ناجي1، الذي يعد من أهم معالم

_ = ولا يمكن أن يغفل أثر خاله مصطفى نجيب الذي كان شاعرًا له جولات في ميدان الوطنية. وقد بدأ أبو شادي نتاجه الشعري مبكرًا، حيث أصدر ديوانه الأول سنة 1910 باسم "أنداء الفجر"، ثم انقطع عن إصدار الدواوين إلى أن عاد من إنجلترا فتوالت دواوينه بغزارة، فأصدر "زينب" سنة 1924 و"مصريات" في نفس العام و"أنين ورنين" سنة 1925، و"شعر الوجدان" في السنة نفسها، و"الشفق الباكي" سنة 1927، و"مختارات وحي العام" سنة 1928 و"أشعة وظلال" سنة 1931، و"الشعلة" سنة 1932، و"أطياف الربيع" سنة 1933، و"أغاني أبي شادي" في نفس العام، و"الكائن الثاني" سنة 1934، و"الينبوع" في العام ذاته، و"شعر الريف" سنة 1935، و"فوق العباس" في العام نفسه، ثم انقطع حينًا عن قول الشعر وإصدار الدواوين، إلى أن عاد فأصدر سنة 1942 "عودة الراعي"، ثم "من الماء" سنة 1949، كل ذلك بالإضافة إلى بعض القصائد المطولة التي أصدرها منفصلة متناولًا بعض الأحداث القومية، أو المناسبات الأدبية، مثل "نكبة نافارين"، و"ذكرى شكسبير"، و"وطن الفراعنة"، وبالإضافة إلى قصصه الشعرية التي أشهرها: "عبده بك"، و"مها" وبالإضافة أيضًا إلى مسرحياته الغنائية التي اشتهر منها: "إحسان"، و"أردشير"، و"الزباء" و"الآلهة"، اقرأ عنه في: رائد الشعر الحيث لمحمد عبد المنعم خفاجى، والشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة الثالثة ص25 وما بعدها، وجماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص132 وما بعدها، وفي الأدب العربي المعاصر لشوقي ضيف ص145 وما بعدها. 1 ولد إبراهيم ناجي سنة 1898 بالقاهرة، وتعلم بها حتى أتم الدراسة في كلية الطب سنة 1932، وعمل طبيبًا في مستشفيات سوهاج والمنيا والمنصورة، ثم القاهرة، وقد سافر في مهمة علمية إلى لندن، ثم عاد بعد أن دهمته سيارة هناك وعولج من كسر خطير، وعمل طبيبًا بمصلحة السكة الحديد، ثم رئيسًا للقسم الطبي بوزارة الأوقاف، وأخيرًا أحيل إلى المعاش في سن الخامسة والخمسين، فتفرغ لعيادته الخاصة بشبرا، ولم يطلب به الأجل بعد ذلك فقد وافته المنية يوم 24 مارس سنة 1953. وقد اعتمد في ثقافته الأدبية على جهوده الخاصة وهوايته الذاتية، التي تفتحت على ما كان لدى والده من مكتبة عامرة. وظهرت شاعرية ناجي مبكرة، وأذكتها حياته في المنصورة، كما أطلقتها تجربة عاطفية مريرة تفتح عليها شباب قلبه، فأكسبته عاطفية ملتهبة، وحزنًا يغلف بالدعابة، وبدأ ناجي=

هذا الاتجاه -إن لم يكن أهمها جميعًا- كان من المجيدين للغة الإنجليزية، ومن أقوياء الصلة بالشعر الإنجليزي "الرومانتيكي"، بالإضافة إلى معرفته بالفرنسية وقراءته لبعض الشعراء الفرنسيين، ومحمد عبد المعطي الهمشري1، الذي يمثل أبرز خصائص هذا الاتجاه كان أيضًا يقرأ الشعر

_ = بنشر شعره في الصحف في أواخر العشرينيات وهو في المنصورة، وتابع نشر شعره بعد ذلك بصورة أوضح منذ إنشاء مجلة "أبولو" سنة 1932، ونشر أول دواوينه سنة 1934 باسم "وراء الغمام"، ثم نشر سنة 1951، "ليالي القاهرة" ديوانه الثاني، وبعد وفاته نشر له ديوان ثالث باسم "الطائر الجريح" سنة 1953، قام باختياره من شعر ناجي الذي لم ينشر صديقه أحمد رامي، ثم رأت وزارة الثقافة جمع تراث ناجي الشعري، ونشره كله في ديوان جامع يضم ما نشره من شعره وما لم ينشر، فظهر هذا الديوان سنة 1961، وقد اشترك في إخراجه: محمد ناجي وأحمد رامي وصالح جودت، وقدم له مؤلف هذا الكتاب بمقدمة عن "فن ناجي". اقرأ عنه في: ناجي -حياته وشعره لصالح جودت، وفي: ديوان ناجي "سيرة حياة الشاعر بقلم صالح جودت"، وفي: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الثانية ص57، وما بعدها. وفي: الأدب العربي المعاصر في مصر ص154 وما بعدها. 1 ولد محمد عبد المعطي الهمشري سنة 1908 بمدينة السنبلاوين، وتلقى دروسه الابتدائية، ودخل كلية الآداب، ولكنه لم يتم دراسته بها، حيث اضطر إلى قطعها سنة 1934، والحصول على وظيفة في وزارة الزراعة، حيث عمل محررًا بمجلة التعاون.. وقد مات، وهو في عمر الورد، وكان موته أثر عملية جراحية سنة 1938. وقد تفتحت مواهبه الشعرية، وهو طالب بالمدرسة الثانوية بالمنصورية، واختلط هناك بناجي، وعلي محمود طه وكانا يكبرانه، فأفاد من صحبتهما، كما زامل صالح جودت، في المنصورة، ثم القاهرة. وقد بدأ بنشر شعره في بعض الصحف وهو في المنصورة، فنشر أجزاء من قصيدته "شاطئ الأعراف"، واحتفى بها الدكتور محمد حسين هيكل محرر السياسة في ذلك الحين، ثم واصل نشر شعره في أبولو بعد إنشائها، وبعد أن انتقل إلى القاهرة طالبًا في كلية الآداب، كما نشر بعض شعره في غير "أبولو" مثل مجلة التعاون، ولكنه لم يجمع ديوانًا وينشره قبل وفاته، وبقي شعره متناثرًا في الصحف والمجلات التي كان ينشر بها. اقرأ عنه في: محمد عبد المعطي الهمشري لصالح جودت، وفي الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة الثالثة ص6 وما بعدها.

الإنجليزي، ويتمثل بعض خصائص شعرائه "الرومانتيكيين"، وكذلك علي محمود طه المهندس1؛ فقد كان على علم بالإنجليزية والفرنسية، وله قراءات في شعرهما وبخاصة الشعر الرومانتيكي، ومثله صالح جودت2،

_ 1 ولد علي محمود طه بالمنصورة سنة 1902، وتلقى بها تعليمه الابتدائي وبعض الثانوي، ثم التحق بمدرسة الفنون التطبيقية، وتخرج منها سنة 1924، وعين بعد ذلك في هندسة المباني بالمنصورة، ثم نقل إلى القاهرة مديرًا للمعهد الخاص بوزارة التجارة، فمديرًا لمكتب الوزير بها، ثم ألحق بسكرتارية مجلس النواب، ومنذ سنة 1938، أخذ يكثر من الرحلات الصيفية إلى أوروبا، وقد خرج من خدمة الحكومة مع وزارة الوفد سنة 1944، ثم أعيد سنة 1949 وكيلًا لدار الكتب، ولكنه توفي في نفس العام، وقد اعتمد علي محمود طه في تحصيله الأدبي على هوايته الذاتية وتثقيفه الشخصي، وكان على علم بالإنجليزية والفرنسية كما يؤكد كتابه "أرواح شاردة"، الذي درس فيه بعض الشعراء الإنجليز والفرنسيين، وترجم مختارات من آثارهم، وبدأ ينظم الشعر منذ زمن مبكر، لكنه بدأ بنشره في أواخر العشرينيات في العصور، وفي أوائل الثلاثينيات في أبولو، ثم في الرسالة. وقد أظهر أول دواوينه "الملاح التائه" سنة 1934، ثم أذاع ديوانه الثاني سنة 1940 باسم "ليالي الملاح التائه"، وفي سنة 1941 أذاع كتابه "أرواح شاردة"، وأكثره مقالات عن الأدب الإنجليزي، والفرنسي، وألحق به قصيدة في دخول الألمان باريس، وفي سنة 1942 نشر قصيدته القصصية الطويلة "أرواح وأشباح"، وفي سنة 1943 نشر مسرحيته الغنائية "أغنية الرياح الأربع"، وفي نفس العام نشر ديوانه الثالث "زهر وخمر"، وفي سنة 1945 نشر ديوانه الرابع "الشوق العائد"، وفي سنة 1947 نشر ديوانه الخامس "شرق وغرب". اقرأ عنه في: علي محمود طه للسيد تقي الدين السيد، وفي الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة الثانية ص81 وما بعدها، وفي الأدب العربي المعاصر في مصر لشوقي ضيف ص161 وما بعدها. 2 ولد صالح جودت بالقاهرة سنة 1912، وأتم دراسته بالثانوية بالمنصورة والعالية في القاهرة، حيث تخرج في كلية التجارة سنة 1937، وقد آثر أن يعمل في الحقل الأدبي والصحفي، فعمل بالأهرام والإذاعة ودار الهلال، وهو عضو بلجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، وقد نال جائزة الشعر التشجيعية سنة 1962، وكان قد نشر أول دواوينه سنة 1934 باسم ديوان "صالح جودت"، ثم نشر ديوانه الثاني سنة 1957 باسم "ليالي الهرم"، ثم نشر ديوانه الثالث باسم أغنيات على النيل سنة 1962، ثم ظهر له ديوان "ألحان مصرية" سنة 1968. اقرأ عنه في الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الثالثة ص52.

وحسن كامل الصيرفي1، وهكذا نرى أن هؤلاء الذين يعتبرون الدعامات الأولى لهذا الاتجاه -كانوا جميعًا ممن يقرأون الشعر "الرومانتيكي" ضمن ما يقرأون من أدب أوروبي، وكان لهم ميل خاص إلى" وردز وورث" Wordsworth" و"بيرون" Byron و"شيلي" Shelly و"كيتس" Keats من "الرومانتيكيين" الإنجليز2. بل إن بعض رواد هذا "الاتجاه الابتداعي العاطفي"، كان مفتونًا ببعض هؤلاء "الرومانتيكيين" لدرجة تشبيه نفسه به، واتخاذ حياته نمطًا لحياته، فأبو شادي مثلًا، كان يرى في حياة "كيتس" صورة لحياته، وكان يتحدث عن هذا الشاعر الإنجليزي، وكأنه يتحدث عن نفسه، وكان يرى في تلك المشابهة عزاء عما يعانيه من اضطهاد وعدم تقدير، ومما قاله في ذلك عن "كيتس": "إن أساليبه ونزعاته التجديدية لم ترض جمهرة الأدباء في البداية، ولكنها استحالت فيما بعد إلى مفخرة من مفاخر الأدب الإنجليزي، وأن شخصيته الأدبية القوية لم تهضمها البيئة ولا المطالعات، بل هو الذي هضمها.. وأن المواهب الجديدة

_ 1 ولد حسن كامل الصيرفي في دمياط سنة 1908، ولم تشأ الظروف أن يتم دراسته، فغادر المدرسة سنة 1925، وهو في أوائل الدراسة الثانوية، ولكنه استمر في تثقيف نفسه بالقراءة، والتحق سنة 26 بوظيفة في وزارة الزراعة، حيث ظل إلى سنة 42، فانتقل إلى سكرتارية مجلس النواب، وعندما أنشأت وزارة الإرشاد صحيفة المجلة انتدب سكرتيرًا لتحريرها. وقد بدأ بنشر شعره في أواخر العشرينات بمجلة العصور، ثم نشر في أبولو حيث أنشئت سنة 1932، وأخرج أول دواوينه سنة 1934 باسم الألحان الضائعة، ثم نشر ديوانه الثاني سنة 1948 باسم "الشروق"، وله دواوين مخطوطة لم تنشر هي: "قطرات الندى" و"دموع وأزهار" و"رجع الصدى" و"حول النور". اقرأ عنه في: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور، الحلقة الثانية ص111 وما بعدها. 2 انظر: علي محمود طه للسيد تقي الدين "المقدمة التي كتبها صالح جودت" ص6، وانظر: محمد عبد المعطي الهمشري لصالح جودت ص31، ورائد الشعر الحديث لمحمد عبد المنعم خفاجى جـ2 ص281، ومجلة البعثة الكويتية عدد إبريل سنة 1954.

قد لا يعترف بها اعترافًا منصفًا إلا بعد زوال صاحبها، وعلى الأخص إذا كان من الشباب؛ لأن الناس غالبًا عبيد ما تعودوه"1. وهناك عامل ثالث من العوامل التي هيأت لظهور هذا الاتجاه، وهو التأثر بأدب المهجر2، وقد كان هذا العامل كبير الأثر بصفة خاصة عند الشعراء المحبين لهذا "الاتجاه العاطفي"، ولكنهم لا يجيدون، لغة أجنبية ولا يستطيعون الإفادة من الشعر "الرومانتيكي" في لغته الأصلية.

_ 1 انظر: الينبوع لأحمد زكي أبو شادي "المقدمة" صفحات: ج، ط، ي. 2 بدأت هجرة إخواننا الشاميين إلى أمريكا نحو منتصف القرن الماضي، ونشطت تلك الهجرة بعد سنة 1860، وبخاصة بعد ما يسمى بمذبحة الستين، التي كانت فتنة طائفية بين المسلمين والمسيحيين في لبنان، ووصلت الهجرة إلى مداها في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وكانت أهم أسباب الهجرة: الاضطرابات والمعارك الدامية بين المسلمين والمسيحيين، ثم سوء معاملة بعض الحكام الأترك لأبناء الشام، ثم الفقر والقهر، والتطلع إلى الحرية والكسب، وأخيرًا روح المغامرة، والتنقل التي تكمن في إخواننا اللبنانيين سلائل الفينقيين. وإذا كانت الهجرة قد بدأت نحو منتصف القرن الماضي، فإن الأدب المهجري لم يظهر إلا في أوائل القرن الحالي، وقد كانت ريادة أدباء المهجر لأمين الريحاني، وجبران خليل جبران، ثم تبعهما نسيب عريضه وعبد المسيج الحداد، ثم ميخائيل نعيمه وإيليا أبو ماضي، وقد التقى الجميع أخيرًا في "الرابطة القلمية" التي أنشئت في نيويورك سنة 1920، وكانت مجلة السائح لسان حال هذه الرابطة، والمنبر الذي يذيع أصوات أعضائها من أدباء المهجر الشمالي، وكان قد أنشأها عبد المسيح حداد منذ سنة 1912، كما أنشأ نسيب عريضة "الفنون" سنة 1913، وأخيرًا أنشأ إيليا أبو ماضي "السمير" سنة 1923. هذا في المهجر، أما في المهجر الجنوبي فقد تأخر النتاج، والنشاط الأدبي بعض الوقت، فتكونت أولًا في سان باولو جميعة قبل الحرب الأولى، ثم تشكلت جمعية ثانية سنة 1922، وأخيرًا تكونت "العصبة الأندلسية" سنة 1933 بالبرازيل، وكان صحيفتها التي تحمل هذا الاسم أهم منابر المهجر الجنوبي، الذي كان عمده: الشاعر القروي رشيد سليم الخوري، وحليم الخوري شقيقه، ثم فوزي المعلوف، وشقيق المعلوف، ورياض المعلوف، وإلياس فرحات، وقد كان من أهم صحف المهجر الجنوبي العربية كذلك "الشرق" لموسى كريم، التي كانت تصدر من سنة 1927 ... ومعظم أدب المهجر يتسم بالرومانسية، ويتجه إلى العاطفية والابتداع، ويميل إلى الحنين والتأمل والحيرة، وتمجيد الأرض وإن كان أدب الشمال يغالي في تجديده حتى ليبعد أحيانًا عن أوضاع العربية كما أن حظ أدب الشمال من النثر أعظم من حظ أدب الجنوب، الذي يوشك أن يقتصر على الشعر. "اقرأ: أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأمريكية لجورج صيدح، وشعراء المهجر لمحمد عبد الغني حسن، وشعراء الرابطة القلمية لنادر السراج".

ومعروف أن أدب المهجر المبكر الممثل في نتاج جبران خليل جبران، يغلب عليه الطابع الرومانسي، برغم أن معظمه نثر، ومعروف أيضًا أن أهم شعراء المهجر قد التقوا في دعوتهم التجديدية، بدعوة المجددين المصريين التي رادها العقاد وشكري والمازني1، غير أن شعر هؤلاء المهجريين كان أكثر من شعر المجددين انطلاقًا وتحررًا، كما كان أقل ذهنية وأغزر عاطفية، أو بعبارة أخرى، كان أشبه بشعر "الرومانتيكيين" الغربيين، ثم إن أدب المهجر نثرًا وشعرًا كان قد بدأ يذاع في مصر خلال كتب هؤلاء المهجريين، ودواوينهم وقصائدهم، التي كانت تنشر في بعض المجلات الأدبية حينذاك، مثل الهلال والمقتطف2، ومن هنا كان هذا الشعر

_ 1 اقرأ: المقدمة التى كتبها العقاد لكاتب الغربال لميخائيل نعيمه، واقرأ: ثناء ميخائيل نعيمه على كتاب الديوان للعقاد والمازني، فى الغربال صـ 175-177، ففي ذلك يتضح اللقاء بين المجددين المصريين والمهجريين، فيما عدا تمسك المصريين بسلامة الأداء اللغوي، الذين كان يترخص فيه المهجريون. 2 كان نتاج جبران من أقدم ما عرف من أدب المهجريين، فقد بدأ نتاجه يذاع منذ سنة 1905، ومن أهم كتبه النثرية الجياشة بالرومانسية "عرائس المروج" و "الأجنحة المتكسرة" و"دمعة وابتسامة" و" الأرواح المتمردة"، وأشهر أعماله الشعرية "المواكب"، ويلي جبران ميخائيل نعيمه، الذى بدأ نتاجه الشعري يذاع بالعربية منذ سنة 1917، ثم إيليا أبو ماضي، الذي كان قد نشر ديوانه الأول بالأسكندرية سنة 1911، باسم"ديوان إيليا ضاهر أبو ماضى"، وواصل إخراج دواوينه بعد ذلك في المهجر، حيث بدأ بالجزء الثانى من ديوانه 1919، ثم أخرج الجداول سنة 1927، والحمائل سنة 1946، ومن نفس الجيل تقريباً رشيد أيوب الذى أصدر ديوانه "الأيوبيات" سنة 1917، ثم ديوانه الثاني "أغاني الدرويش" سنة 1928، ثم "هي الدنيا" سنة 1939. وكذلك الشاعر القروي "رشيد سليم الخوري" الذي أخرج "الرشيديات" سنة 1917، ثم "القرويات" سنة 1922، وأخيراً ظهر ديوانه الكبير سنة 1953. اقرأ: عن هؤلاء الأعلام: في أدبنا وأدباؤنا فى المهاجر الأمريكية لجورج صيدح صـ 266 وما بعدها، ص242 وما بعدها، وص 253 وما بعدها، وص 288 وما بعدها، وص 323 وما بعدها.

أحد العوامل التي هيأت لظهور هذا "الاتجاه الابتداعي العاطفي"، وكان أكثر المستفيدين من الشعر المهجري، هؤلاء الشعراء الابتداعيين العاطفيين الذين لم يتح لهم -حينذا- الاتصال المباشر بالشعر "الرومانتيكي" الغربي. وربما كان الشعر المترجم الذي كان ينشره العقاد وشكري والمازني وغيرهم، عاملًا مشابهًا لهذا العامل، من حيث التأثير على طائفة من شعراء الشباب الذين تطلعوا إلى الابتداع، وفاضوا بالعاطفة، وآثروا هذا الاتجاه الشعري الثالث، دون اتصال مباشر بروافد ثقافية أجنبية، بل اعتمدوا -إلى درجة كبيرة- على الشعر المترجم عن "الرومانتيكيين"، كما اعتمدوا على شعر المهجر المشبه بدوره لشعر هؤلاء "الرومانتيكيين". بقي عامل رابع من أهم العوامل التي شاركت في إظهار هذا الاتجاه بطابعه الابتداعي المنطلق، ونزعته الفردية الثائرة، ثم بسمته العاطفي الحزين، ونظرته الدامعة الساخطة، وهذا العامل ليس عاملًا فنيًا أو ثقافيًا كالعوامل السابقة، وإنما هو عامل اجتماعي، فقد سيطر على تلك الفترة التي يساق عنها الحديث، شعور جارف باستقلال الشخصية المصرية، وإحساس غامر بالحرية الفردية، وتشبع مستغرق بروح الثورة، وذلك لما تقدم من عوامل، كان في مقدمتها روح ثورة سنة 1919، ومشاركة كل القوى الوطنية فيها، ثم فوزها بإنهاء حماية بريطانيا، وإعلان الاستقلال، وصدور الدستور، وفتح البرلمان، وتأكيد ضمان الحريات1، وإلى هذا العامل الأول يرد ما كان عند أصحاب هذا الاتجاه من شعور بالشخصية، وإحساس بالفردية وتشبع بروح الثورة ... ثم شهدت تلك السنوات التي

_ 1 اقرأ المقال رقم 2 من المقالات الممهدة لدراسة الأدب في هذا الفصل.

ظهر فيها هذا الاتجاه ظلام الحياة الاجتماعية في مصر، بسبب فساد السياسة، وتأزم الاقتصاد، واضطهاد الحرية، مما كان نتيجة مباشرة لتعدد العدوان على الدستور، وتكرر إغلاق البرلمان، وتآمر قوى الشر على كل ما حققه الشعب من مكاسب بثورة سنة 1919، وكانت الملكية الباغية، والاستعمار الطاغي، والإقطاع المستغل، أهم أطراف هذا التآمر، الذي وصل إلى ذروته في عهد إسماعيل صدقي سنة 1930، على نحو ما اتضح في التمهيد لهذا الفصل1.. وإلى هذا العامل الثاني يرد ما كان من ضيق طائفة من الشباب الشاعر الحساس بالحياة، وتبرمه بالعيش، وشعوره بخيبة الأمل، فقد دفعته تلك الظروف الأخيرة إلى أن ينطوي ويهرب، ويبحث عن العزاء في الحب حينًا، وفي رحاب الطبيعة حينًا آخر، كما أغرته بأن يتشبث بالأحلام ويتعلق بالخيالات، ويهيم بالرؤى، ليلوذ بعالم أكثر شفافية، وأعظم رحابة وأفسح صدرًا، وهكذا هيأت ظروف الحياة الاجتماعية التربة في مصر لينمو بها هذا الاتجاه الذي فيه كثير من الخصائص الرومانسية2، وتآزرت تلك الظروف مع عوامل ثقافية وفنية أخرى، فكان هذا الاتجاه بجانبيه: الابتداعي المطلق، والعاطفي الجياش. هذاوقد ألِف بعض الباحثين أن يحددوا تاريخ ظهور هذا الاتجاه بظهور مجلة "أبولو "سنة 1932، وتكوين جمعيتها في العام نفسه، باعتبار أن أهم شعراء هذا الاتجاه كانوا من بين جماعة "أبولو"، أو ممن ينشرون

_ 1 اقرأ المقال رقم 1 من المقالات الممهدة لدراسة الأدب في هذا الفصل بعنوان "بين الروح الوطنية والانحرافات الحزبية". واقرأ كذلك المقال رقم 2 وعنوانه "بين نشوة النصر ومرارة النكسة". 2 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة الثانية ص4. وانظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص271، وما بعدها.

شعرهم على صفحات مجلتها، وينالون تشجيع مؤسسها الدكتور أبي شادي1. كذلك درج بعض الباحثين على تسمية هذا الاتجاه باسم "جماعة أبولو"2 باعتباره قد انبثق من خلال تلك الجماعة التي أسسها أبو شادي، وبالغ البعض فسمى الاتجاه "مدرسة أبولو"3. والحق أن هذا الاتجاه قد ظهر قبل ظهور مجلة "أبولو"، وتأسيس جمعيتها بسنين، حيث كان رواد هذا الاتجاه ينشرون شعرهم -قبل ظهور تلك المجلة في صحف ذاك العهد، التي كانت تعني بالأدب، كالسياسة الأسبوعية والبلاغ الأسبوعي، وكالمصور والهلال، والمقتطف وغيرها4، ثم إن مجلة "أبولو" -برغم أن صاحبها كان من أوائل رواد هذا الاتجاه- لم تكن وقفًا على اللون الشعري الذي يتسم بالابتداعية والعاطفية، بل كانت تفسح صفحاتها لكل الاتجاهات، حتى لأشدها محافظة وأكثرها تعلقًا بالقديم، فكانت تنشر لشوقي والرافعي، ومحرم، كما كانت تنشر

_ 1 انظر: الشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور الحلقة الأولى ص90 وما بعدها، والحلقة الثانية ص3 وما بعدها. 2 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص372. 3 انظر: أحاديث أبي شادي وناجي والشابي عن هذا الاتجاه، فكلها تسمية باسم مدرسة، واقرأ مثلًا مجلة أدبي سنة 1936 ص357، حيث يتحدث أبو شادي عن أبولو كمدرسة، وانظر: "أطياف الربيع" لأبي شادي -المقدمة التي كتبها ناجي، وفيها يتحدث عن أبولو ويسميها مدرسة. وانظر: الينبوع لأبي شادي -المقدمة التي كتبها الشابي حيث يتحدث كذلك عن الاتجاه، ويسميه مدرسة. 4 من أمثلة ذلك قصيدة للصيرفي بعنوان "مدى الحياة" منشورة في "العصور" العدد العاشر، يونية سنة 1928، وقصيدة أخرى له بعنوان "حبي" منشورة بالعدد السادس والعشرين أكتوبر 1929. وقصيدة لعلي محمود طه بعنوان "الطريد" منشورة في العدد الثلاثين، فبراير سنة 1930، ومن أمثلة ذلك أيضًا قصيدة "صخرة الملتقى" لإبراهيم ناجي، وهي منشورة في السياسة الأسبوعية سنة 1929، وأجزاء من "شاطئ الأعراف" لمحمد عبد المعطي الهمشري، وقد نشرت في السياسة كذلك سنة 1929، ثم قصيدة أخرى للهمشري نشرت في البلاغ سنة 1929 بعنوان "العيون الزرقاء"، انظر: محمد عبد المعطي الهمشري لصالح جودت ص48.

لناجي وعلي محمود طه والهمشري1، بل لقد وصل عدم التزامها بمذهب معين إلى حد أن جعلت أول رئيس لمجلس إدارتها زعيم المحافظين أحمد شوقي، على حين ضم المجلس شعراء من اتجاهات مختلفة بعضهم محافظ، وبعضهم مبتدع2. ومن هنا لا أميل إلى جعل تاريخ ظهور هذا الاتجاه، هو مجلة "أبولو"، كما لا أميل إلى تسمية هذا الاتجاه باسم "جماعة أبولو"؛ لأن هذا الاتجاه قد ظهر قبل المجلة أولًا، ثم؛ لأن المجلة لم تكن وقفًا عليه ثانيًا. ويمكن اعتبار سنة 1927 تاريخ ظهور هذا الاتجاه3، ففي هذا العام أخرج الدكتور أحمد زكي أبو شادي ديوان "الشفق الباكي"4 الذي يمثل-

_ 1 وقد كتب في العدد الأول من الشعراء المحافظين: حسن القاياتي، وأحمد الزين، ومحمدالأسمر، وأحمد محرم، وصادق عنبر. انظر: أبولو العدد الأول سبتمبر سنة 1932، وانظر جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص345-371، ففيه عرض للأسماء والموضوعات التي احتوتها المجلة. 2 اقرأ أسماء أعضاء مجلس الإدارة في العدد الثاني من أبولو، أكتوبر سنة 1932، وفي العدد الثالث نوفمبر سنة 1932، وقد كانوا: أحمد شوقي رئيسًا، وخليل مطران وأحمد محرم نائبي الرئيس، وأحمد زكي أبو شادي سكرتيرًا، ثم الدكتور إبراهيم ناجي، والدكتور علي العناني، وكامل الكيلاني، ومحمود عماد ومحمود صادق، وأحمد الشايب وسيد إبراهيم وعلي محمود طه، ومحمود أبو الوفا وحسن القاياتي وحسن كامل الصيرفي أعضاء، ثم اعتذر محمود عماد عن العضوية، فاختير الدكتور أحمد ضيف مكانه في أول اجتماع للمجلس، وبعد الاجتماع الأول بأربعة أيام توفي شوقي، فاجتمع المجلس اجتماعه الثاني وانتخب مطران رئيسًا، والدكتور علي العناني وكيلًا، وانتخب كذلك إسماعيل صبري الدهشان عضوًا بالمكان الذي خلا، انظر: "أبولو" عدد أكتوبر سنة 1932 وعدد نوفمبر سنة 1932. 3 انظر: "جماعة أبولو" لعبد العزيز الدسوقي ص274-286. 4 كتب على الديوان أنه صدر سنة 1926، ولكن في نهايته تنبيه إلى أنه تأخر حتى صدر سنة 1927، وقد ضم بعض شعر المؤلف حتى يوليو من هذا العام كقصيدتيه في رثاء، وتأبين الدكتور يعقوب صروف صاحب المقتطف "انظر: ص1336".

إلى حد كثير -كثيرًا من خصائص هذا الاتجاه، وفي نحو هذا التاريخ كان علي محمود طه وإبراهيم ناجي، ومحمد عبد المعطي الهمشري، وصالح جودت وحسن كامل الصيرفي؛ ينتجون طلائع شعرهم السائر في هذا الاتجاه، ويحاول بعضهم نشره في صحف ذلك العهد1. على أن بعض هؤلاء الشعراء قد سبق هذا التاريخ الذي حدد نقطة ابتداء لظهور هذا الاتجاه، ونشر بعض شعره مبكرًا، كأبي شادي الذي أخرج ديوانه الأول سنة 1911 باسم "أنداء الفجر"، وكعلي محمود طه الذي نشرت له قصيدة في السفور سنة 1918 2، غير أن هذا الشعر المبكر لا يحمل طابع ذلك الاتجاه الابتداعي العاطفي، وإن نسب إلى شعراء صاروا فيما بعد من كبار الابتداعيين العاطفيين، فديوان أبي شادي الأول، وما تبعه من دواوين قبل "الشفق الباكي"، شعر مليء بالتقليدية والمحاكاة لشوقي، وغير شوقي من الشعراء المحافظين، وإن ضم بعض لمحات من التجديد أو الابتداع، وقصيدة علي محمود طه يغلب أنها ككل ماله من شعر مبكر، إن اتسم بعضه بالعاطفة الحزينة، وبعض لمحات الابتداع، فهو لا يمثل خصائص هذا الاتجاه "الابتداع العاطفي" ذات السمات المعينة في الموضوعات والأسلوب، والقيم الشعورية والفنية المختلفة، التي لم تتهيأ الظروف لإبرازها قبل سنة 1927. ولذا يحسن صرف النظر عن هذا التاريخ المبكر لنتاج بعض شعراء هذا الاتجاه السابق لسنة 1927، كما يحسن صرف النظر عن التاريخ المتأخر الذي حدده البعض بظهور مجلة "أبولو"، وجمعيتها سنة 1932. وإذا كانت سنة 1927 قد شهدت ميلاد هذا الاتجاه في شكل روافد

_ 1 انظر: العصور العدد العاشر "يوليو سنة 1928، والسادس أكتوبر سنة 1929، والثلاثين "فبراير سنة 1930"، وانظر: كذلك السياسة الأسبوعية سنة 1929، والبلاغ الأسبوعي سنة 1929، ففي تلك الصحف قصائد لعلي محمود طه والصيرفي والهمشري وناجي. 2 انظر: علي محمود طه للسيد تقي الدين ص36.

صغيرة لا تكاد تلفت الأنظار، فإن سنة 1932 قد شهدت تجميع هذه الروافد في شكل تيار قوي واضح، قد أخذ مجراه في الحياة الأدبية من خلال مجلة "أبولو"، فقد كانت هذه المجلة فرصة لهؤلاء الشبان الابتداعيين العاطفيين لكي ينموا ويتضاعفوا ويشتدوا، ثم كانت سنة 1934 بمثابة موسم الفيضان لهذا التيار الجديد، حيث ظهرت في هذا العام الدواوين الأولى لمعظم شعرائه الرواد، فقد ظهر لعلي محمود طه "الملاح التائه"، وظهر لإبراهيم ناجي، "من وراء الغمام"، وظهر لحسن كامل الصيرفي "الألحان الضائعة"، وظهر لصالح جودت ديوانه الأول الذي سماه باسمه، وكان ظهور هذه الدواوين الأولى في عام واحد أشبه بمظاهرة فنية تعلن استواء هذا الوليد الذي رأى النور سنة 1927، ثم راح يدرج في رحاب "أبولو" سنة 1932، ثم اكتمل فتيًّا سنة 1934، فلفت أنظار النقاد الكبار من أمثال العقاد وطه حسين، فكتبوا عنه لأول مرة، وإن كانت كتابات العقاد، وطه حسين -في ذلك الحين- ليست في صالح هذا الاتجاه الجديد، لظروف كان أكثرها بعيدًا عن النقد والشعر كما سنرى فيما بعد1. وإذا كنت لم أمل إلى تسمية هذا الاتجاه باسم "أبولو" لما أوضحت من أسباب، وآثرت تسميته باسم يحدد ابتداء طابعه الفني كما صنعت مع الاتجاهات السابقة، فإنني لا أميل كذلك إلى إطلاق اصطلاح "مدرسة" على هذا الاتجاه، وذلك؛ لأن المدرسة الأدبية تقوم أساسًا على دعائم فلسفية معينة، وتكون لها قيم فنية محددة؛ وذلك ما لا نجده -بدقة- في هذا الاتجاه الشعري؛ فهو لا يقوم على دعائم فلسفية تجعل لأصحابه فلسفة خاصة تغاير فلسفة الآخرين، وهو لا يلتزم قيمًا فنية صارمة تعزل شعراءه.

_ 1 قسًا كل من العقاد وطه حسين في نقد بعض ما ظهر من دواوين، فكتب العقاد عن ديوان ناجي، وكتب طه حسين عن ديوان علي محمود طه، ثم عن ديوان ناجي، وكانت كل الكتابات عنيفة ومجرحة، ومشوبة باعتبارات سياسية وشخصية سوف تنضح في آخر هذا الفصل، وهي اعتبارات ليست غريبة على الطابع العام للفترة، وهو طابع الصراع الذي لعبت الحزبية فيه أهم الأدوار.

تمامًا عن قيم غيرهم من محافظين ومجددين، وإنما هو يختار أحسن ما رأى في الاتجاهات السابقة، ويفيد من الآداب الغربية، ويمزج بين هذه وتلك، ويضيف إليها كثيرًا من الخلق والإبداع، مما يشكل له مجموعة من الخصائص الفنية المشتركة التي تجعل منه اتجاهًا مميزًا بين اتجاهات الشعر، لكنها لا تصل به إلى مستوى المدرسة الفنية ذات الأسس الفلسفية المحددة، والقيم الفنية الفريدة. على أن من بين أعلام هذا الاتجاه أنفسهم من نفي تقيد هذا الاتجاه بمذهب معين؛ فأحمد زكي أبو شادي يرى أن رفاقه من أصحاب هذا الاتجاه آمنوا بالرمزية والسريالية، والرومانسية والواقعية وغيرها، على درجات شتى، وإن ندر بينهم من اقتصر في شعره على مذهب وأحد من هذه المذاهب1، وقد سمى الاتجاه مع ذلك مدرسة، وليس من شك في أن مثل هذه التسمية -بعد ما قرره هو نفسه- فيها كثير من التجوز. وتلك الخصائص الفنية المشتركة التي يتسم بها هذا الاتجاه، منها ما يتصل بالموضوعات الشعرية وطبيعة التجارب، ومنها ما يتصل بالأسلوب الفني وطريقة الآداء، ومنها ما يرتبط بالألفاظ والمعجم الشعري، ومنها ما يرجع إلى الأوزان، والقالب الموسيقي. أ- خصائصه المتصلة بالموضوعات، وطبيعة التجارب: أما خصائص هذا الاتجاه المتصلة بالموضوعات، وطبيعة التجارب الشعرية، ففي مقدمتها الاهتمام بموضوع الحب والمرأة، وقد كان شعراء هذا الاتجاه يتخذون من الحب ملاذًا يفرون إليه من عذاب الحياة، وعزاء يعوضون به ظلم الدهر، ومرقي يسمون عليه فوق العالم الأرضي، ومن ذلك قول ناجي: هوى كالسحر صيرني ... أرى بقريحة الشهب وطهرني وبصرني ... ومزق مغلق الحجب

_ 1 انظر: رائد الشعر الحديث لمحمد عبد المنعم خفاجي جـ1 ص236.

سموت كأنني أمضي ... إلى رب يناديني فلا قلبي من الأرض ... ولا جسدي من الطين سموت ودق إحساسي ... وجزت عوالم البشر نسيت ضغائن الناس ... غفرت إساءة القد1 ومن ذلك أيضًا قول أبي شادي: أمانًا أيها الحب ... سلامًا أيها الآسي أتيت إليك مشتفيًا ... فرارًا من أذى الناس حنانك أيها الداعي ... فأنت مليك أنفاسي فررت وحولي الدنيا ... تحارب كل إحساسي2 وكان بعض الشعراء يكلف بالمرأة روحًا ووجدًا وعذابًا، وبعضهم يهيم بها جسدًا ومتعة ونعيمًا، ومن النوع الأول إبراهيم ناجي والهمشري، ومن النوع الثاني علي محمود طه، وصالح جودت، يقول ناجي واصفًا لصاحبته بعض ما يعاني من وحدة وجوى، وخداع وهم وخيبة أمل: كم مرة يا حبيبي ... والليل يغشى البرايا أهيم وحدي وما في الظـ ... ـلام شاك سوايا أصير الدمع لحنًا ... وأجعل الشعر نايا يشدو ويشدو حزينًا ... مرددًا شكوايا مستعطفًا من طوينا ... على هواه الطوايا حتى يلوح خيال ... عرفته في صبايا يدنو إلي وتدنو ... من ثغره شفتايا إذا بحلمي تلاشى ... واستيقظت عينابا ورحت أصغي وأصغي ... لم ألفِ إلا صدايا3

_ 1 انظر: ديوان ناجي "قصيدة صلاة الحثب" ص263. 2 انظر: أطياف الربيع لأحمد زكي أبي شادي ص29 "قصيدة الفنان". 3 انظر: ديوان ناجي ص348 "قصيدة الناي المحترق".

ويقول صالح جودت معبرًا لصاحبته عن الظمأ الذي يعانيه، واللهفة إلى الري الذي يطمع فيه: أجل ظمآن يا ليلى ... وماء الحب في نهرك خذيني في ذراعيك ... وضميني إلى صدرك دعيني أشرب النور الذي ... ينساب في شعرك وروى لهفة الظمآ ... ن بالقبلة من ثغرك هبيني ليلة أثمل ... يا ليلاي من خمرك1 ومع هذا كان شعراء هذا الاتجاه يجلون المرأة ويكبرونها، وكانوا يغفرون زلاتها ويلتمسون الأعذار لآثامها، حتى ولو كانت ممن فرضت عليهن الظروف القاسية أن يحيين حياة الليل، أو يخضن خوضًا في الوحل. فهذا علي محمود طه يقول عن مغنية دخل مخدعها ذات مساء: فمضت في عتابها: كيف لم ند ... ر بما برحت بك الأتراح إن أسأنا إليه فاليوم نجزيك ... بما ذقته رضى وسماح ولك الليلة التي جمعتنا ... فاغتنمها حتى يلوح الصباح قلت: حسبي من الربيع شذاه ... ولعيني زهره اللماح نحن طير الخيال والحسن روض ... كلنا فيه بلبل صداح بليت في هواه منا قلوب ... وأصابت خلودها الأرواح2 وهذا إبراهيم ناجي يقول لراقصة رآها في مرقص ذات ليلة، ثم جمعهما لقاء في الليلة التالية: لا تكتمي في الصدر أسرارا ... وتحدثي كيف الأسى شاء أنا لا أرى إثمًا ولا عارا ... لكن أرى امرأة وبأساء

_ 1 انظر: ديوان صالح جودت ص80. 2 انظر: الملاح التائه لعلي محمود طه ص41-42 "قضية مخدع مغنية".

أفديك باكية وجازعة ... قد لفها في ثوبه الغسق ودعتها شمسًا مودعة ... ذهبت وعندي الجرح والشفق تمضي وتجهل كيف أكبرها ... إذ تختفي في حالك الظلم روحًا إذا أثمت يطهرها ... ناران؛ نار الصبر والألم1 بل هذا صالح جودت يصف تجربة له مع بغي، هزته مأساتها فأنسته كل ما لجسدها من مفاتن، وكل ما يمكن أن يثير من رغبات، وراح يدافع عنها وينتصف لها، ويحمل المجتمع الظالم كل ما يتناثر حولها من آثام: وقفت بالباب في ثوب رقيق ... تفتح الباب لقطاع الطريق ثم قالت: مرحبًا يا مرحبًا ... بأخي اللذات أهلا بالعشيق قلت: لا أبغي متاعًا ليس لي ... جنبيه، ما أنا إلا صديق خبريني يا ابنتي أنت التي ... لقيت في خدرها ألفي عشيق هل وجدت الرفق فيهم ساعة ... هل وجدت الطاهر القلب الرفيق يا إلهي، كيف أعددت لها ... بعد دنياها عذابًا؟ هل تطيق؟! أشقى الدهر يشقى بعده ... وهو بالرحمة في الأخرى خليق!! 2 وأخيرًا هذا محمود حسن إسماعيل3 يقول على لسان واحدة من بائعات

_ 1 انظر: ديوان ناجي ص270-281 "قصيدة قلب راقصة". 2 انظر: ديوان صالح جودت ص 18-23. 3 ولد ببلدة النخيلة بمحافظة أسيوط، واتجه فى دراسته وجهة عربية إسلامية، حتى تخرج في دار العلوم سنة 1936، وقد نبغ في الشعر نبوغًا مبكرًا، حتى أصدر ديوانه الأول "أغاني الكوخ"، وهو طالب سنة 1935. ثم تتابعت دواوينه: "هكذا أغني"، و"أين المفر"، و"نار وأصفاد" و"قاب قوسين"، و"لا بد"، و"التائهون"، و"صلاة ورفض".. وقد تدرج في الوظائف الحكومية، من محرر بالمجمع اللغوى إلى أن أصبح المستشار الثقافي لهيئة الإذاعة، ونال جائزة الدولة فى الشعر سنة 1965. اقرأ عن فنه الشعري: المقال الذي كتبه المؤلف بمجلة الشعر، يونيه 1965 واقرأ عنه أيضًا في: الشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور -الحلقة الثالثة ص 100.

الهوى، محملًا إثمها للدنيا القاسية الظالمة، وللبشر الآثمين المخادعين: واهًا على دنياي ما صنعت ... بالحسن في كنف الصبا الفاني فتكت بعصمته ولو عدلت ... فتكت بقلب الآثم الجاني سرق الأثيم قداستي ومضى ... ومضيت أندب حظي الكابي حيرى أروم القبر لي عوضًا ... عن خسة الدنيا وأوصابي ويقال في حكم الورى سقطت ... ونعم، ولكن من خداعكم لولا أذى الإنسان ما حملت ... إثم الهوى عذراء بيتكم1 ومن أهم الموضوعات التي عني بها شعراء هذا الاتجاه أيضًا، موضوع الطبيعة، فكلهم قد أحب الطبيعة وعشقها، بل منهم من حاول أن يمتزج بها، ويذوب فيها، وقد كانت الطبيعة عندهم كذلك مهربًا يلوذون بصفائه من كدر الحياة، ويغسلون في طهره ما يصيبهم من رجس العيش، ويجدون في رحابته متنفسًا لما يعانون من ضيق وتأزم، كل هذا بما يخلعونه عليها من خيال مجنح، هو الذي يجعل لحديثهم عن الطبيعة قيمة ابتداعية2، يقول أبو شادي عن الطبيعة: يا طريق الحزين عرج على الغر ... س وسر بينه بروحي وحسي يا صميم الحقول س ربي وخذني ... من وجود وهبته كل يأس في جوار المياه تجري فتروي ... قبل ري الغراس قلبي ونفسي في جوار النبات يخفق من خفقي، ... ويفضي بهمسه مثل همسي يا طريق الحزين ما عالم النا ... س لمثلي، فليس مثلي بإنسي أنا بعض من الوجود الذي يأ ... بى وجودًا على فساد ورجس3

_ 1 انظر: أغاني الكوخ لمحمود حسن إسماعيل ص67-71 قصيدة "دمعة بغي". 2 انظر: Romanticism: Laseelles Abercrombie p. 50 3 انظر: عودة الراعي لأحمد زكي أبي شادي ص283 "قصيدة في الطريق الحزين".

ويقول ناجي مخاطبًا البحر من قصيدة له بعنوان: "خواطر الغروب": قلت للبحر إذا وقفت مساء ... كم أطلت الوقوف والإصغاء وجعلت النسيم زادًا لروحي ... وشربت الظلال والأضواء أنت عات ونحن حرب الليالي ... مزقنا وصيرتنا هباء وعجيب إليك يممت وجهي ... إذا مللت الحياة والأحياء أبتغي عندك التأسي ما تملك ... ردًّا وما تجيب نداء1 ويقول محمود حسن إسماعيل قصيدته "الناي الأخضر راسمًا صورة حية من المرح والنشوة، التي تملأ وجدانه ببعض مظاهر الطبيعة البسيطة، وكأنه يستعيض بها عما حرم من مرح، ونشوة في دنيا الناس: زمارتي في الحقول قد صدحت ... فكدت من فرحي أطير بها الجدي في مرتعي يراقصها ... والنحل في ربوتي يجاوبها والضوء من نشوة بنغمتها ... قد مال في ردأة يلاعبها رنا لها من جفون سوسنة ... فكاد من سكرة يخاطبها نفخت في نايها فطربني ... وراح في عزلتي يداعبها سكران من بهجة الربيع بلا ... خمر به رقرقت سواكبها2 ويقول الصيرفي مناجيًا "شجرة عارية"، يمتزج بها، ويبثها أحزانه، ويقارن بين حظها وحظه: أنا أنت لكن خبريني ... أترى أعود إلى ربيعي ترويك أمطار الشتا ... ء إذا ارتويت من الدموع أنا أنت منفرد يحيط ... بي السكان بلا سمير لكن تحيط بك الطيور ... ر كعهدك الماضي الزهير

_ 1 انظر: ديوان ناجي ص41 "قصيدة خواطر الغروب". 2 انظر: أغاني الكوخ لمحمود حسن إسماعيل ص120-121 قصيدة "الناي الأخضر"، الذي أراد به عود البرسيم.

وتحط فوقك تطلب الذكرى ... وتهجرني طيوري ولسوف يرتد الربيع ... فخبريني عن ربيع1 ويقول الصيرفي أيضًا عن "جدول"، واصفًا هدوءه ثم ثورته، مشيرًا بذلك إلى حالته النفسية، حتى كأنه هو الجدول نفسه، وليس ذلك إلا لإحساسه بالاتحاد به، والفناء فيه: يسير وفي ضفتيه الجمال ... كلحن على شفتي غانيه منابعه من جنان الحياة ... على تلعات الهوى الساميه تفانيت فيه كأغنية ... مضى في الأثير صداها الجميل وذبت على ضفتيه كما ... تذوب الرغائب في المستحيل وفي ليلة كاكتئاب الخريف ... جرى جدولي كالدم النازف تهب الأعاصير في وحشة ... على صدره الخافق الواجف هدوؤك يا جدولي أين ولي ... وهمسك يا جدولي أين راح أعد للضفاف ترانيمها ... ورجع لها أغنيات المراح2 ومن أبرز الموضوعات والتجارب الشعرية التي عالجها شعراء هذا الاتجاه: الحنين إلى مواطن الذكريات، والهروب إليها في لهفة حزينة وتعطش مُر، وذلك فرارًا من الحاضر المؤلم والواقع النفر.. ومواطن الذكريات عندهم كثيرًا ما تكون مرابع للطبيعة، أو مدارج للحب، أو مسارح قد لعب الحب عليها أدواره بين أحضان الطبيعة. يقول الهمشري في "النارنجة الذابلة"، جامعًا حولها أعذب ذكريات صباه، وأجمل أيام حداثته، بكل ما فيها من نقاء وطهر وصفاء.

_ 1 انظر: الألحان الضائعة لحسن كامل الصيرفي ص53 قصيدة "الشجرة العارية". 2 انظر: "مجلة أبولو المجد الثاني ص112".

كانت لنا عند السياج شجيرة ... ألف الغناء بظلها الزرزور طفق الربيع يزورها مستخفيًا ... ويفيض منها في الحديقة نور حتى إذا حل الصباح تنفست ... فيها الزهور وزقزق العصفور وسرى إلى أرض الحديقة كلها ... نبأ الربيع وركبه المسحور كانت لنا يا ليتها دامت لنا ... أو دام يهتف فوقها الزرزور قد كنت أجلس صوبها في شرفتي ... أو كنت أجلس تحتها في ظلتي أو كنت أرقب في الضحى زرزورها ... متهللًا يغشى نوافذ غرفتي طورًا ينقر في الزجاج وتارة ... يسمو يزرزر في وكار سقيفتي فإذا رآني طار في أغنية ... بيضاء واستوفى غصون شجيرتي كانت لنا يا ليتها دامت لنا ... أو دام يهتف فوقها الزرزور1 وكثيرًا ما يكون هذا الهروب إلى مواطن الذكريات يصاب بخيبة الأمل، ويصطدم بالواقع المرير الذي يضاعف الحرة، ويزيد مما يحس به الشاعر من مرارة، يقول ناجي في دار أحبابه، مجسمًا فجيعته حين عاد إليها، وهي مهد أعذب ذكرياته، فوجدها قد تغيرت وحال فيها كل شيء: هذه الكعبة كنا طائفيها ... والمصلين صباحًا ومساء كم سجدنا وعبدنا الحسن فيها ... كيف بالله رجعنا غرباء دار أحلامي وحبي لقيتنا ... في جمود مثلما تلقى الجديد أنكرتنا وهي كانت إن رأتنا ... يضحك النور إلينا من بعيد رفرف القلب بجنبي كالذبيح ... وأنا أهتف يا قلبي اتئد فيجيب الدمع والماضي الجريح ... لم عندنا؟ ليت أنا لم نعد

_ 1 انظر: الروائع لشعراء الجيل جـ1 ص12.

أين ناديك وأين السمر ... أين أهلوك بساطًا وندامى كما أرسلت عيني تنظر ... وثب الدمع إلى عيني، وغاما1 ويقول الهمشري في قريته، وكان قد أمل أن يكون في العودة إليها مهربًا لروحه المعذب، وملاذًا لقلبه الجريح، ولكنه اكتشف أنه انتقل إليها بأعباء نفسه، وعذاب روحه وجراحات قلبه، وبكل ما حملته الدنيا من أوجاع؛ فانعكس كل هذا على جمال القرية فجعلها شائهة، واختلط بصفو الطبيعة فيها فكدرها، وكنت خيبة الأمل، واصطدام الذكريات الحلوة بالواقع المرير: رجعت إليك اليوم من بعد غربتي ... وفي النفس آلام تفيض ثوائر أتيت لألقى في ظلالك راحة ... فيهدأ قلبي وهو لهفان حائر ولكن بلا جدوى أتيت فلم أجد ... سوى قفرة أشباحها تتكاثر وقد نسجت أيدي الشتاء سياجها ... عليها، وأسوار الظلام تحاصر2 ومن أبرز الموضوعات والتجارب الشعرية التي اهتم بها شعراء هذا الاتجاه أيضًا، موضوع الشكوى، فهم كثيرًا ما يفضون بأحزانهم ويصورون آلامهم، التي تكون أحيانًا واضحة الاسباب مبررة، وأحيانًا أخرى غامضة غائمة مجهولة المصدر، حتى لنرى الواحد منهم، وكأنه يحزن لمجرد الحزن ويشكو لمجرد الشكوى، أو كأنه يجد في الحزن متعه، أو في الألم لذة، كما يجد في الشكاية تعبيرًا عن متعة الحزن ولذة الألم، ولعل ذلك لاعتقادهم -ككل الرومانتيكيين- أن الألم يطهر النفس والحزن يسمو بالروح، أو لاعتقادهم أن الألم من سمات الحساسين والحزن من صفات الواعين الشاعرين3 ... يقول

_ 1 انظر: ديوان ناجي ص39، "قصيدة العودة"، وانظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الثانية ص59 وما بعدها. 2 الروائع جـ1 ص28. 3 انظر: الرومانتيكية للدكتور محمد غنيمي هلال ص26 وما بعدها، والشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور الحلقة الثالثة ص4.

علي محمود طه متحدثًا عن شقائه وأرقه وفزعه وحيرته، ومرجعًا كل مآسيه إلى أن الأرض مهد الشر منذ الأزل: شقي أجنته الدياجي السوادف ... سليب رقاد أرقته المخاوف ترامى به ليل كأن سواده ... به الأرض غرقى والنجوم كواسف هي الأرض مهد الشر من قبل خلقنا ... ومن قبل أن دبت عليها الزواحف غذتها الضحايا بالجسوم فأخصبت ... وأترعها سيل من الدم جارف ولي قصة يشُجي القلوب حديثها ... ويعجز عن تصويرها اليوم واصف ألا إنّ لي قلبًا طعينًا تحوطه ... عصائب تنزو من دمي ولفائف1 ويقول الهمشري، متحدثًا عن وحدته وعذابه، وضياع أمله ومرارة يأسه، ويتعلل أخيرًا بخلود الشعر ومجد الفن: جلست على الصخر الوحيد وحيدا ... وأرسلت طرفي في الفضا شريدا وكفكفت دمعًا لا يكفكف غربه ... وواسيت قلبًا في الضلوع عميدا أرى صفحة الآمال قد ضاق أفقها ... ولاح على اليأس البعيد مديدا لقد عشت في دنيا الخيال معذبا ... فيا ليت شعري هل أموت سعيدا لقد كنت في الدنيا جمالا يزينها ... بما شاده شعري على هذه الدنيا خلقت لروحي سحرها لا لغيرها ... ومن أجلها أقضي ومن أجلها أحيا إذا ذبل النارنج عاش عبيره ... وكان له في الوهم من نفحه محيا ويخلد بعد البدر في الفكر رونق ... يغذي خيال الشعر والحب والوحيا2 ويقول ناجي شاكيًا ما يعاني في وحدته من هواتف الذكريات الحزينة، وأشباح الأماني الخائبة: يا وحدتي جئت كي أنسى وهأنذا ... ما زلت أسمع أصداء وأصواتا مهما تصاممت عنها فهي هاتفة ... يا أيها الهارب المسكين هيهاتا

_ 1 انظر: "الملاح التائه" لعلي محمود طه ص176-179 "قصيدة الطريد". 2 انظر: الروائع جـ1 ص26-27 "قصيدة تأملات".

جرت على الأماني من مجاهلها ... وجمعت ذكر قد كن أشتاتا ما أسخف الوحدة الكبرى وأضيعها ... إذا الهواتف قد أرجعن ما فاتا بعثن ما كان مطويًّا بمرقده ... ولم يزلن إلى أن هب ما ماتا تلفت القلب مطعونا بوحدته ... وأين وحدته باتت كما باتا حتى إذا لم يجد ريًا ولا شبعا ... أفضى إلى الأمل المطعون فاقتاتا1 وكان بعض شعراء هذا الاتجاه تصل به الشكوى أحيانًا إلى حد رفض الحياة وتمنى الموت، ومن ذلك قول محمود حسن إسماعيل بعد أن أطال الشكوى في قصيدته "مقبرة الحي": يا شاكي الهم لأيامه ... لقد شكوت البغي للباغيه أقصر عن الشكوى إليها فما ... ديناك إلا حية غاويه إهابها يغري وفي نابها ... لمن تمس الوخزة القاضيه دهر له في بطشه لذة ... كالوحش يفري مهجة الثاغيه غبن من الأيام لا رحمة ... تحيي ولا صبر على العاديه ولا فناء عاجل أشتهي ... في ورده الراحة مما بيه2 ومن الموضوعات التي اهتم بها بعض شعراء هذا الاتجاه -بعد الحب والطبيعة والحنين والشكوى- موضوع تصوير البؤس، وإبراز بعض الجوانب المظلمة في المجتمع، فقد عني بعض الشعراء بتصوير تعاسة الريف وشقاء الفلاح، كما عنوا بإبراز مأساة بعض ضحايا المجتمع كالمشرد والبغي، وكان أكثر الاهتمام في هذال الشعر الاجتماعي موجهًا إلى الريف، وما يعاني من تخلف وفقر، وإلى الفلاح وما يقاسي من ظلم وقهر حتى لقد كتب أبو شادي عديدًا من القصائد في الريف والفلاح3، بل كتب محمود حسن إسماعيل

_ 1 انظر: ديوان ناجي ص102 "قصيدة أصوات الوحدة". 2 انظر: مجلة أبولو المجلد الثاني ص593 "قصيدة مقبرة الحي". 3 جمع محمد عبد الغفور قصائد أبي شادي التي من هذا القبيل في ديوان باسم "الريف في شعر أبي شادي". وفيه قصائد، مثل: عابد الريف، الفلاح، راعي الغنم، حياة الريف، الفلاحون، كوخ الريف، آلام الريف.

ديوانًا كاملا سماه "أغاني الكوخ1، وجعل محوره القرية وساكنها، وقصد -فيما قصد- تعميق الإحساس بالريف ومأساته، وبالفلاح والظلم الاجتماعي الواقع عليه.. يقول أبو شادي عن الفلاح الذي سماه "أميرنا الصعلوك"، محملًا المجتمع إثم تخلفه، بل مجاهرًا بأن المجتمع سيظل مجرمًا حتى ينصف الفلاح المظلوم: هو ذلك الفلاح يا قومي الذي ... يحيا حياة سوائم ورغام وهو الذي لولاه ما ارتفعت لنا ... رأس ولا كنا من الأقوام إنا جميعًا مجرمون إزاءه ... حتى يخلص من هوى الإجرام حتى ينال حقوقه في عيشة ... خلصت من الأدران والأسقام2 ويقول محمود حسن إسماعيل، جاعلًا من بكاء الساقية رمزًا لبكاء نفسه، ومن الثور المغمض العين، الذي يدور والنير على كتفيه والسوط يلهب ظهره، رمزًا لهذا الفلاح الكادح المعذب، الذي أغمض الجهل عيونه، وأثقل الذل كاهله، والهب العذاب ظهره، تمامًا كهذا الثور الذي تنوح عليه الساقية، أو تنوح عليه نفس الشاعر: لها عيون دائمات البكا ... بمدمع كالسيل في رفده دؤوبة الشكوى على راسف ... في الذل مفجوع على جده دارت به البلوى فما راعه ... إلا عماء غال من رشده أعمى رماه البين في دارة ... لم يدر نحس الخطو من سعده شدت حبال الذل في رأسه ... وفت صرف الرق في كبده منادح الضجة في أذنه ... وملعب السوط على جلده والسائق الإبله لا ينثني ... عن ضربه العاني وعن كيده يتلو على آذانه سورة ... من قسوة السيد على عبده3 وبالإضافة إلى هذا الموضوع من موضوعات الشعر لم يكن شائعًا

_ 1 كان هذا أول ديوان للشاعر. وقد صدر سنة 1934. 2 انظر: الشفق الباكي لأحمد زكي أبي شادي ص832. 3 انظر: أغاني الكوخ لمحمود حسن إسماعيل قصيدة القيثارة الحزينة ص44-47.

بين كل شعراء هذا الاتجاه، قد كان كذلك يعالج في جو "رومانسي" غالبًا، وبطريقة رمزية أحيانًا، وكان الجو الرومانسي يختلط بحب الشاعر للطبيعة وإيثاره لحياة الريف، ويوشك أن يشيع الرضا عن تلك الحياة، ولا يدعو إلى الثورة عليها بالقدر الواجب، كما كانت الملامح الرمزية تحجب المضمون، وتبتعد بالهدف، وتكاد تفقد الشعر جانبه الاجتماعي الرائع، وكل ذلك كان نتيجة لغلبة الطابع "الرومانسي" على شعراء هذا الاتجاه، وميلهم إلى استخدام بعض الوسائل الرمزية كما سنرى، ثم كانت نتيجة أيضًا لعدم اكتمال الوعي بوظيفة الشعر والأدب عمومًا، وكونه يجب أن يكون هادفًا -قبل كل شيء- إلى تطوير الحياة والارتفاع بها إلى مستوى أفضل. ومن الموضوعات التي التفت إليها بعض شعراء هذا الاتجاه -بعد كل ما مضى- موضوع التأمل، وهذا التأمل كان يتجه إلى حقائق الكون بلمحة الصوفي حينًا، كما كان يرمقها بعين المتفلسف حينًا آخر، ولكن كل التأملات كان يغلب عليها، الجيشان العاطفي -المتسق مع طبيعة هذا الاتجاه- لا الطابع الذهني الذي كان يطغى على شعر أمثال شكري والعقاد والمازني، ممن سمي اتجاههم -لذلك- "بالاتجاه التجديدي الذهني". ومن الحقائق التي كان يتأملها بعض شعراء هذا الاتجاه "الابتداعي العاطفي" بجيشان عاطفة: حقائق الله والناس، والخير والشر، والخلود والفناء، والحياة والموت وما إلى ذلك، ومن نماذج هذا الشعر التأملي، قول الصيرفي من قصيدة بعنوان "الحيارى" مناجيًا الله عز وجل، ومعبرًا عن حيرة الإنسان إزاء سره: قد سبحنا بالفكر عندك يا رب ... فتاهت أرواحنا في سمائك وشدونا ما قد شدونا ولكن ... ضاع هذا جميعه في فضائك وعرفنا من الخيال معانيه ... وغابت عنا معاني جلائك وسمعناك في الضمائر توحي ... ما يهز القلوب من إيحائك فجهلناه واستمعنا إلى ما ... يملأ الجو من صفير هوائك

ورأيناك في الظلام مضيئًا ... فمشينا به حيارى ضيائك ورأيناك في الجمال ولكن ... لم تقدر لنا حياة الملائك أنت قدرت أن نعيش حيارى ... والحيارى هنا ضحايا قضائك1 ومن نماذج هذ الشعر التأملي أيضًا قول إبراهيم ناجي من قصيدة بعنوان "الحياة"، مبينًا كيف يضل الإنسان إذا تأملها، حتى ليستوي جهله وعلمه؛ لأن حقيقته أنه صغير مغرور: جلست يومًا حين حل المساء ... وقد مضى يومي بلا مؤنس أريح أقداما وهت من عياء ... وأرقب العالم من مجلسي أرقبه يا كد هذا الرقيب ... في طيب الكون وفي باطله وما يبالي ذا الخضم العجيب ... بناظر يرقب في ساحله سيَّان ما أجهل أو أعلم ... من غامض الليل ولغز النهار سيستمر المسرح الأعظم ... روايةً ظالت وأين الستار عييت بالدنيا وأسرارها ... وما احتيالي في صموت الرمال أنشد في رائع أنوارها ... رشدًا فما أغنم إلا الضلال يا رب غفرانك إنا صغار ... ندب في الأرض دبيب الغرور نسحب في الدنيا ذيول الصغار ... والشيب تأديب لنا والقبور2 ومن نماذج هذا الشعر التأملي كذلك، قول صالح جودت من قصيدة بعنوان "أكذوبة الموت"، يتحدث فيها عن خلود الروح، ويصل من ذلك إلى استمرار حياة الإنسان برغم انتقاله ممن هذه الدنيا:

_ 1 الألحان الضائعة لحسن كامل الصيرفي ص29 "قصيدة الحيارى". 2 انظر: ديوان ناجي ص185-187 "قصيدة الحياة".

قد حرت في الموت وفي أمره ... وما زواه الله من سره وكلما سألت عنه امرأ ... أجابني: والله لم أدره والروح إما حل في غيره ... أو آثر الإخلاد في بئره فلم يقول الناس مات امرؤ ... إن هاجر الدنيا إلى قبره أليس في القرر حياة امرئ ... تطول بالمرء إلى حشره فكيف قالوا: إنه ميت ... من يوم أن غيب عن دهره وليس بعد رحلته سوى ... جديد عيش دب في إثره1 وأخيرًا من هذا الشعر التأملي، هذه القصيدة الجريئة التي تعالج تجربة الشك، وتجعل الموت هو العصا التي ترفع في وجه العباد، فتحملهم على الإيمان، وفيها يحكي صالح جودت قصة راهب تمرد على حياة العبادة، بل كفر بالله والآخرة وراح يغري الكاهن برأيه، حتى خدعه واستماله، وقبيل أن يتركا الدير إلى الدنيا ومتعها، هبط ملك الموت ليقبض روح الراهب، فلم يكن منه إلا الإسراع إلى التوبة، والاعتراف بالله واليوم الآخر.. يقول صالح جودت من تلك القصيدة على لسان الراهب: خلني يا كاهن الدير إلى ... نضرة الأيام أجتاز القفار أنت أفنيت شبابي راحلا ... لم أميز فيه ليلا من نهار أجلال في صلاتي نحه ... أو وقار؟ ما لمثلى والوقار أإلى النار إذا عفت التقى ... إنها أهون من طول اصطبار ثم يمضي الشاعر متحدثًا على لسان الراهب باسطًا أسباب شكه، ومصرحًا بجوانب تمرده، إلى أن يقول على لسانه، حين هبط عليه ملك الموت فتاب وأناب: يا ملاك الموت ... آمنت بسلطان الإله أيها الكاهن قدني ... لمحاريب الصلاه

_ 1 انظر: ديوان صالح جودت ص82-86.

فإله الكون يدعوني إلى غير الحياه خلني أفني الهنيات البقايا في هواه يا ملاك الموت إن قابلت رب العالمين قل له قد جاءك الراهب مصدوع اليمين لابسًا في موقف الذل مسوح النادمين فلقد علمته بالموت ما معنى اليقين1 ومثل هذا اللون من الشعر التأملي المثير للشكوك، والمسبب للانفعالات غير الحميدة، مؤاخذ من معظم النقاد، وإن كان بعضهم يرى أن من حق الأديب أن يعبر عن أي انفعال، ويقول هذا البعض: إن على الباحثين عن الانفعالات المسعدة أن يتلمسوها في الأخلاقيات والدينيات2. هذا، وقد كان شعراء هذا الاتجاه يبتعدون -في فترة ظهوره- عن الشعر السياسي، وعن شعر المناسبات بصفة عامة، وذلك باستثناء أحمد زكي أبي شادي، الذي كان يهتم بالموضوعات السياسية والوطنية والقومية منذ وقت مبكر، حتى لقد أظهر ديوانًا كاملًا باسم "مصريات"، وحتى حشد في ديوانه الشفق الباكي قصائد عن: "اضطهاد الرأي العام" و"مصر للحضارة" و"عصبة النيل" و"المؤتمر الوطني"، و"الطيار المصري" و"بيت الأمة" و"الزعيم" وعن "الكرامة القومية" و"دار بن لقمان" و"كارثة دمشق"، وعن الأمير عبد الكريم الخطابي الذي سماه "الأسير". لكن بعد سنوات من ظهور هذا الاتجاه، أخذ شعراؤه يدنون قليلًا من الموضوعات السياسية والوطنية والقومية، بل أخذوا يخوضون بشعرهم بعض المناسبات التي كانت من أهم مجالات الشعراء المحافظين. فنجد لإبراهيم ناجي بعض القصائد الوطنية في "مصر" و"يوم الشباب"

_ 1 انظر: ديوان صالح جودت قصيدة "الراهب المتمرد" ص113-139. 2 Poetry and Contemplation: G.R. Hamilton. p.152.

و"الشهيد الجراحي" الذي سقط برصاص الإنجليز سنة 1935، كما نجد له قصائد في مدح أنطون الجميل، ودسوقي أباظة، وعزيز أباظة وعبد الحميد عبد الحق، وإبراهيم عبد الهادي، والدكتور علي إبراهيم، والدكتور زكي مبارك، والفنان سامي الشوا1، وأخيرًا نجد له قصائد في المناسبات التي كانت تتلمسها "جماعة أدباء العروبة"، وبعض هذه القصائد يصل إلى حد الفكاهة والحديث عن بعض الأمور التافهة2. ونجد لعلي محمود طه بعض القصائد الوطنية والقومية، كقصائد: "على النيل"، و"مصر" و"عودة المحارب"، وكقصائد "يوم فلسطين" و"شهيد ميسلون" و"بطل الريف" و"الأمير المجاهد3، كما نجد له قصائد في بعض المناسبات العربية والمحلية، كقصيدته في تحية زعماء العروبة بمناسبة اجتماعهم في القاهرة سنة 1944؛ لتكوين الجامعة العربية، وكقصيدته في رثاء جبرائيل تقلا صاحب الأهرام4.

_ 1 اقرأ قصائد المناسبات في ديوان ناجي ص49، 62، 64، 81، 83، 104، 130، 131، 133، 157، 162، 167، 170، 179، 193، 206، 239، 252، 264، 272، 283، 284، 296، 303. 2 كانت جماعة أدباء العروبة جماعة أدبية معظمها من الشعراء، وكان يرأسها الأستاذ الدسوقي أباظه، الذي كان يحب الشعر والشعراء، وكانت هذه الجماعة تقيم مهرجانات شعرية في القاهرة والأقاليم، وتتلمس لتلك المهرجانات المناسبات الرسمية، وغير الرسمية، وكانت بعض لقاءات هذه الجماعة في دار الدسوقي أباظه، وكان للشعراء في هذه اللقاءات أشعار تخرج كثيرًا عن معدن الشعر الحق، ورسالته الكريمة. انظر: ديوان ناجي ص206. 3 هذه القصائد في ديوان "شرق وغرب" الصادر سنة 1947. 4 هاتان القصيدتان في ديوان "الشوق العائد" الصادر سنة 1944. وكان له في ديوان الأول "الملاح التائه" قصائد مثل: "الأجنحة المحترقة"، وهي في طيارين مصريين احترقت طائرتهما في سماء فرنسا، ومثل "إلى سيد درويش" و"الملك البطل"، وهي في الملك العراق فيصل الأول. ومثل "قبر شاعر"، وهي في الشاعر المهجري فوزي المعلوف، ومثل "حافظ إبراهيم" و"شوقي" و"عدلي يكن".

ونجد كذلك لمحمود حسن إسماعيل قصائد عديدة في مناسبات وطنية، وقومية مختلفة، كما نراه يمدح ويرثي، حتى ليمثل المدح والرثاء قسمًا بارزًا من بعض دواوينه1. وبرغم كل ذلك، قد ظل شعراء هذا الاتجاه أقل من غيرهم من الشعراء اهتمامًا بالشعر الوطني والقومي، وبشعر المناسبات على وجه العموم، وبقيت الموضوعات الغالبة على شعرهم هي تلك الموضوعات المتصلة بالحب والطبيعة والحنين والشكوى والتأمل، وما إلى ذلك مما سلف عنه الحديث، وقد كانوا يتفاوتون -بطبيعة الحال- في التعلق ببعض هذه الموضوعات أكثر من بعضها الآخر؛ فناجيى يكثر من شعر الحب المعذب المحروم، وعلي طه يكثر من شعر الحب المانح المعطاء، والهمشري يكثر من شعر الطبيعة والحنين، والصيرفي يكثر من شعر الشكوى والتأمل، ومحمود حسن إسماعيل يكثر من شعر الطبيعة والريف، وهكذا. ب- خصائصه من حيث الأسلوب وطريقة الأداء: وأما خصائص هذا الاتجاه من حيث الأسلوب وطريقة الأداء، فأساسها الطلاقة البيانية، والحرية التعبيرية2، بحيث تستعمل اللغة استعمالاً جديدًا أو شبه جديد، وفي استخدام الألفاظ ودلالتها، ووضع الصفات من موصوفاتها، ثم في التوسع الكبير في المجازات، والابتكار المبدع في الصور، وأخيرًا في تفضيل معجم شعري خاص، مؤثر من الكلمات ما كان ذا موسيقى معينة، ومن التعابير ما كان ذا إيحاءات خاصة. وهذه الجوانب المتصلة بالأسلوب وطريقة الأداء، هي أهم ما يتضح فيه عنصر الابتداع، الذي هو أحد ركني هذا الاتجاه.

_ 1 انظر: ديوان هكذا أغنى على سبيل المثال. 2 انظر: ما قاله أبو شادي عن مدرسة أبولو، والتحرر الفني والطلاقة البيانية في مجلة أدبي سنة 1936 ص357. وما قاله ناجي عن مدرسة أبولو، وطلاقه الفن في ديوان أطياف الربيع لأبي شادي ص "ن".

أما تلك الخصائص القائمة على هذا الأساس، فأولاها التوسع في نقل الألفاظ من مجالات استعمالها القريبة المألوفة، إلى مجالات أخرى بعيدة مبتكرة، لا عن طريق المجاز القديم المعتمد على العلاقات التي ذكرها البلاغيون، وإنما عن طريق مجاز جديد معتمد على تراسل الحواس، بحيث يستعمل للشيء المسموع ما أصله للشيء الملموس، أو المرئي أو المشموم، ويستخدم للشيء المشموم ما من شأنه أن يستخدم للشيء المرئي، أو الملموس أوالمسموع، وهكذا. ومن هنا يتحدثون عن نعومة النغم، أو بياض اللحن، أو تعطر الأغنية، كما يتحدثون عن العطر القمري، أو الأريج الناعم، أو العبير المنغوم، ومن ذلك قول الهمشري مخاطبًا "النارنجة الذابلة": خنقت جفوني ذكرياتٌ حلوة ... من عطرك القمري والنغم الوضي فانساب منك على كليل مشاعري ... ينبوع لحن في الخيال مفضض وهفت عليك الروح من وادي الأسى ... لتعب من خمر الأريج الأبيض1 فالشاعر في البيت الأول يستعمل للعطر -وهو مشموم- صفة القمرية المفيدة للإشراق، وشأنها أن تستعمل للمنظور، كما يستعمل للنغم- وهو مسموع- صفة الوضاءة، وشأنها أن تستعمل كذلك للمنظور. وهو في البيت الثاني يستعمل كلمة ينبوع مع اللحن، وشأنها أن تستعمل مع الماء ونحوه، ثم يجعل هذا اللحن مفضضًا، كما تجعل الأشياء التي تدرك بالعين لا بالأذن. ثم هو في البيت الثالث يعطي الأريج -وهو من المشمومات- صفة البياض التي من شأنها أن تكون للمرئيات. ومثل هذا الاستعمال كثير عند شعراء هذا الاتجاه، وبخاصة عند الهمشري الذي كان أكثرهم إيغالا فيه. ومصدر هذه الخاصة التعبيرية عندهم؛ التأثر بالشعراء الرمزيين، الذين كانت هذه الخاصة من أبرز سمات أسلوبهم، والذين اتصل رواد هذا الاتجاه

_ 1 انظر: الروائع ص13.

بشعرهم، وعرفوا تلك الخاصة عندهم فنقلوها بمهارة إلى اتجاههم، فقد كان إبراهيم ناجي مثلًا على صلة بشعر "بودلير" الشاعر الرمزي الفرنسي، وقد ترجم له "أزهار الشر"، كذلك كان علي محمود طه على صلة بشعر "بودلير" وقد ذكره هو والشاعر الفرنسي الرمزي "فرلين" في كتابه "أرواح شاردة"1. و"بودلير" هو القائل: "إن العطور والألوان والأصوات تتجاوب2" أي أن لونًا خاصًّا قد يحدث في النفس أثرًا مشابها للأثر الذي يحدثه صوت معين أو عطر بذاته، وبهذا يكون بين الحواس تجاوب وتراسل، بحيث تتلقى حاسة معطى حاسة أخرى3، وبناء عليه إذا أحس شاعر أن نغمًا معينًا يحدث في نفسه أثرًا مشابهًا لما تحدثه الوضاءة، فلا بأس عليه إذا قال عن هذا النغم: إنه نغم وضيء. وإذا أحس للحن معين تأثيرًا أشبه بتأثير ملمس الحرير، فلا ضير عليه إذا قال عن هذا اللحن: إنه لحن ناعم. وكل ذلك بناء على وحدة الأثر النفسي للشيء المستعمل له اللفظ منقولًا، والشيء الذي كان يستعمل له في الأصل، وليس بناء على الجامع الكلي الذي يشترك فيه المشبه والمشبه به في البلاغة التقليدية، ولا بناء على أية علاقة أخرى من تلك العلاقات التي يذكرها البلاغيون في باب المجاز4. ويفسر الشاعر الهمشري الأساس الفني للتعبير الرمزي في مثل "السكون المشمس"، بقوله: "إننا عندما نجلس في بستان ساكن رأد الضحى، ترسم في عقولنا صور متفاوتة لهذه الساعة التي مرت بنا، فإذا استعرضنا صورة ملازمة

_ 1 انظر: أرواح شادة لعلي محمود طه ص30. 2 قال ذلك في قصيدة مشهورة له أسمها "العلاقات" Corrspondance. وانظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة 3 ص22، وانظر: الرمزية والأدب العربي الحديث لأنطون كرم غطاس ص44، 92. 3 انظر: الرمزية ص45. 4 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة 3 ص21-23.

لهذا السكون، وهي الشمس، فلم لا يكون السكون مشمسًا1؟ ". وكأن الهمشري يضع أساسًا ثانيًا لظاهرة تراسل الحواس، إلى جانب الأساس الأول الذي هو وحدة الأثر النفسي، أما هذا الأساس الثاني، فهو الملازمة الخارجية بين الشيء الذي يستعمل له اللفظ بعد نقله، والشيء الذي كان يستعمل له اللفظ قبل النقل. وقد أثارت هذه الخاصة التعبيرية ثائرة كثير من المحافظين، فأكثروا من اتهام مستخدميها بالهذيان والخلط، والخروج على العرف اللغوي، والحق أن هذا الاستخدام ليس لا ضربًا من المجاز، ولكن مع شيء من التوسع؛ فإذا كان أساس المجاز هو علاقة بين شيئين كالمشابهة في الاستعارة مثلاً، فإن أساس هذا اللون من الاستعمال، هو وحدة الأثر النفسي، أو الملازمة الخارجية بين شيئين. وهذا الاستعمال -كالمجاز التقليدي- سبيل من سبل توسيع اللغة، وإثرائها ومرونتها وحيوية تعبيرها وتجددها، وهو -من الناحية الفنية- وسيلة إلى نقل الحالة النفسية بدقة أكثر ورهافة أشد، حيث يكون اللفظ المنقول أدق تعبيرًا، وأرهف أداء في حالة نفسية معينة، لارتباطه بموقف يتلازم فيه شيئان، أو لوحدة الأثر النفسي بين الشيء المنقول له اللفظ، والشيء المنقول منه2. والخاصة الثانية من خصائص هذا الاتجاه في الأسلوب وطريقة الأداء، هي التجسيم، أي تحويل المعنويات من مجالها التجريدي إلى مجال آخر حسي، ثم بث الحاية فيها أحيانًا، وجعلها كائنات حية تنبض وتتحرك، برغم ما في عملية التجسيم وحدها من صعوبة أدركها النقاد3. يقول ناجي في معاودة ذكريات حب قديم:

_ 1 انظر: مجلة أبولو المجلد الأول عدد يونيه سنة 1932. 2 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة 3ص20-23. 3 انظر: A. Premir of literary Criticism: Hollingwroth.p.22

ذوت الصبابة وانطوت ... وفرغت من آلامها عادت إلي الذكريات ... بحشدها وزحامها1 فالصبابة -وهي تجريدية- يجعلها الشاعر تذوي كالنبات، وتنطوي كالبساط. والذكريات -وهي من المجردات- تعود بتجسيم الشاعر في احتشاد وازدحام، كأنها أشياء مجسمة، أو كائنات حية، وليست معاني مجردة. ويقول ناجي أيضًا في الغد، وما يزحمه من ظنون وهواجس: إنّ غدًا هوة لناظرها ... تكاد فيها الظنون ترتعد أطلُّ في عمقها أسائلها ... أفيك أخفى خياله الأبد؟ 2 فالغد -وهو من المجردات- يجسمه الشاعر في صورة هوة، والظنون -وهي من المعاني التجريدية أيضًا- يجسمها الشاعر، بل يهبها الحياة ويجعلها ترتعد، والأبد -وهو تجريدي كذلك- يجسمه الشاعر حتى ليجعل له خيالا يختبئ في هوة الغد. والخاصة الثالثة من الخصائص الأسلوبية لهذا الاتجاه وطريقته في الأداء، هي التشخيص، أي منح الحياة الإنسانية لما ليس بإنسان، حتى ليتصور شعراء هذا الاتجاه ما ليس إنسانا، وكأنه إنسان يحس إحساسه، ويفكر تفكيره ويفعل أفعاله.. ومن ذلك قول الهمشري: فنسيم المساء يسرق عطرًا ... من رياض سحيقة في الخيال صور المغرب الذكي رباها ... فهي تحكي مدينة الأحلام ووراء السياج زهرة فل ... غازلتها أشعة في المساء إنّ هذي الأزهار تحلم في الليل ... وعطر النارنج خلف السياج

_ 1 انظر: ديوان ناجي ص282 "قصيدة رسالة محترقة". 2 انظر: ديوان ناجي ص153 "قصيدة الغريب".

والندى والظلال تنعس في الما ... ء وهذا الشعاع خلف الغمام1 فالشاعر يجعل النسيم لصًّا ظريفًا، يسرق العطر من رياض سحيقة في الخيال، كما يجعل المغرب مصورا ذكيًا ترسم ألوانه لوحة الربا، ثم يجعل أشعة المساء محبة غزلا، وزهرة الفل حبيبته التي يوجه إليها هذا الغزل، وأخيرًا يجعل الأزهار تحلم في الليل، والندى والظلال تنعس في الماء، وكل هذا بسبب منح الشاعر الحياة الإنسانية لهذه المظاهر الطبيعية، واعتبارها -في تصوره- كالبشر في إحساسهم، وتفكيرهم، وأفعالهم. بل إن خاصة التشخيص ومنح الحياة الإنسانية، لا تقتصر على المحسوسات، وإنما تتجاوزها إلى المجردات، ومن ذلك قول ناجي وقد عاد إلى بيت أحباب فوجده قد تغير: والبلى أبصرته رأي العيان ... ويداه تنسجان العنكبوت صحت: يا ويحك تبدو في مكان ... كل شيء فيه حي لا يموت كل شيء من سرور وحزن ... والليالي من بهيج وشجي وأنا أسمع أقدام الزمن ... وخطى الوحدة فوق الدرج2 فالبلى -وهو معنى تجريدي- لا يجسمه الشاعر فحسب، ولا يخلع عليه الحياة فقط، وإنما يمنحه حياة إنسانية ويشخصه، حتى ليراه ويداه تنسجان العنكبوت ... وكذلك الزمن والوحدة -وهما معنيان مجردان- يمنحهما الشاعر حياة البشر، حتى يكون للزمن وقد أقدام، وللوحدة صوت خطى، وهما يجوسان خلال بيت الأحباب المهجور. والخاصة الرابعة من خواص هذا الاتجاه المتصلة بالأسلوب وطريقة الأداء، هي التجريد، وتحويل المحسوسات من المجال المادي الذي هو طبيعتها، إلى

_ 1 انظر: الروائع جـ1 ص17-18. 2 انظر: ديوان ناجي ص40 "قصيدة العودة".

مجال معنوي هو من خلق الشاعر، وهذه الخاصة عكس الخاصة السابقة، وأقل منها استعمالًا، ولكنها من سمات التعبير الشعري عند شعراء هذا الاتجاه أيضًا. ومن نماذجها قول محمود حسن إسماعيل في شمعة غرفته: كأنها والدجن يلهو بها ... أمنيةٌ في يأسها فانيه1 وقول عبد الحميد الديب في بائس فنان: كأنه حكمه المجنون يرسلها ... من غير قصد فلا تصغي لها أذن ثيابه كأمانيه ممزقة ... كأنها -وهو حي- فوقه كفن هو الهدى صرفتكم عنه محنته ... إن العزيز مهين حين يمتحن2 فالشمعة -والظلام يلهو بها- أمنية فانية عند الشاعر الأول، والبائس حكمة مجنون، وثيابه أمان ممزقة، وهو هدى صرفت الناس عنه محنته، عند الشاعر الثاني. والخاصة الخامسة من خصائص أسلوب هذا الاتجاه وطريقه تعبيره، هي التعاطف مع الأشياء، الذي يصل أحيانًا إلى حد الامتزاج بها، أو الحلول فيها والتفكير من خلالها3، فالشاعر لا يكتفي بخلع الحياة على الشيء غير الحي، ولا يقف عند منح الإنسانية لما ليس بإنسان، ولا يقنع بإقامة مشاركة وجدانية بينه وبين الأشياء، وإنما يتجاوز ذلك كله إلى جعل الشيء يفكر بدلاً منه، ويحس نيابة عنه، ويعبر عما يريد هو أن يومئ إليه، ومن ذلك قول الهمشري في "النارنجة الذابلة": وهنا تحركت الشجيرة في أسى ... وبكى الربيع خيالها المهجور وتذكرت عهد الصبا فتأوهت ... وكأنها بيد الأسى طنبور وتذكرت أيام يرشف نورها ... ريق الضحى ويزورها الزرزور4

_ 1 انظر: مجلة أبولو المجلد الثاني ص593 "قصيدة مقبرة الحي". 2 انظر: مجلة أبولو المجلد الثاني ص24. 3 انظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة 3 ص15. 4 انظر: الروائع جـ1ص13-14.

فالواقع أن الشاعر هو الذي تحرك في أسى وبكى خياله على الربيع، وهو الذي تذكر عهد الصبا، فأرسل الآهات على أيام النور والوضاءة والطلاقة والتغريد، نعم هو الشاعر الذي فعل كل هذا، ولكنه حل في الشجرة أو اتحد بها، فجعلها تحس ما يحس وتشعر بما يشعر، وتعبر عما يريد أن يعبر عنه1. ولعل من ذلك أيضًا قول الصيرفي عن "عقب السيجارة": في الأرض ملقاة مذهبة ... هذي البقية من سجارتها منبوذة كانت مقربة ... من ثغرها تفنى لسلوتها كانت تؤانسها فتخلق من ... موج الدخان عوالما شتى كانت تؤانسها فتبعث من ... قبر الحياة حوادثًا موتى فرمت بها يا سوء ما يلقى ... من عز يوما من هوى الغيد يفنى الفؤاد هوى وما أشقى ... قلبًا يضحى فوق جلمود2 فعقب السيجارة من شأنه أن يلقى، وألا يصان في متحف، ولكنها ليست سيجارة عادية، إنها سيجارة امتزج بها الشاعر وفكر من خلالها، أو ربط بين مأساته ومأساتها، فجعلها تحس بما أحس به، حين نبذته الحبيبة وطرحته، بعد أن كان المؤنس الذي يخلق لها عوالم شتى، ويبعث حولها الحوادث الموتى، ولهذا الامتزاج بين الشاعر والسيجارة، كانت صرخته من أجل هذا "العقب" الملقى على الأرض، أو من أجل نفسه الممثلة في هذا "العقب": "يا سوء ما يلقى من عز يوما في هو الغيد"، "وما أشقى قلبًا يضحى فوق جلمود". والخاصة السادسة من خصائص هذا الاتجاه المتصلة بالأسلوب الفني

_ 1 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور ص15-16. 2 انظر: الألحان الضائعة لحسن كامل الصيرفي ص54-55.

وطريقة الأداء الشعري، هي خاصة التعبير بالصورة، فالغالب على شعراء هذا الاتجاه هو عدم التعبير المباشر عن الأفكار، والعواطف والأحاسيس، وإنما التعبير عنها من خلال صور شعرية، وهذه الصور تكون حينًا صورًا جزئية تؤلف لتجسيم الفكرة، أو لتعميق الإحساس بالعاطفة، كقول أبي شادي في ملاحة حسناء: هيفاء ينبض بالملاحة جسمها ... فترى الحياة من الثياب تطل1 وكقول ناجي في عذاب محبوبه له: كم تقلبت على خنجره ... لا الهوى مال ولا الجفن غفا2 وتكون الصورة أحيانًا أخرى صورة كلية تمثل مشهدًا حيًّا خارجيًّا، أو جوًّا نفسيًّا داخليًا، وهذا المشهد أو ذاك الجو يؤلف من صور جزئية تتآزر لتشكل الصورة الكلية، وصور شعراء هذا الاتجاه تمتزج فيها الحقيقة بالخيال غالبًا، فهي تتخذ نقطة انطلاق من الواقع، ثم تضم إليها إضافات خلاقة من خيال الشاعر، لتؤلف في النهاية شيئًا جديدًا مبتدعا3، وقد تعتمد الصورة على الخيال فقط، ولكنه الخيال المستمد من الواقع كثيرا من عناصره. ومن أمثلة صورهم التي تمثل مشهدا خارجيا حسيا، وتمتزج فيها الحقيقة بالخيال، قول الهمشري في قريته، وقد لفها المساء: وقد نسجت أيدي الشتاء سياجها ... عليها، وأسوار الظلام تحاصر لقد رنقت عين النهار وأسدلت ... ضفائرها فوق المروج الدياجر وقد خرج الخفاش يهمس في الدجى ... ودبت على الشط الهوام النوافر وطارت من الجميز تصرخ بومة ... على صوت هرّ في الدجى يتشاجر وفي فترات ينبح الكلب عابسًا ... يجاوبه ذئب من الحقل خادر4

_ 1 انظر: الشفق الباكي لأحمد زكي أبي شادي ص822 "قصيدة غادة البحر". 2 انظر: ديوان ناجي ص340 "قصيدة الأطلال". 3 انظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة 3 ص14. 4 انظر: الروائع جـ1 ص28-29.

فهذه الصورة الكلية تتألف من صور جزئية عديدة، تجمع بين المرئي والمسموع والساكن والمتحرك، فهناك النهار ترنق عينه للنوم، وهناك الدياجر تسدل ضفائرها على المروج، وهناك الخفاش يهمس في الظلام، والهوام النوافر تدب على الشط، وهناك البومة تطير من الجميز صارخة، على صوت هر يتشاجر في الدجى، وخلال هذا كله ينبح كلب عابس، ويعوي ذئب وسنان. وليس يبعد أن تكون تلك الصورة رمزًا لجو الشاعر النفسي، وما فيه خلال رسم تلك الصورة من قتام وكآبة، وتشاؤم وإعوال1. ومن الصور الكلية التي تصور حالة نفسية داخلية، وتعتمد أساسًا على الخيال المستمد من الواقع كثيرًا من عناصره؛ قول ناجي عن لحظة إحساس بداعي الجسد، وقد انتابه هو وصاحبته مرة في ساعة لقاء وشوق: ومن الشوق رسول بيننا ... ونديم قدم الكأس لنا وسقانا فانتفضنا لحظة ... لتراب آدمي مسنا2 فالواقع أنه لم يكن في الخارج الحسي رسول يسعى بين الشاعر وصاحبته، أو نديم يقدم لهمًا كأسًا، وهما لم يتعرضا لهبوب تراب من أي نوع يصيبهما بالانتفاض؛ وإنما هي صورة خيالية محضة يستمد خيالها بعض عناصره من الواقع لتعبر عن جو نفسي داخلي، هو ما أحس به الشاعر في تجربته تلك. هذا وقد كان التعبير بالصورة عند أصحاب هذا الاتجاه يتسم بالتوفيق غالبًا؛ وذلك حين تتضح الصور، وتتآزر لتحقيق الوحدة، وفي بعض الأحيان كان يخفق التعبير بالصور لعدم تحقق الوضوح الكافي، أو لعدم التآزر بينها أو للسببين معًا3.

_ 1 انظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة 3 ص14. 2 انظر: ديوان ناجي ص343 "قصيدة الأطلال". 3 عن عوامل نجاح الصورة الشعرية، أو إخفاقها يمكن أن يقرأ: The Poetic image C, Day Lewis

والخاصة السابعة من خصائص هذا الاتجاه المتعلقة بالأسلوب، وطريقة الأداء، هي الميل إلى استخدام التعابير الرامزة، التي يغلفها سرت من الضباب الخفيف، أو يغشيها جو من الإبهام اللطيف، فيحول بينها وبين الدلالة المحددة المباشرة. فهي لا تعطي مدلولًا وضعيًّا أو مجازيًا دقيقًا، وإنما تثير في النفس أحلامًا ورؤى وأحاسيس مبهمة، تنتقل بها إلى أودية خيالية بعيدة، تبعث بها ذكريات قديمة، أو تخلق فيها علاقات بين أشياء تبدو غريبة.. ومن تلك التعابير: "اللهب المقدس" و"الشاطئ المجهول" و"وادي الجن" و"شاطئ الأعراف"، و"حجب الغيب" و"نهر النسيان"، و"بحر العدم" و"عروس البحر"، فتعبير "اللهب المقدس" مثلا يحمل المرء على أجنحة الخيال إلى معابد الوثنيين، وهم يوقدون نيرانهم ويقومون بعباداتهم في حرارة ذاهلة، وإخلاص ساذج، فحين يعبر بهذا التعبير عن نار الحب مثلًا، فإنه يلقى على هذا الحب لونًا من القداسة، ويقربه من العبادة الحارة الذاهلة والإخلاص الفطري ... وتعبير "الشاطئ المجهول" حيث يذكر في مجال خبط الإنسان نحو مصيره الغامض، فإنه يثير في النفس مشاعر اصطخاب الحياة وتلاطمها، حتى كأنها محيط تنتهي أمواهه إلى شاطئ غامض رهيب لا يدري ما يخبأه وراءه، وهكذا يمكن أن يقال في بقية هذه التعابير1. وقد أدت الخصائص السابقة، كخاصة التوسع في المجاز بناء على وحدة الأثر النفسي، وكخاصة تجسيم المعنويات، وخلع الحياة الإنسانية على ما ليس بإنسان، وكخاصة استخدام التعابير الرامزة -أدت تلك الخصائص إلى خاصة ثامنة من خصائص الأداء الشعري لهذا الاتجاه، وتلك الخاصة هي التجديد في الوصف، فشعراء هذا الاتجاه يكثرون من الأوصاف الجديدة، التي لم يعرفها الاستعمال اللغوي، ولم يألفها التراث الشعري، فالمرأة مثلًا ليست شمسًا أو قمرًا،

_ 1 انظر: مجلة أبولو المجلد الأول عدد يونية سنة 1933 "مقال للهمشري" ص104. وما بعدها. وانظر: الرمزية والأدب العربي الحديث لأنطون عطاس كرم ص80، وانظر: الأدب ومذاهبه لمحمد مندور ص82 وما بعدها.

وليست غصنًا أو رئمًا، وإنما هي كما قال ناجي في بعض حبائبه: أين من عيني حبيب ساحر ... فيه نبل وجلال وحياء واثق الخطوة يمشي ملكًا ... ظالم الحسن شهي الكبرياء عبق السحر كأنفاس الربى ... ساهم الطرف كأحلام المساء مشرق الطلعة في منطقه ... لغة النور وتعبير السماء1 فنحن نرى المرأة هنا نبيلة، وجليلة، وحيية. وخطوتها واثقة، وحسنها ظالم وكبرياؤها شهي، كما أن سحرها عبق، وطرفها ساهم وطلعتها مشرقة، ومنطقها مضيء وطاهر؛ لأن فيه لغة النور وتعبير السماء، وليس من شك في أن جل هذه الأوصاف جديدة كل الجدة، تحمل طابع الابتداع المؤكد للطلاقة الفنية والحرية التعبيرية.. وهكذا شاعت تلك الأوصاف الجديدة في شعر هذا الاتجاه، مثال: "الخيال المجنح" و"المجداف المرح" و"الموجة البرة" و"الزورق المجهد"، و"الأسرار الحيارى" عند علي محمود طه، ومثل: "البلبل الخيالي" و"المغرب الذكي" و"الحلم الذهبي"، و"الذهول الهامد" و"العالم المسحور" عند الهمشري، ومثل: الطعنة المجنونة" و"الليل الضرير" و"السراب الخئون"، و"اللانهاية الخرساء" و"الهوى المجروح" و"الخصر الجائع" عند ناجي.. فهذه الأوصاف ليست مما عرف في الاستعمال العربي قبل هؤلاء الشعراء، وهي لا ترد إلى قياس تأسوه أو نمط سابق ساروا عليه، وإنما هي مرتطبة -قبل كل شيء- بتلك الروح الابتداعية التي كانت تسيطر على هؤلاء الشعرا، وتجعلهم يرون الأشياء بعين حرة، ويحسون الأمور إحساسًا مرهفًا؛ فهم يؤمنون بتراسل الحواس، ويلجأون إلى تجسيم المعنويات وتجريد المحسوسات، وخلع الحياة على ما ليس بحي، بل منح الإنسانية لما ليس بإنسان؛ وهم يؤثرون تعابير لا تحمل دلالة محددة، بقدر ما تحمل إيحاء ورمزًا، ولا تفيد معنى دقيقًا، بقدر ما تثير إحساسًا وتخلق جوًا، وهذا الإيحاء والرمز، وذلك

_ 1 انظر: ديوان ناجي ص342 "قصيدة الأطلال".

الإحساس والجو، هو مايرونه أصدق في نقل تجاربهم، وحالاتهم النفسية إلى قارئيهم أو المتلقين عنهم. والخاصة التاسعة من خصائص هذا الاتجاه التعبيرية، خاصة تتصل باللفظة المفردة، وهي الإكثار من استعمال الألفاظ المرتبطة بالطبيعة، والألفاظ المتصلة بالجو الروحي، فشعراء هذا الاتجاه يكثرون من استعمال أسماء المظاهر والمشاهد الطبيعية، ويكثرون من ذكر الأشياء المرتبطة بالطبيعة على وجه العموم، فهم يكثرون من ذكر ألفاظ كالشفق والأفق، والشروق والغروب، والفجر والصباح، والشعاع والضياء، وكالبحر والعباب، والموجد والغدير، والجدول والبحيرة، والشط والضفة، وكالروض والدوح، والواحة والحقل، والموج والغاب، والربوة والصخرة، وكالضباب والظلام، والغيم والبرق، والرياح والعواصف، والنسيم والندى، والعطر والشذى، وكالزهر والورد، والعصفور والبلبل؛ وكالسفين والزورق، والشراع والملاح، وما إلى ذلك مما يتصل بعالم الطبيعة. وشعراء هذا الاتجاه أيضًا يستعملون كثيرًا هذه الألفاظ المتصلة بالحياة الدينية، أو بالعالم الروحي على وجه العموم، من مثل: المعبد والمصلى، والمحراب والدير، ومثل: الصلاة والسجود والتسبيح والخشوع، ومثل: الراهب والعابد والناسك والخاشع، ومثل: النبي والملاك والوحي والسماء، وما إلى ذلك من ألفاظ تتصل بالجو الروحي الشفاف. يقول علي محمود طه في أغنية غزلية، مستخدمًا كثيرًا من الألفاظ المتصلة بمعجم الطبيعة: دنا الليل فيها الآن يا ربة أحلامي دعانا ملك الحب إلى محرابه السامي تعالى فالدجى وحي أناشيد وأنغام سرت فرحته في الماء والأشجار والسحب تعالى نحلم الآن فهذي ليلة الحب

على النيل وضوء القمر الوضاح كالطفل جرى في الضفة الخضراء خلف الماء والظل تعالى مثله نلهو بلثم الورد والطل هناك على ربا الوادي لنا مهد من العشب يلف الصمت روحينا ويشدو بلبل الحب1 فهنا نجد الليل والدجى، والماء والأشجار، والسحب والقمر، والنيل والضفة، والظل والطل، والورد والعشب، والربوة والبلبل؛ وهي من معجم الطبيعة. ويقول الهمشري من قصيدة عاطفية، جامعًا بين ألفاظ من المعجم الطبيعي، وأخرى من المعجم الروحي: كنت فجرًا وكنت فيه ضبابا ... شاع في أفقه الوضيء فتاها وهبطت الحياة شعلة تقديس ... وجئت الحياة أنت إلهًا أنت لحن مقدس علوي ... قد تهادى من عالم نوراني سمعت وقعه السماوي روحي ... فأفاقت في معبد الأحزان أنت عطر مجنح شفقي ... فاوح الروح في خمود الذهول قد سرى في الخيال طيب شذاه ... من زهور في شاطئ مجهول أنت ظل مقدس أنت كهف ... طائفي في ربوة الأحلام غمر الروح في سكينتها السحر ... فتاهت عن عالم الآلام2 فهنا نجد الفجر والضباب، والأفق والضوء، والعطر والشفق، والشذى والزهر، وكلها من معجم الطبيعة، كما نجد الشعلة والتقديس والإله، واللحن

_ 1 انظر: ليالي الملاح التائه لعلي محمود ط ص74 "قصيدة سيرانادا مصرية". 2 انظر الروائح جـ1 ص19.

العلوي، والعالم النوراني، والوقع السماوي، والظل المقدس، والكهف الطائفي، وكلها من المعجم الروحي. والخاصة العاشرة من خصائص هذا الاتجاه في التعبير، خاصة تتصل كذلك باللفظة المفردة، تلك الخاصة هي الميل إلى الألفاظ الرشيقة، ذات الخفة على اللسان وحسن الواقع في الأذن، وذات الإمكانيات الموسيقية الصافية الهامسة البعدية عن الصخب الخطابي والتفاصح اللغوي، والبريئة من الجفاف والوعورة اللذين يتنافيان مع لغة الشعر1، وقد يكون بعض هذه الألفاظ مما لا يعطي معنى قيما، أو يزيد الدلالة شيئًا، بقدر ما تكون له قدرة على خلق جو شعري صاف رفيع، يحلق فيه الشاعر ومن يتلقون عنه، فيرون الأشياء مغلقة بكثير من الأثيرية، أو يرتفع بتلك الأشياء إلى جوه الشعري الصافي، فيخفف من كثافتها ويمنحها كثيرًا من الشفافية والروحية2، ويمكن أن نجد أوضح صورة لذلك في شعر علي محمود طه، الذي كان أبرع شعراء هذا الاتجاه في استخدام الألفاظ الرشيقة المنغومة التي تخلق هذا الجو الشعري المحلق، ففي قصيدة الجندول مثلًا نجد حشدًا من تلك الألفاظ التي لها رشاقة، وفيها طاقة موسيقية كبيرة أولًا، ولها بعد ذلك قدرة على خلق جو شعري صاف مجنح، أكثر مما لها من قدرة على أداء معان قيمة، أو إضافة دلالات ذات شأن، ومن تلك الألفاظ: "المجالي" و"عروس" و"حلم" و"خيال"، و"عشاق" و"سمار" و"مهد" و"جمال"، و"موكب" و"غيد" و"كرنفال" و"جندول" و"كأس"، و"كرم" و"خمر" و"راح" و"أقداح" و"عطر"، و"مغاني" و"سمات" و"أعطاف" و"لفتات"، وما إلى ذلك من ألفاظ ذات رشاقة موسيقية، وقدرة على خلق الجو الشعري، بتتابعها ووفرتها واحتشادها، بكل ما تحمل من نغم حلو، وظل موح وإشعاع نفسي، وراء الدلالات المعجمية

_ 1 انظر: Style: wolter Raleigh,p: 21 2 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة ص 79 وما بعدها.

المحددة والمعاني اللغوية الضيقة1. وقد يضاف إلى تلك الخصائص التعبيرية المتصلة باللفظة المفردة، خاصة استخدام بعض أسماء من "المثيولوجيا" اليونانية أو التاريخ الفرعوني، وهذه الخاصة تتضح عند أحمد زكي أبي شادي، وتبدو كذلك عند علي محمود طه، ولكن بصورة أقل. فأبو شادي يكثر من ذكر أسماء مثل: "أزوريس" و"أرفيوس" و"إيزيس" و"أخناتون" و"فينوس"، وأحيانًا يبلغ به الإصرار على ذكر بعض تلك الأسماء، حد تحويرها بما يتلاءم مع الوزن، ومن ذلك قوله مثلًا عن "فينوس": ولو لم يكن "لفنوس" الخلود ... لزلزلت الأرض زلزالها2 وقوله ذاكرًا "أخناتون" في حديثه عن "نفرتيتي": هذي حياة النيل ربه عرشه ... ومنى "أتون" رشاقة وجلالا3 وعلي طه يذكر أسماء مثل "سافو" و"تاييس" و"بليتيس" و"كيوبيد"، وما إلى ذلك، ومنه قوله في "مخدع مغنية": نام في بابه العزيز "كيوبيد"، ولكن في كفه المفتاح4. جـ- خصائصه في موسيقى الشعر: وأما خصائص هذا الاتجاه في موسيقى الشعر، فأهمها الاعتماد الكبير على القالب المقطعي، إلى جانب الاعتماد على القالب الموحد، ومعنى ذلك أن شعراء هذا الإتجاه كانوا -إلى جانب نظمهم القصائد ذات الوزن المطرد، والقافية الملتزمة- يكثرون من نظم القصائد المؤلفة من مقاطع، تختلف قوافيها من

_ 1 انظر: المصدر السابق ص80-81. 2 انظر: ديوان الشفق الباكي لأحمد زكي أبي شادي ص763 "قصيدة الشلال". 3 انظر: مجلة أبولو: المجلد الأول ص577. 4 انظر: الملاح التائه لعلي محمود طه ص41 "قصيدة مخدع مغنية".

مقطع إلى مقطع، وقد تختلف أوزانها من جزء إلى جزء. فهذا النوع الثاني الذي يسمى القصائد المقطعية كان عندهم لونين، لون ليس فيه من تنوع إلا في القافية، التي تتغير من مقطع إلى مقطع، كالمزدوج الذي يتألف من أزواج شطرات، كل زوج على قافية واحدة تخالف بقية القوافي. وكالمربع الذي يتالف من مقاطع، كل مقطع مكون من بيتين، أحيانًا يكون بين الشطرين الأول والثالث منهما اتفاق في قافية، وبين الآخرين اتفاق في قافية أخرى، وأحيانًا تكون الشطرات الأربع متحدة في قافية تخالف فيها بقية المقاطع، وفي بعض الأحيان تتحد ثلاث شطرات فقط في القافية، وهي الشطرات الأولى والثانية والرابعة، أما الثالثة فتكون حرة، وكالخمس الذي يتألف من مقاطع، كل مقطع مكون من خمس شطرات، تتحد أحيانًا في القافية التي تخالف قافية المقاطع الأخرى في القصيدة، وأحيانًا أخرى تتحد منها أربع شطرات في القافية وتختم بشطرة خامسة ملتزمة في كل الخواتيم، ومتفقة مع قافية الفقرة الأولى. وكالمسمط الذي يتألف من مقاطع تختلف قوافيها دون أن تحصر في أربع، أو خمس على أن يختم كل مقطع بشعر -أو أكثر- يكون على قافية متماثلة في القصيدة كلها1. ومن أمثلة هذا الشعر المنوع القوافي في مهارة، وتفنن قول ناجي في "عاصفة روح"، وهو من المربع الذي تتفق فيه الشطرة الأولى مع الثالثة، والثانية مع الرابعة: أين شط الرجاء ... يا عباب الهموم ليلتي أنواء ... ونهاري غيوم أعولي يا جراح ... أسمعي الديان لا يهم الرياح ... زورق غضبان2 إلى آخر هذه القصيدة التي تمضي هكذا في تقابل بين كل شطرين من شطرات المقطع الواحد.

_ 1 انظر: في هذه الأنواع: موسيقى الشعر للدكتور إبراهيم أنيس ص227 وما بعدها. 2 انظر: ديوان ناجي ص299 "قصيدة عاصفة روح".

ومنه أيضًا قول علي محمود طه في "سيرانادا مصرية"، وهي من المسمط: دنا اليل فهيا الآن يا ربة أحلامي دعانا ملك الحب إلى محرابه السامي وتعالى فالدجى وحي أناشيد وأنغام سرت فرحته في الماء والأشجار والسحب تعالى نحلم الآن فهذي ليلة الحب على النيل وضوء القمر الوضاح كالطفل جرى في الضفة الخضراء خلف الماء والظل تعالى مثله نلهو بلثم الورد والفل هناك على ربى الوادي لنا مهد من العشب يلف الصمت روحينا ويشدو بلبل الحب1 إلى نهاية هذه القصيدة التي تؤلف من مقاطع خماسية، ثلاثة الأبيات الأولى من كل على قافية تتغير من مقطع إلى آخر، والبيتان اللذان يختم بها المقطع على قافية ملتزمة في القصيدة كلها. وهذا اللون من القصائد المقطعية يسير في تلك التجديدات التي استحدثت قديمًا في العصر العباسي، ونظم منها كثير من الشعراء العباسيين المحدثين، حينما أرادوا التجديد في موسيقى الشعر2. وأما اللون الثاني من لوني هذا الشعر المقطعي، فهو اللون الذي يتجاوز التنويع في القافية، ويصل إلى الوزن نفسه، وفي هذا اللون نرى شعراء هذا الاتجاه لا يتلزمون وحدة الوزن الشعري، التي تفرض أن تكون القصيدة كلها من بحر واحد، وفي حالة واحدة من حالاته -التامة أو المجزوءة أو المشطورة، أو المنهوكة- وإنما يتحررون، فيجعلون القصيدة على حالات

_ 1 انظر: ديوان ليالي الملاح التائه ص74. 2 انظر: موسيقى الشعر للدكتور إبراهيم أنيس ص276 وما بعدها.

مختلفة من حالات البحر، فيكون جزء من الرمل مثلا في حالته التامة ذات الافعيل الثلاث، وجزء آخر من الرمل في حالته المنهوكة ذات التفعيلة الواحدة، فتأتي شطرة طويلة وأخرى قصيرة، وقد يؤلف الشطران بيتًا واحدًا من أبيات القصيدة، ومن أمثلة ذلك قول أبي شادي في إحدى قصائده الغزلية: جزع الصب وللحزن العميق في سبيلك لوعة الدنيا، فمن هذا يطيق لمثيلك1 إلى آخر هذه القصيدة، التي يستخدم فيها الشاعر بحر الرمل في حالتين من حالاته، الحالة الأولى تعتمد على ثلاث تفعيلات، والحالة الثانية تعتمد على تفعيلة واحد، وقد جعل الأولى لكل الشطرات الأولى من القصيدة، وجعل الثانية لكل الشطرات الثانية منها. على أن ذلك التنويع في موسيقى الشعر لم يكن يقوم عند شعراء هذا الاتجاه على غير أساس، وإنما كان أساسه هو التزام التماثل بين الأجزاء المتقابلة، بحيث ينتظم تنسيق محدد، برغم ما فيها من تنويع وتلوين. فالشاعر الذي يجعل أولى الشطرات من ثلاث تفعيلات عليه أن يضع مقابلا لهذه الشطرة، وعليه أن يجعل المقابل على نفس الوزن، فإذا لم تكن الشطرة الثانية هي المقابل المماثل، كانت الشطرة الأولى من البيت الثاني مثلا. وإذا كانت الشطرة الثانية من تفعيلة واحدة، التزام الشاعر أن يجعل تلك لتلك الشطرة مقابلا مماثلا في الوزن أيضًا، وهكذا. والشاعر الذي يجعل هذه البداية جزءًا أول من مقطع، ويتبعه بأبيات تختلف في نغمها عن هذا الجزء، عليه أن يلتزم ذلك النظام الثنائي في كل المقاطع بحيث يتحقق التقابل والتماثل، مع وجود التنويع والتحرر، وقد يصل هذ التنويع والتحرر درجة بالغة تكثر فيها الشطرات المختلفة، وتتسع خلالها درجة التخلف بين شطرة طويلة

_ 1 انظر: ديوان زينب، للدكتور أحمد زكي أبي شادى ص36 "قصيدة الجزاء العادل".

وأخرى قصيرة، ولكن ذلك يكون دائما محكوما بمبدأ التقابل والتماثل، فكل شطرة لها ما يقابلها ويماثلها، ويحقق معها تناسقا وانسجاما، بل ضبطا وإحكاما، برغم التنويع الكثير والاختلاف البعيد.. ولعل أوضح نماذج ذلك، قول الصيرفي في إحدى قصائده العاطفية: ليتني البسمة تعلو شفتيك ... مثلما تعلو طيور فوق أيك تتنزى وهي تشدو ... في السكون تختفي حينا وتبدو ... في الغصون فأرى من أين تأتي وتبين ... وأرى هل أنت حقا تبسمين لي من قبلك أم لا تحفلين ... بسلامي وكلامي؟ ليتني1 وهذا اللون من الشعر المقطعي الذي ينوع الأوزان إلى جانب تنويع القوافي يسير في طريق الموشحات، التي اخترعها الأندلسيون منذ أواخر القرن الثالث الهجري "التاسع الميلادي"، والتي نقلت عنهم إلى المشرق2، وازدهرت حينا بين طائفة من الشعراء المجيدين، ولكنها ظلت -في جملتها- دون القصيدة، بل أهملت أخيرا كقالب موسيقي للشعر، إلى أن التفت إليها المهجريون، ثم شعراء هذا الاتجاه الابتداعي العاطفي، وأكسبوها جدة بما لهم من أسلوب جديد، وأغراض جديدة. ومن أهم خصائص موسيقى الشعر لهذا الاتجاه كذلك، الاعتماد على البحور ذات الموسيقى الجياشة المتدفقة، دون رنين عال أو نبرة خطابية، فهم يميلون -من بين بحور الشعر- إلى الخفيف والرمل والهزج، وإلى المجزوءات التي تشيع الحركة والخفة، والهمس في نغم الشعر، وهم يقلدون من

_ 1 ديوان قطرات الندى لحسن كامل الصيرفي "مخطوط" عن الشعر المصري بعد شوق لمحمد مندور ص114-115 الحلقة الثانية. 2 انظر: الأدب الأندلسي للمؤلف ص156 وما بعدها.

البسيط والطويل والوافر، وما إليها من البحور ذات التفاعيل الكثيرة، والنبرة الخطابية والرنين العالي. وهكذا جدد هؤلاء الشعراء في موسيقى الشعر، ولكن تجديداتهم -في جملتها- مل تكن مبتكرة كتجديداتهم في الأسلوب وطريقة الأداء، حيث كانت تجديداتهم في مجال موسيقى الشعر مبنية على أنماط عربية قديمة، بعضها قد سبق إليه المشارقة في العصر العباسي، وبعضها قد ابتكره الأندلسيون بعد ذلك بقليل، ففضل شعراء الاتجاه الابتداعي العاطفي هو في التفاتهم إلى هذه الينابيع الثرة للنغم الشعري، -وهي قوالب الموشحات- التي كانت قد أهملت، وأوشك أن يطمرها الزمن، برغم أنها تستطيع مد موسيقى الشعر العربي دائمًا بما لا يحد من ألحان منوعة، تحول دون الرتابة التي قد تترتب على التزام الوزن المضطرد والقافية الملتزمة، كما تحول دون النثرية التي تتبع إهمال الوزن والقافية، والتمرد عليهما تمامًا. على أننا إذا أردنا أن نتلمس إضافات شعراء هذا الاتجاه، إلى هذه القوالب الموسيقية المسبوقة، فإننا لن نخطئ بعض هذه الإضافات؛ ففي قالب القصيدة الموحدة نجد بعضهم يستخدم بحورًا قديمة، ولكن في صورة لم يألفها الشعر العربي، ولم يقرها العروضيون، كاستخدام بحر في تفعيلة واحدة من تفاعيله لكل شطرة، ومن ذلك قول أبي شادي في قصيدة له عن "الأمل": يا أمل ... يا أمل يا هدى ... من عمل يا حلى ... للبطل يا قوي ... في الجلل1 إلى آخر القصيدة التي تتألف كل شطرة من شطراتها من تفعيلة واحدة هي "فاعلن".. وكاستخدام بحر في مجموعة تفاعيله التامة، دون رضوخ لما يشترط فيها من بعض الحذف الذي لاحظه العروضيون على المأثور من شعر

_ 1 انظر: ديوان الشفق الباكي لأحمد أبي شادي ص819-820.

العرب، كما حدث في تفاعيل الرمل مثلًا، حيث اشترطوا ألا تؤلف ست تامة منها بيتًا من الشعر، ولكن بعض الشعراء من السائرين في هذا الاتجاه، لم يأهبوا بهذا، ونظموا من الرمل على تفاعيله التامة الست، ونجد نماذج من ذلك عند أبي شادي، وعلي محمود طه. وفي القصيدة المقطعية التي من اللون الأول، نرى أن بعض الشعراء، يقطع أحيانًا رتابة الوزن المطرد، بإدخال بعض المقطوعات المخالفة في وزنها لمعظم مقطوعات القصيدة، ويكون ذلك غالبًا حين يتغير الموقف النفسي، أو حين يتغير المتحدث، أو حين يطرأ تغيير ما على السياق يسمح -أو يقتضي- أن تتغير الموسيقى. ومن أمثلة ذلك ما نجده في قصيدة الأطلال لإبراهيم ناجي، فقد سارت كلها على مقطوعات رباعية من بحر الرمل بتفاعيله الست، إلا عدة مقطوعات ذكرها الشاعر قرب ختام القصيدة، جاعلًا كل شطر منها على تفعيلتين بدلًا من ثلاث، مع اختلاف بينها كذلك من حيث تمام التفعيلتين، أو حذف بعض الأجزاء منهما، فعلى حين نجد الشاعر يمضي في معظم القصيدة على هذ النحو: يا فؤادي رحم الله الهوى ... كان صرحًا من خيال فهوى اسقني واشرب على أنغامه ... وارو عني طالما الدمع روى1 نراه قبيل نهاية القصيدة يقصر الوزن، فيقول: لست أنسى أبدا ... ساعة في العمر تحت ريح صفقت ... لارتقاص المطر2 ويمضي هكذا في بعض المقاطع التي فيها تغيير للموقف والمتحدث، ثم يعود إلى وزن الأصلي حين يعود هو إلى الحديث كما كان في أول القصيدة، ولذا يختم القصيدة بنفس النغم الذي بدأها به.

_ 1 انظر: ديوان ناجي ص341 "قصيدة الأطلال". 2 انظر: ديوان ناجي ص345 "قصيدة الأطلال".

ومن أمثلة هذا التغيير الذي يدخله الشاعر على وزن القصيدة المقطعية التي من اللون الأول، ما نجده عند الهمشري في قصيدة "النارنجة الذابلة"، حيث يلجأ صاحبها في بعض المواطن إلى عدم التزام شكل المقطع الذي سار عليه منذ أول القصيدة، فهو قد غلب استخدام المقاطع رباعية مسمطة ببيت خامس مكرر تختم به المقطوعة، ولكنه لم يلتزم ذلك في كل القصيدة، بل جعل بعض المقاطع ثنائية على طريقة المزدوج، وجعل بعضها رباعية بلا تسميط، وهكذا جاءت المقاطع منوعة خلال القصيدة، وإن غلب عليها المقطع المسمط1، وهذا التغيير قد أحدث في القصيدة حركة، وبعد بها كثيرًا عن الرتابة، بل حقق بها مرونة الشعور، وتنوع الإحساس الذي يوحى به تنوع النغم2. على أن بعض شعراء هذا الاتجاه قد أقدموا على محاولات أكثر جرأة، وذلك في السنوات الأولى التي شهدت فكرة التجارب الفنية، ومن تلك المحاولات، استخدام قال الشعر المرسل، الذي لا يلتزم قافية ما، وإنما يلتزم الوزن فحسب3. وكان شكري قد سبق إلى هذا القالب، ولكن هذا القالب المرسل لم يصادف نجاحًا عنده، كما لم يصادف في محاولات شعراء هذا الاتجاه كذلك، ومن محاولات بعضهم الجريئة، استعمال أكثر من بحر في القصيدة الواحدة، مع التنويع في الشطرات طولًا وقصرًا، ومع التحرر من القافية4، وهذه المحاولة تشبه من بعض الوجوه بعض محاولات الشعر الحرب، حيث لا يلتزم وحدة

_ 1 انظر: "الروائع جمع محمد فهمي ص12". 2 انظر: Poetry Direct and Ablique: Tillyard P.60 3 اقرأ بعض نماذج هذا الشعر لأحمد أبي شادي في "الشفق الباكي" مثل "ممنون الفيلسوف" ص625-639 و"إذا" ص923-925: والأول مترجمة عن قصة لفولتير، والثانية مترجمة عن قصيدة لكبلنج. 4 اقرأ بعض نماذج لها في: "مختارات وحي العالم" لأحمد زكي أبي شادي ص44-45، قصيدة مناظرة وحنان"، وفي "الشفق الباكي" للمؤلف نفسه ص535، قصيدة "الفنان".

البيت كما لا يلتزم القافية، ولكن هذه المحاولة هي الأخرى لم تصادف أي نجاح في شعر أصحاب هذا الاتجاه، ولذا عدل عنها وعن مثيلاتها الدكتور أحمد زكي أبو شادي، الذي كان أكثر شعراء هذا الاتجاه جرأة في محاولة التجديد في موسيقى الشعر. هذه أهم خصائص هذا الاتجاه في الموضوعات والتجارب، وفي الأسلوب وطريقة الأداء، ثم في الموسيقى والقالب النغمي. د- خصائصه من حيث المضمون: أما خصائصه من حيث المضمون، فأولاها غلبة الجانب الوجداني على المضمون الشعري، بحيث تبدو العاطفة أوضح خيط في نسيجه، أو بحيث تمثل أهم ما عند الشاعر، وأبرز ما يحاول نقله إلى الآخرين. والخاصة الثانية هي غلبة طابع الحزن على تلك العاطفة، بحيث تصدر عن أسى ومرارة حينًا، وعن يأس واستسلام حينًا، وتثير الشجن والحزن في كثير من الأحايين. والخاصة الثالثة هي فردية النزعة بحيث يعبر الشاعر -في الأعم الأغلب- عن أحاسيسه هو، ويهتم بهمومه الفردية، ولواعجه الذاتية وشئونه الخاصة على وجه العموم1، وقلما التفت الشاعر -في فترة ظهور هذا الاتجاه- إلى أحاسيس الجماعة، أو اهتم بالأمور الوطنية أو القومية، وحين اهتم بعض الشعراء بتلك الأمور فيما بعد، كانت دائمًا في المحل الثاني. ونتيجة لهذه النزعة العاطفية الذاتية المنطوية الحزينة، جاءت دواوين شعراء هذا الاتجاه الأولى، تحمل عناوين توحي بالانطواء والذاتية، وتسبح في جو عاطفي حزين، فناجي يسمى ديوانه "من وراء الغمام" ليوحي بأنه شاعر محلق في سماء الشعر، وأنه بعيد عن الأرض، ناء عن دنيا الناس، وأنه

_ 1 انظر: الشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور، الحلقة الثانية ص4، 5 والحلقة الثالثة ص4.

غير مبتهج في هذا التحليق، وإنما هو وراء غمام من الهموم القاتلة، تجعله يرى كل شيء وقد اكتسى غلالة رمادية، أو تجعله لا يرى شيئًا على حقيقته، بعد أن حال الغمام بينه وبين الأشياء. وعلي محمود طه يسمى ديوانه "الملاح التائه" ليُفهِم أنه هارب من الحياة والأحياء، وأنه يضرب في عوالم شتى من الحيرة والضياع، والوحدة كملاح تاه في بحار لا يعرف لها شط، ولا يدري لعابرها مصير. وحسن كامل الصيرفي يجعل ديوانه "الألحان الضائعة"؛ ليدل على يأسه الجاثم وحظه العاثر وحزنه العميق؛ فأشعاره ألحان ضاعت سدى؛ لأنها لم تجد أذنًا مصغية، والشاعر يعزفها لنفسه في انطوائية، ويأس ومرارة. وأحمد زكي أبو شادي يجعل اسم ديوان "الشفق الباكي"؛ ليفيد أنه يستلهم جانبًا نائيًا من الحياة، وهذا الجانب حزين جريح، ففيه لون الدم أولًا، وفيه أحزان البكاء ثانيًا؛ لأنه شفق وباك معًا، وفي هذا الجانب تتمثل نفس الشاعر المنطوية الحزينة الباكية الجريحة. وبرغم أن هذه النزعة الفردية العاطفية المنطوية الحزينة، كانت تمثل روح الفترة1، قد كانت أهم ما أخذ على هذا الاتجاه، وأبرز ما سبب الهجوم على أصحابه فيما بعد، فقد لوحظ أن شعراء هذا الاتجاه باتباعهم هذه النزعة الفردية المنطوية، قد وقفوا سلبيين من قضايا عصرهم ومشكلات وطنهم، وبدلًا من أن يناضلوا بالكلمة المنغومة المجنحة ليحققوا لمجتمعهم، ووطنهم حياة أفضل، أو على الأقل ليحاربوا الطغيان والظلم الذي جثم على صدره؛ راحوا يبكون ويحملون، ويهربون إلى أحضان الطبيعة حينًا، وإلى حنان الحب حينًا آخر، تاركين وطنهم ومجتمعهم لما فرض عيه من ظلم، وتآمر وانتكاس2. ويبدو أن المسألة كانت لونًا من رد الفعل الشديد، قابل به هؤلاء

_ 1 انظر: المصدر السابق الحلقة الثانية ص4. 2 انظر: في الثقافة المصرية لمحمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس ص188 وما بعدها.

الشعراء ما كان عند الشعراء المحافظين من إفراط في الإسهام بالشعر من ميادين النضال دون رعاية -في كثير من الأحيان- لمقتضيات الفن ومتطلبات الشعر، حتى تحولت قصائد كثيرة إلى خطب منظومة، بل حتى تورط هذا الاتجاه المحافظ في شعر المناسبات وغرق فيه غرقًا.. أو يبدو أن المسألة كانت عدم نضج في الوعي بوظيفة الشاعر، وما يجب عليه نحو مجتمعه من التزام بقضاياه، واتخاذ موقف نضالي في سبيل تحقيق أمانيه، ولتمكينه من حياة أفضل، وليس ببعيد أن يكون الأمران معًا قد سببا هذه النزعة التي نأت بأغلب شعراء هذا الاتجاه عن الارتباط بقضايا مجتمعهم، ودفعتهم دفعًا إلى الهروب من الظلم، والقهر والفساد، بالانطواء والحزن والشكوى، لا بالمقاومة والتمرد والثورة. هـ- أهم مصادر تلك الخصائص: هذه هي أهم خصائص هذا الاتجاه، وليس من شك في أن كثيرًا منها قد أفاده شعراؤه من ثقافتهم الأجنبية التي وصلتهم بنتاج شعراء "الرومانتيكية" الغربيين، وبخاصة الإنجليز، وقد مضى ما يوضح صلتهم بشعر هؤلاء الشعراء، وإعجابهم به1، وقد تمثل تأثرهم بهؤلاء "الرومانتيكيين" في أكثر من جانب، كالاهتمام بموضوعي الطبيعة والحب2، والاتجاه إلى موضوع الحنين

_ 1 انظر: محمد عبد المعطي الهمشري لصالح جودت ص31، وعلي محمود طه للسيد تقي الدين "المقدمة" ص6 و"الكتاب" ص34، 35، ورائد الشعر الحديث لمحمد عبد المنعم خفاجه جـ2 ص281، ومجلة البعثة الكويتية عدد أبريل سنة 1954، وانظر: الينبوع لأحمد زكي أبي شادي "المقدمة" صفحات: ح، ط، ي. 2 عن اهتمام الرومانتيكيين بالطبيعة، انظر: الرومانتيكية للدكتور محمد غنيمي هلال ص132 وما بعدها. وانظر: الرومنطيقية، ومعالمها في الشعر العربي الحديث لعيسى يوسف بلاطة ص57 وما بعدها، وعن اهتمامهم بالحب انظر: الرومانتيكية للدكتور محمد غنيمي هلال ص143 وما بعدها: وانظر: الرومنطيقية لعيسى يوسف بلاطه ص63 وما بعدها.

إلى مواطن الذكريات1، والإكثار من الشكوى وبث الحزن2، ثم في النزعة العاطفية المنطوية، والروح الهاربة على أجنحة الخيال3، وأخيرًا في الثورة على الأساليب المحافظة، واصطناع أساليب مبتدعة4. وليس من شك أيضًا في أن بعض الخصائص الفنية لهذا الاتجاه، قد أفادها شعراؤه من صلتهم بنتاج الشعراء الرمزيين، وقد مضى أيضًا ما يوضح أن أعلام هذا الاتجاه "الابتداع العاطفي"، كانوا على صلة بشعر "بودلير" و"فرلين"5. كذلك كان أحمد زكي أبو شادي يشيد بقيمة بعض الخصائص الرمزية في التعبير، ومن المأثور عنه قوله: "كلما سما الفن كان رمزيًا في بلاغته؛ لأنه بهذا الرمز يثير التفكير والتأمل، ويثير عواطف شتى مكنونة، ويحيي ذكريات، ويكون علاقات ذهنية ونفسية متنوعة بين صور الحياة"6. وكذلك كان الهمشري أيضًا يدرك القيمة الفنية لبعض الوسائل الرمزية، كالإبهام الرمزي الذي يقول فيه: "إنه أسمى ما يصل إليه الفكر العبقري في نواحي تعبيره"7.

_ 1 انظر: الرومانتيكية للدكتور هلال ص59 وما بعدها، وانظر: الشعر المصري بعد شوقي لمحمد مندور الحلقة 3 ص7 وما بعدها، وانظر: الرومنطيقية لعيسى بلاطة ص61 وما بعدها. 2 انظر: الرومانتيكية للدكتور محمد غنيمي هلال ص36 وما بعدها، وانظر: مندور الحلقة 3ص4. 3 انظر: الرومانتيكية لمحمد غنيمي هلال ص50 وما بعدها، وانظر: الرومانطيقية لعيسى بلاطه ص57 وما بعدها. 4 انظر: الرومانتيكية لمحمد غنيمي هلال ص153 وما بعدها، وانظر: الرومانطيقية لعيسى بلاطة ص77 وما بعدها، وفي الأدب والنقد لمحمد مندور ص108. 5 مثل ناجي الذي ترجم أزهار الشر "لبودلير"، ومثل علي محمود طه الذي ذكر بودلير، وفرلين في "أرواح شاردة" حيث تكلم عن "بول فرلين" في ص7 وما بعدها، وعن "شارل بودلير" في ص20 وما بعدها. 6 انظر: الشفق الباكي لأحمد زكي أبي شادي ص1211. 7 انظر: مجلة أبولو المجد الأول ص1204 "عدد يونية سنة 1933".

وقد تجلى هذا التأثر بالرمزية في خاصة التوسع في المجاز، بناء على فكرة تجاوب الحواس التي نبه إليها "بودلير"1. كما تجلى في خاصة استخدام التعابير الموحية، التي تخلق جوًا، وتثير خيالا وتجلب ذكرى، أكثر مما تؤدي معنى أو تفيد دلالة أو تزيد فكرة2. ويمكن أن يضاف إلى مصادر هذه الخصائص الفنية عند بعض شعراء هذا الاتجاه مصدر آخر، هو الأدب المهجري، الذي كان في طابعه العام يتسم "بالرومانتيكية"، وفي بعض جوانبه يرتبط بالرمزية، ومن ذلك كتب جبران خليل جبران، التي تتمثل "ورمانتيكيتها" في جيشان العاطفة، وانطوائية النزعة وغلبة طابع الحزن، والاهتمام بموضوعي الطبيعة والحب، كما تمسها الرمزية في العبارات الموحية، والصور المعبرة عن حالات النفس، والمخاطبة لمكنون اللاشعور، وقد ظهر النتاج المهجري مبكرًا، وكان بعضه ينشر في مصر في وقت نشأة هذا الاتجاه وظهوره إلى النور، فقد أخذت كتب جبران خليل جبران تظهر منذ سنة 1905 3، وتوافر عدد منها ومن غيرها في الفترة التي يساق عنها الحديث، فكانت رافدًا من روافد هذا الاتجاه، وخاصة بالنسبة لمن لم يكونوا يجيدون لغة أجنبية من الشعراء المتطلعين بحكم نزعتهم التجديدية، إلى زاد يشحذ ملكاتهم، ويثير خيالاتهم، ويعطيهم النموذج الذي عليه ينسجون. ولا يمكن، ونحن بصدد الحديث عن مصادر هذا الاتجاه الفنية، أن ننسى تأثير كل من المحافظثين والمجددين السابقين، حيث أفاد شعراء هذا الاتجاه من حركة الصراع بينهما، وأخذوا من سمات كل اتجاه أحسنها، بل أفادوا

_ 1 انظر: الرمزية والأدب العربي لأنطون غطاس كرم ص92، وانظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الثالثة ص22. 2 انظر: الرمزية والأدب العربي لأنطون غطاس كرم ص76-85، وانظر: مجلة أبولو عدد يونية سنة 1933، ص2204، وما بعدها "مقال للهمشري". 3 انظر: أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأمريكية لجورج صيدح ص266 وما بعدها ط3.

بشكل واضح من كتابات المجددين الثلاثة شكري، والمازني، والعقاد على نحو ما ذكر في أول هذا الفصل. وإذا كان رواد هذا الاتجاه قد اعترفوا بتأثرهم بمطران، واعتزوا بأستاذيته من بين المجددين1، على حين أغفلوا تأثرهم "بالاتجاه التجديدي الذهني"، الذي كان يتصدره العقاد، فليس معنى ذلك أن مطران كان فعلا أستاذهم في التجديد، وأن العقاد وصاحبيه شكري والمازني، لم يكونوا من المؤثرين في هذا الاتجاه الجديد، فالحق أن أعلام الاتجاه التجديدي الذهني، كانوا ذوي تأثير كبير في هذا "الاتجاه الابتداعي" بما لهم من شعر جديد خصب، وبما لهم أيضًا من كتابات رائدة في النقد والتبصير بوسائل التجديد في الشعر، ورمبا كان العقاد بشعره الجديد ونقده الرائد، من أهم المؤثرين في هؤلاء الشعراء الابتداعيين. غير أنه يبدون أن هؤلاء الشعراء الابتداعيين كانوا -أيام ظهور اتجاههم- يؤثرون السلامة، ويخافون من الخصومات، ويبتعدون عن التحزب، لهذا لاذوا بمطران المحايد المسلم من بين المجددين، وأغفلوا العقاد واتجاهه، لارتباطه بكثير من المعارك والصراعات، التي لم يشأ هؤلاء الشعراء الجدد أن يمسهم شررها وهم في أول الطريق2. هذا بالإضافة إلى ما كان من صلة قوية بين مطران، وأحمد زكي أبي شادي، تلك الصلة التي ترجع إلى صداقة مطران ووالد الشاعر، فهذه الصلة القوية والمودة القديمة، جعلت أبا شادي يكثر من الإشادة بمطران، وجعلت زملاءه أو مريديه، يجارونه في هذه الإشادة، التي ترجع إلى المجاملة، وإلى شخصية مطران أكثر من أي سبب آخر3.

_ 1 انظر: "أنداء الفجر" لأحمد زكي أبو شادي ص110، وانظر: "أطياف الربيع" لأحمد زكي أبي شادي "مقدمة ناجي" ص "د". 2 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص158. 3 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص163 وما بعدها وص314، 315.

وبعد، فلعل مما مضى من خصائص هذا الاتجاه يتضح سر تسميته، "بالابتداع العاطفي"، فهو يقوم أولًا على الابتداع المجاوز حد التجديد في الموضوعات والأساليب، وهو يقوم ثانيًا على نزعة عاطفية تشكل أهم مادته الشعرية، وتكاد تطغى على ما سواها من محتويات المضمون الشعري، وإذا كان لا بد من تشبيه هذا الاتجاه باتجاه غربي، فهو أشبه بالاتجاه "الرومانتيكي"1، الذي نجد فيه أكثر الخصائص التي وجدناها في هذا الاتجاه، والذي يقوم إلى درجة كبيرة على دعامتي الابتداع والعاطفية، هذا مع تأكيد ما لم سبق تقريره من أن هذا الاتجاه لا يصل إلى درجة المدرسة الفنية؛ لأنه لم يقم أولًا على فلسفة محددة، ولم يلتزم بمذهب فني خاص، وقد اعترف بعدم مذهبيته بعض أعلام الاتجاه أنفسهم2. و ريادة هذا الاتجاه: هذا وقد درج بعض الباحثين على اعتبار الدكتور أحمد زكي أبي شادي رائد هذا الاتجاه، وأستاذ السائرين فيه3، والحق أن الدكتور أبا شادي كان من أوائل المتحمسين لهذا الاتجاه الجديد، كما كان أكثر أصحابه تشيعًا له، وأخذًا بيد الشبان المتجهين إليه، وقد صنع من أجل ذلك الكثير، فأصدر مجلة "أبولو" لتتيح لهم فرصة النشر بجانب الشعراء الكبار، كما ألف "جماعة أبولو" ليعلو فيها صوت هؤلاء الشعراء الشبان، إلى جانب ما كان يزحم الحياة الأدبية من أصوات، كما ساعد على نشر دواوين هؤلاء الشبان

_ 1 انظر: الرومنطيقية، ومعالمها في الشعر العربي الحديث لعيسى يوسف بلاطة القسم الثاني "الرومنطيقية العربية". 2 انظر: حديث أبي شادي عن ذلك في: رائد الشعر الحديث جـ1 ص236. 3 انظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الأولى ص90 والحلقة الثانية ص3 والحلقة الرابعة ص4. وانظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص250، 272، 287، 302، 313.

الجدد، وإذاعة نتاجهم والدفاع عنهم1، إلا أنه مع سبقه وتحمسه، ومع كل ما كان له من جهود خيرة، لم يكن أقوى شعراء هذا الاتجاه شاعرية، ولا أعظمهم فنًا، وإن كان أكثرهم خدمة للاتجاه، وأغزرهم نتاجًا بين أصحابه. وقد اتسم نتاجه الكثير بالعفوية والتلقائية، وعدم التجويد المبني على المراجعة، فجاء غير محافظ على المستوى الفني المرضي؛ حيث ارتفع بعضه إلى درجة الشعر الجيد، وانحط بعضه إلى مهاوي النظم الرديء، وجاء كثير منه على سطحية في الفكر، أو نثرية في التعبير، أو برود في العاطفة2؛ مما لا يدع بصاحبه إلى الصف الأول من بين شعراء هذا الاتجاه، برغم ما نرى من مجاملة بعض رفاقه له، وحديثهم عنه كرافع لواء الاتجاه الجديد3. والحق أنه إذا كان شوقي قمة "الاتجاه المحافظ البياني"، وإذا كان العقاد قمة "الاتجاه التجديدي الذهني"، فإن ناجي هو قمة الاتجاه "الابتداعي العاطفي"، وذلك لطاقته الأضخم ونتاجه الأجود، وفنه الأسمى، على أن هناك شاعرًا قد مات في عمر الورد، ولو قدر له أن يعيش كما عاش رفاقه، لانتزاع لواء هذا الاتجاه، وتربع على عرش فنه، هذا الشاعر هو محمد عبد المعطي الهمشري الذي نرى نتاجه -الأقل كمًّا من نتاج رفاقه- يمثل إرهاصات عبقرية شعرية فذة، كما نرى فيه أوضح خصائص هذا الاتجاه، بحيث يمكن أن تمثلها القصيدة الواحدة من قصائده إلى درجة كبير4.

_ 1 اقرأ تفصيل ذلك في: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص302 وما بعدها وص 332، وما بعدها وص487 وما بعدها. 2 انظر: الشعر المصري بعد شوقي لمندور الحلقة الثانية ص17-18 وص29-33، وص 52-53. 3 انظر: اعتراف ناجي مثلًا بأن أبا شادي هو رافع لواء المدرسة الجديدة في: "أطياف الربيع" ص "ل". 4 اقرأ تفصيل حياته في: الهمشري لصالح جودت، واقرأ قصيدته: النارنجة الذابلة"، لترى أهم خصائص هذا الاتجاه مجتمعة.

ز- مقاومة هذا الاتجاه وانتصاره: وقد لقي هذا الاتجاه كثيرًا من المقاومة، وبخاصة حين خرجت إلى النور دواوينه الأولى سنة 1934، وأعجب ما في هذه المقاومة ما كان منها من النقاد المتحررين ذوي الثقافة الغربية والميول التجديدية، فقد تعرض شعر هذا الاتجاه -ممثلًا في بعض دواوينه الأولى- لهجوم طه حسين والعقاد، وهما دعامتا الأدب الجديد في ذلك الحين، ويبدو أن هذا الهجوم لم يكن بدوافع فنية حتى يثير العجب، وإنما كان وراءه روح الفترة التي تتسم بالصراع السياسي، والخصام الحزبي، الذي انعكس على كثير من المجالات حتى مجال الفكر والأدب1. فقد عرف أن العقاد كان يضيق بشعراء هذا الاتجاه؛ لأنهم على صلة بأبي شادي ومجلته، وأبو شادي كان -في رأي العقاد- على صلة برئيس الديوان الملكي حينذاك2، كما كانت له كبوة في مدح الملك فؤاد3، وعثرة في التودد إلى رئيس وزرائه في ذاك العهد إسماعيل صدقي4، والعقاد كان على عداء للملك فؤاد، وقد عرض به في البرلمان، وسجن من أجل هذا التعريض5. وكان ذلك كله في عهد إسماعيل صدقي، الذي كان ينكل بالوفد، ويضطهد كتابه الذين في مقدمتهم العقاد، فكان من الطبيعي أن يشك العقاد في أبي شادي، وأن يسخط على المتصلين به، وأن يعبر عن ذلك بالهجوم على

_ 1 اقرأ ما كتب تحت عنوان "الأدب وغلبة الاتجاه التجديد" في أول الحديث عن الأدب في الفصل الرابع. 2 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص494. 3 انظر: الينبوع ص80. 4 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص494. 5 كان ذلك سنة 1930 حينما خطب العقاد في البرلمان قائلًا: "إن الأمة مستعدة أن تسحق أكبر رأس يخون الدستور، ويعتدي عليه"، وقد حكم عليه بالسجن تسعة شهور، وكان ذلك في عهد انظر: العقاد: دراسة وتحية ص64-65".

الشعراء الذي ينضمون تحت لوائه، ويسيرون في اتجاهه، وخاصة إذا نمي إليه أن تلك الحركة التي يتزعمها أبو شادي قد أقامها القصر لتحاربه1، ومن هنا هاجم العقاد ناجي هجومًا عنيفًا حين أخرج ديوانه الأول "من وراء الغمام"، واتهمه بالسرقة، والسطحية، والرخاوة. وكان مما قاله: "وأظهر ما يظهر من سمات هذه المجموعة الضعف المريض والتصنع، فإن صاحبها كما يدل عليه كلامه من أولئك النوع الذي يفهمون أن "الرقة" ترادف البكاء، وأن الشاعر ينظم ليبكي ويشكو، فإذا هجره الحبيب بكى ... وإذا تناجى مع حبيبته قال لها: "هاتي حديث السقم والوصب"، إلى نحو ذلك من أعراض الرخاوة المريضة2....". وأماط طه حسين، فمعروف أنه أخرج من الجامعة في عهد صدقي، ولاقى كثيرًا من الاضطهاد على يد وزير معارفه حينذاك حلمي عيسى3، وقد وجد طه حسين أنا أبا شادي قد تورط في التودد إلى صدقي، كما وجده هو وبعض "جماعة أبولو"، قد زاروا حلمي عيسى في الوزارة ومدحوه، طالبين منه رعاية مجلتهم وتشجيع حركتهم4، فسخط طه حسين على أبي شادي، ومن يلوذون به، واتخذ هذا السخط عدة مظاهر، منها مبايعة العقاد بإمارة الشعر5، ومنها الهجوم على ما صدر من دواوين لشعراء هذا الاتجاه الذي

_ 1 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص494. 2 انظر: مقال العقاد في جريدة الجهاد عدد 12 يونيه سنة 1934. 3 أخرج طه حسين من الجامعة سنة 1932، ثم أعيد سنة 1936 "انظر: الهلال عدد أول فبراير سنة 1966". 4 اقرأ تفصيل هذه الزيارة في مجلة أبولو المجلد الثالث ص5 وما بعدها. 5 كانت تلك المبايعة في حفل تكريم أقامة الشباب الوفدي للعقاد بمناسبة فوز نشيده القومي، وكان ذلك الحفل في 27 أبريل سنة 1934. واقرأ حديث طه حسين في: الجهاد عدد 29 أبريل سنة 1934، وقد ختم طه حسين هذا الحديث بقوله: "ضعوا لواء الشعر في يد العقاد، وقولوا للأدباء والشعراء: أسرعوا واستظلوا بهذا اللواء، فقد رفعه لكم صاحبه".

يريد أن يتزعمه أبو شادي، وهكذا هاجم طه حسين علي محمود طه1، كما هاجم إبراهيم ناجي2، وتحامل عليه تحاملا لا يتفق مع ثقافة الدكتور طه النقدية، ولا مع ذوقه الفني؛ فقد كان مما قاله عنه: "فإذا نظرنا إليه نظرة الناقد المحلل الذي يريد أن يقسم الشعر أنصافًا وأثلاثًا وأرباعًا -كما يقول الفرنسيون- لم يكد يثبت لنا أو يصبر على نقدنا، وإنما يدركه الإعياء قبل أن يدركنا، ويفر عنه الجمال الفني قبل أن يفر عنا الصبر على الدرس والنقد والتحليل". كما قال في تعليقه على أبيات ناجي التي منها: أمسيت أشكو الضيق والأينا ... مستغرقًا في الفكر والسأم فمضيت لا أدري إلى أينا ... ومشيت حيث تجرني قدمي "فانظر إليه، وقد أمسى يشكو الضيق والأين، وهو مستغرق في الفكر والسأم، فأما الضيق والسأم فقد نفهمها من الشاعر، وقد نفهم أن يشكو التعب، ولا سيما إذا كان طبيبًا قد أنفق ساعات طوالا يلقى المرضى، ويفحصهم وصيف لهم الدواء، ويسمع منهم ما لا يحب للقراء أن يسمعوه، ولكن الذي لا يستقيم للشاعر المجيد، هو الاستغراق في الفكر والسأم معا، فالمفكر لا يسأم والسائم لا يفكر؛ لأن التفكير يشغل صاحبه حتى عن الضيق والتعب والسأم؛ ولأن السأم لا يمكن صاحبه من التفكير، ولا يخلي بينه وبينه".

_ 1 انظر: ما قال عنه في: حديث الأربعاء جـ3 ص148-149، ومن ذلك قوله: " ... فهو يغلو في الخيال أحيانًا حتى يجاوز المألوف، ويتورط تورطًا فاحشًا فيما عاب النقاد به أبا تمام، فهو يجسم ما لا سبيل إلى تجسيمه، وليس بذلك بأس إذا لم يسرف الشعراء، وإنما ألموا به لمامًا، أما شاعرنا فيغلو فيه غلوًا فاحشًا، وما رأيك فيم جسم الليل حتى جعل له أوصالا وعروقًا، وأجرى في هذه العروق دمًا، وليت شعري كيف يكون دم الليل، أجامد هو أم سائل، أناصع هو أم قائم، أخفيف هو أم ثقيل، وليت شعري كيف يكون حال الليل إن سفك دمه أيموت أم يتجدد له الدم، فتتجدد له الحياة؟.. وليت شعري كيف تكون أوصال الليل؟ ومن المحقق أن هذه الأوصال والعروق تستتبع لحمًا وعظمًا وجلدًا، وما يتصل بذلك كله ... ". وقوله: "فهو شاعر مجيد حقًا، ولكنه ما زال مبتدئًا". 2 انظر: ما قاله في حديث الأربعاء جـ3 ص153-154.

"وعلى كل حال فقد أمسى الشاعر ضيقًا متعبًا مغرقًا في السأم والتفكير، فخرج لا يدري إلى أين ومضى حيث تجره قدمه، فانظر إلى هذه الصورة التي لا تلائم شعرًا ولا لغة؛ فالقدم لا تجر صاحبها وإنما تحمله، وتحمله متثاقلة مكدودة، إذا لم يتح لها النشاط؛ وإنم يجر صاحب القدم قدمه فاترًا مكدودًا لا يقوى على المشي، ولكن الشاعر أراد قافية تلائم السأم، فجعل قدمه تجره على حين كان ينبغي أن يجرها هو"1. وإذا كان مثل هذا التحامل لا يتفق مع ثقافة طه حسين وذوقه الفني، فإنه يتفق مع روح الصراع الذي كان يسيطر على الحياة المصرية في ذلك الحين، ويفسد عليها كثيرًا من شئونها. وليس من شك في أن هذه المقاومة التي لقيها هذا الاتجاه -وبخاصة من العقاد وطه حسين- قد فتت في عضد شعرائه، وأصابت بعضهم بصدمة شديدة حملتهم على التوقف، فأعلن أكثر من واحد إضرابه عن قول الشعر، كما كان من إبراهيم ناجي وصالح جودت2، ولكن تلك الوقفة لم تطل، فسرعان ما زالت الصدمة، واستعاد هؤلاء الشعراء الثقة، وواصلوا سيرهم في اتجاههم بحماس أكثر ونتاج أغزر، فازداد عدد الأنظار الملتفتة إليهم، وتضاعف الشعراء السائرون في اتجاههم، وخاصة من الشباب المثقف، الذي لا يريد أن يحصر نفسه في نطاق التراث العربي، وإنما يتطلق إلى آفاق فنية أرحب، وألوان أدبية أخصب، وقد كان هذا الاتجاه بإبداعه وعاطفيته، يستهوي هذا الشباب، حتى رأينا منهم طائفة ممتازة تسرع بالانضمام إلى السائرين فيه، وكان من هؤلاء الشباب المثقفين الطموحين: عزيز فهمي وعبد الرحمن الخميسي، وصالح الشرنوبي، ومحمد فهمي، وهكذا ظل هذا الاتجاه أخصب الاتجاهات الشعرية وأكثرها حيوية، وأشدها رواجًا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.

_ 1 انظر: حديث الأربعاء جـ3 ص153-154. 2 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص514-516، وانظر: ديوان ناجي ص20.

ز- محاولات مسرحية وقصصية: وقد كان لبعض شعراء هذا الاتجاه محاولات في الشعر الموضوعي، أرادوا بها أن يسهموا في تطويع الشعر لفني المسرحية والقصة، أو الخروج به عن الانحصار في قالب القصيدة الغنائية المعروف، ومن أوائل أصحاب تلك المحاولات، الدكتور أحمد زكي أبو شادي، الذي ألف بعض المسرحيات الغنائية "أبرات"، وبعض القصص الشعرية. أما مسرحياته الغنائية، فالمشهور منها أربع، نشرها سنة 1927، وهي: "إحسان" و"أردشير" و"الزباء" و"الآلهة"1. والمسرحية الغنائية الأولى تعرض قصة فتاة مصرية اسمها "إحسان" أحبها ابن عمها الضابط المصري "أمين"، ولكنه قبل الزواج بها سافر إلى الحبشة ضمن حملة عسكرية سنة 1876، ووقع في الأسر. وانتهز "حسن" الفرصة، فأشاع -كذبًا- أنه مات، رجاء أن يحل محله في الزواج "بإحسان"، ولكنه لم يحقق مطمعه؛ لأن الفتاة تزوجت من "كمال" شقيق الضابط الأسير، بناء على وصيته قبل سفره إلى الحبشة، بأن يتزوج أخوه خطيبته إذا مات هو، وقد احتال "حسن" فدس السم لكمال زوج "إحسان"، الذي أخذ يمشي الموت في جسده رويدًا رويدًا حتى انتقل إلى جوار ربه.. وأخيرًا نجا الضابط الأسير "أمين"، وعاد إلى مصر، وعلم بخيانة صديقه "حسن"، ووجد "إحسان" في أيامها الأخيرة، نتيجة لعدوى السل التي أصابتها من زوجها قبل موته، وانتهى أمرها بأن لفظت أنفاسها الأخيرة بين يدي فتاها الأول "أمين" بعد أن صاحت صيحة الفرح والدهشة بعودته ولقائه. والمسرحية الغنائية الثانية تعرض قصة حب "أردشير"، ولي عهد

_ 1 انظر: رائد الشعر الحديث لمحمد عبد المنعم خفاجى ص48.

ملك شيراز "لحياة النفوس" ابنة ملك العراق، التي كانت تبغض الرجال وترفض الزواج، نتيجة لعقدة أصابتها منهم، بسب رؤيا رأت فيها طائرًا يقع في الشرك فتنقذه أنثاه، ثم تقع الأنثى في الشرك نفسه، ولكن الطائر الذكر يفر تاركا صاحبته للصائد يذبحها.. ولقد زاد رفض "حياة النفوس" للخاطبين، من تعلق "أردشير" بها، وإصراره على الزواج منها. وحين رفضته هو الآخر، غضب والده "السيف الأعظم"، وصمم على غزو العراق، ولكن ابنه "أردشير" يقنعه بالعدول عن هذه الفكرة، ويلجأ إلى الحيلة في الوصول إلى بغيته، فيرحل إلى العراق، ويتنكر في لباس تاجر كبير، ويلتقي "بحياة النفوس" بعد مراسلة ساعدته عليها مربيتها العجوز. وهكذا تحب الأميرة الأمير، ويتكرر لقاؤهما، ولكن أباها الملك يكشف علاقتهما ويهم بقتلهما، غير أن الشاة يجيء في اللحظة المناسبة على رأس جيش، للبحث عن ابنه الذي طال غيابه، وحين يلتقي الولدان يتصافيان، وتزف الأميرة للأمير. والمسرحية الغنائية الثالثة، تعرض قصة "زنوبيا" ملكة تدهر، حين أرادت توسيع مملكتها وتأكيد نفوذها، فغزت مصر بحملة على رأسها ابنها هبة الله، وقائد جيشها "بلينيوس"، وكان هذا القائد يرغب في الزواج من الزباء طمعا في مملكتها، وحين رفضت رغبته حقد عليها، وانضم إلى جيش إمبراطور الرومان "أورليان"، الذي كان قد أرسل لتأديب الزباء على محاولتها الابتعاد عن نفوذ روما، وانتهى الأمر بانتصار هذا الجيش على "الزباء"، والقضاء على مملكة تدمر، وأسر "الزباء" نفسها والذهاب بها إلى روما، وهناك أوضحت للإمبراطور ما كان من أمر القائد "بلينيوس" وأطماعه، وشرحت له أن سر انضمامه إلى الجيش الذي حاربها، إنما هو الانتقام منها على رفضها الزواج منه، وليس وفاء للإمبراطور ولا حبا لروما، وهنا غضب "أورليان" على "بلينيوس" وأمر بإعدامه، وصفح

عن "الزباء"، وأنزلها في ضيافته مكرمة هي وأولادها. والمسرحية الغنائية الرابعة، تعرض فترة خيالية من حياة شاعر فيلسوف، يستيقظ في غابة الطبيعة على نشيد إلهة الجمال، التي تفتنه، وتخبره بأنها المتصرفة في الدنيا، وتعده بالسعادة الحقة، إذاما أطاع إرشادها، وتعرض عليه أمثلة من نفوذها، وتسمح له في حدود سلطانها بمصاحبة شقيقتها إلهة الحب التي تكلفها بإرشاده وتوجيهه، ولكن إلهة الشهوة، ثم إلهة القوة، تجعلانه يجحد إيمانه بالجمال بالحب، فيشقى ويضل ويندم، بعد أن ينال منه الشقاء والتعاسة، وهنا يدعو إلهتي الجمال والحب لنجدته، ويغمى عليه فيسقط، فتخفان إلى جواره ونجدته والصفح عنه، وتعيدان إليه سعادة الدنيا، وتهيئاته لهناءه الخلود. ويلاحظ على مسرحيات أبي شادي الغنائية عدة ملاحظات، فهي أولا تستوحي التاريخ الحديث حينا، كما في "إحسان"، وتستوحي التاريخ القديم حينا آخر كما في "أردشير" و"الزباء"، كما تستوحي عالم الأساطير، وتعتمد على الرموز في بعض الأحايين كما في "الآلهة"، وهي ثانيا ليست على حظ كبير من الجودة الفنية، وربما كان ذلك؛ لأنها لم يقصد منها إلى إنشاء نص "درامي" شعري مستقل بمقوماته الفنية، وإنما قصد بها إلى إنشاء أعمال شعرية تكمل فنيتها بالتلحين والموسيقى، ولا يهتم فيها بجودة النص "الدرامي" بالقدر الكافي، نظرا لعدم الاعتماد أساسا عليه وحده. وتلك المسرحيات الغنائية -بعد ذلك- يلاحظ على شعرها خاصة شعر أبي شادي العامة، الذي يتردد بين القوة والضعف، وتبدو فيه أحيانا نثرية في الأسلوب، وسطحية في الأفكار، وبرود في العاطفة، نتيجة لغزارة نتاجه، وتسجيله لكل ما يعن له، وعدم اهتمامه بالمعاودة والتجويد والصقل1.

_ 1 انظر: الشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور الحلقة الثانية ص11-18، والأدب العربي المعاصر في مصر ص152-153.

وأما كتابات أبي شادي الشعرية في مجال القصة، فأهمها قصتان نشرهما سنة 1926، هما "عبده بك" و"مها"1. والأولى تحكي حكاية زواج رجل مصري من الطبقة الوسطى، بثلاث زوجات تباعًا، الأولى منهن مصرية، يفشل زواجه بها لنقص تربيتها وسوء اختياره لها، والثانية أجنبية، يفشل زواجه بها أيضًا، ولكن نتيجة للتنافر بين الزوجين، واختلاف طباعهما وتقاليدهما، والثالثة من بنات وطنه وبيئته، وينجح زواجه بها لتجنبه الأخطاء التي تورط فيها حين تزوج من السابقتين، وفي خلال هذه القصة يعرض المؤلف ما كان من مهازل الزواج، وما كان يحيط به قبل التطور الاجتماعي من المفارقات وسيئ العادات، كالوسطاء والخاطبات، والأطماع والاندفاع، وعدم رعاية القيم المعنوية التي يجب أن تطلب في الزوجة، والاهتمام بشكليات لا تغني في نجاح الحياة الزوجية شيئًا. وأما القصة الثانية "مها"، فتحكي حكاية فتاة عربية أحبها ضابط إنجليزي، وأحبته أثناء الحرب العالمية الأولى، في مكان قرب العقبة، وحين رفض أبوها زواجهما هرب الحبيبان، حيث مات المحب في شعاب الجبل، وانتحرت الفتاة فوق جثته بطلقة نارية صوبتها إلى صدرها من مسدسه. والملاحظ على القصتين، أنهما ضعيفتان من الناحية الفنية؛ لأن الشعر ليس لغة القِصص التي يمكن أن تندرج بحق تحت هذا الجنس الأدبي، إذ الشعر يضيق بأوزانه وقوافيه وأسلوبه، عن الوصف والتحليل، ورسم الشخصيات، وما إلى ذلك من عناصر قصصية ضرورية لنجاح القصة الفنية، ومجال القصة الوحيد هو النثر، الذي نشأت القصة. ظلاله وصارت تتخذ لغة في جميع الآداب2، وهذا لا يمنع من اتساع الشعر للأقاصيص القصار، التي لا تحتاج إلى عناصر قصصية تحتم مرونة

_ 1 له بعض القصص الشعرية التي ظهرت قبل ذلك مثل "نكبة نافارين" و"مفخرة رشيد"، الأولى سنة 24 والثانية سنة 1925. 2 انظر: الشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور الحلقة الثانية ص19-21.

النثر، بل تبدو كخاطرة أو تجربة شعرية لا يضيق بها الشعر، كذلك لا يعارض هذا ما كان من صوغ الملاح شعرًا -وهي في حقيقتها قصص طوال- وذلك؛ لأن الملاحم كانت تعتمد أساسًا على الأساطير، وتضرب في شعاب الخيال، وهي أمور ألصق بسذاجة الشعر وطبيعته، ولم تكن الملاحم قصصًا بالمفهوم الفني، الذي يتطلب تحليلا للمواقف، ورسمًا للشخصيات وإبرازًا لأبعادها النفسية والاجتماعية والأخلاقية، حتى يضيق بها الشعر كما ضاق بمحاولة أبي شادي، فتلك المحاولة بعيدة عن النجاح، حيث لم تحقق عملا قصصيًا جيدًا، ولم تقدم نصًا شعريًا ممتازًا، ففي الجانب القصصي إملال وإسهاب، وبعد عن خصائص فن القصص، وفي الجانب الشعري فتور ونظم، ونأي عن رونق فن الشعر، ويكفي -شاهدًا على ذلك- أن نقرأ مثل هذين البيتين اللذين يتحدث فيهما الشاعر في قصة "إحسان"، عن الخاطبة الحاجة "حليمة"، وما لها من تجارب وخبرات: ويقال مصر كَحلةٍ ... ومثالها كالمغرفة فلها اطلاع واسع ... ولها اختيار المعرفة1 ولكون سر النجاح عند شعراء هذا الاتجاه هو إدراكهم لطبيعة اتجاههم، ومحاولتهم تنمية هذه الطبيعة لا مسخها؛ نجد أن أنجح محاولة لهم في ميدان الشعر القصصي2، هي محاولة الشاعر الهمشري، التي تمثلها قصيدته القصصية الطويلة "شاطئ الأعراف"، التي كتبها سنة 1929، ونشر أجزاء منها في السياسة الأسبوعية: ثم نشرها كاملة في أبولو سنة 1933 3، وتلك القصيدة تحكي رحلة خيالية يقوم بها الشاعر إلى الشاطئ الذي يقع وراء الحياة،

_ 1 انظر: عبده بك لأحمد زكي أبي شادي ص16. 2 من المحاولات الناجحة "أرواح وأشباح" و"أغنية الرياح الأربع" لعلي محمود طه، ولكنهما من نتاج الفترة التالية، الأولى سنة 1942 والثانية سنة 1943. 3 انظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص565، وانظر الهمشري لصالح جودت ص33-64.

ويشرف على عالم الموت، "بعد أن يخدر الموت شكاته"، وتحمله "سفينة الذكريات" إلى هذه الرحلة العجيبة. وهذه الرحلة قد اتخذت مجالها عالمًا آخر غير عالمنا، يشبه عالم المعري في "رسالة الغفران"، وعالم "دانتي" في "الكوميديا الإلهية"، وقد عرض الشاعر في هذا المجال أحداثًا خيالية، وجسم معاني تجريدية، تجري بينها تلك الأحداث، فهناك "بحر الوقت"، الذي يتسرب من فتحات في "هيكل الليالي"، وهناك "سفن الموت" التي تحمل كل شيء إلى "وادي العدم"، وهناك "مواكب الحياة"، التي تشرق أولًا بالبهة في "بحر الوقت"، ثم لا تلبث أن تتوارى في "هيكل الليالي"، وهناك بعد ذلك "إلهة الشعر" التي تعرض على الشاعر أن تصحبه إلى "الفردوس". وهناك "المغني" الذي يحاول أن يبعث لحنًا من قيثارته، فلا يخرج منها أي صوت. والشاعر من خلال هذه الأحداث الخيالية، والمعاني المجسمة، يعبر عن حزن الإنسان وقلقه، وفزعه من نهايته المؤلمة التي تتجسم في الممات، كما يعبر -في الوقت نفسه- عن مأساته الخاصة، التي تتمثل في سوء الحظ في الحياة، وخيبة الأمل في الحب، وقسوة العيش في فقدان العزاء، لدرجة أن الشاعر لم يجد من يبثه شكواه في الدنيا، فراح يبحث عنه في الآخرة1. فموضوع تلك القصيدة القصصية تجربة ذاتية؛ ولكن الشاعر استطاع أن يوسع أبعادها، فيجعل منها تجربة إنسانية، تعالج خوف البشر وقلقهم الدائم من المصير الحتمي المؤلم. وقد صاغ الشاعر تلك التجربة في أسلوب شعري جيد، فيه الخيال الجنح، والعاطفة الجياشة، واللغة الجذابة، والموسيقى النابضة، وفيه -قبل ذلك- أهم خصائص هذا الاتجاه الابتداعي التي مضى عنها الحديث.

_ انظر: الشعر المصري بعد شوقي الحلقة الثانية ص17-18، وانظر: جماعة أبولو لعبد العزيز الدسوقي ص565-579، وانظر: الهمشري لصالح جودت ص63-64.

وبرغم ما اشتملت عليه القصيدة من عثرات لغوية وتعبيرية1؛ قد جاءت من أنجح المحاولات للقصيدة القصصية، التي لا تخرج بالقصيدة عن طبيعتها الغنائية الأصلية، ولكنها ترفدها بعنصر قصصي يمنحها موضوعية توسع مجالها، ويهبها وحدة تربط بناءها: هذا إلى ما يشيع فيها من حركة وحيوية، واتساع وعمق. هذا وقد جاء عرض هذا اللون من الشعر المتصل بالموضوعية هنا، برغم ما يبدو من أن مكانه الطبيعي هو مكان الحديث عن المسرحية والقصة؛ لأن الناجح من هذه المحاولات في الفترة التي يساق عنها الحديث -وهو محاولة الهمشري- أقرب إلى الشعر الغنائي منه إلى الشعر الموضوعي، فلو أخذناه بمقياس القصة الفنية والمسرحية الحقيقية، لظلمناه: حيث يسقط برغم وصوله إلى مستوى رفيع من الناحية الغنائية، الآخذة بشيء من موضوعية القصة و"درامية" المسرحية.

ثانيا: النثر

ثانيا: النثر مدخل ... ثانيًا: النثر: كان من أوضح الظواهر الأدبية في تلك الفترة أن النثر قد ازدهر، حتى سبق الشعر، وتصدر ميدان الأدب، بعد أن كان في الفترات السابقة يأتي خلف الشعر، وقد كان طبيعيًا أن يزدهر النثر بعد ما كان من تقدم ثقافي ونضج فكري2، فالتقدم الثقافي والنضج الفكري يستتبعان دائمًا ازدهار النثر، لاحتياجه أبدًا إلى الثقافة، وقيامه أساسًا على الفكرة، بخلاف الشعر الذي قد تكفيه الفطرة الملهمة، وقد يقنع بالعاطفة الساذجة. كذلك كان طبيعيًا أن يتصدر النثر في تلك الفترة بعد ما كان من

_ 1 مثل قوله: "قم أيا عارف المنون وغني"، وقوله: "ليت شعري فأين أثوي وأينت"، انظر: جماعة أبولو ص579. 2 اقرأ المقال رقم 3 من هذا الباب بعنوان: "نمو الحياة الثقافية".

تغلب للاتجاه الفكري الذي يولي وجهه شطر الغرب، وبعد ما كان من تصدر للأدباء الذين لا يرون في التراث العربي وحده المثل الأعلى1. فالتراث كان يقدم الشعر، وكان الشعر دائمًا هو الفن الأدبي الأول، على حين عرفت الآداب الغربية فنونًا من النثر قد سبقت الشعر بأشواط، أو على الأقل لم تدع له مكان الصدارة، ومن هنا كان تغلب الاتجاه الغربي، وتصدر أدباء من المثقفين ثقافة غربية، ومن المتصلين بآداب الغرب، مستتبعًا بالضرورة تصدر النثر الذي يعملون في ميدانه، ويتصلون في الآداب الأوروبية بأنواعه، ويحاولون أن يتفوقوا على غيرهم بالخوض في هذه الميادين التي لم يكن لغيرهم فيها نصيب يذكر. وهكذا كان من مظاهر ازدهار النثر وسبقه، ظهور أنواع أدبية نثرية لم تكن معروفة في أدبنا العربي من قبل كالترجمة الذاتية واليوميات والمسرحية المقروءة، بالإضافة إلى ألوان روائية جديدة. كما كان من مظاهر هذا الازدهار والسبق الذي حظا به النثر، اختفاء الطريقة البديعية تمامًا، واتضاح اتجاهين فنيين للأداء النثري، هما: "الاتجاه الأسلوبي" و"الاتجاه الفكري". أما الاتجاه الأسلوبي فقد جاء امتدادًا لطريقة المنفلوطي، التي تعني بإشراق الديباجة وروعة البيان، وتعطي عناية خاصة للصياغة2. وقد كان أعلام هذا الاتجاه من ذوي الثقافة العربية القديمة أساسًا، وإن أضاف بعضهم إلى تلك الثقافة ثقافة أوروبية واسعة، كطه حسين، وأحمد حسن الزيات.

_ 1 اقرأ ما كتب تحت عنوان "غلبة التيار الفكري الغربي" في أول الحديث عن الأدب في الفصل الرابع. 2 اقرأ الفقرة المقال1 من المقالات الخاصة بالثنر في الفصل السابق، وعنوانها "المقالة، وظهور أول فنية للنثر الحديث".

كذلك كان من أعلام هذا الاتجاه من بدأوا يشقون طريقهم في أواخر الفترة السابقة كهذين العلمين1، كما كان منهم من شق طريقه تمامًا فيما مضى ولكن كشاعر، ولم ينصرف إلى النثر ويجعله فنه الأدبي الأول إلا في هذه الفترة، كمصطفى صادق الرافعي2.

_ 1 كان طه حسين قد بدأ يكتب في بعض الصحف في أواخر الفترة السابقة، مثل الجريدة والبيان، كما كتب كذلك رسالته التي تقدم بها إلى الجامعة القديمة عن أبي العلاء المعري 1914، كذلك كان الزيات يكتب في بعض الصحف في أواخر الفترة السابقة، مثل السفور التي كان قد بدأ يترجم على صفحاتها "رفائيل". 2 نشر الرافعي الجزء الأول من ديوانه الأول سنة 1902، ونشر الجزء الثاني سنة 1903، وقد قرظه البارودي والمنفلوطي، وحياة الشيخ محمد عبده، ثم نشر الجزء الثالث سنة 1912، وقرظه حافظ إبراهيم، وكان قد نشر ديوانًا آخر سنة 1908 باسم "النظرات"، قد بدأ الرافعي يتجه إلى النثر بجانب الشعر، وذلك في أوائل العشرينيات، حين نشر سنة 1911، الجزء الأول من كتابه "تاريخ آداب العرب"، الذي ألفه بمناسبة إعلان الجامعة على جائزة لكتاب في أدبيات اللغة العربية، وفي السنة التالية سنة 1912 أصدر الجزء الثاني، وقصره على إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، ثم طبعه بعد ذلك باسم "إعجاز القرآن"، وقد قرظه سعد زغلول، كذلك أصدر سنة 1912، "حديث قمر" بعد رحلة إلى لبنان، وتعرفه على شاعرة كان بينه وبينها حديث حب طويل، وفي سنة 1917 أخرج "المساكين"، وهو فصول عن هؤلاء التعساء، وآلامهم وحظوظهم، وعن الخير والشر، وإلى جانب ذلك كان يقول الشعر من حين إلى حين، حتى أسهم به في ثورة سنة 1919، حيث اهتم بالشعر الحماسي، والنشيد الوطني، وأخرج نشيده المشهور "اسلمي يا مصر" ... ثم اتجه تمامًا إلى النثر بعد ثورة 1919، وفي خلال الفترة التي يساق عنها الحديث، فأخرج "رسائل الأحزان" سنة 1924، ثم أخرج "السحاب الأحمر" في السنة نفسها، ثم أخرج بعد نحو ست سنوات "أوراق الورد"، وهذه الكتب الثلاثة تدور حول فلسفة الحب والجمال، والمرأة والرجل، والعشق والزواج، وأخيرًا اتصل الرافعي بمجلة الرسالة، وكانت مقالاته فيها آخر صورة لنثره بعد أن تطور، واتضحت ملامحه، وقد جمعت معظم هذه المقالات في مجلدات باسم "وحي القلم". اقرأ الترجمة الموجزة التي كتبت له في هامش صفحة 241، واقرأ عنه: "حياة الرافعي" لمحمد سعيد العريان. وفي: "الأدب المعاصر في مصر" لشوقي ضيف ص242.

على أن جميعهم لم يقفوا عند مرحلة المنفلوطي، بل تجاوزوها تجويدًا، واتفاقًا في المضمون، وفي الشكل على السواء، فهم قد حاولوا أن يتجنبوا العيوب التي أخذت على طريقة المنفلوطي، كما حاولوا أن يضيفوا إلى حسناتها حسنات، حتى وصلوا بتلك "الطريقة الأسلوبية" إلى مرتبة عظيمة من الرقي، وذلك على اختلاف بينهم في الدرجة والطابع، والسمات الشخصية كما سيتضح فيما بعد. وقد تبع هذه الطريقة بعد أعلامها الأول، طائفة من ذلك الجبل التالي من الكتاب، الذين بدأوا يظهرون في النصف الثاني من تلك الفترة، وكانوا من ذوي الثقافة العربية أساسًا، من أمثال محمد سعيد العريان، ومحمد عبد المنعم خلاف. وأما الاتجاه الفكري فقد جاء امتدادًا لطريقة أحمد لطفي السيد، تلك الطريقة التي تعني قبل كل شيء بالمضمون وما يحمل من قيم، وتهتم في المحل الأول بالفكرة، وما يدور حولها من معان، وهي لا تهمل الشكل ولكن لا تنمقه تنميقًا، ولا تغفل الأسلوب ولكن لا تجعل العناية به فوق الصحة والبساطة والدقة والوضوح1. وقد كان أعلام هذا الاتجاه ممن بدأوا يشقون طريقهم في أواخر الفترة السابقة، مثل الدكتور محمد حسين هيكل2، وعباس محمود العقاد3،

_ 1 اقرأ ص182 من هذا الكتاب. 2 كان هيكل قد بدأ يكتب منذ أواخر الفترة السابقة في الجريدة والسفور والبيان، كما كان قد نشر قصة زينب سنة 1912، ثم أصبح رئيسًا لتحرير "السياسة" جريدة الأحرار الدستوريين، اقرأ ترجمته في هامش ص211 من هذا الكتاب. 3 وكان العقاد قد كتب في عدد من الصحف في الفترة السابقة، مثل: الظاهر والدستور والبيان، ثم أصبح في فترة ما بين الحربين الكاتب الأول لصحافة الوفد، وكان في "البلاغ" يقابل هيكل في "السياسة"، إلى أن أخرج من الوفد، فصار يكتب في صحف خصوم هذا الحزب وخاصة السعديين. وكان كتابه الأول قد ظهر سنة 1912 باسم خلاص اليومية، وأما ديوانه الأول فقد ظهر سنة 1916، اقرأ ترجمة له في هامش ص155 من هذا الكتاب.

وسلامه موسى1، وقد كانوا جميعًا من ذوي الثقافة الغربية أساسًا، وإن أضافوا إلى تلك الثقافة ثقافة عربية على درجات متفاوتة. وقد تجاوز أعلام هذا الاتجاه أيضًا مرحلة طريقة لطفي السيد، التي كانت تتسم بالانحصار في دائرة ضيقة من الكتابات الفلسفية والسياسية، ويوشك أن يغلب عليها جفاف لغة العلم، وانطلقوا إلى مجالات شتى أدبية وتاريخية واجتماعية ونفسية وحضارية وفنية؛ كما خطوا بالأسلوب الفكري خطوات، فساح نحو الصقل والإشراق والجمال. وقد سار في هذا الاتجاه طائفة أخرى من كتاب الجيل التالي لجيل أعلامه، وكانوا كسابقيهم ممن آمنوا بعمق الثقافة في الأدب، وغزارة الفكر في الفن، وممن كان أساسهم الثقافي قائمًا على الثقافة الغربية، ومن هؤلاء محمد مندور وزكي نجيب محمود. وإذا كان لا بد لكل اتجاه من طرف متطرف، فطرف الاتجاه الأسلوب المتطرف هو الرافعي، وطرف الاتجاه الفكري المتطرف هو سلامة موسى. وفيما يلي لما سبق من إجمال:

_ 1 كان يكتب في المقتطف سنة 1908، ثم سافر إلى أوروبا في تلك السنة، وعاد سنة 1913، بعد أن قضى سنوات بين إنجلترا وفرنسا، وبعد أن تأثر بالثقافة الإنجليزية بصفة خاصة، ولما عاد إلى مصر واصل الكتابة في المجلات والصحف، وبخاصة تلك التي كانت تعني بالفكر والأدب، فكتب في الهلال والبلاغ وغيرهما، ثم أصدر مجلة باسم "المجلة الجديدة" سنة 1929، اقرأ ترجمة موجزة له في هامش صفحة 243 من هذا الكتاب.

1- المقالة وتميز الأساليب الفنية: في تلك الفترة عرفت المقالة عهدها الذهبي، فقد تعددت الصحف نتيجة للصراع الحزبي، واهتمت كل صحيفة باستكتاب اللامعين من حملة الأقلام، لكسب أوفر عدد من القراء، ولم يقتصر الأمر على الصحف الحزبية، بل تعددت كذلك المجلات الثقافية والأدبية، نتيجة للتقدم الثقافي والوعي الصحفي والازدهار الأدبي، فكما كانت هناك: "السياسة" و"البلاغ" و"كوكب الشرق" و"الجهاد" في الميدان السياسي، كانت هناك: "الهلال" و"المقتطف" و"العصور" و"الرسالة"، و"المجلة الجديدة" في الميدان الثقافي والأدبي1. وكانت المقالة هي أهم الوسائل التي يخاطب بها الأدباء قراءهم عن طريق تلك الصحف والمجلات، وكان للصراع الحزبي بين الصحف الناطقة بلسان الأحزاب؛ كما كان للتنافس الشديد بين المجلات الناطقة بلسان الثقافة والأدب؛ أثر هائل في تنشيط كتابة المقالة، التي توفرت لها كل عوامل الازدهار في ذلك الحين. وقد كان من مظاهر هذا الازدهار تعدد ألوان المقالات، فكان منها المقالة الأدبية، التي تدرس شخصية أو ظاهرة، أو اتجاهًا أو أثرًا في الأدب العربي القديم أو الحديث، أو في الأدب الأوروبي الغابر أو المعاصر، وكان منها المقالة النقدية، التي تحدد قيمة أو تشرح مبدأ من قيم النقد أو مبادئه، أو تطبق هذا أو ذاك على بعض الدواوين، أو الكتب أو النصوص الأدبية على وجه العموم، كما كان منها المقالة الفلسفية التي تعرف ببعض الفلاسفة، أو تشرح بعض نظرياتهم وأفكارهم، لكن بلغة الأدب وأسلوب الأدباء، لا بلغة الفلاسفة وأسلوب الحكماء، كذلك كان منها المقالة التاريخية، التي تعرض لعصر مضى أو ثورة سلفت، أو بطل غبر أو شخصية ولت، وذلك

_ 1 كانت السياسة لسان حال الأحرار الدستوريين، وكان البلاغ وكوكب الشرق والجهاد، من أهم صحف الوفد، وكان الهلال والمقتطف مجلات ثقافية على اختلاف بينهما في الطابع، فالهلال يغلب عليها الطابع الأدبي والمقتطف يغلب عليها الطابع العلمي، والعصور لإسماعيل مظهر، والمجلة الجديدة لسلامه موسى يغلب عليها الطابع العلمي التقدمي كذلك، أما الرسالة، فكان يغلب عليها الطباع العربي الإسلامي.

أيضًا بلغة الأدب وطريقة الناثرين، لا بلغة التاريخ، وأسلوب المؤرخين، ثم كان من المقالة التي ازدهرت في تلك الفترة، المقالة الاجتماعية، التي تندرج تحتها الكتابة في كل ما يتصل بالمجتمع من أمور سياسية واقتصادية وتعليمية، وخلقية وما إلى ذلك، مما يتناول الأدباء لا كمتخصصين في السياسة والاقتصاد والتعليم والأخلاق، وإنما كمثقفين لهم مشاركتهم فيما يدور حولهم، ولهم آراؤهم فيما يتصل بمجتمعهم، وذلك أيضًا على طريقتهم الفنية. وأخيرًا كان من أهم ألوان المقالة حينذاك، المقالة التعبيرية التي موضوعها انطباع الكاتب أو شعوره حيال حدث معين، أو موقف خاص أو مشهد ما. وفي هذا اللون من المقالات يكون الكاتب أشبه بالشاعر، ولا ينقصه غالبًا إلا الجانب الموسيقي المعهود في الشعر، حتى يكون عمله قصيدة لا مقالة. وقد بلغ من ازدهار المقالة في تلك الفترة، أن كثيرًا من الكتب الجيدة التي نراها الآن لكبار الكتاب، ونراهم يعتزون بها ويذكرونها في مقدمة آثارهم؛ إنما نشرت أولًا في الصحف على هيئة مقالات، ثم جمعت بعد ذلك في شكل كتب، ومن تلك الكتب: "حديث الأربعاء" لطه حسين، و"في أوقات الفراغ" لمحمد حسين هيكل، و"مطالعات في الكتب والحياة"، و"ساعات بين الكتب" لعباس محمود العقاد، و"حصاد الهشيم" و"قبض الريح" لإبراهيم عبد القادر المازني. "فحديث الأربعاء" مجموعة مقالات نشر معظمها في السياسة الأسبوعية1، وقد ضمن المؤلف الجزء الأول من هذا الكتاب مقالاته التي قد نشرها حول الشعر الجاهلي والإسلامي، وبعض الشعراء الجاهليين والإسلاميين، وفي آخره فصول عن "الغزل والغزليين" من حسيين وعذريين، ممن عاشوا في العصر الأموي، كذلك ضمن المؤلف الجزء الثاني من "حديث الأربعاء"

_ 1بعض المقالات نشر في صحف أخرى "كالجهاد".

مقالاته التي كان قد نشرها عن الشعر العباسي والشعراء العباسيين، وعن تصوير هذا الشعر وهؤلاء الشعراء لذلك العصر عصر لهو وزندقة.. ثم خص المؤلف الجزء الثالث من هذا الكتاب بمقالاته في الأدب الحديث وقضاياه، ففيه حديث عن القديم والجديد، ومناقشة للرافعي في مذهبه في الأدب، وفيه نقد لبعض الكتب والدواوين المصرية والمهجرية، كدواوين علي محمود طه، وإبراهيم ناجي، وفوزي المعلوف. و"في أوقات الفراغ" لمحمد حسين هيكل، مجموعة مقالات أيضًا نشر معظمها في السياسة، وقد رتبها المؤلف في كتابه ثلاث طوائف، وأهم ما في الطائفة الأولى مباحث مختلفة في النقد، وترجمات منوعة "لأناتول فرانس"، و"بييرلوتي" وقاسم أمين.. وأهم ما في الطائفة الثانية مقالات عن مصر وتاريخها القديم، بمناسبة اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون.. وأهم ما في الطائفة الثالثة تلك المقالات الخاصة بالدعوة إلى الأدب القومي، الذي يمثل البيئة المصرية والحياة المصرية، وتتضح فيه سمات الأمة وخصائص الشعب، بما يميز المصريين عن أسلافهم الأقدمين، وجيرانهم المعاصرين. و"مطالعات في الكتب والحياة" للعقاد مجموعة مقالات أيضًا نشر معظمها في"البلاغ"1، وتلك المجموعة من المقالات منوعة غاية التنوع, فهي تتناول شخصيات عربية وأوروبية مثل: المعري والمتنبي و"أناتول فرانس" و"عمانويل كانت" كما تتناول مباحث جمالية وفنية، مثل: "عبقرية الجمال" و"الحرية والفنون الجميلة" و"معرض الصور" ... وتتناول كذلك دراسات أدبية نقدية، مثل: "الأدب كما يفهم الجيل" و"القديم والجديد" و"الشعر ومزاياه" و"خواطر عن الطبع والتقليد".. وأخيرًا تتناول تلك المقالات بعض الانطباعات والصور الوصفية مثل: "الألم واللذة"، و"على معبد إيزيس" و"التمثيل في مصر".

_ 1 نشر بعضها في صحف أخرى مثل: الأهرام والنيل والمشكاة والشذور.

ومثل هذا الكتاب كتاب "ساعات بين الكتب"؛ فهو الآخر مجموعة مقالات نشرت في الصحف والمجلات التي كان العقاد يتعاون معها في ذلك الحين، وهو أيضًا يضم ألوانًا منوعة من تلك المقالات؛ ففيه مقالات عن شخصيات عربية وأوروبية، مثل: ابن الرومي والمتنبي، و"شكسبير" و"توماس هاردي" و"بلاسكو إيبانيث" و"كبلنج" و"إبسن" و"رسو" و"فولتير"، وفي الكتاب أيضًا مقالات عن "الشعر في مصر"، وأخرى في النقد مثل: "التجميل في الأسلوب والمعاني" و"الصحيح والزائف في الشعر" و"النثر والشعر".. وفيه كذلك مقالات إسلامية تتصل بالجانب الأدبي والنقدي، وهي تلك المقالات التي كتبها حول "إعجاز القرآن".. وفي الكتاب أخيرًا طائفة من المقالات التي تعبر عن خاطر، أو انطباع أو وجهة نظر، مثل: "حب المرأة" و"الغيرة" و"النكتة" و"البطولة" و"الوطنية". و"حصاد الهشيم" للمازني قريب الشبه بكتابي العقاد، فهو مجموعة مقالات منوعة، قد نشرها صاحبها أولًا في الصحف التي كان يعمل بها، وخاصة "الأخبار1"، وبعض تلك المقالات عن المتنبي وابن الرومي، و"تاجر البندقية" و"رباعيات الخيام"، وبعضها عن الفن واللغة "كمعرض الصور" و"الحقيقة والمجاز"، كما أن بعض تلك المقالات من النوع الإنشائي، الذي يتناول الانطباع ويسجل الخاطرة ويصف المشهد، مثل حديث المازني عن "الصحراء". ومثل حصاد الهشيم "قبض الريح"، ففيه مقالات عديدة في النقد، وجهت طائفة منها إلى طه حسين وكتابه "حديث الأربعاء"، كما اختص بعضها بالحديث عن بشار وأبي العلاء، وجاء بعضها الآخر من قبيل وجهات

_ 1 المراد الأخبار القديمة التي كان يصدرها أمين الرافعي شقيق المؤرخ عبد الرحمن الرافعي.

النظر والحواضر والانطباعات، مثل: "نشأة الشعر"، و"المرأة واللغة" و"المفعول المطلق". وقد قصد بهذا العرض لتلك الكتب وألوان المقالات التي تحويها، إعطاء صورة للمقالة في جوانبها الموضوعية، وميادينها المتعددة، مما كان مظهرًا جليًّا من مظاهر ازدهار هذا النوع النثري في تلك الفترة.. فإذا تركنا هذه الجوانب المتصلة بالموضوع ونظرنا فيما يتصل بالمقالة من ناحية الأسلوب، وجدنا جانبًا آخر من جوانب الازدهار يفوق هذا الجانب، ويتجاوزه بأشواط. فقد أدت الثقافة الفنية التي تمتع بها كبار كتاب تلك الفترة، وما كان لهم من شعور قوي باستقلال الشخصية، وإحساس عارم بالحرية الفردية، ثم ما كان من ممارسة متصلة للكتابة، ومعاناة دائبة للانتاج -قد أدت كل تلك العوامل إلى تعدد طرق التعبير، وتميز أساليب الأداء، برغم اندماجها جميعًا تحت اتجاهين رئيسيين، هما: "الاتجاه الأسلوبي" و"الاتجاه الفكري". ويمكن أن نتعرف على خمس من تلك الطرق، هي" طريقة طه حسين التي يمكن أن نسميها "طريقة التصوير المتتابع"، وطريقه العقاد التي يمكن أن نطلق عليها "طريقة التعبير المحكم"، وطريقة الرافعي التي نستطيع أن نقول إنها: "طريقة البيان المقطر"، وطريقة الزيات التي نستطيع أن نعرفها "بطريقة البيان المنسق". وأخيرًا طريقة المازني التي لا نبعد عن الحق إذا وصفناها بأنها طريقة "الأداء المصري". 1- طريقة طه حسين: وقد اخترت لطريقة طه حسين اسم "طريقة التصوير المتتابع"؛ لأن هذا الكتاب يغلب عليه في أسلوبه التصوير بالألفاظ والجمل، وتقديم المشاهد المتتابعة والصور المتعاقبة، التي قد يكون بعضها لرسم شيء حسي خارجي،

وبعضها لنقل جو نفسي داخلي، وبعضها لتجسيم معنى أو إبراز فكرة، أو تعميق إحساس. ولطه حسين وسائل عديدة في رسم صورة، وإيرادها في تتابع وتعاقب ومن أهم تلك الوسائل، الاعتماد على الجمل والقصار، وإيراد تلك الجمل -أو بعض أجزائها- فيما يشبه التكرار والإعادة1، مما يحقق بالكلمة والعبارة تجسيم الصورة أولًا، ويهبها التحرك والتتابع ثانيًا.. ومن أهم وسائل طه حسين كذلك، استخدام الروابط -كحروف الجر ونحوها- في وفرة وتنوع وتقابل، مما يزيد التجسيم الذي يبرز الصورة، ويضاعف التتابع الذي يهبها الحيوية. على أن لطريقة طه حسين بعد تلك الوسائل، سمات أخرى تحدد بقية أبعادها، وتميز آخر ملامحها، ومن تلك السمات المميزة، استخدام طائفة من "اللازمات" في البدء والانتقال والتفصيل، وكقوله: "ليس من شك"، و"مما لا شك فيه" و"مهما يكن من أمر"، وكقوله: "يحدث هذا حينًا ويحدث ذلك حينًا، ويحدث كذا في كثير من الأحايين"، وكقوله عن شيء: تستطيع أن تسميه "كذا"، وتستطيع أن تسميه "كيت"، وأنا زعيم لك بأنه ليس "بكذا"، وليس "بكيت" وإنما هو شيء آخر غير "كذا"، وغير "كيت" جميعًا. ومن سمات طريقة طه حسين المميزة كذلك، ميله إلى التوجيه بالحديث إلى المخاطب، حتى ليبدو وكأنه يحدث قارئه، ولا يكتب إليه. ومن سماته الفنية أيضًا الإلمام بالسجع الخفيف غير المتكلف، حين تدعو الحاجة إلى إشاعة لون من النغم في الحديث، أو حين يتطلب الموقف بعض التأثير بموسيقى الكلم، على أن هذا السجع في كثير من الحالات لا يأتي في نهاية الجمل -شأن السجع التقليدي- وإنما يأتي بين كلمتين متجاورتين في

_ 1 علل بعض الباحثين هذا التكرار بكون طه حسين يملي ولا يكتب، فأخذت طريقته بعض خصائص الخطابة، اقرأ حديث "جيب" عن أسلوب طه حسين في كتابه: Studies on the Civilzation of Islam p.279.

الجملة الواحدة، وقد يجاوره بعد ذلك سجع بين نهايتي جملتين؛ كقوله: "كان الشيخ مهيبًا رهيبًا، وكان فخمًا ضخمًا، قد ارتفعت قامته في السماء، وامتد جسمه في الفضاء1". وكلف طه حسين بتلك الوسائل السابقة المحققة للتتابع يورطه أحيانًا في اللف والدوران من غير ضرورة، كما يورطه أحيانًا أخرى في بطء الحركة الأسلوبية، ويجعل من صورة -في بعض ما يكتب- شيئًا شبيهًا بصور السينما التي تعرض بالطريقة البطيئة، لتوضيح حركة خفية، أو تسجيل موقف غريب. على أن الغالب على طريقة طه حسين، استخدام التتابع بوسائله العديدة في تجسيم أبعاد الصور الحسية، وتعميق الإحساس بأبعاد الصور النفسية، وتأكيد الإيمان بالفكرة المجردة، فما يبدو في ظاهره تكرارًا وإعادة، إنما هو في حقيقته تتابع، في كل جزء من أجزائه زيادة ولو طفيفة، وتغيير ولو يسير، ونمو ولو غير ملحوظ، أشبه ما يكون بكل لقطة من لقطات "الفيلم" الجزئية التي تؤلف في جملتها اللقطة الكلية في حركتها وحيويتها، ثم تؤلف مع اللقطات الكلية الأخرى أبعاد العمل الفني، وأعماقه وإيحاءات فنه. ونستطيع أن نتبين طريقه "التصوير المتتابع" التي أطلقناها على طريقة طه حسين، في النموذج التالي، وهو جزء من مقال له "عن الحب في شعر عمر بن أبي ربيعة".. وفي هذا النموذج يقول طه حسين. " ... وكان كل شيء في حياة عمر وسيلة إلى الاتصال بالمرأة وذكرها، والتحدث إليها، ولا سيما الحج، فلم يكن ابن أبي ربيعة يفهم من موسم الحج إلا أنه معرض إسلامي للجمال، كان إذا قرب الموسم اتخذ أجمل ما كان يستطيع من زينة، وظهر في مظهر الفتوة والقوة، وفارق مكة،

_ 1 انظر: "على هامش السيرة" لطه حسين جـ3 ص1.

فتعرض للحجيج في طريق المدينة والشام والعراق، يتلمس نساءهم ويتبين هوادجهن، ويعرض منها لمن تظهر عليها آثار النعمة والترف، فإذا وافى الحجيج مكة وغيرها من مواضع المناسك، كان عمر قد أحصى النساء اللاتي يجب أن يكون بينه وبينهن لقاء، أو حديث أو مكاتبة، وكانت له رسل تعمل في ذلك، فتأتيه المواعيد في مكة حينًا، وفي منى حينًا آخر، وكانت أحب ساعات الدهر إليه أوائل الليل من أيام الموسم، حين ينتهز النساء فرصة الليل فيخرجن للطواف، هنالك كان عمر بن أبي ربيعة يترصدهن، ومنهن من كانت تترصده. وهنالك كانت تبتدئ الأحاديث لتتم بعيدًا عن البيت، حتى إذا انتهى الموسم وأزمع الحجيج العودة إلى بلادهم، رأيت عمر مقسما بين نساء المدينة، ونساء الشام ونساء العراق، يشيع هذه ثم يعود فيشيع تلك، ثم يترك هاتين ليشيع امرأة أخرى، وهو لا يفرغ من تشييع امرأة إلا قال الشعر الجيد يسبقها إلى موطنها، ولا يلبث أن يسقط بين أيدي المغنين، فإذا هو مصدر للهو والطرب لهذه الأرستقراطية المترفة من أبناء قريش والأنصار، فكان موسم الحج موسم شعر وغناء في الحجاز". " ... منذ سنين كتب صديقي الأستاذ ضيف رسالة باللغة الفرنسية قدمها إلى "السربون"، وقارن فيها بين عمر بن أبي ربيعة، وبين الشاعر الفرنسي "ألفرد دي موسيه"، وقد تكون هذه المقارنة خلابة في ظاهر الأمر، فعمر بن أبي ربيعة أظهر عشاق العرب، و"ألفرد دي موسيه" أظهر الغزلين من شعراء فرنسا في القرن الماضي، وكلاهما وقف حياته على المرأة وحبها، وكلاهما وقف شعره على جمال المرأة والتغني به، ولكن الفرق عظيم جدًا بين الشاعرين، عظيم إلى حد أن المقارنة بينهما مستحيلة، فليس بين نفسيهما شبه ما، أنت محزون حين تقرأ "ألفرد دي موسيه"، يتفرط قلبك لوعة وأسى، ويأخذك شيء من اليأس والسخط على الحياة والزهد فيها، حين تنظر إلى هذا الحب القوي المتين، فترى أنه على قوته وصدقه، ومتانته جريح يدمي.

"ولكنك مبتهج راض للحياة، حين تقرأ شعر ابن أبي ربيعة؛ فلم يكن قلبه جريحًا، ولم تكن نفسه كئيبة، ولم يكن يرى الحياة إلا لهوًا أو سبيلًا إلى اللهو. وأنت حين تقرأ ما يظهر ابن أبي ربيعة فيه الحزن والأسى مطمئن راض، بل مبتسم؛ لأنك تعلم أن هذا الحزن إنما هو وسيلة إلى السرور، ومذهب من مذاهب الاستعطاف، وسبيل من سبل اللذة". "لا أضع ابن أبي ربيعة بإزاء "ألفرد دي موسيه"، وإنما أضعه بإزاء رجل فرنسي آخر هو أخوه حقًا، هو صورته الصادقة لولا ما بينهما من فروق البيئة والجيل، ولكن نفسيهما نفس واحدة، ولكن حسيهما حس واحد، ولكن مذهبيهما في الحب، وإعلانه مذهب واحد، كلاهما أحب بحسه وأخضع قلبه لحسه، وكلاهما فتن النساء، وكلاهما تحدث بفنه للنساء حديثًا حلوًا خلابًا، وكلاهمها تعمق الحب الحسي حتى وصل إلى قرارته، وكلاهما أحب حتى كره الحب، ولذ حتى زهد اللذة، وكلاهما لم يعرف لحبه موضعًا يقصره عليه، فكان يترك هذه ليحب تلك، ويخلص من هذه ليقع في شراك تلك". "سألتني عن هذا الفرنسي الذي يشبه عمر بن أبي ربيعة هذا الشبه القوي الغريب، ليس شاعرًا ولكنه ناثر كالشاعر، أنت تعرفه حق المعرفة؛ لأن بينك وبينه صلة قوية؛ لأنه صديق الشرق عامة وصديق مصر خاصة: بييرلوتي ... 1". ب- طريقة العقاد: وإنما آثرت لطريقة العقاد اسم "طريقة التعبير المحكم"؛ لأنه يعمد إلى التعبير عما عنده بألفاظ وجمل محكمة، فيها الدقة، وفيها القصد، وفيها التركيز، وفيها دسامة الزاد قبل أن يكون فيها رونق الشكل، فلا إفراط في

_ 1 انظر: حديث الأربعاء جـ2 ص309 وما بعدها.

المقدمات، بل أحيانًا لا تكون هناك مقدمات، ولا لجوء إلى التكرار أو اللف أو التوكيد بالكلمة أو بالجملة؛ لأنه لا محل لشيء من ذلك، وإنما المحل الأول لإعطاء أوفر معان وأغزر أفكار؛ وحسب الكلمة والعبارة أن تؤدي المعنى وتنقل الخاطرة وتفصح عن الشعور، وهي تتبع كلمة أو عبارة أخرى، لكن لا لتحدث معها إيقاعًا أو تزيد الفكرة تأكيدًا، وإنما لتزيد المعني ولتضيف إلى الفكرة جديدًا. فهذه الطريقة لإحكامها لا تتزيد، ولا تهتم بالإطار، وإنما تجعله لباسًا محبوكًا مفصلًا على قد المعاني، بل إن هذا الإحكام قد يبالغ فيه أحيانًا إلى حد الضيق، فلا تتسع العبارة للمعاني بالقدر الكافي، وقد تطول الجملة مع ذلك أكثر من المألوف، فيبدو جزء من الأسلوب على شيء من الغموض أو الجفاف، أو الالتواء، ويتطلب من القارئ تنبهًا عظيمًا كما يقول الأستاذ "جيب"1. على أن الغالب على تلك الطريقة الإبانة والإفصاح، ولا ينقصها الجمال الطبيعي البعيد عن التلاعب بالعواطف، وعن التوجه المباشر إلى العين بالصورة أو إلى الأذن بالجرس، بل إن هذا الجمال قد يصل أحيانًا إلى حد الشاعرية إذا كان الموقف متطلبًا لذلك، وهذا يأتي جريًا وراء الإحكام الذي يلبس كل مضمون شكله، ويختار لكل موقف ما يناسبه. ومن سمات هذه الطريقة المميزة، استخدام التذييلات الضابطة، والاحتراسات المتحفظة، ضمانًا لإحكام التعبير، وصونًا لدقة المعنى. ومن سمات هذه الطريقة كذلك الميل إلى التفصيلات المنقطية لا اللغوية، واستخدام المقابلات العقلية لا البديعية، وكل ذلك يأتي أيضًا جريًا وراء الإحكام، ورعاية لدقة أداء المعاني.

_ 1 ذكر الأستاذ جيب أيضًا عن أسلوب العقاد أنه شديد الشبه في نسجه بالأساليب الغربية. اقرأ حديثه في: Studies on the Civilization of Islam: Gibb. p.233

الحياة وحدها، أو تعد هذه الحياة المتوحدة غايتها، وأمنيتها من السعادة والخلو من الألم؟؟ ". "وإما أن يكون معك في الوجود غيرك على ألا تحس به، أو على ألا يصدمك من هذه الأشياء صادم، ولا يقابلك منها ما ترى أن بينه، وبين حياتك اختلافًا وفرقًا، وهذه هي أشبه الحالات بـ"النرفانا" البوذية، أو هي الموت بذاته في صورة غير صورته المعهودة". "ولست أفرض لهاتين الحياتين حياة ثالثة، إلا أن يتمنى المتمني أن تسره الأشياء الأخرى التي تصادمه في هذا الوجود، فلا يكون إلا مبتهجًا بها راضيًا عن جميع حالاتها، وهذا كالجمع بين المتناقضات؛ لأن منس ره قرب شيء ساءه البعد عنه، ومن أرضاه أن يدرك أملا أغضبه أن يحرمه، فإما حياة متشابهة من جميع الجوانب، فيستوي فيها الخير والشر والحسن والقبيح، بل لا يكون فيها خير ولا شر ولا حسن ولا قبيح، بل لا يكون فيها شيء تتمناه؛ لأنك لا تحرم فيها شيئًا، فكيف تكون هذه الحياة هي رضى النفس، وأمنيتها التي نتمناها؟ وإما حياة تختلف جوانبها ففيها النقيض ونقيضه، وفيها حينئذ ما يسر وما يسوء، وما يلذ وما يؤلم". "وخلاصة هذه الفروض، أن النازل عن الألم نازل عن ذاته، أو حياته في هذا العالم، وأن العقل الإنساني لن يستطيع أن يتخيل حياة مبرأة من الألم، وإن كان يتمناها أحيانًا.. ولو أننا دفعنا خوف الألم يومًا واحدًا من نفوس الأحياء لبادوا جميعًا في ذلك اليوم الواحد؛ ذلك أن أحدًا منهم لا يبالي أن يخبط بجدار، أو يسقط من علٍ أو يغرق في نهر، أو يلقى بنفسه في المهالك التي فيها تلف، وهو لا يتحرك في غيبوبة الألم حركة إلا كان مشفيًا على تلف أو واقعًا فيه، فنحن إنما نحفظ حياتنا الحاضرة بذخيرة من الآلام السابقة، التي عاناها أسلافنا وتعلموا منها ما تعلموه من حيطة ومقدرة، ولا نكاد نضيف شيئًا جديدًا على ما ادخروه من كنوز الحياة، حتى نسلك إليه من سراديب الألم وأنفاقه المظلمة. ولولا أنني أعلم أن الحياة نفس أكب من الألم، وأنكر

أنه كل شيء فيها، لقلت: إن الحياة هي قابلية الألم، وإننا كلما ازداد نصيبنا من الحياة ازداد معه قسطنا من الألم". وليس معنى هذا بالبداهة أنني أمنع الشكوى على المتألمين، فإن الألم الذي لا يشتكي صاحبه فلا فائدة فيه، ولا أنني آبى العطف عليهم؛ فإن النفس التي تتسع للآلام تتسع للعطف عليها، ولكنني أعني أن أجعل الحياة أكبر من ألمها، وأن أقول: إن الحياة التي نألم في سبيلها جديرة أن تكون شيئًا عظيمًا، لا أن أعكس الأمر كما يعكسه بعض الساخطين المتذمرين، فأقول: إنها لحقيرة؛ لأننا نألم في سبيلها1..". جـ- طريقة الرافعي: وإنما فضلت لطريقة الرافعي اسم "طريقة البيان المقطر"؛ لأنه يميل في أسلوبه إلى الناحية البيانية، ويهتم في المقام الأول بجمال الصياغة وروعة الديباجة، ثم؛ لأن بيانه ليس ذلك البيان القريب التناول، البسيط العناصر، الهين الأداء، وإنما هو بيان فيه بعد وتركيب وجهد؛ حيث يجنح صاحبه إلى اعتصار المعاني، وتوليد الأفكرا، ومزج الخواطر، من خلال مجازات مركبة واستعارات بعيدة، وكنايات خفية، فيأت بيانه آخر الأمر أشبه بعملية تقطير لألوان من الزهور المعروفة، والورود المألوفة، والرياحين الشائعة، لاستخلاص عطر مركب مركز غريب، فيه جمال ولكن ليس فيه بساطة، وفيه متعة ولكن ليس فيه جلاء، وفيه فن ولكنه فن المهارة التي تسيطر على الفطرة. وهكذا كان أسلوب الرافعي في النثر قريب الشبه بأسلوب أبي تمام في الشعر؛ تزدحم فيه الاستعارات والمجازات والكنايات والتشبيهات، ولكن في جدة وطرافة وإبداع في كثير من الأحايين، وهذا كله يأتيها من جهة إعمال الفكر وتحكيم المهارة، مما يبعدها كثيرًا عن المألوف، ويجنح بها

_ 1 انظر: مطالعات في الكتب والحياة للعقاد ص254 وما بعدها.

إلى غير المتوقع، وقد يسبب ذلك بعض الغموض الذي يصل أحيانًا إلى حد الإلغاز. ومن خصائص طريقة الرافعي -أو طريقة البيان المفطر- أنها تستلهم المعجم القرآني والسني والتراثي على وجه العموم؛ حيث يتكئ الكاتب في كثير من المواطن على لفظة أو عبارة من القرآن الكريم، أو على كلمة أو جملة من الحديث الشريف، أو على حكمة أو مثل أو بيت شعر من مأثورات العرب. ومما يكلم صورة طريقة الرافعي بعد ذلك كله، أنها تميل إلى استخدام بعض البديع، ولكن في اقتصاد وفنية، وبعض هذا البديع يأتي لخدمة الجانب البياني المتصل بروعة الصياغة، كالسجع والجناس، وبعضه يأتي لخدمة الجانب المعنوي الجاانح إلى توليد الأفكار كالمقابلة والتورية. وأهم ما يمثل فن المقالة عند الرافعي وأسلوبه الذي تم له في هذا الفن، تلك المقالات التي كان ينشرها في "الرسالة"، والتي جمع طائفة منها في كتابه "وحي القلم"، وهي تتناول خواطر نفسية، ومشاعر إنسانية، ومواقف إسلامية، وصورًا وصفية، ونظرات إصلاحية، ويغلب عليها جميعًا الطابع العربي، ويشيع فيها الروح الإسلامي، وتتسم في اتجاهها العام بالالتفات إلى التراث. ولعل النموذج التالي يوضح ما ذُكر لطريقة الرافعي من خصائص، وهو جزء من مقال له بعنوان "حقيقة المسلم"، يقول فيه الكاتب: "لا يعرف التاريخ غير محمد صلى الله عليه وسلم رجلًا أفرغ الله وجوده في الوجود الإنساني كله، كما تصب المادة في المادة، لتمتزج بها، فتحولها، فتحدث منها الجديد، فإذا الإنسانية تتحول به وتنمو، وإذ هو صلى الله عليه وسلم وجود سار فيها، فما تبرح الإنسانية تنمو به وتتحول". "كان المعنى الآدمي في هذه الإنسانية، كأنما وهن من طول الدهر عليه

يتحيفه ويمحوه ويتعاوره بالشكر والمنكر، فابتعث الله تاريخ العقل بآدم جديد. بدأت به الدنيا تطورها الأعلى، من حيث يرتفع الإنسان على ذاته، كما بدأت من حيث يوجد الإنسان في ذاته، فكانت الإنسانية دهرها بين اثنين: أحدهما فتح لها طريق المجيء من الجنة، والثاني فتح لها طريق العودة إليها، كان في آدم سر وجود الإنسانية، وكان في محمد سر كمالها". "ولذا سمي الدين "بالإسلام"؛ لأنه إسلام النفس إلى واجبها، أي إلى الحقيقة من الحياة الاجتماعية، كأن المسلم ينكر ذاته فيسلمها إلى الإنسانية تصرفها وتعتملها في كمالها ومعاليها، فلاحظ له هو من نفسه يمسكها على شهواته ومنافعه، ولكن للإنسانية به الحظ". "وما الإسلام في جملته إلا هذا المبدأ، مبدأ إنكار الذات و"إسلامها" طائعة على المنشط والمكره لفروضها وواجباتها، وكلما نكصت إلى منزعها الحيواني، أسلمها صاحبها إلى وازعها الإلهي، وهو أبدًا يروضها على هذه الحركة ما دام حيًا، فينتزعها كل يوم من أوهام دنياها ليضعها ما بين يدي حقيقتها الإلهية، يروضها على ذلك كل يوم وليلة خمس مرات مسماة في اللغة خمس صلوات، لا يكون الإسلام إسلامًا بغيرها، فلا غرو كانت الصلاة بهذا المعنى كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم: هي عماد الدين، بين ساعات وساعات في كل مطلع شمس من حياة المسلم صلاة، أي إسلام النفس إلى الإرادة الاجتماعية الشاملة القائمة على الطاعة للفرض الإلهي، وإنكار المعاني الذاتية الفانية التي هي مادة الشر في الأرض، وإقرارها لحظات في حيز من الخير المحض البعيد عن الدنيا وشهواتها وآثامها ومنكراتها، ومعنى ذلك كله تحقيق المسلم لوجود روحه، إذا كانت أعمال الدنيا في جملتها طرقًا تشتت فيه الأرواح وتتبعثر، حتى تضل روح الأخ عن روح أخيه، فتنكرها ولا تعرفها". "وهذا الوجود الروحي هو مبعث العقلية التي جاء بها الإسلام؛ ليهدي الإنسانية إليها، حالة السلام الروحاني الذي يجعل حرب الدنيا

المهلكة حربًا خارج النفس لا في داخلها، ويجعل ثروة الإنسان مقدرة بما يعامل الله والإنسانية عليه، فلا يكون ذهبه وفضته مما كتب عليه "ضرب في مملكة كذا"، ولكن ما يراه هو قد كتب عليه "صنع في مملكة نفسي"، ومن ثم لا يكون وجوده الاجتماعي الأخذ فحسب، بل للعطاء أيضًا، فإن قانون المال هو الجمع، أما قانون العمل فهو البذل". "بالانصراف إلى الصالة، وجمع النية عليها يستشعر المسلم أنه حطم الحدود الأرضية المحيطة بنفسه من الزمان والمكان، وخرج منها إلى روحانية لا يحد فيها إلا بالله وحده". "وبالقيام في الصلاة يحقق المسلم لذاته معنى إفراغ الفكر السامي على الجسم كله ليمتزج بجلال الكون ووقاره، كأنه كائن منتصب مع الكائنات يسبح بحمده". "وبالتولي شطر القبلة في سمتها الذي لا يتغير على اختلاف أوضاع الأرض، يعرف المسلم حقيقة الرمز للمركز الثابت في روحانية الحياة، فيحمل قلبه معنى الاطمئنان، والاستقرار على جاذبية الدنيا وقلقها". "وبالركوع والسجود بين يدي الله، يشعر المسلم نفسه معنى السمو، والرفعة على كل ما عدا الخالق من وجود الكون". "وبالجلسة في الصلاة وقراءة التحيات الطيبات، يكون المسلم جالسًا فوق الدنيا يحمد الله، ويسلم على نبيه وملائكته ويشهد ويدعو". "وبالتسليم الذي يخرج به من الصلاة يقبل المسلم على الدنيا وأهلها إقبالًا جديدًا من جهتي السلام والرحمة". "وهي لحظات من الحياة كل يوم في غير أشياء هذه الدنيا، لجمح الشهوات، وتقييدها بين وقت وآخر بسلاسلها، وأغلالها من حركات الصلاة، ولتمزيق الفناء كل يوم خمس مرات عن النفس، فيرى المسلم من ورائه حقيقة الخلود، فتشعر روحه أنها تنمو وتتسع، هي خمس صلوات، وهي كذلك

خمس مرات يفرغ فيها القلب مما امتلأ به من الدنيا ... 1". د- طريقة الزيات: كذلك آثرت تسمية طريقة لازيات باسم "طريقة البيان المنسق"؛ لأن هذا الكاابت أولًا يميل في أسلوبه إلى الناحية البيانية، ويجعلها في المحل الأول، ثم؛ لأنه ثانيًا لا يعمد إلى البيان البسيط أو إلى البيان المركب، وإنما إلى البيان الذي يقوم على التنسيق والهندسة، فالجملة فيه تعادل الجملة، بل الكلمة تقابل الكلمة، والفقرة توازي الفقرة، حتى ليتألف من الكلمات والجمل والفقرات لوحة بيانية تتقابلب خطوطها، وتتعادل مساحاتها وتتوازن ألوانها، كاللوحات التي ترسم على مسطح قسم أولًا إلى مربعات، كيلا ينحرف خط أو تزيد مساحة، أو يجور لون. والزيات يهتم -لتحقيق ذلك- باستخدام ألوان من المحسنات، ولكن في مهارة فائقة، ورشاقة شفافة، وبعض هذه المحسنات يأتي به لتحقيق التناسق الصوتي كالسجع والجناس، وبعضها يأتي به لتحقيق التناسق المعنوي كالمقابلة والطباق. وهكذا يحس قارئ مقالة الزيات، أنه أمام عمل هندسي مصمم مقسم مهندم، قد اعتنى فيه بالحرف والمقطع والكلمة، مثل العناية بالجملة والعبارة والفقرة. فلا تثقل كلمة وتخف كلمة، ولا تطول عبارة وتقصر عبارة، ولا يوضع جزء من الجملة "نشازًا" دون جزء آخر يقابله ويسانده، ويكون معه عملًا جماليًا أساسه التناسق والتعادل. وأهم ما يمثل فن المقالة عند الزيات، تلك المقالات التي كان يفتتح بها أعداد مجلة "الرسالة"، والتي جمع أكثرها بعد ذلك في مجلدات باسم "وحي الرسالة"، وتلك المقالات تتنوع بين أدبية وسياسية ووصفية، ويغلب عليها وفرة العناية بالإطار، وشدة رعاية جانب الشكل، حتى ليقل الزاد الفكري

_ 1 انظر: مجلة الرسالة عدد 15 إبريل سنة 1935.

فيها، ويتضاءل المضمون بها في كثير من الأحايين، ولكنها تبقى -برغم ذلك- باهرة بإشراق صياغتها، أخاذة بروعة بيانها، هذه الروعة التي تجعل منها في بعض الأحيان شيئًا شبيهًا بالشعر، وخاصة في الموضوعات العاطفية والوصفية. وهذا نموذج "لطريقة البيان المنسق" التي عرف بها الزيات تتضح فيها أهم سمات تلك الطريقة التي سلف عنها الحديث، والنموذج جزء من مقال للكاتب بعنوان: "أوروبا والإسلام"، وفيه يقول: "شيع الناس بالأمس عاما قالوا: إنه نهاية الحرب، واستقبلوا اليوم عامًا يقولون إنه بداية السلم، وما كانت تلك الحرب التي حسبوها انتهت، ولا هذه السلم التي زعموها ابتدأت، إلا ظلمة أعقبها عمى، وإلا ظلامًا سيعقبه دمار! ". "حاربت الديمقراطية وحليفتها الشيوعية عدوتيهما الدكتاتورية، وزعمتا للناس أن أولاهما تمثل الحرية والعدالة، وأخراهما تمثل الإخاء والمساواة، فالحرب بينها وبين الدكتاتورية التي تمثل العلو في الأرض،والتعصب للجنس والتطلع إلى السعادة، إنما هي حرب بين الخير والشر، وصراع بين الحق والباطل، ثم أكدوا هذا الزعم بميثاق خطوه على مياه "الأطلسي"، واتخذوا من الحريات الأربع التي ضمنها هذا الميثاق مادة للدعاية شغلت الإذاعة والصحافة والتمثيل، والتأليف أربع سنين كوامل، حتى وهم ضحايا القوة وفرائس الاستعمار أن الملائكة والروح يتنزلون في كل ليلة بالهدى والحق على روزفلت، وتشرشل وستالين، وأن الله الذي أكمل الدين وأتم النعمة وختم الرسالة، قد عاد فأرسل هؤلاء الأنبياء الثلاثة في واشنطن ولندن وموسكو، ليدرأوا عن أرضه فساد الأبالسة الثلاثة في برلين وروما وطوكيو! وعلى هذا الوهم الأثيم بذلت الأمم الصغرى للدول الكبرى قسطها الأوفى من الدموع والدماء والعرق؛ فأقامت مصر من حريتها، وثروتها وسلامتها في "العلمين" سدًّا دون القناة، وحجزت تركية

بحيادها الودي سيل النازية عن الهند، وفتحت إيران طرقها البحرية والبرية ليمر منها العتاد إلى روسيا، ولولا هذه النعم الإسلامية الثلاث لدقت أجراس النصر في كنائس أخرى". "ثم تمت المعجزة وصرع الجبارون ووقف الأنبياء الثلاثة، على رءوس الشياطين الثلاثة، يهصرون الأستار عن العالم الموعود، وتطلعت شعوب الأرض إلى مشارق الوحي في الوجوه المقدسية، فإذا اللحى تتساقط، والقرون تنتأ، والمسابح تنفرط، والمسوح تنهتك، وإذا التسابيح والتراتيل عواء وزئير، والوعود والمواثيق خداع وتغرير، وإذا الديمقراطية والشيوعية والنازية والفاشية كلها ألفاظ تترادف على معنى واحد، هو استعمار المشرق واستعباد أهله! ". "إذن برح الخفاء وانفضح الرياء، وعادت أوروبا إلى الاختلاف والاتفاق على حساب العرب والإسلام1 ... ". هـ- طريقة المازني: وأخيرًا فصلت لطريقة المازني اسم "طريقة الأداء المصري"؛ لأن هذا الكاتب يميل في أسلوبه إلى أن يؤدي مشاعره وأحاسيسه وأفكاره وانطباعاته، بروح مصرية، وبلغة فيها ظلال لغة المصريين، فهو يميل إلى الدعابة والسخرية وإبراز المفارقات، مما عرفت به الروح المصرية في تناولها للأشياء، ثم هو يعمد إلى البساطة واليسر في التعبير، ويستخدم -غالبًا- الألفاظ الأليفة التي تعودتها الآذان، ويلجأ إلى العبارات المأنوسة التي ألفتها الألسنة2، وهو يؤثر من هذه وتلك ماله رصيد نفسي مصري، وإشعاع شعبي غني، ما دامت الفصحى لا تنكرها، والعربية السليمة لا ترفضها، بل إنه في

_ 1 انظر: مجلة الرسالة، عدد 7 يناير سنة 1946. 2 اقرأ ما كتب "جيب" عن أسلوب المازني وتطوره في: Studies on the Civilization of Islam: Gibb. pp.283-284

كلفه بمثل تلك الألفاظ والتعابير، يوشك أن يجري جريًا وراء اللفظة الشعبية والعبارة المصرية التي تحاشاها الاستعمال المتفاصح، حتى ظُن أنها ليست عربية. وفوق كل هذا يكلف المازني بالمثل الشعبي كما يكلف برسم الصورة المصرية التي تستمد عناصرها من البيئة المحلية، ومن البيئة القاهرية على وجه الخصوص. والمازني في كل ذلك قاصد إلى الأداء بأسلوب فيه ظلال اللغة المصرية، كما هو قاصد بسخريته ودعابته ومفارقاته إلى الأداء بأسلوب فيه عطر الروح المصرية كذلك، ومن تآزر عطر الروح المصرية، وظلال اللغة المصرية في أسلوب المازني، يتحقق ما سميته "بطريقة الأداء المصري". على أننا نجد في أسلوب المازني أحيانًا بعض الألفاظ الغربية، أو المغالية في مستوى الفصاحة، وأغلب الظن أنه يستخدم مثل تلك الألفاظ في معارض السخرية، أو إظهار المفارقة أو الإضحاك، كأن يخاطب متعاليًا بقوله: "أيها الفطحل"، وكأن يتحدث عن متحذلق بقوله: "إنه من الجهابذة"، وكأن يقول عن حالته امتلائه: "إنه شعر بالكظة". وبرغم هذا "الأداء المصري" في طريقة المازني، قد كان -غالبًا- لا يتورط في إهمال قواعد اللغة أو اللجوء إلى الألفاظ، أو التراكيب العامية، وإنما كان يحافظ على الإطار اللغوي الفصيح، في قواعده، وتراكيبه ومفردات ألفاظه، اللهم إلا ما قد يكون من استعمال للفظة هنا أو عبارة هناك، حين يفرضها رسم لجو ما، أو يحتمها تصوير لشخصية معينة، أو يدعو إليها إيحاء خاص. وهذا نموذج يصور إلى حد كبير طريقة المازني، أو "طريقة الأداء المصري"، وسماتها التي سلف عنها الحديث، والنموذج جزء من مقال للمازني بعنوان "بين القراءة والكتابة"، وفيه يقول: "مضت شهور لم أكتب فيها كلمة في الأدب؛ لأني كنت أقرأ! والقراءة والكتابة عندي نقيضان، وقد كنت -وما زلت- امرءًا يتعذر عليه، ولا يتأتى له، أن يجمع بينهما في فترة واحدة، ولكم أطلت الفكر في ذلك

فلم يفتح علي بتعليل يستريح إليه العقل ويأنس له القلب، وما أظن بي إلا أن الله جلت قدرته قد خلقني على طراز "عربات الرش"، التي تتخذها مصلحة التنظيم -خزان ضخم يمتلئ ليفرغ، ويفرغ ليمتلئ! وكذلك أنا فيما أرى؛ أحس الفراغ في رأسي، وما أكثر ما أحس ذلك! فأسرع إلى الكتب ألتهم ما فيها وأحشو بها دماغي، هذا الذي خلقه الله لي خلقة عربات الرش كما قلت! حتى إذا شعرت بالكظة وضايقني الامتلاء، رفعت يدي عن ألوان هذا الغذاء، وقمت عنه متثاقلًا متثائبًا من التخمة، فلا ينجيني إلا أن أفتح الثقوب وأسح! وهكذا دواليك! "ولكم قلت لنفسي: أهذا الذي ركبه الله لك يا مازني بين كتفيك، رأس كرءوس الناس أم معدة أخرى؟؟ وأداة نظر وإدراك وتفكير هو أم مخزم يكتظ حينا ويخلو أحيانًا تبعًا لانتقال الأحوال بك؟ والحق أقول: إن الجواب يعييني؟ وإذا لم أكن قد ركبت من الوهم شر الحمير! فالناس في الأكثر والأعم إنما يعالجون الكتابة؛ لأن في رءوسهم فكرة أو خالجة، كائنة ما كانت، يبغون العبارة عنها والإفصاح بها، ولست أرى كذلك، ولقد يخيل إلي في بعض الأحايين أن في نفسي معنى معينًا، ويؤكد ذلك عندي ويقرر اعتقاديه، ما أحسه من جيشان الصدر واضطرابه، فأذهب ألتمس هذا المعنى أو الخاطر، فإذا به قد تبخر! وإذا بي كابني حين يجلس إلى جانبي ويحاول أن يقبض على الدخان الذي يتصاعد من سيجارتي، وأنا أضحك من هذا الذي يحاوله، وألهو به وأقول: إنه يجرب في عالم المحسوسات بعض ما أعانيه في عالم المعنويات! " ... وأحيانًا أفعل هذا: أسأل نفسي "أفي رأسك شيء؟، وأعني بالشيء ماله قيمة، لا أي شيء على الإطلاق، فتساورني الشكوك، فأنقر بأصبعي على جوانب رأسي كمن يريد أن يتبين من الرنين مبلغ الخلو! وربما أسفت؛ لأني لا أستطيع أن أتناول رأسي هذا، وأن أقلبه بين كفي، وأن أفعل به ما يفعل المرء حين يختبر البطيخ!

" ... وأمري مع الكتب أغرب، كنت في أول عهدي بها -أي منذ عشرين سنة أو نحو ذلك- أذهب في أول كل شهر إلى واحد من باعتها، فيتقدم إلى العامل سائلا عن حاجتي فأبينها له، فيرفع رأسه إلى الرفوف، ويدور حول نفسه وهو في مكانه، ثم يلتفت إلي وعلى شفته -دون عينيه- ابتسامة جهل وغباء، ويهز لي رأسه أسفًا، فأنحيه عن الطريق وأمضي إلى الرفوف وأجيل عيني فيها، وآخذ منها ما يروقني، وأنصرف عن الحانوت بأثقل من حمل حمار! وأغرق فيها بقية الشهر إلى ما فوق الأذنين، إن كان فوقهما شيء يستحق الذكر! ". " ... وإني لأمر الآن بالمكاتب فأشيح بوجهي عنها وأغمض عيني دونها، ويردني الكتاب بكرهي فأتركه حيث يقع، وأهمله الأسابيع والشهور، وإذا فتحته اكتفيت بأن أعبره تزجية للوقت، ولم أبال من أي موضع بدأت، وسيان عندي أن أقرأه من أوله إلى آخره، أو من آخره إلى أوله، أو أن لا أقرأه، وقد تعاودني الحمى القديمة، ويتأوبني الحنين الماضي إلى الكتب، فأدافع نفسي عنها ما استطعت، فإن عجزت وغلبت على أمري، طاوعتها على حذر وسايرتها متحفزًا، وذهبت أتخير لها الكتب وأنتقيها، ومهما يكن من الأمر، فلست الآن ذلك الذي كان كأنما يعبد منها دمى وأصنامًا، ولقد غنمت أول فرصة سنحت فبعتها جملة، وتحريت بعد ذلك أن أزداد جهلًا! ". "ولكن الزامر يموت وأصابعه تلعب! كما يقول المثل العامي، وللعادة حكم! لا يقوى المرء كل حين على مغالبته، والنفس لا تطاوع المرء دائمًا على ما يريدها عليه من الخمود والتبلد، وقد يزعج المرء أن يرى نفسه يقضي أيامه بطين الجسد وحده، أو يموتها على الأصح؛ فإن من الموت أن يستحيل الإنسان جثة خامدة المتقد لا ينقصها إلا الرمي، وما لا يصح سلوى ومتعة قد يصلح دواء، وعسير على من تعنود أن يحس الحياة بأعصابه العارية أن يروض نفسه على التبلد ويخلد إلى الركود، فلا عجب إذا كنت أقبل على المطالعة حينًا بعد حين1".

_ 1 انظر: قبض الريح للمازني ص5 وما بعدها.

المقالة وتميز الأساليب الفنية

المقالة وتميز الأساليب الفنية ... ومن سمات هذه الطريقة بعد هذا، الابتعاد عن الزخرف بكل ألوانه، وذلك باستثناء بعض السجع الذي قد يؤتي به قليلًا في المواقف المحتاجة إلى رنين يقرع السمع، كمواقف السخرية والتحدي والدعابة، وما إلى ذلك. ويمكن أن نتبين طريقة "التعبير المحكم" التي أسمينا بها طريقة العقاد، في هذا النموذج التالي، وهو جزء من مقال للكاتب الراحل بعنوان "الألم واللذة"، وفيه يقول: "أما أن الألم موجود في هذه الدنيا فمما لا يختلف فيه اثنان، وأما أنه فوق ما تقبله النفوس فمما لا يختلف فيه إلا القليل، وأما أنه نافع أو غير نافع ومقدم للحياة أو مثبط لها، فذلك ما يختلف فيه الكثيرون". "ورأيي في هذا الخلاف أن الألم ضرورة من ضرورات الحياة، وحسنة من حسناتها في بعض الأحيان، وحالة لا تتخيل الإنسانية بدونها على وجه من الوجوه". "أما تفصيل هذا الرأي، فهو أن الشعور بالنفس يستلزم الشعور بغير النفس؛ فهذه الـ"أنا" التي تقولها، وتجمل فيها خصائص حياتك، ومميزات وجود وتعرف بها نفسك مستقلا عما حولك منفردًا بإحساسك، هي نصيبك من الحياة الذي لا نصيب لك غيره، وهي تلك "الذات" التي لا تشعر بها إلا إذا شعرت بشيء مخالف لها في هذا العالم الذي يحيط بها، فأنت لا تكون شيئًا له حياة ولذات وآلام ومحاب ومكاره، إلا إذا كانت في العالم أشياء أخرى غيرك، ولا تكون هذه الأشياء الأخرى معك إلإ إذا كان منها ما يلائمك، وما لا يلائمك، أو ما يسرك وما يؤلمك". "فإذا أردت حياة لا ألم فيها، فأنت تريد إحدى حياتين: فإما أن تكون وحدك في هذا الوجود، وهذا حياة لا يتخيل العقل كيف تكون، ولو تخيلها لما أطاق احتمالها، وكيف ونحن نرى أن الأديان الكبرى كلها تعلمنا أن الله خلق الخلق ليعرفه غيره بعد أن كان ولا شيء سواء؟؟ فإذا كانت النفس البشرية لا تقوى على أن تتصور إلهًا منفردًا بالوجود، فكيف تراها تطيق

الخطابة وازدهارها

2- الخطابة وازدهارها: توفرت للخطابة في هذه الفترة عوامل عديدة دفعت بها أشواطًا في سبيل الرقي، حتى تجاوزت مرحلتي الانتعاش والنشاط إلى مرحلة التألق والازدهار، وبرغم أن أهم أنواع الخطابة في هذه الفترة كانت الأنواع السياسية، والقضائية، والدينية والاجتماعية -وهي الأنواع التي عرفت من قبل- فقد ارتقى كل نوع من تلك الأنواع رقيا ملحوظًا بما أتاحت له ظروف تلك الفترة من عوامل الرقي، ووسائل الازدهار. أما الخطابة السياسية، فقد أتيح لها هذا الشعور الشديد بالحرية، والاعتزاز البالغ بالأوضاع الديمقراطية، مما أعقب ثورة سنة 1919، كما أتيح لها النشاط السياسي الزائد، والصراع الحزبي العنيف، مما أعقب نيل البلاد للاستقلال الشكلي، وفوزها بالدستور الشهيد، ثم فتحها للبرلمان المضطهد، وغرقها في الحزبية المتناحرة1. وقد كانت كل هذه العوامل مما منح الخطاب السياسية مزيدًا من النشاط ومزيدًا من التجويد، حتى ازدهرت في المجالين الرسمي، وغير الرسمي كما لم تزدهر من قبل. ففي المجال الرسمي -الذي كان يتمثل في البرلمان- كانت الخطابة السياسية وسيلة الحكومة لبسط خطتها، والإقناع بسياستها والدفاع عن موقفها، وكسب الثقة بها، كما كانت الخطابة أيضًا وسيلة المعارضة ضد الحكومة،

_ 1 انظر: المقال رقم 1 من المقالات الممهدة لدراسة الأدب في هذا الفصل، وعنوانها "بين الروح الوطنية والاتجاهات الحزبية".

في تفنيد ما ترسم من خطة ونقض ما تتخذ من سياسة، وإضاعة ما تنال من ثقة1. وفي المجال غير الرسمي -وهو أفسح المجالات- كانت الخطابة السياسية من أقوى وسائل الأحزاب في كسب الأنصار، وهزيمة الخصوم ومحاولة الوصول إلى الأهداف، فالحزب غير الحاكم، كان يعقد الاجتماعات السياسية، ويقيم المؤتمرات الشعبية، ليعرض أخطاء الحكومة، ويبسط أهدافه في السياسة، ويسرد وعوده إذا حكم، كل هذا على ألسنة الخطباء المحاولين لكسب الجماهير بالكلمة المنطوقة الآسرة2. وفي كثير من الأحيان كان يحاول خطباء الحزب الحاكم -أو الأحزاب الحاكمة- أن يدافعوا عن سياسة الحكومة، وأن يبرروا مسلكها، ويسندوا وضعها، كما كانوا يحاولون تضخيم أخطاء خصومهم، وتشويه مسلك معارضيهم، كل هذا في مؤتمرات واجتماعات، تصل أحيانًا إلى حد الطواف بالبلاد والتوجه بالحديث إلى الجماهير، التي إن لم تحتشد حشدتها السلطات قسرًا!! ومن هنا ازدهرت الخطابة السياسية، وأصبحت من أهم الأسس التي يقوم عليها الساسة، ويوزن بها رجال الحكم، حتى ليكون قسط كبير من نجاحهم والتفاف الجماهير حولهم راجعًا إلى قدرتهم الخطابية. غير أنه يلاحظ أن هذا النوع من الخطابة كان يعتمد غالبًا على تجميل الصياغة وإحسان الأداء، وقوة التلاعب بعقول الجماهير، عن طريق التأثير الحسي والتحايل اللفظي، فكان الخطباء السياسيون -في الأعم الأغلب- أحد رجلين: الأول رجل حكم، يبسط خططًا لا ينفذ منها إلا أقل من القليل،

_ 1 انظر: مضابط مجلس النواب منذ افتتاح البرلمان في 15مارس سنة 1924 إلى سنة 1939. وانظر: أيضًا ما يورده عبد الرحمن الرافعي في كتابه في أعقاب الثورة المصرية جـ1، 2، 3. 2 اقرأ: في أعقاب الثورة المصرية لعبد الرحمن الرافعي: جـ1، 2، 3.

ويعطي وعودًا لا يوفي من بينها إلا بالنزر اليسير، وكل همه أن يدافع عن وضعه ووضع حكومته بالحق حينًا، وبالباطل في كثير من الأحايين، والثاني رجل معارضة، غايته أن يزحزح الحكومة القائمة، وهدفه أن يسقط الحزب الحاكم، وذلك لكي يثبت حزبه، وتتولى الحكم جماعة من فريقه، وكان ذلك كله يبعد بالخطابة السياسية كثيرًا عن دقة الصدق ونبل الهدف، ويدنيها أحيانًا من خداع البهرج وتضليل الشعوذة، ومن هنا كانت أهم أدواتها هي تلك الأدوات المتصلة بإثارة العواطف، وأبرز سماتها هي تلك السمات المرتبطة باللعب بالمشاعر، فكانت تعتمد قبل كل شيء على العبارة الرنانة، والحملة المنغومة واللفظة التي ترتبط بمعناها مشاعر الجماهير، كألفاظ الاستقلال والحرية، والدستور والديمقراطية، والبرلمان والشعب، والجهاد والاستشهاد، وما إلى ذلك. هذا وقد كان أبرع الخطباء السياسيين في أوائل تلك الفترة، خطيبًا عرفناه في الفترة السابقة من أبرز خطباء الجمعية التشريعية، ثم أحد زعماء الثورة المصرية التي ختمت بها تلك الفترة، هذا الخطيب هو سعد زغلول، الذي وصل إلى الذروة في الخطابة السياسية -بالمفهوم الذي كانت تعنيه السياسة في ذلك الحين- فقد عرف بقدرة فائقة على التأثير وكسب المواقف عن طريق الكلمة الملقاة في الجموع1، وعرفت له وسائل فريدة في هذا الشأن، تشخص في جملتها أهم سمات الخطابة السياسية في ذلك الوقت، وقد اعتبر سعد لذلك النموذج لخطباء السياسة، حتى إن معظم الخطباء السياسيين بعده قد تأسوه، وبلغ ببعضهم الافتتان به أن قلدوه حتى فيما عيب عليه من خصائص لا تتفق والخطابة الممتازة، فقد كان سعد مثلًا يقطع الجمل إلى كلمات، أو تراكيب يقف على آخر كل منها بالحركة2، فجاء بعض الخطباء

_ 1 انظر: سعد زغلول لعباس العقاد ص575 وما بعدها. 2 يعلل العقاد ظاهرة التقطيع عند سعد بأنه كان لا يريد أن يفوه إلا بالكلمة المعنية دون سواها، كما يعلل ظاهرة الوقوف على أواخر الكلمات بالحركة، بأن سعدًا كان منذ صغره محبًا للامتياز كارهًا للرياء، فكان في وقوفه بالحركة مظهرًا -منذ صغره- لتمكنه من قواعد الإعراب، ومعبرًا عما في طبيعته من كره للرياء، الذي يلجأ إليه البعض حين يسكن ليسلم، ويستر الجهل ويرائي بالعلم. انظر: سعد زغلول للعقاد ص580، 583.

السياسيين بعده وساروا على الطريقة نفسها، وكان سعد كذلك يوشي خطبه بالسجع، وخاصة الخطب المعدة، فجاء بعض المفتونين بسعد وطريقته، ونهجوا النهج نفسه، بل بالغوا فيه كثيرًا، ونجد صورة لذلك في خطب مطصفى النحاس التي كان كثير منها أجزاء جمل -أو كلمات- مقطعة، يسيطر عليها سجع فيها كثيرمن التكلف والافتعال. وكان من أنبه الخطباء السياسيين -بعد سعد- مكرم عبيد، الذي كان من أهم خصائص خطبه، اللجوء إلى الاقتباس من القرآن الكريم، وقد كان مكرم في ذلك ماهرًا أشد المهارة، حيث كان مسيحيًا شأنه إلا تكون له صلة بالقرآن الكريم، فاستشهاده بكتاب الإسلام الأول واقتباسه منه، يجذب إليه مشاعر الجماهير المسلمة الغفيرة، ويحملها على الإعجاب بثقافته وسماحته وأخوته!! وقد كان مكرم يتأسى هو الآخر خطى سعد في السجع، وكان يلتزم هذا السجع في بعض خطبه التزامًا، ويتفنن فيه تفننًا، حتى ليجعل بين السجعات الرئيسية سجعات فرعية، ولكن ذلك كله مع ذكاء وفن ومهارة، تبعد به كثيرًا عن المزالق التي تورط فيها بعض من قلدوا سعدًا دون أصالة. وفي النصف الثاني من تلك الفترة، ومع نشأة جيل جديد من السياسيين، نجد طائفة من الشباب تلمع في ميدان الخطابة السياسية، ولا تلتزم طريقة سعد ولا طريقة السياسيين القدماء عمومًا، في الميل إلى إثارة العاطفة والتلاعب بالمشاعر، والجنوح إلى المحسنات التي في مقدمتها السجع؛ وإنما تميل هذه الطائفة من الشباب كثيرًا إلى مخاطبة العقول والإشارة إلى التاريخ، وخاصة تاريخ الثورات والحركات السياسية الناهضة، كما تعمد إلى بسط الحقائق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كل ذلك في دقة ووضوح وترسل،

دون إغفال لجوانب الحرارة العاطفية، والتدفق الخطابي الآسر، وكان يمثل هذا النوع أحمد حسين، وفتحي رضوان. وإذا كانت الخطابة السياسة قد ازدهرت ازدهارًا مشوبًا بكثير من العيوب التي فرضتها روح الفترة -وهي روح الصراع السياسي-، فإن الخطابة القضائية قد ازدهرت ازدهارًا خالصًا، وارتقت رقيًا ساميًا، حتى اكتملت أهم مقوماتها ورست أقوى دعائمها، واصبحت منذ تلك الفترة من جملة التقاليد القضائية الرائعة. وقد تضافرت عوامل مختلفة، على منح الخطابة القضائية هذا المستوى الرفيع. وكان في مقدمة هذه العوامل، استقرار تقاليد القضاء الوطني بعد استكمال مراحله وسيره نحو تمام تمصيره، ثم ظهور جيل من رجال القضاء الممتازين -بعد جيل الرواد- يجمع إلى الثقافة القانونية المستوعبة قدرة بيانية، وخطابية رائعة، وذلك لما لهم من صلة وثيقة بالتراث العربي وعيون أدبه، كذلك كان من أهم العوامل التي منحت الخطابة القضائية الازدهار، والرقي في تلك الفترة، ما كان من ممارسة رجال القضاء لعدد من القضايا الكبرى، التي خلفتها طبيعة المرحلة، بما حفلت به من معارك سياسية ووطنية1، فقد

_ 1 مثل قضية "السردار" الذي اغتال فيها بعض الشباب الوطني المتحمس "السيرلي ستاك" "سردار" الجيش المصري، وحاكم عام السودان في 19 نوفمبر سنة 1924، بينما كان عائدًا من مكتبه في وزارة الحربية إلى بيته في الزمالك، حيث أطلق عليه الرصاص من هؤلاء الشبان الذين كانوا يكمنون له في سيارة بشارع إسماعيل أباظة، مما أدى إلى وفاته في اليوم التالي 20 نوفمبر، وقد قدم المتهمون إلى المحكمة فقضت في 7 يولية سنة 1925 بالإعدام شنقًا على ثمانية هم: عبد الفتاح عنايت، وعبد الحميد عنايت، وإبراهيم موسى، ومحمود راشد، وعلي إبراهيم، وراغب حسن، وشفيق منصور، ومحمد إسماعيل، كما قضت بالحبس سنتين على تاسع هو: محمود صالح، ثم استبدل حكم الإعدام بالنسبة للأول، وجعل الأشغال الشاقة المؤبدة، ونفذ في الباقين، انظر: في أعقاب الثورة المصرية للرافعي جـ1 ص183 وما بعدها وص266. ومثل قضية "الاغتيالات السياسية"، التي اتهم فيها جماعة من الشباب الوطني -من بينهم أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي- بما كان يصاب به بعض الإنجليز من اغتيالات في أعقاب =

كانت هذه القضايا فرصة للقضاء المصري ليمارس عمله على مستوى رفيع، وكانت الخطابة القضائية من أهم وسائل القضاء في تلك القضايا، حيث كانت سلاح المعركة للادعاء، والدفاع على السواء. وقد كانت الخطابة القضائية في تلك الفترة تعتمد كثيرًا على قوة الحجة، ودقة الفهم للنصوص، وبراعة التفسير للمواد، وسعة الإلمام بالقانون، ووفرة الاطلاع على التاريخ، هذا بالإضافة إلى إحكام العبارة وجمال الصياغة، وروعة التصوير وقوة التأثير، كذلك كانت أميل إلى الترسل وأبعد عن المحسنات، بخلاف ما كانت عليه الخطابة السياسية، وخاصة عند سعد، ومن حاكموه. وقد تألق من بين الخطباء القضائيين عدد وفير من أمثال: أحمد لطفي وصبري أبو علم وعبد الرحمن الرافعي، ومكرم عبيد، ووهيب دوس.

_ = ثورة 1919، وقبل استقرار الأمر للوفد سنة 1924، وقد كان تدبير تلك القضية، والقبض على المتهمين بعد قتل السردار، وذهاب وزارة سعد، ومجيء زيور الذي مكن للإنجليز كثيرًا, وقد حكم في هذه القضية سنة 1926، وبرئ أكثر المتهمين. انظر: في أعقاب الثورة المصرية للرافعي جـ1 ص260 وما بعدها. ومثل قضية الأمير سيف الدين التي كانت في عهد محمد محمود، والتي أتهم فيها النحاس سنة 1928 باستغلال مركزه، واتفاقه -وهو محام- على نيل أتعاب باهظة لقاء رفع الحجر عن الأمير، وكان ذلك الاتفاق في فبراير سنة 1927، قبل تولي النحاس الحكم بشهور، وكان -كما يقال- يتوقع رياسة الوفد والوصول إلى السلطة. انظر: في أعقاب الثورة المصرية للرافعي جـ2 ص46، 47، 75. ومثل قضية "البداري" التي كانت في عهد صدقي سنة 1932، والتي اتهم فيها اثنان من المواطنين بقتل مأمور مركز البداري انتقامًا منه لما ارتكبه من فظائع وحوادث تعذيب ضد بعض الأفراد، وقد وصمت محكمة النقض -برياسة عبد العزيز فهمي في هذه القضية- رجال البوليس حينذاك، بأنهم قد أتوا من الأعمال ما هو إجرام في إجرام مما يدعو المرء إلى الثورة والانتقام. انظر: في أعقاب الثورة المصرية للرافعي جـ2 ص175.

وأما الخطابة الدينية فقد ازدهرت ازدهارًا رائعًا، ولمع في ميدانها طائفة أسهموا في الحياة العامة بخطبهم الدينية إسهامًا عظيمًا، بل أرسوا تقاليد جديدة للخطابة الدينية، حيث جعلوها تقرب من الفكر الصحيح، وتدنو من المنطق العلمي، وتمتزج بالثقافة الواسعة، هذا إلى جانب البيان المشرق والعاطفة الجياشة، والتدفق الأخاذ والروحية الشفافة. وقد كانت هناك أسباب عديدة أدت إلى ازدهار الخطابة الدينية في تلك الفترة، ومن أهم تلك الأسباب تقدم التعليم الديني تقدمًا ملحوظًا، بسبب إصلاح الأزهر، والاهتمام بالدراسات الدينية في عدد من المعاهد العالية غير الأزهر1. كما كان من تلك الأسباب، تقدم الحياة الأدبية عمومًا؛ واتجاه أعلامها -وخاصة في النصف الأخير من تلك الفترة- إلى الموضوعات الإسلامية، ثم اهتمام بعض الصحف بالمناسبات المتصلة بالإسلام؛ واستكتاب كبار الأقلام في هذه المناسبات، فهذا كله قد فتح للخطباء الدينيين آفاقًا جديدة، وأمدهم ببيان حي؛ ووجه أسلوبهم الخطابي، وجهة أرقى. على أنه كان من أهم أسباب تقدم الخطابة الدينية، وازدهارها في تلك الفترة -فوق كل ما تقدم- تأليف عدد من الجمعيات الدينية؛ التي كانت لها بدايات طيبة في التوجيه الديني والتعبئة الروحية، والتي كانت الخطابة من أهم أدوات القائمين عليها في تحقيق ما يقصدون من أهداف. وقد لمع من بين الخطباء الدينيين في تلك الفترة عدد من الشيوخ المتأدبين المستنيرين كالشيخ المراغي، والشيخ شلتوت، كما لمع عدد من القائمين على بعض الجمعيات الدينية، ووصل بعضهم إلى حد طبع كثيرين بطريقته وخصائص أسلوبه. وكان من أهم مميزات الخطابة الدينية في تلك الفترة ابتعادها نهائيًا عن المحفوظ من المواعظ والمكرور من القوالب، ثم اتجاهها إلى ربط الدين

_ 1 مثل: القضاء الشرعي، ودار العلوم وكلية الحقوق.

بالدنيا، وعدم الفصل بين الإسلام والسياسة، ثم محاولة إبداء الرأي في أكثر القضايا الوطنية والقومية، ومعظم المشكلات المعاصرة من دستورية واقتصادية وسياسية، والبحث لذلك كله عن سند من الإسلام، أو رأي في كتاب الله أو سنة رسوله، أو مأثورات السلف، هذا من ناحية الموضوعات، أما من ناحية الأسلوب، فكان -في جملته- أسلوبًا مترسلًا جيدًا، يجنح كثيرًا إلى الاقتباس من القرآن والحديث، وإلى الاستشهاد بأخبار النبي والصحابة والسلف الصالح، ويعتمد في جماله على الجزالة العربية، والجملة القرآنية، والبيان الذي عرفناه عند خطباء الإسلام في عهود الازدهار، هذا مع التدفق والجيشان والحرارة العاطفية، وخاصة عند بعض زعماء الجمعيات الدينية الذين كانت الخطابة من أبرز مقومات شخصياتهم، وأهم وسائل دعوتهم. وأما الخطابة الاجتماعية، فقد ازدهرت هي الأخرى، نتيجة لنمو المجتمع وازدياد مشكلاته وتعدد قضاياه، وخاصة بعد الاستقلال، وتغلب التيار الفكري الغربي، ثم نتيجة لتقدم الثقافة وإنشاء عدد غير قليل من الجمعيات، والهيئات التي تعني بشئون المجتمع وتهتم بإصلاحه، كالجمعيات المتصلة بقضايا الريف أو شئون المرأة، أو دعوات البر، وما إلى ذلك. وقد كانت هناك قضايا كثيرة تشغل الأذهان، وتتبارى الألسن في نقاشها عن طريق الخطابة الاجتماعية، وكان في مقدمة تلك القضايا: قضية المجتمع بين المحافظة والتقليد، وقضية المرأة بين البيت والعمل، وقضية الإصلاح وأهم وسائله، والنهوض وأنجع طرائقه، وما إلى ذلك من قضايا اجتماعية. وقد لمع في ميدان الخطابة الاجتماعية طائفة ممن اتجهوا إلى الإصلاح الاجتماعي، وكانت لهم قدرات خطابية ساعدتهم على توصيل أفكارهم إلى الآخرين، وكان في مقدمة هؤلاء الأستاذ محمد توفيق دياب، الذي كان يمثل الخطيب النموذج في ذلك الحين، حيث كانت تجتمع فيه مقومات الخطيب البارع موهوبة ومكتسبة، من لسن وحسن بيان، إلى سعة في الثقافة، واحتفال

كبير بالأداء، فقد كان يعني كثيرًا بالوقفة، والحركة، والإشارة وحسن التنغيم، حتى كان في بعض المواقف أشبه بممثل يؤدي دورًا، منه بخطيب يلقي حديثًا. وكان كل ذلك مناسبًا للمزاج الفني للعصر الذي كان يعجب أشد الإعجاب بتمثيل يوسف وهبي، وما فيه من صنعة وجلجلة. على أنه في الجزء الأخير من تلك الفترة ظهرت طائفة من الخطباء الاجتماعيين يعتمدون على المنطق الهادئ أكثر من الاعتماد على البيان الجزل، ويجنحون إلى التأثير في الفكر أكثر مما يهتمون بالتأثير في الوجدان، ويفضلون لغة الأرقام وبسط الحقائق، على لغة الشعر والتحليق في الخيال، وقد كان من ألمع الخطباء الاجتماعيين الذين سلكوا هذا المسلك إبراهيم سلامة، ومظهر سعيد، اللذان قد جمعا إلى المضمون الفكري، والمنهج العلمي قدرة بيانية فائقة، وتدفقًا خطابيًّا آسرًا. وقد أدى اتصال هذا النوع من الخطابة اتصالًا مباشرًا بشئون الناس، وأمور حياتهم اليومية، إلى جنوح بعض الخطباء الاجتماعيين إلى التعبيرات الشعبية والاستعمالات العامية، فجاءت خطبهم أقرب إلى لغة الشعب، مما يمكن أن تسمى معه "بالخطابة الشعبية"، أي التي تقال بلغة الشعب وتعكس روحه، وقد كان فارس هذا الميدان فكري أباظة. هذا، وقد نشط في تلك الفترة لون الخطابة الحفلية، وهو ما كان يلقى في حفلات التكريم والتأبين والاستقبال والتوديع، وما إلى ذلك من مناسبات تدور حلو شخص أو أشخاص، ولا تتصل بالجماعة اتصالًا مباشرًا، وهذا اللون من الخطابة قد عرفق هو الآخر من قبل، ولكنه نشط في هذه الفترة التي يساق عنها الحديث، نتيجة للتقدم الاجتماعي، ومراعاة كثير من التقاليد والمواضعات الراقية، ثم نتيجة كذلك للصراع الذي كان طابع ذلك العصر، وكان من نتائجه ظهور زعامات ورياسات عديدة، فكان أعوان تلك الزعامات والرياسات يتلمسون الفرص تلمسًا لإظهاره الحفاوة بهذا الزعيم، أو ذاك

الرئيس، ومن وراء ذلك تكون الدوافع السياسية والحزبية، وتتأجج الصراعات التي كانت تحكم ذلك العصر. وقد كان هذا اللون من الخطابة يحكمه -غالبًا- أمران رئيسيان؛ الأول طبيعة الموقف، والثاني طبيعة الشخص الذي يدور حوله الحفل، أما طبيعة الموقف فكانت تجعل من الخطبة خطبة مدح أو رثاء مثلًا، إذا كانت القول في مقام تكريم أو تأبين، وأما طبيعة الشخص الذي يدور حوله الحفل، فكانت تلون الخطبة كثيرًا بلون فنه أو طبيعة عمله، فإذا كان من أهل السياسة صبغت الخطبة -مهما كان الموقف- بلون سياسي، وإذا كان من رجال الأدب خاضت الخطبة كثيرًا أو قليلًا في أمور الأدب، كل ذلك علاوة على كونها أساسًا خطبة تكريم أو تأبين، وعلاوة أيضًا على كون قائلها من أهل السياسة والأدب، أو من غير هؤلا وهؤلاء. وهكذا كانت الخطبة الحفلية تأخذ طابعًا خاصًّا تمتزج فيه -غالبًا- عدة خصائص من أنواع مختلفة من الخطابة، وإن كان يغلب عليها طابع الموقف قبل كل شيء، هذا الموقف الذي يفرضه موضوع الحفل. وكان خطباء المحافل هم خطباء السياسة والقضاء والاجتماع، بالإضافة إلى رجال الأدب الذين كانوا يسهمون في كل هذه الأمور، أو في أكثرها بأوفى نصيب. ومن أمثلة الخطابة السياسية تلك الخطبة التي قالها سعد زغلول في حفل أعضاء مجلس الشيوخ، الذي أقامه له هؤلاء الأعضاء بعد انتخابهم لأول مرة سنة 1924، والتي يقول فيها: "أيها السادة شيوخنا الكرام: أشكر حضراتكم على هذه الحفلة المملوءة وقارًا، وعلى هذا التركيم الجامع لأسباب البهجة والسرور، وأشعر في نفسي بخجل شديد عندما أتصور أن شخصي الضعيف هو موضوع هذا الاحتفال الشائق، وأنه المعنى بمدح خطبائكم والمقصود من ثنائكم، اعتقادًا مني أني دون ما تصفون، ولا شك أنكم تغرفون لي من بحار فضلكم، وأنكم

إنما تنظرون إلي بالنظرة العاطفة، لا بالنظرة الكاشفة، جزاكم الله أحسن الجزاء، وأقدرني على أن أستحق هذا الثناء. "وبعد فإني أهنئكم من كل قلبي بالثقة التي اكتسبتموها من البلاد.. لأن تؤلفوا مجلس الشيوخ في أول برلمان في بلادنا على الطراز الحديث، وأعد نفسي سعيدة بأني أول وزير مصري لحكومة دستورية، تستمد قوتها من إرادة الشعب، وتستند في بقائها على ثقة نوابه ... "ستصبح هذه المبادئ بعد يوم واحد نافذة المفعول فينا، ويصبح أمر الكل للكل، ويشعر كل مصري أن حياته وحريته وشرفه وماله وولده، كل ذلك، تحت حماية القانون، وأن على القانون حارسًا قويًا أمينًا هو البرلمان، وأن البرلمان تحت حراسة أمة يقظة، والكل في ذمة الله وعنايته. "بعد يوم واحد تجد الوزارة نفسها مسئولة أما نواب البلاد، وأن عليها أن تبرر أعمالها العامة أمامكم، كما تبررها أمام ضمائرها الخاصة، وتشعر من جهة أخرى بخفة ثقل المسئولية الملقاة عليها؛ لوجود قوة بجانبها تقاسمها هذه المسئولية، كما تشاطرها النظر في إدارة أمور البلاد. "بعد يوم واحد يحل احترام الحكومة محل الخوف منها، ويشتد القرب منها بعد البعد عنها؛ إذ يستيقن الكل أنها ليست إلا قسمًا من الأمة تخصص لخدمتها العامة، حسب القانون والمبادئ الديمقراطية، وأن لكل واحد حصته فيها مباشرة أو بالواسطة، فيبذل الكل جهودهم في معاونتها على القيام بمهمتها الخطيرة. "وأكبر هذه المهمات شأنًا، وأخطرها قدرًا وأشغلها لعقلي ولبي، هي مهمة الاستقلال التام لمصر والسودان.. يتلو هذه المهمة مهمة القيام بالإصلاحات الداخلية، وحل ما عقده الماضي من المشكلات، وتذليل ما أقامته السياسات من العقبات في طريقنا، وما هذا بالهنات الهينات.

" ... فعلى الذين يحملهم فرط الحب للبلاد على تعجلنا أن يتريثوا بنا ويتمهلوا؛ لأن طبيعة الأشياء تأبى الطفرة، ولكل شيء وقته ووسائله، وعليهم أن يعتقدوا كل الاعتقاد أن هناك عقولا مشغولة بهذه المهام، وعزائم معقودة على معالجتها، وأن التأخير فيها ليس قصورًا أو تقصيرًا، ولكنه جرى مع الطبيعة على حكمها. وليتأكدوا أننا نزداد كل يوم قوة في الإرادة، ومضاء في العزم، وثباتًا في الخطة، وغيره على الصالح العام، فليصبروا، إن الله مع الصابرين، وليثقوا بنا، إننا لا نقصد إلا خيرهم، ولا نفتر طرقة عن خدمتهم، ولا نترك فرصة تمر حتى ننتهزها لبلوغ المراد، حقق الله أملنا، ووفقنا جميعًا إلى الرشاد1". ومن أمثلة الخطابة الاجتماعية تلك الخطبة التي قالها توفيق دياب بعنوان: "الشباب المصري خيوط الحاضر ونسيج المستقبل"، والتي منها قوله: " ... لا رجاء في أمة إلا أن يكون لها إيمان، ولا في شباب أمة إلا أن يكونوا مؤمنين. "وليس المهم كيف تؤمن، وإنما المهم أن تؤمن، نعم، ولكن تؤمن بماذا؟ تؤمن بشيء أنت دونه وتريد أن تسمو إليه، تؤمن بقوة تستعين بها على ضعفك، تؤمن بباعث عظيم من بواعث الأمل وبواعث العمل، تؤمن بمثل من الأمثلة العليا تريده لنفسك فردًا ولأمتك جماعة، تؤمن بمثل عال من الشجاعة يصونك من التذلل والخور، تؤمن بمثال عال من الكرامة يصونك عن كل مهين وخسيس. "أما أنا فواحد من الذين يؤمنون بالقوة العظمى التي تجمع الصفات الحسنى في اسم الله، وإيماني به إيمان الضعيف بالقوي، ولكن حين أستمد منه القوة أحس كأني ارتفعت فوق المناعم والمتاعب، وفوق الفقر والغنى،

_ 1 اقرأ هذه الخطبة في: آثار الزعيم سعد زغلول، جمع وترتيب إبراهيم الجزيري جـ1 ص91-93.

وفوق الإخفاق والنجاح، بل فوق الموت والحياة؛ لأني ارتكنت إلى العمد الباقي. " ... ليس مؤمنًا بالله من لا يؤمن بالوطن، أليست مصر كبرى أنعمه عليكم؟ أجري فيها كوثره، وأسبغ عليها رزقه، وكساها من جماله، وجعل لها السبق في الأولين ليلحق بها المتخلفون، وامتحنها في الحاضرين بمنحة التخلف لتنهض فتلحق السابقين؟.. إن من جحد نعمته، وعق كنانته، واتخذها سخرية ولعبًا، فهو بربه من الساخرين"1. ومن أمثلة الخطابة الحفلية الخالصة -التي راعت الموقف فحسب- خطبة مكرم عبيد في حفل تأبين سعد زغلول، والتي يقول فيها: "إذن فقد مات سعد، وهذه الحفلة الحافلة هي حفلة الزعيم في موته، أي وربي وحفلته الأولى! وهذه الجموع الحاشدة قد جاءت لتسمعه خطيبًا محدثًا. لا وربي، بل حديثًا يُرى! وهذه العيون اللوامع قد ألهبها بريق ناظريه، لا وربي، بل حرقة الذكرى! وهذا السكون، وهذا الخشوع، وهذا الجلال، إن هي إلا مظاهر العزة والعظمة للعزيز العظيم فينا، لا وربي، بل ضريبة الموت فرض على كل مصري أن يؤديها مرة بعد أخرى! فقد مات من كان حيًا في كل قلب وأصبحت حياته شيئًا يُتلى! وقد سكن من كان ناطقًا في كل لسان، وأصبح الكلام فيه دمعًا يُزْجَى. "لقد دارت دورة الشؤم، فشاءت أن أرثي سعدًا باكيًا نائحًا، وقد اعتاد لساني ألا يذكره إلا شاديًا صادحًا، فسامحونا إذا ألح بنا الألم فضاقت عنه مآقينا، فقد حرمنا حعتى سلوة البكاء عليه في منيته، وحتى نظرة الوداع إلى جثته، وحتى خطوة التشييع في رحلته2، وقد كان والله يحنو على أشخاصنا في محنته، ويبكي على أمراضنا في رحمته، ولا يبغي بنا بديلًا في غربته3.

_ 1 اقرأ نص هذه الخطبة في جريدة الجهاد عدد 10 فبراير سنة 1934. 2 يشير الخطيب إلى أنه كان خراج البلاد وقت موت سعد ودفنه. 3 يشير الخطيب إلى ما كان من زمالته لسعد حين نفي إلى سيشل سنة 1921.

"إذن وقعت الواقعة التي طالما هادنا عليها القدر، وانتزع الموت في لحظة من ضنت به الأجيال متعاقبة، وتعبت في صنعه وصوغه العظائم والعبر، فكان لها عونًا على الدهر، وكان هو المدخر، إذن فقد نفذ السهم وحم القدر، ذلك الذي كنا إلى الأمس ننادي به، إذا انطلق السهم إليه ارتد وانكسر، وإذا التطم الموج بصخرة عج وانحسر، وإذا امتدت إليه يد الحوادث ارتد القدر، عجبًا هل تطاول القبر إلى مكان فوق هامات البشر؟ أم أن تلك العظمة الشامخة لما لم تجد علوًّا ترتفع إليه قد تواضعت، فتدانت حتى ذلك المستقر؟ سبحانك رب، بل أردت فقدرت، فمنك الوجود، وإليك المفر"1. ومن نماذج الخطب التي لُونت بلون المقول فيه، فأخذت طابعًا موضوعيًا خطبة طه حسين في حفل تكريم العقاد الذي كان قد أقيم له سنة 1934 بمناسبة نظمه "النشيد القومي"2، وهي الخطبة التي باعي فيها طه حسين العقاد بإمارة الشعر، وفيها يقول: ".... نحن حين ندرس الشعر مضطرون إلى أن ندع ميولنا، وأهواءنا، وعواطفنا، وإلى أن نحكم عقولنا وذوقنا وحده، ونحن إذن من هذه الناحية بخلاء بالمدح، بخلاء بالثناء، لا نقدم المدح إلا بمقدار، ولا نثني إلا بشيء كثير من الاحتياط؛ لأننا نزعم أننا أمناء على الفن، وأن النقد يضطرنا إلى أن نتجنب الغلو والإسراف، ومع هذا فإني أريد أن أكون منصفًا مسرفًا في الإنصاف إن صح هذا التعبير، وأريد أن لا أتحرج في المدح أو الثناء،

_ 1 اقرأ نص هذه الخطبة في: عبرات الشرق على الزعيم سعد زغلول، جمعة البحيري ص278. 2 كان هذا الاحتفال في مسرح حديقة الأزبكية مساء الجمعة 27/ 4/ 1934، وكان برئاسة رئيس الوفد، وكان طه حسين في تلك الفترة يكتب في صحف الوفد نتيجة للوفاق الذي كان بين الأحرار والوفد، والتكتل لمقاومة صدقي، انظر: العقاد -دراسة وتحية- ص227.

ولكني على كل حال أعلن إليكم راضيًا سعيدًا، أني مضطر أن أثني على العقاد الشارع من غير تحفظ أو احتياط. "لنا نحن النقاد مع العقاد مواقف، يا لها من مواقف، نختصم فيها حول المعنى اختصامًا مرهقًا عنيفًا، ونختصم معه في اللفظ اختصامًا نضيق نحن به ويضيق به الناس، ولكننا حين نختم معه في معنى أو لفظ، أو حين نشتط عليه في النقد، لا نزيد على أن نعترف له أن الشاعر الفذ، ولولا أنه الشاعر الفذ لما خاصمناه. "أما أنا أيها السادة فسعيد بهذه الفرصة التي أتيحت لي، ومكنتني من أن أعلن رأيي في صراحة، وأن أقول -وقد يكره هذا مني كثير من الناس- مكنتني من أن أقول، بالرغم من الذين سخطوا والذين سيسخطون: أني لا أومن في هذا العصر الحديث بشاعر عربي كما أومن بالعقاد، أنا أعرف حق المعرفة وأقدر كما ينبغي نتيجة هذه المقالة التي أعلنها سعيدًا مغتبطًا، أعلم هذا حق العلم، وأعلنه مقتنعًا به محتملًا تبعاته، وقد تعودت احتمال التبعات الأدبية. "تسألونني لماذا أومن بالعقاد في الشعر الحديث، وأومن به وحده؟ وجوابي يسير جدًا، لماذا؟ لأنني أجد عند العقاد مالًا أجده عنده غيره من الشعراء، وإن شئتم فإنني لا أجد عند العقاد ما أجده عند غيره من الشعراء؛ لأني حين أسمع شعر العقاد، أو حين أخلو إلى شعر العقاد، فإنما أسمع نفسي أو أخلو إلى نفسي، إنما أرى صورة قلبي، وصورة قلب الجيل الذي نعيش فيه، وحين أسمع لشعر العقاد، إنما أسمع الحياة المصرية الحديثة، وأتبين المستقبل الرائع للأدب العربي الحديث، إنما أرى شيئًا لا أراه عند غيره من الشعراء، تستطيعون أن تنظروا في أي ديوان من دواوين العقاد، لا أطلب منكم أن تقرأوا شعر العقاد الآن، إنما انظروا في الفهرست وحده، فسترون من هذه النظرة اليسيرة في هذه الصفحات القليلة، أن العقاد شيء آخر، وأن شعر العقاد شيء آخر،

وأنه أرسل ليتحدث إلى نفوسكم أحاديث لم يتحدث بها أحد من قبل. "ثم لماذا أيضًا؟ لماذا أكبر العقاد، وأومن به وحده دون غيره من الشعراء في هذا العصر؟ لأن العقاد -أيها السادة- يصور لي هذا المثل الأعلى في الشعر الذي أحببته، وتمنيت وجاهدت في أن يحبه الشباب، هذا المثل الأعلى الذي يجمع بين جمال العربي القديم، وبين أمل المصري الحديث، هذا المثل الذي ليس محافظًا مسرفًا في المحافظة، وليس مجددًا مسرفًا في التجديد، إنما هو مزاج مقتصد منهما، هو حلقة اتصال، هو صلة خصبة بين مجدنا القديم، وما نطمع فيه من مجدنا الحديث. " ... كنا أيها السادة نشفق على الشعر العربي، وكنا نخاف عليه أن يرتحل سلطانه عن مصر، وكنا نتحدث حين مات الشاعران العظيمان شوقي وحافظ، كنا نتحدث عن علم الشعر العربي المصري أين يكون ومن يرفعه للشعراء والأدباء يستظلون به؟ كنا نسأل هذا السؤال، وكنت أنا أسأل هذا السؤال، لماذا؟ لأني كنت أرى شعر العقاد، على علو مكانته وجلال خطره شعرًا خاصًّا مقصورًا على المثقفين والمترفين في الأدب، وكنت أسأل: هل آن للشعر القديم المحافظ المسرف في المحافظة أن يستقر وأن يحتفظ بمجده، وهل آن للشعر الجديد الذي يصور مجد العرب، وأمل المصريين أن ينشط ويقوى؟ انتظرت فلم أجد للمقلدين حركة أو نشاطًا، فإذا المدرسة القديمة قد ماتت بموت شوقي وحافظ، وإذا المدرسة الجديدة قد أخذت تؤدي حقها، وتنهض بواجبها، فترضي المصريين والعرب جميعًا، وإذا الشعر الجديد يفرض نفسه على العرب فرضًا، وإذا الشعور المصري والقلب المصري، والعواطف المصرية أصبحت لا ترضى أن تصور كما كان يصورها حافظ وشوقي، إنما تريد وتأبى إلا أن تصور تصويرًا جديدًا، هذا التصوير الذي حمل الملايين على إكبار العقاد كما قال أحد الخطباء، إذن لا بأس على الشعر العربي والأدب العربي، وعلى مكانته مصر في الشعر والأدب. "ضعوا لواء في الشعر في يد العقاد، وقولوا للأدباء والشعراء: أسرعوا واستظلوا بهذا اللواء، فقد رفعه لكم صاحبه"1.

_ 1 اقرأ نص الخطبة في جريدة الجهاد عدد 29/ 4 / 1934.

القصص واستقرار اللون الفني

3- القصص واستقرار اللون الفني: في هذه الفترة استقر القصص كجنس أدبي، ولم يعد مترددًا بين استلهام التراث وتأسي القصص الغربي1؛ فقد اتجه تمامًا إلى الطريق الذي سلكه القصاصون الغربيون، وتأسي القوالب الفنية في القصة القصيرة والرواية، مستدبرًا تلك المحاولات التي قصدت استلهام التراث، كما فعل المويلحي في "حديث عيسى بن هشام"، ثم متجاوزًا مرحلة التمهيد التي كانت تمزج القصة ببعض العناصر الغريبة عن فنها الصحيح، كما فعل المنفلوطي في "العبرات"، وإلى ذلك كله ظهر جيل من كتاب القصص المتمكنين، الذين تفرغوا فنيًا لهذا الجنس الأدبي، ولم يشاركوا -كأغلب الكتاب الكبار- في المجالات الصحفية والسياسية، ولم يكن همهم المقال أو الكتاب أو ما إلى ذلك، فهؤلاء الكتاب القصصيون الخلص، هم الذين جعلوا لهذا الجنس الأدبي مكانًا مرموقًا بين الأجناس الأدبية الأخرى. وليس من شك في أن القصص مدين في استقراره -بجانب جهود هؤلاء الرواد- لما كان الفترة السابقة من محاولات ولد معها هذا الجنس الأدبي على صورته الفنية في الأدب الحديث، حيث كان ميلاد الرواية على يد الدكتور محمد حسين هيكل2، كما كان ميلاد القصة القصيرة على يد محمد تيمور3.

_ 1 اقرأ عن هذا التردد ما كتب في المقال رقم 3 من المقالات الخاصة بالنثر في الفترة السابقة. 2 اقرأ ما كتب عنه وعنه ميلاد الرواية الفنية على يديه في المبحث "د" من مباحث المقال رقم 3 من مقالات النثر في الفترة السابقة. 3 اقرأ ما كتب عنه وعن ميلاد القصة القصيرة على يديه في المبحث "هـ" من مباحث المقال رقم 3 من مقالات النثر في الفترة السابقة.

ثم إن القصص مدين في استقراره -بجانب ذلك- لما كان من جهود المنفلوطي في قصصه المعرب والمؤلف، برغم كل ما أخذ عليه من عيوب، فقد جذب القراء إلى هذا الجنس الأدبي، وحبب إليهم متابعته بفضل ما كان لهذا الكاتب المقتدر من أسلوب مشرق، وعاطفة حارة وخيال مجنح1. ولا يمكن أن ينسى في هذا المقال فضل المترجمين والمعربين، الذين نقلوا إلى العربية -في هذه الفترة والفترة التي قبلها- نماذج مختلفة من القصص الغربي، ومن هؤلاء الذين أسهموا في هذا الميدان: يعقوب صروف، الذي ترجم "قلب الأسد" عن "والترسكوت"، ونجيب حداد، الذي ترجم "الفرسان الثلاثة" عن "إسكندر دوماس" الأب، وحافظ إبراهيم، الذي ترجم "البؤساء" عن "فيكتور هوجو"، وأحمد حسن الزيات، الذي ترجم "رفائيل" عن "لا مارتين"، كما ترجم "آلام فرتر" عن "جوته"، ومن هؤلاء الذين أسهموا في ميدان الترجمة القصصية محمد السباعي الذي ترجم "قصة مدينتين" عن "تشارلز دكنز"، كما ترجم عدًا كبيرًا من القصص القصيرة لمشاهير كتاب الغرب2، كما لا ينسى في هذا المقام فصل أعلام آخرين كان لهم نشاط ملحوظ في حركة الترجمة القصصية، مثل: أحمد حافظ عوض، وعباس حافظ، وعبد القادر حمزة، وإبراهيم المازني، ومحمد عبد الله عنان. فهذه العوامل مجتمعة، بالإضافة إلى روح ثورة سنة 1919، وما سببته من غلبة التيار الفكري الغربي، ومن رغبة في خلق أدب مصري3، قد منحت

_ 1 اقرأ ما كتب عنه بالمبحث "ب" من مباحث المقال رقم 3 من المقالات الخاصة بالنثر في الفترة السابقة. 2 نشرت معظم هذه القصص مؤخرًا في مجموعة بعنوان "مائة قصة"، وقد نشرها الأستاذ يوسف السباعي نجل المترجم. 3 اقرأ ما كتب عن ذلك في التمهيد للحديث عن أدب هذه الفترة في صدر هذا الفصل، وخاصة المقال رقم 4، وهو تحت عنوان "الأدب وغلبة الاتجاه التجديدي".

القصص استقرارًا، ووهبته قوة، حتى احتل -منذ هذه الفترة- منزلة في الأدب الحديث، بعد أن كان بعض الكتاب في الفترة السابقة يستحي أن يضع اسمه على عمل قصصي، كما حدث للدكتور محمد حسين هيكل حين نشر "زينب" لأول مرة1. وكان من مظاهر هذا الاستقرار، نمو القصة القصيرة ونضجها وتحدد ملامحها؛ حتى صارت كائنات قويًّا يوشك أن يدافع بقية الكائنات الأدبية الأخرى، وكان ذلك بفضل جيل من الرواد الذين اهتموا بالقصة القصيرة، وأوشكوا أن يوقفوا نتاجهم عليها، من أمثال عيسى عبيد وشحاته عبيد، ومحمود تيمور ومحمود طاهر لاشين2. كما أسهم في هذا الفضل بعض الكتاب المرموقين ممن كان لهم نشاط كبير في ميادين عديدة من ميادين الأدب، مثل إبراهيم المازني وتوفيق الحكيم3، كما أسهم في هذا الفضل بعض شباب الأدب في ذلك الحين، ممن سيكون لهم شأن كبير في الفن القصصي بعد ذلك، مثل نجيب محفوظ4. كذلك كان من مظاهر هذا الاستقرار للفن القصصي -في هذه الفترة- نمو الرواية الفنية أيضًا؛ حيث كثرت الأعمال الروائية الجيدة، وتعددت

_ 1 كان ذلك سنة 1912، وقد كتب المؤلف على الرواية: "زينب: مناظر وأخلاق ريفية -بقلم فلاح مصري". 2 أخرج عيسى عبيد في هذه الفترة مجموعة "إحسان هانم" سنة 1921 وأخرج شحاته عبيد مجموعة "درس مؤلم" سنة 1922، وأخرج محمود تيمور تسع مجموعات قصصية تبدأ "بالشيخ جمعة"، وتنتهي "بفرعون الصغير"، وأخرج محمود طاهر لاشين مجموعتين هما "سخرية الناي" سنة 1926 و"يحكى أن" سنة 1929. 3 أخرج المازني في هذه الفترة ثلاث مجموعات هي: "صندوق الدنيا" سنة 19229 و"خيوط العنكبوت" سنة 1935، ثم "في الطريق" سنة 1937. أما الحكيم فأخرج مجموعة "عهد الشيطان" سنة 1938. 4 أخرج نجيب في هذه الفترة مجموعة "همس الجنون" سنة 1938.

ألوانها، وتمايزت اتجاهاتها؛ فكان منها اللون التحليلي النفسي، واللون التجريبي الشخصي، واللون الاجتماعي الإصلاحي، واللون الذهني الفكربي، واللون التاريخي القومي1. كما كان من مظاهر استقرار الفن القصصي وقوته أيضًا، مشاركة كبار الكتاب في كتابة بعض الروايات، حيث ظهرت كتابات روائية للدكتور طه حسين، وللأستاذ العقاد وللأستاذ المازني، كل هذا بالإضافة إلى جهود جيل الكتاب القصصين الخلص؛ من أمثال عيسى عبيد، ومحمود طاهر لاشين، ومحمود تيمور، ثم نجيب محفوظ2. وعلاوة على هذا كله ظهرت بعض الفنون الأدبية ذات الملامح القصصية، كفن الترجمة الذاتية، الذي مثلته "الأيام" لطه حسين، وكفن "اليوميات" الذي مثلته "يوميات نائب في الأرياف"، لتوفيق الحكيم. وتفصيل القول عن كل هذه الفنون القصصية المختلفة، وعن كل عمل من الأعمال المتصلة بها؛ في الكتاب الذي خصص لدراسة "الأدب القصصي والمسرحي في مصر"، وهو الكتاب الثاني المكمل لهذا الكتاب الأول.

_ 1 الروايات التحليلية في هذه الفترة هي: "ثريا" لعيسى عبيد سنة 1922، و"رجب أفندي" لمحمود تيمور سنة 1928، و"الأطلال" للمؤلف نفسه سنة 1934، و"أديب" لطه حسين سنة 1935. وروايات التجربة الشخصية في هذه الفترة هي: "إبراهيم الكاتب" للمازني سنة 1931، و"سارة" للعقاد سنة 1938، "عصفور من الشرق" للحكيم سنة 1938 و"نداء المجهول" لتيمور سنة 1939 ... وروايات الطبقة الاجتماعية تمثلها: "حواء بلا آدم" لمحمود طاهر لاشين سنة 1934، و"دعاء الكروان" لطه حسين سنة 1934 ... واللون الذهبي تمثله "عودة الروح" للحكيم سنة 1933. أما اللون التاريخي فتمثله: "ابنة المملوك" لمحمد فريد أبي حديد سنة 1926، و"عبث الأقدار" لنجيب محفوظ سنة 1939. 2 اقرأ تراجم لهؤلاء ودراسة لأعمالهم القصصية في: "الأدب القصصي والمسرحي في مصر" للمؤلف.

المسرحية وتأصيل الأدب المسرحي

4- المسرحية وتأصيل الأدب المسرحي: كان النشاط المسرحي قد تضاعف في أواخر الفترة السابقة، وبخاصة بعد عودة جورج أبيض إلى مصر وتأليفه لفرقته، التي كانت فرقة طليعية في ذلك الوقت، ثم ازدهر هذا النشاط المسرحي في أوائل سنوات هذه الفترة التي أعقبت ثورة سنة 1919، حيث تعددت الفرق المسرحية التي لمع فيها كبار الممثلين والمخرجين، الذين يعتبرون جيل الأساتذة لفن التمثيل في مصر، فقد كانت هناك منذ أواخر الفترة السابقة، وأوائل هذه الفترة، فرقة منيرة المهدية، وفرقة عبد الرحمن رشدي، وفرقة أبناء عكاشة، وجمعية رقى الآداب والتمثيل، وجمعية أنصار التمثيل، وفرقة عزيز عيد، وفرقة الريحاني، وفقة علي الكسار1. غير أنه منذ أعقاب الحرب الكبرى الأولى كان قد غلب على المسرح الجانب الهزلي، وأصبح الجانب الجاد في المحل الثاني، ووصل الأمر إلى ما يشبه الأزمة للمسرح الجاد في أوائل الفترة التي يُساق عنها الحديث2، حتى أصبحت الحاجة ماسة إلى فرقة مسرحية جديدة تضطلع بالمسرح الجاد، وتبذل في سبيله كثيرًا من الجهود، وقد كانت فرقة رمسيس المسرحية التي كونها يوسف وهبي سنة 1923 3، هي الفرقة التي اضطلعت بهذه المهمة4. وقد آزرتها بعض الوقت فرقة فاطمة رشدي، غير أن جهود فرقة رمسيس ما لبث أن ضعفت في أوائل الثلاثينات أمام معوقات كثيرة كان المال في مقدمتها. ثم زاد من فتور حماس هذه الفرقة، وغيرها من الفرق المسرحية ظهور السينما، وانتاج أوائل الأفلام المصرية، التي بدأت تجذب المشاهدين

_ 1 انظر: طلائع المسرح العربي لمحمود تيمور ص41 وما بعدها. 2 انظر: طلائع المسرح العربي لمحمود تيمور ص77 وما بعدها. 3 انظر: صحيفة الأهرام العدد الصادر في 7/ 3/ 1953. 4 انظر: طلائع المسرح العربي لمحمود تيمور ص79.

وتحولهم من المسارح إلى دور الخيالة1. وهنا مست الحاجة إلى رعاية الدولة للمسرح، فألفت الفرقة القومية سنة 1935، وضمت نخبة ممتازة من كبار الممثلين والمخرجين، وعهد برياستها إلى الشاعر الكبير خليل مطران. وهكذا استمر النشاط المسرحي حيًا ناميًا أغلب سنوات هذه الفترة بفضل تلك الفرق الأهلية العديدة، التي كان من أهمها فرقة رمسيس، ثم بفضل تلك الفرقة الحكومية التي كانت تحمل اسم الفرقة القومية. ومن خلال أضواء تلك الفرق العديدة لمع عزيز عيد، ويوسف وهبي، ونجيب الريحاني، وزكي طليمات، وحسين رياض، وفؤاد شفيق، وأحمد علام، وسليمان نجيب، كما تألقت أسماء: روز اليوسف، وفاطمة رشدي، وأمينة رزق، وزينب صدقي. وقد كان من مظاهر النشاط المسرحي في هذه الفترة افتتاح أول معهد للتمثيل، ذلك المعهد الذي أشرف على إنشائه زكي طليمات، والذي ما لبث أن أغلق في عهد صدقى، وعلى يد وزير المعارف في عهد حلمي عيسى، بحجة المحافظة على التقاليد، ولكن هذا المعهد برغم إغلاقه في ذاك العهد، قد أسهم هو الآخر في النشاط المسرحي وخرج طائفة من أعلام التمثيل رجالا ونساء، مثل: حسين صدقي وأحمد بدر خان، وروحية خالد وزوزو حمدي الحكيم2. كذلك كان من مظاهر النشاط المسرحي في هذه الفترة ظهور أول مجلة للمسرح، وهي تلك المجلة التي كان يصدرها محمد عبد المجيد حلمي،

_ 1 ظهور أول فيلم مصري سنة 1927، وهو فيلم ليلي، وكان فيلمًا صامتًا، وظهر أول فيلم مصري ناطق سنة 1935، وهو فيلم أولاد الذوات، انظر: صحيفة الأخبار، العدد الصادر في12 نوفمبر سنة 1967. 2 انظر: طلائع المسرح العربي لمحمود تيمور ص111 وما بعدها.

والتي كان يكتب فيها التابعي أول كتاباته في النقد الفني1. وكما سبب هذا النشاط المسرحي تألق عدد من كبار الممثلين والممثلات، سبب كذلك التماع عدد من الكتاب، الذين أمدوا المسرح بكثير من المسرحيات، ما بين مؤلفة ومقتبسة ومترجمة، ومن هؤلاء: محمد لطفي جمعة، وعباس علام، وبديع خيري، وأنطون يزبك، وإسماعيل وهبي، ووداد عرفي، ثم يوسف وهبي ونجيب الريحاني؛ فقد أصبح الأول يؤلف لنفسه بعد أن كان يؤلف له أنطون يزبك، كما صار الثاني يشارك بديع خيري في التأليف حينًا، والاقتباس من المسرحيات الفرنسية حينًا آخر. وربما يضاف إلى هذه المظاهر الدالة على نشاط الحركة المسرحية، ونموها في فترة ما بين الحربين، ما كان من جذب العمل المسرحي لعدد من الشباب المثقف من أبناء الأسر المحافظة، فقد اقتحم كثير من هؤلاء ميدان التمثيل بجرأة، فأسهموا في تمزيق ما تبقى على المسرح من ظلال الازدراء، التي كانت تلقى ظلمًا عليه، ونسجوا بدلًا من تلك الظلال حللًا من التقدير والإجلال، ما زال المسرح يرفل فيها منذ ذلك الحين، وفي هذا المقام يذكر محمود تيمور، الذي اشتغل بالمسرح تمثيلًا وتأليفًا، وهو ابن العالم والأديب الكبير أحمد باشا تيمور. كما يذكر عبد الرحمن رشدي2، وهو المحامي اللامع الذي آثر خشبة المسرح على منصة الدفاع، كما يذكر محمد عبد الرحمن3، وهو أستاذ الجغرافيا المتخصص في إنجلترا، والذي كان أول رئيس لجمعية أنصار التمثيل، والذي قام بدور البطولة في بعض المسرحيات4، ثم يذكر يوسف وهبي، ابن أحد البشوات المرموقين، والذي آثر دراسة التمثيل في إيطاليا على دراسة أي شيء آخر، ثم كرس

_ 1 انظر: طلائع المسرح العربي لمحمود تيمور ص74. 2 انظر: المصدر السابق ص45 وما بعدها. 3 هو شقيق الرائد القصصي محمود طاهر لاشين. 4 انظر: طلائع المسرح العربي لمحمود تيمور ص61 وما بعدها.

حياته لهذا الفن رغم مقاومة والده الباشا لهذا الاتجاه1. وطبيعي أن يكون لهذا النشاط المسرحي النامي أثر واضح على أدب المسرح؛ فبالإضافة إلى المسرحيات الكثيرة التي كان يقوم عليها عمل تلك الفرق العديدة -والتي لا يصل كثير منها إلى مستوى الأدب- ظهرت نصوص مسرحية أدبية منوعة غنية، نمت الأدب المسرحي -الذي ولد غضًا في الفترة السابقة2- وجعلته نوعًا أصيلًا من أنواع الأدب المصري الحديث. وهذه النصوص المسرحية الأدبية، التي نمت أدب المسرح وأصلَّته، قد تجلت في نتاج علمين من أعلام الأدب المصري، هما أحمد شوقي، وتوفيق الحكيم، فعلى جهود شوقي تم تأصيل المسرحية الشعرية، حيث أخرج في هذه الفترة خمس مسرحيات شعرية هي: "مصرع كليوباترة" و"قمبيز"، و"مجنون ليلى" و"عنترة" و"الست هدى"، بالإضافة إلى إعادة كتابة مسرحيته الشعرية الأولى "علي بك الكبير"، التي كتبها في الفترة السابقة3. وعلى جهود الحكيم تم تأصيل المسرحية النثرية، حيث أخرج في هذه الفترة مسرحيتين ذهنيتين هما: "أهل الكوفة" و"شهر زاد"، بالإضافة إلى مسرحيته السياسية "براسكا أو مشكلة الحكيم"، هذا إلى جانب عدد

_ 1 انظر: طلائع المسرح العربي لمحمود تيمور ص77. 2 انظر: الفصل الذي ختم به الحديث عن الأدب في الفصل السابق، وعنوان الفصل: "المسرحية وأولية الأدب المسرحي". 3 تواريخ ظهور المسرحيات هي: "مصرع كليوباترة" سنة 1927، "قمبيز" سنة 1931، و"مجنون ليلى" سنة 1931، "عنترة" سنة 1932. أما "الست هدى" فلم تنشر في حياة المؤلف.

من المسرحيات الاجتماعية والنفسية التي ضمها كتابه "مسرحيات توفيق الحكيم"1. وكل من مسرحيات شوقي والحكيم جعلت الأدب المسرحي يأخذ مكانًا مرموقًا بين الفنون الأدبية في الأدب المصري، إذ أصبحت هذه المسرحيات نصوصًا حية من هذا الأدب، وأنماطًا ينسج على منوالها الأدباء. وقد فُصِّل القول عن هذا الأدب المسرحي، وعن كل هذه الأعمال الشعرية والنثرية التي تمثله؛ في الكتاب الثاني، الذي جُعل لدراسة: "الأدب القصصي والمسرحي في مصر"، والذي هو توأم هذا الكتاب الأول. أسأله أن ينفع بها وأن يثيب عليهما، وله الحمد في الأولى والآخرة.

_ 1 ظهرت "أهل الكهف" سنة 1932، وظهرت "شهر زاد" سنة 1934، وظهرت "براسكا" سنة 1939، وظهرت مجموعة مسرحيات توفيق الحكيم" سنة 1937 في مجلدين.

مراجع الكتاب

مراجع الكتاب المراجع العربية ... مراجع الكتاب: مرتبة عناوينها حسب الحروف الهجائية أولًا: المراجع العربية الكتب: "أ" 1- الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد حسين جـ1، جـ2 "القاهرة سنة 1954-1956". 2- آثار الزعيم سعد زغلول، جمع إبراهيم الجزيري جـ1 "القاهرة سنة 1927". 3- الأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف "القاهرة سنة 1961". 4- أدب المازني للدكتورة نعمات فؤاد "القاهرة سنة 1954". 5- أدب المقالة الصحفية للدكتور عبد اللطيف حمزة جـ2-جـ6" القاهرة سنة 1950-1954". 6- الأدب الأندلسي للدكتور أحمد هيكل ط2 "القاهرة سنة 1962". 7- الأدب وفنونه للدكتور عز الدين إسماعيل "الاقهرة سنة 1955". 8- أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأمريكية لجورج صيدح "القاهرة سنة 1956". 9- الأدب ومذاهبه للدكتور محمد مندور ط2 "القاهرة سنة 1951". 10- أرواح شاردة لعلي محمود طه المهندس ط4. 11- الأزهر وتاريخه وتطوره "القاهرة سنة 1964". 12- الإسلام في شعر شوقي للدكتور أحمد الحوفي "القاهرة سنة 1962". 13- أسواق الذهب لأحمد شوقي ط. دار الهلال "القاهرة سنة 1932". 14- الأعلام لخير الدين الزركلي عشرة أجزاء "القاهرة سنة 1954". 15- أعلام من الشرق والغرب لمحمد عبد الغني حسن "القاهرة سنة 1949".

16- أفيون الشعوب لعباس محمود العقاد "القاهرة سنة 1956". 17- إنشاء العطار للشيخ حسن العطار "القاهرة سنة 1904هـ". "ب" 18- بدائع الزهور لابن إياس "استانبول سنة 1932". 19- برناردشو لأحمد خاكي "الإسكندرية سنة 1967". "ت" 20- تاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر للويس شيخو جـ1، جـ2 "بيروت سنة 1908-1910". 21- تاريخ آداب اللغة العربية لجورجي زيدان جـ4 بتحقيق شوقي ضيف "القاهرة سنة 1957". 22- تاريخ البعثات الحكومية لمحمد فؤاد شاكر "بحث مكتوب على الآلة الكاتبة بمكتبة وزارة التربية". 23- تاريخ التعليم في عصر محمد علي لأحمد عزت عبد الكريم "القاهرة سنة 1938". 24- تاريخ التعليم في مصر -عصر إسماعيل لأحمد عزت عبد الكريم "القاهرة سنة 1945". 25- تاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي مجلدان "القاهرة سنة 1929-1930". 26- تاريخ الشيخ محمد عبده لمحمد رشيد رضا 4 أجزاء "القاهرة سنة 1931". 27- تاريخ مصر الاقتصادي والمالي للدكتور أمين مصطفى عفيفي ط3 القاهرة سنة 1954". 28- تاريخ مصر من الفتح العثماني لسليم حسن ط6 "القاهرة سنة 1924".

29- تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر لجورجي زيدان جـ1، جـ2 "القاهرة سنة 1910". 30- تخليص الإبريز في تلخيص باريز لرفاعة الطهطاوي "القاهرة سنة 1955". 31- تطور الرواية العربية للدكتور عبد المحسن بدر "القاهرة سنة 1963". 32- تطور الشعر العربي الحديث في مصر للدكتور ماهر حسن فهمي "القاهرة سنة 1958". 33- تطور الصحافة المصرية للدكتور إبراهيم عبده "القاهرة سنة 1944". 34- تقويم جامعة القاهرة "القاهرة سنة 1957". 35- تقويم دار العلوم لمحمد عبد الجواد "القاهرة سنة 1952". "ث" 36- ثورة الأدب للدكتور محمد حسين هيكل "القاهرة سنة 1933". 37- ثورة سنة 1919 لعبد الرحمن الرافعي جـ1، جـ2 "القاهرة سنة 1946". 38- الثورة العرابية لعبد الرحمن الرافعي "القاهرة سنة 1949". "ج" 39- جماعة أبوللو لعبد العزيز الدسوقي "القاهرة سنة 1960". "ح" 40- حافظ إبراهيم للدكتور عبد الحميد سند الجندي "القاهرة سنة 1960". 41- حافظ وشوقي للدكتور طه حسين "القاهرة سنة 1933". 42- الحجاج بن يوسف لجورجي زيدان "القاهرة سنة 1902". 43- حديث الأربعاء للدكتور طه حسين جـ1، جـ2، جـ3 "القاهرة سنة 1926-1945".

44- حديث عيسى بن هشام لمحمد المويلحي "القاهرة-طبعة مصر". 45- حصاد الهشيم لإبراهيم عبد القادر المازني "القاهرة سنة 1932". 46- حوليات مصر السياسية لأحمد شفيق -تمهيد جـ2 "القاهرة سنة 1927". 47- حياة الرافعي لمحمد سعيد العريان "القاهرة سنة 1939". "خ" 48- الخطابة السياسية لعبد الصبور مرزوق "رسالة ماجستير مكتوبة على الآلة الكاتبة بمكتبة كلية دار العلوم". 49- الخطط التوفيقية لعلي مبارك "القاهرة سنة 1305-1306هـ". 50- خلاصة اليومية لعباس محمود العقاد "القاهرة سنة 1912". "د" 51- دراسات في الرواية المصرية للدكتور علي الراعي "القاهرة سنة 1964". 52- الديوان لعباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني جـ1، جـ2 " القاهرة 1920-1921". 53- ديوان أطياف الربيع لأحمد زكي أبي شادي "القاهرة سنة 1933". 54- ديوان أغاني الكوخ لمحمود حسن إسماعيل "القاهرة سنة 1935". 55- ديوان الألحان الضائعة لحسن كامل الصيرفي "القاهرة سنة 1934". 56- ديوان أنداء الفجر لأحمد زكي أبي شادي "القاهرة سنة 1910". 57- ديوان البارودي طبعة دار الكتب جـ1، جـ2 "القاهرة سنة1940- 1942". 58- ديوان بعد الأعاصير لعباس محمود العقاد "القاهرة سنة 1950". 59- ديوان حافظ لحافظ إبراهيم جـ1، جـ2 "القاهرة سنة 1939". 60- ديوان الخليل لخليل مطران "القاهرة سنة 1908". 61- ديوان زينب للدكتور أحمد زكي أبي شادي "القاهرة سنة 1924".

62- ديوان الساعاتي لمحمود صفوت الساعاتي "القاهرة سنة 1911". 63- ديوان السيد محمد شهاب الدين "القاهرة سنة 1277هـ". 64- ديوان شرق وغرب لعلي محمود طه المهندس "القاهرة سنة 1947". 65- ديوان الشفق الباكي لأحمد زكي أبي شادي "القاهرة سنة 1927". 66- ديوان الشوق العائد لعلي محمود طه المهندس "القاهرة سنة 1944". 67- ديوان الشوقيات لأحمد شوقي جـ1، جـ2، جـ3، جـ4 "القاهرة سنة 1948، 1950، 1951". 68- ديوان الشيخ علي أبي النصر "القاهرة 1300هـ". 69- ديوان صالح جودت "القاهرة سنة 1934". 70- ديوان صالح مجدي "القاهرة سنة 1311هـ". 71- ديوان عابر سبيل لعباس محمود العقاد "القاهرة سنة 1933". 72- ديوان عائشة التيمورية "القاهرة سنة 1952". 73- ديوان عبد الرحمن شكري "الإسكندرية سنة 1960". 74- ديوان عبد المطلب لمحمد عبد المطلب "القاهرة بدون تاريخ". 75- ديوان العقاد لعباس محمود العقاد "القاهرة سنة 1928". 76- ديوان عودة الراعي لأحمد زكي أبي شادي "الإسكندرية سنة 1942". 77- ديوان الكاشف لأحمد الكاشف جـ1، جـ2 "القاهرة سنة 1913-1914". 78- ديوان ليالي الملاح التائه "القاهرة سنة 1943". 79- ديوان المازني لإبراهيم عبد القادر المازني ط، المجلس الأعلى لرعاية الفنون "القاهرة سنة 1961". 80- ديوان مجد الإسلام لأحمد محرم "القاهرة سنة 1963". 81- ديوان محرم لأحمد محرم جـ1 "القاهرة سنة 1908"، جـ2 "دمنهور سنة 1920".

82- ديوان مختارات وحي العام للدكتور أحمد زكي أبي شادي "القاهرة سنة 1928". 83- ديوان الملاح التائه لعلي محمود طه المهندس ط4 "القاهرة سنة 1943". 84- ديوان ناجي ط. وزارة الثقافة "القاهرة سنة 1961". 85- ديوان نسيم لأحمد نسيم القاهرة سنة 1326هـ". 86- ديوان هدية الكروان لعباس محمود العقاد "القاهرة سنة 1933". 87- ديوان هكذا أغني لمحمود حسن إسماعيل "القاهرة سنة 1938". 88- ديوان وحي الأربعين لعباس محمود العقاد "القاهرة سنة 1933". 89- ديوان وطنيتي لعلي الغاياتي ط3 "القاهرة سنة 1947". 90- ديوان الينبوع للدكتور أحمد زكي أبي شادي "القاهرة سنة 1934". "ر" 91- رائد الشعر الحديث لمحمد عبد المنعم خفاجي جـ1، جـ2 "القاهرة سنة 1955-1956". 92- رفاعة الطهطاوي للدكتور أحمد بدوي "القاهرة سنة 1950". 93- الرمزية والأدب العربي الحديث لأنطون كرم غطاس "بيروت سنة 1949". 94- الروائع لشعراء الجيل جمع محمد فهمي "القاهرة سنة 1945". 95- الرومانتيكية للدكتور محمد غنيمي هلال "القاهرة سنة 1956". 96- الرومانتيكية ومعالمها في الشعر العربي الحديث لعيسى بلاطة "بيروت سنة 1960". "ز" 97- زعماء الإصلاح لأحمد أمين "القاهرة سنة 1948". 98- زينب للدكتور محمد حسين هيكل ط الشركة العربية "القاهرة سنة 1958".

"س" 99- ساعات بين الكتب لعباس محمود العقاد "القاهرة سنة 1929". 100- سعد زغلول -سيرة وتحية لعباس محمود العقاد "القاهرة سنة 1936". "ش" 101- شرح ديوان الحماسة للمرزوقي "القاهرة سنة 1951". 102- شعراء الرابطة العلمية لنادرة السراج "القاهرة سنة 1957". 103- الشعر العربي في المهجر لمحمد عبد الغني حسن "القاهرة سنة 1955". 104- شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي لعباس محمود العقاد "القاهرة سنة 1937". 105- الشعر المصري بعد شوقي للدكتور محمد مندور الحلقات 1، 2، 3 "القاهرة سنة 1955، 1957، 1958". 106- شعراء الوطنية لعبد الرحمن الرافعي "القاهرة سنة 1954". "ص" 107- الصحافة والأدب في مصر للدكتور عبد اللطيف حمزة "القاهرة سنة 1955". 108- صهاريج اللؤلؤ لمحمد توفيق البكري "الطبعة الثانية بدون تاريخ". "ع" 109- عبده بك لأحمد زكي أبي شادي "القاهرة سنة 1927". 110- العبرات لمصطفى لطفي المنفلوطي "القاهرة سنة 1935". 111- عبرات الشرق على الزعيم سعد، جمع البحيري "القاهرة سنة 1927". 112- عجائب الآثار لعبد الرحمن الجبرتي "القاهرة سنة 1322هـ". 113- عصر إسماعيل لعبد الرحمن الرافعي "القاهرة سنة 1932". 114- العقاد -دراسة وتحية "القاهرة سنة 1962". 115- علم الدين لعلي مبارك جـ1، جـ2، جـ3 "القاهرة سنة 1883".

116- علي محمود طه للسيد تقي الدين السيد "القاهرة من مطبوعات المجلس الأعلى لرعاية الفنون". "غ" 117- الغربال لميخائيل نعيمة "القاهرة سنة 1923". "ف" 118- فجر القصة ليحيى حقي "القاهرة -المكتبة الثقافية رقم 6". 119- فن الخطابة للدكتور أحم الحوفي ط 3 "القاهرة سنة 1963". 120- الفن القصصي في الأدب المصري الحديث للدكتور محمود شوكت "القاهرة سنة 1963". 121- في الأدب الحديث لعمر الدسوقي جـ1، جـ2 "القاهرة سنة 1961". 122- في الأدب المصري المعاصر للدكتور عبد القادر القط "القاهرة سنة 1955". 123- في الأدب والنقدس للدكتور محمد مندور "القاهرة سنة 1949". 124- في أعقاب الثورة المصرية لعبد الرحمن الرافعي جـ1، جـ2، جـ3، "القاهرة سنة 1947-1951". 125- في أوقات الفراغ للدكتور محمد حسين هيكل "القاهرة سنة 1948". 126- في الثقافة المصرية لمحمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس "القاهرة سنة 1955". 127- في منزل الوحي للدكتور محمد حسين هيكل "القاهرة سنة 1936". "ق" 128- قبض الريح لإبراهيم عبد القادر المازني "القاهرة سنة 1948". 129- القصة في الأدب العربي الحديث للدكتور يوسف نجم "القاهرة سنة 1952".

130- القصة القصيرة في مصر لعباس خضر "القاهرة سنة 1966". "م" 131- ما تراه العيون لمحمد تيمور -ط. وزارة الثقافة "القاهرة سنة 1964". 132- محاضرات عن إبراهيم المازني للدكتور محمد مندور "القاهرة سنة 1954". 133- محمد عبده للدكتور عثمان أمين "القاهرة سنة 1944". 134- المدخل في النقد الأدبي للدكتور محمد غنيمي هلال "القاهرة سنة 1958". 135- محمد عبد المعطي الهمشري لصالح جودت "من مطبوعات المجلس الأعلى لرعاية الفنون". 136- مذكرات عرابي لأحمد عرابي "القاهرة -الهلال سنة 1953". 137- مذكراتي في نصف قرن لأحمد شفيق "القاهرة سنة 1936". 138- المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين لرفاعة الطهطاوي "القاهرة سنة 1292هـ". 139- المسرحية لعمر الدسوقي "القاهرة سنة 1956". 140- المسرحية للدكتور يوسف نجم "بيروت" سنة 1956". 141- المسرحية في شعر شوقي للدكتور محمود شوكت "القاهرة 1947". 142- المسرح النثري للدكتور محمد مندور -الحلقة الأولى "القاهرة من مطبوعات معهد الدراسات العربية". 143- مسرحيات شوقي للدكتور محمد مندور "القاهرة سنة 1955". 144- مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال البريطاني لعبد الرحمن الرافعي "القاهرة سنة 1942".

145- مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي "القاهرة سنة 1950". 146- مطالعات في الكتب والحياة لعباس محمود العقاد "القاهرة سنة 1924". 147- مع العقاد للدكتور شوقي ضيف "القاهرة سنة 1964". 148- المنفلوطي -حياته وأدبه لمحمد أبي الأنوار "رسالة ماجستير مكتوبة على الآلة الكاتبة بمكتبة كلية دار العلوم". 149- مناهج الألباب المصرية لرفاعة الطهطاوي "القاهرة سنة 1286هـ". 150- من حديث الشعر والنثر للدكتور طه حسين "القاهرة سنة 1936". 151- مواقع الأفلاك في وقائع تليماك لرفاعة الطهطاوي "بيروت سنة 1885". 152- موسيقى الشعر للدكتور إبراهيم أنيس "القاهرة سنة 1949". 153- الميثاق الوطني للرئيس جمال عبد الناصر "القاهرة 1962". "ن" 154- نشاة النثر الحديث لعمر الدسوقي جـ1 "القاهرة سنة 1961". 155- نشأة النقد الأدبي الحديث في مصر لعز الدين الأمين "القاهرة سنة 1962". 156- النثر العربي المعاصر في مائة عام لأنور الجندي "القاهرة سنة 1961". 157- النظرات ط 16 "القاهرة سنة 1957". "و" 158- وطنية شوقي للدكتور أحمد الحوفي "القاهرة سنة 1955". 159- وميض الروح لمحمد تيمور "القاهرة سنة 1922".

الدوريات: 1- صحيفة الأخبار سنة 1967. 2- مجلة الأدب سنة 1963. 3- مجلة أدبي سنة 1936. 4- مجلة البعثة الكويتية 1954. 5- مجلة أبولو سنة 1932، 1933، 1934. 6- صحيفة البلاغ الأسبوعي سنة 1926. 7- صحيفة الجريدة سنة 1907. 8- صحيفة الجهاد سنة 1934. 9- صحيفة الدستور سنة 1907، 1908. 10- مجلة الرسالة 1935، 1946، 1965. 11- صحيفة السياسة الأسبوعية 1926، 1929، 1932. 12- صحيفة عكاظ سنة 1913، 1914. 13- مجلة العصور سنة 1928، 1929، 1930. 14- مضابط مجلس النواب من سنة 1924-1939. 15- مجلة المنار سنة 1925، 1926، 1927. 16- مجلة الهلال سنة 1926، 1932، 1966.

المراجع الأجنبية

المراجع الأجنبية ... ثانيًا: المراجع الإنجليزية 1- Ahmed Shawki, Prince de poetes A.El- Gomayel "Le Caire 1949". 2- Allenby in Egypt: Viscount Waavell. "London 1943) . 3- An Introducion to the English novel: A. Kettle "London 1953". 4- A Premeir of Literary Criticsm: G E. Hollingwroth "Univ. Tulorial Press 1948". 5- Aspects of the Novel: E.M. Forster "London 1947". 6- The Cambride History of English Literature "Vol. 12". 7- The Encyclopeadia Britammica "Vol. 20". 8- Hafiz and Shawqui: A.J. Arberry: J R A S "January 1937 part 1". 9- Lectures on English Poets: Wiliam Hazlitt "London 1951". 10- Modern Egypt: The Earl of Cromer. Vol 2 "London 1908". 11- The Name and Nature of Poetry: A.E. Housman "Univ. Press, Cambridge, 1945". 12- The poetic Image: C. Day Lewys "London 1947". 13- Poetry and Contemplation: G.R. Hamilton. 14- Poetry Direct and Ablique: E.M.W. Tillyard. 15- "point of View: T.S Eliot "London, 5 imp. 16- Reading the sohrt Story: H. Shaw and D. Bemment."New York 1941". 17- The Rise of the novel: I. Watt "Califoria 1957". 18- Romanticism: Lascelles abercrombie "London 1927". 19- Short Story Writing: S.A. Moseley "London 1948". 20- The Situation in Egypt: The Earl of Cromer "London 1908". 21- The Structure of the Novel: E. Muir "London 1954". 22- Studies on th Civilization of Islam: A.R. Gibb "Lonodn1962". 23- Style: Walter Raleigh "London 1962". 24- Waht is Classic: T.S. Eliot "1944".

§1/1