تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد ويليه شرح الصدور في تحريم رفع القبور

الصنعاني

مقدمة

تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد للإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني (1099 ـ 1182هـ) اعتنى بإخراجهما وقدَّم لهما وعلَّق عليهما: عبد المحسن بن حمد العباد البدر بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة: تطيهر الاعتقاد وشرح الصدور للإمامين اليمنيين الصنعاني والشوكاني الحمد لله الذي خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له في ربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقِّ ليظهره على الدِّين كلِّه، فبلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومَن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدِّين. أمَّا بعد، فإنَّ نعم الله على عباده كثيرة لا تُعدُّ ولا تُحصى، وأعظمُ نعمة أنعم بها على أهل الأرض أن بعث فيهم رُسلَه الكرام، ليُخرجوهم بإذن ربِّهم من الظلمات إلى النور، ويُبيِّنوا لهم أنَّ الواجبَ عليهم إخلاص العبادة لله وحده، وألاَّ يشركوا به أحداً من مخلوقاته، وقد قام الرسلُ الكرام بتبليغ ما أُمروا بتبليغه على التمام والكمال، وقد ختم الله هذه الرسالات برسالة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الجنِّ والإنس، وهم أمَّته أي أمَّة الدعوة، فدلَّهم على كلِّ خير، وحذَّرهم من كلِّ شرٍّ، وأعظمُ شيء دلَّهم عليه إفراد الله بالعبادة، وأعظم شيء نهاهم عنه أن يجعلوا مع الله آلهة أخرى، فمَن وفَّقه الله منهم استسلم وانقاد لِمَا جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ومَن كان من أهل الخذلان أعرض عن الحقِّ والهدى الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. ومن أعظم الوسائل التي تفضي إلى الشرك البناء على القبور وتعظيمها، ولهذا جاءت الأحاديث الكثيرة المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

في تحريم البناء على القبور واتِّخاذها مساجد، ومنها ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بخمس ليال، ومنها ما قاله عند نزع روحه صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك الدلالة الواضحة على أنَّها مُحكمةٌ غير منسوخة؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَم يعش بعد أن قالها، فلا يكون هناك مجال للنسخ، وهذا من كمال بيانه ونصحه لأمَّته وشفقته عليها صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وقد اعتنى العلماء قديماً وحديثاً ببيان خطر البناء على القبور والافتتان بها، وأنَّ ذلك يُفضي إلى الشرك، ومن هؤلاء العلماء عالِمان يَمنيان عاش أحدُهما في القرن الثاني عشر، والآخر في القرن الثاني عشر والثالث عشر، وهما الشيخ الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني المولود سنة (1099هـ) ، والمتوفى سنة (1182هـ) ، وقد ألف في ذلك كتابه "تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد"، والثاني الشيخ الإمام محمد ابن علي الشوكاني، المولود سنة (1172هـ) ، والمتوفى سنة (1250هـ) ، وقد ألَّف في ذلك كتابه: "شرح الصدور في تحريم رفع القبور". وقد رأيت أن أجمع بين هذين الكتابين تيسيراً للانتفاع بهما، مع التعليق على مواضع منهما، وأن أقدِّم بين يدي ذلك بمقدِّمة تشتمل على خمسة فصول: الفصل الأول: في التعريف بالإمامَين الصنعاني والشوكاني وكتابيهما "تطهير الاعتقاد" و"شرح الصدور" من كلام شيخنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله، نقلاً من تقديمه للجامع الفريد طبعة الجميح. الفصل الثاني: في بيان تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبيَّة وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.

الفصل الثالث: في اتِّفاق دعوة الرسل على إفراد الله بالعبادة، واتِّفاق أقوامهم على معارضتهم واتِّباعهم ملَّة الآباء. الفصل الرابع: في تحريم البناء على القبور واتِّخاذها مساجد وما يُفضي إليه من الشرك بدعاء أهلها والاستغاثة بهم وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وغير ذلك مِمَّا لا يُطلب إلاَّ من الله. الفصل الخامس: في حكم دعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم، ومتى يُحكم على مَن دعاهم واستغاث بهم بالكفر؟ وأسأل الله عزَّ وجلَّ أن ينفع بهذا العمل، وأن يوفِّق المسلمين للفقه في دينهم وعبادة ربِّهم على الوجه الذي شرعه لهم، وأن يُسلِّمهم من الوقوع في الشرك، وأن يَقيَهم الوسائل والذرائع الموصلة إليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه.

جعل بعضهم حجة على بعض، عند التنازع في المسائل العلمية1، وإنَّما يوجب ذلك التعاون بينهم فيأخذ القويُّ بيد الضعيف، ويكشف عن غامض المسائل وأدلَّتها، ويدله على طرق الاستدلال حتى ينهض ويصير في عداد العلماء، ثم ذكر مسألة تحريم رفع القبور والبناء عليها على سبيل المثال؛ ليوضح بذلك طريقة العلماء في الرجوع عند التنازع إلى الكتاب والسنة، فذكر الأحاديث الكثيرة في تحريم رفع القبور والبناء عليها ووجوب هدم ما كان مبنيًّا عليها، وتحريم اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، ولعن مَن فعل ذلك، وبيَّن وجه الاستدلال بها على المطلوب، والحكمة التي روعيت في ذلك، وأفاض في ذكر الفتن التي تنشأ عن هذه البدع، وأنَّها ذريعة إلى الشرك الأكبر، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا وإيَّاه في دار كرامته، وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين".

_ 1 في المطبوع: "وأذن في العلماء وإن تفاوتوا في تحمل المسئولية وفي الفضل والجزاء تبَعاً لتفاوتهم في العلم والإمامة والوجاهة، ولا يصح أن يتعلَّل بذلك في جعل بعضهم حجة بعض ... "، ولعل الصواب ما أثبته.

الفصل الثاني: في بيان تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبيَّة وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات. الإيمان بالله يشمل الإيمان بوجوده وربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته، وأنَّه سبحانه وتعالى متَّصفٌ بكلِّ كمال يليق به، منَزَّهٌ عن كلِّ نقص، فيجب توحيده بربوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته. وتوحيده بربوبيَّته الإقرارُ بأنَّه واحد في أفعاله، لا شريك له فيها، كالخَلق والرَّزق والإحياء والإماتة، وتدبير الأمور والتصرّف في الكون، وغير ذلك مِمَّا يتعلَّق بربوبيَّته. وتوحيد الألوهيَّة توحيده بأفعال العباد، كالدعاء والخوف والرَّجاء والتوكُّل والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذَّبح والنَّذر، وغيرها من أنواع العبادة التي يجب إفراده بها، فلا يُصرف منها شيء لغيره، ولو كان ملَكاً مقرَّباً أو نبيًّا مرسَلاً، فضلاً عمَّن سواهما. وأمَّا توحيد الأسماء والصفات، فهو إثبات كلِّ ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على وجه يليق بكماله وجلاله، دون تكييف أو تمثيل، ودون تحريف أو تأويل أو تعطيل، وتنزيهه عن كلِّ ما لا يليق به، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فجمع في هذه الآية بين الإثبات والتنزيه، فالإثبات في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} والتنزيه في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فله سبحانه وتعالى سمع لا كالأسماع، وبصر لا كالأبصار، وهكذا يُقال في كلِّ ما ثبت لله من الأسماء والصفات.

وهذا التقسيم لأنواع التوحيد عُرف بالاستقراء من نصوص الكتاب والسُّنَّة، ويتَّضح ذلك بأوَّل سورة في القرآن، وآخر سورة؛ فإنَّ كلاًّ منهما مشتملةٌ على أنواع التوحيد الثلاثة. فأمَّا سورة الفاتحة، فإنَّ الآيةَ الأولى فيها، وهي: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} مشتملةٌ على هذه الأنواع؛ فإنَّ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فيها توحيد الألوهية؛ لأنَّ إضافةَ الحمد إليه من العباد عبادةٌ، وفي قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} إثبات توحيد الربوبيَّة، وهو كون الله عزَّ وجلَّ ربَّ العالمين، والعالَمون هم كلُّ مَن سوى الله؛ فإنَّه ليس في الوجود إلاَّ خالقٌ ومخلوق، والله الخالقُ، وكلُّ مَن سواه مخلوق، ومن أسماء الله الرب، وقبله لفظ الجلالة في هذه الآية. وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مشتملٌ على توحيد الأسماء والصفات، والرحمن والرحيم اسمان من أسماء الله يدُلاَّن على صفة من صفات الله، وهي الرَّحمة، وأسماءُ الله كلُّها مشتقَّةٌ، وليس فيها اسم جامد، وكلُّ اسم من الأسماء يدلُّ على صفة من صفاته. و {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيه إثبات توحيد الربوبيَّة، وهو سبحانه مالك الدنيا والآخرة، وإنَّما خصَّ يوم الدِّين بأنَّ اللهَ مالكُه؛ لأنَّ ذلك اليوم يخضعُ فيه الجميعُ لربِّ العالَمين، بخلاف الدنيا، فإنَّه وُجد فيها من عتا وتَجبَّر، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيه إثباتُ توحيد الألوهية، وتقديمُ المفعول وهو {إِيَّاكَ} يُفيد الحصرَ، والمعنى: نخصُّكَ بالعبادة والاستعانة، ولا نشرك معك أحداً. وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ

الفصل الأول: في التعريف بالإمامَين الصنعاني والشوكاني وكتابيهما "تطهير الاعتقاد" و"شرح الصدور" من كلام شيخنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله، نقلا من تقديمه للجامع الفريد طبعة الجميح. أوَّلاً: الإمام الصنعاني: "هو العالم الفاضل محدِّث وقته وفقيه زمانه الشيخ محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير الكحلاني ثم الصنعاني، وُلد بكحلان عام (1099هـ) ، وحُبِّبت إليه الرحلة في طلب العلم، وانتقل إلى صنعاء وأخذ عن علمائها، ثم رحل إلى الحجاز وأخذ عن كبار علماء مكة والمدينة، ثم عاد إلى صنعاء لنشر العلم، وإحياء السنة والقضاء على البدعة، فجلس للتدريس وبذل فيه جهده، حتى اشتهر أمرُه وعلا قدرُه وارتفع سهمه، وصار مرجعاً لأهل العلم ببلاده، ونهض بالدعوة إلى الإصلاح، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وصدع بالحقِّ وشدَّد في النكير على المبتدعة والمنحرفين، لا يُبالي بما يُصيبه من أذاهم، ولا يخشى في الله لومة لائم، فكفاه الله غائلتَهم، واجتمع حوله خلق كثير، وكان له من الأثر المحمود ما نرجو أن يجزيه الله به خير الجزاء. وإلى جانب ما قام به بعد التدريس والوعظ والإصلاح، ألَّف كتباً ورسائل كثيرة، منها: "سبل السلام شرح بلوغ المرام"، و"العدة"، وهي تعليقات حشَّى بها الإحكام لابن دقيق العيد على "عمدة الأحكام"، و"قصب السكر نظم نخبة الفكر" لابن حجر، وشرحه بكتاب سمَّاه "إسبال المطر"، و"إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد"،

و"تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد"، وهو الكتاب الذي نقدِّمه للقراء. إنَّ هذا الكتاب مع صغر حجمه عَظُم نفعه وعمَّت فائدتُه، وقد رتَّبه المؤلِّف على مقدمة وخمسة أصول وجملة فصول، أمَّا المقدمة فذكر فيها ما حمله على تأليفه من انتشار الشرك في الأمصار والبلاد بتعظيم السواد الأعظم من الناس للقبور ومن فيها تعظيماً لا ينبغي أن يكون إلاَّ لله وحده، واعتقادهم في الكهنة الذين يزعمون الكشف وعلم الغيب، وتصديقهم إيَّاهم في ذلك، وأمَّا الأصول ففي بيان أنَّ القرآن حقٌّ وقولٌ صدق، وأنَّ الرسلَ إنَّما بُعثوا بتوحيد الألوهية، وأنَّه أساس صحة العبادة وقبولها، أمَّا توحيد الربوبية فهو مركوز في الفطر، وقد أقرَّ به المشركون، ولكنَّه لا يُغني عنهم شيئاً لإخلالهم بتوحيد العبادة، وأمَّا الفصول فقد فصل فيها ما أجمله في الأصول الخمسة من أنواع العبادة والاستدلال عليها، وذكر فيها كثيراً من الشبه التي يتعلَّل بها المبتدعة لشركهم وأجاب عنها، وجعل ذلك على صورة السؤال والجواب؛ تحديداً للمطلوب وتيسيراً للفهم حتى تقوم الحجة ويتم الإعذار، فالله أسأل أن يغفر لنا وله ويفيض علينا من رحماته ويسكننا فسيح جنَّاته، إنَّه مجيب الدعاء، وصلى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم".

ثانياً: الإمام الشوكاني: "هو العالم الفاضل الشيخ محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني ثم الصنعاني، وُلد في ذي القعدة عام (1172هـ) ، وتوفي في جمادى الآخرة عام (1250هـ) رحمه الله. حفظ القرآن وجوَّده على جماعة من المعلمين بصنعاء، وحفظ كثيراً من المتون في الفقه وأصوله وفي النحو والبلاغة والمنطق وأدب البحث والمناظرة وغيرها من الفنون المختلفة، ثم حضر مجالس العلماء فتلقَّى عنهم شروح هذه المتون وغيرها من المؤلفات، وبذل جهده في ذلك حتى تفوَّق في كثير من علوم الشريعة واللغة العربية، واشتغل بالتدريس والتأليف حتى لقي ربَّه فانتفع به خلق كثير، وانتشرت مؤلفاته بين المتعلمين في الأمصار والبلاد، وهي كثيرة منها: "نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار"، و"إرشاد الفحول في علم الأصول"، و"الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد"، و"مفيد المستفيد في الردِّ على من أنكر الاجتهاد من أهل التقليد"، و"رسالة شرح الصدور في تحريم رفع القبور"، وهي التي نقدِّمها للقراء. بدأ المؤلِّفُ هذه الرسالة ببيان وجوب الردِّ عند الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنَّهما الحكم العدل الذي يفصل بين الحقِّ والباطل عند الاختلاف، واستدلَّ على ذلك بالكتاب والسنة والإجماع، وأنَّ العلماء وإن تفاوتوا في تحمل المسئولية وفي الفضل والجزاء تبَعاً لتفاوتهم في العلم والإمامة والوجاهة، فلا يصح أن يتعلَّل بذلك في

الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} فيه إثبات توحيد الألوهية؛ فإنَّ طلبَ الهداية من الله دعاءٌ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاءُ هو العبادة"، فيسأل العبدُ ربَّه في هذا الدعاء أن يَهديَه الصرطَ المستقيمَ الذي سلكه النبيُّون والصدِّيقون والشهداء والصالِحون، الذين هم أهل التوحيد، ويسأله أن يُجنِّبَه طريقَ المغضوب عليهم والضالِّين، الذين لَم يحصل منهم التوحيدُ، بل حصل منهم الشِّركُ بالله وعبادةُ غيره معه. وأمَّا سورة الناس، فقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثباتُ أنواع التوحيد الثلاثة؛ فإنَّ الاستعاذةَ بالله فيه توحيد الألوهيَّة. و {بِرَبِّ النَّاسِ} فيه إثبات توحيد الربوبيَّة وتوحيد الأسماء والصفات، وهو مثل قول الله عزَّ وجلَّ في أول الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقوله: {مَلِكِ النَّاسِ} فيه إثباتُ الربوبيَّة والأسماء والصفات. و {إِلَهِ النَّاسِ} فيه إثبات الألوهية والأسماء والصفات. والنسبةُ بين أنواع التوحيد الثلاثة هذه أن يُقال: إنَّ توحيدَ الربوبيَّة وتوحيدَ الأسماء والصفات مستلزمان لتوحيد الألوهية، وتوحيد الألوهيَّة متضمِّنٌ لهما، والمعنى أنَّ مَن أقرَّ بالألوهيَّة فإنَّه يكونُ مُقرًّا بتوحيد الربوبيَّة وبتوحيد الأسماء والصفات؛ لأنَّ مَن أقرَّ بأنَّ اللهَ هو المعبودُ وحده فخصَّه بالعبادة ولم يجعل له شريكاً فيها، لا يكون منكراً أنَّ اللهَ هو الخالقُ الرازقُ المُحيي المميتُ، وأنَّ له الأسماء الحسنى والصفات العُلَى. وأمَّا مَن أقرَّ بتوحيد الربوبيَّة وتوحيد الأسماء والصفات، فإنَّه يلزمه أن يُقرَّ بتوحيد الألوهيَّة، وقد أقرَّ الكفَّارُ الذين بُعث فيهم رسول الله

صلى الله عليه وسلم بتوحيد الربُوبيَّة، فلَم يُدخلهم هذا الإقرارُ في الإسلام، بل قاتَلَهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى يَعبدوا اللهَ وحده لا شريك له، ولهذا يأتي كثيراً في القرآن تقريرُ توحيد الربوبيَّة الذي أقرَّ به الكفَّارُ؛ لإلزامهم بالإقرار بتوحيد الألوهيَّة، ومن أمثلة ذلك قول الله عزَّ وجلَّ: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ففي كلِّ آية من هذه الآيات تقريرُ توحيد الربوبيَّة للإلزام بتوحيد الألوهيَّة، فيقول في كلِّ آية من هذه الآيات الخمس عقب تقرير توحيد الربوبيَّة: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ، والمعنى أنَّ مَن تفرَّد بهذه الأفعال التي هي من أفعال الله وحده، يجبُ أن يُخصَّ بالعبادة وحده؛ لأنَّ مَن اختصَّ بالخلْق والإيجاد وغيرها من أفعال الله يَجب أن يُخصَّ بالعبادة وحده، وكيف يُعقل أن تكون المخلوقات التي كانت عَدَماً، وقد أوجدَها الله، كيف يُعقل أن يكون لها نصيبٌ من العبادة وهي مخلوقةٌ لله؟! قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ في كتابه أضواء البيان (3/409 ـ 414) عند قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي

لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} : "فمِن ذلك توحيد الله جلَّ وعلا، فقد هدى القرآن فيه للطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها، وهي توحيده جلَّ وعلا في ربوبيَّته وفي عبادته، وفي أسمائه وصفاته، وقد دلَّ استقراء القرآن العظيم على أنَّ توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: توحيده في ربوبيَّته، وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُُ} الآية، وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} تجاهل من عارف أنَّه عبدٌ مربوب؛ بدليل قوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} الآية، وقوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} ، وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلاَّ بإخلاص العبادة لله، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدًّا. الثاني: توحيده جلَّ وعلا في عبادته، وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى (لا إله إلاَّ الله) ، وهي متركِّبةٌ من نفي وإثبات، فمعنى النفي منها: خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت، ومعنى الإثبات منها: إفراد الله جلَّ وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام، وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} .

ومن الآيات الدَّالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ وقوله لِذَ نْبِكَ} الآية، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ،: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} ، وقوله: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ، فقد أمر في هذه الآية الكريمة أن يقول: إنَّ ما أوحى إليه محصور في هذا النوع من التوحيد؛ لشمول كلمة (لا إله إلاَّ الله) لجميع ما جاء في الكتب؛ لأنَّها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده، فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي، وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب، والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة. النوع الثالث: توحيده جلَّ وعلا في أسمائه وصفاته، وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين: الأول: تنزيه الله جلَّ وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . والثاني: الإيمان بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله، كما قال بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} : {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، مع قطع الطمع عن إدراك كيفية الاتِّصاف، قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} ، وقد قدَّمنا هذا المبحث مستوفى موضحاً بالآيات القرآنية في سورة الأعراف. ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيَّته

جلَّ وعلا على وجوب توحيده في عبادته، ولذلك يُخاطبُهم في توحيد الربوبيَّة باستفهام التقرير، فإذا أقرُّوا بربوبيَّته احتجَّ بها عليهم على أنَّه هو المستحق لأن يُعبد وحده، ووبَّخهم منكراً عليهم شركهم به غيره، مع اعترافهم بأنَّه هو الرب وحده؛ لأنَّ مَن اعترف بأنَّه هو الربُّ وحده لزمه الاعتراف بأنَّه هو المستحق لأن يُعبد وحده. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} إلى قوله: {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} فلمَّا أقرُّوا بربوبيَّته وبَّخهم منكراً عليهم شركهم به غيره بقوله: {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} . ومنها قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ َسَيَقُولُونَ اللَّهُ} ، فلمَّا اعترفوا وبَّخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ، فلمَّا أقرُّوا وبَّخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} ثم قال: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ، فلمَّا أقرُّوا وبَّخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} ومنها قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} ، فلمَّا صحَّ الاعتراف وبَّخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً} ومنها قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، فلمَّا صحَّ إقرارُهم وبَّخهم منكراً عليهم بقوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} ومنها قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ

الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، فلمَّا صحَّ اعترافهم وبَّخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، فلمَّا صحَّ إقرارُهم وبَّخهم منكراً عليهم شركهم بقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} ، وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، فلمَّا صحَّ اعترافهم وبَّخهم منكراً عليهم بقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ، وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} ، ولا شكَّ أنَّ الجواب الذي لا جواب لهم البتة غيره: هو أنَّ القادرَ على خلق السموات والأرض وما ذكر معها خير من جماد لا يقدر على شيء، فلمّا تعيَّن اعترافهم وبَّخهم منكراً عليهم بقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} ، ثم قال تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} ، ولا شكَّ أنَّ الجواب الذي لا جواب غيره كما قبله، فلمّا تعيَّن اعترافهم وبَّخهم منكراً عليهم بقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ، ثم قال جلَّ وعلا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} ، ولا شكَّ أنَّ الجواب كما قبله، فلمَّا تعيَّن إقرارهم بذلك وبَّخهم منكراً عليهم بقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ، ثم قال تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} ، ولا شكَّ أنَّ الجواب كما قبله، فلمَّا تعيَّن إقرارهم بذلك وبَّخهم منكراً عليهم بقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، ثم قال جلَّ وعلا: {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ

وَالأَرْضِ} ، ولا شكَّ أنَّ الجواب كما قبله، فلمَّا تعيَّن الاعتراف وبَّخهم منكراً عليهم بقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} ، ولا شكَّ أنَّ الجواب الذي لا جواب لهم غيره هو: لا! أي ليس من شركائنا مَن يقدر على أن يفعل شيئاً من ذلك المذكور من الخلق والرَّزق والإماتة والإحياء، فلمَّا تعيَّن اعترافهم وبَّخهم منكراً عليهم بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} والآيات بنحو هذا كثيرة جدًّا، ولأجل ذلك ذكرنا في غير هذا الموضع أنَّ كلَّ الأسئلة المتعلِّقة بتوحيد الربوبيَّة استفهامات تقرير، يُراد منها أنَّهم إذا أقرُّوا رتَّب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار؛ لأنَّ المقرَّ بالربوبيَّة يلزمه الإقرارُ بالألوهيَّة ضرورة، نحو قوله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} ، وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} ، وإن زعم بعض العلماء أنَّ هذا استفهام إنكار؛ لأنَّ استقراء القرآن دلَّ على أنَّ الاستفهام المتعلِّق بالربوبيَّة استفهام تقرير وليس استفهام إنكار؛ لأنَّهم لا ينكرون الربوبيَّة كما رأيت كثرة الآيات الدَّالَّة عليه. والكلام على أقسام التوحيد ستجده إن شاء الله في مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبارك، بحسب المناسبات في الآيات التي نتكلَّم على بيانها بآيات أخر".

الفصل الثالث: في اتِّفاق دعوة الرسل على إفراد الله بالعبادة، واتِّفاق أقوامهم على معارضتهم واتِّباعهم لِملَّة الآباء. خلق الله الخلق ليعبدوه، فقال عزَّ وجلَّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ، أي: خلقهم لأمرهم بعبادة الله وحده ونهيهم عن عبادة كلِّ مَن سواه، وقد جاءت آيات الكتاب العزيز دالَّة على هذه الدعوة إجمالاً وتفصيلاً، وجاءت الآيات أيضاً إجمالاً وتفصيلاً دالَّة على كفر أقوامهم بهم وبقائهم على ما كان عليه آباؤهم. فمن الآيات الدَّالَّة إجمالاً على دعوة الرسل أممهم إلى إفراد الله بالعبادة قول الله عزَّ وجلَّ في سورة النحل: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَا أَنَا فَاتَّقُونِ} ، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وقوله في سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} ومن الآيات الدالة إجمالاً على كفر أقوامهم بهم وبقائهم على ما كان عليه آباؤهم قول الله عزَّ وجلَّ في سورة إبراهيم: {لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}

وقد أخبر الله في هاتين الآيتين عن قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلاَّ الله أنَّهم قالوا لرسلهم: {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} ، وأنَّهم قالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} ومنها قوله تعالى في سورة سبأ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} ، وقوله في سورة الزخرف: {كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} ، وقوله في سورة الذاريات: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} وأمَّا الآيات الدالة تفصيلاً على دعوة كلِّ رسول قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له ورد قومه عليه بالكفر به والبقاء على ما كان عليه الآباء فقد قال الله عن نوح في سورة الأعراف: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ، وقال في سورة هود: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌأَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} ، وقال في سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، وقال في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ، وقال في سورة نوح: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ َنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}

وقال عن ردِّ قومه عليه في سورة المؤمنون: {َقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} وقال عن هود في سورة الأعراف: {إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، وقال في سورة هود: {َإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} ، وقال في سورة المؤمنون: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ َأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، قيل: هو هود، وقيل: هو صالح، وقال في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ، وقال في سورة فصلت: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} ، وقال في سورة الأحقاف: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وقال عن ردِّ قومه عليه في سورة الأعراف: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} ، وقال في سورة هود: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} ، وقال في سورة الأحقاف: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وقال عن صالح في سورة الأعراف: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} ،

وقال في سورة هود: {إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} ، وقال في الشعراء: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ، وقال في النمل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} ، وقال في فصلت: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} وقال عن ردِّ قومه عليه في سورة هود: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} وقال عن لوط في الشعراء: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} وقال في القمر: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ} وقال عن إبراهيم في سورة الأنعام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ، وقال في سورة إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} ، وقال في مريم: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} ، وقال في الأنبياء: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} ، وقال: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا

تَعْقِلُونَ} ، وقال في سورة الشعراء: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ، وقال في العنكبوت: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وقال أيضاً: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} ، وقال في الصافات: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وقال: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، وقال في الزخرف: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، وقال في الممتحنة: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وقال في ردِّ قومه عليه: جواب أبيه في سورة مريم: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} ، وقال في الأنبياء: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} ، وقال: {قَالُوا حَرِّقُوهُ

وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} ، وقال في الشعراء: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} وقال عن شعيب في الأعراف: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} ، وقال في هود: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} ، وقال في الشعراء: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} ، وقال في العنكبوت: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ} وقال عن ردِّ قومه عليه في الأعراف: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} ، وقال في هود: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وقال عن يعقوب في البقرة: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وقال عن موسى في البقرة: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} ، وقال في آل عمران: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، وقال في الأعراف: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} ، وقال: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ

عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} ، وقال: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} ، وقال في الانفال: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، وقال: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} وقال في التوبة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} ، وقال في يونس: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِ بِآياتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} ، وقال في هود: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} ، وقال في إبراهيم: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} وقال: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} وقال في الإسراء: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً} ، وقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرائيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراًقَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} ، وقال في طه: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} ، وقال في المؤمنون: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ

إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ} ، وقال في الفرقان: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} ، وقال في الشعراء: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} ، وقال في النمل: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} ، وقال في العنكبوت: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} ، وقال في غافر: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} ، وقال في الزخرف: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلأِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} ، وقال في القمر: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} ، وقال في المزمل: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} ، وقال في النازعات: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} وقال عن ردِّ قومه عليه في يونس: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} ، وقال في القصص: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} وقال عن عيسى في آل عمران: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ، وقال في المائدة: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} ، وقال: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} ، وقال في التوبة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، وقال في مريم: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ، وقال في الزخرف: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} ، وقال في الصف: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} وقال عن سليمان في سورة النمل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ، وقال عن إلياس في الصافات: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} وقال عن يونس في الصافات: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يزيدون

فآمنوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} وقال عن يوسف: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وقد ختم الله الرسالات برسالة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الجنِّ والإنس، فدلَّ أمَّته على كلِّ خير، وحذَّرها من كلِّ شرٍّ، وأعظمُ شيء دعاها إليه إفراد الله بالعبادة، وأعظمُ شيء نهاها عنه أن يُشرك معه أحد في العبادة، وقد أعلن ذلك أول ما بعثه الله بقوله صلى الله عليه وسلم: "يا أيُّها الناس! قولوا لا إله إلاَّ الله تفلحوا" أخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح (16603) ، وقد جاء في القرآن الكريم آياتٌ كثيرة في دعوته إلى التوحيد وتحذيره من الشرك، وآيات كثيرة في ردِّ قومه عليه، وأنَّهم باقون على ملَّة آبائهم، فمن الآيات في الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك قوله عزَّ وجلَّ في البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وقد ابتُدئت الآية الأولى بالأمر بعبادة الله وحده، وخُتمت الآية الثانية بالنهي عن الشرك، وقوله في آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ

بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ، وقوله في الأعراف: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، وقال في الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} ، وقوله في الكهف وفصلت: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ، وقوله في الذاريات: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} ، وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} ومن الآيات في ردِّ قومه عليه قوله تعالى في البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ، وقوله في المائدة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ، وقوله في يونس: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} ، وقوله في الأنبياء: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} ، وقوله في الفرقان: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} ، وقوله في لقمان: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} ، وقوله في سبأ: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا

بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} ، وقوله في الصافات: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} ، وقوله في ص: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ولَمَّا حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم "يعوده وعنده رجلان، فقال له: يا عم! قل لا إله إلاَّ الله؛ كلمة أحاجُّ لك بها عند الله، فقالا له: أترغب عن ملَّة عبد المطلب؟! فكان آخر ما قال: على ملَّة عبد المطلب" رواه البخاري (3884) ومسلم (24) . وقد تبيَّن بهذه الآيات الكثيرة الدالَّة إجمالاً وتفصيلاً على دعوة الرسل أقوامهم إلى إفراد الله بالعبادة أنَّ الواجبَ الاهتمام والعناية بالدعوة إلى توحيد الألوهية، اقتداءً برسل الله الكرام عليهم الصلاة والسلام؛ لأنَّه التوحيد الذي خلق الله الخلق لأَمْرهم به ونهيهم عن صرف العبادة لأحد سواه، وهو الذي من أجله أُرسلت الرسل وأُنزلت الكتب، ولا يجوز التشاغل عنه بالاهتمام والعناية بتقرير توحيد الربوبية؛ لأنَّ ذلك مركوزٌ في الفطر ولَم تُنكره الأُمم، بل هي مقرَّةٌ به، ولم يُدخلهم إقرارُهم به في الإسلام، ومن الآثار السيِّئة المترتِّبة على اشتغال كثير من المنتسبين إلى العلم بتقرير توحيد الربوبية وعدم عنايتهم بتقرير توحيد الألوهية، ما ابتُلي به كثيرٌ من الناس في مختلف البلاد الإسلامية من الافتتان بالقبور والبناء عليها واتخاذها مساجد، وما يحصل من كثير من الناس من دعاء أهلها والاستغاثة بهم وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وغير ذلك مِمَّا لا يجوز أن يُطلب من غير الله.

ومن باب أولى ما يفعله بعضُ الناس من التشاغل عن تقرير توحيد الألوهية ودعوة المسلمين إلى إخلاص العبادة لله وحده وتحذيرهم من الشرك الذي ابتُلي به المفتونون بالقبور، وذلك باشتغالهم بتقرير إثبات وجود الله بغية إقناع الشيوعيِّين؛ فإنَّ هذا وإن كان مطلوباً في الجملة، إلاَّ أنَّه لا يجوز أن يكون على حساب إهمال المحافظة على سلامة عقائد المسلمين، فإنَّ المحافظة على رأس المال مقدَّمةٌ على البحث عن الرِّبح، ومَثل من يكون كذلك كالذي يُحاول أن يعمرَ قصراً وهو يهدم مصراً، وكالذي يُحاول أن يصيد الطير في الهواء وهو لم يحافظ على ما في حوزته من الطيور، وأوَّلُ شيء عمله أبو بكر الصديق رضي الله عنة في خلافته أنَّه صرف همَّته إلى إصلاح الخلل الداخلي الذي حصل بعد وفاة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من حصول الرِّدَّة من بعض المسلمين ومنعهم الزكاة، ثم بعد ذلك اتَّجه إلى إرسال الجيوش لغزو الفرس وغيرهم.

الفصل الرابع: في تحريم البناء على القبور واتِّخاذها مساجد وما يُفضي إليه من الشرك بدعاء أهلها والاستغاثة بهم وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وغير ذلك مِمَّا لا يُطلب إلاَّ من الله. الشرك بالله عبادة غير الله معه، وهو أعظمُ ذنب عُصي الله به، وهو الذنب الذي لا يغفره الله، قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} في آيتين من سورة النساء، وهو الذنب الذي يُخلَّد صاحبُه في النار أبد الآباد، ولا سبيل له للخروج منها، كما قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} ، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} ، وقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} ، وفي صحيح البخاري (4761) ومسلم (141) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك" الحديث. وقد كثرت نصوص الكتاب والسنة في النهي عن الشرك والتحذير منه وبيان خطره، بل جاءت النصوص في سدِّ الذرائع التي تؤدِّي إليه، من ذلك البناء على القبور وتعظيمها واتِّخاذها مساجد، وقد تواترت

الأحاديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه إعلام الموقعين (3/151) في الوجوه التسعة والتسعين التي أوردها في سدِّ الذرائع قال: "الوجه الثالث عشر: أنَّ النَّبيَّّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور ولَعَن مَن فعل ذلك، ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتِّخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها وعندها، وعن إيقاد المصابيح عليها، وأمر بتسويتها، ونهى عن اتِّخاذها عيداً، وعن شدِّ الرحال إليها؛ لئلاَّ يكون ذلك ذريعةً إلى اتِّخاذها أوثاناً والإشراك بها، وحرم ذلك على مَن قصده ومن لم يقصده، بل قصد خلافه سدًّا للذريعة". ومن أبواب كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "باب: ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جَنَاب التوحيد وسدِّه كل طريق يوصل إلى الشرك"، و"باب ما جاء أنَّ الغلوَّ في قبور الصالحين يُصيِّرها أوثاناً تُعبدُ من دون الله"، و"باب ما جاء أنَّ سببَ كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلوُّ في الصالحين"، و"باب ما جاء من التغليظ فيمن عَبَد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبَده؟! "، وقد أورد آيات وأحاديث وآثاراً في ذلك، كما هي طريقته ـ رحمه الله ـ في هذا الكتاب. ومن الأحاديث الواردة في تحريم البناء على القبور واتِّخاذها مساجد وغير ذلك مِمَّا هو وسيلة إلى الشرك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي الهيَّاج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: "ألاَ أبعثُكَ على ما بعثنِي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تَدَعَ تِمثالاً إلاَّ طمَستَه، ولا قبراً مُشرفاً إلاَّ سوَّيتَه"، وفي لفظ: "ولا صورةً إلاَّ طَمستَها". وفي الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما

قالا: "لَمَّا نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفِق يطرحُ خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمَّ بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: "لعنةُ الله على اليهود والنصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد، يُحذِّرُ ما صنعوا". وقولهما رضي الله عنهما في الحديث: "لَمَّا نُزل" يَعنيَان الموتَ، وقد اشتمل هذا الحديث على ثلاثة أمور: الأمر الأول: الدعاء على اليهود والنصارى باللَّعن. الأمر الثاني: بيان سبب اللَّعن، وهو اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد. والأمر الثالث: بيان الغرض من ذكر ذلك، وهو تحذيرُ هذه الأمَّة من الوقوع فيما وقع فيه اليهود والنصارى، فيستحقُّوا اللَّعنة، قال الحافظ في الفتح (1/532) في شرح هذا الحديث: "وكأنَّه صلى الله عليه وسلم علم أنَّه مرتحلٌ من ذلك المرض، فخاف أن يُعظَّم قبرُه كما فعل مَن مضى، فلعن اليهود والنصارى إشارة إلى ذمِّ مَن يفعلُ فعلَهم". وثبت في صحيح مسلم من حديث جندب بن عبد الله البَجَليِّ أنَّه قال: سمعتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ، وهو يقول: "إنِّي أبرَأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ، فإنَّ الله قد اتَّخذني خليلاً، كما اتَّخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنتُ متَّخذاً من أُمَّتي خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكر خليلاً، ألاَ وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم وصالِحيهم مساجد، ألاَ فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد، إنِّي أنهاكم عن ذلك". وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتَل الله اليهودَ؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد"، وثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها وصْفُ الذين يَبنونَ المساجد على القبور بأنَّهم شرارُ الخَلق عند الله.

وقد ذكر هذه الأحاديث وغيرها الشوكاني في كتابه شرح الصدور، ويأتي تخريجها حيث ذكرها. وهذه الأحاديثُ الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتملت على التحذير من اتِّخاذ القبور مساجد مطلقاً، وبعضُها يُفيد حصولَ ذلك منه قبل أن يموت بخمسٍ، وبعضُها يُفيد حصولَ ذلك عند نزول الموتِ به، وفي ذلك أوضحُ دليل على أنَّ هذا الحكمَ محكمٌ غير منسوخ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك ولَم يعش بعده، حتى يكون هناك مجالٌ للنسخ. والتحذيرُ من ذلك جاء على صِيَغٍ متعدِّدة، فجاء بصيغة الدعاء باللَّعنة على اليهود والنصارى، وجاء بصيغة الدعاء بمقاتلَة الله لليهود، وجاء بوصف فاعلي ذلك بأنَّهم شرارُ الخَلق عند الله، وجاء بصيغة "لا" الناهية في قوله: "ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد"، وبصيغة لفظ النَّهي بقوله: "إنِّي أنهاكم عن ذلك". وهذا مِن كمال نُصحِه لأمَّتِه صلى الله عليه وسلم، وحرصِه على نَجاتِها وشفقتِه عليها، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وجزاه أوفَى الجزاء، وأثابَه أَتَمَّ مثوبَة. واتِّخاذ القبور مساجد يشمل بناء المسجد على القبر، كما قال صلى الله عليه وسلم في النصارى: "أولئك إذا كان فيهم الرَّجل الصالِح فمات بَنَوا على قبره مسجداً، وصوَّروا فيه تلك الصُّوَر، أولئك شرارُ الخلق عند الله"، وهو في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها. ويَشمل قَصدَها واستقبالَها في الصلاة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تجلِسوا على القبور، ولا تُصلُّوا إليها"، أخرجه مسلم (972) من حديث أبي مَرثَد الغنَويِّ رضي الله عنه. ويَشمل السجودَ على القبر من باب أولى؛ إذ هو أخصُّ من الصلاة إليه.

وذكر الذهبيُّ في سير أعلام النبلاء (8/27) في ترجمة عبد الله بن لهيعة أنَّ الدَّفنَ في البيوت من خصائص النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. أقول: وأمَّا دفنُ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في حجرة عائشة رضي الله عنها، فإنَّما جاء تَبَعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن فضل الله عزَّ وجلَّ على هذين الرجلين العظيمين أن جعلهما رفيقي رسول الله صلى الله عليه وسلم الملازمَين له في الدنيا، وجارَيْه في القبر، وبعد البعث والنشور يكونان معه في الجنة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وأورد ابنُ كثير في البداية والنهاية ترجمة السيدة نفيسة بنت الحسن ابن زيد القرشية الهاشمية في حوادث سنة (208هـ) ، ونقل عن ابن خلِّكان أنَّه قال: "ولأهل مصر فيها اعتقاد"، ثم قال ابنُ كثير: "وإلى الآن قد بالغَ العامَّةُ في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيراً جدًّا، ولا سيما عوامُّ مصر، فإنَّهم يُطلقون فيها عبارات بَشِعة، فيها مجازَفةٌ تؤدِّي إلى الكفر والشِّرك، وألفاظاً كثيرة ينبغي أن يعرفوا أنَّها لا تجوز ... "، إلى أن قال: " ... والذي ينبغي أن يُعتقد فيها: ما يليق بِمِثلِها من النساء الصالحات، وأصلُ عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسِها، والمغالاةُ في البَشَر حرامٌ ... ". وكانت وفاةُ ابنِ كثير ـ رحمه الله ـ سنة (774هـ) . ولا يجوز أن يُصَلَّى في المساجد التي بُنيت على قبور، والواجب هدم المسجد الذي بُني على القبر إذا كان القبر هو السابق، وإن كان الميت دُفن في المسجد فيجب نبشُه وإخراجه من المسجد، وأمَّا مسجد نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم ففضله ثابت والصلاة فيه مضاعفةٌ، وهي خير من ألف صلاة في غيره من المساجد إلاَّ المسجد الحرام، كما ثبتت بذلك السنة عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء في ذلك ما كان قبل دخول القبر أو بعد دخوله. وليس لأحد أن يتعلَّق بوجود قبره صلى الله عليه وسلم في مسجده لتجويز بناء المساجد على القبور أو دفن الموتى في المساجد؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم هو الذي بنى مسجدَه صلى الله عليه وسلم، وبنى بجواره بيوت أزواجه خارجاً منه، وبعد موته صلى الله عليه وسلم دُفن في بيت عائشة، وقد بقيت البيوت على ما هي عليه خارج المسجد في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وعهد معاوية رضي الله عنه، وفي عهد خلفاء آخرين من خلفاء بني أمية وفي أثناء عهد بني أميَّة وُسِّع المسجد وأُدخل القبر فيه، وقد مرَّ ذكر جملة من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحذير من بناء المساجد على القبور، وهي أحاديث محكمة، منها ما قاله صلى الله عليه وسلم قبل موته بخمس، ومنها ما قاله في لحظاته الأخيرة صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز ترك هذه الأحاديث المحكمة والتعويل على عمل حصل في أثناء عهد بني أميَّة.

الفصل الخامس: حكم دعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم، ومتى يُحكم على مَن دعاهم واستغاث بهم بالكفر؟ البناءُ على القبور واتِّخاذها مساجد من البدع المحرَّمة التي تؤدِّي إلى الشرك والكفر بالله، وأمَّا دعاء أصحاب القبور والاستغاثة بهم وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، فهو شرك أكبر مُخرجٌ من الملَّة، ويُقال لهذا الفعل: شرك وكفر، ولا يُقال لكلِّ من فعل ذلك إنَّه مشرك كافر؛ فإنَّ من فعل ذلك وهو جاهل معذورٌ لجهله حتى تُقام عليه الحجَّة ويفهمها ثمَّ يُصرُّ على ذلك، فإنَّه حينئذ يُحكم بكفره وردَّته، والفتنة في القبور من الأمور التي يكون فيها لَبسٌ عند كثير من الناس، مِمَّن نشأ في بيئة تعتبر تعظيم القبور ودعاء أصحابها من محبَّة الصالحين، لا سيما إذا كان بينهم أحد من أشباه العلماء الذين يتقدَّمونهم في تعظيم القبور والاستغاثة بأصحابها، زاعمين أنَّهم وسائط تقرِّب إلى الله. والعذرُ بالجهل في مسائل التكفير والتبديع للشخص المعيَّن هو الذي عليه كثيرون من أهل العلم، وهذه نماذج من أقوالهم في ذلك: 1 ـ قال الإمام الشافعي رحمه الله (204هـ) : "لله أسماء وصفات لا يسع أحداً ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأمَّا قبل قيام الحجة فإنَّه يُعذرُ بالجهل؛ لأنَّ علم ذلك لا يُدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر، فنُثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ". فتح الباري (13/407) . 2 ـ وقال أبو بكر بن العربي رحمه الله (543هـ) : "فالجاهل والمخطئ من هذه الأمَّة ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه

مشركاً أو كافراً، فإنَّه يُعذر بالجهل والخطأ حتى تتبيَّن له الحجَّة التي يكفر تاركها بياناً واضحاً، ما يلتبس على مثله، وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام، مِمَّا أجمعوا عليه إجماعاً جليًّا قطعيًّا يعرفه كلٌّ من المسلمين من غير نظر وتأمًُّل". محاسن التأويل للقاسمي (5/1307 ـ 1308) . 3 ـ وقال ابن قدامة رحمه الله (620هـ) : "وكذلك كلُّ جاهل بشيء يُمكن أن يجهله، لا يُحكم بكفره حتى يعرف ذلك وتزول عنه الشبهة ويستحله بعد ذلك". المغني (12/277) . 4 ـ وقال النووي رحمه الله (676هـ) : "وكذلك الأمر في كلِّ من أنكر شيئاً مِمَّا أجمعت الأمة عليه من أمور الدِّين، إذا كان علمه منتشراً كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان والاغتسال من الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم، ونحوها من الأحكام، إلاَّ أن يكون رجلاً حديث عهد بالإسلام ولا يعرف حدوده، فإذا أنكر شيئاً منها جهلاً به لم يكفر". شرح صحيح مسلم (1/205) . 5 ـ وقال ابن تيمية رحمه الله (728هـ) في مجموع الفتاوى (12/523 ـ 524) : "من كان مؤمناً بالله ورسوله مطلقاً ولم يبلغه من العلم ما يبين له الصواب، فإنَّه لا يُحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجَّة التي من خالفها كفر؛ إذ كثير من الناس يخطئ فيما يتأوله من القرآن ويجهل كثيراَ مِمَّا يرد من معاني الكتاب والسنة، والخطأ والنسيان مرفوعان عن هذه الأمَّة، والكفر لا يكون إلاَّ بعد البيان". وقال أيضاً (12/501) : "فليس لأحد أن يكفِّر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تُقام عليه الحجة، وتبين له المحجَّة، ومن ثبت إيمانه

بيقين، لم يَزُل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلاَّ بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة". وقال أيضاً (7/619) : "والتحقيق في هذا أنَّ القول قد يكون كفراً: كمقالات الجهمية الذين قالوا: إنَّ الله لا يتكلَّم، ولا يُرى في الآخرة، ولكن قد يخفى على بعض الناس أنَّه كفر، فيطلق القول بتكفير القائل، كما قال السلف: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إنَّ الله لا يُرى في الآخرة فهو كافر، ولا يكفر الشخص المعيَّن حتى تقوم عليه الحجة". وقال أيضاً في الرد على البكري (ص:258 ـ 260) : "فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفِّرون مَن خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفِّرهم؛ لأنَّ الكفرَ حكمٌ شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله؛ لأنَّ الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، وكذلك التكفير حق لله، فلا يكفر إلاَّ من كفَّره الله ورسوله، وأيضاً فإنَّ تكفير الشخص المعيَّن وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجَّة النبوية التي يكفر من خالفها، وإلاَّ فليس كلُّ من جهل شيئاً من الدِّين يكفر". إلى أن قال: "وقد ثبت في الصحيحين حديث الذي قال لأهله: (إذا أنا متُّ فاسحقوني ثم ذروني في اليمِّ، فوالله! لئن قدر الله عليَّ ليعذِّبني عذاباً ما عذَّبه أحداً من العالمين، فأمر الله البَرَّ فردَّ ما أخذ منه، وأمر البحر فردَّ ما أخذ منه، وقال: ما حملك على ما فعلتَ؟ قال: خشيتك يا ربِّ! فغفر له) ، فهذا اعتقد أنَّه إذا فعل ذلك لا يقدر الله على إعادته، وأنَّه لا يُعيده أو جوَّز ذلك، وكلاهما كفر، لكن كان جاهلاً لم يتبيَّن له الحقُّ بياناً يكفر بمخالفته فغفر الله له".

6 ـ وقال ابن القيم رحمه الله (751هـ) في طريق الهجرتين (ص:546) : "إنَّ العذاب يُستحقُّ بسببين: أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها. الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها. فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد، وأمَّا كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل". 7 ـ وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (1206هـ) : "وأمَّا الكذب والبهتان، فمثل قولهم: إنَّا نكفِّر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنَّا نكفِّر مَن لم يكفر ومن لم يُقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكلُّ هذا من الكذب والبهتان الذي يصدُّون به الناس عن دين الله ورسوله، وإذا كنَّا لا نكفِّر مَن عبَد الصنمَ الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما؛ لأجل جهلهم وعدم مَن يُنبِّههم، فكيف نكفِّر من لم يشرك بالله إذا لم يُهاجر إلينا، أو لم يكفر ويُقاتل، سبحانك هذا بهتان عظيم". الدرر السنية (1/66) . وهذا آخر التقديم لكتابَي تطهير الاعتقاد وشرح الصدور للإمامَين الصنعاني والشوكاني، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد

تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد تأليف: الإمام العلامة الشهير الأمير محمد بن إسماعيل اليمني الصنعاني بسم الله الرحمن الرحيم [قال الإمام العلامة الحَبر الفهَّامة الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله تعالى] 1. الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيته من العباد حتى يُفردوه بتوحيد العبادة كلَّ الإفراد، فلا يتَّخذون له ندًّا، ولا يَدْعون معه أحداً، ولا يتَّكلون إلاَّ عليه، ولا يَفزعون في كلِّ حال إلاَّ إليه، ولا يَدعونه بغير أسمائه الحسنى، ولا يتوصَّلون إليه بالشفعاء: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} ؟ وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك2 له ربًّا ومعبوداً، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، الذي أمره أن يقول: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} ، وكفى بالله شهيداً، صلى الله عليه وعلى آله3 والتابعين له في السلامة من العيوب وتطهير القلوب، عن اعتقاد كلِّ شين يشوب4.

_ 1 ما بين القوسين من خ. 2 لفظ: (وحده لا شريك له) من خ. 3 لم يذكر هنا الصلاة على الصحابة مع الصلاة على النبيِّ صلى الله عليه وسلم والآل، فلعلَّ المراد بآله أهل دينه، فيدخل أهل بيته وأصحابه وغيرهم، وقد ختم الكتاب بالصلاة على النَّبيِّّ صلى الله عليه وسلم والآل والأصحاب. 4 اشتملت خطبة الكتاب على عبارات تدلُّ على موضوع الكتاب، وهو إفراد الله بالعبادة والتحذير من فتنة القبور والمغالاة في أهلها ودعائهم وسؤالهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وغير ذلك مِمَّا لا يُطلب إلاَّ من الله، ويُسمَّى اشتمال الخُطب في الكتب أو غيرها على موضوعات الكتب وغيرها براعة الاستهلال.

وبعد: فهذا (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد) وجب عليَّ تأليفه، وتعيَّن عليَّ ترصيفه؛ لِمَا رأيته وعلمته يقيناً1 من اتخاذ العباد الأنداد في الأمصار والقرى وجميع البلاد، من اليمن والشام ومصر ونجد وتهامة وجميع ديار الإسلام. وهو الاعتقاد في القبور وفي الأحياء مِمَّن يدَّعي العلم بالمغيَّبات والمكاشفات، وهو من أهل الفجور، لا يَحضر للمسلمين مسجداً، ولا يُرَى لله راكعاً ولا ساجداً، ولا يَعرف السنَّةَ ولا الكتاب، ولا يَهاب البعثَ ولا الحساب. فوجب عليَّ أن أنكر ما أوجب الله إنكارَه، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب الله إظهاره2. فاعلم أنَّ ههنا أصولاً هي من قواعد الدِّين، ومِن أهم ما تجب معرفته على الموحِّدين:

_ 1 لفظ: (يقينا) من خ. 2 هذا من المؤلِّف بيان سبب تأليفه الكتاب، و"نجد" فيه المراد بها الأماكن المرتفعة، وهو ما يُقابل "تهامة"، وهي الأماكن المنخفضة.

الأصل الأول أنَّه قد عُلم من ضرورة الدِّين أنَّ كلَّ ما في القرآن فهو حقٌّ لا باطل، وصِدْقٌ لا كذب، وهدى لا ضلالة، وعلمٌ لا جهالة، ويقين لا شك فيه. فهذا الأصل أصلٌ لا يتمُّ إسلامُ أحد ولا إيمانه إلاَّ بالإقرار به، وهذا مُجمعٌ عليه لا خلاف فيه1. الأصل الثاني أنَّ رسلَ الله وأنبياءه ـ من أوِّلهم إلى آخرهم ـ بُعثوا لدعاء العباد إلى توحيد الله بتوحيد العبادة، فكلُّ رسول أوَّل ما يَقرَع به أسماعَ قومِه قوله: {اقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} ، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} ، وهذا هو الذي تضمَّنه قول (لا إله إلاَّ الله) . فإنَّما دَعَت الرسلُ أمَمَها إلى قول هذه الكلمة واعتقاد معناها، لا مجرَّد قولها باللسان، ومعناها: هو إفراد الله بالإلهية والعبادة، والنفي لِما يُعبد من دونه والبراءة منه، وهذا الأصل لا مرية فيما تضمَّنه، ولا شكَّ فيه، وفي أنَّه لا يتم إيمانُ أحد حتى يعلمه ويحققه2.

_ 1 وكذلك يجب التصديق والعمل بما ثبتت به السنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّها وحيٌ من الله، كما قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ، ولدخول السنة في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 2 وقد تقدَّم في الفصل الثالث من المقدمة ذكر ما جاء عن الرسل من الآيات في ذلك إجمالاً وتفصيلاً، وذكر ما أجابتهم به أممهم من الآيات إجمالاً وتفصيلاً.

الأصل الثالث أنَّ التوحيد قسمان: القسم الأول: توحيد الربوبية والخالقية والرَّازقية ونحوها، ومعناه: أنَّ الله وحده هو الخالق للعالَم، وهو الرَّبُّ لهم والرازق لهم، وهذا لا ينكره المشركون ولا يجعلون لله فيه شريكاً، بل هم مُقرُّون به، كما سيأتي في الأصل الرابع. والقسم الثاني: توحيد العبادة، ومعناه: إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات الآتي بيانها، فهذا هو الذي جعلوا لله فيه شركاء، ولفظ الشريك يُشعر بالإقرار بالله تعالى. فالرسل عليهم السلام بُعثوا لتقرير الأول ودعاء المشركين إلى الثاني، مثل قولهم في خطاب المشركين: [14: 10] 1 {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} ، [35: 3] {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ، ونهيهم عن شرك العبادة، ولذا قال الله تعالى: [16: 36] {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، أي: قائلين لأمَمهم أنِ اعبدوا الله، فأفاد بقوله: {فِي كُلِّ أُمَّةٍ} أنَّ جميع الأمم لم تُرسل إليهم الرسل وتُبعث2 إلاَّ لطلب توحيد العبادة، لا للتعريف بأنَّ الله هو الخالق للعالَم، وأنَّه ربُّ السموات والأرض، فإنَّهم مقرُّون بهذا.

_ 1 الرقم الأول رقم السورة، والثاني الآية في السورة (إسماعيل) . 2 لفظ: (وتبعث) من خ.

ولهذا لم ترد الآيات فيه ـ في الغالب ـ إلاَّ بصيغة استفهام التقرير، نحو: [35: 3] {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} ؟ [16: 7] {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} ؟ [14: 10] {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ؟ [6: 14] {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ؟ [31: 11] {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} ؟ [46: 4] {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} ؟ استفهام تقرير لهم لأنهم به مقرُّون. وبهذا تعرف أنَّ المشركين لم يتخذوا الأصنام والأوثان1 ولم يعبدوها، ولم يتخذوا المسيح وأمَّه، ولم يتخذوا الملائكة شركاءَ لله تعالى، لأجل أنَّهم أشركوهم في خلق السموات والأرض، وفي خلق أنفسهم؛ بل اتخذوهم لأنَّهم يقرِّبونهم2 إلى الله زلفى، كما قالوه، فهم مقرُّون بالله في نفس كلمات كفرهم، وأنَّهم شفعاء عند الله، قال الله تعالى: [10: 18] {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، فجعل الله تعالى اتِّخاذهم للشفعاء شركاً، ونزَّه نفسَه عنه؛ لأنَّه لا يشفع عنده أحدٌ إلاَّ بإذنه، فكيف يُثبتون شفعاءَ لهم لَم يأذن الله لهم في شفاعة، ولا هم أهل لها، ولا يغنون عنهم من الله شيئا؟! 3

_ 1 الصنم: ما كان منحوتاً على صورة، والوثن ما كان موضوعاً على غير ذلك، وقد يُسمَّى الصنم وثناً (إسماعيل) . 2 أي: يزعمون أنَّهم يقرِّبونهم (إسماعيل) . 3 وقد تقدَّم في الفصل الثاني من المقدمة بيان أقسام التوحيد بالاستقراء لنصوص الكتاب والسنة، وأنَّ توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية، والمعنى أنَّ مَن أقرَّ بالربوبية يلزمه أن يقرَّ بالألوهية، وأنَّ توحيد الألوهية متضمِّنٌ لتوحيد الربوبية، والمعنى أنَّ من عَبَد اللهَ وحده فهو مقرٌّ بأنَّ الله هو الخالق وحده المحيي المميت وحده.

الأصل الرابع أنَّ المشركين الذين بعث اللهُ الرسلَ إليهم مقرُّون أنَّ الله خالقُهم [43: 87] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، وأنَّه هو الذي خلق السموات والأرض [43: 9] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} ، وأنَّه الرزَّاق الذي يُخرج الحيَّ من الميِّت ويُخرج الميِّتَ من الحي، وأنَّه الذي يُدبِّرُ الأمرَ من السماء إلى الأرض، وأنَّه الذي يَملك السمعَ والأبصار والأفئدة، [10: 31] {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} ، [23: 84 ـ 89] {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} ؟ 1 وهذا فرعونُ مع غلُوِّه في كفره ودعواه أقبح دعوى ونطقه بالكلمة الشنعاء، يقول الله في حقِّه حاكياً عن موسى عليه السلام: [17: 102] {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} ، وقال إبليس: [59: 16] {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} ، وقال: [17: 39] {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} ، وقال: [15: 36] {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} ، وكلُّ مشرك مُقر بأنَّ الله خالقُه وخالق السموات والأرض وربُّهن2 وربُّ ما فيهنَّ

_ 1 فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك (إسماعيل) . 2 لفظ: (هنَّ) في كلمة (ربهنَّ) ، وفي كلمة (فيهنَّ) من خ، وعبارة المطبوعة (وربهما ورب ما فيهما) (إسماعيل) .

ورازقُهم، ولهذا احتجَّ عليهم الرسل بقولهم: [16: 17] {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} ، وبقولهم: [22: 72] {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} ، والمشركون مقرُّون بذلك ولا ينكرونه. الأصل الخامس أنَّ العبادة أقصى باب الخضوع والتذلل، ولم تُستعمل إلاَّ في الخضوع لله؛ لأنَّه مُولي أعظم النِّعم، وكان لذلك حقيقاً بأقصى غاية الخضوع، كما في (الكشاف) 1. ثمَّ إنَّ رأسَ العبادة وأساسَها التوحيدُ لله الذي تفيده كلمته التي إليها دعت جميع الرسل، وهي قول (لا إله إلاَّ الله) ، والمراد اعتقاد معناها والعمل بمقتضاها، لا مجرَّد قولها باللسان. ومعناها: إفراد الله بالعبادة والإلهية، والنفي والبراءة من كلِّ معبود دونه، وقد علم الكفار هذا المعنى؛ لأنَّهم أهلُ اللسان العربي، فقالوا: [5: 38] {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}

_ 1 في تفسير الآية الكريمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (إسماعيل) .

فصل إذا عرفتَ هذه الأصول فاعلم أنَّ الله تعالى جعل العبادة له أنواعاً: اعتقادية: وهي أساسُها، وذلك أن يعتقد أنَّه الربُّ الواحد الأحدُ الذي له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر، وأنَّه الذي لا شريك له، ولا يشفع عنده أحد إلاَّ بإذنه، وأنَّه لا معبود بحق غيره، وغير ذلك من لوازم الإلَهية. ومنها لفظية: وهي النطق بكلمة التوحيد، فمَن اعتقد ما ذكر ولَم ينطق بها لم يحقن دمه ولا ماله، وكان كإبليس، فإنَّه يعتقد التوحيدَ، بل ويُقرُّ به كما أسلفناه عنه، إلاَّ أنَّه لم يَمتثل أمرَ الله بالسجود1 فكفر، ومَن نطق بها2 ولَم يعتقد حقن ماله ودمه وحسابه على الله، وحكمُه حكم المنافقين. وبدنية: كالقيام والركوع والسجود في الصلاة، ومنها الصوم وأفعال الحج والطواف. ومالية: كإخراج جزء من المال امتثالاً لِمَا أمر الله تعالى به، وأنواع الواجبات والمندوبات في الأموال والأبدان والأفعال والأقوال كثيرة، لكن هذه أمهاتها. وإذا تقرَّرت هذه الأمور، فاعلم أنَّ الله تعالى بعث الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام مِن أولهم إلى آخرهم يَدعون العبادَ إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، لاَ إلى إثبات أنَّه خَلَقَهم ونحوه، إذ هم مقرُّون بذلك، كما

_ 1 لفظ: (بالسجود) من خ. 2 لفظ: (بها) من خ.

قرَّرناه وكرَّرناه، ولذا قالوا [7: 69] {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} ، أي: لنفردَه بالعبادة ونخصَّه بها من دون آلهتنا، فلم ينكروا إلاَّ طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله، ولم ينكروا الله تعالى، ولا قالوا إنَّه لا يُعبد، بل أقرُّوا بأنَّه يُعبد، وأنكروا كونه يُفردُ بالعبادة، فعبدوا مع الله غيره، وأشركوا معه سواه، واتخذوا معه أنداداً، كما قال تعالى: [2: 22] {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، أي: وأنتم تعلمون أنَّه لا ندَّ له، وكانوا يقولون في تلبيتهم للحج: "لبيك لا شريك لك إلاَّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك"، وكان يَسمعهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند قولهم "لا شريك لك" فيقول: "قد قد"1 أي2: أفردوه جلَّ جلاله لو تركوا قولهم: "إلاَّ شريكا هو لك"، فنفس شركهم بالله تعالى إقرار به تعالى. كما قال تعالى: [6: 22] {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} ، [7: 195] {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} ، فنفسُ اتخاذ الشركاء إقرارٌ بالله تعالى، ولم يعبدوا الأندادَ بالخضوع لهم والتقرب بالنذور والنَّحر لهم؛ إلاَّ لاعتقادهم أنَّها تقرِّبهم إلى الله زلفى وتشفع لهم لديه3. فأرسل اللهُ الرسلَ تأمرهم4 بترك عبادة كلِّ ما سواه، وتبيِّنُ أنَّ هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطلٌ، وأنَّ التقرب إليهم باطل، وأنَّ

_ 1 أخرجه مسلم (1185) . (قد) الثانية، ولفظ (أي) من خ، وقد حصل خلل في المطبوعة بسقوطهما (إسماعيل) . 3 إشارة إلى قوله تعالى في سورة يونس: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ، وقوله في سورة الزمر: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 4 لفظ: (هم) في (تأمرهم) من خ.

ذلك لا يكون إلاَّ لله وحده، وهذا هو توحيد العبادة، وقد كانوا مقرِّين ـ كما عرفتَ في الأصل الرابع ـ بتوحيد الربوبية، وهو أنَّ الله هو الخالق وحده والرازق وحده. ومِن هذا تعرف أنَّ التوحيد الذي دعتهم إليه الرسلُ مِن أولهم وهو نوح عليه السلام1، إلى آخرهم وهو محمد بن عبد الله (2) صلى الله عليه وسلم، هو توحيد العبادة، ولذا تقول لهم الرسل: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} ، {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقد كان المشركون منهم مَن يعبدُ الملائكةَ ويناديهم عند الشدائد، ومنهم مَن يعبد أحجاراً ويهتف بها عند الشدائد، وهي في الأصل صوَرُ رجال صالحين كانوا يُحبُّونهم ويعتقدون فيهم، فلمَّا هلكوا صوَّروا صوَرَهم تسليًّا بها، فلمَّا طال عليهم الأمَد عبدوهم، ثم زاد الأمد طولاً فعبدوا الأحجار، ومنهم مَن يعبد المسيح، ومنهم من يعبد الكواكبَ، ويهتف بها عند الشدائد، فبعث اللهُ محمداً صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى عبادة الله56

_ 1 قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} ، وفي حديث الشفاعة يقول أهل الموقف: "يا نوح، أنت أوَّل رسول إلى أهل الأرض، وسمَّاك الله عبداً شكوراً" رواه البخاري (3340) ، وقد قال الله عزَّ وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، فعموم هذه الآية يدلُّ على أنَّ من قبل نوح أُرسل فيهم رسل، وأوَّلهم آدم، ويُجمع بين ذلك بأنَّ الناس قبل نوح كانوا على الفطرة، وما جاءت به الرسلُ مطابق للفطرة، وأمَّا نوح فقد أُرسل بعد أن وُجد الشرك وخرج الناس عن الفطرة، فتكون أوَّليته بهذا الاعتبار، وانظر أضواء البيان لشيخنا الشيخ محمد الأمين الشنيقطي، عند قول الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} . 2 قوله: (ابن عبد الله) من خ.

وحده، بأن يُفردوه بالعبادة كما أفردوه بالربوبية، بربوبيته للسَّموات والأرض، وأن يفردوه بمعنى ومُؤدى كلمة (لا إله إلاَّ الله) ، معتقدين لمعناها، عاملين بمقتضاها، وأن لا يدعوا مع الله أحداً، وقال تعالى: [13: 14] {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} وقال تعالى: [5: 22] {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، أي: من شرط الصدق في الإيمان بالله أن لا يتوكلوا إلاَّ عليه، وأن يُفردوه بالتوكُّلِ كما يَجب أن يُفردوه بالدعاء والاستغفار، وأمر الله عبادَه أن يقولوا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، ولا يَصْدُق قائلُ هذا إلاَّ إذا أفرد العبادة لله تعالى، وإلاَّ كان كاذباً مَنهيًّا عن أن يقولَ هذه الكلمة1؛ إذ معناها: نخصُّك بالعبادة ونفردُك بها دون كلِّ أحد، وهو معنى قوله: [29: 56] {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} ، [2: 41] {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} ؛ لما2 عُرف مِن علم البيان أنَّ تقديم ما حقُّه التأخير يفيد الحصر، أي: لا تعبدوا إلاَّ الله ولا تعبدوا غيرَه، ولا تتَّقوا إلاَّ الله ولا تتقوا3 غيرَه، كما في (الكشاف) . فإفرادُ الله تعالى بتوحيد العبادة لا يتِمُّ إلاَّ بأن يكونَ الدعاءُ كلُّه له، والنداءُ في الشدائد والرخاء لا يكون إلاَّ لله وحده، والاستغاثة والاستعانةُ بالله وحده، واللّجوء إلى الله والنذر والنحر له تعالى، وجميع أنواع العبادات من الخضوع والقيام تذلُّلاً لله تعالى، والركوع والسجود والطواف والتجرد عن الثياب والحلق والتقصير كلُّه لا يكون إلاَّ لله عز وجل.

_ 1 تعبير المصنف بهذا فيه نظر؛ لأنَّه لا يُنهى عن قوله هذه الكلمة، وإنَّما يُنهى أن يضاف إليها عبادة غير الله معه. (لما) باللام هو لفظ خ، ووقع في المطبوعة (كما) بالكاف (إسماعيل) . 3 قوله: (إلاَّ الله ولا تتقوا) من خ.

ومَن فعل شيئاً مِن ذلك لمخلوق حيٍّ أو ميت أو جماد أو غيره، فقد أشرك في العبادة، وصار مَن تُفعل له هذه الأمور إلَهاً لعابديه، سواءٌ كان مَلَكاً أو نبيًّا أو وليًّا أو شجراً أو قبراً أو جنيًّا أو حيًّا أو ميتاً، وصار العابدُ بهذه العبادة أو بأيِّ نوع منها عابداً لذلك المخلوق مشركاً بالله، وإن أقَرَّ بالله وعَبَدَه، فإنَّ إقرارَ المشركين بالله وتقرُّبَهم إليه لَم يُخرجهم عن الشركِ، وعن وجوب سَفك دمائِهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم غنيمة، فالله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك، لا يقبل عملاً شورك فيه غيرُه، ولا يؤمن به مَن عَبَدَ معه غيرَه. فصل إذا تقرَّر عندك أنَّ المشركين لَم ينفعهم الإقرارُ بالله مع إشراكهم في العبادة، ولا يغني عنهم مِن الله شيئاً، وأنَّ عبادتَهم هي اعتقادُهم فيهم أنَّهم يَضرُّون وينفعون، وأنَّهم يقرِّبُونهم إلى الله زلفى، وأنَّهم يَشفعون لهم عند الله تعالى، فنَحَروا لهم النَّحائِر، وطافُوا بهم ونذروا النذور عليهم، وقاموا متذلِّلين متواضعين في خدمتهم وسجدوا لهم، ومع هذا كلِّه فهم مقرُّون لله بالربوبية وأنَّه الخالقُ، ولكنَّهم لَمَّا أشركوا في عبادته، جعلهم مشركين ولَم يَعْتَد بإقرارهم هذا؛ لأنَّه نافاه فعلُهم، فلم ينفعهم الإقرارُ بتوحيد الربوبية، فمِن شأن مَن أقرَّ لله تعالى بتوحيد الربوبية أن يُفردَه بتوحيد العبادة، فإذا لَم يفعل ذلك فالإقرارُ باطل. وقد عرفوا ذلك وهم في طبقات النار فقالوا: [26: 97، 98] {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، مع أنَّهم لم يُسَوُّوهم به من كلِّ وجه، ولا جعلوهم خالقين ولا رازقين، لكنَّهم علموا وهم في قَعْرِ جهنَّم أنَّ خلطَهم الإقرار بذرَّة من ذرَّات الإشراك في توحيد العبادة

صيَّرهم كمَن سَوَّى بين الأصنام وبين رب الأنام. قال الله تعالى: [12: 106] {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} أي: ما يُقرُّ أكثرُهم في إقراره بالله وبأنَّه خلَقَهم وخلَق السموات والأرض إلاَّ وهو مشركٌ بعبادة الأوثان. بل سمَّى الله الرياء في الطاعات شركاً، مع أنَّ فاعلَ الطاعة ما قصد بها إلاَّ الله تعالى، وإنَّما أراد طلب المنزلة بالطاعة في قلوب الناس، فالمرائي عَبَدَ اللهَ لا غيرَه، لكنَّه خَلَطَ عبادتَه بطلب المنزلة في قلوب الناس، فلم يقبل له عبادة وسمَّاها شركاً، كما أخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عَملَ عملاً أشركَ فيه معي غيري تركتُه وشركَه" 1، بل سمَّى الله التسميةَ بعبد الحارث شركاً، كما قال تعالى: [7: 159] {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، فإنَّه أخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث سَمرة: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لَمَّا حملت حواء ـ وكان لا يعيش لها ولد ـ طاف بها إبليس، وقال: لا يعيش لك ولد حتى تسمِّيه عبد الحارث، فسمَّته فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره، فأنزل الله الآيات2، وسمَّى هذه التسمية شركاً، وكان إبليس تسمى بالحارث"، والقصة في الدر المنثور وغيره3.

_ 1 صحيح مسلم (2985) . 2 وهي قوله تعالى في سورة الأعراف: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ... إلخ، (الأعراف ـ 160) (إسماعيل) . 3 جزم ابن القيم في روضة المحبِّين (ص:289) طبعة مطبعة السعادة بمصر، بأنَّ المراد باللذين جعلاَ له شركاء فيما آتاهما المشركون من أولاد آدم وحواء، قال: ولا يُلتفت إلى غير ذلك مِمَّا قيل أنَّ آدم وحواء كان لا يعيش لهما ولد، فأتاهما إبليس فقال: إن أحببتما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث، ففعلاَ، فإنَّ الله سبحانه اجتباه وهداه فلم يكن ليشرك به بعد ذلك، وقد سلك هذا المسلك الحافظ ابن كثير في تفسيره، وأطال الكلام في تعليل الروايات الواردة في أنَّ المراد بقوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} آدم وحواء. (إسماعيل) ، وانظر: السلسلة الضعيفة (342) . والقول الآخر أنَّ ضمائر التثنية تعود إلى آدم وحواء، وأنَّ ما حصل منهما في التسمية فقط، لا في الطاعة والعبادة، وهو اختيار ابن جرير، قال في تفسيره (13/315 ـ تحقيق محمود شاكر) : "وأولى القولين بالصواب قول من قال: عنى بقوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ} في الاسم لا في العبادة، وأنَّ المعنيَّ بذلك آدم وحواء؛ لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك"، وذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسائل كتاب التوحيد في باب قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} .

فصل قد عرفتَ مِن هذا كلِّه أنَّ مَن اعتقد في شجر أو حجر أو قبر أو مَلَكٍ أو جنيٍّ أو حيٍّ أو ميت أنَّه ينفع أو يضر، أو أنَّه يقرِّب إلى الله، أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا بمجرد التشفع به والتوسل به إلى الرب تعالى، إلاَّ ما ورد في حديث فيه مقال في حقِّ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم (1)

_ 1 هو على كلِّ تقدير من قبيل التوسل بالدعاء كما بيَّنه شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، قال: "حديث الأعمى الذي رواه الترمذي والنسائي هو من القسم الثاني ـ من التوسل بدعائه ـ فإنَّ الأعمى قد طلب من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يردَّ الله عليه بصره، فقال له: إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك، فقال: بل ادعه، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين، ويقول: اللهم إنِّي أسألك بنبيِّك نبيِّ الرحمة، يا محمد! يا رسول الله! إنِّي أتوجَّه بك إلى ربِّي في حاجتي هذه ليقضيها، اللهمَّ فشفعه فيَّ) ، فهذا التوسل بدعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم وشفاعته، ودعا له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ولهذا قال: (فشفعه في) ، فسأل الله أن يقبل شفاعة رسوله فيه، وهو دعاؤه" (إسماعيل) .

أو نحو ذلك، فإنَّه قد أشرك مع الله غيره1، واعتقد ما لا يَحلُّ اعتقادُه، كما اعتقده المشركون في الأوثان، فضلاً عمَّن ينذر بماله وولده لميِّت أو حي، أو يطلبُ من ذلك الميت ما لا يُطلب إلاَّ من الله تعالى من الحاجات، من عافية مريضِه أو قدوم غائبه أو نيله لأيِّ مطلب من المطالب، فإنَّ هذا هو الشرك بعينه الذي كان ويكون عليه عُبَّادُ الأصنام. والنَّذرُ بالمال للميت ونحوه، والنَّحر على القبر والتوسل به وطلب الحاجات منه، هو بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية، وإنَّما كانوا يفعلونه لِمَا يسمُّونه وثناً وصنماً، وفعله القبوريون لِمَا يسمُّونه وليًّا وقبراً ومَشهداً، والأسماء لا أثر لها ولا تغيِّر المعاني ضرورة لغوية وعقلية وشرعية، فإنَّ مَن شرب الخمرَ وسمَّاها ماء، ما شربَ إلاَّ خَمراً، وعقابُه عقابُ شارب الخمر، ولعلَّه يزيد عقابه للتدليس والكذب في التسمية. وقد ثبت في الأحاديث أنَّه يأتي قومٌ يشربون الخمرَ يسمُّونها بغير اسمها2، وصدق صلى الله عليه وسلم، فإنَّه قد أتى طوائفُ من الفَسَقَة يشربون الخمر ويسمونها نبيذاً.

_ 1 التوسل الذي هو شرك أن يجعل المتوسل به واسطةً بينه وبين الله، يدعوه ويطلب منه الشفاعة، أمَّا إذا سأل الله بجاه فلان مثلاً، فإنَّه بدعة وليس بشرك، وإذا توسَّل إلى الله عزَّ وجلَّ بدعاء الداعي فإنَّه سائغ؛ لثبوت ذلك عن عمر في صحيح البخاري (1010) قال: "اللَّهمَّ إنَّا كنَّا نتوسَّل إليك بنبيِّنا فتسقينا، وإنَّا نتوسَّل إليك بعمِّ نبيِّنا فاسقنا"، وقد توسَّلوا بدعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حياته، ولم يطلبوا منه دعاء بعد موته، بل طلبوا من العباس أن يدعو، وتوسَّلوا بدعائه، ويدلُّ له أيضاً توسُّل الأعمى بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن يردَّ إليه بصره، وهو حديث صحيح، أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن خزيمة والطبراني والحاكم، انظر: التعليق على المسند (17240) ، وكتاب التوسل للألباني (ص:67) . 2 انظر: السلسلة الصحيحة للألباني (89) ، (90) ، (415) .

وأوَّلُ مَن سَمَّى ما فيه غضب الله وعِصيانه بالأسماء المحبوبة عند السامعين إبليس لعنه الله، فإنَّه قال لأبي البَشَر آدم عليه السلام: [20: 120] {يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} ، فسَمَّى الشجرةَ التي نهى اللهُ تعالى آدمَ عن قُربانها شجرةَ الخُلد، جذباً لطبعه إليها، وهَزًّا لنشاطه إلى قُرْبانها، وتدليساً عليه بالاسم الذي اخترعه لها، كما يُسَمِّي إخوانُه المقلِّدون له الحشيشةَ بلُقْمَة الراحة، وكما يُسَمِّي الظَّلَمَةُ ما يَقبضونه من أموال عباد الله ظلماً وعدواناً أَدَباً، فيقولون أدب القتل، أدب السرقة، أدب التهمة، بتحريف اسم الظلم إلى اسم الأدب. كما يحرِّفونه في بعض المقبوضات إلى اسم النفاعة، وفي بعضها إلى اسم السياقة، وفي بعضها أدب المكاييل والموازين. وكلُّ ذلك اسمه عند الله ظلمٌ وعدوان، كما يعرِفه مَن شمَّ رائحةَ الكتاب والسنة، وكلُّ ذلك مأخوذٌ عن إبليس حيث سَمَّى الشجرةَ المنهيّ عنها شجرةَ الخلد. وكذلك تسمِيةُ القبرِ مَشهداً، ومَن يعتقدون فيه وليًّا، لا تخرجه عن اسم الصَّنم والوثن؛ إذ هم مُعاملون لها معاملة المشركين للأصنام، ويطوفون بهم طواف الحجاج ببيت الله الحرام، ويَستلمونهم1 استلامَهم لأركان البيت، ويُخاطبون الميت بالكلمات الكفرية، مِن قولهم: على الله وعليك، ويَهتفون بأسمائِهم عند الشدائد ونحوها. وكلُّ قوم لهم رَجل ينادونه. فأهلُ العراق والهند يَدعون عبد القادر الجيلي.

_ 1 كذا، ولعله (ويستلمونها) .

وأهل التهائم لهم في كلِّ بلد ميتٌ يهتفون باسمه، يقولون: يا زيلعي! يا ابن العجيل! وأهلُ مكة وأهل الطائف: يا ابن العباس! وأهل مصر: يا رفاعي! يا بدوي! والسادة البكرية! وأهلُ الجبال: يا أبا طير! وأهل اليمن: يا ابن علوان! وفي كلِّ قرية أمواتٌ يهتفون بهم وينادونهم ويرجونهم لجلب الخير ودفع الضر، وهذا هو بعينه فعلُ المشركين في الأصنام، كما قلنا في الأبيات النجدية1: أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود، بئس ذلك من وُدِّ وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصَّمد الفرد وكم نحروا في سوحها من نحيرة ... أهلَّت لغير الله جهراً على عمد وكم طائف حول القبور مقبِّلاً ... ويستلم الأركان منهنَّ باليد فإن قال: إنَّما نحرتُ لله وذكرتُ اسمَ الله عليه. فقل: إن كان النَّحرُ لله فلأيِّ شيء قَرَّبت ما تنحرُه مِن باب مَشهد مَن تفضله وتعتقد فيه؟ هل أردت بذلك تعظيمه؟ إن قال: نعم! فقل له: هذا النَّحر لغير الله، بل أشركت مع الله تعالى غيره، وإن لَم تُرد تعظيمه، فهل أردت توسيخ باب المشهد وتنجيس الداخلين إليه؟

_ 1 من قصيدة مدح بها المؤلف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وأشاد فيها بدعوته (إسماعيل) .

أنتَ تعلمُ يقيناً أنَّك ما أردت ذلك أصلاً، ولا أردت إلاَّ الأول، ولا خرجتَ من بيتك إلاَّ قصداً له، ثم كذلك دعاؤهم له. فهذا الذي عليه هؤلاء شرك بلا ريب. وقد يعتقدون في بعض فَسقة الأحياء، وينادونه في الشِّدَّة والرَّخاء، وهو عاكفٌ على القبائح والفضائح، لا يحضر حيث أمرَ الله عبادَه المؤمنين بالحضور هناك، ولا يَحضر جمعة ولا جماعة، ولا يعود مريضاً ولا يشيِّع جنازة، ولا يكتسب حلالاً، ويضُمُّ إلى ذلك دعوى علم الغيب1، ويجلب إليه إبليس جماعة قد عَشَّشَ في قلوبهم وباض فيها وفرَّخ، يصدِّقون بهتانه، ويعظِّمون شأنه، ويَجعلون هذا ندًّا لربِّ العالمين ومِثلاً. فيا للعقول أين ذهبت؟ ويا للشرائع كيف جهلت؟ [7: 154] {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} . فإن قلتَ: أفيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلعاء مشركين كالذين يعتقدون في الأصنام؟ قلتُ: نعم! قد حصل منهم ما حصل من أولئك وساووهم في ذلك، بل زادوا عليهم2 في الاعتقاد والانقياد والاستعباد، فلا فرق بينهم. فإن قلتَ: هؤلاء القبوريون يقولون: نحن لا نشرك بالله تعالى ولا نجعل له ندًّا، والالتجاءُ إلى الأولياء والاعتقاد فيهم ليس شركاً!

_ (دعوى علم الغيب) ، وهو لفظ خ، ووقع في المطبوعة: (دعوى التوكل وعلم الغيب) (إسماعيل) . 2 لفظ (عليهم) من خ.

قلتُ: نعم! {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} ، لكن هذا جهل منهم بمعنى الشرك، فإنَّ تعظيمَهم الأولياء ونحرَهم النحائر لهم شركٌ، والله تعالى يقول: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أي: لا لغيره، كما يفيدُه تقديم الظرف1، ويقول تعالى: [72: 18] {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقد عرفتَ بما قدَّمناه قريباً أنَّه صلى الله عليه وسلم قد سمَّى الرياءَ شركاً، فكيف بما ذكرناه؟! فهذا الذي يفعلونه لأوليائهم هو عين ما فعَلَه المشركون وصاروا به مشركين، ولا ينفعهم قولهم: نحن لا نشركُ بالله شيئاً، لأنَّ فعلَهم أَكْذبَ قولَهم. فإن قلتَ: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه. قلتُ: قد صرَّح الفقهاء في كتب الفقه في باب الرِّدة أنَّ مَن تكلَّم بكلمة الكفر يَكفر وإن لَم يقصد معناها2، وهذا دالٌّ على أنَّهم لا

_ 1 الذي في الآية جار ومجرور، وليس بظرف، وهو متعلق بـ {فَصَلِّ} قبلها، وقد حذف الجار والمجرور المتعلق بـ {وَانْحَرْ} ، وهو ما بعدها، أي: فصلِّ لربِّك وانحر له، وهو مثل قوله تعالى: {يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} ، أي: منه، والمثال المطابق لما ذكره المصنف من تقديم الجار والمجرور قوله: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} ، أي: لا إلى غيره، وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، أي: لا على غيره. 2 هذا ليس على إطلاقه؛ فقد يحصل مثل ذلك عن إكراه أو سبق لسان بدون قصد للفرح الشديد مثلاً، كالذي وجد ناقته بعد أن يئس منها، وقال: "اللَّهمَّ أنت عبدي وأنا ربُّك" رواه مسلم (2747) ، وقد مرَّ تفصيل القول في هذه المسألة في الفصل الخامس من المقدمة.

يعرفون حقيقةَ الإسلام، ولا ماهية التوحيد، فصاروا حينئذ كفاراً كفراً أصليَّا، فإنَّ الله تعالى فَرَضَ على عباده إفرادَه بالعبادة {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} ، وإخلاصها له [98: 5] {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، ومَن نادى الله ليلاً ونهاراً وسرًّا وجهاراً وخوفاً وطمعاً، ثمَّ نادى معه غيرَه فقد أشرك في العبادة، فإنَّ الدعاءَ من العبادة، وقد سمَّاه الله تعالى عبادةً في قوله تعالى: [40: 60] {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} بعد قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فإن قلتَ: فإذا كانوا مشركين وجَب جهادُهم، والسلوك فيهم ما سلَكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في المشركين. قلتُ: إلى هذا ذهب طائفةٌ من أئمَّة العلم1، فقالوا: يَجب أوَّلاً دعاؤهم إلى التوحيد، وإبانةُ أنَّ ما يعتقدونه ينفعُ ويَضر، لا يغني عنهم من الله شيئاً وأنَّهم أمثالهم2، وأنَّ هذا الاعتقاد منهم فيه شركٌ لا يتم الإيمانُ بما جاءت به الرسلُ إلاَّ بتركه والتوبة منه، وإفراد التوحيد اعتقاداً وعملاً لله وحده. وهذا واجبٌ على العلماء، أي: بيان أنَّ ذلك الاعتقاد الذي تفرَّعت عنه النذور والنحائر والطواف بالقبور شركٌ محرَّم، وأنَّه عينُ ما كان يفعله المشركون لأصنامهم، فإذا أبان العلماءُ ذلك للأئمَّة والملوك،

_ 1 يوهم هذا وجود طائفة أخرى من أئمَّة العلم لا ترى ما تراه هذه الطائفة منهم، وهو خلاف الحق، والمسألة مسألة نصوص الوحي لا مسألة خلاف (إسماعيل) . 2 إشارة إلى قوله تعالى {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} .

وَجَبَ على الأئمة والملوك بعثُ دعاة إلى الناس يَدعونهم إلى إخلاص التوحيد لله، فمَن رجع وأقرَّ حقن عليه دمه وماله وذراريه، ومَن أصَرَّ فقد أباح الله منه ما أباح لرسوله صلى الله عليه وسلم من المشركين (1) . فإن قلتَ: الاستغاثة قد ثبتت في الأحاديث، فإنَّه قد صَحَّ أنَّ العباد يوم القيامة يستغيثون بآدم أبي البشر، ثمَّ بنوح، ثمَّ بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، وينتهون إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد اعتذار كلِّ واحد من الأنبياء (2) ، فهذا دليلٌ على أنَّ الاستغاثة بغير الله ليست بمنكر. قلتُ: هذا تلبيس، فإنَّ الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء فيما يقدرون عليه لا يُنكرُها أحد، وقد قال الله تعالى في قصة موسى مع الإسرائيلي والقبطي: [28: 15] {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} ، وإنَّما الكلام في استغاثة القبوريِّين وغيرهم بأوليائهم، وطلبهم منهم أموراً لا يقدر عليها إلاَّ الله تعالى، مِن عافية المريض وغيرها، بل أعجَبُ من هذا أنَّ القبوريِّين وغيرهم من الأحياء مِن أتباع مَن يعتقدون فيه، قد يَجعلون له حصَّة مِن الولد إن عاش، ويشترون منه الحمل في بطن أمِّه ليعيش لهم3، ويأتون بمنكرات ما بَلَغ إليها المشركون الأولون. ولقد أخبرني بعضُ مَن يتولى قَبض ما ينذر القبوريُّون لبعض أهل القبور: أنَّه جاءه إنسانٌ بدراهم وحِلية نسائية، وقال هذه لسيِّده فلان ـ يريد صاحب القبر ـ نصف مهر ابنتي؛ لأنِّي زوجتها وكنتُ مَلكت

_ 1 هذا يفيد أنَّ المصنف يرى أنَّه لا بدَّ من إقامة الحجة، وأنَّهم قبل ذلك معذورون لجهلهم. 2 رواه البخاري (3340) . 3 لفظ (لهم) من خ.

نصفَ مهرها1 فلاناً ـ يريد صاحب القبر. وهذه النذور بالأموال وجَعْلُ قِسط منها للقبر كما يجعلون شيئاً مِن الزرع يسمُّونه (تلما) في بعض الجهات اليمنية، وهذا شيءٌ ما بلغ إليه عُبَّادُ الأصنام، وهو داخلٌ تحت قول الله تعالى: [16: 56] {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} بلا شكٍّ ولا ريب. نعم! استغاثةُ العِباد يوم القيامة وطَلبهم من الأنبياء إنَّما2 يدعون الله تعالى ليفصِلَ بين العباد بالحساب حتَّى يُريحَهم من هَوْل الموقف، وهذا لا شكَّ في جوازه، أعنِي طلبَ دعاء الله تعالى من بعض عباده لبعض، بل قد قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه لَمَّا خَرَج معتمراً: "لا تنسنا يا أُخَيَّ من دعائك"3. وأَمَرَنا سبحانه أن ندعو للمؤمنين ونستغفر لهم في قوله تعالى: [59: 10] {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ} ، وقد قالت أم سُليم رضي الله عنها: "يا رسولَ الله! خادمُك أنس، ادعُ الله له"4. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يطلبون الدعاءَ منه صلى الله عليه وسلم وهو حي، وهذا أمرٌ متفق على جوازه، والكلام في طلب القبوريِّين من الأموات أو من الأحياء الذين لا يَملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرًّا، ولا

_ 1 لفظ (مهرها) من خ. 2 كذا، ولعله (أن يدعوا الله) . 3 رواه أبو داود (1498) وغيره، وفي إسناده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر ابن الخطاب، وهو ضعيف كما في التقريب، ويُغني عنه حديث إرشاد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى طلب الدعاء من أُويس القرني، رواه مسلم (2542) . 4 رواه البخاري (1982) ومسلم (2480) .

موتاً ولا حياةً ولا نشوراً أن يشفوا مرضاهم، ويردُّوا غائبَهم، وينفِّسوا عن حبلاهم، وأن يسقوا زرعَهم، ويُدِرُّوا ضروعَ مواشيهم، ويحفظوها من العين، ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها أحدٌ إلاَّ الله تعالى. هؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: [7: 197] {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} ، [7: 194] {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} ، فكيف يطلب الإنسانُ من الجماد أو من حي ـ الجماد خير منه ـ لأنَّه لا تكليفَ عليه، وهذا يبيِّن ما فعله المشركون الذين حكى الله ذلك عنهم في قوله تعالى: [6: 136] {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} الآية، وقال: [16: 59] {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} فهؤلاء القبوريُّون والمعتقدون في جُهَّال الأحياء وضُلاَّلهم سَلَكوا مَسالكَ المشركين حَذو القُذَّة بالقُذَّة1، فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يُعتقد إلاَّ في الله، وجعلوا لهم جُزءاً من المال، وقَصدوا قبورَهم من ديارهم البعيدة للزيارة2، وطافوا حول قبورهم وقاموا خاضعين عند قبورهم، وهتفوا بهم عند الشدائد، ونحروا تقرباً إليهم. وهذه هي أنواع العبادات التي عرفناك، ولا أدري هل فيهم من يَسجد لهم؟ لا أستبعدُ أنَّ فيهم مَن يفعلُ ذلك، بل أخبرني مَن أثق به أنَّه رأى من يَسجُدُ على عَتَبَةِ باب مَشهد الوليِّ الذي يقصده تعظيماً له

_ 1 القُذَّة: بضم القاف، ريش السهم، والمراد نهجوا نهجهم (إسماعيل) . 2 مجرَّد شدّ الرَّحل للزيارة ليس بشرك، بل هو من وسائله.

وعبادة، ويُقسمون بأسمائهم، بل إذا حَلف مَن عليه حقٌّ باسم الله تعالى لَم يقبلوا منه، فإذا حلف باسم وليٍّ من أوليائهم قبلوه وصدَّقوه، وهكذا كان عُبَّاد الأصنام [39: 45] {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} وفي الحديث الصحيح: "مَن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" 1، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يحلف باللاَّت فأمره أن يقول: "لا إله إلاَّ الله"2، وهذا يدلُّ على أنَّه ارتدَّ بالحلف بالصَّنَم، فأمره أن يُجدِّد إسلامه، فإنَّه قد كَفَر بذلك، كما قرَّرناه في سبل السلام شرح بلوغ المرام، وفي منحة الغفار3. فإن قلتَ: لا سواء، لأنَّ هؤلاء قد قالوا (لا إله إلاَّ الله) ، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أُمرتُ أن أقاتلَ الناس حتى يقولوا لا إله إلاَّ الله، فإذا قالوها عَصَموا منِّي دماءَهم وأموالهم إلاَّ بحقِّها"4.

_ 1 رواه البخاري (2679) ومسلم (1646) . 2 حديث "من حلف فقال في حلفه: واللاَّت والعزى، فليقل: لا إله إلاَّ الله" أخرجه البخاري (4860) ومسلم (1647) . 3 ما قرَّره الصنعاني في هذا الحديث خلاف صنيع البخاري في باب (من حلف بملة سوى ملَّة الإسلام) من صحيحه، فقد قال فيه: "وقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: من حلف باللاَّت والعزى فليقل: لا إله إلاَّ الله، ولم ينسبه إلى الكفر"، ومعلوم أنَّ ما يقع من الصحابة في ذلك ليس على سبيل القصد، وإنَّما هو من سبق اللسان، فأَمْره من وقع منهم في ذلك بقول: (لا إله إلاَّ الله) من باب الكفارة لا من باب تجديد الإسلام (إسماعيل) . وحصول ذلك من الصحابة لَمَّا كانوا حديثي عهد بالجاهلية، وكلام المصنف في سبل السلام أورده في شرح الحديث الأول من أحاديث كتاب الأيمان والنذور. 4 رواه البخاري (25) ومسلم (22) .

وقال لأسامة بن زيد: "لِمَ قَتلتَه بعدما قال لا إله إلاَّ الله؟ " 1، وهؤلاء يُصَلُّون ويصومون ويزكُّون ويَحجُّون بخلاف المشركين. قلتُ: قال صلى الله عليه وسلم: "إلاَّ بحقها"، وحقُّها: إفرادُ الإلهية والعبودية لله تعالى. والقبوريُّون لَم يُفردوا الإلهيةَ والعبادة، فلم تنفعهم كلمةُ الشهادة، فإنَّها لا تنفع إلاَّ مع التزام معناها، كما لَم ينفع اليهود قولُها لإنكارهم بعض الأنبياء. وكذلك مَن جعل غير مَن أرسله الله نبيًّا، لم تنفعه كلمةُ الشهادة، ألاَ تَرَى أن بني حَنِيفة كانوا يشهدون أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، ويُصَلُّون، ولكنَّهم قالوا: إنَّ مُسيلمة نبيٌّ، فقاتلهم الصحابةُ وسَبَوْهُم، فكيف بمن يَجعل للوليِّ خاصَّةَ الإلهية ويُناديه للمهمَّات؟! وهذا أميرُ المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه حرَّق أصحابَ عبد الله ابن سبأ، وكانوا يقولون نشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، ولكنَّهم غَلَوا في علي رضي الله عنه، واعتقدوا فيه ما يَعتقد القبوريُّون وأشباهُهم، فعاقَبَهم عقوبةً لَم يُعاقب بها أحداً من العصاة، فإنَّه حَفر لهم الحفائرَ، وأجَّجَ لهم ناراً، وألقاهم فيها وقال: لَمَّا رأيتُ الأمرَ أمراً منكراً ... أجَّجتُ ناري ودَعَوتُ قُنْبرَا وقال الشاعر في عصره: لِتَرْم بي المنيَّة حيث شاءت ... إذا لَم ترم بي في الحُفرتَين إذا ما أجَّجوا فيهنَّ ناراً ... رأيت الموت نقداً غير دَيْن

_ 1 رواه البخاري (4269) ومسلم (158) .

والقصَّة في فتح الباري وغيره من كتب الحديث والسير1. وقد وقع إجماعُ الأمَّة على أنَّ مَن أنكر البعثَ كَفَر وقُتِل، ولو قال لا إله إلاَّ الله، فكيف بمن يجعل لله ندًّا؟! فإن قلتَ: قد أنكر صلى الله عليه وسلم على أسامة قتلَه لِمَن قال (لا إله إلاَّ الله) ، كما هو معروف في كتب الحديث والسير. قلتُ: لا شكَّ أنَّ مَن قال: (لا إله إلاَّ الله) من الكفار حَقَنَ دمَه ومالَه حتى يتبيَّن منه ما يُخالف ما قاله، ولذا أنزل الله في قصَّة محلم بن جثامة [4: 94] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} الآية2، فأمرهم الله تعالى بالتثبُّت في شأن مَن قال كلمةَ التوحيد، فإن تبيَّن التزامُه لمعناها كان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وإن تبيَّن خلافُه لَم يحقن دمه وماله بمجرد التلفظ. وهكذا كلُّ مَن أظهر التوحيد وجب الكَفُّ عنه إلى أن يتبين منه ما يخالف ذلك، فإذا تبيَّن لَم تنفعه هذه الكلمةُ بمجردها، ولذلك لَم تنفع اليهود ولا نفعت الخوارج مع ما انضمَّ إليها من العبادة التي يحتقر الصحابةُ عبادتَهم إلى جنبها، بل أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقال: "لئن أدركتُهم لأقتلَنَّهم قتل عاد" 3، وذلك لَمَّا خالفوا بعضَ الشريعة وكانوا شرَّ

_ 1 قصة تحريق علي السبائيةَ هي في الفتح (12/270) ، ذكرها وقال: "وهذا سند حسن"، وهي في شرح حديث (6922) من صحيح البخاري، والبيتان ذكرهما في الفتح (6/151) في شرح حديث (3017) . 2 القصة في سبب نزول الآية في الصحيحين: البخاري (4591) ومسلم (3025) ، دون تسمية القاتل، وفي مسند الإمام أحمد (23881) وغيره تسمية القاتل محلم بن جثامة، وفي إسنادها القعقاع بن عبد الله، وفيه مقال. 3 رواه البخاري (3344) ومسلم (1064) .

القتلى تحت أديم السماء، كما ثبتت به الأحاديث1. فثبت أنَّ مجرَّدَ قول كلمة التوحيد غيرُ مانع من ثبوت شرك مَن قالَها؛ لارتكابه ما يُخالفها من عبادة غير الله. فإن قلتَ: القبوريُّون وغيرُهم مِن الذين يَعتقدون في فَسَقَة الناس وجُهالِهم من الأحياء يقولون نحن لا نعبد هؤلاء، ولا نعبد إلاَّ الله وحده، ولا نصلي لهم، ولا نصوم ولا نحجُّ. قلتُ: هذا جهلٌ بمعنى العبادة، فإنَّها ليست منحصرةً في ما ذكرتَ، بل رأسها وأساسها الاعتقاد، وقد حصل في قلوبهم ذلك، بل يسمُّونه معتقداً، ويصنعون له ما سمعتَه مِمَّا تفرَّع عن الاعتقاد من دعائهم وندائهم والتوسل بهم والاستغاثة بهم والاستعانة والحلف والنذر، وغير ذلك. وقد ذكر العلماءُ أن من تَزَيَّا بزيِّ الكفَّار صار كافراً2، ومَن تكلَّم

_ 1 رواه الترمذي (3000) وابن ماجه (176) ، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن". 2 هذا فيما إذا تزيَّا عالماً قاصداً بزيِّهم الذي هو من خصائصهم، كألبسة رهبانهم، وكشدِّ الزنار في أوساطهم، أمَّا إذا نشأ مسلم على ارتداء لباس الكفار (اللباس الإفرنجي) حتى كأنَّه لا يعرف غيرَه فلا يكون له هذا الحكم، وقد روى البيهقي في مناقب الشافعي (ص:474) بإسناده إلى الحميدي قال: "سأل رجلٌ الشافعيَّ بمصر عن مسألة فأفتاه، وقال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كذا، فقال الرجلُ: أتقول بهذا؟! قال: أرأيتَ في وسطي زناراً؟! أتراني خرجتُ من الكنيسة؟! أقول: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، وتقول لي: أتقول بهذا؟! أروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول به؟! ". ومع هذا فإنَّ على المسلمين الذين ابتُلوا بالنشأة على هذا اللباس أن يعملوا على تعديل لباسهم بما يُغاير لباس الكفار، كتوسيع الألبسة، واللاَّئق بهم بل المتعيَّن عليهم أن يصيروا إلى التزيِّي بزيِّ المسلمين.

بكلمة الكفر صار كافراً1، فكيف بمن بَلَغَ هذه الرتبةَ اعتقاداً وقولاً وفعلاً. فإن قلتَ: هذه النذورُ والنحائرُ ما حكمها؟ قلتُ: قد عَلِمَ كلُّ عاقل أنَّ الأموالَ عزيزةٌ عند أهلها، يَسعون في جَمعها ولو بارتكاب كلِّ معصية، ويَقطعون الفيافِيَ مِن أدنى الأرض والأقاصي، فلا يبذلُ أحدٌ مِن ماله شيئاً إلاَّ معتقداً لِجلب نفعٍ أكثرَ منه أو دفع ضرٍّ، فالنَّاذرُ للقبر ما أخرَج مالَه إلاَّ لذلك، وهذا اعتقادٌ باطل، ولو عرَفَ النَّاذرُ بطلانَ ما أراده ما أخرَجَ درهماً، فإنَّ الأموالَ عزيزةٌ عند أهلها، قال تعالى: [47: 36 ـ 37] {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} فالواجبُ تعريفُ مَن أخرج النذرَ بأنَّه إضاعةٌ لِمالِه، وأنَّه لا ينفعه ما يُخرجه ولا يدفع عنه ضرراً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ النَّذرَ لا يأتي بخير، وإنَّما يُستخرَج به من البخيل"2، ويجب رده إليه. وأمَّا القابض للنَّذر فإنَّه حرامٌ عليه قبضه؛ لأنَّه أكْلٌ لِمال الناذر بالباطل، لا في مقابلة شيء، وقد قال تعالى: [2: 188] {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، ولأنَّه تقريرٌ للناذر على شِركه وقُبحِ اعتقاده ورضاه بذلك، ولا يخفى حكمُ الراضي بالشرك، [4: 48] {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية، فهو مثل حُلوان الكاهن ومَهر البغي، ولأنَّه تدليسٌ على الناذر، وإيهامٌ له أنَّ الوليَّ ينفعه ويضره.

_ 1 انظر: الفصل الخامس من المقدمة، والتعليق (ص: 65، 70) . 2 رواه البخاري (6608) ومسلم (1639) .

فأيُّ تقرير لِمنكر أعظم مِن قبض النذر على الميت؟ وأيُّ تدليس أعظم؟ وأيُّ رضا بالمعصية العظمى أبلغ من هذا؟ وأيُّ تصيير لمنكر معروفاً أعجب مِن هذا؟ وما كانت النذورُ للأصنام والأوثان إلاَّ على هذا الأسلوب، يعتقدُ النَّاذرُ جلبَ النفع في الصنم ودفع الضرر، فينذرُ له جَزوراً من ماله، ويقاسمه في غلاَّت أطيانه، ويأتي به إلى سَدَنة الأصنام فيقبضونه منه، ويوهمونه حقيَّة عقيدته، وكذلك يأتي بنحيرته فينحرُها بباب بيت الصنم. وهذه الأفعال هي التي بعث اللهُ الرسلَ لإزالتها ومَحوِها وإتلافها والنهي عنها. فإن قلتَ: إنَّ الناذر قد يُدركُ النفعَ ودفع الضرر بسبب إخراجه للنذر وبذله! قلتُ: كذلك الأصنام، قد يدرك منها ما هو أبلغُ من هذا، وهو الخطاب من جَوفها والإخبار ببعض ما يكتمه الإنسان، فإن كان هذا دليلاً على حقيَّة القبور وصحة الاعتقاد فيها؛ فليكن دليلاً على حقيَّة الأصنام، وهذا هدمٌ للإسلام وتشييدٌ لأركان الأصنام. والتحقيقُ: أنَّ لإبليسَ وجنوده من الجنِّ والإنس أعظمَ العناية في إضلال العباد، وقد مكَّن اللهُ إبليس من الدخول في الأبدان والوسوسة في الصدور والتقام القلب بخرطومه، وكذلك يدخل أجوافَ الأصنام ويُلقي الكلامَ في أسماع الأقوام، ومثله يَصنعه في عقائد القبوريِّين1،

_ 1 في طبعة رئاسة الإفتاء: (أهل القبوريِّين) ، بزيادة: (أهل) ، وفي طبعة المكتب الإسلامي (1397هـ) تحقيق الشيخ إسماعيل الأنصاري بحذفها، وهو الصواب.

فإنَّ الله تعالى قد أذن له أن يُجلب بخيلِه ورَجِلِه على بني آدم وأن يشاركهم في الأموال والأولاد. وثبت في الأحاديث: أنَّ الشيطانَ يستَرق السمعَ بالأمر الذي يُحدثه الله، فيُلقيه إلى الكُهَّان، وهم الذين يُخبرون بالمغيَّبات ويزيدون فيما يلقيه الشيطان من عند أنفسهم مائة كذبة1. ويقصدُ شياطينُ الجنِّ شياطينَ الإنس مِن سَدَنة القبور وغيرهم فيقولون: إنَّ الوليَّ فَعَل وفعل، يُرغِّبونهم فيه ويحذِّرونهم منه، وترى العامة ملوكَ الأقطار وولاةَ الأمصار مُعزِّزين لذلك ويُوَلُّون العمالَ لقبض النذور، وقد يتَولاَّها مَن يُحسنون فيه الظنَّ مِن عالم أو قاضٍ أو مُفت أو شيخ صوفي، فيتِمُّ التدليسُ لإبليس، وتقرُّ عينُه بهذا التلبيس. فإن قلتَ: هذا أمرٌ عَمَّ البلادَ، واجتمعت عليه سكان الأغوار والأنجاد، وطبَّق الأرض شرقاً وغرباً، ويَمناً وشاماً، وجنوباً وعَدَناً، بحيث لا تجدُ بلدةً من بلاد الإسلام إلاَّ وفيها قبور ومشاهد وأحياء، يعتقدون فيها ويعظِّمونها وينذرون لها، ويهتفون بأسمائها ويحلفون بها، ويطوفون بفناء القبور، ويُسرجونها ويلقون عليها الأوراد والرياحين، ويُلبسونها الثياب، ويصنعون كلَّ أمر يقدرون عليه من العبادة لها، وما في معناها من التعظيم والخضوع والخشوع والتذلُّل والافتقار إليها. بل هذه مساجد المسلمين غالبُها لا يخلو عن قبر أو قريب منه، أو مَشهد يقصده المصلُّون في أوقات الصلاة، يَصنعون فيه ما ذكِر أو بعض ما ذكر، ولا يَسَعُ عقلُ عاقل أنَّ هذا منكرٌ يبلُغُ إلى ما ذكرتَ مِن

_ 1 رواه البخاري (5762) ومسلم (2228) .

الشناعة، ويَسكتُ عليه علماءُ الإسلام الذين ثبَتت لهم الوَطأة في جميع جهات الدنيا. قلتُ: إن أردتَ العدلَ والإنصافَ، وتركتَ متابعة الأسلاف، وعرفتَ أنَّ الحقَّ ما قام عليه الدليلُ، لا ما اتَّفق عليه العوالِم جيلاً بعد جيل، وقَبيلاً بعد قبيل، فاعلم أنَّ هذه الأمور التي ندَندِنُ حولَ إنكارِها، ونسعى في هَدم منارها، صادرةٌ عن العامة الذين إسلامهم تقليدُ الآباء بلا دليل، ومتابعتهم لهم من غير فرق بين دبير وقبيل1، ينشأ الواحدُ فيهم فيجِدُ أهلَ قريته وأصحاب بلدته يُلَقِّنُونه في الطفولية أن يَهتِفَ باسم مَن يعتقدون فيه، ويراهم يَنذرون عليه، ويعظِّمونه، ويرحلون به إلى مَحلِّ قبره، ويلطخونه بترابه، ويجعلونه طائفاً على قبره، فيَنشأ وقد قَرَّ في قلبه عظمةُ ما يعظِّمونه، وقد صار أعظم الأشياء عنده مَن يعتقدونه. فنشأ على هذا الصغير، وشاخَ عليه الكبيرُ، ولا يسمعون مِن أحد عليهم من نكير، بل تَرَى مِمَّن يتَّسِم بالعلمِ، ويَدَّعِي الفضلَ، وينتصب للقضاء والفتيا والتدريس، أو الولاية أو المعرفة أو الإمارة والحكومة، معظِّماً لِمَا يعظِّمونه، مُكرماً لِما يكرمونه، قابضاً للنذور، آكلاً ما يُنحر على القبور، فيَظنُّ العامَّة أنَّ هذا دينُ الإسلام، وأنَّه رأسُ الدِّين والسَّنَام2. ولا يَخفى على أحد يتأهَّل للنظر، ويعرفُ بارِقَةً مِن عِلم الكتاب

_ 1 لفظ (دبير وقبيل) من خ (إسماعيل) ، وفي طبعة المكتب الإسلامي (1397هـ) ، وطبعات أخرى: (دنيٍّ ومثيل) . 2 من أعظم المصائب أن يكون بعض المنتسبين إلى العلم واقعاً في هذه الأمور الخطيرة التي ذكرها المصنف، فيكونون بذلك قدوة سيِّئة للعامة.

والسنة والأثر، أنَّ سكوتَ العالِم أو العالم1 على وقوع مُنكر ليس دليلاً على جواز ذلك المنكر. ولنضْرِبْ لك مثلاً مِن ذلك؛ وهي هذه المكُوسُ المسمَّاة بالمجابي، المعلوم مِن ضَرورة الدِّين تَحريمُها، قد مَلأَت الدِّيارَ والبقاع، وصارت أمراً مأنوساً، لا يلج إنكارُها إلى سَمع مِن الأسماع، وقد امتدَّت أيدي المكَّاسين في أشرف البقاع، في مكة أمِّ القرى، يَقبضون مِن القاصدين لأداء فَريضة الإسلام، ويلقون في البلد الحرام كلَّ فِعل حرام، وسُكَّانها مِن فُضلاء الأنام، والعلماءُ والحكَّامُ ساكتون على الإنكار، مُعرضون عن الإيراد والإصدار، أَفيَكون السكوتُ من العلماء، بل من العالم2 دليلاً على حِلِّ أخذها وإحرازها؟ هذا لا يقولُه مَن له أدنى إدراك. بل أضرب لك مثلا آخر؛ هذا حَرَمُ الله الذي هو أفضلُ بقاع الدنيا بالاتفاق وإجماع العلماء، أحدَث فيه بعضُ ملوك الشراكسة الجهلة الضُّلال هذه المقامات الأربعة، التي فرَّقت عبادات العِباد، واشتملت على ما لا يُحصيه إلاَّ الله عز وجل من الفساد، وفرَّقت عبادات المسلمين، وصيَّرتهم كالمِلَلِ المختلفة في الدِّين، بدعةٌ قرَّت بها عينُ إبليس اللعين، وصيَّرت المسلمين ضحكةَ الشياطين، وقد سكتَ الناسُ عليها، ووفَد علماء الآفاق والأبدال والأقطاب إليها3، وشاهدها كلُّ ذي عينين، وسَمع بها كلُّ ذي أذنين.

_ 1 لفظ (أو العالم) من خ. 2 قوله: (من العلماء بل من العالم) من خ. 3 مراد المصنف بالأبدال العلماء الذين يُظهر الله بهم الدِّين وينصر بهم الملَّة، ومن ذهب منهم أبدله الله بمن يقوم مقامه في ذلك، ومراده بالأقطاب العلماء الذين يُلقَّب الواحد منهم قطب الدِّين، ومن أمثلة ذلك قطب الدين الحنفي الذي ذكره الشيخ إسماعيل الأنصاري هنا ممثِّلاً بكلامه لإنكار العلماء إحداث هذه المقامات الأربعة.

أفهذا السكوت دليلٌ على جوازها؟ هذا لا يقولُه مَن له إلْمَامٌ بشيء من المعارف1، كذلك سكوتُهم على هذه الأشياء الصادرة من القبوريِّين.

_ 1 مقتضى هذا أنَّ العلماء لم يستنكروا هذا، وهو خلاف الواقع، فقد قال العلامة قطب الدين الحنفي في (الإعلام بأعلام بيت الله الحرام) : "إنَّ تعدُّد المقامات في مسجد واحد لاستقلال كلِّ مذهب بإمام ما أجازه كثيرٌ من العلماء، وإنَّ تعدُّدَ المقامات في وقت حدوثه أنكره العلماء غاية الإنكار، ولهم في ذلك رسالات متعدِّدة باقية بأيدي الناس الآن، وإنَّ علماء مصر أفتوا بعدم جواز ذلك، وخطَّأوا مَن قال بجوازه". اهـ. وأمَّا إنكار المؤلف لهذا الصنيع فلا شكَّ في وجاهته، وقد برئت به ذمته، كما برئت ذمَّة من سبقه من العلماء، وقد حصل بفضل الله ما تمنَّوه بعد استيلاء الحكومة السعودية ـ حفظها الله ـ على الحرمين، فقد أزالت هذه المقامات، وجمعت المسلمين على إمام واحد في الصلاة، وفي هذا تنبيه على أنَّ ما يسجله الدعاة من الحقِّ إن لم ينتفع به معاصروهم فسينتفع به مَن وفَّقه الله مِمَّن يأتي بعدهم، والله المستعان (إسماعيل) . من أعظم حسنات الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ أنَّه منذ بدء ولايته قضى على هذا التفرُّق في الصلاة حول الكعبة، وجمع الناسَ على إمام واحد يُصلِّي بهم مجتمعين غير متفرِّقين، وقد سمعت من الدكتور محمد تقي الدين الهلالي رحمه الله ـ وهو مِمَّن أدرك ذلك الوقت ـ يذكر أنَّ واحداً مِمَّن آلمهم ذلك التفرُّق تحدَّث مع واحد من المتعصِّبين لذلك التفرق، فكان جواب ذلكم المتعصِّب أن قال: الدليل على أنَّكم لستم على حق أنَّه ليس لكم مقام حول الكعبة، فكان جواب المنكِر لذلك التفرُّق: يكفي المسلمين جميعاً مقام إبراهيم، ولا يحتاجون إلى مقامات أخرى!! وقال أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي في كتابه (التعليق المغني على سنن الدارقطني) (4/226) : "ومنها ـ يعني البدع ـ تكرار الجماعات بأئمة متعدِّدة، كما يُصنع الآن في الحرم الشريف، فيقولون: هذا المصلى للشافعي، وهذا للحنفي، وهذا للمالكي، وهذا للحنبلي، ويَسعون في تفريق الجماعة، قال القاضي الشوكاني في إرشاد السائل إلى دليل المسائل: وإنَّ من أعظمها خطراً وأشدِّها على الإسلام ما يقع الآن في الحرم الشريف من تفريق الجماعة، ووقوف كلِّ طائفة في مقام من هذه المقامات، كأنَّهم أهل أديان مختلفة، وشرائع غير مؤتلفة، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون"، ثم ذكر نقولاً أخرى في إنكار ذلك عن علماء متقدِّمين ومتأخرين.

فإن قلتَ: يَلزمُ مِن هذا أنَّ الأمَّة قد اجتمعت على ضلالة، حيث سكتت عن إنكارِها لأعظم جهالة. قلتُ: حقيقةُ الإجماع اتفاقُ مجتهدي أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر بعد عصره، وفقهاءُ المذاهب الأربعة يُحيلون الاجتهاد من بعد الأربعة1، وإن كان هذا قولاً باطلاً وكلاماً لا يقوله إلاَّ مَن كان للحقائق جاهلاً، فعلى زعمهم لا إجماع أبداً مِن بعد الأئمة الأربعة، فلا يرد السؤال؛ فإنَّ هذا الابتداعَ والفتنةَ بالقبور لم يكن على عهد أئمَّة المذاهب الأربعة، وعلى ما نحققه فالإجماع وقوعه محال. فإنَّ الأمَّة المحمدية قد ملأت الآفاق، وصارت في كلِّ أرض وتحت كلِّ نجم، فعلماؤُها المحقِّقون لا ينحصرون، ولا يَتِمُّ لأحد معرفة أحوالهم، فمَن ادَّعى الإجماعَ بعد انتشار الدِّين وكثرة علماء المسلمين فإنَّها دعوى كاذبة، كما قاله أئمَّة التحقيق2.

_ 1 إحالة الاجتهاد من بعد الأئمة الأربعة ليس إلاَّ قول بعض المنتسبين إلى هذه المذاهب من المتأخرين، وقد اعتبر السيوطي ذلك القول منهم جهلاً، وألَّف في الردِّ عليه كتاب (الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أنَّ الاجتهاد في كلِّ عصر فرض) ، وقد سرد نصوصَ فقهاء المذاهب الأربعة المعتبرين على خلاف ما ذكره الصنعاني هنا (إسماعيل) . 2 إذا كان مراد المصنف نفي الإجماع مطلقاً ففيه نظر؛ فإنَّه هو نفسه ينقل في سبل السلام إجماع العلماء ولا يعترض عليه، كما في شرحه لحديث أبي أمامة (1/24) : "إنَّ الماء لا ينجسه شيء إلاَّ ما غلب على ريحه وطعمه ولونه"، بل إنَّه يحكي الإجماع كما في شرح حديث علي بن طلق: "إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف، وليتوضَّأ وليُعد الصلاة"، قال في شرحه (1/202) : "والحديث دليل على أنَّ الفساء ناقض للوضوء، وهو مجمع عليه".

ثمَّ لو فُرض أنَّهم عَلِمُوا بالمنكر وما أنكروه، بل سكتوا عن إنكاره، لَمَا دلَّ سكوتُهم على جوازه؛ فإنَّه قد عُلِم من قواعد الشريعة أنَّ وظائفَ الإنكار ثلاثةٌ: أوَّلها: الإنكارُ باليد، وذلك بتغيير المنكر وإزالته. ثانيها: الإنكارُ باللسان مع عدم استطاعة التغيير باليد. ثالثها: الإنكارُ بالقلب عند عدم استطاعة التغيير باليد واللسان. فإن انتفى أحدُها لم ينتفِ الآخر، ومثاله: مُرورُ فرد من أفراد علماء الدِّين بأحد المكَّاسين وهو يأخذ أموالَ المظلومين، فهذا الفردُ مِن علماء الدِّين لا يستطيع التغييرَ على هذا الذي يأخذ أموالَ المساكين باليد ولا باللسان؛ لأنَّه إنَّما يكون سخريةً لأهل العصيان، فانتفى شرطُ الإنكار بالوظيفتين، ولَم يبق إلاَّ الإنكارُ بالقلب الذي هو أضعفُ الإيمان، فيجب على مَن رأى ذلك العالِمَ ساكتاً عن الإنكار مع مشاهدة ما يأخذه ذلك الجبَّار، أن يعتقدَ أنَّه تعذَّر عليه الإنكارُ باليد واللسان، وأنَّه قد أنكر بقلبه. فإنَّ حُسنَ الظنِّ بالمسلمين أهلِ الدِّين واجبٌ، والتأويل لهم ما أمْكَنَ ضَربَةُ لازب، فالداخلون إلى الحَرم الشريف، والمشاهدون لتلك الأبنية الشيطانية التي فرَّقت شملَ1 الدِّين، وشتَّتَت صلوات المسلمين معذورون عن الإنكار إلاَّ بالقلب، كالمارِّين على المكَّاسين وعلى القبوريِّين. ومِن هنا يُعلم اختلال ما استمرَّ عند أئمَّة الاستدلال مِن قولهم في

_ 1 لفظ (شمل) من خ، ووقع بدله في المطبوعة (كلمةَ) (إسماعيل) .

بعض ما يستدلُّون عليه بالإجماع1: إنَّه وقع ولَم يُنكر، فكان إجماعاً. ووجهُ اختلالِه أنَّ قولَهم: (ولَم يُنكَر) رجمٌ بالغيب؛ فإنَّه قد يكون أنكرته قلوبٌ كثيرة تعذَّر عليها الإنكارُ باليد واللسان، وأنت تشاهد في زمانك أنَّه كم مِن أمر يَقع لا تنكره بلسانك ولا بيدك، وأنت مُنكرٌ له بقلبك، ويقول الجاهلُ إذا رآك تشاهده: سكت فلانٌ عن الإنكار، يقوله إما لائماً أو مُتَأسِّياً بسكوته، فالسكوتُ لا يستدلُّ به عارف، وكذا يُعلم اختلالُ قولهم في الاستدلال: (فعلَ فلان كذا، وسكت الباقون فكان إجماعاً) ، مُختلاًّ من جهتين: الأولى: دعوى أنَّ سكوتَ الباقين تقريرٌ لفعل فلان؛ لِمَا عرفتَ مِن عدم دلالة السكوت على التقرير. الثانية: قولهم: (فكان إجماعاً) ؛ فإنَّ الإجماعَ اتفاقُ مجتهدي (2) أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم، والساكتُ لا يُنسب إليه وِفاق ولا خلاف، حتَّى يُعْرِبَ عنه لسانُه. قال بعض الملوك ـ وقد أثنى الحاضرون على شخص من عمَّاله وفيهم رجل ساكت ـ ما لَك لا تقول كما يقولون؟ فقال: إن تكلَّمتُ خالفتهم. فما كلُّ سكوت رضًى؛ فإنَّ هذه منكراتٌ أسَّسَها مَن بيده السيفُ والسِّنان، ودماءُ العباد وأموالهم تحت لسانه وقلمه، وأعراضهم تحت قوله وكلمه، فكيف يَقوى فردٌ من الأفراد على دفعه عمَّا أراد؟

_ 1 قوله (بالإجماع) من خ. 2 لفظ (مجتهدي) من خ.

فإنَّ هذه القِبابَ والمشاهدَ التي صارت أعظمَ ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبرَ وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه، غالبُ، بل كلُّ مَن يَعمُرُها هم الملوكُ والسلاطينُ والرؤساء والولاةُ، إمَّا على قريب لهم أو على مَن يُحسنون الظنَّ فيه، مِن فاضل أو عالِم أو صوفيٍّ أو فقير أو شيخ أو كبير، ويزورُه الناسُ الذين يعرفونه زيارة الأموات، مِن دون توسُّل به ولا هَتف باسمه، بل يَدْعون له ويستغفرون، حتَّى ينقرِضَ مَن يَعرفه أو أكثرُهم، فيأتي مَن بعدهم فيجد قبراً قد شيد عليه البناءُ، وسُرِجَت عليه الشموعُ، وفُرِشَ بالفراش الفاخر، وأُرْخِيَت عليه الستورُ، وأُلْقِيَت عليه الأورادُ والزهور، فيعتقد أنَّ ذلك لنفع أو لدفع ضر، ويأتيه السَّدَنة يكذبون على الميِّت بأنَّه فعلَ وفعل، وأنزل بفلان الضَّرَرَ، وبفلان النفع، حتى يَغرسُوا في جِبلَّتِه كلَّ باطل، ولهذا الأمر ثبت في الأحاديث النبوية اللَّعنُ على مَن أَسْرَجَ على القبور، وكتب عليها وبنى عليها1، وأحاديثُ ذلك واسعةٌ معروفة، فإنَّ ذلك في نفسه منهي عنه، ثم هو ذريعةٌ إلى مفسدة عظيمة.

_ 1 النهي عن البناء على القبور ثبت في صحيح مسلم (970) ، والنهي عن الكتابة رواه أبو داود (3226) والترمذي (1052) والنسائي (2027) وابن ماجه (1563) والحاكم (1/370) عن جابر رضي الله عنه وفي بعضها: عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن جابر، وروايته عن جابر مرسلة، وفي بعضها: عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر، وفي جميعها عنعنة ابن جريج وأبي الزبير، وقد صححه الحاكم والذهبي والألباني. انظر: أحكام الجنائز وبدعها (ص:204) . وليس في البناء والكتابة ذكر اللَّعن، وأمَّا إسراج القبور فقد ورد فيه اللَّعن عند أبي داود وغيره من رواية أبي صالح باذان، عن ابن عباس، وأبو صالح ضعيف، ويدلُّ لتحريمه قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد" متفق عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم: وكلُّ بدعة ضلالة" رواه مسلم، وانظر: السلسلة الصحيحة للألباني (225) .

فإن قلتَ: هذا قبرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عُمّرت عليه قُبَّة عظيمةٌ أُنفقت فيها الأموال. قلتُ: هذا جهلٌ عظيم بحقيقة الحال، فإنَّ هذه القبَّة ليس بناؤها منه صلى الله عليه وسلم، ولا من أصحابه، ولا مِن تابعيهم، ولا تابعي التابعين، ولا مِن علماء أمَّته وأئمَّة مِلَّتِه، بل هذه القبَّة المعمولةُ على قبره صلى الله عليه وسلم مِن أبنية بعض مُلوك مصر المتأخرين، وهو قَلاَوُون الصالحي المعروف بالملك المنصور، في سنة ثمان وسبعين وستمائة، ذكره في (تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة) (1) ، فهذه أمورٌ دولية لا دليلية، يتبع فيها الآخرُ الأول. وهذا آخرُ ما أردناه مِمَّا أوردناه لَمَّا عمَّت البلوى، واتُّبعت الأهواء وأعرض العلماء عن النكير، الذي يجب عليهم، ومالوا إلى ما مالت العامَّة إليه، وصارَ المنكرُ معروفاً والمعروف منكراً، ولَم نجد من الأعيان ناهياً عن ذلك ولا زاجراً (2) . فإن قلتَ: قد يتَّفق للأحياء أو للأموات اتصالُ جماعة بهم، يفعلون

_ 1 للعلامة زين الدين أبي بكر بن الحسين بن عمر أبي الفخر المراغي المتوفى سنة (816هـ) ، والمشهور أنَّ اسمه كنيته، وقيل: اسمه عبد الله، وله ترجمة طويلة في الضوء اللامع للمؤرِّخ الناقد السخاوي (إسماعيل) . 2 لعلَّه يريد بالنفي البلاد اليمنية، وقد أثنى في أبياته التي ذكر بعضها فيما مضى على الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ في إنكار البناء على القبور والغلوِّ في أصحابها، وكثير من العلماء في مختلف العصور يُنكرون ذلك في مؤلفاتهم، ومن ذلك قول ابن كثير في البداية والنهاية (في حوادث سنة 208هـ) : "وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور وطمسها، والمغالاة في البشر حرام".

خَوَارقَ من الأفعال يتَسمّون بالمجاذيب، فما حكم ما يأتون به من تلك الأمور؟ فإنَّها مِمَّا جُبلَت القلوب إلى الاعتقاد بها. قلتُ: أما المتسمُّون بالمجاذيب الذين يلوكون لفظ الجلالة بأفواههم، ويقولونها بألسنتهم، ويخرجونها عن لفظها العربي، فهم مِن أجناد إبليس اللعين، ومِن أعظم حمر الكون الذين ألبستهم الشياطين حُلَل التلبيس والتزيين، فإنَّ إطلاقَ لفظ الجلالة منفرداً عن إخبار عنها بقولهم (الله الله) ليس بكلام ولا توحيد، وإنَّما هو تلاعبٌ بهذا اللفظ الشريف (1) ، بإخراجه عن لفظه العربيِّ، ثم إخلاؤه عن معنى من المعاني، ولو أنَّ رجلاً عظيماً صالحاً يُسَمَّى بزيد وصار جماعةٌ يقولون (زيد زيد) لَعَدَّ ذلك استهزاءً وإهانةً وسُخرية، ولا سيما إذا زادوا إلى ذلك تحريفَ اللفظ. ثم انظر هل أتى في لفظةٍ من الكتاب والسنة ذكرُ الجلالة بانفرادها

_ 1 حاول بعض المتأخرين الاستدلال لهذا الصنيع بقول الله تعالى {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} إلى قوله: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} ، وقال: "معنى قوله {قُلِ اللَّهُ} لا يكون خطابك لهم إلاَّ هذه الكلمة: كلمة (الله) ، وقد ردََّ عليه الحافظ ابن كثير في تفسيره بقوله: "وهذا الذي قاله هذا القائل يكون أمراً بكلمة مفردة من غير تركيب، والإتيان بكلمة مفردة لا يُفيد في لغة العرب إفادة يحسن السكوت عليها" (إسماعيل) . والكلام هو المفيد، كما قال ابن مالك: "كلامنا لفظ مفيد كاستقم"، والتقدير في الآية: قل الله أنزله، وحُذف لدلالة السياق عليه، قال ابن مالك في الألفية: وحذف ما يُعلم جائز كما تقول زيد بعد من عندكما وفي جواب كيف زيد قل دنف فزيد استُغني عنه إذ عُرف.

سحيق. ثم قد يُضيفون إلى الجلالة الشريفة أسماءَ جماعة من الموتى، مثل (ابن علوان) و (أحمد بن الحسين) و (عبد القادر) و (العيدروس) ، بل قد انتهى الحالُ إلى أنَّهم يفرُّون إلى أهل القبور من الظلم والجور، كعلي رومان وعلي الأحمر، وأشباههما، وقد صان الله سبحانه وتعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم وأهل الكساء وأعيانَ الصحابة عن إدخالهم في أفواه هؤلاء الجهلة الضُّلاَّل، فيجمعون أنواعاً من الجهل والشرك والكفر. فإن قلتَ: إنَّه قد يتفق مِن هؤلاء الذين يلوكون لفظ الجلالة، ويضيفون إليها عمل أهل الخلاعة والبطالة، خوارق عادات وأمور1 تُظنُّ كرامات، كطعن أنفسهم بالآلات الحادة، وحملهم لِمثل الحَنَش والحيَّة والعقرب، وأكلهم النَّار، ومسِّهم إياها بالأيدي، وتقلُّبهم فيها بالأجسام. قلتُ: هذه أحوالٌ شيطانيَّة، وإنَّك لَمُلَبَّسٌ عليك أن ظننتَها كرامات للأموات، أو حسنات للأحياء؛ لَمَّا هَتفَ هذا الضال بأسمائهم، وجعلهم أنداداً وشركاءَ لله تعالى في الخلق والأمر، فهؤلاء الموتى أنت تفرض أنَّهم أولياء الله تعالى.

_ 1 في الأصل المطبوع: (وأموراً) ، والصواب ما أثبته، وفي طبعة المكتب الإسلامي زيادة لفظ: (عمل) في جملة: (ويضيفون إليها عمل أهل الخلاعة ... ) .

فهل يَرضَى وليُّ الله أن يجعلَه المجذوبُ أو السالكُ شريكاً له تعالى وندًّا؟ إن زعمتَ ذلك فقد جئت شيئاً إدًّا، وصيَّرتَ هؤلاء الأموات مشركين، وأخرجتهم ـ وحاشاهم عن ذلك ـ عن دائرة الإسلام والدِّين، حيث جعلتهم أنداداً لله، راضين فرحين، وزعمتَ أنَّ هذه كرامات لهؤلاء المجاذيب الضُّلاَّل المشركين، التابعين لكلِّ باطل، المنغمسين في بحار الرذائل، الذين لا يَسجدون لله سجدة، ولا يذكرون الله وحده. فإن زعمتَ هذا، فقد أثبتَّ الكرامات للمشركين الكافرين وللمجانين، وهدمتَ بذلك ضوابطَ الإسلام وقواعد الدِّين المبين والشرع المتين. وإذا عرفتَ بطلان هَذين الأمرين علمتَ أنَّ هذه أحوالٌ شيطانيةٌ، وأفعالٌ طاغوتيَّةٌ، وأعمالٌ إبليسيَّة، يفعلها الشياطين لإخوانهم مِن هؤلاء الضالِّين، معاونةً من الفريقين على إغواءِ العباد. وقد ثبتَ في الأحاديث أنَّ الشياطينَ والجانَّ يتشكَّلون بأشكال الحيَّة والثعبان1، وهذا أمرٌ مقطوعٌ بوقوعه، فهم الثعابين التي يُشاهدها الإنسانُ في أيدي المجاذيب، وقد يكون ذلك مِن باب السِّحر2 وهو أنواع، وتعلُّمُه ليس بالعسير، بل بابُه الأعظمُ هو الكفرُ بالله وإهانةُ ما عظَّمه الله، مِن جعل مُصحَف في كَنيف ونحوه. فلا يَغتَرَّ مَن يشاهدُ ما يَعظُمُ في عينيه من أحوال المجاذيب من الأمور التي يراها خوارق، فإنَّ للسِّحرِ تأثيراً عظيماً في الأفعال، وهكذا الذين

_ 1 كما في صحيح مسلم (2236) . 2 وقد تكون حيَّات وثعابين حقيقية خُلعت أنيابها وأُزيل مكان السُّمِّ منها.

يقلبون الأعيانَ بالأسحار وغيرها، وقد ملأَ سَحَرَةُ فرعون الوادي بالثعابين والحيات، حتى أَوْجَسَ في نفسه خِيفَةً موسى عليه السلام، وقد وصفه اللهُ بأنَّه سِحرٌ عظيمٌ، والسِّحرُ يَفعَلُ أعظمَ من هذا؛ فإنَّه قد ذكرَ ابنُ بَطوطة وغيرُه أنَّه شاهد في بلاد الهند قوماً توقَدُ لهم النارُ العظيمةُ، فيلبسون الثيابَ الرقيقة، ويخوضون في تلك النار، ويخرجون وثيابُهم كأنَّها لَم يَمسَّها شيءٌ. بل ذكر أنَّه رأى إنساناً عند بعض ملوك الهند أتى بوَلَدَيْن معه، ثم قَطَعَهُما عضواً عضواً، ثمَّ رَمَى بكلِّ عُضوٍ إلى جهة فِرَقاً، حتى لَم يرَ أحدٌ شيئاً من تلك الأعضاء، ثمَّ صاح وبكى، فلم يَشعر الحاضرون إلاَّ وقد نزل كلُّ عضوٍ على انفراده، وانضمَّ إلى الآخر، حتى قام كلُّ واحد منهما على عادته حيًّا سَوِيًّا، ذكر هذا في رحلته، وهي رحلة بَسيطة وقد اختُصِرَت، طالعتُها بمكة عام ست وثلاثين ومائة وألف، وأملاها علينا العلامةُ مفتي الحنفية في المدينة، السيد محمد بن أسعد رحمه الله. وفي الأغاني لأبي الفَرَج الأصفهاني1 بسنده: أنَّ ساحراً كان عند الوليد بن عقبة، فجعل يَدخُلُ في جَوف بقرة ويخرج، فرآه جندب رضي الله عنه،

_ 1 هو علي بن الحسين الأصبهاني الأموي، صاحب كتاب الأغاني، شيعي، وهذا نادر في أموي، كذا ذكر الذهبي في ميزان الاعتدال، ثم قال: "وكان إليه المنتهى في معرفة الأخبار وأيَّام الناس والشعر والغناء والمحاضرات، يأتي بأعاجيب بحدَّثنا وأخبرنا، وكان طلبه في حدود الثلاثمائة، فكتب ما لا يوصف كثرة حتى لقد اتُّهم، والظاهر أنَّه صدوق، وقد قال أبو الفتح بن أبي الفوارس: خلط قبل موته"، وأطال الذهبي ترجمته (إسماعيل) . في طبعة رئاسة الإفتاء: (حدَّثنا وأخبرنا) ، وما أثبته من طبعة المكتب الإسلامي.

فذهب إلى بيته فاشتمل على سيفه، فلما دخل الساحرُ في البقرة، قال جندب: أتأتون السِّحر وأنتم تبصرون، ثمَّ ضرب وسط البقرة، فقطعها، وقطع الساحرَ معها، فانذعر الناسُ، فحَبَسَه الوليدُ، وكتب بذلك إلى عثمان رضي الله عنه، وكان على السجن رجل نصراني، فلمَّا رأى جندباً يقوم الليلَ ويصبحُ صائماً، قال النصراني: والله إنَّ قوماً هذا شرُّهم لَقَوْمُ صِدق، فوَكَّلَ بالسِّجن رجلاً، ودخل الكوفةَ فسأل عن أفضل أهلها، فقالوا: الأشعث بنُ قيس، فاستضافه فرأى أبا محمد يعني الأشعث ينام الليلَ ويصبح فيدعو بغدائه، فخرج مِن عنده وسأل: أيُّ أهل الكوفة أفضل؟ فقالوا: جَرير بن عبد الله، فوجده ينام، ثم يصبح فيدعو بغدائه. فاستقبل القبلةَ فقال: رَبِّي رَبُّ جُندُب، وديني دينُ جندب، وأَسْلَمَ. وأخرجها البيهقي1 في السنن الكبرى بمغايرة في القصة، فذكر بسنده إلى أبي الأسود2: "أنَّ الوليد بنَ عقبة كان في العراق يلعب بين يديه ساحر، فكان يضرب رأسَ الرجل ثم يصيح به، فيقوم صارخاً، فيَرُدُّ إليه رأسَه، فقال الناس: سبحان الله! يُحيي الموتى! ورآه رجلٌ من صالحي المهاجرين، فلمَّا كان مِن الغَدِ اشتمل على سيفه، فذهب يلعب لعبَه ذلك، فاخترط الرَّجل سيفَه فضرب عنقه، وقال: إن كان صادقاً

_ 1 هو أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي الحافظ، بلغت تصانيفه ألف جزء، وقد نفع الله المسلمين بها شرقاً وغرباً، لإمامة الرجل ودينه وفضله وإتقانه، توفي في عاشر جمادى الأولى بنيسابور سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. اهـ ملخصاً من خبر من غبر للحافظ الذهبي. (إسماعيل) . 2 وهو: "أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس الأصم، ثنا بحر بن نضر، ثنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي الأسود. (إسماعيل) . وانظر: السلسلة الضعيفة للألباني (1/642) .

فليحي نفسَه! فأمر به الوليد ديناراً صاحبَ السجن فسجَنَه"1. بل أعجبُ من هذا ما أخرجه الحافظ البيهقي بإسناده في قصة طويلة، وفيها: "أنَّ امرأةً تعلَّمت السِّحرَ مِن المَلَكَيْن ببابل هاروت وماروت، وأنَّها أخذت قمحاً، فقالت له بعد أن ألقته: [اطلع، فطلع، فقالت: أحقل، فأحقل، ثمَّ تركته، ثم قالت إيبَس، فيبس، ثم قالت له: اطحن، فأطحن] ، ثمَّ قالت له: اختبز فاختبز، وكانت لا تريد شيئا إلاَّ كان"2. والأحوال الشيطانيةُ لا تنحصر، وكفى بما يأتي به الدَّجَّال، والمعيار اتِّباع الكتاب والسنة ومخالفتهما3.

_ 1 كذا في الأصل، وعبارة البيهقي ج8 ص 136: "وأمر به الوليد ديناراً صاحب السجن، وكان رجلاً صالحاً، فسجنه فأعجبه نحو الرجل، قال: أفتستطيع أن تهرب؟ قال: نعم! قال: فاخرج! لا يسألني الله عنك أبداً" اهـ (إسماعيل) . 2 روى البيهقي تلك القصة الطويلة المشار إليها في باب (قبول توبة الساحر وحقن دمه) من السنن الكبرى (إسماعيل) . وأورد ابن كثير في تفسيره عند قول الله عزَّ وجل: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} الآية القصة مطولة إسناداً ومتناً عند ابن جرير وابن أبي حاتم، وقال: "فهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها". 3 هذه كلمة جميلة ختم بها المصنف كتابه، وهي مسك الختام؛ فالحق والهدى ما جاء في الكتاب والسنة، والباطل والضلال ما كان بخلافهما، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على المنطقيين (ص:515 ـ 516) : "وقال غيرُ واحد من الشيوخ والعلماء: لو رأيتم الرجلَ يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي"، وقال ابن كثير في تفسيره (1/362 ط مكتبة أولاد الشيخ) عند قوله تعالى من سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} : "وقد قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: قلت للشافعي: كان الليث بن سعد يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة، فقال الشافعي: قصَّر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل بمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة".

انتهى ما أوردناه ولله الحمد أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً1، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، كلَّما ذكره الذاكرون، وغَفَلَ عن ذكره الغافلون. جاء في آخر طبعة رئاسة الإفتاء: تم الكتاب والحمد لله. وقد قوبل على نسخة خطية ضمن مجموعة تحتوي على كتب قيمة، وهي من مكتبة سماحة مفتي الديار السعودية ورئيس قضاتها العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى، والنسخة المذكورة محفوظة في مكتبة الرياض السعودية برقم 307/ 86. وقد قام بتلك المقابلة وبالتصحيح والتعليق إسماعيل بن محمد الأنصاري، وإلى المخطوطة المذكورة يرمز في بعض تعليقاته بحرف (خ) .

_ 1 لفظ (وظاهراً وباطناً) من خ.

شرح الصدور بتحريم رفع القبور تصنيف الإمام محمد بن علي الشوكاني بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربِّ العالَمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله المطَهَّرين وصحبه المكرمين. وبعد: فاعلم أنَّه إذا وقع الخلاف بين المسلمين في أنَّ هذا الشيء بدعة أو غير بدعة، أو مكروه أو غير مكروه، أو محرَّم أو غير محرَّم، أو غير ذلك، فقد اتفق المسلمون ـ سلفهم وخلفهم ـ من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا ـ وهو القرن الثالث عشر منذ البعثة المحمدية ـ أنَّ الواجبَ عند الاختلاف في أيِّ أمر من أمور الدِّين بين الأئمَّة المجتهدين هو الرد إلى كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الناطق (1) بذلك الكتاب العزيز [4: 59] {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، ومعنى الرد إلى الله سبحانه الرد إلى كتابه، ومعنى الرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الرد إلى سنَّته بعد وفاته، وهذا مِمَّا لا خلاف فيه بين جميع المسلمين، فإذا قال مجتهدٌ من المجتهدين: هذا حلال، وقال الآخر: هذا حرام، فليس أحدهما أولَى بالحقِّ من الآخر، وإن كان أكثرَ منه علماً أو أكبرَ منه سنًّا أو أقدمَ منه عصراً؛ لأنَّ كلَّ واحد منهما فرد من أفراد عباد الله، ومتعبَّد بما في الشريعة المطهرة مِمَّا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومطلوب منه ما طلب الله من غيره من العباد، وكثرةُ علمه وبلوغه درجة الاجتهاد أو

_ 1 في الفتح الرباني: (كما نطق بذلك) .

مجاوزته لها لا يُسقط عنه شيئاً من الشرائع التي شرعها الله لعباده، ولا يخرجه من جملة المكلَّفين من العباد، بل العالم كلَّما ازداد علماً كان تكليفه زائداً على تكليف غيره، ولو لم يكن من ذلك إلاَّ ما أوجبه الله عليه من البيان للناس، وما كلفه به من الصَّدع بالحق وإيضاح ما شرعه الله لعباده: [3: 187] {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} ، [2: 159] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} فلو لم يكن لِمَن رزقه الله طرفاً من العلم إلاَّ كونه مكلفاً بالبيان للناس لكان كافياً فيما ذكرناه من كون العلماء لا يخرجون عن دائرة التكليف، بل يزيدون بما علموه تكليفاً، وإذا أذنبوا كان ذنبُهم أشدَّ من ذنب الجاهل وأكثرَ عقاباً، كما حكاه الله سبحانه عمَّن عمل سوءاً بجهالة ومن عمله بعلم، وكما حكاه في كثير من الآيات عن علماء اليهود حيث أقدموا على مخالفة ما شرعه الله لهم، مع كونهم يعلمون الكتاب ويدرسونه، ونعى ذلك عليهم في مواضع متعدِّدة من كتابه، وبَكَتَهم أشدَّ تبكيت، وكما ورد في الحديث الصحيح: "إنَّ من أوَّل من تسعَّر بهم جهنم: العالم الذي يأمر الناس ولا يأتمر، وينهاهم ولا ينتهي"1. وبالجملة فهذا أمرٌ معلوم، أنَّ العلم وكثرتَه وبلوغ حامله إلى أعلى درجات العرفان لا يُسقط عنه شيئاً من التكاليف الشرعية، بل يزيدها

_ 1 رواه الترمذي (2382) ، وقال: "هذا حديث حسن غريب"، ورواه ابن خزيمة في صحيحه (2482) ، والحاكم في المستدرك (1/419) ، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر تعليق الشيخ الألباني عليه في صحيح ابن خزيمة.

عليه شدة، ويخاطَب بأمور لا يخاطَب بها الجاهل، ويكلَّف بتكاليف غير تكاليف الجاهل، ويكون ذنبُه أشدَ وعقوبتُه أعظمَ، وهذا لا يُنكره أحدٌ مِمَّن له أدنى تمييز بعلم الشريعة1، والآيات والأحاديث الواردة في هذا المعنى لو جُمعت لكانت مؤلَّفاً مستقيماً2، ومصنَّفاً حافلاً، وليس ذلك من غرضنا في هذا البحث، بل غاية الغرض من هذا ونهاية القصد منه هو بيان أنَّ العالِمَ كالجاهل في التكاليف الشرعية والتعبُّد بما في الكتاب والسنة، مع ما أوضحناه لك من التفاوت بين الرتبتين، رتبة العالم ورتبة الجاهل في كثير من التكاليف واختصاص العالم منهما3 بما لا يجب على الجاهل. وبهذا يتقرَّر لك أن ليس لأحد من العلماء المختلفين، أو من التابعين لهم والمقتدين بهم أن يقول: الحقُّ ما قاله فلان دون فلان، أو فلان أولى بالحق من فلان، بل الواجب عليه ـ إن كان مِمَّن له فهم وعلم وتمييز ـ أن يردَّ ما اختلفوا فيه إلى كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمَن كان دليلُ الكتاب والسنة معه فهو على الحق وهو الأولى بالحق (4) ، ومَن كان دليلُ الكتاب والسنة عليه لا له كان هو المخطئ، ولا ذنب عليه في هذا الخطأ، إن كان قد وفَّى الاجتهاد حقَّه، بل هو معذور، بل مأجور، كما ثبت في الحديث الصحيح أنَّه: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن

_ 1 وفي هذا المعنى يقول الشاعر: إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم 2 في الفتح الرباني بدل (مستقيماً) : (مستقلاًّ) . 3 في الفتح الرباني: (منها) . 4 قال الشافعي: "أجمع الناس على أنَّ من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد"، ذكره ابن القيم في كتاب الروح (ص:396) .

اجتهد فأخطأ فله أجر"1، فناهيك بخطأ يُؤجر عليه فاعلُه، ولكن هذا إنَّما هو للمجتهد نفسه إذا أخطأ، ولكن لا يجوز لغيره أن يتبعه في خطئه، ولا يُعذر كعذره، ولا يُؤجر كأجره، بل واجبٌ على مَن عداه من المكلَّفين أن يترك الاقتداء به في الخطأ ويرجع إلى الحقِّ الذي دَلَّ عليه الكتاب والسنة. وإذا وقع الرَّدُّ لِما اختلف فيه أهل العلم إلى الكتاب والسنة كان من معه دليل الكتاب والسنة هو الذي أصاب الحق ووافقه، وإن كان واحداً، والذي لم يكن معه دليلُ الكتاب والسنة هو الذي لم يصب الحق، بل أخطأه، وإن كان عدداً كثيراً، فليس لعالِم ولا لمتعلِّم ولا لمن يفهم ـ وإن كان مقصراً ـ أن يقول: إنَّ الحقَّ بيد مَن يقتدى به من العلماء، إن كان دليل الكتاب والسنة بيد غيره، فإنَّ ذلك جهل عظيم، وتعصُّب ذميم، وخروج من دائرة الإنصاف بالمرة؛ لأنَّ الحقَّ لا يُعرف بالرجال، بل الرجال يُعرفون بالحق، وليس أحد من العلماء المجتهدين والأئمة المحققين بمعصوم، ومَن لَم يكن معصوماً فإنَّه يجوز عليه الخطأ كما يجوز عليه الصواب، فيصيب تارة ويخطئ أخرى، ولا يتبيَّن صوابُه من خطئه إلاَّ بالرجوع إلى دليل الكتاب والسنة، فإن وافقهما فهو مصيب، وإن خالفهما فهو مخطئ، ولا خلاف في هذه الجملة بين جميع المسلمين أولهم وآخرهم، سابقهم ولاحقهم، كبيرهم وصغيرهم، وهذا يعرفه كلُّ مَن له أدنى حظ من العلم، وأحقر نصيب من العرفان، ومَن لَم يفهم هذا ويعترف به فليتَّهم نفسه، ويعلم أنه قد جَنى على نفسه بالخوض فيما ليس من شأنه، والدخول فيما لا تبلغ إليه قدرتُه، ولا ينفذ فيه فهمُه،

_ 1 رواه البخاري (7352) ومسلم (1716) .

وعليه أن يُمسك قلمَه ولسانه، ويشتغل بطلب العلم، ويفرغ نفسه لطلب علوم الاجتهاد التي يتوصل بها إلى معرفة الكتاب والسنة وفهم معانيهما، والتمييز بين دلائلهما، ويجتهد في البحث في السنة وعلومها، حتى يتميز عنده صحيحها من سقيمها، ومقبولها من مردودها، وينظر في كلام الأئمة الكبار من سلف هذه الأمة وخلفها حتى يهتدي بكلامهم إلى الوصول إلى مطلوبه1، فإنَّه إن لَم يفعل هذا وقدَّم الاشتغال بما قدَّمنا، ندم على ما فرط فيه قبل أن يتعلَّم هذه العلوم غاية الندم، وتَمَنَّى أنَّه أمسك عن التكلُّم بما لا يعنيه، وسكت عن الخوض فيما لا يَدْرِيه، وما أحسن ما أدَّبنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من قول "رحم الله امرءاً قال خيراً أو صمت"2، وهذا في الذي تكلَّم في العلم قبل أن يفتح الله عليه بما لا بدَّ منه، وشغل نفسه بالتعصب للعلماء، وتصدَّر للتصويب والتخطئة في شيء لَم يعلمه ولا فهمه حقَّ فهمه، ولم يقل خيراً ولا صمت، فلم يتأدَّب بالأدب الذي أرشد إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وإذا تقرَّر لك من مجموع ما ذكرناه وجوبُ الرد إلى كتاب الله وسنِّة رسوله صلى الله عليه وسلم بنصِّ الكتاب العزيز وإجماع المسلمين أجمعين، عرفت أنَّ مَن زعم من الناس أنَّه يُمكن معرفة المخطئ من العلماء من غير هذه الطريق

_ 1 أوضح ابن القيم في كتاب الروح (ص:395) أنَّه يُرجع إلى كلام العلماء للاستعانة بذلك للوصول إلى الدليل، فإذا وصل إليه استغنى به عن غيره، وضرب لذلك مثلاً بالنجم الذي يُستدلُّ به على جهة القبلة، فإذا وصل إليها لم يبق لاستدلاله بالنجم معنى. 2 لم أقف عليه بهذا اللفظ، ورواه البخاري (6475) ومسلم (74) ، ولفظه: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت".

عند اختلافهم في مسألة من المسائل، فهو مخالفٌ لِما في كتاب الله، ومخالفٌ لإجماع المسلمين أجمعين، فانظر أرشدَك الله إلى أيِّ جناية جنى على نفسه بهذا الزعم الباطل، وأيِّ مصيبة وقع فيها بهذا الخطأ الفاحش، وأىِّ بلية جلبها عليه القصور والتقصير، وأيِّ محنة شديدة ساقها إليه التكلُّم فيما ليس من شأنه؟ وها أنا أوضح لك مثالاً لما ذكرناه من الاختلاف بين أهل العلم، ومِن كيفية الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليتبيَّن المصيبُ من المخطئ، ومَن بيده الحق ومَن بيده غيره، حتى تعرف الحقَّ حق معرفته، ويتضح لك غاية الاتضاح، فإنَّ الشيء إذا ضُربت له الأمثلة وصُوِّرَت له الصور بلغ من الوضوح والجلاء إلى غاية لا يخفى معها على مَن له فهم صحيح وعقل رجيح، فضلاً عمَّن لم يكن له في العلم نصيب، وفي العرفان حظ، ولنجعل هذه المسألة التي جعلناها مثالاً لِما ذكرناه وإيضاحاً لِما أمليناه: هى المسألة التي لَهَجَ بالكلام فيها أهلُ عصرنا ومصرنا، خصوصاً في هذه الأيام لأسباب لا تخفى، وهي: مسألة رفع القبور والبناء عليها، كما يفعله الناس من بناء المساجد والقباب على القبور. فنقول: اعلم أنَّه قد اتفق الناس، سابقهم ولاحقهم، وأوَّلهم وآخرهم من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى هذا الوقت: أنَّ رفعَ القبور والبناء عليها بدعةٌ من البدع التي ثبت النهيُ عنها، واشتدَّ وعيدُ رسول الله لفاعلها ـ كما يأتي بيانه ـ ولَم يخالف في ذلك أحدٌ من المسلمين أجمعين،

لكنَّه وقع للإمام يحي بن حمزة مقالة تدلُّ على أنَّه يرى أنَّه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، ولم يقل بذلك غيرُه، ولا روي عن أحد سواه، ومَن ذكرها من المؤلفين في كتب الفقه من الزيدية فهو جَرْيٌ على قوله واقتداءٌ به، ولم نجد القول بذلك مِمَّن عاصره، أو تقدَّم عصره عليه، لا من أهل البيت ولا من غيرهم، وهكذا اقتصر صاحب البحر الذي هو مدرس كبار الزيدية، ومرجع مذهبهم ومكان البيان لخلافهم في ذات بينهم، وللخلاف بينهم وبين غيرهم، بل اشتمل على غالب أقوال المجتهدين وخلافاتهم في المسائل الفقهية، وصار هو المرجوع إليه في هذه الأعصار وهذه الديار لِمَن أراد معرفة الخلاف في المسائل، وأقوال القائلين بإثباتها أو نفيها من المجتهدين، فإنَّ صاحب هذا الكتاب الجليل لم ينسب هذه المقالة ـ أعني جواز رفع القباب والمشاهد على قبور الفضلاء ـ إلاَّ إلى الإمام يحيى وحده، فقد قال ما نصه: مسألة: الإمام يحيى: لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء والملوك لاستعمال المسلمين ولم يُنكر. انتهى. فقد عرفتَ من هذا أنَّه لم يقل بذلك إلاَّ الإمام يحيى، وعرفت دليله الذي استدل به، وهو استعمال المسلمين مع عدم النكير، ثم ذكر صاحب البحر هذا الدليل الذي استدل به الإمام يحيى في الغيث واقتصر عليه، ولم يأت بغيره. فإذا عرفتَ هذا، تقرَّر لك أنَّ هذا الخلاف واقعٌ بين الإمام يحيى وبين سائر العلماء، من الصحابة والتابعين، ومن المتقدِّمين من أهل البيت والمتأخرين، ومن أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، ومن جميع

المجتهدين أولهم وآخرهم1، ولا يعترض هذا بحكاية من حكى قول الإمام يحيى في مؤلَّفه مِمَّن جاء بعده من المؤلِّفين، فإنَّ مجرَّد حكاية القول لا يدلُّ على أنَّ الحاكي يختاره ويذهب إليه، فإن وجدتَ قائلاً من بعده من أهل العلم يقول بقوله هذا ويرجِّحه، فإن كان مجتهداً كان قائلاً بما قاله الإمام يحيى، ذاهباً إلى ما ذهب إليه بذلك الدليل الذي استدلَّ به، وإن كان غيرَ مجتهد فلا اعتبار بموافقته؛ لأنَّها إنما تعتبر أقوال المجتهدين لا أقوال المقلِّدين. فإذا أردتَ أن تعرف هل الحق ما قاله الإمام يحيى، أو ما قاله غيره من أهل العلم، فالواجب عليك رد هذا الاختلاف إلى ما أمرنا الله بالرد إليه، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فإن قلتَ: بيِّن لي العمل في هذا الرد حتى تتمَّ الفائدة، ويتَّضِح الحق من غيره، والمصيب من المخطئ في هذه المسألة. قلتُ: افتح لِمَا أقوله سمعاً، وأرهف له ذهناً، وها أنا أوضح لك الكيفية المطلوبة، وأبيِّن لك ما لا يبقى عندك بعده ريب، ولا يصاحب ذهنك وفهمك عنده لبس، فأقول: قال الله سبحانه: [59: 7] {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، فهذه الآية فيها الإيجاب على العباد بالائتمار بما أمر به

_ 1 على قاعدة ابن جرير التي ذكرها ابن كثير عند تفسيره قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ، وهي أنَّ خلاف الواحد أو الاثنين لا يؤثِّر في الإجماع، فإنَّ هذه المسألة من مسائل الإجماع، وعلى قول الحافظ ابن حجر في الفتح (2/219) أنَّه لا يُعتدُّ بخلاف الزيدية، فإنَّ المسألة أيضاً من مسائل الإجماع.

الرسول صلى الله عليه وسلم والأخذ به، والانتهاء عما نهى عنه صلى الله عليه وسلم وتركه، وقال الله سبحانه: [3: 31] {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، ففي هذه الآية: تعليق محبة الله الواجبة على كلِّ عبد من عباده باتِّباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنَّ ذلك هو المعيارُ الذي يُعرف به محبةُ العبد لربِّه على الوجه المعتبَر، وأنَّه السبب الذي يستحق به العبد أن يحبه الله، وقال الله سبحانه: [4: 80] {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} ، ففي هذه الآية: أنَّ طاعةَ الرسول طاعةٌ لله، وقال: [4: 69] {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} ، فأوجب هذه السعادة لِمَن أطاع الله ورسولَه، وهى أن يكون من هؤلاء الذين هم أرفع العباد درجة عنده، وأعلاهم منزلة، وقال: [4: 13 ـ 14] {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (، وقال سبحانه: [24: 52] {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} ، وقال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ، وأنزل الله على رسوله أن يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} والآيات الدالة عل هذا المعنى في الجملة أكثر من ثلاثين آية. ويُستفاد من جميع ما ذكرناه: أنَّ ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه كان الأخذ به واتباعه واجباً بأمر الله سبحانه، وكانت الطاعة لرسول الله

في ذلك طاعة لله، وكان الأمر من رسول الله أمراً من الله1. وسنوضح لك ما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث من النهى عن رفع القبور والبناء عليها، ووجوب تسويتها، وهدم ما ارتفع منها، ولكنَّا هنا نبتدئ بذكر أشياء في حكم التوطئة والتمهيد لذلك، ثم ننتهي إلى ذكر ما هو المطلوب، حتى يعلم من اطَّلع على هذا البحث أنَّه إذا وقع الرد فيما قاله الإمام يحيى وما قاله غيره في القباب والمشاهد إلى ما أمر الله بالردِّ إليه، وهو كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كان في ذلك ما يشفي ويكفي، ويقنع ويغني ذكر بعضه، فضلاً عن ذكر جميعه، وعند

_ 1 السنةُ وحيٌ من الله أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وفي صحيح البخاري (1454) كتاب أبي بكر إلى أنس الطويل في بيان فرائض الصدقة، وفي أوله قال: "هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله"، وروى مسلم في صحيحه (1885) عن أبي قتادة أنَّه حدَّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قام فيهم، فذكر لهم: "أنَّ الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قُتلتُ في سبيل الله تكفَّر عنِّي خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، إن قُتلتَ في سبيل الله وأنت صابر محتسب، مُقبل غير مدبر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف قلتَ؟ قال: أرأيت إن قُتلتُ في سبيل الله أتُكفَّر عنِّي خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، إلاَّ الدَّين؛ فإنَّ جبريل عليه السلام قال لي ذلك" ورواه النسائي (3155) عن أبي هريرة، وفي آخره: "نعم، إلاَّ الدَّين، سارَّني به جبريل آنفاً"، وفي صحيح البخاري (1789) ومسلم (1180) عن يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي عليه جبة وهو متضمِّخ بالخَلوق، وقد سأل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بالجعرَّانة: "كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ "، فنزل عليه الوحي، وفي آخر الحديث: "فلمَّا سُرِّي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "أين السائل عن العمرة؟ اخلع عنك الجبَّة، واغسل أثرَ الخلوق منك، وأنق الصفرة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجِّك".

ذلك يتبيَّن لكلِّ مَن لهم فهم، ما في رفع القبور من الفتنة العظيمة لهذه الأمة، ومن المكيدة البالغة التي كادهم الشيطان بها، وقد كاد بها مَن كان قبلهم من الأمم السالفة، كما حكى الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه العزيز. وكان أول ذلك في قوم نوح، قال الله سبحانه: [71: 21 ـ 23] {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} " كانوا1 قوماً صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوَّرناهم كان أشوقَ لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوَّروهم، فلمَّا ماتوا وجاء آخرون دَبَّ إليهم إبليس، فقال: إنَّما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم، ثم عبدتهم العرب بعد ذلك"، وقد حكي معنى هذا في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما2، وقال قوم من السلف: "إنَّ هؤلاء كانوا قوماً صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم". ويؤيِّد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها: "أنَّ أمَّ سلمة رضي الله عنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وذكرت له ما رأت فيها من الصُّوَر، فقال رسول الله

_ 1 في نسخة الفتح الرباني: (قال جماعة من السلف الصالح: إنَّ يغوث ويعوق ونسراً كانوا قوماً صالحين ... ) . 2 صحيح البخاري (4920) .

صلى الله عليه وسلم: أولئك قومٌ إذا مات فيهم العبدُ الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله"1. وأخرج ابن جرير في تفسير قوله تعالى: [53: 19] {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} قال: "كان يلُتُّ السَّويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره"2. وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يَموت يقول: "ألاَ وإنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنِّي أنهاكم عن ذلك"3. وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "لَمَّا نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خَميصة على وجهه، فإذا اغتمَّ كشفها، فقال ـ وهو كذلك ـ: لعنةُ الله على اليهود والنصارى، فقد اتَّخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذِّر ما صنعوا" 4. وفي الصحيحين مثله أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما5. وفيهما أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قاتل الله اليهود والنصارى اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد" 6.

_ 1 صحيح البخاري (427) ومسلم (528) . 2 هو عنده بأسانيد صحيحة عن مجاهد، قال: "كان يلتُّ السَّويق للحاج، فعُكف على قبره"، وعنده وعند البخاري في صحيحه (4859) عن ابن عباس رضي الله عنهما: "كان اللاَّت رجلاً يلتُّ سويق الحاج". 3 صحيح مسلم (532) ، وفيه: "قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد". 4 صحيح البخاري (435) ومسلم (531) . 5 صحيح البخاري (436) ومسلم (531) . 6 صحيح البخاري (437) ومسلم (530) ، وليس فيهما ذكر النصارى.

وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنَّه خشي أن يكون مسجداً" (1) . وأخرج الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ من شرار الناس مَن تُدْرِكُهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد" 2. وأخرج أحمد وأهل السنن من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه: أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله زائرات القبور والمتَّخذين عليها المساجد والسُّرُج" 3.

_ 1 صحيح البخاري (1330) ومسلم (529) . 2 المسند (3844) . 3 الحديث بهذا اللفظ أخرجه الإمام أحمد (2030) وأبو داود (3236) والنسائي (2043) والترمذي (320) عن ابن عباس، وليس عن زيد بن ثابت، وأخرجه ابن ماجه (1575) عن ابن عباس، ولفظه: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوَّارات القبور"، وعند الجميع هو من رواية أبي صالح باذان عن ابن عباس، وقد قال عنه الحافظ في التقريب: "ضعيف مدلس". وقد اشتمل الحديث على ثلاث جُمل: الأولى: لعن زائرات القبور، وفي لفظ ابن ماجه: "زوَّارات"، وهو بلفظ: "لعن الله زوَّارات القبور" عن أبي هريرة عند أحمد (8449) والترمذي (1056) وابن ماجه (1576) ، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، ولفظ "زوَّارات" فيه للنسبة لا للمبالغة، والمعنى: ذوات زيارة، نظير قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ، أي: ليس بذي ظلم. الثانية: لعن المتخذين المساجد على القبور، وقد تواترت بذلك الأحاديث، وقد ذكر المصنف جملة منها. الثالثة: لعن المتَّخذين السُّرُج على القبور، وقد جاء من هذه الطريق الضعيفة عن ابن عباس، لكن يدلُّ لتحريم ذلك عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وكلُّ بدعة ضلالة".

وفي صحيح مسلم وغيره عن أبى الهيَّاج الأسدي قال: "قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألاَ أبعثك على ما بعثني عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أن لاَ أَدع تمثالا إلاَّ طَمَسته، ولا قبراً مشرِفاً إلاَّ سوَّيتُه" (1) . وفي صحيح مسلم أيضاً عن ثمامة بن شفي نحو ذلك2. وفي هذا أعظمُ دلالة على أنَّ تسويةَ كلِّ قبر مشرِف بحيث يرتفع زيادة على القدر المشروع واجبةٌ متحتِّمة، فمِن إشراف القبور: أن يرفع سمكها، أو يجعل عليها القباب أو المساجد، فإنَّ ذلك من المنهيِّ عنه بلا شك ولا شبهة، ولهذا فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث لِهدمِها أميرَ المؤمنين عليًّا، ثم إنَّ أمير المؤمنين بعث لِهدمِها أبا الهيَّاج الأسدي في أيام خلافته. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي ـ وصححه ـ والنسائي وابن حبان من حديث جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجَصَّص القبر، وأن يُبنَى عليه، وأن يُوطَأ" (3) . وزاد هؤلاء المخرِّجون لهذا الحديث عن مسلم: "وأن يُكتب عليه". قال الحاكم: "النهى عن الكتابة على شرط مسلم، وهي صحيحة غريبة"4.

_ 1 صحيح مسلم (969) . 2 صحيح مسلم (968) . 3 المسند (14148) وصحيح مسلم (970) وسنن أبي داود (3225) والترمذي (1052) والنسائي (2028) ، ولفظه عند مسلم: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجصَّص القبر، وأن يُقعد عليه، وأن يُبنى عليه"، ولفظ الوطء على القبر عند الترمذي. 4 مستدرك الحاكم (1/370) ، والنهي عن الكتابة صححه الحاكم والذهبي والألباني. انظر: أحكام الجنائز وبدعها (ص:204) .

وفي هذا التصريحُ بالنهى عن البناء على القبور، وهو يصدق على ما بُنِي على جوانب حفرة القبر، كما يفعله كثيرٌ من الناس من رفع قبور الموتى ذراعاً فما فوقه؛ لأنَّه لا يُمكن أن يجعل نفس القبر مسجداً، فذلك مِمَّا يدلُّ على أنَّ المراد بعض ما يقربه مِمَّا يتصل به، ويصدُق على من بنى قريباً من جوانب القبر كذلك، كما في القباب والمساجد والمشاهد الكبيرة، على وجه يكون القبر في وسطها أو في جانب منها، فإنَّ هذا بناء على القبر، لا يخفى ذلك على من له أدنى فهم، كما يقال: بَنَى السلطانُ على مدينة كذا، أو على قرية كذا سوراً، وكما يقال: بَنَى فلانٌ في المكان الفلاني مسجداً، مع أنَّ سمكَ البناء لم يباشر إلاَّ جوانب المدينة أو القرية أو المكان، ولا فرق بين أن تكون تلك الجوانب التي وقع وضع البناء عليها قريبة من الوسط، كما في المدينة الصغيرة والقرية الصغيرة والمكان الضيق، أو بعيدة من الوسط كما في المدينة الكبيرة والقرية الكبيرة والمكان الواسع، ومَن زعم أنَّ في لغة العرب ما يَمنع من هذا الإطلاق فهو جاهلٌ لا يعرف لغةَ العرب، ولا يَفهم لسانَها ولا يدري بما استعملته في كلامها. وإذا تقرَّر لك هذا علمتَ أنَّ رفعَ القبور ووضع القباب والمساجد والمشاهد عليها قد لَعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاعله تارة، كما تقدم، وتارة قال: "اشتدَّ غضبُ الله على قوم اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد"، فدعَا عليهم بأن يشتدَّ غضب الله عليهم بما فعلوه من هذه المعصية، وذلك ثابت في الصحيح1، وتارة نهى عن ذلك، وتارة بعث مَن يهدمه،

_ 1 لا وجود للحديث بهذا اللفظ في الصحيحين، وقد جاء صحيحاً مرسلاً ومتصلاً بإسناد ضعيف، انظر: تحذير الساجد للألباني (ص:25 ـ 26) .

وتارة جعله مِن فعل اليهود والنصارى، وتارة قال: "لا تتخذوا قبري وثناً" 1، وتارة قال: "لا تتخذوا قبري عيداً" 2، أي: مَوسِماً يجتمعون فيه كما صار يفعله كثيرٌ من عُبَّاد القبور! يَجعلون لِمن يعتقدون من الأموات أوقاتاً معلومة يجتمعون فيها عند قبورهم، يَنسكون لها المناسك، ويعكفون عليها3، كما يعرف ذلك كلُّ أحد من الناس من أفعال هؤلاء المخذولين، الذين تركوا عبادةَ الله الذي خلقهم ورزقهم ثم يُميتهم ويحييهم، وعبدوا عبداً من عباد الله، صار تحت أطباق الثرَى، لا يقدر على أن يَجلب لنفسه نفعاً ولا يدفع عنها ضرًّا، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله أن يقول: [7: 188] {لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} ، فانظر كيف قال سيد البشر وصفوة الله من خلقه بأمر ربه: إنَّه لا يَملك لنفسه ضرًّا ولا نفعاً، وكذلك قال فيما صح عنه: "يا فاطمةَ بنت محمد! لا أُغني عنك من الله شيئاً"4. فإذا كان هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه وفي أخصِّ قرابته به وأحبِّهم إليه، فما ظنُّك بسائر الأموات الذين لَم يكونوا أنبياءَ معصومين، ولا رُسُلاً مرسلين؟ بل غاية ما عند أحدهم أنَّه فردٌ من أفراد هذه الأمة المحمدية، وواحد من أهل هذه الملة الإسلامية، فهو أعجز وأعجز أن ينفع (5) أو يدفع عنها ضرراً.

_ 1 رواه أحمد (7358) وغيره بإسناد صحيح، انظر: تحذير الساجد (ص:25) . 2 رواه أبو داود (2042) وغيره بإسناد صحيح، انظر: تحذير الساجد (ص:128) . 3 ويُحتمل أن يكون المراد من اتخاذه عيداً تكرار الزيارة؛ بدليل قوله بعده: "وصلُّوا عليَّ؛ فإنَّ صلاتَكم تبلغني حيث كنتم". 4 رواه البخاري (4771) ومسلم (204) . 5 في الفتح الرباني: (عن أن ينفع نفسه ... ) .

وكيف لا يعجز عن شيء قد عَجَز عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر به أمَّتَه كما أخبر الله عنه، وأمره بأن يقول للناس بأنَّه لا يَملك لنفسه ضرًّا ولا نفعاً، وأنَّه لا يُغنى عن أخصِّ قرابته من الله شيئاً؟ فيا عجباً! كيف يَطمع من له أدنى نصيب من علم أو أقلّ حفظ مِن عرفان أن ينفعه أو يضره فردٌ من أفراد أمَّة هذا النبيِّ الذي يقول عن نفسه هذه المقالة؟ والحالُ أنَّه فرد من التابعين له المقتدين بشرعه. فهل سمعت أذناك ـ أرشدك الله ـ بضلال عقل أكبر من هذا الضلال الذي وقع في عُبَّاد أهل القبور (1) ؟! إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. وقد أوضحنا هذا أبلغَ إيضاح في رسالتنا التي سمَّيناها "الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد"، وهي موجودة بأيدي الناس، فلا شكَّ ولا ريبَ أنَّ السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات هو ما زيَّنه الشيطانُ للناس من رَفع القبور، ووضع الستور عليها، وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسين، فإنَّ الجاهل إذا وقعت عينُه على قبر من القبور قد بُنيت عليه قبة فدخلها، ونظر على القبور (2) الستور الرائعة، والسُّرُجَ المتلألئة، وقد سطعت حوله مَجامرُ الطِّيب، فلا شكَّ ولا ريبَ أنَّه يَمتلئُ قلبُه تعظيماً لذلك القبر، ويَضيق ذهنه عن تصوُّر ما لهذا الميت من المنزلة، ويدخله مِن الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية، التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشدِّ وسائله إلى ضلال العباد، ما يُزلزلُه عن

_ 1 في الفتح الرباني: (الذي وقع فيه أهل القبور) ، وقد سقط منه كلمة (عُبَّاد) ، والمقام يقتضيها. 2 في الفتح الرباني: (على القبر) .

الإسلام قليلاً قليلاً، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر ما لا يقدر عليه إلاَّ الله سبحانه، فيصير في عداد المشركين. وقد يحصل له هذا الشرك بأوَّل رؤية لذلك القبر الذي صار على تلك الصفة، وعند أوَّل زَوْرَة له؛ إذ لا بدَّ أن يخطر بباله أنَّ هذه العنايةَ البالغة من الأحياء بمثل هذا الميت لا تكون إلاَّ لفائدة يرجونها منه، إما دنيوية أو أخروية، فيستصغرُ نفسَه بالنسبة إلى مَن يراه من أشباه العلماء زائراً لذلك القبر، وعاكفاً عليه ومتمَسِّحاً بأركانه (1) . وقد يَجعلُ الشيطانُ طائفةً من إخوانه من بني آدم يقفون على ذلك القبر، يخادعون من يأتي إليه من الزائرين، يهوِّلون عليهم الأمرَ، ويصنعون أموراً من أنفسهم، وينسبونها إلى الميت على وجه لا يَفطن له مَن كان من المغفَّلين، وقد يصنعون أكاذيبَ مشتملة على أشياء يسمُّونها كرامات لذلك الميت، ويبُثُّونها في الناس، ويكرِّرون ذكرَها في مجالسهم، وعند اجتماعهم بالناس، فتشيع وتستفيض، ويتلقاها مَن يحسنُ الظنَّ بالأموات، ويقبل عقلُه ما يُروى عنهم من الأكاذيب، فيرويها كما سمعها، ويتحدَّث بها في مجالسه، فيقع الجهَّالُ في بليَّة عظيمة من الاعتقاد الشركي، وينذرون على ذلك الميِّت بكرائم أموالهم، ويحبسون على قبره مِن أملاكهم ما هو أحبها إلى قلوبهم؛ لاعتقادهم أنَّهم ينالون بجاه ذلك الميت خيراً عظيماً وأجراً كبيراً، ويعتقدون أنَّ ذلك قُربةٌ عظيمة، وطاعةٌ نافعة، وحسنةٌ متقبَّلة، فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطانُ من إخوانه مِن بني آدم على ذلك القبر.

_ 1 من أعظم المصائب أن يكون بعض مَن ينتسب إلى العلم أو يُنسب إليه واقعاً في هذا البلاء العظيم، فيكون قدوةً سيئة لغيره في ذلك.

فإنَّهم إنَّما فعلوا تلك الأفاعيل، وهوَّلوا على الناس بتلك التهاويل، وكذبوا تلك الأكاذيب؛ لينالوا جانباً من الحطام من أموال الطغام الأغتام (1) ، وبهذه الذريعة الملعونة والوسيلة الإبليسية تكاثرت الأوقافُ على القبور، وبلغت مبلغاً عظيماً، حتى بلغت غَلاَّت ما يوقف على المشهورين منهم ما لو اجتمعت أوقافُه لبلغ ما يقتاته أهلُ قرية كبيرة من قرى المسلمين، ولو بيعت تلك الحبائس الباطلة لأغنى اللهُ بها طائفةً عظيمةً من الفقراء (2) ، وكلُّها من النذر في معصية الله، وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نذر في معصية الله"3، وهى أيضاً من النذر الذي لا يُبتغي به وجه الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "النذر ما ابتغي به وجه الله"4، بل كلُّها من النذور التي يستحق بها فاعلُها غضب الله وسخطه؛ لأنَّها تفضي بصاحبها إلى ما يفضي به اعتقادُ الإلهية في الأموات من تزلزل قدم الدِّين؛ إذ لا يسمح بأحبِّ أمواله وألصقها بقلبه، إلاَّ وقد زرع الشيطانُ في قلبه مِن مَحبَّة وتعظيم وتقديس ذلك

_ 1 الطغام: جمع طغامة، وهو الأحمق، والطغام أوغاد الناس، والوغد: الأحمق الضعيف الرَّذل الدنيء. والأغتم من لا يُفصح شيئاً، كما في القاموس المحيط. 2 وفي هذا المعنى يقول الشاعر المصري حافظ إبراهيم: أحياؤنا لا يرزقون بدرهم وبألف ألفٍ تُرزق الأمواتُ من لي بحظ النائمين بحفرة قامت على أحجارها الصلواتُ يسعى الأنام لها ويجرى حولها بحرُ النذور وتُقرأ الآياتُ ويُقال هذا القطب باب المصطفى ووسيلة تُقضى بها الحاجات 3 صحيح مسلم (1641) . 4 رواه الإمام أحمد (6714) ، وأبو داود (2192) ، وإسناده حسن.

الطوائف بالنهي عن بناء المساجد على القبور، ثم قال: "وصرَّح أصحابُ أحمد ومالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفةٌ أطلقت الكراهة، لكن ينبغي أن يُحمل على كراهة التحريم، إحساناً للظنِّ بهم، وأن لا يُظنَّ بهم أن يُجوِّزوا ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنُ فاعله والنهى عنه". انتهى. فانظر كيف حكى التصريح عن عامة الطوائف؟ وذلك يدلُّ على أنَّه إجماع من أهل العلم على اختلاف طوائفهم، ثم بعد ذلك جَعل أهلَ ثلاثة مذاهب مصرِّحين بالتحريم، وجعل طائفةً مصرِّحةً بالكراهة، وحملها على كراهة التحريم، فكيف يُقال: إنَّ بناء القباب والمشاهد على القبور لم ينكره أحد؟ ثم انظر كيف يَصحُّ استثناء أهل الفضل برفع القباب على قبورهم، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما قدَّمناه ـ أنَّه قال: "أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً"، ثم لعنهم بهذا السبب. فكيف يسوغ من مسلم أن يستثني أهلَ الفضل بفعل هذا المحرَّم الشديد على قبورهم، مع أنَّ أهل الكتاب الذين لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم وحذَّر الناس ما صنعوا لَم يعمروا المساجد إلاَّ على قبور صلحائهم. ثم هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيِّدُ البشر وخير الخليقة وخاتم الرسل وصفوة الله من خلقه، ينهى أمَّتَه أن يَجعلوا قبرَه مسجداً أو وثناً أو عيداً، وهو القدوة لأمَّتِه، ولأهل الفضل من القدوة به والتأسِّي بأفعاله وأقواله الحظُّ الأوفر، وهم أحقُّ الأمَّة بذلك وأولاهم به، وكيف يكون فعل1

_ 1 في الفتح الرباني: (فضل) .

بعض الأمة وصلاحه مسوغاً لفعل هذا المنكر على قبره؟ وأصلُ الفضل ومرجعُه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيُّ فضل يُنسب إلى فضله أدنى نسبة، أو يكون له بجنبه أقلّ اعتبار؟ فإن كان هذا محرَّماً منهيًّا عنه ملعوناً فاعله في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ظنُّك بقبر غيره من أمته؟ وكيف يستقيم أن يكون للفضل مدخلٌ في تحليل المحرَّمات وفعل المنكرات؟ اللَّهمَّ غفراً. والحمد لله الذي هدانا للحقِّ ووفَّقنا لاتِّباعه، وصلى الله على محمد عبد الله ورسوله وعلى آله أجمعين.

شرح الصدور بتحريم رفع القبور

شرح الصدور بتحريم رفع القبور ... القبر وصاحبه والمغالاة في الاعتقاد فيه، ما لا يعود به إلى الإسلام سالِماً، نعوذ بالله من الخذلان. ولا شكَّ أنَّ غالب هؤلاء المغرورين المخدوعين لو طلب منهم طالبٌ أن ينذر بذلك الذي نذر به لقبر ميت على ما هو طاعة من الطاعات وقُربة من القُربات لم يفعل، ولا كاد. فانظر إلى أين بلغ تلاعبُ الشيطان بهؤلاء، وكيف رمى بهم في هوة بعيدة القعر، مُظلمة الجوانب، فهذه مفسدة من مفاسد رفع القبور وتشييدها، وزخرفتها وتجصيصها. ومن المفاسد البالغة إلى حدٍّ يَرمى بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام، ويُلقيه على أمِّ رأسه مِن أعلى مكان من الدين: أنَّ كثيراً منهم يأتي بأحسن ما يَملكه مِن الأنعام، وأجود ما يَحوزه من المواشي، فينحرُه عند ذلك القبر، متقرِّباً به إليه، راجياً ما يضمر حصوله له منه، فيُهلُّ به لغير الله، ويتعبَّد به لوثن من الأوثان؛ إذ إنَّه لا فرق بين النحائر لأحجار منصوبة يسمُّونها وثناً، وبين قبر لميت يسمُّونه قبراً، ومجرَّد الاختلاف في التسمية لا يُغني من الحقِّ شيئاً، ولا يؤثر تحليلاً ولا تحريماً، فإنَّ مَن أطلق على الخمر غيرَ اسمها وشربها، كان حكمُه حكمَ مَن شربها وهو يُسمِّيها باسمها، بلا خلاف بين المسلمين أجمعين. ولا شكَّ أنَّ النَّحرَ نوعٌ من أنواع العبادة التي تعبَّد اللهُ العبادَ لها، كالهدايا والفدية والضحايا، فالمتقرِّب بها إلى القبر والناحر لها عنده لَم يكن له غرضٌ بذلك إلاَّ تعظيمه وكرامته، واستجلاب الخير منه واستدفاع الشرِّ به، وهذه عبادة لا شكَّ فيها، وكفاك من شرِّ سماعه، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم، إنَّا لله وإنا إليه راجعون،

والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: "لا عَقر في الإسلام"، قال عبد الرزاق: "كانوا يعقرون عند القبر، يعني بقراً وشياهاً" رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أنس بن مالك1. وبعد هذا كلِّه، فاعلم بما سقناه من الدلالة وما هو كالتوطيد لها، وما هو كالخاتمة تختم بها البحث، يقضى أبلغ قضاء وينادى أرفع نداء، ويدل أوضح دلالة، ويفيد أجلى مفاد، أنَّ ما رواه صاحب البحر عن الإمام يحيى، غَلَطٌ من أغاليط العلماء، وخطأٌ من جنس ما يقع للمجتهدين، وهذا شأن البشر، والمعصومُ مَن عصمه الله، وكلُّ عالِم يُؤخذ من قوله ويُترك، مع كونه ـ رحمه الله ـ من أعظم الأئمة إنصافاً، وأكثرهم تحريًّا للحقِّ وإرشاداً وتأثيراً، ولكنَّنا رأيناه قد خالف مَن عداه بما قال مِن جواز بناء القباب على القبور، رددنا هذا الاختلافَ إلى ما أوجب الله الرد إليه، وهو كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فوجدنا في ذلك ما قدَّمنا ذكرَه من الأدلة الدالة أبلغ دلالة، والمنادية بأعلى صوت بالمنع من ذلك والنهي عنه، واللعن لفاعله والدعاء عليه، واشتداد غضبِ الله عليه، مع ما في ذلك من كونه ذريعةً إلى الشرك، ووسيلةً إلى الخروج عن الملَّة كما أوضحناه، فلو كان القائل بما قاله الإمام يحيى بعضَ الأئمة أو أكثرَهم لكان قولُهم ردًّا عليهم، كما قدمناه في أول هذا البحث، فكيف والقائل به فردٌ من أفرادهم؟ وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كلُّ أمر ليس عليه أمرنا فهو رَد"2، ورفع القبور وبناءُ القباب والمساجد عليها

_ 1 سنن أبي داود (3222) ، وإسناده على شرط البخاري. 2 الحديث في صحيح البخاري (2697) وصحيح مسلم (1718) بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية عند مسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".

ليس عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما عرفناك ذلك فهو ردٌّ على قائله، أي مردودٌ عليه. والذي شرع للناس هذه الشريعةَ الإسلامية هو الرَّبُّ سبحانه بما أنزله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فليس لعالم ـ وإن بلغ من العلم إلى أرفع رتبة وأعلى منزلة ـ أن يكون بحيث يُقتدى به فيما خالف الكتاب والسنة أو أحدهما، بل ما وقع منه من الخطأ بعد توفية الاجتهاد حقه يستحق به أجراً، ولا يجوز لغيره أن يتابعَه عليه، وقد أوضحنا هذا في أول البحث بما لا يأتي التكرار له بمزيد فائدة. وأمَّا ما استدلَّ به الإمام يحيى حيث قال: "لاستعمال المسلمين ذلك، ولم ينكروه" فقولٌ مردود؛ لأنَّ علماءَ المسلمين مازالوا في كلِّ عصر يروون أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في لعن مَن فعل ذلك، ويقرِّرون شريعةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم ذلك في مدارسهم ومجالس حفاظهم، يرويها الآخرُ عن الأول، والصغير عن الكبير، والمتعلِّم عن العالم، مِن لدن أيام الصحابة إلى هذه الغاية، وأوردها المحدِّثون في كتبهم المشهورة من الأمَّهات والمسندات والمصنفات، وأوردها المفسرون في تفاسيرهم، وأهل الفقه في كتبهم الفقهية، وأهل الأخبار والسير في كتب الأخبار والسير، فكيف يقال: إنَّ المسلمين لَم ينكروا على من فعل ذلك، وهم يروون أدلَّةَ النهي عنه واللعن لفاعله، خلفاً عن سلف في كلِّ عصر؟ ومع هذا فلم يزل علماء الإسلام منكرين لذلك مبالغين في النهي عنه. وقد حكى ابنُ القيم عن شيخه تقي الدين ـ رحمهما الله ـ وهو الإمام المحيط بمذهب سلف هذه الأمة وخلفها، أنَّه قد صرَّح عامةُ

§1/1