تصحيح الحديث عند ابن الصلاح

حمزة عبد الله المليباري

بين يدي القارئ

تصحيح الحديث عند ابن الصلاح تصحيح الحديث عند الإمام ابن الصلاح دراسة نقدية بقلم د. حمزة عبد الله المليباري الأستاذ في مادة الحديث وعلومه جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية قسنطينة ـ الجزائر بسم الله الرحمن الرحيم بين يدي القارئ. بفضل من الله تعالى أقدم لإخواني طلاب الحديث وعشاقه نمودجا من الدراسات النقدية، التي أصبحت اليوم محل اهتمامهم البالغ، عسى أن تدفعهم نحو فهم صحيح لمحتوى علوم الحديث، وأن يفتح لهم آفاقا جديدة من البحوث المبتكرة حول مسائلها المعقدة، والتي من الصعب حلها وإداراك مراميها بمجرد قراءة سطحية، ومراجعة عابرة. وبادئ ذي بدء يخيل إلى قارئ عنوان هذا البحث أن ما ينطوى عليه ليس سوى تكرار ما ذكر في كتب المصطلح، وإعادة ما يعرفه الجميع، لكن الأمر ليس كذلك، حيث إن المحور الرئيسي الذي تدور عليه مباحثه يمثل توجيها موضوعيا لما جنح له الإمام إبن الصلاح ـ رحمه الله تعالى ـ من عدم إمكانية تصحيح الأحاديث وتحسينها لدى المتأخرين. وهذا التوجيه مدعم بالواقع العلمي والتاريخي في شكل جديد لم يتصوره كثير من الباحثين والدارسين في علوم الحديث ـ

تمهيد:

حسب تتبعي ـ إذ أنهم ظلوا يعتقدون صواب ما اتفقت عليه كتب المصطلح من عدم تسليم القول للإمام ابن الصلاح ـ رحمه الله تعالى ـ في مسألة منع التصحيح. ولعل في قولي ما يدفع القارئ إلى التساؤل: ما مدى صحة الاستدراك على السابقين بما لم يخطر على بالهم جيمعا؟ لا جرم أن الأمر يثير الاستغراب لدى الكثيرين عندما تصبح القضايا العلمية يحسمها الإجلال والتقليد، وأما إن كانت موازينها ومقايسها الأدلة والبراهين فلا مجال للتساؤل حول استدراك اللاحق على السابق، ولا للاستغراب فيه. وقد طرحت هذا الموضوع العلمي في رسالة صغيرة وعالجته بأسلوب موضوعي مجرد كي يسهل على القارئ تركيزه عليه، وينال متعة القراءة وحظ الفهم، وفي الختام لا يسعني إلا الابتهال إلى الله تعالى أن يتقبل هذا الجهد المتواضع في خدمة علوم الحديث. تمهيد: يعتبر الإمام أبو عمرو بن الصلاح ـ رحمه الله ـ من أبرز فقهاء الشافعية في القرن السابع الهجري، ومن العلماء الراسخين في علوم الحديث، وقد أهلته إمامته في هذا الميدان لأن يصير رمزا يعيش في ذاكرة الأمة على مر العصور وكرا لدهور، واعترافا له على ما قدمه لهذه الأمة من خدمة علمية عظيمة للسنة النبوية الشريفة، بقيت إلى يومنا هذا نبعا عذبا ينهل منه المبتدئ من طلبة العلوم الشرعية، كما يرجع

إليه الباحث المتمرس، فترتوي منه عقولهم المتعطشة إلى معرفة قواعد هذا العلم الشريف. وعلى الرغم من أن مشاركة ابن الصلاح وإسهامه العلمي قد شمل جوانب كثيرة من علوم الشريعة ـ كالفقه والأصول والتفسير (¬1) كما تدل على ذلك مؤلفاته، إلا أن نجمه قد سطع بشكل خاص في علوم الحديث التي اقترن اسمه بها، بحيث صار ما إن تذكر مبادئ هذا الفن الشريف حتى يذكر معها كتاب هذا الإمام الجهبذ المعروف بمقدمة ابن الصلاح. ويعد هذا الكتاب من أهم الكتب في علوم الحديث، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، لأنه جاء تتويجا لكل الجهود التي سبقته، كما جاء تجديدا لحيويتها ونضارتها، نظرا لأسلوبه المبتكر في تناول مباحث ومبادئ هذا العلم وفق مقتضيات عصره، حيث نجده جمع المصطلحات الحديثية التي كانت متداولة بين المحدثين النقاد، ووضع لها تعاريف محددة، معتمدا في ذلك على فن المنطق، فجاءت تلك التعاريف جامعة مانعة وموجزة واضحة. وبهذا العمل يكون ابن الصلاح قد ذلل ما كان صعبا، ومهد الطريق أمام المبتدئين لاستيعاب علم مصطلح الحديث وفهمه، بعد أن كان عسير التناول، لا يدرك مراميه، ولا يستفيد من المصنفات فيه إلا المتمكنون، وأصبح كتابه بذلك مدخلا لمعرفة مبادئ هذا الفن، ومقدمة لكتب الأحاديث بما ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء: 23/142، للحافظ الذهبي، ط: مؤسسة الرسالة.

ضمنه من تعاريف مركزة للمصطلحات الحديثة التي يصادفها طالب الحديث في تلك الكتب بمقدمة ابن الصلاح. ونظرا لأهمية هذا الكتاب، فقد حظي بقبول الأئمة الذين جاؤوا من بعد، وإقبالهم عليه، فتسابقوا إلى نيل شرف خدمته، وسعوا إلى شرحه وإيضاح مكنونه، والتعليق على مسائله، حتى صار أصلا لكثير من المصنفات في علوم الحديث، وفي ذلك يقول الحافظ ابن حجر. " اجتمع في كتابه ما تفرق في غيره، فلهذا عكف الناس عليه وساروا بسيره، فلا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك عليه ومقتصر، ومعارض له ومنتصر" (¬1) ولم يكن ابن الصلاح مجرد جامع لآراء من سبقه من الأئمة، بل إن المطلع على كتابات هذا الإمام ـ في مقدمته وغيرها ـ يجد له اجتهادات وآراء مستقلة، وإضافات وانتقادات (¬2) شأنه في ذلك شأن كل مبدع ومبتكر، وهو إن خالف في بعض تلك الآراء غيره من أهل العلم، فذلك أمر طبيعي، به يكتمل أي علم. وقد أثارت بعض آراء هذا الإمام اهتمام اللاحقين، وتعددت أساليبهم في الاعتراض عليها ولعل أبرز هذه الآراء ما صرح به في مقدمته حول مسألة التصحيح، حيث ادعى انعدام ¬

(¬1) فاتحة نخبة الفكر: ص2. (¬2) سير أعلام النبلاء: 23/ 142ـ143.

نص ابن الصلاح في تصحيح الأحاديث وتحسينها:

إمكان تصحيح الأحاديث وتحسينها من طرف التأخرين، فقد قال رحمه الله في الفائدة الثانية من النوع الأول وهو معرفة الصحيح من الحديث ما يلي. نص ابن الصلاح في تصحيح الأحاديث وتحسينها: " إذا وجدنا فيما نروي من أجزاء الحديث وغيرها حديثا صحيح الإسناد، ولم نجده في أحد الصحيحين، ولا منصوصا على صحته في شئ من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة، فإنا لا نتجاسر على جزم الحكم بصحته، فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد، لأنه ما من إسناد من ذلك إلا ونجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان، فآل الأمر إذاً في معرفة الصحيح والحسن إلى الإعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة المشهورة التي يؤمن فيها لشهرتها من التغيير والتحريف، وصار معظم المقصود بما يتداول من أسانيد خارجا من ذلك إبقاء سلسلة الإسناد التي خصت بها هذه الأمة ـزادها الله شرفا ـ آمين (¬1) . ورغم أن كلام ابن الصلاح مقصود به مصنفات خاصة: "أجزاء الحديث وغيرها" وفي ومن محدد: "في هذه الأعصار" وبكيفية معينة: "بمجرد اعتبار الأسانيد " مما يجعل إدراك ¬

(¬1) مقدمة ابن الصلاح: ص11 (تحقيق مصطفى البغا، ط: دار الهدى) .

تحليل النص:

الواقع الحديثي في عصر ابن الصلاح، والملابسات المحيطة به، والمستجدات التي طرأت وتأثرت بها نظم الرواية أداء وتحملا، له أكبر الأثر في فهم كلام هذا الإمام ... رغم كل هذا فقد حمل الإمام النووي وغيره من العلماء ـ وكثير ما هم ـ ما ذكره ابن الصلاح على إطلاق المنع من التصحيح على جميع أنواع الأحاديث مما أفضى بهم إلى الإعتراض عليه ورفض العمل بمقتضى رأيه، غير أن المتتبع لسياق كلام هذا الإمام، محاولا فهمه على ضوء النتائج التي تسفرها الدراسة حول الظروف والملابسات التي أحاطت بالواقع الحديثي الذي عاشه المتأخرون ـ سوء من ناحية تلقي الأحاديث أم نشرهاـ يجد نفسه مضطرا إلى تصحيح رأي ابن الصلاح، ورفض الاعتراض عليه جملة وتفصيلا. تحليل النص: فلقد وقع في كلامه ـ رحمه الله ـ بعض الأمور يتوقف فهمها على معرفة العادات التي استجدت في حلقات التحديث عند المتأخرين، ولا تتضح حقائقها إلا بعد الإحاطة بإدراك مناسبتها ودوافعها. فمن هذه الأمور قوله: " من أجزاء الحديث وغيرها" وقوله " فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد "وقوله: " ما من إسناد من ذلك إلا ونجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان.

مستجدات عصره وأثرها في معرفة الصحيح والحسن

وقوله: " فآل الأمر إذاً في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم "وقوله: " وصار معظم المقصود بما يتداول من أسانيد، خارجا من ذلك إبقاء سلسلة الإسناد " فما المقصود "بالأجزاء وغيرها "؟ وما معنى تعذر الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد؟ وكيف يتم له التعميم بقوله: " ما من إسناد من ذلك إلا ونجد فيه خللا يضر الصحة؟ وهل يقصد بقوله: " فآل الأمر إذا في معرفة الصحيح والحسن " معرفة الصحيح والحسن في جميع الأحاديث أم في الأحاديث التي توجد في الأجزاء وغيرها؟ والإجابة على هذه التساؤلات تتوقف إلى حد كبير على ذكر بعض الأمور التاريخية، لها دور فعال في بلورتها. مستجدات عصره وأثرها في معرفة الصحيح والحسن. إن المسيرة التاريخية للسنة النبوية يمكن تقسيمها إلى مرحلتين زمنيتين كبيرتين، لك منهما معاليمها وخصائصها المميزة: فأما الأولى فيمكن تسميتها " بمرحلة الرواية " وهي ممتدة من عصر الصحابة إلى نهاية القرن الخامس الهجري تقريباً، وأبرز خصائصها هي كون الأحاديث تتلقى فيها وتنقل بواسطة الأسانيد والرواية المباشرة. فالإسناد في هذه المرحلة كان بمثابة العمود الفقري، عليه يتم الاعتماد في تلقي الأحاديث ونقلها.

وأما المرحلة الثانية فيمكن تسميتها بـ" مرحلة بعد الرواية "، وفيها آلت ظاهرة الاعتماد على الأسانيد إلى التلاشي، لتبرز مكانها ظاهرة الاعتماد على الكتب والمدونات التي صنفها أصحاب المرحلة الأولى في أخذ الأحاديث ونقلها، وإن كان القرن السادس الهجري يمكن اعتباره فترة انعطاف وتحول من مرحلة إلى أخرى، إذ ظهر فيه من بعض الأئمة الاعتماد على الرواية على شاكلة الأولى بدل الاعتماد على الكتب. وبينما كانت الكتب المصنفة في المرحلة الأولى تنقل الأحاديث بأسانيدها الخاصة، فإن جل الكتب التي ظهرت في المرحلة الثانية إنما تنقل الأحاديث بالاعتماد على المدونات التي ظهرت في المرحلة الأولى، وإن كانت أساليب النقل، وطرق الأخذ تختلف من كتاب إلى آخر. فمسند الإمام أحمد ـ مثلا ـ وهو نموذج لكتب المرحلة الأولى، عمدته في نقل الأحاديث هي الإسناد والرواية المباشرة، ولذلك يقول فيه صاحبه: " حدثني فلان " إلى آخر الإسناد في كل حديث يذكره. وأما كتاب تفسير ابن كثير ـ مثلا ـ وهو نموذج لكتب المرحلة الثانية، فإن عمدته في نقل الأحاديث هي الكتب المصنفة في عصر الرواية، ولذلك تراه يحكي عن أصحاب كتب المرحلة الأولى، ويقول: " قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا فلان " وهكذا..

وقد بذلك المحدثون في كلتا المرحلتين جهودا مضنية لصيانة السنة وحفظها، وذلك بتقعيدهم لقواعد تتناسب مع مقتضيات كل مرحلة، وتستجيب للمستجدات الطارئة في كل منهما، فأنتج حفاظ المرحلة الأولى من الأصول الضوابط ما يضمن لهم صدق الرواة في رواياتهم، وضبطهم لها، في حين وضع المحدثون في المرحلة الثانية أنواعا أخرى من القواعد والشروط تساعدهم على حفظ الدواوين والمصنفات من احتمال عبث بعض الوراقين وتحريف الناسخين. فكانت العناية في المرحلة الأولى منصبة على نقلة الأخبار ورواتها، والبحث عن أحوالهم، والتفتيش في مروياتهم بعد جمعها ومقارنتها، حتى أصبح بمقدورهم تمييز الرجال، ومعرفة الثقات والضعفاء والمتروكين، والإطلاع على الأسانيد الصحيحة والضعيفة والمنكرة والواهية، وإبقاؤها في محفوظاتهم وسجلاتهم، واستحضارها دون وقوع التداخل بينهما أو الاختلاط. وأما في المرحلة الثانية ـ مرحلة ما بعد الرواية ـ فقد توجه اهتمام المحدثين إلى وضع ضوابط جديدة، من شأنها حفظ المدونات من التصحيف والتحريف والانتحال، ونقلها إلى الأجيال اللاحقة كما وضعها مؤلفوها. فمن أهم تلك الضوابط: إثبات المحدث حقية النقل والإفادة بأي نوع من أنواع التحمل والتحصيل، وأما حيازتها المجردة بشراء أو غيره، فليست كافية للتعامل معها رواية

وإفادة، كما حقق هذه المسالة أستاذنا الفاضل الدكتور أحمد محمد نور سيف في رسالة لطيفة: " عناية المحدثين بتوثيق المرويات " ـ جزاه الله تعالى خير الجزاء ـ ومن ثم أخذ يظهر اهتمام بالغ لدى المحدثين في الحصول على الأسانيد التي تم بها نقل الكتب والمدونات، والحفاظ عليها مهما كان نوعها وذلك قصد إثبات حقية روايتها، ونيل الشرف بوجود صلة بيهم وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عموما. " وبما أن معظم الأحاديث استقرت في دواوين السنة وأصبحت هذه الدواوين هي المعتمدة في أخذ الأحاديث النبوية وصارت عناية المحدث منصبة على حفظ هذه الدواوين فلا داعي إذن إلى دراسة أحوال الرجال الذين يشكلون حلقات الإسناد الذي بواسطته يتم نقل هذه المصنفات عن أصحافبها، كما لا تبقى حاجة إلى تلك التحفظات الشديدة، والقوانين الصارمة في جرح الرواة وتديلهم، بل يكفي فيهم معرفة أحقيتهم وأهليتهم لرواية تلك المصنفات، بل يكفي فيهم معرفة أحقيتهم وأهليتهم لرواية تلك المصنفات، إضافة إلى ستر حالهم، وإن لم ينص على توثيقهم " (¬1) وقد بين ذلك ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ بقوله ـ، وهذا نصه: " أعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه، فلم يتقيدوا بها في رواياتهم، لتعذر الوفاء بذلك على نحول ما تقدم ¬

(¬1) عناية المحدثين بتوثيق المرويات: ص: 8- 10، لأستاذنا الفاضل الدكتور / أحمد محمد نور سيف، حفظه الله تعالى.

كتب الأجزاء وغيرها

وكان عليه ما تقدم "، " ووجه ذلك: ما قدمناه في أول كتابنا هذا (يعني مقدمة ابن الصلاح) من كون المقصود المحافظ على خصيصة هذه الأمة في الأسانيد، والمحاذرة من انقطاع سلسلتها، فليعتبر من الشروط المذكورة ما يليق بهذا الغرض على تجرده، وليكتف في أهلية الشيخ بكونه مسلما بالغا، علاقة، غير متظاهر بالفسق، وفي ضبطه بوجود سماعه مثبتا بخط غير متهم، وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه " (¬1) . كتب الأجزاء وغيرها وهذا الوضع السائد في مرحلة ما بعد الرواية، والذي كان من أبز سماته هو حرص المحدثين على إيجاد صلة بينهم وبين أصحاب الدواوين عن طريق سلاسل من الأسانيد، والتي كانوا يجوبون الأقطار الإسلامية شرقا وغربا من أجل جمع وتحصيل أكبر قدر ممكن من هذه الأسانيد والسماعات، ثم يدونونها وفق أساليب خاصة اصطلح على تسميتها " بالمعجم " أو " الأثبات " أو " المشيخات " أو " الأجزاء " أو " الفهارس" وغيرها ... هذا الوضع الجديد جعل تلك الأسانيد لا تكاد تخلو من وجود خلل فيها من جراء تساهل محدثي هذه المرحلة في توفير شروط الصحة فيها، حيث اكتفوا في رجالها ـ أي تلك الأسانيد ـ بستر الحال، ولو لم يعرفوا العدالة والضبط. ¬

(¬1) مقدمة ابن الصلاح ص: 70.

والجدير بالذكر أن ما سبق توضيحه من ظروف بروز ظاهرة الاعتماد على الكتب بسماتها المميزة، لا يعني أن ظاهرة الاعتماد على الأسانيد في نقل الأحاديث قد انقطعت بشكل نهائي، فقد كان بعض محدثي المرحلة الثانية كلما ظفروا ببعض الأحاديث بأسانيد عالية ـ سواء كانت تلك الأسانيد تمر بأصحاب الصحاح والدواوين الأخرى، ام لا تمر بشيء منها ـ حرصوا على تسجيلها في مشيخاتهم وبرامجهم حسب تراجم الشيوخ الذين استفادوها منهم، وقد يصنفون كتبا خاصة لذكر تلك الأحاديث، وهي التي تعرف باسم " الأجزاء " ومن تتبع كتب المتأخرين في التراجم يعثر على مزيد من التفاصيل حول هذه المسألة. ولا بأس أن نسوق بعض النصوص كي تتضح صورة الأجزاء واهتمام المتأخرين بتصنيفها. يقول الإمام الذهبي ـ رحمه الله ـ: " خرج يوسف بن خليل المتوفى سنة 555هـ أجزاء عوالي: عوالي هشام بن عروة، وعوالي الأعمش، وعوالي ابن حنيفة، وعوالي أبي عاصم النبيل، وما اجتمع فيه أربعة من الصحابة " (¬1) . وجمع أبو نعيم الأصبهاني، صاحب كتاب الحلية ما وقع له عاليا من حديث أبي نعيم الملائي ـ وهو الفضل بن دكين ـ ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء: 23/153: أما العوالي فجمع "علو" والعلو في الإسناد يكون بعدة اعتبارات، منها ظاهري ومنها معنوي: أما الأول: فمثلا أن يقل عدد رواته إما مطلقا أو نسبيا، والمعنوي فكأن يكون صاحب الحديث ومصدره من كبار الحفاظ الذين جمعوا بين الفقه والحديث، أو نحو ذلك.

المتأخرون وأسانيدهم وأمثلة روايتهم العالية:

في جزء من طرق مختلفة، وعدة ذلك ثمانية وسبعون حديثا، بعضها آثار (¬1) . ويقول البكرى ـ وهو الحسن بن محمد ـ المتوفى سنة 606هـ: " اجتمع لي في رحلتي وأسفاري ما يزيد على مائة وستين بلدا أو قرية، أفردت لها معجما، فسألني بعض الطلبة أربعين حديثا للبلدان، فجمعتها أربعين من المدن الكبار، عن أربعين صحابيا، لأربعين تابعيا" (¬2) . المتأخرون وأسانيدهم وأمثلة روايتهم العالية: فعناية المحدثين بالاحتفاظ بالأحاديث برواية مباشرة بعوالي أسانيدها ـ وإن كان ذلك على نطاق ضيق ـ إلى جانب اهتمامهم البالغ بالاعتماد على المدونات ونقلها بأسانيد متنوعة أمر لم ينقطع كما ظهر لنا من النصوص السابقة وغيرها كثيرة. فالأجزاء تحوي أحاديث معدودة ظفر بها أصحابها بعوالي الأسانيد، منها ما يمر على الصحاح أو الكتب المعتمدة، ومنها مالا يمر على شيء منها، وأسوق هنا هنا بعض الأمثلة كي تتضح بجلاء أحاديث الأجزاء وغيرها وطبيعة أسانيدها التي هي مناط البحث. ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء: 15/153. (¬2) سير أعلام النبلاء: 23/328.

المثال الأول وتحليله:

المثال الأول وتحليله: يقول الذهبي: (1) أخبرني القاضي تقي الدين سليمان بن حمزة (2) قال أخبرنا شيخنا الحافظ ضياء الدين محمد (3) قال أخبرني أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد (4) قال أخبرنا أبو جعفر الصيدلاني (5) قال أخبرنا أبو علي الحداد ـ حضورا ـ (6) قال أخبرنا أبو نعيم الحافظ (7) قال حدثنا ابن خلا د (8) قال حدثنا الحارث بن محمد (9) قال حدثنا يزيد بن هارون (10) قال حدثنا حميد الطويل (11) عن انس، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سقط من فرسه فجحش شقه، أو فخذه، وآلى من نسائه شهرا ... الحديث (¬1) . فروى الحافظ الذهبي هذا الحديث بإسناد عدد رواته أحد عشر راويا، مما يجعل الإسناد عاليا، فقد قال هو: " وأعلى ما يقع لنا ولأضرابنا في هذا الزمان من الأحاديث الصحيحة المتصلة بالسماع ما بيننا وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء:23/130.

اثنا عشر رجلا، وبالإجازة في الطريق: أحد عشر، وذلك كثير، وبضعف يسير غير واه: عشرة (¬1) . فإسناد الحديث الذي رواه الذهبي آنفا مكون برواة المرحلتين: فأنس، وتلميذه حميد الطويل، وتلميذه يزيد بن هارون وتلميذه الحارث بن محمد، وتلميذه ابن خلا د، وتلميذه أبو نعيم، رجال الحديث في عصر الرواية، في حين أن بقية الرواة من رجال عصر ما بعد الرواية، فعندما يتكون الإسناد برواة المرحلة الأولى لا سيما بأمثال يزيد بن هارون ومن فوقه إلى أنس، يصبح طبقة متميزة ومختارة في الصحاح، على عكس رواة المرحلة الثانية، فإنه لا يخلو الإسناد المشكل بهم من خلل مانع من صحته لصعوبة تحقق شروطها للأسباب التي فصلناها آنفا. فقد ظهر الخلل هنا ـ إضافة إلى أمور أخر ـ حين سمع أبو جعفر الصيدلاني من أبي علي الحداد قبل بلوغه لسن التمييز، ولهذا وصف تلقيه منه هذا الحديث بالحضور، وهي كلمة اصطلح عليها المتأخرون في حالة ما إذا سمع الراوي قبل أن يتأهل لذلك. وسماع الصبي قبل تمييزه لا اعتبار له عند المحدثين لا سيما المتقدمين، وتساهل فيه المتأخرون حيث إن الاعتماد على الكتاب، وليس على ما تحمله ورواه. ¬

(¬1) تدريب الراوي: 2/162.

فتصحيح الأحاديث باعتبار هذا الإسناد الطويل الذي ظهر لنا خلل في الجزء الثاني منه أمر متعذر، إذ أن أبا جعفر الصيدلاني اعتمد في رواية هذا الحديث على كتابه دون أن يتم له سماع صحيح من أبي على الحداد، وهذا ما أراده ابن الصلاح سابقا بقوله: " لأنه ما من إسناد من ذلك إلا ونجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والظبط والإتقان، وتراجم هؤلاء الرواة المتأخرون متوفرة في كتب التراجم، كثيرا ما نجد فيهم نصوصا صريحة في التعديل والتوثيق. هذا، وإن العلو في المرحلة الثانية لا يتحقق في أسانيدها إلا وقيه خلل يظهر من التساهل في مراعاة الشروط في التحمل السليم والتلقي الصحيح، وقد رأينا آنفا الإمام الذهبي يقول: " وأعلى ما يقع لنا ولأضرابنا في هذا الزمان من الأحاديث الصحيحة المتصلة بالسماع ما بيننا وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ اثنا عشر رحلا، وبالإجازة في الطريق ـ أي في السند ـ أحد عشر، وذلك كثير، ويضعف يسير غير واه: عشرة اهـ. فبقدر ما يكون الإسناد عاليا بقلة عدد الرواة يزداد فيه الخلل. على أن الحديث قد رواه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب (¬1) من طريق محمد بن عبد الرحيم، عن يزيد بن هارون به، وبه يتبين أن سند الذهبي قد ¬

(¬1) 1/487 من فتح الباري، ط: دار المعرفة، لبنان.

المثال الثاني وتحليله:

مر على صحيح البخاري، حيث اشتركا في يزيد بن هارون، ومن فوقه إلى أنس، وهذا بمثابة تصحيح البخاري لهذا الحديث مما يغني عن اعتبار الإسناد الذي رواه به الحافظ الذهبي، وهذا ما قيد به ابن الصلاح كلامه حين قال: " ولم نجده في أحد الصحيحين، ولا منصوصا على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة. المثال الثاني وتحليله: وهو مثال الإسناد المستقبل الذي لا يشارك شيئا من الدواوين المتعمدة التي تنص على صحة الحديث. يقول الإمام الذهبي: (1) أخبرنا عمر بن عبد المنعم (2) قال أخبرنا عبد الصمد بن محمد ـ حضوراـ (3) قال أخبرنا علي بن مسلم (4) قال أخبرنا ابن طلاب (5) قال أخبرنا ابن جميع (6) قال حدثنا الحسن بن إدريس القافلاني (7) قال حدثنا عيسى بن أبي حرب (8) قال حدثنا يحي بن أبي بكير (9) قال حدثنا سفيان (10) عن سليمان التيمي

المثال الثالث وتحليله:

(11) عن أبي عثمان (12) عن أسامة بن زيد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض، ثم قال الذهبي: " رواته ثقا ت، وهذا من الأفراد، لم يخرجوه في كتب الستة" (¬1) . قلت: وإنما أخرجه بعضهم من حديث ابن عمر وأبي بكرة فظهر مما ذكره الحافظ الذهبي أن سند هذا الحديث المشكل من اثني عشر رجلا لم يمر على الكتب الستة، والحكم عليه بالصحة أو بالضعف متوقف على اعتبار هذا السند من أوله إلى آخره، وقد رأينا في مستهل الإسناد شيئا يمنع صحته، وهو عدم صحة السماع عند عمر بن عبد المنعم، حيث بين أنه لم يكن وقت تلقيه من عبد الصمد بن محمد متأهلا له. المثال الثالث وتحليله: وهو ما رواه الإمام ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ بسنده العالي، ليختتم به كتابه المعروف بمقدمة ابن الصلاح، قال رحمه الله تعالى: (1) أخبرنا الشيخ المعمر أبو حفص عمر قراءة عليه (2) قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي (3) قال: أخبرنا أبو إسحاق بن عمر أحمد البرمكي (4) قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن إبراهيم ¬

(¬1) سير أعلام النبلاء:9/498.

(5) قال: حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكجي (6) قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري (7) قال: حدثنا سليمان التيمي (8) عن انس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا هجرة بين المسلمين فوق ثلاثة أيام. أو قال ثلاث ليال (¬1) . فالجزء الأول من هذا الإسناد لم يسلم من الخلل حيث أن أبا بكر محمد بن عبد الباقي، شيخ ابن الصلاح لم يكن متأهلا للسماع والتحمل وقت سماعه من أبي إسحاق الكجي، فقد قال الذهبي: بكر به ـ يعني محمد بن عبد الباقي ـ أبوه، وسمعه من أبي إسحاق البرمكي، جزء الأنصاري وما معه حضورا في السنة الربعة (¬2) . وعليه فلا ينبغي التسرع إلى تصحيح مثل هذه الأحاديث اغترارا بشهرة السلسلة في الجزء الثاني من إسناد المتأخرين لأنه ينبغي التحقق من ثبوت الحديث عن ذلك الجزء المشهور وذلك بورود نص على صحته في كتاب معتمد، وثبوته عن أحد من أئمة الحديث، ولا شك أن عملية التصحيح باعتبار جميع أجزاء الإسناد ـ دون الاعتماد على ما نص عليه الأئمة في كتبهم المعتمدة ـ أمر يكاد يكون متعذرا، إن لم يكن كذلك ¬

(¬1) مقدمة ابن الصلاح، ص: 245ـ 246. (¬2) سير أعلام النبلاء: 20/23ـ24.

مقصود ابن الصلاح بالأجزاء وغيرها:

لصعوبة تحقق سلامة الإسناد في المرحلة الثانية من جميع النقائص. وفي ختام هذا التحليل التاريخي للمرحلتين اللتين مرت بهما السنة النبوية، يصبح من اليسير تحرير الأمور التي وقعت في كلام ابن الصلاح، وتحديد مقصوده منها مقصود ابن الصلاح بالأجزاء وغيرها: فالأجزاء، وإن كانت تطلق على جميع المصنفات التي تعالج مسائل جزئية، إلا أن التي تعرض لها ابن الصلاح وخصصها بمسألة التصحيح لا يقصد بها جميع المصادر الحديثية، وإنما يرد بها هنا تصانيف المتأخرين التي يجمعون فيها بعض الأحاديث التي سمعوها بأسانيد عالية. والمقصود بغيرها في كلام ابن الصلاح، ما هو على شاكلة الأجزاء، من مشيخات، وأثبات، وفهارس، وبرامج وغيرها من التأليفات التي يورد فيها المتأخرون الأحاديث بأسانيدهم العالية والطويلة حسب مناسبات تراجم الشيوخ الذين تلقوها منهم، وغيرهم، ومن هنا يظهر وجه تخصيص ابن الصلاح الأجزاء بالذكر في مستهل كلامه رغم شهرة المسانيد والسنن وكثرة تداولها لديهم. توجيه رأي ابن الصلاح وتحقيقه: وعليه، فقد أصبح واضحا مغزى قوله: " تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار السند " لأن أسانيد الأحاديث التي تمر بالمرحلتين جميعا لا يسلم الجزء الذي

يمر بالمرحلة الثانية منها من خلل قادح في الصحة، وذلك ناتج عن التساهل في مراعاة شروطها الضرورية في حق الرواة المتأخرين كما سبق توضيحه آنفا، فالتصحيح بالاعتماد على سندها ـ إذن ـ أمر متعذر. وأما إذا لم يعتبر ذلك الجزء من الإسناد، وإنما يعتمد على الجزء الثاني المسجل في المدونات الثابتة المعتمدة فلا يبقى أي مبرر لتعذر التصحيح وصعوبته، ويبقى الأمر متوقفا فقط على أهلية الباحث للدراسة والنقد، وهو ما لم يتعرض له ابن الصلاح هنا، وإنما كلامه متجه إلى الأحاديث التي ترد في "الأجزاء " والمشيخات "وغيرها. ومن هنا تم له الاستدلال بقوله: " ما من إسناد من ذلك أي مما يروي في الأجزاء وغيرها، إلا ونجد فيه خللا " إذ أنه لم يقصد به التعميم والشمولية، وإنما كلامه مرتبط بالجزء الأول من أسانيد الأحاديث الذي يمر بالمرحلة الثانية، وبهذا يزول التناقض الظاهري بين كلام ابن الصلاح هذا، وبين قوله السابق " إذا وجدنا فيما نروي من أجزاء حديثية وغيرها حديثا صحيح الإسناد "، إذ أنه يحتمل أن يكون مراده بصحيح الإسناد الجزء الثاني من الإسناد والمتمثل في سلسلة رواة معروفين، مثل: مالك عن نافع عن ابن عمر، ونحوه، أو أن يكون المقصود به صحته ظاهرا بكون الأشخاص المذكورين في السند معروفين، فإن الخلل يقع غالبا من جهة التلقي أو الأداء، وذلك أمر غامض.

فابن الصلاح لم يرد جميع الأحاديث في مسألة التصحيح ومنعه، حسبما يدل على ذلك سياق كلامه، وإنما قصد خصوص ما ورد في الأجزاء ونحوها فحسب، ولا يشكل قوله: " فآل الأمر إذاً في معرفة الصحيح والحسن ... إلخ " على ما ذكرنا، معناه: في معرفة صحة أو حسن أحاديث الأجزاء ونحوها، وليس مطلق الأحاديث. فابن الصلاح مصيب في رأيه وادعائه، لأنه ليس بوسع المتأخرين تصحيح الأحاديث التي تروى في أجزاء الحديث والمشيخات وغيرهما بالأسانيد الطويلة الممتدة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بمجرد اعتبار تلك الأسانيد التي لا يكاد يخلو الجزء الذي يمر بالمرحلة الثانية منها من خلل، نظرا لتساهل محدثي مرحلة ما بعد الرواية في تطبيق قواعد الجرح والتعديل الصارمة على رجال تلك الأسانيد، تأثرا منهم بظروف هذه المرحلة، والمستجدات التي حدثت فيها. فليس بوسع المتأخرين إذن ـ نظرا لهذه الحيثية ـ تصحيح الأحاديث الموجودة في الأجزاء والمسيخات وغيرها إلا إذا ثبت تصحيحها أو تحسينها عن إمام من أئمة النقد في مرحلة الرواية أو إذا اعتمدوا على إسناد المرحلة الأولى وحده. وأما الأحاديث التي ت ... ضمنتها بطون الدواوين المشهورة في مرحلة الرواية والتي لم يسبق تصحيحها ولا تضعيفها من قبل الناقدين المتقدمين، فإن ابن الصلاح لم يتعرض لها هنا كما هو الظاهر من سياق نصوصه، حيث إن طبيعة الأدلة والبراهين

التي ساقها لتدعيم دعواه، وتخصيصه الأجزاء بالذكر في مستهل كلامه رغم شهرة دواوين السنة وكثرة تدوالها بينهم، كل ذلك دليل على أنه لم يقصد بقوله السابق إلا الأجزاء والمشيخات ونحوها من المؤلفات التي اشتهرت في عصره دون سواها من السنن والمسانيد وغيرها. ومما يدعمه ما ذكره في مبحث " الحسن " بعد ضبطه نوعية الحديث الضعيف الذي يرتقي إلى الحسن بوروده من غير وجه ـ من قوله: " وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث " (¬1) وكذا قوله في مبحث " الشاذ ": إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه: فإن كان ما ينفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط، كان ما انفرد به شاذا مردودا، فإن لم تكن فيه مخالفة لما رواه غيره وإنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره، لينظر في هذا الراوي المنفرد: فإن كان عدلا حافظا موثوقا بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به، إلى أن قال ابن الصلاح: فإن كان المنفرد به غير بعيد من درجة الحافظ الضابط المقبول تفرده: استحسنا حديثه ذلك، ولم نحطه إلى قبيل الحديث الضعيف " (¬2) . فهذه بعض نصوص ابن الصلاح التي تؤيد أنه ـ رحمه الله تعالى ـ لم يقصد بكلامه إطلاق المنع في جميع أنواع الحديث ـ كما بيناه آنفا ـ حيث إنه أقر هنا ـ بصريح كلامه ـ ¬

(¬1) مقدمة ابن الصلاح، ص:21. (¬2) المصدر السابق، ص: 46.

بإمكانية تصحيح الأحاديث وتحسينها وتضعيفها من طرف المتأخرين، من خلال النظر والبحث في أسانيدها المشكلة برواة عصر الرواية، إذا كانت منصوصة وثابتة في الكتب المصادر المعتمدة، ولا شك أن هذه النصوص وغيرها تصبح لغوا وعديمة المعنى، لو كان قصد ابن الصلاح هو إطلاق المنع على جميع الأحاديث. يضاف إلى هذا أن الأحاديث والآثار حين استقرت في ثنايا أمهات الكتب التي تم نقلها عن مؤلفيها جيلا عن جيل وفق الشروط التي اخترعت بغية توفير الضمانات الكافية أثناء النقل، لئلا يقع فيها تصحيف أو تزوير أو انتحال، وأصبحت تلك الكتب صالحة للرجوع إليها والاعتماد عليها في تلقي الآثار والأقوال.. كل ذلك يجعل عملية تصحيح تلك الأحاديث أو تضعيفها ممكنا جدا، ولا يحتاج إلا إلى القدرة العلمية التي تؤهل صاحبها للنظر في أسانيد تلك الأحاديث التي يرويها المؤلفون في عصر الرواية، ولم يعد لاعتبار السند الذي تنقل به تلك الكتب دور ولا أثر يذكر. وبما أن قوله: " ما من إسناد من ذلك إلا ونجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان لا يمكن حمله إلا على سلسلة الأسانيد التي تتداول في مرحلة ما بعد الرواية، تحقق أن الإمام ابن الصلاح لم يقصد بمنع التصحيح إلا الأحاديث التي تروى في "الأجزاء" و"المشيخات" ونحوها بأسانيد طويلة

مواقف المعارضين له:

تمر عبر المرحلتين جميعا. على أن الأمر إذا لم يكن كما ذكرنا سابقا فلا يخلو قوله: "فآل الأمر إذاً في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة المشهورة التي يؤمن فيها لشهرتها من التغيير والتحريف " من تناقض صريح، كما بينه الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ (¬1) ، حيث إنه لا فرق بين أحكامهم وآرائهم، وبين أحاديثهم التي أوردوها في كتبهم في الاعتماد عليها، إن كانت الكتب معتمدة مشهورة ومنقولة جيلا عن جيل بأسانيد لا تكاد تتوفر فيها شروط الصحة كما حررنا سابقا. فإن كان الاعتماد عليها صالحا لقبول أحكامهم دون اعتبار سندها صار صالحا أيضا لأخد أحاديثهم، كي ينظر ويبحث في صحتها وضعفها، فلا أثر إذن لاعتبار أسانيد المصنفات، بل يكفي اعتبار ثبوتها وصحة نسبتها وسلامتها من التحريف والتصحيف والتزوير فحسب. مواقف المعارضين له: فابن الصلاح ـ رحمه الله ـ مصيب في دعواه، دقيق في تعبيره، وقوي في براهينه، لكن العلماء اللاحقين خالفوه في ذلك، بل انتقدوه، وما ذلك إلا لكونهم حملوا كلامه على ¬

(¬1) النكت على كتاب ابن الصلاح 1/270، وسيأتي نقله إن شاء الله.

الإمام النووي ورأيه:

محمل واسع (¬1) ، وأولوه على أن المتأخرين ليسوا بأهل لتصحيح الأحاديث ونقدها مطلقة، دون تقييدها بالأجزاء وغيرها، حتى أن فيهم من راح يربط رأي ابن الصلاح هذا بمسألة الاجتهاد الذي أغلق بابه تعسفا، وهذه أقوال بعض من هؤلاء: الإمام النووي ورأيه: يقول الإمام النووي ـ رحمه الله ـ: "من رأى في هذه الأزمان حديثا صحيح الإسناد في كتاب أو جزء لم ينص على صحته حافظ معتمد: قال الشيخ ـ يعني ابن الصلاح ـ لا يحكم بصحته لضعف أهل هذه الأزمان، والأظهر عندي جوازه لمن تمكن وقويت معرفته " (¬2) . الحافظ العراقي ورأيه: يقول الحافظ العراقي ـ رحمه الله ـ: "وما رجحه النووي هو الذي عليه عمل أهل الحديث، فقد صحح جماعة من المتأخرين أحاديث لم نجد لمن تقدمهم فيها تصحيحا (¬3) . الحافظ ابن حجر ورأيه: يقول الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ: " معناه أن ¬

(¬1) ويؤيده ظاهر ما وقع في بعض المواضع من مقدمته، مثل قوله: وإذا انتهى الأمر في معرفة الصحيح إلى ما خرجه الأئمة في تصانيفهم الكافلة ببيان ذلك، كما في ص: 17، وقوله: إذا ظهر بما قدمناه انحصار طريق معرفة الصحيح والحسن الآن في مراجعة الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة كما في ص: 18. (¬2) تقريب النووي مع شرح تدريب الراوي1/143. (¬3) التقييد والإيضاح ص: 23، ط: دار الفكر العربي، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان.

الاعتماد على ما نص السابقون من التصحيح والتحسين يلزم منه تصحيح ما ليس بصحيح، لأن كثيرا من الأحاديث التي صححها المتقدمون اطلع غيرهم من الأئمة فيها على علل تحطها عن رتبة الصحيح، ولا سيما من كان لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن كابن خزيمة وابن حيان، وللحاذق الناقد بعدهما الترجيح بين كلاميهما بميزان العدل، والعمل بما يقتضيه الإنصاف، ويعود الحال إلى النظر والتفتيش الذي يحاول المصنف سد بابه. " وكلامه ـ يعني ابن الصلاح ـ يقتضي الحكم بصحة ما نقل من الأئمة المتقدمين فيما حكموا بصحته في كتبهم المتعمدة المشهورة، والطريق التي وصل بها إلينا كلامهم على الحديث بالصحة أو غيرها، هي الطريق ذاتها التي وصلت بها إلينا أحاديثهم، فإن أفاد الإسناد صحة المقالة عنهم، فليفد أيضا الصحة بأنهم حدثوا بذلك الحديث، ويبقى النظر منصبا على الرجال الذين فوقهم، وأكثرهم رجال الصحيح" (¬1) . ثم رد الحافظ ابن حجر استدلال ابن الصلاح على دعواه فقال: " ما استدل به على تعذر التصحيح في هذه الأعصار المتأخرة بما ذكره من كون الأسانيد ما منها إلا وفيه من لم يبلغ درجة الضبط والحفظ والإتقان، ليس بدليل ينهض لصحة ما ادعاه من التعذر، لأن الكتاب المشهور الغني بشهرته عن اعتبار الإسناد منا إلى مصنفه كسنن النسائي مثلا، لا يحتاج ¬

(¬1) النكت على كتاب ابن الصلاح 1/ 270ـ271 (بتصريف) .

في صحة نسبته إلى النسائي إلى اعتبار حال رجال الإسناد منا إلى مصنفه" (¬1) . ثم قال: " وكأن المصنف ـ يعني ابن الصلاح ـ إنما اختار ما اختاره من ذلك بطريق نظر ي، وهو أن المستدرك للحاكم كتاب كبير جدا يصفو له منه صحيح كثير زائد على ما في الصحيحين على ما ذكر المصنف ـ يعني ابن الصلاح ـ بعد، وهو مع حرصه على جمع الصحيح الزائد على الصحيحين واسع الحفظ، كثير الاطلاع غزير الرواية، فيبعد كل البعد أن يوجد حديث بشرط الصحة لم يمزجه في مستدركه". "وهذا في الظاهر مقبول إلا أنه لا يحسن التعبير عنه بالتعذر، ثم الاستدلال على صحة دعوى التعذر بدخول الخلل في رجال الإسناد، فقد بينا أن الخلل إذا سلم إنما هو فيما بيننا وبين المصنفين، أما من المصنفين فصاعدا فلا، وأما ما استدل به شيخنا ـ وهو العراقي ـ على صحة ما ذهب إليه الشيخ محي الدين ـ النووي ـ من جواز الحكم بالتصحيح لمن تمكن وقويت معرفته، بأن من عاصر ابن الصلاح قد خالفه فيما ذهب إليه، وحكم بالصحة لأحاديث لم يوجد لأحد من المتقدمين الحكم بتصحيحها، فليس بدليل ينهض على رد ما اختاره ابن الصلاح، لأنه مجتهد وهم مجتهدون، فكيف ينقض الاجتهاد بالاجتهاد؟ وما أوردناه في نقض دعواه أوضح فيما يظهر، " ¬

(¬1) المصدر السابق.

الحافظ السيوطي ومحاولة الاستدراك عليهم:

والله أعلم، انتهى قول الحافظ (¬1) . وقد تبع هؤلاء الأئمة في هذا كل من جاء بعدهم، وسلكوا مسلكهم، واقتفوا طريقهم، وساروا على أسلوبهم، وأصبح ما ذكره الإمام النووي أمرا مسلما لديهم. الحافظ السيوطي ومحاولة الاستدراك عليهم: غير أن الحافظ السيوطي ـ رحمه الله ـ حاول أن يجمع بين قول ابن الصلاح وقول المعترضين عليه محاولة لم تسلم من تعسف وتكلف كما يظهر ذلك جليا من الفقرات الآتية المخصصة للعرض والمناقشة. يقول الحافظ السيوطي: " والتحقيق عندي أنه لا اعتراض على ابن الصلاح، ولا مخالفة بينه وبين من صحح في عصره أو بعده، وتقرير ذلك أن الصحيح قسمان: صحيح لذاته، وصحيح لغيره كما هو مقرر في كتاب ابن الصلاح وغيره، والذى منعه ابن الصلاح إنما هو القسم الأول دون الثاني، كما تعطيه عبارته، وذلك أنه يوجد في جزء من الأجزاء حديث بسند واحد من طريق واحد، لم تتعدد طرقه، ويكون ظاهر الإسناد الصحة لاتصاله، وثقة رجاله، فيريد الإسناد أن يحكم لهذا الحديث بالصحة لذاته بمجرد هذا الظاهر، ولم يوجد لأحد من أئمة الحديث الحكم عليه بالصحة، فهذا ممنوع قطعا، لأن مجرد ذلك لا يكتفي به في الحكم بالصحة، ¬

(¬1) المصدر 1/272.

مناقشة رأي السيوطي:

بل لابد من فقد الشذوذ ونفي العلة، والوقوف على ذلك الآن متعسر بل متعذر، لأن الاطلاع على العلل الخفية إنما كان للأئمة المتقدمين لقرب أعصارهم من عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان الواحد منهم من يكون شيوخه التابعين، أو أتباع التابعين، أو الطبقة الرابعة، فكان الوقوف على العلل إذ ذاك متيسرا للحافظ العارف، وأما الأزمان المتأخرة فقد طالت فيها الأسانيد، فتعذر الوقوف على العلل إلا بالنقل من الكتب المصنفة في العلل فإذا وجد الإنسان في جزء من الأجزاء حديثا بسند واحد ظاهره الصحة لاتصاله وثقة رجاله، لم يمكنه الحكم عليه بالصحة لذاته لاحتمال أن تكون له علة خفية لم يطلع عليها لتعذر العلم بالعلل في هذه الأزمان ". "أما القسم الثاني، فهذا لا يمنعه ابن الصلاح ولا غيره وعليه يحمل صنيع من كان في عصره ومن جاء بعده، فإني استقريت ما صححه هؤلاء فوجدته من قسم الصحيح لغيره لا لذاته ".1هـ (¬1) . مناقشة رأي السيوطي: فعسى الحافظ السيوطي ـ رحمه الله ـ من خلال هذا التحليل أن يوجه كلام ابن الصلاح توجيها حسنا كي يوفق بينه وبين المعترضين عليه في مجال التصحيح، إلا أن سعيه هذا ¬

(¬1) نقله الدكتور/ نور الدين عتر ـ حفظه الله ـ في كتابه: منهج النقد في علوم الحديث ص:263ـ265، من رسالة التنقيح لمسألة التصحيح، للسيوطي، مخطوطة في الظاهرية، في مجموع رقم:5896 عام.

ذهب بعيدا عن الواقع العلمي، وعن المرتكزات الأساسية التي استند إليها ابن الصلاح تدعيما لرأيه، كما سيتضح ذلك جليا من الآتي: يستخلص من تعقيب السيوطي أن المانع من التصحيح في الأعصار المتأخرة مرجعه إلى صعوبه الاطلاع على الشذوذ والعلة، وتعذر الكشف عنهما في خبايا الروايات عند المتأخرين نظرا إلى تأخر عهدهم عن عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطول أسانيدهم، ونزولها إلى حد بعيد، ومن ثم حمل النصوص الواردة في منع التصحيح على الصحيح لذاته، وجعل ما صححه المتأخرون من قسم الصحيح لغيره، مدعيا بأن التعارض بين ابن الصلاح ومخالفيه قد زال بذلك. ومما لا شك فيه أن سلامة الحديث من الشذوذ والعلة من أهم عناصر القبول، سواء كان الحديث صحيحا لذاته أم صحيحا لغيره، أو كان حسنا لذاته أو لغيره باتفاق المحدثين كما قرره الحافظ ابن الصلاح في مبحث الصحيح والحسن من مقدمته. وعليه، فقد لوحظ في كلام السيوطي ما يلفت الانتباه من كونه خص الحديث الصحيح لذاته بضرورة انتفاء الشذوذ والعلة كشرط أساسي له، دون الصحيح لغيره، وهذا منه غير مقبول، بل هو مرفوض قطعا، لأن الخلو من الشذوذ والعلة شرط أيضا للصحيح لغيره، كما هو شرط كذلك في الحسن

لذاته ولغيره، ولهذا قلت سابقا: إن السيوطي ـ رحمه الله ـ في سبيل توجيهه لقول ابن الصلاح قد ذهب بعيدا عن الواقع العلمي الذي لا ينبغي العدول عنه. فبما أن سلامة الحديث من الشذوذ والعلة تعتبر أهم شروط القبول ـ على اختلاف مستوياته ـ فتخصيصه الصحيح لذاته بذلك الشرط دون سواه أمر يرفضه الإنصاف العلمي. وبناء على هذا، فإن كان كشف الشذوذ والعلة مما يعجز عنه المتأخرون لبعد عصرهم عن عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطول الأسانيد عندهم، فإن المنع وارد أيضا في الصحيح لغيره إذا كان في رجال إسناده راو خف ضبطه، إضافة إلى وروده من طريق أخرى سواء على وجه المتابعة أو الاستشهاد. فالفصل بينهما بالمنع والجواز تكلف ظاهر، على أن الصحيح لذاته عندهم معناه: أن يكون رواة الحديث ثقاة عدولا، مع اعتبار شروط أخرى من اتصال وخلو من العلة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصحيح لغيره إذا كان في رجال إسناده راو خف ضبطه، إضافة إلى وروده من طريق أخرى سواء على وجه المتابعة أو الاستشهاد. والجدير بالذكر أنه لا يلزم من ورود الحديث من طريق آخر ـ متابعة أو استشهادا ـ انعدام الشذوذ كليا إذ للشذوذ والعلة منافذ، ومداخل أخرى، حيث إن المتابعة تنفي الشذوذ عمن له المتابعة، وأما بقية الرواة فمعرضون لاحتمال الشذوذ والعلة، وكذلك الأمر في الشاهد فإنه ينفي الشذوذ والعلة عن المتن

الذي له شواهد، وأما سنده فمحتمل لوجود الشذوذ والعلة فيه. وعلى فرض تسليم أن الشذوذ والعلة يزولان بشكل دائم بورود الحديث من طريق أخر ـ متابعة أو استشهادا ـ فمعنى هذا أن الكشف عنهما، والتأكد من خلو الحديث منهما ـ من خلال وروده من وجه آخر ـ ليس من خاصية المتقدمين وحدهم، بل يشاركهم فيه المتأخرون أيضا، فأبطل هو ـ رحمه الله ـ بقوله هذا استدلاله بما ذكره على منع التصحيح، ولم يعد سائغا له أن يقول: والوقوف على الشذوذ والعلة الآن متعسر بل متعذر لأن الإطلاع على العلل الخفية، إنما كان للأئمة المتقدمين لقرب أعصارهم من عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قلت: " لا يسوغ له أن يقول هذا لأن المتأخر بإمكانه الوقوف على زوال الشذوذ والعلة بمجرد معرفته أن الحديث ورد من طريق أخرى، كما يفهم من آخر كلامه حين قال: " أما القسم الثاني فهذا لا يمنعه ابن الصلاح ولا غيره، وعليه يحمل صنيع من كان في عصره ومن جاء بعده ... " يضاف إلى هذا أنه ورد عن ابن الصلاح ما يرد دعوى السيوطي ـ رحمه الله ـ من أن الكشف عن الشذوذ والعلة من طرف المتأخرين متعسر بل متعذر، وذلك قوله في مبحثه حول كتاب المستدرك للحاكم: " فالأولى أن نتوسط في أمر فنقول: ما حكم بصحته ولم نجد ذلك فيه لغيره من الأئمة، إن لم يكن من قبيل الصحيح فهو من قبيل الحسن يحتج به ويعمل به إلا

أن تظهر فيه علة توجب ضعفه "، فهذا كلامه ـ رحمه الله ـ صريح في احتمال توصل المتأخرين إلى اكتشاف العلة، فأصبح قول السيوطي ـ رحمه الله تعالى ـ مجرد دعوى بلا دليل. وتجدر الإشارة إلى أن الحديث إذا ورد بإسناد واحد، ولم تتعدد طرقه، فإن جميع النقاد متقدمين كانوا أو ممتأخرين قد يعجزون عن تصحيحه، بل أحيانا ينتقلون إلى تعليله في حاله ما إذا تأكد تفرده في الطبقات المتأخرة، لأن العلة إنما تظهر وتدرك في حالتين هما: حالة التفرد، وحالة المخالفة، ولهذا صرح كثير من النقاد إن الحديث إذا لم تجمع طرقه لا تظهر صحته ولا علته، قال يحي بن معين: " لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجها ما عقلناه " (¬1) . وقال الإمام أحمد: " الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يفسر بعضه بعضا" (¬2) وقال ابن المديني: " الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه" (¬3) . فإذا تأكد تفرد راو أو مخالفته من خلال الجمع والمقارنة، فذلك يمنع النقاد من تصحيحه، وبهذا يتضح مكمن الخلل في كلام الحافظ السيوطي ـ رحمه الله ـ وبعده عن الواقع العلمي. وأما بعده عن المرتكزات الأساسية التي استند إليها ابن الصلاح لتدعيم رأيه، فلكونه لم يعتبرها في تحليله، بل ¬

(¬1) الجامع لأخلاق الراوي2/212. (¬2) المصدر السابق2/212. (¬3) المصدر السابق.

وجدناه يلجأ إلى أدلة أخرى لم يعتمدها ابن الصلاح أصلا، وذلك حين جعل سبب منع التصحيح هو صعوبة الإطلاع على الشذوذ والعلة، وتعذر الكشف عنهما من طرف المتأخرين لبعدهم عن عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بينما كان دليل ابن الصلاح على دعواه شيئا آخر غير ذلك، وهذا نص كلامه: " لأنه ما من إسناد من ذاك إلا ونجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان". فالحافظ السيوطي ـ رحمه الله ـ استدل على المنع بعدم قدرة المتأخرين على الكشف من العلة، وعدم تأهلهم لذلك، بينما استدل ابن الصلاح بعدم وجود إسناد صالح للتصحيح في عصره لوقوع الخلل في أسانيدهم كما سبق تفصيله، دون أن يدعي ـ رحمه الله ـ عدم أهليتهم لذلك من حيث القدرة العلمية، وهذا المانع الذي ذكره ابن الصلاح يمنع المتقدمين أيضا لو كانت حالة الإسناد عندهم كحالته عند المتأخرين، فإذا زال المانع فبإمكان الجميع التصحيح والتعليل بإعمال القواعد النقدية مع الفهم والوعي. والخلاصة: ان الحافظ السيوطي ـ رحمه الله ـ قد حاول من خلال تحليله أن يوفق بين قول ابن الصلاح في منع تصحيح الأحاديث في العصور المتأخرة، وبين قول المعترضين عليه والمجيزين لذلك، لكنه ـ رحمه الله ـ ابتعد كثيرا عن الواقع العلمي، والله أعلم.

الخاتمة:

الخاتمة: على ضوء ما سبق من الدراسة النقدية يصبح جليا أن ما يدعيه الإمام ابن الصلاح يتمثل في أن الأحاديث التي يرويها المتأخرون في كتبهم كالأجزاء والمشيخات والمعاجم وغيرها بأسانيدهم الخاصة والعالية يتعذر تصحيحها وتحسينها بناء على ظاهرها، ويستحيل لهم الاستقلال بإدراك صحتها وحسنها بمجرد اعتبار تلك الأسانيد، دون الاعتماد على كتب المتقدمين، ودون الاعتبار بأسانيدهم ورواياتهم، وذلك لأن أسانيد المتأخرين ورواياتهم العالية والمباشرة لا تخلو من خلل، نتيجة تساهلهم في تطبيق قواعد الجرح والتعديل، وتوفير الشروط لقبول تحمل الحديث وأدائه، في ظل تأثيرهم بظاهرة الاعتماد على كتب المتقدمين، حتى صار الإسناد بعدها مجرد مظهر من مظاهر الشرف، دون أن يلعب دورا فعالا في تصحيح الحديث وتعليله. أما مدى تأهل المتأخرين لمعرفة صحة الحديث وضعفه من خلال دراستهم وتتبعهم وغربلتهم لطرقه ورواياته في المسانيد والسنن والمصنفات وغيرها فأمر لم يتعرض له ابن الصلاح هنا في هذا الموضع، لا تصريحا ولا تلميحا، وهذا ما جعله يقتصر بذكر التصحيح والتحسين، دون ذكر التضعيف. أما لو كانت دعواه هي عدم تأهل المتأخرين لمعرفة الصحيح والحسن فيلزم له أن يضيف فيها التضعيف أيضا، فإن معرفة الضعيف في الأحاديث تتوقف على ما يتوقف عليه

معرفة الصحيح والحسن، غير أنه اكتفى بذكر التصحيح والتحسين فقط، ولا جرم أن الدعوى تعذر الاستقلال بإدراكهما لأمر طارئ شيء آخر، فلا ينبغي التخليط بينهما. ومن هنا فإننا نجد ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ يربط دعواه بأمرين بارزين، أحدهما: أن تكون الأحاديث مروية لدى المتأخرين بأسانيدهم الخاصة، كما عبر عنه بقوله: إذا وجدنا فيما نروي من أجزاء الحديث وغيرها، والثاني: أن يكون التصحيح أو التحسين مبنيا على أساس الاعتبار بأسانيدهم الخاصة، دون الرجوع إلى كتب المتقدمين، والاعتماد على ما روى المتقدمون فيها بأسانيدهم، كما عبر عنه بقوله: فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد. وهذا يجعل رأي الإمام ابن الصلاح غير معارض بعمل معاصريه واللاحقين بخلافه من تصحيح وتحسين وتضعيف، حيث إن عملهم لم يكن إلا بمقتضى نظرهم في روايات المتقدمين الثابتة في الكتب المعتمدة، دون أدنى اعتبار لأسانيدهم التي تنقل بها تلك الكتب، وهذا أمر لم يتعرض له الإمام ابن الصلاح في كلامه، كما سبق توضيحه، وإلا فذكر القيود وربط كلامه بها يصبح لغوا مخلا. والله أعلى وأعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. بقلم: د. حمزة عبد الله المليباري

§1/1